Professional Documents
Culture Documents
مكتبة نور بداية سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم 3
مكتبة نور بداية سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم 3
1
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
مقدمة المؤلف
احلمد هلل رب العاملني ،وصلى اهلل وسلم وبارك على حممد وعلى آله وصحبه أمجعني .
اعلم رمحك اهلل :أن أفرض ما فرض اهلل عليك معرفة دينك .الذي معرفته والعمل به :سبب
لدخول اجلنة ،واجلهل به وإضاعته :سبب لدخول النار .
2
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
جرى لنوح وقومه ،وهود وقومه ،وصاحل وقومه ،وإبراهيم وقومه ،ولوط وقومه ،وموسى
وقومه ،وعيسى وقومه وحممد صلى اهلل عليه وسلم وقومه .
واعرف ما قص أهل العلم من أخبار النيب صلى اهلل عليه وسلم وقومه ،وما جرى له معهم يف
مكة ،وما جرى له يف املدينة .واعرف ما قص العلماء عن أصحابه ،وأحواهلم ،وأعماهلم ،
لعلك أن تعرف اإلسالم والكفر ،فإن اإلسالم اليوم غريب ،وأكثر الناس ال مييز بينه وبني
الكفر ،وذلك هو اهلالك الذي ال يرجى معه فالح .
ألقى الشيطان يف قلوب اجلهال " :أن أولئك الصاحلني ما صوروا صور مشاخيهم إال
ليستشفعوا هبم إىل اهلل ،فعبدوهم" .
وأحصنت فرجي إال على زوجي ،فال تسلط علي يد الكافر .فغط حىت ركض برجله
األرض ،فقالت :اللهم إن ميت ،يقال :هي قتلته ،فأرسل ،مث قام إليها ،فقامت تتوضأ
وتصلي ،وتقول :اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك ،وأحصنت فرجي إال على زوجي ،
فال تسلط علي هذا الكافر .فغط حىت ركض برجله ،فقالت :اللهم مث إن ميت يقال :هي
قتلته .فأرسل يف الثانية ،أو الثالثة ،فقال :واهلل ما أرسلتم إيل إال شيطاناً ،أرجعوها إىل
إبراهيم ،وأعطوها هاجر .فرجعت إىل إبراهيم ،فقالت :أشعرت ؟ إن اهلل كبت الكافر ،
وأخدم وليدة" وكان عليه السالم يف أرض العراق ،وبعدما جرى عليه من قومه ما جرى
هاجر إىل الشام ،واستوطنها ،إىل أن مات فيها .وأعطته سارة اجلارية اليت أعطاها اجلبار ،
فواقعها .فولدت له إمساعيل عليه السالم ،فغارت سارة ،فأمره اهلل بإبعادها عنها ،فذهب
هبا وبإبنها فأسكنهما يف مكة .مث بعد ذلك وهب اهلل له ولسارة إسحاق عليه السالم ،كما
ذكر اهلل بشارة املالئكة له وهلا بإسحاق ،ومن وراء إسحاق يعقوب .
ويف الصحيح عن ابن عباس ،قال " :ملا كان بني إبراهيم وبني أهله ما كان ،خرج بإمساعيل
وأم إمساعيل ،ومعه شنة فيها ماء ،فجعلت أم امساعيل تشرب من الشنة فيدر لبنها على
صبيها ،حىت قدم مكة .فوضعها حتت دوحة فوق زمزم يف أعلى املسجد -وليس مبكة يومئذ
أحد ،وليس هبا ماء -ووضع عندمها جراباً فيه متر وسقاء فيه ماء .مث قفى إبراهيم منطلقاً ،
فتبعته أم إمساعيل ،فلما بلغوا كداء ،نادته من ورائه :يا إبراهيم ! أين تذهب ،وترتكنا هبذا
الوادي الذي ليس به أنيس وال شئ ؟ فقالت له ذلك مراراً ،وجعل ال يلتفت إليها ،فقالت
له :اهلل الذي أمرك هبذا ؟ قال :نعم .قالت :إذن ال يضيعنا ويف لفظ :إىل من تكلنا ؟ قال
:إىل اهلل .قالت :رضيت ،مث رجعت .فانطلق إبراهيم ،حىت إذا كان عند الثنية ،حيث ال
يرونه ،استقبل بوجهه البيت مث دعا هبؤالء الدعوات ،ورفع يديه فقال " :ربنا إين أسكنت
من ذرييت بواد غري ذي زرع عند بيتك احملرم ربنا ليقيموا الصالة فاجعل أفئدة من الناس هتوي
إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون " ،وجعلت أم إمساعيل ترضعه وتشرب من الشنة
،فيدر لبنها على صبيها ،حىت إذا نفد ما يف السقاء عطشت ،وعطش ابنها ،وجعلت تنظر
6
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
إليه يتلوى -أو قال :يتلبط -فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ،فوجدت الصفا أقرب جبل
إليها ،فقامت واستقبلت الوادي تنظر :هل ترى أحداً ؟ فلم تر أحداً ،فهبطت من الصفا ،
حىت إذا بلغت الوادي ،رفعت طرف درعها ،مث سعت سعي اإلنسان اجملهود ،حىت جاوزت
الوادي ،مث أتت املروة ،فقامت عليها ،فنظرت هل ترى أحداً ؟ فلم تر أحداً ،ففعلت
ذلك سبع مرات قال ابن عباس :قال النيب صلى اهلل عليه وسلم :فذلك سعي الناس بينهما -
مث قالت :لو ذهبت فنظرت ما فعل -تعين الصيب -فذهبت فنظرت ،فإذا هو على حاله ،
كأنه ينشغ للموت ،فلم تقرها نفسها .فقالت :لو ذهبت لعلي أحس أحداً ؟ فذهبت
فصعدت الصفا ،فنظرت فلم حتسن أحداً ،حىت أمتت سبعاً ،مث قالت :لو ذهبت فنظرت
ما فعل؟ فإذا هي بصوت ،فقالت :أغث إن كان عندك خري .فإذا جبربيل ،قال :فقال بعقبه
على األرض ،فانبثق املاء فذهبت أم إمساعيل ،فجعلت حتفر ،فقال أبو القاسم صلى اهلل عليه
وسلم :يرحم اهلل أم إمساعيل ،لو تركت زمزم -أو قال :لو مل تغرف من املاء -لكانت
زمزم عيناً معيناً -ويف حديثه :فجعلت تغرف املاء يف سقائها -قال :فشربت ،وأرضعت
ولدها .فقال هلا امللك :ال ختايف الضيعة ،فإن ها هنا بيتاً هلل ،يبنيه هذا الغالم وأبوه وإن اهلل
ال يضيع أهله .وكان البيت مرتفعاً من األرض كالزابية ،تأتيه السيول ،فتأخذ عن ميينه
ومشاله ،فكانت كذلك حىت مرت هبم رفقة من جرهم ،مقبلني من طريق كداء ،فرأوا
طائراً عائفاً ،فقالوا :إن هذا الطائر ليدور على ماء ،لعهدنا هبذا الوادي وما فيه ماء ،
فأرسلوا جرياً ،أو جريني فإذا هم باملاء ،فرجعوا فأخربوهم فأقبلوا ،وقالوا ألم إمساعيل :
أتاذنني لنا أن ننزل عندك ؟ قالت :نعم ،ولكن ال حق لكم يف املاء ،قالوا :نعم -قال ابن
عباس :قال النيب صلى اهلل عليه وسلم :فألفى ذلك أم إمساعيل وهي حتب األنس -فنزلوا ،
وأرسلوا إىل أهليهم فنزلوا معهم ،حىت إذا كان هبا أهل أبيات منهم ،وشب الغالم ،وتعلم
العربية منهم .وأنفسهم وأعجبهم حني شب ،فلما أدرك زوجوه امرأة منهم ،وماتت أم
إمساعيل .وجاء إبراهيم -بعدما تزوج إمساعيل -يطالع تركته فلم جيد إمساعيل ،فسأل
امرأته عنه ؟ فقالت :خرج يبتغي لنا ،مث سأهلا عن عيشهم وهيئتهم ؟ فقالت :حنن بشر ،
7
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
حنن يف ضيق وشدة ،فشكت إليه .قال :فإذا جاء زوجك أقرئي عليه السالم ،وقويل له :
يغري عتبة بابه .فلما جاء إمساعيل ،كأنه آنس شيئاً ،فقال :هل جاءكم من أحد ؟ قالت :
نعم جاءنا شيخ -كذا وكذا -فسألنا عنك ؟ فأخربته .وسألين :كيف عيشنا فأخربته أنا يف
جهد وشدة ،قال :فهل أوصاك بشئ ؟ قالت :نعم ،أمرين أن أقرأ عليك السالم ،ويقول :
غري عتبة بابك ،قال :ذاك أيب ،وقد أمرين أن أفارقك ،احلقي بأهلك .فطلقها وتزوج
منهم امرأة أخرى ،فلبث عنهم إبراهيم ما شاء اهلل ،فقال ألهله :إين مطلع تركيت ،فجاء
فقال المرأته :أين إمساعيل ؟ قالت :ذهب يصيد .قالت :أال تنزل فتطعم ،وتشرب؟ قال:
وما طعامكم وما شرابكم ؟ قالت :طعامنا اللحم ،وشرابنا املاء .قال :اللهم بارك هلم يف
طعامهم وشراهبم -قال :فقال أبو القاسم صلى اهلل عليه وسلم بركة دعوة إبراهيم ،فهما ال
خيلو عليهما أحد بغري مكة إال مل يوافقاه .قال النيب صلى اهلل عليه وسلم :ومل يكن هلم
يومئذ حب .ولو كان هلم حب دعا هلم فيه -وسأهلا عن عيشهم وهيئتهم ؟ فقالت :حنن
خبري وسعة وأثنت على اهلل ،قال :إذا جاء زوجك ،فاقرئي عليه السالم ،ومريه يثبت عتبة
بابه .فلما جاء إمساعيل قال :هل آتاكم من أحد ؟ قالت :نعم ،شيخ حسن اهليئة -وأثنت
عليه -فسألين عنك ؟ فأخربته فسألين :كيف عيشنا ؟ فأخربته أنا خبري .قال :هل أوصاك
بشئ ؟ قالت :نعم ،هو يقرأ عليك السالم ،ويأمرك أن تثبت عتبة بابك .قال :ذاك أيب ،
وأنت العتبة ،أمرين أن أمسكك .مث لبث عنهم ما شاء اهلل ،فقال ألهله :إين مطلع تركيت ،
فجاء ،فوافق إمساعيل يربي نبالً له حتت دوحة قريباً من زمزم ،فلما رآه قام إليه ،فصنعا
كما يصنع الوالد بالولد ،والولد بالوالد ،مث قال :يا إمساعيل ! إن اهلل أمرين بأمر ،قال :
فاصنع ما أمرك ربك .قال :وتعينين ؟ قال :وأعينك .قال :فإن اهلل أمرين أن أبين ها هنا
بيتاً -وأشار إىل أكمة مرتفعة على ما حوهلا -قال :فعند ذلك رفعا القواعد من البيت .
فجعل إمساعيل يأيت باحلجارة وإبراهيم يبين ،حىت إذا ارتفع البناء جاء هبذا احلجر فوضعه له ،
فقام عليه وهو يبين ،وإمساعيل يناوله احلجارة ومها يقوالن " :ربنا تقبل منا إنك أنت السميع
العليم " " ،هذا آخر حديث ابن عباس .
8
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وكانت اجلاهلية على ذلك ،وفيهم بقايا من دين إبراهيم مل يرتكوه كله ،وأيضاً يظنون أن
ما هم عليه ،وأن ما أحدثه عمرو بدعة حسنة ،ال تغري دين إبراهيم .وكانت تلبية نزار :
لبيك ،ال شريك لك ،إال شريكاً هو لك ،متلكه وما ملك ،فأنزل اهلل تعاىل " :ضرب
لكم مثال من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أميانكم من شركاء يف ما رزقناكم فأنتم فيه
سواء ختافوهنم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل اآليات لقوم يعقلون " .
ومن أقدم أصنامهم مناة وكان منصوباً على ساحل البحر بقديد ،تعظمه العرب كلها ،لكن
األوس واخلزرج كانوا أشد تعظيماً له من غريهم .وبسبب ذلك أنزل اهلل تعاىل " :إن الصفا
واملروة من شعائر اهلل فمن حج البيت أو اعتمر فال جناح عليه أن يطوف هبما " .
مث اختذوا الالت يف الطائف ،وقيل :إن أصله رجل صاحل كان يلت السويق للحاج ،فمات
فعكفوا على قربه .مث اختذو العزى بوادي خنلة ،بني مكة والطانف ،فهذه الثالثة أكرب
أوثاهنم .
مث كثر الشرك ،وكثرت األوثان يف بقعة من احلجاز ،وكان هلم أيضاً بيوت يعظموهنا
كتعظيم الكعبة ،وكانوا كما قال تعاىل " :لقد من اهلل على املؤمنني إذ بعث فيهم رسوال من
أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب واحلكمة وإن كانوا من قبل لفي ضالل
مبني " .
وملا دعاهم رسول اهلل إىل اهلل اشتد إنكار الناس له ،علماؤهم وعبادهم ،وملوكهم وعامتهم
،حىت إنه ملا دعا رجالً إىل اإلسالم قال له :من معك على هذا ؟ قال :حر وعبد ،ومعه
يومئذ أبو بكر وبالل رضي اهلل عنهما .
وقوله " :لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة ،حىت لو دخلوا جحر ضب
لدخلتموه .قالوا :يا رسول اهلل ! اليهود والنصارى ؟ قال :فمن" .
وقوله " :ستفرتق هذه األمة على ثالث وسبعني فرقة ،كلها يف النار إال واحدة".
فهذه املسألة أجل املسائل ،فمن فهمها فهو الفقيه .ومن عمل هبا فهو املسلم ،فنسأل اهلل
الكرمي املنان أن يتفضل علينا وعليكم بفهمها والعمل هبا .
الحج في الجاهلية
وكان الغوث بن مرة بن أد بن طاخبة بن إلياس بن مضر يلي اإلجازة للناس باحلج من عرفة ،
وولده من بعده ،ألن أمه كانت جرمهية ال تلد ،فنذرت هلل إن ولدت رجالً :أن تتصدق به
11
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
على الكعبة خيدمها ،فولدت الغوث ،فكان يقوم على الكعبة مع أخواله من جرهم ،فويل
اإلجازة بالناس ،ملكانه من الكعبة ،فكان إذا رفع يقول :
إن كان إمثاً فعلى قضاعة اللهم إين تابع تباعة
وكانت صوفة تدفع بالناس من عرفة ،وجتيزهم إذا نفروا من مىن .فإذا كان يوم النفر أتوا
رمي اجلمار ورجل من صوفة يرمي هلم ،ال يرمون حىت يرمي هلم ،فكان املتعجلون يأتونه
يقولون :ارم حىت نرمي ،فيقول :ال واهلل ،حىت متيل الشمس .فإذا مالت الشمس رمى
ورمى الناس معه ،فإذا فرغوا من الرمي وأرادوا النفر من مىن أخذت صوفة باجلانبني ،فلم
جيز أحد حىت ميروا ،مث خيلون سبيل الناس .
فلما انقرضوا ورثهم بنو سعد بن زيد مناة من بين متيم .
وكانت اإلفاضة من مزدلفة يف عدوان يتوارثوهنا ،حىت كان آخرهم كرب بن صفوان بن
جناب :الذي قام عليه اإلسالم .
فلما كان ذلك العام ،فعلمت صوفة ما كانت تفعل ،قد عرفت العرب ذلك هلم ،هو دين
هلم من عهد جرهم ووالية خزاعة ،فأتاهم قصي مبن معه من قريش وقضاعة وكنانة عند
العقبة ،فقال :حنن أوىل هبذا منكم ،فقاتلوه .فاقتتل الناس قتاالً شديداً ،مث اهنزمت صوفة
وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم .
واحنازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي ،وعرفوا أنه سيمنعهم ،كما منع صوفة ،
وحيول بينهم وبني الكعبة وأمر مكة .
فلما احنازوا بادأهم وأمجع حلرهبم ،فالتقوا واقتتلوا قتاالً شديداً ،مث تداعوا إىل الصلح ،
فحكموا يعمر بن عوف ،أحد بين بكر ،فقضى بينهم بأن قصياً أوىل بالكعبة وأمر مكة من
خزاعة .وكل دم أصابه قصي منهم موضوع شدخه حتت قدميه ،وما أصابت خزاعة وبنو
بكر ففيه الدية وأن خيلى بني قصي وبني الكعبة ،فسمي يومئذ يعمر الشداخ .
12
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
فوليها قصي ،ومجع قومه من منازهلم إىل مكة ،ومتلك عليهم ،وملكوه ،ألنه أقر للعرب ما
كانوا عليه ،ألنه يراه ديناً ال يغري ،فأقر النسأة وآل صفوان وعدوان ،ومرة بن عوف على
ما كانوا عليه ،حىت جاء اإلسالم ،فهدم ذلك كله ،وفيه يقول الشاعر :
به مجع اهلل القبائل من فهر قصي لعمري كان يدعى جممعاً
فكان قصي أول بين كعب بن لؤي أصاب ملكاً أطاع له به قومه ،فكانت إليه احلجابة ،
والسقاية ،والرفادة ،والندوة ،واللواء وقطع مكة رباعاً بني قومه ،فأنزل كل قوم منهم
منازهلم .
وقيل :إهنم هابوا قطع الشجر عن منازهلم ،فقطعها بيده وأعوانه ،فسمته قريش جممعاً ملا
مجع من أمرهم ،وتيمنت بأمره فال تنكح امرأة منهم وال يتزوج رجل وال يتشاورون فيما
نزل هبم ،وال يعقدون لواء حرب إال يف داره يعقده هلم بعض ولده .
فكان أمره يف حياته -وبعد موته -عندهم كالدين املتبع ،واختد لنفسه دار الندوة .
فلما كرب قصي ورق عظمه -وكان عبد الدار بكره -وكان عبد مناف قد شرف يف زمان
أبيه ،وعبد العزى وعبد الدار .فقال قصي لعبد الدار :ألحلقنك بالقوم ،وإن شرفوا عليك
،ال يدخل أحد منهم الكعبة حىت تكون أنت تفتحها له ،وال يعقد لقريش لواء حلرهبا إال
أنت .وال يشرب رجل مبكة إال من سقايتك ،وال يأكل أحد من أهل املوسم طعاماً إال من
طعامك ،وال تقطع قريش أمراً من أمورها إال يف دارك .
فأعطاه دار الندوة ،واحلجابة ،واللواء ،والسقاية ،والرفادة :وهي خرج خترجه قريش يف
املوسم من أمواهلا إىل قصي ،فيصنع به طعاماً للحاج ،يأكله من مل يكن له سعة وال زاد ،
ألن قصياً فرضه على قريش .فقال هلم :إنكم جريان اهلل وأهل بيته .وإن احلاج ضيف اهلل ،
وهم أحق الضيف بالكرامة .فاجعلوا هلم طعاماً وشراباً أيام احلج حىت يصدروا عنكم .
ففعلوا .
وكان قصي ال خيالف ،وال يرد عليه شئ صنعه فلما هلك أقام بنوه أمره ال نزاع بينهم .
