Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 220

‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫بداية سيرة الرسول (صلى هللا عليه وسلم)‬


‫محمد بن عبدالوهاب بن سليمان بن علي التميمي‬

‫‪1‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫مقدمة المؤلف‬

‫احلمد هلل رب العاملني ‪ ،‬وصلى اهلل وسلم وبارك على حممد وعلى آله وصحبه أمجعني ‪.‬‬
‫اعلم رمحك اهلل ‪ :‬أن أفرض ما فرض اهلل عليك معرفة دينك ‪ .‬الذي معرفته والعمل به ‪ :‬سبب‬
‫لدخول اجلنة ‪ ،‬واجلهل به وإضاعته ‪ :‬سبب لدخول النار ‪.‬‬

‫قصص األولين واآلخرين‬


‫ومن أوضح ما يكون لذوي الفهم ‪ :‬قصص األولني واآلخرين ‪ .‬قصص من أطاع اهلل وما فعل‬
‫هبم ‪ ،‬وقصص من عصاه ‪ ،‬وما فعل هبم ‪ ،‬فمن مل يفهم ذلك ‪ ،‬ومل ينتفع به فال حيلة فيه ‪،‬‬
‫كما قال تعاىل ‪ " :‬وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا يف البالد هل من‬
‫حميص " ‪.‬‬
‫وقال بعض السلف ‪ :‬القصص جنود اهلل‪ ،‬يعين أن املعاند ال يقدر يردها ‪ .‬فأول ذلك ‪ :‬ما قص‬
‫اهلل سبحانه عن آدم ‪ ،‬وإبليس ‪ ،‬إىل أن هبط آدم ‪ ،‬وزوجه إىل األرض ‪ ،‬ففيها من إيضاح‬
‫املشكالت ما هو واضح ملن تأمله ‪ .‬وآخر القصة قوله تعاىل ‪ " :‬قلنا اهبطوا منها مجيعا فإما‬
‫يأتينكم مين هدى فمن تبع هداي فال خوف عليهم وال هم حيزنون * والذين كفروا وكذبوا‬
‫بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " ويف اآلية األخرى ‪ " :‬فمن اتبع هداي فال‬
‫يضل وال يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا " إىل قوله ‪ " :‬ولعذاب‬
‫اآلخرة أشد وأبقى " ‪.‬‬
‫وهداه الذي وعدنا به ‪ :‬هو إرساله الرسل ‪ .‬وقد وىف مبا وعد سبحانه ‪ ،‬فأرسل الرسل‬
‫مبشرين ومنذرين ‪ ،‬لئال يكون للناس على اهلل حجة بعد الرسل ‪ .‬فأوهلم ‪ :‬نوح ‪ ،‬وآخرهم ‪:‬‬
‫نبينا صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬
‫فاحرص يا عبد اهلل على معرفة هذا احلبل ‪ ،‬الذي بني اهلل وبني عباده ‪ ،‬الذي من استمسك به‬
‫سلم ‪ ،‬ومن ضيعه عطب ‪ .‬فاحرص على معرفة ما جرى ألبيك آدم ‪ ،‬وعدوك إبليس ‪ ،‬وما‬

‫‪2‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫جرى لنوح وقومه ‪ ،‬وهود وقومه ‪ ،‬وصاحل وقومه ‪ ،‬وإبراهيم وقومه ‪ ،‬ولوط وقومه ‪ ،‬وموسى‬
‫وقومه ‪ ،‬وعيسى وقومه وحممد صلى اهلل عليه وسلم وقومه ‪.‬‬
‫واعرف ما قص أهل العلم من أخبار النيب صلى اهلل عليه وسلم وقومه ‪ ،‬وما جرى له معهم يف‬
‫مكة ‪ ،‬وما جرى له يف املدينة ‪ .‬واعرف ما قص العلماء عن أصحابه ‪ ،‬وأحواهلم ‪ ،‬وأعماهلم ‪،‬‬
‫لعلك أن تعرف اإلسالم والكفر ‪ ،‬فإن اإلسالم اليوم غريب ‪ ،‬وأكثر الناس ال مييز بينه وبني‬
‫الكفر ‪ ،‬وذلك هو اهلالك الذي ال يرجى معه فالح ‪.‬‬

‫قصة آدم وإبليس‬


‫وأما قصة آدم ‪ ،‬وإبليس ‪ :‬فال زيادة على ما ذكر اهلل يف كتابه ‪ .‬ولكن قصة ذريته ‪ ،‬فأول‬
‫ذلك ‪ :‬أن اهلل أخرجهم من صلبه أمثال الذر ‪ ،‬وأخذ عليهم العهود ‪ ،‬أن ال يشركوا به شيئاً ‪،‬‬
‫كما قال تعاىل ‪ " :‬وإذ أخذ ربك من بين آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم‬
‫ألست بربكم قالوا بلى شهدنا " ‪.‬‬
‫"ورأى فيهم األنبياء مثل السرج ‪ ،‬ورأى فيهم رجالً من أنورهم ‪ ،‬فسأله عنه ؟ فأعلمه أنه‬
‫داود ‪ .‬فقال ‪ :‬كم عمره ؟ قال ‪ :‬ستون سنة ‪ ،‬قال ‪ :‬وهبت له من عمري أربعني سنة ‪،‬‬
‫وكان عمر آدم ألف سنة ‪ .‬ورأى فيهم األعمى ‪ ،‬واألبرص ‪ ،‬واملبتلى‪ .‬قال ‪ :‬يا رب‪ ،‬مل ال‬
‫سويت بينهم ؟ قال ‪ :‬إين أحب أن أشكر‪ .‬فلما مضى من عمر آدم ألف سنة إال أربعني ‪ ،‬أتاه‬
‫ملك املوت ‪ .‬فقال ‪ :‬إنه بقي من عمري أربعون سنة ‪ ،‬فقال ‪ :‬إنك وهبتها البنك داود ‪.‬‬
‫فنسي آدم ‪ ،‬فنسيت ذريته ‪ ،‬وجحد آدم ‪ ،‬فجحدت ذريته" ‪.‬‬
‫فلما مات أدم ‪ ،‬بقي أوالده بعده عشرة قرون على دين أبيهم ‪ ،‬دين اإلسالم ‪ ،‬مث كفروا بعد‬
‫ذلك ‪ .‬وسبب كفرهم ‪ :‬الغلو يف حب الصاحلني ‪ ،‬كما ذكر اهلل تعاىل يف قوله ‪ " :‬وقالوا ال‬
‫تذرن آهلتكم وال تذرن ودا وال سواعا وال يغوث ويعوق ونسرا " وذلك أن هؤالء اخلمسة‬
‫قوم صاحلون كانوا يأمروهنم وينهوهنم ‪ ،‬فماتوا يف شهر ‪ ،‬فخاف أصحاهبم من نقص الدين‬
‫بعدهم ‪ ،‬فصوروا صورة كل رجل يف جملسه ‪ ،‬ألجل التذكرة بأقواهلم وأعماهلم إذا رأوا‬
‫صورهم ‪ ،‬ومل يعبدوهم ‪ .‬مث طال الزمان ‪ ،‬ومات أهل العلم ‪ ،‬فلما خلت األرض من العلماء‬
‫‪3‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫ألقى الشيطان يف قلوب اجلهال ‪" :‬أن أولئك الصاحلني ما صوروا صور مشاخيهم إال‬
‫ليستشفعوا هبم إىل اهلل ‪ ،‬فعبدوهم" ‪.‬‬

‫قصة نوح عليه السالم‬


‫فلما فعلوا ذلك أرسل اهلل إليهم نوحاً عليه السالم ‪ ،‬لريدهم إىل دين آدم وذريته ‪ ،‬الذين‬
‫مضوا قبل التبديل ‪ ،‬فكان من أمرهم ماقص اهلل يف كتابه ‪ ،‬مث عمر نوح وأهل السفينة األرض‬
‫‪ ،‬وبارك اهلل فيهم ‪ ،‬وانتشروا يف األرض أمماً وبقوا على اإلسالم مدة ال ندري ما قدرها ؟‬
‫مث حدث الشرك ‪ ،‬فأرسل اهلل الرسل ‪ ،‬وما من أمة إال وقد بعث اهلل فيها رسوالً يأمرهم‬
‫بالتوحيد ‪ ،‬وينهاهم عن الشرك ‪ ،‬كما قال تعاىل ‪ " :‬ولقد بعثنا يف كل أمة رسوال أن اعبدوا‬
‫اهلل واجتنبوا الطاغوت " ‪ ،‬وقال تعاىل " مث أرسلنا رسلنا ترتا كلما جاء أمة رسوهلا كذبوه "‬
‫اآلية ‪.‬‬
‫وملا ذكر القصص يف سورة الشعراء ختم كل قصة بقوله " إن يف ذلك آلية وما كان أكثرهم‬
‫مؤمنني " ‪ ،‬فقص اهلل سبحانه ما قص ألجلنا ‪ ،‬كما قال تعاىل ‪ " :‬لقد كان يف قصصهم عربة‬
‫ألويل األلباب ما كان حديثا يفرتى " اآلية ‪.‬‬
‫وملا أنكر اهلل على أناس من هذه األمة ‪ ،‬يف زمن النيب صلى اهلل عليه وسلم أشياء فعلوها ‪ ،‬قال‬
‫‪ " :‬أمل يأهتم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد ومثود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين " اآلية ‪،‬‬
‫وكذلك كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقص على أصحابه قصص من قبلهم ‪ ،‬ليعتربوا‬
‫بذلك ‪ .‬وكذلك أهل العلم يف نقلهم سرية رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وما جرى له مع‬
‫قومه ‪ ،‬وما قال هلم ‪ ،‬وما قيل له ‪ .‬وكذلك نقلهم سرية الصحابة ‪ ،‬وما جرى هلم مع الكفار‬
‫واملنافقني ‪ ،‬وذكرهم أحوال العلماء بعدهم ‪ ،‬كل ذلك ألجل معرفة اخلري والشر ‪.‬‬
‫إذا فهمت ذلك ‪ ،‬فاعلم ‪ :‬أن كثرياً من الرسل وأممهم ال نعرفهم ‪ ،‬ألن اهلل مل خيربنا عنهم‪،‬‬
‫لكن أخربنا عن عاد ‪ ،‬اليت مل خيلق مثلها يف البالد ‪ ،‬فبعث اهلل إليهم هوداً عليه السالم ‪ ،‬فكان‬
‫من أمرهم ما قص اهلل يف كتابه ‪ ،‬وبقي التوحيد يف أصحاب هود إىل أن عدم بعد مدة ‪ ،‬ال‬
‫ندري كم هي ‪ ،‬وبقي يف أصحاب صاحل ‪ ،‬إىل أن عدم بعد مدة ال ندري كم هي ؟‬
‫‪4‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫قصة إبراهيم عليه السالم‬


‫مث بعث اهلل إبراهيم ‪-‬عليه السالم‪ -‬وليس على وجه األرض يومئذ مسلم ‪ ،‬فجرى عليه من‬
‫قومه ما جرى ‪ ،‬وآمنت به امرأته سارة ‪ .‬مث أمن له لوط ‪-‬عليه السالم‪ -‬ومع هذا نصره اهلل ‪،‬‬
‫ورفع قدره وجعله إماماً للناس ‪ ،‬ومنذ ظهر إبراهيم ‪-‬عليه السالم‪ -‬مل يعدم التوحيد يف ذريته‬
‫‪ ،‬كما قال تعاىل ‪ " :‬وجعلها كلمة باقية يف عقبه لعلهم يرجعون " ‪ ،‬فإذا كان هو اإلمام ‪،‬‬
‫فنذكر شيئاً من أحواله ال يستغين مسلم عن معرفتها ‪ ،‬فنقول ‪ :‬يف الصحيح ‪ :‬أن رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم قال ‪":‬مل يكذب إبراهيم النيب صلى اهلل عليه وسلم قط ‪ ،‬إال ثالث‬
‫كذبات ‪ :‬ثنتني منهن يف ذات اهلل‪ ،‬قوله ‪ " :‬إين سقيم "‪ ،‬وقوله ‪ " :‬بل فعله كبريهم هذا "‪.‬‬
‫وواحدة يف شأن سارة ‪ ،‬فإنه قدم أرض جبار ‪ ،‬ومعه سارة ‪ ،‬وكانت من أحسن الناس ‪،‬‬
‫فقال هلا ‪ :‬إن هذا اجلبار إن يعلم أنك امرأيت يغلبين عليك ‪ ،‬فإن سألك فأخربيه أنك أخيت ‪،‬‬
‫فإنك أخيت يف اإلسالم‪ ،‬فإين ال أعلم يف األرض مسلماً غريي وغريك‪ .‬فلما دخل أرضه رأها‬
‫بعض أهل اجلبار فأتاه ‪ ،‬فقال ‪ :‬لقد قدم أرضك امرأة ال ينبغي أن تكون إال لك‪ .‬فأرسل إليها‬
‫‪ ،‬فأيت هبا‪ .‬فقام إبراهيم إىل الصالة ‪ ،‬فلما دخلت عليه ‪ ،‬مل يتمالك أن بسط يده إليها ‪،‬‬
‫فقبضت يده قبضة شديدة ‪ ،‬فقال هلا ‪ :‬دعي اهلل أن يطلق يدي ‪ ،‬فلك اهلل أن ال أضرك‪.‬‬
‫ففعلت ‪ ،‬فعاد ‪ .‬فقبضت يده أشد من القبضة األوىل ‪ ،‬فقال هلا مثل ذلك ‪ ،‬فعاد ‪ .‬فقبضت‬
‫يده أشد من القبضتني األوليني ‪ ،‬فقال هلا‪ :‬ادعي اهلل أن يطلق يدي ‪ ،‬ولك اهلل أن ال أضرك ‪.‬‬
‫ففعلت فأطلقت يده ‪ .‬ودعا الذي جاء هبا ‪ ،‬فقال ‪ :‬إنك إمنا جئتين بشيطان‪ ،‬ومل تأتين بإنسان‬
‫‪ .‬فأخرجها من أرضي ‪ ،‬وأعطاها هاجر ‪ .‬فأقبلت ‪ ،‬فلما رآها إبراهيم ‪ ،‬انصرف ‪ .‬فقال هلا ‪:‬‬
‫مهيم ؟ قالت ‪ :‬خرياً ‪ ،‬كف اهلل يد الفاجر ‪ ،‬وأخدم خادماً"‪ .‬قال أبو هريرة ‪ :‬فتلك أمكم يا‬
‫بين ماء السماء ‪.‬‬
‫وللبخاري ‪" :‬أن إبراهيم ملا سئل عنها ؟ قال ‪ :‬هي أخيت ‪ ،‬مث رجع إليها فقال ‪ :‬ال تكذيب‬
‫حديثي ‪ ،‬فإين أخربهتم أنك أخيت واهلل ما على األرض مؤمن غريي وغريك ‪ .‬فأرسل هبا إليه‬
‫فقام إليها ‪ ،‬فقامت تتوضأ وتصلي ‪ .‬فقالت ‪ :‬اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك ‪،‬‬
‫‪5‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وأحصنت فرجي إال على زوجي ‪ ،‬فال تسلط علي يد الكافر ‪ .‬فغط حىت ركض برجله‬
‫األرض ‪ ،‬فقالت ‪ :‬اللهم إن ميت ‪ ،‬يقال ‪ :‬هي قتلته ‪ ،‬فأرسل ‪ ،‬مث قام إليها ‪ ،‬فقامت تتوضأ‬
‫وتصلي ‪ ،‬وتقول ‪ :‬اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك ‪ ،‬وأحصنت فرجي إال على زوجي ‪،‬‬
‫فال تسلط علي هذا الكافر ‪ .‬فغط حىت ركض برجله ‪ ،‬فقالت ‪ :‬اللهم مث إن ميت يقال ‪ :‬هي‬
‫قتلته ‪ .‬فأرسل يف الثانية ‪ ،‬أو الثالثة ‪ ،‬فقال ‪ :‬واهلل ما أرسلتم إيل إال شيطاناً ‪ ،‬أرجعوها إىل‬
‫إبراهيم ‪ ،‬وأعطوها هاجر ‪ .‬فرجعت إىل إبراهيم ‪ ،‬فقالت ‪ :‬أشعرت ؟ إن اهلل كبت الكافر ‪،‬‬
‫وأخدم وليدة" وكان عليه السالم يف أرض العراق ‪ ،‬وبعدما جرى عليه من قومه ما جرى‬
‫هاجر إىل الشام ‪ ،‬واستوطنها ‪ ،‬إىل أن مات فيها ‪ .‬وأعطته سارة اجلارية اليت أعطاها اجلبار ‪،‬‬
‫فواقعها ‪ .‬فولدت له إمساعيل عليه السالم ‪ ،‬فغارت سارة ‪ ،‬فأمره اهلل بإبعادها عنها ‪ ،‬فذهب‬
‫هبا وبإبنها فأسكنهما يف مكة ‪ .‬مث بعد ذلك وهب اهلل له ولسارة إسحاق عليه السالم ‪ ،‬كما‬
‫ذكر اهلل بشارة املالئكة له وهلا بإسحاق ‪ ،‬ومن وراء إسحاق يعقوب ‪.‬‬
‫ويف الصحيح عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪" :‬ملا كان بني إبراهيم وبني أهله ما كان ‪ ،‬خرج بإمساعيل‬
‫وأم إمساعيل ‪ ،‬ومعه شنة فيها ماء ‪ ،‬فجعلت أم امساعيل تشرب من الشنة فيدر لبنها على‬
‫صبيها ‪ ،‬حىت قدم مكة‪ .‬فوضعها حتت دوحة فوق زمزم يف أعلى املسجد ‪-‬وليس مبكة يومئذ‬
‫أحد ‪ ،‬وليس هبا ماء‪ -‬ووضع عندمها جراباً فيه متر وسقاء فيه ماء ‪ .‬مث قفى إبراهيم منطلقاً ‪،‬‬
‫فتبعته أم إمساعيل ‪ ،‬فلما بلغوا كداء ‪ ،‬نادته من ورائه ‪ :‬يا إبراهيم ! أين تذهب ‪ ،‬وترتكنا هبذا‬
‫الوادي الذي ليس به أنيس وال شئ ؟ فقالت له ذلك مراراً ‪ ،‬وجعل ال يلتفت إليها ‪ ،‬فقالت‬
‫له ‪ :‬اهلل الذي أمرك هبذا ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ .‬قالت ‪ :‬إذن ال يضيعنا ويف لفظ ‪ :‬إىل من تكلنا ؟ قال‬
‫‪ :‬إىل اهلل ‪ .‬قالت ‪ :‬رضيت ‪ ،‬مث رجعت ‪ .‬فانطلق إبراهيم ‪ ،‬حىت إذا كان عند الثنية ‪ ،‬حيث ال‬
‫يرونه ‪ ،‬استقبل بوجهه البيت مث دعا هبؤالء الدعوات ‪ ،‬ورفع يديه فقال ‪ " :‬ربنا إين أسكنت‬
‫من ذرييت بواد غري ذي زرع عند بيتك احملرم ربنا ليقيموا الصالة فاجعل أفئدة من الناس هتوي‬
‫إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون "‪ ،‬وجعلت أم إمساعيل ترضعه وتشرب من الشنة‬
‫‪ ،‬فيدر لبنها على صبيها ‪ ،‬حىت إذا نفد ما يف السقاء عطشت ‪ ،‬وعطش ابنها ‪ ،‬وجعلت تنظر‬

‫‪6‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫إليه يتلوى ‪-‬أو قال ‪ :‬يتلبط‪ -‬فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ‪ ،‬فوجدت الصفا أقرب جبل‬
‫إليها ‪ ،‬فقامت واستقبلت الوادي تنظر ‪ :‬هل ترى أحداً ؟ فلم تر أحداً ‪ ،‬فهبطت من الصفا ‪،‬‬
‫حىت إذا بلغت الوادي ‪ ،‬رفعت طرف درعها ‪ ،‬مث سعت سعي اإلنسان اجملهود ‪ ،‬حىت جاوزت‬
‫الوادي ‪ ،‬مث أتت املروة ‪ ،‬فقامت عليها ‪ ،‬فنظرت هل ترى أحداً ؟ فلم تر أحداً ‪ ،‬ففعلت‬
‫ذلك سبع مرات قال ابن عباس ‪ :‬قال النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪:‬فذلك سعي الناس بينهما ‪-‬‬
‫مث قالت ‪ :‬لو ذهبت فنظرت ما فعل ‪-‬تعين الصيب‪ -‬فذهبت فنظرت ‪ ،‬فإذا هو على حاله ‪،‬‬
‫كأنه ينشغ للموت ‪ ،‬فلم تقرها نفسها‪ .‬فقالت ‪ :‬لو ذهبت لعلي أحس أحداً ؟ فذهبت‬
‫فصعدت الصفا ‪ ،‬فنظرت فلم حتسن أحداً ‪ ،‬حىت أمتت سبعاً ‪ ،‬مث قالت ‪ :‬لو ذهبت فنظرت‬
‫ما فعل؟ فإذا هي بصوت‪ ،‬فقالت ‪ :‬أغث إن كان عندك خري ‪ .‬فإذا جبربيل ‪ ،‬قال ‪ :‬فقال بعقبه‬
‫على األرض ‪ ،‬فانبثق املاء فذهبت أم إمساعيل ‪ ،‬فجعلت حتفر‪ ،‬فقال أبو القاسم صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ :‬يرحم اهلل أم إمساعيل ‪ ،‬لو تركت زمزم ‪-‬أو قال ‪ :‬لو مل تغرف من املاء‪ -‬لكانت‬
‫زمزم عيناً معيناً‪ -‬ويف حديثه ‪ :‬فجعلت تغرف املاء يف سقائها‪ -‬قال ‪ :‬فشربت ‪ ،‬وأرضعت‬
‫ولدها ‪ .‬فقال هلا امللك ‪ :‬ال ختايف الضيعة‪ ،‬فإن ها هنا بيتاً هلل ‪ ،‬يبنيه هذا الغالم وأبوه وإن اهلل‬
‫ال يضيع أهله ‪ .‬وكان البيت مرتفعاً من األرض كالزابية ‪ ،‬تأتيه السيول ‪ ،‬فتأخذ عن ميينه‬
‫ومشاله ‪ ،‬فكانت كذلك حىت مرت هبم رفقة من جرهم ‪ ،‬مقبلني من طريق كداء ‪ ،‬فرأوا‬
‫طائراً عائفاً‪ ،‬فقالوا ‪ :‬إن هذا الطائر ليدور على ماء ‪ ،‬لعهدنا هبذا الوادي وما فيه ماء ‪،‬‬
‫فأرسلوا جرياً ‪ ،‬أو جريني فإذا هم باملاء ‪ ،‬فرجعوا فأخربوهم فأقبلوا ‪ ،‬وقالوا ألم إمساعيل ‪:‬‬
‫أتاذنني لنا أن ننزل عندك ؟ قالت ‪ :‬نعم ‪ ،‬ولكن ال حق لكم يف املاء ‪ ،‬قالوا ‪ :‬نعم ‪ -‬قال ابن‬
‫عباس ‪ :‬قال النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬فألفى ذلك أم إمساعيل وهي حتب األنس ‪ -‬فنزلوا ‪،‬‬
‫وأرسلوا إىل أهليهم فنزلوا معهم ‪ ،‬حىت إذا كان هبا أهل أبيات منهم ‪ ،‬وشب الغالم ‪ ،‬وتعلم‬
‫العربية منهم ‪ .‬وأنفسهم وأعجبهم حني شب ‪ ،‬فلما أدرك زوجوه امرأة منهم ‪ ،‬وماتت أم‬
‫إمساعيل ‪ .‬وجاء إبراهيم ‪ -‬بعدما تزوج إمساعيل ‪ -‬يطالع تركته فلم جيد إمساعيل ‪ ،‬فسأل‬
‫امرأته عنه ؟ فقالت ‪ :‬خرج يبتغي لنا ‪ ،‬مث سأهلا عن عيشهم وهيئتهم ؟ فقالت ‪ :‬حنن بشر ‪،‬‬

‫‪7‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫حنن يف ضيق وشدة ‪ ،‬فشكت إليه ‪ .‬قال ‪ :‬فإذا جاء زوجك أقرئي عليه السالم ‪ ،‬وقويل له ‪:‬‬
‫يغري عتبة بابه ‪ .‬فلما جاء إمساعيل ‪ ،‬كأنه آنس شيئاً ‪ ،‬فقال ‪ :‬هل جاءكم من أحد ؟ قالت ‪:‬‬
‫نعم جاءنا شيخ ‪-‬كذا وكذا‪ -‬فسألنا عنك ؟ فأخربته ‪ .‬وسألين ‪ :‬كيف عيشنا فأخربته أنا يف‬
‫جهد وشدة ‪ ،‬قال‪ :‬فهل أوصاك بشئ ؟ قالت ‪ :‬نعم ‪ ،‬أمرين أن أقرأ عليك السالم ‪ ،‬ويقول ‪:‬‬
‫غري عتبة بابك ‪ ،‬قال ‪ :‬ذاك أيب ‪ ،‬وقد أمرين أن أفارقك ‪ ،‬احلقي بأهلك ‪ .‬فطلقها وتزوج‬
‫منهم امرأة أخرى ‪ ،‬فلبث عنهم إبراهيم ما شاء اهلل ‪ ،‬فقال ألهله ‪ :‬إين مطلع تركيت ‪ ،‬فجاء‬
‫فقال المرأته ‪ :‬أين إمساعيل ؟ قالت ‪ :‬ذهب يصيد ‪ .‬قالت ‪ :‬أال تنزل فتطعم ‪ ،‬وتشرب؟ قال‪:‬‬
‫وما طعامكم وما شرابكم ؟ قالت ‪ :‬طعامنا اللحم ‪ ،‬وشرابنا املاء ‪ .‬قال ‪ :‬اللهم بارك هلم يف‬
‫طعامهم وشراهبم ‪ -‬قال ‪ :‬فقال أبو القاسم صلى اهلل عليه وسلم بركة دعوة إبراهيم‪ ،‬فهما ال‬
‫خيلو عليهما أحد بغري مكة إال مل يوافقاه ‪ .‬قال النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬ومل يكن هلم‬
‫يومئذ حب ‪ .‬ولو كان هلم حب دعا هلم فيه ‪ -‬وسأهلا عن عيشهم وهيئتهم ؟ فقالت ‪ :‬حنن‬
‫خبري وسعة وأثنت على اهلل ‪ ،‬قال ‪ :‬إذا جاء زوجك ‪ ،‬فاقرئي عليه السالم ‪ ،‬ومريه يثبت عتبة‬
‫بابه ‪ .‬فلما جاء إمساعيل قال ‪ :‬هل آتاكم من أحد ؟ قالت ‪ :‬نعم ‪ ،‬شيخ حسن اهليئة ‪-‬وأثنت‬
‫عليه‪ -‬فسألين عنك ؟ فأخربته فسألين ‪ :‬كيف عيشنا ؟ فأخربته أنا خبري ‪ .‬قال ‪ :‬هل أوصاك‬
‫بشئ ؟ قالت ‪ :‬نعم ‪ ،‬هو يقرأ عليك السالم ‪ ،‬ويأمرك أن تثبت عتبة بابك ‪ .‬قال ‪ :‬ذاك أيب ‪،‬‬
‫وأنت العتبة ‪ ،‬أمرين أن أمسكك ‪ .‬مث لبث عنهم ما شاء اهلل ‪ ،‬فقال ألهله ‪ :‬إين مطلع تركيت ‪،‬‬
‫فجاء ‪ ،‬فوافق إمساعيل يربي نبالً له حتت دوحة قريباً من زمزم ‪ ،‬فلما رآه قام إليه ‪ ،‬فصنعا‬
‫كما يصنع الوالد بالولد ‪ ،‬والولد بالوالد ‪ ،‬مث قال ‪ :‬يا إمساعيل ! إن اهلل أمرين بأمر ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫فاصنع ما أمرك ربك ‪ .‬قال ‪ :‬وتعينين ؟ قال ‪ :‬وأعينك ‪ .‬قال ‪ :‬فإن اهلل أمرين أن أبين ها هنا‬
‫بيتاً ‪-‬وأشار إىل أكمة مرتفعة على ما حوهلا ‪ -‬قال ‪ :‬فعند ذلك رفعا القواعد من البيت ‪.‬‬
‫فجعل إمساعيل يأيت باحلجارة وإبراهيم يبين ‪ ،‬حىت إذا ارتفع البناء جاء هبذا احلجر فوضعه له ‪،‬‬
‫فقام عليه وهو يبين ‪ ،‬وإمساعيل يناوله احلجارة ومها يقوالن ‪ " :‬ربنا تقبل منا إنك أنت السميع‬
‫العليم " "‪ ،‬هذا آخر حديث ابن عباس ‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫والية البيت ومكة إلسماعيل عليه السالم ‪ ،‬ثم لذريته من بعده‬


‫فصارت والية البيت ومكة إلمساعيل ‪ ،‬مث لذريته من بعده وانتشرت ذريته يف احلجاز وكثروا‬
‫‪ ،‬وكانوا على اإلسالم دين إبراهيم وإمساعيل قروناً كثرية ‪ .‬ومل يزالوا على ذلك حىت كان يف‬
‫آخر الدنيا ‪ :‬نشأ فيهم عمرو بن حلي ‪ ،‬فابتدع الشرك ‪ ،‬وغري دين إبراهيم ‪ ،‬وتأيت قصته إن‬
‫شاء اهلل ‪.‬‬
‫وأما إسحاق عليه السالم فإنه بالشام ‪ ،‬وذريته ‪ :‬هم بنو إسرائيل والروم ‪ .‬أما بنو إسرائيل ‪:‬‬
‫فأبوهم يعقوب عليه السالم ابن إسحاق ‪ ،‬ويعقوب هو إسرائيل ‪ .‬وأما الروم ‪ ،‬فأبوهم ‪:‬‬
‫عيص بن إسحاق ‪.‬‬
‫ومما أكرم اهلل به إبراهيم عليه السالم ‪ :‬أن اهلل مل يبعث بعده نبياً إال من ذريته ‪ ،‬كما قال‬
‫تعاىل ‪ " :‬وجعلنا يف ذريته النبوة والكتاب " ‪ ،‬وكل األنبياء والرسل من ذرية إسحاق ‪ .‬وإما‬
‫إمساعيل ‪ :‬فلم يبعث من ذريته إال نببنا حممداً صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬بعثه اهلل إىل العاملني كافة‬
‫‪ .‬وكان من قبله من األنبياء كل نيب يبعث إىل قومه خاصة‪ ،‬وفضله اهلل على مجيع األنبياء‬
‫بأشياء غري ذلك‪.‬‬

‫قصة عمرو بن لحي وتغييره دين إبراهيم عليه السالم‬


‫وأما قصة عمرو بن حلي ‪ ،‬وتغيريه دين إبراهيم ‪ :‬فإنه نشأ على أمر عظيم من املعروف‬
‫والصدقة ‪ ،‬واحلرص على أمور الدين ‪ ،‬فأحبه الناس حباً عظيماً ‪ ،‬ودانوا له ألجل ذلك ‪ ،‬حىت‬
‫ملكوه عليهم ‪ ،‬وصار ملك مكة ووالية البيت بيده ‪ ،‬وظنوا أنه من أكابر العلماء ‪ ،‬وأفاضل‬
‫األولياء ‪ .‬مث إنه سافر إىل الشام ‪ ،‬فرأهم يعبدون األوثان ‪ ،‬فاستحسن ذلك وظنه حقاً ‪ ،‬ألن‬
‫الشام حمل الرسل والكتب ‪ ،‬فلهم الفضيلة بذلك على أهل احلجاز وغريهم ‪ ،‬فرجع إىل مكة ‪،‬‬
‫وقدم معه هببل ‪ ،‬وجعله يف جوف الكعبة ‪ ،‬ودعا أهل مكة إىل الشرك باهلل ‪ ،‬فأجابوه ‪ .‬وأهل‬
‫احلجاز يف دينهم تبع ألهل مكة ‪ ،‬ألهنم والة البيت وأهل احلرم ‪ .‬فتبعهم أهل احلجازعلى‬
‫ذلك ‪ ،‬ظناً أنه احلق ‪ .‬فلم يزالوا على ذلك حىت بعث اهلل حممداً صلى اهلل عليه وسلم بدين‬
‫إبراهيم عليه السالم ‪ ،‬وإبطال ما أحدثه عمرو بن حلي ‪.‬‬
‫‪9‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وكانت اجلاهلية على ذلك ‪ ،‬وفيهم بقايا من دين إبراهيم مل يرتكوه كله ‪ ،‬وأيضاً يظنون أن‬
‫ما هم عليه ‪ ،‬وأن ما أحدثه عمرو بدعة حسنة ‪ ،‬ال تغري دين إبراهيم ‪ .‬وكانت تلبية نزار ‪:‬‬
‫لبيك ‪ ،‬ال شريك لك ‪ ،‬إال شريكاً هو لك ‪ ،‬متلكه وما ملك ‪ ،‬فأنزل اهلل تعاىل ‪ " :‬ضرب‬
‫لكم مثال من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أميانكم من شركاء يف ما رزقناكم فأنتم فيه‬
‫سواء ختافوهنم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل اآليات لقوم يعقلون " ‪.‬‬
‫ومن أقدم أصنامهم مناة وكان منصوباً على ساحل البحر بقديد ‪ ،‬تعظمه العرب كلها ‪ ،‬لكن‬
‫األوس واخلزرج كانوا أشد تعظيماً له من غريهم ‪ .‬وبسبب ذلك أنزل اهلل تعاىل ‪ " :‬إن الصفا‬
‫واملروة من شعائر اهلل فمن حج البيت أو اعتمر فال جناح عليه أن يطوف هبما " ‪.‬‬
‫مث اختذوا الالت يف الطائف ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إن أصله رجل صاحل كان يلت السويق للحاج ‪ ،‬فمات‬
‫فعكفوا على قربه ‪ .‬مث اختذو العزى بوادي خنلة ‪ ،‬بني مكة والطانف ‪ ،‬فهذه الثالثة أكرب‬
‫أوثاهنم ‪.‬‬
‫مث كثر الشرك ‪ ،‬وكثرت األوثان يف بقعة من احلجاز ‪ ،‬وكان هلم أيضاً بيوت يعظموهنا‬
‫كتعظيم الكعبة ‪ ،‬وكانوا كما قال تعاىل ‪ " :‬لقد من اهلل على املؤمنني إذ بعث فيهم رسوال من‬
‫أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب واحلكمة وإن كانوا من قبل لفي ضالل‬
‫مبني " ‪.‬‬
‫وملا دعاهم رسول اهلل إىل اهلل اشتد إنكار الناس له ‪ ،‬علماؤهم وعبادهم ‪ ،‬وملوكهم وعامتهم‬
‫‪ ،‬حىت إنه ملا دعا رجالً إىل اإلسالم قال له ‪ :‬من معك على هذا ؟ قال ‪ :‬حر وعبد‪ ،‬ومعه‬
‫يومئذ أبو بكر وبالل رضي اهلل عنهما ‪.‬‬

‫حديث " بدأ اإلسالم غريباً ‪" . . .‬‬


‫وأعظم فائدة لك أيها الطالب ‪ ،‬وأكرب العلم وأجل احملصول ‪ ،‬إن فهمت ما صح عنه صلى‬
‫اهلل عليه وسلم أنه قال ‪" :‬بدأ اإلسالم غريباً ‪ ،‬وسيعود غريباً كما بدأ" ‪.‬‬

‫حديث " لتتبعن سنن من كان قبلكم ‪" . . .‬‬


‫‪10‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وقوله ‪" :‬لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة ‪ ،‬حىت لو دخلوا جحر ضب‬
‫لدخلتموه ‪ .‬قالوا ‪ :‬يا رسول اهلل ! اليهود والنصارى ؟ قال ‪ :‬فمن" ‪.‬‬
‫وقوله ‪" :‬ستفرتق هذه األمة على ثالث وسبعني فرقة ‪ ،‬كلها يف النار إال واحدة"‪.‬‬
‫فهذه املسألة أجل املسائل ‪ ،‬فمن فهمها فهو الفقيه ‪ .‬ومن عمل هبا فهو املسلم ‪ ،‬فنسأل اهلل‬
‫الكرمي املنان أن يتفضل علينا وعليكم بفهمها والعمل هبا ‪.‬‬

‫بناء بيت اهلل الحرام‬


‫أما البيت احملرم ‪ :‬فإن إبراهيم وامساعيل ‪-‬عليهما السالم‪ -‬ملا بنياه ‪ ،‬صارت واليته يف إمساعيل‬
‫وذريته ‪ ،‬مث غلبهم عليه أخواهلم من جرهم ‪ ،‬ومل ينازعهم بنو إمساعيل ‪ ،‬لقرابتهم وإعظامهم‬
‫للحرمة ‪ ،‬أن ال يكون هبا قتال ‪ ،‬مث إن جرهم بغوا يف مكة ‪ ،‬وظلموا من دخلها ‪ ،‬فرق أمرهم‬
‫‪ ،‬فلما رأى بنو بكر بن عبد مناف بن كنانة ‪ ،‬وغبشان من خزاعة ‪ ،‬أمجعوا على جرهم ‪،‬‬
‫فاقتتلوا فغلبهم بنو بكر وغبشان ونفوهم من مكة ‪.‬‬
‫وكانت مكة يف اجلاهلية ال يقر فيها ظلم ‪ ،‬وال يبغي فيها أحد إال أخرج ‪ ،‬وال يريدها ملك‬
‫يستحل حرمتها إال هلك ‪.‬‬
‫مث إن غبشان ‪-‬من خزاعة‪ -‬وليت البيت دون بين بكر ‪ .‬وقريش إذ ذاك حلول وصرم ‪،‬‬
‫وبيوتات متفرقون يف قومهم من بين كنانة ‪ .‬فوليت خزاعة البيت يتوارثون ذلك ‪ ،‬حىت كان‬
‫آخرهم حليل بن حبيشة ‪ ،‬فتزوج قصي بن كالب ابنته ‪.‬‬
‫فلما عظم شرف قصي ‪ ،‬وكثر بنوه وماله ‪ ،‬هلك حليل ‪ ،‬فرأى قصي أنه أوىل بالكعبة وأمر‬
‫مكة ‪ ،‬من خزاعة وبين بكر ‪ ،‬وأن قريشاً رؤوس آل إمساعيل وصرحيهم ‪ ،‬فكلم رجاالً من‬
‫قريش وكنانة يف إخراج خزاعة وبين بكر من مكة ‪ ،‬فأجابوه ‪.‬‬

‫الحج في الجاهلية‬
‫وكان الغوث بن مرة بن أد بن طاخبة بن إلياس بن مضر يلي اإلجازة للناس باحلج من عرفة ‪،‬‬
‫وولده من بعده ‪ ،‬ألن أمه كانت جرمهية ال تلد ‪ ،‬فنذرت هلل إن ولدت رجالً ‪ :‬أن تتصدق به‬
‫‪11‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫على الكعبة خيدمها ‪ ،‬فولدت الغوث ‪ ،‬فكان يقوم على الكعبة مع أخواله من جرهم ‪ ،‬فويل‬
‫اإلجازة بالناس ‪ ،‬ملكانه من الكعبة ‪ ،‬فكان إذا رفع يقول ‪:‬‬
‫إن كان إمثاً فعلى قضاعة‬ ‫اللهم إين تابع تباعة‬
‫وكانت صوفة تدفع بالناس من عرفة ‪ ،‬وجتيزهم إذا نفروا من مىن ‪ .‬فإذا كان يوم النفر أتوا‬
‫رمي اجلمار ورجل من صوفة يرمي هلم ‪ ،‬ال يرمون حىت يرمي هلم ‪ ،‬فكان املتعجلون يأتونه‬
‫يقولون ‪ :‬ارم حىت نرمي ‪ ،‬فيقول ‪ :‬ال واهلل ‪ ،‬حىت متيل الشمس ‪ .‬فإذا مالت الشمس رمى‬
‫ورمى الناس معه ‪ ،‬فإذا فرغوا من الرمي وأرادوا النفر من مىن أخذت صوفة باجلانبني ‪ ،‬فلم‬
‫جيز أحد حىت ميروا ‪ ،‬مث خيلون سبيل الناس ‪.‬‬
‫فلما انقرضوا ورثهم بنو سعد بن زيد مناة من بين متيم ‪.‬‬
‫وكانت اإلفاضة من مزدلفة يف عدوان يتوارثوهنا ‪ ،‬حىت كان آخرهم كرب بن صفوان بن‬
‫جناب ‪ :‬الذي قام عليه اإلسالم ‪.‬‬
‫فلما كان ذلك العام ‪ ،‬فعلمت صوفة ما كانت تفعل ‪ ،‬قد عرفت العرب ذلك هلم ‪ ،‬هو دين‬
‫هلم من عهد جرهم ووالية خزاعة‪ ،‬فأتاهم قصي مبن معه من قريش وقضاعة وكنانة عند‬
‫العقبة ‪ ،‬فقال ‪ :‬حنن أوىل هبذا منكم ‪ ،‬فقاتلوه ‪ .‬فاقتتل الناس قتاالً شديداً ‪ ،‬مث اهنزمت صوفة‬
‫وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم ‪.‬‬
‫واحنازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي ‪ ،‬وعرفوا أنه سيمنعهم ‪ ،‬كما منع صوفة ‪،‬‬
‫وحيول بينهم وبني الكعبة وأمر مكة ‪.‬‬
‫فلما احنازوا بادأهم وأمجع حلرهبم ‪ ،‬فالتقوا واقتتلوا قتاالً شديداً ‪ ،‬مث تداعوا إىل الصلح ‪،‬‬
‫فحكموا يعمر بن عوف ‪ ،‬أحد بين بكر‪ ،‬فقضى بينهم بأن قصياً أوىل بالكعبة وأمر مكة من‬
‫خزاعة ‪ .‬وكل دم أصابه قصي منهم موضوع شدخه حتت قدميه ‪ ،‬وما أصابت خزاعة وبنو‬
‫بكر ففيه الدية وأن خيلى بني قصي وبني الكعبة ‪ ،‬فسمي يومئذ يعمر الشداخ ‪.‬‬

‫جمع قصي قومه من منازلهم إلى مكة‬

‫‪12‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫فوليها قصي ‪ ،‬ومجع قومه من منازهلم إىل مكة ‪ ،‬ومتلك عليهم ‪ ،‬وملكوه ‪ ،‬ألنه أقر للعرب ما‬
‫كانوا عليه ‪ ،‬ألنه يراه ديناً ال يغري ‪ ،‬فأقر النسأة وآل صفوان وعدوان ‪ ،‬ومرة بن عوف على‬
‫ما كانوا عليه ‪ ،‬حىت جاء اإلسالم ‪ ،‬فهدم ذلك كله ‪ ،‬وفيه يقول الشاعر ‪:‬‬
‫به مجع اهلل القبائل من فهر‬ ‫قصي لعمري كان يدعى جممعاً‬
‫فكان قصي أول بين كعب بن لؤي أصاب ملكاً أطاع له به قومه ‪ ،‬فكانت إليه احلجابة ‪،‬‬
‫والسقاية ‪ ،‬والرفادة ‪ ،‬والندوة ‪ ،‬واللواء وقطع مكة رباعاً بني قومه ‪ ،‬فأنزل كل قوم منهم‬
‫منازهلم ‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إهنم هابوا قطع الشجر عن منازهلم ‪ ،‬فقطعها بيده وأعوانه ‪ ،‬فسمته قريش جممعاً ملا‬
‫مجع من أمرهم ‪ ،‬وتيمنت بأمره فال تنكح امرأة منهم وال يتزوج رجل وال يتشاورون فيما‬
‫نزل هبم ‪ ،‬وال يعقدون لواء حرب إال يف داره يعقده هلم بعض ولده ‪.‬‬
‫فكان أمره يف حياته ‪-‬وبعد موته‪ -‬عندهم كالدين املتبع ‪ ،‬واختد لنفسه دار الندوة ‪.‬‬
‫فلما كرب قصي ورق عظمه ‪-‬وكان عبد الدار بكره ‪ -‬وكان عبد مناف قد شرف يف زمان‬
‫أبيه ‪ ،‬وعبد العزى وعبد الدار ‪ .‬فقال قصي لعبد الدار ‪ :‬ألحلقنك بالقوم ‪ ،‬وإن شرفوا عليك‬
‫‪ ،‬ال يدخل أحد منهم الكعبة حىت تكون أنت تفتحها له ‪ ،‬وال يعقد لقريش لواء حلرهبا إال‬
‫أنت ‪ .‬وال يشرب رجل مبكة إال من سقايتك ‪ ،‬وال يأكل أحد من أهل املوسم طعاماً إال من‬
‫طعامك ‪ ،‬وال تقطع قريش أمراً من أمورها إال يف دارك ‪.‬‬
‫فأعطاه دار الندوة ‪ ،‬واحلجابة ‪ ،‬واللواء ‪ ،‬والسقاية ‪ ،‬والرفادة ‪ :‬وهي خرج خترجه قريش يف‬
‫املوسم من أمواهلا إىل قصي ‪ ،‬فيصنع به طعاماً للحاج ‪ ،‬يأكله من مل يكن له سعة وال زاد ‪،‬‬
‫ألن قصياً فرضه على قريش ‪ .‬فقال هلم ‪ :‬إنكم جريان اهلل وأهل بيته ‪ .‬وإن احلاج ضيف اهلل ‪،‬‬
‫وهم أحق الضيف بالكرامة ‪ .‬فاجعلوا هلم طعاماً وشراباً أيام احلج حىت يصدروا عنكم ‪.‬‬
‫ففعلوا ‪.‬‬
‫وكان قصي ال خيالف ‪ ،‬وال يرد عليه شئ صنعه فلما هلك أقام بنوه أمره ال نزاع بينهم ‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫مث إن بين عبد مناف أرادوا أخذ ما بيد عبد الدار ورأوا أهنم أوىل بذلك ‪ ،‬فتفرقت قريش ‪،‬‬
‫بعضهم معهم ‪ ،‬وبعضهم مع عبد الدار‪ ،‬فكان صاحب أمر عبد مناف ‪ :‬عبد مشس بن عبد‬
‫مناف ‪ ،‬ألنه أسنهم ‪ ...‬وصاحب أمر بين عبد الدار ‪ :‬عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد‬
‫الدار ‪ ،‬فعقد كل قوم حلفاً مؤكداً ‪ .‬فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيباً ‪ ،‬فغمسوا‬
‫أيديهم فيها ‪ ،‬ومسحوا هبا الكعبة ‪ ،‬فسموا املطيبني وتعاقد بنو عبد الدار وحلفاؤهم فسموا‬
‫األحالف ‪ .‬مث تداعوا إىل الصلح ‪ ،‬على أن لبين عبد مناف السقاية والرفادة ‪ ،‬وأن احلجابة‬
‫واللواء والندوة لبين عبد الدار ‪ ،‬فرضوا ‪ ،‬وثبت كل قوم مع من حالفوا ‪ ،‬حىت جاء اهلل‬
‫باإلسالم ‪" .‬فقال صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬كل حلف يف اجلاهلية مل يزده اإلسالم إال شدة" ‪.‬‬

‫حلف الفضول ‪:‬‬


‫وأما حلف الفضول ‪ ،‬فاجتمعوا له يف دار عبد اهلل بن جدعان لشرفه وسنه ‪ ،‬وهم‪ :‬بنو هاشم‬
‫‪ ،‬وبنو املطلب ‪ ،‬وأسد بن عبد العزى‪ ،‬وزهرة بن كالب ‪ ،‬وتيم بن مرة ‪ ،‬تعاهدوا على أن ال‬
‫جيدوا مبكة مظلوماً من أهلها ‪ ،‬أو ممن دخلها ‪ ،‬إال قاموا معه ‪ ،‬حىت ترد إليه مظلمته ‪ ،‬فقال‬
‫الزبري بن عبد املطلب ‪:‬‬
‫أن ال يقيم ببطن مكة ظامل‬ ‫إن الفضول حتالفوا وتعاقدوا‬
‫فاجلار واملعتز فيهم سامل‬ ‫أمر عليه حتالفوا وتعاقدوا‬
‫فويل السقاية والرفادة ‪ :‬هاشم بن عبد مناف ‪ ،‬ألن عبد مشس سفار ‪ ،‬قلما يقيم مبكة ‪ .‬وكان‬
‫مقالً ذا ولد وكان هاشم موسراً‪ ،‬وهو أول من سن الرحلتني ‪ ،‬رحلة الشتاء والصيف ‪ ،‬وأول‬
‫من أطعم الثريد مبكة ‪ ،‬فقال بعضهم ‪:‬‬
‫قوم مبكة مسنتني عجاف‬ ‫عمرو الذي هشم الثريد لقومه‬
‫وملا مات هاشم ويل ذلك املطلب بن عبد مناف ‪ ،‬فكان ذا شرف فيهم ‪ ،‬يسمونه الفياض‬
‫لسماحته ‪ .‬وكان هاشم قدم املدينة‪ ،‬فتزوج سلمى بنت عمرو ‪ ،‬من بين النجار ‪ ،‬فولدت له‬
‫عبد املطلب ‪ ،‬فلما ترعرع خرج إليه املطلب ليأيت به ‪ ،‬فأبت أمه ‪ ،‬فقال ‪ :‬إنه يلي ملك أبيه ‪.‬‬
‫فأذنت له ‪ ،‬فرحل به ‪ ،‬وسلم إليه ملك أبيه ‪ ،‬فويل عبد املطلب ما كان أبوه يلي ‪ .‬وأقام‬
‫‪14‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫لقومه ما أقام آباؤه ‪ ،‬وشرف فيهم شرفاً مل يبلغه أحد من آبائه ‪ ،‬وأحبوه وعظم خطره فيهم‬
‫‪.‬‬

‫قصة حفر زمزم وما فيها من العجائب‬


‫مث ذكر قصة حفر زمزم ‪ ،‬وما فيها من العجائب ‪.‬‬
‫مث ذكر قصة نذر عبد املطلب ذبح ولده ‪ ،‬وما جرى فيها من العجائب ‪.‬‬
‫مث ذكر اآليات اليت لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قبل والدته ‪ ،‬وبعدها وما جرى له وقت‬
‫رضاعه وبعد ذلك ‪.‬‬
‫مث ذكر كفالة أمه له ‪ ،‬مث كفالة جده ‪ ،‬مث كفالة عمه أيب طالب ‪.‬‬
‫مث ذكر قصة حبريى الراهب وغريها من اآليات ‪.‬‬
‫مث ذكر تزوجه خدجية ‪ ،‬وما ذكر هلا غالمها ميسرة ‪ ،‬وما ذكرته هي لورقة ‪ ،‬وقول ورقة ‪:‬‬
‫هلم طاملا بعث النشيجا‬ ‫جلجت وكنت يف الذكرى جلوجاً‬
‫إىل آخرها ‪. . .‬‬
‫مث ذكر حكمه صلى اهلل عليه وسلم بني قريش يف احلجر األسود عند بنائها الكعبة‪ .‬وذكر‬
‫قصة بنائها‪.‬‬
‫ذكر أمر الحمس‬
‫وذكر أمر احلمس ‪ -‬وقال ‪ :‬إن قريشاً ابتدعته رأياً رأوه ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬حنن بنو إبراهيم ‪ ،‬وأهل‬
‫احلرم ‪ ،‬ووالة البيت ‪ ،‬فليس ألحد من العرب مثل حقنا‪ ،‬فال تعظموا أشياء من احلل مثلما‬
‫تعظمون احلرم ‪ ،‬لئال تستخف العرب حبرمتكم ‪ .‬فرتكوا الوقوف بعرفة ‪ ،‬واإلفاضة منها ‪،‬‬
‫ومع معرفتهم أهنا من املشاعر ‪ ،‬ومن دين إبراهيم ‪ .‬ويرون لسائر العرب أن يقفوا هبا ‪،‬‬
‫ويفيضوا منها ‪ ،‬إال أهنم قالوا‪ :‬حنن أهل احلرم ‪ ،‬فال ينبغي لنا أن خنرج منه ‪ .‬حنن احلمس ‪ .‬و‬
‫احلمس أهل احلرم ‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫مث جعلوا ملن ولدوا من العرب من أهل احلرم ‪ ،‬مثل ما هلم بوالدهتم إياهم ‪ ،‬أي ‪ :‬حيل هلم ما‬
‫حيل هلم ‪ ،‬وحيرم عليهم ما حيرم عليهم ‪.‬‬
‫وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم يف ذلك ‪.‬‬
‫مث ابتدعوا يف ذلك أموراً ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬ال ينبغي للحمس أن يقطوا األقط ‪ ،‬وال أن يسلوا السمن‬
‫وهم حرم ‪ ،‬وال يدخلوا بيتاً من شعر ‪ ،‬وال يستظلوا إال يف بيوت األدم ما داموا حرماً ‪.‬‬
‫مث قالوا ‪ :‬ال ينبغي ألهل احلل أن يأكلوا من طعام جاءوا به من احلل إىل احلرم ‪ ،‬إذا جاءوا‬
‫حجاجاً أو عماراً ‪ ،‬وال يطوفوا بالبيت إذا قدموا ‪-‬أول طوافهم‪ -‬إال يف ثياب احلمس ‪ ،‬فإن‬
‫مل جيدوا منها شيئاً طافوا بالبيت عراة ‪ ،‬فإن مل جيد القادم ثياب احلمس ‪ :‬طاف يف ثيابه ‪،‬‬
‫وألقاها إذا فرغ من طوافه ‪ ،‬ومل ينتفع هبا وال أحد غريه ‪.‬‬
‫فكانت العرب تسميها اللقى ومحلوا على ذلك العرب ‪ ،‬فدانت به ‪ .‬أما الرجال ‪ :‬فيطوفون‬
‫عراة ‪ .‬وأما النساء ‪ :‬فتضع املرأة ثياهبا كلها إال درعاً مفرجاً مث تطوف فيه ‪ ،‬فقالت امرأة‬
‫وهي تطوف ‪:‬‬
‫وما بدا منه فال أحله‬ ‫اليوم يبدو بعضه أو كله‬
‫فلم يزالوا كذلك حىت جاء اهلل باإلسالم ‪ ،‬فأنزل اهلل ‪ " :‬مث أفيضوا من حيث أفاض الناس " ‪،‬‬
‫وأنزل فيما حرموا ‪ " :‬يا بين آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم " إىل قوله ‪ " :‬يا بين‬
‫آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد " إىل قوله ‪ " :‬لقوم يعلمون " ‪.‬‬
‫وذكر حدوث الرجوم ‪ ،‬وإنذار الكهان به صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬ونزول سورة اجلن وقصتهم‬
‫‪.‬‬

‫ذكر إنذار اليهود‬


‫مث ذكر إنذار اليهود ‪ ،‬وأنه سبب إسالم األنصار ‪ ،‬وما نزل يف ذلك من القرآن ‪ ،‬وقصة ابن‬
‫اهليبان ‪ ،‬وقوله ‪ :‬يا معشر يهود ‪ ،‬ما ترونه أخرجين من أرض اخلمر واخلمري إىل أرض البؤس‬
‫واجلوع ؟‪ ،‬وقوله ‪ :‬إمنا قدمت هذه البلدة أتوكف خروج نيب قد أظل زمانه ‪ ،‬وهذه البلدة‬
‫مهاجره إىل آخرها ‪.‬‬
‫‪16‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫مث ذكر قصة إسالم سلمان الفارسي رضي اهلل عنه ‪.‬‬
‫مث ذكر األربعة املتفرقني عن الشرك يف طلب الدين احلق ‪ ،‬وهم ‪ :‬ورقة بن نوفل ‪ ،‬وعبيد اهلل‬
‫بن جحش ‪ ،‬وعثمان بن احلويرث ‪ ،‬وزيد بن عمرو بن نفيل ‪.‬‬

‫وصية عيسى عليه السالم باتباع محمد‪ W‬صلى اهلل عليه وسلم‬
‫مث ذكر وصية عيسى ابن مرمي ‪ .‬عليه السالم باتباع حممد صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وما أخذ اهلل‬
‫على األنبياء من اإلميان به والنصر له‪ ،‬وأن يؤدوه إىل أممهم ‪ ،‬فأدوا ذلك ‪ ،‬وهو قول اهلل تعاىل‬
‫‪ " :‬وإذ أخذ اهلل ميثاق النبيني " اآلية ‪.‬‬

‫بدء الوحي إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬


‫مث ذكر قصة بدء الوحي إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم والقصة يف الصحيحني ‪ ،‬وفيها ‪:‬‬
‫"أن أول ما أنزل عليه ‪ " :‬اقرأ باسم ربك الذي خلق " إىل قوله ‪ " :‬ما مل يعلم "‪ ،‬مث أنزل‬
‫عليه ‪ " :‬يا أيها املدثر * قم فأنذر * وربك فكرب * وثيابك فطهر* والرجز فاهجر * وال متنن‬
‫تستكثر * ولربك فاصرب " "‪.‬‬
‫فمن فهم أن هذه أول آية أرسله اهلل هبا ‪ ،‬عرف أنه سبحانه أمره أن ينذر الناس عن الشرك‬
‫الذي يعتقدون أنه عبادة األولياء ليقربوهم إىل اهلل قبل إنذاره عن نكاح األمهات والبنات ‪،‬‬
‫وعرف أن قوله تعاىل ‪ " :‬وربك فكرب " أمر بالتوحيد قبل األمر بالصالة وغريها ‪ ،‬وعرف قدر‬
‫الشرك عند اهلل وقدر التوحيد ‪.‬‬
‫فلما أنذر صلى اهلل عليه وسلم الناس استجاب له قليل ‪ .‬وأما األكثر فلم يتبعوا ومل ينكروا ‪،‬‬
‫حىت بادأهم بالتنفري عن دينهم وبيان نقائصه وعيب آهلتهم ‪ ،‬فاشتدت عداوهتم له وملن تبعه ‪،‬‬
‫وعذبوهم عذاباً شديداً ‪ ،‬وأرادوا أن يفتنوهم عن دينهم ‪.‬‬
‫فمن فهم هذا ‪ :‬عرف أن اإلسالم ال يستقيم إال بالعداوة ملن تركه وعيب دينه وإال لو كان‬
‫ألولئك املعذبني رخصة لفعلوا ‪.‬‬
‫وجرى بينه وبينهم ما يطول وصفه ‪ ،‬وقص اهلل سبحانه بعضه يف كتابه ‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫ومن أشهر ذلك ‪ :‬قصة عمه أيب طالب ملا محاه بنفسه وماله وعياله وعشريته ‪ ،‬وقاسى يف‬
‫ذلك الشدائد العظيمة ‪ ،‬وصرب عليها ‪ ،‬ومع ذلك كان مصدقاً له ‪ ،‬مادحاً لدينه ‪ :‬حمباً ملن‬
‫اتبعه ‪ ،‬معادياً ملن عاداه ‪ ،‬لكن مل يدخل فيه ‪ ،‬ومل يتربأ من دين آبائه ‪ ،‬واعتذر عن ذلك بأنه‬
‫ال يرضى مبسبة آبائه ‪ ،‬ولوال ذلك التبعه ‪ ،‬وملا مات وأراد النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫االستغفار له أنزل اهلل عليه ‪ " :‬ما كان للنيب والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركني ولو كانوا‬
‫أويل قرىب من بعد ما تبني هلم أهنم أصحاب اجلحيم " ‪.‬‬
‫فيا هلا من عربة ما أبينها ؟ ومن عظة ما أبلغها ! ومن بيان ما أوضحه ! ملا يظن كثري ممن‬
‫يدعي اتباع احلق فيمن أحب احلق وأهله ‪ ،‬من غري اتباع للحق ألجل غرض من أغراض الدنيا‬
‫‪.‬‬

‫قصته صلى اهلل عليه وسلم مع قريش حين قرأ سورة النجم‬
‫ومما وقع أيضاً ‪ :‬قصته صلى اهلل عليه وسلم معهم ملا قرأ سورة النجم حبضرهتم ‪ -‬فلما وصل‬
‫إىل قوله ‪ " :‬أفرأيتم الالت والعزى* ومناة الثالثة األخرى " ‪ ،‬ألقى الشيطان يف تالوته ‪ :‬تلك‬
‫الغرانيق العلى ‪ ،‬وإن شفاعتهن لرتجتى ‪ ،‬وظنوا أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قاله ‪ ،‬ففرحوا‬
‫بذلك فرحاً شديداً ‪ ،‬وتلقاها الصغري والكبري منهم ‪ ،‬وقالوا كالماً معناه ‪ :‬هذا الذي نريد ‪،‬‬
‫حنن نقر أن اهلل هو اخلالق الرازق ‪ ،‬املدبر لألمور ‪ ،‬ولكن نريد شفاعتها عنده ‪ ،‬فإذا أقر بذلك‬
‫فليس بيننا وبينه أي خالف ‪.‬‬
‫واستمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقرؤها ‪ ،‬فلما بلغ السجدة سجد وسجدوا معه ‪،‬‬
‫وشاع اخلرب ‪ :‬أهنم صافوه ‪ ،‬حىت إن اخلرب وصل إىل الصحابة الذين باحلبشة ‪ ،‬فركبوا البحر‬
‫راجعني ‪ ،‬لظنهم أن ذلك صدق ‪ ،‬فلما ذكر ذلك لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم خاف أن‬
‫يكون قاله فخاف من اهلل خوفاً عظيماً ‪ ،‬حىت أنزل اهلل عليه ‪ " :‬وما أرسلنا من قبلك من‬
‫رسول وال نيب إال إذا متىن ألقى الشيطان يف أمنيته " إىل قوله ‪ " :‬عذاب يوم عظيم " ‪.‬‬
‫فمن عرف هذه القصة ‪ ،‬وعرف ما عليه املشركون اليوم ‪ ،‬وما قاله ويقوله علماؤهم ‪ ،‬ومل‬
‫مييز بني اإلسالم الذي أتى به النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وبني دين قريش الذي أرسل اهلل‬
‫‪18‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫رسوله ينذرهم عنه ‪ ،‬وهو الشرك األكرب‪ :‬فأبعده اهلل ‪ ،‬فإن هذه القصة يف غاية الوضوح ‪ ،‬إال‬
‫من طبع اهلل ‪ ،‬على قلبه ومسعه ‪ ،‬وجعل على بصره غشاوة ‪ ،‬فذلك ال حيلة فيه ‪ ،‬ولو كان‬
‫من أفهم الناس ‪ ،‬كما قال اهلل تعاىل يف أهل الفهم الذين مل يوفقوا ‪ " :‬ولقد مكناهم فيما إن‬
‫مكناكم فيه وجعلنا هلم مسعا وأبصارا وأفئدة فما أغىن عنهم مسعهم وال أبصارهم وال أفئدهتم‬
‫من شيء " اآلية ‪.‬‬
‫مث مل أراد اهلل إظهار دينه ‪ ،‬وإعزاز املسلمني ‪ :‬أسلم األنصار ‪-‬أهل املدينة‪ -‬بسبب العلماء‬
‫الذين عندهم من اليهود ‪ ،‬وذكرهم هلم النيب وصفته ‪ ،‬وأن هذا زمانه وقدر اهلل سبحانه أن‬
‫أولئك العلماء الذين يتمنون ظهوره وينتظرونه ‪ ،‬ويتوعدوهنم به ‪ -‬ملعرفتهم أن العز ملن اتبعه‪-‬‬
‫يكفرون به ويعادونه ‪ ،‬فهو قول اهلل سبحانه ‪ " :‬وملا جاءهم كتاب من عند اهلل مصدق ملا‬
‫معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة اهلل‬
‫على الكافرين " ‪.‬‬
‫فلما أسلم األنصار أمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من كان مبكة من املسلمني باهلجرة إىل‬
‫املدينة ‪ ،‬فهاجروا إليها ‪ .‬وأعزهم اهلل تعاىل بعد تلك الذلة ‪ ،‬فهو قوله تعاىل ‪ " :‬واذكروا إذ‬
‫أنتم قليل مستضعفون يف األرض ختافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره " اآلية ‪.‬‬

‫فوائد الهجره والمسائل التي فيها كثيرة‬


‫وفوائد اهلجره ‪ ،‬واملسائل اليت فيها كثرية ‪ ،‬لكن نذكر منها مسألة واحدة ‪ ،‬وهي ‪:‬‬
‫أن ناساً من املسلمني مل يهاجروا ‪ ،‬كراهة مفارقة األهل ‪ ،‬والوطن واألقارب ‪ ،‬فهو قوله تعاىل‬
‫‪ " :‬قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشريتكم وأموال اقرتفتموها وجتارة‬
‫ختشون كسادها ومساكن ترضوهنا أحب إليكم من اهلل ورسوله وجهاد يف سبيله فرتبصوا‬
‫حىت يأيت اهلل بأمره واهلل ال يهدي القوم الفاسقني " ‪.‬‬
‫فلما خرجت قريش إىل بدر خرجوا معهم كرهاً ‪ ،‬فقتل بعضهم بالرمي ‪ ،‬فلم علم الصحابة‬
‫أن فالناً قتل ‪ ،‬وفالناً قتل ‪ ،‬تأسفوا على ذلك ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬قتلنا إخواننا ‪ ،‬فأنزل اهلل تعاىل فيهم‬

‫‪19‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫‪ " :‬إن الذين توفاهم املالئكة ظاملي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفني يف األرض "‬
‫إىل قوله ‪ " :‬وكان اهلل غفورا رحيما " ‪.‬‬
‫فليتأمل الناصح لنفسه هذه القصة ‪ ،‬وما أنزل اهلل فيها من اآليات ‪ ،‬فإن أولئك لو تكلموا‬
‫بكالم الكفر ‪ ،‬وفعلوا كفراً ظاهراً يرضون به قومهم ‪ :‬مل يتأسف الصحابة على قتلهم ‪ ،‬ألن‬
‫اهلل بني هلم ‪-‬وهم مبكة‪ -‬ملا عذبوا قوله تعاىل ‪ " :‬من كفر باهلل من بعد إميانه إال من أكره‬
‫وقلبه مطمئن باإلميان " ‪.‬‬
‫فلو مسعوا عنهم كالماً أو فعال يرضون به املشركني من غري إكراه ‪ ،‬ما كانوا يقولون ‪ :‬قتلنا‬
‫إخواننا ‪.‬‬

‫تفسير قوله تعالى ‪ " :‬قالوا فيم كنتم "‬


‫ويوضحه قوله تعاىل ‪ " :‬قالوا فيم كنتم " ‪ ،‬ومل يقولوا ‪ :‬كيف عقيدتكم أو كيف فعلكم ؟‬
‫بل قالوا ‪ :‬يف أي الفريقني كنتم ؟ فاعتذروا بقوهلم ‪ " :‬كنا مستضعفني يف األرض "‪ ،‬فلم‬
‫تكذهبم املالئكة يف قوهلم هذا ‪ ،‬بل قالوا هلم ‪ " :‬أمل تكن أرض اهلل واسعة فتهاجروا فيها " ‪،‬‬
‫ويوضحه قوله ‪ " :‬إال املستضعفني من الرجال والنساء والولدان ال يستطيعون حيلة وال‬
‫يهتدون سبيال * فأولئك عسى اهلل أن يعفو عنهم وكان اهلل عفوا غفورا " ‪.‬‬
‫فهذا يف غاية الوضوح ‪ ،‬فإذا كان هذا يف السابقني األولني من الصحابة ‪ ،‬فكيف بغريهم ؟‬
‫وال يفهم هذا إال من فهم أن أهل الدين اليوم ال يعدونه ذنباً ‪ ،‬فإذا فهمت ما أنزل اهلل فهماً‬
‫جيداً ‪ ،‬وفهمت ما عند من يدعي الدين اليوم ‪ ،‬تبني لك أمور ‪:‬‬
‫منها ‪ :‬أن اإلنسان ال يستغين عن طلب العلم ‪ ،‬فإن هذه وأمثاهلا ال تعرف إال بالتنبيه ‪ .‬فإذا‬
‫كانت قد أشكلت على الصحابة قبل نزول اآلية ‪ ،‬فكيف بغريهم ؟‬

‫‪20‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫ومنها ‪ :‬أنك تعرف أن اإلميان ليس كما يظنه غالب الناس اليوم ‪ ،‬بل كما قال احلسن‬
‫البصري ‪ -‬فيما روى عنه البخاري ‪ " :‬ليس اإلميان بالتحلي وال بالتمين ولكن ما وقر يف‬
‫القلوب وصدقته األعمال" ‪.‬‬
‫نسأل اهلل أن يرزقنا علماً نافعاً ‪ ،‬ويعيذنا من علم ال ينفع ‪.‬‬
‫قال عمر بن عبد العزيز ‪ :‬يا بين ليس اخلري أن يكثر مالك وولدك ‪ ،‬ولكن اخلري ‪ :‬أن تعقل عن‬
‫اهلل مث تطيعه ‪.‬‬
‫وملا هاجر املسلمون إىل املدينة ‪ ،‬واجتمع املهاجرون واألنصار ‪ :‬شرع اهلل هلم اجلهاد ‪ ،‬وقبل‬
‫ذلك هنوا عنه ‪ ،‬وقيل هلم ‪ " :‬كفوا أيديكم "‪ ،‬فأنزل اهلل تعاىل ‪ " :‬كتب عليكم القتال وهو‬
‫كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خري لكم وعسى أن حتبوا شيئا وهو شر لكم واهلل‬
‫يعلم وأنتم ال تعلمون " ‪ ،‬فبذلوا أنفسهم وأمواهلم هلل تعاىل رضي اهلل عنهم ‪ ،‬فشكر اهلل هلم‬
‫ذلك ‪ ،‬ونصرهم على من عاداهم مع قلتهم وضعفهم ‪ ،‬وكثرة عدوهم وقوته ‪.‬‬

‫الوقائع المشهورة التي أنزل اهلل تعالى فيها القرآن‬


‫فمن الوقائع املشهورة اليت أنزل اهلل فيها القرآن ‪ :‬وقعة بدر ‪ ،‬قد أنزل اهلل فيها سورة األنفال ‪.‬‬
‫وبعدها وقعة قينقاع ‪ ،‬مث وقعة أحد بعد سنة ‪ ،‬وفيها اآليات اليت يف آل عمران ‪ .‬وبعدها وقعة‬
‫بين النضري ‪ ،‬وفيها اآليات اليت يف سورة احلشر ‪ .‬مث وقعة اخلندق ‪ ،‬وبين قريظة ‪ ،‬وفيها اآليات‬
‫اليت يف سورة األحزاب ‪ .‬مث وقعة احلديبية ‪ ،‬وفتح خيرب ‪ ،‬وأنزل اهلل فيها سورة الفتح ‪ ،‬وفتح‬
‫مكة ‪ ،‬ووقعة حنني ‪ ،‬وأنزل اهلل فيها سورة النصر ‪ ،‬وذكر حنني يف سورة براءة ‪ ،‬مث غزوة‬
‫تبوك ‪ ،‬وذكرها اهلل يف سورة براءة ‪.‬‬
‫وملا دانت له العرب ‪ ،‬ودخلوا يف دين اهلل أفواجاً ‪ ،‬وابتدأ يف قتال العجم اختار اهلل له ما عنده‬
‫‪ ،‬فتويف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬بعدما أقام باملدينة عشر سنني ‪ ،‬وقد بلغ الرسالة ‪،‬‬
‫وأدى األمانة فوقعت الردة املشهورة ‪.‬‬
‫وذلك أنه ملا مات رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ارتد غالب من أسلم وحصلت فتنة عظيمة‬
‫‪ ،‬ثبت اهلل فيها من أنعم عليهم بالثبات ‪ ،‬بسبب أيب بكر الصديق رضي اهلل عنه ‪ ،‬فإنه قام فيها‬
‫‪21‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫قياماً مل يدانه فيه أحد من الصحابة ‪ ،‬ذكرهم فيه ما نسوا ‪ ،‬وعلمهم ما جهلوا ‪ ،‬وشجعهم ملا‬
‫جبنوا ‪ ،‬فثبت اهلل به دين اإلسالم جعلنا اهلل من أتباعه ‪ ،‬وأتباع ما محله أصحابه ‪.‬‬
‫قال اهلل تعاىل ‪ " :‬يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأيت اهلل بقوم حيبهم‬
‫وحيبونه أذلة على املؤمنني أعزة على الكافرين جياهدون يف سبيل اهلل " اآلية ‪ ،‬قال احلسن ‪ :‬هم‬
‫واهلل أبو بكر وأصحابه ‪.‬‬

‫قتال أهل الردة ‪:‬‬


‫وصورة الردة ‪ :‬أن العرب افرتقت يف ردهتا ‪ ،‬فطائفة رجعت إىل عبادة األصنام ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬لو‬
‫كان نبياً ملا مات ‪ .‬وفرقة قالت ‪ :‬نؤمن باهلل وال نصلي ‪ .‬وطائفة أقروا باإلسالم وصلوا ‪،‬‬
‫ولكن منعوا الزكاة ‪ .‬وطائفة شهدوا أن ال إله إال اهلل وأن حممداً رسول اهلل ‪ ،‬ولكن صدقوا‬
‫مسيلمة أن النيب صلى اهلل عليه وسلم أشركه معه يف النبوة ‪.‬‬
‫وذلك ‪ :‬أنه أقام شهوداً معه بذلك ‪ ،‬وفيهم رجل من أصحابه معروف بالعلم والعبادة ‪ ،‬يقال‬
‫له الرجال ‪ ،‬فصدقوه ألجل ما عرفوا فيه من العلم والعبادة ‪ ،‬ففيه يقول بعضهم ممن ثبت منهم‬
‫‪:‬‬
‫طال ليلي بفتنة الرجال‬ ‫يا سعاد الفؤاد بنت أثال‬
‫عزيز ذو قوة وحمال‬ ‫فنت القوم بالشهادة واهلل‬
‫وقوم من أهل اليمن ‪ ،‬صدقوا األسود العنسي يف ادعائه النبوة ‪ ،‬وقوم صدقوا طليحة األسدي‬
‫‪.‬‬
‫ومل يشك أحد من الصحابة يف كفر من ذكرنا ‪ ،‬ووجوب قتاهلم ‪ ،‬إال مانع الزكاة ‪ ،‬وملا عزم‬
‫أبو بكر رضي اهلل عنه على قتاهلم ‪ ،‬قيل له ‪" :‬كيف نقاتلهم ؟ وقد قال رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ :‬أمرت أن أقاتل الناس حىت يقولوا ‪ :‬ال إله إال اهلل ‪ ،‬فإذا قالوها عصموا مين‬
‫دماءهم وأمواهلم ‪ ،‬إال حبقها‪ ،‬قال أبو بكر ‪ :‬فإن الزكاة من حقها ‪ ،‬واهلل ! لو منعوين عقاالً‬
‫كانوا يؤدونه إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لقاتلتهم على منعه" ‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫مث زالت الشبهة عن الصحابة رضي اهلل عنهم ‪ ،‬وعرفوا وجوب قتاهلم ‪ ،‬فقاتلوهم ونصرهم‬
‫اهلل عليهم ‪ ،‬فقتلوا من قتلوا منهم‪ ،‬وسبوا نساءهم وعياهلم ‪.‬‬
‫فمن أهم ما على املسلم اليوم ‪ :‬تأمل هذه القصة اليت جعلها اهلل من حججه على خلقه إىل‬
‫يوم القيامة ‪.‬‬
‫فمن تأمل هذه تأمالً جيداً ‪ -‬خصوصاً إذا عرف أن اهلل شهرها على ألسنة العامة ‪ ،‬وأمجع‬
‫العلماء على تصويب أيب بكر يف ذلك ‪ ،‬وجعلوا من أكرب فضائله ‪ ،‬وعلمه ‪ :‬أنه مل يتوقف يف‬
‫قتاهلم ‪ ،‬بل قاتلهم من أول وهلة ‪ ،‬وعرفوا غزارة فهمه يف استدالله عليهم بالدليل الذي‬
‫أشكل عليهم ‪ ،‬فرد عليهم بدليلهم بعينه ‪ ،‬مع أن املسألة موضحة يف القرآن والسنة ‪.‬‬
‫أما القرآن ‪ ،‬فقوله تعاىل ‪ " :‬فإذا انسلخ األشهر احلرم فاقتلوا املشركني حيث وجدمتوهم‬
‫وخذوهم واحصروهم واقعدوا هلم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصالة وآتوا الزكاة فخلوا‬
‫سبيلهم " ‪.‬‬
‫ويف الصحيحني أن "رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال ‪ :‬أمرت أن أقاتل الناس حىت يشهدوا‬
‫أن ال إله إال اهلل ‪ ،‬وأن حممداً رسول اهلل ‪ ،‬ويقيموا الصالة ‪ ،‬ويؤتوا الزكاة ‪ ،‬فإذا فعلوا ذلك‬
‫عصموا مين دماءهم وأمواهلم ‪ ،‬إال حبق اإلسالم وحساهبم على اهلل تعاىل" ‪.‬‬
‫فهذا كتاب اهلل الصريح ‪ ،‬للعامي البليد ‪ ،‬وهذا كالم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وهذا‬
‫إمجاع العلماء الذين ذكرت لك ‪.‬‬
‫والذي يعرفك هذا جيداً ‪ :‬هو معرفة ضده ‪ ،‬وهو أن العلماء يف زماننا يقولون ‪ :‬من قال ال‬
‫إله إال اهلل فهو املسلم ‪ ،‬حرام املال والدم ‪ ،‬ال يكفر وال يقاتل ‪ ،‬حىت إهنم يصرحون بذلك يف‬
‫شأن البدو الذين يكذبون بالبعث ‪ ،‬وينكرون الشرائع ‪ ،‬ويزعمون أن شرعهم الباطل ‪ :‬هو‬
‫حق اهلل ‪ ،‬ولو طلب أحد منهم خصمه أن خياصمه عند شرع اهلل لعدوه من أنكر املنكرات ‪،‬‬
‫بل من حيث اجلملة ‪ :‬إهنم يكفرون بالقرآن من أوله إىل آخره ‪ ،‬ويكفرون بدين الرسول كله‬
‫‪ ،‬معه إقرارهم بذلك بألسنتهم ‪ ،‬وإقرارهم ‪ :‬أن شرعهم أحدثه آباؤهم هلم كفراً بشرع اهلل ‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وعلماء الوقت يعرتفون هبذا كله ‪ ،‬ويقولون ‪ :‬ما فيهم من اإلسالم شعرة ‪ ،‬وهذا القول تلقته‬
‫العامة عن علمائهم ‪ ،‬وأنكروا به ما بينه اهلل ورسوله ‪ ،‬بل كفروا من صدق اهلل ورسوله يف‬
‫هذه املسألة ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬من كفر مسلماً فقد كفر ‪ ،‬واملسلم عندهم ‪ :‬الذي ليس معه من‬
‫اإلسالم شعرة ‪ ،‬إال أنه يقول بلسانه ‪ :‬ال إله إال اهلل ‪ ،‬وهو أبعد الناس عن فهمها وحتقيق‬
‫مطلوهبا علماً وعقيدة وعمالً ‪.‬‬
‫فاعلم ‪-‬رمحك اهلل‪ -‬أن هذه املسألة ‪ :‬أهم األشياء كلها عليك ‪ ،‬ألهنا هي الكفر واإلسالم ‪،‬‬
‫فإن صدقتهم فقد كفرت مبا أنزل اهلل على رسوله صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬كما ذكرنا لك من‬
‫القرآن والسنة واإلمجاع‪ ،‬وإن صدقت اهلل ورسوله عادوك وكفروك ‪.‬‬
‫وهذا الكفر الصريح بالقرآن والرسول يف هذه املسألة ‪ :‬قد اشتهر يف األرض مشرقها ومغرهبا‬
‫‪ ،‬ومل يسلم منه إال أقل القليل ‪.‬‬
‫فإن رجوت اجلنة ‪ ،‬وخفت من النار ‪ :‬فاطلب هذه املسألة ‪ ،‬وادرسها من الكتاب والسنة ‪،‬‬
‫وحررها ‪ .‬وال تقتصر يف طلبها ‪ ،‬ألجل شدة احلاجة إليها ‪ ،‬وألهنا اإلسالم والكفر ‪ .‬وقل ‪:‬‬
‫اللهم أهلمين رشدي ‪ ،‬وفهمين عنك ‪ ،‬وعلمين عنك ‪ ،‬وأعذين من مضالت الفنت ما أحييتين ‪.‬‬

‫الدعاء الذي كان يدعو به صلى اهلل عليه وسلم في الصالة‬


‫وأكثر الدعاء بالدعاء الذي صح "عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أنه كان يدعو به يف‬
‫الصالة ‪ ،‬وهو ‪ :‬اللهم رب جربيل وميكائيل وإسرافيل ‪ ،‬فاطر السموات واألرض ‪ ،‬عامل‬
‫الغيب والشهادة ‪ ،‬أنت حتكم بني عبادك فيما كانوا فيه خيتلفون ‪ ،‬اهدين ملا اختلف فيه من‬
‫احلق بإذنك ‪ ،‬إنك هتدي من تشاء إىل صراط مستقيم" ‪.‬‬
‫ونزيد املسألة إيضاحاً ودالئل لشدة احلاجة إليها ‪ ،‬فنقول ‪ :‬ليتفطن العاقل لقصة واحدة منها‬
‫وهي أن بين حنيفة أشهر أهل الردة‪ ،‬وهم الذين يعرفهم العامة من أهل الردة ‪ ،‬وهم عند‬
‫الناس أقبح أهل الردة ‪ ،‬وأعظمهم كفراً ‪ ،‬وهم ‪-‬مع هذا‪ -‬يشهدون ‪ :‬أن ال إله إال اهلل وأن‬
‫حممداً رسول اهلل ‪ ،‬ويؤذنون ويصلون ‪ ،‬ومع هذا فإن أكثرهم يظنون أن النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم أمرهم بذلك ‪ ،‬ألجل الشهود الذين شهدوا مع الرجال ‪.‬‬
‫‪24‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫والذي يعرف هذا ‪-‬وال يشك فيه‪ -‬يقول ‪ :‬من قال ‪ :‬ال إله إال اهلل فهو املسلم ‪ ،‬ولو مل يكن‬
‫معه من اإلسالم شعرة ‪ ،‬بل قد تركه واستهزأ به متعمداً ‪ .‬فسبحان اهلل مقلب القلوب كيف‬
‫يشاء !! كيف جيتمع يف قلب من له عقل ‪-‬ولو كان من أجهل الناس‪ -‬أنه يعرف أن بين‬
‫حنيفة كفروا ‪ ،‬مع أن حاهلم ما ذكرنا‪ ،‬وأن البدو إسالم ‪ ،‬ولو تركوا اإلسالم كله ‪ ،‬وأنكروه‬
‫‪ ،‬واستهزؤوا به على عمد ‪ ،‬ألهنم يقولوا ‪ :‬ال إله إال اهلل ‪ ،‬لكن أشهد أن اهلل على كل شئ‬
‫قدير ‪ ،‬نسأله أن يثبت قلوبنا على دينه ‪ ،‬وال يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ‪ ،‬وأن يهب لنا منه رمحة‬
‫‪ ،‬إنه هو الوهاب ‪.‬‬

‫الدليل الثاني ‪ :‬قصة أخرى وقعت في زمن الخلفاء الراشدين‪: W‬‬


‫وهي أن بقايا من بين حنيفة ‪ ،‬ملا رجعوا إىل اإلسالم ‪ ،‬وتربأوا من مسيلمة ‪ ،‬وأقروا بكذبه ‪:‬‬
‫كرب ذنبهم عند أنفسهم ‪ ،‬وحتملوا بأهليهم إىل الثغر ألجل اجلهاد يف سبيل اهلل ‪ ،‬لعل ذلك‬
‫ميحو عنهم آثار تلك الردة ‪ ،‬ألن اهلل تعاىل يقول ‪ " :‬إال من تاب وآمن وعمل عمال صاحلا‬
‫فأولئك يبدل اهلل سيئاهتم حسنات " ‪ ،‬ويقول ‪ " :‬وإين لغفار ملن تاب وآمن وعمل صاحلا مث‬
‫اهتدى " ‪ ،‬فنزلوا الكوفة ‪ ،‬وصار هلم هبا حملة معروفة ‪ ،‬فيها مسجد يسمى مسجد بين حنيفة‬
‫‪ ،‬فمر بعض املسلمني على مسجدهم بني املغرب والعشاء ‪ ،‬فسمعوا منهم كالماً معناه ‪ :‬أن‬
‫مسيلمة كان على حق ‪ ،‬وهم مجاعة كثريون‪ ،‬ولكن الذي مل يقله مل ينكره على من قاله‪،‬‬
‫فرفعوا أمرهم إىل عبد اهلل بن مسعود ‪ ،‬فجمع من عنده من الصحابة واستشارهم ‪ :‬هل يقتلهم‬
‫وإن تابوا ‪ ،‬أو يستتيبهم ؟ فأشار بعضهم بقتلهم من غري استتابة ‪ .‬وأشار بعضهم باستتابتهم ‪،‬‬
‫فاستتاب بعضهم ‪ ،‬وقتل بعضهم ومل يستتبه ‪.‬‬
‫فتأمل ‪-‬رمحك اهلل‪ -‬إذا كانوا قد أظهروا من األعمال الصاحلة الشاقة ما أظهروا ‪ ،‬ملا تربؤوا‬
‫من الكفر وعادوا إىل اإلسالم ‪ ،‬ومل يظهر منهم إال كلمة أخفوها يف مدح مسيلمة ‪ ،‬لكن‬
‫مسعها بعض املسلمني ‪ .‬ومع هذا مل يتوقف أحد يف كفرهم كلهم ‪-‬املتكلم واحلاضر الذي مل‬
‫ينكر‪ -‬ولكن اختلفوا ‪ :‬هل تقبل توبتهم أو ال ؟ والقصة يف صحيح البخاري ‪.‬‬
‫‪25‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫فأين هذا من كالم من يزعم أنه من العلماء ويقول ‪ :‬البدو ما معهم من اإلسالم شعرة ‪ ،‬إال‬
‫أهنم يقولون ‪ :‬ال إله إال اهلل ومع ذلك حيكم بإسالمهم بذلك ؟ أين هذا مما أمجع عليه‬
‫الصحابة ‪ :‬فيمن قال تلك الكلمة ‪ ،‬أو حضرها ومل ينكر ؟‬
‫شتان بني مشرق ومغرب‬ ‫سارت مشرقة وسرت مغرباً‬
‫ربنا إين أعوذ بك أن أكون ممن قلت فيهم ‪ " :‬فلما أضاءت ما حوله ذهب اهلل بنورهم‬
‫وتركهم يف ظلمات ال يبصرون * صم بكم عمي فهم ال يرجعون " ‪ ،‬وال ممن قلت فيهم ‪" :‬‬
‫إن شر الدواب عند اهلل الصم البكم الذين ال يعقلون " ‪.‬‬

‫الدليل الثالث ‪ :‬ما وقع في زمان الخلفاء الراشدين‪: W‬‬


‫قصة أصحاب علي بن أيب طالب ‪-‬ملا اعتقدوا فيه األلوهية اليت تعتقد اليوم يف أناس مز أكفر‬
‫بين آدم وأفسقهم‪ -‬فدعاهم إىل التوبة فأبوا ‪ ،‬فخد هلم األخاديد ‪ ،‬ومألها حطباً ‪ ،‬وأضرم‬
‫فيها النار وقذفهم فيها وهم أحياء ‪.‬‬
‫ومعلوم أن الكافر ‪-‬مثل اليهودي والنصراين‪ -‬إذا أمر اهلل بقتله ال جيوز إحراقه بالنار ‪ ،‬فعلم‬
‫أهنم أغلظ كفراً من اليهود والنصارى ‪.‬‬
‫هذا ‪ ،‬وهم يقومون الليل ‪ ،‬ويصومون النهار ‪ ،‬ويقرؤون القرآن ‪ ،‬آخذين له عن أصحاب‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فلما غلوا يف علي ذلك الغلو أحرقهم بالنار وهم أحياء ‪،‬‬
‫وأمجع الصحابة وأهل العلم كلهم على كفرهم ‪ ،‬فأين هذا ممن يقول يف البدو تلك املقالة ‪،‬‬
‫مع اعرتافه بالذه القصة وأمثاهلا ‪ ،‬واعرتافه ‪ :‬أن البدو كفروا باإلسالم كله ‪ ،‬إال أهنم يقولون‬
‫ال إله إال اهلل ؟‬
‫واعلم ‪ :‬أن جناية هؤالء إمنا هي على األلوهية ‪ ،‬وما علمنا فيهم جناية على النبوة ‪ ،‬والذين‬
‫قبلهم جناياهتم على النبوة‪ ،‬وما علمنا هلم جناية على األلوهية ‪ ،‬وهذا مما يبني لك شيئاً من‬
‫معىن الشهادتني اللتني مها أصل اإلسالم ‪.‬‬

‫الدليل الرابع ‪ :‬ما وقع في زمن الصحابة أيضاً ‪:‬‬


‫‪26‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وهي قصة املختار بن أيب عبيد الثقفي ‪ ،‬وهو رجل من التابعني ‪ .‬مصاهر لعبد اهلل بن عمر‬
‫رضي اهلل عنه وعن أبيه‪ ،‬مظهر للصالح‪ .‬فظهر يف العراق يطلب بدم احلسني وأهل بيته ‪ ،‬فقتل‬
‫ابن زياد ‪ ،‬ومال إليه من مال ‪ ،‬لطلبه دم أهل البيت ممن ظلمهم ابن زياد ‪ ،‬فاستولوا على‬
‫العراق ‪ ،‬وأظهر شرائع اإلسالم ‪ ،‬ونصب القضاة واألئمة من أصحاب ابن مسعود رضي اهلل‬
‫عنه ‪ .‬وكان هو الذي يصلي بالناس اجلمعة واجلماعة ‪ ،‬لكن يف آخر أمره ‪ :‬زعم أنه يوحى‬
‫إليه ‪ ،‬فسري إليه عبد اهلل بن الزبري جيشاً ‪ ،‬فهزموا جيشه وقتلوه ‪ ،‬وأمري اجليش مصعب بن‬
‫الزبري ‪ ،‬وحتته امرأة أبوها أحد الصحابة ‪ ،‬فدعاها مصعب إىل تكفريه فأبت ‪ ،‬فكتب إىل أخيه‬
‫عبد اهلل يستفتيه فيها ‪ ،‬فكتب إليه ‪ :‬إن مل تربأ منه فاقتلها ‪ .‬فامتنعت ‪ ،‬فقتلها مصعب ‪.‬‬
‫وأمجع العلماء كلهم على كفر املختار ‪-‬مع إقامته شعائر اإلسالم‪ -‬ملا جىن على النبوة ‪.‬‬
‫وإذا كان الصحابة قتلوا املرأة اليت هي من بنات الصحابة ملا امتنعت من تكفريه ‪ ،‬فكيف مبن‬
‫مل يكفر البدو مع إقراره حباهلم ‪ ،‬فكيف مبن زعم أهنم هم أهل اإلسالم ‪ ،‬ومن دعاهم إىل‬
‫اإلسالم هو الكافر ؟ يا ربنا نسألك العفو والعافية ‪.‬‬

‫الدليل الخامس ‪ :‬ما وقع في زمن التابعين ‪:‬‬


‫وذلك قصة اجلعد بن درهم ‪ ،‬وكان من أشهر الناس بالعلم والعبادة ‪ ،‬فلما جحد شيئاً من‬
‫صفات اهلل ‪ -‬مع كوهنا مقالة خفية عند األكثر‪ -‬ضحى به خالد بن عبد اهلل القشري يوم عيد‬
‫األضحى ‪ ،‬فقال ‪ :‬أيها الناس ‪ ،‬ضحوا تقبل اهلل ضحاياكم فإين مضح باجلعد بن درهم ‪ ،‬فإنه‬
‫زعم أن اهلل مل يتخذ إبراهيم خليالً ‪ ،‬ومل يكلم موسى تكليماً ‪ .‬مث نزل فذحبه ‪ ،‬ومل يعلم أن‬
‫أحداً من العلماء أنكر ذلك عليه ‪ ،‬بل ذكر ابن القيم إمجاعهم على استحسانه ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫هلل درك من أخي قربان‬ ‫شكر الضحية كل صاحب سنة‬
‫فإذا كان رجل من أشهر الناس بالعلم والعبادة ‪ ،‬أخذ العلم عن الصحابة ‪ ،‬أمجعوا على‬
‫استحسان قتله ‪ ،‬فأين هذا من اعتقاد أعداء اهلل يف البدو ؟‬

