Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 205

‫شـرح‬

‫سنة‬
‫أصول ال ُّ‬
‫لإلمام أحمد ابن حنبل‬

‫‪$‬‬

‫شرح فضيلة الشيخ الدكتور‬

‫إبراهيم الرحيلي‬

‫حفظه اهلل‬

‫‪1‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪2‬‬

‫‪2‬‬

‫المجلس األول‬

‫ونستعينه ونستغفره‪ ،‬ونتوب إليه‪ ،‬ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا ومن سيئات‬
‫أعمالنا‪.‬‬
‫َم ْن يهده اهلل فال ُم ِض ّل له‪ ،‬و َم ْن ُيضلل فال هادي له‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده‬
‫ال شريك له‪ ،‬وأشهد أن نبينا محمدً ا عبده ورسوله‪.‬‬
‫اللهم َص ّل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد‪ ،‬وعلى آله وصحبه‬
‫أجمعين‪.‬‬
‫أما بعد‪:‬‬
‫فإن اهلل عز وجل ل ِ ُلطفه هبذه األُمة ح ِفظ لها دينها ِ‬
‫لح ْفظ كتاهبا الذي أنزله على نب ّيه‬ ‫ّ َ‬
‫فح ِفظ اهلل عز وجل الوحي التي‬ ‫السنة التي َت َل ّقتها األُمة عن النبي ﷺ‪َ ،‬‬
‫ِ‬
‫ﷺ‪ ،‬وبحفظ ُّ‬
‫وح ِفظ لها ال َفهم الصحيح الذي َت َلقته‬
‫لسنة)‪َ ،‬‬
‫ِ‬
‫ُخوط َبت به األُمة بطريق ْيه‪( :‬الكتاب وا ُّ‬
‫األُمة عن سلفها من الصحابة والتابعين‪ ،‬وأتباعهم من خيار األُ ّمة‪.‬‬
‫‪3‬‬ ‫؟؟؟‬

‫ومن أسباب الحفظ أو من كمال الحفظ‪ِ :‬ح ْفظ العقيدة الصحيحة التي َح ِفظها اهلل‬
‫عز وجل بِ ُم َجدّ دين لها‪ُ ،‬ي َجدّ دون ما اندثر من معالمها‪ ،‬و ُيبيّنون للناس أصولها‪،‬‬
‫ويشرحون مسائلها‪ ،‬و َي ُر ّدون على المخالفين الذين انحرفوا عنها‪.‬‬
‫ومن هؤالء األئمة الذين َكتَب اهلل عز وجل لهم الفضل يف ن َْشر هذا الدين‪ ،‬ويف‬
‫الخ ْلق إلى ما كان عليه النبي ﷺ‪ ،‬وما كان عليه أصحابه‬
‫السنة‪ ،‬ويف هداية َ‬ ‫َّ‬
‫الذب عن ُّ‬
‫من بعده‪ :‬اإلمام أحمد ابن حنبل‪.‬‬

‫وهو اإلمام المعروف ا ْل ُم َقدّ م عند أهل ُّ‬


‫السنة‪.‬‬
‫الجهمية القول‬ ‫السنة؛ وذلك بعد الفتنة العظيمة َل ّما أحدث َ‬
‫وقد ُل ِّقب بإمام أهل ُّ‬
‫بخ ْلق القرآن‪ ،‬و َل ّبسوا على بعض الخلفاء من دولة بني العباس‪ ،‬ف َع ّمت الفتنة‪ ،‬و ُفتِن‬
‫َ‬
‫الناس فتن ًة عظيمة‪.‬‬

‫ثم ه ّيأ اهلل عز وجل للناس يف ذلك الوقت اإلمام أحمد ابن حنبل‪َ ،‬ف َذ ّب عن ُّ‬
‫السنة‬
‫و َب ّين الصواب يف تلك الفتنة‪ ،‬وأن القرآن كالم اهلل عز وجل ُمن َّزل غير مخلوق‪ ،‬وأنه‬
‫ليس شي ٌء من القرآن ال معناه وال ألفاظه وال حروفه مخلوقة‪ ،‬وإنما هي كالم اهلل عز‬
‫وجل‪ ،‬فهو كالم اهلل كيفما َت َص َّرف‪.‬‬
‫السنة‪ ،‬و َع ّظمه أهل‬
‫وهيأ اهلل عز وجل لإلمام أحمد يف هذه الفتنة أن َر َفع لواء ُّ‬
‫العلم‪ ،‬وعرفوا َقدْ ره‪ ،‬و َل َق ّبوه بإِمام أهل ُّ‬
‫السنة‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪4‬‬

‫ٍ‬
‫أبواب شتى من الفضل‪.‬‬ ‫وهو اإلمام ا ْل ُم َقدّ م يف‬ ‫‪4‬‬

‫ٍ‬
‫أبواب َشتّى من أبواب العلم‬ ‫وقد َذكَر العلماء أن اهلل عز وجل َج َمع له اإلمامة يف‬
‫والو َرع‪.‬‬
‫والفضل‪ ،‬والزهد َ‬
‫واإلمام أحمد هو أشهر من أن ُي َع َّرف به‪ ،‬وقد يضيق الوقت عن ذِكْر مناقبه‪ ،‬بل أن‬
‫العلماء قد َصنّفوا فيه كُت ًبا مستقلة؛ َج َمعوا فيها مناقبه وفضائله‪.‬‬
‫وإنما ُأشير إلى والدته‪ ،‬ووفاته‪ ،‬ونُبذة عن بعض ما َذكَره أهل العلم يف مناقبه‬
‫وفضائله‪.‬‬
‫فاإلمام أحمد‪ :‬هو اإلمام أحمد بن حنبل بن هالل بن أسد بن إدريس الشيباين‬
‫البغدادي‪.‬‬
‫ُولِد سنة أرب ٍع وستين ومائة يف شهر ربيع اآلخر‪.‬‬
‫وتُويف سنة إحدى وأربعين ومائتين‪.‬‬
‫بالسنة‪ ،‬وبِ َح ْمل لوائها‬
‫حافال بِ َطلب العلم‪ ،‬وبِنَ ْفع الناس‪ ،‬وبالتصنيف ُّ‬
‫ً‬ ‫وكان ُعمره‬
‫حتى مات ‪.$‬‬
‫وقد َط َلب الحديث والعلم منذ ٍ‬
‫وقت ُمبكر‪ ،‬كما أخرب هو أنه َط َلب العلم سنة تسع‬
‫وسبعين ومائة‪ ،‬أي كان ُعمره خمس عشرة سنة‪ ،‬وهذا وقت ُم َب ّكر يف َط َلبه للحديث‪،‬‬
‫‪5‬‬ ‫؟؟؟‬

‫ِ‬
‫مع اشتغاله قبل ذلك بح ْفظ كتاب اهلل عز وجل‪ ،‬ف َط َل َ‬
‫ب العلم حتى َب َر َز فيه‪ ،‬و َع َرف‬
‫الناس له َقدْ ره‪.‬‬
‫وقد أثنى عليه شيوخه كـ (وكيع‪ ،‬والشافعي)‪ ،‬وغيرهما‪.‬‬

‫قال الشافعي‪َ :‬خ َّل ْف ُت يف بغداد شا ًّبا إذا قال‪( :‬حدثنا) قال الناس كلهم‪َ :‬‬
‫(صدق)‪.‬‬
‫رجال أعلم وأفقه وال أتقى وال َأ ْو َرع من أحمد ابن‬
‫ً‬ ‫وقال‪ :‬ما َخ ّل ُ‬
‫فت يف بغداد‬
‫حنبل‪.‬‬
‫و ُذكِر لوكيع رجل فقال‪ :‬هناين أحمد أن ُأ َحدِّ ث عنه‪.‬‬
‫وكان العلماء من أقرانه ومن شيوخه يعرفون له َقدْ ره‪:‬‬
‫‪ -‬فكان علي ابن المديني يقول‪( :‬إن اهلل ن ََصر هذا الدين برجلين؛ بأبي بكر يوم‬
‫الردة‪ ،‬وبأحمد ابن حنبل يوم المحنة)‪.‬‬
‫‪ -‬وكان يقول‪( :‬إن أحمد ابن حنبل أفضل عندي من سعيد بن ُجبير؛ ألن سعيد‬
‫بن ُجبير له نُظراء يف وقته‪ ،‬وأحمد ليس له نُظراء يف وقته)؛ يعني يف فضله ويف منزلته‪.‬‬
‫‪ -‬وكان علي ابن المديني يقول‪ُ :‬يريدون مِنّا بعد الفتنة بعد أن ُطلِب منه أن يتكلم‬
‫ظهر ما أظهر أحمد قال‪ :‬يريدون أن أكون مثل أحمد‪ ،‬واهلل ال أكون مثله‪.‬‬ ‫وأن ُي ِ‬

‫‪ -‬وقال بِ ْشر بن الحارث الحايف‪( :‬ذاك مقام األنبياء‪ ،‬يريدون مِنّا مقام األنبياء)‪.‬‬
‫‪ -‬وقال بعضهم‪( :‬ذاك رجل َح ِفظه اهلل من بين يديه ومن خلفه)‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪6‬‬

‫أيضا يف العلم ويف الحديث كما َر َوى عبد اهلل بن أحمد‪،‬‬


‫وقد أثنى عليه العلماء ً‬ ‫‪6‬‬

‫أن أبا َزرعة قال له‪ :‬إن أباك كان يحفظ َألف ألف حديث‪.‬‬
‫ثم قيل له‪ :‬كيف عرفت هذا؟‬
‫قال‪( :‬ذاكرته أبواهبا)؛ يعني أبواب األحاديث وأبواب العلم؛ ف َع َرف بالتقدير هذا‬
‫العدد‪.‬‬
‫الس َير‪( :‬وهذا خربٌ صحيح‪ ،‬يدل على سعة ِع ْلم أحمد)‪.‬‬
‫قال الذهبي يف ِّ‬
‫وإن كان األخبار المرفوعة للنبي ﷺ ال تبلغ ُعشر معشار هذا العدد‪ ،‬وإنما يدخل‬
‫يف هذا‪ :‬ما ُأثِر عن الصحابة والتابعين من التفسير والشرع‪.‬‬
‫وهذا يدل على سعة ا ّطالعه‪ ،‬وعلى سعة ِع ْلمه؛ حتى قيل‪( :‬إن حديث ال يعرفه‬
‫أحمد ليس بحديث)؛ وذلك لسعة ا ّطالعه على العلم‪ ،‬وعلى ُطرق الحديث‪.‬‬
‫ثم إنه مع هذا َج َمع إلى هذا‪ :‬المعرفة بخالف المبتدعة‪ ،‬واالختالف الذي أحدثه‬
‫الناس‪.‬‬
‫رجال جاء ببغداد فأحدث بعض‬ ‫السنة َ‬
‫للخ َّالل أن ً‬ ‫ومما يدل على هذا‪ :‬ما جاء يف ُّ‬
‫المسائل فكان يتكلم يف اإليمان ويقول‪( :‬إن اإليمان مخلوق)‪ ،‬فذهب قوم من َط َلبة‬
‫الو ّراق فسألوه عن هذه المسألة‪ ،‬وعن قول الرجل‪( :‬إن‬
‫العلم إلى عبد الوهاب َ‬
‫اإليمان مخلوق)‪.‬‬
‫‪7‬‬ ‫؟؟؟‬

‫فقال‪ :‬لست بصاحب هذا‪ ،‬اذهبوا إلى أحمد؛ فإنه جهبذ هذا الشأن‪.‬‬
‫ثم ذهبوا إلى أحمد‪ ،‬فقال‪( :‬إن هذه مسائل الجهم‪ ،‬وهي سبعين مسألة)‪ ،‬ثم َذكَر‬
‫لهم اإلجابة يف هذا‪.‬‬
‫َذكَر هذا شيخ اإلسالم‪ ،‬وال أدري هل هو منقول عن اإلمام أحمد أو عن غيره‪،‬‬
‫بعد أن ذكر هذه الرواية‪ ،‬وأن اإليمان ُمت ََض ّمن ل ِ َما هو مخلوق ول ِ َما هو غير مخلوق‪،‬‬
‫فاهلل عز وجل وأسمائه وصفاته ‪-‬وهذا من أصول اإليمان‪ :-‬ليست بمخلوقة‪ ،‬وأفعال‬
‫العباد التي يقومون هبا مخلوقة‪.‬‬
‫والشاهد من هذا‪ :‬هو سعة ا ّطالع اإلمام أحمد على أقوال المخالفين‪.‬‬
‫أيضا ُم ّطل ًعا على أقوال أهل الرأي‪ ،‬وأهل ال َّن َظر الذين كانوا يجتهدون يف‬
‫كما كان ً‬
‫هذا بآرائهم وباألقيسة‪.‬‬
‫وقد ن ُِقل عنه أنه َأ َخذ كُتب أهل الرأي ِ‬
‫وحفظها واستظهرها ثم َت َركها ُّ‬
‫للسنة‪ ،‬وهذا‬ ‫َ‬
‫مما يدل على َت َم ّكنه من كل ما ُد ِّون يف عصره‪ ،‬وعلى سعة ا ّطالعه عليه‪.‬‬
‫السنة‪ ،‬أو ما كان طري ًقا إلى المخالفة من‬
‫السنة و َن َقدَ كل ما َخالف ُّ‬
‫ثم إنه أقبل على ُّ‬
‫آراء الناس‪ ،‬واجتهاداهتم‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪8‬‬

‫وكان مع هذا ُم َع ِّظ ًما ألقوال الصحابة والتابعين‪ ،‬و َت َم ّيز منهجه باالستدالل‬ ‫‪8‬‬

‫والسنة‪ ،‬وباالستئناس يف هذا بأقوال الصحابة والتابعين كما هو‬


‫بالنصوص من الكتاب ُّ‬
‫مشهور ومعروف عنه‪.‬‬
‫وقد َت َرك هذا األثر يف أتباعه ويف تالميذه والمنتسبين لمذهبه؛ فكان ُج ّل أصحاب‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫اإلمام أحمد وتالميذه الذين َو ِرثوا عنه ع ْلمه كانوا على عناية عظيمة ُّ‬
‫بالسنة‪.‬‬
‫وأما َم ْن تأخر من المتمذهبين بمذهبه فقد َي ِرد عليهم ما َي ِرد على غيرهم‪.‬‬
‫السنة وبِنُصرهتا‪.‬‬
‫ب ُّ‬‫وأما تالميذه‪ :‬فقد تميزوا بِ ُح ّ‬
‫وقال أهل العلم‪ :‬قد َأ ّثر اإلمام أحمد يف أتباع مذهبه با ّتباع ُّ‬
‫السنة والورع‪ ،‬فال يزال‬
‫ومم ْن َت َأ ّثر بطريقته‪ ،‬وال يزال الورع فيه‪.‬‬
‫ظاهرا يف أتباع مذهبه َّ‬
‫ً‬ ‫ا ّتباع ُّ‬
‫السنة‬
‫وهذا ال يعني أن المذاهب األخرى َخ َلت من هذا‪ ،‬لك ّن اإلمام أحمد َت َرك َأ َث ًرا َب ّينًا‬

‫وظاهرا يف كل َم ْن َت َأ ّثر به‪ ،‬و َم ْن اقتدى به َّ‬


‫مم ْن َجاء بعده من العلماء واألئمة‪.‬‬ ‫ً‬
‫بالسنة وبمعرفة‬
‫واإلمام أحمد –كما هو معلوم‪ -‬قد َج َمع اهلل عز وجل له العلم ُّ‬
‫األحاديث و ُطرقها‪ ،‬وكذلك العلم ُّ‬
‫بالسنة على االصطالح اآلخر‪ ،‬وهي يف ُمقابل‬
‫البدعة‪َ ،‬فدَ ّون يف هذا ويف هذا‪.‬‬
‫فكتابه [ا ْل ُمسند] الذي َج َمع فيه األحاديث عن النبي ﷺ –وهي ما يقرب من‬
‫ثالثين حدي ًثا‪ -‬يدل على سعة ا ّطالعه‪ ،‬وقد َذكَر العلماء أنه ليس فيه حديث موضوع‪.‬‬
‫‪9‬‬ ‫؟؟؟‬

‫السنة‪ ،‬واإلنكار على أهل البدع‪:‬‬ ‫السنة يف المعنى اآلخر َّ‬


‫والذ ّب عن ُّ‬ ‫وأما ما جاء يف ُّ‬
‫فقد َج َمع تالميذه الكتب ا ْل ُم َط ّولة يف َن ْقل اآلثار عنه‪ ،‬وعن إنكاره على المخالفين‪،‬‬
‫السنة‪.‬‬
‫وعن بيان طريقة أهل ُّ‬
‫ِ‬
‫و[اإلبانة] البن بطة‪ ،‬وغيرهما من الكتب التي تدل‬ ‫[السنة] َ‬
‫للخ ّالل‪،‬‬ ‫ومنها‪ :‬كتاب ُّ‬
‫على رجوع أهل العلم إليه‪ ،‬وعلى أنه اإلمام ا ْل ُم َقدّ م يف هذا الباب‪.‬‬
‫والزهد واالنقطاع عن الدنيا‪.‬‬ ‫كما أنه قد ُع ِرف بِ َ‬
‫الو َرع ُّ‬
‫وقد ابتُلي بالسراء والضراء‪:‬‬
‫بخ ْلق‬
‫‪ -‬ابتُلي بالضراء يف عهد المأمون والمعتصم والواثق عندما أحدثوا القول َ‬
‫وجلِدَ وس ِ‬
‫جن وصرب‪.‬‬ ‫القرآن‪ ،‬و ُأوذي ُ‬
‫ُ‬
‫السنة أراد إكرام اإلمام أحمد وأ َل ّح عليه يف أن يبقى‬
‫‪ -‬ثم َل ّما جاء المتوكل ون ََصر ُّ‬
‫قصرا‪ ،‬وما زال ُيلِ ّح اإلمام أحمد عليه حتى َش َفع له عند الخليفة‬
‫ً‬ ‫بجانبه‪ ،‬و َأ ْسكنه‬
‫العلماء وطالب العلم‪ ،‬وقالوا‪ :‬إن هذا ليس بصاحب دنيا‪ ،‬وإنما هو صاحب دين‪ ،‬وإنه‬
‫ال حاجة له يف هذا‪ ،‬فت ََركه بعد إلحاح مع محبته له وتقديره‪.‬‬
‫ولهذا؛ قال العلماء‪( :‬ابتُلي بالضراء والسراء ثم َخ َرج كالذهب األحمر)؛ كما قال‬
‫هذا األئمة يف َو ْصفه ‪.$‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪10‬‬

‫وبين يدينا رسالة عظيمة من كالم اإلمام أحمد‪ ،‬وهي الرسالة المعروفة بـ‬ ‫‪10‬‬

‫السنة]‪ ،‬وهي من رواية عبدوس بن مالك ال َع ّطار؛ من َأ َج ّل تالميذ اإلمام‬


‫[أصول ُّ‬
‫أحمد‪.‬‬
‫السنة‬
‫وهذه الرسالة مع كوهنا مختصرة إال أهنا قد َج َمعت الكثير من أصول أهل ُّ‬
‫والجماعة‪ ،‬وقد تلقاها العلماء بالقبول‪ ،‬و َتنَاقلوها‪.‬‬
‫وقد ذكرها ابن أبي يعلى يف طبقات الحنابلة يف ترجمة عبدوس بن مالك‪ ،‬وقال‬

‫قبل أن ينقلها يف ترجمة عبدوس‪ ،‬وقد َن َقل مسائل جليلة عن اإلمام أحمد ُي َ‬
‫رتحل يف‬

‫َط َلبها إلى الصين‪ ،‬ثم َذكَر هذه العقيدة المختصرة المعروفة بـ [أصول ُّ‬
‫السنة]‪.‬‬

‫وكذلك أخرجها اإلمام الاللكائي يف [مقدمة كتاب َش ْرح أصول اعتقاد أهل ُّ‬
‫السنة‬
‫والجماعة]‪ ،‬وجعلها كالمقدمة للكتاب مع عقائد أخرى ذكرها لبعض األئمة‬
‫السنة والجماعة‪.‬‬ ‫ا ْل ُم َقدّ مين يف ُّ‬
‫السنة الذين شرحوا أصول عقيدة أهل ُّ‬
‫وكذلك َذكَرها ابن الجوزي يف مناقب اإلمام أحمد‪.‬‬
‫وقد اعتنى العلماء هبذه الرسالة المختصرة التي رواها عبدوس بن مالك عن‬
‫اإلمام أحمد‪.‬‬

‫وقد َن َقل شيخ اإلسالم عن هذه الرسالة الكثير من النقول يف َد ْرء َت ُ‬


‫عارض العقل‬
‫السنة‪ ،‬ويف رسائل شتى؛ منها ما هو مجموع يف مجموع الفتاوى‬
‫والنَّقل‪ ،‬ويف منهاج ُّ‬
‫‪11‬‬ ‫؟؟؟‬

‫لشيخ اإلسالم ابن تيمية‪ ،‬فذكر هذه الرسالة وكان يستشهد ببعض ما جاء فيها ويقول‪:‬‬
‫السنة])‪ ،‬وأحيانًا يقول‪( :‬قال اإلمام أحمد يف رسالة‬
‫(قال اإلمام أحمد يف [أصول ُّ‬
‫عبدوس بن مالك)‪.‬‬
‫و َذكَر المرتجمون من شيخ اإلسالم ابن تيمية كابن رشيق وغيره أن اإلمام شيخ‬
‫عرف اآلن‪ ،‬وإنما ُذكِر يف‬
‫اإلسالم ابن تيمية له َش ْرح على هذه الرسالة‪ ،‬ولكنه ال ُي َ‬
‫ترجمة شيخ اإلسالم ابن تيمية‪.‬‬
‫وقد جاء يف بعض ثنايا كالمه بعض التنبيه على بعض العبارات التي وردت يف‬
‫هذه الرسالة المختصرة‪ ،‬وقد َش َرح ُج ً‬
‫مال منها‪ ،‬لعلنا نُنَ ّبه على بعضها يف مواطنها‪.‬‬
‫وال أريد اإلطالة بالتعريف هبذه الرسالة‪ ،‬وبمؤلفها‪.‬‬
‫وإنما نشرع يف قراءهتا ويف التعليق على بعض المواطن المهمة التي يقتضي المقام‬
‫التنبيه والتعليق عليها؛ فإهنا رسالة مختصرة‪ ،‬مع اختصارها فإهنا َج َمعت الكثير من‬
‫األصول التي ينبغي لطالب العلم أن يعتنوا هبا‪ ،‬وأن يدرسوها‪ ،‬وينبغي للعلماء أن‬
‫يشرحوا هذه الرسالة ونظائرها من الرسائل األخرى التي َصنّفها األئمة‪ ،‬والتي وصفوا‬
‫السنة والجماعة‪.‬‬
‫فيها أصول عقيدة أهل ُّ‬
‫وكما سيأيت اإلشارة لبعضها مما ذكره اإلمام‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪12‬‬

‫فنشرع يف قراءة هذه الرسالة‪ ،‬ونسأل اهلل عز وجل أن يرزقنا وإياكم الفهم لكالم‬ ‫‪12‬‬

‫لسنّة النبي ﷺ‪ ،‬ول ِ َما قرره أهل العلم المحققون‬


‫أهل العلم‪ ،‬وأن يرزقنا ُح ْسن المتابعة ُ‬
‫لها‪.‬‬
‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬
‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬والصالة والسالم على نب ّينا محمد‪ ،‬وعلى آله وصحبه‬
‫أجمعين‪.‬‬
‫فهذا هو المجلس األول من َش ْرح وتعليق شيخنا حفظه اهلل على المتن الثالث يف‬

‫المستوى األول يف الدورة المنهجية ال َع َقدية‪[ :‬متن أصول ُّ‬


‫السنة] لإلمام أحمد ابن‬
‫حنبل ‪ $‬تعالى‪.‬‬
‫***المتن***‬

‫قال عبدوس العطار‪:‬‬

‫لسن َِّة ِعنْدَ نَا‪:‬‬ ‫ول‪ُ :‬أ ُص ُ‬


‫ول َا ُّ‬ ‫ت َأ َبا َع ْب ِد َاهَّلل ِ َأ ْح َمدَ ابن َحنْ َب ٍل رضي اهَّلل عنه َي ُق ُ‬ ‫َس ِم ْع ُ‬
‫ول اَهَّللِ ﷺ َواَ ْْلِ ْقتِدَ ا ُء بِ ِه ْم‪َ ،‬وت َْر ُك َا ْلبِدَ عِ‪َ ،‬وك ُُّل بِدْ َع ٍة‬
‫اب رس ِ‬ ‫ِ‬
‫َان َع َل ْيه َأ ْص َح ُ َ ُ‬
‫ك بِ َما ك َ‬ ‫َالت ََّم ُّس ُ‬
‫َف ِه َي َض ََل َلةٌ‪.‬‬

‫***الشرح***‬

‫السنة‪.‬‬ ‫َش َرع اإلمام أحمد يف بيان أصول أهل ُّ‬


‫السنة‪ ،‬أو أصول ُّ‬
‫‪13‬‬ ‫؟؟؟‬

‫قول أو فِ ْعل أو‬


‫والسنة تُط َلق يف اصطَلح الم َحدّ ثين‪ :‬على ما ُأثِر عن النبي ﷺ من ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫السنة الفعلية أو القولية؛ فكل ذلك من ُسنّة النبي‬ ‫ِ‬
‫تقرير‪ ،‬وما نُسب إلى النبي ﷺ من ُّ‬
‫ﷺ‪.‬‬

‫السنة التي هي يف مقابل‬ ‫وتُط َلق ُّ‬


‫السنة يف اصطَلح المصنفين يف كُتب العقائد‪ :‬على ُّ‬
‫السنة)‪.‬‬
‫السنة وعلى ُّ‬
‫البدعة‪ ،‬كما يقال‪( :‬هذا الرجل من أهل ُّ‬

‫ويقال‪( :‬هذا الرجل من أهل البدع‪ ،‬وعلى البدعة)‪.‬‬

‫فتُط َلق ُّ‬


‫السنة و ُيراد هبا هذا المعنى يف مقابل البدعة‪.‬‬

‫والسنة التي َع ّبر عنها اإلمام أحمد هنا هي يف المعنى الثاين‪ ،‬أراد هبا المعنى الثاين؛‬
‫ُّ‬
‫السنة العامة التي تشمل القرآن وما ن ُِقل عن النبي ﷺ‪ ،‬والتي هي يف ُمقابل‬ ‫وهي‪ُّ :‬‬
‫البِدَ ع‪.‬‬

‫الخ َل َفاء َّ‬


‫الراشدين‬ ‫وهي التي َقصدها النبي ﷺ يف قوله‪َ « :‬ع َل ْي ُكم بِ ُسنّتي ُ‬
‫وسنّة ُ‬
‫ا ْل َمهديين مِ ْن َب ْعدي»‪.‬‬

‫السنة‪ :‬هي كل ما َش َرعه اهلل عز وجل لألُمة‪ ،‬وما أوحاه إلى هذه األُمة من‬
‫فهذه ُّ‬
‫كتاب اهلل ومن ما ن ُِقل عن النبي ﷺ من األحاديث المرفوعة للنبي ﷺ‪ ،‬وما َسنّه‬
‫الخلفاء الراشدون الذين َأ َمر النبي ﷺ با ّتباع ُسنّتهم‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪14‬‬

‫لسن َِّة)‪ُ :‬يشير هنا إلى األُسس وإلى القواعد العظيمة التي عليها‬ ‫وقوله‪ُ ( :‬أ ُص ُ‬
‫ول َا ُّ‬
‫‪14‬‬

‫السنة‪.‬‬
‫مدار ُّ‬

‫السنة غيرهم من أهل البِدَ ع‪.‬‬


‫وهذه األصول‪ :‬هي التي َف َارق فيها أهل ُّ‬

‫السنة]‬
‫السنة كـ [أصول ُّ‬
‫وقد َصنّف بعض أهل العلم كُت ًبا مستقلة يف بيان أصول ُّ‬
‫وأيضا كـ َّ‬
‫[الش ْرح‬ ‫السنة] لإلمام الاللكائي‪ً ،‬‬ ‫البن أبي َزمنين‪َ ،‬‬
‫و[ش ْرح أصول اعتقاد أهل ُّ‬
‫السنة والدِّ َيانة] البن بطة وهي المعروفة بـ [اإلبانة الصغرى]‪.‬‬
‫واإلبانة على أصول ُّ‬

‫فض ّمنوا هذه العناوين ل ُكتبهم أهنا يف أصول ُّ‬


‫السنة‪ ،‬ويقصدون‪ :‬أصول اعتقاد أهل‬ ‫َ‬
‫السنة والجماعة‪.‬‬
‫ُّ‬

‫السنة عن غيرهم‪.‬‬
‫وهي األصول التي َم ّيزت أهل ُّ‬

‫السنة غيرهم من أهل البِدع‪.‬‬ ‫ِ‬


‫وهي القواعد الع َظام واألصول التي َف َار َق فيها أهل ُّ‬

‫وهذه األصول أحيانًا يعنون هبا األصول العامة يف االستدالل‪ ،‬وأحيانًا يقصدون هبا‬
‫المسائل العظيمة من أصول اإليمان‪ ،‬كاإليمان بال َقدَ ر‪ ،‬واإليمان باهلل‪ ،‬واألسماء‬

‫والصفات‪ ،‬وأحيانًا يقصدون هبا بعض األصول التي َتميز هبا منهج أهل ُّ‬
‫السنة َكت َْرك‬
‫المراء‪ ،‬والجدَ ل‪ ،‬وا ّتباع األثر والورع‪ ،‬وال َّتن َّزه عن ا ْل ُم َح ّرم‪.‬‬

‫السنة‪.‬‬
‫كل هذه يذكروهنا و ُيطلقون عليها أصول ُّ‬
‫‪15‬‬ ‫؟؟؟‬

‫ول َا ِ ِ‬
‫الم َّتبِعين ُ‬
‫لسنّة النبي ﷺ‪.‬‬ ‫السنة‪ ،‬عند ُ‬ ‫قال‪ُ ( :‬أ ُص ُ ُّ‬
‫لسنَّة عنْدَ نَا)‪ :‬أي عند أهل ُّ‬
‫ِ‬
‫المرتجم لعقيدهتم‪ ،‬والخبير بما ُهم عليه‪ ،‬والذي َج َمع‬ ‫واإلمام أحمد هو إمامهم‬
‫الم َص ِّرح بأقواله‪ ،‬العارف بأقوال المخالفين له‪.‬‬
‫أقواله‪ ،‬فهو الخبير بعقيدته‪ ،‬وهو ُ‬

‫ومن هنا كانت أقواله له مكانة يف األُمة‪ ،‬وكان األئمة من أقران اإلمام أحمد إذا ما‬
‫ن ُِقل لهم األثر عن اإلمام أحمد َف ِرحوا به‪ ،‬و َقدّ موه على أقوالهم‪ ،‬واعتنوا به عناية‬
‫عظيمة لمكانة هذا الرجل يف العلم والورع‪.‬‬

‫بالسنة والورع يف أن يتكلم بما ال يعرف‪.‬‬


‫فقد َج َمع اهلل له بين العلم ُّ‬
‫وال شك أن الرجل إذا اجتمع فيه هذان الوصفان فإنه يكون على ٍ‬
‫قدر كبير من‬
‫الخير‪.‬‬

‫فإن الناس إنما يأيت لهم النَّقص إما بِنَ ْقص العلم‪ ،‬وإما بِنَ ْقص الورع‪.‬‬

‫فإذا اكتمل العلم مع الورع انتفع الرجل ب ِعلمه و َن َفع غيره‪.‬‬

‫ول َاهَّللِ ﷺ‬
‫اب رس ِ‬ ‫ِ‬
‫َان َع َل ْيه َأ ْص َح ُ َ ُ‬
‫ك بِ َما ك َ‬
‫السنة‪َ ( :‬الت ََّم ُّس ُ‬
‫ثم َذكَر أن من أصول ُّ‬
‫ِ ِ‬
‫السنة؛ وهو التمسك بما عليه أصحاب رسول اهلل‬ ‫َو َا ْْل ْقتدَ ا ُء بِ ِه ْم)‪ :‬هذا من أصول أهل ُّ‬
‫ﷺ واالقتداء هبم‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪16‬‬

‫ِ‬
‫وهنا قد َش َرع اإلمام أحمد يف ذكْر أصول ُّ‬
‫السنة مبتدئًا باألصول العامة يف‬ ‫‪16‬‬

‫االستدالل؛ ألن هذه األصول ُيبنى عليها غيرها‪.‬‬

‫فإن أصول االستدالل هي األصول التي افرتق فيها الناس‪.‬‬

‫وإنما افرتق الناس إلى مذاهب شتى يف أصول االستدالل‪.‬‬

‫السنة متم ّي ًزا عن غيره من المناهج األخرى لهذا األصل‬


‫ومن هنا كان منهج أهل ُّ‬
‫العظيم؛ وهو‪ :‬التمسك بما كان عليه أصحاب النبي ﷺ‪ ،‬واالقتداء هبم‪.‬‬

‫السنة عن غيره‪.‬‬
‫وهذا األصل إنما ذكره اإلمام أحمد ل ُي َم ّيز منهج أهل ُّ‬

‫والسنة؛ ألن كل الطوائف َتدّ عي أهنا تعمل‬


‫ولم يذكر االستدالل لنصوص الكتاب ُّ‬
‫والسنة‪.‬‬
‫بالكتاب ُّ‬

‫السنة مع االستدالل بالنصوص‪ :‬هو التمسك بما كان‬


‫وإنما الذي َم ّيز منهج أهل ُّ‬
‫عليه أصحاب النبي ﷺ‪.‬‬

‫وهذا األصل‪ :‬هو الذي بسببه بعد ُل ْطف اهلل عز وجل حصلت ألهل ُّ‬
‫السنة به‬
‫ِ‬
‫العصمة من الخطأ يف ال َفهم‪.‬‬

‫فإن الناس َي ِرد عليهم الخطأ من وجهين –كما َذكَر هذا شيخ اإلسالم ابن تيمية‪:-‬‬

‫‪ -‬إما أن ُيستدل بما ليس بدليل‪.‬‬


‫‪17‬‬ ‫؟؟؟‬

‫‪ -‬وإما أن ُيخطِئ المستدل يف َف ْهم الدليل‪.‬‬

‫والسنة فقد َأمِن من الخطأ أن يستدل بما‬


‫فم ْن استدل بالوحي وبنصوص الكتاب ُّ‬ ‫َ‬
‫ليس بدليل‪ ،‬و َم ْن َر َجع يف َف ْهمه للنصوص لكالم أصحاب النبي ﷺ فقد َأمِن من‬
‫الخطأ يف َف ْهم الدليل‪.‬‬
‫وهذا األصل ميز عقيدة أهل السنة عن غيرهم من ِ‬
‫الف َرق؛ فالرافضة والخوارج‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫والمعتزلة والجهمية يخالفون هذا األصل‪:‬‬

‫فالرافضة ُي َك ِّفرون الصحابة‪ ،‬وال يرون تقديم َف ْهمهم‪ ،‬بل يرون أهنم انحرفوا عن‬
‫أسسوا مذهبهم الخبيث على مخالفة َهدْ ي أصحاب النبي ﷺ‪.‬‬
‫الدين‪ ،‬وقد ّ‬

‫وقد جاء يف بعض كُتبهم عن بعض أئمتهم أنه ُيوصي بعض التالميذ إذا ن ََزل ببلد‬
‫ولم يجد من أهل العلم ‪-‬يقصد بذلك الرافضة‪َ -‬م ْن يسأله عن ما يحتاج إليه قال‪( :‬أن‬
‫السنة‪.‬‬
‫يعمد إلى العامة) ويعني بـ (العامة) أهل ُّ‬

‫وح ّرف أسالفهم الكتاب‬ ‫قال‪( :‬فما أفتوا به ُ‬


‫فخذ بخالفه؛ فإهنم قد َح ّرفوا الدين‪َ ،‬‬
‫والسنة)؛ ف َبنوا مذهبهم على خالف أصحاب النبي ﷺ‪.‬‬
‫ُّ‬

‫فخ ِذلوا هذا ُ‬


‫الخذالن العظيم الذي ُهم عليه‪ ،‬والذي يعلمه ا ْل ُم ّطلع على عقيدهتم‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪18‬‬

‫وأما الخوارج‪ :‬فإهنم مع ُطول عبادهتم ومع ِح ْرصهم على تالوة كتاب اهلل عز‬ ‫‪18‬‬

‫وجل إال أهنم لم يستعينوا ولم يتتلمذوا على أصحاب النبي ﷺ يف َف ْهم الكتاب؛ ولذا‬
‫اوز َحن ِ‬
‫َاجرهم»‪.‬‬ ‫قال النبي ﷺ يف َو ْصفهم‪َ « :‬ي ْق َر ُءون ا ْل ُق ْرآن َْل ُي َج ِ‬

‫قال العلماء‪ :‬إنما يتلونه تالوة ال ينتفعون به‪ ،‬وال يكون له أثر يف قلوهبم‪ ،‬ولهذا مع‬
‫ورعهم ومع انقطاعهم عن الدنيا ومع َو ْصف النبي ﷺ لهم بقوله‪« :‬ت َْح ِقرون َص ََلتكم‬
‫امهم» َو َصفهم بأهنم يمرقون من الدين ُمروق السهم‬ ‫مع ص ََلتِهم‪ ،‬و ِصيامكم مع ِصي ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ َ‬
‫الرمية؛ ألهنم لن يتفقهوا على الصحابة‪ ،‬بل إهنم َك ّفروا عل ًّيا رضي اهلل عنه‪ ،‬و َك ّفروا‬
‫من ّ‬
‫الح َكمين‪ ،‬و َم ْن َر ِضي بالتحكيم‪ ،‬بل َك َّفر بعضهم كل َم ْن َش ِهد هذه‬
‫طلحة والزبير و َ‬
‫الفتنة‪.‬‬

‫وكذلك الجهمية والمعتزلة وعامة أهل الكَلم بنوا مذهبهم على األدلة التي‬
‫يسموهنا عقلية‪ ،‬وخالفوا بذلك األصل األول‪ :‬وهو االستدالل بنصوص الكتاب‬
‫والسنة‪.‬‬
‫ُّ‬

‫والفاطمية ُهم شر الطوائف؛ فجمعوا بين الطائفتين‪ :‬بين اإلعراض عن نصوص‬


‫والسنة‪ ،‬وبين اإلعراض عن َف ْهم السلف‪ ،‬ف َع ّطلوا النصوص كلها من كل‬
‫ُّ‬ ‫الكتاب‬
‫ظاهرا وباطنًا‪.‬‬
‫ً‬ ‫مدلول لها َبز ْعمهم أن للنصوص‬

‫وأن الباطن‪ :‬هو المقصود من النصوص‪.‬‬


‫‪19‬‬ ‫؟؟؟‬

‫وأن هذا الباطن ال يعلمه إال خواص الناس‪.‬‬

‫تفسيرا بعيدً ا عن كل مدلول للنصوص من كتاب اهلل ومن‬


‫ً‬ ‫وهذا الباطن ُي َف ّسرونه‬
‫ُسنّة النبي ﷺ‪.‬‬

‫السنة به العصمة‪ ،‬وهو أهنم يستعينون يف‬


‫فهذا األصل العظيم حصلت ألهل ُّ‬
‫َف ْهمهم للنصوص بكالم أصحاب النبي ﷺ‪.‬‬

‫بج ْمع أقوال الصحابة‪،‬‬


‫قديما بالتصنيف يف التفسير‪ ،‬اعتنوا َ‬
‫ومن هنا اعتنى العلماء ً‬
‫كما َف َعل اإلمام ابن جرير الطربي؛ الذي ُي َل ّقب بـ (إمام المفسرين)؛ حيث َج َمع الكثير‬
‫من اآلثار المنقولة عن السلف من أصحاب النبي ﷺ‪ ،‬ومن التابعين‪.‬‬

‫واكتفى هبا عن أن يجتهد هو إال يف مواطن قليلة ُي َر ّجح بين األقوال‪.‬‬

‫وكان هؤالء العلماء الذين َصنّفوا كالطربي وغيره كانوا من أقرب الناس على‬
‫التفنن‪ ،‬واستخراج المعاين البالغية والنظر يف النصوص‪ ،‬وأن أقول ما قالوا من بعدهم‬
‫مم ْن َع َرض النصوص على عقله وعلى اجتهاده‪ ،‬واستخرجوا بعض المعاين‪ ،‬زعموا‬
‫َّ‬
‫أن النصوص قد دلت عليها ُمعرضين عن كتاب اهلل وعن ُسنّة النبي ﷺ‪.‬‬

‫فاكتفوا باآلثار عن الصحابة وعن التابعين عن آرائهم‪ ،‬و َقدّ موها على غيرهم‪،‬‬
‫فحصلت لهم العصمة لهذا المنهج‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪20‬‬

‫وهم على هذا المنهج العظيم؛ فإذا بحثوا‬


‫السنة إلى هذا العصر ُ‬
‫ومازال أهل ُّ‬
‫‪20‬‬

‫المسألة رجعوا إلى ما قال السلف‪ ،‬وما قال أصحاب النبي ﷺ يف تفسير اآلي‪ ،‬أو يف‬
‫َش ْرح األحاديث‪.‬‬

‫السنة إال َت َرك من أقوال الصحابة ومن أقوال التابعين ومن أقوال‬
‫وما َخا َلف أحد ُّ‬
‫األئمة َت َرك من أقوالهم ب َقدْ ر ما َد َخل فيه من البدع‪.‬‬

‫وهذا َأ ْم ٌر معلوم‪ ،‬حتى إن بعض أهل البدع من المعاصرين ومن غيرهم َل ّما‬
‫السنة تكلفوا بعد ذلك يف إبطال اآلثار المنقولة‬
‫أحدثوا بعض األقوال التي خالفوا فيها ُّ‬
‫عن أصحاب النبي ﷺ مما يخالف أهواءهم‪ ،‬ك َت َك ّلفهم يف إبطال اآلثار المنقولة عن‬
‫األئمة يف تفسير اآليات الثالث من سورة المائدة‪:‬‬

‫ك ُه ُم ا ْلكَافِ ُر َ‬
‫ون﴾[المائدة‪.]44:‬‬ ‫﴿و َم ْن َل ْم َي ْحك ُْم بِ َما َأنز ََل اهَّللُ َف ُأ ْو َلئِ َ‬
‫َ‬

‫ك ُه ُم ال َّظالِ ُم َ‬
‫ون﴾[المائدة‪.]45:‬‬ ‫﴿و َم ْن َل ْم َي ْحك ُْم بِ َما َأنز ََل اهَّللُ َف ُأ ْو َلئِ َ‬
‫َ‬
‫ك هم ا ْل َف ِ‬ ‫ِ‬
‫اس ُقو َن﴾[المائدة‪.]47:‬‬ ‫﴿و َم ْن َل ْم َي ْحك ُْم بِ َما َأن َز َل اهَّللُ َف ُأ ْو َلئ َ ُ ُ‬
‫َ‬

‫عظيما يف إبطال هذه اآلثار‪ ،‬ويف َحملها على غير ما أراد منها األئمة‬
‫ً‬ ‫ف َت َك ّلفوا َت َك ُّل ًفا‬
‫لتقرير ما قررته عقولهم وأهواؤهم ُمعرضين يف هذا عن َف ْهم أصحاب النبي ﷺ‪.‬‬
‫‪21‬‬ ‫؟؟؟‬

‫وهذا مما يدل على أن ِ‬


‫العصمة هي التمسك بأقوال السلف‪ ،‬وبأقوال أصحاب‬
‫النبي ﷺ‪.‬‬

‫وكان اإلمام أحمد نفسه ُي َقدّ م أقوال الصحابة‪ ،‬وأقوال التابعين على االجتهاد‪،‬‬
‫وعلى القياس‪ ،‬وعلى النظر‪.‬‬

‫ومن هنا حصل لهذا اإلمام ذلك الفضل‪ ،‬وتلك المنزلة العظيمة التي أطبقت‬
‫األُمة فيها على إمامته‪ ،‬وعلى َس ْبقه‪ ،‬وعلى رسوخه يف هذا الباب بتوفيق اهلل عز وجل‪،‬‬
‫ثم بما هداه إليه‪ ،‬وغيره من األئمة إلى هذا األصل العظيم؛ وهو‪ :‬التمسك بما عليه‬
‫أصحاب النبي ﷺ‪.‬‬

‫السنة‪ ،‬و ُي َر ّبي عليه العلماء طالهبم‪ ،‬ويرتبى‬


‫وهذا األصل هو الذي َي َت َر ّبى عليه أهل ُّ‬
‫عليه الصغار‪.‬‬

‫السنة ُي َع ّظمون أصحاب النبي ﷺ ويعرفون لهم َقدْ رهم‪ ،‬ويعرفون‬


‫وما زال أهل ُّ‬
‫منزلتهم‪ ،‬وإذا جاء األثر عنهم َع ّظموه و َقدّ موه على أقوالهم‪ ،‬وعلى اجتهادهم‪،‬‬
‫وح ّجة لهم بينهم وبين اهلل عز وجل ل ِ َما علموا من َس ْبق أصحاب النبي‬
‫وارتضوه دينًا ُ‬
‫ﷺ يف العلم والعمل‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪22‬‬

‫وهذا األصل َمرجعه إلى هذه النظرة التي ترجع إلى فِ ْقه عظيم‪ ،‬وهو أن أصحاب‬ ‫‪22‬‬

‫بالسنة؛ فقد َش ِهدوا التنزيل‪ ،‬وعرفوا‬


‫النبي ﷺ ُهم أسبق الناس إلى العلم وإلى المعرفة ُّ‬
‫أسباب النزول‪ ،‬وعرفوا مقاصد األدلة‪ ،‬وشغلوا النبي ﷺ عن ما أشكل عليه‪.‬‬

‫وما مات النبي ﷺ إال وقد َف ِقهوا عنه كل ما َخاطبهم به‪ ،‬فكانوا أهل الفقه بدين‬
‫أيضا النظر إلى ِس َيرهم وإلى أحوالهم‪.‬‬
‫اهلل عز وجل‪ ،‬ثم ً‬

‫َف ُهم أهل االستقامة وأهل الورع‪ ،‬وأهل الزهد الذين انقطعوا عن الدنيا‪ ،‬وأقبلوا‬
‫على اآلخرة‪.‬‬

‫َف ُهم من هذا الوجه َأ ْو َلى أن ُي َو ّفقوا‪ ،‬وأحرى أن ُي َو ّفقهم اهلل عز وجل لإلصابة؛ فإن‬
‫السنة‪.‬‬
‫التوفيق للفضل والتوفيق للعلم يحصل بالعلم وبالورع وباالستقامة على ُّ‬

‫اهدُ وا فِينَا َلن َْه ِد َين َُّه ْم ُس ُب َلنَا﴾[العنكبوت‪.]69:‬‬ ‫ِ‬


‫﴿وا َّلذ َ‬
‫ين َج َ‬ ‫كما قال اهلل عز وجل‪َ :‬‬

‫وهذه المسألة يغفل عنها الكثير من الناس‪ ،‬ويظنون أن العلم هو بالذكاء‪ ،‬وبكثرة‬
‫المسائل‪ ،‬ولم يتفطنوا إلى أن العلم نور‪ ،‬يقذفه اهلل عز وجل يف قلوب عباده؛ الذين‬
‫عرف اهلل عز وجل منهم الحرص على العلم مع االستقامة عليه‪.‬‬

‫ولهذا قال شيخ اإلسالم يف َو ْصف الفالسفة‪ُ :‬أوتوا ذكا ًء ولم ُيؤتوا زكا ًء‪ ،‬كانوا من‬
‫أذكى الناس‪.‬‬
‫‪23‬‬ ‫؟؟؟‬

‫وكثير من أئمة أهل الكالم كانوا من أذكى الناس‪ ،‬ومن أقدرهم على الحفظ‪،‬‬

‫لكنهم لم ُي َو ّفقوا للخير‪ ،‬ولم ُي َو ّفقوا للعلم بسبب إعراضهم‪ ،‬وبسبب ُب ْعدهم عن ّ‬
‫السنة‪،‬‬
‫وإعراضهم عن العمل‪.‬‬

‫وج َمع اهلل لهم الورع واالستقامة‪.‬‬


‫فج َمع اهلل لهم العلم‪َ ،‬‬
‫السنة‪َ :‬‬
‫وأما أهل ُّ‬

‫وال نعرف عال ِ ًما أثنى عليه الناس وعرفوا َس ْبقه و َف ْضله يف األُمة وأثنوا عليه يف‬
‫ِاإلمامة يف الدين إال وقد َج َمع اهلل له بين الفهم الصحيح وبين الورع واالستقامة على‬
‫دين اهلل‪.‬‬

‫عرف إمام يقال‪( :‬أنه فاسق) أو يقال‪( :‬أنه َج َمع المسائل والعلم وانتفع الناس‬ ‫ال ُي َ‬
‫عرض عن العمل‪ ،‬ما عرفنا من ِس َير العلماء الذين ن ََشر اهلل فضلهم‬ ‫بعلمه) وهو فاسق ُم ِ‬

‫وعلمهم إال أهنم جمعوا بين هذين األصلين‪.‬‬‫ِ‬

‫السبق والفضل الذين ال يمكن أن يسبقهم أحد إلى‬


‫وأصحاب النبي ﷺ ُهم أهل َّ‬
‫هذين األصلين‪ ،‬وإلى غيرهما من المناقب التي كانوا عليها‪.‬‬

‫ثم َذكَر التمسك بما ُهم عليه ( َواَ ْْلِ ْقتِدَ ا ُء بِ ِه ْم)‪:‬‬

‫التمسك بما ُهم عليه يف أقوالهم‪ ،‬وما أرشدوا إليه‪ ،‬وما َو ّجهوا األُمة إليه‪.‬‬

‫( َو َا ْْلِ ْقتِدَ ا ُء بِ ِه ْم) يف أفعالهم‪.‬‬


‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪24‬‬

‫وهذا يدل على أهنم على ُهدى يف العلم والعمل‪.‬‬ ‫‪24‬‬

‫وهذا الذي عرفت األُمة من ِس َيرهم فإنه ال تكاد ُتعرف لهم بحمد اهلل مخالفة‬
‫ظاهرة‪ ،‬وإن كنا ال نعتقد ِعصمتهم‪ ،‬ولكن ما يحصل منهم من بعض المسائل التي قد‬
‫تحصل بسبب االجتهاد‪ ،‬أو بسبب أحيانًا بعض األمور التي يحصل بسببها الضعف‬
‫ل كل بني البشر‪ ،‬قد يحصل منهم الخطأ والزلل‪ ،‬إال أن اهلل عز وجل يوفقهم إلى التوبة‪،‬‬
‫ويهديهم إلى الحق‪ ،‬وإلى التي هي أقوم‪.‬‬

‫وال يموت الرجل منهم إال وهو إمام يف الخير‪ ،‬يقتدي الناس به يف قوله ويف فِ ْعله‪.‬‬

‫ثم َذكَر من األصول‪( :‬ت َْر ُك َا ْلبِدَ ِع)‪ ،‬قال‪َ ( :‬وك ُُّل بِدْ َع ٍة َف ِه َي َض ََل َل ٌة)‪.‬‬
‫فت َْرك البدع هو ُم ِ‬
‫الزم للتمسك بما كان عليه أصحاب النبي ﷺ‪.‬‬

‫وت َْرك البدع‪ :‬هو بِنَ ْبذ البدع‪ ،‬وكل ما أحدث الناس بعد النبي ﷺ‪.‬‬

‫وهذا كما قال النبي ﷺ يف حديث العرباض بن سارية‪ ،‬الحديث الصحيح الذي‬

‫السنة ويف التمسك بما كان عليه الصحابة قال‪َ « :‬ف َع َل ْيكُم بِ ُسنّتي ُ‬
‫وسنّة‬ ‫أصل عظيم يف ُّ‬ ‫هو ٌ‬
‫الراشدين ا ْل َم ْه ِديين ِم ْن َب َعدي‪ ،‬ت ََم ّسكُوا بِ َها و َع ُّضوا َع َل ْيها بِالن ََّو ِ‬
‫اجذ‪َ ،‬وإِ َّياكُم‬ ‫الخُ َل َفاء َّ‬
‫َو ُمحدَ َثات ْاألُمور؛ َفإِ ّن ك ُّل ُم ْحدَ َث ٍة بِدْ عة‪ ،‬وك ُّل بِدْ عة َض ََللة»‪.‬‬

‫فكل بدعة هي ضاللة‪.‬‬


‫‪25‬‬ ‫؟؟؟‬

‫وليست البدع ما هو حسن على االصطالح الشرعي للبدعة‪ ،‬فإن البدعة لها معنى‬
‫لغوي ولها معنى شرعي‪.‬‬
‫فالمعنى الشرعي‪ :‬هو كل ما ُأ ِ‬
‫حد َ‬
‫ث بعد عهد النبي ﷺ‪ ،‬فهي البدع الشرعية‪،‬‬
‫وليس يف هذه البدع ما هو َحسن‪ ،‬وليس فيها ما ُيمدَ ح‪ ،‬وليس فيه ما يقال‪ :‬أنه ُيثاب‬
‫عليه فاعله‪ ،‬وما ُيمدَ ح به‪ ،‬بل كلها ضاللة؛ كما أخرب النبي ﷺ‪.‬‬

‫وأما البدع يف المعنى اللغوي‪ :‬وهو ما حصل بعد عهد النبي ﷺ مما له ٌ‬
‫أصل يف‬
‫الشرع مما لم يكن معلو ًما يف عهد النبي ﷺ‪ ،‬لكن َد ّلت األدلة على مشروعيته؛ فإن‬
‫هذه تسمى بِدَ ع لغوية‪ ،‬وهي ليست بِدَ ع شرعية‪ ،‬مثل‪ :‬ما أحدث الناس اليوم من‬
‫المدارس والجماعات والكتب‪.‬‬

‫وكذلك ما أحدث من الوسائل العادية وليست التعبدية يف الدعوة‪ ،‬مثل‪:‬‬


‫األشرطة‪ ،‬ومثل‪ :‬الكتب‪ ،‬ومثل‪ :‬المحاضرات‪ ،‬وهذه الوسائل التي ُت َب ّث فيها الدروس‬
‫والمحاضرات؛ فهذه دلت األدلة على مشروعية استخدامها؛ ألن المقصود هبا البالغ‪.‬‬

‫السنة إلى‬
‫وأن المتكلم والمتحدث والمستخدم لهذه الوسائل‪ :‬إنما أراد بالغ ُّ‬
‫الناس؛ فهي وسائل عادية‪ ،‬دلت األدلة على مشروعيتها‪ ،‬وهي ليست من البدع‬
‫الشرعية‪ ،‬وإن كانت هي بدع لغوية باعتبار أهنا ُمحدَ ثة عن األزمان الماضية‪.‬‬
‫وهكذا كل ما ُأ ِ‬
‫حدث يف زمن‪ :‬يقال أنه بدعة‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪26‬‬

‫ولذا قال عمر يف َج ْمع الناس يف صالة الرتاويح‪( :‬نِ ْع َمة البدعة هذه)‪.‬‬ ‫‪26‬‬

‫قال العلماء‪ :‬هو يف إنارة المسجد‪ ،‬ويف هتيئة المسجد ألن َيؤ ّم الناس إمام واحد‬
‫يجتمعون عليه‪.‬‬

‫ولم يكن هذا التنظيف وهذا اإلعداد للمسجد لم يكن معرو ًفا يف عهد النبي ﷺ‪.‬‬

‫وائتم به‬
‫ّ‬ ‫وأما الصالة‪ :‬فهي معروفة؛ فإن النبي ﷺ خرج وصلى بأصحابه‪ ،‬صلى‬
‫ِ‬
‫بعض أصحابه‪ ،‬ثم صلى هبم ليلة أو ليلتين‪ ،‬ثم َل ّما َخشي أن ُت َ‬
‫فرض عليهم وكان الزمن‬
‫زمن تشريع َت َرك هذا شفقة على األُمة مع محبة النبي ﷺ لهذه الشرائع‪.‬‬

‫ثم َل ّما كان يف عهد أبي بكر انشغل هو و َم ْن معه من الصحابة بحروب المرتدين‪،‬‬
‫ولم يتفرغوا لهذا‪.‬‬

‫ثم َل ّما جاء عهد عمر رضي اهلل عنه َج َمع الناس يف المسجد‪ ،‬وأضاء المسجد‪،‬‬
‫وه ّيأ المسجد الجتماع الناس على ُأ َب ّي بن كعب ُيصلي يصلي هبم هذه الصالة؛ وهذه‬
‫مشروعة‪ ،‬شرعها النبي ﷺ‪.‬‬

‫وأما البدعة التي َق َصد ُعمر بقوله‪( :‬نِ ْعمة البدعة هذه)‪ :‬فقال العلماء‪ :‬هي هتيئة‬
‫المسجد‪ ،‬وهذه بدعة لغوية‪ ،‬وليست بدعية شرعية‪ ،‬وهي ما قال فيها اإلمام الشافعي‪:‬‬
‫البدعة بدعتان‪ :‬بدع ٌة حسنة‪ ،‬وبدعة سيئة‪.‬‬
‫‪27‬‬ ‫؟؟؟‬