13
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
مث إن بين عبد مناف أرادوا أخذ ما بيد عبد الدار ورأوا أهنم أوىل بذلك ،فتفرقت قريش ،
بعضهم معهم ،وبعضهم مع عبد الدار ،فكان صاحب أمر عبد مناف :عبد مشس بن عبد
مناف ،ألنه أسنهم ...وصاحب أمر بين عبد الدار :عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد
الدار ،فعقد كل قوم حلفاً مؤكداً .فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيباً ،فغمسوا
أيديهم فيها ،ومسحوا هبا الكعبة ،فسموا املطيبني وتعاقد بنو عبد الدار وحلفاؤهم فسموا
األحالف .مث تداعوا إىل الصلح ،على أن لبين عبد مناف السقاية والرفادة ،وأن احلجابة
واللواء والندوة لبين عبد الدار ،فرضوا ،وثبت كل قوم مع من حالفوا ،حىت جاء اهلل
باإلسالم " .فقال صلى اهلل عليه وسلم :كل حلف يف اجلاهلية مل يزده اإلسالم إال شدة" .
لقومه ما أقام آباؤه ،وشرف فيهم شرفاً مل يبلغه أحد من آبائه ،وأحبوه وعظم خطره فيهم
.
15
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
مث جعلوا ملن ولدوا من العرب من أهل احلرم ،مثل ما هلم بوالدهتم إياهم ،أي :حيل هلم ما
حيل هلم ،وحيرم عليهم ما حيرم عليهم .
وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم يف ذلك .
مث ابتدعوا يف ذلك أموراً ،فقالوا :ال ينبغي للحمس أن يقطوا األقط ،وال أن يسلوا السمن
وهم حرم ،وال يدخلوا بيتاً من شعر ،وال يستظلوا إال يف بيوت األدم ما داموا حرماً .
مث قالوا :ال ينبغي ألهل احلل أن يأكلوا من طعام جاءوا به من احلل إىل احلرم ،إذا جاءوا
حجاجاً أو عماراً ،وال يطوفوا بالبيت إذا قدموا -أول طوافهم -إال يف ثياب احلمس ،فإن
مل جيدوا منها شيئاً طافوا بالبيت عراة ،فإن مل جيد القادم ثياب احلمس :طاف يف ثيابه ،
وألقاها إذا فرغ من طوافه ،ومل ينتفع هبا وال أحد غريه .
فكانت العرب تسميها اللقى ومحلوا على ذلك العرب ،فدانت به .أما الرجال :فيطوفون
عراة .وأما النساء :فتضع املرأة ثياهبا كلها إال درعاً مفرجاً مث تطوف فيه ،فقالت امرأة
وهي تطوف :
وما بدا منه فال أحله اليوم يبدو بعضه أو كله
فلم يزالوا كذلك حىت جاء اهلل باإلسالم ،فأنزل اهلل " :مث أفيضوا من حيث أفاض الناس " ،
وأنزل فيما حرموا " :يا بين آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم " إىل قوله " :يا بين
آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد " إىل قوله " :لقوم يعلمون " .
وذكر حدوث الرجوم ،وإنذار الكهان به صلى اهلل عليه وسلم ،ونزول سورة اجلن وقصتهم
.
مث ذكر قصة إسالم سلمان الفارسي رضي اهلل عنه .
مث ذكر األربعة املتفرقني عن الشرك يف طلب الدين احلق ،وهم :ورقة بن نوفل ،وعبيد اهلل
بن جحش ،وعثمان بن احلويرث ،وزيد بن عمرو بن نفيل .
وصية عيسى عليه السالم باتباع محمد Wصلى اهلل عليه وسلم
مث ذكر وصية عيسى ابن مرمي .عليه السالم باتباع حممد صلى اهلل عليه وسلم ،وما أخذ اهلل
على األنبياء من اإلميان به والنصر له ،وأن يؤدوه إىل أممهم ،فأدوا ذلك ،وهو قول اهلل تعاىل
" :وإذ أخذ اهلل ميثاق النبيني " اآلية .
ومن أشهر ذلك :قصة عمه أيب طالب ملا محاه بنفسه وماله وعياله وعشريته ،وقاسى يف
ذلك الشدائد العظيمة ،وصرب عليها ،ومع ذلك كان مصدقاً له ،مادحاً لدينه :حمباً ملن
اتبعه ،معادياً ملن عاداه ،لكن مل يدخل فيه ،ومل يتربأ من دين آبائه ،واعتذر عن ذلك بأنه
ال يرضى مبسبة آبائه ،ولوال ذلك التبعه ،وملا مات وأراد النيب صلى اهلل عليه وسلم
االستغفار له أنزل اهلل عليه " :ما كان للنيب والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركني ولو كانوا
أويل قرىب من بعد ما تبني هلم أهنم أصحاب اجلحيم " .
فيا هلا من عربة ما أبينها ؟ ومن عظة ما أبلغها ! ومن بيان ما أوضحه ! ملا يظن كثري ممن
يدعي اتباع احلق فيمن أحب احلق وأهله ،من غري اتباع للحق ألجل غرض من أغراض الدنيا
.
قصته صلى اهلل عليه وسلم مع قريش حين قرأ سورة النجم
ومما وقع أيضاً :قصته صلى اهلل عليه وسلم معهم ملا قرأ سورة النجم حبضرهتم -فلما وصل
إىل قوله " :أفرأيتم الالت والعزى* ومناة الثالثة األخرى " ،ألقى الشيطان يف تالوته :تلك
الغرانيق العلى ،وإن شفاعتهن لرتجتى ،وظنوا أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قاله ،ففرحوا
بذلك فرحاً شديداً ،وتلقاها الصغري والكبري منهم ،وقالوا كالماً معناه :هذا الذي نريد ،
حنن نقر أن اهلل هو اخلالق الرازق ،املدبر لألمور ،ولكن نريد شفاعتها عنده ،فإذا أقر بذلك
فليس بيننا وبينه أي خالف .
واستمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقرؤها ،فلما بلغ السجدة سجد وسجدوا معه ،
وشاع اخلرب :أهنم صافوه ،حىت إن اخلرب وصل إىل الصحابة الذين باحلبشة ،فركبوا البحر
راجعني ،لظنهم أن ذلك صدق ،فلما ذكر ذلك لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم خاف أن
يكون قاله فخاف من اهلل خوفاً عظيماً ،حىت أنزل اهلل عليه " :وما أرسلنا من قبلك من
رسول وال نيب إال إذا متىن ألقى الشيطان يف أمنيته " إىل قوله " :عذاب يوم عظيم " .
فمن عرف هذه القصة ،وعرف ما عليه املشركون اليوم ،وما قاله ويقوله علماؤهم ،ومل
مييز بني اإلسالم الذي أتى به النيب صلى اهلل عليه وسلم ،وبني دين قريش الذي أرسل اهلل
18
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
رسوله ينذرهم عنه ،وهو الشرك األكرب :فأبعده اهلل ،فإن هذه القصة يف غاية الوضوح ،إال
من طبع اهلل ،على قلبه ومسعه ،وجعل على بصره غشاوة ،فذلك ال حيلة فيه ،ولو كان
من أفهم الناس ،كما قال اهلل تعاىل يف أهل الفهم الذين مل يوفقوا " :ولقد مكناهم فيما إن
مكناكم فيه وجعلنا هلم مسعا وأبصارا وأفئدة فما أغىن عنهم مسعهم وال أبصارهم وال أفئدهتم
من شيء " اآلية .
مث مل أراد اهلل إظهار دينه ،وإعزاز املسلمني :أسلم األنصار -أهل املدينة -بسبب العلماء
الذين عندهم من اليهود ،وذكرهم هلم النيب وصفته ،وأن هذا زمانه وقدر اهلل سبحانه أن
أولئك العلماء الذين يتمنون ظهوره وينتظرونه ،ويتوعدوهنم به -ملعرفتهم أن العز ملن اتبعه-
يكفرون به ويعادونه ،فهو قول اهلل سبحانه " :وملا جاءهم كتاب من عند اهلل مصدق ملا
معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة اهلل
على الكافرين " .
فلما أسلم األنصار أمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من كان مبكة من املسلمني باهلجرة إىل
املدينة ،فهاجروا إليها .وأعزهم اهلل تعاىل بعد تلك الذلة ،فهو قوله تعاىل " :واذكروا إذ
أنتم قليل مستضعفون يف األرض ختافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره " اآلية .
19
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
" :إن الذين توفاهم املالئكة ظاملي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفني يف األرض "
إىل قوله " :وكان اهلل غفورا رحيما " .
فليتأمل الناصح لنفسه هذه القصة ،وما أنزل اهلل فيها من اآليات ،فإن أولئك لو تكلموا
بكالم الكفر ،وفعلوا كفراً ظاهراً يرضون به قومهم :مل يتأسف الصحابة على قتلهم ،ألن
اهلل بني هلم -وهم مبكة -ملا عذبوا قوله تعاىل " :من كفر باهلل من بعد إميانه إال من أكره
وقلبه مطمئن باإلميان " .
فلو مسعوا عنهم كالماً أو فعال يرضون به املشركني من غري إكراه ،ما كانوا يقولون :قتلنا
إخواننا .
20
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
ومنها :أنك تعرف أن اإلميان ليس كما يظنه غالب الناس اليوم ،بل كما قال احلسن
البصري -فيما روى عنه البخاري " :ليس اإلميان بالتحلي وال بالتمين ولكن ما وقر يف
القلوب وصدقته األعمال" .
نسأل اهلل أن يرزقنا علماً نافعاً ،ويعيذنا من علم ال ينفع .
قال عمر بن عبد العزيز :يا بين ليس اخلري أن يكثر مالك وولدك ،ولكن اخلري :أن تعقل عن
اهلل مث تطيعه .
وملا هاجر املسلمون إىل املدينة ،واجتمع املهاجرون واألنصار :شرع اهلل هلم اجلهاد ،وقبل
ذلك هنوا عنه ،وقيل هلم " :كفوا أيديكم " ،فأنزل اهلل تعاىل " :كتب عليكم القتال وهو
كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خري لكم وعسى أن حتبوا شيئا وهو شر لكم واهلل
يعلم وأنتم ال تعلمون " ،فبذلوا أنفسهم وأمواهلم هلل تعاىل رضي اهلل عنهم ،فشكر اهلل هلم
ذلك ،ونصرهم على من عاداهم مع قلتهم وضعفهم ،وكثرة عدوهم وقوته .
قياماً مل يدانه فيه أحد من الصحابة ،ذكرهم فيه ما نسوا ،وعلمهم ما جهلوا ،وشجعهم ملا
جبنوا ،فثبت اهلل به دين اإلسالم جعلنا اهلل من أتباعه ،وأتباع ما محله أصحابه .
قال اهلل تعاىل " :يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأيت اهلل بقوم حيبهم
وحيبونه أذلة على املؤمنني أعزة على الكافرين جياهدون يف سبيل اهلل " اآلية ،قال احلسن :هم
واهلل أبو بكر وأصحابه .
22
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
مث زالت الشبهة عن الصحابة رضي اهلل عنهم ،وعرفوا وجوب قتاهلم ،فقاتلوهم ونصرهم
اهلل عليهم ،فقتلوا من قتلوا منهم ،وسبوا نساءهم وعياهلم .
فمن أهم ما على املسلم اليوم :تأمل هذه القصة اليت جعلها اهلل من حججه على خلقه إىل
يوم القيامة .
فمن تأمل هذه تأمالً جيداً -خصوصاً إذا عرف أن اهلل شهرها على ألسنة العامة ،وأمجع
العلماء على تصويب أيب بكر يف ذلك ،وجعلوا من أكرب فضائله ،وعلمه :أنه مل يتوقف يف
قتاهلم ،بل قاتلهم من أول وهلة ،وعرفوا غزارة فهمه يف استدالله عليهم بالدليل الذي
أشكل عليهم ،فرد عليهم بدليلهم بعينه ،مع أن املسألة موضحة يف القرآن والسنة .
أما القرآن ،فقوله تعاىل " :فإذا انسلخ األشهر احلرم فاقتلوا املشركني حيث وجدمتوهم
وخذوهم واحصروهم واقعدوا هلم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصالة وآتوا الزكاة فخلوا
سبيلهم " .
ويف الصحيحني أن "رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال :أمرت أن أقاتل الناس حىت يشهدوا
أن ال إله إال اهلل ،وأن حممداً رسول اهلل ،ويقيموا الصالة ،ويؤتوا الزكاة ،فإذا فعلوا ذلك
عصموا مين دماءهم وأمواهلم ،إال حبق اإلسالم وحساهبم على اهلل تعاىل" .
فهذا كتاب اهلل الصريح ،للعامي البليد ،وهذا كالم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وهذا
إمجاع العلماء الذين ذكرت لك .
والذي يعرفك هذا جيداً :هو معرفة ضده ،وهو أن العلماء يف زماننا يقولون :من قال ال
إله إال اهلل فهو املسلم ،حرام املال والدم ،ال يكفر وال يقاتل ،حىت إهنم يصرحون بذلك يف
شأن البدو الذين يكذبون بالبعث ،وينكرون الشرائع ،ويزعمون أن شرعهم الباطل :هو
حق اهلل ،ولو طلب أحد منهم خصمه أن خياصمه عند شرع اهلل لعدوه من أنكر املنكرات ،
بل من حيث اجلملة :إهنم يكفرون بالقرآن من أوله إىل آخره ،ويكفرون بدين الرسول كله
،معه إقرارهم بذلك بألسنتهم ،وإقرارهم :أن شرعهم أحدثه آباؤهم هلم كفراً بشرع اهلل .
23
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وعلماء الوقت يعرتفون هبذا كله ،ويقولون :ما فيهم من اإلسالم شعرة ،وهذا القول تلقته
العامة عن علمائهم ،وأنكروا به ما بينه اهلل ورسوله ،بل كفروا من صدق اهلل ورسوله يف
هذه املسألة ،وقالوا :من كفر مسلماً فقد كفر ،واملسلم عندهم :الذي ليس معه من
اإلسالم شعرة ،إال أنه يقول بلسانه :ال إله إال اهلل ،وهو أبعد الناس عن فهمها وحتقيق
مطلوهبا علماً وعقيدة وعمالً .
فاعلم -رمحك اهلل -أن هذه املسألة :أهم األشياء كلها عليك ،ألهنا هي الكفر واإلسالم ،
فإن صدقتهم فقد كفرت مبا أنزل اهلل على رسوله صلى اهلل عليه وسلم ،كما ذكرنا لك من
القرآن والسنة واإلمجاع ،وإن صدقت اهلل ورسوله عادوك وكفروك .
وهذا الكفر الصريح بالقرآن والرسول يف هذه املسألة :قد اشتهر يف األرض مشرقها ومغرهبا
،ومل يسلم منه إال أقل القليل .
فإن رجوت اجلنة ،وخفت من النار :فاطلب هذه املسألة ،وادرسها من الكتاب والسنة ،
وحررها .وال تقتصر يف طلبها ،ألجل شدة احلاجة إليها ،وألهنا اإلسالم والكفر .وقل :
اللهم أهلمين رشدي ،وفهمين عنك ،وعلمين عنك ،وأعذين من مضالت الفنت ما أحييتين .
والذي يعرف هذا -وال يشك فيه -يقول :من قال :ال إله إال اهلل فهو املسلم ،ولو مل يكن
معه من اإلسالم شعرة ،بل قد تركه واستهزأ به متعمداً .فسبحان اهلل مقلب القلوب كيف
يشاء !! كيف جيتمع يف قلب من له عقل -ولو كان من أجهل الناس -أنه يعرف أن بين
حنيفة كفروا ،مع أن حاهلم ما ذكرنا ،وأن البدو إسالم ،ولو تركوا اإلسالم كله ،وأنكروه
،واستهزؤوا به على عمد ،ألهنم يقولوا :ال إله إال اهلل ،لكن أشهد أن اهلل على كل شئ
قدير ،نسأله أن يثبت قلوبنا على دينه ،وال يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ،وأن يهب لنا منه رمحة
،إنه هو الوهاب .
فأين هذا من كالم من يزعم أنه من العلماء ويقول :البدو ما معهم من اإلسالم شعرة ،إال
أهنم يقولون :ال إله إال اهلل ومع ذلك حيكم بإسالمهم بذلك ؟ أين هذا مما أمجع عليه
الصحابة :فيمن قال تلك الكلمة ،أو حضرها ومل ينكر ؟
شتان بني مشرق ومغرب سارت مشرقة وسرت مغرباً
ربنا إين أعوذ بك أن أكون ممن قلت فيهم " :فلما أضاءت ما حوله ذهب اهلل بنورهم
وتركهم يف ظلمات ال يبصرون * صم بكم عمي فهم ال يرجعون " ،وال ممن قلت فيهم " :
إن شر الدواب عند اهلل الصم البكم الذين ال يعقلون " .
وهي قصة املختار بن أيب عبيد الثقفي ،وهو رجل من التابعني .مصاهر لعبد اهلل بن عمر
رضي اهلل عنه وعن أبيه ،مظهر للصالح .فظهر يف العراق يطلب بدم احلسني وأهل بيته ،فقتل
ابن زياد ،ومال إليه من مال ،لطلبه دم أهل البيت ممن ظلمهم ابن زياد ،فاستولوا على
العراق ،وأظهر شرائع اإلسالم ،ونصب القضاة واألئمة من أصحاب ابن مسعود رضي اهلل
عنه .وكان هو الذي يصلي بالناس اجلمعة واجلماعة ،لكن يف آخر أمره :زعم أنه يوحى
إليه ،فسري إليه عبد اهلل بن الزبري جيشاً ،فهزموا جيشه وقتلوه ،وأمري اجليش مصعب بن
الزبري ،وحتته امرأة أبوها أحد الصحابة ،فدعاها مصعب إىل تكفريه فأبت ،فكتب إىل أخيه
عبد اهلل يستفتيه فيها ،فكتب إليه :إن مل تربأ منه فاقتلها .فامتنعت ،فقتلها مصعب .
وأمجع العلماء كلهم على كفر املختار -مع إقامته شعائر اإلسالم -ملا جىن على النبوة .
وإذا كان الصحابة قتلوا املرأة اليت هي من بنات الصحابة ملا امتنعت من تكفريه ،فكيف مبن
مل يكفر البدو مع إقراره حباهلم ،فكيف مبن زعم أهنم هم أهل اإلسالم ،ومن دعاهم إىل
اإلسالم هو الكافر ؟ يا ربنا نسألك العفو والعافية .
فإهنم ظهروا على رأس املائة الثالثة ،فادعى عبيد اهلل أنه من آل علي بن أيب طالب ،من ذرية
فاطمة ،وتزىي بزي أهل الطاعة واجلهاد يف سبيل اهلل ،فتبعه أقوام من الرببر من أهل املغرب ،
وصار له دولة كبرية يف املغرب وألوالده من بعده ،مث ملكوا مصر والشام ،وأظهروا شرائع
اإلسالم ،وإقامة اجلمعة واجلماعة ،ونصبوا القضاة واملفتني ،لكن أظهروا الشرك وخمالفة
الشريعة ،وظهر منهم ما يدل على نفاقهم وشدة كفرهم ،فأمجع أهل العلم :أهنم كفار وأن
دارهم دار حرب ،مع إظهارهم شعائر اإلسالم .
