Professional Documents
Culture Documents
T Me/bookjuice
T Me/bookjuice
الكونت
ﺍﻟﺘﻮ
ﺮﻭ
ﻨﺸ
ﺐ ﻟﻠ
T.me/Bookjuice
ﻜﺘ
ﲑ ﺍﻟ
ﻋﺼ
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
الكتاب :الكونت
ﺐ ﻟﻠ
تدقيق لغوي:
ﺮﻭ
(+2) 01000706014
dartoya2015@gmail.com ردمك978-977-6549-55-5 :
ﺯﻳﻊ
الكونت
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠ
بقواعدي سنلعب..
ﻨﺸ
رواية
ﺮﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
ﻟﻠﻣزﯾد ﻣن اﻟﻛﺗب اﻟﺣﺻرﯾﺔ
ﻋﺼ
زوروا ﻣوﻗﻌﻧﺎ
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ﻣوﻗﻊ ﻋﺻﯾر اﻟﻛﺗب
ﺐ ﻟﻠ
ﻨﺸ
ﺮﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
www.booksjuice.com
ﺯﻳﻊ
T.me/Bookjuice
إهداء:
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
نورا بقدومك. -إىل «مالك جاويش» ..ازداد َ
العال ُ ً
ﺐ ﻟﻠ
-إىل كل ُم ِ
لهم.
ﻨﺸ
ﺮﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
5
ﺯﻳﻊ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺮﻭ
ﻨﺸ
ﺐ ﻟﻠ
ﻜﺘ
ﲑ ﺍﻟ
ﻋﺼ
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
« -كيف يفرض اإلنسان سلطته عىل إنسان آخر يا وينستون؟
-بأن يجعله يعاين».
ﺐ ﻟﻠ
جورج أورويل
ﻨﺸ
رواية 1984
ﺮﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
7
ﺯﻳﻊ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺮﻭ
ﻨﺸ
ﺐ ﻟﻠ
ﻜﺘ
ﲑ ﺍﻟ
ﻋﺼ
بداية غري موفقة..
أعلــم أن هــذه ليســت البدايــة ا ُملثــى ألرسد عليــك مــا أريــدك أن تعرفــه
عنــي ..فأنــا اآلن يف وضــع ال حيســدين عليــه إال خمتــل؛ أقــود ســياريت برسعة
ﻋﺼ
فاقــت مصطلــح الرسعــة اجلنونيــة بقليــل ،كانــت هــذه ثالــث إشــارة مــرور
أجتازهــا ،يف طريــق كورنيــش اإلســكندرية ،دون تو ُّقــف وســط دهشــة
ﲑ ﺍﻟ
الســائقني وإشــارات املــارة البذيئــة مــن حــويل .زدت مــن ضغــط قدمــي
ﻜﺘ
عــى دواســة البنزيــن غــر عابــئ هبــم ،كــا مل أعبــأ باملطبــات التــي ختطيتهــا
بكامــل رسعتــي وال برائحــة البنزيــن املحــرق داخــل ســياريت املتهالكــة،
ﺐ ﻟﻠ
وال هبــواء نوفمــر البــارد الــذي يرتطــم بوجهــي مــن نافــذة الســيارة..
حمــاول االتصــال بزوجتــي ،لكــن -كــا ً أخرجــت هاتفــي املحمــول
ُ
ﻨﺸ
أخــرا إىل حمــل إقامتــي بـ»حمطــة الرمــل» ..مل أركــض هبــذهً وصلــت
ُ
ﺍﻟﺘﻮ
9
حاولــت التفكــر فيــا حــدث منــذ أن تلقيــت تلــك الرســالة جمهولــة
املصــدر ،والتــي أعلمتنــي بوجــود خطــر هيددمهــا .توجهــت إىل املطبــخ
شــممت رائحــة غريبــة تنبعــث منــه؛ ألجــد الكثــر مــن احلليــب
ُ بعــد أن
املســكوب عــى املوقــد بعــد أن فــار معظمــه وخــرج عــن اإلنــاء ،أغلقــت
توجهــت إىل غرفــة مكتبــي الصغــرة ،تعثــرت حمبــس الغــاز رسي ًعــا ..ثــم َّ
يف إحــدى ألعــاب مليكــة امللقــاة عــى األرض بجــوار مزهريــة حمطمــة وقــد
تناثــر منهــا الــورد البالســتيكي.
ﻋﺼ
فتحــت بــاب الغرفــة التــي تبعثــرت حمتوياهتــا ..مل تتحملنــي أقدامــي
ﲑ ﺍﻟ
أكثــر مــن هــذا فرقــدت عــى األرض مســتندً ا بظهــري إىل احلائــط املجــاور
ـي ،عاتبــت نفــي عــى فقــدان غــرام ـت وجهــي بكفـ َّلبــاب الغرفــة ..أحطـ ُ
ﻜﺘ
كنــت عــى يقــن أن ال ذنــب يل فيــا حــدث ،لكــن ال بــد ممــن ُ ومليكــة؛
ـت
ـب عليــه ســخطي ..أعلــم أن الوقــت ليــس مناسـ ًبا لالهنيــار؛ فرشعـ ُ أصـ ُّ
ﺐ ﻟﻠ
أتذكــر كافــة األحــداث التــي أوصلتنــي إىل هــذه النقطــة ..وقــد قــررت أن
ﻨﺸ
***
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
10
-1انهيار
ﻋﺼ
ﲑ ﺍﻟ
خــاف معظــم أبنــاء جيلــه؛ مل يكــن «يــارس عبــد احلــي الطائي» يتشــاءم
ﻜﺘ
مــن يــوم الثالثــاء ..كان يــراه كأي يــو ٍم آخــر ُيســلب مــن ســنني عمــره التــي
ســيبلغ عددهــا اليــوم مخســة وثالثــن .يقــود ســيارته عتيقــة الطــراز برسعــة
ﺐ ﻟﻠ
ـرا مــن املســموح هبــا عــى كورنيــش اإلســكندرية ،ملتز ًمــا بالســر أقــل كثـ ً
يف احلــارة اليمنــى مــن الطريــق الرطــب بأمطــار ســقطت صبــاح اليــوم.
ﻨﺸ
أجــل إصــاح فراملهــا العــارة الــذي يســكُن لديــه يف «ســيدي بــر»َّ ،
الثقيلــة حتــى اعتــاد ثقلهــا ،كــا اعتــاد ذلــك الثقــب األســود الظاهــر عــى
ﺯﻳﻊ
مخــن أنــه قــد نتــج عــن ســقوط عقــب ســيجارة ،حــاول املقعــد املجــاور لــهَّ ،
أن خيفيــه بأكثــر مــن طريقــة لكنــه فشــل؛ ليــرك هــذا الثقــب أثـ ًـرا ســي ًئا يف
نفســه التــي اعتــادت النظــام ،فحــاول جتاهلــه ورصف نظــره عــن العنايــة
بالســيارة ،حتــى امتــأت الكنبــة اخللفيــة بمخلفــات ابنتــه مليكــة وألعاهبــا.
11
اقــرب برأســه مــن مذيــاع الســيارة ع َّلــه يميــز األغنيــة الصــادرة عنــه
«ج ْفنُ ـ ُه..
وســط الكثــر مــن األصــوات املشوشــة ..التقطــت أذنــاه حلــن َ
علــم الغــزل» الشــهري ملحمــد عبــد الوهــاب ..فأغلــق املذيــاع -الــذي
كثــرا مــن حــال الســيارة -وراح يدنــدن األغنيــة ً مل يكــن حالــه أفضــل
بنفســه معتمــدً ا عــى ذاكرتــه الســمعية ،طــرق بدبلتــه الفضيــة املســتقرة يف
يــراه عــى مقــود الســيارة صان ًعــا موســيقى خافتــة ،حــاول تقليــد «عبــد
الوهــاب» مدند ًنــا« :كيــف يشــكو مــن الظمــأ مــن لــه هــذه العيــون».
ﻋﺼ
انــرف بتفكــره عــن كل مــا حولــه ،واستســلم لرائحــة يــود البحــر
ﲑ ﺍﻟ
التــي مل يعتدهــا أنفــه بعــد ،عــى الرغــم مــن انتقالــه لإلقامــة يف اإلســكندرية
منــذ ســنني ..أثــارت الرائحــة بداخلــه الكثــر مــن اخلواطــر والشــجون؛
ﻜﺘ
بداي ـ ًة مــن طفولــة تعســة قضاهــا مــع والــده يف القاهــرة ،مـ ً
ـرورا بدراســة
الصدفــة الســتكامل مل حيبهــا بكليــة اهلندســة ..وبعثــة جاءتــه عــن طريــق ُ
ﺐ ﻟﻠ
12
تعويضــا ماد ًيــا؛ فقــد اعتــر أن الرجــل قــد
ً برسعــة دون أن يعــرض عليــه
أخــذ حقــه ســبا ًبا ..تركــه الســائق يرحــل حــن استشــف أن حالتــه املاديــة
لــن تفــي بالتعويــض ،مود ًعــا إ ّيــاه باملزيــد مــن الســباب وبإشــارة بذيئــة مــن
إصبعــه األوســط.
بعــد دقائــق توقــف يــارس عــى جانــب مــن الطريــق ،التقــط أنفاســه
حمــاول التخلــص مــن األثــر الــذي خلفتــه تلــك احلادثــة يف جهــازه ً
العصبــي ،رضب مقــود الســيارة براحــة يــده يف غضــب ،أطلــق رصخــة
ﻋﺼ
رن هاتفــه املحمــول الــذي ظهــر عــى شاشــته مكتومــة أقــرب لألنــنَّ ..
ﲑ ﺍﻟ
اســم «غــرام» مرســو ًما إىل جــواره شــكل القلــب ،قطــع عليهــا حماولــة
االتصــال ليعلمهــا باقرتابــه مــن املنــزل ..نظــر يف مــرآة ســيارته ليهنــدم
ﻜﺘ
شــعره الــذي تســاقط بعضــه وأصــاب الشــيب اخلفيــف بعضــه اآلخــر..
طالــع باقــي األثــر الــذي تركتــه مخســة وثالثــون عا ًمــا عــى وجهــه؛ كان
ﺐ ﻟﻠﻨ
عــى درجــة مــن بيــاض البــرة ،قصــر الشــعر حليــق الوجــه ،حــاد
ﺸﺮ
القســات ،بــرزت عظــام وجنتيــه بشــكل زاده وســامة ..مل تكــن مالحمــه
بالتفــرس فيهــا.
ُّ اجلامــدة تُغــري مــن يــراه ألول مــرة
ﻭ
رن هاتفــهمتوجهــا إىل املنــزلَّ ، بعــد أن هــدأ قليـ ًـا أدار حمــرك الســيارة
ﺍﻟﺘﻮ
ً
املحمــول ،هــم أن يلغــي االتصــال ثانيـ ًة قبــل أن يــدرك أن مديــرة املدرســة
ﺯﻳﻊ
التــي يعمــل هبــا هــي مــن تتصــل .أجــاب اهلاتــف بلهجتــه املتلعثمــة قليـ ًـا:
-خـ ...خـخـ ..خري يا دكتورة أسامء؟
ســمع عــى اجلانــب اآلخــر الكثــر مــن اجللبــة؛ مــا بــن أصــوات رجــال
حمتــدة وصيــاح بعــض الســيدات الــذي وصــل حــد الــراخ ..حاولــت
13
عــال ٍ
بصــوت ٍ وجهــت حديثهــا لــه قائلــ ًة
املديــرة إســكات مــن حوهلــاَّ ،
وبلهجــة حاولــت أن تبــدو متامســكة:
-مسرت يارس الزم تيجي بكرة بدري عن ميعاد املدرسة.
ـذرا عــن تنفيــذ طلبهــا ،أخربهــا أنــه يعمــل يومــي األربعاء
ر َّد يــارس معتـ ً
واخلميــس يف مدرســة أخــرى بالقاهــرة ،وأنــه قــد ن َّظــم جــدول حصصــه
معهــا عــى هــذا األســاس ..أخربتــه بلهجــة حازمــة أن املوضــوع ال عالقــة
لــه باحلصــص ،وأن مجيــع أعضــاء هيئــة التدريــس جيــب أن حيــروا صباح
ﻋﺼ
الغــد ،أمرتــه بصيغــة الطلــب أن يتغيــب عــن ا َملدرســة الثانيــة التــي يعمــل
ﲑ ﺍﻟ
مضطــرا،
ً يعــوض حصصــه معهــم يف أي يــو ٍم آخــر ..فوافــق
ﻜﺘ هبــا ،وأن ِّ
ســأهلا عــن األمــر اجللــل الــذي يســتدعي حضــور اجلميــع ..ر َّدت بلهجــة
مل ختـ ُـل مــن الصدمــة:
ﺐ ﻟﻠﻨ
-مســر حممــود صقــر مــدرس اللغــة العربيــة اختانــق مــع طالــب مــن
املرحلــة الثانويــة.
ﺸﺮ
ســأهلا يــارس وهــو يقضــم أظافــره عــا إذا كان قــد أصــاب الطالــب
مكــروه ،فــردت أســاء باقتضــاب:
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
***
كان مكاوي قوا ًدا..
اتفــق مجيــع مــن يعرفونــه عــى احرتامــه الغريــب ملهنتــه التــي ورثهــا
عــن أبيــه منــذ أن كان اســمها « ُقـ َـرين» ..قبــل أن يطلــق عــى نفســه لقــب
«صاحــب البهجــة» ..طلبــت منــه زوجتــه أن يعتــزل املهنــة بعــد أن مجــع
14
منهــا مــا يكفيهــا حتــى املــوت؛ فاعتــزل الزوجــة وتــزوج مهنتــه ،احــرم
عملــه وقــرأ يف تاريــخ مهنتــه ،عــرف أهنــا قديمــة قــدم اإلنســانية؛ حــن
كان يضيــق احلــال بأحــد الســادة فيســوق جواريــه لباقــي األســياد ،لكــن
مــكاوي -عــى عكســهم -مل يطمــع لنفســه يف نســبة كبــرة مــن املــال ،ومل
يغصــب إحداه ـ ّن يو ًمــا عــى العمــل حتــت ظلــه.
اعتــر عملــه خدمــة للبــر الذيــن طحنتهــم احليــاة؛ فيــأيت هــو كفــارس
نبيــل ليحررهــم مــن قيودهــا ،ويطلــق العنــان ألقــى شــهواهتم ..مل يكــن
ﻋﺼ
متصاحلًــا مــع حقيقتــه ،ألنــه مل يدخــل خال ًفــا معهــا مــن األســاس!
ﲑ ﺍﻟ
كان متيقنًــا مــن أن مجيــع منتقديــه جمــرد كارهــن لــه ،حاقديــن عــى مهمته
ﻜﺘ
الســامية يف إســعاد البــر ،يتمنــى أن يــروا احليــاة بعينيــه ..فهــو مل يرغــم أحــدً ا
عــى العمــل ،مل يــرق يو ًمــا زبائنــه مــن منافــس آخــر؛ لكنهــم يأتونــه مــن
ﺐ ﻟﻠﻨ
كل مــكان ،يرتجونــه كــي ُينســيهم مهــوم احليــاة ،كان جيــدً ا يف قــراءة البــر؛
يعــرف مــا الــذي يمتعهــم ويوفــره هلــم ،ومــا الــذي خييفهــم فيبعــده عنهــم،
ﺸﺮ
إحساســا بقدرتــه عــى كل يشء.. ً حتــى أوصــل جلميــع مــن حولــه
وعــى الرغــم مــن وفــرة النســاء واســتقامة ميولــه ،إال أنــه مل يلمــس
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
إحــدى العامــات معــه ،كان يؤمــن باحلكمــة التــي تقــول« :ال ختــرج
فضالتــك حيــث تــأكل» ..كان يعلــم أن عواقــب اجلنــس تفســد كل يشء.
ﺯﻳﻊ
بــدأ عملــه عــى أنقــاض امللهــى الليــي اخلــاص بوالــده الــذي مل يكــن
ُيــدار بشــكل احــرايف؛ فبــدأ يف تطويــر املــكان وإجــراء اختبــارات جلميــع
املتقدمــن للعمــل فيــه كأي كيــان اقتصــادي حمــرم ،أطلــق عــى نفســه لقب
ووســع نشــاطه ليشــمل توفــر املتعــة للنــاس كافــة
ـرا َّ «مســر» ،بــدأ صغـ ً
15
مــن ذوي األهــواء املختلفــة ..شــطب كلمــة «ال» مــن قاموســه؛ فــكل يشء
«ممكــن» متــى حــرت األمــوال.
مل تكــن الليلــة صاخبــة يف امللهــى الليــي كمعظــم ليــايل الثالثــاء؛ كان
مــكاوي يتطــر مــن مرتــادي امللهــى يف هــذا اليــوم ،عــى غــرار ممثــي
املــرح الذيــن يتشــاءمون مــن مجهــور يــوم الســبت الــذي ال يضحــك
كجمهــور باقــي األســبوع ..تأمــل صورتــه املعلقــة عــى احلائــط بإعجــاب
شــديد؛ كان كهـ ًـا واســع العينــن ،شــديد الســار ،نحيــل اجلســد ..كان
ﻋﺼ
دائــا قبعــة
حيــب ارتــداء البــذالت باهظــة الثمــن ،ويضــع عــى رأســه ً
ﲑ ﺍﻟ
ســوداء جعلتــه أشــبه بالفنــان «شــاريل شــابلن» مــع مالمــح أكثــر جد ّيــة
وقامــة أكثــر طـ ً
ـول.
ﻜﺘ
نظــر أســفل صورتــه حيــث اســتقر متثــال ألفروديــت إهلــة الشــهوة يف
الديانــة اليونانيــة القديمــة ..و ُع ِّلــق يف ركـ ٍ
ﺐ ﻟﻠﻨ
أحــب تفانيهــا التــام فيــا تعمــل ،علــم منــذ أول لقــاء مجعهــا أهنــا ستســتمر
معــه ،وقتهــا كانــت جمــرد «ســاح» ال متلــك إال جســدها وجتربــة بشــعة مــع
ﺯﻳﻊ
16
-آســفة يــا مســر ..لســه تعبانــة مــن يــوم اجلمعــة ..ولو شــوفت شــكيل
دلوقتــي مــش هتعرفني.
-خــاص خــدي باقــي اإلســبوع أجــازة ..شــكل الزبــون إيــاه زودهــا
معاكــي املــرة دي.
طلبــت منــه ســيمون بضحكــة خافتــة أن حيــاول الوصــول هلويــة ذلــك
الزبــون؛ فلدهيــا فضــول ملعرفــة شــخصه احلقيقــي ،هنرهــا مــكاوي قائـ ًـا
ﻋﺼ
باســتنكار:
-ونخــر األلــف دوالر الــي بيدفعهــم لنــا كل مــرة؟ ..انتــي عارفــة
ﲑ ﺍﻟ
الــدوالر بــكام دلوقتــي؟
ﻜﺘ
-مــش القصــد ..بــس شــكله حــد تقيــل يف البلــد ..ورسه أغــى بكتــر
مــن الفلــوس دي.
ﺐ ﻟﻠﻨ
رد بحزم:
ﺸﺮ
-مش شغلتنا.
هنــض مــن مكانــه متجـ ً
ـول يف مكتبــه الواســع ،ســأهلا عــا تظنــه بشــأن
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
هــذا العميــل ..فأجابــت بيقــن تــام أنــه خائــف مــن انكشــاف أمــره؛ فذلك
ﺯﻳﻊ
17
-والزم يفتشــني كويــس ويتأكــد إين قافلــة املوبايــل ،وبيســيبني يف
مــكان غــر الــي خــدين منــه وبيكــون طالــب يل قبلهــا تاكــي مــن تليفونــه.
عــا إذا كان قــد طلــب حتليــل اإليــدز كــا يفعــل كل
ســأهلا مــكاوي َّ
مــرة ..فأجابتــه باإلجيــاب ،وأضافــت أنــه تأكــد مــن تاريــخ التحليــل
أيضــا ..صمــت مــكاوي ً
قليــا ثــم قــال بحكمــة قــواد عتيــد: ً
-متأكدة إنه مابيصوركيش؟
-بحكــم خــريت أقــول لــك إن مــش دي دماغــه ..اجلــدع ده هيبــة كــده
ﻋﺼ
وبيخوفنــي ،بيحسســني إين خــام زي أي َعيلــة يف ثانــوي.
ﲑ ﺍﻟ
سأهلا مكاوي بفضول:
ﻜﺘ
-كيفه إيه اجلدع ده؟
بعض من األمل: ٍ
بصوت خافت ختلله ٌ ردت سيمون
ﺐ ﻟﻠﻨ
وبيســتخدم حاجــات عمــري مــا شــوفتها ،بــس مــا بيطولــش وبيلــم الليلــة
ﺯﻳﻊ
18
-كان بيقول إيه؟
-ما ميزتش منه غري كلمة واحدة :الكونت.
***
تو َّقــع يــارس أن حيمــل لــه اليــوم مزيــدً ا مــن الكــوارث ،وكان توقعــه
صحيحــا..
ً
بمجــرد أن دخــل شــقته املؤجــرة بمنطقــة «ســيدي بِــر» احتضنتــه
ﻋﺼ
طفلتــه مليكــة مهللــة لقدومــه ،وقابلتــه غــرام بابتســامتها الصافيــة التــي
ال تــدوم طويـ ًـا ،فقبــل رأســها بتلقائيــة ،كانــت رائحتهــا زكيــة كعادهتــا..
ﲑ ﺍﻟ
بــدا وكأهنــا نســت شــجار األمــس؛ حــن جاءتــه رســالة نصيــة عــى
ﻜﺘ
هاتفــه أثنــاء نومــه ،كانــت الرســالة مرســلة مــن رقــم غــر مســجل لديــه،
ــب فيهــا« :وحشــتني يــا نــي التــاين ..نتقابــل قريــب ..».فجــرت ِ
كُت َ
ﺐ ﻟﻠﻨ
هــذه الرســالة الكثــر مــن احلمــم املرتاكمــة داخــل غــرام؛ فذكــرت يــارس
بوضعهــا املــايل غــر املســتقر بســبب كثــرة األقســاط املرتاكمــة عليهــا،
ﺸﺮ
لكــن يــارس احتــوى املوقــف ،اعتــذر هلــا عــن تقصــره ،أقســم أنــه ال
يعلــم شــي ًئا عــن هــذه الرســالة ،حــاول االتصــال برقــم املرســل ليربهــن
هلــا عــى براءتــه لكــن الرقــم كان مغل ًقــا ،أخربتــه غــرام أهنــا قــد صدقتــه،
وبرغــم هــذا فقــد أرصت عــى النــوم بجــوار مليكــة لرتفــع ســور اجلليــد
بينهــا درجــات.
19
اســتثنت غــرام هــذا اليــوم مــن األكل الصحــي الــذي حتــرص عــى
االلتــزام بتحضــره ألرسهتــا ،فأعــدت ليــارس وجبتــه املفضلــةُ :رقــاق
باللحــم املفــروم .كانــت حتــب يف يــارس رضــاه عــن الطعــام الــذي تعــده
مهــا كان ســي ًئا؛ األمــر الــذي أرجعتــه يف قــرارة نفســها إىل وفــاة والدتــه
خصيصــا قبــل أن يتزوجهــا..
ً حــن كان طفـ ًـا ،فلــم جيــد مــن يطهــو لــه
مل تــرح لــه هبــذا التربيــر مــن قبــل؛ فيــارس يتجنــب دائـ ًـا احلديــث عــن
حياتــه املاضيــة.
ﻋﺼ
كان قــد أحــر معــه الشــيكوالتة التــي تفضلهــا مليكــة ،لكــن غــرام
ﲑ ﺍﻟ
أخربتــه أهنــا ُمعاقبــة ،وحــن ســأهلا عــن الســبب أجابتــه دون أن تنظــر إىل
مليكــة:
ﻜﺘ
زهـــقت الشــيخ جمــدي منهــا حلــد مــا طفــش ..وحلــف مــا هــو جــاي
َّ -
ﺐ ﻟﻠﻨ
تاين.
ضحــك يــارس وعلــق أنــه ال يرتــاح إىل ُم َ ِّفــظ القــرآن هــذا مــن
ﺸﺮ
األســاس؛ فهــو ال يســاعدها عــى احلفــظ بقــدر مــا خييفهــا مــن كتــاب اهلل..
تركتهــا غــرام بعــد أن زفــرت يف ضجــر مقطبــ ًة جبينهــا ،فتأكــد يــارس
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
أنــه لــن يــرى بســمتها اليــوم ..ركــع عــى ركبتيــه أمــام مليكــة ،وأعطاهــا
احللــوى ،فاحتضنتــه بامتنــان ،أمرهــا أن تــأيت بكتبهــا الدراســية وتلحــق بــه
ﺯﻳﻊ
ـال أن تؤجــل الغــداء وجتهــز يف غرفــة نومــه ..طلــب مــن غــرام بصـ ٍ
ـوت عـ ٍ
هلــا كوبــن مــن اللبــن.
ع َّلــق يــارس معطفــه بحــرص ،ورتــب باقــي مالبســه بعنايــة شــديدة..
نظــر إىل انعــكاس جذعــه العــاري أمــام املــرآة التــي تتزيــن فيها غــرام ،تأمل
20
بعضــا مــن النــدوب القديمــة ،وخياطــة جراحــة ناجتــة عــن عملية اســتئصال ً
للزائــدة الدوديــة ،كان جســده رياض ًيــا بالنســبة لســنه ،مل خيـ ُـل مــن بعــض
دهــون البطــن ..اقتحمــت مليكــة احلجــرة بخطــوات مــرددة ،مل يتجــاوز
عمرهــا الســت ســنوات ،كانــت عــى درجــة عاليــة مــن الــذكاء الذي يســبق
ـرا ،لكنهــا كانــت متــل رسي ًعــا مــن كتابــة واجبــات املدرســة التــي
ســنها كثـ ً
جتربهــا عــى كتابــة كلمــة معينــة أو حــرف معــن لعــدد كبــر مــن املــرات..
لكــن يــارس أخربهــا أن عليهــا االعتيــاد عــى الواجبــات الروتينيــة إلجــادة
ﻋﺼ
األعــال االســتثنائية ..قالــت مليكــة ألبيهــا يف تأفــف واضــح:
ﲑ ﺍﻟ
-مش النهارده عيد ميالدك؟ فني هديتي؟
ﻜﺘ
مازحا:
رد يارس ً
-ده بدل ما كنتي حتويش يل ِ
أنت متن اهلدية من مرصوفك؟
ﺐ ﻟﻠﻨ
21
-واعميل حسابك هشوف لك شيخ جديد بدل الشيخ جمدي.
نظرت مليكة نحو اللبن بتأفف ،وسألته بمكر:
-أنت هترشب كوبايتني لبن لوحدك؟
ردت غرام بحزم وهي تضع الكوب أمام مليكة:
-كلمة كامن وهرشبك ِ
أنت الكوبايتني.
وجهــت مليكــة حديثهــا ليــارس متوســل ًة أال تــرب اللبــن ،أخربتــه َّ
ﻋﺼ
أهنــا قــد ورثــت عــن أمهــا كــره اللبــن ،ومل تــرث حــب اللبــن منــه ..لكــن
يــارس طلــب منهــا أن تــرب اللبــن ،الحــظ وقــوف غــرام أمــام خزانــة
ﲑ ﺍﻟ
املالبــس املفتوحــة تتأمــل مــا لدهيــا ،كان يشــعر بالذنــب جتاههــا ألهنــا ال
ﻜﺘ
تطلــب منــه مـ ً
ـال للبســها أو لــراء مــا يعينهــا عــى أعــال املنــزل كغريهــا
مــن الزوجــات؛ قلصــت احتياجاهتــا حــن رأت أن االدخــار ألجــل
ﺐ ﻟﻠﻨ
تعليــم مليكــة هــو األولويــة .ســأهلا يــارس بحــذر عــن ســبب وقوفهــا أمــام
اخلزانــة ..فــردت بلهجــة غاضبــة:
ﺸﺮ
مخــن ســببها
مل يعلــق يــارس عــى زيــارة ســلوى غــر املتوقعــة ،والتــي َّ
ﺯﻳﻊ
احلقيقــي بعيــدً ا عــن االحتفــال ..كانــت ســلوى أخــت يــارس مــن أم ثانيــة،
مقيــا يف اإلســكندرية قبــل أن هيجرهــاً تــزوج أبومهــا أمهــا حــن كان
وينتقــل إىل القاهــرة ليتــزوج أم يــارس.
مل ينجــح يف إقامــة عالقــة قويــة بأختــه ،وبالتــايل مل ينجــح يف التوفيــق
بــن غــرام وســلوى ،مل حتــب إحدامهــا األخــرى منــذ أول لقــاء رتبــه يــارس
22
بينهــا قبــل قرانــه بأســبوع .حــن عرفــت ســلوى بجنســية غــرام الســورية
أبــدت توجســها ليــارس واعرتاضهــا عــى فكــرة الــزواج مــن أجنبيــة ..فلــم
خيــر غــرام بــا حــدث ،فقــط أخربهــا أن عالقتــه مــع أختــه ليســت بالقوية،
مفروضــا أن تتجمــل لتنــال رضاهــا.
ً فليــس
حــاول يــارس أن يشــغل بــال زوجتــه عــن الزيــارة غــر املرغــوب فيهــا،
فبرشهــا بموافقــة مديــرة املدرســةوالتــي كان يعلــم ســببها احلقيقــيَّ ..
التــي يعمــل فيهــا عــى التحــاق مليكــة بالصــف األول االبتدائــي ،عــى أن
ﻋﺼ
ـرا عــىيتــم خصــم املصاريــف مــن راتبــه يف صــورة أقســاط لــن تؤثــر كثـ ً
دخلهــم املتوســط ..مل تبـ ِـد غــرام ســعادة برغــم هلفتهــا لســاع هــذا اخلــر،
جاتــوه ،حلــد مــا أحــر لــك الغــدا ..وخــي العــدد عــى قدنــا.
ســخر يــارس يف رسه مــن غــرام التــي أصبحــت زوجــة مرصيــة بشــكل
ﺸﺮ
مل يتوقعــه ..طلبــت مليكــة مــن أمهــا أن تنــزل مــع أبيهــا ،لكــن غــرام ردت
بحــزم:
ﻭ
-أنـ ِ
ﺍﻟﺘﻮ
23
أبــدت ســلوى قلقهــا مــن حالــة املصعــد املــؤدي إىل شــقة يــارس ،كان
مزعجــا ،مل تظــن يف البدايــة أنــه يعمــل
ً مرت ًبــا بطــيء احلركــة يصــدر رصيـ ًـرا
مــن األســاس ..نظــرت يف مــرآة املصعــد لتتمــم عــى مالبســها وزينتهــا،
انعكاســا باه ًتــا يتخللــه الكثــر مــن الــروخ والبقــع ..اقــرب منهــا
ً ملحــت
زوجهــا «رايف أبــو الدهــب» مقبـ ًـا كتفهــا ،أخربهــا أهنــا تبــدو يف أحســن
صــورة ،أبــدى إعجابــه بعطرهــا مقبـ ًـا رقبتهــا ،لكــن ســلوى أبعدتــه عنهــا
بكياســة ،وقالــت ضاحكــة:
ﻋﺼ
-احنا مش كربنا عىل موضوع األسانسري ده؟
ﲑ ﺍﻟ
رن هاتفــه املحمــول مازحــا أنــه لــن يتقــدم يف العمــر أبــدً اَّ ،
ﻜﺘ ر َّد رايف ً
بمكاملــة ختــص جتارتــه ،فأســكته رسي ًعــا ..توقــف املصعــد فانحنــى رايف
ليلتقــط حقيبــة بالســتيكية كبــرة احلجــم ،وفتــح بــاب املصعــد وحلــق
ﺐ ﻟﻠﻨ
بزوجتــه متوجهــن نحــو بــاب شــقة أخيهــا يــارس ،مهــس يف أذهنــا قائـ ًـا:
-أنــا جيــت معاكــي املشــوار ده وأنــا مــش موافــق عليــه ..ممكــن تيجــي
ﺸﺮ
معايــا بكرة؟
ردت ســلوى بحــزم وهــي تعــدل مــن وضــع حجاهبــا قبــل أن تــرب
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
جــرس البــاب:
ﺯﻳﻊ
24
« شوفت أنا أجدع منك ازاي وفاكرة عيد ميالدك؟»
هكــذا بــدأت ســلوى حديثهــا حــن فتــح هلــا يــارس بــاب شــقته يف متــام
ســاخرا أهنــا لــوال الـــ Facebookملــا تذكــرت
ً الســابعة مســا ًء ..ر َّد يــارس
أخــا مــن األســاس ..فأطلقــت ســلوى ضحكتهــا املصطنعــة أن هلــا ً
ـرا ،مل حيــب ذوقهــا يف العطــور ،كانــت تتعمــد أن واحتضنتــه حضنًــا قصـ ً
يســود عطرهــا أي مــكان تدخلــه ككلــب يتبــول لفــرض ملكيتــه ..صافــح
ﻋﺼ
يــارس زوج أختــه «رايف أبــو الدهــب» وعاتبــه عــى إحضــار كعكــة عيــد
ـم رايفميــاده ..فــر َّد األخــر أن ســلوى مــن اختارهتــا ودفعــت ثمنهــا ..هـ َّ
ﲑ ﺍﻟ
أن خيلــع حــذاءه قبــل دخــول الشــقة لكــن يــارس أرص أال يفعــل.
ﻜﺘ
ظهــرت مليكــة مــن وراء يــارس فاحتضنتهــا ســلوى بحنــان حقيقــي،
وأخرجــت هلــا طــوق شــعر جديــدً ا مــن حقيبــة يدهــا ،ووضعتــه يف
ﺐ ﻟﻠﻨ
شــعرها ..شــكرهتا مليكــة مناديــة إياهــا «ســلوى» جمــر ًدا مــن األلقــاب،
ســاخرا مــن حــرف الســن الــذي تنطقــه ثــا ًء.
ً فداعبهــا رايف
ﺸﺮ
رحــب هبــم يــارس ،ومحــل عــن رايف الكعكــة التــي وضعهــا عــى
ﻭ
25
ضحــك يــارس وأخربهــا أنــه ســيتحول إىل ماكينــة أمــوال ال تســريح إن
انضــم للعمــل معهــا؛ فهــو ال يريــد إال «الســر» ..ردت ســلوى أن باهبــا
مفتــوح لــه دائـ ًـا.
مــرت فــرة قصــرة مــن الصمــت والكثــر مــن «رشفتونــا» و»زارنــا
النبــي» وغريهــا مــن كلــات الرتحيــب اجلوفــاء ..تأملــت ســلوى أثــاث
املنــزل البســيط كـ ًـا وكي ًفــا وهــي تلــوي شــفتيها ..عــى عكــس رايف الــذي
أبــدى إعجابــه ببســاطة وهــدوء مملكــة غــرام ..ظهــرت غــرام بعــد دقائــق
ﻋﺼ
لتحيــي رايف برأســها دون أن تصافحــه ،وتعانــق ســلوى يف فتــور متبــادل،
ﲑ ﺍﻟ
مل حتــب غــرام القبــات األربــع التــي تــر ســلوى عــى طباعتهــا فــوق
وجنتيهــا كلــا رأهتــا..
ﻜﺘ
ســألتها ســلوى عــن أحواهلــا ..مل يكــن لــدى غــرام الكثــر لتحكيــه؛
ﺐ ﻟﻠﻨ
القــادم ..فصممــت غــرام عــى الرفــض ،أخــرت ســلوى بصــدق أهنــا ال
ترتــاح خــارج بيتهــا ،وال تفضــل اجللــوس عــى املقاهــي لتدخــن النرجيلــة
ﻭ
مثلــا تفعــل ســلوى مــع صديقاهتــا ..مل تلــح عليهــا ســلوى ،واقرتحــت
ﺍﻟﺘﻮ
أبــدت مليكــة ســخرية عفويــة مــن صــوت رايف األجــش ،كان يغنــي
«أبــو الفصــاد» وشــبهته بصــوت احلــار ليضحــك اجلميــع عــدا أمهــا التــي
نظــرت هلــا حمــذرة ،طلبــت غــرام مــن يــارس أن يتمنــى أمنيــة عيــد امليــاد يف
رسه ..فتمنــى أن تبقــى حياتــه كــا هــي.
26
عــاد يــارس للجلــوس مــع رايف يف الغرفــة الصغــرة املخصصــة
للضيــوف ،تــاركًا أختــه وزوجتــه تقطعــان كعكــة عيــد امليــاد ،طلبــت
مليكــة مــن أمهــا أن تعطيهــا قطعــة مــن الكعكــة لكــن أمهــا أخربهتــا بحــزم
أهنــا لــن تســتطيع إكامهلــا بمفردهــا؛ لذلــك ســيأكالن ســو ًيا مــن طبــق
واحــد ..ملــح يــارس مــن ســلوى نظــرة متأففــة جتــاه صــورة أبيــه املعلقــة
عــى احلائــط أمامهــا..
استنشــق رايف رائحــة البخــور التــي أشــعلتها غــرام قبــل وصوهلــا
ﻋﺼ
إلخفــاء رائحــة الطعــام ،مــأ أنفــه منهــا مبد ًيــا إعجابــه هبــذا النــوع..
ﲑ ﺍﻟ
جلــس أمــام يــارس ً
خمرجــا مــن جيبــه سلســلة مفاتيــح كبــرة احلجــم وهاتفه
املحمــول ،وضعهــا فــوق املنضــدة الصغــرة التــي تتوســط احلجــرة وقــد
ﻜﺘ
ُثبِــت فوقهــا قالــب رخامــي ،حــرك دون قصــد مطفــأة الســجائر املســتقرة
يف ركــن مــن املنضــدة الرخاميــة ..أعــاد يــارس املطفــأة إىل منتصــف املنضــدة
ﺐ ﻟﻠﻨ
َ
مازحــا:
ً
بعمر؟
-مش ناوي ختاوي مليكة َّ
أبــدى يــارس دهشــته مــن اختيــار رايف هلــذا االســم دون غــره ،فــرد رايف
ضاحكة:
27
عمر ..ت َّيمن بالصحابة يا أخي.
-معروفة أي يارس الزم جييب َّ
مل يعقــب يــارس ،اقــرب مــن رايف ،أمســك معصمــه الــذي يزينــه ســوار
ذهبــي رديء الــذوق ،مهــس يف أذنــه قائـ ًـا بخبــث:
-مربوك اجلوازة اجلديدة يا أبو نسب.
بــدت الصدمــة عــى رايف الــذي حــاول اإلنــكار بالكثــر مــن الكلــات
هامســا:
ً املبهمــة التــي ال رأس هلــا وال ذيــل ..ضحــك يــارس
ﻋﺼ
-ما تقلقش مش هأقول لسلوى.
زفر رايف باستسالم ،وقال بلهجة مل ُ
ختل من حرية:
ﲑ ﺍﻟ
-إنت عرفت ازاي؟
ﻜﺘ
-مــش حمتاجــة ذكاء ..احنــا آخــر مــرة اتقابلنــا كنــت بتشــتكي يل مــن
ســلوى وبتقــول عليهــا «حيزبــون» ..ده غــر طريقــة لبســك الــي رجعــت
ﺐ ﻟﻠﻨ
زي الشــباب ،وضحكتــك املجلجلــة دي ،يــا راجــل ده أنــت غنيــت يل أبــو
الفصــاد!
ﺸﺮ
الــذي يزيــن رقبتهــا ،وأن هــذه اهلديــة جمــرد صــك غفــران حيــاول مــن
ﺍﻟﺘﻮ
خاللــه إرضــاء ضمــره ..طلــب رايف مــن يــارس بلهجــة متوســلة أال خيــر
ﺯﻳﻊ
ســلوى ..ر َّد يــارس أهنــا تعــرف بالفعــل ..ســأله رايف بخــوف واضــح:
-تفتكر حست؟
-أي ســت بتحــس ..ده غــر موضــوع ِخلفتكــم الــي اتأخــرت خيليهــا
شــاكة فيــك طــول الوقــت.
28
ر َّبــت يــارس عــى فخــذ رايف ،طمأنــه أن ســلوى لــن تواجهــه بــا فعــل؛
حتــى ولــو اعــرف هلــا بنفســه فلــن تقــوم بــأي ردة فعــل .قــال لــه أن مــا
زواجــا؛ فهــو جمــرد مــروع يشــارك فيــه رايف بــرأس املــال..ً بينهــم ليــس
الحــظ رايف أن ســلوى حتــاول التنصــت عــى حديثهــا ،فالتقــط هاتفــه
املحمــول وقــال ليــارس:
-الشــبكة عندكــم كويســة؛ أصلهــا ضعيفــة عندنــا يف البيــت كلــه مــا
عــدا البلكونــة.
ﻋﺼ
مل يفهم يارس أن رايف حياول تغيري املوضوع ،فرد بتلقائية:
ﲑ ﺍﻟ
-اشــري قضيــب نحــاس ،وركبــه فــوق الســطح ..هيظبــط لــك
ﻜﺘ
موضــوع الشــبكة ده.
التقــط رايف طــرف اخليــط الــذي حـ َّـول مســار احلديــث عــن زواجــه،
ﺐ ﻟﻠﻨ
بــدأ يســأل يــارس عــن ســعر ذلــك القضيــب واملقــاس املناســب ..ففهــم
يــارس وبــدأ جييــب عنــه إجابــات عائمــة ..تدخلــت ســلوى يف احلديــث
ﺸﺮ
مبدي ـ ًة شــكواها مــن رايف الــذي ال يــرك اهلاتــف مــن يــده ،قالــت ليــارس
بلهجــة خبيثــة أن مكاملــات زوجهــا ال تنتهــي ،ممــا جيــره عــى املكــوث
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ً
طويــا يف الرشفــة إلهنائهــا.
ﺯﻳﻊ
حــاول رايف تغيــر جمــرى احلديــث ثانيـ ًة ،ســأل يــارس عــن موعــد مباراة
األهــي القادمــة ،وموعــد نــزول فيلــم أمحــد حلمــي ..فلــم جيــد لــدى يــارس
ر ًدا ..فجلســا صامتـ ْـن حتــى انتهــت غــرام مــن تقطيــع الكعكة.
ســمعا صــوت مســرة شــبابية متــر مــن أســفل البيــت هتــف الســائرين
فيهــا ببعــض املطالــب السياســية ..ع َّلــق رايف أن هــؤالء الشــباب إن
29
وجــدوا عمـ ًـا لــن خيرجــوا يف مثــل هــذه املظاهــرات ..فع َّلــق يــارس بلهجــة
مقتضبــة« :ربنــا هيــدي اجلميــع».
مل يشــعر يــارس بالشــفقة جتــاه أختــه التــي قـ َّـل مجاهلا بعــد بلــوغ األربعني،
كانــت مخريــة البــرة ،حمجبــة إال مــن بعــض اخلصــات املصبوغــة اهلاربــة
مــن قطعــة القــاش التــي تغطــي شــعرها ،ذات ذوق رديء يف اختيــار
املالبــس والزينــة ،كانــت معظــم زينتهــا عبــارة عــن أيقونــات ملنع احلســد..
ـرا حــن اختــارت زوجهــا. مل خيتلــف ذوقهــا كثـ ً
ﻋﺼ
مل تُكمــل ســلوى تعليمهــا بعــد الثانويــة العامــة حــن تقــدَّ م خلطبتهــا
ﲑ ﺍﻟ
جارهــا وحــب الطفولــة «رايف» الــذي يكربهــا ببضــع ســنوات ..كان
ﻜﺘ
يعمــل مــع والــده يف جتــارة الســيارات ..تراجــع احلــب بينهــا حــن انشــغل
رايف يف توســيع جتارتــه بعــد وفــاة أبيــه؛ حتــى أصبــح مــن أكــر جتــار
ﺐ ﻟﻠﻨ
كل يشء ،فنســت احلــب وأدمنــت الســيطرة ،وحــن تعــاىف مــن أزمتــه مل
واضحــا ..اســتغلتً يعــرض عــى قيادهتــا لألمــور؛ فقــد أثبتــت اســتحقا ًقا
ﻭ
أن يفتتــح هلــا مركـ ًـزا للــدروس اخلصوصيــة؛ فوافــق حتــى تنشــغل بإدارتــه
ﺯﻳﻊ
30
طلبــت ســلوى مــن أخيهــا أن يرافقهــا للرشفــة ،لت ِ
ُدخــن بعيــدً ا عــن
مليكــة ..أخربهــا أن تعتــر نفســها يف بيتهــا وتذهــب منفــردة ..ولكنهــا
كــررت طلبهــا بلهجــة فهــم مــن خالهلــا أهنــا تريــد أن حتدثــه عــى انفــراد.
اســتأذن يــارس مــن غــرام ورايف اللذيــن ســيواجهان دقائــق مــن الصمــت
احلــرج ،قــد حتــرك مليكــة ركــوده.
اســتندت ســلوى عــى ســور الرشفــة بمرفقهــا ،أشــعلت ســيجارة
لتنفــخ دخاهنــا يف وجــه يــارس ..أشــار يــارس برأســه نحــو ال ُعقــد الــذي
ﻋﺼ
يزيــن رقبتهــا مثن ًيــا عــى ذوق رايف يف اختيــار اهلدايــا ..ســألته عــن اهلدايــا
املفضلــة لغــرام ..فأجاهبــا بصــدق أهنــا ال حتــب الذهــب وال التزيــن املبالــغ
ﲑ ﺍﻟ
فيــه ..بــدأت ســلوى تتحــدث عــن بعــض املصاعــب التــي تقابلهــا يف
ﻜﺘ
العمــل ..لكــن يــارس قاطعهــا قائـ ًـا:
-أنا عارف كويس سبب الزيارة دي ..وعارف إنتي عايزة إيه.
ﺐ ﻟﻠﻨ
مل تبـ ِـد ســلوى دهشــتها مــن مبــادرة يــارس ،وردت هبــدوء أهنــا ال تريــد
إال مصلحتــه ..ســأهلا يــارس باســتنكار شــديد:
ﺸﺮ
مصححا:
ً قال يارس
-أبونا خمتفي ..مسريه يرجع.
-أبــوك كان ُسـكَري وبــاع كل أمالكــه الــي يف القاهــرة ،وأنــت نفســك
ســافرت أمريــكا عشــان هتــرب مــن قرفــه وســرته الزفــت ..ولــوال أهــل
أمــي وقفــوا لــه كان بــاع كل الــي ليــه يف إســكندرية.
31
أكملت حديثها بلهجة حنون:
-يــا واد أنــا عايــزة مصلحتــك ..هتيجــي معايــا تشــهد إن أبــوك مفقــود
بقــى لــه أكــر مــن عــر ســنني ..ونطلــع له شــهادة وفــاة ونــورث.
أطلــق يــارس زفــرة طويلــة ،وحــرك ســبابته بشــكل دائــري أمــام فمــه يف
ضجــر ..أكملــت ســلوى حديثهــا بلهجــة عمليــة:
-أرض أبــوك الــي يف العجمــي معــروض علينــا فيهــا مخســة مليــون
ﻋﺼ
جنيــه ..احســب نصيبــك بقــى يــا مســر.
ر َّد يارس هبدوء:
ﲑ ﺍﻟ
-أنا رايض بنصيبي من الدنيا.
ﻜﺘ
نظــرت ســلوى إىل الرشفــة التــي تشــققت جدراهنــا مــن أعــى ،وقالــت
متهكمة :
ﺐ ﻟﻠﻨ
عال:
ﺯﻳﻊ
32
قاطعتــه ســلوى لترتحــم عــى أبيهــا ..ر َّد يــارس يف حنــق أن أبــاه ال يــزال
ح ًيــا ..قالــت ســلوى بلهجــة عمليــة لتنهــي النقاش:
-أنــا نضفــت لــك شــقتك الــي يف عــارة الرمــل ،حاســة إنــك
هتحتاجهــا قريــب ..بــس لألســف كل حاجــة لســه مكتوبــة باســم أبــوك..
يعنــي الزم تــورث عشــان تعيــش فيهــا.
-أنا مبسوط يف الشقة دي.
ردت بلهجــة خبيثــة أن دوام احلــال مــن املحــال ..رد يــارس بحـ ٍ
ﻋﺼ
ـزن أن َّ َّ
ثمــن الشــقة باهــظ عليــه ..قالــت ســلوى بلهجــة مل ختـ ُـل مــن شــفقة:
ﲑ ﺍﻟ
-أنــت حاســس بالذنــب عشــان أبــوك اختفــى ملــا أنــت بعــدت عنــه
ﻜﺘ
وســافرت؟ ..صدقنــي ،عبــد احلــي الطائــي عمــره مــا كان بيفكــر كــده،
وال بيفــرق معــاه غيــاب حــد.
ﺐ ﻟﻠﻨ
هربــت دمعــة مــن عــن يــارس ،نظــر نحــو غــرام مــن خــال زجــاج
الرشفــة ،وحــن تأكــد مــن انشــغاهلا عنــه ســحب ســيجارة مــن علبــة
ﺸﺮ
ســلوى دون اســتئذان ،اســتند عــى ســور الرشفــة ناظـ ًـرا إىل الشــارع املطــل
عــى أحــد جوانــب «جامــع ســيدي بــر» ،قائـ ًـا:
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
33
-أنــت مــش رافــض فكــرة موتــه ،أنــت رافــض فكــرة إنــك كنــت
الســبب يف موتــه.
طلــب منهــا يــارس بحــزم أن تتوقــف عــن حمــاوالت إقناعــه ،هددهــا
إن ســعت يف إجــراءات املــراث بمفردهــا فإنــه ســيذهب إىل املحكمــة كــا
فعــل منــذ ســنوات ،وحيــر عــد ًدا مــن شــهود الــزور ليخــروا القــايض
أن أبــاه ال يــزال ح ًيــا وأهنــم يرونــه ،وســيضع كلمتــه أمــام كلمتهــا ليبقــى
احلــال عــى مــا هــو عليــه ...قاطــع حديثهــا اقتحــام غــرام للرشفــة،
ﻋﺼ
وجهــت حديثهــا ليــارس قائلــة يف جــزع: َّ
ﲑ ﺍﻟ
-احلقني ..فيه موظف برة بيطلب مننا نلم حاجتنا ونخيل البيت.
ﻜﺘ
ضحكــت ســلوى ،قالــت هبــدوء مشــرة برأســها إىل ســقف الرشفــة
املشــقق:
ﺐ ﻟﻠﻨ
نظــر يــارس لســلوى نظــرة كادت أن حترقهــا؛ كان يعلــم جيــدً ا أهنــا
وراء هــذا التــرف ،حــاول أن يكظــم غيظــه وقــال بغضــب ضاغ ًطــا عــى
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
أســنانه:
ﺯﻳﻊ
ﻋﺼ
ً
طويــا ،أســكت منبــه اســتيقظ الكونــت مــن نــوم مضطــرب مل يــدم
هاتفــه مــن نــوع ..Iphoneحــن هنــض مــن فراشــه وقعــت عينــاه عــى
ﲑ ﺍﻟ
روايــة (أيــام ســدوم املائــة والعــرون) ،والتــي مل يســتطع النــوم قبــل ان
ﻜﺘ
ينتهــي مــن قراءهتــا ..خــرج إىل حديقــة فيلتــه ليســقي الــورد البلــدي الــذي
حيــب زراعتــه و ُيطعــم كلبــي احلراســة املربوطــن بالقــرب مــن البوابــة
ﺐ ﻟﻠﻨ
احلديديــة ا ُملحاطــة مــن اجلانبــن بســور خرســاين قصــر وســياج كثيــف مــن
األشــجار.
ﺸﺮ
ً
ِ
مــن ذوي النشــاطات املشــبوهة ،وقــد اتفــق مجيــع ُمــاك تلــك الفلــل
ﺯﻳﻊ
35
ـرا؛ أصبحــت يشــعر بفــارق كبــر ..ولكــن بعــد ذلــك تطــورت األمــور كثـ ً
حضــورا ،متكــن مــن الرتكيــز يف مجيــع
ً ذاكرتــه أكثــر قــوة ،وذهنــه أكثــر
ـرا واختفــى شــعور التوتــر الــذي كان التفاصيــل ،زادت ثقتــه يف نفســه كثـ ً
يــزوره حــن خيــرج لتنفيــذ مهمــة مــن مهامتــه ،أصبحــت أفــكاره وردود
أفعالــه رسيعــة ومرتبــة بسالســة فائقــة ،تعاظمــت قدرتــه عــى اإلبــداع يف
عملــه عـ َّـا كانــت يف األســاس .كان يعلــم أثنــاء وقوعــه حتــت تأثــر العقــار
أن هــذه ليســت طبيعتــه وأن هــذا األثــر لــن يــدوم؛ لذلــك كانــت جرعاتــه
ﻋﺼ
حمســوبة بدقــة حتــى ال يقــع يف فــخ اإلدمــان.
قميصــا أبيــض اللــون بــأزرار ســوداء ،أحكــم ربطــة عنقــه ً ارتــدى
ﲑ ﺍﻟ
ً
مكمــا هندامــه ببذلــة الداكنــة ،ارتــدى ســاعته ذات الســوار الفــي
ﻜﺘ
ســوداء رســمية ..أحــدث وقــع حذائــه عــى الســلم صوتًــا تــردد صــداه
يف فــراغ الفيــا قليلــة األثــاثَ ،عـ َـر البهــو الــذي انبعــث فيــه الــدفء مــن
ﺐ ﻟﻠﻨ
مكيفــات اهلــواء الصغــرة املثبتــة أعــاه ،ودخلــه ضــوء الشــمس مــن أكثــر
توجــه نحــو جانــب مــن البهــو ُوضــع فيــه متثــال «اغتصــاب مــن موضــعَّ .
ﺸﺮ
عــى مضخــات امليــاه ..حــرص عــى عــزل حجــرات هــذا الطابــق صوت ًيــا
ﺯﻳﻊ
عــا حوهلــا؛ فأصــوات الــراخ التــي تنبعــث مــن حناجــر املقيمــن فيهــا
ـرا.
كانــت تقلــق نومــه كثـ ً
قســم الكونــت الطابــق األريض لثــاث حجــرات؛ كل حجــرة ملحــق
هبــا دورة ميــاه ..توجــه إىل أحــد احلجــرات وكتــب كلمــة رس البــاب
اإللكــروين اخلاصــة هبــا ،ثــم فتــح قفلهــا اليــدوي ..كانــت احلجــرة بيضــاء
36
متا ًمــا ،مضــاءة بالكثــر مــن مصابيــح النيــون ..يقبــع يف أحــد أركاهنــا رجــل
مســن قصــر القامــة ،ذو مالمــح جامــدة خاليــة مــن أي تعبــر .كان يرتــدي
نائــا عــى
جلبا ًبــا أبيــض جعلــه يبــدو جــز ًءا مــن ديكــورات احلجــرةً ،
األرضيــة املبطنــة بكتــل إســفنجية ســميكة مغطــاة بأكثــر مــن مــاءة بيضــاء،
كان العجــوز ينظــر يف رشود نحــو الســقف متأمـ ًـا أشــياء ال يراهــا غــره،
كانــت نظرتــه خاويــة متا ًمــا ،مل يبــدُ عليــه أنــه قــد الحــظ دخــول الكونــت
مــن األســاس ..اقــرب الكونــت منــه مرب ًتــا عــى رقبتــه مــن اخللــف كمــن
ﻋﺼ
حينــو عــى كلــب حراســته الــويف ،وأرغمــه عــى اجللــوس مســندً ا ظهــره إىل
احلائــط ،اســتلقى الكونــت واض ًعــا رأســه فــوق فخــذ العجــوز يف وضعيــة
ﲑ ﺍﻟ
اجلنــن ،وقــال للمســن بصـ ٍ
ـوت هــادئ بعــد تنهيــدة طويلــة:
ﻜﺘ
-الــي أنــت فيــه بقالــك ســنني ده اســمه «شــكنجه ســفيد» ،لــو ليــك
يف الفــاريس -وده مســتحيل طب ًعــا -هتعــرف إن الكلمــة دي معناهــا
ﺐ ﻟﻠﻨ
«التعذيــب األبيــض»..
مل يبــدُ عــى العجــوز أنــه قــد ســمع الكونــت مــن األســاس ،فربــت
ﺸﺮ
ذاكرتــك ضعيفــة.
ﺯﻳﻊ
37
مفيهــوش غــر اللــون األبيــض وأعزلــه متا ًمــا عــن أي كل حاجــة؟!
نزلــت دمعــة بســيطة مــن عــن العجــوز الــذي بــدا كأنــه مل يفهــم مــا
ُيقال..جتاهــل الكونــت دمعتــه ،وأكمــل كأنــه يذكــر نفســه:
-واحــد يف ســنك وحالتــك النفســية وقــت مــا خطفتــك كان
مســتحيل يســتحمل طــرق التعذيــب التقليديــة ،وبرصاحــة أنــا نفــي مــا
بفضلهــاش ..بــس التعذيــب األبيــض ده فكــرة عظيمــة؛ مــع الوقــت بيقتــل
كل حواســك ،بيضيــع هويتــك وشــخصيتك ،بيخليــك حيــوان عايــش
ﻋﺼ
تــاكل وتنــام ،ماعندكــش القــدرة إنــك تفكــر يف أي حاجــة ..مفيــش حالــة
ﲑ ﺍﻟ
واحــدة اســتحملت الطريقــة دي مــن غــر مــا جييلهــا اهنيــار نفــي.
نظــر الكونــت يف عينــي الرجــل مــن موضعــه ،وقــال بعــد أن تنهــد
ﻜﺘ
ً
طويــا:
-بــس أنــت الوحيــد الــي تعذيبــك بالنســبة يل غايــة ..مــش جمــرد
ﺐ ﻟﻠﻨ
ً
ـن مــن احلجــرة ،مــأ يــده بقليــل مــن األزر األبيــضكبــر موضــوع يف ركـ ٍ
ﻭ
املســلوق؛ مل يــأكل العجــوز غــره منــذ ســنوات ،وعــاد للعجــوز حمــركًا فكــه
ﺍﻟﺘﻮ
الســفيل بقــوة ،وضــع يف فمــه الكثــر مــن األرز ،ضغــط عــى شــفتيه حتــى
ﺯﻳﻊ
ســعل العجــوز وكاد أن خيتنــق ،اقــرب مــن أذنــه ،قــال وهــو جيــز عــى
أســنانه:
-أنــت مــروع عمــري ،أكــر حــد كرهتــه يف حيــايت ..تعــرف إين
قعــدت كتــر أحلــم باللحظــة دي؟ وكل مــرة بشــوفك فيهــا بالشــكل ده
بفــرح زي مــا تكــون أول مــرة ..طــول الســنني دي بســتمتع وأنــا بشــوفك
38
بتمــوت بالبطــيء ،بشــوفك بتتحــول ملســخ مــش عــارف هــو مــن وال
عايــش ليــه وال قــادر حتــى يفكــر يف أي حاجــة.
اســتعاد هــدوءه ثانيـ ًة كأن شــي ًئا مل حيــدث ،أطلــق ضحكــة هادئــة ،نظــر
ـذرا بــرورة مغادرتــه اآلن ،ر َّبــت
للعجــوز يف عينيــه بحنــان ،أخــره معتـ ً
عــى كتفــه قائـ ًـا بابتســامة:
-ما ختافش ..ما ختافش طول أنا معاك.