‫فالبدعة الحسنة‪ :‬هي البدعة اللغوية‪.‬‬


‫مصحف واحد‪ ،‬وجمع الناس على قراءةٍ‬
‫ٍ‬ ‫قال العلماء‪ :‬منها‪َ :‬ج ْمع القرآن يف‬
‫َ ْ‬
‫أيضا؛ كل هذه من األمور التي ُأحدثت بعد‬
‫واحدة‪ ،‬والعناية بالقرآن وبكتابته وبشكله ً‬
‫موت النبي ﷺ‪.‬‬

‫وأما كون هذا القرآن هو كالم اهلل عز وجل‪ ،‬وهو المعمول به‪ ،‬وهو كتاب اهلل عز‬
‫وجل‪ ،‬وهو القرآن المحفوظ بالصدور يف حياة النبي ﷺ وبعد موته‪ ،‬وهو المكتوب‬
‫كتاب واحد‪ ،‬وهو القرآن‪ ،‬وليس فيه شيء ُمحدَ ث ليس من كالم اهلل‬
‫بين األوراق‪ :‬فهو ٌ‬
‫عز وجل‪.‬‬

‫وأما ما أحدث الناس من كتابته ومن الخدمة يف هذا القرآن من َض ْبطه َ‬


‫وشكله‪،‬‬
‫وكذلك ما أحدث الناس اليوم من طباعته هبذه األحجام والعناية به‪ ،‬وكذلك وجود‬
‫العالمات (عالمات التجويد‪ ،‬وكذلك عالمات الرتقيم) كل هذه من األمور التي لم‬
‫تكن معلومة‪ ،‬ويقال‪ :‬أهنا من البدع اللغوية‪ ،‬وهي ليست من البدع الشرعية؛ ألهنا مما‬
‫ُيعين على تالوة كتاب اهلل عز وجل‪.‬‬

‫وتحسين والعناية بتالوة كتاب اهلل عز وجل والعناية بِ َل ْفظه والعناية بحروفه‬
‫وتالوته وال َّت َغنّي به‪ :‬كل هذه مشروعة‪ ،‬وهذا مما ُي ِعين على تحقيق المشروع‪ ،‬وعلى‬
‫السنة يف هذا الباب‪.‬‬
‫ُّ‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪28‬‬

‫نتوقف عند هذه المسألة‪.‬‬ ‫‪28‬‬

‫هذا؛ واهلل أعلم‪.‬‬

‫وصلى اهلل وسلم وبارك على نبينا محمد‪ ،‬وعلى آله وصحبه أجمعين‪.‬‬
‫شـرح‬

‫سنة‬
‫أصول ال ُّ‬
‫لإلمام أحمد ابن حنبل‬

‫‪$‬‬

‫شرح فضيلة الشيخ الدكتور‬

‫إبراهيم الرحيلي‬

‫حفظه اهلل‬

‫‪1‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪2‬‬

‫‪2‬‬

‫المجلس الثاين‬

‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬


‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬والصالة والسالم على نبينا محمد‪ ،‬وعلى آله وصحبه‬
‫أجمعين‪.‬‬
‫فهذا هو المجلس الثاين من َش ْرح وتعليق شيخنا حفظه اهلل على المتن الثالث يف‬

‫المستوى األول يف الدورة المنهجية ال َع َقدية متن [أصول ُّ‬


‫السنة] لإلمام أحمد ابن‬
‫حنبل ‪ $‬تعالى‪.‬‬
‫أحسن اهلل إليكم‪.‬‬
‫***المتن***‬

‫ما زلنا مع قول المصنف ‪:$‬‬


‫ول َاهَّللِ ﷺ َو َا ْْلِ ْقتِدَ ا ُء بِ ِه ْم‪،‬‬
‫اب رس ِ‬ ‫ِ‬
‫َان َع َل ْيه َأ ْص َح ُ َ ُ‬ ‫لسن َِّة ِعنْدَ نَا‪َ :‬الت ََّم ُّس ُ‬
‫ك بِ َما ك َ‬ ‫ُأ ُص ُ‬
‫ول َا ُّ‬
‫َوت َْر ُك َا ْلبِدَ عِ‪َ ،‬وك ُُّل بِدْ َع ٍة َف ِه َي َض ََل َلة‪.‬‬
‫***الشرح***‬
‫‪3‬‬ ‫؟؟؟‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬وصلى اهلل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله‬
‫وصحبه‪ ،‬و َم ْن اهتدى هبَدْ يه واس َت ّن ب ِ ُسنّته إلى يوم الدين‪.‬‬
‫أما بعد‪:‬‬
‫فقد سبق التعليق على ما َت َقدَ م من األصول‪ ،‬وهي التمسك بما كان عليه أصحاب‬
‫النبي ﷺ و َت ْرك البدع‪.‬‬
‫وهذه األصول‪ ،‬هذا الكالم الذي يذكره المصنف هنا هو معطوف على ما تقدم‪.‬‬
‫لسن َِّة)‪:‬‬ ‫فقوله‪ُ ( :‬أ ُص ُ‬
‫ول َا ُّ‬
‫( ُأ ُص ُ‬
‫ول)‪ :‬مبتدأ‪.‬‬

‫لسن َِّة)‪ :‬مضاف إليه‪.‬‬


‫( َا ُّ‬

‫وهذه الجملة يف محل َر ْفع مبتدأ‪.‬‬

‫ول اَهَّللِ ﷺ)‪ :‬هذا خرب‪.‬‬


‫اب رس ِ‬ ‫ك بِما ك َ ِ‬
‫َان َع َل ْيه َأ ْص َح ُ َ ُ‬ ‫وقوله‪َ ( :‬الت ََّم ُّس ُ َ‬

‫وما يأيت بعده‪ :‬معطوف على هذا الخرب‪.‬‬

‫السنة‪ ،‬فمن هذه األصول‪ :‬التَّمسك‬


‫أي أن هذه األمور التي يذكرها هي من أصول ُّ‬
‫ٍ‬
‫بدعة ضاللة‪.‬‬ ‫بما كان عليه أصحاب النبي ﷺ‪ ،‬و َت ْرك البدع‪ ،‬وأن كل‬
‫ثم قال‪( :‬وتَر ُك َا ْلخُ صوم ِ‬
‫ات)‪:‬‬ ‫ُ َ‬ ‫َ ْ‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪4‬‬

‫والخصومة‪ :‬هي المجادلة الشديدة‪ ،‬كما َف ّسرها بعض ُش ّراح الحديث‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫الح ّجة بالحجة‪.‬‬


‫فالمجادلة‪ :‬هي مقابلة ُ‬

‫والخصومة‪ :‬هي المجادلة الشديدة‪.‬‬

‫فالخصومة ُتجامِع المجادلة إذا كانت شديدة‪.‬‬

‫فعلى هذا تكون الخصومة أعم‪ ،‬والمجادلة هي َأ َخ ّ‬


‫ص‪.‬‬

‫فالخصومة‪ :‬إذا كانت المجادلة شديدة فهي خصومة‪.‬‬

‫ثم إذا كانت المجادلة دون ذلك فهي مجادلة وليست بخصومة‪.‬‬

‫الح ّجة بالحجة‪.‬‬


‫ومن أهل العلم َم ْن يرى أن المجادلة‪ :‬تكون يف العلم‪ ،‬ومقابلة ُ‬

‫والخصومة‪ :‬تكون فيما هو أعم‪ ،‬تكون يف العلم‪ ،‬وتكون يف غيره من األمور التي‬
‫تحصل فيها الخصومة بين الناس يف الحقوق يف الدنيا‪.‬‬

‫السنة‪َ :‬ت ْرك الخصومات‪.‬‬


‫ومن أصول ُّ‬

‫والمقصود بهذا‪َ :‬ت ْرك المجادلة والخصومة يف الدين‪.‬‬


‫‪5‬‬ ‫؟؟؟‬

‫أيضا على هذا يف كالم‬


‫السنة‪ ،‬كما سيأيت التنبيه ً‬
‫وهذا أصل عظيم من أصول أهل ُّ‬
‫المصنف؛ أن مجادلة أهل البدع والخصومة يف دين اهلل عز وجل والمماراة والمجادلة‪:‬‬
‫هذه مذمومة يف دين اهلل عز وجل‪ ،‬ولها ضوابط سيأيت التنبيه عليها‪.‬‬

‫***المتن***‬

‫قال المصنف ‪:$‬‬


‫جدَ ِ‬
‫ال‬ ‫اء‪ ،‬وتَر ُك َا ْل ِمر ِ‬
‫اء َوا ْل ِ‬ ‫اب اَ ْألَهو ِ‬
‫وس َم َع أَ ْص َح ِ‬ ‫وتَر ُك َا ْلخُ صوم ِ‬
‫ات‪َ ،‬والْ ُج ُل ِ‬
‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ ْ‬
‫ات فِي َالدِّ ِ‬
‫ين‪.‬‬ ‫وا ْلخُ صوم ِ‬
‫ُ َ‬ ‫َ‬

‫***الشرح***‬
‫اب َا ْألَهو ِ‬
‫اء)‪ :‬أي و َت ْرك الجلوس مع أصحاب‬ ‫وس َم َع أَ ْص َح ِ ْ َ‬
‫قال بعد ذلك‪َ ( :‬وا ْل ُج ُل ِ‬

‫األهواء‪.‬‬

‫ات فِي َالدِّ ِ‬


‫ين)‪.‬‬ ‫ال وا ْلخُ صوم ِ‬
‫ُ َ‬ ‫جدَ ِ َ‬
‫(وتَر ُك َا ْل ِمر ِ‬
‫اء َوا ْل ِ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬

‫والجدَ ل‪.‬‬
‫فهذه الكلمات هي متقاربة؛ الخصومة‪ ،‬والمراء‪َ ،‬‬

‫وقد َذكَر ابن األثير‪ ،‬أو َذكَر غيره أن هذه بمعنى واحد (الخصومة والجدل‬
‫والمراء)؛ ألهنا متقاربة‪.‬‬

‫ومنهم َم ْن َف َّصل و َذكَر أن الخصومة تكون‪ :‬المجادلة الشديدة‪ ،‬والمجادلة دوهنا‪.‬‬


‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪6‬‬

‫ومنهم َم ْن َذ َهب إلى أن الخصومة –كما تقدم‪ -‬تكون يف أمور العلم ويف غيره‪،‬‬ ‫‪6‬‬

‫والمجادلة تكون يف العلم‪.‬‬

‫ب وشك‪ ،‬يف َأ ْم ٍر مشكوك فيه‪.‬‬


‫وأما المراء‪ :‬ف ُف ِّسر بالمجادلة عن َر ْي ٍ‬

‫كثيرا ما ُيج َعل يف المراء شيء‪ ،‬يعني إذا َت َم َارى عليه المتماريان‪ ،‬فم ْن كان‬
‫ولهذا؛ ً‬
‫ح ّق يكون له هذا الشيء الذي ُج ِعل بينهما‪.‬‬ ‫ح ًّقا أو َظهر أنه م ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫م ِ‬
‫ُ‬

‫فهذه المعاين متقاربة‪.‬‬

‫والمقصود‪ :‬هو َت ْرك َ‬


‫الجدَ ل والخصومة والمراء يف الدين‪.‬‬

‫أيضا َذ ّمها‪.‬‬
‫والمجادلة‪ :‬جاء األمر هبا يف كتاب اهلل عز وجل‪ ،‬وجاء ً‬

‫حك َْم ِة َوا ْل َم ْو ِع َظ ِة‬


‫ك بِا ْل ِ‬ ‫فمما جاء باألمر هبا‪ :‬قول اهلل عز وجل‪﴿ :‬ا ْد ُع إِ َلى َسب ِ ِ‬
‫يل َر ِّب َ‬
‫ا ْل َح َسن َِة َو َجادِ ْل ُه ْم بِا َّلتِي ِه َي َأ ْح َس ُن﴾[النحل‪.]125:‬‬

‫فهنا أرشد اهلل عز وجل إلى استعمال المجادلة بالتي هي أحسن‪ ،‬وأهنا وسيلة من‬
‫وسائل الدعوة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫﴿ما ُي َجاد ُل في َآيات اهَّلل إ ِ َّْل ا َّلذ َ‬
‫ين َك َف ُروا َفَل‬ ‫أيضا َذ ّمها كما يف قوله تعالى‪َ :‬‬
‫وجاء ً‬
‫َيغ ُْر ْر َك َت َق ُّل ُب ُه ْم فِي ا ْلبَِلدِ﴾[غافر‪.]4:‬‬

‫َك فِي ا ْل َح ِّق َب ْعدَ َما َتبَ َّي َن﴾[األنفال‪.]6:‬‬


‫﴿ي َجادِ ُلون َ‬
‫وقوله‪ُ :‬‬
‫‪7‬‬ ‫؟؟؟‬

‫فجاء َذ ّم المجادلة و َمدْ حها؛ وهذا باعتبار األسباب‪ ،‬وباعتبار األحوال المحيطة‬
‫بالمجادلة‪.‬‬

‫فإن المجادلة لها أركان‪:‬‬

‫فمن أركانها‪ :‬موضوع المجادلة‪.‬‬

‫والمقصد الباعث عليها‪.‬‬


‫َ‬ ‫أيضا‪ :‬ا ْل ُمجادِل‪ ،‬وا ْل ُمجا َدل‪ ،‬والنية‪،‬‬
‫ومن أركانها ً‬

‫فهي ُت َذ ّم باعتبار هذه األركان‪.‬‬

‫فمن َذ ّمها باعتبار النية والمقصد‪ :‬هو َذ ّم المجادلة إن كان القصد منها مقصد‬
‫سيء ‪ ،‬مثل‪ :‬مجادلة أهل البدع‪ ،‬ومثل‪ :‬مجادلة أهل الكتاب يف الباطل‪ ،‬كما قال اهلل عز‬
‫﴿و َجا َد ُلوا بِا ْل َباطِ ِل لِ ُيدْ ِح ُضوا بِ ِه ا ْل َح َّق﴾[غافر‪ ]5:‬يعني ُيجادلون بالباطل‬
‫وجل‪َ :‬‬
‫يريدون الباطل ليردوا به الحق‪.‬‬

‫وهذا متعلق بالباعث والسبب الباعث على المجادلة‪.‬‬

‫ومن هذا‪ :‬مجادلة أهل البدع إلظهار دينهم‪ ،‬وإلظهار ما ُهم عليه‪ ،‬وأن يكونوا‬
‫السنة‪.‬‬
‫خصو ًما ألهل ُّ‬

‫فهذا مقصد من المقاصد السيئة ُتمنَع المجادلة معه‪.‬‬


‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪8‬‬

‫ومن الضوابط المتعلقة بالمجادِل‪ :‬هو أن يكون المجادِل من أهل العلم؛ الذي‬ ‫‪8‬‬

‫نهى عن‬ ‫ِ‬


‫ُيجادل عن الحق أن يكون من أهل العلم‪ ،‬فإن كان من أهل الجهل فإنه ُي َ‬
‫المجا َدلة هبذا االعتبار‪.‬‬

‫نهى الرجل أن ُيجادِل بجهل‪ ،‬وإنما المجادلة تكون مبناها على العلم‪ ،‬وأن‬
‫و ُي َ‬
‫الحجة على‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يكون المجادل من أهل والعلم والنّظر الذين يستطيعون أن ُيقيموا ُ‬
‫الخصوم‪.‬‬

‫أيضا إذا كان هذا صاحب هذا‬


‫جاهال فإنه ُيمنَع من المجادلة‪ ،‬كما ً‬
‫ً‬ ‫وأما إن كان‬
‫والجدَ ل والخصومة‪-‬‬
‫َ‬ ‫مقصد سيء متعلق به –كأن يريد إظهار العلم‪ ،‬وإظهار القوة‬
‫فإن هذه المجادلة تكون مذمومة هبذا االعتبار‪.‬‬

‫ومن الضوابط المتعلقة بالمجا َدل‪ :‬هو أن يكون المجا َدل يريد الحق‪ ،‬ويطلب‬
‫الهدى‪.‬‬
‫ُ‬

‫فإذا تحقق للمجادِل من أهل الحق أن هذا الرجل الذي َط َلب المجادلة يريد‬
‫والهدى وأشكل عليه َأ ْمر فإنه ُيجا َدل إلظهار الحق‪.‬‬
‫الحق ُ‬

‫عرف بطلب الحق‪ ،‬أو أنه ال يحصل االجتماع‬


‫وأما إن كان يريد الباطل أو أنه لم ُي َ‬
‫والسنة‪ ،‬وال يؤمن باألدلة‪ ،‬وال يراها)؛ فإن‬
‫معه على أصول مثل‪( :‬ال يؤمن بالكتاب ُّ‬
‫هذا ال ُيجا َدل؛ ألن المجادلة ال بد لها من أصل ُيرجع إليه‪.‬‬
‫‪9‬‬ ‫؟؟؟‬

‫فهذه األصول‪ ،‬أو هذه األركان هي مؤ ّثرة يف المجادلة؛ فقد تكون محمودة‬
‫ممدوحة‪ ،‬وقد تكون مذمومة باعتبار ما ُيصاحبها من األحوال المتعلقة بأركاهنا‬
‫المذكورة‪.‬‬

‫وأما الموضوع (موضوع المجادلة)‪ :‬فقد جاء النهي عن المجادلة يف بعض أبواب‬
‫العلم؛ كالجدل يف ال َقدَ ر‪ ،‬ويف باب األسماء والصفات‪ ،‬كما ن ََهى النبي ﷺ أصحابه َل ّما‬

‫وجدهم يتكلمون يف ال َقدَ ر‪ ،‬وقال‪« :‬أَلِ َه َذا ُخ ِل ْقتكم؟! َألِ َه َذا ُأ ِم ْر ُت؟!» فغضب النبي‬
‫ﷺ‪.‬‬

‫فكان هذا من األمور التي تدل على أن الجدل والخصومة يف باب القدر أهنا َمنْهي‬
‫عنها؛ ألن الناس ال يتوصلون فيها إلى شيء‪ ،‬وإنما المجادلة ُتورثهم ّ‬
‫الشك والريب‪.‬‬

‫والقدر سر اهلل‪ ،‬لم يطلع عليه أحد‪ ،‬فالمجادلة فيه مما ُيسبب قسوة القلوب‬
‫وإنكار القدر‪.‬‬

‫وهذا ال يعني أنه إذا كان شخص لم يتبين له الحق من الدليل يف باب ال َقدَ ر أنه ال‬
‫ُيب ّين له‪ ،‬أو أنه ُي َب ّي ن له مسألة عن طريق المجادلة يف باب القدر عن طريق األدلة‬
‫الظاهرة‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪10‬‬

‫الجدَ ل يف باب القدر يف سر اهلل عز وجل ول ِ َم َهدَ ى فالن ولم َي ْه ِد فالن‪،‬‬


‫ولكن َ‬
‫‪10‬‬

‫ول ِ َم َر َزق فالن ولم يرزق فالن‪ ،‬ول ِ َم َكتَب لفالن الهداية‪ ،‬و َكتَب على فالن الضالل؛‬
‫وهذه مما ال تجوز المجادلة فيها‪.‬‬

‫وكذلك من الموضوعات التي ُينهى عن المجادلة فيها‪ :‬باب األسماء والصفات‪،‬‬


‫وح ّذروا منه؛ ألن الخوض يف‬
‫والخصومة يف هذا الباب؛ فإن هذا مما ن ََهى عنه السلف َ‬
‫هذا الباب ُيورث الشك و ُيورث اإللحاد يف أسماء اهلل وصفاته‪.‬‬

‫َحسن فيها المجادلة‪ :‬فهي الموضوعات المتعلقة ببعض‬


‫وأما الموضوعات التي ت ُ‬
‫أبواب الفقه‪ ،‬وببعض أبواب الفروض؛ ألن ِ‬
‫الح َكم ظاهرة من بعض هذه المسائل‪،‬‬
‫فتحسن المجادلة والمناظرة فيها‪ ،‬كما َح ُسنت المجادلة يف كثير‬ ‫ِ‬
‫فالح َكم فيها ظاهرة‬
‫ُ‬
‫السنة‪ ،‬ولم ُي َذ ّموا هبذا؛ ألن هذه المسألة تكون ظاهرة‪.‬‬
‫من أبواب العلم بين علماء أهل ُّ‬

‫ومنها‪ :‬ما َح َصل بين بعض األئمة من المجادلة كما حصل بين اإلمام أحمد‬
‫واإلمام الشافعي من المناظرة يف الرجوع يف الهبة‪.‬‬

‫فقال‪ :‬كان اإلمام الشافعي يرى إباحة الرجوع يف الهبة‪ ،‬واإلمام أحمد ال يرى‬
‫ذلك‪.‬‬
‫‪11‬‬ ‫؟؟؟‬

‫اجع يف ِهبته‬
‫الر ِ‬
‫فقال اإلمام الشافعي‪ :‬إنه مباح‪ ،‬واستدل لهذا بقول النبي ﷺ‪« :‬إِ َّن َّ‬
‫كالراجع يف َق ْيئه» قال‪ :‬ويجوز الرجوع يف القيء‪.‬‬
‫ّ‬

‫فقال له اإلمام أحمد‪ :‬القيء خبيث‪ ،‬ونحن ُح ِّرم علينا الخبيث؛ فدل على تحريم‬
‫الرجوع يف الهبة‪.‬‬

‫فهذه من المناظرة التي يظهر هبا الحق؛ ألن العالِم قد يغفل عن الحكمة والعلة‪،‬‬
‫أو عن وجه الدليل ف ُيب ّين له‪.‬‬
‫والحكمة تكون ظاهرة‪ ،‬خصوصا إذا ما كانت هذه المجادلة ِ‬
‫بع ْلم وبفقه‪ ،‬فإن‬ ‫ً‬
‫الحجة‪ ،‬ويظهر لهم األمر الذي كان خاف ًيا عليهم‪.‬‬
‫العلماء بعد ذلك تظهر لهم ُ‬

‫وأما المجادلة يف باب القدر‪ ،‬أو يف باب األسماء والصفات‪ ،‬أو يف األمور الغيبية‪:‬‬
‫فإن الناس ال يدركون هذا‪ ،‬وإنما هذا مبناه على التسليم وعلى اإليمان بما جاء يف هذا‬
‫من النصوص‪.‬‬

‫فإ ًذا الخصومة والمجادلة والمناظرة ترجع إلى هذه الضوابط‪.‬‬


‫ومن هنا ن ِ‬
‫ُدرك أن َم ْن َي ُذ ّم المجادلة من كل وجه‪ ،‬ويستدل َ‬
‫لذ ّمها بما جاء عن‬
‫السلف أنه ُمخطِئ‪ ،‬وأن َم ْن يمدحها من كل وجه و ُيطلق العنان لكل متكلم فيها أن‬
‫أيضا ُمخطِئ‪.‬‬‫ُيجادل وأن ُيناظر فإن هذا ً‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪12‬‬

‫وكثير من المسائل يحصل الخطأ فيها والتنازع بسبب النظر إلى جانب من‬
‫ٌ‬
‫‪12‬‬

‫الحق‪ ،‬فيأيت طرف و ُي َع ّمم جانب‪ ،‬ويأيت الطرف اآلخر و ُي َع ّمم الجانب اآلخر‪ ،‬والكل‬
‫َيدّ عي أن الحق معه‪.‬‬

‫ولو تأمل الناس فيما يختلفون فيه ونظروا إلى عموم األدلة ل َظ َهر لهم أن الكثير‬
‫تنازع فيها أن مرجعها إلى التفصيل‪ ،‬كما يحصل يف كثير من المسائل‬
‫من األمور التي ُي َ‬
‫التي يخوض فيها الناس اليوم مثل‪ :‬الردود على الخصوم‪ ،‬وعلى أهل البدع‪ ،‬ومثل‪:‬‬
‫غيبة المبتدع‪ ،‬ومثل‪َ :‬ه ْجر المبتدع‪ ،‬وكثير من األبواب التي يختصر فيها الناس اليوم‬
‫مرجعها إلى التفصيل‪.‬‬

‫فتكون ممدوحة من وجه بضوابطها وشروطها الشرعية‪ ،‬وتكون مذمومة من‬


‫وجه‪ ،‬فيأيت الذي ُيقرر هذه المسائل ال ينظر إال إلى الحق منها‪ ،‬و ُينكِر على اآلخر ما‬
‫ُينكِر من المخالفة فيها‪.‬‬

‫ويأيت اآلخر ال ينظر إال إلى المخالفة التي تحصل يف فِ ْعل الناس فيذمها هبذا‬
‫االعتبار‪.‬‬
‫فم ْن َتنَ ّبه إلى هذا التفصيل فإنه ُي ِ‬
‫درك من‬ ‫والحق‪ :‬أن هذه تتنزل على تفصيل؛ َ‬
‫ِ‬
‫العلم ويظهر له من الفقه والمعرفة هبذه األصول ما ال يظهر لغيره‪.‬‬
‫‪13‬‬ ‫؟؟؟‬

‫ثم َذكَر َت ْرك الجلوس مع أصحاب األهواء؛ وهذه من األصول المقررة‪ ،‬من‬

‫األصول العظيمة؛ أن َت ْرك الجلوس مع أهل البدع أنه أصل عظيم من أصول أهل ُّ‬
‫السنة‬
‫والجماعة؛ ألن مجالسة أهل البدع شرط وفتنة‪.‬‬

‫وجا َلسه ُأصيب بدائه‪.‬‬


‫وقد َش ّبهها بعض األئمة بأن المبتدع كاألجرب؛ َم ْن خالطه َ‬

‫ً‬
‫انتقاال يف العدوى؛ فإنه –كما قال بعض‬ ‫ومعلو ٌم أن الجرب هو من أشد األمراض‬

‫الج َمل األجرب أو الدابة التي ُأصيب َ‬


‫بالج َرب‬ ‫األطباء‪ -‬ينتقل عن طريق الرياح؛ فإن َ‬
‫أهنا ُتعدي غيرها‪ ،‬والدابة الواحدة ُتعدي القطيع الكامل إذا خالطته؛ ألن هذا من‬
‫األمراض المتعلقة ِ‬
‫بالج ْلد الخارجي‪.‬‬

‫فهو ينتقل عن طريق الرياح‪ ،‬وعن طريق الجلوس يف مكان‪ ،‬وكذلك البدع ُش ِّبهت‬
‫بالج َرب‪.‬‬
‫َ‬

‫وقد جاء يف الحديث عن النبي ﷺ (حديث معاوية)‪ :‬أنه قال‪« :‬إنه سيكون يف آخر‬

‫احبِ ِه» َف َذكَر أن البدع‬


‫الزمان َأ ْقوام َتتَجارى بِ ِهم األَهواء كَما يتَجارى الْ َك ْلب بِص ِ‬
‫ُ َ‬ ‫ْ ْ َ ُ َ َ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬

‫تنتقل وتتجارى بأصحاهبا كما َيتَجارى ال َكلب بصاحبه‪.‬‬

‫وال َك َلب‪ :‬هو الداء المعروف الذي يصيب ال َكلب‪ ،‬فإذا َع ّض غيره انتقل‬
‫هذا الداء من ذلك ال َك ْلب الذي ُأصيب هبذا الداء وهو داء ال َك َلب إلى غيره‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪14‬‬

‫وقد َذكَر األطباء أن َع ّضة ال َكلب المصاب هبذا الداء لغيره أنه ينتشر‬
‫‪14‬‬

‫المرض يف دقائق إلى سائر البدن‪.‬‬

‫ويذكر بعض األطباء أن َم ْن ُأصيب بِ َع ّضة ال َكلب المصاب هبذا الداء أنه‬
‫يحتاج إلى تسعين يوما ُيعا َلج فيها كل يوم بعشرات ِ‬
‫اإل َبر حتى ُيمكن أن‬ ‫ً‬
‫ُيقضى على هذه السموم التي انتشرت يف البدن‪.‬‬

‫وهذا مما يدل على أن البدع خطيرة‪ ،‬وأن انتشارها خطير بين أهلها‪ ،‬وما‬
‫ُع ِرف أحد اقتحم هذا الباب َ‬
‫وخا َلط أهل البدع‪ ،‬و َأنكر ما َح َّذر منه السلف‬
‫من مخالطة أهل البدع إال وقد ُأصيب بداء أهل البدع وبما ُهم عليه‪.‬‬

‫حتى إن بعض َم ْن ُيخالطوهنم ولهم َمقصد حسن يف الرد عليهم أو يف‬


‫مم ْن ينقص ِع ْلمهم ُيصابون بداء أهل البدع‪ ،‬ويرتكسون يف البدع‪،‬‬
‫غيرهم َّ‬

‫وهداه اهلل عز وجل إلى الحق أن‬


‫السنة َ‬
‫ولهذا ال ينبغي لعاقل َع َرف ُّ‬
‫ُيخالِط أهل البدع‪.‬‬
‫‪15‬‬ ‫؟؟؟‬

‫و َم ْن َخا َل َط أهل البدع فإنه ال يأمن على نفسه أن يصيبه ما أصابه‪ ،‬أو أن‬
‫َف‪ ،‬وال أخشى على ديني؛ وهذا‬ ‫يقول‪ :‬أنا يف مأمن من ديني وعلى ِع ْل ٍم وك ّ‬
‫يكفي فتنة للرجل أن يظن يف نفسه أنه يف مأمن من الفتنة‪.‬‬

‫فهو أحد رجلين‪ :‬إما أن يقول‪( :‬أنا ال ُأفتَن) فهذا ال شك أنه جهل‬
‫خ َشى عليه ِ‬
‫الفتَن‪.‬‬ ‫وتفريط وعلى َم ْن َظ ّن يف نفسه هذا ُي ْ‬

‫أو يعلم من نفسه أنه ضعيف‪ :‬فهذا ال ينبغي له أن ُيخالِط أهل البدع‪.‬‬

‫فمجالسة أهل البدع من األمور العظيمة؛ التي َح ّذر منها السلف‪.‬‬

‫والسنة وكذلك أقوال السلف يف التحذير‬


‫وقد تواترت األدلة من الكتاب ُّ‬
‫من مجالسة أهل البدع؛ فكانوا يهجروهنم وال ُيخالطوهنم وال ُيجالسوهنم‪.‬‬

‫أيضا مهاجرة أهل البدع و َت ْرك مخالطتهم ً‬


‫أيضا لها ضوابط‪ ،‬ذكرها‬ ‫ولكن ً‬
‫أهل العلم‪.‬‬

‫فإن َه ْجر أهل البدع له مقاصد‪:‬‬


‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪16‬‬

‫‪ -‬مقصد متعلق بمصلحة الدين؛ وهو أن يكون َه ْجر المبتدع لمصلحة‬


‫‪16‬‬

‫الدين؛ هذا المقصد األول‪.‬‬

‫‪ -‬المقصد الثاين‪ :‬أن يكون القصد من َه ْجر المبتدع هو حماية النَّفس من‬
‫ما عليه ذلك المبتدع‪ ،‬ويكون هذا مقصد خاص بال َهاجر‪.‬‬

‫‪ -‬المقصد الثالث‪ :‬هو نَ ْفع ذلك المبتدع‪ ،‬وهذا مقصد متعلق بنَ ْفع‬
‫المبتدع المهجور‪.‬‬

‫هذه الضوابط الثالث يختلف الهجر من حيث المشروعية وعدمها‬


‫باعتبار هذه المقاصد‪.‬‬

‫فالمقصد األول –وهو َه ْجر المبتدع لمصلحة الدين‪ :-‬مثل‪َ :‬ه ْجر أهل‬
‫العلم واإليمان‪ ،‬بل َه ْجر النبي ﷺ لبعض المخالفين‪.‬‬

‫فالنبي ﷺ ال ُي َ‬
‫خشى عليه من الفتنة؛ فإنه معصوم‪ ،‬وإنما َه َجر المخالفين‬
‫وز ْج ًرا لهم‪ ،‬أو َه َجرهم لمصلحة األُمة كما َه َجر النبي ﷺ كعب‬
‫تأديبًا لهم َ‬
‫ِ‬
‫وصاح َبيْه‪.‬‬ ‫بن مالك‬
‫‪17‬‬ ‫؟؟؟‬

‫فهذا َه ْجر فيه تأديب لهؤالء المخالفين ولغيرهم أن يقعوا فيما وقعوا‬
‫فيه؛ ففيه نَ ْفع للمهجور‪ ،‬وفيه نَ ْفع لألُ ّمة‪.‬‬

‫ومنه‪َ :‬ه ْجر النبي ﷺ لصاحب الدَّ ْين لِت َْرك الصالة عليه؛ فإن هذا فيه‬
‫نَ ْفع‪.‬‬

‫صاحب الدَّ ْين هذا مات‪ ،‬وانتقل إلى الدار اآلخرة وهو ال يعلم هل‬
‫صلى عليه النبي ﷺ َأ ْم ال‪.‬‬

‫لكن النبي ﷺ َل ّما َه َجر صاحب الدَّ ين كان هذا فيه مصلحة لألُمة بأن‬
‫انتفعت األُمة هبذا األمر والتفريط يف قضاء الديون‪.‬‬

‫شرع للعلماء وألهل الفضل أن يهجروا بعض المخالفين‬


‫ولهذا؛ ُي َ‬
‫لمصلحة األُ ّمة‪ ،‬ولمصلحة الدِّ ين‪.‬‬

‫وأما المقصد الثاين –وهو ال َه ْجر لمصلحة النَّفس ولمصلحة الهاجر‪:-‬‬


‫وهو أن ال ُيخالِط الرجل َم ْن يظن أنه يتضرر بمجالسته من أهل البدع‬
‫رجال يظن أنه‬
‫ً‬ ‫والفسق‪ ،‬وهذا القول فيه واحد‪ ،‬وال يجوز ألحد أن ُيخالِط‬
‫بمخالطته له يتضرر يف دينه‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪18‬‬

‫وإن ذلك ا ْل ُمخا َلط ينتفع هبذه المخالطة؛ ألن اإلنسان ُمطا َلب بتحقيق‬
‫‪18‬‬

‫نجاة نفسه‪ ،‬فال يجوز لرجل مهما بلغ من العلم والفضل أن يخالط َم ْن‬
‫يتضرر بمجالسته يف دينه‪.‬‬

‫والقول واحد يف هذه المسألة‪.‬‬

‫وأما المقصد الثالث –وهو الهجر لمصلحة المهجور‪ :-‬فهذه المسألة‬


‫المشهورة التي تتعلق هبا الضوابط والنظر يف حال هذا المهجور‪.‬‬

‫هجر؟‬
‫هجر؟ أو ال ينتفع بالهجر فال ُي َ‬
‫مم ْن ينتفع بالهجر ف ُي َ‬
‫وهل هو َّ‬

‫هجر لمصلحته هو؛ كما انتفع‬


‫فإن من المخالفين َم ْن ينتفع بالهجر ف ُي َ‬
‫كعب بن مالك هب َْجر النبي ﷺ‪.‬‬

‫وانتفع صبيغ بن عسال الذي كان يسأل عن ُمتشابه القرآن يف َه ْجر عمر‬
‫وه ْجر األُمة له؛ كما َأ َمر هبذا عمر رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫له‪َ ،‬‬

‫فهؤالء انتفعوا بالهجر ألنه َأ ّثر فيهم‪.‬‬


‫‪19‬‬ ‫؟؟؟‬

‫مم ْن ُجبِل على الشدة‬


‫وأما إن كان الرجل ال ينتفع بالهجر‪ ،‬بل إنه َّ‬
‫والقوة؛ فإن من الناس َم ْن ُجبِلوا على القوة والشدة‪ ،‬ال ينتفعوا بالهجر‪ ،‬وإنما‬
‫شرع َه ْجره‪.‬‬
‫ينتفعوا بالتأليف؛ فهذا الذي ال ُي َ‬

‫ولهذا؛ كان النبي ﷺ يتألف بعض المخالفين؛ كان يتأ ّلف عبد اهلل بن‬
‫ُأ َب ّي وهو من المنافقين‪ ،‬وكان يتألف األقرع بن حابس‪ ،‬و ُعيينة بن ِحصن؛‬
‫وغ ْلظة وجفاء‪ ،‬ومع هذا كان النبي‬ ‫وكانت لهم مخالفات‪ ،‬وكانوا أهل ِشدّ ة ِ‬
‫ﷺ يتأ ّلفهم وما هجرهم‪ ،‬وأعطاهم يوم حنين ما لم ي ِ‬
‫عط غيرهم‪ ،‬وقال‪« :‬إِن ََّما‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫َأ ْعطَيتهم تَأَلُّ ًفا لِقلوبهم»‪.‬‬

‫فهؤالء لم يهجرهم النبي ﷺ؛ ألن الهجر ال يؤثر فيهم‪ ،‬وألهنم سادة‬


‫ُمطاعين –كما قال شيخ اإلسالم‪-‬؛ ألهنم سادة ُيطاعون يف أقوامهم؛‬
‫فه ْجرهم ال ينفع؛ ألنه لو هجرهم وجدوا َم ْن يؤويهم و َم ْن ُيعينهم و َم ْن‬
‫َ‬
‫ينصرهم‪ ،‬فال ينفع َه ْجر هؤالء‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪20‬‬

‫هجر‪ ،‬و ُيخطِئ َم ْن يظن‬


‫وهكذا كل َم ْن كانت حاله كحال هؤالء فإنه ال ُي َ‬
‫‪20‬‬

‫هجر عليها‪ ،‬أو كل معصية‬


‫أن الهجر متعلق بمخالفة‪ ،‬كأن يقال‪ :‬كل بدعة ُي َ‬
‫هجر عليها‪.‬‬
‫ُي َ‬

‫ومنهم َم ْن يجعل الهجر متعلق بالبدع المغلظة‪ ،‬فيقول‪ :‬البدع المغ ّلظة‬
‫هجر عليها‪.‬‬
‫هجر عليها‪ ،‬والبدع التي هي دوهنا ال ُي َ‬
‫ُي َ‬

‫هجر أهل المعاصي‪،‬‬


‫ومنهم َم ْن يقول‪ :‬الهجر يف حق أهل البدع‪ ،‬وال ُي َ‬
‫والسنة دلت على َر ّد هذه األقوال كلها‪.‬‬
‫ُّ‬

‫وباله ْجر على المعاصي‪،‬‬


‫َ‬ ‫باله ْجر على البدع‪،‬‬
‫السنة َ‬
‫فإنه قد جاءت ُّ‬
‫وبالهجر على المعاصي الصغيرة وبعض المخالفات‪ ،‬كما َه َجر النبي ﷺ‬
‫خاتما من حديد‪ ،‬وكما َه َجر صاحب ال ُقبّة الذي َبنى ُقبة‪،‬‬
‫ً‬ ‫الذي رأى يف يده‬
‫وكما َه َجر بعض أزواجه على بعض المخالفات اليسيرة‪.‬‬

‫ولن يهجر على بعض المخالفات الشديدة التي كانت تصدر من بعض‬
‫المخالفين‪ ،‬كقول عبد اهلل بن ُأ َبي‪َ ﴿ :‬لئِ ْن َر َج ْعنَا إِ َلى ا ْل َم ِدين َِة َل ُيخْ رِ َج َّن األَ َع ُّز ِمن َْها‬
‫‪21‬‬ ‫؟؟؟‬

‫األَ َذ َّل﴾[المنافقون‪ ]8:‬بعد أن ن ََزل الوحي بتصديق َم ْن أخرب النبي ﷺ هبذا‪ ،‬أن عبد اهلل‬
‫بن ُأ َبي قال هذا‪ ،‬ومع هذا لم يهجره النبي ﷺ‪.‬‬

‫وهذا قول عظيم‪.‬‬

‫ولم يهجر بعض المتأولين الذين لم يعرفوا الحق‪.‬‬

‫فهذا يدل على أن الهجر أو عدم الهجر ال يتعلق بالمخالفة من حيث هي من‬
‫كوهنا بدعة أو معصية‪ ،‬ومن كوهنا ُمغ ّلظة أو غير ُم َغ ّلظة‪ ،‬وإنما يتعلق بالنظر إلى حال‬
‫ذلك المهجور‪ ،‬وهل ينتفع أو ال‪.‬‬

‫واألصل يف هذا‪ :‬هو اإلنكار؛ لقول النبي ﷺ‪َ « :‬م ْن َر َأى ِمنْكُم ُمنْك ًَرا َف ْل ُي َغ ّيره بِيده‪،‬‬

‫َفإِ ْن َلم َيستطع فبِ ِلسانه‪َ ،‬فإِ ْن َلم َيستطع فبقلبه»‪.‬‬

‫ولم َي ُقل‪َ ( :‬م ْن رأى منكم ُم ً‬


‫نكرا فليهجر صاحب المنكر)‪ ،‬وإنما قال‪ :‬فل ُي َغ ّير‪.‬‬

‫والتغيير قد يكون بالتأليف‪ ،‬بالنُّصح والتأليف والرفق‪ ،‬وقد يكون بالهجر‪.‬‬

‫هجر‪ ،‬وأن َم ْن لم يهجر المبتدع فإنه ُمخالف‬ ‫ِ‬


‫ولهذا ُيخطئ َم ْن يظن أن كل مبتدع ُي َ‬
‫للسنة‪.‬‬
‫ُّ‬

‫فإن الهجر له ضوابط ذكرها أهل العلم‪.‬‬


‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪22‬‬

‫أيضا يتعلق بالنظر ب ِ ُمدّ ة الهجر؛ فإن َ‬


‫اله ْجر يكون بحسب المخالفة‪،‬‬ ‫والهجر ً‬ ‫‪22‬‬

‫وبحسب حال المهجور؛ فإن من الناس َم ْن ينتفع بالهجر ولو ليو ٍم واحد‪ ،‬ومنهم َم ْن ال‬
‫ينتفع إال بالهجر ل ِ ُمدة طويلة‪.‬‬

‫فإذا َقدّ ر الهاجر أن المهجور انتفع بحيث رأى يف نفسه َت َأ ُّث ًرا وأن هذا َ‬
‫اله ْجر قد َأ ّثر‬
‫فيه فعليه أن يقطع الهجر وأن يرجع إلى ما كان عليه ألنه حصل التأديب‪.‬‬
‫ِ‬
‫وصاح َب ْيه يف َو ْصف اهلل عز وجل لهم بأهنم‬ ‫وهذا كما حصل لكعب بن مالك‬
‫ت َع َل ْي ِه ُم األَ ْر ُض بِ َما‬
‫﴿ضا َق ْ‬
‫وصلوا إلى هذه الحال التي قال اهلل عز وجل فيها‪ :‬أهنا َ‬
‫ت﴾[التوبة‪.]118:‬‬
‫َر ُح َب ْ‬

‫فبعد هذه الحال الشديدة ُي َ‬


‫خشى لو استمر الهجر بعد ذلك أن يكون له أثر آخر؛‬
‫وهو أن َي ِصل ذلك المهجور إلى أقصى مرحلة يف التأديب‪ ،‬فعند ذلك ُيخشى عليه بعد‬
‫ذلك أن يحصل له القنوط‪ ،‬وأن ينتكس بعد أن كان قد انتفع بالهجر‪.‬‬

‫وليس هذا من حال كعب بن مالك وصاحبيه‪ ،‬ولكن غيرهم ُيخشى عليهم هذا؛‬
‫ووا َلى‬
‫فإن من الناس َم ْن إذا هجره أهل الخير والصالح لربما انتقل إلى غيرهم‪َ ،‬‬
‫غيرهم من أهل البدع‪ ،‬ويتضرر هبذا الهجر‪.‬‬

‫فإ ًذا ُين َظر يف ا ْل ُمدّ ة المناسبة َ‬


‫لله ْجر‪.‬‬
‫‪23‬‬ ‫؟؟؟‬

‫ولذا؛ يقول ابن القيم‪ :‬إن ال َه ْجر كالدواء؛ إذا نقص لم ينفع‪ ،‬وإذا زاد َقتل‪.‬‬

‫الهجر كالدواء‪ ،‬وهو الدواء؛ فإذا َن َقص لم ينفع‪ ،‬وإذا زاد َقتَل‪.‬‬

‫فينبغي لطالب العلم ول ِ َم ْن أراد تحقيق هذا األصل العظيم؛ وهو مسألة َه ْجر‬
‫الم بتدع‪ :‬أن ينظر يف هذه الضوابط‪ ،‬وأن ينظر يف حال المهجور‪ ،‬وأن ينظر يف حاله هو؛‬
‫مؤثرا‪.‬‬
‫اله ْجر‪ :‬أن يكون الهاجر ً‬
‫فإن من الضوابط المتعلقة هبذا َ‬

‫أما إن كان الهاجر غير ُمؤثر فإن َه ْجره ال ينفع‪.‬‬

‫مثل‪ :‬أن يهجر الزميل زميله‪ ،‬وهو ال ينتفع هب َْجره‪ ،‬بل ربما ظن أن هذا حسد؛ فهذا‬
‫ال ينتفع المهجور به‪.‬‬

‫محال للهجر‪.‬‬
‫مؤثرا‪ ،‬وأن يكون المهجور ًّ‬
‫أن يكون الهاجر ً‬

‫فال بد من النظر يف هذه الضوابط‪.‬‬

‫وقفت عليها وسمعتُها من بعض‬


‫ُ‬ ‫ثم إن من األمور العجيبة ومن األخطاء التي‬
‫الطلبة‪ :‬أن بعضهم يسأل بعض العلماء‪ ،‬ويتصل على عالِم‪ ،‬وقد يكون هذا السائل يف‬
‫هجر؟‬ ‫ِ‬
‫بلد والعالم يف بلد آخر‪ ،‬ويقول‪( :‬فالن قال هبذا) هل ُي َ‬

‫اله ْجر ال يتعلق بالقول‬


‫وقد تأيت الفتوى‪ :‬نعم! وهذه من األمور العجيبة؛ فإن َ‬
‫فقط‪ ،‬وإنما يتعلق هبذه الضوابط‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪24‬‬

‫فكان الواجب على ا ْل ُمستف َتى هنا وعلى المفتي أن يسأل عن حال ذلك‬ ‫‪24‬‬

‫المخطِئ‪ ،‬وعن حال ذلك السائل‪ ،‬وهل هو من أهل الهجر‪ ،‬وهل ذلك الذي حصل‬‫ُ‬
‫هجر وينتفع بالهجر‪.‬‬
‫مم ْن ُي َ‬
‫منه الخطأ هو َّ‬

‫ثم يسأل عن مكانته يف المجتمع‪ ،‬وهل هو من أهل العلم‪ ،‬وهل هو من أهل‬


‫الرياسة والفضل؟‪ ..‬ال بد من النظر يف مثل هذه األمور‪.‬‬

‫كيف ُيفتَى‪ ،‬وكيف لسائل أن يسأل وأن يطلب الفتوى وهو لم ُيب ّين هذه األصول؛‬
‫فإن هذه من األمور العجيبة‪.‬‬

‫فحال الناس أدرى به ذلك السائل‪ ،‬حال ذلك الرجل أدرى به هذا السائل‪،‬‬
‫والناس ال يحتاجون إلى أن يسألوا يف كل مسألة‪ ،‬فهو أعلم به‪ ،‬أو بِ َم ْن سأل عنه من‬
‫أهل بلده‪ ،‬وهل الهجر ينفع أو ال؟‬

‫فانظروا إلى هذه المسألة؛ يعني هل َه ْجر فالن ينتفع به ويحصل به َن ْفع‬
‫للمسلمين‪َ ،‬أ ْم أنه فتنة للناس يف دينهم و ُدنياهم‪ ،‬وفتنة لطالب العلم؟‬

‫هذه من أكرب األخطاء التي تحصل يف هذه األزمان‪ ،‬ويظن بعض المخالفين‬
‫السنة‪،‬‬
‫وبعض أهل الجهل أن َم ْن َن ّبه على هذه الضوابط أن هذا من التهاون يف ُّ‬
‫ويوصف بأنه مميع‪ ،‬وأنه م ِ‬
‫داهن؛ وهذه من األمور العجيبة‪ :‬أن ُيرمى أهل العلم بسبب‬ ‫ُ‬ ‫َُّ‬ ‫ُ َ‬
‫‪25‬‬ ‫؟؟؟‬

‫ِ‬
‫َج ْهل الجاهل‪ ،‬وبسبب َن ْقص ع ْلمهم أن ُير َمى أهل العلم الذين يقومون ُّ‬
‫بالسنة ُيرمون‬
‫هبذه األوصاف!‬

‫فأين هؤالء من هذه الضوابط التي ذكرها العلماء و َن ّبهوا عليها‪.‬‬

‫وارجعوا إلى كالم أهل العلم‪ ،‬وإن أشكل شيء فارجعوا إلى َهدْ ي النبي ﷺ‪ ،‬هل‬
‫ٍ‬
‫بطريقة واحدة‪َ ،‬أ ْم أنه َه َجر‬ ‫َت َعا َمل يف كل األخطاء ويف كل المخالفات ومع كل الناس‬
‫و َت َأ ّلف؟ كما قال شيخ اإلسالم‪.‬‬

‫والنبي ﷺ َه َجر و َت َأ َّلف؛ َه َجر أقوا ًما‪ ،‬و َت َأ ّلف آخرين‪.‬‬

‫ثم ننظر ل ِ َم َه َجر ول ِ َم َت َأ ّلف؟ وما هي الضوابط المتعلقة بالهجر والتأليف؟‬

‫هذه األمور ال بد أن ُتض َبط‪ ،‬وال بد لطالب العلم أن ُيدركوهنا‪ ،‬وال بد أن تقوم‬
‫السنة على هذه األصول العظيمة‪.‬‬
‫الدعوة إلى ُّ‬

‫فإذا قامت الدعوة على هذه األصول وعلى مراعاة هذه الضوابط انتفع الناس‪،‬‬

‫وارتفعت الفتن التي تحصل بين ال َّطلبة اليوم‪ ،‬وبين طالب العلم من أهل ُّ‬
‫السنة‪ ،‬أن كل‬
‫هجر َم ْن لم ُي َبدّ عه‪ ،‬وهذه فتن واهلل‪.‬‬
‫هجر َم ْن لم يهجره‪ ،‬و ُي َ‬ ‫م ْن أخطأ ُه ِ‬
‫جر‪ ،‬و ُي َ‬ ‫َ‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪26‬‬

‫السنة يف أن ال نحكم على المتأول وعلى‬


‫ونحن لوال اإلنصاف‪ ،‬ولوال أصول ُّ‬
‫‪26‬‬

‫السنة كما ُي ِ‬
‫خرجون‬ ‫المخطئ بأنه ُمبتدع بمجرد خطأه َل َبدّ عنا هؤالء‪َ ،‬‬
‫وألخرجناهم من ُّ‬ ‫ُ‬
‫السنة‪.‬‬
‫إخواهنم من ُّ‬

‫ولكن نحن نتمسك باألصول‪ ،‬ونتمسك بالعدل يف المخالفين‪ ،‬ونقول‪ :‬إن هؤالء‬
‫السنة ّ‬
‫وأن َم ْن‬ ‫مع خالفهم ومع تنازعهم هذا التنازع الكبير‪ ،‬ومع َظنّهم أهنم أصحاب ُّ‬
‫مم ْن ُهم على الحق؛ فنحن مع هذا نعذر إخواننا‪،‬‬ ‫خالفهم أنه قد َخ َرج من ُّ‬
‫السنة َّ‬
‫السنة‪ ،‬وال نحكم فيهم ببدعة‪.‬‬
‫السنة‪ ،‬وال نُخرجهم بخطئهم من ُّ‬
‫ونقول‪ :‬إهنم من أهل ُّ‬

‫ولكن نقول‪ :‬أن هذه من أكرب األخطاء التي بسببها يحصل ال َّت َف ّرق‪ ،‬ويحصل‬

‫السنة‪ ،‬ويحصل بسببها فتنة العوام و َت ْركهم ُّ‬


‫للسنة إذا ما رأوا‬ ‫أيضا التشهير بأهل ُّ‬
‫بسببها ً‬
‫السنة يتنازعون هذا التنازع‪.‬‬
‫طالب العلم وأهل ُّ‬

‫***المتن***‬

‫قال المصنف ‪:$‬‬


‫آن‪َ ،‬و ِهي َد َْلئِ ُل َا ْل ُق ْر ِ‬
‫آن‪َ ،‬و َل ْي َس‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫الس َّن ُة ُت َف ِّس ُر َا ْل ُق ْر َ‬
‫الس َّن ُة عنْدَ نَا آ َث ُار َر ُسول َاهَّلل ﷺ‪َ ،‬و ُّ‬ ‫َو ُّ‬
‫لسن َِّة قِ َياس‪َ ،‬و َْل ُت ْض َر ُب َل َها َا ْألَ ْم َث ُال‪.‬‬ ‫ِ‬
‫في َا ُّ‬

‫***الشرح***‬
‫‪27‬‬ ‫؟؟؟‬

‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫السنة هي األثر‪.‬‬ ‫السنَّ ُة عنْدَ نَا آ َث ُار َر ُسول َاهَّلل ﷺ)‪ :‬هذه هي ُّ‬
‫السنة‪ُّ ،‬‬ ‫ثم قال‪َ ( :‬و ُّ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫السنَّ ُة عنْدَ نَا آ َث ُار َر ُسول َاهَّلل ﷺ)‪ :‬يقصد أن ُّ‬
‫السنة مبناها على السمع‬ ‫وقوله‪َ ( :‬و ُّ‬
‫وعلى الدليل؛ فإن األثر‪ :‬المقصود به كل ما ُأثِر عن النبي ﷺ‪ ،‬وما جاء عن النبي ﷺ‪،‬‬

‫وما َب ّلغه النبي ﷺ من الكتاب ُّ‬


‫والسنة‪.‬‬

‫السنة واألثر‪.‬‬ ‫ولهذا؛ ُيط َلق على أهل ُّ‬


‫السنة‪ ،‬ومن أسمائهم‪ :‬أهنم أهل ُّ‬

‫وليس المقصود هنا بـ (األثر)‪ :‬ما يكون يف اصطالح بعض العلماء وا ْل ُم َحدّ ثين أن‬
‫المقصود باألثر‪ :‬هو ما ُيؤ َثر عن السلف مما ال يصح َر ْفعه للنبي ﷺ‪.‬‬

‫إنما المقصود باألثر‪ :‬هو المأثور عن النبي ﷺ‪ ،‬وما هو مأثور عن السلف‪.‬‬

‫فالسنة مبناها على النَّقل الصحيح المأثور عن النبي ﷺ‪ ،‬وعلى الفهم الصحيح‬
‫ُّ‬
‫المأثور عن سلف األُ ّمة من أصحاب النبي ﷺ وتابعيهم على الخير ُ‬
‫والهدى‪.‬‬
‫آن‪َ ،‬و ِهي َد َْلئِ ُل َا ْل ُق ْر ِ‬
‫آن)‪:‬‬ ‫السنَّ ُة ُت َف ِّس ُر َا ْل ُق ْر َ‬
‫قال‪َ ( :‬و ُّ‬
‫َ‬
‫السنَّ ُة ُت َف ِّس ُر َا ْل ُق ْر َ‬
‫آن)‪ :‬وهذا فيه َر ّد على المخالفين‪ ،‬وعلى بعض أهل الخالف‬ ‫( َو ُّ‬
‫وهم طائفة يقولون‪ :‬ما وجدنا‬
‫حتج هبا‪ُ ،‬‬
‫السنة ال ُي ّ‬
‫الذين يزعمون أن القرآن يكفي‪ ،‬وأن ُّ‬
‫يف كتاب اهلل أخذنا به‪ ،‬وما سواه تركناه‪.‬‬

‫وقد أخرب النبي ﷺ عن هؤالء‪.‬‬


‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪28‬‬

‫وهم طائفة ُي َس ّمون بالقرآنيين‪ ،‬يقولون‪ :‬ما وجدنا يف كتاب اهلل أخذنا به‪ ،‬وأما‬
‫ُ‬ ‫‪28‬‬

‫السنة‪ :‬فإنه ال ُيق َطع هبا‪ ،‬وال ُيق َطع بصحتها!‬


‫ُّ‬

‫وال شك أن هذا ُك ْفر‪ ،‬وهذا إنكار لرسالة النبي ﷺ‪ ،‬وإنكار ُ‬


‫لسنّة النبي ﷺ‪.‬‬

‫السنة‪،‬‬ ‫ولهذا؛ َذ َكر العلماء أهمية ُّ‬


‫السنة‪ ،‬حتى قال بعضهم‪ :‬القرآن يحتاج إلى ُّ‬
‫السنة فيها تفصيل أكثر‪.‬‬
‫والسنة ال تحتاج إلى القرآن؛ وذلك أن ُّ‬
‫ُّ‬

‫السنة‪ :‬هي ما ُأثِر عن النبي ﷺ‪،‬‬


‫السنة أفضل من القرآن؛ فإن ُّ‬
‫وليس معنى هذا أن ُّ‬
‫والقرآن‪ :‬هو كالم اهلل‪ ،‬وكالم اهلل عز وجل أفضل من كالم المخلوقين‪ ،‬وإن كانت‬
‫السنة هي لفظ النبي ﷺ والمعنى من اهلل عز‬
‫السنة هي َو ْحي كما أن القرآن َو ْحي‪ ،‬لكن ُّ‬
‫ُّ‬
‫وجل‪.‬‬

‫وأما األحاديث القدسية‪ :‬فهي بألفاظها ومعانيها هي كالم اهلل‪.‬‬

‫فالسنة ُت َف ِّسر القرآن‪ ،‬وفيها تفصيل ل ِ َما جاء يف كتاب اهلل عز وجل‪ ،‬وهي دالئل‬
‫ُّ‬
‫القرآن‪.‬‬