ويف مصر من العلماء والعباد أناس كثري ،وأكثر أهل مصر مل يدخل معهم فيما أحدثوا من
الكفر .ومع ذلك :أمجع العلماء على ما ذكرنا ،حىت إن بعض أكابر أهل العلم املعروفني
بالصالح ،قال :لو أن معي عشرة أسهم لرميت بواحد منهم النصارى احملاربني ،ورميت
بالتسعة بين عبيد .
وملا كان زمان السلطان حممود بن زنكي أرسل إليهم جيشاً عظيماً بقيادة صالح الدين ،
فأخذوا مصر من أيديهم ،ومل يرتكوا جهادهم مبصر ألجل من فيها من الصاحلني .
فاما فتحها السلطان حممود فرح املسلمون بذلك أشد الفرح ،وصنف ابن اجلوزي يف ذلك
كتابا مساه النصر على مصر .
وأكثر العلماء التصنيف والكالم يف كفرهم ،مع ما ذكرنا من إظهارهم شرائع اإلسالم
الظاهرة .
فانظر ما بني هذا وبني ديننا األول أن البدو إسالم ،مع معرفتنا مبا هم عليه من الرباءة من
اإلسالم كله ،إال قول ال إله إال اهلل وال تظن أن أحداً منهم يكفر إال إن انتقل يهودياً أو
نصرانياً .
فإن آمنت مبا ذكر اهلل ورسوله ،ومبا أمجع عليه العلماء ،وتربأت من دين آبائك يف هذه
املسألة ،وقلت :آمنت باهلل ومبا أنزل اهلل ،وتربأت مما خالفه باطناً وظاهراً ،خملصاً هلل الدين
يف ذلك ،وعلم اهلل ذلك من قلبك ،فأبشر ،ولكن اسأل اهلل التثبيت ،واعرف أنه مقلب
القلوب .
28
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
29
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
دماءنا وأموالنا ،مع أنا نقول :ال إله إال اهلل ،فإذا سئلوا عن ذلك ؟ قالوا :من كفر مسلماً
فقد كفر .
مث مل يكفهم ذلك حىت أفتوا ملن عاهدنا بعهد اهلل ورسوله :أن ينقض العهد وله يف ذلك
ثواب عظيم ،ويفتون من عنده أمانة لنا ،أو مال يتيم :أنه جيوز له أكل أمانتنا ،ولو كانت
مال يتيم ،بضاعة عنده أو وديعة ،بل يرسلون الرسائل لدهام بن دواس وأمثاله :إذا حاربوا
التوحيد ونصروا عبادة األصنام ،يقولون :أنت يا فالن قمت مقام األنبياء .مع إقرارهم أن
التوحيد -الذين ندعو إليه ،وكفروا به وصدوا الناس عنه -هو دين األنبياء عليهم الصالة
والسالم ،وأن الشرك -الذي هنينا الناس عنه ،ورغبوهم هم فيه ،وأمروهم بالصرب على
آهلتهم : -أنه الشرك الذي هنى عنه األنبياء ،ولكن هذه من أكرب آيات اهلل ،فمن مل يفهمها
فليبك على نفسه ،واهلل سبحانه وتعاىل أعلم .
30
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
حممد بن عبد اهلل بن عبد املطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كالب بن مرة بن
كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزمية بن مدركة بن إلياس
بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان .إىل هنا معلوم الصحة .وما فوق عدنان خمتلف فيه .
وال خالف أن عدنان من ولد إمساعيل ،وامساعيل هو الذبيح على القول الصواب ،والقول
بأنه إسحاق باطل .
وال خالف أنه صلى اهلل عليه وسلم ولد مبكة عام الفيل ،وكانت وقعة الفيل تقدمة قدمها اهلل
لنبيه وبيته ،وإال فأهل الفيل نصارى أهل كتاب ،دينهم خري من دين أهل مكة ،ألهنم عباد
أوثان ،فنصرهم اهلل نصراً ال صنع للبشر فيه ،تقدمة للنيب صلى اهلل عليه وسلم الذي أخرجته
قريش من مكة ،وتعظيماً للبلد احلرام .
وكان أبرهة رجالً حليماً ،فسار حىت إذا دنا من بالد خثعم خرج إليه نفيل بن حبيب
اخلثعمي ،ومن اجتمع إليه من قبائل العرب ،فقاتلوهم فهزمهم أبرهة ،فأخذ نفيالً ،فقال له
:أيها امللك ،إنين دليلك بأرض العرب ،وهاتان يداي على قومي بالسمع والطاعة ،
فاستبقين خرياً لك .فاستبقاه ،وخرج معه يدله على الطريق .
فلما مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب يف رجال من ثقيف ،فقال له :أيها امللك !
حنن عبيدك ،وحنن نبعث معك من يدلك ،فبعثوا معه بأيب رغال موىل هلم ،فخرج حىت إذا
كان باملغمس مات أبو رغال ،وهو الذي يرجم قربه .وبعث أبرهة رجالً من احلبشة -يقال
له :األسود بن مفصود -على مقدمة خيله وأمر بالغارة على نعم الناس ،فجمع األسود إليه
أموال احلرم ،وأصاب لعبد املطلب مائيت بعري .
مث بعث رجالً من محري إىل أهل مكة ،فقال :أبلغ شريفها أنين مل آت لقتال ،بل جئت
ألهدم البيت .فانطلق ،فقال لعبد املطلب ذلك .فقال عبد املطلب :ما لنا به يدان ،
سنخلي بينه وبني ما جاء له ،فإن هذا بيت اهلل وبيت خليله إبراهيم ،فإن مينعه فهو بيته
وحرمه ،وإن خيلي بينه وبني ذلك فواهلل ما لنا به من قوة .قال :فانطلق معي إىل امللك
-وكان ذو نفر صديقاً لعبد املطلب -فأتاه ،فقال :يا ذا نفر ،هل عندك غناء فيما نزل بنا
؟ فقال :ما غناء رجل أسري ال يأمن أن يقتل بكرة أو عشياً ،ولكن سأبعث إىل أنيس سائس
الفيل ،فإنه يل صديق ،فأسأله أن يعظم خطرك عند امللك ،فأرسل إليه ،فقال ألبرهة :إن
هذا سيد قريش يستأذن عليك ،وقد جاء غري ناصب لك ،وال خمالف ألمرك ،وأنا أحب أن
تأذن له .
وكان عبد املطلب رجالً جسيماً وسيماً ،فلما رآه أبرهة أعظمه وأكرمه ،وكره أن جيلس
معه على سريره ،وأن جيلس حتته ،فهبط إىل البساط ،فدعاه فأجلسه معه ،فطلب منه أن
يرد عليه مائيت البعري اليت أصاهبا من ماله .
32
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
فقال أبرهة لرتمجانه :قل له :إنك كنت أعجبتين حني رأيتك ،ولقد زهدت فيك .قال :مل
؟ قال :جئت إىل بيت -هو دينك ودين آبائك ،وشرفكم وعصمتكم -ألهدمه ،فلم
تكلمين فيه ،وتكلمين يف مائيت بعري ؟ قال :أنا رب اإلبل ،والبيت له رب مينعه منك.
فقال :ما كان ليمنعه مين .قال :فأنت وذاك .فأمر بإبله فردت عليه ،مث خرج .وأخرب
قريشاً اخلرب ،وأمرهم أن يتفرقوا يف الشعاب ،ويتحرزوا يف رؤوس اجلبال ،خوفاً عليهم من
معرة اجليش ،ففعلوا .وأتى عبد املطلب البيت ،فأخذ حبلقة الباب ،وجعل يقول :
يا رب فامنع منهمو محاكا يا رب ال أرجو هلم سواكا
فامنعهمو أن خيربوا قراكا إن عدو البيت من عاداكا
وقال أيضاً :
وحالله فامنع حاللك ال هم إن املرء مينع رحله
غدراً حمالـ ــك اليغلنب صليبهم وحماهلم
كي يسبـوا عيـالك جروا مجوعهم هم والفيـل
فأمـر مـا بـدا لك إن كنت تـاركهم وكعبتنا
مث توجه يف بعض تلك الوجوه مع قومه ،وأصبح أبرهة باملغمس قد هتيأ للدخول ،وعبأ
جيشه ،وهيأ فيله ،فأقبل نفيل إىل الفيل ،فأخذ بإذنه ،فقال :أبرك حممود فإنك يف بلد اهلل
احلرام .فربك الفيل ،فبعثوه فأىب .فوجهوه إىل اليمن ،فقام يهرول ،ووجهوه إىل الشام
ففعل مثل ذلك ،ووجهوه إىل املشرق ففعل ذلك ،فصرفوه إىل احلرم فربك .وخرج نفيل
يشتد حىت صعد اجلبل ،فأرسل اهلل طرياً من قبل البحر ،مع كل طائر ثالثة أحجار :
حجرين يف رجليه وحجراً يف منقاره ،فلما غشيت القوم أرسلتها عليهم ،فلم تصب تلك
احلجارة أحداً إال هلك ،وليس كل القوم أصابت ،فخرج البقية هاربني يسألون عن نفيل ،
ليدهلم على الطريق إىل اليمن ،فماج بعضهم يف بعض ،يتساقطون بكل طريق ،ويهلكون
على كل منهل .وبعث اهلل على أبرهة داء يف جسده ،فجعلت تساقط أنامله ،حىت انتهى إىل
صنعاء وهو مثل الفرخ ،وما مات حىت انصدع صدره عن قلبه مث هلك .
33
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
34
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
ومنهم :الزبري بن عبد املطلب شقيق عبد اهلل ،وكان رئيس بين هاشم وبين املطلب يف حرب
الفجار ،شريفاً شاعراً ،ومل يدرك اإلسالم .وأسلم من أوالده .عبد اهلل واستشهد
بأجنادين ،وضباعة ،وجمل ،وصفية ،وعاتكة .
وأسلم منهم محزة بن عبد املطلب ،والعباس .
ومنهم :أبو هلب مات عقيب بدر ،وله من الولد :عتيبة الذي دعا عليه النيب صلى اهلل عليه
وسلم فقتله السبع .وله عتبة ،ومعتب ،أسلما يوم الفتح .ومن بناته :البيضاء أم حكيم ،
تزوجها كرز بن ربيعة بن حبيب بن عبد مشس ،فولدت له عامراً وأروى ،فتزوج أروى
عفان بن أيب العاص بن أمية ،فولدت له عثمان ،مث خلف عليها عقبة بن أيب معيط ،فولدت
له الوليد بن عقبة ،وعاشت إىل خالفة ابنها عثمان ،ومنهن :برة بنت عبد املطلب ،أم أيب
سلمة بن عبد األسد املخزومي .
ومنهن :عاتكة أم عبد اهلل بن أيب أمية ،وهي صاحبة املنام قبل يوم بدر ،واختلف يف
إسالمها .
ومنهن :صفية أم الزبري بن العوام ،أسلمت وهاجرت .
وأروى أم آل جحش -عبد اهلل وأيب أمحد ،وعبيد اهلل وزينب ،ومحنة .
وأم عبد املطلب :هي سلمى بنت عمرو بن زيد من بين النجار ،تزوجها أبوه هاشم بن عبد
مناف ،فخرج إىل الشام -وهي عند أهلها ،قد محلت بعبد املطلب -فمات بغزة .فرجع
أبو رهم بن عبد العزى وأصحابه إىل املدينة برتكته .وولدت امرأته سلمى :عبد املطلب ،
ومسته شيبة احلمد ،فاقام يف أخواله مكرماً .فبينما هو يناضل الصبيان ،فيقول :أنا ابن
هاشم ،مسعه رجل من قريش ،فقال لعمه املطلب :إين مررت بدور بين قيلة ،فرأيت غالماً
يعتزي إىل أخيك ،وما ينبغي ترك مثله يف الغربة ،فرحل إىل املدينة يف طلبه ،فلما رآه
فاضت عيناه ،وضمه إليه ،وأنشد شعراً :
أبناءها حوله بالنبل تنتضل عرفت شيبة والنجار قد جعلت
فـفاض مين عليه وابل هطـل عرفت أجــالده فيـنا وشــيمتـه
35
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
فأردفه على راحلته ،فقال :يا عم ،ذلك إىل الوالدة .فجاء إىل أمه ،فسأهلا أن ترسل به
معه ،فامتنعت .فقال هلا :إمنا ميضي إىل ملك أبيه ،وإىل حرم اهلل .فأذنت له .فقدم به
مكة ،فقال الناس :هذا عبد املطلب ،فقال :وحيكم إمنا هو ابن أخي هاشم .
فأقام عنده حىت ترعرع ،فسلم إليه ملك هاشم من أمر البيت ،والرفادة ،والسقاية ،وأمر
احلجيج ،وغري ذلك .
وكان املطلب شريفاً مطاعاً جواداً ،وكانت قريش تسميه الفياض لسخائه ،وهو الذي عقد
احللف بني قريش وبني النجاشي ،وله من الولد :احلارث ،وخمرمة ،وعباد ،وأنيس ،وأبو
عمر ،وأبو رهم ،وغريهم .
وملا مات وثب نوفل بن عبد مناف على أركاح شيبة ،فغصبه إياها ،فسأل رجاالً من قريش
النصرة على عمه ،فقالوا :ال ندخل بينك وبني عمك .فكتب إىل أخواله من بين النجار
أبياتاً ،منها :
هل من رسول إىل النجار أخوايل يا طــول ليلـي ألحزاين وأشغــايل
ومالك عصمة احلريان عن حـايل بنـي عـدي ودينـار ومازنـها
ظلم عزيزاً منيـعاً ناعـم البـال قد كنت فيهم وما أخشى ظالمة ذي
لذاك مطلب عمـي برتحـالـي حىت ارحتلت إىل قومي وأزعجين
انبـرى نوفـل يعـدو على مـايل فغاب مطلب يف قعـر مظـلمـة مث
وغاب أخـواـله عنـه بال والـي لـمـا رأى رجالً غابت عمومته
ال ختـذلوه فمـا أنتم خبـذايل فاستنفروا وامنعـوا ضيم ابن أختكم
فلما وقف خاله أبو سعد بن عدي بن النجار على كتابه بكى ،وسار من املدينة يف مثانني
راكباً ،حىت قدم مكة .فنزل باألبطح ،فتلقاه عبد املطلب ،وقال :املنزل يا خال ،فقال :ال
واهلل حىت ألقى نوفالً ،فقال :تركته باحلجر جالساً يف مشايخ قومه ،فأقبل أبو سعد حىت
وقف عليهم ،فقام نوفل قائماً ،فقال :يا أبا سعد ،أنعم صباحاً .فقال :ال أنعم اهلل لك
صباحاً ،وسل سيفه ،وقال :ورب هذا البيت ،لئن مل ترد على ابن أخيت أركاحه ألمكنن
36
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
منك هذا السيف .فقال :رددهتا عليه .فأشهد عليه مشايخ قريش .مث نزل على شيبة ،
فأقام عنده ثالثاً ،مث اعتمر ورجع إىل املدينة ،فقال عبد املطلب :
ودينـار بن تيـم اهلل ضيـمـي ويأىب مازن وأبـو عدي
وكانوا يف انتساب دون قومي هبم رد اإلله علي ركحي
فلما جرى ذلك حالف نوفل بين عبد مشس بن عبد مناف على بين هاشم ،وحالفت بنو
هاشم خزاعة على بين عبد مشس ونوفل ،فكان ذلك سبباً لفتح مكة ،كما سيأيت .
فلما رأت خزاعة نصر بين النجار لعبد املطلب ،قالوا :حنن ولدناه كما ولدمتوه ،فنحن أحق
بنصره ،وذلك أن أم عبد مناف منهم .فدخلوا دار الندوة وحتالفوا وكتبوا بينهم كتاباً .
عبد اهلل والد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :
وأما عبد اهلل ،والد النيب صلى اهلل عليه وسلم :فهو الذبيح .وسبب ذلك :أن عبد املطلب
أمر يف املنام حبفر زمزم ،ووصف له موضعها .وكانت جرهم قد غلبت آل إمساعيل على
مكة ،وملكوها زماناً طويالً ،مث أفسدوا يف حرم اهلل .فوقع بينهم وبني خزاعة حرب ،
وخزاعة من قبائل اليمن ،من أهل سبأ ،ومل يدخل بينهم بنو إمساعيل .فغلبتهم خزاعة ،
ونفت جرمهاً من مكة ،وكانت جرهم قد دفنت احلجر األسود ،واملقام وبئر زمزم .وظهر
بعد ذلك قصي بن كالب على مكة ،ورجع إليه مرياث قريش ،فأنزل بعضهم داخل مكة -
وهم قريش األباطح -وبعضهم خارجها -وهم قريش الظواهر -فبقيت زمزم مدفونة إىل
عصر عبد املطلب .فرأى يف املنام موضعها ،فقام حيفر ،فوجد فيها سيوفاً مدفونة وحلياً،
وغزاالً من ذهب مشنفاً بالدر .فعلقه عبد املطلب على الكعبة ،وليس مع عبد املطلب إال
ولده احلارث ،فنازعته قريش ،وقالوا له :أشركنا ،فقال :ما أنا بفاعل ،هذا أمر
خصصت به ،فاجعلوا بيين وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه .
فنذر حينئذ عبد املطلب :لئن آتاه اهلل عشرة أوالد ،وبلغوا أن مينعوه :لينحرن أحدهم عند
الكعبة ،فلما متوا عشرة ،وعرف أهنم مينعونه أخربهم بنذره فأطاعوه .وكتب كل منهم امسه
يف قدح ،وأعطوها القداح قيم هبل -وكان الذي جييل القداح -فخرج القدح على عبد اهلل
37
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
،وأخذ عبد املطلب املدية ليذحبه .فقامت إليه قريش من ناديها فمنعوه .فقال :كيف أصنع
بنذري ؟ فأشاروا عليه :أن ينحر مكانه عشراً من اإلبل .فأقرع بني عبد اهلل وبينها ،
فوقعت القرعة عليه ،فاغتم عبد املطلب ،مث مل يزل يزيد عشراً عشراً ،وال تقع القرعة إال
عليه ،إىل أن بلغ مائة .فوقعت القرعة على اإلبل ،فنحرت عنه ،فجرت سنة .
وروي "عن النيب صلى اهلل عليه وسلم أنه قال :أنا ابن الذبيحني" ،يعين :إمساعيل عليه
السالم وأباه عبد اهلل .
مث ترك عبد املطلب اإلبل ال يرد عنها إنساناً وال سبعاً ،فجرت الدية يف قريش والعرب مائة
من اإلبل ،وأقرها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف اإلسالم .وقالت صفية بنت عبد
املطلب :
سقيا اخلليل وابنه املكرم حنن حفرنا للحجيج زمزم
سقم وطعام مطعم جربيـل الذي لـم يذمم شفاء
فإن طريق احلق ليس مبظلم فال جتعلوا هلل نداً وأسلموا
ولكنه أىب أن يدين بذلك خشية العار ،وملا حضرته الوفاة :دخل عليه رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم -وعنده أبو جهل ،وعبد اهلل بن أيب أمية -فقال :يا عم ! قل :ال إله إال اهلل ،
كلمة أحاج لك هبا عند اهلل ،فقاال له :أترغب عن ملة عبد املطلب ؟ فلم يزل صلى اهلل عليه
وسلم يرددها عليه ،ومها يرددان عليه حىت كان آخر كلمة قاهلا :هو على ملة عبد املطلب،
فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :ألستغفرن لك ما مل أنه عنك ،فأنزل اهلل تعاىل " :ما
كان للنيب والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركني ولو كانوا أويل قرىب من بعد ما تبني هلم أهنم
أصحاب اجلحيم " ،ونزل قوله تعاىل " :إنك ال هتدي من أحببت ولكن اهلل يهدي من يشاء
" اآلية .
