Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 264

‫ﺯﻳﻊ‬

‫الكونت‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺮﻭ‬
‫ﻨﺸ‬
‫ﺐ ﻟﻠ‬
‫‪T.me/Bookjuice‬‬

‫ﻜﺘ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫الكتاب‪ :‬الكونت‬
‫ﺐ ﻟﻠ‬

‫املؤلف‪ :‬عبد الرمحن جاويش‬


‫تصميم الغالف‪:‬‬
‫ﻨﺸ‬

‫تدقيق لغوي‪:‬‬
‫ﺮﻭ‬

‫إخراج فني‪ :‬سُكون‬


‫‪(+2) 01066444204‬‬ ‫رقم اإليداع‪2193/2018 :‬‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪(+2) 01000706014‬‬
‫‪dartoya2015@gmail.com‬‬ ‫ردمك‪978-977-6549-55-5 :‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫دار تويا للنرش والتوزيع ‪dar.toya‬‬ ‫الطبعة األوىل‪2018 :‬‬


‫‪@Dar Toya‬‬
‫‪@Dar_Toya‬‬ ‫املدير العام‪ :‬هالة البشبييش‬
‫‪ ٣ ٥‬شــا ر ع ا لنــر ‪. .‬‬ ‫املدير التنفيذي‪ :‬رشيف الليثي‬
‫املعادي اجلديدة نوفمرب ‪٢٠١٧‬‬
‫عبد الرمحن جاويش‬

‫الكونت‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠ‬

‫بقواعدي سنلعب‪..‬‬
‫ﻨﺸ‬

‫رواية‬
‫ﺮﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬
‫ﻟﻠﻣزﯾد ﻣن اﻟﻛﺗب اﻟﺣﺻرﯾﺔ‬

‫ﻋﺼ‬
‫زوروا ﻣوﻗﻌﻧﺎ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﻣوﻗﻊ ﻋﺻﯾر اﻟﻛﺗب‬
‫ﺐ ﻟﻠ‬
‫ﻨﺸ‬
‫ﺮﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪www.booksjuice.com‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪T.me/Bookjuice‬‬
‫إهداء‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫نورا بقدومك‪.‬‬ ‫‪ -‬إىل «مالك جاويش»‪ ..‬ازداد َ‬
‫العال ُ ً‬
‫ﺐ ﻟﻠ‬

‫‪ -‬إىل كل ُم ِ‬
‫لهم‪.‬‬
‫ﻨﺸ‬
‫ﺮﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪5‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺮﻭ‬
‫ﻨﺸ‬
‫ﺐ ﻟﻠ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫« ‪ -‬كيف يفرض اإلنسان سلطته عىل إنسان آخر يا وينستون؟‬
‫‪ -‬بأن يجعله يعاين‪».‬‬
‫ﺐ ﻟﻠ‬

‫جورج أورويل‬
‫ﻨﺸ‬

‫رواية ‪1984‬‬
‫ﺮﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪7‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺮﻭ‬
‫ﻨﺸ‬
‫ﺐ ﻟﻠ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻋﺼ‬
‫بداية غري موفقة‪..‬‬

‫أعلــم أن هــذه ليســت البدايــة ا ُملثــى ألرسد عليــك مــا أريــدك أن تعرفــه‬
‫عنــي‪ ..‬فأنــا اآلن يف وضــع ال حيســدين عليــه إال خمتــل؛ أقــود ســياريت برسعة‬

‫ﻋﺼ‬
‫فاقــت مصطلــح الرسعــة اجلنونيــة بقليــل‪ ،‬كانــت هــذه ثالــث إشــارة مــرور‬
‫أجتازهــا‪ ،‬يف طريــق كورنيــش اإلســكندرية‪ ،‬دون تو ُّقــف وســط دهشــة‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫الســائقني وإشــارات املــارة البذيئــة مــن حــويل‪ .‬زدت مــن ضغــط قدمــي‬
‫ﻜﺘ‬
‫عــى دواســة البنزيــن غــر عابــئ هبــم‪ ،‬كــا مل أعبــأ باملطبــات التــي ختطيتهــا‬
‫بكامــل رسعتــي وال برائحــة البنزيــن املحــرق داخــل ســياريت املتهالكــة‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠ‬

‫وال هبــواء نوفمــر البــارد الــذي يرتطــم بوجهــي مــن نافــذة الســيارة‪..‬‬
‫حمــاول االتصــال بزوجتــي‪ ،‬لكــن ‪-‬كــا‬ ‫ً‬ ‫أخرجــت هاتفــي املحمــول‬
‫ُ‬
‫ﻨﺸ‬

‫توقعــت‪ -‬مل يأتنــي الــرد‪.‬‬


‫ﺮﻭ‬

‫أخــرا إىل حمــل إقامتــي بـ»حمطــة الرمــل»‪ ..‬مل أركــض هبــذه‬‫ً‬ ‫وصلــت‬
‫ُ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫الرسعــة مــن قبــل‪ ..‬التهمــت درجــات الســلم املؤديــة للــدور الثالــث‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ـت بــاب‬‫حيــث أقطــن‪ ،‬تعثــرت قدمــي يف أحــد الدرجــات املتهالكــة‪ ..‬فتحـ ُ‬


‫ـدي‪ :‬زوجتــي غــرام وابنتــي‬ ‫ٍ‬
‫الشــقة مناد ًيــا بصــوت مبحــوح عــى أغــى مــا لـ َّ‬
‫مليكــة‪ ..‬لكنــي مل أجــد ر ًدا‪.‬‬
‫حاولــت الســيطرة عــى أعصــايب بعــد أن علــت دقــات قلبــي‪ ،‬ظننــت‬
‫ـت عنهــا يف مجيــع الغــرف دون جــدوى‪.‬‬‫أنــه ســينخلع منــي‪ ،‬بحثـ ُ‬

‫‪9‬‬
‫حاولــت التفكــر فيــا حــدث منــذ أن تلقيــت تلــك الرســالة جمهولــة‬
‫املصــدر‪ ،‬والتــي أعلمتنــي بوجــود خطــر هيددمهــا‪ .‬توجهــت إىل املطبــخ‬
‫شــممت رائحــة غريبــة تنبعــث منــه؛ ألجــد الكثــر مــن احلليــب‬
‫ُ‬ ‫بعــد أن‬
‫املســكوب عــى املوقــد بعــد أن فــار معظمــه وخــرج عــن اإلنــاء‪ ،‬أغلقــت‬
‫توجهــت إىل غرفــة مكتبــي الصغــرة‪ ،‬تعثــرت‬ ‫حمبــس الغــاز رسي ًعــا‪ ..‬ثــم َّ‬
‫يف إحــدى ألعــاب مليكــة امللقــاة عــى األرض بجــوار مزهريــة حمطمــة وقــد‬
‫تناثــر منهــا الــورد البالســتيكي‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫فتحــت بــاب الغرفــة التــي تبعثــرت حمتوياهتــا‪ ..‬مل تتحملنــي أقدامــي‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫أكثــر مــن هــذا فرقــدت عــى األرض مســتندً ا بظهــري إىل احلائــط املجــاور‬
‫ـي‪ ،‬عاتبــت نفــي عــى فقــدان غــرام‬ ‫ـت وجهــي بكفـ َّ‬‫لبــاب الغرفــة‪ ..‬أحطـ ُ‬
‫ﻜﺘ‬
‫كنــت عــى يقــن أن ال ذنــب يل فيــا حــدث‪ ،‬لكــن ال بــد ممــن‬ ‫ُ‬ ‫ومليكــة؛‬
‫ـت‬
‫ـب عليــه ســخطي‪ ..‬أعلــم أن الوقــت ليــس مناسـ ًبا لالهنيــار؛ فرشعـ ُ‬ ‫أصـ ُّ‬
‫ﺐ ﻟﻠ‬

‫أتذكــر كافــة األحــداث التــي أوصلتنــي إىل هــذه النقطــة‪ ..‬وقــد قــررت أن‬
‫ﻨﺸ‬

‫أســتعيدمها مهــا كان الثمــن‪.‬‬


‫ﺮﻭ‬

‫***‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪10‬‬
‫‪ -1‬انهيار‬

‫الإسكندر ية‪ -‬نوفمبر ‪2023‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫خــاف معظــم أبنــاء جيلــه؛ مل يكــن «يــارس عبــد احلــي الطائي» يتشــاءم‬
‫ﻜﺘ‬
‫مــن يــوم الثالثــاء‪ ..‬كان يــراه كأي يــو ٍم آخــر ُيســلب مــن ســنني عمــره التــي‬
‫ســيبلغ عددهــا اليــوم مخســة وثالثــن‪ .‬يقــود ســيارته عتيقــة الطــراز برسعــة‬
‫ﺐ ﻟﻠ‬

‫ـرا مــن املســموح هبــا عــى كورنيــش اإلســكندرية‪ ،‬ملتز ًمــا بالســر‬ ‫أقــل كثـ ً‬
‫يف احلــارة اليمنــى مــن الطريــق الرطــب بأمطــار ســقطت صبــاح اليــوم‪.‬‬
‫ﻨﺸ‬

‫جتاهــل ســخرية الســائقني املاريــن بجــواره من رسعــة ومرأى ســيارته‪،‬‬


‫ﺮﻭ‬

‫كانــت مــن أقــدم إصــدارات رشكــة ‪ ..Fiat‬ابتاعهــا مســتعملة مــن صاحــب‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أجــل إصــاح فراملهــا‬ ‫العــارة الــذي يســكُن لديــه يف «ســيدي بــر»‪َّ ،‬‬
‫الثقيلــة حتــى اعتــاد ثقلهــا‪ ،‬كــا اعتــاد ذلــك الثقــب األســود الظاهــر عــى‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫مخــن أنــه قــد نتــج عــن ســقوط عقــب ســيجارة‪ ،‬حــاول‬ ‫املقعــد املجــاور لــه‪َّ ،‬‬
‫أن خيفيــه بأكثــر مــن طريقــة لكنــه فشــل؛ ليــرك هــذا الثقــب أثـ ًـرا ســي ًئا يف‬
‫نفســه التــي اعتــادت النظــام‪ ،‬فحــاول جتاهلــه ورصف نظــره عــن العنايــة‬
‫بالســيارة‪ ،‬حتــى امتــأت الكنبــة اخللفيــة بمخلفــات ابنتــه مليكــة وألعاهبــا‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫اقــرب برأســه مــن مذيــاع الســيارة ع َّلــه يميــز األغنيــة الصــادرة عنــه‬
‫«ج ْفنُ ـ ُه‪..‬‬
‫وســط الكثــر مــن األصــوات املشوشــة‪ ..‬التقطــت أذنــاه حلــن َ‬
‫علــم الغــزل» الشــهري ملحمــد عبــد الوهــاب‪ ..‬فأغلــق املذيــاع ‪-‬الــذي‬
‫كثــرا مــن حــال الســيارة‪ -‬وراح يدنــدن األغنيــة‬ ‫ً‬ ‫مل يكــن حالــه أفضــل‬
‫بنفســه معتمــدً ا عــى ذاكرتــه الســمعية‪ ،‬طــرق بدبلتــه الفضيــة املســتقرة يف‬
‫يــراه عــى مقــود الســيارة صان ًعــا موســيقى خافتــة‪ ،‬حــاول تقليــد «عبــد‬
‫الوهــاب» مدند ًنــا‪« :‬كيــف يشــكو مــن الظمــأ مــن لــه هــذه العيــون»‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫انــرف بتفكــره عــن كل مــا حولــه‪ ،‬واستســلم لرائحــة يــود البحــر‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫التــي مل يعتدهــا أنفــه بعــد‪ ،‬عــى الرغــم مــن انتقالــه لإلقامــة يف اإلســكندرية‬
‫منــذ ســنني‪ ..‬أثــارت الرائحــة بداخلــه الكثــر مــن اخلواطــر والشــجون؛‬
‫ﻜﺘ‬
‫بداي ـ ًة مــن طفولــة تعســة قضاهــا مــع والــده يف القاهــرة‪ ،‬مـ ً‬
‫ـرورا بدراســة‬
‫الصدفــة الســتكامل‬ ‫مل حيبهــا بكليــة اهلندســة‪ ..‬وبعثــة جاءتــه عــن طريــق ُ‬
‫ﺐ ﻟﻠ‬

‫دراســته يف أمريــكا؛ حيــث تعــرف عــى زوجتــه غــرام‪ ،‬وانتهــا ًء بعــدم‬


‫ﻨﺸ‬

‫قدرتــه عــى خــوض ســوق العمــل يف جمــال دراســته‪ ..‬فاســتغل حبــه‬


‫ﺮﻭ‬

‫للرياضيــات حتــى امتهــن تدريســها بإحــدى املــدارس اخلاصــة التــي ال‬


‫يدخلهــا إال أبنــاء األغنيــاء‪...‬‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أفــاق يــارس مــن ذكرياتــه عــى صــوت ارتطــام مقدمــة ســيارته‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫بميكروبــاص‪ ،‬توقــف ســائقه أمــام ســيارة يــارس فجــأة اللتقــاط بعــض‬


‫الــركاب‪ ،‬ســاع ًيا جلمــع القليــل مــن اجلنيهــات‪ ..‬أطلــق الســائق الكثــر‬
‫مــن الشــتائم معلنًــا حرستــه عــى ُّ‬
‫هتشــم «اإلكصــدام اخللفــي»‪ ..‬اكتفــى‬
‫يــارس بعبــارات االعتــذار غــر املفهومــة‪ ،‬دون أن خيــرج مــن ســيارته‪ ،‬مل‬
‫يعــرض حــن خــاض الســائق يف عرضــه هــو وأهلــه‪ ..‬انســحب يــارس‬

‫‪12‬‬
‫تعويضــا ماد ًيــا؛ فقــد اعتــر أن الرجــل قــد‬
‫ً‬ ‫برسعــة دون أن يعــرض عليــه‬
‫أخــذ حقــه ســبا ًبا‪ ..‬تركــه الســائق يرحــل حــن استشــف أن حالتــه املاديــة‬
‫لــن تفــي بالتعويــض‪ ،‬مود ًعــا إ ّيــاه باملزيــد مــن الســباب وبإشــارة بذيئــة مــن‬
‫إصبعــه األوســط‪.‬‬
‫بعــد دقائــق توقــف يــارس عــى جانــب مــن الطريــق‪ ،‬التقــط أنفاســه‬
‫حمــاول التخلــص مــن األثــر الــذي خلفتــه تلــك احلادثــة يف جهــازه‬ ‫ً‬
‫العصبــي‪ ،‬رضب مقــود الســيارة براحــة يــده يف غضــب‪ ،‬أطلــق رصخــة‬

‫ﻋﺼ‬
‫رن هاتفــه املحمــول الــذي ظهــر عــى شاشــته‬ ‫مكتومــة أقــرب لألنــن‪َّ ..‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫اســم «غــرام» مرســو ًما إىل جــواره شــكل القلــب‪ ،‬قطــع عليهــا حماولــة‬
‫االتصــال ليعلمهــا باقرتابــه مــن املنــزل‪ ..‬نظــر يف مــرآة ســيارته ليهنــدم‬
‫ﻜﺘ‬
‫شــعره الــذي تســاقط بعضــه وأصــاب الشــيب اخلفيــف بعضــه اآلخــر‪..‬‬
‫طالــع باقــي األثــر الــذي تركتــه مخســة وثالثــون عا ًمــا عــى وجهــه؛ كان‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫عــى درجــة مــن بيــاض البــرة‪ ،‬قصــر الشــعر حليــق الوجــه‪ ،‬حــاد‬
‫ﺸﺮ‬

‫القســات‪ ،‬بــرزت عظــام وجنتيــه بشــكل زاده وســامة‪ ..‬مل تكــن مالحمــه‬
‫بالتفــرس فيهــا‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫اجلامــدة تُغــري مــن يــراه ألول مــرة‬
‫ﻭ‬

‫رن هاتفــه‬‫متوجهــا إىل املنــزل‪َّ ،‬‬ ‫بعــد أن هــدأ قليـ ًـا أدار حمــرك الســيارة‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ً‬
‫املحمــول‪ ،‬هــم أن يلغــي االتصــال ثانيـ ًة قبــل أن يــدرك أن مديــرة املدرســة‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫التــي يعمــل هبــا هــي مــن تتصــل‪ .‬أجــاب اهلاتــف بلهجتــه املتلعثمــة قليـ ًـا‪:‬‬
‫‪ -‬خـ‪ ...‬خـخـ‪ ..‬خري يا دكتورة أسامء؟‬
‫ســمع عــى اجلانــب اآلخــر الكثــر مــن اجللبــة؛ مــا بــن أصــوات رجــال‬
‫حمتــدة وصيــاح بعــض الســيدات الــذي وصــل حــد الــراخ‪ ..‬حاولــت‬

‫‪13‬‬
‫عــال‬ ‫ٍ‬
‫بصــوت ٍ‬ ‫وجهــت حديثهــا لــه قائلــ ًة‬
‫املديــرة إســكات مــن حوهلــا‪َّ ،‬‬
‫وبلهجــة حاولــت أن تبــدو متامســكة‪:‬‬
‫‪ -‬مسرت يارس الزم تيجي بكرة بدري عن ميعاد املدرسة‪.‬‬
‫ـذرا عــن تنفيــذ طلبهــا‪ ،‬أخربهــا أنــه يعمــل يومــي األربعاء‬
‫ر َّد يــارس معتـ ً‬
‫واخلميــس يف مدرســة أخــرى بالقاهــرة‪ ،‬وأنــه قــد ن َّظــم جــدول حصصــه‬
‫معهــا عــى هــذا األســاس‪ ..‬أخربتــه بلهجــة حازمــة أن املوضــوع ال عالقــة‬
‫لــه باحلصــص‪ ،‬وأن مجيــع أعضــاء هيئــة التدريــس جيــب أن حيــروا صباح‬

‫ﻋﺼ‬
‫الغــد‪ ،‬أمرتــه بصيغــة الطلــب أن يتغيــب عــن ا َملدرســة الثانيــة التــي يعمــل‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫مضطــرا‪،‬‬
‫ً‬ ‫يعــوض حصصــه معهــم يف أي يــو ٍم آخــر‪ ..‬فوافــق‬
‫ﻜﺘ‬ ‫هبــا‪ ،‬وأن ِّ‬
‫ســأهلا عــن األمــر اجللــل الــذي يســتدعي حضــور اجلميــع‪ ..‬ر َّدت بلهجــة‬
‫مل ختـ ُـل مــن الصدمــة‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬مســر حممــود صقــر مــدرس اللغــة العربيــة اختانــق مــع طالــب مــن‬
‫املرحلــة الثانويــة‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫ســأهلا يــارس وهــو يقضــم أظافــره عــا إذا كان قــد أصــاب الطالــب‬
‫مكــروه‪ ،‬فــردت أســاء باقتضــاب‪:‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬ال‪ ..‬مسرت صقر هو اليل توىف‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫***‬
‫كان مكاوي قوا ًدا‪..‬‬
‫اتفــق مجيــع مــن يعرفونــه عــى احرتامــه الغريــب ملهنتــه التــي ورثهــا‬
‫عــن أبيــه منــذ أن كان اســمها « ُقـ َـرين»‪ ..‬قبــل أن يطلــق عــى نفســه لقــب‬
‫«صاحــب البهجــة»‪ ..‬طلبــت منــه زوجتــه أن يعتــزل املهنــة بعــد أن مجــع‬

‫‪14‬‬
‫منهــا مــا يكفيهــا حتــى املــوت؛ فاعتــزل الزوجــة وتــزوج مهنتــه‪ ،‬احــرم‬
‫عملــه وقــرأ يف تاريــخ مهنتــه‪ ،‬عــرف أهنــا قديمــة قــدم اإلنســانية؛ حــن‬
‫كان يضيــق احلــال بأحــد الســادة فيســوق جواريــه لباقــي األســياد‪ ،‬لكــن‬
‫مــكاوي ‪-‬عــى عكســهم‪ -‬مل يطمــع لنفســه يف نســبة كبــرة مــن املــال‪ ،‬ومل‬
‫يغصــب إحداه ـ ّن يو ًمــا عــى العمــل حتــت ظلــه‪.‬‬
‫اعتــر عملــه خدمــة للبــر الذيــن طحنتهــم احليــاة؛ فيــأيت هــو كفــارس‬
‫نبيــل ليحررهــم مــن قيودهــا‪ ،‬ويطلــق العنــان ألقــى شــهواهتم‪ ..‬مل يكــن‬

‫ﻋﺼ‬
‫متصاحلًــا مــع حقيقتــه‪ ،‬ألنــه مل يدخــل خال ًفــا معهــا مــن األســاس!‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫كان متيقنًــا مــن أن مجيــع منتقديــه جمــرد كارهــن لــه‪ ،‬حاقديــن عــى مهمته‬
‫ﻜﺘ‬
‫الســامية يف إســعاد البــر‪ ،‬يتمنــى أن يــروا احليــاة بعينيــه‪ ..‬فهــو مل يرغــم أحــدً ا‬
‫عــى العمــل‪ ،‬مل يــرق يو ًمــا زبائنــه مــن منافــس آخــر؛ لكنهــم يأتونــه مــن‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫كل مــكان‪ ،‬يرتجونــه كــي ُينســيهم مهــوم احليــاة‪ ،‬كان جيــدً ا يف قــراءة البــر؛‬
‫يعــرف مــا الــذي يمتعهــم ويوفــره هلــم‪ ،‬ومــا الــذي خييفهــم فيبعــده عنهــم‪،‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫إحساســا بقدرتــه عــى كل يشء‪..‬‬ ‫ً‬ ‫حتــى أوصــل جلميــع مــن حولــه‬
‫وعــى الرغــم مــن وفــرة النســاء واســتقامة ميولــه‪ ،‬إال أنــه مل يلمــس‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫إحــدى العامــات معــه‪ ،‬كان يؤمــن باحلكمــة التــي تقــول‪« :‬ال ختــرج‬
‫فضالتــك حيــث تــأكل»‪ ..‬كان يعلــم أن عواقــب اجلنــس تفســد كل يشء‪.‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫بــدأ عملــه عــى أنقــاض امللهــى الليــي اخلــاص بوالــده الــذي مل يكــن‬
‫ُيــدار بشــكل احــرايف؛ فبــدأ يف تطويــر املــكان وإجــراء اختبــارات جلميــع‬
‫املتقدمــن للعمــل فيــه كأي كيــان اقتصــادي حمــرم‪ ،‬أطلــق عــى نفســه لقب‬
‫ووســع نشــاطه ليشــمل توفــر املتعــة للنــاس كافــة‬
‫ـرا َّ‬ ‫«مســر»‪ ،‬بــدأ صغـ ً‬

‫‪15‬‬
‫مــن ذوي األهــواء املختلفــة‪ ..‬شــطب كلمــة «ال» مــن قاموســه؛ فــكل يشء‬
‫«ممكــن» متــى حــرت األمــوال‪.‬‬
‫مل تكــن الليلــة صاخبــة يف امللهــى الليــي كمعظــم ليــايل الثالثــاء؛ كان‬
‫مــكاوي يتطــر مــن مرتــادي امللهــى يف هــذا اليــوم‪ ،‬عــى غــرار ممثــي‬
‫املــرح الذيــن يتشــاءمون مــن مجهــور يــوم الســبت الــذي ال يضحــك‬
‫كجمهــور باقــي األســبوع‪ ..‬تأمــل صورتــه املعلقــة عــى احلائــط بإعجــاب‬
‫شــديد؛ كان كهـ ًـا واســع العينــن‪ ،‬شــديد الســار‪ ،‬نحيــل اجلســد‪ ..‬كان‬

‫ﻋﺼ‬
‫دائــا قبعــة‬
‫حيــب ارتــداء البــذالت باهظــة الثمــن‪ ،‬ويضــع عــى رأســه ً‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ســوداء جعلتــه أشــبه بالفنــان «شــاريل شــابلن» مــع مالمــح أكثــر جد ّيــة‬
‫وقامــة أكثــر طـ ً‬
‫ـول‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫نظــر أســفل صورتــه حيــث اســتقر متثــال ألفروديــت إهلــة الشــهوة يف‬
‫الديانــة اليونانيــة القديمــة‪ ..‬و ُع ِّلــق يف ركـ ٍ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ـن آخــر مــن الغرفــة لوحــة املاجــا‬


‫العاريــة‪ ،‬وبجوارهــا صــورة مثــرة ملارلــن مونــرو باألبيــض واألســود‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫نظــر يف هاتفــه بقلــق‪ ،‬كان ينتظــر مكاملــة مــن «ســيمون»؛ أقــدم‬


‫«مبهجاتــه» كــا حيــب أن يطلــق عــى العاهــرات الــايت يعملــن لديــه‪..‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أحــب تفانيهــا التــام فيــا تعمــل‪ ،‬علــم منــذ أول لقــاء مجعهــا أهنــا ستســتمر‬
‫معــه ‪ ،‬وقتهــا كانــت جمــرد «ســاح» ال متلــك إال جســدها وجتربــة بشــعة مــع‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫أخيهــا األكــر الــذي هربــت مــن اعتدائــه عليهــا بكافــة األشــكال‪.‬‬


‫ظهــر اســمها عــى هاتفــه أخـ ً‬
‫ـرا‪ ،‬فابتســم ابتســامة خفيفــة كشــفت عــن‬
‫فـ ٍم واســع وأســنان بيضــاء‪ ،‬رد بلهفــة حقيقيــة‪:‬‬
‫‪ -‬فينك يا بنتي النهاردة؟ قلقتيني‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫‪ -‬آســفة يــا مســر‪ ..‬لســه تعبانــة مــن يــوم اجلمعــة‪ ..‬ولو شــوفت شــكيل‬
‫دلوقتــي مــش هتعرفني‪.‬‬
‫‪ -‬خــاص خــدي باقــي اإلســبوع أجــازة‪ ..‬شــكل الزبــون إيــاه زودهــا‬
‫معاكــي املــرة دي‪.‬‬
‫طلبــت منــه ســيمون بضحكــة خافتــة أن حيــاول الوصــول هلويــة ذلــك‬
‫الزبــون؛ فلدهيــا فضــول ملعرفــة شــخصه احلقيقــي‪ ،‬هنرهــا مــكاوي قائـ ًـا‬

‫ﻋﺼ‬
‫باســتنكار‪:‬‬
‫‪ -‬ونخــر األلــف دوالر الــي بيدفعهــم لنــا كل مــرة؟‪ ..‬انتــي عارفــة‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫الــدوالر بــكام دلوقتــي؟‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬مــش القصــد‪ ..‬بــس شــكله حــد تقيــل يف البلــد‪ ..‬ورسه أغــى بكتــر‬
‫مــن الفلــوس دي‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫رد بحزم‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬مش شغلتنا‪.‬‬
‫هنــض مــن مكانــه متجـ ً‬
‫ـول يف مكتبــه الواســع‪ ،‬ســأهلا عــا تظنــه بشــأن‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫هــذا العميــل‪ ..‬فأجابــت بيقــن تــام أنــه خائــف مــن انكشــاف أمــره؛ فذلك‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫الزبــون الغامــض هياتفهــا مــن رقــم جمهــول‪ ،‬ويقابلهــا يف أماكــن نائيــة‬


‫حيددهــا قبــل اللقــاء بنصــف ســاعة‪ ،‬زجــاج ســيارته معتــم؛ فــا يمكنهــا‬
‫أن تــراه حــن يصــل إليهــا‪ ،‬ال يفتــح هلــا بــاب ســيارته إال حــن تضــع قنــاع‬
‫النــوم األســود فــوق عينيهــا‪ ..‬أكملــت حديثهــا مســتعيدة ذكريــات آخــر‬
‫لقــاء مجعهــا يف هنايــة األســبوع املــايض‪:‬‬

‫‪17‬‬
‫‪ -‬والزم يفتشــني كويــس ويتأكــد إين قافلــة املوبايــل‪ ،‬وبيســيبني يف‬
‫مــكان غــر الــي خــدين منــه وبيكــون طالــب يل قبلهــا تاكــي مــن تليفونــه‪.‬‬
‫عــا إذا كان قــد طلــب حتليــل اإليــدز كــا يفعــل كل‬
‫ســأهلا مــكاوي َّ‬
‫مــرة‪ ..‬فأجابتــه باإلجيــاب‪ ،‬وأضافــت أنــه تأكــد مــن تاريــخ التحليــل‬
‫أيضــا‪ ..‬صمــت مــكاوي ً‬
‫قليــا ثــم قــال بحكمــة قــواد عتيــد‪:‬‬ ‫ً‬
‫‪ -‬متأكدة إنه مابيصوركيش؟‬
‫‪ -‬بحكــم خــريت أقــول لــك إن مــش دي دماغــه‪ ..‬اجلــدع ده هيبــة كــده‬

‫ﻋﺼ‬
‫وبيخوفنــي‪ ،‬بيحسســني إين خــام زي أي َعيلــة يف ثانــوي‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫سأهلا مكاوي بفضول‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬كيفه إيه اجلدع ده؟‬
‫بعض من األمل‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫بصوت خافت ختلله ٌ‬ ‫ردت سيمون‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬مالــوش يف الكيــف خالــص‪ ..‬ال حشــيش وال ميــة وال حتــى‬


‫برشــام‪ ..‬بــس شــكله آاليت غــاوي مزيــكا‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬حاسس إن ابن احلرام ده زودها معاكي املرة دي‪.‬‬


‫‪ -‬بفلوســه يــا مســر‪ ..‬هــو برصاحــة إيــده تقيلــة وســاعات بيتغاشــم‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫وبيســتخدم حاجــات عمــري مــا شــوفتها‪ ،‬بــس مــا بيطولــش وبيلــم الليلــة‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫بــدري‪ ..‬بحــس إنــه عايــز يذلنــي بــأي شــكل‪.‬‬


‫قائل بلهجة حكيمة‪:‬‬ ‫هز مكاوي رأسه‪ً ،‬‬ ‫َّ‬
‫‪ -‬عارفه املرض ده‪..‬‬
‫‪ -‬بــس املــرة دي حصلــت حاجــة غريبــة‪ ،‬أنــا قلقــت مــن النــوم وطب ًعــا‬
‫مــا رفعتــش القنــاع زي مــا بينبــه عليــا‪ ،‬ســمعته بيكلــم نفســه‪..‬‬

‫‪18‬‬
‫‪ -‬كان بيقول إيه؟‬
‫‪ -‬ما ميزتش منه غري كلمة واحدة‪ :‬الكونت‪.‬‬
‫***‬
‫تو َّقــع يــارس أن حيمــل لــه اليــوم مزيــدً ا مــن الكــوارث‪ ،‬وكان توقعــه‬
‫صحيحــا‪..‬‬
‫ً‬
‫بمجــرد أن دخــل شــقته املؤجــرة بمنطقــة «ســيدي بِــر» احتضنتــه‬

‫ﻋﺼ‬
‫طفلتــه مليكــة مهللــة لقدومــه‪ ،‬وقابلتــه غــرام بابتســامتها الصافيــة التــي‬
‫ال تــدوم طويـ ًـا‪ ،‬فقبــل رأســها بتلقائيــة‪ ،‬كانــت رائحتهــا زكيــة كعادهتــا‪..‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بــدا وكأهنــا نســت شــجار األمــس؛ حــن جاءتــه رســالة نصيــة عــى‬
‫ﻜﺘ‬
‫هاتفــه أثنــاء نومــه‪ ،‬كانــت الرســالة مرســلة مــن رقــم غــر مســجل لديــه‪،‬‬
‫ــب فيهــا‪« :‬وحشــتني يــا نــي التــاين‪ ..‬نتقابــل قريــب‪ ..».‬فجــرت‬ ‫ِ‬
‫كُت َ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫هــذه الرســالة الكثــر مــن احلمــم املرتاكمــة داخــل غــرام؛ فذكــرت يــارس‬
‫بوضعهــا املــايل غــر املســتقر بســبب كثــرة األقســاط املرتاكمــة عليهــا‪،‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫وإرصاره عــى مكوثهــا يف البيــت حتــى تعتنــي بغــرام‪ ،‬وانشــغاله الدائــم‬


‫عنهــا وســفره املســتمر إىل القاهــرة للعمــل بإحــدى املــدارس اخلاصــة يف‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫النصــف الثــاين مــن األســبوع‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫لكــن يــارس احتــوى املوقــف‪ ،‬اعتــذر هلــا عــن تقصــره‪ ،‬أقســم أنــه ال‬
‫يعلــم شــي ًئا عــن هــذه الرســالة‪ ،‬حــاول االتصــال برقــم املرســل ليربهــن‬
‫هلــا عــى براءتــه لكــن الرقــم كان مغل ًقــا‪ ،‬أخربتــه غــرام أهنــا قــد صدقتــه‪،‬‬
‫وبرغــم هــذا فقــد أرصت عــى النــوم بجــوار مليكــة لرتفــع ســور اجلليــد‬
‫بينهــا درجــات‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫اســتثنت غــرام هــذا اليــوم مــن األكل الصحــي الــذي حتــرص عــى‬
‫االلتــزام بتحضــره ألرسهتــا‪ ،‬فأعــدت ليــارس وجبتــه املفضلــة‪ُ :‬رقــاق‬
‫باللحــم املفــروم‪ .‬كانــت حتــب يف يــارس رضــاه عــن الطعــام الــذي تعــده‬
‫مهــا كان ســي ًئا؛ األمــر الــذي أرجعتــه يف قــرارة نفســها إىل وفــاة والدتــه‬
‫خصيصــا قبــل أن يتزوجهــا‪..‬‬
‫ً‬ ‫حــن كان طفـ ًـا‪ ،‬فلــم جيــد مــن يطهــو لــه‬
‫مل تــرح لــه هبــذا التربيــر مــن قبــل؛ فيــارس يتجنــب دائـ ًـا احلديــث عــن‬
‫حياتــه املاضيــة‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫كان قــد أحــر معــه الشــيكوالتة التــي تفضلهــا مليكــة‪ ،‬لكــن غــرام‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫أخربتــه أهنــا ُمعاقبــة‪ ،‬وحــن ســأهلا عــن الســبب أجابتــه دون أن تنظــر إىل‬
‫مليكــة‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫زهـــقت الشــيخ جمــدي منهــا حلــد مــا طفــش‪ ..‬وحلــف مــا هــو جــاي‬
‫‪َّ -‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫تاين‪.‬‬
‫ضحــك يــارس وعلــق أنــه ال يرتــاح إىل ُم َ ِّفــظ القــرآن هــذا مــن‬
‫ﺸﺮ‬

‫األســاس؛ فهــو ال يســاعدها عــى احلفــظ بقــدر مــا خييفهــا مــن كتــاب اهلل‪..‬‬
‫تركتهــا غــرام بعــد أن زفــرت يف ضجــر مقطبــ ًة جبينهــا‪ ،‬فتأكــد يــارس‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أنــه لــن يــرى بســمتها اليــوم‪ ..‬ركــع عــى ركبتيــه أمــام مليكــة‪ ،‬وأعطاهــا‬
‫احللــوى‪ ،‬فاحتضنتــه بامتنــان‪ ،‬أمرهــا أن تــأيت بكتبهــا الدراســية وتلحــق بــه‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ـال أن تؤجــل الغــداء وجتهــز‬ ‫يف غرفــة نومــه‪ ..‬طلــب مــن غــرام بصـ ٍ‬
‫ـوت عـ ٍ‬
‫هلــا كوبــن مــن اللبــن‪.‬‬
‫ع َّلــق يــارس معطفــه بحــرص‪ ،‬ورتــب باقــي مالبســه بعنايــة شــديدة‪..‬‬
‫نظــر إىل انعــكاس جذعــه العــاري أمــام املــرآة التــي تتزيــن فيها غــرام‪ ،‬تأمل‬

‫‪20‬‬
‫بعضــا مــن النــدوب القديمــة‪ ،‬وخياطــة جراحــة ناجتــة عــن عملية اســتئصال‬ ‫ً‬
‫للزائــدة الدوديــة‪ ،‬كان جســده رياض ًيــا بالنســبة لســنه‪ ،‬مل خيـ ُـل مــن بعــض‬
‫دهــون البطــن‪ ..‬اقتحمــت مليكــة احلجــرة بخطــوات مــرددة‪ ،‬مل يتجــاوز‬
‫عمرهــا الســت ســنوات ‪ ،‬كانــت عــى درجــة عاليــة مــن الــذكاء الذي يســبق‬
‫ـرا‪ ،‬لكنهــا كانــت متــل رسي ًعــا مــن كتابــة واجبــات املدرســة التــي‬
‫ســنها كثـ ً‬
‫جتربهــا عــى كتابــة كلمــة معينــة أو حــرف معــن لعــدد كبــر مــن املــرات‪..‬‬
‫لكــن يــارس أخربهــا أن عليهــا االعتيــاد عــى الواجبــات الروتينيــة إلجــادة‬

‫ﻋﺼ‬
‫األعــال االســتثنائية‪ ..‬قالــت مليكــة ألبيهــا يف تأفــف واضــح‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬مش النهارده عيد ميالدك؟ فني هديتي؟‬
‫ﻜﺘ‬
‫مازحا‪:‬‬
‫رد يارس ً‬
‫‪ -‬ده بدل ما كنتي حتويش يل ِ‬
‫أنت متن اهلدية من مرصوفك؟‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫هزت كتفيها وقالت بتلقائية مقلدة والدهتا‪:‬‬


‫‪ -‬املرصوف هيكفي إيه وال إيه؟ احلاجة غليت يا طائي‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫ضحك يارس وقال وهو حيتضنها وجيلسها فوق فخذه‪:‬‬


‫ﻭ‬

‫‪ -‬بطيل ملاضة‪ ،‬ويال نخلص الواجب‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫سألته مليكة بخبث طفويل‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬لو نجحت هتجيب يل ُقط زي ما وعدتني؟‬


‫‪ -‬أنا ما وعدتكيش‪ ،‬أنا ُقلت لك لو ماما وافقت هجيبه‪.‬‬
‫ســمع خطــوات غــرام التــي أتــت حاملــة كــويب اللبــن‪ ،‬فتعمــد أن يرفــع‬
‫صوتــه ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫‪21‬‬
‫‪ -‬واعميل حسابك هشوف لك شيخ جديد بدل الشيخ جمدي‪.‬‬
‫نظرت مليكة نحو اللبن بتأفف‪ ،‬وسألته بمكر‪:‬‬
‫‪ -‬أنت هترشب كوبايتني لبن لوحدك؟‬
‫ردت غرام بحزم وهي تضع الكوب أمام مليكة‪:‬‬
‫‪ -‬كلمة كامن وهرشبك ِ‬
‫أنت الكوبايتني‪.‬‬
‫وجهــت مليكــة حديثهــا ليــارس متوســل ًة أال تــرب اللبــن‪ ،‬أخربتــه‬ ‫َّ‬

‫ﻋﺼ‬
‫أهنــا قــد ورثــت عــن أمهــا كــره اللبــن‪ ،‬ومل تــرث حــب اللبــن منــه‪ ..‬لكــن‬
‫يــارس طلــب منهــا أن تــرب اللبــن‪ ،‬الحــظ وقــوف غــرام أمــام خزانــة‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫املالبــس املفتوحــة تتأمــل مــا لدهيــا‪ ،‬كان يشــعر بالذنــب جتاههــا ألهنــا ال‬
‫ﻜﺘ‬
‫تطلــب منــه مـ ً‬
‫ـال للبســها أو لــراء مــا يعينهــا عــى أعــال املنــزل كغريهــا‬
‫مــن الزوجــات؛ قلصــت احتياجاهتــا حــن رأت أن االدخــار ألجــل‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫تعليــم مليكــة هــو األولويــة‪ .‬ســأهلا يــارس بحــذر عــن ســبب وقوفهــا أمــام‬
‫اخلزانــة‪ ..‬فــردت بلهجــة غاضبــة‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬أختــك اتصلــت مــن شــوية‪ ..‬هتيجــي حتتفــل معانــا بعيــد ميــادك‬


‫هــي وجوزهــا‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫مخــن ســببها‬
‫مل يعلــق يــارس عــى زيــارة ســلوى غــر املتوقعــة‪ ،‬والتــي َّ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫احلقيقــي بعيــدً ا عــن االحتفــال‪ ..‬كانــت ســلوى أخــت يــارس مــن أم ثانيــة‪،‬‬
‫مقيــا يف اإلســكندرية قبــل أن هيجرهــا‬‫ً‬ ‫تــزوج أبومهــا أمهــا حــن كان‬
‫وينتقــل إىل القاهــرة ليتــزوج أم يــارس‪.‬‬
‫مل ينجــح يف إقامــة عالقــة قويــة بأختــه‪ ،‬وبالتــايل مل ينجــح يف التوفيــق‬
‫بــن غــرام وســلوى‪ ،‬مل حتــب إحدامهــا األخــرى منــذ أول لقــاء رتبــه يــارس‬

‫‪22‬‬
‫بينهــا قبــل قرانــه بأســبوع‪ .‬حــن عرفــت ســلوى بجنســية غــرام الســورية‬
‫أبــدت توجســها ليــارس واعرتاضهــا عــى فكــرة الــزواج مــن أجنبيــة‪ ..‬فلــم‬
‫خيــر غــرام بــا حــدث‪ ،‬فقــط أخربهــا أن عالقتــه مــع أختــه ليســت بالقوية‪،‬‬
‫مفروضــا أن تتجمــل لتنــال رضاهــا‪.‬‬
‫ً‬ ‫فليــس‬
‫حــاول يــارس أن يشــغل بــال زوجتــه عــن الزيــارة غــر املرغــوب فيهــا‪،‬‬
‫فبرشهــا بموافقــة مديــرة املدرســة‬‫والتــي كان يعلــم ســببها احلقيقــي‪َّ ..‬‬
‫التــي يعمــل فيهــا عــى التحــاق مليكــة بالصــف األول االبتدائــي‪ ،‬عــى أن‬

‫ﻋﺼ‬
‫ـرا عــى‬‫يتــم خصــم املصاريــف مــن راتبــه يف صــورة أقســاط لــن تؤثــر كثـ ً‬
‫دخلهــم املتوســط‪ ..‬مل تبـ ِـد غــرام ســعادة برغــم هلفتهــا لســاع هــذا اخلــر‪،‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫قالــت ليــارس‪:‬‬


‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬كويــس‪ ..‬انــزل اشــري ملبــة عشــان ملبــة الصالــون حمروقــة‪ ،‬واشــري‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫جاتــوه‪ ،‬حلــد مــا أحــر لــك الغــدا‪ ..‬وخــي العــدد عــى قدنــا‪.‬‬
‫ســخر يــارس يف رسه مــن غــرام التــي أصبحــت زوجــة مرصيــة بشــكل‬
‫ﺸﺮ‬

‫مل يتوقعــه‪ ..‬طلبــت مليكــة مــن أمهــا أن تنــزل مــع أبيهــا‪ ،‬لكــن غــرام ردت‬
‫بحــزم‪:‬‬
‫ﻭ‬

‫‪ -‬أنـ ِ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ـت هتقعــدي تكمــي واجبــك‪ ..‬واعمــي حســابك مــش هتقــريب‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫مــن اجلاتــوه حلــد الضيــوف مــا يمشــوا!‬


‫***‬

‫‪23‬‬
‫أبــدت ســلوى قلقهــا مــن حالــة املصعــد املــؤدي إىل شــقة يــارس‪ ،‬كان‬
‫مزعجــا‪ ،‬مل تظــن يف البدايــة أنــه يعمــل‬
‫ً‬ ‫مرت ًبــا بطــيء احلركــة يصــدر رصيـ ًـرا‬
‫مــن األســاس‪ ..‬نظــرت يف مــرآة املصعــد لتتمــم عــى مالبســها وزينتهــا‪،‬‬
‫انعكاســا باه ًتــا يتخللــه الكثــر مــن الــروخ والبقــع‪ ..‬اقــرب منهــا‬
‫ً‬ ‫ملحــت‬
‫زوجهــا «رايف أبــو الدهــب» مقبـ ًـا كتفهــا‪ ،‬أخربهــا أهنــا تبــدو يف أحســن‬
‫صــورة‪ ،‬أبــدى إعجابــه بعطرهــا مقبـ ًـا رقبتهــا‪ ،‬لكــن ســلوى أبعدتــه عنهــا‬
‫بكياســة‪ ،‬وقالــت ضاحكــة‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬احنا مش كربنا عىل موضوع األسانسري ده؟‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫رن هاتفــه املحمــول‬ ‫مازحــا أنــه لــن يتقــدم يف العمــر أبــدً ا‪َّ ،‬‬
‫ﻜﺘ‬ ‫ر َّد رايف ً‬
‫بمكاملــة ختــص جتارتــه‪ ،‬فأســكته رسي ًعــا‪ ..‬توقــف املصعــد فانحنــى رايف‬
‫ليلتقــط حقيبــة بالســتيكية كبــرة احلجــم‪ ،‬وفتــح بــاب املصعــد وحلــق‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بزوجتــه متوجهــن نحــو بــاب شــقة أخيهــا يــارس‪ ،‬مهــس يف أذهنــا قائـ ًـا‪:‬‬
‫‪ -‬أنــا جيــت معاكــي املشــوار ده وأنــا مــش موافــق عليــه‪ ..‬ممكــن تيجــي‬
‫ﺸﺮ‬

‫معايــا بكرة؟‬
‫ردت ســلوى بحــزم وهــي تعــدل مــن وضــع حجاهبــا قبــل أن تــرب‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫جــرس البــاب‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬انسى‪ ..‬مش هروح حفالت الدروشة بتاعتك دي يا رايف!‬


‫منغمســا يف اإلنشــاد‬
‫ً‬ ‫مهووســا باحلــرات‪،‬‬‫ً‬ ‫مل يعقــب رايف‪ ،‬كان‬
‫ينــس الشــجار الــذي دار بينــه وبــن ســلوى حــن‬ ‫الصــويف وطرقــه‪ ..‬مل َ‬
‫رفضــت أن يعلــق صــورة منشــده املفضــل «أمحــد التــوين» يف صالــة بيــت‬
‫الزوجيــة اخلــاص هبــا‪...‬‬

‫‪24‬‬
‫« شوفت أنا أجدع منك ازاي وفاكرة عيد ميالدك؟»‬
‫هكــذا بــدأت ســلوى حديثهــا حــن فتــح هلــا يــارس بــاب شــقته يف متــام‬
‫ســاخرا أهنــا لــوال الـــ‪ Facebook‬ملــا تذكــرت‬
‫ً‬ ‫الســابعة مســا ًء‪ ..‬ر َّد يــارس‬
‫أخــا مــن األســاس‪ ..‬فأطلقــت ســلوى ضحكتهــا املصطنعــة‬ ‫أن هلــا ً‬
‫ـرا‪ ،‬مل حيــب ذوقهــا يف العطــور‪ ،‬كانــت تتعمــد أن‬ ‫واحتضنتــه حضنًــا قصـ ً‬
‫يســود عطرهــا أي مــكان تدخلــه ككلــب يتبــول لفــرض ملكيتــه‪ ..‬صافــح‬

‫ﻋﺼ‬
‫يــارس زوج أختــه «رايف أبــو الدهــب» وعاتبــه عــى إحضــار كعكــة عيــد‬
‫ـم رايف‬‫ميــاده‪ ..‬فــر َّد األخــر أن ســلوى مــن اختارهتــا ودفعــت ثمنهــا‪ ..‬هـ َّ‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫أن خيلــع حــذاءه قبــل دخــول الشــقة لكــن يــارس أرص أال يفعــل‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫ظهــرت مليكــة مــن وراء يــارس فاحتضنتهــا ســلوى بحنــان حقيقــي‪،‬‬
‫وأخرجــت هلــا طــوق شــعر جديــدً ا مــن حقيبــة يدهــا‪ ،‬ووضعتــه يف‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫شــعرها‪ ..‬شــكرهتا مليكــة مناديــة إياهــا «ســلوى» جمــر ًدا مــن األلقــاب‪،‬‬
‫ســاخرا مــن حــرف الســن الــذي تنطقــه ثــا ًء‪.‬‬
‫ً‬ ‫فداعبهــا رايف‬
‫ﺸﺮ‬

‫رحــب هبــم يــارس‪ ،‬ومحــل عــن رايف الكعكــة التــي وضعهــا عــى‬
‫ﻭ‬

‫الســفرة‪ ،‬ناولتــه ســلوى علبــة صغــرة وأخربتــه أن يفتحهــا بعــد رحيلهــا‪..‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫شــكرها بصــوت خافــت‪ ،‬ســأهلا باهتــام مصطنــع‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬أخبار مركز الدروس إيه؟‬


‫رضبته سلوى يف كتفه قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬مســتنيك تيجــي تشــتغل فيــه يــا مســر‪ ،‬تعــاىل احتــك بالفئــات‬
‫الكادحــة؛ بــدل مــا أنــت قاعــد تــرح لــوالد النــاس‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫ضحــك يــارس وأخربهــا أنــه ســيتحول إىل ماكينــة أمــوال ال تســريح إن‬
‫انضــم للعمــل معهــا؛ فهــو ال يريــد إال «الســر»‪ ..‬ردت ســلوى أن باهبــا‬
‫مفتــوح لــه دائـ ًـا‪.‬‬
‫مــرت فــرة قصــرة مــن الصمــت والكثــر مــن «رشفتونــا» و»زارنــا‬
‫النبــي» وغريهــا مــن كلــات الرتحيــب اجلوفــاء‪ ..‬تأملــت ســلوى أثــاث‬
‫املنــزل البســيط كـ ًـا وكي ًفــا وهــي تلــوي شــفتيها‪ ..‬عــى عكــس رايف الــذي‬
‫أبــدى إعجابــه ببســاطة وهــدوء مملكــة غــرام‪ ..‬ظهــرت غــرام بعــد دقائــق‬

‫ﻋﺼ‬
‫لتحيــي رايف برأســها دون أن تصافحــه‪ ،‬وتعانــق ســلوى يف فتــور متبــادل‪،‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫مل حتــب غــرام القبــات األربــع التــي تــر ســلوى عــى طباعتهــا فــوق‬
‫وجنتيهــا كلــا رأهتــا‪..‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫ســألتها ســلوى عــن أحواهلــا‪ ..‬مل يكــن لــدى غــرام الكثــر لتحكيــه؛‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫فمنــذ أن هجــرت أمريــكا وجــاءت إىل اإلســكندرية مــع يــارس مل تغــادر‬


‫شــقتها إال فيــا نــدر‪ ..‬اقرتحــت عليهــا ســلوى أن ختــرج معهــا األســبوع‬
‫ﺸﺮ‬

‫القــادم‪ ..‬فصممــت غــرام عــى الرفــض‪ ،‬أخــرت ســلوى بصــدق أهنــا ال‬
‫ترتــاح خــارج بيتهــا‪ ،‬وال تفضــل اجللــوس عــى املقاهــي لتدخــن النرجيلــة‬
‫ﻭ‬

‫مثلــا تفعــل ســلوى مــع صديقاهتــا‪ ..‬مل تلــح عليهــا ســلوى‪ ،‬واقرتحــت‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫النهــوض إلطفــاء الشــموع‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫أبــدت مليكــة ســخرية عفويــة مــن صــوت رايف األجــش‪ ،‬كان يغنــي‬
‫«أبــو الفصــاد» وشــبهته بصــوت احلــار ليضحــك اجلميــع عــدا أمهــا التــي‬
‫نظــرت هلــا حمــذرة‪ ،‬طلبــت غــرام مــن يــارس أن يتمنــى أمنيــة عيــد امليــاد يف‬
‫رسه‪ ..‬فتمنــى أن تبقــى حياتــه كــا هــي‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫عــاد يــارس للجلــوس مــع رايف يف الغرفــة الصغــرة املخصصــة‬
‫للضيــوف‪ ،‬تــاركًا أختــه وزوجتــه تقطعــان كعكــة عيــد امليــاد‪ ،‬طلبــت‬
‫مليكــة مــن أمهــا أن تعطيهــا قطعــة مــن الكعكــة لكــن أمهــا أخربهتــا بحــزم‬
‫أهنــا لــن تســتطيع إكامهلــا بمفردهــا؛ لذلــك ســيأكالن ســو ًيا مــن طبــق‬
‫واحــد‪ ..‬ملــح يــارس مــن ســلوى نظــرة متأففــة جتــاه صــورة أبيــه املعلقــة‬
‫عــى احلائــط أمامهــا‪..‬‬
‫استنشــق رايف رائحــة البخــور التــي أشــعلتها غــرام قبــل وصوهلــا‬

‫ﻋﺼ‬
‫إلخفــاء رائحــة الطعــام‪ ،‬مــأ أنفــه منهــا مبد ًيــا إعجابــه هبــذا النــوع‪..‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫جلــس أمــام يــارس ً‬
‫خمرجــا مــن جيبــه سلســلة مفاتيــح كبــرة احلجــم وهاتفه‬
‫املحمــول‪ ،‬وضعهــا فــوق املنضــدة الصغــرة التــي تتوســط احلجــرة وقــد‬
‫ﻜﺘ‬
‫ُثبِــت فوقهــا قالــب رخامــي‪ ،‬حــرك دون قصــد مطفــأة الســجائر املســتقرة‬
‫يف ركــن مــن املنضــدة الرخاميــة‪ ..‬أعــاد يــارس املطفــأة إىل منتصــف املنضــدة‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫رسي ًعــا كــا كانــت‪ ،‬وقــال لــرايف بحــرج‪:‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪ OCD -‬بقى معلش‪.‬‬


‫هـ َّـز رايف رأســه مبتسـ ًـا يف عــدم فهــم‪ ..‬أخــرج ســيجارته اإللكرتونيــة‪،‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ـرا‬‫بعضــا مــن بخــار زيــوت التبــغ مشـ ً‬


‫لكــن يــارس أوقفــه قبــل أن يســحب ً‬
‫يــارس‬ ‫نحــو غــرام ومليكــة‪ ..‬فأعادهــا رايف إىل جيبــه يف حــرج‪ ،‬ســأل‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫َ‬
‫مازحــا‪:‬‬
‫ً‬
‫بعمر؟‬
‫‪ -‬مش ناوي ختاوي مليكة َّ‬
‫أبــدى يــارس دهشــته مــن اختيــار رايف هلــذا االســم دون غــره‪ ،‬فــرد رايف‬
‫ضاحكة‪:‬‬

‫‪27‬‬
‫عمر‪ ..‬ت َّيمن بالصحابة يا أخي‪.‬‬
‫‪ -‬معروفة أي يارس الزم جييب َّ‬
‫مل يعقــب يــارس‪ ،‬اقــرب مــن رايف‪ ،‬أمســك معصمــه الــذي يزينــه ســوار‬
‫ذهبــي رديء الــذوق‪ ،‬مهــس يف أذنــه قائـ ًـا بخبــث‪:‬‬
‫‪ -‬مربوك اجلوازة اجلديدة يا أبو نسب‪.‬‬
‫بــدت الصدمــة عــى رايف الــذي حــاول اإلنــكار بالكثــر مــن الكلــات‬
‫هامســا‪:‬‬
‫ً‬ ‫املبهمــة التــي ال رأس هلــا وال ذيــل‪ ..‬ضحــك يــارس‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬ما تقلقش مش هأقول لسلوى‪.‬‬
‫زفر رايف باستسالم‪ ،‬وقال بلهجة مل ُ‬
‫ختل من حرية‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬إنت عرفت ازاي؟‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬مــش حمتاجــة ذكاء‪ ..‬احنــا آخــر مــرة اتقابلنــا كنــت بتشــتكي يل مــن‬
‫ســلوى وبتقــول عليهــا «حيزبــون»‪ ..‬ده غــر طريقــة لبســك الــي رجعــت‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫زي الشــباب‪ ،‬وضحكتــك املجلجلــة دي‪ ،‬يــا راجــل ده أنــت غنيــت يل أبــو‬
‫الفصــاد!‬
‫ﺸﺮ‬

‫ثــم أشــار يــارس إىل ســلوى برأســه خمـ ً‬


‫را رايف أنــه الحــظ العقــد املــايس‬
‫ﻭ‬

‫الــذي يزيــن رقبتهــا‪ ،‬وأن هــذه اهلديــة جمــرد صــك غفــران حيــاول مــن‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫خاللــه إرضــاء ضمــره‪ ..‬طلــب رايف مــن يــارس بلهجــة متوســلة أال خيــر‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ســلوى‪ ..‬ر َّد يــارس أهنــا تعــرف بالفعــل‪ ..‬ســأله رايف بخــوف واضــح‪:‬‬
‫‪ -‬تفتكر حست؟‬
‫‪ -‬أي ســت بتحــس‪ ..‬ده غــر موضــوع ِخلفتكــم الــي اتأخــرت خيليهــا‬
‫شــاكة فيــك طــول الوقــت‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫ر َّبــت يــارس عــى فخــذ رايف‪ ،‬طمأنــه أن ســلوى لــن تواجهــه بــا فعــل؛‬
‫حتــى ولــو اعــرف هلــا بنفســه فلــن تقــوم بــأي ردة فعــل‪ .‬قــال لــه أن مــا‬
‫زواجــا؛ فهــو جمــرد مــروع يشــارك فيــه رايف بــرأس املــال‪..‬‬‫ً‬ ‫بينهــم ليــس‬
‫الحــظ رايف أن ســلوى حتــاول التنصــت عــى حديثهــا‪ ،‬فالتقــط هاتفــه‬
‫املحمــول وقــال ليــارس‪:‬‬
‫‪ -‬الشــبكة عندكــم كويســة؛ أصلهــا ضعيفــة عندنــا يف البيــت كلــه مــا‬
‫عــدا البلكونــة‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫مل يفهم يارس أن رايف حياول تغيري املوضوع‪ ،‬فرد بتلقائية‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬اشــري قضيــب نحــاس‪ ،‬وركبــه فــوق الســطح‪ ..‬هيظبــط لــك‬
‫ﻜﺘ‬
‫موضــوع الشــبكة ده‪.‬‬
‫التقــط رايف طــرف اخليــط الــذي حـ َّـول مســار احلديــث عــن زواجــه‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بــدأ يســأل يــارس عــن ســعر ذلــك القضيــب واملقــاس املناســب‪ ..‬ففهــم‬
‫يــارس وبــدأ جييــب عنــه إجابــات عائمــة‪ ..‬تدخلــت ســلوى يف احلديــث‬
‫ﺸﺮ‬

‫مبدي ـ ًة شــكواها مــن رايف الــذي ال يــرك اهلاتــف مــن يــده‪ ،‬قالــت ليــارس‬
‫بلهجــة خبيثــة أن مكاملــات زوجهــا ال تنتهــي‪ ،‬ممــا جيــره عــى املكــوث‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ً‬
‫طويــا يف الرشفــة إلهنائهــا‪.‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫حــاول رايف تغيــر جمــرى احلديــث ثانيـ ًة‪ ،‬ســأل يــارس عــن موعــد مباراة‬
‫األهــي القادمــة‪ ،‬وموعــد نــزول فيلــم أمحــد حلمــي‪ ..‬فلــم جيــد لــدى يــارس‬
‫ر ًدا‪ ..‬فجلســا صامتـ ْـن حتــى انتهــت غــرام مــن تقطيــع الكعكة‪.‬‬
‫ســمعا صــوت مســرة شــبابية متــر مــن أســفل البيــت هتــف الســائرين‬
‫فيهــا ببعــض املطالــب السياســية‪ ..‬ع َّلــق رايف أن هــؤالء الشــباب إن‬

‫‪29‬‬
‫وجــدوا عمـ ًـا لــن خيرجــوا يف مثــل هــذه املظاهــرات‪ ..‬فع َّلــق يــارس بلهجــة‬
‫مقتضبــة‪« :‬ربنــا هيــدي اجلميــع»‪.‬‬
‫مل يشــعر يــارس بالشــفقة جتــاه أختــه التــي قـ َّـل مجاهلا بعــد بلــوغ األربعني‪،‬‬
‫كانــت مخريــة البــرة‪ ،‬حمجبــة إال مــن بعــض اخلصــات املصبوغــة اهلاربــة‬
‫مــن قطعــة القــاش التــي تغطــي شــعرها‪ ،‬ذات ذوق رديء يف اختيــار‬
‫املالبــس والزينــة‪ ،‬كانــت معظــم زينتهــا عبــارة عــن أيقونــات ملنع احلســد‪..‬‬
‫ـرا حــن اختــارت زوجهــا‪.‬‬ ‫مل خيتلــف ذوقهــا كثـ ً‬

‫ﻋﺼ‬
‫مل تُكمــل ســلوى تعليمهــا بعــد الثانويــة العامــة حــن تقــدَّ م خلطبتهــا‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫جارهــا وحــب الطفولــة «رايف» الــذي يكربهــا ببضــع ســنوات‪ ..‬كان‬
‫ﻜﺘ‬
‫يعمــل مــع والــده يف جتــارة الســيارات‪ ..‬تراجــع احلــب بينهــا حــن انشــغل‬
‫رايف يف توســيع جتارتــه بعــد وفــاة أبيــه؛ حتــى أصبــح مــن أكــر جتــار‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫الســيارات يف اإلســكندرية‪ ..‬زاد نفــوذ ســلوى داخــل بيتهــا حــن أدمــن‬


‫رايف اهلريويــن بعــد الــزواج بخمــس ســنوات‪ ،‬أدركــت أن إدمانــه ســيضيع‬
‫ﺸﺮ‬

‫كل يشء‪ ،‬فنســت احلــب وأدمنــت الســيطرة‪ ،‬وحــن تعــاىف مــن أزمتــه مل‬
‫واضحــا‪ ..‬اســتغلت‬‫ً‬ ‫يعــرض عــى قيادهتــا لألمــور؛ فقــد أثبتــت اســتحقا ًقا‬
‫ﻭ‬

‫ســلوى صالحياهتــا اجلديــدة وأزمــة تأخــر اإلنجــاب‪ ،‬وطلبــت مــن رايف‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أن يفتتــح هلــا مركـ ًـزا للــدروس اخلصوصيــة؛ فوافــق حتــى تنشــغل بإدارتــه‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫عــن التحكــم يف كافــة تفاصيــل حياتــه‪.‬‬


‫ناولــت ســلوى يــارس طب ًقــا وضعــت بــه قطعــة كبــرة مــن الكعكــة‪،‬‬
‫وناولــت رايف طب ًقــا ذا قطعــة أصغــر حجـ ًـا‪ ،‬ســأهلا عــن طبقهــا فأخربتــه‬
‫أهنــا حتــاول أن تســر عــى نظــام غذائــي يمنعهــا مــن تنــاول الكعكــة‪ ،‬مل‬
‫يلــح عليهــا‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫طلبــت ســلوى مــن أخيهــا أن يرافقهــا للرشفــة‪ ،‬لت ِ‬
‫ُدخــن بعيــدً ا عــن‬
‫مليكــة‪ ..‬أخربهــا أن تعتــر نفســها يف بيتهــا وتذهــب منفــردة‪ ..‬ولكنهــا‬
‫كــررت طلبهــا بلهجــة فهــم مــن خالهلــا أهنــا تريــد أن حتدثــه عــى انفــراد‪.‬‬
‫اســتأذن يــارس مــن غــرام ورايف اللذيــن ســيواجهان دقائــق مــن الصمــت‬
‫احلــرج‪ ،‬قــد حتــرك مليكــة ركــوده‪.‬‬
‫اســتندت ســلوى عــى ســور الرشفــة بمرفقهــا‪ ،‬أشــعلت ســيجارة‬
‫لتنفــخ دخاهنــا يف وجــه يــارس‪ ..‬أشــار يــارس برأســه نحــو ال ُعقــد الــذي‬

‫ﻋﺼ‬
‫يزيــن رقبتهــا مثن ًيــا عــى ذوق رايف يف اختيــار اهلدايــا‪ ..‬ســألته عــن اهلدايــا‬
‫املفضلــة لغــرام‪ ..‬فأجاهبــا بصــدق أهنــا ال حتــب الذهــب وال التزيــن املبالــغ‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫فيــه‪ ..‬بــدأت ســلوى تتحــدث عــن بعــض املصاعــب التــي تقابلهــا يف‬
‫ﻜﺘ‬
‫العمــل‪ ..‬لكــن يــارس قاطعهــا قائـ ًـا‪:‬‬
‫‪ -‬أنا عارف كويس سبب الزيارة دي‪ ..‬وعارف إنتي عايزة إيه‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مل تبـ ِـد ســلوى دهشــتها مــن مبــادرة يــارس‪ ،‬وردت هبــدوء أهنــا ال تريــد‬
‫إال مصلحتــه‪ ..‬ســأهلا يــارس باســتنكار شــديد‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬مصلحتي إين أموت أبونا؟!‬


‫ﻭ‬

‫ر َّدت سلوى ضاحك ًة‪:‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬أبوك ميت من زمان بس أنت رافض تعرتف بده‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫مصححا‪:‬‬
‫ً‬ ‫قال يارس‬
‫‪ -‬أبونا خمتفي‪ ..‬مسريه يرجع‪.‬‬
‫‪ -‬أبــوك كان ُسـكَري وبــاع كل أمالكــه الــي يف القاهــرة‪ ،‬وأنــت نفســك‬
‫ســافرت أمريــكا عشــان هتــرب مــن قرفــه وســرته الزفــت‪ ..‬ولــوال أهــل‬
‫أمــي وقفــوا لــه كان بــاع كل الــي ليــه يف إســكندرية‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫أكملت حديثها بلهجة حنون‪:‬‬
‫‪ -‬يــا واد أنــا عايــزة مصلحتــك‪ ..‬هتيجــي معايــا تشــهد إن أبــوك مفقــود‬
‫بقــى لــه أكــر مــن عــر ســنني‪ ..‬ونطلــع له شــهادة وفــاة ونــورث‪.‬‬
‫أطلــق يــارس زفــرة طويلــة‪ ،‬وحــرك ســبابته بشــكل دائــري أمــام فمــه يف‬
‫ضجــر‪ ..‬أكملــت ســلوى حديثهــا بلهجــة عمليــة‪:‬‬
‫‪ -‬أرض أبــوك الــي يف العجمــي معــروض علينــا فيهــا مخســة مليــون‬

‫ﻋﺼ‬
‫جنيــه‪ ..‬احســب نصيبــك بقــى يــا مســر‪.‬‬
‫ر َّد يارس هبدوء‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬أنا رايض بنصيبي من الدنيا‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫نظــرت ســلوى إىل الرشفــة التــي تشــققت جدراهنــا مــن أعــى‪ ،‬وقالــت‬
‫متهكمة ‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬بقى بتسمي ده نصيب؟‬


‫ﺸﺮ‬

‫ر َّد يارس مقلدً ا طريقتها التهكمية‪:‬‬


‫ِ‬
‫خدت املال‪ ،‬وأنا خدت البنني‪.‬‬ ‫‪ِ -‬‬
‫أنت‬
‫ﻭ‬

‫ابتلعت سلوى تلميحه‪ ،‬وقالت بصوت ٍ‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫عال‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬يعني أنت عاجبك حالك‪...‬‬


‫كثــرا حتــى حفظــه‬
‫ً‬ ‫مكمــا حديثهــا الــذي ســمعه‬ ‫ً‬ ‫قاطعهــا يــارس‬
‫ومــل منــه‪ ،‬أخربهــا أنــه يعلــم ظروفــه‪ ،‬يعلــم أنــه يعيــش يف شــقة مؤجــرة‪،‬‬
‫ويــدرك حجــم مصاريــف مليكــة التــي تكــر معهــا‪ ،‬وأن مجيــع مشــاكله‬
‫املاديــة ســتحل إن اعــرف بوفــاة أبيــه‪..‬‬

‫‪32‬‬
‫قاطعتــه ســلوى لترتحــم عــى أبيهــا‪ ..‬ر َّد يــارس يف حنــق أن أبــاه ال يــزال‬
‫ح ًيــا‪ ..‬قالــت ســلوى بلهجــة عمليــة لتنهــي النقاش‪:‬‬
‫‪ -‬أنــا نضفــت لــك شــقتك الــي يف عــارة الرمــل‪ ،‬حاســة إنــك‬
‫هتحتاجهــا قريــب‪ ..‬بــس لألســف كل حاجــة لســه مكتوبــة باســم أبــوك‪..‬‬
‫يعنــي الزم تــورث عشــان تعيــش فيهــا‪.‬‬
‫‪ -‬أنا مبسوط يف الشقة دي‪.‬‬
‫ردت بلهجــة خبيثــة أن دوام احلــال مــن املحــال‪ ..‬رد يــارس بحـ ٍ‬

‫ﻋﺼ‬
‫ـزن أن‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ثمــن الشــقة باهــظ عليــه‪ ..‬قالــت ســلوى بلهجــة مل ختـ ُـل مــن شــفقة‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬أنــت حاســس بالذنــب عشــان أبــوك اختفــى ملــا أنــت بعــدت عنــه‬
‫ﻜﺘ‬
‫وســافرت؟‪ ..‬صدقنــي‪ ،‬عبــد احلــي الطائــي عمــره مــا كان بيفكــر كــده‪،‬‬
‫وال بيفــرق معــاه غيــاب حــد‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫هربــت دمعــة مــن عــن يــارس‪ ،‬نظــر نحــو غــرام مــن خــال زجــاج‬
‫الرشفــة‪ ،‬وحــن تأكــد مــن انشــغاهلا عنــه ســحب ســيجارة مــن علبــة‬
‫ﺸﺮ‬

‫ســلوى دون اســتئذان‪ ،‬اســتند عــى ســور الرشفــة ناظـ ًـرا إىل الشــارع املطــل‬
‫عــى أحــد جوانــب «جامــع ســيدي بــر»‪ ،‬قائـ ًـا‪:‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬جريانــه كانــوا بيســمعوه كل ليلــة وهــو بينــادي عليــا‪ ..‬كان بيتخيلنــي‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫لســه عايــش معاه‪.‬‬


‫بصوت أشبه بالفحيح‪:‬‬‫ٍ‬ ‫قالت سلوى‬
‫‪ -‬حــد يف ســن أبــوك ويف حالتــه الصحيــة وكــان كان بيهلــوس‬
‫بســرتك‪ ..‬تفتكــر هيفضــل عايــش طــول الســنني دي؟‬
‫مل يرد يارس‪ ،‬كان يعلم أهنا عىل حق‪ ..‬أردفت سلوى هبدوء‪:‬‬

‫‪33‬‬
‫‪ -‬أنــت مــش رافــض فكــرة موتــه‪ ،‬أنــت رافــض فكــرة إنــك كنــت‬
‫الســبب يف موتــه‪.‬‬
‫طلــب منهــا يــارس بحــزم أن تتوقــف عــن حمــاوالت إقناعــه‪ ،‬هددهــا‬
‫إن ســعت يف إجــراءات املــراث بمفردهــا فإنــه ســيذهب إىل املحكمــة كــا‬
‫فعــل منــذ ســنوات‪ ،‬وحيــر عــد ًدا مــن شــهود الــزور ليخــروا القــايض‬
‫أن أبــاه ال يــزال ح ًيــا وأهنــم يرونــه‪ ،‬وســيضع كلمتــه أمــام كلمتهــا ليبقــى‬
‫احلــال عــى مــا هــو عليــه‪ ...‬قاطــع حديثهــا اقتحــام غــرام للرشفــة‪،‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫وجهــت حديثهــا ليــارس قائلــة يف جــزع‪:‬‬ ‫َّ‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬احلقني‪ ..‬فيه موظف برة بيطلب مننا نلم حاجتنا ونخيل البيت‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫ضحكــت ســلوى‪ ،‬قالــت هبــدوء مشــرة برأســها إىل ســقف الرشفــة‬
‫املشــقق‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬طبيعــي‪ ..‬العــارة قديمــة‪ ،‬وماحــدش كان مأجــر فيهــا غريكــم‪،‬‬


‫وباقيــة الشــقق بتتأجــر للمصيفــن‪ ..‬قــرار اإلزالــة ده اتأخــر‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫نظــر يــارس لســلوى نظــرة كادت أن حترقهــا؛ كان يعلــم جيــدً ا أهنــا‬
‫وراء هــذا التــرف‪ ،‬حــاول أن يكظــم غيظــه وقــال بغضــب ضاغ ًطــا عــى‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أســنانه‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬فيه قرار إزالة طبيعي هيطلع الساعة تسعة بالليل؟‬


‫مل تفهــم غــرام تلميــح يــارس‪ ،‬ســألت ســلوى فلــم تــرد األخــرة‪..‬‬
‫غــادرت ســلوى الرشفــة‪ ،‬ربتــت عــى كتــف يــارس وقالــت ضاحكــة‪:‬‬
‫‪ -‬روح افتح هديتي‪ ..‬هتالقي جواها مفتاح شقتك اجلديدة‪.‬‬
‫***‬
‫‪34‬‬
‫‪ -2‬رحلة‬

‫ﻋﺼ‬
‫ً‬
‫طويــا‪ ،‬أســكت منبــه‬ ‫اســتيقظ الكونــت مــن نــوم مضطــرب مل يــدم‬
‫هاتفــه مــن نــوع ‪ ..Iphone‬حــن هنــض مــن فراشــه وقعــت عينــاه عــى‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫روايــة (أيــام ســدوم املائــة والعــرون)‪ ،‬والتــي مل يســتطع النــوم قبــل ان‬
‫ﻜﺘ‬
‫ينتهــي مــن قراءهتــا‪ ..‬خــرج إىل حديقــة فيلتــه ليســقي الــورد البلــدي الــذي‬
‫حيــب زراعتــه و ُيطعــم كلبــي احلراســة املربوطــن بالقــرب مــن البوابــة‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫احلديديــة ا ُملحاطــة مــن اجلانبــن بســور خرســاين قصــر وســياج كثيــف مــن‬
‫األشــجار‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫اشــرى هــذه الفيــا يف موقــع منعــزل عــى الطريــق الصحــراوي مــن‬


‫أحــد رجــال األعــال هبويــة مزيفــة يســتخدمها يف تعامالتــه الورقيــة التــي‬
‫ﻭ‬

‫نــادرا مــا يلجــأ إليهــا‪ ..‬كان جريانــه يف ِ‬


‫الفلــل املجــاورة عبــارة عــن جمموعــة‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ً‬
‫ِ‬
‫مــن ذوي النشــاطات املشــبوهة‪ ،‬وقــد اتفــق مجيــع ُمــاك تلــك الفلــل‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ضمن ًيــا عــى أال يعــرف أحدهــم هويــة اآلخــر‪.‬‬


‫عــاد الكونــت إىل الفيــا مــرة أخــرى لريتــب فراشــه بعنايــة‪ ،‬مــارس‬
‫رياضتــه الصباحيــة التــي ال تتجــاوز مدهتــا نصــف الســاعة‪ ،‬تنــاول فطــوره‬
‫ملح ًقــا بجرعــة بســيطة مــن عقــار البرياســيتام؛ كان هلــذا العقــار ً‬
‫أثــرا يف‬
‫نفســه حيبــه ويتناســب مــع مــا يريــد أن يكونــه‪ ..‬حــن أخــذه ألول مــرة مل‬

‫‪35‬‬
‫ـرا؛ أصبحــت‬ ‫يشــعر بفــارق كبــر‪ ..‬ولكــن بعــد ذلــك تطــورت األمــور كثـ ً‬
‫حضــورا‪ ،‬متكــن مــن الرتكيــز يف مجيــع‬
‫ً‬ ‫ذاكرتــه أكثــر قــوة‪ ،‬وذهنــه أكثــر‬
‫ـرا واختفــى شــعور التوتــر الــذي كان‬ ‫التفاصيــل‪ ،‬زادت ثقتــه يف نفســه كثـ ً‬
‫يــزوره حــن خيــرج لتنفيــذ مهمــة مــن مهامتــه‪ ،‬أصبحــت أفــكاره وردود‬
‫أفعالــه رسيعــة ومرتبــة بسالســة فائقــة‪ ،‬تعاظمــت قدرتــه عــى اإلبــداع يف‬
‫عملــه عـ َّـا كانــت يف األســاس‪ .‬كان يعلــم أثنــاء وقوعــه حتــت تأثــر العقــار‬
‫أن هــذه ليســت طبيعتــه وأن هــذا األثــر لــن يــدوم؛ لذلــك كانــت جرعاتــه‬

‫ﻋﺼ‬
‫حمســوبة بدقــة حتــى ال يقــع يف فــخ اإلدمــان‪.‬‬
‫قميصــا أبيــض اللــون بــأزرار ســوداء‪ ،‬أحكــم ربطــة عنقــه‬ ‫ً‬ ‫ارتــدى‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ً‬
‫مكمــا هندامــه ببذلــة‬ ‫الداكنــة‪ ،‬ارتــدى ســاعته ذات الســوار الفــي‬
‫ﻜﺘ‬
‫ســوداء رســمية‪ ..‬أحــدث وقــع حذائــه عــى الســلم صوتًــا تــردد صــداه‬
‫يف فــراغ الفيــا قليلــة األثــاث‪َ ،‬عـ َـر البهــو الــذي انبعــث فيــه الــدفء مــن‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مكيفــات اهلــواء الصغــرة املثبتــة أعــاه‪ ،‬ودخلــه ضــوء الشــمس مــن أكثــر‬
‫توجــه نحــو جانــب مــن البهــو ُوضــع فيــه متثــال «اغتصــاب‬ ‫مــن موضــع‪َّ .‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫بروزربينــا «‪ ،‬وخلفهــا ســلم مســترت يــؤدي إىل الطابــق القابــع حتــت‬


‫األرض‪ ..‬أرشف عــى تصميــم هــذا الطابــق بنفســه حــن ابتــاع الفيــا‪،‬‬
‫ﻭ‬

‫خاصــا لــرف امليــاه‪ ،‬كلفــه الكثــر مــن األمــوال العتــاده‬


‫فأقــام هلــا نظا ًمــا ً‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫عــى مضخــات امليــاه‪ ..‬حــرص عــى عــزل حجــرات هــذا الطابــق صوت ًيــا‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫عــا حوهلــا؛ فأصــوات الــراخ التــي تنبعــث مــن حناجــر املقيمــن فيهــا‬
‫ـرا‪.‬‬
‫كانــت تقلــق نومــه كثـ ً‬
‫قســم الكونــت الطابــق األريض لثــاث حجــرات؛ كل حجــرة ملحــق‬
‫هبــا دورة ميــاه‪ ..‬توجــه إىل أحــد احلجــرات وكتــب كلمــة رس البــاب‬
‫اإللكــروين اخلاصــة هبــا‪ ،‬ثــم فتــح قفلهــا اليــدوي‪ ..‬كانــت احلجــرة بيضــاء‬

‫‪36‬‬
‫متا ًمــا‪ ،‬مضــاءة بالكثــر مــن مصابيــح النيــون‪ ..‬يقبــع يف أحــد أركاهنــا رجــل‬
‫مســن قصــر القامــة‪ ،‬ذو مالمــح جامــدة خاليــة مــن أي تعبــر‪ .‬كان يرتــدي‬
‫نائــا عــى‬
‫جلبا ًبــا أبيــض جعلــه يبــدو جــز ًءا مــن ديكــورات احلجــرة‪ً ،‬‬
‫األرضيــة املبطنــة بكتــل إســفنجية ســميكة مغطــاة بأكثــر مــن مــاءة بيضــاء‪،‬‬
‫كان العجــوز ينظــر يف رشود نحــو الســقف متأمـ ًـا أشــياء ال يراهــا غــره‪،‬‬
‫كانــت نظرتــه خاويــة متا ًمــا‪ ،‬مل يبــدُ عليــه أنــه قــد الحــظ دخــول الكونــت‬
‫مــن األســاس‪ ..‬اقــرب الكونــت منــه مرب ًتــا عــى رقبتــه مــن اخللــف كمــن‬

‫ﻋﺼ‬
‫حينــو عــى كلــب حراســته الــويف‪ ،‬وأرغمــه عــى اجللــوس مســندً ا ظهــره إىل‬
‫احلائــط‪ ،‬اســتلقى الكونــت واض ًعــا رأســه فــوق فخــذ العجــوز يف وضعيــة‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫اجلنــن‪ ،‬وقــال للمســن بصـ ٍ‬
‫ـوت هــادئ بعــد تنهيــدة طويلــة‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬الــي أنــت فيــه بقالــك ســنني ده اســمه «شــكنجه ســفيد»‪ ،‬لــو ليــك‬
‫يف الفــاريس ‪-‬وده مســتحيل طب ًعــا‪ -‬هتعــرف إن الكلمــة دي معناهــا‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫«التعذيــب األبيــض»‪..‬‬
‫مل يبــدُ عــى العجــوز أنــه قــد ســمع الكونــت مــن األســاس‪ ،‬فربــت‬
‫ﺸﺮ‬

‫الكونــت عــى فخــذه بحنــان ً‬


‫قائــا‪:‬‬
‫‪ -‬عــارف إين كل مــرة بــرح لــك‪ ..‬بــس أعمــل إيــه؟ أنــت الــي‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ذاكرتــك ضعيفــة‪.‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫مل ينبــس العجــوز بحــرف‪ ،‬فأكمــل الكونــت بعــد ضحكــة قصــرة‬


‫ناظــرا يف عينــي العجــوز‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬الطريقــة دي ممنوعــة يف كل البــاد تقري ًبــا ما عدا إيران؛ بيســتخدموها‬
‫هنــاك يف تعذيــب املعارضــن للنظــام‪ ،‬برصاحــة أول مــا قريــت عنهــا‬
‫افتكرهتــا هتريــج‪ ..‬أصــل يعنــي إيــه أعــذب واحــد بــإين أحطــه يف مــكان‬

‫‪37‬‬
‫مفيهــوش غــر اللــون األبيــض وأعزلــه متا ًمــا عــن أي كل حاجــة؟!‬
‫نزلــت دمعــة بســيطة مــن عــن العجــوز الــذي بــدا كأنــه مل يفهــم مــا‬
‫ُيقال‪..‬جتاهــل الكونــت دمعتــه‪ ،‬وأكمــل كأنــه يذكــر نفســه‪:‬‬
‫‪ -‬واحــد يف ســنك وحالتــك النفســية وقــت مــا خطفتــك كان‬
‫مســتحيل يســتحمل طــرق التعذيــب التقليديــة‪ ،‬وبرصاحــة أنــا نفــي مــا‬
‫بفضلهــاش‪ ..‬بــس التعذيــب األبيــض ده فكــرة عظيمــة؛ مــع الوقــت بيقتــل‬
‫كل حواســك‪ ،‬بيضيــع هويتــك وشــخصيتك‪ ،‬بيخليــك حيــوان عايــش‬

‫ﻋﺼ‬
‫تــاكل وتنــام‪ ،‬ماعندكــش القــدرة إنــك تفكــر يف أي حاجــة‪ ..‬مفيــش حالــة‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫واحــدة اســتحملت الطريقــة دي مــن غــر مــا جييلهــا اهنيــار نفــي‪.‬‬
‫نظــر الكونــت يف عينــي الرجــل مــن موضعــه‪ ،‬وقــال بعــد أن تنهــد‬
‫ﻜﺘ‬
‫ً‬
‫طويــا‪:‬‬
‫‪ -‬بــس أنــت الوحيــد الــي تعذيبــك بالنســبة يل غايــة‪ ..‬مــش جمــرد‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫وســيلة عشــان أعــرف منــك حاجــة‪.‬‬


‫متوجهــا نحــو طبــق أبيــض‬ ‫هنــض الكونــت مــن مكانــه بحركــة مفاجئــة‬
‫ﺸﺮ‬

‫ً‬
‫ـن مــن احلجــرة‪ ،‬مــأ يــده بقليــل مــن األزر األبيــض‬‫كبــر موضــوع يف ركـ ٍ‬
‫ﻭ‬

‫املســلوق؛ مل يــأكل العجــوز غــره منــذ ســنوات‪ ،‬وعــاد للعجــوز حمــركًا فكــه‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫الســفيل بقــوة‪ ،‬وضــع يف فمــه الكثــر مــن األرز‪ ،‬ضغــط عــى شــفتيه حتــى‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ســعل العجــوز وكاد أن خيتنــق‪ ،‬اقــرب مــن أذنــه‪ ،‬قــال وهــو جيــز عــى‬
‫أســنانه‪:‬‬
‫‪ -‬أنــت مــروع عمــري‪ ،‬أكــر حــد كرهتــه يف حيــايت‪ ..‬تعــرف إين‬
‫قعــدت كتــر أحلــم باللحظــة دي؟ وكل مــرة بشــوفك فيهــا بالشــكل ده‬
‫بفــرح زي مــا تكــون أول مــرة‪ ..‬طــول الســنني دي بســتمتع وأنــا بشــوفك‬

‫‪38‬‬
‫بتمــوت بالبطــيء‪ ،‬بشــوفك بتتحــول ملســخ مــش عــارف هــو مــن وال‬
‫عايــش ليــه وال قــادر حتــى يفكــر يف أي حاجــة‪.‬‬
‫اســتعاد هــدوءه ثانيـ ًة كأن شــي ًئا مل حيــدث‪ ،‬أطلــق ضحكــة هادئــة‪ ،‬نظــر‬
‫ـذرا بــرورة مغادرتــه اآلن‪ ،‬ر َّبــت‬
‫للعجــوز يف عينيــه بحنــان‪ ،‬أخــره معتـ ً‬
‫عــى كتفــه قائـ ًـا بابتســامة‪:‬‬
‫‪ -‬ما ختافش‪ ..‬ما ختافش طول أنا معاك‪.‬‬
‫***‬

‫ﻋﺼ‬
‫توجــه الكونــت إىل احلجــرة املجــاورة‪ ..‬كانــت األقفــال املوضوعــة‬ ‫َّ‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ِ‬
‫فــوق باهبــا أقــل مــن ســابقتها‪ُ ،‬حبــس بداخلهــا عــدد مــن احليوانــات التــي‬
‫ﻜﺘ‬
‫ســكنت متا ًمــا حــن رأتــه‪ ،‬وتراجــع معظمهــم أمامــه يلــوذون بــأركان‬
‫احلجــرة اخلاليــة كســابقتها‪ ،‬امتــأت أرضيتهــا بفضالهتــم والكثــر مــن بقــع‬
‫الــدم‪ ،‬وبقايــا الطعــام املجفــف املتناثــرة مــن أطبــاق بالســتيكية‪ ،‬وبعــض‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ختــل مــن آثــار العــض‪ ..‬كان‬‫الكــرات البالســتيكية الصغــرة التــي مل ُ‬


‫يســتخدمهم يف إجــراء جتاربــه ملعرفــة أشــد مواطــن األمل النفيس واجلســدي‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫اقــرب مــن كلــب ضخــم مــن نــوع ‪ Pitbull‬شــديد الرشاســة‪ ،‬تفـ َّـرس‬
‫يف عينــي الكلــب الــذي كان يتجنــب عينــي الكونــت يف خـ ٍ‬
‫ﻭ‬

‫ـوف وحيــاول‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫التملــص منــه مطل ًقــا ً‬


‫نباحــا مكتو ًمــا‪ ..‬ابتســم لــه الكونــت مربتًــا عــى‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫مقدمــة رأســه اجلريــح بعــد رصاع مــع كلــب آخــر‪ ..‬ســكن الكلــب قليـ ًـا‬
‫جرســا‬
‫دون أن ينظــر يف عينــي الكونــت‪ ،‬أخــرج الكونــت مــن جيبــه ً‬
‫رن صوتــه جــن الكلــب ونبــح بصــوت حــاد‪ ،‬وركــض‬ ‫صغــرا‪ ،‬وحــن َّ‬
‫ً‬
‫مبتعــدً ا عــن الكونــت يف فــز ٍع شــديد‪ ،‬هنــض الكونــت راض ًيــا‪ ،‬هنــض مــن‬
‫مكانــه مصفـ ًـرا بشــفتيه يف اســتمتاع‪ ،‬وقبــل أن خيــرج مــن احلجــرة وضــع‬