‫قال شيخ اإلسالم يف َش ْرح هذه العبارة‪( :‬أي دالالت على معناه) أي أن ُّ‬
‫السنة‬
‫فالسنة تدل على معاين القرآن‪.‬‬
‫تدل على معنى القرآن‪ ،‬هي دالة على معاين القرآن‪ُّ ،‬‬
‫‪29‬‬ ‫؟؟؟‬

‫فقد جاء األمر بالصالة‪ ،‬واألمر بالزكاة‪ ،‬واألمر بالحج‪ ،‬واألمر بالصوم‪ ،‬ثم جاءت‬
‫السنة ُم َف ّصلة ألحكام هذه العبادات التي جاء األمر هبا يف كتاب اهلل عز وجل‪.‬‬
‫ُّ‬

‫ولهذا؛ قال بعض أهل العلم‪َ ( :‬م ْن َجا َدل وقال‪ :‬يكفينا كتاب اهلل) يقال له‪ :‬أين‬
‫تجد من كتاب اهلل أن الفجر ركعتان‪ ،‬وأن الظهر أربع‪ ،‬وأن العصر أربع؟! فإن هذه‬
‫السنة‪.‬‬
‫جاءت هبا ُّ‬

‫السنة يف أحكام الصوم ويف أحكام الحج كما أن‬


‫وكذلك التفاصيل التي جاءت هبا ُّ‬
‫النبي ﷺ َح ّج وقال‪ُ « :‬خ ُذوا َعنِّي َمناسككم»‪.‬‬

‫السنة فيها تفصيل‪ ،‬وأن الناس يحتاجون إليها‪ ،‬وأن دينهم ال‬
‫فهذا يدل على أن ُّ‬
‫َي ْك ُمل إال ُ‬
‫بسنّة النبي ﷺ‪.‬‬

‫لسن َِّة قِ َياس‪َ ،‬و َْل ت ُْض َر ُب َل َها اَ ْألَ ْم َث ُال)‪.‬‬ ‫ِ‬
‫قال‪َ ( :‬و َل ْي َس في َا ُّ‬

‫السنة ال ُتقاس بالعقول‪.‬‬ ‫وقوله‪( :‬و َليس فِي َا ِ ِ‬


‫لسنَّة ق َياس)‪ :‬أي أن ُّ‬
‫ُّ‬ ‫َ ْ َ‬

‫ف ُين َظر يف ُّ‬


‫السنة بالعقول‪ ،‬فيقال‪ :‬المصلحة‪ ،‬أو دل العقل على أن المصلحة كذا‬

‫فالسنة كذا! فهذا هو القياس الباطل؛ الذي َح َّذر منه السلف‪ ،‬والذي قالوا فيه‪ :‬أن ُّ‬
‫السنة‬ ‫ُّ‬
‫ال قياس فيها‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪30‬‬

‫وأما القياس الصحيح –وهو قياس َف ْرع على أصل لعلة جامعة بينهما‪ :-‬فهذا‬ ‫‪30‬‬

‫السنة وليس إلى العقل‪.‬‬


‫ليس من القياس الباطل‪ ،‬وإنما هو قياس مرجعه إلى ُّ‬
‫فإن القياس الصحيح مرجعه إلى استنباط ِ‬
‫الع ّلة من الدليل الصحيح‪ ،‬ثم ُيقاس‬
‫الفرع على األصل‪ُ ،‬تقاس هذه المسألة التي لم َي ِرد النَّص هبا‪ ،‬أو لم َي ِرد ُحكمها يف‬

‫النصوص‪ُ ،‬تقاس على مسألة َو َر َد ُحكمها يف ن ٍّ‬


‫َص صحيح‪ ،‬فتُقاس هذه على هذه‪.‬‬
‫مثل‪ :‬أن يقال‪( :‬الخمر مسكِر‪ ،‬وكل مسكِر محرم فهو خمر)؛ فهنا استُنبط أن ِ‬
‫الع ّلة‬ ‫ُ َّ‬ ‫ُ ْ‬ ‫ُ ْ‬
‫من تحريم الخمر هو اإلسكار؛ فكل ما أسكر فهو ُم َح ّرم‪ ،‬وهذا أصل عظيم‪ ،‬ومن هنا‬
‫السنة عظيمة؛ ألهنا اشتملت على األصول‪.‬‬
‫كانت ُّ‬
‫ثم ما ي ِ‬
‫حدث الناس بعد ذلك من المشروبات فإهنا ُين َظر فيها بنا ًء على هذا‬ ‫ُ‬
‫األصل‪.‬‬

‫خمرا‪ ،‬وإنما يسموهنا‬


‫ً‬ ‫فقد يأيت الناس اليوم ببعض المشروبات ال يسموهنا‬
‫مسميات أخرى‪.‬‬
‫لكن ِ‬
‫الع ّلة موجودة فيها‪ ،‬قد يختلف النوع الذي ُيتّخذ منها الخمر‪ ،‬فإهنا قد ُتتّخذ‬
‫من بعض المأكوالت‪ ،‬أو من بعض المواد المصنعة اآلن أو من غيرها‪.‬‬
‫‪31‬‬ ‫؟؟؟‬

‫فإذا وجدت ِ‬
‫الع ّلة فإن هذا األمر يكون ُم َحر ًّما‪ ،‬وهذا إنما ُع ِرف بالقياس‬ ‫ُ‬
‫الصحيح‪.‬‬

‫ومن هنا قال العلماء أن القياس الصحيح له شروط؛ من هذه الشروط‪ :‬أن تكون‬
‫َص فيها‪ ،‬أما إذا ُو ِجد فيها النَّص فال‬
‫هذه المسألة التي ُين َظر فيها و ُيط َلب القياس لها ال ن ّ‬
‫قياس‪.‬‬

‫فمن هنا يكون القياس مذمو ًما‪ ،‬أن تكون مسألة منصوص عليها يأيت َم ْن يريد أن‬
‫بحث عن ُحكمها؛ ألن‬ ‫ٍ‬
‫يقيس هذه المسألة على مسألة أخرى‪ ،‬هذه ال قياس فيها‪ ،‬وال ُي َ‬
‫الحكم جاء به الشارع‪.‬‬
‫ُ‬

‫ومهما َظ َهر لنا أن هذه المسألة المنصوص عليها هي مثل تلك المسألة التي‬
‫اختلف ُحكمها يف مسألة أخرى فال نقيس هذه على هذه؛ بل نقول‪ :‬هذا دليل على‬
‫الحكم‪.‬‬
‫اختالف ُ‬

‫الحكم؛ فال نقيس هذه على هذه‪.‬‬


‫فإن هذه مسألة وهذه مسألة اختلف ُ‬

‫َص فعند ذلك ُين َظر يف أقرب المسائل إليها‪،‬‬


‫وأما إذا كانت هذه المسألة ليس فيها ن ّ‬
‫ويف استنباط ِ‬
‫الع ّلة أو استنباط الحكمة التي من أجلها َو َرد النَّص يف تلك المسألة‬
‫فتُقاس هذه على تلك‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪32‬‬

‫ومن الشروط‪ :‬أن يكون القياس من عالِم َع َرف األدلة‪ ،‬و َع َرف االستنباط و َب َحث‬ ‫‪32‬‬

‫عن ِ‬
‫الع ّلة وأدركها من النَّص؛ فهذا هو الذي يقيس‪ ،‬أما الجاهل فال يقيس‪.‬‬

‫أيضا من شروط القياس‪ :‬أن تكون هناك ِع ّلة ظاهرة من التحريم‪.‬‬


‫ثم ً‬

‫أما إن كان الشيء ال تظهر منه ِع ّلة سواء يف التحريم أو يف غيره‪ ،‬ليس هناك ِع ّلة‪،‬‬
‫عرف له ِع ّلة فإن هذا ال ُيقاس‬
‫وإنما هو كما يقول فيه بعض العلماء َأ ْمر َتعبدي‪ ،‬ال ُت َ‬
‫العلة غير معروفة‪ ،‬والحكمة غير معروفة‪ ،‬مثل المسح على ظاهر‬ ‫عليه؛ ألن هذه ِ‬

‫ُ‬
‫الخف‪.‬‬

‫مسح على باطنه‪ ،‬مع أن‬ ‫الخ ّفين ُيمسح على ظاهر ُ‬
‫الخف وال ُي َ‬ ‫يف المسح على ُ‬
‫النَّ َظر والعقل يقتضي أن يكون المسح هو يف أسفل ُ‬
‫الخف ألنه هو الذي يتعرض إلى‬
‫األذى‪.‬‬

‫الخف َأ ْو َلى من‬


‫كما قال علي‪ :‬لو كان الدِّ ين بالرأي لكان المسح على باطن ُ‬
‫السنة هبذا‪.‬‬
‫المسح على أعاله‪ ،‬لكن جاءت ُّ‬

‫فم ْن جاء يقيس هنا يقول‪ :‬مقتضى العقل والنظر أن يكون‬


‫فهنا يظهر المتابعة‪َ ،‬‬
‫المسح هو لباطن الخف فنمسح على باطنه فهذا الذي َح ّكم عقله‪ ،‬وهذا هو القياس‬
‫الباطل الذي َح َّذر منه السلف‪.‬‬
‫‪33‬‬ ‫؟؟؟‬

‫ألن المسألة هنا ال ُتعرف العلة من هذا‪ ،‬ويمكن أن ُتستنبط ِ‬


‫الع ّلة هنا من المسح‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬
‫الخف دون المسح على باطنه‪ ،‬وأنا لم أقف على شيء من كالم أهل‬ ‫على ظاهر ُ‬
‫العلم‪ ،‬لكن بعد َت َأ ُّمل قد يقال‪ :‬أن هذه ِع ّلة والعلم عند اهلل عز وجل‪.‬‬

‫الخف معلوم أن َم ْن َلبس خف أنه يمشي به على األرض‪ ،‬والمشي فإنه ُي َط ِّهر‬
‫فإن ُ‬
‫ُ‬
‫الخف‪.‬‬

‫السنة أن َم ْن سأل النبي ﷺ عن أرض نجسة تكون بعدها‬


‫ولهذا؛ كما جاء يف ُّ‬
‫أرض طاهرة؛ فإن هذه ُت َط ِّهر تلك‪.‬‬

‫وذكر بعض العلماء أن الصالة يف الحذاء أهنا صحيحة‪ ،‬وال ُيبا َلى بعد ذلك بما‬
‫َع َلق هبا من نجاسات‪ ،‬فإذا ما مشى هبا الرجل‪ :‬فإن المشي ُي َط ِّهر الحذاء‪.‬‬

‫دائما يتحرك به أن هذا‬


‫ف أنه إذا مشى به الرجل وهو ً‬ ‫فكذلك قد يقال هنا يف ُ‬
‫الخ ّ‬
‫ُي َط ِّهر ما قد يعلق به‪.‬‬

‫السنة بالمسح‬ ‫ثم َب ِقي ظاهر ُ‬


‫الخف فإنه لن يتعرض إلى المشي؛ فمن هنا جاءت ُّ‬
‫على ظاهر ُ‬
‫الخف دون المسح على باطنه‪.‬‬

‫فهذا قد يقال‪ :‬أنه ُحكمة‪.‬‬


‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪34‬‬

‫و َم ْن تخفى عليه هذه الحكمة ويمسح على باطن ُ‬


‫الخف يكو قد ك َّرر األمر؛ ألن‬ ‫‪34‬‬

‫باطن الخف يتعرض للمشي وال تتحقق الحكمة من المسح على ظاهر ُ‬
‫الخف التي‬
‫السنة‪.‬‬
‫جاءت هبا ُّ‬
‫وعلى كل حال؛ فهنا ال نبحث عن ِ‬
‫الحكمة وإنما األمر هنا مبناه على اال ّتباع سواء‬
‫للخ ّفين إال بالمسح على‬
‫والسنة والطهارة ال تحصل ُ‬
‫عرفنا أو لم نعرف فإن الحق ّ‬
‫أعلى ُ‬
‫الخف دون باطنه‪.‬‬

‫فإ ًذا القياس‪:‬‬

‫‪ -‬منه ما هو صحيح؛ وهذا لم ُي ِرده اإلمام أحمد‪ ،‬ولم يقصده من كالمه هنا‪.‬‬

‫‪ -‬وإنما أراد هنا القياس المذموم الذي ُت َ‬


‫عرض فيه النصوص على العقول‪ ،‬ثم بعد‬
‫ذلك كما يقول بعض العقالنيين‪ :‬هذا َوا َفق العقل أخذنا به‪ ،‬وهذا َخا َلف العقل تركناه‪،‬‬
‫فهذا ال شك أنه هو القياس المذموم الذي َح َّذر منه األئمة‪.‬‬

‫وأما القياس الصحيح‪ :‬فإنه ُمعترب فهو من أنواع األدلة التي َذكَر العلماء من‬
‫األنواع التي يتوصل إليها إلى معرفة الحق‪.‬‬

‫السنة أو اإلجماع أو القياس‪.‬‬


‫عرف بها الحق‪ :‬إما الكتاب أو ُّ‬
‫فإن األدلة التي ُي َ‬

‫وبعض هذه األدلة أنكرها بعض أهل البدع‪:‬‬


‫‪35‬‬ ‫؟؟؟‬

‫فالقياس أنكره بعض أهل العلم‪ ،‬وأنكره كثير من المبتدعة‪.‬‬

‫واإلجماع أنكره بعض الرافضة‪ ،‬وبعض المعتزلة‪.‬‬

‫والسنة أنكرها بعض أهل البدع‪.‬‬


‫ُّ‬

‫أيضا أنكره بعض أهل البدع كالرافضة وغيرهم الذين طعنوا فيه‪.‬‬
‫والكتاب ً‬

‫والسنة وهما‬
‫السنة على أن هذه كلها معتربة‪ ،‬الكتاب ُّ‬
‫وأجمع أهل العلم من أهل ُّ‬
‫والسنة مرتبة‬ ‫ٍ‬
‫يف االستدالل يف مرتبة واحدة‪ ،‬وليس الكتاب مرتبة أولى أو درجة أولى ُّ‬
‫السنة َو ْحي كما أن القرآن َو ْحي‪.‬‬
‫ثانية‪ ،‬وإنما هما وحي؛ ُّ‬

‫ثم بعد ذلك اإلجماع‪ ،‬ثم القياس الصحيح الذي َد ّلت األدلة على أنه صحيح بنا ًء‬
‫على َن َظر أهل العلم‪.‬‬

‫لعلنا نُكمل بقية المسائل المتعلقة هبذه الفقرة‪.‬‬

‫هذا؛ واهلل أعلم‪.‬‬

‫وصلى اهلل وسلم وبارك على محمد‪.‬‬


‫شـرح‬

‫سنة‬
‫أصول ال ُّ‬
‫لإلمام أحمد ابن حنبل‬

‫‪$‬‬

‫شرح فضيلة الشيخ الدكتور‬

‫إبراهيم الرحيلي‬

‫حفظه اهلل‬

‫‪1‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪2‬‬

‫‪2‬‬

‫المجلس الثالث‬

‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬


‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬والصالة والسالم على نبينا محمد‪ ،‬وعلى آله وصحبه‬
‫أجمعين‪.‬‬
‫أما بعد‪:‬‬
‫فهذا هو المجلس الثالث من َش ْرح وتعليق شيخنا حفظه اهلل تعالى على المتن‬

‫الثالث يف المستوى األول يف الدورة المنهجية ال َع َقدية متن [أصول ُّ‬


‫السنة] لإلمام‬
‫أحمد ابن حنبل ‪ $‬تعالى‪.‬‬
‫***المتن***‬

‫قال المصنف ‪:$‬‬


‫ول و ََل َا ْْلَهو ِ‬ ‫و َليس فِي َا ِ ِ‬
‫اء‪،‬‬ ‫ْ َ‬ ‫اس‪َ ،‬و ََل تُض ْ َر ُب َل َها َا ْْلَ ْمثَ ُال‪َ ،‬و ََل تُدْ َر ُك بِا ْل ُع ُق ِ َ‬
‫لسنَّة ق َي ٌ‬ ‫ُّ‬ ‫َ ْ َ‬
‫ِ‬
‫إِن ََّما ُه َو اََل ِّت َب ُ‬
‫اع َوت َْر ُك َا ْل َه َوى‪.‬‬
‫***الشرح***‬
‫‪3‬‬ ‫؟؟؟‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬وصلى اهلل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله‬
‫وصحبه‪ ،‬و َم ْن اهتدى هبَدْ يه واس َت ّن ب ِ ُسنّته إلى يوم الدين‪.‬‬
‫أما بعد‪:‬‬
‫اس‪َ ،‬و ََل ت ُْض َر ُب َل َها اَ ْْلَ ْمثَ ُال)‪ :‬يعني أن القياس الباطل‬ ‫فقوله‪( :‬و َليس فِي َا ِ ِ‬
‫لسنَّة ق َي ٌ‬
‫ُّ‬ ‫َ ْ َ‬
‫السنة‪.‬‬
‫ليس من ُّ‬
‫وإنما ال ُّسنة مبناها على اال ّتباع‪.‬‬
‫السنة‬ ‫وقوله هنا‪( :‬و َليس فِي َا ِ ِ‬
‫السنة‪ ،‬أو يف ُّ‬
‫اس)‪ :‬يعني ليس يف طريقة أهل ُّ‬
‫لسنَّة ق َي ٌ‬
‫ُّ‬ ‫َ ْ َ‬
‫السنة مبناها على اال ّتباع‪ ،‬على ا ّتباع‬
‫التي هي يف مقابل البدعة ليس فيها قياس؛ ألن ُّ‬
‫اآلثار‪ ،‬ما َث َبت عن النبي ﷺ وعن أصحابه وعن التابعين ّ‬
‫مما هو تفسير لكالم اهلل‬
‫وكالم رسوله ﷺ‪.‬‬
‫وأما كالم الصحابة وكذلك َم ْن بعدهم من السلف‪ :‬فإنه ليس ُحجج بنفسها‪ ،‬ليس‬
‫قول الصحابي هو ُح ّجة بنفسه‪ ،‬وإنما هو مرجع يف َف ْهم النصوص‪ ،‬و ُيستأنس به يف َف ْهم‬
‫النَّص‪.‬‬
‫قال‪َ ( :‬و ََل ت ُْض َر ُب َل َها اَ ْْلَ ْمثَ ُال)‪ :‬األمثال يف معنى القياس‪.‬‬
‫القياس‪ :‬هو قياس شيء على شيء؛ قياس َف ْرع على أصل‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪4‬‬

‫ومن األقيسة الباطلة‪ ،‬بل أبطل األقيسة‪ :‬قياس الخالق على المخلوق‪ ،‬وهذه فتنة‬ ‫‪4‬‬

‫أهل الكالم‪ ،‬وكذلك الفالسفة الذين َظنّوا أن كل ما يثبت هلل عز وجل هو من جنس ما‬
‫يثبت للمخلوقين‪.‬‬
‫وكذلك قياس العا َلم السفلي على العا َلم العلوي؛ كما هو منهج الفالسفة عندما‬
‫نَظروا إلى ما هو يف الكون من األحوال‪ ،‬وقاسوا عليها العالم العلوي‪.‬‬
‫وهذه كلها من األقيسة الباطلة الفاسدة‪.‬‬
‫و( َا ْْلَ ْمثَ ُال)‪ :‬هو َج ْعل ُم َماثِل للشيء‪.‬‬
‫ومن المماثلة الباطلة‪ :‬تمثيل اهلل عز وجل ب َخ ْلقه‪ ،‬أو تمثيل المخلوق بالخالق‪،‬‬

‫وكذلك تمثيل بعض المسائل بمسألة أخرى ال ُتماثلها‪َ ،‬‬


‫وج ْعل هذه المسألة من جنس‬
‫تلك المسألة‪ ،‬أو المساواة بين األشياء‪.‬‬
‫وهذا من الظلم والبغي‪ ،‬كما َذكَر شيخ اإلسالم‪ :‬أن المساواة بين المتفاضلين من‬
‫الظلم‪ ،‬وتفضيل بعض َم ْن يتساوون يف الفضل من الظلم‪.‬‬
‫فاضل بين‬
‫أيضا أن ُي َ‬
‫السنة ً‬
‫ساوى بين المتفاضالت‪ ،‬وليس من ُّ‬
‫السنة أن ُي َ‬
‫فليس من ُّ‬
‫المتساويين‪.‬‬
‫‪5‬‬ ‫؟؟؟‬

‫فهذا كله مرجعه إلى التمثيل الباطل؛ أن يقال يف المقدمة األولى‪ :‬هذا مثل هذا‪ ،‬ثم‬
‫الحكم لهذه المسألة من ُحكم تلك المسألة‪ ،‬فيحصل الخطأ والضالل بسبب‬
‫تنزع ُ‬
‫ُي َ‬
‫هذا القياس وهذا التمثيل الباطل‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قال‪َ ( :‬و ََل تُدْ َر ُك بِا ْل ُع ُقول َو ََل اَ ْْلَ ْه َواء)‪ :‬يعني أن ُّ‬
‫السنة ال ُت َ‬
‫درك بالعقول‪.‬‬
‫ومعنى هذا‪ :‬أن معرفة الحق ومعرفة الشرع ال يدرك بالعقول ابتداء‪ ،‬في ِ‬
‫عمل الناس‬ ‫ً ُ‬ ‫ُ َ‬
‫عقولهم‪ ،‬ينظرون بعقولهم يف الشرع‪ ،‬وما َح ّسنته العقول أخذوا به‪،‬وما أنكرته تركوه‪،‬‬

‫السنة ال ُت َ‬
‫عرف هبذا‪.‬‬ ‫فإن ُّ‬
‫وهذا ال يعني أن العقول ال ُت ِ‬
‫درك بعض الشرع؛ فإن الناظر يف األدلة ربما أدرك‬
‫ِ‬
‫الحكمة وأدرك المصلحة‪.‬‬

‫ولكن المقصود‪ :‬هو أن العقول ال ُت َقدّ م قبل الشرع‪ ،‬وال ُي َ‬


‫رجع فيها يف االستدالل‪.‬‬
‫وهذه الكلمة َف ّسرها شيخ اإلسالم يف بعض كالمه عندما َن َق َل هذه العبارة‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ول) أي أن عقول الناس ال ُت ِ‬
‫درك كل ما َسنّه رسول اهلل‬ ‫(قول أحمد‪َ ( :‬و ََل تُدْ ر ُك بِا ْل ُع ُق ِ‬
‫َ‬
‫ﷺ‪ ،‬فإهنا لو أدركت ذلك لكان ِع ْلم الناس ِ‬
‫كع ْلم رسول اهلل ﷺ‪ ،‬ولم ُي ِرد بذلك) يعني‬
‫اإلمام أحمد (أن العقول ال تعرف شيئًا َأ َم َر به ون ََهى عنه رسول اهلل ﷺ)‪.‬‬
‫السنة‪ ،‬وليس‬ ‫ِ‬
‫عيارا على ُّ‬
‫ففي هذا الكالم‪ :‬الرد ابتدا ًء على َم ْن َج َعل عقول الناس م ً‬
‫للسنة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫فيه َر ٌّد على َم ْن يجعل العقول ُموافقة ُّ‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪6‬‬

‫ِ‬
‫درك‬ ‫إ ًذا العبارة يف معنى ( َو ََل تُدْ َر ُك بِا ْل ُع ُقول)‪ :‬يعني أن ُّ‬
‫السنة والشرع ال ُي َ‬
‫‪6‬‬

‫بالعقول‪.‬‬
‫السنة‪ :‬هو االستدالل بالنصوص الشرعية‪ ،‬ثم االستدالل‬ ‫ومن هنا كان منهج أهل ُّ‬
‫بالدليل العقلي بعد الدليل الشرعي؛ ألنّا عرفنا من طريق الوحي أن هذا ُموافِق للعقل‪.‬‬
‫والعقل الصحيح يدل على الحق‪ ،‬لكن الناس يتنازعون يف العقل الصحيح‪،‬‬
‫فالكل َيدّ عي أن العقل معه‪ ،‬وأن العقل السليم معه‪.‬‬
‫ومن هنا لن يجعل اهلل عز وجل معرفة الحق بالرجوع إلى العقول‪ ،‬وإن كانت‬
‫العقول ال ُتنكر الحق لكنها ال تعرفه ابتدا ًء‪.‬‬
‫فالعقل ال ُي ِ‬
‫عارض الشرع‪ ،‬وال ُينكر الشرع‪ ،‬وال يأيت الشرع بما ُتحيله العقول‪،‬‬
‫ولكن العقول قد تضعف عن معرفة الحق؛ فيحصل التنازع بين الناس؛ كل طائفة‬
‫َتدّ عي أن العقل معها‪.‬‬
‫السنة ال ُي َقدّ مون االستدالل بالدليل العقلي قبل الدليل‬
‫ومن هنا كان أهل ُّ‬
‫استقر عندهم أنه الحق استدلوا بالعقل‬
‫ّ‬ ‫الشرعي‪ ،‬وإنما ُي َقدّ مون الدليل الشرعي‪ ،‬فإذا‬
‫عليه؛ ألنّا عرفنا من طريق الدليل الشرعي أن هذا هو الحق‪.‬‬
‫يتوهم الشيء ويظن أن الحق هو فيما يراه‬
‫وأما قبل معرفة الشرع‪ :‬فإن اإلنسان قد ّ‬
‫بعقله‪ ،‬ولربما خالفه غيره ويظن أن الحق معه‪.‬‬
‫‪7‬‬ ‫؟؟؟‬

‫جمع العقالء‬
‫عرف العقل الصحيح و ُي َ‬ ‫فإ ًذا العقل هو ٌ‬
‫دليل صحيح‪ ،‬لكن عندما ُي َ‬
‫عليه‪ ،‬فإذا أجمعوا عليه هو دليل‪ ،‬وال يمكن أن ُي ِ‬
‫عارض الشرع‪.‬‬

‫وأما إذا َتن ََازع الناس فالمرجع يف هذا هو الدليل الشرعي؛ الذي ُي َ‬
‫عرف به العقل‬
‫عرف به الحق‪.‬‬
‫الصحيح‪ ،‬و ُي َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫(و ََل تُدْ َر ُك بِا ْل ُع ُقول َو ََل َا ْْلَ ْه َواء)‪ :‬يعني وال بأهواء الناس‪ ،‬وما ُت ِّ‬
‫حسنه‬ ‫قال‪َ :‬‬
‫عقولهم وأهواؤهم‪.‬‬
‫ِ‬
‫و(إِن ََّما ُه َو اََل ِّت َب ُ‬
‫اع َوت َْر ُك َا ْل َه َوى)‪:‬‬
‫اَلتباع للشرع ولألدلة‪.‬‬
‫و َت ْرك الهوى هو َه َوى النَّفس‪.‬‬
‫وه َوى النَّفس من األسباب التي تمنع من اال ّتباع‪.‬‬
‫َ‬
‫واال ّتباع هو من األسباب التي يرتفع هبا الهوى؛ ألن َم ْن َح ّكم الشرع َقا َده إلى‬
‫الخير وإلى الحق‪.‬‬
‫و َم ْن َح ّكم هواه قاده إلى الباطل وإلى الظلم وإلى البغي‪.‬‬
‫السنة يف أحكامهم على غيرهم ال ينظرون بأهوائهم‪ ،‬وإنما‬
‫ومن هنا‪ :‬كان أهل ُّ‬
‫ينظرون إلى الحق‪َ ،‬ف ُهم ال ُي َك ّفرون َم ْن َك ّفرهم وال ُي َبدّ عون َم ْن َبدّ عهم‪ ،‬وال ُي َف ّسقون‬
‫َم ْن َف ّسقهم‪ ،‬وإنما يعدلون يف أقوالهم‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪8‬‬

‫وعندما َي ُر ّدون البدعة ال َي ُر ّدوهنا ببدعة مثلها‪ ،‬وإنما ير ّدوهنا بالحق‪.‬‬ ‫‪8‬‬

‫السنة وسط بين الطوائف المتنازعة؛ فتأيت الطائفة وتبتدع بدعة‪،‬‬


‫فمن هنا كان أهل ُّ‬
‫ثم تأيت الطائفة األخرى وتنحرف إلى الطرف اآلخر‪ ،‬و ُتنكِر ما عند هذه الطائفة من‬
‫الحق‪ ،‬وتنحرف إلى إنكار ما عند هذه الطائفة من الحق‪.‬‬
‫وقد تكون بعض الطوائف المتنازعة عند كل طائفة عندها بعض الحق‪ ،‬لكن‬
‫الطائفة األخرى ُتنكر هذا البعض الذي عند خصومهم‪.‬‬
‫السنة‪َ :‬ف َج َمع اهلل لهم الحق الذي َت َف ّرق يف أقوال الناس‪ ،‬و َع َصمهم اهلل‬
‫وأما أهل ُّ‬
‫وسنّة النبي ﷺ‪.‬‬
‫عز وجل من الباطل بفضل اهلل عز وجل‪ ،‬ثم بتحكيم كتاب اهلل ُ‬
‫***المتن***‬

‫قال المصنف ‪:$‬‬


‫لسن َِّة َا َّلّل ِز َم ِة َا َّلتِي َم ْن ت ََر َك ِمن َْها َخ ْص َل ًة َل ْم َي ْق َب ْل َها َو ُي ْؤ ِم ْن بِ َها َل ْم َيك ُْن ِم ْن‬
‫َوم ْن َا ُّ‬
‫ِ‬

‫ان بِ َها‪ََ ،‬ل ُي َق ُال‪:‬‬


‫يم ُ‬ ‫يث فِ ِيه‪َ ،‬و ْ ِ‬
‫اْل َ‬
‫ان بِا ْل َقدَ ِر َخيرِ ِه و َشر ِه‪ ،‬والتَّص ِد ُيق بِ ْاْلَحادِ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ َ ِّ َ ْ‬ ‫يم ُ‬ ‫َأ ْه ِل َها‪َ :‬ا ْ ِ‬
‫ْل َ‬
‫ان بِ َها‪.‬‬
‫يم ُ‬ ‫ف‪ ،‬إِن ََّما ُه َو َالت َّْص ِد ُيق َو ْ ِ‬
‫اْل َ‬ ‫ـم َو ََل َك ْي َ‬ ‫ل َ‬
‫ِ‬

‫***الشرح***‬

‫بعد أن َذكَر األصول َذكَر بعض الخصال وبعض المسائل العظيمة التي تدخل‬
‫تحت هذه األصول‪.‬‬
‫‪9‬‬ ‫؟؟؟‬

‫أوال من ا ّتباع ما عليه أصحاب النبي ﷺ و َت ْرك األهواء والبدع‬


‫ألن ما َذكَر ً‬
‫والخصومات‪ :‬هذه لها أثر عظيم يف ا ّتباع الكتاب وال ُّسنة‪.‬‬
‫لسن َِّة َا َّلّل ِز َم ِة‬ ‫ِ‬
‫السنة‪ ،‬قال‪َ ( :‬وم ْن َا ُّ‬ ‫ثم بدأ يذكر بعض خصال اإليمان وبعض خصال ُّ‬
‫َا َّلتِي َم ْن ت ََر َك ِمن َْها َخ ْص َل ًة َل ْم َي ْق َب ْل َها َو ُي ْؤ ِم ْن بِ َها َل ْم َيك ُْن ِم ْن َأ ْه ِل َها)‪.‬‬
‫السنة‬
‫للسنة‪ ،‬وأن ُّ‬
‫السنة بعمله ُّ‬
‫هذه العبارة تدل على أن الرجل يكون من أهل ُّ‬
‫ليست دعوى يدّ عيها الرجل‪.‬‬
‫فلو أن الناس ُأعطوا بدعواهم ال ّدعى الكثير من أهل البدع أهنم ُهم أهل الحق‬
‫السنة‪.‬‬
‫وأهل ُّ‬
‫بالسنة‪.‬‬
‫السنة ُهم الذين َعملوا ُّ‬
‫وأهل ُّ‬
‫ومن هنا ال ينبغي لعاقل أن يغرتّ يف عصر من العصور إما بخطأ يف الناس أو ب ُظلم‬
‫ِ‬
‫أو َب ْغي‪ :‬أن بعض الناس قد ُيطلق على طائفة معينة أهنم أهل ُّ‬
‫السنة‪ ،‬وأن َم ْن خالفها‬
‫فهو مبتدع‪.‬‬
‫ولربما كان هذا الرجل ُموافِ ًقا له‪ ،‬فيضفي عليه من األلقاب‪ ،‬و َي ِصفه بأنه من‬
‫السنة‪ ،‬وقد يكون مبتدع‪.‬‬
‫األئمة يف ُّ‬
‫السنة أو من‬ ‫فالسنة ليست هي ُم ْلك ألحد‪ ،‬وليس ُ‬
‫الحكم على رجل بأنه من أهل ُّ‬ ‫ُّ‬
‫بالسنة‪.‬‬
‫أهل البدع هو للناس‪ ،‬أو بحسب موافقة الناس أو مخالفتهم‪ ،‬وإنما هو بالعمل ُّ‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪10‬‬

‫لسن َِّة َا َّلّل ِز َم ِة َا َّلتِي َم ْن ت ََر َك ِمن َْها َخ ْص َل ًة َل ْم َي ْق َب ْل َها َو ُي ْؤ ِم ْن بِ َها‬ ‫ِ‬
‫ومن هنا قال‪َ ( :‬وم ْن َا ُّ‬
‫‪10‬‬

‫َل ْم َيك ُْن ِم ْن َأ ْه ِل َها) وهذا ُمحتمل ْلمرين‪:‬‬


‫السنة‪.‬‬ ‫‪ -‬أن َم ْن َت َر َك خصلة من خصال ُّ‬
‫السنة لم يكن من أهل ُّ‬
‫السنة يف هذه‬ ‫‪ -‬و ُمحتمل أنه َم ْن َت َرك خصلة من خصال ُّ‬
‫السنة ليس من أهل ُّ‬
‫الخصلة‪.‬‬
‫فالعبارة ُمحتملة لهذا ولهذا؛ محتملة الضمير أنه ليس ( ِم ْن َأ ْه ِل َها) أي ليس من‬
‫السنة‪.‬‬
‫أهل ُّ‬
‫واحتمال أن مرجع الضمير أنه ليس ( ِم ْن َأ ْه ِل َها) إلى هذه الخصلة التي لم َي ُقل هبا‪.‬‬
‫السنة بت َْركه لخصلة من خصال‬
‫ويحصل هذا وهذا؛ فإن الرجل قد يخرج من ُّ‬
‫السنة‪ ،‬ومنها‪ :‬هذه المسألة (مسألة ال َقدَ ر)؛‬
‫السنة؛ فإن هناك أصول َم ْن تركها َخ َرج من ُّ‬
‫ُّ‬
‫السنة‪ ،‬بل هو من ال َقدَ رية‪ ،‬أو من الجربية‪.‬‬
‫فم ْن لم يؤمن بال َقدَ ر ليس من أهل ُّ‬
‫َ‬
‫السنة‪ ،‬بل إن َت ْرك هذه‬
‫و َم ْن لم يؤمن بباب األسماء والصفات فهو ليس من أهل ُّ‬
‫األصول ُك ْفر‪.‬‬
‫السنة يف هذه‬ ‫وقد يرتك الرجل َخصلة من خصال ُّ‬
‫السنة فال يكون من أهل ُّ‬
‫متأو ًال‪.‬‬
‫السنة بت َْركه لهذه الخصلة إذا كان ّ‬
‫الخصلة‪ ،‬وإن كان هو ال يخرج من ُّ‬
‫‪11‬‬ ‫؟؟؟‬

‫فإن هناك بعض المسائل الجزئية‪ ،‬وبعض المسائل الدقيقة خالف فيها بعض أهل‬
‫السنة‪.‬‬
‫السنة‪ ،‬ولم يخرجوا هبذه المخالفة من دائرة أهل ُّ‬
‫ُّ‬
‫مثل‪ :‬خطر ُمرجئة الفقهاء‪ ،‬ومثل‪ :‬بعض األخطاء التي َو َقع فيها بعض أهل ّ‬
‫السنة‬
‫يف التأويل يف الصفات‪.‬‬
‫وال أعني هبذا منهج األشاعرة‪ ،‬أو َم ْن وافقهم من أهل البدع‪.‬‬
‫يتأ ّول صفة واحدة‪ ،‬ك ََم ْن أنكر أحاديث الصورة‪ ،‬أو َت َأ ّوله‬
‫وإنما يأيت للرجل أن َ‬

‫السنة؛ فإن هؤالء ال يخرجون هبذا من‬


‫على غير ُمراد النبي ﷺ منه‪ ،‬وأنكر قول أهل ُّ‬
‫السنة‪.‬‬
‫ُّ‬
‫كذلك َخا َلف بعضهم يف مسائل جزئية كالقدر‪ ،‬أو يف مسائل أخرى يف البعث‪ ،‬أو‬
‫السنة؛ مثل‪ :‬القول بفناء‬
‫يف مسائل أخرى مما دلت عليه األدلة وهو من أصول أهل ُّ‬
‫النار؛ فإن بعض هذه العبارات وبعض المسائل َخ َرج هبا بعض أهل ُّ‬
‫السنة ولم يخرجوا‬
‫السنة‪.‬‬
‫هبا من ُّ‬
‫السنة‪.‬‬ ‫وهم يف مخالفتهم لهذه َ‬
‫الخصلة ليس قولهم هو من قول أهل ُّ‬ ‫ُ‬
‫السنة)‬
‫ومن هنا ينبغي التّنبه لمسألة‪ :‬عندما يقول بعض أهل العلم‪( :‬هذا قول أهل ُّ‬
‫السنة‪ ،‬بل هو المشهور من أقوال‬
‫ال يعني أن هذا القول لم ُيخالف فيه أحد من أهل ُّ‬
‫السنة‪.‬‬
‫أهل ُّ‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪12‬‬

‫وعندما يأيت عالِم و ُيخالف يف مسألة من المسائل –مثل‪ :‬القول بفناء النار كما‬ ‫‪12‬‬

‫السنة‪ ،‬بل هو مخالف‬ ‫ِ‬


‫نُقل عن بعض األئمة‪ -‬فإن هذا ال يعني أن هذا هو قول أهل ُّ‬
‫السنة‪.‬‬
‫السنة وإن قال به بعض أهل ُّ‬
‫لقول أهل ُّ‬
‫خرجه من أهل السنة‪ ،‬وال ي ِ‬
‫دخل هذه‬ ‫السنة خالفه ال ُي ِ‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫فالمخالف من أهل ُّ‬
‫السنة‪.‬‬
‫المخالفة يف أقوال أهل ُّ‬
‫السنة) يعنون هبذا قول الجمهور الذي‬
‫فالعلماء عندما يقولون‪( :‬هذا قول أهل ُّ‬
‫السنة‪.‬‬
‫عليه جمهور أهل ُّ‬
‫أما األفراد‪ :‬فقد يخالفوا يف بعض المسائل الجزئية‪.‬‬
‫ان بِا ْل َقدَ ِر َخ ْيرِ ِه َو َش ِّر ِه)‪:‬‬
‫يم ُ‬ ‫قال‪( :‬اَ ْ ِ‬
‫ْل َ‬
‫واإليمان بال َقدَ ر –كما هو معلوم‪ُ -‬ركن من أركان اإليمان‪ ،‬وال يتم اإليمان وال‬
‫يصح اإليمان وال ُيق َبل َع َمل إال باإليمان بأركان اإليمان الستة‪.‬‬
‫فإن َم ْن أنكر ُركنًا من هذه األركان فإنه كافر‪ ،‬ال ينتفع بعمل؛ ال بصالةٍ‪ ،‬وال صوم‪،‬‬
‫ّ‬
‫وال حج‪ ،‬وال صدقة؛ حتى ُيؤمن هبذه األركان‪ ،‬ومنها‪ :‬ال َقدَ ر‪.‬‬
‫ان بِا ْل َقدَ ِر َخ ْيرِ ِه َو َش ِّر ِه)‪ :‬يعني أن الكل ُم َقدَّ ر من اهلل‪ ،‬كما قال اهلل عز‬
‫يم ُ‬ ‫قال‪( :‬اَ ْ ِ‬
‫ْل َ‬
‫وجل‪﴿ :‬إِنَّا ك َُّل َش ْي ٍء َخ َل ْقنَا ُه بِ َقدَ ٍر﴾[القمر‪.]49:‬‬
‫‪13‬‬ ‫؟؟؟‬

‫و(القدر) عندما يقال‪( :‬بِا ْل َقدَ ِر َخ ْيرِ ِه َو َش ِّر ِه)‪َّ :‬‬


‫الشر المذكور هنا هو ما ُيضاف إلى‬
‫المخلوق‪ ،‬وهو َش ّر نسبي‪ ،‬وليس َش ًّرا َم ْح ًضا‪.‬‬

‫وأما الشر المحض‪ :‬فإنه ال ُيضاف إلى اهلل عز وجل‪ ،‬ال يف أسمائه‪ ،‬وال يف صفاته‪،‬‬
‫وال يف أفعاله‪.‬‬

‫وعلى هذا؛ قال بعض أهل العلم يف قول النبي صلى اهلل علي وسلم‪َ « :‬و َأ ْن ت ُْؤ ِمن‬
‫وش ِّره» قال‪ :‬المقصود بالقدر هنا‪ :‬المقدور؛ فإن الشر ُيضاف إلى‬‫بِال َقدَ ر َخ ْيرِه َ‬
‫المقدور‪ ،‬وال ُيضاف إلى الفعل الذي هو فِ ْعل اهلل عز وجل‪.‬‬

‫ّ‬
‫وينحل عن المفعول الذي‬ ‫فإن المصدر هنا ينحل عن الفعل من ( َقدَّ ر‪ُ ،‬ي َقدِّ ر)‪،‬‬
‫َو َقع عليه ال َقدَ ر‪.‬‬
‫ِ‬
‫﴿م ْن َش ِّر َما‬ ‫والشر ُيضاف إلى المخلوق‪ ،‬كما قال اهلل عز وجل‪:‬‬
‫َخ َل َق﴾[الفلق‪ ،]2:‬وال ُيضاف إلى اهلل عز وجل‪.‬‬

‫وال بأس أن يقال‪ :‬أن اهلل َقدّ ر كل شيء‪ ،‬ولكن ال ُي َ‬


‫نتزع من المعاين العامة بعض‬
‫األفراد التي ال تتناسب مع أسماء اهلل وصفاته‪.‬‬

‫وإنما ُيقال‪َ :‬قدّ ر اهلل كل شيء‪َ ،‬خ َلق كل شيء‪.‬‬


‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪14‬‬

‫وعندما ُيضاف إلى اهلل ُيضاف له المخلوقات الشريفة‪ُ ،‬يقال‪( :‬رب جربيل‪،‬‬ ‫‪14‬‬

‫وميكائيل‪ ،‬ومحمد‪ ،‬وإبراهيم عليهم السالم)‪.‬‬

‫وال يقال‪( :‬رب كذا وكذا) من المخلوقات الوضيعة‪ ،‬وإن كان هو خالقها‪.‬‬

‫ولهذا؛ ُيد َعى اهلل عز وجل بأسمائه وصفاته‪ ،‬و ُتضاف إلى المخلوقات الشريفة‪.‬‬

‫وكذلك ال َقدَ ر ال ُيضاف إلى اهلل عز وجل الشر‪ ،‬وإن كان ُيقال‪ :‬أن اهلل َقدّ ر كل‬
‫شيء‪.‬‬

‫ان بِ َها)‪.‬‬ ‫يث فِ ِيه)‪ :‬أي بما جاء يف ال َقدَ ر ( َو ْ ِ‬


‫اْلي َم ُ‬ ‫(والتَّص ِد ُيق بِ ْاْلَحادِ ِ‬
‫َ‬ ‫َ ْ‬

‫بحث عن الحكمة يف ال َقدَ ر (ل ِ َم َقدّ ر اهلل كذا؟‬ ‫ِ‬


‫( ََل ُي َق ُال‪ :‬ل َ‬
‫ـم َو ََل َك ْي َ‬
‫ف)‪ :‬يعني ال ُي َ‬
‫وكيف َقدّ ر اهلل كذا؟ ولم ُي َقدِّ ر كذا)؛ فإن العقول تضعف عن إدراك هذا‪ ،‬وهلل عز وجل‬
‫الحكمة البالغة يف أسمائه وصفاته‪.‬‬

‫فليس هناك ف ِ ْعل من أفعال اهلل عز وجل إال وهو نابع عن حكمة ومصلحة وخير‪،‬‬
‫حضا فهو خير باعتبار بعض األحوال‪.‬‬
‫خيرا َم ً‬
‫إن لم يكن ً‬

‫وأما الشر المحض‪ :‬فإن اهلل ال ُي َقدّ ره وال يخلقه‪ ،‬وإنما ُي َقدّ ر الشر الجزئي الذي‬
‫ٍ‬
‫باعتبار آخر‪.‬‬ ‫خيرا‬
‫يتضمن ً‬
‫‪15‬‬ ‫؟؟؟‬

‫كما أنه َخ َلق إبليس‪ ،‬وإبليس هو منبع الشر‪ ،‬لكنه باعتبار وجوده هناك خير‬
‫للمؤمنين الذين رفع اهلل درجاهتم بالجهاد؛ الذي هو نتيجة لوجود الكفار‪ ،‬والكفار إنما‬
‫َل ّبس عليهم الشيطان وأخرجهم عن دين اهلل عز وجل‪.‬‬

‫بخ ْلق‬ ‫َفر َفع اهلل درجات المؤمنين يف الجنة بالجهاد‪ ،‬وبمجاهدة الشيطان ُ‬
‫وجنده َ‬
‫اهلل عز وجل لهذا المخلوق الذي كان َخ ْلقه مقتضى ِ‬
‫الحكمة واالبتالء واالمتحان؛‬ ‫ُ‬
‫حتى يظهر المؤمن من الكافر والمجاهد الصابر من الضعيف الذي يضعف عن األمر‬
‫وعن ما َأ َمر اهلل عز وجل به‪.‬‬

‫ان بِ َها)‪ :‬يعني‬


‫يم ُ‬ ‫ف‪ ،‬إِن ََّما ُه َو َالت َّْص ِد ُيق َو ْ ِ‬
‫اْل َ‬ ‫ـم َو ََل َك ْي َ‬‫ِ‬
‫ان بِ َها‪ََ ،‬ل ُي َق ُال‪ :‬ل َ‬
‫يم ُ‬ ‫( َو ْ ِ‬
‫اْل َ‬
‫التصديق واإليمان باألحاديث التي جاءت يف ال َقدَ ر ويف غيره‪.‬‬

‫بالسنة الالزمة التي ال شك فيها‪.‬‬


‫المقصود ُّ‬

‫وأما مخالفة َم ْن َخا َلف يف بعض الخصال‪ :‬هذا ال يعني أن المخالفة يف شيء من‬
‫ٍ‬
‫المسائل أنه َأ ْمر سهل‪ ،‬بل إن الرجل لو َع َرف من مسألة يسيرة أهنا من ُّ‬
‫السنة ثم َت َركها‬
‫السنة فإنه كافر‪.‬‬
‫وزََ َعم أن ما هو عليه أهدى مما جاءت به ُّ‬
‫متعمدً ا َ‬

‫لكن ُع ِذر الناس يف بعض المسائل الجزئية التي قد تخفى األدلة فيها على الناس‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪16‬‬

‫عذر هبا‪ ،‬وتلك ال ُي َ‬


‫عذر هبا‪ ،‬ال‬ ‫وليس المقصود عندما يقال‪ :‬أن هذه مخالفة ُي َ‬ ‫‪16‬‬

‫يعني هذا أن هناك شيء من الشرع أنه يحسن أو أن اإلنسان لو َت َس َ‬


‫اهل فيه فإنه ال ُيعترب‬
‫را ًّدا على اهلل ورسوله‪.‬‬

‫ولكن هناك بعض المسائل تخفى األدلة عليها؛ ف ُي َ‬


‫عذر الناس من هذا الوجه‪.‬‬

‫السنة َو َع َرف أن هذا من َش ْرع اهلل ثم َت َركه ُمعانِدً ا‬


‫وأما َم ْن َع َرف أن هذا من ُّ‬
‫ِ‬
‫ورا ًّدا للشرع فإنه‬ ‫و ُمكابِ ًرا وهو يعلم أنه مخالف ل َهدْ ي النبي ﷺ َرا ًّدا على النبي ﷺ َ‬
‫كافر‪.‬‬

‫وأما إذا َف َعل المعصية وهو يعلم أهنا معصية فهذه معصية‪ ،‬ال يخرج هبا من الدين‪،‬‬
‫لكن إن فعلها معتقدً ا –مثل‪َ :‬م ْن َز َعم أن السواك ال مصلحة فيه‪ ،‬وأنه ليس من الدين‪،‬‬
‫العلمانيين وغيرهم من الوسائل الحديثة وأهنا أفضل‬ ‫وأنه يخالف ما يدّ عيه بعض ِ‬
‫َ‬
‫وأحسن من السواك‪ -‬فهذا ُك ْفر‪ ،‬مع أن هذه المسألة من مسائل الفروع‪.‬‬

‫ور ّده واستدرك عليه فإن هذا كافر‪.‬‬


‫لكن َم ْن َع َرف دين اهلل عز وجل َ‬

‫لكن هناك بعض المسائل ُي َ‬


‫عذر هبا اإلنسان لخفاء الدليل عليه‪ ،‬ولكون األدلة فيها‬
‫غير ظاهرة لكل أحد‪.‬‬

‫***المتن***‬
‫‪17‬‬ ‫؟؟؟‬

‫قال المصنف ‪:$‬‬

‫ك َو ُأ ْحكِ َم َل ُه‪َ ،‬ف َع َل ْي ِه‬


‫يث َو َي ْب ُل ْغ ُه َع ْق َل ُه َف َقدْ ك ُِـف َي َذلِ َ‬ ‫ف َت ْف ِسير َا ْلح ِد ِ‬
‫َ َ‬ ‫َو َم ْن َل ْم َي ْعرِ ْ‬
‫َان ِم ْث َل ُه فِي َا ْل َقدَ ِر‪،‬‬
‫وق‪َ ،‬و ِم ْث ُل‪َ :‬ما ك َ‬
‫لصادِ ِق َا ْل َم ْصدُ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫يم َل ُه‪ ،‬م ْث ُل‪َ :‬حديث َا َّ‬
‫ِ‬ ‫ْليم ُ ِ‬
‫ان بِه َوالت َّْسل ُ‬ ‫َا ْ ِ َ‬
‫است َْو َح َش ِمن َْها َا ْل ُم ْست َِم ُع‪َ ،‬وإِن ََّما‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َوم ْث ُل‪َ :‬أ َحاديث َا ُّلرؤْ َية ُك ِّل َها‪َ ،‬وإِ ْن ن ََأ ْت َع ْن اَ ْْلَ ْس َما ِع َو ْ‬
‫ِ‬

‫ات َع ْن‬ ‫يث َا ْلم ْأ ُثور ِ‬ ‫احدً ا و َغيرها ِمن َا ْْلَحادِ ِ‬ ‫ان بِها‪ ،‬و َأ ْن ََل يرد ِمنْها حر ًفا و ِ‬ ‫َع َل ْي ِه َا ْ ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ َ ْ‬ ‫َ ُ َّ َ َ ْ َ‬ ‫يم ُ َ َ‬ ‫ْل َ‬
‫ات‪.‬‬‫َال ِّث َق ِ‬

‫***الشرح***‬

‫ك َو ُأ ْحكِ َم َل ُه)‪.‬‬
‫يث َو َي ْب ُل ْغ ُه َع ْق َل ُه َف َقدْ ك ُِـف َي َذلِ َ‬
‫ف َت ْف ِسير َا ْلح ِد ِ‬
‫َ َ‬ ‫(و َم ْن َل ْم َي ْعرِ ْ‬
‫قال‪َ :‬‬
‫ك) ألنه ليس من أهل‬ ‫يعني َم ْن لم يعرف الحديث ويعرف تفسيره ( َف َقدْ ك ُِـف َي َذلِ َ‬
‫ال ُقدرة عليه‪.‬‬
‫فسا إلى ُوسعها‪ ،‬واإلنسان ال ُي َك ّلف إال ما استطاع‪.‬‬ ‫واهلل عز وجل ال ُي َك ّلف ن ً‬
‫فإذا َض ُعف عقله عن َف ْهم النَّص فإنه ال ُي َك ّلف به‪َ ( ،‬و ُأ ْحكِ َم َل ُه) يعني أن هذا يف‬
‫حقه من ا ْل ُمح َكم‪.‬‬
‫ْلن ا ْل ُمحكَم على قِسمين‪:‬‬
‫عمل به‪.‬‬
‫عرف معناه ف ُي َ‬
‫‪ -‬إما أن ُي َ‬
‫‪ -‬أو يقنع بأنه ال يعرف معناه فيؤمن به‪ ،‬وال يتكلف يف البحث عن معناه‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪18‬‬

‫وأما ُمقابل ا ْل ُمحكَم‪ :‬فهو ا ْل ُمشتبِه؛ الذي هو ال يذهل معناه بالكلية‪ ،‬وقد ال ُيدرك‬ ‫‪18‬‬

‫معناه بالكلية‪ ،‬فيبقى ُمشتب ًها عليه‪.‬‬


‫وأما اْلدلة التي هي ظاهرة الدَللة‪ :‬فهذه‪:‬‬
‫‪ -‬إما أن تكون ظاهرة الداللة فهي ُمحكمة‪.‬‬
‫أيضا ُمحكمة‪ ،‬ويقنع بما َب َلغه‬
‫عرف لها معنى فهي ً‬
‫‪ -‬وإما أن تكون ظاهرة أنه ال ُي َ‬
‫من النَّص فهو بحقه ُمح َكم‪ ،‬ليس بِ ُمشتبه‪ ،‬فيؤمن به و ُي َس ّلم له‪ ،‬وال يتكلف عن البحث‬
‫يف معناه‪.‬‬
‫لصادِ ِق َا ْل َم ْصدُ ِ‬
‫وق)‪ :‬هذا حديث‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْليم ُ ِ‬
‫ان بِه َوالت َّْسل ُ‬
‫يم َل ُه‪ ،‬م ْث ُل‪َ :‬حديث َا َّ‬
‫ِ‬
‫قال‪َ ( :‬ف َع َل ْيه َا ْ ِ َ‬
‫عبد اهلل بن مسعود يف ال َقدَ ر‪ ،‬أنه قال‪َ :‬حدّ ثني الصادق المصدوق –يقصد النبي ﷺ‪:-‬‬
‫«إِ ّن َأحدكم ُي ْج َمع َخ ْلقه فِي َب ْطن ُأ ّمه َأ ْربعين َي ْو ًما ُن ْطفة» إلى آخر الحديث؛ َ‬
‫فذكَر‬
‫ور ْزقه‪ ،‬وشقي أو سعيد‪.‬‬ ‫ال َقدَ ر‪ ،‬و َذكَر أنه ُيكتَب َأ َجله ِ‬

‫الر ُجل َي ْع َمل بِ َع َمل َأ ْه ِل ا ْل َجنَّة َحتَّى ََل َي ْب َقى َب ْينَه و َب ْينَها ذِ َراع َأ ْو ِش ْبر‬
‫ثم َذكَر « َأ َّن َّ‬
‫َف َي ْسبِق َع َل ْيه ال َقدَ ر َف َيدْ ُخل النَّار» فهذا الحديث قد يخفى على بعض الناس‪ ،‬وقد ال‬
‫يفهم معناه‪ ،‬وإن كان هو ظاهر ألهل العلم‪.‬‬
‫وكتابة المقادير عندما يكون الجنين يف الرحم‪ :‬هذا ال ُينايف العدل؛ فإن اهلل َكت َ‬
‫َب‬
‫بنا ًء على ِع ْلمه؛ فإن اهلل يستوي عنده ِع ْلم الغيب والشهادة‪.‬‬
‫‪19‬‬ ‫؟؟؟‬

‫وإنما ُيشكِل هذا على بعض الناس الذي يظن أو يتوهم أن اهلل ال يعلم األشياء‬
‫قبل وقوعها؛ فاهلل َعلِم هذه النطفة عندما كانت يف الرحم متى ُتولد‪ ،‬ومتى يبلغ‪ ،‬وبأي‬
‫عم ٍل يعمل‪َ ،‬ف َكتب أنه شقي أو سعيد بنا ًء على ِع ْلم اهلل السابق‪.‬‬
‫واهلل يستوي عنده ِع ْلم الغيب والشهادة‪ ،‬وليس يف حق اهلل غيب‪ ،‬يستوي عنده‬
‫الغيب والشهادة‪ ،‬الغيب الزماين والمكاين‪ ،‬ما غاب من الزمان وما غاب عن الناس يف‬
‫األمكنة‪.‬‬
‫وأما الناس‪ :‬فتحول األمكنة‪ ،‬وبعض األمكنة تغيب عنهم‪.‬‬
‫وكذلك الغيب الزماين يف المستقبل ال يعرفونه‪.‬‬
‫وأما اهلل عز وجل فهو يعلم الغيب والشهادة‪ ،‬وال يخفى عليه شيء‪ ،‬وبنا ًء على‬
‫هذا َكتَب‪.‬‬
‫وأما العباد‪ :‬فإن اهلل َج َعل لهم االختيار يف أن يعملوا بعمل أهل الخير وبعمل‬
‫الطاعة‪ ،‬أو يعملوا بعمل المعصية‪ ،‬وأعطاهم ال ُقدرة على هذا وهذا‪ ،‬كما قال النبي‬
‫ﷺ‪« :‬ا ْع َملوا َفك ٌُّل ُم َي َّسر لِ َما ُخ ِلق َله»‪.‬‬
‫فهذا يجب اإليمان به والتسليم له‪ ،‬كما يجب اإليمان والتسليم لغيره من‬
‫األحاديث التي هي يف معناه‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪20‬‬