***
ﻋﺼ
توجــه الكونــت إىل احلجــرة املجــاورة ..كانــت األقفــال املوضوعــة َّ
ﲑ ﺍﻟ
ِ
فــوق باهبــا أقــل مــن ســابقتهاُ ،حبــس بداخلهــا عــدد مــن احليوانــات التــي
ﻜﺘ
ســكنت متا ًمــا حــن رأتــه ،وتراجــع معظمهــم أمامــه يلــوذون بــأركان
احلجــرة اخلاليــة كســابقتها ،امتــأت أرضيتهــا بفضالهتــم والكثــر مــن بقــع
الــدم ،وبقايــا الطعــام املجفــف املتناثــرة مــن أطبــاق بالســتيكية ،وبعــض
ﺐ ﻟﻠﻨ
اقــرب مــن كلــب ضخــم مــن نــوع Pitbullشــديد الرشاســة ،تفـ َّـرس
يف عينــي الكلــب الــذي كان يتجنــب عينــي الكونــت يف خـ ٍ
ﻭ
ـوف وحيــاول
ﺍﻟﺘﻮ
مقدمــة رأســه اجلريــح بعــد رصاع مــع كلــب آخــر ..ســكن الكلــب قليـ ًـا
جرســا
دون أن ينظــر يف عينــي الكونــت ،أخــرج الكونــت مــن جيبــه ً
رن صوتــه جــن الكلــب ونبــح بصــوت حــاد ،وركــض صغــرا ،وحــن َّ
ً
مبتعــدً ا عــن الكونــت يف فــز ٍع شــديد ،هنــض الكونــت راض ًيــا ،هنــض مــن
مكانــه مصفـ ًـرا بشــفتيه يف اســتمتاع ،وقبــل أن خيــرج مــن احلجــرة وضــع
39
عــى األرض علبــة كبــرة مــن الطعــام املجفــف ناثـ ًـرا حمتوياهتــا ،وأخــرج
مــن جيبــه ســيجارة ملفوفــة بمخــدر احلشــيش ،أشــعلها ووضعهــا يف فــم
أحــد القــرود القابعــة يف ركــن احلجــرة ،ضحــك حــن رأى القــرد يدخــن
الســيجارة يف هنــم شــديد.
***
كانــت الغرفــة الثالثــة مظلمــة متا ًمــا ..حتســس الكونــت موضــع مفتــاح
اإلضــاءة حتــى أنــار احلجــرة بمصبــاح أصفــر اللــون خافــت اإلضــاءة..
ﻋﺼ
كانــت هــذه احلجــرة املخصصــة ملهامتــه التــي يتلقــى املــال ألجــل تنفيذهــا..
ﲑ ﺍﻟ
توجــه إىل منتصــف
أثــارت رائحــة الغرفــة بداخلــه القليــل مــن االشــمئزازَّ ،
احلجــرة حيــث ينــام أســره؛ موضو ًعــا داخــل برميــل واســع ال يســمح لــه
ﻜﺘ
إال بالركــوع ،بعــد أن تــم تقييــد قدميــه ويــده اليمنــى ..أخــرج الكونــت
قطعــة ســميكة مــن القــاش ،ربطهــا بإحــكام فــوق عينــي ضحيتــه ،صفعــه
ﺐ ﻟﻠﻨ
40
ذ َّكــره الكونــت برتكــه يف الظــام ملــدة أســبوع مــع مــا يكفيــه مــن طعــام
ومــاء ،تركــه دون أن يذكــر ســبب اختطافــه وال موعــد خروجــه ،تركــه
وجــه هشــام عينيــه املعصوبتــنينــام واق ًفــا وخيــرج فضالتــه يف مالبســهَّ ..
ـتدل عــى مكانــه مــن اجتــاه صوتــه ،وقــال بثبــات أدهــشنحــو الكونــت مسـ ً
الكونــت:
وهم اليل أجروك ختطفني..
-أنت شغال عندهمَ ،
مصححا:
ً ر َّد الكونت
ﻋﺼ
-أنــا مــا بشــتغلش عنــد حــد ..تقــدر تقــول عليــا جــاد حمــرف ..بــس
ﲑ ﺍﻟ
لألمانــة الــي بعملــه فيــك ده ملصلحــة ســامح ،وملصلحتــك أنــت كــان.
ً
-متوســا -أن يدفــع لــه ضعــف مــا عــرض هشــام عــى الكونــت
ﻜﺘ
ســيدفعه ســامح ،يف مقابــل أن يرتكــه ..قاطعــه الكونــت بغضــب:
-أنــا لــو كلــب فلــوس مكانــش حــد زي ســامح و كتــر غــره آمنــوا
ﺐ ﻟﻠﻨ
يل عــى أرسارهــم ،وفلــوس ســامح دي أنــا ممكــن أرصف أضعافهــا عشــان
أخليــك تعمــل يل الــي أنــا عايــزه.
ﺸﺮ
متهكم:
ً قال هشام
ﻭ
-أنــا أعــى إيــد يف اللعبــة دي ..مهــا فاكريــن إين بنفــذ إرادهتــم ،بــس
احلقيقــة إهنــم بيلعبــوا بقواعــد أنــا موافــق عليهــا ،ولــوال موافقتــي دي
ماكانــش حــد فيهــم قــرب لــك.
رشع هشــام حيكــي قصــة كفاحــه للكونــت ع َّلــه يظفــر بعطفــه ،أخــره
صغــرا يف مدينــة املنصــورة ،اتســعت دائــرة أعاملــه
ً مهندســا
ً أنــه بــدأ
41
وزادت خربتــه يف وقــت قصــر حتــى أقــام مكت ًبــا هندســ ًيا برشاكــة مــع
أخيــه األصغــر ،وحــن اتســع نشــاطهام انتقــا إىل القاهــرة ملنافســة رشكات
املقــاوالت الكبــرة عــى العديــد مــن املناقصــات؛ كرشكــة «ســامح أبــو
خاطــر» الــذي أجــر الكونــت ..فاجــأه األخــر أنــه يعــرف القصــة كاملــة،
وقــال:
-ماختافــش يــا بــاش مهنــدس ..أنــا متعاطــف مــع قضيتــك فــوق
مــا تتصــور ،بــس الســؤال هنــا :هــل تعاطفــي ده هيفيــدك ،وهــل لــو أنــا
ﻋﺼ
ســيبتك تفتكــر مهــا هيســيبوك؟
ﲑ ﺍﻟ
ســأله هشــام عــن املــرر ملــا يفعلــه ،ر َّد الكونــت ببســاطة أنــه حيــب مــا
ـارحا هبــدوء:
يفعــل ،حـ َّـول جمــرى احلديــث جتــاه هشــام مــرة أخــرى شـ ً
ﻜﺘ
-رأس املــال يف أي مــكان يف العــامل مــا بيســمحش للصغرييــن الــي
زيــك إهنــم يتخطــوا حــد معــن مــن الثــروة؛ حــد بيكــون هــو راســمه لــك
ﺐ ﻟﻠﻨ
مــن أول يــوم ليــك يف الشــغل ..يف رأيــي أنــت الغلطــان عشــان حاولــت
ترفــع ســقف طموحــك فــوق املســموح لــك ،ويف حالتــك دي كان الزم
ﺸﺮ
ختــر..
فــك الكونــت قيــد يــد هشــام اليمنــى ،وأمســك بكلتــا يديــه حماك ًيــا هبــا
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
42
املــايل الــذي وضعــه يف مظــروف العطــاء؛ حتــى يتســنى لســامح أيب خاطــر
تقديــم مبلــغ أقــل منــه بقليــل والفــوز باملناقصــة ..وقبــل أن يــرد هشــام قــال
الكونــت:
ال مش عايز أسمعك دلوقتي..
أكمل حديثه بنفس اهلدوء:
-ماختافــش يــا بــاش مهنــدس ..أنــا عايــز أســاعدك ،أنــا ســهل عليــا
أعذبــك بالطــرق القديمــة بتاعــت حماكــم تفتيــش العصــور الوســطى؛
ﻋﺼ
وجــو خوازيــق بقــى ،أو أحطــك جــوة متثــال رصــاص وأولــع فيــه مــن بــرة
ﲑ ﺍﻟ
وأســيبك تســيح جــواه ،أو أقعــدك عــى كــريس هيــوذا الــي مليــان مســامري..
أو حتــى أقطــع لــك أطرافــك.
ﻜﺘ
ارجتــف هشــام حــن ســمع حديــث الكونــت ،لكــن األخــر أشــاح
ـرا ســحابة
بوجهــه مبد ًيــا اشــمئزازه مــن تلــك الطــرق ،أشــعل ســيجاره مثـ ً
ﺐ ﻟﻠﻨ
هامســا:
مــن الدخــان ،اقــرب مــن أذن هشــام ً
-أنــا حابــب آخــدك يف رحلــة؛ رحلــة جــوة نفســك ..وملــا ترجــع مــن
ﺸﺮ
-أنــا كنــت نــاوي أجــرب فيــك كــذا نــوع مــن الفوبيــا؛ والفوبيــا الــي
هتطلــع مريــض بيهــا هســتخدمها يف تعذيبــك ،بــس قولت حــرام ..وقررت
أخليــك جترهبــم كلهــم مــع بعــض يف نفــس الوقــت ..أظــن مافيــش عــدل
أكــر مــن كــده!
أخرجــه الكونــت مــن الربميــل ،مل يعبــأ برائحتــه الكرهيــة ،وأدخلــه دون
43
مقاومــة كبــرة داخــل صنــدوق حديــدي بــه ثقــوب كثــرة للتهويــة ،كان
ـتقرا يف أقــى احلجــرة ،أردف الكونــت بلهجــة عمليــة:
الصنــدوق مسـ ً
-أنــا جمهــز لــك كل حاجــة مــن قبــل مــا تيجــي ..وأظــن واضــح مــن
الصنــدوق إن أول فوبيــا هــي األماكــن الضيقــة ..أمــا تــاين فوبيــا بقــى
فهتحــس بيهــا حـ ً
ـال.
أطلق هشام رصخة أمل ..فأكمل الكونت حديثه ضاحكًا:
-فوبيــا احلــرات ..أنــا كنــت ســايب هلــم أكل يف الصنــدوق بــس
ﻋﺼ
واضــح إنــه خلــص ..وســاحمني عشــان حبيــت أحــط ملســتي ،وزودت لــك
ﲑ ﺍﻟ
فــران مــع احلــرات.
ســار الكونــت بخطــوات بطيئــة إىل احلقيبــة املوضوعــة بجــوار الربميــل،
ﻜﺘ
وعــاد إىل هشــام بخطــوات متاميلــة وهــو يصفــر بفمــه ،أخــرج مــن احلقيبــة
مقصــا كبــر احلجــم ،وراح يقــص مالبــس هشــام املتســخة حتــى أصبــح ً
ﺐ ﻟﻠﻨ
ٍ
شــبه عــار وقــال:
-تالــت فوبيــا هــي فوبيــا التعــري ..عــارف إهنــا غال ًبــا مــش عنــدك
ﺸﺮ
املتعــة عــى وجــه الكونــت الــذي مــدَّ يــده يف حقيبتــه مــرة أخــرى ،أخــرج
ﺯﻳﻊ
منهــا عظا ًمــا آدميــة كرهيــة الرائحــة ،وثالثــة أكيــاس ممتلئــة بالــدم ،قــال
هبــدوء:
-رابــع فوبيــا هــي النيكروفوبيــا؛ يعنــي اخلــوف مــن األشــياء امليتــة..
كنــت نــاوي أجيــب لــك كفــن أو أي عضــو مقطــوع ،بــس قولــت إنــك
راجــل حمــرم مــا ينفعــش أعمــل معــاك كــده.
44
بــدأ يثقــب أكيــاس الــدم باملقــص ،ويصبهــا فــوق وجــه هشــام وباقــي
جســده قائـ ًـا بانتشــاء:
-خامس فوبيا يا باش مهندس هي فوبيا الدم..
رصخ هشام رصخة طويلة ،أكمل الكونت حديثه ضاحكًا:
-امحــد ربنــا إنــك راجــل ،متخيــل لــو أنثــى والفوبيــا دي عندهــا كان
هيبقــى شــكل حياتــك ازاي؟!
أطلــق هشــام الكثــر مــن الرصخــات وحــاول فــك قيــده ،كان يتشــنج
ﻋﺼ
كمــرىض الــرع وهيــذي بكلــات غــر مفهومــة ..ولكــن الكونــت أعــاده
ﲑ ﺍﻟ
كيســا بالســتيك ًيا
إىل الصنــدوق بحــزم ،وأخــرج آخــر مــا كان يف احلقيبــة؛ ً
بــه الكثــر مــن اإلبــر الطبيــة الفارغــة ،لــكل منهــا ســمك خمتلــف عــن
ﻜﺘ
األخــرى ،رشع يثبتهــا بأماكــن خمتلفــة مــن جســم هشــام الــذي مل يكــف
عــن االرجتــاف ،وقــال بابتســامته التــي مل تتبــدل:
ﺐ ﻟﻠﻨ
-ســادس فوبيــا :هــي اخلــوف مــن اإلبــر ..مــا تقلقــش الرسنجــات دي
مــش هتســيب أثــر يف جســمك بعــد مــا يتشــالوا ..مــش قولــت لــك إين
ﺸﺮ
متعاطــف معــاك؟
ﻭ
45
إمــا ل ُبعــد مــكان الضحيــة ،أو ملحاولــة أصحاهبــا ختفيــض ســعر املهمــة،
أيضــا الطلبــات التــي يشــك يف جديــة أصحاهبــا ..أغلــق حاســبه جتاهــل ً
وراح يتاميــل برأســه مســتمت ًعا بأنغــام العــود..
رشع يف النــزول مــرة أخــرى لالطمئنــان عــى هشــام الــذي مــى
عــى وجــوده داخــل الصنــدوق أكثــر مــن ســاعتني ..أخــرج مــن درج
ـائل اشــراه عــن طريــق الـــ..dark web مكتبــه زجاجــة صغــرة حتتــوي سـ ً
كلفــه الكثــر مــن «البيتكويــن» املتداولــة هنــاك ..كــر الكونــت مقدمــة
ﻋﺼ
الزجاجــة بحــرص شــديد وســحب الســائل عــن طريــق إبــرة املحقــن ،ثــم
ﲑ ﺍﻟ
قليــا للتخ ُّلــص مــن اهلــواء الزائــد ،ونــزل
أعــاد مكبــس اإلبــرة لألمــام ً
ليجهــز عــى ضحيتــه..
ﻜﺘ
فتــح الكونــت أقفــال احلجــرة وهــو يدنــدن نفــس اللحــن الــذي كان
ﺐ ﻟﻠﻨ
يســمعه يف غرفتــه ،أزاح خيــط عنكبــوت كان متدل ًيــا أمامــه ،وضــع إبــرة
املحقــن بحــرص فــوق منضــدة صغــرة ،فتــح الصنــدوق املعــدين؛ ليجــد
ﺸﺮ
هشــام يف حالــة شــديدة مــن اإلعيــاء ..محلــه الكونــت حتــى ألقــاه يف
حــوض االســتحامم املوجــود بــدورة امليــاه امللحقــة باحلجــرة ،فــك قيــوده
ﻭ
وتأكــد مــن إحــكام العصابــة حــول عينيــه ثــم فتــح املــاء فــوق جســده ..بــدأ
ﺍﻟﺘﻮ
هشــام يســتيقظ وقــد نــال منــه الضعــف ..ســاعده الكونــت عــى النهــوض
ﺯﻳﻊ
وتركــه ينظــف نفســه بنفســه ..صــدرت عــن هشــام مقاومــة واهنــة وأدهــا
الكونــت بلكمــة قاســية يف منتصــف ظهــره ..أجــره عــى اجللــوس فــوق
املقعــد الوحيــد يف احلجــرة وأعــاد تقييــده قائـ ًـا:
-أنــا دلوقتــي لــو عايــز أعــرف منــك أي معلومــة هاعرفهــا ،ولــو
أمرتــك بــأي أمــر مــش هتــردد تنفــذه يل..
46
أخــره الكونــت أنــه رآه شــا ًبا قو ًيــا ،فقــرر أن جيــرب فيــه تركيبــة
جديــدة ..أمســك إبــرة املحقــن ،وبــدأ يضــخ الســائل يف أحــد األوردة
البــارزة مــن رقبــة هشــام ..أكمــل حديثــه بنفــس اهلــدوء:
-مــن فــرة مــش بعيــدة كان فيــه أبحــاث بتحــاول توصــل ملركــب حمفــز
للخــوف ،مركــب بيــزود إفــراز هرمونــات الشــعور بالقلــق عنــد اإلنســان.
بــدأ هشــام يرجتــف كأنــه يــرى خيــاالت مفزعــة أمامــه ..فأكمــل
ـخصا عــن طريــق الصدفــة يعــرض هــذه الرتكيبــة الكونــت أنــه وجــد شـ ً
ﻋﺼ
للبيــع عــى اإلنرتنــت ،مدع ًيــا إهنــا إحــدى تطبيقــات هــذا البحــث ..قــال
ﲑ ﺍﻟ
بلهجــة اســتعراضية كممثــل مــرح يــؤدي املشــهد الرئيــي لشــخصيته:
-ودلوقتــي هخليــك جتــرب خالصــة اخلــوف النقــي؛ اخلــوف مــن غــر
ﻜﺘ
أي سبب.
ســأله الكونــت عــن املبلــغ الــذي تقــدم به للعطــاء ،أخــرج هاتفــه املحمول
ﺐ ﻟﻠﻨ
لتســجيل مــا ســيقوله هشــام ..بــدأ هشــام هيــذي بــكالم غــر مفهــوم ،ثــم
أجابــه بــكل مــا يريــد أن يعــرف ،رسد عليــه تفاصيــل العطــاء كاملـ ًة بمنتهــى
ﺸﺮ
بتخــاف منهــا.
ﺯﻳﻊ
مل يســتطع هشــام املقاومــة أكثــر مــن ذلــك ،ســكن جســده وراح يبكــي
كالرضــع ،فقــد شــعوره بــكل مــا حولــه ،راح يتحــدث مــع أمــه وأبيــه،
حــرك جســده بشــكل عشــوائي حتــى يدبــدب يف األرض كاألطفــالَّ ،
ســقط مــن فــوق الكــريس ،نــام عــى األرض مرجت ًفــا..
بصوت كالفحيح: ٍ اقرتب منه الكونت ومهس يف أذنه
47
-شايف إيه يا هشام؟
ر َّد هشــام بكلــات مبعثــرة مل يفهــم الكونــت أغلبهــا ،فقــط م َّيــز:
«أمــي ماتــت»« ..البيــت هيقــع»« ..حــد يلحقنــي»« ..رسطــان رئــة»..
«الــكالب»« ..الرشكــة فلســت»« ..هأمــوت»« ..هأمــوت».
اســتغرق هشــام يف خياالتــه لدقائــق ،مل حيتمــل املزيــد وفقــد وعيــه،
أجلســه الكونــت مــرة أخــرى فــوق املقعــد بعــد أن ق َّيــد حركتــه بإحــكام..
انتظــر بجانبــه طويـ ًـا حتــى اســتعاد تركيــزه ،وقــال بلهجــة مرحــة بعــد أن
ﻋﺼ
صفــق بيديــه حمي ًيــا:
ﲑ ﺍﻟ
-خــاص يــا بطــل الرحلــة خلصــت ..أظــن أنــت دلوقتــي عرفــت
نفســك كويــس.
ﻜﺘ
أطلــق هشــام ســبة شــديدة البــذاءة؛ خــاض يف ِعــرض الكونــت ..رد
الكونــت دون أن يفقــد هــدوءه:
ﺐ ﻟﻠﻨ
-تعــرف إين حبيتــك بجــد ،وقــررت أعمــل لــك خدمــة عمــرك ..أنــت
راجــل نضيــف يــا هشــام ،ملتــزم ومتديــن وفلوســك حــال ..مــا ينفعــش
ﺸﺮ
اســتمر هشــام يف ســباب الكونــت ذاكـ ًـرا أمــه بأقــذع األلفــاظ ..وقــف
ﺍﻟﺘﻮ
صوبــه جتــاه أســره ..شــعر هشــام بــرودة معــدن ماســورة املســدس جيبــهَّ ،
املالمســة ملقدمــة رأســه فبــدأ يتلــو الشــهادتني باك ًيــا ..وضــع الكونــت
ســبابته فــوق الزنــاد وقــال مبتسـ ًـا:
-فرصة سعيدة يا باش مهندس ..هتوحشني.
***
48
-3جانب مظلم
ﻋﺼ
شــعرت بالعجــز املطلــق؛ فأنــا ال أعــرف حقيقــة اخلطــر الــذي هيــدد
ُ
زوجتــي وابنتــي ،وال أعــرف هويــة خاطفهــا ..نظـ ُ
ـرت إىل آدم «اخلواجــة»
ﲑ ﺍﻟ
ـزن حقيقــي ،وطلبــت منــه مســاعديت يف البحــث عــن غــرام ومليكــة.. بحـ ٍ
ﻜﺘ
ربــت عــى كتفــي قائـ ًـا بلهجــة مل ختـ ُـل مــن تعاطــف:
-ما ختافش يا أستاذ يارس ..أنا معاك حلد ما يرجعوا.
ﺐ ﻟﻠﻨ
قال مستدركًا:
ﺸﺮ
-بــس حرضتــك مــا قولتليــش ..الراجــل الــي كان بيحميــك قبــي راح
فني !
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
سألني بقلق:
-اختفى ليه؟
ٍ
بصوت خفيض: أجبته
-عشان كان بيحميني.
49
مل تشهد ا َمل َ
درسة َحد ًثا مثل هذا من قبل..
كانــت األجــواء متوتــرة يف غرفــة االجتامعــات اخلاصــة بمدرســة Better
generationالتــي يعمــل هبــا أســتاذ يــارس الطائــي؛ فقــد ثــار املدرســون
لوفــاة زميلهــم حممــود صقــر بعــد شــجار شــفهي خاضــه مــع أحــد الطلبــة،
طالبــوا مديــرة املدرســة الدكتــورة «أســاء رشــدي» بفصــل الطالــب الــذي
افتعــل املشــكلة..
تكلــم ممثــل أوليــاء األمــور مهــد ًدا أن مجيــع الطــاب يتعلمــون بأمواهلم
ﻋﺼ
وأن أي مدرســة أخــرى تتمنــى التحــاق أبنائهــم هبــا ،فــا جيــوز إلقــاء
الذنــب عــى الطالــب ..علــت األصــوات املعرتضــة ،ر َّد أحــد ا ُملعلمــن أن
ﲑ ﺍﻟ
زميلهــم مــات قهـ ًـرا بســبب عــدم تطبيــق نظــام صــارم للعقــاب عــى هــؤالء
ﻜﺘ
ا ُملدَ للــن ..وقبــل أن يــرد عليــه ممثــل أوليــاء األمــور قالــت دكتــورة أســاء
بصوهتــا احلــاد وبلهجــة حازمــة:
ﺐ ﻟﻠﻨ
أخربتــه أنــه قــدوة للطلبــة ،وال جيــوز لــه الــكالم هبــذه الطريقــة أمــام مديرته
وال مــع ممثــل أوليــاء األمــور ،وأردفــت قائلــة بلهجــة حكيمــة:
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
هنشــوف وســيلة تع ِّلــم الطالــب املســتهرت االلتــزام بــدون مــا تأذيــه نفسـ ًيا أو
جسد ًيا.
خفضــت صوهتــا ناظــر ًة يف أعــن طاقــم تدريســها فــر ًدا فــر ًدا ،وأكملــت
بلهجــة مل ختـ ُـل مــن حــزن:
-أســتاذ صقــر اتــوىف ألن ده قــدره مــش بســبب أي حاجــة تانيــة،
50
وأكيــد الطالــب مــا يعرفــش إن املرحــوم كان عنــده مشــاكل يف القلــب..
أكملــت حديثهــا مشــر ًة نحــو احلائــط املقابــل هلــا ،والــذي ُع ِّلقــت عليــه
صور املــدراء الســابقني للمدرســة:
-وصورة أستاذ صقر هتتعلق هنا ختليدً ا لذكراه.
وقبــل أن يــرد نفــس ا ُمل َع ِّلــم املعــرض قاطعتــه بإشــارة مــن يدهــا،
ووجهــت حديثهــا ملمثــل أوليــاء األمــور ،أخربتــه أن مــا حــدث لــن يتــمَّ
التســاهل معــه ،وأن ويل أمــر الطالــب صاحــب املشــكلة ملــزم باعتــذار
ﻋﺼ
شــفهي وبتعويــض مــادي كبــر جتــاه أرسة أســتاذ صقــر ،وأن إدارة املدرســة
ﲑ ﺍﻟ
ً
مماثــا ،أهنــت حديثهــا منــذرة: ســتدفع ألرسة األســتاذ مبل ًغــا
-وبلغهــم لــو مــا نفــذوش الــكالم ده يعتــروا ابنهــم مرفــود مــن
ﻜﺘ
النهــاردة.
وقبــل أن يعــرض ممثــل أوليــاء األمــور ..أكملــت أســاء حديثهــا
ﺐ ﻟﻠﻨ
بلهجــة حازمــة:
ﺸﺮ
-وابقــى شــوف مــن هيقبلــه ملــا يتعــرف إنــه اترفــد مــن عنــد أســاء
رشــدي.
ﻭ
ً
-ليه هو اترفد من اجلنة؟
ﺯﻳﻊ
51
ـرا نحــو دكتــور أســاء واملعلمــن اجلالســن حوهلــا
أكمــل حديثــه مشـ ً
عــى مائــدة االجتــاع بيضاويــة الشــكل:
-املديــرة معاهــا دكتــوراه يف علــم نفــس الطفــل ،واألســاتذة بــا
اســتثناء واخديــن دورات تعليميــة يف مهــارات التعامــل مــع األطفــال
مثــا ميــس واملراهقــن ،وكل واحــد فيهــم متخصــص يف جمالــه؛ عنــدك ً
كونسفتــوار ،وأســتاذ عصــام جــودة ..ماجيســتري مــن كريســتني ..خرجيــة ِ
كليــة دار العلــوم ،ومســر يــارس الطائــي الــي بيــدرس ..Mathبكالوريــوس
ﻋﺼ
هندســة قســم ميكانيــكا.
ً
ﲑ ﺍﻟ
منشــغل بإزالــة بقعــة حــر التفــت اجلميــع نحــو يــارس الــذي كان
زرقــاء مــن خلــف بِنــره ،تفاجــأ بذكــر اســمه ،قابلهــم بابتســامة بلهــاء
ﻜﺘ
ال تتناســب مــع املوقــف ..انتظــر حتــى أعرضــوا عنــه وعــاودوا نقاشــهم،
راقــب وجوههــم دون أن يركــز فيــا ُيقــال ،الحــظ أن أحــد األســاتذة مل
ﺐ ﻟﻠﻨ
ينــزل عينيــه عــن صــدر أســتاذة كريســتني ..كــا الحــظ نقــر دكتــورة أســاء
مخــن أهنــا
بســبابتها عــى كــوب املــاء املوضــوع أمامهــا؛ بــدا عليهــا التوتــرَّ ،
ﺸﺮ
بعــد أن ُأ َ
رسي بــه ليـ ًـا إىل شــقة «حمطــة الرمــل» هبــذه الطريقــة.
ﺯﻳﻊ
52
مــرر اهلاتــف عــى اجلالســن واحــدً ا تلــو اآلخــر؛ كان املكتــوب مــن ِق َبل
علــم الراحــل أنــه يتمنــى لــو عــاد نظــام العقــاب بالــرب للمــدارس كــا ا ُمل ِ
كان الوضــع فيــا ســبق ،ثــم أردف قائـ ًـا:
-أســتاذ صقــر مــات مقهــور عشــان معرفــش يــارس ســاديته عــى
أوالدنــا!
قوبلــت عبارتــه بالكثــر مــن صيحــات االســتهجان ،ر َّد عليــه
معرتضــا:
ً األخصائــي االجتامعــي
ﻋﺼ
-الــكالم واضــح إنــه متقــال بصيغــة هــزار ألنــه بيضحــك بعــد مــا
ﲑ ﺍﻟ
قالــه ..بعديــن وصــف ســادي صعــب يتقــال عــى أي حــد.
قــال بلهجــة حاســمة أن أســتاذ صقــر -رمحــه اهلل -ليــس ســاد ًيا؛ ألنــه
ﻜﺘ
كان ســيخفي حقيقتــه ليحمــي نفســه ومــن حيــب ،ارتشــف رشــف ًة مــن
كــوب الشــاي املوضــوع أمامــه وأردف ً
قائــا:
ﺐ ﻟﻠﻨ
ساخرا:
ً سأله ممثل أولياء األمور
ﻭ
-ممكن.
***
اقــرب عســكري الرشطــة مــن الســيارة التاليــة يف الكمــن ..تظاهــر
أنــه مل يلحــظ شــعار الرشطــة امللصــق فــوق زجاجهــا األمامــي املعتــم؛
53
تنفيـ ًـذا لتعليــات الضابــط املســئول عــن الكمــن ..كان يعلــم أن هــذا اليــوم
لــن يمــر بســام ،قــال بلهجــة ريفيــة جامــدة لقائــد الســيارة:
-رخصك يا بيه..
نظــر قائــد الســيارة للعســكري بــازدراء مــن خلــف نظارتــه الشمســية،
ـوحا بيــراه:
وقــال مشـ ً
-مقدم محزة درويش ،وسع الطريق يا بني..
ر َّد العسكري بلهجة متوسلة:
ﻋﺼ
-أمــر باشــا مشــدد علينــا نشــوف الكارنيــه ..وحرضتك مــا ترضاليش
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ أتأذي.
جز املقدم محزة عىل أسنانه وصاح فيه بغضب:
َّ
-روح انــده يل الغبــي الــي قــال لــك متــي التعليــات دي عــى الرتــب
ﺐ ﻟﻠﻨ
-فيــه حمامــي اتقتــل يف املحكمــة الــي عــى أول الشــارع ..وأنــا رايــح
أقابــل القيــادات الــي أهــم منــي ومــن الــي بيأمــرك عشــان نشــوف هنعمــل
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
مل يــرد العســكري وحتــرك لينــادي الضابــط املســئول عــن الكمــن ،ثــم
تراجــع بعــد أن ســار خطوتــن وفتــح احلاجــز املعــدين مــرد ًدا ..رضب
موبخــا العســكري الــذي ظــل يعتــذر طويـ ًـا ،لـ َّـوح حلمــزة
ً محــزة ك ًفــا بكـ ٍ
ـف
متمن ًيــا لــه الســامة وطال ًبــا منــه العفــو ..بعــد أن ابتعــدت الســيارة بصــق
العســكري عــى األرض العنًــا محــزة بــكل األلفــاظ التــي يعرفهــا ،وكانــت
كثــرة.
54
مــا لبــث أن عــر محــزة مــن الكمــن حتــى زفــر بارتيــاح ،التقــط أنفاســه
ناظـ ًـرا نحــو حقيبــة الظهــر الطويلــة التــي وضعهــا أســفل املقعــد اخللفــي
مــن ســيارته ،كانــت حمتويــات هــذه احلقيبــة كفيلــة بخروجــه مــن اخلدمــة
واحلكــم عليــه باإلعــدام!
***
بالتجمــع اخلامــس ،بعــد
ُّ ـرا إىل منزلــه
وصــل املقــدم محــزة درويــش أخـ ً
ـاهل مــن الكمــن القريــب مــن املحكمــة.. أن مـ َّـر بعــدة كامئــن أكثــر تسـ ً
ﻋﺼ
مــأت أنفــه رائحــة العطــن املنبعثــة مــن شــقته التــي مل تنظــف ومل تزرهــا
ٍ
ﲑ ﺍﻟ
زمــن .وضــع حقيبتــه الثقيلــة بجــوار بــاب الشــقة ،حتــرك الشــمس منــذ
ببــطء حتــى وصــل إىل حجــرة نومــه ،ألقــى بجســده عــى الفــراش ،مل يبــالِ
ﻜﺘ
بصــوت الرصيــر الــذي أحدثــه خشــب الرسيــر.
مل يتخيــل يو ًمــا أنــه ســيلتقط أنفاســه يف نصــف ســاعة كاملــة؛ افتقــد
ﺐ ﻟﻠﻨ
جســده الريــايض كــا افتقــد العمــل امليــداين بعــد ســنوات طويلــة مــن
اجللــوس يف املكاتــب وعمــل املباحــث الــذي ال ينتهــي ..هنــض مــن
ﺸﺮ
متوجهــا نحــو احلــام؛ تقاعــس عــن االســتحامم مكتف ًيــا بغســل ً الفــراش
وجهــه وجانبــي رأســه ..وضــع القليــل مــن «كريــم» إزالــة جتاعيــد البــرة
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
حــول عينيــه ،ومــرر يديــه بــن خصــات شــعره بعــد أن دهنهــا بزيــت
ﺯﻳﻊ
يائســا إخفــاء تأثــر الزمــن عــى مظهــره يمنــع تســاقط الشــعر؛ كان حيــاول ً
اخلارجــي ،خاصــ ًة بعــد أن وجــد حلياتــه هد ًفــا جديــدً ا.
مشــى عــدة خطــوات بمالبســه الداخليــة يف طرقــة بيتــه الواســع حتــى
كبــرا مــن القهــوة وطب ًقــا مــن
ً وصــل إىل املطبــخ ،صنــع لنفســه كو ًبــا
الشــعرية رسيعــة التخضــر ..مل حيــب قــط رائحــة مكســبات الطعــم التــي
55
تضــاف هلــا أثنــاء التســخني ..لكنــه اضطــر للتعـ ُّـود عليهــا؛ خاصـ ًة أن حاهلــا
مل يكــن أســوأ بكثــر مــن طبــخ زوجتــه التــي حصلــت عــى الطــاق منــذ
شــهور قليلــة ..بعــد أن فشــل متا ًمــا يف إصــاح مــا تــم إفســاده بينهــا.
عــاد محــزة إىل غرفــة نومــه ثانيــ ًة ،جلــس أمــام حاســبه اآليل يتنــاول
عشــاءه ويــرب القهــوة ..طالــع وجهــه يف إحــدى املرايــا التــي تغطــي
خزانــة مالبســه كبــرة احلجــم؛ مل يــدرك متــى غــزا الشــيب جوانــب شــعره،
وال متــى ظهــرت تلــك اهلــاالت الســوداء أســفل عينيــه ..قــرر البحــث
ﻋﺼ
الح ًقــا عــى اإلنرتنــت عــا خيفــي هــذه اآلثــار مجي ًعــا.
ﲑ ﺍﻟ
تأكــد مــن ضبــط مجيــع إعــدادات األمــان التــي تعلمهــا مــن صديقــه
الــذي يعمــل يف مباحــث اإلنرتنــت التابعــة لــوزارة الداخليــة ،فتــح موق ًعــا
ﻜﺘ
عــى اجلانــب املظلــم مــن اإلنرتنــت ..Dark Webكان املوقــع ُيســمى
DarkEgyptخــاص بتأجــر املجرمــن داخــل مــر ..جلــس معط ًيــا ظهــره
ﺐ ﻟﻠﻨ
غــر صوتــه بأحــد الربامــج مصــورا ليبثــه عــى املوقــع مبــارشةًَّ ،
ً مقط ًعــا
وقــال بفخــر:
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
أخــرج مــن حقيبتــه كامــرا مــزودة بشاشــة صغــرة وعــرض مــا فيهــا
أمــام مشــاهديه:
-زي مــا أنتــم شــايفني ده القصــاص التالــت ليــا ..أنــا قتلــت النهــارده
دراع مــن دراعــات الشــيطان؛ طــول مــا هــو والــي زيــه عايشــن كفــة
العدالــة هتفضــل مايلــة.
56
ـجل الــذي يعرضــه بفعــل اهلــواء، مشوشــا يف املقطــع ا ُمل َسـ َ
ً كان الصــوت
خارجــا مــن املحكمــة مرتد ًيــا بدلــة
ً ظهــر يف املقطــع أحــد املحاميــن ،كان
باهظــة الثمــن وعــى وجهــه عالمــات الســعادة ،حما ًطــا بالكثــر مــن املهنئــن
وبعــض مــن الصحافيــن الــذي حــاول املتدربــون لديــه إبعادهــم ،جتاهلهــم
وتوجــه نحــو ســيارته الفارهــة ،وقبــل أن يركبهــا ســقط ،بعــد أن َّ مجي ًعــا
اخرتقــت طلقــة ســاح القناصــة قلبــه .أكمــل محــزة حديثــه قائـ ًـا بلهجــة
مرسحيــة بعــد أن فــرد يديــه بفخــر:
ﻋﺼ
-أنــا ميــزان العــدل ..بعــرف قدامكــم إين املســئول الوحيــد عــن
اغتيــال املحامــي ناجــي الطحــاوي..
ﲑ ﺍﻟ
ً
قائــا بعــد أن عــرض ســاح القناصــة غــايل الثمــن أمــام أردف
ﻜﺘ
املشــاهدين:
-آخــر قضيــة كســبها الراجــل ده كانــت قضيــة فســاد بمليــارات ضــد
ﺐ ﻟﻠﻨ
املوقــع ده بالظبــط.
أنــزل الســاح مــن أمــام الكامــرا بحــرص ،قــال بلهجــة أقــل حــدة أنــه
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
قــرر تطهــر هــذا املوقــع بنفســه ،ســيصل إىل مجيــع املجرمــن املوجوديــن
ﺯﻳﻊ
موجهــا حديثــه
ً عليــه ،ليطبــق فيهــم العدالــة التــي مل تطلهــم بعــد ،أردف
ملشــاهديه بصـ ٍ
ـوت عـ ٍ
ـال:
-وقصايص القادم هيكون من الكونت.
***
57
بعــد انتهــاء االجتــاع الطــارئ باملدرســة اضطــر يــارس لســاع عبــارات
املواســاة الفارغــة مــن بعــض زمالئــه الذيــن ســمعوا بخــر إزالــة العــارة
التــي كان يقطــن هبــا ،رفــض بعــض عــروض املســاعدة الومهيــة مــن مديــرة
املدرســة ،أخربهــا أن كل يشء عــى مــا يــرام وأن أختــه مل ترتكــه حــن
علمــت بأمــر قــرار اإلزالــة؛ فنظفــت لــه شــقته املوجــودة بعقــار أبيــه يف
حمطــة الرمــل ،وظــل زوجهــا معــه طــوال الليــل حتــى قــام بنقــل متاعــه إىل
الشــقة ذات املســاحة األكــر.
ﻋﺼ
ركــن يــارس ســيارته أســفل حمــل إقامتــه اجلديــد ،رفــع فرامــل اليــد التــي
أصــدرت صــوت رصيــر يــدل عــى قدمهــا ،أغلــق بــاب الســيارة ناظـ ًـرا
ﲑ ﺍﻟ
النعــكاس وجهــه عــى زجــاج الســيارة اجلانبــي؛ ليجــد نظــرة منهكــة
ﻜﺘ
صــادرة مــن عينــن منتفختــن اشــتيا ًقا للنــوم بعــد ســاعات مـ َّـرت عليــه
كالدهــر ،ضبــط مــن وضــع مالبســه املكونــة مــن قميــص أبيــض ال يظهــر
ﺐ ﻟﻠﻨ
منــه ســوى ياقتــه ،ارتــدى فوقــه «بــول أوفــر» أزرق مــن الصــوف ،وســرة
ســوداء اللــون.
ﺸﺮ
المتــه عــى ضعــف الشــخصية واهتمتــه بالعجــز عــن محايــة أرستــه ..أقنعهــا
بالــكاد أن تؤجــل هــذا الشــجار حتــى يعــود مــن املدرســة فوافقتــه مضطرة.
ﺯﻳﻊ
أكثــر مــا آملــه حــن ســمعها هتمــس بدعــاء «أعــوذ بــاهلل مــن قهــر الرجــال»..
جتاهــل تلميحهــا حتــى ال ُيص ِّعــب املوقــف عــى نفســه ،تأكــد أهنــا ســتتأقلم
مــع الوضــع اجلديــد؛ كان يثــق يف حبهــا لــه ،ورغبتهــا يف «متشــية املركــب»،
تعمــد
عــاو ًة عــى أهنــا وحيــدة يف مــر مــن دونــه ،حتــى أقارهبــا يف ســوريا َّ
أن يقطــع صلتهــا هبــم منــذ زمـ ٍ
ـن بعيــد.
58
بــدأ يتجــول يف منطقتــه الســكنية اجلديــدة؛ كان يعرفهــا جيــدً ا لكنــه مل
يرهــا بعــن الســاكن مــن قبــل ،اختــذ مقعــدً ا داخــل مطعــم «كبــدة أوالد
بتمهــل ..تك َّلــم مــع أحــد اجلالســن إىل الفــاح» الشــهري ليتنــاول غــداءه ُّ
جــواره والــذي عــرف فيــا بعــد أنــه يدعــى «احلــاج صالــح» ،موظــف
وشــاحا صوف ًيــا تفــوح منــه
ً ســابق بمصلحــة الكهربــاء ،كان يرتــدي
رائحــة املســك ،عــرف أنــه يســكن يف نفــس الشــارع ..تطوع الرجــل وراح
يــرح ليــارس الكثــر عــن تاريــخ املنطقــة؛ كمقهــى أتينيــوس ومقهــى
ﻋﺼ
ديليــس الــذي يعــود تأسيســهام ألكثــر مــن مئــة عــام ،وبعــض األماكــن
ـرا بــا ِ
التــي كان حيــب امللــك فــاروق زيارهتــا ..مل يبــد يــارس اهتام ًمــا كبـ ً
ﲑ ﺍﻟ
ســمع وســأله عــن األماكــن التــي ســيحتاجها كاملتاجــر وورش الســيارات
ﻜﺘ
واملســجد ..فأجابــه «احلــاج صالــح» ،وحــذره مــن االقــراب مــن احلانــة
املوجــودة يف هنايــة الشــارع مسـ ً
ـتعيذا بــاهلل ممــن يرتادوهنــا ..ســأله يــارس إن
ﺐ ﻟﻠﻨ
كان يعــرف «عبــد احلــي الطائــي» ،فأجــاب الرجــل بفـ ٍم ممتلــئ بالكبــدة:
-ملــا أنــا نقلــت هنــا كان هــو مــي ..بــس ســمعت إنــه راجــل ناقــص؛
ﺸﺮ
ســاب مراتــه وبنتــه وســافر مــر اجتــوز َعيلــة صغــرة مــش مــن ســنه.
ابتلــع يــارس اجلملــة األخــرة ومل خيــره أن هــذه «العيلــة» كانــت أمــه،
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ســأله عــن ســلوى ورايف ..فوضــع «احلــاج صالــح» إهبامــه أســفل شــفته
ﺯﻳﻊ
59
يــارس دون حيــاء ..قاطــع حديثهــا مــرور طفــل صغــر يبيــع املناديــل،
فأعطــاه يــارس آخــر رغيــف أمامــه ،وهنــض ليحاســب عــى مــا أكاله،
اعرتاضــا
ً أقســم عليــه «احلــاج صالــح» أن يدفــع هــذه املــرة ،فأبــدى يــارس
ودفــع لكليهــا ..ســاعده يــارس عــى النهــوض واإلمســاك بعصــاه التــي
يتكــئ عليهــا ،نظــر «احلــاج صالح»نحــو حنطــور متوقــف بجــوار املطعــم،
مبد ًيــا تأففــه مــن رائحــة روث احلصــان الــذي جيــره ،أكمــل حديثــه عــن
ســلوى قائـ ًـا:
ﻋﺼ
-كل ســنة بتــزود مصاريــف الــدروس عــى العيــال حلــد مــا األهــايل
قربــوا يشــحتوا ..حفيــدي كان بــروح هلــا.
ﲑ ﺍﻟ
ســأله يــارس عــن مــكان حفيــده احلــايل ،فهـ َّـز «احلــاج صالــح» كتفيــه
ﻜﺘ
ٍ
بصــوت متهــدج: وقــال
-أبوه خده هو وأمه وهاجروا كندا.
ﺐ ﻟﻠﻨ
بــدا عــى «احلــاج صالــح» التأثــر حــن أتــى ذكــر أهلــه ..حــاول يــارس
تغيــر املوضــوع فأخــره ضاح ـكًا أنــه أخــو ســلوى وابــن «ال َع ِّيلــة» التــي
ﺸﺮ
هجــر عبــد احلــي الطائــي أرستــه ألجلهــا ..شــعر صالــح بحــرج شــديد،
مبتســا ،أخــره أنــه يتفــق ً
حمــاول تقبيــل رأس يــارس الــذي منعــه اعتــذر
ﻭ
ً
ﺍﻟﺘﻮ
معــه يف كل مــا قــال لتفلــت ضحكــة مــن «احلــاج صالــح» كاشــفة عــن عــدد
ﺯﻳﻊ
قليــل مــن األســنان الصفــراء بفعــل التدخــن ..جلســا عــى مقهــى صغــر
باملنطقــة ،ليكتشــف يــارس ولــع جــاره اجلديــد بالنرجيلــة التــي مل تفــارق
يــده ..خــرج الدخــان مــن فــم «احلــاج صالــح» حــن حتــدث قائـ ًـا:
-املعسل ده ماركة خمصوص بتجييل من الرشقية..
ســعل بعدهــا «احلــاج صالــح» مبــارش ًة بقــوة ،بصــق يف منديلــه القــايش
60
العنًــا الدخــان ..مل يعلــق يــارس مكتف ًيــا بالضحــك ،مل حيــب يو ًمــا أن
يكشــف عــن ذاتــه مــن أول جلســة ،أدرك «احلــاج صالــح» بذكائــه الفطــري
طبــاع يــارس ومل يعلــق ..دعــا بعــض أصدقائــه مــن كبــار الســن ملشــاركتهام
اجللــوس ولعــب الطاولــة ،وبعــد جلســة طويلــة مل ُ
ختــل مــن القهقهــة
ـن مجيــل قــدواحلديــث يف كافــة أمــور احليــاة؛ بــد ًءا مــن احلــرة عــى زمـ ٍ
مــى ،وســخرية مــن األجيــال اجلديــدة ،والتغــزل يف مفاتــن نســاء املنطقــة
بصــوت خفيــض ،وبعــض النقاشــات العابــرة يف كــرة القــدم والسياســة،
ﻋﺼ
وقــد عــرف يــارس أن «احلــاج صالــح» حيــب الزمالــك وحيفــظ األســامي
الرباعيــة لكبــار العبيــه ..نظــر يــارس يف ســاعة يــده ،اطمــأن أن موعــد نــوم
ﲑ ﺍﻟ
ـذرا مــن اجلميــع ألنــه
غــرام قــد فــات عليــه أكثــر مــن ســاعتني ،فنهــض معتـ ً
ﻜﺘ
سيســافر غــدً ا إىل القاهــرة حيــث عملــه اآلخــر.
فتــح يــارس بــاب الشــقة بحــرص ،مل ينجــح يف منــع صــوت الرصيــر
ﺐ ﻟﻠﻨ
العــايل الــذي صــدر عنــه ،ملــح ابنتــه مليكــة عــى ضــوء مصبــاح صغــر
يف الصالــة ،كانــت جالســ ًة يف انتظــاره؛ وقــد غلبهــا النعــاس فــوق أحــد
ﺸﺮ
املقاعــد القريبــة مــن البــاب ،حمتضنــة دميتهــا املفضلــة التــي اختذهتــا صديقــة
ومهيــة ..كانــت قــد ورثــت عــن أمهــا عينيهــا الواســعتني كعينــي الدمــى،
ﻭ
حــن ينظــر يف عينيهــا الصافيتــن كالســاء؛ فــرى مــن خالهلــا كل مــا هــو
ﺍﻟﺘﻮ
بــريء يف عاملــه ،ووجههــا األبيــض دقيــق املالمــح ..مل تأخــذ مــن شــكله إال
ﺯﻳﻊ
الشــعر األســود ،مل يعــرف يو ًمــا مــا الــذي تفكــر فيــه قبــل أن تنطــق بــه؛ دائـ ًـا
مــا تقــول غــرام أن مليكــة قــد ورثــت عنــه هــذه املالمــح اجلامــدة ..وضــع
حقيبــة يــده عــى األرض ،محــل مليكتــه برفــق حتــى أودعهــا بجــوار أمهــا،
ـوت ناعــس: اســتيقظت مليكــة قائل ـ ًة بصـ ٍ
-ممكن تصالح ماما؟
61
أشــار هلــا واض ًعــا ســبابته أمــام فمــه كــي تصمــت ،ابتســم هلــا يف حنــان
ــا وجنتهــا ال ُيمنــى ،حــاول أال يوقــظ زوجتــه التــي تنتظــره لتعلــن مق َّب ً
ثورهتــا عليــه ..نظــر يف قبضــة مليكــة ليجــد سـنًا جديــدً ا قــد فقدتــه ،فابتســم
هامســا يف أذهنــا بلهجــة مطمئنــة:
ً
-نامــي دلوقتــي مــكاين وأنــا هنــام يف مكتبــي ..وبكــرة الصبــح هصالح
للســنة عشــان يطلــع لــك غريهــا ..اتفقنا؟مامــا وهنغنــي ِ
مل يعطهــا فرصــة للــرد ،كان يعلــم أهنــا تنتظــره يف األســاس لتفتــح
ﻋﺼ
موضــوع تربيــة القــط ثانيــ ًة ،تســلل عــى أطــراف أصابعــه نحــو الصالــة
ﲑ ﺍﻟ
حيــث تــرك حقيبــة يــده التــي فتحهــا ً
خمرجــا حاســبه املحمــول منهــا.. ﻜﺘ
شــم رائحــة طعــام تركتــه لــه زوجتــه التــي مل يمنعهــا الغضــب عــن واجبهــا
جتاهــه ،مل يمــس الطعــام ،وتــرك إىل جــواره علبــة مــن الشــيكوالتة البيضــاء
ﺐ ﻟﻠﻨ
التــي حتبهــا غــرام ،توجــه نحــو أصغــر غــرف الشــقة التــي احتلــت كتبــه
نصــف مســاحتها ،واحتــل مكتبــه الصغــر النصــف اآلخــر منهــا .خصــص
ﺸﺮ
هــذه الغرفــة لينعــزل بداخلهــا وســط كتبــه وأوراق العمــل -كــا كان احلــال
يف الشــقة القديمــة..
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
حــن فتــح بــاب الغرفــة شــم رائحــة قويــة ملبيــد احلــرات .قــام
ووصــل شــاحنه
بتشــغيل حاســوبه املحمــول بعــد أن وضعــه فــوق املكتــب َّ
ﺯﻳﻊ
62
ســيضمن لــه نو ًمــا هاد ًئــا ،نظــر نحــو مكتبتــه الكبــرة املرتبــة بعنايــة خلــف
مكتبــه ،كان قــد عــزف عــن مطالعــة كتبهــا منــذ فــرة ،كانــت ثقيلــة أثنــاء
النقــل لكنــه حــرص عــى إعــادة ترتيبهــا طيلــة الليــل.
مقتحــا حســابات التواصــل اخلاصــة ً بــدأ جولتــه شــبه اليوميــة
باملوجوديــن بدائــرة معارفــه؛ قــرأ حمادثــة بــن ســلوى وبــن أحــد املراهقــن
الذيــن يــرددون عــى مركــز الــدروس اخلاص هبــا ،بــدأت املحادثــة تقليدية
يســتفرس فيهــا املراهــق عــن مواعيــد بعــض الــدروس ،ثــم اختــذت شـ ً
ـكل
ﻋﺼ
محيم ًيــا؛ فلــم يكمــل يــارس قراءهتــا ،ضحــك طويـ ًـا يف رسه عــى زوج أختــه
«رايف» الــذي يظــن أنــه اخلائــن الوحيــد يف بيتــه ،والــذي اكتشــف يــارس
ﲑ ﺍﻟ
خيانتــه لســلوى بنفــس الطريقــة.
ﻜﺘ
كان يــارس عــى علــم بمخطــط ســلوى كامـ ًـا منــذ أيــام حــن جتســس
عليهــا ،و َقبِــل بــدور الضحيــة فيــه ،كان يطمــح يف اســتالم مرياثــه واالنتقال
ﺐ ﻟﻠﻨ
إىل هــذا املســكن منــذ زمــن؛ لكنــه أراد لســلوى أن تعتقــد أهنــا املتحكمــة يف
كافــة األمــور ،وأن كل يشء يســر وفــق إرادهتــا.
ﺸﺮ
انتقــل إىل هواتــف زمالئــه يف املدرســة فلــم جيــد منهــم جديــدً ا؛ فهــذا
األخصائــي االجتامعــي مديــون ببعــض أمــوال القامر جلــاره ..وهــذه معلمة
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
63
تصفــح هاتــف مديرتــه الدكتــورة أســاء رشــدي ،كانــت تعيــش وحيــدة
بــا أهــل أو زوج ،وهبــت حياهتــا اململــة للعمــل األكثــر ً
ملــا ..كان
متنفســها الوحيــد يتمثــل يف حســاب ومهــي عــى موقــع facebookتتحــدث
مــن خاللــه مــع بعــض الفتيــات مــن ذوات امليــول املثليــة ،يف البدايــة ظــن
انغامســا
ً يــارس أهنــا ســتنصحهم بالعــدول عــا يفعلــون ..لكنــه وجــد منهــا
تا ًمــا يف األمــر ،ورغبــة منهــا يف التقـ ُّـرب إلحداهــن.
كان حيــب غــرام ألهنــا ال ختفــي عنــه الكثــر ..حتــى موضــوع محلهــا
ﻋﺼ
الــذي اكتشــ َفته صبــاح اليــوم ،ومل تــرح بــه إال لصديقتهــا املقيمــة يف
وجيهــا؛ فقــد أخــرت صديقتهــا أهنــا مل تعــد تثــق
ً أمريــكا أخفتــه لســبب رآه
ﲑ ﺍﻟ
يف قــدرات يــارس عــى محايــة أرستــه.
ﻜﺘ
فكــر يــارس أكثــر مــن مــرة أن يتوقــف عــن التجســس عــى هواتــف
املقربــن منــه؛ مل يعتــد ذلــك اهلَـ َـوس بدافــع الفضــول ،فقــط كانــت تدفعــه
ﺐ ﻟﻠﻨ
غريــزة البقــاء ،أراد أن يتوقــع ترصفاهتــم حتــى يأمــن تبعاهتــا ،كان يرغــب
يف تغيــر قــدره املرتتــب عــى خمططاهتــم.
ﺸﺮ
مــا هــو أســوأ ..فمــن كان يصــدق أن تصــدر مثــل هــذه األفعــال مــن هــؤالء
األشــخاص الرباقــن كذهــب زائــف ،خـ ٍ
ﺯﻳﻊ
64
-4جانب أكثر إظال ًما
ﻋﺼ
« ثاناتوفوبيا؛ اخلوف من املوت»..
قاهلــا الكونــت ضاحـكًا بعــد أن ضغــط زنــاد ســاحه الــذي كان فار ًغــا
ﲑ ﺍﻟ
منــذ البدايــة ..اهنــار هشــام عــديل مــرة أخــرى عــى األرض ،بكــى أمامــه
ﻜﺘ
بصــوت خفيــض اختلــط فيــه النحيــب بنطــق الشــهادتني ،كان وجهــه ٍ
غار ًقــا يف خليــط مــن الدمــوع والعــرق الغزيريــن ..مل تتوقــف ضحــكات
ﺐ ﻟﻠﻨ
الكونــت ،كانــت مالحمــه تــي باســتمتاع حقيقــي ،وضــع يــده عــى كتــف
هشــام الــذي ظــل يرجتــف دون أن يفهــم مــا حــدث لــه ،وقــال:
ﺸﺮ
65
قبــل بخطــف هشــام مــن منزلــه ،فأبلغــه بمكانــه احلــايل ،واشــرط عليــه أن
يعيــد هشــام إىل أهلــه ســا ًملا قبــل أن يعطيــه النصــف اآلخــر مــن أتعابــه،
شــدد عليــه أن يلقــي بجســد هشــام أمــام بيتــه يف ســاعة متأخــرة مــن الليــل
وهيــرب رسي ًعــا.
***
جتمــع بعــض مــن أهــايل إحــدى املناطــق الشــعبية املطلــة عــى النيــل
َّ
ملشــاهدة ســباق ســباحة رتــب لــه جمموعــة مــن شــباب املنطقــة ،اعتــادوا
ﻋﺼ
مجي ًعــا الســباحة يف النيــل حتــى اقــرح أحدهــم هــذا النــزال الــذي مل حيــدث
ﲑ ﺍﻟ
هبــذه الصــورة مــن قبــل ..اصطــف املتســابقون مجي ًعــا منكمشــن مــن بــرودة
ﻜﺘ
اجلــو ،متخذيــن وضعيــة االســتعداد للقفــز يف امليــاه ،كانــت أجســامهم
متشــاهبة؛ نحيلــة ســمراء ،يــرز مــن خــال حلمهــا القليــل عظــام الضلــوع
ﺐ ﻟﻠﻨ
راح أحــد الشــباب يعيــد عليهــم قواعــد الســباق؛ رشح هلــم أن شــوط
الذهــاب ينتهــي عنــد بلــوغ الس ـ َّباح مركــب الصيــد املوجــودة عــى ُبعــد
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
را تقري ًبــا ،والفائــز مــن ينهــي شــوطي الذهــاب والعــودة قبــل
مخســن م ـ ً
منافســيه.
ﺯﻳﻊ
ـائل عــن شــاب يتوســط املتســابقني وخيتلف أشــار أحــد املتفرجــن متسـ ً
تعجــب مــن حــاوة مالحمــه وشــعره أشــقر اللــون امللمــوم ـراَّ ،
عنهــم كثـ ً
إىل أعــى عــى طريقــة حمــاريب الســاموراي ،ورداء الســباحة الــذي يرتديــه،
أجابــه شــخص آخــر وهــو يتابــع بدايــة الســباق:
66
-ده عيــل غريــب عــن املنطقــة اســمه اخلواجــة ..مصاحــب الــواد
«مجــال ُشــكامن» والــواد رضــا الن َّقــاش.
-بــس ده شــكله ابــن نــاس ..إيــه خيليــه يمــي مــع األشــكال الضالــة
دي؟
بعــد دقائــق قليلــة أهنــى «اخلواجــة» شــوط الذهــاب يف الســباق متفو ًقــا
بفــارق كبــر عــى منافســيه الذيــن كانــوا يســبحون بطريقــة عشــوائية ال تدل
عــى أي تدريــب ..ســمع حتيــة صاحبــه «مجــال ُشــكامن» فــازداد محاس ـ ًة،
ﻋﺼ
مســتعرضا مهارتــه
ً ســابحا عــى ظهــره
ً قــرر أن خيــوض شــوط العــودة
ﲑ ﺍﻟ
يف الســباحة حتــى أهنــى الســباق لصاحلــه ..ارتــدى نعـ ًـا خفي ًفــا ومشــى
ﻜﺘ
«شــكامن» ورضــا ،هار ًبــا مــن تزاحــم األطفــال حولــه،رسي ًعــا مــع مجــال ُ
توجــه نحــو بيــت ُشــكامن
كانــوا حيبونــه ألنــه يعطيهــم الكثــر مــن مالــهَّ ،
ﺐ ﻟﻠﻨ
الــذي صــار يعــرف مكانــه جيــدً ا وســط البيــوت والعشــش الصغــرة التــي
مــأت املنطقــة ..حلــق هبــا رضــا صديــق مجــال ،والــذي ربــت عــى كتــف
ﺸﺮ
أضــاف ُ
«شــكامن» أن «اخلواجــة» بــدا كأنــه ال يشــعر بالــرد برغــم نزوله
ﺯﻳﻊ
املــاء يف الشــتاء؛ عكــس باقــي املتســابقني مــن شــباب املنطقة ..ضحــك «آدم
اخلواجــة» معل ًقــا يف ثقــة أن شــتاء مــر ليــس هبــذا الســوء ،ذهــب لتغيــر
مالبســه يف غرفــة نــوم مجــال الصغــرة اخلاليــة مــن األثــاث؛ إال مــن فــراش
بســيط وبعــض احلُــر يدويــة الصنــع ..بــدأ جيفــف جســده مبد ًيــا تأففــه
مــن رائحــة جســده بعــد الســباحة يف النيــل ،تأمــل رضــا ِجــذع اخلواجــة
67
بانبهــار ،كان جســده رياض ًيــا متناسـ ًقا ،أبــدى رضــا إعجابــه بالوشــوم التــي
مل خيـ ُـل جذعــه منهــا ،توقــف قليـ ًـا عنــد صليــب صغــر أخــر اللــون تــم
دقــه عــى ســاعد اخلواجــة األيمــن ،تســاءل رضــا قائـ ًـا:
فعل اسمك احلقيقي آدم؟ -أنت ً
ساخرا:
ً الحظ اخلواجة ما ينظر إليه رضا ،فر َّد
-وأنت فاكر إن مفيش آدم مسيحي؟ الزم أبقى مايكل يعني؟
مازحا:
حاول شكامن تغيري املوضوع فقال ً
ﻋﺼ
-بس اتأخرت علينا املرادي يا خواجة ..فينك من آخر عملية؟
ﲑ ﺍﻟ
ر َّد آدم وهو يرتدي حذائه الريايض أبيض اللون ً
قائل:
ﻜﺘ
-أنــا باجــي وقــت مــا فلــويس بتخلــص ..أنــا مــش حرامــي طفــس
زيــك يــا ُشــكامن.