‫‪39‬‬
‫عــى األرض علبــة كبــرة مــن الطعــام املجفــف ناثـ ًـرا حمتوياهتــا‪ ،‬وأخــرج‬
‫مــن جيبــه ســيجارة ملفوفــة بمخــدر احلشــيش‪ ،‬أشــعلها ووضعهــا يف فــم‬
‫أحــد القــرود القابعــة يف ركــن احلجــرة‪ ،‬ضحــك حــن رأى القــرد يدخــن‬
‫الســيجارة يف هنــم شــديد‪.‬‬
‫***‬
‫كانــت الغرفــة الثالثــة مظلمــة متا ًمــا‪ ..‬حتســس الكونــت موضــع مفتــاح‬
‫اإلضــاءة حتــى أنــار احلجــرة بمصبــاح أصفــر اللــون خافــت اإلضــاءة‪..‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫كانــت هــذه احلجــرة املخصصــة ملهامتــه التــي يتلقــى املــال ألجــل تنفيذهــا‪..‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫توجــه إىل منتصــف‬
‫أثــارت رائحــة الغرفــة بداخلــه القليــل مــن االشــمئزاز‪َّ ،‬‬
‫احلجــرة حيــث ينــام أســره؛ موضو ًعــا داخــل برميــل واســع ال يســمح لــه‬
‫ﻜﺘ‬
‫إال بالركــوع‪ ،‬بعــد أن تــم تقييــد قدميــه ويــده اليمنــى‪ ..‬أخــرج الكونــت‬
‫قطعــة ســميكة مــن القــاش‪ ،‬ربطهــا بإحــكام فــوق عينــي ضحيتــه‪ ،‬صفعــه‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫عــى وجهــه قائـ ًـا هبــدوء‪:‬‬


‫‪ -‬باش مهندس هشام‪ ..‬ممكن تصحى؟‬
‫ﺸﺮ‬

‫اســتيقظ الرجــل عــى صــوت الكونــت‪ ،‬تلفــظ ببعــض الشــتائم التــي‬


‫تليــق بطفــل يف مدرســة ابتدائيــة‪ ،‬ثــم قــال بصــوت شــديد الوهــن‪:‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬حسبي اهلل ونعم الوكيل‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫نظــر الكونــت إىل الطعــام واملــاء املوضوعــن أمــام الربميــل يف متنــاول‬


‫متنفســا بعمــق‪ ،‬بــدت عــى وجهــه‬
‫ً‬ ‫يــد أســره املنهــك‪ ،‬رفــع رأســه إىل أعــى‬
‫نشــوة حقيقيــة بــا يفعــل‪ ،‬قــال مبتسـ ًـا‪:‬‬
‫‪ -‬مبدئ ًيــا بعتــذر لــك إين ماجيتــش أخطفــك مــن البيــت بنفــي وأجرت‬
‫لــك واحــد خمصــوص‪ ..‬بــس لــو عرفــت خــد منــي كام أكيد هتســاحمني‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫ذ َّكــره الكونــت برتكــه يف الظــام ملــدة أســبوع مــع مــا يكفيــه مــن طعــام‬
‫ومــاء‪ ،‬تركــه دون أن يذكــر ســبب اختطافــه وال موعــد خروجــه‪ ،‬تركــه‬
‫وجــه هشــام عينيــه املعصوبتــن‬‫ينــام واق ًفــا وخيــرج فضالتــه يف مالبســه‪َّ ..‬‬
‫ـتدل عــى مكانــه مــن اجتــاه صوتــه‪ ،‬وقــال بثبــات أدهــش‬‫نحــو الكونــت مسـ ً‬
‫الكونــت‪:‬‬
‫وهم اليل أجروك ختطفني‪..‬‬
‫‪ -‬أنت شغال عندهم‪َ ،‬‬
‫مصححا‪:‬‬
‫ً‬ ‫ر َّد الكونت‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬أنــا مــا بشــتغلش عنــد حــد‪ ..‬تقــدر تقــول عليــا جــاد حمــرف‪ ..‬بــس‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫لألمانــة الــي بعملــه فيــك ده ملصلحــة ســامح‪ ،‬وملصلحتــك أنــت كــان‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬متوســا‪ -‬أن يدفــع لــه ضعــف مــا‬ ‫عــرض هشــام عــى الكونــت‬
‫ﻜﺘ‬
‫ســيدفعه ســامح‪ ،‬يف مقابــل أن يرتكــه‪ ..‬قاطعــه الكونــت بغضــب‪:‬‬
‫‪ -‬أنــا لــو كلــب فلــوس مكانــش حــد زي ســامح و كتــر غــره آمنــوا‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يل عــى أرسارهــم‪ ،‬وفلــوس ســامح دي أنــا ممكــن أرصف أضعافهــا عشــان‬
‫أخليــك تعمــل يل الــي أنــا عايــزه‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫متهكم‪:‬‬
‫ً‬ ‫قال هشام‬
‫ﻭ‬

‫‪ -‬قصدك اليل مها عايزينه‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫صفعه الكونت بقسوة ً‬


‫قائل‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬أنــا أعــى إيــد يف اللعبــة دي‪ ..‬مهــا فاكريــن إين بنفــذ إرادهتــم‪ ،‬بــس‬
‫احلقيقــة إهنــم بيلعبــوا بقواعــد أنــا موافــق عليهــا‪ ،‬ولــوال موافقتــي دي‬
‫ماكانــش حــد فيهــم قــرب لــك‪.‬‬
‫رشع هشــام حيكــي قصــة كفاحــه للكونــت ع َّلــه يظفــر بعطفــه‪ ،‬أخــره‬
‫صغــرا يف مدينــة املنصــورة‪ ،‬اتســعت دائــرة أعاملــه‬
‫ً‬ ‫مهندســا‬
‫ً‬ ‫أنــه بــدأ‬

‫‪41‬‬
‫وزادت خربتــه يف وقــت قصــر حتــى أقــام مكت ًبــا هندســ ًيا برشاكــة مــع‬
‫أخيــه األصغــر‪ ،‬وحــن اتســع نشــاطهام انتقــا إىل القاهــرة ملنافســة رشكات‬
‫املقــاوالت الكبــرة عــى العديــد مــن املناقصــات؛ كرشكــة «ســامح أبــو‬
‫خاطــر» الــذي أجــر الكونــت‪ ..‬فاجــأه األخــر أنــه يعــرف القصــة كاملــة‪،‬‬
‫وقــال‪:‬‬
‫‪ -‬ماختافــش يــا بــاش مهنــدس‪ ..‬أنــا متعاطــف مــع قضيتــك فــوق‬
‫مــا تتصــور‪ ،‬بــس الســؤال هنــا‪ :‬هــل تعاطفــي ده هيفيــدك‪ ،‬وهــل لــو أنــا‬

‫ﻋﺼ‬
‫ســيبتك تفتكــر مهــا هيســيبوك؟‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ســأله هشــام عــن املــرر ملــا يفعلــه‪ ،‬ر َّد الكونــت ببســاطة أنــه حيــب مــا‬
‫ـارحا هبــدوء‪:‬‬
‫يفعــل‪ ،‬حـ َّـول جمــرى احلديــث جتــاه هشــام مــرة أخــرى شـ ً‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬رأس املــال يف أي مــكان يف العــامل مــا بيســمحش للصغرييــن الــي‬
‫زيــك إهنــم يتخطــوا حــد معــن مــن الثــروة؛ حــد بيكــون هــو راســمه لــك‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مــن أول يــوم ليــك يف الشــغل‪ ..‬يف رأيــي أنــت الغلطــان عشــان حاولــت‬
‫ترفــع ســقف طموحــك فــوق املســموح لــك‪ ،‬ويف حالتــك دي كان الزم‬
‫ﺸﺮ‬

‫ختــر‪..‬‬
‫فــك الكونــت قيــد يــد هشــام اليمنــى‪ ،‬وأمســك بكلتــا يديــه حماك ًيــا هبــا‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫شــكل امليــزان املتــزن‪ ،‬وقــال‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬الوجــود اإلنســاين قايــم عــى معادلــة بــن كل حاجــة وعكســها‪ ،‬مــا‬


‫أخــل بنظــام كامــل عشــان شــوية مبــادئ مــش رشط تكــون صــح‪.‬‬ ‫ينفعــش ِّ‬
‫مل يــرد هشــام وأشــاح برأســه بعيــدً ا عــن الكونــت‪ ،‬قــال بثقــة أنــه لــن‬
‫ينســحب مــن املناقصــة‪ ..‬ر َّد الكونــت أن انســحابه ســيثري الشــكوك حــول‬
‫تعرضــه للتهديــد مــن الرشكــة املنافســة‪ ،‬وأنــه يريــد فقــط معرفــة املبلــغ‬

‫‪42‬‬
‫املــايل الــذي وضعــه يف مظــروف العطــاء؛ حتــى يتســنى لســامح أيب خاطــر‬
‫تقديــم مبلــغ أقــل منــه بقليــل والفــوز باملناقصــة‪ ..‬وقبــل أن يــرد هشــام قــال‬
‫الكونــت‪:‬‬
‫ال مش عايز أسمعك دلوقتي‪..‬‬
‫أكمل حديثه بنفس اهلدوء‪:‬‬
‫‪ -‬ماختافــش يــا بــاش مهنــدس‪ ..‬أنــا عايــز أســاعدك‪ ،‬أنــا ســهل عليــا‬
‫أعذبــك بالطــرق القديمــة بتاعــت حماكــم تفتيــش العصــور الوســطى؛‬

‫ﻋﺼ‬
‫وجــو خوازيــق بقــى‪ ،‬أو أحطــك جــوة متثــال رصــاص وأولــع فيــه مــن بــرة‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫وأســيبك تســيح جــواه‪ ،‬أو أقعــدك عــى كــريس هيــوذا الــي مليــان مســامري‪..‬‬
‫أو حتــى أقطــع لــك أطرافــك‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫ارجتــف هشــام حــن ســمع حديــث الكونــت‪ ،‬لكــن األخــر أشــاح‬
‫ـرا ســحابة‬
‫بوجهــه مبد ًيــا اشــمئزازه مــن تلــك الطــرق‪ ،‬أشــعل ســيجاره مثـ ً‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫هامســا‪:‬‬
‫مــن الدخــان‪ ،‬اقــرب مــن أذن هشــام ً‬
‫‪ -‬أنــا حابــب آخــدك يف رحلــة؛ رحلــة جــوة نفســك‪ ..‬وملــا ترجــع مــن‬
‫ﺸﺮ‬

‫الرحلــة دي هتقــول يل كل الــي حمتــاج أعرفــه‪ ،‬وهتعمــل يل كل الــي أنــا‬


‫ﻭ‬

‫عايــزه‪ ،‬هتعملــه وأنــت حابــب إنــك بتعملــه عشــاين‪ ..‬عشــان «الكونــت»‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫بصوت خفيض‪:‬‬‫ٍ‬ ‫حتولت هلجة الكونت إىل اللني‪ ،‬قال هلشام‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬أنــا كنــت نــاوي أجــرب فيــك كــذا نــوع مــن الفوبيــا؛ والفوبيــا الــي‬
‫هتطلــع مريــض بيهــا هســتخدمها يف تعذيبــك‪ ،‬بــس قولت حــرام‪ ..‬وقررت‬
‫أخليــك جترهبــم كلهــم مــع بعــض يف نفــس الوقــت‪ ..‬أظــن مافيــش عــدل‬
‫أكــر مــن كــده!‬
‫أخرجــه الكونــت مــن الربميــل‪ ،‬مل يعبــأ برائحتــه الكرهيــة‪ ،‬وأدخلــه دون‬

‫‪43‬‬
‫مقاومــة كبــرة داخــل صنــدوق حديــدي بــه ثقــوب كثــرة للتهويــة‪ ،‬كان‬
‫ـتقرا يف أقــى احلجــرة‪ ،‬أردف الكونــت بلهجــة عمليــة‪:‬‬
‫الصنــدوق مسـ ً‬
‫‪ -‬أنــا جمهــز لــك كل حاجــة مــن قبــل مــا تيجــي‪ ..‬وأظــن واضــح مــن‬
‫الصنــدوق إن أول فوبيــا هــي األماكــن الضيقــة‪ ..‬أمــا تــاين فوبيــا بقــى‬
‫فهتحــس بيهــا حـ ً‬
‫ـال‪.‬‬
‫أطلق هشام رصخة أمل‪ ..‬فأكمل الكونت حديثه ضاحكًا‪:‬‬
‫‪ -‬فوبيــا احلــرات‪ ..‬أنــا كنــت ســايب هلــم أكل يف الصنــدوق بــس‬

‫ﻋﺼ‬
‫واضــح إنــه خلــص‪ ..‬وســاحمني عشــان حبيــت أحــط ملســتي‪ ،‬وزودت لــك‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫فــران مــع احلــرات‪.‬‬
‫ســار الكونــت بخطــوات بطيئــة إىل احلقيبــة املوضوعــة بجــوار الربميــل‪،‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫وعــاد إىل هشــام بخطــوات متاميلــة وهــو يصفــر بفمــه‪ ،‬أخــرج مــن احلقيبــة‬
‫مقصــا كبــر احلجــم‪ ،‬وراح يقــص مالبــس هشــام املتســخة حتــى أصبــح‬ ‫ً‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ٍ‬
‫شــبه عــار وقــال‪:‬‬
‫‪ -‬تالــت فوبيــا هــي فوبيــا التعــري‪ ..‬عــارف إهنــا غال ًبــا مــش عنــدك‬
‫ﺸﺮ‬

‫ألنــك متجــوز؛ بــس أدينــا بنجــرب‪.‬‬


‫ﻭ‬

‫حــاول هشــام التامســك لكــن رصخــة قصــرة فلتــت منــه‪ ..‬ارتســمت‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫املتعــة عــى وجــه الكونــت الــذي مــدَّ يــده يف حقيبتــه مــرة أخــرى‪ ،‬أخــرج‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫منهــا عظا ًمــا آدميــة كرهيــة الرائحــة‪ ،‬وثالثــة أكيــاس ممتلئــة بالــدم‪ ،‬قــال‬
‫هبــدوء‪:‬‬
‫‪ -‬رابــع فوبيــا هــي النيكروفوبيــا؛ يعنــي اخلــوف مــن األشــياء امليتــة‪..‬‬
‫كنــت نــاوي أجيــب لــك كفــن أو أي عضــو مقطــوع‪ ،‬بــس قولــت إنــك‬
‫راجــل حمــرم مــا ينفعــش أعمــل معــاك كــده‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫بــدأ يثقــب أكيــاس الــدم باملقــص‪ ،‬ويصبهــا فــوق وجــه هشــام وباقــي‬
‫جســده قائـ ًـا بانتشــاء‪:‬‬
‫‪ -‬خامس فوبيا يا باش مهندس هي فوبيا الدم‪..‬‬
‫رصخ هشام رصخة طويلة‪ ،‬أكمل الكونت حديثه ضاحكًا‪:‬‬
‫‪ -‬امحــد ربنــا إنــك راجــل‪ ،‬متخيــل لــو أنثــى والفوبيــا دي عندهــا كان‬
‫هيبقــى شــكل حياتــك ازاي؟!‬
‫أطلــق هشــام الكثــر مــن الرصخــات وحــاول فــك قيــده‪ ،‬كان يتشــنج‬

‫ﻋﺼ‬
‫كمــرىض الــرع وهيــذي بكلــات غــر مفهومــة‪ ..‬ولكــن الكونــت أعــاده‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫كيســا بالســتيك ًيا‬
‫إىل الصنــدوق بحــزم‪ ،‬وأخــرج آخــر مــا كان يف احلقيبــة؛ ً‬
‫بــه الكثــر مــن اإلبــر الطبيــة الفارغــة‪ ،‬لــكل منهــا ســمك خمتلــف عــن‬
‫ﻜﺘ‬
‫األخــرى‪ ،‬رشع يثبتهــا بأماكــن خمتلفــة مــن جســم هشــام الــذي مل يكــف‬
‫عــن االرجتــاف‪ ،‬وقــال بابتســامته التــي مل تتبــدل‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬ســادس فوبيــا‪ :‬هــي اخلــوف مــن اإلبــر‪ ..‬مــا تقلقــش الرسنجــات دي‬
‫مــش هتســيب أثــر يف جســمك بعــد مــا يتشــالوا‪ ..‬مــش قولــت لــك إين‬
‫ﺸﺮ‬

‫متعاطــف معــاك؟‬
‫ﻭ‬

‫بــدأ الكونــت يغلــق الصنــدوق احلديــدي ضاحـكًا‪ ،‬وقــال هلشــام الــذي‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫مل يكــن واع ًيــا لكالمــه‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬أمتنــى إن احلاجــات دي جتيــب معــاك نتيجــة‪ ..‬عشــان لــو مــا حصلش‬


‫هنجــرب حاجــات أبشــع بكتري‪.‬‬
‫صعــد الكونــت إىل غرفتــه ليســتمع إىل بعــض املعزوفــات القديمــة عــى‬
‫آلــة العــود‪ ،‬راح يتصفــح بعــض املواقــع املوجــودة عــى اإلنرتنــت املظلــم‬
‫‪ .. Dark web‬مل ُيبـ ِـد اهتام ًمــا بــأي مــن طلبــات التعذيــب املرســلة إليــه حدي ًثــا؛‬

‫‪45‬‬
‫إمــا ل ُبعــد مــكان الضحيــة‪ ،‬أو ملحاولــة أصحاهبــا ختفيــض ســعر املهمــة‪،‬‬
‫أيضــا الطلبــات التــي يشــك يف جديــة أصحاهبــا‪ ..‬أغلــق حاســبه‬ ‫جتاهــل ً‬
‫وراح يتاميــل برأســه مســتمت ًعا بأنغــام العــود‪..‬‬
‫رشع يف النــزول مــرة أخــرى لالطمئنــان عــى هشــام الــذي مــى‬
‫عــى وجــوده داخــل الصنــدوق أكثــر مــن ســاعتني‪ ..‬أخــرج مــن درج‬
‫ـائل اشــراه عــن طريــق الـــ‪..dark web‬‬ ‫مكتبــه زجاجــة صغــرة حتتــوي سـ ً‬
‫كلفــه الكثــر مــن «البيتكويــن» املتداولــة هنــاك‪ ..‬كــر الكونــت مقدمــة‬

‫ﻋﺼ‬
‫الزجاجــة بحــرص شــديد وســحب الســائل عــن طريــق إبــرة املحقــن‪ ،‬ثــم‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫قليــا للتخ ُّلــص مــن اهلــواء الزائــد‪ ،‬ونــزل‬
‫أعــاد مكبــس اإلبــرة لألمــام ً‬
‫ليجهــز عــى ضحيتــه‪..‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫فتــح الكونــت أقفــال احلجــرة وهــو يدنــدن نفــس اللحــن الــذي كان‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يســمعه يف غرفتــه‪ ،‬أزاح خيــط عنكبــوت كان متدل ًيــا أمامــه‪ ،‬وضــع إبــرة‬
‫املحقــن بحــرص فــوق منضــدة صغــرة‪ ،‬فتــح الصنــدوق املعــدين؛ ليجــد‬
‫ﺸﺮ‬

‫هشــام يف حالــة شــديدة مــن اإلعيــاء‪ ..‬محلــه الكونــت حتــى ألقــاه يف‬
‫حــوض االســتحامم املوجــود بــدورة امليــاه امللحقــة باحلجــرة‪ ،‬فــك قيــوده‬
‫ﻭ‬

‫وتأكــد مــن إحــكام العصابــة حــول عينيــه ثــم فتــح املــاء فــوق جســده‪ ..‬بــدأ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫هشــام يســتيقظ وقــد نــال منــه الضعــف‪ ..‬ســاعده الكونــت عــى النهــوض‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫وتركــه ينظــف نفســه بنفســه‪ ..‬صــدرت عــن هشــام مقاومــة واهنــة وأدهــا‬
‫الكونــت بلكمــة قاســية يف منتصــف ظهــره‪ ..‬أجــره عــى اجللــوس فــوق‬
‫املقعــد الوحيــد يف احلجــرة وأعــاد تقييــده قائـ ًـا‪:‬‬
‫‪ -‬أنــا دلوقتــي لــو عايــز أعــرف منــك أي معلومــة هاعرفهــا‪ ،‬ولــو‬
‫أمرتــك بــأي أمــر مــش هتــردد تنفــذه يل‪..‬‬

‫‪46‬‬
‫أخــره الكونــت أنــه رآه شــا ًبا قو ًيــا‪ ،‬فقــرر أن جيــرب فيــه تركيبــة‬
‫جديــدة‪ ..‬أمســك إبــرة املحقــن‪ ،‬وبــدأ يضــخ الســائل يف أحــد األوردة‬
‫البــارزة مــن رقبــة هشــام‪ ..‬أكمــل حديثــه بنفــس اهلــدوء‪:‬‬
‫‪ -‬مــن فــرة مــش بعيــدة كان فيــه أبحــاث بتحــاول توصــل ملركــب حمفــز‬
‫للخــوف‪ ،‬مركــب بيــزود إفــراز هرمونــات الشــعور بالقلــق عنــد اإلنســان‪.‬‬
‫بــدأ هشــام يرجتــف كأنــه يــرى خيــاالت مفزعــة أمامــه‪ ..‬فأكمــل‬
‫ـخصا عــن طريــق الصدفــة يعــرض هــذه الرتكيبــة‬ ‫الكونــت أنــه وجــد شـ ً‬

‫ﻋﺼ‬
‫للبيــع عــى اإلنرتنــت‪ ،‬مدع ًيــا إهنــا إحــدى تطبيقــات هــذا البحــث‪ ..‬قــال‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بلهجــة اســتعراضية كممثــل مــرح يــؤدي املشــهد الرئيــي لشــخصيته‪:‬‬
‫‪ -‬ودلوقتــي هخليــك جتــرب خالصــة اخلــوف النقــي؛ اخلــوف مــن غــر‬
‫ﻜﺘ‬
‫أي سبب‪.‬‬
‫ســأله الكونــت عــن املبلــغ الــذي تقــدم به للعطــاء‪ ،‬أخــرج هاتفــه املحمول‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫لتســجيل مــا ســيقوله هشــام‪ ..‬بــدأ هشــام هيــذي بــكالم غــر مفهــوم‪ ،‬ثــم‬
‫أجابــه بــكل مــا يريــد أن يعــرف‪ ،‬رسد عليــه تفاصيــل العطــاء كاملـ ًة بمنتهــى‬
‫ﺸﺮ‬

‫التفصيــل‪ ..‬أغلــق الكونــت التســجيل ونظــر يف ســاعة يــده قائـ ًـا‪:‬‬


‫ﻭ‬

‫‪ -‬دلوقتــي مفعــول الرتكيبــة هيظهــر عليــك‪ ..‬هتشــوف أكــر حاجــات‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫بتخــاف منهــا‪.‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫مل يســتطع هشــام املقاومــة أكثــر مــن ذلــك‪ ،‬ســكن جســده وراح يبكــي‬
‫كالرضــع‪ ،‬فقــد شــعوره بــكل مــا حولــه‪ ،‬راح يتحــدث مــع أمــه وأبيــه‪،‬‬
‫حــرك جســده بشــكل عشــوائي حتــى‬ ‫يدبــدب يف األرض كاألطفــال‪َّ ،‬‬
‫ســقط مــن فــوق الكــريس‪ ،‬نــام عــى األرض مرجت ًفــا‪..‬‬
‫بصوت كالفحيح‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫اقرتب منه الكونت ومهس يف أذنه‬

‫‪47‬‬
‫‪ -‬شايف إيه يا هشام؟‬
‫ر َّد هشــام بكلــات مبعثــرة مل يفهــم الكونــت أغلبهــا‪ ،‬فقــط م َّيــز‪:‬‬
‫«أمــي ماتــت»‪« ..‬البيــت هيقــع»‪« ..‬حــد يلحقنــي»‪« ..‬رسطــان رئــة»‪..‬‬
‫«الــكالب»‪« ..‬الرشكــة فلســت»‪« ..‬هأمــوت»‪« ..‬هأمــوت»‪.‬‬
‫اســتغرق هشــام يف خياالتــه لدقائــق‪ ،‬مل حيتمــل املزيــد وفقــد وعيــه‪،‬‬
‫أجلســه الكونــت مــرة أخــرى فــوق املقعــد بعــد أن ق َّيــد حركتــه بإحــكام‪..‬‬
‫انتظــر بجانبــه طويـ ًـا حتــى اســتعاد تركيــزه‪ ،‬وقــال بلهجــة مرحــة بعــد أن‬

‫ﻋﺼ‬
‫صفــق بيديــه حمي ًيــا‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬خــاص يــا بطــل الرحلــة خلصــت‪ ..‬أظــن أنــت دلوقتــي عرفــت‬
‫نفســك كويــس‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫أطلــق هشــام ســبة شــديدة البــذاءة؛ خــاض يف ِعــرض الكونــت‪ ..‬رد‬
‫الكونــت دون أن يفقــد هــدوءه‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬تعــرف إين حبيتــك بجــد‪ ،‬وقــررت أعمــل لــك خدمــة عمــرك‪ ..‬أنــت‬
‫راجــل نضيــف يــا هشــام‪ ،‬ملتــزم ومتديــن وفلوســك حــال‪ ..‬مــا ينفعــش‬
‫ﺸﺮ‬

‫تعيــش يف العــامل ده‪.‬‬


‫ﻭ‬

‫اســتمر هشــام يف ســباب الكونــت ذاكـ ًـرا أمــه بأقــذع األلفــاظ‪ ..‬وقــف‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫مسدســا صغــر احلجــم مــن‬


‫ً‬ ‫الكونــت خلفــه‪ ،‬وفــك عصابــة عينيــه‪ ،‬أخــرج‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫صوبــه جتــاه أســره‪ ..‬شــعر هشــام بــرودة معــدن ماســورة املســدس‬ ‫جيبــه‪َّ ،‬‬
‫املالمســة ملقدمــة رأســه فبــدأ يتلــو الشــهادتني باك ًيــا‪ ..‬وضــع الكونــت‬
‫ســبابته فــوق الزنــاد وقــال مبتسـ ًـا‪:‬‬
‫‪ -‬فرصة سعيدة يا باش مهندس‪ ..‬هتوحشني‪.‬‬
‫***‬

‫‪48‬‬
‫‪ -3‬جانب مظلم‬

‫ﻋﺼ‬
‫شــعرت بالعجــز املطلــق؛ فأنــا ال أعــرف حقيقــة اخلطــر الــذي هيــدد‬
‫ُ‬
‫زوجتــي وابنتــي‪ ،‬وال أعــرف هويــة خاطفهــا‪ ..‬نظـ ُ‬
‫ـرت إىل آدم «اخلواجــة»‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ـزن حقيقــي‪ ،‬وطلبــت منــه مســاعديت يف البحــث عــن غــرام ومليكــة‪..‬‬ ‫بحـ ٍ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ربــت عــى كتفــي قائـ ًـا بلهجــة مل ختـ ُـل مــن تعاطــف‪:‬‬
‫‪ -‬ما ختافش يا أستاذ يارس‪ ..‬أنا معاك حلد ما يرجعوا‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫قال مستدركًا‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬بــس حرضتــك مــا قولتليــش‪ ..‬الراجــل الــي كان بيحميــك قبــي راح‬
‫فني !‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫متاما؛ كأنه ماجاش الدنيا ً‬


‫أصل‪.‬‬ ‫‪ -‬اختفى ً‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫سألني بقلق‪:‬‬
‫‪ -‬اختفى ليه؟‬
‫ٍ‬
‫بصوت خفيض‪:‬‬ ‫أجبته‬
‫‪ -‬عشان كان بيحميني‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫مل تشهد ا َمل َ‬
‫درسة َحد ًثا مثل هذا من قبل‪..‬‬
‫كانــت األجــواء متوتــرة يف غرفــة االجتامعــات اخلاصــة بمدرســة ‪Better‬‬
‫‪ generation‬التــي يعمــل هبــا أســتاذ يــارس الطائــي؛ فقــد ثــار املدرســون‬
‫لوفــاة زميلهــم حممــود صقــر بعــد شــجار شــفهي خاضــه مــع أحــد الطلبــة‪،‬‬
‫طالبــوا مديــرة املدرســة الدكتــورة «أســاء رشــدي» بفصــل الطالــب الــذي‬
‫افتعــل املشــكلة‪..‬‬
‫تكلــم ممثــل أوليــاء األمــور مهــد ًدا أن مجيــع الطــاب يتعلمــون بأمواهلم‬

‫ﻋﺼ‬
‫وأن أي مدرســة أخــرى تتمنــى التحــاق أبنائهــم هبــا‪ ،‬فــا جيــوز إلقــاء‬
‫الذنــب عــى الطالــب‪ ..‬علــت األصــوات املعرتضــة‪ ،‬ر َّد أحــد ا ُملعلمــن أن‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫زميلهــم مــات قهـ ًـرا بســبب عــدم تطبيــق نظــام صــارم للعقــاب عــى هــؤالء‬
‫ﻜﺘ‬
‫ا ُملدَ للــن‪ ..‬وقبــل أن يــرد عليــه ممثــل أوليــاء األمــور قالــت دكتــورة أســاء‬
‫بصوهتــا احلــاد وبلهجــة حازمــة‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬بعد إذنكم كل واحد يعرض رأيه باحرتام‪..‬‬


‫أكملــت حديثهــا الئمــة املــدرس الــذي تطــوع للمطالبــة بحــق زمالئــه‪،‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫أخربتــه أنــه قــدوة للطلبــة‪ ،‬وال جيــوز لــه الــكالم هبــذه الطريقــة أمــام مديرته‬
‫وال مــع ممثــل أوليــاء األمــور‪ ،‬وأردفــت قائلــة بلهجــة حكيمــة‪:‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬وموضــوع العقــاب ده أنــا بنفــي هتابعه مــع األخصائــي االجتامعي‪،‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫هنشــوف وســيلة تع ِّلــم الطالــب املســتهرت االلتــزام بــدون مــا تأذيــه نفسـ ًيا أو‬
‫جسد ًيا‪.‬‬
‫خفضــت صوهتــا ناظــر ًة يف أعــن طاقــم تدريســها فــر ًدا فــر ًدا‪ ،‬وأكملــت‬
‫بلهجــة مل ختـ ُـل مــن حــزن‪:‬‬
‫‪ -‬أســتاذ صقــر اتــوىف ألن ده قــدره مــش بســبب أي حاجــة تانيــة‪،‬‬

‫‪50‬‬
‫وأكيــد الطالــب مــا يعرفــش إن املرحــوم كان عنــده مشــاكل يف القلــب‪..‬‬
‫أكملــت حديثهــا مشــر ًة نحــو احلائــط املقابــل هلــا‪ ،‬والــذي ُع ِّلقــت عليــه‬
‫صور املــدراء الســابقني للمدرســة‪:‬‬
‫‪ -‬وصورة أستاذ صقر هتتعلق هنا ختليدً ا لذكراه‪.‬‬
‫وقبــل أن يــرد نفــس ا ُمل َع ِّلــم املعــرض قاطعتــه بإشــارة مــن يدهــا‪،‬‬
‫ووجهــت حديثهــا ملمثــل أوليــاء األمــور‪ ،‬أخربتــه أن مــا حــدث لــن يتــم‬‫َّ‬
‫التســاهل معــه‪ ،‬وأن ويل أمــر الطالــب صاحــب املشــكلة ملــزم باعتــذار‬

‫ﻋﺼ‬
‫شــفهي وبتعويــض مــادي كبــر جتــاه أرسة أســتاذ صقــر‪ ،‬وأن إدارة املدرســة‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ً‬
‫مماثــا‪ ،‬أهنــت حديثهــا منــذرة‪:‬‬ ‫ســتدفع ألرسة األســتاذ مبل ًغــا‬
‫‪ -‬وبلغهــم لــو مــا نفــذوش الــكالم ده يعتــروا ابنهــم مرفــود مــن‬
‫ﻜﺘ‬
‫النهــاردة‪.‬‬
‫وقبــل أن يعــرض ممثــل أوليــاء األمــور‪ ..‬أكملــت أســاء حديثهــا‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بلهجــة حازمــة‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬وابقــى شــوف مــن هيقبلــه ملــا يتعــرف إنــه اترفــد مــن عنــد أســاء‬
‫رشــدي‪.‬‬
‫ﻭ‬

‫متهكم‪:‬‬ ‫رد املمثل‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ً‬
‫‪ -‬ليه هو اترفد من اجلنة؟‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫خاصــا‪ ،‬فــر َّد‬


‫عــاد للتلميــح أن مجيــع الطــاب يتعلمــون بأمواهلــم تعليـ ًـا ً‬
‫عليــه هــذه املــرة نائــب املديــرة األســتاذ نبيــل إســكندر‪:‬‬
‫‪ -‬أنتــم مــا بتمنــوش علينــا بحاجــة مــش حقنــا؛ املدرســة فيهــا هيئــة‬
‫تدريــس مــش موجــود زهيــا يف مــر‪...‬‬

‫‪51‬‬
‫ـرا نحــو دكتــور أســاء واملعلمــن اجلالســن حوهلــا‬
‫أكمــل حديثــه مشـ ً‬
‫عــى مائــدة االجتــاع بيضاويــة الشــكل‪:‬‬
‫‪ -‬املديــرة معاهــا دكتــوراه يف علــم نفــس الطفــل‪ ،‬واألســاتذة بــا‬
‫اســتثناء واخديــن دورات تعليميــة يف مهــارات التعامــل مــع األطفــال‬
‫مثــا ميــس‬ ‫واملراهقــن‪ ،‬وكل واحــد فيهــم متخصــص يف جمالــه؛ عنــدك ً‬
‫كونسفتــوار‪ ،‬وأســتاذ عصــام جــودة‪ ..‬ماجيســتري مــن‬ ‫كريســتني‪ ..‬خرجيــة ِ‬
‫كليــة دار العلــوم‪ ،‬ومســر يــارس الطائــي الــي بيــدرس ‪ ..Math‬بكالوريــوس‬

‫ﻋﺼ‬
‫هندســة قســم ميكانيــكا‪.‬‬
‫ً‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫منشــغل بإزالــة بقعــة حــر‬ ‫التفــت اجلميــع نحــو يــارس الــذي كان‬
‫زرقــاء مــن خلــف بِنــره‪ ،‬تفاجــأ بذكــر اســمه‪ ،‬قابلهــم بابتســامة بلهــاء‬
‫ﻜﺘ‬
‫ال تتناســب مــع املوقــف‪ ..‬انتظــر حتــى أعرضــوا عنــه وعــاودوا نقاشــهم‪،‬‬
‫راقــب وجوههــم دون أن يركــز فيــا ُيقــال‪ ،‬الحــظ أن أحــد األســاتذة مل‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ينــزل عينيــه عــن صــدر أســتاذة كريســتني‪ ..‬كــا الحــظ نقــر دكتــورة أســاء‬
‫مخــن أهنــا‬
‫بســبابتها عــى كــوب املــاء املوضــوع أمامهــا؛ بــدا عليهــا التوتــر‪َّ ،‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫تــدرس موقفهــا مــن الطرفــن املتعاركــن حماولـ ًة اخلــروج بأقــل اخلســائر‪..‬‬


‫فكــر فيــا حــدث لــه باألمــس مــع أختــه ســلوى‪ ،‬وكيــف ســرد اعتبــاره‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫بعــد أن ُأ َ‬
‫رسي بــه ليـ ًـا إىل شــقة «حمطــة الرمــل» هبــذه الطريقــة‪.‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫نجــح ممثــل أوليــاء األمــور يف جــذب انتبــاه يــارس للحديــث حــن‬


‫أخــرج هاتفــه املحمــول‪ ،‬وقــرب شاشــته مــن وجــه دكتــورة أســاء قائـ ًـا‪:‬‬
‫‪ -‬أنــا كنــت ســاكت احرتا ًمــا للموقــف‪ ..‬بــس عايزكــم تشــوفوا أســتاذ‬
‫حممــود صقــر كان كاتــب إيــه عــى صفحتــه يف الفيســبوك‪ ،‬قبــل مــا يمــوت‬
‫بــكام أســبوع‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫مــرر اهلاتــف عــى اجلالســن واحــدً ا تلــو اآلخــر؛ كان املكتــوب مــن ِق َبل‬
‫علــم الراحــل أنــه يتمنــى لــو عــاد نظــام العقــاب بالــرب للمــدارس كــا‬ ‫ا ُمل ِ‬
‫كان الوضــع فيــا ســبق‪ ،‬ثــم أردف قائـ ًـا‪:‬‬
‫‪ -‬أســتاذ صقــر مــات مقهــور عشــان معرفــش يــارس ســاديته عــى‬
‫أوالدنــا!‬
‫قوبلــت عبارتــه بالكثــر مــن صيحــات االســتهجان‪ ،‬ر َّد عليــه‬
‫معرتضــا‪:‬‬
‫ً‬ ‫األخصائــي االجتامعــي‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬الــكالم واضــح إنــه متقــال بصيغــة هــزار ألنــه بيضحــك بعــد مــا‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫قالــه‪ ..‬بعديــن وصــف ســادي صعــب يتقــال عــى أي حــد‪.‬‬
‫قــال بلهجــة حاســمة أن أســتاذ صقــر ‪-‬رمحــه اهلل‪ -‬ليــس ســاد ًيا؛ ألنــه‬
‫ﻜﺘ‬
‫كان ســيخفي حقيقتــه ليحمــي نفســه ومــن حيــب‪ ،‬ارتشــف رشــف ًة مــن‬
‫كــوب الشــاي املوضــوع أمامــه وأردف ً‬
‫قائــا‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬ويف نفــس الوقــت ممكــن أي حــد يكــون فينــا مريــض بالســادية‪..‬‬


‫حتــى لــو لســه مــا اكتشــفش اجلانــب املظلــم ده مــن نفســه‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫ساخرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫سأله ممثل أولياء األمور‬
‫ﻭ‬

‫‪ -‬يعني بسهولة أي حد ممكن يطلع سادي؟!‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ر َّد األخصائي بلهجة مقتضبة‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬ممكن‪.‬‬
‫***‬
‫اقــرب عســكري الرشطــة مــن الســيارة التاليــة يف الكمــن‪ ..‬تظاهــر‬
‫أنــه مل يلحــظ شــعار الرشطــة امللصــق فــوق زجاجهــا األمامــي املعتــم؛‬

‫‪53‬‬
‫تنفيـ ًـذا لتعليــات الضابــط املســئول عــن الكمــن‪ ..‬كان يعلــم أن هــذا اليــوم‬
‫لــن يمــر بســام‪ ،‬قــال بلهجــة ريفيــة جامــدة لقائــد الســيارة‪:‬‬
‫‪ -‬رخصك يا بيه‪..‬‬
‫نظــر قائــد الســيارة للعســكري بــازدراء مــن خلــف نظارتــه الشمســية‪،‬‬
‫ـوحا بيــراه‪:‬‬
‫وقــال مشـ ً‬
‫‪ -‬مقدم محزة درويش‪ ،‬وسع الطريق يا بني‪..‬‬
‫ر َّد العسكري بلهجة متوسلة‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬أمــر باشــا مشــدد علينــا نشــوف الكارنيــه‪ ..‬وحرضتك مــا ترضاليش‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬ ‫أتأذي‪.‬‬
‫جز املقدم محزة عىل أسنانه وصاح فيه بغضب‪:‬‬
‫َّ‬
‫‪ -‬روح انــده يل الغبــي الــي قــال لــك متــي التعليــات دي عــى الرتــب‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫األعــى منــه!‪ ..‬عشــان أنقلكــم الواحــات أنتــوا االتنــن‪.‬‬


‫بصوت سمعته السيارات القريبة‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫ثم أردف‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬فيــه حمامــي اتقتــل يف املحكمــة الــي عــى أول الشــارع‪ ..‬وأنــا رايــح‬
‫أقابــل القيــادات الــي أهــم منــي ومــن الــي بيأمــرك عشــان نشــوف هنعمــل‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫إيــه يف الكارثــة دي!‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫مل يــرد العســكري وحتــرك لينــادي الضابــط املســئول عــن الكمــن‪ ،‬ثــم‬
‫تراجــع بعــد أن ســار خطوتــن وفتــح احلاجــز املعــدين مــرد ًدا‪ ..‬رضب‬
‫موبخــا العســكري الــذي ظــل يعتــذر طويـ ًـا‪ ،‬لـ َّـوح حلمــزة‬
‫ً‬ ‫محــزة ك ًفــا بكـ ٍ‬
‫ـف‬
‫متمن ًيــا لــه الســامة وطال ًبــا منــه العفــو‪ ..‬بعــد أن ابتعــدت الســيارة بصــق‬
‫العســكري عــى األرض العنًــا محــزة بــكل األلفــاظ التــي يعرفهــا‪ ،‬وكانــت‬
‫كثــرة‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫مــا لبــث أن عــر محــزة مــن الكمــن حتــى زفــر بارتيــاح‪ ،‬التقــط أنفاســه‬
‫ناظـ ًـرا نحــو حقيبــة الظهــر الطويلــة التــي وضعهــا أســفل املقعــد اخللفــي‬
‫مــن ســيارته‪ ،‬كانــت حمتويــات هــذه احلقيبــة كفيلــة بخروجــه مــن اخلدمــة‬
‫واحلكــم عليــه باإلعــدام!‬
‫***‬
‫بالتجمــع اخلامــس‪ ،‬بعــد‬
‫ُّ‬ ‫ـرا إىل منزلــه‬
‫وصــل املقــدم محــزة درويــش أخـ ً‬
‫ـاهل مــن الكمــن القريــب مــن املحكمــة‪..‬‬ ‫أن مـ َّـر بعــدة كامئــن أكثــر تسـ ً‬

‫ﻋﺼ‬
‫مــأت أنفــه رائحــة العطــن املنبعثــة مــن شــقته التــي مل تنظــف ومل تزرهــا‬
‫ٍ‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫زمــن‪ .‬وضــع حقيبتــه الثقيلــة بجــوار بــاب الشــقة‪ ،‬حتــرك‬ ‫الشــمس منــذ‬
‫ببــطء حتــى وصــل إىل حجــرة نومــه‪ ،‬ألقــى بجســده عــى الفــراش‪ ،‬مل يبــالِ‬
‫ﻜﺘ‬
‫بصــوت الرصيــر الــذي أحدثــه خشــب الرسيــر‪.‬‬
‫مل يتخيــل يو ًمــا أنــه ســيلتقط أنفاســه يف نصــف ســاعة كاملــة؛ افتقــد‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫جســده الريــايض كــا افتقــد العمــل امليــداين بعــد ســنوات طويلــة مــن‬
‫اجللــوس يف املكاتــب وعمــل املباحــث الــذي ال ينتهــي‪ ..‬هنــض مــن‬
‫ﺸﺮ‬

‫متوجهــا نحــو احلــام؛ تقاعــس عــن االســتحامم مكتف ًيــا بغســل‬ ‫ً‬ ‫الفــراش‬
‫وجهــه وجانبــي رأســه‪ ..‬وضــع القليــل مــن «كريــم» إزالــة جتاعيــد البــرة‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫حــول عينيــه‪ ،‬ومــرر يديــه بــن خصــات شــعره بعــد أن دهنهــا بزيــت‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫يائســا إخفــاء تأثــر الزمــن عــى مظهــره‬ ‫يمنــع تســاقط الشــعر؛ كان حيــاول ً‬
‫اخلارجــي‪ ،‬خاصــ ًة بعــد أن وجــد حلياتــه هد ًفــا جديــدً ا‪.‬‬
‫مشــى عــدة خطــوات بمالبســه الداخليــة يف طرقــة بيتــه الواســع حتــى‬
‫كبــرا مــن القهــوة وطب ًقــا مــن‬
‫ً‬ ‫وصــل إىل املطبــخ‪ ،‬صنــع لنفســه كو ًبــا‬
‫الشــعرية رسيعــة التخضــر‪ ..‬مل حيــب قــط رائحــة مكســبات الطعــم التــي‬

‫‪55‬‬
‫تضــاف هلــا أثنــاء التســخني‪ ..‬لكنــه اضطــر للتعـ ُّـود عليهــا؛ خاصـ ًة أن حاهلــا‬
‫مل يكــن أســوأ بكثــر مــن طبــخ زوجتــه التــي حصلــت عــى الطــاق منــذ‬
‫شــهور قليلــة‪ ..‬بعــد أن فشــل متا ًمــا يف إصــاح مــا تــم إفســاده بينهــا‪.‬‬
‫عــاد محــزة إىل غرفــة نومــه ثانيــ ًة‪ ،‬جلــس أمــام حاســبه اآليل يتنــاول‬
‫عشــاءه ويــرب القهــوة‪ ..‬طالــع وجهــه يف إحــدى املرايــا التــي تغطــي‬
‫خزانــة مالبســه كبــرة احلجــم؛ مل يــدرك متــى غــزا الشــيب جوانــب شــعره‪،‬‬
‫وال متــى ظهــرت تلــك اهلــاالت الســوداء أســفل عينيــه‪ ..‬قــرر البحــث‬

‫ﻋﺼ‬
‫الح ًقــا عــى اإلنرتنــت عــا خيفــي هــذه اآلثــار مجي ًعــا‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫تأكــد مــن ضبــط مجيــع إعــدادات األمــان التــي تعلمهــا مــن صديقــه‬
‫الــذي يعمــل يف مباحــث اإلنرتنــت التابعــة لــوزارة الداخليــة‪ ،‬فتــح موق ًعــا‬
‫ﻜﺘ‬
‫عــى اجلانــب املظلــم مــن اإلنرتنــت ‪ ..Dark Web‬كان املوقــع ُيســمى‬
‫‪ DarkEgypt‬خــاص بتأجــر املجرمــن داخــل مــر‪ ..‬جلــس معط ًيــا ظهــره‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫قميصــا داكنًــا كان يف‬


‫ً‬ ‫ـال مــن أي عالمــة مميــزة‪ ،‬ارتــدى‬‫حلائــط أبيــض خـ ٍ‬
‫متنــاول يــده‪ ،‬وأخــرج مــن حقيبتــه قنا ًعــا أســود اللــون وبــدأ يســجل لنفســه‬
‫ﺸﺮ‬

‫غــر صوتــه بأحــد الربامــج‬ ‫مصــورا ليبثــه عــى املوقــع مبــارشةً‪َّ ،‬‬
‫ً‬ ‫مقط ًعــا‬
‫وقــال بفخــر‪:‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬أنا ميزان العدل‪..‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫أخــرج مــن حقيبتــه كامــرا مــزودة بشاشــة صغــرة وعــرض مــا فيهــا‬
‫أمــام مشــاهديه‪:‬‬
‫‪ -‬زي مــا أنتــم شــايفني ده القصــاص التالــت ليــا‪ ..‬أنــا قتلــت النهــارده‬
‫دراع مــن دراعــات الشــيطان؛ طــول مــا هــو والــي زيــه عايشــن كفــة‬
‫العدالــة هتفضــل مايلــة‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫ـجل الــذي يعرضــه بفعــل اهلــواء‪،‬‬ ‫مشوشــا يف املقطــع ا ُمل َسـ َ‬
‫ً‬ ‫كان الصــوت‬
‫خارجــا مــن املحكمــة مرتد ًيــا بدلــة‬
‫ً‬ ‫ظهــر يف املقطــع أحــد املحاميــن‪ ،‬كان‬
‫باهظــة الثمــن وعــى وجهــه عالمــات الســعادة‪ ،‬حما ًطــا بالكثــر مــن املهنئــن‬
‫وبعــض مــن الصحافيــن الــذي حــاول املتدربــون لديــه إبعادهــم‪ ،‬جتاهلهــم‬
‫وتوجــه نحــو ســيارته الفارهــة‪ ،‬وقبــل أن يركبهــا ســقط‪ ،‬بعــد أن‬ ‫َّ‬ ‫مجي ًعــا‬
‫اخرتقــت طلقــة ســاح القناصــة قلبــه‪ .‬أكمــل محــزة حديثــه قائـ ًـا بلهجــة‬
‫مرسحيــة بعــد أن فــرد يديــه بفخــر‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬أنــا ميــزان العــدل‪ ..‬بعــرف قدامكــم إين املســئول الوحيــد عــن‬
‫اغتيــال املحامــي ناجــي الطحــاوي‪..‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ً‬
‫قائــا بعــد أن عــرض ســاح القناصــة غــايل الثمــن أمــام‬ ‫أردف‬
‫ﻜﺘ‬
‫املشــاهدين‪:‬‬
‫‪ -‬آخــر قضيــة كســبها الراجــل ده كانــت قضيــة فســاد بمليــارات ضــد‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مســئول كبــر يف الدولــة‪ ..‬اخلايــن ده كان الســبب يف هــروب جمرمــن كتــر‬


‫مــن أفعاهلــم؛ ســتارة بتحمــي الغيــان الــي بيخربــوا يف البلــد دي؛ زيــه زي‬
‫ﺸﺮ‬

‫املوقــع ده بالظبــط‪.‬‬
‫أنــزل الســاح مــن أمــام الكامــرا بحــرص‪ ،‬قــال بلهجــة أقــل حــدة أنــه‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫قــرر تطهــر هــذا املوقــع بنفســه‪ ،‬ســيصل إىل مجيــع املجرمــن املوجوديــن‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫موجهــا حديثــه‬
‫ً‬ ‫عليــه‪ ،‬ليطبــق فيهــم العدالــة التــي مل تطلهــم بعــد‪ ،‬أردف‬
‫ملشــاهديه بصـ ٍ‬
‫ـوت عـ ٍ‬
‫ـال‪:‬‬
‫‪ -‬وقصايص القادم هيكون من الكونت‪.‬‬
‫***‬

‫‪57‬‬
‫بعــد انتهــاء االجتــاع الطــارئ باملدرســة اضطــر يــارس لســاع عبــارات‬
‫املواســاة الفارغــة مــن بعــض زمالئــه الذيــن ســمعوا بخــر إزالــة العــارة‬
‫التــي كان يقطــن هبــا‪ ،‬رفــض بعــض عــروض املســاعدة الومهيــة مــن مديــرة‬
‫املدرســة‪ ،‬أخربهــا أن كل يشء عــى مــا يــرام وأن أختــه مل ترتكــه حــن‬
‫علمــت بأمــر قــرار اإلزالــة؛ فنظفــت لــه شــقته املوجــودة بعقــار أبيــه يف‬
‫حمطــة الرمــل‪ ،‬وظــل زوجهــا معــه طــوال الليــل حتــى قــام بنقــل متاعــه إىل‬
‫الشــقة ذات املســاحة األكــر‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ركــن يــارس ســيارته أســفل حمــل إقامتــه اجلديــد‪ ،‬رفــع فرامــل اليــد التــي‬
‫أصــدرت صــوت رصيــر يــدل عــى قدمهــا‪ ،‬أغلــق بــاب الســيارة ناظـ ًـرا‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫النعــكاس وجهــه عــى زجــاج الســيارة اجلانبــي؛ ليجــد نظــرة منهكــة‬
‫ﻜﺘ‬
‫صــادرة مــن عينــن منتفختــن اشــتيا ًقا للنــوم بعــد ســاعات مـ َّـرت عليــه‬
‫كالدهــر‪ ،‬ضبــط مــن وضــع مالبســه املكونــة مــن قميــص أبيــض ال يظهــر‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫منــه ســوى ياقتــه‪ ،‬ارتــدى فوقــه «بــول أوفــر» أزرق مــن الصــوف‪ ،‬وســرة‬
‫ســوداء اللــون‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫باكــرا‪ ،‬كان يتجنــب صدا ًمــا حتم ًيــا مــع‬


‫تعمــد أال يصعــد إىل البيــت ً‬
‫غــرام التــي مل تتوقــف عــن توبيخــه بعــد مــا فعلتــه ســلوى بالليلــة املاضيــة‪..‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫المتــه عــى ضعــف الشــخصية واهتمتــه بالعجــز عــن محايــة أرستــه‪ ..‬أقنعهــا‬
‫بالــكاد أن تؤجــل هــذا الشــجار حتــى يعــود مــن املدرســة فوافقتــه مضطرة‪.‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫أكثــر مــا آملــه حــن ســمعها هتمــس بدعــاء «أعــوذ بــاهلل مــن قهــر الرجــال»‪..‬‬
‫جتاهــل تلميحهــا حتــى ال ُيص ِّعــب املوقــف عــى نفســه‪ ،‬تأكــد أهنــا ســتتأقلم‬
‫مــع الوضــع اجلديــد؛ كان يثــق يف حبهــا لــه‪ ،‬ورغبتهــا يف «متشــية املركــب»‪،‬‬
‫تعمــد‬
‫عــاو ًة عــى أهنــا وحيــدة يف مــر مــن دونــه‪ ،‬حتــى أقارهبــا يف ســوريا َّ‬
‫أن يقطــع صلتهــا هبــم منــذ زمـ ٍ‬
‫ـن بعيــد‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫بــدأ يتجــول يف منطقتــه الســكنية اجلديــدة؛ كان يعرفهــا جيــدً ا لكنــه مل‬
‫يرهــا بعــن الســاكن مــن قبــل‪ ،‬اختــذ مقعــدً ا داخــل مطعــم «كبــدة أوالد‬
‫بتمهــل‪ ..‬تك َّلــم مــع أحــد اجلالســن إىل‬ ‫الفــاح» الشــهري ليتنــاول غــداءه ُّ‬
‫جــواره والــذي عــرف فيــا بعــد أنــه يدعــى «احلــاج صالــح»‪ ،‬موظــف‬
‫وشــاحا صوف ًيــا تفــوح منــه‬
‫ً‬ ‫ســابق بمصلحــة الكهربــاء‪ ،‬كان يرتــدي‬
‫رائحــة املســك‪ ،‬عــرف أنــه يســكن يف نفــس الشــارع‪ ..‬تطوع الرجــل وراح‬
‫يــرح ليــارس الكثــر عــن تاريــخ املنطقــة؛ كمقهــى أتينيــوس ومقهــى‬

‫ﻋﺼ‬
‫ديليــس الــذي يعــود تأسيســهام ألكثــر مــن مئــة عــام‪ ،‬وبعــض األماكــن‬
‫ـرا بــا‬ ‫ِ‬
‫التــي كان حيــب امللــك فــاروق زيارهتــا‪ ..‬مل يبــد يــارس اهتام ًمــا كبـ ً‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ســمع وســأله عــن األماكــن التــي ســيحتاجها كاملتاجــر وورش الســيارات‬
‫ﻜﺘ‬
‫واملســجد‪ ..‬فأجابــه «احلــاج صالــح»‪ ،‬وحــذره مــن االقــراب مــن احلانــة‬
‫املوجــودة يف هنايــة الشــارع مسـ ً‬
‫ـتعيذا بــاهلل ممــن يرتادوهنــا‪ ..‬ســأله يــارس إن‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫كان يعــرف «عبــد احلــي الطائــي»‪ ،‬فأجــاب الرجــل بفـ ٍم ممتلــئ بالكبــدة‪:‬‬
‫‪ -‬ملــا أنــا نقلــت هنــا كان هــو مــي‪ ..‬بــس ســمعت إنــه راجــل ناقــص؛‬
‫ﺸﺮ‬

‫ســاب مراتــه وبنتــه وســافر مــر اجتــوز َعيلــة صغــرة مــش مــن ســنه‪.‬‬
‫ابتلــع يــارس اجلملــة األخــرة ومل خيــره أن هــذه «العيلــة» كانــت أمــه‪،‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ســأله عــن ســلوى ورايف‪ ..‬فوضــع «احلــاج صالــح» إهبامــه أســفل شــفته‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫العليــا‪ ،‬وأردف قائـ ًـا‪:‬‬


‫‪ -‬اجلنيــه مــا بيطلعــش مــن جيوهبــم غــر عشــان جييــب أخــوه‪ ،‬رايف‬
‫تاجــر ســيارات كبــر‪ ،‬والســت ســلوى فاحتــة مركــز دروس بعدينــا‬
‫بشــارع‪.‬‬
‫َعـ َ‬
‫ـر صالــح نصــف ليمونــة فــوق آخــر رغيــف أمامــه‪ ،‬جتشــأ أمــام‬

‫‪59‬‬
‫يــارس دون حيــاء‪ ..‬قاطــع حديثهــا مــرور طفــل صغــر يبيــع املناديــل‪،‬‬
‫فأعطــاه يــارس آخــر رغيــف أمامــه‪ ،‬وهنــض ليحاســب عــى مــا أكاله‪،‬‬
‫اعرتاضــا‬
‫ً‬ ‫أقســم عليــه «احلــاج صالــح» أن يدفــع هــذه املــرة‪ ،‬فأبــدى يــارس‬
‫ودفــع لكليهــا‪ ..‬ســاعده يــارس عــى النهــوض واإلمســاك بعصــاه التــي‬
‫يتكــئ عليهــا‪ ،‬نظــر «احلــاج صالح»نحــو حنطــور متوقــف بجــوار املطعــم‪،‬‬
‫مبد ًيــا تأففــه مــن رائحــة روث احلصــان الــذي جيــره‪ ،‬أكمــل حديثــه عــن‬
‫ســلوى قائـ ًـا‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬كل ســنة بتــزود مصاريــف الــدروس عــى العيــال حلــد مــا األهــايل‬
‫قربــوا يشــحتوا‪ ..‬حفيــدي كان بــروح هلــا‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ســأله يــارس عــن مــكان حفيــده احلــايل‪ ،‬فهـ َّـز «احلــاج صالــح» كتفيــه‬
‫ﻜﺘ‬
‫ٍ‬
‫بصــوت متهــدج‪:‬‬ ‫وقــال‬
‫‪ -‬أبوه خده هو وأمه وهاجروا كندا‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بــدا عــى «احلــاج صالــح» التأثــر حــن أتــى ذكــر أهلــه‪ ..‬حــاول يــارس‬
‫تغيــر املوضــوع فأخــره ضاح ـكًا أنــه أخــو ســلوى وابــن «ال َع ِّيلــة» التــي‬
‫ﺸﺮ‬

‫هجــر عبــد احلــي الطائــي أرستــه ألجلهــا‪ ..‬شــعر صالــح بحــرج شــديد‪،‬‬
‫مبتســا‪ ،‬أخــره أنــه يتفــق‬ ‫ً‬
‫حمــاول تقبيــل رأس يــارس الــذي منعــه‬ ‫اعتــذر‬
‫ﻭ‬

‫ً‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫معــه يف كل مــا قــال لتفلــت ضحكــة مــن «احلــاج صالــح» كاشــفة عــن عــدد‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫قليــل مــن األســنان الصفــراء بفعــل التدخــن‪ ..‬جلســا عــى مقهــى صغــر‬
‫باملنطقــة‪ ،‬ليكتشــف يــارس ولــع جــاره اجلديــد بالنرجيلــة التــي مل تفــارق‬
‫يــده‪ ..‬خــرج الدخــان مــن فــم «احلــاج صالــح» حــن حتــدث قائـ ًـا‪:‬‬
‫‪ -‬املعسل ده ماركة خمصوص بتجييل من الرشقية‪..‬‬
‫ســعل بعدهــا «احلــاج صالــح» مبــارش ًة بقــوة‪ ،‬بصــق يف منديلــه القــايش‬

‫‪60‬‬
‫العنًــا الدخــان‪ ..‬مل يعلــق يــارس مكتف ًيــا بالضحــك‪ ،‬مل حيــب يو ًمــا أن‬
‫يكشــف عــن ذاتــه مــن أول جلســة‪ ،‬أدرك «احلــاج صالــح» بذكائــه الفطــري‬
‫طبــاع يــارس ومل يعلــق‪ ..‬دعــا بعــض أصدقائــه مــن كبــار الســن ملشــاركتهام‬
‫اجللــوس ولعــب الطاولــة‪ ،‬وبعــد جلســة طويلــة مل ُ‬
‫ختــل مــن القهقهــة‬
‫ـن مجيــل قــد‬‫واحلديــث يف كافــة أمــور احليــاة؛ بــد ًءا مــن احلــرة عــى زمـ ٍ‬
‫مــى‪ ،‬وســخرية مــن األجيــال اجلديــدة‪ ،‬والتغــزل يف مفاتــن نســاء املنطقــة‬
‫بصــوت خفيــض‪ ،‬وبعــض النقاشــات العابــرة يف كــرة القــدم والسياســة‪،‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫وقــد عــرف يــارس أن «احلــاج صالــح» حيــب الزمالــك وحيفــظ األســامي‬
‫الرباعيــة لكبــار العبيــه‪ ..‬نظــر يــارس يف ســاعة يــده‪ ،‬اطمــأن أن موعــد نــوم‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ـذرا مــن اجلميــع ألنــه‬
‫غــرام قــد فــات عليــه أكثــر مــن ســاعتني‪ ،‬فنهــض معتـ ً‬
‫ﻜﺘ‬
‫سيســافر غــدً ا إىل القاهــرة حيــث عملــه اآلخــر‪.‬‬
‫فتــح يــارس بــاب الشــقة بحــرص‪ ،‬مل ينجــح يف منــع صــوت الرصيــر‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫العــايل الــذي صــدر عنــه‪ ،‬ملــح ابنتــه مليكــة عــى ضــوء مصبــاح صغــر‬
‫يف الصالــة‪ ،‬كانــت جالســ ًة يف انتظــاره؛ وقــد غلبهــا النعــاس فــوق أحــد‬
‫ﺸﺮ‬

‫املقاعــد القريبــة مــن البــاب‪ ،‬حمتضنــة دميتهــا املفضلــة التــي اختذهتــا صديقــة‬
‫ومهيــة‪ ..‬كانــت قــد ورثــت عــن أمهــا عينيهــا الواســعتني كعينــي الدمــى‪،‬‬
‫ﻭ‬

‫حــن ينظــر يف عينيهــا الصافيتــن كالســاء؛ فــرى مــن خالهلــا كل مــا هــو‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫بــريء يف عاملــه‪ ،‬ووجههــا األبيــض دقيــق املالمــح‪ ..‬مل تأخــذ مــن شــكله إال‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫الشــعر األســود‪ ،‬مل يعــرف يو ًمــا مــا الــذي تفكــر فيــه قبــل أن تنطــق بــه؛ دائـ ًـا‬
‫مــا تقــول غــرام أن مليكــة قــد ورثــت عنــه هــذه املالمــح اجلامــدة‪ ..‬وضــع‬
‫حقيبــة يــده عــى األرض‪ ،‬محــل مليكتــه برفــق حتــى أودعهــا بجــوار أمهــا‪،‬‬
‫ـوت ناعــس‪:‬‬ ‫اســتيقظت مليكــة قائل ـ ًة بصـ ٍ‬
‫‪ -‬ممكن تصالح ماما؟‬

‫‪61‬‬
‫أشــار هلــا واض ًعــا ســبابته أمــام فمــه كــي تصمــت‪ ،‬ابتســم هلــا يف حنــان‬
‫ــا وجنتهــا ال ُيمنــى‪ ،‬حــاول أال يوقــظ زوجتــه التــي تنتظــره لتعلــن‬ ‫مق َّب ً‬
‫ثورهتــا عليــه‪ ..‬نظــر يف قبضــة مليكــة ليجــد سـنًا جديــدً ا قــد فقدتــه‪ ،‬فابتســم‬
‫هامســا يف أذهنــا بلهجــة مطمئنــة‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬نامــي دلوقتــي مــكاين وأنــا هنــام يف مكتبــي‪ ..‬وبكــرة الصبــح هصالح‬
‫للســنة عشــان يطلــع لــك غريهــا‪ ..‬اتفقنا؟‬‫مامــا وهنغنــي ِ‬

‫مل يعطهــا فرصــة للــرد‪ ،‬كان يعلــم أهنــا تنتظــره يف األســاس لتفتــح‬

‫ﻋﺼ‬
‫موضــوع تربيــة القــط ثانيــ ًة‪ ،‬تســلل عــى أطــراف أصابعــه نحــو الصالــة‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫حيــث تــرك حقيبــة يــده التــي فتحهــا ً‬
‫خمرجــا حاســبه املحمــول منهــا‪..‬‬ ‫ﻜﺘ‬
‫شــم رائحــة طعــام تركتــه لــه زوجتــه التــي مل يمنعهــا الغضــب عــن واجبهــا‬
‫جتاهــه‪ ،‬مل يمــس الطعــام‪ ،‬وتــرك إىل جــواره علبــة مــن الشــيكوالتة البيضــاء‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫التــي حتبهــا غــرام‪ ،‬توجــه نحــو أصغــر غــرف الشــقة التــي احتلــت كتبــه‬
‫نصــف مســاحتها‪ ،‬واحتــل مكتبــه الصغــر النصــف اآلخــر منهــا‪ .‬خصــص‬
‫ﺸﺮ‬

‫هــذه الغرفــة لينعــزل بداخلهــا وســط كتبــه وأوراق العمــل ‪-‬كــا كان احلــال‬
‫يف الشــقة القديمــة‪..‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫حــن فتــح بــاب الغرفــة شــم رائحــة قويــة ملبيــد احلــرات‪ .‬قــام‬
‫ووصــل شــاحنه‬
‫بتشــغيل حاســوبه املحمــول بعــد أن وضعــه فــوق املكتــب َّ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫بالكهربــاء‪ ..‬جلــس أمــام املكتــب ليبــدأ يف ممارســة عــادة التجســس‬


‫حتولــت هــذه العــادة ً‬
‫هوســا‬ ‫اإللكــروين عــى مــن يعرفهــم‪ ،‬مــع الوقــت َّ‬
‫شــديدً ا ال يســتطيع اإلقــاع عنــه‪..‬‬
‫مل يأخــذ قــريص املنــوم كعادتــه الليليــة‪ ،‬كان يعلــم أن تعــب اليــوم‬

‫‪62‬‬
‫ســيضمن لــه نو ًمــا هاد ًئــا‪ ،‬نظــر نحــو مكتبتــه الكبــرة املرتبــة بعنايــة خلــف‬
‫مكتبــه‪ ،‬كان قــد عــزف عــن مطالعــة كتبهــا منــذ فــرة‪ ،‬كانــت ثقيلــة أثنــاء‬
‫النقــل لكنــه حــرص عــى إعــادة ترتيبهــا طيلــة الليــل‪.‬‬
‫مقتحــا حســابات التواصــل اخلاصــة‬ ‫ً‬ ‫بــدأ جولتــه شــبه اليوميــة‬
‫باملوجوديــن بدائــرة معارفــه؛ قــرأ حمادثــة بــن ســلوى وبــن أحــد املراهقــن‬
‫الذيــن يــرددون عــى مركــز الــدروس اخلاص هبــا‪ ،‬بــدأت املحادثــة تقليدية‬
‫يســتفرس فيهــا املراهــق عــن مواعيــد بعــض الــدروس‪ ،‬ثــم اختــذت شـ ً‬
‫ـكل‬

‫ﻋﺼ‬
‫محيم ًيــا؛ فلــم يكمــل يــارس قراءهتــا‪ ،‬ضحــك طويـ ًـا يف رسه عــى زوج أختــه‬
‫«رايف» الــذي يظــن أنــه اخلائــن الوحيــد يف بيتــه‪ ،‬والــذي اكتشــف يــارس‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫خيانتــه لســلوى بنفــس الطريقــة‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫كان يــارس عــى علــم بمخطــط ســلوى كامـ ًـا منــذ أيــام حــن جتســس‬
‫عليهــا‪ ،‬و َقبِــل بــدور الضحيــة فيــه‪ ،‬كان يطمــح يف اســتالم مرياثــه واالنتقال‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫إىل هــذا املســكن منــذ زمــن؛ لكنــه أراد لســلوى أن تعتقــد أهنــا املتحكمــة يف‬
‫كافــة األمــور‪ ،‬وأن كل يشء يســر وفــق إرادهتــا‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫انتقــل إىل هواتــف زمالئــه يف املدرســة فلــم جيــد منهــم جديــدً ا؛ فهــذا‬
‫األخصائــي االجتامعــي مديــون ببعــض أمــوال القامر جلــاره‪ ..‬وهــذه معلمة‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫املوســيقى ترفــض املزيــد مــن املتقدمــن خلطبتهــا‪ ،‬وحتلــم بأحــد أقبــاط‬


‫املهجــر لينتشــلها مــن «اجلحيــم» عــى حــد وصفهــا‪ ..‬وذلــك معلــم اللغــة‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫العربيــة الدرعمــي تبــدو منــه شــاتة واضحــة يف وفــاة زميلــه باألمــس‪..‬‬


‫وتلــك معلمــة أخــرى تتصــل بشــخص ســجلت اســمه عــى هاتفهــا «ســعد‬
‫الديلــر»‪ ،‬وتطلــب منــه أن حيــر هلــا احلشــيش‪ ..‬وذلــك موظــف اخلزينــة‬
‫الــذي يبتــاع مــن أحــد املتاجــر اإللكرتونيــة مقتنيــات باهظــة ال تتناســب‬
‫مــع راتبــه‪..‬‬

‫‪63‬‬
‫تصفــح هاتــف مديرتــه الدكتــورة أســاء رشــدي‪ ،‬كانــت تعيــش وحيــدة‬
‫بــا أهــل أو زوج‪ ،‬وهبــت حياهتــا اململــة للعمــل األكثــر ً‬
‫ملــا‪ ..‬كان‬
‫متنفســها الوحيــد يتمثــل يف حســاب ومهــي عــى موقــع ‪ facebook‬تتحــدث‬
‫مــن خاللــه مــع بعــض الفتيــات مــن ذوات امليــول املثليــة‪ ،‬يف البدايــة ظــن‬
‫انغامســا‬
‫ً‬ ‫يــارس أهنــا ســتنصحهم بالعــدول عــا يفعلــون‪ ..‬لكنــه وجــد منهــا‬
‫تا ًمــا يف األمــر‪ ،‬ورغبــة منهــا يف التقـ ُّـرب إلحداهــن‪.‬‬
‫كان حيــب غــرام ألهنــا ال ختفــي عنــه الكثــر‪ ..‬حتــى موضــوع محلهــا‬

‫ﻋﺼ‬
‫الــذي اكتشــ َفته صبــاح اليــوم‪ ،‬ومل تــرح بــه إال لصديقتهــا املقيمــة يف‬
‫وجيهــا؛ فقــد أخــرت صديقتهــا أهنــا مل تعــد تثــق‬
‫ً‬ ‫أمريــكا أخفتــه لســبب رآه‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫يف قــدرات يــارس عــى محايــة أرستــه‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫فكــر يــارس أكثــر مــن مــرة أن يتوقــف عــن التجســس عــى هواتــف‬
‫املقربــن منــه؛ مل يعتــد ذلــك اهلَـ َـوس بدافــع الفضــول‪ ،‬فقــط كانــت تدفعــه‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫غريــزة البقــاء‪ ،‬أراد أن يتوقــع ترصفاهتــم حتــى يأمــن تبعاهتــا‪ ،‬كان يرغــب‬
‫يف تغيــر قــدره املرتتــب عــى خمططاهتــم‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫علمــه اخــراق اخلصوصيــة أن البــر جمــرد خطايــا ن ُِف َخــت فيهــا‬


‫الــروح‪ ،‬وســوء الظــن هبــم فضيلــة؛ فمهــا ختيــل فيهــم مــن رش وجــد منهــم‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫مــا هــو أســوأ‪ ..‬فمــن كان يصــدق أن تصــدر مثــل هــذه األفعــال مــن هــؤالء‬
‫األشــخاص الرباقــن كذهــب زائــف‪ ،‬خـ ٍ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ـال مــن العــوج اخلارجــي‪ ،‬بــل إن‬ ‫َّ‬


‫ٍ‬
‫أحدهــم إن رأى أرساره يف شــخص آخــر لتأفــف منــه‪..‬‬
‫أدرك مــع الزمــن أن بداخــل كل بــري جان ًبــا مظلـ ًـا؛ ال خيــاف فقــط‬
‫مــن أن يــراه النــاس‪ ،‬بــل خيشــى أن يكتشــفه يف نفســه!‬
‫***‬

‫‪64‬‬
‫‪ -4‬جانب أكثر إظال ًما‬

‫ﻋﺼ‬
‫« ثاناتوفوبيا؛ اخلوف من املوت‪»..‬‬
‫قاهلــا الكونــت ضاحـكًا بعــد أن ضغــط زنــاد ســاحه الــذي كان فار ًغــا‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫منــذ البدايــة‪ ..‬اهنــار هشــام عــديل مــرة أخــرى عــى األرض‪ ،‬بكــى أمامــه‬
‫ﻜﺘ‬
‫بصــوت خفيــض اختلــط فيــه النحيــب بنطــق الشــهادتني‪ ،‬كان وجهــه‬ ‫ٍ‬
‫غار ًقــا يف خليــط مــن الدمــوع والعــرق الغزيريــن‪ ..‬مل تتوقــف ضحــكات‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫الكونــت‪ ،‬كانــت مالحمــه تــي باســتمتاع حقيقــي‪ ،‬وضــع يــده عــى كتــف‬
‫هشــام الــذي ظــل يرجتــف دون أن يفهــم مــا حــدث لــه‪ ،‬وقــال‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬ودي كانت آخر فوبيا حبيت أجرهبا عليك يا باش مهندس‪.‬‬


‫هامسا بابتسامة‪:‬‬
‫اقرتب من أذنه ً‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬ماظنــش هتنســاين بقيــة حياتــك‪ ..‬أنــا علمتــك درس غــرك عــاش‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ومــات مــن غــر مــا يفهمــه‪ ،‬أو حتــى يــدرك وجــوده‪.‬‬


‫حــاول هشــام أن يلتفــت لــرى وجــه الكونــت‪ ،‬لكــن األخــر بــادره‬
‫برضبــة عنيفــة عــى مؤخــرة رأســه‪ ،‬أعقبهــا بإحاطــة رقبــة هشــام بذراعــه‬
‫األيمــن حتــى قطــع عــن رئتيــه اهلــواء وســقط مغشـ ًيا عليــه‪ ..‬محلــه الكونــت‬
‫داخــل ســيارته الرياضيــة الفارهــة‪ ،‬اتصــل بنفــس الرجــل الــذي كلفــه مــن‬

‫‪65‬‬
‫قبــل بخطــف هشــام مــن منزلــه‪ ،‬فأبلغــه بمكانــه احلــايل‪ ،‬واشــرط عليــه أن‬
‫يعيــد هشــام إىل أهلــه ســا ًملا قبــل أن يعطيــه النصــف اآلخــر مــن أتعابــه‪،‬‬
‫شــدد عليــه أن يلقــي بجســد هشــام أمــام بيتــه يف ســاعة متأخــرة مــن الليــل‬
‫وهيــرب رسي ًعــا‪.‬‬
‫***‬
‫جتمــع بعــض مــن أهــايل إحــدى املناطــق الشــعبية املطلــة عــى النيــل‬
‫َّ‬
‫ملشــاهدة ســباق ســباحة رتــب لــه جمموعــة مــن شــباب املنطقــة‪ ،‬اعتــادوا‬

‫ﻋﺼ‬
‫مجي ًعــا الســباحة يف النيــل حتــى اقــرح أحدهــم هــذا النــزال الــذي مل حيــدث‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫هبــذه الصــورة مــن قبــل‪ ..‬اصطــف املتســابقون مجي ًعــا منكمشــن مــن بــرودة‬
‫ﻜﺘ‬
‫اجلــو‪ ،‬متخذيــن وضعيــة االســتعداد للقفــز يف امليــاه‪ ،‬كانــت أجســامهم‬
‫متشــاهبة؛ نحيلــة ســمراء‪ ،‬يــرز مــن خــال حلمهــا القليــل عظــام الضلــوع‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫لباســا قطن ًيــا يســر عــورة اجلســد وال يســر‬


‫والرتقــوة‪ ،‬ارتــدى معظمهــم ً‬
‫عــورة الفقــر‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫راح أحــد الشــباب يعيــد عليهــم قواعــد الســباق؛ رشح هلــم أن شــوط‬
‫الذهــاب ينتهــي عنــد بلــوغ الس ـ َّباح مركــب الصيــد املوجــودة عــى ُبعــد‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫را تقري ًبــا‪ ،‬والفائــز مــن ينهــي شــوطي الذهــاب والعــودة قبــل‬
‫مخســن م ـ ً‬
‫منافســيه‪.‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ـائل عــن شــاب يتوســط املتســابقني وخيتلف‬ ‫أشــار أحــد املتفرجــن متسـ ً‬
‫تعجــب مــن حــاوة مالحمــه وشــعره أشــقر اللــون امللمــوم‬ ‫ـرا‪َّ ،‬‬
‫عنهــم كثـ ً‬
‫إىل أعــى عــى طريقــة حمــاريب الســاموراي‪ ،‬ورداء الســباحة الــذي يرتديــه‪،‬‬
‫أجابــه شــخص آخــر وهــو يتابــع بدايــة الســباق‪:‬‬

‫‪66‬‬
‫‪ -‬ده عيــل غريــب عــن املنطقــة اســمه اخلواجــة‪ ..‬مصاحــب الــواد‬
‫«مجــال ُشــكامن» والــواد رضــا الن َّقــاش‪.‬‬
‫‪ -‬بــس ده شــكله ابــن نــاس‪ ..‬إيــه خيليــه يمــي مــع األشــكال الضالــة‬
‫دي؟‬
‫بعــد دقائــق قليلــة أهنــى «اخلواجــة» شــوط الذهــاب يف الســباق متفو ًقــا‬
‫بفــارق كبــر عــى منافســيه الذيــن كانــوا يســبحون بطريقــة عشــوائية ال تدل‬
‫عــى أي تدريــب‪ ..‬ســمع حتيــة صاحبــه «مجــال ُشــكامن» فــازداد محاس ـ ًة‪،‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫مســتعرضا مهارتــه‬
‫ً‬ ‫ســابحا عــى ظهــره‬
‫ً‬ ‫قــرر أن خيــوض شــوط العــودة‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫يف الســباحة حتــى أهنــى الســباق لصاحلــه‪ ..‬ارتــدى نعـ ًـا خفي ًفــا ومشــى‬
‫ﻜﺘ‬
‫«شــكامن» ورضــا‪ ،‬هار ًبــا مــن تزاحــم األطفــال حولــه‪،‬‬‫رسي ًعــا مــع مجــال ُ‬
‫توجــه نحــو بيــت ُشــكامن‬
‫كانــوا حيبونــه ألنــه يعطيهــم الكثــر مــن مالــه‪َّ ،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫الــذي صــار يعــرف مكانــه جيــدً ا وســط البيــوت والعشــش الصغــرة التــي‬
‫مــأت املنطقــة‪ ..‬حلــق هبــا رضــا صديــق مجــال‪ ،‬والــذي ربــت عــى كتــف‬
‫ﺸﺮ‬

‫«اخلواجــة» قائـ ًـا‪:‬‬


‫‪ -‬أنت فيه حاجة مابتعرفش تعملها؟!‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أضــاف ُ‬
‫«شــكامن» أن «اخلواجــة» بــدا كأنــه ال يشــعر بالــرد برغــم نزوله‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫املــاء يف الشــتاء؛ عكــس باقــي املتســابقني مــن شــباب املنطقة‪ ..‬ضحــك «آدم‬
‫اخلواجــة» معل ًقــا يف ثقــة أن شــتاء مــر ليــس هبــذا الســوء‪ ،‬ذهــب لتغيــر‬
‫مالبســه يف غرفــة نــوم مجــال الصغــرة اخلاليــة مــن األثــاث؛ إال مــن فــراش‬
‫بســيط وبعــض احلُــر يدويــة الصنــع‪ ..‬بــدأ جيفــف جســده مبد ًيــا تأففــه‬
‫مــن رائحــة جســده بعــد الســباحة يف النيــل‪ ،‬تأمــل رضــا ِجــذع اخلواجــة‬

‫‪67‬‬
‫بانبهــار‪ ،‬كان جســده رياض ًيــا متناسـ ًقا‪ ،‬أبــدى رضــا إعجابــه بالوشــوم التــي‬
‫مل خيـ ُـل جذعــه منهــا‪ ،‬توقــف قليـ ًـا عنــد صليــب صغــر أخــر اللــون تــم‬
‫دقــه عــى ســاعد اخلواجــة األيمــن‪ ،‬تســاءل رضــا قائـ ًـا‪:‬‬
‫فعل اسمك احلقيقي آدم؟‬ ‫‪ -‬أنت ً‬
‫ساخرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫الحظ اخلواجة ما ينظر إليه رضا‪ ،‬فر َّد‬
‫‪ -‬وأنت فاكر إن مفيش آدم مسيحي؟ الزم أبقى مايكل يعني؟‬
‫مازحا‪:‬‬
‫حاول شكامن تغيري املوضوع فقال ً‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬بس اتأخرت علينا املرادي يا خواجة‪ ..‬فينك من آخر عملية؟‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ر َّد آدم وهو يرتدي حذائه الريايض أبيض اللون ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬أنــا باجــي وقــت مــا فلــويس بتخلــص‪ ..‬أنــا مــش حرامــي طفــس‬
‫زيــك يــا ُشــكامن‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ابتلــع مجــال اإلهانــة ومل يــرد‪ ..‬شــعر اخلواجــة بالنــدم عــى مــا قــال‪،‬‬
‫فحــاول تغيــر املوضــوع ضاحــكًا‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫«شكامن» حلد دلوقتي‪.‬‬ ‫‪ -‬بس تصدق ماعرفش ليه سموك ُ‬


‫ضحــك رضــا بصـ ٍ‬
‫ـوت عـ ٍ‬
‫ـال‪ ..‬حاول «مجــال ُشــكامن» أن خيرســه بلكمة‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫موجهــا حديثــه للخواجة وســط ضحكاته‪:‬‬


‫ً‬ ‫قويــة يف ذراعــه‪ ..‬قــال رضــا‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬أصلــه قبــل مــا يســيب املدرســة اإلعــدادي كان بييجــي لنــا كل يــوم‬
‫فطــران بيــض‪ ..‬وعينــك بقــى مــا تشــوف إال النــور‪.‬‬
‫ضحــك اخلواجــة ورضب كفــه بكــف رضــا‪ ..‬أكمــل رضــا حديثــه عــن‬
‫مــايض ُ‬
‫«شــكامن» أنــه كان بدينًــا وكان األطفــال يتحرشــون بــه لفظ ًيــا وأحيانًا‬
‫جســد ًيا‪ ،‬حتــى تشــاجر مــع أحدهــم ومتكــن منــه متا ًمــا؛ فاكتســب هيبتــه‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫قاطع اخلواجة اسرتساهلام بلهجة عملية‪:‬‬
‫‪ -‬بصــوا عمليــة بعــد بكــرة دي ســهلة جــدً ا‪ ..‬هنــروح نــرق لنــا شــوية‬
‫مــال ســايب‪.‬‬
‫هز مجال رأسه بفهم‪:‬‬
‫َّ‬
‫‪ -‬احلكومة؟‬
‫‪ -‬بالظبــط كــده‪ ..‬أنــا دخلــت عــى ال‪ system‬بتــاع رشكــة الكهربــا‪،‬‬
‫وعرفــت إن خزنتهــم فيهــا ربــع مليــون لســه مــا احتولــوش للبنــك‪ ..‬أنــا‬

‫ﻋﺼ‬
‫هاخــد النــص وإنتــوا اقســموا النــص التــاين‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫معرتضا‪:‬‬
‫ً‬ ‫ﻜﺘ‬ ‫أشعل رضا سيجارة ن َّفاذة الرائحة‪ ،‬رد‬
‫‪ -‬بــس احنــا الــي بنخــش نــرق كل مــرة‪ ..‬وأنــت بتقعــد يف بيتــك‬
‫قــدام الكمبيوتــر مابتعملــش أي حاجــة‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫حــاول ُ‬
‫«شــكامن» إســكاته‪ ..‬لكــن اخلواجــة نظــر لــه يف عينيــه‪ ،‬ور َّد‬
‫هبــدوء‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫هجامــن ماهلمــش أي تالتــة الزمــة‪..‬‬‫‪ -‬لواليــا كان زمانكــم زي أي َّ‬


‫أنــا صحيــح مــا بتحركــش مــن قــدام الكمبيوتــر‪ ..‬بــس حرضتــك بتخــش‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أي مــكان تالقينــي مظبــط لــك كل حاجــة‪ ،‬ده أنــا ناقــص أخــي الفلــوس‬
‫تنــط يف جيبــك!‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ناهرا رضا‪:‬‬
‫أردف «شكامن» ً‬
‫‪ -‬وال‪ ..‬أنــت نســيت إنــه مارضيــش يســلمني يــوم مــا مســكني وأنــا‬
‫بــرق بيتــه؟‬
‫ٍ‬
‫بصــوت خفيــض وبكلــات غــر مفهومــة‪ ،‬مل يبــدُ أنــه‬ ‫اعتــذر رضــا‬

‫‪69‬‬
‫اقتنــع بحصــول آدم عــى نصيــب األســد‪ ..‬مل يعبــأ بــه اخلواجــة‪ ،‬أكمــل‬
‫حديثــه هبــدوء‪:‬‬
‫‪ -‬رشكــة الكهربــا ‪-‬زهيــا زي معظــم مؤسســات احلكومــة‪ -‬بقــت‬
‫بتســتخدم نظــام حتكــم إلكــروين اســمه ‪ ..SCADA‬الســكادا دي بتتحكــم‬
‫يف كل حاجــة؛ مــن أول الكهربــا والبوابــات‪ ،‬حلــد نظــام األمــان وطريقــة‬
‫فتــح اخلزنــة‪.‬‬
‫هز رضا ومجال رأسيهام يف عدم فهم فتجاهلهام آدم وأكمل ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫َّ‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬البوابــة اخللفيــة عليهــا حــارس واحــد‪ ..‬أول مــا تربطــوه هتالقــوين‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫فاتــح لكــم البوابــة وقافــل الكامــرات وجايــب لكــم كلمــة رس اخلزنــة‪.‬‬
‫سأله ُشكامن ضاحكًا‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬يعني أنت هتقطع الكهربا عن رشكة الكهربا؟!‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫قال اخلواجة بثقة‪:‬‬


‫‪ -‬طاملــا التحكُّــم إلكــروين‪ ..‬ممكــن أقطعهــا لــك عــن القــر‬
‫ﺸﺮ‬

‫اجلمهــوري نفســه‪.‬‬
‫منبهرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫قال رضا‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬أنت ساحر‪.‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ابتسم آدم وأكمل خطته ً‬


‫قائل‪:‬‬
‫‪ -‬املهــم تفضلــوا فاحتــن اخلــط طــول العمليــة‪ ..‬عايــز أســمع كل حاجــة‬
‫بتحصل ‪.‬‬
‫سأله ُشكامن متعج ًبا‪:‬‬
‫‪ -‬ليه كده؟!‬