قد ابن إسحاق :وقد رثاه ولده علي بأبيات ،منها :
يـذكرين شجـواً عظــيماً جمددا أرقت لطري آخر الليل غردا
جواداً إذا ما أصدر األمر أوردا أبا طالب مأوى الصعاليك ذا الندى
ولســت أرى حياً يكون خملداً فأمست قريش يفرحون مبــوته
ستوردهم يوماً من الغي موردا أزادوا أموراً زيفتها حلومهم
وأن يفرتى قدماً عليه وجيحدا يرجـون تكذيب النيب وقتله
صدور العوايل واحلسام املهندا كذبتم وبيت اهلل حىت نذيقكم
خلف أبو طالب أربعة ذكور وابنتني .فالذكور :طالب ،وعقيل ،وجعفر ،وعلي ،وبني
كل واحد عشر سنني .فطالب أسنهم ،مث عقيل ،مث جعفر ،مث علي .
فأما طالب :فأخرجه املشركون يوم بدر كرهاً ،فلما اهنزم الكفار طلب ،فلم يوجد يف
القتلى ،وال يف األسرى ،وال رجع إىل مكة ،وليس له عقب .
وأما عقيل :فأسر ذلك اليوم ،ومل يكن له مال .ففداه عمه العباس ،مث رجع إىل مكة .
فأقام هبا إىل السنة الثامنة ،مث هاجر إىل املدينة .فشهد مؤتة مع أخيه جعفر ،وهو الذي قال
فيه النيب صلى اهلل عليه وسلم " :وهل ترك لنا عقيل من منزل" .
39
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
واستمرت كفالة أيب طالب لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم -كما ذكرنا . -
فلما بلغ اثنيت عشرة سنة -وقيل :تسعاً -خرج به أبو طالب إىل الشام يف جتارة ،فرآه حبريى
الراهب ،وأمر عمه أن ال يقدم به الشام ،خوفاً عليه من اليهود ،فبعثه عمه مع بعض غلمانه
إىل املدينة .
ووقع يف الرتمذي :إنه بعث معه بالالً ،وهو غلط واضح .فإن بالالً إذ ذاك لعله مل يكن
موجوداً .
40
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
قال أهل السري :كان أمر البيت -بعد إمساعيل عليه السالم -إىل ولده .مث غلبت جرهم عليه
،فلم يزل يف أيديهم حىت استحلوا حرمته ،وأكلوا ما يهدى إليه ،وظلموا من دخل مكة ،
مث وليت خزاعة البيت بعدهم ،إال أنه كان إىل قبائل مضر ثالث خالل :اإلجازة بالناس من
عرفة يوم احلج إىل مزدلفة ،جتيزهم صوفة .
والثانية :اإلفاضة من مجع ،غداة النحر إىل مىن .وكان ذلك إىل يزيد بن عدوان ،وكان
آخر من ويل ذلك منهم أبو سيارة .
والثالثة :إنساء األشهر احلرم .وكان إىل رجل من بين كنانة يقال له حذيفة ،مث صار إىل
جنادة بن عوف .
قال ابن إسحاق :وملا بلغ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مخساً وثالثني سنة ،مجعت قريش
لبنيان الكعبة ،وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ،ويهابون هدمها ،وإمنا كانت رضماً فوق
القامة .فأرادوا رفعها وتسقيفها .وذلك أن قوماً سرقوا كنز الكعبة ،وكان يف بئر يف جوف
الكعبة ،وكان البحر قد رمى سفينة إىل جدة لرجل من جتار الروم ،فتحطمت فأخذوا
خشبها فأعدوه لسقفها .وكان مبكة رجل قبطي جنار ،فهيأ هلم بعض ما كان يصلحها ،
وكانت حية خترج على بئر الكعبة اليت كان يطرح فيه ما يهدى هلا كل يوم ،فتتشرق على
جدار الكعبة ،وكانت مما يهابون ،وذلك أنه كان ال يدنو منها أحد إال أحزألت وكشت
وفتحت فاها .فبينما هي ذات يوم تتشرق على جدار الكعبة ،بعث اهلل إليها طائراً
فاختطفها ،فذهب هبا .فقالت قريش :إنا لنرجو أن يكون اهلل قد رضي ما أردنا ،عندنا
عامل رفيق ،وعندنا خشب ،وقد كفانا اهلل احلية .
فلما أمجعوا أمرهم يف هدمها وبنائها .قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ املخزومي فتناول من
الكعبة حجراً ،فوثب من يده حىت رجع إىل موضعه ،فقال :يا معشر قريش ! ال تدخلوا يف
بنياهنا من كسبكم إال طيباً ،ال يدخل فيها مهر بغي ،وال بيع ربا ،وال مظلمة أحد من
الناس .
41
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
مث إن قريشاً جتزأت الكعبة .فكان شق الباب :لبين عبد مناف وزهرة .وما بني الركن
األسود واليماين :لبين خمزوم ،وقبائل من قريش انضافت إليهم .وكان ظهر الكعبة :لبين
مجح وبين سهم .وكان شق احلجر :لبين عبد الدار ،ولبين أسد بن عبد العزى ،ولبين عدي
،وهو احلطيم .
مث إن الناس هابوا هدمها ،فقال الوليد بين املغرية :أنا أبدؤكم يف هدمها ،فأخذ املعول ،مث
قام عليها ،وهو يقول :اللهم ال ترع -أو :مل نزغ -اللهم إنا ال نريد إال اخلري .مث هدم من
ناحية الركنني .فرتتبص الناس تلك الليلة ،وقالوا :إن أصيب ،مل هندم منها شيئاً ،
ورددناها كما كانت ،وإال فقد رضي اهلل ما صنعنا ،فأصبح الوليد من ليلته غادياً على عمله
،فهدم وهدم الناس معه.
حىت إذا انتهى اهلدم هبم إىل األساس -أساس إبراهيم عليه السالم -أفضوا إىل حجارة خضر
كاألسنة ،آخذ بعضها بعضاً ،فأدخل بعضهم عتلة بني حجرين منها ليقلع هبا أحدمها .فلما
حترك احلجر :انتفضت مكة بأسرها ،فانتهوا عند ذلك األساس .
مث إن القبائل من قريش مجعت احلجارة لبنائها ،كل قبيلة جتمع على حدة .مث بنوها ،حىت
بلغ البنيان موضع احلجر األسود .فاختصموا فيه ،كل قبيلة تريد أن ترفعه إىل موضعه ،حىت
حتاوروا وحتالفوا ،وأعدوا للقتال ،فقربت بنو عبد الدار جفنة ،مملوءة دماً .تعاهدوا -هم
وبنو عدي بن كعب -على املوت ،وأدخلوا أيديهم يف ذلك الدم .فسموا لعقة الدم ،
فمكثت قريش على ذلك أربع ليال ،أو مخساً .
مث إهنم اجتمعوا يف املسجد ،فتشاوروا وتناصفوا .فزعم بعض أهل الرواية :أن أبا أمية بن
املغرية بن عبد اهلل بن عمر بن خمزوم املخزومي -وكان يومئذ أسن قريش كلهم -قال :
اجعلوا بينكم أول من يدخل من باب املسجد .ففعلوا ،فكان أول من دخل :رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم .فلما رأوه ،قالوا :هذا األمني ،رضينا به ،هذا حممد ،فلما انتهى
إليهم أخربوه اخلرب .فقال صلى اهلل عليه وسلم :هلم إيل ثوباً ،فأيت به .فأخذ الركن فوضعه
42
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
فيه بيده .مث قال :لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ،مث ارفعوا مجيعاً ففعلوا ،حىت إذا بلغوا
به موضعه :وضعه هو بيده صلى اهلل عليه وسلم ،مث بىن عليه .
وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ينقل معهم احلجارة .وكانوا يرفعون أزرههم على
عواتقهم .ففعل ذلك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فلبط به -أي طاح على وجهه-
ونودي :اسرت عورتك ،فما رؤيت له عورة بعد ذلك .
فلما بلغوا مخسة عشر ذراعاً سقفوه على ستة أعمدة .
وكان البيت يكسى القباطي .مث كسي الربود .وأول من كساه الديباج :احلجاج بن
يوسف .
وأخرجت قريش احلجر لقلة نفقتهم ،ورفعوا باهبا عن األرض ،لئال يدخلها إال من أرادوا .
وكانوا إذا أرادوا أن ال يدخلها أحد ال يريدون دخوله :تركوه حىت يبلغ الباب ،مث يرمونه .
فلما بلغ صلى اهلل عليه وسلم أربعني سنة :بعثه اهلل بشرياً ونذيراً ،وداعياً إىل اهلل بإذنه
وسراجاً منرياً .
األول ،مث جاء القرن الثالث ،فقالوا :ما عظم أولونا هؤالء إال وهم يرجون شفاعتهم عند
اهلل ،فعبدوهم ،فلما بعث اهلل إليهم نوحاً -وغرق من غرق -أهبط املاء هذه األصنام من
أرض إىل أرض ،حىت قذفها إىل أرض جدة .فلما نضب املاء بقيت على الشط ،فسفت
الريح عليها الرتاب ،حىت وارهتا .
44
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
اخلزاعي جيز قصبه يف النار .فكان أول من سيب السوائب" ،ويف لفظ " :غري دين إبراهيم "،
ويف لفظ عن أيب إسحاق " :فكان أول من غري دين إبراهيم ،ونصب األوثان " .
وكان أهل اجلاهلية على ذلك ،فيهم بقايا من دين إبراهيم ،مثل تعظيم البيت ،والطواف به
،واحلج والعمرة ،والوقوف بعرفة ومزدلفة ،وإهداء البدن .وكانت نزار تقول يف إهالهلا ":
لبيك اللهم لبيك ،لبيك ال شريك لك ،إال شريكاً هو لك ،متلكه وما ملك " ،فأنزل اهلل :
" ضرب لكم مثال من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أميانكم من شركاء يف ما رزقناكم
فأنتم فيه سواء ختافوهنم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل اآليات لقوم يعقلون " .
صلى اهلل عليه وسلم مكة ،بعث خالد بن الوليد فأتاها فعضدها ،وكانت ثالث مسرات ،فلما
عضد الثالثة :فإذا هو حببشية نافشة شعرها ،واضعة يدها على عاتقها ،تضرب بأنياهبا ،
وخلفها سادهنا ،فقال خالد :
إين رأيت اهلل قد أهانك يا عز كفرانك ال سبحانك
مث ضرهبا ففلق رأسها ،فإذا هي محمة ،مث قتل السادن .
صنم هبل :
وكانت لقريش أصنام يف جوف الكعبة وحوهلا .وأعظمها :هبل ،وكان من عقيق أمحر على
صورة اإلنسان ،وكانوا إذا اختصموا ،أو أرادوا سفراً :أتوه ،فاستقسموا بالقداح عنده .
وهو الذي قال فيه أبو سفيان يوم أحد " :اعل هبل ،فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :
قولوا :اهلل أعلى وأجل" .
وكان هلم إساف ونائلة ،قيل أصلهما :أن إسافاً رجل من جرهم ،ونائلة امرأة منهم ،
فدخال البيت ،ففجر هبا فيه .فمسخهما اهلل فيه حجرين ،فأخرجومها فوضعومها ليتعظ هبما
الناس ،فلما طال األمد وعبدت األصنام :عبدا .
ذو الخلصة :
وكان خلثعم وجبيلة ودوس صنم يقال له :ذو اخللصة ،الذي كان بتبالة بني مكة واليمن .
"فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم جلرير بن عبد اهلل البجلي :أال ترحيين من ذي اخللصة ،
فسار إليه بأمحس ،فقاتلته مهدان ،فظفر هبم وهدمه" .
وكان لقضاعة وخلم وجذام وعاملة وغطفان صنم يف مشارف الشام .
وكان ألهل كل واد مبكة صنم ،إذا أراد أحدهم سفراً كان آخر ما يصنع يف منزله :أن
يتمسح به .
صنم عم أنس :
46
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
قال ابن إسحاق :وكان خلوالن صنم يقال له :عم أنس ،وفيهم أنزل اهلل " :وجعلوا هلل مما
ذرأ من احلرث واألنعام نصيبا فقالوا هذا هلل بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فال
يصل إىل اهلل وما كان هلل فهو يصل إىل شركائهم ساء ما حيكمون " .
فلما بعث اهلل حممداً صلى اهلل عليه وسلم بالتوحيد ،قالت قريش " :أجعل اآلهلة إهلا واحدا
إن هذا لشيء عجاب " .
وكانت العرب قد اختذت مع الكعبة طواغيت ،وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة .
وملا فتح رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مكة :وجد حول البيت ثالمثائة وستني صنماً ،فجعل
يطعن يف وجوهها وعيوهنا ،ويقول " :جاء احلق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا " ،وهي
تتساقط على رؤوسها ،مث أمر هبا فأخرجت من املسجد وحرقت .
47
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
أبداً .إنك لتصل الرحم ،وحتمل الكل ،وتقري الضيف ،وتكسب املعدوم ،وتعني على
نوائب احلق .
فانطلقت به خدجية حىت أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى -ابن عم خدجية-
وكان قد تنصر يف اجلاهلية .وكان يكتب الكتاب العرباين ،فيكتب من اإلجنيل بالعربانية ما
شاء اهلل أن يكتب ،وكان شيخاً كبرياً قد عمي .فقالت له خدجية :يا ابن عم ! امسع من
ابن أخيك .فقال له ورقة :يا ابن أخي ،ماذا ترى؟ فأخربه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
خرب مارأى .فقال له ورقة هذا الناموس الذي نزل اهلل على موسىص ،يا ليتين فيها جذعاً ،
ليتين أكون حياً إذ خيرجك قومك ؟ قال :أو خمرجي هم ؟ قال :نعم ،مل يأت رجل قط
مبثل ما جئت به إال عودي .وإن يدركين قومك أنصرك نصراً مؤزراً" .
مث أنشد ورقة :
هلـم طاملــا بعث النشيجـا جلجت وكنت يف الذكرى جلوجا
فقد طال انتظارى يا خدجيا ووصف من خديــجة بعد وصــف
حديثك أن أرى منـه خروجـا ببطن املكــتني على رجـائــي
الرهبان أكـره أن يعوجــا مبا خربتــنا من قــول قس من
وخيصم من يكون له حجيجـاً بأن حمـمــداً سي ـسـود قـومـا
يقيم به الربيـة أن متوجــا ويظهر يف البـالد ضيـاء نــور
ويلقى من يسـامله فلوجـا فيلـقى من حيــاربه خس ــارا
شهدت وكنت أوهلم ولوجـا فيـا ليتنـي إذا مــا كـان ذاكم
ولوعجت مبكتها عجـيجــا ولوجـتاً بالذي كرهـت قريــش
إىل ذي العرش إن سفلوا عروجا أرجي بالذي كرهوا مجيعاً
مبـن خيتار من مســك الربوجـا وهل أمر السفالة غري كفـر
يضج الكـافرون هلـا ضجيجـا فإن يبقوا وأبقى تكن أمور
من األقـدار متلفـة خروجـا وإن أهلك فكل فىت سيلـقى
48
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
فلم يلبث ورقة أن تويف [وزاد البخاري يف رواية أخرى ،قال ]:وفرت الوحي ،حىت حزن
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حزناً شديداً ،حىت كان يذهب إىل رؤوس شواهق اجلبال ،
يريد أن يلقي بنفسه منها ،كلما أوىف بذروة جبل تبدى له جربيل عليه السالم ،فقال :يا
حممد ،إنك رسول اهلل حقاً ،فيسكن لذلك جأشه ،وتقر نفسه ،فريجع ،فإذا طال عليه
فرتة الوحي غدا ملثل ذلك ،فإذا أوىف بذروة اجلبل تبدى به جربيل ،فيقول له ذلك .
"فبينما هو يوماً ميشي إذ مسع صوتاً من السماء .قال :فرفعت بصري ،فإذا امللك الذي
جاءين حبراء جالس على كرسي بني السماء واألرض ،فرعبت منه ،فرجعت إىل أهلي .
فقلت :دثروين ،دثروين ،فأنزل اهلل " :يا أيها املدثر * قم فأنذر " ،فحمي الوحي
وتتابع" .
السادس :ما أوحاه اهلل له فوق السموات ليلة املعراج ،من فرض الصالة وغريها .
قال ابن القيم رمحه اهلل :أول ما أوحى إليه ربه :أن يقرأ باسم ربه الذي خلق .وذلك أول
نبوته صلى اهلل عليه وسلم ،فأمره أن يقرأ يف نفسه ومل يأمره بالتبليغ .مث أنزل اهلل عليه " :يا
أيها املدثر * قم فأنذر " فنبأه باقرأ ،وأرسله :بيا أيها املدثر .مث أمره :أن ينذر عشريته
األقربني ،مث أنذر قومه ،مث أنذر من حوهلم من العرب ،مث أنذر العرب قاطبة ،مث أنذر
العاملني .فأقام بضع عشرة سنة ينذر بالدعوة من غري قتال وال جزية .ويأمره اهلل بالكف
والصرب .مث أذن له يف اهلجرة ،وأذن له يف القتال ،مث أمره أن يقاتل من قاتله ،ويكف عمن
مل يقاتله ،مث أمره بقتال املشركني ،حىت يكون الدين كله هلل .
علمت .وقد رأيت صحبيت لك ،فاخرتين ،أو اخرتمها .فقال :ما أنا بالذي أختار عليك
أحداً ،أنت مين مكان أيب وعمى .فقاال :وحيك يا زيد ! أختتار العبودية على احلرية ،وعلى
أبيك وعمك ،وأهل بيتك ؟ قال :نعم ،قد رأيت من هذا الرجل شيئاً ،ما أنا بالذي أختار
عليه أحداً أبداً .فلما رأى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ذلك ،خرج إىل احلجر ،فقال :
أشهدكم أن زيداً ابين ،أرثه ويرثين ،فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت نفوسهما ،فانصرفا .
ودعي :زيد بن حممد ،حىت جاء اهلل باإلسالم فنزلت " :ادعوهم آلبائهم هو أقسط عند اهلل
".
قال الزهري :ما علمنا أحداً أسلم قبل زيد .
وأسلم ورقة بن نوفل .ويف جامع الرتمذي " :أن النيب صلى اهلل عليه وسلم رآه يف املنام يف
هيئة حسنة" .
ودخل الناس يف دين اهلل واحداً بعد واحد .وقريش ال تنكر ذلك ،حىت بادأهم بعيب دينهم
وسب آهلتهم ،وأهنا ال تضر وال تنفع .فحينئذ مشروا له وألصحابه عن ساق العداوة .
فحمى اهلل رسوله صلى اهلل عليه وسلم بعمه أيب طالب .ألنه كان شريفاً معظماً ،وكان من
حكمة أحكم احلاكمني :بقاؤه على دين قومه ،ملا يف ذلك من املصاحل اليت تبدو ملن تأملها .