ﺐ ﻟﻠﻨ
ابتلــع مجــال اإلهانــة ومل يــرد ..شــعر اخلواجــة بالنــدم عــى مــا قــال،
فحــاول تغيــر املوضــوع ضاحــكًا:
ﺸﺮ
-أصلــه قبــل مــا يســيب املدرســة اإلعــدادي كان بييجــي لنــا كل يــوم
فطــران بيــض ..وعينــك بقــى مــا تشــوف إال النــور.
ضحــك اخلواجــة ورضب كفــه بكــف رضــا ..أكمــل رضــا حديثــه عــن
مــايض ُ
«شــكامن» أنــه كان بدينًــا وكان األطفــال يتحرشــون بــه لفظ ًيــا وأحيانًا
جســد ًيا ،حتــى تشــاجر مــع أحدهــم ومتكــن منــه متا ًمــا؛ فاكتســب هيبتــه.
68
قاطع اخلواجة اسرتساهلام بلهجة عملية:
-بصــوا عمليــة بعــد بكــرة دي ســهلة جــدً ا ..هنــروح نــرق لنــا شــوية
مــال ســايب.
هز مجال رأسه بفهم:
َّ
-احلكومة؟
-بالظبــط كــده ..أنــا دخلــت عــى ال systemبتــاع رشكــة الكهربــا،
وعرفــت إن خزنتهــم فيهــا ربــع مليــون لســه مــا احتولــوش للبنــك ..أنــا
ﻋﺼ
هاخــد النــص وإنتــوا اقســموا النــص التــاين.
ﲑ ﺍﻟ
معرتضا:
ً ﻜﺘ أشعل رضا سيجارة ن َّفاذة الرائحة ،رد
-بــس احنــا الــي بنخــش نــرق كل مــرة ..وأنــت بتقعــد يف بيتــك
قــدام الكمبيوتــر مابتعملــش أي حاجــة.
ﺐ ﻟﻠﻨ
حــاول ُ
«شــكامن» إســكاته ..لكــن اخلواجــة نظــر لــه يف عينيــه ،ور َّد
هبــدوء:
ﺸﺮ
أي مــكان تالقينــي مظبــط لــك كل حاجــة ،ده أنــا ناقــص أخــي الفلــوس
تنــط يف جيبــك!
ﺯﻳﻊ
ناهرا رضا:
أردف «شكامن» ً
-وال ..أنــت نســيت إنــه مارضيــش يســلمني يــوم مــا مســكني وأنــا
بــرق بيتــه؟
ٍ
بصــوت خفيــض وبكلــات غــر مفهومــة ،مل يبــدُ أنــه اعتــذر رضــا
69
اقتنــع بحصــول آدم عــى نصيــب األســد ..مل يعبــأ بــه اخلواجــة ،أكمــل
حديثــه هبــدوء:
-رشكــة الكهربــا -زهيــا زي معظــم مؤسســات احلكومــة -بقــت
بتســتخدم نظــام حتكــم إلكــروين اســمه ..SCADAالســكادا دي بتتحكــم
يف كل حاجــة؛ مــن أول الكهربــا والبوابــات ،حلــد نظــام األمــان وطريقــة
فتــح اخلزنــة.
هز رضا ومجال رأسيهام يف عدم فهم فتجاهلهام آدم وأكمل ً
قائل: َّ
ﻋﺼ
-البوابــة اخللفيــة عليهــا حــارس واحــد ..أول مــا تربطــوه هتالقــوين
ﲑ ﺍﻟ
فاتــح لكــم البوابــة وقافــل الكامــرات وجايــب لكــم كلمــة رس اخلزنــة.
سأله ُشكامن ضاحكًا:
ﻜﺘ
-يعني أنت هتقطع الكهربا عن رشكة الكهربا؟!
ﺐ ﻟﻠﻨ
اجلمهــوري نفســه.
منبهرا:
ً قال رضا
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
-أنت ساحر.
ﺯﻳﻊ
70
ر َّد اخلواجة:
-عشان ملا ختلصوا هأب َّلغ عنكم البوليس.
قبــل أن يطلقــا الكثــر مــن األصــوات املعرتضــة ،رشح هلــا «اخلواجــة»
أمهيــة إبــاغ الرشطــة بحادثــة الرسقــة؛ حتــى ال يتــورط فيهــا أحــد املوظفني
ويتــم اهتامــه باالختــاس ظلـ ًـا ..مل يبــدُ عــى أهيــا االقتنــاع بــا قــال «آدم
اخلواجــة» ،لكنهــا مل جيــدا بــدً ا مــن موافقتــه؛ حتــى ال يلغــي العمليــة
بأكملهــا ..ســأله شــكامن بقلــق:
ﻋﺼ
-هنبدأ ننفذ العملية الكبرية امتى؟
ﲑ ﺍﻟ
ر َّد «آدم اخلواجة» بحزم:
ﻜﺘ
-قريب جدً ا.
***
ﺐ ﻟﻠﻨ
عــاد الكونــت إىل مقــره بعــد أن ابتــاع لنفســه طعا ًمــا مــن إحــدى
االســراحات عــى جانــب الطريــق الصحــراوي ..صعــد إىل غرفــة نومــه
ﺸﺮ
املرتبــة بعنايــة شــديدة ،جلــس أمــام مكتبــه ،نظــر بفخــر نحــو قطــع لعبــة
ﻭ
«ليجــو» التــي نجــح يف تركيبهــا عــى شــكل رافعــة معقــدة التصميــم ،شـ َّغل
ﺍﻟﺘﻮ
عــى هاتفــه املحمــول معزوفــة عــى آلــة العــود ،فتــح حاســبه املحمــول،
ﺯﻳﻊ
بعــد أن تأكــد مــن تثبيــت قطعــة مــن رشيــط الصــق فــوق كامــرا احلاســب؛
كان لديــه هــوس باحلفــاظ عــى هويتــه وتأمينهــا ضــد أي حماولــة اخــراق
حمتملــة ،كان يعلــم أن الكثــر مــن خمرتقــي األجهــزة اإللكرتونيــة يســعون
للوصــول إىل شــخصيته احلقيقيــة ..فعملــه عــى اإلنرتنــت جعــل ثمــن
رقبتــه ذه ًبــا ،وجعــل منــه هد ًفــا للكثــر مــن األفــراد واملؤسســات.
71
بــدأ يتأكــد مــن عمــل برامــج احلاميــة التــي تقــوم بتشــفري بيانــات دخولــه
للموقــع ،كانــت إجــراءات التشــفري اخلاصــة بــه تتــم عــى حــوايل ســتة
ولوجــه عــى اجلانــب املظلــم مــن اإلنرتنــت Dark َ مراحــل حتــى تؤ ِّمــن
.Web
انتظــر حتميــل املتصفــح الــذي يدخــل مــن خاللــه عــى هــذا العــامل..
تذ َّكــر املصاعــب التــي واجهتــه حــن بــدأ عملــه عــى هــذا اجلــزء املخفــي
مــن الشــبكة العنكبوتيــة؛ فكثــر مــن األشــخاص واملنظــات اإلجراميــة يف
ﻋﺼ
مــر مل تكــن عــى علــم بوجــود هــذا اجلــزء آنــذاك ،كانــوا يفضلــون إدارة
أعامهلــم بالطــرق القديمــة ،حتــى جــاء الكثــر مــن املربجمــن مــن دول شــال
ﲑ ﺍﻟ
إفريقيــا ،فنجحــوا يف إقناعهــم بأمهيــة اإلنرتنــت املظلــم..
ﻜﺘ
كان الكونــت آنــذاك يعــاين مــن نقــص يف املــوارد ،وقلــة املشــركني
املرصيــن يف الـــ ،Dark webوانعــدام ثقــة املوجوديــن يف قدرتــه عــى إنجــاز
ﺐ ﻟﻠﻨ
أيضــا يف حفاظــه عــى رسيــة املعلومــات مــا يعدهــم بــه ،كانــوا يشــكون ً
التــي حيصــل عليهــا منهــم..
ﺸﺮ
عــى محايــة خصوصيــة املشــركني فيــه مقابــل رضيبــة ســنوية عبــارة عــن
نســبة مــن األربــاح التــي جينيهــا كل مشـ ٍ
ﺯﻳﻊ
72
فهــم رضورة إخفــاء هــذا العــامل الــذي يعــج باملختلــن عــن عامــة النــاس
للحفــاظ عــى مــا تبقــى مــن اخلــر بداخلهــم ،وعــرف أمهيــة وجــود رقيــب
يطبــق العقــاب عــى اجلميــع.
أراد الكونــت وقتهــا أن يثبــت نفســه يف هــذا العــامل؛ فبــدأ بقبــول
متنفســا عــن
ً املهــات الســهلة مــن األفــراد الذيــن وجــدوا يف هــذا العــامل
شــهواهتم ..راح خيطــف أفــرا ًدا بأعينهــم ليعذهبــم بطرقــه النفســية املبتكــرة،
بــدأ بتصويــر أفــام قصــرة ال يظهــر فيهــا إال معانــاة ضحايــاه ،مل يعــرف
ﻋﺼ
أحــد هويتــه حتــى اآلن ،مل يفضــح يو ًمــا هويــة مــن ك َّلفــه بالتعذيــب ..بــدأ
ﲑ ﺍﻟ
يرفــع ســعره تدرجي ًيــا ،وبــدأت تتكــون عــداوات لــه مــع بعــض املنافســن..
كان مــا يميــزه عــن غــره أنــه ال يلجــأ للتعذيــب اجلســدي اخلالــص ،كان
ﻜﺘ
يعــرف جيــدً ا مــا يفعــل.
تذ َّكــر منافســته مــع رجلــن كانــا يامرســان التعذيــب مثلــه عــى نفــس
ﺐ ﻟﻠﻨ
املوقــع املــري ،أطلقــا عــى أنفســهام لقــب «التــوأم» ،كانــا يرتديــان أقنعــة
كرتونيــة ضاحكــة ،اســتمدا شــهرهتام مــن مقطــع مصـ َّـور قطعــا فيــه ذراع
ﺸﺮ
ســيدة وأجــرا زوجهــا عــى التهــام الــذراع بعــد طهيــه ..عــرف الكونــت
ﻭ
فيــا بعــد أن مــا فعــاه كان تطبي ًقــا حقيق ًيــا ملشــهد مــن مسلســل إندونيــي،
ﺍﻟﺘﻮ
لكــن «التــوأم» كانــا مــن اجلنــون كفايــة لتحويلــه واق ًعــا ..كان لدهيــم هوس
ﺯﻳﻊ
73
حــاول التــوأم اإليقــاع بالكونــت حــن ك َّلفــاه بمهمــة خطــف شــخص
معــن ،حــن رأى الكونــت الســعر الباهــظ الــذي ُو ِضــع لــه مقابــل إنجــاز
املهمــة شــعر أن هــذا التكليــف جمــرد فــخ ..فاســتأجر قاتـ ًـا حمرت ًفــا وخبــأ
جهــازا للتتبــع ،كان التــوأم ينتظــران ذلــك القاتــل يف موقــع ً يف مالبســه
اللقــاء ،فقامــا باختطافــه ظنًــا منهــا أنــه الكونــت ..تتبعــه الكونــت حتــى
داهــم مقرمهــا مســتفيدً ا مــن عنــر املفاجــأة ،نجــح بعــد معركــة قصــرة يف
وصورمهــا عــى اهلــواء مبــارش ًة يف الكثــر
َّ تكبيلهــا ..ارتــدى أحــد أقنعتهــا
ﻋﺼ
مــن أوضــاع التعذيــب واملعانــاة ،جعلهــا يبكيــان معرتفــن لــه بالســيادة
داخــل املقــر اخلــاص هبــا والــذي عذبــا فيــه الكثــر مــن الضحايــا ،فتــح
ﲑ ﺍﻟ
رصيدمهــا مــن العمــات اإللكرتونيــة Bitcoinsوقــام بتوزيعــه عــى رواد
ﻜﺘ
املوقــع ،جعــل منهــا عــرة ..وبرغــم هــذه العــداوة فقــد رفــض الكثــر مــن
األمــوال التــي ُعرضــت عليــه ليكشــف عــن هويتهــا احلقيقيــة ،بــرر رفضــه
ﺐ ﻟﻠﻨ
بأنــه ال يطمــع يف املــال وال يف إفســاد النظــام الــذي ُيــدار بــه هــذا املوقــع،
أكســبه هــذا الرفــض ثقــة كبــرة مــن عمالئــه؛ فاتســع نطــاق عملــه وزاد
ﺸﺮ
ســعره نتيجــة لزيــادة الطلــب عليــه ،توقــف عــن تصويــر أعــال التعذيــب
التــي يقــوم هبــا ..كان هدفــه الوحيــد أن يشــبع رغبتــه يف إيــام اآلخريــن
ﻭ
وشــعوره بالتحكــم التــام فيهــم ،وأن حيصــل عــى املعلومــات املطلوبــة مــن
ﺍﻟﺘﻮ
الضحيــة كــا هــي دون تدخــل منــه أو مراجعــة ،ويســلمها ملــن ك َّلفــه املهمــة
ﺯﻳﻊ
74
كلفتــه باختطافهــا؛ إلجبارهــا عــى االعــراف باملــكان الــذي أخفــت
فيــه مســتندات شــديدة اخلصوصيــة للرشكــة ،كــا أن العــرض املــايل كان
مناس ـ ًبا ..فوافــق وطلــب مــن بعــض البيانــات اخلاصــة بالضحيــة بعــد أن
تعهــد لصاحــب املهمــة باحلفــاظ عــى رسيــة التعامــل ،عــرف فيــا بعــد أن
ضحيتــه اســمها «داليــا القــايض» ،حــاول الكونــت -مــن بــاب الفضــول-
أن يعــرف هويــة رئيــس هــذا الكيــان لكنــه مل جيــد عنــه معلومــة واحــدة عــى
اإلنرتنــت.
ﻋﺼ
بــدأ يســتعرض الصفحــة الرئيســية ملوقــع Dark Egyptبــا هــدف حمــدد؛
أراد فقــط معرفــة مــا اســتجد يف هــذا العــامل الــذي أدرك أبعــاده جيــدً ا ،كان
ﲑ ﺍﻟ
مجيــع رواد املوقــع هيابونــه ســواء كانــوا مــن عــاريض اخلدمــات أو طالبيهــا،
ﻜﺘ
بعــد أن أثبــت قــوة وســعة حيلــة ،وبعــد أن اتســعت عالقاتــه ومــوارده..
وجــد أحــد مشــاهري هــذا املوقــع والــذي أطلــق عــى نفســه لقــب
ﺐ ﻟﻠﻨ
«اجلــراح» يقــوم بعمــل مــزاد علنــي عــى أعضــاء ضحيــة جديــدة؛ كان
زبائنــه مــن األطبــاء املتاجريــن باألعضــاء البرشيــة ،وبعــض األثريــاء كبــار
ﺸﺮ
ً
كامــا ويغطــي وجهــه بكاممــة طبيــة البيــع ..كان يرتــدي رداء اجلراحــة
ﺯﻳﻊ
تعلوهــا نظــارة داكنــة ،بــدأ بــرد التاريــخ الطبــي للجســد املعــروض للبيــع
بمهنيــة شــديدة ..كان صاحــب اجلســد ً
كهــا ،ظهــر ممــد ًدا عــى ظهــره،
مكبـ ًـا مــن مجيــع أطرافــه وقــد كمــم «اجلــراح» فمــه ..كان وجهــه خال ًيــا
مــن أي تعبــر .مخــن الكونــت أنــه واقــع حتــت تأثــر خمــدر معــن ..بــدأ
ـرورا باألوتــار وباقــي األعضــاء الصاحلــة للبيــع،
املــزاد عــى قرنيــة العــن ،مـ ً
75
والتــي مل يكــن الكبــد مــن بينهــا؛ إذ أقــر «اجلــراح» بوجــود تل ُّيــف كبــدي يف
مرحلــة متأخــرة ،انتهــا ًء بالــكىل ،والقلــب الــذي تــم بيعــه بســعر أعــى مــن
باقــي األعضــاء.
مل ينتظــر الكونــت حتــى هنايــة البــث ..ملــح مــزا ًدا آخــر عــى برنامــج
كمبيوتــر مــن نــوع خــاص ،تــم رسقتــه مــن وكالــة االســتخبارات األمريكية
..CIAيمكــن هلــذا الربنامــج اخــراق الكثــر مــن املؤسســات اهلامــة حــول
العــامل ،وشــارك يف تصميمــه الكثــر مــن املربجمــن ومهنديس احلاســب ،فكر
ﻋﺼ
الكونــت يف أن يشــريه لكــن الثمــن كان باه ًظــا ،فعــى الرغــم مــن ثرائــه؛
إال أن الثمــن كان ســيكلفه معظــم مــا يملــك يف حافظتــه اإللكرتونيــة.
ﲑ ﺍﻟ
ـورا ملســتخدم أطلــق عــى
أكمــل الكونــت جولتــه ،وجــد مقط ًعــا مصـ ً
ﻜﺘ
نفســه لقــب «ميــزان العــدل» ،مل ينجــح يف جــذب انتبــاه الكونــت الــذي كاد
ـورا يف أحــد التعليقــات
أن يتجاهــل هــذا املقطــع ،قبــل أن جيــد اســمه مذكـ ً
ﺐ ﻟﻠﻨ
امللحقــة بالفيديــو ..فتحــه ليجــد هــذا «امليــزان» قــد أعلــن عــن قيامــه
باغتيــال أحــد املحامــن مــع وعيــد باالنتقــام مــن الكونــت وســط الكثــر
ﺸﺮ
املقطــع رســالة هتديــد حــذره فيهــا مــن االنغــاس يف معــارك مــع أشــخاص
ﺯﻳﻊ
مثلــه ،وأن العدالــة لــن تتحقــق يف مــكان مثــل اإلنرتنــت املظلــم ،أخــره
أنــه خيــل بامليــزان الكــوين الــذي ال يعتــدل إال بوجــود الــر ..ر َّد «امليــزان»
قائـ ًـا أنــه ســيحارب مــن أجــل العدالــة حتــى آخر أنفاســه ..ســخر الكونت
ً
ابتــذال ،ذكَّــره بــا مــن عباراتــه املبتذلــة واســمه املســتعار الــذي مل يقــل
حــدث منــذ ســنتني حــن حــاول أفــراد الرشطــة الوصــول إىل بيانــات أحــد
مرتــادي املوقــع ..فن ُِصــب هلــم كمينًــا إلكرتون ًيــا ..وانتهــى األمــر رسي ًعــا
76
بكشــفهم والتخلــص منهــم ،واخــراق مجيــع حواســب الــوزارة وترسيــب
بعــض مــن بياناهتــا ..حتــى اضطــروا إىل دفــع الكثــر مــن األمــوال لتغيــر
نظــام محايتهــم بالكامــل ..ر َّد امليــزان أنــه يســتعني بنظــام محايــة أقــوى مــن
الرشطــة ..اختتــم الكونــت رســالته مهــد ًدا امليــزان ،أخــره أنــه يســتطيع
الوصــول إليــه والتخلــص منــه يف أي وقــت يريــد ،وأغلــق نافــذة املحادثــة
دون أن ينتظــر الــرد.
تابــع إعالنًــا لبيــع طابعــة ثالثيــة األبعــاد ..3D printerكانــت هــذه
ﻋﺼ
الطابعــة متطــورة إىل حـ ٍـد كبــر ،وكان ثمنهــا مقبـ ً
ـول مقارن ـ ًة ملــا يمكنهــا
أن تفعلــه؛ فيمكنهــا أن تطبــع أنوا ًعــا كثــرة مــن األســلحة عنــد إمدادهــا
ﲑ ﺍﻟ
باخلامــات املطلوبــة ،ممــا ســيجنب الكثــر مــن األفــراد التعامــل مــع
ﻜﺘ
مؤسســات جتــارة الســاح أو األســلحة ســهلة التعقــب ،كــا أن هلــا القــدرة
عــى خلــط نســب معينــة مــن املــواد الكيميائيــة لتكويــن بعــض املركبــات
ﺐ ﻟﻠﻨ
يبــدو مــن مالحمهــا أهنــا مــن أوروبــا الرشقيــة ،مل تتجــاوز العــر ســنوات،
كان ينفــذ فيهــا مــا يطلبــه منــه مشــاهدي املقطــع املصــور نظــر مقابــل
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
صاحــب املقطــع الكثــر مــن ال ُعمــات ،فنفــذ األخــر طلبــه وأهنــى البــث.
مباحــا عــى اإلنرتنــت املظلــم؛ بدايـ ًة مــن تزويــر األوراق
كان كل يشء ً
ـرورا
الرســمية؛ كالشــهادات والبطاقــات الشــخصية وجــوازات الســفر ،مـ ً
بتجــارة أنــواع نــادرة مــن املخــدرات والســاح واآلثــار واملعــادن النــادرة
باهظــة الثمــن ..عــاو ًة عــى عمليــات االختطــاف والتعذيــب واغتصــاب
77
األطفــال والبالغــن بأبشــع الطــرق املمكنــة ،والتجــارة يف البــر مــع ذكــر
مواصفاهتــم كأي ســلعة أخــرى ،وتأجــر خمرتقــي احلواســب للتجســس
عــى األفــراد واحلكومــات.
مــن املمكــن ألي شــخص يمتلــك ثــروة مــن عملــة الـــ Bitcoinsأن يفعل
مــا يريــد؛ كأن يغتــال أي شــخصية يف أي مــكان يف العــامل؛ باســتثناء الطبقــة
احلاكمــة لــكل دولــة ،أو يبتــز أي شــخصية عامــة ،واحلصــول عــى أي
ـت آلخــر مــن خدمــة مهــا بــدت غريبــة ..كان الكونــت يســتأجر مــن وقـ ٍ
ﻋﺼ
يقــوم بــإرضام النــار يف أي مبنــى مهجــور ،أو قطــع الكهربــاء عــن منطقــة
معينــة ،كان جيــد راحتــه يف مثــل هــذه الترصفــات.
ﲑ ﺍﻟ
زادت قيمــة هــذه العمــات اإللكرتونيــة بعــد أن زاد االهتــام
ﻜﺘ
باإلنرتنــت املظلــم؛ كانــت العملــة تضمــن رسيــة تــداول املدفوعــات وعــدم
إمكانيــة تتبعهــا ،عــاوة عــى اســتحالة تزويرهــا ..أصبحــت الواحــدة مــن
ﺐ ﻟﻠﻨ
ألي نشــاط غــر مــروع؛ فقــط يرغبــون يف املزيــد مــن اخلصوصيــة واحلريــة..
وقــد كان اإلنرتنــت املظلــم يعتــر اجلــزء األكثر بشــاعة مــن اإلنرتنــت العميق.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
مل يتوقــف اســتخدام الـــ Dark webعنــد املؤسســات واألفــراد مــن ذوي
ﺯﻳﻊ
78
أســس دينيــة وأخالقيــة؛ فيهــدم العصبــة التــي نشــأت منهــا هــذه الدولــة.
كــا وجــدت اجلامعــات اإلرهابيــة الكثــر مــن الدعــم يف هــذا الوســط
املزدحــم باملــرىض ،فاســتطاعت مــن خاللــه الدعايــة ألهدافهــا ونشــاطاهتا،
ووســعت مــن مواردهــا وتربعاهتــا.
َّ
انتبــه الكونــت إىل وصــول رســالة جديــدة ..ظــن يف البدايــة أنــه ذلــك
املســتخدم الــذي ُيدعــى «اخلواجــة» ويراســله بشـ ٍ
ـكل دوري مرتد ًيــا قنــاع
األناركيــة الشــهري ويرتجــاه أن يعمــا ســو ًيا ..لكنــه فوجــئ برســالة غريبــة
ﻋﺼ
مخــن أنــه حمــرف اخــراق مــن خــال بياناته مــن مســتخدم يــراه ألول مــرةَّ ،
املحجوبــة بتشــفري خــاص ..كانــت الرســالة مكتوبــة بإنجليزيــة معربــة
ﲑ ﺍﻟ
أقــرب للغــة التــي يســتخدمها خمرتقــو شــال إفريقيــا:
ﻜﺘ
-أنا عايز أشكرك يا كونت؛ أنت السبب يف ثرويت اجلديدة..
ألول مــرة منــذ فــرة طويلــة يشــعر الكونــت بالقلــق ،حــاول الســيطرة
ﺐ ﻟﻠﻨ
عــى دقــات قلبــه وحبــات العــرق التــي ظهــرت مــن العــدم فــوق جبهتــه..
ر َّد باقتضــاب:
ﺸﺮ
-واملقابل؟
ﻭ
-أنــا بقــايل شــهر بــدور وراك ..حلــد مــا قــدرت أوصــل لثغــرات يف
ﺍﻟﺘﻮ
79
حاول الكونت أن يكسب وقت فكتب له:
-اثبت يل إن الثغرات دي بجد.
-أنت عارف كويس إهنا حقيقية..
وكأن املخرتق قد فهم ما يدور يف رأس الكونت فأكمل حديثه ً
قائل:
-مــا تقلقــش أنــت مارتكتبــش أي غلطــات يف التصفــح ..بس لألســف
حمــدش بيتعلــم مــن التاريــخ ،أنــت ارتكبــت تقري ًبــا نفــس األخطــاء الــي
و َّقعــت «روس أولربخيــت»..
ﻋﺼ
ر َّد الكونت باقتضاب:
ﲑ ﺍﻟ
-عارفه ..مؤسس موقع جتارة خمدرات عىل الـ..Dark web
ﻜﺘ
أكمل املخرتق حديثه كأنه مل يكن ينتظر ر ًدا من الكونت:
-الــي ماتعرفــوش إن الـــ FBIقبضــت عــى «روس» عشــان وقــع يف كــذا
ﺐ ﻟﻠﻨ
غلطــة؛ يعنــي كان ســاعات بيســأل يف مواقــع تقنيــة باســمه احلقيقــي ،ده
غــر إنــه كان مبــن الـــTimeZone؛ فقــدروا يوصلــوا للبلــد الــي بيديــر منهــا
ﺸﺮ
80
-5اهلروب إىل الواقع
ﻋﺼ
كان «آدم اخلواجــة» مــرد ًدا يف إخبــاري بــا توصــل إليــه ..طلبــت
منــه بنفــاد صــر أن خيــرين بتخمينــه ..فقــال بعــد أن اكتملــت الصــورة
ﲑ ﺍﻟ
يف ذهنــه:
ﻜﺘ
-اخلاطــف دايـ ًـا ســابقنا بخطــوات ،كل مــكان بنروحــه بيكــون هــو
ســابقنا هنــاك ،عــارف حاجــات مــش ســهل أي حــد يعرفهــا ،ده الزم
ﺐ ﻟﻠﻨ
81
حتــت أي ظــروف أخــرى كان ســيتم الــزج بأيمــن يف احلبــس ..لكــن
أحــدً ا مل يتعــرض لــه بــاألذى؛ فجميعهــم يعرفــون قصــة املهنــدس أيمــن
عــديل وتــردده عــى القســم الــذي بــدأ منــذ أســبوع تقري ًبــا ومل يتوقــف بعــد.
خــرج املأمــور لرؤيتــه ،طلــب منــه اهلــدوء ودعــاه لــرب القهــوة يف
غرفــة مكتبــه ..أجلســه عــى املقعــد املقابــل ملكتبــه ،جلــس أمامــه ،ر َّبــت
عــى فخــذه قائـ ًـا:
-أنــا مقــدر قلقــك عــى أخــوك يــا بــاش مهنــدس أيمــن ..بــس مــا
ﻋﺼ
ينفعــش كل شــوية تيجــي تشــتم يف النــاس الــي وقفــوا جنبــك حلــد مــا
ﲑ ﺍﻟ
رجــع لــك بالســامة.
مستنكرا:
ً علق أيمن
ﻜﺘ
-ســاعدوين؟ ده أنــا بقــى يل أســبوع بآجــي لكــم كل يــوم أحكــي نفــس
احلكايــة لنفــس النــاس وال حــد عـ َّـرين ..حلــد مــا الــي خاطفينــه زهقــوا
ﺐ ﻟﻠﻨ
ورجعــوه لوحدهــم!
طلــب منــه املأمــور أن هيــدأ ،اعتــذر ألنــه مل يلــم بكافــة تفاصيــل القضية،
ﺸﺮ
ســأله عــن كيفيــة رجــوع أخيــه هشــام ..زفــر أيمــن بجــزع ،مســح بيــده عــى
ﻭ
رأســه األصلــع ،وبــدأ حيكــي كمــن حكــى نفــس القصــة ألــف مرة:
ﺍﻟﺘﻮ
-أنــا وهشــام فاحتــن رشكــة مقــاوالت عــى قدنــا ..اتقدمنــا بعطــاء يف
ﺯﻳﻊ
82
رفــض أيمــن أن يتنــاول الكــوب ،طلب مــن املأمــور أن يقــوم بتحرير حمرض
يتهــم فيــه «ســامح أبــو خاطــر» رســم ًيا باختطــاف أخيــه ..تــردد املأمــور قبل
أن يوافــق عــى طلبــه ،ســأله عــن حالــة هشــام احلاليــة ..رد أيمــن:
-هــو جســان ًيا ســليم ..بــس تقري ًبــا مبقــاش عارفنــا ،جســمه مــا
بطلــش رعشــة ،عينــه مفتوحــة طــول الوقــت ،وبتيجــي لــه نوبــات رصيــخ
زي مــرىض الــرع ،ومافيــش عــى لســانه غــر كلمــة واحــدة..
ٍ
صمت قصري: أردف بعد
ﻋﺼ
-الكونت.
ﲑ ﺍﻟ
***
ﻜﺘ
انتفضــت ســلوى حــن فتحــت بــاب شــقتها ووجــدت زوجهــا «رايف
أبــو الدهــب» يف انتظارهــا ..ســألته عــن ســبب عودتــه املبكــرة مــن معــرض
ﺐ ﻟﻠﻨ
التبــغ ،الــذي مــأت رائحتــه وأعقابــه الغرفــة ،حلــن معرفــة ســبب ضيقــه.
مل يــرد عــى أي ممــا قالــت ..وضعــت حقيبــة يدهــا وحقيبــة الطعــام
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
أرضــا ..وجلســت إىل جــواره وقصــت عليــه اجلاهــز الــذي أحرضتــه معهــا ً
ﺯﻳﻊ
83
أمســكت ســلوى جانبــي رأســها بحركــة ال إراديــة ،خلعــت غطــاء
رأســها كاشــف ًة عــن شــعر مبعثــر ،ركعــت أمامــه عــى ركبتيهــا مربت ـ ًة عــى
فخــذه بحنــان ،ســألته بقلــق:
-العيب طلع مني؟
ٍ
بصوت مرتفع: أشاح بوجهه بعيدً ا ،وقال
-عــر ســنني مســتحمل قعدتنــا يف بيــت أبوكــي ،ســايبك تاخدينــي
ﻋﺼ
مــن إخــوايت وصحــايب وكل الــي أعرفهــم ..ماخليتــش يف حيــايت غــرك
إنتــي والشــغل ..مســتحمل غــرورك وطمعــك يف كل قــرش أملكــه أو
ﲑ ﺍﻟ
حتــى مأملكــوش ..كل ده ســاكت عشــان كنــت فاكــر إن مالنــاش غــر
ﻜﺘ
بعــض.
نظــرت لــه ســلوى بغضــب دون أن تــرد ،هنضــت مــن مكاهنــاَّ ،
مهــت أن
ﺐ ﻟﻠﻨ
تغــادر حجــرة الضيــوف ..لكــن رايف أمســكها مــن ســاعدها وقــال بلهجــة
مل ختـ ُـل مــن القهــر:
ﺸﺮ
-انتــي فاكــرة الــي شــغالني عنــدك هاخيبــوا عنــي حاجــة! أنــا بيوصــل
يل كل حاجــة بتعمليهــا ..وإشــاعة الــواد الــي انتــي ماشــية معــاه دي لــو
اتأكــدت منهــا مــش هرمحــك ..يــا بنــت الــكالب ده مــن دور عيالــك الــي
لســه ماجــوش!
عال: ٍ
وبصوت ٍ سألته سلوى بحزم
84
-العيب طلع يف مني يا رايف؟
أجاب رايف وهو يقاوم إنحدار الدموع:
-كفاية متثيل بقىِ ..
أنت عارفة كويس إن مفيش عيب ً
أصل!
واجههــا رايف بامتناعهــا عــى احلمــل منــه ..مل تدافــع ســلوى عن نفســها،
مل تبحــث عــن مــررات جوفــاء لــن حتســن مــن موقفهــا ،فقــط ســتزيد األمــر
ســو ًءا ..قالــت بلهجــة هجومية:
ﻋﺼ
-مــا حتسســنيش إنــك مــاك ..أنــا عارفــة إنــك متجــوز أخــت رشيكك
يف املعرض.
ﲑ ﺍﻟ
صمت رايف لدقيقة ،ثم سأهلا بغضب:
ﻜﺘ
-مني اليل بلغك الكالم ده؟
-يارس.
ﺐ ﻟﻠﻨ
***
ﺸﺮ
كانــا قــد تنــاوال الكثــر مــن حبــوب الرتامــادول ..بــدأ ســر العمليــة كــا
ﺍﻟﺘﻮ
ـهل ،تــكاد نســبة خطورتــه تقــرب خطــط لــه اخلواجــة ،كان العمــل معــه سـ ً
ﺯﻳﻊ
مــن الصفــر..
مل يعلــم ُ
«شــكامن» عــن «اخلواجــة» الكثــر منــذ أن تعرفــا يف بيــت األخــر
قبــل بضعــة شــهور ،حــن ضبطــه اخلواجــة يــرق بيتــه أثنــاء انتظــار رضــا
لــه يف ســيارته ،كان اخلواجــة قــوي الرضبــات رسيــع احلركــة ،عــرف كيــف
«شــكامن» الــذي كان أضخــم منــه بكثــر ..أمــره اخلواجــة أن يســيطر عــى ُ
85
يتصــل برضــا كــي يصعــد إىل املنــزل ..خالــف اخلواجــة توقعهــا ومل يســلمهام
للرشطــة ،كشــف هلــا عــن رغبتــه يف اســتخدامهام لرسقــة بعــض األماكــن
التــي يســتطيع اخــراق أنظمتهــا األمنيــة ..كانــت هــذه العملية اخلامســة هلم.
ظــل اخلواجــة متاب ًعــا ملــا جيــري مــن خــال هاتفــه املحمــول الــذي
«شــكامن» ،وحــن أبلغــه األخــر بانتهائهــا مــن ً
متصــا هباتــف ُ كان
رسقــة حمتويــات اخلزينــة ..أمــره اخلواجــة بحمــل حقيبــة األمــوال والفــرار
رسي ًعــا ،أخــرج هات ًفــا آخــر ال يمكــن تتبعــه ،واتصــل ليبلــغ الرشطــة عــن
ﻋﺼ
واقعــة الرسقــة كأنــه أحــد القاطنــن بجــوار رشكــة الكهربــاء ،حــن أغلــق
ﲑ ﺍﻟ
اخلــط اخــرق أذنــه صــوت طلقــات ناريــة قــادم مــن هاتــف ُشــكامن ،صــاح
ـتفرسا عــا حــدث ..فلــم يتلـ َـق ر ًدا.
فيــه مسـ ً
ﻜﺘ
بصوت مرجتف: ٍ بعد دقائق ر َّد شكامن
ﺐ ﻟﻠﻨ
-فــرد األمــن الــي واقــف عــى البوابــة التانيــة دخــل يصلــح ُعطــل
الكهربــا ..فشــافنا واحنــا بنهــرب.
ﺸﺮ
ً
مشوشــا ختللــه ضجيــج حمــرك الســيارة ..ســأله اخلواجــة كان الصــوت
برسعــة:
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
-وحصل إيه؟
ﺯﻳﻊ
86
إحــدى املستشــفيات اخلاصــة ،ذهــب إليــه آدم وأخــره أن أخــاه يعمــل
موظ ًفــا لألمــن يف رشكــة الكهربــاء وقــد تعــرض لطلــق نــاري أثنــاء مناوبــة
حراســته وجيــب إســعافه يف احلــال ،مل يكلــف الطبيــب «آدم اخلواجــة»
جهــدً ا يف اإلقنــاع بعــد أن اتفــق معــه عــى األتعــاب؛ ففــرك الطبيــب عينيــه
الســاهرتني واتبــع «اخلواجــة».
أراد آدم أن يصلــح مــا اقرتفــه رشيــكاه ،كان يعلــم أن ســيارة
اإلســعاف لــن تــأيت يف الوقــت املناســب لنجــدة فــرد األمــن املصــاب؛
ﻋﺼ
فارتــدى غطــاء رأس مــن الصــوف أخفــى معظــم مالمــح وجهــه وقــرر
إنقــاذ موظــف األمــن بنفســه ..وصــا إىل رشكــة الكهربــاء قبــل وصــول
ﲑ ﺍﻟ
الرشطــة ،طمأنــه الطبيــب عــى حالــة فــرد األمــن الــذي مل يتوقــف جســده
ﻜﺘ
املمتلــئ عــن االرجتــاف ،كان ســاحه خال ًيــا مــن الرصــاص ،أشــفق آدم
عليــه مــن هــذه املهنــة ...طلــب مــن الطبيــب أن يقــوم باإلســعافات
ﺐ ﻟﻠﻨ
أنجــز آدم مهمتــه يف أقــل مــن ســاعة ..حــن عــاد إىل شــقته وجــد رســالة
ﺍﻟﺘﻮ
«شــكامن» يبلغــه فيهــا بميعــاد اســتالم نصيبــه مــن العمليــة ،تعجــب منمــن ُ
ﺯﻳﻊ
طريقــة تعاملــه هــو وزميلــه مــع فكــرة قتــل إنســان؛ اهنــال عليهــا بالســباب
يف رسه ،مل يســتطع أن يــرح هلــا بحقيقــة شــعوره جتاههــا؛ فقــد كان
حيتاجهــا يف الفــرة القادمــة.
فتــح حاســبه املحمــول ليطالــع آخــر مــا اســتجد عــى موقــع Dark
Egyptالــذي يعمــل عليــه خمرت ًقــا باألجــرة ..كان ينفــق مــا جينيــه مــن
87
العمــات اإللكرتونيــة بــيء مــن الســفه؛ إمــا يشــري هبــا برامــج اخــراق
جديــدة ،أو يســافر إىل أي مــكان خيطــر عــى بالــه ،أو يعطيهــا ألي حمتــاج
بشــكل عشــوائي.
مل يتمـ َن أن يعمــل مــع أحــد مثلــا متنــى العمــل مــع الكونــت؛ أعجبتــه
آن آلخــر عــن رضورة وجــود الــر ،وأمهيــة أفــكاره التــي كان ينرشهــا مــن ٍ
وجــود معــادل لــكل يشء يف الكــون حتــى تســتمر احليــاة بشــكل متــزن..
حتــى وإن كان هــذا املعــادل غــر أخالقــي.
ﻋﺼ
أرســل لــه الكثــر مــن الرســائل يرجــوه أن يشــاركه بعــض األعــال،
ﲑ ﺍﻟ
وأنــه متنــازل عــن أجــره فيهــا ،أخــره أنــه قــد توقــف عــن اإلعجــاب
بالتفكــر األناركــي بعــد أن اقتنــع بنظريــة الكونــت عــن أمهيــة النظــام
ﻜﺘ
الــذي يتــم التحكــم بــكل عنــارصه ،حتــى يف طريقــة اخلــروج عنــه ..لكنــه
مل يتلــق ر ًدا.
ﺐ ﻟﻠﻨ
فوجــئ هــذه املــرة برســالة مــن الكونــت ..خفــق قلبــه بعنــف أثنــاء
حتميــل الرســالة ..كانــت الرســالة مقتضبــة:
ﺸﺮ
-فيــه هاكــر بعــت يل رســالة إنــه كشــفني ..أنــا حمتاجــك معايــا ،ألين
ﻭ
رد آدم مرح ًبــا بالفكــرة ،أخــره بعنــوان بيتــه ..فــرب الكونــت موعــد
ﺯﻳﻊ
88
بالــكاد وافقــت غــرام عــى اقــراح يــارس باخلــروج للتمشــية يف حميــط
البيــت بغــرض التعـ ُّـرف عــى منطقــة «حمطــة الرمــل» أكثــر ..مل تكــن مرتاحة
لفكــرة تــرك مليكــة بمفردهــا ،وبالطبــع مل متثــل ســلوى هلــا اخليــار األمثــل
لرعايــة ابنتهــا ..وعدهــا يــارس بجولــة قصــرة أمــام البحــر ،والعــودة إىل
البيــت قبــل أن تســتيقظ ابنتهــا.
أعطــت غــرام ظهرهــا للبحــر ،جلســت بجــوار يــارس مســندة رأســها
عــى كتفــه ..وعدهــا أال تتحكــم ســلوى يف حياهتــا ثانيـ ًة ،اعتــذر هلــا كثـ ً
ـرا
ﻋﺼ
عــا بــدر منــه ..كانــت طفلــة ن ُِف َخــت روحهــا يف جســد امــرأة مكتملــة
األنوثــة ،فتجــاوزت عــن املوقــف وقبلــت اعتــذاره رسي ًعــا ،أرست لــه
ﲑ ﺍﻟ
بإعجاهبــا بمنطقــة «الرمــل» ،وبارتياحهــا بســبب اخلــاص مــن إجيــار
ﻜﺘ
الشــقة القديمــة ،ومســاحة الشــقة اجلديــدة..
نظــر يــارس يف عينيهــا الزرقاوتــن كعينــي مليكتهــا ،مل يكتـ ِ
ـف مــن النظــر
ﺐ ﻟﻠﻨ
إليهــا يو ًمــا ،وضــع يــده عــى كتفهــا يف صمــت ،أحــاط يدهيــا بكفيــه ملثـ ًـا
ليبــث الــدفء يف روحهــا ..التقطــت آذاهنــا صــوت «أم كلثــوم» الصــادر
ﺸﺮ
عــن عربــة تبيــع «محــص الشــام» بجوارمهــا .استســلم كالمهــا للحــن «ألــف
ليلــة وليلــة» ،انتظــر يــارس مــن غــرام أن تــرح لــه بموضــوع محلهــا ،طــال
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
انتظــاره دون أن جيــد مــا يقــول ،ســأهلا عـ َّـا إذا كانــت ســلوى قــد ضايقتهــا..
فهــزت رأســها نفيــا ،وأخربتــه أهنــا ســمعتها اليــوم جتــادل زوجهــا بصـ ٍ
ـوت
ﺯﻳﻊ
ً
قائــا بصــوتٍ كثــرا ..ر َّد بنصــف وعــي ً ٍ
عــال؛ ويبــدو أهنــا أغضبتــه
ً
خفيــض:
-يا ريت كل الناس زيك..
شــعر أن لدهيــا مــا تقــول غــر موضــوع احلمــل ،حــاول تنــايس األمــر
وبــدأ يشــر هلــا عــى اجلانــب املقابــل للبحــر متحد ًثــا عــن أهــم معــامل املنطقــة؛
89
كمحطــة الــرام ،وميــدان ســعد زغلــول ،وجامــع القائــد إبراهيــم ومبنــى
القنصليــة اإليطاليــة ..أخربتــه غــرام أن أي شــخص يعــرف هــذه األماكــن
حتــى وإن كان غري ًبــا عــن البلــد ،فأضــاف هلــا بعــض املعلومــات التــي
قصهــا عليــه رفيقــه اجلديــد «احلاج صالح» .هـ َّـزت رأســها يف رشود دون أن
ـرا ملــا يقــول ..بــرر هلــا موقفــه ممــا فعلتــه ســلوى ،أخربهــا بإمكانيــة
تنتبــه كثـ ً
رفــض عرضهــا والبحــث عــن بيــت جديــد يف أقــرب فرصــة ،لكنــه فكــر يف
كالم أختــه ووجــد فيــه الكثــر مــن الصــواب ،وأنــه كان يفكــر منــذ فــرة يف
ﻋﺼ
املطالبــة بمرياثــه مــن أبيــه املتغيــب ،لكــن ســلوى أخــذت املبــادرة ..جتنبــت
غــرام احلديــث عــن ماضيــه ،فســألته قائلـ ًة:
ﲑ ﺍﻟ
-فاكر أول مرة اتقابلنا فيها؟
ﻜﺘ
بــدا عــى يــارس االرتيــاح لتغيــر املوضــوع ،اعتــدل يف جلســته وقــال
ٍ
بصــوت منخفــض:
ﺐ ﻟﻠﻨ
ٍ
بصــوت مكتــوم، تناســى يــارس أهنــا يف الشــارع ،فلثــم كــف يدهــا
وضــع كفهــا فــوق وجنتــه ،أرجــع خصــات شــعرها اجلانبيــة خلــف أذهنــا،
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ـت الوحيــدة الــي فضلــت معايــا ملــا عرفــت إين مدمــن كحــول.. -أنـ ِ
كنتــي بتيجــي معايــا جلســات التعــايف حلــد مــا وقفــت عــى رجليــا،
وســاعدتيني يف الدراســة عشــان أعــوض الــي فاتنــي..
ٍ
بصوت منخفض: سألته غرام
-فاكر ملا اتقدمت يل يف حفلة توديع اجلالية العربية لينا؟
90
أومأ برأسه إجيا ًبا ،وأكمل روايتها ً
قائل:
-بعدهــا بــكام شــهر رجعنــا مــر ،ومعانــا أحــى حاجــة يف الدنيــا:
مليكــة.
أكمل حديثه ضاحكًا:
-شوفتي أنا مذاكر ازاي ..حتبي أقول لك التواريخ؟
فاجأته غرام بسؤاهلا:
ﻋﺼ
-يارس اوعى تكون انتكست ورشبت تاين بعد ما اجتوزنا؟
ر َّد يارس باستنكار:
ﲑ ﺍﻟ
-مستحيل طب ًعا..
ﻜﺘ
ضمها إليه بعد صمت طويل ،قال بلهجة مل ُ
ختل من حنان:
-عشان بقى يف حيايت شخصني أهم من أي يشء تاين.
ﺐ ﻟﻠﻨ
الفهــم ..فأبلغتــه بحملهــا ..اســتمر يف متثيلــه مبد ًيــا اندهاشــه ،طلــب منهــا
ﻭ
«أخــرا هأبقــى
ً مازحــا مجلــة األفــام الشــهرية:أال ختــر ســلوى ،قــال ً
ﺍﻟﺘﻮ
ً
طويــا حتــى ق َّبــل يــارس رأســها. أب!» ..ضحــكا
ﺯﻳﻊ
كانــت هــذه مــن املــرات القليلــة التــي تطلــب فيهــا غــرام مــن زوجهــا
أن يبتــاع هلــا طعا ًمــا مــن خــارج البيــت ..وافــق يــارس عــى الفــور ،أنزهلــا
ـم أن يفكــر فيــا ســيأكالن...
مــن جملســها ممس ـكًا خرصهــا ،هـ َّ
-باشا باشاُ ..فل يا باشا؟
91
فوجــئ يــارس ببائعــة ُفــل مخســينية ،ذات قــوام عريــض مــيء بالشــحوم،
ترتــدي نعـ ًـا بال ًيــا تــرز منــه أظافــر متســخة ،انبثــت منهــا رائحــة خبيثــة،
تــرك الزمــن عــى وجههــا الكثــر مــن العالمــات وآثــار اجلــروح ،ربطــت
ســاعدها بقطعــة مــن الشــاش األبيــض ،و ُل ِّط َخــت أظافرهــا بالطــن..
دعــا هلــا يــارس أن يسـ ِّـهل اهلل هلــا ..اســتمر إحلــاح البائعــة مــع ادعــاء املــرض
والكثــر مــن الدعــوات هلــا أن يتزوجــا ..أخربهتــا غــرام باقتضــاب أهنــم
متزوجــان بالفعــل ..فراحــت تدعــي هلــا بالذريــة ،اســتمر إحلاحهــا ثقيــل
ﻋﺼ
الظــل ،حتــى ســألت يــارس بصــوت عـ ٍ
ـال أن يدفــع هلــا ثمــن ال ُفــل لترتكــه..
واضحــا ..فقد يــارس أعصابه ً ـمئزازا
أمســكت بــذراع غــرام التــي أبــدت اشـ ً
ﲑ ﺍﻟ
ودفعهــا بعيــدً ا ،صــاح فيهــا بغضــب وقــد أطلــق العنــان للســانه الــذي جلمه
ﻜﺘ
لفــرة طويلــة ،مل تعــرف غــرام أن قامــوس يــارس مــن الشــتائم كبــر إىل هــذا
احلــد ..مل تــدرك أن لزوجهــا جان ًبــا مظلـ ًـا حيــاول الفــرار منــه.
ﺐ ﻟﻠﻨ
***
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
92
-6بداية الغيث
ﻋﺼ
اقتــاد الكونــت ضحيتــه اجلديــدة «داليــا القــايض» داخــل مقــره عــى
كــريس متحــرك ،معصوبــة العينــن فاقــدة للوعــي كــا طلــب مــن خاطفهــا
ﲑ ﺍﻟ
ـخصا خمتل ًفــا
الــذي اســتأجره مــن موقــع ..Dark Egyptاعتــاد أن خيتــار شـ ً
ﻜﺘ
يف كل عمليــة خطــف ،طلــب مــن املختطــف -ككل مــرة -أن خيدرهــا،
ويقابلــه عــى جانــب منعــزل مــن الطريــق الصحــراوي ،فيضــع داليــا يف
ﺐ ﻟﻠﻨ
املقعــد اخللفــي يف ســيارته الرياضيــة ذات الزجــاج املعتــم ..كان يقبــض عىل
ســاحه الشــخيص أثنــاء عمليــة التبــادل حتسـ ًبا ألي حماولــة مــن املختطــف
ﺸﺮ
ملعرفــة هويتــه احلقيقيــة ..لكــن الرجــل كان حمرت ًفــا ورحــل رسي ًعــا دون أن
حيــاول رؤيــة وجــه الكونــت.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
شــديدة ..كانــت عــى قــدر كبــر مــن اجلــال ،ذات بــرة مخريــة وأنــف
مســتقيم ،كان عــى علــم بطبيعــة عملهــا كســكرترية يف الرشكة التــي أجرته؛
فلــم يتفاجــأ مــن اعتنائهــا بمظهرهــا اخلارجــي ..ارتــدت ز ًيــا رســم ًيا مــن
اللونــن األبيــض واألســود متعمــد ًة أن تــرز منحنيــات قوامهــا املمشــوق
ذي البــرة الناعمــة ،كانــت يف نفــس طولــه تقري ًبــا ،يتخلــل شــعرها ال ُبنــي
93
القصــر املصفــف بعنايــة بعــض اخلصــات املصبوغــة بدرجــة أفتــح مــن
نفــس اللــون.
عــدَّ ل مــن وضــع بذلتــه الســوداء الرســمية ..أدخــل داليــا يف حجــرة
التعذيــب اخلاصــة بضحايــاه ،تركهــا يف الداخــل وذهــب ليتفقــد احلجرتــن
الثانيتــن؛ احلجــرة البيضــاء وحجــرة التجــارب.
عــاد إىل حجــرة التعذيــب التــي أعدهــا منــذ أيــام الســتقبال داليــا ،كانت
احلجــرة شــبه خاليــة إال مــن مقعــد وثــر كبــر احلجــم وبعــض مــن األصفاد
ﻋﺼ
وإنــاء بالســتيكي ضخــم ممتلــئ باملاء.
ﲑ ﺍﻟ
قيــد الكونــت «داليــا» باملقعــد راف ًعــا رأســها ألعــى ،بحيــث ال تــرى
أمامهــا مــن احلجــرة إال ســقفها ،ق َّيــد رقبتهــا بإحــكام يف وضــع يــرك هلــا
ﻜﺘ
حريــة التنفــس لكنــه جيربهــا عــى عــدم حتريــك رأســها عــن هــذا الوضــع..
ث َّبــت اإلنــاء املمتلــئ باملــاء فــوق رأســها بحــوايل مــر ،عــى حامــل موضــوع
ﺐ ﻟﻠﻨ
قطــرات املــاء مــن الثقــب فــوق جبهــة داليــا مبــارشة يف نفــس املوضــع..
ﻭ
أثنــاء جتهيــزه للحجــرة قبــل وصــول داليــا ،حــن جلــس مكاهنــا ورفــع
ﺯﻳﻊ
94
مــا الــذي حيــدث مــن حوهلــا ،حركــت عينيهــا الواســعتني بنيتــي اللــون يف
مجيــع االجتاهــات ،ابتعــد الكونــت عنهــا حتــى التــزم باحلــدود التــي رســمها
لنفســه ،وقــال ضاح ـكًا:
-مبدئ ًيــا بأعتــذر لــك إين ماجيتــش أخطفــك مــن البيــت بنفــي
وأجــرت لــك واحــد خمصــوص ..بــس لــو عرفتِــي خــد منــي كام
هتســاحميني ..وســاحميني إين فتشــت شــنطتك ،بــس االحتيــاط واجــب.
استنشق املنديل املعطر ،وأكمل حديثه ضاحكًا:
ﻋﺼ
-ذوقك حلو يف العطور Chanel ..مرة واحدة!
ﲑ ﺍﻟ
مل تــرد داليــا ،كانــت قــد بــدأت تســرد وعيهــا ..أكمــل الكونــت حديثــه
بنفــس اهلــدوء:
ﻜﺘ
-األســبوع الــي فــات كان صعــب عليــا ،وكنــت هأعتــذر عــن مهمــة
تعذيبــك ..بــس لألســف أنــا حمتــاج أعمــل ده.
ﺐ ﻟﻠﻨ
مل خيربهــا أن شــهوة الســيطرة لديــه تبلــغ ذروهتــا حــن يشــعر بانســحاب
ﺸﺮ
بســاط التحكــم مــن حتــت قدميــه ..بــدأت تــدرك املوقــف فرصخــت مطلقة
صيحــات االســتغاثة ..أخربهــا بصــدق عــن التجهيــزات التــي زود هبا هذه
ﻭ
احلجــرة لتمنــع الصــوت ،عــاو ًة عــى انعــزال الطابــق بأكملــه؛ حتــى ال
ﺍﻟﺘﻮ
أخربهــا أنــه لــو توقــف عــا يفعلــه لفــرة معينــة فــإن القلــق يصيبــه ،ويفقــد
تركيــزه ،أخربهــا أنــه حيــب أن يــرى األمل بعينيــه ،فهــذه هوايتــه األعظــم..
أكمــل حديثــه هبــدوء:
-بــس أنــا أشــطر منــك؛ عــى األقــل ِّ
حولــت هوايتــي لشــغل ،مــا
طلعتــش موظــف زيــك.
95
نعتتــه داليــا بالســادي ..ر َّد عليهــا بنفــس هدوئــه أن مــا يفعلــه أعظــم
ـرا مــن املفهــوم الضيــق عــن الســادية ،قــال هلــا هبــدوء:كثـ ً
-ماختافيــش يــا آنســة داليــا ..أنــا متعاطــف جــدً ا مــع قضيتــك ،
بــس الســؤال هنــا :هــل تعاطفــي ده هيفيــدك ،وهــل لــو أنــا ســيبتك مهــا
هيســيبوكي؟
مل يبــدُ عــى داليــا انزعاجهــا مــن قطــرات املــاء املتســاقطة فــوق جبهتهــا،
طلبــت مــن الكونــت أن يــأيت بأقســى مــا لديــه مــن طــرق التعذيــب..
ﻋﺼ
ضحــك الكونــت وأكمــل حديثــه مســتعيدً ا فحــوى الرســالة التــي وصلتــه
ﲑ ﺍﻟ
منــذ أيــام عــى حســابه باإلنرتنــت املظلــم:
ﻜﺘ
-مزعلــة الرشكــة الــي بتشــتغيل فيهــا ليــه يــا داليــا؟ ده أكل عيشــك يــا
مامــا.
ﺐ ﻟﻠﻨ
مل تــرد األخــرة ،اكتفــت بصمــت طويــل ..أغمضــت عينيهــا كأهنــا يف
كابــوس تريــد اخلــروج منــه بــأي ثمــن ..أردف الكونــت قائـ ًـا:
ﺸﺮ
96
بالرسيــة دي مســتحيل تآمنــي حلــد عليهــا؛ شــخصية زيــك مســتحيل تثــق
يف حــد.
قالت بلهجة مل ُ
ختل من خنوع:
-أنــت لــو عرفــت امللفــات دي إيــه هاتســاعدين أعــرف بيهــا كل
النــاس...
قاطعها الكونت هبدوء:
ﻋﺼ
-الرشكــة الــي «مشــغالكي» أكــر رشكــة حلــوم واســترياد معلبــات يف
مــر ..أكيــد معاكــي ورق يثبــت إهنــم بيدفعــوا رشــوة عشــان اجلــارك،
ﲑ ﺍﻟ
وتقاريــر وزارة الصحــة ..وأكيــد معاكــي صــور مــن قلــب غرفــة التصنيــع؛
ﻜﺘ
تالقيــه مــكان قــذر مليــان فــران ،وال ُع َّــال مــش واخديــن احتياطــات
النضافــة ..ده غــر احليوانــات املريضــة الــي بترتمــي يف املكــن بدمهــا،
ﺐ ﻟﻠﻨ
وحاجــة تقــرف.
أكمل حديثه بصدق:
ﺸﺮ
بــدأت عالمــات االنزعــاج مــن قطــرات امليــاه تبــدو عــى مالمــح داليــا،
ﺯﻳﻊ
97
مــش عايزيــن حــد يقــول هلــم إن الــي بياكلــوه ده مليــان أمــراض ..النــاس
عايــزة الــي يطمنهــم ،حتــى لــو كــداب ،وحتــى لــو مهــا عارفــن إنه كــداب.
بــدأ األمل يظهــر عــى وجــه داليــا؛ راحــت تعــض عــى شــفتيها وحتــرك
جانــب فمهــا وعينهــا اليــرى يف لزمــة عصبيــة خرجــت دون إرادهتــا..
توجــه الكونــت نحــو بــاب احلجــرة ،أخربهــا أنــه ســيعود بعــد ســاعتني َّ
ليحصــل عــى إجابــات ترضيــه ،أشــار برأســه نحــو إنــاء املــاء ،أخربهــا
أن الصخــرة مهــا بــدت صلبــة إال أن قطــرات املــاء الصغــرة قــادرة عــى
ﻋﺼ
تفتيتهــا ..مل تــرد داليــا ،واســتمرت يف تظاهرهــا باجللــد ..تبدلــت مالمــح
ﲑ ﺍﻟ
وجهــه فجــأة ،ورفــع صوتــه قائـ ًـا بلهجــة قاســية:
ﻜﺘ
-فوقــي لنفســك يــا داليــا ..انتــي جمــرد ســكرترية متعينــة بقالــك كام
ســنة يف قطــاع خــاص مابريمحــش ،مرحلــة العرشينــات الــي فرحانــة بيهــا
ﺐ ﻟﻠﻨ
دي هتعــدي هــوا ،وهاتكتشــفي إنــك تــور بيجــر ســاقية مافيهــاش ميــة!
كاد أن يغادر لكنه التفت هلا وقال مستدركًا:
ﺸﺮ
***
مل يتوقع آدم أن يستقبل أي رسائل من «فريوز»..
كانــت هــذه املفاجــأة الثانيــة لــه بعــد رســالة الكونــت ،كان خطــاب
فــروز ورق ًيــا مرسـ ًـا عــن طريــق الربيــد بتاريــخ مــر عليــه أكثــر مــن ثالثــة
أســابيع ..جلــس يف غرفــة معيشــته مقر ًبــا وجهــه مــن الــورق الــذي مل خيـ ُـل
98
ـس ملســة يدهــا وشــفتيها ..بــدأ
مــن رائحــة فــروز ،مل ينســها قــط؛ كــا مل ينـ َ
يقــرأ فحــوى اخلطــاب بعينــن متســعتني:
« آدم الذي مل أظلم أحدً ا مثلام ظلمته..