‫‪70‬‬
‫ر َّد اخلواجة‪:‬‬
‫‪ -‬عشان ملا ختلصوا هأب َّلغ عنكم البوليس‪.‬‬
‫قبــل أن يطلقــا الكثــر مــن األصــوات املعرتضــة‪ ،‬رشح هلــا «اخلواجــة»‬
‫أمهيــة إبــاغ الرشطــة بحادثــة الرسقــة؛ حتــى ال يتــورط فيهــا أحــد املوظفني‬
‫ويتــم اهتامــه باالختــاس ظلـ ًـا‪ ..‬مل يبــدُ عــى أهيــا االقتنــاع بــا قــال «آدم‬
‫اخلواجــة»‪ ،‬لكنهــا مل جيــدا بــدً ا مــن موافقتــه؛ حتــى ال يلغــي العمليــة‬
‫بأكملهــا‪ ..‬ســأله شــكامن بقلــق‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬هنبدأ ننفذ العملية الكبرية امتى؟‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ر َّد «آدم اخلواجة» بحزم‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬قريب جدً ا‪.‬‬
‫***‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫عــاد الكونــت إىل مقــره بعــد أن ابتــاع لنفســه طعا ًمــا مــن إحــدى‬
‫االســراحات عــى جانــب الطريــق الصحــراوي‪ ..‬صعــد إىل غرفــة نومــه‬
‫ﺸﺮ‬

‫املرتبــة بعنايــة شــديدة‪ ،‬جلــس أمــام مكتبــه‪ ،‬نظــر بفخــر نحــو قطــع لعبــة‬
‫ﻭ‬

‫«ليجــو» التــي نجــح يف تركيبهــا عــى شــكل رافعــة معقــدة التصميــم‪ ،‬شـ َّغل‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫عــى هاتفــه املحمــول معزوفــة عــى آلــة العــود‪ ،‬فتــح حاســبه املحمــول‪،‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫بعــد أن تأكــد مــن تثبيــت قطعــة مــن رشيــط الصــق فــوق كامــرا احلاســب؛‬
‫كان لديــه هــوس باحلفــاظ عــى هويتــه وتأمينهــا ضــد أي حماولــة اخــراق‬
‫حمتملــة‪ ،‬كان يعلــم أن الكثــر مــن خمرتقــي األجهــزة اإللكرتونيــة يســعون‬
‫للوصــول إىل شــخصيته احلقيقيــة‪ ..‬فعملــه عــى اإلنرتنــت جعــل ثمــن‬
‫رقبتــه ذه ًبــا‪ ،‬وجعــل منــه هد ًفــا للكثــر مــن األفــراد واملؤسســات‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫بــدأ يتأكــد مــن عمــل برامــج احلاميــة التــي تقــوم بتشــفري بيانــات دخولــه‬
‫للموقــع‪ ،‬كانــت إجــراءات التشــفري اخلاصــة بــه تتــم عــى حــوايل ســتة‬
‫ولوجــه عــى اجلانــب املظلــم مــن اإلنرتنــت ‪Dark‬‬ ‫َ‬ ‫مراحــل حتــى تؤ ِّمــن‬
‫‪.Web‬‬
‫انتظــر حتميــل املتصفــح الــذي يدخــل مــن خاللــه عــى هــذا العــامل‪..‬‬
‫تذ َّكــر املصاعــب التــي واجهتــه حــن بــدأ عملــه عــى هــذا اجلــزء املخفــي‬
‫مــن الشــبكة العنكبوتيــة؛ فكثــر مــن األشــخاص واملنظــات اإلجراميــة يف‬

‫ﻋﺼ‬
‫مــر مل تكــن عــى علــم بوجــود هــذا اجلــزء آنــذاك‪ ،‬كانــوا يفضلــون إدارة‬
‫أعامهلــم بالطــرق القديمــة‪ ،‬حتــى جــاء الكثــر مــن املربجمــن مــن دول شــال‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫إفريقيــا‪ ،‬فنجحــوا يف إقناعهــم بأمهيــة اإلنرتنــت املظلــم‪..‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫كان الكونــت آنــذاك يعــاين مــن نقــص يف املــوارد‪ ،‬وقلــة املشــركني‬
‫املرصيــن يف الـــ‪ ،Dark web‬وانعــدام ثقــة املوجوديــن يف قدرتــه عــى إنجــاز‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫أيضــا يف حفاظــه عــى رسيــة املعلومــات‬ ‫مــا يعدهــم بــه‪ ،‬كانــوا يشــكون ً‬
‫التــي حيصــل عليهــا منهــم‪..‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫حتــى تــم تأســيس موقــع ‪ Dark Egypt‬اخلــاص باملرصيــن املشــركني‬


‫عــى اجلانــب األكثــر إظال ًمــا مــن اإلنرتنــت‪ ..‬كانــت فكــرة املوقــع قائمــة‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫عــى محايــة خصوصيــة املشــركني فيــه مقابــل رضيبــة ســنوية عبــارة عــن‬
‫نســبة مــن األربــاح التــي جينيهــا كل مشـ ٍ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ـرك عــى حــدة‪ ،‬كان تصميــم املوقــع‬


‫بســي ًطا يغلــب عليــه اللــون األســود والصــور املقبضــة‪.‬‬
‫يف البدايــة مل يصــدق الكونــت مــا رآه يف هــذا العــامل‪ ،‬شــاهد أســوأ‬
‫مــا يمكــن أن خيــرج مــن النفــس البرشيــة‪ ،‬حيــث كل يشء مبــاح يف عــامل‬
‫حيكمــه قانــون الالقانــون‪ ،‬أدرك قيمــة وجــود نظــام حيكــم اجلميــع‪ ،‬كــا‬

‫‪72‬‬
‫فهــم رضورة إخفــاء هــذا العــامل الــذي يعــج باملختلــن عــن عامــة النــاس‬
‫للحفــاظ عــى مــا تبقــى مــن اخلــر بداخلهــم‪ ،‬وعــرف أمهيــة وجــود رقيــب‬
‫يطبــق العقــاب عــى اجلميــع‪.‬‬
‫أراد الكونــت وقتهــا أن يثبــت نفســه يف هــذا العــامل؛ فبــدأ بقبــول‬
‫متنفســا عــن‬
‫ً‬ ‫املهــات الســهلة مــن األفــراد الذيــن وجــدوا يف هــذا العــامل‬
‫شــهواهتم‪ ..‬راح خيطــف أفــرا ًدا بأعينهــم ليعذهبــم بطرقــه النفســية املبتكــرة‪،‬‬
‫بــدأ بتصويــر أفــام قصــرة ال يظهــر فيهــا إال معانــاة ضحايــاه‪ ،‬مل يعــرف‬

‫ﻋﺼ‬
‫أحــد هويتــه حتــى اآلن‪ ،‬مل يفضــح يو ًمــا هويــة مــن ك َّلفــه بالتعذيــب‪ ..‬بــدأ‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫يرفــع ســعره تدرجي ًيــا‪ ،‬وبــدأت تتكــون عــداوات لــه مــع بعــض املنافســن‪..‬‬
‫كان مــا يميــزه عــن غــره أنــه ال يلجــأ للتعذيــب اجلســدي اخلالــص‪ ،‬كان‬
‫ﻜﺘ‬
‫يعــرف جيــدً ا مــا يفعــل‪.‬‬
‫تذ َّكــر منافســته مــع رجلــن كانــا يامرســان التعذيــب مثلــه عــى نفــس‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫املوقــع املــري‪ ،‬أطلقــا عــى أنفســهام لقــب «التــوأم»‪ ،‬كانــا يرتديــان أقنعــة‬
‫كرتونيــة ضاحكــة‪ ،‬اســتمدا شــهرهتام مــن مقطــع مصـ َّـور قطعــا فيــه ذراع‬
‫ﺸﺮ‬

‫ســيدة وأجــرا زوجهــا عــى التهــام الــذراع بعــد طهيــه‪ ..‬عــرف الكونــت‬
‫ﻭ‬

‫فيــا بعــد أن مــا فعــاه كان تطبي ًقــا حقيق ًيــا ملشــهد مــن مسلســل إندونيــي‪،‬‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫لكــن «التــوأم» كانــا مــن اجلنــون كفايــة لتحويلــه واق ًعــا‪ ..‬كان لدهيــم هوس‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫بنقــل قصــص الرعــب إىل أرض الواقــع‪ ،‬وباألخــص القصــص التــي‬


‫تتحــدث عــن قتــل األطفــال املخطوفــن بعــد مســاومة ذوهيــم عــى فديــة‪.‬‬
‫كانــا ‪-‬عــى عكســه‪ -‬لدهيــا هــوس بالتعذيــب اجلســاين وبــاألذى‬
‫بعضــا مــن ضحايــا التــوأم‬
‫اجلنــي‪ ،‬كــا أن ســمعتهام مل تكــن جيــدة؛ ألن ً‬
‫قــد ماتــوا أثنــاء التعذيــب‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫حــاول التــوأم اإليقــاع بالكونــت حــن ك َّلفــاه بمهمــة خطــف شــخص‬
‫معــن‪ ،‬حــن رأى الكونــت الســعر الباهــظ الــذي ُو ِضــع لــه مقابــل إنجــاز‬
‫املهمــة شــعر أن هــذا التكليــف جمــرد فــخ‪ ..‬فاســتأجر قاتـ ًـا حمرت ًفــا وخبــأ‬
‫جهــازا للتتبــع‪ ،‬كان التــوأم ينتظــران ذلــك القاتــل يف موقــع‬ ‫ً‬ ‫يف مالبســه‬
‫اللقــاء‪ ،‬فقامــا باختطافــه ظنًــا منهــا أنــه الكونــت‪ ..‬تتبعــه الكونــت حتــى‬
‫داهــم مقرمهــا مســتفيدً ا مــن عنــر املفاجــأة‪ ،‬نجــح بعــد معركــة قصــرة يف‬
‫وصورمهــا عــى اهلــواء مبــارش ًة يف الكثــر‬
‫َّ‬ ‫تكبيلهــا‪ ..‬ارتــدى أحــد أقنعتهــا‬

‫ﻋﺼ‬
‫مــن أوضــاع التعذيــب واملعانــاة‪ ،‬جعلهــا يبكيــان معرتفــن لــه بالســيادة‬
‫داخــل املقــر اخلــاص هبــا والــذي عذبــا فيــه الكثــر مــن الضحايــا‪ ،‬فتــح‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫رصيدمهــا مــن العمــات اإللكرتونيــة ‪ Bitcoins‬وقــام بتوزيعــه عــى رواد‬
‫ﻜﺘ‬
‫املوقــع‪ ،‬جعــل منهــا عــرة‪ ..‬وبرغــم هــذه العــداوة فقــد رفــض الكثــر مــن‬
‫األمــوال التــي ُعرضــت عليــه ليكشــف عــن هويتهــا احلقيقيــة‪ ،‬بــرر رفضــه‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بأنــه ال يطمــع يف املــال وال يف إفســاد النظــام الــذي ُيــدار بــه هــذا املوقــع‪،‬‬
‫أكســبه هــذا الرفــض ثقــة كبــرة مــن عمالئــه؛ فاتســع نطــاق عملــه وزاد‬
‫ﺸﺮ‬

‫ســعره نتيجــة لزيــادة الطلــب عليــه‪ ،‬توقــف عــن تصويــر أعــال التعذيــب‬
‫التــي يقــوم هبــا‪ ..‬كان هدفــه الوحيــد أن يشــبع رغبتــه يف إيــام اآلخريــن‬
‫ﻭ‬

‫وشــعوره بالتحكــم التــام فيهــم‪ ،‬وأن حيصــل عــى املعلومــات املطلوبــة مــن‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫الضحيــة كــا هــي دون تدخــل منــه أو مراجعــة‪ ،‬ويســلمها ملــن ك َّلفــه املهمــة‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ليحصــل عــى باقــي أتعابــه‪.‬‬


‫انقطــع سلســال ذكرياتــه حــن صــدر صــوت تنبيــه يــدل عــى وصــول‬
‫أمــر تعذيــب جديــد‪ ،‬كان عــى وشــك أن يرفضــه‪ ،‬لكنــه تراجــع حــن‬
‫عــرف أن الضحيــة تنتمــي إىل الطبقــة الوســطى‪ ،‬وهــي الفئــة املفضلــة‬
‫بالنســبة لــه‪ ،‬تعمــل موظفــة يف أحــد الكيانــات االقتصاديــة الكــرى والتــي‬

‫‪74‬‬
‫كلفتــه باختطافهــا؛ إلجبارهــا عــى االعــراف باملــكان الــذي أخفــت‬
‫فيــه مســتندات شــديدة اخلصوصيــة للرشكــة‪ ،‬كــا أن العــرض املــايل كان‬
‫مناس ـ ًبا‪ ..‬فوافــق وطلــب مــن بعــض البيانــات اخلاصــة بالضحيــة بعــد أن‬
‫تعهــد لصاحــب املهمــة باحلفــاظ عــى رسيــة التعامــل‪ ،‬عــرف فيــا بعــد أن‬
‫ضحيتــه اســمها «داليــا القــايض»‪ ،‬حــاول الكونــت ‪-‬مــن بــاب الفضــول‪-‬‬
‫أن يعــرف هويــة رئيــس هــذا الكيــان لكنــه مل جيــد عنــه معلومــة واحــدة عــى‬
‫اإلنرتنــت‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫بــدأ يســتعرض الصفحــة الرئيســية ملوقــع ‪ Dark Egypt‬بــا هــدف حمــدد؛‬
‫أراد فقــط معرفــة مــا اســتجد يف هــذا العــامل الــذي أدرك أبعــاده جيــدً ا‪ ،‬كان‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫مجيــع رواد املوقــع هيابونــه ســواء كانــوا مــن عــاريض اخلدمــات أو طالبيهــا‪،‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫بعــد أن أثبــت قــوة وســعة حيلــة‪ ،‬وبعــد أن اتســعت عالقاتــه ومــوارده‪..‬‬
‫وجــد أحــد مشــاهري هــذا املوقــع والــذي أطلــق عــى نفســه لقــب‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫«اجلــراح» يقــوم بعمــل مــزاد علنــي عــى أعضــاء ضحيــة جديــدة؛ كان‬
‫زبائنــه مــن األطبــاء املتاجريــن باألعضــاء البرشيــة‪ ،‬وبعــض األثريــاء كبــار‬
‫ﺸﺮ‬

‫الســن الذيــن مل جيــدوا أعضــاء صاحلــة للتــرع بالطــرق املرشوعــة‪.‬‬


‫ﻭ‬

‫فتــح الكونــت املقطــع الــذي يبثــه ذلــك «اجلــراح» مبــارش ًة لعمليــة‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ً‬
‫كامــا ويغطــي وجهــه بكاممــة طبيــة‬ ‫البيــع‪ ..‬كان يرتــدي رداء اجلراحــة‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫تعلوهــا نظــارة داكنــة‪ ،‬بــدأ بــرد التاريــخ الطبــي للجســد املعــروض للبيــع‬
‫بمهنيــة شــديدة‪ ..‬كان صاحــب اجلســد ً‬
‫كهــا‪ ،‬ظهــر ممــد ًدا عــى ظهــره‪،‬‬
‫مكبـ ًـا مــن مجيــع أطرافــه وقــد كمــم «اجلــراح» فمــه‪ ..‬كان وجهــه خال ًيــا‬
‫مــن أي تعبــر‪ .‬مخــن الكونــت أنــه واقــع حتــت تأثــر خمــدر معــن‪ ..‬بــدأ‬
‫ـرورا باألوتــار وباقــي األعضــاء الصاحلــة للبيــع‪،‬‬
‫املــزاد عــى قرنيــة العــن‪ ،‬مـ ً‬

‫‪75‬‬
‫والتــي مل يكــن الكبــد مــن بينهــا؛ إذ أقــر «اجلــراح» بوجــود تل ُّيــف كبــدي يف‬
‫مرحلــة متأخــرة‪ ،‬انتهــا ًء بالــكىل‪ ،‬والقلــب الــذي تــم بيعــه بســعر أعــى مــن‬
‫باقــي األعضــاء‪.‬‬
‫مل ينتظــر الكونــت حتــى هنايــة البــث‪ ..‬ملــح مــزا ًدا آخــر عــى برنامــج‬
‫كمبيوتــر مــن نــوع خــاص‪ ،‬تــم رسقتــه مــن وكالــة االســتخبارات األمريكية‬
‫‪ ..CIA‬يمكــن هلــذا الربنامــج اخــراق الكثــر مــن املؤسســات اهلامــة حــول‬
‫العــامل‪ ،‬وشــارك يف تصميمــه الكثــر مــن املربجمــن ومهنديس احلاســب‪ ،‬فكر‬

‫ﻋﺼ‬
‫الكونــت يف أن يشــريه لكــن الثمــن كان باه ًظــا‪ ،‬فعــى الرغــم مــن ثرائــه؛‬
‫إال أن الثمــن كان ســيكلفه معظــم مــا يملــك يف حافظتــه اإللكرتونيــة‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ـورا ملســتخدم أطلــق عــى‬
‫أكمــل الكونــت جولتــه‪ ،‬وجــد مقط ًعــا مصـ ً‬
‫ﻜﺘ‬
‫نفســه لقــب «ميــزان العــدل»‪ ،‬مل ينجــح يف جــذب انتبــاه الكونــت الــذي كاد‬
‫ـورا يف أحــد التعليقــات‬
‫أن يتجاهــل هــذا املقطــع‪ ،‬قبــل أن جيــد اســمه مذكـ ً‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫امللحقــة بالفيديــو‪ ..‬فتحــه ليجــد هــذا «امليــزان» قــد أعلــن عــن قيامــه‬
‫باغتيــال أحــد املحامــن مــع وعيــد باالنتقــام مــن الكونــت وســط الكثــر‬
‫ﺸﺮ‬

‫مــن الــكالم عــن األخالقيــات التــي جيــب أن تعــود إىل املجتمــع‪..‬‬


‫ـال‪ ،‬أرســل لصاحب‬ ‫انتهــى الكونــت مــن املشــاهدة ضاحـكًا بصـ ٍ‬
‫ـوت عـ ٍ‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫املقطــع رســالة هتديــد حــذره فيهــا مــن االنغــاس يف معــارك مــع أشــخاص‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫مثلــه‪ ،‬وأن العدالــة لــن تتحقــق يف مــكان مثــل اإلنرتنــت املظلــم‪ ،‬أخــره‬
‫أنــه خيــل بامليــزان الكــوين الــذي ال يعتــدل إال بوجــود الــر‪ ..‬ر َّد «امليــزان»‬
‫قائـ ًـا أنــه ســيحارب مــن أجــل العدالــة حتــى آخر أنفاســه‪ ..‬ســخر الكونت‬
‫ً‬
‫ابتــذال‪ ،‬ذكَّــره بــا‬ ‫مــن عباراتــه املبتذلــة واســمه املســتعار الــذي مل يقــل‬
‫حــدث منــذ ســنتني حــن حــاول أفــراد الرشطــة الوصــول إىل بيانــات أحــد‬
‫مرتــادي املوقــع‪ ..‬فن ُِصــب هلــم كمينًــا إلكرتون ًيــا‪ ..‬وانتهــى األمــر رسي ًعــا‬

‫‪76‬‬
‫بكشــفهم والتخلــص منهــم‪ ،‬واخــراق مجيــع حواســب الــوزارة وترسيــب‬
‫بعــض مــن بياناهتــا‪ ..‬حتــى اضطــروا إىل دفــع الكثــر مــن األمــوال لتغيــر‬
‫نظــام محايتهــم بالكامــل‪ ..‬ر َّد امليــزان أنــه يســتعني بنظــام محايــة أقــوى مــن‬
‫الرشطــة‪ ..‬اختتــم الكونــت رســالته مهــد ًدا امليــزان‪ ،‬أخــره أنــه يســتطيع‬
‫الوصــول إليــه والتخلــص منــه يف أي وقــت يريــد‪ ،‬وأغلــق نافــذة املحادثــة‬
‫دون أن ينتظــر الــرد‪.‬‬
‫تابــع إعالنًــا لبيــع طابعــة ثالثيــة األبعــاد ‪ ..3D printer‬كانــت هــذه‬

‫ﻋﺼ‬
‫الطابعــة متطــورة إىل حـ ٍـد كبــر‪ ،‬وكان ثمنهــا مقبـ ً‬
‫ـول مقارن ـ ًة ملــا يمكنهــا‬
‫أن تفعلــه؛ فيمكنهــا أن تطبــع أنوا ًعــا كثــرة مــن األســلحة عنــد إمدادهــا‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫باخلامــات املطلوبــة‪ ،‬ممــا ســيجنب الكثــر مــن األفــراد التعامــل مــع‬
‫ﻜﺘ‬
‫مؤسســات جتــارة الســاح أو األســلحة ســهلة التعقــب‪ ،‬كــا أن هلــا القــدرة‬
‫عــى خلــط نســب معينــة مــن املــواد الكيميائيــة لتكويــن بعــض املركبــات‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫غــر املتوفــرة؛ كاملــواد املتفجــرة والســموم‪.‬‬


‫وجــد ب ًثــا آخــر ملســتخدم مــن حديثي العهــد باملوقــع‪ ..‬كان يصـ ِّـور طفلة‬
‫ﺸﺮ‬

‫يبــدو مــن مالحمهــا أهنــا مــن أوروبــا الرشقيــة‪ ،‬مل تتجــاوز العــر ســنوات‪،‬‬
‫كان ينفــذ فيهــا مــا يطلبــه منــه مشــاهدي املقطــع املصــور نظــر مقابــل‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫مــادي؛ فجردهــا مــن مالبســها ورضهبــا يف خمتلــف مناطــق جســدها‪..‬‬


‫عارضــا عــى‬
‫ً‬ ‫وقبــل أن يقطــع أحــد أطرافهــا‪ ،‬أمــره الكونــت أن يقتلهــا‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫صاحــب املقطــع الكثــر مــن ال ُعمــات‪ ،‬فنفــذ األخــر طلبــه وأهنــى البــث‪.‬‬
‫مباحــا عــى اإلنرتنــت املظلــم؛ بدايـ ًة مــن تزويــر األوراق‬
‫كان كل يشء ً‬
‫ـرورا‬
‫الرســمية؛ كالشــهادات والبطاقــات الشــخصية وجــوازات الســفر‪ ،‬مـ ً‬
‫بتجــارة أنــواع نــادرة مــن املخــدرات والســاح واآلثــار واملعــادن النــادرة‬
‫باهظــة الثمــن‪ ..‬عــاو ًة عــى عمليــات االختطــاف والتعذيــب واغتصــاب‬

‫‪77‬‬
‫األطفــال والبالغــن بأبشــع الطــرق املمكنــة‪ ،‬والتجــارة يف البــر مــع ذكــر‬
‫مواصفاهتــم كأي ســلعة أخــرى‪ ،‬وتأجــر خمرتقــي احلواســب للتجســس‬
‫عــى األفــراد واحلكومــات‪.‬‬
‫مــن املمكــن ألي شــخص يمتلــك ثــروة مــن عملــة الـــ‪ Bitcoins‬أن يفعل‬
‫مــا يريــد؛ كأن يغتــال أي شــخصية يف أي مــكان يف العــامل؛ باســتثناء الطبقــة‬
‫احلاكمــة لــكل دولــة‪ ،‬أو يبتــز أي شــخصية عامــة‪ ،‬واحلصــول عــى أي‬
‫ـت آلخــر مــن‬ ‫خدمــة مهــا بــدت غريبــة‪ ..‬كان الكونــت يســتأجر مــن وقـ ٍ‬

‫ﻋﺼ‬
‫يقــوم بــإرضام النــار يف أي مبنــى مهجــور‪ ،‬أو قطــع الكهربــاء عــن منطقــة‬
‫معينــة‪ ،‬كان جيــد راحتــه يف مثــل هــذه الترصفــات‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫زادت قيمــة هــذه العمــات اإللكرتونيــة بعــد أن زاد االهتــام‬
‫ﻜﺘ‬
‫باإلنرتنــت املظلــم؛ كانــت العملــة تضمــن رسيــة تــداول املدفوعــات وعــدم‬
‫إمكانيــة تتبعهــا‪ ،‬عــاوة عــى اســتحالة تزويرهــا‪ ..‬أصبحــت الواحــدة مــن‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫هــذه الـــ‪ Bitcoins‬تعــادل آالف الــدوالرات‪.‬‬


‫ومــع الوقــت زاد عــدد رواد اإلنرتنت العميــق ‪ Deep web‬الذين ال يســعون‬
‫ﺸﺮ‬

‫ألي نشــاط غــر مــروع؛ فقــط يرغبــون يف املزيــد مــن اخلصوصيــة واحلريــة‪..‬‬
‫وقــد كان اإلنرتنــت املظلــم يعتــر اجلــزء األكثر بشــاعة مــن اإلنرتنــت العميق‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫مل يتوقــف اســتخدام الـــ‪ Dark web‬عنــد املؤسســات واألفــراد مــن ذوي‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫النشــاط اإلجرامــي‪ ،‬وال حتــى الدينــي كأصحــاب الديانــات املســتحدثة‬


‫وعبــدة الشــيطان‪ ..‬بــل اتســع ليشــمل احلكومــات التــي نجــح بعضهــا يف‬
‫تغيــر أنظمــة حكــم الــدول املعاديــة‪ ،‬وترسيــب الكثــر مــن املســتندات‬
‫اخلاصــة بمنافســيها‪ ..‬مثــل فضــح شــخصيات سياســية بعينهــا‪ ،‬وترسيــب‬
‫بيانــات ولــوج املواطنــن عــى املواقــع اإلباحيــة يف دولــة قائمــة عــى‬

‫‪78‬‬
‫أســس دينيــة وأخالقيــة؛ فيهــدم العصبــة التــي نشــأت منهــا هــذه الدولــة‪.‬‬
‫كــا وجــدت اجلامعــات اإلرهابيــة الكثــر مــن الدعــم يف هــذا الوســط‬
‫املزدحــم باملــرىض‪ ،‬فاســتطاعت مــن خاللــه الدعايــة ألهدافهــا ونشــاطاهتا‪،‬‬
‫ووســعت مــن مواردهــا وتربعاهتــا‪.‬‬
‫َّ‬
‫انتبــه الكونــت إىل وصــول رســالة جديــدة‪ ..‬ظــن يف البدايــة أنــه ذلــك‬
‫املســتخدم الــذي ُيدعــى «اخلواجــة» ويراســله بشـ ٍ‬
‫ـكل دوري مرتد ًيــا قنــاع‬
‫األناركيــة الشــهري ويرتجــاه أن يعمــا ســو ًيا‪ ..‬لكنــه فوجــئ برســالة غريبــة‬

‫ﻋﺼ‬
‫مخــن أنــه حمــرف اخــراق مــن خــال بياناته‬ ‫مــن مســتخدم يــراه ألول مــرة‪َّ ،‬‬
‫املحجوبــة بتشــفري خــاص‪ ..‬كانــت الرســالة مكتوبــة بإنجليزيــة معربــة‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫أقــرب للغــة التــي يســتخدمها خمرتقــو شــال إفريقيــا‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬أنا عايز أشكرك يا كونت؛ أنت السبب يف ثرويت اجلديدة‪..‬‬
‫ألول مــرة منــذ فــرة طويلــة يشــعر الكونــت بالقلــق‪ ،‬حــاول الســيطرة‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫عــى دقــات قلبــه وحبــات العــرق التــي ظهــرت مــن العــدم فــوق جبهتــه‪..‬‬
‫ر َّد باقتضــاب‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬واملقابل؟‬
‫ﻭ‬

‫‪ -‬أنــا بقــايل شــهر بــدور وراك‪ ..‬حلــد مــا قــدرت أوصــل لثغــرات يف‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫املتصفــح اخلــاص بيــك‪ ..‬ثغــرات تقــدر حتــدد مكانــك وهويتــك يف أقــل‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫مــن كام يــوم‪.‬‬


‫تردد الكونت قبل أن يرد عليه‪ ،‬فكَّر ً‬
‫قليل ثم كتب له‪:‬‬
‫‪ -‬ممكن أعرف سبب اهتاممك بكشف هويتي؟‬
‫‪ -‬مــش أنــا الــي مهتــم‪ ..‬أنــا اتعــرض عليــا الفلــوس قبــل مــا أعرفــك‬
‫أصـ ًـا‪ ..‬ووافقــت مــن غــر مــا أفكــر‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫حاول الكونت أن يكسب وقت فكتب له‪:‬‬
‫‪ -‬اثبت يل إن الثغرات دي بجد‪.‬‬
‫‪ -‬أنت عارف كويس إهنا حقيقية‪..‬‬
‫وكأن املخرتق قد فهم ما يدور يف رأس الكونت فأكمل حديثه ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪ -‬مــا تقلقــش أنــت مارتكتبــش أي غلطــات يف التصفــح‪ ..‬بس لألســف‬
‫حمــدش بيتعلــم مــن التاريــخ‪ ،‬أنــت ارتكبــت تقري ًبــا نفــس األخطــاء الــي‬
‫و َّقعــت «روس أولربخيــت»‪..‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ر َّد الكونت باقتضاب‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬عارفه‪ ..‬مؤسس موقع جتارة خمدرات عىل الـ‪..Dark web‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫أكمل املخرتق حديثه كأنه مل يكن ينتظر ر ًدا من الكونت‪:‬‬
‫‪ -‬الــي ماتعرفــوش إن الـــ‪ FBI‬قبضــت عــى «روس» عشــان وقــع يف كــذا‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫غلطــة؛ يعنــي كان ســاعات بيســأل يف مواقــع تقنيــة باســمه احلقيقــي‪ ،‬ده‬
‫غــر إنــه كان مبــن الـــ‪TimeZone‬؛ فقــدروا يوصلــوا للبلــد الــي بيديــر منهــا‬
‫ﺸﺮ‬

‫املوقــع‪ ..‬واتســوق إلكرتون ًيــا ببياناتــه العاديــة‪..‬‬


‫قــام الكونــت بمراجعــة حافظتــه اإللكرتونيــة رسي ًعــا؛ حلســاب كل مــا‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫يملــك مــن ‪ ،Bitcoins‬كتــب يف حماولــة أخــرة للنجــاة‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬أنا هأدفع لك أكرت من اليل اتعرض عليك‪.‬‬


‫‪ -‬ماينفعش لسببني؛ األول إن كلمتي واحدة‪..‬‬
‫‪ -‬والتاين؟‬
‫‪ -‬إن البيع تم خالص‪.‬‬
‫***‬

‫‪80‬‬
‫‪ -5‬اهلروب إىل الواقع‬

‫ﻋﺼ‬
‫كان «آدم اخلواجــة» مــرد ًدا يف إخبــاري بــا توصــل إليــه‪ ..‬طلبــت‬
‫منــه بنفــاد صــر أن خيــرين بتخمينــه‪ ..‬فقــال بعــد أن اكتملــت الصــورة‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫يف ذهنــه‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬اخلاطــف دايـ ًـا ســابقنا بخطــوات‪ ،‬كل مــكان بنروحــه بيكــون هــو‬
‫ســابقنا هنــاك‪ ،‬عــارف حاجــات مــش ســهل أي حــد يعرفهــا‪ ،‬ده الزم‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يكــون حــد قريــب منــك زي الظــل بالظبــط‪.‬‬


‫آمرا‪:‬‬
‫رصخت فيه ً‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬انجز يا آدم وقول قصدك إيه؟!‬


‫‪ -‬أنا عرفت مني اليل خطف غرام ومليكة يا أستاذ يارس‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ثائرا حلق أخيه هشام‪..‬‬


‫كان أيمن عديل ً‬
‫انفجــر املهنــدس أيمــن غاض ًبــا يف وجــه عســكري الرشطــة الــذي منعــه‬
‫مــن مقابلــة مأمــور قســم قــر النيــل‪ ..‬حــاول بعــض أمنــاء الرشطــة هتدئتــه‬
‫فأكمــل ثورتــه يف وجوههــم‪ ،‬أطلــق الكثــر مــن اللعنــات‪ ،‬نــادى عــى‬
‫املأمــور باســمه جمــر ًدا مــن األلقــاب حتــى يســمعه فيخــرج مــن مكتبــه‪..‬‬

‫‪81‬‬
‫حتــت أي ظــروف أخــرى كان ســيتم الــزج بأيمــن يف احلبــس‪ ..‬لكــن‬
‫أحــدً ا مل يتعــرض لــه بــاألذى؛ فجميعهــم يعرفــون قصــة املهنــدس أيمــن‬
‫عــديل وتــردده عــى القســم الــذي بــدأ منــذ أســبوع تقري ًبــا ومل يتوقــف بعــد‪.‬‬
‫خــرج املأمــور لرؤيتــه‪ ،‬طلــب منــه اهلــدوء ودعــاه لــرب القهــوة يف‬
‫غرفــة مكتبــه‪ ..‬أجلســه عــى املقعــد املقابــل ملكتبــه‪ ،‬جلــس أمامــه‪ ،‬ر َّبــت‬
‫عــى فخــذه قائـ ًـا‪:‬‬
‫‪ -‬أنــا مقــدر قلقــك عــى أخــوك يــا بــاش مهنــدس أيمــن‪ ..‬بــس مــا‬

‫ﻋﺼ‬
‫ينفعــش كل شــوية تيجــي تشــتم يف النــاس الــي وقفــوا جنبــك حلــد مــا‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫رجــع لــك بالســامة‪.‬‬
‫مستنكرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫علق أيمن‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬ســاعدوين؟ ده أنــا بقــى يل أســبوع بآجــي لكــم كل يــوم أحكــي نفــس‬
‫احلكايــة لنفــس النــاس وال حــد عـ َّـرين‪ ..‬حلــد مــا الــي خاطفينــه زهقــوا‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ورجعــوه لوحدهــم!‬
‫طلــب منــه املأمــور أن هيــدأ‪ ،‬اعتــذر ألنــه مل يلــم بكافــة تفاصيــل القضية‪،‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫ســأله عــن كيفيــة رجــوع أخيــه هشــام‪ ..‬زفــر أيمــن بجــزع‪ ،‬مســح بيــده عــى‬
‫ﻭ‬

‫رأســه األصلــع‪ ،‬وبــدأ حيكــي كمــن حكــى نفــس القصــة ألــف مرة‪:‬‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬أنــا وهشــام فاحتــن رشكــة مقــاوالت عــى قدنــا‪ ..‬اتقدمنــا بعطــاء يف‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫مناقصــة تبــع احلكومــة‪ ،‬ومــن ســاعتها ومكاملــات هتديــد بتيجــي هلشــام‪..‬‬


‫سأله املأمور باهتامم حقيقي عمن كان هيدد أخيه‪ ..‬أجاب أيمن‪:‬‬
‫‪ -‬سامح أبو خاطر‪ ..‬رجل األعامل وعضو جملس الشعب‪.‬‬
‫أومــأ املأمــور برأســه بعــد تفكــر قصــر‪ ،‬بــدا كأنــه تعـ َّـرف عــى صاحــب‬
‫االســم‪ ،‬طلــب مــن أيمــن أن يــرب القهــوة التــي أحرضهــا العســكري‪..‬‬

‫‪82‬‬
‫رفــض أيمــن أن يتنــاول الكــوب‪ ،‬طلب مــن املأمــور أن يقــوم بتحرير حمرض‬
‫يتهــم فيــه «ســامح أبــو خاطــر» رســم ًيا باختطــاف أخيــه‪ ..‬تــردد املأمــور قبل‬
‫أن يوافــق عــى طلبــه‪ ،‬ســأله عــن حالــة هشــام احلاليــة‪ ..‬رد أيمــن‪:‬‬
‫‪ -‬هــو جســان ًيا ســليم‪ ..‬بــس تقري ًبــا مبقــاش عارفنــا‪ ،‬جســمه مــا‬
‫بطلــش رعشــة‪ ،‬عينــه مفتوحــة طــول الوقــت‪ ،‬وبتيجــي لــه نوبــات رصيــخ‬
‫زي مــرىض الــرع‪ ،‬ومافيــش عــى لســانه غــر كلمــة واحــدة‪..‬‬
‫ٍ‬
‫صمت قصري‪:‬‬ ‫أردف بعد‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬الكونت‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫***‬
‫ﻜﺘ‬
‫انتفضــت ســلوى حــن فتحــت بــاب شــقتها ووجــدت زوجهــا «رايف‬
‫أبــو الدهــب» يف انتظارهــا‪ ..‬ســألته عــن ســبب عودتــه املبكــرة مــن معــرض‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫الســيارات‪ ،‬أبــدت دهشــتها مــن جلوســه يف غرفــة الضيــوف املكتظــة‬


‫باألثــاث والكــرايس املذهبــة‪ ،‬أخفــت انزعاجهــا مــن عودتــه إىل تدخــن‬
‫ﺸﺮ‬

‫التبــغ‪ ،‬الــذي مــأت رائحتــه وأعقابــه الغرفــة‪ ،‬حلــن معرفــة ســبب ضيقــه‪.‬‬
‫مل يــرد عــى أي ممــا قالــت‪ ..‬وضعــت حقيبــة يدهــا وحقيبــة الطعــام‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أرضــا‪ ..‬وجلســت إىل جــواره وقصــت عليــه‬ ‫اجلاهــز الــذي أحرضتــه معهــا ً‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫بعــض املواقــف التــي واجهتهــا اليــوم يف مركــز الــدروس اخلصوصيــة‪،‬‬


‫أخربتــه بنيتهــا يف الذهــاب إىل املحامــي برفقــة يــارس مســاء اليــوم‪ ،‬ليبــدأ‬
‫إجــراءات املطالبــة بمرياثهــا مــن «عبــد احلــي الطائــي»‪ ..‬أشــعل رايف‬
‫ســيجارة أخــرى غــر التــي يف يــده‪ ،‬ألقــى أمامهــا مل ًفــا طب ًيــا وقــال‪:‬‬
‫‪ -‬الدكتور اتصل بيا من شوية عشان يوريني حتاليل اخللفة‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫أمســكت ســلوى جانبــي رأســها بحركــة ال إراديــة‪ ،‬خلعــت غطــاء‬
‫رأســها كاشــف ًة عــن شــعر مبعثــر‪ ،‬ركعــت أمامــه عــى ركبتيهــا مربت ـ ًة عــى‬
‫فخــذه بحنــان‪ ،‬ســألته بقلــق‪:‬‬
‫‪ -‬العيب طلع مني؟‬
‫ٍ‬
‫بصوت مرتفع‪:‬‬ ‫أشاح بوجهه بعيدً ا‪ ،‬وقال‬
‫‪ -‬عــر ســنني مســتحمل قعدتنــا يف بيــت أبوكــي‪ ،‬ســايبك تاخدينــي‬

‫ﻋﺼ‬
‫مــن إخــوايت وصحــايب وكل الــي أعرفهــم‪ ..‬ماخليتــش يف حيــايت غــرك‬
‫إنتــي والشــغل‪ ..‬مســتحمل غــرورك وطمعــك يف كل قــرش أملكــه أو‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫حتــى مأملكــوش‪ ..‬كل ده ســاكت عشــان كنــت فاكــر إن مالنــاش غــر‬
‫ﻜﺘ‬
‫بعــض‪.‬‬
‫نظــرت لــه ســلوى بغضــب دون أن تــرد‪ ،‬هنضــت مــن مكاهنــا‪َّ ،‬‬
‫مهــت أن‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫تغــادر حجــرة الضيــوف‪ ..‬لكــن رايف أمســكها مــن ســاعدها وقــال بلهجــة‬
‫مل ختـ ُـل مــن القهــر‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬مســتحمل الــكالم الزبالــة الــي بيوصــل يل عــن الــي بتعمليــه يف‬


‫الســنرت‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫اتسعت عينا سلوى بدهشة‪ ،‬فأكمل رايف بنفس النربة املقهورة‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬انتــي فاكــرة الــي شــغالني عنــدك هاخيبــوا عنــي حاجــة! أنــا بيوصــل‬
‫يل كل حاجــة بتعمليهــا‪ ..‬وإشــاعة الــواد الــي انتــي ماشــية معــاه دي لــو‬
‫اتأكــدت منهــا مــش هرمحــك‪ ..‬يــا بنــت الــكالب ده مــن دور عيالــك الــي‬
‫لســه ماجــوش!‬
‫عال‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫وبصوت ٍ‬ ‫سألته سلوى بحزم‬

‫‪84‬‬
‫‪ -‬العيب طلع يف مني يا رايف؟‬
‫أجاب رايف وهو يقاوم إنحدار الدموع‪:‬‬
‫‪ -‬كفاية متثيل بقى‪ِ ..‬‬
‫أنت عارفة كويس إن مفيش عيب ً‬
‫أصل!‬
‫واجههــا رايف بامتناعهــا عــى احلمــل منــه‪ ..‬مل تدافــع ســلوى عن نفســها‪،‬‬
‫مل تبحــث عــن مــررات جوفــاء لــن حتســن مــن موقفهــا‪ ،‬فقــط ســتزيد األمــر‬
‫ســو ًءا‪ ..‬قالــت بلهجــة هجومية‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬مــا حتسســنيش إنــك مــاك‪ ..‬أنــا عارفــة إنــك متجــوز أخــت رشيكك‬
‫يف املعرض‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫صمت رايف لدقيقة‪ ،‬ثم سأهلا بغضب‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬مني اليل بلغك الكالم ده؟‬
‫‪ -‬يارس‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫***‬
‫ﺸﺮ‬

‫«شــكامن» ورضــا يف ســيارة األخــر‬ ‫قبــل الفجــر بنصــف ســاعة حتــرك ُ‬


‫مــن فئــة ‪ ،PEUGEOT‬والتــي خــرج منهــا صــوت األغــاين الشــعبية مدو ًيــا‪،‬‬
‫ﻭ‬

‫كانــا قــد تنــاوال الكثــر مــن حبــوب الرتامــادول‪ ..‬بــدأ ســر العمليــة كــا‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ـهل‪ ،‬تــكاد نســبة خطورتــه تقــرب‬ ‫خطــط لــه اخلواجــة‪ ،‬كان العمــل معــه سـ ً‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫مــن الصفــر‪..‬‬
‫مل يعلــم ُ‬
‫«شــكامن» عــن «اخلواجــة» الكثــر منــذ أن تعرفــا يف بيــت األخــر‬
‫قبــل بضعــة شــهور‪ ،‬حــن ضبطــه اخلواجــة يــرق بيتــه أثنــاء انتظــار رضــا‬
‫لــه يف ســيارته‪ ،‬كان اخلواجــة قــوي الرضبــات رسيــع احلركــة‪ ،‬عــرف كيــف‬
‫«شــكامن» الــذي كان أضخــم منــه بكثــر‪ ..‬أمــره اخلواجــة أن‬ ‫يســيطر عــى ُ‬

‫‪85‬‬
‫يتصــل برضــا كــي يصعــد إىل املنــزل‪ ..‬خالــف اخلواجــة توقعهــا ومل يســلمهام‬
‫للرشطــة‪ ،‬كشــف هلــا عــن رغبتــه يف اســتخدامهام لرسقــة بعــض األماكــن‬
‫التــي يســتطيع اخــراق أنظمتهــا األمنيــة‪ ..‬كانــت هــذه العملية اخلامســة هلم‪.‬‬
‫ظــل اخلواجــة متاب ًعــا ملــا جيــري مــن خــال هاتفــه املحمــول الــذي‬
‫«شــكامن»‪ ،‬وحــن أبلغــه األخــر بانتهائهــا مــن‬ ‫ً‬
‫متصــا هباتــف ُ‬ ‫كان‬
‫رسقــة حمتويــات اخلزينــة‪ ..‬أمــره اخلواجــة بحمــل حقيبــة األمــوال والفــرار‬
‫رسي ًعــا‪ ،‬أخــرج هات ًفــا آخــر ال يمكــن تتبعــه‪ ،‬واتصــل ليبلــغ الرشطــة عــن‬

‫ﻋﺼ‬
‫واقعــة الرسقــة كأنــه أحــد القاطنــن بجــوار رشكــة الكهربــاء‪ ،‬حــن أغلــق‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫اخلــط اخــرق أذنــه صــوت طلقــات ناريــة قــادم مــن هاتــف ُشــكامن‪ ،‬صــاح‬
‫ـتفرسا عــا حــدث‪ ..‬فلــم يتلـ َـق ر ًدا‪.‬‬
‫فيــه مسـ ً‬
‫ﻜﺘ‬
‫بصوت مرجتف‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫بعد دقائق ر َّد شكامن‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬فــرد األمــن الــي واقــف عــى البوابــة التانيــة دخــل يصلــح ُعطــل‬
‫الكهربــا‪ ..‬فشــافنا واحنــا بنهــرب‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫ً‬
‫مشوشــا ختللــه ضجيــج حمــرك الســيارة‪ ..‬ســأله اخلواجــة‬ ‫كان الصــوت‬
‫برسعــة‪:‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬وحصل إيه؟‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫رد شكامن باقتضاب‪:‬‬


‫‪ -‬زي ما سمعت‪ :‬قتلناه‪.‬‬
‫***‬
‫قــاد آدم اخلواجــة دراجتــه الناريــة مــن النــوع فائــق الرسعــة ‪.. Race‬‬
‫تشــبث بــه مــن اخللــف الطبيــب النوبتجــي الــذي كان موجــو ًدا يف طــوارئ‬

‫‪86‬‬
‫إحــدى املستشــفيات اخلاصــة‪ ،‬ذهــب إليــه آدم وأخــره أن أخــاه يعمــل‬
‫موظ ًفــا لألمــن يف رشكــة الكهربــاء وقــد تعــرض لطلــق نــاري أثنــاء مناوبــة‬
‫حراســته وجيــب إســعافه يف احلــال‪ ،‬مل يكلــف الطبيــب «آدم اخلواجــة»‬
‫جهــدً ا يف اإلقنــاع بعــد أن اتفــق معــه عــى األتعــاب؛ ففــرك الطبيــب عينيــه‬
‫الســاهرتني واتبــع «اخلواجــة»‪.‬‬
‫أراد آدم أن يصلــح مــا اقرتفــه رشيــكاه‪ ،‬كان يعلــم أن ســيارة‬
‫اإلســعاف لــن تــأيت يف الوقــت املناســب لنجــدة فــرد األمــن املصــاب؛‬

‫ﻋﺼ‬
‫فارتــدى غطــاء رأس مــن الصــوف أخفــى معظــم مالمــح وجهــه وقــرر‬
‫إنقــاذ موظــف األمــن بنفســه‪ ..‬وصــا إىل رشكــة الكهربــاء قبــل وصــول‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫الرشطــة‪ ،‬طمأنــه الطبيــب عــى حالــة فــرد األمــن الــذي مل يتوقــف جســده‬
‫ﻜﺘ‬
‫املمتلــئ عــن االرجتــاف‪ ،‬كان ســاحه خال ًيــا مــن الرصــاص‪ ،‬أشــفق آدم‬
‫عليــه مــن هــذه املهنــة‪ ...‬طلــب مــن الطبيــب أن يقــوم باإلســعافات‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫األوليــة ووقــف النزيــف حتــى يتــم نقلــه للمستشــفى‪ ..‬أعطــاه آدم‬


‫األتعــاب املتفــق عليــه‪ ،‬وركــب دراجتــه الناريــة دون حديــث إضــايف‪،‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫تــاركًا الطبيــب يف حالــة مــن احلــرة‪.‬‬


‫ﻭ‬

‫أنجــز آدم مهمتــه يف أقــل مــن ســاعة‪ ..‬حــن عــاد إىل شــقته وجــد رســالة‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫«شــكامن» يبلغــه فيهــا بميعــاد اســتالم نصيبــه مــن العمليــة‪ ،‬تعجــب من‬‫مــن ُ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫طريقــة تعاملــه هــو وزميلــه مــع فكــرة قتــل إنســان؛ اهنــال عليهــا بالســباب‬
‫يف رسه‪ ،‬مل يســتطع أن يــرح هلــا بحقيقــة شــعوره جتاههــا؛ فقــد كان‬
‫حيتاجهــا يف الفــرة القادمــة‪.‬‬
‫فتــح حاســبه املحمــول ليطالــع آخــر مــا اســتجد عــى موقــع ‪Dark‬‬
‫‪ Egypt‬الــذي يعمــل عليــه خمرت ًقــا باألجــرة‪ ..‬كان ينفــق مــا جينيــه مــن‬

‫‪87‬‬
‫العمــات اإللكرتونيــة بــيء مــن الســفه؛ إمــا يشــري هبــا برامــج اخــراق‬
‫جديــدة‪ ،‬أو يســافر إىل أي مــكان خيطــر عــى بالــه‪ ،‬أو يعطيهــا ألي حمتــاج‬
‫بشــكل عشــوائي‪.‬‬
‫مل يتمـ َن أن يعمــل مــع أحــد مثلــا متنــى العمــل مــع الكونــت؛ أعجبتــه‬
‫آن آلخــر عــن رضورة وجــود الــر‪ ،‬وأمهيــة‬ ‫أفــكاره التــي كان ينرشهــا مــن ٍ‬
‫وجــود معــادل لــكل يشء يف الكــون حتــى تســتمر احليــاة بشــكل متــزن‪..‬‬
‫حتــى وإن كان هــذا املعــادل غــر أخالقــي‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫أرســل لــه الكثــر مــن الرســائل يرجــوه أن يشــاركه بعــض األعــال‪،‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫وأنــه متنــازل عــن أجــره فيهــا‪ ،‬أخــره أنــه قــد توقــف عــن اإلعجــاب‬
‫بالتفكــر األناركــي بعــد أن اقتنــع بنظريــة الكونــت عــن أمهيــة النظــام‬
‫ﻜﺘ‬
‫الــذي يتــم التحكــم بــكل عنــارصه‪ ،‬حتــى يف طريقــة اخلــروج عنــه‪ ..‬لكنــه‬
‫مل يتلــق ر ًدا‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫فوجــئ هــذه املــرة برســالة مــن الكونــت‪ ..‬خفــق قلبــه بعنــف أثنــاء‬
‫حتميــل الرســالة‪ ..‬كانــت الرســالة مقتضبــة‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬فيــه هاكــر بعــت يل رســالة إنــه كشــفني‪ ..‬أنــا حمتاجــك معايــا‪ ،‬ألين‬
‫ﻭ‬

‫مــش قــادر أوصــل للهاكــر الــي كان بيحمينــي‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫رد آدم مرح ًبــا بالفكــرة‪ ،‬أخــره بعنــوان بيتــه‪ ..‬فــرب الكونــت موعــد‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫اللقــاء‪ ،‬اختتــم الكونــت رســالته بلهجــة مل ختـ ُـل مــن هتديــد‪:‬‬


‫‪ -‬بــس قبــل مــا أســلمك رقبتــي‪ ،‬الزم أعــرف عنــك كل حاجــة‪ ..‬أنــا‬
‫معــادش عنــدي حاجــة أخرسهــا غــر رسي‪ ،‬فلــو طلعتــه بــرة أو فشــلت يف‬
‫محايتــي هقتلــك‪.‬‬
‫***‬

‫‪88‬‬
‫بالــكاد وافقــت غــرام عــى اقــراح يــارس باخلــروج للتمشــية يف حميــط‬
‫البيــت بغــرض التعـ ُّـرف عــى منطقــة «حمطــة الرمــل» أكثــر‪ ..‬مل تكــن مرتاحة‬
‫لفكــرة تــرك مليكــة بمفردهــا‪ ،‬وبالطبــع مل متثــل ســلوى هلــا اخليــار األمثــل‬
‫لرعايــة ابنتهــا‪ ..‬وعدهــا يــارس بجولــة قصــرة أمــام البحــر‪ ،‬والعــودة إىل‬
‫البيــت قبــل أن تســتيقظ ابنتهــا‪.‬‬
‫أعطــت غــرام ظهرهــا للبحــر‪ ،‬جلســت بجــوار يــارس مســندة رأســها‬
‫عــى كتفــه‪ ..‬وعدهــا أال تتحكــم ســلوى يف حياهتــا ثانيـ ًة‪ ،‬اعتــذر هلــا كثـ ً‬
‫ـرا‬

‫ﻋﺼ‬
‫عــا بــدر منــه‪ ..‬كانــت طفلــة ن ُِف َخــت روحهــا يف جســد امــرأة مكتملــة‬
‫األنوثــة‪ ،‬فتجــاوزت عــن املوقــف وقبلــت اعتــذاره رسي ًعــا‪ ،‬أرست لــه‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بإعجاهبــا بمنطقــة «الرمــل»‪ ،‬وبارتياحهــا بســبب اخلــاص مــن إجيــار‬
‫ﻜﺘ‬
‫الشــقة القديمــة‪ ،‬ومســاحة الشــقة اجلديــدة‪..‬‬
‫نظــر يــارس يف عينيهــا الزرقاوتــن كعينــي مليكتهــا‪ ،‬مل يكتـ ِ‬
‫ـف مــن النظــر‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫إليهــا يو ًمــا‪ ،‬وضــع يــده عــى كتفهــا يف صمــت‪ ،‬أحــاط يدهيــا بكفيــه ملثـ ًـا‬
‫ليبــث الــدفء يف روحهــا‪ ..‬التقطــت آذاهنــا صــوت «أم كلثــوم» الصــادر‬
‫ﺸﺮ‬

‫عــن عربــة تبيــع «محــص الشــام» بجوارمهــا‪ .‬استســلم كالمهــا للحــن «ألــف‬
‫ليلــة وليلــة»‪ ،‬انتظــر يــارس مــن غــرام أن تــرح لــه بموضــوع محلهــا‪ ،‬طــال‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫انتظــاره دون أن جيــد مــا يقــول‪ ،‬ســأهلا عـ َّـا إذا كانــت ســلوى قــد ضايقتهــا‪..‬‬
‫فهــزت رأســها نفيــا‪ ،‬وأخربتــه أهنــا ســمعتها اليــوم جتــادل زوجهــا بصـ ٍ‬
‫ـوت‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ً‬
‫قائــا بصــوتٍ‬ ‫كثــرا‪ ..‬ر َّد بنصــف وعــي ً‬ ‫ٍ‬
‫عــال؛ ويبــدو أهنــا أغضبتــه‬
‫ً‬
‫خفيــض‪:‬‬
‫‪ -‬يا ريت كل الناس زيك‪..‬‬
‫شــعر أن لدهيــا مــا تقــول غــر موضــوع احلمــل‪ ،‬حــاول تنــايس األمــر‬
‫وبــدأ يشــر هلــا عــى اجلانــب املقابــل للبحــر متحد ًثــا عــن أهــم معــامل املنطقــة؛‬

‫‪89‬‬
‫كمحطــة الــرام‪ ،‬وميــدان ســعد زغلــول‪ ،‬وجامــع القائــد إبراهيــم ومبنــى‬
‫القنصليــة اإليطاليــة‪ ..‬أخربتــه غــرام أن أي شــخص يعــرف هــذه األماكــن‬
‫حتــى وإن كان غري ًبــا عــن البلــد‪ ،‬فأضــاف هلــا بعــض املعلومــات التــي‬
‫قصهــا عليــه رفيقــه اجلديــد «احلاج صالح»‪ .‬هـ َّـزت رأســها يف رشود دون أن‬
‫ـرا ملــا يقــول‪ ..‬بــرر هلــا موقفــه ممــا فعلتــه ســلوى‪ ،‬أخربهــا بإمكانيــة‬
‫تنتبــه كثـ ً‬
‫رفــض عرضهــا والبحــث عــن بيــت جديــد يف أقــرب فرصــة‪ ،‬لكنــه فكــر يف‬
‫كالم أختــه ووجــد فيــه الكثــر مــن الصــواب‪ ،‬وأنــه كان يفكــر منــذ فــرة يف‬

‫ﻋﺼ‬
‫املطالبــة بمرياثــه مــن أبيــه املتغيــب‪ ،‬لكــن ســلوى أخــذت املبــادرة‪ ..‬جتنبــت‬
‫غــرام احلديــث عــن ماضيــه‪ ،‬فســألته قائلـ ًة‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬فاكر أول مرة اتقابلنا فيها؟‬
‫ﻜﺘ‬
‫بــدا عــى يــارس االرتيــاح لتغيــر املوضــوع‪ ،‬اعتــدل يف جلســته وقــال‬
‫ٍ‬
‫بصــوت منخفــض‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬أكيــد فاكــر‪ ..‬كنــت يف بدايــة بعثتــي ألمريــكا‪ ،‬قابلتــك يف اجلامعــة‬


‫هنــاك‪ ،‬وعرفتــك بحكــم اللغــة والثقافــة املشــركة‪ ،‬وشــلة العــرب‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫ٍ‬
‫بصــوت مكتــوم‪،‬‬ ‫تناســى يــارس أهنــا يف الشــارع‪ ،‬فلثــم كــف يدهــا‬
‫وضــع كفهــا فــوق وجنتــه‪ ،‬أرجــع خصــات شــعرها اجلانبيــة خلــف أذهنــا‪،‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫نظــر مبــارش ًة يف عينيهــا‪ ،‬وقــال‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ـت الوحيــدة الــي فضلــت معايــا ملــا عرفــت إين مدمــن كحــول‪..‬‬ ‫‪ -‬أنـ ِ‬
‫كنتــي بتيجــي معايــا جلســات التعــايف حلــد مــا وقفــت عــى رجليــا‪،‬‬
‫وســاعدتيني يف الدراســة عشــان أعــوض الــي فاتنــي‪..‬‬
‫ٍ‬
‫بصوت منخفض‪:‬‬ ‫سألته غرام‬
‫‪ -‬فاكر ملا اتقدمت يل يف حفلة توديع اجلالية العربية لينا؟‬

‫‪90‬‬
‫أومأ برأسه إجيا ًبا‪ ،‬وأكمل روايتها ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪ -‬بعدهــا بــكام شــهر رجعنــا مــر‪ ،‬ومعانــا أحــى حاجــة يف الدنيــا‪:‬‬
‫مليكــة‪.‬‬
‫أكمل حديثه ضاحكًا‪:‬‬
‫‪ -‬شوفتي أنا مذاكر ازاي‪ ..‬حتبي أقول لك التواريخ؟‬
‫فاجأته غرام بسؤاهلا‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬يارس اوعى تكون انتكست ورشبت تاين بعد ما اجتوزنا؟‬
‫ر َّد يارس باستنكار‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬مستحيل طب ًعا‪..‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫ضمها إليه بعد صمت طويل‪ ،‬قال بلهجة مل ُ‬
‫ختل من حنان‪:‬‬
‫‪ -‬عشان بقى يف حيايت شخصني أهم من أي يشء تاين‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ابتســمت غــرام ابتســامة خافتــة‪ ،‬ومهســت يف أذنــه قائلــة أن حياتــه‬


‫أصبــح فيهــا ثالثــة أشــخاص مهمــن وليســا شــخصني‪ ..‬ز َّيــف عــدم‬
‫ﺸﺮ‬

‫الفهــم‪ ..‬فأبلغتــه بحملهــا‪ ..‬اســتمر يف متثيلــه مبد ًيــا اندهاشــه‪ ،‬طلــب منهــا‬
‫ﻭ‬

‫«أخــرا هأبقــى‬
‫ً‬ ‫مازحــا مجلــة األفــام الشــهرية‪:‬‬‫أال ختــر ســلوى‪ ،‬قــال ً‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ً‬
‫طويــا حتــى ق َّبــل يــارس رأســها‪.‬‬ ‫أب!»‪ ..‬ضحــكا‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫كانــت هــذه مــن املــرات القليلــة التــي تطلــب فيهــا غــرام مــن زوجهــا‬
‫أن يبتــاع هلــا طعا ًمــا مــن خــارج البيــت‪ ..‬وافــق يــارس عــى الفــور‪ ،‬أنزهلــا‬
‫ـم أن يفكــر فيــا ســيأكالن‪...‬‬
‫مــن جملســها ممس ـكًا خرصهــا‪ ،‬هـ َّ‬
‫‪ -‬باشا باشا‪ُ ..‬فل يا باشا؟‬

‫‪91‬‬
‫فوجــئ يــارس ببائعــة ُفــل مخســينية‪ ،‬ذات قــوام عريــض مــيء بالشــحوم‪،‬‬
‫ترتــدي نعـ ًـا بال ًيــا تــرز منــه أظافــر متســخة‪ ،‬انبثــت منهــا رائحــة خبيثــة‪،‬‬
‫تــرك الزمــن عــى وجههــا الكثــر مــن العالمــات وآثــار اجلــروح‪ ،‬ربطــت‬
‫ســاعدها بقطعــة مــن الشــاش األبيــض‪ ،‬و ُل ِّط َخــت أظافرهــا بالطــن‪..‬‬
‫دعــا هلــا يــارس أن يسـ ِّـهل اهلل هلــا‪ ..‬اســتمر إحلــاح البائعــة مــع ادعــاء املــرض‬
‫والكثــر مــن الدعــوات هلــا أن يتزوجــا‪ ..‬أخربهتــا غــرام باقتضــاب أهنــم‬
‫متزوجــان بالفعــل‪ ..‬فراحــت تدعــي هلــا بالذريــة‪ ،‬اســتمر إحلاحهــا ثقيــل‬

‫ﻋﺼ‬
‫الظــل‪ ،‬حتــى ســألت يــارس بصــوت عـ ٍ‬
‫ـال أن يدفــع هلــا ثمــن ال ُفــل لترتكــه‪..‬‬
‫واضحــا‪ ..‬فقد يــارس أعصابه‬ ‫ً‬ ‫ـمئزازا‬
‫أمســكت بــذراع غــرام التــي أبــدت اشـ ً‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ودفعهــا بعيــدً ا‪ ،‬صــاح فيهــا بغضــب وقــد أطلــق العنــان للســانه الــذي جلمه‬
‫ﻜﺘ‬
‫لفــرة طويلــة‪ ،‬مل تعــرف غــرام أن قامــوس يــارس مــن الشــتائم كبــر إىل هــذا‬
‫احلــد‪ ..‬مل تــدرك أن لزوجهــا جان ًبــا مظلـ ًـا حيــاول الفــرار منــه‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫***‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪92‬‬
‫‪ -6‬بداية الغيث‬

‫ﻋﺼ‬
‫اقتــاد الكونــت ضحيتــه اجلديــدة «داليــا القــايض» داخــل مقــره عــى‬
‫كــريس متحــرك‪ ،‬معصوبــة العينــن فاقــدة للوعــي كــا طلــب مــن خاطفهــا‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ـخصا خمتل ًفــا‬
‫الــذي اســتأجره مــن موقــع ‪ ..Dark Egypt‬اعتــاد أن خيتــار شـ ً‬
‫ﻜﺘ‬
‫يف كل عمليــة خطــف‪ ،‬طلــب مــن املختطــف ‪-‬ككل مــرة‪ -‬أن خيدرهــا‪،‬‬
‫ويقابلــه عــى جانــب منعــزل مــن الطريــق الصحــراوي‪ ،‬فيضــع داليــا يف‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫املقعــد اخللفــي يف ســيارته الرياضيــة ذات الزجــاج املعتــم‪ ..‬كان يقبــض عىل‬
‫ســاحه الشــخيص أثنــاء عمليــة التبــادل حتسـ ًبا ألي حماولــة مــن املختطــف‬
‫ﺸﺮ‬

‫ملعرفــة هويتــه احلقيقيــة‪ ..‬لكــن الرجــل كان حمرت ًفــا ورحــل رسي ًعــا دون أن‬
‫حيــاول رؤيــة وجــه الكونــت‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أنــزل الكونــت ضحيتــه اجلديــدة إىل الطابــق حتــت األريض بصعوبــة‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫شــديدة‪ ..‬كانــت عــى قــدر كبــر مــن اجلــال‪ ،‬ذات بــرة مخريــة وأنــف‬
‫مســتقيم‪ ،‬كان عــى علــم بطبيعــة عملهــا كســكرترية يف الرشكة التــي أجرته؛‬
‫فلــم يتفاجــأ مــن اعتنائهــا بمظهرهــا اخلارجــي‪ ..‬ارتــدت ز ًيــا رســم ًيا مــن‬
‫اللونــن األبيــض واألســود متعمــد ًة أن تــرز منحنيــات قوامهــا املمشــوق‬
‫ذي البــرة الناعمــة‪ ،‬كانــت يف نفــس طولــه تقري ًبــا‪ ،‬يتخلــل شــعرها ال ُبنــي‬

‫‪93‬‬
‫القصــر املصفــف بعنايــة بعــض اخلصــات املصبوغــة بدرجــة أفتــح مــن‬
‫نفــس اللــون‪.‬‬
‫عــدَّ ل مــن وضــع بذلتــه الســوداء الرســمية‪ ..‬أدخــل داليــا يف حجــرة‬
‫التعذيــب اخلاصــة بضحايــاه‪ ،‬تركهــا يف الداخــل وذهــب ليتفقــد احلجرتــن‬
‫الثانيتــن؛ احلجــرة البيضــاء وحجــرة التجــارب‪.‬‬
‫عــاد إىل حجــرة التعذيــب التــي أعدهــا منــذ أيــام الســتقبال داليــا‪ ،‬كانت‬
‫احلجــرة شــبه خاليــة إال مــن مقعــد وثــر كبــر احلجــم وبعــض مــن األصفاد‬

‫ﻋﺼ‬
‫وإنــاء بالســتيكي ضخــم ممتلــئ باملاء‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫قيــد الكونــت «داليــا» باملقعــد راف ًعــا رأســها ألعــى‪ ،‬بحيــث ال تــرى‬
‫أمامهــا مــن احلجــرة إال ســقفها‪ ،‬ق َّيــد رقبتهــا بإحــكام يف وضــع يــرك هلــا‬
‫ﻜﺘ‬
‫حريــة التنفــس لكنــه جيربهــا عــى عــدم حتريــك رأســها عــن هــذا الوضــع‪..‬‬
‫ث َّبــت اإلنــاء املمتلــئ باملــاء فــوق رأســها بحــوايل مــر‪ ،‬عــى حامــل موضــوع‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫أمامهــا‪ ،‬ثــم ثقــب اإلنــاء بحــرص مســتخد ًما مســار صغــر‪.‬‬


‫ضبــط الكونــت مــن وضــع اإلنــاء فــوق احلامــل؛ بحيــث تتســاقط‬
‫ﺸﺮ‬

‫قطــرات املــاء مــن الثقــب فــوق جبهــة داليــا مبــارشة يف نفــس املوضــع‪..‬‬
‫ﻭ‬

‫تأمــل اخلطــوط املرســومة بالطباشــر عــى األرض‪ ،‬كان قــد رســمها‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أثنــاء جتهيــزه للحجــرة قبــل وصــول داليــا‪ ،‬حــن جلــس مكاهنــا ورفــع‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ناظــرا إىل أعــى يف نفــس وضعهــا احلــايل؛ فعــرف البقــع العميــاء‬


‫ً‬ ‫رأســه‬
‫يف مســتوى برصهــا والتــي ســتجعلها عاجــزة عــن رؤيــة وجهــه‪ ..‬وخــط‬
‫لنفســه حــدو ًدا ال يتعداهــا حــن تســتيقظ داليــا‪.‬‬
‫اقــرب منهــا مــا ًدا يــده نحــو أنفهــا بمنديــل مبلــل بالعطــر‪ ..‬اســتغرق‬
‫األمــر حــوايل دقيقــة حتــى اســتيقظت داليــا‪ ،‬كانــت ســاكنة متا ًمــا مل تــدرك‬

‫‪94‬‬
‫مــا الــذي حيــدث مــن حوهلــا‪ ،‬حركــت عينيهــا الواســعتني بنيتــي اللــون يف‬
‫مجيــع االجتاهــات‪ ،‬ابتعــد الكونــت عنهــا حتــى التــزم باحلــدود التــي رســمها‬
‫لنفســه‪ ،‬وقــال ضاح ـكًا‪:‬‬
‫‪ -‬مبدئ ًيــا بأعتــذر لــك إين ماجيتــش أخطفــك مــن البيــت بنفــي‬
‫وأجــرت لــك واحــد خمصــوص‪ ..‬بــس لــو عرفتِــي خــد منــي كام‬
‫هتســاحميني‪ ..‬وســاحميني إين فتشــت شــنطتك‪ ،‬بــس االحتيــاط واجــب‪.‬‬
‫استنشق املنديل املعطر‪ ،‬وأكمل حديثه ضاحكًا‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬ذوقك حلو يف العطور‪ Chanel ..‬مرة واحدة!‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫مل تــرد داليــا‪ ،‬كانــت قــد بــدأت تســرد وعيهــا‪ ..‬أكمــل الكونــت حديثــه‬
‫بنفــس اهلــدوء‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬األســبوع الــي فــات كان صعــب عليــا‪ ،‬وكنــت هأعتــذر عــن مهمــة‬
‫تعذيبــك‪ ..‬بــس لألســف أنــا حمتــاج أعمــل ده‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مل خيربهــا أن شــهوة الســيطرة لديــه تبلــغ ذروهتــا حــن يشــعر بانســحاب‬
‫ﺸﺮ‬

‫بســاط التحكــم مــن حتــت قدميــه‪ ..‬بــدأت تــدرك املوقــف فرصخــت مطلقة‬
‫صيحــات االســتغاثة‪ ..‬أخربهــا بصــدق عــن التجهيــزات التــي زود هبا هذه‬
‫ﻭ‬

‫احلجــرة لتمنــع الصــوت‪ ،‬عــاو ًة عــى انعــزال الطابــق بأكملــه؛ حتــى ال‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ـارحا حالتــه بصــدق‪،‬‬


‫تبــدد جمهودهــا فيــا ال طائــل منــه‪ ..‬أكمــل حديثــه شـ ً‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫أخربهــا أنــه لــو توقــف عــا يفعلــه لفــرة معينــة فــإن القلــق يصيبــه‪ ،‬ويفقــد‬
‫تركيــزه‪ ،‬أخربهــا أنــه حيــب أن يــرى األمل بعينيــه‪ ،‬فهــذه هوايتــه األعظــم‪..‬‬
‫أكمــل حديثــه هبــدوء‪:‬‬
‫‪ -‬بــس أنــا أشــطر منــك؛ عــى األقــل ِّ‬
‫حولــت هوايتــي لشــغل‪ ،‬مــا‬
‫طلعتــش موظــف زيــك‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫نعتتــه داليــا بالســادي‪ ..‬ر َّد عليهــا بنفــس هدوئــه أن مــا يفعلــه أعظــم‬
‫ـرا مــن املفهــوم الضيــق عــن الســادية‪ ،‬قــال هلــا هبــدوء‪:‬‬‫كثـ ً‬
‫‪ -‬ماختافيــش يــا آنســة داليــا‪ ..‬أنــا متعاطــف جــدً ا مــع قضيتــك ‪،‬‬
‫بــس الســؤال هنــا‪ :‬هــل تعاطفــي ده هيفيــدك‪ ،‬وهــل لــو أنــا ســيبتك مهــا‬
‫هيســيبوكي؟‬
‫مل يبــدُ عــى داليــا انزعاجهــا مــن قطــرات املــاء املتســاقطة فــوق جبهتهــا‪،‬‬
‫طلبــت مــن الكونــت أن يــأيت بأقســى مــا لديــه مــن طــرق التعذيــب‪..‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ضحــك الكونــت وأكمــل حديثــه مســتعيدً ا فحــوى الرســالة التــي وصلتــه‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫منــذ أيــام عــى حســابه باإلنرتنــت املظلــم‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬مزعلــة الرشكــة الــي بتشــتغيل فيهــا ليــه يــا داليــا؟ ده أكل عيشــك يــا‬
‫مامــا‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مل تــرد األخــرة‪ ،‬اكتفــت بصمــت طويــل‪ ..‬أغمضــت عينيهــا كأهنــا يف‬
‫كابــوس تريــد اخلــروج منــه بــأي ثمــن‪ ..‬أردف الكونــت قائـ ًـا‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬بيقولــوا إنــك رسقتــي ملفــات مهمــة وخمبياهــا‪ ..‬مخنــت إهنــم دوروا‬


‫يف بيتــك ويف كل مــكان ممكــن تروحيــه‪ ،‬وملــا يئســوا كلمــوين قبــل مــا‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫تــرف تندمــي عليــه‪.‬‬


‫تتهــوري وتعمــي ُّ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫بدا له أن جدران صمودها مل تتحطم بعد‪ ،‬قالت بثقة‪:‬‬


‫‪ -‬أنــا لــو جــرى يل حاجــة امللفــات دي هتبقــى يف كل حتــة وهافضــح‬
‫الرشكــة الــي مشــغالك‪.‬‬
‫ناهرا‪:‬‬
‫ر َّد الكونت ً‬
‫‪ -‬أنــا ماحــدش مشــغلني‪ ،‬أنــا الــي بختــار شــغيل بنفــي‪ ..‬وملفــات‬

‫‪96‬‬
‫بالرسيــة دي مســتحيل تآمنــي حلــد عليهــا؛ شــخصية زيــك مســتحيل تثــق‬
‫يف حــد‪.‬‬
‫قالت بلهجة مل ُ‬
‫ختل من خنوع‪:‬‬
‫‪ -‬أنــت لــو عرفــت امللفــات دي إيــه هاتســاعدين أعــرف بيهــا كل‬
‫النــاس‪...‬‬
‫قاطعها الكونت هبدوء‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬الرشكــة الــي «مشــغالكي» أكــر رشكــة حلــوم واســترياد معلبــات يف‬
‫مــر‪ ..‬أكيــد معاكــي ورق يثبــت إهنــم بيدفعــوا رشــوة عشــان اجلــارك‪،‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫وتقاريــر وزارة الصحــة‪ ..‬وأكيــد معاكــي صــور مــن قلــب غرفــة التصنيــع؛‬
‫ﻜﺘ‬
‫تالقيــه مــكان قــذر مليــان فــران‪ ،‬وال ُع َّــال مــش واخديــن احتياطــات‬
‫النضافــة‪ ..‬ده غــر احليوانــات املريضــة الــي بترتمــي يف املكــن بدمهــا‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫وحاجــة تقــرف‪.‬‬
‫أكمل حديثه بصدق‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬بــس هاتعمــي إيــه يعنــي؟ مهــا بيشــتغلوا كــده وناجحــن‪ ..‬خــاص‪:‬‬


‫دعــه يعمــل دعــه يمــر‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫بــدأت عالمــات االنزعــاج مــن قطــرات امليــاه تبــدو عــى مالمــح داليــا‪،‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫فأكمــل الكونــت حمـ ً‬


‫ـاول إقناعهــا‪:‬‬
‫أنت فاكرة لو فضحتيهم بامللفات دي حد هاهيتم؟‬ ‫‪ِ -‬‬
‫ملوحا بيديه يف هلجة مرسحية‪:‬‬
‫ً‬ ‫أكمل حديثه‬
‫‪ -‬هاخيَرجــوا للنــاس يف الربامــج الــي بريعوهــا بفلوســهم‪ ،‬وهاينفــوا‬
‫كل كالمــك‪ ،‬والنــاس هتصــدق‪ ..‬هيصدقــوا عشــان مهــا عايزيــن يصدقــوا؛‬

‫‪97‬‬
‫مــش عايزيــن حــد يقــول هلــم إن الــي بياكلــوه ده مليــان أمــراض‪ ..‬النــاس‬
‫عايــزة الــي يطمنهــم‪ ،‬حتــى لــو كــداب‪ ،‬وحتــى لــو مهــا عارفــن إنه كــداب‪.‬‬
‫بــدأ األمل يظهــر عــى وجــه داليــا؛ راحــت تعــض عــى شــفتيها وحتــرك‬
‫جانــب فمهــا وعينهــا اليــرى يف لزمــة عصبيــة خرجــت دون إرادهتــا‪..‬‬
‫توجــه الكونــت نحــو بــاب احلجــرة‪ ،‬أخربهــا أنــه ســيعود بعــد ســاعتني‬ ‫َّ‬
‫ليحصــل عــى إجابــات ترضيــه‪ ،‬أشــار برأســه نحــو إنــاء املــاء‪ ،‬أخربهــا‬
‫أن الصخــرة مهــا بــدت صلبــة إال أن قطــرات املــاء الصغــرة قــادرة عــى‬

‫ﻋﺼ‬
‫تفتيتهــا‪ ..‬مل تــرد داليــا‪ ،‬واســتمرت يف تظاهرهــا باجللــد‪ ..‬تبدلــت مالمــح‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫وجهــه فجــأة‪ ،‬ورفــع صوتــه قائـ ًـا بلهجــة قاســية‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬فوقــي لنفســك يــا داليــا‪ ..‬انتــي جمــرد ســكرترية متعينــة بقالــك كام‬
‫ســنة يف قطــاع خــاص مابريمحــش‪ ،‬مرحلــة العرشينــات الــي فرحانــة بيهــا‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫دي هتعــدي هــوا‪ ،‬وهاتكتشــفي إنــك تــور بيجــر ســاقية مافيهــاش ميــة!‬
‫كاد أن يغادر لكنه التفت هلا وقال مستدركًا‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬وماتعمليــش عليــا دور الرشيفــة‪ ..‬ألن أكيــد وراكــي منافــس عايــز‬


‫يوقــع الرشكــة دي‪ ،‬هــو الــي حاميكــي وبيقبضــك فلــوس تشــري بيهــا‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫«بريفيــوم» متنــه أكــر مــن مرتبــك!‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫***‬
‫مل يتوقع آدم أن يستقبل أي رسائل من «فريوز»‪..‬‬
‫كانــت هــذه املفاجــأة الثانيــة لــه بعــد رســالة الكونــت‪ ،‬كان خطــاب‬
‫فــروز ورق ًيــا مرسـ ًـا عــن طريــق الربيــد بتاريــخ مــر عليــه أكثــر مــن ثالثــة‬
‫أســابيع‪ ..‬جلــس يف غرفــة معيشــته مقر ًبــا وجهــه مــن الــورق الــذي مل خيـ ُـل‬

‫‪98‬‬
‫ـس ملســة يدهــا وشــفتيها‪ ..‬بــدأ‬
‫مــن رائحــة فــروز‪ ،‬مل ينســها قــط؛ كــا مل ينـ َ‬
‫يقــرأ فحــوى اخلطــاب بعينــن متســعتني‪:‬‬
‫« آدم الذي مل أظلم أحدً ا مثلام ظلمته‪..‬‬
‫ال أعــرف مــا الــذي متنيتــه يل حــن أبلغتــك قــراري بقبــول الــزواج مــن‬
‫«رمــزي» والســفر معــه إىل إيطاليــا؛ بِنــا ًء عــى نصيحــة «أبونــا»‪..‬‬
‫فــإذا متنيــت أن أنــدم عــى مــا اقرتفــت‪ ،‬فاعلــم أن أمنيتــك قــد حتققــت‪،‬‬
‫وال ألومــك عــى ذلــك‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ـت حقيقــة مــا اقرتفتــه يف حــق نفــي‬
‫بعــد فــرة قصــرة مــن الســفر أدركـ ُ‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ويف حقــك‪ ،‬اكتشــفت أن رمــزي ليــس ذلــك الناســك امللتــزم احلريــص‬
‫عــى زيــارة الكنيســة يف اإلجــازات بح ًثــا عــن رفيقــة عمــر تشــبهه‪ ..‬تركتــك‬
‫ﻜﺘ‬
‫يــا آدم بســبب خطايــاك‪ ،‬ألرمتــي يف أحضــان إبليــس ذاتــه‪.‬‬
‫مل َأر مــع «رمــزي» يو ًمــا حسـنًا‪ ،‬مل أجــد منــه إال كل قســوة وعنــف‪ ،‬حتى‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ـارا يف العمــل ويســهر طيلة‬


‫بعــد إنجــايب مل أســلم مــن لســانه ويــده‪ ،‬يغيــب هنـ ً‬
‫صباحــا‪ ..‬وهكذا‪.‬‬ ‫الليــل يبــدد مــا جنــاه‬
‫ﺸﺮ‬

‫ً‬
‫بــاع الكثــر مــن ممتلــكات الشــقة ومــن الذهــب الــذي اشــراين بــه قبــل‬
‫ﻭ‬

‫الزفــاف‪ ..‬مل يكــن ليامنــع أن يبيعنــي إن وجــد يل ثمنًــا‪ ،‬ولنفســه خادمــة‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫مطيعــة غــري‪.‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫حتملــت منــه الكثــر ألجــل طفلنــا الــذي أصبــح َشــعر ًة رفيعــة تربطنــي‬
‫بــه؛ فأرخيهــا حينًــا وأشــدها حينًــا كــي ال تنقطــع‪ .‬حتــى ضــاق صــدري‬
‫بأفعالــه‪ ،‬فأنذرتــه بإبــاغ أهــي يف مــر أو باالتصــال بأحــد أفــراد اجلاليــة‬
‫القبطيــة‪ ،‬هــددين بتغيــر عنــوان املنــزل وحبســني بداخلــه‪ ..‬بعــد أن أخــذ‬
‫هاتفــي املحمــول مسـ ً‬
‫ـتغل جهــي باللغــة‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫تركــت هــذا املظــروف مــع جــاريت التــي مل أفهــم معظــم حديثهــا‪،‬‬
‫وطلبــت منهــا بصعوبــة أن ترســله إىل عنوانــك يف مــر‪ ..‬قبــل أن ينقلنــي‬
‫رمــزي مــن جوارهــا‪.‬‬
‫ســتجد مــع اخلطــاب بعــض البيانــات عــن رمــزي‪ ..‬أعــرف أنــك جتيــد‬
‫التعامــل مــع احلواســب‪ ،‬فأرجــو أن تنســى مــا ارتكبتــه يف حقــك‪ ،‬وحتــاول‬
‫الوصــول إىل مــكاين يف أرسع وقــت ممكــن‪ ،‬ال أريــد منــك إال مســاعديت‬
‫عــى العــودة إىل مــر‪»...‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫منعكســا خلفــه مبــارش ًة مــن‬
‫ً‬ ‫مل يكمــل آدم الرســالة‪ ،‬فقــد ملــح ً‬
‫ظــا‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫خــال شاشــة التلفزيــون املنطفئــة أمامــه‪ ..‬انبطــح آدم عــى األرض يف‬
‫ﻜﺘ‬
‫نفــس اللحظــة التــي أصابــت رصاصــة هــذا املجهــول شاشــة التلفزيــون‪،‬‬
‫لــو تأخــر ثانيتــن كانــت ســتصيبه الرصاصــة يف منتصــف رأســه‪ ..‬حتــرك‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مخــن أنــه‬
‫آدم برسعــة جنونيــة متفاد ًيــا أكثــر مــن طلقــة مكتومــة الصــوت‪َّ ،‬‬
‫قاتــل حمــرف فتجنَّــب االشــتباك املبــارش معــه‪ ،‬اســتغل الثــواين التــي قــام‬
‫ﺸﺮ‬

‫فيهــا هــذا املأجــور بتغيــر خزينــة مسدســه ودفعــه بعنــف مــن أمــام بــاب‬
‫راكضــا نحــو بــاب الشــقة‪ ..‬أثنــاء فــرار «آدم اخلواجــة» مــن‬‫غرفــة املعيشــة ً‬
‫ﻭ‬

‫بيتــه تعثــر يف متثــال معــدين خيــص أبــاه املتــويف؛ كان عبــارة عــن جتســيد‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ألنبــا ال يذكــر اســمه يرتــدي يف رقبتــه صلي ًبــا معدن ًيــا ثقيــل الــوزن‪ ،‬ســقط‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫الصليــب ً‬
‫أرضــا بعــد ارتطــام آدم بــه‪.‬‬
‫تغ َّلــب آدم عــى أوجاعــه‪ ،‬ومحــل التمثــال‪ ،‬ألقــاه جتــاه هــذا املأجــور‬
‫الــذي صـ َّـوب ســاحه جتــاه آدم‪ ،‬نجــح التمثــال يف إعاقــة القاتــل املأجــور‬
‫الــذي صــدرت عنــه رصخــة أمل‪ ،‬فخابــت رصاصتــه مشــتت ًة عــن هدفهــا‪،‬‬
‫التقــط آدم الصليــب املعــدين مــن األرض‪ ،‬وخــرج مــن الشــقة مرس ًعــا‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫ـاول اللحــاق بــه‪ ..‬وقف أمام الســلم‬ ‫حلــق بــه القاتــل املأجــور برسعــة حمـ ً‬
‫ـادرا العقــار‪ ،‬أم َّفر إىل الســطح‪.‬‬
‫يف حــرة؛ ال يــدري هــل هبــط آدم مغـ ً‬
‫مل جيــد أي أثــر آلدم‪ ..‬مل يعــرف مــكان اختفائــه إال بعــد أن تلقــى رضبــة‬
‫قويــة فــوق رأســه بالصليــب املعــدين أفقدتــه التــوازن‪ ،‬فهــم متأخـ ًـرا أن آدم‬
‫ـتغل اندفــاع املأجــور بح ًثــا‬
‫ز َّيــف هروبــه واختبــأ بجــوار بــاب الشــقة مسـ ً‬
‫عنــه‪ ،‬حــاول القاتــل أن يصــوب مسدســه جتــاه رأس آدم لكــن األخــر كان‬
‫أيضــا؛ فعــاود رضبــه عــى رأســه بالصليــب مهشـ ًـا وجهــه‪.‬‬ ‫أرسع هــذه املــرة ً‬

‫ﻋﺼ‬
‫حتســس آدم رقبــة املأجــور بح ًثــا عــن أي نبــض‪ ،‬فلــم جيــد إال ســكونًا‪..‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫جثــا عــى ركبتيــه بجــواره؛ عــاري اجلــذع حــايف القدمــن‪ ،‬نجح يف الســيطرة‬
‫عــى انتفاضــة قلبــه‪ ،‬حتــى بــدأ يف التقــاط أنفاســه‪ ،‬وحــاول أن يســتوعب‬
‫ﻜﺘ‬
‫املوقــف‪ ،‬والتفكــر فيمــن يريــد اخلــاص منــه‪.‬‬
‫***‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬ماعــادش فيــه ضمــر يف أي حاجــة يــا آنســة داليــا‪ ..‬حتــى التعذيــب‬


‫بقــى صينــي‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫هكــذا افتتــح الكونــت حديثــه مــع داليــا التــي تبــدل حاهلــا متا ًمــا‬
‫ﻭ‬

‫عــا كانــت عليــه منــذ ســاعتني‪ ،‬كانــت قــد دخلــت يف نوبــة مــن البــكاء‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫اهلســتريي‪ ،‬وزادت حركــة جانــب وجههــا األيــر حــدة‪ ،‬ونــزف الــدم‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ـارحا بلهجــة تقريريــة مل ختـ ُـل مــن‬


‫مــن شــفتيها‪ ..‬أكمــل الكونــت حديثــه شـ ً‬
‫اســتمتاع‪ ،‬أخربهــا أن التعذيــب باملــاء مــن أشــهر أنــواع التعذيــب؛ فمــن‬
‫ا ُمل ِّ‬
‫عذبــن َمـ ْن يغــرق ضحيتــه باملــاء حتــى ينقطــع عنهــا النفــس‪ ..‬ومنهــم من‬
‫جيــر الضحيــة عــى ابتــاع كميــات كبــرة مــن املــاء حتــى املــوت‪ ،‬وهنــاك‬
‫آخــرون يقومــون بإنشــاء «الســجن املائــي»؛ وهــو عبــارة عــن حجــرة ممتلئــة‬

‫‪101‬‬
‫عــن آخرهــا بامليــاه‪ ،‬إال مــن بضعــة ســنتيمرتات تســمح للضحيــة بالتنفــس‬
‫خالهلــا ملتصقــة بالســقف‪..‬‬
‫أيضــا عــن املدرســة النازيــة يف التعذيــب بامليــاه؛ كانــوا يوقفــون‬
‫حدثهــا ً‬
‫ضحاياهــم يف مركــز دائــرة ممتلئــة باملــاء املثلــج‪ ،‬فــإن وقعــت الضحيــة أو‬
‫أرادت النــوم ســقطت يف املــاء البــارد‪.‬‬
‫ظــل يــرح هلــا باســتمتاع حقيقــي‪ ،‬مل يعبــأ ببكائهــا وال بــاألمل الشــديد‬
‫البــادي عــى وجههــا‪ ..‬اقــرب منهــا يف احلــدود التــي رســمها لنفســه كــي ال‬