‫الدليل السادس ‪ :‬قصة بني عبيد القداح ‪:‬‬


‫‪27‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫فإهنم ظهروا على رأس املائة الثالثة ‪ ،‬فادعى عبيد اهلل أنه من آل علي بن أيب طالب ‪ ،‬من ذرية‬
‫فاطمة‪ ،‬وتزىي بزي أهل الطاعة واجلهاد يف سبيل اهلل ‪ ،‬فتبعه أقوام من الرببر من أهل املغرب ‪،‬‬
‫وصار له دولة كبرية يف املغرب وألوالده من بعده ‪ ،‬مث ملكوا مصر والشام‪ ،‬وأظهروا شرائع‬
‫اإلسالم ‪ ،‬وإقامة اجلمعة واجلماعة ‪ ،‬ونصبوا القضاة واملفتني ‪ ،‬لكن أظهروا الشرك وخمالفة‬
‫الشريعة‪ ،‬وظهر منهم ما يدل على نفاقهم وشدة كفرهم ‪ ،‬فأمجع أهل العلم ‪ :‬أهنم كفار وأن‬
‫دارهم دار حرب ‪ ،‬مع إظهارهم شعائر اإلسالم ‪.‬‬
‫ويف مصر من العلماء والعباد أناس كثري ‪ ،‬وأكثر أهل مصر مل يدخل معهم فيما أحدثوا من‬
‫الكفر ‪ .‬ومع ذلك ‪ :‬أمجع العلماء على ما ذكرنا ‪ ،‬حىت إن بعض أكابر أهل العلم املعروفني‬
‫بالصالح ‪ ،‬قال ‪ :‬لو أن معي عشرة أسهم لرميت بواحد منهم النصارى احملاربني ‪ ،‬ورميت‬
‫بالتسعة بين عبيد ‪.‬‬
‫وملا كان زمان السلطان حممود بن زنكي أرسل إليهم جيشاً عظيماً بقيادة صالح الدين ‪،‬‬
‫فأخذوا مصر من أيديهم ‪ ،‬ومل يرتكوا جهادهم مبصر ألجل من فيها من الصاحلني ‪.‬‬
‫فاما فتحها السلطان حممود فرح املسلمون بذلك أشد الفرح ‪ ،‬وصنف ابن اجلوزي يف ذلك‬
‫كتابا مساه النصر على مصر ‪.‬‬
‫وأكثر العلماء التصنيف والكالم يف كفرهم ‪ ،‬مع ما ذكرنا من إظهارهم شرائع اإلسالم‬
‫الظاهرة ‪.‬‬
‫فانظر ما بني هذا وبني ديننا األول أن البدو إسالم ‪ ،‬مع معرفتنا مبا هم عليه من الرباءة من‬
‫اإلسالم كله ‪ ،‬إال قول ال إله إال اهلل وال تظن أن أحداً منهم يكفر إال إن انتقل يهودياً أو‬
‫نصرانياً ‪.‬‬
‫فإن آمنت مبا ذكر اهلل ورسوله ‪ ،‬ومبا أمجع عليه العلماء ‪ ،‬وتربأت من دين آبائك يف هذه‬
‫املسألة ‪ ،‬وقلت ‪ :‬آمنت باهلل ومبا أنزل اهلل ‪ ،‬وتربأت مما خالفه باطناً وظاهراً ‪ ،‬خملصاً هلل الدين‬
‫يف ذلك ‪ ،‬وعلم اهلل ذلك من قلبك ‪ ،‬فأبشر ‪ ،‬ولكن اسأل اهلل التثبيت ‪ ،‬واعرف أنه مقلب‬
‫القلوب ‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫الدليل السابع ‪ :‬قصة التتار ‪:‬‬


‫وذلك ‪ :‬أهنم بعدما فعلوا باملسلمني ما فعلوا ‪ ،‬وسكنوا بالد املسلمني ‪ ،‬وعرفوا دين اإلسالم ‪،‬‬
‫استحسنوه وأسلموا ‪ ،‬لكن مل يعملوا مبا جيب عليهم من شرائعه ‪ ،‬وأظهروا أشياء من اخلروج‬
‫عن الشريعة ‪ ،‬لكنهم كانوا يتلفظون بالشهادتني‪ ،‬ويصلون الصلوات اخلمس واجلمعة‬
‫واجلماعة ‪ ،‬وليسوا كالبدو ‪ ،‬ومع هذا كفرهم العلماء ‪ ،‬وقاتلوهم وغزوهم ‪ ،‬حىت أزاهلم اهلل‬
‫عن بلدان املسلمني ‪.‬‬
‫وفيما ذكرنا كفاية ملن هداه اهلل ‪.‬‬
‫وأما من أراد اهلل فتنته ‪ :‬فلو تناطحت اجلبال بني يديه مل ينفعه ذلك ‪.‬‬
‫ولو ذكرنا ما جرى من السالطني والقضاة ‪ ،‬من قتل من أتى بأمور يكفر هبا ‪ -‬ولو كان‬
‫يظهر شعائر اإلسالم ‪ -‬وقامت عليه البينة باستحقاقه للقتل ‪ ،‬مع أن يف هؤالء املقتولني من‬
‫كان من أعلم الناس ‪ ،‬وأزهدهم وأعبدهم يف الظاهر ‪ ،‬مثل احلالج وأمثاله‪ ،‬ومن هو من‬
‫الفقهاء املصنفني ‪ ،‬كالفقيه عمارة ‪.‬‬
‫فلو ذكرنا قصص هؤالء الحتمل جملدات ‪ ،‬وال نعرف فيهم رجالً واحداً بلغ كفره كفر‬
‫البدو الذين يقول عنهم ‪-‬من يزعم إسالمهم‪ :-‬إنه ليس معهم من اإلسالم شعرة إال قول ال‬
‫إله إال اهلل‪ ،‬ولكن من يهد اهلل فهو املهتدي ‪ ،‬ومن يضلل فلن جتد له ولياً مرشداً ‪.‬‬
‫والعجب ‪ :‬أن الكتب اليت بأيديهم ‪ ،‬واليت يزعمون أهنم يعرفوهنا ويعملون هبا ‪ ،‬فيها مسائل‬
‫الردة ‪ .‬ومتام العجب ‪ :‬أهنم يعرفون بعض ذلك ويقرون به ‪ ،‬ويقولون ‪ :‬من أنكر البعث كفر‬
‫‪ ،‬ومن شك فيه كفر ‪ ،‬ومن سب الشرع كفر ‪ ،‬ومن أنكر فرعاً جممعاً عليه كفر ‪ ،‬كل هذا‬
‫يقولونه بألسنتهم ‪.‬‬
‫فإذا كان من أنكر األكل باليمني ‪ ،‬أو أنكر النهي عن إسبال الثياب ‪ ،‬أو أنكر سنة الفجر أو‬
‫الوتر ‪ ،‬فهو كافر ‪ .‬ويصرحون ‪ :‬أن من أنكر اإلسالم كله وكذب به ‪ ،‬واستهزأ مبن صدقه ‪،‬‬
‫فهو أخوك املسلم ‪ ،‬حرام الدم واملال ‪ ،‬ما دام يقول ‪ :‬ال إله إال اهلل مث يكفروننا ‪ ،‬ويستحلون‬

‫‪29‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫دماءنا وأموالنا ‪ ،‬مع أنا نقول ‪ :‬ال إله إال اهلل‪ ،‬فإذا سئلوا عن ذلك ؟ قالوا ‪ :‬من كفر مسلماً‬
‫فقد كفر ‪.‬‬
‫مث مل يكفهم ذلك حىت أفتوا ملن عاهدنا بعهد اهلل ورسوله ‪ :‬أن ينقض العهد وله يف ذلك‬
‫ثواب عظيم ‪ ،‬ويفتون من عنده أمانة لنا ‪ ،‬أو مال يتيم ‪ :‬أنه جيوز له أكل أمانتنا ‪ ،‬ولو كانت‬
‫مال يتيم ‪ ،‬بضاعة عنده أو وديعة ‪ ،‬بل يرسلون الرسائل لدهام بن دواس وأمثاله ‪ :‬إذا حاربوا‬
‫التوحيد ونصروا عبادة األصنام ‪ ،‬يقولون ‪ :‬أنت يا فالن قمت مقام األنبياء ‪ .‬مع إقرارهم أن‬
‫التوحيد ‪ -‬الذين ندعو إليه ‪ ،‬وكفروا به وصدوا الناس عنه ‪ -‬هو دين األنبياء عليهم الصالة‬
‫والسالم ‪ ،‬وأن الشرك ‪-‬الذي هنينا الناس عنه‪ ،‬ورغبوهم هم فيه ‪ ،‬وأمروهم بالصرب على‬
‫آهلتهم‪ : -‬أنه الشرك الذي هنى عنه األنبياء ‪ ،‬ولكن هذه من أكرب آيات اهلل ‪ ،‬فمن مل يفهمها‬
‫فليبك على نفسه ‪ ،‬واهلل سبحانه وتعاىل أعلم ‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫نسب النبي صلى اهلل عليه وسلم‬

‫حممد بن عبد اهلل بن عبد املطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كالب بن مرة بن‬
‫كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزمية بن مدركة بن إلياس‬
‫بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ‪ .‬إىل هنا معلوم الصحة ‪ .‬وما فوق عدنان خمتلف فيه ‪.‬‬
‫وال خالف أن عدنان من ولد إمساعيل ‪ ،‬وامساعيل هو الذبيح على القول الصواب ‪ ،‬والقول‬
‫بأنه إسحاق باطل ‪.‬‬
‫وال خالف أنه صلى اهلل عليه وسلم ولد مبكة عام الفيل ‪ ،‬وكانت وقعة الفيل تقدمة قدمها اهلل‬
‫لنبيه وبيته ‪ ،‬وإال فأهل الفيل نصارى أهل كتاب ‪ ،‬دينهم خري من دين أهل مكة ‪ ،‬ألهنم عباد‬
‫أوثان ‪ ،‬فنصرهم اهلل نصراً ال صنع للبشر فيه ‪ ،‬تقدمة للنيب صلى اهلل عليه وسلم الذي أخرجته‬
‫قريش من مكة ‪ ،‬وتعظيماً للبلد احلرام ‪.‬‬

‫قصة الفيل ‪:‬‬


‫وكان سبب قصة أصحاب الفيل ‪-‬على ما ذكر حممد بن إسحاق ‪ -‬أن أبرهة بن الصباح‬
‫كان عامالً للنجاشي ملك احلبشة على اليمن ‪ ،‬فرأى الناس يتجهزون أيام املوسم إىل مكة ‪-‬‬
‫شرفها اهلل ‪ -‬فبىن كنيسة بصنعاء ‪ ،‬وكتب إىل النجاشي ‪ :‬إين بنيت لك كنيسة مل ينب مثلها ‪،‬‬
‫ولست منتهياً حىت أصرف إليها حج العرب‪ ،‬فسمع به رجل من بين كنانة ‪ ،‬فدخلها ليالً ‪،‬‬
‫فلطخ قبلتها بالعذرة ‪ ،‬فقال أبرهة ‪ :‬من الذي اجرتأ على هذا ؟ قيل ‪ :‬رجل من أهل ذلك‬
‫البيت ‪ ،‬مسع بالذي قلت ‪ .‬فحلف أبرهة ليسرين إىل الكعبة حىت يهدمها ‪ ،‬وكتب إىل‬
‫النجاشي خيربه بذلك ‪ ،‬فسأله أن يبعث إليه بفيله ‪ ،‬وكان له فيل يقال له ‪ :‬حممود ‪ ،‬مل ير مثله‬
‫عظماً وجسماً وقوة ‪ ،‬فبعث به إليه ‪ ،‬فخرج أبرهة سائراً إىل مكة ‪ ،‬فسمعت العرب بذلك‬
‫فأعظموه ‪ ،‬ورأوا جهاده حقاً عليهم ‪.‬‬
‫فخرج ملك من ملوك اليمن ‪ ،‬يقال له ‪ :‬ذو نفر ‪ ،‬فقاتله ‪ ،‬فهزمه أبرهة وأخذه أسرياً ‪ ،‬فقال‬
‫‪ :‬أيها امللك استبقين خرياً لك ‪ .‬فاستحياه وأوثقه ‪.‬‬
‫‪31‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وكان أبرهة رجالً حليماً ‪ ،‬فسار حىت إذا دنا من بالد خثعم خرج إليه نفيل بن حبيب‬
‫اخلثعمي ‪ ،‬ومن اجتمع إليه من قبائل العرب ‪ ،‬فقاتلوهم فهزمهم أبرهة ‪ ،‬فأخذ نفيالً ‪ ،‬فقال له‬
‫‪ :‬أيها امللك ‪ ،‬إنين دليلك بأرض العرب ‪ ،‬وهاتان يداي على قومي بالسمع والطاعة ‪،‬‬
‫فاستبقين خرياً لك ‪ .‬فاستبقاه ‪ ،‬وخرج معه يدله على الطريق ‪.‬‬
‫فلما مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب يف رجال من ثقيف ‪ ،‬فقال له ‪ :‬أيها امللك !‬
‫حنن عبيدك ‪ ،‬وحنن نبعث معك من يدلك ‪ ،‬فبعثوا معه بأيب رغال موىل هلم ‪ ،‬فخرج حىت إذا‬
‫كان باملغمس مات أبو رغال ‪ ،‬وهو الذي يرجم قربه ‪ .‬وبعث أبرهة رجالً من احلبشة ‪-‬يقال‬
‫له ‪ :‬األسود بن مفصود‪ -‬على مقدمة خيله وأمر بالغارة على نعم الناس ‪ ،‬فجمع األسود إليه‬
‫أموال احلرم ‪ ،‬وأصاب لعبد املطلب مائيت بعري ‪.‬‬
‫مث بعث رجالً من محري إىل أهل مكة ‪ ،‬فقال ‪ :‬أبلغ شريفها أنين مل آت لقتال ‪ ،‬بل جئت‬
‫ألهدم البيت ‪ .‬فانطلق ‪ ،‬فقال لعبد املطلب ذلك ‪ .‬فقال عبد املطلب ‪ :‬ما لنا به يدان ‪،‬‬
‫سنخلي بينه وبني ما جاء له ‪ ،‬فإن هذا بيت اهلل وبيت خليله إبراهيم ‪ ،‬فإن مينعه فهو بيته‬
‫وحرمه ‪ ،‬وإن خيلي بينه وبني ذلك فواهلل ما لنا به من قوة ‪ .‬قال ‪ :‬فانطلق معي إىل امللك‬
‫‪-‬وكان ذو نفر صديقاً لعبد املطلب‪ -‬فأتاه ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا ذا نفر ‪ ،‬هل عندك غناء فيما نزل بنا‬
‫؟ فقال ‪ :‬ما غناء رجل أسري ال يأمن أن يقتل بكرة أو عشياً ‪ ،‬ولكن سأبعث إىل أنيس سائس‬
‫الفيل ‪ ،‬فإنه يل صديق ‪ ،‬فأسأله أن يعظم خطرك عند امللك ‪ ،‬فأرسل إليه ‪ ،‬فقال ألبرهة ‪ :‬إن‬
‫هذا سيد قريش يستأذن عليك‪ ،‬وقد جاء غري ناصب لك ‪ ،‬وال خمالف ألمرك ‪ ،‬وأنا أحب أن‬
‫تأذن له ‪.‬‬
‫وكان عبد املطلب رجالً جسيماً وسيماً ‪ ،‬فلما رآه أبرهة أعظمه وأكرمه ‪ ،‬وكره أن جيلس‬
‫معه على سريره ‪ ،‬وأن جيلس حتته ‪ ،‬فهبط إىل البساط ‪ ،‬فدعاه فأجلسه معه ‪ ،‬فطلب منه أن‬
‫يرد عليه مائيت البعري اليت أصاهبا من ماله ‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫فقال أبرهة لرتمجانه ‪ :‬قل له ‪ :‬إنك كنت أعجبتين حني رأيتك ‪ ،‬ولقد زهدت فيك ‪ .‬قال ‪ :‬مل‬
‫؟ قال ‪ :‬جئت إىل بيت ‪-‬هو دينك ودين آبائك ‪ ،‬وشرفكم وعصمتكم‪ -‬ألهدمه ‪ ،‬فلم‬
‫تكلمين فيه ‪ ،‬وتكلمين يف مائيت بعري ؟ قال ‪ :‬أنا رب اإلبل ‪ ،‬والبيت له رب مينعه منك‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬ما كان ليمنعه مين ‪ .‬قال ‪ :‬فأنت وذاك ‪ .‬فأمر بإبله فردت عليه ‪ ،‬مث خرج ‪ .‬وأخرب‬
‫قريشاً اخلرب ‪ ،‬وأمرهم أن يتفرقوا يف الشعاب ‪ ،‬ويتحرزوا يف رؤوس اجلبال ‪ ،‬خوفاً عليهم من‬
‫معرة اجليش ‪ ،‬ففعلوا ‪ .‬وأتى عبد املطلب البيت ‪ ،‬فأخذ حبلقة الباب ‪ ،‬وجعل يقول ‪:‬‬
‫يا رب فامنع منهمو محاكا‬ ‫يا رب ال أرجو هلم سواكا‬
‫فامنعهمو أن خيربوا قراكا‬ ‫إن عدو البيت من عاداكا‬
‫وقال أيضاً ‪:‬‬
‫وحالله فامنع حاللك‬ ‫ال هم إن املرء مينع رحله‬
‫غدراً حمالـ ــك‬ ‫اليغلنب صليبهم وحماهلم‬
‫كي يسبـوا عيـالك‬ ‫جروا مجوعهم هم والفيـل‬
‫فأمـر مـا بـدا لك‬ ‫إن كنت تـاركهم وكعبتنا‬
‫مث توجه يف بعض تلك الوجوه مع قومه ‪ ،‬وأصبح أبرهة باملغمس قد هتيأ للدخول ‪ ،‬وعبأ‬
‫جيشه ‪ ،‬وهيأ فيله ‪ ،‬فأقبل نفيل إىل الفيل ‪ ،‬فأخذ بإذنه ‪ ،‬فقال ‪ :‬أبرك حممود فإنك يف بلد اهلل‬
‫احلرام ‪ .‬فربك الفيل ‪ ،‬فبعثوه فأىب ‪ .‬فوجهوه إىل اليمن ‪ ،‬فقام يهرول ‪ ،‬ووجهوه إىل الشام‬
‫ففعل مثل ذلك ‪ ،‬ووجهوه إىل املشرق ففعل ذلك ‪ ،‬فصرفوه إىل احلرم فربك ‪ .‬وخرج نفيل‬
‫يشتد حىت صعد اجلبل ‪ ،‬فأرسل اهلل طرياً من قبل البحر ‪ ،‬مع كل طائر ثالثة أحجار ‪:‬‬
‫حجرين يف رجليه وحجراً يف منقاره ‪ ،‬فلما غشيت القوم أرسلتها عليهم ‪ ،‬فلم تصب تلك‬
‫احلجارة أحداً إال هلك ‪ ،‬وليس كل القوم أصابت ‪ ،‬فخرج البقية هاربني يسألون عن نفيل ‪،‬‬
‫ليدهلم على الطريق إىل اليمن‪ ،‬فماج بعضهم يف بعض ‪ ،‬يتساقطون بكل طريق ‪ ،‬ويهلكون‬
‫على كل منهل ‪ .‬وبعث اهلل على أبرهة داء يف جسده‪ ،‬فجعلت تساقط أنامله ‪ ،‬حىت انتهى إىل‬
‫صنعاء وهو مثل الفرخ ‪ ،‬وما مات حىت انصدع صدره عن قلبه مث هلك ‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫رجعنا إىل سريته صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬

‫وفاة عبد اهلل والد رسول اهلل ‪:‬‬


‫قد اختلف يف وفاة أبيه ‪ :‬هل تويف بعد والدته أو قبلها ؟ األكثر ‪ :‬على أنه تويف وهو محل ‪.‬‬
‫وال خالف أن أمه ماتت بني مكة واملدينة باألبواء ‪ ،‬منصرفها من املدينة من زيارة أخواله ‪،‬‬
‫ومل يستكمل إذ ذاك ست سنني ‪.‬‬
‫فكفله جده عبد املطلب ‪ ،‬ورق عليه رقة مل يرقها على أوالده ‪ ،‬فكان ال يفارقه ‪ ،‬وما كان‬
‫أحد من ولده جيلس على فراشه ‪-‬إجالالً له‪ -‬إال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬
‫وقدم مكة قوم من بين مدجل من القافة ‪ ،‬فلما نظروا إليه قالوا جلده ‪ :‬احتفظ به ‪ ،‬فلم جند‬
‫قدماً أشبه بالقدم الذي يف املقام من قدمه ‪ ،‬فقال أليب طالب ‪ :‬امسع ما يقول هؤالء ‪،‬‬
‫واحتفظ به ‪.‬‬
‫وتويف جده يف السنة الثامنة من مولده ‪ ،‬وأوصى به إىل أيب طالب ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إنه قال له ‪:‬‬
‫مبفرد بعـد أبيـه فـرد‬ ‫أوصيك يا عبد مناف بعدي‬
‫من أحـشـائها والكـبد‬ ‫وكنت كاألم يف الوجد تدنيه‬
‫لرفع ضيم ولشد عضد‬ ‫فأنت من أرجى بين عندي‬

‫عبد المطلب جد رسول اهلل ‪:‬‬


‫قال ابن إسحاق ‪ :‬وكان عبد املطلب من سادات قريش ‪ ،‬حمافظاً على العهود ‪ ،‬متخلقاً‬
‫مبكارم األخالق ‪ ،‬حيب املساكني ‪ ،‬ويقوم يف خدمة احلجيج ‪ ،‬ويطعم يف األزمات ‪ ،‬ويقمع‬
‫الظاملني ‪ ،‬وكان يطعم حىت الوحوش والطري يف رؤوس اجلبال ‪ ،‬وكان له أوالد أكربهم‬
‫احلارث ‪ ،‬تويف يف حياة أبيه ‪ ،‬وأسلم من أوالد احلارث ‪ :‬عبيدة قتل ببدر ‪ ،‬وربيعة ‪ ،‬وأبو‬
‫سفيان ‪ ،‬وعبد اهلل ‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫ومنهم ‪ :‬الزبري بن عبد املطلب شقيق عبد اهلل ‪ ،‬وكان رئيس بين هاشم وبين املطلب يف حرب‬
‫الفجار ‪ ،‬شريفاً شاعراً ‪ ،‬ومل يدرك اإلسالم ‪ .‬وأسلم من أوالده ‪ .‬عبد اهلل واستشهد‬
‫بأجنادين ‪ ،‬وضباعة ‪ ،‬وجمل ‪ ،‬وصفية ‪ ،‬وعاتكة ‪.‬‬
‫وأسلم منهم محزة بن عبد املطلب ‪ ،‬والعباس ‪.‬‬
‫ومنهم ‪ :‬أبو هلب مات عقيب بدر ‪ ،‬وله من الولد ‪ :‬عتيبة الذي دعا عليه النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم فقتله السبع ‪ .‬وله عتبة ‪ ،‬ومعتب‪ ،‬أسلما يوم الفتح ‪ .‬ومن بناته ‪ :‬البيضاء أم حكيم ‪،‬‬
‫تزوجها كرز بن ربيعة بن حبيب بن عبد مشس ‪ ،‬فولدت له عامراً وأروى‪ ،‬فتزوج أروى‬
‫عفان بن أيب العاص بن أمية‪ ،‬فولدت له عثمان ‪ ،‬مث خلف عليها عقبة بن أيب معيط ‪ ،‬فولدت‬
‫له الوليد بن عقبة‪ ،‬وعاشت إىل خالفة ابنها عثمان ‪ ،‬ومنهن ‪ :‬برة بنت عبد املطلب ‪ ،‬أم أيب‬
‫سلمة بن عبد األسد املخزومي ‪.‬‬
‫ومنهن ‪ :‬عاتكة أم عبد اهلل بن أيب أمية ‪ ،‬وهي صاحبة املنام قبل يوم بدر ‪ ،‬واختلف يف‬
‫إسالمها ‪.‬‬
‫ومنهن ‪ :‬صفية أم الزبري بن العوام ‪ ،‬أسلمت وهاجرت ‪.‬‬
‫وأروى أم آل جحش ‪ -‬عبد اهلل وأيب أمحد ‪ ،‬وعبيد اهلل وزينب ‪ ،‬ومحنة ‪.‬‬
‫وأم عبد املطلب ‪ :‬هي سلمى بنت عمرو بن زيد من بين النجار ‪ ،‬تزوجها أبوه هاشم بن عبد‬
‫مناف ‪ ،‬فخرج إىل الشام ‪ -‬وهي عند أهلها ‪ ،‬قد محلت بعبد املطلب‪ -‬فمات بغزة ‪ .‬فرجع‬
‫أبو رهم بن عبد العزى وأصحابه إىل املدينة برتكته ‪ .‬وولدت امرأته سلمى ‪ :‬عبد املطلب ‪،‬‬
‫ومسته شيبة احلمد ‪ ،‬فاقام يف أخواله مكرماً ‪ .‬فبينما هو يناضل الصبيان ‪ ،‬فيقول ‪ :‬أنا ابن‬
‫هاشم ‪ ،‬مسعه رجل من قريش ‪ ،‬فقال لعمه املطلب ‪ :‬إين مررت بدور بين قيلة ‪ ،‬فرأيت غالماً‬
‫يعتزي إىل أخيك ‪ ،‬وما ينبغي ترك مثله يف الغربة ‪ ،‬فرحل إىل املدينة يف طلبه ‪ ،‬فلما رآه‬
‫فاضت عيناه ‪ ،‬وضمه إليه ‪ ،‬وأنشد شعراً ‪:‬‬
‫أبناءها حوله بالنبل تنتضل‬ ‫عرفت شيبة والنجار قد جعلت‬
‫فـفاض مين عليه وابل هطـل‬ ‫عرفت أجــالده فيـنا وشــيمتـه‬

‫‪35‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫فأردفه على راحلته ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا عم ‪ ،‬ذلك إىل الوالدة ‪ .‬فجاء إىل أمه ‪ ،‬فسأهلا أن ترسل به‬
‫معه ‪ ،‬فامتنعت ‪ .‬فقال هلا ‪ :‬إمنا ميضي إىل ملك أبيه ‪ ،‬وإىل حرم اهلل ‪ .‬فأذنت له ‪ .‬فقدم به‬
‫مكة ‪ ،‬فقال الناس ‪ :‬هذا عبد املطلب ‪ ،‬فقال ‪ :‬وحيكم إمنا هو ابن أخي هاشم ‪.‬‬
‫فأقام عنده حىت ترعرع ‪ ،‬فسلم إليه ملك هاشم من أمر البيت ‪ ،‬والرفادة‪ ،‬والسقاية ‪ ،‬وأمر‬
‫احلجيج ‪ ،‬وغري ذلك ‪.‬‬
‫وكان املطلب شريفاً مطاعاً جواداً ‪ ،‬وكانت قريش تسميه الفياض لسخائه ‪ ،‬وهو الذي عقد‬
‫احللف بني قريش وبني النجاشي ‪ ،‬وله من الولد ‪ :‬احلارث ‪ ،‬وخمرمة ‪ ،‬وعباد ‪ ،‬وأنيس ‪ ،‬وأبو‬
‫عمر ‪ ،‬وأبو رهم ‪ ،‬وغريهم ‪.‬‬
‫وملا مات وثب نوفل بن عبد مناف على أركاح شيبة ‪ ،‬فغصبه إياها ‪ ،‬فسأل رجاالً من قريش‬
‫النصرة على عمه ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬ال ندخل بينك وبني عمك ‪ .‬فكتب إىل أخواله من بين النجار‬
‫أبياتاً ‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫هل من رسول إىل النجار أخوايل‬ ‫يا طــول ليلـي ألحزاين وأشغــايل‬
‫ومالك عصمة احلريان عن حـايل‬ ‫بنـي عـدي ودينـار ومازنـها‬
‫ظلم عزيزاً منيـعاً ناعـم البـال‬ ‫قد كنت فيهم وما أخشى ظالمة ذي‬
‫لذاك مطلب عمـي برتحـالـي‬ ‫حىت ارحتلت إىل قومي وأزعجين‬
‫انبـرى نوفـل يعـدو على مـايل‬ ‫فغاب مطلب يف قعـر مظـلمـة مث‬
‫وغاب أخـواـله عنـه بال والـي‬ ‫لـمـا رأى رجالً غابت عمومته‬
‫ال ختـذلوه فمـا أنتم خبـذايل‬ ‫فاستنفروا وامنعـوا ضيم ابن أختكم‬
‫فلما وقف خاله أبو سعد بن عدي بن النجار على كتابه بكى ‪ ،‬وسار من املدينة يف مثانني‬
‫راكباً ‪ ،‬حىت قدم مكة‪ .‬فنزل باألبطح‪ ،‬فتلقاه عبد املطلب ‪ ،‬وقال ‪ :‬املنزل يا خال ‪ ،‬فقال ‪ :‬ال‬
‫واهلل حىت ألقى نوفالً ‪ ،‬فقال ‪ :‬تركته باحلجر جالساً يف مشايخ قومه ‪ ،‬فأقبل أبو سعد حىت‬
‫وقف عليهم ‪ ،‬فقام نوفل قائماً ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا أبا سعد ‪ ،‬أنعم صباحاً ‪ .‬فقال ‪ :‬ال أنعم اهلل لك‬
‫صباحاً ‪ ،‬وسل سيفه ‪ ،‬وقال ‪ :‬ورب هذا البيت ‪ ،‬لئن مل ترد على ابن أخيت أركاحه ألمكنن‬

‫‪36‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫منك هذا السيف ‪ .‬فقال ‪ :‬رددهتا عليه ‪ .‬فأشهد عليه مشايخ قريش ‪ .‬مث نزل على شيبة ‪،‬‬
‫فأقام عنده ثالثاً ‪ ،‬مث اعتمر ورجع إىل املدينة ‪ ،‬فقال عبد املطلب ‪:‬‬
‫ودينـار بن تيـم اهلل ضيـمـي‬ ‫ويأىب مازن وأبـو عدي‬
‫وكانوا يف انتساب دون قومي‬ ‫هبم رد اإلله علي ركحي‬
‫فلما جرى ذلك حالف نوفل بين عبد مشس بن عبد مناف على بين هاشم ‪ ،‬وحالفت بنو‬
‫هاشم خزاعة على بين عبد مشس ونوفل‪ ،‬فكان ذلك سبباً لفتح مكة ‪ ،‬كما سيأيت ‪.‬‬
‫فلما رأت خزاعة نصر بين النجار لعبد املطلب ‪ ،‬قالوا ‪ :‬حنن ولدناه كما ولدمتوه ‪ ،‬فنحن أحق‬
‫بنصره‪ ،‬وذلك أن أم عبد مناف منهم‪ .‬فدخلوا دار الندوة وحتالفوا وكتبوا بينهم كتاباً ‪.‬‬

‫عبد اهلل والد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪:‬‬
‫وأما عبد اهلل ‪ ،‬والد النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬فهو الذبيح ‪ .‬وسبب ذلك ‪ :‬أن عبد املطلب‬
‫أمر يف املنام حبفر زمزم ‪ ،‬ووصف له موضعها ‪ .‬وكانت جرهم قد غلبت آل إمساعيل على‬
‫مكة ‪ ،‬وملكوها زماناً طويالً ‪ ،‬مث أفسدوا يف حرم اهلل ‪ .‬فوقع بينهم وبني خزاعة حرب ‪،‬‬
‫وخزاعة من قبائل اليمن ‪ ،‬من أهل سبأ‪ ،‬ومل يدخل بينهم بنو إمساعيل ‪ .‬فغلبتهم خزاعة ‪،‬‬
‫ونفت جرمهاً من مكة ‪ ،‬وكانت جرهم قد دفنت احلجر األسود ‪ ،‬واملقام وبئر زمزم ‪ .‬وظهر‬
‫بعد ذلك قصي بن كالب على مكة ‪ ،‬ورجع إليه مرياث قريش ‪ ،‬فأنزل بعضهم داخل مكة ‪-‬‬
‫وهم قريش األباطح ‪ -‬وبعضهم خارجها ‪ -‬وهم قريش الظواهر ‪ -‬فبقيت زمزم مدفونة إىل‬
‫عصر عبد املطلب ‪ .‬فرأى يف املنام موضعها ‪ ،‬فقام حيفر ‪ ،‬فوجد فيها سيوفاً مدفونة وحلياً‪،‬‬
‫وغزاالً من ذهب مشنفاً بالدر‪ .‬فعلقه عبد املطلب على الكعبة ‪ ،‬وليس مع عبد املطلب إال‬
‫ولده احلارث ‪ ،‬فنازعته قريش ‪ ،‬وقالوا له ‪ :‬أشركنا ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما أنا بفاعل ‪ ،‬هذا أمر‬
‫خصصت به ‪ ،‬فاجعلوا بيين وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه ‪.‬‬
‫فنذر حينئذ عبد املطلب ‪ :‬لئن آتاه اهلل عشرة أوالد ‪ ،‬وبلغوا أن مينعوه ‪ :‬لينحرن أحدهم عند‬
‫الكعبة ‪ ،‬فلما متوا عشرة‪ ،‬وعرف أهنم مينعونه أخربهم بنذره فأطاعوه ‪ .‬وكتب كل منهم امسه‬
‫يف قدح ‪ ،‬وأعطوها القداح قيم هبل ‪-‬وكان الذي جييل القداح‪ -‬فخرج القدح على عبد اهلل‬
‫‪37‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫‪ ،‬وأخذ عبد املطلب املدية ليذحبه ‪ .‬فقامت إليه قريش من ناديها فمنعوه ‪ .‬فقال ‪ :‬كيف أصنع‬
‫بنذري ؟ فأشاروا عليه ‪ :‬أن ينحر مكانه عشراً من اإلبل ‪ .‬فأقرع بني عبد اهلل وبينها ‪،‬‬
‫فوقعت القرعة عليه ‪ ،‬فاغتم عبد املطلب ‪ ،‬مث مل يزل يزيد عشراً عشراً ‪ ،‬وال تقع القرعة إال‬
‫عليه ‪ ،‬إىل أن بلغ مائة ‪ .‬فوقعت القرعة على اإلبل ‪ ،‬فنحرت عنه ‪ ،‬فجرت سنة ‪.‬‬
‫وروي "عن النيب صلى اهلل عليه وسلم أنه قال ‪ :‬أنا ابن الذبيحني" ‪ ،‬يعين ‪ :‬إمساعيل عليه‬
‫السالم وأباه عبد اهلل ‪.‬‬
‫مث ترك عبد املطلب اإلبل ال يرد عنها إنساناً وال سبعاً ‪ ،‬فجرت الدية يف قريش والعرب مائة‬
‫من اإلبل ‪ ،‬وأقرها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف اإلسالم ‪ .‬وقالت صفية بنت عبد‬
‫املطلب ‪:‬‬
‫سقيا اخلليل وابنه املكرم‬ ‫حنن حفرنا للحجيج زمزم‬
‫سقم وطعام مطعم‬ ‫جربيـل الذي لـم يذمم شفاء‬

‫أبو طالب عم رسول اهلل ‪:‬‬


‫وأما أبو طالب ‪ :‬فهو الذي توىل تربية رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من بعد جده كما تقدم‬
‫‪ ،‬ورق عليه رقة شديدة ‪ ،‬وكان يقدمه على أوالده ‪.‬‬
‫قال الواقدي ‪ :‬قام أبو طالب ‪-‬من سنة مثان من مولد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل‬
‫السنة العاشرة من النبوة ثال وأربعني‪ -‬حيوطه ويقوم بأمره ‪ ،‬ويذب عنه ‪ ،‬ويلطف به ‪.‬‬
‫وقال أبو حممد بن قدامة ‪ :‬كان يقر بنبوة النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وله يف ذلك أشعار ‪.‬‬
‫منها ‪:‬‬
‫لؤياً وخصا من لوي بين كعـب‬ ‫أال أبلغا عين على ذات بيننا‬
‫نبياً كموسى خط يف أول الكتب‬ ‫بأنا وجدنا يف الكتاب حممداً‬
‫وال خري ممن خصه اهلل باحلـب‬ ‫وأن عليه يف العباد حمبة‬
‫ومنها ‪:‬‬
‫وزيراً ملوسى واملسيح ابن مرمي‬ ‫تعلم خيار الناس أن حممداً‬
‫‪38‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫فإن طريق احلق ليس مبظلم‬ ‫فال جتعلوا هلل نداً وأسلموا‬
‫ولكنه أىب أن يدين بذلك خشية العار ‪ ،‬وملا حضرته الوفاة ‪ :‬دخل عليه رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ‪-‬وعنده أبو جهل ‪ ،‬وعبد اهلل بن أيب أمية‪ -‬فقال ‪ :‬يا عم ! قل ‪ :‬ال إله إال اهلل ‪،‬‬
‫كلمة أحاج لك هبا عند اهلل‪ ،‬فقاال له ‪ :‬أترغب عن ملة عبد املطلب ؟ فلم يزل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم يرددها عليه ‪ ،‬ومها يرددان عليه حىت كان آخر كلمة قاهلا ‪ :‬هو على ملة عبد املطلب‪،‬‬
‫فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬ألستغفرن لك ما مل أنه عنك‪ ،‬فأنزل اهلل تعاىل ‪ " :‬ما‬
‫كان للنيب والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركني ولو كانوا أويل قرىب من بعد ما تبني هلم أهنم‬
‫أصحاب اجلحيم " ‪ ،‬ونزل قوله تعاىل ‪ " :‬إنك ال هتدي من أحببت ولكن اهلل يهدي من يشاء‬
‫" اآلية ‪.‬‬
‫قد ابن إسحاق ‪ :‬وقد رثاه ولده علي بأبيات ‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫يـذكرين شجـواً عظــيماً جمددا‬ ‫أرقت لطري آخر الليل غردا‬
‫جواداً إذا ما أصدر األمر أوردا‬ ‫أبا طالب مأوى الصعاليك ذا الندى‬
‫ولســت أرى حياً يكون خملداً‬ ‫فأمست قريش يفرحون مبــوته‬
‫ستوردهم يوماً من الغي موردا‬ ‫أزادوا أموراً زيفتها حلومهم‬
‫وأن يفرتى قدماً عليه وجيحدا‬ ‫يرجـون تكذيب النيب وقتله‬
‫صدور العوايل واحلسام املهندا‬ ‫كذبتم وبيت اهلل حىت نذيقكم‬
‫خلف أبو طالب أربعة ذكور وابنتني ‪ .‬فالذكور ‪ :‬طالب ‪ ،‬وعقيل ‪ ،‬وجعفر ‪ ،‬وعلي ‪ ،‬وبني‬
‫كل واحد عشر سنني ‪ .‬فطالب أسنهم ‪ ،‬مث عقيل ‪ ،‬مث جعفر ‪ ،‬مث علي ‪.‬‬
‫فأما طالب ‪ :‬فأخرجه املشركون يوم بدر كرهاً ‪ ،‬فلما اهنزم الكفار طلب ‪ ،‬فلم يوجد يف‬
‫القتلى ‪ ،‬وال يف األسرى ‪ ،‬وال رجع إىل مكة ‪ ،‬وليس له عقب ‪.‬‬
‫وأما عقيل ‪ :‬فأسر ذلك اليوم ‪ ،‬ومل يكن له مال ‪ .‬ففداه عمه العباس ‪ ،‬مث رجع إىل مكة ‪.‬‬
‫فأقام هبا إىل السنة الثامنة ‪ ،‬مث هاجر إىل املدينة ‪ .‬فشهد مؤتة مع أخيه جعفر ‪ ،‬وهو الذي قال‬
‫فيه النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬وهل ترك لنا عقيل من منزل" ‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫واستمرت كفالة أيب طالب لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ -‬كما ذكرنا ‪. -‬‬
‫فلما بلغ اثنيت عشرة سنة ‪-‬وقيل ‪ :‬تسعاً‪ -‬خرج به أبو طالب إىل الشام يف جتارة ‪ ،‬فرآه حبريى‬
‫الراهب ‪ ،‬وأمر عمه أن ال يقدم به الشام ‪ ،‬خوفاً عليه من اليهود ‪ ،‬فبعثه عمه مع بعض غلمانه‬
‫إىل املدينة ‪.‬‬
‫ووقع يف الرتمذي ‪ :‬إنه بعث معه بالالً ‪ ،‬وهو غلط واضح ‪ .‬فإن بالالً إذ ذاك لعله مل يكن‬
‫موجوداً ‪.‬‬

‫خروجه إلى الشام وزواجه خديجة ‪:‬‬


‫فلما بلغ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مخساً وعشرين سنة ‪ :‬خرج إىل الشام يف جتارة‬
‫خلدجية رضي اهلل عنها ‪ ،‬ومعه ميسرة غالمها ‪ ،‬فوصل بصرا ‪.‬‬
‫مث رجع فتزوج عقب رجوعه خدجية بنت خويلد ‪ .‬وهي أول امرأة تزوجها ‪ ،‬وأول امرأة‬
‫ماتت من نسائه ‪ ،‬ومل ينكح عليها غريها ‪ .‬وأمره جربيل ‪" :‬أن يقرأ عليها السالم من رهبا‬
‫ويبشرها ببيت يف اجلنة من قصب" ‪.‬‬

‫تحنثه في غار حراء ‪:‬‬


‫مث حبب إليه اخلالء ‪ ،‬والتعبد لربه ‪ ،‬فكان خيلو بغار حراء يتعبد فيه ‪ .‬وبغضت إليه األوثان‬
‫ودين قومه ‪ ،‬فلم يكن شئ أبغض إليه من ذلك ‪ .‬وأنبته اهلل نباتاً حسناً ‪ ،‬حىت كان أفضل‬
‫قومه مروءة ‪ ،‬وأحسنهم خلقاً ‪ ،‬وأعزهم جواراً ‪ ،‬وأعظمهم حلماً ‪ ،‬وأصدقهم حديثاً ‪،‬‬
‫وأحفظهم ألمانة ‪ .‬حىت مساه قومه األمني ملا مجع اهلل فيه من األحوال الصاحلة ‪ ،‬واخلصال‬
‫الكرمية املرضية ‪.‬‬
‫بناء الكعبة ‪:‬‬
‫وملا بلغ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مخساً وثالثني سنة ‪ :‬قامت قريش يف بناء الكعبة حني‬
‫تضعضعت ‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫قال أهل السري ‪ :‬كان أمر البيت ‪-‬بعد إمساعيل عليه السالم‪ -‬إىل ولده ‪ .‬مث غلبت جرهم عليه‬
‫‪ ،‬فلم يزل يف أيديهم حىت استحلوا حرمته ‪ ،‬وأكلوا ما يهدى إليه ‪ ،‬وظلموا من دخل مكة ‪،‬‬
‫مث وليت خزاعة البيت بعدهم ‪ ،‬إال أنه كان إىل قبائل مضر ثالث خالل ‪ :‬اإلجازة بالناس من‬
‫عرفة يوم احلج إىل مزدلفة ‪ ،‬جتيزهم صوفة ‪.‬‬
‫والثانية ‪ :‬اإلفاضة من مجع ‪ ،‬غداة النحر إىل مىن ‪ .‬وكان ذلك إىل يزيد بن عدوان ‪ ،‬وكان‬
‫آخر من ويل ذلك منهم أبو سيارة ‪.‬‬
‫والثالثة ‪ :‬إنساء األشهر احلرم ‪ .‬وكان إىل رجل من بين كنانة يقال له حذيفة ‪ ،‬مث صار إىل‬
‫جنادة بن عوف ‪.‬‬
‫قال ابن إسحاق ‪ :‬وملا بلغ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مخساً وثالثني سنة ‪ ،‬مجعت قريش‬
‫لبنيان الكعبة ‪ ،‬وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ‪ ،‬ويهابون هدمها ‪ ،‬وإمنا كانت رضماً فوق‬
‫القامة ‪ .‬فأرادوا رفعها وتسقيفها ‪ .‬وذلك أن قوماً سرقوا كنز الكعبة ‪ ،‬وكان يف بئر يف جوف‬
‫الكعبة ‪ ،‬وكان البحر قد رمى سفينة إىل جدة لرجل من جتار الروم ‪ ،‬فتحطمت فأخذوا‬
‫خشبها فأعدوه لسقفها ‪ .‬وكان مبكة رجل قبطي جنار ‪ ،‬فهيأ هلم بعض ما كان يصلحها ‪،‬‬
‫وكانت حية خترج على بئر الكعبة اليت كان يطرح فيه ما يهدى هلا كل يوم ‪ ،‬فتتشرق على‬
‫جدار الكعبة ‪ ،‬وكانت مما يهابون ‪ ،‬وذلك أنه كان ال يدنو منها أحد إال أحزألت وكشت‬
‫وفتحت فاها ‪ .‬فبينما هي ذات يوم تتشرق على جدار الكعبة ‪ ،‬بعث اهلل إليها طائراً‬
‫فاختطفها ‪ ،‬فذهب هبا ‪ .‬فقالت قريش ‪ :‬إنا لنرجو أن يكون اهلل قد رضي ما أردنا ‪ ،‬عندنا‬
‫عامل رفيق ‪ ،‬وعندنا خشب ‪ ،‬وقد كفانا اهلل احلية ‪.‬‬
‫فلما أمجعوا أمرهم يف هدمها وبنائها ‪ .‬قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ املخزومي فتناول من‬
‫الكعبة حجراً ‪ ،‬فوثب من يده حىت رجع إىل موضعه ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا معشر قريش ! ال تدخلوا يف‬
‫بنياهنا من كسبكم إال طيباً ‪ ،‬ال يدخل فيها مهر بغي ‪ ،‬وال بيع ربا ‪ ،‬وال مظلمة أحد من‬
‫الناس ‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫مث إن قريشاً جتزأت الكعبة ‪ .‬فكان شق الباب ‪ :‬لبين عبد مناف وزهرة ‪ .‬وما بني الركن‬
‫األسود واليماين ‪ :‬لبين خمزوم ‪ ،‬وقبائل من قريش انضافت إليهم ‪ .‬وكان ظهر الكعبة ‪ :‬لبين‬
‫مجح وبين سهم ‪ .‬وكان شق احلجر ‪ :‬لبين عبد الدار ‪ ،‬ولبين أسد بن عبد العزى ‪ ،‬ولبين عدي‬
‫‪ ،‬وهو احلطيم ‪.‬‬
‫مث إن الناس هابوا هدمها ‪ ،‬فقال الوليد بين املغرية ‪ :‬أنا أبدؤكم يف هدمها ‪ ،‬فأخذ املعول ‪ ،‬مث‬
‫قام عليها ‪ ،‬وهو يقول ‪ :‬اللهم ال ترع ‪-‬أو ‪ :‬مل نزغ‪ -‬اللهم إنا ال نريد إال اخلري ‪ .‬مث هدم من‬
‫ناحية الركنني ‪ .‬فرتتبص الناس تلك الليلة ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إن أصيب ‪ ،‬مل هندم منها شيئاً ‪،‬‬
‫ورددناها كما كانت ‪ ،‬وإال فقد رضي اهلل ما صنعنا ‪ ،‬فأصبح الوليد من ليلته غادياً على عمله‬
‫‪ ،‬فهدم وهدم الناس معه‪.‬‬
‫حىت إذا انتهى اهلدم هبم إىل األساس ‪-‬أساس إبراهيم عليه السالم‪ -‬أفضوا إىل حجارة خضر‬
‫كاألسنة ‪ ،‬آخذ بعضها بعضاً ‪ ،‬فأدخل بعضهم عتلة بني حجرين منها ليقلع هبا أحدمها ‪ .‬فلما‬
‫حترك احلجر ‪ :‬انتفضت مكة بأسرها ‪ ،‬فانتهوا عند ذلك األساس ‪.‬‬
‫مث إن القبائل من قريش مجعت احلجارة لبنائها ‪ ،‬كل قبيلة جتمع على حدة ‪ .‬مث بنوها ‪ ،‬حىت‬
‫بلغ البنيان موضع احلجر األسود ‪ .‬فاختصموا فيه ‪ ،‬كل قبيلة تريد أن ترفعه إىل موضعه ‪ ،‬حىت‬
‫حتاوروا وحتالفوا ‪ ،‬وأعدوا للقتال ‪ ،‬فقربت بنو عبد الدار جفنة ‪ ،‬مملوءة دماً ‪ .‬تعاهدوا ‪-‬هم‬
‫وبنو عدي بن كعب‪ -‬على املوت ‪ ،‬وأدخلوا أيديهم يف ذلك الدم ‪ .‬فسموا لعقة الدم ‪،‬‬
‫فمكثت قريش على ذلك أربع ليال ‪ ،‬أو مخساً ‪.‬‬
‫مث إهنم اجتمعوا يف املسجد ‪ ،‬فتشاوروا وتناصفوا ‪ .‬فزعم بعض أهل الرواية ‪ :‬أن أبا أمية بن‬
‫املغرية بن عبد اهلل بن عمر بن خمزوم املخزومي ‪-‬وكان يومئذ أسن قريش كلهم‪ -‬قال ‪:‬‬
‫اجعلوا بينكم أول من يدخل من باب املسجد ‪ .‬ففعلوا ‪ ،‬فكان أول من دخل ‪ :‬رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ‪ .‬فلما رأوه ‪ ،‬قالوا ‪:‬هذا األمني ‪ ،‬رضينا به ‪ ،‬هذا حممد ‪ ،‬فلما انتهى‬
‫إليهم أخربوه اخلرب‪ .‬فقال صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬هلم إيل ثوباً ‪ ،‬فأيت به ‪ .‬فأخذ الركن فوضعه‬

‫‪42‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫فيه بيده ‪ .‬مث قال ‪ :‬لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ‪ ،‬مث ارفعوا مجيعاً ففعلوا‪ ،‬حىت إذا بلغوا‬
‫به موضعه ‪ :‬وضعه هو بيده صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬مث بىن عليه ‪.‬‬
‫وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ينقل معهم احلجارة ‪ .‬وكانوا يرفعون أزرههم على‬
‫عواتقهم ‪ .‬ففعل ذلك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فلبط به ‪-‬أي طاح على وجهه‪-‬‬
‫ونودي ‪ :‬اسرت عورتك‪ ،‬فما رؤيت له عورة بعد ذلك ‪.‬‬
‫فلما بلغوا مخسة عشر ذراعاً سقفوه على ستة أعمدة ‪.‬‬
‫وكان البيت يكسى القباطي ‪ .‬مث كسي الربود ‪ .‬وأول من كساه الديباج ‪ :‬احلجاج بن‬
‫يوسف ‪.‬‬
‫وأخرجت قريش احلجر لقلة نفقتهم ‪ ،‬ورفعوا باهبا عن األرض ‪ ،‬لئال يدخلها إال من أرادوا ‪.‬‬
‫وكانوا إذا أرادوا أن ال يدخلها أحد ال يريدون دخوله ‪ :‬تركوه حىت يبلغ الباب ‪ ،‬مث يرمونه ‪.‬‬
‫فلما بلغ صلى اهلل عليه وسلم أربعني سنة ‪ :‬بعثه اهلل بشرياً ونذيراً ‪،‬وداعياً إىل اهلل بإذنه‬
‫وسراجاً منرياً ‪.‬‬

‫بعض ما كان عليه أهل الجاهلية ‪:‬‬


‫ونذكر قبل ذلك شيئاً من أمور اجلاهلية ‪ ،‬وما كانت عليه قبل مبعث رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ .‬قال قتادة ‪ :‬ذكر لنا ‪ :‬أنه كان بني آدم ونوح عشرة قرون ‪ .‬كلهم على اهلدى ‪،‬‬
‫وعلى شريعة من احلق ‪ ،‬مث اختلفوا بعد ذلك ‪ .‬فبعث اهلل نوحاً عليه السالم ‪ .‬وكان أول‬
‫رسول إىل أهل األرض ‪.‬‬
‫قال ابن عباس ‪ :‬يف قوله تعاىل ‪ " :‬كان الناس أمة واحدة " ‪ ،‬قال ‪ :‬على اإلسالم كلهم ‪.‬‬
‫وكان أول ما كاد به الشيطان ‪ :‬هو تعظيم الصاحلني ‪ .‬وذكر اهلل ذلك يف كتابه يف قوله ‪" :‬‬
‫وقالوا ال تذرن آهلتكم وال تذرن ودا وال سواعا وال يغوث ويعوق ونسرا " ‪ .‬قال ابن عباس‬
‫‪ :‬كان هؤالء قوماً صاحلني ‪ .‬فلما ماتوا يف شهر ‪ ،‬جزع عليهم أقارهبم ‪ .‬فصوروا صورهم ‪.‬‬
‫ويف غري حديثه ‪ :‬قال أصحاهبم ‪ :‬لو صورناهم كان أشوق لنا إىل العبادة‪ ،‬قال ‪ :‬فكان الرجل‬
‫يأيت أخاه وابن عمه فيعظمه ‪ ،‬حىت ذهب ذلك القرن ‪ ،‬مث جاء قرن آخر ‪ ،‬فعظموهم أشد من‬
‫‪43‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫األول ‪ ،‬مث جاء القرن الثالث ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬ما عظم أولونا هؤالء إال وهم يرجون شفاعتهم عند‬
‫اهلل ‪ ،‬فعبدوهم ‪ ،‬فلما بعث اهلل إليهم نوحاً ‪-‬وغرق من غرق‪ -‬أهبط املاء هذه األصنام من‬
‫أرض إىل أرض ‪ ،‬حىت قذفها إىل أرض جدة ‪ .‬فلما نضب املاء بقيت على الشط ‪ ،‬فسفت‬
‫الريح عليها الرتاب ‪ ،‬حىت وارهتا ‪.‬‬

‫عمرو بن لحي أول من غير دين إبراهيم ‪:‬‬


‫وكان عمرو بن حلي سيد خزاعة كاهناً وله رئي من اجلن فأتاه ‪ ،‬فقال ‪ :‬عجل السري والظعن‬
‫من هتامة ‪ ،‬بالسعد والسالمة ‪ ،‬ائت جدة ‪ ،‬جتد أصناماً معدة ‪ ،‬فأوردها هتامة وال هتب ‪،‬‬
‫وادع العرب إىل عبادهتا جتب‪ ،‬فأتى جدة فاستشارها ‪ ،‬مث محلها حىت أوردها هتامة ‪ .‬وحضر‬
‫احلج ‪ ،‬فدعا العرب إىل عبادهتا ‪ .‬فأجابه عوف بن عذرة ‪ ،‬فدفع إليه وداً فحمله ‪ .‬فكان‬
‫بوادي القرى بدومة اجلندل ‪ .‬ومسى ابنه ‪ :‬عبد ود ‪ ،‬فهو أول من مسى به ‪ .‬فلم يزل بنوه‬
‫يسدنونه ‪ ،‬حىت جاء اإلسالم ‪ .‬فبعث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم خالد بن الوليد هلدمه ‪،‬‬
‫فحالت بينه وبينه بنو عذرة ‪ ،‬وبنو عامر ‪ ،‬فقاتلهم فقتلهم ‪ ،‬مث هدمه وجعله جذاذاً ‪.‬‬
‫وأجابت عمرو بن حلي مضر بن نزار ‪ ،‬فدفع إىل رجل من هذيل سواعاً ‪ ،‬فكان بأرض يقال‬
‫هلا ‪ :‬وهاط ‪ ،‬من بطن خنلة ‪ ،‬يعبده من يليه من مضر ‪ .‬ويف ذلك قيل ‪:‬‬
‫كما عكفت هذيل على سواع‬ ‫تراهم حول قبلتهم عكوفاً‬
‫وأجابته مذحج ‪ .‬فدفع إىل نعيم بن عمر املرادي يغوث ‪ ،‬وكان بأكمة باليمن تعبده مذحج‬
‫ومن واالها ‪.‬‬
‫وأجابته مهدان فدفع إليهم يعوق ‪ ،‬فكان بقرية يقال هلا خيوان تعبده مهدان ومن واالها من‬
‫اليمن ‪.‬‬
‫وأجابته محري ‪ ،‬فدفع إليهم نسراً ‪ ،‬فكان مبوضع بسبأ‪ ،‬تعبده محري ومن واالها ‪.‬‬
‫فلم تزل هذه األصنام تعبد حىت بعث اهلل رسوله صلى اهلل عليه وسلم فكسرها ‪ .‬ويف‬
‫الصحيح عن أيب هريرة قال ‪ " :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬رأيت عمرو بن عامر‬

‫‪44‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫اخلزاعي جيز قصبه يف النار ‪ .‬فكان أول من سيب السوائب"‪ ،‬ويف لفظ ‪ " :‬غري دين إبراهيم "‪،‬‬
‫ويف لفظ عن أيب إسحاق ‪ " :‬فكان أول من غري دين إبراهيم ‪ ،‬ونصب األوثان " ‪.‬‬
‫وكان أهل اجلاهلية على ذلك ‪ ،‬فيهم بقايا من دين إبراهيم ‪ ،‬مثل تعظيم البيت ‪ ،‬والطواف به‬
‫‪ ،‬واحلج والعمرة ‪ ،‬والوقوف بعرفة ومزدلفة ‪ ،‬وإهداء البدن‪ .‬وكانت نزار تقول يف إهالهلا ‪":‬‬
‫لبيك اللهم لبيك ‪ ،‬لبيك ال شريك لك ‪ ،‬إال شريكاً هو لك ‪ ،‬متلكه وما ملك " ‪ ،‬فأنزل اهلل ‪:‬‬
‫" ضرب لكم مثال من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أميانكم من شركاء يف ما رزقناكم‬
‫فأنتم فيه سواء ختافوهنم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل اآليات لقوم يعقلون " ‪.‬‬

‫صنم مناة ‪:‬‬


‫ومن أقدم أصنامهم ‪ :‬مناة ‪ ،‬وكان منصوباً على ساحل البحر من ناحية املشلل ‪ ،‬بقديد بني‬
‫مكة واملدينة ‪ .‬وكانت العرب تعظمه قاطبة ‪ ،‬ومل يكن أحد أشد تعظيماً له من األوس‬
‫واخلزرج ‪ ،‬وبسبب ذلك أنزل اهلل تعاىل ‪ " :‬إن الصفا واملروة من شعائر اهلل فمن حج البيت‬
‫أو اعتمر فال جناح عليه أن يطوف هبما " ‪ ،‬فبعث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم علياً رضي‬
‫اهلل عنه عنه فدمهها عام الفتح ‪.‬‬
‫صنم الالت ‪:‬‬
‫مث اختذوا الالت يف الطائف ‪ ،‬قيل ‪ :‬إن أصل ذلك رجل كان يلت السويق للحاج ‪ ،‬فمات ‪.‬‬
‫فعكفوا على قربه ‪ .‬وكانت صخرة مربعة ‪ ،‬وكان سدنتها ثقيف ‪ ،‬وكانوا قد بنوا عليها بيتاً ‪،‬‬
‫فكان مجيع العرب يعظموهنا ‪ ،‬وكانت العرب تسمى زيد الالت ‪ ،‬وتيم الالت‪ ،‬وهي يف‬
‫موضع منارة مسجد الطائف ‪.‬‬
‫فلما أسلمت ثقيف ‪ ،‬بعث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم املغرية بن شعبة فهدمها ‪ ،‬وحرقها‬
‫بالنار ‪.‬‬
‫صنم العزى ‪:‬‬
‫مث اختذوا العزى ‪ ،‬وهي أحدث من الالت ‪ ،‬وكانت بوادي خنلة ‪ ،‬فوق ذات عرق ‪ ،‬وبنوا‬
‫عليها بيتاً ‪ ،‬وكانوا يسمعون منها الصوت ‪ ،‬وكانت قريش تعظمها ‪ .‬فلما فتح رسول اهلل‬
‫‪45‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫صلى اهلل عليه وسلم مكة ‪ ،‬بعث خالد بن الوليد فأتاها فعضدها‪ ،‬وكانت ثالث مسرات‪ ،‬فلما‬
‫عضد الثالثة ‪ :‬فإذا هو حببشية نافشة شعرها ‪ ،‬واضعة يدها على عاتقها ‪ ،‬تضرب بأنياهبا ‪،‬‬
‫وخلفها سادهنا ‪ ،‬فقال خالد ‪:‬‬
‫إين رأيت اهلل قد أهانك‬ ‫يا عز كفرانك ال سبحانك‬
‫مث ضرهبا ففلق رأسها ‪ ،‬فإذا هي محمة ‪ ،‬مث قتل السادن ‪.‬‬
‫صنم هبل ‪:‬‬
‫وكانت لقريش أصنام يف جوف الكعبة وحوهلا‪ .‬وأعظمها ‪ :‬هبل ‪ ،‬وكان من عقيق أمحر على‬
‫صورة اإلنسان ‪ ،‬وكانوا إذا اختصموا‪ ،‬أو أرادوا سفراً ‪ :‬أتوه ‪ ،‬فاستقسموا بالقداح عنده ‪.‬‬
‫وهو الذي قال فيه أبو سفيان يوم أحد ‪" :‬اعل هبل ‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪:‬‬
‫قولوا ‪ :‬اهلل أعلى وأجل" ‪.‬‬
‫وكان هلم إساف ونائلة ‪ ،‬قيل أصلهما ‪ :‬أن إسافاً رجل من جرهم ‪ ،‬ونائلة امرأة منهم ‪،‬‬
‫فدخال البيت ‪ ،‬ففجر هبا فيه ‪ .‬فمسخهما اهلل فيه حجرين ‪ ،‬فأخرجومها فوضعومها ليتعظ هبما‬
‫الناس ‪ ،‬فلما طال األمد وعبدت األصنام ‪ :‬عبدا ‪.‬‬
‫ذو الخلصة ‪:‬‬
‫وكان خلثعم وجبيلة ودوس صنم يقال له ‪ :‬ذو اخللصة ‪ ،‬الذي كان بتبالة بني مكة واليمن ‪.‬‬
‫"فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم جلرير بن عبد اهلل البجلي ‪ :‬أال ترحيين من ذي اخللصة ‪،‬‬
‫فسار إليه بأمحس ‪ ،‬فقاتلته مهدان ‪ ،‬فظفر هبم وهدمه" ‪.‬‬
‫وكان لقضاعة وخلم وجذام وعاملة وغطفان صنم يف مشارف الشام ‪.‬‬
‫وكان ألهل كل واد مبكة صنم ‪ ،‬إذا أراد أحدهم سفراً كان آخر ما يصنع يف منزله ‪ :‬أن‬
‫يتمسح به ‪.‬‬
‫صنم عم أنس ‪:‬‬

‫‪46‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫قال ابن إسحاق ‪ :‬وكان خلوالن صنم يقال له ‪ :‬عم أنس ‪ ،‬وفيهم أنزل اهلل ‪ " :‬وجعلوا هلل مما‬
‫ذرأ من احلرث واألنعام نصيبا فقالوا هذا هلل بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فال‬
‫يصل إىل اهلل وما كان هلل فهو يصل إىل شركائهم ساء ما حيكمون " ‪.‬‬
‫فلما بعث اهلل حممداً صلى اهلل عليه وسلم بالتوحيد ‪ ،‬قالت قريش ‪ " :‬أجعل اآلهلة إهلا واحدا‬
‫إن هذا لشيء عجاب " ‪.‬‬
‫وكانت العرب قد اختذت مع الكعبة طواغيت ‪ ،‬وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة ‪.‬‬
‫وملا فتح رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مكة ‪ :‬وجد حول البيت ثالمثائة وستني صنماً‪ ،‬فجعل‬
‫يطعن يف وجوهها وعيوهنا‪ ،‬ويقول‪ " :‬جاء احلق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا "‪ ،‬وهي‬
‫تتساقط على رؤوسها ‪ ،‬مث أمر هبا فأخرجت من املسجد وحرقت ‪.‬‬

‫رجعنا إىل سريته صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فنقول ‪:‬‬


‫بدء الوحي ‪:‬‬
‫يف الصحيح عن عائشة رضي اهلل عنها قالت ‪ " :‬أول ما بدىء برسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم من الوحي ‪ :‬الرؤيا الصادقة [يف النوم] ‪ .‬فكان ال يرى رؤيا إال جاءت مثل فلق الصبح‬
‫‪ ،‬مث حبب إليه اخلالء ‪ ،‬فكان خيلو بغار حراء ‪ ،‬فيتحنث فيه ‪-‬وهو التعبد‪ -‬الليايل ذوات العدد‬
‫‪ ،‬قبل أن ينزع إىل أهله ‪ .‬ويتزود لذلك ‪ .‬مث يرجع إىل خدجية فيتزود ملثلها ‪ ،‬حىت فجأه احلق‬
‫‪ ،‬وهو يف غار حراء ‪ ،‬فجاءه امللك ‪ .‬فقال ‪ :‬اقرأ‪ ،‬فقلت ‪ :‬ما أنا بقارئ ‪ .‬قال ‪ :‬فأخذين‬
‫فغطين حىت بلغ مين اجلهد ‪ ،‬مث أرسلين ‪ ،‬فقال ‪ :‬اقرأ ‪ ،‬فقلت ‪ :‬ما أنا بقارئ ‪ ،‬فأخذين فغطين‬
‫الثانية ‪ ،‬حىت بلغ مين اجلهد ‪ ،‬مث أرسلين ‪ ،‬فقال ‪ :‬اقرأ‪ ،‬فقلت ‪ :‬ما أنا بقارئ ‪ ،‬فأخذين فغطين‬
‫الثالثة ‪ ،‬مث أرسلين ‪ ،‬فقال يل يف الثالثة ‪ " :‬اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق اإلنسان من علق‬
‫* اقرأ وربك األكرم " ‪ .‬فرجع هبا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يرجف فؤاده ‪ ،‬حىت دخل‬
‫على خدجية بنت خويلد ‪ .‬فقال ‪ :‬زملوين ‪ ،‬زملوين ‪ .‬فزملوه حىت ذهب عنه الروع ‪ .‬فقال‬
‫خلدجية ‪-‬وأخربها اخلرب‪ -‬لقد خشيت على نفسي ‪ ،‬فقالت خدجية ‪ :‬كال واهلل ‪ ،‬ما خيزيك اهلل‬

‫‪47‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫أبداً ‪ .‬إنك لتصل الرحم ‪ ،‬وحتمل الكل ‪ ،‬وتقري الضيف ‪ ،‬وتكسب املعدوم ‪ ،‬وتعني على‬
‫نوائب احلق ‪.‬‬

‫فانطلقت به خدجية حىت أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ‪-‬ابن عم خدجية‪-‬‬
‫وكان قد تنصر يف اجلاهلية ‪ .‬وكان يكتب الكتاب العرباين ‪ ،‬فيكتب من اإلجنيل بالعربانية ما‬
‫شاء اهلل أن يكتب ‪ ،‬وكان شيخاً كبرياً قد عمي ‪ .‬فقالت له خدجية ‪ :‬يا ابن عم ! امسع من‬
‫ابن أخيك ‪ .‬فقال له ورقة ‪ :‬يا ابن أخي ‪ ،‬ماذا ترى؟ فأخربه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫خرب مارأى ‪ .‬فقال له ورقة هذا الناموس الذي نزل اهلل على موسىص‪ ،‬يا ليتين فيها جذعاً ‪،‬‬
‫ليتين أكون حياً إذ خيرجك قومك ؟ قال ‪ :‬أو خمرجي هم ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬مل يأت رجل قط‬
‫مبثل ما جئت به إال عودي ‪ .‬وإن يدركين قومك أنصرك نصراً مؤزراً" ‪.‬‬
‫مث أنشد ورقة ‪:‬‬
‫هلـم طاملــا بعث النشيجـا‬ ‫جلجت وكنت يف الذكرى جلوجا‬
‫فقد طال انتظارى يا خدجيا‬ ‫ووصف من خديــجة بعد وصــف‬
‫حديثك أن أرى منـه خروجـا‬ ‫ببطن املكــتني على رجـائــي‬
‫الرهبان أكـره أن يعوجــا‬ ‫مبا خربتــنا من قــول قس من‬
‫وخيصم من يكون له حجيجـاً‬ ‫بأن حمـمــداً سي ـسـود قـومـا‬
‫يقيم به الربيـة أن متوجــا‬ ‫ويظهر يف البـالد ضيـاء نــور‬
‫ويلقى من يسـامله فلوجـا‬ ‫فيلـقى من حيــاربه خس ــارا‬
‫شهدت وكنت أوهلم ولوجـا‬ ‫فيـا ليتنـي إذا مــا كـان ذاكم‬
‫ولوعجت مبكتها عجـيجــا‬ ‫ولوجـتاً بالذي كرهـت قريــش‬
‫إىل ذي العرش إن سفلوا عروجا‬ ‫أرجي بالذي كرهوا مجيعاً‬
‫مبـن خيتار من مســك الربوجـا‬ ‫وهل أمر السفالة غري كفـر‬
‫يضج الكـافرون هلـا ضجيجـا‬ ‫فإن يبقوا وأبقى تكن أمور‬
‫من األقـدار متلفـة خروجـا‬ ‫وإن أهلك فكل فىت سيلـقى‬
‫‪48‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫فلم يلبث ورقة أن تويف [وزاد البخاري يف رواية أخرى ‪ ،‬قال ‪ ]:‬وفرت الوحي ‪ ،‬حىت حزن‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حزناً شديداً ‪ ،‬حىت كان يذهب إىل رؤوس شواهق اجلبال ‪،‬‬
‫يريد أن يلقي بنفسه منها ‪ ،‬كلما أوىف بذروة جبل تبدى له جربيل عليه السالم ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا‬
‫حممد ‪ ،‬إنك رسول اهلل حقاً ‪ ،‬فيسكن لذلك جأشه ‪ ،‬وتقر نفسه ‪ ،‬فريجع ‪ ،‬فإذا طال عليه‬
‫فرتة الوحي غدا ملثل ذلك ‪ ،‬فإذا أوىف بذروة اجلبل تبدى به جربيل ‪ ،‬فيقول له ذلك ‪.‬‬
‫"فبينما هو يوماً ميشي إذ مسع صوتاً من السماء ‪ .‬قال ‪ :‬فرفعت بصري ‪ ،‬فإذا امللك الذي‬
‫جاءين حبراء جالس على كرسي بني السماء واألرض ‪ ،‬فرعبت منه ‪ ،‬فرجعت إىل أهلي ‪.‬‬
‫فقلت ‪ :‬دثروين ‪ ،‬دثروين ‪ ،‬فأنزل اهلل ‪ " :‬يا أيها املدثر * قم فأنذر " ‪ ،‬فحمي الوحي‬
‫وتتابع" ‪.‬‬

‫أنواع الوحي ‪:‬‬


‫وكان الوحي الذي يأتيه صلى اهلل عليه وسلم أنواعاً ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬الرؤيا ‪ .‬قال عبيد بن عمر ‪ :‬رؤيا األنبياء وحي ‪ ،‬مث قرأ ‪" :‬إين أرى يف املنام أين‬
‫أذحبك" ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬ما كان امللك يلقيه يف روعه ‪-‬أي قلبه ‪ -‬من غري أن يراه ‪ ،‬كما قال صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ :‬إن روح القدس نفث ‪ ،‬يف روعي ‪ " :‬أنه لن متوت نفس حىت تستكمل رزقها وأجلها‬
‫‪ ،‬فاتقوا اهلل وأمجلوا يف الطلب ‪ ،‬وال حيملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه مبعصية اهلل ‪ ،‬فإن‬
‫ما عند اهلل ال ينال إال بطاعته" ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬أن امللك يتمثل له رجالً فيخاطبه ‪ ،‬ويف هذه املرتبة ‪ :‬كان يراه الصحابة أحياناً ‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬أنه كان يأتيه مثل صلصلة اجلرس ‪ ،‬وهو أشده عليه ‪ .‬فيلتبس به امللك ‪ .‬حىت إن‬
‫جبينه ليتفصد عرقاً يف اليوم الشديد الربد ‪ .‬وحىت إن راحلته لتربك به إىل األرض ‪ .‬وجاءه مرة‬
‫وفخذه على فخذ زيد بن ثابت ‪ ،‬فكادت ترض ‪.‬‬
‫الخامس ‪ :‬أن يأتيه امللك يف الصورة اليت خلق عليها ‪ .‬فيوحي إليه ما شاء اهلل ‪ ،‬وهذا وقع‬
‫مرتني ‪ ،‬كما ذكر اهلل سبحانه يف سورة النجم ‪.‬‬
‫‪49‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫السادس ‪ :‬ما أوحاه اهلل له فوق السموات ليلة املعراج ‪ ،‬من فرض الصالة وغريها ‪.‬‬
‫قال ابن القيم رمحه اهلل ‪ :‬أول ما أوحى إليه ربه ‪ :‬أن يقرأ باسم ربه الذي خلق ‪ .‬وذلك أول‬
‫نبوته صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فأمره أن يقرأ يف نفسه ومل يأمره بالتبليغ ‪ .‬مث أنزل اهلل عليه ‪ " :‬يا‬
‫أيها املدثر * قم فأنذر " فنبأه باقرأ‪ ،‬وأرسله ‪ :‬بيا أيها املدثر ‪ .‬مث أمره ‪ :‬أن ينذر عشريته‬
‫األقربني ‪ ،‬مث أنذر قومه ‪ ،‬مث أنذر من حوهلم من العرب ‪ ،‬مث أنذر العرب قاطبة ‪ ،‬مث أنذر‬
‫العاملني ‪ .‬فأقام بضع عشرة سنة ينذر بالدعوة من غري قتال وال جزية ‪ .‬ويأمره اهلل بالكف‬
‫والصرب ‪ .‬مث أذن له يف اهلجرة ‪ ،‬وأذن له يف القتال ‪ ،‬مث أمره أن يقاتل من قاتله ‪ ،‬ويكف عمن‬
‫مل يقاتله ‪ ،‬مث أمره بقتال املشركني ‪ ،‬حىت يكون الدين كله هلل ‪.‬‬

‫أول من آمن ‪:‬‬


‫وملا دعا إىل اهلل ‪ :‬استجاب له عباد اهلل من كل قبيلة ‪ ،‬فكان حائز السبق ‪ :‬صديق األمة أبا‬
‫بكر رضي اهلل عنه ‪ ،‬فوازره يف دين اهلل ‪ ،‬ودعا معه إىل اهلل ‪ ،‬فاستجاب أليب بكر عثمان‬
‫وطلحة وسعد رضي اهلل عنهم ‪ .‬وبادر إىل استجابته أيضاً صديقة النساء خدجية رضي اهلل‬
‫عنها ‪ .‬وبادر إىل اإلسالم علي بن أيب طالب رضي اهلل عنه ‪ ،‬وكان ابن مثان سنني ‪ ،‬وقيل ‪:‬‬
‫أكثر ‪ ،‬إذ كان يف كفالة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬أخذه من عمه ‪.‬‬

‫شأن زيد بن حارثة ‪:‬‬


‫وبادر زيد بن حارثة رضي اهلل عنه ‪ ،‬حب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وكان غالماً‬
‫خلدجية ‪ ،‬فوهبته لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ملا تزوجها ‪ ،‬وقدم أبوه حارثة وعمه يف فدائه‬
‫‪ .‬فقاال للنيب صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬يا ابن سيد قومه ‪ ،‬أنتم أهل حرم اهلل وجريانه ‪ ،‬تفكون‬
‫العاين ‪ ،‬وتطعمون األسري ‪ ،‬جئناك يف ابننا عبدك ‪ ،‬فأحسن لنا يف فدائه ‪ .‬فقال صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ .‬فهال غري ذلك ؟ قالوا ‪ :‬وما هو ؟ قال ‪ :‬أدعوه فأخريه ‪ ،‬فإن اختاركم فهو لكم ‪،‬‬
‫وإن اختارين ‪ .‬فواهلل ما أنا بالذي أختار على من اختارين ‪ .‬قالوا ‪ :‬قد زدتنا على النصف ‪،‬‬
‫وأحسنت ‪ .‬فدعاه ‪ .‬فقال ‪ :‬هل تعرف هؤالء ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬أيب وعمي ‪ .‬قال ‪ :‬فأنا من قد‬
‫‪50‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫علمت ‪ .‬وقد رأيت صحبيت لك ‪ ،‬فاخرتين ‪ ،‬أو اخرتمها‪ .‬فقال ‪ :‬ما أنا بالذي أختار عليك‬
‫أحداً‪ ،‬أنت مين مكان أيب وعمى ‪ .‬فقاال ‪ :‬وحيك يا زيد ! أختتار العبودية على احلرية ‪ ،‬وعلى‬
‫أبيك وعمك ‪ ،‬وأهل بيتك ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬قد رأيت من هذا الرجل شيئاً ‪ ،‬ما أنا بالذي أختار‬
‫عليه أحداً أبداً ‪ .‬فلما رأى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ذلك ‪ ،‬خرج إىل احلجر ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫أشهدكم أن زيداً ابين ‪ ،‬أرثه ويرثين‪ ،‬فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت نفوسهما ‪ ،‬فانصرفا ‪.‬‬
‫ودعي ‪ :‬زيد بن حممد ‪ ،‬حىت جاء اهلل باإلسالم فنزلت ‪ " :‬ادعوهم آلبائهم هو أقسط عند اهلل‬
‫"‪.‬‬
‫قال الزهري ‪ :‬ما علمنا أحداً أسلم قبل زيد ‪.‬‬
‫وأسلم ورقة بن نوفل ‪ .‬ويف جامع الرتمذي ‪" :‬أن النيب صلى اهلل عليه وسلم رآه يف املنام يف‬
‫هيئة حسنة" ‪.‬‬
‫ودخل الناس يف دين اهلل واحداً بعد واحد ‪ .‬وقريش ال تنكر ذلك ‪ ،‬حىت بادأهم بعيب دينهم‬
‫وسب آهلتهم ‪ ،‬وأهنا ال تضر وال تنفع ‪ .‬فحينئذ مشروا له وألصحابه عن ساق العداوة ‪.‬‬
‫فحمى اهلل رسوله صلى اهلل عليه وسلم بعمه أيب طالب ‪ .‬ألنه كان شريفاً معظماً ‪ ،‬وكان من‬
‫حكمة أحكم احلاكمني ‪ :‬بقاؤه على دين قومه ‪ ،‬ملا يف ذلك من املصاحل اليت تبدو ملن تأملها ‪.‬‬
‫وأما أصحابه ‪ :‬فمن كان له عشرية حتميه امتنع بعشريته ‪ ،‬وسائرهم تصدوا له باألذى‬
‫والعذاب ‪ .‬منهم ‪ :‬عمار بن ياسر ‪ ،‬وأمه مسية ‪ ،‬وأهل بيته ‪ ،‬عذبوا يف اهلل ‪" .‬وكان رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم إذا مر هبم ‪-‬وهم يعذبون‪ -‬يقول ‪:‬صربا يا آل ياسر ! فإن موعدكم‬
‫اجلنة" ‪.‬‬

‫سمية أول شهيدة ‪:‬‬


‫ومر أبو جهل بسمية ‪-‬أم عمار رضي اهلل عنهما ‪ -‬وهي تعذب ‪ ،‬وزوجها وابنها ‪ .‬فطعنها‬
‫حبربة يف فرجها فقتلها ‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وكان الصديق إذا مر بأحد من العبيد يعذب اشرتاه وأعتقه ‪ ،‬منهم بالل ‪ .‬فإنه عذب يف اهلل‬
‫أشد العذاب ‪ .‬ومنهم عامر بن فهرية ‪ ،‬وجارية لبين عدي ‪ ،‬كان عمر يعذهبا على اإلسالم ‪،‬‬
‫فقال أبو قحافة ‪-‬عثمان بن عامر‪ -‬البنه أيب بكر ‪ :‬يا بين ‪ ،‬أراك تعتق رقاباً ضعافاً ‪ .‬فلو‬
‫أعتقت قوماً جلداً مينعونك ؟ فقال ‪ :‬إين أريد ما أريد ‪ ،‬وكان بالل كلما اشتد به العذاب‬
‫يقول ‪ :‬أحد ‪ ،‬أحد ‪.‬‬

‫ابتداء الدعوة ‪:‬‬


‫وقال الزهري ‪ :‬ملا ظهر اإلسالم ‪ ،‬أتى مجاعة من كفار قريش إىل من آمن من عشائرهم ‪،‬‬
‫فعذبوهم وسجنوهم ‪ ،‬وأرادوا أن يفتنوهم عن دينهم ‪.‬‬
‫قال الواقدي ‪ :‬حدثين حممد بن صاحل عن عاصم بن عمر بن قتادة ويزيد بن رومان وغريهم ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬قام رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مبكة ثالث سنني مستخفياً ‪ .‬مث أعلن يف الرابعة ‪،‬‬
‫فدعا الناس عشر سنني ‪ ،‬يوايف املواسم كل عام ‪ ،‬يتبع الناس يف منازهلم ‪ .‬ويف املواسم بعكاظ‬
‫‪ ،‬وجمنة ‪ ،‬وذي اجملاز يدعوهم أن مينعوه حىت يبلغ رساالت ربه ‪ ،‬وهلم اجلنة ‪ .‬فال جيد أحداً‬
‫ينصره وحيميه ‪ .‬حىت ليسأل عن القبائل ومنازهلا قبيلة قبيلة ‪ ،‬فيقول ‪" :‬يا أيها الناس ! قولوا ‪:‬‬
‫ال إله إال اهلل تفلحوا ومتلكوا هبا العرب ‪ ،‬وتدين لكم هبا العجم ‪ .‬فإذا متم كنتم ملوكاً يف‬
‫اجلنة ‪ ،‬وأبو هلب وراءه يقول ‪ :‬ال تطيعوه ‪ ،‬فإنه صاىبء كذاب ‪ .‬فريدون على رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم أقبح الرد ‪ .‬ويؤذونه ‪ ،‬ويقولون ‪ :‬عشريتك أعلم بك حيث مل يتبعوك ‪.‬‬
‫وهو يقول ‪ :‬اللهم لو شئت مل يكونوا هكذا" ‪.‬‬
‫وملا نزل عليه قوله تعاىل ‪ " :‬وأنذر عشريتك األقربني " صعد الصفا فنادى ‪ :‬واصباحاه ‪ ،‬فلما‬
‫اجتمعوا إليه قال ‪ :‬لو أخربتكم أن خيالً تريد أن خترج عليكم من سفح هذا اجلبل ‪ ،‬أكنتم‬
‫مصدقي ‪ ،‬قالوا ‪ :‬نعم ‪ ،‬ما جربنا عليك كذباً ‪ .‬قال ‪ :‬فإين نذير لكم بني يدي عذاب شديد‪،‬‬
‫فقال أبو هلب ‪ :‬تباً لك ‪ ،‬ما مجعتنا إال هلذا ؟ فأنزل اهلل قوله تعاىل ‪ " :‬تبت يدا أيب هلب وتب‬
‫* ما أغىن عنه ماله وما كسب " ‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫قال ابن القيم رمحه اهلل ‪ :‬دعا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل اهلل مستخفياً ثالث سنني ‪،‬‬
‫مث نزل عليه ‪ " :‬فاصدع مبا تؤمر وأعرض عن املشركني " ‪.‬‬

‫أول دم أهريق ‪:‬‬


‫ويف السنة الرابعة ‪ :‬ضرب سعد بن أيب وقاص رجالً من املشركني فشجه وذلك ‪ :‬أن‬
‫أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كانوا جيتمعون يف الشعاب ‪ ،‬فيصلون فيها ‪ ،‬فرآهم‬
‫رجل من الكفار ‪ ،‬ومعه مجاعة من قريش فسبوهم ‪ ،‬وضرب سعد بن أيب وقاص رجالً منهم‬
‫‪ ،‬فسال دمه ‪ ،‬فكان أول دم أهريق يف اإلسالم ‪.‬‬

‫استهزاء المشركين ‪:‬‬


‫وكان النيب صلى اهلل عليه وسلم إذا جلس وحوله املستضعفون من أصحابه ‪-‬مثل عمار بن‬
‫ياسر ‪ ،‬وخباب بن األرت ‪ ،‬وصهيب الرومي ‪ ،‬وبالل ‪ ،‬وأشباههم ‪ -‬فإذا مرت هبم قريش‬
‫استهزؤوا هبم ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬أهؤالء ‪-‬جلساؤه‪ -‬قد من اهلل عليهم من بيننا ؟ فأنزل اهلل ‪ " :‬أليس‬
‫اهلل بأعلم بالشاكرين " ‪.‬‬
‫وفيهم نزل ‪ " :‬والذين هاجروا يف اهلل من بعد ما ظلموا لنبوئنهم يف الدنيا حسنة وألجر‬
‫اآلخرة أكرب لو كانوا يعلمون " ‪.‬‬
‫"وقال أبو جهل ‪ :‬واهلل لئن رأيت حممداً يصلي ألطأن على رقبته ‪ .‬فبلغه أن رسول اهلل يصلي‬
‫‪ ،‬فأتاه ‪ .‬فقال ‪ :‬أمل أهنك عن الصالة ؟ فانتهره رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫أتنتهرين ‪ ،‬وأنا أعز أهل البطحاء ؟ فنزل قوله تعاىل ‪ " :‬أرأيت الذي ينهى * عبدا إذا صلى " ‪،‬‬
‫ويف بعض الروايات ‪ ،‬أنه قال ‪ :‬أمل أهنك ؟ فواهلل ما يف مكة أعز من نادي"‪.‬‬
‫وأخرج مسلم عن أيب هريرة قال ‪ :‬قال أبو جهل ‪" :‬هل يعفر حممد وجهه بني أظهركم ؟‬
‫فقيل ‪ :‬نعم ‪ ،‬فقال ‪ :‬والالت والعزى لئن رأيته يفعل ذلك ألطأن على رقبته ‪ .‬فأتى رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم وهو يصلي ‪ ،‬وزعم ليطأن رقبته ‪ ،‬فما فجأهم إال وهو ينكص على‬
‫عقبيه ويتقي بيديه ‪ .‬وقال ‪ :‬بيين وبينه خندق من نار وهوالً وأجنحة ‪ .‬فقال رسول اهلل صلى‬
‫‪53‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫اهلل عليه وسلم ‪ :‬لو دنا مين الختطفته املالئكة عضواً عضواً‪ ،‬فأنزل اهلل تعاىل ‪-‬ال ندري يف‬
‫حديث أيب هريرة أو شئ بلغه‪ " :-‬كال إن اإلنسان ليطغى * أن رآه استغىن * "‪. "..‬‬

‫الهجرة األولى إلى الحبشة ‪:‬‬


‫ويف السنة اخلامسة ‪ :‬أمر النيب صلى اهلل عليه وسلم أصحابه باهلجرة إىل احلبشة ملا اشتد عليهم‬
‫العذاب واألذى ‪ ،‬وقال ‪ :‬إن فيها رجالً ال يظلم الناس عنده‪ .‬وكانت احلبشة متجر قريش ‪،‬‬
‫وكان أهل هذه اهلجرة األوىل ‪ :‬اثين عشر رجالً وأربع نسوة ‪ .‬وكان أول من هاجر إليها ‪:‬‬
‫عثمان بن عفان رضي اهلل عنه ‪ ،‬ومعه زوجته رقية بنت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪،‬‬
‫وسرت قوم إسالمهم ‪.‬‬
‫وممن خرج ‪ :‬الزبري وعبد الرمحن بن عوف وابن مسعود وأبو سلمة وامرأته رضي اهلل عنهم ‪.‬‬
‫خرجوا متسللني سراً ‪ ،‬فوفق اهلل هلم ساعة وصوهلم إىل الساحل سفينتني للتجار ‪ ،‬فحملوهم‬
‫إىل احلبشة ‪ ،‬وخرجت قريش يف آثارهم حىت جاؤوا البحر ‪ ،‬فلم يدركوا منهم أحداً ‪ .‬وكان‬
‫خروجهم يف رجب ‪ .‬فأقاموا باحلبشة شعبان ورمضان ‪ ،‬مث رجعوا إىل مكة يف شوال ‪ ،‬ملا‬
‫بلغهم ‪ :‬أن قريشاً صافوا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وكفوا عنه ‪.‬‬
‫وكان سبب ذلك ‪ :‬أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قرأ سورة النجم ‪ ،‬فلما بلغ ‪ " :‬أفرأيتم‬
‫الالت والعزى * ومناة الثالثة األخرى " ألقى الشيطان على لسانه ‪ :‬تلك الغرانيق العلى ‪ ،‬وإن‬
‫شفاعتهن لرتجتى‪ ،‬فقال املشركون ‪ :‬ما ذكر آهلتنا خبري قبل اليوم ‪ .‬ولقد علمنا أن اهلل خيلق‬
‫ويرزق وحييي ومييت ولكن آهلتنا تشفع عنده ‪ .‬فلما بلغ السجدة سجد ‪ ،‬وسجد معه‬
‫املسلمون واملشركون كلهم ‪ ،‬إال شيخاً من قريش ‪ ،‬رفع إىل جبهته كفاً من حصى فسجد‬
‫عليه ‪ ،‬وقال ‪ :‬يكفيين هذا ‪ ،‬فحزن النيب صلى اهلل عليه وسلم حزناً شديداً ‪ ،‬وخاف من اهلل‬
‫خوفاً عظيماً ‪ ،‬فأنزل اهلل ‪ " :‬وما أرسلنا من قبلك من رسول وال نيب إال إذا متىن ألقى‬
‫الشيطان يف أمنيته فينسخ اهلل ما يلقي الشيطان مث حيكم اهلل آياته " اآليات ‪.‬‬
‫وملا استمر النيب صلى اهلل عليه وسلم على سب آهلتهم ‪ ،‬عادوا إىل شر مما كانوا عليه ‪،‬‬
‫وازدادوا شدة على من أسلم ‪.‬‬
‫‪54‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫الهجرة الثانية إلى الحبشة ‪:‬‬


‫فلما قرب مهاجرة احلبشة من مكة ‪ ،‬وبلغهم أمرهم ‪ ،‬توقفوا عن الدخول ‪ .‬مث دخل كل‬
‫رجل يف جوار رجل من قريش ‪ .‬مث اشتد عليهم البالء والعذاب من قريش وسطت هبم‬
‫عشائرهم ‪ ،‬وصعب عليهم ما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره ‪ ،‬فأذن هلم رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم يف اخلروج إىل احلبشة مرة ثانية ‪ ،‬فخرجوا ‪ .‬وكان عدة من خرج يف‬
‫املرة الثانية ‪ :‬ثالثة ومثانني رجالً ‪-‬إن كان فيهم عمار بن ياسر‪ -‬ومن النساء تسع عشرة امرأة‬
‫‪.‬‬
‫فلما مسعوا مبهاجر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل املدينة ‪ :‬رجع منهم ثالثة وثالثون‬
‫رجالً ‪ ،‬ومن النساء مثان ‪ .‬ومات منهم رجالن مبكة ‪ ،‬وحبس سبعة ‪ ،‬وشهد بدراً منهم أربعة‬
‫وعشرون رجالً ‪.‬‬

‫كتاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إلى النجاشي يزوجه أم حبيبة ‪:‬‬
‫فلما كان شهر ربيع سنة سبع من اهلجرة ‪ :‬كتب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كتاباً إىل‬
‫النجاشي يدعوه إىل اإلسالم ‪ ،‬وكتب إليه ‪ :‬أن يزوجه أم حبيبة بنت أيب سفيان ‪ ،‬وكانت‬
‫مهاجرة مع زوجها عبيد اهلل بن جحش ‪ ،‬فتنصر هناك ومات نصرانياً ‪.‬‬
‫وكتب إليه أيضاً ‪ :‬أن يبعث إليه من بقي من أصحابه ‪ ،‬فلما قرأ الكتاب أسلم ‪.‬‬
‫وقال ‪ :‬لو قدرت أن آتيه ألتيته ‪ .‬وزوجه أم حبيبة ‪ ،‬وأصدقها عنه أربعمائة دينار ‪ .‬ومحل بقية‬
‫أصحابه يف سفينتني ‪ .‬فقدموا على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم خبيرب ‪ ،‬وقد فتحها ‪.‬‬

‫بعث قريش إلى النجاشي تطلب إرجاع المسلمين‪: W‬‬


‫وملا كان بعد بدر ‪ :‬اجتمعت قريش يف دار الندوة ‪ .‬وقالوا ‪ :‬إن لنا يف الذين عند النجاشي‬
‫ثأراً ‪ ،‬فامجعوا ماالً ‪ ،‬وأهدوه إىل النجاشي ‪ ،‬لعله يدفع إليكم من عنده ولننتدب لذلك رجلني‬
‫من أهل رأيكم ‪ .‬فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد مع اهلدية ‪ ،‬فركبا البحر ‪ ،‬فلما‬