ال أعــرف مــا الــذي متنيتــه يل حــن أبلغتــك قــراري بقبــول الــزواج مــن
«رمــزي» والســفر معــه إىل إيطاليــا؛ بِنــا ًء عــى نصيحــة «أبونــا»..
فــإذا متنيــت أن أنــدم عــى مــا اقرتفــت ،فاعلــم أن أمنيتــك قــد حتققــت،
وال ألومــك عــى ذلــك.
ﻋﺼ
ـت حقيقــة مــا اقرتفتــه يف حــق نفــي
بعــد فــرة قصــرة مــن الســفر أدركـ ُ
ﲑ ﺍﻟ
ويف حقــك ،اكتشــفت أن رمــزي ليــس ذلــك الناســك امللتــزم احلريــص
عــى زيــارة الكنيســة يف اإلجــازات بح ًثــا عــن رفيقــة عمــر تشــبهه ..تركتــك
ﻜﺘ
يــا آدم بســبب خطايــاك ،ألرمتــي يف أحضــان إبليــس ذاتــه.
مل َأر مــع «رمــزي» يو ًمــا حسـنًا ،مل أجــد منــه إال كل قســوة وعنــف ،حتى
ﺐ ﻟﻠﻨ
ً
بــاع الكثــر مــن ممتلــكات الشــقة ومــن الذهــب الــذي اشــراين بــه قبــل
ﻭ
مطيعــة غــري.
ﺯﻳﻊ
حتملــت منــه الكثــر ألجــل طفلنــا الــذي أصبــح َشــعر ًة رفيعــة تربطنــي
بــه؛ فأرخيهــا حينًــا وأشــدها حينًــا كــي ال تنقطــع .حتــى ضــاق صــدري
بأفعالــه ،فأنذرتــه بإبــاغ أهــي يف مــر أو باالتصــال بأحــد أفــراد اجلاليــة
القبطيــة ،هــددين بتغيــر عنــوان املنــزل وحبســني بداخلــه ..بعــد أن أخــذ
هاتفــي املحمــول مسـ ً
ـتغل جهــي باللغــة.
99
تركــت هــذا املظــروف مــع جــاريت التــي مل أفهــم معظــم حديثهــا،
وطلبــت منهــا بصعوبــة أن ترســله إىل عنوانــك يف مــر ..قبــل أن ينقلنــي
رمــزي مــن جوارهــا.
ســتجد مــع اخلطــاب بعــض البيانــات عــن رمــزي ..أعــرف أنــك جتيــد
التعامــل مــع احلواســب ،فأرجــو أن تنســى مــا ارتكبتــه يف حقــك ،وحتــاول
الوصــول إىل مــكاين يف أرسع وقــت ممكــن ،ال أريــد منــك إال مســاعديت
عــى العــودة إىل مــر»...
ﻋﺼ
منعكســا خلفــه مبــارش ًة مــن
ً مل يكمــل آدم الرســالة ،فقــد ملــح ً
ظــا
ﲑ ﺍﻟ
خــال شاشــة التلفزيــون املنطفئــة أمامــه ..انبطــح آدم عــى األرض يف
ﻜﺘ
نفــس اللحظــة التــي أصابــت رصاصــة هــذا املجهــول شاشــة التلفزيــون،
لــو تأخــر ثانيتــن كانــت ســتصيبه الرصاصــة يف منتصــف رأســه ..حتــرك
ﺐ ﻟﻠﻨ
مخــن أنــه
آدم برسعــة جنونيــة متفاد ًيــا أكثــر مــن طلقــة مكتومــة الصــوتَّ ،
قاتــل حمــرف فتجنَّــب االشــتباك املبــارش معــه ،اســتغل الثــواين التــي قــام
ﺸﺮ
فيهــا هــذا املأجــور بتغيــر خزينــة مسدســه ودفعــه بعنــف مــن أمــام بــاب
راكضــا نحــو بــاب الشــقة ..أثنــاء فــرار «آدم اخلواجــة» مــنغرفــة املعيشــة ً
ﻭ
بيتــه تعثــر يف متثــال معــدين خيــص أبــاه املتــويف؛ كان عبــارة عــن جتســيد
ﺍﻟﺘﻮ
ألنبــا ال يذكــر اســمه يرتــدي يف رقبتــه صلي ًبــا معدن ًيــا ثقيــل الــوزن ،ســقط
ﺯﻳﻊ
الصليــب ً
أرضــا بعــد ارتطــام آدم بــه.
تغ َّلــب آدم عــى أوجاعــه ،ومحــل التمثــال ،ألقــاه جتــاه هــذا املأجــور
الــذي صـ َّـوب ســاحه جتــاه آدم ،نجــح التمثــال يف إعاقــة القاتــل املأجــور
الــذي صــدرت عنــه رصخــة أمل ،فخابــت رصاصتــه مشــتت ًة عــن هدفهــا،
التقــط آدم الصليــب املعــدين مــن األرض ،وخــرج مــن الشــقة مرس ًعــا.
100
ـاول اللحــاق بــه ..وقف أمام الســلم حلــق بــه القاتــل املأجــور برسعــة حمـ ً
ـادرا العقــار ،أم َّفر إىل الســطح.
يف حــرة؛ ال يــدري هــل هبــط آدم مغـ ً
مل جيــد أي أثــر آلدم ..مل يعــرف مــكان اختفائــه إال بعــد أن تلقــى رضبــة
قويــة فــوق رأســه بالصليــب املعــدين أفقدتــه التــوازن ،فهــم متأخـ ًـرا أن آدم
ـتغل اندفــاع املأجــور بح ًثــا
ز َّيــف هروبــه واختبــأ بجــوار بــاب الشــقة مسـ ً
عنــه ،حــاول القاتــل أن يصــوب مسدســه جتــاه رأس آدم لكــن األخــر كان
أيضــا؛ فعــاود رضبــه عــى رأســه بالصليــب مهشـ ًـا وجهــه. أرسع هــذه املــرة ً
ﻋﺼ
حتســس آدم رقبــة املأجــور بح ًثــا عــن أي نبــض ،فلــم جيــد إال ســكونًا..
ﲑ ﺍﻟ
جثــا عــى ركبتيــه بجــواره؛ عــاري اجلــذع حــايف القدمــن ،نجح يف الســيطرة
عــى انتفاضــة قلبــه ،حتــى بــدأ يف التقــاط أنفاســه ،وحــاول أن يســتوعب
ﻜﺘ
املوقــف ،والتفكــر فيمــن يريــد اخلــاص منــه.
***
ﺐ ﻟﻠﻨ
هكــذا افتتــح الكونــت حديثــه مــع داليــا التــي تبــدل حاهلــا متا ًمــا
ﻭ
عــا كانــت عليــه منــذ ســاعتني ،كانــت قــد دخلــت يف نوبــة مــن البــكاء
ﺍﻟﺘﻮ
101
عــن آخرهــا بامليــاه ،إال مــن بضعــة ســنتيمرتات تســمح للضحيــة بالتنفــس
خالهلــا ملتصقــة بالســقف..
أيضــا عــن املدرســة النازيــة يف التعذيــب بامليــاه؛ كانــوا يوقفــون
حدثهــا ً
ضحاياهــم يف مركــز دائــرة ممتلئــة باملــاء املثلــج ،فــإن وقعــت الضحيــة أو
أرادت النــوم ســقطت يف املــاء البــارد.
ظــل يــرح هلــا باســتمتاع حقيقــي ،مل يعبــأ ببكائهــا وال بــاألمل الشــديد
البــادي عــى وجههــا ..اقــرب منهــا يف احلــدود التــي رســمها لنفســه كــي ال
ﻋﺼ
تــراه ،أكمــل حديثــه قائـ ًـا:
ﲑ ﺍﻟ
-بــس أبشــع طريقــة فيهــم هــي الــي بطبقهــا معاكــي دلوقتــي ،ابتكرهــا
ﻜﺘ
جينــرال صينــي مــن حــوايل مخــس قــرون ..لألســف مــش فاكــر اســم
الطريقــة وال اســم صاحبهــا ،أصــل اللغــة الصينيــة دي صعبــة قــوي..
ﺐ ﻟﻠﻨ
أكمل حديثه ً
قائل:
-كانــوا بريبطــوا الضحايــا ويســيبوا امليــة تنقــط فــوق دماغهــم يف نفــس
ﺸﺮ
النفــي ،وجــع مالــوش ســبب واضــح وال مركــز معــن ..بالظبــط زي الــي
أنـ ِ
ﺯﻳﻊ
102
وصلــت متعتــه إىل ذروهتــا ،حتــى حتــول أملهــا لــيء روتينــي ،وشــعر
بالســيطرة التامــة عليهــا ،فســأهلا بنفــاد صــر:
-ملفات الرشكة بتاعتك فني يا داليا؟!
أجابت داليا بلهجة مقتضبة:
-خزنة رقم ..0373فرع بنك HSBCاليل جنب مقر الرشكة.
فــرح الكونــت النتصــاره الســهل ،طلــب منهــا أال ختــاف ،وســأهلا
هبــدوء مربتًــا عــى شــعرها:
ﻋﺼ
-فيه نسخ تانية؟
ﲑ ﺍﻟ
-ال ..وموضــوع املنافــس ده يــا ريــت مــا يطلعــش بــرة ..ده آخــر
ﻜﺘ
فرصــة قدامــي عشــان أهــرب قبــل مــا خيلصــوا منــي.
وعدهــا الكونــت أال خيربهــم بقصــة املنافــس؛ فهــي خــارج إطــار
ﺐ ﻟﻠﻨ
منزهلــا ،كان قــد حتــرى عنهــا وعــرف أهنــا تقيــم فيــه بمفردهــا.
ﻭ
إعجابــه باختيارهــا ملــكان إخفــاء تلكــم امللفــات؛ فهــذا البنــك هــو الــذي
ﺯﻳﻊ
103
رن هاتــف الكونــت الشــخيص ،نظــر فيــه ليجــد عبــارة Private numberَّ
التــي حتجــب هويــة املتصــل ..رد بقلق:
-آلو ..مني؟!
جــاءه مــن اجلانــب اآلخــر صــوت غليــظ لرجــل بالــغ قائـ ًـا بلهجــة
مقتضبــة:
-فيــه ســت ســورية مقيمــة يف اإلســكندرية اســمها «غــرام عــزت»..
مهمتــك إنــك ختطفهــا ،وتعــرف لنــا منهــا كل املعلومــات املمكنــة عــن
ﻋﺼ
جوزهــا.
ﲑ ﺍﻟ
ممتزجــا بــيء مــن الفــزع ،أبعــد
ً ظهــر االســتنكار عــى وجــه الكونــت
ناظــرا نحــوه بدهشــة؛ فقــد كان هــذا هاتفــه األصــي، اهلتــاف عــن أذنــه
ﻜﺘ
ً
وليــس اهلاتــف ذا الرقــم املؤ َمــن ،والــذي يديــر مــن خاللــه كافــة مهــام
ٍ
صمــت طويــل: التعذيــب ،ر َّد بعــد
ﺐ ﻟﻠﻨ
-النمرة غلط.
ﺸﺮ
104
-7الشيطان يكمن يف البدايات
ﻋﺼ
مل أشعر بانعدام السيطرة منذ ٍ
زمن بعيد..
ـي عظيـ ًـا؛ كجبــل ثلجــي كنــت أحتمــي خلفه، كان وقــع هــذه املكاملــة عـ ّ
ﲑ ﺍﻟ
ـوان ..لــن متــر عواقــب انكشــاف أمــري بســهولة؛
ﻜﺘ فاهنــار أمــام عينــي يف ثـ ٍ
ـرا
ـطرا كبـ ً
فهــي كفيلــة بتدمــر كل مــا اســتغرقني بنــاؤه ســنني؛ أفنيــت شـ ً
ـاول االختفــاء أســفل هــذا الغطــاء الــذي مل يــدم ،تذكــرت مــن حيــايت حمـ ً
ﺐ ﻟﻠﻨ
اتصلــت بغــرام
ُ بــدأت أقــود ســياريت العتيقــة عائــدً ا إىل اإلســكندرية..
ألخطرهــا بعــوديت إىل البيــت؛ تعجبــت بلهجــة قلقــة مــن اتصــايل يف هــذه
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ـوت ناعــس غــر مكــرث أال أقلــق عليهــا. حتــى أبلــغ البيــت ..أجابتنــي بصـ ٍ
مل تشــعر بــيء مــن النــار املســتعرة داخــي ..فكــرت يف االتصــال بــرايف
لكننــي مل أرغــب يف إثــارة شــكوكه ،حاولــت الســيطرة عــى دقــات قلبــي
والرتكيــز يف الطريــق ،لــراودين ذكريــات تعــود حلــوايل عرشيــن عا ًمــا..
***
105
وقتئذ يشــر إىل عــام ..2005 ٍ كان التقويــم املعلــق أمامــي عــى احلائط
كانــت احلانــة -كاملعتــاد -خاليــة يف هــذا التوقيــت املتأخــر ،تفتــح أبواهبــا
مــن املســاء حتــى مطلــع الفجــر ،مل يتغــر معظــم رواد احلانــة منــذ أن
دخلتهــا ألول مــرة منــذ ســنوات ..كانــت مراقبتــي هلــم متعتــي الوحيــدة
يف هــذه احلقبــة الســوداء مــن حيــايت؛ عرفــت مجيــع الزبائــن وحفظــت
وجوههــم وذوقهــم فيــا يرشبــون ،ســمعت هالوســهم وأدركــت منبــع
معانــاة كل منهــم ،كنــت أراهــم وال يــروين؛ فمــن مــن الســكارى كان
ﻋﺼ
ســيهتم لوجــود طفــل مثــي ،كان لــكل منهــم توقيــت معــن يــزور فيــه
املــكان ،وبقعــة معينــة يفضــل اجللــوس فيهــا ،وحــده أيب مــن كان يرتــاد
ﲑ ﺍﻟ
احلانــة يوم ًيــا ،مل يــرح عبــد احلــي الطائــي مكانــه أمــام الســاقي إال فيــا
ﻜﺘ
نــدر ،مل يغــر طلبــه املكـ َّـون مــن زجاجــة بــرة رديئــة النــوع وبعــض مــن
الرتمــس واجلرجــر والســوداين..
ﺐ ﻟﻠﻨ
باملــكان ،ال تُفتــح هــذه الزجاجــات ألحــد مهــا كان الثمــن؛ فهــي دليــل
ﺯﻳﻊ
106
العــواد» الــذي يــأيت
عامــة كانــت ترتــاده فيــا ســبق ،ونجــح «عــم كارم َّ
احلانــة ليطــرب روادهــا ،يف دس نســخة مــن صورتــه مــع الفنــان «حممــد
فــوزي» وســط هــذه الصــور .متكــن القائمــون عــى املــكان مــن احلفــاظ
عــى أصالتــه؛ فلــم تطلــه يــد الزمــن التــي شــوهت كل مــا حولــه..
كانــت الســمة العامــة للمــكان هــي صفــاء الذهــن والضحــك العــذب
الــذي يغلــب عــى الزبائــن ،كأهنــم يعرفــون بعضهــم البعــض ،دون أن
يتبادلــوا كلمــة واحــدة ،مجيعهــم يبحــث عــا ينقصــه ،ويتوهــم وجــوده بــن
ﻋﺼ
جــدران احلانــة.
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ ـت كل شـ ٍ
ـر يف احلانــة وطأتــه داخلهــا ،دون أن أشــتهي اخلمــر.. أحببـ ُ
وأحببــت مــن فيهــا باســتثناء عبــد احلــي الطائــي ..الــذي قطــع كل الســبل
التــي أوصلهــا القــدر بيننــا.
ﺐ ﻟﻠﻨ
يف بقعــة مســترتة مــن احلانــة جيلــس مالكهــا ،يراقــب ســر العمــل مــن
بعيــد دون أن يتدخــل فيــا جيــري؛ يتــرف كزبــون عــادي ،وال يبــدي
ﺸﺮ
مالحظاتــه إال بعــد انتهــاء ســاعات العمــل ..ســمعته ذات مــرة أثنــاء
اإلغــاق يوبــخ العاملــن عــى بعــض الترصفــات ،مثــل الســاح للــزوار
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
الصالــة مرحيــة عكــس املقاعــد العاليــة أمــام الســاقي؛ فــا تنشــغل هــذه
ـرا ..كان خيصــم مــن رواتبهــم إذا مــا رفعــوا أصواهتــم داخــل البقعــة كثـ ً
احلانــة التــي حيكمهــا قانــون العزلــة واهلــدوء ..وأذكــر أنــه طــرد نـ ً
ـادل بعــد
أن غــازل إحــدى العجائــز املتصابيــات ليحصــل عــى زيــادة يف البقشــيش.
107
ويف مقاعــد الصالــة جيلــس «عاصــم حممــود» الــذي كان يعمــل يف
التمثيــل ،كان وجهــه مألو ًفــا بعــد أن ظهــر يف بعــض األعــال الدراميــة يف
فــرة التســعينات ،لكــن الزمــن ال يرحــم أحــدً ا ،خاصـ ًة أنصــاف املوهوبــن
مثــل «عاصــم» ..كان يفــرح إذا مــا ميــز أحــد رواد احلانــة وجهــه ،فيجلــس
معــه دون اســتئذان ،وحيدثــه عــن أعاملــه الســابقة ،ورفضــه للكثــر
مــن األعــال الفنيــة املعروضــة عليــه؛ ألن الفــن أصبــح «ســبوبة» دون
مســتواه ،كــا كان حيكــي عــن قصــص احلــب الومهيــة التــي مجعتــه مــع
ﻋﺼ
فنانــات الصــف األول ..كان اجلميــع يتعامــل مــع حديثــه كنــوع مــن أنــواع
الكوميديــا الســوداء؛ لكننــي أحببتــه وحاولــت تصديقــه.
ﲑ ﺍﻟ
أيضــا «اهلوانــم» ..أو هكــذا لقبهــن العاملــن باملــكان؛ ثــاثأحببــت ً
ﻜﺘ
صديقــات يف مقتبــل العرشينــات يبــدو عليهــن الثــراء ،يــزرن احلانــة يــوم
األربعــاء مــن كل أســبوع ،جتلــس كل منهــن يف حالــة مــن التوحــد التــام
ﺐ ﻟﻠﻨ
مــع مــا ترشبــه ،فتنعــزل وتكتفــي بــه عمــن حوهلــا ..أذكــر يــوم عــرض
أحــد الــرواد عــى إحداهــن أن يدفــع هلــا ثمــن مــا تــرب مقابــل مرافقتــه،
ﺸﺮ
فوبختــه بــردة فعــل حــادة حتــى أهــدرت كرامتــه ،قالــت لــه صديقتهــا
بصـ ٍ
ـوت عـ ٍ
ـال خماطبــة مجيــع الــرواد حتــى ال يتكــرر نفــس املوقــف« :إحنــا
ﻭ
بندخــل املــكان ده تالتــة وبنطلــع منــه تالتــة» ..فاضطــر مديــر الصالــة أن
ﺍﻟﺘﻮ
ختفيضــا يف
ً يطــرد ذلــك الزبــون حتــى حيتــوي غضبهــن ،عــرض عليهــن
ﺯﻳﻊ
108
خيـ ُـل مــن حرشجــة حمببــة ..كان يفضــل الغنــاء ملحمــد عبــد املطلــب وســيد
درويــش وحممــد فــوزي ،أذكــر حــن طلــب منــه أحــد الزبائــن أغنيــة لعبــد
احلليــم حافــظ فأبــدي تأف ًفــا قبــل أن يغنــي «عــى حــزب وداد قلبــي» ..كان
ـرا وهــو يصافــح «حممــد فــوزي».. حيتفــظ بصــورة مهرتئــة حــن كان صغـ ً
حــرص دائـ ًـا عــى تلقيبــه بـ»العظيــم فــوزي».
لكــن «زبــون احلــام» كان أكثــر مــن شــعرت بالشــفقة جتاهــه ،أطلقـ ُ
ـت
متوجهــا إىل احلــام،
ً عليــه هــذا اللقــب ألنــه حــن يســكر يغــادر الصالــة
ﻋﺼ
فيغلــق عــى نفســه البــاب ظنًــا منــه أن أحــدً ا ال يســمعه ،خيــرج هاتفــه
املحمــول ويتصــل بطليقتــه ،يبكــي شــو ًقا هلــا والبنتيــه ،يعدهــا أن يعــود إىل
ﲑ ﺍﻟ
عملــه ،وأال يعــاود الــرب ثاني ـ ًة ،يتوســل إليهــا مــن أجــل فرصــة ثانيــة،
ﻜﺘ
يرجوهــا أن تعــود إليــه ..ويف كل زيــارة تتكــرر املكاملــة ،ويــزداد البــكاء،
ويتجــدد الوعــد.
ﺐ ﻟﻠﻨ
حــن ســألته عــن مهنتــه األصليــة ..فهــز كتفيــه جمي ًبــا أنــه يعمــل هنــا منــذ
ﻭ
109
ـس أنــه حــال بينــي وبــن بطــش «الطائــي» يف الكثــر مــن األحيــان
ومل أنـ َ
دون أن يفقــد ضحكتــه أو يفقــد «الطائــي» كزبــون دائــم للمــكان.
أتذكــر فــرة غيابــه عــن احلانــة ،حتـ َّـول املــكان ملــا يشــبه املقابــر ،ســألت
عنــه أحــد العاملــن فأخــرين أن ابنــه قــد مــات يف حادثــة ســر ..مل يتوقــع
أكثــر املتفائلــن أن يعــود «عــاء الديــن» للعمــل بعــد يومــن مــن رحيــل
ولــده ،بنفــس الضحكــة ونفــس الــروح التــي اعتدهتــا منــه.
مل يكــن « عــاء الديــن» شــار ًبا للكحــول ،أخــرين ذات مــرة أنــه ال
ﻋﺼ
حيــب تأثريهــا عــى العقــل ،كان يفضــل احلشــيش ،وقــال يل رأ ًيــا مل يــرح
ﲑ ﺍﻟ
بــه ألي مــن الزبائــن« :اخلمــرة بتصحــي الوجــع ،مــع إهنــا بتنســيك ســببه..
إنــا احلشــيش بيحسســك إنــك أكــر مــن أي وجــع».
ﻜﺘ
هكــذا كانــت مراهقتــي ..أقــي صباحهــا بــن الكتــب وليلهــا وســط
أشــباه البــر مــن رواد احلانــة ..أحتــرك بخفــة مراق ًبــا اجلميــع الذيــن
ﺐ ﻟﻠﻨ
اعتــروين مــع الوقــت جــز ًءا مــن ديكــور املــكان ،حتــى ينادينــي أيب لينهــرين
ـي ونعــود للمنــزل.. أمامهــم؛ فيتعكــز عـ َّ
ﺸﺮ
كانــت هــذه إحــدى الدقائــق القليلــة الــذي أمقــت فيــه احلانــة وأمتنــى
ﺍﻟﺘﻮ
لــو أهنــا مل توجــد مــن األســاس ..حتولــت أنظــار مجيــع العاملــن ورواد
ﺯﻳﻊ
املــكان مــن الســكارى والباحثــن عــن اهلــدوء جتــاه ذلــك املراهــق الــذي
ـل مــن مــكان منـ ٍ
ـزو يف احلانــة مل يتــم السادســة عــرة بعــد ..قمــت عــى مهـ ٍ
ناظــرا يف األرض متمن ًيــا أن تبتلعنــي ،لكــن أمنيتــي مل
ً متوجهــا نحــوه،
ً
ـت «عــاء الديــن» يقــرب منــه قائـ ًـا:
تتحقــق ..ملحـ ُ
-صوتك يا طائي ..الناس بتيجي البار عشان تروق.
110
عال: ٍ
بصوت ٍ ر َّد أيب
-الولد ده الزم يرتبى..
لفــت «عــاء الديــن» نظــر «الطائــي» -الــذي كان عــى مشــارف
الكهولــة آنــذاك -إىل بنيــاين النحيــل ومالبــي القديمــة الباليــة التــي مل أجــد
منــه غريهــا ألرتديــه ،ونظــرة االنكســار التــي مل تفــارق عينــي ،قــال بلهجــة
مل ختـ ُـل مــن شــفقة:
-الــي بتعملــه ده مايرضيــش ربنــا ..أنــت مــا بترصفــش عــى يــارس
ﻋﺼ
مليــم..
ﲑ ﺍﻟ
ر َّد عبد احلي بفم تساقطت أسنانه ،ومل يفارقه الكحول لسنني:
ﻜﺘ
-عايز فلوس يروح ياخد من أمه ،وال هيرب زهيا أحسن.
رمــى أيب يف وجهــي ورقــة بخمســة جنيهــات ،وأمــرين أن أذهــب إىل
ﺐ ﻟﻠﻨ
الــدم مــن أنفــي ونظــرت لــه يف عينــه بثبــات دون أن أذرف دمعــة واحــدة..
تدخــل مالــك احلانــة طال ًبــا مــن اجلميــع عــدم االلتفــات ملــا حيــدث ،أمســك
ﻭ
رد عبــد احلــي الطائــي بكلــات مبعثــرة مجعهــا بصعوبــة مــن عقلــه
الغــارق يف التيــه:
-أنا بأقعد هنا بفلويس.
-فــوق لنفســك بقــى ..واحــد غــر يــارس كان زمانــه طفــش وســابك
لوحــدك.
111
بصــوت ٍ
عــال، ٍ صــاح عبــد احلــي الطائــي ُمطل ًقــا ســبة يف حــق أمــي
وبعــد حلظــات مســح دموعــه يف ُكــم ســرته الباليــة وعــاد إىل رشابــه ثانيــة
متجاهـ ًـا وجــودي ..جذبنــي مديــر الصالــة «عــاء الديــن» مــن يــدي نحــو
رست ببــطء خلــف ُ زقــاق جمــاور للحانــة التــي حفظــت كل شـ ٍ
ـر فيهــا..
« عــاء الديــن» حتــى وصلنــا إىل الزقــاق املجــاور للحانــة ،كان يرتــاده
العاملــون الختــاس دقائــق الراحــة ورشب الســجائر باتفــاق غــر معلــن
مــع «عــاء الديــن»..
ﻋﺼ
نظر « عالء الدين» نحو عنقي ووضع يده عليها ً
قائل بأسى:
ﲑ ﺍﻟ
-إيه اليل عىل رقبتك ده؟
تأوهت بأملٍ واضح ،ومل أرد ..سألني بحزن:
ﻜﺘ
-أبوك رضبك تاين؟
أجبته باقتضاب:
ﺐ ﻟﻠﻨ
-الراجــل ده لــوال ســنه ودماغــه الــي فكــت منــه كنــت خليــت اجلــارد
يرضبــه حلــد مــا يبــان لــه صاحــب.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
عــي ،مل أخــره بالســبب الــذي كنــت أعلــم أن عــاء الديــن يشــفق ّ ُ
جيــرين عــى البقــاء رفقــة ذلــك الســكري املجنــون ،حتــى ال أخــر تعاطفــه؛
ﺯﻳﻊ
فلــم أرد أن يمــوت الطائــي قبــل بلوغــي ســن الرشــد حتــى أرثــه؛ فــا يظهر
ـي ،فينهــب مــا ســيخلفه يل قريــب مــن حتــت األرض طام ًعــا يف الوصايــة عـ َّ
الطائــي ورائــه مــن بقايــا أمــاك أبيــه .كنــت أعلــم أن الدافــع احلقيقــي وراء
شــفقة « عــاء الديــن» حبــه الشــديد ألمــي ،أرس إ َّيل مــن قبــل أنــه قــد أحبهــا
منــذ الصغــر ،لكــن أمــوال الطائــي فرقــت بينهــا.
112
نظــر عــاء الديــن إ َّيل ،تفحــص هيئتــي مــن أعــى إىل أســفل ،زم شــفتيه
قائـ ًـا بلهجــة جــادة:
-أنــت داخــل عــى جامعــة ،والزم يبقــى معــاك فلــوس تلبــس وتتعلــم
زي النــاس.
-شغلني يف البار ..إن شا اهلل أمسح احلاممات.
-أنــا مســتحيل أرىض لــك بحاجــة زي كــده ..ده غــر إنــك مــا
تســتحملش وقفــة 12ســاعة جنــب املذاكــرة.
ﻋﺼ
ثم أردف بعد تفكري:
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ -بعدين أنت مش فقري..
طأطأت رأيس يف حزن مؤمنًا عىل كالمه ..قلت له بحرسة:
-واهلل أكون فقري يا عم عالء أرحم من إين أكون ابن الراجل ده.
ﺐ ﻟﻠﻨ
تذكــر عــاء بعــض ممــا كان يفلــت مــن لســان الطائــي أثنــاء ســكره،
ﺯﻳﻊ
وقــال:
-الــي ماتعرفــوش إن أبــوك بــاع شــقق العــارة لصاحــب البــار ،مــا
عــدا الشــقة الــي أنتــوا قاعديــن فيهــا ..وفتــح بالفلــوس دي حســاب يف
شب باقيــة حياتــه.
البــار يكفيــه ُ ْ
مقرتحا خطته:
ً مل أجد ما أقوله فأردف
113
-احلســاب ده أنــا الــي بخصــم منــه متــن الــي بيرشبــه الطائــي ،فلــو كل
يــوم ســجلت مبلــغ بســيط زيــادة عــن الــي أبــوك بيطفحــه..
أومــأت لــه بــرأيس حتــى ال يكمــل خطتــه التــي نالــت موافقتــي ،فلــم
يكــن أمامــي خيــار آخــر ســوى االقتطــاع ممــا ينفــق عبــد احلــي الطائــي عــى
مزاجــه ،وأنقــذ بــه مــا تبقــى مــن مســتقبيل.
ـي
مل يكــن الطائــي جمــرد أب شــديد؛ كان يتفنــن يف إيالمــي ،مل يمــر عـ َّ
يو ًمــا برفقتــه إال وقــد أخــذ مــن روحــي جــز ًءا ..اعتــاد أن يوقظنــي كل يــوم
ﻋﺼ
حرجــا مــن
ليســبني أنــا وأمــي وينهــال عــى وجهــي بالصفعــات ،وال جيــد ً
ﲑ ﺍﻟ
ـت أن صفعاتــه وركالته إخــراج فضالتــه عــى مــا تبقــى مــن مالبــي ،أدركـ ُ
ـت أن تــرك ـي مــن اإلهانــة أمــام رواد احلانــة ،فضلـ ُ التــي متطــرين أهــون عـ َّ
ﻜﺘ
رضباتــه أثرهــا عــى جســدي عــى أن أفقــد احرتامــي لــذايت يو ًمــا بعــد يــوم؛
ـخا ال حــول لــه وال قــوة ،ال أســتطيع أن أقاومــه؛ فقــط ـت مسـ ً
حتــى أصبحـ ُ
ﺐ ﻟﻠﻨ
عــن دفء لــن يــدوم ،وقبــل أن أســبح يف املزيــد مــن ذكريــايت رن هاتفــي
األصــي ،كان املتصــل ذلــك املخــرق امللقــب بـ»اخلواجــة» ،بعــد أن كتبــت
لــه رقمــي وطلبــت منــه رسعــة التواصــل معــي لبــدء العمــل ..كنــت أعلــم
أن معرفتــه هلويتــي احلقيقيــة مغامــرة ..لكننــي ال أملــك ســواها .قلــت لــه
هبــدوء:
114
-هــاه مشــيت ورا الرقــم وعرفــت شــخصيتي احلقيقيــة وال لســه يــا
خواجــة؟
-أنــا وعــدت حرضتــك إين مــش هاحــاول أعــرف عنــك حــرف زيــادة
عــن الــي أنــت عايــزين أعرفــه.
-يارس عبد احلي الطائي..
-ده القناع اليل عايش وراه الكونت؟!
-دور عــى اســمي بطريقتــك عشــان نختــر املســافات ..وملــا تعــرف
ﻋﺼ
عنــي الــي يطمنــك اتصــل تــاين.
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ سألني قبل أن أهني املكاملة:
-حرضتــك قولــت يل إن فيــه خطــر بيهــددك ..ممكــن تدينــي فكــرة
عنــه؟
ﺐ ﻟﻠﻨ
قبــل أن أجيبــه جــاءين اتصــال مــن رقــم ســلوى عــى نفــس اهلاتــف،
فأهنيــت حمادثتــي مــع اخلواجــة رسي ًعــا ألرد عــى أختــي التــي بادرتنــي
ٍ
ﺸﺮ
بصــوت خائــف:
-إحلقني يا يارس ..غرام ومليكة اختطفوا.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
***
ﺯﻳﻊ
115
-8لقاء..
ﻋﺼ
مل أكره االنتظار مثل اآلن ،خاص ًة وإن كان السبب فيه «أم أرشف»..
ﲑ ﺍﻟ
عرفــت فيــا بعــد أن اســمه
ُ جلســت يف غرفــة نــوم اخلواجــة الــذيُ
ﻜﺘ
احلقيقــي «آدم حبيــب» ..كان يومــئ يل حمي ًيــا هبــزة رأس خفيفــة كل بضعــة
دقائــق ،اتفقنــا دون إعــان عــى تأجيــل احلديــث حلــن مغــادرة اخلادمــة
ﺐ ﻟﻠﻨ
التــي تقــوم بتنظيــف شــقته ..بــدا عــى وجهــه الرتقــب للحديــث معــي،
ظــل ينظــر نحــوي بإعجــاب وهــو هيــز قدميــه يف توتــر ،يضــع ســاعات أذن
ﺸﺮ
كبــرة حــول رأســه ،وقــد وصــل صوهتــا إ َّيل خاف ًتــا ،بــدا يل اللحــن الــذي
يســمعه أغنيــة مــن نــوع الـــ..Heavy metal
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
أيضــا
خــال مالبســه الصيفيــة غــر املالئمــة لــرودة الشــتاء ..لفــت نظــري ً
ســوار قــايش ملفــوف حــول قدمــه.
ظــل يلعــب حولنــا طفـ ٌـل صغــر عرفـ ُ
ـت فيــا بعــد أنــه «أرشف» ابــن
ـرت حــويل متأمـ ًـا غرفــة «اخلواجــة» ،رأيــت بعــض األدوات
اخلادمــة ..نظـ ُ
ـت
الرياضيــة كاألثقــال احلديديــة وجهــاز صغــر للركــض يف املــكان ،بحثـ ُ
116
عــن أجهــزة الكمبيوتــر التــي تصــورت أنــه يســتخدمها فيــا يعمــل فلــم
ـت الكثــر مــن األقنعــة التــي ترمــز لألناركيــة ،والقليــل مــن
أجدهــا ..ملحـ ُ
الكتــب حــول نفــس النهــج الفوضــوي.
ـت فيهــا وجهــي الــذي لفــت نظــري مــرآة بــدت يل باهظــة الثمــن ،ملحـ ُ
بــدا عليــه اإلرهــاق مــن كثــرة الســفر وقلــة النــوم ،تذكــرت مــا حــدث منــذ
أن عــدت إىل بيتــي يف اإلســكندرية ألجــده خاو ًيــا ،قــررت أن أبحــث
عــن خاطفهــا بأســلوب «الكونــت»؛ فعــدت إىل القاهــرة مرس ًعــا ألقابــل
ﻋﺼ
«اخلواجــة» حتــى يســاعدين يف تعقــب أثــر «املجهــول» مــن خــال املكاملــة
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ الوحيــدة التــي أتتنــي منــه.
ـت بســلوى ،كانــت تبكــي كأهنــا فقــدت حبي ًبــا، وأثنــاء حتركــي اتصلـ ُ
أخربتنــي أهنــا ســمعت جلبــة يف الطابــق الســفيل ،فظنــت أن رايف قــد عــاد
ﺐ ﻟﻠﻨ
صديقاهتــا بصحبــة مليكــة حتــى هتــدأ مــن ناحيتــي ..أمنَّــت عــى كالمــي
ﺍﻟﺘﻮ
ـتـن شــارد ،كان صوهتــا مرتعــدً ا ،مل أعتــد منهــا هــذا اخلــوف ..حاولـ ُ بذهـ ٍ
ﺯﻳﻊ
117
رفــع أصابــع يديــه مجيعهــا بفخــر ..قــال يل آدم أنــه أكــر مــن مليكــة بأربــع
ـتنتجت أنــه قــام ببحــث شــامل عنــي لتقصــر املســافات.. ُ ســنوات ..اسـ
التقــط آدم قنا ًعــا مــن أقنعتــه وأعطــاه للصغــر ً
قائــا:
-أوعى تقطعه زي اليل فات.
أومــأ الطفــل برأســه مبتسـ ًـا؛ كان أســمر الوجــه جمعــد الشــعر ،يرتــدي
مالبــس بســيطة مل تالئــم قنــاع األناركيــة الــذي ارتــداه عــى الفــور ونظــر
لنفســه يف املــرآة ..أوصــاه آدم باملواظبــة عــى الذهــاب إىل املدرســة ،بــدا
ﻋﺼ
عــى أرشف االنزعــاج لكــن آدم وعــده بمكافــأة إن واظــب عــى احلضــور..
ﲑ ﺍﻟ
نقــده آدم رزمــة ســميكة مــن األمــوال ،وطلــب منــه أن يعطيهــا ألمــه
ويغــادرا اآلن ..شــكره أرشف حمـ ً
ـاول التعلــق يف رقبتــه ليعانقــه ،فرفعــه آدم
ﻜﺘ
ولثــم وجنتيــه مود ًعــا..
-مش كتري الفلوس دي عىل طفل صغري؟
ﺐ ﻟﻠﻨ
-أمــه ســت غلبانــة وأرشف ده لــه أربــع إخــوات بنــات ،أبوهــم مــات
بالكبــد مــن 3ســنني...
ﻭ
طلباهتــم مــن احليــاة ،ووقــت مــا األم تكــر ومتقــدرش جتيلــك هاحيســوا
خصوصا
ً بالعجــز احلقيقــي ..ده غــر إن أرشف ده ممكــن ينحرف أو يتــأذي
إنــه أكيــد عايــش يف عشــوائيات..
مربرا:
رد ً
-األرسة دي احتياجاهتــا نقيــة ومبــارشة ماتلوثتــش بــأي تقــدم
118
بيحصــل حوالينــا ،الغــاء مصاهبمــش ألن الــي نفســهم فيــه حتــت مســتوى
الرخــص.
هنضت من مكاين وجلست إىل جواره ً
قائل:
دايــا الصــح
دايــا اخلــر بيكــون صــح يــا خواجــة ..ومــش ً
-مــش ً
نفســه واضــح.
طلــب منــي أن أناديــه «آدم» ،ســألني إن كنــت قــد مارســت أفعــال
«الكونــت» عــى أطفــال مــن قبــل فأجبتــه بصــدق أننــي قمــت بذلــك ثالث
ﻋﺼ
مــرات ومل أشــعر بمتعــة؛ وأن فتــوري جــاء مــن دافــع ذايت غــر أخالقــي..
ﲑ ﺍﻟ
أومــأ برأســه دون تعليــق .أخــرين بحامســه للعمــل معــي ،وبــا أننــا قــد
قررنــا التعــاون وكشــف مجيــع األوراق ،فيجــب أن ينــادي كل منــا اآلخــر
ﻜﺘ
باســمه جمــر ًدا ..وأن نتشــاطر مــا يــدور بداخــل كل منــا كامـ ًـا دون زيــف
أو إخفــاء للحقائــق ..أ َّمنــت عــى كالمــه ،وقبــل أن أخــره بمهمتــه ناولنــي
ﺐ ﻟﻠﻨ
رزمــة مــن األمــوال أكــر قليـ ًـا مــن تلــك التــي أعطاهــا ألرشف ،قــال:
-وعشان أبقى سددت ديوين كلها ،اتفضل دول.
ﺸﺮ
-دي الفلــوس الــي حرضتــك دفعتهــا للراجــل الــي أجرتــه مــن الـــ
ﺍﻟﺘﻮ
وعرفــت ســعره.
قائل يف خجل:ابتسمت ً
-آســف ..االختبــار كان صعــب شــوية ،بــس كان الزم أتأكــد إنــك
هاتســتحمل.
-أستحمل إيه؟
119
-إحنــا بنتعامــل مــع شــخص جمهــول ومعــاه فلــوس كتــر قــادر يأجــر
بيهــا حمرتفــن ،ده دفــع ماليــن عشــان بــس يعــرف أنــا مــن.
ساخرا:
ً عقب آدم
-ده لو كان دفعهم لك كان زمانك مسلم له نفسك.
قائــا أن هــذا املجهــول لديــه خلــل مل أضحــك لتعليقــه ،أكملــت ً
نفــي ..ســألني عــن حقيقــة الكونــت ،فهمــت مــا يرمــي إليــه فأجبتــه
صاد ًقــا أننــي لســت مصا ًبــا بالفصــام ،وأن الكونــت جمــرد هويــة أخــرى
ﻋﺼ
صنعتهــا لنفــي حتــى أفــرغ مــن خالهلــا شــهوة التحكــم والســيطرة التــي
ﲑ ﺍﻟ
ـدي ،وأننــي أكــون واع ًيــا ومــدركًا متــام اإلدراك متــى أكــون يــارس ومتــى
لـ َّ
أصبــح «الكونــت» ..ســألني باهتــام عــا إذا كان يــارس هــو اســمي احلقيقي
ﻜﺘ
أم أنــه جمــرد هويــة مزيفــة ،وســتار صنعتــه ليغطــي عــى هويــة ثالثــة ..أجبتــه
بصــدق:
ﺐ ﻟﻠﻨ
-ال طب ًعــا ..مافيــش هويــة مزيفــة هتكــون حمكمــة بالشــكل ده؛ بــس
هــو فعـ ًـا جمــرد Coverللكونــت.
ﺸﺮ
فكالمهــا أنــا ..صمــت قليـ ًـا ،وســألني عــن الســبب احلقيقــي وراء بحثــي
ﺍﻟﺘﻮ
عــن غــرام ومليكــة ..مل أتعجــب مــن فضولــه ،فأجبتــه بتلقائيــة أهنــا آخــر
ﺯﻳﻊ
مــا تبقــى يل يف هــذا العــامل ..نظــر إ َّيل مبــارش ًة كأنــه حيــاول قــراءة أفــكاري،
ـوت خفيــض: وســألني بصـ ٍ
ـدور عليهــم عشــان مهــا مراتــك وبنتــك الــي بتحبهــم ،وال
-قصــدي بتـ َّ
عشــان مهــا جمــرد جــزء مــن Coverيارس الــي الكونــت مســتخبي وراه؟!
-تفرق معاك؟
120
-أكيــد ..لــو مهــا جمــرد جــزء مــن اهلويــة فأنــا ممكــن أصنــع لــك مليــون
«يــارس» تــاين ،بــس صعــب نخاطــر هبويــة «الكونــت».
شــعرت بالعجــز املطلــق؛ فأنــا ال أعــرف حقيقــة اخلطــر
ُ مل أرد عليــه،
نظــرت
ُ الــذي هيددمهــا ،وال أعــرف هويــة خاطفهــا ،وال أثــق يف آدم..
ـزن حقيقــي ،وطلبــت منــه مســاعديت يف البحــث عــن غــرام نحــو آدم بحـ ٍ
ومليكــة ..ربــت عــى كتفــي قائـ ًـا بلهجــة مل ختـ ُـل مــن تعاطــف:
-ما ختافش يا أستاذ يارس ..أنا معاك حلد ما يرجعوا.
ﻋﺼ
قال مستدركًا:
ﲑ ﺍﻟ
-بــس حرضتــك مــا قولتليــش ..الراجــل الــي كان بيحميــك قبــي راح
فني !
ﻜﺘ
-اختفى متا ًما؛ كأنه ماجاش الدنيا ً
أصل.
ﺐ ﻟﻠﻨ
سألني بقلق:
-اختفى ليه؟
ﺸﺮ
ٍ
بصوت خفيض: أجبته
-عشان كان بيحميني.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
طلــب «آدم» منــي أن نبــدأ يف العمــل ،وأال نضيــع املزيــد مــن الوقــت
ﺯﻳﻊ
فيــا ال يفيــد ..فاصطحبنــي إىل مــا أســاه «غرفــة العمليــات»؛ كانــت غرفــة
متســعة حتتــوي عــى العديــد مــن أجهــزة الكمبيوتــر ومعــدات أخــرى مل
أعــرف فائدهتــا ،ش ـ َّغل مكيــف اهلــواء كبــر احلجــم الــذي ســبب بــرودة
شــديدة يف املــكان ..اعتــذر أنــه يســتعمل أجهــزة معظمهــا غــر متطــور لكنه
يعــوض هــذا بخــرات اكتســبها منــذ بدايتــه يف عــامل االخــراق وحتــى هــذه
اللحظــة ،أخــرين أن «حالتــه املاديــة» ال تســمح بــراء أجهــزة أحــدث..
121
فلــم أتطــرق ثاني ـ ًة للتعقيــب عــى املبلــغ الــذي أعطــاه البــن اخلادمــة منــذ
دقائــق.
ـت منــه مكاملــة «املجهــول» ،وأوصلــه بأحــد تنــاول هاتفــي الــذي تلقيـ ُ
أجهزتــه ،أخــرين أنــه ســيحاول تتبــع املكاملــة حتــى يعــرف هويــة املتصــل..
طلــب منــي االســرخاء ألن األمــر ســيأخذ وق ًتــا ،فجلســت مرب ًعــا يـ َّ
ـدي
مــن الــرودة ،فتــح ثالجــة صغــرة مل أحلــظ وجودهــا مــن قبــل ،ســألني إن
ـززت رأيس ناف ًيــا ،فأحــر لنفســه زجاجــة وناولنــي ـت أرشب البــرة فهـ ُ كنـ ُ
ﻋﺼ
زجاجــة مــن امليــاه الغازيــة..
ﲑ ﺍﻟ
-أنا آسف يف السؤال ..بس هو حرضتك تعترب سادي؟
ﻜﺘ
وقلت له هبدوء:
ُ ابتسمت ابتسامة خافتة،
-وصــف «ســادي» غــر دقيــق يف حالتــي ،الــي أنــا بعملــه أرقــى بكتــر
ﺐ ﻟﻠﻨ
مــن التعذيــب؛ األمل بالنســبة يل جمــرد وســيلة لغايــة أعظــم بكتري :للســيطرة.
نظــر إىل شاشــة الكمبيوتــر الــذي وصــل بــه هاتفــي ..أخــرين أن املتصل
ﺸﺮ
قــد حجــب موقعــه بتقنيــة حديثــة ،لكنــه ســيحاول اخرتاقــه ،أخــرين آسـ ًفا
أن األمــر قــد يأخــذ أكثــر مــن ســاعتني ،مل أملــك إال االنتظــار والوثــوق
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
فيــه ..طلــب منــي أن أتنــاول مــرويب ،ســألني عــن أعــداء حمتملــن أشــك
ﺯﻳﻊ
122
ـل يتقــاىضعلمتــه الكثــر ،وأن جتربتــي أهلمتــه يف حتويــل مــا جييــده إىل عمـ ٍ
عليــه أجـ ًـرا ،وأنــه كان يتبــع التفكــر األناركــي -الــذي مل حيتفــظ منــه إال
باألقنعــة -حتــى قــرأ أحــد مقــااليت التــي حتدثــت فيهــا عــن رضورة وجــود
النظــام ،حتــى وإن حكــم عا ًملــا فوضو ًيــا مــن األســاس.
ســألته عــن مــدى تعلقــه بديانتــه التــي وجــدت الكثــر مــن أيقوناهتــا يف
الشــقة ،عــدا غرفــة نومــه ،فأجابنــي بحــزن:
-أنــا مؤمــن عــادي بــس مــش ملتــزم يعنــي ..دي كلهــا حاجــات أبويــا
ﻋﺼ
وأمــي ..استشــهدوا يف حادثــة تفجــر َكنَــي مــن عــر ســنني ،كان معاهــم
ﲑ ﺍﻟ
«مــاك» أخويــا الصغــر ،بعدهــا عــى طــول أختــي الكبــرة اجتــوزت
ﻜﺘ
وهاجــرت أســراليا..
أرجع رأسه للخلف ضاحكًا يف أسى:
ﺐ ﻟﻠﻨ
حدثنــي عــن حبيبتــه الســابقة فــروز التــي تواصلــت معــه منــذ أيــام
حــن تصاعــدت مشــاكلها الزوجيــة ،أخــرين أنــه نجــح يف مســاعدهتا،
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
123
دو ًمــا حتســن نفســه ..مل جتــد منــه بعــد رحيــل عائلتــه إال شــبح إنســان..
مســخا ال يفعــل شــي ًئا إال التنفــس واخــراق احلواســب للحصــول عــى ً
املــال الــذي يغنيــه عــن أي عمــل يرهــق روحــه اخلاويــة ..ذكرتنــي تفاصيــل
آخــر لقــاء مجعــه بفــروز باجللســة التــي ودعتنــي فيهــا أمــي حــن كنــت يف
العــارشة مــن عمــري..
قلــت آلدم أننــي ال زلــت أذكــر نظرهتــا املنكــرة ،وهلجتهــا التــي
حاولــت أن جتعلهــا عاديــة:
ﻋﺼ
-يارس يا حبيبي أنت عارف كويس إين بحبك..
ﲑ ﺍﻟ
-وأنا كامن بحبك يا ماما..
-طيب أنا هسافر لفرتة طويلة ،وماعرفش هرجع امتى.
ﻜﺘ
-كل ده عشان مابروحش املدرسة؟
ﺐ ﻟﻠﻨ
-أل يــا حبيبــي املوضــوع أكــر مــن كــده ..بــس أنــا وبابــا ماينفعــش
نعيــش مــع بعــض تــاين.
ﺸﺮ
ـرت إىل وجههــا املمتلــئ باجلــروح والنــدوب ،مل أملــك ر ًدا أو دفا ًعــانظـ ُ
عــن عبــد احلــي الطائــي الــذي جتســد الشــيطان يف صورتــه ..مل أعــرف حتــى
ﻭ
فهمــت بعــد هــذا اللقــاء بســنني أن رصاخ أمــيُ مــررا ملــا يفعــل.. اآلن
ﺍﻟﺘﻮ
ً
الــذي ســمعته قبــل جلســتنا األخــرة بيومــن كان جــراء اعتــداء جنــي
ﺯﻳﻊ
مــن «الطائــي» الــذي مل أعــرف كيــف ومتــى فقــد عقلــه وال متــى امتلــك
عقـ ًـا مــن األســاس.
-ممكن تاخديني معاكي؟
-أنــا لســه ماعرفــش هــروح فــن ،وخايفــة أخــدك معايــا حيصــل لــك
حاجــة.
124
مل تــرك يل فرصـ ًة للــرد ،وال جمـ ً
ـال للرفــض ،منحتنــي عنا ًقا طويـ ًـا يليق
بــودا ٍع أخــر ..مل تثنهــا دموعــي عــن قرارهــا وال تشــبثي بقدمهــا ً
أيضــا ..مل
ـعرت يف ذلــك اليــوم ،كنــت
أشــعر بســخط جتــاه عبــد احلــي الطائــي مثلــا شـ ُ
عــى اســتعداد أن أغفــر لــه كل مــا فعــل معــي ،لكننــي مل أســاحمه عــى رحيــل
أمــي إىل اليــوم ..حتــى بعــد أن حبســته يف حجــريت البيضــاء وحولتــه إىل
مســخ يالئــم حقيقتــه.
حــاول آدم تغيــر املوضــوع بعــد أن شــعر باألســف جتاهــي ،ســألني
ﻋﺼ
أن أخــره املزيــد عــن تفاصيــل بدايــة عمــي كـ»كونــت» ،فوجئــت أنــه كان
متاب ًعــا ملســريت املهنيــة منــذ بدايتهــا حتــى حلظــة االهنيــار عــى يــد ذلــك
ﲑ ﺍﻟ
املجهــول ..فأوجــزت لــه حديثــي عــن البدايــة ،ســألته عــا إذا كان أحــد
ﻜﺘ
مــن اإلنرتنــت املظلــم قــد عــرف بــا مــر بــه الكونــت مــن اهنيــار وكشــف
هلويتــه ..فأجــاب بالنفــي ،أخــرين بقيامــه بعمــل نظــام محايــة جديــد
ﺐ ﻟﻠﻨ
حلســابايت عــى اإلنرتنــت املظلــم ..لفــت آدم نظــري إىل أن «املجهــول» مل
ـع إال ملعرفــة هويتــي احلقيقيــة دون
يطمــع فيــا أملــك مــن bitcoinsومل يسـ َ
ﺸﺮ
ـدت كتابتهــا منــذ رحلــت أمــي ،وقصصــت فيهــا أهــم مذكــرايت التــي اعتـ ُ
أحــداث حيــايت؛ مثــل يــوم أن تعلمــت ابنتــي الســر ،وســبب تســميتها
ﺯﻳﻊ
125
ـت انزعاجــي مــن آدم حــن أشــعل ســيجارة ملفوفــة ،أخــرين أن أبديـ ُ
بداخلهــا جرعــة بســيطة مــن االســروكس ،تســاعده عــى الرتكيــز يف عمله،
ـرت تعذيبــي ألحــدوأهنــا مل تعــد تســبب لــه هلوســة منــذ فــرة طويلــة .تذكـ ُ
ضحايــاي باســتخدام نفــس املــادة ،راح يــرخ كاألطفــال وينــادي عــى
أشــخاص ال يراهــم ســواه ،ظــل يــردد عبــارة واحــدة «ســاحمني يــا رب ،أنــا
ـت مــن آدم أال يتنــاول أي يشء أثنــاء عملــه معــي... بحبــك يــا رب» ..طلبـ ُ
مشــرا نحــو حاســبه بانتصــار ،أخــرين أنــه اســتطاع
ً قاطــع حديثــي
ﻋﺼ
حتديــد موقــع اهلاتــف الــذي اتصــل منــه «املجهــول» ،وذكــر العنــوان..
ﲑ ﺍﻟ
هنضــت مرس ًعــا ،طلبــت منــه أن نتوجــه للمــكان عــى الفــور ..وقبــل أن
أفتــح بــاب الشــقة أوقفنــي آدم ممســكًا بســاعدي ،قــال بحــرة:
ﻜﺘ
-مش احتامل يكون ده فخ؟
ﺐ ﻟﻠﻨ
البلــد ،كنــت أعرفــه جيــدً ا؛ فقــد أقمــت فيــه لفــرة حــن عــدت مــن أمريــكا
ﺯﻳﻊ
126
فــأرشت لــه بيــدي ..طلــب بطاقتــي الشــخصية فأظهرهتــا لــه ..أخــرج
مــن أحــد أدراج مكتبــه هات ًفــا قديــم اإلصــدار ،ناولنــي إيــاه قائـ ًـا:
-فيه راجل جه من كام يوم ،وصاين أديك املوبايل ده أمانة.
ســأله آدم عــن أوصــاف هــذا الرجــل ..فــرد املوظــف أنــه كان ضخــم
البنيــان ،يقــود ســيارة ســوداء عــى قــدر مــن الفخامــة ،واستشــف مــن
حديثــه أنــه يعمــل ســائ ًقا لــدى صاحبهــا ،أعطــى املوظــف ً
بعضــا مــن املــال
وتــا عليــه أوامــره ،وانطلــق بســيارته مرس ًعــا...
ﻋﺼ
قاطــع حديثنــا صــوت رنــن اهلاتــف جمهــول املصــدر ،فجذبــت آدم
ﲑ ﺍﻟ
مــن ذراعــه وخرجنــا دون اســتئذان ..كان املتصــل يســتعمل برناجمًــا لتغيــر
ﻜﺘ
األصــوات..
-حبيــت أبــدأ معــاك لعبتنــا مــن نفــس املــكان الــي اتولــدت فيــه فكــرة
ﺐ ﻟﻠﻨ
الكونــت.
-أنت مني؟
ﺸﺮ
دلوقتــي.
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
موضحا:
ً قبل أن أسأله كيف عرف هذا الفندق ،بادرين
-أنــا مراقبــك مــن ســاعة مــا وصلــت البيــت ،حرضتــك اتلهيــت مــع
أرستــك املخطوفــة ،ونســيت إين خــدت مــن الشــقة حاجــة أهــم بكتــر:
مذكراتــك كاملــة.
أكمل حديثه ً
قائل:
127
-ومــن املذكــرات عرفــت كل حاجــة عــن يــارس وعــن الكونــت،
وحطيــت قواعــد للعبــة الــي هنلعبهــا ..إحنــا عايزيــن يــارس والكونــت
يصفــوا كل رصاعاهتــم القديمــة واجلديــدة.
طلبــت منــه هبــدوء أن ُيــرج زوجتــي وابنتــي مــن هــذه اللعبــة ،ر َّد
ضاحــكًا:
-واحلافــز يــا مســر يــارس؟ الزم حافــز عشــان تلعــب ..ولــو حســيت
إنــك بتفكــر ختــرج عــن القواعــد الــي رســمتها لــك ،هابتــدي أمــارس عــى
ﻋﺼ
أهلــك نفــس الــي أنــت بتامرســه عــى النــاس..
ﲑ ﺍﻟ
طلبــت منــه ثاني ـ ًة أن خيرجهــا مــن تلــك اللعبــة ،لكنــه مل يعبــأ بــأي ممــا
قلــت ..أكمــل حديثــه كممثــل حيفــظ دوره جيــدً ا:
ﻜﺘ
-ولــو حصــل لــك أي أذى أنــت أو األخ اجلميــل الــي واقــف جنبــك
دلوقتــي أنــا مــش مســئول ،ومــش مســئول عــن مصــر غــرام ومليكــة مــن
ﺐ ﻟﻠﻨ
بعــدك.
وعدته أن أنفذ مجيع ما يريد ،فقال منه ًيا املكاملة:
ﺸﺮ
***
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
128
-9حل وسط..
ﻋﺼ
كان الرفض رفاهية ال أملكها يف ذلك الوقت..
بدايــ ًة مل أســتوعب مــا طلبــه ذلــك اخلاطــف؛ فكيــف ســأصفي
ﲑ ﺍﻟ
حســابايت القديمــة مــن خــال تســليم نفــي للرشطــة ،وكيــف ســأحرر
ﻜﺘ
أهــل بيتــي وأنــا حبيــس الســجن؟ مل أجــد ُبــدً ا مــن تســليم إراديت لــه،
طلبــت مــن «آدم اخلواجــة» أن يبقــى يف بيتــه ليتابــع مــا ســأمر بــه مــن
ُ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ـت قبــل أن أصــل القســم بدقائــق أننــي سأســلم نفــي إىل ضابــط عرفـ ُ
بعينــه؛ يدعــى «محــزة درويــش» ..دخلــت بخطــوات حــذرة ،مل يعبــأ يب
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
أحــد مــن العاملــن بالقســم ،ارتطــم بكتفــي أحــد أمنــاء الرشطــة وأكمــل
ســره دون أن يعتــذر ،كانــت احلركــة رسيعــة بالداخــل كــا توقعــت،
ﺯﻳﻊ
ملحــت عــد ًدا مــن املحابيــس املكبلــن يف وضعيــة جلــوس القرفصــاء ُ
متهيــدً ا لرتحيلهــم ،ســمعت صــوت أحــد الضبــاط مــن داخــل مكتبــه
شــخصا مــا ،ســألت أحــد العســاكر عــن مكتــب املقــدم محــزة ً ينهــر
فســألني بلهجــة ريفيــة عــن ســبب الزيــارة ،ابتعــدت عنــه خطوتــن
حــن التقطــت أنفــي رائحــة بصــل منبعثــة مــن فمــه ،أخربتــه باقتضــاب
129
متفرســا يف هيئتــي ،وبعــد حلظــات
ً أنــه صديــق شــخيص ..صمــت قليـ ًـا
تبدلــت هلجتــه معــي ،رحــب يب ،اصطحبنــي إىل غرفــة مكتــب مغلقــة
ٍ
ثــوان يقــف أمــام باهبــا عســكري بســيط اهليئــة ،طلــب بطاقتــي وبعــد
ســمح يل بالدخــول.
كانــت رائحــة التكييــف قديــم الطــراز نفــاذة ،مل أفهــم ســبب تشــغيله
يف الشــتاء ،كان مكتــب محــزة بســي ًطا كهيئتــه املبعثــرة؛ خال ًيا مــن األثاث..