‫ﻋﺼ‬
‫تــراه‪ ،‬أكمــل حديثــه قائـ ًـا‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬بــس أبشــع طريقــة فيهــم هــي الــي بطبقهــا معاكــي دلوقتــي‪ ،‬ابتكرهــا‬
‫ﻜﺘ‬
‫جينــرال صينــي مــن حــوايل مخــس قــرون‪ ..‬لألســف مــش فاكــر اســم‬
‫الطريقــة وال اســم صاحبهــا‪ ،‬أصــل اللغــة الصينيــة دي صعبــة قــوي‪..‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫أكمل حديثه ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪ -‬كانــوا بريبطــوا الضحايــا ويســيبوا امليــة تنقــط فــوق دماغهــم يف نفــس‬
‫ﺸﺮ‬

‫املوضــع مــن الــرأس‪ ،‬شــوية والضحيــة بتتحــط يف ضغــط نفــي رهيــب‪،‬‬


‫كأهنــا صخــرة بتتــرخ مــن جــوة‪ ،‬بتجتاحهــا حالــة رهيبــة مــن التوتــر واألمل‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫النفــي‪ ،‬وجــع مالــوش ســبب واضــح وال مركــز معــن‪ ..‬بالظبــط زي الــي‬
‫أنـ ِ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ـت حاســة بيــه دلوقتــي‪.‬‬


‫مل تســتطع داليــا الــرد‪ ،‬فقــط رفعــت صوهتــا بالرصخــات‪ ..‬أكمــل‬
‫الكونــت حديثــه بلهجــة حانيــة‪:‬‬
‫‪ -‬لعلمــك أنــا عنــدي طــرق أحســن مــن كــده بكتــر‪ ..‬بــس حالتــي‬
‫الصحيــة دلوقتــي ماتســمحليش بأكــر مــن كــده‪..‬‬

‫‪102‬‬
‫وصلــت متعتــه إىل ذروهتــا‪ ،‬حتــى حتــول أملهــا لــيء روتينــي‪ ،‬وشــعر‬
‫بالســيطرة التامــة عليهــا‪ ،‬فســأهلا بنفــاد صــر‪:‬‬
‫‪-‬ملفات الرشكة بتاعتك فني يا داليا؟!‬
‫أجابت داليا بلهجة مقتضبة‪:‬‬
‫‪ -‬خزنة رقم ‪ ..0373‬فرع بنك ‪ HSBC‬اليل جنب مقر الرشكة‪.‬‬
‫فــرح الكونــت النتصــاره الســهل‪ ،‬طلــب منهــا أال ختــاف‪ ،‬وســأهلا‬
‫هبــدوء مربتًــا عــى شــعرها‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬فيه نسخ تانية؟‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬ال‪ ..‬وموضــوع املنافــس ده يــا ريــت مــا يطلعــش بــرة‪ ..‬ده آخــر‬
‫ﻜﺘ‬
‫فرصــة قدامــي عشــان أهــرب قبــل مــا خيلصــوا منــي‪.‬‬
‫وعدهــا الكونــت أال خيربهــم بقصــة املنافــس؛ فهــي خــارج إطــار‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫فعصبهــا وفـ َّ‬


‫ـك قيــد رقبتهــا‪،‬‬ ‫اختصاصــه‪ ..‬طلــب منهــا أن تغمــض عينيهــا‪َّ ،‬‬
‫كانــت منهــارة متا ًمــا‪ ..‬أعطاهــا حقنــة خمــدرة ووعدهــا باالســتيقاظ يف‬
‫ﺸﺮ‬

‫منزهلــا‪ ،‬كان قــد حتــرى عنهــا وعــرف أهنــا تقيــم فيــه بمفردهــا‪.‬‬
‫ﻭ‬

‫اســتغرقت داليــا يف غيبوبــة طويلــة‪ ،‬مل يســعفه الوقــت ليبــدي هلــا‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫إعجابــه باختيارهــا ملــكان إخفــاء تلكــم امللفــات؛ فهــذا البنــك هــو الــذي‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫تديــر الرشكــة مــن خاللــه كافــة تعامالهتــا املاديــة‪.‬‬


‫صعــد الكونــت إىل غرفتــه باألعــى‪ ،‬اســتأجر شـ ً‬
‫ـخصا يعيــد داليــا إىل‬
‫منزهلــا دون أي يســأل عــن أي تفاصيــل أخــرى‪ ،‬أرســل رســالة ملــن كلفــه‬
‫بتعذيــب داليــا‪ ،‬أخــره باملعلومــة التــي حصــل عليهــا‪ ،‬ليتأكــد مــن صدقهــا‬
‫قبــل أن يطلــق رصاح أســرته‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫رن هاتــف الكونــت الشــخيص‪ ،‬نظــر فيــه ليجــد عبــارة ‪Private number‬‬‫َّ‬
‫التــي حتجــب هويــة املتصــل‪ ..‬رد بقلق‪:‬‬
‫‪ -‬آلو‪ ..‬مني؟!‬
‫جــاءه مــن اجلانــب اآلخــر صــوت غليــظ لرجــل بالــغ قائـ ًـا بلهجــة‬
‫مقتضبــة‪:‬‬
‫‪ -‬فيــه ســت ســورية مقيمــة يف اإلســكندرية اســمها «غــرام عــزت»‪..‬‬
‫مهمتــك إنــك ختطفهــا‪ ،‬وتعــرف لنــا منهــا كل املعلومــات املمكنــة عــن‬

‫ﻋﺼ‬
‫جوزهــا‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ممتزجــا بــيء مــن الفــزع‪ ،‬أبعــد‬
‫ً‬ ‫ظهــر االســتنكار عــى وجــه الكونــت‬
‫ناظــرا نحــوه بدهشــة؛ فقــد كان هــذا هاتفــه األصــي‪،‬‬ ‫اهلتــاف عــن أذنــه‬
‫ﻜﺘ‬
‫ً‬
‫وليــس اهلاتــف ذا الرقــم املؤ َمــن‪ ،‬والــذي يديــر مــن خاللــه كافــة مهــام‬
‫ٍ‬
‫صمــت طويــل‪:‬‬ ‫التعذيــب‪ ،‬ر َّد بعــد‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬النمرة غلط‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫جاءه صوت املتصل املجهول ضاحكًا‪:‬‬


‫‪ -‬آســف‪ .‬شــكيل اتصلــت عــى التليفــون التــاين‪ ،‬ســاحمني يــا كونــت‪..‬‬
‫ﻭ‬

‫وال حتــب أنــادي لــك باســمك احلقيقــي؟‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫مل يرد الكونت فختم املتصل حديثه ً‬


‫قائل‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬أستاذ يارس عبد احلي الطائي‪ ..‬حقيقي اترشفت بمعرفتك‪.‬‬


‫***‬

‫‪104‬‬
‫‪ -7‬الشيطان يكمن يف البدايات‬

‫ﻋﺼ‬
‫مل أشعر بانعدام السيطرة منذ ٍ‬
‫زمن بعيد‪..‬‬
‫ـي عظيـ ًـا؛ كجبــل ثلجــي كنــت أحتمــي خلفه‪،‬‬ ‫كان وقــع هــذه املكاملــة عـ ّ‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ـوان‪ ..‬لــن متــر عواقــب انكشــاف أمــري بســهولة؛‬
‫ﻜﺘ‬ ‫فاهنــار أمــام عينــي يف ثـ ٍ‬
‫ـرا‬
‫ـطرا كبـ ً‬
‫فهــي كفيلــة بتدمــر كل مــا اســتغرقني بنــاؤه ســنني؛ أفنيــت شـ ً‬
‫ـاول االختفــاء أســفل هــذا الغطــاء الــذي مل يــدم‪ ،‬تذكــرت‬ ‫مــن حيــايت حمـ ً‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ـت الفيــا جيــدً ا؛ فــا‬


‫كل حمــاواليت للحفــاظ عــى رسيــة مــا أفعــل‪ .‬أغلقـ ُ‬
‫أعلــم متــى ســأعود إليهــا ثاني ـ ًة‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫اتصلــت بغــرام‬
‫ُ‬ ‫بــدأت أقــود ســياريت العتيقــة عائــدً ا إىل اإلســكندرية‪..‬‬
‫ألخطرهــا بعــوديت إىل البيــت؛ تعجبــت بلهجــة قلقــة مــن اتصــايل يف هــذه‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫الســاعة املتأخــرة‪ ..‬تعللــت أن املدرســة التــي أعمــل هبــا يف القاهــرة أعطتنــي‬


‫إجــازة طويلــة األمــد‪ ،‬طلبــت منهــا أن تغلــق البــاب بإحــكام وال تفتــح ألحــد‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ـوت ناعــس غــر مكــرث أال أقلــق عليهــا‪.‬‬ ‫حتــى أبلــغ البيــت‪ ..‬أجابتنــي بصـ ٍ‬
‫مل تشــعر بــيء مــن النــار املســتعرة داخــي‪ ..‬فكــرت يف االتصــال بــرايف‬
‫لكننــي مل أرغــب يف إثــارة شــكوكه‪ ،‬حاولــت الســيطرة عــى دقــات قلبــي‬
‫والرتكيــز يف الطريــق‪ ،‬لــراودين ذكريــات تعــود حلــوايل عرشيــن عا ًمــا‪..‬‬
‫***‬

‫‪105‬‬
‫وقتئذ يشــر إىل عــام ‪..2005‬‬ ‫ٍ‬ ‫كان التقويــم املعلــق أمامــي عــى احلائط‬
‫كانــت احلانــة ‪-‬كاملعتــاد‪ -‬خاليــة يف هــذا التوقيــت املتأخــر‪ ،‬تفتــح أبواهبــا‬
‫مــن املســاء حتــى مطلــع الفجــر‪ ،‬مل يتغــر معظــم رواد احلانــة منــذ أن‬
‫دخلتهــا ألول مــرة منــذ ســنوات‪ ..‬كانــت مراقبتــي هلــم متعتــي الوحيــدة‬
‫يف هــذه احلقبــة الســوداء مــن حيــايت؛ عرفــت مجيــع الزبائــن وحفظــت‬
‫وجوههــم وذوقهــم فيــا يرشبــون‪ ،‬ســمعت هالوســهم وأدركــت منبــع‬
‫معانــاة كل منهــم‪ ،‬كنــت أراهــم وال يــروين؛ فمــن مــن الســكارى كان‬

‫ﻋﺼ‬
‫ســيهتم لوجــود طفــل مثــي‪ ،‬كان لــكل منهــم توقيــت معــن يــزور فيــه‬
‫املــكان‪ ،‬وبقعــة معينــة يفضــل اجللــوس فيهــا‪ ،‬وحــده أيب مــن كان يرتــاد‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫احلانــة يوم ًيــا‪ ،‬مل يــرح عبــد احلــي الطائــي مكانــه أمــام الســاقي إال فيــا‬
‫ﻜﺘ‬
‫نــدر‪ ،‬مل يغــر طلبــه املكـ َّـون مــن زجاجــة بــرة رديئــة النــوع وبعــض مــن‬
‫الرتمــس واجلرجــر والســوداين‪..‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫وقعــت احلانــة يف شــارع جانبــي مــن شــوارع وســط البلــد القريبــة‬


‫مــن ميــدان التحريــر‪ ،‬تقــع يف الطابــق األريض لعــارة مــن بقايــا املعــار‬
‫ﺸﺮ‬

‫اإلنجليــزي‪ ،‬كانــت احلانــة مرتفعــة الســقف ذات إضــاءة خافتــة ال تتغري‪،‬‬


‫ص بداخلهــا‬ ‫ُع ِّلــق عــى جدراهنــا بعــض الواجهــات الزجاجيــة التــي ُر َّ‬
‫ﻭ‬

‫زجاجــات الويســكي املعتقــة منــذ ســنني جتــاوزت أعــار العاملــن‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫باملــكان‪ ،‬ال تُفتــح هــذه الزجاجــات ألحــد مهــا كان الثمــن؛ فهــي دليــل‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫أصالــة املــكان وعالمــة اجلــودة لــرواده‪ ،‬احتلــت أقــدم الزجاجــات‬


‫وأكربهــا حجـ ًـا املســاحة العلويــة مــن احلائــط خلــف الســاقي مبــارشةً‪،‬‬
‫حيدهــا مــن اليمــن جمســم خشــبي لباخــرة بحريــة‪ ،‬وعــى اليســار صــورة‬
‫مؤســس احلانــة مــع أحــد رؤســاء اجلمهوريــة الســابقني‪ ،‬كــا امتــأت‬
‫باقــي اجلــدران بالكثــر مــن الصــور القديمــة التــي متثــل شــخصيات‬

‫‪106‬‬
‫العــواد» الــذي يــأيت‬
‫عامــة كانــت ترتــاده فيــا ســبق‪ ،‬ونجــح «عــم كارم َّ‬
‫احلانــة ليطــرب روادهــا‪ ،‬يف دس نســخة مــن صورتــه مــع الفنــان «حممــد‬
‫فــوزي» وســط هــذه الصــور‪ .‬متكــن القائمــون عــى املــكان مــن احلفــاظ‬
‫عــى أصالتــه؛ فلــم تطلــه يــد الزمــن التــي شــوهت كل مــا حولــه‪..‬‬
‫كانــت الســمة العامــة للمــكان هــي صفــاء الذهــن والضحــك العــذب‬
‫الــذي يغلــب عــى الزبائــن‪ ،‬كأهنــم يعرفــون بعضهــم البعــض‪ ،‬دون أن‬
‫يتبادلــوا كلمــة واحــدة‪ ،‬مجيعهــم يبحــث عــا ينقصــه‪ ،‬ويتوهــم وجــوده بــن‬

‫ﻋﺼ‬
‫جــدران احلانــة‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬ ‫ـت كل شـ ٍ‬
‫ـر يف احلانــة وطأتــه داخلهــا‪ ،‬دون أن أشــتهي اخلمــر‪..‬‬ ‫أحببـ ُ‬
‫وأحببــت مــن فيهــا باســتثناء عبــد احلــي الطائــي‪ ..‬الــذي قطــع كل الســبل‬
‫التــي أوصلهــا القــدر بيننــا‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يف بقعــة مســترتة مــن احلانــة جيلــس مالكهــا‪ ،‬يراقــب ســر العمــل مــن‬
‫بعيــد دون أن يتدخــل فيــا جيــري؛ يتــرف كزبــون عــادي‪ ،‬وال يبــدي‬
‫ﺸﺮ‬

‫مالحظاتــه إال بعــد انتهــاء ســاعات العمــل‪ ..‬ســمعته ذات مــرة أثنــاء‬
‫اإلغــاق يوبــخ العاملــن عــى بعــض الترصفــات‪ ،‬مثــل الســاح للــزوار‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫األغنيــاء باجللــوس أمــام الســاقي؛ فــا جيلســون عــى مقاعــد الصالــة‬


‫تعمــد املالــك احلــايل أن جيعــل مقاعــد‬
‫وبالتــايل ال يدفعــون رضيبــة اخلدمــة‪َّ ،‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫الصالــة مرحيــة عكــس املقاعــد العاليــة أمــام الســاقي؛ فــا تنشــغل هــذه‬
‫ـرا‪ ..‬كان خيصــم مــن رواتبهــم إذا مــا رفعــوا أصواهتــم داخــل‬ ‫البقعــة كثـ ً‬
‫احلانــة التــي حيكمهــا قانــون العزلــة واهلــدوء‪ ..‬وأذكــر أنــه طــرد نـ ً‬
‫ـادل بعــد‬
‫أن غــازل إحــدى العجائــز املتصابيــات ليحصــل عــى زيــادة يف البقشــيش‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫ويف مقاعــد الصالــة جيلــس «عاصــم حممــود» الــذي كان يعمــل يف‬
‫التمثيــل‪ ،‬كان وجهــه مألو ًفــا بعــد أن ظهــر يف بعــض األعــال الدراميــة يف‬
‫فــرة التســعينات‪ ،‬لكــن الزمــن ال يرحــم أحــدً ا‪ ،‬خاصـ ًة أنصــاف املوهوبــن‬
‫مثــل «عاصــم»‪ ..‬كان يفــرح إذا مــا ميــز أحــد رواد احلانــة وجهــه‪ ،‬فيجلــس‬
‫معــه دون اســتئذان‪ ،‬وحيدثــه عــن أعاملــه الســابقة‪ ،‬ورفضــه للكثــر‬
‫مــن األعــال الفنيــة املعروضــة عليــه؛ ألن الفــن أصبــح «ســبوبة» دون‬
‫مســتواه‪ ،‬كــا كان حيكــي عــن قصــص احلــب الومهيــة التــي مجعتــه مــع‬

‫ﻋﺼ‬
‫فنانــات الصــف األول‪ ..‬كان اجلميــع يتعامــل مــع حديثــه كنــوع مــن أنــواع‬
‫الكوميديــا الســوداء؛ لكننــي أحببتــه وحاولــت تصديقــه‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫أيضــا «اهلوانــم»‪ ..‬أو هكــذا لقبهــن العاملــن باملــكان؛ ثــاث‬‫أحببــت ً‬
‫ﻜﺘ‬
‫صديقــات يف مقتبــل العرشينــات يبــدو عليهــن الثــراء‪ ،‬يــزرن احلانــة يــوم‬
‫األربعــاء مــن كل أســبوع‪ ،‬جتلــس كل منهــن يف حالــة مــن التوحــد التــام‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مــع مــا ترشبــه‪ ،‬فتنعــزل وتكتفــي بــه عمــن حوهلــا‪ ..‬أذكــر يــوم عــرض‬
‫أحــد الــرواد عــى إحداهــن أن يدفــع هلــا ثمــن مــا تــرب مقابــل مرافقتــه‪،‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫فوبختــه بــردة فعــل حــادة حتــى أهــدرت كرامتــه‪ ،‬قالــت لــه صديقتهــا‬
‫بصـ ٍ‬
‫ـوت عـ ٍ‬
‫ـال خماطبــة مجيــع الــرواد حتــى ال يتكــرر نفــس املوقــف‪« :‬إحنــا‬
‫ﻭ‬

‫بندخــل املــكان ده تالتــة وبنطلــع منــه تالتــة»‪ ..‬فاضطــر مديــر الصالــة أن‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ختفيضــا يف‬
‫ً‬ ‫يطــرد ذلــك الزبــون حتــى حيتــوي غضبهــن‪ ،‬عــرض عليهــن‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫احلســاب كنــوع مــن التعويــض‪ ،‬لكــن عرضــه قوبــل بالرفــض‪.‬‬


‫كان «كارم العـ َّـواد» الوحيــد املســموح لــه باجللــوس مــع «اهلوانــم»؛ كان‬
‫َه ِر ًمــا يــأيت احلانــة كل يــوم باالتفــاق مــع املديــر‪ ،‬يــدور بــن املوائــد بقامتــه‬
‫املنحنيــة وخطواتــه البطيئــة‪ ،‬راض ًيــا بــا جيــود عليــه الزبائن‪ ..‬كانــت رضباته‬
‫ـوت أجــش مل‬ ‫عــى العــود واهنــة ال تتقــن اللحــن بحكــم الســن‪ ،‬امتــاز بصـ ٍ‬

‫‪108‬‬
‫خيـ ُـل مــن حرشجــة حمببــة‪ ..‬كان يفضــل الغنــاء ملحمــد عبــد املطلــب وســيد‬
‫درويــش وحممــد فــوزي‪ ،‬أذكــر حــن طلــب منــه أحــد الزبائــن أغنيــة لعبــد‬
‫احلليــم حافــظ فأبــدي تأف ًفــا قبــل أن يغنــي «عــى حــزب وداد قلبــي»‪ ..‬كان‬
‫ـرا وهــو يصافــح «حممــد فــوزي»‪..‬‬ ‫حيتفــظ بصــورة مهرتئــة حــن كان صغـ ً‬
‫حــرص دائـ ًـا عــى تلقيبــه بـ»العظيــم فــوزي»‪.‬‬
‫لكــن «زبــون احلــام» كان أكثــر مــن شــعرت بالشــفقة جتاهــه‪ ،‬أطلقـ ُ‬
‫ـت‬
‫متوجهــا إىل احلــام‪،‬‬
‫ً‬ ‫عليــه هــذا اللقــب ألنــه حــن يســكر يغــادر الصالــة‬

‫ﻋﺼ‬
‫فيغلــق عــى نفســه البــاب ظنًــا منــه أن أحــدً ا ال يســمعه‪ ،‬خيــرج هاتفــه‬
‫املحمــول ويتصــل بطليقتــه‪ ،‬يبكــي شــو ًقا هلــا والبنتيــه‪ ،‬يعدهــا أن يعــود إىل‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫عملــه‪ ،‬وأال يعــاود الــرب ثاني ـ ًة‪ ،‬يتوســل إليهــا مــن أجــل فرصــة ثانيــة‪،‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫يرجوهــا أن تعــود إليــه‪ ..‬ويف كل زيــارة تتكــرر املكاملــة‪ ،‬ويــزداد البــكاء‪،‬‬
‫ويتجــدد الوعــد‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ووســط كل هــؤالء كان يطــوف «عــاء الديــن» مديــر الصالــة‪ ،‬بقامتــه‬


‫القصــرة وقميصــه الواســع املخطــط بالطــول الــذي ال يغــره تقري ًبــا‪ .‬أذكــر‬
‫ﺸﺮ‬

‫حــن ســألته عــن مهنتــه األصليــة‪ ..‬فهــز كتفيــه جمي ًبــا أنــه يعمــل هنــا منــذ‬
‫ﻭ‬

‫شــبابه وال يعــرف لنفســه مكا ًنــا آخــر‪..‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫كان يعتــر نفســه «مســئول الســام النفــي للزبائــن»‪ ..‬يمــر عــى‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫مزاحــا خفي ًفــا يســاعد‬


‫مجيــع الــرواد ليبــث ابتســامته بــن اجلميــع‪ ،‬ويلقــي ً‬
‫الســكارى عــى النســيان‪ ،‬كان ُيشــعر كل منهــم أنــه أهــم زبــون يف املــكان‪.‬‬
‫أنس أنه توســط‬
‫كان «عــاء الديــن» أقــرب النــاس لقلبــي يف هذه الفــرة‪ ،‬مل َ‬
‫يل عنــد صاحــب املــكان حتــى يســمح يل بدخــول احلانــة قبــل بلوغــي الســن‬
‫القانــوين لذلــك؛ حتــى أراقــب أيب وأصطحبــه للبيــت إن أفــرط يف الــرب‪،‬‬

‫‪109‬‬
‫ـس أنــه حــال بينــي وبــن بطــش «الطائــي» يف الكثــر مــن األحيــان‬
‫ومل أنـ َ‬
‫دون أن يفقــد ضحكتــه أو يفقــد «الطائــي» كزبــون دائــم للمــكان‪.‬‬
‫أتذكــر فــرة غيابــه عــن احلانــة‪ ،‬حتـ َّـول املــكان ملــا يشــبه املقابــر‪ ،‬ســألت‬
‫عنــه أحــد العاملــن فأخــرين أن ابنــه قــد مــات يف حادثــة ســر‪ ..‬مل يتوقــع‬
‫أكثــر املتفائلــن أن يعــود «عــاء الديــن» للعمــل بعــد يومــن مــن رحيــل‬
‫ولــده‪ ،‬بنفــس الضحكــة ونفــس الــروح التــي اعتدهتــا منــه‪.‬‬
‫مل يكــن « عــاء الديــن» شــار ًبا للكحــول‪ ،‬أخــرين ذات مــرة أنــه ال‬

‫ﻋﺼ‬
‫حيــب تأثريهــا عــى العقــل‪ ،‬كان يفضــل احلشــيش‪ ،‬وقــال يل رأ ًيــا مل يــرح‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بــه ألي مــن الزبائــن‪« :‬اخلمــرة بتصحــي الوجــع‪ ،‬مــع إهنــا بتنســيك ســببه‪..‬‬
‫إنــا احلشــيش بيحسســك إنــك أكــر مــن أي وجــع»‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫هكــذا كانــت مراهقتــي‪ ..‬أقــي صباحهــا بــن الكتــب وليلهــا وســط‬
‫أشــباه البــر مــن رواد احلانــة‪ ..‬أحتــرك بخفــة مراق ًبــا اجلميــع الذيــن‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫اعتــروين مــع الوقــت جــز ًءا مــن ديكــور املــكان‪ ،‬حتــى ينادينــي أيب لينهــرين‬
‫ـي ونعــود للمنــزل‪..‬‬ ‫أمامهــم؛ فيتعكــز عـ َّ‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬ياااااارس‪ ..‬أنت يا زفت‪ ..‬تعال هات يل سجاير‪.‬‬


‫ﻭ‬

‫كانــت هــذه إحــدى الدقائــق القليلــة الــذي أمقــت فيــه احلانــة وأمتنــى‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫لــو أهنــا مل توجــد مــن األســاس‪ ..‬حتولــت أنظــار مجيــع العاملــن ورواد‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫املــكان مــن الســكارى والباحثــن عــن اهلــدوء جتــاه ذلــك املراهــق الــذي‬
‫ـل مــن مــكان منـ ٍ‬
‫ـزو يف احلانــة‬ ‫مل يتــم السادســة عــرة بعــد‪ ..‬قمــت عــى مهـ ٍ‬
‫ناظــرا يف األرض متمن ًيــا أن تبتلعنــي‪ ،‬لكــن أمنيتــي مل‬
‫ً‬ ‫متوجهــا نحــوه‪،‬‬
‫ً‬
‫ـت «عــاء الديــن» يقــرب منــه قائـ ًـا‪:‬‬
‫تتحقــق‪ ..‬ملحـ ُ‬
‫‪ -‬صوتك يا طائي‪ ..‬الناس بتيجي البار عشان تروق‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫عال‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫بصوت ٍ‬ ‫ر َّد أيب‬
‫‪ -‬الولد ده الزم يرتبى‪..‬‬
‫لفــت «عــاء الديــن» نظــر «الطائــي» ‪-‬الــذي كان عــى مشــارف‬
‫الكهولــة آنــذاك‪ -‬إىل بنيــاين النحيــل ومالبــي القديمــة الباليــة التــي مل أجــد‬
‫منــه غريهــا ألرتديــه‪ ،‬ونظــرة االنكســار التــي مل تفــارق عينــي‪ ،‬قــال بلهجــة‬
‫مل ختـ ُـل مــن شــفقة‪:‬‬
‫‪ -‬الــي بتعملــه ده مايرضيــش ربنــا‪ ..‬أنــت مــا بترصفــش عــى يــارس‬

‫ﻋﺼ‬
‫مليــم‪..‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ر َّد عبد احلي بفم تساقطت أسنانه‪ ،‬ومل يفارقه الكحول لسنني‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬عايز فلوس يروح ياخد من أمه‪ ،‬وال هيرب زهيا أحسن‪.‬‬
‫رمــى أيب يف وجهــي ورقــة بخمســة جنيهــات‪ ،‬وأمــرين أن أذهــب إىل‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫الكشــك املجــاور للحانــة ألشــري لــه الســجائر‪ ..‬أخربتــه بخــوف اخلمســة‬


‫جنيهــات لــن تكفــي طلبــه‪ ..‬فصفعنــي عــى وجهــي أمــام اجلميــع‪ ،‬ســال‬
‫ﺸﺮ‬

‫الــدم مــن أنفــي ونظــرت لــه يف عينــه بثبــات دون أن أذرف دمعــة واحــدة‪..‬‬
‫تدخــل مالــك احلانــة طال ًبــا مــن اجلميــع عــدم االلتفــات ملــا حيــدث‪ ،‬أمســك‬
‫ﻭ‬

‫يــد أيب يف حــزم وقــال‪:‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬أنت كده زودهتا يا طائي‪..‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫رد عبــد احلــي الطائــي بكلــات مبعثــرة مجعهــا بصعوبــة مــن عقلــه‬
‫الغــارق يف التيــه‪:‬‬
‫‪ -‬أنا بأقعد هنا بفلويس‪.‬‬
‫‪ -‬فــوق لنفســك بقــى‪ ..‬واحــد غــر يــارس كان زمانــه طفــش وســابك‬
‫لوحــدك‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫بصــوت ٍ‬
‫عــال‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫صــاح عبــد احلــي الطائــي ُمطل ًقــا ســبة يف حــق أمــي‬
‫وبعــد حلظــات مســح دموعــه يف ُكــم ســرته الباليــة وعــاد إىل رشابــه ثانيــة‬
‫متجاهـ ًـا وجــودي‪ ..‬جذبنــي مديــر الصالــة «عــاء الديــن» مــن يــدي نحــو‬
‫رست ببــطء خلــف‬ ‫ُ‬ ‫زقــاق جمــاور للحانــة التــي حفظــت كل شـ ٍ‬
‫ـر فيهــا‪..‬‬
‫« عــاء الديــن» حتــى وصلنــا إىل الزقــاق املجــاور للحانــة‪ ،‬كان يرتــاده‬
‫العاملــون الختــاس دقائــق الراحــة ورشب الســجائر باتفــاق غــر معلــن‬
‫مــع «عــاء الديــن»‪..‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫نظر « عالء الدين» نحو عنقي ووضع يده عليها ً‬
‫قائل بأسى‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬إيه اليل عىل رقبتك ده؟‬
‫تأوهت بأملٍ واضح‪ ،‬ومل أرد‪ ..‬سألني بحزن‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬أبوك رضبك تاين؟‬
‫أجبته باقتضاب‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬خالص اتعودت‪ ،‬وماتقولش «أبوك»‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬الراجــل ده لــوال ســنه ودماغــه الــي فكــت منــه كنــت خليــت اجلــارد‬
‫يرضبــه حلــد مــا يبــان لــه صاحــب‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫عــي‪ ،‬مل أخــره بالســبب الــذي‬ ‫كنــت أعلــم أن عــاء الديــن يشــفق ّ‬ ‫ُ‬
‫جيــرين عــى البقــاء رفقــة ذلــك الســكري املجنــون‪ ،‬حتــى ال أخــر تعاطفــه؛‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫فلــم أرد أن يمــوت الطائــي قبــل بلوغــي ســن الرشــد حتــى أرثــه؛ فــا يظهر‬
‫ـي‪ ،‬فينهــب مــا ســيخلفه‬ ‫يل قريــب مــن حتــت األرض طام ًعــا يف الوصايــة عـ َّ‬
‫الطائــي ورائــه مــن بقايــا أمــاك أبيــه‪ .‬كنــت أعلــم أن الدافــع احلقيقــي وراء‬
‫شــفقة « عــاء الديــن» حبــه الشــديد ألمــي‪ ،‬أرس إ َّيل مــن قبــل أنــه قــد أحبهــا‬
‫منــذ الصغــر‪ ،‬لكــن أمــوال الطائــي فرقــت بينهــا‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫نظــر عــاء الديــن إ َّيل‪ ،‬تفحــص هيئتــي مــن أعــى إىل أســفل‪ ،‬زم شــفتيه‬
‫قائـ ًـا بلهجــة جــادة‪:‬‬
‫‪ -‬أنــت داخــل عــى جامعــة‪ ،‬والزم يبقــى معــاك فلــوس تلبــس وتتعلــم‬
‫زي النــاس‪.‬‬
‫‪ -‬شغلني يف البار‪ ..‬إن شا اهلل أمسح احلاممات‪.‬‬
‫‪ -‬أنــا مســتحيل أرىض لــك بحاجــة زي كــده‪ ..‬ده غــر إنــك مــا‬
‫تســتحملش وقفــة ‪ 12‬ســاعة جنــب املذاكــرة‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ثم أردف بعد تفكري‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬ ‫‪ -‬بعدين أنت مش فقري‪..‬‬
‫طأطأت رأيس يف حزن مؤمنًا عىل كالمه‪ ..‬قلت له بحرسة‪:‬‬
‫‪ -‬واهلل أكون فقري يا عم عالء أرحم من إين أكون ابن الراجل ده‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫أردفت أن أيب قد باع كل ما يملكه لينفقه عىل مزاجه‪ ،‬فرد هبدوء‪:‬‬


‫‪ -‬أبــوك لــه أمــاك كتــر يف إســكندرية‪ ،‬بــس أهــل مراتــه األوالنيــة‬
‫ﺸﺮ‬

‫مانعينــه يتــرف فيهــا‪ ،‬هــو الــي حكــى يل املوضــوع ده‪.‬‬


‫‪ -‬طب أنا كده هستفيد إيه‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫تذكــر عــاء بعــض ممــا كان يفلــت مــن لســان الطائــي أثنــاء ســكره‪،‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫وقــال‪:‬‬
‫‪ -‬الــي ماتعرفــوش إن أبــوك بــاع شــقق العــارة لصاحــب البــار‪ ،‬مــا‬
‫عــدا الشــقة الــي أنتــوا قاعديــن فيهــا‪ ..‬وفتــح بالفلــوس دي حســاب يف‬
‫شب باقيــة حياتــه‪.‬‬
‫البــار يكفيــه ُ ْ‬
‫مقرتحا خطته‪:‬‬
‫ً‬ ‫مل أجد ما أقوله فأردف‬

‫‪113‬‬
‫‪ -‬احلســاب ده أنــا الــي بخصــم منــه متــن الــي بيرشبــه الطائــي‪ ،‬فلــو كل‬
‫يــوم ســجلت مبلــغ بســيط زيــادة عــن الــي أبــوك بيطفحــه‪..‬‬
‫أومــأت لــه بــرأيس حتــى ال يكمــل خطتــه التــي نالــت موافقتــي‪ ،‬فلــم‬
‫يكــن أمامــي خيــار آخــر ســوى االقتطــاع ممــا ينفــق عبــد احلــي الطائــي عــى‬
‫مزاجــه‪ ،‬وأنقــذ بــه مــا تبقــى مــن مســتقبيل‪.‬‬
‫ـي‬
‫مل يكــن الطائــي جمــرد أب شــديد؛ كان يتفنــن يف إيالمــي‪ ،‬مل يمــر عـ َّ‬
‫يو ًمــا برفقتــه إال وقــد أخــذ مــن روحــي جــز ًءا‪ ..‬اعتــاد أن يوقظنــي كل يــوم‬

‫ﻋﺼ‬
‫حرجــا مــن‬
‫ليســبني أنــا وأمــي وينهــال عــى وجهــي بالصفعــات‪ ،‬وال جيــد ً‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ـت أن صفعاتــه وركالته‬ ‫إخــراج فضالتــه عــى مــا تبقــى مــن مالبــي‪ ،‬أدركـ ُ‬
‫ـت أن تــرك‬ ‫ـي مــن اإلهانــة أمــام رواد احلانــة‪ ،‬فضلـ ُ‬ ‫التــي متطــرين أهــون عـ َّ‬
‫ﻜﺘ‬
‫رضباتــه أثرهــا عــى جســدي عــى أن أفقــد احرتامــي لــذايت يو ًمــا بعــد يــوم؛‬
‫ـخا ال حــول لــه وال قــوة‪ ،‬ال أســتطيع أن أقاومــه؛ فقــط‬ ‫ـت مسـ ً‬
‫حتــى أصبحـ ُ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ـدت لفــرة أهنــا لــن حتــدث‪.‬‬‫أنتظــر معجــزة اعتقـ ُ‬


‫***‬
‫ﺸﺮ‬

‫أفقــت مــن خواطــري عــى صــوت موظــف «الكارتــة» الــذي طالبنــي‬


‫بتعريفــة املــرور‪ ،‬فانتبهــت مــن رشودي ونقدتــه األمــوال‪ ،‬عــاودت التحرك‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫عــى الطريــق الصحــراوي‪ ،‬نفخــت يف كفــي يــدي وفركتهــا ببعــض بح ًثــا‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫عــن دفء لــن يــدوم‪ ،‬وقبــل أن أســبح يف املزيــد مــن ذكريــايت رن هاتفــي‬
‫األصــي‪ ،‬كان املتصــل ذلــك املخــرق امللقــب بـ»اخلواجــة»‪ ،‬بعــد أن كتبــت‬
‫لــه رقمــي وطلبــت منــه رسعــة التواصــل معــي لبــدء العمــل‪ ..‬كنــت أعلــم‬
‫أن معرفتــه هلويتــي احلقيقيــة مغامــرة‪ ..‬لكننــي ال أملــك ســواها‪ .‬قلــت لــه‬
‫هبــدوء‪:‬‬

‫‪114‬‬
‫‪ -‬هــاه مشــيت ورا الرقــم وعرفــت شــخصيتي احلقيقيــة وال لســه يــا‬
‫خواجــة؟‬
‫‪ -‬أنــا وعــدت حرضتــك إين مــش هاحــاول أعــرف عنــك حــرف زيــادة‬
‫عــن الــي أنــت عايــزين أعرفــه‪.‬‬
‫‪ -‬يارس عبد احلي الطائي‪..‬‬
‫‪ -‬ده القناع اليل عايش وراه الكونت؟!‬
‫‪ -‬دور عــى اســمي بطريقتــك عشــان نختــر املســافات‪ ..‬وملــا تعــرف‬

‫ﻋﺼ‬
‫عنــي الــي يطمنــك اتصــل تــاين‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬ ‫سألني قبل أن أهني املكاملة‪:‬‬
‫‪ -‬حرضتــك قولــت يل إن فيــه خطــر بيهــددك‪ ..‬ممكــن تدينــي فكــرة‬
‫عنــه؟‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫قبــل أن أجيبــه جــاءين اتصــال مــن رقــم ســلوى عــى نفــس اهلاتــف‪،‬‬
‫فأهنيــت حمادثتــي مــع اخلواجــة رسي ًعــا ألرد عــى أختــي التــي بادرتنــي‬
‫ٍ‬
‫ﺸﺮ‬

‫بصــوت خائــف‪:‬‬
‫‪ -‬إحلقني يا يارس‪ ..‬غرام ومليكة اختطفوا‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫***‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪115‬‬
‫‪ -8‬لقاء‪..‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫مل أكره االنتظار مثل اآلن‪ ،‬خاص ًة وإن كان السبب فيه «أم أرشف»‪..‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫عرفــت فيــا بعــد أن اســمه‬
‫ُ‬ ‫جلســت يف غرفــة نــوم اخلواجــة الــذي‬‫ُ‬
‫ﻜﺘ‬
‫احلقيقــي «آدم حبيــب»‪ ..‬كان يومــئ يل حمي ًيــا هبــزة رأس خفيفــة كل بضعــة‬
‫دقائــق‪ ،‬اتفقنــا دون إعــان عــى تأجيــل احلديــث حلــن مغــادرة اخلادمــة‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫التــي تقــوم بتنظيــف شــقته‪ ..‬بــدا عــى وجهــه الرتقــب للحديــث معــي‪،‬‬
‫ظــل ينظــر نحــوي بإعجــاب وهــو هيــز قدميــه يف توتــر‪ ،‬يضــع ســاعات أذن‬
‫ﺸﺮ‬

‫كبــرة حــول رأســه‪ ،‬وقــد وصــل صوهتــا إ َّيل خاف ًتــا‪ ،‬بــدا يل اللحــن الــذي‬
‫يســمعه أغنيــة مــن نــوع الـــ‪..Heavy metal‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫بــدا «آدم اخلواجــة» قو ًيــا؛ بــرزت عضالتــه املســتديرة الالمعــة مــن‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫أيضــا‬
‫خــال مالبســه الصيفيــة غــر املالئمــة لــرودة الشــتاء‪ ..‬لفــت نظــري ً‬
‫ســوار قــايش ملفــوف حــول قدمــه‪.‬‬
‫ظــل يلعــب حولنــا طفـ ٌـل صغــر عرفـ ُ‬
‫ـت فيــا بعــد أنــه «أرشف» ابــن‬
‫ـرت حــويل متأمـ ًـا غرفــة «اخلواجــة»‪ ،‬رأيــت بعــض األدوات‬
‫اخلادمــة‪ ..‬نظـ ُ‬
‫ـت‬
‫الرياضيــة كاألثقــال احلديديــة وجهــاز صغــر للركــض يف املــكان‪ ،‬بحثـ ُ‬

‫‪116‬‬
‫عــن أجهــزة الكمبيوتــر التــي تصــورت أنــه يســتخدمها فيــا يعمــل فلــم‬
‫ـت الكثــر مــن األقنعــة التــي ترمــز لألناركيــة‪ ،‬والقليــل مــن‬
‫أجدهــا‪ ..‬ملحـ ُ‬
‫الكتــب حــول نفــس النهــج الفوضــوي‪.‬‬
‫ـت فيهــا وجهــي الــذي‬ ‫لفــت نظــري مــرآة بــدت يل باهظــة الثمــن‪ ،‬ملحـ ُ‬
‫بــدا عليــه اإلرهــاق مــن كثــرة الســفر وقلــة النــوم‪ ،‬تذكــرت مــا حــدث منــذ‬
‫أن عــدت إىل بيتــي يف اإلســكندرية ألجــده خاو ًيــا‪ ،‬قــررت أن أبحــث‬
‫عــن خاطفهــا بأســلوب «الكونــت»؛ فعــدت إىل القاهــرة مرس ًعــا ألقابــل‬

‫ﻋﺼ‬
‫«اخلواجــة» حتــى يســاعدين يف تعقــب أثــر «املجهــول» مــن خــال املكاملــة‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬ ‫الوحيــدة التــي أتتنــي منــه‪.‬‬
‫ـت بســلوى‪ ،‬كانــت تبكــي كأهنــا فقــدت حبي ًبــا‪،‬‬ ‫وأثنــاء حتركــي اتصلـ ُ‬
‫أخربتنــي أهنــا ســمعت جلبــة يف الطابــق الســفيل‪ ،‬فظنــت أن رايف قــد عــاد‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ـدت مــن القاهــرة باكـ ًـرا‪ ..‬لكنهــا‬


‫ليصاحلهــا بعــد أن تشــاجرا‪ ،‬أو أننــي قــد عـ ُ‬
‫فزعــت حــن طرقــت البــاب فلــم جتــد ر ًدا‪ ،‬فاســتنتجت أن زوجتــي وابنتــي‬
‫ﺸﺮ‬

‫ـت تزييف الطمأنينــة‪ ،‬وعللت‬ ‫تــم اختطافهــا واتصلــت يب ألحــر‪ ..‬حاولـ ُ‬


‫اختفــاء غــرام كاذ ًبــا حــول غضبهــا منــي‪ ،‬وســفرها للمكــوث لــدى إحــدى‬
‫ﻭ‬

‫صديقاهتــا بصحبــة مليكــة حتــى هتــدأ مــن ناحيتــي‪ ..‬أمنَّــت عــى كالمــي‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ـت‬‫ـن شــارد‪ ،‬كان صوهتــا مرتعــدً ا‪ ،‬مل أعتــد منهــا هــذا اخلــوف‪ ..‬حاولـ ُ‬ ‫بذهـ ٍ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫تغيــر املوضــوع كــي ال تدقــق يف حديثــي وتكتشــف ثغراتــه‪ ،‬فســألتها عــن‬


‫شــجارها مــع رايف‪...‬‬
‫‪ -‬أنت بقى عندك كام سنة دلوقتي يا أرشف؟‬
‫قطــع اخلواجــة حبــل تفكــري حــن ســأل الطفــل الصغــر الــذي‬

‫‪117‬‬
‫رفــع أصابــع يديــه مجيعهــا بفخــر‪ ..‬قــال يل آدم أنــه أكــر مــن مليكــة بأربــع‬
‫ـتنتجت أنــه قــام ببحــث شــامل عنــي لتقصــر املســافات‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫ســنوات‪ ..‬اسـ‬
‫التقــط آدم قنا ًعــا مــن أقنعتــه وأعطــاه للصغــر ً‬
‫قائــا‪:‬‬
‫‪ -‬أوعى تقطعه زي اليل فات‪.‬‬
‫أومــأ الطفــل برأســه مبتسـ ًـا؛ كان أســمر الوجــه جمعــد الشــعر‪ ،‬يرتــدي‬
‫مالبــس بســيطة مل تالئــم قنــاع األناركيــة الــذي ارتــداه عــى الفــور ونظــر‬
‫لنفســه يف املــرآة‪ ..‬أوصــاه آدم باملواظبــة عــى الذهــاب إىل املدرســة‪ ،‬بــدا‬

‫ﻋﺼ‬
‫عــى أرشف االنزعــاج لكــن آدم وعــده بمكافــأة إن واظــب عــى احلضــور‪..‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫نقــده آدم رزمــة ســميكة مــن األمــوال‪ ،‬وطلــب منــه أن يعطيهــا ألمــه‬
‫ويغــادرا اآلن‪ ..‬شــكره أرشف حمـ ً‬
‫ـاول التعلــق يف رقبتــه ليعانقــه‪ ،‬فرفعــه آدم‬
‫ﻜﺘ‬
‫ولثــم وجنتيــه مود ًعــا‪..‬‬
‫‪ -‬مش كتري الفلوس دي عىل طفل صغري؟‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫رد آدم هبدوء بعد أن سمع صوت إغالق باب الشقة‪:‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬أمــه ســت غلبانــة وأرشف ده لــه أربــع إخــوات بنــات‪ ،‬أبوهــم مــات‬
‫بالكبــد مــن ‪ 3‬ســنني‪...‬‬
‫ﻭ‬

‫أرشت له كي ال يكمل حديثه‪ُ ،‬‬


‫قلت له هبدوء‪:‬‬ ‫ُ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬الفلــوس الكتــر دي ممكــن ترضهــم مــش تفيدهــم‪ ..‬هتعــي ســقف‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫طلباهتــم مــن احليــاة‪ ،‬ووقــت مــا األم تكــر ومتقــدرش جتيلــك هاحيســوا‬
‫خصوصا‬
‫ً‬ ‫بالعجــز احلقيقــي‪ ..‬ده غــر إن أرشف ده ممكــن ينحرف أو يتــأذي‬
‫إنــه أكيــد عايــش يف عشــوائيات‪..‬‬
‫مربرا‪:‬‬
‫رد ً‬
‫‪ -‬األرسة دي احتياجاهتــا نقيــة ومبــارشة ماتلوثتــش بــأي تقــدم‬

‫‪118‬‬
‫بيحصــل حوالينــا‪ ،‬الغــاء مصاهبمــش ألن الــي نفســهم فيــه حتــت مســتوى‬
‫الرخــص‪.‬‬
‫هنضت من مكاين وجلست إىل جواره ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫دايــا الصــح‬
‫دايــا اخلــر بيكــون صــح يــا خواجــة‪ ..‬ومــش ً‬
‫‪ -‬مــش ً‬
‫نفســه واضــح‪.‬‬
‫طلــب منــي أن أناديــه «آدم»‪ ،‬ســألني إن كنــت قــد مارســت أفعــال‬
‫«الكونــت» عــى أطفــال مــن قبــل فأجبتــه بصــدق أننــي قمــت بذلــك ثالث‬

‫ﻋﺼ‬
‫مــرات ومل أشــعر بمتعــة؛ وأن فتــوري جــاء مــن دافــع ذايت غــر أخالقــي‪..‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫أومــأ برأســه دون تعليــق‪ .‬أخــرين بحامســه للعمــل معــي‪ ،‬وبــا أننــا قــد‬
‫قررنــا التعــاون وكشــف مجيــع األوراق‪ ،‬فيجــب أن ينــادي كل منــا اآلخــر‬
‫ﻜﺘ‬
‫باســمه جمــر ًدا‪ ..‬وأن نتشــاطر مــا يــدور بداخــل كل منــا كامـ ًـا دون زيــف‬
‫أو إخفــاء للحقائــق‪ ..‬أ َّمنــت عــى كالمــه‪ ،‬وقبــل أن أخــره بمهمتــه ناولنــي‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫رزمــة مــن األمــوال أكــر قليـ ًـا مــن تلــك التــي أعطاهــا ألرشف‪ ،‬قــال‪:‬‬
‫‪ -‬وعشان أبقى سددت ديوين كلها‪ ،‬اتفضل دول‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬إيه الفلوس دي؟‬


‫ﻭ‬

‫‪ -‬دي الفلــوس الــي حرضتــك دفعتهــا للراجــل الــي أجرتــه مــن الـــ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ Dark web‬عشــان حيــاول يقتلنــي هنــا يف البيــت‪ ..‬أنــا فتحــت موبايلــه‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫وعرفــت ســعره‪.‬‬
‫قائل يف خجل‪:‬‬‫ابتسمت ً‬
‫‪ -‬آســف‪ ..‬االختبــار كان صعــب شــوية‪ ،‬بــس كان الزم أتأكــد إنــك‬
‫هاتســتحمل‪.‬‬
‫‪ -‬أستحمل إيه؟‬

‫‪119‬‬
‫‪ -‬إحنــا بنتعامــل مــع شــخص جمهــول ومعــاه فلــوس كتــر قــادر يأجــر‬
‫بيهــا حمرتفــن‪ ،‬ده دفــع ماليــن عشــان بــس يعــرف أنــا مــن‪.‬‬
‫ساخرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫عقب آدم‬
‫‪ -‬ده لو كان دفعهم لك كان زمانك مسلم له نفسك‪.‬‬
‫قائــا أن هــذا املجهــول لديــه خلــل‬ ‫مل أضحــك لتعليقــه‪ ،‬أكملــت ً‬
‫نفــي‪ ..‬ســألني عــن حقيقــة الكونــت‪ ،‬فهمــت مــا يرمــي إليــه فأجبتــه‬
‫صاد ًقــا أننــي لســت مصا ًبــا بالفصــام‪ ،‬وأن الكونــت جمــرد هويــة أخــرى‬

‫ﻋﺼ‬
‫صنعتهــا لنفــي حتــى أفــرغ مــن خالهلــا شــهوة التحكــم والســيطرة التــي‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ـدي‪ ،‬وأننــي أكــون واع ًيــا ومــدركًا متــام اإلدراك متــى أكــون يــارس ومتــى‬
‫لـ َّ‬
‫أصبــح «الكونــت»‪ ..‬ســألني باهتــام عــا إذا كان يــارس هــو اســمي احلقيقي‬
‫ﻜﺘ‬
‫أم أنــه جمــرد هويــة مزيفــة‪ ،‬وســتار صنعتــه ليغطــي عــى هويــة ثالثــة‪ ..‬أجبتــه‬
‫بصــدق‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬ال طب ًعــا‪ ..‬مافيــش هويــة مزيفــة هتكــون حمكمــة بالشــكل ده؛ بــس‬
‫هــو فعـ ًـا جمــرد ‪ Cover‬للكونــت‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫ســألني عمــن أفضلــه عــن اآلخــر‪ ..‬فأجبتــه أن االثنــن عنــدي ســواء‪،‬‬


‫ﻭ‬

‫فكالمهــا أنــا‪ ..‬صمــت قليـ ًـا‪ ،‬وســألني عــن الســبب احلقيقــي وراء بحثــي‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫عــن غــرام ومليكــة‪ ..‬مل أتعجــب مــن فضولــه‪ ،‬فأجبتــه بتلقائيــة أهنــا آخــر‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫مــا تبقــى يل يف هــذا العــامل‪ ..‬نظــر إ َّيل مبــارش ًة كأنــه حيــاول قــراءة أفــكاري‪،‬‬
‫ـوت خفيــض‪:‬‬ ‫وســألني بصـ ٍ‬
‫ـدور عليهــم عشــان مهــا مراتــك وبنتــك الــي بتحبهــم‪ ،‬وال‬
‫‪ -‬قصــدي بتـ َّ‬
‫عشــان مهــا جمــرد جــزء مــن ‪ Cover‬يارس الــي الكونــت مســتخبي وراه؟!‬
‫‪ -‬تفرق معاك؟‬

‫‪120‬‬
‫‪ -‬أكيــد‪ ..‬لــو مهــا جمــرد جــزء مــن اهلويــة فأنــا ممكــن أصنــع لــك مليــون‬
‫«يــارس» تــاين‪ ،‬بــس صعــب نخاطــر هبويــة «الكونــت»‪.‬‬
‫شــعرت بالعجــز املطلــق؛ فأنــا ال أعــرف حقيقــة اخلطــر‬
‫ُ‬ ‫مل أرد عليــه‪،‬‬
‫نظــرت‬
‫ُ‬ ‫الــذي هيددمهــا‪ ،‬وال أعــرف هويــة خاطفهــا‪ ،‬وال أثــق يف آدم‪..‬‬
‫ـزن حقيقــي‪ ،‬وطلبــت منــه مســاعديت يف البحــث عــن غــرام‬ ‫نحــو آدم بحـ ٍ‬
‫ومليكــة‪ ..‬ربــت عــى كتفــي قائـ ًـا بلهجــة مل ختـ ُـل مــن تعاطــف‪:‬‬
‫‪ -‬ما ختافش يا أستاذ يارس‪ ..‬أنا معاك حلد ما يرجعوا‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫قال مستدركًا‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬بــس حرضتــك مــا قولتليــش‪ ..‬الراجــل الــي كان بيحميــك قبــي راح‬
‫فني !‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬اختفى متا ًما؛ كأنه ماجاش الدنيا ً‬
‫أصل‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫سألني بقلق‪:‬‬
‫‪ -‬اختفى ليه؟‬
‫ﺸﺮ‬

‫ٍ‬
‫بصوت خفيض‪:‬‬ ‫أجبته‬
‫‪ -‬عشان كان بيحميني‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫طلــب «آدم» منــي أن نبــدأ يف العمــل‪ ،‬وأال نضيــع املزيــد مــن الوقــت‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫فيــا ال يفيــد‪ ..‬فاصطحبنــي إىل مــا أســاه «غرفــة العمليــات»؛ كانــت غرفــة‬
‫متســعة حتتــوي عــى العديــد مــن أجهــزة الكمبيوتــر ومعــدات أخــرى مل‬
‫أعــرف فائدهتــا‪ ،‬ش ـ َّغل مكيــف اهلــواء كبــر احلجــم الــذي ســبب بــرودة‬
‫شــديدة يف املــكان‪ ..‬اعتــذر أنــه يســتعمل أجهــزة معظمهــا غــر متطــور لكنه‬
‫يعــوض هــذا بخــرات اكتســبها منــذ بدايتــه يف عــامل االخــراق وحتــى هــذه‬
‫اللحظــة‪ ،‬أخــرين أن «حالتــه املاديــة» ال تســمح بــراء أجهــزة أحــدث‪..‬‬

‫‪121‬‬
‫فلــم أتطــرق ثاني ـ ًة للتعقيــب عــى املبلــغ الــذي أعطــاه البــن اخلادمــة منــذ‬
‫دقائــق‪.‬‬
‫ـت منــه مكاملــة «املجهــول»‪ ،‬وأوصلــه بأحــد‬ ‫تنــاول هاتفــي الــذي تلقيـ ُ‬
‫أجهزتــه‪ ،‬أخــرين أنــه ســيحاول تتبــع املكاملــة حتــى يعــرف هويــة املتصــل‪..‬‬
‫طلــب منــي االســرخاء ألن األمــر ســيأخذ وق ًتــا‪ ،‬فجلســت مرب ًعــا يـ َّ‬
‫ـدي‬
‫مــن الــرودة‪ ،‬فتــح ثالجــة صغــرة مل أحلــظ وجودهــا مــن قبــل‪ ،‬ســألني إن‬
‫ـززت رأيس ناف ًيــا‪ ،‬فأحــر لنفســه زجاجــة وناولنــي‬ ‫ـت أرشب البــرة فهـ ُ‬ ‫كنـ ُ‬

‫ﻋﺼ‬
‫زجاجــة مــن امليــاه الغازيــة‪..‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬أنا آسف يف السؤال‪ ..‬بس هو حرضتك تعترب سادي؟‬
‫ﻜﺘ‬
‫وقلت له هبدوء‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ابتسمت ابتسامة خافتة‪،‬‬
‫‪ -‬وصــف «ســادي» غــر دقيــق يف حالتــي‪ ،‬الــي أنــا بعملــه أرقــى بكتــر‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مــن التعذيــب؛ األمل بالنســبة يل جمــرد وســيلة لغايــة أعظــم بكتري‪ :‬للســيطرة‪.‬‬
‫نظــر إىل شاشــة الكمبيوتــر الــذي وصــل بــه هاتفــي‪ ..‬أخــرين أن املتصل‬
‫ﺸﺮ‬

‫قــد حجــب موقعــه بتقنيــة حديثــة‪ ،‬لكنــه ســيحاول اخرتاقــه‪ ،‬أخــرين آسـ ًفا‬
‫أن األمــر قــد يأخــذ أكثــر مــن ســاعتني‪ ،‬مل أملــك إال االنتظــار والوثــوق‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫فيــه‪ ..‬طلــب منــي أن أتنــاول مــرويب‪ ،‬ســألني عــن أعــداء حمتملــن أشــك‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫فيهــم‪ ..‬أجبتــه بصــدق أننــي ال أعــرف‪.‬‬


‫ســألته جمــد ًدا عــا اســتجد يف بحثــه عــن املختطــف‪ ،‬فطلــب منــي الصرب‪،‬‬
‫وعــدين أنــه سيســاعدين مهــا كلــف األمــر‪ ،‬حتــى وإن مل أرغــب يف العمــل‬
‫معــه بعــد عــودة غــرام ومليكــة‪..‬‬
‫أبديــت دهشــتي مــن مســاعدته غــر املرشوطــة‪ ..‬أخــرين أننــي قــد‬

‫‪122‬‬
‫ـل يتقــاىض‬‫علمتــه الكثــر‪ ،‬وأن جتربتــي أهلمتــه يف حتويــل مــا جييــده إىل عمـ ٍ‬
‫عليــه أجـ ًـرا‪ ،‬وأنــه كان يتبــع التفكــر األناركــي ‪-‬الــذي مل حيتفــظ منــه إال‬
‫باألقنعــة‪ -‬حتــى قــرأ أحــد مقــااليت التــي حتدثــت فيهــا عــن رضورة وجــود‬
‫النظــام‪ ،‬حتــى وإن حكــم عا ًملــا فوضو ًيــا مــن األســاس‪.‬‬
‫ســألته عــن مــدى تعلقــه بديانتــه التــي وجــدت الكثــر مــن أيقوناهتــا يف‬
‫الشــقة‪ ،‬عــدا غرفــة نومــه‪ ،‬فأجابنــي بحــزن‪:‬‬
‫‪ -‬أنــا مؤمــن عــادي بــس مــش ملتــزم يعنــي‪ ..‬دي كلهــا حاجــات أبويــا‬

‫ﻋﺼ‬
‫وأمــي‪ ..‬استشــهدوا يف حادثــة تفجــر َكنَــي مــن عــر ســنني‪ ،‬كان معاهــم‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫«مــاك» أخويــا الصغــر‪ ،‬بعدهــا عــى طــول أختــي الكبــرة اجتــوزت‬
‫ﻜﺘ‬
‫وهاجــرت أســراليا‪..‬‬
‫أرجع رأسه للخلف ضاحكًا يف أسى‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬متخيل تصحى الصبح متالقيش عيلتك كلها؟‬


‫‪ -‬وأختيل ليه؟ ما هو بقى واقع آهه‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫حدثنــي عــن حبيبتــه الســابقة فــروز التــي تواصلــت معــه منــذ أيــام‬
‫حــن تصاعــدت مشــاكلها الزوجيــة‪ ،‬أخــرين أنــه نجــح يف مســاعدهتا‪،‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫وأهنــا ســتصل مــر خــال يومــن؛ بعــد أن اخــرق حســاب زوجهــا‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫«رمــزي» عــى موقــع ‪ facebook‬ووجــد عليــه الكثــر ممــا يمكــن فضحــه‬


‫وإذاللــه بــه‪ ..‬فســاومه عــى عــودة فــروز وابنهــا الــذي أســمته عــى اســم‬
‫أخيــه «مــاك»‪ ،‬فطلقهــا الــزوج دون تــردد‪.‬‬
‫أخــرين أن فــروز هجرتــه حــن شــعرت باليــأس مــن اســتعادة «آدم‬
‫حبيــب» الــذي عشــقته‪ ،‬آدم املتســامح الــذي ال يتجــاوز يف اخلطــأ وحيــاول‬

‫‪123‬‬
‫دو ًمــا حتســن نفســه‪ ..‬مل جتــد منــه بعــد رحيــل عائلتــه إال شــبح إنســان‪..‬‬
‫مســخا ال يفعــل شــي ًئا إال التنفــس واخــراق احلواســب للحصــول عــى‬ ‫ً‬
‫املــال الــذي يغنيــه عــن أي عمــل يرهــق روحــه اخلاويــة‪ ..‬ذكرتنــي تفاصيــل‬
‫آخــر لقــاء مجعــه بفــروز باجللســة التــي ودعتنــي فيهــا أمــي حــن كنــت يف‬
‫العــارشة مــن عمــري‪..‬‬
‫قلــت آلدم أننــي ال زلــت أذكــر نظرهتــا املنكــرة‪ ،‬وهلجتهــا التــي‬
‫حاولــت أن جتعلهــا عاديــة‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬يارس يا حبيبي أنت عارف كويس إين بحبك‪..‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬وأنا كامن بحبك يا ماما‪..‬‬
‫‪ -‬طيب أنا هسافر لفرتة طويلة‪ ،‬وماعرفش هرجع امتى‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬كل ده عشان مابروحش املدرسة؟‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬أل يــا حبيبــي املوضــوع أكــر مــن كــده‪ ..‬بــس أنــا وبابــا ماينفعــش‬
‫نعيــش مــع بعــض تــاين‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫ـرت إىل وجههــا املمتلــئ باجلــروح والنــدوب‪ ،‬مل أملــك ر ًدا أو دفا ًعــا‬‫نظـ ُ‬
‫عــن عبــد احلــي الطائــي الــذي جتســد الشــيطان يف صورتــه‪ ..‬مل أعــرف حتــى‬
‫ﻭ‬

‫فهمــت بعــد هــذا اللقــاء بســنني أن رصاخ أمــي‬‫ُ‬ ‫مــررا ملــا يفعــل‪..‬‬ ‫اآلن‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ً‬
‫الــذي ســمعته قبــل جلســتنا األخــرة بيومــن كان جــراء اعتــداء جنــي‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫مــن «الطائــي» الــذي مل أعــرف كيــف ومتــى فقــد عقلــه وال متــى امتلــك‬
‫عقـ ًـا مــن األســاس‪.‬‬
‫‪ -‬ممكن تاخديني معاكي؟‬
‫‪ -‬أنــا لســه ماعرفــش هــروح فــن‪ ،‬وخايفــة أخــدك معايــا حيصــل لــك‬
‫حاجــة‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫مل تــرك يل فرصـ ًة للــرد‪ ،‬وال جمـ ً‬
‫ـال للرفــض‪ ،‬منحتنــي عنا ًقا طويـ ًـا يليق‬
‫بــودا ٍع أخــر‪ ..‬مل تثنهــا دموعــي عــن قرارهــا وال تشــبثي بقدمهــا ً‬
‫أيضــا‪ ..‬مل‬
‫ـعرت يف ذلــك اليــوم‪ ،‬كنــت‬
‫أشــعر بســخط جتــاه عبــد احلــي الطائــي مثلــا شـ ُ‬
‫عــى اســتعداد أن أغفــر لــه كل مــا فعــل معــي‪ ،‬لكننــي مل أســاحمه عــى رحيــل‬
‫أمــي إىل اليــوم‪ ..‬حتــى بعــد أن حبســته يف حجــريت البيضــاء وحولتــه إىل‬
‫مســخ يالئــم حقيقتــه‪.‬‬
‫حــاول آدم تغيــر املوضــوع بعــد أن شــعر باألســف جتاهــي‪ ،‬ســألني‬

‫ﻋﺼ‬
‫أن أخــره املزيــد عــن تفاصيــل بدايــة عمــي كـ»كونــت»‪ ،‬فوجئــت أنــه كان‬
‫متاب ًعــا ملســريت املهنيــة منــذ بدايتهــا حتــى حلظــة االهنيــار عــى يــد ذلــك‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫املجهــول‪ ..‬فأوجــزت لــه حديثــي عــن البدايــة‪ ،‬ســألته عــا إذا كان أحــد‬
‫ﻜﺘ‬
‫مــن اإلنرتنــت املظلــم قــد عــرف بــا مــر بــه الكونــت مــن اهنيــار وكشــف‬
‫هلويتــه‪ ..‬فأجــاب بالنفــي‪ ،‬أخــرين بقيامــه بعمــل نظــام محايــة جديــد‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫حلســابايت عــى اإلنرتنــت املظلــم‪ ..‬لفــت آدم نظــري إىل أن «املجهــول» مل‬
‫ـع إال ملعرفــة هويتــي احلقيقيــة دون‬
‫يطمــع فيــا أملــك مــن ‪ bitcoins‬ومل يسـ َ‬
‫ﺸﺮ‬

‫أن هيتــم بكشــفها للجميــع‪.‬‬


‫ارحتــت حــن فتحــت لــه قلبــي‪ ،‬اســتعدت الكثــر ممــا كان مدونًــا يف‬ ‫ُ‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ـدت كتابتهــا منــذ رحلــت أمــي‪ ،‬وقصصــت فيهــا أهــم‬ ‫مذكــرايت التــي اعتـ ُ‬
‫أحــداث حيــايت؛ مثــل يــوم أن تعلمــت ابنتــي الســر‪ ،‬وســبب تســميتها‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫هبــذا االســم‪ ،‬وشــعوري باحلــزن يف أواخــر شــهور محــل غــرام فيهــا؛‬


‫ـت أهنــا فتــاة‪ ..‬وكيــف أثــر هــذا عــى غــرام وجعــل والدهتــا متــر‬
‫حــن عرفـ ُ‬
‫بصعوبــات‪ ،‬فأدركــت أمهيــة كلتيهــا يف حيــايت‪ ..‬مل أعــرف إن كانــت هــذه‬
‫املشــاعر حقيقيــة أم أننــي اندجمــت يف غطــاء «يــارس» حتــى أصبحــت أزيــف‬
‫مشــاعره باتقــان تــام‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫ـت انزعاجــي مــن آدم حــن أشــعل ســيجارة ملفوفــة‪ ،‬أخــرين أن‬ ‫أبديـ ُ‬
‫بداخلهــا جرعــة بســيطة مــن االســروكس‪ ،‬تســاعده عــى الرتكيــز يف عمله‪،‬‬
‫ـرت تعذيبــي ألحــد‬‫وأهنــا مل تعــد تســبب لــه هلوســة منــذ فــرة طويلــة‪ .‬تذكـ ُ‬
‫ضحايــاي باســتخدام نفــس املــادة‪ ،‬راح يــرخ كاألطفــال وينــادي عــى‬
‫أشــخاص ال يراهــم ســواه‪ ،‬ظــل يــردد عبــارة واحــدة «ســاحمني يــا رب‪ ،‬أنــا‬
‫ـت مــن آدم أال يتنــاول أي يشء أثنــاء عملــه معــي‪...‬‬ ‫بحبــك يــا رب»‪ ..‬طلبـ ُ‬
‫مشــرا نحــو حاســبه بانتصــار‪ ،‬أخــرين أنــه اســتطاع‬
‫ً‬ ‫قاطــع حديثــي‬

‫ﻋﺼ‬
‫حتديــد موقــع اهلاتــف الــذي اتصــل منــه «املجهــول»‪ ،‬وذكــر العنــوان‪..‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫هنضــت مرس ًعــا‪ ،‬طلبــت منــه أن نتوجــه للمــكان عــى الفــور‪ ..‬وقبــل أن‬
‫أفتــح بــاب الشــقة أوقفنــي آدم ممســكًا بســاعدي‪ ،‬قــال بحــرة‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬مش احتامل يكون ده فخ؟‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫حاولــت لكمــه يف وجهــه فتفــادى لكمتــي يف خفــة‪ ،‬ســألني باســتنكار‬


‫عــن ســبب مــا فعلــت‪ ..‬أجبتــه ببســاطة‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬كنت بشوفك مستعد وال أل‪.‬‬


‫وصلنــا إىل املــكان الــذي حــدده آدم ســل ًفا‪ ،‬كان فند ًقــا بســي ًطا يف وســط‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫البلــد‪ ،‬كنــت أعرفــه جيــدً ا؛ فقــد أقمــت فيــه لفــرة حــن عــدت مــن أمريــكا‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫قبــل أن أســتأجر شــقة «يــارس» وأشــري فيــا «الكونــت»‪ ..‬اســتوقفنا‬


‫ً‬
‫ســائل عــا نريــد‪ ،‬مل نجــد ر ًدا مناســ ًبا‪ ..‬فســأل آدم‬ ‫موظــف االســتقبال‬
‫املوظــف برسعــة بدهيــة عــن أي حجــز باســم «يــارس الطائــي»‪ ..‬فقــال‬
‫املوظــف بلهفــة‪:‬‬
‫‪ -‬حرضتك أستاذ يارس؟‬

‫‪126‬‬
‫فــأرشت لــه بيــدي‪ ..‬طلــب بطاقتــي الشــخصية فأظهرهتــا لــه‪ ..‬أخــرج‬
‫مــن أحــد أدراج مكتبــه هات ًفــا قديــم اإلصــدار‪ ،‬ناولنــي إيــاه قائـ ًـا‪:‬‬
‫‪ -‬فيه راجل جه من كام يوم‪ ،‬وصاين أديك املوبايل ده أمانة‪.‬‬
‫ســأله آدم عــن أوصــاف هــذا الرجــل‪ ..‬فــرد املوظــف أنــه كان ضخــم‬
‫البنيــان‪ ،‬يقــود ســيارة ســوداء عــى قــدر مــن الفخامــة‪ ،‬واستشــف مــن‬
‫حديثــه أنــه يعمــل ســائ ًقا لــدى صاحبهــا‪ ،‬أعطــى املوظــف ً‬
‫بعضــا مــن املــال‬
‫وتــا عليــه أوامــره‪ ،‬وانطلــق بســيارته مرس ًعــا‪...‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫قاطــع حديثنــا صــوت رنــن اهلاتــف جمهــول املصــدر‪ ،‬فجذبــت آدم‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫مــن ذراعــه وخرجنــا دون اســتئذان‪ ..‬كان املتصــل يســتعمل برناجمًــا لتغيــر‬
‫ﻜﺘ‬
‫األصــوات‪..‬‬
‫‪ -‬حبيــت أبــدأ معــاك لعبتنــا مــن نفــس املــكان الــي اتولــدت فيــه فكــرة‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫الكونــت‪.‬‬
‫‪ -‬أنت مني؟‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬أنــت عــارف كويــس‪ ،‬ماتقلقــش غــرام ومليكــة كويســن‪ ..‬حلــد‬


‫ﻭ‬

‫دلوقتــي‪.‬‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫موضحا‪:‬‬
‫ً‬ ‫قبل أن أسأله كيف عرف هذا الفندق‪ ،‬بادرين‬
‫‪ -‬أنــا مراقبــك مــن ســاعة مــا وصلــت البيــت‪ ،‬حرضتــك اتلهيــت مــع‬
‫أرستــك املخطوفــة‪ ،‬ونســيت إين خــدت مــن الشــقة حاجــة أهــم بكتــر‪:‬‬
‫مذكراتــك كاملــة‪.‬‬
‫أكمل حديثه ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫‪127‬‬
‫‪ -‬ومــن املذكــرات عرفــت كل حاجــة عــن يــارس وعــن الكونــت‪،‬‬
‫وحطيــت قواعــد للعبــة الــي هنلعبهــا‪ ..‬إحنــا عايزيــن يــارس والكونــت‬
‫يصفــوا كل رصاعاهتــم القديمــة واجلديــدة‪.‬‬
‫طلبــت منــه هبــدوء أن ُيــرج زوجتــي وابنتــي مــن هــذه اللعبــة‪ ،‬ر َّد‬
‫ضاحــكًا‪:‬‬
‫‪ -‬واحلافــز يــا مســر يــارس؟ الزم حافــز عشــان تلعــب‪ ..‬ولــو حســيت‬
‫إنــك بتفكــر ختــرج عــن القواعــد الــي رســمتها لــك‪ ،‬هابتــدي أمــارس عــى‬

‫ﻋﺼ‬
‫أهلــك نفــس الــي أنــت بتامرســه عــى النــاس‪..‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫طلبــت منــه ثاني ـ ًة أن خيرجهــا مــن تلــك اللعبــة‪ ،‬لكنــه مل يعبــأ بــأي ممــا‬
‫قلــت‪ ..‬أكمــل حديثــه كممثــل حيفــظ دوره جيــدً ا‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬ولــو حصــل لــك أي أذى أنــت أو األخ اجلميــل الــي واقــف جنبــك‬
‫دلوقتــي أنــا مــش مســئول‪ ،‬ومــش مســئول عــن مصــر غــرام ومليكــة مــن‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بعــدك‪.‬‬
‫وعدته أن أنفذ مجيع ما يريد‪ ،‬فقال منه ًيا املكاملة‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬أنت هرتوح قسم رشطة اهلرم‪ ..‬وهتسلم نفسك هناك‪.‬‬


‫ﻭ‬

‫***‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪128‬‬
‫‪ -9‬حل وسط‪..‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫كان الرفض رفاهية ال أملكها يف ذلك الوقت‪..‬‬
‫بدايــ ًة مل أســتوعب مــا طلبــه ذلــك اخلاطــف؛ فكيــف ســأصفي‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫حســابايت القديمــة مــن خــال تســليم نفــي للرشطــة‪ ،‬وكيــف ســأحرر‬
‫ﻜﺘ‬
‫أهــل بيتــي وأنــا حبيــس الســجن؟ مل أجــد ُبــدً ا مــن تســليم إراديت لــه‪،‬‬
‫طلبــت مــن «آدم اخلواجــة» أن يبقــى يف بيتــه ليتابــع مــا ســأمر بــه مــن‬
‫ُ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بعيــد‪ ،‬ويتدخــل إن تطلــب األمــر‪ ..‬ث َّبــت «اخلواجــة» يف مواضــع خفيــة‬


‫جهــازا للتتبــع وآخــر لتســجيل مــا ســيحدث صوت ًيــا‪..‬‬‫ً‬ ‫مــن جســدي‬
‫ﺸﺮ‬

‫ـت قبــل أن أصــل القســم بدقائــق أننــي سأســلم نفــي إىل ضابــط‬ ‫عرفـ ُ‬
‫بعينــه؛ يدعــى «محــزة درويــش»‪ ..‬دخلــت بخطــوات حــذرة‪ ،‬مل يعبــأ يب‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أحــد مــن العاملــن بالقســم‪ ،‬ارتطــم بكتفــي أحــد أمنــاء الرشطــة وأكمــل‬
‫ســره دون أن يعتــذر‪ ،‬كانــت احلركــة رسيعــة بالداخــل كــا توقعــت‪،‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ملحــت عــد ًدا مــن املحابيــس املكبلــن يف وضعيــة جلــوس القرفصــاء‬ ‫ُ‬
‫متهيــدً ا لرتحيلهــم‪ ،‬ســمعت صــوت أحــد الضبــاط مــن داخــل مكتبــه‬
‫شــخصا مــا‪ ،‬ســألت أحــد العســاكر عــن مكتــب املقــدم محــزة‬ ‫ً‬ ‫ينهــر‬
‫فســألني بلهجــة ريفيــة عــن ســبب الزيــارة‪ ،‬ابتعــدت عنــه خطوتــن‬
‫حــن التقطــت أنفــي رائحــة بصــل منبعثــة مــن فمــه‪ ،‬أخربتــه باقتضــاب‬

‫‪129‬‬
‫متفرســا يف هيئتــي‪ ،‬وبعــد حلظــات‬
‫ً‬ ‫أنــه صديــق شــخيص‪ ..‬صمــت قليـ ًـا‬
‫تبدلــت هلجتــه معــي‪ ،‬رحــب يب‪ ،‬اصطحبنــي إىل غرفــة مكتــب مغلقــة‬
‫ٍ‬
‫ثــوان‬ ‫يقــف أمــام باهبــا عســكري بســيط اهليئــة‪ ،‬طلــب بطاقتــي وبعــد‬
‫ســمح يل بالدخــول‪.‬‬
‫كانــت رائحــة التكييــف قديــم الطــراز نفــاذة‪ ،‬مل أفهــم ســبب تشــغيله‬
‫يف الشــتاء‪ ،‬كان مكتــب محــزة بســي ًطا كهيئتــه املبعثــرة؛ خال ًيا مــن األثاث‪..‬‬
‫لوحــا مــن الزجــاج‪ ،‬ميــزت آثــار‬
‫اســتقر فــوق مكتبــه املكتــظ بــاألوراق ً‬

‫ﻋﺼ‬
‫براويــز صــور تــم رفعهــا مــن فــوق هــذا اللــوح مــن خــال شــكل األتربــة‬
‫املمســوحة حدي ًثــا‪ ،‬ويافطــة خشــبية كُتِــب عليهــا‪« :‬فــاهلل خــر حاف ًظــا‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫وهــو أرحــم الرامحــن»‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫ـال هاتف ًيــا للتوصيــة عــى أحــد أصدقائــه‬ ‫تظاهــر محــزة أنــه جيــري اتصـ ً‬
‫الــذي يريــد جتديــد رخــص القيــادة‪ ..‬مل ينظــر نحــوي طيلة حديثــه الومهي‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬مش مصدق إن الكونت بنفسه موجود هنا‪.‬‬


‫هكــذا بــدأ محــزة حديثــه معــي بعــد دقائــق مــن الصمــت‪ ،‬حيــاين‬
‫ﺸﺮ‬

‫باســمي احلقيقــي مــا ًدا يــده بالســام دون أن ينهــض مــن مقعــده؛‬
‫فتظاهــرت أننــي مل أرهــا‪ ،‬جفــف عــرق جبهتــه الــذي مل أفهــم كيــف‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫وجــد مــن األســاس‪ ،‬وضبــط وضــع مالبســه الواســعة التــي تســر جسـ ًـا‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ممتل ًئــا‪ ..‬حللــت زر بدلتــي الســوداء وجلســت أمامــه واض ًعــا ســاقي‬
‫فــوق األخــرى‪ ..‬ســألني عــا أرشب فأجبــت ســؤاله بسـ ٍ‬
‫ـؤال عــا يريــد‬
‫منــي‪ ..‬أجــاب بلهجــة حازمــة‪:‬‬
‫‪ -‬مانكــرش إين بكرهــك‪ ،‬وبكــره الــي بتعملــه ونفــي أخلــص‬
‫منــك‪ ..‬بــس لألســف ماقــدرش أعمــل هنــا أي حاجــة‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫علقــت عــى كالمــه أن أي عالقــة كــره تشــوهبا نســبة كبــرة مــن‬
‫اإلعجــاب باملكــروه‪ ،‬ســألته بشــكل مبــارش عــن عالقتــه بـ»املجهــول»‪،‬‬
‫فأنكــر متا ًمــا أنــه يعرفــه وروى قصــة مماثلــة لقصتــي‪:‬‬
‫‪ -‬كل اليل أعرفه إنه اخرتق حسايب وعرف أنا مني‪..‬‬
‫‪ -‬خطف حد بتحبه؟‬
‫ارتعــد مــن جمــرد طرحــي للفكرة‪ ،‬نفــى حدوثهــا‪ ،‬مل هيــدده «املجهول»‬
‫إال بالفضيحــة‪ ،‬ويف حالــة محــزة كانــت الفضيحــة املهنيــة رضبــة قاضيــة‬

‫ﻋﺼ‬
‫حلياتــه‪ ..‬طلــب منــي أال أؤذي أحــدً ا مــن أهلــه فأجبتــه بصــدق أنــه أتفــه‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫مــن هــذا بكثــر‪ ،‬وأن هويتــه التــي يعمــل مــن خالهلــا حمق ًقــا للعدالــة‬
‫بقــدر إخالهلــا للنظــام إال أهنــا ال تعنينــي وال أهتــم بوجودهــا مــن‬
‫ﻜﺘ‬
‫األســاس‪ ،‬وأنــه مســئول بشــكل مــا عــن وجــود الظلــم الــذي يوهــم‬
‫نفســه بمحاربتــه‪ .‬بــل إن املؤسســات املعنيــة بتحقيــق العدالــة أصبحــت‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ُمنَظِمــة للفــوىض ليــس أكثــر‪...‬‬


‫قاطــع حديثنــا دخــول أحــد العســاكر حامـ ًـا صينيــة اســتقر فوقهــا‬
‫ﺸﺮ‬

‫كــوب مــن الشــاي‪ ،‬وضعــه أمــام محــزة وســألني عــا أرشب فــأرشت لــه‬
‫بيــدي كــي ينــرف‪ ،‬أطاعنــي كأننــي أحــد الضبــاط وخــرج مرس ًعــا‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫مل َأر يف محــزة اختال ًفــا عــن الكثــر مــن أبنــاء املجتمــع‪ ..‬مجيعهــم حيــب‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫القانــون‪ ،‬يــرون فيــه قيــدً ا رضور ًيــا جلميــع مــن ســواهم‪ ،‬وال يامنعــون‬
‫آن آلخــر‪ ..‬وبقــدر تقديســهم للنظــام يقدســون مــن‬ ‫باخلــروج عنــه مــن ٍ‬
‫يتمــرد عليــه؛ فيســتغرقون يف التهليــل لــه‪ ،‬هاتفــن باســمه‪ ،‬مادحــن‬
‫أفعالــه‪ ..‬يقدمــون لــه الدعــم مــن بعيــد‪ ،‬لكــن ال أحــد فيهــم يتمنــى أن‬
‫يكــون مكانــه‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫أخــرج محــزة مــن درج مكتبــه علبــة صغــرة حتتــوي عــى حبــوب‬
‫ـرا منهــا‪ ،‬وبــدأ يتحدث‬
‫ســكر قليــل الســعرات‪ ،‬أســقط يف كوبــه عــد ًدا كبـ ً‬
‫وهــو يذيــب الســكر حمد ًثــا صـ ٍ‬
‫ـوت عـ ٍ‬
‫ـال‪:‬‬
‫‪ -‬هو هددين يدمر وظيفتي ويأذي أهل بيتي زي ما عمل معاك‪..‬‬
‫تركتــه يتحــدث دون أن أشــكك يف صــدق روايتــه‪ ،‬ســألته هبــدوء عــا‬
‫ـاحا مثب ًتــا يف مؤخــرة حزامــه‪،‬‬
‫طلــب منــه ذلــك املجهــول‪ ..‬حتســس سـ ً‬
‫مســح بيــده فــوق رأســه وقــال‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬طلب مني أهني رصاعي معاك‪ ..‬وإين أحقق العدالة فيك‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫عيل؟‬
‫‪ -‬أمرك تصفيني وال تقبض َّ‬
‫قال بعد ٍ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ثوان من التفكري‪:‬‬
‫‪ -‬طلب مني ما أسيبكش خترج من هنا إال لو حققنا العدالة‪..‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫قلــت لــه هبــدوء أننــي عــى يقــن مــن بغضــه يل‪ ،‬طلبــت منــه أن‬
‫ننحــي خالفاتنــا جان ًبــا لتحقيــق رغبــة ذلــك «املجهــول»‪ ..‬وأن طلــب‬
‫ﺸﺮ‬

‫«املجهــول» بخصــوص العدالــة ال يعنــي بالــرورة أن يتــم تطبيقهــا‬


‫عــي‪ ،‬أمســكت هاتــف محــزة املوضــوع أمامــه‪ ،‬مل أنخــدع بشاشــته‬ ‫َّ‬
‫ﻭ‬

‫املعتمــة؛ كنــت متأكــدً ا أن ذلــك املجهــول يســمع حمادثتنــا مــن خاللــه‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫باالتفــاق مــع محــزة‪ ،‬قلــت هبــدوء ناظـ ًـرا نحــو اليافطــة اخلشــبية الصغــرة‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫املوضوعــة يف واجهــة مكتــب محــزة‪:‬‬


‫‪ -‬بــس لــو أنــا ســاعدت ســيادة املقــدم «محــزة حممــد درويــش» عــى‬
‫إنــه حيقــق العدالــة يف جمــرم خطورتــه أكــر منــي‪ ..‬ســاعتها نبقــى وصلنــا‬
‫حلــل وســط‪ ،‬وكل األطــراف ختــرج فرحانــة‪ win-win situation ..‬يــا‬
‫محــزة بيــه!‬

‫‪132‬‬
‫أعطيتــه اهلاتــف ليســمع رد «املجهــول» الــذي يتحكــم بمصرينــا‪،‬‬
‫صــدق توقعــي ووافــق «املجهــول» عــى الصفقــة التــي عرضتهــا‪ .‬كان‬
‫محــزة خائ ًفــا منــي بحــق بالرغــم مــن رغبتــه الســابقة يف التخلــص منــي‪،‬‬
‫وبرغــم كــوين أعــزل وألعــب معــه عــى أرضــه‪ ،‬كانــت أصابعــه تتجــه‬
‫تلقائ ًيــا نحــو جــرس مكتبــه يف وضــع االســتعداد للضغــط عليــه يف أي‬
‫وقــت‪ ..‬قــال بعــد تفكــر مل يــدم طويـ ًـا‪:‬‬
‫‪ -‬يزيد الصاوي‪..‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ثــم أكمــل حديثــه شـ ً‬
‫ـارحا خطــورة هــذا املجــرم الــذي تــم ضبطــه مــن‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫يومــن بصحبــة رجالــه قبــل أن يصلــوا إىل خمــزن الســاح اخلــاص هبــم‪..‬‬
‫تعجلــت الرشطــة القبــض عليــه حــن تعرفــوا عليــه يف أحــد األكمنــة‬
‫ﻜﺘ‬
‫مضحــن بحالــة «التلبــس» الواجــب توافرهــا إلكــال القضيــة‪ ..‬أراد‬
‫محــزة معرفــة مــكان خمــزن الســاح قبــل انتهــاء مــدة احلبــس االحتياطــي‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫التــي يقرهــا القانــون ليزيــد الصــاوي‪ ،‬حتــى جيــد مــا يســلمه للنيابــة‪..‬‬
‫قلــت لــه بلهجــة عمليــة‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬دخلني أشوفه‪.‬‬
‫رد محــزة بخطــورة دخــويل الزنزانــة‪ ،‬طلــب منــي أن أفكــر لــه يف طريقة‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫خيــارا غــر املوافقــة‪،‬‬


‫ً‬ ‫للتعذيــب مــن مــكاين‪ ..‬مل أرد عليــه‪ ،‬فلــم جيــد‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫اســتدعى أحــد العســاكر القتيــادي إىل الزنزانــة التــي حبــس فيهــا يزيــد‬
‫الصــاوي ورجالــه الثالثــة‪ ،‬وأمــره أن يبقــى بجــوار املحبــس؛ فيخرجنــي‬
‫حــن أطلــب منــه دون جــدال‪.‬‬
‫ال أنكــر أننــي شــعرت بــيء مــن الفــزع حــن ســمعت صــوت‬
‫عــي مــن اخلــارج‪ ..‬هامجتنــي‬
‫البــاب احلديــدي للزنزانــة وهــو يغلــق َّ‬