‫يث َا ُّلرؤْ َي ِة ُك ِّل َها)‪ :‬أحاديث رؤية اهلل عز وجل؛ وهو ما أخرب هبا النبي‬
‫(و ِم ْث ُل‪َ :‬أحادِ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫‪20‬‬

‫ﷺ يف األحاديث المتواترة‪ ،‬التي َذكَر اإلمام ابن القيم أنه رواها عن النبي ﷺ أكثر من‬
‫ثالثين صحاب ًّيا‪ ،‬وهي متواترة بمعناها‪.‬‬
‫وأخرب النبي ﷺ –كما يف حديث أبي هريرة‪ -‬قال‪« :‬إِ َّنكُم ت ََرون َربَّكُم ك ََما ت ََرون‬
‫ال َق َمر َل ْي َلة ا ْل َبدْ ر»‪ ،‬وكذلك حديث جرير بن عبد اهلل‪.‬‬
‫ف َب ّين النبي ﷺ أن الناس وأن أهل الجنة يرون اهلل عز وجل رؤية حقيقية كما يرون‬
‫القمر؛ وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية‪ ،‬وليس تشبي ٌه للمرئي بالمرئي‪.‬‬
‫فإ ًذا الرؤية صحيحة وثابتة وال تشكل‬
‫قال‪َ ( :‬وإِ ْن ن ََأ ْت َع ْن اَ ْْلَ ْس َما ِع) يعني وإن ارتفعت و َع َلت‪ ،‬يعني ( َن َبت) من النبوة‬
‫واالرتفاع‪.‬‬
‫ومنه‪( :‬النَّ ْبوة)‪ :‬وهي المكان المرتفع‪.‬‬
‫والنبوة مأخوذة من الشرف واالرتفاع يف المنزلة‪.‬‬
‫الح َكم‪ ،‬وكذلك بما جاءت به من األلفاظ التي هي غاية‬‫وإن َع َلت بما جاء به من ِ‬

‫وض ُعفت األسماء عن َف ْهمها وعن إدراكها؛ وهذا‬


‫يف البالغة وإن علت عن األسماع َ‬
‫السنة أهنا على الكمال يف معانيها وألفاظها‪.‬‬
‫مما يدل على أن ُّ‬
‫وأن الناس ب َفهمهم على النَّقص والضعف‪.‬‬
‫‪21‬‬ ‫؟؟؟‬

‫ومن هنا تعبير اإلمام أحمد من أدق التعبيرات‪ ،‬ولم َي ُقل‪( :‬إهنا تخفى على‬
‫األسماع)‪ ،‬وإنما قال‪َ ( :‬ن َأت) يعني َع َلت وارتفعت عن أفهام الناس‪.‬‬
‫ومن َع َال َفهمه وكذلك َع ُظم فِ ْقهه ِ‬
‫وع ْلمه‪ :‬فإنه يرتفع إلى أن يثبت هذه النصوص‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ‬
‫وأما َم ْن استشكل فالضعف فيه والنَّقص فيه والتقصير فيه‪.‬‬
‫السنة يتّهمون عقولهم وال يتّهمون النصوص‪.‬‬
‫ومن هنا فأهل ُّ‬
‫وأهل البدع ُي َزكّون أنفسهم ويتّهمون النصوص ويتّهمون السلف! فجمعوا بين‬
‫الجهل يف الدين والكذب على اهلل ورسوله عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫است َْو َح َش ِمن َْها َا ْل ُم ْست َِم ُع)‪ :‬يعني يجد المستمع منها َوحشة؛ وهذا بسبب‬
‫قال‪َ ( :‬و ْ‬
‫َض ْعفه وتقصيره‪ ،‬أو بسبب ُّ‬
‫الش َبه‪ ،‬أو بسبب الذنوب التي تحول بين معرفة الحق‪.‬‬
‫وحشة‪ ،‬وإنما يستوحش منها أهل الباطل وأهل‬ ‫وأما النصوص‪ :‬فإهنا ليست م ِ‬
‫ُ‬
‫الجهل وأهل الظلم‪.‬‬
‫ور َزقه اهلل الفهم‪ :‬فإنه يستضيء هبا‪ ،‬وال يجد منها‬ ‫وأما َم ْن استنار بنور اإليمان َ‬
‫والهدى‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ب لها‪ ،‬ويعلم أهنا ُمشتملة على الخير ُ‬ ‫َو ْحشة‪ ،‬وهو ُمح ٌّ‬
‫ان بِ َها‪َ ،‬و َأ ْن ََل َي ُر َّد ِمن َْها) ُجز ًءا أو ( َح ْر ًفا)‪ :‬أي ال َي ُر ّد شيئًا‬
‫يم ُ‬ ‫قال‪َ ( :‬وإِن ََّما َع َل ْي ِه اَ ْ ِ‬
‫ْل َ‬
‫من هذه النصوص‪ ،‬وإنما يؤمن بما َب َلغه و َع َرفه و َف ِهمه‪ ،‬و ُي َصدِّ ق به‪.‬‬
‫ِ‬
‫وما َخفي عليه فيؤمن به إيمانًا ُم َ‬
‫جم ًال‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪22‬‬

‫ات عن َال ِّث َق ِ‬


‫ات)‪ :‬يعني ما َث َبت عن الثقات‬ ‫يث َالْم ْأ ُثور ِ‬
‫قال‪( :‬و َغيرها ِمن اَ ْْلَحادِ ِ‬
‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ َ ْ‬
‫‪22‬‬
‫َ َ‬
‫العدول بِنَقل العدول عن أمثالهم إلى النبي ﷺ فإن هذا حق‪.‬‬

‫وأما ما لم يثبت بِنَ ْقل العدول مما ليس من ُّ‬


‫السنة‪ ،‬وال يثبت َر ْفعه للنبي ﷺ‪ :‬فهذا‬
‫السنة‪.‬‬
‫ليس ُحجة يف ُّ‬
‫الحجة‪ :‬هو ما َث َبت عن النبي ﷺ بِنَ ْقل العدول‪.‬‬
‫وإنما ُ‬
‫***المتن***‬

‫قال المصنف ‪:$‬‬


‫اص َم َأ َحدً ا َو ََل ُينَاظِ َر ُه‪َ ،‬و ََل َي َت َع َّل َم َا ْل ِ‬
‫جدَ َال‪.‬‬ ‫و َأ ْن ََل يخَ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫الرؤْ ي ِة َوا ْل ُق ْر ِ‬ ‫ِ‬
‫لسن َِن َمك ُْرو ٌه َو َمن ِْه ٌّي َعنْ ُه‪ََ ،‬ل‬‫آن َو َغ ْيرِ َها م ْن َا ُّ‬ ‫َفإِ َّن َا ْلك ََّل َم في َا ْل َقدَ ِر َو ُّ َ‬
‫لسنَّ ِة َحتَّى َيدَ َع َا ْل ِ‬
‫جدَ َال َو ُي َس ِّل َم‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫اب بِك ََّلمه َال ُّسنَّ َة‪ -‬م ْن َأ ْه ِل َا ُّ‬
‫ِ‬
‫ُون َصاح ُب ُه ‪َ -‬وإِ ْن َأ َص َ‬ ‫َيك ُ‬
‫َو ُي ْؤ ِم َن بِ ْاْل َث ِ‬
‫ار‪.‬‬
‫***الشرح***‬

‫خصوصا يف هذه المسائل؛ قال‪:‬‬


‫ً‬ ‫والجدَ ل‬
‫َ‬ ‫هذا كما تقدم‪ ،‬النَّهي عن الخصومة‬
‫الرؤْ ي ِة َوا ْل ُق ْر ِ‬ ‫ِ‬
‫آن)‪:‬‬ ‫( َا ْلك ََّل َم في َا ْل َقدَ ِر َو ُّ َ‬
‫والجدَ ل ال ُت ِ‬
‫ورث إال الشك‪.‬‬ ‫‪ -‬الكالم يف القدر وكثرة الخصومة َ‬
‫‪23‬‬ ‫؟؟؟‬

‫‪ -‬وكذلك الكالم يف الرؤية (يف رؤية اهلل عز وجل) والبحث عن الكيفية‪ ،‬وكيف‬
‫تكون الرؤية‪ ،‬وكيف تحصل هذه الرؤية؛ فإن البحث عن هذا ال ُي ِ‬
‫ورث إال الشك‪.‬‬
‫وأما األدلة التي دلت على الرؤية ومعرفة معانيها واإليمان هبا‪ ،‬وكذلك التصنيف‬
‫السنة‪.‬‬
‫وج ْمعها والتحديث هبا‪ :‬فهذا من ُّ‬
‫فيها َ‬
‫‪َ ( -‬وا ْل ُق ْر ِ‬
‫آن)‪ :‬يعني الخوض يف القرآن‪ :‬إما بالخوض يف اآليات وفيما اشتمل عليه‬
‫كتاب اهلل عز وجل من المعاين‪ ،‬الخوض بالجهل‪ ،‬وأن ُي َف ِّسر الرجل القرآن بعقله‬
‫الجهمية يف القرآن‪،‬‬
‫وهبواه‪ ،‬وإما الخوض يف مسألة القرآن‪ ،‬وهو الخوض فيما أحدثه َ‬
‫وأنه مخلوق أو غير مخلوق؛ فإن الكالم يف هذا ليس مما ُع ِرف عن السلف‪.‬‬

‫بخ ْلق القرآن َر ّد عليهم أهل ُّ‬


‫السنة‪.‬‬ ‫و َل ّما أحدث الجهمية القول َ‬
‫السنة‪ ،‬و َم ْن خاض َخ ْوض أهل الباطل‬
‫فم ْن َر ّد على أهل الباطل قولهم فهو على ُّ‬
‫َ‬
‫وز َعم أن القرآن بحروفه أو بمعانيه أو بألفاظه أنه ليس من كالم اهلل عز وجل‪ :‬فهذا هو‬
‫َ‬
‫السنة يف هذا الباب‪.‬‬
‫من أهل البدع الذين انحرفوا عن ُّ‬
‫والخوض يف هذه األمور ( َمك ُْرو ٌه) والمكروه هنا يقصد‪ :‬أنه ُم َح َّرم‪ ،‬وليس‬
‫وح ِّرم‬ ‫المقصود أنه مكروه مما ال يبلغ درجة التحريم؛ فإن مما ك َِرهه أهل ُّ‬
‫السنة ُ‬
‫عليهم‪ ،‬وهو ُمخالف لطريقتهم‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪24‬‬

‫لسن َِّة)‪ :‬هذه‬ ‫ِ‬


‫لسنَّ َة‪ -‬م ْن َأ ْه ِل َا ُّ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ُون َصاح ُب ُه ‪َ -‬وإِ ْن َأ َص َ‬
‫اب بِك ََّلمه َا ُّ‬ ‫ثم قال‪ََ ( :‬ل َيك ُ‬ ‫‪24‬‬

‫مسألة ذكرها العلماء‪ ،‬قالوا‪َ :‬أ ّن َم ْن َف ّسر القرآن بعقله وهبواه فإنه ُمخطئ وإن أصاب؛‬
‫ألنه لم َيسلك الطريق يف التفسير‪.‬‬
‫السنة‪ ،‬وأن يرجع إلى اآليات‪ً ،‬‬
‫أوال‪ :‬إلى كالم اهلل‬ ‫وإنما الطريق‪ :‬هو أن يرجع إلى ُّ‬
‫الذي ُي َف ّسر بعضه ً‬
‫بعضا‪ ،‬وإلى ُسنّة النبي ﷺ‪ ،‬وإلى أقوال السلف‪.‬‬
‫وأما َم ْن َت َخ َّرص‪ ،‬و َف ّسر القرآن بعقله وهبواه وبرأيه‪ :‬فإن هذا ُمخطئ وإن أصاب؛‬
‫ألن إصابته جاءت عن َت َخ ّرص وليست عن ِع ْلم وعن يقين‪.‬‬
‫ومن هنا كان السلف كانوا يحرصون يف تفسير كتاب اهلل عز وجل أن ال ي ِ‬
‫حدثوا‬ ‫ُ‬
‫قوال وال ُي َف ّسروا آية إال بما ُأثِر عن السلف أو بما َد ّلت اللغة عليه داللة ظاهرة و َب ّينة‪.‬‬
‫ً‬
‫***المتن***‬

‫قال المصنف ‪:$‬‬


‫وق‪َ ،‬فإِ َّن ك ََّل َم‬ ‫ول‪َ :‬ل ْي َس بِ َمخْ ُل ٍ‬ ‫ف َأ ْن َي ُق َ‬ ‫وق َو ََل َي ْض ُع ُ‬‫آن ك ََّل ُم َاهَّللِ َو َل ْي َس بِ َمخْ ُل ٍ‬‫َوا ْل ُق ْر ُ‬
‫ث فِ ِيه‪َ ،‬و َم ْن َق َال‬ ‫اك َو ُمنَا َظ َر َة َم ْن َأ ْحدَ َ‬ ‫وق‪َ ،‬وإِ َّي َ‬‫َاهَّللِ َل ْي َس بِ َبائِ ٍن ِم ْن ُه‪َ ،‬و َل ْي َس ِم ْن ُه َش ْي ٌء َمخْ ُل ٌ‬
‫وق َأ ْو َل ْي َس بِ َمخْ ُل ٍ‬
‫وق‪َ ،‬وإِن ََّما ُه َو ك ََّل ُم‬ ‫ف فِ ِيه‪َ ،‬ف َق َال‪ََ :‬ل َأ ْد ِري َمخْ ُل ٌ‬ ‫ظ َو َغ ْيرِ ِه‪َ ،‬و َم ْن َو َق َ‬ ‫بِال َّل ْف ِ‬

‫وق‪.‬‬ ‫وق)‪َ ،‬وإِن ََّما ُه َو ك ََّل ُم َاهَّللِ َل ْي َس بِ َمخْ ُل ٍ‬ ‫ٍ ِ‬


‫ب بِدْ َعة م ْث ُل َم ْن َق َال‪ُ :‬‬
‫(ه َو َمخْ ُل ٌ‬ ‫ِ‬
‫َاهَّلل َف َه َذا َصاح ُ‬
‫ِ‬

‫***الشرح***‬
‫‪25‬‬ ‫؟؟؟‬

‫آن ك ََّل ُم َاهَّلل ِ َو َل ْي َس بِ َمخْ ُل ٍ‬


‫وق)‪ :‬وهذا هو الحق‪ ،‬وهذا الذي دلت عليه‬ ‫قال‪َ ( :‬وا ْل ُق ْر ُ‬
‫األدلة من كتاب اهلل‪ ،‬ومن ُسنّة النبي ﷺ؛ أن القرآن كالم اهلل عز وجل‪ ،‬كما قال اهلل عز‬
‫است ََج َار َك َف َأ ِج ْر ُه َحتَّى َي ْس َم َع كَّل َم اهَّللِ﴾[التوبة‪.]6:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿وإِ ْن َأ َحدٌ م َن ا ْل ُم ْشرِك َ‬
‫ين ْ‬ ‫وجل‪َ :‬‬

‫﴿حتَّى َي ْس َم َع كَّل َم اهَّللِ﴾[التوبة‪]6:‬‬ ‫فهذا ا ْل ُم ِ‬


‫شرك الذي قال اهلل عز وجل فيه‪َ :‬‬
‫خرجه عن كالم اهلل‬ ‫يسمع القرآن بتالوة النبي ﷺ وبتالوة الصحابة وتالوة التّالين ال ُت ِ‬

‫عز وجل؛ فهو كالم اهلل ا ْل ُمن ََّزل بين َد ّفتي المصحف‪ ،‬المكتوب والمحفوظ يف‬
‫الصدور‪ ،‬والمقروء معانيه وألفاظه وحروفه كلها من كالم اهلل‪ ،‬وليس يف هذا شيء‬
‫مخلوق‪.‬‬

‫وأما ما ُيكتَب عليه المصحف من األوراق وما ُيكتَب به من ا ْل ِمداد والحرب‪ ،‬وما‬
‫ُي َس ّجل عليه من األشرطة‪ :‬فهذه اآلالت وهذه المادة مخلوقة‪ ،‬والمكتوب عليها فإنه‬
‫ليس بمخلوق‪.‬‬

‫الح ّفاظ مخلوقة‪ ،‬وما اشتملت عليه الصدور من المعاين واآليات‬


‫وصدور ُ‬
‫واأللفاظ التي تكون يف الصدور ثم تخرج لأللسنة‪ :‬فهذا كالم اهلل عز وجل‪.‬‬

‫وحركة اللسان والشفتين مخلوقة‪ ،‬وما يخرج من الشفتين عن طريق اللسان من‬
‫هذا الكالم المسموع الذي يكون عند تالوة القارئ لكالم اهلل‪ :‬هذا ليس بمخلوق‪.‬‬

‫فالقرآن كيفما َت َص ّرف هو كالم اهلل عز وجل‪.‬‬


‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪26‬‬

‫وحركة العباد مخلوقة‪ ،‬وال تضعف أن تقول‪ :‬ليس بمخلوق؛ هذا ألن بعض‬ ‫‪26‬‬

‫أهل العلم يف بداية فتنة الجهمية كأن بعضهم َت َو ّقف وقال‪( :‬نقول‪ :‬أنه كالم اهلل عز‬
‫وجل‪ ،‬وال نقول‪ :‬أنه ليس بمخلوق)‪ ،‬فأنكر عليهم األئمة‪ ،‬وقالوا بعد أن أحدث أهل‬
‫البدع ما أحدثوا فإنه ال بد أن ُي َر ّد الباطل‪.‬‬

‫ومن هنا كان اإلمام أحمد وغيره من األئمة ما كانوا يقولون هذا‪ ،‬ما كانوا يقولون‪:‬‬
‫(القرآن ليس بمخلوق)؛ حتى أحدث الجهمية ما أحدثوا‪ ،‬فكانوا يقولون‪( :‬القرآن‬
‫كالم اهلل) ويسكتون‪.‬‬

‫السنة َ‬
‫للخ ّالل‪ :‬أنه كان ُيسأل عن القرآن فيقول‪:‬‬ ‫وقد ُسئل اإلمام أحمد كما جاء يف ُّ‬
‫(كالم اهلل ويسكت)‪ ،‬ثم بعد ذلك أنكر على َم ْن َس َكت‪ ،‬فقال‪ُ :‬كنّا نرضى هبذا قبل أن‬
‫ُي ِ‬
‫ظهر هؤالء ما أظهروا‪.‬‬
‫ِ‬
‫نكتف من الناس هبذا‪ ،‬بل‬ ‫بخ ْلق القرآن) لم‬
‫فلما أظهروا هذا القول (يعني القول َ‬
‫ّ‬
‫ال بد أن يقال‪( :‬القرآن كالم اهلل ليس بمخلوق)‪.‬‬

‫قال‪َ ( :‬فإِ َّن ك ََّل َم َاهَّللِ َل ْي َس بِ َبائِ ٍن ِمنْ ُه‪َ ،‬و َل ْي َس ِمنْ ُه َش ْي ٌء َمخْ ُل ٌ‬
‫وق) يعني كل ما يف القرآن‬
‫هو من كالم اهلل عز وجل‪.‬‬

‫ظ َو َغ ْيرِ ِه)‪ :‬يعني مناظرة أهل‬


‫ث فِ ِيه‪ ،‬ومن َق َال) فيه (بِال َّل ْف ِ‬
‫ََ ْ‬ ‫اك َو ُمنَا َظ َر َة َم ْن َأ ْحدَ َ‬
‫( َوإِ َّي َ‬
‫البدع؛ الذين قالوا‪( :‬إنه مخلوق)‪.‬‬
‫‪27‬‬ ‫؟؟؟‬

‫ث فِ ِيه) (بِال َّل ْف ِ‬


‫ظ)‪ :‬هذه مسألة اللفظ وهي مسألة أحدثها الجهمية‬ ‫( َم ْن َأ ْحدَ َ‬
‫السنة‪ ،‬فقالوا‪( :‬لفظنا بالقرآن هل هو مخلوق أو غير‬
‫والمعتزلة يف مناظرة أهل ُّ‬
‫مخلوق؟)‪.‬‬

‫َفتَن ّبه األئمة –كاإلمام أحمد وغيره‪ -‬إلى هذه المسألة؛ وهو أن اللفظ يشتمل على‬
‫الفعل من ( َل َفظ يلفظ لف ًظا)‪ ،‬ويشتمل على الملفوظ‪.‬‬

‫فالفعل الذي هو ( َل َف َظ يلفظ) عندما يقرأ القارئ كالم اهلل عز وجل فالفعل فِ ْعل‬
‫العبد وهو مخلوق‪ ،‬والملفوظ ليس بمخلوق‪.‬‬

‫فلما كان اللفظ ُيط َلق أحيانًا على الفعل وعلى المفعول َمنَع األئمة أن ُتط َلق هذه‬
‫ّ‬
‫العبارة بالنفي أو اإلثبات‪ ،‬فيقال‪( :‬لفظي بالقرآن مخلوق)‪ ،‬أو يقال‪( :‬لفظي غير‬
‫مخلوق)‪.‬‬

‫بل قال اإلمام أحمد‪َ ( :‬م ْن قال‪ :‬لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي‪ ،‬و َم ْن قال‪:‬‬
‫لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع)؛ فال ُتط َلق هذه الكلمة‪.‬‬

‫وهذا مما يدل على ّ‬


‫أن ما يلقيه أهل البدع من األسئلة ليس بالضرورة أن تكون‬
‫اإلجابة فيه بالنفي أو اإلثبات‪ ،‬بل ُي َف َّصل فيه‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪28‬‬

‫مثل‪ :‬المسألة التي أحدثها بعض المتأخرين‪ :‬هل العمل شرط صحة أو شرط‬ ‫‪28‬‬

‫كمال لإليمان؟‬

‫فنحن ال نلتزم هذه وال هذه‪ ،‬ال نقول‪ :‬أنه شرط صحة‪ ،‬وال نقول‪ :‬أنه شرط كمال؛‬
‫ألن من األعمال ما هي شرط صحة‪ ،‬ومنها ما هو شرط كمال؛ فإذا أطلقنا هذا أو هذا‬
‫أخطأنا‪ ،‬فنقول‪ :‬العمل من اإليمان‪.‬‬

‫ومن ُش َعب اْليمان‪:‬‬

‫‪ -‬ما هو َش ْرط صحة‪.‬‬

‫‪ -‬ومنها‪ :‬ما هو شرط كمال‪.‬‬

‫أما نقول‪( :‬العمل) ونُطلِق‪ ،‬ونقول‪( :‬شرط صحة أو شرط كمال) فإن هذا خطأ؛‬
‫السنة يف األلفاظ ا ْل ُمجملة التي تحتمل ح ًّقا‬
‫ينبغي أن ُي َف َّصل فيه‪ ،‬وهذا هو منهج أهل ُّ‬
‫وباطال ُي َف َّصل فيها‪.‬‬
‫ً‬

‫وق) هذا يرجع إلى‬ ‫ف فِ ِيه‪َ ،‬ف َق َال‪ََ :‬ل َأ ْد ِري َمخْ ُل ٌ‬
‫وق َأ ْو لَ ْي َس بِ َمخْ ُل ٍ‬ ‫قال‪َ ( :‬و َم ْن َو َق َ‬
‫(القرآن)‪ ،‬وليس إلى (اللفظ)؛ ألن (اللفظ) هذه هي اإلجابة الصحيحة‪.‬‬

‫فـ (اللفظ) ال يقال‪ :‬مخلوق وال غير مخلوق‪.‬‬


‫‪29‬‬ ‫؟؟؟‬

‫وأما القرآن‪َ :‬م ْن توقف فيه وقال‪( :‬ال أدري مخلوق أو غير مخلوق) فهو صاحب‬
‫شاك‪ ،‬وهذا مذهب أهل ّ‬
‫الشك‬ ‫ّ‬ ‫فم ْن َتو ّقف فيه فهو‬ ‫ِ‬
‫بدعة‪ ،‬يعني ُموافق للجهمية‪َ ،‬‬
‫والتوقف؛ الذين َبدّ عهم األئمة كاإلمام أحمد وغيره وألحقوهم بالجهمية‪ ،‬ولم يقبلوا‬
‫منهم هذا الشك‪.‬‬

‫وألن اإليمان ال يحصل إال باليقين‪ ،‬وهو أن يتيقن المسلم الحق ويعتقده ويؤمن‬
‫به‪.‬‬

‫وأما َم ْن َش ّك‪ :‬فهذا لم يتحقق له اإليمان‪ ،‬ولهذا ال ُتق َبل الشهادتان وال شيء من‬
‫ُش َعب اإليمان بالشك‪ ،‬بل ال بد من اليقين الذي يرتفع به كل شك؛ وهو أن يتيقن‬
‫ِصدْ ق هذه المراتب‪ِ ،‬‬
‫وصدْ ق هذه األركان من أركان اإليمان وغيره‪.‬‬
‫قال‪َ ( :‬وإِن ََّما ُه َو ك ََّل ُم َاهَّللِ َل ْي َس بِ َمخْ ُل ٍ‬
‫وق)‪ :‬نعم‪ ،‬هو كالم اهلل عز وجل كيفما‬
‫َت َص ّرف‪.‬‬
‫ان بِالرؤْ ي ِة يوم َا ْل ِقيام ِة كَما ر ِوي عن َالنَّبِي ﷺ ِمن َا ْْلَحادِ ِ‬
‫يث‬ ‫قال‪َ ( :‬و ْ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ِّ‬ ‫َ ُ َ َ ْ‬ ‫يم ُ ُّ َ َ ْ َ َ َ‬ ‫اْل َ‬
‫َا ِّ‬
‫لص َحاحِ )‪.‬‬

‫أيضا اإليمان برؤية اهلل عز وجل ألهل الجنة كما َد ّلت على هذا األحاديث‬
‫ً‬
‫الصحيحة المتواترة‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪30‬‬

‫***المتن***‬ ‫‪30‬‬

‫قال المصنف ‪:$‬‬

‫لص َحاحِ ‪َ ،‬و َأ َّن‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َو ْ ِ‬


‫ي َع ْن َالنَّبِ ِّي ﷺ م ْن َا ْْلَ َحاديث َا ِّ‬ ‫الرؤْ َية َي ْو َم َا ْلق َي َامة ك ََما ُر ِو َ‬
‫ان بِ ُّ‬
‫يم ُ‬
‫اْل َ‬
‫يح‪َ ،‬ر َوا ُه َقتَا َدةُ‪َ ،‬ع ْن ِع ْكرِ َمةَ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫َالنَّبِي ﷺ َقدْ ر َأى ربه‪َ :‬فإِ َّنه م ْأ ُثور عن رس ِ ِ‬
‫ول اَهَّلل ﷺ‪َ ،‬صح ٌ‬ ‫ُ َ ٌ َ ْ َ ُ‬ ‫َ َ َّ ُ‬ ‫َّ‬
‫اس‪،‬‬ ‫ان‪َ ،‬ع ْن ِع ْكرِ َمةَ‪َ ،‬ع ْن اِ ْب ِن َع َّب ٍ‬ ‫اس رضي اهَّلل تعالى عنه‪َ ،‬و َر َوا ُه َا ْل َحك َُم ْب ُن َأ َب ٍ‬ ‫َع ْن اِ ْب ِن َع َّب ٍ‬

‫اهرِ ِه‬
‫يث ِعنْدَ َنا ع َلى َظ ِ‬
‫َ‬ ‫اس‪َ ،‬وا ْل َح ِد ُ‬
‫ان‪َ ،‬ع ْن اِ ْب ِن َعبَّ ٍ‬
‫ف ْب ِن ِم ْه َر َ‬
‫وس َ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫َو َر َوا ُه َعل ُّي ْب ُن ز َْيد‪َ ،‬ع ْن ُي ُ‬
‫اهرِ ِه‪َ ،‬و ََل‬
‫كَما جاء عن َالنَّبِي ﷺ‪ ،‬وا ْلك ََّلم فِ ِيه بِدْ عةٌ‪ ،‬و َلكِن ن ُْؤ ِمن بِ ِه كَما جاء ع َلى َظ ِ‬
‫َ َ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫َ َ َ َ ْ‬
‫ُننَاظِ ُر فِ ِيه َأ َحدً ا‪.‬‬

‫***الشرح***‬

‫الكالم يف الرؤية له فروع كثيرة‪ ،‬وال يسع الوقت التفصيل فيها‪.‬‬

‫والرؤية‪:‬‬

‫‪ -‬رؤية اهلل عز وجل يف الجنة ألهل الجنة؛ وهذه حق‪.‬‬

‫‪ -‬ورؤية أهل المحشر هلل عز وجل؛ وهذه فيها خالف على ثالثة أقوال ألهل‬
‫العلم‪.‬‬
‫‪31‬‬ ‫؟؟؟‬

‫‪ -‬ورؤية اهلل عز وجل يف الدنيا؛ وهذه لم تحصل ألحد ‪-‬على الصحيح‪ -‬للنبي‬
‫ﷺ‪ ،‬ولغيره من األنبياء‪ ،‬وأما غير األنبياء‪ :‬فإنه لم َي ُقل أحد من أهل العلم أهنم رأوا اهلل‬
‫عز وجل‪.‬‬

‫وأما الرؤية القلبية‪ :‬فإهنا ثابت كما دلت على هذا األحاديث‪ ،‬وكذلك الرؤية‬
‫المنامية‪.‬‬

‫الرؤْ َي ِة َي ْو َم َا ْل ِق َي َام ِة) أي ألهل الجنة أهنم يرون اهلل كما أخرب هبذا‬
‫ان بِ ُّ‬
‫يم ُ‬ ‫وقوله‪َ ( :‬و ْ ِ‬
‫اْل َ‬
‫النبي ﷺ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫قال‪( :‬و َأن َالنَّبِي ﷺ َقدْ ر َأى ربه‪َ ،‬فإِ َّنه م ْأ ُثور عن رس ِ ِ‬
‫ول َاهَّلل ﷺ‪َ ،‬صح ٌ‬
‫يح)‪.‬‬ ‫َ َ َّ ُ ُ َ ٌ َ ْ َ ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ َّ‬

‫السنة واختلفوا فيها‪ ،‬و ُأثِر عن‬


‫وهذه المسألة هي التي حصل فيها النزاع بين أهل ُّ‬
‫بعض السلف كابن عباس‪ ،‬وكذلك ُينقل عن اإلمام أحمد أن النبي ﷺ رأى ربه ليلة‬
‫المعراج‪.‬‬

‫السنة‪ ،‬وهو قول عائشة‪ ،‬وكثير من أصحاب‬


‫والمعروف المشهور من قول أهل ُّ‬
‫النبي ﷺ أن النبي ﷺ لم ير ربه‪ ،‬وهذا هو الحق الذي ال شك فيه‪ ،‬والذي دلت عليه‬
‫وص ّرح به النبي ﷺ عندما ُسئل كما جاء يف الحديث يف صحيح مسلم‪ :‬هل‬
‫األدلة‪َ ،‬‬
‫رأيت ربك؟ فقال‪« :‬ن ُْو ٌر؛ َأ َّنى َأ َراه؟!»‪ ،‬وقال‪َ « :‬ر َأ ْي ُ‬
‫ت ن ُْو ًرا»‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪32‬‬

‫دل على أن النبي ﷺ لم ير ربه؛ وهذا هو‬ ‫َص يف موطن النزاع‪ ،‬وقد ّ‬
‫وهذا ن ٌّ‬
‫‪32‬‬

‫أن ما ن ُِقل عن ابن عباس‪ ،‬وكذلك ما‬


‫الصحيح وهو الحق‪ ،‬ولكن شيخ اإلسالم َذكَر ّ‬
‫ُين َقل عن اإلمام أحمد أنه ليس فيه أن النبي ﷺ رأى ربه بعيني رأسه‪.‬‬

‫قال‪ :‬وإنما غاية ما ُينقل عن ابن عباس‪ ،‬وكذلك ما ُينقل عن أحمد‪ :‬أهنم‬
‫المطلقة‪ ،‬وأحيانًا يذكرون الرؤية القلبية‪.‬‬
‫ُي َص ّرحون بالرؤية ُ‬

‫وأما التصريح بأنه رأى ربه بعيني رأسه‪ :‬يقول‪ :‬هذا ال يثبت عن ابن عباس‪ ،‬وال‬
‫عن اإلمام أحمد‪.‬‬

‫وكالم اإلمام أحمد هنا ُمحتمل ل ِ َما َذكره شيخ اإلسالم‪ ،‬وأن المقصود هنا‪ :‬الرؤية‬
‫القلبية‪ ،‬أو الرؤيا المنامية‪.‬‬

‫ت َر ِّبي فِي َأ ْح َس ِن‬


‫وقد َث َبت فيها الحديث كما جاء عن النبي ﷺ أنه قال‪َ « :‬ر َأ ْي ُ‬
‫ُص ْورة»؛ وهذه بعد الهجرة‪ ،‬رأى ربه رؤيا منامية‪ ،‬كما َذكَر األئمة‪.‬‬

‫وأما الرؤية بعيني رأسه‪ :‬فإنه لم تحصل للنبي ﷺ‪ ،‬كما أهنا لم تحصل لغيره‪ ،‬ولم‬
‫تحصل لموسى كما دل على هذا كتاب اهلل عز وجل‪ ،‬ولم تحصل لنبينا ﷺ كما دلت‬
‫السنة‪.‬‬
‫على هذه ُّ‬

‫فهذه المسألة من المسائل التي حصل فيها نزاع‪.‬‬


‫‪33‬‬ ‫؟؟؟‬

‫لكن استقر َأ ْمر أهل ُّ‬


‫السنة‪ ،‬واجتمعت كلمة المحققين بعد عصور السلف على أن‬
‫النبي ﷺ لم ير ربه بعيني رأسه‪.‬‬

‫***المتن***‬

‫قال المصنف ‪:$‬‬


‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ان بِالْ ِميز ِ‬ ‫َو ْ ِ‬
‫َان َي ْو َم َا ْلق َي َامة ك ََما َجا َء‪ُ ،‬يوز َُن َا ْل َعبْدُ َي ْو َم َا ْلق َي َامة َف َّل َي ِز ُن َجن َ‬
‫َاح‬ ‫يم ُ‬
‫اْل َ‬
‫اض‬ ‫ان بِ ِه‪َ ،‬والت َّْص ِد ُيق بِ ِه‪َ ،‬و ْ ِ‬
‫اْل ْع َر ُ‬ ‫يم ُ‬ ‫وض ٍة‪َ ،‬وتُوز َُن َأ ْع َم ُال َا ْل ِع َبادِ ك ََما َجا َء فِي َا ْْلَ َثرِ‪َ ،‬و ْ ِ‬
‫اْل َ‬ ‫َب ُع َ‬
‫ك‪َ ،‬وت َْر ُك ُم َجا َد َلتِ ِه‪.‬‬
‫َع َّم ْن َر َّد َذلِ َ‬

‫***الشرح***‬

‫َان)‪ :‬وهذا ما جاء يف البعث ويوم القيامة مما دلت عليه‬ ‫ان بِالْ ِميز ِ‬‫يم ُ‬ ‫( َو ْ ِ‬
‫اْل َ‬
‫ان بِا ْل ِميز ِ‬
‫َان)‪ :‬والميزان حق‪ ،‬وقد أنكره أهل البدع من المعتزلة‬ ‫يم ُ‬ ‫النصوص‪َ ( :‬و ْ ِ‬
‫اْل َ‬
‫وغيرهم‪ ،‬وزعموا أنه تمثيل‪ ،‬وليس هو ميزان حقيقي‪.‬‬

‫والصحيح‪ :‬أنه ميزان حقيقي‪ ،‬وله لسان وكفتان‪.‬‬

‫واختلف أهل العلم هل له موازين متعددة َأ ْم ميزان واحد؟‬

‫والصحيح‪ :‬أنه ميزان واحد‪.‬‬


‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪34‬‬

‫وزن فيه‪ ،‬وإال فهو ميزان واحد‪ ،‬وقد‬


‫جمع أحيانًا يف النصوص لكثرة ما ُي َ‬
‫وإنما ُي َ‬
‫‪34‬‬

‫جاء أن هذا الميزان عظيم‪ ،‬وأنه أوسع من السموات واألرض‪ ،‬و ُت َ‬


‫وزن فيه األعمال‪،‬‬
‫وزن فيه العبد‪ ،‬وعمله‪ ،‬والصحف‪.‬‬
‫ُي َ‬

‫وزن العبد‪ ،‬و ُتوزن صحائفه –كما دل‬


‫وقد دلت األدلة كلها على أن هذه ُتوزن‪ُ :‬ي َ‬
‫على هذا حديث البطاقة‪.‬‬

‫وزن العبد؛ كما دل على هذا قول النبي ﷺ يف قدم ابن مسعود أهنا تثقل ُأ ُحد‪.‬‬
‫‪ -‬و ُي َ‬

‫‪ -‬و ُتوزن السجالت؛ كما دل على هذا حديث صاحب البطاقة‪.‬‬

‫يم َل ُه ْم َي ْو َم‬ ‫ِ‬


‫‪ -‬و ُيوزن صاحب العمل؛ كما دل على هذا قول اهلل عز وجل‪َ ﴿ :‬فّل نُق ُ‬
‫ا ْل ِق َي َام ِة َو ْزنًا﴾[الكهف‪.]105:‬‬

‫فيجب اإليمان هبذا‪ :‬بالميزان‪ ،‬والوزن‪ ،‬والعدل الذي يحصل يف هذا الميزان‪ ،‬وأن‬
‫هذا الميزان دقيق وأنه يثقل ويخف بأدنى مثقال من المثاقيل المعروفة اآلن عند الناس‬
‫الذر‪ ،‬فإنه ميزان على َع َظمته فإنه دقيق‪.‬‬
‫بمثاقيل َّ‬

‫ك‪َ ،‬وت َْر ُك ُم َجا َد َلتِ ِه)‪ :‬يعني‬


‫اض َع َّم ْن َر َّد َذلِ َ‬ ‫ان بِ ِه‪َ ،‬والت َّْص ِد ُيق بِ ِه‪َ ،‬و ْ ِ‬
‫اْل ْع َر ُ‬ ‫يم ُ‬ ‫( َو ْ ِ‬
‫اْل َ‬
‫اإليمان به واجب‪ ،‬واإلعراض عن أهل الباطل الذين ُيجادلون وير ّدون ما َث َبت من‬
‫النصوص يف إثباته‪.‬‬
‫شـرح‬

‫سنة‬
‫أصول ال ُّ‬
‫لإلمام أحمد ابن حنبل‬

‫‪$‬‬

‫شرح فضيلة الشيخ الدكتور‬

‫إبراهيم الرحيلي‬

‫حفظه اهلل‬

‫‪1‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪2‬‬

‫‪2‬‬

‫المجلس الرابع‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬والصالة والسالم على نبينا محمد‪ ،‬وعلى آله وصحبه‬
‫أجمعين‪.‬‬
‫أما بعد‪:‬‬
‫هذا هو المجلس الرابع من َش ْرح وتعليق شيخنا حفظه اهلل تعالى على المتن‬

‫الثالث واألخير يف المستوى األول يف الدورة المنهجية ال َع َقدية متن [أصول ُّ‬
‫السنة]‬
‫لإلمام أحمد ابن حنبل ‪ $‬تعالى‪.‬‬
‫***المتن***‬

‫قال المصنف ‪ $‬تعالى‪:‬‬


‫ان بِ ِه َوالت َّْص ِد ُيق‬
‫يم ُ‬ ‫َو َأ َّن َاهَّللَ ُي َك ِّل ُم َا ْل ِع َبا َد َي ْو َم َا ْل ِق َي َام ِة َل ْي َس َب ْين َُه ْم َو َب ْينَ ُه ت ُْر ُج َم ٌ‬
‫ان‪َ ،‬و ْ ِ‬
‫اْل َ‬
‫بِ ِه‪.‬‬
‫***الشرح***‬
‫‪3‬‬ ‫؟؟؟‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬وصلى اهلل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله‬
‫وصحبه‪ ،‬و َم ْن اهتدى هبَدْ يه واس َت ّن ب ِ ُسنّته إلى يوم الدين‪.‬‬
‫أما بعد‪:‬‬
‫السنة والجماعة‪ ،‬وهي من‬ ‫ِ‬
‫فهذا يف سياق ذكْر بعض المسائل التي يؤمن هبا أهل ُّ‬
‫أصول العقيدة؛ التي دلت عليها النصوص الصحيحة‪.‬‬
‫و َذكَر منها‪ :‬أن اهلل تبارك وتعالى ( ُي َك ِّل ُم َا ْل ِع َبا َد َي ْو َم َا ْل ِق َي َام ِة َل ْي َس َب ْين َُه ْم َو َب ْينَ ُه‬
‫ان) وال حجاب‪.‬‬
‫ت ُْر ُج َم ٌ‬
‫وهذا كما َث َبت يف الحديث يف [الصحيحين]‪َ « :‬ما ِمنْكُم إ ِ ََّّل َس ُي َك ّلمه َر ّبه َل ْيس َب ْينه‬
‫اب َي ْحجبه»‪.‬‬ ‫ِ‬
‫و َب ْينه ت ُْرجمان‪َ ،‬وَّل ح َج ٌ‬
‫ويف هذا إثبات صفة الكالم هلل عز وجل‪ ،‬وأن اهلل تعالى يتكلم بكال ٍم ُي َ‬
‫سمع؛ وهذا‬
‫فيه َر ّد على األشاعرة الذين يزعمون أن كالم اهلل هو المعنى النفسي القائم بنفس اهلل‬

‫عز وجل؛ فإن هذا يدل على أن اهلل يتكلم بكال ٍم ُي َ‬


‫سمع‪ ،‬يسمعه الناس‪ ،‬ويسمعونه‬
‫بصوت اهلل عز وجل يوم القيامة‪.‬‬
‫وأما القرآن الذي هو كالم اهَّلل‪ :‬فلم يسمعوه منه (من اهلل عز وجل)‪ ،‬وإنما سمعوه‬
‫من النبي ﷺ‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪4‬‬

‫وقد جاء يف بعض اآلثار أن اهلل عز وجل يتلو القرآن ويسمعه أهل الجنة منه‪،‬‬ ‫‪4‬‬

‫فيسمعونه من اهلل عز وجل بصوت اهلل عز وجل‪.‬‬


‫هذه المسألة وأن اهلل عز وجل ُي َك ّلم العباد يوم القيامة‪ :‬يدل على أن اهلل يتكلم‬

‫بكال ٍم حقيقي ُي َ‬
‫سمع‪.‬‬
‫سمع‪.‬‬
‫والكالم ال يكون إال بلفظ ومعنى‪ ،‬ال يكون إال بمعنى ولفظ ُي َ‬
‫وكالم اهلل عز وجل حقيقي‪ ،‬ليس هو حقيقة يف المعنى فقط دون اللفظ‪ ،‬وليس هو‬
‫يف اللفظ دون المعنى‪.‬‬
‫وهذا هو المعروف من الكالم إذا ما ُأطلق أنه يشمل اللفظ والمعنى‪.‬‬
‫فالكالم إذا ما ُأطلق يف كالم اهلل عز وجل‪ ،‬يف كالم المخلوقين‪ :‬فإن الكالم يكون‬
‫ٍ‬
‫بلفظ ومعنى‪.‬‬
‫والكالم ال يكون كال ًما حتى يخرج‪ ،‬و ُيسمع من المتكلم‪.‬‬
‫وأما المعنى النفسي‪ :‬فهو ليس بكالم على اإلطالق‪.‬‬
‫وإن كان ُيط َلق على المعنى النفسي أنه كالم عند التقييد‪ ،‬كما يقول القائل‪:‬‬
‫تكلمت يف نفسي و ُقلت يف نفسي‪ ،‬لك ّن هذا كال ًما ُم َقيّدً ا‪.‬‬
‫ُ‬
‫وهذا يدل على أن اهلل عز وجل ُي َك ّلم الناس يوم القيامة‪ ،‬وأن هذا الكالم يكون من‬
‫اهلل مباشرة بدون واسطة‪.‬‬
‫‪5‬‬ ‫؟؟؟‬

‫وأما يف الدنيا‪ :‬فإن اهلل عز وجل َك ّلم بعض َخ ْلقه كما َك ّلم موسى‪ ،‬و َك ّلم نب ّينا ﷺ‪،‬‬
‫و َك ّلم آدم‪ ،‬وهذا نوع من أنواع الوحي؛ أن اهلل ُي َك ّلم َم ْن شاء من َخ ْلقه كال ًما بدون‬
‫واسطة‪ ،‬كما َك ّلم موسى‪ ،‬و َك ّلم نبينا ﷺ‪.‬‬
‫الم َكلمين ومن فضائلهم‪.‬‬
‫وهذه من مناقب هؤالء ُ‬
‫وعامة الوحي الذي َب ّلغه اهلل عز وجل وأوحى به إلى الرسل كان عن طريق‬
‫ك‬‫جربيل‪ ،‬عن طريق ا ْل َم َلك‪ ،‬ومنهم‪َ :‬م ْن َك ّلم اهلل عز وجل كما قال اهلل عز وجل‪﴿ :‬تِ ْل َ‬
‫ض ِمن ُْه ْم َم ْن َك َّل َم اهَّللُ﴾[البقرة‪ ،]253:‬ومنهم‪ :‬موسى؛‬
‫الر ُس ُل َف َّض ْلنَا َب ْع َض ُه ْم َع َلى َب ْع ٍ‬
‫ُّ‬
‫الذي َك ّلمه اهلل عز وجل بكال ٍم مباشرة‪ ،‬دون واسطة‪.‬‬

‫وهذا الكالم الذي يحصل يوم القيامة بدون واسطة‪ُ ،‬ي َك ّلمهم اهلل عز وجل بدون‬
‫ُترجمان‪ ،‬ليس هناك ُترجمان؛ ألن اهلل عز وجل يعلم اللغات‪ ،‬و َت َك ّلم باللغات؛ أنزل‬
‫التوراة بالعربانية‪ ،‬واإلنجيل بالسريانية‪ ،‬والقرآن بالعربية‪.‬‬

‫الخ ْلق‪ ،‬ما من ِع ْلم إال وهو من اهلل؛ هو الذي َع ّلمهم األلسنة‪،‬‬
‫وهو الذي َع ّلم َ‬
‫و َع ّلمهم اللغات‪ ،‬و ُيخاطبهم بما يعرفون‪ ،‬و ُيجيبهم ويستجيب لهم؛ وهذا من َع َظمة‬
‫الخالق؛ أنه ال تختلط عليه األصوات‪ ،‬وال تخفى عليه لغة‪ ،‬وال ينشغل بأحد عن أحد؛‬
‫فالكل يدعو اهلل عز وجل من مكانه الذي هو فيه‪ ،‬واهلل عز وجل يستجيب لهم‪ ،‬يسمع‬
‫كالمهم ويستجيب لهم‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪6‬‬

‫***المتن***‬ ‫‪6‬‬

‫قال المصنف ‪ $‬تعالى‪:‬‬

‫ول اَهَّللِ ﷺ َح ْو ًضا َي ْو َم اَ ْل ِق َي َام ِة تَـرِ ُد َع َل ْي ِه ُأ َّم ُت ُه‪َ ،‬ع ْر ُض ُه‬


‫ض‪َ ،‬و َأ َّن لِرس ِ‬
‫َ ُ‬ ‫ان بِالْ َح ْو ِ‬
‫يم ُ‬ ‫َو ْ ِ‬
‫اْل َ‬
‫ت بِ ِه َا ْْلَ ْخ َب ُار ِم ْن َغ ْيرِ‬ ‫اء َع َلى َما َص َّح ْ‬ ‫ِم ْث ُل ُطولِ ِه‪ ،‬م ِسير َة َشهرٍ‪ ،‬آنِي ُته َكعدَ دِ نُجو ِم َالسم ِ‬
‫َّ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬
‫َو ْج ٍه‪.‬‬

‫***الشرح***‬

‫ول َاهَّللِ ﷺ َح ْو ًضا َي ْو َم َا ْل ِق َي َام ِة تَـرِ ُد َع َل ْي ِه ُأ َّم ُت ُه)‪ :‬وهذا‬


‫ض‪َ ،‬و َأ َّن لِرس ِ‬
‫َ ُ‬ ‫ان بِا ْل َح ْو ِ‬
‫يم ُ‬ ‫( َو ْ ِ‬
‫اْل َ‬
‫الحوض يكون بعد البعث‪.‬‬

‫وهناك خالف بين أهل العلم يف الحوض‪ :‬هل يكون بعد البعث‪ ،‬أو أنه بعد‬
‫الصراط‪ ،‬أو قبل؟‬

‫والذي يظهر من النصوص‪ :‬أنه بعد البعث؛ فإن الناس ُيبعثون َع َطاشى‪ ،‬ف َي ِردون‪،‬‬

‫َت ِرد هذه األُ ّمة حوض النبي ﷺ‪ ،‬و ُيذاد عن هذا أهل البدع وأهل ِّ‬
‫الردة الذين ارتدوا عن‬
‫دين اهلل عز وجل‪.‬‬

‫و َأ ْو َلى الناس ُو ُرو ًدا لهذا الحوض ُهم أصحاب النبي ﷺ‪ ،‬و َم ْن كان على طريقهم‬
‫السنة‪.‬‬
‫من أهل ُّ‬
‫‪7‬‬ ‫؟؟؟‬

‫هنر يكون يف أرض المحشر‪ ،‬وهو غير الكوثر؛ فإن الكوثر يف‬
‫وهذا الحوض هو ٌ‬
‫الجنة‪ ،‬الكوثر الذي قال اهلل عز وجل فيه‪﴿ :‬إِنَّا أَ ْع َطيْن َ‬
‫َاك ا ْلك َْو َث َر﴾[الكوثر‪ ]1:‬هذا هنر‬
‫فنهر يف أرض المحشر‪.‬‬
‫يف الجنة‪ ،‬وأما هذا‪ٌ :‬‬

‫وقيل‪ :‬إن هذا الحوض ُي َمدّ من الكوثر الذي يف الجنة؛ ومن هنا جاء إطالق‬
‫(الكوثر) على هذا الحوض يف أرض المحشر؛ ألنه ُي َمدّ من الكوثر الذي يف الجنة‪.‬‬

‫فهذا الحوض َو َر َد يف َو ْصفه يف النصوص أنه مسيرة شهر‪ ،‬وأن طوله و َع ْرضه‬
‫بياضا من اللبن‪ ،‬و َم ْن َش ِرب‬
‫سواء‪ ،‬وأن ماءه أحلى من العسل‪ ،‬وأبرد من الثلج‪ ،‬وأشد ً‬
‫منه فإنه ال يظمأ‪ ،‬وأن عليه أكواب وكيزان كعدد نجوم السماء‪ ،‬وأن هذه األُمة َت ِرد‬
‫عليه‪ ،‬ويقف النبي ﷺ على جانبيه َيسقي ُأ ّمته‪.‬‬

‫ف ُيذاد دون الحوض‪ُ ،‬يذاد بعض ا ْل ُم ّ‬


‫حرفين‪.‬‬

‫وقد جاء يف النصوص‪ :‬النبي ﷺ يقول‪ُ « :‬أ ّمتي ُأ ّمتي»‪ ،‬فيقال‪ :‬إنك ال تدري ما‬
‫أحدثوا بعدك؛ فدل على أن أهل البدع ُهم الذين ُيذادون عن هذا الحوض‪.‬‬

‫الردة؛ ل ِ َما جاء يف بعض الروايات أنه يقول‪« :‬أصحابي! أصحابي»‪.‬‬


‫وكذلك أهل ِّ‬

‫وهم يف ِع ْلمه أهنم من أصحابه‪.‬‬


‫وهؤالء الذين مات عنهم النبي ﷺ ُ‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪8‬‬

‫ثم َل ّما ارتدوا بعد موت النبي ﷺ كانوا من أهل الردة‪ ،‬وهذا ال يشمل أصحاب‬ ‫‪8‬‬

‫النبي ﷺ؛ ألن هذا ال َي ِرد فيهم‪.‬‬

‫هذا الوصف الذي يقال‪« :‬إِنَّك ََّل تَدْ ِري َما َأ ْحدَ ُثوا َب ْعدك» أصحاب النبي ﷺ ُهم‬
‫حدثوا‪ ،‬بل كانوا على َهدْ ي النبي ﷺ؛ جاهدوا يف اهلل‪،‬‬ ‫من أبعد الناس عنه؛ ألهنم لم ي ِ‬
‫ُ‬
‫فجمعوه‪ ،‬و َف ّسروه للناس‪،‬‬
‫ونشروا العلم‪ ،‬و َب ّلغوا ُسنّته‪ ،‬وقاموا على كتاب اهلل عز وجل َ‬
‫السنة أقطار المسلمين‪.‬‬ ‫ِ‬
‫و َعملوا به؛ حتى انتشر العلم و َع ّمت ُّ‬

‫وهذا كله عن طريق أصحاب النبي ﷺ؛ ألن النبي ﷺ َل ّما مات وأصحابه يف‬
‫المدينة‪ ،‬وقِ ّلة قليلة أفراد منهم الذين خرجوا ُي َع ّلمون الناس‪.‬‬

‫وما انتشر العلم و َع ّم كثير من األقطار إال بعد أن انتقل أصحاب النبي ﷺ‬
‫وخرجوا إلى األمصار ُي َع ّلمون الناس‪ ،‬وكان هؤالء سادة الناس يف العلم والعمل‪،‬‬
‫والرافضة َيتّهمون أصحاب النبي ﷺ هذه التّهمة‪ ،‬ويزعمون أهنم ُيذادون عن‬
‫الحوض‪.‬‬

‫و َأ ْو َلى الناس هبذا األمر وأن ُيذاد عن الحوض ُهم َم ْن َيتّهم أصحاب النبي ﷺ؛‬
‫السنة بتُهمة إال كانوا َأ ْو َلى هبا‪.‬‬
‫وصدَ ق فيهم قول بعض أهل العلم؛ أهنم ما ا ّتهموا أهل ُّ‬
‫َ‬

‫وهم َأ ْو َلى الناس أن ُيذادوا عن الحوض؛‬


‫فهؤالء َيتّهمون أصحاب النبي ﷺ‪ُ ،‬‬
‫وهم من أهل اإلحداث‪.‬‬
‫ألهنم من أهل البدع‪ُ ،‬‬
‫‪9‬‬ ‫؟؟؟‬

‫وأما أصحاب النبي ﷺ فلم ي ِ‬


‫حدثوا ولم ُي َبدّ لوا؛ وهذا مما تشهد به األُمة؛ فإنه ما‬ ‫ُ‬
‫من بدعة ُوجدت يف الناس اليوم و َيدّ عي صاحبها أنه قد أخذها عن صحابي‪ ،‬سوى ما‬
‫تدّ عيه الرافضة من نِسبة دينها لعلي رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫وهذا مما اشتهر عند أهل العلم‪ ،‬وعند عامة الناس؛ أن عل ًّيا رضي اهلل عنه أبعد‬
‫الناس عن دينهم وعن عقيدهتم‪.‬‬

‫عرف أنه يزعم أن بدعته َت َل ّقاها عن صحابي‪ ،‬أو أن‬


‫وأما َم ْن عداهم‪ :‬فإنه ال ُي َ‬
‫السنة‪.‬‬
‫صحابي هو الذي دعا إليها‪ ،‬بل كلهم على ُّ‬

‫عرف منهم إال أهنم دعوا‬


‫السنة ال ُي َ‬‫والنقل الصحيح الثابت عنهم‪ :‬الذي َن َقله أهل ُّ‬
‫السنة‪ ،‬وكانوا أقوم الناس لدين النبي ﷺ ِع ْل ًما و َع َم ًال‪.‬‬
‫إلى ُّ‬

‫فهذا الحوض َت ِرد عليه األُمة‪ ،‬ويشرب منه َم ْن كان على دين النبي ﷺ وعلى‬
‫َهدْ يه‪ ،‬و ُيذاد عنه بعض أهل البدع‪ ،‬و ُيذاد عنه المرتدون الذين ارتدوا عن دين النبي‬
‫ﷺ‪ ،‬وبعض أهل البدع الذين أحدثوا يف دين اهلل عز وجل‪.‬‬

‫وهذا موصوف بأنه ( َع ْر ُض ُه ِم ْث ُل ُطولِ ِه‪َ ،‬م ِس َير َة َش ْهرٍ)‪ :‬أي أنه متساوي األضالع‪،‬‬
‫وأن َع ْرضه وطوله‪ ،..‬وأنه ( َم ِس َير َة َش ْهرٍ) وهذا مما يدل على ِع َظم هذا الحوض‪ ،‬مع ما‬
‫َو َرد من َو ْصف مائه بأنه أحلى من العسل وأبيض من اللبن‪ ،‬وأنه َم ْن َش ِرب منه فإنه ال‬
‫يظمأ بعده‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪10‬‬

‫ت بِ ِه اَ ْْلَ ْخ َب ُار ِم ْن َغ ْيرِ َو ْج ٍه)‪ :‬أن آنية هذا‬ ‫و(آنِي ُته َكعدَ دِ نُجو ِم َالسم ِ‬
‫اء َع َلى َما َص َّح ْ‬ ‫َّ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ َ‬
‫‪10‬‬