وأما أصحابه :فمن كان له عشرية حتميه امتنع بعشريته ،وسائرهم تصدوا له باألذى
والعذاب .منهم :عمار بن ياسر ،وأمه مسية ،وأهل بيته ،عذبوا يف اهلل " .وكان رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم إذا مر هبم -وهم يعذبون -يقول :صربا يا آل ياسر ! فإن موعدكم
اجلنة" .
51
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وكان الصديق إذا مر بأحد من العبيد يعذب اشرتاه وأعتقه ،منهم بالل .فإنه عذب يف اهلل
أشد العذاب .ومنهم عامر بن فهرية ،وجارية لبين عدي ،كان عمر يعذهبا على اإلسالم ،
فقال أبو قحافة -عثمان بن عامر -البنه أيب بكر :يا بين ،أراك تعتق رقاباً ضعافاً .فلو
أعتقت قوماً جلداً مينعونك ؟ فقال :إين أريد ما أريد ،وكان بالل كلما اشتد به العذاب
يقول :أحد ،أحد .
52
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
قال ابن القيم رمحه اهلل :دعا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل اهلل مستخفياً ثالث سنني ،
مث نزل عليه " :فاصدع مبا تؤمر وأعرض عن املشركني " .
اهلل عليه وسلم :لو دنا مين الختطفته املالئكة عضواً عضواً ،فأنزل اهلل تعاىل -ال ندري يف
حديث أيب هريرة أو شئ بلغه " :-كال إن اإلنسان ليطغى * أن رآه استغىن * ". "..
كتاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إلى النجاشي يزوجه أم حبيبة :
فلما كان شهر ربيع سنة سبع من اهلجرة :كتب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كتاباً إىل
النجاشي يدعوه إىل اإلسالم ،وكتب إليه :أن يزوجه أم حبيبة بنت أيب سفيان ،وكانت
مهاجرة مع زوجها عبيد اهلل بن جحش ،فتنصر هناك ومات نصرانياً .
وكتب إليه أيضاً :أن يبعث إليه من بقي من أصحابه ،فلما قرأ الكتاب أسلم .
وقال :لو قدرت أن آتيه ألتيته .وزوجه أم حبيبة ،وأصدقها عنه أربعمائة دينار .ومحل بقية
أصحابه يف سفينتني .فقدموا على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم خبيرب ،وقد فتحها .
55
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
دخال على النجاشي سجدا له وسلما عليه .وقاال :قومنا لك ناصحون .وإهنم بعثونا إليك
لنحذرك هؤالء الذين قدموا عليك ألهنم قوم اتبعوا رجالً كذاباً ،خرج فينا يزعم أنه رسول
اهلل ،ومل يتبعه إال السفهاء فضيقنا عليهم ،وأجلأناهم إىل شعب بأرضنا ،ال خيرج منهم أحد
وال يدخل عليهم أحد .فقتلهم اجلوع والعطش ،فلما اشتد عليهم األمر ،بعث إليك ابن
عمه ليفسد عليك دينك وملكك ،فاحذرهم ،وادفعهم إلينا لنكفيكهم ،وآية ذلك :أهنم
إذا دخلوا عليك ال يسجدون لك ،وال حييونك بالتحية اليت حتىي هبا ،رغبة عن دينك .
فدعاهم النجاشي ،فلما حضروا ،صاح جعفر بن أيب طالب بالباب :يستأذن عليك حزب
اهلل ،فقال النجاشي :مروا هذا الصائح فليعد كالمه ،ففعل .قال :نعم .فليدخلوا بإذن اهلل
وذمته .فدخلوا ومل يسجدوا له ،فقال :ما منعكم أن تسجدوا يل ؟ قالوا :إمنا نسجد هلل
الذي خلقك وملكك ،وإمنا كانت تلك التحية لنا وحنن نعبد األوثان ،فبعث اهلل فينا نبياً
صادقاً ،وأمرنا بالتحية اليت رضيها اهلل ،وهي السالم ،حتية أهل اجلنة .
فعرف النجاشي أن ذلك حق ،وأنه يف التوراة واإلجنيل .
فقال :أيكم اهلاتف يستأذن ؟ فقال جعفر :أنا ،قال :فتكلم .
فقال :إنك ملك ال يصلح عندك كثرة الكالم وال الظلم .وأنا أحب أن أجيب عن أصحايب
.فأمر هذين الرجلني فليتكلم أحدمها ،فتسمع حماورتنا .
فقال عمرو جلعفر :تكلم .فقال جعفر للنجاشي :سله ،أعبيد حنن أم أحرار ؟ فإن كنا
عبيداً أبقنا من أربابنا فارددنا إليهم .فقال عمرو :بل أحرار كرام .
فقال :هل أهرقنا دماً بغري حق فيقتص منا ؟ قال عمرو :وال قطرة .
فقال :هل أخذنا أموال الناس بغري حق ،فعلينا قضاؤها ؟ فقال عمرو :وال قرياط .
فقال النجاشي :فما تطلبون منهم ؟ قال :كنا حنن وهم على أمر واحد ،على دين آبائنا ،
فرتكوا ذلك واتبعوا غريه .
فقال النجاشي :ما هذا الذي كنتم عليه ،وما الذي اتبعتموه ؟ قل واصدقين .
56
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
فقال جعفر :أما الذي كنا عليه فرتكناه ،وهو دين الشيطان ،كنا نكفر باهلل ،ونعبد
احلجارة .وأما الذي حتولنا إليه :فدين اهلل اإلسالم ،جاءنا به من اهلل رسول وكتاب مثل
كتاب ابن مرمي موافقاً له .
فقال :تكلمت بأمر عظيم ،فعلى رسلك .
مث أمر بضرب الناقوس ،فاجتمع إليه كل قسيس وراهب ،فقال هلم :أنشدكم اهلل الذي
أنزل اإلجنيل على عيسى ،هل جتدون بني عيسى وبني يوم القيامة نبياً ؟ قالوا :اللهم نعم ،
قد بشرنا به عيسى ،وقال :من آمن به فقد آمن يب ،ومن كفر به فقد كفر يب .
فقال النجاشي جلعفر رضي اهلل عنه :ماذا يقول لكم هذا الرجل ؟ وما يأمركم به ؟ وما
ينهاكم عنه ؟
فقال :يقرأ علينا كتاب اهلل ،ويأمرنا باملعروف ،وينهانا عن املنكر ،ويأمرنا حبسن اجلوار ،
وصلة الرحم ،وبر اليتيم ،ويأمرنا بأن نعبد اهلل وحده ال شريك له .
فقال :اقرأ مما يقرأ عليكم .فقرأ سوريت العنكبوت والروم .ففاضت عينا النجاشي من الدمع
،وقال :زدنا من هذا احلديث الطيب ،فقرأ عليهم سورة الكهف .
فأراد عمرو أن يغضب النجاشي ،فقال :إهنم يشتمون عيسى وأمه .
فقال :ما تقولون يف عيسى وأمه ؟ فقرأ عليهم سورة مرمي ،فلما أتى على ذكر عيسى وأمه
رفع النجاشي بقشة من سواكه قدر ما يقذي العني .فقال :واهلل ما زاد املسيح على ما
تقولون نقرياً .
وفيه نزل قول اهلل تعاىل " :وإذا مسعوا ما أنزل إىل الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما
عرفوا من احلق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين * وما لنا ال نؤمن باهلل وما جاءنا من
احلق " اآليات .
فأقبل النجاشي على جعفر ،مث قال .اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي -والسيوم اآلمنون -من
سبكم غرم ،فال هوادة اليوم على حزب إبراهيم .
وملا مات النجاشي ،خرج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فصلى عليه كما يصلي على
اجلنائز .فقال املنافقون :يصلي على علج مات بأرض احلبشة ،فأنزل اهلل تعاىل " :وإن من
أهل الكتاب ملن يؤمن باهلل وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعني هلل " اآلية .
وقيل :إن إرسال قريش يف طلبهم كان قبل اهلجرة إىل املدينة ،ويف سنة مخس من النبوة
استرت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف دار األرقم ابن أيب األرقم .
58
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
القرآن ووقر يف صدري " :اهلل ال إله إال هو له األمساء احلسىن " ،فما يف األرض نسمة أحب
إيل من نسمة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فسألت عنه ؟ فقيل يل :هو يف دار األرقم ،
فأتيت الدار -ومحزة يف أصحابه جلوساً يف الدار ،ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف البيت
-فضربت الباب ،فاستجمع القوم ،فقال هلم محزه :ما لكم ؟ فقالوا :عمر .فخرج
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فأخذ مبجامع ثيايب ،مث نرتين نرتة مل أمتالك أن وقعت على
ركبيت ،فقال :ما أنت مبنته يا عمر !؟ فقلت :أشهد أن ال إله إال اهلل ،وأنك رسول اهلل .
فكرب أهل الدار تكبرية مسعها أهل املسجد ،فقلت :يا رسول اهلل ! ألسنا على احلق ،إن متنا
أو حيينا ؟ قال :بلى ،فقلت :ففيم االختفاء؟ والذي بعثك باحلق لنخرجن ،فخرجنا يف
صفني :محزة يف صف ،وأنا يف صف -له كديد ككديد الطحن -حىت دخلنا املسجد ،فلما
نظرت إلينا قريش أصابتهم كآبة مل يصبهم مثلها قط .فسماين رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
:الفاروق" .
وقال صهيب :ملا أسلم عمر رضي اهلل عنه جلسنا حول البيت حلقاً ،فطفنا واستنصفنا ممن
غلظ علينا .
59
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
فبعث أبو طالب إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فقال له :يا ابن أخي ! إن قومك
جاؤوين وقالوا :كذا وكذا ،فأبق علي وعلى نفسك ،وال حتملين ما ال أطيق أنا وال أنت ،
فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك .فقال صلى اهلل عليه وسلم :واهلل لو وضعوا
الشمس يف مييين والقمر يف يساري ،ما تركت هذا األمر حىت يظهره اهلل ،أو أهلك يف طلبه،
فقال :امض على أمرك ،فواهلل ال أسلمك أبداً .
ودعا أبو طالب أقاربه إىل نصرته فأجابه بنو هاشم وبنو املطلب غري أيب هلب ،وقال أبو
طالب :
حىت أوسد يف الرتاب دفينا واهلل لن يصلوا إليك جبمعهم
وابشر وقر بذاك منك عيونا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
ولقد صدقت وكنت مث أمينا ودعوتين وعرفت أنك ناصحي
من خري أديان الربية دينا وعرضت ديناً قد عرفت بأنه
لوجدتين مسحاً بذاك مبينا لوال املالمة أو حذار مسبة
أو بين عمه فاضطجع على فراش رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وأمره أن يأيت أحد فرشهم
.
يف ذلك عمل أبو طالب قصيدته الالمية املشهورة اليت قال فيها :
وقد قطعوا كل العرى والوسائل وملا رأيت القوم ال ود فيهمو
وقد طاوعوا أمر العدو املزايـل وقد صارحونا بالعداوة واألذى
وأبيض عضب من تراث املقاول صربت هلم نفسي بسمراء مسحة
وأمسكت من أثوابه بالوصائل وأحضرت عند البيت رهطي وأسريت
علينا بسوء أو ملح بباطل أعوذ برب الناس من كل طاعن
ومن ملحق يف الدين ما مل حناول ومـن كاشح يسعى لنا مبغيظة
وراق لريقى فـي حراء ونازل وثور ومن أرسى ثبرياً مكانه
وباهلل إن اهلل ليس بغافل وبالبيت-حق البيت-من بطن مكة
إذا اكتنفوه بالضحى واألصائل وباحلجر املسود إذ ميسحونه
على قدميه حافياً غري ناعل وموطىء إبراهيم يف الصخر رطبة
وما فيهما من صورة ومتاثل وأشواط بني املروتني إىل الصفا
ومن كل ذي نذر ومن كل راجل ومن حج بيت اهلل مـن كل راكب
وهل فوقها من حرمة ومنازل؟ وليلة مجع واملنازل من مىن
وهل من معيذ يتقي اهلل عاذل؟ فهل بعد هـذا من معاذ لعائذ
ونظعن إال أمركم يف بالبل كذبتم وبيت اهلل نرتك مكة
وملا نطاعن دونه ونناضل؟ كذبتم وبيت اهلل نبزى حممداً
ونذهل عن أبنائنا واحلالئل ونسلمه حىت نصرع حوله
هنوض الروايا حتت ذات الصالصل وينهض قوم يف احلديد إليكمو
***
لتلتبسن أسيافنا باألماثل وإنا لعمر اهلل إن جد ما أرى
61
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
أخي ثقة حامي احلقيقة باسـل بكفي فىت مثل الشهاب مسيدع
حيوط الذمار غري ذرب مواكل وما ترك قـوم-ال أبا لك-سيداً
ربيع اليتامى عصمة لألرامل وأبيض يستسقى الغمائم بوجهه
فهم عنده يف رمحة وفواضل يلوذ به اهلالك من آل هاشم
***
حسود كذوب مبغض ذي دغائل فعتبة ال تسمع بنا قول كاشح
كما مر قيل من عظام املقاول ومر أبو سفيان عين معرضاً
ويزعم أين لست عنك بغافل يفر إىل جند وبرد مياهه
وال معظم عند األمور اجلالئل أمطعم مل أخذلك يف يوم جندة
وإين مىت أوكل فلست بآكلي أمطعم .إن القوم ساموك خطة
عقوبة شر عاجالً غري آجل جزى اهلل عنا عبد مشس ونوفالً
فال تشركوا يف أمركم كل واغل فعبد مناف أنتمو خري قومكم
اآلن حطاب أقدر ومراجل وكنتم حديثاً حط ــب قدر فأنتمو
لعمري وجدنا غبه غري طائل فكل صديق وابن أخت نعده
مرة براء إلينا من معقة خاذل سوى أن رهطاً من كالب بن
***
زهري حساماً مفرداً من محائـل ونعم ابن أخت القوم غري مكذب
وإخوته دأب احملب املواصل لعمري لقد كلفت وجداً بأمحد
إذا قاسه احلكام عند التفاضل؟ فمن مثله يف الناس أي مؤمل
يوايل إهلاً ليس عنه بغافل حليم رشيد عادل غري طائش
جتر على أشياخنا يف احملافل واهلل لوال أن أجيء بسبة
من الدهر جداً غري قول التهازل لكنا اتبعناه على كل حالة
لدينا وال يعىن بقـول األباطـل لقد علموا أن ابننا ال مكذب
62
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
63
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
فانطلق ميشي بعصابة من بين عبد املطلب ،حىت أتى املسجد وهو حافل من قريش .فلما
رأوهم ظنوا أهنم خرجوا من شدة احلصار ،وأتوا ليعطوهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،
فتكلم أبو طالب ،فقال :قد حدث أمر ،لعله أن يكون بيننا وبينكم صلحاً ،فائتوا
بصحيفتكم -وإمنا قال ذلك خشية أن ينظروا فيها قبل أن يأتوا هبا ،فال يأتون هبا -فأتوا هبا
معجبني .اليشكون أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مدفوع إليهم ،قالوا :قد آن لكم أن
تفيئوا وترجعوا خطراً هللكة قومكم .فقال أبو طالب :ألعطينكم أمراً فيه نصف ،إن ابين
أخربين -ومل يكذبين -أن اهلل عز وجل بريء من هذه الصحيفة اليت يف أيديكم ،وأنه حما كل
اسم له فيها ،وترك فيها غدركم ،وقطيعتكم ،فإن كان ما قال حقاً ،فواهلل ال نسلمه
إليكم حىت منوت عن آخرنا ،وإن كان الذي يقول باطالً ،دفعناه إليكم فقتلتموه أو
استحييتموه .
قالوا :قد رضينا ،ففتحوا الصحيفة فوجدوها كما أخرب ،فقالوا :هذا سحر من صاحبكم ،
فارتكسوا وعادوا إىل شر ما هم عليه .
فتكلم عند ذلك النفر الذين تعاقدوا -كما تقدم -وقال أبو طالب شعراً ميدح النفر الذين
تعاقدوا على نقض الصحيفة ،وميدح النجاشي ،ومنه :
على مأل يهدي حلزم ويرشد جزى اهلل رهطاً باحلجون تتابعوا
إذا ما مشى يف رفرف الذرع أحرد أعان عليها كل صقـر كأنه
مقاولة بل هم أعـز وأجمـد قعوداً لدى جنب احلجون كأهنم
وأسلم هشام بن عمرو يوم الفتح .
وخرج بنو هاشم من شعبهم وخالطوا الناس ،وكان خروجهم يف سنة عشر من النبوة ،
ومات أبو طالب بعد ذلك بستة أشهر .
64
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وماتت خدجية أم املؤمنني رضي اهلل عنها بعد موت أيب طالب بأيام ،فاشتد البالء على رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم من قومه بعد موت خدجية وعمه ،وجترؤوا عليه ،وكاشفوه باألذى
،وأرادوا قتله ،فمنعهم اهلل من ذلك .
قال عبد اهلل بن عمرو بن العاص رضي اهلل عنهما " :حضرهتم ،وقد اجتمع أشرافهم يف
احلجر ،فذكروا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فقالوا :ما رأينا مثل صربنا عليه ،سفه
أحالمنا ،وشتم آباءنا ،وفرق مجاعتنا ،فبينما هم يف ذلك ،إذ أقبل ،فاستلم الركن ،فلما
مر هبم غمزوه" .
ويف حديث :أنه قال هلم يف الثانية " :لقد جئتكم بالذبح" ،وأهنم قالوا له :يا أبا القاسم ! ما
كنت جهوالً ،فانصرف راشداً .
فلما كان من الغد اجتمعوا ،فقالوا :ذكرمت ما بلغ منكم ،حىت إذا أتاكم مبا تكرهون
تركتموه .فبينما هم كذلك .إذ طلع عليهم ،فقالوا :قوموا إليه وثبة رجل واحد ،فلقد
رأيت عقبة بن أيب معيط آخذاً مبجامع ردائه ،وقام أبو بكر دونه وهو يبكي ،يقول :
أتقتلون رجالً أن يقول ريب اهلل ؟
ويف حديث أمساء " :فأتى الصريخ إىل أيب بكر ،فقالوا :أدرك صاحبك ،فخرج من عندنا
وله غدائر أربع ،فخرج وهو يقول :ويلكم ،أتقتلون رجالً أن يقول ريب اهلل ؟ فلهوا عنه ،
وأقبلوا على أيب بكر ،فرجع إلينا ال ميس شيئاً من غدائر إال رجع معه" .
ومرة كان يصلي عند البيت ،ورهط من أشرافهم يرونه ،فأتى أحدهم بسلى جزور ،فرماه
على ظهره .
وكانوا يعلمون صدقه وأمانته ،وأن ما جاء به هو احلق ،لكنهم كما قال تعاىل " :فإهنم ال
يكذبونك ولكن الظاملني بآيات اهلل جيحدون " .
وذكر الزهري :أن أبا جهل ،ومجاعة معه ،وفيهم األخنس بن شريق ،استمعوا قراءة
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف الليل ،فقال األخنس أليب جهل :يا أبا احلكم ! ما رأيك
فيما مسعت من حممد ؟ فقال :تنازعنا حنن وبنو عبد مناف الشرف ،أطعموا فأطعمنا ،
65
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
ومحلوا فحملنا ،وأعطوا فأعطينا ،حىت إذا جتاثينا على الركب ،وكنا كفرسي رهان ،قالوا
:منا نيب يأتيه الوحي من السماء ! فمىت ندرك هذا ؟ واهلل ال نسمع له أبداً ،وال نصدقه أبداً
.