‫‪133‬‬
‫رائحــة عطــن هــي خليــط مــن رائحــة بــول املســاجني وأجســادهم‬
‫املتعرقــة ودخــان الســجائر التــي ملحــت الكثــر مــن أعقاهبــا فــوق أرضيــة‬
‫الزنزانــة‪ ..‬كانــت الرؤيــة واضحــة عــى الرغــم مــن عــدم وجــود مصابيح‬
‫بالداخــل‪ ،‬جلــس املســاجني يف جتمعــات‪ ،‬حتــى مــن أتــى بمفــرده كـ َّـون‬
‫لنفســه مجاعــة تســاعده عــى قضــاء أيــام احلبــس االحتياطــي‪..‬‬
‫متوجهــا نحــوي حتــى يســلبني مالبــي‬ ‫ً‬ ‫هنــض أحدهــم مــن مكانــه‬
‫وأي متعلقــات جيدهــا معــي‪ ..‬نظــرت لــه يف عينــه وأرشت لــه بحــزم كــي‬

‫ﻋﺼ‬
‫جيلــس مكانــه‪ ،‬وقــف مكانــه قليـ ًـا مفكـ ًـرا‪ ،‬ابتســم كاش ـ ًفا عــن أســنان‬
‫صفــراء وفــم رائحتــه كقــر نُثــرت حمتوياتــه‪ ،‬ابتعــد عنــي بعــد أن أطلــق‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ســبة بصــوت خفيــض‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫ـي «محــزة»‪ ،‬مل‬
‫ميــزت يزيــد الصــاوي مــن الصــورة التــي عرضهــا عـ َّ‬
‫ـت ترصفاتــه ومالحمــه لدقائق؛‬‫ـرا كأن احلبــس ال يؤثــر فيــه‪ ،‬تأملـ ُ‬
‫يتغــر كثـ ً‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫كان دقيــق اجلســد واملالمــح يشــبه األطفــال‪ ..‬حــن الحــظ تركيــزي معــه‬
‫توجهــت نحــو البــاب مســتدع ًيا العســكري الــذي أدخلنــي منــذ قليــل‪،‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫وقلــت لــه بلهجــة آمــرة‪:‬‬


‫‪ -‬طلعني يا ابني‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫مل تبــدُ الدهشــة عــى املســاجني‪ ،‬فقــد مخــن معظمهــم أننــي ضابــط‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫حــن دخلــت ببدلتــي الكاملــة وهبيئــة مهندمــة‪ ،‬وحــن مل أســأل أحدهــم‬


‫عــن ســجائر‪ ،‬أظــن لنفــس الســبب ابتعــد هــذا املجــرم عنــي‪..‬‬
‫‪ -‬أنت حلقت يا أستاذ يارس؟!‬
‫طلبــت منــه ورقــة وقلـ ًـا وبــدأت أقــص عليــه خطتــي يف معرفــة موقــع‬
‫ختزين الســاح‪:‬‬

‫‪134‬‬
‫‪ -‬الراجــل ده ثقتــه يف رجالتــه ماهلــاش حــدود‪ ..‬واضــح إنــه بيعتمــد‬
‫عــى عزوتــه دي يف كل حاجــة‪ ..‬واحــد غــره كان مســتحيل ينــام عشــان‬
‫هيخــاف رجالتــه يصفــوه‪ ،‬ألنــه حســب مــا فهمــت منــك جمــرد تــرس‬
‫يف مافيــا أكــر منــه بكتــر‪ ..‬بــس الراجــل شــكله بينــام كويــس ومــا‬
‫بيســمحش حلــد فيهــم يبعــد عنــه‪..‬‬
‫أخــرين محــزة أن رجــال «يزيــد الصــاوي» رفضــوا اإلفشــاء بــره‬
‫واالعــراف عليــه‪ ..‬حتــى وإن ختــى أحدهــم عــن والئــه؛ فلــن يتحــدث‬

‫ﻋﺼ‬
‫حتــى ال يتــم تصفيــة أرستــه كاملــة‪ ،‬ســألته مبتسـ ًـا‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬ومني قال لك إننا عايزين نعرف منهم مكان السالح؟‬
‫مل يبدُ عليه أنه قد فهم خطتي بعد فأكملت حديثي ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬بــا إن كل واحــد فيهــم عايــز يطلــع مــن القضيــة ويف نفــس الوقــت‬
‫خايــف أهلــه حيصــل هلــم حاجــة‪ ،‬فهنتوصــل معاهــم حلــل وســط‪..‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫رسم بسي ًطا عىل الورق وأكملت حديثي ً‬


‫قائل‪:‬‬ ‫صنعت ً‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬احنا هنستخدمهم يف عملية ‪.Gaslighting‬‬


‫أعلــم أن خلــف كل كُــره إعجا ًبــا‪ ،‬لذلــك مل أندهــش حــن نظــر يل‬
‫ﻭ‬

‫«محــزة درويــش» بانبهــار طال ًبــا أن أســتفيض يف الــرح‪ ..‬أخربتــه أن هذا‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫املصطلــح يشــر إىل عمليــة التالعــب العقــي للحصــول عــى معلومــات‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫معينــة؛ فيتــم الكــذب عــى الشــخصية املســتهدفة بخصــوص الكثــر مــن‬


‫احلقائــق التــي يظنهــا ثابتــة حتــى يشــك يف قدراتــه العقليــة متا ًمــا‪ ..‬ســألني‬
‫عــن آليــة تنفيــذ هــذه الطريقــة فأجبتــه قائـ ًـا‪:‬‬
‫أول يزيــد الصــاوي الزم يدخــل احلبــس االنفــرادي‪ ..‬ويتحــرم‬ ‫‪ً -‬‬
‫مــن النــوم‪ ..‬عايــزه يبقــى يشء هــش متا ًمــا‪ ..‬بعــد كــده هنعــزل رجالتــه‬

‫‪135‬‬
‫وهنســاومهم‪ ،‬لــو رفضــوا هيتعمــل معاهــم أوضــاع التعذيــب بالضغــط‬
‫النفــي‪.‬‬
‫بعضــا مــن هــذه األوضــاع؛ كإجبــار الضحيــة عىل‬‫كــدت أن أرشح لــه ً‬
‫وناظــرا إىل أســفل‪ ،‬أو الركــوع‬
‫ً‬ ‫جلــوس القرفصــاء مقيــدً ا مــن اخللــف‬
‫عــى الركبــة مــع التقييــد مــن اخللــف لفــرات طويلــة‪ ..‬لكنــه كان يعرفهــا‬
‫جيــدً ا ومل جيــد مان ًعــا يف تطبيقهــا عليهــم للوصــول معهــم إىل هــذا «احلــل‬
‫الوســط»‪ ..‬أكملــت خطتــي قائـ ًـا‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬هاتطلــب منهــم يكدبــوا يف التحقيــق قــدام يزيــد يف كل التفاصيــل‪،‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫مــن غــر مــا يقولــوا مــكان املخــزن زي مــا اتفقــوا مــع العصابــة‪ ..‬يبدلــوا‬
‫أســاميهم مــع بعــض‪ ،‬ويقولــوا نــوع عربيــة غــر الــي امتســكوا بيهــا‪،‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫يغــروا كل التفاصيــل بنفــس الســيناريو‪ ..‬وتنبــه عليهــم يكملــوا يف‬
‫كذبتهــم حلــد يزيــد مــا يشــك يف قدراتــه العقليــة‪ ،‬مــع قلــة النــوم وشــوية‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫تالعــب نفــي منــك هيقــر بــكل حاجــة‪.‬‬


‫أبــدى محــزة قلقــه مــن أن تطــول املــدة‪ ،‬وضعــت لــه بعــض القواعــد‬
‫ﺸﺮ‬

‫التــي إن التــزم هبــا فلــن يســتغرق أكثــر مــن ثالثــة أيــام‪ ..‬أعطيتــه رقمــي‬
‫حتــى أتدخــل يف عمليــة احلصــول عــى معلومــات مــن يزيــد الصــاوي إن‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫لــزم األمــر‪ ..‬قبــل أن أذهــب قــال يل بلهجــة آســفة‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬لــو يزيــد الصــاوي ماعرتفــش هاضطــر أحقــق رغبــة الراجــل الــي‬


‫بيهــددين وأنفــذ فيــك القصــاص‪.‬‬
‫***‬
‫ملجأ من الوحدة إال البحر‪..‬‬
‫كان رايف كأي ساحيل أصيل؛ ال جيد ً‬
‫حــن غــادر البيــت تــاركًا ســلوى خلفــه‪ ،‬اجتــه إىل «عــم وهــدان‬

‫‪136‬‬
‫املراكبــي» الــذي كان يــردد عليــه أيــام الســهر مــع أصحــاب مراهقتــه يف‬
‫منطقــة «املكــس»‪ ..‬تغــر الزمــن وتعاقبــت األجيــال ويبقــى عــم وهــدان‬
‫مروجــا للمخــدرات وبائ ًعــا للخمــور وجال ًبــا للمتعــة‪،‬‬
‫ً‬ ‫كــا هــو‪ ..‬كان‬
‫ال يامنــع أبــدً ا يف توفــر كل مــا يمتــع زبائنــه ويبقيهــم أطــول فــرة ممكنــة‬
‫حتــت ســلطته وشــهوة البحــر‪..‬‬
‫اتفــق معــه رايف يــوم أن تشــاجر مــع ســلوى عــى أن يبيــت لديــه‬
‫ٍ‬
‫أجــل غــر مســمى‪ ،‬كان عــم وهــدان عــادة مــا يرفــض‬ ‫يف العوامــة إىل‬

‫ﻋﺼ‬
‫تأجريهــا باأليــام‪ ،‬لكــن عــرض رايف كان ال ُيرفــض‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫انقطــع رايف عــن احليــاة بعــد أن عهــد بــإدارة جتارتــه لرشيكــه‪ ..‬كان‬
‫ُنهب لكنــه مل يملــك حــق االختيــار‪ ،‬مل جيــد مفـ ًـرا مــن‬
‫يعلــم أن جتارتــه سـت َ‬
‫ﻜﺘ‬
‫اعتــزال احليــاة بعــد أن عــرف أهنــا كانــت كذبــة مــن صنــع رشيكــة حياتــه‪.‬‬
‫كان يعلــم دوافــع ســلوى يف عــدم اإلنجــاب منــه؛ فقــد اهنــار صنــم‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫رجولتــه يف نظرهــا حتــت وطــأة فــأس اإلدمــان‪ ..‬كان متأكدً ا أهنا شــكرت‬
‫اهلل عــى تأخــر اإلنجــاب حتــى تعــرف الرجــل الــذي تزوجتــه جيــدً ا‪ ..‬مل‬
‫ﺸﺮ‬

‫يعــرف إن كانــت خيانتهــا لــه فعـ ًـا ارتكبتــه بكامــل إرادهتــا أم أنــه جمــرد‬
‫رد فعــل عــى شــعورها بزواجــه مــن غريهــا‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫مل يســتأذن رايف مــن «عــم وهــدان»‪ ،‬وخــرج بأحــد مراكبــه الصغــرة‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ـتعريا شــبكة صيــد‬ ‫التــي مألهــا رايف بصفائــح البــرة رديئــة النــوع‪ ،‬مسـ ً‬
‫تشــبيها ســمعه مــن أبيــه حــن ذهاهبــا‬ ‫ً‬ ‫وقــرر خــوض البحــر‪ ..‬تذكــر‬
‫للصيــد‪« :‬إن كانــت اإلســكندرية عــروس‪ ..‬فالبحــر دمهــا‪ ..».‬ظــل‬
‫يســتعيد كالم أبيــه طيلــة حياتــه حتــى صــادق البحــر‪ ،‬مل يبـ َـق لــه مــن أبيــه‬
‫إال ســاعة «كاســيو» عتيقــة الطــراز ذات ســوار فــي‪ ..‬حــرص دائـ ًـا عــى‬
‫ارتدائهــا‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫تذكــر أيــام الشــباب حــن كان يــأيت مــع رفاقــه ملبــن شــهواهتم يف‬
‫كنــف البحــر‪ ،‬مل ينــس وجــه «مايســة»‪ ..‬تلــك العاهــرة املليحــة التــي‬
‫تكربهــم ســنًا وخــرة‪ ،‬كانــت تتكفــل بــه وأصحابــه مجي ًعــا‪ ..‬جامــدة‬
‫املالمــح‪ ،‬دهنيــة البــرة‪ ،‬تلمــع عينيهــا بربيــق مل يفهمــه يو ًمــا‪ ،‬عرفــت‬
‫«مايســة» كيــف ت ِ‬
‫ُشــعر مــن أمامهــا بالعجــز املطلــق‪ ،‬كانــت تتفنــن يف‬
‫كــر هيبتهــم مجي ًعــا؛ تصفهــم بــأوالد النــاس املرفهــن‪ ..‬وكأهنــا تعــوض‬
‫الفــارق املــادي بقدراهتــا التــي ال متلــك ســواها‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫نظــر إىل انعــكاس وجهــه يف البحــر‪ ..‬تعجــب مــن شــكله الــذي تبــدل‬
‫متا ًمــا يف بضعــة أيــام؛ بدايــة مــن حالــة مالبســه وهالــة مــن الشــعر ‪-‬الــذي‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫زحــف الشــيب بداخلــه‪ -‬أحاطــت وجهــه الســاكن الــذي مل يكــف عــن‬
‫ﻜﺘ‬
‫ـرا‪ ،‬أهنــى‬
‫الضحــك فيــا ســبق‪ ..‬حتــى يــوم وفــاة أبيــه الــذي كان حيبــه كثـ ً‬
‫عــزاء أبيــه وذهــب إىل وهــدان باح ًثــا عــن مايســة‪ ،‬وحــن وجدهــا أخــرج‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ســخطه مــن احليــاة يف جســدها‪ ،‬أقســمت أهنــا مل تشــهد حالــة مماثلــة‬


‫لتلــك التــي شــهدهتا معــه‪ ،‬وأن العوامــة كادت أن هتتــز‪ ،‬فخمــن أهنــا‬
‫ﺸﺮ‬

‫حتــاول التهويــن عليــه ومل يصدقهــا‪.‬‬


‫تذكــر أيــام إدمانــه لذلــك املســحوق األبيــض‪ ..‬مل يعــرف ســب ًبا حقيق ًيا‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫إلدمانــه‪ ،‬لكــن ســلوى أخربتــه أن مــن يملــك املــال والوقــت يملكــه‬


‫الشــيطان‪ ..‬مل ينــس هلــا أهنــا أنقــذت جتارتــه حــن كان يتعــاىف‪ ،‬فخــرج‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ً‬
‫ورشخــا‬ ‫أثــرا نفســ ًيا‬
‫املســحوق مــن روحــه رسي ًعــا كــا دخــل‪ ،‬تــاركًا ً‬
‫ـرا يف عالقتــه مــع ســلوى‪ ..‬حتــول الــرخ تصد ًعــا تا ًمــا بعــد انتهــاء‬
‫صغـ ً‬
‫حمنتــه وبدايــة مرحلــة الفتــور الزوجــي‪ ،‬أهناهــا وحيــدً ا وتركهــا تعانيــه‪..‬‬
‫رسا مــن «الشــيامء» ابنــة رشيكــه يف املعــرض‪ ..‬مل جيــد معهــا‬ ‫حــن تــزوج ً‬
‫شــي ًئا ممــا افتقــده مــع ســلوى لكنهــا كانــت د ًمــا جديــدً ا وعمـ ًـرا أصغــر‬

‫‪138‬‬
‫وروحــا مل تنتهكهــا لطــات الزمــن بعــد‪ ..‬قبــل أن يعتــزل حياتــه اتصــل‬
‫ً‬
‫هبــا ليبلغهــا بالطــاق‪ ،‬وبحرصــه عــى حصوهلــا عــى كل حقوقهــا املادية‪.‬‬
‫مل حيبهــا‪ ،‬ومل حيــب ســلوى‪ ،‬وال مايســة‪ ،‬ومل يعــرف قــط للحــب‬
‫ً‬
‫ســبيل‪...‬‬
‫اسرتســل يف أفــكاره تــاركًا عقلــه يســبح مــع صــوت مداحــه املفضــل‬
‫«أمحــد التــوين»‪ ،‬فــراح يقلــده منشــدً ا‪« :‬يــا الــي تــداووا النــاس داووين‪،‬‬
‫ـاخرا مــن‬
‫هاتــوا دوايــا مــن حبيــب الــكل وداووين»‪ ،‬ضحــك يف رسه سـ ً‬

‫ﻋﺼ‬
‫احلالــة التــي وصــل إليهــا‪...‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫قاطــع سلســال أفــكاره اتصــال هاتفــي مــن أحــد مســاعدي ســلوى‬
‫يف مركــز الــدروس‪ ،‬كانــت هــذه املــرة الثالثــة التــي يتصــل فيهــا‪ ،‬فقــرر‬
‫ﻜﺘ‬
‫أن يــرد‪.‬‬
‫‪ -‬فيه حاجة الزم تعرفها يا رايف بيه‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ظــن رايف أنــه ســيخربه عــن ترصفــات ســلوى مــع ذلــك املراهــق‬
‫كــا فعــل مــن قبــل ووشــى عليهــا‪ ،‬هــم أن ينهــي املكاملــة قبــل أن يســمع‬
‫ﺸﺮ‬

‫صــوت مســاعده يقــول‪:‬‬


‫ﻭ‬

‫‪ -‬ســلوى هانــم بقــى هلــا يومــن مــا بتجيــش الســنرت‪ ..‬بعتنــا هلــا البنــت‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫الــي بتنضــف الســنرت عــى البيــت‪ ..‬فضلــت ختبــط وحمــدش فتــح هلــا‪ ..‬ده‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫غــر إن عربيــة مــدام ســلوى مــش موجــودة حتــت البيــت!‬


‫***‬
‫مل أكــن خائ ًفــا مــن هتديــد محــزة لذاتــه؛ لكنــه اآلن ينفــذ أفكار شــخص‬
‫أكثــر ذكا ًء‪ ..‬مل أفهــم حتــى اآلن كيــف اخــرق «املجهــول» خــط الدفــاع‬
‫الــذي صممــه يل صديقــي األمريكــي «كريــس بــراديل»‪ ،‬كان «كريــس»‬

‫‪139‬‬
‫أقــرب زمــاء الدراســة إىل قلبــي وهــو مــن علمنــي الكثــر مــن تقنيــات‬
‫احلاســب‪ ،‬كان خمرت ًقــا حمرت ًفــا‪ُ ،‬عـ ِـرض عليــه العمــل لصالــح احلكومــة‬
‫األمريكيــة إال أنــه رفــض ســع ًيا وراء مــال أكثــر‪ ..‬كنــت عــى اتصــال دائم‬
‫بــه ليســاعدين يف تطويــر دفاعــايت اإللكرتونية عــى اإلنرتنت املظلــم‪ ،‬لكنه‬
‫اختفــى متا ًمــا بعــد حادثــة اختطــاف غــرام ومليكــة‪ ،‬وكأن «املجهــول» قــد‬
‫ـي كل ســبل الوصــول إليــه‪ ..‬ولــوال «آدم اخلواجــة» الــذي يظنــه‬ ‫قطــع عـ َّ‬
‫ـرا‬
‫اخلاطــف جمــرد مســاعد وال يعلــم حقيقــة قدراتــه‪ ،‬ملــا امتلكــت عنـ ً‬

‫ﻋﺼ‬
‫للمفاجــأة‪.‬‬
‫***‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫أنس شعوري يوم انكشف غطائي ألول مرة‪..‬‬
‫مل َ‬
‫ﻜﺘ‬
‫عــدت بذاكــريت إىل أول أعوامــي بالكليــة‪ ،‬كانــت صحــة «الطائــي»‬
‫قــد تراجعــت أكثــر ممــا ســبق‪ ،‬األمــر الــذي مل يؤثــر عــى عنفــه املتواصــل‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ضــدي‪ ،‬مل أطلــب مــن احليــاة ســوى موتــه‪ ..‬هربــت منــه يف زحــام احلانــة‬
‫التــي مل يتغــر فيهــا الكثــر؛ فقــط رحــل زبائــن وحــل حملهــم آخــرون‪،‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫دون أن يأخــذوا مــن روح املــكان شــي ًئا‪ ..‬توجهــت نحــو الزقــاق ألجرب‬
‫األمــر مــرة أخــرى‪..‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫قيــدت القــط يف أرضيــة الزقــاق بحبــل رفيــع مــن أطرافــه األربعــة‪،‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ربــت عــى رأســه مطمئنــا‪ ،‬امتــأت أذين بنغــات العــود املنبعثــة مــن‬ ‫ُّ‬
‫العــواد» التــي كانــت تصلنــي يف الزقــاق املظلــم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أصابــع «عــم كارم‬
‫متنيــت أال يالحــظ عبــد احلــي الطائــي غيــايب‪ ..‬وبــدأت أمــارس عليــه مــا‬
‫جربتــه عــى اســتحياء يف بعــض أبنــاء جنســه‪ ..‬انتزعــت شــعريات فرائــه‬
‫الرمــادي واحــدة تلــو األخــرى‪ ،‬كان صــوت موائــه حــا ًدا لكــن مــداه مل‬
‫يبلــغ أحــدً ا ســواي‪ ،‬بــدأت أســبب لــه اجلــروح بســكني صغــر‪ ،‬وأغرقهــا‬

‫‪140‬‬
‫بكميــات كبــرة مــن الكحــول‪ ،‬لطمتــه عــى وجهــه كــا كان يفعــل الطائي‬
‫معــي‪ .‬كان هــذا ســابع قــط أمــارس عليــه أفعــال أيب‪ ..‬يف البدايــة كنــت‬
‫أســعى لفهــم مبتغــاه مــن إيالمــي‪ ،‬وحتــى اآلن مل أفهــم‪ ..‬لكننــي وجــدت‬
‫مــا هــو أعظــم مــن املعرفــة؛ وجــدت املتعــة‪...‬‬
‫‪ -‬دي مش أول مرة تعمل كده يا يارس‪.‬‬
‫ارجتفــت حــن ســمعت صــوت عــاء الديــن الــذي اختفــت‬
‫ابتســامته‪ ،‬كنــت أعــرف أننــي يف مشــكلة حقيقيــة‪ ،‬هنضــت مرس ًعــا مــن‬

‫ﻋﺼ‬
‫فــوق القــط‪ ،‬اعتــذرت برسعــة بكلــات مل أفهمهــا‪ ،‬بعــد أن حللــت القــط‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫الــذي فــر مرس ًعــا كأنــه طريــد املــوت‪ ،‬نفضــت غبــار أرضيــة الزقــاق عــن‬
‫مالبــي عائــدً ا للحانــة‪ ..‬أوقفنــي ممس ـكًا بكتفــي‪ ،‬كــررت اعتــذاري‪ ،‬مل‬
‫ﻜﺘ‬
‫أرد أن أغضبــه بعــد مــا فعــل ألجــي‪ ،‬وبعــد أن رسق مــن حســاب أيب‬
‫الغائــب عــن الواقــع ليصنــع يل واحــدً ا‪ ..‬ضحــك وعــاد وجهــه إىل احلالــة‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫املبتســمة التــي حيبهــا الزبائــن‪ ..‬وعدتــه أال أكــرر فعلتــي‪ ،‬هنــرين وهنــاين‬
‫عــن الكــذب عليــه‪ ،‬قــال مبتسـ ًـا‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬الــي أنــت فيــه ده مــش عيــب‪ ،‬كلنــا عندنــا أهــواء غريبــة‪ ،‬أهــواء‬
‫لــو شــوفنا غرينــا بيعملهــا هنقــرف منــه‪ ..‬النــاس أمزجــة وأنــت مزاجــك‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ده مــا وردش عليــا قبــل كــده‪ ،‬أكيــد مــن الــي أبــوك بيعملــه فيــك‪ ..‬مــا‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫تتكســفش مــن نفســك‪ ،‬أنــت ســيد النــاس دي كلهــا‪.‬‬


‫مل أعــرف يو ًمــا إن كان قــد أحبنــي ألننــي يف ســن ابنــه الراحــل أم‬
‫ـي بســبب‬
‫لقصــة احلــب القديمــة التــي مجعتــه بأمــي‪ ،‬أم أنــه كان يشــفق عـ َّ‬
‫الطائــي‪ .‬لكــن مــا املهــم مــن الغــرض إن كان سيســاعدين عــى اخلــروج‬
‫مــن زنزانــة الطائــي‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫‪ -‬صدقنــي معرفــش بعمــل كــده ليــه بــس برتــاح ملــا بعملــه‪ ،‬وكرهــي‬
‫ألبويــا بيزيــد ألنــه بيشــوفني جمــرد قــط جيــرب فيــه‪...‬‬
‫قاطــع تربيــرايت واكــد يل أن البــر ال يــد هلــم فيــا يكونــون‪ ،‬وقبــل أن‬
‫نعــود إىل احلانــة قــال يل بصــوت هامــس‪ ،‬ظهــر مــن ورائــه صــوت عــم‬
‫كارم وهــو يغنــي «أمانــة عليــك يــا ليــل طــول»‪:‬‬
‫‪ -‬املهــم يــا يــارس‪ ..‬ماحــدش يعــرف الــي بتعملــه ده غــري‪ ،‬النــاس‬
‫لــو عرفــت مرضــك مــش هريمحــوك‪ ..‬الزم تعمــل لنفســك قانــون‬

‫ﻋﺼ‬
‫حيميــك منهــم‪ ،‬وحيــول مرضــك حلاجــة أعظــم بكتــر‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫***‬
‫مل أملــك يف اليومــن التاليــن مــن أمــري إال أن أكتــوي بلعنــة‬
‫ﻜﺘ‬
‫االنتظــار‪ ،‬جاءتنــي خالهلــا رســالة مــن زوجــة «كريــس» التــي حاولــت‬
‫التواصــل معهــا عــن طريــق حســاب زوجهــا عــى موقــع ‪..Facebook‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫شــكرتني عــى ســؤايل عــن زوجهــا وأخربتنــي أنــه متغيــب عــن املنــزل‬
‫منــذ أيــام‪ ،‬ســألتها عــن توقيــت اختفائــه حتديــدً ا فعرفــت أنــه كان قبــل‬
‫ﺸﺮ‬

‫ً‬
‫أطفــال‬ ‫اختطــاف زوجتــي وابنتــي بســاعات‪ ..‬أخربتنــي أن لدهيــا‬
‫لرتبيهــم وال تريــد التواصــل مــع أي شــخص كان عــى علــم بنشــاطات‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫«كريــس» حتــى حتافــظ عليهــم‪ ،‬وأهنــت املحادثــة‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫مل أشــعر باحلــزن الكبــر عــى اختفــاء «كريــس» بقــدر مــا حزنــت‬
‫لفقــداين نقطــة مــن نقــط قــواي‪ .‬عــاد آدم للحديــث معــي بعــد أن أهنــى‬
‫مكاملــة ختــص عملــه اآلخــر‪ ،‬حــاول مواســايت فمنعتــه عــن ذلــك‪..‬‬
‫شــعرت بالشــفقة جتاهــه؛ أراه يعــاين مــن مشــاكل ال دخــل لــه فيهــا‪،‬‬
‫متور ًطــا مــع شــخص مثــي ال تربطــه بــه أي صداقــة ســابقة‪ ،‬ويتــأمل لفــراق‬

‫‪142‬‬
‫اثنتــن مل يرمهــا يف حياتــه‪ ..‬كان طي ًبــا بالفطــرة‪ ،‬أو هكــذا أقنعنــي‪..‬‬
‫حاولــت تغيــر املوضــوع‪ ،‬فســألته عــن املتاعــب التــي ســببها لــه‬
‫شــكله الوســيم‪ ..‬حدثنــي عــن عملــه الســابق قبــل أن يمتهــن اخــراق‬
‫احلواســب؛ كان يعمــل «كوافــر» يف مركــز جتميــل‪ ،‬مل أندهــش حــن‬
‫الحظــت مهارتــه يف تصفيــف شــعره الطويــل امللمــوم ألعــى‪ ،‬أخــرين‬
‫عــن نســاء قدمــن أنفســهن إليــه بــا قيــد أو رشط‪ ،‬رفضهــن مجي ًعــا ألجــل‬
‫فــروز قبــل أن تســافر‪ ،‬وجــدد رفضــه بعــد أن هجرتــه؛ احرتا ًمــا لنفســه‬

‫ﻋﺼ‬
‫ولذكراهــا‪ ..‬حدثنــي عــن فــرة التديــن التــي مــر هبــا بعــد وفــاة أهلــه‪،‬‬
‫واحتياجــه للشــعور بوجــود الراعــي الــذي يصلــح لــه نفســه‪ ،‬وهيــون‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫عليــه سلســال الفــراق‪ ..‬مل أعلــق فســألني عــن توجهــايت الدينيــة‪ ..‬أجبته‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬أنــا مؤمــن بــرورة وجــود الرقيــب‪ ،‬وإيــان النــاس بوجــود اليــد‬
‫العليــا املســيطرة عــى كل يشء؛ عشــان احليــاة تســتقيم‪ ..‬واملفهــوم ده لــو‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫اتطبــق عــى كل حاجــة يف الكــون فأكيــد أنــا مؤمــن بربنــا‪.‬‬


‫مبتسم‪:‬‬
‫ً‬ ‫أكملت حديثي‬
‫ﺸﺮ‬

‫دايــا بيقــول إذا كان اهلل غــر‬


‫‪ -‬فيــه فيلســوف اســمه فولتــر كان ً‬
‫موجــود‪ ،‬فســيكون مــن الــروري أن نختلــق نحــن واحــدً ا‪ ..‬وكان‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫بيقــول «ال بــد مــن وجــود اهلل مــع اثنــن‪ :‬خادمــي حتــى ال يرسقنــي‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫وزوجتــي حتــى ال ختوننــي»‪.‬‬


‫مل يبــدُ عــى اخلواجــة أنــه قــد فهــم حر ًفــا ممــا قلــت‪ ،‬طلــب منــي أن‬
‫أرتــاح ً‬
‫قليــا‪...‬‬
‫قاطــع حديثنــا صــوت اهلاتــف الــذي حيدثنــي منــه اخلاطــف‪ ،‬بــادرين‬
‫قائـ ًـا‪:‬‬

‫‪143‬‬
‫‪ -‬مــروك يــا كونــت‪ ،‬يزيــد الصــاوي اعــرف‪ ..‬ومحــزة باشــا مبســوط‬
‫منك ‪.‬‬
‫شــاعرا باالرتيــاح‪ ،‬وقــد تســلل شــبح البســمة عــى وجــه‬
‫ً‬ ‫زفــرت‬
‫ً‬
‫متســائل‪:‬‬ ‫آدم‪ ..‬أكمــل اخلاطــف حديثــه‬
‫‪ -‬لو خالفت أوامري بعد كده‪ ..‬هتحبني أبدأ بغرام وال بمليكة؟‬
‫مل أجــد ر ًدا إال أن أصــب عليــه جــم غضبــي‪ ،‬أطلقــت يف وجهــه‬
‫الكثــر مــن اللعنــات‪ ..‬كنــت قــد قــرأت يف إحــدى قصــص الرعــب‬

‫ﻋﺼ‬
‫عــن ذلــك املجــرم الــذي خـ َّـر أ ًبــا بــن ولديــه حتــى يقتــل أحدمهــا بـ ً‬
‫ـدل‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫مــن قتــل االثنــن‪ ،‬وحــن اختــار األب قتــل أحــد االبنــن بصعوبــة‪ ،‬قــام‬
‫املجــرم بقتــل االبــن الــذي مل يتــم اختيــاره‪ ..‬تــاركًا األب مــع ابنــه األقــل‬
‫ﻜﺘ‬
‫تفضيـ ًـا‪ ،‬والــذي ســيعيش بقيــة حياتــه ســاخ ًطا عــى أبيــه‪.‬‬
‫حــن هــدأ ســبايب وطــال صمتــي‪ ،‬أدرك أن هتديــده قــد وصلنــي‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫جيــدً ا‪ ،‬وأننــي أصبحــت ملــك يديــه رغـ ًـا عنــي‪ ..‬أكمــل حديثــه بصوتــه‬
‫األجــش املنبعــث مــن برنامــج تغيــر الصــوت وبلهجــة عمليــة‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬كــده احنــا صفينــا رصاع مهــم يف حيــاة الكونــت‪ ،‬لســه رصاع أهــم‬
‫ﻭ‬

‫يف حيــاة يــارس‪..‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫كــدت أن أخــره أن كليهــا واحــد‪ ،‬وهــو جمــرد اختــاف يف اهلويــة‪،‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫لكنــه أكمــل حديثــه متسـ ً‬


‫ـائل‪:‬‬
‫‪ -‬فاكر أول واحد عذبته يف حياتك؟‬
‫***‬

‫‪144‬‬
‫‪ -10‬عجلة الزمن‬

‫ﻋﺼ‬
‫أدركت اآلن نعمة امتالك القرار‪ ،‬و ال ُقدرة عىل ْ‬
‫قول «ال»‪..‬‬ ‫ُ‬
‫مل يفهــم أي مــن زمالئــي يف الكليــة ســبب حصــويل عــى منحــة الســفر‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫برفقــة البعثــة املتوجهــة إىل أمريــكا‪ ،‬واحلقيقــة أننــي ً‬
‫أيضــا مل أفهــم كيــف‬
‫ﻜﺘ‬
‫حــدث هــذا‪ ..‬أخربهــم الدكتــور املســئول عــن ترشــيح الطلبــة أنــه وضــع‬
‫اســمي ضمــن املمتحنــن مــن بــاب «كاملــة العــدد»‪ ،‬مل أكــن مــن املتميزيــن‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يف جمــال امليكانيــكا‪ ،‬ومل أصبــح كذلــك فيــا بعــد‪ ..‬مخــن البعــض أننــي قــد‬
‫نجحــت يف امتحــان البعثــة بســبب تشــابه األســاء مــع «يــارس الكنعــاين»‬
‫ﺸﺮ‬

‫الثــاين عــى الدفعــة واملشــهود لــه بالعبقريــة فكــرت يف كيفيــة اســتغالل‬


‫البعثــة للخــاص هنائ ًيــا مــن زنزانــة عبــد احلــي الطائــي‪ ،‬والطريقــة‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫األمثــل لــوداع « عــاء الديــن» الــذي لــواله المتهنــت توزيــع املناديــل‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫عــى الســكارى ملــا تبقــى مــن عمــري‪ ..‬لكننــي أجلــت التفكــر حــن‬
‫ظهــرت «والء» يف مرمــى بــري‪.‬‬
‫كانــت «والء» مرحلــة رضوريــة يف حيــايت لتجــاوز فــرة اجلامعــة‪،‬‬
‫وإلرضــاء هرمونــايت املراهقــة‪ ..‬أومهنــا بعضنــا باحلــب‪ ،‬وبتحــدي‬
‫الظــروف واملجتمــع وكل هــذا اهلــراء‪ ..‬حددنــا مواصفــات عــش‬

‫‪145‬‬
‫زواجنــا الــذي لــن حيــدث‪ ،‬واخرتنــا أســاء أطفــال لــن يأتــوا‪ ،‬رســمنا‬
‫هلــم مســتقبلهم دون أن نملــك يف مســتقبلنا شــي ًئا‪.‬‬
‫كانــت كأي «والء» أخــرى‪ ..‬مخريــة البــرة‪ ،‬ممتلئــة اجلســد والوجــه‪،‬‬
‫ال تــكاد تعــرف مالحمهــا احلقيقيــة مــن وراء قناعهــا التجميــي‪ ،‬تضــع‬
‫قــاس‪ ..‬تشــهد خصــات‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫جــاد‬ ‫رخيصــا يــؤمل األنــف كســوط‬ ‫عطــرا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫شــعرها املصبوغــة باألصفــر واهلاربــة مــن حجاهبــا «الفرانكــو» بــرداءة‬
‫ذوق ال حــد هلــا‪..‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫مل تعــرف لنفســها هويــة حمــددة؛ هــي خليــط مــن عــدة ثقافــات‪ ،‬ابنــة‬
‫هجينــة ملجتمــع متناقــض‪ ..‬كانــت «نص ًفــا» يف كل يشء؛ نصــف تف ُّتــح‪،‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫نصــف عفــة‪ ،‬نصــف رشقــي‪ ،‬نصــف غــريب‪ ،‬نصــف قلــب ونصــف‬
‫ﻜﺘ‬
‫روحــا ضالــة ال جتــد مــا يتمهــا‪.‬‬
‫عقــل‪ ..‬كانــت ً‬
‫ـارا‪ ،‬وحتــب أحدهــم ليـ ًـا‪ ،‬وتتــزوج مــن آخــر يف‬ ‫تســب الرجــال هنـ ً‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫اليــوم التــايل‪ ..‬لتنجــب «أنصا ًفــا» آخريــن‪.‬‬


‫‪ -‬هاتيجي تكلم بابا قبل ما تسافر؟‬
‫ﺸﺮ‬

‫كان هــذا ردهــا عــى حتيتــي هلــا‪ ،‬مل أجــد مــا أقــول‪ ،‬ســحبتها مــن‬
‫ﻭ‬

‫ذراعهــا بعيــدً ا عــن الزمــاء الذيــن كانــوا حيتفلــون بنهايــة العــام الــدرايس‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫قبــل األخــر هلــم يف الكليــة‪ ..‬توجهنــا نحــو أحــد اجلنائــن القريبــة مــن‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫الكليــة‪ ،‬عدلــت مــن مالبــي التــي حتســن ذوقــي يف اختيارهــا رغــم‬


‫أرضــا‪..‬‬
‫قدمهــا‪ ،‬وضعــت حقيبتــي التــي أضــع هبــا أدوات االمتحانــات ً‬
‫ســاعدهتا عــى اجللــوس عــى الرصيــف املحيــط باحلديقــة‪ ..‬فكــرت يف‬
‫مصارحتهــا بحقيقــة مــا بيننــا‪ ،‬كانــت تعلــم هــذه احلقيقــة لكنهــا تظاهرت‬
‫ـي الطريــق حــن قالــت بلهجــة عمليــة‪:‬‬ ‫بالعكــس‪ ..‬قــرت عـ َّ‬

‫‪146‬‬
‫‪ -‬أنا متقدم يل عريس‪..‬‬
‫‪ -‬ربنا يعينه‪.‬‬
‫أطلقــت ســبة ال تتناســب مــع حالــة الرقــة التــي أجــادت تزييفهــا‬
‫فيــا ســبق‪ ،‬مل تعتــد أن ُير َفــض هلــا طلــب‪ ..‬قلــت هلــا أن أباهــا لــن يــرىض‬
‫بشــخص مثــي؛ أمــه هاربــة‪ ،‬يقــي يومــه بــن الكليــة واحلانــة التــي‬
‫يســكر فيهــا أبــوه الــذي بــاع كل مــا يملــك يف ســبيل مزاجــه‪ ..‬زيفــت‬
‫صدمتهــا يف كالمــي وقالــت‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬بس أنت قولت يل إن البعثة ممكن تغري حياتك!‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬مافيــش حاجــة هتتغــر‪ ..‬ال البعثــة هاترجــع يل أمــي‪ ،‬وال هاختلــص‬
‫أبويــا مــن وســاخته‪ ..‬وال هتغــر نظــرة أبوكــي ليــا‪ ..‬أنــا هخلــص بعثتــي‬
‫ﻜﺘ‬
‫وأرجــع أعيــش يف مــكان جديــد ماحــدش يعرفنــي فيــه‪.‬‬
‫‪ -‬يارس أنت مش باقي عىل اليل بيننا؟‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬ماكانــش فيــه حاجــة بيننــا‪ ..‬وال هيكــون‪ ..‬إحنــا كنــا بنســاعد‬


‫ﺸﺮ‬

‫بعــض نعــدي فــرة معينــة مــن حياتنــا‪ ،‬وقــد كان‪.‬‬


‫ـخصا آخــر‪ ،‬وأهنــا ليســت أذكــى طرف يف‬ ‫أدركــت والء أن بداخــي شـ ً‬
‫ﻭ‬

‫هــذه العالقــة‪ ،‬وأننــي حطمــت اإلطــار الــذي َر َســمت يل داخلــه صــورة‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫احلبيــب املثــايل الواجــب هجــره فــور قــدوم أي قريــب يمتلــك املــال‪،‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫بعضــا مــن معانــايت‪ ،‬لكــن القواعــد ‪-‬التــي ســاعدين‬ ‫كنــت أقــص عليهــا ً‬
‫« عــاء الديــن» يف وضعهــا‪ -‬منعتنــي مــن احلديــث عــا كان يفعلــه أيب‬
‫بجســدي مــن حــن كنــت طفـ ًـا‪ ،‬وال األثــر الــذي تركــه ذلــك العنــف‬
‫بنفــي‪ ،‬وجعلنــي أمــارس نفــس التنكيــل باحليوانــات التــي ال متلــك مــن‬
‫ـت مــن إحــدى اجلــارات التــي كانــت‬ ‫أمرهــا شــي ًئا‪ ..‬مل أخربهــا أننــي علمـ ُ‬

‫‪147‬‬
‫عــى اتصــال بأمــي أهنــا انتحــرت بعــد فــرة وجيــزة حــن أغلقــت مجيــع‬
‫األبــواب يف وجههــا وحــن مل جتــد يف روحهــا متسـ ًعا للمزيــد مــن لطــات‬
‫احليــاة‪.‬‬
‫حاولــت أن جتعــل االنفصــال صع ًبــا عــي‪ ،‬لكنهــا مل تنجــح؛ عــى‬
‫العكــس فقــد زادت متعتــي حــن قلبــت الطاولــة عليهــا قبــل أن تبــادر‬
‫هــي باملثــل‪ .‬كان اليــوم مميـ ًـزا فلــم أرغــب يف العــودة إىل زنزانــة الطائــي‬
‫باكـ ًـرا‪ ،‬أرســلت رســالة نصيــة مــن هاتفــي العتيــق لعــاء الديــن‪ ،‬برشتــه‬

‫ﻋﺼ‬
‫بقبــويل يف البعثــة‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫متشــيت عــى كورنيــش النيــل حتــى آملتنــي قدمــاي‪ ،‬رســمت أحال ًمــا‬
‫ﻜﺘ‬
‫كثــرة ملــا يمكننــي فعلــه يف بلــد احلريــة‪ ،‬والتغيــر الــذي ستشــهده‬
‫ً‬
‫حامــا الزمالــة مــن هنــاك‪ ،‬مل أحلــظ أننــي أحــدث‬ ‫حيــايت حــن أعــود‬
‫عــال إال حــن نطقــت اســمي مســبو ًقا بلقــب «البــاش‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بصــوت‬ ‫نفــي‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مهنــدس»‪ ،‬نظــر يل بعــض النــاس ســاخرين ممــا أفعــل‪ ،‬وقــد شــجعهم‬


‫ﺸﺮ‬

‫عــى ذلــك هيئتــي الرثــة وجســدي النحيــل‪ ،‬وســري مطأطــئ الــرأس‬


‫بإيقــاع بطــيء كاألطفــال حــن يأثمــون‪.‬‬
‫ﻭ‬

‫كانــت هــذه أول ليلــة يطلــب فيهــا « عــاء الديــن» منــي أن أتــرك أيب‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫يعــود للمنــزل بمفــرده‪ ،‬انتظــرت حتــى غــادر آخــر زبــون وبــدأ العاملــون‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫يف الرحيــل بعــد أن تقاضــوا أجرهتــم اليوميــة مــن مالــك احلانــة‪ ،‬وقــد‬
‫خصــم منهــم مــا رشبــوا مــن اخلمــر‪..‬‬
‫مل أركــز كثـ ً‬
‫ـرا مــع موســيقى «اجلــاز» املنبعثــة مــن مســجل الصــوت‬
‫الــذي يعمــل فــور رحيــل «عــم كارم»‪ ..‬نظــرت إىل التقويــم املعلــق عــى‬
‫حائــط احلانــة يشــر إىل بدايــة شــهر يوليــو مــن عــام ‪ ..2009‬عــاودت‬

‫‪148‬‬
‫التفكــر يف احللــم األمريكــي‪ ،‬ختيلتنــي يف هيئتــي اجلديــدة؛ ال أرتــدي إال‬
‫املالبــس باهظــة الثمــن‪ ،‬وأمــارس الرياضــة بانتظــام ألحصــل عــى بنيــة‬
‫قويــة‪ ،‬فأثــر اإلعجــاب أينــا حللــت؛ ختيلتنــي وقتهــا يف حــال أقــرب إىل‬
‫حــال «الكونــت» اآلن مــع اختــاف الطمــوح واألهــداف‪.‬‬
‫عــدَّ ل عــاء الديــن مــن مالبســه واض ًعــا قميصــه الفضفــاض داخــل‬
‫بنطلونــه‪ ،‬ربــط حزامــه حــول بطنــه كاملعتــاد‪ ،‬وقــف مــكان الســاقي‬
‫لرتتيــب األكــواب والزجاجــات املتناثــرة فوقــه بعــد ليلــة طويلــة‪ ،‬أشــار‬

‫ﻋﺼ‬
‫نحــوي كــي أقــرب ألجلــس أمــام «البــار» بالقــرب منــه‪ ،‬كانــت هــذه‬
‫البقعــة املفضلــة للطائــي‪ ..‬ســأفتقد ابتســامة عــاء الديــن التــي ال يبخــل‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫هبــا عــى أحــد‪ ،‬ســأفتقد تق ُّبلــه التــام لــكل مــا أفعــل‪ ،‬وكأنــه قــد قــرأ‬
‫ﻜﺘ‬
‫أفــكاري فقــال‪:‬‬
‫‪ -‬دي آخر قعدة هنقعدها مع بعض‪..‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫قلــت لــه أننــي ســأعود فــور انتهــاء الدراســة‪ ،‬قاطعنــي بإشــارة مــن‬
‫يــده‪ ،‬قــال دون أن يفقــد ابتســامته التــي هبتــت قليـ ًـا‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬ملــا ترجــع مــش هتالقينــي‪ ..‬بينــي وبينــك يــا يــارس أنــا خــاص‬
‫اكتفيــت مــن الدنيــا‪ ..‬والــواد ابنــي وحشــني‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ارجتــف جســدي حــن ســمعت مــا قــال‪ ،‬أخــرين أنــه اشــتاق لــكل‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ـاخرا مــن دموعــي‪:‬‬


‫الراحلــن‪ ،‬ويــود لــو يراهــم مرس ًعــا‪ ،‬علــق سـ ً‬
‫‪ -‬يــا بنــي كفايــة إين هخلــص مــن وش أبــوك‪ ..‬مــع إين حاســس إننــا‬
‫هنتقابــل يف جهنــم‪ ،‬ويبقــى ربنــا كاتــب يل «الطائــي» دنيــا وآخــرة‪.‬‬
‫تفوهــت ببعــض العبــارات اخلاليــة مــن أي معنــى‪ ،‬متنيــت أن يبتعــد‬
‫الــر عنــه‪ ،‬وهنرتــه عــن ذكــر املــوت‪ ..‬قــال بجديــة‪:‬‬

‫‪149‬‬
‫‪ -‬خلينــا نتكلــم جــد يــا يــارس‪ ..‬أنــا حوشــت لــك قرشــن مــن مرتبــي‬
‫عشــان تســافر بيهــم‪ ،‬ولــو نــاوي تــودع أبــوك ودعــه علشــان مــش‬
‫هتشــوفه تــاين‪.‬‬
‫‪ -‬تفتكر هيكون مات قبل ما أرجع؟‬
‫نظــر حولــه ً‬
‫قليــا‪ ،‬انتظــر حتــى ابتعــد عنــا أحــد العاملــن باحلانــة‬
‫هامســا‪:‬‬
‫ً‬ ‫الــذي كان جيمــع املقاعــد لتنظيــف األرضيــة‪ ،‬قــال‬
‫هأرجــع ألبــوك باقــي حســابه الــي عندنــا؛ عىل أســاس‬
‫َّ‬ ‫‪ -‬ليلــة ســفرك‬

‫ﻋﺼ‬
‫إننــا بنعمــل جــرد للخزنــة وخايفــن فلوســه تتلخبــط مــع فلــوس البار‪..‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫اتسعت عيناي باهتامم ملا يقول‪ ،‬أكمل حديثه ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪ -‬هخليــه يقعــد حلــد مــا نشــطب بــأي ِحجــة‪ ،‬هتيجــي أنــت ترضبــه‬
‫ﻜﺘ‬
‫وتاخــد الفلــوس تســافر بيهــا‪ ..‬وماترجعــش هنــا تــاين مهــا حصــل‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬أرضب أبويا اليل معدي الستني سنة؟‬


‫‪ -‬اليل زي الطائي الزم يرتبى يف آخر أيامه‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫سألته بقلق‪:‬‬
‫‪ -‬طب وهو هيرصف منني؟‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬الــي زي أبــوك مــا بيغلبــوش‪ ..‬بعديــن إجيــار أرضــه الــي يف‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫اإلســكندرية هيعيشــه كويــس‪.‬‬


‫ســألته أخـ ً‬
‫ـرا عــن الســبب احلقيقــي ملســاعديت‪ ..‬كنــت أعلــم اإلجابــة‬
‫لكننــي انتظــرت أن أســمعها منــه‪.‬‬
‫‪ -‬أنــا كنــت بحــب والدتــك اهلل يرمحهــا‪ ..‬بــس أبوهــا مارضيــش بيــا‬
‫بســبب شــغالنتي الــي ماعرفــش غريهــا‪ ،‬طلــب منــي «أبطــل نجاســة»‪،‬‬

‫‪150‬‬
‫حاولــت أشــتغل يف كــذا صنعــة بــس مالقيتــش نفــي غــر يف البــار‪ ..‬هــو‬
‫املــكان الوحيــد الــي بحــس شــغيل فيــه مالــوش مثيــل‪ ..‬ولــو ُمــت بكــرة‬
‫هكــون متأكــد إن ماحــدش هيقــدر يعمــل نفــس الــي «عــاء الديــن»‬
‫بيعملــه‪.‬‬
‫أكمــل «عــاء الديــن» حديثــه وهــو جيفــف األكــواب بقطعــة نظيفــة‬
‫مــن القــاش‪:‬‬
‫‪ -‬وقتهــا أبــوك كان لســه جــاي مــن اإلســكندرية‪ ،‬كان مــن األعيــان‬

‫ﻋﺼ‬
‫هنــاك بــس ملــا طلــق مراتــه األوالنيــة أهلهــا قطعــوا رجلــه مــن البلــد‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫كلهــا‪ ..‬اشــراها بفلوســه زي مــا اشــرى العــارة الــي باعهــا بعــد كــده‬
‫عشــان مزاجــه‪ ،‬وزي مــا اشــرى كل حاجــة حواليــه‪ ..‬عشــان كــده ملــا‬
‫ﻜﺘ‬
‫شــوفتك حلفــت مــا أخليــه يشــريك أبــدً ا‪.‬‬
‫حتــرك مــن خلــف «البــار»‪ ،‬جــذب مقعــدً ا مقرت ًبــا منــي‪ ،‬التقطــت‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫أنفــي رائحــة احلشــيش مــن بــن أنفاســه‪ ،‬قــال بنفــس نربتــه اهلادئــة‪:‬‬
‫‪ -‬ملــا ترجــع مــن أمريــكا اقعــد يف اإلســكندرية‪ ،‬وتابــع أخبــار أبــوك‪،‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫وأول مــا يمــوت روح لســلوى أختــك خــد ورثــك‪.‬‬


‫ﻭ‬

‫أعطــاين عنــوان ســلوى مكتو ًبــا يف ورقــة قديمــة‪ ،‬ميــزت خــط يــد‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أمــي فارجتــف جســدي بالكامــل‪ ..‬وكأنــه قــد فهــم مــا أفكــر فيــه فقــال‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ـذرا‪:‬‬
‫حمـ ً‬
‫‪ -‬انســى االنتقــام‪ ،‬الــي زي أبــوك أحســن انتقــام منــه إنــك تســيبه يف‬
‫احلالــة الــي هــو فيهــا دي‪ ..‬املــوت راحــة ليــه‪.‬‬
‫مبتسم‪:‬‬
‫ً‬ ‫عيل أوامره‪ ..‬قال‬
‫مل أرد كعاديت حني يتلو َّ‬
‫‪ -‬عايزك يف خدمة‪ ..‬أظن إنك هتحبها‪..‬‬

‫‪151‬‬
‫أخــرين أن َ‬
‫«تَّــام» النــادل الســوداين كان خيتلــس الكثــر مــن األمــوال‬
‫متهيــدً ا لفــراره مــن احلانــة‪ ،‬ومالــك احلانــة يريــد أن يعــرف مكاهنــا‪ ،‬أمــر‬
‫العاملــن باحلانــة بتقييــده ورضبــه حتــى يعــرف لكنــه رفــض االعــراف‪،‬‬
‫أكمــل عــاء الديــن حديثــه قائـ ًـا‪:‬‬
‫‪ -‬الــواد ده بغــل زي مــا أنــت عــارف‪ ،‬فمنفعــش معــاه الــرب‪..‬‬
‫فقولــت يمكــن أنــت تقــدر تعــرف منــه املعلومــة‪.‬‬
‫ً‬
‫سؤال مل أفكر فيه من قبل‪:‬‬ ‫سألته‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬صحيح‪ ..‬أنتوا إيه غيتكم يف تشغيل األفارقة؟‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬بيســتحملوا الشــغل‪ ،‬وماهلمــش ورق‪ ..‬فبنشــغلهم بمالليــم‪ ،‬واليل‬
‫ﻜﺘ‬
‫مــش عاجبــه احلكومــة بتيجــي ترميــه تــاين يف بلــده‪.‬‬
‫‪ -‬بس دي عبودية‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬فيــه نــاس مابرتتاحــش غــر يف العبوديــة‪ ..‬لــو شــالوا مســئولية‬


‫نفســهم يموتــوا‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫طلبــت منــه أن يلخــص يل تاريــخ َ‬


‫«تَّــام»‪ ،‬مل يفهــم غايتــي يف معرفــة‬
‫ﻭ‬

‫نقــاط ضعفــه لكنــه وافــق‪ ..‬أخــرين مــا ســمعه عــى لســان َ‬


‫«تَّــام» حــن‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫رآه ألول مــرة‪ ،‬أخــره أنــه ولــد يف الســودان ألب ثــري تــزوج أمــه مــن‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫رسا إىل مــر مــع أحــد‬ ‫وراء أخوالــه‪ ،‬فقــام أحدهــم بخطفــه وهتريبــه ً‬
‫التجــار املرصيــن الــذي عاملــه كالعبــد بعــد أن كان ســيدً ا ابــن ســيد‪ٍ.‬‬
‫ويف مــر مل يعبــأ أحــد لوجــود َ‬
‫«تَّــام»‪ ،‬مل يســأله أحــدٌ عــن أوراقــه‬
‫قــط‪ ..‬عانــى حــن كــر مــن االنتهــاك اجلســدي بكافــة أشــكاله‪ ،‬حتــى‬
‫أصبحــت العبــارات الســاخرة مــن لونــه ومــن بنيتــه الضخمــة آخــر مــا‬

‫‪152‬‬
‫يشــغل بالــه يف رحلتــه للســعي خلــف الــرزق وحماولــة البقــاء ح ًيــا يف‬
‫معــزل عــن الطامعــن فيــه‪..‬‬
‫فــر «متَّــام» إىل احلانــة بعــد أن قتــل أحــد أســياده املتعاقبــن؛ كان‬
‫َّ‬
‫تاجــرا مــن الصعيــد‪ ،‬أخــر «عــاء الديــن» أنــه عومــل خــال هــذه‬ ‫ً‬
‫حتمــل‪ ،‬لكنــه‬
‫الفــرة كاحليــوان الــذي ال حــق لــه يف احليــاة‪ ،‬وبرغــم هــذا َّ‬
‫مل يتاملــك نفســه حــن ســمع ســيده خلس ـ ًة يتحــدث مــع أصحابــه عــن‬
‫إخصائــه خو ًفــا عــى حريمــه منــه‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫مل يعــرف متــى أصبحــت حاجاتــه األساســية انتصــارات تفــرض‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫عليــه احليــاة االحتفــال هبــا؛ فيــوم اإلجــازة انتصــار‪ ،‬والنــوم عــى فــراش‬
‫مريــح انتصــار‪ ،‬وراحــة البــال انتصــار‪ ،‬نظافتــه الشــخصية انتصــار‪،‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫ابتعــاد نظــرات االحتقــار والشــفقة عنــه انتصــار‪ ،‬حفاظــه عــى كرامتــه‬
‫انتصــار‪ ..‬حتــى نســيان النــاس لــه انتصــار‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يــر يو ًمــا ســعيدً ا يف‬


‫أعــرف جيــدً ا هــذا النــوع مــن الشــخصيات؛ مل َ‬‫ُ‬
‫حياتــه‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫وافــق مالــك احلانــة عــى إيــواء َ‬


‫«تَّــام» مقابــل عملــه يف احلانــة بمقابــل‬
‫زهيــد‪ ..‬لكــن حلــم العــودة إىل الســودان‪ ،‬والثــأر ألبيــه وأمــه‪ ،‬مل يغــادر‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫َ‬
‫«تَّــام» أثنــاء عملــه يف احلانــة برغــم جتــاوزه األربعــن مــن العمــر‪ ،‬فاكتنــز‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫بعــض املــال واختلــس البعــض اآلخــر مــن خزينــة احلانــة لتوفــر نفقــات‬
‫اهلويــة اجلديــدة والســفر‪ ..‬وحــن قــرر الرحيــل وشــى بــه أحــد العاملــن‬
‫باحلانــة عنــد «عــاء الديــن» كــا حــدث مــع أبيــه مــن قبــل‪.‬‬
‫«تَّــام» كــا توقــع «عــاء الديــن» حــن بــدأ يف‬ ‫مل أشــعر بالشــفقة جتــاه َ‬
‫روايــة قصتــه‪ ،‬كان منظــره خمي ًفــا حتــى وهــو مقيــد بأحــد املقاعــد القديمــة‬

‫‪153‬‬
‫يف الزقــاق املجــاور للحانــة‪ ،‬امتــأ وجهــه األســمر الالمــع باجلــروح‬
‫والكدمــات‪ ،‬ومل خيـ ُـل مــن نظــرة واهنــة متحديــة‪ ..‬أقســم بصـ ٍ‬
‫ـوت عـ ٍ‬
‫ـال‬
‫وبلهجتــه الركيكــة عــى أال خيربنــا بمــكان املــال‪.‬‬
‫اقرتبــت منــه ونظــرت يف عينيــه ليختفــي ذلــك التحــدي مــن عينيــه‪..‬‬
‫ربــت عليــه بحنــان أثــار دهشــة « عــاء الديــن» وباقــي العاملــن‬ ‫ُّ‬
‫قلــت لــه هبــدوء‪:‬‬
‫ُ‬ ‫املجتمعــن‪..‬‬
‫‪ -‬ماختافــش يــا متَّــام‪ ..‬عــم عــاء حكــى يل كل حاجــة‪ ،‬وأنــا قــررت‬

‫ﻋﺼ‬
‫أســاعدك‪ ..‬أنــا معــاك‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫التفــت إىل عــاء الديــن ومســاعديه‪ ..‬قلــت بلهجــة آمــرة مل يعتــد‬
‫ُ‬
‫أحدهــم ســاعها منــي‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬ق َّلعوه كل حاجة وكتفوه تاين‪ ..‬وحد جييب يل جوزة الطيب‪.‬‬
‫هتكم أحد العاملني ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬نجيب لك جوزة الطيب منني الساعة دي؟!‬


‫ﺸﺮ‬

‫مشريا نحو َ‬
‫«تَّام»‪:‬‬ ‫ً‬ ‫صاح فيه «عالء الدين»‬
‫‪ -‬الــواد ده لــو فضلنــا نرضبــه هنمــوت جنبــه وهــو مــش هينطــق‪..‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫اتــرف بــدل مــا أكتفــك جنبــه‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫توفــر يل مــا أردت بعــد ســاعة واحــدة‪ ،‬بــدأت خيــوط النهــار يف‬
‫الظهــور‪ ..‬صفعــت «متَّــام» عــى وجهــه بعنــف أكثــر مــن مــرة‪ ،‬كانــت‬
‫برشتــه جافــة تعــج بآثــار اجلــروح التــي جتلطــت رسي ًعــا‪ ،‬ومل يبــدُ عليــه‬
‫التأثــر برضبــايت‪ ..‬أرجعــت رأســه للخلــف‪ ،‬أنزلــت فكــه بصعوبــة‪،‬‬
‫وبــدأت أدس كميــات كبــرة مــن «جــوز الطيــب» املطحــون يف جوفــه‪،‬‬
‫مل متنعنــي مقاومتــه عــن تنفيــذ مــا أحلــم بــه منــذ فــرة‪ ،‬وال أعلــم متــى‬

‫‪154‬‬
‫ســيتكرر ثانيـ ًة‪ ..‬كنــت أعلــم أن «جــوز الطيــب» يســبب هــاوس مؤملــة‬
‫تدفــع البعــض لالنتحــار يف هنايــة املطــاف‪ ،‬أرجــع رأســه للخلــف وبــدأ‬
‫عــي «عــاء الديــن»‪ ،‬بــدأ يطلــق رصخــات‬ ‫هيــذي ببعــض ممــا قصــه َّ‬
‫ـرارا‬
‫طفوليــة ال تتناســب مــع شــكله وحجمــه‪ ،‬حتــول بيــاض عينــاه امحـ ً‬
‫ودخــل يف نوبــة مــن البــكاء الطويــل؛ نــادى عــى أبيــه وأمــه‪ ،‬وبــدأ يترضع‬
‫خلالقــه‪ ،‬مل أفهــم الكثــر مــن حديثــه ألنــه كان هيــذي بلهجتــه األم التــي‬
‫ظننتــه قــد نســاها‪ ..‬أصــدر الكثــر مــن األصــوات املبهمــة‪ ،‬مل أتوقــع‬

‫ﻋﺼ‬
‫أن يظهــر منــه هــذا الوجــه‪ ..‬تالقــت عينانــا مــرة واحــدة فبــدا الرعــب‬
‫ـي‪،‬‬
‫عليــه وازداد نحيبــه‪ ،‬أظنــه الحــظ نظــرة االســتمتاع املطلــق الباديــة عـ َّ‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ركعــت أمامــه عــى األرض كاشــ ًفا وجهــي للســاء‪ ،‬أطلقــت صيحــة‬
‫ﻜﺘ‬
‫قصــرة‪ ..‬مل أشــعر يف حيــايت بالســيطرة كهــذه اللحظــة‪ ،‬إن أردت قتــل‬
‫«تَّــام» اآلن فلــن يلومنــي أحــد‪ ،‬لكننــي ال أريــد قتلــه‪ ..‬أحتــاج أن أرى‬ ‫َ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫قــويت يف عينيــه؛ فأشــاهد مــا أوجدتــه فيــه مــن هلــع‪ ،‬أن أملــس روحــه‬
‫املتأملــة؛ التــي ال جتــد غــري لتلــوذ بــه‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫ـت األثــر الذي يرتكــه داخيل؛‬‫مل أحــب يو ًمــا األمل لذاتــه‪ ،‬ولكننــي أدمنـ ُ‬
‫نظــرات التوســل وصيحــات الرجــاء‪ ،‬التــي ينبعــث القهــر منهــا‪ ،‬منحنــي‬
‫ﻭ‬

‫إحساســا بالســيطرة التامــة عليهــم‪ ..‬وكأن أوجاعهــم صكــوك‬ ‫كل هــذا‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ً‬
‫ملكيــة متكننــي مــن التحكــم يف حيواهتــم‪ ،‬أنــا مــن يضــع قواعــد اللعبــة‪،‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫وأنــا مــن يامرســها‪ ،‬أنــا صاحــب اليــد العليــا التــي ســتقرر مصائرهــم‪.‬‬
‫دخلــت احلانــة بعــد أقــل مــن نصــف الســاعة‪ ،‬مل أجــد إال مالــك احلانة‬
‫و»عــاء الديــن» وأحــد الســقاة‪ ..‬أخــرت املالــك بمــكان األمــوال‪،‬‬
‫وطلبــت منــه أن يأخــذ حقــه فقــط‪ ..‬قــال «عــاء الديــن»‪:‬‬
‫‪ -‬عايز تسيب له فلوسه؟ ِص ِعب عليك؟‬

‫‪155‬‬
‫قلت وأنا أغادر احلانة بعد يو ٍم طويل‪:‬‬
‫‪ -‬ال‪ ..‬بس فلوسه دي أتعايب‪.‬‬
‫***‬
‫انقطــع تدفــق ذكريــايت حــن اتصــل يب اخلاطــف‪ ..‬طلبــت منــه أن‬
‫ـي عنــوان متَّــام‪ ،‬أمــرين‬ ‫أســمع صــوت غــرام أو مليكــة‪ ..‬فرفــض ممل ًيــا عـ َّ‬
‫أن أذهــب إليــه يف احلــال‪ ،‬قــال أننــي لــن أصــدق مــا آل إليــه حالــه‪ ،‬كان‬
‫جالســا إىل جــواري يف «غرفــة العمليــات» بشــقته التــي أصبحــت‬ ‫ً‬ ‫آدم‬

‫ﻋﺼ‬
‫مقرنــا املؤقــت‪ ،‬مل يعــرف «املجهــول» بعــد قــدرات اخلواجــة‪ ،‬الــذي‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫حــاول تتبــع املكاملــة لكــن «املجهــول» كان قــد حجبهــا متا ًمــا هــذه املــرة‪.‬‬
‫«تَّــام» قبــل الذهــاب إىل العنــوان‪،‬‬ ‫طلبــت منــه أن يقــوم بالتقــي عــن َ‬
‫ﻜﺘ‬
‫فأخــرين بعــدم جــدوى البحــث؛ فبالتأكيــد لــن تصمــد َهويتــه طيلــة‬
‫هــذه الســنوات‪ ..‬أخربتــه أن يســتعد حتــى يذهــب معــي إىل َ‬
‫«تَّــام»‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫الــذي اقــرب عمــره اآلن مــن الســتني‪ ..‬مل يكــن عــى مــا يــرام؛ يتحــدث‬
‫بنصــف عقــل‪ ،‬الحظــت عليــه الــرود التــام‪ ..‬ســألته عــن ســبب نظراتــه‬
‫ﺸﺮ‬

‫الشــاردة‪ ،‬قــال يل أنــه مل ينــم جيــدً ا‪ ..‬أجبتــه مبتسـ ًـا‪:‬‬


‫‪ -‬ماتنســاش إين ِعشــت طــول حيــايت أرسق احلقيقــة مــن النــاس‪..‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫فأكيــد هأعــرف آخدهــا مــن صاحبــي‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫سأل آدم باهتامم‪:‬‬


‫‪ -‬صاحبك؟‬
‫ربت عىل كتفه ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫ُ‬
‫‪ -‬أنــت الوحيــد الــي وقفــت جنبــي باختيــارك؛ احليــاة مارمتنيــش يف‬
‫طريقــك زي الباقيــن‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫رأيــت عــى وجهــه للمــرة األوىل ابتســامة حقيقيــة‪ ،‬مل يــرد‪ ..‬أخــرين‬
‫ـاخرا‪:‬‬
‫أنــه ســعيد إلقامتــي لديــه‪ ،‬علــق سـ ً‬
‫‪ -‬بــس لــو تبطــل هــوس الرتتيــب بتاعــك ده‪ ..‬يعنــي الزم كل حاجــة‬
‫تكــون يف مكاهنــا؟!‬
‫‪ -‬اسمه ‪ OCD‬يا أجهل خلق اهلل‪ ..‬بعدين النظام حلو‪.‬‬
‫كانــت ضحكاتــه قصــرة ومزيفــة‪ ،‬أعــدت ســؤاله مــرة أخــرى عــن‬
‫ســبب حزنــه الــذي مل يســتطع إخفــاءه‪ ..‬طلــب منــي أن أرافقــه إىل غرفــة‬

‫ﻋﺼ‬
‫نومــه‪ ،‬أعطــاين مل ًفــا ورق ًيــا‪ ،‬بعــد أن جلــس عــى فراشــه قائـ ًـا‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬ ‫‪ -‬تعرف تقرأ نتيجة التحليل ده؟‬
‫أجبته بصدق‪:‬‬
‫‪ -‬لألسف ال‪ ..‬بس ممكن نروح لدكتور‪...‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫قاطعني ً‬
‫قائل بعد أن استلقى عىل فراشه‪:‬‬
‫‪ -‬أنا عرفت النهارده الصبح نتيجة التحليل‪..‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫أخفــى وجهــه بــن يديــه املرجتفتــن‪ ،‬ســألته هبــدوء عــن الســبب‬


‫ً‬
‫حمــاول الســيطرة عــى نبضــات قلبــي الــذي مل أتوقــع أن خيفــق ألجــل‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫آدم‪ ..‬نزلــت مــن عينــه دمعــة قصــرة‪ ،‬أكمــل حديثــه ً‬


‫قائــا‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪« -‬لوكيميا»‪ ..‬رسطان يف الدم‪.‬‬


‫***‬

‫‪157‬‬
‫‪ -11‬رحيل‬

‫ﻋﺼ‬
‫مل أتوقع أن تُزهق األرواح هبذه الرسعة‪..‬‬
‫مل نتحــدث بخصــوص مــرض «آدم» ثاني ـ ًة طــوال الطريــق إىل بيــت‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫َ‬
‫«تَّــام» اجلديــد يف «إمبابــة»؛ بحثــت عــن عبــارات بــث األمــل واملواســاة‬
‫ﻜﺘ‬
‫يف قامــويس‪ ،‬فلــم أجــد‪.‬‬
‫نبهتــه إىل عــدَّ اد الوقــود الــذي كاد يقــرب مــن الصفــر‪ ،‬فتوقــف عنــد‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫أول حمطــة بنزيــن‪ ،‬دخلــت اســراحة املحطــة ألبتــاع زجاجــة ميــاه‪ .‬عدت‬
‫إىل آدم الــذي كان حياســب عامــل املحطــة‪ ،‬انطلقنــا بالســيارة لتغــادر‬
‫ﺸﺮ‬

‫ســيجارا ملفو ًفــا باحلشــيش‪ ،‬ســألته‬‫ً‬ ‫رائحــة البنزيــن أنوفنــا‪ ..‬أشــعل‬


‫ضاحــكًا متــى حيــر كل هــذه املخــدرات وكيــف ال يظهــر تأثريهــا‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫عليــه‪ ..‬ضحــك دون أن يعطينــي إجابــة واضحــة‪ ،‬أخــرين أنــه بــدأ‬


‫البحــث عــن موقــع «كريــس بــراديل» احلــايل كــا طلبــت منــه‪ ،‬لكنــه مل جيــد‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫مــا يفيــد‪ ..‬أثــارت ســرة «كريــس» الكثــر مــن ذكريــايت معــه إ َّبــان بعثتــي‬
‫يف جامعــة ‪ Wayne state‬بواليــة ميشــيغان‪..‬‬
‫حــذرين بعــض الزمــاء مــن الذهــاب إىل هــذه اجلامعــة حتديــدً ا؛‬
‫لوجودهــا يف مدينــة «ديرتيــوت»‪ ..‬فربغــم كوهنــا مــن أكــر جتمعــات‬
‫العــرب‪ ،‬إال أن نســبة اجلريمــة هنــاك مرتفعــة لكثــرة عصابــات الســود‪..‬‬

‫‪158‬‬
‫عــي رشوط البعثــة‪.‬‬
‫لــدي خيــار آخــر بعــد مــا فرضتــه ّ‬
‫َّ‬ ‫لكــن مل يكــن‬
‫كان «كريــس» رشيكــي يف غرفــة ســكن الطــاب‪ ،‬مل يمــر الكثــر‬
‫مــن الوقــت حتــى أصبحنــا رفقــاء‪ ،‬أخــرين كل يشء عنــه‪ ،‬مل حيــب‬
‫دراســة اهلندســة مثــي‪ ،‬كان عبقر ًيــا يف التعامــل مــع أجهــزة الكمبيوتــر‬
‫منــذ صغــره‪ ،‬أتــى بــه أهلــه إىل هــذه اجلامعــة البعيــدة عــن واليتــه األم‬
‫فــرارا مــن إحــدى عصابــات املخــدرات التــي تــورط يف‬ ‫ً‬ ‫«فلوريــدا»؛‬
‫العمــل خمرت ًقــا لدهيــا‪ ،‬كان خيــرق أجهــزة الرشطــة ليعــرف العمليــات‬

‫ﻋﺼ‬
‫التــي تــم رصدهــا فيبلغهــم هبــا‪ ..‬وحــن قــرر االنســحاب أدرك أن حياتــه‬
‫هــي الثمــن الوحيــد خلروجــه مــن هــذه اللعبــة‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫يف البدايــة جتنبــت اإلجابــة عــن ســؤال «كريــس» بخصــوص‬
‫ﻜﺘ‬
‫ـي ثالثــة أشــهر‪،‬‬ ‫الكوابيــس املتكــررة التــي تأتينــي ليـ ًـا‪ ،‬كان قــد مـ َّـر عـ َّ‬
‫ـت‬ ‫َخ َفــت انبهــاري بالتقــدُّ م احلضــاري والتكنولوجــي‪ ..‬كنــت قــد أقلعـ ُ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫متا ًمــا خــال هــذه الفــرة عــا كنــت أفعلــه باحليوانــات وطبقتــه يف َ‬
‫«تَّــام»‬
‫أعراضــا‬
‫ً‬ ‫أدركــت أن النســحايب هــذا‬ ‫ُ‬ ‫خو ًفــا مــن احلبــس أو الرتحيــل‪،‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫ـرا مــن تفكــري‪ ..‬فتــار ًة أحلــم بعبــد‬ ‫مؤملــة‪ ،‬احتــل املوضــوع جــز ًءا كبـ ً‬
‫ـي وحشــيته التــي مل أفهــم ســب ًبا هلــا‪ ،‬وتــار ًة‬ ‫احلــي الطائــي وهــو ينفــذ عـ َّ‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أخــرى أرى َتَّــام يف منامــي يثــأر منــي بنفــس الطريقــة‪ ..‬أصبحــت‬


‫طقوســا يوميــة‪ ،‬تراجعــت درجــايت الدراســية التــي مل تكــن يف‬ ‫كوابيــي‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ً‬
‫أفضــل أحواهلــا مــن األســاس‪.‬‬
‫ـرا قبــل أن أفــي بــري لــه‪ ،‬لكــن بســاطة «كريــس» وعدم‬ ‫تــرددت كثـ ً‬
‫قــدريت عــى التعامــل مــع األمــر بمفــردي شــجعاين عــى البــوح‪ ..‬مل خي ّيــب‬
‫ظنــي‪ ،‬أخــرين أنــه ال جيــد مشــكلة فيــا أفعــل‪ ..‬أحببــت فيــه تقبلــه جلميــع‬
‫عرفنــي عــى زمالئــي مــن اجلاليــة العربيــة‪..‬‬‫مــن حولــه‪ ،‬حتــى أنــه مــن َّ‬

‫‪159‬‬
‫كان حمــط إعجــاب لكثــر مــن الفتيــات بســبب وســامته ومالحمــه‬
‫الرشقيــة‪ ،‬كان بعضهــن يشــبهه بـــ»آل باتشــينو»‪ ،‬أحببــن ذكاءه ومتــرده‬
‫الدائــم عــى نظــام التعليــم‪ ،‬فلــم أخــره بوضــع التعليــم يف مــر حتــى‬
‫ال يقتــل نفســه‪.‬‬
‫عــي أن‬‫لــدي‪ ،‬اقــرح َّ‬ ‫َّ‬ ‫أخــرين بخطــورة انكشــاف الشــهوة التــي‬
‫أمارســها يف اخلفــاء‪ ،‬لفــت نظــري إلمكانيــة حتويلهــا إىل عمــل يــدر‬
‫دخـ ًـا‪ ،‬أنشــأ يل حســا ًبا عــى اإلنرتنــت املظلــم الــذي اعتــادت العصابــات‬

‫ﻋﺼ‬
‫األمريكيــة اســتخدامه آنــذاك يف تســيري أعامهلــا‪ ..‬بــدأ معــي يف تأســيس‬
‫ـي‬‫هويتــي اجلديــدة التــي ســأفرغ مــن خالهلــا شــحنايت الســلبية‪ ،‬اقــرح عـ َّ‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫أن ألقــب نفــي «املاركيــز»‪ ،‬كنــت أعلــم أهنــا ثــاين مراتــب النبــاء‪ ،‬لكنــي‬
‫ﻜﺘ‬
‫مل أفهــم مدلــول اللقــب بالنســبة حلالتــي‪ ..‬أخــرين أنــه نســب ًة إىل «املاركيــز‬
‫دي ســاد»؛ األرســتقراطي الفرنــي الــذي اشــتق لفــظ «الســادية»‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مــن اســمه‪ ،‬كانــت كتاباتــه تعكــس الكثــر عــن حياتــه التــي امتــأت‬
‫ـرورا بتأجــره‬ ‫جمو ًنــا وعن ًفــا‪ ..‬بداي ـ ًة مــن عالقتــه مــع شــقيقة زوجتــه‪ ،‬مـ ً‬
‫ﺸﺮ‬

‫للعاهــرات حتــى يــارس عليهــن عنفــه الــذي مل يضــع حــدً ا لــه‪ ،‬انتهــا ًء‬
‫بالعديــد مــن الكتابــات التــي وصفــت كأبشــع مــا يكمــن داخــل النفــس‬
‫ﻭ‬

‫البرشيــة‪..‬‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫يــاق اللقــب إعجا ًبــا منــي يف البدايــة‪ ،‬اقرتحــت لقبــي احلــايل‬ ‫ِ‬ ‫مل‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫«الكونــت» ألنــه قريــب مــن حيــث املعنــى‪ ،‬وأكثــر ألفــة عــن «املاركيــز»‪.‬‬
‫ومــع الوقــت بــدأت تأتينــي املهــات واحــدة تلــو األخــرى يف أمريكا‪،‬‬
‫مل أرتكــب نفــس خطــأ «كريــس» يف بدايــة عملــه باإلفصــاح عــن هويتــي‬
‫احلقيقيــة؛ حتــى أنســحب وقتــا شــئت‪ ،‬اتســع نشــاطي هنــاك‪ ،‬وازدادت‬
‫خــريت بعــد الكثــر مــن العثــرات واألخطــاء املهنيــة؛ حتــى ملــع اســم‬

‫‪160‬‬
‫كونــت ثــروة‬
‫«الكونــت» يف «ميشــيغان» وبعــض الواليــات املجــاورة‪َّ ،‬‬
‫حقيقيــة مكنتنــي مــن رشاء مقــري احلــايل يف مــر‪ ..‬كان «كريــس»‬
‫حيصــل عــى ُربــع مــا أجنيــه مقابــل محايتــه اإللكرتونيــة هلويــة «الكونــت»‪،‬‬
‫االتفــاق الــذي اســتمر حتــى حلظــة اختفائــه واختطــاف غــرام ومليكــة‪..‬‬
‫نبهنــي آدم القرتابنــا مــن وجهتنــا التــي دلنــا عليهــا ذلــك «املجهــول»‬
‫جحيــا‪ ..‬اتصــل اخلاطــف‬ ‫ً‬ ‫الــذي غــر مســار حيــايت متا ًمــا‪ ،‬وحوهلــا‬
‫بعــد دقائــق ليخــرين بالعنــوان تفصيـ ًـا‪ ،‬أمــرين أن أســأل عــن «مســمط‬

‫ﻋﺼ‬
‫املعلــم إدريــس»‪ ..‬وحــن استشــف منــي عــدم الفهــم أخــرين بصوتــه‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫«تَّــام» حــن غــادر البــار عمــل يف مســمط متتلكــه إحــدى‬ ‫اإللكــروين أن َ‬
‫العجائــز املتصابيــات‪ ،‬أعجبــت بفحولتــه وقــررت الــزواج منــه ليمــي‬
‫ﻜﺘ‬
‫معهــا آخــر أيامهــا‪ ،‬كانــت وحيــدة بــا أهــل فوافــق حتــى يرثهــا فيــا‬
‫بعــد؛ كان يعلــم أنــه اقــرب مــن اخلمســن وقدرتــه عــى العمــل الشــاق‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ســترتاجع بالتدريــج‪ ،‬وقــد كان لــه مــا أراد‪ ..‬مل يتزوج بعدهــا ومل ينجب‪..‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫اعتــزل احليــاة يف مطعمــه ويف بيــت أرملتــه‪ ،‬بعــد أن ختــى متا ًمــا عــن حلــم‬
‫الثــأر‪ ..‬وقبــل أن أســأله عــن املزيــد مــن التفاصيــل أهنــى املكاملــة‪.‬‬
‫ﻭ‬

‫ناظــرا نحــو البيــوت التــي‬ ‫أخرجــت رأيس مــن زجــاج ســيارة آدم‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ً‬
‫اتســمت بالبســاطة‪ ،‬فتحــت الشــباك سـ ً‬
‫ـائل أحــد األطفــال‪ ،‬الــذي كان‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫عار ًيــا مــن األســفل‪ ،‬عــن مــكان املســمط‪ ،‬فتظاهــر بالبالهــة حتــى‬
‫أعطيتــه ورقــة مــن فئــة العرشيــن ً‬
‫جنيهــا‪ ،‬ابتســم وأخــرين العنــوان‬
‫ـرا ال يالئــم شــكل املنطقــة‪ ،‬ترجلــت مــن‬‫بالتفصيــل‪ ،‬كان املســمط كبـ ً‬
‫الســيارة‪ ،‬تناولــت حبتــن مــن «البرياســيتام»‪ ،‬وطلبــت مــن آدم أن يــرك‬
‫ً‬
‫مشــغل وينتظــرين‪..‬‬ ‫حمــرك الســيارة‬

‫‪161‬‬
‫ســألت النــادل الوحيــد باملســمط عــن مــكان إدريــس‪ ..‬نظــر يل‬
‫مصححــا‪ ،‬أن «املعلــم إدريــس» جيلــس أمــام مكتبــه يف‬ ‫ً‬ ‫مســتنكرا ور َّد‬
‫ً‬
‫ـت حيــث أشــار العامــل‪ ،‬كان املــكان نظي ًفــا ينبعــث‬ ‫هنايــة املســمط‪ ..‬حتركـ ُ‬
‫ملحــت إدريــس؛ مل يتغــر‬‫ُ‬ ‫مــن مطبخــه الكثــر مــن الروائــح الشــهية‪،‬‬
‫انكامشــا وظهــرت بعــض احلســنات ال ُبنيــة‬ ‫ً‬ ‫كثــرا‪ ،‬ازداد وجهــه‬ ‫ً‬ ‫شــكله‬
‫أســفل عينــه‪ ..‬مل يلتفــت نحــوي‪ ،‬كان ينهــر أحــد العاملــن بلهجتــه التــي‬
‫أصبحــت مرصيــة متا ًمــا‪ ،‬أشــار لــه ناحيــة أحــد الطــاوالت التــي قــام مــن‬

‫ﻋﺼ‬
‫عليهــا الزبائــن ومل ُتنَ َظــف بعــد‪ ..‬فتحــرك العامــل رسي ًعــا ليزيــل بقايــا‬
‫العظــام والبقدونــس املتناثــر عــى الطاولــة‪ ،‬ويعيــد مــلء كــوز املــاء‪..‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫كانــت احلركــة رسيعــة والزبائــن كثرييــن‪ ،‬توجهــت نحــو إدريــس‬
‫ﻜﺘ‬
‫ـوات رسيعــة‪ ،‬كان يتنــاول حبــوب الفــول الســوداين دون أن يركــز‬ ‫بخطـ ٍ‬
‫كثــرا مــع مــا يــدور حولــه‪ ..‬مــددت لــه يــدي بثقــة‪ ،‬جلســت أمامــه‬ ‫ً‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫هبــدوء‪ ،‬نظــر يل نظــرة مرتعبــة‪ ،‬أخفاهــا رسي ًعــا‪ ،‬قلــت لــه‪:‬‬


‫‪ -‬أنا يارس بن عبد احلي الطائي يا معلم إدريس‪..‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫شــعرت بارجتــاف قدمــه حــن ســمع اســمي‪ ،‬رد بلهجــة حــاول أن‬
‫جيعلهــا قويــة‪:‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬فيه حد لسه مكلمني وقال يل إنك جاي‪..‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫قلــت لــه هبــدوء أننــي ال أعــرف هويــة هــذا املتصــل‪ ،‬وال أدرك ســبب‬
‫قدومــي إىل هنــا‪ ..‬ضحــك ضحكــة طويلــة‪ ،‬فــرت مــن عينــه دمعــة‪،‬‬
‫أخفاهــا بجلبابــه الزيتــي‪ ..‬تذكــرت مظهــره القديــم وقــت أن كان يرتدي‬
‫فضفاضــا أبيــض اللــون وبنطلــون «جينــز»‪ ..‬جتهــم يف وجهــي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ز ًيــا‬
‫نــادى أحــد العاملــن الــذي بــدا كذراعــه األيمــن‪ ،‬مهــس يف أذنــه ببضــع‬
‫كلــات‪ ..‬فــراح العامــل يطــرد اجلالســن باملســمط هــو وزمــاؤه اخلمســة‬

‫‪162‬‬
‫دون اعــراض ُيذكــر مــن الزبائــن‪ ،‬أغلقــوا بــاب املســمط ووقفــوا مجي ًعــا‬
‫خلفــي‪ .‬قــال هلــم َ‬
‫«تَّــام» بلهجــة حازمــة‪:‬‬
‫‪ -‬اقتلوه‪.‬‬
‫***‬
‫فرحــا بتحقيــق العدالــة‬‫دخــل املقــدم محــزة درويــش شــقته يدنــدن ً‬
‫والوصــول ملخــزن الســاح اخلــاص بيزيــد الصــاوي الــذي نجحــت معــه‬
‫طريقــة «الكونــت»‪ ،‬فجــن جنونــه حتــى كاد ينتحــر يف حمبســه بعــد أن‬

‫ﻋﺼ‬
‫أجــل التفكــر يف اإليقــاع بالعقــل املدبــر‬‫أصابــه الشــك يف كل مــن حولــه‪َّ ،‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫املتحكــم يف هــذه العصابــة لليــوم التــايل‪ ..‬فكــر يف طريقــة لالحتفــال‬
‫فخــورا‪ ..‬اتصــل برقــم‬
‫ً‬ ‫أخــرا ســينظر إىل املــرآة‬ ‫بإنجــازه يف احليــاة‪،‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫ً‬
‫مســجل لديــه باســم «دكتــور ســعد» ليخــره باســتعداده لعمــل عمليــة‬
‫ـرا‪ ..‬فــرب‬ ‫«ليــزك» الســتعادة حــدة بــره التــي أخــذ منهــا الزمــن كثـ ً‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫لــه الطبيــب ميعــا ًدا يناســبهام‪.‬‬


‫نظــر نحــو حجــرة األطفــال املغلقــة يف شــقته‪ ،‬كان قــد اشــراها قبــل‬
‫ﺸﺮ‬