‫‪55‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫دخال على النجاشي سجدا له وسلما عليه ‪ .‬وقاال ‪ :‬قومنا لك ناصحون ‪ .‬وإهنم بعثونا إليك‬
‫لنحذرك هؤالء الذين قدموا عليك ألهنم قوم اتبعوا رجالً كذاباً ‪ ،‬خرج فينا يزعم أنه رسول‬
‫اهلل ‪ ،‬ومل يتبعه إال السفهاء فضيقنا عليهم ‪ ،‬وأجلأناهم إىل شعب بأرضنا ‪ ،‬ال خيرج منهم أحد‬
‫وال يدخل عليهم أحد ‪ .‬فقتلهم اجلوع والعطش ‪ ،‬فلما اشتد عليهم األمر ‪ ،‬بعث إليك ابن‬
‫عمه ليفسد عليك دينك وملكك ‪ ،‬فاحذرهم ‪ ،‬وادفعهم إلينا لنكفيكهم ‪ ،‬وآية ذلك ‪ :‬أهنم‬
‫إذا دخلوا عليك ال يسجدون لك ‪ ،‬وال حييونك بالتحية اليت حتىي هبا ‪ ،‬رغبة عن دينك ‪.‬‬
‫فدعاهم النجاشي ‪ ،‬فلما حضروا ‪ ،‬صاح جعفر بن أيب طالب بالباب ‪ :‬يستأذن عليك حزب‬
‫اهلل‪ ،‬فقال النجاشي ‪ :‬مروا هذا الصائح فليعد كالمه ‪ ،‬ففعل ‪ .‬قال ‪ :‬نعم ‪ .‬فليدخلوا بإذن اهلل‬
‫وذمته ‪ .‬فدخلوا ومل يسجدوا له ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما منعكم أن تسجدوا يل ؟ قالوا ‪ :‬إمنا نسجد هلل‬
‫الذي خلقك وملكك ‪ ،‬وإمنا كانت تلك التحية لنا وحنن نعبد األوثان ‪ ،‬فبعث اهلل فينا نبياً‬
‫صادقاً ‪ ،‬وأمرنا بالتحية اليت رضيها اهلل ‪ ،‬وهي السالم ‪ ،‬حتية أهل اجلنة ‪.‬‬
‫فعرف النجاشي أن ذلك حق ‪ ،‬وأنه يف التوراة واإلجنيل ‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬أيكم اهلاتف يستأذن ؟ فقال جعفر ‪ :‬أنا ‪ ،‬قال ‪ :‬فتكلم ‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬إنك ملك ال يصلح عندك كثرة الكالم وال الظلم ‪ .‬وأنا أحب أن أجيب عن أصحايب‬
‫‪ .‬فأمر هذين الرجلني فليتكلم أحدمها ‪ ،‬فتسمع حماورتنا ‪.‬‬
‫فقال عمرو جلعفر ‪ :‬تكلم ‪ .‬فقال جعفر للنجاشي ‪ :‬سله ‪ ،‬أعبيد حنن أم أحرار ؟ فإن كنا‬
‫عبيداً أبقنا من أربابنا فارددنا إليهم ‪ .‬فقال عمرو ‪ :‬بل أحرار كرام ‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬هل أهرقنا دماً بغري حق فيقتص منا ؟ قال عمرو ‪ :‬وال قطرة ‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬هل أخذنا أموال الناس بغري حق ‪ ،‬فعلينا قضاؤها ؟ فقال عمرو ‪ :‬وال قرياط ‪.‬‬
‫فقال النجاشي ‪ :‬فما تطلبون منهم ؟ قال ‪ :‬كنا حنن وهم على أمر واحد ‪ ،‬على دين آبائنا ‪،‬‬
‫فرتكوا ذلك واتبعوا غريه ‪.‬‬
‫فقال النجاشي ‪ :‬ما هذا الذي كنتم عليه ‪ ،‬وما الذي اتبعتموه ؟ قل واصدقين ‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫فقال جعفر ‪ :‬أما الذي كنا عليه فرتكناه ‪ ،‬وهو دين الشيطان ‪ ،‬كنا نكفر باهلل ‪ ،‬ونعبد‬
‫احلجارة ‪ .‬وأما الذي حتولنا إليه ‪ :‬فدين اهلل اإلسالم ‪ ،‬جاءنا به من اهلل رسول وكتاب مثل‬
‫كتاب ابن مرمي موافقاً له ‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬تكلمت بأمر عظيم ‪ ،‬فعلى رسلك ‪.‬‬
‫مث أمر بضرب الناقوس ‪ ،‬فاجتمع إليه كل قسيس وراهب ‪ ،‬فقال هلم ‪ :‬أنشدكم اهلل الذي‬
‫أنزل اإلجنيل على عيسى ‪ ،‬هل جتدون بني عيسى وبني يوم القيامة نبياً ؟ قالوا ‪ :‬اللهم نعم ‪،‬‬
‫قد بشرنا به عيسى ‪ ،‬وقال ‪ :‬من آمن به فقد آمن يب ‪ ،‬ومن كفر به فقد كفر يب ‪.‬‬
‫فقال النجاشي جلعفر رضي اهلل عنه ‪ :‬ماذا يقول لكم هذا الرجل ؟ وما يأمركم به ؟ وما‬
‫ينهاكم عنه ؟‬
‫فقال ‪ :‬يقرأ علينا كتاب اهلل ‪ ،‬ويأمرنا باملعروف ‪ ،‬وينهانا عن املنكر ‪ ،‬ويأمرنا حبسن اجلوار ‪،‬‬
‫وصلة الرحم ‪ ،‬وبر اليتيم ‪ ،‬ويأمرنا بأن نعبد اهلل وحده ال شريك له ‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬اقرأ مما يقرأ عليكم ‪ .‬فقرأ سوريت العنكبوت والروم ‪ .‬ففاضت عينا النجاشي من الدمع‬
‫‪ ،‬وقال‪ :‬زدنا من هذا احلديث الطيب‪ ،‬فقرأ عليهم سورة الكهف ‪.‬‬
‫فأراد عمرو أن يغضب النجاشي ‪ ،‬فقال ‪ :‬إهنم يشتمون عيسى وأمه ‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬ما تقولون يف عيسى وأمه ؟ فقرأ عليهم سورة مرمي ‪ ،‬فلما أتى على ذكر عيسى وأمه‬
‫رفع النجاشي بقشة من سواكه قدر ما يقذي العني ‪ .‬فقال ‪ :‬واهلل ما زاد املسيح على ما‬
‫تقولون نقرياً ‪.‬‬
‫وفيه نزل قول اهلل تعاىل ‪ " :‬وإذا مسعوا ما أنزل إىل الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما‬
‫عرفوا من احلق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين * وما لنا ال نؤمن باهلل وما جاءنا من‬
‫احلق " اآليات ‪.‬‬
‫فأقبل النجاشي على جعفر ‪ ،‬مث قال ‪ .‬اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي ‪-‬والسيوم اآلمنون‪ -‬من‬
‫سبكم غرم ‪ ،‬فال هوادة اليوم على حزب إبراهيم ‪.‬‬

‫موت النجاشي ‪:‬‬


‫‪57‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وملا مات النجاشي ‪ ،‬خرج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فصلى عليه كما يصلي على‬
‫اجلنائز ‪ .‬فقال املنافقون ‪ :‬يصلي على علج مات بأرض احلبشة ‪ ،‬فأنزل اهلل تعاىل ‪ " :‬وإن من‬
‫أهل الكتاب ملن يؤمن باهلل وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعني هلل " اآلية ‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إن إرسال قريش يف طلبهم كان قبل اهلجرة إىل املدينة ‪ ،‬ويف سنة مخس من النبوة‬
‫استرت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف دار األرقم ابن أيب األرقم ‪.‬‬

‫إسالم حمزة بن عبد المطلب ‪:‬‬


‫ويف السنة السادسة ‪ :‬أسلم محزة بن عبد املطلب وعمر ‪.‬‬
‫قال ابن إسحاق ‪ :‬مر أبو جهل برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عند الصفا ‪ ،‬فآذاه ونال منه ‪.‬‬
‫ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ساكت ‪ .‬فقام رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ودخل‬
‫املسجد ‪ ،‬وكانت موالة لعبد اهلل بن جدعان يف مسكن هلا على الصفا ‪ ،‬تسمع ما يقول أبو‬
‫جهل ‪ .‬وأقبل محزة من القنص متوشحاً قوسه ‪-‬وكان يسمى أعز قريش‪ -‬فأخربته موالة ابن‬
‫جدعان مبا مسعت من أيب جهل ‪ ،‬فغضب ‪ .‬ودخل املسجد ‪-‬وأبو جهل جالس يف نادي‬
‫قومه‪ -‬فقال له محزة ‪ :‬يا مصفر استه ! تشتم ابن أخي وأنا على دينه ؟ مث ضربه بالقوس‬
‫فشجه شجة موضحة ‪ ،‬فثار رجل من بين خمزوم ‪ ،‬وثار بنو هاشم ‪ ،‬فقال أبو جهل ‪ :‬دعوا أبا‬
‫عمارة ‪ ،‬فإين سببت ابن أخيه سباً قبيحاً ‪ .‬فعلمت قريش أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫قد عز فكفوا عنه بعدما كانوا ينالون منه ‪.‬‬
‫إسالم عمر رضي اهلل عنه ‪:‬‬
‫و"عن ابن عمر أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال ‪ :‬اللهم أعز اإلسالم بأحب الرجلني‬
‫إليك إما عمر بن اخلطاب ‪ ،‬أو أيب جهل بن هشام‪ ،‬فكان أحبهما إىل اهلل ‪ :‬عمر رضي اهلل‬
‫عنه "‪.‬‬
‫وروي "عن ابن عباس رضي اهلل عنهما ‪ :‬أنه قال لعمر رضي اهلل عنه ‪ :‬مل مسيت الفاروق ؟‬
‫فقال ‪ :‬أسلم محزة قبلي بثالثة أيام‪ ،‬مث شرح اهلل صدري لإلسالم ‪ ،‬وأول شئ مسعته من‬

‫‪58‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫القرآن ووقر يف صدري ‪ " :‬اهلل ال إله إال هو له األمساء احلسىن "‪ ،‬فما يف األرض نسمة أحب‬
‫إيل من نسمة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فسألت عنه ؟ فقيل يل ‪ :‬هو يف دار األرقم ‪،‬‬
‫فأتيت الدار ‪-‬ومحزة يف أصحابه جلوساً يف الدار ‪ ،‬ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف البيت‬
‫‪ -‬فضربت الباب ‪ ،‬فاستجمع القوم ‪ ،‬فقال هلم محزه ‪ :‬ما لكم ؟ فقالوا ‪ :‬عمر ‪ .‬فخرج‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فأخذ مبجامع ثيايب ‪ ،‬مث نرتين نرتة مل أمتالك أن وقعت على‬
‫ركبيت ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما أنت مبنته يا عمر !؟ فقلت ‪ :‬أشهد أن ال إله إال اهلل ‪ ،‬وأنك رسول اهلل ‪.‬‬
‫فكرب أهل الدار تكبرية مسعها أهل املسجد ‪ ،‬فقلت ‪ :‬يا رسول اهلل ! ألسنا على احلق ‪ ،‬إن متنا‬
‫أو حيينا ؟ قال ‪ :‬بلى ‪ ،‬فقلت ‪ :‬ففيم االختفاء؟ والذي بعثك باحلق لنخرجن ‪ ،‬فخرجنا يف‬
‫صفني ‪ :‬محزة يف صف ‪ ،‬وأنا يف صف ‪-‬له كديد ككديد الطحن‪ -‬حىت دخلنا املسجد ‪ ،‬فلما‬
‫نظرت إلينا قريش أصابتهم كآبة مل يصبهم مثلها قط‪ .‬فسماين رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫‪ :‬الفاروق" ‪.‬‬
‫وقال صهيب ‪ :‬ملا أسلم عمر رضي اهلل عنه جلسنا حول البيت حلقاً ‪ ،‬فطفنا واستنصفنا ممن‬
‫غلظ علينا ‪.‬‬

‫حماية أبي طالب لرسول اهلل ‪:‬‬


‫وملا رأت قريش أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يتزايد أمره ويقوى ‪ ،‬ورأوا ما صنع أبو‬
‫طالب به‪ .‬مشوا إليه بعمارة بن الوليد‪ ،‬فقالوا ‪ :‬يا أبا طالب ‪ ،‬هذا أهند فىت يف قريش وأمجله ‪،‬‬
‫فخذه وادفع إلينا هذا الذي خالف دينك ودين آبائك فنقتله ‪ ،‬فإمنا هو رجل برجل ‪ .‬فقال ‪:‬‬
‫بئسما تسومونين ‪ ،‬تعطوين ابنكم أربيه لكم وأعطيكم ابين تقتلونه ؟ فقال املطعم بن عدي بن‬
‫نوفل ‪ :‬يا أبا طالب ! قد أنصفك قومك ‪ ،‬وجهدوا على التخلص منك بكل طريق ‪ .‬قال ‪:‬‬
‫واهلل ما أنصفتموين ‪ ،‬ولكن أمجعت على خذالين‪ ،‬فاصنع ما بدا لك ‪.‬‬
‫وقال أشراف مكة أليب طالب ‪ :‬إما أن ختلي بيننا وبينه فنكفيكه ‪ ،‬فإنك على مثل ما حنن عليه‬
‫‪ ،‬أو أمجع حلربنا ‪ ،‬فإنا لسنا بتاركي ابن أخيك على هذا ‪ ،‬حىت هنلكه أو يكف عنا ‪ .‬فقد‬
‫طلبنا التخلص من حربك بكل ما نظن أنه خيلص ‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫فبعث أبو طالب إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فقال له ‪ :‬يا ابن أخي ! إن قومك‬
‫جاؤوين وقالوا ‪ :‬كذا وكذا ‪ ،‬فأبق علي وعلى نفسك ‪ ،‬وال حتملين ما ال أطيق أنا وال أنت ‪،‬‬
‫فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك ‪ .‬فقال صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬واهلل لو وضعوا‬
‫الشمس يف مييين والقمر يف يساري ‪ ،‬ما تركت هذا األمر حىت يظهره اهلل ‪ ،‬أو أهلك يف طلبه‪،‬‬
‫فقال‪ :‬امض على أمرك‪ ،‬فواهلل ال أسلمك أبداً ‪.‬‬
‫ودعا أبو طالب أقاربه إىل نصرته فأجابه بنو هاشم وبنو املطلب غري أيب هلب ‪ ،‬وقال أبو‬
‫طالب ‪:‬‬
‫حىت أوسد يف الرتاب دفينا‬ ‫واهلل لن يصلوا إليك جبمعهم‬
‫وابشر وقر بذاك منك عيونا‬ ‫فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة‬
‫ولقد صدقت وكنت مث أمينا‬ ‫ودعوتين وعرفت أنك ناصحي‬
‫من خري أديان الربية دينا‬ ‫وعرضت ديناً قد عرفت بأنه‬
‫لوجدتين مسحاً بذاك مبينا‬ ‫لوال املالمة أو حذار مسبة‬

‫حصار بني هاشم في الشعب ‪:‬‬


‫وملا اجتمعوا ‪ -‬مؤمنهم وكافرهم ‪ -‬على منع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬اجتمعت‬
‫قريش ‪ ،‬فأمجعوا أمرهم على أن ال جيالسوهم ‪ ،‬وال يبايعوهم ‪ ،‬وال يدخلوا بيوهتم ‪ ،‬حىت‬
‫يسلموا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم للقتل ‪ .‬وكتبوا بذلك صحيفة فيها عهود ومواثيق ‪:‬‬
‫أن ال يقبلوا من بين هاشم صلحاً أبداً ‪ ،‬وال تأخذهم هبم رأفة حىت يسلموه للقتل‪ ،‬فأمرهم أبو‬
‫طالب أن يدخلوا شعبه فلبثوا فيه ثالث سنني ‪ .‬واشتد عليهم البالء ‪ ،‬وقطعوا عنهم األسواق‬
‫‪ ،‬فال يرتكون طعاماً يدخل مكة ‪ ،‬وال بيعاً إال بادروا فاشرتوه ‪ ،‬ومنعوه أن يصل شئ منه إىل‬
‫بين هاشم ‪ ،‬حىت كان يسمع أصوات نسائهم يتضاغون من وراء الشعب من اجلوع ‪.‬‬
‫واشتدوا على من أسلم ممن مل يدخل الشعب ‪ ،‬فأوثقوهم ‪ ،‬وعظمت الفتنة وزلزلوا زلزاالً‬
‫شديداً ‪ ،‬وكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم ‪ .‬أمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن‬
‫يضطجع على فراشه ‪ ،‬حىت يرى ذلك من أراد اغتياله ‪ ،‬فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوانه‬
‫‪60‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫أو بين عمه فاضطجع على فراش رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وأمره أن يأيت أحد فرشهم‬
‫‪.‬‬
‫يف ذلك عمل أبو طالب قصيدته الالمية املشهورة اليت قال فيها ‪:‬‬
‫وقد قطعوا كل العرى والوسائل‬ ‫وملا رأيت القوم ال ود فيهمو‬
‫وقد طاوعوا أمر العدو املزايـل‬ ‫وقد صارحونا بالعداوة واألذى‬
‫وأبيض عضب من تراث املقاول‬ ‫صربت هلم نفسي بسمراء مسحة‬
‫وأمسكت من أثوابه بالوصائل‬ ‫وأحضرت عند البيت رهطي وأسريت‬
‫علينا بسوء أو ملح بباطل‬ ‫أعوذ برب الناس من كل طاعن‬
‫ومن ملحق يف الدين ما مل حناول‬ ‫ومـن كاشح يسعى لنا مبغيظة‬
‫وراق لريقى فـي حراء ونازل‬ ‫وثور ومن أرسى ثبرياً مكانه‬
‫وباهلل إن اهلل ليس بغافل‬ ‫وبالبيت‪-‬حق البيت‪-‬من بطن مكة‬
‫إذا اكتنفوه بالضحى واألصائل‬ ‫وباحلجر املسود إذ ميسحونه‬
‫على قدميه حافياً غري ناعل‬ ‫وموطىء إبراهيم يف الصخر رطبة‬
‫وما فيهما من صورة ومتاثل‬ ‫وأشواط بني املروتني إىل الصفا‬
‫ومن كل ذي نذر ومن كل راجل‬ ‫ومن حج بيت اهلل مـن كل راكب‬
‫وهل فوقها من حرمة ومنازل؟‬ ‫وليلة مجع واملنازل من مىن‬
‫وهل من معيذ يتقي اهلل عاذل؟‬ ‫فهل بعد هـذا من معاذ لعائذ‬
‫ونظعن إال أمركم يف بالبل‬ ‫كذبتم وبيت اهلل نرتك مكة‬
‫وملا نطاعن دونه ونناضل؟‬ ‫كذبتم وبيت اهلل نبزى حممداً‬
‫ونذهل عن أبنائنا واحلالئل‬ ‫ونسلمه حىت نصرع حوله‬
‫هنوض الروايا حتت ذات الصالصل‬ ‫وينهض قوم يف احلديد إليكمو‬
‫***‬
‫لتلتبسن أسيافنا باألماثل‬ ‫وإنا لعمر اهلل إن جد ما أرى‬

‫‪61‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫أخي ثقة حامي احلقيقة باسـل‬ ‫بكفي فىت مثل الشهاب مسيدع‬
‫حيوط الذمار غري ذرب مواكل‬ ‫وما ترك قـوم‪-‬ال أبا لك‪-‬سيداً‬
‫ربيع اليتامى عصمة لألرامل‬ ‫وأبيض يستسقى الغمائم بوجهه‬
‫فهم عنده يف رمحة وفواضل‬ ‫يلوذ به اهلالك من آل هاشم‬
‫***‬
‫حسود كذوب مبغض ذي دغائل‬ ‫فعتبة ال تسمع بنا قول كاشح‬
‫كما مر قيل من عظام املقاول‬ ‫ومر أبو سفيان عين معرضاً‬
‫ويزعم أين لست عنك بغافل‬ ‫يفر إىل جند وبرد مياهه‬
‫وال معظم عند األمور اجلالئل‬ ‫أمطعم مل أخذلك يف يوم جندة‬
‫وإين مىت أوكل فلست بآكلي‬ ‫أمطعم ‪ .‬إن القوم ساموك خطة‬
‫عقوبة شر عاجالً غري آجل‬ ‫جزى اهلل عنا عبد مشس ونوفالً‬
‫فال تشركوا يف أمركم كل واغل‬ ‫فعبد مناف أنتمو خري قومكم‬
‫اآلن حطاب أقدر ومراجل‬ ‫وكنتم حديثاً حط ــب قدر فأنتمو‬
‫لعمري وجدنا غبه غري طائل‬ ‫فكل صديق وابن أخت نعده‬
‫مرة براء إلينا من معقة خاذل‬ ‫سوى أن رهطاً من كالب بن‬
‫***‬
‫زهري حساماً مفرداً من محائـل‬ ‫ونعم ابن أخت القوم غري مكذب‬
‫وإخوته دأب احملب املواصل‬ ‫لعمري لقد كلفت وجداً بأمحد‬
‫إذا قاسه احلكام عند التفاضل؟‬ ‫فمن مثله يف الناس أي مؤمل‬
‫يوايل إهلاً ليس عنه بغافل‬ ‫حليم رشيد عادل غري طائش‬
‫جتر على أشياخنا يف احملافل‬ ‫واهلل لوال أن أجيء بسبة‬
‫من الدهر جداً غري قول التهازل‬ ‫لكنا اتبعناه على كل حالة‬
‫لدينا وال يعىن بقـول األباطـل‬ ‫لقد علموا أن ابننا ال مكذب‬

‫‪62‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫ودافعت عنه بالذرى والكالكل‬ ‫حدبت بنفسي دونه ومحيته‬

‫نقض الصحيفة ‪:‬‬


‫مث بعد ذلك مشى هشام بن عمرو من بين عامر بن لؤي ‪ ،‬وكان يصل بين هاشم يف الشعب‬
‫خفية بالليل بالطعام ‪-‬مشى إىل زهري بن أيب أمية املخزومي‪ -‬وكانت أمه عاتكة بنت عبد‬
‫املطلب ‪ -‬وقال ‪ :‬يا زهري ‪ ،‬أرضيت أن تأكل الطعام وتشرب الشراب‪،‬وأخوالك حبيث تعلم‬
‫؟ فقال ‪ :‬وحيك ! فما أصنع وأنا رجل واحد ؟ أما واهلل لو كان معي رجل آخر لقمت يف‬
‫نقضها‪ .‬قال ‪ :‬أنا‪ ،‬قال ‪ :‬ابغنا ثالثاً ‪ .‬قال ‪ :‬أبو البخرتي بن هشام ‪ ،‬قال ‪ :‬ابغنا رابعاً ‪ .‬قال ‪:‬‬
‫زمعة بن األسود ‪ .‬قال ‪ :‬ابغنا خامساً ‪ ،‬قال ‪ :‬املطعم بن عدي ‪ .‬قال ‪ :‬فاجتمعوا عند احلجون‬
‫‪ ،‬وتعاقدوا على القيام بنقض الصحيفة ‪.‬‬
‫فقال زهري ‪ :‬أنا أبدأ هبا ‪ ،‬فجاؤوا إىل الكعبة ‪-‬وقريش حمدقة هبا‪ -‬فنادى زهري ‪ :‬يا أهل مكة !‬
‫إنا نأكل الطعام ‪ ،‬ونشرب الشراب ‪ ،‬ونلبس الثياب ‪ ،‬وبنو هاشم هلكى ‪ ،‬واهلل ال أقعد حىت‬
‫تشق هذه الصحيفة القاطعة الظاملة ‪.‬‬
‫فقال أبو جهل ‪ :‬كذبت ‪ ،‬واهلل ال تشق ‪ .‬فقال زمعة ‪ :‬أنت واهلل أكذب ما رضينا كتابتها‬
‫حني كتبت ‪.‬‬
‫وقال أبو البخرتي ‪ :‬صدق زمعة ‪ ،‬ال نرضى ما كتب فيها وال نقار عليه ‪.‬‬
‫فقال املطعم بن عدي ‪ :‬صدقتما ‪ ،‬وكذب من قال غري ذلك ‪ .‬نربأ إىل اهلل منها ومما كتب‬
‫فيها ‪.‬‬
‫وقال هشام بن عمرو ‪ :‬حنو ذلك ‪.‬‬
‫فقال أبو جهل ‪ :‬هذا أمر قد قضي بليل ‪ ،‬تشوور فيه بغري هذا املكان ‪.‬‬
‫وبعث اهلل على صحيفتهم األرضة ‪ ،‬فلم ترتك امساً هلل إال حلسته ‪ ،‬وبقي ما فيها من شرك‬
‫وظلم وقطيعة ‪ .‬وأطلع اهلل رسوله على الذي صنع بصحيفتهم ‪ ،‬فذكر ذلك لعمه ‪ ،‬فقال ‪ :‬ال‬
‫والثواقب ما كذبتين ‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫فانطلق ميشي بعصابة من بين عبد املطلب ‪ ،‬حىت أتى املسجد وهو حافل من قريش ‪ .‬فلما‬
‫رأوهم ظنوا أهنم خرجوا من شدة احلصار ‪ ،‬وأتوا ليعطوهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪،‬‬
‫فتكلم أبو طالب ‪ ،‬فقال ‪ :‬قد حدث أمر ‪ ،‬لعله أن يكون بيننا وبينكم صلحاً ‪ ،‬فائتوا‬
‫بصحيفتكم ‪-‬وإمنا قال ذلك خشية أن ينظروا فيها قبل أن يأتوا هبا ‪ ،‬فال يأتون هبا‪ -‬فأتوا هبا‬
‫معجبني ‪ .‬اليشكون أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مدفوع إليهم ‪ ،‬قالوا ‪ :‬قد آن لكم أن‬
‫تفيئوا وترجعوا خطراً هللكة قومكم ‪ .‬فقال أبو طالب ‪ :‬ألعطينكم أمراً فيه نصف ‪ ،‬إن ابين‬
‫أخربين ‪-‬ومل يكذبين‪ -‬أن اهلل عز وجل بريء من هذه الصحيفة اليت يف أيديكم ‪ ،‬وأنه حما كل‬
‫اسم له فيها ‪ ،‬وترك فيها غدركم ‪ ،‬وقطيعتكم ‪ ،‬فإن كان ما قال حقاً ‪ ،‬فواهلل ال نسلمه‬
‫إليكم حىت منوت عن آخرنا ‪ ،‬وإن كان الذي يقول باطالً ‪ ،‬دفعناه إليكم فقتلتموه أو‬
‫استحييتموه ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬قد رضينا ‪ ،‬ففتحوا الصحيفة فوجدوها كما أخرب ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬هذا سحر من صاحبكم ‪،‬‬
‫فارتكسوا وعادوا إىل شر ما هم عليه ‪.‬‬
‫فتكلم عند ذلك النفر الذين تعاقدوا ‪-‬كما تقدم ‪ -‬وقال أبو طالب شعراً ميدح النفر الذين‬
‫تعاقدوا على نقض الصحيفة ‪ ،‬وميدح النجاشي ‪ ،‬ومنه ‪:‬‬
‫على مأل يهدي حلزم ويرشد‬ ‫جزى اهلل رهطاً باحلجون تتابعوا‬
‫إذا ما مشى يف رفرف الذرع أحرد‬ ‫أعان عليها كل صقـر كأنه‬
‫مقاولة بل هم أعـز وأجمـد‬ ‫قعوداً لدى جنب احلجون كأهنم‬
‫وأسلم هشام بن عمرو يوم الفتح ‪.‬‬
‫وخرج بنو هاشم من شعبهم وخالطوا الناس ‪ ،‬وكان خروجهم يف سنة عشر من النبوة ‪،‬‬
‫ومات أبو طالب بعد ذلك بستة أشهر ‪.‬‬

‫موت خديجة وأبي طالب ‪:‬‬

‫‪64‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وماتت خدجية أم املؤمنني رضي اهلل عنها بعد موت أيب طالب بأيام ‪ ،‬فاشتد البالء على رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم من قومه بعد موت خدجية وعمه ‪ ،‬وجترؤوا عليه ‪ ،‬وكاشفوه باألذى‬
‫‪ ،‬وأرادوا قتله ‪ ،‬فمنعهم اهلل من ذلك ‪.‬‬
‫قال عبد اهلل بن عمرو بن العاص رضي اهلل عنهما ‪" :‬حضرهتم ‪ ،‬وقد اجتمع أشرافهم يف‬
‫احلجر‪ ،‬فذكروا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬ما رأينا مثل صربنا عليه ‪ ،‬سفه‬
‫أحالمنا ‪ ،‬وشتم آباءنا ‪ ،‬وفرق مجاعتنا ‪ ،‬فبينما هم يف ذلك ‪ ،‬إذ أقبل ‪ ،‬فاستلم الركن ‪ ،‬فلما‬
‫مر هبم غمزوه" ‪.‬‬
‫ويف حديث ‪ :‬أنه قال هلم يف الثانية ‪" :‬لقد جئتكم بالذبح"‪ ،‬وأهنم قالوا له ‪ :‬يا أبا القاسم ! ما‬
‫كنت جهوالً ‪ ،‬فانصرف راشداً ‪.‬‬
‫فلما كان من الغد اجتمعوا ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬ذكرمت ما بلغ منكم ‪ ،‬حىت إذا أتاكم مبا تكرهون‬
‫تركتموه ‪ .‬فبينما هم كذلك ‪ .‬إذ طلع عليهم ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬قوموا إليه وثبة رجل واحد ‪ ،‬فلقد‬
‫رأيت عقبة بن أيب معيط آخذاً مبجامع ردائه ‪ ،‬وقام أبو بكر دونه وهو يبكي ‪ ،‬يقول ‪:‬‬
‫أتقتلون رجالً أن يقول ريب اهلل ؟‬
‫ويف حديث أمساء ‪" :‬فأتى الصريخ إىل أيب بكر ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬أدرك صاحبك ‪ ،‬فخرج من عندنا‬
‫وله غدائر أربع ‪ ،‬فخرج وهو يقول ‪ :‬ويلكم ‪ ،‬أتقتلون رجالً أن يقول ريب اهلل ؟ فلهوا عنه ‪،‬‬
‫وأقبلوا على أيب بكر ‪ ،‬فرجع إلينا ال ميس شيئاً من غدائر إال رجع معه" ‪.‬‬
‫ومرة كان يصلي عند البيت ‪ ،‬ورهط من أشرافهم يرونه ‪ ،‬فأتى أحدهم بسلى جزور ‪ ،‬فرماه‬
‫على ظهره ‪.‬‬
‫وكانوا يعلمون صدقه وأمانته ‪ ،‬وأن ما جاء به هو احلق ‪ ،‬لكنهم كما قال تعاىل ‪ " :‬فإهنم ال‬
‫يكذبونك ولكن الظاملني بآيات اهلل جيحدون " ‪.‬‬
‫وذكر الزهري ‪ :‬أن أبا جهل ‪ ،‬ومجاعة معه ‪ ،‬وفيهم األخنس بن شريق ‪ ،‬استمعوا قراءة‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف الليل‪ ،‬فقال األخنس أليب جهل ‪ :‬يا أبا احلكم ! ما رأيك‬
‫فيما مسعت من حممد ؟ فقال ‪ :‬تنازعنا حنن وبنو عبد مناف الشرف ‪ ،‬أطعموا فأطعمنا ‪،‬‬

‫‪65‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫ومحلوا فحملنا ‪ ،‬وأعطوا فأعطينا ‪ ،‬حىت إذا جتاثينا على الركب ‪ ،‬وكنا كفرسي رهان ‪ ،‬قالوا‬
‫‪ :‬منا نيب يأتيه الوحي من السماء ! فمىت ندرك هذا ؟ واهلل ال نسمع له أبداً ‪ ،‬وال نصدقه أبداً‬
‫‪.‬‬
‫ويف رواية ‪ :‬إين ألعلم أن ما يقول حق ‪ ،‬ولكن بين قصي قالوا ‪ :‬فينا الندوة ‪ ،‬فقلنا ‪ :‬نعم ‪،‬‬
‫قالوا ‪ :‬فينا السقاية ‪ ،‬فقلنا‪ :‬نعم‪ ،‬وذكر حنوه ‪.‬‬

‫سؤالهم عن الروح وأهل الكهف ‪:‬‬


‫وكانوا يرسلون إىل أهل الكتاب يسألوهنم عن أمره ؟‬
‫قال ابن إسحاق عن ابن عباس ‪" :‬بعثت قريش النضر بن احلارث ‪ ،‬وعقبة بن أيب معيط ‪ ،‬إىل‬
‫أحبار اليهود باملدينة ‪ ،‬فقالوا هلما‪ :‬سالهم عن حممد ‪ ،‬وصفا هلم صفته ‪ ،‬فإهنم أهل الكتاب ‪.‬‬
‫وعندهم ما ليس عندنا من علم األنبياء ‪ .‬فخرجا حىت قدما املدينة ‪ ،‬فسأالهم عنه ؟ ووصفا‬
‫هلم أمره ‪ .‬فقالت هلم أحبار اليهود ‪ :‬سلوه عن ثالث ‪ ،‬فإن أخربكم هبن فهو نيب مرسل ‪،‬‬
‫وإال فهو رجل متقول ‪ :‬سلوه عن فتية ذهبوا يف الدهر األول ‪ :‬ما كان أمرهم ؟ فإنه قد كان‬
‫هلم حديث عجيب ‪ .‬وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق األرض ومغارهبا ‪ ،‬فما كان‬
‫نبؤه ؟ وسلوه عن الروح ما هي ؟ فأقبال حىت قدما مكة ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬قد جئناكم بفصل ما‬
‫بينكم وبني حممد ‪ .‬قد أخربنا أحبار يهود ‪ :‬أن نسأله عن أشياء أمرونا هبا ‪ .‬فجاؤوا رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فسألوه عما أخربهم أحبار يهود ‪ ،‬فجاءه جربيل بسورة الكهف‬
‫فيها خرب ما سألوه عنه ‪ ،‬من أمر الفتية ‪ ،‬والرجل الطواف ‪ ،‬وجاءه بقوله ‪ " :‬ويسألونك عن‬
‫الروح " اآلية" ‪.‬‬
‫قال ابن إسحاق ‪ :‬فافتتح السورة حبمده وذكر نبوة رسوله ملا أنكروا عليه من ذلك ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫" احلمد هلل الذي أنزل على عبده الكتاب " ‪ ،‬يعين ‪ :‬أنك رسول مين ‪ ،‬أي حتقيق ما سألوا‬
‫عنه ‪ ،‬من نبوتك " ومل جيعل له عوجا " ‪ ،‬أي ‪ :‬أنزله معتدالً ‪ .‬ال خالف فيه ‪-‬وذكر تفسري‬
‫السورة‪ " -‬أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا "‪ ،‬أي ‪ :‬ما رأوا من‬

‫‪66‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫قدريت يف أمر اخلالئق ‪ ،‬وفيما وضعت على العباد من حججي ما هو أعظم من ذلك وأعجب‬
‫‪.‬‬
‫وعن ابن عباس ‪ :‬الذي آتيتك من الكتاب والسنة أعظم من شأن أصحاب الكهف ‪ .‬قال ابن‬
‫عباس ‪ :‬واألمر على ما ذكروا ‪ ،‬فإن مكثهم نياماً ثالمثائة سنة ‪ :‬آية دالة على قدرة اهلل‬
‫ومشيئته ‪ ،‬وهي أية دالة على معاد األبدان ‪ ،‬كما قال تعاىل ‪ " :‬وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا‬
‫أن وعد اهلل حق وأن الساعة ال ريب فيها " ‪ ،‬وكان الناس قد تنازعوا يف زماهنم ‪ ،‬هل تعاد‬
‫األرواح وحدها ؟ أم األرواح واألبدان ؟ فجعلهم اهلل آية دالة على معاد األبدان ‪ ،‬وأخرب النيب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم بقصتهم من غري أن يعلمه بشر ‪ ،‬آية دالة على نبوته ‪ .‬فكانت قصتهم آية‬
‫دالة على األصول الثالثة ‪ :‬اإلميان باهلل ‪ ،‬ورسوله ‪ ،‬واليوم اآلخر ‪ ،‬ومع هذا ‪ :‬فمن آيات اهلل‬
‫ما هو أعجب من ذلك ‪.‬‬
‫وقد ذكر اهلل سبحانه وتعاىل سؤاهلم عن هذه اآليات اليت سألوه عنها ليعلموا ‪ :‬هل هو نيب‬
‫صادق ‪ ،‬أو كاذب ؟ فقال ‪ " :‬ويسألونك عن ذي القرنني قل سأتلو عليكم منه ذكرا " ‪،‬‬
‫وقوله ‪ " :‬لقد كان يف يوسف وإخوته آيات للسائلني " إىل قوله ‪ " :‬إذ أمجعوا أمرهم وهم‬
‫ميكرون " ‪.‬‬
‫والقرآن مملوء من إخباره بالغيب املاضي ‪ ،‬الذي ال يعلمه أحد من البشر ‪ ،‬إال من جهة‬
‫األنبياء ‪ ،‬ال من جهة األولياء ‪ ،‬وال من جهة غريهم ‪ ،‬وقد عرفوا أنه صلى اهلل عليه وسلم ال‬
‫يتعلم هذا من بشر ‪ ،‬ففيه آية وبرهان قاطع على صدقه ونبوته ‪.‬‬

‫قول الوليد بن المغيرة في القرآن ‪ :‬سحر‬


‫وعن ابن عباس قال ‪" :‬إن الوليد بن املغرية ‪ ،‬جاء إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فقال ‪ :‬اقرأ‬
‫علي ‪ ،‬فقرأ عليه ‪ " :‬إن اهلل يأمر بالعدل واإلحسان وإيتاء ذي القرىب " اآلية ‪ ،‬فقال ‪ :‬واهلل إن‬
‫له حلالوة ‪ ،‬وإن عليه لطالوة ‪ ،‬وإن أعاله ملثمر ‪ ،‬وإن أسفله ملغدق ‪ ،‬وإنه ليعلو وال يعلى عليه‬
‫‪ ،‬وإنه ليحطم ما حتته ‪ ،‬وما يقول هذا بشر" ‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫ويف رواية ‪" :‬وبلغ ذلك أبا جهل ‪ ،‬فأتاه ‪ .‬فقال ‪ :‬يا عم ! إن قومك يريدون أن جيمعوا لك‬
‫ماالً ‪ ،‬قال ‪ :‬ومل ؟ قال ‪ :‬أتيت حممداً لتعوض مما قبله ‪ .‬قال ‪ :‬قد علمت قريش أين من‬
‫أكثرها ماالً ‪ ،‬قال ‪ :‬فقل فيه قوالً يبلغ قومك ‪ :‬أنك منكر له ‪ ،‬قال‪ :‬ماذا أقول؟ فواهلل ما‬
‫فيكم أعلم باألشعار مين اخل" ‪.‬‬
‫ويف رواية أن الوليد بن املغرية قال ‪-‬وقد حضر املوسم‪" : -‬ستقدم عليكم وفود العرب من‬
‫كل جانب ‪ ،‬وقد مسعوا بأمر صاحبكم‪ ،‬فأمجعوا فيه رأياً ‪ ،‬وال ختتلفوا ‪ ،‬فيكذب بعضكم‬
‫بعضاً ‪ .‬فقالوا ‪ .‬فأنت فقل ‪ ،‬فقال ‪ :‬بل قولوا وأنا أمسع ‪ ،‬قالوا ‪ :‬نقول ‪ :‬كاهن‪ .‬قال ‪ :‬ما هو‬
‫بزمزمة الكهان ‪ ،‬وال سجعهم ‪ .‬قالوا نقول ‪ :‬جمنون ‪ ،‬قال ‪ :‬ما هو مبجنون ‪ ،‬لقد رأينا اجلنون‬
‫وعرفناه فما هو خبنقه‪ ،‬وال وسوسته وال ختاجله ‪ .‬قالوا ‪ :‬نقول ‪ :‬شاعر ‪ ،‬قال ‪ :‬ما هو بشاعر‬
‫‪ ،‬لقد عرفنا الشعر رجزه وهزجه ‪ ،‬وقريضه ‪ ،‬ومقبوضه ‪ ،‬ومبسوطه ‪ .‬قالوا ‪ :‬نقول ‪ :‬ساحر ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬ما هو بساحر ‪ ،‬لقد رأينا السحرة وسحرهم ‪ ،‬فما هو بعقدهم وال نفثهم ‪ ،‬قالوا‪ :‬فما‬
‫نقول يا أبا عبد مشس ؟ قال ‪ :‬ما نقول من شئ من هذا إال عرف أنه باطل ‪ ،‬وإن أقرب‬
‫القول ‪ ،‬أن تقولوا ‪ :‬ساحر ‪ ،‬يفرق بني املرء وأخيه ‪ ،‬وبني املرء وزوجته ‪ ،‬وبني املرء وعشريته‬
‫‪ .‬فتفرقوا عنه بذلك ‪ .‬فجعلوا جيلسون للناس ‪ ،‬ال مير هبم أحد إال حذروه رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬فأنزل اهلل يف الوليد بن املغرية ‪ " :‬ذرين ومن خلقت وحيدا " إىل قوله ‪" :‬‬
‫سأصليه سقر " ‪.‬‬
‫ونزل يف النفر الذين كانوا معه يصنفون القول يف رسول اهلل ‪ ،‬وفيما جاء به من عند اهلل ‪" :‬‬
‫الذين جعلوا القرآن عضني " "‪ ،‬أي ‪ :‬أصنافاً ‪.‬‬
‫وكانوا يسألون رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم اآليات ‪ ،‬فمنها ما يأتيهم اهلل به ‪ ،‬حلكمة‬
‫أرادها اهلل سبحانه ‪.‬‬

‫انشقاق القمر ‪:‬‬

‫‪68‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫فمن ذلك أهنم سألوه ‪ :‬أن يريهم آية ‪ ،‬فأراهم انشقاق القمر ‪ ،‬وأنزل قوله ‪ " :‬اقرتبت الساعة‬
‫وانشق القمر " اآليات ‪ ،‬إىل قوله ‪ " :‬وكل أمر مستقر " ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬سحركم ‪ ،‬انظروا إىل‬
‫السفار ‪ ،‬فإن كانوا رأوا مثل ما رأيتم فقد صدق فقدموا من كل وجه ‪ ،‬فقالوا‪ :‬رأينا ‪.‬‬
‫وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم رمبا طلب من اآليات ‪-‬اليت يقرتحون‪ -‬رغبة منه يف‬
‫إمياهنم ‪ ،‬فيجاب بأهنا ‪ :‬ال تستلزم اهلدى ‪ ،‬بل توجب عذاب االستئصال ملن كذب هبا ‪.‬‬

‫سؤالهم اآليات ‪:‬‬


‫واهلل سبحانه قد يظهر اآليات الكثرية ‪ ،‬مع طبعه على قلب الكافر ‪ ،‬كفرعون ‪ ،‬قال تعاىل ‪" :‬‬
‫وأقسموا باهلل جهد أمياهنم لئن جاءهتم آية ليؤمنن هبا " إىل قوله ‪ " :‬ولكن أكثرهم جيهلون " ‪،‬‬
‫وقال تعاىل ‪ " :‬وما منعنا أن نرسل باآليات إال أن كذب هبا األولون " اآلية ‪.‬‬
‫بني سبحانه وتعاىل ‪ :‬أنه إمنا منعه أن يرسل هبا إال أن كذب هبا األولون ‪ ،‬فإذا كذب هؤالء‬
‫كذلك ‪ ،‬استحقوا عذاب االستئصال ‪.‬‬
‫وروى أهل التفسري ‪ ،‬وأهل احلديث عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬سأله أهل مكة أن جيعل هلم الصفا‬
‫ذهباً ‪ ،‬وأن ينحي عنهم اجلبال حىت يزرعوا ‪ ،‬فقيل له ‪ :‬إن شئت نستأين هبم ‪ ،‬وإن شئت أن‬
‫نؤتيهم الذي سألوا‪ ،‬فإن كفروا هلكوا ‪ ،‬كما هلك من قبلهم ‪ ،‬فقال ‪ :‬بل استأين هبم ‪ ،‬فأنزل‬
‫اهلل ‪ " :‬وما منعنا أن نرسل باآليات إال أن كذب هبا األولون " اآلية ‪.‬‬
‫وروى ابن أيب حامت عن احلسن يف اآلية ‪ ،‬قال ‪ :‬رمحة لكم أيها األمة ‪ ،‬إنا لو أرسلنا باآليات‬
‫‪ ،‬فكذبتم هبا ‪ :‬أصابكم ما أصاب من قبلكم ‪ .‬وكانت اآليات تأتيهم آية بعد آية ‪ ،‬فال‬
‫يؤمنون هبا ‪ ،‬قال تعاىل ‪ " :‬وما تأتيهم من آية من آيات رهبم إال كانوا عنها معرضني " اآلية ‪.‬‬
‫أخرب سبحانه بأن اآليات تأتيهم فيعرضون عنها ‪ ،‬وأهنم سريون صدق ما جاءت به الرسل ‪،‬‬
‫كما أهلك اهلل من كان قبلهم بالذنوب اليت هي تكذيب الرسل ‪ ،‬فإن اهلل سبحانه وتعاىل‬
‫يقول ‪ " :‬وما كان ربك مهلك القرى حىت يبعث يف أمها رسوال " اآلية ‪ .‬وأخرب بشدة‬
‫كفرهم بأهنم لو أنزل عليهم كتابا يف قرطاس فلمسوه بأيديهم ‪ ،‬لكذبوا به ‪ .‬وبني سبحانه أنه‬
‫لو جعل الرسول ملكاً جلعله على صورة الرجل ‪ .‬إذ كانوا ال يستطيعون أن يروا املالئكة يف‬
‫‪69‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫صورهم اليت خلقوا عليها ‪ ،‬وحينئذ يقع اللبس عليهم ‪ ،‬لظنهم الرسول بشراً ال ملكاً ‪ .‬وقال‬
‫تعاىل ‪ " :‬وقالوا لن نؤمن لك حىت تفجر لنا من األرض ينبوعا " اآليات ‪.‬‬
‫وهذه اآليات لو أجيبوا إليها ‪ ،‬مث مل يؤمنوا ‪ :‬ألتاهم عذاوب االستئصال ‪ ،‬وهي ال توجب‬
‫اإلميان ‪ ،‬بل إقامة للحجة ‪ ،‬واحلجة قائمة بغريها ‪ .‬وهي أيضاً مما ال يصلح ‪ ،‬فإن قوهلم ‪" :‬‬
‫حىت تفجر لنا من األرض ينبوعا " يقتضي تفجريها مبكة ‪ ،‬فيصري وادياً ذا زرع ‪ .‬واهلل‬
‫سبحانه وتعاىل قضى بسابق حكمته ‪ :‬أن جعل بيته بواد غري ذي زرع ‪ ،‬لئال يكون عنده ما‬
‫ترغب النفوس فيه من الدنيا ‪ ،‬فيكون حجهم للدنيا ‪.‬‬
‫وإذا كان له جنة من خنيل وعنب كان يف هذا من التوسع يف الدنيا ما يقتضي نقص درجته ‪،‬‬
‫وكذلك إذا كان له قصر من زخرف ‪ ،‬وهو الذهب ‪ .‬أما إسقاط السماء كسفاً ‪ :‬فهذا ال‬
‫يكون إال يوم القيامة ‪ .‬وأما اإلتيان باهلل واملالئكة قبيالً ‪ :‬فهذا ملا سأل قوم موسى موسى ما‬
‫هو دونه أخذهتم الصاعقة ‪ ،‬وقال تعاىل ‪ " :‬يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من‬
‫السماء " اآليات ‪.‬‬
‫بني سبحانه ‪ :‬أن املشركني وأهل الكتاب سألوه إنزال كتاب من السماء ‪ ،‬وبني أن الطائفتني‬
‫ال يؤمنون إذا جاءهم ذلك ‪ ،‬وأهنم إمنا سألوه تعنتاً ‪ ،‬فقال عن املشركني ‪ " :‬ولو نزلنا عليك‬
‫كتابا يف قرطاس " اآلية ‪.‬‬
‫وقال عن أهل الكتاب ‪ " :‬فقد سألوا موسى أكرب من ذلك " إىل قوله ‪ " :‬ورفعنا فوقهم " ‪،‬‬
‫فهم ‪-‬مع هذا‪ -‬نقضوا امليثاق‪ ،‬وكفروا بآيات اهلل ‪ ،‬وقتلوا النبيني ‪ .‬فكان فيه من االعتبار ‪:‬‬
‫أن الذين ال يهتدون إذا جاءهتم اآليات املقرتحة مل يكن يف جميئها منفعة هلم ‪ ،‬بل فيها وجوب‬
‫عقوبة عذاب االستئصال إذا مل يؤمنوا ‪ ،‬وتغليظ األمر عليهم ‪ ،‬كما قال تعاىل ‪ " :‬فبظلم من‬
‫الذين هادوا " اآلية ‪ ،‬فكان يف إنزال مثل هذه ‪ :‬أعظم رمحة وحكمة ‪.‬‬
‫وملا طلب احلواريون من املسيح املائدة ‪ ،‬كانت من اآليات املوجبة ملن كفر هبا عذاباً ‪ ،‬مل‬
‫يعذب اهلل به أحداً من العاملني ‪ .‬وكان قبل نزول التوراة يهلك املكذبني بالرسل بعذاب‬
‫االستئصال عاجالً ‪ .‬وأظهر آيات كثرية ملا أرسل موسى ليبقى ذكرها يف األرض ‪ ،‬إذ كان‬

‫‪70‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫بعد نزول التوراة مل يهلك أمة بعذاب االستئصال ‪ ،‬كما قال تعاىل ‪ " :‬ولقد آتينا موسى‬
‫الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون األوىل " ‪ ،‬بل كان بنو إسرائيل ملا كانوا يفعلون ما يفعلون‬
‫‪-‬من الكفر واملعاصي‪ -‬يعذب اهلل بعضهم ويبقي بعضهم ‪ ،‬إذ كانوا ال يتفقون على الكفر ‪،‬‬
‫ومل يزل يف األرض منهم أمة باقية على الصالح ‪ .‬قال تعاىل ‪ " :‬وقطعناهم يف األرض أمما‬
‫منهم الصاحلون ومنهم دون ذلك " اآلية ‪ ،‬وقال ‪ " :‬من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات‬
‫اهلل آناء الليل وهم يسجدون " اآليتني ‪.‬‬
‫وكان من حكمته تعاىل ورمحته ‪-‬ملا أرسل حممداً صلى اهلل عليه وسلم خامت املرسلني‪ -‬أن ال‬
‫يهلك قومه بعذاب االستئصال ‪ ،‬بل عذب بعضهم بأنواع العذاب كاملستهزئني ‪ ،‬الذين قال‬
‫اهلل فيهم ‪ " :‬إنا كفيناك املستهزئني " اآليات ‪.‬‬
‫والذي دعا عليه النيب صلى اهلل عليه وسلم أن يسلط عليه كلباً من كالبه فافرتسه األسد ‪،‬‬
‫كما قال تعاىل ‪ " :‬قل هل تربصون بنا إال إحدى احلسنيني وحنن نرتبص بكم أن يصيبكم اهلل‬
‫بعذاب من عنده " اآلية ‪.‬‬
‫فأخرب سبحانه أنه يعذب الكفار تارة بأيدي املؤمنني باجلهاد واحلدود ‪ ،‬وتارة بغري ذلك ‪.‬‬
‫فكان ذلك مما يوجب إميان أكثرهم ‪ ،‬كما جرى لقريش وغريهم ‪ ،‬فإنه لو أهلكهم لبادوا ‪،‬‬
‫وانقطعت املنفعة هبم ‪ ،‬ومل يبق هلم ذرية تؤمن ‪ ،‬خبالف ما عذهبم به من اإلذالل والقهر ‪ ،‬فإن‬
‫يف ذلك ما يوجب عجزهم ‪ ،‬والنفوس إذا كانت قادرة على كمال أغراضها ‪ ،‬فال تكاد‬
‫تنصرف عنها ‪ .‬خبالف عجزها عنها ‪ ،‬فإنه يدعوها إىل التوبة ‪ ،‬كما قيل ‪ :‬من العصمة أن ال‬
‫تقدر ‪ ،‬وهلذا آمن عامتهم ‪.‬‬
‫وقد ذكر اهلل يف التوراة ملوسى ‪ :‬إين أقسي قلب فرعون ‪ ،‬فال يؤمن بك لتظهر أيايت وعجائيب‬
‫‪.‬‬
‫بني أن يف ذلك من احلكمة ‪ :‬انتشار آياته الدالة على صدق أنبيائه يف األرض ‪ ،‬إذ كان موسى‬
‫أخرب بتكليم اهلل وبكتابة التوراة له ‪ ،‬فأظهر له من اآليات ما يبقى ذكره يف األرض ‪ .‬وكان‬
‫يف ضمن ذلك ‪ :‬من تقسية قلب فرعون ما أوجب هالكه وهالك قومه ‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وفرعون كان جاحداً للصانع ‪ ،‬فلذلك أويت موسى من اآليات ما يناسب حاله ‪.‬‬
‫وأما بنو إسرائيل ‪-‬مع املسيح‪ -‬فكانوا مقرين بالكتاب األول ‪ ،‬فلم حيتاجوا إىل مثل ما احتاج‬
‫إليه موسى ‪ ،‬ومل يكن حمتاجاً إىل جنس تقرير النبوة ‪ ،‬إذ كانت الرسل قبله جاءت مبا يثبت‬
‫ذلك ‪ ،‬وإمنا احلاجة إىل تثبيت نبوته ‪.‬‬
‫ومع هذا فقد أظهر اهلل على يديه من اآليات مثل آيات من قبله وأعظم ‪ ،‬ومع هذا مل يأت‬
‫بآيات االستئصال ‪ ،‬بل بني اهلل يف القرآن‪ :‬أهنا ال تنفعهم بل تضرهم ‪ ،‬ألنه علم أن قلوهبم‬
‫كقلوب األولني ‪ ،‬كما قال تعاىل ‪ " :‬كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إال قالوا‬
‫ساحر أو جمنون* أتواصوا به " اآلية‪ ،‬وقال تعاىل ‪ " :‬كذلك قال الذين من قبلهم مثل قوهلم "‬
‫اآلية ‪ ،‬وقال تعاىل ‪ " :‬أكفاركم خري من أولئكم " اآلية ‪ ،‬وسورة اقرتبت اليت ذكر فيها‬
‫انشقاق القمر ‪ ،‬وإعراضهم عن اآليات ‪ ،‬وقوله ‪ " :‬سحر مستمر "‪ ،‬وقال فيها ‪ " :‬ولقد‬
‫جاءهم من األنباء ما فيه مزدجر " ‪.‬‬
‫أي ‪ :‬يزجرهم عن الكفر زجراً شديداً ‪ ،‬إذ كان يف تلك األنباء صدق الرسول واإلنذار‬
‫بالعذاب الذي وقع باملتقدمني ‪.‬‬
‫وهلذا يقول عقيب كل قصة ‪ " :‬فكيف كان عذايب ونذر " ‪ ،‬أي ‪ :‬عذايب ملن كذب رسلي ‪،‬‬
‫وإنذاري هلم بذلك قبل جميئه ‪ ،‬مث قال ‪ " :‬أكفاركم " أيتها األمة " خري من أولئك " الذين‬
‫كذبوا الرسل من قبلكم ‪ " ،‬أم لكم براءة يف الزبر* أم يقولون حنن مجيع منتصر "‪ ،‬وذلك أن‬
‫كونكم تعذبون مثلهم ‪ .‬إما لكونكم ال تستحقون ما استحقوا ‪ ،‬أو لكون اهلل أخرب أنه ال‬
‫يعذبكم ‪ ،‬فهذا بالنظر إىل قوة الرسول صلى اهلل عليه وسلم وأتباعه ‪ ،‬فيقولون ‪ " :‬حنن مجيع‬
‫منتصر " ‪ ،‬فإهنم أكثر وأقوى ‪ ،‬كما قالوا ‪ " :‬أي الفريقني خري مقاما وأحسن نديا " إىل قوله‬
‫‪ " :‬أثاثا ورئيا " ‪ ،‬أي ‪ :‬أمواالً ومنظراً ‪ .‬فقال تعاىل ‪ " :‬سيهزم اجلمع ويولون الدبر " ‪.‬‬
‫أخرب رسوله صلى اهلل عليه وسلم هبزميتهم ‪ ،‬وهو مبكة ‪ ،‬يف قلة من األتباع ‪ ،‬وضعف منهم ‪.‬‬
‫وال يظن أحد ‪-‬قبل أن يهاجر‪ -‬بالعادة املعروفة ‪ :‬أن أمره يعلو ‪ ،‬ويقاتلهم ‪ ،‬فكان كما أخرب‬
‫‪ ،‬وذلك ببدر ‪ ،‬وتلك سنة اهلل ‪ ،‬كما قال تعاىل ‪ " :‬سنة اهلل اليت قد خلت من قبل " اآلية ‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وحيث يظهر الكفار ويغلبون ‪ ،‬فإمنا يكون ذلك لذنوب املؤمنني اليت أوجبت نقص إمياهنم ‪،‬‬
‫فإذا تابوا نصرهم اهلل ‪ ،‬كما قال تعاىل ‪ " :‬وال هتنوا وال حتزنوا وأنتم األعلون إن كنتم مؤمنني‬
‫"‪.‬‬
‫فإذا كان من متام احلكمة والرمحة ‪ :‬أن ال يهلكهم باالستئصال كالذين من قبلهم ‪ ،‬قال تعاىل‬
‫‪ " :‬أكفاركم خري من أولئكم أم لكم براءة يف الزبر " كان ال يأيت مبوجب ذلك ‪ ،‬مع إتيانه‬
‫سبحانه مبا يقيم احلجة أكمل يف احلكمة والرمحة‪ ،‬إذ كان ما أتى به حصل به كمال اهلدى‬
‫واحلجة ‪ ،‬وما امتنع منه دفع من عذاب االستئصال ما أوجب بقاء مجهور األمة ‪ ،‬حىت يهتدوا‬
‫ويؤمنوا ‪ ،‬وكان يف إرسال خامت الرسل صلى اهلل عليه وسلم من احلكمة البالغة ‪ ،‬واملنن‬
‫السابغة ‪ ،‬ما مل يكن يف رسالة غريه ‪ ،‬صلوات اهلل وسالمه عليه وعليهم أمجعني ‪.‬‬
‫رجعنا إىل سريته صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬

‫خروجه صلى اهلل عليه وسلم إلى الطائف ‪:‬‬


‫وملا اشتد البالء من قريش على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬بعد موت عمه ‪ ،‬خرج إىل‬
‫الطائف ‪ ،‬رجاء أن يؤووه وينصروه على قومه ‪ ،‬ومينعوه منهم ‪ ،‬حىت يبلغ رسالة ربه ‪،‬‬
‫ودعاهم إىل اهلل عز وجل ‪ ،‬فلم ير من يؤوي ومل ير ناصراً ‪ ،‬وآذوه أشد األذى ‪ ،‬نالوا منه‬
‫ما مل ينل منه قومه ‪ ،‬وكان معه زيد بن حارثة مواله ‪.‬‬
‫فأقام بينهم عشرة أيام ‪ ،‬ال يدع أحداص من أشرافهم إال كلمه ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬اخرج من بلدنا ‪.‬‬
‫وأغروا به سفهاءهم ‪ ،‬فوقفوا له مساطني ‪ ،‬وجعلوا يرمونه باحلجارة ‪ ،‬وبكلمات من السفه ‪،‬‬
‫هي أشد وقعاً من احلجارة ‪ ،‬حىت دميت قدماه ‪ ،‬وزيد بن حارثة يقيه بنفسه ‪ ،‬حىت أصابه‬
‫شجاج يف رأسه فانصرف إىل مكة حمزوناً ‪.‬‬
‫ويف مرجعه ذلك دعا بالدعاء املشهور ‪" :‬اللهم إين أشكو إليك ضعف قويت ‪ ،‬وقلة حيليت ‪،‬‬
‫وهواين على الناس ‪ ،‬أنت رب املستضعفني ‪ ،‬وأنت ريب ‪ ،‬إىل من تكلين ؟ إىل بعيد يتجهمين‬
‫‪ ،‬أو إىل عدو ملكته أمري ؟ إن مل يكن بك غضب علي فال أبايل ‪ ،‬غري أن عافيتك هي أوسع‬

‫‪73‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫يل ‪ .‬أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ‪ ،‬وصلح عليه أمر الدنيا واآلخرة ‪ :‬أن حيل‬
‫علي غضبك أو ينزل يب سخطك ‪ .‬لك العتىب حىت ترضى ‪ .‬وال حول وال قوة إال بك" ‪.‬‬
‫فأرسل ربه تبارك وتعاىل إليه ملك اجلبال ‪ ،‬يستأمره أن يطبق األخشبني على أهل مكة ‪-‬ومها‬
‫جبالها اللذان هي بينهما‪ -‬فقال ‪" :‬بل أستأين هبم ‪ ،‬لعل اهلل أن خيرج من أصالهبم من يعبده‬
‫‪ ،‬ال يشرك به شيئاً" ‪.‬‬
‫فلما نزل بنخلة يف مرجعه ‪ ،‬قام يصلي من الليل ما شاء اهلل ‪ ،‬فصرف اهلل إليه نفراً من اجلن ‪،‬‬
‫فاستمعوا قراءته ‪ ،‬ومل يشعر هبم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حىت نزل عليه ‪ " :‬وإذ صرفنا‬
‫إليك نفرا من اجلن " إىل قوله ‪ " :‬أولئك يف ضالل مبني " ‪.‬‬
‫وأقام بنخلة أياماً ‪ ،‬فقال زيد بن حارثة رضي اهلل عنه ‪ :‬كيف تدخل عليهم ‪ ،‬وقد أخرجوك‬
‫؟ ‪-‬يعين قريشاً‪ -‬فقال ‪ :‬يا زيد ! إن اهلل جاعل ملا ترى فرجاً وخمرجاً‪ ،‬وإن اهلل ناصر دينه ‪،‬‬
‫ومظهر نبيه ‪.‬‬
‫مث انتهى إىل مكة ‪ ،‬فأرسل رجالً من خزاعة إىل املطعم بن عدي ‪ :‬أدخل يف جوارك ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫نعم ‪ ،‬فدعا املطعم بنيه وقومه ‪ ،‬فقال ‪ :‬البسوا السالح ‪ ،‬وكونوا عند أركان البيت ‪ ،‬فإين قد‬
‫أجرت حممداً ‪ ،‬فال يهجه منكم أحد ‪ .‬فانتهى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل الركن‬
‫فاستلمه ‪ ،‬وصلى ركعتني ‪ ،‬وانصرف إىل بيته ‪ ،‬واملطعم بن عدي وولده حمدقون به يف‬
‫السالح ‪ ،‬حىت دخل بيته ‪.‬‬

‫اإلسراء والمعراج ‪:‬‬


‫مث "أسري برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل بيت املقدس راكباً على الرباق صحبه جربيل‬
‫عليه السالم ‪ .‬فنزل هناك ‪ ،‬وصلى باألنبياء إماماً وربط الرباق حبلقة باب املسجد ‪ .‬مث عرج به‬
‫إىل السماء الدنيا ‪ ،‬فرأى فيها آدم ‪ ،‬ورأى أرواح السعداء عن ميينه ‪ ،‬واألشقياء عن مشاله ‪ ،‬مث‬
‫إىل الثانية ‪ ،‬فرأى فيها عيسى وحيىي ‪ .‬مث إىل الثالثة ‪ ،‬فرأى فيها يوسف ‪ .‬مث إىل الرابعة ‪ ،‬فرأى‬
‫فيها إدريس ‪ .‬مث إىل اخلامسة ‪ ،‬فرأى فيها هارون ‪ .‬مث إىل السادسة ‪ ،‬فرأى فيها موسى ‪ .‬فلما‬
‫جاوزه بكى ‪ ،‬فقيل له ‪ :‬ما يبكيك ؟ قال ‪ :‬أبكي أن غالماً بعث بعدي يدخل اجلنة من أمته‬
‫‪74‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫أكثر مما يدخل من أميت ‪ .‬مث عرج به إىل السماء السابعة ‪ ،‬فلقي فيها إبراهيم ‪ .‬مث إىل سدرة‬
‫املنتهى ‪ .‬مث رفع إىل البيت املعمور ‪ ،‬فرأى هناك جربيل يف صورته ‪ ،‬له ستمائة جناح ‪ ،‬وهو‬
‫قوله تعاىل ‪ " :‬ولقد رآه نزلة أخرى*عند سدرة املنتهى " ‪.‬‬
‫وكلمه ربه وأعطاه ما أعطاه ‪ ،‬وأعطاه الصالة ‪ ،‬فكانت قرة عني رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪.‬‬
‫فلما أصبح رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف قومه ‪ ،‬وأخربهم اشتد تكذيبهم له ‪ ،‬وسألوه أن‬
‫يصف هلم بيت املقدس ‪ .‬فجاله اهلل له حىت عاينه ‪ .‬وجعل خيربهم به وال يستطيعون أن يردوا‬
‫عليه شيئاً وأخربهم عن عريهم اليت رآها يف مسراه ومرجعه ‪ ،‬وعن وقت قدومها ‪ ،‬وعن البعري‬
‫الذي يقدمها ‪ .‬فكان كما قال فلم يزدهم ذلك إال ثبوراً ‪ ،‬وأىب الظاملون إال كفوراً" ‪.‬‬

‫فصل في الهجرة‬
‫قد ذكرنا ‪ :‬أنه صلى اهلل عليه وسلم كان يوايف املوسم كل عام ‪ ،‬يتبع احلاج يف منازهلم ‪،‬‬
‫ويف عكاظ وغريهم ‪ ،‬يدعوهم إىل اهلل ‪ ،‬فلم جيبه أحد منهم ‪ ،‬ومل يؤوه ‪.‬‬
‫فكان مما صنع اهلل لرسوله ‪ :‬أن األوس واخلزرج كانوا يسمعون من حلفائهم يهود املدينة ‪ :‬أن‬
‫نبياً يبعث يف هذا الزمان ‪ ،‬فنتبعه ونقتلكم معه قتل عاد ‪.‬‬
‫وكانت األنصار حتج ‪ ،‬كغريها من العرب ‪ ،‬دون اليهود ‪ .‬فلما رأى األنصار رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم يدعو الناس إىل اهلل ‪ ،‬وتأملوا أحواله ‪ ،‬قال بعضهم لبعض ‪ :‬تعلمون واهلل يا‬
‫قوم أن هذا الذي توعدكم به اليهود ‪ ،‬فال يسبقنكم إليه‪ .‬وقدر اهلل بعد ذلك ‪ :‬أن اليهود‬
‫يكفرون به ‪ ،‬فهو قوله تعاىل ‪ " :‬وملا جاءهم كتاب من عند اهلل مصدق ملا معهم وكانوا من‬
‫قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة اهلل على الكافرين "‬
‫اآلية بعدها ‪.‬‬

‫بيعة العقبة األولى ‪:‬‬

‫‪75‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫فلقي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف املوسم عند العقبة ‪ :‬ستة نفر من األنصار كلهم من‬
‫اخلزرج ‪ ،‬منهم أسعد بن زرارة‪ ،‬وجابر بن عبد اهلل بن رئاب السلمي ‪ ،‬فدعاهم إىل اإلسالم‬
‫فأسلموا مث رجعوا إىل املدينة ‪ ،‬فدعوا إىل اإلسالم ‪ ،‬فنشأ اإلسالم فيها ‪ ،‬حىت مل تبق دار إال‬
‫دخلها ‪.‬‬
‫فلما كان العام املقبل ‪ :‬جاء منهم اثنا عشر رجالً ‪-‬الستة األول ‪ ،‬خال جابراً‪ -‬ومعهم عبادة‬
‫بن الصامت ‪ ،‬وأبو اهليثم بن التيهان ‪ ،‬وغريهم ‪ .‬اجلميع اثنا عشر رجالً ‪.‬‬
‫وكان الستة األولون قد قالوا له ملا أسلموا ‪-‬إن بني قومنا من العداوة والشر ما بينهم ‪،‬‬
‫وعسى اهلل أن جيمعهم بك ‪ .‬وسندعوهم إىل أمرك ‪ ،‬فإن جيمعهم اهلل عليك فال رجل أعز‬
‫منك ‪ .‬وكان األوس واخلزرج أخوين ألم وأب ‪ ،‬وأصلهم من اليمن من سبأ‪ ،‬وأمهم قيلة بنت‬
‫كاهل ‪-‬امرأة من قضاعة‪ -‬ويقال هلم لذلك ‪ :‬أبناء قيلة ‪ ،‬قال الشاعر ‪:‬‬
‫عليهم خليط يف خمالطة عتبا‬ ‫هباليل من أوالد قيلة مل جيد‬
‫فوقعت بينهم العداوة بسبب قتيل ‪ ،‬فلبثت احلرب بينهم مائة وعشرين سنة إىل أن أطفاها اهلل‬
‫باإلسالم ‪ .‬وألف بينهم برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وذلك قوله ‪ " :‬واذكروا نعمة اهلل‬
‫عليكم إذ كنتم أعداء فألف بني قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا " اآلية ‪.‬‬
‫فلما جاءه االثنا عشر رجالً من العام األيت ‪-‬الذي ذكرنا‪ -‬ومنهم اثنان من األوس ‪ :‬أبو اهليثم‬
‫‪ ،‬وعومي بن ساعدة ‪ ،‬والباقي من اخلزرج ‪.‬‬
‫فلما انصرفوا بعث معهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مصعب بن عمري ‪ ،‬وأمره أن يقرئهم‬
‫القرآن ‪ ،‬ويعلمهم اإلسالم ‪ ،‬فنزل على أيب أمامة ‪-‬أسعد بن زرارة‪ -‬فخرج مبصعب ‪-‬يف‬
‫إحدى خرجياته‪ -‬فدخل به حائطاً من حيطان بين ظفر ‪ ،‬فجلسا فيه ‪ ،‬واجتمع إليهما رجال‬
‫ممن أسلم ‪.‬‬

‫إسالم سعد بن معاذ ‪ ،‬وأسيد بن حضير ‪:‬‬


‫فقال سعد بن معاذ ‪ -‬سيد األوس ‪ ،‬ألسيد بن حضري ‪ :‬اذهب إىل هذين اللذين قد أتيا‬
‫ليسفها ضعفاءنا ‪ ،‬فازجرمها فإن أسعد بن زرارة ابن خاليت ‪ .‬ولوال ذلك لكفيتك ذلك ‪.‬‬
‫‪76‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وكان سعد وأسيد سيدي قومهما ‪ .‬فأخذ أسيد حربته ‪ ،‬مث أقبل إليهما‪ .‬فلما رآه أسعد بن‬
‫زرارة ‪ ،‬قال ملصعب ‪ :‬هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق اهلل فيه ‪ .‬قال مصعب ‪ :‬إن يكلمين‬
‫أكلمه ‪ .‬فوقف عليهما ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما جاء بكما إلينا ؟ تسفهان ضعفاءنا ؟ اعتزال ‪ ،‬إن كان‬
‫لكما يف أنفسهما حاجة ‪ .‬فقال له مصعب ‪ :‬أو جتلس فتسمع ‪ .‬فإن رضيت أمراً قبلته ‪ .‬وإن‬
‫كرهته كف عنك ما تكره ‪ .‬فقال ‪ :‬أنصفت‪ .‬مث ركز حربته وجلس ‪ .‬فكلمه مصعب‬
‫باإلسالم ‪ ،‬وتال عليه القرآن ‪ .‬قال ‪ :‬فواهلل لعرفنا يف وجهه اإلسالم قبل أن يتكلم ‪ ،‬يف إشراقه‬
‫وهتلله ‪.‬‬
‫مث قال ‪ :‬ما أحسن هذا وما أمجله ! كيف تصنعون إذا أردمت أن تدخلوا يف هذا الدين ؟‬
‫قاال له ‪ :‬تغتسل وتطهر ثوبك ‪ ،‬مث تشهد شهادة احلق ‪ ،‬مث تصلي ركعتني ‪.‬‬
‫فقام واغتسل ‪ ،‬وطهر ثوبه ‪ ،‬وتشهد وصلى ركعتني ‪ ،‬مث قال ‪ :‬إن ورائي رجالً إن تبعكما مل‬
‫يتخلف عنه أحد من قومه ‪ .‬وسأرشده إليكما اآلن ‪-‬سعد بن معاذ‪ -‬مث أخذ حربته ‪،‬‬
‫وانصرف إىل سعد يف قومه ‪ ،‬وهم جلوس يف ناديهم ‪.‬‬
‫فقال سعد ‪ :‬أحلف باهلل ‪ ،‬جاءكم بغري الوجه الذي ذهب به من عندكم ‪.‬‬
‫فلما وقف على النادي ‪ ،‬قال له سعد ‪ :‬ما فعلت ؟ فقال ‪ :‬كلمت الرجلني ‪ ،‬فواهلل ما رأيت‬
‫هبما بأساً ‪ ،‬وقد هنيتهما ‪ ،‬فقاال ‪ :‬نفعل ما أحببت ‪.‬‬
‫وقد حدثت ‪ :‬أن بين حارثة خرجوا إىل أسعد بن زرارة ليقتلوه ‪-‬وذلك أهنم عرفوا أنه ابن‬
‫خالتك‪ -‬ليخفروك ‪ .‬فقام سعد مغضباً ‪ ،‬للذي ذكر له ‪ .‬فأخذ حربته ‪ ،‬فلما رآمها مطمئنني‬
‫عرف أن أسيداً إمنا أراد أن يسمع منهما ‪ ،‬فوقف عليهما متشتماً ‪ .‬مث قال ألسعد بن زرارة ‪:‬‬
‫واهلل يا أبا أمامة ! لوال ما بيين وبينك من القرابة ما رمت هذا مين ‪ ،‬أتغشانا يف دارنا مبا نكره‬
‫؟‪.‬‬
‫وقد كان أسعد قال ملصعب ‪ :‬جاءك واهلل سيد من ورائه قومه ‪ .‬إن يتبعك مل يتخلف عنك‬
‫منهم أحد ‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫فقال له مصعب ‪ :‬أو تقعد فتسمع ؟ فإن رضيت أمراً قبلته ‪ ،‬وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره‬
‫‪ .‬قال ‪ :‬قد أنصفت ‪ ،‬مث ركز حربته فجلس ‪.‬‬
‫فعرض عليه اإلسالم ‪ ،‬وقرأ عليه القرآن ‪ ،‬قال ‪ :‬فعرفنا واهلل يف وجهه اإلسالم قبل أن يتكلم ‪،‬‬
‫يف إشراقه وهتلله ‪ ،‬مث قال‪ :‬كيف تصنعون إذا أسلمتم ؟ قاال ‪ :‬تغتسل وتطهر ثوبك مث تشهد‬
‫شهادة احلق ‪ ،‬مث تصلي ركعتني ‪ ،‬ففعل ذلك ‪ .‬مث أخذ حربته ‪ ،‬فأقبل إىل نادي قومه ‪ ،‬فلما‬
‫رأوه قالوا ‪ :‬حنلف باهلل لقد رجع بغري الوجه الذي ذهب به ‪ .‬فقال ‪ :‬يا بين عبد األشهل ‪،‬‬
‫كيف أمري فيكم ؟ قالوا ‪ :‬سيدنا ‪ ،‬وابن سيدنا ‪ ،‬وأفضلنا رأياً ‪ ،‬وأميننا نقيبة ‪ .‬قال ‪ :‬فإن‬
‫كالم رجالكم ونسائكم علي حرام حىت تؤمنوا باهلل ورسوله‪ .‬فما أمسى فيهم رجل وال امرأة‬
‫إال أسلموا‪ ،‬إال األصريم ‪ .‬فإنه تأخر إسالمه إىل يوم أحد ‪ ،‬فأسلم وقاتل وقتل ‪ ،‬ومل يسجد هلل‬
‫سجدة ‪ .‬فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬عمل قليالً وأجر كثرياً" ‪.‬‬
‫فأقام مصعب يف منزل أسعد يدعو الناس إىل اإلسالم حىت مل يبق دار من دور األنصار إال‬
‫وفيها رجال ونساء مسلمون ‪ ،‬إال ما كان من دار بين أمية بن زيد وخطمة ‪ ،‬ووائل ‪ ،‬وواقف‬
‫‪.‬‬
‫وذلك ‪ :‬أهنم كان فيهم قيس بن األسلت الشاعر ‪ ،‬وكانوا يسمعون منه ‪ ،‬فوقف هبم عن‬
‫اإلسالم ‪ ،‬حىت كان عام اخلندق ‪ ،‬بعد أن هاجر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬
‫فلما كان من العام املقبل ‪ ،‬وجاء موسم احلج ‪ ،‬قال من أسلم من األنصار ‪ :‬حىت مىت نرتك‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬يطرد يف جبال مكة وخياف ؟! فخرجوا مع مشركي قومهم‬
‫حجاجاً ‪.‬‬

‫بيعة العقبة الثانية ‪:‬‬


‫فلما وصلوا واعدوه العقبة ‪ ،‬من أواسط أيام التشريق للبيعة ‪ ،‬بعد ما انقضى حجهم ‪ .‬فقال له‬
‫العباس ‪ :‬ما أدري ما هؤالء القوم الذين جاؤوك ؟ إين ذو معرفة بأهل يثرب ‪ .‬فلما كان‬
‫بالليل تسللوا من رحاهلم خمتفني ‪ ،‬ومعهم عبد اهلل بن عمرو بن حرام ‪ -‬أبو جابر‪ -‬وهو‬
‫مشرك ‪ ،‬وكانوا يكامتونه األمر ‪ .‬فلما كانت الليلة اليت واعدوا فيها رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫‪78‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وسلم ‪ ،‬قالوا له ‪ :‬يا أبا جابر ‪ ،‬إنك شريف من أشرافنا ‪ ،‬وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن‬
‫تكون حطباً للنار غداً ‪ .‬قال ‪ :‬وما ذلك ؟ فأخربوه اخلرب ‪ ،‬فأسلم‪ ،‬وشهد العقبة وكان نقيباً ‪.‬‬
‫فلما مضى ثلث الليل خرجوا للميعاد ‪ ،‬حىت اجتمعوا عنده ‪ ،‬من رجل ورجلني ومعه عمه‬
‫العباس ‪-‬وهو يومئذ على دين قومه‪ -‬ولكنه أحب أن حيضر أمر ابن أخيه ‪ ،‬ويتوثق له ‪.‬‬
‫فلما نظر العباس يف وجوههم ‪ ،‬قال ‪ :‬هؤالء قوم ال نعرفهم ‪ ،‬هؤالء أحداث ‪ ،‬وكان أول من‬
‫تكلم ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا معشر اخلزرج ! ‪ -‬و كانت العرب تسمي اجلميع اخلزرج‪ -‬إن حممداً منا‬
‫حيث علمتم ‪ ،‬وقد منعناه من قومنا وهو يف منعة يف بلده ‪ ،‬إال أنه أىب إال االنقطاع إليكم ‪،‬‬
‫واللحوق بكم ‪ .‬فإن كنتم ترون أنكم وافون مبا دعومتوه إليه ومانعوه ممن خالفه ‪ ،‬فأنتم وما‬
‫حتملتم ‪ .‬وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه ‪-‬بعد خروجه إليكم‪ -‬فمن اآلن فدعوه ‪،‬‬
‫فإنه يف عز ومنعة ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬قد مسعنا ما قلت ‪ ،‬فتكلم يا رسول اهلل ! خذ لنفسك ولربك ما شئت ‪.‬‬
‫فتكلم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وقال ‪":‬أبايعكم على أن متنعوين ‪-‬إذا قدمت عليكم‪-‬‬
‫مما متنعون منه نساءكم وأبناءكم‪ ،‬ولكم اجلنة" ‪.‬‬
‫فكان أول من بايعه ‪ :‬الرباء بن معرور ‪ ،‬فقال ‪ :‬والذي بعثك باحلق لنمنعنك مما مننع منه أزرنا‬
‫‪ ،‬فبايعنا يا رسول اهلل ! فنحن أهل احلرب واحللقة ‪ ،‬ورثناها كابراً عن كابر ‪ .‬فاعرتضه أبو‬
‫اهليثم بن التيهان ‪ ،‬وقال ‪ :‬إن بيننا وبني الناس حباالً ‪ ،‬وحنن قاطعوها ‪ ،‬فهل عسيت ‪-‬إن‬
‫أظهرك اهلل‪ -‬أن ترجع إىل قومك وتدعنا ؟ فتبسم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬مث قال ‪:‬‬
‫ال واهلل ‪ ،‬بل الدم الدم ‪ ،‬واهلدم اهلدم ‪ ،‬أنتم مين ‪ ،‬وأنا منكم ‪ ،‬أحارب من حاربتم ‪ ،‬وأسامل‬
‫من ساملتم ‪.‬‬
‫فلما قاموا يبايعونه ‪ ،‬أخذ بيده أصغرهم ‪-‬أسعد بن زرارة‪ -‬فقال ‪ :‬رويداً يا أهل يثرب ! إنا‬
‫مل نضرب إليه أكباد اإلبل إال وحنن نعلم أنه رسول اهلل ‪ ،‬وإن إخراجه اليوم مفارقة للعرب‬
‫كافة ‪ ،‬وقتل خياركم ‪ ،‬وأن تعضكم السيوف ‪ ،‬فإما أنتم تصربون على ذلك ‪ ،‬فخذوه‬

‫‪79‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وأجركم على اهلل ‪ .‬وإما أنتم ختافون من أنفسكم خيفة فذروه ‪ ،‬فهو أعذر لكم عند اهلل ‪.‬‬
‫فقالوا ‪ :‬أمط عنا يدك ‪ ،‬فواهلل ما نذر هذه البيعة وال نستقيلها ‪.‬‬
‫فقاموا إليه رجالً رجالً ‪ ،‬يأخذ منهم ‪ ،‬ويعطيهم بذلك اجلنة ‪ .‬مث كثر اللغط ‪ ،‬فقال العباس ‪:‬‬
‫على رسلكم ‪ ،‬فإن علينا عيوناً ‪.‬‬
‫مث قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬أخرجوا إيل منكم اثين عشر نقيباً كفالء على قومهم‬
‫‪ ،‬ككفالة احلواريني لعيسى ابن مرمي ‪ ،‬وأنا كفيل على قومي ‪.‬‬
‫ويف رواية ‪ :‬أن موسى اختذ من قومه اثين عشر نقيباً‪ ،‬فكان نقيب بين النجار ‪ :‬أسعد بن زرارة‬
‫‪ .‬ونقيب بين سلمة ‪ :‬الرباء بن معرور ‪ ،‬وعبد اهلل بن عمرو بن حرام ‪ .‬ونقيب بين ساعدة ‪:‬‬
‫سعد بن عبادة ‪ ،‬واملنذر بن عمرو ‪ .‬ونقيب بين زريق ‪ :‬رافع بن مالك بن عجالن ‪ .‬ونقيب‬
‫بين احلارث بن اخلزرج ‪ :‬عبد اهلل بن رواحة ‪ ،‬وسعد بن الربيع ‪ :‬ونقيب القواقل ‪ :‬عبادة بن‬
‫الصامت ‪ .‬ونقيب األوس ‪ :‬أسيد بن حضري ‪ ،‬وأبو اهليثم بن التيهان ‪ .‬ونقيب بين عوف ‪:‬‬
‫سعد بن خيثمة ‪.‬‬
‫وكان مجيع أهل العقبة ‪ :‬سبعني رجالً وامرأتني ‪.‬‬
‫فلما بايعوه صرخ الشيطان بأنفذ صوت مسع قط ‪ :‬يا أهل األخاشب ‪ ،‬هل لكم يف حممد‬
‫والصبأة معه ؟ قد اجتمعوا على حربكم ‪ .‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬هذا أزب‬
‫العقبة ‪ ،‬أما واهلل يا عدو اهلل ألفرغن لك ‪.‬‬
‫مث قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬ارفضوا إىل رحالكم ‪.‬‬
‫فقال العباس بن عبادة بن نضلة ‪ :‬والذي بعثك باحلق إن شئت لنميلن على أهل مكة غداً‬
‫بأسيافنا ‪ ،‬فقال ‪ :‬مل نؤمر بذلك ‪ ،‬ولكن ارجعوا إىل رحالكم‪ ،‬فرجعوا ‪.‬‬
‫فلما أصبحوا غدت عليهم جلة قريش ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬إنه بلغنا أنكم جئتم صاحبنا البارحة ‪،‬‬
‫تستخرجونه من بني أظهرنا ‪ ،‬وتبايعونه على حربنا ‪ ،‬وإنه واهلل ما من حي من العرب أبغض‬
‫إلينا من أن تنشب احلرب بيننا وبينهم منكم ‪ ،‬فانبعث رجال ‪-‬ممن مل يعلم‪ -‬حيلفون هلم باهلل‬
‫‪ :‬ما كان من هذا شئ ‪ ،‬والذين يشهدون ينظر بعضهم إىل بعض ‪ .‬وجعل عبد اهلل بن أيب‬

‫‪80‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫سلول يقول ‪ :‬هذا باطل ‪ ،‬ما كان هذا ‪ ،‬وما كان قومي ليفتاتوا علي مبثل هذا ‪ ،‬لو كنت‬
‫بيثرب ما صنع قومي هذا ‪ ،‬حىت يؤامروين ‪.‬‬
‫فقام القوم ‪-‬وفيهم احلارث بن هشام‪ -‬وعليه نعالن جديدان ‪ ،‬فقال كعب بن مالك كلمة‬
‫‪-‬كأنه يريد أن يشرك هبا القوم فيما قالوا‪ -‬فقال ‪ :‬يا أبا جابر ! أما تستطيع أن تتخذ ‪-‬وأنت‬
‫سيد من ساداتنا‪ -‬مثل نعلي هذا الفىت ؟ فسمعها احلارث ‪ ،‬فخلعهما من رجليه واهلل مث رمى‬
‫هبما إليه ‪ ،‬وقال ‪ :‬واهلل لتنتعلهما ‪ .‬فقال أبو جابر ‪ :‬مه ؟ أحفظت الفىت ‪ ،‬فاردد إليه نعليه ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ال أردمها إليه فأل واهلل صاحل ‪ ،‬لئن صدق الفأل ألسلبنه ‪.‬‬
‫فلما انفصلت األنصار عن مكة ‪ :‬صح اخلرب عند قريش ‪ ،‬فخرجوا يف طلبهم ‪ ،‬فأدركوا سعد‬
‫بن عبادة ‪ ،‬واملنذر بن عمرو‪ .‬فأعجزهم املنذر ومضى ‪ .‬وأما سعد ‪ ،‬فقالوا له ‪ :‬أنت على دين‬
‫حممد ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬فربطوا يديه إىل عنقه بنسعة رحله ‪ ،‬وجعلوا يسحبونه بشعره ‪ ،‬ويضربونه‬
‫‪-‬وكان ذا مجة‪ -‬حىت أدخلوه مكة ‪ .‬فجاء املطعم بن عدي واحلارث بن حرب بن أمية ‪،‬‬
‫فخلصاه من أيديهم ‪.‬‬
‫وتشاورت األنصار أن يكروا إليه ‪ ،‬فاذا هو قد طلع عليهم فرحلوا إىل املدينة ‪.‬‬
‫وكان الذي أسره ضرار بن اخلطاب الفهري ‪ ،‬وقال ‪:‬‬
‫وكان شفائي لو تداركت منذرا‬ ‫تداركت سعداً عنوة فأسرته‬
‫أحق دماء أن هتان وهتدرا‬ ‫ولو نلته طلت هناك جراحه‬
‫فأجابه حسان بن ثابت رضي اهلل عنه ‪:‬‬
‫وقلت ‪ :‬شفائي لو تداركت منذرا‬ ‫فخرت بسعد اخلري حني أسرته‬
‫كمستبضع متراً إىل أهل خيربا‬ ‫وإن امرءاً يهدي القصائد حنونا‬
‫حبفر ذراعيها فلم ترض حمفرا‬ ‫فال تك كالشاة اليت كان حتفها‬
‫بقرية كسرى أو بقرية قيصرا‬ ‫وال تك كالوسنان حيلم أنه‬
‫عن الثكل لو أن الفؤاد تفكرا‬ ‫وال تك كالثكلى وكانت مبعزل‬
‫ومل خيشه سهماً من النبل مضمرا‬ ‫وال تك كالعاوي وأقبل حنره‬

‫‪81‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وقد يلبس األنباط ريطاً مقصرا‬ ‫أتفخر بالكتان ملا لبسته‬


‫على شرف البيداء يهوين حسرا‬ ‫فلوال أبو وهب ملرت قصائد‬
‫ومسعت قريش قائالً يقول بالليل على أيب قبيس ‪:‬‬
‫مبكة الخيشى خالف املخالف‬ ‫فإن يسلم السعدان يصبح حممد‬
‫قالوا ‪ :‬من مها ؟ قال أبو سفيان ‪ :‬أسعد بن بكر ‪ ،‬أم سعد بن هزمي ؟ فلما كانت الليلة القابلة‬
‫‪ ،‬مسعوه يقول ‪:‬‬
‫ويا سعد‪-‬سعد اخلزرجني‪-‬الغطارف‬ ‫فيا سعد‪-‬سعد األوس‪-‬كن أنت ناصراً‬
‫على اهلل يف الفردوس منة عارف‬ ‫أجيبا إىل داعي اهلدى ومتنيا‬
‫جنان من الفردوس ذات رفارف‬ ‫فإن ثواب اهلل للطالب اهلدى‬
‫فقال أبو سفيان ‪ :‬هذا واهلل سعد بن عبادة ‪ ،‬وسعد بن معاذ ‪.‬‬

‫الهجرة إلى المدينة ‪:‬‬


‫وأذن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم للمسلمني يف اهلجرة إىل املدينة ‪ ،‬فبادروا إليها ‪ .‬وأول‬
‫من خرج ‪ :‬أبو سلمة بن عبد األسد‪ ،‬وزوجته أم سلمة ‪ ،‬ولكنها حبست عنه سنة ‪ ،‬وحيل‬
‫بينها وبني ولدها ‪ ،‬مث خرجت بعد هي وولدها إىل املدينة ‪.‬‬
‫مث خرجوا أرساالً ‪ ،‬يتبع بعضهم بعضاً ‪ .‬ومل يبق منهم مبكة أحد إال رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم وأبو بكر ‪ ،‬وعلي ‪-‬أقاما بأمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم هلما‪ -‬وإال من احتبسه‬
‫املشركون كرهاً ‪.‬‬
‫وأعد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم جهازه ‪ ،‬ينتظر مىت يؤمر باخلروج ‪ .‬وأعد أبو بكر‬
‫جهازه ‪.‬‬

‫تآمر قريش بدار الندوة على قتل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪:‬‬
‫فلما رأى املشركون أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد جتهزوا وخرجوا بأهليهم إىل‬
‫املدينة ‪ ،‬عرفوا أن الدار دار منعة ‪ ،‬وأن القوم أهل حلقة وبأس ‪ .‬فخافوا خروج رسول اهلل‬
‫‪82‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فيشتد أمره عليهم ‪ .‬فاجتمعوا يف دار الندوة ‪ ،‬وحضرهم إبليس يف‬
‫صورة شيخ من أهل جند ‪ ،‬فتذاكروا أمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬
‫فأشار كل منهم برأي ‪ ،‬والشيخ يرده وال يرضاه ‪ ،‬إىل أن قال أبو جهل ‪ :‬قد فرق يل فيه‬
‫برأي ‪ ،‬ما أراكم وقعتم عليه ‪ ،‬قالوا ‪ :‬ما هو ؟ قال ‪ :‬أرى أن نأخذ من كل قبيلة من قريش‬
‫غالماً جلداً ‪ ،‬مث نعطيه سيفاً صارماً ‪ ،‬مث يضربونه ضربة رجل واحد ‪ ،‬فيتفرق دمه يف القبائل‬
‫‪ .‬فال تدري بنو عبد مناف بعد ذلك ما تصنع ‪ ،‬وال ميكنها معاداة القبائل كلها ‪ ،‬ونسوق‬
‫ديته ‪.‬‬
‫فقال الشيخ ‪ :‬هلل در هذا الفىت ‪ ،‬هذا واهلل الرأي ‪ ،‬فتفرقوا على ذلك ‪.‬‬
‫فجاء جربيل ‪ ،‬فأخرب النيب صلى اهلل عليه وسلم بذلك ‪ ،‬وأمره أن ال ينام يف مضجعه تلك‬
‫الليلة ‪.‬‬
‫وجاء رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل أيب بكر نصف النهار ‪-‬يف ساعة مل يكن يأتيه فيها‪-‬‬
‫متقنعاً ‪ ،‬فقال ‪ :‬أخرج من عندك‪ ،‬فقال ‪ :‬إمنا هم أهلك يا رسول اهلل ‪ .‬فقال رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم ‪ :‬إن اهلل قد أذن يل يف اخلروج‪ ،‬فقال أبو بكر ‪ :‬الصحبة يا رسول اهلل‍قال ‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬فقال أبو بكر ‪ :‬فخذ بأيب أنت وأم ‪ -‬إحدى راحليت هاتني ‪ ،‬فقال ‪ :‬بالثمن ‪ .‬وأمر علياً‬
‫أن يبيت تلك الليلة على فراشه ‪.‬‬
‫واجتمع أولئك النفر يتطلعون من صري الباب ‪ ،‬ويرصدونه يريدون بياته ‪ ،‬ويأمترون ‪ :‬أيهم‬
‫يكون أشقاها ؟ فخرج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عليهم فأخذ حفنة من البطحاء فذرها‬
‫على رؤوسهم ‪ ،‬وهو يتلو ‪ " :‬وجعلنا من بني أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم‬
‫ال يبصرون " ‪ ،‬وأنزل اهلل ‪ " :‬وإذ ميكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو خيرجوك‬
‫وميكرون وميكر اهلل واهلل خري املاكرين " ‪.‬‬
‫ومضى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل بيت أيب بكر ‪ ،‬فخرجا من خوخة يف بيت أيب بكر‬
‫ليالً ‪ ،‬فجاء رجل ‪ ،‬فرأى القوم ببابه ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما تنتظرون ؟ قالوا ‪ :‬حممداً ‪ .‬قال ‪ :‬خبتم‬

‫‪83‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وخسرمت ‪ ،‬قد واهلل مر بكم ‪ ،‬وذر على رؤوسكم الرتاب ‪ .‬قالوا ‪ :‬واهلل ما أبصرناه ‪ .‬وقاموا‬
‫ينفضون الرتاب عن رؤوسهم ‪.‬‬
‫فلما أصبحوا قام علي رضي اهلل عنه عن الفراش ‪ ،‬فسألوه عن حممد ؟ فقال ‪ :‬ال علم يل به ‪.‬‬
‫ومضى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وأبو بكر إىل غار ثور ‪ ،‬فنسجت العنكبوت على بابه‬
‫‪.‬‬
‫وكانا قد استأجرا عبد اهلل بن أريقط الليثي ‪ ،‬وكان هادياً ماهراً ‪-‬وكان على دين قومه‪-‬‬
‫وأمناه على ذلك ‪ ،‬وسلما إليه راحلتيهما‪ ،‬وواعداه غار ثور بعد ثالث ‪.‬‬
‫وجدت قريش يف طلبهما ‪ ،‬وأخذوا معهم القافة ‪ ،‬حىت انتهوا إىل باب الغار ‪ ،‬فوقفوا عليه ‪،‬‬
‫فقال أبو بكر ‪ :‬يا رسول اهلل ! لو أن أحدهم نظر إىل ما حتت قدميه ألبصرنا ‪ .‬فقال ‪" :‬ما‬
‫ظنك باثنني اهلل ثالثهما ؟ ال حتزن إن اهلل معنا" ‪.‬‬
‫وكانا يسمعان كالمهم ‪ ،‬إال أن اهلل عمى عليهم أمرمها ‪ .‬وعامر بن فهرية يرعى غنماً أليب‬
‫بكر ‪ ،‬ويتسمع ما يقال عنهما مبكة‪ ،‬مث يأتيهما باخلرب ليالً ‪ ،‬فإذا كان السحر سرح مع الناس‬
‫‪.‬‬
‫قالت عائشة ‪ :‬فجهزنامها أحث اجلهاز ‪ ،‬وصنعنا هلما سفرة يف جراب ‪ ،‬فقطعت أمساء بنت‬
‫أيب بكر قطعة من نطاقها‪ ،‬فأوكت به فم اجلراب ‪ ،‬وقطعت األخرى عصاماً للقربة ‪ ،‬فبذلك‬
‫لقبت ذات النطاقني ‪.‬‬
‫ومكثا يف الغار ثالثاً ‪ ،‬حىت مخدت نار الطلب ‪ ،‬فجاءمها ابن أريقط بالراحلتني فارحتال ‪،‬‬
‫وأردف أبو بكر عامر بن فهرية ‪.‬‬