ويف رواية :إين ألعلم أن ما يقول حق ،ولكن بين قصي قالوا :فينا الندوة ،فقلنا :نعم ،
قالوا :فينا السقاية ،فقلنا :نعم ،وذكر حنوه .
66
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
قدريت يف أمر اخلالئق ،وفيما وضعت على العباد من حججي ما هو أعظم من ذلك وأعجب
.
وعن ابن عباس :الذي آتيتك من الكتاب والسنة أعظم من شأن أصحاب الكهف .قال ابن
عباس :واألمر على ما ذكروا ،فإن مكثهم نياماً ثالمثائة سنة :آية دالة على قدرة اهلل
ومشيئته ،وهي أية دالة على معاد األبدان ،كما قال تعاىل " :وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا
أن وعد اهلل حق وأن الساعة ال ريب فيها " ،وكان الناس قد تنازعوا يف زماهنم ،هل تعاد
األرواح وحدها ؟ أم األرواح واألبدان ؟ فجعلهم اهلل آية دالة على معاد األبدان ،وأخرب النيب
صلى اهلل عليه وسلم بقصتهم من غري أن يعلمه بشر ،آية دالة على نبوته .فكانت قصتهم آية
دالة على األصول الثالثة :اإلميان باهلل ،ورسوله ،واليوم اآلخر ،ومع هذا :فمن آيات اهلل
ما هو أعجب من ذلك .
وقد ذكر اهلل سبحانه وتعاىل سؤاهلم عن هذه اآليات اليت سألوه عنها ليعلموا :هل هو نيب
صادق ،أو كاذب ؟ فقال " :ويسألونك عن ذي القرنني قل سأتلو عليكم منه ذكرا " ،
وقوله " :لقد كان يف يوسف وإخوته آيات للسائلني " إىل قوله " :إذ أمجعوا أمرهم وهم
ميكرون " .
والقرآن مملوء من إخباره بالغيب املاضي ،الذي ال يعلمه أحد من البشر ،إال من جهة
األنبياء ،ال من جهة األولياء ،وال من جهة غريهم ،وقد عرفوا أنه صلى اهلل عليه وسلم ال
يتعلم هذا من بشر ،ففيه آية وبرهان قاطع على صدقه ونبوته .
67
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
ويف رواية " :وبلغ ذلك أبا جهل ،فأتاه .فقال :يا عم ! إن قومك يريدون أن جيمعوا لك
ماالً ،قال :ومل ؟ قال :أتيت حممداً لتعوض مما قبله .قال :قد علمت قريش أين من
أكثرها ماالً ،قال :فقل فيه قوالً يبلغ قومك :أنك منكر له ،قال :ماذا أقول؟ فواهلل ما
فيكم أعلم باألشعار مين اخل" .
ويف رواية أن الوليد بن املغرية قال -وقد حضر املوسم" : -ستقدم عليكم وفود العرب من
كل جانب ،وقد مسعوا بأمر صاحبكم ،فأمجعوا فيه رأياً ،وال ختتلفوا ،فيكذب بعضكم
بعضاً .فقالوا .فأنت فقل ،فقال :بل قولوا وأنا أمسع ،قالوا :نقول :كاهن .قال :ما هو
بزمزمة الكهان ،وال سجعهم .قالوا نقول :جمنون ،قال :ما هو مبجنون ،لقد رأينا اجلنون
وعرفناه فما هو خبنقه ،وال وسوسته وال ختاجله .قالوا :نقول :شاعر ،قال :ما هو بشاعر
،لقد عرفنا الشعر رجزه وهزجه ،وقريضه ،ومقبوضه ،ومبسوطه .قالوا :نقول :ساحر ،
قال :ما هو بساحر ،لقد رأينا السحرة وسحرهم ،فما هو بعقدهم وال نفثهم ،قالوا :فما
نقول يا أبا عبد مشس ؟ قال :ما نقول من شئ من هذا إال عرف أنه باطل ،وإن أقرب
القول ،أن تقولوا :ساحر ،يفرق بني املرء وأخيه ،وبني املرء وزوجته ،وبني املرء وعشريته
.فتفرقوا عنه بذلك .فجعلوا جيلسون للناس ،ال مير هبم أحد إال حذروه رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم ،فأنزل اهلل يف الوليد بن املغرية " :ذرين ومن خلقت وحيدا " إىل قوله " :
سأصليه سقر " .
ونزل يف النفر الذين كانوا معه يصنفون القول يف رسول اهلل ،وفيما جاء به من عند اهلل " :
الذين جعلوا القرآن عضني " " ،أي :أصنافاً .
وكانوا يسألون رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم اآليات ،فمنها ما يأتيهم اهلل به ،حلكمة
أرادها اهلل سبحانه .
68
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
فمن ذلك أهنم سألوه :أن يريهم آية ،فأراهم انشقاق القمر ،وأنزل قوله " :اقرتبت الساعة
وانشق القمر " اآليات ،إىل قوله " :وكل أمر مستقر " ،فقالوا :سحركم ،انظروا إىل
السفار ،فإن كانوا رأوا مثل ما رأيتم فقد صدق فقدموا من كل وجه ،فقالوا :رأينا .
وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم رمبا طلب من اآليات -اليت يقرتحون -رغبة منه يف
إمياهنم ،فيجاب بأهنا :ال تستلزم اهلدى ،بل توجب عذاب االستئصال ملن كذب هبا .
صورهم اليت خلقوا عليها ،وحينئذ يقع اللبس عليهم ،لظنهم الرسول بشراً ال ملكاً .وقال
تعاىل " :وقالوا لن نؤمن لك حىت تفجر لنا من األرض ينبوعا " اآليات .
وهذه اآليات لو أجيبوا إليها ،مث مل يؤمنوا :ألتاهم عذاوب االستئصال ،وهي ال توجب
اإلميان ،بل إقامة للحجة ،واحلجة قائمة بغريها .وهي أيضاً مما ال يصلح ،فإن قوهلم " :
حىت تفجر لنا من األرض ينبوعا " يقتضي تفجريها مبكة ،فيصري وادياً ذا زرع .واهلل
سبحانه وتعاىل قضى بسابق حكمته :أن جعل بيته بواد غري ذي زرع ،لئال يكون عنده ما
ترغب النفوس فيه من الدنيا ،فيكون حجهم للدنيا .
وإذا كان له جنة من خنيل وعنب كان يف هذا من التوسع يف الدنيا ما يقتضي نقص درجته ،
وكذلك إذا كان له قصر من زخرف ،وهو الذهب .أما إسقاط السماء كسفاً :فهذا ال
يكون إال يوم القيامة .وأما اإلتيان باهلل واملالئكة قبيالً :فهذا ملا سأل قوم موسى موسى ما
هو دونه أخذهتم الصاعقة ،وقال تعاىل " :يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من
السماء " اآليات .
بني سبحانه :أن املشركني وأهل الكتاب سألوه إنزال كتاب من السماء ،وبني أن الطائفتني
ال يؤمنون إذا جاءهم ذلك ،وأهنم إمنا سألوه تعنتاً ،فقال عن املشركني " :ولو نزلنا عليك
كتابا يف قرطاس " اآلية .
وقال عن أهل الكتاب " :فقد سألوا موسى أكرب من ذلك " إىل قوله " :ورفعنا فوقهم " ،
فهم -مع هذا -نقضوا امليثاق ،وكفروا بآيات اهلل ،وقتلوا النبيني .فكان فيه من االعتبار :
أن الذين ال يهتدون إذا جاءهتم اآليات املقرتحة مل يكن يف جميئها منفعة هلم ،بل فيها وجوب
عقوبة عذاب االستئصال إذا مل يؤمنوا ،وتغليظ األمر عليهم ،كما قال تعاىل " :فبظلم من
الذين هادوا " اآلية ،فكان يف إنزال مثل هذه :أعظم رمحة وحكمة .
وملا طلب احلواريون من املسيح املائدة ،كانت من اآليات املوجبة ملن كفر هبا عذاباً ،مل
يعذب اهلل به أحداً من العاملني .وكان قبل نزول التوراة يهلك املكذبني بالرسل بعذاب
االستئصال عاجالً .وأظهر آيات كثرية ملا أرسل موسى ليبقى ذكرها يف األرض ،إذ كان
70
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
بعد نزول التوراة مل يهلك أمة بعذاب االستئصال ،كما قال تعاىل " :ولقد آتينا موسى
الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون األوىل " ،بل كان بنو إسرائيل ملا كانوا يفعلون ما يفعلون
-من الكفر واملعاصي -يعذب اهلل بعضهم ويبقي بعضهم ،إذ كانوا ال يتفقون على الكفر ،
ومل يزل يف األرض منهم أمة باقية على الصالح .قال تعاىل " :وقطعناهم يف األرض أمما
منهم الصاحلون ومنهم دون ذلك " اآلية ،وقال " :من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات
اهلل آناء الليل وهم يسجدون " اآليتني .
وكان من حكمته تعاىل ورمحته -ملا أرسل حممداً صلى اهلل عليه وسلم خامت املرسلني -أن ال
يهلك قومه بعذاب االستئصال ،بل عذب بعضهم بأنواع العذاب كاملستهزئني ،الذين قال
اهلل فيهم " :إنا كفيناك املستهزئني " اآليات .
والذي دعا عليه النيب صلى اهلل عليه وسلم أن يسلط عليه كلباً من كالبه فافرتسه األسد ،
كما قال تعاىل " :قل هل تربصون بنا إال إحدى احلسنيني وحنن نرتبص بكم أن يصيبكم اهلل
بعذاب من عنده " اآلية .
فأخرب سبحانه أنه يعذب الكفار تارة بأيدي املؤمنني باجلهاد واحلدود ،وتارة بغري ذلك .
فكان ذلك مما يوجب إميان أكثرهم ،كما جرى لقريش وغريهم ،فإنه لو أهلكهم لبادوا ،
وانقطعت املنفعة هبم ،ومل يبق هلم ذرية تؤمن ،خبالف ما عذهبم به من اإلذالل والقهر ،فإن
يف ذلك ما يوجب عجزهم ،والنفوس إذا كانت قادرة على كمال أغراضها ،فال تكاد
تنصرف عنها .خبالف عجزها عنها ،فإنه يدعوها إىل التوبة ،كما قيل :من العصمة أن ال
تقدر ،وهلذا آمن عامتهم .
وقد ذكر اهلل يف التوراة ملوسى :إين أقسي قلب فرعون ،فال يؤمن بك لتظهر أيايت وعجائيب
.
بني أن يف ذلك من احلكمة :انتشار آياته الدالة على صدق أنبيائه يف األرض ،إذ كان موسى
أخرب بتكليم اهلل وبكتابة التوراة له ،فأظهر له من اآليات ما يبقى ذكره يف األرض .وكان
يف ضمن ذلك :من تقسية قلب فرعون ما أوجب هالكه وهالك قومه .
71
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وفرعون كان جاحداً للصانع ،فلذلك أويت موسى من اآليات ما يناسب حاله .
وأما بنو إسرائيل -مع املسيح -فكانوا مقرين بالكتاب األول ،فلم حيتاجوا إىل مثل ما احتاج
إليه موسى ،ومل يكن حمتاجاً إىل جنس تقرير النبوة ،إذ كانت الرسل قبله جاءت مبا يثبت
ذلك ،وإمنا احلاجة إىل تثبيت نبوته .
ومع هذا فقد أظهر اهلل على يديه من اآليات مثل آيات من قبله وأعظم ،ومع هذا مل يأت
بآيات االستئصال ،بل بني اهلل يف القرآن :أهنا ال تنفعهم بل تضرهم ،ألنه علم أن قلوهبم
كقلوب األولني ،كما قال تعاىل " :كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إال قالوا
ساحر أو جمنون* أتواصوا به " اآلية ،وقال تعاىل " :كذلك قال الذين من قبلهم مثل قوهلم "
اآلية ،وقال تعاىل " :أكفاركم خري من أولئكم " اآلية ،وسورة اقرتبت اليت ذكر فيها
انشقاق القمر ،وإعراضهم عن اآليات ،وقوله " :سحر مستمر " ،وقال فيها " :ولقد
جاءهم من األنباء ما فيه مزدجر " .
أي :يزجرهم عن الكفر زجراً شديداً ،إذ كان يف تلك األنباء صدق الرسول واإلنذار
بالعذاب الذي وقع باملتقدمني .
وهلذا يقول عقيب كل قصة " :فكيف كان عذايب ونذر " ،أي :عذايب ملن كذب رسلي ،
وإنذاري هلم بذلك قبل جميئه ،مث قال " :أكفاركم " أيتها األمة " خري من أولئك " الذين
كذبوا الرسل من قبلكم " ،أم لكم براءة يف الزبر* أم يقولون حنن مجيع منتصر " ،وذلك أن
كونكم تعذبون مثلهم .إما لكونكم ال تستحقون ما استحقوا ،أو لكون اهلل أخرب أنه ال
يعذبكم ،فهذا بالنظر إىل قوة الرسول صلى اهلل عليه وسلم وأتباعه ،فيقولون " :حنن مجيع
منتصر " ،فإهنم أكثر وأقوى ،كما قالوا " :أي الفريقني خري مقاما وأحسن نديا " إىل قوله
" :أثاثا ورئيا " ،أي :أمواالً ومنظراً .فقال تعاىل " :سيهزم اجلمع ويولون الدبر " .
أخرب رسوله صلى اهلل عليه وسلم هبزميتهم ،وهو مبكة ،يف قلة من األتباع ،وضعف منهم .
وال يظن أحد -قبل أن يهاجر -بالعادة املعروفة :أن أمره يعلو ،ويقاتلهم ،فكان كما أخرب
،وذلك ببدر ،وتلك سنة اهلل ،كما قال تعاىل " :سنة اهلل اليت قد خلت من قبل " اآلية .
72
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وحيث يظهر الكفار ويغلبون ،فإمنا يكون ذلك لذنوب املؤمنني اليت أوجبت نقص إمياهنم ،
فإذا تابوا نصرهم اهلل ،كما قال تعاىل " :وال هتنوا وال حتزنوا وأنتم األعلون إن كنتم مؤمنني
".
فإذا كان من متام احلكمة والرمحة :أن ال يهلكهم باالستئصال كالذين من قبلهم ،قال تعاىل
" :أكفاركم خري من أولئكم أم لكم براءة يف الزبر " كان ال يأيت مبوجب ذلك ،مع إتيانه
سبحانه مبا يقيم احلجة أكمل يف احلكمة والرمحة ،إذ كان ما أتى به حصل به كمال اهلدى
واحلجة ،وما امتنع منه دفع من عذاب االستئصال ما أوجب بقاء مجهور األمة ،حىت يهتدوا
ويؤمنوا ،وكان يف إرسال خامت الرسل صلى اهلل عليه وسلم من احلكمة البالغة ،واملنن
السابغة ،ما مل يكن يف رسالة غريه ،صلوات اهلل وسالمه عليه وعليهم أمجعني .
رجعنا إىل سريته صلى اهلل عليه وسلم .
73
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
يل .أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ،وصلح عليه أمر الدنيا واآلخرة :أن حيل
علي غضبك أو ينزل يب سخطك .لك العتىب حىت ترضى .وال حول وال قوة إال بك" .
فأرسل ربه تبارك وتعاىل إليه ملك اجلبال ،يستأمره أن يطبق األخشبني على أهل مكة -ومها
جبالها اللذان هي بينهما -فقال " :بل أستأين هبم ،لعل اهلل أن خيرج من أصالهبم من يعبده
،ال يشرك به شيئاً" .
فلما نزل بنخلة يف مرجعه ،قام يصلي من الليل ما شاء اهلل ،فصرف اهلل إليه نفراً من اجلن ،
فاستمعوا قراءته ،ومل يشعر هبم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حىت نزل عليه " :وإذ صرفنا
إليك نفرا من اجلن " إىل قوله " :أولئك يف ضالل مبني " .
وأقام بنخلة أياماً ،فقال زيد بن حارثة رضي اهلل عنه :كيف تدخل عليهم ،وقد أخرجوك
؟ -يعين قريشاً -فقال :يا زيد ! إن اهلل جاعل ملا ترى فرجاً وخمرجاً ،وإن اهلل ناصر دينه ،
ومظهر نبيه .
مث انتهى إىل مكة ،فأرسل رجالً من خزاعة إىل املطعم بن عدي :أدخل يف جوارك ،فقال :
نعم ،فدعا املطعم بنيه وقومه ،فقال :البسوا السالح ،وكونوا عند أركان البيت ،فإين قد
أجرت حممداً ،فال يهجه منكم أحد .فانتهى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل الركن
فاستلمه ،وصلى ركعتني ،وانصرف إىل بيته ،واملطعم بن عدي وولده حمدقون به يف
السالح ،حىت دخل بيته .
أكثر مما يدخل من أميت .مث عرج به إىل السماء السابعة ،فلقي فيها إبراهيم .مث إىل سدرة
املنتهى .مث رفع إىل البيت املعمور ،فرأى هناك جربيل يف صورته ،له ستمائة جناح ،وهو
قوله تعاىل " :ولقد رآه نزلة أخرى*عند سدرة املنتهى " .
وكلمه ربه وأعطاه ما أعطاه ،وأعطاه الصالة ،فكانت قرة عني رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم .
فلما أصبح رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف قومه ،وأخربهم اشتد تكذيبهم له ،وسألوه أن
يصف هلم بيت املقدس .فجاله اهلل له حىت عاينه .وجعل خيربهم به وال يستطيعون أن يردوا
عليه شيئاً وأخربهم عن عريهم اليت رآها يف مسراه ومرجعه ،وعن وقت قدومها ،وعن البعري
الذي يقدمها .فكان كما قال فلم يزدهم ذلك إال ثبوراً ،وأىب الظاملون إال كفوراً" .
فصل في الهجرة
قد ذكرنا :أنه صلى اهلل عليه وسلم كان يوايف املوسم كل عام ،يتبع احلاج يف منازهلم ،
ويف عكاظ وغريهم ،يدعوهم إىل اهلل ،فلم جيبه أحد منهم ،ومل يؤوه .
فكان مما صنع اهلل لرسوله :أن األوس واخلزرج كانوا يسمعون من حلفائهم يهود املدينة :أن
نبياً يبعث يف هذا الزمان ،فنتبعه ونقتلكم معه قتل عاد .
وكانت األنصار حتج ،كغريها من العرب ،دون اليهود .فلما رأى األنصار رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم يدعو الناس إىل اهلل ،وتأملوا أحواله ،قال بعضهم لبعض :تعلمون واهلل يا
قوم أن هذا الذي توعدكم به اليهود ،فال يسبقنكم إليه .وقدر اهلل بعد ذلك :أن اليهود
يكفرون به ،فهو قوله تعاىل " :وملا جاءهم كتاب من عند اهلل مصدق ملا معهم وكانوا من
قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة اهلل على الكافرين "
اآلية بعدها .