‫زواجــه ضمــن متــاع البيــت‪ ،‬تذكــر مــزاح أبيــه قبــل الــزواج حــن قــال لــه‬
‫«يكفيــك ُجــرم الــزواج‪ ،‬فحــاول أال تقــرف جر ًمــا آخــر باإلنجــاب»‪..‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫لكــن مــا مل يتوقعــه أن يســخر القــدر منهــا وحيرمــه مــن اإلنجــاب‪ ..‬يف‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫البدايــة وعدتــه زوجتــه بالصــر والســعي بح ًثــا عــن عــاج لعقمــه الــذي‬
‫أمجــع األطبــاء عــى اســتحالة شــفائه‪ ،‬ومــع الوقــت فــر تعاطفهــا جتاهــه‪،‬‬
‫ســيطرت عليهــا الغريــزة األنثويــة الباحثــة عمــن تعتنــي بــه حتــى يكــر‬
‫أمــام عينيهــا‪ ..‬عــرض عليهــا الطــاق متمن ًيــا أن ترفــض وجتــدد حبهــا‬
‫لــه‪ ،‬لكــن هــذا مل حيــدث‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫طــرد مــن رأســه هــذه الذكريــات املؤملــة‪ ،‬اتصــل بأحــد املطاعــم‬
‫الشــهرية طال ًبــا منهــم إحضــار وجبــة عشــاء دســمة؛ مل يامنــع بالقليــل‬
‫مــن أمل القولــون‪ ،‬اتصــل بأقاربــه يف قريتــه باملنوفيــة‪ ،‬وأخربهــم بنيتــه‬
‫يف زيارهتــم‪ ،‬طلــب منهــم أن ينظفــوا لــه بيتــه الريفــي الــذي ورثــه‬
‫عــن أبيــه‪ ..‬نظــر لنفســه يف مــرآة احلــام‪ ،‬الحــظ فقدانــه الكثــر مــن‬
‫الــوزن واســتعادته جــز ًءا مــن شــبابه؛ ففكــر يف البحــث عــن زوجــة‬
‫جديــدة أو حتــى التصالــح مــع مطلقتــه‪ ،‬لكنــه اكتشــف أن مثــل هــذا‬

‫ﻋﺼ‬
‫األمــر ســيعطله عــن مهمتــه اجلديــدة يف حماولــة إصــاح املجتمــع‪،‬‬
‫وقــد يكشــف هويــة «امليــزان»‪ ،‬فعــدل عــن الفكــرة‪ ..‬خــرج مــن احلــام‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫مصفــرا بلحــن عشــوائي‪...‬‬
‫ً‬
‫ﻜﺘ‬
‫ـخصا ال يعرفــه‪ ،‬كان نحيـ ًـا قصــر‬
‫تســمر مكانــه حــن وجــد أمامــه شـ ً‬
‫القامــة‪ ،‬وقــف أمــام محــزة هبــدوء يف بدايــة الردهــة املظلمة‪ ،‬مل يعــرف محزة‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫متــى دخــل هــذا املقتحــم؛ كان يرتــدي األســود وينظــر حلمــزة بثبــات‪..‬‬
‫مل يســمع محــزة صو ًتــا يف حياتــه ثانيـ ًة بعــد الطلقــة املكتومــة الصــادرة عــن‬
‫ﺸﺮ‬

‫مســدس قاتلــه املأجــور‪ ..‬واهنــار «امليــزان»‪.‬‬


‫ﻭ‬

‫***‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫مل أظهــر فزعــي مــن منظــر رجــال «متَّــام» ضخــام اجلثــث‪ ،‬رفــع‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫أحدهــم ســاح «فــرد خرطــوش» أمــام وجهــي‪ ،‬ومحــل الباقــون‬


‫ســكاكني كبــرة احلجــم‪ ..‬مل أبـ ِـد أي خــوف منهــم‪ ،‬شــكرت آدم يف رسي‬
‫عــى فكرتــه حــن قمــت بفــك أزرار بدلتــي وقميــي كاشـ ًفا عــن حــزام‬
‫ناســف‪ ،‬كان مزي ًفــا بالطبــع لكــن آدم طلــب منــي أن ألبســه حتسـ ًبا ملوقــف‬
‫مشــابه ملــا حيــدث اآلن‪..‬‬

‫‪164‬‬
‫لــدي ألخــره‪ ،‬ظهــر الفــزع عــى وجــه‬ ‫َّ‬ ‫صحــت فيهــم أن ال يشء‬
‫َ‬
‫«تَّــام» وطلــب منــي اهلــدوء‪ ،‬تراجــع رجالــه أمامــي‪ ..‬أمرهتــم أن يلقــوا‬
‫أرضــا وأن يفرغــوا مــا يف جيوهبــم أمــام قدمــي؛ كان بحــوزة‬‫أســلحتهم ً‬
‫أحدهــم مفتــاح دراجــة ناريــة فركلتــه بعيــدً ا بحذائــي‪ ..‬طلبــت منهــم‬
‫الرتاجــع بجــوار معلمهــم يف هنايــة املســمط‪ ،‬هددهتــم إن اتبعنــي أحــد‬
‫فســأفجر اجلميــع‪..‬‬
‫بعــض مــن‬‫ٌ‬ ‫طلبــت مــن آدم التحــرك رسي ًعــا‪ ،‬اعــرض طريقنــا‬

‫ﻋﺼ‬
‫جــران إدريــس‪ ،‬لكــن آدم فــر منهــم بمهــارة‪ ،‬كانــت احلــارة ضيقــة لكــن‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫اخلواجــة كان ســائ ًقا ماهـ ًـرا عــى عكــي‪ ..‬حلــق بنــا أحــد شــباب املنطقــة‬
‫فــوق دراجتــه الناريــة‪ ..‬لكــن آدم نجــح يف مراوغتــه وإســقاطه مــن فــوق‬
‫ﻜﺘ‬
‫الدراجــة بخبطــة بســيطة مــن جانــب ســيارته‪ ..‬انطلقنــا عائديــن إىل بيتــه‬
‫بعــد أن ســلكنا أكثــر مــن طريــق لتجنــب االقتفــاء‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بعــد أن اســتتب لنــا الفــرار مــن أتبــاع َ‬


‫«تَّــام»‪ ..‬هــدّ أ آدم رسعــة‬
‫ﺸﺮ‬

‫ـال مــن اخلاطــف حتــى‬‫الســيارة حتــى نســتعيد هدوءنــا‪ ..‬انتظــرت اتصـ ً‬


‫أصــب عليــه غضبــي‪ ..‬بــدأت أطلــق عليــه ســبا ًبا بضمــر الغائــب‪..‬‬
‫ﻭ‬

‫طلــب آدم منــي أن أهــدأ‪ ،‬ســألني بعــض األســئلة التــي ختــص هويــة‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫يشء مــا‪ ،‬رفــض اإلفصــاح عنــه حتــى‬ ‫الكونــت‪ ،‬أعــرب عــن شــكه يف ٍ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫نعــود إىل منزلــه‪.‬‬


‫رشع آدم يف تغيــر املوضــوع‪ ،‬أعــاد ربــط شــعره ألعــى كعادتــه‪،‬‬
‫وأخــرج ســيجارة أخــرى مل أتعــرف عــى رائحتهــا‪ ..‬فتحــت هاتفــي‬
‫األصــي‪ ،‬ملــح صــورة اخللفيــة التــي جتمعنــي بغــرام‪ ،‬فســألني عــن قصــة‬
‫زواجنــا‪..‬‬

‫‪165‬‬
‫بــدأت أقــص عــى «آدم» احلــوار الــذي دار مــع «كريــس» بعــد ســنة‬
‫مــن مكوثــي بأمريــكا‪ ،‬وبعــد أن جنينــا ثــروة مل نحلــم هبــا‪.‬‬
‫أخرجــت لــه وقتهــا مــن جيبــي علبــة صغــرة مــن القطيفــة‪ ،‬يســتقر‬
‫وســطها خاتــم بســيط للــزواج‪ ،‬فســألني «كريــس» ً‬
‫مازحــا عن «التعيســة»‬
‫التــي ســأتقدم هلــا‪ ،‬أجبتــه‪:‬‬
‫‪ -‬أنا قررت أتقدم لزميلة حمرتمة من اجلالية‪ ..‬نادين‪.‬‬
‫مستنكرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫رد‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬اللبنانية؟ مستحيل‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫عــال مــن الدهــاء‪ ،‬وإن انتقلــت للعيــش‬
‫ﻜﺘ‬ ‫ٍ‬ ‫أخــرين أهنــا تتمتــع بقــدر‬
‫معــي ستتســاءل عــن مصــدر ثــرويت املفاجئــة‪ ،‬ولــن تقتنــع بــأي مــن‬
‫حجــج غيــايب أثنــاء تنفيــذ مهــات «الكونــت»‪ ،‬كــا أهنــا تتمتــع بــروح‬
‫متمــردة وحتلــم أن جتــوب العــامل؛ األمــر الــذي سيفســد خمططــايت إلكــال‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫عمــل «الكونــت» يف مــر‪ ،‬الــذي ســيكون أســهل بحكــم غيــاب‬


‫املنافســة‪ ..‬وجــدت يف كالمــه الكثــر مــن الصحــة‪ ،‬جلســت أمامــه‬
‫ﺸﺮ‬

‫يف حــرة‪ ،‬صارحتــه بــرورة زواج «يــارس» حتــى يتــم إحــكام غطــاء‬
‫ﻭ‬

‫الكونــت وال يشــك أحــد يف هــذا الغطــاء‪ ..‬فيتيــم مثــل يــارس جيــب أن‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫تظهــر رغبتــه العارمــة يف الــزواج‪ ،‬فهــو يفتقــد لوجــود األنثــى يف حياتــه‪،‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ويرفــض نظــام العالقــات دون زواج‪ ..‬ضحــك واقــرح بلهجــة ماكــرة‪:‬‬


‫‪ -‬إ ًذا‪ ..‬فلنبحر نحو سوريا‪..‬‬
‫مستنكرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫أطلقت سبة بعد أن فهمت تلميحه‪ ،‬سألته‬
‫‪ -‬غرام؟!‬
‫أبــدى آدم دهشــته مــن عــدم انجــذايب لغــرام يف بدايــة األمــر‪ ،‬كان قــد‬

‫‪166‬‬
‫مخــن أننــي تزوجتهــا بعــد قصــة حــب‪ ..‬وصلنــا إىل عــارة آدم‪ ،‬أخربتــه‬ ‫َّ‬
‫أثنــاء انتظارنــا للمصعــد أن «كريــس» هــو مــن خطــط لقصــة احلــب هذه‪،‬‬
‫فمثلتهــا عــى غــرام‪ ..‬رشح يل «كريــس» أن شــخصية كغــرام حتب شــعور‬
‫العطــاء والتضحيــة‪ ،‬تريــد ابنًــا لرتبيــه وليــس حبي ًبــا يعتنــي هبــا‪ .‬خدعهــا‬
‫«كريــس» ولفــق قصــة إدمــاين للكحــول‪ ،‬وحاجتــي للمســاعدة‪..‬‬
‫فصدقــت «غــرام» وأرصت عــى أن تصطحبنــي جللســات التعــايف مــن‬
‫ـذت مــا رســمه يل كريــس‪ ،‬فحكيــت هلــا كاذ ًبــا عــن صديقتي‬ ‫اإلدمــان‪ ،‬نفـ ُ‬

‫ﻋﺼ‬
‫األمريكيــة التــي اكتشــفت خيانتهــا‪ ..‬اســتنزفت تعاطفهــا أشــبعت شــهوة‬
‫ـتنكرا‪:‬‬
‫التعاطــف لدهيــا‪ ،‬قاطعنــي آدم مسـ ً‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬هو التعاطف شهوة؟‬
‫ﻜﺘ‬
‫أجبته وأنا أرتب وضع مالبيس يف مرآة املصعد‪:‬‬
‫‪ -‬أي شــعور بيخلينــا مبســوطني شــهوة‪ ..‬إحنــا عايشــن عشــان‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫نــريض شــهواتنا‪ ..‬كل واحــد وطريقتــه‪ ،‬للنــاس فيــا يعشــقون مذاهــب‬


‫يــا أبــو آدم‪..‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫قائل أثناء خروجنا من املصعد‪:‬‬‫أردفت ً‬


‫ﻭ‬

‫‪ -‬حتــى االلتــزام الــي النــاس فاكرينــه بيكبــح الشــهوات؛ بــريض‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أعظــم شــهوة إنســانية‪ :‬راحــة الضمــر‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫مل أكمــل لــه احلكايــة‪ ،‬أظــن أنــه َّ‬


‫مخــن هنايتهــا شــبه الســعيدة‪ ..‬بمجــرد‬
‫رن هاتفــي برقــم املتصــل املجهــول‪ ،‬بــادرين قائـ ًـا‪:‬‬‫أن دخلــت الشــقة َّ‬
‫‪ -‬لــو لســه بتــدور عــى أخبــار بخصــوص «كريــس بــراديل»‬
‫ماتكملــش‪ ..‬ادعــي لــه‪.‬‬
‫عال وبلهجة متوسلة‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫بصوت ٍ‬ ‫فلتت مني دمعة‪ ،‬أجبته‬

‫‪167‬‬
‫‪ -‬كفاية كده‪ ..‬بجد كفاية‪.‬‬
‫ر َّد هبدوء ضاحكًا‪:‬‬
‫‪ -‬حســيت بشــعور ضحايــاك وأنــت بتقتلهــم بالبطــيء‪ ..‬حاســس‬
‫روحــك بتطلــع وهــي لســه يف جســمك؟!‬
‫مل أرد قلت له بغضب‪:‬‬
‫‪ -‬طب مرايت وبنتي يرجعوا‪ ،‬وخلينا نتعامل راجل لراجل‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬مــا مهــا لــو رجعــوا أنــت مــش هتكمــل الرحلــة‪ ..‬أنــا عايــزك تعرف‬
‫نفســك قبــل مــا تعرفني‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫عرفــت أنــه ال جــدوى مــن التفــاوض معــه؛ فهــذا املجهــول أمامــه‬
‫ﻜﺘ‬
‫هــدف لــن يــرح حتــى يبلغــه‪ ..‬ســألته بلهجــة عمليــة عــن املطلــوب‪..‬‬
‫أجابنــي هبــدوء‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫عايــزك تقابــل آخــر ضحيتــن ليــك‪ :‬البــاش مهنــدس هشــام وداليــا‬


‫الســكرترية‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫نظــر يل آدم الــذي كان يســمع احلديــث مــن مكــر الصــوت‪ ،‬أومــأ يل‬
‫برأســه نف ًيــا‪ ،‬فأجبــت ذلــك املجهــول بلهجــة مقتضبــة‪:‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬مش هقابل حد‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫رد بلهجة حازمة‪:‬‬


‫‪ -‬هتقابلهــم‪ ،‬وتبــص يف عينيهــم كــان‪ ..‬وتشــوف الــي أنــت عملتــه‬
‫فيهــم‪ ،‬وحياهتــم الــي اتدمــرت بســببك‪ ..‬زي مــا شــوفت َ‬
‫«تَّــام» الــي‬
‫ماقدرتــش تواجهــه وهربــت‪.‬‬
‫أكمل حديثه بلهجته املستفزة‪:‬‬

‫‪168‬‬
‫«تَّــام»‪ ..‬أنــت ماحســمتش رصاعــك معــاه زي مــا‬ ‫‪ -‬عــى ذكــر َ‬
‫اتفقنــا‪ ،‬وطريقتــك يف اهلــروب مــن مواجهتــه معجبتنيــش‪ ..‬فأنــا قــررت‬
‫أعاقبــك‪ ..‬وأزعلــك عــى حــد مــن دمــك‪.‬‬
‫توقــف نبــي متا ًمــا‪ ..‬مل أجــد مــا أقــول غــر بعــض الكلــات املبهمــة‪،‬‬
‫ـوت متهــدج‪ ..‬كان هيــدم كل مــا صنعتــه يف ســنوات‪ ،‬يســلبني‬ ‫هددتــه بصـ ٍ‬
‫أمجــل مــا يف نفــي‪ ،‬أخربتــه أنــه ال يقــدر عــى أذيــة غــرام وال مليكــة‪ ،‬فهــو‬
‫ـم لــه إال املتعــة‪،‬‬
‫حيتــاج وجودمهــا حتــى أظــل حتــت طوعــه‪ ..‬رد أن ال َهـ َّ‬

‫ﻋﺼ‬
‫عــي بوســائل أخــرى‪ ..‬أدركــت أنــه ســينفذ‬ ‫وأنــه يســتطيع الســيطرة َّ‬
‫ناصحــا‪:‬‬
‫ً‬ ‫هتديــده ال حمالــة‪ ..‬قــال‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬ماختافــش أنــا بعمــل ملصلحتــك‪ ..‬فقدانــك حلــد بتحبــه منعطــف‬
‫ﻜﺘ‬
‫مهــم يف رحلتــك جــوة نفســك‪ ..‬هيســاعدك تكتشــف حاجــات كتــر‬
‫جــواك‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ندمــت عــى اســتفزازه‪ ،‬ســمعت صــوت طلقــة رصــاص‪ ،‬وبعــد ٍ‬


‫ثوان‬
‫عــاد ذلــك املجهــول الــذي مل أكــره أحــدً ا مثلــه اآلن‪ ،‬قــال بلهجــة تقريريــة‬
‫ﺸﺮ‬

‫مل ختـ ُـل مــن تعاطــف زائــف‪:‬‬


‫‪ -‬اهلل يرمحها‪ ..‬كان فيها من مالحمك كتري‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫***‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪169‬‬
‫‪ -12‬املصائب ال تأيت فرادى‪..‬‬

‫ذنب ُقتِ َلت سلوى؟!‬

‫ﻋﺼ‬
‫أريد فقط أن أعرف؛ بأي ٍ‬
‫ـخصا يشــبهني توقــف العــامل‬
‫حــن أخــرين «املجهــول» أنــه قتــل شـ ً‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫مــن حــويل‪ ..‬ظننــت أنــه انتــزع قلبــي وســلبني مليكــة‪ ،‬مل أعــرف أيــن‬
‫ﻜﺘ‬
‫أذهــب؛ وال كيــف أختلــص مــن هــذا الكابــوس الــذي وضعنــي فيــه‬
‫ـي‪..‬‬‫ذلــك املجهــول الــذي مل أكــره مثلــه‪ ،‬أثقــل العجــز قلبــي فأغــي عـ َّ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫اســتيقظت عــى صــوت آدم يبلغنــي باتصــال رايف‪ ،‬كان األخــر‬


‫منهــارا‪ ،‬مل يفهــم منــه آدم الكثــر يف البدايــة‪ ،‬لكنــه اســتجمع آخــر مــا‬
‫ً‬
‫ﺸﺮ‬

‫تبقــى فيــه مــن طاقــة‪ ،‬وطلــب مــن آدم أن يبلغنــي بوفــاة أختــي الوحيــدة‪.‬‬
‫ﻭ‬

‫ـي شــعور واحــد‪ :‬االرتيــاح‬


‫مل أســتطع التأثــر بوفاهتــا‪ ،‬فقــد ســيطر عـ َّ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫لنجــاة مليكــة‪ ..‬ولــو بصــورة مؤقتــة!‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ســارت مراســم اجلنــازة عــى أرسع مــا يكــون‪ ،‬أدار خــال ســلوى كل‬
‫األمــور الالزمــة كترصيــح الدفــن وتأجــر صــوان العــزاء‪ ..‬علــم رايف‬
‫بخــر الوفــاة حــن اتصــل بــه ضابــط رشطــة ليخــره أن ســيارة ســوداء‬
‫ألقــت جثامهنــا عــى جانــب مــن الطريــق الصحــراوي‪ ،‬وقــد اخرتقــت‬
‫رصاصــة منتصــف عنقهــا‪ ..‬أهنــى رايف كافــة اإلجــراءات مــع الرشطــة‪،‬‬

‫‪170‬‬
‫و ُقيــد احلــادث ضــد جمهــول‪ ..‬طلــب رايف مــن أقــارب ســلوى التكتــم‬
‫عــى ســبب الوفــاة احلقيقــي؛ لكــن أحــدً ا مل حيفــظ الوعــد‪.‬‬
‫مل يتعجــب رايف مــن نظــرات الغــل التــي طاردتــه أثنــاء العــزاء مــن آل‬
‫ســلوى؛ كانــوا رافضــن لفكــرة زواجهــا مــن رايف ألنــه مل حيصــل عــى‬
‫ـت العــزاء متأخـ ًـرا كاألغــراب‪ ،‬كان‬ ‫درجــة عاليــة مــن التعليــم‪ ..‬وصلـ ُ‬
‫رايف واق ًفــا ببدلــة ســوداء مبعثــرة اهلنــدام‪ ،‬كانــت نظراتــه ضالــة كرضيــع‬
‫ـاول أن يبــث يف‬‫بــا أهــل‪ ،‬حــن وصلــت ملحتــه ينفــخ يف كــف يــده حمـ ً‬

‫ﻋﺼ‬
‫روحــه دف ًئــا يعوضــه عــن ســلوى‪ ..‬مــا لبــث أن رآين حتــى احتضننــي‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫كالطفــل املشــتاق ألمــه‪ ..‬حــرك يديــه فــوق ظهــري مســتمدً ا منــي قــوة‬
‫ال أملكهــا‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫جلســت يف جانــب مــن العــزاء بعــد أن صافحــت «احلــاج صالــح»‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫متجن ًبــا أقــارب ســلوى الذيــن مل حيبــوين بســبب أفعــال «الطائــي»‪ ،‬مل‬
‫املعزيــن‪ ،‬وال يف أي تفاصيــل أخــرى‪ ..‬جلــس آدم إىل‬ ‫أركــز يف وجــوه ّ‬
‫ﺸﺮ‬

‫جــواري‪ ،‬يربــت عــى كتفــي بــن احلــن واآلخــر‪ ،‬كان قــد أخفــى وشــوم‬
‫جســده حتــى ال يلفــت النظــر باملالبــس الثقيلــة التــي ال حيــب ارتداءهــا‪..‬‬
‫ﻭ‬

‫أتــاين أحــد أقــارب ســلوى ليخــرين أن هنــاك ســيدة تريــد أن تعزينــي يف‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫وفاهتــا‪ ..‬عدلــت مــن وضــع بذلتــي الرســمية التــي ال أرتدهيــا كـ»يــارس»‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ـادرا وال يرتــدي «الكونــت» ســواها‪ ،‬طلبــت مــن آدم انتظــاري لكنــه‬ ‫إال نـ ً‬
‫أرص عــى مرافقتــي خــارج الصــوان‪.‬‬
‫‪ -‬البقاء هلل يا مسرت يارس‪..‬‬
‫كانــت طريقــة مديــريت يف املدرســة الدكتــورة أســاء مقتضبــة خاليــة‬
‫مــن احلــزن‪ ..‬أجبتهــا ببعــض الكلــات املبهمــة وشــكرت هلــا ســعيها‪..‬‬

‫‪171‬‬
‫طلبــت منــي أن نتحــدث عــى انفــراد‪ ،‬لكننــي أخربهتــا أن آدم أخــي وال‬
‫أخفــي عنــه شــي ًئا‪ ،‬تــرددت قبــل أن ختــرج هاتفهــا املحمــول‪ ،‬وضعــت‬
‫شاشــته أمــام وجهــي‪ ،‬وجــدت نفــي عــى الشاشــة أثنــاء هــرويب مــن‬
‫«مطعــم املعلــم إدريــس» مرتد ًيــا احلــزام الناســف‪ ..‬كان التصويــر بكامــرا‬
‫عمــن أرســل هلــا هــذا‬‫واضحــا‪ ..‬ســألتها َّ‬
‫ً‬ ‫عاليــة اجلــودة‪ ،‬بــدا منهــا وجهــي‬
‫املقطــع‪ ،‬ردت بلهجــة أكثــر قســوة مــن هلجتهــا احلازمــة يف املعتــاد‪:‬‬
‫‪ -‬رقــم جمهــول‪ ..‬وعامـ ًة مــش مهــم مــن صــورك‪ ،‬املهــم الــي شــوفته‬

‫ﻋﺼ‬
‫ده بجــد؟‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫مل أجــد مــا أرد بــه‪ ،‬حــاول آدم الدفــاع عنــي فطلبــت منــه الصمــت‬
‫والتزمتــه أنــا ً‬
‫أيضــا؛ تركتهــا تنهــي املحادثــة قائلــة‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬الفيديــو ده لــو وصــل حلــد مــن أوليــاء األمــور املدرســة هتتشــمع‬
‫بكــرة الصبــح‪ ،‬والــي بعتــه اشــرط عليــا أفصــل حرضتــك عشــان‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مايرسبــوش‪.‬‬
‫صافحت أسامء مبد ًيا تفهمي ملوقفها‪ ،‬قلت هلا بلهجة هادئة‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬كل واحــد لــه أرسار الزم تفضــل خمفيــة‪ ..‬فرصــة ســعيدة يــا‬
‫ﻭ‬

‫دكتــورة‪ ،‬ربنــا يوفقــك يف حياتــك ويعــرك يف ابــن احلــال‪..‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ٍ‬
‫بصوت هامس‪:‬‬ ‫اقرتبت منها‪ ،‬وأردفت‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬أو بنت احلالل‪.‬‬


‫مل أعــرف كيــف فعلــت هــذا‪ ،‬كيــف جاءتنــي اجلــرأة ألبــوح هلــا‬
‫بــا عرفــت؛ خاصــ ًة يف هــذا املوقــف وهــذه احلالــة‪ ،‬لكننــي رفضــت‬
‫أن أخــرج مهزو ًمــا‪ ،‬عــدت مــرة أخــرى لالنــزواء يف ركــن مــن أركان‬
‫هامســا‪:‬‬
‫ً‬ ‫عــي آدم‬
‫الصــوان‪ ..‬مــال َّ‬

‫‪172‬‬
‫‪ -‬مش مالحظ حاجة غريبة يف نسيبك ده؟‬
‫‪ -‬رايف ؟‬
‫‪ -‬ركز معاه كده‪ ..‬مريب جدً ا‪.‬‬
‫‪ -‬إحنــا يف إيــه وال يف إيــه‪ ..‬أختــى اتقتلــت مــن نفــس املجهــول الــي‬
‫خاطــف مــرايت وبنتــي‪ ..‬وممكــن يقتلهــم يف أي حلظــة‪.‬‬
‫‪ -‬شكيت يف رايف؟‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬وأشك فيه ليه؟‬
‫‪ -‬رايف ده مش طبيعي يا يارس‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬ماله يعني؟‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬الراجل ده مدمن‪.‬‬
‫وماطولش‪ ..‬بعدين عرفت إزاي؟‬
‫ِّ‬ ‫‪ -‬آه بس ده موضوع قديم‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬أنا برضب من ثانوي يا أستاذ يارس‪.‬‬


‫‪ -‬بس اليل أعرفه إن رايف ب َّطل‪..‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬أنــت ماتعرفــش حاجــة يــا أســتاذ يــارس‪ ..‬الراجــل ده لســه مس ـ َّطر‬


‫ﻭ‬

‫مــن حــوايل ســاعة‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ســألته عــن قصــده‪ ،‬فاقــرب مــن أذين ليتغلــب عــى صــوت املقــرئ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫الــذي بــدأ تالوتــه‪:‬‬


‫‪ -‬ماحدش مستفيد من كل اليل بيحصل ده غري رايف‪.‬‬
‫***‬

‫‪173‬‬
‫حــن عــدت إىل شــقتي باإلســكندرية التــي خلــت مــن غــرام ومليكة‪،‬‬
‫تذكــرت يــوم أن أهنيــت بعثتــي‪ ،‬ألبــدأ فصـ ًـا جديــدً ا مــن حيــايت عــى‬
‫أنقــاض مــا هدمــه الطائــي بداخــي‪..‬‬
‫كثــرا أثنــاء البعثــة؛ طــال شــعري‪ ،‬وحتســن‬ ‫ً‬ ‫كنــت قــد تغــرت‬
‫هندامــي‪ ،‬ازددت وزنًــا وتعلمــت كيــف أخفــي مــا بداخــي‪ ..‬مل أشــعر‬
‫ـرت وطنًا‪،‬‬
‫باحلنــن إىل بيــت «الطائــي» مثلــا توقعــت‪ ..‬مل أعتــر أننــي هجـ ُ‬
‫فــا وطــن يل حيــث يســكن عبــد احلــي الطائــي‪ ..‬أقمــت يف فنــدق جمــاور‬

‫ﻋﺼ‬
‫حريصــا أال يــراين أحــد‬
‫ً‬ ‫لزنزانتــه التــي شــهدت أبشــع ذكريــايت‪ ..‬كنــت‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫اجلــران أثنــاء مراقبتــي لــه مــن بعيــد حتــى أتعــرف عــى نظــام حياتــه‬
‫اجلديــد بعــد أن هربــت مــن جحيمــه؛ فقــد اشــتد عليــه مرضــه وصعبــت‬
‫ﻜﺘ‬
‫حركتــه‪ ،‬وجلــأ الســتعامل كــريس متحــرك متهالــك‪ ..‬كان يتوســل ألي‬
‫مــن املــارة أن يوصلــه إىل احلانــة‪ ،‬فيقبــل األخــر عــى مضــض بعــد أن‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يتعجــب مــن عــدم احرتامــه لســنه‪ ،‬طــوال ثالثــة أيــام مل أره يشــري أي‬
‫ﺸﺮ‬

‫نــوع مــن الطعــام؛ فخمنــت أن اجلــارات يعطفــن عليــه ببقايــا بيوهتــن‪..‬‬


‫ســألت الشــاب الــذي يديــر الصيدليــة املجــاورة للمنــزل عــن األدويــة‬
‫ﻭ‬

‫التــي يبتاعهــا فأخــرين أن الطائــي ال يــزوره مــن األســاس!‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫بخــاف رحيــل «عــاء الديــن» الــذي مل أســأل عنــه حتــى ال أســمع‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ـدت أن أحــدً ا ال هيتــم‬


‫مــا حيزننــي؛ كان كل يشء كــا تركتــه متا ًمــا‪ ..‬تأكـ ُ‬
‫بوجــود الطائــي حتــى هيتــم باختفائــه؛ فقــط مالــك احلانــة سيســعد‬
‫ـرج عــى أرضه‪..‬‬ ‫حلصولــه عــى البيــت الــذي طاملــا انتظــر هدمــه لتشــييد بـ ٍ‬
‫ـللت إىل املنــزل ليـ ًـا وقيدتــه بســهولة‪ ،‬وضعتــه يف ســيارة اشــريتها‬ ‫تسـ ُ‬
‫ـن متوســط مــن ثــروة الكونــت‪ ،‬وأجــرت شــقة‬ ‫فــور عــوديت إىل مــر بثمـ ٍ‬

‫‪174‬‬
‫اإلســكندرية التــي ستســتقبل غــرام‪ ،‬واشــريت فيــا الكونــت التــي‬
‫ستســقبل الطائــي وباقــي الضحايــا مــن بعــده‪.‬‬
‫يف البدايــة كان تفريقــي بــن هويتــي يــارس والكونــت ضعي ًفــا‪ ،‬ال أرى‬
‫اخلــط الفاصــل بينهــا؛ فكالمهــا أنــا‪ ..‬لكــن مــع الوقــت اعتــدت أن أتقــن‬
‫اهلويتــن متا ًمــا؛ فأعيــش يف حيــاة «يــارس» بســلوكه‪ ،‬وكذلــك األمــر مــع‬
‫«الكونــت»‪..‬‬
‫فتحــت هاتفــي بح ًثــا عــن أي صــورة لســلوى؛ فوجــدت الصــورة‬

‫ﻋﺼ‬
‫التــي مجعتنــا يــوم عيــد ميــادي‪ ،‬تذكــرت أول حــوار دار بيننــا‪..‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫«أبونــا اختفــى بعــد أن صفــى أمالكــه يف القاهــرة‪ ..‬ســأنتقل إىل‬
‫اإلســكندرية وأبحــث عــن عمــل هنــا‪ ..‬ســأتزوج مــن زميلتــي الســورية‬
‫ﻜﺘ‬
‫التــي تعرفــت عليهــا يف أمريــكا‪ ..‬ال أريــد أن نتعامــل كإخــوة لكــن أريــد‬
‫أن نبــدو كذلــك أمــام النــاس‪».‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫كان وقــع كالمــي مفاج ًئــا لســلوى التــي كانــت تــراين ألول مــرة‬
‫متوقعــة أن أطالبهــا بنصيبــي مــن ممتلــكات الطائــي‪ ،‬مل تطلــب إثباتًــا‬
‫ﺸﺮ‬

‫للشــخصية؛ فجينــات الطائــي الشــكلية أثبتــت كل يشء‪ ..‬رحــب يب‬


‫زوجهــا الــذي حــاول أن جيعــل اللقــاء ود ًيــا ال محيم ًيــا؛ فقــد عرفــت‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أنــه تاجــر وأن للطائــي أمــاكًا كثــرة يف اإلســكندرية‪ ،‬فبالتأكيــد رأى يف‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫خطــرا عــى مــراث زوجتــه الــذي مل حيــن موعــده بعــد‪.‬‬


‫ً‬ ‫زيــاريت‬
‫مل تكــن ســلوى وقتهــا تفكــر يف املــال‪ ،‬فرحــت أن هلــا ً‬
‫أخــا ال يطمــع‬
‫يف ماهلــا وال مــال زوجهــا‪ .‬أرصت عــى أن نخــرج لتنــاول الســمك يف‬
‫مطعمهــا املفضــل‪ ،‬جلســنا نــأكل أمــام البحــر‪ ..‬أخربتنــي أهنــا متســكت‬
‫بالبقــاء يف بيــت طفولتهــا بمحطــة الرمــل عــى الرغــم مــن إحلــاح رايف‬

‫‪175‬‬
‫ـرا؛ اعتــدت‬ ‫عليهــا باالنتقــال إىل بيــت أوســع خــاص هبــم‪ ..‬مل أحتــدث كثـ ً‬
‫أن أشــري أفــكار غــري دون أن أبيــع مــا بداخــي‪ ..‬ويف هنايــة اللقــاء‬
‫عانقتنــي عنا ًقــا مل يــدم طويـ ًـا‪ ،‬مل أشــعر دف ًئــا كهــذا بعــد أمــي‪.‬‬
‫حــن رحلــت ســلوى عــن عاملنــا أدركــت أهنــا مل تكــن بمثــل هــذا‬
‫الســوء‪ ،‬مل تكــن ضحكتهــا مزعجــة كــا كنــت أظــن‪ ،‬مل تكــن طامعــة‬
‫أكثــر مــن كوهنــا باحث ـ ًة عــن حقهــا‪ ،‬حتــى خيانتهــا لزوجهــا وســخطها‬
‫عــى أبيهــا كانــا هرو ًبــا مــن واقــع فــرض عليهــا أنصــاف الرجــال؛ كانــت‬

‫ﻋﺼ‬
‫ضحيــة مثــي‪.‬‬
‫تعلمــت ّ‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫يــدرس لطالبــه إال بعــد‬ ‫ّ‬ ‫أن املــوت كاملعلــم الــذي ال‬ ‫ُ‬
‫االمتحــان‪ ،‬فــا نــدرك اخلــر فيمــن حولنــا إال بعــد أن يســلبهم منــا ذلــك‬
‫ﻜﺘ‬
‫ا ُملع ّلــم‪.‬‬
‫رأيــت فيهــا وجهــي إذا تبســمت‪ ،‬كانــت ابتســامتي نــادرة صعبــة‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫االنتــزاع‪ ،‬لكننــي تعلمــت إخراجهــا حتــى ال يلتفــت النــاس ألمــري‪..‬‬


‫التحــول لشــخص غــر عــادي أمــر شــديد الصعوبــة‪،‬‬‫ُّ‬ ‫كنــت أعلــم أن‬
‫ﺸﺮ‬

‫ـي مــا هــو أصعــب‪ :‬أن أصــر عاد ًيــا‪.‬‬


‫لكــن احليــاة فرضــت عـ َّ‬
‫مل أحــب مــا أفعلــه فقط ألجــل املــال أو التنفيس عن شــهوة الســيطرة؛‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫فقــد أحببــت متيــزي التــام فيــه‪ ،‬وتفــردي عمــن هــم مثــي‪ ..‬فــإن مــات‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫«يــارس الطائــي» غــدً ا فســيولد ألــف مــدرس رياضيــات غــري‪ ،‬لكــن إن‬
‫مــات الكونــت فــا أحــد ســيخلفه‪.‬‬
‫أوقــف املقــرئ تالوتــه لوجــوب صــاة العشــاء‪ ،‬قاطــع آدم خواطري‬
‫ـائل عــن ســبب عمــي يف التدريــس بـ ً‬
‫ـدل مــن اهلندســة‪..‬‬ ‫متسـ ً‬
‫أعــدت رأيس للخلــف‪ ،‬أخربتــه أننــي قدمــت أوراقــي ألكثــر مــن‬

‫‪176‬‬
‫رشكــة هندســية؛ فيجــب للمهنــدس «يــارس الطائــي» احلصــول عــى‬
‫عمــل أمــام النــاس إحكا ًمــا يف التخفــي عــا يلفــت النظــر إليــه‪ ،‬كان‬
‫مــدراء الــركات معجبــن بملفــي الــدرايس ومشــواري التعليمــي‪،‬‬
‫رافضــا لتشــغييل؛ مخنــت أهنــم يتلمســون منــي‬
‫لكــن ردهــم األخــر كان ً‬
‫حرجــا اجتامع ًيــا وختو ًفــا مــن املســئولية‪.‬‬
‫يف املقابــات ً‬
‫كنــت أعلــم أننــي إن اســتخدمت ســلوكيات «الكونــت» معهــم‬
‫ســأظفر بإعجاهبــم‪ ،‬لكــن «يــارس» جيــب أن يعتمــد عــى نفســه وأن‬

‫ﻋﺼ‬
‫يعتــاد منــه اجلميــع الســلوك الــذي ســيظهره لبقيــة حياتــه‪ ..‬مل أتوقــع‬
‫أن ينكشــف غطائــي بعــد كل هــذه الســنني‪ ،‬تذكــرت أول لقــاء مجعنــي‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بدكتــورة أســاء‪..‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬حرضتــك خريــج هندســة وعايــز تشــتغل مــدرس رياضيــات معانــا‬
‫يف املدرسة؟‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫كان ســؤال دكتــورة أســاء متوق ًعــا‪ ،‬أجبتهــا كــا ل َّقنــت نفــي مــن‬
‫قبــل‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬أنــا مؤمــن برســالة توصيــل العلــم‪ ..‬وشــايف نفــي متمكــن يف‬


‫املوضــوع ده‪ ،‬جمموعــي يف الدراســة مســاعدنيش إين أتعــن يف الكليــة؛‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫فيــه مليــون مهنــدس غــري‪ ..‬بــس فيــه كام « ُم َع ِلــم»؟‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫نظــرت مــن رشفــة مكتبهــا‪ ،‬أشــارت نحــو ســياريت التــي ابتعتهــا‬


‫إلحــكام هويــة يــارس‪ ..‬حتــى ال يشــك أحــدً ا يف ثــرويت املفاجئــة‪ ،‬قالــت‪:‬‬
‫‪ -‬بــس مهنــدس وجــاي مــن أمريــكا‪ ..‬ســاحمني يعنــي إزاي راكــب‬
‫عربيــة قديمــة كــده؟‬
‫‪ -‬أنــا اتعلمــت هنــاك إن املظاهــر مــش مهمــة طاملــا شــغيل كويــس‪..‬‬

‫‪177‬‬
‫بعديــن أنــا ُرحــت أمريــكا ببعثــة شــبه جمانيــة‪ ،‬ولســه ماشــتغلتش مــن وقت‬
‫رجوعــي‪ ..‬املفــروض تقلقــي لــو لقيتــي معايــا عربيــة أفخــم مــن دي‪.‬‬
‫ضحكــت أثنــاء عودهتــا للجلــوس أمــام مكتبهــا‪ ،‬دخــل أحــد الســعاة‬
‫حامـ ًـا صينيــة نحاســية‪ ،‬وضــع أمــام كلينــا كوبــن مــن عصــر اجلوافــة‬
‫الــذي ال أحبــه‪ ..‬قلــت هلــا هبــدوء‪:‬‬
‫‪ -‬زي مــا مكتــوب يف ملفــي‪ ،‬أنــا أقــدر أدرس مجيــع فــروع الرياضــة‪،‬‬
‫وبطــرق مبســطة تســاعد الطــاب عــى الفهم‪ ،‬وممكــن أخليهــم متطورين‬

‫ﻋﺼ‬
‫عــن منهــج املدرســة وطب ًعــا عــن مناهــج الــوزارة‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫كثــرا وأهنــت اللقــاء رسي ًعــا حــن وافقــت عــى تعيينــي‬
‫ً‬ ‫مل تفكــر‬
‫ابتــدا ًء مــن يــوم لقائنــا‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫***‬
‫َّ‬
‫مابتدخنش يا أستاذ يارس!‬ ‫‪ -‬بس أنت‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ســيجارا ســميكًا مــن النــوع‬


‫ً‬ ‫عــي آدم حــن طلبــت منــه‬
‫هكــذا ر َّد َّ‬
‫ﺸﺮ‬

‫املفضــل لــه‪ ..‬كنــا واقفــن يف انتظــار ُعــال الفراشــة حتــى ينتهــوا مــن‬
‫فــض صــوان العــزاء الــذي ن ُِصــب بجــوار البيــت‪ ،‬أفســحنا هلــم املجــال‬
‫ﻭ‬

‫جلمــع املقاعــد وعــروق اخلشــب والســجاجيد احلمــراء الباليــة‪ ..‬مــد آدم‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ـعلت والعتــه ووضعتهــا أمــام‬ ‫الســيجار نحــوي بعــد تــردد قصــر‪ ،‬أشـ ُ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫عيني‪..‬‬
‫التبــغ الــذي التقــط طــرف اللهــب بصعوبــة‪ ..‬حتــى مــأ الدخــان َّ‬
‫ـرا وأخرجــه‪ ،‬مل أتلــذذ بطعــم الســيجار‪ ،‬قــال‬‫نفســا قصـ ً‬
‫بــدأت أســحب ً‬
‫ـاخرا‪:‬‬
‫آدم سـ ً‬
‫‪ -‬حرضتــك كــده بتطفــش الدخــان يــا كونــت‪ ..‬إســحب النفــس‬
‫ودخلــه صــدرك‪ ،‬اكتمــه جــواك أطــول وقــت ممكــن‪.‬‬

‫‪178‬‬
‫طبقــت مــا قالــه‪ ،‬شــعرت بمــرارة يف لســاين وبــأمل حــارق يف صــدري‬
‫الــذي لفــظ الدخــان رسي ًعــا‪ ..‬خــرج معظمــه مــن أنفــي‪ ،‬ع َّلــق آدم عــى‬
‫ُســعايل الــذي طــال‪:‬‬
‫‪ -‬أيوة كده‪ ..‬خيل الدخان ينضف روحك يا كونت‪.‬‬
‫علمــت وقتهــا أن قصــة حــب ستنشــأ بينــي‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫مماثــا‪،‬‬ ‫نفســا‬
‫ســحبت ً‬
‫قليــا‪ ..‬وقبــل أن أســحب النفــس‬ ‫وبــن الســجائر التــي مل أجرهبــا إال ً‬
‫رن هاتفــي برقــم اخلاطــف‪ ..‬وضعــت الســاعة فــوق أذين ومل‬ ‫الثالــث َّ‬

‫ﻋﺼ‬
‫أبــادر باحلديــث هــذه املــرة‪ ،‬استســلمت لــه متا ًمــا‪ ،‬قــال ضاحــكًا‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬مش هتهدد تاين؟ طب مفيش عرض عايز تعرضه عليا؟‬
‫مل أرد ثاني ًة‪ ..‬فقال بلهجة مل ُ‬
‫ختل من إغراء‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬طب أم مليكة ماوحشتكش؟‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫قاومــت رغبــة يف إبــداء ضعفــي أمامــه أو بغــي لــه‪ ..‬أعــرف أنــه‬


‫سيســتمتع إن أظهــرت أحدمهــا أو كالمهــا؛ فالتزمــت الصمــت‪ ،‬أكمــل‬
‫ﺸﺮ‬

‫حديثــه املنفــرد قائـ ًـا‪:‬‬


‫‪ -‬املــرة اجلايــة مــش عايــزك تعــي أوامــري‪ ..‬التــزم باللعبــة يــا ابــن‬
‫ﻭ‬

‫الطائــي‪.‬‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫سألته‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬عايز إيه تاين؟!‬


‫‪ -‬كل الــي بتشــوفه دلوقتي جمرد ديــون يف رصيدك‪ ،‬كل أذى بتتعرض‬
‫لــه هــو رد لــرر أنــت ســببته حلــد تــاين قبــل كــده‪ ،‬املفــروض تشــكرين‪.‬‬
‫أنــا خليتــك تصفــي واحــد مــن رصاعاتــك القديمــة‪ ..‬وهخليــك دلوقتــي‬
‫تصفــي رصاعــن مــن رصاعاتــك اجلديــدة‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫ملحــت مــن بعيــد شــخصني أعرفهــا جيــدً ا‪ :‬هشــام عــديل وداليــا‬
‫جالســا عــى كــريس متحــرك يدفعــه رجــل عرفــت‬ ‫ً‬ ‫القــايض‪ ..‬كان األول‬
‫فيــا بعــد أنــه أخــوه ورشيكــه «أيمــن»‪ ،‬وبجوارمهــا تســر داليــا التــي مل‬
‫ينتقــص اللــون األســود مــن مجاهلــا‪ ..‬قلــت للخاطــف‪:‬‬
‫‪ -‬مالقيتش غري عزا أختي تعمل فيه كده؟‬
‫ر َّد بصوته اإللكرتوين الذي حرص عىل طمسه جيدً ا‪:‬‬
‫‪ -‬سلوى بقت أختك دلوقتي؟ ما علينا‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫مل أرد عليه فأغلق اخلط بعد أن أكمل حديثه ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬صفي خصومتك معاهم‪ ..‬وحاول تستمتع‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫أوقــف «أيمــن عــديل» الكــريس املتحــرك الــذي جيلــس فوقــه أخــوه‬
‫هشــام الــذي بــدا كأنــه ال يعــي أيــن هــو وال مــا الــذي حيــدث مــن حولــه‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫نظــرت داليــا مبــارش ًة يف عينــي برتكيــز شــديد‪ ،‬وكأهنــا تريــد أن حتفــظ‬


‫غــر فيهــا أكثــر ممــا فعــل أي شــخص آخــر‪..‬‬ ‫مالمــح الرجــل الــذي َّ‬
‫ﺸﺮ‬

‫ـت أن أســأل داليــا عــن كيفيــة تعرفهــا عــى بعــض وعمــن مجعهــا‪..‬‬ ‫مهمـ ُ‬
‫فقاطعنــي آدم بلهجــة حكيمــة‪:‬‬
‫ﻭ‬

‫‪ -‬ما ينفعش نتكلم هنا‪..‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أمنــت عــى كالمــه‪ ،‬طلبــت منهــا أن يتبعــاين نحــو شــقتي‪ ..‬بــدا‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫الــردد عــى داليــا‪ ،‬ورفضــت الصعــود إىل بيتــي‪ ..‬كنــت أعــرف أهنــا‬
‫جــاءا بتهديــد مــن «املجهــول»‪ ،‬فمــن املســتحيل أن تــزور الضحيــة مــن‬
‫مشــرا نحــو هشــام‪:‬‬
‫ً‬ ‫جنــى عليهــا بكامــل إرادهتــا‪ ..‬قلــت هلــا بثقــة‬
‫‪ -‬خالص خديه واميش‪.‬‬
‫بغضا حقيق ًيا جتاهي‪:‬‬
‫تكلم أيمن ألول مرة‪ ،‬ملست منه ً‬

‫‪180‬‬
‫‪ -‬لألسف إحنا جمبورين نقعد معاك‪.‬‬
‫جتنبت احلديث معه‪ ،‬سألت داليا‪:‬‬
‫‪ -‬خطف حد بتحبوه وال هددكم يكشف رس معني؟‬
‫مل تــرد داليــا‪ ،‬ومل أنتظــر منهــا ذلــك‪ ،‬انتــزع آدم مــن أيمــن مقبــض‬
‫الكــريس املتحــرك صاعــدً ا هبشــام عــى أوىل درجــات الســلم‪.‬‬
‫متجهــا نحــو شــقتي‪ ،‬ســمعت صــوت رايف يصعــد‬
‫ً‬ ‫تقدمــت أربعتهــم‬
‫الســلم مــن خلفــي برسعــة‪ ،‬أوقفنــي بغضــب‪ ،‬ســحبني أمامهــم مــن‬

‫ﻋﺼ‬
‫يــدي بعنــف قائـ ًـا‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬ ‫‪ -‬شوفت الكارثة اليل حصلت؟‬
‫مقدرا حلالته‪ ،‬سألني بغضب‪:‬‬
‫ً‬ ‫مل أرد عليه‪ ،‬كنت‬
‫‪ -‬فني مليكة؟‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬أمهــا خدهتــا وســافروا يرتاحــوا‪ ..‬لســه مابلغتهمــش بالوفــاة‪..‬‬


‫عايــز إيــه منهــا؟‬
‫ﺸﺮ‬

‫مشريا نحو هاتفه‪:‬‬


‫ً‬ ‫رد‬
‫‪ -‬حمامــي ســلوى لســه قافــل معايــا‪ ..‬بيقــويل إهنــا كاتبــة كل أمالكهــا‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫بيــع ورشاء باســم مليكــة‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ً‬
‫مندهشا‪:‬‬ ‫سألته‬
‫‪ -‬الكالم ده حصل إمتى؟‬
‫‪ -‬بعد والدة مليكة بأسبوعني‪.‬‬
‫مل أجــد ر ًدا‪ ،‬أجلمــت فعلتهــا لســاين‪ ..‬كنــت أعلــم أن رايف ال يكــرث‬
‫ملــال ســلوى‪ ،‬وال يشــغل بالــه إال باحلــزن عليهــا؛ هــو فقــط غاضــب ظنًــا‬

‫‪181‬‬
‫منــه أننــي مــن دبــرت هــذه اللعبــة مــع املحامــي مسـ ً‬
‫ـتغل غياهبــا ألنتــزع‬
‫مــا كان هلــا‪ ..‬أخربتــه بصــدق أننــا ســنجلس لنصــل م ًعــا إىل حــل يرضيــه؛‬
‫فأنــا الــويص عــى مليكــة التــي ال أعــرف موعــدً ا لعودهتــا‪ ..‬طلبــت منــه‬
‫أن يرتكنــي أســتقبل ضيــويف مــن املعزيــن يف شــقتي‪ ،‬فرحــل ملق ًيــا نحــوي‬
‫نظــرة اهتــام دون أن يــرد‪.‬‬
‫***‬
‫كان الصمــت هــو املتحــدث الوحيــد يف بدايــة اجللســة‪ ..‬حــاول آدم‬

‫ﻋﺼ‬
‫االطمئنــان عــى صحــة هشــام عــديل فلــم جيــد منــه ر ًدا وال حتى اســتيعا ًبا‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ملــا حيــدث حولــه‪ ،‬كأنــه فقــد عقلــه متا ًمــا‪ ..‬ملحــت خلفهــا صــورة يف‬
‫أعــد ترتيبهــا بعــد؛ كانــت جتمعنــي بغــرام ومليكــة‪..‬‬ ‫صالــة بيتــي التــي مل ِ‬
‫ﻜﺘ‬
‫أعــدت النظــر نحــو داليــا وهشــام أطلــت النظــر يف أعينهــا؛ كان هشــام‬
‫حمطــا مــن الداخــل‪ ،‬كنــت أعلــم هــذا حــن جعلتــه خيــوض رحلتــه‬ ‫ً‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫داخــل خماوفــه الذاتيــة‪ ،‬كنــت أعلــم أن الطريــق الــذي سيســلكه ال إيــاب‬


‫منــه‪ ..‬أمــا داليــا فلــم يمنعهــا ارتــداء األســود عــن الظهــور يف كامــل‬
‫ﺸﺮ‬

‫أناقتهــا‪ ،‬كانــت نظراهتــا متحديــة‪ ،‬كأهنــا تفكــر يف انتقــام ال تســتطيع إليــه‬


‫ـبيل‪ ..‬مل أتوقــع أن يؤملنــي النظــر إليهــا يف مثــل هــذا الوقــت‪ ،‬كان أ ًملــا‬‫سـ ً‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ـعورا بالذنــب؛ فــإن‬


‫غــر مفهــوم الســبب‪ ،‬لكــن األكيــد أنــه مل يكــن شـ ً‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫شــعرت بالذنــب ســيموت «الكونــت»‪ ،‬وهــذا مــا يريــده «املجهــول»‪.‬‬


‫كرست حاجز الصمت حني قلت لداليا القايض بلهجة عملية‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬عندك معلومات عن الشخص اليل جامعنا دلوقتي؟‬
‫عيل أثناء ردها‪:‬‬
‫مل تنزل داليا عينيها من َّ‬
‫‪ -‬واضح إنه حد بيحبك‪ ..‬كل اليل أعرفه إننا الزم ننفذ طلباته‪.‬‬

‫‪182‬‬
‫‪ -‬تفتكري ممكن يكون حد من اليل بعتوين ليكي؟‬
‫هــزت رأســها نف ًيــا‪ ،‬أكــدت أن «املجهــول» صاحــب ســلطة أعظــم‬
‫مــن مدرائهــا الســابقني‪ ،‬كــدت أن أســأهلا عــا فعلــت معهــم وكيــف‬
‫نجــت مــن عقاهبــم‪ ،‬عدلــت عــن هــذه الفكــرة وقبــل أن أعــرف كيفيــة‬
‫تواصــل ذلــك املجهــول معهــا‪ ..‬قاطعتنــي بحــزم‪:‬‬
‫‪ -‬ده اللبس اليل بتلبسه وأنت بتعذبنا؟‬
‫مل أشــعر بالراحــة يف لعــب دور «الكونــت» خــارج أرضــه‪ ..‬أجبتهــا‬

‫ﻋﺼ‬
‫بحــرج‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬تقري ًبا‪ ..‬يف حيايت األصلية مابحبش ألبس بدلة‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫نظرت نحوي من أعىل ألسفل قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬بس شكلك خمتلف عن الصورة اليل كانت يف خيايل‪..‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مل أفهم مقصدها فأكملت قائلة‪:‬‬


‫‪ -‬طلعت «عادي» زيادة عن اللزوم‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫أكملــت حديثهــا كأهنــا تــرر يل‪ ،‬قالــت أن هــذا رضوري بالطبــع‬


‫حتــى ال يفتضــح أمــري‪ ..‬أغمضــت عينيهــا مســتعيد ًة املوقــف الــذي‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ً‬
‫كامــا‪ ،‬أمرتنــي قائلــة‪:‬‬ ‫مجعنــا‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬قول اجلملة بتاعتك‪.‬‬


‫رد آدم بعصبية‪:‬‬
‫‪ -‬مجلة إيه؟ أنتي جمنونة؟‬
‫ردت عليه هبدوء دون أن تفتح عينيها‪:‬‬
‫‪ -‬ماحدش وجه لك كالم‪ ..‬هو عارف قصدي‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫أرشت إليــه حتــى يصمــت‪ ،‬كنــت أعلــم أهنــا تريــد أن تصفي حســاهبا‬
‫وتشــعرين باألســف عــى مــا فعلــت‪ ،‬فنفــذت هلــا مــا أردت دون أن أدرك‬
‫حقيقــة شــعوري جتاهــه‪ ،‬نظــرت يف عينيهــا وقلــت هلــا بحــرج مســتعيدً ا‬
‫الذكــرى الوحيــدة التــي مجعتنــا‪:‬‬
‫‪ -‬ماختافيش يا آنسة داليا‪ ..‬أنا معاكي‪.‬‬
‫مل يفهــم آدم مــا حيــدث‪ ،‬طلبــت منــي داليــا أن أعيــد اجلملــة ثانيــ ًة‪،‬‬
‫ففعلــت مضطـ ًـرا‪ ..‬صــدر عــن هشــام أ َّنــن خافــت‪ ،‬وحتــدث فجــأة كأنــه‬

‫ﻋﺼ‬
‫اســتيقظ مــن النــوم‪ ،‬كان هيــذي قائـ ًـا‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬أمي ماتت‪ ..‬البيت هيقع‪.‬‬
‫مندهشا‪ ،‬فربرت له داليا قائل ًة‪:‬‬
‫ً‬ ‫نظر آدم له‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬دي احلالــة الــي وصــل عليهــا مــن ســاعة مــا زار مقــر «البــاش‬
‫مهنــدس يــارس»‪..‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ثم وجهت نظرها نحوي قائل ًة‪:‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬وال حتب أناديلك الكونت؟‬


‫ٍ‬
‫بصوت خفيض‪:‬‬ ‫كرر هشام هذيانه‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬رسطان رئة‪ ..‬الرشكة فلست‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫مهس آدم معل ًقا بسخرية مل تالئم املوقف‪:‬‬


‫‪ -‬أموت وأعرف عملت فيه إيه!‬
‫نظــر أيمــن نحــوه يف غضــب‪ ،‬قــال أن حياهتــا قــد هتدمــت ّ‬
‫جــراء‬
‫أفعــايل‪ُ ،‬فأ ِ‬
‫غلقــت الرشكــة خو ًفــا مــن أن يطالــه األذى‪ ،‬وأن الرشكــة التــي‬
‫تعمــل لدهيــا داليــا مســتمرة يف عملهــا املشــبوه الــذي يســمم املاليــن‬

‫‪184‬‬
‫وجــه نظــره نحــوي قائـ ًـا بلهجــة غاضبــة وبصــوت عـ ٍ‬
‫ـال‪:‬‬ ‫يوم ًيــا‪َّ ،‬‬
‫‪ -‬مبسوط؟!‬
‫ً‬
‫حمــاول إمخــاد غضبهــا ورغبتهــا يف‬ ‫مل ألتفــت لــه‪ ،‬نظــرت لداليــا‬
‫التشــفي‪:‬‬
‫‪ -‬مالــوش لزمــة الــكالم ده‪ ..‬الــي أنــا عملتــه كان جــزء مــن قــدر‪..‬‬
‫قــدر أنتــم الــي اخرتتــوه ملــا اتعاملتــوا مــع النــاس دي؛ أنــا ماجربتــش‬
‫هشــام ينافــس نــاس هــو مــش قدهــم‪ ،‬وال أرغمتِــك تفضحــي الرشكــة‬

‫ﻋﺼ‬
‫الــي مشــغالكي‪..‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بصوت مبحوح‪:‬‬‫ٍ‬ ‫ﻜﺘ‬ ‫فرت دمعة من عني داليا حني قالت‬
‫‪ -‬كان فيه مليون طريقة ومليون حل غري اليل أنت عملته فينا‪..‬‬
‫هنضــت مــن مكاهنــا حتــى وقفــت أمامــي‪ ،‬نظــرت يف عينــي مبــارشةً‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫عــا صــوت أنفاســها‪ ،‬توقعــت أهنــا ســتنهال عــى وجهــي باللطــات‬


‫وســيعلو رصاخهــا بعــد حلظــات‪ ..‬لكــن آدم حــال بينــي وبينهــا يف‬
‫ﺸﺮ‬

‫اللحظــة األخــرة‪ ،‬ورد مداف ًعــا عنــي‪:‬‬


‫‪ -‬مــش ذنبــه إنــه بيحــب الــي بيعملــه‪ ..‬عايــزة تفهمينــي إن عمــرك‬
‫ﻭ‬

‫مــا أذيتــي حــد؟‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ردت داليا وهي تقاوم آدم‪ ،‬بعد أن فرت الدموع من عينيها‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬الكونــت أذانــا يــا أســتاذ آدم‪ ..‬وبرغــم إننــا عرفنــاه وعرفنــا مليــون‬
‫طريقــة ممكــن تأذيــه إال إننــا مانقــدرش نــرد لــه األذى ده‪.‬‬
‫حــن ســمع هشــام لقــب «الكونــت» ارجتــف جســده وعــاد للهذيــان‬
‫بصـ ٍ‬
‫ـوت أعــى قائـ ًـا‪:‬‬

‫‪185‬‬
‫‪ -‬حد يلحقني‪ ..‬الكالب‪..‬‬
‫عــم الصمــت املــكان‪ ،‬مل يقطعــه إال بــكاء داليــا املكتــوم وهذيــان‬ ‫َّ‬
‫هشــام‪ ..‬ســألت نفــي حينهــا عــن الغــرض احلقيقــي ممــا أفعــل‪ ،‬مــن أنــا؟‬
‫هــل أحــب غــرام ومليكــة ح ًقــا؟ أم أهنــا جمــرد جــزء مــن غطــاء «يــارس»؟‬
‫وإن كانــا كذلــك فلــاذا حــريص الشــديد عــى عودهتــا؟ هــل «املجهــول»‬
‫يفهمنــي جيــدً ا أم أنــه يتعامــل يف حــدود مــا قــرأه عنــي؟ هــل تعاملــت‬
‫معــه مــن قبــل؟ ملــاذا مل أشــعر بالذنــب حــن واجهــت مجيــع مــن آذيتهــم؟‬

‫ﻋﺼ‬
‫مــن أحــب إىل قلبــي‪ :‬يــارس أم الكونــت؟ مــن األصــل فيهــا؟ مــن أقرهبــا‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫إىل حقيقتــي؟ إن أجــرين اخلاطــف عــى االختيــار بينهــا فمــن ســأختار؛‬
‫وسق حســابه الــذي يديــر املهــات مــن‬ ‫«الكونــت» الــذي فقــد أموالــه ُ ِ‬
‫ﻜﺘ‬
‫خاللــه‪ ،‬أم يــارس اخلانــع الــذي فقــد عملــه؟‪ ..‬كالمهــا عانــى بــا فيــه‬
‫الكفايــة واحرتقــت كافــة املراكــب التــي ســتعيده إىل حياتــه الســابقة؟‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ـي «الطائــي» حــن فعــل يب كل هــذا؟‬ ‫ملــاذا جنــى عـ َّ‬


‫ﺸﺮ‬

‫مل أشــعر بمــرور نصــف ســاعة مــن الســكون إال حــن نبهنــي صــوت‬
‫هاتفــي املحمــول الــذي رن معلنًــا اتصــال مــن رقــم جمهــول‪..‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬حاسس بإيه؟‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫أجبته ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪ -‬إين بكرهك‪.‬‬
‫‪ -‬أنــت ماهربتــش مــن الــراع املــرة دي‪ ،‬شــاطر‪ ..‬بــس ماتنكــرش‬
‫إين ســاعدتك‪ ،‬واطمــن مــن ناحيــة داليــا وأيمــن؛ ماحــدش فيهــم هيقــدر‬
‫يأذيــك‪ ..‬قــول هلــم الزيــارة انتهــت‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫ـت أنــه هددهــم بطريقــة أو بأخــرى ليجربهــم عــى‬ ‫مل أرد؛ فقــد مخنـ ُ‬
‫احلضــور‪ ..‬أكمــل حديثــه قائـ ًـا‪:‬‬
‫‪ -‬طمنهم‪ ،‬وسيبهم يمشوا واستعد لرصاع جديد بكرة‪..‬‬
‫‪« -‬لعبتك» دي الزم تنتهي بأي شكل‪.‬‬
‫ر َّد ضاحكًا‪:‬‬
‫‪ - -‬ماختافش يا يارس‪ ،‬أنا معاك‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫قلت باستسالم‪:‬‬
‫‪ -‬أنا مش قادر أكمل‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬لألسف ماعندكش خيار تاين‪ ،‬لسه كتري عىل خط النهاية‪..‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫أغلق اهلاتف بعد أن رمى قنبلته األخرية‪:‬‬
‫‪ -‬بذمتك ماوحشكش شغل الكونت؟‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بــدا أثــر مكاملتــه عــى وجهــي الــذي امحــر يف غضــب‪ ،‬خنقنــي شــعور‬
‫العجــز جتــاه ذلــك اخلاطــف‪ ،‬مل يســألني أحدهــم عــا ســمعت‪ ..‬نظــرت‬
‫ﺸﺮ‬

‫نحــو داليــا‪ ،‬نقلــت هلــا رســالة «املجهــول» بانتهــاء الزيــارة‪ ..‬فقالــت قبــل‬
‫أن تغــادر مكاهنــا‪:‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬عايزة أسألك سؤال واحد‪..‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬اتفضيل يا آنسة داليا‪.‬‬


‫‪ -‬لو الزمن رجع بيك؛ هتعمل نفس اليل أنت عملته معانا؟‬
‫قلت دون تفكري‪:‬‬
‫‪ -‬برصاحة‪ ..‬آه‪.‬‬
‫هنــض اجلميــع دون كلمــة إضافيــة‪ ..‬رحلــوا رسي ًعــا بعــد أن تركــوا‬

‫‪187‬‬
‫يف نفــي أذى أكثــر أ ًملــا مــن الــذي ســببته هلــم‪ ..‬رافقهــم آدم إىل البــاب‪،‬‬
‫ســمعت صــوت هشــام للمــرة األخــرة؛ كان هيــذي قائـ ًـا «هأمــوت‪..‬‬
‫ـيجارا آخــر‪ ..‬قــال‬
‫هأمــوت»‪ .‬حــن عــاد آدم طلبــت منــه أن يعطينــي سـ ً‬
‫يل يف قلــق‪:‬‬
‫‪ -‬الراجل ده بيموتك بالبطيء‪ ..‬مل أعقب‪ ،‬سألت آدم‪:‬‬
‫‪ -‬رايف سألك عن غرام ومليكة؟‬
‫‪ -‬ماتقلقــش‪ ..‬قلــت لــه زي مــا اتفقنــا‪ :‬إن أنــا ابــن خالتهــا‪ ،‬وإهنــا‬

‫ﻋﺼ‬
‫قاعــدة مــع أختــي يف القاهــرة‪ ،‬ألهنــا تعبانــة شــوية بســبب احلمــل اجلديد‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫نظــرت إىل معصمــه األيمــن فالحظــت إخفــاءه للصليــب املوشــوم‬
‫فوقــه بســاعة ضخمــة‪ ..‬ابتســم حــن فهــم مــا كنــت أفكــر فيــه‪ ..‬حتدثــت‬
‫ﻜﺘ‬
‫ـائل عــن غــرض «املجهــول» مــن كل هــذا؛ فهــو جيعلنــي أمــر‬‫معــه متسـ ً‬
‫بالكثــر مــن املشــاعر اإلنســانية‪ :‬كاخلــوف والغضــب وتأنيــب الضمــر‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يريــدين أن أصفــي رصاعــايت ويف نفــس الوقــت يقحمنــي يف معــارك‬


‫عــي‪ ..‬ســألني عــن مــكان املطبــخ‪ ،‬وحــن أرشت‬ ‫جديــدة‪ .‬مل يــرد آدم َّ‬
‫ﺸﺮ‬

‫نحــو بابــه‪ ،‬أخــرين أنــه ســيصنع لنــا القهــوة‪ ..‬نفخــت دخــان الســيجار‬
‫ـال أن اخلاطــف يســبقني‬ ‫مــن أنفــي حتــى ســعلت‪ ،‬قلــت لــه بصـ ٍ‬
‫ـوت عـ ٍ‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫بعــدة خطــوات‪ :‬فهــو يعــرف كل يشء عنــي؛ حــن اخــرق حســايب عــى‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ـايض ً‬
‫كامل‪...‬‬ ‫اإلنرتنــت املظلــم‪ ،‬وحــن قــرأ مذكرايت التــي أروي فيهــا مـ َّ‬
‫قاطــع حديثنــا طر ًقــا عــى البــاب‪ ،‬هنضــت ألفتــح فوجــدت أمامــي‬
‫جمموعــة مــن العســاكر‪ ،‬يتقدمهــم ضابطــان يرتديــان املالبــس املدنيــة‪..‬‬
‫اقــرب منــي أحــد الضابطــن‪ ،‬قــال بلهجــة حازمــة‪:‬‬
‫‪ -‬أســتاذ يــارس‪ ..‬إحنــا مقدريــن إنــك راجل حمــرم‪ ،‬ومقدريــن كذلك‬

‫‪188‬‬
‫الظــرف الــي عنــدك‪ ،‬بــس لألســف مطلــوب ضبطــك وإحضــارك يف‬
‫قســم رشطــة التجمــع‪.‬‬
‫مل أفهــم مــا حيــدث‪ ،‬مخنــت أنــه خطــأ أو لعبــة جديــدة يلعبهــا معــي‬
‫ذلــك املختطــف‪ ..‬نظــرت نحــو املطبــخ فلــم أملح شــبح آدم اخلواجــة كأن‬
‫األرض انشــقت عنــه‪ ،‬قلــت للضابــط بلهجــة مستســلمة‪:‬‬
‫‪ -‬ينفع آجي وراكم بعربيتي‪ ،‬ووعد رشف مني مش ههرب‪.‬‬
‫قال الضابط اآلخر الذي بدا كأنه أعالمها رتب ًة‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬حرضتــك هتيجــي معايــا يف عربيتــي‪ ،‬ومــش هتلبــس كالبشــات‪..‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬ ‫احرتا ًمــا للظــرف مــش أكــر‪.‬‬
‫أومــأت بــرأيس‪ ..‬ســألته وأنــا أبحــث بعينــي عــن آدم الــذي َّ‬
‫تبخــر‬
‫متا ًمــا‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬عىل األقل ممكن أعرف هتمتي؟‬


‫‪ -‬حرضتك ُمتهم بقتل املقدم محزة درويش‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫***‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪189‬‬
‫‪ -13‬صفقة‬

‫ُأ ِ‬

‫ﻋﺼ‬
‫غلقــت أقفــال الزنزانــة مــن خلفــي للمــرة الثانيــة يف نفــس األســبوع‪،‬‬
‫ولنفــس الســبب‪ :‬محــزة درويــش!‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫تائهــا‬
‫حــن وصلــت قســم الرشطــة وســط حراســة مشــددة‪ ،‬كنــت ً‬
‫ﻜﺘ‬
‫ـرا مــع الضابــط الــذي اعتــذر يل‬ ‫عــن كل مــا يــدور حــويل‪ ..‬مل أركــز كثـ ً‬
‫عــن وفــاة أختــي التــي ال ذنــب ألحــد فيهــا ســواي‪ ..‬ترجــاين أن أهاتــف‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫حمام ًيــا قبــل أن يأخــذ هاتفــي‪ ..‬أقســمت لــه أننــي ال أعــرف أحــدً ا يمكنــه‬
‫إنقــاذي ممــا أنــا فيــه‪ ،‬وأن اإلنقــاذ ‪-‬إن أتــى‪ -‬فســيأيت وحــده‪َّ ..‬‬
‫مخــن مــن‬
‫ﺸﺮ‬

‫نظــرايت الزائغــة وانصياعــي التــام ألوامــره أننــي يف حالــة غــر طبيعيــة‪..‬‬


‫مل أخــره أننــي أتــرف كمــن يعلــم أنــه يف كابــوس فــا يعبــأ بتفاصيلــه‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫وبعضــا مــن‬
‫ً‬ ‫بــال باملســاجني الذيــن انتزعــوا ســاعة يــدي‬‫ألــق ً‬ ‫مل ِ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫مالبــي‪ ،‬وتركــوين حــن مل جيــدوا منــي أي مقاومــة تســتفزهم ليرضبوين‪،‬‬


‫عــادوا إىل أركان غرفــة احلبــس العنــن املحابيــس اململــن أمثــايل‪.‬‬
‫كانــت الزنزانــة أكثــر ظلم ـ ًة وازدحا ًمــا هــذه املــرة‪ ،‬مل أهتــم بالبحــث‬
‫عــن بقعــة نظيفــة أجلــس فيهــا‪ ،‬الحظــت جتم ًعــا مــن الشــباب‪ ،‬مخنــت‬
‫مــن حديثهــم أن هــذه ليســت املــرة األوىل هلــم‪ ،‬قــال أحدهــم بصـ ٍ‬
‫ـوت‬

‫‪190‬‬
‫عـ ٍ‬
‫ـال أن مــن أبلــغ عــن مســرهتم يف حميــط «ميــدان ســعد زغلــول» لــن‬
‫مازحــا‪:‬‬ ‫ـال‬ ‫ينجــو بفعلتــه‪ ..‬قــال مــن بــدا كقائدهــم بصـ ٍ‬
‫ـوت عـ ٍ‬
‫ً‬
‫‪ -‬بدِّ لــوا النومــة‪ ،‬والــي بيــرب ســجاير يــروح ناحيــة الشــباك‪،‬‬
‫اســتحملوا بعــض‪ ..‬يومــن وهيزهقــوا منكــم وياخــدوين‪.‬‬
‫فضحــك اجلميــع‪ ،‬راحــوا يذكــرون زمــن «ثــورة ينايــر» التــي مــر عليها‬
‫تذكــرت املــرة‬
‫ُ‬ ‫ســنوات وســنوات‪ ،‬وأهنــم كانــوا أكثــر جلــدً ا آنــذاك‪..‬‬
‫ـي فيهــا قبــل ثــورة ينايــر بســنتني‪ ،‬تــم احتجــازي‬
‫الوحيــدة التــي قبــض عـ َّ‬

‫ﻋﺼ‬
‫باخلطــأ لتواجــدي يف حميــط مظاهــرة طالبيــة تنــدد بالتوريــث‪ ،‬تــم نقــي‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بعدهــا ألحــد مقــرات أمــن الدولــة التــي مل أعلــم موقعهــا حتــى اآلن‪..‬‬
‫تذكــرت حــن أوقفنــا الضابــط أمامــه أنــا واملجموعــة املقبــوض‬
‫ُ‬
‫ﻜﺘ‬
‫عليهــا‪ ،‬تعمــد خفــض اإلضــاءة إلخفــاء مالحمــه هــو وجنــده‪ ،‬دار بيننــا‬
‫كســيد يبحــث عــن جاريــة يف ســوق نخاســة‪ ،‬طالــع اخلــوف يف وجوهنــا‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مجي ًعــا‪ ،‬وحــن ملســه بداخلنــا ارتســمت عــى وجهــه ابتســامة قصــرة‪،‬‬
‫ســألنا عــن وظائــف أهالينــا كــي ال يعــذب أحــدً ا مــن «أوالد النــاس»‬
‫ﺸﺮ‬

‫باخلطــأ‪ ..‬وحــن جــاء دوري يف الســؤال أجبتــه بتلقائيــة‪:‬‬


‫‪ -‬أبويا؟ خنزير‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫فضحــك الضابــط وثالثــة مــن أمنــاء الرشطــة الواقفــن خلفــه‪ ،‬حتــى‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ســخرت وقتهــا‬
‫ُ‬ ‫املحابيــس أعجبتهــم املزحــة التــي مل تكــن كذلــك‪..‬‬
‫يف رسي مــن الطائــي الــذي اســتطاع أن يوفــق بســرته النجســة بــن‬
‫خصمــن مل ولــن يتفقــا إىل يــوم الديــن!‬
‫لكــن الضحــك مل يــدم طويـ ًـا حــن عــادت اجلديــة إىل وجــه الضابط‪،‬‬
‫دوت يف القســم كله‪:‬‬
‫واهنــال عــى وجهــي أحــد األمنــاء بصفعــة َّ‬

‫‪191‬‬
‫‪ -‬أنت هتهزر قدام الباشا؟!‬
‫أمســكت أذين التــي أصــدرت طنينًــا جــراء الصفعــة‪ ،‬وقبــل أن‬
‫يصفعنــي األمــن ثانيـ ًة وقــف أمامــه زميــي يف الكليــة «يــارس الكنعــاين»‪،‬‬
‫قــال لــه بتحـ ٍـد‪:‬‬
‫‪ -‬الطائي طول عمره يف حاله‪ ..‬ماكانش معانا وامتسك بالغلط‪.‬‬
‫بــدا الرفــض عــى بعــض الزمــاء الذيــن رفضــوا اعــراف يــارس‬
‫الكنعــاين عــى نفســه كأحــد املنظمــن للتجمــع الطــايب‪ ،‬تقاســم‬

‫ﻋﺼ‬
‫«الكنعــاين» الصفعــات معــي‪ ..‬مل أندهــش حــن غــاب شــعور املهانــة‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫عنــي؛ فقــد رأيــت مــن عبــد احلــي الطائــي مــا هــو ألعــن‪ .‬أعــاد الضابــط‬
‫ســؤاله ثانيـ ًة‪ ،‬فأعطيتــه هــذه املــرة إجابــة يفهمهــا؛ أخربتــه أن أيب عاطــل‬
‫ﻜﺘ‬
‫عــن العمــل‪ .‬اســتمر الضابــط يف اســتجوابه لباقــي الطــاب الــذي عرفت‬
‫معظمهــم‪ ،‬كان أغلبهــم زمالئــي مــن نفــس الدفعــة ممــن تظاهــرت‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بصداقــة بعضهــم كيــارس الكنعــاين الــذي كان جيلــس خلفــي يف جلــان‬


‫االمتحــان؛ فأســتغل تفوقــه الــدرايس وأنقــل منــه مــا تيــر مــن األجوبــة‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫تركنــا الضابــط يف عهــدة أمنــاء الرشطــة الثالثــة‪ ..‬بعــد أن أوصاهــم‬


‫«روقوهــم»‪.‬‬‫علينــا‪َّ :‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫نظــر نحونــا أكــر األمنــاء س ـنًا نظــرة أعرفهــا جيــدً ا؛ مزيــج هــي مــن‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫غــرور العظمــة ونشــوة الســيطرة ولــذة االنتصــار‪ ..‬هــي نظــرة فرعــون‬


‫حــن نظــر إىل قومــه معلنًــا‪« :‬أنــا ربكــم األعــى»‪ ..‬نظــرة عبــد احلــي‬
‫الطائــي لولــده الوحيــد‪.‬‬
‫***‬

‫‪192‬‬
‫ـت الح ًقــا أن الســفري «أمحــد الدَ َر ْنــدَ ِل» مــر بفــرة عســرة مثــي‬
‫عرفـ ُ‬
‫متا ًما‪..‬‬
‫ـفريا بإحــدى الــدول األوروبيــة‪ ،‬فقــد ورث‬ ‫يعمــل « الدَ َر ْنــدَ ِل» سـ ً‬
‫املهنــة عــن عائلتــه التــي أنجبــت الكثــر مــن أعــام الســلك الدبلومــايس‪.‬‬
‫بالرغــم مــن عمــره الــذي جتــاوز اخلمســن؛ فلــم يكتســب بعــد اخلــرة‬
‫الكافيــة يف جمــال عملــه‪ ،‬كان ينبهــر كل يــوم بمعلومــة جديــدة كالطفــل‬
‫الصغــر‪ ..‬مل يشــفع لــه قلــة كفاءتــه ســوى أنــه ابــن الســفري الســابق‬

‫ﻋﺼ‬
‫«عبــد احلميــد الدرنــديل»‪ ..‬الــذي ورث عنــه ســمع ًة طيبـ ًة‪ ،‬وهيئــة تشــبه‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫باشــاوات العهــد امللكــي‪ ،‬وثــروة صغــرة اســتطاع أن يديرهــا مــن بعــده‬
‫بقليــل مــن احلــظ وكثــر مــن العالقــات‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫كان يقــي عطلتــه الســنوية يف مــر مــع زوجتــه وأم ولديــه التــوأم‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫اللذيــن مل يتجــاوز عمرمهــا اخلمــس ســنوات‪ ..‬مــرت أيــام إجازتــه‬


‫بشــكل اعتيــادي؛ مــا بــن مقابلــة أصدقــاء الطفولــة‪ ،‬وصلــة الرحــم‬
‫ﺸﺮ‬

‫الــذي ال ينقطــع‪ ،‬والتنــزه مــع األرسة التــي كانــت تتملمــل مــن اإلقامــة‬
‫يف مــر‪ ..‬كان حيــب البلــد لكنــه مل حيــب أهلــه‪ ،‬فهــو يتــوق إىل االنعــزال‬
‫ﻭ‬

‫عمــن يرونــه جمــرد «واســطة» يلجئــون إليهــا لقضــاء حوائجهــم‪ ،‬وال‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫حيــب تكويــن الصداقــات‪ ،‬لكنــه مل خيــر شــي ًئا طيلــة حياتــه‪ ،‬فلـ َ‬
‫ـم التمــرد‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫بعــد أن َّ‬
‫ول ال ُعمــر!‬
‫تغــر كل يشء حــن وصلتــه هتديــدات خميفــة بأكثــر مــن طريقــة؛‬ ‫َّ‬
‫بــدأ األمــر حــن كان يتنــاول إفطــاره يف النــادي الريــايض الــذي اعتــاد‬
‫صباحــا‪ ،‬فوجــد أســفل طبــق الطعــام رســالة غامضــة‬ ‫ً‬ ‫الركــض فيــه‬
‫تقــول‪« :‬اهــرب!»‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫أنكــر النــادل علمــه بكيفيــة وصــول هــذه الورقــة للدرنــديل‪ ..‬فتجــاوز‬
‫األخــر عــن املوقــف‪ ،‬واعتربهــا مزحــة ثقيلــة الظــل‪ ..‬كاد أن ينســى ذلك‬
‫التهديــد‪ ،‬حتــى أتتــه مكاملــة مــن رقــم جمهــول يف مســاء اليــوم التــايل‪،‬‬
‫وحــن ر َّد أتــاه صــوت رخيــم يقــول لــه‪ :‬الزم هتــرب‪ ..‬مــش هيســيبوك‬
‫يف حالــك!‬
‫مل يتوقــف األمــر عنــد هــذا احلــد؛ بــل تطــور حتــى وصــل إىل أن‬
‫بعــض املــارة يف الشــارع هيمســون يف أذنــه بعبــارات حتذيــر مشــاهبة‪ ،‬ظــن‬

‫ﻋﺼ‬
‫أن هنــاك خلـ ًـا يف عقلــه فذهــب لطبيــب نفــي شــهري‪ ،‬كان يســاعده منــذ‬
‫ســنوات عــى جتــاوز صدمــة رحيــل زوجتــه األوىل‪ ..‬أكــد لــه الطبيــب‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫أن قــواه العقليــة ســليمة بنســبة كبــرة؛ فــا هــو مصــاب بالفصــام الــذي‬
‫ﻜﺘ‬
‫جيعلــه يرســل هــذه الرســائل لنفســه‪ ،‬وال وجــود خللــل حــي يصيبــه‬
‫باهلــاوس‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ظلــت رســائل التحذيــر تأتيــه بشــكل يومــي يف أكثــر مــن صــورة‪..‬‬


‫تــار ًة عــى رقــم هاتفــه‪ ،‬وتــار ًة أخــرى عــى حســابه بموقــع ‪facebook‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫مــن حســابات ومهيــة‪ ..‬حــاول أن يســتفرس مــن أحــد املرســلني عــن‬


‫حارســا شــخص ًيا لزوجتــه‬
‫ً‬ ‫نــوع اخلطــر الــذي هيــدده فــا جيــد ر ًدا‪ ..‬عـ َّـن‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫وولديــه حلــن االنتهــاء مــن بعــض األعــال الرضوريــة قبــل أن يقطــع‬


‫إجازتــه ويعــود ألوروبــا باكـ ًـرا‪ ..‬حــاول تقفــي أثــر احلســابات واألرقــام‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫التــي تراســله‪ ،‬لكــن دون جــدوى‪ ..‬كانــت الرســائل مــا بــن التهديــد مرة‬
‫والتحذيــر مــرة أخــرى‪ ،‬كأنــه واقــع بــن طرفــن أحدمهــا يســعى ألذيتــه‬
‫واآلخــر حيــاول محايتــه‪ ..‬فقــد القــدرة عــى النــوم بــدون مهدئــات‪ ،‬أصبح‬
‫رسيــع الغضــب خائ ًفــا كفــأر يف متاهــة ال يعــرف هلــا مالمــح‪.‬‬
‫قــرأ عــى اإلنرتنــت أن مــا حيــدث معــه جمــرد وســيلة تعذيــب نفــي‪،‬‬

‫‪194‬‬
‫كبــرا ينتظــره‪ ،‬حتــى يصــاب‬
‫ً‬ ‫خطــرا‬
‫ً‬ ‫يتــم إهيــام الضحيــة فيهــا بــأن‬
‫بالبارانويــا‪ ..‬مل يســتطع أن يتعامــل مــع األمــر ببســاطة؛ خاصــ ًة حــن‬
‫اســتيقظ ليجــد التهديــد مكتو ًبــا هــذه املــرة عــى حائــط غرفــة نــوم ولديه!‬
‫أتتــه املكاملــة املعتــادة مــن الرقــم املجهــول‪ ،‬قــال لــه الصــوت‬
‫اإللكــروين الــذي كان هيــدده وهيــددين طيلــة الفــرة املاضيــة‪:‬‬
‫‪ -‬ماحتاولــش تسـ َّفر املــدام واألوالد قبلــك‪ ..‬أنــا رسقــت باســبوراهتم‬
‫مــن البيــت امبــارح‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫خــرج «أمحــد الدرنــديل» عــن هدوئــه الــذي اكتســبه بحكــم وظيفتــه‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫وأطلــق الكثــر مــن الســباب والتهديــد بعالقاتــه الكثــرة‪ ،‬فــرد املجهــول‬
‫بضحكــة طويلــة أتبعهــا بقولــه‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬كانــوا نفعــوك ملــا كلمتهــم عشــان توصــل يل‪ ..‬بــس ماختافــش‪،‬‬
‫طــول مــا أنــت بتســمع الــكالم ماحــدش هيقــرب ألرستــك‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مستســلم عــا يريــد‪ ،‬عــرض عليــه املــال‪ ،‬أو أي‬


‫ً‬ ‫ســأله «الدرنــديل»‬
‫ٍ‬
‫ثمــن آخــر لراحــة بالــه‪ ..‬فبــدأ املجهــول يمــي عليــه أوامــره‪..‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫***‬
‫ﻭ‬

‫يف اليــوم التــايل اســتدعاين ضابــط املباحــث املســئول عــن التحقيــق يف‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫مقتــل محــزة درويــش‪ ..‬تناولــت آخــر حبــوب البرياســيتام التــي خبأهتــا‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫جيــدً ا يف مالبــي‪ ..‬عــزاين يف وفــاة ســلوى‪ ،‬طلــب منــي «دردشــة وديــة»‬


‫فوافقــت بإيــاءة مستســلمة‪ ،‬كنــت أعلــم أن حركــة رأيس نف ًيــا خيــار غــر‬
‫مطــروح‪.‬‬
‫كانــت اليافطــة اخلشــبية املخطــوط فوقهــا اســمه ورتبتــه يف وضــع‬
‫مائــل‪ ،‬عدلتهــا بحركــة ال إراديــة‪ ..‬مل يعلــق عــى مــا فعلــت‪ ،‬ســألني عــن‬

‫‪195‬‬
‫عالقتــي باملرحــوم‪ ،‬أجبتــه بصــدق أننــي ال أعــرف عنــه الكثــر‪ ..‬طــرح‬
‫أمــر زيــاريت لــه يف مقــر عملــه‪ ،‬وترصفــه الغريــب حــن أدخلنــي الزنزانــة‬
‫لدقائــق‪ ..‬قلــت ببســاطة‪:‬‬
‫‪ -‬أنــا الــي طلبــت أقابلــه؛ ســمعت مــن عســكري يف القســم إن محــزة‬
‫بيــه معــاه متهــم مهــم جــدً ا‪ ،‬وأكيــد حرضتــك عملــت حتريــات وعرفــت‬
‫إين ســافرت أمريــكا فــرة‪ ،‬هنــاك كان ليــا صديــق ضابــط رشطــة‪ ،‬عرفنــي‬
‫وســائل اســتجواب كتــر بيســتعملوها هنــاك‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫مستنكرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫ر َّد الضابط‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬فأنــت قــررت تــروح للمقــدم محــزة وختــش الزنزانــة بمزاجــك؟‬
‫عشــان تــدرس املتهــم ده وحتــدد طريقــة االســتجواب املناســبة ليــه‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫أجبته هبدوء‪:‬‬
‫‪ -‬بالضبط كده يا فندم‪ ..‬وكامن تقدر تسأل‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مستنكرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫ر َّد الضابط‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬هسأل محزة اهلل يرمحه؟!‬