‫قصة سراقة بن مالك ‪:‬‬


‫فلما أيس املشركون منهما جعلوا ملن جاء فيهما دية كل واحد منهما ‪ ،‬ملن يأيت هبما أو‬
‫بأحدمها ‪ ،‬فجد الناس يف الطلب ‪ ،‬واهلل غالب على أمره ‪.‬‬
‫فلما مروا حبي مدجل مصعدين من قديد ‪ ،‬بصر هبم رجل فوقف على احلي ‪ ،‬فقال ‪ :‬لقد رأيت‬
‫آنفاً أسودة ما أراها إال حممداً وأصحابه ‪.‬‬
‫‪84‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫ففطن باألمر سراقة بن مالك ‪ ،‬فأراد أن يكون الظفر له ‪ ،‬وقد سبق له من الظفر ما مل يكن‬
‫يف حسابه ‪ ،‬فقال‪ :‬بل مها فالن وفالن‪ ،‬خرجا يف طلب حاجة هلما ‪ .‬مث مكث قليالً ‪ ،‬مث قام‬
‫فدخل خباءه ‪ ،‬وقال جلاريته ‪ :‬اخرجي بالفرس من وراء اخلباء وموعدك وراء األكمة ‪ .‬مث‬
‫أخذ رحمه وخفض عاليه خيط به األرض حىت ركب فرسه ‪ ،‬فلما قرب منهم ‪ ،‬ومسع قراءة‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪ -‬وأبو بكر يكثر االلتفات ‪ ،‬ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ال‬
‫يلتفت‪ -‬قال أبو بكر ‪ :‬يا رسول اهلل ! هذا سراقة بن مالك قد رهقنا ‪ .‬فدعا عليه رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم فساخت يدا فرسه يف األرض ‪ ،‬فقال ‪ :‬قد علمت أن الذي أصابين‬
‫بدعائكما ‪ ،‬فادعوا اهلل يل ‪ ،‬ولكما أن أرد الناس عنكما ‪ .‬فدعا له رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬فخلصت يدا فرسه ‪ ،‬فانطلق ‪ .‬وسأل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬أن يكتب له‬
‫كتاباً ‪ ،‬فكتب له أبو بكر بأمره يف أدمي ‪ .‬وكان الكتاب معه إىل يوم فتح مكة ‪ ،‬فجاء به ‪،‬‬
‫فوىف له رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬
‫فرجع ‪ ،‬فوجد الناس يف الطلب ‪ ،‬فجعل يقول ‪ :‬قد استربأت لكم اخلرب ‪ ،‬وقد كفيتم ها هنا ‪،‬‬
‫فكان أول النهار جاهداً عليهما ‪ ،‬وكان آخره حارساً هلما ‪.‬‬

‫قصة أم معبد ‪:‬‬


‫مث "مروا خبيمة أم معبد اخلزاعية ‪ :‬وكانت امرأة برزة جلدة حتتيب بفناء اخليمة مث تطعم وتسقي‬
‫من مر هبا ‪ ،‬فسأالها ‪ :‬هل عندها شئ يشرتونه ؟ فقالت ‪- :‬واهلل لو عندنا شئ ما أعوزكم‬
‫القرى ‪ ،‬والشاء عازب ‪ -‬وكانت سنة شهباء ‪ -‬فنظر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل شاة‬
‫يف كسر اخليمة ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما هذه الشاة ؟ قالت ‪ :‬خلفها اجلهد عن الغنم ‪ ،‬فقال ‪ :‬هل هبا من‬
‫لنب ؟‪ ،‬قالت ‪ :‬هي أجهد من ذلك ‪ ،‬قال ‪ :‬أتأذنني يل أن أحلبها ؟‪ ،‬قالت ‪ :‬نعم ‪-‬بأيب أنت‬
‫وأمي‪ -‬إن رأيت هبا حليباً فاحلبها‪ ،‬فمسح رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بيده ضرعها ‪،‬‬
‫ومسى اهلل ودعا ‪ .‬فتفاجت عليه ودرت ‪ ،‬فدعا بإناء هلا يربض الرهط ‪ ،‬فحلب فيه حىت علته‬
‫الرغوة ‪ ،‬فسقاها فشربت حىت رويت ‪ ،‬وسقى أصحابه حىت رووا ‪ ،‬مث شرب هو ‪ ،‬وحلب‬
‫فيه ثانياً فمأل اإلناء‪ ،‬مث غادره عندها وارحتلوا ‪.‬‬
‫‪85‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫فقل ما لبثت ‪ :‬أن جاء زوجها يسوق أعنزاً عجافاً يتساوكن هزاالً ‪ ،‬فلما رأى اللنب ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫من أين هذا؟ والشاء عازب ‪ ،‬وال حلوبة يف البيت ‪ .‬قالت ‪ :‬ال واهلل إال أنه مر بنا رجل‬
‫مبارك ‪ ،‬من حديثه ‪ :‬كيت وكيت ‪ ،‬قال ‪ :‬واهلل إين ألراه صاحب قريش الذي تطلبه ‪ ،‬صفيه‬
‫يل يا أم معبد ‪ .‬قالت ‪ :‬ظاهر الوضاءة ‪ ،‬أبلج الوجه ‪ ،‬حسن اخللق ‪ ،‬مل تعبه ثجلة ‪ ،‬ومل تزر‬
‫به صعلة‪ ،‬وسيم قسيم يف عينيه دعج ‪ ،‬ويف أشفاره وطف ‪ ،‬ويف صوته صحل ‪ ،‬ويف عنقه‬
‫سطع ‪ ،‬ويف حليته كثاثة أحور أكحل أزج أقرن‪ ،‬شديد سواد الشعر‪ ،‬إذا تكلم عاله البهاء ‪،‬‬
‫أمجل الناس وأهباه من بعيد ‪ ،‬وأحسنه وأحاله من قريب ‪ ،‬حلو املنطق ‪ ،‬فصل ‪ ،‬ال تزر وال‬
‫هذر ‪ ،‬كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن ‪ ،‬ربعة ال تقتحمه عني من قصر ‪ ،‬وتشنؤه من طول‬
‫‪ ،‬غصن بني غصنني ‪ ،‬فهو أنضر الثالثة منظراً ‪ ،‬وأحسنهم قدراً ‪ ،‬له رفقاء حيفون به ‪ ،‬إذا‬
‫قال استمعوا لقوله ‪ ،‬وإذا أمر تبادروا إىل أمره ‪ ،‬حمفود حمشود ‪ ،‬ال عابس وال مفند "‪.‬‬
‫قال أبو معبد ‪ :‬هذا ‪-‬واهلل‪ -‬صاحب قريش الذي تطلبه ‪ ،‬ولقد مهمت أن أصحبه وألفعلن ‪،‬‬
‫إن وجدت إىل ذلك سبيالً ‪.‬‬
‫وأصبح صوت عال مبكة يسمعونه ‪ ،‬وال يرون القائل ‪ ،‬يقول ‪:‬‬
‫رفيقني حال خيميت أم معبد‬ ‫جزى اهلل رب الناس خري جزائه‬
‫فأفلح من أمسى رفيق حممد‬ ‫مها نزال بالرب وارحتال به‬
‫به من فخار ال حياذى وسؤدد‬ ‫فيا لقصي ما زوى اهلل عنكمو‬
‫يرد هبا يف مصدر مث يورد‬ ‫وقد غادرت وهناً لديها حبالب‬
‫فإنكموا إن تسألوا الشاة تشهد‬ ‫سلوا أختكم عن شاهتا وإنائها؟‬
‫له بصريح ضرة الشاة مزبد‬ ‫دعاها بشاة حائل فتحلبت‬
‫وقدس من يسري إليه ويغتدي‬ ‫لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم‬
‫وحل على قوم بنور جمدد‬ ‫ترحل عن قوم فزالت عقوهلم‬
‫وأرشدهم من يتبع احلق يرشد‬ ‫هداهم به ‪-‬بعد الضاللة‪-‬رهبم‬
‫ركاب هدى حلت عليهم بأسعد‬ ‫وقد نزلت منه على أهل يثرب‬

‫‪86‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫ويتلو كتاب اهلل يف كل مشهد‬ ‫نيب يرى ما ال يرى الناس حوله‬


‫فتصديقها يف ضحوة اليوم أوغد‬ ‫وإن قال يف يوم مقالة غائب‬
‫بصحبته من يسعد اهلل يسعد‬ ‫ليهن أبا بكر سعادة جده‬
‫ويقعدها للمؤمنني مبرصد‬ ‫ويهن بين كعب مكان فتاهتم‬
‫قالت أمساء بنت أيب بكر ‪ :‬مكثنا ثالث ليال ال ندري أين توجه رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ؟ إذ أقبل رجل من اجلن من أسفل مكة يتغىن بأبيات غناء العرب ‪ ،‬والناس يتبعونه ‪،‬‬
‫ويسمعون منه وال يرونه ‪ ،‬حىت خرج من أعلى مكة ‪ ،‬فعرفنا أين توجه رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ‪.‬‬
‫قالت ‪ :‬وملا خرج أبو بكر احتمل معه ماله ‪ ،‬فدخل علينا جدي أبو قحافة ‪-‬وقد ذهب بصره‬
‫‪ -‬فقال ‪ :‬إين واهلل ألراه قد فجعكم مباله مع نفسه ‪ .‬قلت ‪ :‬كال واهلل ‪ ،‬قد ترك لنا خرياً ‪.‬‬
‫وأخذت حجارة ‪ ،‬فوضعتها يف كوة البيت ‪ .‬وقلت ‪ :‬ضع يدك على املال ‪ .‬فوضعها ‪ ،‬وقال ‪:‬‬
‫ال بأس ‪ ،‬إن كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن ‪ .‬قالت ‪ :‬واهلل ما ترك لنا شيئاً ‪ ،‬وإمنا أردت‬
‫أن أسكت الشيخ ‪.‬‬

‫دخول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم المدينة ‪:‬‬


‫وملا بلغ األنصار خمرج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من مكة ‪ ،‬كانوا خيرجون كل يوم إىل‬
‫احلرة ينتظرونه [أول النهار]‪ ،‬فإذا اشتد حر الشمس رجعوا إىل منازهلم ‪ ،‬فلما كان يوم اإلثنني‬
‫ثاين عشر ربيع األول ‪ ،‬على رأس ثالث عشرة سنة من نبوته خرجوا على عادهتم ‪ ،‬فلما محي‬
‫الشمس رجعوا ‪ ،‬فصعد رجل من اليهود على أطم من آطام املدينة‪[ ،‬لبعض شأنه] فرأى‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه مبيضني يزول هبم السراب ‪ ،‬فصرخ بأعلى صوته ‪:‬‬
‫يا بين قيلة ! هذا صاحبكم قد جاء ‪ ،‬هذا جدكم الذي تنتظرونه ‪ .‬فثار األنصار إىل السالح‬
‫ليتلقوا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬
‫ومسعت الوجبة والتكبري يف بين عمرو بن عوف ‪ ،‬وكرب املسلمون فرحاً بقدومه ‪ .‬وخرجوا‬
‫للقائه ‪ ،‬فتلقوه وحيوه بتحية النبوة ‪ ،‬وأحدقوا به مطيفني حوله ‪.‬‬
‫‪87‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫فلما أتى املدينة ‪ ،‬عدل ذات اليمني ‪ ،‬حىت نزل بقباء يف بين عمرو بن عوف ‪ ،‬ونزل على‬
‫كلثوم بن اهلدم ‪-‬أو على سعد بن خيثمة‪ -‬فأقام يف بين عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة ‪،‬‬
‫وأسس مسجد قباء ‪ ،‬وهو أول مسجد أسس بعد النبوة ‪.‬‬
‫"فلما كان يوم اجلمعة ركب ‪ ،‬فأدركته اجلمعة يف بين سامل بن عوف ‪ ،‬فجمع هبم يف املسجد‬
‫الذي يف بطن الوادي ‪ ،‬مث ركب ‪ ،‬فأخذوا خبطام راحلته ‪ ،‬يقولون ‪ :‬هلم إىل القوة واملنعة‬
‫والسالح ‪ .‬فيقول ‪ :‬خلوا سبيلها ‪ ،‬فإهنا مأمورة‪ ،‬فلم تزل ناقته سائرة‪ ،‬ال مير بدار من دور‬
‫األنصار ‪ ،‬إال رغبوا إليه يف النزول عليهم ‪ ،‬فيقول ‪ :‬دعوها فإهنا مأموة ‪ ،‬فسارت حىت‬
‫وصلت إىل موضع مسجده اليوم ‪ ،‬فربكت ‪ .‬ومل ينزل عنها ‪ ،‬حىت هنضت وسارت قليالً ‪ ،‬مث‬
‫رجعت وبركت يف موضعها األول ‪ ،‬فنزل عنها وذلك يف بين النجار ‪ ،‬أخواله صلى اهلل عليه‬
‫وسلم" ‪.‬‬
‫وكان من توفيق اهلل هلا ‪ ،‬فإنه أحب أن ينزل على أخواله يكرمهم ‪ ،‬فجعل الناس يكلمونه يف‬
‫النزول عليهم ‪.‬‬
‫وبادر أبو أيوب خالد بن زيد إىل رحله ‪ ،‬فأدخله بيته ‪ ،‬فجعل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫يقول ‪ :‬املرء مع رحله‪ ،‬وجاء أسعد بن زرارة ‪ ،‬فأخذ خبطام ناقته ‪ ،‬فكانت عنده ‪.‬‬
‫وأصبح كما قال أبو قيس صرمة بن أيب أنس ‪-‬وكان ابن عباس خيتلف إليه ليحفظها عنه ‪:‬‬
‫يذكر لو يلقى حبيباً مواتياً‬ ‫ثوى يف قريش بضع عشرة حجة‬
‫فلم ير من يؤوي ومل ير داعيا‬ ‫ويعرض يف أهل املواسم نفسه‬
‫وأصبح مسروراً بطيبة راضيا‬ ‫فلما أتانا واستقـرت به النوى‬
‫بعيد وال خيشى من الناس باغيا‬ ‫وأصبح ال خيشى ظالمة ظامل‬
‫وأنفسنا عند الوغى والتآسيا‬ ‫بذلنا له األموال من جل مالنا‬
‫مجيعاً وإن كان احلبيب املصافيا‬ ‫نعادي الذي عادى من الناس كلهم‬
‫وأن كتاب اهلل أصبح هاديا‬ ‫ونعلم أن اهلل ال رب غريه‬
‫وكما قال حسان بن ثابت رضي اهلل عنه ‪:‬‬

‫‪88‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وصدقوه وأهل األرض كفار‬ ‫قومي الذين مهوا آووا نبيهمو‬


‫يف الصاحلني مع األنصار أنصار‬ ‫إال خصائص أقوام مهو تبع‬
‫ملا أتاهم كرمي األصل خمتار‬ ‫مستشعرين بقسم اهلل قوهلمو‬
‫نعم النيب ونعم القسم واجلار‬ ‫أهالً وسهالً ففي أمن ويف سعة‬
‫من كان جارمهو داراً هي الدار‬ ‫فأنزلوه بدار ال خياف هبا‬
‫مهاجرين وقسم اجلاحد النار‬ ‫وقامسوه هبا األموال إذ قدموا‬
‫وكما قال ‪:‬‬
‫على أنف راض من معد وراغم‬ ‫نصرنا وآوينا النيب حممداً‬
‫قال ابن عباس ‪ :‬كان النيب صلى اهلل عليه وسلم مبكة فأمر باهلجرة ‪ ،‬وأنزل اهلل عليه ‪ " :‬وقل‬
‫رب أدخلين مدخل صدق وأخرجين خمرج صدق واجعل يل من لدنك سلطانا نصريا " ‪،‬‬
‫والنيب صلى اهلل عليه وسلم يعلم ‪ :‬أن ال طاقة له هبذا األمر إال بسلطان ‪ ،‬فسأل اهلل سلطاناً‬
‫نصرياً ‪ ،‬فأعطاه ‪.‬‬
‫قال الرباء ‪" :‬أول من قدم علينا ‪ :‬مصعب بن عمري ‪ ،‬وابن أم مكتوم ‪ .‬فجعال يقرئان الناس‬
‫القرآن ‪ ،‬مث جاء عمار بن ياسر ‪ ،‬وبالل‪ ،‬وسعد‪ ،‬مث جاء عمر بن اخلطاب يف عشرين راكباً ‪،‬‬
‫مث جاء رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فما رأيت الناس فرحوا بشئ كفرحهم به ‪ ،‬حىت‬
‫رأيت النساء والصبيان واإلماء يقلن ‪ :‬قدم رسول اهلل ‪ ،‬جاء رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم" ‪.‬‬
‫قال أنس ‪" :‬شهدته يوم دخل املدينة ‪ ،‬فما رأيت يوماً قط كان أحسن وال أضوأ من اليوم‬
‫الذي دخل املدينة علينا ‪ ،‬وشهدته يوم مات ‪ ،‬فما رأيت يوماً قط كان أقبح وال أظلم من يوم‬
‫مات" ‪.‬‬
‫فأقام يف بيت أيب أيوب حىت بىن حجره ومسجده ‪.‬‬
‫وبعث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪-‬وهو يف منزل أيب أيوب‪ -‬زيد بن حارثة ‪ ،‬وأبا رافع‬
‫‪ ،‬وأعطامها بعريين ومخسمائة درهم إىل مكة ‪ ،‬فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه ‪ ،‬وسودة‬

‫‪89‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫بنت زمعة زوجه ‪ ،‬وأسامة بن زيد ‪ ،‬وأم أمين ‪ .‬وأما زينب فلم ميكنها زوجها أبو العاص بن‬
‫الربيع من اخلروج ‪ ،‬وخرج عبد اهلل بن أيب بكر بعيال أيب بكر ‪ ،‬وفيهم عائشة [فنزلوا يف بيت‬
‫حارثة بن النعمان] ‪.‬‬
‫بناء المسجد‪: W‬‬
‫قال الزهري ‪ :‬بركت ناقة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عند موضع مسجده ‪ ،‬وكان مربداً‬
‫لسهل وسهيل ‪ ،‬غالمني يتيمني من األنصار ‪ ،‬كانا يف حجر أسعد بن زرارة ‪ .‬فساوم رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم الغالمني باملربد ‪ ،‬ليتخذه مسجداً ‪ ،‬فقاال‪ :‬بل هنبه لك يا رسول اهلل‬
‫‪ ،‬فأىب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ .‬فاشرتاه منهما بعشرة دنانري ‪.‬‬
‫ويف الصحيح أنه قال ‪ :‬يا بين النجار ‪ ،‬ثامنوين حبائطكم هذا‪ ،‬قالوا ‪ .‬ال واهلل ‪ ،‬ال نطلب مثنه‬
‫إال إىل اهلل ‪ -‬وكان فيه شجر غرقد وخنل ‪ ،‬وقبور للمشركني ‪ ،‬فأمر رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم بالقبور فنبشت ‪ ،‬وبالنخيل والشجر فقطع ‪ .‬وصفت يف قبلة املسجد ‪ .‬وجعل طوله مما‬
‫يلي القبلة إىل مؤخره مائة ذراع ‪ .‬ويف اجلانبني مثل ذلك أو دونه ‪ ،‬وأساسه قريباً من ثالثة‬
‫أذرع ‪ ،‬مث بنوه باللنب ‪ ،‬وجعل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يبين معهم ‪ ،‬وينقل اللنب‬
‫واحلجارة بنفسه ‪ ،‬ويقول ‪:‬‬
‫فاغفر لألنصار واملهاجرة‬ ‫اللهم إن العيش عيش اآلخرة‬
‫وكان يقول ‪:‬‬
‫هذا أبر ربنا وأطهر‬ ‫هذا احلمال ال محال خيرب‬
‫وجعلوا يرجتزون ‪ ،‬ويقول أحدهم يف رجزه ‪:‬‬
‫لذاك منا العمل املضلل‬ ‫لئن قعدنا والرسول يعمل‬
‫وجعل قبلته إىل بيت املقدس ‪ ،‬وجعل له ثالثة أبواب ‪ :‬باب يف مؤخره ‪ ،‬وباب يقال له ‪:‬‬
‫باب الرمحة ‪ ،‬والباب الذي يدخل منه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ .‬وجعل عمده اجلذوع‬
‫‪ ،‬وسقفه اجلريد وقيل له ‪ :‬أال تسقفه ؟ قال ‪ :‬عريش كعريش موسى‪ ،‬وبىن بيوت نسائه إىل‬
‫جانبيه ‪ .‬بيوت احلجر باللنب ‪ ،‬وسقفها باجلذوع واجلريد ‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫بناؤه صلى اهلل عليه وسلم بعائشة ‪:‬‬


‫فلما فرغ من البناء بىن بعائشة يف البيت الذي بناه هلا شرقي املسجد ‪ ،‬وكان بناؤه هبا يف‬
‫شوال من السنة األوىل ‪ ،‬وكان بعض الناس يكره البناء يف شوال ‪ ،‬قيل ‪ :‬إن أصله أن طاعوناً‬
‫وقع يف اجلاهلية ‪ ،‬وكانت عائشة تتحرى أن تدخل نساءها يف شوال وختالفهم ‪ ،‬وجعل‬
‫لسودة بيتاً آخر ‪.‬‬
‫المؤاخاة بين األنصار والمهاجرين‪: W‬‬
‫مث آخى بني املهاجرين واألنصار ‪ ،‬وكانوا تسعني رجالً ‪ :‬نصفهم من املهاجرين ‪ ،‬ونصفهم‬
‫من األنصار ‪ ،‬آخى بينهم على املواساة ‪ ،‬وعلى أن يتوارثوا بعد املوت ‪ ،‬دون ذوي األرحام ‪،‬‬
‫إىل وقعه بدر ‪ .‬فلما أنزل اهلل ‪ " :‬وأولو األرحام بعضهم أوىل ببعض يف كتاب اهلل " ‪ ،‬رد‬
‫التوارث إىل األرحام [دون عقد األخوة] ‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إنه آخى بني املهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية ‪ ،‬واختذ علياً أخاً لنفسه ‪،‬‬
‫واألثبت األول ‪.‬‬
‫ويف الصحيح عن عائشة ‪ ،‬قالت ‪ :‬قدم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم املدينة وهي وبيئة ‪،‬‬
‫فمرض أبو بكر ‪ ،‬وكان يقول إذا أخذته احلمى ‪:‬‬
‫واملوت أدىن من شراك نعله‬ ‫كل امرىء مصبح يف أهله‬
‫وكان بالل إذا أقلعت عنه احلمى يرفع عقريته ‪ ،‬ويقول ‪:‬‬
‫بواد وحويل إذخر وجليل‬ ‫أال ليت شعري هل أبينت ليلة‬
‫وهل يبدون يل شامة وطفيل؟‬ ‫وهل أردن يوماً مياه جمنة؟‬
‫اللهم العن عتبة بن ربيعة ‪ ،‬وأمية بن خلف ‪ ،‬وشيبة بن ربيعة ‪ ،‬كما أخرجونا من أرضنا إىل‬
‫أرض الوباء ‪ .‬فأخربت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم "فقال ‪ :‬اللهم حبب إلينا املدينة كحبنا‬
‫مكة أو أشد ‪ .‬اللهم صححها ‪ ،‬وبارك لنا يف صاعها ومدها ‪ ،‬وانقل محاها إىل اجلحفة ‪،‬‬
‫قالت ‪ :‬فكان املولود يولد يف اجلحفة ‪ ،‬فال يبلغ احللم حىت تصرعه احلمى" ‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫حوادث السنة األولى ‪:‬‬


‫وفي السنة األولى ‪ :‬زيد يف صالة احلضر ركعتني ‪ ،‬فصارت أربع ركعات ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬نزل أهل الصفة املسجد ‪ ،‬وكانت مكاناً يف املسجد ينزل فيه فقراء املهاجرين الذين‬
‫ال أهل هلم وال مال ‪ ،‬وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يفرقهم يف أصحابه إذا جاء الليل‬
‫‪ ،‬ويتعشى طائفة منهم معه ‪ ،‬حىت جاء اهلل بالغىن ‪.‬‬
‫وهذه السنة الرابعة عشرة من النبوة ‪ ،‬هي األوىل من اهلجرة كما تقدم ‪ ،‬ومنها أرخ التاريخ ‪.‬‬
‫وتويف فيها من األعيان ‪ :‬أسعد بن زرارة ‪ ،‬قبل أن يفرغ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من‬
‫بناء املسجد ‪ .‬وتويف الرباء بن معرور يف صفر قبل قدوم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم املدينة‬
‫‪ ،‬وهو أول من مات من النقباء ‪.‬‬
‫وفيها تويف ضمرة بن جندب ‪ ،‬وكان قد مرض مبكة ‪ ،‬فقال لبنيه ‪ :‬اخرجوا يب منها ‪،‬‬
‫فخرجوا به يريد اهلجرة ‪ ،‬فلما بلغ أضاة بين غفار ‪-‬أو التنعيم‪ -‬مات ‪ ،‬فأنزل اهلل تعاىل ‪" :‬‬
‫ومن خيرج من بيته مهاجرا إىل اهلل ورسوله مث يدركه املوت فقد وقع أجره على اهلل " اآلية ‪.‬‬
‫وكلثوم بن اهلدم الذي نزل عليه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬وادع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من باملدينة من اليهود ‪ ،‬وكتب بينه وبينهم‬
‫كتاباً ‪.‬‬

‫إسالم عبد اهلل بن سالم ‪:‬‬


‫وبادر عامل اليهود وحربهم ‪ :‬عبد اهلل بن سالم فأسلم ‪ ،‬وأىب عامتهم إال الكفر ‪.‬‬
‫وكانوا ثالث قبائل ‪ :‬قينقاع ‪ ،‬والنضري ‪ ،‬وقريظة ‪ ،‬فنقض الثالث العهد ‪ .‬وحارهبم ‪ ،‬فمن‬
‫على بين قينقاع ‪ ،‬وأجلى بين النضري ‪ ،‬وقتل بين قريظة ‪ .‬ونزلت سورة احلشر يف بين النضري ‪،‬‬
‫وسورة األحزاب يف بين قريظة ‪.‬‬

‫حوادث السنة الثانية ‪:‬‬

‫‪92‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫ويف السنة الثانية ‪ :‬رأى عبد اهلل بن زيد بن عبد ربه األذان ‪ ،‬فأمره رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم أن يلقيه على بالل ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬فرض صوم رمضان ‪ ،‬ونسخ صوم عاشوراء ‪ ،‬وبقي صومه مستحباً ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬زوج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم علياً فاطمة رضي اهلل عنهما ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬صرف اهلل عز وجل القبلة عن بيت املقدس إىل الكعبة ‪.‬‬
‫تحويل القبلة ‪:‬‬
‫وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ملا قدم املدينة استقبل بيت املقدس ستة عشر شهراً ‪،‬‬
‫قبلة اليهود‪ .‬وكان حيب أن يصرفه اهلل إىل الكعبة ‪ ،‬وقال جلربيل ذلك ‪ ،‬فقال ‪ :‬إمنا أنا عبد ‪،‬‬
‫فادع ربك واسأله ‪ .‬فجعل يقلب وجهه يف السماء ‪ ،‬يرجو ذلك‪ ،‬حىت أنزل اهلل عليه ‪ " :‬قد‬
‫نرى تقلب وجهك يف السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر املسجد احلرام "‬
‫اآليات ‪.‬‬
‫وكان يف ذلك حكمة عظيمة ‪ ،‬وحمنة للناس ‪ ،‬مسلمهم وكافرهم ‪ .‬فأما املسلمون ‪ ،‬فقالوا ‪:‬‬
‫" يقولون آمنا به كل من عند ربنا " ‪ ،‬وهم الذين هدى اهلل ‪ ،‬ومل تكن بكبرية عليهم ‪.‬‬
‫وأما املشركون ‪ ،‬فقالوا ‪ " :‬ما والهم عن قبلتهم اليت كانوا عليها " ‪.‬‬
‫وأما املنافقون ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬إن كانت القبلة األوىل حقاً ‪ ،‬فقد تركها ‪ .‬وإن كانت الثانية هي‬
‫احلق ‪ ،‬فقد كان على باطل ‪.‬‬
‫وملا كان ذلك عظيماً وطأ اهلل سبحانه قبله أمر النسخ ‪ ،‬وقدرته عليه ‪ ،‬وأنه سبحانه يأيت خبري‬
‫من املنسوخ أو مثله ‪ .‬مث عقب ذلك باملعاتبة ملن تعنت على رسوله ومل ينقد له ‪ ،‬مث ذكر بعده‬
‫‪ :‬اختالف اليهود والنصارى ‪ ،‬وشهادة بعضهم على بعض بأهنم ليسوا على شئ ‪ ،‬مث ذكر‬
‫شركهم بقوهلم ‪ :‬اختذ اهلل ولداً ‪.‬‬
‫مث أخرب ‪ :‬أن املشرق واملغرب هلل ‪ ،‬فأينما يويل عباده وجوههم فثم وجهه ‪.‬‬
‫وأخرب رسوله ‪ :‬أن أهل الكتاب ال يرضون عنه حىت يتبع قبلتهم ‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫مث ذكر خليله إبراهيم وبناءه البيت مبعاونة ابنه إمساعيل عليهما السالم ‪ ،‬وأنه جعل إبراهيم‬
‫إماماً للناس ‪ ،‬وأنه ال يرغب عن ملته إال من سفه نفسه ‪.‬‬
‫مث أمر عباده أن يأمتوا به ‪ ،‬وأن يؤمنوا مبا أنزل إىل رسوله حممد صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وما‬
‫أنزل إليهم وإىل سائر النبيني ‪ .‬وأخرب ‪ :‬أن اهلل ‪-‬الذي يهدي من يشاء إىل صراط مستقيم‪-‬‬
‫وهو الذي هداهم إىل هذه القبلة اليت هي أوسط القبل ‪ ،‬وهم أوسط األمم ‪ ،‬كما اختار هلم‬
‫أفضل الرسل ‪ ،‬وأفضل الكتب ‪.‬‬
‫وأخرب ‪ :‬أنه فعل ذلك لئال يكون للناس عليهم حجة ‪ ،‬إال الظاملني ‪ ،‬فإهنم حيتجون عليهم‬
‫بتلك احلجج الباطلة الواهنة ‪ ،‬اليت ال ينبغي أن تعارض الرسل بأمثاهلا ‪ ،‬وليتم نعمته عليهم‬
‫ويهديهم ‪.‬‬
‫مث ذكر نعمته عليهم بإرسال الرسول اخلامت ‪ ،‬وإنزال الكتاب ‪ .‬وأمرهم بذكره وشكره‬
‫ورغبهم يف ذلك بأنه يذكر من ذكره ويشكر من شكره ‪.‬‬
‫وأمرهم مبا ال يتم ذلك إال به ‪ ،‬وهو االستعانة بالصرب والصالة ‪ .‬وأخربهم ‪ :‬أنه مع الصابرين‬
‫‪.‬‬

‫فصل ‪ :‬استقرار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في المدينة‪:‬‬


‫وملا استقر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف املدينة ‪ ،‬وأيده اهلل بنصره وباملؤمنني ‪ ،‬وألف بني‬
‫قلوهبم بعد العداوة ‪ ،‬ومنعته أنصار اهلل من األمحر واألسود ‪ ،‬رمتهم العرب واليهود عن قوس‬
‫واحدة‪ ،‬ومشروا هلم عن ساق العداوة واحملاربة ‪ .‬واهلل يأمر رسوله واملؤمنني بالكف والعفو‬
‫والصفح ‪ ،‬حىت قويت الشوكة ‪ .‬فحينئذ أذن هلم يف القتال ‪ ،‬ومل يفرضه عليهم ‪ ،‬فقال تعاىل ‪:‬‬
‫" أذن للذين يقاتلون بأهنم ظلموا وإن اهلل على نصرهم لقدير " ‪ ،‬وهي أول آية نزلت يف‬
‫القتال ‪.‬‬
‫مث فرض عليهم قتال من قاتلهم ‪ ،‬فقال تعاىل ‪ " :‬وقاتلوا يف سبيل اهلل الذين يقاتلونكم " اآلية‬
‫‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫مث فرض عليهم قتال املشركني كافة ‪ ،‬فقال ‪ " :‬وقاتلوا املشركني كافة كما يقاتلونكم كافة "‬
‫اآلية ‪.‬‬

‫بعض خصائص رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪:‬‬


‫وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يبايع أصحابه يف احلرب ‪ :‬على أن ال يفروا ‪ ،‬ورمبا‬
‫بايعهم على املوت ‪ ،‬ورمبا بايعهم على اجلهاد ‪ ،‬ورمبا بايعهم على اإلسالم ‪ .‬وبايعهم على‬
‫اهلجرة قبل الفتح ‪ ،‬وبايعهم على التوحيد والتزام طاعة اهلل ورسوله ‪.‬‬
‫وبايع نفراً من أصحابه على أن ال يسألوا الناس شيئاً ‪ ،‬فكان السوط يسقط من أحدهم ‪،‬‬
‫فينزل عن دابته فيأخذه ‪ ،‬وال يسأل أحداً أن يناوله إياه ‪.‬‬
‫وكان يبعث البعوث يأتونه خبرب عدوه ‪ ،‬ويطلع الطالئع ‪ ،‬ويبث احلرس والعيون ‪ ،‬حىت ال‬
‫خيفى عليه من أمر عدوه شئ ‪.‬‬
‫وكان إذا لقي عدوه دعا اهلل واستنصر به ‪ ،‬وأكثر هو وأصحابه من ذكر اهلل ‪ ،‬والتضرع له ‪.‬‬
‫وكان كثري املشاورة ألصحابه يف اجلهاد ‪.‬‬
‫وكان يتخلف يف ساقتهم ‪ ،‬فيزجي الضيف ‪ ،‬ويردف املنقطع ‪.‬‬
‫وكان إذا أراد غزوة ورى بغريها ‪.‬‬
‫وكان يرتب اجليش واملقاتلة ‪ ،‬وجيعل يف جنبة كفؤاً هلا ‪.‬‬
‫وكان يبارز بني يديه بأمره ‪ ،‬وكان يلبس للحرب عدته ‪ ،‬ورمبا ظاهر بني درعني كما فعل‬
‫يوم بدر ‪.‬‬
‫وكان له ألوية ‪ ،‬وكان إذا ظهر على قوم أقام بعرصتهم ثالثاً مث قفل ‪.‬‬
‫"وكان إذا أراد أن يغري ينتظر ‪ ،‬فإذا مسع مؤذناً مل يغر ‪ ،‬وإال أغار" ‪.‬‬
‫"وكان حيب اخلروج يوم اخلميس بكرة" ‪.‬‬
‫"وكان إذا اشتد البأس اتقوا به ‪ ،‬وكان أقرهبم إىل العدو" ‪.‬‬
‫"وكان حيب اخليالء يف احلرب ‪ ،‬وينهى عن قتل النساء والولدان ‪ ،‬وينهى عن السفر بالقرآن‬
‫إىل أرض العدو" ‪.‬‬
‫‪95‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫أول لواء عقده رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪:‬‬
‫وأول لواء عقده رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على قول موسى بن عقبة ‪-‬لواء محزة بن‬
‫عبد املطلب يف شهر رمضان يف السنة األوىل ‪ ،‬بعثه يف ثالثني رجالً من املهاجرين خاصة ‪،‬‬
‫يعرتض عرياً لقريش ‪ ،‬جاءت من الشام ‪ ،‬فيها أبو جهل يف ثالمثائة رجل ‪ ،‬حىت بلغوا سيف‬
‫البحر من ناحية العيص ‪ ،‬فالتقوا واصطفوا للقتال فحجز بينهم جمدي بن عمرو اجلهين ‪،‬‬
‫وكان موادعاً للفريقني ‪ ،‬فلم يقتتلوا ‪.‬‬

‫سرية عبيدة بن الحارث ‪:‬‬


‫مث بعث عبيدة بن احلارث بن املطلب بن عبد مناف يف شوال من تلك السنة‪ ،‬يف سرية إىل‬
‫بطن رابغ يف ستني رجالً من املهاجرين خاصة ‪ .‬فلقي أبا سفيان عند رابغ ‪ ،‬فكان بينهم‬
‫الرمي ‪ ،‬ومل يسلوا السيوف ‪ ،‬وإمنا كانت مناوشة ‪ .‬وكان سعد بن أيب وقاص أول من رمى‬
‫بسهم يف سبيل اهلل ‪ ،‬مث انصرف الفريقان ‪.‬‬
‫وقدم ابن إسحاق سرية محزة ‪.‬‬

‫سرية سعد بن أبي وقاص ‪:‬‬


‫مث بعث سعد بن أيب وقاص يف ذي القعدة من تلك السنة إىل اخلرار من أرض احلجاز ‪،‬‬
‫يعرتضون عرياً لقريش ‪ .‬وعهد إليه ‪ :‬أن ال جياوز اخلرار ‪ ،‬وكانوا عشرين ‪ .‬فخرجوا على‬
‫أقدامهم يسريون بالليل ‪ ،‬ويكمنون بالنهار ‪ ،‬حىت بلغوا اخلرار ‪ ،‬فوجدوا العري قد مرت‬
‫باألمس ‪.‬‬

‫ثم دخلت السنة الثانية‪:‬‬

‫غزوة األبواء ‪:‬‬

‫‪96‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫فغزا فيها بنفسه صلى اهلل عليه وسلم غزوة األبواء ‪ ،‬وكانت أول غزوة غزاها رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم بنفسه ‪ .‬خرج يف املهاجرين خاصة ‪ ،‬يعرتض عرياً لقريش ‪ ،‬فلم يلق كيداً ‪.‬‬
‫وفيها وادع بين ضمرة على أن ال يغزوهم وال يغزوه ‪ ،‬وال يعينوا عليه أحداً ‪.‬‬

‫غزوة بواط ‪:‬‬


‫مث غزا بواطاً يف ربيع األول ‪ .‬خرج يعرتض عرياً لقريش ‪ ،‬فيها أمية بن خلف ومائة رجل من‬
‫املشركني ‪ ،‬فبلغ بواطاً‪-‬جبالً من جبال جهينة‪ -‬فرجع ومل يلق كيداً ‪.‬‬

‫خروجه لطلب كرز بن جابر ‪:‬‬


‫مث خرج يف طلب كرز بن جابر الفهري ‪ ،‬وقد أغار على سرح املدينة ‪ ،‬فاستاقه ‪ .‬فخرج‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف أثره حىت بلغ سفوان من ناحية بدر ‪ .‬وفاته كرز ‪.‬‬

‫غزوة العشيرة ‪:‬‬


‫مث خرج يف مجادى اآلخرة يف مائة ومخسني من املهاجرين يعرتضون عرياً لقريش ذاهبة إىل‬
‫الشام ‪ .‬وخرج يف ثالثني بعرياً يتعاقبوهنا ‪ ،‬فبلغ ذا العشرية من ناحية ينبع ‪ .‬فوجد العري قد‬
‫فاتته بأيام ‪ ،‬وهي اليت خرجوا هلا يوم بدر ‪ ،‬ملا جاءت عائدة من الشام ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬وادع بين مدجل وحلفاءهم [من بين ضمرة] ‪.‬‬

‫بعث عبد اهلل بن جحش ‪:‬‬


‫مث بعث عبد اهلل بن جحش إىل خنلة يف رجب يف اثين عشر رجالً من املهاجرين كل اثنني على‬
‫بعري ‪ ،‬فوصلوا إىل خنلة‪ ،‬يرصدون عرياً لقريش ‪ .‬وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد‬
‫كتب له كتاباً ‪ ،‬وأمره ‪ :‬أن ال ينظر فيه حىت يسري يومني ‪ ،‬فلما فتح الكتاب إذا فيه ‪ :‬إذا‬
‫نظرت يف كتايب هذا ‪ ،‬فأمض حىت تننرل بنخلة بني مكة والطائف ‪ ،‬فرتصد قريشاً ‪ ،‬وتعلم لنا‬
‫أخبارها ‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫فأخرب أصحابه بذلك ‪ ،‬وأخربهم أنه ال يستكرههم ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬مسعاً وطاعة ‪.‬‬
‫فلما كان يف أثناء الطريق ‪ ،‬أضل سعد بن أيب وقاص وعتبة بن غزوان بعريمها ‪ ،‬فتخلفا يف‬
‫طلبه ‪ ،‬ومضوا حىت نزلوا خنلة ‪.‬‬
‫قتل عمرو بن الحضرمي‪: W‬‬
‫فمرت هبم عري قريش حتمل زبيباً وجتارة فيها عمرو بن احلضرمي ‪ ،‬فقتلوه ‪ ،‬وأسروا عثمان‬
‫ونوفالً ابين عبد اهلل بن املغرية ‪ ،‬واحلكم بن كيسان موىل بين املغرية ‪.‬‬
‫فقال املسلمون ‪ :‬حنن يف آخر يوم من رجب ‪ ،‬فإن قاتلناهم ‪ :‬انتهكنا الشهر احلرام ‪ ،‬وإن‬
‫تركناهم الليلة دخلوا احلرم ‪ .‬مث أمجعوا على مالقاهتم ‪ ،‬فرمى أحدهم عمرو بن احلضرمي فقتله‬
‫‪ ،‬وأسروا عثمان واحلكم ‪ ،‬وأفلت نوفل ‪ .‬مث قدموا بالعري واألسريين‪ ،‬حىت عزلوا من ذلك‬
‫اخلمس ‪ .‬فكان أول مخس يف اإلسالم ‪ ،‬وأول قتل يف اإلسالم ‪ ،‬وأول أسر ‪ ،‬فأنكر رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ما فعلوه ‪.‬‬
‫واشتد إنكار قريش لذلك ‪ ،‬وزعموا ‪ :‬أهنم وجدوا مقاالً ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬قد أحل حممد الشهر‬
‫احلرام ‪ ،‬واشتد على املسلمني ذلك ‪ ،‬حىت أنزل اهلل ‪ " :‬يسألونك عن الشهر احلرام قتال فيه‬
‫قل قتال فيه كبري وصد عن سبيل اهلل وكفر به واملسجد احلرام وإخراج أهله منه أكرب عند اهلل‬
‫" اآلية ‪ ،‬يقول سبحانه ‪ :‬هذا الذي أنكرمتوه ‪-‬وإن كان كبرياً‪ -‬فما ارتكبتموه وترتكبونه من‬
‫الكفر باهلل ‪ ،‬والصد عن سبيله وبيته ‪ ،‬وإخراج املسلمني منه ‪ :‬أكرب عند اهلل ‪.‬‬

‫معنى الفتنة ‪:‬‬


‫و الفتنة هنا الشرك ‪ ،‬كقوله ‪ " :‬وقاتلوهم حىت ال تكون فتنة " ‪ ،‬وقوله ‪ " :‬مث مل تكن فتنتهم‬
‫إال أن قالوا واهلل ربنا ما كنا مشركني " ‪ ،‬أي ‪ :‬مل تكن عاقبة شركهم ‪ ،‬وآخرة أمرهم ‪ :‬إال‬
‫أن أنكروه ‪ ،‬وتربؤوا منه ‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وحقيقتها ‪ :‬الشرك الذي يدعوا إليه صاحبه ‪ ،‬ويعاقب من مل يفتنت به ‪ ،‬هلذا قال تعاىل ‪ " :‬إن‬
‫الذين فتنوا املؤمنني واملؤمنات مث مل يتوبوا " اآلية ‪ ،‬فسرت بتعذيب املؤمنني وإحراقهم بالنار ‪،‬‬
‫لريجعوا عن دينهم ‪.‬‬
‫وقد تأيت الفتنة ويراد هبا ‪ :‬املعصية ‪ ،‬كقوله تعاىل ‪ " :‬ومنهم من يقول ائذن يل وال تفتين "‬
‫اآلية ‪ ،‬وكفتنة الرجل يف أهله وماله ‪ ،‬ووالده وجاره ‪ ،‬وكالفنت اليت وقعت بني أهل اإلسالم‬
‫‪.‬‬
‫وأما اليت يضيفها اهلل لنفسه ‪ ،‬فهي مبعىن االمتحان واالبتالء واالختبار ‪.‬‬

‫وقعة بدر الكبرى ‪ ،‬يوم الفرقان ‪:‬‬


‫فلما كان يف رمضان ‪ :‬بلغ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم خرب العري املقبلة من الشام مع أيب‬
‫سفيان ‪ ،‬فيها أموال قريش ‪ .‬فندب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الناس للخروج إليها ‪،‬‬
‫فخرج مسرعاً يف ثالمثائة وبضعة عشر رجالً ‪ ،‬ومل يكن معهم من اخليل إال فرسان ‪ :‬فرس‬
‫للزبري ‪ ،‬وفرس للمقداد بن األسود ‪ ،‬وكان معهم سبعون بعرياً‪ ،‬يعتقب الرجالن والثالثة على‬
‫البعري الواحد‪ ،‬واستخلف على املدينة عبد اهلل ابن أم مكتوم ‪.‬‬
‫فلما كان بالروحاء ‪ :‬رد أبا لبابة بن عبد املنذر ‪ ،‬واستعمله على املدينة ‪.‬‬
‫ودفع اللواء إىل مصعب بن عمري ‪ ،‬والراية إىل علي ‪ ،‬وراية األنصار إىل سعد بن معاذ ‪.‬‬
‫وملا قرب من الصفراء ‪ ،‬بعث بسبس بن عمرو وعدي بن أيب الزغباء إىل بدر يتجسسان‬
‫أخبار العري ‪.‬‬
‫وبلغ أبا سفيان خمرج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري ‪،‬‬
‫وبعثه حثيثاً إىل مكة ‪ ،‬مستصرخاً قريشاً بالنفري إىل عريهم ‪ ،‬فنهضوا مسرعني ‪ .‬ومل يتخلف‬
‫من أشرافهم سوى أيب هلب ‪ .‬فإنه عوض عنه رجالً جبعل ‪ .‬وحشدوا فيمن حوهلم من قبائل‬
‫العرب ‪ .‬ومل يتخلف عنهم من بطون قريش إال بين عدي ‪ ،‬فلم يشهدها منهم أحد ‪.‬‬
‫وخرجوا من ديارهم ‪ ،‬كما قال تعاىل ‪ " :‬بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل اهلل " ‪،‬‬
‫فجمعهم اهلل على غري ميعاد ‪ ،‬كما قال تعاىل ‪ " :‬ولو تواعدمت الختلفتم يف امليعاد " ‪.‬‬
‫‪99‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وملا بلغ رسول اهلل خروج قريش ‪ ،‬استشار أصحابه ‪ ،‬فتكلم املهاجرون ‪ ،‬فأحسنوا ‪.‬‬
‫مث استشارهم ثانياً ‪ ،‬فتكلم املهاجرون فأحسنوا ‪ .‬مث ثالثاً ‪ ،‬ففهمت األنصار ‪ :‬أن رسول اهلل‬
‫إمنا يعنيهم ‪ ،‬فقال سعد بن معاذ ‪ :‬كأنك تعرض بنا يا رسول اهلل ! ‪-‬وكان إمنا يعنيهم ‪ ،‬ألهنم‬
‫بايعوه على أن مينعوه يف ديارهم‪ -‬وكأنك ختشى أن تكون األنصار ترى عليهم ‪ :‬أن ال‬
‫ينصروك إال يف ديارهم ‪ ،‬وإين أقول عن األنصار ‪ ،‬وأجيب عنهم ‪ .‬فأمض بنا حيث شئت ‪،‬‬
‫وصل حبل من شئت‪ ،‬واقطع حبل من شئت ‪ ،‬وخذ من أموالنا ما شئت ‪ .‬وأعطنا منها ما‬
‫شئت ‪ ،‬وما أخذت منها كان أحب إلينا مما تركت ‪ .‬فواهلل لئن سرت بنا حىت تبلغ الربك من‬
‫غمدان لنسرين معك ‪ ،‬وواهلل لئن استعرضت بنا هذا البحر خلضناه معك ‪.‬‬
‫وقال املقداد بن األسود ‪ :‬إذن ال نقول كما قال قوم موسى ملوسى ‪ " :‬فاذهب أنت وربك‬
‫فقاتال إنا هاهنا قاعدون " ‪ ،‬ولكن نقاتل من بني يديك ‪ ،‬ومن خلفك ‪ ،‬وعن ميينك ‪ ،‬وعن‬
‫مشالك ‪.‬‬
‫فأشرق وجه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مبا مسع منهم ‪" ،‬وقال ‪ :‬سريوا وأبشروا ‪ ،‬فإن اهلل‬
‫وعدين إحدى الطائفتني‪ .‬وإين قد رأيت مصارع القوم" ‪.‬‬
‫وكره بعض الصحابة لقاء النفري ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬مل نستعد هلم ‪ ،‬فهو قوله تعاىل ‪ " :‬كما أخرجك‬
‫ربك من بيتك باحلق وإن فريقا من املؤمنني لكارهون * جيادلونك يف احلق بعد ما تبني كأمنا‬
‫يساقون إىل املوت وهم ينظرون " إىل قوله ‪ " :‬ولو كره اجملرمون " ‪.‬‬
‫وسار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل بدر ‪.‬‬
‫وخفض أبو سفيان ‪ ،‬فلحق بساحل البحر ‪ .‬وكتب إىل قريش ‪ :‬أن ارجعوا فإنكم إمنا خرجتم‬
‫لتحرزوا عريكم ‪ ،‬فأتاهم اخلرب ‪ ،‬فهموا بالرجوع ‪ ،‬فقال أبو جهل ‪ :‬واهلل ال نرجع حىت نقدم‬
‫بدراً ‪ ،‬فنقيم هبا ‪ ،‬نطعم من حضرنا ونسقي اخلمر ‪ ،‬وتعزف علينا القيان ‪ ،‬وتسمع بنا العرب‬
‫‪ ،‬فال تزال هتابنا أبداً وختافنا ‪.‬‬
‫فأشار األخنس بن شريق عليهم بالرجوع ‪ ،‬فلم يفعلوا ‪ .‬فرجع هو وبنو زهرة ‪ .‬فلم يزل‬
‫األخنس يف بين زهرة مطاعاً بعدها ‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وأرادت بنو هاشم الرجوع ‪ ،‬فقال أبو جهل ‪ :‬ال تفارقنا هذه العصابة حىت نرجع ‪ ،‬فساروا ‪،‬‬
‫إال طالب بن أيب طالب ‪ ،‬فرجع ‪.‬‬
‫وسار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حىت نزل على ماء أدىن مياه بدر ‪ ،‬فقال احلباب بن‬
‫املنذر‪ :‬إن رأيت أن نسري إىل قلب ‪-‬قد عرفناها‪ -‬كثرية املاء عذبة ‪ ،‬فننزل عليها ‪ .‬وتغور ما‬
‫سواها من املياه ؟ وأنزل اهلل تلك الليلة مطراً واحداً ‪ ،‬صلب الرمل ‪ ،‬وثبت األقدام ‪ ،‬وربط‬
‫على قلوهبم ‪.‬‬
‫ومشى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف موضع املعركة وجعل يشري بيده ‪ ،‬ويقول ‪ :‬هذا‬
‫مصرع فالن ‪ ،‬هذا مصرع فالن ‪ ،‬هذا مصرع فالن إن شاء اهلل ‪ ،‬فما تعدى أحد منهم‬
‫موضع إشارته صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬
‫فلما طلع املشركون ‪ ،‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬اللهم هذه قريش جاءت خبيالئها‬
‫وفخرها ‪ ،‬جاءت حتادك ‪ ،‬وتكذب رسولك ‪ ،‬اللهم فنصرك الذي وعدتين ‪ .‬اللهم أحنهم‬
‫الغداة ‪ ،‬وقام ورفع يديه ‪ ،‬واستنصر ربه ‪ ،‬وبالغ يف التضرع ورفع يديه حىت سقط رداؤه ‪.‬‬
‫وقال ‪ :‬اللهم أجنز يل ما وعدتين ‪ ،‬اللهم إين أنشدك عهدك ‪ ،‬اللهم إن هتلك هذه العصابة لن‬
‫تعبد يف األرض بعد‪ ،‬فالتزمه أبو بكر الصديق من ورائه ‪ ،‬وقال ‪ :‬حسبك مناشدتك ربك ‪ ،‬يا‬
‫رسول اهلل ! فوالذي نفسي بيده لينجزن اهلل لك ما وعدك ‪ .‬واستنصر املسلمون اهلل واستغاثوه‬
‫‪ ،‬فأوحى اهلل إىل املالئكة ‪ " :‬أين معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي يف قلوب الذين كفروا‬
‫الرعب فاضربوا فوق األعناق واضربوا منهم كل بنان " ‪ ،‬وأوحى اهلل إىل رسوله ‪ " :‬أين‬
‫ممدكم بألف من املالئكة مردفني " ‪ ،‬بكسر الدال وفتحها ‪ ،‬قيل ‪ :‬إردافاً لكم ‪ ،‬وقيل ‪:‬‬
‫يردف بعضهم بعضاً ‪ ،‬مل جييئوا دفعة واحدة ‪.‬‬
‫فلما أصبحوا أقبلت قريش يف كتائبها ‪ ،‬وقلل اهلل املسلمني يف أعينهم ‪ ،‬حىت قال أبو جهل ‪-‬ملا‬
‫أشار عتبة بن ربيعة بالرجوع‪ ،‬خوفاً على قريش من التفرق والقطيعة ‪ ،‬إذا قتلوا أقارهبم‪ -‬إن‬
‫ذلك ليس به ولكنه ‪-‬يعين عتبة‪ -‬عرف أن حممداً وأصحابه أكلة جزور ‪ ،‬وفيهم ابنه ‪ ،‬فقد‬
‫ختوفكم عليه ‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وقلل املشركني أيضاً يف أعني املسلمني ‪ ،‬ليقضي اهلل أمراً كان مفعوالً ‪.‬‬
‫وأمر أبو جهل عامر بن احلضرمي ‪-‬أخا عمرو بن احلضرمي‪ -‬أن يطلب دم أخيه ‪ ،‬فصاح ‪،‬‬
‫وكشف عن استه يصرخ ‪ :‬واعمراه ‪ ،‬واعمراه ‪ ،‬فحمي القوم ‪ .‬ونشبت احلرب ‪.‬‬
‫وعدل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الصفوف ‪ ،‬مث انصرف وغفا غفوة ‪ ،‬وأخذ املسلمني‬
‫النعاس وأبو بكر الصديق مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حيرسه ‪ ،‬وعنده سعد بن معاذ ‪،‬‬
‫ومجاعة من األنصار على باب العريش‪ ،‬فخرج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يثب يف الدرع‬
‫‪ ،‬ويتلو هذه اآلية ‪ " :‬سيهزم اجلمع ويولون الدبر " ‪.‬‬
‫ومنح اهلل املسلمني أكتاف املشركني ‪ ،‬فتناولوهم قتالً وأسراً ‪ ،‬فقتلوا سبعني ‪ ،‬وأسروا سبعني‬
‫‪.‬‬
‫وخرج عتبة وشيبة ابنا ربيعة ‪ ،‬والوليد بن عتبة ‪ :‬يطلبون املبارزة ‪ ،‬فخرج إليهم ثالثة من‬
‫األنصار ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬أكفاء كرام ‪ ،‬ما لنا ما بكم من حاجة ‪ ،‬إمنا نريد من بين عمنا ‪ .‬فربز إليهم‬
‫محزة ‪ ،‬وعبيدة بن احلارث بن املطلب ‪ ،‬وعلي بن أيب طالب ‪ ،‬فقتل علي قرنه الوليد ‪ ،‬وقتل‬
‫محزة قرنه شيبة ‪ .‬واختلف عبيدة وعتبة ضربتني ‪ ،‬كالمها أثبت صاحبه ‪ .‬فكر محزة وعلي‬
‫على قرن عبيدة فقتاله ‪ ،‬واحتمال عبيدة ‪ ،‬قد قطعت رجله ‪ ،‬فقال ‪ :‬لو كان أبو طالب حياً‬
‫لعلم أنا أوىل منه بقوله ‪:‬‬
‫ونذهل عن أبنائنا واحلالئل‬ ‫ونسلمه حىت نصرع حوله‬
‫ومات بالصفراء ‪ ،‬وفيهم نزلت ‪ " :‬هذان خصمان اختصموا يف رهبم " اآلية ‪ ،‬فكان علي‬
‫رضي اهلل عنه يقول ‪" :‬أنا أول من جيثو للخصومة بني يدي اهلل عز وجل يوم القيامة" ‪.‬‬
‫وملا عزمت قريش على اخلروج ‪ :‬ذكروا ما بينهم وبني بين كنانة من احلرب ‪ ،‬فتبدى هلم‬
‫إبليس يف صورة سراقة بن مالك‪ ،‬فقال‪ " :‬ال غالب لكم اليوم من الناس وإين جار لكم " ‪،‬‬
‫فلما تعبؤوا للقتال ‪ ،‬ورأى املالئكة ‪ :‬فر ونكص على عقبيه ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬إىل أين يا سراقة !؟‬
‫فقال ‪ " :‬إين أرى ما ال ترون إين أخاف اهلل واهلل شديد العقاب " ‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وظن املنافقون ‪ ،‬ومن يف قلبه مرض ‪ :‬أن الغلبة بالكثرة ‪ ،‬فقالوا ‪ " :‬غر هؤالء دينهم " ‪،‬‬
‫فأخرب اهلل سبحانه ‪ :‬أن النصر إمنا هو بالتوكل على اهلل وحده ‪.‬‬
‫وملا دنا العدو ‪ :‬قام رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فوعظ الناس ‪ ،‬وذكرهم مبا هلم يف الصرب‬
‫والثبات من النصر ‪ ،‬وأن اهلل قد أوجب اجلنة ملن يستشهد يف سبيله ‪ .‬فأخرج عمري بن احلمام‬
‫بن اجلموح مترات من قرنه يأكلهن ‪ ،‬مث قال ‪" :‬لئن حييت حىت آكل مترايت هذه إهنا حلياة‬
‫طويلة" ‪ ،‬فرمى هبن ‪ ،‬وقاتل حىت قتل ‪ ،‬فكان أول قتيل ‪.‬‬
‫وأخذ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ملء كفه تراباً ‪ ،‬فرمى به يف وجوه القوم‪ .‬فلم ترتك‬
‫رجالً إال مألت عينيه ‪ ،‬فهو قوله تعاىل‪ " :‬وما رميت إذ رميت ولكن اهلل رمى " ‪.‬‬
‫واستفتح أبو جهل ‪ ،‬فقال ‪ :‬اللهم أقطعنا للرحم ‪ ،‬وآتانا مبا ال نعرف ‪ ،‬فأحنه الغداة ‪.‬‬
‫وملا وضع املسلمون أيديهم يف العدو ‪-‬يقتلون ويأسرون‪ -‬وسعد بن معاذ واقف عند رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف رجال من األنصار يف العريش ‪-‬رأى رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم يف وجه سعد الكراهية ‪ ،‬فقال ‪ :‬كأنك تكره ما يصنع الناس ‪ ،‬قال ‪ :‬أجل واهلل يا‬
‫رسول اهلل ! كانت أول وقعة أوقعها اهلل يف املشركني ‪ ،‬وكان اإلثخان يف القتل أحب إيل من‬
‫استبقاء الرجال ‪.‬‬
‫وملا بردت احلرب ‪ ،‬واهنزم العدو ‪ ،‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬من ينظر لنا ما صنع‬
‫أبو جهل؟ ‪ ،‬فانطلق ابن مسعود ‪ ،‬فوجده قد ضربه معوذ وعوف ‪-‬ابنا عفراء‪ -‬حىت برد ‪،‬‬
‫فأخذ بلحيته ‪ ،‬فقال ‪ :‬أنت أبو جهل ؟ فقال ‪ :‬ملن الدائرة اليوم ؟ قال ‪ :‬هلل ورسوله ‪ ،‬مث قال‬
‫له ‪ :‬هل أخزاك اهلل يا عدو اهلل ؟ قال ‪ :‬وهل فوق رجل قتله قومه ؟ فاحتز رأسه عبد اهلل بن‬
‫مسعود ‪ .‬مث أتى النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪ .‬فقال ‪ :‬قتلته ‪ ،‬آهلل الذي ال إله إال هو ؟ ‪-‬ثالثاً‪-‬‬
‫مث قال ‪" :‬احلمد هلل الذي صدق وعده ‪ ،‬ونصر عبده‪ ،‬وهزم األحزاب وحده ‪ ،‬انطلق فأرنيه ‪،‬‬
‫فانطلقنا ‪ ،‬فأريته إياه ‪ ،‬فلما وقف عليه ‪ ،‬قال ‪ :‬هذا فرعون هذه األمة" ‪.‬‬
‫وأسر عبد الرمحن بن عوف أمية بن خلف ‪ ،‬وابنه علياً ‪ .‬فأبصره بالل ‪-‬وكان أمية يعذبه‬
‫مبكة‪ -‬فقال ‪ :‬رأس الكفر أمية ؟ ال جنوت إن جنا ‪ .‬مث استحمى مجاعة من األنصار ‪ ،‬واشتد‬

‫‪103‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫عبد الرمحن هبما ‪ ،‬حيجزمها منهم ‪ ،‬فأدركوهم ‪ .‬فشغلهم عن أمية بابنه علي ‪ ،‬ففرغوا منه ‪ ،‬مث‬
‫حلقومها ‪ ،‬فقال له عبد الرمحن ‪ :‬ابرك ‪ .‬فربك ‪ ،‬وألقى عليه عبد الرمحن بنفسه ‪ .‬فضربوه‬
‫بالسيوف من حتته حىت قتلوه ‪ ،‬وأصاب بعض السيوف رجل عبد الرمحن ‪.‬‬
‫وكان أمية قد قال قبل ذاك ‪ :‬من املعلم يف صدره بريش النعام ؟ فقال له ‪ :‬ذاك محزة بن عبد‬
‫املطلب ‪ ،‬قال ‪ :‬ذاك الذي فعل بنا األفاعيل ‪.‬‬
‫وانقطع يومئذ سيف عكاشة بن حمصن ‪ ،‬فأعطاه النيب صلى اهلل عليه وسلم جذالً من حطب ‪،‬‬
‫فلما أخذه وهزه ‪ :‬عاد يف يده سيفاً طويالً ‪ ،‬فلم يزل يقاتل به حىت قتل يوم الردة ‪.‬‬
‫وملا انقضت احلرب ‪ :‬أقبل النيب صلى اهلل عليه وسلم حىت وقف على القتلى ‪ ،‬فقال ‪ :‬بئس‬
‫عشرية النيب كنتم ‪ ،‬كذبتموين ‪ ،‬وصدقين الناس ‪ .‬وخذلتموين ‪ ،‬ونصرين الناس ‪.‬‬
‫وأخرجتموين وآواين الناس ‪.‬‬
‫مث أمر هبم فسحبوا حىت ألقوا يف القليب ‪-‬قليب بدر‪ -‬مث وقف عليهم ‪ ،‬فقال ‪" :‬يا عتبة بن‬
‫ربيعة ! ويا شيبة بن ربيعة ! ويا فالنة ‪ ،‬ويا فالن ‪ :‬هل وجدمت ما وعدكم ربكم حقاً ؟ فإين‬
‫قد وجدت ما وعدين ريب حقاً‪ ،‬فقال عمر ‪ :‬يا رسول اهلل ! ما ختاطب من أقوام قد جيفوا ؟‬
‫فقال ‪ :‬ما أنت بأمسع ملا أقول منهم [ولكنهم ال يقدرون أن جييبوا]" ‪.‬‬
‫مث ارحتل مؤيداً منصوراً ‪ ،‬قرير العني ‪ ،‬معه األسرى واملغامن ‪.‬‬
‫فلما كان بالصفراء ‪ :‬قسم الغنائم ‪ ،‬وضرب عنق النضر بن احلارث ‪.‬‬
‫مث ملا نزل بعرق الظبية ‪ ،‬ضرب عنق عقبة بن أيب معيط ‪.‬‬
‫مث دخل املدينة مؤيداً منصوراً ‪ ،‬قد خافه كل عدو له باملدينة ‪.‬‬
‫فأسلم بشر كثري من أهل املدينة ‪ ،‬ودخل عبد اهلل بن أيب رأس املنافقني وأصحابه يف اإلسالم ‪.‬‬
‫ومجلة من حضر بدراً ‪ :‬ثالمثائة وبضعة عشر رجالً ‪ ،‬واستشهد منهم أربعة عشر رجالً ‪.‬‬
‫قال ابن إسحاق ‪ :‬كان أناس قد أسلموا ‪ ،‬فلما هاجر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حبسهم‬
‫أهلهم مبكة ‪ ،‬وفتنوهم فافتتنوا ‪ ،‬مث ساروا مع قومهم إىل بدر ‪ ،‬فأصيبوا فأنزل اهلل فيهم ‪ ":‬إن‬
‫الذين توفاهم املالئكة ظاملي أنفسهم " ‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫قسم غنائم بدر ‪:‬‬


‫مث إن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أمر بالغنائم فجمعت فاختلفوا ‪ ،‬فقال من مجعها ‪ :‬هي‬
‫لنا ‪ .‬وقال من هزم العدو ‪ :‬لوالنا ما أصبتموها ‪ .‬وقال الذين حيرسون رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ :‬ما أنتم بأحق هبا منا ‪ ،‬قال عبادة بن الصامت ‪ :‬فنزعها اهلل من أيدينا ‪ ،‬فجعلها‬
‫إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فقسمها بني املسلمني ‪ ،‬وأنزل اهلل تعاىل ‪ " :‬يسألونك‬
‫عن األنفال قل األنفال هلل والرسول " اآليات ‪.‬‬
‫وذكر ابن إسحاق عن نبيه بن وهب ‪ ،‬قال ‪ :‬فرق رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم األسرى‬
‫على أصحابه ‪ ،‬وقال ‪ :‬استوصوا باألسرى خرياً ‪ ،‬فكان أبو عزيز بن عمري عند رجل من‬
‫األنصار ‪ ،‬فقال له أخوه مصعب ‪ :‬شد يدك به ‪ ،‬فإن أخته ذات متاع ‪ .‬فقال أبو عزيز ‪ :‬يا‬
‫أخي ! هذه وصيتك يب ؟ فقال مصعب ‪ :‬إنه أخي دونك ‪ ،‬قال أبو عزيز‪ :‬وكنت مع رهط‬
‫من األنصار حني قفلوا ‪ ،‬فكانوا إذا قدموا طعاماً خصوين باخلبز ‪ ،‬وأكلوا التمر ‪ ،‬لوصية‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إياهم بنا ‪ ،‬ما يقع يف يد رجل منهم كسرة إال نفحين هبا ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬فأستحي فأردها على أحدهم ‪ ،‬فريدها علي ‪ ،‬ما ميسها ‪.‬‬

‫أسارى بدر ‪:‬‬


‫واسشتار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أصحابه يف األسرى ‪ ،‬وهم سبعون ‪ ،‬وكذلك القتلى‬
‫سبعون أيضاً ‪ .‬فأشار الصديق ‪ :‬أن يؤخذ منهم فدية ‪ ،‬تكون هلم قوة ‪ ،‬ويطلقهم لعل اهلل‬
‫يهديهم لإلسالم ‪ .‬فقال عمر ‪ :‬ال واهلل ‪ ،‬ما أرى ذلك ‪ ،‬ولكين أرى أن متكننا فنضرب‬
‫أعناقهم ‪ ،‬فإن هؤالء أئمة الكفر وصناديد الشرك ‪ ،‬فهوي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ما‬
‫قال أبو بكر ‪ ،‬فقال ‪ :‬إن اهلل عز وجل ليلني قلوب رجال فيه حىت تكون ألني من اللني ‪ ،‬وإن‬
‫اهلل عز وجل ليشدد قلوب رجال فيه ‪ ،‬حىت تكون أشد من احلجارة ‪ .‬وإن مثلك يا أبا بكر‬
‫كمثل إبراهيم ؟ إذ قال ‪ " :‬فمن تبعين فإنه مين ومن عصاين فإنك غفور رحيم " ‪ ،‬وإن مثلك‬
‫يا أبا بكر كمثل عيسى ‪ ،‬إذ قال ‪ " :‬إن تعذهبم فإهنم عبادك وإن تغفر هلم " ‪ ،‬وإن مثلك يا‬
‫عمر كمثل موسى ‪ ،‬قال‪ " :‬ربنا اطمس على أمواهلم واشدد على قلوهبم " ‪ ،‬وإن مثلك يا‬
‫‪105‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫عمر كمثل نوح ‪ ،‬قال ‪ " :‬رب ال تذر على األرض من الكافرين ديارا " ‪ ،‬مث قال ‪ :‬أنتم اليوم‬
‫عالة ‪ ،‬فال ينفلنت منهم أحد إال بفداء ‪ ،‬أو ضرب عنق ‪ ،‬فأنزل اهلل تعاىل ‪ " :‬ما كان لنيب أن‬
‫يكون له أسرى حىت يثخن يف األرض " اآليتني ‪.‬‬
‫قال عمر ‪" :‬فلما كان من الغد ‪ ،‬غدوت على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فإذا هو قاعد‬
‫‪-‬هو وأبو بكر‪ -‬يبكيان ‪ ،‬فقلت ‪ :‬يا رسول اهلل ! أخربين ما يبكيك وصاحبك ؟ فإن وجدت‬
‫بكاء بكيت ‪ ،‬وإن مل أجد تباكيت لبكائكما ‪ .‬فقال ‪ :‬أبكي للذي عرض علي أصحابك من‬
‫الغد ‪ :‬من أخذهم الفداء ‪ ،‬فقد عرض علي عذاهبم أدىن من هذه الشجرة ‪-‬لشجرة قريبة منه‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬وقال ‪ :‬لو نزل عذاب ما سلم منه إال عمر" ‪.‬‬
‫وقال األنصار للنيب صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬نريد أن نرتك البن أختنا العباس فداءه ‪ ،‬فقال ‪ :‬ال‬
‫تدعوا منه درمهاً ‪.‬‬

‫ثم دخلت السنة الثالثة من الهجرة‪:‬‬


‫غزوة بني قينقاع ‪:‬‬
‫فكانت فيها غزوة بين قينقاع ‪ ،‬وكانوا من يهود املدينة ‪ .‬فنقضوا العهد ‪ .‬فحاصرهم رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم مخس عشرة ليلة ‪ ،‬فنزلوا على حكمه ‪ ،‬فشفع فيهم عبد اهلل بن أيب‬
‫بن سلول ‪ ،‬وأحل على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فيهم ‪ ،‬فأطلقهم له‪ ،‬وكانوا سبعمائة‬
‫رجل ‪ ،‬وهم رهط عبد اهلل بن سالم ‪.‬‬

‫غزوة أحد ‪:‬‬


‫وفيها كانت وقعة أحد يف شوال ‪.‬‬
‫وذلك ‪ :‬أن اهلل تبارك وتعاىل ملا أوقع بقريش يوم بدر ‪ ،‬وترأس فيهم أبو سفيان ‪ ،‬لذهاب‬
‫أكابرهم ‪ ،‬أخذ يؤلب على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وعلى املسلمني ‪ .‬وجيمع اجلموع‬
‫‪ ،‬فجمع قريباً من ثالثة آالف من قريش ‪ ،‬واحللفاء واألحابيش ‪ .‬وجاؤوا بنسائهم لئال يفروا‬
‫‪ ،‬مث أقبل هبم حنو املدينة ‪ ،‬فنزل قريباً من جبل أحد ‪.‬‬
‫‪106‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫فاستشار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أصحابه يف اخلروج إليهم ‪ ،‬وكان رأيه أن ال خيرجوا‬
‫‪ ،‬فإن دخلوها قاتلهم املسلمون على أفواه السكك ‪ ،‬والنساء من فوق البيوت ‪ ،‬ووافقه عبد‬
‫اهلل بن أيب ‪-‬رأس املنافقني‪ -‬على هذا الرأي ‪ ،‬فبادر مجاعة من فضالء الصحابة ‪-‬ممن فاته‬
‫بدر‪ -‬وأشاروا على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم باخلروج ‪ ،‬وأحلوا عليه ‪ .‬فنهض ودخل‬
‫بيته‪ ،‬ولبس ألمته ‪ ،‬وخرج عليهم ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬استكرهنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على‬
‫اخلروج ‪ .‬مث قالوا ‪ :‬إن أحببت أن متكث باملدينة فافعل ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما ينبغي لنيب إذا لبس ألمته‬
‫أن يضعها حىت حيكم اهلل بينه وبني عدوه ‪.‬‬
‫فخرج يف ألف من أصحابه ‪ ،‬واستعمل على املدينة عبد اهلل بن أم مكتوم ‪.‬‬
‫وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم رأى رؤيا ‪ :‬رأى أن يف سيفه ثلمة ‪ ،‬وأن بقراً تذبح ‪.‬‬
‫وأنه يدخل يده يف درع حصينة ‪ .‬فتأول الثلمة ‪ :‬برجل يصاب من أهل بيته ‪ ،‬والبقر ‪ :‬بنفر‬
‫من أصحابه يقتلون ‪ ،‬والدرع باملدينة ‪ ،‬فخرج ‪ ،‬وقال ألصحابه ‪ :‬عليكم بتقوى اهلل ‪ ،‬والصرب‬
‫عند البأس إذا لقيتم العدو ‪ ،‬وانظروا ماذا أمركم اهلل به فافعلوا ‪.‬‬
‫فلما كان بالشوط ‪-‬بني املدينة وأحد‪ -‬اخنزل عبد اهلل بن أيب بنحو ثلث العسكر ‪ ،‬وقال ‪:‬‬
‫عصاين ‪ .‬ومسع من غريي ما ندري عالم نقتل أنفسنا ها هنا ‪ ،‬أيها الناس ؟ فرجع وتبعهم عبد‬
‫اهلل بن عمرو ‪-‬والد جابر‪ -‬حيرضهم على الرجوع ‪ ،‬ويقول ‪ :‬قاتلوا يف سبيل اهلل أو ادفعوا ‪،‬‬
‫قالوا ‪ :‬لو نعلم أنكم تقاتلون مل نرجع‪ ،‬فرجع عنهم وسبهم ‪.‬‬
‫وسأل نفر من األنصار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن يستعينوا حبلفائهم من يهود ‪ ،‬فأىب‬
‫‪ ،‬وقال ‪ :‬من خيرج بنا على القوم من كثب؟ ‪.‬‬
‫فخرج به بعض األنصار ‪ ،‬حىت سلك يف حائط ملربع بن قيظي من املنافقني ‪-‬وكان أعمى‪،-‬‬
‫فقام حيثو الرتاب يف وجوه املسلمني ‪ ،‬ويقول ‪ :‬ال أحل لك أن تدخل يف حائطي ‪ ،‬إن كنت‬
‫رسول اهلل ‪ .‬فابتدروه ليقتلوه ‪ .‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬ال تقتلوه فهذا أعمى‬
‫القلب أعمى البصر ‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫ونفذ حىت نزل الشعب من أحد ‪ ،‬يف عدوة الوادي الدنيا ‪ ،‬وجعل ظهره إىل أحد ‪ ،‬وهنى‬
‫الناس عن القتال حىت يأمرهم ‪.‬‬
‫فلما أصبح يوم السبت تعبأ للقتال ‪ ،‬وهو يف سبعمائة ‪ ،‬منهم مخسون فارساً ‪ ،‬واستعمل على‬
‫الرماة ‪-‬وكانوا مخسني‪ -‬عبد اهلل بن جبري ‪ .‬وأمرهم ‪ :‬أن ال يفارقوا مركزهم ‪ ،‬ولو رأوا الطري‬
‫ختتطف العسكر ‪ ،‬وأمرهم ‪ :‬أن ينضحوا املشركني بالنبل ‪ ،‬لئال يأتوا املسلمني من ورائهم ‪.‬‬
‫وظاهر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بني درعني ‪.‬‬
‫وأعطى اللواء مصعب بن عمري ‪ ،‬وجعل على إحدى اجملنبتني الزبري بن العوام ‪ ،‬وعلى األخرى‬
‫‪ :‬املنذر بن عمرو ‪ .‬واستعرض الشباب يومئذ ‪ ،‬فرد من استصغر عن القتال ‪-‬كابن عمر ‪،‬‬
‫وأسامة بن زيد ‪ ،‬والرباء ‪ ،‬وزيد بن أرقم ‪ ،‬وزيد بن ثابت ‪ ،‬وعرابة األوسي‪ -‬وأجاز من رآه‬
‫مطيقاً ‪.‬‬
‫وتعبأت قريش ‪ ،‬وهم ثالثة آالف ‪ .‬وفيهم مائتا فارس ‪ ،‬فجعلوا ميمنتهم ‪ :‬خالد بن الوليد ‪،‬‬
‫وعلى امليسرة ‪ :‬عكرمة بن أيب جهل ‪.‬‬
‫ودفع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم سيفه إىل أيب دجانة ‪.‬‬
‫وكان أول من بدر من املشركني أبو عامر ‪-‬عبد عمرو بن صيفي‪ -‬الفاسق ‪ ،‬وكان يسمى‬
‫الراهب ‪ .‬وهو رأس األوس يف اجلاهلية‪ ،‬فلما جاء اإلسالم شرق به ‪ ،‬وجاهر بالعداوة ‪.‬‬
‫فذهب إىل قريش يؤلبهم على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ووعدهم ‪ :‬بأن قومه إذا رأوه‬
‫أطاعوه ‪ ،‬فلما ناداهم ‪ ،‬وتعرف إليهم ‪ ،‬قالوا ‪ :‬ال أنعم اهلل بك عيناً يا فاسق ‪ ،‬فقال ‪ :‬لقد‬
‫أصاب قومي بعدي شر ‪ .‬مث قاتل املسلمني قتاالً شديداً ‪ ،‬مث أرضخهم باحلجارة ‪.‬‬
‫وأبلى يومئذ أبو دجانة‪ ،‬وطلحة‪ ،‬ومحزة‪ ،‬وعلي‪ ،‬والنضر بن أنس‪ ،‬وسعد بن الربيع بالء حسناً‬
‫‪.‬‬
‫وكانت الدولة أول النهار للمسلمني ‪ ،‬فاهنزم أعداء اهلل ‪ ،‬وولوا مدبرين ‪ ،‬حىت انتهوا إىل‬
‫نسائهم ‪ ،‬فلما رأى ذلك الرماة ‪ ،‬قالوا ‪ :‬الغنيمة ‪ ،‬الغنيمة ‪ ،‬فذكرهم أمريهم عهد رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فلم يسمعوا ‪ ،‬فأخلوا الثغر ‪ ،‬وكر فرسان املشركني عليه ‪ ،‬فوجدوه‬

‫‪108‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫خالياً ‪ ،‬فجاؤوا منه ‪ .‬وأقبل آخرهم حىت أحاطوا باملسلمني فأكرم اهلل من أكرم منهم‬
‫بالشهادة ‪-‬وهم سبعون‪ -‬ووىل الصحابة ‪.‬‬
‫وخلص املشركون إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فجرحوه جراحات ‪ ،‬وكسروا‬
‫رباعيته ‪.‬‬
‫وقتل مصعب بن عمري بني يديه ‪ ،‬فدفع اللواء إىل علي بن أيب طالب ‪ .‬وأدركه املشركون‬
‫يريدون قتله ‪ ،‬فحال دونه حنو عشرة حىت قتلوا ‪ ،‬مث جالدهم طلحة بن عبيد اهلل حىت‬
‫أجهضهم عنه ‪ ،‬وترس أبو دجانة عليه بظهره ‪ ،‬والنبل يقع فيه وهو ال يتحرك ‪.‬‬
‫وأصيبت يومئذ عني قتادة بن النعمان ‪ ،‬فأتى هبا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فردها بيده ‪،‬‬
‫فكانت أحسن عينيه ‪.‬‬
‫وصرخ الشيطان ‪ :‬إن حممداً قد قتل ‪ ،‬فوقع ذلك يف قلوب كثري من املسلمني ‪.‬‬
‫فمر أنس بن النضر بقوم من املسلمني قد ألقوا بأيديهم ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬قتل رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ .‬فقال ‪ :‬ما تصنعون باحلياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه ‪ .‬مث استقبل‬
‫الناس ‪ ،‬ولقي سعد بن معاذ ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا سعد ! إين ألجد ريح اجلنة من دون أحد ‪ ،‬فقاتل‬
‫حىت قتل ‪ ،‬ووجد به سبعون جراحة ‪.‬‬
‫وقتل وحشي محزة بن عبد املطلب رضي اهلل عنه ‪ ،‬رماه حبربة على طريقة احلبشة ‪.‬‬
‫وأقبل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حنو املسلمني ‪ ،‬فكان أول من عرفه حتت املغفر ‪ :‬كعب‬
‫بن مالك ‪ ،‬فصاح بأعلى صوته ‪ :‬يا معشر املسلمني ! هذا رسول اهلل ‪ ،‬فأشار إليه ‪ :‬أن‬
‫اسكت ‪ ،‬فاجتمع إليه املسلمون ‪ ،‬وهنضوا معه إىل الشعب الذي نزل فيه ‪.‬‬
‫فلما أسندوا إىل اجلبل أدركه أيب بن خلف على فرس له ‪ ،‬كان يزعم مبكة ‪ :‬أنه يقتل عليه‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فلما اقرتب منه طعنه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف‬
‫ترقوته ‪ ،‬فكر منهزماً ‪ .‬فقال له املشركون ‪ :‬ما بك من بأس ‪ ،‬فقال ‪ :‬واهلل لو كان ما يب‬
‫بأهل ذي اجملاز ملاتوا أمجعني ‪ ،‬فمات بسرف ‪.‬‬
‫وحانت الصالة ‪ ،‬فصلى هبم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم جالساً ‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وشد حنظلة بن أيب عامر على أيب سفيان ‪ ،‬فلما متكن منه محل عليه شداد بن األسود فقتله ‪،‬‬
‫وكان حنظلة جنباً ‪ ،‬فإنه حني مسع الصيحة وهو على بطن امرأته ‪ :‬قام من فوره إىل اجلهاد ‪،‬‬
‫فأخرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن املالئكة تغسله ‪.‬‬
‫وكان األصريم ‪-‬عمرو بن ثابت بن وقش‪ -‬يأىب اإلسالم ‪ ،‬وهو من بين عبد األشهل ‪ ،‬فلما‬
‫كان يوم أحد‪ :‬قذف اهلل اإلسالم يف قلبه للحسىن اليت سبقت له ‪ .‬فأسلم وأخذ سيفه ‪ ،‬فقاتل‬
‫‪ ،‬حىت أثبتته اجلراح ‪ ،‬ومل يعلم أحد بأمره ‪ .‬فلما طاف بنو عبد األشهل يلتمسون قتالهم ‪،‬‬
‫وجدوا األصريم ‪-‬وبه رمق يسري ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬واهلل إن هذا األصريم ‪ ،‬مث سألوه ‪ :‬ما الذي جاء‬
‫بك ؟ أحدب على قومك ‪ ،‬أم رغبة يف اإلسالم ؟ فقال ‪ :‬بل رغبة يف اإلسالم ‪ ،‬آمنت باهلل‬
‫وبرسوله وأسلمت ‪ ،‬ومات من وقته ‪ .‬فذكروه لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فقال ‪ :‬هو‬
‫من أهل اجلنة‪ ،‬ومل يصل هلل سجدة قط ‪.‬‬
‫"وملا انقضت احلرب ‪ :‬أشرف أبو سفيان على اجلبل ‪ ،‬ونادى ‪ :‬أفيكم حممد ؟ فلم جييبوه ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬أفيكم ابن أيب قحافة ؟ فلم جييبوه ‪ .‬فقال ‪ :‬أفيكم ابن اخلطاب ؟ فلم جييبوه ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫أما هؤالء فقد كفيتموهم ‪ ،‬فلم ميلك عمر نفسه أن قال ‪ :‬يا عدو اهلل ! إن الذين ذكرهتم‬
‫أحياء ‪ ،‬وقد أبقى اهلل لك منهم ما يسوءك ‪ ،‬مث قال ‪ :‬اعل هبل ‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ :‬أال جتيبوه ؟‪ ،‬قالوا ‪ :‬ما نقول ؟ قال ‪ :‬قولوا ‪ :‬اهلل أعلى وأجل‪ ،‬مث قال ‪ :‬لنا‬
‫العزى ‪ ،‬وال عزى لكم ‪ ،‬قال ‪ :‬أال جتيبوه ؟ قالوا ‪ :‬ما نقول ؟ قال ‪ :‬قولوا ‪ :‬اهلل موالنا ‪ ،‬وال‬
‫موىل لكم ‪ ،‬مث قال ‪ :‬يوم بيوم بدر ‪ ،‬واحلرب سجال ‪ ،‬فقال عمر ‪ :‬ال سواء ‪ ،‬قتالنا يف اجلنة‬
‫‪ ،‬وقتالكم يف النار" ‪.‬‬
‫وأنزل اهلل عليهم النعاس يف بدر ويف أحد ‪ ،‬والنعاس يف احلرب من اهلل ‪ ،‬ويف الصالة وجمالس‬
‫الذكر ‪ :‬من الشيطان ‪.‬‬
‫وقاتلت املالئكة يوم أحد عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬
‫ففي الصحيحني عن سعد ‪ ،‬قال ‪" :‬رأيت رسول اهلل يوم أحد ‪ ،‬ومعه رجالن يقاتالن عنه ‪،‬‬
‫عليهما ثياب بيض ‪ ،‬كأشد القتال ‪ ،‬وما رأيتهما قبل وال بعد" ‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫ومر رجل من املهاجرين برجل من األنصار ‪-‬وهو يتشحط يف دمه‪ -‬فقال ‪ :‬يا فالن !‬
‫أشعرت أن حممداً قتل ؟ فقال األنصاري ‪ :‬إن كان قد قتل فقد بلغ ‪ ،‬فقاتلوا عن دينكم ‪،‬‬
‫فنزل ‪ " :‬وما حممد إال رسول قد خلت من قبله الرسل " اآلية ‪.‬‬
‫وكان يوم أحد يوم بالء ومتحيص ‪ ،‬اخترب اهلل عز وجل به املؤمنني ‪ ،‬وأظهر به املنافقني ‪،‬‬
‫وأكرم فيه من أراد كرامته بالشهادة ‪ ،‬فكان مما نزل من القرآن يف يوم أحد ‪ :‬إحدى وستون‬
‫آية من آل عمران ‪ ،‬أوهلا ‪ " :‬وإذ غدوت من أهلك تبوء املؤمنني مقاعد للقتال " اآليات ‪.‬‬
‫وملا انصرفت قريش تالوموا فيما بينهم ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬مل تصنعوا شيئاً ‪ ،‬أصبتم شوكتهم ‪ ،‬مث‬
‫تركتموه ‪ ،‬وقد بقي منهم رؤوس جيمعون لكم ‪ ،‬فارجعوا حىت نستأصل بقيتهم ‪.‬‬
‫فبلغ ذلك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فنادى يف الناس باملسري إليهم ‪ ،‬وقال ‪ :‬ال خيرج‬
‫معنا إال من شهد القتال ‪ ،‬فقال له ابن أيب ‪ :‬أركب معك ؟ قال ‪ :‬ال ‪.‬‬
‫فاستجاب له املسلمون ‪-‬على ما هبم من القرح الشديد‪ -‬وقالوا ‪ :‬مسعاً وطاعة ‪.‬‬
‫وقال جابر ‪ :‬يا رسول اهلل ! إين أحب أن ال تشهد مشهداً إال كنت معك ‪ ،‬وإمنا خلفين أيب‬
‫على بناته ‪ ،‬فائذن يل أن أسري معك ‪ .‬فأذن له ‪.‬‬
‫فسار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم واملسلمون معه ‪ ،‬حىت بلغوا محراء األسد ‪ ،‬فبلغ ذلك أبا‬
‫سفيان ومن معه‪ ،‬فرجعوا إىل مكة‪ .‬وشرط أبو سفيان لبعض املشركني شرطاً على أنه إذا مر‬
‫بالنيب صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه ‪ :‬أن خيوفهم ‪ ،‬ويذكر هلم ‪ :‬أن قريشاً أمجعوا للكرة‬
‫عليكم ليستأصلوا بقيتكم ‪ ،‬فلما بلغهم ذلك قالوا ‪ " :‬حسبنا اهلل ونعم الوكيل " ‪.‬‬

‫ثم دخلت السنة الرابعة ‪.‬‬


‫فكانت فيها وقعة خبيب وأصحابه ‪ ،‬يف صفر ‪.‬‬
‫وقعة بئر معونة ‪:‬‬
‫ويف هذا الشهر بعينه من السنة املذكورة ‪ :‬كانت وقعة أهل بئر معونة ‪.‬‬
‫ويف شهر ربيع األول ‪ :‬كانت غزوة بين النضري ‪ ،‬ونزل فيها سورة احلشر ‪.‬‬
‫ثم دخلت السنة الخامسة ‪:‬‬
‫‪111‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫غزوة المريسيع ‪:‬‬


‫فكانت فيها غزوة املريسيع على بين املصطلق ‪ ،‬فأغار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وهم‬
‫غارون ‪ .‬فسىب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم النساء ‪ ،‬والنعم ‪ ،‬والشاء ‪.‬‬
‫وكان من مجلة السيب ‪ :‬جويرية بنت احلارث ‪ ،‬سيد القوم ‪ ،‬وقعت يف سهم ثابت بن قيس ‪،‬‬
‫فكاتبها‪ ،‬فأدى عنها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وتزوجها‪ ،‬فأعتق املسلمون بسبب هذا‬
‫التزوج ‪ -‬مائة أهل بيت من بين املصطلق ‪ .‬وقالوا ‪ :‬أصهار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬

‫قصة اإلفك ‪:‬‬


‫ويف هذه الغزوة ‪ :‬كانت قصة اإلفك ‪.‬‬
‫وذلك ‪ :‬أن عائشة رضي اهلل عنها خرج هبا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم معه بقرعة‬
‫‪-‬وتلك كانت عادته مع نسائه‪ -‬فلما رجعوا نزل يف طريقهم بعض املنازل ‪ ،‬فخرجت عائشة‬
‫حلاجتها ‪ ،‬مث رجعت ‪ .‬ففقدت عقدا عليها ‪ .‬فرجعت تلتمسه ‪ ،‬فجاء الذين يرحلون هودجها‬
‫‪ ،‬فحملوه ‪ ،‬وهم يظنوهنا فيه ‪ ،‬ألهنا صغرية السن ‪ ،‬فرجعت ‪-‬وقد أصابت العقد‪ -‬إىل مكاهنم‬
‫‪ ،‬فإذا ليس به داع وال جميب ‪ ،‬فقعدت يف املنزل ‪ ،‬وظنت أهنم يفقدوهنا ‪ ،‬ويرجعون إليها ‪.‬‬
‫فغلبتها عيناها ‪ ،‬فلم تستيقظ إال بقول صفوان بن املعطل ‪ :‬إنا هلل وإنا إليه راجعون ‪ ،‬زوجة‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ؟ وكان صفوان قد عرس يف أخريات اجليش ‪ ،‬ألنه كان كثري‬
‫النوم ‪ .‬فلما رآها عرفها وكان يراها قبل احلجاب ‪-‬فاسرتجع ‪ ،‬وأناخ راحلته ‪ ،‬فركبت ‪ ،‬وما‬
‫كلمها كلمة واحدة ‪ .‬ومل تسمع منه إال اسرتجاعه ‪ .‬مث سار يقود هبا ‪ ،‬حىت قدم هبا ‪ .‬وقد‬
‫نزل اجليش يف حنر الظهرية ‪ ،‬فلما رأى ذلك الناس ‪ :‬تكلم كل منهم بشاكلته‪ .‬ووجد رأس‬
‫املنافقني ‪ ،‬عدو اهلل عبد اهلل بن أيب متنفساً ‪ .‬فتنفس من كرب النفاق واحلسد ‪ ،‬فجعل‬
‫يستحكي اإلفك ‪ ،‬وجيمعه ويفرقه ‪ ،‬وكان أصحابه يتقربون إليه به ‪.‬‬
‫فلما قدموا املدينة ‪ :‬أفاض أهل اإلفك يف احلديث ‪ ،‬ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ساكت‬
‫ال يتكلم ‪ ،‬مث استشار يف فراقها ‪ ،‬فأشار عليه علي بفراقها ‪ ،‬وأشار عليه أسامة بإمساكها ‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫واقتضى متام االبتالء ‪ :‬أن حبس اهلل عن رسوله الوحي شهراً يف شأهنا ‪ .‬ليزداد املؤمنون إمياناً‬
‫‪ ،‬وثباتاً على العدل والصدق ‪ ،‬ويزداد املنافقون إفكاً ونفاقاً ‪ ،‬ولتتم العبودية املرادة من‬
‫الصديقة وأبويها ‪ ،‬وتتم نعمة اهلل عليهم ولينقطع رجاؤها من املخلوق ‪ ،‬وتيأس من حصول‬
‫النصر والفرج إال من اهلل ‪.‬‬
‫فدخل عليها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وعندها أبواها ‪ ،‬فحمد اهلل وأثىن عليه ‪ ،‬مث قال‬
‫‪ :‬يا عائشة ‪ ،‬إن كنت بريئة فسيربئك اهلل ‪ ،‬وإن كنت قد أملمت بذنب فاستغفري ‪ ،‬فإن العبد‬
‫إذا اعرتف بذنبه ‪ ،‬مث تاب ‪ ،‬تاب اهلل عليه ‪.‬‬
‫قالت ألبيها ‪ :‬أجب عين رسول اهلل ‪ ،‬قال ‪ :‬واهلل ما أدري ما أقول لرسول اهلل ‪ .‬فقالت ألمها‬
‫مثل ذلك ‪ ،‬وقالت أمها مثل ذلك ‪.‬‬
‫قالت ‪ :‬فقلت ‪ :‬إن قلت إين بريئة ‪-‬واهلل يعلم أين بريئة‪ -‬ال تصدقوين ‪ ،‬وال أجد يل ولكم‬
‫مثالً إال أبا يوسف ‪ ،‬حيث قال ‪ " :‬فصرب مجيل واهلل املستعان على ما تصفون " ‪.‬‬
‫قالت ‪ :‬فنزل الوحي على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فأما أنا فعلمت أن اهلل ال يقول إال‬
‫احلق ‪ .‬وأما أبواي ‪ :‬فوالذي ذهب بأنفاسهما ‪ ،‬ما أقلع عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫إال خفت أن أرواحهما ستخرجان ‪ ،‬فكان أول كلمة قاهلا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪:‬‬
‫أما اهلل يا عائشة ! فقد برأك ‪.‬‬
‫فقال أبوي ‪ :‬قومي إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ .‬قلت ‪ :‬واهلل ال أقوم إليه ‪ ،‬وال أمحد‬
‫إال اهلل ‪.‬‬
‫وكان حسان رضي اهلل عنه ممن قيل عنه ‪ :‬إنه يتكلم مع أهل اإلفك ‪ ،‬فقال يعتذر إىل عائشة‬
‫‪ ،‬وميدحها ‪:‬‬
‫وتصبح غرثى من حلوم الغوافل‬ ‫حصان رزان ما تزن بريبة‬
‫كرام املساعي جمدهم غري زائل‬ ‫عقيلة حي من لؤي بن غالب‬
‫وطهرها من كل سوء وباطل‬ ‫مهذبة قد طيب اهلل خيمها‬
‫فال رفعت سوطي إيل أناملي‬ ‫لئن كان ما قد قيل عين قلته‬