‫الحوض كعدد نجوم السماء‪ ،‬وهذا مما يدل على كثرة َم ْن َي ِرد هذا الحوض؛ ألن هذه‬
‫ُأعدت للشاربين‪ ،‬وأنه َي ِرد هذا الحوض الكثير من ُأ ّمة محمد ﷺ فيشربون منه‪.‬‬

‫وهذه اآلنية هي كثيرة جدًّ ا‪ ،‬وهي ما ُأ ِعدّ ت إال لكثرة َم ْن َي ِرد هذا الحوض‪ُ ،‬‬
‫وهم‬
‫ُأ ّمة محمد ﷺ؛ الذين كانوا على دينه‪ ،‬وعلى َهدْ يه‪ ،‬الذين َسلِموا من اإلحداث يف‬
‫الدين ولم يبتدعوا‪ ،‬وإنما كانوا على َهدْ ي النبي ﷺ‪.‬‬

‫***المتن***‬

‫قال المصنف ‪ $‬تعالى‪:‬‬


‫يم ِ‬
‫ان‬ ‫ْل َ‬ ‫ور َها‪َ ،‬وت ُْس َأ ُل َع ِن َا ْ ِ‬‫اب َا ْل َق ْبرِ‪َ ،‬و َأ َّن َه ِذ ِه َا ْْلُ َّم َة تُفت َُن فِي ُق ُب ِ‬
‫ان بِ َع َذ ِ‬‫يم ُ‬ ‫َو ْ ِ‬
‫اْل َ‬
‫ف َأ َرا َد‪،‬‬ ‫ف َشا َء َاهَّللُ‪َ ،‬و َك ْي َ‬‫اْل ْس َالمِ‪َ ،‬و َم ْن َر ُّب ُه؟ َو َم ْن َنبِ ُّي ُه؟ َو َي ْأتِيه ُمنْك ٌَر َونَكِ ٌير‪َ ،‬ك ْي َ‬ ‫َو ْ ِ‬

‫ان بِ ِه َوالت َّْص ِد ُيق بِ ِه‪.‬‬


‫يم ُ‬ ‫َو ْ ِ‬
‫اْل َ‬

‫***الشرح***‬

‫هذا من اْلصول المقررة‪ ،‬ومما دلت عليه النصوص‪ :‬وهو عذاب القرب؛ واإليمان‬
‫به أصل من أصول الدين‪.‬‬
‫‪11‬‬ ‫؟؟؟‬

‫و َم ْن أنكر عذاب القرب فهو كافر‪ ،‬قد َخ َرج من الدين وكَذب النصوص‪ ،‬وقد دلت‬
‫النصوص على هذا‪ ،‬وهي متواترة يف عذاب القرب ونعيمه‪.‬‬

‫السنة يؤمنون بعذاب القرب‪ ،‬وأن هذه األُمة ُتفتن يف قبورها‪.‬‬


‫وأهل ُّ‬

‫والفتنة‪ :‬هي االمتحان؛ أي ُت َ‬


‫متحن‪.‬‬

‫وهذا االمتحان دلت األدلة عليه؛ وهو أهنم ُيسألون هذه األسئلة‪َ :‬م ْن ربك؟ وما‬
‫دينك؟ و َم ْن نب ّيك؟‬

‫وقد َو َرد أن المؤمن ُيجيب بما َعلِم وبما كان عليه يف الدنيا من اإليمان‪.‬‬

‫وأما المنافق والكافر فيقول‪ :‬ها‪ ،‬ها‪ ،‬ال أدري‪ ،‬سمعت الناس يقولون‪( :‬كذا)‬
‫فقلت‪( :‬كذا)‪.‬‬
‫وهذه اإلجابة إنما تكون بناء على العمل؛ ِ‬
‫بالعلم يف الدنيا والعمل به‪.‬‬ ‫ً‬

‫وأما َم ْن َعلِم يف الدنيا ولم يعمل ولم ُي َصدّ ق ولم يمتثل هذه األصول فإنه ال ُي َو ّفق‬
‫لإلجابة‪.‬‬

‫وهذه األسئلة تظهر للناس أهنا أسئلة سهلة و ُم َي ّسرة‪ ،‬وأن الكل يستطيع أن يجيب‬
‫عليها‪ ،‬ولكن دلت النصوص على أن بعض الناس ُي َ‬
‫خذلون‪ ،‬وال يستطيعون اإلجابة‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪12‬‬

‫وهذه األسئلة الثالث هي أسئلة عظيمة‪ ،‬وهي من أصول الدين‪ ،‬وهي معرفة‬ ‫‪12‬‬

‫العبد لربه ولدينه ولنب ّيه‪.‬‬

‫الم َجدّ د شيخ اإلسالم محمد بن عبد الوهاب‬‫ومن هذه النصوص َصنّف اإلمام ُ‬
‫رسالته العظيمة [األصول الثالثة]؛ وهذا يدل على فِقهه؛ فإن الناس إذا َعلِموا هذه‬
‫األصول وعرفوها وعرفوا األدلة عليها ُيرجى لهم إن شاء اهلل أن ُي َو ّفقوا لإلجابة عليها‬
‫يف القرب‪.‬‬

‫وهي أصول عظيمة؛ معرفة العبد لربه‪ ،‬ولدينه‪ ،‬ولنَبِ ّيه‪.‬‬


‫فإذا َعرف ربه َعرف أنه هو الم ِ‬
‫ستح ّق للعبادة‪ ،‬وإذا َع َرف نب ّيه َع َرف أنه هو‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ا ْل ُمستحق للمتابعة‪ ،‬وأنه ال دين إال ما َش َرع النبي ﷺ‪.‬‬

‫وإذا َع َرف دينه َسلِم من البدع‪َ ،‬ع َرف اإلسالم و َع ِمل به‪.‬‬

‫فهذه األسئلة ُيسأل عنها الناس‪.‬‬

‫ثم اختلف العلماء‪ :‬هل هذه األسئلة تكون لكل األُمة من ُأ ّمة الدعوة واإلجابة؛‬
‫فيدخل يف هذا اليهود والنصارى و َم ْن كان بعد بعثة النبي ﷺ‪ ،‬أو أهنا خاصة ُبأ ّمة‬
‫اإلجابة؟‬
‫‪13‬‬ ‫؟؟؟‬

‫ومنهم َم ْن َو ّجه هذا بأن هذا السؤال يكون ل ِ َم ْن َيدّ عي اإليمان؛ فكل َم ْن ا ّدعى‬
‫متحن‪.‬‬
‫كافرا فإنه ال ُي َ‬
‫متحن فيه‪ ،‬وأما َم ْن كان ً‬
‫شيء فهو ُي َ‬

‫ومنهم َم ْن ذهب إلى أن هذه األسئلة تكون لكل الناس‪.‬‬

‫إخبار عن ُأ ّمته؛ ( َو َأ َّن َه ِذ ِه َا ْْلُ َّم َة تُفت َُن فِي ُق ُب ِ‬


‫ور َها) وهو‬ ‫ٌ‬ ‫وأما قول النبي ﷺ‪ :‬فهو هنا‬
‫إخبار عن ُأ ّمته‪.‬‬

‫وأما عذاب القبر‪ :‬فقد دلت النصوص على أن الكفار ُي َع ّذبون‪ ،‬كما أخرب النبي ﷺ‬
‫عن اليهود أهنم ُي َعذبون يف قبورهم‪ ،‬ولكن الخالف يف األسئلة‪.‬‬

‫وأما الذي َّل شك فيه‪ :‬هو أن هذه األُمة ( ُأ ّمة اإلجابة) ُتمتحن يف قبورها و ُتسأل؛‬
‫وهذا ال شك فيه‪.‬‬

‫وإنما حصل الخالف يف ُأمة الدعوة‪ ،‬وغيرهم من األُمم الذين ُهم قبل بعثة النبي‬
‫ﷺ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قال‪َ ( :‬و َي ْأتيه ُمنْك ٌَر َونَك ٌير)‪ :‬وهذان هما َ‬
‫الم َلكان اللذان يأتيان للمقبور يف قربه‬
‫ويسأالنه‪ ،‬أحدهما‪ :‬منكر‪ ،‬واآلخر‪ :‬نكير‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬أهنما اسمان لهذين الملكين‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬أهنما َو ْصفان‪.‬‬


‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪14‬‬

‫والذي يجب‪ :‬اإليمان هبما‪ ،‬وأن منكر ونكير أهنما َملكان يسأالن الناس يف‬ ‫‪14‬‬

‫قبورهم‪ ،‬ويمتحنان الناس‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬إنما ُسميّا منكر ونكير ألهنما يأتيان بصورة ُمنكرة ال ُت َ‬


‫عرف‪ ،‬وأهنما يفزع‬
‫لهما ولرؤيتهما الناس‪.‬‬

‫وقد جاء يف النصوص‪ :‬أهنما يأتيان على الناس بحسب أعمالهم؛ فالصالح يأتيان‬
‫له بأحسن صورة‪ ،‬و َم ْن كان ُم َق ِّص ًرا فإهنما يأتيان له بصورة بحسب عمله‪.‬‬

‫ف أَ َرا َد)‪ :‬يعني هذا االمتحان وهذا السؤال‬


‫ف َشا َء َاهَّللُ عز وجل َو َك ْي َ‬
‫قال‪َ ( :‬ك ْي َ‬
‫وكيفية مجيء الملك ْين أهنا كيف شاء اهلل عز وجل وكيف أراد؛ وهذا تفويض العلم‬
‫لعالِمه وعدم الخوض‪.‬‬

‫فاإليمان بما َث َبت من وجود منكر ونكير وسؤالهما المقبورين يف قبورهم‪،‬‬


‫وتفويض العلم كيف يأتيان وكيف يسأالن‪ :‬هذا َأ ْمره إلى اهلل عز وجل‪.‬‬

‫السنة‪ :‬أهنم يؤمنون بما َب َلغهم من النصوص‪ ،‬وال يخوضون‬


‫وهذا من أصول أهل ُّ‬
‫وال يتكلفون فيما لم يبلغهم من النصوص‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اْليم ُ ِ‬
‫ان بِه َوالت َّْصد ُيق بِه)‪ :‬اإليمان هبذا والتصديق به هو من أصول أهل ُّ‬
‫السنة‬ ‫( َو ْ ِ َ‬
‫والجماعة‪.‬‬
‫‪15‬‬ ‫؟؟؟‬

‫***المتن***‬

‫قال المصنف ‪ $‬تعالى‪:‬‬

‫َّار َب ْعدَ َما اِ ْحت ََر ُقوا َو َص ُاروا‬


‫ان بِ َش َفا َع ِة َالنَّبِي ﷺ‪َ ،‬وبِ َق ْو ٍم َيخْ ُر ُجو َن ِم َن َالن ِ‬
‫ِّ‬ ‫يم ُ‬ ‫َو ْ ِ‬
‫اْل َ‬
‫اب َا ْل َجن َِّة ‪-‬ك ََما َجا َء فِي َا ْْلَ َثرِ‪َ -‬ك ْيفَ َشا َء اَهَّللُ َوك ََما‬‫َف ْح ًما‪َ ،‬ف ُي ْؤ َم ُر بِ ِه ْم إِ َلى ن َْهرٍ َع َلى بَ ِ‬

‫ان بِ ِه‪َ ،‬والت َّْص ِد ُيق بِ ِه‪.‬‬


‫يم ُ‬ ‫َشا َء‪ ،‬إِن ََّما ُه َو اَ ْ ِ‬
‫ْل َ‬

‫***الشرح***‬

‫ان بِ َش َفا َع ِة َالنَّبِ ِّي ﷺ)‪ :‬وشفاعة النبي ﷺ أنواع كثيرة‪:‬‬


‫يم ُ‬ ‫ِْ‬
‫(اْل َ‬

‫منها‪ :‬الشفاعة العظمى‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬شفاعة النبي ﷺ يف عمه أبي طالب‪.‬‬

‫وشفاعة النبي ﷺ ألهل الجنة بأن يدخلوها‪.‬‬

‫وشفاعة النبي ﷺ يف أقوام يستحقوا العذاب أن ال يدخلوا النار‪.‬‬

‫وذكر هنا قِسم من أقسام الشفاعة؛ وهو شفاعة النبي ﷺ يف قوم دخلوا النار؛ أهنم‬
‫يخرجون منها بشفاعة النبي ﷺ‪ ،‬وبشفاعة غيره من الشافعين‪.‬‬

‫وشفاعات النبي ﷺ‪:‬‬


‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪16‬‬

‫منها‪ :‬ما هو خاص به؛ كالشفاعة العظمى‪ ،‬وشفاعته يف أهل الجنة‪ :‬هل‬ ‫‪16‬‬

‫يدخلوها؟ ويف شفاعته يف عمه أبي طالب‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ما هو يثبت لغيره؛ كالشفاعة يف أهل الذنوب الذين استحقوا العذاب أن ال‬

‫ُي َع ّذبوا‪ ،‬والشفاعة َ‬


‫فيم ْن دخل النار أن يخرج منها‪.‬‬

‫فإن اهلل عز وجل ُي َش ّفع الشافعين‪ ،‬كما جاء يف حديث الشفاعة‪ ،‬يقول اهلل عز‬
‫وجل‪َ « :‬ش َفع ْاْلَ ْنبِ َيا ُء َوا ْل ُم ْر َس ُلون َوا ْل َم َالئكة‪ ،‬و َل ْم َي ْب َق إِ ََّّل َر ْحمة َر ّب ا ْل َعالِمين ف ُيخرِج‬
‫وش ِملتهم رحمة‬ ‫َأ ْق َو ًاما ِمن النَّار َل ْم َي ْع َم ُلوا بِخَ ْيرٍ َق ّط» فهؤالء انقطعت الشفاعة دوهنم‪َ ،‬‬
‫اهلل عز وجل‪.‬‬

‫وهذا مما يدل على أن رحمة اهلل عز وجل أوسع للناس من كل سبب‪ ،‬حتى من‬
‫شفاعة الشافعين الذين يشفعون يف الناس‪ ،‬وربما كان بعض هؤالء الذين ُي َعذبون يف‬
‫النار قد يكون من أقارهبم ومن أهلهم َم ْن هو من أهل الجنة ولكن تنقطع الشفاعة‬
‫دوهنم‪ ،‬إما ألنه لم ُيؤ َذن‪ ،‬وإما أهنم ال ُي َو ّفقون للشفاعة فيهم‪ ،‬ولكن اهلل عز وجل‬
‫ُيخرجهم من النار برحمته دون شفاعة‪.‬‬

‫َّار َب ْعدَ َما اِ ْحت ََر ُقوا َو َص ُاروا َف ْح ًما‪َ ،‬ف ُي ْؤ َم ُر‬
‫ون ِم َن َالن ِ‬
‫فهؤالء الصنف‪َ ( :‬وبِ َق ْو ٍم َيخْ ُر ُج َ‬
‫اب َا ْل َجن َِّة ‪-‬ك ََما َجا َء فِي َا ْْلَ َثرِ‪ :)-‬وقيل‪ :‬إن هذا هو هنر الحياة‪ ،‬وأهنم‬ ‫بِ ِه ْم إِ َلى ن َْهرٍ َع َلى َب ِ‬

‫ينبتون كما ينبت ال َبقل‪ ،‬ويدخلون الجنة‪.‬‬


‫‪17‬‬ ‫؟؟؟‬

‫فهذا مما دلت عليه النصوص‪.‬‬

‫السنة‪:‬‬ ‫ِ‬
‫وهذا ُيستفاد منه عدّ ة مسائل يف تقرير عقيدة أهل ُّ‬

‫منها‪ :‬أن أهل الكبائر إذا دخلوا النار ال ُي َخ ّلدون فيها‪ ،‬وإنما يخرجون من النار؛‬
‫وهذا خال ًفا للخوارج والمعتزلة؛ الذين يقولون‪َ :‬م ْن َد َخل النار فإنه ُي َخ ّلد فيها‪.‬‬

‫وهذا بنا ًء على أصلهم‪ :‬أنه ال يجتمع يف الرجل الثواب والعقاب‪ ،‬فالناس عندهم‪:‬‬
‫إما ُم ّ‬
‫عذبون يف النار ال يخرجون منها‪ ،‬وإما ُمنَ ّعمون يف الجنة‪.‬‬

‫السنة‪ :‬فأصلهم‪ :‬أنه يجتمع يف الرجل الواحد الثواب والعقاب؛ فيجتمع‬


‫وأما أهل ُّ‬
‫فيه الثواب والعقاب‪ ،‬قد ُيعا َقب ثم ُيثاب‪.‬‬

‫فم ْن َد َخل النار من أهل التوحيد فإنه يخرج من النار‪ ،‬وال بد أن يخرج منها‪ ،‬كما‬ ‫َ‬
‫(َّل إِ َله إِ ََّّل اهَّلل) َوفِي َق ْلبِه ِم َث َقال‬
‫جاء يف الحديث عن النبي ﷺ‪َ « :‬يخْ ُرج ِمن النَّار َم ْن َقال‪َ :‬‬
‫َذ ّرةٍ ِم ْن إِ ْي َمان» فهؤالء يخرجون من النار ثم يدخلون الجنة‪.‬‬

‫وهؤَّلء ُهم أهل التوحيد؛ الذين تحقق لهم التوحيد ولهم ذنوب‪.‬‬

‫الشرك‪َ :‬ف ُهم الذين ُي َخ ّلدون يف النار‪ ،‬وال ُي َ‬


‫خرجون منها‪.‬‬ ‫وأما أهل ِّ‬

‫فهذا يدل على خروج أهل التوحيد من النار‪.‬‬

‫أيضا على أن من أهل الذنوب ومن أهل التوحيد َم ْن يدخل النار‪.‬‬


‫وهذا يدل ً‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪18‬‬

‫وهذا خال ًفا للمرجئة الذين يقولون‪ :‬أن المؤمن ا ْل ُم َصدِّ ق بقلبه فإنه ال ُي َعذب‪،‬‬ ‫‪18‬‬

‫وإنما هو يف الجنة؛ ألنه مؤمن كامل اإليمان‪.‬‬

‫السنة يف الرد على الخوارج والمعتزلة من جهة‪ ،‬ويف‬


‫فهذا يدل على أصل أهل ُّ‬
‫الرد على المرجئة من جهة أخرى‪.‬‬

‫أيضا على إثبات الشفاعة لنب ّينا ﷺ‪ ،‬ولغيره من الشافعين أهنم يشفعون‬
‫وهو يدل ً‬
‫فيم ْن َد َخل النار أن يخرج منها‪.‬‬
‫َ‬

‫***المتن***‬

‫يث َا َّلتِي‬
‫ُوب َب ْي َن َع ْينَ ْي ِه كَافِ ٌر‪َ ،‬و ْاْلَ َحادِ ُ‬ ‫ار ٌج‪َ ،‬م ْكت ٌ‬‫يح َالدَّ َّج َال َخ ِ‬ ‫ِ‬
‫ان َأ َّن َا ْل َمس َ‬
‫يم ُ‬
‫اْل َ‬‫َو ْ ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ان بِ َأ َّن َذلِ َ ِ‬ ‫َجا َء ْت فِ ِيه‪َ ،‬و ْ ِ‬
‫لس َال ُم َين ِْز ُل َف َي ْق ُت ُل ُه بِ َب ِ‬
‫اب‬ ‫ك كَائ ٌن‪َ ،‬و َأ َّن ع َ‬
‫يسى ا ْبن َم ْر َي َم َع َل ْيه َا َّ‬ ‫يم ُ‬
‫اْل َ‬
‫ُلـد‪.‬‬

‫***الشرح***‬

‫من اْلصول‪ :‬اإليمان بالمسيح الدّ جال‪.‬‬

‫وهو من العالمات العظيمة التي تكون قبل قيام الساعة‪ ،‬ومن الفتن العظيمة‪.‬‬

‫والصحيح يف المسيح الدجال‪ :‬أنه رجل من بني آدم‪ ،‬وأنه كافر‪ ،‬وأنه سبب لفتنة‬
‫عظيمة تكون يف آخر الزمان‪ ،‬يخرج ويدّ عي الربوبية‪ ،‬ويعرفه ب ِ َو ْصفه المؤمن‪ ،‬ويكون‬
‫‪19‬‬ ‫؟؟؟‬

‫ُوب َب ْي َن َع ْينَ ْي ِه كَافِ ٌر) يقرأها القارئ وغير القارئ من المؤمنين‪ ،‬و ُيفتَن به أهل‬
‫( َم ْكت ٌ‬
‫النفاق وكثير من أهل البدع‪ ،‬وأكثر َم ْن يتبعه‪ :‬اليهود‪.‬‬

‫وال يبقى بلد إال دخله‪ ،‬إال المدينة ومكة؛ فإنه ُيحبَس وال يتمكن من الدخول‬
‫إليها‪ ،‬فيخرج المنافقون من المدينة ومكة إليه‪.‬‬

‫والمسيح الدجال ُس ّمي بالمسيح ألن إحدى عينيه عوراء‪ ،‬كما جاء يف الحديث‪:‬‬
‫«إِ َّن َر َّبكُم ََّل َيخْ َفى َع َل ْيكُم‪ ،‬إِ َّن َر َّبكُم َل ْيس بِ َأ ْع َور‪َ ،‬وإِ َّن ا ْل َم ِس ْيح الدَّ َّجال أَ ْع َور ال َع ْين‬
‫ُوب َب ْي َن َع ْينَ ْي ِه كَافِ ٌر»‪.‬‬
‫ال ُيمنى‪َ ،‬م ْكت ٌ‬

‫وسمي (المسيح)‪ :‬ألن إحدى عينيه ممسوحة‪ ،‬وليس لها ضوء‪.‬‬


‫ُ‬

‫وقيل‪ :‬أهنا ممسوحة‪ ،‬ليس فيها عين‪.‬‬

‫وسمي (المسيح)‪ :‬ألنه ممسوح إحدى العينين‪.‬‬


‫ُ‬

‫وال ُينايف هذا ما َو َرد يف َو ْصفه بال َع َور؛ فإن ال َع َور‪ :‬هو ذهاب إحدى العينين‬
‫بذهاب نورها أو بذهاهبا بالكلية‪.‬‬

‫وقيل‪ُ :‬سمي بالمسيح ألنه يمسح األرض‪ ،‬و ُتطوى له األرض‪ ،‬وينتقل يف البالد‬
‫و ُيفتَن به الناس‪.‬‬

‫وفتنته عظيمة‪ ،‬وقد َحذر النبي ﷺ منها األُ ّمة‪ ،‬و َب ّين َو ْصفه‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪20‬‬

‫وقد َذكَر أنه َب ّين يف َو ْصفه ما لم ُي َب ّينه نبي قبله؛ وهذا من ِح ْرصه عليه الصالة‬ ‫‪20‬‬

‫والسالم على ُأ ّمته‪.‬‬

‫وهذا المسيح الدجال قد َو َرد يف األخبار أنه يبقى يف األرض ما شاء اهلل عز وجل‬
‫أن يبقى‪ ،‬و ُيفتَن به َم ْن ُيفتَن‪ ،‬ويعطيه اهلل القدرة على َقتْل رجل وإحيائه‪ ،‬وال يستطيع‬
‫بعد ذلك إحياء أحد بعده؛ ف ُيفتَن به كثير من الناس‪.‬‬

‫وأن هذا الرجل الذي يقتله ال يؤمن به‪ ،‬ثم يقتله ويشقه نصفين‪ ،‬ثم يأمر بإحيائه‬
‫ازددت بك إال يقينًا‪ ،‬أنت المسيح‬
‫ُ‬ ‫فيحيا بإذن اهلل‪ ،‬فيقول له ذلك الرجل‪ :‬واهلل ما‬
‫الدجال‪.‬‬

‫وقد جاء أن هذا أفضل الناس يف ذلك الزمان؛ هذا الرجل الذي يقتله المسيح‬
‫الدجال‪.‬‬

‫ثم يبقى يف األرض ما شاء اهلل عز وجل إلى أن ينزل المسيح عيسى ابن مريم‬
‫فيقتل المسيح الدجال (بِ َب ِ‬
‫اب ُلـد)‪.‬‬

‫و ُلدّ ‪ :‬قرية قريبة من بيت المقدس‪ ،‬يخرج إليه ويتبعه‪ ،‬ثم إذا َب َلغ باب ُلد فإنه‬
‫عظيما‪ ،‬ثم ُيدركه ويضربه‬
‫ً‬ ‫يذوب كما يذوب الملح يف الطعام‪ ،‬ويتصاغر بعد أن كان‬
‫بسيفه فيقتله‪ ،‬وتنتهي هذه الفتنة (فتنة الدجال)‪.‬‬
‫‪21‬‬ ‫؟؟؟‬

‫وهناك خالف بين أهل العلم يف وجود الدجال اآلن َأ ْم ال؟‬

‫الج ّساسة يف وجوده‪ ،‬وأنه موجود‪ ،‬وأنه‬


‫وقد استدل بعض أهل العلم بحديث َ‬
‫موثق بناحية من األرض‪ ،‬ويف جزيرة يف البحر‪ ،‬والعلم يف هذا هلل عز وجل‪.‬‬

‫وأما كونه يخرج يف آخر الزمان‪ :‬فهذا مما دلت عليه النصوص‪ ،‬واإليمان به‬
‫الخ ْلق‪.‬‬
‫واجب‪ ،‬وبفتنته‪ ،‬وأنه ُيفتن به َم ْن شاء اهلل عز وجل من َ‬

‫***المتن***‬

‫قال المصنف ‪ $‬تعالى‪:‬‬


‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫َو ْ ِ‬
‫يمانًا‬ ‫ان َق ْو ٌل َو َع َم ٌل‪َ ،‬ي ِزيدُ َو َينْ ُق ُص ك ََما َجا َء في َا ْلخَ َبرِ‪َ :‬أك َْم ُل َا ْل ُم ْؤمن َ‬
‫ين إِ َ‬ ‫يم ُ‬
‫اْل َ‬
‫َأ ْح َسن ُُه ْم ُخ ُل ًقا‪.‬‬

‫لص َالةُ؛ َم ْن‬ ‫لص َال َة َف َقدْ َك َفر‪َ ،‬و َلي َس ِم ْن َا ْْلَ ْعم ِ‬
‫ال َش ْي ٌء ت َْر ُك ُه ُك ْف ٌر إِ ََّّل َا َّ‬ ‫َو َم ْن ت ََر َك َا َّ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ت ََرك ََها َف ُه َو كَافِ ٌر‪َ ،‬و َقدْ َأ َح َّل َاهَّللُ َق ْت َل ُه‪.‬‬

‫***الشرح***‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫( َو ْ ِ‬
‫يمانًا‬ ‫ان َق ْو ٌل َو َع َم ٌل‪َ ،‬ي ِزيدُ َو َينْ ُق ُص ك ََما َجا َء في َا ْلخَ َبرِ‪َ :‬أك َْم ُل َا ْل ُم ْؤمن َ‬
‫ين إِ َ‬ ‫يم ُ‬
‫اْل َ‬
‫َأ ْح َسن ُُه ْم ُخ ُل ًقا)‪ :‬هذا أصل من أصول عقيدة أهل ُّ‬
‫السنة والجماعة؛ التي خالفوا فيها‬
‫الخوارج والمعتزلة والمرجئة بكافة ف ِ َرقهم‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪22‬‬

‫وأن اإليمان يشتمل على القول والعمل واالعتقاد؛ فهو يشتمل على هذه‬ ‫‪22‬‬

‫األجزاء الثالثة‪ :‬االعتقاد‪ ،‬والقول‪ ،‬والعمل‪.‬‬

‫ُ‬
‫وش َعب اْليمان تتفرع عن هذه اْلجزاء‪:‬‬

‫منها‪ُ :‬ش َعب قلبية‪.‬‬

‫ومنها‪ُ :‬ش َعب قولية‪.‬‬

‫ومنها‪ُ :‬ش َعب َع َملية‪.‬‬

‫السنة‪.‬‬
‫فهذا هو أصل أهل ُّ‬

‫السنة؛ فيذهب بعضه ويبقى بعضه‪.‬‬


‫واإليمان يتبعض عند أهل ُّ‬

‫و َم ْن َخا َلفهم يف هذا من المخالفين كلهم يقولون‪ :‬اإليمان شيء واحد‪.‬‬

‫ثم افترقوا بعد ذلك‪:‬‬

‫فقال الخوارج والمعتزلة‪ :‬إذا َذ َهب بعضه َب ِقي كله؛ ألن ما ذهب منه ال يؤثر فيما‬
‫بقي؛ فيبقى كله‪.‬‬

‫وقال الخوارج والمعتزلة‪ :‬إذا َذ َهب بعضه َذهب كله؛ فإذا ذهب بعض اإليمان‬
‫ذهب اإليمان بالكلية‪ ،‬وأخرجوه من اإليمان‪.‬‬
‫‪23‬‬ ‫؟؟؟‬

‫ثم قالت الخوارج‪ :‬هو كافر‪.‬‬

‫وقال المعتزلة‪ :‬هو يف منزلة بين المنزلتين‪.‬‬

‫والمرجئة قالوا‪ :‬إذا َب ِقي بعضه َب ِقي كله‪.‬‬

‫السنة يقولون‪ :‬يذهب بعضه ويبقى بعضه‪ ،‬ولكن ُي َف ِّرقون يف ما ذهب من‬
‫وأهل ُّ‬
‫الش َعب؛ فإن من ُّ‬
‫الشعب ما إذا ذهبت ذهب اإليمان بالكلية‪ :‬مثل‪ :‬الشهادتين‪ ،‬ومثل‪:‬‬ ‫ُّ‬
‫األركان الخمسة (أركان اإلسالم)‪ ،‬وأركان اإليمان؛ إذا َت َرك االعتقاد ولم يمتثل‬
‫االعتقاد وال العمل فإنه يذهب اإليمان بذهاب بعض هذه ُّ‬
‫الشعب‪.‬‬

‫الشعب األخرى (مثل‪ :‬االستقامة على الدين‪ ،‬و َت َجنُّب المعاصي‪َ ،‬ت َجنّب‬
‫وأما ُّ‬
‫الكبائر)‪ :‬فإن َت َجنّب الكبائر من كمال اإليمان‪ ،‬لكن إذا ُوجدت بعض الكبائر (مثل‪:‬‬
‫السرقة‪ ،‬والخمر‪ ،‬وغيرها من المعاصي) فإهنا تذهب هذه ُّ‬
‫الشعب ويبقى بعض‬
‫اإليمان‪.‬‬

‫يذهب من اإليمان ب َقدْ ر ما ذهب من ُشعبه‪ ،‬ويبقى ب َقدْ ر ما َب ِقي من ُشعبه‪.‬‬

‫وبنا ًء على هذا األصل‪َ :‬ت َف ّرع األصل السابق الذي َت َقدّ م يف العقوبة‪ ،‬وأن عامة‬
‫المخالفين يقولون‪ :‬إنه ال يجتمع الثواب والعقاب يف شخص‪ ،‬فالناس إما ُم َع ّذبون‬
‫وإما ُمنَ ّعمون يوم القيامة‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪24‬‬

‫السنة‪ :‬ف ُي َب ّعضون الثواب والعقاب كما أهنم ُي َب ّعضون اإليمان‪.‬‬


‫وأما أهل ُّ‬
‫‪24‬‬

‫لص َال ُة)‪ :‬وهذا يف ُّ‬


‫الشعب‬ ‫ثم قال‪َ ( :‬و َلي َس ِم ْن اَ ْْلَ ْعم ِ‬
‫ال َش ْي ٌء ت َْر ُك ُه ُك ْف ٌر إ ِ ََّّل َا َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫العملية‪.‬‬

‫وأما اَّلعتقاد‪َ :‬ف َم ْن َت َرك شعبة من ُشعب االعتقاد فهو كافر؛ َم ْن اعتقد أن الصالة‬
‫غير واجبة‪ ،‬أو أن الحج‪ ،‬أو أن الصوم‪ ،‬أو أن بر الوالدين غير واجب‪ ،‬أو أن الجهاد غير‬
‫بج ْهله‪.‬‬ ‫مشروع فهذا كافر‪ ،‬إال أن ُي َ‬
‫عذر َ‬

‫فالحكم‪ :‬هو الكفر‪ ،‬ولكن الجاهل قد ُي ْع َذر َ‬


‫بجهله‪.‬‬ ‫ُ‬

‫ا ْل ُم َع ّين ُين َظر يف قيام ُ‬


‫الحجة عليه‪.‬‬

‫الحكم‪ :‬فكل َم ْن َت َرك شي ًئا من االعتقاد فهو كافر‪.‬‬


‫وأما ُ‬

‫الشعب ف ُين َظر يف اعتقاده؛ فإن كان‬


‫الشعب ال َع َملية‪ :‬فإنه إذا َت َرك شي ًئا من هذه ُّ‬
‫وأما ُّ‬
‫ُمعتقدً ا لوجوهبا فإنه بعد ذلك ُين َظر يف هذه الشعبة‪.‬‬

‫فإن كانت الصالة‪ :‬فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنه يكفر بت َْرك الصالة وإن‬
‫اعتقد وجوهبا‪.‬‬

‫وأما بقية اْلركان‪ :‬فعلى الصحيح من أقوال أهل العلم‪ :‬أنه ال يكفر بت َْرك بقية‬
‫األركان إن كان ُمعتقدً ا لوجوهبا‪.‬‬
‫‪25‬‬ ‫؟؟؟‬

‫السنة ُي َك ِّفر بت َْركه ُركن من أركان اإلسالم الخمس ولو َت َرك الحج أو‬
‫وبعض أهل ُّ‬
‫الصوم‪ :‬فإنه يكفر وإن اعتقده‪.‬‬

‫السنة يف التكفير بت َْرك مباين اإلسالم األربعة بعد‬


‫والخالف مشهور بين أهل ُّ‬
‫الشهادتين‪.‬‬

‫فم ْن تركهما َت َرك التلفظ هبما‪ ،‬وإن اعتقد وجوهبما فهو كافر‬
‫وأما الشهادتان‪َ :‬‬
‫بإجماع األُ ّمة‪.‬‬
‫لص َال َة َف َقدْ َك َفر‪َ ،‬و َلي َس ِم ْن َا ْْلَ ْعم ِ‬
‫ال َش ْي ٌء ت َْر ُك ُه ُك ْف ٌر إِ ََّّل‬ ‫ثم قال‪َ ( :‬و َم ْن ت ََر َك َا َّ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫لص َالةُ)‪ :‬وهذا هو على الصحيح من أقوال أهل العلم‪ :‬أن َت ْرك الصالة ُك ْفر‪.‬‬ ‫َا َّ‬

‫وكما َث َبت هبذا األثر عن عبد اهلل بن شقيق‪ ،‬عن أصحاب النبي ﷺ أهنم ما كانوا‬
‫َيعدّ ون شيئًا من األعمال َت ْركه ُك ْفر إال الصالة‪ ،‬و َث َبت هذا عن أبي هريرة رضي اهلل عنه‬
‫أنه َن َقله عن الصحابة‪.‬‬

‫اونًا‪َ ،‬أ ّما َم ْن َت َركها جاحدً ا لوجوهبا‪ :‬فإنه كافر بإجماع‬


‫فيم ْن َت َرك الصالة َت َه ُ‬
‫وهذا َ‬
‫األُمة‪.‬‬

‫قال‪َ ( :‬م ْن ت ََرك ََها َف ُه َو كَافِ ٌر‪َ ،‬و َقدْ َأ َح َّل َاهَّللُ َق ْت َل ُه)‪ :‬ألن ُمرتد‪ ،‬والمرتد ُيقتَل‪.‬‬

‫***المتن***‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪26‬‬

‫قال المصنف ‪:$‬‬ ‫‪26‬‬

‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫اب‪ُ ،‬ث َّم ُع ْث َم ُ‬
‫ان ْب ُن‬ ‫َو َخ ْي ُر َهذه َا ْْلُ َّمة َب ْعدَ َنبِ ِّي َها‪َ :‬أ ُبو َب ْكرٍ َا ِّ‬
‫لصدِّ ُيق‪ُ ،‬ث َّم ُع َم ُر ْب ُن َا ْلخَ َّط ِ‬

‫ك‪.‬‬‫ول َاهَّللِ ﷺ‪َ ،‬ل ْم َيخْ ت َِل ُفوا فِي َذلِ َ‬ ‫اب رس ِ‬ ‫ِ‬
‫ان؛ ُن َقدِّ ُم َه ُؤ ََّلء َال َّث َال َث َة ك ََما َقدَّ َم ُه ْم َأ ْص َح ُ َ ُ‬
‫َع َّف َ‬

‫***الشرح***‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫اب‪ُ ،‬ث َّم ُع ْث َم ُ‬
‫ان ْب ُن‬ ‫( َو َخ ْي ُر َهذه َا ْْلُ َّمة َب ْعدَ َنبِ ِّي َها‪َ :‬أ ُبو َب ْكرٍ َا ِّ‬
‫لصدِّ ُيق‪ُ ،‬ث َّم ُع َم ُر ْب ُن َا ْلخَ َّط ِ‬

‫السنة يف أصحاب النبي ﷺ‪.‬‬ ‫َع َّف َ‬


‫ان)‪ :‬هذه عقيدة أهل ُّ‬
‫ٍ‬
‫درجة واحدة‪ ،‬بل‬ ‫وذلك أهنم يعتقدون َت َف ُ‬
‫اضل الصحابة‪ ،‬وأن الصحابة ليسوا يف‬
‫إهنم يتفاضلون بحسب َس ْبقهم إلى اإلسالم‪ ،‬وبحسب ُق ّوة إيماهنم‪ ،‬وبحسب جهادهم‬
‫مع رسول اهلل ﷺ؛ َف ُهم يتفاضلون‪.‬‬

‫وأفضل هذه اْلُمة‪َ ( :‬أ ُبو َب ْكرٍ)‪ ،‬أفضل هذه األُ ّمة بعد نب ّيها‪ :‬أبو بكر رضي اهلل عنه؛‬
‫كما َد ّلت على هذا النصوص‪ ،‬كما َث َبت عن النبي ﷺ أنه قال‪َ « :‬ما َط َل َعت َّ‬
‫الش ْمس َو ََّل‬
‫ِ‬
‫الصديقين‪.‬‬‫غ ََر َبت َب ْعد النَّبِ ّيين َع َلى َأ ْفضل م ْن َأبِي َبكْر» فهو أفضل ِّ‬

‫( ُث َّم ُع َم ُر)‪ :‬كما َث َبت هبذا األحاديث عن النبي ﷺ أنه قال‪« :‬إِ ْن ُيطِع النَّاس َأ َبا َبكْر‬
‫و ُعمر َي ْرشد»‪.‬‬

‫وقال‪« :‬ا ْقتَدوا بال َّل َذ ْين ِم ْن َب ْع ِدي‪َ :‬أبِي َبكْر‪ ،‬و ُعمر»‪.‬‬
‫‪27‬‬ ‫؟؟؟‬

‫و َل ّما أوصى أبو بكر رضي اهلل عنه لعمر فأنكر بعضهم هذا‪ ،‬فقال أبو بكر رضي‬
‫اهلل عنه َل ّما قال له رجل‪ :‬ما تقول لربك وقد َو ّل ْيت علينا ً‬
‫رجال شديدً ا؟ فقال‪ :‬أقول‬

‫َو ّليت عليهم ً‬


‫خيرا‪.‬‬

‫وكانوا يخشون من ِشدّ ة عمر رضي اهلل عنه‪ ،‬ثم إنه َل ّما تولى الخالفة كان من أرفق‬
‫الناس باألُ ّمة‪ ،‬وكان رفي ًقا‪ ،‬حتى إنه كان يتعاهد النساء يف بيوهتن كما يأيت المرأة عجوز‬
‫فض َرب هبذا أروع األمثلة يف‬
‫يف ناحية المدينة ويكنس لها بيتها‪ ،‬ويقوم على خدمتها؛ َ‬
‫الرفق واللين‪.‬‬

‫ولهذا؛ قال أهل العلم‪ :‬أصدق الناس فراسة‪:‬‬

‫‪ -‬أبو بكر بتوليته لعمر‪.‬‬


‫ِ‬
‫است َْأ َج ْر َت ا ْل َق ِو ُّ‬
‫ي‬ ‫است َْأ ِج ْر ُه إ ِ َّن َخ ْي َر َم ِن ْ‬
‫﴿يا َأ َبت ْ‬
‫‪ -‬وابنة شعيب َل ّما قالت ألبيها‪َ :‬‬
‫ِ‬
‫اْلَم ُ‬
‫ين﴾[القصص‪.]26:‬‬

‫فبهذا يظهر فضل عمر رضي اهلل عنه بعد أبي بكر‪.‬‬

‫ان)‪ :‬كما َث َبت هبذا األثر عن ابن عمر‪ُ :‬كنّا نُفاضل يف عهد النبي ﷺ‬
‫( ُث َّم ُع ْث َم ُ‬
‫وأصحابه متوافرون‪ ،‬فنقول‪ :‬أبو بكر‪ ،‬ثم ُعمر‪ ،‬ثم عثمان‪ ،‬ثم نسكت‪.‬‬

‫كان اإلمام أحمد يأخذ هبذا األثر‪ ،‬و ُي َقدّ م أبا بكر‪ ،‬ثم عمر‪ ،‬ثم عثمان‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪28‬‬

‫***المتن***‬ ‫‪28‬‬

‫ب‪َ ،‬و َط ْل َحةُ‪،‬‬ ‫ورى َالْخَ ْم َسةُ‪َ :‬ع ِل ُّي ْب ُن َأبِي َطالِ ٍ‬ ‫لش َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُث َّم َب ْعدَ َه ُؤ ََّلء َالثَّ َال َثة َأ ْص َح ُ‬
‫اب َا ُّ‬
‫خ َال َف ِة‪َ ،‬و ُك ُّل ُه ْم إِ َما ٌم‪.‬‬
‫ف‪ ،‬وسعدٌ ؛ ُك ُّلهم يص ُلح لِ ْل ِ‬
‫ُ ْ َ ْ ُ‬
‫ٍ‬
‫َوال ُّز َب ْي ُر‪َ ،‬و َع ْبدُ َا َّلر ْح َم ِن ْب ُن َع ْو َ َ ْ‬

‫***الشرح***‬

‫ثم بعد هؤَّلء‪ :‬أصحاب الشورى‪.‬‬

‫وهم‬
‫وأصحاب الشورى‪ :‬هم الستة النفر؛ الذين أوصى هبم عمر رضي اهلل عنه؛ ُ‬
‫عثمان‪ ،‬وعلي‪ ،‬وطلحة‪ ،‬والزبير‪ ،‬وسعد بن أبي وقاص‪ ،‬وسعيد بن زيد‪.‬‬

‫فهؤالء‪ :‬عبد الرحمن بن عوف‪ ،‬وطلحة‪ ،‬والزبير‪ ،‬وسعد بن أبي وقاص‪.‬‬

‫وذكر هؤالء الخمسة‪.‬‬


‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ورى َا ْلخَ ْم َسةُ)‪ :‬وأصحاب الشورى‪:‬‬ ‫ثم قال‪ُ ( :‬ث َّم َب ْعدَ َه ُؤ ََّلء َال َّث َال َثة َأ ْص َح ُ‬
‫اب َا ُّ‬
‫لش َ‬
‫ستة‪ ،‬ولكن تقدم (عثمان) مع َم ْن َذكَر فضلهم‪ ،‬وأنه بعد الشيخين يف الفضل‪ ،‬ثم بقي‬
‫الخمسة بعده‪.‬‬

‫وأفضل هؤَّلء الخمسة‪ :‬علي رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫أيضا عليه‬
‫السنة‪ ،‬واستقر ً‬
‫السنة‪ ،‬واستقر عليه أهل ُّ‬
‫وهذا الذي استقرت عليه ُّ‬
‫اجتهاد اإلمام أحمد‪.‬‬
‫‪29‬‬ ‫؟؟؟‬

‫وعنه َث َبت األثر‪َ ،‬م ْن لم ُي َر ّبع بعلي فهو أجهل من حمار أهله؛ ألنه َر ِضيه‬
‫الصحابة‪ ،‬وبايعوه بالخالفة بعد عثمان رضي اهلل عنه‪ ،‬وأجمعوا على فضله‪.‬‬

‫ولم ُينازع علي رضي اهلل عنه يف الخالفة أحد ُمدّ ع ًيا أنه أفضل منه‪ ،‬وإنما نشأ‬
‫الخالف يف َقتَلة عثمان رضي اهلل عنه‪ :‬هل ُيقتلون يف بداية األمر َأ ْم ُي َؤ ّجل َقتْلهم؟‬

‫وأما الذين اختلفوا مع علي رضي اهلل عنه بعد مقتل عثمان‪ :‬فلم ُينازعوه يف‬
‫الخالفة‪ ،‬ولم َي ُقل أحد‪ :‬أنه أفضل من علي‪.‬‬

‫وهبذا؛ استدل اإلمام أحمد يف تقديم علي رضي اهلل عن بعد عثمان رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫ثم بعد علي رضي اهلل عنه‪ ،‬وبعد هؤالء الخلفاء الراشدين يأيت بعدهم أهل‬
‫وج َعل اإلمامة فيهم‪.‬‬
‫الشورى؛ الذين جعل عمر رضي اهلل عنه األمر فيهم‪َ ،‬‬

‫( َو ُك ُّل ُه ْم إِ َما ٌم) صالح لإلمامة‪ ،‬كلهم إمام يف العلم والعمل‪ ،‬وهو صالح لإلمامة‬
‫وسياسة الناس؛ فهؤالء ُهم أفضل الناس بعد الخلفاء الراشدين‪.‬‬

‫والخلفاء الراشدون َث َبت يف َفضلهم األحاديث األخرى؛ منها‪ :‬قول النبي ﷺ‪:‬‬
‫اش ِد ْين ا ْل َمهديين ِم ْن َب ْعدي‪َ ،‬ع ُّضوا َع َل ْيها بِالن ِ‬
‫َّواجذ»‬ ‫«ع َليكُم بِسنّتي‪ ،‬وسنّة ا ْلخُ َل َفاء الر ِ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ‬
‫كما َث َبت يف حديث العرباض بن سارية‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪30‬‬

‫وهؤالء الخلفاء الراشدون‪ُ :‬هم الخلفاء األربعة‪ :‬أبو بكر‪ ،‬ثم عمر‪ ،‬ثم عثمان‪ ،‬ثم‬ ‫‪30‬‬

‫علي‪ ،‬وترتيبهم يف الفضل كرتتيبهم يف الخالفة‪ ،‬و َم ْن أنكر خالفة بعضهم فهو مبتدع‪،‬‬
‫وهم خيار‬
‫وهم وزراؤه‪ُ ،‬‬
‫وهم أصهار النبي ﷺ‪ُ ،‬‬
‫فهؤالء ُهم الخلفاء بعد النبي ﷺ‪ُ ،‬‬
‫األُمة بعد النبي ﷺ‪.‬‬

‫***المتن***‬

‫ول َاهَّللِ ﷺ َح ٌّي َو َأ ْص َحا ُب ُه‬


‫يث اِ ْب ِن ُع َم َر‪ُ :‬كنَّا َن ُعدُّ َو َر ُس ُ‬
‫ك إِ َلى ح ِد ِ‬
‫َ‬ ‫ب فِي َذلِ َ‬ ‫َون َْذ َه ُ‬
‫ان‪ُ ،‬ث َّم ن َْسك ُ‬
‫ُت‪.‬‬ ‫ُمت ََوافِ ُر َ‬
‫ون‪َ :‬أ ُبو َب ْكرٍ‪ُ ،‬ث َّم َ ُع َم ُر‪ُ ،‬ث َّم َ ُع ْث َم ُ‬

‫***الشرح***‬

‫هذا أصل من األصول التي كان َبنَى عليها اإلمام أحمد مذهبه‪ ،‬وهو التمسك‬
‫والسنة‪ ،‬ثم بما َث َبت عن أصحاب النبي ﷺ‪.‬‬
‫بنصوص الكتاب ُّ‬

‫فاستدل هبذا األثر على تقديم هؤالء الثالثة على غيرهم‪ ،‬ثم َر ّبع بـ علي رضي اهلل‬
‫عنه‪.‬‬

‫***المتن***‬

‫ين‪ُ ،‬ث َّم َأ ْه ُل َبدْ ٍر ِم ْن َا ْْلَن َْص ِ‬


‫ار‬ ‫اجرِ َ‬ ‫ورى‪َ :‬أ ْه ُل َبدْ ٍر ِم ْن َا ْل ُم َه ِ‬ ‫لش َ‬ ‫ُث َّم ِم ْن َب ْع ِد َأ ْص َح ِ‬
‫اب َا ُّ‬
‫السابِ َق ِة‪َ ،‬أ َّو ًَّل َف َأ َّو ًَّل‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِم ْن َأ ْص َح ِ‬
‫اب َر ُسول َاهَّلل ﷺ َع َلى َقدْ ِر َا ْل ِه ْج َرة َو َّ‬
‫‪31‬‬ ‫؟؟؟‬

‫***الشرح***‬

‫هذا يف التفضيل بعد هؤالء‪.‬‬

‫ومن أهل العلم َم ْن ُي َقدّ م َم ْن بقي من ال َعشرة المبشرين بالجنة‪ ،‬وأهنم أفضل‬
‫الناس بعد َم ْن َت َقدّ م ذِكْرهم‪ ،‬ومنهم‪ :‬سعيد بن زيد‪ ،‬وأبو ُعبيدة عامر بن الجراح‪.‬‬

‫فأبو ُعبيدة كان قد ُتويف يف عهد عمر رضي اهلل عنه‪َ ،‬‬
‫فم ْن يدخل يف أهل الشورى‪،‬‬
‫وهو من ال َع َشرة المبشرين بالجنة‪.‬‬

‫وسعيد بن زيد كان بينه وبين عمر قرابة‪ ،‬فلم َي ِرد أن يكون من أهل الشورى‪ ،‬وهو‬
‫بمنزلتهم يف الفضل أو قري ًبا منهم‪.‬‬

‫ثم هؤالء ُهم الذين يكونون يف الرتتيب أفضل بعد المتقدمين‪.‬‬

‫ين‪ُ ،‬ث َّم َأ ْه ُل َبدْ ٍر ِم ْن‬ ‫فأبو عبيدة‪ ،‬وسعيد بن زيد‪ ،‬ثم ( َأ ْه ُل َبدْ ٍر ِم ْن َالْ ُم َه ِ‬
‫اجرِ َ‬
‫ار)‪ ،‬والمهاجرون أفضل من األنصار؛ كما َقدّ مهم اهلل عز وجل يف كتابه‪:‬‬ ‫َا ْْلَن َْص ِ‬
‫نص ِ‬
‫ار﴾[التوبة‪.]100:‬‬ ‫ين َواْلَ َ‬ ‫ون ِم َن ا ْل ُم َه ِ‬
‫اجرِ َ‬ ‫السابِ ُق َ‬
‫ون اْلَ َّو ُل َ‬ ‫﴿و َّ‬
‫َ‬

‫وفضلهم‪ :‬ألهنم جمعوا بين الهجرة والنُّصرة‪.‬‬

‫واألنصار‪ :‬ناصروا‪ ،‬ولم ُيهاجروا‪.‬‬


‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪32‬‬

‫فالمهاجرون هاجروا وناصروا‪ ،‬واألنصار ناصروا النبي ﷺ‪ ،‬والمهاجرون‬ ‫‪32‬‬

‫أفضل منهم؛ ولهذا كانت اإلمامة فيهم‪.‬‬

‫ئمة ِم ْن ُق َر ْيش» وال َع َشرة المبشرون بالجنة كلهم من‬


‫كما قال النبي ﷺ‪ْ « :‬اْلَ َ‬
‫قريش؛ فالمهاجرون أفضل من األنصار‪.‬‬

‫والسابقون من المهاجرين ُهم أفضل من السابقين من األنصار‪.‬‬

‫ولكن السابقون من األنصار أفضل من المتأخرين من المهاجرين‪.‬‬

‫فالسابقون ُم َقدّ مون من المهاجرين واألنصار‪.‬‬


‫ين‪ُ ،‬ث َّم َأ ْه ُل َبدْ ٍر ِم ْن َا ْْلَن َْص ِ‬
‫ار) فدَ ّل على أن أهل‬ ‫ولهذا قال‪َ ( :‬أ ْه ُل َبدْ ٍر ِم ْن َا ْل ُم َه ِ‬
‫اجرِ َ‬
‫بدر من األنصار ُهم أفضل من غير أهل بدر من المهاجرين؛ ألن أهل بدر لهم فضل‬
‫ومنزلة‪.‬‬

‫***المتن***‬

‫يه ْم‪.‬‬ ‫ول َاهَّللِ ﷺ‪َ ،‬ا ْل َق ْر ُن َا َّل ِذي ُب ِع َ‬


‫ث فِ ِ‬ ‫اب رس ِ‬ ‫ِ‬
‫َّاس َب ْعدَ َه ُؤ ََّلء‪َ :‬أ ْص َح ُ َ ُ‬
‫ُث َّم َأ ْف َض ُل َالن ِ‬

‫ح َب ُه َسنَ ًة َأ ْو َش ْه ًرا َأ ْو َي ْو ًما َأ ْو َسا َعةً‪َ ،‬أ ْو َرآ ُه َف ُه َو ِم ْن َأ ْص َحابِ ِه‪َ ،‬ل ُه ِم ْن‬
‫وك ُُّل من ص ِ‬
‫َ ْ َ‬ ‫َ‬
‫َت َسابِ َق ُت ُه َم َع ُه‪.‬‬
‫ح َب ُه‪َ ،‬وكَان ْ‬ ‫َالصحب ِة ع َلى َقدْ ِر ما ص ِ‬
‫َ َ‬ ‫ُّ ْ َ َ‬

‫***الشرح***‬
‫‪33‬‬ ‫؟؟؟‬

‫َّاس َب ْعدَ َه ُؤ ََّل ِء)‪ :‬يعني بعد السابقين من المهاجرين واألنصار‪ ،‬وبعد‬
‫( ُث َّم َأ ْف َض ُل َالن ِ‬

‫فقهاء الصحابة الذين كانوا مع النبي ﷺ يف المدينة‪ ،‬وكانوا ُم َق ّربين من النبي ﷺ‪ :‬يعني‬
‫ث فِ ِ‬
‫يه ْم) النبي ﷺ‪.‬‬ ‫ول َاهَّللِ ﷺ) يف ( َا ْل َق ْر ُن َا َّل ِذي ُب ِع َ‬
‫اب رس ِ‬
‫َق ْرن النبي ﷺ ( َأ ْص َح ُ َ ُ‬
‫وكل من ثبتت له الصحبة‪( :‬ك ُُّل من ص ِ‬
‫ح َب ُه َسنَ ًة َأ ْو َش ْه ًرا َأ ْو َي ْو ًما َأ ْو َسا َعةً‪َ ،‬أ ْو َرآ ُه‬ ‫َ ْ َ‬ ‫ُّ‬ ‫َ ْ‬
‫َف ُه َو ِم ْن َأ ْص َحابِ ِه)؛ وهذا هو ضابط الصحبة الذي اتفق عليه العلماء‪ ،‬و َد َرج عليه‬
‫حب النبي ﷺ‪ ،‬و َم ْن رأى النبي ﷺ مؤمنًا به ثم مات على ذلك‬ ‫ا ْلمحدّ ثون يف أن من ص ِ‬
‫َ ْ َ‬ ‫ُ َ‬
‫فهو من أصحابه‪.‬‬

‫َم ْن رأى النبي ﷺ مؤمنًا به ولو ساعة ثم مات على اإليمان فهو من أصحاب النبي‬
‫ﷺ‪.‬‬

‫وهذا التعريف هو الذي ذكره ابن حجر‪ ،‬و َن َقله عن المحققين من أهل العلم‪ ،‬وهو‬
‫الصحيح‪.‬‬

‫وهؤالء ُهم الذين قال فيهم ا ْل ُم َحدّ ثون والنُّ ّقاد وأهل الجرح والتعديل ُهم الذين‬
‫بحث عن عدالتهم‪.‬‬
‫تجاوزوا القنطرة‪ ،‬وال ُي َ‬

‫فكل َم ْن ثبتت له الصحبة أمسك الناس عن البحث عن عدالته‪.‬‬


‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪34‬‬

‫ِ‬
‫وهذا مما أجمعت عليه األُ ّمة‪ ،‬وتحقق صدْ ق هذا‪ ،‬فإنه ال ُي َ‬
‫عرف –بحمد اهلل‪ -‬أن‬ ‫‪34‬‬

‫أحدً ا ثبتت له الصحبة أنه ُمتّهم بالكذب‪ ،‬أو ُمتّهم عن النبي ﷺ‪ ،‬وإن كانوا ليسوا‬
‫معصومين يف أنه قد َت ِرد عليهم بعض الذنوب‪ ،‬ولكنهم يف بالغهم عن النبي ﷺ لم‬
‫عرف فيهم –بحمد اهلل‪ -‬أن أحدً ا منهم قد انت ُِقد يف روايته‬
‫ُي َج ّرب فيهم الكذب‪ ،‬وال ُي َ‬
‫عن النبي ﷺ‪ ،‬أو ا ُّت ِه َم يف هذا‪.‬‬