‫‪ -‬قصدي تقدر تسأل زمايله عن نتيجة شغيل مع يزيد الصاوي‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ً‬
‫حامــا صينيــة اســتقر فوقهــا فنجانــان مــن‬ ‫دخــل أحــد العســاكر‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫القهــوة‪ ،‬تناولــت أحدمهــا الــذي كان شــديد املــرارة‪ ..‬قــال الضابــط‬


‫هبــدوء‪:‬‬
‫‪ -‬إحنــا جالنــا بــاغ قبــل وفــاة املقــدم محــزة إن حرضتــك رايــح بيتــه‬
‫تقتلــه‪ ،‬ولألســف الــي تلقــى البــاغ تعامــل معــاه باســتهتار‪..‬‬
‫ساخرا مما قال‪ ..‬فأكمل حديثه بنفس اجلدية‪:‬‬
‫ً‬ ‫ضحكت‬

‫‪196‬‬
‫‪ -‬عــارف إنــه مــش ســبب الســتدعائك‪ ،‬بــس الــي لقينــاه يف شــقة‬
‫املقــدم محــزة خالنــا نشــك فيــك‪..‬‬
‫ارتشــف رشــفة طويلــة مــن فنجانــه‪ ،‬لعــق شــفتيه بلســانه ليزيــل أثــر‬
‫متوجهــا نحــوي حتــى وقــف أمامــي مبــارشةً‪ ،‬ثــم جلــس‬ ‫ً‬ ‫ال ُبــن‪ ..‬هنــض‬
‫مقابـ ًـا يل‪ ،‬مل أنظــر مبــارش ًة يف عينيــه‪ ،‬ملحــت أزرار قميصــه التــي كادت‬
‫أن تتمــزق بســبب انتفــاخ بطنــه‪ ..‬أكمــل حديثــه قائـ ًـا‪:‬‬
‫‪ -‬لقينــا صــور وفيديوهــات ألكثــر مــن عمليــة اغتيــال هــو ن ِّفذهــا‬

‫ﻋﺼ‬
‫بنفســه‪ ،‬وســايب تســجيالت فيهــا اعــراف بــكل ده؛ بحجــة إنــه بيطبــق‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫العدالــة الــي إيــد القانــون عاجــزة عــن الوصــول ليهــا‪.‬‬
‫كنــت أعــرف جيــدً ا مــا يفعــل محــزة خلــف قنــاع «امليــزان» لكننــي‬
‫ﻜﺘ‬
‫أنكــرت معرفتــي بــه‪ ،‬ســألني عــن أســاء ضحايــا محــزة‪ ،‬فأجبتــه بصــدق‬
‫أننــي ال أعــرف أحــدً ا منهــم‪ ..‬ســألني بثقــة‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬الغريــب إننــا لقينــا صورتــك وســط صــور الضحايــا دي‪..‬‬


‫ومعمــول عليهــا عالمــة ‪ X‬باللــون األمحــر‪ ..‬شــكله كان نــاوي يقتلــك‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬وهــو وصــل لصــوريت إزاي؟ احنــا ماتقابلنــاش غــر مــرة واحــدة‬


‫ﻭ‬

‫يف مكتبــه‪.‬‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬ما هو كان جايبها من تفريغ كامريات القسم يوم ما روحت له‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ـرا الصــورة الورقيــة مــن فــوق مكتبــه‪ ،‬أشــار بإصبعــه عــى‬


‫هنــض حمـ ً‬
‫جــزء منها متسـ ً‬
‫ـائل‪:‬‬
‫‪ -‬تقــدر ترشحــي يعنــي إيــه كلمــة «الكونــت» الــي مكتوبــة عــى‬
‫الصــورة دي؟‬
‫***‬

‫‪197‬‬
‫‪ -‬إحنا عملنا حتريات عنك يا باش مهندس يارس‪..‬‬
‫ـيم دقيــق‬
‫هكــذا اســتهل ضابــط أمــن الدولــة حديثــه معــي‪ ،‬كان وسـ ً‬
‫املالمــح يشــبه مذيعــي نــرة األخبــار‪ ،‬بــدا عليــه كأنــه صــدق روايــة‬
‫«الكنعــاين» عــن وجــودي يف التجمــع الطــايب باخلطــأ‪ ..‬كان نظــري‬
‫مثب ًتــا عــى صــورة «حســني مبــارك» املعلقــة فــوق رأســه آنــذاك‪ ..‬اعتــذر‬
‫يل عــن التعذيــب الــذي تعرضــت لــه طيلــة يومــن مــن احلبــس‪ ،‬والــذي‬
‫شـ َّـوه مالمــح وجهــي وأفقــدين سـنًا‪ ،‬وانتهــك جســدي متا ًمــا ومــزق ثيايب‬

‫ﻋﺼ‬
‫ـدي الطاقة‬‫املهلهلــة مــن األســاس‪ ..‬مل أرد عليــه‪ ،‬أو بمعنــى أدق مل يكــن لـ َّ‬
‫ألفعــل‪ .‬هنــض واق ًفــا‪ ،‬اقــرب منــي حتــى كاد يلتصــق يب مــن األمــام‪،‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫مخنــت مــن انكــاش أنفــه أن رائحتــي ال تطــاق‪ ،‬أشــعل ســيجارته ً‬
‫نافخــا‬
‫ﻜﺘ‬
‫دخاهنــا يف وجهــي عــدة مــرات‪ ،‬مل أقــدر عــى الرتاجــع خطــوة أمامــه‪،‬‬
‫ضحــك ضحك ـ ًة مل أفهــم ســببها‪ ،‬ناولنــي كو ًبــا مــن املــاء فرشبتــه مــرة‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ـي‪ ،‬عــاود اجللوس أمــام مكتبــه‪ ،‬أخربين‬ ‫واحــدة وطلبــت آخــر‪ ..‬مل يــرد عـ َّ‬
‫أنــه عــرف عنــي كل يشء؛ جمــرد طالــب يف هنايــة حياتــه اجلامعيــة‪ ،‬يتيــم‬
‫ﺸﺮ‬

‫األم‪ ،‬أخــرين ضاحـكًا أن تشــبيهي أليب باخلنزيــر كان بلي ًغــا؛ فعبــد احلــي‬
‫الطائــي مل حيــاول البحــث عنــي طيلــة يومــن اختفائــي‪ ،‬وأن الوحيــد‬
‫ﻭ‬

‫الــذي ســأل عنــي يف قســم الرشطــة كان رجـ ًـا يدعــى «عــاء»‪.‬‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫مل أرد عليه‪ ..‬أعتقد أنه قرأ شخصيتي جيدً ا؛ فسألني بشكل مبارش‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬تعرف إيه عن زميلك األبيضاين اليل دافع عنك؟‬


‫‪ -‬ماعرفوش‪.‬‬
‫ضحــك ضحك ـ ًة طويلــة‪ ..‬نظــر هليئتــي الرثــة مــن أعــى إىل أســفل‪،‬‬
‫قــال هبــدوء‪:‬‬

‫‪198‬‬
‫‪ -‬النــاس يف الدنيــا دي تلــت أنــواع‪ :‬نــوع اختلــق عشــان يكــون البطــل‬
‫املنقــذ؛ زي صاحبــك كــده‪ ..‬ونــوع اختلــق عشــان يكــون ضحيــة‪ ،‬ونــوع‬
‫تالــت النــاس بتقــول عليــه «جــاين»؛ بــس صدقنــي يــا يــارس وجــوده مهــم‬
‫عشــان احليــاة تكمــل‪...‬‬
‫مل أرصح بــا أفكــر فيــه‪ ،‬فقــال ضاحــكًا كأنــه قــرأ مــا جيــول يف‬
‫خاطــري‪:‬‬
‫‪ -‬طب ًعــا أنــت عايــز تقــول يل إن أنــا النــوع التالــت‪ ..‬أنــا عــارف ده‬

‫ﻋﺼ‬
‫كويــس‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫التزمــت الصمــت‪ ،‬فأخــرج مــرآة صغــرة مــن درج مكتبــه‪ ،‬وأكمــل‬
‫حديثــه قائـ ًـا‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬إنام أنت نفسك تكون إيه؟‪ ..‬بطل؟!‬
‫هنــض ممســكًا باملــرآة حتــى وقــف بجــواري‪ ،‬رفــع املــرآة مبــارش ًة‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫أمــام عينــي‪ ،‬رأيــت انعــكاس وجهــي املتــورم الــذي مل أميــزه يف البدايــة‪،‬‬


‫أمســكني مــن رأيس‪ ،‬طالــع هيئتــي ثانيـ ًة مــن خــال املــرآة‪ ،‬وقــال بتأفف‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬برصاحة دور البطل مش اليق عليك خالص‪..‬‬


‫ﻭ‬

‫أنــزل املــرآة‪ ،‬ضغــط بيــده عــى جــرح كبــر يف عنقــي‪ ،‬مل يعبــأ بدمــي‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫الــذي ســال مــن اجلــرح وال بــاألمل الــذي بــدا عــى وجهــي‪ ،‬قــال بلهجــة‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫حــادة‪:‬‬
‫‪ -‬عايز تكون ضحية؟‬
‫فهمت ما يرمي إليه‪ ،‬فأزحت يده عن اجلرح وقلت له بصدق‪:‬‬
‫‪ -‬أنا طول عمري ضحية‪ ..‬ومش حابب أكمل يف الدور ده‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫أدرك كالنا أنني صيد سهل‪ ،‬فعاد إىل مقعده وسألني مبارشةً‪:‬‬
‫‪ -‬تعرف إيه عن يارس الكنعاين؟!‬
‫‪ -‬أعرف متنه األول؟‬
‫سألني بلهجة عملية وهو ينظر إىل ملف ورقي أمامه‪:‬‬
‫‪ -‬ماقدمتش ليه يف بعثة أمريكا اليل جت للقسم بتاعك؟‬
‫متهكم‪:‬‬
‫ً‬ ‫قلت‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬هاجي إيه وسط العباقرة اليل امتحنوا فيها؟‬
‫‪ -‬تفتكر مني ممكن يطلعها؟‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫قلت دون تفكري‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬غال ًبا يارس الكنعاين‪ ..‬ده بيطلع األول علينا وهو مغمض‪.‬‬
‫ـت بخطــوات مــرددة‪ ..‬أخــرج قلـ ًـا أســود‬ ‫أمــرين باالقــراب‪ ،‬ففعلـ ُ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫اللــون‪ ،‬وخــط عــى ورقــة بيضــاء اســم «يــارس الكنعــاين» وقــال بعــد أن‬
‫شــطب عــى كلمــة «الكنعــاين»‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬إيه رأيك لو غرينا االسم ده باسم تاين‪.‬‬


‫ﻭ‬

‫فهمــت تلميحــه‪ ،‬قلــت لــه أننــي مل أدخــل امتحــان البعثــة مــن‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫مبتســا هبــدوء‪:‬‬
‫ً‬ ‫األســاس‪ ..‬رد‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬الدكتــور املســئول عمــل لــك امتحــان اســتثنائي يف مكتبــه ومــروك‬


‫عليــك أنــت نجحــت فيه بتفــوق عــن باقــي «العباقــرة»‪ ..‬وهتســافر البعثة‪.‬‬
‫أردف ً‬
‫قائل بابتسامة مشجعة‪:‬‬
‫‪ -‬ولــو حابــب جماميــع الســنني الــي فاتــت تتعــدل‪ ،‬وتبقــى مــن‬
‫األوائــل مفيــش مشــكلة‪ ..‬وخــي حــد يعــرض‪.‬‬

‫‪200‬‬
‫عرضــا ال يمكــن رفضــه؛‬ ‫كان صمتــي أبلــغ عالمــات الرضــا‪ ..‬كان ً‬
‫هــروب مــن ســجن الطائــي‪ ،‬ومــن ســجن الفقــر‪ ،‬ومــن كل الســجون‬
‫التــي حارصتنــي طيلــة حيــايت‪ ..‬ســألته عــا يريــد معرفتــه‪ ..‬فــر َّد ضاحكًا‪:‬‬
‫‪ -‬أنت ما صدقت تبيع صاحبك يا طائي؟ عام ًة ما تقلقش‪..‬‬
‫لثوان أفكر يف مستقبيل اجلديد‪ ،‬سألته برتدد‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫تركني‬
‫‪ -‬أنا لو رفضت فيه حد غريي هيعمل كده‪ ..‬صح؟‬
‫فهم ما أفكر فيه فرد بصرب‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬أكيــد‪ ..‬كتــر يتمنــوا يشــتغلوا معانــا‪ ،‬بــس إحنــا الــي بنختــار‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫رجالتنــا‪ ..‬ريــح ضمــرك يــا يــارس‪ ..‬صاحبــك «الكنعــاين» قــدره حمســوم‬
‫ﻜﺘ‬
‫مــن يــوم مــا اختــار الســكة دي‪.‬‬
‫أكمل حديثه بلهجة خبيثة‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬كنت بتقول يل إنك ماتعرفش حاجة عن يارس الكنعاين؟‬


‫قلت له يف حماولة أخرية الستعطافه‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬الولد ده غلبان‪ ،‬أبوه فلسطيني‪...‬‬


‫قاطعني بعد أن زفر بملل‪:‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬غلبان يبقى يقعد يف بيته ويسيبنا نشتغل‪..‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ـدي اســتعداد للتخــي عــى حلــم الرحيــل‪ ،‬كنــت أجهــز نفيس‬


‫مل يكــن لـ َّ‬
‫هلــذه اللحظــة مــن زمـ ٍ‬
‫ـن‪ ،‬أكملــت حديثــي كأنني أخشــى أن أنســى شــي ًئا‪:‬‬
‫‪ -‬أبــوه ســافر مــر قبــل مــا خيلفــه‪ ..‬و»الكنعــاين» كان حكــى يل قبــل‬
‫كــده عــن أول مــرة ينــزل فيهــا مظاهــرة‪ ،‬كانــت تبــع‪...‬‬
‫قائل بلهجة آمرة‪:‬‬ ‫قاطعني ً‬

‫‪201‬‬
‫‪ -‬هتقعــد دلوقتــي تكتــب يل كل حــرف تعرفــه عــن صاحبــك‬
‫الكنعــاين ده‪ ..‬ولــو خبيــت عنــي أي تفاصيــل انســى البعثــة‪..‬‬
‫ـرا مــن األوراق وقلمــن‪ ،‬طلــب منــي أن أمأل‬‫وضــع أمامــي عــد ًدا كبـ ً‬
‫هــذه األوراق بــكل مــا أعرفــه عــن زمالئــي‪ ،‬وعــى رأســهم الكنعــاين‪..‬‬
‫مازحنــي أثنــاء مغادرتــه قائـ ًـا‪:‬‬
‫‪ -‬تعــرف إنــك الوحيــد الــي معرفنــاش نضغــط عليــه بورقــة أهلــه؟‪..‬‬
‫أبــوك مــش مســاعدنا خالــص يف املوضــوع ده‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫مل أعلــق عــى قــذارة الطائــي التــي صنعــت منــي مسـ ً‬
‫ـخا يبنــي مســتقبله‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫عــى حســاب اآلخريــن‪ ،‬ســألت الضابــط بخوف‪:‬‬
‫‪ -‬أنتم هتفرجوا عن الكنعاين بعد ما تر ُّبوه‪ ..‬صح؟‬
‫ﻜﺘ‬
‫أجابني متجن ًبا النظر يف عيني مبارشةً‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬هنعرف مني وراه األول‪..‬‬


‫سألته بأمل‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬وبعدين هتعرضوه عىل النيابة؟‬


‫ٍ‬
‫بصــوت خافــت‬ ‫ابتســم ابتســامة مل أفهــم معناهــا إال الح ًقــا‪ ،‬قــال‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫وهــو يغلــق البــاب خلفــه‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬إن شاء اهلل‪.‬‬


‫***‬
‫أنكــرت للمحقــق إدراكــي بمدلــول كلمــة «الكونــت» املكتوبــة عــى‬
‫صــوريت‪ ،‬بالطبــع مل يصدقنــي؛ إن كنــت مكانــه فلــن أصدقنــي‪ ..‬مخنــت‬
‫أنــه يفكــر يف وســيلة أخــرى النتــزاع االعــراف منــي‪ ..‬ال يعــرف أنــه‬

‫‪202‬‬
‫يبيــع امليــاه يف حــارة الســقاة‪ .‬فكــرت يف كذبــة خترجنــي مــن املوقــف؛‬
‫حجــة غيــاب قويــة أو شــخص أســتند لشــهادته‪ ،‬لكننــي مل أجــد‪ ،‬حتــى‬
‫آدم اختفــى متا ًمــا كاألمــوات‪...‬‬
‫‪ -‬القبــض عــى أســتاذ يــارس الطائــي غــر قانــوين باملــرة يــا حــرة‬
‫الضابــط!‬
‫قاطــع أفــكاري اقتحــام «الســفري أمحــد الدرنــديل» ملكتــب ضابــط‬
‫الرشطــة‪ ،‬حــن عـ َّـرف نفســه فهمــت كيــف وصــل إىل مكتــب الضابــط‬

‫ﻋﺼ‬
‫دون اعــراض مــن أحــد‪ ،‬كان مرتبـكًا حيــاول اصطنــاع اهليبــة؛ مخنــت أن‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫هــذه أول مــرة يســتخدم فيهــا نفــوذه الدبلومــايس‪ ،‬كــا أدركــت أنــه يعــاين‬
‫مــن مشــاكل يف النــوم مــن عينيــه املجهدتــن‪ ..‬كانــت برشتــه ورديــة‬
‫ﻜﺘ‬
‫اللــون ملســاء متا ًمــا تالئــم مالحمــه ونظراتــه الطفوليــة‪ ،‬كان مدكــوك‬
‫القامــة ريــايض البنيــان‪ ..‬فــك أزرار بذلتــه ُبنيــة اللــون وجلــس مقابـ ًـا‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يل دون اســتئذان مــن الضابــط‪ ،‬ربــت عــى فخــذي مطمئنًــا وحدثنــي‬
‫بلهجــة الصديــق املقــرب‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬ماتقلقش يا يارس‪..‬‬
‫ـت مستســلم‪ ،‬أدركــت أنــه طــوق النجــاة الــذي‬ ‫أومــأت لــه يف صمـ ٍ‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أرســله ذلــك املجهــول الــذي يســيطر عــى حيــايت‪ ،‬أو أنــه اجلــزرة التــي‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫يضعهــا أمــام وجهــي حتــى أســتمر يف لعبتــه كاحلــار‪ ..‬أكمــل «الدرنديل»‬


‫حديثــه ناظـ ًـرا نحــو املحقــق‪:‬‬
‫‪ -‬أســتاذ يــارس الطائــي شــخصية حمرتمــة‪ ..‬ال يمكــن يكــون اهتامــه‬
‫تــرف صحيــح مــن وزارة الداخليــة‪.‬‬
‫رشح الضابــط بإجــال واضــح لشــخص «الدرنــديل» املالبســات‬

‫‪203‬‬
‫التــي أدت إىل اهتامــي‪ ،‬واحلقائــق التــي واجهنــي هبــا وأنكرهتــا‪ ،‬ســأله‬
‫«الدرنــديل» عــن تقديــر الطبيــب الرشعــي لســاعة مقتــل محــزة درويــش‪،‬‬
‫وحــن أخــره الضابــط ر َّد «الدرنــديل» ‪-‬بلهجتــه الفخمــة ولســانه األلثــغ‬
‫ـرا الكثــر مــن املســافات‪:‬‬
‫الــذي ينطــق الــراء غينًــا‪ -‬خمتـ ً‬
‫‪ -‬طيــب‪ ..‬إيــه رأي حرضتــك إن أســتاذ يــارس كان عنــدي يف البيــت‬
‫يف نفــس الوقــت الــي حصلــت فيــه الوفــاة‪.‬‬
‫وضــع «الدرنــديل» ســا ًقا فــوق األخــرى‪ ،‬ضبــط مــن وضــع شــعره‬

‫ﻋﺼ‬
‫الــذي يصففــه عــى جنــب‪ ،‬وأكمــل حديثــه متك ًئــا عــى حروفــه‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬ويف حــرة الكثــر مــن الشــخصيات العاملــة بالســلك‬
‫ا لد بلو مــا يس ‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫مقرتحا‪:‬‬
‫ً‬ ‫أخرج هاتفه وقال للضابط‬
‫‪ -‬حتب أكلم لك أي حد فيهم يأكد لك كالمي؟‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫هــز الضابــط رأســه نف ًيــا‪ ،‬نظــر نحــوي بغـ ٍ‬


‫ـل واضــح‪ ،‬كان يعلــم أن‬
‫ﺸﺮ‬

‫القضيــة قــد انتهــت‪ ،‬وأهنــا ســتقيد ضــد جمهــول‪ ..‬قــال بلهجة مستســلمة‪:‬‬
‫‪ -‬وحتى لو مكانش عند حرضتك‪ ..‬كفاية إنه خيصك‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ر َّد «الدرنديل» بعصبية مزيفة‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬حرضتك بتتهم «أمحد عبداحلميد الدرنديل» بشهادة الزور؟!‬


‫تأكــدت أن الدرنــديل ال يعمــل مــع ذلــك املجهــول الــذي يتحكــم‬
‫يف حيــايت‪ ،‬كانــت نظرتــه مشــاهبة لتلــك النظــرة التــي أراهــا مؤخـ ًـرا يف‬
‫مــرآيت‪ :‬نظــرة الضحيــة‪ .‬اعتــذر الضابــط يف استســام واضــح‪ ..‬فــر َّد‬
‫مازحــا‪:‬‬
‫ً‬ ‫الدرنــديل‬

‫‪204‬‬
‫‪ -‬أنــا مقــدر إنــك بتشــوف شــغلك‪ ..‬والبقــاء هلل يف زميلــك الــي‬
‫تــوىف‪ ،‬أكيــد هــو يف مــكان أفضــل كتــر‪.‬‬
‫بــدأ الضابــط يف إجــراءات إطــاق رساحــي‪ ،‬حــاول الدرنــديل أن‬
‫حيكــم متثيــل دور «صديقــي» الــذي فشــل يف أدائــه مــن األســاس‪ ..‬فقــال‬
‫مازحــا‪:‬‬
‫ً‬ ‫للضابــط‬
‫‪ -‬يــارس أخويــا الصغــر‪ ..‬وطــول عمــر بيتــه بيــت كــرم‪ ..‬ده كفايــة‬
‫اســمه‪ :‬الطائــي!‬

‫ﻋﺼ‬
‫مل يشــغل الضابــط بالــه ســوى بالقضيــة التــي راحــت ســدى‪ ،‬كان‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫متعجـ ًـا للخــاص مــن «الدرنــديل» الــذي ال يصمــت‪ ،‬مل أكــن مهتـ ًـا بــا‬
‫ﻜﺘ‬
‫حيــدث‪ ،‬مل أشــغل بــايل إال بالتفكــر يف هويــة ذلــك «املجهــول»؛ بالتأكيــد‬
‫هــو شــخص يعرفنــي جيــدً ا‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫نزلــت مــع الدرنــديل الــذي أعطــى رقــم هاتفــه للضابــط لــرد اخلدمــة‬
‫يف أي وقــت‪ ،‬حــن خرجنــا مــن قســم الرشطــة تلفــت حولــه يف خــوف‪،‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫زفــر يف ارتيــاح‪ ،‬مهــس يف أذين أنــه ال يعرف عنــي أي يشء‪ ،‬وأننــا ُمهددان‬
‫مــن نفــس الشــخص املجهــول‪ ،‬أكمــل هبــدوء‪:‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬هو أمرين أول ما ننزل من القسم أوصلك‪..‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬توصلني فني؟‬
‫يعرفنا‪.‬‬
‫‪ -‬هيتصل َّ‬
‫أدار حمــرك ســيارته البيضــاء شــديدة الفخامــة‪ ،‬مخنــت أن ثمنهــا‬
‫يقــدر بماليــن‪ ،‬ســألته عــن ســائقه الشــخيص‪ ..‬أجــاب بلهجــة آســفة‬
‫أنــه رسح الســائق وعــد ًدا مــن احلــرس بنــا ًء عــى طلــب ذلــك املجهــول‪،‬‬

‫‪205‬‬
‫كان صاد ًقــا يف كل مــا يقــول؛ أعــرف هــذه النوعيــة مــن الشــخصيات‪ ،‬ال‬
‫حتتــاج إىل الكــذب يف حياهتــا‪.‬‬
‫ـي خالهلــا‬
‫حتركنــا هائمـ ْـن ملــدة جــاوزت نصــف الســاعة‪ ،‬قــص عـ َّ‬
‫ـرا‪،‬‬
‫كل مــا حــدث لــه مــع ذلــك «املجهــول»‪ ،‬رن هاتــف «الدرنــديل» أخـ ً‬
‫ناولنــي اهلاتــف ألرد بصـ ٍ‬
‫ـوت عـ ٍ‬
‫ـال‪:‬‬
‫‪ -‬مني «الدرنديل» ده كامن‪ ..‬مش كفاية كوارث حلد كده؟!‬
‫رد «املجهول» هبدوءه املستفز‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬ده بــدل مــا تشــكره؟ ماتعرفــش أنــا تعبــت قــد إيــه عشــان أخليــه‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫يطلعــك مــن جريمــة قتــل محــزة درويــش دي‪..‬‬
‫بصوت ٍ‬‫ٍ‬
‫ﻜﺘ‬
‫عال‪:‬‬ ‫مصححا‬
‫ً‬ ‫قلت‬
‫‪ -‬يطلعني من جريمة أنتوا عملتوها‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬إحنا مني؟ أنا لوحدي يا يارس!‬


‫ـدل مــن التحــدث‬ ‫كــدت أن أحتــداه أن يتحــدث بصوتــه احلقيقــي‪ ،‬بـ ً‬
‫ﺸﺮ‬

‫خــال برنامــج طمــس الصــوت‪ ..‬لكننــي أدركــت أنــه ال فائــدة مــن هــذا‬
‫التحــدي‪ ..‬ســألته هبــدوء‪:‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬واملطلوب؟‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬مبســوط إنــك دخلــت يف مرحلــة التفــاوض‪ ،‬وبطلــت هتــددين‪..‬‬


‫حاســس بإيــه وأنــت مستســلم لإليــد األعــى منــك‪.‬‬
‫قلت له ببغض حقيقي‪:‬‬
‫‪ -‬أوعدك الوضع ده مش هيستمر كتري‪.‬‬
‫‪ -‬مستغرب أنت حلد دلوقتي إزاي معرفتنيش!‬

‫‪206‬‬
‫‪ -‬قول اليل أنت عايزه!‬
‫ر َّد بلهجة عملية‪:‬‬
‫‪ -‬اخطف السفري الدرنديل‪ ..‬وخده عىل فيال الكونت‪.‬‬
‫‪ -‬بس‪...‬‬
‫وقبل أن أكمل مجلتي قاطعني بلهجة خبيثة‪:‬‬
‫‪ -‬عــى فكــرة مليكــة حفظــت اســمي بســهولة؛ البنــت دي دمهــا‬

‫ﻋﺼ‬
‫خفيــف جــدً ا‪ ..‬كويــس إهنــا مطلعتــش زيــك‪.‬‬
‫‪ -‬حارض‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫قال مستدركًا قبل أن يغلق اخلط‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬صحيح‪ ..‬عايزك أول ما توصل املقر تقتل عبد احلي الطائي‪.‬‬
‫***‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪207‬‬
‫‪ -14‬اثنان‬

‫ﻋﺼ‬
‫لــو عــرف الســفري الدرنــديل أن الطريــق الــذي أرشــده إليــه ال رجعــة‬
‫لــه منــه‪ ،‬ملــا أطلــق رساحــي مــن األســاس‪..‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫أخفيــت عنــه أن املحادثــة اهلاتفيــة التــي أجراهــا ذلــك املجهــول معــي‬
‫ﻜﺘ‬
‫ـجان ســيأرسه‪ ،‬وأنــه ســيصبح ضحيــة‬ ‫حولتنــي مــن ضحيــة مثلــه إىل سـ َّ‬
‫«الكونــت» القادمــة‪ ..‬وصفــت لــه عنــوان فيلتــي‪ ،‬وخدعتــه ً‬
‫قائــا أن‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫«املجهــول» ســيقابلنا هنــاك‪ ،‬ســألني عــا أعرفــه عــن ذلــك املجهــول‬


‫والــر وراء اختيارنــا‪ ..‬أجبتــه بصــدق أننــي ال أعــرف أيــة أجوبــة ختــص‬
‫ﺸﺮ‬

‫ذلــك املجهــول؛ فــا أعــرف «مــن» وال «ملــاذا» وال «كيــف»‪ ..‬ال أعــرف‬
‫ســوى أنــه خمتــل‪ ،‬ولديــه الكثــر مــن الصالحيــات لتنفيــذ مــا يــدور يف‬
‫ﻭ‬

‫عقلــه مــن جنــون‪ .‬كانــت ســيارته مرحيــة ينبعــث منهــا رائحــة معطــر‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫زكــي‪ ،‬وصــوت خافــت إلذاعــة ‪ ..BBC‬أخرجــت هاتفــي ألراســل آدم‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫نص ًيــا‪ ،‬بادرتــه معات ًبــا‪:‬‬


‫‪ -‬كنت فاكر إن ورايا راجل!‬
‫ً‬
‫خجل‪:‬‬ ‫رد‬
‫‪ -‬ســاحمني يــا أســتاذ يــارس‪ ..‬أنــت عــارف إين مــايش بــدوالب‬
‫خمــدرات‪ ،‬ولــو كنــت امتســكت معــاك أقــل واجــب كنــت هلبــس تأبيــدة‪.‬‬

‫‪208‬‬
‫سألته‪:‬‬
‫‪ -‬أنت كنت عايز تشتغل مع «الكونت»‪ ..‬صح؟‬
‫كتــب يل أنــه ينتظــر هــذه اللحظــة منــذ زمــن‪ ،‬طلــب منــي عنــوان‬
‫املقــر‪ ..‬أمرتــه أن يســبقني إىل هنــاك‪ ..‬مل يســأل «الدرنــديل» عــن أي‬
‫تفاصيــل ختــص وجهتنــا القادمــة‪ ،‬كان قــد استســلم متا ًمــا إلرادة‬
‫«املجهــول» الــذي هيــدد أمــن عائلتــه‪ ،‬وال يفكــر إال يف الطاعــة‪.‬‬
‫متصــورا طريقــة التعذيــب املثــى‬‫ً‬ ‫تفرســت يف مالمــح الدرنــديل‬

‫ﻋﺼ‬
‫لشــخص كهــذا؛ أعــرف أنــه لــن يصمــد أمــام أبســط الطــرق‪ ،‬لكــن‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ـي ذلــك‪ ..‬خطــر إىل بــايل أســئلة أكثــر أمهيــة مــن‬
‫قواعــد املهنــة تفــرض عـ َّ‬
‫الوســيلة‪ :‬فــا الــذي يريــد أن يعرفــه ذلــك «املجهــول» مــن رجــل كهــذا‪..‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫مــا املعلومــة التــي يســعى إليهــا‪ ،‬وبــأي غــرض اســتهدفه؟!‬
‫قاطــع تفكــري صــوت احتــكاك فرامــل بــاألرض‪ ،‬وصــوت عـ ٍ‬
‫ـال‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫لبــوق التنبيــه اخلــاص بســيارة نقــل كانــت تســر خلفنــا‪ ،‬أخــرج الســائق‬
‫رأســه مــن شــباك ســيارته املرتفعــة‪ ،‬نظــر إلينــا مــن أعــى واهنــال علينــا‬
‫ﺸﺮ‬

‫ٍ‬
‫وبحــرج‬ ‫ٍ‬
‫بصــوت خفيــض‬ ‫بوابــل مــن الشــتائم‪ ،‬اعتــذر لــه الدرنــديل‬
‫بالــغ‪ ،‬وصفــه الســائق باحلــار الــذي ال يســتحق مثــل هــذه الســيارة‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫الباهظــة‪ ..‬فأخرجــت رأيس وأرشت للســائق بإصبعــي األوســط‪ ..‬بــدا‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫عــى الدرنــديل اخلجــل مــن فعلتــي‪ ،‬وقــال الئـ ًـا‪:‬‬


‫‪ -‬عــى فكــرة أنــا الــي غلطــان‪ ..‬رسحــت وأنــا ســايق وفرملــت قدامــه‬
‫فجأة!‬
‫لكــن األوان قــد فــات‪ ..‬فقــد ترجلــت مــن الســيارة وطلبــت مــن‬
‫ـاخرا‪،‬‬
‫ســائق النقــل أن يفعــل مثــي‪ ،‬كــررت إشــاريت البذيئــة‪ ..‬نظــر إ َّيل سـ ً‬

‫‪209‬‬
‫أمــر «الت َّبــاع» الــذي معــه أن ينتظــره يف الســيارة حتــى ينتهــي مــن أمــر‬
‫ـررا اعتــذاره للســائق‪ ،‬الــذي كاد‬
‫«البهــوات دول»‪ ..‬حلقنــي الدرنــديل مكـ ً‬
‫أن يســبه جمــد ًدا قبــل أن أفاجئــه بدفعــة مــن يــدي يف صــدره‪ ،‬مل أســتطع‬
‫الســيطرة عــى نفــي‪ ..‬حــاول الدرنــديل منــع الســائق عــن إيذائــي‪ ،‬رصخ‬
‫َّيف بــأن أتوقــف‪ ،‬لكننــي كنــت خــارج وعيــي متا ًمــا‪ ..‬أخــرج الســائق‬
‫مطــواة صغــرة كانــت يف جيبــه‪ ،‬أصابنــي يف كتفــي األيــر‪ ،‬شــهق‬
‫الدرنــديل مــن منظــر الــدم‪ ،‬لكــن غضبــي كان أقــوى مــن اإلصابــة‪،‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫فرضبتــه بــن فخذيــه حتــى ســقط أمامــي‪ ،‬اهنلــت عليــه بيمنــاي ضار ًبــا‬
‫وجهــه وضلوعــه بشــكل عشــوائي؛ كان األمــر أشــبه بشــجار األطفــال‪،‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫رصخــت فيــه غاض ًبــا مــن كل مــا مــررت بــه يف الفــرة األخــرة‪ ،‬جتســدت‬
‫ﻜﺘ‬
‫أمامــي كل مــن غــرام ومليكــة؛ أدركــت اآلن كــم اشــتقت إليهــا؛ وقــد‬
‫كبحــت حــزين عليهــا وســخطي لغياهبــا‪ ،‬أودعــت أملــي بداخــي لئــا‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ـرت اليــوم‪ ،‬أردت أن أعاقبــه كأنــه‬‫يعيقنــي عــن إجيادمهــا‪ ..‬حتــى انفجـ ُ‬


‫املســئول عــن كل مــا آســيته منــذ املهــد‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫لكــن الســائق بــدأ يســتعيد قوتــه ويزحينــي مــن فوقــه‪ ،‬نــزل الت َّبــاع‬
‫مرس ًعــا لينقــذ رب عملــه‪ ..‬رضبنــي عــى رأيس بعنــف ألنتفــض مــن‬
‫ﻭ‬

‫ـرت‬
‫متأوهــا‪ ..‬أمـ ُ‬ ‫مــكاين‪ ،‬دفعتــه نحــو جســم الســيارة النقــل فارتطــم هبــا‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ً‬
‫الدرنــديل ان يتحــرك رسي ًعــا‪.‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫طلبــت منــه القيــادة خــال أكثــر مــن شــارع جانبــي حتــى ال‬
‫يســتطيع ســائق النقــل اللحــاق بنــا‪ .‬مل نتبــادل احلديــث حتــى وصلنــا‬
‫إىل فيلتــي القابعــة بإحــدى بقــاع الطريــق الصحــراوي‪ ،‬أعطــاين بضعــة‬
‫رن هاتفــي برقــم‬ ‫مناديــل ورقيــة ألضمــد هبــا كتفــي الــذي كان ينــزف‪َّ ..‬‬
‫«املجهــول» الــذي ســألني بفضــول‪:‬‬

‫‪210‬‬
‫‪ -‬فكرت يف طريقة لتعذيبه؟‬
‫‪ -‬آه‪ ..‬بس عايز أعرف ليه؟‬
‫‪ -‬عشان أنا عايز كده‪.‬‬
‫قلت بلهجة عملية‪:‬‬
‫‪ -‬مابشتغلش بفلوس يارس‪ ..‬وجنابك رسقت حساب الكونت‪.‬‬
‫ر َّد «املجهول» ضاحكًا‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬ملــا توصــل املقــر بتاعــك هتالقينــي ســايب لــك فلــوس هنــاك‪..‬‬
‫تقــدر تشــري بيهــا كل الــي أنــت حمتاجه‪ ..‬وتقــدر تعتــر الباقــي أتعابك‪،‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ولــو إن مفيــش أتعــاب أغــى وال أهــم مــن حيــاة مليكــة وغــرام‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫فرت دمعة مني‪ ،‬قلت له بلهجة متوسلة‪:‬‬
‫‪ -‬مها ً‬
‫فعل كويسني؟‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬حلد دلوقتي‪ ،‬وعىل فكرة غرام َن َفسها حلو جدً ا يف األكل‪.‬‬


‫مل أقــاوم دموعــي أكثــر مــن هــذا‪ ،‬فأطلقــت ســبايب املعتــاد فيــه‪،‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫وأهنيــت املكاملــة قبــل أن يــرد بضحكتــه التــي أبغضهــا‪.‬‬


‫ﻭ‬

‫***‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫وصــل آدم متاخـ ًـرا لكنــه أحــر كل مــا طلبتــه‪ ،‬فــزع مــن منظــر‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫جثــث كالب احلراســة التــي ســممها ذلــك املجهــول حتــى يتســنى لــه‬
‫دخــول الفيــا ووضــع املــال هبــا‪ ..‬لفــت نظــري إىل جــروح وجهــي‬
‫وقميــي الغــارق يف الــدم‪ ،‬أخربتــه أننــي ســأصعد ألرتــدي بدلتــي‬
‫الكاملــة‪ ..‬ســألني بحــرة بالغــة‪:‬‬
‫‪ -‬الراجل ده عرف ازاي موقع فيال الكونت؟!‬

‫‪211‬‬
‫ً‬
‫مندهشا‪:‬‬ ‫سألته‬
‫‪ -‬هــو موقــع الفيــا ماظهــرش لــه بعــد مــا اخــرق احلســاب بتاعــي‬
‫عــى الــدارك ويــب؟‬
‫ر َّد بلهجة متيقنة‪:‬‬
‫‪ -‬مســتحيل‪ ..‬نظــام احلاميــة الــي كان مصممه صاحبــك األمريكاين كان‬
‫مهــه األول إنــه يــداري املوقــع بتاعــك‪ ..‬وغال ًبــا اجلــدع ده عــرف يوصــل لك‬
‫ملــا كشــف هويــة يــارس الــي أكيد فتحت حســابه مــرة مــن أجهــزة الكونت‪..‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫احنــا لألســف بنتعامــل مــع حــد دارســك كويس جــدً ا‪..‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬ ‫أكملت مجلته ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪ -‬أو حد قريب مني‪..‬‬
‫كان «اخلواجــة» يتلفــت حولــه يف انبهــار؛ ســألني ‪-‬وهــو يتابــع شــي ًئا‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مــا عــى هاتفــه‪ -‬عمــن ينظــف هــذا املــكان‪ ،‬وحيــر يل أدوات التعذيــب‬
‫فيــا ســبق‪ ،‬ومــن يضــع األكل للحيوانــات القابعــة يف الطابــق الســفيل‪،‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫أجبتــه أننــي أفعــل كل هــذا بشــكل دوري‪ ..‬اندهــش مــن مقــدريت عــى‬
‫املوازنــة بــن اهلويتــن‪ ،‬مل أخــره أن األمــر كان ممت ًعــا برغــم كل هــذا‬
‫ﻭ‬

‫املجهــود‪..‬‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫سألني أثناء نزولنا م ًعا للطابق حتت األريض‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬إيه أكرت تعذيب مؤمل مارسته يف حياتك؟‬


‫‪ -‬األمــل‪ ..‬إنــك تســحب األمــل مــن ضحيتــك‪ ،‬ختليــه مــش عــارف‬
‫هنايــة لــي هــو فيــه‪ ،‬ومتيقــن إن مصــره يف إيــدك‪ ،‬وإنــك مــش إيــد أمينــة‬
‫هتحميــه؛ أنــت جمــرد مهيمــن عــى حياتــه‪.‬‬
‫أردفت ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫‪212‬‬
‫‪ -‬صدقنــي األمل النفــي أعظــم وأبشــع بكتــر مــن اجلســدي‪ ،‬يعنــي‬
‫بيتهيــأ يل إن عــذاب اآلخــرة احلقيقــي مــش يف نــار جهنــم؛ بــس يف فكــرة‬
‫اخللــود جواهــا‪.‬‬
‫اقتــدت آدم إىل حجــرة الضحايــا حيــث احتجــزت «الدرنــديل»‪ ،‬مل‬
‫يأخــذ ختديــره وتقييــده باحلجــرة جمهــو ًدا يذكــر‪ ..‬طلبــت منه أن يســاعدين‬
‫يف إنــزال املعــدات التــي أحرضهــا يف ســيارة نصــف نقــل أجرهــا‬
‫بالســائق‪ ..‬كنــت مره ًقــا بعــد تــوايل الصدمــات فــوق رأيس‪ ،‬عــاوة عــى‬

‫ﻋﺼ‬
‫ـي‬‫البيــات يف احلبــس وشــجاري مــع الســائق‪ ،‬فعــرض «آدم اخلواجــة» عـ َّ‬
‫أن ينزهلــا بمفــرده‪ ،‬توجهــت للحجــرة البيضــاء حيــث أحتجــز عبــد احلــي‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫الطائــي‪ ..‬كان عــى نفــس حالتــه منــذ أن تركتــه؛ مل ينفــد طعامــه‪ ،‬خاصـ ًة‬
‫ﻜﺘ‬
‫أن شــهيته مل تعــد كالبــر‪ ،‬كان قــد تغــوط عــى نفســه أكثــر مــن مــرة‪..‬‬
‫ـن مــن احلجــرة البيضــاء‪ ،‬أخرجــت‬ ‫توجهــت إىل ثالجــة صغــرة يف ركـ ٍ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫منهــا زجاجــة مــن اللبــن الــذي اعتــدت أن أســقيه للطائــي‪ ،‬ومــأت‬


‫منــه كوبــن بالســتيكيني‪ ،‬اقرتبــت منــه دون أن يلتفــت نحــوي‪ ..‬قبلــت‬
‫ﺸﺮ‬

‫يــده باحــرام‪ ،‬أجلســته عــى ركبتيــه‪ ..‬جلســت بجــواره يف وضــع مماثــل‪،‬‬


‫ورشبــت معــه اللبــن بعــد أن رضبــت كوبينــا يف بعضهــا‪ ،‬وحــن انتهــى‬
‫ﻭ‬

‫مســحت لــه فمــه يف أكاممــه‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ركعــت عــى ركبتــي خلفــه‪ ،‬احتضنتــه مــن اخللــف ومــررت أصابعــي‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ـت عليهــا طال ًبــا منــه أال‬


‫فــوق الشــعريات املتبقيــة يف رأســه األشــيب‪ ،‬ربـ ُّ‬
‫خيــاف‪ ..‬أحطــت رقبتــه بســاعدي وأحكمــت قبــي عليهــا حتــى كرست‬
‫عنقــه‪ .‬مخــدت حركتــه متامــا‪ ،‬توقعــت أال يســتغرق األمــر بضعــة ثـ ٍ‬
‫ـوان‪،‬‬ ‫ً‬
‫ـت مــع‬‫ـي دقائــق طويلــة مؤملــة رأيــت خالهلــا كل مــا عانيـ ُ‬ ‫لكنهــا مــرت عـ َّ‬
‫هــذا املســخ الــذي جعــل منــي الرجــل الــذي رصت عليــه اآلن‪.‬‬

‫‪213‬‬
‫اســتنكر آدم حــن رآين حامـ ًـا جثــان الطائــي‪ ..‬ســألني َّ‬
‫عمــن يكــون‪،‬‬
‫فأجبتــه أنــه ضحيــة قديمــة عاشــت أكثــر ممــا تســتحق‪ ..‬تغــرت نظرتــه يل‬
‫للحظــات‪ ،‬قبــل أن يبــدأ آدم يف مالمتــي أمرتــه أن يدفــن اجلثــة يف موقــع‬
‫ـت أعلــم أنــه ســيجد تربيـ ًـرا لفعلتــي مــن‬
‫مســترت مــن حديقــة الفيــا؛ كنـ ُ‬
‫ـال مــن «املجهــول» حتــى خيــرين بــا يريــد أن يعرفــه‬‫نفســه‪ ،‬انتظــرت اتصـ ً‬
‫مــن «الدرنــديل»‪ ،‬أعلــم أن االنتظــار أبشــع عــذاب لضحيتــي؛ لكــن هــذه‬
‫املــرة كان االنتظــار يعذبنــي معــه!‬

‫ﻋﺼ‬
‫وصلتنــي رســالة مــن «املجهــول» بعــد ســاعة مــن االنتظــار‪ ..‬دخلــت‬
‫عــى الدرنــديل‪ ،‬كان لديــه الكثــر مــن األســئلة‪ ،‬مل أبادلــه احلديــث‪،‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫نصبــت املعــدات التــي أحرضهــا آدم كيفــا ختيلــت متا ًمــا‪ ،‬قيــدت‬
‫ﻜﺘ‬
‫الدرنــديل بإحــكام فــوق املقعــد اجلالــس عليــه‪ ،‬وأكملــت عمــي الــذي‬
‫مل يفهــم الدرنــديل شــي ًئا منــه‪ ،‬قلــت لــه هبــدوء‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬يف العــادي بقــول ألي حــد مكانــك ميخافــش‪ ..‬ألين يف األول ويف‬
‫اآلخــر املتحكــم يف املوضــوع‪ ،‬وغال ًبــا بســيبه يطلــع حــي‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫أكملــت حديثــي وأنــا أتأكــد مــن عمــل الكامــرات املثبتــة يف جوانــب‬


‫احلجــرة حتــى أراقبــه مــن أعــى‪:‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬بــس املــرة دي أنــا مــش أعــى إيــد يف اللعبــة‪ ،‬وفيــه إيــد أعــى‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫بتحركنــي‪ ..‬فنصيحــة مــن أخــوك‪ :‬خــاف‪.‬‬


‫قال بلهجة متوسلة‪:‬‬
‫‪ -‬خــد كل الــي معايــا‪ ،‬بــس ســيبني آخــد عيلتــي ونســافر‪ ،‬وأقســم‬
‫لــك بــاهلل مــش هنرجــع تــاين!‬
‫ضحكت ً‬
‫قائل هبدوء‪:‬‬

‫‪214‬‬
‫‪ -‬مشــكلة اإلنســان إنــه دايـ ًـا بريبــط اخلطــر باملــكان‪ ،‬مايعرفــش إن‬
‫اخلطــر زي املــوت‪..‬‬
‫أكملت حديثي متك ًئا عىل حرويف‪:‬‬
‫‪ -‬موجود يف كل مكان‪.‬‬
‫‪ -‬طــب شــوف الــي بيهــددين ده عايــز يعــرف إيــه وأنــا هقــول لــك‬
‫مــن غــر تعذيــب!‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬هو مش عايزك تقول دلوقتي‪ ..‬هو عايزك تتعذب!‬
‫مل أشــعر بتأثــر كلــايت عليــه؛ كأننــي فقــدت الكثــر مــن ســحري‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫الــذي حــل الفتــور حملــه‪ ،‬قلــت لــه مزي ًفــا اســتمتاعي التــام بــا حيــدث‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫الوجهة إطال ًقا‪.‬‬‫‪ -‬الكنز يف الرحلة يا سيادة السفري‪ ،‬مش يف ِ‬
‫تركتــه يســتنجد بمــن ينقــذه؛ كان يعلــم أن موقــع الفيــا منعــزل متا ًمــا‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫لكنــه كان غري ًقــا يتعلــق بقشــة غــر موجــودة‪ ..‬صعــدت إىل غرفــة نومــي‬
‫حيــث طلبــت مــن آدم أن ينتظــرين‪ ،‬كان يتأمــل كل مــا يف الفيــا بدهشــة‬
‫ﺸﺮ‬

‫طفــل يــرى العــامل‪ ..‬فتحــت حاســبي ألشــغل إحــدى مقطوعــات العــود‪،‬‬


‫ﻭ‬

‫وبــدأت أطالــع أمحــد الدرنــديل مــن خــال كامــرات املراقبة‪ ،‬شــعرت أن‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫آدم حيمــل بداخلــه الكثــر مــن األســئلة‪ ،‬فــأرشت نحــو شاشــة احلاســب‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫وقلــت لــه شـ ً‬
‫ـارحا‪:‬‬
‫بعــرض‬
‫«تزاحــم احلــواس»؛ يعنــي أنــا َّ‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬الطريقــة دي اســمها‬
‫«الدرنــديل» ألقســى املؤثــرات الــي ممكــن تتعــرض هلــا حواســه‪..‬‬
‫أرشت بمــؤرش احلاســب عــى جــدران احلجــرة‪ ،‬وقــد تــم تثبيــت أربع‬
‫شاشــات تلفزيونيــة عمالقــة عــى كل حائــط‪ ..‬أكملــت حديثي شـ ً‬
‫ـارحا‪:‬‬

‫‪215‬‬
‫‪ -‬نبــدأ بــاإلدراك‪ ..‬األربــع شاشــات دول زي مــا أنــت شــايف‬
‫بيعرضــوا نفــس الفيلــم‪ ،‬بــس كل فيلــم متأخــر عــن التــاين بـــ‪ 3‬ثــواين‬
‫بالظبــط‪ ..‬حاجــة متعبــة جــدً ا لــإدراك‪.‬‬
‫حركــت املــؤرش ليشــر أســفل املقعــد الــذي مل يتوقــف عــن الــدوران‬
‫بأمحــد الدرنــديل‪ ،‬قلــت‪:‬‬
‫‪ -‬وربطنــا الدرنــديل يف كــريس متثبــت بقاعــدة دوارة؛ عبــارة عــن‬
‫قــرص متوصــل بالكهربــا عشــان يلــف حوالــن حمــوره‪ ..‬كنــت شــارهيا‬

‫ﻋﺼ‬
‫زمــان عشــان ضحيــة قديمــة‪ ..‬القاعــدة دي بتخــي الكــريس يتحــرك‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ـدوخ الضحيــة‪ ،‬ومنهــا بتجــره يتفــرج عــى األربــع‬
‫ﻜﺘ‬ ‫يف دوايــر؛ فمنهــا بتـ َّ‬
‫شاشــات يف نفــس الوقــت تقري ًبــا‪.‬‬
‫اســتنتج أن الســاعات املدويــة التــي اشــراها ليتــم توصيل الشاشــات‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫هبــا كانــت للتأثــر عــى حاســة الســمع لــدى الضحيــة‪ ..‬أخربتــه أن‬
‫قائــا أننــي وضعــت بعــض املســامري‬ ‫ً‬ ‫اســتنتاجه صحيــح‪ ،‬وأضفــت‬
‫ﺸﺮ‬

‫واألجســام املعدنيــة صغــرة احلجــم فــوق الكــريس ليكــون غــر مريــح‪،‬‬


‫قديــا عــى اللحــم‪ ..‬وبذلــك‬
‫ً‬ ‫وأننــي ألبســت «الدرنــديل» ردا ًء صوف ًيــا‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫نكــون قــد آذينــا حاســة اللمــس لديــه‪ .‬قــال آدم كتلميــذ نجيــب‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬وجثــث كالب احلراســة الــي خليتنــي أنزهلــم لــه بــدل مــا ندفنهــم‬
‫عشــان تأثــر عــى حاســة الشــم‪ ،‬والكشــافات العاليــة الــي فــوق كل‬
‫شاشــة عشــان ميعرفــش يغمــض عينــه وينــام‪.‬‬
‫‪ -‬ضيــف عــى كل ده إين عامــل نظــام إطفــاء للحرائــق يف الغرفــة دي‪،‬‬
‫كل مــا أحــس إنــه هيفقــد الوعــي هفعــل النظــام‪ ،‬والســقف هينــزل ميــة‬

‫‪216‬‬
‫عليــه‪ ..‬ده طب ًعــا غــر التكييفــات الــي أنــا بتحكــم فيهــا مــن هنــا؛ يعنــي‬
‫ممكــن نخــي اجلــو عنــده قطــب جنــويب وبعــد ثــواين نخليــه خــط اســتواء!‬
‫صفــق آدم بإعجــاب شــديد‪ ،‬وصــف تفكــري بالشــيطاين‪ ،‬ســألني‬
‫عــن املعلومــات املطلــوب معرفتهــا مــن الدرنــديل‪ ،‬فأجبــت لــه مســتعيدً ا‬
‫مــا أمــرين بــه «املجهــول»‪:‬‬
‫‪ -‬مطلوب مني أخليه حيكي كل حاجة عن أرملته!‬
‫أطلــق آدم ســبة بذيئــة‪ ،‬أبــدى اندهاشــه مــن هــذا الطلــب الغريــب‪..‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫مازحــا أننــا إن عزمنــاه عــى فنجــان مــن القهــوة واســتدرجناه‬
‫ً‬ ‫ع َّلــق‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫فســيقول نفــس املعلومــات‪ ،‬اســتأذن منــي آدم أن أوقــف التعذيــب‬
‫لدقائــق‪ ،‬نــزل إىل أســفل وثبــت كامــرا تصويــر أمــام وجــه الدرنــديل‪،‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫وأمــره باحلديــث عــن أرملتــه‪ ..‬مل يكــن لــدى الدرنــديل املقــدرة عــى‬
‫الرفــض أو إبــداء التعجــب مــن األســاس‪ ،‬أخــذين آدم مــن يــدي إىل‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫غرفــة نومــي ثاني ـ ًة‪ ،‬صمــم عــى تشــغيل موســيقى العــود التــي اكتشــف‬
‫حبــه هلــا‪ ..‬تعجبــت مــن اندماجــه الرسيــع يف عمــل «الكونــت» وحرصــه‬
‫ﺸﺮ‬

‫عليــه‪ ..‬ســألني آدم‪:‬‬


‫‪ -‬تفتكر «املجهول» ده عايز منك إيه؟‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أجبته بعد تفكري‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬أظــن كــده هــو عايــزين أجــرب حاجــة جديــدة؛ عايــزين أعــذب‬


‫حــد ماعرفــوش‪ ،‬وأجــرب إحســاس إين أكــون حتــت إيــده هــو‪ ..‬مــش‬
‫بتــرف مــن دماغــي زي مــا كنــت بعمــل طــول حيــايت!‬
‫‪ -‬وهو هيستفيد إيه من ده؟‬
‫‪ -‬مش عارف‪.‬‬

‫‪217‬‬
‫‪ -‬طب أنت حاسس بفرق؟‬
‫قلت بصدق‪:‬‬
‫‪ -‬فــرق كبــر‪ ..‬أنــا مــش حاســس بــأي متعــة دلوقتــي‪ ،‬برغــم إن‬
‫الطريقــة دي قاســية جــدً ا بالنســبة لبعــض الطــرق الــي اشــتغلت بيهــا‬
‫زمــان‪ ..‬عايــز الكابــوس ده ينتهــي‪.‬‬
‫أوقفت مقطوعة العود‪ ،‬وأكملت حديثي هبدوء‪:‬‬
‫‪ -‬أنــا متعتــي مــش يف الوجــع‪ ..‬لكــن لــذيت احلقيقيــة مصدرهــا إين‬

‫ﻋﺼ‬
‫متحكــم متا ًمــا يف مصــر الــي قدامــي‪ ،‬وإن ترصفــايت مفيــش عليهــا أي‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫لســلطتي‪ ،‬لكــن‬
‫رقيــب مــن أي نــوع‪ ..‬أمل ضحيتــي مفتــاح خضوعهــا ُ‬
‫مســتحيل يكــون هــو الشــهوة الــي ترضينــي‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫صمت ً‬
‫قليل‪ ،‬ثم سألني‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬أنــت متأكــد إن كل املعلومــات الــي اخلاطــف يعرفهــا كانــت‬


‫مكتوبــة يف مذكراتــك؟‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬تقصد إيه؟‬
‫‪ -‬فيــه حاجــات كتــر أنــت حكيتهــا يل مايعرفهــاش أقــرب النــاس‬
‫ﻭ‬

‫ليــك‪ ..‬بــس اخلاطــف ده يعرفهــا؛ أمههــم مقــر الكونــت مثـ ًـا‪ ،‬الــي أكيــد‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ماتكلمتــش عنــه يف مذكراتــك وال حتــى اتكشــف مــن حســاب الــدارك‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ويــب‪.‬‬
‫أكمل برسعة قبل أن ينسى استنتاجه‪:‬‬
‫‪ -‬ده غــر إنــه بيعــرف كل حتركاتنــا‪ ،‬مــع إين متأكــد بنفــي مــن إن‬
‫تليفوناتنــا حمميــة ضــد التتبــع‪.‬‬

‫‪218‬‬
‫شــعرت باحلــرة مــن كالمــه‪ ..‬كان «آدم اخلواجــة» مــرد ًدا يف إخباري‬
‫بــا توصــل إليــه‪ ..‬طلبــت منــه بنفــاد صــر أن خيــرين بتخمينــه‪ ،‬فقــال بعــد‬
‫أن اكتملــت الصــورة يف ذهنه‪:‬‬
‫دايــا ســابقنا بخطــوات‪ ،‬كل مــكان بنروحــه بيكــون‬ ‫‪ -‬اخلاطــف ً‬
‫هــو ســابقنا هنــاك‪ ،‬عــارف حاجــات مــش ســهل أي حــد يعرفهــا‪ ،‬فاكــر‬
‫ملــا طلبــت منــي أدور عــى «كريــس بــراديل»؟ بعدهــا عــى طــول لقينــا‬
‫«اخلاطــف» ده بيتصــل وعــارف احنــا بنعمــل إيــه!‪ ..‬ده الزم يكــون حــد‬

‫ﻋﺼ‬
‫قريــب منــك زي الظــل بالظبــط‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫آمرا‪:‬‬
‫رصخت فيه ً‬
‫‪ -‬إنجز يا آدم وقول قصدك إيه؟!‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬أنا عرفت مني اليل خطف غرام ومليكة يا أستاذ يارس‪.‬‬
‫‪ -‬مني؟‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫أجاب بعد تردد‪:‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬الكونت‪.‬‬
‫***‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪219‬‬
‫‪ -15‬نريان صديقة‬

‫ﻋﺼ‬
‫شــعرت بكلــات آدم تعتــر قلبــي ملجــرد التفكــر يف احتامليــة كــوين‬
‫املســئول الوحيــد عــن كل هــذا‪..‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫جلســت فــوق أقــرب املقاعــد يل‪ ،‬شــعرت أن الــدم ســينفجر يف أي‬
‫ﻜﺘ‬
‫حلظــة مــن رشايــن خمــي الــذي توقــف متا ًمــا عــن العمــل‪ ..‬مل أحتــج‬
‫للكثــر مــن الدالئــل حتــى أدرك أن كالم آدم صحيــح‪ ،‬فمــن ســواي‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يعلــم حتــركايت هبــذه الرسعــة‪ ،‬وينفــذ األمــور هبــذه احلرفيــة‪ ..‬مل جيــد‬
‫آدم مــا يقولــه ســوى بعــض اهلمهــات‪ ،‬ربــت عــى كتفــي وطلــب منــي‬
‫ﺸﺮ‬

‫بحــرج شــديد أن أحــاول تذكــر مــكان غــرام ومليكــة‪ ،‬توســلت إليــه أال‬
‫يرتكنــي مهــا حــدث‪ ،‬وأن يعرضنــي عــى طبيــب نفــي إن لــزم األمــر‪..‬‬
‫ﻭ‬

‫ال هيمنــي اآلن انكشــاف أمــري أو أي يشء آخــر‪ ،‬ال هيمنــي إال عــودة‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫غــرام ومليكــة اللتــن آذيتهــا بنفــي‪ ..‬جيــب أن أتذكــر!‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫لعنــت يــوم ميــاد «الكونــت» الــذي كــر بداخــي حتــى اســتعر‬


‫وأكلــت نــاري بعضهــا‪ ،‬أدركــت أن كل مــا حــدث كان حماولــ ًة مــن‬
‫«الكونــت» للتمــرد عــى يــارس وفــرض وجــوده عليــه‪ ..‬ولكــن كيــف‬
‫وكالمهــا واحــد؟!‬
‫‪ -‬بس ازاي كنت بتصل بنفيس وبرد عليها؟‬

‫‪220‬‬
‫ر َّد آدم كأنه وجد طوق نجاة يفسد صحة استنتاجه‪:‬‬
‫‪ -‬صــح‪ ..‬وأنــا كنــت بســمع صــوت اخلاطــف عــى التليفــون‪..‬‬
‫واملكاملــات كلهــا مســجلة‪ ،‬وكــان مــن الــي صــورك وأنــت خــارج مــن‬
‫عنــد «متَّــام»؟‬
‫قاطعته بخيبة أمل‪:‬‬
‫‪ -‬أكيد «الكونت» أجر حد من «الدارك ويب» يعمل كل ده فيا‪.‬‬
‫بــدأت أتعامــل مــع الكونــت كشــخص آخــر؛ لــه إرادة منفصلــة متا ًمــا‬

‫ﻋﺼ‬
‫عنــي‪ ،‬ليــس جمــرد هويــة صنعتهــا بنفــي‪ ..‬ســألني آدم‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬يعني حرضتك مش فاكر أي حاجة من دي؟‬
‫ﻜﺘ‬
‫ـدي وهززهتــا ناف ًيــا‪ ،‬مل أجــد مــا يقــال‪ ..‬هــززت‬
‫دفنــت رأيس بــن يـ َّ‬
‫مســتنكرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫رأيس ناف ًيــا‪ ،‬صحــت فيــه‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬أكيــد مــش أنــا الــي عملــت كل ده‪ ..‬أنــت شــارب حاجــة يــا آدم‬
‫صــح؟‪ ..‬رحينــي وقــول يل إنــك مــش يف وعيــك‪ ..‬مــش هتضايــق منــك‬
‫ﺸﺮ‬

‫بجــد!‬
‫ضحك ضحكة قصرية ورد بصدق‪:‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬تصدق دي أول مرة من سنني أكون فايق‪ ..‬بحاول أب َّطل‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫اســتغرقت يف أســئلتي‪ ،‬بحثــت عــن الــر يف كل مــن حــويل؛ لكننــي‬


‫خلقــت كل هــذا دون أن أعــي‬
‫ُ‬ ‫نســيت منبعــه بداخــي‪ ..‬ولكــن كيــف‬
‫بتنفيــذه؟! جاءتنــي اإلجابــة حــن ســمعت صــوت حركــة قادمــة مــن‬
‫هامســا إن كان قــد أحكــم إغــاق زنزانــة‬
‫ً‬ ‫هبــو الفيــا‪ ..‬ســألت آدم‬
‫«الدرنــديل» فأكــد أنــه فعــل ذلــك‪ ،‬طلبــت منــه أن يأخــذ ســاحي‬
‫املوضــوع جــوار الفــراش ويتبعنــي‪ ..‬تســحبنا بخفــة وبخطــوات حثيثــة‬

‫‪221‬‬
‫نحــو البهــو ألجــد أمامــي رجلــن ضخمــي اجلثــة‪ ،‬أشــهر آدم الســاح‬
‫يف وجهيهــا وســأهلام عمــن يكونــان‪ ..‬مل أتوقــع ردة فعلهــا؛ فحــن رآين‬
‫أحدمهــا أشــار يل حمي ًيــا واقــرب دون خــوف ً‬
‫قائــا‪:‬‬
‫‪ -‬احنا جينا حسب امليعاد يا كونت‪.‬‬
‫نزلــت الســلم بحركــة رسيعــة وخلفــي آدم‪ ،‬ســحب آدم مفتــاح‬
‫األمــان الــذي دوى صوتــه يف هبــو الفيــا‪ ..‬قلــت هلــا‪:‬‬
‫أصل؟!‬‫‪ -‬ميعاد إيه‪ ..‬أنتم مني ً‬

‫ﻋﺼ‬
‫رد الرجــل اآلخــر‪ ،‬بــدا يل كأنــه التابــع‪ ،‬كان ضخـ ًـا عــى قــدر مــن‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫قبحــا‪:‬‬
‫البدانــة‪ ،‬وتغطــي وجهــه ندبــة كبــرة زادتــه ً‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬أنت بتستهبل عشان ماتديناش باقي حسابنا؟!‬
‫أطلق آدم رصاصة يف اهلواء مهد ًدا‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬أنتم عايزين إيه؟‬


‫أخرسه الرجل اآلخر الذي مخنت أنه القائد‪ ،‬وقال هبدوء‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬ساحمه يا كونت مايقصدش‪..‬‬


‫معرتضــا‪ ،‬وهددمهــا إن مل يرحــا فســيقتلهام‪،‬‬
‫ً‬ ‫أصــدر آدم صوتًــا‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أرشت لــه حتــى يصمــت وطلبــت مــن هــذا القائــد أن يــرح بشــكل‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫تفصيــي‪ ،‬فأشــار نحــو آدم وســألني بــردد‪:‬‬


‫‪ -‬أتكلم قدامه عادي؟‬
‫صحت فيه أن يتحدث‪ ..‬قال بتململ‪:‬‬
‫‪ -‬مــش حرضتــك كنــت اتفقــت معانــا مــن «الــدارك ويــب» ودفعــت‬
‫لنــا مقــدم حســاب؟‪ ..‬احنــا جايــن ناخــد باقيتــه‪.‬‬

‫‪222‬‬
‫سأله آدم عن طبيعة االتفاق‪ ،‬فر َّد الرجل بنفاد صرب‪:‬‬
‫‪ -‬اتفــق معانــا نبعــت لــه رســايل هتديــد ونخطــف مراتــه وبنتــه مــن‬
‫اإلســكندرية‪ ،‬ونكلمــه يف التليفــون هنــدده بــكالم هــو الــي كتبــه لينــا‪،‬‬
‫ونخليــه ينفــذ تعليــات هــو بنفســه الــي مالهــا لنــا‪.‬‬
‫زاغ بــري‪ ،‬بــدأت املوجــودات ختتفــي مــن أمــام عينــي‪ ،‬شــعرت أن‬
‫وعيــي ينســحب منــي‪ ،‬اســتندت عــى آدم الــذي ســأل الرجــل املأجــور‬
‫بتعجــب‪:‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬يعنــي أنتــم الــي صورتــوه يف إمبابــة وبعتتــوا الصــور لدكتــورة‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫أســاء؟‬
‫‪ -‬آه وإحنــا الــي قتلنــا الظابــط محــزة‪ ..‬وبعتنــا لــه الســفري الدرنــديل‬
‫ﻜﺘ‬
‫عشــان يشــهد معــاه‪.‬‬
‫مشريا نحوي‪:‬‬ ‫وختم حديثه‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ً‬
‫‪ -‬وكله كان بتعليامت الكونت‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫قلت هلام بلهجة متوسلة‪:‬‬


‫‪ -‬هديكــم باقــي حســابكم‪ ..‬بــس تقولــوا يل فــن مــرايت وبنتــي‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫دلوقتــي؟‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫رد املساعد الضخم بلهجة متهكمة‪:‬‬


‫‪ -‬أمال احنا جايني ناخد باقي حساب إيه؟‬
‫عيل عدم الفهم‪ ،‬فأكمل بنفس االستنكار‪:‬‬
‫بدا َّ‬
‫‪ -‬مش أنت اتصلت بينا إمبارح وأمرتنا نقتلهم؟!‬
‫***‬

‫‪223‬‬
‫ظلــت «مايســة» واقفــة مكاهنــا ال تــدري مــاذا تفعــل‪ ..‬تنتظــر أن‬
‫يقــوم «عــم وهــدان املراكبــي» بعمــل معجـ ٍ‬
‫ـزة تعيــد احليــاة لــرايف الــذي‬
‫فقــد الوعــي‪ ..‬مل تعلــم إن كانــت أحبتــه أم أحبــت مالــه أم أحبــت نظرتــه‬
‫إليهــا كأنثــى حقيقيــة‪ ،‬مل تلفظــه مــن أحضاهنــا كــا لفظتــه احليــاة التــي‬
‫اعتزهلــا لريمــي بــكل مــا يملكــه فيهــا أســفل قدمــي «مايســة»؛ فابتــاع‬
‫عوامــة « وهــدان املراكبــي» واصطفاهــا لتكــون عشــيقته‪ ،‬ولتحــر لــه‬
‫مــا يريــد مــن املخــدرات مســتغل ًة عالقاهتــا‪ ..‬مل يشــرط عليهــا أن تكــون‬

‫ﻋﺼ‬
‫لــه وحــده لكنهــا ألزمــت نفســها بذلــك؛ مــا دام «رايف» هــو مــن ينفــق‬
‫عليهــا فســتكون ملكــه‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫مل يتوقــف ســوقها كعاهــرة حتــى بعــد أن جــار الزمــن عليهــا وأخــذ‬
‫ﻜﺘ‬
‫مــن مفاتنهــا مــا أخــذ‪ ..‬اســتهدفت صغــار الســن‪ ،‬كانــت تــرى املراهــق‬
‫زبو ًنــا يسء الــذوق ســهل اإلرضــاء؛ يمكــن إشــباع شــهوته بأقــل القليل‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بــدأ عــم وهــدان يفقــد صــره؛ رفــع قدمــي رايف إىل أعــى‪ ،‬رصخ يف‬
‫أذنيــه‪ ،‬خبــط عــى صــدره بقــوة‪ ،‬رضب قلبــه أكثــر مــن مــرة بيــأس كأنــه‬
‫ﺸﺮ‬

‫يعاقبــه‪ ..‬لكــن دون جــدوى‪.‬‬


‫أشــار نحــو عــدة أكيــاس بالســتيكية فارغــة ملقــاة عــى األرض‪ ،‬وإىل‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أنــف رايف الغــارق يف املســحوق األبيــض قائـ ًـا‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬ماكانش الزم يشد كل الكمية دي!‬


‫قالت مايسة بحزن‪:‬‬
‫‪ -‬هو ده حد بيعرف يوقفه‪ ..‬بعدين ما هو بيرشب كده كل يوم!‬
‫مل يعلــق وهــدان ‪ ،‬دفــن وجهــه بــن يديــه مفكـ ًـرا فيــا يفعــل‪ ..‬فســألته‬
‫مايســة‪:‬‬

‫‪224‬‬
‫‪ -‬لو خدناه مستشفى هيبقى كويس؟‬
‫عال‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫بصوت ٍ‬ ‫رد وهدان‬
‫‪ -‬مستشفى إيه يا هبيمة أنتي كامن؟ ده ميت بقاله ياما!‬
‫أطلقــت مايســة رصخــة قصــرة‪ ،‬صكــت صدرهــا ووجههــا بحــزن‬
‫حقيقــي‪ ،‬وانحنــت إىل جــوار رايف مناديــ ًة عليــه‪ ،‬ظلــت تــردد بحنــان‬
‫«قــوم يــا يس رايف‪ ..‬أبــوس إيــدك قــوم»‪َّ ..‬‬
‫هــز وهــدان رأســه بيــأس‪،‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫وســأهلا باهتــام حقيقــي‪:‬‬
‫‪ -‬شنطة الفلوس اليل جاهبا معاه أول يوم فاضل منها كتري؟‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ردت مايســة بلهجــة الئمــة أهنــا جيــب أن تبلــغ أحــدً ا مــن أهلــه‪ ،‬وال‬
‫ﻜﺘ‬
‫وقــت للحديــث عــن املــال‪ ..‬فنهرهــا وهــدان وجذهبــا مــن جــوار رايف‪،‬‬
‫ـررا ســؤاله بعصبيــة وبصــوت حــاول‬ ‫أمســكها مــن ســاعدهيا بعنــف مكـ ً‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫أن خيفضــه‪:‬‬
‫‪ -‬إفهمــي يــا بقــرة‪ ..‬رايف مــات خــاص‪ ..‬ولــو بلغنــا هنــروح يف‬
‫ﺸﺮ‬

‫ســتني داهيــة‪.‬‬
‫ﻭ‬

‫كانــت مايســة قــد رأت يف حياهتــا مــا جيعلهــا تتغلــب عــى حزهنــا‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫رسي ًعــا‪ ،‬وتســأل وهــدان عــن اخلطــوة القادمــة‪ ..‬فقــال هلــا بلهجــة عملية‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬الفلوس هتتقسم بيننا‪..‬‬


‫ســألته عــن رايف‪ ،‬فــدارى دمعــة انحــدرت مــن عينــه‪ ،‬وأجــاب دون‬
‫أن ينظــر مبــارش ًة يف عينيهــا بلهجــة مل ختـ ُـل مــن قســوة‪.‬‬
‫‪ -‬اهلل يرمحه كان بيحب البحر‪ ..‬خالص بقى هو أوىل بيه‪.‬‬

‫‪225‬‬
‫مل يلحــظ وهــدان صــوت هاتــف رايف الــذي صــدر عنــه آخــر مــا كان‬
‫يســمعه قبــل وفاتــه؛ كان «الشــيخ أمحــد التــوين» خيتتــم إنشــاده‪:‬‬
‫ُ‬
‫«خــر العاميــم وأنــا نايــم ندهــوين‪ ..‬أهــل الكـ َـرم يف احلــرم ناديتهــم‬
‫جــوين‪».‬‬
‫***‬
‫زاغ بــري متا ًمــا‪ ،‬شــعرت بــاألمل يعتــرين مــن الداخــل‪ ،‬بــدأت‬

‫ﻋﺼ‬
‫أهــذي بكلــات مل يفهمهــا أحــد الواقفــن‪ ،‬ســقطت عــى األرض‬
‫ـارحا يف ذكريــايت مــع غــرام ومليكــة‪:‬‬
‫ـارا‪ ،‬انفصلــت عــن املوقــف سـ ً‬ ‫منهـ ً‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫احلســنة الوحيــدة التــي ظفــرت هبــا مــن احليــاة‪ .‬اآلن فقــط أدرك قيمــة‬
‫ﻜﺘ‬
‫وجودمهــا بعــد أن حرمــت نفــي منهــا‪ ،‬شــعرت بحضــن غــرام الــذي‬
‫مل يغمــرين إال حنانًــا‪ ،‬وبأصابعــي الطويلــة وهــي تداعــب وجنتيهــا‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫أفتقــد ابتســامتها الراضيــة وتشــجيعها املســتمر لشــخص مل يكــن هلــا‬


‫ـخا‪ ..‬أشــتاق إىل مليكــة وضحكتهــا التــي مل تنقطــع قبــل يــوم أن‬ ‫إال مسـ ً‬
‫ﺸﺮ‬

‫أمــرت الرجلــن بخطفهــا!‪ ..‬أشــتاق إىل ملســة أصابعهــا الصغــرة حــول‬


‫عنقــي حــن كنــت أمحلهــا‪ ،‬أشــتاق إىل وجههــا املالئكــي‪ ،‬وملمــس‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫برشهتــا الناعــم حــن أقبلهــا قبــل النــوم‪ ،‬ونظراهتــا اخلائفــة مــن كابــوس‬
‫مــا حــن تأتينــي يف منتصــف الليــل لتلــوذ بحضــن أمهــا وحترمنــي منــه‪..‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫كيــف ســأعيش بعدمهــا؟!‬


‫ال أختيــل أننــي مــن أصــدرت األمــر بقتلهــا حتــى اآلن‪ ..‬أيعقــل أن‬
‫أكــون قــد أصبــت بانفصــام الشــخصية بســبب تكــرار تغيــر اهلويــة؟ هــل‬
‫متــرد الكونــت عــى يــارس هبــذه الثــورة التــي مل تبـ ِـق وال تــذر؟! دعــوت‬

‫‪226‬‬
‫اهلل يف رسي أن يأخــذين‪ ،‬ال أريــد احليــاة بعــد اآلن‪ ..‬وال أســعى للظفــر‬
‫بأنفــاس جديــدة عــى وجههــا‪...‬‬
‫أفقــت عــى صــوت آدم يتشــاحن مــع الرجلــن وحيــاول طردمهــا مــن‬
‫الفيــا‪ ،‬كانــت رؤيتــي مشوشــة متا ًمــا؛ بالــكاد اســتطعت متييــز األجســاد‬
‫عــي‪ ،‬والرجــان‬ ‫مــن حــويل؛ كان آدم منحن ًيــا إىل جــواري لالطمئنــان َّ‬
‫ـي يف إغامئــي؛ أظــن أنــه‬
‫اآلخــران يقفــان مندهشــن‪ ..‬مل أعــرف كــم مــر عـ َّ‬
‫مل يتجــاوز الدقائــق‪ ..‬رصخ آدم فيهــا بغضــب‪ :‬كفايــة كــده!‬

‫ﻋﺼ‬
‫رد أحد الرجلني بعناد واضح‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬مش هنتحرك غري بأمر اليل مشغلنا!‪ ..‬الزم املهمة تتم لآلخر‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ﻜﺘ‬
‫وبصوت متهدج‪:‬‬ ‫سألتهام بنصف وعي‬
‫‪ -‬مهمة إيه هو مش قال لكم كفاية؟‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مشريا برأسه نحو آدم‪:‬‬


‫ً‬ ‫رد الرجل اآلخر‬
‫‪ -‬حرضتك أمرتنا قبل ما نميش من عندك نقتل اخلواجة!‬
‫ﺸﺮ‬

‫هنضت مرس ًعا من مكاين‪ ،‬وقلت هلام عىل الفور‪:‬‬


‫‪ -‬ال ال‪ ..‬اعتربوا األمر ده ملغي‪ ..‬كفاية اليل حصل حلد كده!‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫اعــرض الرجــل وأخــرين أهنــا ملتزمــن متا ًمــا باالتفــاق مــع‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫«الكونــت» حتــى حيصــا عــى حســاهبام كامـ ًـا‪ ،‬وأننــي أمرهتــا ان ينفــذا‬
‫مــا أطلبــه منهــا حتــى لــو قمــت بإلغائــه‪ ..‬توســلت إليهــا كــي يتوقفــا عــا‬
‫يفعــان‪ ..‬لكــن يبــدو أن حديثــي جــاء متأخـ ًـرا‪ ،‬نحــاين أحدمهــا جان ًبــا‬
‫وأطلــق الرجــل الضخــم رصاصــة نحــو آدم الــذي مل يصــدق مــا حيدث‪..‬‬
‫تفاداهــا بأعجوبــة‪ ،‬وأطلــق ســبة مســتنكرة ملــا حيــدث‪ ،‬صــوب ســاحه‬

‫‪227‬‬
‫أرضــا‪..‬‬
‫يف خفــة جتــاه مطلــق النــار لتصيــب الرصاصــة رأســه ويســقط ً‬
‫حــدث كل يشء رسي ًعــا‪ ،‬مل أحتمــل صــوت الرصــاص العــايل وال الــدم‬
‫الــذي تناثــر مــن رأس هــذا املأجــور‪ ..‬أمســكني املأجــور اآلخــر الــذي‬
‫مخنــت ســاب ًقا أنــه القائــد منهــا‪ ،‬أحكــم ســاعده حــول رقبتــي وصــوب‬
‫مسدســا بدائ ًيــا‪ -‬حــول رأيس مهــد ًدا آدم بقتــي‪،‬‬
‫ً‬ ‫ســاحه ‪-‬الــذي كان‬
‫مل أســتطع ومل أقــدر مقاومتــه‪ ،‬نظــر آدم بخــوف نحــو الســاح املصــوب‬
‫جتاهــي‪ ..‬طلــب مــن املأجــور التفــاوض عــى حيــايت‪ ..‬مل أملــك رفاهيــة‬

‫ﻋﺼ‬
‫الصــر وال التفــاوض؛ فانحنيــت بخفــة حتــى أفــر مــن قبضتــه غــر‬
‫املحكمــة‪ ،‬منســح ًبا مــن أمــام آدم ألتــرك لــه حريــة التصويــب‪ ..‬رضب‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫املأجــور أكثــر مــن طلقــة طائشــة جتاهــي‪ ..‬زحفــت عــى األرض حتــى‬
‫ﻜﺘ‬
‫وصلــت إىل جثــة الرجــل اآلخــر الــذي قتلــه آدم‪ ،‬زحفــت فــوق بقايــا خمــه‬
‫املتناثــر عــى األرض‪ ،‬متغاض ًيــا عــن رائحــة دمــه الســاخن التــي مــأت‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫أنفــي‪ ..‬ســحبت الســاح مــن قبضتــه املرختيــة‪ ،‬وصوبتــه برسعــة جتــاه‬


‫ـغل مــع آدم‪ ،‬مل تصبــه أي مــن طلقــايت املرجتفــة‪،‬‬‫زميلــه الــذي كان منشـ ً‬
‫ﺸﺮ‬

‫لكــن آدم قــد أصابــه‪.‬‬


‫نظــرت نحــو آدم حتــى أطلــب منــه أن يســاعدين عــى النهــوض لدفــن‬
‫ﻭ‬

‫هذيــن املأجوريــن‪ ،‬فلــم أجــده واق ًفــا!‪ ..‬كان راقــدً ا عــى ظهــره والــدم‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫يســيل حولــه مــن كل اجتــاه‪ ،‬مل تســعفني قدمــي للنهــوض‪ ،‬فزحفــت نحوه‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫بحركــة رسيعــة‪ ..‬كان جســده قــد تلقــى أكثــر مــن رصاصــة؛ فكــرت أن‬
‫أطلــب اإلســعاف‪ ،‬لكننــي أدركــت هنايتــه حــن رأيــت إحــدى هــذه‬
‫ناثــرا دمائــه يف كل‬
‫الطلقــات وقــد اخرتقــت قلبــه الــذي كان ينتفــض ً‬
‫مــكان‪ ،‬يــارس صحــوة املــوت‪..‬‬
‫حــاول أن يشــر إىل الرجلــن فطلبــت منــه الصمــت‪ ..‬مل أعــرف مــا‬

‫‪228‬‬
‫ـرا؛ فأنــا مــن ســبب لــه كل هــذا‬
‫ُيقــال يف هــذه األوقــات‪ ،‬اعتــذرت لــه كثـ ً‬
‫األمل وأهنيــت حياتــه هبــذه الطريقــة‪ ..‬بكيــت إىل جــواره‪ ،‬نظــر يل كأنــه‬
‫مبحوحــا‪ ،‬وقــال بصعوبــة بالغــة‪:‬‬
‫ً‬ ‫يريــد أن يقــول شــي ًئا مــا‪ ..‬خــرج صوتــه‬
‫‪ -‬اسأل عىل أرشف يا يارس‪ ..‬أرجوك‪.‬‬
‫مل يســعفني الوقــت ألودع آدم الــوداع الالئق‪ ،‬فقد خرج َن َفســه األخري‬
‫مصحو ًبــا بالكثــر مــن الدمــاء التــي تناثــرت رسي ًعــا مــن فمــه ليغــرق‬
‫وجهــي باللــون األمحــر‪ ،‬أغلقــت عينيــه بيمنــاي‪ ،‬نطقــت الشــهادتني ال‬

‫ﻋﺼ‬
‫إراد ًيــا‪ ..‬مل أمتالــك نفــي مــن احلــزن والســخط عــى ذايت؛ مل ِ‬
‫أدر أأحــزن‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫عليــه أم عــى رحيــل زوجتــي وابنتــي‪ ،‬أم ألننــي كنــت الســبب يف كل‬
‫هــذا‪ ،‬فكــرت يف االنتحــار وإهنــاء كل هــذه املهــازل‪ ..‬لكــن جســدي مل‬
‫ﻜﺘ‬
‫يســعفني‪ ،‬رفــض أن يمــدين بالطاقــة ألكثــر مــن هــذا‪ ،‬شــعرت بــأمل عظيــم‬
‫يف رأيس وبانقبــاض قلبــي‪ ..‬حتــى هويــت إىل جــوار آدم فاقــدً ا وعيــي‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫دافنًــا وجهــي يف قلبــه‪.‬‬


‫***‬
‫ﺸﺮ‬

‫ظللــت مســتلق ًيا عــى األرض ملــدة تقــارب اليومــن‪ ،‬كلــا اســتيقظت‬
‫رأيــت جســد آدم املســجي إىل جــواري‪ ،‬والــذي انقطــع عنــه الــدفء‪،‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫وتذكــرت مــا فعلــه هــذان املأجــوران بغــرام ومليكــة بأمــر مبــارش منــي‪..‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫فأســقط مــرة أخــرى يف إغامئــي الــذي اختذتــه وســيلة إلنــكار مــا حــدث‪،‬‬
‫دعــوت اهلل أن أمــوت خاللــه‪ ..‬رأيــت الكثــر مــن الكوابيــس واخلواطــر؛‬
‫ـرا يف حقبــة مل أولــد فيهــا بعــد‪..‬‬
‫جتــى أمامــي «عبــد احلــي الطائــي» صغـ ً‬
‫رأيتــه شــا ًبا يتحمــل ســخرية اآلخريــن مــن شــكله وملبســه‪ ،‬ويتحمــل‬
‫مقالــب زمالئــه يف العمــل‪ ،‬رأيــت مشــهدً ا يضعــون لــه امليــاه فــوق أحــد‬

‫‪229‬‬
‫املقاعــد ويضحكــون ســاخرين مــن شــكله حــن يشــعر بامليــاه وينتفــض‬
‫بعــد أن بلــل بنطالــه‪ ..‬مل أعلــم إن كان مــا أراه رؤى أم جمــرد ضــاالت‬
‫وأوهــام أتتنــي مــن وحــي التفكــر فيــه‪ ..‬حــرت يف أنفــي رائحــة غــرام‬
‫ـدل عــن رائحــة الــدم واجلثــث املتعفنــة إىل جــواري‪ ،‬تذكــرت آخــر لقــاء‬ ‫بـ ً‬
‫محيمــي مجعنــي هبــا؛ كان بعــد حادثــة شــجاري مــع «بائعــة الفــل»‪ ..‬مل‬
‫ـس نظــرة غــرام ليلــة الشــجار حــن طلبــت منــي أن أتــرف معهــا يف‬ ‫أنـ َ‬
‫الفــراش كرجــل رشقــي حقيقــي‪ ،‬وليــس كــزوج حمــب‪ ..‬كاد «الكونــت»‬

‫ﻋﺼ‬
‫أن خيــرج رغـ ًـا عنــي ليتــوىل األمــر كــا أفعــل مــع عاهــرة مــكاوي‪ ،‬لكننــي‬
‫حتكمــت فيــه بالــكاد ألتــرف كـ»يــارس»؛ صحيــح أن ترصفــايت خالفت‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫رغباهتــا‪ ،‬لكنهــا مل تكشــف عنــي غطائــي‪ ..‬مل أعــرف ملــاذا أتتنــي هــذه‬
‫ﻜﺘ‬
‫الذكــرى دو ًنــا عــن باقــي الذكريــات التــي جتمعنــي بالراحلــن‪.‬‬
‫مل تســعفني طاقتــي أو رغبتــي يف تنظيــف آثــار املعركــة‪ ،‬تركــت الفيــا‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مزيــا دمــاء آدم عنــي‪ ،‬غــرت بدلتــي امللطخــة‬ ‫ً‬ ‫بعــد أن اســتحممت‬
‫بالدمــاء بــرداء ريــايض آخــر‪ ،‬أحرقــت كل األوراق التــي تــدل عــى‬
‫ﺸﺮ‬