75
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
فلقي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف املوسم عند العقبة :ستة نفر من األنصار كلهم من
اخلزرج ،منهم أسعد بن زرارة ،وجابر بن عبد اهلل بن رئاب السلمي ،فدعاهم إىل اإلسالم
فأسلموا مث رجعوا إىل املدينة ،فدعوا إىل اإلسالم ،فنشأ اإلسالم فيها ،حىت مل تبق دار إال
دخلها .
فلما كان العام املقبل :جاء منهم اثنا عشر رجالً -الستة األول ،خال جابراً -ومعهم عبادة
بن الصامت ،وأبو اهليثم بن التيهان ،وغريهم .اجلميع اثنا عشر رجالً .
وكان الستة األولون قد قالوا له ملا أسلموا -إن بني قومنا من العداوة والشر ما بينهم ،
وعسى اهلل أن جيمعهم بك .وسندعوهم إىل أمرك ،فإن جيمعهم اهلل عليك فال رجل أعز
منك .وكان األوس واخلزرج أخوين ألم وأب ،وأصلهم من اليمن من سبأ ،وأمهم قيلة بنت
كاهل -امرأة من قضاعة -ويقال هلم لذلك :أبناء قيلة ،قال الشاعر :
عليهم خليط يف خمالطة عتبا هباليل من أوالد قيلة مل جيد
فوقعت بينهم العداوة بسبب قتيل ،فلبثت احلرب بينهم مائة وعشرين سنة إىل أن أطفاها اهلل
باإلسالم .وألف بينهم برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وذلك قوله " :واذكروا نعمة اهلل
عليكم إذ كنتم أعداء فألف بني قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا " اآلية .
فلما جاءه االثنا عشر رجالً من العام األيت -الذي ذكرنا -ومنهم اثنان من األوس :أبو اهليثم
،وعومي بن ساعدة ،والباقي من اخلزرج .
فلما انصرفوا بعث معهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مصعب بن عمري ،وأمره أن يقرئهم
القرآن ،ويعلمهم اإلسالم ،فنزل على أيب أمامة -أسعد بن زرارة -فخرج مبصعب -يف
إحدى خرجياته -فدخل به حائطاً من حيطان بين ظفر ،فجلسا فيه ،واجتمع إليهما رجال
ممن أسلم .
وكان سعد وأسيد سيدي قومهما .فأخذ أسيد حربته ،مث أقبل إليهما .فلما رآه أسعد بن
زرارة ،قال ملصعب :هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق اهلل فيه .قال مصعب :إن يكلمين
أكلمه .فوقف عليهما ،فقال :ما جاء بكما إلينا ؟ تسفهان ضعفاءنا ؟ اعتزال ،إن كان
لكما يف أنفسهما حاجة .فقال له مصعب :أو جتلس فتسمع .فإن رضيت أمراً قبلته .وإن
كرهته كف عنك ما تكره .فقال :أنصفت .مث ركز حربته وجلس .فكلمه مصعب
باإلسالم ،وتال عليه القرآن .قال :فواهلل لعرفنا يف وجهه اإلسالم قبل أن يتكلم ،يف إشراقه
وهتلله .
مث قال :ما أحسن هذا وما أمجله ! كيف تصنعون إذا أردمت أن تدخلوا يف هذا الدين ؟
قاال له :تغتسل وتطهر ثوبك ،مث تشهد شهادة احلق ،مث تصلي ركعتني .
فقام واغتسل ،وطهر ثوبه ،وتشهد وصلى ركعتني ،مث قال :إن ورائي رجالً إن تبعكما مل
يتخلف عنه أحد من قومه .وسأرشده إليكما اآلن -سعد بن معاذ -مث أخذ حربته ،
وانصرف إىل سعد يف قومه ،وهم جلوس يف ناديهم .
فقال سعد :أحلف باهلل ،جاءكم بغري الوجه الذي ذهب به من عندكم .
فلما وقف على النادي ،قال له سعد :ما فعلت ؟ فقال :كلمت الرجلني ،فواهلل ما رأيت
هبما بأساً ،وقد هنيتهما ،فقاال :نفعل ما أحببت .
وقد حدثت :أن بين حارثة خرجوا إىل أسعد بن زرارة ليقتلوه -وذلك أهنم عرفوا أنه ابن
خالتك -ليخفروك .فقام سعد مغضباً ،للذي ذكر له .فأخذ حربته ،فلما رآمها مطمئنني
عرف أن أسيداً إمنا أراد أن يسمع منهما ،فوقف عليهما متشتماً .مث قال ألسعد بن زرارة :
واهلل يا أبا أمامة ! لوال ما بيين وبينك من القرابة ما رمت هذا مين ،أتغشانا يف دارنا مبا نكره
؟.
وقد كان أسعد قال ملصعب :جاءك واهلل سيد من ورائه قومه .إن يتبعك مل يتخلف عنك
منهم أحد .
77
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
فقال له مصعب :أو تقعد فتسمع ؟ فإن رضيت أمراً قبلته ،وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره
.قال :قد أنصفت ،مث ركز حربته فجلس .
فعرض عليه اإلسالم ،وقرأ عليه القرآن ،قال :فعرفنا واهلل يف وجهه اإلسالم قبل أن يتكلم ،
يف إشراقه وهتلله ،مث قال :كيف تصنعون إذا أسلمتم ؟ قاال :تغتسل وتطهر ثوبك مث تشهد
شهادة احلق ،مث تصلي ركعتني ،ففعل ذلك .مث أخذ حربته ،فأقبل إىل نادي قومه ،فلما
رأوه قالوا :حنلف باهلل لقد رجع بغري الوجه الذي ذهب به .فقال :يا بين عبد األشهل ،
كيف أمري فيكم ؟ قالوا :سيدنا ،وابن سيدنا ،وأفضلنا رأياً ،وأميننا نقيبة .قال :فإن
كالم رجالكم ونسائكم علي حرام حىت تؤمنوا باهلل ورسوله .فما أمسى فيهم رجل وال امرأة
إال أسلموا ،إال األصريم .فإنه تأخر إسالمه إىل يوم أحد ،فأسلم وقاتل وقتل ،ومل يسجد هلل
سجدة .فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم " :عمل قليالً وأجر كثرياً" .
فأقام مصعب يف منزل أسعد يدعو الناس إىل اإلسالم حىت مل يبق دار من دور األنصار إال
وفيها رجال ونساء مسلمون ،إال ما كان من دار بين أمية بن زيد وخطمة ،ووائل ،وواقف
.
وذلك :أهنم كان فيهم قيس بن األسلت الشاعر ،وكانوا يسمعون منه ،فوقف هبم عن
اإلسالم ،حىت كان عام اخلندق ،بعد أن هاجر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم .
فلما كان من العام املقبل ،وجاء موسم احلج ،قال من أسلم من األنصار :حىت مىت نرتك
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،يطرد يف جبال مكة وخياف ؟! فخرجوا مع مشركي قومهم
حجاجاً .
وسلم ،قالوا له :يا أبا جابر ،إنك شريف من أشرافنا ،وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن
تكون حطباً للنار غداً .قال :وما ذلك ؟ فأخربوه اخلرب ،فأسلم ،وشهد العقبة وكان نقيباً .
فلما مضى ثلث الليل خرجوا للميعاد ،حىت اجتمعوا عنده ،من رجل ورجلني ومعه عمه
العباس -وهو يومئذ على دين قومه -ولكنه أحب أن حيضر أمر ابن أخيه ،ويتوثق له .
فلما نظر العباس يف وجوههم ،قال :هؤالء قوم ال نعرفهم ،هؤالء أحداث ،وكان أول من
تكلم ،فقال :يا معشر اخلزرج ! -و كانت العرب تسمي اجلميع اخلزرج -إن حممداً منا
حيث علمتم ،وقد منعناه من قومنا وهو يف منعة يف بلده ،إال أنه أىب إال االنقطاع إليكم ،
واللحوق بكم .فإن كنتم ترون أنكم وافون مبا دعومتوه إليه ومانعوه ممن خالفه ،فأنتم وما
حتملتم .وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه -بعد خروجه إليكم -فمن اآلن فدعوه ،
فإنه يف عز ومنعة .
قالوا :قد مسعنا ما قلت ،فتكلم يا رسول اهلل ! خذ لنفسك ولربك ما شئت .
فتكلم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وقال ":أبايعكم على أن متنعوين -إذا قدمت عليكم-
مما متنعون منه نساءكم وأبناءكم ،ولكم اجلنة" .
فكان أول من بايعه :الرباء بن معرور ،فقال :والذي بعثك باحلق لنمنعنك مما مننع منه أزرنا
،فبايعنا يا رسول اهلل ! فنحن أهل احلرب واحللقة ،ورثناها كابراً عن كابر .فاعرتضه أبو
اهليثم بن التيهان ،وقال :إن بيننا وبني الناس حباالً ،وحنن قاطعوها ،فهل عسيت -إن
أظهرك اهلل -أن ترجع إىل قومك وتدعنا ؟ فتبسم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،مث قال :
ال واهلل ،بل الدم الدم ،واهلدم اهلدم ،أنتم مين ،وأنا منكم ،أحارب من حاربتم ،وأسامل
من ساملتم .
فلما قاموا يبايعونه ،أخذ بيده أصغرهم -أسعد بن زرارة -فقال :رويداً يا أهل يثرب ! إنا
مل نضرب إليه أكباد اإلبل إال وحنن نعلم أنه رسول اهلل ،وإن إخراجه اليوم مفارقة للعرب
كافة ،وقتل خياركم ،وأن تعضكم السيوف ،فإما أنتم تصربون على ذلك ،فخذوه
79
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وأجركم على اهلل .وإما أنتم ختافون من أنفسكم خيفة فذروه ،فهو أعذر لكم عند اهلل .
فقالوا :أمط عنا يدك ،فواهلل ما نذر هذه البيعة وال نستقيلها .
فقاموا إليه رجالً رجالً ،يأخذ منهم ،ويعطيهم بذلك اجلنة .مث كثر اللغط ،فقال العباس :
على رسلكم ،فإن علينا عيوناً .
مث قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :أخرجوا إيل منكم اثين عشر نقيباً كفالء على قومهم
،ككفالة احلواريني لعيسى ابن مرمي ،وأنا كفيل على قومي .
ويف رواية :أن موسى اختذ من قومه اثين عشر نقيباً ،فكان نقيب بين النجار :أسعد بن زرارة
.ونقيب بين سلمة :الرباء بن معرور ،وعبد اهلل بن عمرو بن حرام .ونقيب بين ساعدة :
سعد بن عبادة ،واملنذر بن عمرو .ونقيب بين زريق :رافع بن مالك بن عجالن .ونقيب
بين احلارث بن اخلزرج :عبد اهلل بن رواحة ،وسعد بن الربيع :ونقيب القواقل :عبادة بن
الصامت .ونقيب األوس :أسيد بن حضري ،وأبو اهليثم بن التيهان .ونقيب بين عوف :
سعد بن خيثمة .
وكان مجيع أهل العقبة :سبعني رجالً وامرأتني .
فلما بايعوه صرخ الشيطان بأنفذ صوت مسع قط :يا أهل األخاشب ،هل لكم يف حممد
والصبأة معه ؟ قد اجتمعوا على حربكم .فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :هذا أزب
العقبة ،أما واهلل يا عدو اهلل ألفرغن لك .
مث قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :ارفضوا إىل رحالكم .
فقال العباس بن عبادة بن نضلة :والذي بعثك باحلق إن شئت لنميلن على أهل مكة غداً
بأسيافنا ،فقال :مل نؤمر بذلك ،ولكن ارجعوا إىل رحالكم ،فرجعوا .
فلما أصبحوا غدت عليهم جلة قريش ،فقالوا :إنه بلغنا أنكم جئتم صاحبنا البارحة ،
تستخرجونه من بني أظهرنا ،وتبايعونه على حربنا ،وإنه واهلل ما من حي من العرب أبغض
إلينا من أن تنشب احلرب بيننا وبينهم منكم ،فانبعث رجال -ممن مل يعلم -حيلفون هلم باهلل
:ما كان من هذا شئ ،والذين يشهدون ينظر بعضهم إىل بعض .وجعل عبد اهلل بن أيب
80
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
سلول يقول :هذا باطل ،ما كان هذا ،وما كان قومي ليفتاتوا علي مبثل هذا ،لو كنت
بيثرب ما صنع قومي هذا ،حىت يؤامروين .
فقام القوم -وفيهم احلارث بن هشام -وعليه نعالن جديدان ،فقال كعب بن مالك كلمة
-كأنه يريد أن يشرك هبا القوم فيما قالوا -فقال :يا أبا جابر ! أما تستطيع أن تتخذ -وأنت
سيد من ساداتنا -مثل نعلي هذا الفىت ؟ فسمعها احلارث ،فخلعهما من رجليه واهلل مث رمى
هبما إليه ،وقال :واهلل لتنتعلهما .فقال أبو جابر :مه ؟ أحفظت الفىت ،فاردد إليه نعليه .
قال :ال أردمها إليه فأل واهلل صاحل ،لئن صدق الفأل ألسلبنه .
فلما انفصلت األنصار عن مكة :صح اخلرب عند قريش ،فخرجوا يف طلبهم ،فأدركوا سعد
بن عبادة ،واملنذر بن عمرو .فأعجزهم املنذر ومضى .وأما سعد ،فقالوا له :أنت على دين
حممد ؟ قال :نعم ،فربطوا يديه إىل عنقه بنسعة رحله ،وجعلوا يسحبونه بشعره ،ويضربونه
-وكان ذا مجة -حىت أدخلوه مكة .فجاء املطعم بن عدي واحلارث بن حرب بن أمية ،
فخلصاه من أيديهم .
وتشاورت األنصار أن يكروا إليه ،فاذا هو قد طلع عليهم فرحلوا إىل املدينة .
وكان الذي أسره ضرار بن اخلطاب الفهري ،وقال :
وكان شفائي لو تداركت منذرا تداركت سعداً عنوة فأسرته
أحق دماء أن هتان وهتدرا ولو نلته طلت هناك جراحه
فأجابه حسان بن ثابت رضي اهلل عنه :
وقلت :شفائي لو تداركت منذرا فخرت بسعد اخلري حني أسرته
كمستبضع متراً إىل أهل خيربا وإن امرءاً يهدي القصائد حنونا
حبفر ذراعيها فلم ترض حمفرا فال تك كالشاة اليت كان حتفها
بقرية كسرى أو بقرية قيصرا وال تك كالوسنان حيلم أنه
عن الثكل لو أن الفؤاد تفكرا وال تك كالثكلى وكانت مبعزل
ومل خيشه سهماً من النبل مضمرا وال تك كالعاوي وأقبل حنره
81
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
تآمر قريش بدار الندوة على قتل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :
فلما رأى املشركون أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد جتهزوا وخرجوا بأهليهم إىل
املدينة ،عرفوا أن الدار دار منعة ،وأن القوم أهل حلقة وبأس .فخافوا خروج رسول اهلل
82
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
صلى اهلل عليه وسلم ،فيشتد أمره عليهم .فاجتمعوا يف دار الندوة ،وحضرهم إبليس يف
صورة شيخ من أهل جند ،فتذاكروا أمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم .
فأشار كل منهم برأي ،والشيخ يرده وال يرضاه ،إىل أن قال أبو جهل :قد فرق يل فيه
برأي ،ما أراكم وقعتم عليه ،قالوا :ما هو ؟ قال :أرى أن نأخذ من كل قبيلة من قريش
غالماً جلداً ،مث نعطيه سيفاً صارماً ،مث يضربونه ضربة رجل واحد ،فيتفرق دمه يف القبائل
.فال تدري بنو عبد مناف بعد ذلك ما تصنع ،وال ميكنها معاداة القبائل كلها ،ونسوق
ديته .
فقال الشيخ :هلل در هذا الفىت ،هذا واهلل الرأي ،فتفرقوا على ذلك .
فجاء جربيل ،فأخرب النيب صلى اهلل عليه وسلم بذلك ،وأمره أن ال ينام يف مضجعه تلك
الليلة .
وجاء رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل أيب بكر نصف النهار -يف ساعة مل يكن يأتيه فيها-
متقنعاً ،فقال :أخرج من عندك ،فقال :إمنا هم أهلك يا رسول اهلل .فقال رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم :إن اهلل قد أذن يل يف اخلروج ،فقال أبو بكر :الصحبة يا رسول اهللقال :
نعم ،فقال أبو بكر :فخذ بأيب أنت وأم -إحدى راحليت هاتني ،فقال :بالثمن .وأمر علياً
أن يبيت تلك الليلة على فراشه .
واجتمع أولئك النفر يتطلعون من صري الباب ،ويرصدونه يريدون بياته ،ويأمترون :أيهم
يكون أشقاها ؟ فخرج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عليهم فأخذ حفنة من البطحاء فذرها
على رؤوسهم ،وهو يتلو " :وجعلنا من بني أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم
ال يبصرون " ،وأنزل اهلل " :وإذ ميكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو خيرجوك
وميكرون وميكر اهلل واهلل خري املاكرين " .
ومضى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل بيت أيب بكر ،فخرجا من خوخة يف بيت أيب بكر
ليالً ،فجاء رجل ،فرأى القوم ببابه ،فقال :ما تنتظرون ؟ قالوا :حممداً .قال :خبتم
83
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وخسرمت ،قد واهلل مر بكم ،وذر على رؤوسكم الرتاب .قالوا :واهلل ما أبصرناه .وقاموا
ينفضون الرتاب عن رؤوسهم .
فلما أصبحوا قام علي رضي اهلل عنه عن الفراش ،فسألوه عن حممد ؟ فقال :ال علم يل به .
ومضى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وأبو بكر إىل غار ثور ،فنسجت العنكبوت على بابه
.
وكانا قد استأجرا عبد اهلل بن أريقط الليثي ،وكان هادياً ماهراً -وكان على دين قومه-
وأمناه على ذلك ،وسلما إليه راحلتيهما ،وواعداه غار ثور بعد ثالث .
وجدت قريش يف طلبهما ،وأخذوا معهم القافة ،حىت انتهوا إىل باب الغار ،فوقفوا عليه ،
فقال أبو بكر :يا رسول اهلل ! لو أن أحدهم نظر إىل ما حتت قدميه ألبصرنا .فقال " :ما
ظنك باثنني اهلل ثالثهما ؟ ال حتزن إن اهلل معنا" .
وكانا يسمعان كالمهم ،إال أن اهلل عمى عليهم أمرمها .وعامر بن فهرية يرعى غنماً أليب
بكر ،ويتسمع ما يقال عنهما مبكة ،مث يأتيهما باخلرب ليالً ،فإذا كان السحر سرح مع الناس
.
قالت عائشة :فجهزنامها أحث اجلهاز ،وصنعنا هلما سفرة يف جراب ،فقطعت أمساء بنت
أيب بكر قطعة من نطاقها ،فأوكت به فم اجلراب ،وقطعت األخرى عصاماً للقربة ،فبذلك
لقبت ذات النطاقني .
ومكثا يف الغار ثالثاً ،حىت مخدت نار الطلب ،فجاءمها ابن أريقط بالراحلتني فارحتال ،
وأردف أبو بكر عامر بن فهرية .