لوحــا مــن الزجــاج ،ميــزت آثــار
اســتقر فــوق مكتبــه املكتــظ بــاألوراق ً
ﻋﺼ
براويــز صــور تــم رفعهــا مــن فــوق هــذا اللــوح مــن خــال شــكل األتربــة
املمســوحة حدي ًثــا ،ويافطــة خشــبية كُتِــب عليهــا« :فــاهلل خــر حاف ًظــا
ﲑ ﺍﻟ
وهــو أرحــم الرامحــن».
ﻜﺘ
ـال هاتف ًيــا للتوصيــة عــى أحــد أصدقائــه تظاهــر محــزة أنــه جيــري اتصـ ً
الــذي يريــد جتديــد رخــص القيــادة ..مل ينظــر نحــوي طيلة حديثــه الومهي.
ﺐ ﻟﻠﻨ
باســمي احلقيقــي مــا ًدا يــده بالســام دون أن ينهــض مــن مقعــده؛
فتظاهــرت أننــي مل أرهــا ،جفــف عــرق جبهتــه الــذي مل أفهــم كيــف
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
وجــد مــن األســاس ،وضبــط وضــع مالبســه الواســعة التــي تســر جسـ ًـا
ﺯﻳﻊ
ممتل ًئــا ..حللــت زر بدلتــي الســوداء وجلســت أمامــه واض ًعــا ســاقي
فــوق األخــرى ..ســألني عــا أرشب فأجبــت ســؤاله بسـ ٍ
ـؤال عــا يريــد
منــي ..أجــاب بلهجــة حازمــة:
-مانكــرش إين بكرهــك ،وبكــره الــي بتعملــه ونفــي أخلــص
منــك ..بــس لألســف ماقــدرش أعمــل هنــا أي حاجــة.
130
علقــت عــى كالمــه أن أي عالقــة كــره تشــوهبا نســبة كبــرة مــن
اإلعجــاب باملكــروه ،ســألته بشــكل مبــارش عــن عالقتــه بـ»املجهــول»،
فأنكــر متا ًمــا أنــه يعرفــه وروى قصــة مماثلــة لقصتــي:
-كل اليل أعرفه إنه اخرتق حسايب وعرف أنا مني..
-خطف حد بتحبه؟
ارتعــد مــن جمــرد طرحــي للفكرة ،نفــى حدوثهــا ،مل هيــدده «املجهول»
إال بالفضيحــة ،ويف حالــة محــزة كانــت الفضيحــة املهنيــة رضبــة قاضيــة
ﻋﺼ
حلياتــه ..طلــب منــي أال أؤذي أحــدً ا مــن أهلــه فأجبتــه بصــدق أنــه أتفــه
ﲑ ﺍﻟ
مــن هــذا بكثــر ،وأن هويتــه التــي يعمــل مــن خالهلــا حمق ًقــا للعدالــة
بقــدر إخالهلــا للنظــام إال أهنــا ال تعنينــي وال أهتــم بوجودهــا مــن
ﻜﺘ
األســاس ،وأنــه مســئول بشــكل مــا عــن وجــود الظلــم الــذي يوهــم
نفســه بمحاربتــه .بــل إن املؤسســات املعنيــة بتحقيــق العدالــة أصبحــت
ﺐ ﻟﻠﻨ
كــوب مــن الشــاي ،وضعــه أمــام محــزة وســألني عــا أرشب فــأرشت لــه
بيــدي كــي ينــرف ،أطاعنــي كأننــي أحــد الضبــاط وخــرج مرس ًعــا.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
مل َأر يف محــزة اختال ًفــا عــن الكثــر مــن أبنــاء املجتمــع ..مجيعهــم حيــب
ﺯﻳﻊ
القانــون ،يــرون فيــه قيــدً ا رضور ًيــا جلميــع مــن ســواهم ،وال يامنعــون
آن آلخــر ..وبقــدر تقديســهم للنظــام يقدســون مــن باخلــروج عنــه مــن ٍ
يتمــرد عليــه؛ فيســتغرقون يف التهليــل لــه ،هاتفــن باســمه ،مادحــن
أفعالــه ..يقدمــون لــه الدعــم مــن بعيــد ،لكــن ال أحــد فيهــم يتمنــى أن
يكــون مكانــه.
131
أخــرج محــزة مــن درج مكتبــه علبــة صغــرة حتتــوي عــى حبــوب
ـرا منهــا ،وبــدأ يتحدث
ســكر قليــل الســعرات ،أســقط يف كوبــه عــد ًدا كبـ ً
وهــو يذيــب الســكر حمد ًثــا صـ ٍ
ـوت عـ ٍ
ـال:
-هو هددين يدمر وظيفتي ويأذي أهل بيتي زي ما عمل معاك..
تركتــه يتحــدث دون أن أشــكك يف صــدق روايتــه ،ســألته هبــدوء عــا
ـاحا مثب ًتــا يف مؤخــرة حزامــه،
طلــب منــه ذلــك املجهــول ..حتســس سـ ً
مســح بيــده فــوق رأســه وقــال:
ﻋﺼ
-طلب مني أهني رصاعي معاك ..وإين أحقق العدالة فيك.
ﲑ ﺍﻟ
عيل؟
-أمرك تصفيني وال تقبض َّ
قال بعد ٍ
ﻜﺘ
ثوان من التفكري:
-طلب مني ما أسيبكش خترج من هنا إال لو حققنا العدالة..
ﺐ ﻟﻠﻨ
قلــت لــه هبــدوء أننــي عــى يقــن مــن بغضــه يل ،طلبــت منــه أن
ننحــي خالفاتنــا جان ًبــا لتحقيــق رغبــة ذلــك «املجهــول» ..وأن طلــب
ﺸﺮ
باالتفــاق مــع محــزة ،قلــت هبــدوء ناظـ ًـرا نحــو اليافطــة اخلشــبية الصغــرة
ﺯﻳﻊ
132
أعطيتــه اهلاتــف ليســمع رد «املجهــول» الــذي يتحكــم بمصرينــا،
صــدق توقعــي ووافــق «املجهــول» عــى الصفقــة التــي عرضتهــا .كان
محــزة خائ ًفــا منــي بحــق بالرغــم مــن رغبتــه الســابقة يف التخلــص منــي،
وبرغــم كــوين أعــزل وألعــب معــه عــى أرضــه ،كانــت أصابعــه تتجــه
تلقائ ًيــا نحــو جــرس مكتبــه يف وضــع االســتعداد للضغــط عليــه يف أي
وقــت ..قــال بعــد تفكــر مل يــدم طويـ ًـا:
-يزيد الصاوي..
ﻋﺼ
ثــم أكمــل حديثــه شـ ً
ـارحا خطــورة هــذا املجــرم الــذي تــم ضبطــه مــن
ﲑ ﺍﻟ
يومــن بصحبــة رجالــه قبــل أن يصلــوا إىل خمــزن الســاح اخلــاص هبــم..
تعجلــت الرشطــة القبــض عليــه حــن تعرفــوا عليــه يف أحــد األكمنــة
ﻜﺘ
مضحــن بحالــة «التلبــس» الواجــب توافرهــا إلكــال القضيــة ..أراد
محــزة معرفــة مــكان خمــزن الســاح قبــل انتهــاء مــدة احلبــس االحتياطــي
ﺐ ﻟﻠﻨ
التــي يقرهــا القانــون ليزيــد الصــاوي ،حتــى جيــد مــا يســلمه للنيابــة..
قلــت لــه بلهجــة عمليــة:
ﺸﺮ
-دخلني أشوفه.
رد محــزة بخطــورة دخــويل الزنزانــة ،طلــب منــي أن أفكــر لــه يف طريقة
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
اســتدعى أحــد العســاكر القتيــادي إىل الزنزانــة التــي حبــس فيهــا يزيــد
الصــاوي ورجالــه الثالثــة ،وأمــره أن يبقــى بجــوار املحبــس؛ فيخرجنــي
حــن أطلــب منــه دون جــدال.
ال أنكــر أننــي شــعرت بــيء مــن الفــزع حــن ســمعت صــوت
عــي مــن اخلــارج ..هامجتنــي
البــاب احلديــدي للزنزانــة وهــو يغلــق َّ
133
رائحــة عطــن هــي خليــط مــن رائحــة بــول املســاجني وأجســادهم
املتعرقــة ودخــان الســجائر التــي ملحــت الكثــر مــن أعقاهبــا فــوق أرضيــة
الزنزانــة ..كانــت الرؤيــة واضحــة عــى الرغــم مــن عــدم وجــود مصابيح
بالداخــل ،جلــس املســاجني يف جتمعــات ،حتــى مــن أتــى بمفــرده كـ َّـون
لنفســه مجاعــة تســاعده عــى قضــاء أيــام احلبــس االحتياطــي..
متوجهــا نحــوي حتــى يســلبني مالبــي ً هنــض أحدهــم مــن مكانــه
وأي متعلقــات جيدهــا معــي ..نظــرت لــه يف عينــه وأرشت لــه بحــزم كــي
ﻋﺼ
جيلــس مكانــه ،وقــف مكانــه قليـ ًـا مفكـ ًـرا ،ابتســم كاش ـ ًفا عــن أســنان
صفــراء وفــم رائحتــه كقــر نُثــرت حمتوياتــه ،ابتعــد عنــي بعــد أن أطلــق
ﲑ ﺍﻟ
ســبة بصــوت خفيــض.
ﻜﺘ
ـي «محــزة» ،مل
ميــزت يزيــد الصــاوي مــن الصــورة التــي عرضهــا عـ َّ
ـت ترصفاتــه ومالحمــه لدقائق؛ـرا كأن احلبــس ال يؤثــر فيــه ،تأملـ ُ
يتغــر كثـ ً
ﺐ ﻟﻠﻨ
كان دقيــق اجلســد واملالمــح يشــبه األطفــال ..حــن الحــظ تركيــزي معــه
توجهــت نحــو البــاب مســتدع ًيا العســكري الــذي أدخلنــي منــذ قليــل،
ﺸﺮ
مل تبــدُ الدهشــة عــى املســاجني ،فقــد مخــن معظمهــم أننــي ضابــط
ﺯﻳﻊ
134
-الراجــل ده ثقتــه يف رجالتــه ماهلــاش حــدود ..واضــح إنــه بيعتمــد
عــى عزوتــه دي يف كل حاجــة ..واحــد غــره كان مســتحيل ينــام عشــان
هيخــاف رجالتــه يصفــوه ،ألنــه حســب مــا فهمــت منــك جمــرد تــرس
يف مافيــا أكــر منــه بكتــر ..بــس الراجــل شــكله بينــام كويــس ومــا
بيســمحش حلــد فيهــم يبعــد عنــه..
أخــرين محــزة أن رجــال «يزيــد الصــاوي» رفضــوا اإلفشــاء بــره
واالعــراف عليــه ..حتــى وإن ختــى أحدهــم عــن والئــه؛ فلــن يتحــدث
ﻋﺼ
حتــى ال يتــم تصفيــة أرستــه كاملــة ،ســألته مبتسـ ًـا:
ﲑ ﺍﻟ
-ومني قال لك إننا عايزين نعرف منهم مكان السالح؟
مل يبدُ عليه أنه قد فهم خطتي بعد فأكملت حديثي ً
قائل:
ﻜﺘ
-بــا إن كل واحــد فيهــم عايــز يطلــع مــن القضيــة ويف نفــس الوقــت
خايــف أهلــه حيصــل هلــم حاجــة ،فهنتوصــل معاهــم حلــل وســط..
ﺐ ﻟﻠﻨ
135
وهنســاومهم ،لــو رفضــوا هيتعمــل معاهــم أوضــاع التعذيــب بالضغــط
النفــي.
بعضــا مــن هــذه األوضــاع؛ كإجبــار الضحيــة عىلكــدت أن أرشح لــه ً
وناظــرا إىل أســفل ،أو الركــوع
ً جلــوس القرفصــاء مقيــدً ا مــن اخللــف
عــى الركبــة مــع التقييــد مــن اخللــف لفــرات طويلــة ..لكنــه كان يعرفهــا
جيــدً ا ومل جيــد مان ًعــا يف تطبيقهــا عليهــم للوصــول معهــم إىل هــذا «احلــل
الوســط» ..أكملــت خطتــي قائـ ًـا:
ﻋﺼ
-هاتطلــب منهــم يكدبــوا يف التحقيــق قــدام يزيــد يف كل التفاصيــل،
ﲑ ﺍﻟ
مــن غــر مــا يقولــوا مــكان املخــزن زي مــا اتفقــوا مــع العصابــة ..يبدلــوا
أســاميهم مــع بعــض ،ويقولــوا نــوع عربيــة غــر الــي امتســكوا بيهــا،
ﻜﺘ
يغــروا كل التفاصيــل بنفــس الســيناريو ..وتنبــه عليهــم يكملــوا يف
كذبتهــم حلــد يزيــد مــا يشــك يف قدراتــه العقليــة ،مــع قلــة النــوم وشــوية
ﺐ ﻟﻠﻨ
التــي إن التــزم هبــا فلــن يســتغرق أكثــر مــن ثالثــة أيــام ..أعطيتــه رقمــي
حتــى أتدخــل يف عمليــة احلصــول عــى معلومــات مــن يزيــد الصــاوي إن
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
136
املراكبــي» الــذي كان يــردد عليــه أيــام الســهر مــع أصحــاب مراهقتــه يف
منطقــة «املكــس» ..تغــر الزمــن وتعاقبــت األجيــال ويبقــى عــم وهــدان
مروجــا للمخــدرات وبائ ًعــا للخمــور وجال ًبــا للمتعــة،
ً كــا هــو ..كان
ال يامنــع أبــدً ا يف توفــر كل مــا يمتــع زبائنــه ويبقيهــم أطــول فــرة ممكنــة
حتــت ســلطته وشــهوة البحــر..
اتفــق معــه رايف يــوم أن تشــاجر مــع ســلوى عــى أن يبيــت لديــه
ٍ
أجــل غــر مســمى ،كان عــم وهــدان عــادة مــا يرفــض يف العوامــة إىل
ﻋﺼ
تأجريهــا باأليــام ،لكــن عــرض رايف كان ال ُيرفــض.
ﲑ ﺍﻟ
انقطــع رايف عــن احليــاة بعــد أن عهــد بــإدارة جتارتــه لرشيكــه ..كان
ُنهب لكنــه مل يملــك حــق االختيــار ،مل جيــد مفـ ًـرا مــن
يعلــم أن جتارتــه سـت َ
ﻜﺘ
اعتــزال احليــاة بعــد أن عــرف أهنــا كانــت كذبــة مــن صنــع رشيكــة حياتــه.
كان يعلــم دوافــع ســلوى يف عــدم اإلنجــاب منــه؛ فقــد اهنــار صنــم
ﺐ ﻟﻠﻨ
رجولتــه يف نظرهــا حتــت وطــأة فــأس اإلدمــان ..كان متأكدً ا أهنا شــكرت
اهلل عــى تأخــر اإلنجــاب حتــى تعــرف الرجــل الــذي تزوجتــه جيــدً ا ..مل
ﺸﺮ
يعــرف إن كانــت خيانتهــا لــه فعـ ًـا ارتكبتــه بكامــل إرادهتــا أم أنــه جمــرد
رد فعــل عــى شــعورها بزواجــه مــن غريهــا.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
مل يســتأذن رايف مــن «عــم وهــدان» ،وخــرج بأحــد مراكبــه الصغــرة
ﺯﻳﻊ
ـتعريا شــبكة صيــد التــي مألهــا رايف بصفائــح البــرة رديئــة النــوع ،مسـ ً
تشــبيها ســمعه مــن أبيــه حــن ذهاهبــا ً وقــرر خــوض البحــر ..تذكــر
للصيــد« :إن كانــت اإلســكندرية عــروس ..فالبحــر دمهــا ..».ظــل
يســتعيد كالم أبيــه طيلــة حياتــه حتــى صــادق البحــر ،مل يبـ َـق لــه مــن أبيــه
إال ســاعة «كاســيو» عتيقــة الطــراز ذات ســوار فــي ..حــرص دائـ ًـا عــى
ارتدائهــا.
137
تذكــر أيــام الشــباب حــن كان يــأيت مــع رفاقــه ملبــن شــهواهتم يف
كنــف البحــر ،مل ينــس وجــه «مايســة» ..تلــك العاهــرة املليحــة التــي
تكربهــم ســنًا وخــرة ،كانــت تتكفــل بــه وأصحابــه مجي ًعــا ..جامــدة
املالمــح ،دهنيــة البــرة ،تلمــع عينيهــا بربيــق مل يفهمــه يو ًمــا ،عرفــت
«مايســة» كيــف ت ِ
ُشــعر مــن أمامهــا بالعجــز املطلــق ،كانــت تتفنــن يف
كــر هيبتهــم مجي ًعــا؛ تصفهــم بــأوالد النــاس املرفهــن ..وكأهنــا تعــوض
الفــارق املــادي بقدراهتــا التــي ال متلــك ســواها.
ﻋﺼ
نظــر إىل انعــكاس وجهــه يف البحــر ..تعجــب مــن شــكله الــذي تبــدل
متا ًمــا يف بضعــة أيــام؛ بدايــة مــن حالــة مالبســه وهالــة مــن الشــعر -الــذي
ﲑ ﺍﻟ
زحــف الشــيب بداخلــه -أحاطــت وجهــه الســاكن الــذي مل يكــف عــن
ﻜﺘ
ـرا ،أهنــى
الضحــك فيــا ســبق ..حتــى يــوم وفــاة أبيــه الــذي كان حيبــه كثـ ً
عــزاء أبيــه وذهــب إىل وهــدان باح ًثــا عــن مايســة ،وحــن وجدهــا أخــرج
ﺐ ﻟﻠﻨ
ً
ورشخــا أثــرا نفســ ًيا
املســحوق مــن روحــه رسي ًعــا كــا دخــل ،تــاركًا ً
ـرا يف عالقتــه مــع ســلوى ..حتــول الــرخ تصد ًعــا تا ًمــا بعــد انتهــاء
صغـ ً
حمنتــه وبدايــة مرحلــة الفتــور الزوجــي ،أهناهــا وحيــدً ا وتركهــا تعانيــه..
رسا مــن «الشــيامء» ابنــة رشيكــه يف املعــرض ..مل جيــد معهــا حــن تــزوج ً
شــي ًئا ممــا افتقــده مــع ســلوى لكنهــا كانــت د ًمــا جديــدً ا وعمـ ًـرا أصغــر
138
وروحــا مل تنتهكهــا لطــات الزمــن بعــد ..قبــل أن يعتــزل حياتــه اتصــل
ً
هبــا ليبلغهــا بالطــاق ،وبحرصــه عــى حصوهلــا عــى كل حقوقهــا املادية.
مل حيبهــا ،ومل حيــب ســلوى ،وال مايســة ،ومل يعــرف قــط للحــب
ً
ســبيل...
اسرتســل يف أفــكاره تــاركًا عقلــه يســبح مــع صــوت مداحــه املفضــل
«أمحــد التــوين» ،فــراح يقلــده منشــدً ا« :يــا الــي تــداووا النــاس داووين،
ـاخرا مــن
هاتــوا دوايــا مــن حبيــب الــكل وداووين» ،ضحــك يف رسه سـ ً
ﻋﺼ
احلالــة التــي وصــل إليهــا...
ﲑ ﺍﻟ
قاطــع سلســال أفــكاره اتصــال هاتفــي مــن أحــد مســاعدي ســلوى
يف مركــز الــدروس ،كانــت هــذه املــرة الثالثــة التــي يتصــل فيهــا ،فقــرر
ﻜﺘ
أن يــرد.
-فيه حاجة الزم تعرفها يا رايف بيه.
ﺐ ﻟﻠﻨ
ظــن رايف أنــه ســيخربه عــن ترصفــات ســلوى مــع ذلــك املراهــق
كــا فعــل مــن قبــل ووشــى عليهــا ،هــم أن ينهــي املكاملــة قبــل أن يســمع
ﺸﺮ
-ســلوى هانــم بقــى هلــا يومــن مــا بتجيــش الســنرت ..بعتنــا هلــا البنــت
ﺍﻟﺘﻮ
الــي بتنضــف الســنرت عــى البيــت ..فضلــت ختبــط وحمــدش فتــح هلــا ..ده
ﺯﻳﻊ
139
أقــرب زمــاء الدراســة إىل قلبــي وهــو مــن علمنــي الكثــر مــن تقنيــات
احلاســب ،كان خمرت ًقــا حمرت ًفــاُ ،عـ ِـرض عليــه العمــل لصالــح احلكومــة
األمريكيــة إال أنــه رفــض ســع ًيا وراء مــال أكثــر ..كنــت عــى اتصــال دائم
بــه ليســاعدين يف تطويــر دفاعــايت اإللكرتونية عــى اإلنرتنت املظلــم ،لكنه
اختفــى متا ًمــا بعــد حادثــة اختطــاف غــرام ومليكــة ،وكأن «املجهــول» قــد
ـي كل ســبل الوصــول إليــه ..ولــوال «آدم اخلواجــة» الــذي يظنــه قطــع عـ َّ
ـرا
اخلاطــف جمــرد مســاعد وال يعلــم حقيقــة قدراتــه ،ملــا امتلكــت عنـ ً
ﻋﺼ
للمفاجــأة.
***
ﲑ ﺍﻟ
أنس شعوري يوم انكشف غطائي ألول مرة..
مل َ
ﻜﺘ
عــدت بذاكــريت إىل أول أعوامــي بالكليــة ،كانــت صحــة «الطائــي»
قــد تراجعــت أكثــر ممــا ســبق ،األمــر الــذي مل يؤثــر عــى عنفــه املتواصــل
ﺐ ﻟﻠﻨ
ضــدي ،مل أطلــب مــن احليــاة ســوى موتــه ..هربــت منــه يف زحــام احلانــة
التــي مل يتغــر فيهــا الكثــر؛ فقــط رحــل زبائــن وحــل حملهــم آخــرون،
ﺸﺮ
دون أن يأخــذوا مــن روح املــكان شــي ًئا ..توجهــت نحــو الزقــاق ألجرب
األمــر مــرة أخــرى..
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ربــت عــى رأســه مطمئنــا ،امتــأت أذين بنغــات العــود املنبعثــة مــن ُّ
العــواد» التــي كانــت تصلنــي يف الزقــاق املظلــم،
ّ أصابــع «عــم كارم
متنيــت أال يالحــظ عبــد احلــي الطائــي غيــايب ..وبــدأت أمــارس عليــه مــا
جربتــه عــى اســتحياء يف بعــض أبنــاء جنســه ..انتزعــت شــعريات فرائــه
الرمــادي واحــدة تلــو األخــرى ،كان صــوت موائــه حــا ًدا لكــن مــداه مل
يبلــغ أحــدً ا ســواي ،بــدأت أســبب لــه اجلــروح بســكني صغــر ،وأغرقهــا
140
بكميــات كبــرة مــن الكحــول ،لطمتــه عــى وجهــه كــا كان يفعــل الطائي
معــي .كان هــذا ســابع قــط أمــارس عليــه أفعــال أيب ..يف البدايــة كنــت
أســعى لفهــم مبتغــاه مــن إيالمــي ،وحتــى اآلن مل أفهــم ..لكننــي وجــدت
مــا هــو أعظــم مــن املعرفــة؛ وجــدت املتعــة...
-دي مش أول مرة تعمل كده يا يارس.
ارجتفــت حــن ســمعت صــوت عــاء الديــن الــذي اختفــت
ابتســامته ،كنــت أعــرف أننــي يف مشــكلة حقيقيــة ،هنضــت مرس ًعــا مــن
ﻋﺼ
فــوق القــط ،اعتــذرت برسعــة بكلــات مل أفهمهــا ،بعــد أن حللــت القــط
ﲑ ﺍﻟ
الــذي فــر مرس ًعــا كأنــه طريــد املــوت ،نفضــت غبــار أرضيــة الزقــاق عــن
مالبــي عائــدً ا للحانــة ..أوقفنــي ممس ـكًا بكتفــي ،كــررت اعتــذاري ،مل
ﻜﺘ
أرد أن أغضبــه بعــد مــا فعــل ألجــي ،وبعــد أن رسق مــن حســاب أيب
الغائــب عــن الواقــع ليصنــع يل واحــدً ا ..ضحــك وعــاد وجهــه إىل احلالــة
ﺐ ﻟﻠﻨ
املبتســمة التــي حيبهــا الزبائــن ..وعدتــه أال أكــرر فعلتــي ،هنــرين وهنــاين
عــن الكــذب عليــه ،قــال مبتسـ ًـا:
ﺸﺮ
-الــي أنــت فيــه ده مــش عيــب ،كلنــا عندنــا أهــواء غريبــة ،أهــواء
لــو شــوفنا غرينــا بيعملهــا هنقــرف منــه ..النــاس أمزجــة وأنــت مزاجــك
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ده مــا وردش عليــا قبــل كــده ،أكيــد مــن الــي أبــوك بيعملــه فيــك ..مــا
ﺯﻳﻊ
141
-صدقنــي معرفــش بعمــل كــده ليــه بــس برتــاح ملــا بعملــه ،وكرهــي
ألبويــا بيزيــد ألنــه بيشــوفني جمــرد قــط جيــرب فيــه...
قاطــع تربيــرايت واكــد يل أن البــر ال يــد هلــم فيــا يكونــون ،وقبــل أن
نعــود إىل احلانــة قــال يل بصــوت هامــس ،ظهــر مــن ورائــه صــوت عــم
كارم وهــو يغنــي «أمانــة عليــك يــا ليــل طــول»:
-املهــم يــا يــارس ..ماحــدش يعــرف الــي بتعملــه ده غــري ،النــاس
لــو عرفــت مرضــك مــش هريمحــوك ..الزم تعمــل لنفســك قانــون
ﻋﺼ
حيميــك منهــم ،وحيــول مرضــك حلاجــة أعظــم بكتــر.
ﲑ ﺍﻟ
***
مل أملــك يف اليومــن التاليــن مــن أمــري إال أن أكتــوي بلعنــة
ﻜﺘ
االنتظــار ،جاءتنــي خالهلــا رســالة مــن زوجــة «كريــس» التــي حاولــت
التواصــل معهــا عــن طريــق حســاب زوجهــا عــى موقــع ..Facebook
ﺐ ﻟﻠﻨ
شــكرتني عــى ســؤايل عــن زوجهــا وأخربتنــي أنــه متغيــب عــن املنــزل
منــذ أيــام ،ســألتها عــن توقيــت اختفائــه حتديــدً ا فعرفــت أنــه كان قبــل
ﺸﺮ
ً
أطفــال اختطــاف زوجتــي وابنتــي بســاعات ..أخربتنــي أن لدهيــا
لرتبيهــم وال تريــد التواصــل مــع أي شــخص كان عــى علــم بنشــاطات
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
مل أشــعر باحلــزن الكبــر عــى اختفــاء «كريــس» بقــدر مــا حزنــت
لفقــداين نقطــة مــن نقــط قــواي .عــاد آدم للحديــث معــي بعــد أن أهنــى
مكاملــة ختــص عملــه اآلخــر ،حــاول مواســايت فمنعتــه عــن ذلــك..
شــعرت بالشــفقة جتاهــه؛ أراه يعــاين مــن مشــاكل ال دخــل لــه فيهــا،
متور ًطــا مــع شــخص مثــي ال تربطــه بــه أي صداقــة ســابقة ،ويتــأمل لفــراق
142
اثنتــن مل يرمهــا يف حياتــه ..كان طي ًبــا بالفطــرة ،أو هكــذا أقنعنــي..
حاولــت تغيــر املوضــوع ،فســألته عــن املتاعــب التــي ســببها لــه
شــكله الوســيم ..حدثنــي عــن عملــه الســابق قبــل أن يمتهــن اخــراق
احلواســب؛ كان يعمــل «كوافــر» يف مركــز جتميــل ،مل أندهــش حــن
الحظــت مهارتــه يف تصفيــف شــعره الطويــل امللمــوم ألعــى ،أخــرين
عــن نســاء قدمــن أنفســهن إليــه بــا قيــد أو رشط ،رفضهــن مجي ًعــا ألجــل
فــروز قبــل أن تســافر ،وجــدد رفضــه بعــد أن هجرتــه؛ احرتا ًمــا لنفســه
ﻋﺼ
ولذكراهــا ..حدثنــي عــن فــرة التديــن التــي مــر هبــا بعــد وفــاة أهلــه،
واحتياجــه للشــعور بوجــود الراعــي الــذي يصلــح لــه نفســه ،وهيــون
ﲑ ﺍﻟ
عليــه سلســال الفــراق ..مل أعلــق فســألني عــن توجهــايت الدينيــة ..أجبته:
ﻜﺘ
-أنــا مؤمــن بــرورة وجــود الرقيــب ،وإيــان النــاس بوجــود اليــد
العليــا املســيطرة عــى كل يشء؛ عشــان احليــاة تســتقيم ..واملفهــوم ده لــو
ﺐ ﻟﻠﻨ
بيقــول «ال بــد مــن وجــود اهلل مــع اثنــن :خادمــي حتــى ال يرسقنــي
ﺯﻳﻊ
143
-مــروك يــا كونــت ،يزيــد الصــاوي اعــرف ..ومحــزة باشــا مبســوط
منك .
شــاعرا باالرتيــاح ،وقــد تســلل شــبح البســمة عــى وجــه
ً زفــرت
ً
متســائل: آدم ..أكمــل اخلاطــف حديثــه
-لو خالفت أوامري بعد كده ..هتحبني أبدأ بغرام وال بمليكة؟
مل أجــد ر ًدا إال أن أصــب عليــه جــم غضبــي ،أطلقــت يف وجهــه
الكثــر مــن اللعنــات ..كنــت قــد قــرأت يف إحــدى قصــص الرعــب
ﻋﺼ
عــن ذلــك املجــرم الــذي خـ َّـر أ ًبــا بــن ولديــه حتــى يقتــل أحدمهــا بـ ً
ـدل
ﲑ ﺍﻟ
مــن قتــل االثنــن ،وحــن اختــار األب قتــل أحــد االبنــن بصعوبــة ،قــام
املجــرم بقتــل االبــن الــذي مل يتــم اختيــاره ..تــاركًا األب مــع ابنــه األقــل
ﻜﺘ
تفضيـ ًـا ،والــذي ســيعيش بقيــة حياتــه ســاخ ًطا عــى أبيــه.
حــن هــدأ ســبايب وطــال صمتــي ،أدرك أن هتديــده قــد وصلنــي
ﺐ ﻟﻠﻨ
جيــدً ا ،وأننــي أصبحــت ملــك يديــه رغـ ًـا عنــي ..أكمــل حديثــه بصوتــه
األجــش املنبعــث مــن برنامــج تغيــر الصــوت وبلهجــة عمليــة:
ﺸﺮ
-كــده احنــا صفينــا رصاع مهــم يف حيــاة الكونــت ،لســه رصاع أهــم
ﻭ
144
-10عجلة الزمن
ﻋﺼ
أدركت اآلن نعمة امتالك القرار ،و ال ُقدرة عىل ْ
قول «ال».. ُ
مل يفهــم أي مــن زمالئــي يف الكليــة ســبب حصــويل عــى منحــة الســفر
ﲑ ﺍﻟ
برفقــة البعثــة املتوجهــة إىل أمريــكا ،واحلقيقــة أننــي ً
أيضــا مل أفهــم كيــف
ﻜﺘ
حــدث هــذا ..أخربهــم الدكتــور املســئول عــن ترشــيح الطلبــة أنــه وضــع
اســمي ضمــن املمتحنــن مــن بــاب «كاملــة العــدد» ،مل أكــن مــن املتميزيــن
ﺐ ﻟﻠﻨ
يف جمــال امليكانيــكا ،ومل أصبــح كذلــك فيــا بعــد ..مخــن البعــض أننــي قــد
نجحــت يف امتحــان البعثــة بســبب تشــابه األســاء مــع «يــارس الكنعــاين»
ﺸﺮ
عــى الســكارى ملــا تبقــى مــن عمــري ..لكننــي أجلــت التفكــر حــن
ظهــرت «والء» يف مرمــى بــري.
كانــت «والء» مرحلــة رضوريــة يف حيــايت لتجــاوز فــرة اجلامعــة،
وإلرضــاء هرمونــايت املراهقــة ..أومهنــا بعضنــا باحلــب ،وبتحــدي
الظــروف واملجتمــع وكل هــذا اهلــراء ..حددنــا مواصفــات عــش
145
زواجنــا الــذي لــن حيــدث ،واخرتنــا أســاء أطفــال لــن يأتــوا ،رســمنا
هلــم مســتقبلهم دون أن نملــك يف مســتقبلنا شــي ًئا.
كانــت كأي «والء» أخــرى ..مخريــة البــرة ،ممتلئــة اجلســد والوجــه،
ال تــكاد تعــرف مالحمهــا احلقيقيــة مــن وراء قناعهــا التجميــي ،تضــع
قــاس ..تشــهد خصــات ٍ ٍ
جــاد رخيصــا يــؤمل األنــف كســوط عطــرا
ً ً
شــعرها املصبوغــة باألصفــر واهلاربــة مــن حجاهبــا «الفرانكــو» بــرداءة
ذوق ال حــد هلــا..
ﻋﺼ
مل تعــرف لنفســها هويــة حمــددة؛ هــي خليــط مــن عــدة ثقافــات ،ابنــة
هجينــة ملجتمــع متناقــض ..كانــت «نص ًفــا» يف كل يشء؛ نصــف تف ُّتــح،
ﲑ ﺍﻟ
نصــف عفــة ،نصــف رشقــي ،نصــف غــريب ،نصــف قلــب ونصــف
ﻜﺘ
روحــا ضالــة ال جتــد مــا يتمهــا.
عقــل ..كانــت ً
ـارا ،وحتــب أحدهــم ليـ ًـا ،وتتــزوج مــن آخــر يف تســب الرجــال هنـ ً
ﺐ ﻟﻠﻨ
كان هــذا ردهــا عــى حتيتــي هلــا ،مل أجــد مــا أقــول ،ســحبتها مــن
ﻭ
ذراعهــا بعيــدً ا عــن الزمــاء الذيــن كانــوا حيتفلــون بنهايــة العــام الــدرايس
ﺍﻟﺘﻮ
قبــل األخــر هلــم يف الكليــة ..توجهنــا نحــو أحــد اجلنائــن القريبــة مــن
ﺯﻳﻊ
146
-أنا متقدم يل عريس..
-ربنا يعينه.
أطلقــت ســبة ال تتناســب مــع حالــة الرقــة التــي أجــادت تزييفهــا
فيــا ســبق ،مل تعتــد أن ُير َفــض هلــا طلــب ..قلــت هلــا أن أباهــا لــن يــرىض
بشــخص مثــي؛ أمــه هاربــة ،يقــي يومــه بــن الكليــة واحلانــة التــي
يســكر فيهــا أبــوه الــذي بــاع كل مــا يملــك يف ســبيل مزاجــه ..زيفــت
صدمتهــا يف كالمــي وقالــت:
ﻋﺼ
-بس أنت قولت يل إن البعثة ممكن تغري حياتك!
ﲑ ﺍﻟ
-مافيــش حاجــة هتتغــر ..ال البعثــة هاترجــع يل أمــي ،وال هاختلــص
أبويــا مــن وســاخته ..وال هتغــر نظــرة أبوكــي ليــا ..أنــا هخلــص بعثتــي
ﻜﺘ
وأرجــع أعيــش يف مــكان جديــد ماحــدش يعرفنــي فيــه.
-يارس أنت مش باقي عىل اليل بيننا؟
ﺐ ﻟﻠﻨ
بعضــا مــن معانــايت ،لكــن القواعــد -التــي ســاعدين كنــت أقــص عليهــا ً
« عــاء الديــن» يف وضعهــا -منعتنــي مــن احلديــث عــا كان يفعلــه أيب
بجســدي مــن حــن كنــت طفـ ًـا ،وال األثــر الــذي تركــه ذلــك العنــف
بنفــي ،وجعلنــي أمــارس نفــس التنكيــل باحليوانــات التــي ال متلــك مــن
ـت مــن إحــدى اجلــارات التــي كانــت أمرهــا شــي ًئا ..مل أخربهــا أننــي علمـ ُ
147
عــى اتصــال بأمــي أهنــا انتحــرت بعــد فــرة وجيــزة حــن أغلقــت مجيــع
األبــواب يف وجههــا وحــن مل جتــد يف روحهــا متسـ ًعا للمزيــد مــن لطــات
احليــاة.
حاولــت أن جتعــل االنفصــال صع ًبــا عــي ،لكنهــا مل تنجــح؛ عــى
العكــس فقــد زادت متعتــي حــن قلبــت الطاولــة عليهــا قبــل أن تبــادر
هــي باملثــل .كان اليــوم مميـ ًـزا فلــم أرغــب يف العــودة إىل زنزانــة الطائــي
باكـ ًـرا ،أرســلت رســالة نصيــة مــن هاتفــي العتيــق لعــاء الديــن ،برشتــه
ﻋﺼ
بقبــويل يف البعثــة.
ﲑ ﺍﻟ
متشــيت عــى كورنيــش النيــل حتــى آملتنــي قدمــاي ،رســمت أحال ًمــا
ﻜﺘ
كثــرة ملــا يمكننــي فعلــه يف بلــد احلريــة ،والتغيــر الــذي ستشــهده
ً
حامــا الزمالــة مــن هنــاك ،مل أحلــظ أننــي أحــدث حيــايت حــن أعــود
عــال إال حــن نطقــت اســمي مســبو ًقا بلقــب «البــاشٍ ٍ
بصــوت نفــي
ﺐ ﻟﻠﻨ
كانــت هــذه أول ليلــة يطلــب فيهــا « عــاء الديــن» منــي أن أتــرك أيب
ﺍﻟﺘﻮ
يعــود للمنــزل بمفــرده ،انتظــرت حتــى غــادر آخــر زبــون وبــدأ العاملــون
ﺯﻳﻊ
يف الرحيــل بعــد أن تقاضــوا أجرهتــم اليوميــة مــن مالــك احلانــة ،وقــد
خصــم منهــم مــا رشبــوا مــن اخلمــر..
مل أركــز كثـ ً
ـرا مــع موســيقى «اجلــاز» املنبعثــة مــن مســجل الصــوت
الــذي يعمــل فــور رحيــل «عــم كارم» ..نظــرت إىل التقويــم املعلــق عــى
حائــط احلانــة يشــر إىل بدايــة شــهر يوليــو مــن عــام ..2009عــاودت
148
التفكــر يف احللــم األمريكــي ،ختيلتنــي يف هيئتــي اجلديــدة؛ ال أرتــدي إال
املالبــس باهظــة الثمــن ،وأمــارس الرياضــة بانتظــام ألحصــل عــى بنيــة
قويــة ،فأثــر اإلعجــاب أينــا حللــت؛ ختيلتنــي وقتهــا يف حــال أقــرب إىل
حــال «الكونــت» اآلن مــع اختــاف الطمــوح واألهــداف.
عــدَّ ل عــاء الديــن مــن مالبســه واض ًعــا قميصــه الفضفــاض داخــل
بنطلونــه ،ربــط حزامــه حــول بطنــه كاملعتــاد ،وقــف مــكان الســاقي
لرتتيــب األكــواب والزجاجــات املتناثــرة فوقــه بعــد ليلــة طويلــة ،أشــار
ﻋﺼ
نحــوي كــي أقــرب ألجلــس أمــام «البــار» بالقــرب منــه ،كانــت هــذه
البقعــة املفضلــة للطائــي ..ســأفتقد ابتســامة عــاء الديــن التــي ال يبخــل
ﲑ ﺍﻟ
هبــا عــى أحــد ،ســأفتقد تق ُّبلــه التــام لــكل مــا أفعــل ،وكأنــه قــد قــرأ
ﻜﺘ
أفــكاري فقــال:
-دي آخر قعدة هنقعدها مع بعض..
ﺐ ﻟﻠﻨ
قلــت لــه أننــي ســأعود فــور انتهــاء الدراســة ،قاطعنــي بإشــارة مــن
يــده ،قــال دون أن يفقــد ابتســامته التــي هبتــت قليـ ًـا:
ﺸﺮ
-ملــا ترجــع مــش هتالقينــي ..بينــي وبينــك يــا يــارس أنــا خــاص
اكتفيــت مــن الدنيــا ..والــواد ابنــي وحشــني.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ارجتــف جســدي حــن ســمعت مــا قــال ،أخــرين أنــه اشــتاق لــكل
ﺯﻳﻊ
149
-خلينــا نتكلــم جــد يــا يــارس ..أنــا حوشــت لــك قرشــن مــن مرتبــي
عشــان تســافر بيهــم ،ولــو نــاوي تــودع أبــوك ودعــه علشــان مــش
هتشــوفه تــاين.
-تفتكر هيكون مات قبل ما أرجع؟
نظــر حولــه ً
قليــا ،انتظــر حتــى ابتعــد عنــا أحــد العاملــن باحلانــة
هامســا:
ً الــذي كان جيمــع املقاعــد لتنظيــف األرضيــة ،قــال
هأرجــع ألبــوك باقــي حســابه الــي عندنــا؛ عىل أســاس
َّ -ليلــة ســفرك
ﻋﺼ
إننــا بنعمــل جــرد للخزنــة وخايفــن فلوســه تتلخبــط مــع فلــوس البار..
ﲑ ﺍﻟ
اتسعت عيناي باهتامم ملا يقول ،أكمل حديثه ً
قائل:
-هخليــه يقعــد حلــد مــا نشــطب بــأي ِحجــة ،هتيجــي أنــت ترضبــه
ﻜﺘ
وتاخــد الفلــوس تســافر بيهــا ..وماترجعــش هنــا تــاين مهــا حصــل.
ﺐ ﻟﻠﻨ
سألته بقلق:
-طب وهو هيرصف منني؟
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
150
حاولــت أشــتغل يف كــذا صنعــة بــس مالقيتــش نفــي غــر يف البــار ..هــو
املــكان الوحيــد الــي بحــس شــغيل فيــه مالــوش مثيــل ..ولــو ُمــت بكــرة
هكــون متأكــد إن ماحــدش هيقــدر يعمــل نفــس الــي «عــاء الديــن»
بيعملــه.
أكمــل «عــاء الديــن» حديثــه وهــو جيفــف األكــواب بقطعــة نظيفــة
مــن القــاش:
-وقتهــا أبــوك كان لســه جــاي مــن اإلســكندرية ،كان مــن األعيــان
ﻋﺼ
هنــاك بــس ملــا طلــق مراتــه األوالنيــة أهلهــا قطعــوا رجلــه مــن البلــد
ﲑ ﺍﻟ
كلهــا ..اشــراها بفلوســه زي مــا اشــرى العــارة الــي باعهــا بعــد كــده
عشــان مزاجــه ،وزي مــا اشــرى كل حاجــة حواليــه ..عشــان كــده ملــا
ﻜﺘ
شــوفتك حلفــت مــا أخليــه يشــريك أبــدً ا.
حتــرك مــن خلــف «البــار» ،جــذب مقعــدً ا مقرت ًبــا منــي ،التقطــت
ﺐ ﻟﻠﻨ
أنفــي رائحــة احلشــيش مــن بــن أنفاســه ،قــال بنفــس نربتــه اهلادئــة:
-ملــا ترجــع مــن أمريــكا اقعــد يف اإلســكندرية ،وتابــع أخبــار أبــوك،
ﺸﺮ
أعطــاين عنــوان ســلوى مكتو ًبــا يف ورقــة قديمــة ،ميــزت خــط يــد
ﺍﻟﺘﻮ
أمــي فارجتــف جســدي بالكامــل ..وكأنــه قــد فهــم مــا أفكــر فيــه فقــال
ﺯﻳﻊ
ـذرا:
حمـ ً
-انســى االنتقــام ،الــي زي أبــوك أحســن انتقــام منــه إنــك تســيبه يف
احلالــة الــي هــو فيهــا دي ..املــوت راحــة ليــه.
مبتسم:
ً عيل أوامره ..قال
مل أرد كعاديت حني يتلو َّ
-عايزك يف خدمة ..أظن إنك هتحبها..
151
أخــرين أن َ
«تَّــام» النــادل الســوداين كان خيتلــس الكثــر مــن األمــوال
متهيــدً ا لفــراره مــن احلانــة ،ومالــك احلانــة يريــد أن يعــرف مكاهنــا ،أمــر
العاملــن باحلانــة بتقييــده ورضبــه حتــى يعــرف لكنــه رفــض االعــراف،
أكمــل عــاء الديــن حديثــه قائـ ًـا:
-الــواد ده بغــل زي مــا أنــت عــارف ،فمنفعــش معــاه الــرب..
فقولــت يمكــن أنــت تقــدر تعــرف منــه املعلومــة.
ً
سؤال مل أفكر فيه من قبل: سألته
ﻋﺼ
-صحيح ..أنتوا إيه غيتكم يف تشغيل األفارقة؟
ﲑ ﺍﻟ
-بيســتحملوا الشــغل ،وماهلمــش ورق ..فبنشــغلهم بمالليــم ،واليل
ﻜﺘ
مــش عاجبــه احلكومــة بتيجــي ترميــه تــاين يف بلــده.
-بس دي عبودية.
ﺐ ﻟﻠﻨ
رآه ألول مــرة ،أخــره أنــه ولــد يف الســودان ألب ثــري تــزوج أمــه مــن
ﺯﻳﻊ
رسا إىل مــر مــع أحــد وراء أخوالــه ،فقــام أحدهــم بخطفــه وهتريبــه ً
التجــار املرصيــن الــذي عاملــه كالعبــد بعــد أن كان ســيدً ا ابــن ســيدٍ.
ويف مــر مل يعبــأ أحــد لوجــود َ
«تَّــام» ،مل يســأله أحــدٌ عــن أوراقــه
قــط ..عانــى حــن كــر مــن االنتهــاك اجلســدي بكافــة أشــكاله ،حتــى
أصبحــت العبــارات الســاخرة مــن لونــه ومــن بنيتــه الضخمــة آخــر مــا
152
يشــغل بالــه يف رحلتــه للســعي خلــف الــرزق وحماولــة البقــاء ح ًيــا يف
معــزل عــن الطامعــن فيــه..
فــر «متَّــام» إىل احلانــة بعــد أن قتــل أحــد أســياده املتعاقبــن؛ كان
َّ
تاجــرا مــن الصعيــد ،أخــر «عــاء الديــن» أنــه عومــل خــال هــذه ً
حتمــل ،لكنــه
الفــرة كاحليــوان الــذي ال حــق لــه يف احليــاة ،وبرغــم هــذا َّ
مل يتاملــك نفســه حــن ســمع ســيده خلس ـ ًة يتحــدث مــع أصحابــه عــن
إخصائــه خو ًفــا عــى حريمــه منــه.
ﻋﺼ
مل يعــرف متــى أصبحــت حاجاتــه األساســية انتصــارات تفــرض
ﲑ ﺍﻟ
عليــه احليــاة االحتفــال هبــا؛ فيــوم اإلجــازة انتصــار ،والنــوم عــى فــراش
مريــح انتصــار ،وراحــة البــال انتصــار ،نظافتــه الشــخصية انتصــار،
ﻜﺘ
ابتعــاد نظــرات االحتقــار والشــفقة عنــه انتصــار ،حفاظــه عــى كرامتــه
انتصــار ..حتــى نســيان النــاس لــه انتصــار.
ﺐ ﻟﻠﻨ
َ
«تَّــام» أثنــاء عملــه يف احلانــة برغــم جتــاوزه األربعــن مــن العمــر ،فاكتنــز
ﺯﻳﻊ
بعــض املــال واختلــس البعــض اآلخــر مــن خزينــة احلانــة لتوفــر نفقــات
اهلويــة اجلديــدة والســفر ..وحــن قــرر الرحيــل وشــى بــه أحــد العاملــن
باحلانــة عنــد «عــاء الديــن» كــا حــدث مــع أبيــه مــن قبــل.
«تَّــام» كــا توقــع «عــاء الديــن» حــن بــدأ يف مل أشــعر بالشــفقة جتــاه َ
روايــة قصتــه ،كان منظــره خمي ًفــا حتــى وهــو مقيــد بأحــد املقاعــد القديمــة
153
يف الزقــاق املجــاور للحانــة ،امتــأ وجهــه األســمر الالمــع باجلــروح
والكدمــات ،ومل خيـ ُـل مــن نظــرة واهنــة متحديــة ..أقســم بصـ ٍ
ـوت عـ ٍ
ـال
وبلهجتــه الركيكــة عــى أال خيربنــا بمــكان املــال.
اقرتبــت منــه ونظــرت يف عينيــه ليختفــي ذلــك التحــدي مــن عينيــه..
ربــت عليــه بحنــان أثــار دهشــة « عــاء الديــن» وباقــي العاملــن ُّ
قلــت لــه هبــدوء:
ُ املجتمعــن..
-ماختافــش يــا متَّــام ..عــم عــاء حكــى يل كل حاجــة ،وأنــا قــررت
ﻋﺼ
أســاعدك ..أنــا معــاك.
ﲑ ﺍﻟ
التفــت إىل عــاء الديــن ومســاعديه ..قلــت بلهجــة آمــرة مل يعتــد
ُ
أحدهــم ســاعها منــي:
ﻜﺘ
-ق َّلعوه كل حاجة وكتفوه تاين ..وحد جييب يل جوزة الطيب.
هتكم أحد العاملني ً
قائل:
ﺐ ﻟﻠﻨ
مشريا نحو َ
«تَّام»: ً صاح فيه «عالء الدين»
-الــواد ده لــو فضلنــا نرضبــه هنمــوت جنبــه وهــو مــش هينطــق..
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
توفــر يل مــا أردت بعــد ســاعة واحــدة ،بــدأت خيــوط النهــار يف
الظهــور ..صفعــت «متَّــام» عــى وجهــه بعنــف أكثــر مــن مــرة ،كانــت
برشتــه جافــة تعــج بآثــار اجلــروح التــي جتلطــت رسي ًعــا ،ومل يبــدُ عليــه
التأثــر برضبــايت ..أرجعــت رأســه للخلــف ،أنزلــت فكــه بصعوبــة،
وبــدأت أدس كميــات كبــرة مــن «جــوز الطيــب» املطحــون يف جوفــه،
مل متنعنــي مقاومتــه عــن تنفيــذ مــا أحلــم بــه منــذ فــرة ،وال أعلــم متــى
154
ســيتكرر ثانيـ ًة ..كنــت أعلــم أن «جــوز الطيــب» يســبب هــاوس مؤملــة
تدفــع البعــض لالنتحــار يف هنايــة املطــاف ،أرجــع رأســه للخلــف وبــدأ
عــي «عــاء الديــن» ،بــدأ يطلــق رصخــات هيــذي ببعــض ممــا قصــه َّ
ـرارا
طفوليــة ال تتناســب مــع شــكله وحجمــه ،حتــول بيــاض عينــاه امحـ ً
ودخــل يف نوبــة مــن البــكاء الطويــل؛ نــادى عــى أبيــه وأمــه ،وبــدأ يترضع
خلالقــه ،مل أفهــم الكثــر مــن حديثــه ألنــه كان هيــذي بلهجتــه األم التــي
ظننتــه قــد نســاها ..أصــدر الكثــر مــن األصــوات املبهمــة ،مل أتوقــع
ﻋﺼ
أن يظهــر منــه هــذا الوجــه ..تالقــت عينانــا مــرة واحــدة فبــدا الرعــب
ـي،
عليــه وازداد نحيبــه ،أظنــه الحــظ نظــرة االســتمتاع املطلــق الباديــة عـ َّ
ﲑ ﺍﻟ
ركعــت أمامــه عــى األرض كاشــ ًفا وجهــي للســاء ،أطلقــت صيحــة
ﻜﺘ
قصــرة ..مل أشــعر يف حيــايت بالســيطرة كهــذه اللحظــة ،إن أردت قتــل
«تَّــام» اآلن فلــن يلومنــي أحــد ،لكننــي ال أريــد قتلــه ..أحتــاج أن أرى َ
ﺐ ﻟﻠﻨ
قــويت يف عينيــه؛ فأشــاهد مــا أوجدتــه فيــه مــن هلــع ،أن أملــس روحــه
املتأملــة؛ التــي ال جتــد غــري لتلــوذ بــه.
ﺸﺮ
ـت األثــر الذي يرتكــه داخيل؛مل أحــب يو ًمــا األمل لذاتــه ،ولكننــي أدمنـ ُ
نظــرات التوســل وصيحــات الرجــاء ،التــي ينبعــث القهــر منهــا ،منحنــي
ﻭ
ً
ملكيــة متكننــي مــن التحكــم يف حيواهتــم ،أنــا مــن يضــع قواعــد اللعبــة،
ﺯﻳﻊ
وأنــا مــن يامرســها ،أنــا صاحــب اليــد العليــا التــي ســتقرر مصائرهــم.
دخلــت احلانــة بعــد أقــل مــن نصــف الســاعة ،مل أجــد إال مالــك احلانة
و»عــاء الديــن» وأحــد الســقاة ..أخــرت املالــك بمــكان األمــوال،
وطلبــت منــه أن يأخــذ حقــه فقــط ..قــال «عــاء الديــن»:
-عايز تسيب له فلوسه؟ ِص ِعب عليك؟
155
قلت وأنا أغادر احلانة بعد يو ٍم طويل:
-ال ..بس فلوسه دي أتعايب.
***
انقطــع تدفــق ذكريــايت حــن اتصــل يب اخلاطــف ..طلبــت منــه أن
ـي عنــوان متَّــام ،أمــرين أســمع صــوت غــرام أو مليكــة ..فرفــض ممل ًيــا عـ َّ
أن أذهــب إليــه يف احلــال ،قــال أننــي لــن أصــدق مــا آل إليــه حالــه ،كان
جالســا إىل جــواري يف «غرفــة العمليــات» بشــقته التــي أصبحــت ً آدم
ﻋﺼ
مقرنــا املؤقــت ،مل يعــرف «املجهــول» بعــد قــدرات اخلواجــة ،الــذي
ﲑ ﺍﻟ
حــاول تتبــع املكاملــة لكــن «املجهــول» كان قــد حجبهــا متا ًمــا هــذه املــرة.
«تَّــام» قبــل الذهــاب إىل العنــوان، طلبــت منــه أن يقــوم بالتقــي عــن َ
ﻜﺘ
فأخــرين بعــدم جــدوى البحــث؛ فبالتأكيــد لــن تصمــد َهويتــه طيلــة
هــذه الســنوات ..أخربتــه أن يســتعد حتــى يذهــب معــي إىل َ
«تَّــام»
ﺐ ﻟﻠﻨ
الــذي اقــرب عمــره اآلن مــن الســتني ..مل يكــن عــى مــا يــرام؛ يتحــدث
بنصــف عقــل ،الحظــت عليــه الــرود التــام ..ســألته عــن ســبب نظراتــه
ﺸﺮ
156
رأيــت عــى وجهــه للمــرة األوىل ابتســامة حقيقيــة ،مل يــرد ..أخــرين
ـاخرا:
أنــه ســعيد إلقامتــي لديــه ،علــق سـ ً
-بــس لــو تبطــل هــوس الرتتيــب بتاعــك ده ..يعنــي الزم كل حاجــة
تكــون يف مكاهنــا؟!
-اسمه OCDيا أجهل خلق اهلل ..بعدين النظام حلو.
كانــت ضحكاتــه قصــرة ومزيفــة ،أعــدت ســؤاله مــرة أخــرى عــن
ســبب حزنــه الــذي مل يســتطع إخفــاءه ..طلــب منــي أن أرافقــه إىل غرفــة
ﻋﺼ
نومــه ،أعطــاين مل ًفــا ورق ًيــا ،بعــد أن جلــس عــى فراشــه قائـ ًـا:
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ -تعرف تقرأ نتيجة التحليل ده؟
أجبته بصدق:
-لألسف ال ..بس ممكن نروح لدكتور...
ﺐ ﻟﻠﻨ
قاطعني ً
قائل بعد أن استلقى عىل فراشه:
-أنا عرفت النهارده الصبح نتيجة التحليل..
ﺸﺮ
157
-11رحيل
ﻋﺼ
مل أتوقع أن تُزهق األرواح هبذه الرسعة..
مل نتحــدث بخصــوص مــرض «آدم» ثاني ـ ًة طــوال الطريــق إىل بيــت
ﲑ ﺍﻟ
َ
«تَّــام» اجلديــد يف «إمبابــة»؛ بحثــت عــن عبــارات بــث األمــل واملواســاة
ﻜﺘ
يف قامــويس ،فلــم أجــد.
نبهتــه إىل عــدَّ اد الوقــود الــذي كاد يقــرب مــن الصفــر ،فتوقــف عنــد
ﺐ ﻟﻠﻨ
أول حمطــة بنزيــن ،دخلــت اســراحة املحطــة ألبتــاع زجاجــة ميــاه .عدت
إىل آدم الــذي كان حياســب عامــل املحطــة ،انطلقنــا بالســيارة لتغــادر
ﺸﺮ
مــا يفيــد ..أثــارت ســرة «كريــس» الكثــر مــن ذكريــايت معــه إ َّبــان بعثتــي
يف جامعــة Wayne stateبواليــة ميشــيغان..
حــذرين بعــض الزمــاء مــن الذهــاب إىل هــذه اجلامعــة حتديــدً ا؛
لوجودهــا يف مدينــة «ديرتيــوت» ..فربغــم كوهنــا مــن أكــر جتمعــات
العــرب ،إال أن نســبة اجلريمــة هنــاك مرتفعــة لكثــرة عصابــات الســود..
158
عــي رشوط البعثــة.
لــدي خيــار آخــر بعــد مــا فرضتــه ّ
َّ لكــن مل يكــن
كان «كريــس» رشيكــي يف غرفــة ســكن الطــاب ،مل يمــر الكثــر
مــن الوقــت حتــى أصبحنــا رفقــاء ،أخــرين كل يشء عنــه ،مل حيــب
دراســة اهلندســة مثــي ،كان عبقر ًيــا يف التعامــل مــع أجهــزة الكمبيوتــر
منــذ صغــره ،أتــى بــه أهلــه إىل هــذه اجلامعــة البعيــدة عــن واليتــه األم
فــرارا مــن إحــدى عصابــات املخــدرات التــي تــورط يف ً «فلوريــدا»؛
العمــل خمرت ًقــا لدهيــا ،كان خيــرق أجهــزة الرشطــة ليعــرف العمليــات
ﻋﺼ
التــي تــم رصدهــا فيبلغهــم هبــا ..وحــن قــرر االنســحاب أدرك أن حياتــه
هــي الثمــن الوحيــد خلروجــه مــن هــذه اللعبــة.
ﲑ ﺍﻟ
يف البدايــة جتنبــت اإلجابــة عــن ســؤال «كريــس» بخصــوص
ﻜﺘ
ـي ثالثــة أشــهر، الكوابيــس املتكــررة التــي تأتينــي ليـ ًـا ،كان قــد مـ َّـر عـ َّ
ـت َخ َفــت انبهــاري بالتقــدُّ م احلضــاري والتكنولوجــي ..كنــت قــد أقلعـ ُ
ﺐ ﻟﻠﻨ
متا ًمــا خــال هــذه الفــرة عــا كنــت أفعلــه باحليوانــات وطبقتــه يف َ
«تَّــام»
أعراضــا
ً أدركــت أن النســحايب هــذا ُ خو ًفــا مــن احلبــس أو الرتحيــل،
ﺸﺮ
ـرا مــن تفكــري ..فتــار ًة أحلــم بعبــد مؤملــة ،احتــل املوضــوع جــز ًءا كبـ ً
ـي وحشــيته التــي مل أفهــم ســب ًبا هلــا ،وتــار ًة احلــي الطائــي وهــو ينفــذ عـ َّ
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ً
أفضــل أحواهلــا مــن األســاس.
ـرا قبــل أن أفــي بــري لــه ،لكــن بســاطة «كريــس» وعدم تــرددت كثـ ً
قــدريت عــى التعامــل مــع األمــر بمفــردي شــجعاين عــى البــوح ..مل خي ّيــب
ظنــي ،أخــرين أنــه ال جيــد مشــكلة فيــا أفعــل ..أحببــت فيــه تقبلــه جلميــع
عرفنــي عــى زمالئــي مــن اجلاليــة العربيــة..مــن حولــه ،حتــى أنــه مــن َّ
159
كان حمــط إعجــاب لكثــر مــن الفتيــات بســبب وســامته ومالحمــه
الرشقيــة ،كان بعضهــن يشــبهه بـــ»آل باتشــينو» ،أحببــن ذكاءه ومتــرده
الدائــم عــى نظــام التعليــم ،فلــم أخــره بوضــع التعليــم يف مــر حتــى
ال يقتــل نفســه.