‫ـورا شــخصية ختصنــي‪ ،‬بحثــت عــن الكامــرا التــي‬ ‫هويتــي أو حتتــوي صـ ً‬


‫ســجلت اعــراف الدرنــديل حتــى وجدهتــا ووضعتهــا يف جيــب ســريت‪،‬‬
‫ﻭ‬

‫مل أشــغل بــايل بالبحــث عــن املزيــد مــن األوراق‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أجــرت حمرت ًفــا مــن اإلنرتنــت املظلــم للمــرة األخــرة‪ ،‬كانــت مهمتــه‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫َّ‬
‫ســهلة هــذه املــرة‪ :‬توصيــل جثــان آدم إىل عمــه الــذي احتفظــت بعنوانه‪..‬‬
‫كان يســتحق ودا ًعــا الئ ًقــا ودفنًــا يليــق باإلنســان الــذي كان عليــه‪..‬‬
‫فعلــت مــع جثامنــه مــا متنيــت أن ُيف َعــل مــع مــا تبقــى مــن غــرام ومليكــة؛‬
‫مــات مجيــع مــن يعرفــون مكاهنــا احلــايل‪ ،‬حتــى أنــا دفنــت احلقيقــة‬
‫بداخــي وال أســتطيع العثــور عليهــا‪.‬‬

‫‪230‬‬
‫مل أعبــأ برؤيــة ذلــك املحــرف لوجهــي‪ ،‬تركتــه ينظــف املــكان ويدفــن‬
‫املأجوريــن يف حديقــة الفيــا‪ ،‬صعــدت إىل أعــى ثاني ـ ًة؛ اســتلقيت عــى‬ ‫َ‬
‫رسيــري‪ ،‬أخرجــت اهلاتــف الــذي كان حيدثنــي مــن خاللــه «املجهــول»‬
‫الــذي اتضــح أنــه كان أداة يف يــد «الكونــت»‪ ،‬بــدأت أســمع مكاملاتــه‬
‫املســجلة بح ًثــا عــا يربئنــي مــن مقتــل غــرام ومليكــة‪ ،‬ويف نفــس الوقــت‬
‫فتحــت هاتفــي األصــي ألشــاهد بعــض الصــور واملقاطــع التــي ســجلتها‬
‫لغــرام ومليكــة‪ ،‬أثنــاء نزهاتنــا القليلــة‪ ،‬ومقطــع آخــر أثنــاء تعليمــي ملليكة‬

‫ﻋﺼ‬
‫املــي ووقوعهــا املتكــرر‪ ،‬وبعــض الصــور يل مــع غــرام التــي احتفظــت‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫هبــا منــذ أيــام اخلطوبــة‪ ..‬لكــن شــعور الذنــب مل يفارقنــي‪.‬‬
‫طلبــت ســيارة أجــرة عــن طريــق تطبيــق ‪ ،Uber‬مل أعبأ بتكلفــة الرحلة‬
‫ﻜﺘ‬
‫التــي قدرهــا الربنامــج حتــى أصــل إىل اإلســكندرية‪ ..‬أخــذت كل املــال‬
‫املوجــود بغرفــة النــوم‪ ،‬ضمــدت القليــل مــن جــراح وخــدوش وجهــي‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫وكتفــي الناجتــن عــن الشــجار مــع ســائق النقــل ومــع املأجوريــن‪ ،‬نزلــت‬
‫ﺸﺮ‬

‫ألطلــق رساح الســفري الدرنــديل‪ ،‬لكننــي مل أجــده‪ ،‬ومل أعبــأ بالبحــث‬


‫عنــه‪ ..‬أغلقــت الفيــا وخرجــت ألجــد الســائق يف انتظــاري‪ ..‬حــاول‬
‫ﻭ‬

‫أن يكــون لطي ًفــا ويســألني عــن ســبب اإلهنــاك البــادي عــى مالحمــي‪،‬‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫وســبب الضــادات امللصقــة فــوق أماكــن كثــرة مــن وجهــي ورقبتــي‪،‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫لكننــي طلبــت منــه أن يكــون أكثــر لط ًفــا ويلتــزم الصمــت‪ ،‬غرقــت‬


‫يف النــوم ثانيــ ًة؛ رأيــت الطائــي يف مواضــع إهانــة كثــرة أثنــاء شــبابه‪،‬‬
‫ورأيــت غــرام عاريــة أمامــي يف ذكــرى ال أظــن أهنــا حدثــت هبــذا‬
‫الشــكل‪ ،‬ورأيــت مليكــة حلظــة والدهتــا‪ ،‬ورأيــت ظــل أمــي‪...‬‬
‫‪ -‬محد هلل عىل سالمتك يا فندم‪.‬‬

‫‪231‬‬
‫قاطــع الســائق خواطــري حــن وصلنــا إىل معــرض ســيارات اململــوك‬
‫مانحــا إيــاه أكثــر ممــا طلــب‬
‫لــرايف بمنطقــة ســموحة‪ ،‬حاســبت الســائق ً‬
‫التطبيــق‪ ،‬شــكرين ورحــل مرس ًعــا‪ ..‬أخــرين أحــد العاملــن يف املعــرض‬
‫أن رايف قــد باعــه ملالــك جديــد‪ ،‬وأن هنــاك شــائعات عــن اعتزالــه الدنيــا‬
‫داخــل عوامــة يف حــي «املكــس»‪ ..‬وحــن ذهبــت إىل هنــاك متب ًعــا‬
‫الوصــف وجــدت العوامــة خاليــة‪ ،‬أخــرين أحــد اجلــران أن رايف كان‬
‫يقيــم مــع عاهــرة تدعــى مايســة‪ ،‬وأهنــا قتلتــه بمعاونــة وهــدان املراكبــي‬

‫ﻋﺼ‬
‫وفـ َّـرا ســو ًيا؛ كان رايف كان آخــر مــن تبقــى يل‪ ،‬حتــى وإن كانــت عالقتنــا‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ســطحية‪ ..‬لكنهــا كانــت حقيقيــة‪.‬‬
‫رن هاتفــي األصــي ألجــد‬ ‫خرجــت إىل كورنيــش البحــر‪َّ ،‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫صاحــب متجــر احليوانــات الــذي أوصيتــه أن حيــر يل ق ًطــا مــن نــوع‬
‫خــاص ألهــادي مليكــة بــه‪ ،‬اعتــر قلبــي حــن طلــب منــي أن أحــر‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫الســتالمه‪ ..‬أهنيــت املكاملــة دون رد‪ ..‬أخرجــت اهلاتــف الــذي كان‬


‫ﺸﺮ‬

‫أيضــا‪ ،‬وألقيــت كليهــا يف ميــاه البحــر‪..‬‬ ‫حيدثنــي «املجهــول» مــن خاللــه ً‬


‫نظــرت نحــو البحــر ورصخــت فيــه؛ كأنــه مــن دمــر حيــايت وســلبني كل‬
‫ﻭ‬

‫يشء‪ ،‬حتــى نالنــي اإلعيــاء وبــح صــويت‪ ،‬ونمــت دون أن يعبــأ يب أحــد‪..‬‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أو يلحــظ وجــودي مــن األســاس!‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ـي‪ ..‬تناســيت فيهــا مــن أنــا وملــاذا‬ ‫ٍ‬


‫ليــال كثــرات متشــاهبات مــرت عـ َّ‬
‫أحيــا‪ ..‬أنــام عــى الرصيــف‪ ،‬وآكل مــن القاممــة أو ممــا جيــود بــه النــاس‪،‬‬
‫شــعرا‬
‫ً‬ ‫طالعــت‬
‫ُ‬ ‫حــن ملحــت انعــكايس يف زجــاج إحــدى الســيارات‪،‬‬
‫طويـ ًـا يعلــو رأيس‪ ،‬وقــد تشــابكت هنايــة خصالتــه وتدلــت يف أكثــر مــن‬
‫اجتــاه‪ ،‬كــا اســود وجهــي بفعــل الشــمس واألتربــة‪ ،‬أمــا مالبــي فلــم‬

‫‪232‬‬
‫تعــد تصلــح أسـ ً‬
‫ـال‪ ..‬مل أحــاول أن أغــر يف مظهــري ومل أرد ذلــك مــن‬
‫األســاس‪ ،‬كان النــاس ينفــرون مــن مظهــري ورائحتــي وتنــاويل الطعــام‬
‫مــن ســال القاممــة‪ ،‬كان األطفــال يتجنبــون النظــر نحــوي يف الشــارع‬
‫ظنًــا منهــم أننــي قــد فقــدت عقــي‪ ..‬وأعتقــد أن ظنهــم كان ح ًقــا‪.‬‬
‫بقيــت عــى هــذه احلــال أيا ًمــا مل أحصهــا‪ ،‬مل يصــدر عنــي أي حديــث‪،‬‬
‫وكأننــي فقــدت القــدرة والطاقــة عــى النطــق‪ ..‬خصصــت لنفــي‬
‫مكانًــا معينًــا عــى الرصيــف للنــوم؛ لكننــي مل أســتطع أن أنــام إال يف‬

‫ﻋﺼ‬
‫ســاعات الليــل املتأخــرة خو ًفــا مــن النــاس‪ ،‬أنظــف املــكان بحــرص‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بيــدي العاريتــن قبــل أن أنــام‪ ،‬وأحيا ًنــا أســتيقظ ألجــدين غار ًقــا يف ميــاه‬
‫ـال يســتدفئ بجســدي‪ ،‬أو أجــد القليــل مــن‬ ‫األمطــار‪ ،‬أو أجــد كل ًبــا ضـ ً‬
‫ﻜﺘ‬
‫املــال بجــوار رأيس‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫تكــررت الوجــوه التــي أراهــا أثنــاء مكوثــي يف كنــف البحــر‪ ،‬وكأن‬


‫جــواره محايــة يل مــن نفــي؛ مل أجتــاوز صدمتــي يف فقــدان أعــز مــا كان يل‪،‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫وبشــاعة أننــي مــن ختلصــت منهــم بنفــي‪ ،‬مل أدرك متــى حتولــت إىل نــار‬
‫ـي األيــام األوىل حمـ ً‬
‫ـاول‬ ‫تلتهــم نفســها حتــى أصبحــت رمــا ًدا‪ ..‬مــرت عـ َّ‬
‫ﻭ‬

‫نكــران احلادثــة‪ ،‬كأن القــدر عجــز عنهــا؛ كأننــي مل أعــرف غــرام وكأن‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ـأت هــذا العــامل الــذي ال يليــق بمــاك مثلهــا مــن األســاس‪،‬‬‫مليكــة مل تـ ِ‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ففشــلت كل حمــاواليت‪.‬‬
‫ال أعــرف كيــف ســأحيا ‪-‬إن كان مــا أمارســه اآلن حيــاة‪ -‬دون أن‬
‫أرامهــا ثانيــ ًة‪ ،‬ودون أن أمســك بيدهيــا لنعــر الطريــق م ًعــا‪ ،‬دون أن‬
‫أحتضــن غــرام وأربــت عــى رأس مليكــة‪ ،‬لــن أســمع صوهتــا ثانيـ ًة؛ لــن‬
‫توبخنــي غــرام‪ ،‬ولــن تضحــك مليكــة أو تتهــرب مــن واجباهتــا ثاني ـ ًة!‬

‫‪233‬‬
‫كنــت عــى يقــن أن هــذه املليكــة ال تنتمــي إىل هــذا العــامل؛ جــاءت‬
‫ورحلــت رسي ًعــا؛ كطيــف بديــع مــر يب حتــى أتــأمل لفقدانــه‪ ..‬عــادت إىل‬
‫موطنهــا األصــي‪ ،‬فــا مــكان آخــر غــر الســاء يســع ضحكتهــا‪ ..‬لكنهــا‬
‫ســترتك قلبــي فار ًغــا‪ ،‬وكأن الفــراق قــدري‪.‬‬
‫راودتنــي فكــرة االنتحــار ثانيــ ًة‪ ،‬مل أمتلــك الشــجاعة هلــا‪ ..‬مل يكــن‬
‫أمامــي طريقــة لالســتمرار ســوى النكــران والتنــايس‪ ،‬حاولــت الغيــاب‬
‫ـابحا يف عــاملٍ خــاص يب‪ ،‬ملكــوت أســتكني فيــه لوجــود‬ ‫عــن الواقــع سـ ً‬

‫ﻋﺼ‬
‫معوضــا مــا فاتنــي منهــا؛ أقــر املســافات التــي‬
‫ً‬ ‫أمــي‪ ،‬أحتــدث مــع أختــي‬
‫مستســلم هلــا‪ ،‬أســمع ضحكــة‬ ‫تركهــا أيب‪ ،‬أرقــد بــن ذراعــي زوجتــي‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ً‬
‫مليكتــي فيطمئــن قلبــي‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫كانــت الوجــوه تتكــرر مــن حــويل‪ ،‬وكل يــوم أغيــب أكثر عــن الواقع‪،‬‬
‫أطالــع احليــاة مــن خلــف حجــاب صنعتــه هبيئتــي الرثــة وصمتــي املطبق‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫وزهــدي التــام يف كل مــا حــويل‪ ..‬فهــذا الكهــل ينصــب كرســيه الصغــر‬


‫ـرا أمــام البحــر ملق ًيــا ســنارته يف قلبــه‪ ،‬ينظــر إليــه‬
‫احلجــم‪ ،‬فيجلــس كثـ ً‬
‫ﺸﺮ‬

‫راج ًيــا الــرزق‪ ،‬لــو كنــت مكانــه لبعــت مــا أصطــاد بضعــف الثمــن‪،‬‬
‫فبضاعتــي الصــر وليســت ســمكًا‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أمــا ذلــك الفتــى الصغــر ذو الســاعد املبتــور‪ ،‬الــذي يقــف يف وجــه‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫الصقيــع واحلاجــة ليبيــع الــذرة املشــوي‪ ،‬مل ينــل مــن رزقــه إال القليــل؛‬
‫فمعظــم مــا جينيــه يذهــب لبائــع ذرة آخــر وجــد رزقــه يف ترسيــح األطفال‬
‫والتجــارة برباءهتــم‪.‬‬
‫وهــذان العاشــقان الطامعــان يف قبلــة خمتلســة أو ملســة خائفــة ال‬
‫تــدري لنفســها وجهــة‪ ،‬يلتفتــان حوهلــا بمالمــح خائفــة مــن كل يشء‪..‬‬
‫إال ذلــك املجــذوب الــذي حيــدق فيهــا‪.‬‬

‫‪234‬‬
‫لكــن أهــم مــن عــارشت يف هــذه الفــرة كانــوا مجاعــة ممــن زهــدوا‬
‫كثــرا بحكــم الشــبه‬ ‫ً‬ ‫كثــرا لكننــا تفامهنــا‬
‫ً‬ ‫يف احليــاة مثــي‪ ،‬مل نتحــدث‬
‫الشــكيل والســلوكي‪ ،‬ننــام عــى البــاط البــارد يف حــرم أي مــن اجلوامــع‬
‫التــي ترحــب بوجودنــا كـ»بركــة»‪ ،‬ال نســتدفئ إال بذكــر اهلل وســرة‬
‫الصاحلــن‪ ..‬أخــرين أحــد هــؤالء املجاذيــب أننــي يف البدايــة كنــت أقلــق‬
‫نومهــم بكوابيــي التــي أرصخ فيهــا بأســاء أحبتــي‪ ،‬لكنهــا انقطعــت بعــد‬
‫فــرة مــن الســكينة؛ وكأن احليــاة تســاعدين عــى طمــس هويتــي القديمــة‪..‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ـس هويتــه القديمــة بالكامــل‪ ،‬أخــرين أنــه‬ ‫عرفــت أن هــذا املجــذوب مل ينـ َ‬
‫ـهريا يف املوالــد واالحتفــاالت الصوفيــة‪ ،‬لكنــه ال يذكــر مــا‬ ‫كان منشــدً ا شـ ً‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫حــدث لــه بعــد هــذا حتــى صــار زاهــدً ا يف كل يشء‪ ..‬حتــى املعرفــة زهــد‬
‫ﻜﺘ‬
‫فيهــا؛ ال يذكــر بلــده األصليــة‪ ،‬لكنــه كان متأكــدً ا أن ال أحــد يفتقــده يف‬
‫هــذا امللكــوت الفســيح‪ ،‬وأنــه ‪-‬مثــي‪ -‬وحيــد متا ًمــا يف هــذا العــامل‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مــرت أيامــي متشــاهبات‪ ،‬مل أ ِع فيهــا الكثــر ومل أهتــم بذلــك‪ ..‬كنــت‬
‫أســر مــع الدراويــش‪ ،‬أرحتــل معهــم مــن «املــريس أبــو العبــاس» إىل‬
‫ﺸﺮ‬

‫مســجد «أمحــد املتيــم» ال أعبــأ بمشــقة املســر وال أعبــأ بصحبتــي الذيــن‬
‫ـرا‪ ..‬نحــر موالــد األســياد ونســر يف مواكبهــم‬ ‫أصبحــت أشــبههم كثـ ً‬
‫ﻭ‬

‫ونــأكل مــن خــر دراويشــهم‪ ،‬نــردد الذكــر الــذي ال نــدرك معظــم‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫معانيــه‪ ..‬مل يشــعر أحــد مــن العامــة بوجودنــا؛ نجتمــع ونتفــرق بــا‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ميعــاد أو اتفــاق‪ ..‬ال أذكــر مــن تلــك احلقبــة احلياتيــة إال القليــل‪.‬‬
‫لكــن هــذه الليلــة كانــت خمتلفــة‪ ..‬كنــت نائـ ًـا فــوق فخــذ صديقــي‬
‫املنشــد الــذي مل يعبــأ بنومــي وراح ينخــرط يف إنشــاده‪ ..‬اقتحــم صوتــه‬
‫منامــي الــذي رأيــت فيــه مــا أعــاد حيــايت إ َّيل‪ ،‬عظيمــة هــي حلظــة كشــف‬
‫الغاممــة عــن روحــي؛ حلظــة جتــي كالتــي شــعر هبــا إبراهيــم حــن أدرك أن‬

‫‪235‬‬
‫إهلــه ليــس مــن اآلفلــن‪ ..‬حلظــة تــرى فيهــا األمــور مــن أعــى؛ كأنــك طــر‬
‫تشــاهد كل األحــداث التــي ال دخــل لــك فيهــا‪ ..‬اآلن أفهــم كل يشء!‬
‫أعادتنــي الــرؤى للطريــق الصحيــح مســتعيدً ا «يــارس الطائــي» الــذي‬
‫كــدت أن أنســاه؛ أخــرين الدرويــش فيــا بعــد‪ ،‬بلهجتــه التائهــة التــي‬
‫يتشــتت مــن حروفهــا أكثــر ممــا يبقــى‪ ،‬أننــي كنــت أبكــي كاألطفــال‪،‬‬
‫هنضــت مــن النــوم يف حالــة مــن االنتشــاء‪ ،‬مل أشــعر بمثــل هــذه الطاقــة‬
‫مــن قبــل‪ ،‬مل أصــدق مــا رأيتــه أثنــاء نومــي‪ ،‬مل أعــرف حقيقــة مــا رأيــت‬

‫ﻋﺼ‬
‫ـعرت حينهــا أن‬
‫صحيحــا‪ ..‬مســحت دموعــي بكــف يــدي‪ ..‬شـ ُ‬ ‫ً‬ ‫لكنــه كان‬
‫الغشــاوة قــد انزاحــت مــن أمــام ناظــري‪ ،‬اآلن فقــط أدرك كيــف حــدث‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫كل مــا حــدث‪ ،‬ومــن الــذي دمــر حيــايت‪ ..‬واألهــم مــن كل هــذا‪ :‬تأكدت‬
‫ﻜﺘ‬
‫أن غــرام ومليكــة ال تــزاال عــى قيــد احليــاة‪.‬‬
‫ر َّنــت يف عقــي مجلــة آدم األخــرة‪« :‬اســأل عــى أرشف»‪ ..‬أصبحــت‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫متأكــدً ا أن احلــل ســيكون عنــد هــذا الطفــل‪ ..‬بــدأت تأتينــي ذكريــات قريبة‬
‫ـوت كل هــذه العالمــات‬ ‫منــذ اختطــاف غــرام ومليكــة؛ مل أعــرف كيــف فـ ُ‬
‫ﺸﺮ‬

‫دون أن أالحــظ مــا حيــاك ضــدي‪ ،‬كيــف اعتــرت كل هــذه صد ًفــا متواليــة‬
‫حيكمهــا قانــون ســوء احلــظ؟! كانــت الصــورة أمامــي طيلــة الوقــت لكنهــا‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫كانــت ممزقــة‪ ،‬تناثــرت كل قطعــة منهــا يف مــكان خمتلــف‪ ،‬لكــن عزلتــي‬


‫ســاعدتني عــى إجيــاد القطــع الناقصــة إلمتــام الصــورة‪.‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫هنضــت مرس ًعــا وســط دهشــة الدراويــش مــن حــويل‪ ،‬أركــض حــايف‬
‫القدمــن نحــو البحــر غــر عابــئ بوعــورة األرض التــي تــؤذي قدمــي‪،‬‬
‫وال بالريــاح شــديدة الــرودة‪ ،‬وال باألمطــار التــي تســقط فــوق رأيس‬
‫املغــر‪ ،‬عــرت الطريــق الرسيــع املــؤدي إىل البحــر‪ ،‬مل ألتفــت إىل ســباب‬
‫الســائقني؛ كان أمامــي هد ًفــا واحــدً ا ال أرى إيــاه‪ :‬البحــر‪.‬‬

‫‪236‬‬
‫ألقيــت نفــي بــن أحضــان البحــر‪ ،‬أعتقــد أننــي جرحــت قدمــي‬
‫بفعــل صخــوره‪ ..‬حتــى ظــن املــارة أننــي أحــاول االنتحــار‪ ،‬لكنهــم حــن‬
‫نظــروا نحــوي وجــدوين أنثــر مياهــه مــن حــويل يف ســعادة‪ ،‬كطفــل وجــد‬
‫ً‬
‫صارخــا‪ ..‬اختلــط مــاء املطــر‬ ‫أمــه بعــد أعــوام مــن التيــه‪ ،‬نظــرت إىل أعــى‬
‫بــاء البحــر حتــى مســحا غشــاوة بصــريت‪ ،‬نظــف ملحــه روحــي قبــل أن‬
‫ينظــف جســدي‪.‬‬
‫اآلن فقــط تأكـ ُ‬
‫ـدت مــن هويــة ذلــك اخلاطــف املجهــول الــذي دمــر‬

‫ﻋﺼ‬
‫حيــايت بالكامــل‪ ،‬وكيــف فعــل يب مــا فعــل‪ ..‬وقــد حــان وقــت احلســاب‪.‬‬
‫***‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪237‬‬
‫‪ -16‬مفترق طريق‬

‫ﻋﺼ‬
‫مــن حســن حظــي أن أحــدً ا مــن أهــل املنطقــة التــي أقيــم فيهــا مل‬
‫يعــرض طريقــي‪ ،‬عــى الرغــم مــن منظــري‪ ،‬وشــائعة هــرويب حز ًنــا عــى‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫رحيــل ســلوى كــا فعــل رايف‪ ..‬قابلنــي بعضهــم بعبــارات التعــازي‪،‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫واآلخــر بابتســامات خافتــة‪ ،‬طلبــت مــن البقــال املجــاور للعــارة‬
‫اململوكــة أليب أن يدلنــي عــى نجــار يســاعدين يف فتــح بوابــة العــارة‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫وبــاب شــقتي‪ ،‬فقــد أضعــت مفاتيحــي‪ ..‬كنــت أســتطيع اقتحــام البيــت‬


‫لكننــي مل أرد أن يشــككوا يف قــدرايت العقليــة‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫طلــب منــي اجللــوس حتــى يــأيت النجــار‪ ،‬وأمــر صبــي القهــوة أن‬
‫يذهــب وحيــر يل مــا آكلــه عــى حســابه ففعــل الصبــي مــا ُأ ِمـ َـر وأحــر‬
‫ﻭ‬

‫مــع األكل كو ًبــا مــن الشــاي‪ ..‬مل أعــرض عــى كرمهم وتكاتفهــم ألجيل‪،‬‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫فأعتقــد أننــي مــررت بــا يمنحنــي األحقيــة يف أي يشء‪ ..‬تعجلــت حلظــة‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫الذهــاب إىل الطفــل «أرشف» ألعــرف مــكان ذلــك «املجهــول» الــذي مل‬
‫يعــد جمهـ ً‬
‫ـول‪ ،‬لعنــت غبائــي الــذي هــداين إليــه متأخـ ًـرا‪.‬‬
‫صعــدت إىل املنــزل رسي ًعــا ألبــدل مالبــي وأبحــث عــن أي أمــوال‬
‫تســاعدين عــى الســفر إىل القاهــرة‪ ،‬حيــث كان يقطــن آدم اخلواجــة‪..‬‬
‫وجــدت وشــاح أمــي الــذي كانــت ترتديــه قبــل هروهبــا مبــارشةً‪،‬‬

‫‪238‬‬
‫لثمتــه ودفنــت وجهــي بــن ثنايــاه‪ ،‬ال أعلــم إن كان حمتف ًظــا برائحــة أمــي‬
‫أم أننــي أتوهــم عبقهــا‪ ..‬مل أســتطع أن أتذكــر مالحمهــا بعــد رحيلهــا‪ ،‬ومل‬
‫ـورا يف البيــت كلــه‪ ،‬رحلــت كنســمة بــاردة كانــت بــر ًدا وســط‬
‫أجــد هلــا صـ ً‬
‫جحيــم الطائــي‪ ،‬رحلــت ألهنــا مل جتــد مــن هيــون عليهــا‪ ،‬وألهنــا مل تســتطع‬
‫التحــول إىل مــا رصت عليــه‪...‬‬
‫قاطــع سلســال أفــكاري صــوت طرقــات واهنــة عــى البــاب‪ ،‬فتحتــه‬
‫ألجــد «احلــاج صالــح» صديقــي الوحيــد يف منطقة حمطــة الرمــل‪ ،‬مل ينتظر‬

‫ﻋﺼ‬
‫حتــى أدعــوه للدخــول‪ ،‬جلــس عــى أقــرب مقعــد مــن البــاب‪ ،‬مــدَّ يــده‬
‫ـذرا‪،‬‬
‫برزمــة ثقيلــة مــن األمــوال؛ وكأنــه يقــرأ أفــكاري‪ ،‬رددت يــده معتـ ً‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫مازحــا‪:‬‬
‫ً‬ ‫وقلــت لــه‬
‫ﻜﺘ‬
‫أخريا املعاش نزل يا راجل يا طيب!‬
‫‪ً -‬‬
‫مازحا‪:‬‬
‫ً‬ ‫رد‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬يا راجل يا طيب؟ أنت بتكلم عبد الوارث عرس يا بني!‬


‫مل أســتطع مقاومــة االبتســام عــى تعليقــه‪ ،‬فطلــب منــي أن آخــذ‬
‫ﺸﺮ‬

‫ـت عــى يــده ممتنًــا‪،‬‬


‫املــال عــى أن أرده وقــت االســتطاعة‪ ..‬فشــكرته وربـ ُّ‬
‫ﻭ‬

‫مازحــا‪:‬‬
‫ً‬ ‫عاتبنــي‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬ولو إنك واطي ونسيت الطلب اليل كنت طالبه منك‪..‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬طلب إيه؟‬
‫‪ -‬مــش كنــت وعدتنــي تــدور عــى اســم ابنــي يف الزفــت ال‪facebook‬‬
‫ده؟‬
‫‪ -‬صدقني دورت ومالقتش أي حاجة‪..‬‬
‫أضفت متكل ًفا املزاح‪:‬‬

‫‪239‬‬
‫‪ -‬أنت ماعرفتش تريب‪ ،‬الواد شكله غري اسمه بعد ما سافر‪..‬‬
‫مبتسم‪:‬‬
‫ً‬ ‫بدا عىل مالحمه احلزن‪ ،‬فحاول أن هيون عىل نفسه‪ ،‬فقال‬
‫‪ -‬برصاحة واطي ويعملها‪ ..‬أو أنا اليل فلويس حرام باين‪.‬‬
‫كان وقــع كلامتــه كالزلــزال يف قلبــي‪ ،‬مل أخــره أننــي وجــدت ابنــه‬
‫مذكــورا يف خــر صغــر بصفحــة الوفيــات‬
‫ً‬ ‫بالفعــل‪ ،‬لكــن اســمه كان‬
‫بأحــد اجلرائــد املحليــة يف كنــدا؛ فقــد رحــل هــو وأرستــه يف حــادث‬
‫ســيارة مأســوي منــذ أكثــر مــن ســنة‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫***‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬معنــى إنــك بتشــوف الفيديــو ده يــا أســتاذ يــارس إين ُمــت‪ ..‬تقليديــة‬
‫ﻜﺘ‬
‫َدخلــة األفــام دي‪ ،‬مــش كــده؟‬
‫مل أمتالــك دموعــي حــن رأيــت آدم يف الفيديــو الــذي وجدتــه بحــوزة‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫أرشف الــذي انتظــر قدومــي للحصول عــى الـــ‪ flash memory‬التي تركها‬
‫آدم يل‪ ،‬اآلن أدرك أن وجــوده يف الشــقة أثنــاء أول تعــارف بينــي وبــن‬
‫ﺸﺮ‬

‫آدم مل يكــن مــن قبيــل الصدفــة‪ ..‬وجــدت أرشف يعانــق مــا طالــع مــن‬
‫جســدي بحركــة ال إراديــة فضممتــه نحــوي‪...‬‬
‫ﻭ‬

‫‪ -‬خلصتــوا عيــاط؟ أنــا مســتني آهــه‪ ،‬وســايب لكــم عــر ثــواين‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫تانيــن يف آخــر الفيديــو تعيطــوا فيهــا براحتكــم‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ناظــرا نحــو شاشــة الكمبيوتــر البدائــي يف منــزل أرشف‬ ‫ً‬ ‫ابتســمت‬


‫الــذي وصلــت إليــه بصعوبــة‪ ..‬فقــد وصــف يل اخلواجــة يف ورقــة‬
‫صغــرة وجدهتــا يف غرفــة نومــه عنوا ًنــا عائـ ًـا يف «الزاويــة احلمــراء» التــي‬
‫مل يزرهــا أحدنــا مــن قبــل‪...‬‬
‫‪ -‬بــس املعنــى األهــم إنــك افتكــرت وصيتــي ُ‬
‫ورحــت تســأل عــن‬

‫‪240‬‬
‫أرشف‪ ،‬وأكيــد حرضتــك دلوقتــي وصلــت للحظــة الــي أنــا كنــت‬
‫مســتنيها عشــان أقــول لــك مراتــك وبنتــك فــن؛ اللحظــة الــي اتأكــدت‬
‫ـي دلوقتي مــش الكونت‪.‬‬ ‫إن يــارس هــو الــي انتــر‪ ،‬وهــو الــي بيتفــرج عـ َّ‬
‫اعتدل يف جلسته أمام الكامريا وأكمل حديثه ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪ -‬طب ًعــا أنــت مخنــت دلوقتــي مــن الــي عملــت فيــك كل ده‪ ..‬مــن‬
‫الــي دمــرت لــك حياتــك ودخلــت العاملــن بتوعــك يف بعــض‪..‬‬
‫أكــد يل شــكوكي حــن ذكــر رصاحـ ًة اســم تلــك «املجهولــة» التــي كادت‬

‫ﻋﺼ‬
‫أن تنهــي حيــايت‪ ،‬ال أنكــر أننــي اندهشــت قليـ ًـا حــن اســتنتجت هويتهــا‪،‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫كانــت الصــورة أمامــي طــول الوقــت لكنهــا كانــت ممزقــة مشوشــة أجزاءها‪..‬‬
‫اآلن فقــط تتضــح وتصبــح يقينًــا‪ ..‬تابعــت آدم عــى الشاشــة ثانيـ ًة‪..‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫‪ -‬ومــش حمتــاج أقولــك ماتتصلــش بالبوليــس عشــان زماهنــا زيفــت‬
‫موهتــا زي مــا عملــت قبــل كــده‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫أكمــل حديثــه عــن الفــرة التــي ســبقت معرفتــه يب‪ ،‬وقبــل أن يرســل‬
‫يل الرســائل التــي كان يرتجــاين فيهــا ليعمــل معــي‪ ..‬كان قــد عــرف خــر‬
‫ﺸﺮ‬

‫إصابتــه بالرسطــان‪ ،‬ويبحــث عــن إثــارة أخــرة ينهــي هبــا حياتــه بعــد‬
‫ﻭ‬

‫«شــكامن»‪ ،‬ورضــا‪ ..‬فعــرض‬ ‫أن مــل مغامراتــه مــع رفيقــي اإلجــرام‪ُ :‬‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫خدماتــه هبويــة غــر هويــة «اخلواجــة» عــى ‪ ،Dark web‬حتــى وجدتــه‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫تلــك امللعونــة‪.‬‬
‫كانــت مهمتــه واضحــة‪ :‬أن حيــاول التقــرب منــي طال ًبــا العمــل‪ ،‬ويف‬
‫ـرا بســبب‬‫نفــس الوقــت حيــاول اخــراق حســايب؛ األمــر الــذي كان عسـ ً‬
‫جــدار احلاميــة الــذي صممــه «كريــس بــراديل» هلويــة الكونــت‪ ..‬لكنــه يف‬
‫النهايــة اســتطاع اخرتاقــي ومعرفــة هويتــي احلقيقيــة‪ ،‬وبــدأت اللعبــة‪..‬‬

‫‪241‬‬
‫مل يستطع آدم أن يمنع دموعه يف الفيديو‪ ،‬قال يل بلهجة متوسلة‪:‬‬
‫‪ -‬أرجــوك ســاحمني‪ ،‬أنــا ماكنتــش متخيــل إن املوضــوع هيوصــل‬
‫للدرجــة دي‪ ..‬أنــا حبيــت حرضتــك بجــد يــا أســتاذ يــارس‪ ،‬واحرتامــي‬
‫حلرضتــك يف اهلويتــن كان احلاجــة الوحيــدة احلقيقيــة‪ ..‬وحيــاة مليكــة‬
‫تغفــر يل‪.‬‬
‫اســتطرد يف اعرتافــه‪ ،‬أخــرين أنــه كان جاسوســها لــدي‪ ،‬وأن زميليــه‬
‫رضــا وشــكامن مهــا مــن خطفــا غــرام ومليكــة ألجلهــا بعــد أن عرضــت‬

‫ﻋﺼ‬
‫عليهــا مبل ًغــا يكفيهــا باقــي احليــاة‪ ،‬وعرضــت عــى «اخلواجــة» مغامــرة‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫أخــرة قبــل صعــود روحــه إىل الســاء‪ ..‬وأن شــكامن كان هــو مــن حيدثني‬
‫يف اهلاتــف بتعليــات منهــا بعــد أن قــرأت مذكــرايت جيــدً ا ودرســت‬
‫ﻜﺘ‬
‫شــخصية «يــارس الطائــي»‪ ،‬وعرفــت كل يشء عــن «الكونــت» مــن‬
‫حســابه املخــرق‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫«شــكامن» و»رضــا» خلفنــا يف كل خطــوة نقطعهــا؛ فكلــا اقرتبت‬ ‫كان ُ‬


‫مــن احلقيقــة أبعــدين آدم عنهــا‪ ..‬وأن اخلطــة كانــت ســتكتمل حــن‬
‫ﺸﺮ‬

‫يتمكــن مــن إقناعــي بمــريض‪ ،‬وبــأن الكونــت هــو املســئول عــن كل مــا‬
‫حــدث‪ ،‬وأنــه مــن أمــر بقتــل زوجــة «يــارس» وابنتــه‪ ..‬ثــم يتــم تزييــف‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫معركــة يف الفيــا أمامــي تنتهــي بمقتــل آدم عــى يــد املأجوريــن اللذيــن‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫م َّثــل دورمهــا شــكامن ورضــا؛ فأعيــش يف حالــة مــن اجلنــون مماثلــة للتــي‬
‫مــررت هبــا‪ .‬أكمــل حديثــه قائـ ًـا‪:‬‬
‫‪ -‬بــس أنــا غــرت رأيــي بعــد مــا عرفــت حرضتــك واتعاملــت‬
‫معــاك‪ ،‬وصــورت الفيديــو ده أقــول لــك فيــه كل الــي أعرفــه وقــت‬
‫مــا حرضتــك اتســجنت بتهمــة قتــل محــزة؛ الــي هــي قتلتــه‪ ،‬وهــي الــي‬
‫بعتــت لــك الدرنــديل يطلعــك‪ ..‬أنــا ماعرفــش دوره بالظبــط بــس هــي‬

‫‪242‬‬
‫قالــت يل إن اعرتافــه ســهل يكشــف لــك هــي مــن‪ ،‬عشــان كــده شــكامن‬
‫ورضــا هربــوه‪.‬‬
‫ماكنتــش عايــزك تعــرف احلقيقــة وأنــا عايــش‪ ،‬وكنــت متأكــد إنــك‬
‫ملــا ختــر كل حاجــة وتفكــر هبــدوء هتفهــم كل حاجــة‪..‬‬
‫أخــرين بمحاوالتــه مــع شــكامن ورضــا إلثنائهــا عــن إكــال اخلطــة‬
‫واالنســحاب مــن تلــك اللعبــة‪ ،‬لكــن األمــوال أعمــت برصهيــا ورفضــا‬
‫مســاعدة اخلواجــة يف االنقــاب عليهــا‪ ،‬ومــن املرجــح أهنــا قــد ختلصــا‬

‫ﻋﺼ‬
‫منــه قبــل أن ينجــح انقالبــه‪ ..‬ولذلــك تــرك يل هــذا االعتــذار املصــور‪،‬‬
‫اختتــم حديثــه قائـ ًـا‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬أمتنــى تقبــل اعتــذاري ألين أكيــد دلوقتــي حمتــاج عفــوك أكــر مــن‬
‫ﻜﺘ‬
‫أي وقــت‪ ،‬وصدقنــي أنــا فعـ ًـا معرفــش مهــا فــن دلوقتــي‪ ..‬بــس هــي‬
‫قالــت يل إنــك هتعــرف مــكان مراتــك وبنتــك لــو افتكــرت كويــس‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫الــكالم الــي اتقــال يف أول مقابلــة مجعتكــم‪ ..‬وماتنســاش تســأل عــن‬


‫أرشف‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫***‬
‫ﻭ‬

‫تعجلــت العــودة إىل اإلســكندرية ألقابــل تلــك الشــيطانة التــي‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ســلبتني كل مــا أملــك ومل تــرك يل إال ثغــرات قليلــة يف خطتهــا‪ ،‬ثغــرات‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫هدتنــي إليهــا وإىل مــكان اختفائهــا‪ ..‬وصفــت لســائق األجــرة عنــوان‬


‫َمســكَني يف حمطــة الرمــل‪ ،‬صعــدت الســامل مرس ًعــا‪ ،‬لكــن هــذه املــرة‬
‫مل أقصــد شــقتي‪ ،‬صعــدت للطابــق األعــى حيــث شــقة ســلوى التــي‬
‫كانــت فيــا مــى درك الزوجيــة الــذي مجــع أيب بأمهــا‪ ..‬وقفــت أمــام‬
‫ـرا بداخلــه قــط أبيــض بجــوار صنــدوق‬ ‫البــاب‪ ،‬وضعــت صندو ًقــا صغـ ً‬

‫‪243‬‬
‫املهمــات املجــاور للشــقة‪ ،‬فــردت قامتــي‪ ،‬وعدلــت مــن وضــع بذلتــي‬
‫الســوداء‪ ،‬نظــرت نحــو باقــة الــورد البلــدي التــي أمحلهــا معــي‪ ،‬وطرقــت‬
‫البــاب‪.‬‬
‫مفتوحــا‪ ،‬ألجــد كل األنــوار مضــاءة‪ ،‬كان‬
‫ً‬ ‫مل أندهــش حــن وجدتــه‬
‫ـرا‪ ،‬وألجدهــا‬
‫كل يشء مرت ًبــا بعنايــة فائقــة‪ ،‬وقــد حتســن ذوق الشــقة كثـ ً‬
‫يف انتظــاري‪ ..‬نظــرت يل مبتســمة‪ ،‬قالــت هبــدوء‪:‬‬
‫‪ُ -‬قلت لك هنتقابل قريب يا نيص التاين‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫مل أمتالك نفيس أمام التصفيق هلا‪ ..‬قلت بإعجاب حقيقي‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬أنــا باعــرف إين انبهــرت‪ ،‬مســتحيل كنــت أتوقــع إن أنـ ِ‬
‫ـت الــي ورا‬
‫كل ده‪..‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫أردفت بعد أن اقرتبت منها هبدوء‪:‬‬
‫‪ -‬آنسة داليا القايض‪ ..‬مربوك‪ِ ،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫أنت دمرتيني بنجاح!‬


‫تعمــدت اجللــوس أســفل الــرواز املعلــق بصالــة الشــقة‪ ،‬والــذي‬
‫ﺸﺮ‬

‫حيتــوي بداخلــه عــى صــورة قديمــة لزفــاف عبــد احلــي الطائــي وأم‬
‫ســلوى‪ ..‬حاولــت أن أتصنــع التامســك‪ ،‬وســألتها عــن مــكان غــرام‬
‫ﻭ‬

‫ـي مجلتــي التــي قلتهــا هلــا يف أول‬


‫ومليكــة‪ ..‬جتاهلــت ســؤايل وتلــت عـ َّ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫لقــاء مجعنــا بحجــرة التعذيــب اخلاصــة يب‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬ماختافش يا يارس أنا معاك‪.‬‬


‫ـررا ســؤايل عــن أغــى مــا‬
‫اقرتبــت منهــا بغضــب‪ ،‬رصخــت فيهــا مكـ ً‬
‫ـدي‪ ..‬وضعــت ســبابتها أمــام شــفتيها وقالــت مبتســمة‪:‬‬
‫لـ َّ‬
‫‪ -‬صوتك يا أستاذ‪ ..‬مراتك وبنتك نايمني جوة‪.‬‬

‫‪244‬‬
‫مسدســا بحركــة خاطفــة‪ ،‬وجهتــه نحــوي قائلــة بلهجــة‬
‫ً‬ ‫أخرجــت‬
‫جــادة‪:‬‬
‫‪ -‬اتفضل أقعد‪.‬‬
‫ٍ‬
‫صمت قصري‪:‬‬ ‫أومأت يل حميي ًة‪ ،‬قالت بعد‬
‫‪ -‬أنــا حرقــت مذكراتــك بعــد مــا قريتهــا؛ زي مــا حرقــت كل حاجــة‬
‫يف حياتــك‪ ..‬ســاحمني إين تطفلــت عليــك‪ ..‬بــس كان الزم أدرســك‬
‫كويــس‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫أكملت بلهجة ماكرة‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬ده غــر إين قــدرت أمخــن تفاصيــل أنــت ماذكرهتــاش‪ ..‬زي إن أكيد‬
‫ﻜﺘ‬
‫مــش كل الــي قابلتهــم يف حياتــك تقبلــوا حقيقتــك زي مــا أنــت كاتــب‪،‬‬
‫وإال ماكنتــش بنيــت لنفســك هويــة «الكونــت»‪ ..‬وزي معاملــة تالميــذك‬
‫ليــك؛ ملــا لقيتــك مــش ذاكــر تفاصيــل شــغلك كـــ «مســر يــارس»‪ ..‬وزي‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫إنــك مســتحيل تكــون طلعــت بعثــة أمريــكا بمجهــودك‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫قلت بتصالح مع ذايت مل أشعر به منذ ولدت‪:‬‬


‫‪ -‬طلعــت عــى جثــة الوحيــد الــي شــاف اخلــر َّيف‪ ..‬ولــواله كان‬
‫ﻭ‬

‫زمــاين كلــب يف زنزانــة الطائــي‪ ..‬أمتنــى يســاحمني‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫مبتسم‪:‬‬
‫ً‬ ‫أردفت‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬وعــى فكــرة هــو الــي نفــى يل موضــوع تعــدد الشــخصية الــي‬


‫ـت واخلواجــة تلعبــوه عليــا‪ ..‬ألن «الكونــت» لــو كان خــرج‬‫حاولتــي أنـ ِ‬
‫عــن ســيطريت فعـ ًـا أكيــد كان هيفكــرين بيــه‪.‬‬
‫أضاعت إحسايس بالسيطرة حني قالت بلهجة ماكرة‪:‬‬

‫‪245‬‬
‫‪ -‬ومخنــت برضــه إن حــب عــاء الديــن ليــك ماكانــش جمــرد عطــف‬
‫عــى طفــل بيفكــره بابنــه الــي مــات‪.‬‬
‫لــدي طاقــة للرفــض‪ ،‬قالــت هبــدوء وهــي تشــر يل كــي‬
‫َّ‬ ‫مل تكــن‬
‫أجلــس‪:‬‬
‫‪ -‬غال ًبــا أنــت ممكــن ماتكونــش فاكــر مــش بتنكــر عــن قصــد‪..‬‬
‫لألســف ذاكــرة اإلنســان انتقائيــة جــدً ا؛ وبتدافــع عــن صاحبهــا‬
‫باســتامتة‪ ..‬زي ذاكــرة صاحبــك كــده‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬آدم؟‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬أنــت ليــك صاحــب غــره؟ مايغركــش القــوة الــي كان فيهــا‪ ،‬الــواد‬
‫ده شــاف كتــر‪..‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫ترمحت عليه يف رسي‪ ،‬وقلت لداليا‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬الــي زي آدم دول مينفعــش يكملــوا يف الدنيــا‪ ،‬عايزيــن يعدلــوا‬


‫ميــزان اختلــق عشــان يميــل‪.‬‬
‫ضحكت متهكمة‪ ،‬وسألتني بتحد‪ٍ:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬طب ًعا ماحكاش ليك إزاي أهله ماتوا؟‬


‫ﻭ‬

‫أجبتها بصدق مستعيدً ا ذكريات أول لقاء مجعني به‪:‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬تفجري إرهايب‪.‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ضحكت حمطمة أعصايب‪ ،‬نظرت مبارش ًة يف عيني وقالت‪:‬‬


‫‪ -‬ماقالــش إنــه كان بيجــرب خمــدر جديــد‪ ،‬وفتــح أنبوبــة الغــاز حلــد‬
‫مــا اختنقــوا كلهــم ونجــي لوحــده منهــا بمعجــزة؟ ماقالكــش إن صاحــب‬
‫عمــره ملــا عمــل حادثــة بعربيتــه واحتــاج دم مــن فصيلــة نــادرة آدم‬
‫معرفــش يتــرع عشــان كان دمــه مليــان كحــول؟!‬

‫‪246‬‬
‫مل أعــرف هــل أصدقهــا أم ال‪ ،‬جلســت عــى مقعــد مقابــل هلــا‪،‬‬
‫خبطــت رأيس بكــف يــدي مســتعيدً ا تفاصيــل تعذيبهــا‪:‬‬
‫‪ -‬كل حاجــة كانــت قــدام عينيــا‪ ،‬أنــا بــس الــي اختدعــت باألحــداث‪،‬‬
‫وعمــري مــا توقعــت إن الــي وراهــا واحــدة ويف ســنك كــان!‬
‫مغمضــا عينــي‪ ،‬مســتعيدً ا حلظــة التجــي التــي‬
‫ً‬ ‫أكملــت حديثــي‬
‫جاءتنــي يف منامــي‪:‬‬
‫‪ -‬الربفــان الغــايل‪ ..‬واســتمتاعك بالتعذيــب‪ ،‬وملــا خلتينــي أكــرر‬

‫ﻋﺼ‬
‫جل َمــل قــدام اخلواجــة وهشــام عــديل‪ ..‬واخــراق حســايب الــي‬‫نفــس ا ُ‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫نجــح بعــد دخولــك الفيــا بوقــت قصــر‪ ...‬والرشكــة الــي دفعــت يل‬
‫مبلــغ كبــر‪ ..‬وأكــدت يل إن اعرتافــك صحيــح وإن الــورق يف مكانــه‬
‫ﻜﺘ‬
‫برسعــة جــدً ا‪.‬‬
‫قالت موضحة‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬ما هي الرشكة الزم تصدق عىل كالمي‪ ..‬ألن أنا صاحبتها‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫مل أعلــق‪ ..‬كان شــعور أننــي قــد تــم التالعــب يب هبــذا الشــكل مؤ ًملــا‪،‬‬
‫وكأهنــا قــرأت أفــكاري فقالــت بفخــر‪:‬‬
‫ﻭ‬

‫‪ -‬طــول الوقــت كنــت بحــاول ألفــت نظــرك للحقيقــة‪ ..‬بــس أنــت‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ماكنتــش شــايف‪ ،‬برغــم إين كنــت أقــرب حــد ليــك‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ضحكت ضحكة قصرية‪ ،‬وأكملت حديثها بتهكم‪:‬‬


‫‪ -‬يــا راجــل ده أنــا اتعمــدت أنــادي «آدم» باســمه يــوم عــزا ســلوى‪..‬‬
‫برغــم إين املفــروض بشــوفه ألول مــرة يف حيــايت!‬
‫قلــت مســتعيدً ا جــز ًءا آخــر مــن الرؤيــا التــي أتتنــي حــن كنــت فقدت‬
‫رشــدي‪ ،‬ونبهتنــي إىل احلقيقة‪:‬‬

‫‪247‬‬
‫‪ -‬إزاي مــا مجعتــش كل اللقطــات دي جنــب بعــض يف وقتهــا؟! أثنــاء‬
‫متثيلــك دور املوظفــة خبيتــي ورق الرشكــة يف أقــرب بنــك ليهــم‪ ..‬زي مــا‬
‫خبيتــي مــرايت وبنتــي يف أقــرب مــكان ليــا‪.‬‬
‫سألتها مستدركًا‪:‬‬
‫‪ِ -‬‬
‫أنت اليل أجربيت سلوى تتصل بيا يوم خطف غرام ومليكة؟‬
‫‪ -‬ماكانــش عندهــا خيــار تــاين‪ ..‬هــي كانــت خمطوفــة معاهــم‪ ..‬بــس‬
‫أنــت اتلهيــت يف اخلطــف لدرجــة إنــك نســيت تســأل عنهــا‪ ..‬اهلل يرمحهــا‬

‫ﻋﺼ‬
‫كانــت بتحبــك بجــد‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬ ‫أكملت رشحها قائلة بزهو‪:‬‬
‫‪ -‬أنــا أجــرت الــي يراقبــك أنــت وكل الــي خيصــوك‪ ..‬وملــا عرفــت‬
‫إن رايف طفــش قلــت دي أنســب فرصــة أنفــذ خطتــي‪ ..‬وكل الــي عملتــه‬
‫وســبتك تــدور عليهــم يف كل مــكان‬‫إين حبســت أهلــك يف الشــقة دي‪ِ ..‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫إال بيتــك!‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬كنــت بتخرجــي إزاي والعــارة مقفولــة مــن حتــت طــول الوقــت‬


‫ده؟‬
‫ﻭ‬

‫‪ -‬ســطح العــارة الــي جنبــك مالــوش ســور‪ ..‬فكنــت بنــزل منهــا‪،‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫وحمــدش فكــر يســألني أنــا مــن‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬عملتي فيهم إيه طول الفرتة دي؟‬


‫‪ -‬عملــت كتــر‪ ..‬ومــش هقــول لــك أي تفاصيــل؛ عشــان ماتتأملــش‬
‫أكــر مــن الــي أنــت فيــه‪ ..‬بــس صدقنــي كلــه تــم بطريقتــك‪ :‬دمرهتــم مــن‬
‫غــر خــدش واحــد!‬
‫مل أظهــر أملــي ملــا حــدث هلــا بســببي‪ ،‬فكــرت أن أســأهلا عــن كيفيــة‬

‫‪248‬‬
‫قيامهــا بــكل هــذه األفعــال‪ ،‬لكننــي عدلــت عــن هــذا الســؤال حتــى ال‬
‫ـي‪ ،‬وســألتها هبــدوء‪:‬‬
‫تشــعر بانتصارهــا عـ َّ‬
‫لك بكل هذا؟‬ ‫‪ -‬ومن أين ِ‬
‫‪ -‬دكتور أنس عز الدين‪ ..‬أكيد ماتسمعش عنه‪.‬‬
‫مل أرد‪ ،‬تركتها تكمل حديثها‪:‬‬
‫‪ -‬أبويــا‪ ..‬كان دكتــور كبــر وأســتاذ يف اجلامعــة‪ ..‬أنــا اتولــدت‬
‫بمــرض نــادر؛ عبــارة عــن تســطح يف عظــم اجلمجمــة‪ ..‬كان الزم‬

‫ﻋﺼ‬
‫يعاجلنــي بــأرسع شــكل ممكــن‪ ..‬فاشــتغل يف نبــش القبــور وكــذا جتــارة‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫غــر مرشوعــة يف جمالــه‪.‬‬
‫أكملــت قائلــة أن أباهــا ُقبِــض عليــه بعــد أن كـ َّـون عصابــة لتجــارة‬
‫ﻜﺘ‬
‫اجلثــث‪ ،‬وتــرك هلــا ثــروة صغــرة اســتطاعت البــدء منهــا‪ ،‬بعــد أن تــرك‬
‫هلــا ســرة غــر طيبــة‪ ،‬وأ ًمــا ناقمــة أرصت عــى تزوجيهــا يف أرسع وقــت‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫جتن ًبــا للفضيحــة‪ ..‬دون األخــذ يف االعتبــار ســنها الــذي مل يتجــاوز‬


‫العرشيــن بعــد‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫نظــرت نحــو الغرفــة التــي تقبــع هبــا غــرام ومليكــة‪ ..‬أشــعر‬


‫ﻭ‬

‫بوجودمهــا‪ ،‬لكننــي لســت متأكــدً ا إن كنــت أريــد رؤيتهــا اآلن أم‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫االســتمرار يف احلديــث مــع داليــا‪ ..‬قلــت هلــا مشــككًا‪:‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬بــس نبــش القبــور مهــا كان مربــح مســتحيل خيــي عنــدك كل‬
‫اإلمكانيــات دي‪.‬‬
‫سألتها‪:‬‬
‫‪ -‬اجتوزيت الدرنديل‪ ..‬صح؟‬
‫‪ -‬صح‪.‬‬

‫‪249‬‬
‫‪ -‬إزاي شــخص زي ده مليونــر ومــن عيلــة واجتــوز واحــدة أبوهــا‬
‫مســجون؟‬
‫‪ -‬ما أنا غريت اسم بابا‪ ..‬وبقيت داليا الكاشف‪.‬‬
‫ِ‬
‫غــرت اســمك‬ ‫ِ‬
‫زيفــت موتــك عشــان هتــريب بفلوســه‬ ‫‪ -‬وبعــد مــا‬
‫تــاين وبقيتــي داليــا القــايض؟‬
‫أخربتنــي أنــه كان معج ًبــا هبــا برغــم فــارق الســن الــذي يقــارب‬
‫العرشيــن عا ًمــا‪ ..‬وأنــه ظــل رفي ًقــا هبــا‪ ،‬تزوجهــا دون رغبــة أهلــه‪ ،‬وظــل‬

‫ﻋﺼ‬
‫حيــارب ألجلهــا حتــى خــرج والدهــا مــن الســجن وذهــب لزيارهتــا يف‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بيــت زواجهــا‪ ،‬حينهــا حتــول «الدرنــديل» إىل وحــش دميــم املعــارشة؛‬
‫فظــل يرضهبــا ويــارس هيمنتــه اجلنســية عليهــا‪ ،‬وأحيا ًنــا مــا كان حيبســها‬
‫ﻜﺘ‬
‫يف غرفــة النــوم بمفردهــا أليــام‪ ..‬فاكتشــافه لكذبتهــا ســمح لبهيميتــه‬
‫متنكــرا وراءه‪ ،‬وأخفــاه‬
‫ً‬ ‫بالظهــور‪ ،‬وأســقط قنــاع املثاليــة الــذي عــاش‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫خارجــا عــن بروتوكــوالت عائلتــه وعــن‬ ‫ً‬ ‫حتــى عــن نفســه‪ ،‬فانفجــر‬
‫الســياق الــذي ُو ِضــع فيــه منــذ أن كان صب ًيــا‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫بصوت خفيض‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫علقت ً‬


‫قائل‬
‫ﻭ‬

‫‪ -‬ومــع أول فرصــة زيفتــي موتــك‪ ،‬وهربتــي مــن جحيــم الدرنــديل‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫بعــد مــا خــديت جــزء كبــر مــن ثروتــه؟‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ابتسمت بفخر‪ ،‬وأومأت برأسها إجيا ًبا‪ ..‬سألتها خممنًا‪:‬‬


‫‪ -‬عشــان كــده قــرريت تنتقمــي مــن كل الرجالــة الــي زيــه‪ ..‬وشــوفتي‬
‫َّيف نمــوذج للســيطرة الــي كرهتيهــا؟‬
‫عــال‪ ،‬نظــرت نحــو الســقف وهــي تداعــب‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بصــوت‬ ‫ضحكــت‬
‫خصــات شــعرها قائلــة‪:‬‬

‫‪250‬‬
‫‪ -‬أنــا انتقامــي أبشــع مــن الــي عملتــه فيــك بكتــر‪ ..‬احلقيقــة أنــا‬
‫حبيــت الــي الدرنــديل عملــه معايــا‪ ،‬حبيــت شــعور إين حتــت ســيطرة‬
‫حــد شــايف حيــايت ملــك إيديــه‪ ..‬أنــا أدمنــت اإلحســاس ده‪.‬‬
‫‪ -‬يعني اكتشفتي فجأة كده إنك مازوخية؟‬
‫‪ -‬الوحــدة‪ ..‬الوحــدة بتفتــح لإلنســان أبــواب كتــر للحقيقــة‪،‬‬
‫للنــور‪ ..‬طــول مــا أنــت وحيــد قلبــك بيهــد الســد الــي قــدام بصريتــك‪،‬‬
‫وبيبــدأ يشــوف كل حاجــة بنفســه‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫أردفت بعد أن مالت بجسدها نحوي‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬أنــا لــوال الوحــدة مــا كنتــش عرفــت إنــك بتكملنــي‪ ،‬وأنــت لــوال‬
‫ﻜﺘ‬
‫الوحــدة ماكنتــش وصلــت يل‪.‬‬
‫اســتعدت رسي ًعــا مــا قرأتــه عــن هــذا املوضــوع الــذي مل أحتــك بــه من‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫قبــل‪ ،‬تذكــرت أن املازوخيــة نوعــان؛ مازوخيــة عامــة وأخــرى جنســية‪..‬‬


‫يف املازوخيــة العامــة يكــون اخلضــوع أخالق ًيــا‪ ،‬ف ُيعــرض اإلنســان هبــا‬
‫ﺸﺮ‬

‫نفســه للمهانــة بوعــي أو بــدون‪ ،‬وجيــد متعــة يف أن يعيــش دور الضحيــة‬


‫املقهــورة‪ ،‬ويبحــث عــن كل مــا هيــدم ذاتــه وحيطــم احرتامــه هلــا‪..‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫قلت هلا‪:‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬كل الــي عملتيــه يف حياتــك ويف حيــايت كــان بينفــي إنــك مريضــة‬
‫أنــت شــخص ناجــح وبتعــريف تســيطري عــى كل الــي‬ ‫باملازوخيــة؛ ِ‬
‫حواليكــي حتــى أنــا‪.‬‬
‫بــدا عليهــا شــعور بالضيــق فانتهــزت حلظــة الرتاجــع وقلــت حاسـ ًـا‬
‫وجهــة نظــري‪:‬‬

‫‪251‬‬
‫ـت يــا دوب مازوخيــة جنســية؛ عجبتــك التجربــة الــي عيشــتيها‬ ‫‪ -‬أنـ ِ‬
‫مــع الدرنــديل والــي كانــت منافيــة لطبيعــة تربيتــك كطفلــة وحيــدة‬
‫مدللــة‪ ..‬اســتهوتك بقــى اإلهانــات اللفظيــة واجلســدية؛ الــي عــرت‬
‫عــن الــي مريتــي بيــه يف حياتــك‪ ،‬وحشــك دور املغلوبــة عــى أمرهــا الــي‬
‫قــدريت ختلــي منــه بــدري‪ .‬وحبيتــي ختــويض جتربــة جديــدة معايــا‪.‬‬
‫‪ -‬ممكــن‪ ..‬بــس كان الزم تعــرف األول أنــا أقــدر أعمــل إيــه‪ ،‬وكفايــة‬
‫إين انتــرت عليــك ودمــرت لــك يــارس والكونــت‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫قلت بصدق‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬وأنــا معــرف بــده‪ ..‬برغــم إين اجتريــت للمعركــة دي غصــب عنــي‪،‬‬
‫فعــا انتــريت‪ ،‬عــى األقــل حلــد دلوقتــي‪ ..‬بــس خلينــي‬ ‫بــس ِ‬
‫أنــت ً‬
‫ﻜﺘ‬
‫أســألك أهــم ســؤال‪ :‬أنـ ِ‬
‫ـت عايــزة منــي إيــه؟!‬
‫ضحكت ضحكة خفيفة‪ ،‬وقالت هبدوء ناظرة يف عيني‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬زي مــا قلــت لــك حمتاجــة لــك معايــا‪ ..‬عايــزاك تكملنــي‪ ،‬وعايــزة‬
‫أرقــي الكونــت لرتبــة أعــى‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫طلبــت منهــا أن تــرح مقصدهــا مــن آخــر مجلــة‪ ،‬أخربتنــي أن حيــاة‬


‫ﻭ‬

‫يــارس قــد اهنــارت ماد ًيــا ومهن ًيــا وأرس ًيــا‪ ..‬وكذلــك حيــاة الكونــت بعــد‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أن تــم اخــراق حســاباته‪ .‬لكنهــا متتلــك كافــة اإلمكانيــات إلعــادة احليــاة‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫إىل كيــاين الــذي هتــدم متا ًمــا‪ ،‬وأن مــا دفعتــه مــن مــال ونفــوذ يف عمليــة‬
‫الســيطرة عــى حيــايت ال يســاوي شــي ًئا ممــا متتلــك يف احلقيقــة‪ ..‬فيمكنهــا‬
‫تعويــي وتوفــر وســيلة أفضــل للتفريــغ عــن شــهويت وممارســة ســيطريت‬
‫ـي هويــة جديــدة‬ ‫بشــكل أعظــم ممــا كان يفعــل الكونــت‪ ..‬عرضــت عـ َّ‬
‫متا ًمــا؛ وهــي «املاركيــز» بحســاب جديــد عــى الــدارك ويــب‪ ،‬وبمقــر‬

‫‪252‬‬
‫ـرا مــن مقــر الكونــت يوفــر يل ممارســة جتــارب أكثــر بشــاعة‬
‫أفضــل كثـ ً‬
‫عــى البــر واحليوانــات‪ ..‬أخربتنــي أن «الكونــت» هــو الدرجــة الرابعــة‬
‫يف ســلم النبــاء‪ ،‬لكــن «املاركيــز» أرقــى وأهــم؛ وأن مبتغاهــا مــن كل‬
‫ـرا‬
‫هــذا أن تصــر تابعــة وزوجــة يل‪ ..‬فتســخر كل مــا لدهيــا للامركيــز نظـ ً‬
‫لبقائــه معهــا فقــط دون غريهــا‪ ..‬أكملــت حديثهــا قائلــة‪:‬‬
‫‪ -‬وأظــن مفيــش عــرض أعظــم مــن كــده؛ فلــوس وهويــة جديــدة‪،‬‬
‫وحيــاة مراتــك وبنتــك‪ ..‬وكل الــي حتتاجــه هيكــون حتــت إيــده؛ عشــان يقدر‬

‫ﻋﺼ‬
‫يشــوف شــغله ويــارس هوايتــه العظيمــة‪ ..‬بنــاء متكامــل مفيهــوش غلطــة‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫سألتها بفضول‪:‬‬
‫‪ -‬إشــمعنى أنــا؟ أكيــد مــن خــال الــي ِعشــتيه شــوفتي نــاذج أبشــع‬
‫ﻜﺘ‬
‫منــي‪.‬‬
‫نظرت يف عيني قائلة‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬معظمهــم مــن جــوه‪ ،‬بيامرســوا بشــاعتهم عشــان يــداروا حــزن‬


‫جواهــم‪ ،‬إنــا أنــت بتحــب الــي بتعملــه‪ ،‬ومكمــل فيــه بســبب متيــزك؛‬
‫ﺸﺮ‬

‫عــارف إن مفيــش غــر كونــت واحــد بــس‪.‬‬


‫ﻭ‬

‫كان عرضهــا غــر متوقــع‪ ،‬مل أفهــم دوافعهــا إال اآلن‪ ،‬اآلن فقــط أدرك‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫مقولــة «مــن احلــب مــا قتــل» لكــن مــا لدهيــا مل يكــن ح ًبــا‪ ،‬كان ً‬
‫هوســا‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫حيــا بالكونــت‪ ،‬ورغبـ ًة يف تعظيــم أدواتــه‪ ..‬كانــت تريــد منــي أن أقتــل‬ ‫رص ً‬
‫الكونــت ويــارس م ًعــا‪ ،‬قلــت هلــا هبــدوء‪:‬‬
‫‪ -‬فيــه أســطورة معروفــة عــن بنَّــاء اســمه ســنامر‪ ..‬بنــى قــر عظيــم‬
‫مللــك عــريب‪ ،‬وبعــد مــا خلــص قــال للملــك إن فيــه حجــر يف القــر لــو‬
‫اتشــال مــن مكانــه القــر كلــه ممكــن يقــع‪ ..‬فــراح امللــك قتلــه‪.‬‬

‫‪253‬‬
‫فهمت تلميحي‪ ..‬فسألتني باهتامم‪:‬‬
‫َ‬
‫‪ -‬وإيه احلجر اليل ممكن يوقع كل اليل أنا عملته؟!‬
‫مبتسم‪:‬‬
‫ً‬ ‫أجبتها‬
‫‪ِ -‬‬
‫أنــت راهنتــي عــى اخلواجــة‪ ،‬وأنــا راهنــت عــى آدم‪ ..‬ورهــاين‬
‫كان احلجــر ده‪ ،‬متخافيــش أنــا معاكــي يف إن الكونــت الزم يمــوت‪،‬‬
‫متخافيــش‪.‬‬
‫مل يبــدُ عليهــا أهنــا قــد ســمعت مجلتــي األخــرة‪ ..‬كانــت منتشــية‬

‫ﻋﺼ‬
‫بانتصارهــا املزعــوم‪ ،‬وخطتهــا التــي مل تُكشــف إال وقتــا أرادت‪ ،‬ســألتني‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫إن كنــت قــد اســتمتعت بالقتــل مــن قبــل‪ ..‬أجبتهــا أننــي مل أقتــل دون‬
‫غــرض إال ملــرة واحــدة بح ًثــا عــن متعــة أعظــم‪ ،‬لكــن األمــر انقلــب‬
‫ﻜﺘ‬
‫ـي ألول مــرة؛ فــإن مــات‬‫ـي؛ وشــعرت أن ضحيتــي هــي مــن تســيطر عـ َّ‬ ‫عـ َّ‬
‫املحكــوم فــا نفــع للحاكــم‪ ..‬مل يبــدُ عــى داليــا أهنــا اقتنعــت بكالمــي‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫هنضــت متوجهــة نحــوي‪ ،‬أخربتنــي أهنــا كانــت ختدعنــي فيــا يتعلــق‬


‫مسدســا مــزو ًدا‬
‫ً‬ ‫ض؛ وضعــت‬ ‫بغــرام ومليكــة؛ فكلتامهــا مل يمســهام ُ ٌ‬
‫ﺸﺮ‬

‫بكاتــم للصــوت يف يــدي وقالــت‪:‬‬


‫ﻭ‬

‫‪ -‬ألول مــرة مــن فــرة طويلــة هســيب لــك حــق االختيــار‪ ..‬تبقــى‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫يــارس الفاشــل املرفــود مــن شــغله والــي ماحــدش بيحرتمــه‪ ،‬والــي‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫اختفــى يف عــز احتيــاج أهلــه ليــه‪ ،‬وال ترتقــى وتبقــى «املاركيــز»؟!‬


‫أردفت قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬املســدس فيــه طلقــة واحــدة‪ ..‬تقــدر ترضهبــا فيــا وتبقــى اخــرت‬
‫يــارس الــي كل مراكــب حياتــه احترقــت متا ًمــا‪ ..‬وتقــدر تســيبها مكاهنــا‪،‬‬
‫وختــرج تســتناين يف أي مــكان حلــد مــا أبلــغ مراتــك وبنتــك بخــر وفــاة‬

‫‪254‬‬
‫أســتاذ يــارس الطائــي‪ ،‬وأبــر نفــي بميــاد «املاركيــز»‪.‬‬
‫مــرت كل أحــداث حيــايت أمــام عينــي؛ كل مــا أرغمــت عــى فعلــه‪،‬‬
‫واختيــارايت املحــدودة التــي ُأجــرت عليهــا بطريقــة أو بأخــرى‪ .‬رأيــت‬
‫الطائــي وآدم ومتَّــام وعــاء الديــن والكنعــاين وهشــام عــديل وكل مــن‬
‫وقربتــه مــن رأيس‪ ،‬ملحــت الرتقــب‬ ‫آذيتهــم وآذوين‪ .‬التقطــت الســاح ّ‬
‫ـكل واضــح‪ ..‬فأبعــدت املســدس‬ ‫يف عينــي داليــا‪ ،‬حتــرك جانــب فمهــا بشـ ٍ‬
‫عــن رأيس قليـ ًـا‪ ،‬فكــرت يف الفائــدة مــن وجــودي‪ ،‬مقيـ ًـا أنســب خيــار‬

‫ﻋﺼ‬
‫يصــب يف صالــح غــرام ومليكــة بعــد كل مــا مــرا بــه‪ ..‬وضغطــت الزنــاد‬
‫ـررا أول خيــار صحيــح يف حيــايت‪.‬‬ ‫مقـ ً‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫***‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪255‬‬
‫بداية موفقة‪..‬‬

‫القاهرة ‪2034‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬بابا‪ ..‬هو ينفع نقرأ الفاحتة عىل روح واحد مسيحي؟!‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫هكــذا ســألتني مليكــة التــي أصبحــت مراهقــة اآلن‪ ،‬تذكــرت حاهلــا‬
‫وقــت رحيــل «آدم» منــذ عــر ســنوات‪ ..‬مل أشــعر بمــرور كل هــذا‬
‫ﻜﺘ‬
‫الوقــت؛ كأننــا باألمــس‪ ،‬وقــت أن كانــت مليكــة طفلتــي الوحيــدة قبــل‬
‫أن يشــاركها «مالــك» يف قلبــي الــذي مل يعــد شــا ًبا‪ ،‬بعــد أن غــزاه الشــيب‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫كــا غــزت آثــار الكهولــة ســائر جســدي‪.‬‬


‫ناظرا نحو اسم آدم املنحوت فوق قربه‪:‬‬
‫أجبتها ً‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬عمــو آدم اهلل يرمحــه ســاعدين أنقــذ حياتــك ِ‬


‫أنــت ومامــا‪ ،‬وكان‬
‫ﻭ‬

‫َّ‬
‫مســخر كل وقتــه يف مســاعدة املحتاجــن‪ ..‬فأظــن موضــوع الفاحتــة ده‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ممكــن نســيبه لربنــا‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫انتهيــت مــن وضــع الزهــور فــوق قــر «آدم حبيــب» الــذي مل ي ُعــد‬
‫«خواجــة»‪ ..‬مل أفــوت ذكــرى ســنوية مــن العــر التــي مــرت عليــه‪،‬‬
‫وكذلــك مل يفعــل «أرشف» الــذي شــاركني يف تِركــة آدم‪ ،‬ففتحنــا مركـ ًـزا‬
‫كبــرا لصيانــة الكمبيوتــر‪ ،‬وأســميناه «اخلواجــة» امتنانًــا ملــا فعلــه آدم‬
‫ً‬
‫معنــا‪ ،‬اســتعنّا بخــرات مــن هــم أقــدم منّــا‪ ،‬وبالقليــل مــن احلــظ‪ ،‬فتمكنّــا‬

‫‪256‬‬
‫مــن تطويــره يف فــرة وجيــزة‪ ..‬حتــى أصبــح العمــل باملركــز حلـ ًـا ألي‬
‫مهنــدس كمبيوتــر مبتــدئ‪.‬‬
‫تركتنــي مليكــة مــع أرشف‪ ،‬أخربتنــي أهنا ســتنتظرين داخل الســيارة‪..‬‬
‫ـائل عــن أحوالــه‪ ..‬أخــرين برغبتــه يف الــزواج مــن إحــدى‬ ‫صافحتــه متسـ ً‬
‫العامــات باملركــز‪ ،‬كان يتحــدث عنهــا باهتــام حقيقــي‪ ..‬فأعطيتــه‬
‫مباركتــي التــي ال قيمــة هلــا‪ ،‬وذكَّرتــه أن يســمي مولــوده املســتقبيل «آدم»‪.‬‬
‫ودعــت أرشف الــذي انتظــر يف املدفــن ليــوزع نفحاتــه عــى األطفــال‬

‫ﻋﺼ‬
‫مــن متســويل املقابــر‪ ..‬ترمحــت عــى آدم الــذي غــر مســار حيــاة أرشف‪،‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫أيضــا‪ ،‬غفــرت لــه كل مــا ارتكبــه يف حقــي وحــق أرسيت حــن‬
‫ﻜﺘ‬ ‫وحيــايت أنــا ً‬
‫مكروهــا لكــن‬
‫ً‬ ‫تعــاون مــع داليــا دون علمــي‪ ..‬كانــت كإبليــس؛ تــدرك‬
‫ـرورا مــر ًة أخــرى‪،‬‬
‫ً‬ ‫ال يمكنــك اخلــاص منــه؛ فتحاربــه مــرة وتطيعــه مـ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫حتــى تقــوم ســاعتكام‪.‬‬


‫أشــارت مليكــة نحــوي حتــى أرسع؛ كنــت أعلــم أهنــا هتــاب زيــارة‬
‫ﺸﺮ‬

‫ـوزا أكلهــا‬
‫القبــور مثــي‪ ..‬أثنــاء توجهــي نحــو الســيارة ملحــت ســيدة عجـ ً‬
‫أكل‪ ،‬افرتشــت األرض ســاندة ظهرهــا عــى أحــد شــواهد القبــور‬ ‫الدهــر ً‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫التــي رســم الصليــب فــوق مجيعهــا‪ ،‬كان صغــار املتســولني يضايقوهنــا‬


‫ويلعبــون حوهلــا‪ ،‬فصحــت فيهــم كــي يبتعــدوا‪ ،‬ووضعــت يف يدهــا‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ـوت أعيــاه املــرض‬‫رزمــة كبــرة مــن املــال‪ ،‬اهنالــت عــي بالدعــاء‪ ،‬بصـ ٍ‬
‫َّ‬
‫فربــت عــى‬
‫ُّ‬ ‫وأهنكتــه دورة احليــاة‪ ،‬ســألتني عــن دعــوة أحتــاج إليهــا‪،‬‬
‫ـوت منخفــض‪:‬‬ ‫يدهــا وأنــا أســلمها املــال‪ ،‬وقلــت هلــا بصـ ٍ‬

‫‪ -‬ادعي يل بالسرت يا أمي‪.‬‬

‫‪257‬‬
‫خفضــت صــوت مســجل الســيارة التــي شــغلته مليكــة‪ ،‬أمرهتــا‬
‫أن تقــدر حرمــة األمــوات‪ ..‬أخربتنــي أن أمهــا قــد اتصلــت لتبلغنــي‬
‫باســتعدادها هــي ومالــك لرحلــة الســفر التــي وعدهتــم هبــا يف أيــام‬
‫عطلتــي مــن املركــز‪ ..‬حذرتنــي مازحــ ًة مــن أن «غــرام» تفتــح هاتفــي‬
‫لتقلــب يف حمتوياتــه مــن ٍ‬
‫آن آلخــر فأخربهتــا بصــدق أننــي ال أمتلــك شــي ًئا‬
‫عــى هــذا اهلاتــف ألخفيــه‪.‬‬
‫ظلــت مليكــة جالســة إىل جــواري أثنــاء رحلتنــا إىل البيــت‪ ،‬هتــز‬

‫ﻋﺼ‬
‫قدميهــا بعصبيــة واضحــة‪ ،‬وتقضــم أظافرهــا حتــى كاد حلــم أصابعهــا أن‬
‫يظهــر‪ ..‬ظننــت أن هرموناهتــا تتالعــب هبــا‪ ،‬أو أهنــا تعرفــت عــى شــاب‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫مــن النــادي الريــايض أو مــن املدرســة الثانويــة وختشــى مصارحتــي‪..‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫نظــرت هلــا مبتسـ ًـا وقلــت هبــدوء‪:‬‬
‫أنت كويسة يا مليكة؟ بقى لك كام يوم مش كويسة‪.‬‬ ‫‪ِ -‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫إنكارا‪ ..‬قلت هلا‪:‬‬


‫ً‬ ‫مل ترد‪ ،‬فرتمجت صمتها أنه حرية وليس‬
‫‪ -‬عىل فكرة مالك قال يل عىل اليل شافه‪..‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫بــدا عليهــا الفــزع الشــديد‪ ،‬راحــت تقســم بأعظــم األيــان أنــه لــن‬
‫ﻭ‬

‫يتكــرر‪ ..‬قلــت هبــدوء‪:‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أنت عارفة إنك غلطانة‪ ..‬صح؟‬ ‫‪ِ -‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬آسفة‪.‬‬
‫ضحكت ضحكة قصرية لتغري املوضوع‪ ،‬قالت بلهجة مصطنعة‪:‬‬
‫‪ -‬قلبــك أبيــض يــا طائــي‪ ..‬بعديــن مــا أنــت الــي قلــت يل إنــك بتكــره‬
‫القطــط‪ ..‬حصــل خــر بقى‪.‬‬
‫قلت هلا بلهجة جادة‪:‬‬

‫‪258‬‬
‫ِ‬
‫وأنت رابطة القط بتاعك وبتعذبيه‪..‬‬ ‫ِ‬
‫أخوك الصغري شافك‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬أنــا معرفــش عملــت كــده ليــه يف «روين»‪ ..‬ده صاحبــي مــن وأنــا‬
‫صغــرة‪.‬‬
‫سألتها باهتامم‪:‬‬
‫‪ -‬بتحيس بإيه وأنتي بترضبيه؟‬
‫‪ -‬برصاحــة‪ ..‬إحســاس إين بتحكــم يف احلاجــة الوحيــدة الــي ملكــي‬
‫ده عظيــم‪..‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫استدركت معتذرة حني مل جتد مني جتاو ًبا مع ما تقول‪:‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬بس وعد مش هعذبه تاين‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫أجبتها هبدوء‪:‬‬
‫‪ -‬الطبع بيطلع بعد الروح‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫فكرت يف هلجة أخرى لالعتذار‪ ،‬قاطعت أفكارها ً‬


‫قائل‪:‬‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫أخوك شافه!‬ ‫‪ -‬الغلط مش يف إنك عذبتيه‪ ..‬الغلط يف إن‬
‫ﺸﺮ‬

‫هــزت مليكــة رأســها لتهــاودين‪ ،‬حتــى اســتوعبت مــا أقــول‬


‫فاســتدركت مندهشــة‪ ،‬بــدت عليهــا احلــرة ممــا قلــت‪ ..‬تذكـ ُ‬
‫ـرت احلــوار‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫الــذي دار مــع «داليــا» يف منــزل ســلوى قبــل أن أحســم قــراري باخلالص‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫مــن «الكونــت» هنائ ًيــا‪ ..‬نبهتنــي مليكــة إىل رشودي‪ ،‬فقلــت هلــا بلهجــة‬
‫عمليــة‪:‬‬
‫‪ -‬أنـ ِ‬
‫ـت مــش فاكــرة حاجــة مــن الفــرة الــي مامــا كانــت حامــل فيهــا‬
‫يف مالــك‪ ..‬ملــا كانــت قاعــدة فــوق يف شــقة عمتــك؟ يــوم مــا صاحلتهــا‬
‫ببوكيــه ورد‪ِ ،‬‬
‫وجبــت لــك القــط الــي كان نفســك فيــه؟‬

‫‪259‬‬
‫‪ -‬ال الفــرة دي بالــذات نســياها‪ ،‬مــع إين فاكــرة حاجــات قبلهــا؛‬
‫زي طنــط ســلوى وعمــو رايف اهلل يرمحهــم‪ ..‬كل الــي فاكــراه إين دخلــت‬
‫ابتدائــي متأخــر ســنة بســببها!‬
‫أتذكــر أننــي ســألت غــرام أكثــر مــن مــرة عــن هــذه الفــرة‪ ،‬فكانــت‬
‫جتيبنــي كل مــرة بــردود مبهمــة كأن عقلهــا ال يريــد أن يتذكــر هــذه احلقبــة‬
‫مــن األســاس‪ ..‬رفضــت داليــا إخبــاري بــا فعلتــه فيهــا؛ وانطفــأ فضــويل‬
‫جتــاه املعرفــة‪ ،‬تذكــرت آخــر مــا قالــه يل آدم والــذي جعلنــي أحســم‬

‫ﻋﺼ‬
‫قــراري يــوم أن واجهتهــا‪..‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫«‪ -‬هتالقــي مــع أرشف فالشــة عليهــا ‪ bitcoins‬كتــر ‪ ،‬أنــا مارصفتــش‬
‫ﻜﺘ‬
‫جنيــه واحــد مــن املاليــن الــي اتدفعــت فيــك‪ ،‬وكل مــايض الكونــت أنــا‬
‫مســحته متا ًمــا‪ ،‬أمتنــى تقــدر تبــدأ مــن جديــد‪..‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫افتكــر أصلــك واختــاره‪ ..‬األصــل الزم يعيــش‪ ..‬عشــان يقــدر يصنع‬


‫صــور جديدة‪».‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫مــددت يــدي إىل علبــة األســطوانات املوضوعــة إىل جــواري يف‬


‫بعضــا مــن معزوفــات العــود ملحمــد‬ ‫الســيارة‪ ،‬أخرجــت أســطوانة تضــم ً‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫عبــد الوهــاب‪ ،‬قلــت ملليكــة بلهجــة حانيــة‪:‬‬


‫‪ -‬الــي أنـ ِ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ـت فيــه ده مــش عيــب‪ ،‬كلنــا عندنــا أهــواء غريبــة‪ ،‬أهــواء لــو‬
‫شــوفنا غرينــا بيعملهــا ممكــن منقبلهــاش منــه‪ ..‬النــاس أمزجــة‪.‬‬
‫بدا عليها اخلجل‪ ،‬عقبت بصوت خفيض‪:‬‬
‫‪ -‬بس أنا مزاجي ده غريب جدً ا‪.‬‬
‫أنت ست الناس كلها‪.‬‬‫‪ -‬ماتتكسفيش من نفسك‪ِ ،‬‬

‫‪260‬‬
‫أكملــت حديثــي مســتعيدً ا ذكريــايت مــع «عــاء الديــن» يف زقــاق‬
‫احلانــة الــذي مل أنســه حلظــ ًة‪:‬‬
‫‪ -‬أهــم حاجــة‪ ..‬ماحــدش يعــرف الــي بتعمليــه ده غــري‪ ،‬النــاس‬
‫لــو عرفــت مــش هريمحوكــي‪ ..‬أنــا هســاعدك حتــويل شــعورك ده حلاجــة‬
‫أعظــم بكتــر‪..‬‬
‫أخربهتــا برغبتــي يف أن أدرهبــا عــى العمــل معــي‪ ،‬ردت أهنــا ال حتــب‬
‫الوقــوف يف مركــز الصيانــة وال حتــب أرشف كذلــك‪ ..‬قلــت هلــا أن‬

‫ﻋﺼ‬
‫رسا حتــى عــن أمهــا‬‫عملنــا ســيكون بعيــدً ا عــن املركــز متا ًمــا‪ ،‬ســيصبح ً‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫وأخيهــا‪َ ،‬ب َّشهتــا أن تســتعد ملرحلــة جديــدة مــن حياهتــا؛ حيــث ســتقطع‬
‫الكثــر مــن اخلطــوات نحــو ذاهتــا احلقيقيــة‪ ،‬مرحلــة لــن يعلــم أحــد عنهــا‬
‫ﻜﺘ‬
‫شــي ًئا ســوانا‪ ،‬تــردد يف عقــي صــوت يقــول‪:‬‬
‫بك يف عامل «املاركيز»‪..‬‬ ‫أهل ِ‬‫‪ -‬مليكتي العزيزة‪ً ..‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫متت حبمد اهلل‬


‫ﺸﺮ‬

‫الرشقية‪ 2 ..‬أكتوبر ‪2017‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫عبد الرمحن جاويش‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫***‬

‫‪261‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻋﺼ‬
‫شكر خاص‪:‬‬

‫لــكل مــن اقتطــع مــن وقتــه وجمهــوده ملعاونتــي خــال رحلتــي مــع‬
‫«الكونــت»؛ يف املجــال البحثــي أو يف مراجعــة الروايــة ذاهتــا‪:‬‬

‫‪ -‬جزيــل العرفــان لألعــزاء‪ :‬أخــي الكبــر و»أنتيمي» حممــد عصمت‪،‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫أ‪ .‬منتــر أمــن‪ ،‬أ‪ .‬حممــد الصفتي‪.‬‬

‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬د‪ .‬حممــد طــه استشــاري وأســتاذ الطــب النفــي بكليــة الطــب‪-‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫جامعــة املنيــا‪ ،‬وعضــو اجلمعيــة األمريكيــة للعــاج النفــي اجلمعــي‪،‬‬
‫ومؤلــف كتــاب (اخلــروج عــن النــص) وكتــاب (عالقــات خطــرة)‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬أصدقائــي ممــن ســاعدوين يف إخــراج هــذا العمــل بصــورة أرىض‬


‫عنهــا‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫م‪ .‬حممــود شــعبان‪ ،‬الباحــث أمحــد جاويــش‪ ،‬أ رضــوى أبــو العبــاس‪،‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫م‪ .‬عبــد الرمحــن ممــدوح‪ ،‬د‪ .‬نورهــان حممــد‪ ،‬د‪ .‬مصطفــى عــزت‪ ،‬أ‪ .‬ريــم‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫رجائــي‪ ،‬م‪ .‬أمحــد ســليم‪ ،‬م‪ .‬حممــد مخيــس ‪ ،‬أ‪ .‬فرحــة حممــد‪.‬‬

‫‪ -‬لــكل مــن عمــل جاهــدً ا يف اإلعــان عــن هــذا العمــل‪ :‬دار تويــا‬
‫ممثلــة يف أ‪ .‬هالــة البشــبييش وأ‪ .‬رشيــف الليثــي‪ ،‬واملخــرج نــور الديــن‬
‫الســعيد‪ ،‬واملصـ ِّـور د‪ .‬حممــد ناجــي عبــداهلل‪ ،‬واملمثــل وليــد عبــد الغنــي‪.‬‬

‫‪263‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻋﺼ‬

You might also like