‫‪113‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫آلل رسول اهلل زين احملافل‬ ‫وكيف؟ وودي ما حييت ونصريت‬


‫وكانت عائشة ال ترضى أن يذكر حسان بشئ يكرهه ‪ ،‬وتقول ‪ :‬إنه الذي يقول ‪:‬‬
‫لعرض حممد منكم وقاء‬ ‫فإن أيب ووالديت وعرضي‬
‫فأنزل اهلل تعاىل يف هذه القصة أول سورة النور من قوله ‪ " :‬إن الذين جاؤوا باإلفك عصبة‬
‫منكم " إىل آخر القصة ‪.‬‬

‫غزوة األحزاب ‪:‬‬


‫ويف هذه السنة ‪-‬وهي سنة مخس‪ -‬كانت وقعة اخلندق يف شوال ‪.‬‬
‫وسببها ‪ :‬أن اليهود ملا رأوا انتصار املشركني يوم أحد ‪ ،‬خرج أشرافهم ‪-‬كسالم بن أيب‬
‫احلقيق‪ -‬وغريه إىل قريش مبكة ‪ ،‬حيرضوهم على غزوة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪،‬‬
‫ووعدهم من أنفسهم النصر هلم ‪ ،‬فأجابتهم قريش ‪ .‬مث خرجوا إىل غطفان‪ ،‬فاستجابوا هلم ‪،‬‬
‫مث طافوا يف قبائل العرب يدعوهنم إىل ذلك ‪ ،‬فاستجاب هلم من استجاب ‪.‬‬
‫فخرجت قريش ‪-‬وقائدهم أبو سفيان‪ -‬يف أربعة آالف ‪ ،‬ووافقهم بنو سليم مبر الظهران ‪،‬‬
‫وبنو أسد ‪ ،‬وفزارة ‪ ،‬وأشجع وغريهم ‪ .‬وكان من واىف اخلندق من املشركني ‪ :‬عشرة آالف‬
‫‪.‬‬
‫فلما مسع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مبسريهم إليه ‪ :‬استشار أصحابه ‪ ،‬فأشار عليه سلمان‬
‫الفارسي حبفر خندق حيول بني العدو وبني املدينة ‪ ،‬فأمر به رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪،‬‬
‫فبادر إليه املسلمون ‪ .‬وعمل فيه بنفسه ‪ ،‬وكان يف حفره من آيات نبوته ما قد تواتر اخلرب به ‪.‬‬
‫وخرج صلى اهلل عليه وسلم وهم حيفرون يف غداة باردة ‪ ،‬فلما رأى ما هبم من الشدة واجلوع‬
‫‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫فاغفر لألنصار واملهاجرة‬ ‫اللهم ال عيش إال عيش اآلخرة‬
‫فقالوا جميبني له ‪:‬‬
‫على اجلهاد ما بقينا أبداً‬ ‫حنن الذين بايعوا حممداً‬

‫‪114‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وخرج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف ثالثة آالف من املسلمني ‪ ،‬فتحصن باجلبل من‬
‫خلفه ‪-‬جبل سلع‪ -‬وباخلندق أمامه ‪ ،‬وأمر بالنساء والذراري ‪ ،‬فجعلوا يف آطام املدينة‬
‫[واستخلف عليها ابن أم مكتوم] ‪.‬‬
‫وانطلق حيي بن أخطب إىل بين قريظة ‪ ،‬فدنا من حصنهم ‪ ،‬فأىب كعب بن أسد أن يفتح له ‪،‬‬
‫فلم يزل يكتمه حىت فتح له ‪ .‬فلما دخل احلصن ‪ ،‬قال ‪ :‬جئتك بعز الدهر ‪ ،‬جئتك بقريش‬
‫وغطفان وأسد ‪ ،‬على قاداهتا حلرب حممد ‪ .‬قال كعب ‪ :‬بل جئتين واهلل بذل الدهر ‪ ،‬وجئتين‬
‫جبهام قد أراق ماءه ‪ ،‬فهو يرعد ويربق ‪ ،‬وليس فيه شئ ‪ .‬فلم يزل به حىت نقض العهد الذي‬
‫بينه وبني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ودخل مع املشركني ‪ .‬وسر بذلك املشركون ‪،‬‬
‫وشرط كعب على حيي ‪ :‬أهنم إن مل يظفروا مبحمد ‪ ،‬أن جييء حىت يدخل معهم يف حصنهم‬
‫‪ ،‬فيصيبه ما يصيبهم فشرط ذلك ووىف له ‪.‬‬
‫وبلغ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم اخلرب ‪ ،‬فبعث إليهم السعدين ‪-‬سعد بن معاذ ‪ ،‬وسعد بن‬
‫عبادة‪ -‬وخوات بن جبري ‪ ،‬وعبد اهلل بن رواحة ‪ ،‬ليتعرفوا اخلرب ‪.‬‬
‫فلما دنوا منهم وجدوهم على أخبث ما يكون ‪ ،‬وجاهروهم بالسب ونالوا من رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬
‫فانصرفوا وحلنوا لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حلناً ‪ ،‬فعظم ذلك على املسلمني ‪ ،‬فقال‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬اهلل أكرب ‪ ،‬أبشروا ‪ ،‬يا معشر املسلمني ‪.‬‬
‫واشتد البالء‪ ،‬وجنم النفاق ‪ ،‬واستأذن بعض بين حارثة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف‬
‫الذهاب إىل املدينة ‪ ،‬وقالوا ‪ " :‬إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إال فرارا " ‪.‬‬
‫وأقام املشركون حماصرين رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم شهراً ‪ ،‬ومل يكن بينهم قتال ‪،‬‬
‫ألجل اخلندق ‪ ،‬إال أن فوارس من قريش ‪-‬منهم عمرو بن عبد ود‪ -‬أقبلوا حنو اخلندق ‪ .‬فلما‬
‫وقفوا عليه قالوا ‪ :‬إن هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها ‪ ،‬مث تيمموا مكاناً ضيقاً منه ‪،‬‬
‫وجالت هبم خيلهم يف السبخة ‪ ،‬ودعوا إىل الرباز ‪ ،‬فانتدب لعمرو ‪ :‬علي بن أيب طالب ‪،‬‬
‫فبارزه فقتله اهلل على يدي علي ‪ .‬وكان من أبطال املشركني ‪ ،‬واهنزم أصحابه ‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وملا طالت هذه احلال على املسلمني أراد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن يصاحل عيينة بن‬
‫حصن ‪ ،‬واحلارث بن عوف ‪-‬رئيسي غطفان‪ -‬على ثلث مثار املدينة وينصرفا بقومهما ‪،‬‬
‫وجرت املفاوضة على ذلك ‪ .‬واستشار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم السعدين ‪ ،‬فقاال‪ :‬إن‬
‫كان اهلل أمرك ‪ ،‬فسمعاً وطاعة ‪ .‬وإن كان شيئاً تصنعه لنا‪ ،‬فال‪ .‬لقد كنا حنن وهؤالء القوم‬
‫على الشرك‪ ،‬وعبادة األوثان‪ ،‬وهم ال يطمعون أن يأكلوا منها مثرة ‪ ،‬إال قرى أو بيعاً ‪ .‬أفحني‬
‫أكرمنا اهلل باإلسالم ‪ ،‬وأعزنا بك ‪ ،‬نعطيهم أموالنا ؟ واهلل ال نعطيهم إال السيف ‪ .‬فصوب‬
‫رأيهما ‪ ،‬وقال ‪ :‬إمنا هو شئ أصنعه لكم ‪ ،‬ملا رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ‪.‬‬
‫مث إن اهلل عز وجل ‪-‬وله احلمد‪ -‬صنع أمراً من عنده خذل به العدو‪ .‬فمن ذلك ‪ .‬أن رجالً‬
‫من غطفان ‪-‬يقال له ‪ :‬نعيم بن مسعود‪ -‬جاء إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫قد أسلمت ‪ ،‬فمرين مبا شئت ‪ .‬فقال ‪ :‬إمنا أنت رجل واحد‪ ،‬فخذل عنا ما استطعت‪ ،‬فإن‬
‫احلرب خدعة ‪.‬‬
‫فذهب إىل بين قريظة ‪-‬وكان عشرياً هلم‪ -‬فدخل عليهم ‪ ،‬وال هم يعلمون بإسالمه ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫إنكم قد حاربتم حممداً ‪ ،‬وإن قريشاً إن أصابوا فرصة انتهزوها ‪ ،‬وإال انشمروا [إىل بالدهم‬
‫راجعني ‪ ،‬وتركوكم وحممداً‪ ،‬فانتقم منكم] ‪ ،‬قالوا ‪ :‬فما العمل ؟ قال ‪ :‬ال تقاتلوا معهم حىت‬
‫يعطوكم رهائن ‪ .‬فقالوا ‪ :‬قد أشرت بالرأي ‪ .‬مث مضى إىل قريش فقال ‪ :‬هل تعلمون ودي‬
‫لكم ونصحي ؟ قالوا ‪ :‬نعم‪ ،‬قال ‪ :‬إن اليهود قد ندموا على ما كان منهم ‪ ،‬وإهنم قد أرسلوا‬
‫إىل حممد أهنم يأخذون منكم رهائن يدفعوهنا إليه ‪ ،‬مث ميالئونه عليكم ‪ ،‬فإن سألوكم فال‬
‫تعطوهم ‪ ،‬مث ذهب إىل غطفان ‪ ،‬فقال هلم مثل ذلك ‪.‬‬
‫فلما كانت ليلة السبت من شوال بعثوا إىل يهود ‪ :‬إنا لسنا معكم بأرض مقام ‪ ،‬وقد هلك‬
‫الكراع واخلف ‪ .‬فأغدوا بنا إىل حممد حىت نناجزه ‪ .‬فأرسلوا إليهم ‪ :‬إن اليوم يوم السبت ‪،‬‬
‫وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حني أحدثوا فيه ‪ .‬ومع هذا فال نقاتل معكم حىت تبعثوا لنا‬
‫رهائن ‪ .‬فلما جاءهتم رسلهم قالوا ‪ :‬قد صدقكم واهلل نعيم ‪ ،‬فبعثوا إليهم ‪ .‬إنا واهلل ال نبعث‬
‫إليكم أحداً ‪ .‬فقالت قريظة ‪ :‬قد صدقكم واهلل نعيم ‪ ،‬فتخاذل الفريقان ‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وأرسل اهلل على املشركني جنداً من الريح ‪ ،‬فجعلت تقوض خيامهم ‪ ،‬وال تدع هلم قدراً إال‬
‫كفأهتا ‪ ،‬وال طنباً إال قلعته ‪ ،‬وجنداً من املالئكة يزلزلون هبم ‪ ،‬ويلقون يف قلوهبم الرعب ‪،‬‬
‫كما قال اهلل ‪ " :‬يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة اهلل عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم‬
‫رحيا وجنودا مل تروها " ‪.‬‬
‫وأرسل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وسلم حذيفة بن اليمان يأتيه خبربهم ‪ ،‬فوجدهم على‬
‫هذه احلال ‪ ،‬وقد هتيئوا للرحيل ‪ ،‬فرجع إليه ‪ ،‬فأخربه برحيلهم ‪.‬‬
‫فلما أصبح رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم انصرف عن اخلندق ‪ ،‬راجعاً واملسلمون إىل املدينة‬
‫‪ ،‬فوضعوا السالح ‪ .‬فجاءه جربيل ‪ ،‬وقت الظهر ‪ ،‬فقال ‪ :‬أقد وضعتم السالح ؟ إن املالئكة‬
‫مل تضع بعد أسلحتها ‪ ،‬اهنض إىل هؤالء ‪-‬يعين بين قريظة‪ -‬فنادى رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ :‬من كان سامعاً مطيعاً فال يصلني العصر إال يف بين قريظة ‪.‬‬
‫فخرج املسلمون سراعاً ‪ ،‬حىت إذا دنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من حصوهنم ‪ ،‬قال ‪ :‬يا‬
‫إخوان القردة ‪ ،‬هل أخزاكم اهلل وأنزل بكم نقمته ‪.‬‬
‫وحاصرهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مخساً وعشرين ليلة ‪ ،‬حىت جهدهم احلصار ‪،‬‬
‫وقذف اهلل يف قلوهبم الرعب ‪ ،‬فقال هلم رئيسهم كعب بن أسد ‪ :‬إين عارض عليكم خالالً‬
‫ثالثاً ‪ ،‬خذوا أيها شئتم ‪ :‬نصدق هذا الرجل ونتبعه ‪ ،‬فإنكم تعلمون ‪ :‬أنه للنيب الذي جتدونه‬
‫مكتوباً عندكم يف التوراة ‪ .‬قالوا ‪ :‬ال نفارق حكم التوراة أبداً ‪ .‬قالوا ‪ :‬فاقتلوا أبناءكم‬
‫ونساءكم واخرجوا إليه مصليت سيوفكم حىت حيكم اهلل بينكم وبينه ‪ .‬قالوا ‪ :‬فما ضر العيش‬
‫بعد أبنائنا ونسائنا ؟ قال ‪ :‬فانزلوا الليلة‪ ،‬فعسى أن يكون حممد وأصحابه قد أمنوكم فيها‬
‫ألهنا ليلة السبت ‪-‬لعلنا نصيب منهم غرة ‪ ،‬قالوا ‪ :‬ال نفسد سبتنا ‪ ،‬وقد علمت ما أصاب من‬
‫اعتدوا يف السبت ‪ .‬قال ‪ :‬ما بات رجل منكم ‪-‬منذ ولدته أمه ليلة من الدهر حازماً ‪ .‬مث نزلوا‬
‫على حكم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ .‬فحكم فيهم سعد بن معاذ فحكم ‪ :‬أن تقتل‬
‫الرجال ‪ ،‬وتقسم األموال ‪ ،‬وتسىب النساء والذراري ‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وأنزل اهلل يف غزوة اخلندق صدر سورة األحزاب ‪ ،‬وذكر قصتهم يف قوله ‪ " :‬يا أيها الذين‬
‫آمنوا اذكروا نعمة اهلل عليكم " إىل قوله‪ " :‬وأورثكم أرضهم وديارهم وأمواهلم " ‪.‬‬

‫ثم دخلت السنة السادسة ‪:‬‬


‫صلح الحديبية ‪:‬‬
‫وفيها كانت وقعة احلديبية ‪ ،‬وعدة الصحابة إذ ذاك ألف وأربعمائة ‪ ،‬وهم أهل الشجرة ‪،‬‬
‫وأهل بيعة الرضوان ‪.‬‬
‫خرج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم هبم معتمراً‪ ،‬ال يريد قتاالً‪ .‬فلما كانوا بذي احلليفة‪ ،‬قلد‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم اهلدي‪ ،‬وأشعره ‪ ،‬وأحرم بالعمرة وبعث عيناً له من خزاعة‬
‫خيربه عن قريش ‪ ،‬حىت إذا كان قريباً من عسفان أتاه عينه ‪ ،‬قال ‪ :‬إين تركت كعب بن لؤي‬
‫وعامر بن لؤي قد مجعوا مجوعاً ‪ ،‬وهم مقاتلوك ‪ ،‬وصادوك عن البيت ‪.‬‬
‫حىت إذا كان ببعض الطريق ‪ ،‬قال النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬إن خالد بن الوليد بالغميم ‪،‬‬
‫فخذوا ذات اليمني ‪.‬‬
‫فما شعر هبم خالد ‪ ،‬حىت إذا هو بغربة اجليش ‪ ،‬فانطلق يركض نذيراً ‪.‬‬
‫وانطلق رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬حىت إذا كان يف ثنية املرار ‪ ،‬اليت يهبط عليهم منها‬
‫بركت راحلته ‪ ،‬فقال الناس ‪ :‬حل ‪ ،‬حل ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬خألت القصواء‪ ،‬فقال ‪ :‬ما خألت‬
‫القصواء ‪ ،‬وما ذاك هلا خبلق ‪ ،‬ولكن حبسها حابس الفيل ‪ ،‬مث قال ‪ :‬والذي نفس حممد بيده !‬
‫ال يسألوين خطة يعظمون فيها حرمات اهلل إال أعطيتهم إياها‪ ،‬مث زجرها فوثبت به ‪ ،‬فعدل‬
‫حىت نزل بأقصى احلديبية ‪ ،‬على مثد قليل املاء ‪ .‬فلم يلبث الناس أن نزحوه ‪ ،‬فشكوا إليه ‪.‬‬
‫فانتزع سهماً من كنانته ‪ ،‬وأمرهم أن جيعلوه فيه ‪ ،‬فواهلل ما زال جييش هلم بالري حىت صدروا‬
‫عنه ‪.‬‬
‫وفزعت قريش لنزوله ‪ ،‬فأحب أن يبعث إليهم رجالً ‪ ،‬فدعا عمر ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا رسول اهلل !‬
‫ليس يل مبكة أحد من بين عدي بن كعب يغضب يل إن أوذيت ‪ ،‬فأرسل عثمان ‪ ،‬فإن‬
‫عشريته هبا ‪ ،‬وإنه يبلغ ما أردت ‪ .‬فدعاه فأرسله إىل قريش ‪ ،‬وقال ‪ :‬أخربهم ‪ :‬أنا مل نأت‬
‫‪118‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫لقتال ‪ ،‬وإمنا جئنا عماراً ‪ ،‬وادعهم إىل اإلسالم ‪ ،‬وأمره أن يأيت رجاالً مبكة مؤمنني ونساء‬
‫مؤمنات ‪ ،‬فيبشرهم بالفتح ‪ ،‬وأن اهلل عز وجل مظهر دينه مبكة ‪ ،‬حىت ال يستخفى فيها‬
‫باإلميان ‪.‬‬
‫فانطلق عثمان ‪ ،‬فمر على قريش ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬إىل أين ؟ فقال ‪ :‬بعثين رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم أدعوكم إىل اهلل وإىل اإلسالم ‪ ،‬وخيربكم ‪ :‬أنه مل يأت لقتال ‪ ،‬وإمنا جئنا عماراً ‪ .‬قالوا‬
‫‪ :‬قد مسعنا ما تقول ‪ ،‬فانفذ إىل حاجتك ‪.‬‬
‫وقام إليه أبان بن سعيد بن العاص ‪ ،‬فرحب به ‪ ،‬ومحله على الفرس وأردفه أبان حىت جاء مكة‬
‫‪.‬‬
‫وقال املسلمون ‪ ،‬قبل أن يرجع ‪ :‬خلص عثمان من بيننا إىل البيت ‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ :‬ما أظنه طاف بالبيت وحنن حمصورون‪ ،‬قالوا ‪ :‬وما مينعه يا رسول اهلل ‪ ،‬وقد‬
‫خلص ؟ قال ‪ :‬ذلك ظين به ‪ :‬أن ال يطوف بالكعبة حىت نطوف معه ‪.‬‬
‫واختلط املسلمون باملشركني يف أمر الصلح ‪ ،‬فرمى رجل من أحد الفريقني رجالً من الفريق‬
‫اآلخر ‪ ،‬فكانت معاركة ‪ .‬وتراموا بالنبل واحلجارة ‪ ،‬وصاح الفريقان وارهتن كل منهما من‬
‫فيهم ‪.‬‬
‫وبلغ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن عثمان قد قتل ‪ ،‬فدعا إىل البيعه ‪ ،‬فتبادروا إليه ‪ ،‬وهو‬
‫حتت الشجرة ‪ ،‬فبايعوه على أن ال يفروا ‪ ،‬فأخذ بيد نفسه ‪ ،‬وقال ‪ :‬هذه عن عثمان ‪.‬‬
‫وملا متت البيعة رجع عثمان ‪ ،‬فقالوا له ‪ :‬اشتفيت من الطواف بالبيت ‪ ،‬فقال ‪ :‬بئسما ظننتم‬
‫يب ‪ ،‬والذي نفسي بيده لو مكث هبا سنة‪ ،‬ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم باحلديبية ما طفت‬
‫هبا حىت يطوف‪ ،‬ولقد دعتين قريش إىل الطواف فأبيت‪ .‬فقال املسلمون‪ :‬رسول اهلل أعلم باهلل‬
‫‪ ،‬وأحسننا ظناً ‪.‬‬
‫وكان عمر أخذ بيد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم للبيعة ‪ ،‬وهو حتت الشجرة ‪ ،‬فبايعه‬
‫املسلمون كلهم ‪ ،‬مل يتخلف إال اجلد بن قيس ‪.‬‬
‫وكان معقل بن يسار آخذ بغصنها يرفعه عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وكان أول من بايعه ‪ :‬أبو سنان وهب بن حمصن األسدي ‪.‬‬


‫وبايعه سلمة بن األكوع ثالث مرات ‪ :‬يف أول الناس ‪ ،‬ووسطهم وآخرهم ‪.‬‬
‫فبينا هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء يف نفر من خزاعة ‪-‬وكانوا عيبة نصح لرسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم من أهل هتامة ‪ -‬فقال ‪ :‬إين تركت كعب بن لؤي ‪ ،‬وعامر بن لؤي‬
‫نزلوا أعداد مياه احلديبية ‪ ،‬معهم العوذ املطافيل وهم مقاتلوك ‪ ،‬وصادوك عن البيت ‪ .‬فقال ‪:‬‬
‫إنا مل جنىء لقتال أحد‪ ،‬وإمنا جئنا معتمرين ‪ .‬وإن قريشاً قد هنكتهم احلرب ‪ ،‬وأضرت هبم ‪.‬‬
‫فإن شاؤوا ماددهتم ‪ ،‬وخيلوا بيين وبني الناس ‪ .‬فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس‬
‫فعلوا‪ ،‬وإال فقد مجوا‪ ،‬وإن أبوا إال القتال ‪ ،‬فوالذي نفسي بيده ألقاتلنهم على أمري هذا حىت‬
‫تنفرد سالفيت أو لينفذن اهلل أمره ‪ .‬قال بديل ‪ :‬سأبلغهم ما تقول ‪ .‬فانطلق حىت أتى قريشاً‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬إين قد جئتكم من عند هذا الرجل‪ ،‬ومسعته يقول قوالً ‪ ،‬فإن شئتم عرضته عليكم ‪.‬‬
‫فقال سفهاؤهم ‪ :‬ال حاجة لنا أن حتدثنا عنه بشئ ‪ .‬وقال ذوو الرأي منهم ‪ :‬هات ما مسعته‬
‫يقول ‪ .‬قال ‪ :‬مسعته يقول ‪ :‬كذا وكذا ‪.‬‬
‫فقال عروة بن مسعود ‪ :‬إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد‪ ،‬فاقبلوها ودعوين آته ‪ .‬فقالوا ‪:‬‬
‫ائته ‪ .‬فأتاه ‪ ،‬فجعل يكلمه ‪ .‬فقال له حنواً من قوله لبديل ‪ .‬فقال عروة ‪ :‬أي حممد! أرأيت لو‬
‫استأصلت قومك ‪ ،‬هل مسعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك ؟ وإن تكن األخرى ‪،‬‬
‫فواهلل إين ألرى أوشاباً من الناس ‪ ،‬خليقاً أن يفروا ويدعوك ‪ .‬فقال أبو بكر ‪ :‬امصص بظر‬
‫الالت‪ ،‬أحنن نفر عنه وندعه؟ قال عروة ‪ :‬من ذا يا حممد !؟ قال ‪ :‬أبو بكر ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬أما والذي نفسي بيده ‪ ،‬لوال يد كانت لك عندي ‪-‬مل أجزك هبا‪ -‬ألجبتك ‪ .‬وجعل‬
‫يكلم النيب صلى اهلل عليه وسلم ويرمق‬
‫أصحابه ‪ .‬فواهلل ما انتخم النيب صلى اهلل عليه وسلم خنامة إال وقعت يف كف رجل منهم ‪.‬‬
‫فدلك هبا وجهه وجلده وإذا أمر ابتدروا أمره ‪ ،‬وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ‪ ،‬وإذا‬
‫تكلم خفضوا أصواهتم ‪ ،‬وما حيدون إليه النظر تعظيماً له ‪ .‬فرجع عروة إىل أصحابه ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫أي قوم ‪ ،‬واهلل لقد وفدت على امللوك ‪-‬كسرى ‪ ،‬وقيصر والنجاشي‪ -‬واهلل إن رأيت ملكاً‬

‫‪120‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب حممد حممداً ‪ .‬واهلل ما انتخم خنامة إال وقعت يف كف‬
‫رجل منهم ‪ ،‬فدلك هبا وجهه وجلده ‪ .‬مث أخربهم جبميع ما تقدم‪ ،‬مث قال ‪ :‬وقد عرض‬
‫عليكم خطة رشد فاقبلوها ‪.‬‬
‫فقال رجل من بين كنانة ‪ :‬دعوين آته ‪ ،‬فقالوا‪ :‬ائته ‪ .‬فلما أشرف على النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬قال ‪ :‬هذا فالن ‪ ،‬وهو من قوم يعظمون البدن ‪ ،‬فابعثوها له‪ ،‬ففعلوا ‪ .‬واستقبله القوم‬
‫يلبون ‪ ،‬فلما رأى ذلك‪ ،‬قال ‪ :‬سبحان اهلل ! ما ينبغي هلؤالء أن يصدوا عن البيت ‪ ،‬فرجع إىل‬
‫أصحابه فأخربهم ‪.‬‬
‫فبينا هم كذلك إذ جاء سهيل بن عمرو ‪ ،‬فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬قد سهل لكم من‬
‫أمركم ‪ ،‬فقال ‪ :‬هات اكتب بيننا وبينك كتاباً ‪ ،‬فدعا الكاتب ‪-‬وهو علي بن أيب طالب‪-‬‬
‫فقال ‪ :‬اكتب ‪ :‬بسم اهلل الرمحن الرحيم‪ ،‬فقال سهيل ‪ :‬أما الرمحن ‪ ،‬فما أدري ما هو ؟ ولكن‬
‫اكتب ‪ :‬بامسك اللهم كما كنت تكتب ‪ .‬فقال املسلمون ‪ :‬واهلل ال نكتبها إال بسم اهلل الرمحن‬
‫الرحيم ‪ ،‬فقال صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬اكتب ‪ :‬بامسك اللهم ‪ ،‬مث قال ‪ :‬اكتب ‪ :‬هذا ما قاضى‬
‫عليه حممد رسول اهلل‪ ،‬فقال سهيل ‪ :‬واهلل لو نعلم أنك رسول اهلل ما صددناك عن البيت ‪،‬‬
‫ولكن اكتب حممد بن عبد اهلل‪ ،‬فقال ‪ :‬إين رسول اهلل ‪ ،‬وإن كذبتموين اكتب حممد بن عبد‬
‫اهلل‪ ،‬مث قال النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬على أن ختلوا بيننا وبني البيت فنطوف به ‪ ،‬فقال‬
‫سهيل ‪ :‬واهلل ال حتدث العرب أننا أخذنا ضغطة ‪ ،‬ولكن ذاك من العام املقبل ‪ ،‬فكتب ‪ .‬فقال‬
‫سهيل ‪ :‬وعلى أن ال يأتيك رجل منا ‪ ،‬وإن كان على دينك ‪ ،‬إال رددته إلينا‪ ،‬فقال املسلمون‬
‫‪ :‬سبحان اهلل ! كيف يرد إىل املشركني وقد جاء مسلماً ؟ ‪.‬‬
‫فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل ‪ ،‬وقد خرج من أسفل مكة يرسف يف قيوده ‪،‬‬
‫حىت رمى بنفسه بني أظهر املسلمني ‪ ،‬فقال سهيل ‪ :‬هذا يا حممد! أول ما أقاضيك عليه أن‬
‫ترده إيل ‪ ،‬فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬إنا مل نقض الكتاب بعد‪ ،‬فقال ‪ :‬إذاً واهلل ال‬
‫أصاحلك على شئ أبداً‪ .‬فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬فأجزه يل‪ ،‬قال ‪ :‬ما أنا مبجيزه لك‬
‫‪ .‬قال ‪ :‬بلى‪ ،‬فافعل‪ ،‬قال ‪ :‬ما أنا بفاعل ‪ .‬قال أبو جندل ‪ :‬يا معشر املسلمني ! كيف أرد إىل‬

‫‪121‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫املشركني وقد جئت مسلماً؟ أال ترون ما لقيت ؟ ‪-‬وكان قد عذب يف اهلل عذاباً شديداً‪ -‬قال‬
‫عمر بن اخلطاب ‪ :‬واهلل ما شككت منذ أسلمت إال يومئذ ‪ .‬فأتيت النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫‪ ،‬فقلت ‪ :‬يا رسول اهلل ! ألست نيب اهلل ؟ قال ‪ :‬بلى‪ ،‬قلت ‪ :‬ألسنا على احلق ‪ ،‬وعدونا على‬
‫الباطل ؟ قال ‪ :‬بلى ‪ .‬قلت ‪ :‬عالم نعطى الدنية يف ديننا ؟ ونرجع وملا حيكم اهلل بيننا وبني‬
‫أعدائنا ؟ فقال ‪ :‬إين رسول اهلل ‪ ،‬وهو ناصري ‪ ،‬ولست أعصيه ‪ .‬قلت ‪ :‬ألست كنت حتدثنا‬
‫‪ :‬أنا نأيت البيت ‪ ،‬ونطوف به ‪ .‬قال ‪ :‬بلى ‪ ،‬أفاخربتك أنك تأتيه العام ؟ قلت ‪ :‬ال‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫فإنك آتيه ومطوف به ‪ .‬قال ‪ :‬فأتيت أبا بكر ‪ ،‬فقلت له مثلما قلت لرسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬ورد علي كما رد علي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم سواء ‪ ،‬وزاد ‪ :‬فاستمسك‬
‫بغرزه حىت متوت‪ ،‬فواهلل إنه لعلى احلق‪ ،‬فعملت لذلك أعماالً ‪.‬‬
‫فلما فرغ من قضية الكتاب ‪ ،‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ألصحابه ‪ :‬قوموا فاحنروا‪،‬‬
‫مث احلقوا‪ ،‬قال ‪ :‬فواهلل ما قام منهم رجل ‪ ،‬حىت قاهلا ثالث مرات ‪ .‬فلما مل يقم منهم أحد ‪،‬‬
‫قام ومل يكلم أحداً منهم حىت حنر بدنه ودعا حالقه ‪ .‬فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا ‪ ،‬وجعل‬
‫بعضهم حيلق بعضاً‪ ،‬حىت كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً‪ .‬مث جاء نسوة مؤمنات ‪ ،‬فأنزل اهلل ‪" :‬‬
‫يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم املؤمنات مهاجرات فامتحنوهن " حىت بلغ ‪ " :‬بعصم الكوافر‬
‫"‪ ،‬فطلق عمر يومئذ امرأتني كانتا له يف الشرك‪ .‬ويف مرجعه صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬أنزل اهلل‬
‫سورة الفتح ‪ " :‬إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك اهلل ما تقدم من ذنبك وما تأخر " اآلية ‪،‬‬
‫فقال عمر ‪ :‬أو فتح هو يا رسول اهلل ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬قال الصحابة ‪ :‬هذا لك يا رسول اهلل ‪،‬‬
‫فما لنا ؟ فأنزل اهلل ‪ " :‬هو الذي أنزل السكينة يف قلوب املؤمنني ليزدادوا إميانا مع إمياهنم "‬
‫اآليتني إىل قوله ‪ " :‬فوزا عظيما " ‪ .‬وملا رجع إىل املدينة جاءه أبو بصري ‪-‬رجل من قريش‪-‬‬
‫مسلماً ‪ ،‬فأرسلوا يف طلبه رجلني ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬العهد الذي بيننا وبينك ‪ ،‬فدفعه إىل الرجلني ‪،‬‬
‫فخرجا به ‪ ،‬حىت بلغا ذا احلليفة ‪ .‬فنزلوا يأكلون من متر هلم ‪ .‬فقال أبو بصري ألحدمها‪ :‬إين‬
‫أرى سيفك هذا جيداً‪ .‬فقال‪ :‬أجل ‪ ،‬واهلل إنه جليد ‪ ،‬لقد جربت به مث جربت ‪ ،‬فقال ‪ :‬أرين‬
‫أنظر إليه ‪ ،‬فأمكنه به ‪ ،‬فضربه حىت برد ‪ ،‬وفر اآلخر ‪ ،‬حىت بلغ املدينة ‪ ،‬فدخل املسجد ‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬لقد رأى هذا ذعراً‪ ،‬فلما انتهى إليه ‪ ،‬قال ‪ :‬قتل واهلل‬
‫صاحيب‪ ،‬وإين ملقتول ‪ .‬فجاء أبو بصري ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا نيب اهلل ! قد أوىف اهلل ذمتك‪ ،‬قد رددتين‬
‫إليهم فأجناين اهلل منهم ‪ ،‬فقال صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬ويل أمه مسعر حرب ‪ ،‬لو كان له أحد‬
‫‪ .‬فلما مسع ذلك عرف أنه سريده إليهم ‪ ،‬فخرج حىت أتى سيف البحر‪ ،‬وتفلت منهم أبو‬
‫جندل ‪ ،‬فلحق بأيب بصري ‪ ،‬فال خيرج من قريش رجل ‪-‬قد أسلم‪ -‬إال حلق به ‪ ،‬حىت اجتمعت‬
‫منهم عصابة ‪ .‬فواهلل ما يسمعون بعري لقريش خرجت إىل الشام إال اعرتضوا هلا ‪ ،‬فقاتلوهم‬
‫وأخذوا أمواهلم ‪ ،‬فأرسلت قريش إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم تناشده اهلل والرحم ملا أرسل‬
‫إليهم ‪ ،‬فمن أتاه منهم فهو آمن ‪.‬‬

‫غزوة خيبر ‪:‬‬


‫وملا قدم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من احلديبية ‪ ،‬مكث عشرين يوماً ‪ ،‬أو قريباً منها ‪.‬‬
‫مث خرج إىل خيرب ‪ ،‬واستخلف على املدينة سباع بن عرفطة وقدم أبو هريرة حينئذ املدينة‬
‫مسلماً ‪ ،‬فواىف سباعاً يف صالة الصبح ‪ ،‬فسمعه يقرأ‪ " :‬ويل للمطففني " ‪ ،‬فقال ‪-‬وهو يف‬
‫الصالة‪ : -‬ويل أليب فالن ‪ ،‬له مكياالن ‪ ،‬إذا اكتال اكتال بالوايف ‪ ،‬وإذا كال كال بالناقص ‪.‬‬
‫وقال سلمة بن األكوع ‪ :‬خرجنا إىل خيرب ‪ ،‬فقال رجل لعامر بن األكوع ‪ :‬أال تسمعنا من‬
‫هنياتك ؟ فنزل حيدو ويقول ‪:‬‬
‫وال تصدقنا وال صلينا‬ ‫الهم لوال أنت ما اهتدينا‬
‫وثبت األقدام إن القينا‬ ‫فأنزلن سكينة علينا‬
‫وبالصياح عولوا علينا‬ ‫إنا إذا صيح بنا أتينا‬
‫وإن أرادوا فتنة أبينا‬
‫فقال صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬من هذا السائق ؟‪ ،‬قالوا ‪ :‬عامر بن األكوع ‪ .‬قال ‪ :‬رمحه اهلل ‪،‬‬
‫فقال رجل من القوم ‪ :‬وجبت يا رسول اهلل ‪ ،‬لوال متعتنا به ؟ قال ‪ :‬فأتينا خيرب‪ .‬فحاصرناهم‬
‫حىت أصابتنا خممصة شديدة ‪ ،‬فلما تصافوا خرج مرحب خيطر بسيفه‪ ،‬ويقول ‪:‬‬
‫شاكي السالح بطل جمرب‬ ‫قد علمت خيرب‪ :‬أين مرحب‬
‫‪123‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫إذا احلروب أقبلت تلهب‬


‫فنزل إليه عامر ‪ ،‬وهو يقول ‪:‬‬
‫شاكي السالح بطل مغامر‬ ‫قد علمت خيرب أين عامر‬
‫فاختلفا ضربتني ‪ ،‬فوقع سيف مرحب يف ترس عامر فعضه ‪ ،‬فذهب عامر يسفل له ‪-‬وكان‬
‫سيفه قصرياً‪ -‬فرجع إليه سيف فأصاب ركبته فمات ‪ .‬قال سلمة‪ :‬فقلت للنيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ :‬زعموا أن عامراً حبط عمله ‪ ،‬فقال ‪ :‬كذب من قال ذلك‪ ،‬إن له أجرين ‪-‬ومجع بني‬
‫إصبعيه‪ -‬إنه جلاهد جماهد ‪ ،‬قل عريب مشى هبا مثله ‪.‬‬
‫وملا دنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من خيرب قال ‪" :‬قفوا‪ ،‬فوقف اجليش ‪ .‬فقال ‪ :‬اللهم‬
‫رب السموات السبع وما أظللن ‪ ،‬ورب الرياح وما أذرين ‪ .‬فإنا نسألك خري هذه القرية‪،‬‬
‫وخري أهلها‪ ،‬وخري ما فيها‪ .‬ونعوذ بك من شر هذه القرية‪ ،‬وشر أهلها‪ ،‬وشر ما فيها‪ ،‬أقدموا‬
‫باسم اهلل" ‪.‬‬
‫فأسرهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قريباً من عشرين ليلة‪ ،‬وكانت أرضاً ومخة شديدة‬
‫احلر‪ ،‬فجهد املسلمون جهداً شديداً‪ .‬فقام النيب صلى اهلل عليه وسلم فيهم ‪ ،‬فوعظهم وحضهم‬
‫على اجلهاد ‪ ،‬وكان فيهم عبد أسود ‪ .‬فقال ‪ :‬يا رسول اهلل ! إين رجل أسود اللون ‪ ،‬قبيح‬
‫الوجه ‪ ،‬مننت الريح ‪ ،‬ال مال يل ‪ .‬فإن قاتلت هؤالء حىت أقتل أدخل اجلنة؟ قال ‪ :‬نعم‪ ،‬فتقدم‬
‫‪ .‬فقاتل حىت قتل ‪ ،‬فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم ملا رآه ‪" :‬لقد أحسن اهلل وجهك ‪ ،‬وطيب‬
‫رحيك ‪ ،‬وكثر مالك‪ ،‬مث قال ‪ :‬لقد رأيت زوجتيه من احلور العني تتنازعان جبته عنه ‪،‬‬
‫وتدخالن فيما بني جلده وجبته" ‪.‬‬
‫فافتتح رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعضها ‪ ،‬مث حتول إىل الكتيبة ‪ ،‬والوطيح ‪ ،‬والسالمل ‪،‬‬
‫فإن خيرب كان جانبني ‪ :‬األول الشق والنطاة ‪ ،‬الذي افتتح أوالً ‪ .‬والثاين ‪ :‬ما ذكرنا ‪.‬‬
‫فحاصرهم حىت إذا أيقنوا باهللكة ‪ ،‬سألوه الصلح ‪ .‬ونزل إليه سالم بن أيب احلقيق فصاحلهم‬
‫على حقن الدماء وعلى الذرية ‪ ،‬وخيرجون من خيرب ‪ ،‬وخيلون ما كان هلم من مال وأرض ‪،‬‬
‫وعلى الصفراء والبيضاء واحللقة ‪ ،‬إال ثوباً على ظهر إنسان ‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫فلما أراد أن جيليهم ‪ ،‬قالوا ‪ :‬حنن أعلم هبذه األرض منكم ‪ ،‬فدعنا نكون فيها ‪ .‬فأعطاهم‬
‫أياها ‪ ،‬على شطر ما خيرج من مثرها وزرعها ‪.‬‬
‫مث قسمها على ستة وثالثني سهماً‪ ،‬كل سهم مائة سهم ‪ .‬فكانت ثالثة آالف وستمائة سهم‬
‫‪ .‬نصفها لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وما ينزل به من أمور املسلمني ‪ .‬والنصف اآلخر ‪:‬‬
‫قسمة بني املسلمني ‪.‬‬

‫قدوم جعفر بن أبي طالب وصحبه من الحبشة ‪:‬‬


‫ويف هذه الغزوة قدم عليه ابن عمه جعفر بن أيب طالب وأصحابه ‪ ،‬ومعهم األشعريون ‪ :‬أبو‬
‫موسى ‪ ،‬وأصحابه ‪.‬‬
‫قال أبو موسى ‪ :‬بلغنا خمرج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وحنن باليمن ‪ .‬فخرجنا‬
‫مهاجرين إليه ‪-‬أنا وأخوان يل‪ -‬يف بضع ومخسني رجالً من قومي ‪ . ،‬فركبنا سفينة ‪ ،‬فألقتنا‬
‫إىل النجاشي ‪ ،‬فوافقنا جعفراً وأصحابه عنده ‪ ،‬فقال ‪ :‬إن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫بعثنا وأمرنا باإلقامة ‪ ،‬فأقيموا معنا ‪ .‬فأقمنا حىت قدمنا فتح خيرب ‪ .‬وكان ناس يقولون لنا ‪:‬‬
‫سبقناكم باهلجرة ‪ ،‬فدخلت أمساء بنت عميس على حفصة ‪ ،‬فدخل عليها عمر وعندها أمساء‬
‫‪ ،‬فقال ‪ :‬من هذه ؟ قالت ‪ :‬أمساء‪ ،‬قال ‪ :‬احلبشية هذه؟ البحرية هذه ؟ قالت أمساء ‪ :‬نعم ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬سبقناكم باهلجرة‪ ،‬حنن أحق برسول اهلل منكم ‪ .‬فغضبت ‪ ،‬وقالت ‪ :‬كال واهلل ‪ ،‬لقد‬
‫كنتم مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يطعم جائعكم ‪ ،‬ويعظ جاهلكم ‪ .‬وكنا يف أرض‬
‫البعداء البغضاء ‪ .‬وذلك يف ذات اهلل ورسوله ‪ ،‬وأمي اهلل ال أطعم طعاماً ‪ ،‬وال أشرب شراباً‬
‫حىت أذكر ما قلت لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ .‬فلما جاء النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫ذكرت له ذلك ‪ .‬فقال ‪ :‬ما قلت له؟ قالت ‪ :‬قلت له كذا وكذا ‪ .‬قال ‪" :‬ليس بأحق يب‬
‫منكم ‪ ،‬له وألصحابه هجرة واحدة ‪ ،‬ولكم أنتم ‪-‬يا أهل السفينة‪ -‬هجرتان" ‪.‬‬
‫فكان أبو موسى وأصحاب السفينة يأتوهنا أرساالً ‪ ،‬يسألوهنا عن هذا احلديث ‪ ،‬ما من الدنيا‬
‫شئ هم به أفرح ‪ ،‬وال أعظم يف أنفسهم مما قال هلم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫محاصرة رسول اهلل بعض اليهود بوادي القرى ‪:‬‬


‫مث انصرف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من خيرب إىل وادي القرى ‪ .‬وكان به مجاعة من‬
‫اليهود‪ ،‬وانضاف إليهم مجاعة من العرب ‪.‬‬
‫فلما نزلوا استقبلتهم يهود بالرمي ‪ ،‬وهم على غري تعبئة ‪ .‬فقتل مدعم ‪-‬عبد لرسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم ‪ ،‬كان رفاعة بن زيد اجلذامي وهبه لرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬فقال الناس‬
‫‪ :‬هينئاً له اجلنة ‪" .‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬كال ‪ ،‬والذي نفسي بيده ‪ ،‬إن‬
‫الشملة اليت أخذها يوم خيرب من املغامن مل تصبها املقاسم ‪ :‬لتشتعل عليه ناراً‪ ،‬فلما مسع ذلك‬
‫الناس ‪ ،‬جاء رجل بشراك أو شراكني ‪ .‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬شراك من نار‬
‫‪ ،‬أو شراكان من نار" ‪.‬‬
‫فعبأ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أصحابه للقتال وصفهم ‪ ،‬مث دعاهم إىل اإلسالم فأبوا ‪،‬‬
‫وبرز رجل منهم ‪ ،‬فربز إليه الزبري بن العوام فقتله ‪ ،‬مث برز آخر فربز إليه علي فقتله ‪ .‬حىت قتل‬
‫منهم أحد عشر رجالً ‪ ،‬فقاتلهم حىت أمسوا ‪ .‬مث غدا عليهم ‪ ،‬فلم ترتفع الشمس قدر رمح‬
‫حىت افتتحها عنوة ‪ .‬وأصابوا أثاثاً ومتاعاً كثرياً ‪ ،‬فقسمه يف أصحابه ‪ ،‬وترك األرض والنخل‬
‫بأيدي اليهود وعاملهم عليها ‪.‬‬
‫وملا رجع إىل املدينة رد املهاجرون إىل األنصار منائحهم من النخيل ‪ ،‬قالت عائشة رضي اهلل‬
‫عنها ‪ :‬ملا فتحت خيرب قلنا ‪ .‬اآلن نشبع من التمر ‪.‬‬

‫بعث سرية إلى الحرقات ‪:‬‬


‫مث بعث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم سرية إىل احلرقات من جهينة ‪ ،‬فلما دنوا منهم ‪ .‬بعث‬
‫األمري الطالئع ‪ ،‬فلما رجعوا خبربهم أقبل حىت دنا منهم ليالً ‪ ،‬وقد هدأوا ‪ ،‬مث قام فحمد اهلل‬
‫وأثىن عليه مبا هو أهله ‪ ،‬مث قال ‪ :‬أوصيكم بتقوى اهلل وحده ال شريك له ‪ ،‬وأن تطيعوين وال‬
‫تعصوين ‪ ،‬وال ختالفوا أمري‪ ،‬فإنه ال رأي ملن ال يطاع مث رتبهم ‪ .‬فقال ‪ :‬يا فالن أنت وفالن‪،‬‬
‫يا فالن أنت وفالن‪ ،‬ال يفارق كل منكم صاحبه وزميله ‪ ،‬وإياكم أن يرجع أحد منكم ‪،‬‬

‫‪126‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫فأقول ‪ :‬أين صاحبك ؟ فيقول ‪ :‬ال أدري ‪ ،‬فإذا كربت فكربوا ‪ ،‬وجردوا السيوف ‪ .‬مث كربوا‬
‫ومحلوا محلة واحدة وأحاطوا بالقوم ‪ ،‬وأخذهتم سيوف اهلل ‪.‬‬

‫عمرة القضية ‪:‬‬


‫فلما كان يف ذي القعدة من السنة السابعة ‪ :‬خرج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم معتمراً‬
‫عمرة القضية ‪ .‬حىت إذا بلغ يأجج وضع األداة كلها ‪ ،‬إال احلجف واجملان والنبل والرماح ‪.‬‬
‫ودخلوا بسالح الراكب ‪-‬السيوف‪ -‬وبعث جعفر بن أيب طالب بني يديه إىل ميمونة بنت‬
‫احلارث خيطبها ‪ ،‬فجعلت أمرها إىل العباس فزوجه إياها ‪.‬‬
‫فلما قدم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬أمر أصحابه أن يكشفوا عن املناكب ويسعوا يف‬
‫الطواف ‪ ،‬لريى املشركون قوهتم‪-‬وكان يكايدهم بكل ما استطاع ‪ -‬فوقف أهل مكة‬
‫‪-‬الرجال والنساء والصبيان‪ -‬ينظرون إليه وإىل أصحابه ‪ ،‬وهم يطوفون بالبيت ‪ .‬وعبد اهلل بن‬
‫رواحة ‪ ،‬آخذ خبطام ناقة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يرجتز يقول ‪:‬‬
‫خلوا فكل اخلري يف رسوله‬ ‫خلوا بين الكفار عن سبيله‬
‫يف صحف تتلى على رسوله‬ ‫قد أنزل الرمحن يف تنزيله‬
‫يارب إين مؤمن بقيله‬ ‫بأن خري القتل يف سبيله‬
‫اليوم نضربكم على تأويله‬ ‫إين رأيت احلق يف قبوله‬
‫ضرباً يزيل اهلام عن مقيله‬ ‫كما ضربناكم على تنزيله‬
‫ويذهل اخلليل عن خليله‬
‫فأقام مبكة ثالثة ‪ ،‬مث أتاه سهيل بن عمرو ‪ ،‬وحويطب بن عبد العزى ‪ ،‬فصاح حويطب ‪:‬‬
‫نناشدك اهلل والعقد‪ ،‬ملا خرجت من أرضنا‪ ،‬فقد مضت الثالث ‪ ،‬فأمر رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم أبا رافع فأذن بالرحيل ‪.‬‬

‫ثم دخلت السنة الثامنة ‪:‬‬


‫غزوة مؤتة ‪:‬‬
‫‪127‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وسببها ‪ :‬أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعث احلارث بن عمري بكتاب إىل ملك الروم‬
‫‪-‬أو بصرى‪ -‬فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساين‪ .‬فقتله ‪-‬ومل يقتل لرسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم غريه‪ -‬فاشتد ذلك عليه ‪ .‬فبعث البعوث‪ ،‬واستعمل عليهم زيد بن حارثة‪ ،‬وقال ‪:‬‬
‫إن أصيب زيد ‪ :‬فجعفر بن أيب طالب على الناس ‪ ،‬وإن أصيب جعفر ‪ :‬فعبد اهلل بن رواحة ‪.‬‬
‫فتجهزوا ‪ ،‬وهم ثالثة آالف فلما حضر خروجهم ‪ ،‬ودع الناس أمراء رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬وسلموا عليه فبكى عبد اهلل بن رواحة ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬ما يبكيك ؟ فقال ‪ :‬أما واهلل ما‬
‫يب حب الدنيا وال صبابة بكم ‪ ،‬ولكين مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقرأ آية من‬
‫كتاب اهلل ‪ ،‬يذكر فيها النار ‪ " :‬وإن منكم إال واردها كان على ربك حتما مقضيا " ‪،‬‬
‫ولست أدري كيف يل بالصدور بعد الورود؟ فقال املسلمون ‪ :‬صحبكم اهلل ودفع عنكم ‪،‬‬
‫وردكم إلينا صاحلني ‪ .‬فقال ابن رواحة ‪:‬‬
‫وضربة ذات فرع تقذف الزبدا‬ ‫لكنين أسأل الرمحن مغفرة‬
‫حبربة تنفذ األحشاء والكبدا!‬ ‫أو طعنة بيدي حران جمهزة‬
‫ياأرشد اهلل من غاز وقد رشدا‬ ‫حىت يقال إذا مروا على جدثي‪:‬‬
‫مث مضوا حىت نزلوا معان ‪ .‬فبلغهم أن هرقل بالبلقاء يف مائة ألف من الروم ‪ ،‬وانضم إليه من‬
‫خلم وجذام وبلي وغريهم مائة ألف ‪.‬‬
‫فأقاموا ليلتني ينظرون يف أمرهم ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬نكتب إىل رسول اهلل فنخربه ‪ .‬فإما أن ميدنا‪ ،‬وإما‬
‫أن يأمرنا بأمره ‪ .‬فشجعهم عبد اهلل بن رواحة ‪ ،‬وقال ‪ :‬واهلل إن الذي تكرهون للذي‬
‫خرجت تطلبون ‪ :‬الشهادة ‪ .‬وما نقاتل الناس بقوة وال كثرة‪ ،‬ما نقاتلهم إال هبذا الدين الذي‬
‫أكرمنا اهلل به فانطلقوا ‪ ،‬فإمنا هي إحدى احلسنيني ‪ :‬إما ظفر ‪ ،‬وإما شهادة ‪.‬‬
‫فمضى الناس ‪ ،‬حىت إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم اجلموع ‪ .‬فاحناز املسلمون إىل مؤتة‪ ،‬مث‬
‫اقتتلوا عندها والراية يف يد زيد‪ ،‬فلم يزل يقاتل هبا حىت شاط يف رماح القوم ‪ .‬فأخذها جعفر‬
‫فقاتل هبا‪ ،‬حىت إذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه فعقرها‪ ،‬مث قاتل حىت قطعت ميينه ‪ ،‬فأخذ‬

‫‪128‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫الراية بيساره ‪ ،‬فقطعت يساره ‪ ،‬فاحتضن الراية حىت قتل ‪ ،‬وله ثالث وثالثون سنة ‪ ،‬رضي‬
‫اهلل عنهم ‪.‬‬
‫مث أخذها عبد اهلل بن رواحة ‪ ،‬فتقدم هبا ‪ ،‬وهو على فرسه ‪ ،‬فجعل يستنزل نفسه ‪ ،‬ويقول ‪:‬‬
‫لتننزلن أو لتكـرهنه‬ ‫أقسم باهلل لتنزلنه‬
‫إن أجلب الناس وشدوا الرنه‬ ‫ياطاملا قد كنت مطمئنه‬
‫ما يل أراك تكرهني اجلنة؟‬
‫ويقول أيضاً ‪:‬‬
‫هذا محام املوت قد صليت‬ ‫يا نفس إن مل تقتلي متويت‬
‫إن تفعلي فعلهما هديت‬ ‫ومامتنيت فقد أعطيت‬
‫مث نزل ‪ ،‬فأتاه فناداه ابن عم له بعرق من حلم ‪ ،‬فقال ‪ :‬شد هبذا صلبك ‪ ،‬فإنك لقيت يف‬
‫أيامك هذه ما لقيت ‪ ،‬فأخذها فانتهس منها هنسة مث مسع احلطمة يف ناحية الناس ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫وأنت يف الدنيا ؟ فألقاها من يده وتقدم ‪ ،‬فقاتل حىت قتل ‪.‬‬
‫مث أخذ الراية خالد بن الوليد ‪ ،‬فدافع القوم وخاشى هبم ‪ ،‬مث احنازوا ‪ ،‬وانصرف الناس ‪.‬‬
‫وقال ابن عمر ‪ :‬وجدنا ما بني صدر جعفر ومنكبه ‪ ،‬وما أقبل منه ‪ :‬تسعني جراحة ‪.‬‬
‫وقال زيد بن أرقم ‪ :‬كنت يتيماً لعبد اهلل بن رواحة ‪ ،‬فخرج يب يف سفره ذلك مرديف على‬
‫حقيبة رحله ‪ ،‬فواهلل إنه ليسري ذات ليلة‪ ،‬إذ مسعته وهو ينشد شعراً ‪:‬‬
‫مسرية أربع بعد احلساء‬ ‫إذا أديتين ومحلت رحلي‬
‫وال أرجع إىل أهلي ورائي‬ ‫فشأنك فانعمي وخالك ذم‬
‫بأرض الشام مستنهي الثواء‬ ‫وجاء املسلمون وغادروين‬
‫إىل الرمحن منقطع اإلخاء‬ ‫وردك كل ذي نسب قريب‬
‫وال خنل أسافلها روائي‬ ‫هنالك ال أبايل طلع بعل‬
‫قال ‪ :‬فبكيت ‪ ،‬فخفقين بالسوط وقال ‪ :‬ما عليك يا لكع ‪ ،‬أن يرزقين اهلل الشهادة ‪ ،‬وترجع‬
‫بني شعبيت الرحل ‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫غزوة الفتح األعظم ‪:‬‬


‫وكانت سنة مثان يف رمضان ‪.‬‬
‫وسببها ‪ :‬أن بكراً أعدت على خزاعة على مائهم الوتري فبيتوهم ‪ ،‬وقتلوا منهم ‪ .‬وكان يف‬
‫صلح احلديبية‪ :‬أن من أحب أن يدخل يف عقد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فعل ‪ ،‬ومن‬
‫أحب أن يدخل يف عقد قريش فعل‪ ،‬فدخلت بنو بكر يف عقد قريش‪ ،‬ودخلت خزاعة يف عقد‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ .‬مث إن بين بكر وثبوا على خزاعة ليالً مباء ‪ ،‬يقال له ‪ :‬الوتري‬
‫‪ ،‬قريباً من مكة ‪ .‬وأعانت قريش بين بكر بالسالح ‪ ،‬وقاتل معهم بعضهم مستخفياً ليالً ‪،‬‬
‫حىت جلأت خزاعة إىل احلرم ‪.‬‬
‫فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر لنوفل بن معاوية الديلي ‪-‬وكان يومئذ قائدهم‪ -‬يا نوفل ! إنا‬
‫قد دخلنا احلرم إهلك إهلك ‪ .‬فقال كلمة عظيمة ‪ :‬ال إله له اليوم ‪ ،‬يا بين بكر ! أصيبوا‬
‫ثأركم‪ .‬فلعمري إنكم لتسرقون يف احلرم ‪ .‬أفال تصيبون ثأركم فيه ؟‬
‫فخرج عمرو بن سامل اخلزاعي ‪ ،‬حىت قدم على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم املدينة‪ ،‬فوقف‬
‫عليه ‪ ،‬وهو جالس يف املسجد بني ظهراين أصحابه ؟ فقال ‪:‬‬
‫حلف أبينا وأبيه األتلدا‬ ‫يا رب إين ناشد حممدا‬
‫مثت أسلمنا ومل ننزع يدا‬ ‫قد كنتمو ولداً وكنا والدا‬
‫وأدع عباد اهلل يأتوا مددا‬ ‫فأنصر هداك اهلل نصراً أبداً‬
‫أبيض مثل البدر يسمو صعدا‬ ‫فيهم رسول اهلل قد جتردا‬
‫يف فيلق كالبحر جيري مزبدا‬ ‫إن سيم خسفاً وجهه تربدا‬
‫ونقضوا ميثاقك املؤكدا‬ ‫إن قريشاً أخلفوك املوعدا‬
‫وزعموا أن لست أدعو أحدا‬ ‫وجعلوا يل يف كداء رصدا‬
‫هم بيتونا بالوتري هجدا‬ ‫وهم أذل وأقـل عـددا‬
‫وقتلونا ركعاً وسجدا‬
‫فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬نصرت يا عمرو بن سامل ‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫مث خرج بديل بن ورقاء يف نفر من خزاعة ‪ ،‬حىت قدموا على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫املدينة ‪ ،‬فأخربوه مبا أصيب منهم ‪ ،‬ومبظاهرة قريش بين بكر عليهم ‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم للناس ‪ :‬كأنكم بأيب سفيان قد جاءكم ليشد العقد ‪ ،‬ويزيد يف املدة ‪ ،‬بعثته‬
‫قريش ‪ ،‬وقد رهبوا للذي صنعوا ‪.‬‬
‫مث قدم أبو سفيان ‪ ،‬فدخل على ابنته أم حبيبة ‪ ،‬فلما ذهب ليجلس على فراش رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم طوته عنه ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا بنية ‪ ،‬ما أدري أرغبت يب عن هذا الفراش ‪ ،‬أم‬
‫رغبت به عين ؟ قالت ‪ :‬بل هو فراش رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وأنت مشرك جنس ‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬واهلل لقد أصابك بعدي شر ‪.‬‬
‫مث خرج حىت أتى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فكلمه ‪ ،‬فلم يرد عليه شيئاً ‪ .‬مث ذهب إىل‬
‫أيب بكر‪ ،‬فكلمه يف أن يكلم النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فقال‪ :‬ما أنا بفاعل ‪ ،‬مث أتى عمر ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬أنا أشفع لكم ؟ واهلل لو مل أجد إال الذر ‪ ،‬جلاهدتكم به‪ .‬مث دخل على علي ‪ ،‬وعنده‬
‫فاطمة ‪-‬واحلسن غالم يدب بني يديها‪ -‬فقال ‪ :‬يا علي ! إنك أمس القوم يب رمحاً ‪ ،‬وإين‬
‫جئت يف حاجة ‪ ،‬فال أرجعن خائباً ‪ ،‬اشفع يل إىل حممد ؟ فقال ‪ :‬قد عزم رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم على أمر ‪ ،‬ما نستطيع أن نكلمه فيه ‪ .‬فقال لفاطمة ‪ :‬هل لك أن تأمري ابنك‬
‫هذا ‪ ،‬فيجري بني الناس ‪ ،‬فيكون سيد العرب إىل آخر الدهر ؟ فقالت ‪ :‬ما يبلغ ابين ذلك ‪،‬‬
‫وما جيري أحد على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ .‬فقال ‪ :‬يا أبا احلسن ‪ ،‬إين رأيت األمور‬
‫قد اشتدت علي ‪ ،‬فانصحين‪ .‬قال ‪ :‬واهلل ما أعلم شيئا يغين عنك ‪ .‬ولكنك سيد بين كنانة‪،‬‬
‫فقم وأجر بني الناس ‪ ،‬مث احلق بأرضك‪ .‬فقال ‪ :‬أو ترى ذلك مغنياً عين شيئا؟ قال ‪ :‬ال‪ ،‬واهلل‬
‫ما أظنه ‪ ،‬ولكن ما أجد لك غري ذلك ‪ .‬فقام أبو سفيان يف املسجد ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا أيها الناس ‪،‬‬
‫إين قد أجرت بني الناس ‪ .‬مث ركب بعريه ‪ .‬وانصرف عائداً إىل مكة ‪ ،‬فلما قدم على قريش‬
‫قالوا ‪ :‬ما وراءك ؟ قال ‪ :‬جئت حممداً فكلمته ‪ ،‬فواهلل ما رد علي شيئاً ‪ ،‬مث جئت ابن أيب‬
‫قحافة ‪ ،‬فلم أجد فيه خرياً‪ .‬مث جئت عمر بن اخلطاب ‪ ،‬فوجدته أدىن العدو ‪-‬يعين ‪:‬أعدى‬

‫‪131‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫العدو‪ -‬مث جئت علياً فوجدته ألني القوم ‪ ،‬وقد أشار علي بكذا وكذا ‪ ،‬ففعلت ‪ .‬قالوا ‪ :‬فهل‬
‫أجاز ذلك حممد؟ قال ‪ :‬ال‪ ،‬قالوا ‪ :‬ويلك ‪ ،‬واهلل إن زاد الرجل على أن لعب بك ‪.‬‬
‫وأمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الناس باجلهاز ‪ ،‬وقال ‪ :‬اللهم خذ العيون واألخبار عن‬
‫قريش ‪ ،‬حىت نبغتها يف بالدها ‪.‬‬
‫فكتب حاطب بن أيب بلتعة إىل قريش كتاباً ‪ ،‬خيربهم فيه مبسري رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬ودفعه إىل سارة ‪-‬موالة لبين عبد املطلب‪ -‬فجعلته يف رأسها ‪ ،‬مث فتلت عليه قروهنا ‪،‬‬
‫وأتى اخلرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من السماء ‪ ،‬فأرسل رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم علياً والزبري إىل املرأة ‪ ،‬فأدركاها بـ روضة خاخ ‪ .‬فأنكرت ‪ ،‬ففتشا رحلها ‪ ،‬فلم جيدا‬
‫فيه شيئاً ‪ ،‬فهدداها ‪ ،‬فأخرجته من قرون رأسها‪ ،‬فأتيا به رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪،‬‬
‫فدعا حاطباً ؟ فقال ‪ :‬ما هذا يا حاطب؟ فقال ‪ :‬ال تعجل علي يا رسول اهلل ! واهلل إين ملؤمن‬
‫باهلل ورسوله ‪ ،‬ما ارتددت وال بدلت ‪ ،‬ولكين كنت امرءاً ملصقاً يف قريش ‪ ،‬لست من‬
‫أنفسهم ‪ ،‬ويل فيها أهل وعشرية وولد ‪ ،‬وليس فيهم قرابة حيموهنم ‪ ،‬وكان من معك هلم‬
‫قرابات حيموهنم ‪ ،‬فأحببت أن أختذ عندهم يداً ‪ ،‬قد علمت أن اهلل مظهر رسوله ‪ ،‬ومتم له‬
‫أمره ‪.‬‬
‫فقال عمر‪ :‬يا رسول اهلل ! دعين أضرب عنقه ‪ ،‬فإنه قد خان اهلل ورسوله ‪ ،‬وقد نافق ‪" ،‬فقال‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬إنه شهد بدراً وما يدريك يا عمر ؟ لعل اهلل أطلع على أهل‬
‫بدر ‪ ،‬فقال ‪ :‬أعملوا ما شئتم ‪ ،‬فقد غفرت لكم"‪ ،‬فذرفت عينا عمر ‪ ،‬وقال ‪ :‬اهلل ورسوله‬
‫أعلم ‪.‬‬
‫مث مضى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وعمى اهلل األخبار عن قريش ‪ ،‬لكنهم على وجل ‪،‬‬
‫فكان أبو سفيان يتجسس ‪ ،‬هو وحكيم بن حزام ‪ ،‬وبديل بن ورقاء ‪.‬‬
‫وكان العباس قد خرج قبل ذلك بأهله وعياله مسلماً مهاجراً ‪ ،‬فلقي رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم باجلحفة ‪ .‬فلما نزل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مر الظهران نزل عشاء ‪ ،‬فأمر‬
‫اجليش فأوقدوا النريان ‪ .‬فأوقد أكثر من عشرة آالف نار ‪ ،‬فركب العباس بغلة رسول اهلل‬

‫‪132‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وخرج يلتمس ‪ ،‬لعله جيد بعض احلطابة ‪ ،‬أو أحداً خيرب قريشاً ‪،‬‬
‫ليخرجوا يستأمنون رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قبل أن يدخلها عنوة ‪ .‬قال ‪ :‬فواهلل إين‬
‫ألسري عليها‪ ،‬إذ مسعت كالم أيب سفيان ‪ ،‬وبديل ‪ ،‬يرتاجعان ‪ ،‬يقول أبو سفيان ‪ :‬ما رأيت‬
‫كالليلة نرياناً قط وال عسكراً ‪ .‬قال ‪ :‬يقول بديل ‪ :‬هذه واهلل خزاعة‪ ،‬محشتها احلرب ‪ .‬قال ‪:‬‬
‫يقول أبو سفيان‪ :‬خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نرياهنا ‪ .‬فقلت ‪ :‬أبا حنظلة !؟ فعرف‬
‫صويت ‪ ،‬فقال ‪ :‬أبا الفضل !؟ قلت ‪ :‬نعم ‪ ،‬قال ‪ :‬ما لك ‪ ،‬فداك أيب وأمي ؟ قال ‪ :‬قلت ‪:‬‬
‫هذا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف الناس واصباح قريش واهلل ‪ ،‬قال ‪ :‬فما احليلة ؟ قلت ‪:‬‬
‫واهلل لئن ظفر بك ليضربن عنقك ‪ ،‬فاركب يف عجز هذه البغلة ‪ ،‬حىت آتيه بك ‪ ،‬فأستأمنه‬
‫لك ‪ .‬فركب خلفي ‪ ،‬ورجع صاحباه ‪ ،‬فجئت به ‪ ،‬فكلما مررت بنار من نريان املسلمني ‪،‬‬
‫قالوا ‪ .‬من هذا ؟ فإذا رأونا قالوا‪ :‬عم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على بغلته ‪ ،‬حىت‬
‫مررت بنار عمر ‪ ،‬فقال ‪ :‬من هذا ؟ وقام إيل فلما رأى أبا سفيان ‪ ،‬قال ‪ :‬عدو اهلل ؟ احلمد‬
‫هلل الذي أمكن اهلل منك بغري عقد وال عهد ‪.‬‬
‫مث خرج يشتد حنو رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وركضت البغلة فسبقته ‪ ،‬واقتحمت‬
‫عنها ‪ ،‬فدخلت على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬ودخل عليه عمر ‪ .‬فقال ‪ :‬يا رسول‬
‫اهلل ! هذا أبو سفيان ‪ ،‬قد أمكن اهلل منه بغري عقد وال عهد ‪ ،‬فدعين أضرب عنقه ‪ .‬فقلت ‪ :‬يا‬
‫رسول اهلل ! إين قد أجرته ‪ .‬فلما أكثر عمر ‪ ،‬قال ‪ :‬مهالً يا عمر ‪ ،‬فواهلل لو كان من بين‬
‫عدي بن كعب ما قلت هذا ‪ .‬قال ‪ :‬مهالً يا عباس ! فواهلل إلسالمك كان أحب إيل من‬
‫إسالم اخلطاب لو أسلم ‪ ،‬وما يب إال أين عرفت أن إسالمك كان أحب إىل رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم من إسالم اخلطاب ‪ .‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬اذهب به يا عباس‬
‫إىل رحلك ‪ ،‬فإذا أصبحت فائتين به‪ .‬ففعلت ‪ .‬مث غدوت به إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ .‬فقال ‪ :‬وحيك يا أبا سفيان ! أمل يأن لك أن تعلم ‪ :‬أن ال إله إال اهلل ؟‪ ،‬قال ‪ :‬بأيب‬
‫أنت وأمي ‪ ،‬ما أحلمك وأكرمك وأوصلك!! واهلل لقد ظننت أن لو كان باهلل غريه لقد أغىن‬
‫عين شيئاً بعد ‪ .‬قال ‪ :‬وحيك يا أبا سفيان ‪ ،‬أمل يأن لك أن تعلم ‪ :‬أين رسول اهلل ؟‪ ،‬قال ‪:‬‬

‫‪133‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫بأيب أنت وأمي ‪ ،‬ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ‪ .‬أما هذه ففي النفس حىت اآلن منها شئ ‪.‬‬
‫فقال له العباس ‪ :‬وحيك ‪ .‬أسلم قبل أن يضرب عنقك ‪ .‬قال ‪ :‬فشهد شهادة احلق ‪ ،‬فأسلم ‪.‬‬
‫فقال العباس ‪ :‬إن أبا سفيان رجل حيب الفخر ‪ ،‬فاجعل له شيئاً ‪ .‬قال ‪ :‬نعم من دخل دار أيب‬
‫سفيان فهو آمن ‪ ،‬ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ‪ ،‬ومن دخل املسجد فهو آمن ‪ .‬فلما ذهب‬
‫لينصرف قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬يا عباس ! أحبسه مبضيق الوادي عند خطم‬
‫اجلبل ‪ ،‬حىت متر به جنود اهلل فرياها‪ ،‬قال ‪ :‬فخرجت حىت حبسته ‪ .‬ومرت القبائل على راياهتا‬
‫‪ ،‬حىت مر به رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف كتيبته اخلضراء ‪-‬لكثرة احلديد وظهوره فيها‪-‬‬
‫فيها املهاجرون واألنصار‪ -‬ال يرى منهم إال احلدق ‪ ،‬فقال ‪ :‬سبحان اهلل ! يا عباس ! من‬
‫هؤالء ؟ قلت ‪ :‬هذا رسول اهلل يف املهاجرين واألنصار ‪ ،‬قال ‪ :‬ما ألحد هبؤالء طاقة ‪.‬‬
‫وكانت راية األنصار مع سعد بن عبادة ‪ ،‬فلما مر بأيب سفيان ‪ ،‬قال ‪ :‬اليوم يوم امللحمة ‪،‬‬
‫اليوم تستحل احلرمة ‪ .‬اليوم أذل اهلل قريشاً ‪ .‬فذكره أبو سفيان لرسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬فقال ‪ :‬كذب سعد ‪ .‬ولكن هذا اليوم يوم تعظم فيه الكعبة ‪ ،‬اليوم أعز اهلل قريشاً ‪،‬‬
‫مث نزع اللواء من سعد‪ ،‬ودفعه إىل قيس ابنه ‪ .‬ومضى أبو سفيان ‪ ،‬فلما جاء قريشاً صرخ‬
‫بأعلى صوته ‪ :‬هذا حممد قد جاءكم مبا ال قبل لكم به ‪ ،‬فمن دخل دار أيب سفيان فهو آمن ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬قاتلك اهلل ‪ ،‬وما تغين عنا دارك ؟ قال ‪ :‬ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ‪ ،‬ومن دخل‬
‫املسجد فهو آمن ؟ فتفرق الناس إىل دورهم وإىل املسجد ‪.‬‬
‫وسار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حىت دخل مكة من أعالها ‪ ،‬وأمر خالد بن الوليد‪،‬‬
‫فدخلها من أسفلها ‪ ،‬وقال ‪:‬إن عرض لكم أحد من قريش فأحصدوهم حصداً ‪ ،‬حىت توافوين‬
‫على الصفا‪ ،‬فما عرض هلم أحد إال أناموه ‪ .‬وجتمع سفهاء قريش مع عكرمة بن أيب جهل ‪،‬‬
‫وصفوان بن أمية ‪ ،‬وسهيل بن عمرو ‪ ،‬باخلندمة ليقاتلوا ‪ ،‬وكان محاس بن قيس يعد سالحاً‬
‫قبل جميء رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فقالت له امرأته ‪ :‬واهلل ما يقوم حملمد وأصحابه‬
‫شئ ‪ ،‬فقال ‪ :‬واهلل إين ألرجو أن أخدمك بعضهم ‪ ،‬مث قال ‪:‬‬
‫هذا سالح كامل وأله‬ ‫إن يقبلوا اليوم فما يل عله‬

‫‪134‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وذو غرارين سريع السله‬


‫مث شهد اخلندمة ‪ ،‬فلما لقيهم املسلمون من أصحاب خالد بن الوليد ‪ :‬ناوشوهم شيئاً من‬
‫قتال ‪ ،‬فأصيب من املشركني اثين عشر‪ ،‬مث اهنزموا ‪ ،‬فدخل محاس على امرأته ‪ ،‬فقال ‪ :‬أغلقي‬
‫علي بايب ‪ ،‬فقالت ‪ :‬وأين ما كنت تقول ؟ فقال ‪:‬‬
‫إذ فر صفوان وفر عكرمه‬ ‫إنك لو شهدت يوم اخلندمه‬
‫واستقبلتنا بالسيوف املسلمه‬ ‫وأبو يزيد قائم كاملؤمته‬
‫ضرباً فال يسمع إال غمغمه‬ ‫يقطعن كل ساعد ومججمه‬
‫مل تنطفي باللوم أدىن كلمه‬ ‫هلم هنيت خلفنا ومههمه‬
‫وقال أبو هريرة ‪ :‬أقبل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فدخل مكة ‪ ،‬فبعث الزبري على إحدى‬
‫اجملنبتني ‪ ،‬وبعث خالداً على اجملنبة األخرى ‪ ،‬وبعث أبا عبيدة بن اجلراح على احلسر ‪ .‬فأخذوا‬
‫بطن الوادي ‪ ،‬ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف كتيبته‪ .‬وقد وبشت قريش أوباشها ‪،‬‬
‫وقالوا ‪ :‬نقدم هؤالء ‪ ،‬فإذا كان هلم شئ كنا معهم ‪ ،‬وإن أصيبوا أعطيناه الذي سألنا ‪ .‬فقال‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬يا أبا هريرة‪ ،‬فقلت ‪ :‬لبيك يا رسول اهلل ! قال ‪:‬اهتف يل‬
‫باألنصار ‪ ،‬وال يأتيين إال أنصاري ‪ ،‬فهتفت هبم ‪ ،‬فجاؤوا فأطافوا برسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬فقال ‪ :‬أترون إىل أوباش قريش وأتباعهم ؟ ‪-‬مث قال بيديه إحدامها على األخرى‪-‬‬
‫أحصدوهم حصداً ‪ ،‬حىت توافوين على الصفا‪ .‬قال أبو هريرة ‪ :‬فانطلقنا ‪ ،‬فما يشاء أحد منا‬
‫أن يقتل منهم ما شاء إال قتل ‪.‬‬
‫وركزت راية رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم باحلجون عند مسجد الفتح ‪ .‬مث هنض‬
‫واملهاجرون واألنصار بني يديه وخلفه وحوله ‪ ،‬حىت دخل املسجد ‪ .‬فأقبل إىل احلجر فاستلمه‬
‫‪ ،‬مث طاف بالبيت ‪ ،‬ويف يده قوس ‪ ،‬وحول البيت وعليه ثالمثائة وستون صنماً فجعل يطعنها‬
‫بالقوس ‪ ،‬ويقول ‪ " :‬جاء احلق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا " ‪ " ،‬جاء احلق وما يبدئ‬
‫الباطل وما يعيد " ‪ ،‬واألصنام تتساقط على وجوهها ‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وكان طوافه على راحلته ‪ ،‬ومل يكن حمرماً يومئذ ‪ ،‬فاقتصر على الطواف ‪ ،‬فلما أكمله دعا‬
‫عثمان بن طلحة ‪ ،‬فأخذ منه مفتاح الكعبة ‪ ،‬فأمر هبا ففتحت ‪ ،‬فدخلها ‪ .‬فرأى فيها الصور ‪،‬‬
‫ورأى صورة إبراهيم وإمساعيل يستقسمان باألزالم ‪ .‬فقال ‪:‬قاتلهم اهلل‪ ،‬واهلل إن استقسما هبا‬
‫قط ‪ ،‬وأمر بالصور فمحيت ‪.‬‬
‫مث أغلق عليه الباب ‪ ،‬هو وأسامة ‪ ،‬وبالل ‪ ،‬فاستقبل اجلدار الذي يقابل الباب ‪ ،‬حىت إذا كان‬
‫بينه وبينه قدر ثالثة أذرع وقف وصلى هناك ‪ .‬مث دار يف البيت ‪ .‬وكرب يف نواحيه ‪ ،‬ووحد اهلل‬
‫‪ .‬مث فتح الباب ‪ ،‬وقريش قد مألت املسجد صفوفاً ‪ ،‬ينظرون ماذا يصنع هبم ؟ فأخذ بعضاديت‬
‫الباب ‪ ،‬وهم حتته ‪ .‬فقال ‪ :‬ال إله إال اهلل وحده ال شريك له ‪ ،‬صدق وعده ‪ ،‬ونصر عبده ‪،‬‬
‫وأعز جنده‪ ،‬وهزم األحزاب وحده ‪-‬أال كل مأثرة ‪ ،‬أو مال‪ ،‬أو دم‪ ،‬فهو حتت قدمي هاتني ‪،‬‬
‫إال سدانة البيت ‪ ،‬وسقاية احلاج ‪ .‬أال وقتل اخلطإ شبه العمد ‪-‬السوط والعصا‪ -‬ففيه الدية‬
‫مغلظة ‪ ،‬مائة من اإلبل ‪ ،‬أربعون منها يف بطوهنا أوالدها ‪ .‬يا معشر قريش ! إن اهلل قد أذهب‬
‫عنكم خنوة اجلاهلية ‪ ،‬وتعظمها باآلباء ‪ .‬الناس من آدم ‪ ،‬وآدم من تراب‪ ،‬مث تال هذه االية ‪" :‬‬
‫يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند‬
‫اهلل أتقاكم إن اهلل عليم خبري " ‪.‬‬
‫مث قال ‪" :‬يا معشر قريش ! ما ترون أين فاعل بكم ؟ قالوا‪ :‬خرياً ‪ ،‬أخ كرمي‪ .‬وابن أخ كرمي ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬فإين أقول لكم كما قال يوسف إلخوته ‪ :‬ال تثريب عليكم اليوم ‪ ،‬اذهبوا فأنتم‬
‫الطلقاء" ‪.‬‬
‫مث جلس يف املسجد ‪ ،‬فقام إليه علي ‪-‬ومفتاح الكعبة يف يده‪ -‬فقال ‪ :‬يا رسول اهلل ! امجع لنا‬
‫احلجابة مع السقاية ‪ .‬صلى اهلل عليك ‪ .‬فقال صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬أين عثمان بن طلحة ‪،‬‬
‫فدعي له ‪ ،‬فقال ‪ :‬هاك مفتاحك يا عثمان ! اليوم يوم بر ووفاء ‪.‬‬
‫وأمر بالالً أن يصعد على الكعبة فيؤذن ‪-‬وأبو سفيان بن حرب‪ ،‬وعتاب بن أسيد‪ ،‬واحلارث‬
‫بن هشام‪ ،‬وأشراف قريش جلوس بفناء الكعبة‪ -‬فقال عتاب ‪ :‬لقد أكرم اهلل أسيداً أن ال‬
‫يكون مسع هذا ‪ .‬فقال احلارث ‪ :‬أما واهلل لو أعلم أنه حق التبعته ‪ .‬فقال أبو سفيان ‪ :‬ال أقول‬

‫‪136‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫شيئاً ‪ ،‬لو تكلمت ألخربت عين هذه احلصباء ‪ .‬فخرج عليهم النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬قد علمت الذي قلتم ‪ ،‬مث ذكر ذلك هلم ‪ .‬فقال احلارث وعتاب ‪ :‬نشهد أنك رسول‬
‫اهلل ‪ ،‬واهلل ما اطلع على هذا أحد كان معنا ‪ ،‬فنقول ‪ :‬أخربك ‪.‬‬
‫مث دخل صلى اهلل عليه وسلم دار أم هاىنء ‪ ،‬فاغتسل ‪ ،‬وصلى مثان ركعات ‪ ،‬صالة الفتح ‪،‬‬
‫وكان أمراء اإلسالم إذا افتتحوا بلداً صلوا هذه الصالة ‪.‬‬
‫وملا استقر الفتح ‪ :‬أمن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الناس كلهم ‪ ،‬إال تسعة نفر ‪ ،‬فإنه أمر‬
‫بقتلهم ‪ ،‬وإن وجدوا حتت أستار الكعبة ‪ :‬عبد اهلل بن أيب سرح ‪ ،‬وعكرمة بن أيب جهل ‪،‬‬
‫وعبد العزى بن خطل ‪ ،‬واحلارث بن نفيل ‪ ،‬ومقيس بن صبابة ‪ ،‬وهبار بن األسود ‪ ،‬وقينتان‬
‫البن خطل ‪ ،‬وسارة موالة لبعض بين عبد املطلب ‪.‬‬
‫فأما ابن أيب سرح ‪ :‬فجاء فاراً إىل عثمان ‪ ،‬فاستأمن له رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪،‬‬
‫فقبل منه ‪ ،‬بعد أن أمسك عنه‪ ،‬رجاء أن يقوم إليه بعض الصحابة فيقتله ‪.‬‬
‫وأما عكرمة ‪ :‬فاستأمنت له امرأته بعد أن هرب ‪ ،‬وعادت به ‪ .‬فأسلم وحسن إسالمه ‪.‬‬
‫وأما ابن خطل ‪ ،‬ومقيس ‪ ،‬واحلارث ‪ ،‬وإحدى القينتني ‪ :‬فقتلوا ‪.‬‬
‫وأما هبار ‪ :‬ففر مث جاء فأسلم ‪ ،‬وحسن إسالمه ‪.‬‬
‫واستؤمن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لسارة ‪ ،‬وإلحدى القينتني ‪ ،‬فأسلمتا ‪.‬‬
‫فلما كان الغد من يوم الفتح ‪":‬قام رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف الناس خطيباً ‪ ،‬فحمد‬
‫اهلل وأثىن عليه ؟ مث قال ‪ :‬أيها الناس ! إن اهلل حرم مكة يوم خلق السموات واألرض [فهي‬
‫حرام حبرمة اهلل إىل يوم القيامة] ‪ ،‬فال حيل المرىء يؤمن باهلل واليوم اآلخر ‪ :‬أن يسفك هبا‬
‫دماً ‪ ،‬أو يعضد هبا شجرة ‪ .‬فإن أحد ترخص بقتال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقولوا له‬
‫‪ :‬إن اهلل أذن لرسوله ‪ ،‬ومل يأذن لك ‪ .‬وإمنا أحلت يل ساعة من هنار ‪. "...‬‬
‫وهم فضالة بن عمري بن امللوح الليثي أن يقتل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وهو يطوف‬
‫‪ .‬فلما دنا منه ‪ ،‬قال ‪ :‬أفضالة؟ قال ‪ :‬نعم فضالة يا رسول اهلل ! قال ‪ :‬ماذا حتدث به نفسك‬
‫؟‪ ،‬قال ‪ :‬ال شئ ‪ ،‬كنت أذكر اهلل ‪ ،‬فضحك صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬مث قال ‪ :‬استغفر اهلل ‪ ،‬مث‬

‫‪137‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وضع يده على صدره ‪ ،‬فسكن قلبه ‪ .‬وكان فضالة يقول ‪ :‬واهلل ما رفع يده عن صدري حىت‬
‫ما من خلق اهلل شئ أحب إيل منه ‪ ،‬قال فضالة ‪ :‬فرجعت إىل أهلي ‪ ،‬فمررت بامرأة كنت‬
‫أحتدث إليها ‪ ،‬فقالت ‪ :‬هلم إىل احلديث ‪ .‬فقال ‪ :‬ال‪ .‬وانبعث فضالة يقول ‪:‬‬
‫يأىب اإلله عليك واإلسالم‬ ‫قالت‪ :‬هلم إىل احلديث فقلت‪ :‬ال‬
‫بالفتح يوم تكسر األصنام‬ ‫لو قد رأيت حممداً وقبيله‬
‫والشرك يغشى وجهه اإلظالم‬ ‫لرأيت دين اهلل أضحى بيناً‬
‫وفر يومئذ صفوان بن أمية ‪ ،‬وعكرمة بن أيب جهل ‪ ،‬فاستأمن عمري بن وهب رسول اهلل‬
‫لصفوان ‪ ،‬فلحقه ‪ ،‬وهو يريد أن يركب البحر فرده ‪.‬‬
‫واستأمنت أم حكيم بنت احلارث بن هشام لزوجها عكرمة ‪ ،‬فلحقت به باليمن فردته ‪.‬‬
‫مث أمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم متيم بن أسيد اخلزاعي ‪ ،‬فجدد أنصاب احلرم ‪.‬‬
‫وبث صلى اهلل عليه وسلم سراياه إىل األوثان اليت كانت حول مكة ‪ ،‬فكسرت كلها ‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫الالت ‪ ،‬والعزى ‪ ،‬ومناة ‪.‬‬
‫ونادى مناديه مبكة ‪ :‬من كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر ‪ :‬فال يدع يف بيته صنماً إال كسره ‪.‬‬

‫هدم عمرو بن العاص صنم سواع ‪:‬‬


‫وبعث عمرو بن العاص يف شهر رمضان إىل سواع ‪-‬وهو هلذيل‪ -‬قال ‪ :‬فأتيته وعنده السادن‬
‫‪ ،‬فقال ‪ :‬ما تريد ؟ قلت ‪ :‬أهدمه ‪ .‬قال ‪ :‬ال تقدر على ذلك ‪ ،‬قلت ‪ :‬مل ؟ قال ‪ :‬متنع ‪ .‬قلت‬
‫‪ :‬حىت اآلن أنت على الباطل ؟ وحيك ‪ ،‬وهل يسمع أو يبصر ؟ فدنوت منه فكسرته ‪ .‬وأمرت‬
‫أصحايب فهدموا بيت خزانته ‪ .‬فلم جند فيه شيئاً ‪ ،‬فقلت للسادن ‪ :‬كيف رأيت ؟ قال ‪:‬‬
‫أسلمت هلل ‪.‬‬