عــي أنلــدي ،اقــرح َّ َّ أخــرين بخطــورة انكشــاف الشــهوة التــي
أمارســها يف اخلفــاء ،لفــت نظــري إلمكانيــة حتويلهــا إىل عمــل يــدر
دخـ ًـا ،أنشــأ يل حســا ًبا عــى اإلنرتنــت املظلــم الــذي اعتــادت العصابــات
ﻋﺼ
األمريكيــة اســتخدامه آنــذاك يف تســيري أعامهلــا ..بــدأ معــي يف تأســيس
ـيهويتــي اجلديــدة التــي ســأفرغ مــن خالهلــا شــحنايت الســلبية ،اقــرح عـ َّ
ﲑ ﺍﻟ
أن ألقــب نفــي «املاركيــز» ،كنــت أعلــم أهنــا ثــاين مراتــب النبــاء ،لكنــي
ﻜﺘ
مل أفهــم مدلــول اللقــب بالنســبة حلالتــي ..أخــرين أنــه نســب ًة إىل «املاركيــز
دي ســاد»؛ األرســتقراطي الفرنــي الــذي اشــتق لفــظ «الســادية»
ﺐ ﻟﻠﻨ
مــن اســمه ،كانــت كتاباتــه تعكــس الكثــر عــن حياتــه التــي امتــأت
ـرورا بتأجــره جمو ًنــا وعن ًفــا ..بداي ـ ًة مــن عالقتــه مــع شــقيقة زوجتــه ،مـ ً
ﺸﺮ
للعاهــرات حتــى يــارس عليهــن عنفــه الــذي مل يضــع حــدً ا لــه ،انتهــا ًء
بالعديــد مــن الكتابــات التــي وصفــت كأبشــع مــا يكمــن داخــل النفــس
ﻭ
البرشيــة..
ﺍﻟﺘﻮ
يــاق اللقــب إعجا ًبــا منــي يف البدايــة ،اقرتحــت لقبــي احلــايل ِ مل
ﺯﻳﻊ
«الكونــت» ألنــه قريــب مــن حيــث املعنــى ،وأكثــر ألفــة عــن «املاركيــز».
ومــع الوقــت بــدأت تأتينــي املهــات واحــدة تلــو األخــرى يف أمريكا،
مل أرتكــب نفــس خطــأ «كريــس» يف بدايــة عملــه باإلفصــاح عــن هويتــي
احلقيقيــة؛ حتــى أنســحب وقتــا شــئت ،اتســع نشــاطي هنــاك ،وازدادت
خــريت بعــد الكثــر مــن العثــرات واألخطــاء املهنيــة؛ حتــى ملــع اســم
160
كونــت ثــروة
«الكونــت» يف «ميشــيغان» وبعــض الواليــات املجــاورةَّ ،
حقيقيــة مكنتنــي مــن رشاء مقــري احلــايل يف مــر ..كان «كريــس»
حيصــل عــى ُربــع مــا أجنيــه مقابــل محايتــه اإللكرتونيــة هلويــة «الكونــت»،
االتفــاق الــذي اســتمر حتــى حلظــة اختفائــه واختطــاف غــرام ومليكــة..
نبهنــي آدم القرتابنــا مــن وجهتنــا التــي دلنــا عليهــا ذلــك «املجهــول»
جحيــا ..اتصــل اخلاطــف ً الــذي غــر مســار حيــايت متا ًمــا ،وحوهلــا
بعــد دقائــق ليخــرين بالعنــوان تفصيـ ًـا ،أمــرين أن أســأل عــن «مســمط
ﻋﺼ
املعلــم إدريــس» ..وحــن استشــف منــي عــدم الفهــم أخــرين بصوتــه
ﲑ ﺍﻟ
«تَّــام» حــن غــادر البــار عمــل يف مســمط متتلكــه إحــدى اإللكــروين أن َ
العجائــز املتصابيــات ،أعجبــت بفحولتــه وقــررت الــزواج منــه ليمــي
ﻜﺘ
معهــا آخــر أيامهــا ،كانــت وحيــدة بــا أهــل فوافــق حتــى يرثهــا فيــا
بعــد؛ كان يعلــم أنــه اقــرب مــن اخلمســن وقدرتــه عــى العمــل الشــاق
ﺐ ﻟﻠﻨ
ســترتاجع بالتدريــج ،وقــد كان لــه مــا أراد ..مل يتزوج بعدهــا ومل ينجب..
ﺸﺮ
اعتــزل احليــاة يف مطعمــه ويف بيــت أرملتــه ،بعــد أن ختــى متا ًمــا عــن حلــم
الثــأر ..وقبــل أن أســأله عــن املزيــد مــن التفاصيــل أهنــى املكاملــة.
ﻭ
ناظــرا نحــو البيــوت التــي أخرجــت رأيس مــن زجــاج ســيارة آدم
ﺍﻟﺘﻮ
ً
اتســمت بالبســاطة ،فتحــت الشــباك سـ ً
ـائل أحــد األطفــال ،الــذي كان
ﺯﻳﻊ
عار ًيــا مــن األســفل ،عــن مــكان املســمط ،فتظاهــر بالبالهــة حتــى
أعطيتــه ورقــة مــن فئــة العرشيــن ً
جنيهــا ،ابتســم وأخــرين العنــوان
ـرا ال يالئــم شــكل املنطقــة ،ترجلــت مــنبالتفصيــل ،كان املســمط كبـ ً
الســيارة ،تناولــت حبتــن مــن «البرياســيتام» ،وطلبــت مــن آدم أن يــرك
ً
مشــغل وينتظــرين.. حمــرك الســيارة
161
ســألت النــادل الوحيــد باملســمط عــن مــكان إدريــس ..نظــر يل
مصححــا ،أن «املعلــم إدريــس» جيلــس أمــام مكتبــه يف ً مســتنكرا ور َّد
ً
ـت حيــث أشــار العامــل ،كان املــكان نظي ًفــا ينبعــث هنايــة املســمط ..حتركـ ُ
ملحــت إدريــس؛ مل يتغــرُ مــن مطبخــه الكثــر مــن الروائــح الشــهية،
انكامشــا وظهــرت بعــض احلســنات ال ُبنيــة ً كثــرا ،ازداد وجهــه ً شــكله
أســفل عينــه ..مل يلتفــت نحــوي ،كان ينهــر أحــد العاملــن بلهجتــه التــي
أصبحــت مرصيــة متا ًمــا ،أشــار لــه ناحيــة أحــد الطــاوالت التــي قــام مــن
ﻋﺼ
عليهــا الزبائــن ومل ُتنَ َظــف بعــد ..فتحــرك العامــل رسي ًعــا ليزيــل بقايــا
العظــام والبقدونــس املتناثــر عــى الطاولــة ،ويعيــد مــلء كــوز املــاء..
ﲑ ﺍﻟ
كانــت احلركــة رسيعــة والزبائــن كثرييــن ،توجهــت نحــو إدريــس
ﻜﺘ
ـوات رسيعــة ،كان يتنــاول حبــوب الفــول الســوداين دون أن يركــز بخطـ ٍ
كثــرا مــع مــا يــدور حولــه ..مــددت لــه يــدي بثقــة ،جلســت أمامــه ً
ﺐ ﻟﻠﻨ
شــعرت بارجتــاف قدمــه حــن ســمع اســمي ،رد بلهجــة حــاول أن
جيعلهــا قويــة:
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
قلــت لــه هبــدوء أننــي ال أعــرف هويــة هــذا املتصــل ،وال أدرك ســبب
قدومــي إىل هنــا ..ضحــك ضحكــة طويلــة ،فــرت مــن عينــه دمعــة،
أخفاهــا بجلبابــه الزيتــي ..تذكــرت مظهــره القديــم وقــت أن كان يرتدي
فضفاضــا أبيــض اللــون وبنطلــون «جينــز» ..جتهــم يف وجهــي، ً ز ًيــا
نــادى أحــد العاملــن الــذي بــدا كذراعــه األيمــن ،مهــس يف أذنــه ببضــع
كلــات ..فــراح العامــل يطــرد اجلالســن باملســمط هــو وزمــاؤه اخلمســة
162
دون اعــراض ُيذكــر مــن الزبائــن ،أغلقــوا بــاب املســمط ووقفــوا مجي ًعــا
خلفــي .قــال هلــم َ
«تَّــام» بلهجــة حازمــة:
-اقتلوه.
***
فرحــا بتحقيــق العدالــةدخــل املقــدم محــزة درويــش شــقته يدنــدن ً
والوصــول ملخــزن الســاح اخلــاص بيزيــد الصــاوي الــذي نجحــت معــه
طريقــة «الكونــت» ،فجــن جنونــه حتــى كاد ينتحــر يف حمبســه بعــد أن
ﻋﺼ
أجــل التفكــر يف اإليقــاع بالعقــل املدبــرأصابــه الشــك يف كل مــن حولــهَّ ،
ﲑ ﺍﻟ
املتحكــم يف هــذه العصابــة لليــوم التــايل ..فكــر يف طريقــة لالحتفــال
فخــورا ..اتصــل برقــم
ً أخــرا ســينظر إىل املــرآة بإنجــازه يف احليــاة،
ﻜﺘ
ً
مســجل لديــه باســم «دكتــور ســعد» ليخــره باســتعداده لعمــل عمليــة
ـرا ..فــرب «ليــزك» الســتعادة حــدة بــره التــي أخــذ منهــا الزمــن كثـ ً
ﺐ ﻟﻠﻨ
زواجــه ضمــن متــاع البيــت ،تذكــر مــزاح أبيــه قبــل الــزواج حــن قــال لــه
«يكفيــك ُجــرم الــزواج ،فحــاول أال تقــرف جر ًمــا آخــر باإلنجــاب»..
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
لكــن مــا مل يتوقعــه أن يســخر القــدر منهــا وحيرمــه مــن اإلنجــاب ..يف
ﺯﻳﻊ
البدايــة وعدتــه زوجتــه بالصــر والســعي بح ًثــا عــن عــاج لعقمــه الــذي
أمجــع األطبــاء عــى اســتحالة شــفائه ،ومــع الوقــت فــر تعاطفهــا جتاهــه،
ســيطرت عليهــا الغريــزة األنثويــة الباحثــة عمــن تعتنــي بــه حتــى يكــر
أمــام عينيهــا ..عــرض عليهــا الطــاق متمن ًيــا أن ترفــض وجتــدد حبهــا
لــه ،لكــن هــذا مل حيــدث.
163
طــرد مــن رأســه هــذه الذكريــات املؤملــة ،اتصــل بأحــد املطاعــم
الشــهرية طال ًبــا منهــم إحضــار وجبــة عشــاء دســمة؛ مل يامنــع بالقليــل
مــن أمل القولــون ،اتصــل بأقاربــه يف قريتــه باملنوفيــة ،وأخربهــم بنيتــه
يف زيارهتــم ،طلــب منهــم أن ينظفــوا لــه بيتــه الريفــي الــذي ورثــه
عــن أبيــه ..نظــر لنفســه يف مــرآة احلــام ،الحــظ فقدانــه الكثــر مــن
الــوزن واســتعادته جــز ًءا مــن شــبابه؛ ففكــر يف البحــث عــن زوجــة
جديــدة أو حتــى التصالــح مــع مطلقتــه ،لكنــه اكتشــف أن مثــل هــذا
ﻋﺼ
األمــر ســيعطله عــن مهمتــه اجلديــدة يف حماولــة إصــاح املجتمــع،
وقــد يكشــف هويــة «امليــزان» ،فعــدل عــن الفكــرة ..خــرج مــن احلــام
ﲑ ﺍﻟ
مصفــرا بلحــن عشــوائي...
ً
ﻜﺘ
ـخصا ال يعرفــه ،كان نحيـ ًـا قصــر
تســمر مكانــه حــن وجــد أمامــه شـ ً
القامــة ،وقــف أمــام محــزة هبــدوء يف بدايــة الردهــة املظلمة ،مل يعــرف محزة
ﺐ ﻟﻠﻨ
متــى دخــل هــذا املقتحــم؛ كان يرتــدي األســود وينظــر حلمــزة بثبــات..
مل يســمع محــزة صو ًتــا يف حياتــه ثانيـ ًة بعــد الطلقــة املكتومــة الصــادرة عــن
ﺸﺮ
***
ﺍﻟﺘﻮ
مل أظهــر فزعــي مــن منظــر رجــال «متَّــام» ضخــام اجلثــث ،رفــع
ﺯﻳﻊ
164
لــدي ألخــره ،ظهــر الفــزع عــى وجــه َّ صحــت فيهــم أن ال يشء
َ
«تَّــام» وطلــب منــي اهلــدوء ،تراجــع رجالــه أمامــي ..أمرهتــم أن يلقــوا
أرضــا وأن يفرغــوا مــا يف جيوهبــم أمــام قدمــي؛ كان بحــوزةأســلحتهم ً
أحدهــم مفتــاح دراجــة ناريــة فركلتــه بعيــدً ا بحذائــي ..طلبــت منهــم
الرتاجــع بجــوار معلمهــم يف هنايــة املســمط ،هددهتــم إن اتبعنــي أحــد
فســأفجر اجلميــع..
بعــض مــنٌ طلبــت مــن آدم التحــرك رسي ًعــا ،اعــرض طريقنــا
ﻋﺼ
جــران إدريــس ،لكــن آدم فــر منهــم بمهــارة ،كانــت احلــارة ضيقــة لكــن
ﲑ ﺍﻟ
اخلواجــة كان ســائ ًقا ماهـ ًـرا عــى عكــي ..حلــق بنــا أحــد شــباب املنطقــة
فــوق دراجتــه الناريــة ..لكــن آدم نجــح يف مراوغتــه وإســقاطه مــن فــوق
ﻜﺘ
الدراجــة بخبطــة بســيطة مــن جانــب ســيارته ..انطلقنــا عائديــن إىل بيتــه
بعــد أن ســلكنا أكثــر مــن طريــق لتجنــب االقتفــاء.
ﺐ ﻟﻠﻨ
طلــب آدم منــي أن أهــدأ ،ســألني بعــض األســئلة التــي ختــص هويــة
ﺍﻟﺘﻮ
يشء مــا ،رفــض اإلفصــاح عنــه حتــى الكونــت ،أعــرب عــن شــكه يف ٍ
ﺯﻳﻊ
165
بــدأت أقــص عــى «آدم» احلــوار الــذي دار مــع «كريــس» بعــد ســنة
مــن مكوثــي بأمريــكا ،وبعــد أن جنينــا ثــروة مل نحلــم هبــا.
أخرجــت لــه وقتهــا مــن جيبــي علبــة صغــرة مــن القطيفــة ،يســتقر
وســطها خاتــم بســيط للــزواج ،فســألني «كريــس» ً
مازحــا عن «التعيســة»
التــي ســأتقدم هلــا ،أجبتــه:
-أنا قررت أتقدم لزميلة حمرتمة من اجلالية ..نادين.
مستنكرا:
ً رد
ﻋﺼ
-اللبنانية؟ مستحيل.
ﲑ ﺍﻟ
عــال مــن الدهــاء ،وإن انتقلــت للعيــش
ﻜﺘ ٍ أخــرين أهنــا تتمتــع بقــدر
معــي ستتســاءل عــن مصــدر ثــرويت املفاجئــة ،ولــن تقتنــع بــأي مــن
حجــج غيــايب أثنــاء تنفيــذ مهــات «الكونــت» ،كــا أهنــا تتمتــع بــروح
متمــردة وحتلــم أن جتــوب العــامل؛ األمــر الــذي سيفســد خمططــايت إلكــال
ﺐ ﻟﻠﻨ
يف حــرة ،صارحتــه بــرورة زواج «يــارس» حتــى يتــم إحــكام غطــاء
ﻭ
الكونــت وال يشــك أحــد يف هــذا الغطــاء ..فيتيــم مثــل يــارس جيــب أن
ﺍﻟﺘﻮ
166
مخــن أننــي تزوجتهــا بعــد قصــة حــب ..وصلنــا إىل عــارة آدم ،أخربتــه َّ
أثنــاء انتظارنــا للمصعــد أن «كريــس» هــو مــن خطــط لقصــة احلــب هذه،
فمثلتهــا عــى غــرام ..رشح يل «كريــس» أن شــخصية كغــرام حتب شــعور
العطــاء والتضحيــة ،تريــد ابنًــا لرتبيــه وليــس حبي ًبــا يعتنــي هبــا .خدعهــا
«كريــس» ولفــق قصــة إدمــاين للكحــول ،وحاجتــي للمســاعدة..
فصدقــت «غــرام» وأرصت عــى أن تصطحبنــي جللســات التعــايف مــن
ـذت مــا رســمه يل كريــس ،فحكيــت هلــا كاذ ًبــا عــن صديقتي اإلدمــان ،نفـ ُ
ﻋﺼ
األمريكيــة التــي اكتشــفت خيانتهــا ..اســتنزفت تعاطفهــا أشــبعت شــهوة
ـتنكرا:
التعاطــف لدهيــا ،قاطعنــي آدم مسـ ً
ﲑ ﺍﻟ
-هو التعاطف شهوة؟
ﻜﺘ
أجبته وأنا أرتب وضع مالبيس يف مرآة املصعد:
-أي شــعور بيخلينــا مبســوطني شــهوة ..إحنــا عايشــن عشــان
ﺐ ﻟﻠﻨ
167
-كفاية كده ..بجد كفاية.
ر َّد هبدوء ضاحكًا:
-حســيت بشــعور ضحايــاك وأنــت بتقتلهــم بالبطــيء ..حاســس
روحــك بتطلــع وهــي لســه يف جســمك؟!
مل أرد قلت له بغضب:
-طب مرايت وبنتي يرجعوا ،وخلينا نتعامل راجل لراجل.
ﻋﺼ
-مــا مهــا لــو رجعــوا أنــت مــش هتكمــل الرحلــة ..أنــا عايــزك تعرف
نفســك قبــل مــا تعرفني.
ﲑ ﺍﻟ
عرفــت أنــه ال جــدوى مــن التفــاوض معــه؛ فهــذا املجهــول أمامــه
ﻜﺘ
هــدف لــن يــرح حتــى يبلغــه ..ســألته بلهجــة عمليــة عــن املطلــوب..
أجابنــي هبــدوء:
ﺐ ﻟﻠﻨ
نظــر يل آدم الــذي كان يســمع احلديــث مــن مكــر الصــوت ،أومــأ يل
برأســه نف ًيــا ،فأجبــت ذلــك املجهــول بلهجــة مقتضبــة:
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
168
«تَّــام» ..أنــت ماحســمتش رصاعــك معــاه زي مــا -عــى ذكــر َ
اتفقنــا ،وطريقتــك يف اهلــروب مــن مواجهتــه معجبتنيــش ..فأنــا قــررت
أعاقبــك ..وأزعلــك عــى حــد مــن دمــك.
توقــف نبــي متا ًمــا ..مل أجــد مــا أقــول غــر بعــض الكلــات املبهمــة،
ـوت متهــدج ..كان هيــدم كل مــا صنعتــه يف ســنوات ،يســلبني هددتــه بصـ ٍ
أمجــل مــا يف نفــي ،أخربتــه أنــه ال يقــدر عــى أذيــة غــرام وال مليكــة ،فهــو
ـم لــه إال املتعــة،
حيتــاج وجودمهــا حتــى أظــل حتــت طوعــه ..رد أن ال َهـ َّ
ﻋﺼ
عــي بوســائل أخــرى ..أدركــت أنــه ســينفذ وأنــه يســتطيع الســيطرة َّ
ناصحــا:
ً هتديــده ال حمالــة ..قــال
ﲑ ﺍﻟ
-ماختافــش أنــا بعمــل ملصلحتــك ..فقدانــك حلــد بتحبــه منعطــف
ﻜﺘ
مهــم يف رحلتــك جــوة نفســك ..هيســاعدك تكتشــف حاجــات كتــر
جــواك.
ﺐ ﻟﻠﻨ
***
ﺯﻳﻊ
169
-12املصائب ال تأيت فرادى..
ﻋﺼ
أريد فقط أن أعرف؛ بأي ٍ
ـخصا يشــبهني توقــف العــامل
حــن أخــرين «املجهــول» أنــه قتــل شـ ً
ﲑ ﺍﻟ
مــن حــويل ..ظننــت أنــه انتــزع قلبــي وســلبني مليكــة ،مل أعــرف أيــن
ﻜﺘ
أذهــب؛ وال كيــف أختلــص مــن هــذا الكابــوس الــذي وضعنــي فيــه
ـي..ذلــك املجهــول الــذي مل أكــره مثلــه ،أثقــل العجــز قلبــي فأغــي عـ َّ
ﺐ ﻟﻠﻨ
تبقــى فيــه مــن طاقــة ،وطلــب مــن آدم أن يبلغنــي بوفــاة أختــي الوحيــدة.
ﻭ
ســارت مراســم اجلنــازة عــى أرسع مــا يكــون ،أدار خــال ســلوى كل
األمــور الالزمــة كترصيــح الدفــن وتأجــر صــوان العــزاء ..علــم رايف
بخــر الوفــاة حــن اتصــل بــه ضابــط رشطــة ليخــره أن ســيارة ســوداء
ألقــت جثامهنــا عــى جانــب مــن الطريــق الصحــراوي ،وقــد اخرتقــت
رصاصــة منتصــف عنقهــا ..أهنــى رايف كافــة اإلجــراءات مــع الرشطــة،
170
و ُقيــد احلــادث ضــد جمهــول ..طلــب رايف مــن أقــارب ســلوى التكتــم
عــى ســبب الوفــاة احلقيقــي؛ لكــن أحــدً ا مل حيفــظ الوعــد.
مل يتعجــب رايف مــن نظــرات الغــل التــي طاردتــه أثنــاء العــزاء مــن آل
ســلوى؛ كانــوا رافضــن لفكــرة زواجهــا مــن رايف ألنــه مل حيصــل عــى
ـت العــزاء متأخـ ًـرا كاألغــراب ،كان درجــة عاليــة مــن التعليــم ..وصلـ ُ
رايف واق ًفــا ببدلــة ســوداء مبعثــرة اهلنــدام ،كانــت نظراتــه ضالــة كرضيــع
ـاول أن يبــث يفبــا أهــل ،حــن وصلــت ملحتــه ينفــخ يف كــف يــده حمـ ً
ﻋﺼ
روحــه دف ًئــا يعوضــه عــن ســلوى ..مــا لبــث أن رآين حتــى احتضننــي
ﲑ ﺍﻟ
كالطفــل املشــتاق ألمــه ..حــرك يديــه فــوق ظهــري مســتمدً ا منــي قــوة
ال أملكهــا.
ﻜﺘ
جلســت يف جانــب مــن العــزاء بعــد أن صافحــت «احلــاج صالــح»
ﺐ ﻟﻠﻨ
متجن ًبــا أقــارب ســلوى الذيــن مل حيبــوين بســبب أفعــال «الطائــي» ،مل
املعزيــن ،وال يف أي تفاصيــل أخــرى ..جلــس آدم إىل أركــز يف وجــوه ّ
ﺸﺮ
جــواري ،يربــت عــى كتفــي بــن احلــن واآلخــر ،كان قــد أخفــى وشــوم
جســده حتــى ال يلفــت النظــر باملالبــس الثقيلــة التــي ال حيــب ارتداءهــا..
ﻭ
أتــاين أحــد أقــارب ســلوى ليخــرين أن هنــاك ســيدة تريــد أن تعزينــي يف
ﺍﻟﺘﻮ
ـادرا وال يرتــدي «الكونــت» ســواها ،طلبــت مــن آدم انتظــاري لكنــه إال نـ ً
أرص عــى مرافقتــي خــارج الصــوان.
-البقاء هلل يا مسرت يارس..
كانــت طريقــة مديــريت يف املدرســة الدكتــورة أســاء مقتضبــة خاليــة
مــن احلــزن ..أجبتهــا ببعــض الكلــات املبهمــة وشــكرت هلــا ســعيها..
171
طلبــت منــي أن نتحــدث عــى انفــراد ،لكننــي أخربهتــا أن آدم أخــي وال
أخفــي عنــه شــي ًئا ،تــرددت قبــل أن ختــرج هاتفهــا املحمــول ،وضعــت
شاشــته أمــام وجهــي ،وجــدت نفــي عــى الشاشــة أثنــاء هــرويب مــن
«مطعــم املعلــم إدريــس» مرتد ًيــا احلــزام الناســف ..كان التصويــر بكامــرا
عمــن أرســل هلــا هــذاواضحــا ..ســألتها َّ
ً عاليــة اجلــودة ،بــدا منهــا وجهــي
املقطــع ،ردت بلهجــة أكثــر قســوة مــن هلجتهــا احلازمــة يف املعتــاد:
-رقــم جمهــول ..وعامـ ًة مــش مهــم مــن صــورك ،املهــم الــي شــوفته
ﻋﺼ
ده بجــد؟
ﲑ ﺍﻟ
مل أجــد مــا أرد بــه ،حــاول آدم الدفــاع عنــي فطلبــت منــه الصمــت
والتزمتــه أنــا ً
أيضــا؛ تركتهــا تنهــي املحادثــة قائلــة:
ﻜﺘ
-الفيديــو ده لــو وصــل حلــد مــن أوليــاء األمــور املدرســة هتتشــمع
بكــرة الصبــح ،والــي بعتــه اشــرط عليــا أفصــل حرضتــك عشــان
ﺐ ﻟﻠﻨ
مايرسبــوش.
صافحت أسامء مبد ًيا تفهمي ملوقفها ،قلت هلا بلهجة هادئة:
ﺸﺮ
-كل واحــد لــه أرسار الزم تفضــل خمفيــة ..فرصــة ســعيدة يــا
ﻭ
ٍ
بصوت هامس: اقرتبت منها ،وأردفت
ﺯﻳﻊ
172
-مش مالحظ حاجة غريبة يف نسيبك ده؟
-رايف ؟
-ركز معاه كده ..مريب جدً ا.
-إحنــا يف إيــه وال يف إيــه ..أختــى اتقتلــت مــن نفــس املجهــول الــي
خاطــف مــرايت وبنتــي ..وممكــن يقتلهــم يف أي حلظــة.
-شكيت يف رايف؟
ﻋﺼ
-وأشك فيه ليه؟
-رايف ده مش طبيعي يا يارس.
ﲑ ﺍﻟ
-ماله يعني؟
ﻜﺘ
-الراجل ده مدمن.
وماطولش ..بعدين عرفت إزاي؟
ِّ -آه بس ده موضوع قديم
ﺐ ﻟﻠﻨ
ســألته عــن قصــده ،فاقــرب مــن أذين ليتغلــب عــى صــوت املقــرئ
ﺯﻳﻊ
173
حــن عــدت إىل شــقتي باإلســكندرية التــي خلــت مــن غــرام ومليكة،
تذكــرت يــوم أن أهنيــت بعثتــي ،ألبــدأ فصـ ًـا جديــدً ا مــن حيــايت عــى
أنقــاض مــا هدمــه الطائــي بداخــي..
كثــرا أثنــاء البعثــة؛ طــال شــعري ،وحتســن ً كنــت قــد تغــرت
هندامــي ،ازددت وزنًــا وتعلمــت كيــف أخفــي مــا بداخــي ..مل أشــعر
ـرت وطنًا،
باحلنــن إىل بيــت «الطائــي» مثلــا توقعــت ..مل أعتــر أننــي هجـ ُ
فــا وطــن يل حيــث يســكن عبــد احلــي الطائــي ..أقمــت يف فنــدق جمــاور
ﻋﺼ
حريصــا أال يــراين أحــد
ً لزنزانتــه التــي شــهدت أبشــع ذكريــايت ..كنــت
ﲑ ﺍﻟ
اجلــران أثنــاء مراقبتــي لــه مــن بعيــد حتــى أتعــرف عــى نظــام حياتــه
اجلديــد بعــد أن هربــت مــن جحيمــه؛ فقــد اشــتد عليــه مرضــه وصعبــت
ﻜﺘ
حركتــه ،وجلــأ الســتعامل كــريس متحــرك متهالــك ..كان يتوســل ألي
مــن املــارة أن يوصلــه إىل احلانــة ،فيقبــل األخــر عــى مضــض بعــد أن
ﺐ ﻟﻠﻨ
يتعجــب مــن عــدم احرتامــه لســنه ،طــوال ثالثــة أيــام مل أره يشــري أي
ﺸﺮ
174
اإلســكندرية التــي ستســتقبل غــرام ،واشــريت فيــا الكونــت التــي
ستســقبل الطائــي وباقــي الضحايــا مــن بعــده.
يف البدايــة كان تفريقــي بــن هويتــي يــارس والكونــت ضعي ًفــا ،ال أرى
اخلــط الفاصــل بينهــا؛ فكالمهــا أنــا ..لكــن مــع الوقــت اعتــدت أن أتقــن
اهلويتــن متا ًمــا؛ فأعيــش يف حيــاة «يــارس» بســلوكه ،وكذلــك األمــر مــع
«الكونــت»..
فتحــت هاتفــي بح ًثــا عــن أي صــورة لســلوى؛ فوجــدت الصــورة
ﻋﺼ
التــي مجعتنــا يــوم عيــد ميــادي ،تذكــرت أول حــوار دار بيننــا..
ﲑ ﺍﻟ
«أبونــا اختفــى بعــد أن صفــى أمالكــه يف القاهــرة ..ســأنتقل إىل
اإلســكندرية وأبحــث عــن عمــل هنــا ..ســأتزوج مــن زميلتــي الســورية
ﻜﺘ
التــي تعرفــت عليهــا يف أمريــكا ..ال أريــد أن نتعامــل كإخــوة لكــن أريــد
أن نبــدو كذلــك أمــام النــاس».
ﺐ ﻟﻠﻨ
كان وقــع كالمــي مفاج ًئــا لســلوى التــي كانــت تــراين ألول مــرة
متوقعــة أن أطالبهــا بنصيبــي مــن ممتلــكات الطائــي ،مل تطلــب إثباتًــا
ﺸﺮ
أنــه تاجــر وأن للطائــي أمــاكًا كثــرة يف اإلســكندرية ،فبالتأكيــد رأى يف
ﺯﻳﻊ
175
ـرا؛ اعتــدت عليهــا باالنتقــال إىل بيــت أوســع خــاص هبــم ..مل أحتــدث كثـ ً
أن أشــري أفــكار غــري دون أن أبيــع مــا بداخــي ..ويف هنايــة اللقــاء
عانقتنــي عنا ًقــا مل يــدم طويـ ًـا ،مل أشــعر دف ًئــا كهــذا بعــد أمــي.
حــن رحلــت ســلوى عــن عاملنــا أدركــت أهنــا مل تكــن بمثــل هــذا
الســوء ،مل تكــن ضحكتهــا مزعجــة كــا كنــت أظــن ،مل تكــن طامعــة
أكثــر مــن كوهنــا باحث ـ ًة عــن حقهــا ،حتــى خيانتهــا لزوجهــا وســخطها
عــى أبيهــا كانــا هرو ًبــا مــن واقــع فــرض عليهــا أنصــاف الرجــال؛ كانــت
ﻋﺼ
ضحيــة مثــي.
تعلمــت ّ
ﲑ ﺍﻟ
يــدرس لطالبــه إال بعــد ّ أن املــوت كاملعلــم الــذي ال ُ
االمتحــان ،فــا نــدرك اخلــر فيمــن حولنــا إال بعــد أن يســلبهم منــا ذلــك
ﻜﺘ
ا ُملع ّلــم.
رأيــت فيهــا وجهــي إذا تبســمت ،كانــت ابتســامتي نــادرة صعبــة
ﺐ ﻟﻠﻨ
فقــد أحببــت متيــزي التــام فيــه ،وتفــردي عمــن هــم مثــي ..فــإن مــات
ﺯﻳﻊ
«يــارس الطائــي» غــدً ا فســيولد ألــف مــدرس رياضيــات غــري ،لكــن إن
مــات الكونــت فــا أحــد ســيخلفه.
أوقــف املقــرئ تالوتــه لوجــوب صــاة العشــاء ،قاطــع آدم خواطري
ـائل عــن ســبب عمــي يف التدريــس بـ ً
ـدل مــن اهلندســة.. متسـ ً
أعــدت رأيس للخلــف ،أخربتــه أننــي قدمــت أوراقــي ألكثــر مــن
176
رشكــة هندســية؛ فيجــب للمهنــدس «يــارس الطائــي» احلصــول عــى
عمــل أمــام النــاس إحكا ًمــا يف التخفــي عــا يلفــت النظــر إليــه ،كان
مــدراء الــركات معجبــن بملفــي الــدرايس ومشــواري التعليمــي،
رافضــا لتشــغييل؛ مخنــت أهنــم يتلمســون منــي
لكــن ردهــم األخــر كان ً
حرجــا اجتامع ًيــا وختو ًفــا مــن املســئولية.
يف املقابــات ً
كنــت أعلــم أننــي إن اســتخدمت ســلوكيات «الكونــت» معهــم
ســأظفر بإعجاهبــم ،لكــن «يــارس» جيــب أن يعتمــد عــى نفســه وأن
ﻋﺼ
يعتــاد منــه اجلميــع الســلوك الــذي ســيظهره لبقيــة حياتــه ..مل أتوقــع
أن ينكشــف غطائــي بعــد كل هــذه الســنني ،تذكــرت أول لقــاء مجعنــي
ﲑ ﺍﻟ
بدكتــورة أســاء..
ﻜﺘ
-حرضتــك خريــج هندســة وعايــز تشــتغل مــدرس رياضيــات معانــا
يف املدرسة؟
ﺐ ﻟﻠﻨ
كان ســؤال دكتــورة أســاء متوق ًعــا ،أجبتهــا كــا ل َّقنــت نفــي مــن
قبــل:
ﺸﺮ
177
بعديــن أنــا ُرحــت أمريــكا ببعثــة شــبه جمانيــة ،ولســه ماشــتغلتش مــن وقت
رجوعــي ..املفــروض تقلقــي لــو لقيتــي معايــا عربيــة أفخــم مــن دي.
ضحكــت أثنــاء عودهتــا للجلــوس أمــام مكتبهــا ،دخــل أحــد الســعاة
حامـ ًـا صينيــة نحاســية ،وضــع أمــام كلينــا كوبــن مــن عصــر اجلوافــة
الــذي ال أحبــه ..قلــت هلــا هبــدوء:
-زي مــا مكتــوب يف ملفــي ،أنــا أقــدر أدرس مجيــع فــروع الرياضــة،
وبطــرق مبســطة تســاعد الطــاب عــى الفهم ،وممكــن أخليهــم متطورين
ﻋﺼ
عــن منهــج املدرســة وطب ًعــا عــن مناهــج الــوزارة.
ﲑ ﺍﻟ
كثــرا وأهنــت اللقــاء رسي ًعــا حــن وافقــت عــى تعيينــي
ً مل تفكــر
ابتــدا ًء مــن يــوم لقائنــا.
ﻜﺘ
***
َّ
مابتدخنش يا أستاذ يارس! -بس أنت
ﺐ ﻟﻠﻨ
املفضــل لــه ..كنــا واقفــن يف انتظــار ُعــال الفراشــة حتــى ينتهــوا مــن
فــض صــوان العــزاء الــذي ن ُِصــب بجــوار البيــت ،أفســحنا هلــم املجــال
ﻭ
ـعلت والعتــه ووضعتهــا أمــام الســيجار نحــوي بعــد تــردد قصــر ،أشـ ُ
ﺯﻳﻊ
عيني..
التبــغ الــذي التقــط طــرف اللهــب بصعوبــة ..حتــى مــأ الدخــان َّ
ـرا وأخرجــه ،مل أتلــذذ بطعــم الســيجار ،قــالنفســا قصـ ً
بــدأت أســحب ً
ـاخرا:
آدم سـ ً
-حرضتــك كــده بتطفــش الدخــان يــا كونــت ..إســحب النفــس
ودخلــه صــدرك ،اكتمــه جــواك أطــول وقــت ممكــن.
178
طبقــت مــا قالــه ،شــعرت بمــرارة يف لســاين وبــأمل حــارق يف صــدري
الــذي لفــظ الدخــان رسي ًعــا ..خــرج معظمــه مــن أنفــي ،ع َّلــق آدم عــى
ُســعايل الــذي طــال:
-أيوة كده ..خيل الدخان ينضف روحك يا كونت.
علمــت وقتهــا أن قصــة حــب ستنشــأ بينــي
ُ ً
مماثــا، نفســا
ســحبت ً
قليــا ..وقبــل أن أســحب النفــس وبــن الســجائر التــي مل أجرهبــا إال ً
رن هاتفــي برقــم اخلاطــف ..وضعــت الســاعة فــوق أذين ومل الثالــث َّ
ﻋﺼ
أبــادر باحلديــث هــذه املــرة ،استســلمت لــه متا ًمــا ،قــال ضاحــكًا:
ﲑ ﺍﻟ
-مش هتهدد تاين؟ طب مفيش عرض عايز تعرضه عليا؟
مل أرد ثاني ًة ..فقال بلهجة مل ُ
ختل من إغراء:
ﻜﺘ
-طب أم مليكة ماوحشتكش؟
ﺐ ﻟﻠﻨ
الطائــي.
ﺍﻟﺘﻮ
سألته:
ﺯﻳﻊ
179
ملحــت مــن بعيــد شــخصني أعرفهــا جيــدً ا :هشــام عــديل وداليــا
جالســا عــى كــريس متحــرك يدفعــه رجــل عرفــت ً القــايض ..كان األول
فيــا بعــد أنــه أخــوه ورشيكــه «أيمــن» ،وبجوارمهــا تســر داليــا التــي مل
ينتقــص اللــون األســود مــن مجاهلــا ..قلــت للخاطــف:
-مالقيتش غري عزا أختي تعمل فيه كده؟
ر َّد بصوته اإللكرتوين الذي حرص عىل طمسه جيدً ا:
-سلوى بقت أختك دلوقتي؟ ما علينا.
ﻋﺼ
مل أرد عليه فأغلق اخلط بعد أن أكمل حديثه ً
قائل:
ﲑ ﺍﻟ
-صفي خصومتك معاهم ..وحاول تستمتع.
ﻜﺘ
أوقــف «أيمــن عــديل» الكــريس املتحــرك الــذي جيلــس فوقــه أخــوه
هشــام الــذي بــدا كأنــه ال يعــي أيــن هــو وال مــا الــذي حيــدث مــن حولــه.
ﺐ ﻟﻠﻨ
ـت أن أســأل داليــا عــن كيفيــة تعرفهــا عــى بعــض وعمــن مجعهــا.. مهمـ ُ
فقاطعنــي آدم بلهجــة حكيمــة:
ﻭ
الــردد عــى داليــا ،ورفضــت الصعــود إىل بيتــي ..كنــت أعــرف أهنــا
جــاءا بتهديــد مــن «املجهــول» ،فمــن املســتحيل أن تــزور الضحيــة مــن
مشــرا نحــو هشــام:
ً جنــى عليهــا بكامــل إرادهتــا ..قلــت هلــا بثقــة
-خالص خديه واميش.
بغضا حقيق ًيا جتاهي:
تكلم أيمن ألول مرة ،ملست منه ً
180
-لألسف إحنا جمبورين نقعد معاك.
جتنبت احلديث معه ،سألت داليا:
-خطف حد بتحبوه وال هددكم يكشف رس معني؟
مل تــرد داليــا ،ومل أنتظــر منهــا ذلــك ،انتــزع آدم مــن أيمــن مقبــض
الكــريس املتحــرك صاعــدً ا هبشــام عــى أوىل درجــات الســلم.
متجهــا نحــو شــقتي ،ســمعت صــوت رايف يصعــد
ً تقدمــت أربعتهــم
الســلم مــن خلفــي برسعــة ،أوقفنــي بغضــب ،ســحبني أمامهــم مــن
ﻋﺼ
يــدي بعنــف قائـ ًـا:
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ -شوفت الكارثة اليل حصلت؟
مقدرا حلالته ،سألني بغضب:
ً مل أرد عليه ،كنت
-فني مليكة؟
ﺐ ﻟﻠﻨ
ً
مندهشا: سألته
-الكالم ده حصل إمتى؟
-بعد والدة مليكة بأسبوعني.
مل أجــد ر ًدا ،أجلمــت فعلتهــا لســاين ..كنــت أعلــم أن رايف ال يكــرث
ملــال ســلوى ،وال يشــغل بالــه إال باحلــزن عليهــا؛ هــو فقــط غاضــب ظنًــا
181
منــه أننــي مــن دبــرت هــذه اللعبــة مــع املحامــي مسـ ً
ـتغل غياهبــا ألنتــزع
مــا كان هلــا ..أخربتــه بصــدق أننــا ســنجلس لنصــل م ًعــا إىل حــل يرضيــه؛
فأنــا الــويص عــى مليكــة التــي ال أعــرف موعــدً ا لعودهتــا ..طلبــت منــه
أن يرتكنــي أســتقبل ضيــويف مــن املعزيــن يف شــقتي ،فرحــل ملق ًيــا نحــوي
نظــرة اهتــام دون أن يــرد.
***
كان الصمــت هــو املتحــدث الوحيــد يف بدايــة اجللســة ..حــاول آدم
ﻋﺼ
االطمئنــان عــى صحــة هشــام عــديل فلــم جيــد منــه ر ًدا وال حتى اســتيعا ًبا
ﲑ ﺍﻟ
ملــا حيــدث حولــه ،كأنــه فقــد عقلــه متا ًمــا ..ملحــت خلفهــا صــورة يف
أعــد ترتيبهــا بعــد؛ كانــت جتمعنــي بغــرام ومليكــة.. صالــة بيتــي التــي مل ِ
ﻜﺘ
أعــدت النظــر نحــو داليــا وهشــام أطلــت النظــر يف أعينهــا؛ كان هشــام
حمطــا مــن الداخــل ،كنــت أعلــم هــذا حــن جعلتــه خيــوض رحلتــه ً
ﺐ ﻟﻠﻨ
182
-تفتكري ممكن يكون حد من اليل بعتوين ليكي؟
هــزت رأســها نف ًيــا ،أكــدت أن «املجهــول» صاحــب ســلطة أعظــم
مــن مدرائهــا الســابقني ،كــدت أن أســأهلا عــا فعلــت معهــم وكيــف
نجــت مــن عقاهبــم ،عدلــت عــن هــذه الفكــرة وقبــل أن أعــرف كيفيــة
تواصــل ذلــك املجهــول معهــا ..قاطعتنــي بحــزم:
-ده اللبس اليل بتلبسه وأنت بتعذبنا؟
مل أشــعر بالراحــة يف لعــب دور «الكونــت» خــارج أرضــه ..أجبتهــا
ﻋﺼ
بحــرج:
ﲑ ﺍﻟ
-تقري ًبا ..يف حيايت األصلية مابحبش ألبس بدلة.
ﻜﺘ
نظرت نحوي من أعىل ألسفل قائلة:
-بس شكلك خمتلف عن الصورة اليل كانت يف خيايل..
ﺐ ﻟﻠﻨ
ً
كامــا ،أمرتنــي قائلــة: مجعنــا
ﺯﻳﻊ
183
أرشت إليــه حتــى يصمــت ،كنــت أعلــم أهنــا تريــد أن تصفي حســاهبا
وتشــعرين باألســف عــى مــا فعلــت ،فنفــذت هلــا مــا أردت دون أن أدرك
حقيقــة شــعوري جتاهــه ،نظــرت يف عينيهــا وقلــت هلــا بحــرج مســتعيدً ا
الذكــرى الوحيــدة التــي مجعتنــا:
-ماختافيش يا آنسة داليا ..أنا معاكي.
مل يفهــم آدم مــا حيــدث ،طلبــت منــي داليــا أن أعيــد اجلملــة ثانيــ ًة،
ففعلــت مضطـ ًـرا ..صــدر عــن هشــام أ َّنــن خافــت ،وحتــدث فجــأة كأنــه
ﻋﺼ
اســتيقظ مــن النــوم ،كان هيــذي قائـ ًـا:
ﲑ ﺍﻟ
-أمي ماتت ..البيت هيقع.
مندهشا ،فربرت له داليا قائل ًة:
ً نظر آدم له
ﻜﺘ
-دي احلالــة الــي وصــل عليهــا مــن ســاعة مــا زار مقــر «البــاش
مهنــدس يــارس»..
ﺐ ﻟﻠﻨ
184
وجــه نظــره نحــوي قائـ ًـا بلهجــة غاضبــة وبصــوت عـ ٍ
ـال: يوم ًيــاَّ ،
-مبسوط؟!
ً
حمــاول إمخــاد غضبهــا ورغبتهــا يف مل ألتفــت لــه ،نظــرت لداليــا
التشــفي:
-مالــوش لزمــة الــكالم ده ..الــي أنــا عملتــه كان جــزء مــن قــدر..
قــدر أنتــم الــي اخرتتــوه ملــا اتعاملتــوا مــع النــاس دي؛ أنــا ماجربتــش
هشــام ينافــس نــاس هــو مــش قدهــم ،وال أرغمتِــك تفضحــي الرشكــة
ﻋﺼ
الــي مشــغالكي..
ﲑ ﺍﻟ
بصوت مبحوح:ٍ ﻜﺘ فرت دمعة من عني داليا حني قالت
-كان فيه مليون طريقة ومليون حل غري اليل أنت عملته فينا..
هنضــت مــن مكاهنــا حتــى وقفــت أمامــي ،نظــرت يف عينــي مبــارشةً،
ﺐ ﻟﻠﻨ
-الكونــت أذانــا يــا أســتاذ آدم ..وبرغــم إننــا عرفنــاه وعرفنــا مليــون
طريقــة ممكــن تأذيــه إال إننــا مانقــدرش نــرد لــه األذى ده.
حــن ســمع هشــام لقــب «الكونــت» ارجتــف جســده وعــاد للهذيــان
بصـ ٍ
ـوت أعــى قائـ ًـا:
185
-حد يلحقني ..الكالب..
عــم الصمــت املــكان ،مل يقطعــه إال بــكاء داليــا املكتــوم وهذيــان َّ
هشــام ..ســألت نفــي حينهــا عــن الغــرض احلقيقــي ممــا أفعــل ،مــن أنــا؟
هــل أحــب غــرام ومليكــة ح ًقــا؟ أم أهنــا جمــرد جــزء مــن غطــاء «يــارس»؟
وإن كانــا كذلــك فلــاذا حــريص الشــديد عــى عودهتــا؟ هــل «املجهــول»
يفهمنــي جيــدً ا أم أنــه يتعامــل يف حــدود مــا قــرأه عنــي؟ هــل تعاملــت
معــه مــن قبــل؟ ملــاذا مل أشــعر بالذنــب حــن واجهــت مجيــع مــن آذيتهــم؟
ﻋﺼ
مــن أحــب إىل قلبــي :يــارس أم الكونــت؟ مــن األصــل فيهــا؟ مــن أقرهبــا
ﲑ ﺍﻟ
إىل حقيقتــي؟ إن أجــرين اخلاطــف عــى االختيــار بينهــا فمــن ســأختار؛
وسق حســابه الــذي يديــر املهــات مــن «الكونــت» الــذي فقــد أموالــه ُ ِ
ﻜﺘ
خاللــه ،أم يــارس اخلانــع الــذي فقــد عملــه؟ ..كالمهــا عانــى بــا فيــه
الكفايــة واحرتقــت كافــة املراكــب التــي ســتعيده إىل حياتــه الســابقة؟
ﺐ ﻟﻠﻨ
مل أشــعر بمــرور نصــف ســاعة مــن الســكون إال حــن نبهنــي صــوت
هاتفــي املحمــول الــذي رن معلنًــا اتصــال مــن رقــم جمهــول..
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
-حاسس بإيه؟
ﺯﻳﻊ
أجبته ً
قائل:
-إين بكرهك.
-أنــت ماهربتــش مــن الــراع املــرة دي ،شــاطر ..بــس ماتنكــرش
إين ســاعدتك ،واطمــن مــن ناحيــة داليــا وأيمــن؛ ماحــدش فيهــم هيقــدر
يأذيــك ..قــول هلــم الزيــارة انتهــت.
186
ـت أنــه هددهــم بطريقــة أو بأخــرى ليجربهــم عــى مل أرد؛ فقــد مخنـ ُ
احلضــور ..أكمــل حديثــه قائـ ًـا:
-طمنهم ،وسيبهم يمشوا واستعد لرصاع جديد بكرة..
« -لعبتك» دي الزم تنتهي بأي شكل.
ر َّد ضاحكًا:
- -ماختافش يا يارس ،أنا معاك.
ﻋﺼ
قلت باستسالم:
-أنا مش قادر أكمل.
ﲑ ﺍﻟ
-لألسف ماعندكش خيار تاين ،لسه كتري عىل خط النهاية..
ﻜﺘ
أغلق اهلاتف بعد أن رمى قنبلته األخرية:
-بذمتك ماوحشكش شغل الكونت؟
ﺐ ﻟﻠﻨ
بــدا أثــر مكاملتــه عــى وجهــي الــذي امحــر يف غضــب ،خنقنــي شــعور
العجــز جتــاه ذلــك اخلاطــف ،مل يســألني أحدهــم عــا ســمعت ..نظــرت
ﺸﺮ
نحــو داليــا ،نقلــت هلــا رســالة «املجهــول» بانتهــاء الزيــارة ..فقالــت قبــل
أن تغــادر مكاهنــا:
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
187
يف نفــي أذى أكثــر أ ًملــا مــن الــذي ســببته هلــم ..رافقهــم آدم إىل البــاب،
ســمعت صــوت هشــام للمــرة األخــرة؛ كان هيــذي قائـ ًـا «هأمــوت..
ـيجارا آخــر ..قــال
هأمــوت» .حــن عــاد آدم طلبــت منــه أن يعطينــي سـ ً
يل يف قلــق:
-الراجل ده بيموتك بالبطيء ..مل أعقب ،سألت آدم:
-رايف سألك عن غرام ومليكة؟
-ماتقلقــش ..قلــت لــه زي مــا اتفقنــا :إن أنــا ابــن خالتهــا ،وإهنــا
ﻋﺼ
قاعــدة مــع أختــي يف القاهــرة ،ألهنــا تعبانــة شــوية بســبب احلمــل اجلديد.
ﲑ ﺍﻟ
نظــرت إىل معصمــه األيمــن فالحظــت إخفــاءه للصليــب املوشــوم
فوقــه بســاعة ضخمــة ..ابتســم حــن فهــم مــا كنــت أفكــر فيــه ..حتدثــت
ﻜﺘ
ـائل عــن غــرض «املجهــول» مــن كل هــذا؛ فهــو جيعلنــي أمــرمعــه متسـ ً
بالكثــر مــن املشــاعر اإلنســانية :كاخلــوف والغضــب وتأنيــب الضمــر،
ﺐ ﻟﻠﻨ
نحــو بابــه ،أخــرين أنــه ســيصنع لنــا القهــوة ..نفخــت دخــان الســيجار
ـال أن اخلاطــف يســبقني مــن أنفــي حتــى ســعلت ،قلــت لــه بصـ ٍ
ـوت عـ ٍ
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
بعــدة خطــوات :فهــو يعــرف كل يشء عنــي؛ حــن اخــرق حســايب عــى
ﺯﻳﻊ
ـايض ً
كامل... اإلنرتنــت املظلــم ،وحــن قــرأ مذكرايت التــي أروي فيهــا مـ َّ
قاطــع حديثنــا طر ًقــا عــى البــاب ،هنضــت ألفتــح فوجــدت أمامــي
جمموعــة مــن العســاكر ،يتقدمهــم ضابطــان يرتديــان املالبــس املدنيــة..
اقــرب منــي أحــد الضابطــن ،قــال بلهجــة حازمــة:
-أســتاذ يــارس ..إحنــا مقدريــن إنــك راجل حمــرم ،ومقدريــن كذلك
188
الظــرف الــي عنــدك ،بــس لألســف مطلــوب ضبطــك وإحضــارك يف
قســم رشطــة التجمــع.
مل أفهــم مــا حيــدث ،مخنــت أنــه خطــأ أو لعبــة جديــدة يلعبهــا معــي
ذلــك املختطــف ..نظــرت نحــو املطبــخ فلــم أملح شــبح آدم اخلواجــة كأن
األرض انشــقت عنــه ،قلــت للضابــط بلهجــة مستســلمة:
-ينفع آجي وراكم بعربيتي ،ووعد رشف مني مش ههرب.
قال الضابط اآلخر الذي بدا كأنه أعالمها رتب ًة:
ﻋﺼ
-حرضتــك هتيجــي معايــا يف عربيتــي ،ومــش هتلبــس كالبشــات..
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ احرتا ًمــا للظــرف مــش أكــر.
أومــأت بــرأيس ..ســألته وأنــا أبحــث بعينــي عــن آدم الــذي َّ
تبخــر
متا ًمــا:
ﺐ ﻟﻠﻨ
***
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
189
-13صفقة
ُأ ِ
ﻋﺼ
غلقــت أقفــال الزنزانــة مــن خلفــي للمــرة الثانيــة يف نفــس األســبوع،
ولنفــس الســبب :محــزة درويــش!
ﲑ ﺍﻟ
تائهــا
حــن وصلــت قســم الرشطــة وســط حراســة مشــددة ،كنــت ً
ﻜﺘ
ـرا مــع الضابــط الــذي اعتــذر يل عــن كل مــا يــدور حــويل ..مل أركــز كثـ ً
عــن وفــاة أختــي التــي ال ذنــب ألحــد فيهــا ســواي ..ترجــاين أن أهاتــف
ﺐ ﻟﻠﻨ
حمام ًيــا قبــل أن يأخــذ هاتفــي ..أقســمت لــه أننــي ال أعــرف أحــدً ا يمكنــه
إنقــاذي ممــا أنــا فيــه ،وأن اإلنقــاذ -إن أتــى -فســيأيت وحــدهَّ ..
مخــن مــن
ﺸﺮ
وبعضــا مــن
ً بــال باملســاجني الذيــن انتزعــوا ســاعة يــديألــق ً مل ِ
ﺯﻳﻊ
190
عـ ٍ
ـال أن مــن أبلــغ عــن مســرهتم يف حميــط «ميــدان ســعد زغلــول» لــن
مازحــا: ـال ينجــو بفعلتــه ..قــال مــن بــدا كقائدهــم بصـ ٍ
ـوت عـ ٍ
ً
-بدِّ لــوا النومــة ،والــي بيــرب ســجاير يــروح ناحيــة الشــباك،
اســتحملوا بعــض ..يومــن وهيزهقــوا منكــم وياخــدوين.
فضحــك اجلميــع ،راحــوا يذكــرون زمــن «ثــورة ينايــر» التــي مــر عليها
تذكــرت املــرة
ُ ســنوات وســنوات ،وأهنــم كانــوا أكثــر جلــدً ا آنــذاك..
ـي فيهــا قبــل ثــورة ينايــر بســنتني ،تــم احتجــازي
الوحيــدة التــي قبــض عـ َّ
ﻋﺼ
باخلطــأ لتواجــدي يف حميــط مظاهــرة طالبيــة تنــدد بالتوريــث ،تــم نقــي
ﲑ ﺍﻟ
بعدهــا ألحــد مقــرات أمــن الدولــة التــي مل أعلــم موقعهــا حتــى اآلن..
تذكــرت حــن أوقفنــا الضابــط أمامــه أنــا واملجموعــة املقبــوض
ُ
ﻜﺘ
عليهــا ،تعمــد خفــض اإلضــاءة إلخفــاء مالحمــه هــو وجنــده ،دار بيننــا
كســيد يبحــث عــن جاريــة يف ســوق نخاســة ،طالــع اخلــوف يف وجوهنــا
ﺐ ﻟﻠﻨ
مجي ًعــا ،وحــن ملســه بداخلنــا ارتســمت عــى وجهــه ابتســامة قصــرة،
ســألنا عــن وظائــف أهالينــا كــي ال يعــذب أحــدً ا مــن «أوالد النــاس»
ﺸﺮ
ســخرت وقتهــا
ُ املحابيــس أعجبتهــم املزحــة التــي مل تكــن كذلــك..
يف رسي مــن الطائــي الــذي اســتطاع أن يوفــق بســرته النجســة بــن
خصمــن مل ولــن يتفقــا إىل يــوم الديــن!
لكــن الضحــك مل يــدم طويـ ًـا حــن عــادت اجلديــة إىل وجــه الضابط،
دوت يف القســم كله:
واهنــال عــى وجهــي أحــد األمنــاء بصفعــة َّ
191
-أنت هتهزر قدام الباشا؟!
أمســكت أذين التــي أصــدرت طنينًــا جــراء الصفعــة ،وقبــل أن
يصفعنــي األمــن ثانيـ ًة وقــف أمامــه زميــي يف الكليــة «يــارس الكنعــاين»،
قــال لــه بتحـ ٍـد:
-الطائي طول عمره يف حاله ..ماكانش معانا وامتسك بالغلط.
بــدا الرفــض عــى بعــض الزمــاء الذيــن رفضــوا اعــراف يــارس
الكنعــاين عــى نفســه كأحــد املنظمــن للتجمــع الطــايب ،تقاســم
ﻋﺼ
«الكنعــاين» الصفعــات معــي ..مل أندهــش حــن غــاب شــعور املهانــة
ﲑ ﺍﻟ
عنــي؛ فقــد رأيــت مــن عبــد احلــي الطائــي مــا هــو ألعــن .أعــاد الضابــط
ســؤاله ثانيـ ًة ،فأعطيتــه هــذه املــرة إجابــة يفهمهــا؛ أخربتــه أن أيب عاطــل
ﻜﺘ
عــن العمــل .اســتمر الضابــط يف اســتجوابه لباقــي الطــاب الــذي عرفت
معظمهــم ،كان أغلبهــم زمالئــي مــن نفــس الدفعــة ممــن تظاهــرت
ﺐ ﻟﻠﻨ
نظــر نحونــا أكــر األمنــاء س ـنًا نظــرة أعرفهــا جيــدً ا؛ مزيــج هــي مــن
ﺯﻳﻊ
192
ـت الح ًقــا أن الســفري «أمحــد الدَ َر ْنــدَ ِل» مــر بفــرة عســرة مثــي
عرفـ ُ
متا ًما..
ـفريا بإحــدى الــدول األوروبيــة ،فقــد ورث يعمــل « الدَ َر ْنــدَ ِل» سـ ً
املهنــة عــن عائلتــه التــي أنجبــت الكثــر مــن أعــام الســلك الدبلومــايس.
بالرغــم مــن عمــره الــذي جتــاوز اخلمســن؛ فلــم يكتســب بعــد اخلــرة
الكافيــة يف جمــال عملــه ،كان ينبهــر كل يــوم بمعلومــة جديــدة كالطفــل
الصغــر ..مل يشــفع لــه قلــة كفاءتــه ســوى أنــه ابــن الســفري الســابق
ﻋﺼ
«عبــد احلميــد الدرنــديل» ..الــذي ورث عنــه ســمع ًة طيبـ ًة ،وهيئــة تشــبه
ﲑ ﺍﻟ
باشــاوات العهــد امللكــي ،وثــروة صغــرة اســتطاع أن يديرهــا مــن بعــده
بقليــل مــن احلــظ وكثــر مــن العالقــات.
ﻜﺘ
كان يقــي عطلتــه الســنوية يف مــر مــع زوجتــه وأم ولديــه التــوأم
ﺐ ﻟﻠﻨ
الــذي ال ينقطــع ،والتنــزه مــع األرسة التــي كانــت تتملمــل مــن اإلقامــة
يف مــر ..كان حيــب البلــد لكنــه مل حيــب أهلــه ،فهــو يتــوق إىل االنعــزال
ﻭ
حيــب تكويــن الصداقــات ،لكنــه مل خيــر شــي ًئا طيلــة حياتــه ،فلـ َ
ـم التمــرد
ﺯﻳﻊ
بعــد أن َّ
ول ال ُعمــر!