‫فكل َم ْن رأى النبي ﷺ مؤمنًا به ومات على ذلك فهو من أصحابه‪.‬‬


‫ويخرج من هذا‪ :‬من رأى النبي ﷺ وص ِ‬
‫حبه وثم ار َتدّ ومات على الردة؛ فهذا ليس‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬
‫فضال أن يكون من أصحاب النبي ﷺ‪.‬‬
‫بمسلم ً‬

‫فيم ْن لقي النبي ﷺ مؤمنًا به ثم ارتد ثم رجع إلى اإلسالم‪،‬‬


‫ثم اختلف العلماء َ‬
‫فهل يكون من أصحاب النبي ﷺ؟‬

‫خالف بين أهل العلم؛ وهذا بنا ًء على أصل ُم َق ّرر عند أهل العلم‪ :‬أ ّن َم ْن ارتد‬
‫ورجع إلى اإلسالم هل يرجع إليه عمله أو أنه يحبط العمل بالردة؟‬

‫هناك خالف بين أهل العلم‪:‬‬

‫وأما َم ْن َل ِقي النبي ﷺ مؤمنًا به ثم مات على اإليمان فهو من أصحابه‪ ،‬وهؤالء‬
‫ُهم خيار األُ ّمة‪ُ ،‬‬
‫وهم أفضل مم ْن يأيت من بعدهم‪.‬‬
‫‪35‬‬ ‫؟؟؟‬

‫َت َسابِ َق ُت ُه َم َع ُه‪َ ،‬و َس ِم َع ِمنْ ُه‪َ ،‬و َن َظ َر‬ ‫قال‪َ ( :‬له ِمن َالصحب ِة ع َلى َقدْ ِر ما ص ِ‬
‫ح َب ُه‪َ ،‬وكَان ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ ْ ُّ ْ َ َ‬
‫إِ َل ْي ِه َن ْظ َرةً)‪ :‬فعلى َقدْ ر ُصحبة النبي ﷺ والجلوس معه تثبت هبذا الصحبة خال ًفا ل ِ َمن‬
‫ذهب من أهل العلم إلى أنه ال يكون صحاب ًّيا حتى يسمع من النبي ﷺ‪ ،‬فهذا مرجوح‪.‬‬

‫والصحيح‪ :‬أنه َم ْن رأى النبي ﷺ وإن لم يخاطبه وإن لم ُي َحدّ ثه‪ ،‬حتى ولو رآه يف‬
‫الحج يف تلك الجموع العظيمة مم ْن َح ّج مع النبي ﷺ رأى رسول اهلل ﷺ ومات على‬
‫اإليمان به فهو من أصحاب النبي ﷺ‪.‬‬

‫وهذا يدل على أن هذه منزلة وفضل؛ ولهذا َع َصم اهلل عز وجل أصحاب النبي ﷺ‬
‫من كل فتنة هبذه المنزلة وهذه المكانة التي َش ّرفهم اهلل عز وجل هبا‪.‬‬

‫***المتن***‬

‫َو َس ِم َع ِمنْ ُه‪َ ،‬و َن َظ َر إِ َل ْي ِه َن ْظ َرةً‪.‬‬


‫ين َلم ير ْو ُه‪َ ،‬و َل ْو َل ُقوا َاهَّلل بِ َج ِمي ِع اَ ْْلَ ْعم ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ال‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َاه ْم ُص ْح َب ًة ُه َو َأ ْف َض ُل م ْن َا ْل َق ْر ِن َا َّلذ َ ْ َ َ‬
‫َف َأ ْدن ُ‬

‫ح ُبوا َالنَّبِ َّي ﷺ َو َر َأ ْو ُه َو َس ِم ُعوا ِمنْ ُه‪َ ،‬و َم ْن َرآ ُه بِ َع ْين ِ ِه َو َآم َن بِ ِه َو َل ْو‬
‫َان ه ُؤ ََّل ِء َا َّل ِذين ص ِ‬
‫َ َ‬ ‫ك َ َ‬
‫ين َو َل ْو َع ِم ُلوا ك َُّل أَ ْعم ِ‬
‫ال َا ْلخَ ْيرِ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َسا َع ًة َأ ْف َض ُل ل ُص ْح َبته م ْن َالتَّابِع َ‬
‫َ‬

‫***الشرح***‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪36‬‬

‫هذا هو األصل المقرر عند المحققين من أهل العلم‪ ،‬وهو الذي عليه جمهور‬ ‫‪36‬‬

‫السنة‪ :‬أن أدنى أصحاب النبي ﷺ يف الفضل هو أفضل من خيار التابعين‪،‬‬ ‫أهل ُّ‬
‫ين َلم ير ْو ُه‪َ ،‬و َل ْو َل ُقوا َاهَّلل بِ َج ِمي ِع اَ ْْلَ ْعم ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ال)‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َاه ْم ُص ْح َب ًة ُه َو َأ ْف َض ُل م ْن َا ْل َق ْر ِن َا َّلذ َ ْ َ َ‬
‫( َف َأ ْدن ُ‬

‫ٌ‬
‫تفضيل لألفراد على األفراد؛ يعني الخالف نشأ هنا يف تفضيل األفراد على‬ ‫وهذا‬
‫األفراد؛ أفراد الصحابة على أفراد التابعين‪.‬‬

‫وأما تفضيل َقرن الصحابة‪ :‬فهو بإجماع األُمة أفضل من قرن التابعين كما دل على‬
‫هذا الحديث يف [الصحيحين] من حديث عمران بن ُحصين‪َ « :‬خ ْير ال ُق ُر ْون َق ْرين‪ُ ،‬ث ّم‬
‫الذين َي ُل ْونهم‪ُ ،‬ث ّم الذين َي ُل ْونهم»‪.‬‬

‫وإنما نشأ الخالف بين أهل العلم يف أفضل التابعين‪ ،‬وهل هو أفضل من أدنى‬
‫الصحابة يف الفضل؟‬

‫الصحيح‪ :‬أن أدنى الصحابة يف الفضل‪ ،‬وليس فيهم َدينء‪ ،‬وإنما هو َت َف ُ‬


‫اضل بينهم‪،‬‬
‫فهناك أعالهم درجة‪ ،‬وهناك َم ْن هو دوهنم‪ ،‬وإال فأدناهم يف الفضل‪ :‬هو أفضل من‬
‫التابعين‪ ،‬أفضل التابعين وأعالهم درجة هو دون الصحابي‪ ،‬ولو رأى النبي ﷺ مرة‬
‫واحدة ولو لساعة‪.‬‬

‫وهذا مرجعه إلى مسألة عظيمة‪..‬‬


‫شـرح‬

‫سنة‬
‫أصول ال ُّ‬
‫لإلمام أحمد ابن حنبل‬

‫‪$‬‬

‫شرح فضيلة الشيخ الدكتور‬

‫إبراهيم الرحيلي‬

‫حفظه اهلل‬

‫‪1‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪2‬‬

‫‪2‬‬

‫المجلس الخامس‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬والصالة والسالم على أشرف المرسلين نبينا محمد‪،‬‬
‫وعلى آله وصحبه أجمعين‪.‬‬
‫***المتن***‬

‫السنة اإلمام أحمد ابن حنبل ‪ $‬تعالى‪:‬‬ ‫قال إمام أهل ُّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬
‫ين ال َب ِّـر َوا ْل َفا ِجرِ‪َ ،‬و َم ْن َول َي َا ْلخ ََل َفةَ‪َ ،‬و ْ‬
‫اجت ََم َع‬ ‫الس ْم ُع َوال َّطا َع ُة ل ْْلَئ َّمة َوأَميرِ َا ْل ُم ْؤمن َ‬
‫َو َّ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين‪.‬‬ ‫الس ْيف َحتَّى َص َار َخلي َفةً‪َ ،‬و ُس ِّم َي أَم َير َا ْل ُم ْؤمن َ‬ ‫َّاس َع َل ْيه‪َ ،‬و َر ُضوا بِه‪َ ،‬و َم ْن َغ َل َبهم بِ َّ‬ ‫َالن ُ‬
‫***الشرح***‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬وصلى اهلل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله‬
‫وصحبه أجمعين‪.‬‬
‫أما بعد‪:‬‬
‫‪3‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫والسنة‪ ،‬وعليها‬
‫فهذه المسألة هي من المسائل التي دلت عليها األدلة من الكتاب ُّ‬
‫السنة والجماعة؛ فال يكاد يخلو كتاب من ُكتُب االعتقاد‪ ،‬وال الكتب التي‬ ‫اعتقاد أهل ُّ‬
‫السنة من ذِكْر هذه المسألة والتبويب لها‪.‬‬
‫ُصنّفت يف ُّ‬
‫وهذه مسألة عظيمة‪ُ ،‬فتِ َن هبا أو بسببها الكثير من المتأخرين‪ ،‬وأصبح َم ْن يعرف‬
‫لشدة الفتنة يف هذه العصور‬‫هذه المسألة ويعمل هبا هم قِ ّلة قليلة يف الناس؛ وذلك ِ‬
‫ُ‬
‫المتأخرة من جهتين‪:‬‬
‫والمخالفات التي تحصل‪.‬‬
‫‪ -‬من جهة التقصير الذي قد يوجد يف بعض الوالة‪ُ ،‬‬
‫الجدَ ل بأصول عقيدة أهل ال ُّسنة يف هذه المسألة ويف هذا‬
‫‪ -‬ومن جهة أخرى‪َ :‬‬
‫الباب‪ ،‬وما الذي يجب على األُ ّمة أن تقوم به‪ ،‬وما الذي أوجب اهلل عليها يف حق ُوالة‬
‫األمر‪.‬‬
‫َف َك ُث َرت المخالفات‪ ،‬واجتمع أهل البدع بدون استثناء على إنكار هذا األصل؛‬
‫فالخوارج‪ ،‬والمعتزلة‪ ،‬ومن قبلهم الرافضة‪ ،‬وكافة الجماعات الحزبية المتأخرة كلهم‬
‫ُينكرون هذا األصل‪.‬‬
‫وربما وافقهم بعض العوام إما ل ِ َه َوى يف نفوسهم أو لطلب الدنيا على الطعن يف‬
‫والة األمر؛ حتى أصبح َم ْن يقوم هبذا الباب ويعمل به ويدعو إليه هو ُمتّهم يف دينه‪،‬‬
‫و ُمتّهم بالت َّز ُّلف‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪4‬‬

‫ونحن ال نعجب من هذا؛ فإن هذه المسألة قديمة‪ ،‬وما زال الخوارج يطعنون يف‬ ‫‪4‬‬

‫السنة يف هذا الباب بأهنم َيت ََز ّلفون كما جاء يف تفسير الطربي عند تفسير قول اهلل عز‬ ‫أهل ُّ‬
‫ون﴾[المائدة‪ ]44:‬جاء أحد‬ ‫ك ُه ُم الْكَافِ ُر َ‬
‫﴿و َم ْن َل ْم َي ْحك ُْم بِ َما َأنز ََل اهَّللُ َف ُأ ْو َلئِ َ‬
‫وجل‪َ :‬‬
‫الخوارج لبعض أئمة السلف فقال‪ :‬ما تقول يف هؤالء؟ (يعني يف والة األمر)‪.‬‬

‫قال‪ :‬هو دين؛ إن خالفوه عرفوا أهنم ُعصاة‪.‬‬

‫قال‪ :‬كال‪ ،‬ولكنكم تخشونه‪.‬‬

‫قال‪ :‬نحن ال نعرف هذا‪ ،‬أنتم تعرفونه‪.‬‬

‫السنة بأهنم ال يقدرون الطعن على ُوالة‬


‫ور ْمي الخوارج ألهل ُّ‬
‫فالطعن قديم‪َ ،‬‬
‫األمر بسبب خشيتهم‪ ،‬وبسبب الت ََّز ُّلف والتقرب لهم‪ :‬هذا َأ ْم ٌر قديم‪ ،‬وأهل ُّ‬
‫السنة‬
‫يتدينون هبذا‪ ،‬ويعتربونه دينًا يتقربون به إلى اهلل عز وجل‪.‬‬

‫فلو أن والة األمر َأذِنوا لهم بالتشهير والطعن –كما يحصل يف بعض البلدان‬
‫عندما َيدّ عي بعض والة األمر الديمقراطية وغيرها‪ ،‬ويأذنون للناس بالتعبير عن آرائهم‬
‫السنة ال يطعنون فيهم؛ ألهنم عندما ُيحققون هذا‬
‫والطعن يف والة األمر‪ -‬فإن أهل ُّ‬
‫األصل ال يتقربون به إلى الناس‪ ،‬وإنما يتقربون به إلى اهلل عز وجل‪.‬‬
‫‪5‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫ين ال َب ِّـر َوا ْل َف ِ‬‫ِِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬


‫اجرِ)‪ :‬فالسمع والطاعة‬ ‫الس ْم ُع َوال َّطا َع ُة ل ْْلَئ َّمة َو َأميرِ َالْ ُم ْؤمن َ‬
‫فقال‪َ ( :‬و َّ‬
‫بضوابطها الشرعية؛ وهي‪ :‬ما جاء يف الحديث‪« :‬إِن ََّما ال َّطا َعة فِي ا ْل َم ْع ُروف»‪ً ،‬‬
‫وأيضا يف‬
‫الس ْمع َوالطَّاعة فِي‬ ‫ِ‬
‫بعض األحاديث‪ََ « :‬ل َس ْمع َو ََل َطا َعة إ ِ ََّل في ا ْل َم ْع ُروف»‪َ « ،‬ع َل ْيكُم بِ َّ‬
‫ا ْل َمعروف»‪.‬‬

‫كما َبينت األحاديث الضابط لهذه المسألة‪ :‬أن الطاعة يف المعروف‪ ،‬و« ََل َطا َعة‬
‫لِ َمخْ ُل ْوق فِي َم ْع ِص َية ا ْلخَ الِق»‪.‬‬

‫والمعروف‪ :‬هو المعروف من دين اهلل عز وجل‪.‬‬

‫و َد َخل يف هذا‪ :‬المشروع؛ الذي َش َرعه اهلل عز وجل مما يتعلق َبأ ْمر الدين‪.‬‬

‫ودخل يف هذا‪ :‬ما ليس بمعصية من األمور المباحة‪.‬‬

‫الح ّكام يف هذه العصور‬


‫ومن هنا دخلت كافة األحكام واألنظمة التي أحدثها ُ‬
‫المتأخرة لمصالح المسلمين دخلت يف المعروف؛ ألهنا ليست بمعصية‪.‬‬

‫ومن هذا‪ :‬أنظمة المرور‪ ،‬وأنظمة الجوازات‪ ،‬وأنظمة الجمارك‪ ،‬وأنظمة التجارة‪،‬‬
‫وسائر األنظمة التي أحدثها ُوالة األمر لتحقيق مصالح المسلمين‪ ،‬أو لتحقيق‬
‫المصالح العامة للمسلمين ولغيرهم‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪6‬‬

‫فإن هذه ليست من المعاصي‪ ،‬وإنما هي أقصى ما يقال فيها‪ :‬أهنا من األمور‬ ‫‪6‬‬

‫المباحة إن كانت مما يتعلق َبأ ْمر الدنيا‪.‬‬

‫وأما إن كانت متعلقة َبأ ْمر الدين فهي من دين اهلل عز وجل‪.‬‬

‫وسنّها للناس و َأ َمر الناس هبا َو َج َ‬


‫ب عليهم أن ُيطيعوه يف‬ ‫لكن إذا َأ َم َر هبا ولي األمر َ‬
‫هذا األمر؛ ألن هذا دخل تحت الطاعة يف المعروف‪.‬‬

‫و َم ْن خالف يف هذا فهو ُمخالف هلل ولرسوله ﷺ‪ ،‬كما جاء يف الحديث عن النبي‬
‫ص ْاْلَ ِم ْير َف َقدْ‬
‫وم ْن َي ْع ِ‬ ‫ِ‬
‫وم ْن َأ َطا َعني َف َقد َأ َط َ‬
‫اع اهَّلل‪َ ،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اع ْاْلَم ْير َف َقدْ َأ َطا َعني‪َ ،‬‬
‫ﷺ‪َ « :‬م ْن َأ َط َ‬
‫وم ْن َع َصانِي َف َقدْ َع َصى اهَّلل» فدخل يف هذا كل ما يأمر به والة األمر من هذه‬ ‫ِ‬
‫َع َصاني‪َ ،‬‬
‫األمور التي هي ليست بمخالفات شرعية‪.‬‬

‫بل إن المصلحة تقتضي وجود هذه األنظمة حتى تستقيم للناس أمور حياهتم‬
‫ويستطيعون أن يعيشوا يف هذه العصور المتأخرة يف نظا ٍم يكفل لهم مصالحهم‪.‬‬

‫وقد َج ّرب الناس‪ ،‬وما ُأحدثت هذه األنظمة إال بسبب التجربة‪ ،‬من أن المصلحة‬
‫تقتضي ذلك‪.‬‬

‫فأنظمة المرور وما يحصل بسببها من ِح ْفظ األرواح بإذن اهلل عز وجل هذه‬
‫المصلحة الشرعية‪.‬‬
‫‪7‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫وكذلك ما يحصل من المخالفات عندما ُتق َطع اإلشارة‪ ،‬فكم من ُأناس ُقتلوا‬
‫بسبب قطع إشارة‪ ،‬و َت َس َّبب يف هذا رجل يقول‪( :‬ال سمع وال طاعة)! وهذه ليست مما‬
‫جاء يف كتاب اهلل‪ ،‬وهذا من َج ْهله‪ ،‬فإن هذا يأثم و ُيخشى أن يرتتب على هذا أنه ُمتسبب‬
‫يف َقتْل األَ ْن ُفس الربيئة‪ ،‬و ُي َ‬
‫خشى عليه أن يكون هذا القتل من شبيه العمد وأن يأثم به‪.‬‬

‫ألنه فيه مخالفة ل ِ َولي األمر الذي َس ّن هذا النظام‪ ،‬وبسابق خربة‪ ،‬وبسابق معرفة أنه‬
‫وح ْفظ األرواح‪.‬‬ ‫فيه المصلحة ِ‬

‫الس ْم ُع َوالطَّا َع ُة لِ ْْلَئِ َّم ِة)‪ :‬واألئمة‪ :‬يقصد هبم ُوالة األمور‪ ،‬وهو اإلمام‬
‫فقال‪َ ( :‬و َّ‬
‫األعظم الذي َر ِضيه الناس‪ ،‬وثبتت إمامته بإحدى الطرق الشرعية‪.‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫( َو َأميرِ َا ْل ُم ْؤمن َ‬
‫ين)‪ :‬وهذا ُمسمى لإلمام؛ فإنه ُيسمى بـ (أمير المؤمنين‪ ،‬أو اإلمام‪،‬‬
‫أو الخليفة‪ ،‬أو الرئيس)؛ كل هذه ُمسميات لوالة األمر‪ ،‬وال ُمشاحة يف االصطالح؛ فال‬
‫سمى رئيس‪ ،‬أو أمير‪ ،‬أو ملك‪ ،‬أو أمير المؤمنين‪ ،‬أو اإلمام األعظم؛ كل هذه‬
‫بأس أن ُي ّ‬
‫ُمسميات ال ُت َغ ِّير من الحقيقة شيء‪.‬‬

‫فهؤالء األئمة يجب على أهل اإلسالم طاعته فيما ُأمروا به يف المعروف‪.‬‬
‫قال‪( :‬ال َب ِّـر َوا ْل َف ِ‬
‫اجرِ)‪ :‬وهذا ال َقيد هو الذي َم ّيز عقيدة أهل ُّ‬
‫السنة عن الخوارج‬
‫والمعتزلة وكافة طوائف أهل البدع؛ ألن الخوارج يرون السمع والطاعة من األئمة إن‬
‫كانوا من األبرار وإن كانوا ال يعصون اهلل‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪8‬‬

‫السنة تميزوا عن غيرهم بالسمع والطاعة مع وجود المعصية من ولي‬


‫ولكن أهل ُّ‬
‫‪8‬‬

‫األمر‪.‬‬

‫وال ُيعنَى بـ (المعصية)‪ :‬أنه يأمر بالمعصية ف ُيطيعونه يف هذه المعصية‪ ،‬لكنه قد‬
‫الخ ْلق‪ ،‬لكنه إن َأ َم َر َبأ ْم ٍر ال‬
‫يعصي اهلل فيما بينه وبين اهلل‪ ،‬أو يعصي اهلل فيما بينه وبين َ‬
‫يتعلق بمعصية فإن معصيته ال ُتزيل واليته‪.‬‬

‫مثال ذلك‪ :‬لو شرب الخمر‪ ،‬وزنا‪ ،‬و َأكَل الربا‪ ،‬ودعا إلى الجهاد؛ فإنه ُي َل ّبى َط َلبه‬
‫جاهد معه‪ ،‬و ُي َح ّج معه‪ ،‬وال نقول‪( :‬ال نُجاهد معه ألنه فاسق)‪.‬‬
‫بالدعوة إلى الجهاد‪ ،‬و ُي َ‬

‫ولكن إن قال‪( :‬كُلوا الربا‪ ،‬واشربوا الخمر) و َأ َمر بالمعاصي فإنه ال ُيطاع يف هذه‬
‫المعصية‪.‬‬

‫وإن كانت المعصية فيما بينه وبين اهلل فإن هذا ال ُتزيل واليته‪ ،‬وال يجوز الخروج‬
‫عليه يف وجود المعاصي حتى يحصل الحد الذي َب ّينه النبي ﷺ‪ ،‬وهو الكفر البواح‬
‫الذي يكون عند األُمة فيه برهان‪ ،‬أي أهنا ال تشك فيه‪.‬‬

‫ثم بعد ذلك هناك ضوابط أخرى قبل الخروج ينبغي أن تُرا َعى‪:‬‬

‫منها‪ :‬أن يكون للمسلمين ُقدرة على إزالته دون مفسدة عظيمة‪.‬‬

‫الحجة به‪ ،‬فهو يكفر عينًا‪.‬‬


‫ومنها‪ :‬أن يكون هذا الكفر الذي وقع منه قد قامت عليه ُ‬
‫‪9‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫أيضا أن ُيرا َعى يف هذا أن ال يرتتب على هذا مفسدة أعظم من المفسدة‬
‫ثم ً‬
‫الموجودة‪ ،‬مثل‪ :‬أن ُيزال حاكم قد َبدَ ر منه الكفر‪ ،‬ثم يأيت كافر أصلي يتسلط على‬
‫المسلمين فهذا ال مصلحة يف إزالته‪ ،‬بل إن الرضا بإمامته والسمع والطاعة يف‬
‫المعروف حتى ُييسر اهلل عز وجل ألهل اإلسالم َم ْن يتولى عليهم من المسلمين‬
‫العدول الذين يحكموهنم بشرع اهلل عز وجل‪.‬‬

‫بحال من األحوال مهما ارتكب ولي‬ ‫وأما قبل الكفر البواح فإنه ال يجوز لألُمة ‪ٍ -‬‬

‫فضال أن ُيتّهم يف ن ِ ّيته‪،‬‬


‫ً‬ ‫األمر من المخالفات والمعاصي‪ -‬ال يجوز الخروج عليه‪،‬‬
‫فضال أن ُيتّهم بالتّهم الباطلة والكذب‪ ،‬ثم ُتتّخذ هذه ذريعة للتكفير‪ ،‬ثم ذريعة‬
‫ً‬
‫للخروج! فهذا دين الخوارج والمعتزلة وأهل البدع‪.‬‬

‫لسنة‪ :‬ما ُع ِرفوا إال بالسمع والطاعة لوالة األمر مع المناصحة‪ ،‬فإن أهل‬
‫وأما أهل ا ُّ‬
‫السنة ال يعني هبذا أهنم ال ُيناصحون‪ ،‬وأهنم ال ُي َح ّركون ساكنًا كما َيدّ عي خصومه‪.‬‬
‫ُّ‬

‫بل إهنم ُيناصحون ويتصلون بوالة األمر‪ ،‬وال يهجروهنم‪ ،‬ويدخلون عليهم‪،‬‬
‫و ُيب ّينون لهم األحكام الشرعية‪ ،‬و ُيناصحوهنم ِس ًّرا وال يشهرون‪ ،‬ويقولون‪ :‬نصحنا‬
‫وفعلنا كما يفعل بعض أهل البدع‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪10‬‬

‫وهذا َأ ْمر َج ّربه و َع َر َفه الكثير من المعاصرين من علمائنا الذين لهم اتصال كبير‬ ‫‪10‬‬

‫بوالة األمر‪ ،‬وبين والة األمر والعلماء ود ِ‬


‫وصلة عظيمة‪ ،‬كلها قائمة على الوالء يف اهلل‬ ‫ُ ّ‬
‫عز وجل‪.‬‬

‫خير عظيم و َن ْفع لم يحصل بما أحدثه أهل البدع من الطعن يف والة‬
‫وحصل هبذا ٌ‬
‫األمر‪.‬‬

‫بل إن والة األمر يف كثير من بلدان المسلمين ما تجرءوا على المسلمين‪ ،‬وما‬
‫أكرهوهم على َح ْلق ال ّلحى‪ ،‬وعلى اإلسبال‪ ،‬ومنعوهم من الصالة يف المساجد إال بعد‬
‫أن تكلم َم ْن ينتسب إلى العلم‪ ،‬و َم ْن ينتسب إلى اإلسالم و َط َع َن يف والة األمر‪.‬‬
‫حدث فتنة‪ ،‬ويريد أن ي ِ‬
‫حدث‬ ‫فإنه ال يوجد ولي َأمر حتى ولو كان كافرا يريد أن ي ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬
‫الح ّكام بكل ُملتزم‪ ،‬وبكل َم ْن ُيعفي لحيته‪،‬‬
‫َشغب يف بلده‪ ،‬ولكن هؤالء أغروا ُ‬
‫وص ّوروه أنه عدو لهم!‬
‫َ‬

‫السنة أن‬
‫وهذه فتنة عظيمة‪ ،‬ينبغي على المسلمين وعلى طالب العلم وعلى أهل ُّ‬
‫السنة من والة األمر‪ ،‬وأهنم ال يخرجون عليهم‪ ،‬وال يرون ُمنازعتهم‬
‫ُيب ّينوا موقف أهل ُّ‬
‫يف سلطاهنم‪ ،‬بل يرون َج ْمع القلوب عليهم مع أهنم ال يطيعوهنم يف معصية‪ ،‬وإنما‬
‫ُيطيعوهنم يف المعروف‪.‬‬
‫‪11‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫ين ال َب ِّـر َوا ْل َف ِ‬‫ِِ‬ ‫ِ‬


‫فاجرا فإن واليته‬
‫ً‬ ‫اجرِ)‪ :‬يعني سواء كان َب ًّرا أو‬ ‫قال‪َ ( :‬و َأميرِ َا ْل ُم ْؤمن َ‬
‫باقية‪ ،‬والسمع والطاعة باقية له ما لم يأمر بمعصية‪ ،‬فإن َأ َم َر بمعصية يف مسألة من‬
‫نازع يف سلطانه‪.‬‬
‫المسائل فإنه ال ُيطاع يف هذه المسألة‪ ،‬ولكنه ال ُي َ‬

‫َّاس َع َل ْي ِه‪َ ،‬و َر ُضوا بِ ِه)‪ :‬يعني هذا هو ولي‬


‫اجت ََم َع َالن ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قال‪َ ( :‬و َم ْن َول َي َا ْلخ ََل َفةَ‪َ ،‬و ْ‬
‫األمر‪.‬‬

‫والوَلية تثبت بإحدى الطرق‪:‬‬

‫أميرا عليهم‪.‬‬
‫رجال ً‬
‫‪ -‬إما بالبيعة من الناس؛ بأن ُيبايعوا ً‬

‫‪ -‬أو بالوصية من اإلمام الذي قبله؛ بأن يوصي له‪.‬‬

‫بجنده وسالحه فيصبح‬ ‫‪ -‬وإما بال َغ َلبة والقهر؛ بأن يتغلب ٌ‬


‫رجل على أهل بلد ُ‬
‫أميرا بال َغ َلبة والقهر‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ُم َه ْيمنًا ُمتَ َغ ِّل ًبا ُم ً‬
‫سيطرا بسالحه؛ فهذا يكون ً‬

‫فاجرا فإنه ال سبيل إلى ُمنازعته‪ ،‬بل يجب السمع والطاعة له يف‬
‫وسواء كان َب ًّرا أو ً‬
‫المعروف ما لم يأمر بمعصية‪.‬‬

‫فإن َأ َمر بمعصية فال يقع‪.‬‬

‫وأما ما عدا ذلك فهو من األئمة‪.‬‬


‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪12‬‬

‫وتختلف الوالية التي تكون بال َغ َلبة والقهر يف أنه ال ُقدرة للمسلمين يف تحقيق‬ ‫‪12‬‬

‫ؤهال لإلمامة‪.‬‬
‫شروط الوالية من العدالة والعلم وأن يكون ُم ً‬

‫وأما عند اَلختيار‪ :‬فيجب عليهم أن يختاروا العدل‪ ،‬ويجب عليهم أن ُيراعوا‬
‫الشروط التي جعلها اهلل عز وجل‪ ،‬و َب ّينها النبي ﷺ شرو ًطا ل ِ َول ِ ّي األمر‪.‬‬

‫وأما عند التغلب‪ :‬فال سبيل إلى تحقيق هذه الشروط ألن هذا ُمتَغ ّلب‪ ،‬وإنما‬
‫وإن َأ َمر بمعصية فإنه ال ُيطاع يف‬
‫نازع وال يجوز الخروج عليه‪ْ ،‬‬
‫ُيسمع له و ُيطاع‪ ،‬وال ُي َ‬
‫هذه المعصية‪.‬‬

‫وأما بقية األحكام‪ :‬فهو من والة األمر‪.‬‬

‫***المتن***‬

‫اض َم َع اإلمام إِ َلى َي ْو ِم َا ْل ِق َي َام ِة ال َب ِّـر َوا ْل َفا ِجرِ ََل ُيت َْر ُك‪.‬‬
‫َوا ْل َغز ُْو َم ٍ‬

‫اض َل ْي َس ِْلَ َح ٍد َأ ْن َي ْط َع َن َع َل ْي ِه ْم‪َ ،‬و ََل‬


‫َوقِ ْس َم ُة َا ْل َف ْي ِء َوإِ َق َام ُة َا ْل ُحدُ ودِ إِ َلى َا ْْلَئِ َّم ِة َم ٍ‬
‫ُين ِ‬
‫َاز ُع ُه ْم‪.‬‬

‫***الشرح***‬

‫( َوا ْل َغز ُْو َم ٍ‬


‫اض َم َع) األمراء‪ :‬هذا يف الرد على الخوارج وعلى الرافضة الذين‬
‫َ‬
‫بالخشبية‪،‬‬ ‫قديما‬
‫ً‬ ‫المهدي؛ ولهذا كانوا يسموهنم‬
‫يقولون‪ :‬ال يكون الجهاد إال مع َ‬
‫‪13‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫يقولون‪ :‬ال نقاتل إال بالخشب‪ ،‬وأما السيف‪ :‬فال يكون إال مع المعصوم‪ ،‬ال يكون قتال‬
‫وال جهاد إال مع المعصوم‪.‬‬

‫وينتظرون المهدي الذي اختفى يف السرداب سنة مائتين وست وخمسين‪،‬‬


‫ويدعونه‪ ،‬ويدعون له يف كُتبهم بـ ( َع ّجل اهلل َف َرجه) وينتظرونه هذه الفرتة الطويلة‪.‬‬

‫ويزعمون أنه إذا خرج أنه سيقيم دينهم‪ ،‬وأنه ُي ِ‬


‫خرج أصحاب النبي ﷺ من‬
‫قبورهم‪ ،‬و ُي َع ِّذهبم‪ ،‬وأنه يرجع األئمة! إلى غير ذلك من أكاذيب وأباطيل الرافضة‪.‬‬

‫أيضا ال يرون الجهاد مع والة األمر إذا ُو ِجدت المخالفة؛ ولهذا‬


‫والخوارج ً‬
‫خرجوا على علي رضي اهلل عنه‪ ،‬و َك ّفروه‪ ،‬وخلعوا َب ْيعته‪ ،‬وطلبوا منه التوبة من الكفر‪،‬‬
‫وزعموا أنه ال َس ْمع وال طاعة له عليهم ما دام أنه قد َع َصى –بِ َزعمهم‪.-‬‬

‫وهذا ال شك أهنا هي عقيدة الرافضة إلى اليوم‪ ،‬ال يرون الجهاد‪ ،‬وال يرون‬
‫االئتمام باألئمة ما داموا ُعصاة‪.‬‬

‫والحج ما ٍ‬
‫ض مع كل إمام سواء كان َب ًّرا أو‬ ‫السنة‪ :‬فما زالوا يرون الجهاد َ‬
‫وأما أهل ُّ‬
‫فاجرا‪.‬‬
‫ً‬
‫اض َم َع (اإلمام) واْلُمراء إِ َلى َي ْو ِم َا ْل ِق َي َام ِة ال َب ِّـر َوا ْل َف ِ‬
‫اجر ََل ُيت َْر ُك)‪:‬‬ ‫قال‪َ ( :‬وا ْل َغز ُْو َم ٍ‬

‫ألن هذه مصلحة من مصالح المسلمين‪.‬‬


‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪14‬‬

‫إذا داهم العدو بلد من بالد المسلمين فيجب على أهل اإلسالم أن ُيجاهدوا مع‬ ‫‪14‬‬

‫ُوالهتم‪ ،‬ومع أئمتهم‪ ،‬وال يجوز لهم أن يتخلفوا إذا نَدَ ب ولي األمر الناس إلى الجهاد‬
‫لوجود معصية من اإلمام‪ ،‬وإنما يجب عليهم أن ي ِ‬
‫جاهدوا‪.‬‬ ‫ُ‬

‫مم ْن بقي من أصحاب النبي ﷺ َل ّما ُو ِجد بعض األمراء يف الدولة‬


‫كما كان العلماء َّ‬
‫األُموية َش ِهدوا معهم‪ ،‬ولم ينزعوا يدً ا من طاعة‪ ،‬وكانوا ُيجاهدون مع َ‬
‫الح ّجاج‪،‬‬
‫الح ّجاج ويجاهدون يف سبيل اهلل‪،‬‬
‫ويخرجون يف الجيوش والسرايا التي كان يأمر هبا َ‬
‫الح ّجاج فاسق ال يجوز الجهاد معه‪ ،‬وال يجوز الجهاد تحت رايته‪.‬‬
‫وما قالوا‪ :‬إن َ‬

‫اض َل ْي َس ِْلَ َح ٍد َأ ْن َي ْط َع َن َع َل ْي ِه ْم‪َ ،‬و ََل‬


‫(وقِ ْس َم ُة َا ْل َف ْي ِء َوإِ َق َام ُة َا ْل ُحدُ ودِ إِ َلى َا ْْلَئِ َّم ِة َم ٍ‬
‫َ‬
‫أيضا هذه من واجبات ولي األمر‪ ،‬فال يجوز ألحد أن ُين َِّصب نفسه بأن‬ ‫ُين ِ‬
‫َاز ُع ُه ْم)‪ً :‬‬
‫يقسم ال َفيء عند وجود الجهاد وعند وجود الغنائم‪ ،‬وكذلك إقامة الحدود‪ ،‬فإنه ليس‬
‫ألحد من عامة الناس أن يقوم هبذا‪ ،‬حتى من العلماء‪ ،‬حتى من أئمة المساجد‪ ،‬حتى‬
‫الرجل يف أهل بيته ال يجوز له أن ُيقيم الحدود‪.‬‬

‫وإنما ُيقيم الحدود ولي األمر؛ الذي هو مسئول عن هذا‪ُ ،‬ير َفع إليه‪ ،‬وعند ذلك إن‬
‫أقام الحد فهذا له‪ ،‬وبرئت الذمة‪ ،‬وإن لم ُي ِقم الحدود فإنه ليس على األُمة شيء يف‬
‫هذا‪ ،‬هذا واجب ولي األمر‪َ « ،‬ع َل ْيكُم َما ُح ّملتم‪َ ،‬و َع َليْهم َما ُح ِّم ُلوا» هم المسئولون‪.‬‬
‫‪15‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫ثم قال‪َ ( :‬ل ْي َس ِْلَ َح ٍد َأ ْن َي ْط َع َن َع َل ْي ِه ْم‪َ ،‬و ََل ُين ِ‬


‫َاز ُع ُه ْم)‪ :‬يعني ال يطعن عليهم يف هذا‪،‬‬
‫وال ُينازعهم‪ ،‬إن اجتهد ولي األمر ولم ير إقامة الحد على فالن ُ‬
‫لشبهة فإنه ليس ألحد‬
‫أن ُينازعه يف هذا‪ ،‬وليس له أن ُين َِّصب نفسه َح َك ًما يحكم يف األئمة‪ ،‬ويِتّهمهم بالمداهنة‬
‫والت ََّز ّلف‪.‬‬

‫بل ولي األمر هو الذي يجتهد ويرى إقامة الحدود أو الت َّْرك لمصلحة يراها‪ ،‬فإن‬

‫الحدود ُت َ‬
‫درأ بالشبهات‪ ،‬وولي األمر هو الذي يجتهد يف هذا‪.‬‬

‫***المتن***‬

‫ات إِ َل ْي ِه ْم َجائِ َز ٌة ونَافِ َذةٌ‪َ ،‬م ْن َد َف َع َها إِ َل ْي ِه ْم َأ ْجز ََأتْه َب ًّـرا ك َ‬


‫َان َأ ْو َف ِ‬
‫اج ًرا‪.‬‬ ‫ود ْفع َالصدَ َق ِ‬
‫َ َ ُ َّ‬

‫***الشرح***‬

‫َد ْفع الصدقات هي الزكاة‪ّ ،‬‬


‫أن ولي األمر هو المسئول عن جبايتها وعن توزيعها‪،‬‬
‫وعن إيصالها إلى مستحقيها‪ ،‬فإذا َط َلبها َو َجب عليهم أن يؤدوا إليه الزكاة‪ ،‬وال أن‬
‫َيدّ خروا شي ًئا منها‪ ،‬وأما إذا أسند إليهم قِسمة الزكاة َف َلهم أن يقوموا هبذا؛ فهذا من‬
‫واجبات ولي األمر‪.‬‬

‫وكذلك إذا ُدفعت ل ِ َو ِّلي األمر أجزأته‪ ،‬سواء وضعها يف مصارفها أو استأثر هبا‪،‬‬
‫فإن ما زال العلماء وما زالت األُ ّمة تعطي الزكاة ل ِ َو ِّلي األمر وال يحاسبونه بعد ذلك‪،‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪16‬‬

‫وال ُيسألون ماذا فعل بالزكاة‪ ،‬وهل أوصلها إلى مستحقيها َأ ْم ال؛ ألنه هو المسئول‪،‬‬ ‫‪16‬‬

‫برئت ذِ ّمتهم بإعطاء الزكاة ل ِ َو ِّلي األمر‪.‬‬

‫وبعد ذلك هذه أمانة ُم َع ّلقة بولي األمر؛ إن أداها فقد برئت ذِ ّمته‪ ،‬وإن لم يؤ ّدها‬
‫فإنه س ُيسأل عنها يوم القيامة‪.‬‬

‫وكثير من أهل الجهل يريدون هبذه الدنيا أن تكون دار جزاء و ُمحاسبة‪ ،‬وأنه ال‬
‫ٌ‬
‫حاسب؛ وهذا َج ْهل؛ فإن باب الواليات‪ :‬الناس ما ُيؤدون‬
‫خرج أحد من الدنيا حتى ُي َ‬
‫ُي َ‬
‫الج َهلة‪( :‬ما من‬
‫حاسب‪ ،‬كما يقول بعض َ‬
‫عليهم‪ ،‬وولي األمر حسابه على اهلل‪ ،‬وال ُي َ‬
‫حاكم إال وس ُيحاكَم) يعني يف الدنيا قبل يوم القيامة! هذا َج ْهل‪.‬‬

‫الحاكم هو الذي يحكم يف الناس يف الدنيا ويقضي وفيه‪ ،‬ومسئوليته عظيمة؛ إن‬
‫يتنصب‬ ‫َف ّرط فهو مسئول وهو ُم َ‬
‫حاسب عند اهلل عز وجل‪ ،‬وأما أن ُين َِّصب الناس أو أن ّ‬
‫رجل من الناس أن ي ِ‬
‫حاسب ولي األمر فإن هذه فتن ال تنتهي‪ ،‬فإن الناس ال يمكن أن‬ ‫ُ‬
‫يجتمعوا على ر ْأي‪ ،‬وكل إنسان له رأي‪ ،‬وكل إنسان له اجتهاد‪.‬‬

‫فمتى نجتمع وعلى أي رأي نأتلف؟! ال يكون هذا إال على رأي ولي األمر؛‬
‫فاجتهاده يرفع الخالف‪ ،‬وإذا اجتهد يف مسألة فإنه ليس ألحد من األُ ّمة أن يتّهمه‬
‫باجتهاده‪.‬‬

‫***المتن***‬
‫‪17‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫َو َص ََل ُة َا ْل ُج ْم َع ِة َخ ْل َف ُه َو َخ ْلفَ َم ْن َو َّلى َجائِ َز ٌة ت ََّام ٌة َر ْك َع َت ْي ِن‪َ ،‬م ْن أَ َعا َد ُه َما َف ُه َو ُم ْبت َِد ٌع‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ف لِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َار ٌك لِ ْْل َث ِ‬
‫ت ِ‬
‫ف‬ ‫لص ََل َة َخ ْل َ‬ ‫لسنَّة‪َ ،‬ل ْي َس َل ُه م ْن َف ْض ِل َا ْل ُج ْم َعة َش ْي ٌء إِ َذا َل ْم َي َر َا َّ‬ ‫ار‪ُ ،‬مخَ ال ٌ ُّ‬
‫اجرِ ِه ْم‪.‬‬
‫َا ْْلَئِ َّم ِة َم ْن كَانُوا َب ِّر ِه ْم َو َف ِ‬

‫َامةٌ‪َ ،‬و ََل َيك ُْن فِي‬


‫ين بِ َأن ََّها ت َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫السنَّةُ‪َ :‬أ ْن ت َُص ِّل َي َم َع ُه ْم َر ْك َع َت ْي ِن َأ َعا َد ُه َما َف ُه َو ُم ْبتَد ٌع‪َ ،‬وتد َ‬
‫َف ُّ‬
‫ك‪.‬‬ ‫ك َش ٌّ‬ ‫َصدْ ِر َك ِم ْن َذلِ َ‬

‫***الشرح***‬

‫َام ٌة َر ْك َع َت ْي ِن)‪ :‬وهذا أصل من‬ ‫ِ‬ ‫قال‪َ ( :‬و َص ََل ُة َا ْل ُج ْم َع ِة َخ ْل َف ُه َو َخ ْل َ‬


‫ف َم ْن َو َّلى َجائ َز ٌة ت َّ‬
‫السنة‪ :‬أن الصالة جائزة خلف المخالف‪ ،‬وخلف العاصي‪ ،‬وخلف‬
‫أصول أهل ُّ‬
‫مرتكب الكبيرة‪ ،‬وخلف المبتدع‪.‬‬

‫والقاعدة عند الفقهاء‪َ :‬م ْن َص ّحت صالته يف نفسه صح االقتداء به‪.‬‬

‫فالمسلم مهما كان ُمذن ًبا عاص ًيا ُمبتد ًعا فإن صالته مقبولة إذا تحققت فيها شروط‬
‫فم ْن َص ّحت صالته يف نفسه َص ّح االقتداء به‪ ،‬وال‬
‫صحة الصالة‪ ،‬فالصالة مقبولة‪َ ،‬‬
‫السنة أنه يرى ُبطالن الصالة خلف أحد من أهل‬
‫عرف عن أحد من أهل العلم من أهل ُّ‬
‫ُي َ‬
‫البدع‪ ،‬أو أحد من أهل المعاصي‪ ،‬وإنما يرون االقتداء هبم‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪18‬‬

‫وأما َت ْرك الصالة خلف بعض أهل البدع‪ ،‬وخلف بعض أهل المعاصي من باب‬ ‫‪18‬‬

‫السنة‪.‬‬
‫الهجر‪ :‬فهذا معروف ومشهور عند أهل ُّ‬

‫هجر‬
‫اله ْجر؛ أن ُي َ‬
‫وهذا ليس التَّرك ألن الصالة خلف هذا باطلة‪ ،‬ولكن من باب َ‬
‫هذا اإلمام المبتدع حتى ينزجر عن هذه المخالفة وعن هذه البدعة‪.‬‬

‫السنة تركوا الصالة خلف هؤالء َتدَ ُّينًا بمعنى أن هذا الرجل ال‬
‫وال ُي ْع َرف أن أهل ُّ‬
‫اله ْجر لهذا اإلمام حتى يرجع عن‬
‫يصح االقتداء به‪ ،‬وإنما كانوا يرتكون هذا من باب َ‬
‫مخالفته‪.‬‬

‫وأما مصلحة الصالة‪ :‬فنعم‪ ،‬فالصالة خلف العدل أفضل وأكمل‪ ،‬ولكن النزاع‪ :‬يف‬
‫السنة‪ :‬أن الصالة‬ ‫ِ‬
‫المخالف والعاصي والمبتدع؟ بإجماع أهل ُّ‬
‫هل الصالة باطلة خلف ُ‬
‫صحيحة يف أصلها‪ ،‬وأما الكمال‪ :‬فال شك أن اإلمام إن كان عَدْ ًال وإن كان من أهل‬
‫السنة فالصالة خلفه أكمل وأفضل‪.‬‬
‫ُّ‬

‫لكن إن أدى َت ْرك الصالة خلف المبتدع وخلف اإلمام (إمام الحي‪ ،‬أو إمام البلد)‬
‫إن كان من أهل البدع يؤدي َت ْرك الصالة خلفه إلى فتنة فإنه ال ُترتَك الصالة خلفه حتى‬
‫السنة وخلف‬
‫لطلب مصلحة الصالة وال الكمال يف الصالة بالصالة خلف أهل ُّ‬
‫العدول‪.‬‬
‫‪19‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫فإ ًذا صالة الجمعة هي جائزة خلف اإلمام الذي حصل منه الفجور والمخالفة‪،‬‬
‫سوا ٌء ببدعة أو بمعصية‪.‬‬

‫وذكر هنا الجمعة ولم يذكر الصلوات الخمس‪.‬‬

‫والحكم يف الصلوات كلها واحد‪ ،‬ولكن َن ّبه شيخ اإلسالم إلى أن األئمة كانوا‬
‫ُ‬
‫للج َمع وللعيدين ال يكون لهما‬
‫يذكرون الجمعة والعيدين ألن األئمة يف تلك العصور ُ‬
‫إال إما ًما واحدً ا‪.‬‬

‫فإذا ُع ِّطلت الصالة خلف هذا اإلمام أدى هذا إلى تعطيل هذه الشعيرة‪.‬‬

‫وأما الصلوات الخمس‪ :‬فإن األئمة يتعددون الذين يؤدوهنا‪.‬‬

‫فكانوا يرون التوسعة يف هذا أن ُترتَك الصالة خلف المبتدع أحيانًا و ُيص ّلى خلف‬
‫العدل‪.‬‬

‫وأما يف هذه العصور‪ :‬فأصبحت الجمعة والعيدان يف ُحكم الصلوات الخمس‬


‫لتعدد األئمة‪ ،‬فإذا ُو ِجد إمام عَدْ ل وآخر مبتدع أو فاسق ف ُيصلى خلف العدل لمصلحة‬
‫الصالة‪ ،‬وإن كنا ال نعتقد ُبطالن الصالة خلف المبتدع‪.‬‬

‫هذا إذا إن لم يرتتب على هذا فتنة‪ ،‬أما إن َت َر ّتب على هذا فتنة فإنه ال ُترتَك الصالة‬
‫خلف المبتدع لطلب مصلحة خاصة لذلك ا ْل ُم َص ّلي‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪20‬‬

‫كذلك إذا كان اإلمام هو ولي األمر وهو اإلمام األعظم‪ ،‬أو َم ْن ن َّصبه ولي األمر‬ ‫‪20‬‬

‫هجر هذا اإلمام ألن َه ْجره فيه فتنة للناس‪ ،‬بل ُيص ّلى‬
‫أن يؤ ّم الناس فإنه ال ينبغي أن ُي َ‬
‫خلفه‪ ،‬والصالة خلفه صحيحة‪ ،‬وهي تامة جائزة‪.‬‬

‫لسن َِّة)‪ :‬يعني َم ْن أعاد‬ ‫ار‪ ،‬مخَ الِ ٌ ِ‬


‫ف ل ُّ‬
‫قال‪( :‬ر ْكع َتي ِن‪ ،‬من َأعادهما َفهو مبت َِدع ت ِ ِ‬
‫َار ٌك ل ْْل َث ِ ُ‬ ‫َ َ ْ َ ْ َ َُ َ ُ َ ُْ ٌ‬
‫الصالة خلف المبتدع ُمعتقدً ا أن الصالة باطلة فهذا ُمبتدع‪.‬‬

‫وينبغي أن ُي َف ّرق بين المبتدع الذي يكفر ببدعته‪ ،‬ومبتدع ال يكفر ببدعته؛ فالذي‬
‫يكفر ببدعته ُتعاد الصالة خلفه‪.‬‬

‫وقد كان اإلمام أحمد يرى إعادة الصالة خلف الجهمية‪ ،‬وكذلك غيره من األئمة‬
‫يرون إعادة الصالة خلف الجهمية‪ ،‬وكذلك القدرية‪ ،‬كذلك الرافضة الذين يكفرون‬
‫الردة‪.‬‬
‫ببدعهم فإن الصالة ال تصح خلف هؤالء؛ ألهنم من أهل ِّ‬

‫وأما أهل البدع الذين ال يكفرون ببدعهم َف ُهم الذين ال ُتعاد الصالة خلفهم‪َ ،‬‬
‫فم ْن‬
‫أ ّداها فإنه ال يجوز له أن ُيعيدها منفر ًدا‪ ،‬وإنما يكتفي هبذه الصالة‪ ،‬وال يجوز له بعد‬
‫السنة‪ :‬إعادة الصالة‬ ‫ِ‬
‫ذلك أن ُيعيدها يف بيته‪ ،‬فإن هذه بدعة‪ ،‬وهي ليست من ف ْعل أهل ُّ‬
‫خلف األئمة الذين ُيق َطع بإسالمهم وال ُيتّهمون باإلسالم‪ ،‬وإنما لهم ذنوب‬
‫ومخالفات فالصالة خلفهم صحيحة‪.‬‬

‫ثم قال‪َ ( :‬ل ْي َس َل ُه ِم ْن َف ْض ِل َا ْل ُج ْم َع ِة َش ْي ٌء)‪ :‬يعني إذا أعادها‪.‬‬


‫‪21‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫اجرِ ِه ْم)‪ :‬يعني سواء كان األئمة‬


‫ف َا ْْلَئِ َّم ِة َم ْن كَانُوا َب ِّر ِه ْم َو َف ِ‬ ‫(إِ َذا َل ْم َي َر َا َّ‬
‫لص ََل َة َخ ْل َ‬
‫من األبرار أو من ال ُف ّجار فالصالة خلفهم صحيحة‪.‬‬

‫هجر أو‬
‫وهناك ُص َور وأحوال تتفرع عن هذه المسألة بحسب حال المبتدع وكونه ُي َ‬
‫أيضا خلفه‪ ،‬وهل هو من أهل الفضل الذي إذا َه َجر‬
‫هجر‪ ،‬وبحسب حال المصلي ً‬
‫ال ُي َ‬
‫أيضا مصالح أخرى متعلقة بتأثير‬
‫ينزجر ذلك اإلمام بت َْرك الصالة خلفه أو ال‪ ،‬وهناك ً‬
‫هذا على الناس وعلى المجتمع‪.‬‬

‫كل هذه أحوال تتفرع إلى ِعدّ ة ُص َور؛ أحيانًا تتعين الصالة خلف المبتدع‪ ،‬وأحيانًا‬
‫يتعين التَّرك خلفه‪ ،‬وأحيانًا يتعين‪ ،‬أو يبقى األمر ُم َو ّس ًعا أن ُيص ّلى خلفه أو ال‪.‬‬

‫إما أن يرتتب على هذا تعطيل الجمعة أو الجماعة‪ ،‬بشرط أن يكون هناك إمام‬
‫ُتؤ ّدى الصالة خلفه‪.‬‬

‫أما إذا َأ ّدى إلى تعطيل الجمعة أو الجماعة فليس هناك خيار‪ ،‬بل إنه ُي َص ّلى خلف‬
‫المبتدع والفاسق‪ ،‬وإن كانت الصالة خلفه هي أنقص‪ ،‬وهي دون الصالة خلف العدل‬
‫فإهنا ُتؤ ّدى خلفه‪.‬‬

‫***المتن***‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪22‬‬

‫ين َو َقدْ كَانوا اِ ْجت ََم ُعوا َع َل ْي ِه َو َأ َق ُّروا َل ُه‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ ِ‬


‫َو َم ْن َخ َر َج َع َلى إ ِ َما ٍم م ْن َأئ َّمة َا ْل ُم ْسلم َ‬
‫‪22‬‬

‫ِِ‬ ‫َان‪ ،‬بِال ِّر َضا َأ ْو بِا ْل َغ َل َب ِة؛ َف َقدْ َش َّق َه َذا َا ْلخَ ِ‬
‫ي َو ْج ٍه ك َ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين‪،‬‬ ‫ار ُج َع َصا َا ْل ُم ْسلم َ‬ ‫بِا ْلخ ََل َفة بِ َأ ِّ‬
‫ات ِمي َت ًة ج ِ‬
‫اه ِل َّيةً‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ار ُج َع َل ْي ِه َم َ‬ ‫ول اَهَّللِ ﷺ‪َ :‬فإِ ْن َم َ‬
‫ات َا ْلخَ ِ‬ ‫ف َا ْْل َثار َع ْن رس ِ‬
‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َو َخا َل َ‬

‫***الشرح***‬

‫ين ( َو َقدْ كَا َنوا اِ ْجت ََم ُعوا) َو َقدْ كَانوا اِ ْجت ََم ُعوا‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫(و َم ْن َخ َر َج َع َلى إ ِ َما ٍم م ْن َأئ َّمة َالْ ُم ْسلم َ‬ ‫َ‬
‫َان‪ ،‬بِال ِّر َضا َأ ْو بِالْ َغ َل َب ِة)‪ :‬يعني إذا ثبتت إمامته سواء‬ ‫ي َو ْج ٍه ك َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َع َل ْيه َو َأ َق ُّروا َل ُه بِا ْلخ ََل َفة بِ َأ ِّ‬
‫كان بالرضا أو بِال َغ َلبة فإنه ال يجوز الخروج عليه‪.‬‬

‫مم ْن ينتسبون إلى‬


‫الج َهلة من المعاصرين َّ‬
‫وهذه المسألة مما ُينازع فيها بعد َ‬
‫الدعوة‪ ،‬ال يعرتفون بإمامة المتغلب‪ ،‬ويقولون‪ :‬هذا َت َغ ّلب فما الذي ُيبيح له التغلب‬
‫وال يبيح لنا؟!‬

‫أوال‪ :‬الخروج على اإلمام‪َ ،‬م ْن َخ َرج على اإلمام الذي قبله فإنه آثِم‪ ،‬وهذا‬
‫نقول‪ً :‬‬
‫ُيسأل عنه (هذا الرجل ا ْلمتغ ّلب)‪.‬‬

‫وأما نحن‪ :‬فإذا َت َغ ّلب أحد اإلمامين أو أحد الرجلين فنحن نُبايع‪ ،‬ونرى السمع‬
‫والطاعة للمتغ ّلب‪ ،‬كما كان ابن عمر يقول يف وقعة ال َح ّرة‪( :‬نحن مع َم ْن غلب)‪ ،‬فإذا‬
‫السنة السمع والطاعة له بال َغ َلبة والقهر‪.‬‬
‫َت َغ ّلب اإلمام يرى أهل ُّ‬
‫‪23‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫وهنا ينبغي أن ُين َظر فيما ُيخا َطب به هذا الرجل ا ْل ُمتغ ّلب‪ ،‬فإنه ال يجوز له الخروج‬
‫على َم ْن قبله‪ ،‬لكن إن خرج على َم ْن قبله و َت َغ ّلب فنحن ليس لنا أن ُنحاسبه يف الدنيا‪.‬‬

‫وإنما نرى السمع والطاعة‪ ،‬ونرى أنه من األئمة الذين ثبتت إمامتهم هبذا الطريق‬
‫وال نُنازعه يف هذا األمر‪.‬‬

‫فإذا جاء آخر و َت َغ ّلب و َقاتله فهو آثم‪.‬‬

‫فإذا َت َغ ّلب نرى السمع والطاعة له‪.‬‬

‫حاسب عند اهلل عز وجل‪ ،‬وأما نحن‪ :‬فنرى السمع والطاعة لكل ُمتَغ ِّلب‪.‬‬
‫والكل ُم َ‬
‫ومعلو ٌم أنه ال يوجد أحدٌ من أهل العلم ُيحب أن يكون ُم ِ‬
‫ناز ًعا لولي األمر الذي‬
‫قبله وإن رأى أنه أحسن منه‪ ،‬وأفضل منه‪ ،‬وإنما يرى السمع والطاعة له على ما عنده‬
‫من التقصير والنُّصح له‪.‬‬