‫بعث سعد بن زيد لهدم مناة ‪:‬‬


‫مث بعث سعد بن زيد بن مالك بن عبد بن كعب بن عبد األشهل ‪ ،‬األشهلي األنصاري ‪ ،‬يف‬
‫شهر رمضان إىل مناة‪ ،‬وكانت عند قديد باملشلل ‪ ،‬لألوس واخلزرج وغسان وغريهم ‪ .‬فخرج‬
‫‪138‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫يف عشرين فارساً‪ ،‬حىت انتهى إليها‪ .‬وعندها سادهنا‪ ،‬فقال‪ :‬ما تريد؟ قال ‪ :‬هدمها ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫أنت وذاك‪ .‬فأقبل سعد ميشي إليها ‪ ،‬وخترج إليه امرأة عريانة سوداء ‪ ،‬ثائرة الرأس ‪ ،‬تدعو‬
‫بالويل ‪ ،‬وتضرب صدرها ‪ .‬فقال هلا السادن ‪ .‬مناة دونك بعض عصاتك ‪ .‬فضرهبا سعد‬
‫فقتلها ‪ ،‬وأقبل إىل الصنم فهدمه ‪ ،‬ومل جيدوا يف خزانتها شيئاً ‪.‬‬
‫غزوة حنين ‪:‬‬
‫قال ابن إسحاق ‪ :‬ملا مسعت هوازن بالفتح ‪ ،‬مجعها مالك بن عوف النصري مع هوازن ثقيف‬
‫كلها ‪.‬‬
‫فلما أمجع مالك السري إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ساق مع الناس أمواهلم ونساءهم‬
‫وذراريهم ‪ ،‬فلما نزل بأوطاس ‪ ،‬اجتمعوا إليه ‪ .‬وفيهم دريد بن الصمة اجلشمي ‪ ،‬وهو شيخ‬
‫كبري ‪ ،‬ليس فيه إال رأيه ‪ ،‬وكان شجاعاً جمرباً ‪ .‬فقال ‪ :‬بأي واد أنتم ؟ قالوا ‪ :‬بأوطاس‪ .‬قال‬
‫‪ :‬نعم جمال اخليل‪ ،‬ال حزن ضرس‪ ،‬وال سهل دهس ‪ .‬ما يل أمسع رغاء البعري ‪ ،‬وهناق احلمري ‪،‬‬
‫وبكاء الصغري ‪ ،‬ويعار الشاء؟ قالوا ‪ :‬ساق مالك مع الناس أبناءهم ونساءهم وأمواهلم ‪ .‬قال ‪:‬‬
‫أين مالك ؟ فدعي له ‪ ،‬فقال ‪ :‬إنك قد أصبحت رئيس قومك ‪ ،‬وإن هذا يوم له ما بعده من‬
‫األيام ‪ ،‬فلم فعلت هذا ؟ قال ‪ :‬أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ‪ ،‬ليقاتل عنهم‪.‬‬
‫قال ‪ :‬راعي ضأن واهلل ‪ ،‬وهل يرد املنهزم شئ؟ إهنا إن كانت لك مل ينفعك إال رجل بسيفه‬
‫ورحمه ‪ ،‬وإن كانت عليك ‪ :‬فضحت يف أهلك ومالك ‪ .‬مث قال ‪ :‬ما فعلت كعب وكالب ؟‬
‫قالوا‪ :‬مل يشهدها منهم أحد ‪ .‬قال ‪ :‬غاب احلد واجلد ‪ ،‬لو كان يوم عالء ورفعة مل يغيبوا‪،‬‬
‫ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكالب ‪ ،‬فمن شهدها ؟ قالوا ‪ :‬عمرو بن عامر ‪،‬‬
‫وعوف بن عامر ‪ .‬قال ‪ :‬ذانك اجلذعان من عامر ‪ ،‬ال ينفعان وال يضران ‪ .‬يا مالك ! إنك مل‬
‫تصنع بتقدمي البيضة ‪-‬بيضة هوازن‪ -‬إىل حنور اخليل شيئاً ‪ ،‬ارفعهم إىل ممتنع بالدهم ‪ ،‬وعليا‬
‫قومهم ‪ ،‬مث الق الصباء على متون اخليل ‪ .‬فإن كانت لك ‪ :‬حلق بك من وراءك ‪ ،‬وإن كانت‬
‫عليك ألفاك ذاك وقد أحرزت أهلك ومالك ‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫قال ‪ .‬واهلل ال أفعل ‪ ،‬إنك قد كربت وكرب عقلك ‪ ،‬واهلل لتطيعنين يا معشر هوازن ‪ ،‬أو‬
‫ألتكئن على هذا السيف حىت خيرج من ظهري ‪ .‬وكره أن يكون لدريد فيها ذكر ‪ ،‬أو رأي ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬أطعناك ‪ ،‬فقال دريد ‪ :‬هذا يوم مل أشهده ‪ ،‬ومل يفتين ‪.‬‬
‫أخب فيها وأضع‬ ‫ياليتين فيها جذع‬
‫كأهنا شاة صدع‬ ‫أقود وطفاء الزمع‬
‫مث قال مالك ‪ :‬إذ رأيتموهم ‪ ،‬فاكسروا جفون سيوفكم ‪ ،‬مث شدوا شدة رجل واحد ‪ .‬مث‬
‫بعث عيوناً من رجاله ‪ ،‬فأتوه وقد تفرقت أوصاهلم من الرعب واهللع ‪ .‬فقال هلم ‪ :‬ويلكم ‪،‬‬
‫ما شأنكم ؟ قالوا ‪ :‬رأينا رجاالً بيضاً على خيل بلق ‪ ،‬واهلل ما متاسكنا أن أصابنا ما ترى ‪،‬‬
‫فواهلل ما رده ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد ‪ .‬وملا مسع هبم رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ .‬بعث إليهم عبد اهلل بن حدرد األسلمي ‪ .‬وأمره أن يداخلهم حىت يعلم علمهم ‪.‬‬
‫فانطلق ‪ .‬فداخلهم حىت علم ما هم عليه ‪ ،‬فأتى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فأخربه اخلرب‬
‫‪.‬‬
‫فلما أراد املسري ‪ ،‬ذكر له ‪ :‬أن عند صفوان بن أمية أدراعاً وسالحاً ‪-‬وهو يومئذ مشرك‪،-‬‬
‫فقال له ‪ :‬يا أبا أمية ! أعرنا سالحك هذا ‪ ،‬نلق فيه عدونا غداً‪ ،‬فقال ‪ :‬أغصباً يا حممد ؟ قال‬
‫‪ :‬بل عارية مضمونة ‪ ،‬حىت نؤديها إليك‪ ،‬فأعطاه مائة درع مبا يكفيها من السالح ‪.‬‬
‫فخرج صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬ومعه ألفان من أهل مكة ‪ ،‬وعشرة آالف من أصحابه الذين‬
‫فتح اهلل هبم مكة‪ ،‬فكانوا اثين عشر ألفاً‪ .‬واستعمل عتاب بن أسيد على مكة ‪ .‬فلما استقبلوا‬
‫وادي حنني ‪ ،‬احندروا يف واد من أودية هتامة أجوف يف عماية الصبح ‪ .‬قال جابر ‪ :‬وكانوا قد‬
‫سبقونا إليه ‪ ،‬فكمنوا يف شعابه ومضايقه ‪ ،‬قد هتيئوا ‪ .‬فواهلل ما راعنا إال الكتائب ‪ ،‬قد شدوا‬
‫علينا شدة رجل واحد ‪ ،‬فانشمر الناس راجعني ال يلوي أحد على أحد ‪ .‬واحناز رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ذات اليمني ‪ ،‬مث قال ‪:‬أيها الناس ! أنا رسول اهلل ‪ ،‬أنا حممد بن عبد اهلل‪،‬‬
‫وبقي معه نفر من املهاجرين ‪ ،‬وأهل بيته ‪ ،‬فاجتلد الناس فواهلل ما رجعت الناس من هزميتهم‬
‫حىت وجدوا األسرى عند رسول اهلل ‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وكانوا حني رأوا كثرهتم قالوا ‪ :‬لن نغلب اليوم عن قلة ‪ ،‬فوقع هبم ما وقع من ابتالء اهلل‬
‫لقوهلم ذلك ‪.‬‬
‫قال ابن إسحق ‪ :‬وملا وقعت اهلزمية تكلم رجال من جفاة أهل مكة مبا يف أنفسهم من الضغن‬
‫‪ ،‬فقال أبو سفيان ‪ :‬ال تنتهي هزميتهم دون البحر ‪ ،‬وصرخ جبلة بن احلنبل ‪ :‬أال بطل السحر‬
‫اليوم ‪ .‬فقال له أخوه صفوان بن أمية ‪-‬وكان بعد مشركاً‪ : -‬اسكت ‪ ،‬فض اهلل فاك ‪ ،‬فواهلل‬
‫ألن يرييب رجل من قريش أحب إيل من أن يربين رجل من هوازن ‪.‬‬
‫وذكر ابن إسحاق عن شيبة بن عثمان احلجيب ‪ ،‬قال ‪ :‬ملا كان يوم الفتح قلت ‪ :‬أسري مع‬
‫قريش إىل هوازن ‪ ،‬لعلي أصيب من حممد غرة‪ .‬فأكون أنا الذي قمت بثأر قريش كلها‪،‬‬
‫وأقول ‪ :‬لو مل يبق من العرب والعجم أحد إال تبعه ‪ ،‬ما اتبعته أبداً‪ .‬فلما اختلط الناس ‪،‬‬
‫اقتحم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن بغلته وأصلت السيف ‪ ،‬فدنوت أريد ما أريد ‪،‬‬
‫ورفعت سيفي حىت كدت أسوره ‪ .‬فرفع يل شواظ من نار كالربق ‪ ،‬كاد أن ميحشين ‪.‬‬
‫فوضعت يدي على بصري خوفاً عليه ‪ ،‬فالتفت إيل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فناداين‬
‫‪ :‬يا شيب ‪ ،‬أدن مين ‪ ،‬فدنوت منه ‪ ،‬فمسح صدري ‪ .‬مث قال ‪ :‬اللهم أعذه من الشيطان ‪ ،‬فو‬
‫اهلل هلو كان ساعئذ أحب إيل من مسعي وبصري ونفسي ‪ .‬مث قال ‪ :‬أدن ‪ ،‬فقاتل ‪ ،‬فتقدمت‬
‫أمامه أضرب بسيفي ‪ .‬اهلل يعلم أين أحب أن أقيه بنفسي ‪ .‬ولو لقيت تلك الساعة أيب ألوقعت‬
‫به السيف ‪ .‬فجعلت ألزمه فيمن لزمه ‪ ،‬حىت تراجع الناس‪ ،‬وكروا كرة رجل واحد‪ .‬وقربت‬
‫بغلة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فاستوى عليها‪ .‬وخرج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫يف أثرهم حىت تفرقوا [يف كل وجه] ‪ ،‬ورجع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل معسكره ‪،‬‬
‫فدخل خباءه ‪ ،‬فدخلت عليه ‪ ،‬ما دخل عليه غريي ‪ ،‬حباً لرؤية وجهه ‪ ،‬وسروراً به ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫يا شيب ! الذي أراد اهلل لك ‪ ،‬خري من الذي أردت لنفسك ‪.‬‬
‫قال العباس ‪ :‬إين ملع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪-‬وكنت امرءاً جسيماً شديد الصوت‪-‬‬
‫فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ -‬حني رأى ما رأى من الناس‪ : -‬إيل أيها الناس ‪ ،‬أنا‬
‫النيب ال كذب ‪ ،‬أنا ابن عبد املطلب ‪ ،‬فلم أر الناس يلوون على شئ ‪ ،‬فقال ‪ :‬أي عباس ‪،‬‬

‫‪141‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫اهتف بأصحاب السمرة ‪ ،‬فناديت ‪ :‬يا أصحاب السمرة ! يا أصحاب سورة البقرة ! فكان‬
‫الرجل يريد أن يرد بعريه فال يقدر ‪ ،‬فيأخذ سالحه ‪ ،‬ويقتحم عن بعريه ‪ ،‬وخيلي سبيله ‪ ،‬ويؤم‬
‫الصوت ‪ ،‬فأتوا من كل ناحية ‪ :‬لبيك ‪ ،‬لبيك ‪ ،‬حىت إذا اجتمع إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم منهم مائة استقبلوا الناس‪ ،‬فاقتتلوا ‪ ،‬فكانت الدعوة أوالً ‪ :‬يا لألنصار‪ ،‬يا لألنصار‪ ،‬مث‬
‫خلصت الدعوة ‪ :‬يا لبين احلارث بن اخلزرج ‪ ،‬وكانوا صرباً عند احلرب ‪.‬‬
‫ويف صحيح مسلم ‪" :‬مث أخذ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حصيات ‪ ،‬فرمى هبا وجوه‬
‫القوم ‪ ،‬مث قال ‪ :‬اهنزموا ‪ ،‬ورب حممد‪ ،‬فما هو إال أن رماهم ‪ ،‬فما زلت أرى حدهم كليالً ‪،‬‬
‫وأمرهم مدبراً" ‪.‬‬
‫وملا اهنزم املشركون أتوا الطائف ‪ ،‬ومعهم مالك بن عوف ‪ .‬وعسكر بعضهم بأوطاس ‪.‬‬
‫وبعث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف أثر من توجه حنو أوطاس أبا عامر األشعري ‪،‬‬
‫فأدرك بعضهم فناوشوه القتال ‪ ،‬فهزمهم اهلل تعاىل ‪ .‬وقتل أبو عامر‪ ،‬فأخذ الراية أبو موسى‬
‫األشعري ‪ ،‬فلما بلغ اخلرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬قال ‪ :‬اللهم أغفر أليب عامر وأهله‬
‫‪ ،‬وأجعله يوم القيامة فوق كثري من خلقك ‪.‬‬
‫[وأمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بالسيب والغنائم أن جتمع ‪ ،‬وكان السيب ستة آالف رأس‬
‫‪ ،‬واإلبل ‪ :‬أربعة وعشرين ألفاً ‪ ،‬والغنم ‪ :‬أربعني ألف شاة ‪ ،‬وأربعة آالف أوقية فضة ‪،‬‬
‫فاستأىن هبم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم] ‪.‬‬
‫وأمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن يقدموا موالني مسلمني ‪ ،‬بضع عشرة ليلة ‪ .‬مث بدأ‬
‫باألموال فقسمها ‪ .‬وأعطى املؤلفة قلوهبم أول الناس ‪ .‬فأعطى أبا سفيان مائة من اإلبل ‪،‬‬
‫وأربعني أوقية‪ .‬وأعطى ابنه يزيد مثل ذلك وأعطى ابنه معاوية مثل ذلك‪ .‬وأعطى حكيم بن‬
‫حزام مائة من اإلبل ‪ ،‬مث سأله مائة أخرى فأعطاه ‪ ،‬وذكر ابن إسحاق أصحاب املائة‬
‫وأصحاب اخلمسني ‪.‬‬
‫مث أمر زيد بن ثابت بإحصاء الغنائم والناس ‪ ،‬مث فضها على الناس ‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫قال ابن إسحاق ‪ :‬حدثين عاصم بن عمر بن قتادة عن حممود بن لبيد عن أيب سعيد اخلدري‬
‫رضي اهلل عنه ‪ ،‬قال ‪" :‬ملا أعطى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من أعطى من تلك العطايا‬
‫يف قريش وقبائل العرب ‪ ،‬ومل يكن يف األنصار منها شئ ‪ ،‬وجدت األنصار يف أنفسهم ‪ ،‬حىت‬
‫كثرت منهم القالة ‪ ،‬حىت قال قائلهم ‪ :‬لقي واهلل رسول اهلل قومه ‪ .‬فدخل عليه سعد بن عبادة‬
‫‪ ،‬فذكر له ذلك ؟ فقال ‪:‬فأين أنت من ذلك يا سعد؟‪ ،‬قال‪ :‬يا رسول اهلل ! ما أنا إال من‬
‫قومي ‪ .‬قال ‪ :‬فامجع يل قومك يف هذه احلظرية‪ ،‬فجاء رجال من املهاجرين ‪ ،‬فرتكهم فدخلوا‬
‫‪ .‬وجاء آخرون فردهم ‪ ،‬فلما اجتمعوا أتاه سعد فأخربه ‪ .‬فأتاهم رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم فحمد اهلل وأثىن عليه مبا هو أهله ‪ ،‬مث قال ‪ :‬يا معشر األنصار ‪ ،‬ما مقالة بلغتين عنكم‬
‫؟ وجدة وجدمتوها يف أنفسكم ؟ أمل آتكم ضالالً‪ ،‬فهداكم اهلل يب ؟ وعالة فأغناكم اهلل يب ؟‬
‫وأعداء فألف اهلل بني قلوبكم يب‪ ،‬قالوا ‪ :‬اهلل ورسوله أمن وأفضل‪ .‬مث قال ‪ :‬أال جتيبوين ‪ ،‬يا‬
‫معشر األنصار؟ ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬مباذا جنيبك يا رسول اهلل ؟ وهلل ولرسوله املن والفضل ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬أما واهلل ‪ ،‬لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم ‪ ،‬أتيتنا مكذباً فصدقناك ‪ ،‬وخمذوالً‬
‫فنصرناك ‪ ،‬وطريداً فآويناك ‪ ،‬وعائالً فآسيناك ‪ .‬أوجدمت علي يا معشر األنصار! يف أنفسكم‬
‫يف لعاعة من الدنيا‪ ،‬تألفت هبا قوما ليسلموا‪ ،‬ووكلتكم إىل إسالمكم ؟ أال ترضون يا معشر‬
‫األنصار ‪ :‬أن يذهب الناس بالشاء والبعري‪ ،‬وترجعون أنتم برسول اهلل إىل رحالكم ؟ فوالذي‬
‫نفس حممد بيده ! ملا تنقلبون به خري مما ينقلبون به ‪ ،‬ولوال اهلجرة لكنت امرءاً من األنصار ‪.‬‬
‫ولو سلك الناس شعباً ووادياً‪ ،‬وسلكت األنصار شعباً ووادياً‪ ،‬لسلكت شعب األنصار‬
‫وواديها ‪ .‬األنصار شعار ‪ ،‬والناس دثار اللهم أرحم األنصار ‪ ،‬وأبناء األنصار ‪ ،‬وأبناء أبناء‬
‫األنصار‪ .‬قال ‪ :‬فبكى القوم ‪ ،‬حىت أخضلوا حلاهم ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬رضينا برسول اهلل قسماً وحظاً‬
‫"‪ .‬مث انصرف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وتفرقوا‪.‬‬
‫وقدمت الشيماء بنت احلارث ‪-‬أخت رسول اهلل صلى اهلل عليه وآله وسلم من الرضاعة‪-‬‬
‫فقالت ‪ :‬يا رسول اهلل ! أنا أختك ‪ .‬فبسط هلا رداءه ‪ .‬وأجلسها عليه ‪ .‬وقال ‪ :‬إن أحببت‬

‫‪143‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫فعندي مكرمة ‪ ،‬وإن أحببت أن أمتعك وترجعي إىل قومك‪ .‬فقالت ‪ :‬بل متتعين ‪ ،‬وتردين إىل‬
‫قومي ‪ .‬ففعل وأسلمت ‪ .‬فأعطاها ثالثة أعبد وجارية ونعماً وشاء ‪.‬‬

‫المن على سبي هوازن ‪:‬‬


‫وقدم وفد هوازن على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وهم أربعة عشر رجالً ‪ ،‬فسألوه ‪:‬‬
‫أن مين عليهم بالسيب واألموال‪ ،‬فقال‪ :‬إن معي من ترون ‪ ،‬وإن أحب احلديث ‪ ،‬إيل أصدقه ‪.‬‬
‫فأبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم ‪ ،‬أم أموالكم؟ فقالوا ‪ :‬ما كنا نعدل باألحساب شيئاً ‪ .‬فقال‬
‫‪:‬إذا صليت الغداة فقوموا‪ ،‬فقولوا ‪ :‬إنا نستشفع برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل املؤمنني‪،‬‬
‫وباملؤمنني إىل رسول اهلل أن يرد إلينا سبينا ‪.‬‬
‫فلما صلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الغداة قاموا ‪ ،‬فقالوا ذلك ‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم ‪ :‬أما ما كان يل ولبين عبد املطلب ‪ :‬فهو لكم ‪ ،‬وسأسأل لكم الناس ‪.‬‬
‫فقال املهاجرون واألنصار ‪ :‬ما كان لنا فهو لرسول اهلل ‪.‬‬
‫وقال األقرع بن حابس ‪ :‬أما أنا وبنو متيم ‪ ،‬فال ‪ .‬وقال عيينة بن حصن ‪ :‬أما أنا وبنو فزارة‬
‫فال ‪ .‬وقال العباس بن مرداس ‪ :‬أما أنا وبنو سليم فال ‪ .‬فقالت بنو سليم ‪ :‬ما كان لنا فهو‬
‫لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فقال العباس ‪ :‬وهنتموين ‪.‬‬
‫فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬إن هؤالء القوم قد جاؤوا مسلمني ‪ ،‬وقد استأنيت‬
‫بسبيهم ‪ ،‬وقد خريهتم ‪ ،‬فلم يعدلوا باألبناء والنساء ‪ .‬فمن كان عنده شئ فطابت نفسه بأن‬
‫يرده ‪ ،‬فسبيل ذلك ‪ ،‬ومن أحب أن يستمسك حبقه فلريده عليهم ‪ .‬وله بكل فريضة ست‬
‫فرائض من أول ما يفيء اهلل علينا‪ ،‬فقال الناس ‪ :‬قد طيبنا ذلك لرسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬فقال ‪ :‬إنا ال نعرف من رضي منكم ممن مل يرض ‪ ،‬فارجعوا حىت يرفع إلينا عرفاؤكم‬
‫أمركم ‪ .‬فردوا عليهم أبناءهم ونساءهم ‪ ،‬وكسا النيب صلى اهلل عليه وسلم السيب قبطية قبطية‬
‫‪.‬‬

‫فصل ما بعد فتح مكه‪:‬‬


‫‪144‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫ملا أمت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم واملسلمون معه فتح مكة ؟ اقتضت حكمة اهلل أن‬
‫أمسك قلوب هوازن عن اإلسالم ‪ ،‬لتكون غنائمهم شكراناً ألهل الفتح ‪ ،‬وليظهر حزبه على‬
‫الشوكة اليت مل يلق املسلمون مثلها ‪ ،‬فال يقاومهم أحد بعد من العرب ‪ .‬وأذاق املسلمني أوالً‬
‫مرارة الكسرة ‪ ،‬مع قوة شوكتهم‪ ،‬ليطامن رؤوساً رفعت بالفتح ‪ ،‬ومل تدخل حرمه كما‬
‫دخله رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم واضعاً رأسه ‪ ،‬منحنياً على فرسه ‪ ،‬حىت إن ذقنه ليكاد‬
‫ميس قربوس سرجه تواضعاً لربه ‪ .‬وليبني سبحانه ‪-‬ملن قال ‪ :‬لن نغلب اليوم عن قلة‪ -‬أن‬
‫النصر إمنا هو من عنده سبحانه ‪ ،‬وأن من خيذله فال ناصر له غريه ‪ .‬وأنه سبحانه الذي توىل‬
‫نصر دينه ‪ ،‬ال كثرتكم ‪ .‬فلما انكسرت قلوهبم ‪ ،‬أرسل إليها خلع اجلرب مع بريد النصر " مث‬
‫أنزل اهلل سكينته على رسوله وعلى املؤمنني وأنزل جنودا مل تروها " ‪ ،‬وقد اقتضت حكمته‬
‫أن خلع النصر إمنا تفيض على أهل االنكسار " ونريد أن منن على الذين استضعفوا يف األرض‬
‫وجنعلهم أئمة وجنعلهم الوارثني " ‪.‬‬
‫غزوة الطائف ‪:‬‬
‫وملا أراد املسري إىل الطائف ‪-‬وكانت يف شوال سنة مثان‪ -‬بعث الطفيل بن عمرو إىل ذي‬
‫الكفني ‪-‬صنم عمرو بن محمة الدوسي‪ -‬يهدمه ‪ ،‬وأمره أن يستمد قومه ويوافيه بالطائف ‪.‬‬
‫فخرج سريعاً فهدمه وجعل حيثو النار يف وجهه ‪ ،‬ويقول ‪:‬‬
‫ميالدنا أكرب من ميالدكا‬ ‫يا ذا الكفني لست من عبادكا‬
‫إين حشوت النار يف فؤادكا‬
‫واحندر معه من قومه أربعمائة سراعاً ‪ ،‬فوافوا النيب صلى اهلل عليه وسلم بالطائف ‪-‬بعد مقدمه‬
‫بأربعة أيام‪ -‬وقدم بدبابة ومنجنيق‪.‬‬
‫قال ابن سعد ‪ :‬ملا اهنزموا من أوطاس دخلوا حصنهم ‪ ،‬وهتيؤوا للقتال ‪ ،‬وسار رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فنزل قريباً من حصن الطائف ‪ ،‬وعسكر هناك ‪ .‬فرموا املسلمني بالنبل‬
‫رمياً شديداً ‪ ،‬كأنه رجل جراد‪ ،‬حىت أصيب ناس من املسلمني جبراحة‪ .‬وقتل منهم اثنا عشر‬
‫رجالً ‪ ،‬فارتفع صلى اهلل عليه وسلم إىل موضع مسجد الطائف اليوم ‪ ،‬فحاصرهم مثانية عشر‬

‫‪145‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫يوماً ‪ .‬ونصب عليهم املنجنيق ‪-‬وهو أول من رمى به يف اإلسالم‪ -‬وأمر بقطع أعناب ثقيف ‪.‬‬
‫فوقع الناس فيها يقطعون ‪ ،‬فسألوه ‪ :‬أن يدعها هلل وللرحم ‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ :‬فإين أدعها هلل وللرحم ‪.‬‬
‫ونادى مناديه ‪ :‬أميا عبد نزل من احلصن ‪ ،‬وخرج إلينا ‪ ،‬فهو حر‪ ،‬فخرج منهم بضعة عشر‬
‫رجالً ‪ ،‬فيهم أبو بكرة بن مسروح ‪ ،‬فأعتقهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬ودفع كل‬
‫رجل منهم إىل رجل من املسلمني ميونه ‪.‬‬
‫ومل يؤذن يف فتح الطائف ‪ ،‬فأمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عمر بن اخلطاب رضي اهلل‬
‫عنه فأذن بالرحيل ‪ ،‬فضج الناس من ذلك ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬نرحل ‪ ،‬ومل يفتح علينا؟ [فقال رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪:‬اغدوا على القتال‪ ،‬فغدوا ‪ ،‬فأصاهبم جراحات]‪ ،‬فقال رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬إنا قافلون غداً إن شاء اهلل‪ ،‬فسروا بذلك ‪ ،‬وجعلوا يرحلون ورسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم يضحك ‪.‬‬
‫فلما ارحتلوا واستقلوا ‪" ،‬قال ‪ :‬قولوا ‪ :‬آيبون ‪ ،‬تائبون ‪ ،‬عابدون ‪ ،‬لربنا حامدون" ‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬يا رسول اهلل ! ادع اهلل على ثقيف ‪" ،‬فقال ‪ :‬اللهم أهد ثقيفاً وائت هبم" ‪.‬‬
‫مث خرج إىل اجلعرانة‪ ،‬فدخل منها إىل مكة حمرماً بعمرة فقضاها ‪ ،‬مث رجع إىل املدينة ‪.‬‬

‫فصل‬
‫قال ابن إسحاق ‪ :‬وقدم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من تبوك يف رمضان ‪ ،‬وقدم عليه يف‬
‫ذلك الشهر وفد ثقيف ‪.‬‬
‫وكان من حديثهم ‪ :‬أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ملا انصرف عنهم ‪ :‬اتبع أثره عروة بن‬
‫مسعود ‪ ،‬حىت أدركه قبل أن يدخل املدينة ‪ .‬فأسلم ‪ ،‬وسأله ‪ :‬أن يرجع إىل قومه باإلسالم ‪،‬‬
‫فقال له رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬إن فيهم خنوة االمتناع ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا رسول اهلل ! أنا‬
‫أحب إليهم من أبكارهم ‪ .‬وكان فيهم كذلك حمبباً مطاعاً ‪.‬‬
‫فخرج يدعوهم إىل اإلسالم ‪ ،‬رجاء أن ال خيالفوه ‪ ،‬ملنزلته فيهم‪ .‬فلما أشرف هلم على علية‬
‫‪-‬وقد دعاهم إىل اإلسالم‪ -‬رموه بالنبل من كل وجه ‪ ،‬فأصابه سهم فقتله ‪ ،‬فقيل له ‪ :‬ما ترى‬
‫‪146‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫من دمك ؟ فقال ‪ :‬كرامة أكرمين اهلل هبا ‪ ،‬وشهادة ساقها اهلل إيل ‪ ،‬فليس يف إال ما يف‬
‫الشهداء الذين قتلوا يف سبيل اهلل مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قبل أن يرحتل عنكم ‪،‬‬
‫فادفنوين معهم ‪ .‬فدفنوه معهم ‪ ،‬فزعموا أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال ‪ :‬إن مثله يف‬
‫قومه كمثل صاحب يس يف قومه ‪.‬‬
‫مث أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهراً‪ ،‬مث ائتمروا بينهم‪ ،‬ورأوا أهنم ال طاقة هلم حبرب من‬
‫حوهلم من العرب ‪ ،‬وقد أسلموا وبايعوا‪ ،‬فأمجعوا أن يرسلوا إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم رجالً ‪ ،‬كما أرسلوا عروة ‪.‬‬
‫فكلموا عبد ياليل بن عمرو ‪ ،‬وعرضوا عليه ذلك ‪ ،‬فأىب ‪ ،‬وخشي أن يصنع به كما صنع‬
‫بعروة ‪ ،‬فقال ‪ :‬لست فاعالً حىت ترسلوا معي رجاالً ‪ ،‬فأمجعوا أن يرسلوا معه رجلني من‬
‫األحالف وثالثة من بين مالك ‪ ،‬منهم عثمان بن أيب العاص ‪ .‬فلما دنوا من املدينة ونزلوا قناة‬
‫‪ ،‬ألفوا هبا املغرية بن شعبة ‪ ،‬فاشتد ليبشر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم [بقدومهم ‪ ،‬فلقيه‬
‫أبو بكر ‪ ،‬فقال ‪ :‬أقسمت عليك باهلل ال تسبقين إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم]‪ ،‬حىت‬
‫أكون أنا أحدثه ‪ .‬ففعل ‪ ،‬مث خرج املغرية إىل أصحابه ‪ ،‬فروح الظهر معهم ‪ .‬وعلمهم كيف‬
‫حييون رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ .‬فلم يفعلوا إال بتحية اجلاهلية ‪ ،‬فضرب عليهم قبة يف‬
‫ناحية املسجد ‪.‬‬
‫وكان فيما سألوه ‪ :‬أن يدع هلم الالت ال يهدمها ثالث سنوات ‪ ،‬فأىب ‪ .‬فما برحوا يسألونه‬
‫سنة ‪ ،‬فيأىب ‪ ،‬حىت سألوه شهراً واحداً ‪ ،‬فأىب عليهم أن يدعها شيئاً مسمى ‪ .‬وإمنا يريدون‬
‫بذلك ‪-‬فيما يظهرون‪ -‬أن يسلموا برتكها من سفهائهم ونسائهم ‪ ،‬ويكرهون أن يروعوهم‬
‫هبدمها ‪ ،‬حىت يدخلهم اإلسالم ‪ ،‬فأىب إال أن يبعث أبا سفيان بن حرب واملغرية بن شعبة‬
‫يهدماهنا ‪.‬‬
‫فلما أسلموا أمر عليهم عثمان بن أيب العاص ‪-‬وكان من أحدثهم سناً‪ -‬وذلك ‪ :‬أنه كان من‬
‫أحرصهم على التفقه يف الدين ‪ ،‬وتعلم القرآن ‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫فلما توجهوا راجعني بعث معهم أبا سفيان واملغرية بن شعبة ‪ ،‬حىت إذا قدموا الطائف أراد‬
‫املغرية ‪ :‬أن يقدم أبا سفيان ‪ ،‬فأىب‪ ،‬وقال ‪ :‬ادخل أنت على قومك ‪ .‬وأقام أبو سفيان مباله‬
‫بذي اهلدم ‪ .‬فلما دخل املغرية عالها يضرهبا باملعول ‪ .‬وقام دونه بنو معتب ‪ ،‬خشية أن يرمى‬
‫‪ ،‬كما فعل بعروة ‪ ،‬وخرج نساء ثقيف حسراً يبكني عليها ‪ ،‬فلما هدمها أخذ ماهلا وحليها‬
‫وأرسل به إىل أيب سفيان ‪.‬‬

‫ما في غزوة الطائف من الفقه ‪:‬‬


‫فيها من الفقه ‪ :‬جواز القتال يف األشهر احلرم ‪ ،‬ونسخ حترمي ذلك ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬أنه ال جيوز إبقاء مواضع الطواغيت والشرك بعد القدرة عليها يوماً واحداً ‪ ،‬فإهنا‬
‫شعائر الكفر ‪ ،‬وهي أعظم املنكرات ‪ ،‬وهكذا حكم املشاهد اليت بنيت على القبور اليت‬
‫اختذت أوثاناً تعبد من دون اهلل ‪ ،‬وكذلك األحجار واألشجار اليت تقصد للتعظيم والتربك‬
‫والنذر هلا وكثري منها مبنزلة الالت والعزى‪ ،‬أو أعظم شركاً عندها ‪ ،‬وهبا ‪.‬‬
‫ومل يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أهنا ختلق وترزق ‪ ،‬ومتيت وحتيي ‪ .‬وإمنا كانوا‬
‫يفعلون عندها ما يفعله إخواهنم من املشركني اليوم عند طواغيتهم ‪ ،‬فاتبع هؤالء سنن من‬
‫كان قبلهم ‪ .‬وغلب الشرك على أكثر النفوس لظهور اجلهل وخفاء العلم ‪ ،‬وغلبة التقليد ‪،‬‬
‫وصار املعروف منكراً ‪ ،‬واملنكر معروفاً ‪ ،‬والسنة بدعة والبدعة سنة ‪ ،‬ونشأ يف ذلك الصغري‬
‫وهرم عليه الكبري ‪ ،‬وطمست األعالم ‪ ،‬واشتدت غربة اإلسالم ‪.‬‬
‫ولكن ال تزال طائفة من العصابة احملمدية باحلق قائمني ‪ ،‬وألهل الشرك والبدع جماهدين ‪ ،‬إىل‬
‫أن يرث اهلل األرض ومن عليها وهو خري الوارثني ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬صرف اإلمام األموال اليت تصري إىل هذه املشاهد من عابديها‪ ،‬فيجب على اإلمام أن‬
‫يصرفها يف اجلهاد ومصاحل املسلمني‪ ،‬وكذلك أوقافها تصرف يف مصاحل املسلمني ‪.‬‬

‫فصل في حوادث سنة تسع ‪:‬‬

‫‪148‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وملا قدم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم املدينة ‪ ،‬ودخلت سنة تسع ‪ ،‬بعث املصدقني يأخذون‬
‫الصدقات من األعراب ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬بعث علياً رضي اهلل عنه إىل صنم طي ليهدمه ‪ ،‬فشنوا الغارة على حملة آل حامت مع‬
‫الفجر ‪ ،‬فهدموه ‪ ،‬ومألوا أيديهم من السيب والنعم والشاء ‪ .‬ويف السيب سفانة أخت عدي بن‬
‫حامت ‪ ،‬وهرب عدي إىل الشام ‪ .‬ووجدوا يف خزانته ثالثة أسياف‪ ،‬وثالثة أدرع ‪ .‬وقسم علي‬
‫الغنائم يف الطريق ‪ ،‬ومل يقسم السيب من آل حامت حىت قدم هبم املدينة ‪.‬‬
‫قال عدي ‪ :‬ما كان رجل من العرب أشد كراهة لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مين ‪ ،‬حني‬
‫مسعت به ‪ ،‬وكنت رجالً شريفاً نصرانياً‪ ،‬وكنت أسري يف قومي باملرباع ‪ ،‬وكنت يف نفسي‬
‫على دين ‪ ،‬فقلت لغالم يل راع إلبلي ‪ :‬اعدد يل من إبلي أمجاالً دلالً مساناً ‪ ،‬فإذا مسعت‬
‫جبيش حممد قد وطىء هذه البالد فآذين‪ .‬فأتاين ذات غداة فقال ‪ :‬ما كنت صانعاً إذا غشيتك‬
‫خيل حممد فاصنع اآلن‪ ،‬فإين قد رأيت رايات ‪ ،‬فسألت عنها ؟ فقالوا ‪ :‬هذه جيوش حممد ‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬قرب يل أمجايل ‪ .‬فاحتملت بأهلي وولدي ‪ ،‬مث قلت ‪ :‬احلق بأهل ديين من النصارى‬
‫بالشام ‪ .‬وخلفت بنتاً حلامت يف احلاضرة ‪ .‬فلما قدمت الشام أقمت هبا ‪ ،‬وختالفين خيل رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فتصيب ابنة حامت ‪ ،‬فقدم هبا على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫يف سبايا من طيء ‪.‬‬
‫وقد بلغ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم هريب إىل الشام ‪ ،‬فمر هبا ‪ ،‬فقالت ‪ :‬يا رسول اهلل !‬
‫غاب الوفد ‪ ،‬وانقطع الوالد ‪ ،‬وأنا عجوز كبرية ‪ ،‬ما يب من خدمة ‪ ،‬فمن علي ‪ ،‬من اهلل‬
‫عليك ‪ .‬فقال ‪:‬من وافدك ؟‪ ،‬قالت ‪ :‬عدي بن حامت ‪ ،‬قال ‪:‬الذي فر من اهلل ورسوله ؟‬
‫‪-‬وكررت عليه القول ثالثة أيام‪ -‬قالت ‪ :‬فمن علي ‪ ،‬وسألته احلمالن ‪ ،‬فأمر هلا به وكساها‬
‫ومحلها وأعطاها نفقة ‪.‬‬
‫فأتتين ‪ ،‬فقالت ‪ :‬لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها ‪ .‬ائته راغباً أو راهباً‪ ،‬فقد أتاه فالن‬
‫فأصاب منه ‪ ،‬وأتاه فالن وأصاب منه ‪ .‬قال ‪ :‬فأتيته ‪ ،‬وهو جالس يف املسجد ‪ ،‬فقال القوم ‪:‬‬
‫هذا عدي بن حامت ‪-‬وجئت بغري أمان وال كتاب‪ -‬فأخذ بيدي ‪-‬وكان قبل ذلك قال ‪ :‬إين‬

‫‪149‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫ألرجو أن جيعل اهلل يده يف يدي‪ -‬فقام إيل ‪ ،‬فلقيته امرأة ومعها صيب ‪ ،‬فقاال ‪ :‬إن لنا إليك‬
‫حاجة‪ ،‬فقام معهما حىت قضى حاجتهما ‪ .‬مث أخذ بيدي حىت أتى داره ‪ ،‬فألقت له الوليدة‬
‫وسادة‪ .‬فجلس عليها ‪ ،‬وجلست بني يديه‪ .‬فحمد اهلل وأثىن عليه ‪ ،‬مث قال ‪ :‬ما يفرك ؟ أيفرك‬
‫أن تقول ال إله إال اهلل ؟ فهل تعلم من إله سوى اهلل ؟ فقلت ‪ :‬ال ‪ ،‬فتكلم ساعة ‪ .‬مث قال ‪:‬‬
‫أيفرك أن يقال ‪ :‬اهلل أكرب ؟ وهل تعلم شيئاً أكرب من اهلل ؟ قلت ‪ :‬ال ‪ ،‬قال ‪ :‬فإن اليهود‬
‫مغضوب عليهم ‪ ،‬والنصارى ضالون‪ ،‬فقلت ‪ :‬فإين حنيف مسلم ‪ .‬فرأيت وجهه ينبسط فرحاً‬
‫‪.‬‬
‫مث أمر يب فأنزلت عند رجل من األنصار ‪ ،‬وجعلت آتيه طريف النهار ‪ .‬فبينا أنا عنده ‪ ،‬إذ جاءه‬
‫قوم يف ثياب من صوف من هذه النمار ‪ ،‬فصلى مث قام ‪ .‬فحث بالصدقة عليهم ‪ ،‬وقال‪":‬أيها‬
‫الناس ‪ ،‬أرضخوا من الفضل ولو بصاع ‪ ،‬ولو بنصف صاع ‪ ،‬ولو بقبضة‪ ،‬ولو ببعض قبضة ‪،‬‬
‫يقي أحدكم وجهه حر جهنم ‪-‬أو النار‪ -‬ولو بتمرة ‪ ،‬ولو بشق مترة ‪ .‬فإن مل جتدوا فبكلمة‬
‫طيبة ‪ ،‬فإن أحدكم الق اهلل ‪ ،‬فقائل له ما أقول لكم ‪ :‬أمل أجعل لك ماالً وولداً ؟ فيقول ‪:‬‬
‫بلى ‪ ،‬فيقول ‪ :‬أين ما قدمت لنفسك ؟ فينظر قدامه وخلفه ‪ ،‬وعن ميينه وعن مشاله ‪ ،‬فال جيد‬
‫شيئاً يقي به وجهه حر جهنم ‪ ،‬ليق أحدكم وجهه النار ‪ ،‬ولو بشق مترة ‪ ،‬فإن مل جيد فبكلمة‬
‫طيبة‪ .‬فإين ال أخاف عليكم الفاقة‪ .‬فإن اهلل ناصركم ومعطيكم ‪ ،‬حىت تسري الظعينة ما بني‬
‫يثرب واحلرية ‪ ،‬ما ختاف على مطيتها السرق" ‪.‬‬
‫فجعلت أقول ‪ :‬فأين لصوص طيء ‪.‬‬

‫قصة كعب بن زهير ‪:‬‬


‫قال ابن إسحاق ‪ :‬ملا قدم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من الطائف كتب جبري بن زهري إىل‬
‫أخيه كعب خيربه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد قتل رجاالً مبكة ممن كان يهجوه‬
‫ويؤذيه ‪ ،‬وأن من بقي من شعراء قريش ‪ -‬ابن الزبعرى ‪ ،‬وهبرية بن أيب وهب‪ -‬قد هربوا يف‬
‫كل وجه ‪ .‬فإن كان لك يف نفسك حاجة فطر إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فإنه ال‬
‫يقتل أحداً جاءه تائباً ‪ .‬وإن أنت مل تفعل فانج إىل جنائبك ‪ .‬وكان قد قال ‪:‬‬
‫‪150‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫فهل لك فيما قلت؟ وحيك هل لكا؟‬ ‫أال أبلغا عين جبريا رسالة‬
‫على أي شئ غري ذلك دلكا؟‬ ‫فبني لنا إن كنت لست بفاعل‬
‫عليه ومل تلف عليه أخاً لكا‬ ‫على خلق مل تلف أماً وال أباً‬
‫وال قائل إما عثرت‪ :‬لعا لكا‬ ‫فإن أنت مل تفعل فلست بآسف‬
‫وأهنلك املأمون منها وعلكا‬ ‫سقاك هبا املأمون كأساً روية‬
‫فلما أتت جبرياً كره أن يكتمها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ :‬سقاك هبا املأمون ‪ ،‬صدق واهلل ‪ ،‬وإنه لكذوب ‪ ،‬أنا املأمون ‪ ،‬وملا مسع ‪ :‬على‬
‫خلق مل تلف أماً وال أباً عليه ‪ ،‬قال ‪ :‬أجل مل يلف عليه أباه وال أمه ‪.‬‬
‫مث قال جبري بن زهري ‪:‬‬
‫تلوم عليها باطالً وهي أحزم؟‬ ‫من مبلغ كعباً فهل لك يف اليت‬
‫فتنجو إذا كان النجاء وتسلم‬ ‫إىل اهلل‪-‬ال العزى وال الالت‪-‬وحده‬
‫من الناس إال طاهر القلب مسلم‬ ‫لدى يوم ال ينجو وليس مبفلت‬
‫ودين أيب سلمى علي حمرم‬ ‫فدين زهيـ ــر‪-‬وهو ال شئ‪-‬دينه‬
‫فلما بلغ كعباً ضاقت عليه األرض ‪ ،‬وأشفق على نفسه ‪ ،‬فلما مل جيد من شئ بداً ‪ ،‬قال‬
‫قصيدته اليت ميدح فيها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬مث خرج حىت قدم املدينة ‪ .‬فنزل على‬
‫رجل كان بينه وبينه معرفة ‪ .‬فغدا به إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فذكر يل أنه قام‬
‫فجلس إليه ‪-‬وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ال يعرفه‪ -‬فقال ‪ :‬يا رسول اهلل ! إن‬
‫كعب بن زهري قد جاء ليستأمنك تائباً مسلماً ‪ ،‬فهل أنت قابل منه ‪ ،‬إن أنا جئتك به ؟ قال ‪:‬‬
‫نعم ‪ ،‬قال ‪ :‬أنا كعب بن زهري ‪.‬‬
‫قال ابن إسحاق ‪ :‬فحدثين عاصم بن عمر بن قتادة ‪ :‬أنه وثب عليه رجل من األنصار ‪ .‬فقال‬
‫‪ :‬يا رسو ل اهلل ! دعين وعدو اهلل أضرب عنقه ‪ .‬فقال ‪ :‬دعه عنك ‪ ،‬فقد جاء تائباً نازعاً‬
‫عما كان عليه‪ ،‬فغضب كعب على هذا احلي من األنصار‪ ،‬وذلك أنه مل يتكلم فيه رجل من‬
‫املهاجرين إال خبري ‪ ،‬فقال قصيدته اليت أوهلا ‪:‬‬

‫‪151‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫متيم إثرها مل يفد مكبول‬ ‫بانت سعاد فقليب اليوم متبول‬


‫ومنها ‪:‬‬
‫إال العتاق النجيبات املراسيل‬ ‫أمست سعاد بأرض ال يبلغها‬
‫إىل أن قال ‪:‬‬
‫إنك يا ابن أيب سلمى ملقتول‬ ‫تسعى الغواة جنابيها وقوهلم‬
‫ال أهلينك إين عنك مشغول‬ ‫وقال كل صديق كنت آمله‬
‫فكل ما قدر الرمحن مفعول‬ ‫فقلت‪ :‬خلوا سبيلي ال أبا لكم‬
‫والعفو عند رسول اهلل مأمول‬ ‫نبئت أن رسول اهلل أوعدين‬
‫الـقرآن فيها مواعيظ وتفصيل‬ ‫مهالً هداك الذي أعطاك نافلة‬
‫ببطن مكة ملا أسلموا زولوا‬ ‫يف فتية من قريش قال قائلهم‬
‫عند اللقاء وال ميل معازيل‬ ‫زالوا فما زال أنكاس وال كشـف‬
‫ضرب إذا عرد السود التنابيل‬ ‫ميشون مشي اجلمال الزهر يعصمهم‬
‫من نسج داود يف اهليجا سرابيل‬ ‫شم العرانني أبطال لبوسهم‬
‫قوماً وليسوا جمازيعاً إذا نيلوا‬ ‫ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم‬
‫وما هلم عن حياض املوت هتليل‬ ‫ال يقع الطعن إال يف حنورهم‬
‫قال عاصم بن عمر ‪ :‬فلما قال ‪ :‬إذا عرد السود التنابيل‪ ،‬وإمنا عنانا معشر األنصار ‪ ،‬فقال بعد‬
‫أن أسلم ميدح األنصار ‪:‬‬
‫يف مقنب من صاحل األنصار‬ ‫من سره كرم احلياة فال يزل‬
‫إن اخليار هم بنو األخيار‬ ‫ورثوا املكارم كابراً عن كابر‬
‫باملشريف وبالقنا اخلطار‬ ‫الذائدين الناس عن أدياهنم‬
‫للموت يوم تعانق وكرار‬ ‫والبائعني نفوسهم لنبيهـم‬
‫كاجلمر غري كليلة األبصار‬ ‫والناظرين بأعني حممـرة‬
‫يوم اهلياج وفتنــة الكفــار‬ ‫والباذلني نفوسهم لنبيهم‬

‫‪152‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫بدماء من علقوا من الكفار‬ ‫يتطهرون يرونه نسكاً هلم‬


‫للطارقني النازلني مقاري‬ ‫قوم إذا خوت النجوم فإهنم‬

‫فصل في غزوة تبوك ‪:‬‬


‫قال ابن إسحاق ‪ :‬كانت يف زمان عسرة من الناس ‪ ،‬وجدب من البالد ‪ ،‬حني طابت الثمار ‪،‬‬
‫فالناس حيبون املقام يف مثارهم وظالهلم ‪ ،‬وكان صلى اهلل عليه وسلم قلما خيرج من غزوة إال‬
‫ورى بغريها ‪ ،‬إال ما كان منها ‪ ،‬فإنه جالها للناس لبعد الشقة ‪ ،‬وشدة الزمان ‪.‬‬
‫فقال ذات يوم ‪-‬وهو يف جهازه‪ -‬للجد بن قيس ‪ :‬هل لك يف جالد بين األصفر؟‪ ،‬فقال ‪ :‬يا‬
‫رسول اهلل ! أو تأذن يل وال تفتين ؟ فقد عرف قومي أنه ما من رجل أشد عجباً بالنساء مين‪،‬‬
‫وإين أخشى إن رأيت نساء بين األصفر ‪ ،‬أن ال أصرب ‪ ،‬فقال ‪ :‬قد أذنت لك ‪ ،‬ففيه نزلت ‪" :‬‬
‫ومنهم من يقول ائذن يل وال تفتين " ‪.‬‬
‫وقال قوم من املنافقني ‪ ،‬بعضهم لبعض ‪ :‬ال تنفروا يف احلر ‪ ،‬فنزل ‪ " :‬وقالوا ال تنفروا يف احلر‬
‫قل نار جهنم أشد حرا " ‪.‬‬
‫مث إن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حض أهل الغىن [على النفقة ‪ ،‬فحمل رجال من أهل‬
‫الغىن] واحتسبوا ‪ ،‬وأنفق عثمان ثالمثائة بعري بأحالسها ‪ ،‬وأقتاهبا وعدهتا ‪ ،‬وألف دينار عيناً ‪.‬‬
‫وجاء البكاؤون ‪-‬وهم سبعة‪ -‬يستحملون رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فقال ‪ :‬ال أجد‬
‫ما أمحلكم عليه ‪ ،‬تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ‪ ،‬أن ال جيدوا ما ينفقون ‪.‬‬
‫وقام علبة بن زيد ‪ ،‬فصلى من الليل وبكى ‪ ،‬مث قال ‪" :‬اللهم إنك أمرت باجلهاد ‪ ،‬ورغبت فيه‬
‫‪ ،‬مث مل جتعل عندي ما أتقوى به مع رسولك ‪ ،‬ومل جتعل يف يد رسولك ما حيملين عليه ‪ .‬وإين‬
‫أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابين فيها ‪ :‬من مال ‪ ،‬أو جسد أو عرض ‪ ،‬مث أصبح‬
‫مع الناس ‪ .‬فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬أين املتصدق هذه الليلة؟ [فلم يقم إليه أحد ‪ ،‬مث‬
‫قال ‪ :‬أين املتصدق ‪ ،‬فليقم]‪ ،‬فقام إليه فأخربه ‪ ،‬فقال صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬أبشر ‪ ،‬فوالذي‬
‫نفس حممد بيده ‪ ،‬لقد كتبت يف الزكاة املتقبلة" ‪.‬‬
‫وجاء املعذرون من األعراب ليؤذن هلم ‪ ،‬فلم يعذرهم ‪.‬‬
‫‪153‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫واستخلف على املدينة حممد بن مسلمة األنصاري ‪ ،‬فلما سار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫‪ ،‬ختلف عبد اهلل بن أيب ومن كان معه ‪ ،‬وختلف نفر من املسلمني من غري شك وال ارتياب‬
‫‪ ،‬منهم الثالثة ‪ -‬كعب بن مالك ‪ ،‬وهالل بن أمية ‪ ،‬ومرارة بن الربيع‪ -‬وأبو خيثمة الساملي ‪،‬‬
‫وأبو ذر ‪ ،‬مث حلقاه ‪ .‬وشهدها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف ثالثني ألفاً من الناس ‪،‬‬
‫واخليل عشرة آالف فرس ‪ ،‬وأقام هبا عشرين ليلة يقصر الصالة ‪ ،‬وهرقل يومئذ حبمص ‪.‬‬
‫قال ابن إسحاق ‪" :‬وملا خرج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬خلف علياً على أهله ‪ .‬فقال‬
‫املنافقون ‪ :‬ما خلفه إال استثقاالً له ‪ ،‬وختففاً منه ‪ ،‬فأخذ سالحه وحلق به باجلرف ‪ .‬فقال ‪ :‬يا‬
‫نيب اهلل ! زعم املنافقون أنك ما خلفتين إال استثقاالً ‪ .‬فقال ‪ :‬كذبوا ‪ ،‬ولكين خلفتك ملا‬
‫تركت ورائي ‪ ،‬فارجع فاخلفين يف أهلي وأهلك ‪ ،‬أو ال ترضى أن تكون مين مبنزلة هارون‬
‫من موسى ؟ إال أنه ال نيب بعدي" ‪ ،‬فرجع ‪.‬‬
‫ودخل أبو خيثمة إىل أهله يف يوم حار ‪ ،‬بعدما سار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أياماً ‪،‬‬
‫فوجد امرأتني له يف عريشني هلما يف حائط ‪ ،‬قد رشت كل واحدة منهما عريشها ‪ ،‬وبردت‬
‫له ماء ‪ ،‬وهيأت له طعاماً ‪ .‬فلما دخل قام على باب العريش ‪ ،‬فنظر إىل امرأتيه وما صنعتا ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬رسول اهلل يف الضح ‪ ،‬والريح واحلر ‪ ،‬وأبو خيثمة يف ظل بارد ‪ ،‬وطعام مهيأ‪ ،‬وامرأة‬
‫حسناء ؟ ما هذا بالنصف ‪ ،‬مث قال ‪ .‬واهلل ال أدخل عريش واحدة منكما حىت أحلق برسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فهيئا يل زاداً ‪ ،‬ففعلتا ‪ .‬مث قدم ناضحه فارحتله ‪ ،‬مث خرج حىت‬
‫أدرك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حني نزل تبوك ‪.‬‬
‫وقد كان عمري بن وهب اجلمحي أدرك أبا خيثمة يف الطريق فرتافقا ‪ ،‬حىت إذا دنوا من تبوك‬
‫‪ ،‬قال أبو خيثمة له ‪ :‬إن يل ذنباً ‪ ،‬فال عليك أن تتخلف عين حىت آيت رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬ففعل ‪ ،‬حىت إذا دنا من رسول اهلل ‪ ،‬قال الناس ‪ :‬هذا راكب على الطريق مقبل‬
‫‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬كن أبا خيثمة‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول اهلل ! هو واهلل أبو‬
‫خيثمة ‪ .‬فلما أناخ أقبل فسلم على رسول اهلل ‪ ،‬فقال له ‪ :‬أوىل لك يا أبا خيثمة‪ ،‬فأخربه اخلرب‬
‫‪ ،‬فقال له خرياً ‪ ،‬ودعا له ‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وقد "كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬ملا مر باحلجر ‪-‬من ديار مثود‪ -‬قال ‪ :‬ال تدخلوا‬
‫على هؤالء القوم املعذبني ‪ ،‬إال أن تكونوا باكني ‪ ،‬فإن مل تكونوا باكني فال تدخلوا عليهم ‪،‬‬
‫ال يصيبكم مثل ما أصاهبم" ‪.‬‬
‫وقال ‪" :‬ال تشربوا من مائها شيئاً ‪ ،‬وال تتوضؤوا منه للصالة ‪ ،‬وما كان من عجني عجنتموه‬
‫فاعلفوه اإلبل وال تأكلوا منه شيئاً ‪ ،‬وأمرهم ‪ :‬أن يهريقوا املاء ‪ ،‬وأن يستقوا من البئر اليت‬
‫كانت تردها الناقة" ‪.‬‬
‫ويف صحيح مسلم "عن أيب محيد الساعدي ‪ ،‬قال ‪ :‬انطلقنا حىت قدمنا تبوك ‪ ،‬فقال رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬ستهب عليكم الليلة ريح شديدة ‪ ،‬فال يقم أحد منكم‪ ،‬فهن كان له‬
‫بعري فليشد عقاله‪ ،‬فهبت ريح شديدة ‪ ،‬فقام رجل ‪ ،‬فحملته الريح حىت ألقته حببلي طيئ" ‪.‬‬
‫قال ابن إسحاق ‪" :‬وأصبح الناس وال ماء معهم ‪ .‬فشكوا ذلك إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬فدعا اهلل‪ ،‬فأرسل اهلل سحابة‪ ،‬فأمطرت حىت ارتوى الناس ‪ ،‬واحتملوا حاجتهم من‬
‫املاء" ‪.‬‬
‫مث سار حىت إذا كان ببعض الطريق جعلوا يقولون ‪ :‬ختلف فالن ‪ ،‬فيقول ‪ :‬دعوه ‪ ،‬فإن يك‬
‫فيه خري فسيلحقه اهلل بكم ‪ ،‬وإن يك غري ذلك فقد أراحكم اهلل منه ‪.‬‬
‫وتلوم على أيب ذر بعريه ‪ ،‬فلما أبطأ عليه أخذ متاعه على ظهره مث خرج يتبع أثر رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ماشياً ‪.‬‬
‫و"نزل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف بعض منازله ‪ ،‬فنظر ناظر املسلمني فقال ‪ :‬يا رسول‬
‫اهلل ! إن هذا الرجل ميشي على الطريق ‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬كن أبا ذر‪،‬‬
‫فلما تأملوه ‪ ،‬قالوا ‪ :‬يا رسول اهلل ! هو واهلل أبو ذر‪ .‬فقال ‪ :‬رحم اهلل أبا ذر ‪ ،‬ميشي وحده ‪،‬‬
‫وميوت وحده ‪ ،‬ويبعث وحده" ‪.‬‬
‫ويف صحيح ابن حبان عن أم ذر قالت ‪" :‬ملا حضرت أبا ذر الوفاة بكيت ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما يبكيك‬
‫؟ فقلت ‪ :‬وما يل ال أبكي ‪ ،‬وأنت متوت بفالة من األرض ‪ ،‬وليس عندي ثوب يسعك كفناً‬
‫‪ ،‬وال يدان يل يف تغيبك ؟ فقال ‪ :‬أبشري وال تبكي ‪ ،‬فإين مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه‬

‫‪155‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وسلم يقول لنفر ‪-‬وأنا فيهم‪: -‬ليموتن رجل منكم بفالة من األرض ‪ ،‬يشهده عصابة من‬
‫املسلمني ‪ ،‬وليس من أولئك النفر أحد إال وقد مات يف قرية ومجاعة ‪ ،‬فأنا ذلك الرجل ‪،‬‬
‫فواهلل ما كذبت وال كذبت ‪ ،‬فأبصري الطريق ‪ .،‬فكنت أشتد إىل الكثيب أتبصر ‪ ،‬مث أرجع‬
‫فأمرضه‪ .‬فبينا أنا وهو كذلك‪ ،‬إذا أنا برجال على رحاهلم‪ ،‬كأهنم الرخم ختب هبم رواحلهم ‪،‬‬
‫قالت ‪ :‬فأشرت إليهم ‪ .‬فأسرعوا إيل حىت وقفوا علي ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬يا أمة اهلل ! ما لك؟ قلت ‪:‬‬
‫امرؤ من املسلمني ميوت تكفنوه ‪ .‬قالوا ‪ :‬من هو ؟ قلت ‪ :‬أبو ذر ‪ ،‬قالوا ‪ :‬صاحب رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم؟ قلت ‪ :‬نعم ‪ ،‬ففدوه بآبائهم وأمهاهتم ‪ ،‬وأسرعوا إيل حىت دخلوا‬
‫عليه ‪ .‬فقال هلم ‪ :‬أبشروا ‪ ،‬فإين مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪-‬وذكر احلديث ‪ -‬مث‬
‫قال ‪ :‬وإنه لو كان عندي ثوب يسعين كفناً يل والمرأيت مل أكفن إال يف ثوب هو يل ‪ ،‬أو هلا‬
‫‪ ،‬فإين أنشدكم اهلل أن ال يكفنين رجل منكم كان أمرياً أو عريفاً ‪ ،‬أو بريداً أو نقيباً ‪ .‬وليس‬
‫من أولئك النفر أحد إال وقد قارف بعض ما قال إال فىت من األنصار ‪ .‬قال ‪ :‬يا عم ‪ ،‬أنا‬
‫أكفنك يف ردائي هذا ‪ .‬ويف ثويب يف عيبيت من غزل أمي ‪ ،‬قال ‪ :‬فأنت تكفين ‪ ،‬فكفنه‬
‫األنصاري ‪ ،‬وأقاموا عليه ودفنوه يف نفر كلهم ميان" ‪.‬‬
‫وملا انتهى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل تبوك أتاه صاحب أيلة ‪ .‬فصاحله وأعطاه اجلزية‬
‫‪ ،‬وأتاه أهل جرباء وأذرح فأعطوه اجلزية ‪ ،‬وكتب هلم كتاباً فهو عندهم ‪.‬‬
‫مث بعث خالد بن الوليد إىل أكيدر دومة ‪ ،‬وقال خلالد ‪ :‬إنك جتده يصيد البقر ‪ ،‬فخرج خالد‬
‫‪ ،‬حىت إذا كان من حصنه مبنظر العني يف ليلة مقمرة ‪-‬وهو على سطح له‪ -‬فبانت البقر حتك‬
‫بقروهنا باب القصر‪ .‬فقالت له امرأته ‪ :‬هل رأيت مثل هذا قط ؟ قال‪ :‬ال واهلل‪ ،‬قالت ‪ :‬فمن‬
‫يرتك مثل هذه ؟ قال ‪ :‬ال أحد ‪ .‬مث نزل فأمر بفرسه فأسرج له ‪ ،‬وركب معه نفر من أهل بيته‬
‫‪ .‬فلما خرجوا تلقتهم خيل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فأخذته وقتلوا أخاه ‪ ،‬وقدم به‬
‫خالد على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فحقن له دمه ‪ ،‬وصاحله على اجلزية ‪ ،‬مث خلى‬
‫سبيله ‪ ،‬فرجع إىل قريته ‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫قال ابن إسحاق ‪ :‬فأقام رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بتبوك بضع عشرة ليلة ‪ ،‬مث انصرف‬
‫إىل املدينة ‪ .‬قال ‪ :‬وحدثين حممد بن إبراهيم بن احلرث التميمي ‪ :‬أن ابن مسعود كان حيدث‬
‫‪ ،‬قال ‪ :‬قمت من جوف الليل ‪ ،‬وأنا مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف غزوة تبوك ‪،‬‬
‫فرأيت شعلة من نار يف ناحية العسكر ‪ ،‬فأتبعتها أنظر إليها ‪ ،‬فإذا رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم وأبو بكر وعمر ‪ ،‬وإذا عبد اهلل ذو البجادين ‪-‬والبجاد الكساء األسود‪ -‬املزين قد مات‬
‫‪ ،‬وإذا هم قد حفروا له‪ ،‬ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف حفرته ‪ ،‬وأبو بكر وعمر ‪،‬‬
‫يدليانه إليه ‪ ،‬وهو يقول ‪ :‬أدليا إيل أخاكما ‪ ،‬فأدلياه إليه‪ .‬فلما هيأه لشقه ‪ ،‬قال ‪ :‬اللهم إين‬
‫قد أمسيت راضياً عنه ‪ ،‬فأرض عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬يقول عبد اهلل بن مسعود ‪ :‬يا ليتين كنت صاحب‬
‫احلفرة ‪.‬‬
‫وأقبل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من تبوك ‪ ،‬حىت كان بينه وبني املدينة ساعة ‪ ،‬وكان‬
‫أصحاب مسجد الضرار أتوه ‪-‬وهو يتجهز إىل تبوك‪ -‬فقالوا ‪ :‬يا رسول اهلل ! إنا بنينا‬
‫مسجداً لذي العلة واحلاجة ‪ ،‬والليلة املطرية ‪ ،‬وإنا حنب أن تصلي فيه ‪ ،‬فقال ‪ :‬إين على جناح‬
‫سفر ‪ ،‬ولو قدمنا إن شاء اهلل ألتيناكم ‪.‬‬
‫فلما نزل بذي أوان ‪ ،‬جاءه خرب املسجد من السماء ‪ ،‬فدعا مالك بن الدخشم ومعن بن‬
‫عدي ‪ ،‬فقال ‪:‬أنطلقا إىل هذا املسجد الظامل أهله ‪ ،‬فاهدماه ‪ ،‬وحرقاه ‪ ،‬فخرجا مسرعني حىت‬
‫أتيا بين سامل بن عوف ‪-‬وهم رهط مالك بن الدخشم‪ -‬فقال ملعن ‪ :‬أنظرين حىت أخرج إليك‬
‫بنار من أهلي ‪ .‬فدخل إىل أهله ‪ ،‬فأخذ سعفاً من النخل ‪ .‬فأشعل فيه ناراً ‪ ،‬مث خرجا يشتدان‬
‫حىت دخاله ‪-‬وفيه أهله‪ -‬فحرقاه وهدماه ‪ .‬وأنزل اهلل سبحانه ‪ " :‬والذين اختذوا مسجدا‬
‫ضرارا وكفرا وتفريقا بني املؤمنني " إىل قوله ‪ " :‬واهلل عليم حكيم " ‪.‬‬
‫قال ابن عباس يف اآلية ‪ :‬هم أناس من األنصار ابتنوا مسجداً‪ ،‬فقال هلم أبو عامر الفاسق ‪:‬‬
‫ابنوا مسجدكم ‪ ،‬واستمدوا ما استطعتم من قوة ومن سالح ‪ ،‬فإين ذاهب إىل قيصر ملك‬
‫الروم ‪ ،‬فآت جبند من الروم ‪ ،‬فأخرج حممداً وأصحابه‪ .‬فلما فرغوا من بنائه‪ ،‬أتوا النيب صلى‬
‫اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬إنا قد فرغنا من بناء مسجدنا ‪ ،‬وحنب أن تصلي فيه ‪ ،‬وتدعو‬

‫‪157‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫بالربكة ؟ فأنزل اهلل عز وجل ‪ " :‬ال تقم فيه أبدا " إىل قوله ‪ " :‬ال يزال بنياهنم الذي بنوا ريبة‬
‫يف قلوهبم " ‪ ،‬يعين الشك ‪ " ،‬إال أن تقطع قلوهبم " يعين باملوت ‪.‬‬
‫وملا دنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من املدينة ‪ ،‬خرج الناس لتلقيه ‪ ،‬والنساء والصبيان‬
‫والوالئد يقلن ‪:‬‬
‫من ثنيات الوداع‬ ‫طلع البـدر علينا‬
‫ما دعـا للـه داع‬ ‫وجب الشكر علينا‬
‫وكانت غزوة تبوك أخر غزوة غزاها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بنفسه ‪ ،‬وأنزل اهلل فيها‬
‫سورة براءة ‪.‬‬
‫وكانت تسمى يف زمان النيب صلى اهلل عليه وسلم وبعده املبعثرة‪ ،‬ملا كشفت من سرائر‬
‫املنافقني وخبايا قلوهبم ‪.‬‬
‫ويف غزوة تبوك ‪ :‬كانت قصة ختلف كعب بن مالك ‪ ،‬ومرارة بن الربيع ‪ ،‬وهالل بن أمية‬
‫الواقفي ‪-‬ممن شهدوا بدراً‪ -‬ومل يكن هلم عذر يف التخلف عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫‪ .‬فلما عاد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل املدينة ‪ ،‬جاء املعذرون من األعراب من‬
‫املنافقني ‪ ،‬حيلفون أهنم كانوا معذورين ‪ ،‬فقبل منهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ .‬وأرجأ‬
‫كعب بن مالك وصاحبيه حىت أنزل اهلل يف شأهنم ويف توبتهم ‪-‬وكانوا من خيار املؤمنني‪" : -‬‬
‫لقد تاب اهلل على النيب واملهاجرين واألنصار الذين اتبعوه يف ساعة العسرة من بعد ما كاد‬
‫يزيغ قلوب فريق منهم مث تاب عليهم إنه هبم رؤوف رحيم * وعلى الثالثة الذين خلفوا "‬
‫اآليتني ‪ ،‬خلفهم اهلل وأخر توبتهم ليمحصهم ويطهرهم من ذنب تأخرهم ‪ ،‬ألهنم كانوا من‬
‫الصادقني ‪.‬‬

‫وفود العرب إلى رسول اهلل ‪:‬‬


‫وملا فرغ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من تبوك ‪ ،‬وأسلمت ثقيف ‪ ،‬ضربت إليه أكباد‬
‫اإلبل ‪ ،‬حتمل وفود العرب من كل وجه ‪ ،‬يف سنة تسع ‪ ،‬وكانت تسمى سنة الوفود ‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫قال ابن إسحاق ‪ :‬وإمنا كانت العرب تربص باإلسالم أمر هذا احلي من قريش ‪ ،‬وأمر رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬
‫وذلك ‪ :‬أن قريشاً كانوا إمام الناس وهداهتم ‪ ،‬وأهل البيت واحلرم ‪ ،‬وصريح ولد إمساعيل‬
‫عليه السالم ‪ ،‬وقادة العرب ال ينكرون ذلك ‪ .‬وكانت قريش هي اليت نصبت حلرب رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ .‬فلما افتتحت مكة ‪ ،‬ودانت له قريش ‪ ،‬عرفت العرب أن ال طاقة‬
‫هلم حبرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وال عداوته ‪ ،‬فدخلوا يف دين اهلل أفواجاً ‪ .‬كما‬
‫قال اهلل تعاىل‪ " :‬إذا جاء نصر اهلل والفتح * ورأيت الناس يدخلون يف دين اهلل أفواجا *فسبح‬
‫حبمد ربك واستغفره إنه كان توابا " ‪.‬‬

‫وفد بني تميم ‪:‬‬


‫فقدم عليه عطارد بن حاجب التميمي ‪ ،‬يف أشراف من بين متيم ‪ ،‬جاؤوا يف أسرى بين متيم ‪،‬‬
‫الذين أخذهتم سرية عيينة بن حصن الفزاري يف احملرم من هذه السنة ‪ .‬وكان عيينة قد أخذ‬
‫أحد عشر رجالً ‪ ،‬وإحدى وعشرين امرأة ‪ ،‬وثالثني صبياً ‪ ،‬وساقهم إىل املدينة ‪ ،‬فقدم‬
‫رؤساء بين متيم فيهم ‪ .‬فلما دخلوا املسجد ‪ ،‬نادوا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من وراء‬
‫احلجرات ‪-‬وهو يف بيته‪ -‬أن اخرج إلينا ‪ ،‬فآذى ذلك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فأنزل‬
‫اهلل فيهم ‪ " :‬إن الذين ينادونك من وراء احلجرات أكثرهم ال يعقلون* ولو أهنم صربوا حىت‬
‫خترج إليهم لكان خريا هلم واهلل غفور رحيم " ‪.‬‬
‫فلما خرج إليهم قالوا ‪ :‬جئنا لنفاخرك ‪ ،‬فائذن لشاعرنا وخطيبنا ‪ ،‬قال ‪ :‬أذنت خلطيبكم ‪،‬‬
‫فقام عطارد ‪ ،‬فخطب فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لثابت بن قيس بن مشاس ‪ :‬قم ‪،‬‬
‫فأجب الرجل‪ ،‬فقام ثابت فخطب وأجابه ‪ .‬وقام الزبرقان بن بدر فقال ‪:‬‬
‫منا امللوك وفينا تنصب البيع‬ ‫حنن الكرام فال حي يعادلنا‬
‫عند النهاب وفضل العز يتبع‬ ‫وكم قسرنا من األحياء كلهم‬
‫من الشواء إذا مل يؤنس القزع‬ ‫وحنن يطعم عند القحط مطعمنا‬
‫إىل أن قال ‪:‬‬
‫‪159‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫إال كذلك عند الفخر نرتفع‬ ‫إنا أبينا ومل يأىب لنا أحد‬
‫يف أبيات ذكرها ‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حلسان ‪ :‬قم فأجب الرجل فقام ‪،‬‬
‫فقال ‪:‬‬
‫قد بينوا سنناً للناس تتبع‬ ‫إن الذوائب من فهر وإخوهتم‬
‫تقـوى اإلله وكل اخلري يصطنع‬ ‫يرضى هبا كل من كانت سريرته‬
‫أو حاولوا النفع يف أشياعهم‪ :‬نفعوا‬ ‫قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم‬
‫إن اخلالئق فاعلم شرها البدع‬ ‫سجية تلك منهم غري حمدثة‬
‫فكل سبق ألدىن سبقهم تبع‬ ‫إن كان يف الناس سباقون بعدهم‬
‫إىل أن قال ‪:‬‬
‫وال ميسهم من مطمع طبع‬ ‫ال يبخلون على جار بفضلهم‬
‫وإن أصيبوا فال خور وال هلع‬ ‫ال يفخرون إذا نالوا عدوهم‬
‫إذا الزعانف من أظفارها خشعوا‬ ‫نسمو إذا احلرب نالتنا خمالبها‬
‫إىل أن قال ‪:‬‬
‫إذا تفرقت األهواء والشيع‬ ‫أكرم بقوم رسول اهلل شيعتهم‬
‫فيما حيب لسان حائك صنع‬ ‫أهدي هلم مدحيت قلت ووزاره‬
‫وقال الزبرقان أيضاً ‪:‬‬
‫إذا احتفلوا عند احتضار املواسم‬ ‫آتيناك كيما يعلم الناس فضلنا‬
‫وأن ليس يف أرض احلجاز كدارم‬ ‫فإنا ملوك الناس يف كل موطن‬
‫ونضرب رأس األغيد املتفاخم‬ ‫وإنا نذود املعلمني إذا انتخوا‬
‫تغري بنجد أو بأرض األعاجم‬ ‫وأن لنا املرباع يف كل غارة‬
‫فأجابه حسان بن ثابت رضي اهلل عنه ‪:‬‬
‫وجاه امللوك واحتمال العظائم؟‬ ‫هل اجملد إال السؤدد العود والندى‬
‫على أنف راض من معذ وراغم‬ ‫نصرنا وآوينا النيب حممداً‬

‫‪160‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫إىل أن قال ‪:‬‬


‫على دينه باملرهفات الصوارم‬ ‫وحنن ضربنا الناس حىت تتابعوا‬
‫ولدنا نيب اخلري من آل هاشم‬ ‫وحنن ولدنا من قريش عظيمها‬
‫يعود وباالً عند ذكر املكارم‬ ‫بين دارم ال تفخروا إن فخركم‬
‫لنا خول ما بني ظئر وخادم‬ ‫هبلتم علينا تفخزون ؟ وأنتم‬
‫وأموالكم‪ :‬أن تقسموا يف املقاسم‬ ‫فإن كنتم جئتم حلقن دمائكم‬
‫وال تلبسوا زياً كزي األعاجم‬ ‫فال جتعلوا هلل نداً وأسلموا‬
‫فلما فرغ حسان ‪ ،‬قال األقرع بن حابس ‪ :‬إن هذا الرجل ملؤتى‪ ،‬خلطيبه أخطب من خطيبنا‪،‬‬
‫ولشاعره أشعر من شاعرنا‪ ،‬وألصواهتم أحلى من أصواتنا ‪ .‬فلما فرغ القوم أسلموا ‪،‬‬
‫وجوزهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فأحسن جوائزهم ‪.‬‬

‫وفد طيء ‪:‬‬


‫وقدم على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وفد طيء ‪ ،‬فيهم زيد اخليل ‪-‬وهو سيدهم‪-‬‬
‫فعرض عليهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم اإلسالم فأسلموا وحسن إسالمهم ‪.‬‬
‫قال ابن إسحاق ‪ :‬وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪-‬كما حدثين من ال أهتم من رجال‬
‫طيء‪ : -‬ما ذكر يل رجل من العرب بفضل ‪ ،‬مث جاءين ‪ ،‬إال رأيته دون ما يقال فيه ‪ ،‬إال زيد‬
‫اخليل ‪ .‬فإنه مل يبلغ كل ما فيه ‪ ،‬مث مساه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬زيد اخلري ‪ ،‬وأقطعه‬
‫فيداً وأرضني معه ‪ ،‬وكتب له بذلك كتاباً ‪ .‬فخرج من عنده راجعاً إىل قومه ‪ ،‬فلما انتهى‬
‫إىل ماء من مياه جند ‪-‬يقال له ‪ :‬فردة‪ -‬أصابته احلمى هبا فمات ‪ ،‬فعمدت امرأته إىل ما كان‬
‫معه من الكتب اليت أقطع له هبا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فحرقتها بالنار ‪.‬‬

‫وفد عبد القيس ‪:‬‬


‫وقدم على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم اجلارود العبدي يف وفد عبد القيس ‪ ،‬وكان‬
‫نصرانياً ‪ .‬فقال ‪ :‬يا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إين على ديين ‪ ،‬وإين تارك ديين لدينك ‪.‬‬
‫‪161‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫فتضمن يل مبا فيه ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬أنا ضامن لذلك ‪ ،‬إن الذي أدعوك إليه خري من الذي كنت‬
‫عليه ‪ ،‬فأسلم وأسلم أصحابه ‪ .‬فكان حسن اإلسالم صلباً يف دينه ‪ ،‬حىت هلك ‪ ،‬وقد أدرك‬
‫الردة ‪.‬‬
‫وكان يف الوفد األشج‪ ،‬الذي "قال له رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬إن فيك خلصلتني‬
‫حيبهما اهلل ‪ :‬احللم ‪ ،‬واألناة " ‪.‬‬
‫وقد كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعث العالء بن احلضرمي ‪-‬قبل فتح مكة‪ -‬إىل املنذر‬
‫بن ساوى العبدي ‪ ،‬فأسلم وحسن إسالمه ‪ .‬مث هلك بعد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪،‬‬
‫قبل ردة أهل البحرين ‪ .‬والعالء عنده أمرياً لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على البحرين ‪.‬‬

‫وفد بني حنيفة ‪ :‬فيهم مسيلمة ‪:‬‬


‫وقدم على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وفد بين حنيفة‪ ،‬فيهم مسيلمة الكذاب ‪ ،‬فأتوه‬
‫وخلفوا مسيلمة يف رحاهلم ‪ ،‬فلما أسلموا ذكروا مكانه ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬يا رسول اهلل ! إنا خلفنا‬
‫صاحباً لنا يف رحالنا حيفظها لنا ‪ .‬فأمر له مبثل ما أمر به للقوم ‪ ،‬وقال ‪ :‬أما إنه ليس بشركم‬
‫مكاناً ‪ ،‬يعين ‪ :‬حلفظه ضيعة أصحابه ‪ .‬مث انصرفوا فلما انتهوا إىل اليمامة ‪ ،‬ارتد عدو اهلل‬
‫وتنبأ‪ ،‬وقال ‪ :‬إين أشركت يف األمر معه ‪ .‬وقال للوفد‪ :‬أمل يقل لكم ‪ :‬أما إنه ليس بشركم‬
‫مكاناً ‪ ،‬ما ذاك إال ملا كان يعلم أين أشركت يف األمر معه ‪ .‬مث جعل يسجع هلم السجعات ‪،‬‬
‫مضاهاة للقرآن‪ ،‬وهو مع ذلك يشهد لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بالنبوة‪.‬‬
‫وكتب لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬من مسيلمة رسول اهلل إىل حممد رسول اهلل ‪ ،‬أما‬
‫بعد ‪ ،‬فإين أشركت يف األمر معك ‪ .‬وإن لنا نصف األرض ولقريش نصفها ‪ ،‬ولكن قريشاً‬
‫قوم ال يعدلون ‪.‬‬
‫فكتب إليه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬من حممد رسول اهلل ‪ ،‬إىل مسيلمة الكذاب ‪،‬‬
‫السالم على من اتبع اهلدى ‪ ،‬أما بعد ‪ ،‬فإن األرض هلل يورثها من يشاء من عباده ‪ ،‬والعاقبة‬
‫للمتقني ‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وقال للرجلني اللذين أتيا بكتابه ‪ :‬ما تقوالن أنتما؟ فقاال ‪ :‬نقول كما قال ‪" ،‬فقال ‪ :‬أما واهلل‬
‫‪ ،‬لوال أن الرسل ال تقتل ‪ ،‬لضربت رقابكما" ‪ ،‬وذلك يف آخر سنة عشر ‪.‬‬
‫حجة أبي بكر بالناس ‪:‬‬
‫مث أقام رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعد رجوعه من تبوك ‪-‬بقية رمضان وشوال وذي‬
‫القعدة‪ -‬مث بعث أبا بكر رضي اهلل عنه أمرياً على احلج ليقيم للناس حجهم ‪ .‬وأهل الشرك‬
‫على دينهم ومنازهلم من حجهم ‪ .‬فخرج أبو بكر يف ثالمثائة من املدينة ‪ .‬وبعث معه رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعشرين بدنة ‪ .‬قلدها وأشعرها بيده ‪ ،‬مث نزلت سورة براءة يف نقض‬
‫ما بني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وبني املشركني من العهد الذي كانوا عليه ‪ ،‬فأرسل هبا‬
‫علي بن أيب طالب على ناقته العضباء ‪ ،‬ليقرأ براءة على الناس ‪ .‬وينبذ إىل كل ذي عهد عهده‬
‫‪ ،‬فلما لقي أبا بكر قال له ‪ :‬أمري ‪ ،‬أو مأمور ؟ فقال علي ‪ :‬بل مأمور‪ ،‬فلما كان يوم النحر‬
‫قام علي بن أيب طالب ‪ ،‬فقال ‪" :‬يا أيها الناس ! ال يدخل اجلنة كافر ‪ ،‬وال حيج بعد العام‬
‫مشرك ‪ ،‬وال يطوف بالبيت عريان ‪ .‬ومن كان له عهد عند رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫فهو إىل مدته" ‪.‬‬

‫حجة الوداع ‪:‬‬


‫فلما دخل ذو القعدة ‪ ،‬جتهز رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم للحج ‪ ،‬وأمر الناس باجلهاز له ‪،‬‬
‫وأمرهم أن يلقوه‪ .‬فخرج معه من كان حول املدينة وقريباً منها ‪ .‬وخرج املسلمون من القبائل‬
‫القريبة والبعيدة حىت لقوه يف الطريق ‪ ،‬ويف مكة ‪ ،‬ويف مىن وعرفات ‪ .‬وجاء علي من اليمن‬
‫مع أهل اليمن ‪ ،‬وهي حجة الوداع ‪.‬‬
‫فخرج هلا خلمس بقني من ذي القعدة يف آخر سنة عشر ‪ ،‬فمضى رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬وساق معه اهلدي ‪ .‬فأرى الناس مناسكهم‪ ،‬وعلمهم سنن حجهم‪ ،‬وهو يقول هلم‬
‫ويكرر عليهم القول ‪:‬يا أيها الناس ! خذوا عين مناسككم‪ ،‬فلعلكم ال تلقوين بعد عامكم هذا‬
‫‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫و"ملا كان مبىن خطب الناس خطبته اليت بني فيها ما بني ‪ ،‬فحمد اهلل وأثىن عليه ‪ ،‬مث قال ‪:‬أيها‬
‫الناس ‪ ،‬امسعوا قويل‪ ،‬فإين ال أدري ‪ ،‬لعلي ال ألقاكم بعد عامي هذا ‪ .‬أيها الناس ‪ ،‬إن‬
‫دماءكم وأموالكم وأغراضكم عليكم حرام إىل أن تلقوا ربكم ‪ .‬وكل رباً موضوع ‪ ،‬وأول‬
‫رباً أضعه ‪ :‬ربا العباس بن عبد املطلب ‪ ،‬فإنه موضوع كله ‪ .‬وإن كل دم يف اجلاهلية موضوع‬
‫‪ ،‬وأول دم أضعه دم [ابن] ربيعة بن احلارث بن عبد املطلب ‪ ،‬وإين تركت فيكم ما إن‬
‫اعتصمتم به ما لن تضلوا بعده ‪-‬كتاب اهلل‪ -‬وأنتم مسؤولون عين ‪ ،‬فما أنتم قائلون ؟ قالوا ‪:‬‬
‫نشهد أنك قد بلغت ‪ ،‬وأديت ‪ ،‬ونصحت ‪ .‬فجعل يرفع إصبعه إىل السماء ‪ ،‬وينكبها إليهم ‪،‬‬
‫ويقول ‪ :‬اللهم اشهد ‪-‬ثالث مرات" ‪.‬‬
‫وكانت هذه احلجة تسمى حجة الوداع ‪ ،‬ألنه صلى اهلل عليه وسلم مل حيج بعدها ‪.‬‬
‫فلما انقضى حجه ‪ ،‬رجع إىل املدينة ‪ ،‬فأقام صلى اهلل عليه وسلم بقية ذي احلجة واحملرم‬
‫وصفر ‪.‬‬
‫مث ابتدأ برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وجعه الذي مات فيه يف آخر صفر ‪.‬‬

‫بعث أسامة بن زيد إلى البلقاء ‪:‬‬


‫وملا كان يوم االثنني ألربع ليال بقني من صفر سنة إحدى عشرة ‪ .‬أمر رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم الناس بالتهيؤ لغزو الروم ‪ ،‬فلما كان من الغد دعا أسامة بن زيد ‪ ،‬وأمره أن يسري‬
‫إىل موضع مقتل أبيه زيد بن حارثة ‪ ،‬وأن يوطىء اخليل ختوم البلقاء والداروم من أرض‬
‫فلسطني ‪ ،‬فتجهز الناس ‪ ،‬وأوعب مع أسامة املهاجرون واألنصار ‪.‬‬
‫مث استبطأ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الناس يف بعث أسامة ‪-‬وهو يف وجعه‪ -‬فخرج‬
‫عاصباً رأسه حىت جلس على املنرب‪-‬وكان املنافقون قد قالوا يف إمارة أسامة ‪ :‬أمر غالماً حدثاً‬
‫على جلة املهاجرين واألنصار ‪ .‬فغضب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم غضباً شديداً ‪،‬‬
‫وخرج عاصباً رأسه ‪-‬وكان قد بدأ به الوجع‪ -‬فصعد املنرب "فحمد اهلل وأثىن عليه ؟ مث قال ‪:‬‬
‫أيها الناس‪ ،‬أنفذوا بعث أسامة ‪ ،‬فلئن طعنتم يف إمارته فقد طعنتم يف إمارة أبيه ‪ .‬وأمي اهلل إن‬

‫‪164‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫كان خلليقاً لإلمارة ‪ ،‬وإن كان أبوه ملن أحب الناس إيل وإن هذا ملن أحب الناس إيل من‬
‫بعده" ‪ ،‬مث نزل ‪.‬‬
‫وانكمش الناس يف جهازهم ‪ ،‬فاشتد برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وجعه ‪ .‬وخرج أسامة‬
‫جبيشه ‪ ،‬فعسكر باجلرف ‪ ،‬وتتام إليه الناس ‪ ،‬فأقاموا لينظروا ما اهلل تبارك وتعاىل قاض يف‬
‫رسوله صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬
‫مرض رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪:‬‬
‫قال ابن إسحاق ‪ :‬حدثت عن أسامة ‪ ،‬قال ‪ :‬ملا ثقل برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪،‬‬
‫هبطت وهبط الناس معي إىل املدينة ‪ ،‬فدخلت على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وقد‬
‫أصمت ‪ ،‬فال يتكلم ‪ .‬وجعل يرفع يده إىل السماء مث يضعها علي ‪ ،‬أعرف أنه يدعو يل ‪.‬‬
‫قال ابن إسحاق ‪ :‬وحدث عن أيب مويهبة ! موىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫بعثين رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من جوف الليل ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا أبا مويهبة ! قد أمرت أن‬
‫أستغفر ألهل هذا البقيع ‪ ،‬فانطلق معي ‪ .‬فانطلقت معه ‪ ،‬فلما وقف عليهم ‪ ،‬قال ‪ :‬السالم‬
‫عليكم ‪ -‬يا أهل املقابر ! ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه ‪ .‬أقبلت الفنت مثل‬
‫قطع الليل املظلم ‪ ،‬يتبع آخرها أوهلا ‪ ،‬اآلخرة شر من األوىل ‪ .‬مث أقبل علي ‪ ،‬فقال ‪ :‬إين قد‬
‫أعطيت مفاتيح خزائن الدنيا واخللد فيها [مث اجلنة]‪ ،‬فخريت بني ذلك وبني لقاء ريب واجلنة ‪.‬‬
‫فقلت ‪ :‬بأيب أنت وأمي ‪ ،‬فخذ مفاتيح خزائن الدنيا واخللد فيها ‪ ،‬مث اجلنة قال ‪ :‬ال واهلل ‪ ،‬يا‬
‫أبا مويهبة! قد اخرتت لقاء ريب واجلنة ‪ .‬مث استغفر ألهل البقيع ‪ ،‬مث انصرف‪.‬‬
‫فبدأ به وجعه ‪ ،‬فلما استعز به ‪ ،‬دعا نساءه فاستأذهنن ‪ :‬أن ميرض يف بيت عائشة رضي اهلل‬
‫عنها ‪ ،‬فأذن له ‪.‬‬
‫وعن أيب سعيد اخلدري رضي اهلل عنه قال ‪" :‬خطب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫إن اهلل خري عبداً بني الدنيا وبني ما عنده ‪ ،‬فاختار ذلك العبد ما عند اهلل‪ ،‬فبكى أبو بكر ‪،‬‬
‫فتعجبنا لبكائه ‪ :‬أن خيرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن عبد خري ! فكان رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم هو املخري ‪ .‬وكان أبو بكر أعلمنا ‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬

‫‪165‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫‪ :‬إن من أمن الناس علي يف صحبته وماله ‪ :‬أبو بكر ‪ ،‬ولو كنت متخذاً خليالً ‪-‬غري ريب‪-‬‬
‫الختذت أبا بكر خليالً‪ ،‬ولكن أخوة اإلسالم ومودته ‪ .‬ال يبقني يف املسجد باب إال سد ‪ ،‬إال‬
‫باب أيب بكر" ‪.‬‬
‫ويف الصحيح ‪" :‬أن ابن عباس وأبا بكر مرا مبجلس لألنصار ‪ ،‬وهم يبكون‪ .‬فقاال‪ :‬ما يبكيكم‬
‫؟ قالوا ‪ :‬ذكرنا جملس رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم منا ‪ ،‬فدخل على النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم فأخربه بذلك ‪ ،‬فخرج ‪ ،‬وقد عصب على رأسه حباشية برد ‪ .‬فصعد املنرب ‪-‬ومل يصعده‬
‫بعد ذلك اليوم‪ -‬فحمد اهلل وأثىن عليه ‪ ،‬مث قال ‪ :‬أوصيكم باألنصار خرياً ‪ ،‬فإهنم كرشي‬
‫وعيبيت وقد قضوا الذي عليهم ‪ ،‬وبقي الذي هلم ‪ .‬فاقبلوا من حمسنهم ‪ ،‬وجتاوزوا عن‬
‫مسيئهم" ‪،‬‬
‫ويف الصحيح عن أيب موسى األشعري قال ‪" :‬اشتد مرض رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬مروا أبا بكر ‪ ،‬فليصل بالناس‪ .‬قالت عائشة ‪ :‬يا رسول اهلل ! إنه رجل رقيق ‪ ،‬إذا قام‬
‫مقامك ال يسمع الناس ‪ ،‬فلو أمرت عمر ؟ قال ‪ :‬مروا أبا بكر فليصل بالناس ‪ ،‬فعادت ‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬مروا أبا بكر فليصل بالناس ‪ ،‬فإنكن صواحب يوسف ‪ ،‬فأتاه الرسول ‪ .‬فصلى بالناس‬
‫يف حياة النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬قالت ‪ :‬وواهلل ما أقول إال أين أحب أن يصرف ذلك عن‬
‫أيب بكر ‪ ،‬وعرفت أن الناس ال حيبون رجالً قام مقامه أبداً ‪ ،‬وأن الناس سيتشاءمون به يف كل‬
‫حدث كان ‪ .‬فكنت أحب أن يصرف ذلك عن أيب بكر" ‪.‬‬

‫موت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪:‬‬


‫قال الزهري ‪ :‬حدثين أنس قال ‪" :‬كان يوم اإلثنني الذي قبض فيه رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬خرج إىل الناس ‪ ،‬وهم يصلون الصبح ‪ ،‬فرفع السرت وفتح الباب ‪ .‬فخرج رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فقام على باب عائشة ‪ .‬فكاد املسلمون يفتتنون يف صالهتم ‪-‬فرحاً به‬
‫‪ ،‬حني رأوه ‪ ،‬وتفرجوا عنه‪ -‬فأشار إليهم ‪ :‬أن اثبتوا على صالتكم ‪ ،‬قال ‪ :‬وتبسم رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم سروراً ‪ ،‬ملا رأى من هيأهتم يف صالهتم ‪ .‬وما رؤي أحسن منه هيئة تلك‬
‫الساعة ‪ .‬قال ‪ :‬مث رجع ‪ ،‬وانصرف الناس ‪ ،‬وهم يرون أنه قد أفرق من وجعه ‪ .‬وخرج أبو‬
‫‪166‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫بكر إىل أهله بالسنح ‪ .‬فتويف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حني اشتد الضحى من ذلك‬
‫اليوم" ‪.‬‬
‫قال ابن إسحاق ‪ :‬قال الزهري ‪ :‬حدثين سعيد بن املسيب عن أيب هريرة قال ‪" :‬ملا تويف‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قام عمر ‪ ،‬فقال ‪ :‬إن رجاالً من املنافقني يزعمون أن رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد تويف ‪ ،‬وإن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم واهلل ما مات‪ ،‬ولكنه‬
‫قد ذهب إىل ربه ‪ ،‬كما ذهب موسى بن عمران فقد غاب عن قومه أربعني ليلة‪ ،‬مث رجع‬
‫إليهم بعد أن قيل مات‪ .‬وواهلل لريجعن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعد حني ‪ ،‬كما رجع‬
‫موسى ‪ ،‬فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه قد مات" ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وأقبل أبو بكر ‪ ،‬حىت نزل على باب املسجد ‪ .‬حني بلغه اخلرب ‪-‬وعمر يكلم الناس‪-‬‬
‫فلم يلتفت إىل شئ ‪ ،‬حىت دخل على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف بيت عائشة ‪،‬‬
‫ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مسجى يف ناحية البيت ‪ ،‬عليه بردة حربة ‪ .‬فأقبل حىت‬
‫كشف عن وجهه ‪ .‬مث أقبل عليه فقبله ‪ .‬مث قال ‪ :‬بأيب أنت وأمي ‪ ،‬أما املوتة اليت كتبها اهلل‬
‫عليك فقد ذقتها ‪ ،‬مث لن تصيبك بعدها موتة أبداً ‪ .‬مث رد الربد على وجهه ‪ .‬وخرج ‪-‬وعمر‬
‫يكلم الناس‪ -‬فقال ‪ :‬على رسلك يا عمر ‪ ،‬أنصت ‪ ،‬فأىب إال أن يتكلم ‪ .‬فلما رآه أبو بكر ال‬
‫ينصت أقبل على الناس ‪ .‬فلما مسع الناس كالم أيب بكر أقبلوا عليه ‪ ،‬وتركوا عمر ‪ .‬فحمد اهلل‬
‫تعاىل ‪ ،‬وأثىن عليه ‪ ،‬مث قال ‪ :‬أيها الناس ‪ ،‬إنه من كان يعبد حممداً ‪ ،‬فإن حممداً قد مات ‪.‬‬
‫ومن كان يعبد اهلل تعاىل ‪ ،‬فإن اهلل حي ال ميوت ‪ .‬مث تال هذه اآلية ‪ " :‬وما حممد إال رسول‬
‫قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن‬
‫يضر اهلل شيئا وسيجزي اهلل الشاكرين " ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فو اهلل لكأن الناس مل يعلموا أن هذه اآلية نزلت ‪ ،‬حىت تالها أبو بكر يومئذ ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫وأخذها الناس عن أيب بكر ‪ ،‬فإمنا هي يف أفواههم ‪.‬‬
‫قال أبو هريرة ‪" :‬فقال عمر ‪ :‬فو اهلل ما هو إال أن مسعت أبا بكر تالها ‪ ،‬فعثرت حىت وقعت‬
‫على األرض ‪ ،‬ما حتملين رجالي ‪ ،‬وعرفت أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد مات" ‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫حديث السقيفة ‪:‬‬


‫فلما قبض رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬احناز هذا احلي من األنصار إىل سعد بن عبادة يف‬
‫سقيفة بين ساعدة ‪ .‬واعتزل علي بن أيب طالب والزبري بن العوام ‪ ،‬وطلحة بن عبيد اهلل يف‬
‫بيت فاطمة ‪ .‬واحناز بقية املهاجرين إىل أيب بكر [واحناز معهم أسيد بن حضري يف بين عبد‬
‫األشهل ‪ ،‬فأتى آت إىل أيب بكر وعمر]‪ ،‬فقال ‪ :‬إن هذا احلي من األنصار مع سعد بن عبادة‬
‫يف سقيفة بين ساعدة قد احنازوا إليه ‪ ،‬فإن كان لكم بأمر الناس من حاجة ‪ ،‬فأدركوا الناس‬
‫قبل أن يتفاقم أمرهم ‪ ،‬ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف بيته مل يفرغ من أمره ‪ ،‬قد أغلق‬
‫دونه الباب أهله ‪ .‬فقال عمر أليب بكر ‪ :‬انطلق بنا إىل إخواننا هؤالء من األنصار‪ ،‬حىت ننظر‬
‫ماهم عليه ‪.‬‬
‫قال ابن إسحاق ‪ :‬وكان من حديث السقيفة ‪ :‬أن عبد اهلل بن أيب بكر حدثين عن حممد بن‬
‫شهاب الزهري عن عبيد اهلل بن عبد اهلل بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬أخربين‬
‫عبد الرمحن بن عوف قال ‪- :‬وكنت يف منزله مبىن أنتظره ‪ ،‬وهو عند عمر يف آخر حجة‬
‫حجها عمر‪ -‬قال ‪ :‬فرجع عبد الرمحن من عند عمر ‪ ،‬فوجدين مبنزله مبىن أنتظره ‪ ،‬وكنت‬
‫أقرئه القرآن ‪[ .‬قال ابن عباس] ‪ :‬فقال يل [عبد الرمحن بن عوف] ‪ :‬لو رأيت رجالً أتى أمري‬
‫املؤمنني ‪ ،‬فقال ‪ :‬هل لك يف فالن ؟ يقول ‪ :‬واهلل لو قد مات عمر لقد بايعت فالناً‪ ،‬واهلل ما‬
‫كانت بيعة أيب بكر إال فلتة فتمت ‪ .‬قال ‪ :‬فغضب عمر ‪ ،‬وقال ‪ :‬إين ‪-‬إن شاء اهلل‪ -‬لقائم‬
‫العشية يف الناس ‪ ،‬فمحذرهم من هؤالء الذين يريدون أن يغصبوهم أمرهم ‪ ،‬قال عبد الرمحن‬
‫‪ :‬فقلت ‪ :‬يا أمري املؤمنني ! ال تفعل ‪ ،‬فإن املوسم جيمع رعاع الناس وغوغاءهم ‪ ،‬وإهنم الذين‬
‫يغلبون على قربك حني تقوم يف الناس ‪ .‬وإين أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطري هبا أولئك‬
‫عنك كل مطري ‪ ،‬وال يعوها وال يضعوها على مواضعها ‪ .‬فأمهل ‪ ،‬حىت تقدم املدينة ‪ .‬فإهنا‬
‫دار السنة ‪ ،‬وختلص بأهل الفقه وأشراف الناس ‪ ،‬فتقول ما قلت باملدينة متمكناً ‪ ،‬فيعي أهل‬
‫الفقه مقالتك ‪ ،‬ويضعوها على مواضعها ‪ .‬فقال عمر ‪ :‬أما واهلل ‪-‬إن شاء اهلل‪ -‬ألقومن بذلك‬
‫أول مقام أقومه باملدينة ‪.‬‬