تغــر كل يشء حــن وصلتــه هتديــدات خميفــة بأكثــر مــن طريقــة؛ َّ
بــدأ األمــر حــن كان يتنــاول إفطــاره يف النــادي الريــايض الــذي اعتــاد
صباحــا ،فوجــد أســفل طبــق الطعــام رســالة غامضــة ً الركــض فيــه
تقــول« :اهــرب!».
193
أنكــر النــادل علمــه بكيفيــة وصــول هــذه الورقــة للدرنــديل ..فتجــاوز
األخــر عــن املوقــف ،واعتربهــا مزحــة ثقيلــة الظــل ..كاد أن ينســى ذلك
التهديــد ،حتــى أتتــه مكاملــة مــن رقــم جمهــول يف مســاء اليــوم التــايل،
وحــن ر َّد أتــاه صــوت رخيــم يقــول لــه :الزم هتــرب ..مــش هيســيبوك
يف حالــك!
مل يتوقــف األمــر عنــد هــذا احلــد؛ بــل تطــور حتــى وصــل إىل أن
بعــض املــارة يف الشــارع هيمســون يف أذنــه بعبــارات حتذيــر مشــاهبة ،ظــن
ﻋﺼ
أن هنــاك خلـ ًـا يف عقلــه فذهــب لطبيــب نفــي شــهري ،كان يســاعده منــذ
ســنوات عــى جتــاوز صدمــة رحيــل زوجتــه األوىل ..أكــد لــه الطبيــب
ﲑ ﺍﻟ
أن قــواه العقليــة ســليمة بنســبة كبــرة؛ فــا هــو مصــاب بالفصــام الــذي
ﻜﺘ
جيعلــه يرســل هــذه الرســائل لنفســه ،وال وجــود خللــل حــي يصيبــه
باهلــاوس.
ﺐ ﻟﻠﻨ
التــي تراســله ،لكــن دون جــدوى ..كانــت الرســائل مــا بــن التهديــد مرة
والتحذيــر مــرة أخــرى ،كأنــه واقــع بــن طرفــن أحدمهــا يســعى ألذيتــه
واآلخــر حيــاول محايتــه ..فقــد القــدرة عــى النــوم بــدون مهدئــات ،أصبح
رسيــع الغضــب خائ ًفــا كفــأر يف متاهــة ال يعــرف هلــا مالمــح.
قــرأ عــى اإلنرتنــت أن مــا حيــدث معــه جمــرد وســيلة تعذيــب نفــي،
194
كبــرا ينتظــره ،حتــى يصــاب
ً خطــرا
ً يتــم إهيــام الضحيــة فيهــا بــأن
بالبارانويــا ..مل يســتطع أن يتعامــل مــع األمــر ببســاطة؛ خاصــ ًة حــن
اســتيقظ ليجــد التهديــد مكتو ًبــا هــذه املــرة عــى حائــط غرفــة نــوم ولديه!
أتتــه املكاملــة املعتــادة مــن الرقــم املجهــول ،قــال لــه الصــوت
اإللكــروين الــذي كان هيــدده وهيــددين طيلــة الفــرة املاضيــة:
-ماحتاولــش تسـ َّفر املــدام واألوالد قبلــك ..أنــا رسقــت باســبوراهتم
مــن البيــت امبــارح.
ﻋﺼ
خــرج «أمحــد الدرنــديل» عــن هدوئــه الــذي اكتســبه بحكــم وظيفتــه
ﲑ ﺍﻟ
وأطلــق الكثــر مــن الســباب والتهديــد بعالقاتــه الكثــرة ،فــرد املجهــول
بضحكــة طويلــة أتبعهــا بقولــه:
ﻜﺘ
-كانــوا نفعــوك ملــا كلمتهــم عشــان توصــل يل ..بــس ماختافــش،
طــول مــا أنــت بتســمع الــكالم ماحــدش هيقــرب ألرستــك.
ﺐ ﻟﻠﻨ
***
ﻭ
يف اليــوم التــايل اســتدعاين ضابــط املباحــث املســئول عــن التحقيــق يف
ﺍﻟﺘﻮ
195
عالقتــي باملرحــوم ،أجبتــه بصــدق أننــي ال أعــرف عنــه الكثــر ..طــرح
أمــر زيــاريت لــه يف مقــر عملــه ،وترصفــه الغريــب حــن أدخلنــي الزنزانــة
لدقائــق ..قلــت ببســاطة:
-أنــا الــي طلبــت أقابلــه؛ ســمعت مــن عســكري يف القســم إن محــزة
بيــه معــاه متهــم مهــم جــدً ا ،وأكيــد حرضتــك عملــت حتريــات وعرفــت
إين ســافرت أمريــكا فــرة ،هنــاك كان ليــا صديــق ضابــط رشطــة ،عرفنــي
وســائل اســتجواب كتــر بيســتعملوها هنــاك.
ﻋﺼ
مستنكرا:
ً ر َّد الضابط
ﲑ ﺍﻟ
-فأنــت قــررت تــروح للمقــدم محــزة وختــش الزنزانــة بمزاجــك؟
عشــان تــدرس املتهــم ده وحتــدد طريقــة االســتجواب املناســبة ليــه.
ﻜﺘ
أجبته هبدوء:
-بالضبط كده يا فندم ..وكامن تقدر تسأل.
ﺐ ﻟﻠﻨ
مستنكرا:
ً ر َّد الضابط
ﺸﺮ
ً
حامــا صينيــة اســتقر فوقهــا فنجانــان مــن دخــل أحــد العســاكر
ﺯﻳﻊ
196
-عــارف إنــه مــش ســبب الســتدعائك ،بــس الــي لقينــاه يف شــقة
املقــدم محــزة خالنــا نشــك فيــك..
ارتشــف رشــفة طويلــة مــن فنجانــه ،لعــق شــفتيه بلســانه ليزيــل أثــر
متوجهــا نحــوي حتــى وقــف أمامــي مبــارشةً ،ثــم جلــس ً ال ُبــن ..هنــض
مقابـ ًـا يل ،مل أنظــر مبــارش ًة يف عينيــه ،ملحــت أزرار قميصــه التــي كادت
أن تتمــزق بســبب انتفــاخ بطنــه ..أكمــل حديثــه قائـ ًـا:
-لقينــا صــور وفيديوهــات ألكثــر مــن عمليــة اغتيــال هــو ن ِّفذهــا
ﻋﺼ
بنفســه ،وســايب تســجيالت فيهــا اعــراف بــكل ده؛ بحجــة إنــه بيطبــق
ﲑ ﺍﻟ
العدالــة الــي إيــد القانــون عاجــزة عــن الوصــول ليهــا.
كنــت أعــرف جيــدً ا مــا يفعــل محــزة خلــف قنــاع «امليــزان» لكننــي
ﻜﺘ
أنكــرت معرفتــي بــه ،ســألني عــن أســاء ضحايــا محــزة ،فأجبتــه بصــدق
أننــي ال أعــرف أحــدً ا منهــم ..ســألني بثقــة:
ﺐ ﻟﻠﻨ
يف مكتبــه.
ﺍﻟﺘﻮ
197
-إحنا عملنا حتريات عنك يا باش مهندس يارس..
ـيم دقيــق
هكــذا اســتهل ضابــط أمــن الدولــة حديثــه معــي ،كان وسـ ً
املالمــح يشــبه مذيعــي نــرة األخبــار ،بــدا عليــه كأنــه صــدق روايــة
«الكنعــاين» عــن وجــودي يف التجمــع الطــايب باخلطــأ ..كان نظــري
مثب ًتــا عــى صــورة «حســني مبــارك» املعلقــة فــوق رأســه آنــذاك ..اعتــذر
يل عــن التعذيــب الــذي تعرضــت لــه طيلــة يومــن مــن احلبــس ،والــذي
شـ َّـوه مالمــح وجهــي وأفقــدين سـنًا ،وانتهــك جســدي متا ًمــا ومــزق ثيايب
ﻋﺼ
ـدي الطاقةاملهلهلــة مــن األســاس ..مل أرد عليــه ،أو بمعنــى أدق مل يكــن لـ َّ
ألفعــل .هنــض واق ًفــا ،اقــرب منــي حتــى كاد يلتصــق يب مــن األمــام،
ﲑ ﺍﻟ
مخنــت مــن انكــاش أنفــه أن رائحتــي ال تطــاق ،أشــعل ســيجارته ً
نافخــا
ﻜﺘ
دخاهنــا يف وجهــي عــدة مــرات ،مل أقــدر عــى الرتاجــع خطــوة أمامــه،
ضحــك ضحك ـ ًة مل أفهــم ســببها ،ناولنــي كو ًبــا مــن املــاء فرشبتــه مــرة
ﺐ ﻟﻠﻨ
ـي ،عــاود اجللوس أمــام مكتبــه ،أخربين واحــدة وطلبــت آخــر ..مل يــرد عـ َّ
أنــه عــرف عنــي كل يشء؛ جمــرد طالــب يف هنايــة حياتــه اجلامعيــة ،يتيــم
ﺸﺮ
األم ،أخــرين ضاحـكًا أن تشــبيهي أليب باخلنزيــر كان بلي ًغــا؛ فعبــد احلــي
الطائــي مل حيــاول البحــث عنــي طيلــة يومــن اختفائــي ،وأن الوحيــد
ﻭ
الــذي ســأل عنــي يف قســم الرشطــة كان رجـ ًـا يدعــى «عــاء».
ﺍﻟﺘﻮ
مل أرد عليه ..أعتقد أنه قرأ شخصيتي جيدً ا؛ فسألني بشكل مبارش:
ﺯﻳﻊ
198
-النــاس يف الدنيــا دي تلــت أنــواع :نــوع اختلــق عشــان يكــون البطــل
املنقــذ؛ زي صاحبــك كــده ..ونــوع اختلــق عشــان يكــون ضحيــة ،ونــوع
تالــت النــاس بتقــول عليــه «جــاين»؛ بــس صدقنــي يــا يــارس وجــوده مهــم
عشــان احليــاة تكمــل...
مل أرصح بــا أفكــر فيــه ،فقــال ضاحــكًا كأنــه قــرأ مــا جيــول يف
خاطــري:
-طب ًعــا أنــت عايــز تقــول يل إن أنــا النــوع التالــت ..أنــا عــارف ده
ﻋﺼ
كويــس.
ﲑ ﺍﻟ
التزمــت الصمــت ،فأخــرج مــرآة صغــرة مــن درج مكتبــه ،وأكمــل
حديثــه قائـ ًـا:
ﻜﺘ
-إنام أنت نفسك تكون إيه؟ ..بطل؟!
هنــض ممســكًا باملــرآة حتــى وقــف بجــواري ،رفــع املــرآة مبــارش ًة
ﺐ ﻟﻠﻨ
أنــزل املــرآة ،ضغــط بيــده عــى جــرح كبــر يف عنقــي ،مل يعبــأ بدمــي
ﺍﻟﺘﻮ
الــذي ســال مــن اجلــرح وال بــاألمل الــذي بــدا عــى وجهــي ،قــال بلهجــة
ﺯﻳﻊ
حــادة:
-عايز تكون ضحية؟
فهمت ما يرمي إليه ،فأزحت يده عن اجلرح وقلت له بصدق:
-أنا طول عمري ضحية ..ومش حابب أكمل يف الدور ده.
199
أدرك كالنا أنني صيد سهل ،فعاد إىل مقعده وسألني مبارشةً:
-تعرف إيه عن يارس الكنعاين؟!
-أعرف متنه األول؟
سألني بلهجة عملية وهو ينظر إىل ملف ورقي أمامه:
-ماقدمتش ليه يف بعثة أمريكا اليل جت للقسم بتاعك؟
متهكم:
ً قلت
ﻋﺼ
-هاجي إيه وسط العباقرة اليل امتحنوا فيها؟
-تفتكر مني ممكن يطلعها؟
ﲑ ﺍﻟ
قلت دون تفكري:
ﻜﺘ
-غال ًبا يارس الكنعاين ..ده بيطلع األول علينا وهو مغمض.
ـت بخطــوات مــرددة ..أخــرج قلـ ًـا أســود أمــرين باالقــراب ،ففعلـ ُ
ﺐ ﻟﻠﻨ
اللــون ،وخــط عــى ورقــة بيضــاء اســم «يــارس الكنعــاين» وقــال بعــد أن
شــطب عــى كلمــة «الكنعــاين»:
ﺸﺮ
مبتســا هبــدوء:
ً األســاس ..رد
ﺯﻳﻊ
200
عرضــا ال يمكــن رفضــه؛ كان صمتــي أبلــغ عالمــات الرضــا ..كان ً
هــروب مــن ســجن الطائــي ،ومــن ســجن الفقــر ،ومــن كل الســجون
التــي حارصتنــي طيلــة حيــايت ..ســألته عــا يريــد معرفتــه ..فــر َّد ضاحكًا:
-أنت ما صدقت تبيع صاحبك يا طائي؟ عام ًة ما تقلقش..
لثوان أفكر يف مستقبيل اجلديد ،سألته برتدد: ٍ تركني
-أنا لو رفضت فيه حد غريي هيعمل كده ..صح؟
فهم ما أفكر فيه فرد بصرب:
ﻋﺼ
-أكيــد ..كتــر يتمنــوا يشــتغلوا معانــا ،بــس إحنــا الــي بنختــار
ﲑ ﺍﻟ
رجالتنــا ..ريــح ضمــرك يــا يــارس ..صاحبــك «الكنعــاين» قــدره حمســوم
ﻜﺘ
مــن يــوم مــا اختــار الســكة دي.
أكمل حديثه بلهجة خبيثة:
ﺐ ﻟﻠﻨ
201
-هتقعــد دلوقتــي تكتــب يل كل حــرف تعرفــه عــن صاحبــك
الكنعــاين ده ..ولــو خبيــت عنــي أي تفاصيــل انســى البعثــة..
ـرا مــن األوراق وقلمــن ،طلــب منــي أن أمألوضــع أمامــي عــد ًدا كبـ ً
هــذه األوراق بــكل مــا أعرفــه عــن زمالئــي ،وعــى رأســهم الكنعــاين..
مازحنــي أثنــاء مغادرتــه قائـ ًـا:
-تعــرف إنــك الوحيــد الــي معرفنــاش نضغــط عليــه بورقــة أهلــه؟..
أبــوك مــش مســاعدنا خالــص يف املوضــوع ده.
ﻋﺼ
مل أعلــق عــى قــذارة الطائــي التــي صنعــت منــي مسـ ً
ـخا يبنــي مســتقبله
ﲑ ﺍﻟ
عــى حســاب اآلخريــن ،ســألت الضابــط بخوف:
-أنتم هتفرجوا عن الكنعاين بعد ما تر ُّبوه ..صح؟
ﻜﺘ
أجابني متجن ًبا النظر يف عيني مبارشةً:
ﺐ ﻟﻠﻨ
202
يبيــع امليــاه يف حــارة الســقاة .فكــرت يف كذبــة خترجنــي مــن املوقــف؛
حجــة غيــاب قويــة أو شــخص أســتند لشــهادته ،لكننــي مل أجــد ،حتــى
آدم اختفــى متا ًمــا كاألمــوات...
-القبــض عــى أســتاذ يــارس الطائــي غــر قانــوين باملــرة يــا حــرة
الضابــط!
قاطــع أفــكاري اقتحــام «الســفري أمحــد الدرنــديل» ملكتــب ضابــط
الرشطــة ،حــن عـ َّـرف نفســه فهمــت كيــف وصــل إىل مكتــب الضابــط
ﻋﺼ
دون اعــراض مــن أحــد ،كان مرتبـكًا حيــاول اصطنــاع اهليبــة؛ مخنــت أن
ﲑ ﺍﻟ
هــذه أول مــرة يســتخدم فيهــا نفــوذه الدبلومــايس ،كــا أدركــت أنــه يعــاين
مــن مشــاكل يف النــوم مــن عينيــه املجهدتــن ..كانــت برشتــه ورديــة
ﻜﺘ
اللــون ملســاء متا ًمــا تالئــم مالحمــه ونظراتــه الطفوليــة ،كان مدكــوك
القامــة ريــايض البنيــان ..فــك أزرار بذلتــه ُبنيــة اللــون وجلــس مقابـ ًـا
ﺐ ﻟﻠﻨ
يل دون اســتئذان مــن الضابــط ،ربــت عــى فخــذي مطمئنًــا وحدثنــي
بلهجــة الصديــق املقــرب:
ﺸﺮ
-ماتقلقش يا يارس..
ـت مستســلم ،أدركــت أنــه طــوق النجــاة الــذي أومــأت لــه يف صمـ ٍ
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
أرســله ذلــك املجهــول الــذي يســيطر عــى حيــايت ،أو أنــه اجلــزرة التــي
ﺯﻳﻊ
203
التــي أدت إىل اهتامــي ،واحلقائــق التــي واجهنــي هبــا وأنكرهتــا ،ســأله
«الدرنــديل» عــن تقديــر الطبيــب الرشعــي لســاعة مقتــل محــزة درويــش،
وحــن أخــره الضابــط ر َّد «الدرنــديل» -بلهجتــه الفخمــة ولســانه األلثــغ
ـرا الكثــر مــن املســافات:
الــذي ينطــق الــراء غينًــا -خمتـ ً
-طيــب ..إيــه رأي حرضتــك إن أســتاذ يــارس كان عنــدي يف البيــت
يف نفــس الوقــت الــي حصلــت فيــه الوفــاة.
وضــع «الدرنــديل» ســا ًقا فــوق األخــرى ،ضبــط مــن وضــع شــعره
ﻋﺼ
الــذي يصففــه عــى جنــب ،وأكمــل حديثــه متك ًئــا عــى حروفــه:
ﲑ ﺍﻟ
-ويف حــرة الكثــر مــن الشــخصيات العاملــة بالســلك
ا لد بلو مــا يس .
ﻜﺘ
مقرتحا:
ً أخرج هاتفه وقال للضابط
-حتب أكلم لك أي حد فيهم يأكد لك كالمي؟
ﺐ ﻟﻠﻨ
القضيــة قــد انتهــت ،وأهنــا ســتقيد ضــد جمهــول ..قــال بلهجة مستســلمة:
-وحتى لو مكانش عند حرضتك ..كفاية إنه خيصك.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
204
-أنــا مقــدر إنــك بتشــوف شــغلك ..والبقــاء هلل يف زميلــك الــي
تــوىف ،أكيــد هــو يف مــكان أفضــل كتــر.
بــدأ الضابــط يف إجــراءات إطــاق رساحــي ،حــاول الدرنــديل أن
حيكــم متثيــل دور «صديقــي» الــذي فشــل يف أدائــه مــن األســاس ..فقــال
مازحــا:
ً للضابــط
-يــارس أخويــا الصغــر ..وطــول عمــر بيتــه بيــت كــرم ..ده كفايــة
اســمه :الطائــي!
ﻋﺼ
مل يشــغل الضابــط بالــه ســوى بالقضيــة التــي راحــت ســدى ،كان
ﲑ ﺍﻟ
متعجـ ًـا للخــاص مــن «الدرنــديل» الــذي ال يصمــت ،مل أكــن مهتـ ًـا بــا
ﻜﺘ
حيــدث ،مل أشــغل بــايل إال بالتفكــر يف هويــة ذلــك «املجهــول»؛ بالتأكيــد
هــو شــخص يعرفنــي جيــدً ا.
ﺐ ﻟﻠﻨ
نزلــت مــع الدرنــديل الــذي أعطــى رقــم هاتفــه للضابــط لــرد اخلدمــة
يف أي وقــت ،حــن خرجنــا مــن قســم الرشطــة تلفــت حولــه يف خــوف،
ﺸﺮ
زفــر يف ارتيــاح ،مهــس يف أذين أنــه ال يعرف عنــي أي يشء ،وأننــا ُمهددان
مــن نفــس الشــخص املجهــول ،أكمــل هبــدوء:
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
-توصلني فني؟
يعرفنا.
-هيتصل َّ
أدار حمــرك ســيارته البيضــاء شــديدة الفخامــة ،مخنــت أن ثمنهــا
يقــدر بماليــن ،ســألته عــن ســائقه الشــخيص ..أجــاب بلهجــة آســفة
أنــه رسح الســائق وعــد ًدا مــن احلــرس بنــا ًء عــى طلــب ذلــك املجهــول،
205
كان صاد ًقــا يف كل مــا يقــول؛ أعــرف هــذه النوعيــة مــن الشــخصيات ،ال
حتتــاج إىل الكــذب يف حياهتــا.
ـي خالهلــا
حتركنــا هائمـ ْـن ملــدة جــاوزت نصــف الســاعة ،قــص عـ َّ
ـرا،
كل مــا حــدث لــه مــع ذلــك «املجهــول» ،رن هاتــف «الدرنــديل» أخـ ً
ناولنــي اهلاتــف ألرد بصـ ٍ
ـوت عـ ٍ
ـال:
-مني «الدرنديل» ده كامن ..مش كفاية كوارث حلد كده؟!
رد «املجهول» هبدوءه املستفز:
ﻋﺼ
-ده بــدل مــا تشــكره؟ ماتعرفــش أنــا تعبــت قــد إيــه عشــان أخليــه
ﲑ ﺍﻟ
يطلعــك مــن جريمــة قتــل محــزة درويــش دي..
بصوت ٍٍ
ﻜﺘ
عال: مصححا
ً قلت
-يطلعني من جريمة أنتوا عملتوها.
ﺐ ﻟﻠﻨ
خــال برنامــج طمــس الصــوت ..لكننــي أدركــت أنــه ال فائــدة مــن هــذا
التحــدي ..ســألته هبــدوء:
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
-واملطلوب؟
ﺯﻳﻊ
206
-قول اليل أنت عايزه!
ر َّد بلهجة عملية:
-اخطف السفري الدرنديل ..وخده عىل فيال الكونت.
-بس...
وقبل أن أكمل مجلتي قاطعني بلهجة خبيثة:
-عــى فكــرة مليكــة حفظــت اســمي بســهولة؛ البنــت دي دمهــا
ﻋﺼ
خفيــف جــدً ا ..كويــس إهنــا مطلعتــش زيــك.
-حارض.
ﲑ ﺍﻟ
قال مستدركًا قبل أن يغلق اخلط:
ﻜﺘ
-صحيح ..عايزك أول ما توصل املقر تقتل عبد احلي الطائي.
***
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
207
-14اثنان
ﻋﺼ
لــو عــرف الســفري الدرنــديل أن الطريــق الــذي أرشــده إليــه ال رجعــة
لــه منــه ،ملــا أطلــق رساحــي مــن األســاس..
ﲑ ﺍﻟ
أخفيــت عنــه أن املحادثــة اهلاتفيــة التــي أجراهــا ذلــك املجهــول معــي
ﻜﺘ
ـجان ســيأرسه ،وأنــه ســيصبح ضحيــة حولتنــي مــن ضحيــة مثلــه إىل سـ َّ
«الكونــت» القادمــة ..وصفــت لــه عنــوان فيلتــي ،وخدعتــه ً
قائــا أن
ﺐ ﻟﻠﻨ
ذلــك املجهــول؛ فــا أعــرف «مــن» وال «ملــاذا» وال «كيــف» ..ال أعــرف
ســوى أنــه خمتــل ،ولديــه الكثــر مــن الصالحيــات لتنفيــذ مــا يــدور يف
ﻭ
عقلــه مــن جنــون .كانــت ســيارته مرحيــة ينبعــث منهــا رائحــة معطــر
ﺍﻟﺘﻮ
208
سألته:
-أنت كنت عايز تشتغل مع «الكونت» ..صح؟
كتــب يل أنــه ينتظــر هــذه اللحظــة منــذ زمــن ،طلــب منــي عنــوان
املقــر ..أمرتــه أن يســبقني إىل هنــاك ..مل يســأل «الدرنــديل» عــن أي
تفاصيــل ختــص وجهتنــا القادمــة ،كان قــد استســلم متا ًمــا إلرادة
«املجهــول» الــذي هيــدد أمــن عائلتــه ،وال يفكــر إال يف الطاعــة.
متصــورا طريقــة التعذيــب املثــىً تفرســت يف مالمــح الدرنــديل
ﻋﺼ
لشــخص كهــذا؛ أعــرف أنــه لــن يصمــد أمــام أبســط الطــرق ،لكــن
ﲑ ﺍﻟ
ـي ذلــك ..خطــر إىل بــايل أســئلة أكثــر أمهيــة مــن
قواعــد املهنــة تفــرض عـ َّ
الوســيلة :فــا الــذي يريــد أن يعرفــه ذلــك «املجهــول» مــن رجــل كهــذا..
ﻜﺘ
مــا املعلومــة التــي يســعى إليهــا ،وبــأي غــرض اســتهدفه؟!
قاطــع تفكــري صــوت احتــكاك فرامــل بــاألرض ،وصــوت عـ ٍ
ـال
ﺐ ﻟﻠﻨ
لبــوق التنبيــه اخلــاص بســيارة نقــل كانــت تســر خلفنــا ،أخــرج الســائق
رأســه مــن شــباك ســيارته املرتفعــة ،نظــر إلينــا مــن أعــى واهنــال علينــا
ﺸﺮ
ٍ
وبحــرج ٍ
بصــوت خفيــض بوابــل مــن الشــتائم ،اعتــذر لــه الدرنــديل
بالــغ ،وصفــه الســائق باحلــار الــذي ال يســتحق مثــل هــذه الســيارة
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
209
أمــر «الت َّبــاع» الــذي معــه أن ينتظــره يف الســيارة حتــى ينتهــي مــن أمــر
ـررا اعتــذاره للســائق ،الــذي كاد
«البهــوات دول» ..حلقنــي الدرنــديل مكـ ً
أن يســبه جمــد ًدا قبــل أن أفاجئــه بدفعــة مــن يــدي يف صــدره ،مل أســتطع
الســيطرة عــى نفــي ..حــاول الدرنــديل منــع الســائق عــن إيذائــي ،رصخ
َّيف بــأن أتوقــف ،لكننــي كنــت خــارج وعيــي متا ًمــا ..أخــرج الســائق
مطــواة صغــرة كانــت يف جيبــه ،أصابنــي يف كتفــي األيــر ،شــهق
الدرنــديل مــن منظــر الــدم ،لكــن غضبــي كان أقــوى مــن اإلصابــة،
ﻋﺼ
فرضبتــه بــن فخذيــه حتــى ســقط أمامــي ،اهنلــت عليــه بيمنــاي ضار ًبــا
وجهــه وضلوعــه بشــكل عشــوائي؛ كان األمــر أشــبه بشــجار األطفــال،
ﲑ ﺍﻟ
رصخــت فيــه غاض ًبــا مــن كل مــا مــررت بــه يف الفــرة األخــرة ،جتســدت
ﻜﺘ
أمامــي كل مــن غــرام ومليكــة؛ أدركــت اآلن كــم اشــتقت إليهــا؛ وقــد
كبحــت حــزين عليهــا وســخطي لغياهبــا ،أودعــت أملــي بداخــي لئــا
ﺐ ﻟﻠﻨ
لكــن الســائق بــدأ يســتعيد قوتــه ويزحينــي مــن فوقــه ،نــزل الت َّبــاع
مرس ًعــا لينقــذ رب عملــه ..رضبنــي عــى رأيس بعنــف ألنتفــض مــن
ﻭ
ـرت
متأوهــا ..أمـ ُ مــكاين ،دفعتــه نحــو جســم الســيارة النقــل فارتطــم هبــا
ﺍﻟﺘﻮ
ً
الدرنــديل ان يتحــرك رسي ًعــا.
ﺯﻳﻊ
طلبــت منــه القيــادة خــال أكثــر مــن شــارع جانبــي حتــى ال
يســتطيع ســائق النقــل اللحــاق بنــا .مل نتبــادل احلديــث حتــى وصلنــا
إىل فيلتــي القابعــة بإحــدى بقــاع الطريــق الصحــراوي ،أعطــاين بضعــة
رن هاتفــي برقــم مناديــل ورقيــة ألضمــد هبــا كتفــي الــذي كان ينــزفَّ ..
«املجهــول» الــذي ســألني بفضــول:
210
-فكرت يف طريقة لتعذيبه؟
-آه ..بس عايز أعرف ليه؟
-عشان أنا عايز كده.
قلت بلهجة عملية:
-مابشتغلش بفلوس يارس ..وجنابك رسقت حساب الكونت.
ر َّد «املجهول» ضاحكًا:
ﻋﺼ
-ملــا توصــل املقــر بتاعــك هتالقينــي ســايب لــك فلــوس هنــاك..
تقــدر تشــري بيهــا كل الــي أنــت حمتاجه ..وتقــدر تعتــر الباقــي أتعابك،
ﲑ ﺍﻟ
ولــو إن مفيــش أتعــاب أغــى وال أهــم مــن حيــاة مليكــة وغــرام.
ﻜﺘ
فرت دمعة مني ،قلت له بلهجة متوسلة:
-مها ً
فعل كويسني؟
ﺐ ﻟﻠﻨ
***
ﺍﻟﺘﻮ
وصــل آدم متاخـ ًـرا لكنــه أحــر كل مــا طلبتــه ،فــزع مــن منظــر
ﺯﻳﻊ
جثــث كالب احلراســة التــي ســممها ذلــك املجهــول حتــى يتســنى لــه
دخــول الفيــا ووضــع املــال هبــا ..لفــت نظــري إىل جــروح وجهــي
وقميــي الغــارق يف الــدم ،أخربتــه أننــي ســأصعد ألرتــدي بدلتــي
الكاملــة ..ســألني بحــرة بالغــة:
-الراجل ده عرف ازاي موقع فيال الكونت؟!
211
ً
مندهشا: سألته
-هــو موقــع الفيــا ماظهــرش لــه بعــد مــا اخــرق احلســاب بتاعــي
عــى الــدارك ويــب؟
ر َّد بلهجة متيقنة:
-مســتحيل ..نظــام احلاميــة الــي كان مصممه صاحبــك األمريكاين كان
مهــه األول إنــه يــداري املوقــع بتاعــك ..وغال ًبــا اجلــدع ده عــرف يوصــل لك
ملــا كشــف هويــة يــارس الــي أكيد فتحت حســابه مــرة مــن أجهــزة الكونت..
ﻋﺼ
احنــا لألســف بنتعامــل مــع حــد دارســك كويس جــدً ا..
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ أكملت مجلته ً
قائل:
-أو حد قريب مني..
كان «اخلواجــة» يتلفــت حولــه يف انبهــار؛ ســألني -وهــو يتابــع شــي ًئا
ﺐ ﻟﻠﻨ
مــا عــى هاتفــه -عمــن ينظــف هــذا املــكان ،وحيــر يل أدوات التعذيــب
فيــا ســبق ،ومــن يضــع األكل للحيوانــات القابعــة يف الطابــق الســفيل،
ﺸﺮ
أجبتــه أننــي أفعــل كل هــذا بشــكل دوري ..اندهــش مــن مقــدريت عــى
املوازنــة بــن اهلويتــن ،مل أخــره أن األمــر كان ممت ًعــا برغــم كل هــذا
ﻭ
املجهــود..
ﺍﻟﺘﻮ
212
-صدقنــي األمل النفــي أعظــم وأبشــع بكتــر مــن اجلســدي ،يعنــي
بيتهيــأ يل إن عــذاب اآلخــرة احلقيقــي مــش يف نــار جهنــم؛ بــس يف فكــرة
اخللــود جواهــا.
اقتــدت آدم إىل حجــرة الضحايــا حيــث احتجــزت «الدرنــديل» ،مل
يأخــذ ختديــره وتقييــده باحلجــرة جمهــو ًدا يذكــر ..طلبــت منه أن يســاعدين
يف إنــزال املعــدات التــي أحرضهــا يف ســيارة نصــف نقــل أجرهــا
بالســائق ..كنــت مره ًقــا بعــد تــوايل الصدمــات فــوق رأيس ،عــاوة عــى
ﻋﺼ
ـيالبيــات يف احلبــس وشــجاري مــع الســائق ،فعــرض «آدم اخلواجــة» عـ َّ
أن ينزهلــا بمفــرده ،توجهــت للحجــرة البيضــاء حيــث أحتجــز عبــد احلــي
ﲑ ﺍﻟ
الطائــي ..كان عــى نفــس حالتــه منــذ أن تركتــه؛ مل ينفــد طعامــه ،خاصـ ًة
ﻜﺘ
أن شــهيته مل تعــد كالبــر ،كان قــد تغــوط عــى نفســه أكثــر مــن مــرة..
ـن مــن احلجــرة البيضــاء ،أخرجــت توجهــت إىل ثالجــة صغــرة يف ركـ ٍ
ﺐ ﻟﻠﻨ
213
اســتنكر آدم حــن رآين حامـ ًـا جثــان الطائــي ..ســألني َّ
عمــن يكــون،
فأجبتــه أنــه ضحيــة قديمــة عاشــت أكثــر ممــا تســتحق ..تغــرت نظرتــه يل
للحظــات ،قبــل أن يبــدأ آدم يف مالمتــي أمرتــه أن يدفــن اجلثــة يف موقــع
ـت أعلــم أنــه ســيجد تربيـ ًـرا لفعلتــي مــن
مســترت مــن حديقــة الفيــا؛ كنـ ُ
ـال مــن «املجهــول» حتــى خيــرين بــا يريــد أن يعرفــهنفســه ،انتظــرت اتصـ ً
مــن «الدرنــديل» ،أعلــم أن االنتظــار أبشــع عــذاب لضحيتــي؛ لكــن هــذه
املــرة كان االنتظــار يعذبنــي معــه!
ﻋﺼ
وصلتنــي رســالة مــن «املجهــول» بعــد ســاعة مــن االنتظــار ..دخلــت
عــى الدرنــديل ،كان لديــه الكثــر مــن األســئلة ،مل أبادلــه احلديــث،
ﲑ ﺍﻟ
نصبــت املعــدات التــي أحرضهــا آدم كيفــا ختيلــت متا ًمــا ،قيــدت
ﻜﺘ
الدرنــديل بإحــكام فــوق املقعــد اجلالــس عليــه ،وأكملــت عمــي الــذي
مل يفهــم الدرنــديل شــي ًئا منــه ،قلــت لــه هبــدوء:
ﺐ ﻟﻠﻨ
-يف العــادي بقــول ألي حــد مكانــك ميخافــش ..ألين يف األول ويف
اآلخــر املتحكــم يف املوضــوع ،وغال ًبــا بســيبه يطلــع حــي.
ﺸﺮ
-بــس املــرة دي أنــا مــش أعــى إيــد يف اللعبــة ،وفيــه إيــد أعــى
ﺯﻳﻊ
214
-مشــكلة اإلنســان إنــه دايـ ًـا بريبــط اخلطــر باملــكان ،مايعرفــش إن
اخلطــر زي املــوت..
أكملت حديثي متك ًئا عىل حرويف:
-موجود يف كل مكان.
-طــب شــوف الــي بيهــددين ده عايــز يعــرف إيــه وأنــا هقــول لــك
مــن غــر تعذيــب!
ﻋﺼ
-هو مش عايزك تقول دلوقتي ..هو عايزك تتعذب!
مل أشــعر بتأثــر كلــايت عليــه؛ كأننــي فقــدت الكثــر مــن ســحري
ﲑ ﺍﻟ
الــذي حــل الفتــور حملــه ،قلــت لــه مزي ًفــا اســتمتاعي التــام بــا حيــدث:
ﻜﺘ
الوجهة إطال ًقا. -الكنز يف الرحلة يا سيادة السفري ،مش يف ِ
تركتــه يســتنجد بمــن ينقــذه؛ كان يعلــم أن موقــع الفيــا منعــزل متا ًمــا
ﺐ ﻟﻠﻨ
لكنــه كان غري ًقــا يتعلــق بقشــة غــر موجــودة ..صعــدت إىل غرفــة نومــي
حيــث طلبــت مــن آدم أن ينتظــرين ،كان يتأمــل كل مــا يف الفيــا بدهشــة
ﺸﺮ
وبــدأت أطالــع أمحــد الدرنــديل مــن خــال كامــرات املراقبة ،شــعرت أن
ﺍﻟﺘﻮ
آدم حيمــل بداخلــه الكثــر مــن األســئلة ،فــأرشت نحــو شاشــة احلاســب
ﺯﻳﻊ
وقلــت لــه شـ ً
ـارحا:
بعــرض
«تزاحــم احلــواس»؛ يعنــي أنــا َّ
ُ -الطريقــة دي اســمها
«الدرنــديل» ألقســى املؤثــرات الــي ممكــن تتعــرض هلــا حواســه..
أرشت بمــؤرش احلاســب عــى جــدران احلجــرة ،وقــد تــم تثبيــت أربع
شاشــات تلفزيونيــة عمالقــة عــى كل حائــط ..أكملــت حديثي شـ ً
ـارحا:
215
-نبــدأ بــاإلدراك ..األربــع شاشــات دول زي مــا أنــت شــايف
بيعرضــوا نفــس الفيلــم ،بــس كل فيلــم متأخــر عــن التــاين بـــ 3ثــواين
بالظبــط ..حاجــة متعبــة جــدً ا لــإدراك.
حركــت املــؤرش ليشــر أســفل املقعــد الــذي مل يتوقــف عــن الــدوران
بأمحــد الدرنــديل ،قلــت:
-وربطنــا الدرنــديل يف كــريس متثبــت بقاعــدة دوارة؛ عبــارة عــن
قــرص متوصــل بالكهربــا عشــان يلــف حوالــن حمــوره ..كنــت شــارهيا
ﻋﺼ
زمــان عشــان ضحيــة قديمــة ..القاعــدة دي بتخــي الكــريس يتحــرك
ﲑ ﺍﻟ
ـدوخ الضحيــة ،ومنهــا بتجــره يتفــرج عــى األربــع
ﻜﺘ يف دوايــر؛ فمنهــا بتـ َّ
شاشــات يف نفــس الوقــت تقري ًبــا.
اســتنتج أن الســاعات املدويــة التــي اشــراها ليتــم توصيل الشاشــات
ﺐ ﻟﻠﻨ
هبــا كانــت للتأثــر عــى حاســة الســمع لــدى الضحيــة ..أخربتــه أن
قائــا أننــي وضعــت بعــض املســامري ً اســتنتاجه صحيــح ،وأضفــت
ﺸﺮ
نكــون قــد آذينــا حاســة اللمــس لديــه .قــال آدم كتلميــذ نجيــب:
ﺯﻳﻊ
-وجثــث كالب احلراســة الــي خليتنــي أنزهلــم لــه بــدل مــا ندفنهــم
عشــان تأثــر عــى حاســة الشــم ،والكشــافات العاليــة الــي فــوق كل
شاشــة عشــان ميعرفــش يغمــض عينــه وينــام.
-ضيــف عــى كل ده إين عامــل نظــام إطفــاء للحرائــق يف الغرفــة دي،
كل مــا أحــس إنــه هيفقــد الوعــي هفعــل النظــام ،والســقف هينــزل ميــة
216
عليــه ..ده طب ًعــا غــر التكييفــات الــي أنــا بتحكــم فيهــا مــن هنــا؛ يعنــي
ممكــن نخــي اجلــو عنــده قطــب جنــويب وبعــد ثــواين نخليــه خــط اســتواء!
صفــق آدم بإعجــاب شــديد ،وصــف تفكــري بالشــيطاين ،ســألني
عــن املعلومــات املطلــوب معرفتهــا مــن الدرنــديل ،فأجبــت لــه مســتعيدً ا
مــا أمــرين بــه «املجهــول»:
-مطلوب مني أخليه حيكي كل حاجة عن أرملته!
أطلــق آدم ســبة بذيئــة ،أبــدى اندهاشــه مــن هــذا الطلــب الغريــب..
ﻋﺼ
مازحــا أننــا إن عزمنــاه عــى فنجــان مــن القهــوة واســتدرجناه
ً ع َّلــق
ﲑ ﺍﻟ
فســيقول نفــس املعلومــات ،اســتأذن منــي آدم أن أوقــف التعذيــب
لدقائــق ،نــزل إىل أســفل وثبــت كامــرا تصويــر أمــام وجــه الدرنــديل،
ﻜﺘ
وأمــره باحلديــث عــن أرملتــه ..مل يكــن لــدى الدرنــديل املقــدرة عــى
الرفــض أو إبــداء التعجــب مــن األســاس ،أخــذين آدم مــن يــدي إىل
ﺐ ﻟﻠﻨ
غرفــة نومــي ثاني ـ ًة ،صمــم عــى تشــغيل موســيقى العــود التــي اكتشــف
حبــه هلــا ..تعجبــت مــن اندماجــه الرسيــع يف عمــل «الكونــت» وحرصــه
ﺸﺮ
217
-طب أنت حاسس بفرق؟
قلت بصدق:
-فــرق كبــر ..أنــا مــش حاســس بــأي متعــة دلوقتــي ،برغــم إن
الطريقــة دي قاســية جــدً ا بالنســبة لبعــض الطــرق الــي اشــتغلت بيهــا
زمــان ..عايــز الكابــوس ده ينتهــي.
أوقفت مقطوعة العود ،وأكملت حديثي هبدوء:
-أنــا متعتــي مــش يف الوجــع ..لكــن لــذيت احلقيقيــة مصدرهــا إين
ﻋﺼ
متحكــم متا ًمــا يف مصــر الــي قدامــي ،وإن ترصفــايت مفيــش عليهــا أي
ﲑ ﺍﻟ
لســلطتي ،لكــن
رقيــب مــن أي نــوع ..أمل ضحيتــي مفتــاح خضوعهــا ُ
مســتحيل يكــون هــو الشــهوة الــي ترضينــي.
ﻜﺘ
صمت ً
قليل ،ثم سألني:
ﺐ ﻟﻠﻨ
-تقصد إيه؟
-فيــه حاجــات كتــر أنــت حكيتهــا يل مايعرفهــاش أقــرب النــاس
ﻭ
ليــك ..بــس اخلاطــف ده يعرفهــا؛ أمههــم مقــر الكونــت مثـ ًـا ،الــي أكيــد
ﺍﻟﺘﻮ
ويــب.
أكمل برسعة قبل أن ينسى استنتاجه:
-ده غــر إنــه بيعــرف كل حتركاتنــا ،مــع إين متأكــد بنفــي مــن إن
تليفوناتنــا حمميــة ضــد التتبــع.
218
شــعرت باحلــرة مــن كالمــه ..كان «آدم اخلواجــة» مــرد ًدا يف إخباري
بــا توصــل إليــه ..طلبــت منــه بنفــاد صــر أن خيــرين بتخمينــه ،فقــال بعــد
أن اكتملــت الصــورة يف ذهنه:
دايــا ســابقنا بخطــوات ،كل مــكان بنروحــه بيكــون -اخلاطــف ً
هــو ســابقنا هنــاك ،عــارف حاجــات مــش ســهل أي حــد يعرفهــا ،فاكــر
ملــا طلبــت منــي أدور عــى «كريــس بــراديل»؟ بعدهــا عــى طــول لقينــا
«اخلاطــف» ده بيتصــل وعــارف احنــا بنعمــل إيــه! ..ده الزم يكــون حــد
ﻋﺼ
قريــب منــك زي الظــل بالظبــط.
ﲑ ﺍﻟ
آمرا:
رصخت فيه ً
-إنجز يا آدم وقول قصدك إيه؟!
ﻜﺘ
-أنا عرفت مني اليل خطف غرام ومليكة يا أستاذ يارس.
-مني؟
ﺐ ﻟﻠﻨ
-الكونت.
***
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
219
-15نريان صديقة
ﻋﺼ
شــعرت بكلــات آدم تعتــر قلبــي ملجــرد التفكــر يف احتامليــة كــوين
املســئول الوحيــد عــن كل هــذا..
ﲑ ﺍﻟ
جلســت فــوق أقــرب املقاعــد يل ،شــعرت أن الــدم ســينفجر يف أي
ﻜﺘ
حلظــة مــن رشايــن خمــي الــذي توقــف متا ًمــا عــن العمــل ..مل أحتــج
للكثــر مــن الدالئــل حتــى أدرك أن كالم آدم صحيــح ،فمــن ســواي
ﺐ ﻟﻠﻨ
يعلــم حتــركايت هبــذه الرسعــة ،وينفــذ األمــور هبــذه احلرفيــة ..مل جيــد
آدم مــا يقولــه ســوى بعــض اهلمهــات ،ربــت عــى كتفــي وطلــب منــي
ﺸﺮ
بحــرج شــديد أن أحــاول تذكــر مــكان غــرام ومليكــة ،توســلت إليــه أال
يرتكنــي مهــا حــدث ،وأن يعرضنــي عــى طبيــب نفــي إن لــزم األمــر..
ﻭ
ال هيمنــي اآلن انكشــاف أمــري أو أي يشء آخــر ،ال هيمنــي إال عــودة
ﺍﻟﺘﻮ
220
ر َّد آدم كأنه وجد طوق نجاة يفسد صحة استنتاجه:
-صــح ..وأنــا كنــت بســمع صــوت اخلاطــف عــى التليفــون..
واملكاملــات كلهــا مســجلة ،وكــان مــن الــي صــورك وأنــت خــارج مــن
عنــد «متَّــام»؟
قاطعته بخيبة أمل:
-أكيد «الكونت» أجر حد من «الدارك ويب» يعمل كل ده فيا.
بــدأت أتعامــل مــع الكونــت كشــخص آخــر؛ لــه إرادة منفصلــة متا ًمــا
ﻋﺼ
عنــي ،ليــس جمــرد هويــة صنعتهــا بنفــي ..ســألني آدم:
ﲑ ﺍﻟ
-يعني حرضتك مش فاكر أي حاجة من دي؟
ﻜﺘ
ـدي وهززهتــا ناف ًيــا ،مل أجــد مــا يقــال ..هــززت
دفنــت رأيس بــن يـ َّ
مســتنكرا:
ً رأيس ناف ًيــا ،صحــت فيــه
ﺐ ﻟﻠﻨ
-أكيــد مــش أنــا الــي عملــت كل ده ..أنــت شــارب حاجــة يــا آدم
صــح؟ ..رحينــي وقــول يل إنــك مــش يف وعيــك ..مــش هتضايــق منــك
ﺸﺮ
بجــد!
ضحك ضحكة قصرية ورد بصدق:
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
221
نحــو البهــو ألجــد أمامــي رجلــن ضخمــي اجلثــة ،أشــهر آدم الســاح
يف وجهيهــا وســأهلام عمــن يكونــان ..مل أتوقــع ردة فعلهــا؛ فحــن رآين
أحدمهــا أشــار يل حمي ًيــا واقــرب دون خــوف ً
قائــا:
-احنا جينا حسب امليعاد يا كونت.
نزلــت الســلم بحركــة رسيعــة وخلفــي آدم ،ســحب آدم مفتــاح
األمــان الــذي دوى صوتــه يف هبــو الفيــا ..قلــت هلــا:
أصل؟! -ميعاد إيه ..أنتم مني ً
ﻋﺼ
رد الرجــل اآلخــر ،بــدا يل كأنــه التابــع ،كان ضخـ ًـا عــى قــدر مــن
ﲑ ﺍﻟ
قبحــا:
البدانــة ،وتغطــي وجهــه ندبــة كبــرة زادتــه ً
ﻜﺘ
-أنت بتستهبل عشان ماتديناش باقي حسابنا؟!
أطلق آدم رصاصة يف اهلواء مهد ًدا:
ﺐ ﻟﻠﻨ
أرشت لــه حتــى يصمــت وطلبــت مــن هــذا القائــد أن يــرح بشــكل
ﺯﻳﻊ
222
سأله آدم عن طبيعة االتفاق ،فر َّد الرجل بنفاد صرب:
-اتفــق معانــا نبعــت لــه رســايل هتديــد ونخطــف مراتــه وبنتــه مــن
اإلســكندرية ،ونكلمــه يف التليفــون هنــدده بــكالم هــو الــي كتبــه لينــا،
ونخليــه ينفــذ تعليــات هــو بنفســه الــي مالهــا لنــا.
زاغ بــري ،بــدأت املوجــودات ختتفــي مــن أمــام عينــي ،شــعرت أن
وعيــي ينســحب منــي ،اســتندت عــى آدم الــذي ســأل الرجــل املأجــور
بتعجــب:
ﻋﺼ
-يعنــي أنتــم الــي صورتــوه يف إمبابــة وبعتتــوا الصــور لدكتــورة
ﲑ ﺍﻟ
أســاء؟
-آه وإحنــا الــي قتلنــا الظابــط محــزة ..وبعتنــا لــه الســفري الدرنــديل
ﻜﺘ
عشــان يشــهد معــاه.
مشريا نحوي: وختم حديثه
ﺐ ﻟﻠﻨ
ً
-وكله كان بتعليامت الكونت.
ﺸﺮ
دلوقتــي؟
ﺯﻳﻊ
223
ظلــت «مايســة» واقفــة مكاهنــا ال تــدري مــاذا تفعــل ..تنتظــر أن
يقــوم «عــم وهــدان املراكبــي» بعمــل معجـ ٍ
ـزة تعيــد احليــاة لــرايف الــذي
فقــد الوعــي ..مل تعلــم إن كانــت أحبتــه أم أحبــت مالــه أم أحبــت نظرتــه
إليهــا كأنثــى حقيقيــة ،مل تلفظــه مــن أحضاهنــا كــا لفظتــه احليــاة التــي
اعتزهلــا لريمــي بــكل مــا يملكــه فيهــا أســفل قدمــي «مايســة»؛ فابتــاع
عوامــة « وهــدان املراكبــي» واصطفاهــا لتكــون عشــيقته ،ولتحــر لــه
مــا يريــد مــن املخــدرات مســتغل ًة عالقاهتــا ..مل يشــرط عليهــا أن تكــون
ﻋﺼ
لــه وحــده لكنهــا ألزمــت نفســها بذلــك؛ مــا دام «رايف» هــو مــن ينفــق
عليهــا فســتكون ملكــه.
ﲑ ﺍﻟ
مل يتوقــف ســوقها كعاهــرة حتــى بعــد أن جــار الزمــن عليهــا وأخــذ
ﻜﺘ
مــن مفاتنهــا مــا أخــذ ..اســتهدفت صغــار الســن ،كانــت تــرى املراهــق
زبو ًنــا يسء الــذوق ســهل اإلرضــاء؛ يمكــن إشــباع شــهوته بأقــل القليل.
ﺐ ﻟﻠﻨ
بــدأ عــم وهــدان يفقــد صــره؛ رفــع قدمــي رايف إىل أعــى ،رصخ يف
أذنيــه ،خبــط عــى صــدره بقــوة ،رضب قلبــه أكثــر مــن مــرة بيــأس كأنــه
ﺸﺮ
224
-لو خدناه مستشفى هيبقى كويس؟
عال: ٍ
بصوت ٍ رد وهدان
-مستشفى إيه يا هبيمة أنتي كامن؟ ده ميت بقاله ياما!
أطلقــت مايســة رصخــة قصــرة ،صكــت صدرهــا ووجههــا بحــزن
حقيقــي ،وانحنــت إىل جــوار رايف مناديــ ًة عليــه ،ظلــت تــردد بحنــان
«قــوم يــا يس رايف ..أبــوس إيــدك قــوم»َّ ..
هــز وهــدان رأســه بيــأس،
ﻋﺼ
وســأهلا باهتــام حقيقــي:
-شنطة الفلوس اليل جاهبا معاه أول يوم فاضل منها كتري؟
ﲑ ﺍﻟ
ردت مايســة بلهجــة الئمــة أهنــا جيــب أن تبلــغ أحــدً ا مــن أهلــه ،وال
ﻜﺘ
وقــت للحديــث عــن املــال ..فنهرهــا وهــدان وجذهبــا مــن جــوار رايف،
ـررا ســؤاله بعصبيــة وبصــوت حــاول أمســكها مــن ســاعدهيا بعنــف مكـ ً
ﺐ ﻟﻠﻨ
أن خيفضــه:
-إفهمــي يــا بقــرة ..رايف مــات خــاص ..ولــو بلغنــا هنــروح يف
ﺸﺮ
ســتني داهيــة.
ﻭ
كانــت مايســة قــد رأت يف حياهتــا مــا جيعلهــا تتغلــب عــى حزهنــا
ﺍﻟﺘﻮ
رسي ًعــا ،وتســأل وهــدان عــن اخلطــوة القادمــة ..فقــال هلــا بلهجــة عملية:
ﺯﻳﻊ
225
مل يلحــظ وهــدان صــوت هاتــف رايف الــذي صــدر عنــه آخــر مــا كان
يســمعه قبــل وفاتــه؛ كان «الشــيخ أمحــد التــوين» خيتتــم إنشــاده:
ُ
«خــر العاميــم وأنــا نايــم ندهــوين ..أهــل الكـ َـرم يف احلــرم ناديتهــم
جــوين».
***
زاغ بــري متا ًمــا ،شــعرت بــاألمل يعتــرين مــن الداخــل ،بــدأت
ﻋﺼ
أهــذي بكلــات مل يفهمهــا أحــد الواقفــن ،ســقطت عــى األرض
ـارحا يف ذكريــايت مــع غــرام ومليكــة:
ـارا ،انفصلــت عــن املوقــف سـ ً منهـ ً
ﲑ ﺍﻟ
احلســنة الوحيــدة التــي ظفــرت هبــا مــن احليــاة .اآلن فقــط أدرك قيمــة
ﻜﺘ
وجودمهــا بعــد أن حرمــت نفــي منهــا ،شــعرت بحضــن غــرام الــذي
مل يغمــرين إال حنانًــا ،وبأصابعــي الطويلــة وهــي تداعــب وجنتيهــا،
ﺐ ﻟﻠﻨ
برشهتــا الناعــم حــن أقبلهــا قبــل النــوم ،ونظراهتــا اخلائفــة مــن كابــوس
مــا حــن تأتينــي يف منتصــف الليــل لتلــوذ بحضــن أمهــا وحترمنــي منــه..
ﺯﻳﻊ
226
اهلل يف رسي أن يأخــذين ،ال أريــد احليــاة بعــد اآلن ..وال أســعى للظفــر
بأنفــاس جديــدة عــى وجههــا...
أفقــت عــى صــوت آدم يتشــاحن مــع الرجلــن وحيــاول طردمهــا مــن
الفيــا ،كانــت رؤيتــي مشوشــة متا ًمــا؛ بالــكاد اســتطعت متييــز األجســاد
عــي ،والرجــان مــن حــويل؛ كان آدم منحن ًيــا إىل جــواري لالطمئنــان َّ
ـي يف إغامئــي؛ أظــن أنــه
اآلخــران يقفــان مندهشــن ..مل أعــرف كــم مــر عـ َّ
مل يتجــاوز الدقائــق ..رصخ آدم فيهــا بغضــب :كفايــة كــده!
ﻋﺼ
رد أحد الرجلني بعناد واضح:
ﲑ ﺍﻟ
-مش هنتحرك غري بأمر اليل مشغلنا! ..الزم املهمة تتم لآلخر.
ٍ
ﻜﺘ
وبصوت متهدج: سألتهام بنصف وعي
-مهمة إيه هو مش قال لكم كفاية؟
ﺐ ﻟﻠﻨ
«الكونــت» حتــى حيصــا عــى حســاهبام كامـ ًـا ،وأننــي أمرهتــا ان ينفــذا
مــا أطلبــه منهــا حتــى لــو قمــت بإلغائــه ..توســلت إليهــا كــي يتوقفــا عــا
يفعــان ..لكــن يبــدو أن حديثــي جــاء متأخـ ًـرا ،نحــاين أحدمهــا جان ًبــا
وأطلــق الرجــل الضخــم رصاصــة نحــو آدم الــذي مل يصــدق مــا حيدث..
تفاداهــا بأعجوبــة ،وأطلــق ســبة مســتنكرة ملــا حيــدث ،صــوب ســاحه
227
أرضــا..
يف خفــة جتــاه مطلــق النــار لتصيــب الرصاصــة رأســه ويســقط ً
حــدث كل يشء رسي ًعــا ،مل أحتمــل صــوت الرصــاص العــايل وال الــدم
الــذي تناثــر مــن رأس هــذا املأجــور ..أمســكني املأجــور اآلخــر الــذي
مخنــت ســاب ًقا أنــه القائــد منهــا ،أحكــم ســاعده حــول رقبتــي وصــوب
مسدســا بدائ ًيــا -حــول رأيس مهــد ًدا آدم بقتــي،
ً ســاحه -الــذي كان
مل أســتطع ومل أقــدر مقاومتــه ،نظــر آدم بخــوف نحــو الســاح املصــوب
جتاهــي ..طلــب مــن املأجــور التفــاوض عــى حيــايت ..مل أملــك رفاهيــة
ﻋﺼ
الصــر وال التفــاوض؛ فانحنيــت بخفــة حتــى أفــر مــن قبضتــه غــر
املحكمــة ،منســح ًبا مــن أمــام آدم ألتــرك لــه حريــة التصويــب ..رضب
ﲑ ﺍﻟ
املأجــور أكثــر مــن طلقــة طائشــة جتاهــي ..زحفــت عــى األرض حتــى
ﻜﺘ
وصلــت إىل جثــة الرجــل اآلخــر الــذي قتلــه آدم ،زحفــت فــوق بقايــا خمــه
املتناثــر عــى األرض ،متغاض ًيــا عــن رائحــة دمــه الســاخن التــي مــأت
ﺐ ﻟﻠﻨ
هذيــن املأجوريــن ،فلــم أجــده واق ًفــا! ..كان راقــدً ا عــى ظهــره والــدم
ﺍﻟﺘﻮ
يســيل حولــه مــن كل اجتــاه ،مل تســعفني قدمــي للنهــوض ،فزحفــت نحوه
ﺯﻳﻊ
بحركــة رسيعــة ..كان جســده قــد تلقــى أكثــر مــن رصاصــة؛ فكــرت أن
أطلــب اإلســعاف ،لكننــي أدركــت هنايتــه حــن رأيــت إحــدى هــذه
ناثــرا دمائــه يف كل
الطلقــات وقــد اخرتقــت قلبــه الــذي كان ينتفــض ً
مــكان ،يــارس صحــوة املــوت..
حــاول أن يشــر إىل الرجلــن فطلبــت منــه الصمــت ..مل أعــرف مــا
228
ـرا؛ فأنــا مــن ســبب لــه كل هــذا
ُيقــال يف هــذه األوقــات ،اعتــذرت لــه كثـ ً
األمل وأهنيــت حياتــه هبــذه الطريقــة ..بكيــت إىل جــواره ،نظــر يل كأنــه
مبحوحــا ،وقــال بصعوبــة بالغــة:
ً يريــد أن يقــول شــي ًئا مــا ..خــرج صوتــه
-اسأل عىل أرشف يا يارس ..أرجوك.
مل يســعفني الوقــت ألودع آدم الــوداع الالئق ،فقد خرج َن َفســه األخري
مصحو ًبــا بالكثــر مــن الدمــاء التــي تناثــرت رسي ًعــا مــن فمــه ليغــرق
وجهــي باللــون األمحــر ،أغلقــت عينيــه بيمنــاي ،نطقــت الشــهادتني ال
ﻋﺼ
إراد ًيــا ..مل أمتالــك نفــي مــن احلــزن والســخط عــى ذايت؛ مل ِ
أدر أأحــزن
ﲑ ﺍﻟ
عليــه أم عــى رحيــل زوجتــي وابنتــي ،أم ألننــي كنــت الســبب يف كل
هــذا ،فكــرت يف االنتحــار وإهنــاء كل هــذه املهــازل ..لكــن جســدي مل
ﻜﺘ
يســعفني ،رفــض أن يمــدين بالطاقــة ألكثــر مــن هــذا ،شــعرت بــأمل عظيــم
يف رأيس وبانقبــاض قلبــي ..حتــى هويــت إىل جــوار آدم فاقــدً ا وعيــي،
ﺐ ﻟﻠﻨ
ظللــت مســتلق ًيا عــى األرض ملــدة تقــارب اليومــن ،كلــا اســتيقظت
رأيــت جســد آدم املســجي إىل جــواري ،والــذي انقطــع عنــه الــدفء،
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
وتذكــرت مــا فعلــه هــذان املأجــوران بغــرام ومليكــة بأمــر مبــارش منــي..
ﺯﻳﻊ
فأســقط مــرة أخــرى يف إغامئــي الــذي اختذتــه وســيلة إلنــكار مــا حــدث،
دعــوت اهلل أن أمــوت خاللــه ..رأيــت الكثــر مــن الكوابيــس واخلواطــر؛
ـرا يف حقبــة مل أولــد فيهــا بعــد..