‫عرف عن أحد من العلماء ومن األئمة الذين ُعرفوا باإلمامة يف الدين أنه‬
‫ولهذا ال ُي َ‬
‫الش َبه أو بعض المسائل التي َت َأ ّول فيها َم ْن َت َأ ّول من‬
‫َخ َرج على َم ْن كان قبله إال بعض ُّ‬
‫السنة فإن‬
‫بعض األئمة‪ ،‬وهؤالء وإن َح َصل هذا من بعض األئمة ومن بعض أهل ُّ‬
‫الحجة يف النصوص‪.‬‬
‫ُ‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪24‬‬

‫السنة‪ ،‬ولكن ال نرى أن ما‬


‫وأما هؤالء‪ :‬فنحن نعتذر لهم‪ ،‬ونرى مكانتهم من ُّ‬
‫‪24‬‬

‫فعلوه هو دين وأنه هو ا ْل ُمتّبع‪ ،‬وأنه ُيقتدَ ى هبم يف هذا‪.‬‬

‫وإنما االقتداء والمتابعة ل ِ َما َأ َمر به النبي ﷺ من السمع والطاعة لوالة األمر‪.‬‬
‫ِِ‬ ‫الر َضا َأ ْو بِا ْل َغ َل َب ِة؛ َف َقدْ َش َّق َه َذا َا ْلخَ ِ‬ ‫ي َو ْج ٍه ك َ‬
‫ار ُج َع َصا َا ْل ُم ْسلم َ‬
‫ين‪،‬‬ ‫َان‪ ،‬بِ ِّ‬ ‫قال‪( :‬بِ َأ ِّ‬
‫ول َاهَّللِ ﷺ)‪ :‬ألن الخروج ُمخالفة ل ِ َهدْ ي النبي ﷺ‪ ،‬وإن كان‬ ‫ف َا ْْل َثار َع ْن رس ِ‬
‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َو َخا َل َ‬
‫لمقصد حسن‪ ،‬يقول‪( :‬أريد أن ُأقيم ُحكم اهلل)؛ فليس له أن يخرج‪ ،‬ولم‬ ‫ٍ‬ ‫الخارج يخرج‬
‫ُيخا َطب هبذا‪ ،‬وإنما ُخوطب بالسمع والطاعة‪.‬‬

‫والسمع والطاعة يف العسر واليسر‪ ،‬ويف المنشط وا ْل َمكره‪ ،‬ومع وجود األثرة‪ ،‬ومع‬
‫وجود الظلم؛ فهو لم ُيسأل عن مخالفة ولي األمر‪ ،‬وإنما ُيسأل عن مخالفته هو‪.‬‬

‫لما َط َعن بعض الناس يف َ‬


‫الح ّجاج قال‪ :‬إن اهلل يسألكم‬ ‫ولهذا؛ قال بعض السلف ّ‬
‫يوم القيامة عن صغار ذنوبكم قبل أن يسألكم عن كبار ذنوب ال َحجاج‪.‬‬

‫الحجاج لن ُيسأل الناس عنها‪ ،‬وأما نحن‪ :‬فنُسأل عن صغار ذنوبنا‪ ،‬فاألئمة‬
‫ذنوب َ‬
‫إذا خالفوا ذنوهبم عليهم‪ ،‬وأما نحن نُسأل عن ذنوبنا‪.‬‬

‫ولهذا؛ قال النبي ﷺ كما جاء يف حديث ُأم سلمة يف [صحيح مسلم]‪ ،‬قال‪« :‬إِ َّن ُه‬
‫وم ْن َأ ْنك ََر َس ِلم‪ ،‬و َلكِن َم ْن َر ِضي َوتَابع»‪.‬‬
‫َس َيك ُْون َع َل ْيكُم أُ َم َراء؛ َف َم ْن َكرِه َبرِئ‪َ ،‬‬
‫‪25‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫فب ّين أن الذي ُينكِر بقلبه أنه بريء‪ ،‬الذي يكره بقلبه بريء‪ ،‬و َم ْن أنكر بلسانه َوفق‬
‫الضوابط الشرعية فهو سالم على سبيل نجاة‪.‬‬

‫ولكن َم ْن َر ِضي وتابع‪َ ،‬م ْن َر ِضي بقلبه و َتابعهم على مخالفتهم فهو آثِم‪ ،‬و َأما َم ْن‬
‫ك َِره بقلبه وأنكر وفق الضوابط الشرعية فلن ُيسأل عن ذنوبه‪ ،‬وهو على سبيل نجاة‪،‬‬
‫ٍ‬
‫معصية واحدة ارتكبها ولي األمر أو ُوجدت يف مجتمع ما دام ُينكر بقلبه‬ ‫ولن ُيسأل عن‬
‫و ُينكر بلسانه وفق الضوابط الشرعية‪.‬‬
‫ات ِمي َت ًة ج ِ‬
‫اه ِل َّي ًة)‪ :‬يعني إذا مات هذا الخارج على‬ ‫ار ُج َع َل ْي ِه َم َ‬
‫ات َا ْلخَ ِ‬
‫قال‪َ ( :‬فإِ ْن َم َ‬
‫َ‬
‫اإلمام فميتته جاهلية‪ ،‬أي كما يموت أهل الجاهلية يموتون وليس يف أعناقهم بيعة‪.‬‬

‫وهذا مما يدل على خطورة األمر‪ ،‬وعلى ّ‬


‫أن َم ْن َخ َرج على اإلمام فإنه مذموم‪،‬‬
‫مهما كان ذلك الرجل َيدّ عي الصالح والتقوى‪ ،‬وال ينبغي أن ننخدع بما ُي َر ّوج اليوم‬
‫الج َهلة الذين يخرجون على والة األمر‪ ،‬وأهنم يريدون تحكيم‬
‫وما َيدّ عيه بعض هؤالء َ‬
‫دين اهلل عز وجل‪ ،‬وأهنم ما خرجوا إال جها ًد يف سبيل اهلل عز وجل‪.‬‬

‫وربما أظهر بعضهم الخشوع والبكاء من خشية اهلل‪ ،‬وربما أظهر للناس الصالح‬
‫واالستقامة‪ ،‬واهلل ال نغرتّ به لو أنه طار يف السماء؛ ألن عندنا نصوص عن النبي ﷺ‬
‫ُت َح ِّرم هذا العمل‪ ،‬فال نغرتّ به‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪26‬‬

‫بل قال النبي ﷺ‪َ « :‬م ْن َجا َءكُم وأَ ْم ُركم َج ِميع َع َلى َر ُج ٍل ِمنْكُم ُيرِ ْيد َأ ْن ُي َف ِّرق‬ ‫‪26‬‬

‫السيْف» كَائنًا َم ْن كَان‪َ ،‬و َل ْو كَان مِن ا ْل ُع َلماء‪َ ،‬و َل ْو َكان مِن‬ ‫اضرِ ُبوه بِ َّ‬
‫َج َما َعتكم َف ْ‬
‫الزهاد‪ ،‬ولو كان من المنفقين‪ ،‬فنحن ال نغرتّ هبذا‪ ،‬وإنما ن َُح ّكم‬
‫الصالحين‪ ،‬ولو كان من ّ‬
‫َّ‬
‫النصوص‪ ،‬وال ن َُح ّكم األهواء‪ ،‬كما هو فِ ْعل العوام‪ ،‬وأهل الجهل وأهل البدع يغرتّون‬
‫ببعض كالم هؤالء ا ْل ُم َر ّوجين من أهل الجهل الذين يخرجون على األئمة‪ ،‬وربما‬
‫وساكَنوهم وخالطوهم وسلكوا مسالكهم يف الرتويج والكذب والدَّ س‬
‫احتموا بالكفار َ‬
‫للمسلمين‪ ،‬ويدّ عون أهنم ُحماة اإلسالم‪ ،‬وأهنم هم الذين سيقيمون دين اهلل‪.‬‬

‫وقد َج ّرب الناس من هؤالء أهنم َل ّما وصلوا إلى ّ‬


‫السلطة لم يفعلوا شي ًئا سوى أن‬
‫َق ّربوا أهل البدع‪ ،‬و َم ّكنوا للرافضة‪ ،‬و َم ّكنوا ألهل البدع‪ ،‬و َم ّكنوا للنصارى واليهود بعد‬
‫أن كانوا ُينكرون على َم ْن كان قبلهم صغار الذنوب‪.‬‬

‫فهذا مما يدل على َج ْهل هؤالء‪ ،‬وأهنم مخذولون يف دعوهتم وفيما أرادوا‪.‬‬

‫ومعلو ٌم أن اإلمارة أنه ال ُي َو ّفق إليها َم ْن سألها‪ ،‬كما قال النبي ﷺ‪« :‬إِنَّك إِ ْن‬
‫ت إِ َلى َن ْف ِسك‪ ،‬وإِ ْن ُأ ْعطِ ْيتَها ِم ْن َغ ْير َم ْسألة ُأ ِعن َ‬
‫ْت َع َل ْيها» فكيف‬ ‫ألة ُوكِ ْل َ‬
‫ُأعطِيتَها عن مس ٍ‬
‫ْ ْ َ ْ َ ْ‬
‫بم ْن ُيقاتل عليها؟! وكيف ب ِ َم ْن ُيؤ ّلب الناس أن ُيعينوه على الخروج على ولي األمر؟!‬
‫َ‬
‫فهذا أحرى و َأ ْو َلى أن ُي ْخ َذل‪ ،‬وأن ال ُي َو ّفق‪.‬‬
‫‪27‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫***المتن***‬

‫وص َوا ْلخَ َو ِارجِ َجائِ ٌز إِ َذا َع َر ُضوا لِ َّلر ُج ِل فِي َن ْف ِس ِه َو َمالِ ِه‪َ ،‬ف َل ُه َأ ْن ُي َقاتِ َل‬ ‫َوقِت َُال َال ُّل ُص ِ‬

‫َع ْن َن ْف ِس ِه َو َمالِ ِه‪َ ،‬و َي ْر َف ُع َعن َْها بِك ُِّل َما َي ْق ِد ُر‪.‬‬

‫***الشرح***‬

‫ص َوا ْلخَ َو ِارجِ َجائِ ٌز إِ َذا َع َر ُضوا لِ َّلر ُج ِل فِي َن ْف ِس ِه َو َمالِ ِه‪َ ،‬ف َل ُه َأ ْن ُي َقاتِ َل‬
‫(وقِت َُال َال ُّل ُصو ِ‬ ‫َ‬
‫َع ْن َن ْف ِس ِه َو َمالِ ِه‪َ ،‬و َير َف ُع َعن َْها بِك ُِّل َما َي ْق ِد ُر) عليه‪.‬‬

‫هذه مسألة‪ ،‬وهذا يف غير الفتنة‪ ،‬فإن يف المسألة التفصيل‪:‬‬

‫‪ -‬إما أن يكون الزمن زمن فتنة؛ فهذا ال يجوز القتال حتى يف الدفاع عن النّفس‪ ،‬بل‬
‫أرشد النبي ﷺ أنه ال ُيقاتل الرجل حتى عن نفسه‪ ،‬فإن َخشي بارقة السيف َو َضع على‬
‫وجهه شيء حتى ُيقتَل‪ ،‬وهذا يف زمن الفتنة‪.‬‬

‫[السنة]‬ ‫ِ‬
‫وإنما استثنى بعض أهل العلم –كما ذكر اإلمام أحمد‪ ،‬ونُقل عنه يف ُّ‬
‫َ‬
‫للخ ّالل‪ :‬أنه ال ُيقاتل عند الفتنة إال على المحارم‪ ،‬إذا استُبيحت المحارم والنساء فإنه‬
‫ُيقاتِل‪.‬‬

‫وأما إذا ما أراد الرجل أن يقتله يف فتنة فإنه ال ُيقاتِل حتى عن نفسه‪ ،‬وال عن ماله‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪28‬‬

‫وأما إذا كان الزمن ليس من أزمان الفتن فاقتحم اللص أو الخارجي البيت وأراد‬ ‫‪28‬‬

‫أن يقتل الرجل وأراد أن يأخذ ماله َف َله أن ُيقاتل عن نفسه وعن ماله‪.‬‬

‫وهذا القتال‪ :‬هو بأن يقاتل قتال الدَّ ْفع‪ ،‬وال ُيقاتِل قتال الحريص على َقتْل ذلك‬
‫اللص‪ ،‬وإنما يدفعه بما يستطيع من الوسائل التي تمنع من استباحته األموال ومن‬
‫َأ ْخذه لألموال‪.‬‬

‫فإذا أخذ اللص المال فهل ُيت َبع؟‬

‫هناك خَلف بين أهل العلم‪:‬‬

‫‪ -‬منهم م ْن يرى أنه له أن يتبع اللص حتى يأخذ ماله‪.‬‬

‫‪ -‬ومنهم َم ْن يرى أنه ال يتبعه‪ ،‬بل إذا ذهب فإنه ال يتبع ذلك اللص‪.‬‬

‫والصحيح‪ :‬له أن يسرتد ماله دون القتل‪ ،‬فإن كان ال يسرتد المال إال بالقتل –إما‬
‫أن يقتل وإما أن يذهب المال‪ -‬فال يقتل‪.‬‬

‫لكن إن أراد َد ْفعه و ُقتِل بسبب هذا –مثل‪ :‬أن َي ِف ّر منه فيقع يف مكان‪ ،‬أو يقع من‬
‫شاهق‪ -‬فليس عليه يف هذا شيء‪.‬‬

‫ومثل‪ :‬أن ُيريد َقتْله فيدفعه فيقتله فإن هذا ال ُي َ‬


‫ؤاخذ به‪.‬‬

‫وهذا يف غير زمن الفتنة‪.‬‬


‫‪29‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫وأما يف أزمان الفتن‪ :‬فإنه ال يقتل عن نفسه وال عن ماله‪.‬‬

‫الع ْرض‪ :‬فعلى الصحيح‪ :‬أنه له أن يقاتل عن ِع ْرضه يف الفتنة ويف غير الفتنة‪.‬‬
‫وأما ِ‬

‫***المتن***‬
‫َو َل ْي َس َل ُه إِ َذا َف َار ُقو ُه َأ ْو ت ََركُو ُه َأ ْن يطْ ُل َب ُه ْم‪َ ،‬و ََل ي ْت َب َع آ َث َار ُه ْم‪َ ،‬ل ْي َس ِْلَ َح ٍد إ ِ ََّل َا ْ ِ‬
‫إل َما َم َأ ْو‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِِ‬
‫ين‪.‬‬ ‫ُو ََل َة َا ْل ُم ْسلم َ‬

‫ات‬ ‫ي بِ ُج ْه ِد ِه َأ ْن ََل َي ْقت َُل َأ َحدً ا‪َ ،‬فإِ ْن َم َ‬ ‫ك‪َ ،‬و َين ِْو َ‬ ‫ام ِه َذلِ َ‬
‫إِنَّما َله َأ ْن يدْ َفع عن َن ْف ِس ِه فِي م َق ِ‬
‫َ‬ ‫َ ُ َ َ َ ْ‬
‫ك‬ ‫ُول‪َ ،‬وإِ ْن ُقتِ َل َه َذا فِي تِ ْل َ‬ ‫َع َلى َيدَ ْي ِه فِي َد ْف ِع ِه َع ْن َن ْف ِس ِه فِي َا ْل َم ْع َرك َِة َف َأ ْب َعدَ َاهَّللُ َا ْل َم ْقت َ‬
‫يث َو َج ِمي ِع‬ ‫لشهادةَ‪ ،‬كَما جاء فِي َا ْْلَحادِ ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ َ‬
‫ِ ِ ِِ‬
‫ال َو ُه َو ُيدافع َع ْن َن ْفسه َو َماله َر َج ْو ُت َل ُه َا َّ َ َ‬
‫ِ‬ ‫َا ْل َح ِ‬

‫ار فِي َه َذا‪.‬‬ ‫َا ْْل َث ِ‬

‫***الشرح***‬

‫قال‪َ ( :‬و َل ْي َس َل ُه إِ َذا َف َار ُقو ُه َأ ْو ت ََركُو ُه َأ ْن َي ْط ُلبَ ُه ْم)‪.‬‬

‫مثل‪ :‬أن يريدوا سرقة المال ثم َي ِف ّر فليس له أن يتبعه‪ ،‬وهذا غير إذا ما أخذوا المال‬
‫فهل يتبعهم َأو ال؟‪ ..‬كما تقدم‪.‬‬
‫فـ (إِ َذا َف َار ُقو ُه َأ ْو ت ََركُو ُه) ليس له ( َأ ْن ي ْط ُل َب ُه ْم‪َ ،‬و ََل ي ْتبَ َع آ َثا َر ُه ْم‪َ ،‬ل ْي َس ِْلَ َح ٍد إِ ََّل اَ ْ ِ‬
‫إل َما َم‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ام ِه) يعني يف مكانه الذي هو فيه‪.‬‬ ‫َأو و ََل َة َا ْلمس ِل ِمين‪ ،‬إِنَّما َله َأ ْن يدْ َفع عن َن ْف ِس ِه فِي م َق ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ ُ َ َ َ ْ‬ ‫ُ ْ‬ ‫ْ ُ‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪30‬‬

‫فإذا ذهبوا وفروا ف ُي َب ّلغ ولي األمر‪ ،‬ويرفع هذا ل ِ َول ِ ّي األمر هو الذي يدفع هؤالء‬ ‫‪30‬‬

‫ويرصدهم حتى يقبض عليهم‪.‬‬

‫جه ِد ِه َأ ْن ََل َي ْقت َُل َأ َحدً ا)‪.‬‬ ‫ام ِه َذلِ َ‬


‫ك‪َ ،‬و َين ِْو َ‬
‫ي بِ ْ‬
‫قال‪( :‬إِنَّما َله َأ ْن يدْ َفع عن َن ْف ِس ِه فِي م َق ِ‬
‫َ‬ ‫َ ُ َ َ َ ْ‬

‫فإن أتى عليه –يعني قتله‪( -‬فِي َد ْف ِع ِه َع ْن َن ْف ِس ِه فِي َا ْل َم ْع َرك َِة َف َأ ْب َعدَ َاهَّللُ َا ْل َم ْقت َ‬
‫ُول)‪:‬‬
‫ِ‬
‫المعتدَ ى عليه ُيدافع عن نفسه‬ ‫يعني هذا الذي ُقتل يف المعركة‪ ،‬عندما كان هذا الرجل ُ‬
‫فإن ذلك هو الذي َت َس ّبب‪ ،‬وليس عليه يف هذا شيء وال يرتتب عليه يف َقتْله لذلك‬
‫الرجل عندما كان يدفع عن نفسه وماله شيء‪.‬‬

‫ال َو ُه َو َيدْ فع َع ْن َن ْف ِس ِه َو َمالِ ِه َر َج ْو ُت َل ُه َا َّ‬


‫لش َها َدةَ)‪ :‬إما أن‬ ‫( َوإِ ْن ُقتِ َل َه َذا فِي تِ ْل َ‬
‫ك َا ْل َح ِ‬

‫َيقتل وإما أن ُيقتَل‪.‬‬

‫بجهده ال يريد َقتْله‪.‬‬


‫فإن َقتَل اللص فال شيء عليه‪ ،‬وهو يدفع َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وإن ُقتل هو فهو شهيد‪ ،‬كما جاء يف الحديث‪َ « :‬م ْن ُقتل ُدون نفسه َف ُهو َش ِه ْيد‪َ ،‬‬
‫وم ْن‬
‫ُقتِ َل ُد ْون َماله َف ُهو َش ِه ْيد»‪.‬‬
‫‪31‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫***المتن***‬

‫يحا‪،‬‬ ‫َان َجرِ ً‬‫ج ْيز َع َل ْي ِه إِ ْن ُصرِ َع َأ ْو ك َ‬ ‫اع ِه‪َ ،‬و ََل ُي ِ‬ ‫إِنَّما ُأ ِمر بِ ِقتَالِ ِه‪ ،‬و َلم ي ْؤمر بِ َقت ِْل ِه و ََل اِ ِّتب ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ُ َْ‬ ‫َ َ‬
‫يم َع َل ْي ِه َالْ َحدَّ ‪َ ،‬و َلكِ ْن َي ْر َف ُع أَ ْم َر ُه إِ َلى َم ْن َو ََّل ُه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َوإِ ْن َأ َخ َذ ُه أَس ًيرا َف َل ْي َس َل ُه أَ ْن َي ْق ُت َل ُه‪َ ،‬و ََل ُيق َ‬
‫َاهَّللُ‪َ ،‬ف َي ْحك ُُم فِ ِيه‪.‬‬

‫***الشرح***‬

‫(إِن ََّما ُأ ِم َر بِ ِقتَالِ ِه‪َ ،‬و َل ْم ُي ْؤ َم ْر بِ َقت ِْل ِه)‪ :‬هناك َف ْرق بين القتال والقتل‪:‬‬

‫القتال‪ :‬هو ا ْل ُمدافعة‪ ،‬وهو ال يقصد بذلك القتل‪.‬‬

‫وأما القتل‪ :‬هو الحرص على القتل‪.‬‬

‫فالمقاتلة‪ :‬هي ُمدافعة‪ ،‬و َد ْفع عن النَّفس‪ ،‬فإن ُقتِل يف هذا فإنه لم ُي ِرد َقتْله‪ ،‬وال‬
‫ؤخذ به‪ ،‬ولم ُيؤ َمر ب َقتْله وال ا ّتباعه‪.‬‬
‫ُي َ‬

‫ج ْيز َع َل ْي ِه إِ ْن ُصرِ َع)‪ :‬يعني إن ُص ِرع ذلك اللص‬


‫اع ِه‪َ ،‬و ََل ُي ِ‬
‫(و َلم ي ْؤمر بِ َقت ِْل ِه و ََل اِ ِّتب ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ُ َْ‬
‫فليس له أن ُي ِ‬
‫جهز عليه‪.‬‬

‫جرح وال يستطيع الفرار والدفاع عن نفسه فليس له أن‬ ‫َان َجرِ ً‬
‫يحا)‪ :‬مثل‪ :‬أن ُي َ‬ ‫َ‬
‫(أ ْو ك َ‬
‫ُي ِ‬
‫جهز عليه‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪32‬‬

‫يم َع َل ْي ِه َا ْل َحدَّ )‪ :‬يعني ليس له أن يقتله‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫( َوإِ ْن َأ َخ َذ ُه َأس ًيرا َف َل ْي َس َل ُه َأ ْن َي ْق ُت َل ُه‪َ ،‬و ََل ُيق َ‬
‫‪32‬‬

‫بج ْلد أو بغيره‪ ،‬أو‬ ‫ِ ِ‬


‫بعد أن يقبض عليه‪ ،‬وإنما ُي َس ّلمه ل َول ّي األمر‪ ،‬وال أن ُيقيم عليه الحد َ‬
‫بِ َقطع‪ ،‬وإنما يرفع هذا ل ِ َول ِ ّي األمر‪.‬‬

‫( َو َلكِ ْن َي ْر َف ُع َأ ْم َر ُه إِ َلى َم ْن َو ََّل ُه َاهَّللُ‪َ ،‬ف َي ْحك ُُم فِ ِيه)‪ :‬يحكم ولي األمر يف هذا ويجتهد‬
‫فيه‪.‬‬

‫***المتن***‬

‫لصالِحِ ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫َو ََل ن َْش َهدُ َع َلى َأ َح ٍد ِم ْن َأ ْه ِل َا ْل ِق ْب َل ِة بِ َع َم ٍل َي ْع َم ُل ُه بِ َجن ٍَّة َو ََل َن ٍ‬
‫ار‪ ،‬ن َْر ُجو ل َّ‬
‫ب‪َ ،‬ون َْر ُجو َل ُه َر ْح َم َة َاهَّللِ‪.‬‬ ‫يء َالْ ُم ْذنِ ِ‬
‫اف ع َلى َالْم ِس ِ‬
‫ُ‬ ‫َو َنخَ ُ َ‬

‫***الشرح***‬

‫شهد على َأ َح ٍد من أهل ( َا ْل ِق ْب َل ِة‬‫السنة‪ :‬أنه ال ُي َ‬


‫هذا من األصول المقررة عند أهل ُّ‬
‫َار)‪ ،‬ال نشهد له بعمل من أعمال الرب أنه من أهل الجنة‪ ،‬وال‬ ‫بِ َع َم ٍل َي ْع َم ُل ُه بِ َجن ٍَّة َو ََل ن ٍ‬

‫المسيء إال‬ ‫ِ‬


‫للمحسن ونخشى على ُ‬ ‫بعمل من أعمال أهل النار أنه يف النار‪ ،‬وإنما نرجو ُ‬
‫َم ْن َش ِهد له النبي ﷺ‪.‬‬

‫المحققين‪.‬‬
‫السنة وقول ُ‬
‫وهذا هو قول جمهور أهل ُّ‬
‫‪33‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫السنة‪ ،‬ويحتج لهذا بقول النبي ﷺ‪َ « :‬أ ْنتُم‬


‫وقد خالف يف هذا بعض األفراد من أهل ُّ‬
‫ُش َهدَ اء اهَّلل يف َخ ْلقه»‪.‬‬

‫خيرا فقال‪:‬‬
‫وقول النبي ﷺ عندما َم ّر عليه بجنازتين‪ ،‬فأثنوا على إحداهما ً‬
‫« َو َج َبت»‪ ،‬وأثنوا على األخرى َش ًّرا فقال‪َ « :‬و َجبت»‪.‬‬

‫فقالوا‪ :‬هذا يدل على أنه يجوز الشهادة لرجل بجنة أو النار‪.‬‬

‫وكان بعض األئمة يرى هذا‪.‬‬

‫وكان بعضهم يشهد لإلمام أحمد –كإسحاق بن راهويه‪ -‬يقول‪ :‬هو يف الجنة‪.‬‬

‫شهد ألحد مهما بلغ من الفضل‬


‫ولكن هذا مرجوح‪ ،‬والصحيح‪ :‬هو أنه ال ُي َ‬
‫شهد لرجل بأنه من أهل النار‪.‬‬
‫والمنزلة أنه من أهل الجنة‪ ،‬وال ُي َ‬

‫والذي يدل على هذا‪ :‬ما جاء يف قصة ذلك الرجل يف غزوة ُأ ُحد الذي كان ُيقاتِل‬
‫قتاال شديدً ا‪ ،‬فأثنى عليه أصحاب النبي ﷺ وقالوا‪ :‬ما أبلى أحدنا بالء فالن‪ ،‬قال‪« :‬إِنَّه‬‫ً‬
‫فِي النَّار»‪.‬‬

‫ثم بعد ذلك َتبِعه رجل‪ ،‬فرآه قد أجهز على نفسه بعد أن ُج ِرح ووضع السيف يف‬
‫صدره حتى خرج من َظ َهره؛ فهذا يدل على أنه مهما أثنى الناس‪..‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪34‬‬

‫وهؤالء خيار األُمة من أصحاب النبي ﷺ يشهدون لهذا الرجل بأهنم أبلى بال ًء‬ ‫‪34‬‬

‫عظيما يف الجهاد يف سبيل اهلل‪ ،‬ومع هذا قال النبي ﷺ‪« :‬إِنَّه فِي النَّار»‪.‬‬
‫ً‬

‫المسيء‪.‬‬ ‫فال يشهد لمعين بجنة وال بنار‪ ،‬وإنما يرجى للم ِ‬
‫حسن و ُي َ‬
‫خشى على ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ‬

‫***المتن***‬

‫ُوب َع َل ْي ِه‪َ ،‬و َي ْق َب ُل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫ب َل ُه بِه َالنَّا ُر تَائ ًبا َغ ْي َر ُمص ٍّـر َع َل ْيه َفإِ َّن َاهَّللَ َيت ُ‬ ‫َو َم ْن َل ِق َي َاهَّللَ بِ َذ ْن ٍ‬
‫ب َي ِ‬
‫ج ُ‬
‫َات‪.‬‬‫َالتَّوب َة عن ِعبادِ ِه‪ ،‬ويع ُفو عن َالسيئ ِ‬
‫َ َ ْ َ ْ َّ ِّ‬ ‫َْ َ ْ َ‬

‫***الشرح***‬

‫ب َل ُه بِ ِه َالن َُّار)‪ :‬وهي الذنوب التي َت َو ّعد اهلل عز وجل عليها‬ ‫ج ُ‬ ‫ْب َي ِ‬ ‫(و َم ْن َل ِق َي َاهَّللَ بِ َذن ٍ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بالنار ( َغ ْي َر ُمص ٍّـر َع َل ْيه َفإِ َّن َاهَّللَ َيت ُ‬
‫ُوب َع َل ْيه‪َ ،‬و َي ْق َب ُل َالت َّْو َبةَ)؛ وهذا بإجماع أهل ُّ‬
‫السنة أنه‬
‫إن تاب و َت َح ّققت شروط التوبة فإن اهلل عز وجل يغفر له؛ ألن اهلل َت َك ّفل بالمغفرة إن‬
‫ُو ِجدت التوبة‪.‬‬

‫وإنما قد تتخلف بعض الشروط يف صحة التوبة فتتخلف المغفرة‪.‬‬

‫وهذا َم ْن تاب؛ َم ْن لقي اهلل عز وجل تائ ًبا من الذنوب فإنه ال يؤخذ بذنبه‪.‬‬

‫وال ينبغي أن ُي َض ِّيق على الناس‪ ،‬وال أن ُي َح ِّرج عليهم‪ ،‬وال أن ُيتّهموا‪ ،‬وال أن يجرأ‬
‫عليهم بذنوهبم التي تابوا منها؛ فإن اهلل عز وجل يقبل التوبة من التائبين‪.‬‬
‫‪35‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫***المتن***‬

‫ْب فِي َالدُّ ْن َيا‪َ ،‬ف ُه َو َك َّف َار ُت ُه‪ ،‬ك ََما َجا َء فِي َا ْلخَ َبرِ‬ ‫يم َع َل ْي ِه َحدُّ َذلِ َ‬
‫ك َا َّلذن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َو َم ْن َلق َي ُه َو َقدْ ُأق َ‬
‫ول َاهَّللِ ﷺ‪.‬‬ ‫َع ْن رس ِ‬
‫َ ُ‬

‫***الشرح***‬

‫َم ْن َل ِقي اهلل بذنب وقد ُأقيم عليه الحد‪ ،‬هذه ُم َك َّفرات‪.‬‬

‫أوال‪ :‬التوبة‪ ،‬ثم َذكَر إقامة الحدود‪:‬‬


‫َذكَر ً‬
‫ِ‬
‫َم ْن َلقي اهلل بذنب و ُأقيم عليه الحد ( َف ُه َو َك َّف َار ُت ُه)‪ ،‬كما جاء يف الحديث‪َ « :‬م ْن َأ ْذن َ‬
‫َب‬
‫َذ ْن ًبا َف ُأقِ ْيم َع َل ْيه ا ْل َحد َف ُهو َك ّف َارته» أو كما قال النبي ﷺ‪.‬‬

‫وهذا مما يدل على أن الحدود أهنا جوابر‪.‬‬

‫والصحيح‪ :‬أهنا جوابر وزواجر؛ تزجر وهي تجرب العبد‪ ،‬وترفع العقوبة عنه‪ ،‬واهلل‬
‫عز وجل ال يجمع على عبد عقوبتين؛ عقوبة يف الدنيا وعقوبة يف اآلخرة‪.‬‬

‫***المتن***‬

‫ُوب َع َل ْي ِه‪َ ،‬و َي ْق َب ُل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫ب َل ُه َالن ََّار تَائ ًبا َغ ْي َر ُمص ٍّـر َع َل ْيه َفإِ َّن َاهَّللَ َيت ُ‬ ‫وج ُ‬ ‫َو َم ْن َل ِق َي َاهَّللَ بِ َذن ٍ‬
‫ْب ُي ِ‬

‫َات‪.‬‬ ‫َالتَّوب َة عن ِعبادِ ِه‪ ،‬ويع ُفو عن َالسيئ ِ‬


‫َ َ ْ َ ْ َّ ِّ‬ ‫َْ َ ْ َ‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪36‬‬

‫ْب فِي َالدُّ ْن َيا َف ُه َو َك َّف َار ُت ُه‪ ،‬ك ََما َجا َء فِي َا ْلخَ َبرِ‬ ‫يم َع َل ْي ِه َحدُّ َذلِ َ‬
‫ك َا َّلذن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َو َم ْن َلق َي ُه َو َقدْ ُأق َ‬
‫‪36‬‬

‫ول َاهَّللِ ﷺ‪.‬‬ ‫َع ْن رس ِ‬


‫َ ُ‬
‫ُوب اَ َّلتِي َقدْ اِستَوجب بِها َا ْلع ُقوب َة َف َأمره إِ َلى َاهَّلل ِ‬
‫ب ِم ْن َا ُّلذن ِ‬ ‫َو َم ْن َل ِق َي ُه ُم ِص ًّـرا َغ ْي َر تَائِ ٍ‬
‫ْ ْ َ َ َ ُ َ ُُْ‬
‫عز وجل؛ إِ ْن َشا َء َع َّذ َب ُه‪َ ،‬وإِ ْن َشا َء َغ َف َر َل ُه‪.‬‬

‫كافرا َع َّذ َب ُه َو َل ْم َيغ ِْف ْر َل ُه‪.‬‬ ‫ِ ِ‬


‫َوم ْن َلق َي ُه ً‬

‫***الشرح***‬

‫هذا سبق التعليق على بعض فقرات هذه المسألة‪ ،‬وال بأس بإعادهتا‪.‬‬

‫ْب يجب لَ ُه به َالنَّار تَائِ ًبا َغ ْي َر ُم ِص ٍّـر َع َل ْي ِه‬


‫فالفقرة األولى‪ :‬يف قوله‪َ ( :‬و َم ْن َل ِق َي َاهَّللَ بِ َذن ٍ‬
‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬
‫فيم ْن تاب من ذنبه؛ فإن اهلل عز وجل‬ ‫َفإِ َّن َاهَّللَ َيت ُ‬
‫ُوب َع َل ْيه‪َ ،‬و َي ْق َب ُل َالت َّْو َب َة َع ْن ع َباده)‪ :‬هذا َ‬
‫يقبل توبته ويغفر له‪.‬‬

‫وو ْعد اهلل عز وجل ال ُيخ َلف‪ ،‬ومن َو ْعده‪ :‬أنه يغفر الذنوب‪ ،‬ولكن الناس يتّهمون‬
‫َ‬
‫أنفسهم‪ ،‬وهذا كان َهدْ ي السلف وكان طريقهم‪ :‬أهنم يعملون ويخشون من تقصيرهم‪،‬‬
‫وال يشكون يف َو ْعد اهلل‪ ،‬وإنما يشكون يف تكميلهم للعمل‪.‬‬

‫فإن العمل الصالح له شروط إذا تحققت فيه ُقبِلت عند اهلل‪ ،‬وإذا تخ ّلفت هذه‬
‫الشروط لم ُيق َبل‪.‬‬
‫‪37‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫َف ُهم ال يشكون يف َو ْعد اهلل عز وجل‪ ،‬وأنه يغفر الذنوب ويقبل التوبة‪ ،‬وإنما‬
‫يشكون يف ِصدْ ق توبتهم‪.‬‬

‫فالعبد يتوب إلى اهلل عز وجل‪ ،‬ويرجو القبول من اهلل عز وجل‪.‬‬

‫فإذا تحققت التوبة الصحيحة التي استوفت الشروط‪:‬‬

‫منها‪ :‬ما يتعلق بالشروط العامة‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ما يتعلق بالشروط المتعلقة بحقوق اآلدميين‪.‬‬

‫فإذا استوفت التوبة هذه الشروط ُقبِلت عند اهلل عز وجل‪ ،‬وغفر للعبد‪َ ،‬و َم َحت‬
‫التوبة الذنب‪.‬‬

‫وهنا خالف بين أهل العلم يف حال التائب بعد التوبة‪ ،‬وهل يعود إلى ما كان عليه‬
‫من اإليمان أو أنه ال يعود إلى درجته؟‬

‫والذي ذكره ابن القيم‪ :‬أن التوبة ٌ‬


‫عمل صالح‪ ،‬وهو من أعظم األعمال الصالحة‪،‬‬
‫فقد َت ْقوى التوبة وتمحو الذنب‪ ،‬وترفع العبد أعلى من درجته التي كان عليها‪.‬‬

‫والذي يدل على هذا‪ :‬ما حصل لكعب بن مالك وصاحب ْيه؛ فإن اهلل عز وجل َغ َف َر‬
‫له‪ ،‬ورفعهم بتوبتهم‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪38‬‬

‫وكذلك قول النبي ﷺ يف المرأة التي اعرتفت بالزنا فرجمها‪ ،‬قال‪َ « :‬ل َقدْ تَا َبت‬ ‫‪38‬‬

‫ت َْوبة َل ْو ُق ِس َمت َع َلى َس ْب ِع ْين ِمن َأ ْهل ا ْل َم ِد ْينَة َل َو ِس َعتهم»‪.‬‬

‫فهذا يدل على أن التوبة َك ّفرت الذنب ورفعت العبد‪.‬‬

‫ومن هذا الباب‪ :‬قول بعض السلف‪ :‬كم من سيئة أدخلت صاحبها الجنة‪ ،‬فالسيئة‬
‫الصغيرة أو حتى الكبيرة قد يصحبها من الندم العظيم الذي يستقيم به العبد بعد ذلك‪،‬‬
‫ويدخل بتوبته وبندمه الجنة‪.‬‬

‫وقد تكون التوبة مساوية للذنب؛ فيرجع العبد إلى ما كان عليه‪ُ ،‬ت َك ّفر المعصية‪،‬‬
‫ويرجع إلى ما كان عليه من اإليمان وال ينقص‪.‬‬

‫وقد تكون التوبة ضعيفة؛ فال تقوى على َر ْفع الخطيئة‪ ،‬فيبقى الرجل على مرتبة‬
‫دون التي كان عليها قبل التوبة؛ ألن التوبة لم تكن قوية‪ ،‬ولم ترفع أثر المعصية‬
‫بالكلية‪.‬‬

‫فهذا يف حق أحوال ويف َت َف ُ‬


‫اوت أحوال التائبين يف الدنيا وما ُهم عليه من اإليمان‪.‬‬

‫وأما َم ْن لقي اهلل عز وجل بالتوبة الصحيحة الكاملة فإن اهلل عز وجل يغفر له هذا‬
‫الذنب‪ ،‬وهذه المعصية‪.‬‬
‫‪39‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫فيم ْن كانت له ذنوب كثيرة‪ :‬هل يكفي يف هذا‬


‫أيضا هناك خالف بين أهل العلم َ‬
‫ثم ً‬
‫التوبة العامة‪ ،‬أو أنه ال بد أن يستحضر الذنوب؟‬

‫الصحيح‪ :‬أنه إذا تاب توبة عامة ونوى االستقامة فإن اهلل عز وجل يتوب عليه‪.‬‬

‫وج ّله‪ ،‬ظاهره وباطنه‪ِ ،‬س ّره‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫ومن دعاء النبي ﷺ‪« :‬اللهم اغْفر لي ذنبي كله د ّقه ُ‬
‫علمت منه وما لم أعلم»‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وعَلنيته‪ ،‬ما‬

‫فذكر أن من الذنوب ما ال يعلمها‪ ،‬وهو يستغفر اهلل عز وجل منها‪.‬‬

‫رجى له إن شاء اهلل أن يغفر اهلل عز وجل له كل الذنوب؛ ما‬


‫و َم ْن دعا هبذا الدعاء ُي َ‬
‫َعلِمها وما لم يعلم‪ ،‬ما تذكر ونسي‪.‬‬

‫فإذا كانت التوبة عامة فإن اهلل عز وجل يغفر للعبد مغفرة عامة‪ ،‬وترتفع الذنوب‬
‫كلها‪.‬‬

‫ْب فِي َالدُّ ْن َيا َف ُه َو َك َّف َار ُت ُه‪ ،‬ك ََما َجا َء فِي َا ْلخَ َبرِ‬ ‫يم َع َل ْي ِه َحدُّ َذلِ َ‬
‫ك َا َّلذن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫( َو َم ْن َلق َي ُه َو َقدْ ُأق َ‬
‫ول َاهَّللِ ﷺ)‪ :‬هذا يف حق َم ْن لم َيتُب‪ ،‬ولكنه ُأقيم عليه الحد؛ فإن اهلل عز وجل‬ ‫َع ْن رس ِ‬
‫َ ُ‬
‫ُي َك ِّفر عن العبد بذلك الحد‪.‬‬

‫والحدود على الصحيح‪ :‬أنها زواجر وجوابر‪:‬‬

‫‪ -‬فهي تجرب العبد‪ ،‬وتجرب إيمانه‪ ،‬وينجرب ما ذهب منه‪.‬‬


‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪40‬‬

‫‪ -‬وهي زواجر؛ تزجر الناس عن المعاصي‪.‬‬ ‫‪40‬‬

‫فهذا هو الصحيح الذي دلت عليه النصوص؛ أهنا إنما ُش ِرعت للزجر وللجرب؛‬
‫وهذا من رحمة اهلل عز وجل هبذه األُ ّمة‪.‬‬

‫ومما يدل على أهنا جوابر‪ :‬قول النبي ﷺ‪« :‬ات َِّق اهَّلل َح ْي ُث َما ُكنْت‪َ ،‬و َأ ْتبِع َّ‬
‫الس ْيئة‬
‫ا ْل َح َسن َة ت َْم ُحها»؛ فالنبي ﷺ أرشد إلى َم ْحو السيئة بالحسنة‪.‬‬

‫ومن ذلك‪ :‬أن العبد إذا اعرتف بذنبه وطلب إقامة الحد عليه فهذا قد أعقب السيئة‬
‫بحسنة‪ ،‬وتاب إلى اهلل عز وجل‪.‬‬

‫والمكفرات كثيرة‪ :‬منها‪ :‬الحسنات‪ ،‬ومنها‪ :‬االستغفار‪ ،‬ومنها‪ :‬األعمال الصالحة‪،‬‬


‫ومنها‪ :‬الحدود‪ ،‬ومنها‪ :‬األمور ا ْل ُم َقدّ رة من اهلل التي ال قدرة للعبد عليها‪ ،‬وهو أن ُي َقدِّ ر‬
‫اهلل عز وجل عليها المصيبة ف ُي َك ِّفر عنه هبذه المصيبة‪ ،‬أو عذاب القرب فهو ُم َك ِّفر‪ ،‬أو‬
‫أهوال المحشر‪.‬‬

‫الم َك ّفرة للذنوب؛‬


‫وهذه األشياء ذكرها شيخ اإلسالم ضمن األسباب العشرة ُ‬
‫أيضا ما ُيصيب العبد من‬ ‫َ‬
‫فذكَر منها‪ :‬عذاب القرب‪ ،‬وذكر المصائب‪ ،‬وذكر التوبة‪ ،‬وذكر ً‬
‫األهوال يوم القيامة‪.‬‬
‫‪41‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫كل هذه من األمور التي ُي َك ِّفر اهلل عز وجل هبا؛ ومنها‪ :‬الحدود؛ فإن الحدود ُي َك ِّفر‬
‫اهلل عز وجل هبا‪.‬‬
‫ٍ‬
‫معصية واحدة عقوبتين‪ ،‬فيُعاقبه يف الدنيا‪،‬‬ ‫وال يجمع اهلل عز وجل على العبد يف‬
‫و ُيعاقبه يف اآلخرة‪َ ،‬م ْن ُعوقب يف الدنيا لم ُيعا َقب يف اآلخرة‪.‬‬
‫ُوب َا َّلتِي َقدْ اِستَوجب بِها َا ْلع ُقوب َة َف َأمره إِ َلى َاهَّللِ‬
‫ب ِم ْن َا ُّلذن ِ‬
‫( َو َم ْن َل ِق َي ُه ُم ِص ًّـرا َغ ْي َر تَائِ ٍ‬
‫ْ ْ َ َ َ ُ َ ُُْ‬
‫السنة يف أهل الكبائر الذين‬ ‫عز وجل؛ إِ ْن َشا َء َع َّذ َب ُه‪َ ،‬وإِ ْن َشا َء َغ َف َر َل ُه)‪ :‬هذه عقيدة أهل ُّ‬
‫ماتوا على الكبائر من غير توبة‪ ،‬ومن غير َحدّ يقام عليه‪.‬‬

‫لقوا اهلل عز وجل بالذنوب‪ ،‬بالكبائر؛ فهؤالء َأ ْمرهم إلى اهلل عز وجل؛ إن شاء‬
‫َع َّذهبم‪ ،‬وإن شاء َغ َف َر لهم‪.‬‬

‫الحكم‬ ‫وهذه الجملة التي َت ِرد يف كالم أهل ُّ‬


‫السنة إنما يقولوهنا ويقصدون هبا ُ‬
‫المطلق العام يف أهل الكبائر‪.‬‬

‫وأما األفراد منهم‪ :‬فنحن نقطع أن منهم َم ْن يدخل النار و ُي َع َّذب فيها‪ ،‬كما قال‬
‫(َل إِله إ ِ ََّل اهَّلل وفِي َق ْلبِه ِم ْث َقال َذ ّرة ِمن إ ِ ْي َمان)»‪.‬‬
‫النبي ﷺ‪َ « :‬يخْ ُرج ِمن النَّار َم ْن َق َال‪َ :‬‬

‫وأن منهم من أهل الكبائر َم ْن ال يدخل النار وال ُي َع َّذب‪ ،‬ومما دل على هذا‪:‬‬
‫حديث صاحب البطاقة الذي ُي َك ِّفر اهلل عز وجل عنه بما معه من التوحيد‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪42‬‬

‫ومن هؤالء‪ :‬مما دلت النصوص على الشفاعة فيه‪ ،‬وأن اهلل عز وجل ُي َش ِّفع فيهم‬ ‫‪42‬‬

‫بعض المخلوقين فيشفعون فيهم فال ُي َع ّذبون‪.‬‬


‫فإ ًذا هذا حكم مطلق عام‪ ،‬وهو حكم م ِ‬
‫جمع أن أهل الكبائر تحت مشيئة اهلل؛ إن‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫شاء اهلل غفر لهم‪ ،‬وإن شاء َع َّذهبم‪.‬‬

‫فإن قال قائل‪ :‬هل تقولون‪ :‬أهنم كلهم يف الجنة؟ تقولون‪ :‬تحت المشيئة‪،‬‬
‫وتقولون‪ :‬أهنم كلهم يدخلون الجنة؟‬

‫نقول‪ :‬نقطع بأن بعضهم يدخل النار‪ ،‬وأن بعضهم يدخل الجنة ابتدا ًء من غير‬
‫عذاب؛ إما برحمة رب العالمين‪ ،‬أو بشفاعة الشافعين التي هي من رحمة اهلل‪.‬‬

‫وأما َم ْن لم َي ِرد فيهم النَّص‪َ :‬ف ُهم تحت المشيئة‪ ،‬نحن ال نعلم أفراد هؤالء ال ُعصاة‪،‬‬
‫و َم ْن ُهم الذين يدخلون النار‪ ،‬و َم ْن ُهم الذين ينجون برحمة اهلل عز وجل؛ هذا ُحكم‬
‫جمل‪.‬‬
‫عام ُم َ‬

‫وأما أفرادهم‪ :‬فقد دلت النصوص على أن منهم َم ْن يدخل النار‪.‬‬

‫وهذا فيه َر ّد على المرجئة الذين يقولون‪َ :‬م ْن كان معه اإليمان دخل الجنة‪.‬‬

‫وكذلك خروج هؤالء من النار فيه َر ّد على الخوارج والمعتزلة الذين يقولون‪َ :‬م ْن‬
‫َد َخل النار فإنه ال يخرج منها‪ ،‬وإنما ُي َخ ّلد فيها‪.‬‬
‫‪43‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫وليس عنده هناك َف ْرق بين أهل اإليمان وبين أهل الكفر عند الخوارج‪.‬‬

‫فالخوارج يقولون‪ُ :‬عصاة المؤمنين ُي َع ّذبون عذاب الكافرين‪.‬‬

‫وأما المعتزلة فيقولون‪ :‬أهنم ُي َع َّذبون عذا ًبا دون عذاب الكافرين‪ ،‬لكنهم يقولون‬
‫بتخليدهم كما أن الخوارج يقولون بذلك‪.‬‬

‫كافرا َع َّذ َب ُه َو َل ْم َيغ ِْف ْر َل ُه)‪ :‬هذا ُحكم الكافر؛ َم ْن َل ِقي اهلل عز وجل‬ ‫ِ ِ‬
‫قال‪َ ( :‬وم ْن َلق َي ُه ً‬
‫بالكفر فنحن نقطع بأنه خالد ُم َخ ّلد يف النار‪ ،‬وأن اهلل عز وجل ال يغفر له‪ ،‬وأنه ال ُي َش ِّفع‬
‫فيه أحدً ا من المخلوقين‪.‬‬

‫بل إن كل كافر مآله إلى النار‪ ،‬وإلى الخلود فيها‪.‬‬

‫***المتن***‬

‫ت َع َل ْي ِه َب ِّينَةٌ‪َ ،‬و َقدْ َر َج َم‬


‫الر ْج ُم َح ٌّق َع َلى َم ْن َزنَا َو َقدْ َأ ْح َص َن إِ َذا اِ ْعت ََرفَ أَ ْو َق َام ْ‬
‫َو َّ‬
‫ون‪.‬‬
‫اشدُ َ‬ ‫ول اَهَّللِ ﷺ ‪ ،‬ورجم َا ْْلَئِم ُة َالر ِ‬ ‫َر ُس ُ‬
‫َّ َّ‬ ‫َ َ َ َ‬

‫***الشرح***‬

‫الرجم‪ :‬هو َحدّ الزاين ا ْل ُم َ‬


‫حصن الذي تزوج‪.‬‬ ‫الر ْج ُم َح ٌّق)‪ّ :‬‬
‫(و َّ‬
‫َ‬

‫َف َحدّ ه إذا زنا‪ :‬أن ُي َ‬


‫رجم بالحجارة حتى يموت‪ ،‬وهذه من أغلظ الحدود يف حق‬
‫العصاة من أهل اإليمان ومن أهل التوحيد‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪44‬‬

‫الرجم من أشد العقوبات‪ ،‬وهو فوق القتل؛ ألن القتل‪ :‬هو الضرب بالسيف يف‬ ‫‪44‬‬

‫الحدّ بالقتل بال َق َود وبغيره‬


‫حق الخارج عن الجماعة وغيره‪ ،‬وكذلك كل َم ْن استوجب َ‬
‫ضرب بالسيف‪.‬‬
‫فإنه ُي َ‬

‫رجم بالحجارة حتى يموت‪ ،‬يرجمه َم ْن سربه‬


‫وأما الرجم‪ :‬فهو زيادة تعذيب؛ فإنه ُي َ‬
‫من أهل اإليمان َبأ ْمر الحاكم حتى يموت‪ ،‬و ُي َ‬
‫رجم الرجل والمرأة‪ ،‬وال َف ْرق هبذا بين‬
‫المحصن‪.‬‬
‫َ‬ ‫الرجل والمرأة‪ ،‬فالحد ُيقام على الزاين‬

‫حصن‪ :‬فإنه ُيج َلد‪.‬‬


‫وأما غير ا ْل ُم َ‬

‫وحد البِكر‪ُ :‬يج َلد مائة َج ْلدة‪ُ ،‬‬


‫يج َلد الرجل والمرأة‪.‬‬ ‫َ‬

‫وهذا الحد ال يكون إال بِ َب ّينة واضحة‪ :‬وهو أن يشهد أربع شهود على الزاين بأهنم‬
‫رأوه يزين بالمرأة‪ ،‬ويصفون هذا الوصف َو ْص ًفا ال يحتمل غير ما يحصل من هذا‬
‫الفعل المعروف عند الناس‪.‬‬

‫تصريحا هبذا الفعل‪ ،‬وأن يشهد على هذا أربعة‬


‫ً‬ ‫ويشرتط بعض القضاة‪ :‬أن ُي َص ِّرح‬
‫شهود‪ ،‬يشهدون هبذا الفعل‪.‬‬
‫‪45‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫ولهذا َق ّل أن يحصل هذا األمر أو تحصل الشهادة على هذا؛ حتى قيل‪ :‬إنه لم‬
‫يحصل‪ ،‬والقطع به صعب‪ ،‬وأما االعرتاف‪ :‬فقد حصل‪ ،‬وهو الطريق اآلخر إلثبات‬
‫الزنا‪ :‬وهو أن يعرتف الزاين‪.‬‬

‫كما حصل من المرأة الجهنية والغامدية التي زنت فاعرتفت؛ فهذا االعرتاف ُي َ‬
‫ؤخذ‬
‫به‪.‬‬

‫كذلك َأ َخ َذ بعض أهل العلم ببعض القرائن‪ ،‬قالوا‪ :‬بالحمل يف حق المرأة غير‬
‫المتزوجة البكر؛ فإذا حملت فبعض الفقراء يرى أهنا ُتج َلد‪ ،‬أهنا إذا كانت بِ ْك ًرا ُتج َلد‪،‬‬
‫وإذا كانت متزوجة وهي ليست مع زوج بأن مات زوجها وليس هناك ما يدل على‬
‫وجود َح ْمل من الزوج فبعض الفقهاء يرى األخذ هبذا‪ ،‬وبعضهم ال يرى هذا؛ ألن‬
‫الحمل يحتمل أن يحصل دون ِجماع؛ كأن تحصل نوع مخالطة بين الرجال والنساء‪،‬‬
‫فيحصل أحيانً ا بعض هذه األمور عن طريق دخول ألماكن الرجال من أماكن قضاء‬
‫عرف اآلن من دورات المياه؛ فإنه َث َبت لدى األطباء أن الحمل‬
‫الحاجة وغيرها‪ ،‬وما ُي َ‬
‫ٍ‬
‫بطريق أو بآخر‪ ،‬وقد يحصل بإذن اهلل‬ ‫قد ينتقل للمرأة بانتقال ماء الرجل إلى َف ْرجها‬
‫وجود الحمل‪.‬‬

‫فالصحيح من هذا‪ :‬أنه ال يكون هناك الحد إال بوجود هذه القرائن وهذه الب ّينات‬
‫الظاهرة؛ وهي‪ :‬إما االعرتاف‪ ،‬وإما شهادة الشهود‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪46‬‬

‫ون)‪ :‬الخلفاء الراشدون‬ ‫ول َاهَّللِ ﷺ ‪ ،‬ورجم اَ ْْلَئِم ُة َالر ِ‬


‫اشدُ َ‬ ‫قال‪َ ( :‬و َقدْ َر َج َم َر ُس ُ‬
‫َ َ َ َ‬
‫‪46‬‬
‫َّ َّ‬
‫بسنّة النبي‬
‫َرجموا‪َ ،‬ر َجم النبي ﷺ ورجموا؛ وهذا دليل على أن هذا َحدّ متقرر‪ ،‬متقرر ُ‬
‫وبسنّة الخلفاء الراشدين الذين َأ َمر النبي ﷺ با ّتباع ُسنّته‪.‬‬
‫ﷺ‪ُ ،‬‬

‫***المتن***‬

‫َان ِم ْن ُه‪َ ،‬أ ْو َذك ََر‬ ‫ول َاهَّلل ِ ﷺ‪َ ،‬أو َأبغ ََضه بِحدَ ٍ‬ ‫اب رس ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ثك َ‬ ‫ْ ْ ُ َ‬ ‫َو َم ْن ا ْن َت َق َص َأ َحدً ا م ْن َأ ْص َح ِ َ ُ‬
‫ِ‬ ‫َان ُم ْبت َِد ًعا‪َ ،‬حتَّى َيت ََر َّح َم َع َل ْي ِه ْم َج ِمي ًعا‪َ ،‬و َيك ُ‬
‫ُون َق ْل ُب ُه َل ُه ْم َسل ً‬
‫يما‪.‬‬ ‫َم َس ِ‬
‫او َئ ُه؛ ك َ‬

‫***الشرح***‬

‫َان ِمنْ ُه‪َ ،‬أ ْو َذك ََر‬ ‫ول اَهَّللِ ﷺ‪َ ،‬أو َأبغ ََضه بِحدَ ٍ‬
‫اب رس ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ثك َ‬ ‫ْ ْ ُ َ‬ ‫(و َم ْن ا ْن َت َق َص َأ َحدً ا م ْن َأ ْص َح ِ َ ُ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫او َئه؛ ك َ ِ‬
‫السنة؛‬ ‫َان ُم ْبتَد ًعا‪َ ،‬حتَّى َيت ََر َّح َم َع َل ْي ِه ْم َجمي ًعا)‪ :‬هذا أصل من أصول أهل ُّ‬ ‫َم َس ِ ُ‬
‫وهو أن انتقاص أصحاب النبي ﷺ أنه عالمة االبتداع واالنحراف‪ ،‬فال ينتقص‬
‫أصحاب النبي ﷺ إال أهل البدع‪ ،‬وهذا دين الرافضة والخوارج الذين ينتقصون‬
‫أصحاب النبي ﷺ‪.‬‬