‫‪168‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫قال ابن عباس ‪ :‬فقدمنا املدينة يف عقب ذي احلجة‪ ،‬فلما كان يوم اجلمعة ‪ ،‬عجلت الرواح‬
‫حني زالت الشمس ‪ ،‬فأجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالساً إىل ركن املنرب ‪ ،‬فجلست‬
‫حذوه ‪ ،‬متس ركبتاي ركبتيه ‪ ،‬فلم أنشب أن خرج عمر ‪ ،‬فما رأيته مقبالً‪ ،‬فقلت لسعيد ‪:‬‬
‫ليقولن العشية على هذا املنرب مقالة مل يقلها منذ استخلف ‪ .‬فأنكر علي سعيد بن زيد ذلك ‪.‬‬
‫وقال ‪ :‬وما عسى أن يقول مما مل يقل قبله ؟ فجلس عمر على املنرب ‪.‬‬
‫فلما سكت املؤذن ‪ ،‬فقام ‪ .‬فأثىن على اهلل مبا هو أهله ‪ ،‬مث قال ‪ :‬أما بعد ‪ ،‬فإين قائل لكم‬
‫مقالة قد قدر يل أن أقوهلا ‪ ،‬وال أدري لعلها بني يدي أجلي ؟ فمن عقلها ووعاها فليأخذ هبا‬
‫حيث انتهت به راحلته ‪ .‬ومن خشي أن ال يعيها ‪ ،‬فال أحل ألحد أن يكذب علي ‪ .‬إن اهلل‬
‫بعث حممداً صلى اهلل عليه وسلم باحلق ‪ ،‬وأنزل عليه الكتاب ‪ ،‬فكان مما أنزل عليه ‪ :‬آية‬
‫الرجم ‪ ،‬فقرأناها وعلمناها ووعيناها ‪ .‬ورجم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ورمجنا بعده ‪.‬‬
‫فأخشى ‪-‬إن طال بالناس زمان‪ -‬أن يقول قائل ‪ :‬واهلل ما جند آية الرجم يف كتاب اهلل ‪،‬‬
‫فيضلوا برتك فريضة قد أنزهلا اهلل ‪ .‬وإن الرجم يف كتاب اهلل ‪ ،‬حق على من زىن ‪ ،‬إذا أحصن‬
‫‪ ،‬من الرجال والنساء إذا قامت البينة ‪ ،‬أو كان احلبل أو االعرتاف ‪ .‬مث إنا قد كنا نقرأ فيما‬
‫نقرأ من الكتاب ‪" :‬الترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم ‪-‬أو كفر لكم‪ -‬أن ترغبوا عن آبائكم‬
‫‪ ،‬أال إن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال ‪ :‬ال تطروين كما أطري عيسى ابن مرمي ‪ .‬فإمنا‬
‫أنا عبد ‪ ،‬فقولوا ‪ :‬عبد اهلل ورسوله"‪ ،‬مث إنه قد بلغين أن فالناً قال ‪ :‬لو قد مات عمر بن‬
‫اخلطاب لقد بايعت فالناً‪ .‬فال يغرتن امرؤ يقول ‪ :‬إن بيعة أيب بكر كانت فلتة فتمت ‪ .‬أال‬
‫وإهنا واهلل قد كانت كذلك ‪ ،‬إال أن اهلل وقى شرها ‪ .‬وليس فيكم من تنقطع دونه األعناق‬
‫إليه مثل أيب بكر ‪ ،‬فمن بايع رجالً عن غري مشورة املسلمني ‪ ،‬فإنه ال بيعة له هو ‪ ،‬وال الذي‬
‫بايعه ‪ ،‬تغرة أن يقتال ‪ .‬إنه كان من خربنا ‪-‬حني توىف اهلل نبيه حممداً صلى اهلل عليه وسلم‪-‬‬
‫أن األنصار خالفونا‪ ،‬فاجتمعوا بأشرافهم يف سقيفه بين ساعدة‪ .‬وختلف عنا علي بن أيب طالب‬
‫والزبري بن العوام ‪ ،‬ومن معهما ‪ .‬واجتمع املهاجرون إىل أيب بكر ‪ .‬فقلت أليب بكر ‪ :‬انطلق‬
‫بنا إىل إخواننا هؤالء األنصار ‪ .‬فانطلقنا نؤمهم ‪ ،‬حىت لقينا منهم رجالن صاحلان ‪ ،‬فذكرا لنا‬

‫‪169‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫ما متاأل عليه القوم ‪ .‬وقاال لنا ‪ :‬أين تريدون يا معاشر املهاجرين ؟ قلنا ‪ :‬نريد إخواننا هؤالء‬
‫من األنصار ‪ .‬فقاال ‪ :‬ال عليكم ‪ ،‬أال تقربوهم يا معشر املهاجرين ‪ ،‬اقضوا أمركم‪ .‬قال‪ :‬قلت‬
‫‪ :‬واهلل لنأتينهم‪ .‬فانطلقنا ‪ ،‬حىت أتيناهم يف سقيفة بين ساعدة ‪ .‬فإذا بني ظهرانيهم رجل مزمل‬
‫‪ ،‬فقلت ‪ :‬من هذا ؟ قالوا ‪ :‬سعد بن عبادة ‪ ،‬قلت ‪ :‬ما له ؟ قالوا ‪ :‬وجع‪ .‬فلما جلسنا ‪،‬‬
‫تشهد خطيبهم‪ .‬فأثىن على اهلل عز وجل مبا هو له أهل ‪ ،‬مث قال ‪ :‬أما بعد ‪ ،‬فنحن أنصار اهلل ‪،‬‬
‫وكتيبة اإلسالم ‪ ،‬وأنتم يا معشر املهاجرين ‪ ،‬رهط منا ‪ ،‬وقد دفت دافة من قومكم ‪ ،‬قال‪:‬‬
‫وإذا هم يريدون أن خيتارونا من أصلنا ‪ ،‬ويغتصبونا األمر‪ .‬فلما سكت أردت أن أتكلم ‪-‬وقد‬
‫زورت يف نفسي مقالة قد أعجبتين ‪ ،‬أريد أن أقدمها بني يدي أيب بكر‪ .‬وكنت أداري منه‬
‫بعض احلد ‪ .‬فقال أبو بكر‪ :‬على رسلك يا عمر‪ .‬فكرهت أن أعصيه ‪ .‬فتكلم ‪-‬وهو كان‬
‫أعلم مين وأحكم وأحلم وأوقر‪ -‬فواهلل ما ترك من كلمة أعجبتين من تزويري إال قاهلا يف‬
‫بديهته ‪ ،‬أو أفضل ‪ ،‬حىت سكت ‪ .‬فقال ‪ :‬أما بعد ‪ ،‬فما ذكرمت فيكم من خري ‪ ،‬فأنتم له أهل‬
‫‪ .‬ولن تعرف العرب هذا األمر إال هلذا احلي من قريش ‪ .‬هم أوسط العرب نسباً وداراً ‪ .‬وقد‬
‫رضيت لكم أحد هذين الرجلني ‪ ،‬فبايعوا اآلن أيهما شئتم ‪ .‬فأخذ بيدي ‪ ،‬وبيد أيب عبيدة‬
‫عامر بن اجلراح ‪-‬وهو جالس بيننا‪ -‬فلم أكره شيئاً مما قال غريها ‪ ،‬كان واهلل أن أقدم‬
‫فتضرب عنقي ال يقربين ذلك إىل إمث ‪ ،‬أحب إيل من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر ‪ .‬قال ‪:‬‬
‫فقال قائل من األنصار ‪ :‬أنا جذيلها احملكك وعذيقها املرجب ‪ ،‬منا أمري ومنكم أمري ‪ ،‬يا‬
‫معشر قريش ‪ .‬قال ‪ :‬فكثر اللغط ‪ ،‬وارتفعت األصوات‪ ،‬حىت خشينا االختالف ‪ .‬فقلت ‪:‬‬
‫ابسط يدك يا أبا بكر ‪ .‬فبسطها ‪ ،‬فبايعته ‪ .‬مث بايعه املهاجرون ‪ ،‬مث بايعه األنصار ‪ .‬ونزونا‬
‫على سعد بن عبادة ‪ ،‬فقال قائل منهم ‪ :‬قتلتم سعد بن عبادة ‪ .‬قال ‪ :‬قتل اهلل سعد بن عبادة ‪.‬‬

‫بيعة العامة ألبي بكر ‪:‬‬


‫وملا بويع أبو بكر يف السقيفة ‪ ،‬وكان الغد ‪ ،‬جلس أبو بكر على املنرب ‪ .‬فقام عمر قبل أيب‬
‫بكر فتكلم فحمد اهلل ‪ ،‬وأثىن عليه مبا هو أهله ‪ ،‬مث قال ‪ :‬أيها الناس ‪ .‬إين قد قلت لكم‬
‫باألمس مقالة ‪ ،‬ما كانت وما وجدهتا يف كتاب اهلل ‪ .‬وال كانت عهداً عهده إيل رسول اهلل‬
‫‪170‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫صلى اهلل عليه وسلم ‪ .‬ولكين قد كنت أرى أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم سيدبر أمرنا‬
‫‪-‬يقول ‪ :‬يكون آخرنا‪ -‬وإن اهلل قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى رسوله صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ .‬فإن اعتصمتم به هداكم اهلل ملا كان هدى له رسوله ‪ .‬إن اهلل قد مجعكم على خريكم‬
‫‪-‬صاحب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وثاين اثنني إذ مها يف الغار‪ -‬فقوموا فبايعوه ‪.‬‬
‫فبايع الناس أبا بكر البيعة العامة ‪ ،‬بعد بيعة السقيفة ‪.‬‬
‫مث تكلم أبو بكر رضي اهلل عنه ‪ ،‬فحمد اهلل ‪ ،‬وأثىن عليه بالذي هو أهله ‪ ،‬مث قال ‪ :‬أما بعد ‪،‬‬
‫أيها الناس ‪ ،‬فإين قد وليت عليكم ‪ ،‬ولست خبريكم ‪ ،‬فإن أحسنت فأعينوين ‪ .‬وإن أسأت‬
‫فقوموين ‪ .‬الصدق أمانة ‪ ،‬والكذب خيانة ‪ ،‬والضعيف فيكم قوي عندي ‪ ،‬حىت أريح عليه‬
‫حقه ‪ ،‬إن شاء اهلل ‪ .‬والقوي فيكم ضعيف عندي ‪ ،‬حىت آخذ احلق منه ‪ ،‬إن شاء اهلل ‪ .‬ال‬
‫يدع قوم اجلهاد يف سبيل اهلل إال ضرهبم اهلل بالذل‪ .‬وال تشيع الفاحشة يف قوم قط إال عمهم‬
‫اهلل بالبالء‪ .‬أطيعوين ما أطعت اهلل ورسوله ‪ .‬فإذا عصيت اهلل ورسوله ‪ ،‬فال طاعة يل عليكم ‪.‬‬

‫فضيلة أبي بكر الصديق‪ W‬وخالفته الراشدة ‪:‬‬


‫وعن ربيعة ‪-‬أحد الصحابة‪ -‬رضي اهلل عنهم قال ‪ :‬قلت أليب بكر رضي اهلل عنه ‪ :‬ما محلك‬
‫على أن تلي أمر الناس ‪ ،‬وقد هنيتين أن أتأمر على اثنني ؟ قال ‪ :‬مل أجد من ذلك بداً ‪،‬‬
‫خشيت على أمة حممد الفرقة ‪ ،‬ويف رواية ‪ :‬ختوفت أن تكون فتنة ‪ ،‬تكون بعدها ردة ‪.‬‬
‫وعن عائشة رضي اهلل عنها ‪ ،‬قالت ‪ :‬ملا تويف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم اشرأب النفاق ‪،‬‬
‫وارتدت العرب ‪ ،‬واحنازت األنصار‪ .‬فلو نزل باجلبال الراسيات ‪ ،‬ما نزل بأيب هلاضها ‪ .‬فما‬
‫اختلفوا يف نقطة إال طار أيب بفضلها ‪.‬‬
‫وعن أيب هريرة رضي اهلل عنه قال ‪:‬والذي ال إله إال هو ‪ ،‬لوال أن أبا بكر استخلف‪ ،‬ما عبد‬
‫اهلل ‪-‬مث قال الثانية‪ -‬مث قال الثالثة‪ -‬فقيل له ‪ :‬مه ‪ ،‬يا أبا هريرة ‪ ،‬فقال ‪ :‬إن رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم وجه أسامة بن زيد يف سبعمائة إىل الشام ‪ .‬فلما نزل بذي خشب س قبض‬
‫رسول اهلل ‪ ،‬وارتدت العرب ‪ ،‬واجتمع إليه الصحابة ‪ .‬فقالوا ‪ :‬رد هؤالء ‪ ،‬توجه هؤالء إىل‬
‫الروم ‪ ،‬وقد ارتدت العرب حول املدينة ؟ فقال ‪ :‬والذي ال إله إال هو ‪ ،‬لو جرت الكالب‬
‫‪171‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫بأرجل أزواج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬ما رددت جيشاً وجهه رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬وال حللت لواء عقده ‪ .‬فوجه أسامة ‪ ،‬فجعل ال مير بقبائل يريدون االرتداد ‪ ،‬إال‬
‫قالوا ‪ :‬لو ال أن هلؤالء قوة ‪ ،‬ما خرج مثل هؤالء من عندهم ‪ .‬ولكن ندعهم حىت يلقوا الروم‬
‫‪ .‬فلقوا الروم ‪ ،‬فهزموهم ‪ ،‬ورجعوا ساملني ‪ ،‬فثبتوا على اإلسالم ‪ ،‬وهلل احلمد ‪.‬‬

‫قصة الردة ‪ -‬أعاذنا اهلل منها ‪: -‬‬


‫قد تقدم من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إخباره بالفنت الكائنة بعده ‪ ،‬وإنذاره عنها ‪،‬‬
‫وإخباره خاصة عن الردة ‪.‬‬
‫من ذلك ‪ :‬ما يف الصحيح عن أيب سعيد اخلدري رضي اهلل عنه ‪":‬أن رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم قال ‪ :‬بينا أنا نائم رأيت يف يدي سوارين من ذهب ‪ ،‬فكرهتهما ‪ .‬فنفختهما فطارا ‪،‬‬
‫فأولتهما كذابني خيرجان" ‪.‬‬
‫وعن عبد اهلل بن مسعود رضي اهلل عنه قال ‪" :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬ثالث‬
‫من جنا منهن فقد جنا ‪ :‬من مويت ‪ ،‬ومن قتل خليفة مصطرب باحلق معطيه ‪ ،‬ومن الدجال" ‪.‬‬
‫ويف الصحيح عن أيب هريرة رضي اهلل عنه قال ‪" :‬ملا تويف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫وكان أبو بكر‪ ،‬وكفر من كفر من العرب ‪ ،‬قال عمر أليب بكر ‪ :‬كيف تقاتل الناس ‪ ،‬وقد‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬أمرت أن أقاتل الناس ‪ ،‬حىت يقولوا‪ :‬ال إله إال اهلل ‪ ،‬فإذا‬
‫قالوها عصموا مين دماءهم وأمواهلم ‪ ،‬إال حبقها؟‪ ،‬فقال أبو بكر ‪ :‬فإن الزكاة من حقها ‪.‬‬
‫واهلل ألقاتلن من فرق بني الصالة والزكاة ‪ ،‬واهلل لو منعوين عناقاً كانوا يؤدوهنا إىل رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم لقاتلتهم على منعها ‪ .‬قال عمر ‪ :‬فما هو إال أن رأيت اهلل قد شرح صدر‬
‫أيب بكر للقتال ‪ ،‬فعرفت أنه احلق ‪ .‬قال عمر ‪ :‬واهلل لرجح إميان أيب بكر بإميان هذه األمة‬
‫مجيعاً يف قتال أهل الردة" ‪.‬‬
‫وذكر يعقوب بن سعيد بن عبيد ‪ ،‬وحممد بن مسلم بن شهاب الزهري عن مجاعة قالوا ‪ :‬كان‬
‫أبو بكر أمري الشاكرين ‪ :‬الذين ثبتوا على دينهم ‪ ،‬وأمري الصابرين ‪ :‬الذين صربوا على جهاد‬

‫‪172‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫عدوهم ‪-‬وهم أهل الردة‪ -‬وذلك ‪ :‬أن العرب افرتقت يف ردهتا ‪ .‬فقالت فرقة ‪ :‬لو كان نبياً‬
‫ما مات ‪ .‬وقالت فرقة ‪ :‬انقضت النبوة مبوته ‪ .‬فال نطيع أحداً بعده ‪ .‬ويف ذلك يقول قائلهم ‪:‬‬
‫فيا لعباد اهلل ما أليب بكر؟‬ ‫أطعنا رسول اهلل ما كان بيننا‬
‫فتلك لعمر اهلل قاصمة الظهر‬ ‫أيورثها بكراً إذا مات بعده‬
‫وقالت فرقة ‪ :‬نؤمن باهلل ‪ .‬وقال بعضهم ‪ :‬نؤمن باهلل ‪ ،‬ونشهد أن حممداً رسول اهلل ‪ ،‬ولكن‬
‫ال نعطيكم أموالنا ‪.‬‬
‫فجادل الصحابة أبا بكر رضي اهلل عنهم ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬احبس جيش أسامة ‪ ،‬فيكون أماناً باملدينة‬
‫‪ .‬وارفق بالعرب حىت يتفرج هذا األمر ‪ .‬فلو أن طائفة ارتدت ‪ .‬قلنا ‪ :‬قاتل مبن معك من‬
‫ارتد‪ .‬وقد أصفقت العرب على االرتداد ‪ .‬وقدم على أيب بكر عيينة بن حصن‪ ،‬واألقرع بن‬
‫حابس يف رجال من أشراف العرب ‪ .‬فدخلوا على رجال من املهاجرين ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬إنه قد ارتد‬
‫عامة من وراءنا عن اإلسالم ‪ ،‬وليس يف أنفسهم أن يؤدوا إليكم ما كانوا يؤدونه إىل رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فإن جتعلوا لنا جعالً كفيناكم ‪ .‬فدخل الصحابة على أيب بكر ‪،‬‬
‫فعرضوا عليه ذلك ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬نرى أن تطعم األقرع وعيينة طعمة يرضيان هبا ‪ ،‬ويكفيانك من‬
‫وراءمها ‪ ،‬حىت يرجع إلينا أسامة وجيشه ‪ ،‬ويشتد أمرك ‪ ،‬فإنا اليوم قليل يف كثري ‪ ،‬فقال أبو‬
‫بكر ‪ :‬فهل ترون غري ذلك ؟ قالوا ‪ :‬ال‪ .‬قال ‪ :‬قد علمتم أن من عهد نبيكم إليكم املشورة‬
‫فيما مل ميض فيه أمر من نبيكم ‪ ،‬وال نزل به الكتاب عليكم ‪ .‬وأنا رجل منكم ‪ ،‬تنظرون فيما‬
‫أشري به عليكم ‪ ،‬وإن اهلل لن جيمعكم على ضاللة ‪ ،‬فتجتمعون على الرشد يف ذلك ‪ .‬فأما أنا‪،‬‬
‫فأرى أن ننبذ إىل عدونا‪ .‬فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر‪ .‬وأال ترشون على اإلسالم ‪،‬‬
‫فنجاهد عدوه كما جاهدهم ‪ .‬واهلل لو منعوين عقاالً ‪ ،‬لرأيت أن أجاهدهم عليه حىت آخذه ‪.‬‬
‫وأما قدوم عيينة وأصحابه إليكم ‪ :‬فهذا أمر مل يغب عنه عيينة ‪ ،‬هو راضيه ‪ ،‬مث جاء له ‪ .‬ولو‬
‫رأوا ذباب السيف ‪ ،‬لعادوا إىل ما خرجوا منه ‪ ،‬أو أفناهم السيف ‪ ،‬فإىل النار ‪ .‬قتلناهم على‬
‫حق منعوه وكفر اتبعوه ‪ .‬فبان للناس أمرهم ‪ .‬فقالوا له ‪ :‬أنت أفضلنا رأياً ‪ ،‬ورأينا لرأيك‬
‫تبع‪ .‬فأمر أبو بكر رضي اهلل عنه الناس بالتجهز ‪ ،‬وأمجع على املسري بنفسه ‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وقد كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪-‬ملا صدر من احلج سنة عشر‪ -‬وقدم املدينة أقام‬
‫حىت رأى هالل احملرم سنة إحدى عشرة ‪ ،‬فبعث املصدقني يف العرب ‪.‬‬

‫نفع اهلل طيئاً بعدي بن حاتم ‪:‬‬


‫فلما بلغهم وفاة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم اختلفوا ‪ ،‬فمنهم من رجع ‪ .‬ومنهم من أدى‬
‫إىل أيب بكر ‪ ،‬منهم عدي بن حامت ‪ ،‬كانت عنده إبل عظيمة من صدقات قومه ‪ .‬فلما ارتد‬
‫[من ارتد] ‪ ،‬وارتدت بنو أسد ‪-‬وهم جرياهنم‪ -‬اجتمعت طيء إىل عدي ‪ .‬فقالوا‪ :‬إن هذا‬
‫الرجل قد مات ‪ ،‬وقد انتقض الناس بعده ‪ ،‬وقبض كل قوم ما كان يف أيديهم من صدقات ‪،‬‬
‫فنحن أحق بأموالنا من شذاذ الناس ‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬أمل تعطوا العهد طائعني غري مكرهني ؟ قالوا ‪ :‬بلى ‪ ،‬ولكن حدث ما ترى ‪ ،‬وقد ترى‬
‫ما صنع الناس ‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬والذي نفس عدي بيده ‪ ،‬ال أخيس هبا أبداً ‪ ،‬فإن أبيتم ‪ ،‬فواهلل ألقاتلنكم‪ ،‬فليكونن‬
‫أول قتيل يقتل على وفاء ذمته‪ :‬عدي بن حامت ‪ ،‬أو يسلمها ‪ .‬فال تطمعوا أن يسب حامت يف‬
‫قربه ‪ ،‬وعدي ابنه من بعده ‪ .‬فال يدعونكم غدر غادر إىل أن تغدروا ‪ .‬فإن للشيطان قادة عند‬
‫موت كل نيب يستخف هبا أهل اجلهل ‪ ،‬حىت حيملهم على قالئص الفتنة ‪ .‬وإمنا هي عجاجة ال‬
‫ثبات هلا ‪ ،‬وال ثبات فيها ‪ ،‬إن لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم خليفة من بعده يلي هذا األمر‬
‫‪ .‬وإن لدين اهلل أقواماً سينهضون ويقومون ‪ ،‬بعد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وذؤابتيه‬
‫يف السماء ‪ .‬لئن فعلتم ليقارعنكم عن أموالكم ونسائكم بعد قتل عدي وغدركم ‪ ،‬فأي قوم‬
‫أنتم عند ذلك ؟ فلما رأوا منه اجلد كفوا عنه ‪ ،‬وأسلموا له ‪.‬‬
‫فلما كان زمن عمر ‪ :‬رأى من عمر جفوة ‪ ،‬فقال له عدي ‪ :‬ما أراك تعرفين ؟ قال عمر ‪:‬‬
‫بلى واهلل ‪ ،‬واهلل يعرفك يف السماء ‪ .‬أعرفك واهلل ‪ ،‬أسلمت إذ كفروا ‪ ،‬ووفيت إذ غدروا ‪،‬‬
‫وأقبلت إذ أدبروا ‪ ،‬وأمي اهلل أعرفك ‪.‬‬

‫قتال أهل الردة ‪:‬‬


‫‪174‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وملا كان من العرب ما كان ‪ ،‬ومنع من منع منهم الصدقة ‪ .‬جد بأيب بكر اجلد يف قتاهلم ‪.‬‬
‫وأراه اهلل رشده فيهم ‪ ،‬وعزم على اخلروج بنفسه ‪ .‬فخرج يف مائة من املهاجرين واألنصار ‪،‬‬
‫وخالد حيمل اللواء ‪ ،‬حىت نزل بقعاء‪ ،‬يريد أن يتالحق الناس ‪ ،‬ويكون أسرع خلروجهم ‪،‬‬
‫ووكل بالناس حممد بن مسلمة يستحثهم ‪ .‬وأقام ببقعاء أياماً ينتظر الناس ‪ .‬ومل يبق أحد من‬
‫املهاجرين واألنصار إال خرج ‪.‬‬
‫فقال عمر ‪ :‬ارجع يا خليفة رسول اهلل ‪ ،‬تكن للمسلمني فئة ‪ ،‬فإنك إن تقتل يرتد الناس ‪،‬‬
‫ويعلو الباطل احلق ‪ ،‬فدعا زيد بن اخلطاب ليستخلفه ‪ ،‬فقال ‪ :‬قد كنت أرجو أن أرزق‬
‫الشهادة مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فلم أرزقها ‪ .‬وأنا أرجو أن أرزقها يف هذا الوجه‬
‫‪ .‬وإن أمري اجليش ال ينبغي أن يباشر القتال بنفسه ‪.‬‬
‫فدعا أبا حذيفة ابن عتبة ‪ ،‬فعرض عليه ذلك ‪ ،‬فقال مثلما قال زيد ‪ ،‬فدعا ساملاً موىل أيب‬
‫حذيفة‪ ،‬فأىب عليه‪ .‬فدعا خالداً فأمره على الناس ‪ ،‬وكتب معه هذا الكتاب ‪:‬‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم ‪....‬‬
‫هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل خالد بن الوليد ‪ ،‬حني بعثه‬
‫لقتال من رجع عن اإلسالم إىل ضاللة اجلاهلية ‪ ،‬وأماين الشيطان ‪ ،‬وأمره ‪ :‬أن يبني هلم الذي‬
‫هلم يف اإلسالم ‪ ،‬والذي عليهم ‪ ،‬وحيرص على هداهم ‪ .‬فمن أجابه قبل منه ‪ ،‬وإمنا يقاتل من‬
‫كفر باهلل على اإلميان باهلل ‪ .‬فإذا أجاب إىل اإلميان ‪ ،‬وصدق إميانه مل يكن له عليه سبيل ‪.‬‬
‫وكان اهلل حسيبه بعد يف عمله ‪ .‬وال يقبل من أحد شيئاً أعطاه إياه إال اإلسالم ‪ ،‬والدخول‬
‫فيه ‪ ،‬والصرب به وعليه وال يدخل يف أصحابه حشواً من الناس ‪ ،‬حىت يعرف ‪ :‬عالم اتبعوه ‪،‬‬
‫وقاتلوا معه ؟ فإين أخشى أن يكون معكم ناس يتعوذون بكم ‪ ،‬ليسوا بكم ‪ ،‬وال على دينكم‬
‫‪ ،‬فيكونون عوناً عليكم ‪ .‬وارفق باملسلمني يف مسريهم ومنازهلم ‪ ،‬وتفقدهم ‪ ،‬وال تعجل‬
‫بعض الناس عن بعض يف املسري‪ ،‬وال يف االرحتال ‪ .‬واستوص مبن معك من األنصار خرياً ‪،‬‬
‫فإن فيهم ضيقاً ومرارة وزعارة ‪ ،‬وهلم حق وفضيلة وسابقة ووصية من رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬فاقبل من حمسنهم ‪ ،‬وجتاوز عن مسيئهم ‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫ويروى أن أبا بكر كتب مع هذا كتاباً آخر ‪ ،‬وأمر خالداً أن يقرأه يف كل جممع ‪ ،‬وهو ‪:‬‬
‫كتاب أبي بكر ألمرائه ‪:‬‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم ‪. . .‬‬
‫من أيب بكر خليفة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬إىل من بلغه كتايب هذا ‪ ،‬من عامة الناس‬
‫أو خاصتهم ‪ ،‬أقام على اإلسالم أو رجع عنه ‪ .‬سالم على من اتبع اهلدى‪ ،‬ومل يرجع بعد‬
‫اهلدى إىل الضاللة والعمى‪ ،‬فإين أمحد إليكم اهلل الذي ال إله إال هو‪ .‬وأشهد أن ال إله إال اهلل ‪،‬‬
‫وأشهد أن حممداً عبده ورسوله ‪ ،‬اهلادي غري املضل ‪ .‬أرسله باحلق من عنده إىل خلقه ‪ ،‬بشرياً‬
‫ونذيراً ‪ ،‬وداعياً إىل اهلل بإذنه ‪ ،‬وسراجاً منرياً ‪ ،‬لينذر من كان حياً‪ ،‬وحيق القول على‬
‫الكافرين ‪ .‬فهدى اهلل باحلق من أجاب إليه ‪ ،،‬وضرب باحلق من أدبر عنه ‪ ،‬حىت صاروا إىل‬
‫اإلسالم طوعاً وكرهاً‪ .‬مث أدرك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عند ذلك أجله ‪ .‬وقد كان‬
‫اهلل بني له ذلك ألهل اإلسالم يف الكتاب الذي أنزل عليه ‪ ،‬فقال ‪ ":‬إنك ميت وإهنم ميتون‬
‫" ‪ ،‬وقال ‪ " :‬وما جعلنا لبشر من قبلك اخللد أفإن مت فهم اخلالدون " اآلية ‪ ،‬وقال للمؤمنني‬
‫‪ " :‬وما حممد إال رسول قد خلت من قبله الرسل " اآلية‪ ،‬فمن كان يعبد حممداً ‪ ،‬فإن حممداً‬
‫قد مات ‪ ،‬ومن كان يعبد اهلل وحده ‪ ،‬ال شريك له ‪ ،‬فإن اهلل له باملرصاد حي قيوم ال ميوت ‪،‬‬
‫وال تأخذه سنة وال نوم ‪ ،‬حافظ ألمره منتقم من عدوه وجمزيه ‪ ،‬وإين أوصيكم أيها الناس‬
‫[بتقوى اهلل ‪ ،‬وأحضكم على حظكم ونصيبكم من اهلل ‪ ،‬وما جاء به نبيكم صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ .‬وأن هتتدوا هبداه ‪ ،‬وتعتصموا بدين اهلل] ‪ ،‬فإن كل من مل حيفظ اهلل ضائع ‪ ،‬وكل من‬
‫مل يصدقه كاذب ‪ ،‬وكل من مل يسعده اهلل شقي ‪ ،‬وكل من مل يرزقه حمروم ‪ ،‬وكل من مل‬
‫ينصره اهلل خمذول ‪ .‬فاهتدوا هبدى اهلل ربكم ‪ ،‬فإنه من يهدي اهلل فهو املهتدي ‪ .‬ومن يضلل‬
‫فلن جتد له ولياً مرشداً ‪.‬‬
‫وإنه قد بلغين رجوع من رجع منكم عن دينه ‪ ،‬بعد أن أقر باإلسالم ‪ ،‬وعمل به ‪ ،‬اغرتاراً باهلل‬
‫‪ ،‬وجهالة بأمر اهلل وطاعة للشيطان‪ .‬قال اهلل تعاىل ‪ " :‬إن الشيطان لكم عدو فاختذوه عدوا إمنا‬
‫يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعري " وإين قد بعثت إليكم خالداً يف املهاجرين واألنصار‬

‫‪176‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫‪ .‬والتابعني هلم بإحسان ‪ .‬وأمرته أن ال يقاتل أحداً حىت يدعوه إىل داعية اهلل ‪ ،‬فمن دخل يف‬
‫دين اهلل وعمل صاحلاً قبل ذلك منه ‪ ،‬ومن أىب فال يبقي على أحد ‪ ،‬وحيرقهم بالنار ‪ ،‬ويسيب‬
‫الذراري والنساء ‪.‬‬
‫وعن عروة بن الزبري قال ‪ :‬جعل أبو بكر يوصي خالداً ‪ ،‬ويقول‪ :‬عليك بتقوى اهلل ‪ ،‬والرفق‬
‫مبن معك ‪ .‬أهل السابقة من املهاجرين واألنصار ‪ ،‬فشاورهم ‪ ،‬مث ال ختالفهم ‪ .‬وقدم أمامك‬
‫الطالئع ترتد لك املنازل ‪ ،‬وسر يف أصحابك على تعبئة جيدة‪ ،‬فإن أعطاك اهلل الظفر على أهل‬
‫اليمامة ‪ ،‬فأقل البقيا عليهم ‪ ،‬إن شاء اهلل وإياك أن تلقاين غداً مبا يضيق به صدري منك ‪.‬‬
‫امسع عهدي ووصييت‪ ،‬وال تغرين على دار مسعت فيها أذاناً ‪ ،‬حىت تعلم ما هم عليه ‪ .‬واعلم‬
‫أن اهلل يعلم من سريرتك ما يعلم من عالنيتك ‪ .‬واعلم أن رعيتك تعمل مبا تراك تعمل ‪،‬‬
‫تعاهد جيشك ‪ ،‬واهنهم عما ال يصلح هلم ‪ .‬فإمنا تقاتلون من تقاتلون بأعمالكم ‪ ،‬وهبذا نرجو‬
‫لكم النصر على أعدائكم ‪ ،‬سر على بركة اهلل تعاىل ‪.‬‬

‫ذكر مسير خالد إلى بزاخة وغيرها ‪:‬‬


‫وملا سار خالد إىل بزاخة ‪ ،‬كان عدي بن حامت معه ‪ ،‬وقد انضم إليه من طيء ألف ‪ ،‬فنزلوا‬
‫بزاخة ‪ ،‬وكانت جديلة معرضة عن اإلسالم ‪-‬وهي بطن من طيء‪ -‬وكان عدي بن حامت‬
‫رضي اهلل عنه من الغوث ‪ .‬وقد مهت جديلة أن ترتد ‪ ،‬فجاءهم مكنف بن زيد اخليل ‪ ،‬فقال‬
‫‪ :‬أتريدون أن تصريوا سبة على قومكم؟ ومل يرجع رجل واحد من طئ ‪ ،‬وهذا عدي معه‬
‫ألف رجل من طئ ‪ ،‬فكسرهم‪.‬‬
‫فلما نزل خالد بزاخة ‪ ،‬قال لعدي ‪ :‬أال نسري إىل جديلة؟ قال ‪ :‬يا أبا سليمان ! أقاتل معك‬
‫بيدين أحب إليك‪ ،‬أم بيد واحدة؟ فقال‪ :‬بل يدين ‪ ،‬قال ‪ :‬فإن جديلة إحدى يدي ‪ .‬فكف‬
‫عنهم ‪ .‬فجاءهم عدي ‪ ،‬فدعاهم إىل اإلسالم ‪ ،‬فأسلموا ‪ ،‬فحمد اهلل ‪ ،‬وسار هبم إىل خالد ‪،‬‬
‫فلما رآهم صاح يف أصحابه السالح ‪ ،‬فلما جاؤوا حلوا ناحية ‪ ،‬فجاءهم خالد ورحب هبم ‪،‬‬
‫فاعتذروا إليه‪ .‬وقالوا ‪ :‬حنن لك حيث شئت ‪ .‬فجزاهم خرياً ‪ ،‬فلم يرتد من طيء رجل واحد‬
‫‪.‬‬
‫‪177‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫فسار خالد على تعبئته ‪ ،‬وطلب إليه عدي أن جيعل قومه مقدمة أصحابه ‪ .‬فقال ‪ :‬أخاف أن‬
‫أقدمهم ‪ ،‬فإذا أجلمهم القتال انكشفوا‪ ،‬فانكشف من معنا ‪ ،‬ولكن دعين أقدم قوماً صرباً ‪ ،‬هلم‬
‫سوابق ‪ .‬فقال عدي ‪ :‬الرأي ما رأيت ‪ ،‬فقدم املهاجرين واألنصار ‪ .‬ومل يزل يقدم الطالئع‬
‫منذ خرج من بقعاء‪ ،‬حىت قدم اليمامة ‪ .‬وأمر عيونه أن خيتربوا كل من مروا هبم عند مواقيت‬
‫الصالة باألذان هلا ‪ ،‬فيكون ذلك دليالً على إسالمهم ‪.‬‬
‫فلما انتهوا إىل طليحة األسدي ‪ ،‬وجدوه وقد ضربت له قبة ‪ ،‬وأصحابه حوله‪ .‬فضرب خالد‬
‫خيام عسكره على ميل أو حنوه ‪ ،‬وخرج يسري على فرس ‪ ،‬معه نفر من الصحابة ‪ ،‬فوقف‬
‫قريباً من العسكر‪ ،‬ودعا بطليحة فخرج إليه ‪ ،‬فقال ‪ :‬إن من عهد خليفتنا إلينا ‪ :‬أن ندعوك‬
‫إىل اهلل وحده ال شريك له ‪ ،‬وأن حممداً عبده ورسوله ‪ ،‬وأن تعود إىل ما خرجت منه ‪ .‬فأىب‬
‫طليحة ‪ ،‬وكان عيينة بن حصن قد قال له ‪ :‬ال أبالك ‪ ،‬هل أنت مرينا؟ ‪-‬يعين نبوتك‪ -‬فقد‬
‫رأيت ورأينا ما كان يأيت حممداً ‪ .‬قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬فبعث عيوناً له ‪ ،‬ملا أقبل خالد إليهم ‪ ،‬قبل أن‬
‫يسمع الناس بإقباله ‪ .‬فقال ‪ :‬إن بعثتم فارسني يف فرسني ‪ ،‬أغرين حمجلني ‪ ،‬من بين نصر بن‬
‫قعني‪ ،‬أتوكم من القوم بعني ‪ .‬فبعثوا كذلك ‪ ،‬فلقيا عيناً خلالد ‪ ،‬فأتوا به ‪ ،‬فزادهم فتنة ‪ .‬فلما‬
‫أىب طليحة أن جييب خالداً ‪ ،‬انصرف خالد إىل عسكره ‪ ،‬فاستعمل تلك الليلة على حرسه‬
‫مكنف بن زيد اخليل وعدي بن حامت ‪ ،‬فلما كان من السحر هنض خالد ‪ ،‬فعبأ أصحابه ‪،‬‬
‫ووضع ألويته مواضعها ‪ ،‬ودفع اللواء األعظم إىل زيد بن اخلطاب ‪ ،‬فتقدم به ‪ ،‬وتقدم ثابت‬
‫بن قيس بن مشاس بلواء األنصار ‪ ،‬وطلبت طئ لواء ‪ ،‬فعقد هلم خالد لواء ‪ ،‬ودفعه إىل عدي‬
‫‪ .‬فلما مسع طليحة احلركة عبأ أصحابه ‪ ،‬حىت إذا استوت الصفوف زحف هبم خالد حىت دنا‬
‫من طليحة ‪ ،‬فأخرج طليحة أربعني غالماً جلداً ‪ ،‬فأقامهم يف امليمنة ‪ ،‬وقال ‪ :‬اضربوا حىت‬
‫تأتوا امليسرة ‪ ،‬فتضعضع الناس ‪ ،‬ومل يقتل أحد حىت أقامهم يف امليسرة ‪ ،‬ففعلوا مثل ذلك ‪،‬‬
‫واهنزم املسلمون ‪ .‬فقال خالد ‪ :‬يا معشر املسلمني ! اهلل ‪ ،‬اهلل ‪ .‬واقتحم وسط القوم وكر معه‬
‫أصحابه ‪ ،‬فاختلطت الصفوف ‪ ،‬ونادى يومئذ مناد من طيء ‪ ،‬عندما محل أولئك األربعون ‪:‬‬
‫يا خالد ! عليك بسلمى وأجأ ‪-‬جبلى طيء‪ -‬فقال ‪ :‬بل إىل اهلل امللتجأ‪ .‬مث محل فما رجع ‪،‬‬

‫‪178‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫حىت مل يبق من األربعني رجل واحد ‪ .‬وتراد الناس بعد اهلزمية ‪ ،‬واشتد القتال ‪ ،‬وأسر حبال‬
‫بن أيب حبال ‪ ،‬فأرادوا أن يبعثوا به إىل أيب بكر ‪ ،‬فقال ‪ :‬اضربوا عنقي ‪ ،‬وال تروين حممديكم‬
‫هذا ‪ .‬فضربوا عنقه ‪.‬‬
‫وملا اشتد القتال ‪ ، ،‬تزمل طليحة بكساء له ‪ ،‬وهم ينتظرون أن ينزل عليه الوحي ‪ ،‬فلما طال‬
‫ذلك على أصحابه ‪ ،‬وهدهتم احلرب ‪ ،‬جعل عيينة يقاتل ويذمر الناس ‪ ،‬حىت إذا أحل املسلمون‬
‫عليهم السيف ‪ ،‬أتى طليحة ‪ ،‬وهو يف كسائه ‪ ،‬فقال ‪ :‬ال أبا لك هل أتاك جربيل بعد ؟ قال‬
‫‪ :‬ال واهلل ‪ ،‬قال ‪ :‬تباً لك سائر اليوم ‪ .‬مث رجع عيينة فقاتل ‪ ،‬وجعل حيض أصحابه على القتال‬
‫‪ ،‬وقد ضجوا من وقع السيوف ‪ .‬فلما طال ذلك عليهم ‪ ،‬جاء إىل طليحة وهو متلفف‬
‫بكسائه ‪ .‬فجبذه جبذة شديدة جلس منها ‪ ،‬وقال ‪ :‬قبح اهلل هذه من نبوة ‪ ،‬ما قيل لك بعد‬
‫شئ ؟ قال ‪ :‬بلى ‪ ،‬قد قيل يل ‪ :‬عيينة إن ذلك رحى كرحاه ‪ ،‬وأمراً لن تنساه ‪ .‬فقال عيينة ‪:‬‬
‫أظن أن قد علم اهلل أنه سيكون لك حديث لن تنساه ‪ ،‬يا بين فزارة ! هكذا ‪-‬وأشار حتت‬
‫الشمس‪ -‬انصرفوا ‪ .‬هذا واهلل كذاب ‪ ،‬ما بورك لنا وال له فيما يطلب ‪ .‬فانصرفت فزارة ‪،‬‬
‫وذهب عيينة وأخوه يف آثارمها ‪ ،‬فأدرك عيينة فأسر ‪ ،‬وأفلت أخوه ‪ .‬وملا رأى طليحة ما فعل‬
‫أصحابه خرج منهزماً ‪ ،‬فجعل أصحابه يقولون ‪ :‬ماذا تأمرنا ؟ وقد كان أعد فرسه ‪ ،‬وهيأ‬
‫امرأته ‪ ،‬فوثب على فرسه ومحل امرأته وراءه ‪ ،‬مث وىل هارباً ‪ ،‬وقال ‪ :‬من استطاع منكم أن‬
‫يفعل هكذا فليفعل ‪ .‬مث هرب حىت قدم الشام ‪ .‬وذكر ‪ :‬أنه قال ألصحابه ‪ ،‬ملا رأى اهنزامهم‬
‫‪ .‬ويلكم ‪ ،‬ما يهزمكم ؟ فقال له رجل ‪ :‬أنا أخربك ‪ ،‬إنه ليس منا رجل إال وهو حيب أن‬
‫صاحبه ميوت قبله ‪ ،‬وإنا نلقى قوماً كلهم حيب أن ميوت قبل صاحبه ‪.‬‬
‫وملا وىل طليحة هارباً ‪ ،‬تبعه عكاشة بن حمصن وثابت بن أقرم ‪ .‬وكان طليحة قد أعطى اهلل‬
‫عهداً ‪ :‬أن ال يسأله أحد النزول إال فعل ‪ ،‬فلما أدبر ناداه عكاشة بن حمصن ‪ :‬ياطليحة !‬
‫فعطف عليه ‪ ،‬فقتل عكاشة ‪ ،‬مث أدركه ثابت ‪ ،‬فقتله أيضاً طليحة ‪ ،‬مث حلق املسلمون‬
‫أصحاب طليحة فقتلوا وأسروا ‪ .‬وصاح خالد ‪ :‬ال يطبخن رجل قدراً وال يسخن ماء ‪ ،‬إال‬
‫وأثفيته رأس رجل ‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وتلطف رجل من بين أسد حىت وثب على عجز راحلة خالد ‪ ،‬فقال ‪ :‬أنشدك اهلل ‪ ،‬أن ال‬
‫يكون هالك مضر على يدك ‪ ،‬يا خالد ! حكمك يف بين أسد ‪ .‬فنادى خالد ‪ :‬من قام فهو‬
‫آمن ‪ ،‬فقام الناس كلهم ‪ .‬ومسعت بذلك بنو عامر ‪ ،‬فأعلنوا اإلسالم ‪ .‬وأمر خالد باحلظائر أن‬
‫تبىن ‪ ،‬مث أوقد فيها النار ‪ .‬مث أمر باألسرى فألقيت فيها ‪ ،‬وألقي فيها يومئذ حامية بن سبيع‬
‫الذي استعمله رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على صدقات قومه ‪ .‬وأخذت أم طليحة ‪،‬‬
‫فعرض عليها اإلسالم ‪ ،‬فوثبت ‪ .‬وأخذت فحمة من النار ‪ ،‬وهي تقول ‪ :‬يا موت عم صباحاً‬
‫‪ ،‬كافحته كفاحاً إذ مل أجد براحاً ‪.‬‬
‫وذكر الواقدي ‪ :‬أن خالداً مجع األسرى يف احلظائر ‪ ،‬مث أضرمها عليهم فاحرتقوا أحياء ‪ ،‬ومل‬
‫حيرق أحداً من فزارة ‪.‬‬
‫فقيل لبعض أهل العلم ‪ :‬مل حرق هؤالء من بني أهل الردة ؟ فقال ‪ :‬بلغته عنهم مقالة سيئة ‪،‬‬
‫وثبتوا على ردهتم ‪.‬‬
‫وعن ابن عمر ‪ ،‬قال ‪ :‬شهدت بزاخة مع خالد ‪ ،‬فأظفرنا اهلل على طليحة ‪ ،‬وكنا كلما أغرنا‬
‫على قوم سبينا الذراري ‪ ،‬واقتسمنا األموال ‪.‬‬

‫ذكر رجوع بني عامر وغيرهم إلى اإلسالم ‪:‬‬


‫وملا أوقع اهلل ببين أسد وفزارة ما أوقع ببزاخة ‪ ،‬بث خالد السرايا ‪ ،‬ليصيبوا من قدروا عليه‬
‫ممن هو على ردته ‪ ،‬وجعلت العرب تسري إىل خالد ‪ ،‬رغبة يف اإلسالم ‪ ،‬وخوفاً من السيف ‪،‬‬
‫فمنهم من أصابته السرية ‪ ،‬فيقول ‪ :‬جئت راغباً يف اإلسالم ‪ ،‬وقد رجعت إىل ما خرجت منه‬
‫‪ .‬ومنهم من يقول ‪ :‬ما رجعنا ‪ ،‬ولكن منعنا أموالنا ‪ ،‬فقد سلمناها ‪ ،‬فليأخذ منها حقه ‪.‬‬
‫ومنهم من مضى إىل أيب بكر ‪ ،‬ومل يقرب خالداً ‪.‬‬
‫مث عمد خالد إىل جبلي طئ ‪-‬أجأ وسلمى‪ -‬فأتته عامر وغطفان يدخلون اإلسالم ‪ ،‬ويسألونه‬
‫األمان على مياههم وبالدهم ‪ .‬وأظهروا التوبة ‪ ،‬وأقاموا الصالة ‪ ،‬وأقروا بالزكاة ‪ .‬فأمنهم‬
‫خالد ‪ ،‬وأخذ عليهم العهود واملواثيق ‪ :‬لتبايعن على ذلك أبناءكم ونساءكم آناء الليل وآناء‬
‫النهار ‪ .‬فقالوا ‪ :‬نعم ‪ ،‬نعم ‪.‬‬
‫‪180‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وبعث بعيينة إىل أيب بكر جمموعة يداه يف وثاقه ‪ ،‬فجعل غلمان املدينة ينخسونه باجلريد ‪،‬‬
‫ويضربونه ‪ .‬ويقولون ‪ :‬أي عدو اهلل‪ ،‬أكفرت باهلل بعد إميانك ؟ فيقول ‪ :‬واهلل ما كنت آمنت‬
‫باهلل قط ‪.‬‬
‫وأخذ خالد من بين عامر وغريهم من أهل الردة ‪-‬ممن بايعه على اإلسالم‪ -‬كل ما ظهر من‬
‫سالحهم ‪ ،‬واستحلفهم على ما غيبوا منه‪ ،‬فإذا حلفوا تركهم ‪ ،‬وإن أبوا شدهم أسرى حىت‬
‫أتوا مبا عندهم ‪ .‬فأخذ منهم سالحاً كثرياً ‪ ،‬فأعطاه أقواماً حيتاجون إليه يف قتال عدوهم ‪،‬‬
‫وكتبه عليهم مث ردوه بعد ‪.‬‬
‫وحدث يزيد بن أيب شريك الفزاري عن أبيه ‪ ،‬قال ‪ :‬قدمت مع أسد وغطفان على أيب بكر‬
‫وافداً ‪ ،‬حني فرغ خالد منهم ‪ .‬فقال أبو بكر ‪ :‬اختاروا بني خصلتني ‪ :‬حرب جملية ‪ ،‬أو سلم‬
‫خمزية ‪ .‬فقال خارجة بن حصن ‪ :‬هذه احلرب اجمللية قد عرفناها ‪ ،‬فما السلم املخزية ؟ قال ‪:‬‬
‫تشهدون أن قتالنا يف اجلنة ‪ ،‬وقتالكم يف النار ‪ .‬وأن تردوا علينا ما أخذمت منا ‪ ،‬وال نرد‬
‫عليكم ما أخذنا منكم ‪ .‬وأن تدوا قتالنا ‪ ،‬كل قتيل مائة بعري ‪ ،‬منها أربعون يف بطوهنا‬
‫أوالدها ‪ ،‬وال ندي قتالكم ‪ .‬ونأخذ منكم احللقة والكراع ‪ ،‬وتلحقون بأذناب اإلبل حىت‬
‫يري اهلل خليفة نبيه واملؤمنني ما شاء فيكم ‪ ،‬أو يرى منكم إقباالً ملا خرجتم منه ‪ .‬فقال‬
‫خارجة ‪ :‬نعم ‪ ،‬يا خليفة رسول اهلل ‪ .‬فقال أبو بكر‪ :‬عليكم عهد اهلل وميثاقه أن تقوموا‬
‫بالقرآن آناء الليل وآناء النهار‪ .‬وتعلمون أوالدكم ونساءكم‪ ،‬وال متنعوا فرائض اهلل يف‬
‫أموالكم ‪ .‬قالوا ‪ :‬نعم‪ .‬قال عمر ‪ :‬يا خليفة رسول اهلل ‪ ،‬كل ما قلت كما قلت ‪ ،‬إال أن يدوا‬
‫من قتل منا‪ ،‬فإهنم قوم قتلوا يف سبيل اهلل ‪ .‬فتتابع الناس على قول عمر ‪.‬‬
‫فقبض أبو بكر كل ما قدر عليه من احللقة والكراع ‪ ،‬فلما تويف رأى عمر ‪ :‬أن اإلسالم قد‬
‫ضرب جبرانه ‪ ،‬فدفعه إىل أهله وإىل ورثة من مات منهم ‪.‬‬

‫مسير خالد إلى اليمامة ‪:‬‬


‫فلما فرغ خالد من بزاخة وبين عامر ‪ ،‬أظهر أن أبا بكر عهد إليه ‪ :‬أن يسري إىل أرض بين متيم‬
‫‪ ،‬وإىل اليمامة ‪ .‬فقال ثابت بن قيس ‪-‬وهو على األنصار ‪ ،‬وخالد على مجاعة املسلمني‪ -‬ما‬
‫‪181‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫عهد إلينا ذلك ‪ ،‬وليس بنا قوة ‪ .‬وقد كل املسلمون ‪ ،‬وعجف كراعهم‪ ،‬فقال خالد ‪ :‬ال‬
‫أستكره أحداً ‪ ،‬وسار مبن تبعه ‪ .‬وأقامت األنصار يوماً أو يومني ‪ ،‬مث تالومت فيما بينها ‪.‬‬
‫وقالت ‪ :‬واهلل ما صنعنا شيئاً ‪ ،‬واهلل لئن أصيب القوم ليقولن خذلتموهم ‪ ،‬وإهنا ملسبه عارها‬
‫باق إىل آخر الدهر ‪ ،‬ولو أصابوا فتحاً ‪ ،‬إنه خلري منعتموه ‪ ،‬فابعثوا إىل خالد يقيم حىت تلحقوه‬
‫‪ .‬فبعثوا إليه ‪ .‬فأقام حىت حلقوه ‪ ،‬فاستقبلهم يف كثرة من املسلمني حىت نزلوا ‪.‬‬
‫وساروا مجيعاً حىت انتهوا إىل البطاح ‪ ،‬من أرض بين متيم ‪ ،‬فلم جيدوا هبا مجعاً ‪ .‬ففرق خالد‬
‫السرايا يف نواحيها ‪ ،‬فأتت سرية منهم بين حنظلة ‪-‬وسيدهم مالك بن نويرة‪ -‬وكان قد بعثه‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم مصدقاً على قومه ‪ ،‬فجمع صدقاهتم فلما بلغته وفاة النيب صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬جفل إبل الصدقة ‪-‬أي ردها إىل أهلها فلذلك مسي اجلفول‪ -‬ومجع قومه ‪ ،‬فقال‬
‫‪ :‬إن هذا الرجل قد هلك ‪ ،‬فإن قام قائم بعده ‪ :‬رضي منكم أن تدخلوا يف أمره ‪ ،‬ومل يطلب‬
‫ما مضى ‪ ،‬ومل تكونوا أعطيتم الناس أموالكم ‪ ،‬فتسارع إليه مجهورهم ‪ .‬فقام فيهم قعنب‬
‫‪-‬سيد بين يربوع‪ -‬فقال ‪ .‬يا بين متيم ! الترجعوا يف صدقاتكم ‪ ،‬فريجع اهلل يف نعمه عليكم ‪،‬‬
‫وال تتجردوا للبالء ‪ ،‬وقد ألبسكم اهلل العافية وال تستشعروا خوف الكفر ‪ ،‬وأنتم يف أمن‬
‫اإلسالم ‪ ،‬إنكم أعطيتم قليالً من كثري ‪ ،‬واهلل مذهب الكثري بالقليل ‪ ،‬ومسلط على أموالكم‬
‫غداً من يأخذها على غري الرضى ‪ ،‬وإن منعتموها قتلتم ‪ ،‬فأطيعوا اهلل واعصوا مالكاً‪ .‬فقام‬
‫مالك ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا بين متيم ! إمنا رددت عليكم أموالكم إكراماً لكم ‪ ،‬وإنه ال يزال يقوم منكم‬
‫قائم خيطئين ‪ ،‬واهلل ما أنا بأحرصكم على املال ‪ ،‬وال بأجزعكم من املوت ‪ ،‬وال بأخفاكم‬
‫شخصاً إن أقمت ‪ ،‬وال بأخفاكم راحلة إن هربت ‪ .‬فرتضوه عند ذلك وأسندوا أمرهم إليه ‪،‬‬
‫وأىب اهلل إال أن يتم أمره فيهم ‪ .‬وقال مالك يف ذلك ‪:‬‬
‫وقال رجال‪ :‬مالك مل يسدد‬ ‫وقال رجال‪ :‬سدد اليوم مالك‬
‫فلم أخط رأياً يف املعاد والالبد‬ ‫فقلت‪ :‬دعوين الأبا ألبيكمو‬
‫مصررة أخالفها مل جترد‬ ‫فدونكوموها إهنا صدقاتكم‬
‫فأرهنكم يوماً مبا قلت يدي‬ ‫سأجعل نفسي دون ما حتذرونه‬

‫‪182‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫أطعنا وقلنا‪ :‬الدين دين حممد‬ ‫فإن قام باألمر اجملرد قائم‬
‫وملا بلغ ذلك أبا بكر واملسلمني حنقوا عليه ‪ ،‬وعاهد اهلل خالد لئن أخذه ليجعلن هامته أثفية‬
‫للقدر ‪ .‬فلما وصلتهن السرية ‪-‬مع طلوع الشمس‪ -‬فزعوا إىل السالح ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬من أنتم ؟‬
‫قالوا ‪ :‬حنن عباد اهلل املسلمون ‪ .‬قالوا وحنن عباد اهلل املسلمون ‪ .‬قالوا ‪ :‬فضعوا السالح ‪،‬‬
‫ففعلوا ‪ ،‬فأخذوهم ‪ .‬وجاؤوا هبم إىل خالد ‪ .‬فقال له أبو قتادة ‪-‬وهو مع السرية‪ : -‬أقاتل‬
‫أنت هؤالء ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬قال ‪ :‬إهنم اتقونا باإلسالم ‪ ،‬أذنا فأذنوا ‪ ،‬وصلينا فصلوا ‪ .‬وكان‬
‫عهد أيب بكر ‪ :‬أميا دار غشيتموها ‪ ،‬فسمعتم األذان فيها بالصالة ‪ ،‬فأمسكوا عن أهلها حىت‬
‫تسألوهم ‪ :‬ماذا نقموا ؟ وماذا يبغون ؟ وإن مل تسمعوا األذان ‪ :‬فشنوا عليها الغارة ‪ ،‬فاقتلوا‬
‫وحرقوا ‪ .‬فأمر هبم خالد فقتلوا ‪ ،‬وأمر برأس مالك ‪ ،‬فجعل أثفية للقدر ‪ ،‬ورثاه أخوه متمم‬
‫بقصائد كثرية ‪.‬‬
‫وروي أن عمر قال له ‪ :‬لوددت أين رثيت أخي زيداً مبثل ما رثيت به أخاك مالكاً ‪ .‬فقال‬
‫متمم ‪ :‬لو علمت أن أخي صار حيث صار أخوك ما رثيته ‪ .‬فقال عمر ‪ :‬ما عزاين أحد عن‬
‫أخي مبثل تعزيته ‪.‬‬

‫ذكر ردة أهل اليمامة مفتونين بمسيلمة الكذاب ‪:‬‬


‫عن رافع بن خديج قال ‪ :‬قدمت على النيب صلى اهلل عليه وسلم وفود العرب ‪ ،‬فلم يقدم علينا‬
‫وفد أقسى قلوباً ‪ ،‬وال أحرى أن يكون اإلسالم يقر يف قلوهبم ‪-‬من بين حنيفة ‪ ،‬وكان‬
‫مسيلمة مع الوفد‪ .‬فلما انصرفوا إىل اليمامة ادعى أن النيب صلى اهلل عليه وسلم أشركه يف‬
‫النبوة ‪ ،‬وكتب إليه ‪ :‬من مسيلمة رسول اهلل إىل حممد رسول اهلل ‪ ،‬أما بعد‪ ،‬فإين أشركت يف‬
‫األمر معك ‪ ،‬وإنا لنا نصف األرض ‪ ،‬ولقريش نصفها ‪ ،‬ولكن قريش قوم يعتدون ‪.‬‬
‫فكتب إليه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪:‬‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم ‪ ،‬من حممد رسول اهلل ‪ ،‬إىل مسيلمة الكذاب ‪ .‬أما بعد ‪ ،‬فإن األرض‬
‫هلل يورثها من يشاء من عباده ‪ ،‬والعاقبة للمتقني‪.‬‬
‫‪183‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وجد بعدو اهلل ضالله ‪ ،‬بعد وفاة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ .‬وأصفقت معه بنو حنيفة‬
‫على ذلك ‪ ،‬إال أفذاذاً من ذوي عقوهلم ‪.‬‬
‫وكان من أعظم ما فنت به قومه ‪ :‬شهادة الرجال بن عنفوة له بإشراك النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم إياه يف األمر ‪ .‬وكان الرجال من الوفد الذين قدموا على النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬
‫فقرأ القرآن ‪ ،‬وتعلم السنن ‪ .‬قال ابن عمر ‪ :‬وكان من أفضل الوفد عندنا ‪ ،‬فكان أعظم فتنة‬
‫على أهل اليمامة من غريه ‪ ،‬ملا كان يعرف به ‪.‬‬
‫قال رافع بن خديج ‪ :‬كان بالرجال من اخلشوع ولزوم قراءة القرآن واخلري فيما يرى ‪-‬شئ‬
‫عجب ‪ ،‬وكان ابن عمر اليشكري من أشرافهم ‪ ،‬وكان صديقاً للرجال ‪ .‬وكان مسلماً يكتم‬
‫إسالمه ‪ .‬فقال شعراً فشا يف اليمامة حىت كان الوليدة والصيب ينشدونه ‪:‬‬
‫طال ليلي بفتنة الرجال‬ ‫يا سعاد الفؤاد بنت أثال‬
‫عليكم كفتنة الدجال‬ ‫إهنا يا سعاد من حدث الدهر‬
‫عزيز ذو قوة وحمال‬ ‫فنت القوم بالشهادة واهلل‬
‫مـر قباالً وما احتذى من قبال‬ ‫اليساوي الذي يقول من األ‬
‫ـوم رجال ليسوا لنا برجال‬ ‫إن ديين ديـن النيب ويف القـ‬
‫ورجال ليسوا لنا برجال‬ ‫أهلك القوم حمكم بن طفيل‬
‫فلن يرجعوه أخرى الليايل‬ ‫بزهم أمرهم مسيلمة اليوم‬
‫ـرب وساءت مقالة األنذال‪:‬‬ ‫قلت للنفس إذ تعاظمها الصـ‬
‫له فرجة كحل العقال‬ ‫رمبا جتزع النفوس من األمر‬
‫ــه حنيفاً فإنين الأبايل‬ ‫إن تكن ميتيت على فطرة اللـ‬
‫فبلغ ذلك مسيلمة وحمكم وأشرافهم ‪ ،‬ففاهتم ‪ .‬وحلق خبالد ‪ ،‬فأخربه حباهلم ‪ ،‬ودله على‬
‫عوراهتم ‪.‬‬
‫وعظمت فتنة بين حنيفة بكذاهبم ‪ ،‬إذا كان يدعو ملريضهم ‪ ،‬ويربك على مولودهم ‪ ،‬وال‬
‫ينهاهم عن االغرتار به ما يريهم اهلل ما حيل به من اخليبة واخلسران ‪.‬‬

‫‪184‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫جاءه رجل مبولود ‪ ،‬فمسح رأسه ‪ ،‬فقرع ‪ ،‬وقرع كل مولود له ‪ .‬وجاءه آخر ‪ ،‬فقال ‪ :‬إين‬
‫ذو مال ‪ ،‬وليس يل مولود يبلغ سنتني حىت ميوت ‪ ،‬إال هذا املولود ‪ .‬وهو ابن عشر سنني ‪،‬‬
‫ويل مولود ولد أمس ‪ .‬فأحب أن تبارك فيه ‪ ،‬وتدعو أن يطيل اهلل عمره ‪ .‬قال ‪ :‬سأطلب لك‬
‫‪ ،‬فرجع الرجل إىل منزله مسروراً ‪ ،‬فوجد األكرب قد تردى يف بئر ‪ ،‬ووجد األصغر يف نزع‬
‫املوت ‪ ،‬فلم ميس ذلك اليوم حىت ماتا مجيعاً ‪ .‬وتقول أمهما ‪ :‬ال واهلل ‪ ،‬ما أليب مثامة عند إهله‬
‫منزلة حممد ‪.‬‬
‫وحفرت بنو حنيفة بئراً فاستعذبوها ‪ ،‬فأتوا مسيلمة ‪ ،‬وطلبوا أن يبارك فيها ‪ ،‬فبصق فيها‬
‫فعادت ملحاً أجاجاً ‪.‬‬
‫وكان الصديق رضي اهلل عنه قد عهد إىل خالد ‪-‬إذا فرغ من أسد وغطفان والضاحية‪ -‬أن‬
‫يقصد اليمامة ‪ ،‬وأكد عليه ذلك‪ .‬فلما أظفر اهلل خالداً هبم ‪ ،‬تسلل بعضهم إىل املدينة ‪،‬‬
‫يسألون أبا بكر ‪ :‬أن يبايعهم على اإلسالم ‪ .‬فقال ‪ :‬بيعيت إياكم وأماين لكم ‪ :‬أن تلحقوا‬
‫خبالد ‪ ،‬فمن كتب إيل خالد ‪ :‬أنه حضر معه اليمامة ‪ ،‬فهو آمن ‪ .‬وليبلغ شاهدكم غائبكم ‪،‬‬
‫وال تقدموا علي ‪.‬‬
‫قال ابن اجلهم ‪ :‬أولئك الذين حلقوا به ‪ :‬هم الذين انكسروا باملسلمني يوم اليمامة ثالث‬
‫مرات ‪ ،‬وكانوا على املسلمني بالء ‪.‬‬
‫قال شريك الفزاري ‪ :‬كنت ممن شهد بزاخة ‪ ،‬مع عيينة بن حصن ‪ ،‬مث رزقين اهلل اإلنابة ‪،‬‬
‫فجئت أبا بكر ‪ ،‬فأمرين باملسري إىل خالد ‪ .‬وكتب معي إليه ‪ :‬أما بعد ‪ ،‬فقد جاءين كتابك ‪،‬‬
‫تذكر ما أظفرك اهلل بأسد وغطفان ‪ .‬وإنك سائر إىل اليمامة ‪ ،‬فاتق اهلل وحده ال شريك له ‪،‬‬
‫وعليك بالرفق مبن معك من املسلمني ‪ ،‬كن هلم كالوالد ‪ .‬وإياك يا ابن الوليد وخنوة بين‬
‫املغرية‪ ،‬فإين عصيت فيك من مل أعصه يف شئ قط ‪ .‬فانظر بين حنيفة ‪ .‬فإنك مل تلق قوماً‬
‫يشبهوهنم ‪ ،‬كلهم عليك ‪ .‬وهلم بالد واسعة ‪ .‬فإذا قدمت فباشر األمر بنفسك ‪ .‬واستشر من‬
‫معك من أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ .‬واعرف هلم فضلهم ‪ ،‬فإذا لقيت القوم ‪،‬‬
‫فأعد لألمور أقراهنا ‪ ،‬فإن أظفرك اهلل هبم ‪ ،‬فإياك واإلبقاء عليهم ‪ ،‬أجهز على جرحيهم ‪،‬‬

‫‪185‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫واطلب مدبرهم ‪ ،‬وامحل أسريهم على السيف‪ ،‬وهول فيهم القتل ‪ ،‬وحرقهم بالنار ‪ ،‬وإياك‬
‫أن ختالف أمري ‪ ،‬والسالم ‪.‬‬
‫وملا اتصل بأهل اليمامة مسري خالد إليهم ‪ ،‬بعد الذي صنع بأمثاهلم ‪ ،‬حريهم ذلك ‪ .‬وجزع له‬
‫حمكم بن طفيل سيدهم ‪ ،‬وهم أن يرجع إىل اإلسالم ‪ .‬مث استمر على ضاللته ‪ ،‬وكان صديقاً‬
‫لزياد بن لبيد األنصاري ‪ .‬فقال له خالد ‪ :‬لو ألقيت إليه شيئاً تكسره به ؟ فإنه سيدهم ‪،‬‬
‫وطاعتهم بيده ‪ .‬فبعث إليه هذه األبيات ‪:‬‬
‫هلل در أبيكم حية الوادي‬ ‫يا حمكم بن طفيل قد أتيح لكم‬
‫كالشاء أسلمها الراعي آلساد‬ ‫يا حمكم بن طفيل إنكم نفر‬
‫من دار قوم وإخوان وأوالد‬ ‫ما يف مسيلمة الكذاب من عوض‬
‫تعفي فوارس قوم شجوها بادي‬ ‫فأكفف حنيفة عنه قبل نائحة‬
‫حتت العجاجة مثل األغطف العادي‬ ‫ال تأمنوا خالداً بالربد معتجراً‬
‫إن جالت اخليل فيها بالقنا الصادي‬ ‫ويل اليمامة ويل ال فراق لـه‬
‫حىت تكونوا كأهل احلجر أو عاد‬ ‫واهلل ال تنثين عنكم أعنتها‬
‫ووردت على حمكم ‪ ،‬وقيل له ‪ :‬هذا خالد يف املسلمني ‪ .‬فقال ‪ :‬رضي خالد أمراً‪ ،‬ورضينا‬
‫غريه ‪ ،‬وما ينكر خالد أن يكون يف بين حنيفة من أشرك يف األمر ؟ فسريى ‪-‬إن قدم علينا‪-‬‬
‫يلق قوماً ليسوا كمن لقي ‪ .‬مث خطبهم ‪ ،‬فقال ‪ :‬إنكم تلقون قوماً يبذلون أنفسهم دون‬
‫صاحبهم ‪ ،‬فابذلوا نفوسكم دون صاحبكم ‪.‬‬
‫وكان عمري بن ضاىبء يف أصحاب خالد ‪ ،‬ومل يكن من أهل حجر ‪ ،‬كان من أهل ملهم ‪،‬‬
‫فقال له خالد ‪ :‬تقدم إىل قومك فاكسرهم‪ .‬فأتاهم ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا أهل اليمامة ! أظلكم خالد يف‬
‫املهاجرين واألنصار‪ .‬قد تركت القوم واهلل يتبايعون على فتح اليمامة‪ ،‬قد قضوا وطراً من أسد‬
‫وغطفان ‪ ،‬وأنتم يف أكفهم ‪ .‬وقوهلم ‪ :‬ال قوة إال باهلل‪ ،‬إين رأيت أقواماً إن غلبتموهم بالصرب‬
‫غلبوكم بالنصر ‪ .‬وإن غلبتموهم على احلياة غلبوكم على املوت ‪ .‬وان غلبتموهم بالعدد‬
‫غلبوكم باملدد ‪ ،‬لستم والقوم سواء ‪ ،‬اإلسالم مقبل ‪ ،‬والشرك مدبر ‪ ،‬وصاحبهم نيب ‪،‬‬

‫‪186‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وصاحبكم كذاب ‪ .‬ومعهم السرور ‪ ،‬ومعكم الغرور ‪ .‬فاآلن ‪-‬والسيف يف غمده ‪ ،‬والنبل يف‬
‫جفريه قبيل أن يسل السيف ‪ ،‬ويرمي بالسهم ‪ ،‬فكذبوه واهتموه ‪.‬‬
‫وقال مثامة بن أثال فيهم ‪ ،‬فقال ‪ :‬امسعوا مين ‪ ،‬وأطيعوا أمري ‪ ،‬ترشدوا ‪ .‬إنه ال جيتمع نبيان‬
‫بأمر واحد ‪ .‬إن حممداً ال نيب بعده ‪ ،‬وال نيب يرسل معه ‪ ،‬مث قرأ ‪ :‬بسم اهلل الرمحن الرحيم "‬
‫حم * تنزيل الكتاب من اهلل العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي‬
‫الطول ال إله إال هو إليه املصري " ‪ ،‬هذا كالم اهلل عز وجل ‪ .‬أين هذا من ‪ :‬يا ضفدع يا‬
‫ضفدعني ‪ .‬نقي ‪ ،‬كم تنقني؟ نصفك يف املاء ونصفك يف الطني ‪ .‬ال الشراب متنعني وال املاء‬
‫تكدرين ‪ ،‬وال الطني تفارقني ‪ .‬لنا نصف األرض ‪ ،‬ولقريش نصفها ‪ ،‬ولكن قريشاً قوم‬
‫يعتدون ‪ .‬واهلل إنكم لرتون هذا ما خيرج من إل ‪ .‬وقد استحق حممد أمراً أذكره به ‪ :‬خرجت‬
‫معتمراً ‪ ،‬فأخذتين رسله يف غري عهد وال ذمة ‪ ،‬فعفا عن دمي ‪ ،‬فأسلمت وأذن يل يف اخلروج‬
‫إىل بيت اهلل ‪ .‬فتويف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وقام هذا األمر رجل من بعده ‪ ،‬هو‬
‫أفقههم يف أنفسهم ‪ ،‬ال تأخذه يف اهلل لومة الئم‪ .‬مث بعث إليكم رجالً‪ ،‬ال يسمى بامسه‪ ،‬وال‬
‫باسم أبيه ‪ ،‬يقال له ‪ :‬سيف اهلل‪ ،‬معه سيوف هلل كثرية ‪ ،‬فانظروا يف أمركم‪ ،‬فآذاه القوم مجيعاً‬
‫‪ ،‬أو من آذاه منهم ‪ .‬وقال مثامة يف ذلك ‪:‬‬
‫فإنك يف األمر مل تشرك‬ ‫مسيلمة ارجع والمتحك‬
‫وكان هواك هوى األنوك‬ ‫كذبت على اهلل يف وحيه‬
‫وإن يأهتم خالد ترتك‬ ‫ومناك قومك أن مينعوك‬
‫مالك يف األرض من مسلك‬ ‫فما لك من مصعد يف السماء‬

‫ذكر تقديم خالد الطالئع من البطاح ‪:‬‬


‫ملا سار خالد من البطاح وجاء أرض بين متيم ‪ :‬قدم مائيت فارس ‪ ،‬عليهم معن بن عدي ‪،‬‬
‫وقدم عينني له أمامه ‪.‬‬
‫وذكر الواقدي ‪ :‬أن خالداً ملا قدم العرض قدم مائيت فارس ‪ ،‬وقال ‪ :‬من أصبتم من الناس‬
‫فخذوه ‪ .‬فانطلقوا ‪ ،‬وأخذوا جماعة بن مرارة ‪ ،‬يف ثالثة وعشرين رجالً من قومه ‪ ،‬خرجوا يف‬
‫‪187‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫طلب رجل أصاب فيهم دماً ‪ ،‬وهم ال يشعرون بإقبال خالد ‪ ،‬فسألوهم ‪ :‬من أنتم ؟ فقالوا ‪:‬‬
‫من بين حنيفة ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬ما تقولون يف صاحبكم ؟ فشهدوا أنه رسول اهلل ‪ ،‬فقالوا جملاعة ‪ :‬ما‬
‫تقول أنت ؟ فقال‪ :‬ما كنت أقرب مسيلمة ‪ ،‬وقد قدمت على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫فأسلمت ‪ ،‬وما غريت وال بدلت ‪ .‬فضرب خالد أعناقهم ‪ ،‬حىت إذا بقي سارية بن عامر ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬يا خالد ! إن كنت تريد بأهل اليمامة خرياً أو شراً ‪ ،‬فاستبق جماعة ‪ .‬وكان جماعة‬
‫شريفاً ‪ ،‬فلم يقتله ‪ .‬وترك أيضاً سارية ‪ ،‬وأمر هبما فأوثقا يف جوامع من حديد ‪.‬‬
‫وكان يدعو جماعة ‪-‬وهو كذلك‪ -‬فيتحدث معه ‪ ،‬وهو يظن أن خالداً يقتله ‪ .‬فقال ‪ :‬يا ابن‬
‫املغرية ! إن يل إسالماً ‪ ،‬واهلل ما كفرت ‪ ،‬وأعاد كالمه األول ‪ .‬فقال خالد ‪ :‬إن بني القتل‬
‫والرتك منزلة ‪ ،‬وهي احلبس ‪ ،‬حىت يقضي اهلل يف حربنا ما هو قاض ‪ .‬ودفعه إىل أم متمم‬
‫زوجته ‪ ،‬وأمرها أن حتسن إساره ‪ .‬فظن جماعة أن خالداً يريد حبسه ألجل أن خيربه عن عدوه‬
‫ويشري عليه ‪ .‬فقال ‪ :‬يا خالد ‪ ،‬لقد علمت أين قدمت على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪،‬‬
‫فبايعته على اإلسالم ‪ .‬وأنا اليوم على ما كنت عليه أمس ‪ .‬فإن يكن كذاب خرج فينا ‪ ،‬فإن‬
‫اهلل يقول ‪ " :‬وال تزر وازرة وزر أخرى " ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا جماعة ! تركت اليوم ما كنت عليه‬
‫باألمس ‪ ،‬وكان رضاك بأمر هذا الكذاب ‪ ،‬وسكوتك عنه ‪ -‬وأنت أعز أهل اليمامة ‪ ،‬وقد‬
‫بلغك مسريي ‪-‬إقراراً له ‪ ،‬ورضى مبا جاء به ‪ ،‬فهال أبديت عذراً ‪ ،‬فتكلمت فيمن تكلم ؟‬
‫فقد تكلم مثامة ‪ .‬فرد وأنكر ‪ ،‬وتكلم اليشكري ‪ ،‬فإن قلت ‪ :‬أخاف قومي ‪ ،‬فهال عمدت إيل‬
‫‪ ،‬أو بعثت إيل رسوالً ؟ فقال ‪ :‬إن رأيت يا ابن املغرية ! أن تعفو عن هذا كله ؟ فقال ‪ :‬قد‬
‫عفوت عن دمك ‪ ،‬ولكن يف نفسي من تركك حرج ‪.‬‬
‫فقال له ذات يوم ‪ :‬أخربين عن صاحبك ‪ ،‬ما الذي يقرئكم ؟ هل حتفظ منه شيئاً ؟ قال ‪ :‬نعم‬
‫‪ ،‬فذكر له شيئاً من رجزه‪ .‬فضرب خالد بإحدى يديه على األخرى ‪ ،‬وقال ‪ :‬يا معشر‬
‫املسلمني ! امسعوا إىل عدو اهلل ‪ ،‬كيف يعارض القرآن ؟ فقال ‪ :‬وحيك ‪ ،‬يا جماعة ! أراك سيداً‬
‫عاقالً ‪ ،‬تسمع إىل كتاب اهلل ‪ ،‬مث انظر كيف عارضه عدو اهلل ؟ فقرأ عليه خالد ‪ :‬بسم اهلل‬
‫الرمحن الرحيم ‪ " :‬سبح اسم ربك األعلى * الذي خلق فسوى " ‪ .‬مث قال خالد ‪ :‬أفما كان‬

‫‪188‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫يف هذا لكم ناه ‪ ،‬وال زاجر؟ مث قال ‪ :‬هات من كذب اخلبيث ‪ .‬فذكر له بعض رجزه ‪ .‬فقال‬
‫خالد ‪ :‬وقد كان عندكم حقاً وكنتم تصدقونه ؟ فقال ‪ :‬لو مل يكن عندنا حقاً ملا لقيك غداً‬
‫أكثر من عشرة آالف سيف ‪ ،‬يضاربونك حىت ميوت األعجل ‪ .‬فقال خالد ‪ :‬إذاً يكفيناهم‬
‫اهلل ‪ ،‬ويقر دينه ‪ ،‬فإياه يعبدون ودينه يؤيدون ‪.‬‬
‫قال عبيد اهلل بن عبد اهلل ‪ :‬ملا أشرف خالد ‪ ،‬وأمجع أن ينزل عقرباء ‪ ،‬ودفع الطالئع أمامه ‪،‬‬
‫فرجعوا إليه فأخربوه ‪ :‬أن مسيلمة ومن معه قد نزلوا عقرباء ‪ ،‬فشاور أصحابه ‪ :‬أن ميضي إىل‬
‫اليمامة ‪ ،‬أو ينتهي إىل عقرباء ‪ .‬فأمجعوا أن ينتهي إىل عقرباء ‪ ،‬فزحف خالد باملسلمني إليها ‪،‬‬
‫وكان املسلمون يسألون عن الرجال بن عنفوة ‪ ،‬فإذا الرجل على مقدمة مسيلمة ‪ ،‬فلعنوه‬
‫وشتموه ‪ .‬فلما فرغ خالد من ضرب عسكره ‪-‬وبنو حنيفة تسوي صفوفها‪ -‬هنض خالد إىل‬
‫صفوفه فصفها ‪ .‬وقدم رايته مع زيد بن اخلطاب ‪ ،‬ودفع راية األنصار إىل ثابت بن قيس بن‬
‫مشاس ‪ ،‬فتقدم هبا ‪ .‬وجعل على ميمنته ‪ :‬أبا حذيفة بن عتبة ‪ ،‬وعلى ميسرته ‪ :‬شجاع بن‬
‫وهب ‪ ،‬واستعمل على اخليل الرباء بن مالك ‪ ،‬مث عزله ‪ ،‬واستعمل أسامة بن زيد ‪ .‬فأقبل بنو‬
‫حنيفة ‪ ،‬وقد سلوا السيوف ‪ .‬فقال خالد ‪ :‬يا معشر املسلمني ! أبشروا ‪ ،‬فقد كفاكم اهلل أمر‬
‫عدوكم ‪ ،‬ما سلوا السيوف من بعد إال لريهبوا ‪ .‬فقال جماعة ‪ :‬كال ‪ ،‬يا أبا سليمان ! ولكنها‬
‫اهلندوانية ‪ ،‬خشوا حتطمها ‪ ،‬وهي غداً باردة ‪ ،‬فأبرزوها للشمس لتسخن متوهنا ‪ .‬فلما دنوا‬
‫من املسلمني نادوا ‪ :‬إنا نعتذر إليكم من سلنا سيوفنا ‪ ،‬واهلل ما سللناها ترهيباً ‪ ،‬ولكن غداة‬
‫باردة ‪ ،‬فخشينا حتطمها ‪ ،‬فأردنا أن تسخن متوهنا إىل أن نلقاكم ‪ ،‬فسرتون ‪.‬‬
‫فاقتتلوا قتاالً شديداً ‪ ،‬وصرب الفريقان صرباً طويالً ‪ ،‬حىت كثر القتل واجلراح يف الفريقني ‪.‬‬
‫واستحر القتل يف املسلمني ومحلة القرآن ‪ ،‬حىت فنوا إال قليالً ‪ .‬وهزم كل من الفريقني حىت‬
‫دخل املسلمون عسكر املشركني ‪ ،‬واملشركون عسكر املسلمني مراراً ‪ .‬وجعل زيد بن‬
‫اخلطاب ‪-‬ومعه الراية‪ -‬يقول ‪ :‬اللهم إين أبرأ إليك مما جاء به مسيلمة ‪ ،‬وأعتذر إليك من فرار‬
‫أصحايب ‪ ،‬وجعل يشتد بالراية يف حنور العدو ‪ ،‬مث ضارب بسيفه حىت قتل ‪ ،‬رمحه اهلل ورضي‬

‫‪189‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫عنه ‪ .‬فأخذ الراية سامل موىل أيب حذيفة ‪ ،‬فقال املسلمون ‪ :‬إنا خناف أن نؤتى من قبلك ‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬بئس حامل القرآن أنا ‪ ،‬إذا أتيتم من قبلي ‪.‬‬
‫ونادت األنصار ثابت بن قيس ‪-‬ومعه رايتهم‪ : -‬الزمها ‪ ،‬فإهنا مالك القوم ‪ ،‬فتقدم سامل‬
‫فحفر لرجليه [حىت بلغ أنصاف ساقيه ‪ ،‬وحفر ثابت لرجليه] مثل ذلك ‪ ،‬مث لزما رايتيهما ‪.‬‬
‫ولقد كان الناس يتفرقون يف كل وجه ‪ ،‬وإن ساملاً وثابتاً لقائمان ‪ ،‬حىت قتل سامل ‪ ،‬وقتل أبو‬
‫حذيفة مواله ‪.‬‬
‫قال وحشي بن حرب ‪ :‬اقتتلنا قتاالً شديداً ‪ ،‬حىت رأيت شهب النار خترج من خالل السيوف‬
‫‪ ،‬حىت مسعت هلا صوتاً كاألجراس ‪.‬‬

‫وقال ضمرة بن سعيد املازين ‪-‬وذكر ردة بني حنيفة‪: -‬‬


‫مل يلق املسلمون عدواً أشد نكاية منهم ‪ ،‬لقوهم باملوت الناقع ‪ ،‬والسيوف قد أصلتوها قبل‬
‫النبل ‪ ،‬وقبل الرماح ‪ .‬فكان املعول يومئذ على أهل السوابق ‪.‬‬
‫وقال ثابت بن قيس يومئذ ‪ :‬يا معشر األنصار ! اهلل ‪ ،‬اهلل يف دينكم ‪ ،‬علمنا هؤالء أمراً ما‬
‫كنا حنسنه ‪ .‬مث أقبل على املسلمني ‪ ،‬وقال ‪ :‬أف لكم وملا تصنعون ‪ .‬مث قال ‪ :‬خلوا بيننا‬
‫وبينهم ‪ ،‬أخلصونا ‪ .‬فأخلصت األنصار ‪ ،‬فلم تكن هلم ناهية ‪ ،‬حىت انتهوا إىل حمكم بن‬
‫الطفيل فقتلوه ‪ .‬مث انتهوا إىل احلديقة فدخلوها ‪ ،‬فقاتلوا أشد القتال ‪ ،‬حىت اختلطوا فيها ‪ ،‬مث‬
‫صاح ثابت صيحة ‪ :‬يا أصحاب سورة البقرة ‪ .‬وأوىف عباد بن بشر على نشز فصاح بأعلى‬
‫صوته ‪ :‬أنا عباد بن بشر ‪ ،‬يا لألنصار ! أنا عباد ‪ ،‬إيل إيل‪ .‬فأجابوه ‪ :‬لبيك لبيك ‪ ،‬حىت توافوا‬
‫عنده ‪ .‬فقال ‪ :‬فداكم أيب وأمي ‪ ،‬حطموا جفون السيوف ‪ .‬مث حطم جفن سيفه فألقاه ‪.‬‬
‫وحطمت األنصار جفون سيوفها ‪ ،‬مث قال ‪ :‬محلة صادقة ‪ ،‬اتبعوين ‪ .‬فخرج أمامهم ‪ ،‬حىت‬
‫ساقوا بين حنيفة منهزمني ‪ ،‬حىت انتهوا إىل احلديقة ‪ ،‬فأغلق عليهم ‪ .‬مث إن اهلل فتح احلديقة ‪،‬‬
‫فاقتحم عليهم املسلمون ‪.‬‬
‫وعن أيب سعيد اخلدري رضي اهلل عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬دخلنا احلديقة ‪ ،‬حني جاء وقت الظهر ‪،‬‬
‫واستحر القتال ‪ ،‬فأمر خالد املؤذن ‪ ،‬فأذن على جدار احلديقة بالظهر ‪ ،‬والقوم مقبلون على‬
‫‪190‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫القتل ‪ ،‬حىت انقطعت احلرب بعد العصر ‪ .‬فصلى بنا خالد الظهر والعصر ‪ .‬مث بعث السقاة‬
‫يطوفون على القتلى ‪ ،‬فطفت معهم ‪ .‬فمررت بعامر بن ثابت ‪ ،‬وإىل جنبه رجل من بين حنيفة‬
‫به جراح ‪ ،‬فسقيت عامراً‪ .‬فقال احلنفي ‪ :‬اسقين فدى لك أيب وأمي ‪ .‬فقلت ‪ :‬ال ‪ ،‬وال كرامة‬
‫‪ ،‬ولكين أجهز عليك ‪ .‬قال ‪ :‬أحسنت ‪ ،‬أسألك مسألة ال شئ عليك فيها ‪ .‬قلت ‪ :‬ما هي ؟‬
‫قال ‪ :‬أبو مثامة ‪ ،‬ما فعل ؟ قلت ‪ :‬واهلل قتل ‪ ،‬قال ‪ :‬نيب ضيعه قومه ‪.‬‬
‫وملا قتل منهم من قتل ‪ ،‬وكانت هلم أيضاً يف املسلمني مقتلة عظيمة ‪ ،‬قد أبيح أكثر أصحاب‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وقيل ‪ :‬ال تغمدوا السيوف ‪ ،‬وفينا وفيهم عني تطرف ‪،‬‬
‫وكان فيمن بقي من املسلمني جراحات كثرية ‪ .‬فلما أمسى جماعة ‪ ،‬أرسل إىل قومه ليالً أن‬
‫ألبسوا السالح النساء والذرية ‪ ،‬مث إذا أصبحتم فقوموا مستقبلي الشمس على حصونكم ‪،‬‬
‫حىت يأتيكم أمري ‪ .‬وبات املسلمون يدفنون قتالهم ‪ ،‬فلما فرغوا ‪ ،‬جعلوا يتكمدون بالنار من‬
‫اجلراح‪ .‬فلما أصبحوا أمر خالد‪ ،‬فسيق جماعة يف احلديد‪ ،‬يعرفهم القتلى فمر برجل وسيم ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬يا جماعة‪ ،‬أهو هذا ؟ قال ‪ :‬هذا أكرم منه ‪ ،‬هذا حمكم بن الطفيل ‪ ،‬إن الذي تبتغون‬
‫لرجل أصيفر أخينس ‪ .‬فوجدوه ‪ ،‬فوقف عليه خالد ‪ ،‬فحمد اهلل كثرياً ‪ ،‬وأمر به فألقي يف‬
‫البئر اليت كان يشرب منها ‪.‬‬
‫وكان خالد يرى أنه مل يبق منهم أحد إال من ال عتاد عنده ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا جماعة ! هذا صاحبكم‬
‫الذي فعل بكم األفاعيل ‪ ،‬ما رأيت عقوالً أضعف من عقول أصحابك ‪ ،‬مثل هذا فعل بكم‬
‫ما فعل ؟ فقال جماعة ‪ :‬قد كان ذلك ‪ ،‬وال تظن أن احلرب انقطعت‪ ،‬وإن قتلته‪ .‬إن مجاعة‬
‫الناس ‪ ،‬وأهل البيوتات لفي احلصون ‪ ،‬فانظر ‪ .‬فرفع خالد رأسه ‪ ،‬فإذا السالح واخللق الكثري‬
‫على احلصون ‪ ،‬فرأى أمراً غمه ‪ .‬مث استند ساعة ‪ ،‬مث أدركته الرجولة ‪ ،‬فقال ألصحابه ‪ :‬يا‬
‫خيل اهلل ! اركيب ‪ ،‬يا صاحب الراية قدمها‪ .‬فقال جماعة ‪ :‬إين لك ناصح ‪ ،‬وإن السيف قد‬
‫أفناك ‪ ،‬فتعال أصاحلك عن قومي ‪ .‬وقد أخل خبالد مصاب أهل السابقة ‪ ،‬ومن كان عنده‬
‫الغناء ‪ .‬فقد رق وأحب املوادعة ‪ ،‬مع عجف الكراع ‪ .‬فاصطلحوا على الصفراء والبيضاء ‪،‬‬
‫واحللقة والكراع ونصف السيب ‪ .‬مث قال جماعة ‪ :‬إين آت القوم فعارض عليهم ما صنعت ‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫قال ‪ :‬فانطلق ‪ ،‬فذهب ‪ .‬مث رجع ‪ ،‬فأخربه ‪ :‬أهنم أجازوه ‪ .‬فلما بان خلالد أمنا هم النساء‬
‫والصبيان ‪ ،‬قال ‪ :‬ويلك يا جماعة ! خدعتين ‪ .‬قال ‪ :‬قومي ‪ ،‬فما أصنع ؟ وما وجدت من‬
‫ذلك بداً ‪.‬‬
‫وقال أسيد بن حضري وغريه خلالد ‪ :‬اتق اهلل ‪ ،‬وال تقبل الصلح ‪ .‬فقال ‪ :‬إنه قد أفناكم السيف‬
‫‪ .‬قالوا ‪ :‬وأفىن غرينا أيضاً ‪ .‬قال ‪ :‬ومن بقي منكم جريح ‪ .‬قالوا ‪ :‬ومن بقي من القوم‬
‫جرحى ‪ ،‬ال ندخل يف الصلح أبداً ‪ .‬أغد بنا عليهم ‪ ،‬حىت يظفرنا اهلل هبم أو نبيد عن آخرنا‪.‬‬
‫امحلنا على كتاب أيب بكر إن أظفرك اهلل هبم ‪ ،‬فال تبق منهم أحداً‪ ،‬فبينا هم على ذلك ‪ ،‬إذ‬
‫جاء كتاب أيب بكر يقطر الدم ‪ ،‬وفيه ‪ :‬إن أظفرك اهلل هبم ‪ ،‬فال تستبق رجالً مرت عليه‬
‫املوسى‪ .‬فتكلمت األنصار يف ذلك ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬أمر أيب بكر فوق أمرك ‪ .‬فقال ‪ :‬إين واهلل ما‬
‫ابتغيت يف ذلك إال الذي هو خري ‪ .‬رأيت أهل السابقة وأهل القرآن قد قتلوا ‪ ،‬ومل يبق معي‬
‫إال من ال بقاء له على السيف لو جل عليهم ‪ .‬فقبلت الصلح ‪ ،‬مع أهنم قد أظهروا اإلسالم ‪،‬‬
‫واتقوا بالراح ‪.‬‬
‫ومت الصلح ‪ ،‬وكتب إىل أيب بكر يعتذر إليه ‪ .‬فتكلم عمر يف شأن خالد بكالم غليظ ‪ ،‬فقال‬
‫أبو بكر ‪ :‬دع عنك هذا ‪ .‬فقال ‪ :‬مسعاً وطاعة ‪ .‬وقال أبو بكر ‪ :‬ليته محلهم على السيف ‪،‬‬
‫فلن يزالوا من كذاهبم يف بلية إىل يوم القيامة ‪ ،‬إال أن يعصمهم اهلل ‪ .‬وكانت وقعة اليمامة يف‬
‫ربيع األول سنة اثنيت عشرة ‪.‬‬
‫وذكر عمر يوماً وقعة اليمامة ‪ ،‬ومن قتل فيها من أهل السابقة ‪ ،‬فقال ‪:‬أحلت السيوف على‬
‫أهل السوابق ‪ ،‬ومل يكن املعول يومئذ إال عليهم ‪ .‬خافوا على اإلسالم أن يكسر بابه ‪ ،‬فيدخل‬
‫منه إن ظهر مسيلمة ‪ ،‬فمنع اهلل اإلسالم هبم حىت قتل عدوه ‪ ،‬وأظهر كلمته وقدموا ‪-‬رمحهم‬
‫اهلل‪ -‬على ما يسرون به من ثواب جهادهم من كذب على اهلل وعلى رسوله ‪ ،‬فاستحر هبم‬
‫القتل ‪ ،‬فرحم اهلل تلك الوجوه ‪.‬‬