جتــى أمامــي «عبــد احلــي الطائــي» صغـ ً
رأيتــه شــا ًبا يتحمــل ســخرية اآلخريــن مــن شــكله وملبســه ،ويتحمــل
مقالــب زمالئــه يف العمــل ،رأيــت مشــهدً ا يضعــون لــه امليــاه فــوق أحــد
229
املقاعــد ويضحكــون ســاخرين مــن شــكله حــن يشــعر بامليــاه وينتفــض
بعــد أن بلــل بنطالــه ..مل أعلــم إن كان مــا أراه رؤى أم جمــرد ضــاالت
وأوهــام أتتنــي مــن وحــي التفكــر فيــه ..حــرت يف أنفــي رائحــة غــرام
ـدل عــن رائحــة الــدم واجلثــث املتعفنــة إىل جــواري ،تذكــرت آخــر لقــاء بـ ً
محيمــي مجعنــي هبــا؛ كان بعــد حادثــة شــجاري مــع «بائعــة الفــل» ..مل
ـس نظــرة غــرام ليلــة الشــجار حــن طلبــت منــي أن أتــرف معهــا يف أنـ َ
الفــراش كرجــل رشقــي حقيقــي ،وليــس كــزوج حمــب ..كاد «الكونــت»
ﻋﺼ
أن خيــرج رغـ ًـا عنــي ليتــوىل األمــر كــا أفعــل مــع عاهــرة مــكاوي ،لكننــي
حتكمــت فيــه بالــكاد ألتــرف كـ»يــارس»؛ صحيــح أن ترصفــايت خالفت
ﲑ ﺍﻟ
رغباهتــا ،لكنهــا مل تكشــف عنــي غطائــي ..مل أعــرف ملــاذا أتتنــي هــذه
ﻜﺘ
الذكــرى دو ًنــا عــن باقــي الذكريــات التــي جتمعنــي بالراحلــن.
مل تســعفني طاقتــي أو رغبتــي يف تنظيــف آثــار املعركــة ،تركــت الفيــا
ﺐ ﻟﻠﻨ
مزيــا دمــاء آدم عنــي ،غــرت بدلتــي امللطخــة ً بعــد أن اســتحممت
بالدمــاء بــرداء ريــايض آخــر ،أحرقــت كل األوراق التــي تــدل عــى
ﺸﺮ
أجــرت حمرت ًفــا مــن اإلنرتنــت املظلــم للمــرة األخــرة ،كانــت مهمتــه
ﺯﻳﻊ
َّ
ســهلة هــذه املــرة :توصيــل جثــان آدم إىل عمــه الــذي احتفظــت بعنوانه..
كان يســتحق ودا ًعــا الئ ًقــا ودفنًــا يليــق باإلنســان الــذي كان عليــه..
فعلــت مــع جثامنــه مــا متنيــت أن ُيف َعــل مــع مــا تبقــى مــن غــرام ومليكــة؛
مــات مجيــع مــن يعرفــون مكاهنــا احلــايل ،حتــى أنــا دفنــت احلقيقــة
بداخــي وال أســتطيع العثــور عليهــا.
230
مل أعبــأ برؤيــة ذلــك املحــرف لوجهــي ،تركتــه ينظــف املــكان ويدفــن
املأجوريــن يف حديقــة الفيــا ،صعــدت إىل أعــى ثاني ـ ًة؛ اســتلقيت عــى َ
رسيــري ،أخرجــت اهلاتــف الــذي كان حيدثنــي مــن خاللــه «املجهــول»
الــذي اتضــح أنــه كان أداة يف يــد «الكونــت» ،بــدأت أســمع مكاملاتــه
املســجلة بح ًثــا عــا يربئنــي مــن مقتــل غــرام ومليكــة ،ويف نفــس الوقــت
فتحــت هاتفــي األصــي ألشــاهد بعــض الصــور واملقاطــع التــي ســجلتها
لغــرام ومليكــة ،أثنــاء نزهاتنــا القليلــة ،ومقطــع آخــر أثنــاء تعليمــي ملليكة
ﻋﺼ
املــي ووقوعهــا املتكــرر ،وبعــض الصــور يل مــع غــرام التــي احتفظــت
ﲑ ﺍﻟ
هبــا منــذ أيــام اخلطوبــة ..لكــن شــعور الذنــب مل يفارقنــي.
طلبــت ســيارة أجــرة عــن طريــق تطبيــق ،Uberمل أعبأ بتكلفــة الرحلة
ﻜﺘ
التــي قدرهــا الربنامــج حتــى أصــل إىل اإلســكندرية ..أخــذت كل املــال
املوجــود بغرفــة النــوم ،ضمــدت القليــل مــن جــراح وخــدوش وجهــي
ﺐ ﻟﻠﻨ
وكتفــي الناجتــن عــن الشــجار مــع ســائق النقــل ومــع املأجوريــن ،نزلــت
ﺸﺮ
أن يكــون لطي ًفــا ويســألني عــن ســبب اإلهنــاك البــادي عــى مالحمــي،
ﺍﻟﺘﻮ
231
قاطــع الســائق خواطــري حــن وصلنــا إىل معــرض ســيارات اململــوك
مانحــا إيــاه أكثــر ممــا طلــب
لــرايف بمنطقــة ســموحة ،حاســبت الســائق ً
التطبيــق ،شــكرين ورحــل مرس ًعــا ..أخــرين أحــد العاملــن يف املعــرض
أن رايف قــد باعــه ملالــك جديــد ،وأن هنــاك شــائعات عــن اعتزالــه الدنيــا
داخــل عوامــة يف حــي «املكــس» ..وحــن ذهبــت إىل هنــاك متب ًعــا
الوصــف وجــدت العوامــة خاليــة ،أخــرين أحــد اجلــران أن رايف كان
يقيــم مــع عاهــرة تدعــى مايســة ،وأهنــا قتلتــه بمعاونــة وهــدان املراكبــي
ﻋﺼ
وفـ َّـرا ســو ًيا؛ كان رايف كان آخــر مــن تبقــى يل ،حتــى وإن كانــت عالقتنــا
ﲑ ﺍﻟ
ســطحية ..لكنهــا كانــت حقيقيــة.
رن هاتفــي األصــي ألجــد خرجــت إىل كورنيــش البحــرَّ ،
ﻜﺘ
صاحــب متجــر احليوانــات الــذي أوصيتــه أن حيــر يل ق ًطــا مــن نــوع
خــاص ألهــادي مليكــة بــه ،اعتــر قلبــي حــن طلــب منــي أن أحــر
ﺐ ﻟﻠﻨ
يشء ،حتــى نالنــي اإلعيــاء وبــح صــويت ،ونمــت دون أن يعبــأ يب أحــد..
ﺍﻟﺘﻮ
232
تعــد تصلــح أسـ ً
ـال ..مل أحــاول أن أغــر يف مظهــري ومل أرد ذلــك مــن
األســاس ،كان النــاس ينفــرون مــن مظهــري ورائحتــي وتنــاويل الطعــام
مــن ســال القاممــة ،كان األطفــال يتجنبــون النظــر نحــوي يف الشــارع
ظنًــا منهــم أننــي قــد فقــدت عقــي ..وأعتقــد أن ظنهــم كان ح ًقــا.
بقيــت عــى هــذه احلــال أيا ًمــا مل أحصهــا ،مل يصــدر عنــي أي حديــث،
وكأننــي فقــدت القــدرة والطاقــة عــى النطــق ..خصصــت لنفــي
مكانًــا معينًــا عــى الرصيــف للنــوم؛ لكننــي مل أســتطع أن أنــام إال يف
ﻋﺼ
ســاعات الليــل املتأخــرة خو ًفــا مــن النــاس ،أنظــف املــكان بحــرص
ﲑ ﺍﻟ
بيــدي العاريتــن قبــل أن أنــام ،وأحيا ًنــا أســتيقظ ألجــدين غار ًقــا يف ميــاه
ـال يســتدفئ بجســدي ،أو أجــد القليــل مــن األمطــار ،أو أجــد كل ًبــا ضـ ً
ﻜﺘ
املــال بجــوار رأيس.
ﺐ ﻟﻠﻨ
وبشــاعة أننــي مــن ختلصــت منهــم بنفــي ،مل أدرك متــى حتولــت إىل نــار
ـي األيــام األوىل حمـ ً
ـاول تلتهــم نفســها حتــى أصبحــت رمــا ًدا ..مــرت عـ َّ
ﻭ
نكــران احلادثــة ،كأن القــدر عجــز عنهــا؛ كأننــي مل أعــرف غــرام وكأن
ﺍﻟﺘﻮ
ففشــلت كل حمــاواليت.
ال أعــرف كيــف ســأحيا -إن كان مــا أمارســه اآلن حيــاة -دون أن
أرامهــا ثانيــ ًة ،ودون أن أمســك بيدهيــا لنعــر الطريــق م ًعــا ،دون أن
أحتضــن غــرام وأربــت عــى رأس مليكــة ،لــن أســمع صوهتــا ثانيـ ًة؛ لــن
توبخنــي غــرام ،ولــن تضحــك مليكــة أو تتهــرب مــن واجباهتــا ثاني ـ ًة!
233
كنــت عــى يقــن أن هــذه املليكــة ال تنتمــي إىل هــذا العــامل؛ جــاءت
ورحلــت رسي ًعــا؛ كطيــف بديــع مــر يب حتــى أتــأمل لفقدانــه ..عــادت إىل
موطنهــا األصــي ،فــا مــكان آخــر غــر الســاء يســع ضحكتهــا ..لكنهــا
ســترتك قلبــي فار ًغــا ،وكأن الفــراق قــدري.
راودتنــي فكــرة االنتحــار ثانيــ ًة ،مل أمتلــك الشــجاعة هلــا ..مل يكــن
أمامــي طريقــة لالســتمرار ســوى النكــران والتنــايس ،حاولــت الغيــاب
ـابحا يف عــاملٍ خــاص يب ،ملكــوت أســتكني فيــه لوجــود عــن الواقــع سـ ً
ﻋﺼ
معوضــا مــا فاتنــي منهــا؛ أقــر املســافات التــي
ً أمــي ،أحتــدث مــع أختــي
مستســلم هلــا ،أســمع ضحكــة تركهــا أيب ،أرقــد بــن ذراعــي زوجتــي
ﲑ ﺍﻟ
ً
مليكتــي فيطمئــن قلبــي.
ﻜﺘ
كانــت الوجــوه تتكــرر مــن حــويل ،وكل يــوم أغيــب أكثر عــن الواقع،
أطالــع احليــاة مــن خلــف حجــاب صنعتــه هبيئتــي الرثــة وصمتــي املطبق،
ﺐ ﻟﻠﻨ
راج ًيــا الــرزق ،لــو كنــت مكانــه لبعــت مــا أصطــاد بضعــف الثمــن،
فبضاعتــي الصــر وليســت ســمكًا.
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
الصقيــع واحلاجــة ليبيــع الــذرة املشــوي ،مل ينــل مــن رزقــه إال القليــل؛
فمعظــم مــا جينيــه يذهــب لبائــع ذرة آخــر وجــد رزقــه يف ترسيــح األطفال
والتجــارة برباءهتــم.
وهــذان العاشــقان الطامعــان يف قبلــة خمتلســة أو ملســة خائفــة ال
تــدري لنفســها وجهــة ،يلتفتــان حوهلــا بمالمــح خائفــة مــن كل يشء..
إال ذلــك املجــذوب الــذي حيــدق فيهــا.
234
لكــن أهــم مــن عــارشت يف هــذه الفــرة كانــوا مجاعــة ممــن زهــدوا
كثــرا بحكــم الشــبه ً كثــرا لكننــا تفامهنــا
ً يف احليــاة مثــي ،مل نتحــدث
الشــكيل والســلوكي ،ننــام عــى البــاط البــارد يف حــرم أي مــن اجلوامــع
التــي ترحــب بوجودنــا كـ»بركــة» ،ال نســتدفئ إال بذكــر اهلل وســرة
الصاحلــن ..أخــرين أحــد هــؤالء املجاذيــب أننــي يف البدايــة كنــت أقلــق
نومهــم بكوابيــي التــي أرصخ فيهــا بأســاء أحبتــي ،لكنهــا انقطعــت بعــد
فــرة مــن الســكينة؛ وكأن احليــاة تســاعدين عــى طمــس هويتــي القديمــة..
ﻋﺼ
ـس هويتــه القديمــة بالكامــل ،أخــرين أنــه عرفــت أن هــذا املجــذوب مل ينـ َ
ـهريا يف املوالــد واالحتفــاالت الصوفيــة ،لكنــه ال يذكــر مــا كان منشــدً ا شـ ً
ﲑ ﺍﻟ
حــدث لــه بعــد هــذا حتــى صــار زاهــدً ا يف كل يشء ..حتــى املعرفــة زهــد
ﻜﺘ
فيهــا؛ ال يذكــر بلــده األصليــة ،لكنــه كان متأكــدً ا أن ال أحــد يفتقــده يف
هــذا امللكــوت الفســيح ،وأنــه -مثــي -وحيــد متا ًمــا يف هــذا العــامل.
ﺐ ﻟﻠﻨ
مــرت أيامــي متشــاهبات ،مل أ ِع فيهــا الكثــر ومل أهتــم بذلــك ..كنــت
أســر مــع الدراويــش ،أرحتــل معهــم مــن «املــريس أبــو العبــاس» إىل
ﺸﺮ
مســجد «أمحــد املتيــم» ال أعبــأ بمشــقة املســر وال أعبــأ بصحبتــي الذيــن
ـرا ..نحــر موالــد األســياد ونســر يف مواكبهــم أصبحــت أشــبههم كثـ ً
ﻭ
معانيــه ..مل يشــعر أحــد مــن العامــة بوجودنــا؛ نجتمــع ونتفــرق بــا
ﺯﻳﻊ
ميعــاد أو اتفــاق ..ال أذكــر مــن تلــك احلقبــة احلياتيــة إال القليــل.
لكــن هــذه الليلــة كانــت خمتلفــة ..كنــت نائـ ًـا فــوق فخــذ صديقــي
املنشــد الــذي مل يعبــأ بنومــي وراح ينخــرط يف إنشــاده ..اقتحــم صوتــه
منامــي الــذي رأيــت فيــه مــا أعــاد حيــايت إ َّيل ،عظيمــة هــي حلظــة كشــف
الغاممــة عــن روحــي؛ حلظــة جتــي كالتــي شــعر هبــا إبراهيــم حــن أدرك أن
235
إهلــه ليــس مــن اآلفلــن ..حلظــة تــرى فيهــا األمــور مــن أعــى؛ كأنــك طــر
تشــاهد كل األحــداث التــي ال دخــل لــك فيهــا ..اآلن أفهــم كل يشء!
أعادتنــي الــرؤى للطريــق الصحيــح مســتعيدً ا «يــارس الطائــي» الــذي
كــدت أن أنســاه؛ أخــرين الدرويــش فيــا بعــد ،بلهجتــه التائهــة التــي
يتشــتت مــن حروفهــا أكثــر ممــا يبقــى ،أننــي كنــت أبكــي كاألطفــال،
هنضــت مــن النــوم يف حالــة مــن االنتشــاء ،مل أشــعر بمثــل هــذه الطاقــة
مــن قبــل ،مل أصــدق مــا رأيتــه أثنــاء نومــي ،مل أعــرف حقيقــة مــا رأيــت
ﻋﺼ
ـعرت حينهــا أن
صحيحــا ..مســحت دموعــي بكــف يــدي ..شـ ُ ً لكنــه كان
الغشــاوة قــد انزاحــت مــن أمــام ناظــري ،اآلن فقــط أدرك كيــف حــدث
ﲑ ﺍﻟ
كل مــا حــدث ،ومــن الــذي دمــر حيــايت ..واألهــم مــن كل هــذا :تأكدت
ﻜﺘ
أن غــرام ومليكــة ال تــزاال عــى قيــد احليــاة.
ر َّنــت يف عقــي مجلــة آدم األخــرة« :اســأل عــى أرشف» ..أصبحــت
ﺐ ﻟﻠﻨ
متأكــدً ا أن احلــل ســيكون عنــد هــذا الطفــل ..بــدأت تأتينــي ذكريــات قريبة
ـوت كل هــذه العالمــات منــذ اختطــاف غــرام ومليكــة؛ مل أعــرف كيــف فـ ُ
ﺸﺮ
دون أن أالحــظ مــا حيــاك ضــدي ،كيــف اعتــرت كل هــذه صد ًفــا متواليــة
حيكمهــا قانــون ســوء احلــظ؟! كانــت الصــورة أمامــي طيلــة الوقــت لكنهــا
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
هنضــت مرس ًعــا وســط دهشــة الدراويــش مــن حــويل ،أركــض حــايف
القدمــن نحــو البحــر غــر عابــئ بوعــورة األرض التــي تــؤذي قدمــي،
وال بالريــاح شــديدة الــرودة ،وال باألمطــار التــي تســقط فــوق رأيس
املغــر ،عــرت الطريــق الرسيــع املــؤدي إىل البحــر ،مل ألتفــت إىل ســباب
الســائقني؛ كان أمامــي هد ًفــا واحــدً ا ال أرى إيــاه :البحــر.
236
ألقيــت نفــي بــن أحضــان البحــر ،أعتقــد أننــي جرحــت قدمــي
بفعــل صخــوره ..حتــى ظــن املــارة أننــي أحــاول االنتحــار ،لكنهــم حــن
نظــروا نحــوي وجــدوين أنثــر مياهــه مــن حــويل يف ســعادة ،كطفــل وجــد
ً
صارخــا ..اختلــط مــاء املطــر أمــه بعــد أعــوام مــن التيــه ،نظــرت إىل أعــى
بــاء البحــر حتــى مســحا غشــاوة بصــريت ،نظــف ملحــه روحــي قبــل أن
ينظــف جســدي.
اآلن فقــط تأكـ ُ
ـدت مــن هويــة ذلــك اخلاطــف املجهــول الــذي دمــر
ﻋﺼ
حيــايت بالكامــل ،وكيــف فعــل يب مــا فعــل ..وقــد حــان وقــت احلســاب.
***
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
237
-16مفترق طريق
ﻋﺼ
مــن حســن حظــي أن أحــدً ا مــن أهــل املنطقــة التــي أقيــم فيهــا مل
يعــرض طريقــي ،عــى الرغــم مــن منظــري ،وشــائعة هــرويب حز ًنــا عــى
ﲑ ﺍﻟ
رحيــل ســلوى كــا فعــل رايف ..قابلنــي بعضهــم بعبــارات التعــازي،
ﻜﺘ
واآلخــر بابتســامات خافتــة ،طلبــت مــن البقــال املجــاور للعــارة
اململوكــة أليب أن يدلنــي عــى نجــار يســاعدين يف فتــح بوابــة العــارة
ﺐ ﻟﻠﻨ
طلــب منــي اجللــوس حتــى يــأيت النجــار ،وأمــر صبــي القهــوة أن
يذهــب وحيــر يل مــا آكلــه عــى حســابه ففعــل الصبــي مــا ُأ ِمـ َـر وأحــر
ﻭ
مــع األكل كو ًبــا مــن الشــاي ..مل أعــرض عــى كرمهم وتكاتفهــم ألجيل،
ﺍﻟﺘﻮ
الذهــاب إىل الطفــل «أرشف» ألعــرف مــكان ذلــك «املجهــول» الــذي مل
يعــد جمهـ ً
ـول ،لعنــت غبائــي الــذي هــداين إليــه متأخـ ًـرا.
صعــدت إىل املنــزل رسي ًعــا ألبــدل مالبــي وأبحــث عــن أي أمــوال
تســاعدين عــى الســفر إىل القاهــرة ،حيــث كان يقطــن آدم اخلواجــة..
وجــدت وشــاح أمــي الــذي كانــت ترتديــه قبــل هروهبــا مبــارشةً،
238
لثمتــه ودفنــت وجهــي بــن ثنايــاه ،ال أعلــم إن كان حمتف ًظــا برائحــة أمــي
أم أننــي أتوهــم عبقهــا ..مل أســتطع أن أتذكــر مالحمهــا بعــد رحيلهــا ،ومل
ـورا يف البيــت كلــه ،رحلــت كنســمة بــاردة كانــت بــر ًدا وســط
أجــد هلــا صـ ً
جحيــم الطائــي ،رحلــت ألهنــا مل جتــد مــن هيــون عليهــا ،وألهنــا مل تســتطع
التحــول إىل مــا رصت عليــه...
قاطــع سلســال أفــكاري صــوت طرقــات واهنــة عــى البــاب ،فتحتــه
ألجــد «احلــاج صالــح» صديقــي الوحيــد يف منطقة حمطــة الرمــل ،مل ينتظر
ﻋﺼ
حتــى أدعــوه للدخــول ،جلــس عــى أقــرب مقعــد مــن البــاب ،مــدَّ يــده
ـذرا،
برزمــة ثقيلــة مــن األمــوال؛ وكأنــه يقــرأ أفــكاري ،رددت يــده معتـ ً
ﲑ ﺍﻟ
مازحــا:
ً وقلــت لــه
ﻜﺘ
أخريا املعاش نزل يا راجل يا طيب!
ً -
مازحا:
ً رد
ﺐ ﻟﻠﻨ
مازحــا:
ً عاتبنــي
ﺍﻟﺘﻮ
-طلب إيه؟
-مــش كنــت وعدتنــي تــدور عــى اســم ابنــي يف الزفــت الfacebook
ده؟
-صدقني دورت ومالقتش أي حاجة..
أضفت متكل ًفا املزاح:
239
-أنت ماعرفتش تريب ،الواد شكله غري اسمه بعد ما سافر..
مبتسم:
ً بدا عىل مالحمه احلزن ،فحاول أن هيون عىل نفسه ،فقال
-برصاحة واطي ويعملها ..أو أنا اليل فلويس حرام باين.
كان وقــع كلامتــه كالزلــزال يف قلبــي ،مل أخــره أننــي وجــدت ابنــه
مذكــورا يف خــر صغــر بصفحــة الوفيــات
ً بالفعــل ،لكــن اســمه كان
بأحــد اجلرائــد املحليــة يف كنــدا؛ فقــد رحــل هــو وأرستــه يف حــادث
ســيارة مأســوي منــذ أكثــر مــن ســنة.
ﻋﺼ
***
ﲑ ﺍﻟ
-معنــى إنــك بتشــوف الفيديــو ده يــا أســتاذ يــارس إين ُمــت ..تقليديــة
ﻜﺘ
َدخلــة األفــام دي ،مــش كــده؟
مل أمتالــك دموعــي حــن رأيــت آدم يف الفيديــو الــذي وجدتــه بحــوزة
ﺐ ﻟﻠﻨ
أرشف الــذي انتظــر قدومــي للحصول عــى الـــ flash memoryالتي تركها
آدم يل ،اآلن أدرك أن وجــوده يف الشــقة أثنــاء أول تعــارف بينــي وبــن
ﺸﺮ
آدم مل يكــن مــن قبيــل الصدفــة ..وجــدت أرشف يعانــق مــا طالــع مــن
جســدي بحركــة ال إراديــة فضممتــه نحــوي...
ﻭ
240
أرشف ،وأكيــد حرضتــك دلوقتــي وصلــت للحظــة الــي أنــا كنــت
مســتنيها عشــان أقــول لــك مراتــك وبنتــك فــن؛ اللحظــة الــي اتأكــدت
ـي دلوقتي مــش الكونت. إن يــارس هــو الــي انتــر ،وهــو الــي بيتفــرج عـ َّ
اعتدل يف جلسته أمام الكامريا وأكمل حديثه ً
قائل:
-طب ًعــا أنــت مخنــت دلوقتــي مــن الــي عملــت فيــك كل ده ..مــن
الــي دمــرت لــك حياتــك ودخلــت العاملــن بتوعــك يف بعــض..
أكــد يل شــكوكي حــن ذكــر رصاحـ ًة اســم تلــك «املجهولــة» التــي كادت
ﻋﺼ
أن تنهــي حيــايت ،ال أنكــر أننــي اندهشــت قليـ ًـا حــن اســتنتجت هويتهــا،
ﲑ ﺍﻟ
كانــت الصــورة أمامــي طــول الوقــت لكنهــا كانــت ممزقــة مشوشــة أجزاءها..
اآلن فقــط تتضــح وتصبــح يقينًــا ..تابعــت آدم عــى الشاشــة ثانيـ ًة..
ﻜﺘ
-ومــش حمتــاج أقولــك ماتتصلــش بالبوليــس عشــان زماهنــا زيفــت
موهتــا زي مــا عملــت قبــل كــده.
ﺐ ﻟﻠﻨ
أكمــل حديثــه عــن الفــرة التــي ســبقت معرفتــه يب ،وقبــل أن يرســل
يل الرســائل التــي كان يرتجــاين فيهــا ليعمــل معــي ..كان قــد عــرف خــر
ﺸﺮ
إصابتــه بالرسطــان ،ويبحــث عــن إثــارة أخــرة ينهــي هبــا حياتــه بعــد
ﻭ
«شــكامن» ،ورضــا ..فعــرض أن مــل مغامراتــه مــع رفيقــي اإلجــرامُ :
ﺍﻟﺘﻮ
تلــك امللعونــة.
كانــت مهمتــه واضحــة :أن حيــاول التقــرب منــي طال ًبــا العمــل ،ويف
ـرا بســببنفــس الوقــت حيــاول اخــراق حســايب؛ األمــر الــذي كان عسـ ً
جــدار احلاميــة الــذي صممــه «كريــس بــراديل» هلويــة الكونــت ..لكنــه يف
النهايــة اســتطاع اخرتاقــي ومعرفــة هويتــي احلقيقيــة ،وبــدأت اللعبــة..
241
مل يستطع آدم أن يمنع دموعه يف الفيديو ،قال يل بلهجة متوسلة:
-أرجــوك ســاحمني ،أنــا ماكنتــش متخيــل إن املوضــوع هيوصــل
للدرجــة دي ..أنــا حبيــت حرضتــك بجــد يــا أســتاذ يــارس ،واحرتامــي
حلرضتــك يف اهلويتــن كان احلاجــة الوحيــدة احلقيقيــة ..وحيــاة مليكــة
تغفــر يل.
اســتطرد يف اعرتافــه ،أخــرين أنــه كان جاسوســها لــدي ،وأن زميليــه
رضــا وشــكامن مهــا مــن خطفــا غــرام ومليكــة ألجلهــا بعــد أن عرضــت
ﻋﺼ
عليهــا مبل ًغــا يكفيهــا باقــي احليــاة ،وعرضــت عــى «اخلواجــة» مغامــرة
ﲑ ﺍﻟ
أخــرة قبــل صعــود روحــه إىل الســاء ..وأن شــكامن كان هــو مــن حيدثني
يف اهلاتــف بتعليــات منهــا بعــد أن قــرأت مذكــرايت جيــدً ا ودرســت
ﻜﺘ
شــخصية «يــارس الطائــي» ،وعرفــت كل يشء عــن «الكونــت» مــن
حســابه املخــرق.
ﺐ ﻟﻠﻨ
يتمكــن مــن إقناعــي بمــريض ،وبــأن الكونــت هــو املســئول عــن كل مــا
حــدث ،وأنــه مــن أمــر بقتــل زوجــة «يــارس» وابنتــه ..ثــم يتــم تزييــف
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
معركــة يف الفيــا أمامــي تنتهــي بمقتــل آدم عــى يــد املأجوريــن اللذيــن
ﺯﻳﻊ
م َّثــل دورمهــا شــكامن ورضــا؛ فأعيــش يف حالــة مــن اجلنــون مماثلــة للتــي
مــررت هبــا .أكمــل حديثــه قائـ ًـا:
-بــس أنــا غــرت رأيــي بعــد مــا عرفــت حرضتــك واتعاملــت
معــاك ،وصــورت الفيديــو ده أقــول لــك فيــه كل الــي أعرفــه وقــت
مــا حرضتــك اتســجنت بتهمــة قتــل محــزة؛ الــي هــي قتلتــه ،وهــي الــي
بعتــت لــك الدرنــديل يطلعــك ..أنــا ماعرفــش دوره بالظبــط بــس هــي
242
قالــت يل إن اعرتافــه ســهل يكشــف لــك هــي مــن ،عشــان كــده شــكامن
ورضــا هربــوه.
ماكنتــش عايــزك تعــرف احلقيقــة وأنــا عايــش ،وكنــت متأكــد إنــك
ملــا ختــر كل حاجــة وتفكــر هبــدوء هتفهــم كل حاجــة..
أخــرين بمحاوالتــه مــع شــكامن ورضــا إلثنائهــا عــن إكــال اخلطــة
واالنســحاب مــن تلــك اللعبــة ،لكــن األمــوال أعمــت برصهيــا ورفضــا
مســاعدة اخلواجــة يف االنقــاب عليهــا ،ومــن املرجــح أهنــا قــد ختلصــا
ﻋﺼ
منــه قبــل أن ينجــح انقالبــه ..ولذلــك تــرك يل هــذا االعتــذار املصــور،
اختتــم حديثــه قائـ ًـا:
ﲑ ﺍﻟ
-أمتنــى تقبــل اعتــذاري ألين أكيــد دلوقتــي حمتــاج عفــوك أكــر مــن
ﻜﺘ
أي وقــت ،وصدقنــي أنــا فعـ ًـا معرفــش مهــا فــن دلوقتــي ..بــس هــي
قالــت يل إنــك هتعــرف مــكان مراتــك وبنتــك لــو افتكــرت كويــس
ﺐ ﻟﻠﻨ
***
ﻭ
ســلبتني كل مــا أملــك ومل تــرك يل إال ثغــرات قليلــة يف خطتهــا ،ثغــرات
ﺯﻳﻊ
243
املهمــات املجــاور للشــقة ،فــردت قامتــي ،وعدلــت مــن وضــع بذلتــي
الســوداء ،نظــرت نحــو باقــة الــورد البلــدي التــي أمحلهــا معــي ،وطرقــت
البــاب.
مفتوحــا ،ألجــد كل األنــوار مضــاءة ،كان
ً مل أندهــش حــن وجدتــه
ـرا ،وألجدهــا
كل يشء مرت ًبــا بعنايــة فائقــة ،وقــد حتســن ذوق الشــقة كثـ ً
يف انتظــاري ..نظــرت يل مبتســمة ،قالــت هبــدوء:
ُ -قلت لك هنتقابل قريب يا نيص التاين.
ﻋﺼ
مل أمتالك نفيس أمام التصفيق هلا ..قلت بإعجاب حقيقي:
ﲑ ﺍﻟ
-أنــا باعــرف إين انبهــرت ،مســتحيل كنــت أتوقــع إن أنـ ِ
ـت الــي ورا
كل ده..
ﻜﺘ
أردفت بعد أن اقرتبت منها هبدوء:
-آنسة داليا القايض ..مربوكِ ،
ﺐ ﻟﻠﻨ
حيتــوي بداخلــه عــى صــورة قديمــة لزفــاف عبــد احلــي الطائــي وأم
ســلوى ..حاولــت أن أتصنــع التامســك ،وســألتها عــن مــكان غــرام
ﻭ
244
مسدســا بحركــة خاطفــة ،وجهتــه نحــوي قائلــة بلهجــة
ً أخرجــت
جــادة:
-اتفضل أقعد.
ٍ
صمت قصري: أومأت يل حميي ًة ،قالت بعد
-أنــا حرقــت مذكراتــك بعــد مــا قريتهــا؛ زي مــا حرقــت كل حاجــة
يف حياتــك ..ســاحمني إين تطفلــت عليــك ..بــس كان الزم أدرســك
كويــس.
ﻋﺼ
أكملت بلهجة ماكرة:
ﲑ ﺍﻟ
-ده غــر إين قــدرت أمخــن تفاصيــل أنــت ماذكرهتــاش ..زي إن أكيد
ﻜﺘ
مــش كل الــي قابلتهــم يف حياتــك تقبلــوا حقيقتــك زي مــا أنــت كاتــب،
وإال ماكنتــش بنيــت لنفســك هويــة «الكونــت» ..وزي معاملــة تالميــذك
ليــك؛ ملــا لقيتــك مــش ذاكــر تفاصيــل شــغلك كـــ «مســر يــارس» ..وزي
ﺐ ﻟﻠﻨ
مبتسم:
ً أردفت
ﺯﻳﻊ
245
-ومخنــت برضــه إن حــب عــاء الديــن ليــك ماكانــش جمــرد عطــف
عــى طفــل بيفكــره بابنــه الــي مــات.
لــدي طاقــة للرفــض ،قالــت هبــدوء وهــي تشــر يل كــي
َّ مل تكــن
أجلــس:
-غال ًبــا أنــت ممكــن ماتكونــش فاكــر مــش بتنكــر عــن قصــد..
لألســف ذاكــرة اإلنســان انتقائيــة جــدً ا؛ وبتدافــع عــن صاحبهــا
باســتامتة ..زي ذاكــرة صاحبــك كــده.
ﻋﺼ
-آدم؟
ﲑ ﺍﻟ
-أنــت ليــك صاحــب غــره؟ مايغركــش القــوة الــي كان فيهــا ،الــواد
ده شــاف كتــر..
ﻜﺘ
ترمحت عليه يف رسي ،وقلت لداليا:
ﺐ ﻟﻠﻨ
-تفجري إرهايب.
ﺯﻳﻊ
246
مل أعــرف هــل أصدقهــا أم ال ،جلســت عــى مقعــد مقابــل هلــا،
خبطــت رأيس بكــف يــدي مســتعيدً ا تفاصيــل تعذيبهــا:
-كل حاجــة كانــت قــدام عينيــا ،أنــا بــس الــي اختدعــت باألحــداث،
وعمــري مــا توقعــت إن الــي وراهــا واحــدة ويف ســنك كــان!
مغمضــا عينــي ،مســتعيدً ا حلظــة التجــي التــي
ً أكملــت حديثــي
جاءتنــي يف منامــي:
-الربفــان الغــايل ..واســتمتاعك بالتعذيــب ،وملــا خلتينــي أكــرر
ﻋﺼ
جل َمــل قــدام اخلواجــة وهشــام عــديل ..واخــراق حســايب الــينفــس ا ُ
ﲑ ﺍﻟ
نجــح بعــد دخولــك الفيــا بوقــت قصــر ...والرشكــة الــي دفعــت يل
مبلــغ كبــر ..وأكــدت يل إن اعرتافــك صحيــح وإن الــورق يف مكانــه
ﻜﺘ
برسعــة جــدً ا.
قالت موضحة:
ﺐ ﻟﻠﻨ
مل أعلــق ..كان شــعور أننــي قــد تــم التالعــب يب هبــذا الشــكل مؤ ًملــا،
وكأهنــا قــرأت أفــكاري فقالــت بفخــر:
ﻭ
247
-إزاي مــا مجعتــش كل اللقطــات دي جنــب بعــض يف وقتهــا؟! أثنــاء
متثيلــك دور املوظفــة خبيتــي ورق الرشكــة يف أقــرب بنــك ليهــم ..زي مــا
خبيتــي مــرايت وبنتــي يف أقــرب مــكان ليــا.
سألتها مستدركًا:
ِ -
أنت اليل أجربيت سلوى تتصل بيا يوم خطف غرام ومليكة؟
-ماكانــش عندهــا خيــار تــاين ..هــي كانــت خمطوفــة معاهــم ..بــس
أنــت اتلهيــت يف اخلطــف لدرجــة إنــك نســيت تســأل عنهــا ..اهلل يرمحهــا
ﻋﺼ
كانــت بتحبــك بجــد.
ﲑ ﺍﻟ
ﻜﺘ أكملت رشحها قائلة بزهو:
-أنــا أجــرت الــي يراقبــك أنــت وكل الــي خيصــوك ..وملــا عرفــت
إن رايف طفــش قلــت دي أنســب فرصــة أنفــذ خطتــي ..وكل الــي عملتــه
وســبتك تــدور عليهــم يف كل مــكانإين حبســت أهلــك يف الشــقة ديِ ..
ﺐ ﻟﻠﻨ
إال بيتــك!
ﺸﺮ
248
قيامهــا بــكل هــذه األفعــال ،لكننــي عدلــت عــن هــذا الســؤال حتــى ال
ـي ،وســألتها هبــدوء:
تشــعر بانتصارهــا عـ َّ
لك بكل هذا؟ -ومن أين ِ
-دكتور أنس عز الدين ..أكيد ماتسمعش عنه.
مل أرد ،تركتها تكمل حديثها:
-أبويــا ..كان دكتــور كبــر وأســتاذ يف اجلامعــة ..أنــا اتولــدت
بمــرض نــادر؛ عبــارة عــن تســطح يف عظــم اجلمجمــة ..كان الزم
ﻋﺼ
يعاجلنــي بــأرسع شــكل ممكــن ..فاشــتغل يف نبــش القبــور وكــذا جتــارة
ﲑ ﺍﻟ
غــر مرشوعــة يف جمالــه.
أكملــت قائلــة أن أباهــا ُقبِــض عليــه بعــد أن كـ َّـون عصابــة لتجــارة
ﻜﺘ
اجلثــث ،وتــرك هلــا ثــروة صغــرة اســتطاعت البــدء منهــا ،بعــد أن تــرك
هلــا ســرة غــر طيبــة ،وأ ًمــا ناقمــة أرصت عــى تزوجيهــا يف أرسع وقــت
ﺐ ﻟﻠﻨ
-بــس نبــش القبــور مهــا كان مربــح مســتحيل خيــي عنــدك كل
اإلمكانيــات دي.
سألتها:
-اجتوزيت الدرنديل ..صح؟
-صح.
249
-إزاي شــخص زي ده مليونــر ومــن عيلــة واجتــوز واحــدة أبوهــا
مســجون؟
-ما أنا غريت اسم بابا ..وبقيت داليا الكاشف.
ِ
غــرت اســمك ِ
زيفــت موتــك عشــان هتــريب بفلوســه -وبعــد مــا
تــاين وبقيتــي داليــا القــايض؟
أخربتنــي أنــه كان معج ًبــا هبــا برغــم فــارق الســن الــذي يقــارب
العرشيــن عا ًمــا ..وأنــه ظــل رفي ًقــا هبــا ،تزوجهــا دون رغبــة أهلــه ،وظــل
ﻋﺼ
حيــارب ألجلهــا حتــى خــرج والدهــا مــن الســجن وذهــب لزيارهتــا يف
ﲑ ﺍﻟ
بيــت زواجهــا ،حينهــا حتــول «الدرنــديل» إىل وحــش دميــم املعــارشة؛
فظــل يرضهبــا ويــارس هيمنتــه اجلنســية عليهــا ،وأحيا ًنــا مــا كان حيبســها
ﻜﺘ
يف غرفــة النــوم بمفردهــا أليــام ..فاكتشــافه لكذبتهــا ســمح لبهيميتــه
متنكــرا وراءه ،وأخفــاه
ً بالظهــور ،وأســقط قنــاع املثاليــة الــذي عــاش
ﺐ ﻟﻠﻨ
خارجــا عــن بروتوكــوالت عائلتــه وعــن ً حتــى عــن نفســه ،فانفجــر
الســياق الــذي ُو ِضــع فيــه منــذ أن كان صب ًيــا.
ﺸﺮ
250
-أنــا انتقامــي أبشــع مــن الــي عملتــه فيــك بكتــر ..احلقيقــة أنــا
حبيــت الــي الدرنــديل عملــه معايــا ،حبيــت شــعور إين حتــت ســيطرة
حــد شــايف حيــايت ملــك إيديــه ..أنــا أدمنــت اإلحســاس ده.
-يعني اكتشفتي فجأة كده إنك مازوخية؟
-الوحــدة ..الوحــدة بتفتــح لإلنســان أبــواب كتــر للحقيقــة،
للنــور ..طــول مــا أنــت وحيــد قلبــك بيهــد الســد الــي قــدام بصريتــك،
وبيبــدأ يشــوف كل حاجــة بنفســه.
ﻋﺼ
أردفت بعد أن مالت بجسدها نحوي:
ﲑ ﺍﻟ
-أنــا لــوال الوحــدة مــا كنتــش عرفــت إنــك بتكملنــي ،وأنــت لــوال
ﻜﺘ
الوحــدة ماكنتــش وصلــت يل.
اســتعدت رسي ًعــا مــا قرأتــه عــن هــذا املوضــوع الــذي مل أحتــك بــه من
ﺐ ﻟﻠﻨ
قلت هلا:
ﺯﻳﻊ
-كل الــي عملتيــه يف حياتــك ويف حيــايت كــان بينفــي إنــك مريضــة
أنــت شــخص ناجــح وبتعــريف تســيطري عــى كل الــي باملازوخيــة؛ ِ
حواليكــي حتــى أنــا.
بــدا عليهــا شــعور بالضيــق فانتهــزت حلظــة الرتاجــع وقلــت حاسـ ًـا
وجهــة نظــري:
251
ـت يــا دوب مازوخيــة جنســية؛ عجبتــك التجربــة الــي عيشــتيها -أنـ ِ
مــع الدرنــديل والــي كانــت منافيــة لطبيعــة تربيتــك كطفلــة وحيــدة
مدللــة ..اســتهوتك بقــى اإلهانــات اللفظيــة واجلســدية؛ الــي عــرت
عــن الــي مريتــي بيــه يف حياتــك ،وحشــك دور املغلوبــة عــى أمرهــا الــي
قــدريت ختلــي منــه بــدري .وحبيتــي ختــويض جتربــة جديــدة معايــا.
-ممكــن ..بــس كان الزم تعــرف األول أنــا أقــدر أعمــل إيــه ،وكفايــة
إين انتــرت عليــك ودمــرت لــك يــارس والكونــت.
ﻋﺼ
قلت بصدق:
ﲑ ﺍﻟ
-وأنــا معــرف بــده ..برغــم إين اجتريــت للمعركــة دي غصــب عنــي،
فعــا انتــريت ،عــى األقــل حلــد دلوقتــي ..بــس خلينــي بــس ِ
أنــت ً
ﻜﺘ
أســألك أهــم ســؤال :أنـ ِ
ـت عايــزة منــي إيــه؟!
ضحكت ضحكة خفيفة ،وقالت هبدوء ناظرة يف عيني:
ﺐ ﻟﻠﻨ
-زي مــا قلــت لــك حمتاجــة لــك معايــا ..عايــزاك تكملنــي ،وعايــزة
أرقــي الكونــت لرتبــة أعــى.
ﺸﺮ
يــارس قــد اهنــارت ماد ًيــا ومهن ًيــا وأرس ًيــا ..وكذلــك حيــاة الكونــت بعــد
ﺍﻟﺘﻮ
أن تــم اخــراق حســاباته .لكنهــا متتلــك كافــة اإلمكانيــات إلعــادة احليــاة
ﺯﻳﻊ
إىل كيــاين الــذي هتــدم متا ًمــا ،وأن مــا دفعتــه مــن مــال ونفــوذ يف عمليــة
الســيطرة عــى حيــايت ال يســاوي شــي ًئا ممــا متتلــك يف احلقيقــة ..فيمكنهــا
تعويــي وتوفــر وســيلة أفضــل للتفريــغ عــن شــهويت وممارســة ســيطريت
ـي هويــة جديــدة بشــكل أعظــم ممــا كان يفعــل الكونــت ..عرضــت عـ َّ
متا ًمــا؛ وهــي «املاركيــز» بحســاب جديــد عــى الــدارك ويــب ،وبمقــر
252
ـرا مــن مقــر الكونــت يوفــر يل ممارســة جتــارب أكثــر بشــاعة
أفضــل كثـ ً
عــى البــر واحليوانــات ..أخربتنــي أن «الكونــت» هــو الدرجــة الرابعــة
يف ســلم النبــاء ،لكــن «املاركيــز» أرقــى وأهــم؛ وأن مبتغاهــا مــن كل
ـرا
هــذا أن تصــر تابعــة وزوجــة يل ..فتســخر كل مــا لدهيــا للامركيــز نظـ ً
لبقائــه معهــا فقــط دون غريهــا ..أكملــت حديثهــا قائلــة:
-وأظــن مفيــش عــرض أعظــم مــن كــده؛ فلــوس وهويــة جديــدة،
وحيــاة مراتــك وبنتــك ..وكل الــي حتتاجــه هيكــون حتــت إيــده؛ عشــان يقدر
ﻋﺼ
يشــوف شــغله ويــارس هوايتــه العظيمــة ..بنــاء متكامــل مفيهــوش غلطــة.
ﲑ ﺍﻟ
سألتها بفضول:
-إشــمعنى أنــا؟ أكيــد مــن خــال الــي ِعشــتيه شــوفتي نــاذج أبشــع
ﻜﺘ
منــي.
نظرت يف عيني قائلة:
ﺐ ﻟﻠﻨ
كان عرضهــا غــر متوقــع ،مل أفهــم دوافعهــا إال اآلن ،اآلن فقــط أدرك
ﺍﻟﺘﻮ
مقولــة «مــن احلــب مــا قتــل» لكــن مــا لدهيــا مل يكــن ح ًبــا ،كان ً
هوســا
ﺯﻳﻊ
حيــا بالكونــت ،ورغبـ ًة يف تعظيــم أدواتــه ..كانــت تريــد منــي أن أقتــل رص ً
الكونــت ويــارس م ًعــا ،قلــت هلــا هبــدوء:
-فيــه أســطورة معروفــة عــن بنَّــاء اســمه ســنامر ..بنــى قــر عظيــم
مللــك عــريب ،وبعــد مــا خلــص قــال للملــك إن فيــه حجــر يف القــر لــو
اتشــال مــن مكانــه القــر كلــه ممكــن يقــع ..فــراح امللــك قتلــه.
253
فهمت تلميحي ..فسألتني باهتامم:
َ
-وإيه احلجر اليل ممكن يوقع كل اليل أنا عملته؟!
مبتسم:
ً أجبتها
ِ -
أنــت راهنتــي عــى اخلواجــة ،وأنــا راهنــت عــى آدم ..ورهــاين
كان احلجــر ده ،متخافيــش أنــا معاكــي يف إن الكونــت الزم يمــوت،
متخافيــش.
مل يبــدُ عليهــا أهنــا قــد ســمعت مجلتــي األخــرة ..كانــت منتشــية
ﻋﺼ
بانتصارهــا املزعــوم ،وخطتهــا التــي مل تُكشــف إال وقتــا أرادت ،ســألتني
ﲑ ﺍﻟ
إن كنــت قــد اســتمتعت بالقتــل مــن قبــل ..أجبتهــا أننــي مل أقتــل دون
غــرض إال ملــرة واحــدة بح ًثــا عــن متعــة أعظــم ،لكــن األمــر انقلــب
ﻜﺘ
ـي ألول مــرة؛ فــإن مــاتـي؛ وشــعرت أن ضحيتــي هــي مــن تســيطر عـ َّ عـ َّ
املحكــوم فــا نفــع للحاكــم ..مل يبــدُ عــى داليــا أهنــا اقتنعــت بكالمــي،
ﺐ ﻟﻠﻨ
-ألول مــرة مــن فــرة طويلــة هســيب لــك حــق االختيــار ..تبقــى
ﺍﻟﺘﻮ
254
أســتاذ يــارس الطائــي ،وأبــر نفــي بميــاد «املاركيــز».
مــرت كل أحــداث حيــايت أمــام عينــي؛ كل مــا أرغمــت عــى فعلــه،
واختيــارايت املحــدودة التــي ُأجــرت عليهــا بطريقــة أو بأخــرى .رأيــت
الطائــي وآدم ومتَّــام وعــاء الديــن والكنعــاين وهشــام عــديل وكل مــن
وقربتــه مــن رأيس ،ملحــت الرتقــب آذيتهــم وآذوين .التقطــت الســاح ّ
ـكل واضــح ..فأبعــدت املســدس يف عينــي داليــا ،حتــرك جانــب فمهــا بشـ ٍ
عــن رأيس قليـ ًـا ،فكــرت يف الفائــدة مــن وجــودي ،مقيـ ًـا أنســب خيــار
ﻋﺼ
يصــب يف صالــح غــرام ومليكــة بعــد كل مــا مــرا بــه ..وضغطــت الزنــاد
ـررا أول خيــار صحيــح يف حيــايت. مقـ ً
ﲑ ﺍﻟ
***
ﻜﺘ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻭ ﺸﺮ
ﺍﻟﺘﻮ
ﺯﻳﻊ
255
بداية موفقة..
القاهرة 2034
ﻋﺼ
-بابا ..هو ينفع نقرأ الفاحتة عىل روح واحد مسيحي؟!
ﲑ ﺍﻟ
هكــذا ســألتني مليكــة التــي أصبحــت مراهقــة اآلن ،تذكــرت حاهلــا
وقــت رحيــل «آدم» منــذ عــر ســنوات ..مل أشــعر بمــرور كل هــذا
ﻜﺘ
الوقــت؛ كأننــا باألمــس ،وقــت أن كانــت مليكــة طفلتــي الوحيــدة قبــل
أن يشــاركها «مالــك» يف قلبــي الــذي مل يعــد شــا ًبا ،بعــد أن غــزاه الشــيب،
ﺐ ﻟﻠﻨ
َّ
مســخر كل وقتــه يف مســاعدة املحتاجــن ..فأظــن موضــوع الفاحتــة ده
ﺍﻟﺘﻮ
انتهيــت مــن وضــع الزهــور فــوق قــر «آدم حبيــب» الــذي مل ي ُعــد
«خواجــة» ..مل أفــوت ذكــرى ســنوية مــن العــر التــي مــرت عليــه،
وكذلــك مل يفعــل «أرشف» الــذي شــاركني يف تِركــة آدم ،ففتحنــا مركـ ًـزا
كبــرا لصيانــة الكمبيوتــر ،وأســميناه «اخلواجــة» امتنانًــا ملــا فعلــه آدم
ً
معنــا ،اســتعنّا بخــرات مــن هــم أقــدم منّــا ،وبالقليــل مــن احلــظ ،فتمكنّــا
256
مــن تطويــره يف فــرة وجيــزة ..حتــى أصبــح العمــل باملركــز حلـ ًـا ألي
مهنــدس كمبيوتــر مبتــدئ.
تركتنــي مليكــة مــع أرشف ،أخربتنــي أهنا ســتنتظرين داخل الســيارة..
ـائل عــن أحوالــه ..أخــرين برغبتــه يف الــزواج مــن إحــدى صافحتــه متسـ ً
العامــات باملركــز ،كان يتحــدث عنهــا باهتــام حقيقــي ..فأعطيتــه
مباركتــي التــي ال قيمــة هلــا ،وذكَّرتــه أن يســمي مولــوده املســتقبيل «آدم».
ودعــت أرشف الــذي انتظــر يف املدفــن ليــوزع نفحاتــه عــى األطفــال
ﻋﺼ
مــن متســويل املقابــر ..ترمحــت عــى آدم الــذي غــر مســار حيــاة أرشف،
ﲑ ﺍﻟ
أيضــا ،غفــرت لــه كل مــا ارتكبــه يف حقــي وحــق أرسيت حــن
ﻜﺘ وحيــايت أنــا ً
مكروهــا لكــن
ً تعــاون مــع داليــا دون علمــي ..كانــت كإبليــس؛ تــدرك
ـرورا مــر ًة أخــرى،
ً ال يمكنــك اخلــاص منــه؛ فتحاربــه مــرة وتطيعــه مـ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ـوزا أكلهــا
القبــور مثــي ..أثنــاء توجهــي نحــو الســيارة ملحــت ســيدة عجـ ً
أكل ،افرتشــت األرض ســاندة ظهرهــا عــى أحــد شــواهد القبــور الدهــر ً
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
ـوت أعيــاه املــرضرزمــة كبــرة مــن املــال ،اهنالــت عــي بالدعــاء ،بصـ ٍ
َّ
فربــت عــى
ُّ وأهنكتــه دورة احليــاة ،ســألتني عــن دعــوة أحتــاج إليهــا،
ـوت منخفــض: يدهــا وأنــا أســلمها املــال ،وقلــت هلــا بصـ ٍ
257
خفضــت صــوت مســجل الســيارة التــي شــغلته مليكــة ،أمرهتــا
أن تقــدر حرمــة األمــوات ..أخربتنــي أن أمهــا قــد اتصلــت لتبلغنــي
باســتعدادها هــي ومالــك لرحلــة الســفر التــي وعدهتــم هبــا يف أيــام
عطلتــي مــن املركــز ..حذرتنــي مازحــ ًة مــن أن «غــرام» تفتــح هاتفــي
لتقلــب يف حمتوياتــه مــن ٍ
آن آلخــر فأخربهتــا بصــدق أننــي ال أمتلــك شــي ًئا
عــى هــذا اهلاتــف ألخفيــه.
ظلــت مليكــة جالســة إىل جــواري أثنــاء رحلتنــا إىل البيــت ،هتــز
ﻋﺼ
قدميهــا بعصبيــة واضحــة ،وتقضــم أظافرهــا حتــى كاد حلــم أصابعهــا أن
يظهــر ..ظننــت أن هرموناهتــا تتالعــب هبــا ،أو أهنــا تعرفــت عــى شــاب
ﲑ ﺍﻟ
مــن النــادي الريــايض أو مــن املدرســة الثانويــة وختشــى مصارحتــي..
ﻜﺘ
نظــرت هلــا مبتسـ ًـا وقلــت هبــدوء:
أنت كويسة يا مليكة؟ بقى لك كام يوم مش كويسة. ِ -
ﺐ ﻟﻠﻨ
بــدا عليهــا الفــزع الشــديد ،راحــت تقســم بأعظــم األيــان أنــه لــن
ﻭ
-آسفة.
ضحكت ضحكة قصرية لتغري املوضوع ،قالت بلهجة مصطنعة:
-قلبــك أبيــض يــا طائــي ..بعديــن مــا أنــت الــي قلــت يل إنــك بتكــره
القطــط ..حصــل خــر بقى.
قلت هلا بلهجة جادة:
258
ِ
وأنت رابطة القط بتاعك وبتعذبيه.. ِ
أخوك الصغري شافك -
-أنــا معرفــش عملــت كــده ليــه يف «روين» ..ده صاحبــي مــن وأنــا
صغــرة.
سألتها باهتامم:
-بتحيس بإيه وأنتي بترضبيه؟
-برصاحــة ..إحســاس إين بتحكــم يف احلاجــة الوحيــدة الــي ملكــي
ده عظيــم..
ﻋﺼ
استدركت معتذرة حني مل جتد مني جتاو ًبا مع ما تقول:
ﲑ ﺍﻟ
-بس وعد مش هعذبه تاين.
ﻜﺘ
أجبتها هبدوء:
-الطبع بيطلع بعد الروح.
ﺐ ﻟﻠﻨ
الــذي دار مــع «داليــا» يف منــزل ســلوى قبــل أن أحســم قــراري باخلالص
ﺯﻳﻊ
مــن «الكونــت» هنائ ًيــا ..نبهتنــي مليكــة إىل رشودي ،فقلــت هلــا بلهجــة
عمليــة:
-أنـ ِ
ـت مــش فاكــرة حاجــة مــن الفــرة الــي مامــا كانــت حامــل فيهــا
يف مالــك ..ملــا كانــت قاعــدة فــوق يف شــقة عمتــك؟ يــوم مــا صاحلتهــا
ببوكيــه وردِ ،
وجبــت لــك القــط الــي كان نفســك فيــه؟
259
-ال الفــرة دي بالــذات نســياها ،مــع إين فاكــرة حاجــات قبلهــا؛
زي طنــط ســلوى وعمــو رايف اهلل يرمحهــم ..كل الــي فاكــراه إين دخلــت
ابتدائــي متأخــر ســنة بســببها!
أتذكــر أننــي ســألت غــرام أكثــر مــن مــرة عــن هــذه الفــرة ،فكانــت
جتيبنــي كل مــرة بــردود مبهمــة كأن عقلهــا ال يريــد أن يتذكــر هــذه احلقبــة
مــن األســاس ..رفضــت داليــا إخبــاري بــا فعلتــه فيهــا؛ وانطفــأ فضــويل
جتــاه املعرفــة ،تذكــرت آخــر مــا قالــه يل آدم والــذي جعلنــي أحســم
ﻋﺼ
قــراري يــوم أن واجهتهــا..
ﲑ ﺍﻟ
« -هتالقــي مــع أرشف فالشــة عليهــا bitcoinsكتــر ،أنــا مارصفتــش
ﻜﺘ
جنيــه واحــد مــن املاليــن الــي اتدفعــت فيــك ،وكل مــايض الكونــت أنــا
مســحته متا ًمــا ،أمتنــى تقــدر تبــدأ مــن جديــد..
ﺐ ﻟﻠﻨ
ـت فيــه ده مــش عيــب ،كلنــا عندنــا أهــواء غريبــة ،أهــواء لــو
شــوفنا غرينــا بيعملهــا ممكــن منقبلهــاش منــه ..النــاس أمزجــة.
بدا عليها اخلجل ،عقبت بصوت خفيض:
-بس أنا مزاجي ده غريب جدً ا.
أنت ست الناس كلها. -ماتتكسفيش من نفسكِ ،
260
أكملــت حديثــي مســتعيدً ا ذكريــايت مــع «عــاء الديــن» يف زقــاق
احلانــة الــذي مل أنســه حلظــ ًة:
-أهــم حاجــة ..ماحــدش يعــرف الــي بتعمليــه ده غــري ،النــاس
لــو عرفــت مــش هريمحوكــي ..أنــا هســاعدك حتــويل شــعورك ده حلاجــة
أعظــم بكتــر..
أخربهتــا برغبتــي يف أن أدرهبــا عــى العمــل معــي ،ردت أهنــا ال حتــب
الوقــوف يف مركــز الصيانــة وال حتــب أرشف كذلــك ..قلــت هلــا أن
ﻋﺼ
رسا حتــى عــن أمهــاعملنــا ســيكون بعيــدً ا عــن املركــز متا ًمــا ،ســيصبح ً
ﲑ ﺍﻟ
وأخيهــاَ ،ب َّشهتــا أن تســتعد ملرحلــة جديــدة مــن حياهتــا؛ حيــث ســتقطع
الكثــر مــن اخلطــوات نحــو ذاهتــا احلقيقيــة ،مرحلــة لــن يعلــم أحــد عنهــا
ﻜﺘ
شــي ًئا ســوانا ،تــردد يف عقــي صــوت يقــول:
بك يف عامل «املاركيز».. أهل ِ -مليكتي العزيزةً ..
ﺐ ﻟﻠﻨ
***
261
ﺯﻳﻊ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻭ ﺸﺮ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻜﺘ
ﲑ ﺍﻟ
ﻋﺼ
شكر خاص:
لــكل مــن اقتطــع مــن وقتــه وجمهــوده ملعاونتــي خــال رحلتــي مــع
«الكونــت»؛ يف املجــال البحثــي أو يف مراجعــة الروايــة ذاهتــا:
ﻋﺼ
أ .منتــر أمــن ،أ .حممــد الصفتي.
ﲑ ﺍﻟ
-د .حممــد طــه استشــاري وأســتاذ الطــب النفــي بكليــة الطــب-
ﻜﺘ
جامعــة املنيــا ،وعضــو اجلمعيــة األمريكيــة للعــاج النفــي اجلمعــي،
ومؤلــف كتــاب (اخلــروج عــن النــص) وكتــاب (عالقــات خطــرة).
ﺐ ﻟﻠﻨ
م .حممــود شــعبان ،الباحــث أمحــد جاويــش ،أ رضــوى أبــو العبــاس،
ﻭ
ﺍﻟﺘﻮ
م .عبــد الرمحــن ممــدوح ،د .نورهــان حممــد ،د .مصطفــى عــزت ،أ .ريــم
ﺯﻳﻊ
رجائــي ،م .أمحــد ســليم ،م .حممــد مخيــس ،أ .فرحــة حممــد.
-لــكل مــن عمــل جاهــدً ا يف اإلعــان عــن هــذا العمــل :دار تويــا
ممثلــة يف أ .هالــة البشــبييش وأ .رشيــف الليثــي ،واملخــرج نــور الديــن
الســعيد ،واملصـ ِّـور د .حممــد ناجــي عبــداهلل ،واملمثــل وليــد عبــد الغنــي.
263
ﺯﻳﻊ
ﺍﻟﺘﻮ
ﻭ ﺸﺮ
ﺐ ﻟﻠﻨ
ﻜﺘ
ﲑ ﺍﻟ
ﻋﺼ