‫وأصحاب النبي ﷺ وإن كانوا يتفاوتون يف الفضل إال أن انتقاصهم لم ُي َف ِّرق أهل‬
‫السنة بين فاضل ومفضول‪ ،‬ولم يقولوا‪ :‬ينتقص السابقين األولين أو ينتقص أهل بدر‪،‬‬
‫ُّ‬
‫بل قالوا‪َ :‬م ْن انتقص واحدً ا من أصحاب النبي ﷺ فهو مبتدع‪.‬‬
‫‪47‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫بحدَ ث‪،‬‬
‫فال يجوز لمسلم أن ينتقص أحدً ا من أصحاب النبي ﷺ وال أن يتكلم فيه َ‬
‫مم ْن يدعي البحث العلمي‬
‫الج َهلة اآلن َّ‬
‫أو بما يظن أنه معصية‪ ،‬وما َيدّ عيه بعض َ‬
‫والتنقيب عن أحوال الصحابة وتجريحهم؛ هذا من الجهل الذي ال يكون إال من‬
‫مبتدع مخذول‪.‬‬

‫فال يقع يف أصحاب النبي ﷺ إال جاء يف المخذول‪ ،‬وهذا دليل الخذالن وعدم‬
‫التوفيق‪ :‬أن يكون عمل الرجل هو التنقيب عن أصحاب النبي ﷺ‪ ،‬وتجريحهم بعد‬
‫هذه العصور‪.‬‬

‫وقد كان سلف األُمة من خيار أصحاب النبي ﷺ و َم ْن بعدهم من التابعين‪ ،‬كانوا‬
‫ُيمسكون عن ما َش َجر بين أصحاب النبي ﷺ‪.‬‬

‫و َل ّما حصلت الفتنة وحصل االختالف بين أصحاب النبي ﷺ كان قد َش ِهد هذه‬
‫الفتنة الكثير من أصحاب النبي ﷺ من كبار الصحابة‪ ،‬كسعد بن أبي وقاص‪ ،‬وابن‬
‫عمر‪ ،‬وأسامة بن زيد‪ ،‬وغيرهم من أصحاب النبي ﷺ‪.‬‬

‫وهم يعرفون األخبار‪ ،‬وي ّطلعون على أحوال الناس‪ ،‬وما‬


‫وأمسكوا ولم يتكلموا ُ‬
‫تكلموا يف هذا بشيء‪ ،‬وأمسكوا ألسنتهم واعتزلوا‪ ،‬ويأيت الناس بعد هذه العصور وبعد‬
‫أن َك ُثر الكذب والتلبيس ويقفون على بعض أخبار ُم َز ّورة ومكذوبة‪ ،‬و ُيعاملون‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪48‬‬

‫الصحابة بما ُين َقل يف هذه الكتب التي بعضها كانت من َو ْضع الرافضة أو من َو ْضع‬ ‫‪48‬‬

‫الخوارج‪.‬‬

‫هذا من الجهل؛ ألنه ال يو َثق اآلن بكثير من األخبار‪ ،‬وما ُينقل حتى لو َث َبت أنه‬
‫صحيح فإنه ال مصلحة يف البحث عن أحوالهم‪ ،‬وال عن تجريحهم‪.‬‬

‫فإن أصحاب النبي ﷺ كانوا على منزلة عالية‪ ،‬وعلى درجة كبيرة من العلم‬
‫والفقه‪ ،‬وربما خاض الناس وأخطئوا وأصحاب النبي ﷺ ُهم ا ْل ُمصيبون‪.‬‬

‫ولهذا َل ّما ُسئل اإلمام أحمد‪ :‬هل للرجل أن ُي َر ّجح بين أقوال الصحابة؟‬

‫قال‪ :‬ال‪ ،‬وال يعني هذا أن اإلمام أحمد ُي َص ِّوب الجميع‪ ،‬لكن هذا فيه إشارة إلى‬
‫أص ٍل مهم؛ وهو أن العلماء الكبار ال ُي َر ّجح بين أقوالهم الصغار‪.‬‬

‫فإذا كان يف حق العلماء فكيف بأصحاب النبي ﷺ‪.‬‬

‫ولهذا؛ اإلمام أحمد هو نفسه إذا جاءت مسألة عن بعض الصحابة فإنه ُي َر ّجح‪.‬‬

‫فهؤالء ُي َر ّجح بين أقوالهم العلماء الكبار‪ ،‬وأما َم ْن هو دوهنم فإنه ال يتكلم فيهم‪،‬‬
‫وليس له النظر يف أقوالهم‪ ،‬وأن ُي َر ّجح ً‬
‫قوال على قول إن لم يكن من أهل المتمكنين‬
‫الذين َدرسوا األصول وعرفوها‪.‬‬

‫فهذا يف حق أصحاب النبي ﷺ أنه ال يجوز لمسلم أن ينتقصهم‪.‬‬


‫‪49‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫وشتْمهم كُلهم فال شك أن هذا ُك ْفر‪،‬‬


‫وأما إذا وصل األمر إلى َل ْعنهم وإلى َس ّبهم َ‬
‫الساب لهم والذي يشتمهم ويعتقد أهنم كلهم َف َسقوا أنه‬‫وهذا دليل على أن هذا ّ‬
‫ُم َك ِّذب ل ِ َما جاء يف النصوص من القطع بعدالتهم‪.‬‬

‫ومن باب َأ ْو َلى أن يكفر هبذا َم ْن اعتقد أن أصحاب النبي ﷺ كلهم قد ار َتدّ وا! فإن‬
‫هذا كافر؛ كما َذكَر شيخ اإلسالم يف [هناية الصارم المسلول] قال‪َ :‬م ْن اعتقد أن‬
‫أصحاب النبي ﷺ ارتدوا إال القليل منهم فهو كافر‪.‬‬

‫ومن َت َو ّقف يف تكفيرهم فتكفيرهم ُمتَعيّن؛ ألن هذا تكذيب لصريح القرأن‪.‬‬

‫متأو ًال فإنه فاسق‪ ،‬على ولي األمر وعلى اإلمام أن‬ ‫أما َم ْن انت َق َ‬
‫ص بعضهم وكان ّ‬
‫ُي َع ّزره وأن يؤدبه حتى يرجع‪.‬‬

‫رجال َت َع ّرض لعثمان رضي اهلل عنه َف َج َلده ثم‬


‫وقد َج َلد عمر بن عبد العزيز ‪ً $‬‬
‫ِ‬
‫السب‪.‬‬ ‫َج َلده ثم َج َلده ثالث مرات وهو ُمص ّر على َّ‬

‫فهذا هو َهدْ ي السلف أهنم كانوا ُي َع ّزرون َم ْن َت َع ّرض ألصحاب النبي ﷺ أو‬
‫انتقصهم‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪50‬‬

‫والكثير من المخذولين ربما َت َجرؤوا على معاوية رضي اهلل عنه‪ ،‬وتكلموا فيه‪،‬‬ ‫‪50‬‬

‫وانتقصوه‪ ،‬وربما َقدَ ح فيه البعض أنه ليس من الصحابة! وهذا َج ْهل ودليل على‬
‫الخ ْذالن –والعياذ باهلل‪.-‬‬
‫ُ‬

‫فإن معاوية من أصحاب النبي ﷺ الذين لم ُيخالِف يف ُصحبتهم أحد من العلماء‪،‬‬


‫وهو كاتب َو ْحي النبي ﷺ‪ ،‬وهو من خيار األمراء الذين استعملهم أبو بكر وعمر‬
‫وعثمان‪ ،‬وقد شهدت له األُمة بالخير والفضل وثناء الصحابة الذين شهدوا خالفته‬
‫عظيما‪.‬‬
‫ً‬ ‫وأثنوا عليه ثنا ًء‬

‫وقد َذكَر شيخ اإلسالم أنه ليس يف ملوك اإلسالم َم ْن هو أفضل من معاوية‪ ،‬فهو‬
‫يأت بعد الخلفاء الراشدين وبعد خالفة الحسن َم ْن هو أفضل من‬ ‫خير الملوك‪ ،‬ولم ِ‬

‫مم ْن َح َكم سوى ما ُذكِر عن عبد اهلل بن الزبير رضي اهلل عنه‪َ ،‬ف َله‬
‫معاوية رضي اهلل عنه َّ‬
‫استقر‬
‫ّ‬ ‫مكانته يف أصحاب النبي ﷺ‪ ،‬لكنه لم يستقر األمر لعبد اهلل بن الزبير كما‬
‫لمعاوية‪.‬‬

‫ولهذا يقال‪ :‬ما َم َلك الناس أحدٌ ما َم َلك معاوية؛ فإنه َم َل َك الناس و َدان الناس له‪،‬‬
‫أميرا على الشام‪ ،‬وعشرين سنة خليفة‪ ،‬وثناء العلماء عليه كثير‪ ،‬وهو‬‫وبقي عشرين سنة ً‬
‫مشهور يف كُتب أهل السنة‪ ،‬وال يعرف عن ٍ‬
‫أحد من أهل العلم أنه َت َك ّلم فيه‪.‬‬ ‫ُ َ‬ ‫ُّ‬
‫‪51‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫وأما الذين توقفوا َتوقفوا يف يزيد بن معاوية‪ ،‬و َث َبت عن اإلمام أحمد أنه ُسئل عن‬
‫َس ّبه‪ ،‬فقال البنه‪ :‬متى َعلِ ْمت أباك َل ّعانًا؟!‬

‫ب وال يحب‪.‬‬
‫السنة‪ :‬أن يزيد ال ُي َس ّ‬
‫وقال شيخ اإلسالم‪ :‬وهذا هو منهج أهل ُّ‬

‫وأما معاوية رضي اهلل عنه فلم يتكلم فيه أحد‪ ،‬ولم يقدح فيه أحد‪ ،‬ولم يقدحوا يف‬
‫عدالته‪ ،‬ولم يقدحوا يف ُحكمه‪ ،‬ولم يقدحوا يف شيء من سيرته رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫وإنما غاية ما َذكَر المحققون هو الخالف الذي حصل بينه وبين علي رضي اهلل‬
‫عنه‪.‬‬

‫وهذه المسألة هي التي أمسك عنها الكبار من أصحاب النبي ﷺ؛ فال يتكلم فيها‬
‫بعدهم إال جاهل مخذول‪.‬‬

‫***المتن***‬
‫اق ُه َو‪َ :‬الْ ُك ْف ُر‪َ ،‬أ ْن ي ْك ُف َر بِاَهَّللِ َوي ْع ُبدَ َغ ْي َر ُه‪ ،‬ويظْ ِه َر َا ْ ِ‬
‫إل ْس ََل َم فِي َا ْل َع ََلنِ َي ِة‪ِ ،‬مثْ َل‬ ‫َوالنِّ َف ُ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ول َاهَّللِ ﷺ‪.‬‬ ‫ين كَانُوا َع َلى َع ْه ِد رس ِ‬
‫َ ُ‬
‫ِ‬
‫ين َا َّلذ َ‬
‫ِِ‬
‫َا ْل ُمنَافق َ‬
‫ث من كُن فِ ِيه َفهو منَافِ ٌق» ه َذا ع َلى َال َّتغ ِْل ِ‬
‫يظ‪ ،‬ن َْر ِو َيها ك ََما َجا َء ْت‪َ ،‬و ََل نَقيسها‪.‬‬ ‫َ َ‬ ‫ُ َ ُ‬ ‫« َث ََل ٌ َ ْ َّ‬

‫***الشرح***‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪52‬‬

‫اق ُه َو‪َ :‬الْ ُك ْف ُر‪َ ،‬أ ْن ي ْك ُف َر بِاَهَّللِ َوي ْع ُبدَ َغ ْي َر ُه‪ ،‬وي ْظ ِه َر اَ ْ ِ‬
‫إل ْس ََل َم فِي َا ْل َع ََلنِ َي ِة‪،‬‬ ‫قال‪َ ( :‬والنِّ َف ُ‬ ‫‪52‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ول َاهَّللِ ﷺ)‪.‬‬ ‫ين كَانُوا َع َلى َع ْه ِد رس ِ‬
‫َ ُ‬
‫ِ‬
‫ين َا َّلذ َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫م ْث َل‪َ :‬ا ْل ُمنَافق َ‬
‫النفاق‪ :‬هو ُك ْفر‪ ،‬ولكنه ُي ِ‬
‫فارق الكفر يف أن الكافر ُي ِ‬
‫ظهر الكفر‪.‬‬

‫وأما المنافق‪ :‬ف ُيبطِن الكفر و ُي ِ‬


‫ظهر اإليمان‪.‬‬

‫وكالهما كافر‪.‬‬

‫فإذا ُأطلق الكافر وقيل‪( :‬إنه كل كافر يف النار) َد َخل يف هذا المنافق؛ ألن المنافق‬
‫كافر‪ ،‬واإليمان ال يكون إال أن يتواطأ عمل القلب وعمل اللسان والجوارح‪.‬‬

‫فإذا َت َخ ّلف عمل القلب وقال الرجل بلسانه ما ال يعتقد و َع ِمل ما ال يعتقده فإنه‬
‫كَفر بإجماع األُمة‪.‬‬

‫وأما َم ْن استقر اإليمان يف قلبه وخالفه بلسانه أو بجوارحه‪ :‬فهذا الذي حصل فيه‬
‫تفصيل‪.‬‬

‫أما إذا زال االعتقاد ذهب اإليمان؛ مثل‪َ :‬م ْن َن َطق الشهادتين بلسانه وهو ال‬
‫يعتقدهما‪ ،‬أو صلى وهو ال يعتقد وجوب الصالة‪ ،‬أو آمن ببعثة النبي ﷺ‪ ،‬أو آمن‬
‫بالبعث وبالقدر‪ ،‬آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه فإنه ال يكون مؤمنًا‪.‬‬

‫فالمنافق‪ :‬هو الذي ُيبطِن الكفر و ُي ِ‬


‫ظهر اإليمان‪.‬‬
‫‪53‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫والمنافق أشد ُج ْر ًما من الكافر؛ ألن المنافق أتى بالكفر وزيادة‪ ،‬فأتى بالكفر وزاد‬
‫بمخادعة المسلمين‪.‬‬
‫ِِ‬
‫ولهذا كان المنافق أشد عقوبة من الكافر‪ ،‬كما قال اهلل عز وجل‪﴿ :‬إِ َّن ا ْل ُمنَافق َ‬
‫ين‬
‫َّار﴾[النساء‪َ ]145:‬فدَ ركة المنافقين هي أسفل َد َركة‪ ،‬والنار‬ ‫فِي الدَّ ْر ِك اْلَ ْس َف ِل ِم َن الن ِ‬

‫كلما نزلت دركاهتا كلما اشتدت العقوبة‪ ،‬وبعكسها‪ :‬الجنة؛ فالجنة درجات‪ ،‬والنار‬
‫دركات‪.‬‬

‫فالدرجات‪ :‬هي ما يصعد ويرتفع‪.‬‬

‫والدركات‪ :‬هي ما ينزل وينخفض‪.‬‬

‫فأدنى درجات الجنة‪ :‬هي الدرجة األولى‪ ،‬ثم تعلو درجات الجنة‪ ،‬وكلما َع َلت‬
‫الدرجة كلما كانت أكمل‪.‬‬

‫وأما درجات النار‪ :‬فأفضلها هي أول َدركة‪ ،‬ثم بعد ذلك كلما نزلت الدَّ ركة كلما‬
‫كانت العقوبة أشد؛ حتى إن أسفل النار هي دركة المنافقين؛ وهي درجة المنافقين‬
‫الذين ُي َع َّذبون أشد العذاب‪ ،‬وعذاهبم أشد من الكفار‪.‬‬

‫فهذا هو المنافق الذي َج َم َع بين الكفر ومخادعة المسلمين‪.‬‬

‫وأما الكافر‪ :‬فإن كفره ظاهر‪.‬‬


‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪54‬‬

‫ضررا على األُمة من الكفار الذين‬


‫ً‬ ‫ولهذا كان المنافقون أشد ُج ْر ًما وأشد‬ ‫‪54‬‬

‫ُي ِ‬
‫ظهرون الكفر‪.‬‬

‫قال‪( :‬وهذه األحاديث التي جاءت) يعني يف هذا المعنى‪ ،‬ومنها‪َ «( :‬ث ََل ٌ‬
‫ث َم ْن ك َُّن‬
‫ث َم ْن ك ُّن فِيه ك َ‬
‫َان‬ ‫فِ ِيه َف ُه َو ُمنَافِ ٌق»)‪ :‬كما َث َبت يف هذا الحديث يف [الصحيحين]‪َ « :‬ث ََل ٌ‬
‫ان» فهذه الخصال الثالث هي‬ ‫ُمنَافِ ًقا؛ إِ َذا َحدَّ ث ك ََذب‪ ،‬وإِ َذا َو َعدَ َأ ْخ َلف‪َ ،‬وإِ َذا اؤت ُِمن َخ َ‬
‫من خصال المنافقين‪ ،‬وهي من خصال النفاق‪.‬‬

‫الحظ أن كل هذه الخصال أن فيها مخالفة الظاهر للباطن‪« :‬إِ َذا َحدَّ ث ك ََذب»‪.‬‬
‫و ُي َ‬

‫والكذب‪ :‬هو مخالفة الخرب للواقع‪.‬‬

‫ثم إنه ينقسم إلى قسمين‪:‬‬

‫متعمدً ا ا ْل ُمخبِر؛ فهذا هو الكاذب المذموم‪.‬‬


‫‪ -‬قد يكون ّ‬

‫َعمد؛ فهذا الذي ال ُيالم‪.‬‬


‫‪ -‬وقد يكون غير ُمت ّ‬
‫ومن هذا ِ‬
‫القسم الثاين‪ :‬وهو أن يكون الخرب على غير الواقع‪ ،‬يعني ما كان ُيطلقه‬
‫بعض السلف يف بعض اجتهادات أهل العلم‪ ،‬يقول‪( :‬ك ََذب فالن) ُ‬
‫وهم ال يقصدون‬
‫أنه كذب الكذب المذموم الذي ُي َ‬
‫ؤاخذ به‪ ،‬ولكن أخرب بخالف الواقع‪ ،‬فهو إن كان‬
‫متأو ًال فهو معذور‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪55‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫وكذلك مثل‪ :‬أن ينقل الرجل الخرب يظن أنه صدق‪ ،‬ثم بعد ذلك يتبين أنه كذب؛‬
‫فإنه ال ُي َ‬
‫ؤاخذ‪.‬‬

‫لكن المبالغة يف هذا‪ :‬فإهنا قد تؤدي إلى المؤاخذة كما جاء‪ :‬بِحسب المرء ك َِذ ًبا‬
‫َأ ْن ُي َحدِّ ث بكل ما سمع‪.‬‬

‫الصدْ ق َحتَّى ُي ْكتَب ِعنْدَ اهَّلل ِصدِّ ْي ًقا»؛ إ ًذا‬


‫الر ُج ْل َيت ََح َّرى ِّ‬
‫ويف الحديث‪« :‬وَل َيزَال َّ‬
‫ال بد من َت َح ِّري ِّ‬
‫الصدق‪.‬‬

‫فإ ًذا الكذب فيه مخالفة؛ مخالفة الظاهر والخرب للباطن‪.‬‬

‫وكذلك «إِ َذا اؤْ ت ُِم َن َخان»‪ ،‬وكذلك الخيانة؛ فإن الخائن ظاهره ُيخالِف الباطن‪.‬‬

‫وكذلك «إِ َذا َو َعدَ َأ ْخ َلف»‪ ،‬وكذلك الذي أخلف الوعد فإن ظاهره خان الباطن‪.‬‬

‫الشعب الثالث من ُش َعب النفاق‪.‬‬


‫ومن هنا كانت هذه ُّ‬

‫َان ُمنَافِ ًقا»‪ ،‬و َم ْن كانت فيه ُشعبة كانت‬


‫ويف الحديث اآلخر‪َ « :‬أ ْر َب ًعا َم ْن ك ُّن فِ ْيه ك َ‬
‫فيه ُشعبة من النفاق‪.‬‬

‫أيضا ُموافِقة لهذه ُّ‬


‫الشعب‪.‬‬ ‫و َذكَر زيادة على هذه الثالث‪« :‬إِ َذا َخ َ‬
‫اص َم َف َجر»؛ وهذه ً‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪56‬‬

‫فإن اْلصل يف المؤمن‪ :‬أن بينه وبين أخيه ُأ ُخ ّوة ومودة‪ ،‬فإذا َف َج َر يف الخصومة‬ ‫‪56‬‬

‫وزاد يف الخصومة‪ ،‬ويف الواقع‪ :‬أن الخصومة ينبغي أن يكون لها حد؛ ألن الفجور‪ :‬هو‬
‫الزيادة يف الخصومة‪.‬‬
‫َف َله أن ي ِ‬
‫خاص م المخاصمة الشرعية‪ ،‬لكنه إذا زادت الخصومة خالف الظاهر‬ ‫ُ‬
‫لحقيقة األمر؛ فكانت هذه من ُش َعب النفاق؛ التي مرجعها إلى النفاق األعظم؛ الذي‬
‫هو مخالفة الظاهر للباطن‪ ،‬فهو يف ظاهره مؤمن ويف باطن كافر‪.‬‬

‫بشعب األيمان‪ ،‬ويف باطنه قد فقد هذه ُّ‬


‫الشعب؛ ففيه شعبة من‬ ‫وهذا يف ظاهره يأيت ُ‬
‫ُش َعب النفاق‪.‬‬

‫أيضا ُش َعب النفاق مثل ُش َعب الكفر‪:‬‬


‫ثم ً‬

‫ُش َعب النفاق‪ :‬كل ما كان متعل ًقا من مخالفة الظاهر للباطن هي من ُش َعب النفاق‪،‬‬
‫وكل ما كان متعل ًقا بإظهار المعاصي والذنوب فهي من ُشعب الكفر‪.‬‬

‫وش ْرب الخمر و َأكْل الربا‬


‫ثم ُشعب الكفر قد توجد مع أصل اإليمان؛ فإن الزنا ُ‬
‫من ُشعب الكفر‪ ،‬ومع هذا قد توجد مع أصل اإليمان‪.‬‬

‫وكذلك قتال المسلمين؛ فإن هذا من ُش َعب الكفر‪ ،‬ومع هذا توجد هذه ُّ‬
‫الش َعب‬
‫مع أصل اإليمان ولكنها ال تقوى على َر ْفع اإليمان‪.‬‬
‫‪57‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫وإنما ُين َفى اإليمان الكامل عن َم ْن خلت منه هذه ُّ‬


‫الشعب‪.‬‬

‫والعكس كذلك؛ فقد توجد ُش َعب اإليمان مع أصل الكفر؛ فتجد الكافر يتصدق‬
‫الشعب ال تقوى على َر ْفع‬
‫و ُينفق على المسلمين‪ ،‬ويعمل أعمال الرب‪ ،‬ولكن هذه ُّ‬
‫األصل؛ فال يرفع َأ ْصل الكفر إال أصل اإليمان‪ ،‬وال يقوى على َر ْفع أصل اإليمان إال‬
‫أصل الكفر‪.‬‬

‫ومن هنا َم ْن َث َبت إسالمه بيقين ال ُيزال عنه َّ‬


‫بالشك؛ حتى نتيقن وجود أصل‬
‫فالحكم له‪ ،‬وإن كان أصل اإليمان هو‬
‫ُ‬ ‫الكفر؛ فإذا كان أصل الكفر هو المتأخر‬
‫فالحكم له‪.‬‬
‫المتأخر ُ‬

‫فم ْن مات على اإليمان فهو مؤمن‪ ،‬و َم ْن مات على الكفر فهو كافر‪.‬‬
‫َ‬

‫***المتن***‬
‫ِ‬
‫َو َق ْو ُل ُه‪ََ « :‬ل ت َْر ِج ُعوا َب ْعدي ُك َّف ًارا ُض ََّل ًَل َي ْضرِ ُب َب ْع ُضك ُْم ِر َق َ‬
‫اب َب ْع ٍ‬
‫ض»‪.‬‬

‫***الشرح***‬
‫ِ‬
‫( َو َق ْو ُل ُه « ََل ت َْر ِج ُعوا َب ْعدي ُك َّف ًارا ُض ََّل ًَل َي ْضرِ ُب َب ْع ُضك ُْم ِر َق َ‬
‫اب َب ْع ٍ‬
‫ض»)‪ :‬هذه من‬
‫األدلة التي تدل على إطالق المعاصي وتسميتها بالكفر‪ ،‬وقد دلت النصوص على‬
‫هذا‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪58‬‬

‫وهذا على الصحيح من أقوال أهل العلم‪ :‬أن هذا اإلطالق (هو إطالق الكفر‬ ‫‪58‬‬

‫على المعاصي) هو من باب إطالق الكفر األصغر على هذه ُّ‬


‫الشعب‪.‬‬

‫وقد جاء يف كالم اإلمام أحمد أن هذه َو َردت على التقليل‪ ،‬وهذا قول لبعض أهل‬
‫العلم‪.‬‬

‫ولكن الصحيح‪ ،‬والذي عليه ا ْل ُمحققون‪ ،‬والذي استقر عليه قول المحققين من‬
‫أهل العلم‪ :‬أن هذه اإلطالقات هي من إطالقات الكفر األصغر على المعاصي؛ وهذا‬
‫قد جاءت به النصوص‪ :‬وهو أنه ُيطلق على الشعبة من ُش َعب الكفر أهنا ُك ْفر‪ ،‬كما أنه‬
‫ُيط َلق على الشعبة من ُش َعب اإليمان أهنا إيمان‪.‬‬
‫ِ ِ‬
‫يع إِ َ‬
‫يما َنك ُْم﴾[البقرة‪ ]143:‬فاإليمان‬ ‫﴿و َما كَا َن اهَّللُ ل ُيض َ‬
‫كما قال اهلل عز وجل‪َ :‬‬
‫هنا‪ :‬الصالة؛ أطلق عليها اإليمان وسماها إيمانًا‪ ،‬وكذلك ُيطلِق على ُش َعب الكفر أهنا‬

‫ُك ْفر وهذا ال يعني أنه إذا ُأطلق على الشعبة أهنا ُك ْفر أنه يكون ً‬
‫كافرا الكفر األكرب‪.‬‬

‫ولهذا؛ قال شيخ اإلسالم يف َش ْرح هذا الحديث‪ :‬قال‪ :‬الكفر الذي ُأطلق هنا هو‬
‫الكفر المق ّيد‪ ،‬وليس الكفر المطلق‪.‬‬

‫قال‪ :‬الكفر الذي يقال فيه‪( :‬كافر‪ ،‬ومؤمن)‪.‬‬


‫‪59‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫قال‪ :‬الكفر الذي أطلق هنا‪ :‬هو الكفر المقيد‪ ،‬وليس هو الكفر المطلق الذي يقال‬
‫فيه‪( :‬كافر ومؤمن)‪.‬‬

‫فهنا كُفر مق ّيد؛ أي أنه ُو ِجدت منه شعبة من ُش َعب الكفر‪ ،‬أو أنه َك َفر يف هذه‬
‫المعصية الكفر األصغر‪ ،‬وليس هو الكفر األكرب‪.‬‬

‫َان ِم َن‬
‫﴿وإِ ْن َطائِ َفت ِ‬
‫وإال فالقتال فإنه ال ُيزيل أصل اإليمان؛ كما قال اهلل عز وجل‪َ :‬‬
‫ين ا ْق َت َت ُلوا َف َأ ْص ِل ُحوا َب ْين َُه َما﴾[الحجرات‪َ ]9:‬ف َوصفهما باالقتتال‪ ،‬ووصفهما‬‫ِِ‬
‫ا ْل ُم ْؤمن َ‬
‫باإليمان؛ فدل على أن وجود القتال ال يرفع أصل اإليمان‪.‬‬

‫واإليمان المثبت هنا غير اإليمان المنفي يف قول النبي ﷺ‪ََ « :‬ل َيزْنِي الزَّانِي ِح ْين‬
‫ؤمن»؛ فاإليمان المنفي عن الزاين هو اإليمان الكامل‪ ،‬واإليمان المثبت‬ ‫يزْنِي وهو م ِ‬
‫َ ُ َ ُ‬ ‫َ‬
‫قول واحد وعلى‬ ‫للقاتل يف اآلية هو أصل اإليمان؛ فاجتمعت اآلية والحديث على ٍ‬

‫أص ٍل واحد؛ أن المعاصي تذهب بكمال اإليمان الواجب‪ ،‬و ُين َفى اإليمان الواجب‬
‫الكامل عن العاصي‪ ،‬وال ُين َفى عنه أصل اإليمان‪.‬‬

‫السنة والجماعة؛ التي خالفهم فيها الخوارج والمعتزلة‪.‬‬


‫وهذه عقيدة أهل ُّ‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪60‬‬

‫***المتن***‬ ‫‪60‬‬

‫ُول فِي َالن ِ‬


‫َّار»‪.‬‬ ‫ان بِ َس ْي َف ْي ِه َما َفا ْل َقاتِ ُل َوا ْل َم ْقت ُ‬
‫َو ِم ْث ُل‪« :‬إِ َذا اِ ْل َت َقى َا ْل ُم ْس ِل َم ِ‬

‫***الشرح***‬

‫هذا فيه ما َو َرد يف هذا الباب‪ :‬من أن إطالق الكفر أو الوعيد الذي قد ُيط َلق على‬
‫الكفار أنه قد ُيط َلق على بعض المعاصي‪.‬‬
‫ُول فِي َالن ِ‬
‫َّار»)‪ :‬يعني إذا التقيا‬ ‫ان بِ َس ْي َف ْي ِه َما َفا ْل َقاتِ ُل َوالْ َم ْقت ُ‬
‫قال‪«( :‬إِ َذا اِ ْل َت َقى َا ْل ُم ْس ِل َم ِ‬

‫يف القتال فالقاتل والمقتول يف النار؛ فالقاتل استحق النار بسبب َقتْله ألخيه‪ ،‬وأما‬
‫فسئل عنه النبي ﷺ‪ ،‬قالوا‪ :‬هذا القاتل‪ ،‬فما بال المقتول؟!‬
‫المقتول‪ُ :‬‬

‫َان َحرِ ْي ًصا َع َلى َقتْل َأ ِخ ْيه»؛ فمن ِح ْرصه على َقتْل أخيه استوجب‬
‫قال‪« :‬إِنَّه ك َ‬
‫العقوبة‪ ،‬وهذا لم يمنعه من َقتْل أخيه إال أنه غلب‪ ،‬ولو تمكن ل َقتَله‪.‬‬

‫وهذا الحديث ال ُيشكِل على األصل‪ :‬أن الناس ال ُيؤاخذون بما يف نفوسهم‪ ،‬وما‬
‫كان يف القلوب إن لم يخرج إلى عمل؛ ألن هذا ِح ْرص على المعصية‪ ،‬وال يمنع منها‬
‫إال ال َع ْجز‪.‬‬

‫مثل‪َ :‬م ْن َح ِرص على الزنا ولم يمنعه منه إال ال َع ْجز؛ فهذا قد ُي َ‬
‫ؤاخذ بالعقوبة‪.‬‬
‫‪61‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫ولكن َم ْن َه ّم بمعصية من الزنا أو من غيره ثم لم يعمل فإنه ال ُي َ‬


‫ؤاخذ‪َ ،‬ه ّم بالزنا‬

‫ؤاخذ‪ ،‬بخالف ما إذا َه ّم به وأراده من امرأة وامتنعت منه‪ ،‬و ُغلِ َ‬


‫ب‬ ‫فلم يعمل فإنه ال ُي َ‬
‫ؤاخذ‪.‬‬ ‫و ُقبِض عليه و ُعوقِب؛ فإنه ُي َ‬
‫خشى أن ُي َ‬
‫ِ‬
‫كما أن هذا الرجل ُأخ َذ ب َق ْصده وبإصراره على َقتْل أخيه؛ ُ‬
‫فهما يف النار‪.‬‬

‫وما قيل يف حق أهل التوحيد أنه يف النار‪ :‬هذا ُمحتمل أن هذه عقوبته‪ ،‬كما قال اهلل‬
‫﴿و َم ْن َي ْقت ُْل ُم ْؤ ِمنًا ُم َت َع ِّمدً ا َف َج َزاؤُ ُه َج َهن َُّم َخالِدً ا فِ َيها﴾[النساء‪]93:‬؛ فهذه‬
‫عز وجل‪َ :‬‬
‫اآلية يف معنى الجزاء‪ ،‬ولهذا قال‪َ ﴿ :‬ف َج َزاؤُ ُه﴾[النساء‪.]93:‬‬

‫وعلى هذا المعنى َح َمل بعض أهل العلم كل ما جاء يف حق الوعيد‪ ،‬يف حق ُعصاة‬
‫المؤمنين أن هذا هو جزاؤه‪.‬‬

‫وأما ما دلت عليه النصوص األخرى‪ :‬فإن اهلل عز وجل ال ُين ِْفذ هذا الوعيد‪ ،‬وإن‬
‫كان هو جزاء عدل ال ينفذه يف الموحدين‪ ،‬وإنما قد يعفو عنهم‪ ،‬وقد ُي َ‬
‫ؤاخذ ذلك‬
‫المتو َّعد بالعقوبة‪.‬‬

‫ولكنه إذا قيل‪ :‬أنه يف النار فإنه لم ُي َخ ّلد فيها‪ ،‬وال ُي َخ َّلد فيها‪.‬‬

‫وأما ما جاء ﴿ َف َج َزاؤُ ُه َج َهن َُّم َخالِدً ا﴾[النساء‪ ]93:‬فإن هذا هو جزاؤهم‪ ،‬لكن‬
‫دلت النصوص على أن النصوص األخرى ا ْل ُم َف َّسرة هبذا النّص على أن المؤمن ال‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪62‬‬

‫ُي َخ ّلد يف النار‪ ،‬وهذا النَّص ُم َف َّسر هبذا‪ ،‬وهذه عقيدة أهل ُّ‬
‫السنة التي مبناها على النظر‬ ‫‪62‬‬

‫يف عموم النصوص‪ ،‬ويف مجموع النصوص‪ ،‬وأن ال ُت ِ‬


‫عارض النصوص بعضها لبعض‪،‬‬
‫وإنما ُي َف َّسر بعضها ببعض‪.‬‬

‫***المتن***‬

‫وق َوقِتَا ُل ُه ُك ْف ٌر»‪.‬‬


‫اب َا ْل ُم ْس ِل ِم ُف ُس ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َوم ْث ُل‪« :‬س َب ُ‬

‫***الشرح***‬

‫وق َوقِتَا ُل ُه ُك ْف ٌر»)‬


‫اب َا ْل ُم ْس ِل ِم ُف ُس ٌ‬ ‫ِ‬
‫أيضا من إطالق الكفر على المعصية‪«( ،‬سبَ ُ‬
‫وهذا ً‬
‫السب أنه فسوق‪ ،‬وأن القتال ُك ْفر‪.‬‬
‫فأطلق على َّ‬

‫السباب؛ فتكون هنا مرحلتان‪:‬‬


‫وهذا دليل على أن القتال –وهو َب ِّين‪ -‬أنه أعظم من ِّ‬

‫السب‪ :‬وهو فسوق‪.‬‬


‫َّ‬

‫والقتال‪ :‬وهو ُك ْفر أصغر‪.‬‬

‫ومن هنا يظهر ال َف ْرق بين أن ما ُأطلق عليه الكفر أنه قد يكون أشد من الكبائر‪،‬‬
‫فليست كل الكبائر ُأطلق عليها ال ُكفر و ُأطلق على بعضها الكفر‪.‬‬

‫فقتال المؤمن وقتال المسلمين ُأطلق عليه أنه ُك ْفر‪ ،‬كما ُأطلق يف بعض النصوص‬
‫الشعب ( ُك ْفر)‪.‬‬
‫على بعض هذه ُّ‬
‫‪63‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫فالسب ُأعطي ُحكم‬


‫السب وبين القتل؛ َّ‬
‫فتكون هذه أشد‪ ،‬ومن هنا جاء التفريق بين َّ‬
‫الفسوق‪ ،‬والقتال ُأعطي ُحكم الكفر‪ ،‬ولكنه ليس هو الكفر األكرب‪ ،‬وإنما هو الكفر‬
‫األصغر‪.‬‬

‫وإن كان الفسوق ُيط َلق على الفسق األعلى‪.‬‬

‫فالفسق‪ ،‬والظلم‪ ،‬والكفر؛ كل هذه اإلطالقات ُتطلق على األكرب‪ ،‬وعلى األصغر‪.‬‬

‫***المتن***‬

‫َو ِم ْث ُل‪َ « :‬م ْن َق َال ِْلَ ِخ ِيه َيا كَافِ ُر َف َقدْ َبا َء بِ َها َأ َحدُ ُه َما»‪.‬‬

‫***الشرح***‬

‫أيضا يف معنى ما تقدم‪َ «( :‬م ْن َق َال ِْلَ ِخي ِه َيا كَافِ ُر َف َقدْ َبا َء بِ َها َأ َحدُ ُه َما») أي هبذه‬
‫هذا ً‬
‫الحكم‪ ،‬وهذا إنما هو وعيد مطلق‪.‬‬
‫الكلمة أو هبذا ُ‬

‫خصوصا إذا‬
‫ً‬ ‫والكفر هنا على الصحيح‪ :‬أنه ليس هو بالكفر ا ْل ُم ِ‬
‫خرج من الملة‪،‬‬
‫صحبه التأويل‪.‬‬

‫ولهذا؛ َذكَر شيخ اإلسالم أن بعض أصحاب النبي ﷺ قال ألخيه ّ‬


‫متأو ًال‪( :‬كافر أو‬
‫منافق)‪ ،‬و َذكَر لهذا أمثلة؛ ومنه‪ :‬قول عمر رضي اهلل عنه يف حاطب‪ :‬إنه منافق‪ ،‬وقال له‬
‫النبي ﷺ‪َ « :‬صدق‪ ،‬وَل تقولوا إَل خير» قال‪ :‬إنه منافق‪ ،‬وأعادها بعد أن قال النبي ﷺ!‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪64‬‬

‫وهذا؛ ال شك أنه بعد أن ن ََهى النبي ﷺ عن هذه الكلمة أعادها‪ ،‬ومع هذا لم يقره‬ ‫‪64‬‬

‫النبي ﷺ على ذلك‪.‬‬

‫وألن ف ِ ْعل حاطب رضي اهلل عنه كان ُمشكِ ًال عليه رضي اهلل عنه‪ ،‬وقد َعلِم النبي‬
‫ﷺ ما لم يعلم عمر‪ ،‬و َعلِم ً‬
‫أيضا عمر ‪-‬من جهة‪ -‬ما لم يعلم حاطب يف أن هذا الفعل‬
‫ال يتناسب مع أهل اإليمان‪.‬‬

‫ف َع َرف عمر مسألة وخفيت عليه مسألة‪.‬‬

‫تأول‪ ،‬ثم إن عمر َت َأ ّول يف ُ‬


‫الحكم عليه‪.‬‬ ‫وحاطب رضي اهلل عنه ّ‬

‫الحكم المطلق الذي َب ّينه هنا‪.‬‬


‫ومع هذا؛ فالنبي ﷺ لم يحكم فيهما هبذا ُ‬

‫السنة والجماعة يف التفريق بين‬


‫وهذه األمثلة والشواهد هي أدلة قوية ألهل ُّ‬
‫والحكم على المعين‪.‬‬
‫األحكام المطلقة ُ‬

‫فكثير ما ُيطلِق النبي ﷺ األحكام المطلقة‪ ،‬ثم تصدر هذه المخالفة بنفسها من‬
‫الحكم المطلق؛ ألن هناك شروط وموانع تمنع‬
‫معين ثم ال يحكم النبي ﷺ بمقتضى ُ‬
‫الحكم المطلق بالمعين حتى يستويف هذه الشروط‪.‬‬
‫من إلحاق الوعيد المطلق أو ُ‬

‫ومنه‪ :‬قول النبي ﷺ يف الرجل الذي كان يشرب الخمر‪ ،‬وقال رجل‪َ ( :‬ل َعنه اهلل‪ ،‬ما‬
‫ِ‬
‫أكثر ما ُيؤ َتى به إلى النبي ﷺ) فقال‪َ« :‬ل َت ْلعنه؛ َفإِنّه ُيح ّ‬
‫ب اهَّلل ورسوله»‪ ،‬وهو الذي َل َعن‬
‫‪65‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫يف الخمر عشرة‪ ،‬وهذا الرجل ُيج َلد‪ ،‬و ُيؤ َتى به إلى النبي ﷺ‪ ،‬ومع هذا ينهى النبي ﷺ‬
‫عن َل ْعنه‪.‬‬

‫***المتن***‬

‫َو ِم ْث ُل‪َ « :‬ك َف َر بِ َاهَّللِ َم ْن َت َب َّرأ ِم ْن ن ََس ٍ‬


‫ب َوإِ ْن َد ّق»‪.‬‬

‫***الشرح***‬

‫وهذا يف سياق ما َت َقدّ م‪ :‬وقوله‪ُ «( :‬ك ْف ٌر بِ َاهَّللِ َت َب ُّرؤٌ ِم ْن ن ََس ٍ‬


‫ب َوإِ ْن َد َّق») كما ثبت هذا‬
‫الحديث يف [المسند] ويف غيره‪ ،‬وهو حديث حسن‪.‬‬

‫أيضا ما تقدم من أنه ُيط َلق على المعاصي أهنا ُك ْفر‪ ،‬ومنها‪ :‬الرباءة‬
‫وهذا يف سياق ً‬
‫من الن ََّسب‪.‬‬
‫ِ‬
‫وقد جاء يف الحديث‪َ « :‬ل َع َن اهَّلل َم ْن ا ْنت ََسب لغير أبيه»؛ فقد َو َرد اللعن‪َ ،‬‬
‫وو َرد أنه‬
‫ُك ْفر ولكنه ُك ْفر دون ُك ْفر‪ ،‬وهذا مناسب لمعنى الكفر الذي هو أصله الجحود؛ فهذا قد‬
‫َج َحد النَّسب‪ ،‬وقد َج َحد الرحم‪ ،‬وقد َج َحد حق الوالد وانتسب لغير أبيه‪ ،‬ولكنها‬
‫ُشعبة من ُش َعب الكفر وليست هي الكفر األكرب‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪66‬‬

‫***المتن***‬ ‫‪66‬‬

‫وح ِف َظ‪َ ،‬فإِنَّا ن َُس ِّل ُم لَ ُه‪َ ،‬وإِ ْن َل ْم َن ْع َل ْم َت ْف ِس َير َها‪َ ،‬و ََل‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫َون َْح ُو َهذه َا ْْلَ َحاديث م َّما َقدْ َص َّح ُ‬
‫يث إ ِ ََّل ِمثْ َل َما َجا َء ْت‪ََ ،‬ل ن َُر ُّد َها إِ ََّل‬ ‫َن َت َك َّل ْم فِ َيها‪َ ،‬و ََل ُن َجادِ ْل فِ َيها‪َ ،‬و ََل ُن َف ِّس ْر َه ِذ ِه اَ ْْلَ َحادِ َ‬
‫بِ َأ َح َّق ِمن َْها‪.‬‬

‫***الشرح***‬

‫وح ِف َظ‪َ ،‬فإِنَّا ن َُس ِّل ُم َل ُه‪َ ،‬وإِ ْن َل ْم ُي ْع َلم‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِِ‬


‫قال‪َ ( :‬ون َْح ُو َهذه اَ ْْلَ َحاديث م َّما َقدْ َص َّح ُ‬
‫السنة‪ :‬وهو اإليمان بكل ما َث َبت عن النبي ﷺ‬ ‫ِ‬
‫َت ْفسير َها)‪ :‬هذا أصل من أصول أهل ُّ‬
‫وص ّح َر ْفعه للنبي ﷺ وإن لم نفهمه‪ ،‬وإن لم ُتدركه العقول‪.‬‬
‫َ‬

‫فاإليمان به واجب‪ ،‬والتقصير يف عقولنا و َف ْهمنا‪ ،‬ونحن َنتّهم آراءنا وعقولنا قبل أن‬
‫َنتّهم النصوص‪.‬‬

‫ولهذا كان عمر يقول‪ :‬ا ّتهموا الرأي على الدِّ ين‪.‬‬
‫فنحن َنتّهم الرأي على الدين‪ ،‬وال َنتّهم الدِّ ين بالرأي؛ ِ‬
‫كف ْعل أهل البدع الذين‬
‫ُيعملون عقولهم وأهواءهم يف النصوص؛ فإن هذا العقل ضعيف‪ ،‬فنحن ندرك‬
‫بحواسنا َأنّا نرى األشياء على غير حقيقتها‪.‬‬
‫‪67‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫فالذي ُأصيب بمرض يف عينه يرى األشياء على غير حقيقتها‪ ،‬ويعرف اآلن األطباء‬
‫أن الرجل الذي قد ُيصاب بالمرض أنه قد ربما رأى األلوان على غير حقيقتها‪ ،‬وربما‬
‫رأى األشياء على غير حقيقتها‪ ،‬وربما رأى األشياء يف أكرب من حجمها‪ ،‬وربما رأى‬
‫األشياء يف أصغر من حجمها‪.‬‬

‫وهذه حاسة وهي‪ :‬حاسة البصر‪.‬‬

‫وكذلك السمع؛ فإنه يطرأ عليه الخلل‪.‬‬

‫فكما يطرأ على هذه الحواس الخلل فإنه يطرأ على العقل؛ فربما َظ ّن الظان أن‬
‫العقل يدل على كذا‪ ،‬ولو تأمل بعض دقائق ألدرك أن ما يقع به أن العقل يدل عليه‬
‫يعرف بعد دقائق أن العقل ينفي هذا تما ًما‪.‬‬

‫ولهذا؛ ما أكثر تنا ُقض أهل األهواء الذين يبنون دينهم على العقول‪.‬‬

‫السنة‪ :‬فإهنم يبنون دينهم على النصوص؛ ولهذا تجد‬


‫وأما أهل العلم من أهل ُّ‬
‫الرجل ُيؤ ّلف الكتاب ويبقى ستين سنة‪ ،‬ثم ُيراجعه بعد ذلك‪ ،‬ال يستطيع أن ُي َغ ِّير فيه‬
‫شي ًئا! ألنه ما َأ ّلفه بعقله وهواه‪.‬‬

‫بينما لو أن الواحد منّا َكتَب أورا ًقا ُي َع ِّبر عن رأيه و َف ْهمه يف مسألة‪ ،‬لو رجع بعد‬
‫سنوات وراجع هذه الكتابة ربما ضحك على ما قرره بعقله قبل فرتة من الزمن‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪68‬‬

‫فهذا يدل على َض ْعف العقول‪ ،‬فالعقول ال ُت َحكم يف النصوص‪ ،‬والنصوص هي‬ ‫‪68‬‬

‫ا ْل ُم َح ّكمة يف العقول‪.‬‬

‫يث إ ِ ََّل ِم ْث َل َما َجا َء ْت‪ََ ،‬ل‬


‫(و ََل َن َت َك َّل ْم فِ َيها‪َ ،‬و ََل ن َُجادِ ْل فِ َيها‪َ ،‬و ََل ُن َف ِّس ْر َه ِذ ِه َا ْْلَ َحادِ َ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫فسر هذه األحاديث إال مثل‬ ‫ن َُر ُّد َها إِ ََّل بِ َأ َح َّق من َْها)‪ :‬وال يتكلم فيه‪ ،‬وال يجادل فيه‪ ،‬وال ُي ّ‬
‫ما جاءت به‪ ،‬وال ُنر ّدها إال بأحق منها‪.‬‬

‫أيضا مسألة َن ّبه عليها أهل العلم‪ :‬أن الوعيد المطلق ال ُي َف َّسر‪ ،‬وألهل العلم‬
‫هذا ً‬
‫ٍ‬
‫لحكمة‬ ‫مقصد يف هذا‪ :‬وهو أن الوعيد المطلق َل ّما َو َرد هبذه اإلطالقات إنما كان هذا‬
‫عظيمة‪ ،‬فلم أطلق اهلل على هذه المعاصي أهنا كُفر ولم َي ُقل‪ :‬أهنا معاصي؟ ول ِ َم لم‬
‫ُيسمها النبي ﷺ معاصي؟‬

‫إنما هذا دليل لمقصد عظيم؛ وهو أن هذه يحصل هبا َز ْجر إذا ما سمعها الناس‪.‬‬

‫فهذه المسألة َغ َفل عنها بعض المتأخرين‪ ،‬و َظنّوا أن هذه المسألة ال ينبغي أن‬
‫تكون النصوص‪ ،‬بل أن بعض الناس قد يمنع من أن ُي َحدّ ث الناس بمثل هذه‬
‫النصوص!‬

‫وهذا جهل‪ ،‬وهذا استدراك على اهلل ورسوله ﷺ‪ ،‬بل ن َُحدِّ ث هبا‪ ،‬ونُطلقها أحيانًا‬
‫من غير تفسير؛ حتى يحصل هبا الذجر‪.‬‬
‫‪69‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫وأما إذا جاءت الفتنة وجاءت الشبهة و َف ِهم منها بعض أهل الجهل ما لم تدل عليه‬
‫من الحق فعند ذلك ُت َف َّسر‪.‬‬

‫كما أن الخوارج َل ّما فهموا منها التكفير َف ّسرها األئمة‪ ،‬و َب ّينوا وقال‪ُ ( :‬ك ْفر دون‬
‫ُك ْفر)‪َ ،‬ب ّينوها للناس َل ّما ُوجدت الفتنة‪ ،‬وأما قبل ذلك‪ :‬ف ُي َحدّ ث الناس هبا‪ ،‬يقال‪َ :‬م ْن‬
‫َف َعل كذا فهذا ُك ْفر‪ ،‬و َم ْن َت َب ّرأ من أبيه فهذا ُك ْفر‪.‬‬

‫ونُطلق هذا وال ُن َف ِّسر؛ حتى ينزجر الناس من هذا األمر‪.‬‬


‫فإذا جاء من يفهم هذا‪ :‬أن هذا كافر‪ ،‬وأنه يستحل دمه وماله ِ‬
‫وع ْرضه هبذا فعند‬ ‫َ ْ‬
‫ذلك أن ُي َب ّين أن هذا ليس هو بالقدر ا ْل ُم ِ‬
‫خرج من الملة‪.‬‬

‫قال‪( :‬وال ُت َر ّد)‪ :‬يعني إال بما هو أحق منها‪.‬‬

‫معنى قوله‪( :‬ال ُت َر ّد) هنا‪ :‬ليس المقصود به الرد هو أن ُت َ‬


‫عارض‪ ،‬وإنما المقصود‪:‬‬

‫أن ُت َف َّسر بما هو أقوى منه؛ ألن الشرع ال ُ‬


‫تعارض فيه‪.‬‬

‫وقوله‪( :‬بِ َأ َح َّق ِمن َْها) أو (بأقوى منها)‪ :‬هذا يدل على أن هذا يف ثبوهتا نظر‪.‬‬

‫فإن كان يف ثبوهتا َن َظر ف ُي َقدّ م األقوى ألنه هو الذي دلت األدلة على أن النبي ﷺ‬
‫قال هذا‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪70‬‬

‫جمع‬ ‫أما إذا ثبت أن النبي ﷺ قال هذا وقال هذا فال َت ُ‬
‫عارض بين النَّصين؛ ف ُي َ‬
‫‪70‬‬

‫بينهما و ُي َف َّسر أحدهما باآلخر‪.‬‬

‫وإن عجزنا عن ذلك َت َو ّقفنا وأسندنا العلم لعالِمه‪.‬‬

‫السنة‪.‬‬
‫والوقوف عند حدود العلم هو مرتبة من مراتب العلم والورع عند أهل ُّ‬

‫***المتن***‬

‫ت‬ ‫ت َا ْل َجنَّ َة َف َر َأ ْي ُ‬ ‫ول َاهَّلل ِ ﷺ‪َ « :‬د َخ ْل ُ‬ ‫َان‪ ،‬كَما َجا َء َع ْن رس ِ‬


‫َ ُ‬ ‫َوا ْل َجنَّ ُة َوالن َُّار َمخْ ُلو َقت ِ َ‬
‫ت فِي َالن ِ‬
‫َّار‬ ‫ت َأ ْك َث َر َأ ْه ِل َها ك ََذا‪َ ،‬واِ َّط َل ْع ُ‬
‫ت فِي َا ْل َجن َِّة َف َر َأ ْي ُ‬ ‫ت َا ْلك َْو َث َر‪َ ،‬واِ َّط َل ْع ُ‬ ‫َق ْص ًرا‪َ ،‬و َر َأ ْي ُ‬
‫ول َاهَّلل ِ‬
‫يث رس ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ت ك ََذا َوك ََذا»‪َ ،‬ف َم ْن َز َع َم َأن َُّه َما َل ْم تُخْ َل َقا َف ُه َو ُمك َِّذ ٌب بِا ْل ُق ْر ِ‬
‫آن َو َأ َحاد َ ُ‬ ‫َف َر َأ ْي ُ‬
‫ﷺ‪َ ،‬و ََل َأ ْح َس ُب ُه ُي ْؤ ِم ُن بِا ْل َجن َِّة َوالن ِ‬
‫َّار‪.‬‬

‫***الشرح***‬

‫هذه مسألة عظيمة‪ ،‬وهو اإليمان بوجود الجنة والنار‪ ،‬وأهنما مخلوقتان اآلن كما‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين﴾[آل عمران‪ ،]133:‬وقال يف النار‪:‬‬ ‫قال اهلل عز وجل يف الجنة‪﴿ :‬أُعدَّ ْت ل ْل ُمتَّق َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ُ ِ‬
‫﴿أعدَّ ْت ل ْلكَافرِ َ‬
‫ين﴾[البقرة‪.]24:‬‬

‫السنة‪.‬‬
‫وهذا الذي دلت عليه النصوص‪ ،‬وهي عقيدة أهل ُّ‬
‫‪71‬‬ ‫الدرس الخامس‬

‫وأنكر المعتزلة وجود الجنة والنار‪ ،‬وقالوا‪( :‬إن وجودهما اآلن َع َبث) وهذا َج ْهل‬
‫وتكذيب بما َد ّلت عليه النصوص؛ فإن وجودهما غاية الحكمة‪ ،‬وربما ال يتسع المقام‬
‫عن ذِكْر الحكمة‪.‬‬

‫وجاء يف الحديث أن النبي ﷺ اطلع على الجنة فوجد أكثر أهلها الفقراء‪ ،‬وا ّطلع‬
‫على النار ورأى أكثر أهلها النساء؛ فهذا مما يدل على وجود الجنة والنار‪.‬‬

‫وج َلبة فقال‪َ « :‬ه ِذه َصخْ رة ُأ ْل ِق َيت‬


‫وكذلك ما أخرب عنه النبي ﷺ َل ّما سمعوا صو ًتا َ‬
‫فِي النَّار َق ْبل َس ْب ِعين َسنَة‪َ ،‬و ْاْلن َقدْ َب َلغَت َق ْعر النَّار» هذا مما يدل على وجود النار‪،‬‬
‫وأهنا مخلوقة اآلن‪.‬‬

‫***المتن***‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ومن م َ ِ‬
‫ب َعنْ ُه‬ ‫ات م ْن َأ ْه ِل َا ْلق ْب َلة ُم َو ِّحدً ا ُي َص َّلى َع َل ْيه‪َ ،‬و ُي ْس َت ْغ َف ُر َل ُه َو ََل ُي ْح َج ُ‬ ‫ََ ْ َ‬
‫َان َأ ْو َكبِ ًيرا‪َ ،‬و َأ ْم ُر ُه إِ َلى َاهَّللِ َت َعا َلى‪.‬‬
‫ْب َأ ْذ َن َب ُه َص ِغ ًيرا ك َ‬
‫لص ََل ُة َع َل ْي ِه لِ َذن ٍ‬ ‫ِ ِ‬
‫َاَل ْست ْغ َف ُار‪َ ،‬و ََل ُتت َْر ُك َا َّ‬

‫***الشرح***‬

‫ات ِم ْن َأ ْه ِل َا ْل ِق ْب َل ِة ُم َو ِّحدً ا ُي َص َّلى َع َل ْي ِه‪َ ،‬و ُي ْس َت ْغ َف ُر َل ُه)‪ :‬هذا أصل من أصول‬


‫(و َم ْن َم َ‬
‫َ‬
‫السنة‪ّ :‬‬
‫أن َم ْن مات على التوحيد أنه يجوز له االستغفار‪ ،‬وتجوز الصالة عليه‪،‬‬ ‫أهل ُّ‬
‫و ُيدْ َعى له‪ ،‬و ُيتصدّ ق عنه‪ ،‬وهو مسلم له أحكام المسلمين‪ ،‬وال ُيمنَع من الصالة عليه‪.‬‬
‫ئ‬
‫شرح أصول السُّنة‬ ‫‪72‬‬

‫وأما ما َو َر َد يف النصوص من َت ْرك النبي ﷺ الصالة على بعض ال ُعصاة‪ :‬فهذا من‬ ‫‪72‬‬

‫باب الهجر لهم‪ ،‬وكذلك ما َث َبت عن السلف‪ ،‬وليس هذا دليل على أن الصالة ال تصح‬
‫على هؤالء‪.‬‬

‫و َم ْن َت َرك الصالة على بعض أهل المعاصي أو بعض أهل البدع الذين ال يكفرون‬
‫للسنة‪،‬‬
‫ببدعهم ظانًّا أنه ال تصح الصالة عليهم وال يجوز االستغفار لهم‪ :‬فهذا مخالف ُّ‬
‫ومخالف ل ِ َما د ّلت عليه النصوص يف هذه المسألة‪.‬‬

‫هذا هو آخر ما َو َرد يف هذه الرسالة‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬

‫وصلى اهلل وسلم وبارك على نبينا محمد‪ ،‬وعلى آله وصحبه وسلم‪.‬‬

You might also like