‫‪192‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وقال يعقوب بن سعيد بن عبيد الزهري ‪ :‬قتل من بين حنيفة أكثر من سبعة آالف ‪ ،‬وكان‬
‫داؤهم خبيثاً ‪ ،‬والطارىء منهم على اإلسالم عظيماً ‪ ،‬فاستأصل شأفتهم ‪ ،‬واحلمد هلل رب‬
‫العاملني‪ .‬ذكر ردة بين سليم ‪:‬‬
‫ذكر الواقدي ‪-‬من حديث سفيان بن أيب العرجاء السليمي ‪ .‬وكان عاملاً بردة قومه‪ -‬قال ‪:‬‬
‫أهدى ملك من ملوك غسان إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم لطيمة فيها مسك وعنرب ‪ ،‬وخيل ‪.‬‬
‫فخرجت هبا الرسل ‪ ،‬حىت إذا كانت بأرض بين سليم بلغتهم وفاة النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪،‬‬
‫فتشجع بعض بين سليم على أخذها والردة ‪ ،‬وأىب بعضهم من ذلك ‪ ،‬وقال‪ :‬إن كان حممد قد‬
‫مات ‪ ،‬فإن اهلل حي ال ميوت ‪ ،‬فانتهب الذين ارتدوا منهم اللطيمة ‪.‬‬
‫فلما ويل أبو بكر رضي اهلل عنه ‪ :‬كتب إىل معن بن حاجر ‪ ،‬فاستعمله على من أسلم من بين‬
‫سليم ‪ ،‬وكان قد قام يف ذلك قياماً حسناً ‪ ،‬ذكر وفاة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪،‬‬
‫وذكر الناس ما قال اهلل لنبيه ‪ " :‬إنك ميت وإهنم ميتون " ‪ ،‬وقال ‪ " :‬وما حممد إال رسول قد‬
‫خلت من قبله الرسل " ‪ ،‬مع آي من كتاب اهلل ‪ .‬فاجتمع إليه بشر من بين سليم ‪ .‬واحناز أهل‬
‫الردة منهم ‪ ،‬فجعلوا يغريون على الناس ‪.‬‬
‫قتل الفجاءة وتحريقه‪: W‬‬
‫فلما بدا أليب بكر أن يوجه خالداً ‪ ،‬كتب إىل معن أن يلحق خبالد ‪ ،‬ويستعمل على عمله‬
‫أخاه طريفة بن حاجر‪ ،‬ففعل‪ .‬وأقام طريفة يكالب من ارتد مبن معه من املسلمني ‪ ،‬إذ قدم‬
‫الفجاءة ‪-‬وامسه إياس بن عبد اهلل بن عبد ياليل‪ -‬على أيب بكر ‪ .‬فقال‪ :‬إين مسلم‪ ،‬وقد أردت‬
‫جهاد من ارتد ‪ ،‬فامحلين‪ ،‬فلو كان عندي قوة مل أقدم عليك‪ .‬فسر أبو بكر مبقدمه ‪ ،‬ومحله‬
‫على ثالثني بعرياً ‪ ،‬وأعطاه سالحاً ‪ .‬فخرج يستعرض املسلم والكافر ‪ ،‬يقتلهم ويأخذ أمواهلم‬
‫‪ .‬ويصيب من امتنع منهم ‪ ،‬ومعه رجل من بين الشريد ‪ .‬يقال له ‪ :‬جنبة بن أيب امليثاء ‪ ،‬مع‬
‫قوم من أهل الردة ‪ .‬فلما بلغ أبا بكر خربه ‪ ،‬كتب إىل طريفة بن حاجر ‪:‬‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم ‪ .‬من أيب بكر إىل طريفة ‪ ،‬سالم عليك ‪ .‬أما بعد‪ ،‬فإن عدو اهلل‬
‫الفجاءة أتاين‪ .‬فزعم أنه مسلم وسألين‪ :‬أن أقويه على قتال من ارتد عن اإلسالم ‪ ،‬فحملته‬

‫‪193‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وسلحته ‪ ،‬وقد انتهى إيل من يقني اخلرب أن عدو اهلل قد استعرض الناس ‪ :‬املسلم واملرتد ‪،‬‬
‫يأخذ أمواهلم ويقتل من خالفه منهم ‪ .‬فسر إليه مبن معك من املسلمني ‪ ،‬حىت تقتله ‪ ،‬أو‬
‫تأخذه ‪ ،‬فتأتيين به ‪.‬‬
‫فقرأ طريفة الكتاب على قومه ‪ ،‬فحشدوا إىل الفجاءة ‪ .‬فقدم عليه ابن املثىن ‪ ،‬فقتل جنبة‪،‬‬
‫وهرب منه إىل الفجاءة‪ .‬مث زحف طريفة إىل الفجاءة ‪ ،‬فتصادما ‪ .‬فلما رأى الفجاءة اخللل يف‬
‫أصحابه ‪ ،‬قال ‪ :‬يا طريفة ! واهلل ما كفرت ‪ ،‬وإين ملسلم‪ .‬وما أنت بأوىل بأيب بكر مين ‪ ،‬أنت‬
‫أمريه وأنا أمريه ‪ .‬قال طريفة ‪ :‬إن كنت صادقاً فألق السالح ‪ ،‬مث انطلق إىل أيب بكر ‪ .‬فأخربه‬
‫خربك ‪ .‬فوضع السالح ‪ ،‬فأوثقه طريفة يف جامعة‪ ،‬فقال‪ :‬ال تفعل ‪ .‬فقال طريفة ‪ :‬هذا كتاب‬
‫أيب بكر إيل ‪ .‬فقال الفجاءة ‪ :‬مسعاً وطاعة ‪ .‬فبعث به يف جامعتة مع عشرة من بين سليم ‪،‬‬
‫فأرسل به أبو بكر إىل بين جشم ‪ ،‬فحرقته بالنار ‪.‬‬
‫وقدم على أيب بكر ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬قبيصة ‪-‬أحد بين الظربان‪ -‬فذكر أنه مسلم ومل يرتد‬
‫فأمره أن يقاتل مبن معه من ارتد ‪ ،‬فرجع قبيصة ‪ .‬فاجتمع إليه ناس كثري‪ ،‬فخرج يتبع هبم أهل‬
‫الردة ‪ ،‬يقتلهم حيث وجدهم‪ ،‬حىت مر ببيت محيضة بن احلكم الشريدي‪ ،‬فوجده غائباً ‪،‬‬
‫جيمع أهل الردة ‪ ،‬ووجد جاراً له مرتداً ‪ ،‬فقتله واستاق ماله ‪ .‬فلما أتى محيضة أخربه أهله‬
‫خبرب جاره ‪ ،‬فخرج يف طلبهم ‪ ،‬فأدركهم ‪ ،‬فقال لقبيصة ‪ :‬قتلت جاري ؟ فقال ‪ :‬إن جارك‬
‫ارتد عن اإلسالم ‪ .‬فقال ‪ :‬أمن بني من كفر تعدو على جار جلأ إيل ألمنعه ؟ فقال قبيصة ‪ :‬قد‬
‫كان ذلك ‪ .‬فطعنه محيضة بالرمح ‪ ،‬فوقع عن بعريه ‪ ،‬مث قتله ‪ .‬وكان قبيصة قد فرق أصحابه‬
‫قبل أن يلحقه محيضة ‪.‬‬
‫وكتب أبو بكر رضي اهلل عنه إىل خالد ‪ :‬إن أظفرك اهلل ببين حنيفة ‪ ،‬فأقل اللبث فيهم ‪ ،‬حىت‬
‫تنحدر إىل بين سليم ‪ ،‬فتطأهم وطأة يعرفون هبا ما منعوا ‪ ،‬فإنه ليس بطن من العرب أنا أغيظ‬
‫عليه مين عليهم ‪ ،‬فإن أظفرك اهلل هبم ‪ ،‬فال آلوك فيهم ‪ :‬أن حترقهم بالنار ‪ ،‬وهول فيهم القتل‬
‫حىت يكون نكاالً هلم‪.‬‬

‫‪194‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫ومسعت بنو سليم بإقبال خالد ‪ ،‬فاجتمع منهم بشر كثري ‪ ،‬واستجلبوا من بقي من العرب‬
‫مرتداً ‪ .‬وكان الذي مجعهم ‪ :‬أبو شجرة بن عبد العزى ‪ .‬فانتهى خالد إىل مجعهم مع الصبح‬
‫‪ ،‬فصاح خالد يف أصحابه ‪ ،‬وأمرهم بلبس السالح ‪ .‬مث صفهم ‪ ،‬وصفت بنو سليم ‪ ،‬وقد كل‬
‫املسلمون وعجف كراعم وخفهم ‪ ،‬وجعل خالد يلي القتال بنفسه ‪ ،‬حىت أثخن فيهم القتل ‪.‬‬
‫مث محل عليهم محلة واحدة ‪ ،‬فاهنزموا ‪ .‬وأسر منهم بشر كثري ‪ .‬مث حظر هلم احلظائر وحرقهم‬
‫فيها ‪.‬‬
‫وجرح أبو شجرة يومئذ يف املسلمني جراحات كثرية ‪ ،‬وقال يف ذلك أبياتاً ؟ منها ‪:‬‬
‫وإين ألرجو بعدها أن أعمرا‬ ‫فرويت رحمي من كتيبة خالد‬
‫مث أسلم ‪ ،‬وجعل يعتذر ‪ ،‬وجيحد أن يكون قال البيت املتقدم ‪ .‬فلما كان زمن عمر رضي اهلل‬
‫عنه قدم املدينة ‪ ،‬وأناخ راحلته بصعيد بين قريظة مث أتى عمر ‪ -‬وهو يقسم بني الفقراء‪-‬‬
‫فقال ‪ :‬يا أمري املؤمنني ! أعطين ‪ ،‬فإين ذو حاجة ‪ .‬فقال ‪ :‬من أنت ؟ قال ‪ :‬أنا أبو شجرة ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬يا عدو اهلل ! ألست الذي تقول فرويت رحمي ‪-‬البيت ؟ عمر سوء ‪ ،‬واهلل ما عشت‬
‫لك يا خبيث ‪ .‬مث جعل يعلوه بالدرة على رأسه ‪ ،‬حىت سبقه عدواً ‪ ،‬وعمر يف طلبه ‪ ،‬حىت‬
‫أتى راحلته فارحتلها ‪ .‬مث اشتد هبا يف حرة شوزان ‪ ،‬فما استطاع أن يقرب عمر حىت تويف ‪.‬‬
‫وكان إسالمه ال بأس به ‪ .‬وكان إذا ذكر عمر ترحم عليه ‪ ،‬ويقول ‪ :‬ما رأيت أحداً أهيب‬
‫من عمر رضي اهلل عنه ‪.‬‬

‫ذكر ردة أهل البحرين ‪:‬‬


‫قال عيسى بن طلحة ‪ :‬ملا ارتدت العرب ‪-‬بعد وفاة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬قال‬
‫كسرى ‪ :‬من يكفيين أمر العرب ؟ فقد مات صاحبهم ‪ ،‬وهم اآلن خيتلفون بينهم ‪ ،‬إال أن‬
‫يريد اهلل بقاء ملكهم ‪ ،‬فيجتمعون على أفضلهم ‪ .‬قالوا ‪ :‬ندلك على أكمل الرجال ‪ ،‬خمارق‬
‫بن النعمان ‪ ،‬ليس يف الناس مثله ‪ ،‬وهو من أهل بيت دانت هلم العرب ‪ ،‬وهؤالء جريانك ‪،‬‬
‫بكر بن وائل ‪ .‬فأرسل إليهم ‪ ،‬وأخذ منهم ستمائة ‪ ،‬األشرف فاألشرف ‪ .‬وارتد أهل هجر‬
‫عن اإلسالم ‪ .‬فقام اجلارود بن املعلى يف قومه ‪ ،‬فقال ‪ :‬ألستم تعلمون ما كنت عليه من‬
‫‪195‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫النصرانية ؟ وإين مل آتكم قط إال خبري‪ ،‬وإن اهلل تعاىل بعث نبيه ‪ ،‬ونعى له نفسه ‪ ،‬فقال ‪":‬‬
‫إنك ميت وإهنم ميتون "‪ ،‬وقال ‪ " :‬وما حممد إال رسول قد خلت من قبله الرسل " اآلية ‪.‬‬
‫ويف لفظ أنه قال ‪ :‬ما شهادتكم على موسى ؟ قالوا‪ :‬نشهد أنه رسول اهلل ‪ ،‬قال ‪ :‬فما‬
‫شهادتكم على عيسى؟ قالوا ‪ :‬نشهد أنه رسول اهلل ‪ ،‬قال ‪ :‬وأنا أشهد أن ال إله إال اهلل ‪ ،‬وأن‬
‫حممداً عبده ورسوله ‪ .‬عاش كما عاشوا ‪ ،‬ومات كما ماتوا ‪ ،‬وأحتمل شهادة من أىب أن‬
‫يشهد على ذلك منكم ‪ .‬فلم يرتد من عبد القيس أحد ‪.‬‬
‫وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد استعمل أبان بن سعيد على البحرين ‪ ،‬وعزل العالء‬
‫بن احلضرمي ‪ ،‬فقال ‪ :‬أبلغوين مأمين ‪ ،‬فأشهد أمر أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪،‬‬
‫فأحيا حبياهتم ‪ ،‬وأموت مبوهتم ‪ .‬فقالوا ‪ :‬ال تفعل ‪ ،‬فأنت أعز الناس علينا ‪ ،‬وهذا علينا وعليك‬
‫فيه مقالة ‪ ،‬يقال ‪ :‬فر من القتال ‪ .‬فأىب ‪ ،‬وانطلق يف ثالمثائة رجل يبلغونه املدينة ‪ .‬فقال له أبو‬
‫بكر رضي اهلل عنه ‪ :‬أال ثبت مع قوم مل يبدلوا ومل يرتدوا ؟ فقال ‪ :‬ما كنت ألعمل ألحد‬
‫بعد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ .‬فدعا أبو بكر العالء بن احلضرمي ‪ .‬فبعثه إىل البحرين‬
‫يف ستة عشر راكباً ‪ .‬وقال ‪ :‬امض ‪ ،‬فإن أمامك عبد القيس‪ ،‬فسار ‪ .‬ومر بثمامة بن أثال‬
‫فأمده برجال من قومه بين سحيم ‪ ،‬مث حلق به ‪.‬‬
‫فنزل العالء حبصن يقال له ‪ :‬جواثى ‪ ،‬وكان خمارق قد نزل مبن معه من بكر بن وائل ‪ :‬حصن‬
‫املشقر ‪ -‬حصن عظيم لعبد القيس‪ -‬فسار إليهم العالء‪ ،‬فيمن اجتمع إليه ‪ .‬فقاتلهم قتاالً‬
‫شديداً‪ ،‬حىت كثر القتلى يف الفريقني ‪ ،‬واجلارود بن املعلى باخلط يبعث البعوث إىل العالء ‪.‬‬
‫وبعث خمارق ‪ :‬احلطم بن شريح ‪-‬أحد بين قيس بن ثعلبة‪ -‬إىل مرزبان اخلط يستمده ‪ ،‬فأمده‬
‫باألساورة‪ .‬فنزل احلطم ردم القداح ‪ -‬وكان حلف أن ال يشرب اخلمر حىت يرى هجراً ‪-‬‬
‫وأخذ املرزبان اجلارود رهينة عنده ‪ .‬وسار احلطم وأجبر العجلي حىت حصلوا العالء جبواثى ‪.‬‬
‫فقال عبد اهلل بن حذف ‪ ،‬وكان من صاحلي املسلمني ‪:‬‬
‫وسكان املدينة أمجعينا‬ ‫أال أبلغ أبا بكر رسوال‬
‫قعود يف جواثى حمصرينا‬ ‫فهل لكمو إىل نفر يسري‬

‫‪196‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫شعاع الشمس يغشى الناظرينا‬ ‫كأن دماءهم يف كل فج‬


‫وجدنا النصر للمتوكلينا‬ ‫توكلنا على الرمحن إنا‬
‫فمكثوا على ذلك حمصورين ‪.‬‬
‫ومسع العالء وأصحابه ذات ليلة لغطاً يف العسكر ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬لو علمنا أمرهم ؟ فقال عبد اهلل‬
‫بن حذف‪ :‬أنا أعلم لكم علمهم ‪ .‬فدلوه حببل ‪ ،‬فأقبل حىت دخل على أجبر العجلي ‪-‬وأمه‬
‫منهم‪ -‬قال ‪ :‬ما جاء بك ؟ ال أنعم اهلل بك عيناً ‪ .‬قال ‪ :‬جاء يب الضر واجلوع ‪ ،‬وأردت‬
‫اللحاق بأهلي ‪ ،‬فزودين ‪ .‬فقال ‪ :‬أفعل ‪ ،‬على أين أظنك واهلل غري ذلك ‪ ،‬بئس ابن األخت‬
‫أنت سائر الليلة ‪ .‬فزوده وأعطاه نعلني ‪ ،‬وأخرجه من العسكر ‪ ،‬وخرج معه حىت برز ‪.‬‬
‫فمضى كأنه ال يريد احلصن حىت أبعد ‪ ،‬مث عطف ‪ ،‬فأخذ باحلبل فصعد ‪ .‬فقالوا ‪ :‬ما وراءك ؟‬
‫قال ‪ :‬تركتهم سكارى ‪ ،‬قد نزل هبم جتار معهم مخر ‪ ،‬فاشرتوا منهم ‪ ،‬فإن كان لكم هبم‬
‫حاجة فالليلة ‪ .‬فنزلوا إليهم ‪ ،‬فبيتوهم فقتلوهم ‪ ،‬فلم يفلت منهم أحد ‪ .‬ووثب احلطم فوضع‬
‫رجله يف الركابات ‪ ،‬وجعل يقول ‪ :‬من حيملين ‪ ،‬فسمعه عبد اهلل بن حذف ‪ .‬فأقبل يقول ‪:‬‬
‫أبا ضبيعة ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬قال ‪ :‬أنا أمحلك ‪ .‬فلما دنا منه قتله ‪ ،‬وقطعت رجل أجبر العجلي ‪،‬‬
‫فمات منها ‪ .‬واهنزم فلهم فاعتصموا مبفروق الشيباين ‪.‬‬
‫مث سار العالء إىل مدينة دارين فقاتلهم قتاالً شديداً ‪ ،‬وضيق عليهم ‪ .‬فلما رأى ذلك خمارق‬
‫ومن معه ‪ ،‬قالوا‪ :‬إن خلوا عنا رجعنا من حيث جئنا ‪ .‬فشاور العالء أصحابه ‪ ،‬فأشاروا‬
‫بتخليتهم ‪ ،‬فخرجوا فلحقوا ببالدهم ‪ .‬وطلب أهل دارين الصلح ‪ ،‬فصاحلهم العالء على ثلث‬
‫ما يف أيديهم من أمواهلم ‪ ،‬وما كان خارجاً منها فهو له ‪.‬‬
‫وطفقت بكر بن وائل تنادي ‪ :‬يا عبد القيس ‪ ،‬أتاكم مفروق يف مجاعة بكر بن وائل ‪ .‬فقال‬
‫عبد اهلل بن حذف ‪:‬‬
‫إن يأتنا يلق منا سنة احلطم‬ ‫ال توعدونا مبفروق وأسرته‬
‫خيل تكدس بالفرسان يف النعم‬ ‫فالنخل ظاهرها خيل وباطنها‬
‫ألمة داخلون النار يف أمم‬ ‫وإن ذا احلي من بكر وإن كثروا‬

‫‪197‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫مث سار العالء إىل اخلط ‪ ،‬حىت نزل إىل الساحل ‪ .‬فجاءه نصراين ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما يل إن دللتك‬
‫على خماضة ختوض منها اخليل إىل دارين ؟ قال ‪ :‬وما تسألين ؟ قال ‪ :‬أهل بيت بدارين ‪ .‬قال‬
‫‪ :‬هم لك ‪ .‬فخاض به ‪ ،‬فظفر هبم عنوة ‪ ،‬وسىب أهلها ‪ .‬وقيل ‪ :‬حبس هلم البحر ‪ ،‬حىت‬
‫خاضوه ‪ ،‬وكانت جتري فيه السفن قبل ‪ ،‬مث جرت بعد ‪.‬‬
‫ويروى ‪ :‬أن العالء وأصحابه جأروا إىل اهلل ‪ ،‬وتضرعوا إليه يف حبس البحر ‪ ،‬فأجاب اهلل‬
‫دعاءهم ‪ .‬وكان دعاؤهم ‪ :‬يا أرحم الرامحني ! يا كرمي ! يا حليم ! يا أحد ! يا صمد ! يا‬
‫حي يا حميي املوتى ‪ ،‬يا حي يا قيوم ‪ ،‬ال إله إال أنت يا ربنا‪ ،‬فأجازوا ذلك اخلليج بإذن اهلل‬
‫مجيعاً ميشون على مثل رملة ‪ .‬فقال عفيف بن املنذر يف ذلك ‪:‬‬
‫وأنزل بالكفار إحدى اجلالئل؟‬ ‫أمل تر أن اهلل ذلل حبره‬
‫بأعظم من فلق البحار األوائل‬ ‫دعونا الذي شق البحار فجاءنا‬
‫وملا رأى ذلك أهل الردة من أهل البحرين ‪ ،‬صاحلوا على ما صاحل عليه أهل هجر ‪.‬‬
‫وملا ظهر العالء على أهل الردة واجملوس ‪ :‬بعث رجاالً من عبد القيس إىل أيب بكر رضي اهلل‬
‫عنه ‪ ،‬فنزلوا على طلحة ‪ ،‬والزبري رضي اهلل عنهما ‪ ،‬وأخربومها بقيامهم يف أهل الردة ‪ .‬مث‬
‫دخلوا على أيب بكر ‪ ،‬وحضر طلحة والزبري ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬يا خليفة رسول اهلل ! إنا قوم أهل‬
‫إسالم ‪ .‬وليس شئ أحب إلينا من رضاك ‪ ،‬وحنن حنب أن تعطينا أرضاً من البحر وطواحني ‪.‬‬
‫وكلمه يف ذلك طلحة والزبري ‪.‬‬
‫فأجاب ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬اكتب لنا كتاباً ‪ ،‬فكتب ‪ .‬فانطلقوا بالكتاب إىل عمر رضي اهلل عنه ‪ .‬فلما‬
‫قرأه ‪ ،‬تفل يف الكتاب وحماه ‪ .‬ودخل طلحة والزبري ‪ ،‬فقاال ‪ :‬واهلل ما ندري ‪ ،‬أنت اخلليفة أم‬
‫عمر ؟ فقال أبو بكر ‪ :‬وما ذاك ؟ فأخربوه ‪ ،‬فقال أبو بكر ‪ :‬لئن كان عمر كره شيئاً من‬
‫ذلك ‪ ،‬فإين ال أفعله ‪ .‬فبينما هم على ذلك إذ جاء عمر ‪ ،‬فقال له أبو بكر ‪ :‬ما كرهت من‬
‫هذا ؟ قال ‪ :‬كرهت أن تعطي اخلاصة دون العامة ‪ ،‬وأنت تقسم على الناس ‪ ،‬فتأىب أن تفضل‬
‫أهل السابقة‪ ،‬وتعطي هؤالء قيمة عشرين ألفاً دون الناس‪ .‬فقال أبو بكر ‪ :‬وفقك اهلل ‪،‬‬
‫وجزاك خرياً ‪ .‬هذا هو احلق ‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫ذكر ردة أهل دبا وأزد عمان ‪:‬‬


‫وذلك ‪ :‬أهنم قدموا على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مسلمني ‪ .‬فبعث إليهم مصدقاً يقال‬
‫له ‪ .‬حذيفة بن حمصن البارقي ‪ ،‬مث األزدي ‪ ،‬من أهل دبا ‪ .‬وأمره ‪ :‬أن يأخذ الصدقة من‬
‫أغنيائهم ‪ ،‬ويردها على فقرائهم‪ ،‬ففعل ذلك حذيفة ‪.‬‬
‫فلما تويف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم منعوا الصدقة ‪ ،‬وارتدوا ‪ ،‬فدعاهم حذيفة إىل التوبة‬
‫‪ ،‬فأبوا ‪ ،‬وجعلوا يرجتلون ‪:‬‬
‫أمست قريش كلها نيب‬ ‫لقد أتانا خرب ردي‬
‫ظلم لعمر اهلل عبقري‬
‫فكتب حذيفة إىل أيب بكر بأمرهم ‪ ،‬فاغتاظ غيظاً شديداً ‪ ،‬وقال ‪ :‬من هلؤالء ؟ ويل هلم ؟ ‪.‬‬
‫مث بعث إليهم عكرمة بن أيب جهل ‪-‬وكان النيب صلى اهلل عليه وسلم قد استعمله على سفلي‬
‫بين عامر بن صعصعة مصدقاً‪ -‬فلما بلغته وفاة النيب صلى اهلل عليه وسلم احناز إىل تبالة يف‬
‫أناس من العرب ‪ ،‬ثبتوا على اإلسالم ‪ .‬وكان مقيماً بتبالة يف أرض كعب بن ربيعة ‪ ،‬فجاءه‬
‫كتاب أيب بكر ‪ :‬سر فيمن قبلك من املسلمني إىل أهل دبا‪.‬‬
‫فسار عكرمة يف حنو ألفني من املسلمني ‪ ،‬وكان رأس أهل الردة ‪ :‬لقيط بن مالك األزدي ‪،‬‬
‫فلما بلغه مسري عكرمة ‪ ،‬بعث ألف رجل من األزد يلقونه ‪ .‬وبلغ عكرمة ‪ :‬أهنم مجوع كثرية‬
‫‪ ،‬فبعث طليعة ‪ ،‬وكان للعدو أيضاً طليعة ‪ ،‬فالتقت الطليعتان ‪ ،‬فتناوشوا ساعة ‪ ،‬مث انكشف‬
‫أصحاب لقيط ‪ .‬وقتل منهم حنو مائة رجل ‪ ،‬وبعث أصحاب عكرمة فارساً خيربه ‪ .‬فأسرع‬
‫عكرمة حىت حلق طليعته ‪ ،‬مث زحفوا مجيعاً ‪ ،‬وسار على تعبئة ‪ ،‬حىت أدرك القوم ‪ .‬فاقتتلوا‬
‫ساعة ‪ ،‬مث هزمهم عكرمة ‪ ،‬وأكثر فيهم القتل‪ ،‬ورجع فلهم إىل لقيط بن مالك ‪ ،‬فأخربوه ‪:‬‬
‫أن عكرمة مقبل ‪.‬‬
‫فقوي جانب حذيفة [ومن معه من املسلمني فناهضهم ‪ ،‬وجاء عكرمة ‪ ،‬فقاتل معهم ‪ ،‬فاهنزم‬
‫العدو حىت دخلوا مدينة دبا ‪ ،‬فحصرهم املسلمون شهراً ‪ ،‬وشق عليهم احلصار إذ مل يكونوا‬
‫قد أخذوا له أهبة ‪ ،‬فأرسلوا إىل حذيفة] يسألونه الصلح ‪ .‬فقال ‪ :‬ال ‪ ،‬إال بني حرب جملية ‪،‬‬

‫‪199‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫أو سلم خمزية ‪ .‬قالوا ‪ :‬أما احلرب اجمللية ‪ .‬فقد عرفناها ‪ ،‬فما السلم املخزية ؟ قال ‪ :‬تشهدون‬
‫أن قتالنا يف اجلنة وقتالكم يف النار ‪ ،‬وأن كل ما أخذناه منكم فهو لنا ‪ ،‬وما أخذمتوه فهو رد‬
‫لنا ‪ ،‬وأنا على حق وأنتم على باطل وكفر ‪ ،‬وحنكم فيكم مبا رأينا ‪ .‬فأقروا بذلك ‪ .‬فقال ‪:‬‬
‫اخرجوا عزالً ‪ ،‬ال سالح معكم ‪ .‬ففعلوا ‪ ،‬فدخل املسلمون حصنهم ‪ ،‬فقال حذيفة ‪ :‬إين قد‬
‫حكمت فيكم ‪ :‬أن أقتل أشرافكم ‪ ،‬وأسيب ذراريكم ‪ .‬فقتل من أشرافهم مائة رجل ‪ ،‬وسيب‬
‫ذراريهم ‪ .‬وقدم حذيفة بسبيهم املدينة‪ ،‬وهم ثالمثائة من املقاتلة ‪ ،‬وأربعمائة من الذرية‬
‫والنساء ‪ .‬وأقام عكرمة بدبا عامالً عليها أليب بكر ‪.‬‬
‫فلما قدم حذيفة بسبيهم ‪ :‬أنزهلم أبو بكر رضي اهلل عنه دار رملة بنت احلارث ‪ ،‬وهو يريد أن‬
‫يقتل من بقي من املقاتلة ‪ .‬والقوم يقولون ‪ :‬واهلل ما رجعنا عن اإلسالم ‪ ،‬ولكن شححنا على‬
‫أموالنا ‪ .‬فيأىب أبو بكر أن يدعهم هبذا القول ‪ ،‬وكلمه فيهم عمر ‪ ،‬وكان رأيه أن ال يسبوا ‪.‬‬
‫فلم يزالوا موقوفني يف دار رملة حىت مات أبو بكر ‪ .‬فدعاهم عمر ‪ ،‬فقال ‪ :‬انطلقوا إىل أي‬
‫بالد شئتم ‪ ،‬فأنتم قوم أحرار ‪ .‬فخرجوا حىت نزلوا البصرة ‪ .‬وكان فيهم أبو صفرة ‪-‬والد‬
‫املهلب‪ -‬وهو غالم يومئذ ‪ .‬وملا قدم غزو أهل دبا أعطاهم أبو بكر مخسة دنانري مخسة دنانري‬
‫‪.‬‬

‫السنة الثانية عشرة ‪:‬‬


‫مسير خالد إلى العراق ‪:‬‬
‫وملا دخلت السنة الثانية من خالفة أيب بكر رضي اهلل عنه ‪ ،‬وهي سنة اثنيت عشرة من اهلجرة ‪،‬‬
‫كتب إىل خالد ‪ :‬إذا فرغت من اليمامة ‪ ،‬فسر إىل العراق ‪ ،‬فقد وليتك حرب فارس‪ .‬فسار‬
‫إليه يف بضعة وثالثني ألفاً ‪ ،‬فصاحل أهل السواد ‪ .‬مث سار إىل األبلة ‪ .‬وخرج كسرى يف مائة‬
‫وعشرين ألفاً ‪ .‬فالتقى مع خالد ‪ ،‬فهزم اهلل املشركني من الفرس ‪ .‬وكتب خالد إىل كسرى ‪:‬‬
‫أما بعد ‪ ،‬فأسلموا تسلموا ‪ ،‬وإال فأدوا اجلزية ‪ ،‬وإال فقد جئتكم بقوم حيبون املوت كما‬
‫حتبون احلياة ‪ ،‬فصاحلوه ‪.‬‬
‫وفيها حج أبو بكر رضي اهلل عنه بالناس ‪ ،‬مث رجع إىل املدينة ‪.‬‬
‫‪200‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫حوادث السنة الثالثة عشرة ‪:‬‬


‫مث دخلت سنة ثالث عشرة ‪.‬‬
‫فبعث أبو بكر رضي اهلل عنه اجلنود إىل الشام ‪ ،‬وأمر عليهم يزيد بن أيب سفيان ‪ ،‬وأبا عبيدة‬
‫عامر بن اجلراح ‪ ،‬وشرحبيل بن حسنة ‪ ،‬وعمرو بن العاص ‪ .‬ونزلت الروم بأعلى فلسطني يف‬
‫سبعني ألفاً ‪ .‬فكتبوا إىل أيب بكر خيربونه ويستمدونه ‪ ،‬فأمر خالداً ‪-‬وهو باحلرية‪ -‬أن ميد أهل‬
‫الشام مبن معه من أهل القوة ‪ ،‬ويستخلف على ضعفة الناس رجالً منهم ‪.‬‬
‫فسار خالد بأهل القوة ‪ ،‬ورد الضعفة إىل املدينة ‪ .‬واستخلف على من أسلم بالعراق ‪ :‬املثثى‬
‫بن حارثة ‪.‬‬
‫وسار حىت وصل إىل الشام ‪ ،‬ففتحوا بصرى ‪ .‬وهي أول مدينة فتحت ‪.‬‬
‫مث اجتمع املشركون من الروم ‪ ،‬فاحناز املسلمون إىل أجنادين ‪ ،‬فكانت الوقعة املشهورة ‪،‬‬
‫وكان النصر للمسلمني ‪.‬‬

‫موت الصديق رضي اهلل عنه ‪:‬‬


‫ويف هذه السنة ‪ :‬مات الصديق ‪ ،‬ليلة الثالثاء ‪ ،‬لسبع عشرة ليلة مضت من مجادى اآلخرة ‪.‬‬
‫وكانت خالفته سنتني وثالثة أشهر ‪ ،‬واثنتني وعشرين ليلة ‪.‬‬
‫واستخلف على الناس عمر بن اخلطاب ‪ ،‬وقال ‪ :‬اللهم إين وليتهم خريهم ‪ ،‬ومل أرد بذلك إال‬
‫إصالحهم ‪ .‬ومل أرد حماباة عمر ‪ ،‬فأخلفين فيهم ‪ ،‬فهم عبادك ‪ ،‬ونواصيهم بيدك ‪ ،‬أصلح هلم‬
‫واليهم ‪ ،‬واجعله من خلفائك الراشدين ‪ ،‬يتبع هدى نبيه صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وأصلح له‬
‫رعيته‪ .‬مث دعاه ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا عمر ! إن هلل حقاً يف الليل ال يقبله يف النهار ‪ ،‬وحقاً يف النهار ال‬
‫يقبله يف الليل ‪ .‬وإهنا ال تقبل نافلة حىت تؤدى فريضة ‪ ،‬وإمنا ثقلت موازين من ثقلت موازينه‬
‫باتباعهم احلق ‪ ،‬وثقله عليهم ‪ .‬وحق مليزان ال يوضع فيه غري احلق غداً أن يكون ثقيالً ‪ .‬فإذا‬
‫حفظت وصييت ‪ ،‬مل يكن غائب أحب إليك من املوت ‪ ،‬وهو نازل بك ‪ .‬وإن ضيعتها ‪ ،‬فال‬
‫غائب أكره إليك منه ‪ ،‬ولست تعجزه ‪.‬‬
‫‪201‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وورث منه أبوه أبو قحافة السدس ‪ ،‬وملا ورد كتاب أيب بكر رضي اهلل عنه إىل أمراء األجناد‬
‫باستخالف عمر بايعوه ‪ .‬مث ساروا إىل فحل بناحية األردن ‪ ،‬وقد اجتمع هبا الروم ‪ .‬فكانت‬
‫وقعة فحل املشهورة ‪ ،‬ونصر اهلل املسلمني ‪ ،‬واحناز املشركون إىل دمشق ‪.‬‬

‫حوادث السنة الرابعة عشرة ‪:‬‬


‫مث دخلت السنة الرابعة عشرة ‪:‬‬
‫وفيها ‪ :‬ساروا إىل دمشق وعليهم خالد ‪ .‬فأتى كتاب عمر رضي اهلل عنه بعزل خالد ‪ ،‬وتأمري‬
‫أيب عبيدة بن اجلراح ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬أمر عمر بصالة الرتاويح مجاعة ‪.‬‬
‫وقدم جرير بن عبد اهلل يف ركب من جبيلة ‪ ،‬فأشار عليه عمر باخلروج إىل العراق ‪ ،‬فسار هبم‬
‫جرير إىل العراق ‪ .‬فلما قرب من املثىن بن حارثة ‪ ،‬كتب إليه ‪ :‬أقبل ‪ ،‬فإمنا أنت مدد يل ‪.‬‬
‫فقال جرير ‪ :‬أنت أمري ‪ ،‬وأنا أمري ‪ .‬مث اجتمعا ‪ .‬فكانت وقعة البويب املشهورة ‪.‬‬
‫مث أن عمر أمر سعداً بن أيب وقاص رضي اهلل عنه على العراق ‪ ،‬وكتب له وأوصاه ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫يا سعد بن وهيب ! ال يغرنك من اهلل أن قيل ‪ :‬خال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وصاحبه‬
‫‪ ،‬فإن اهلل الميحو السئ بالسئ ‪ ،‬ولكن ميحو السئ باحلسن ‪ .‬وإن اهلل ليس بينه وبني أحد‬
‫نسب إال بطاعته ‪ ،‬فالناس شريفهم ووضيعهم يف ذات اهلل سواء ‪ .‬اهلل رهبم وهم عباده ‪،‬‬
‫يتفاضلون بالعافية ‪ ،‬ويدركون ما عند اهلل بالطاعة ‪ .‬فانظر األمر الذي رأيت عليه رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم منذ بعث إىل أن فارقنا عليه ‪ ،‬فالزمه‪ ،‬فإنه األمر‪ ،‬وكتب إىل املثىن وجرير‬
‫‪ :‬أن جيتمعا إليه ‪ .‬فسار سعد مبن معه ‪ ،‬فنزل بشراف ‪ ،‬واجتمع إليه الناس ‪.‬‬

‫حوادث السنة الخامسة عشرة ‪:‬‬


‫مث دخلت السنة اخلامسة عشرة ‪ .‬فتح القادسية ‪:‬‬
‫فلما احنسر الشتاء سار سعد إىل القادسية ‪ ،‬وكتب إىل عمر يستمده ‪ .‬فبعث إليه املغرية بن‬
‫شعبة ‪ ،‬يف جيش من أهل املدينة ‪ ،‬وكتب إىل أيب عبيدة ‪ :‬أن ميده بألف ‪ .‬ومسع بذلك رستم‬
‫‪202‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫بن الفرخزاد‪ .‬فخرج بنفسه يف مائة وعشرين ألفاً‪ .‬سوى التبع والرقيق‪ ،‬حىت نزل القادسية ‪،‬‬
‫وبينه وبني املسلمني جسر القادسية‪ ،‬وقيل ‪ :‬كانوا ثالمثائة ألف ‪ ،‬ومعهم ثالثة وثالثون فيالً‪.‬‬
‫واجتمع املسلمون حىت صاروا ثالثني ألفاً ‪ ،‬فكانت وقعة القادسية املشهورة اليت نصر اهلل فيها‬
‫املسلمني ‪ ،‬وهزم املشركني ‪ .‬فلما هزم اهلل الفرس ‪ ،‬كتب عمر إىل سعد ‪ :‬أن أعد للمسلمني‬
‫دار هجرة ‪ ،‬وإنه ال يصلح العرب إال حيث يصلح للبعري والشاء ‪ ،‬ويف منابت العشب‪ ،‬فانظر‬
‫فالة إىل جانب حبر‪ .‬فبعث سعد عثمان بن حنيف ‪ ،‬فارتاد هلم موضع الكوفة ‪ ،‬فنزهلا سعد‬
‫بالناس ‪ ،‬مث كتب عمر إىل سعد ‪:‬أن ابعث إىل أرض اهلند ‪-‬يريد البصرة‪ -‬جنداً ‪ ،‬فلينزلوها‪.‬‬
‫فبعث إليها عتبة بن غزوان يف ثالمثائة رجل حىت نزهلا ‪ .‬وهو الذي بصر البصرة ‪.‬‬
‫ويف هذه السنة ‪ :‬كانت وقعة الريموك املشهورة بالشام ‪ .‬وخرج عمر إىل الشام ‪ ،‬ونزل اجلابية‬
‫‪ ،‬فصاحل نصارى بيت املقدس ‪ -‬وكانوا قد أبوا أن جييبوا إىل الصلح مع أيب عبيدة ‪ ،‬حىت‬
‫يكون عمر يعقدون الصلح معه‪ -‬فصاحلهم ‪ .‬واشرتط عليهم إجالء الروم إىل ثالث ‪ ،‬واجتمع‬
‫إليه أمراء األجناد ‪ .‬فلما رجع إىل املدينة وضع الديوان ‪ ،‬فأعطى العطايا على مقدار السابقة ‪.‬‬
‫فبدأ بالعباس ‪ ،‬حرمة لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬مث باألقرب فاألقرب ‪.‬‬

‫حوادث السنة السادسة عشرة ‪:‬‬


‫مث دخلت السنة السادسة عشرة ‪.‬‬
‫فيها ‪ :‬كتب عمر التاريخ ‪ .‬واستشار الصحابة يف مبدئه ‪ .‬فمنهم من قال ‪ :‬نبدأ من بدء النبوة‬
‫‪ .‬ومنهم من قال ‪[ :‬من الوفاة‪ ،‬ومنهم من قال ‪ ]:‬من اهلجرة ‪ .‬فجعله عمر من اهلجرة ‪.‬‬
‫حوادث السنة السابعة عشرة ‪:‬‬
‫مث دخلت السنة السابعة عشرة ‪.‬‬
‫فكان فيها فتوح كثرية شرقاً وغرباً ‪.‬‬
‫وفيها فتحت تسرت اليت وجد فيها جسد دانيال عليه السالم ‪ .‬وكان املشركون يستسقون به ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬تزوج عمر أم كلثوم بنت علي بن أيب طالب رضي اهلل عنهم ‪ ،‬طلباً لصهر رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬
‫‪203‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫حوادث السنة الثامنة عشرة ‪:‬‬


‫مث دخلت السنة الثامنة عشرة ‪.‬‬
‫فيها ‪ :‬أصاب الناس جماعة شديدة ‪ ،‬وتسمى عام الرمادة ‪ ،‬لكثر ما هلك فيها من الناس‬
‫والبهائم جوعاً ‪ ،‬فاستسقى عمر بالناس ‪ .‬وسأل العباس أن يدعو اهلل ‪ ،‬ويؤمن عمر والناس‬
‫على دعائه ‪ ،‬فأزال اهلل القحط ‪.‬‬
‫وفيها وقع طاعون عمواس بالشام ‪ ،‬وقد هلك فيه مخسة وعشرون ألفاً ‪ .‬ومات فيه أبو عبيدة‬
‫عامر بن اجلراح ‪ ،‬ومعاذ بن جبل ‪ ،‬ويزيد بن أيب سفيان رضي اهلل عنهم ‪ .‬فلما بلغ عمر‬
‫موهتم ‪ :‬أمر على الشام معاوية بن أيب سفيان ‪.‬‬

‫حوادث السنة التاسعة عشرة ‪:‬‬


‫مث دخلت السنة التاسعة عشر ‪.‬‬
‫فتح فيها فتوح كثرية شرقاً وغرباً ‪.‬‬

‫حوادث السنة العشرين‪: W‬‬


‫مث دخلت السنة العشرون ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬فتحت مصر واإلسكندرية ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬أجلى عمر رضي اهلل عنه اليهود من احلجاز إىل أذرعات وغريها ‪.‬‬

‫حوادث السنة الحادية والعشرين‪: W‬‬


‫مث دخلت السنة احلادية والعشرون ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬كان فتح هناوند ‪ ،‬وأمريها النعمان بن مقرن ‪ ،‬وقتل يومئذ ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬مات خالد بن الوليد رضي اهلل عنه حبمص ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬مات عمرو بن معدي كرب ‪ ،‬وطليحة بن خويلد األسدي ‪-‬الذي كان تنبأ‪ ،‬مث أسلم‬
‫وحسن إسالمه ‪ ،‬وأبلى يف قتال الفرس بالء حسناً‪ -‬قتال مع النعمان بن مقرن بنهاوند ‪.‬‬

‫‪204‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫حوادث السنة الثانية والعشرين ‪:‬‬


‫مث دخلت السنة الثانية والعشرون ‪:‬‬
‫وفيها ‪ :‬دخل األحنف بن قيس خراسان ‪ ،‬وحارب يزدجرد آخر ملوك الفرس فهزمه اهلل تعاىل‬
‫فيها ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬اعتمر عمر ‪ .‬فتلقاه نافع بن احلارث ‪-‬وكان عامله على مكة‪ -‬فقال له عمر ‪ :‬من‬
‫خلفت ؟ قال ‪ :‬ابن أبزى ‪ ،‬قال عمر ‪ :‬ومن ابن أبزى ؟ قال ‪ :‬موىل لنا ‪ ،‬إنه قارىء للقرآن ‪،‬‬
‫عامل بالفرائض ‪ .‬قال عمر ‪ :‬مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول ‪ :‬إن اهلل يرفع هبذا‬
‫القرآن أقواماً ‪ ،‬ويضع به آخرين‪.‬‬

‫حوادث السنة الثالثة والعشرين ‪:‬‬


‫مث دخلت السنة الثالثة والعشرون ‪:‬‬
‫وفيها ‪ :‬قتل عمر رضي اهلل عنه يف صالة الصبح من يوم األربعاء ألربع ليال بقني من ذي‬
‫احلجة ‪ ،‬ودفن يوم األحد هالل احملرم سنة أربع وعشرين ‪ .‬وملا رجع من احلج يف آخرها قام‬
‫خطيباً ‪ ،‬فقال ‪ :‬إين رأيت كأن ديكاً أمحر نقرين نقرتني أو ثالثاً ‪ ،‬وال أرى ذلك إال حضور‬
‫أجلي‪ .‬مث خرج إىل السوق ‪ ،‬فلقيه أبو لؤلؤة اجملوسي ‪ ،‬غالم املغرية بن شعبة ‪ ،‬وكان صانعاً‬
‫يعمل األرحاء ‪ ،‬فقال له ‪ :‬أال تكلم موالي يضع عين من خراجي ؟ قال ‪ :‬وكم خراجك ؟‬
‫قال ‪ :‬دينار ‪ ،‬قال ‪ :‬إنك لعامل حمسن ‪ .‬فقال ‪ :‬وسع الناس عدلك وضاق يب ‪ .‬وأضمر قتل‬
‫عمر ‪ ،‬فاصطنع له خنجراً ذا حدين وشحذه ومسه ‪ .‬مث أتى به اهلرمزان ‪ .‬فقال ‪ :‬كيف ترى‬
‫هذا ؟ قال ‪ :‬أرى أنك ال تضرب به أحداً إال قتله ‪ .‬فلما كرب عمر رضي اهلل عنه يف صالة‬
‫الصبح ‪ ،‬طعنه ثالث طعنات ‪ .‬وقصة مقتله يف الصحيحني ‪ .‬وكانت خالفته عشر سنني وستة‬
‫أشهر وأربع ليال ‪ ،‬أو مخس ‪ .‬ومبوته انفتح باب الفتنة إىل اليوم ‪.‬‬
‫وقال عبد اهلل بن سالم لعمر رضي اهلل عنهما ‪ :‬إين أرى يف التوراة ‪ :‬أنك باب من أبواب‬
‫جهنم ‪ .‬قال ‪ :‬فسر يل ‪ ،‬قال ‪ :‬أنت باب من أبواهبا مغلقاً ‪ ،‬لئال يقتحمها الناس ‪ ،‬فإذا مت‬
‫انفتح ‪.‬‬
‫‪205‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وفتح اهلل على يديه من بالد الكفار ألفاً وستاً وثالثني مدينة ‪ .‬وخرب أربعة آالف بيعة‬
‫وكنيسة ‪ .‬وبىن أربعة آالف مسجد ‪ .‬ودون الدواوين ‪ ،‬ومصر األمصار ‪ .‬ووضع اخلراج ‪،‬‬
‫وأرخ التاريخ ‪ .‬وله الفضائل املشهورة ‪ ،‬والسوابق املأثورة ‪ ،‬رمحه اهلل ورضي عنه ‪.‬‬
‫حوادث سنة أربع وعشرين ‪:‬‬
‫مث دخلت السنة الرابعة والعشرون ‪:‬‬
‫فاستخلف فيها عثمان بن عفان رضي اهلل عنه ‪ ،‬لغرة هالل احملرم ‪-‬أو لثالث من احملرم‪ -‬بعد‬
‫دفن عمر بثالثة أيام ‪ .‬أسلم قدمياً ‪ ،‬وكان من ذوي السابقة ‪ ،‬ومن ذوي الشرف والعلم ‪.‬‬
‫هاجر اهلجرتني ‪ ،‬وصلى القبلتني ‪ .‬وزوجه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم االبنتني ‪ .‬ومل‬
‫ينكح ابنيت نيب من آدم إىل قيام الساعة غريه ‪ .‬وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقدمه‬
‫ويستحي منه ‪ ،‬ويقول‪ :‬ما يل ال أستحي ممن تستحي منه مالئكة السماء ؟ ‪.‬‬
‫ويف هذه السنة ‪ :‬تويف سراقة بن مالك ‪ ،‬وأم الفضل زوجة العباس ‪ ،‬وأم أمين بركة موالة‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬

‫حوادث سنة خمس وعشرين ‪:‬‬


‫مث دخلت السنة اخلامسة والعشرون ‪:‬‬
‫فتويف فيها عبد اهلل بن أم مكتوم املؤذن ‪ ،‬وعمري بن وهب بن خلف اجلمحي ‪ ،‬الذي حزر‬
‫املسلمني يوم بدر ‪ .‬مث تعاهد هو وصفوان بن خلف اجلمحي على اغتيال رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬فذهب إىل املدينة ‪ ،‬بدعوى افتداء ابنه وهب الذي كان أسر يوم بدر ‪ ،‬فلما‬
‫دخل على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قص عليه رسول اهلل ما تعاهد هو وصفوان عليه ‪،‬‬
‫فشهد شهادة احلق وأسلم ‪.‬‬
‫وفيها تويف عروة بن حزام العاشق ‪.‬‬

‫حوادث سنة ست وعشرين ‪:‬‬


‫مث دخلت السنة السادسة والعشرين ‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وفيها ‪ :‬غزا عبد اهلل بن سعد بن أيب سرح إفرقية ‪ ،‬ومعه العبادلة ‪-‬عبد اهلل بن نافع بن قيس ‪،‬‬
‫وعبد اهلل بن نافع بن احلصني وعبد اهلل بن الزبري‪ -‬فلقي جرجس ملك الرببر يف مائيت ألف ‪،‬‬
‫فقتل جرجس ‪ ،‬قتله عبد اهلل بن الزبري ‪ ،‬وفتح اهلل على املسلمني ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬مات خارجة بن زيد األنصاري الذي تكلم بعد املوت ‪ .‬وكان من كالمه ‪ :‬خلت‬
‫ليلتان ‪ .‬وبقيت أربع ‪ ،‬بئر أريس ‪ ،‬وما بئر أريس ؟‬
‫وفيه اعتمر عثمان ‪ ،‬فكلمه أهل مكة أن حيول الساحل إىل جدة ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬هي أقرب إىل مكة‬
‫وأوسع ‪ ،‬وكانوا يرسون قبل ذلك يف الشعبية ‪ .‬فخرج عثمان إىل جدة فرآها ‪ ،‬وحول‬
‫الساحل إليها ‪.‬‬

‫حوادث سنة سبع وعشرين ‪:‬‬


‫مث دخلت السنة السابعة والعشرون ‪.‬‬
‫وفيها ‪-‬على قول ابن جرير‪ -‬كان فتح إفريقية واألندلس على يد عبد اهلل بن أيب سرح ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬عزل عثمان رضي اهلل عنه عمرو بن العاص عن مصر ‪ ،‬ووىل عليها عبد اهلل بن أيب‬
‫سرح ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬مات عبد اهلل بن أيب كعب بن عمرو رضي اهلل عنه ‪ ،‬وكان من أهل بدر ‪.‬‬

‫حوادث سنة ثمان وعشرين ‪:‬‬


‫مث دخلت السنة الثامنة والعشرون ‪.‬‬
‫فيها غزا معاوية بن أيب سفيان البحر ‪ ،‬ومعه عبادة بن الصامت ‪ ،‬وامرأته أم حرام بنت ملحان‬
‫‪-‬أخت أم سليم‪ -‬فسقطت عن دابة فهلكت ‪ .‬وهي اليت نام رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫يف بيتها وقت قيلولة ‪ .‬فاستيقظ وهو يضحك ‪ ،‬فسألته ؟ فقال ‪" :‬ناس من أميت عرضوا علي‬
‫غزاة يف سبيل اهلل ‪ ،‬يركبون ثبج البحر ‪ ،‬ملوكاً على األسرة ‪-‬أو كامللوك على األسرة‪-‬‬
‫فقالت ‪ :‬ادع اهلل أن جيعلين منهم ‪ .‬فقال ‪ :‬أنت منهم ‪ .‬مث نام مث استيقظ وهو يضحك ‪،‬‬
‫فسألته ‪ .‬فقال مثل قوله ‪ .‬فقالت ‪ :‬ادع اهلل أن جيعلين منهم ‪ .‬فقال ‪ :‬أنت من األولني" ‪.‬‬
‫وفيها غزا معاوية قربس ‪ ،‬فصاحله أهلها ‪.‬‬
‫‪207‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫حوادث سنة تسع وعشرين ‪:‬‬


‫مث دخلت السنة التاسعة والعشرون ‪.‬‬
‫فيها ‪ :‬شكا الناس إىل عثمان رضي اهلل عنه ضيق مسجد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬
‫فأمر بتوسعته ‪ ،‬وبناه باحلجارة املنقوشة ‪ ،‬والقصة ‪-‬وهي اجلص‪ -‬وفيها وسع املسجد احلرام‬
‫كذلك ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬مات سليمان بن ربيعة الباهلي رضي اهلل عنه ‪ ،‬وكان عمر رضي اهلل عنه واله قضاء‬
‫املدائن‪ .‬فمكث أربعني يوماً مل خيتصم إليه اثنان ‪.‬‬

‫حوادث سنة ثالثين ‪:‬‬


‫مث دخلت سنة ثالثني ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬وقع خامت رسول اهلل من يد عثمان بن عفان رضي اهلل عنه يف بئر أريس ‪ ،‬فنزحت ومل‬
‫يوجد ‪ ،‬فحزن لذلك أشد احلزن ‪ ،‬فوقع من الرعية اخللل على عثمان بعدها ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬غزا سعيد بن العاص من الكوفة خراسان ‪ ،‬ومعه حذيفة بن اليمان ‪ ،‬واحلسن ‪،‬‬
‫واحلسني ‪ ،‬وعبد اهلل بن عمر ‪ ،‬وعبد اهلل بن عمرو بن العاص ‪ ،‬وعبد اهلل بن الزبري رضي اهلل‬
‫عنهم ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬كان ما كان من أمر أيب ذر الغفاري رضي اهلل عنه ‪ ،‬وشدة إنكاره على معاوية وأهل‬
‫الشام يف االستمتاع مبا أنعم اهلل عليهم ‪ ،‬والتوسع فيما أباح هلم ‪ ،‬وأفاء عليهم من األموال ‪،‬‬
‫وأنه يرى ‪ :‬أن ال يبيت أحد من املسلمني وعنده درهم وال دينار وإال كان من الذين يكنزون‬
‫الذهب والفضة ‪ .‬فكتب معاوية يف شأنه إىل عثمان ‪ ،‬فكتب عثمان بإشخاص أيب ذر إىل‬
‫املدينة‪ ،‬وحماولة بعض دعاة الفتنة االلتفاف حول أيب ذر ‪ .‬فهرب منهم إىل الربذة بإذن عثمان‬
‫ويف طاعته ‪ .‬وأقام هبا حىت مات رضي اهلل عنه ‪.‬‬

‫‪208‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وفيها ‪ :‬زاد عثمان النداء الثالث يوم اجلمعة على الزوراء حني كثر الناس ‪ ،‬فثبت األمر على‬
‫ذلك إىل اليوم ‪ ،‬والزوراء دار كانت له باملدينة ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬مات أيب بن كعب ‪ ،‬سيد القراء ‪ ،‬وأحد القراء األربعة ‪.‬‬

‫حوادث سنة إحدى وثالثين ‪:‬‬


‫مث دخلت السنة احلادية والثالثون ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬قتل يزدجرد آخر ملوك الفرس ‪ ،‬وهو الذي مزق كتاب رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم الذي دعاه فيه إىل اإلسالم ‪ ،‬فدعا عليه أن ميزق اهلل ملكه ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬فتح حبيب بن مسلمة الفهري أرمينية ‪.‬‬
‫وقال الواقدي ‪ :‬كان يف هذه السنة غزوة الصواري يف البحر ‪ .‬وكان فيها ‪ :‬حممد بن أيب‬
‫حذيفة ‪ ،‬وحممد بن أيب بكر ‪ .‬فأظهرا عيب عثمان وما غري ‪ ،‬وما خالف أبو بكر وعمر ‪،‬‬
‫ويقوالن ‪ :‬دمه حالل ‪.‬‬

‫حوادث سنة اثنتين وثالثين ‪:‬‬


‫مث دخلت السنة الثانية والثالثون ‪.‬‬
‫فيها ‪ :‬غزا معاوية بالد الروم ‪ ،‬حىت بلغ مضيق القسطنطينية ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬مات عبد الرمحن بن عوف ‪ ،‬وعبد اهلل بن مسعود ‪ .‬وسلمان الفارسي ‪ ،‬وأبو ذر‬
‫الغفاري ‪-‬جندب بن جنادة‪ -‬والعباس بن عبد املطلب ‪ ،‬وأبو سفيان بن حرب ‪ ،‬رضي اهلل‬
‫عنهم ‪.‬‬

‫حوادث سنة ثالث وثالثين ‪:‬‬


‫مث دخلت السنة الثالثة والثالثون ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬ذكر أهل العراق عثمان بالسوء ‪ ،‬وتكلموا فيه بكالم خبيث يف جملس سعيد بن‬
‫العاص ‪ ،‬فكتب يف أمرهم إىل عثمان ‪ ،‬فكتب يأمره بإجالئهم إىل الشام ‪ .‬فلما قدموا على‬
‫معاوية أكرمهم وتألفهم ‪ .‬ونصحهم ‪ ،‬فأجابه متكلمهم بكالم فيه شناعة ‪ ،‬مث نصحهم‬

‫‪209‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫فتمادوا يف غيهم وجهالتهم وشرهم ‪ .‬فنفاهم معاوية عن الشام ‪ ،‬وكانوا عشرة ‪ :‬كميل بن‬
‫زياد ‪ ،‬واألشرت النخعي ‪-‬مالك بن يزيد‪ ،-‬وعلقمة بن قيس النخعي ‪ ،‬وثابت بن زيد النخعي‬
‫‪ ،‬وجندب بن زهري العامري ‪ ،‬وجندب بن كعب األزدي ‪ ،‬وعروة بن اجلعد ‪ ،‬وعمرو بن‬
‫احلمق اخلزاعي ‪ ،‬وصعصعة بن صوحان ‪ ،‬وأخوه زيد بن صوحان وابن الكواء ‪ .‬فأووا إىل‬
‫اجلزيرة مث استقروا حبمص حىت كانت الفتنة اليت قادوها لقتل عثمان ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬مات املقداد بن عمرو رضي اهلل عنه ‪.‬‬

‫حوادث سنة أربع وثالثين ‪:‬‬


‫مث دخلت السنة الرابعة والثالثون ‪.‬‬
‫فيها ‪ :‬تكاتب املنحرفون عن عثمان ‪-‬وكان مجهورهم من أهل الكوفة‪ -‬وتواعدوا أن جيتمعوا‬
‫ملناظرته فيما نقموا عليه‪ .‬فبعثوا إليه منهم من يناظره فيما فعل يف تولية من وىل وعزل من‬
‫عزل ‪ ،‬حىت شق عليه ذلك جداً ‪ .‬فبعث إىل أمراء األجناد ‪ ،‬فأحضرهم عنده ‪ ،‬واستشارهم ‪،‬‬
‫فكل أشار برأي ‪ ،‬مث انتهى األمر بأن قرر عماله على ما كانوا عليه ‪ .‬وتألف قلوب هؤالء ‪،‬‬
‫وأمر هبم أن يبعثوا إىل الغزو وإىل الثغور ‪ ،‬فلم مينعهم ذلك من التمادي يف غيهم ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬تويف أبو طلحة األنصاري ‪ ،‬وعبادة بن الصامت رضي اهلل عنهما ‪.‬‬

‫حوادث سنة خمس وثالثين ‪:‬‬


‫مث دخلت السنة اخلامسة والثالثون ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬مات من الصحابة عمار بن ربيعة ‪ ،‬أسلم قدمياً وشهد بدراً رضي اهلل عنه ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬كان خروج مجاعة من أهل مصر ومن وافقهم على عثمان ‪ .‬وأهل الفتنة ومنبعها ‪:‬‬
‫كان من عبد اهلل بن سبأ ‪-‬رجل يهودي من أهل صنعاء ‪ ،‬أظهر اإلسالم ليخفي به حقده عليه‬
‫وكفره به يف زمن عثمان‪ -‬وكان ينتقل يف بلدان املسلمني حياول ضاللتهم ‪ .‬فبدأ باحلجاز ‪ ،‬مث‬
‫البصرة ‪ ،‬مث الكوفة ‪ ،‬مث الشام ‪ ،‬فلم يقدر على ما يريد ‪ .‬فأخرجوه حىت أتى مصر ‪ ،‬فغمز‬
‫على عثمان ‪ ،‬وقاد الفتنة ‪ .‬وأشعل نارها ‪ ،‬حمادة هلل ولرسوله ‪ ،‬حىت كانت البلية الكربى‬

‫‪210‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫مبحاصرة عثمان رضي اهلل عنه واغتياله ‪ ،‬وهو يتلو كتاب اهلل تعاىل ‪ .‬وكان بيد أولئك‬
‫اجملرمني اخلوارج يف ذي احلجة من هذه السنة ‪ ،‬رضي اهلل عنه ‪.‬‬
‫وبقتله وقعت الفتنة العظيمة اليت أخرب هبا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬والناس يف بقايا‬
‫من شرها إىل اليوم ‪.‬‬
‫ويروى ‪ :‬أن عثمان رضي اهلل عنه صلى يف الليلة اليت حوصر فيها ونام ‪ ،‬فأتاه آت يف منامه ‪،‬‬
‫فقال له ‪ :‬قم فاسأل اهلل أن يعيذك من الفتنة اليت أعاذ منها صاحلي عباده ‪ .‬فقام فصلى ‪،‬‬
‫ودعاه فاشتكى ‪ ،‬فما خرج إال جنازته ‪.‬‬
‫قال أهل السري ‪ :‬ملا كان من أمر عثمان ما كان ‪ ،‬قعد علي بن أيب طالب يف بيته ‪ ،‬فأتاه الناس‬
‫‪ ،‬وهم يقولون ‪ :‬علي أمري املؤمنني ‪ ،‬فقال ‪ :‬ليس ذلك إليكم ‪ ،‬إمنا هو إىل أهل بدر ‪ .‬فأتاه‬
‫أهل بدر ‪ ،‬فلما رأى ذلك علي خرج فبايعه الناس ومل يدخل يف طاعته معاوية وأهل الشام ‪،‬‬
‫فهم علي بالشخوص إليهم ‪.‬‬

‫وقعة الجمل ‪:‬‬


‫وبلغ اخلرب عائشة ‪-‬وهي حاجة‪ -‬ومعها طلحة ‪ ،‬والزبري ‪ .‬فخرجوا إىل البصرة يريدون‬
‫اإلصالح بني الناس ‪ ،‬واجتماع الكلمة ‪ .‬وأرسل علي عمار بن ياسر وابنه احلسن بن علي إىل‬
‫الكوفة يستنفرون الناس ليكونوا مع علي ‪ ،‬فاستنفروهم ‪ ،‬فنفروا ‪ .‬وخرج علي من املدينة يف‬
‫ستمائة رجل ‪ .‬فالتقى ‪-‬هو واحلسن‪ -‬بذي قار ‪ ،‬مث التقوا ‪-‬هم وطلحة والزبري‪ -‬قرب البصرة‬
‫‪ .‬وكان يف العسكرين ناس من اخلوارج ‪ ،‬فخافوا من متالؤ العسكرين عليهم ‪ ،‬فتحيلوا حىت‬
‫أثاروا احلرب بينهما من غري رأي ‪ .‬فكانت وقعة اجلمل املشهورة ‪ ،‬ألن عائشة كانت يف‬
‫هودج على مجل ‪ ،‬وعقر اجلمل ذلك اليوم ‪ ،‬فأمر علي حبمل اهلودج ‪ ،‬فحمله حممد بن أيب‬
‫بكر ‪ ،‬وعمار بن ياسر ‪ ،‬فأدخل حممد يده يف اهلودج ‪ ،‬فقالت ‪ :‬من ذا الذي يتعرض حلرم‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ؟ أحرقه اهلل بالنار ‪ .‬قال ‪ :‬يا أختاه ‪ ،‬قويل بنار الدنيا ‪ .‬فقالت‬
‫‪ :‬بنار الدنيا ‪ ،‬فكان األمر كذلك ‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وكانت وقعة اجلمل يف مجادى اآلخرة سنة ست وثالثني ‪ .‬مث التقى علي وعائشة‪ .‬فاعتذر كل‬
‫منهما لآلخر ‪ .‬مث جهزها إىل املدينة‪ ،‬وأمر هلا بكل شئ ينبغي هلا ‪ ،‬وأرسل معها أربعني امرأة‬
‫من نساء أهل البصرة املعروفات ‪.‬‬
‫ويف هذه السنة ‪ :‬مات حذيفة بن اليمان ‪ ،‬وأبو رافع موىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪،‬‬
‫وقدامة بن مظعون رضي اهلل عنهم ‪.‬‬

‫حوادث سنة سبع وثالثين ‪:‬‬


‫مث دخلت السنة السابعة والثالثون ‪.‬‬
‫فسار علي رضي اهلل عنه ‪ ،‬والتقى هو وأهل الشام بصفني ‪ ،‬لسبع بقني من احملرم ‪-‬وصفني‬
‫اسم موضع بني الشام والعراق‪-‬فكانت به الوقعة املشهورة ‪ .‬فلما اشتد البالء على الفريقني ‪،‬‬
‫وطال أياماً ‪ ،‬وكثر القتل بينهم ‪ :‬رفع أهل الشام املصاحف على رؤوس الرماح ‪ ،‬ونادوا ‪:‬‬
‫ندعوكم إىل كتاب اهلل ‪ ،‬فسر الناس ‪ ،‬وأنابوا إىل احلكومة ‪.‬‬
‫فحكم أهل الشام عمرو بن العاص ‪ ،‬وحكم علي بن أيب طالب أبا موسى األشعري رضي اهلل‬
‫عنهما‪ ،‬وكتبوا بينهم العهود بالرضى مبا حيكم به احلكمان ‪ .‬فلما حل املوعد يف رمضان توافوا‬
‫بأذرح ‪ ،‬بدومة اجلندل ‪ .‬فلم يتفق احلكمان على شئ ‪.‬‬
‫وانصرف علي رضي اهلل عنه إىل العراق ‪ ،‬ومعاوية رضي اهلل عنه إىل الشام ‪ .‬فلما وصل علي‬
‫الكوفة خرجت عليه اخلوارج ‪ ،‬وكفروه حيث رضي بالتحكيم ‪ .‬وقالوا ‪ :‬ال حكم إال هلل ‪.‬‬
‫واجتمعوا حبروراء ‪-‬اسم موضع بالعراق‪ -‬فسموا احلرورية ‪ ،‬فأرسل علي إليهم عبد اهلل بن‬
‫عباس فأتاهم ‪ ،‬قال ‪ :‬فلم أر قوماً أشد اجتهاداً منهم ‪ ،‬وال أكثر عبادة‪ ،‬فقال ‪ :‬ما تنقمون ؟‬
‫قالوا ‪ :‬ثالث ‪.‬‬
‫إحداهن ‪ :‬أنه حكم الرجال يف أمر اهلل ‪ ،‬وقد قال اهلل تعاىل ‪ " :‬إن احلكم إال هلل " ‪.‬‬
‫والثانية ‪ :‬أنه قاتل ‪ ،‬ومل يسب ومل يغنم ‪ ،‬فإن كانوا مؤمنني ‪ ،‬فما حل لنا قتاهلم ؟ وإن كانوا‬
‫كافرين ‪ ،‬فقد حلت لنا أمواهلم وسبيهم ‪.‬‬
‫والثالثة ‪ :‬أنه حما نفسه من أمري املؤمنني ‪ ،‬فإن مل يكن أمري املؤمنني فهو أمري الكافرين ‪.‬‬

‫‪212‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫فقال هلم ‪ :‬أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب اهلل احلكم ‪ ،‬وحدثتكم من سنة نبيكم ما ال‬
‫تنكرون ‪ ،‬أترجعون ؟ قالوا ‪ :‬نعم‪ .‬فقلت‪ :‬أما قولكم ‪ :‬إنه حكم الرجال يف دين اهلل ‪ ،‬فإن اهلل‬
‫تعاىل يقول ‪ " :‬يا أيها الذين آمنوا ال تقتلوا الصيد وأنتم حرم " إىل قوله ‪ " :‬حيكم به ذوا‬
‫عدل منكم " ‪ ،‬وقال تعاىل ‪ " :‬وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من‬
‫أهلها "‪ ...‬أنشدكم اهلل ‪ ،‬أفتحكيم الرجال يف إصالح ذات بينهم ‪ .‬وحقن دمائهم وأمواهلم‬
‫أحق ‪ ،‬أم يف أرنب مثنها ربع درهم ‪ ،‬أو بضع امرأة ؟ فقالوا ‪ :‬اللهم بلى ‪ ،‬يف حقن دمائهم ‪،‬‬
‫وإصالح ذات بينهم ‪ ،‬فقلت ‪ :‬أخرجت من هذه ؟ فقالوا ‪ :‬اللهم نعم ‪.‬‬
‫وأما قولكم ‪ :‬إنه قاتل ومل يسب ومل يغنم ‪ ،‬أفتسبون أمكم ‪ ،‬وتستحلون منها ما تستحلونه‬
‫من غريها ؟ فإن قلتم ‪ :‬نعم ‪ ،‬فقد كفرمت ‪ .‬وإن زعمتم أهنا ليست لكم بأم ‪ ،‬فقد كفرمت ‪،‬‬
‫ألن اهلل يقول ‪ " :‬وأزواجه أمهاهتم " ‪ ،‬فإن كنتم ترتددون بني ضاللتني ‪ ،‬فاختاروا أيتهما‬
‫شئتم ‪ .‬أخرجت من هذه ؟ قالوا ‪ :‬اللهم نعم ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وأما قولكم ‪ :‬إنه حما نفسه من أمري املؤمنني‪ ،‬فإن النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪-‬يوم‬
‫احلديبية‪ -‬أراد أن يكتب بينه وبني قريش يف الصلح ‪ .‬فقال لعلي ‪ :‬اكتب ‪ :‬هذا ما قاضى عليه‬
‫حممد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬لو نعلم أنك رسول اهلل ‪ ،‬ما صددناك عن‬
‫البيت ‪ ،‬وال قاتلناك ‪ ،‬ولكن اكتب ‪ :‬حممد بن عبد اهلل ‪ ،‬امح يا علي ! واكتب ‪ .‬حممد بن‬
‫عبد اهلل ‪ ،‬فقال ‪ :‬واهلل ال أحموك أبداً ‪ .‬قال ‪ :‬فأرين موضعه ‪ ،‬فأراه ذلك ‪ ،‬فمحاه رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم بيده‪ ،‬فواهلل لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أفضل من علي ‪ ،‬أخرجت‬
‫من هذه ؟ قالوا ‪ :‬اللهم نعم‪.‬‬
‫فرجع منهم أربعة آالف ‪ ،‬وخرج عليه باقيهم ‪ ،‬فقاتلوه ‪ ،‬فقتل منهم مقتلة عظيمة ‪ ،‬وأمر‬
‫بالتماس املخدج ذي الثدية ‪ ،‬فلما وجده سجد هلل شكراً ‪.‬‬
‫ويف هذه السنة مات خباب بن األرت ‪ ،‬وخزمية ذو الشهادتني ‪ ،‬وسفينة موىل رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وعبد اهلل بن سعد بن أيب السرح رضي اهلل عنهم ‪.‬‬

‫حوادث سنة ثمان وثالثين ‪:‬‬

‫‪213‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫مث دخلت السنة الثامنة والثالثون ‪:‬‬


‫فيها ‪ :‬قتل حممد بن أيب بكر وأحرق ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬مات سهل بن حنيف ‪ ،‬وصهيب الرومي ‪.‬‬
‫ثم دخلت السنة األربعون ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬كتب معاوية إىل علي ‪:‬أما إذا شئت فلك العراق ‪ ،‬ويل الشام ‪ ،‬ونكف السيف عن‬
‫هذه األمة ‪ ،‬وال هنريق دماء املسلمني‪ .‬ففعل ‪ ،‬وتراضيا رضي اهلل عنهما على ذلك ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬قتل علي رضي اهلل عنه ‪ ،‬قتله ابن ملجم ‪-‬رجل من اخلوارج‪ -‬ملا خرج لصالة الصبح‬
‫‪ ،‬لثالث عشرة ليلة بقيت من رمضان ‪.‬‬
‫فبايع الناس ابنه احلسن ‪ ،‬فبقي خليفة حنو سبعة أشهر ‪ ،‬مث سار إىل معاوية ‪ ،‬فلما التقى‬
‫اجلمعان ‪ ،‬علم احلسن ‪ :‬أن لن تغلب إحدى الفئتني حىت يذهب أكثر األخرى ‪ ،‬فصاحل معاوية‬
‫‪ ،‬وترك األمر له ‪ ،‬وبايعه على أشياء اشرتطها ‪ ،‬فأعطاه معاوية إياها وأضعافها ‪.‬‬
‫وجرى مصداق ما صح "عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أنه قال يف احلسن ‪ :‬إين ابين هذا‬
‫سيد ‪ ،‬ولعل اهلل أن يصلح به بني فئتني عظيمتني من املسلمني"‪.‬‬
‫"وصح عنه أنه قال يف اخلوارج ‪ :‬خيرجون على حني فرقة من الناس ‪ ،‬تقتلهم أقرب الطائفتني‬
‫إىل احلق" ‪.‬‬
‫"وصح عنه صلى اهلل عليه وسلم يف أحاديث كثرية ‪ :‬أنه هنى عن القتال يف الفتنة ‪ ،‬وأخرب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم بوقوعها‪ ،‬وحذر منها "‪.‬‬
‫فحصل مبجموع ما ذكرنا ‪ :‬أن الصواب مع سعد بن أيب وقاص‪ ،‬وابن عمر ‪ ،‬وأسامة بن زيد‬
‫‪ ،‬وأكثر الصحابة الذي قعدوا واعتزلوا الطائفتني ‪.‬‬
‫وأن علي بن أيب طالب وأصحابه ‪ :‬أقرب إىل احلق من معاوية وأصحابه ‪ .‬وأن الفريقني كلهم‬
‫مل خيرجوا من اإلميان ‪.‬‬
‫وأن الذين خرجوا من اإلميان ‪ :‬إمنا هم أهل النهروان ‪.‬‬

‫‪214‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وأن ما فعل احلسن بن علي رضي اهلل عنهما ‪ :‬أحب إىل اهلل مما فعل أبوه علي ‪ ،‬ألن رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم ال ميدحه على ترك واجب ‪ ،‬أو مستحب ‪.‬‬
‫وأمجع أهل السنة على السكوت عما شجر بني الصحابة رضي اهلل عنهم ‪ .‬وال يقال فيهم إال‬
‫احلسىن ‪ ،‬فمن تكلم يف معاوية أو غريه من الصحابة ‪ ،‬فقد خرج عن اإلمجاع ‪ ،‬واهلل سبحانه‬
‫وتعاىل أعلم ‪.‬‬

‫عام الجماعة‪:‬‬
‫وكان هذا العام يسمى عام اجلماعة ‪ ،‬الجتماع املسلمني فيه على إمام واحد ‪ ،‬بعد الفرقة ‪،‬‬
‫وهو عام إحدى وأربعني يف ربيع األول ‪ ،‬فاجتمعوا على معاوية رضي اهلل عنه ‪ ،‬ودعي أمري‬
‫املؤمنني ‪ ،‬ورجع احلسن بن علي رضي اهلل عنهما إىل املدينة ‪.‬‬
‫مث دخلت سنة اثنتني وأربعني ‪:‬‬
‫فيها مات عمرو بن العاص رضي اهلل عنه مبصر ‪ ،‬وهو واليها ‪.‬‬
‫مث دخلت سنة ثالث وأربعني ‪:‬‬
‫فيها مات عبد اهلل بن سالم رضي اهلل عنه ‪.‬‬
‫مث دخلت سنة أربع وأربعني ‪:‬‬
‫فماتت فيها أم حبيبة بنت أيب سفيان ‪ ،‬أم املؤمنني رضي اهلل عنهما ‪.‬‬
‫مث دخلت سنة مخس وأربعني ‪:‬‬
‫فماتت فيها حفصة بنت عمر ‪ ،‬أم املؤمنني ‪ ،‬وزيد بن ثابت رضي اهلل عنهم ‪.‬‬
‫مث دخلت سنة ست وأربعني ‪:‬‬
‫فمات فيها حممد بن مسلمة ‪ ،‬رضي اهلل عنه ‪.‬‬
‫مث دخلت سنة سبع وأربعني ‪:‬‬
‫فمات فيها قيس بن عاصم رضي اهلل عنه ‪.‬‬
‫حوادث سنة تسع وأربعني ‪:‬‬
‫مث دخلت سنة تسع وأربعني ‪:‬‬

‫‪215‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وفيها ‪ :‬كانت غزوة يزيد بن معاوية بن أيب سفيان الروم ‪ ،‬حىت بلغ قسطنطينية ‪ .‬ومعه ابن‬
‫عباس ‪ ،‬وابن عمر‪ ،‬وابن الزبري‪ ،‬وأبو أيوب األنصاري ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬مات احلسن بن علي ‪ ،‬وجويرية بنت احلارث أم املؤمنني ‪ ،‬وصفية بنت حيي أم‬
‫املؤمنني ‪ ،‬وجبري بن مطعم ‪ ،‬وحسان بن ثابت ‪ ،‬ودحية بن خليفة الكليب ‪ ،‬وكعب بن مالك‬
‫‪ ،‬وعمرو بن أمية الضمري ‪ ،‬وعقيل بن أيب طالب ‪ ،‬وعتبان بن مالك ‪ ،‬واملغرية بن شعبة‬
‫رضي اهلل عنهم أمجعني ‪.‬‬
‫مث دخلت سنة إحدى ومخسني ‪:‬‬
‫فمات فيها سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ‪ ،‬وجرير بن عبد اهلل البجلي ‪ ،‬رضي اهلل عنهم ‪.‬‬
‫مث دخلت سنة اثنتني ومخسني ‪:‬‬
‫فمات فيها أبو أيوب خالد بن زيد األنصاري غازياً ‪ ،‬ودفن عند سور القسطنطينية ‪ .‬وكان‬
‫النصارى يستسقون بقربه رضي اهلل عنه‪ ،‬وبرأه اهلل من عقائد النصارى ‪ .‬ومات هبا أبو موسى‬
‫األشعري ‪ ،‬وعمران بن حصني رضي اهلل عنهما ‪.‬‬
‫مث دخلت سنة ثالث ومخسني ‪:‬‬
‫فمات فيها صعصعة بن ناجية الصحايب ‪ ،‬الذي يقال ‪ :‬إنه أحيا أربعمائة موؤدة يف اجلاهلية ‪،‬‬
‫وزياد بن مسية رضي اهلل عنهم ‪.‬‬
‫مث دخلت سنة أربع ومخسني ‪:‬‬
‫فماتت فيها سودة بنت زمعة أم املؤمنني ‪ ،‬وأبو قتادة األنصاري ‪ ،‬وحكيم بن حزام رضي اهلل‬
‫عنهم ‪.‬‬
‫مث دخلت سنة مخس ومخسني ‪:‬‬
‫فمات فيها سعد بن مالك ‪ ،‬واألرقم بن أيب األرقم ‪-‬الذي كان رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم يدعو إىل اإلسالم خمتبئاً يف داره‪ -‬وسحبان وائل ‪ ،‬البليغ الذي يضرب به املثل يف‬
‫الفصاحة ‪.‬‬
‫مث دخلت سنة ست ومخسني ‪:‬‬

‫‪216‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫فدعا فيها معاوية الناس إىل بيعة ابنه يزيد ‪.‬‬


‫مث دخلت سنة سبع ومخسني ‪:‬‬
‫فمات فيها عثمان بن حنيف رضي اهلل عنه ‪.‬‬
‫مث دخلت سنة مثان ومخسني ‪:‬‬
‫فمات فيها سعيد بن العاص ‪-‬أحد األجواد السبعة‪ -‬وعبد الرمحن بن أيب بكر ‪ ،‬وعبد اهلل بن‬
‫عباس ‪-‬أحد األجواد السبعة رضي اهلل عنهم ‪.‬‬
‫حوادث سنة ستني ‪:‬‬
‫مث دخلت سنة ستني ‪:‬‬
‫فمات فيها معاوية بن أيب سفيان ‪ ،‬وصح أن أبا هريرة مات قبلها بسنة ‪ ،‬وأنه كان يقول‬
‫‪:‬اللهم إين أعوذ بك من رأس الستني‪ ،‬وإمارة الصبيان ‪.‬‬
‫واستخلف معاوية ابنه يزيد ‪ ،‬فجرت الفتنة الثانية ‪ .‬ومل تزل الفتنة قائمة سنني ‪ ،‬حىت اجتمع‬
‫الناس على عبد امللك بن مروان ‪.‬‬
‫فأول ما جرى يف أيام يزيد ‪ :‬مقتل احلسني بن علي رضي اهلل عنهما وأهل بيته يف يوم‬
‫عاشوراء سنة إحدى وستني ‪.‬‬
‫مث بعدها ‪ :‬جرت وقعة احلرة العظيمة باملدينة ‪ ،‬قتلوا أهلها ‪ ،‬وأباحوها ثالثة أيام ‪.‬‬
‫مث بعد ذلك ‪ :‬توجهوا إىل مكة لقتال عبد اهلل بن الزبري رضي اهلل عنهما ‪ ،‬فحاصروها ‪ ،‬فلم‬
‫يزالوا حماصريها حىت بلغهم موت يزيد‪ ،‬فلما مات يزيد افرتق الناس افرتاقاً كثرياً ‪ ،‬كما قيل ‪:‬‬
‫وتشعبوا شعباً بكل جزيرة فيها أمري املؤمنني ومنرب‬
‫وثبت مروان بالشام ‪ ،‬وخرج املختار بن أيب عبيد الثقفي املبيد املفسد بالعراق ‪ ،‬وجندة بن‬
‫عومير باليمامة ‪.‬‬
‫واملشهور بأمري املؤمنني يف هذه السنني ‪ :‬عبد اهلل بن الزبري مبكة ‪ ،‬وبايع له أكثر الناس ‪.‬‬

‫‪217‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫فلما مات مروان توىل بعده ابنه عبد امللك سنة مخس وستني ‪ .‬وملا توىل تصدى حلرب عبد‬
‫اهلل بن الزبري ‪ ،‬فجرى بينهما ما يطول ذكره ‪ ،‬وآخره ‪ :‬أنه وجه لقتال ابن الزبري جيشاً عليهم‬
‫احلجاج بن يوسف الثقفي ‪ ،‬فحصره مبكة‪ ،‬مث قتله رضي اهلل عنه ‪ ،‬سنة ثالث وسبعني ‪.‬‬
‫فاجتمع الناس بعده على عبد امللك بن مروان ‪ ،‬فلم يزل والياً كذلك إىل سنة ست ومثانني ‪،‬‬
‫فمات واستخلف ولده الوليد ‪ .‬فبقي يف اخلالفة سبع سنني وأشهراً ‪.‬‬
‫ويف أيامه مات أنس بن مالك رضي اهلل عنه ‪ ،‬واحلجاج بن يوسف ‪.‬‬
‫مث ويل بعده أخوه سليمان بن عبد امللك ‪ .‬فبقي سنتني وأشهراً ‪ .‬واستخلف عمر بن عبد‬
‫العزيز ‪ ،‬فبايعه الناس سنة تسع وتسعني يف صفر ‪ .‬فسار رمحه اهلل سرية اخللفاء الراشدين ‪.‬‬
‫وأحيا السنن وأمات البدع ‪ .‬وبقي يف اخلالفة رشيداً مهدياً سنتني وأشهراً ‪ ،‬ومات يف رجب‬
‫سنة إحدى ومائة ‪.‬‬
‫ومات يف أيامه ابنه عبد امللك ‪ ،‬وكان يشبه أباه رمحهما اهلل ‪.‬‬
‫مث توىل بعده ‪ :‬يزيد بن عبد امللك ‪ ،‬بقي أربع سنني وشهراً واحداً ‪ .‬وتويف سنة مخس ومائة ‪.‬‬
‫مث توىل بعده ‪ :‬أخوه هشام بن عبد امللك ‪ ،‬فبقي تسع عشرة سنة وأشهراً‪ .‬ويف خالفته ظهر‬
‫اجلعد بن درهم ‪ ،‬أول من قال خبلق القرآن ‪ ،‬وأظهره يف دمشق ‪ .‬فطلبه بنو أميه ‪ ،‬فهرب‬
‫منهم إىل الكوفة ‪ .‬فلما أظهر قوله هناك ‪ :‬أخذه خالد بن عبد اهلل القسري ‪ ،‬قتله يوم عيد‬
‫األضحى من سنة أربع وعشرين ومائة ‪ .‬خطب الناس ‪ ،‬فقال ‪ :‬أيها الناس ضحوا ‪ ،‬تقبل اهلل‬
‫ضحاياكم ‪ .‬فإين مضح باجلعد بن درهم ‪ ،‬إنه زعم ‪ :‬أن اهلل مل يتخذ إبراهيم خليالً ‪ ،‬ومل‬
‫يكلم موسى تكليماً ‪ ،‬تعاىل اهلل عما قال اجلعد علواً كبرياً‪ .‬مث نزل فذحبه يف أصل املنرب ‪.‬‬
‫وتويف هشام بن عبد امللك سنة مخس وعشرين ومائة ‪.‬‬
‫مث توىل بعده ‪ :‬ابن أخيه الوليد بن يزيد بن عبد امللك ‪ ،‬فبقي سنة أو أقل أو أكثر ‪ ،‬مث قتل‬
‫سنة ست وعشرين ومائة ‪.‬‬
‫مث توىل بعده ‪ :‬ابن عمه يزيد بن الوليد بن عبد امللك ‪ ،‬فبقي مخسة أشهر ‪ .‬وتويف يف ذي‬
‫القعدة ‪-‬أو يف أول ذي احلجة‪ -‬من سنة ست وعشرين ومائة ‪.‬‬

‫‪218‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وبعده انقضت اخلالفة التامة ‪ .‬ومل جتتمع األمة بعده على إمام واحد إىل اليوم ‪ .‬وهو آخر‬
‫اخللفاء االثين عشر ‪ ،‬الذين ذكرهم النيب صلى اهلل عليه وسلم يف احلديث الصحيح ‪": :‬ال يزال‬
‫أمر هذه األمة عزيزاً ‪ ،‬ينصرون على من ناوأهم إىل اثين عشر خليفة ‪ ،‬كلهم من قريش" ‪.‬‬
‫ويف لفظ ملسلم ‪" :‬إن هذا األمر ال ينقض ‪ ،‬حىت ميضي فيهم اثنا عشر خليفة" ‪.‬‬
‫وعند البزار ‪" :‬ال يزال أمر أميت قائماً ‪ ،‬حىت ميضي اثنا عشر خليفة" ‪ .‬ويف لفظ ‪" :‬ال يزال‬
‫اإلسالم عزيزاً منيعاً إىل اثين عشر خليفة" ‪ .‬وعند أيب داود ‪" :‬قالوا ‪ :‬مث يكون ماذا ؟ قال ‪ :‬مث‬
‫يكون اهلرج" ‪.‬‬
‫فلما مات يزيد ‪ :‬طلب األمر أخوه إبراهيم ‪ ،‬فبايعه أخوه ‪ ،‬ومل ينتظم له أمر ‪.‬‬
‫فطلب األمر مروان بن حممد بن مروان ‪-‬الذي يقال له مروان احلمار‪ -‬فبايعه بعض الناس يف‬
‫صفر سنة سبع وعشرين ومائة ‪ .‬ومل يزل يف حروب وختبيط إىل آخر سنة اثنيت وثالثني ومائة‬
‫‪-‬يوم األحد لثالث بقني من ذي احلجة‪ -‬فقتل يف كنيسة أيب صري ‪ .‬وكانت مدة خالفته ‪:‬‬
‫مخس سنني وعشرة أشهر وعشرة أيام ‪ ،‬وهو آخر من ويل اخلالفة من بين أمية ‪ .‬دولة بين‬
‫العباس ‪:‬‬

‫ثم قامت دولة بني العباس ‪.‬‬


‫ويف هذه السنني ‪ :‬وقعت الفتنة الثالثة اليت مل يرفع اخلرق بعدها إىل اليوم ‪.‬‬
‫فأول من قام من بين العباس ‪ :‬السفاح ‪ ،‬وامسه عبد اهلل بن حممد بن علي بن عبد اهلل بن عباس‬
‫‪ ،‬فبقي حنو ست سنني مث مات ‪ .‬وعهد إىل أخيه املعروف باملنصور ‪ ،‬فبقي فيها اثنتني‬
‫وعشرين سنة ‪ .‬مث تويف وعهد إىل ابنه املعروف باملهدي ‪ ،‬فبقي حنو عشر سنني ‪ ،‬مث مات ‪.‬‬
‫وقام بعده ابنه موسى ‪ ،‬املسمى باهلادي ‪ ،‬فبقي سنة وشهراً ‪ ،‬مث تويف ‪.‬‬
‫وقام بعده أخوه هارون ‪ ،‬املسمى بالرشيد ‪ ،‬فبقي أكثر من عشرين سنة ‪ ،‬مث مات ‪.‬‬
‫وقام بعده ابنه املسمى باألمني ‪-‬وأمه زبيدة بنت جعفر بن املنصور‪ -‬وبقي حنو ثالث سنني ‪،‬‬
‫مث قتله عسكر أخيه املأمون ‪.‬‬

‫‪219‬‬
‫بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫وقام بعده ‪ :‬املأمون ‪ ،‬وهو الذي جر على املسلمني كثرياً من الفنت يف العقائد ‪ .‬فرتجم كتب‬
‫اليونان يف الفلسفة ‪ .‬وأظهر القول خبلق القرآن وألزم الناس القول به وامتحن اإلمام أمحد‬
‫وغريه من األئمة رمحهم اهلل يف ذلك ‪.‬‬

‫بدء تأليف الكتب ‪:‬‬


‫ويف أيام عمر بن عبد العزيز ‪ :‬كتب إىل أيب بكر بن حزم باملدينة ‪ :‬أنظر ما كان من حديث‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فامجعه ‪ ،‬فإين خفت دروس العلم ‪ ،‬وذهاب العلماء ‪.‬‬
‫ويف أيام املنصور ‪ :‬شرع العلماء يف تصنيف كتب التفسري واحلديث ‪ ،‬فصنف ابن جريج مبكة‬
‫‪ ،‬ومالك بن أنس باملدينة ‪ ،‬وابن عمرو األوزاعي بالشام ‪ ،‬ومحاد بن سلمة بالبصرة ‪ ،‬وسفيان‬
‫الثوري بالكوفة ‪ ،‬ومعمر بن املثىن باليمن ‪.‬‬
‫وصنف حممد بن إسحاق املغازي ‪ ،‬وصنف أبو حنيفة النعمان بن ثابت الرأي ‪.‬‬
‫وقبل هذا ‪ :‬كان األئمة يتكلمون من حفظهم ‪ ،‬ويروون العلم صحفاً غري مرتبة ‪ ،‬واهلل‬
‫سبحانه وتعاىل أعلم ‪.‬‬
‫واحلمد هلل رب العاملني ‪ ،‬وصلى اهلل وسلم وبارك على خامت املرسلني حممد ‪ ،‬وعلى آله‬
‫وصحبه أمجعني ‪.‬‬

‫وكان الفراغ من نسخ هذا الكتاب الشريف يوم األربعاء ‪ ،‬إلحدى عشرة خلت من شهر‬
‫رجب سنة ‪ 1309‬على يد الفقري إىل ربه ‪ .‬سليمان بن سحمان ‪ ،‬غفر اهلل له ولوالديه‬
‫وللمسلمني واملسلمات ‪ ،‬واملؤمنني واملؤمنات ‪.‬‬

‫‪220‬‬

You might also like