ففطن باألمر سراقة بن مالك ،فأراد أن يكون الظفر له ،وقد سبق له من الظفر ما مل يكن
يف حسابه ،فقال :بل مها فالن وفالن ،خرجا يف طلب حاجة هلما .مث مكث قليالً ،مث قام
فدخل خباءه ،وقال جلاريته :اخرجي بالفرس من وراء اخلباء وموعدك وراء األكمة .مث
أخذ رحمه وخفض عاليه خيط به األرض حىت ركب فرسه ،فلما قرب منهم ،ومسع قراءة
النيب صلى اهلل عليه وسلم -وأبو بكر يكثر االلتفات ،ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ال
يلتفت -قال أبو بكر :يا رسول اهلل ! هذا سراقة بن مالك قد رهقنا .فدعا عليه رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم فساخت يدا فرسه يف األرض ،فقال :قد علمت أن الذي أصابين
بدعائكما ،فادعوا اهلل يل ،ولكما أن أرد الناس عنكما .فدعا له رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم ،فخلصت يدا فرسه ،فانطلق .وسأل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :أن يكتب له
كتاباً ،فكتب له أبو بكر بأمره يف أدمي .وكان الكتاب معه إىل يوم فتح مكة ،فجاء به ،
فوىف له رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم .
فرجع ،فوجد الناس يف الطلب ،فجعل يقول :قد استربأت لكم اخلرب ،وقد كفيتم ها هنا ،
فكان أول النهار جاهداً عليهما ،وكان آخره حارساً هلما .
فقل ما لبثت :أن جاء زوجها يسوق أعنزاً عجافاً يتساوكن هزاالً ،فلما رأى اللنب ،قال :
من أين هذا؟ والشاء عازب ،وال حلوبة يف البيت .قالت :ال واهلل إال أنه مر بنا رجل
مبارك ،من حديثه :كيت وكيت ،قال :واهلل إين ألراه صاحب قريش الذي تطلبه ،صفيه
يل يا أم معبد .قالت :ظاهر الوضاءة ،أبلج الوجه ،حسن اخللق ،مل تعبه ثجلة ،ومل تزر
به صعلة ،وسيم قسيم يف عينيه دعج ،ويف أشفاره وطف ،ويف صوته صحل ،ويف عنقه
سطع ،ويف حليته كثاثة أحور أكحل أزج أقرن ،شديد سواد الشعر ،إذا تكلم عاله البهاء ،
أمجل الناس وأهباه من بعيد ،وأحسنه وأحاله من قريب ،حلو املنطق ،فصل ،ال تزر وال
هذر ،كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن ،ربعة ال تقتحمه عني من قصر ،وتشنؤه من طول
،غصن بني غصنني ،فهو أنضر الثالثة منظراً ،وأحسنهم قدراً ،له رفقاء حيفون به ،إذا
قال استمعوا لقوله ،وإذا أمر تبادروا إىل أمره ،حمفود حمشود ،ال عابس وال مفند ".
قال أبو معبد :هذا -واهلل -صاحب قريش الذي تطلبه ،ولقد مهمت أن أصحبه وألفعلن ،
إن وجدت إىل ذلك سبيالً .
وأصبح صوت عال مبكة يسمعونه ،وال يرون القائل ،يقول :
رفيقني حال خيميت أم معبد جزى اهلل رب الناس خري جزائه
فأفلح من أمسى رفيق حممد مها نزال بالرب وارحتال به
به من فخار ال حياذى وسؤدد فيا لقصي ما زوى اهلل عنكمو
يرد هبا يف مصدر مث يورد وقد غادرت وهناً لديها حبالب
فإنكموا إن تسألوا الشاة تشهد سلوا أختكم عن شاهتا وإنائها؟
له بصريح ضرة الشاة مزبد دعاها بشاة حائل فتحلبت
وقدس من يسري إليه ويغتدي لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم
وحل على قوم بنور جمدد ترحل عن قوم فزالت عقوهلم
وأرشدهم من يتبع احلق يرشد هداهم به -بعد الضاللة-رهبم
ركاب هدى حلت عليهم بأسعد وقد نزلت منه على أهل يثرب
86
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
فلما أتى املدينة ،عدل ذات اليمني ،حىت نزل بقباء يف بين عمرو بن عوف ،ونزل على
كلثوم بن اهلدم -أو على سعد بن خيثمة -فأقام يف بين عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة ،
وأسس مسجد قباء ،وهو أول مسجد أسس بعد النبوة .
"فلما كان يوم اجلمعة ركب ،فأدركته اجلمعة يف بين سامل بن عوف ،فجمع هبم يف املسجد
الذي يف بطن الوادي ،مث ركب ،فأخذوا خبطام راحلته ،يقولون :هلم إىل القوة واملنعة
والسالح .فيقول :خلوا سبيلها ،فإهنا مأمورة ،فلم تزل ناقته سائرة ،ال مير بدار من دور
األنصار ،إال رغبوا إليه يف النزول عليهم ،فيقول :دعوها فإهنا مأموة ،فسارت حىت
وصلت إىل موضع مسجده اليوم ،فربكت .ومل ينزل عنها ،حىت هنضت وسارت قليالً ،مث
رجعت وبركت يف موضعها األول ،فنزل عنها وذلك يف بين النجار ،أخواله صلى اهلل عليه
وسلم" .
وكان من توفيق اهلل هلا ،فإنه أحب أن ينزل على أخواله يكرمهم ،فجعل الناس يكلمونه يف
النزول عليهم .
وبادر أبو أيوب خالد بن زيد إىل رحله ،فأدخله بيته ،فجعل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
يقول :املرء مع رحله ،وجاء أسعد بن زرارة ،فأخذ خبطام ناقته ،فكانت عنده .
وأصبح كما قال أبو قيس صرمة بن أيب أنس -وكان ابن عباس خيتلف إليه ليحفظها عنه :
يذكر لو يلقى حبيباً مواتياً ثوى يف قريش بضع عشرة حجة
فلم ير من يؤوي ومل ير داعيا ويعرض يف أهل املواسم نفسه
وأصبح مسروراً بطيبة راضيا فلما أتانا واستقـرت به النوى
بعيد وال خيشى من الناس باغيا وأصبح ال خيشى ظالمة ظامل
وأنفسنا عند الوغى والتآسيا بذلنا له األموال من جل مالنا
مجيعاً وإن كان احلبيب املصافيا نعادي الذي عادى من الناس كلهم
وأن كتاب اهلل أصبح هاديا ونعلم أن اهلل ال رب غريه
وكما قال حسان بن ثابت رضي اهلل عنه :
88
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
89
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
بنت زمعة زوجه ،وأسامة بن زيد ،وأم أمين .وأما زينب فلم ميكنها زوجها أبو العاص بن
الربيع من اخلروج ،وخرج عبد اهلل بن أيب بكر بعيال أيب بكر ،وفيهم عائشة [فنزلوا يف بيت
حارثة بن النعمان] .
بناء المسجد: W
قال الزهري :بركت ناقة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عند موضع مسجده ،وكان مربداً
لسهل وسهيل ،غالمني يتيمني من األنصار ،كانا يف حجر أسعد بن زرارة .فساوم رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم الغالمني باملربد ،ليتخذه مسجداً ،فقاال :بل هنبه لك يا رسول اهلل
،فأىب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم .فاشرتاه منهما بعشرة دنانري .
ويف الصحيح أنه قال :يا بين النجار ،ثامنوين حبائطكم هذا ،قالوا .ال واهلل ،ال نطلب مثنه
إال إىل اهلل -وكان فيه شجر غرقد وخنل ،وقبور للمشركني ،فأمر رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم بالقبور فنبشت ،وبالنخيل والشجر فقطع .وصفت يف قبلة املسجد .وجعل طوله مما
يلي القبلة إىل مؤخره مائة ذراع .ويف اجلانبني مثل ذلك أو دونه ،وأساسه قريباً من ثالثة
أذرع ،مث بنوه باللنب ،وجعل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يبين معهم ،وينقل اللنب
واحلجارة بنفسه ،ويقول :
فاغفر لألنصار واملهاجرة اللهم إن العيش عيش اآلخرة
وكان يقول :
هذا أبر ربنا وأطهر هذا احلمال ال محال خيرب
وجعلوا يرجتزون ،ويقول أحدهم يف رجزه :
لذاك منا العمل املضلل لئن قعدنا والرسول يعمل
وجعل قبلته إىل بيت املقدس ،وجعل له ثالثة أبواب :باب يف مؤخره ،وباب يقال له :
باب الرمحة ،والباب الذي يدخل منه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم .وجعل عمده اجلذوع
،وسقفه اجلريد وقيل له :أال تسقفه ؟ قال :عريش كعريش موسى ،وبىن بيوت نسائه إىل
جانبيه .بيوت احلجر باللنب ،وسقفها باجلذوع واجلريد .
90
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
91
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
92
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
ويف السنة الثانية :رأى عبد اهلل بن زيد بن عبد ربه األذان ،فأمره رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم أن يلقيه على بالل .
وفيها :فرض صوم رمضان ،ونسخ صوم عاشوراء ،وبقي صومه مستحباً .
وفيها :زوج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم علياً فاطمة رضي اهلل عنهما .
وفيها :صرف اهلل عز وجل القبلة عن بيت املقدس إىل الكعبة .
تحويل القبلة :
وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ملا قدم املدينة استقبل بيت املقدس ستة عشر شهراً ،
قبلة اليهود .وكان حيب أن يصرفه اهلل إىل الكعبة ،وقال جلربيل ذلك ،فقال :إمنا أنا عبد ،
فادع ربك واسأله .فجعل يقلب وجهه يف السماء ،يرجو ذلك ،حىت أنزل اهلل عليه " :قد
نرى تقلب وجهك يف السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر املسجد احلرام "
اآليات .
وكان يف ذلك حكمة عظيمة ،وحمنة للناس ،مسلمهم وكافرهم .فأما املسلمون ،فقالوا :
" يقولون آمنا به كل من عند ربنا " ،وهم الذين هدى اهلل ،ومل تكن بكبرية عليهم .
وأما املشركون ،فقالوا " :ما والهم عن قبلتهم اليت كانوا عليها " .
وأما املنافقون ،فقالوا :إن كانت القبلة األوىل حقاً ،فقد تركها .وإن كانت الثانية هي
احلق ،فقد كان على باطل .
وملا كان ذلك عظيماً وطأ اهلل سبحانه قبله أمر النسخ ،وقدرته عليه ،وأنه سبحانه يأيت خبري
من املنسوخ أو مثله .مث عقب ذلك باملعاتبة ملن تعنت على رسوله ومل ينقد له ،مث ذكر بعده
:اختالف اليهود والنصارى ،وشهادة بعضهم على بعض بأهنم ليسوا على شئ ،مث ذكر
شركهم بقوهلم :اختذ اهلل ولداً .
مث أخرب :أن املشرق واملغرب هلل ،فأينما يويل عباده وجوههم فثم وجهه .
وأخرب رسوله :أن أهل الكتاب ال يرضون عنه حىت يتبع قبلتهم .
93
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
مث ذكر خليله إبراهيم وبناءه البيت مبعاونة ابنه إمساعيل عليهما السالم ،وأنه جعل إبراهيم
إماماً للناس ،وأنه ال يرغب عن ملته إال من سفه نفسه .
مث أمر عباده أن يأمتوا به ،وأن يؤمنوا مبا أنزل إىل رسوله حممد صلى اهلل عليه وسلم ،وما
أنزل إليهم وإىل سائر النبيني .وأخرب :أن اهلل -الذي يهدي من يشاء إىل صراط مستقيم-
وهو الذي هداهم إىل هذه القبلة اليت هي أوسط القبل ،وهم أوسط األمم ،كما اختار هلم
أفضل الرسل ،وأفضل الكتب .
وأخرب :أنه فعل ذلك لئال يكون للناس عليهم حجة ،إال الظاملني ،فإهنم حيتجون عليهم
بتلك احلجج الباطلة الواهنة ،اليت ال ينبغي أن تعارض الرسل بأمثاهلا ،وليتم نعمته عليهم
ويهديهم .
مث ذكر نعمته عليهم بإرسال الرسول اخلامت ،وإنزال الكتاب .وأمرهم بذكره وشكره
ورغبهم يف ذلك بأنه يذكر من ذكره ويشكر من شكره .
وأمرهم مبا ال يتم ذلك إال به ،وهو االستعانة بالصرب والصالة .وأخربهم :أنه مع الصابرين
.
94
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
مث فرض عليهم قتال املشركني كافة ،فقال " :وقاتلوا املشركني كافة كما يقاتلونكم كافة "
اآلية .
أول لواء عقده رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :
وأول لواء عقده رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على قول موسى بن عقبة -لواء محزة بن
عبد املطلب يف شهر رمضان يف السنة األوىل ،بعثه يف ثالثني رجالً من املهاجرين خاصة ،
يعرتض عرياً لقريش ،جاءت من الشام ،فيها أبو جهل يف ثالمثائة رجل ،حىت بلغوا سيف
البحر من ناحية العيص ،فالتقوا واصطفوا للقتال فحجز بينهم جمدي بن عمرو اجلهين ،
وكان موادعاً للفريقني ،فلم يقتتلوا .
96
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
فغزا فيها بنفسه صلى اهلل عليه وسلم غزوة األبواء ،وكانت أول غزوة غزاها رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم بنفسه .خرج يف املهاجرين خاصة ،يعرتض عرياً لقريش ،فلم يلق كيداً .
وفيها وادع بين ضمرة على أن ال يغزوهم وال يغزوه ،وال يعينوا عليه أحداً .
97
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
فأخرب أصحابه بذلك ،وأخربهم أنه ال يستكرههم ،فقالوا :مسعاً وطاعة .
فلما كان يف أثناء الطريق ،أضل سعد بن أيب وقاص وعتبة بن غزوان بعريمها ،فتخلفا يف
طلبه ،ومضوا حىت نزلوا خنلة .
قتل عمرو بن الحضرمي: W
فمرت هبم عري قريش حتمل زبيباً وجتارة فيها عمرو بن احلضرمي ،فقتلوه ،وأسروا عثمان
ونوفالً ابين عبد اهلل بن املغرية ،واحلكم بن كيسان موىل بين املغرية .
فقال املسلمون :حنن يف آخر يوم من رجب ،فإن قاتلناهم :انتهكنا الشهر احلرام ،وإن
تركناهم الليلة دخلوا احلرم .مث أمجعوا على مالقاهتم ،فرمى أحدهم عمرو بن احلضرمي فقتله
،وأسروا عثمان واحلكم ،وأفلت نوفل .مث قدموا بالعري واألسريين ،حىت عزلوا من ذلك
اخلمس .فكان أول مخس يف اإلسالم ،وأول قتل يف اإلسالم ،وأول أسر ،فأنكر رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم ما فعلوه .
واشتد إنكار قريش لذلك ،وزعموا :أهنم وجدوا مقاالً ،فقالوا :قد أحل حممد الشهر
احلرام ،واشتد على املسلمني ذلك ،حىت أنزل اهلل " :يسألونك عن الشهر احلرام قتال فيه
قل قتال فيه كبري وصد عن سبيل اهلل وكفر به واملسجد احلرام وإخراج أهله منه أكرب عند اهلل
" اآلية ،يقول سبحانه :هذا الذي أنكرمتوه -وإن كان كبرياً -فما ارتكبتموه وترتكبونه من
الكفر باهلل ،والصد عن سبيله وبيته ،وإخراج املسلمني منه :أكرب عند اهلل .
98
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وحقيقتها :الشرك الذي يدعوا إليه صاحبه ،ويعاقب من مل يفتنت به ،هلذا قال تعاىل " :إن
الذين فتنوا املؤمنني واملؤمنات مث مل يتوبوا " اآلية ،فسرت بتعذيب املؤمنني وإحراقهم بالنار ،
لريجعوا عن دينهم .
وقد تأيت الفتنة ويراد هبا :املعصية ،كقوله تعاىل " :ومنهم من يقول ائذن يل وال تفتين "
اآلية ،وكفتنة الرجل يف أهله وماله ،ووالده وجاره ،وكالفنت اليت وقعت بني أهل اإلسالم
.
وأما اليت يضيفها اهلل لنفسه ،فهي مبعىن االمتحان واالبتالء واالختبار .
وملا بلغ رسول اهلل خروج قريش ،استشار أصحابه ،فتكلم املهاجرون ،فأحسنوا .
مث استشارهم ثانياً ،فتكلم املهاجرون فأحسنوا .مث ثالثاً ،ففهمت األنصار :أن رسول اهلل
إمنا يعنيهم ،فقال سعد بن معاذ :كأنك تعرض بنا يا رسول اهلل ! -وكان إمنا يعنيهم ،ألهنم
بايعوه على أن مينعوه يف ديارهم -وكأنك ختشى أن تكون األنصار ترى عليهم :أن ال
ينصروك إال يف ديارهم ،وإين أقول عن األنصار ،وأجيب عنهم .فأمض بنا حيث شئت ،
وصل حبل من شئت ،واقطع حبل من شئت ،وخذ من أموالنا ما شئت .وأعطنا منها ما
شئت ،وما أخذت منها كان أحب إلينا مما تركت .فواهلل لئن سرت بنا حىت تبلغ الربك من
غمدان لنسرين معك ،وواهلل لئن استعرضت بنا هذا البحر خلضناه معك .
وقال املقداد بن األسود :إذن ال نقول كما قال قوم موسى ملوسى " :فاذهب أنت وربك
فقاتال إنا هاهنا قاعدون " ،ولكن نقاتل من بني يديك ،ومن خلفك ،وعن ميينك ،وعن
مشالك .
فأشرق وجه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مبا مسع منهم " ،وقال :سريوا وأبشروا ،فإن اهلل
وعدين إحدى الطائفتني .وإين قد رأيت مصارع القوم" .
وكره بعض الصحابة لقاء النفري ،وقالوا :مل نستعد هلم ،فهو قوله تعاىل " :كما أخرجك
ربك من بيتك باحلق وإن فريقا من املؤمنني لكارهون * جيادلونك يف احلق بعد ما تبني كأمنا
يساقون إىل املوت وهم ينظرون " إىل قوله " :ولو كره اجملرمون " .
وسار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل بدر .
وخفض أبو سفيان ،فلحق بساحل البحر .وكتب إىل قريش :أن ارجعوا فإنكم إمنا خرجتم
لتحرزوا عريكم ،فأتاهم اخلرب ،فهموا بالرجوع ،فقال أبو جهل :واهلل ال نرجع حىت نقدم
بدراً ،فنقيم هبا ،نطعم من حضرنا ونسقي اخلمر ،وتعزف علينا القيان ،وتسمع بنا العرب
،فال تزال هتابنا أبداً وختافنا .
فأشار األخنس بن شريق عليهم بالرجوع ،فلم يفعلوا .فرجع هو وبنو زهرة .فلم يزل
األخنس يف بين زهرة مطاعاً بعدها .
100
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وأرادت بنو هاشم الرجوع ،فقال أبو جهل :ال تفارقنا هذه العصابة حىت نرجع ،فساروا ،
إال طالب بن أيب طالب ،فرجع .
وسار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حىت نزل على ماء أدىن مياه بدر ،فقال احلباب بن
املنذر :إن رأيت أن نسري إىل قلب -قد عرفناها -كثرية املاء عذبة ،فننزل عليها .وتغور ما
سواها من املياه ؟ وأنزل اهلل تلك الليلة مطراً واحداً ،صلب الرمل ،وثبت األقدام ،وربط
على قلوهبم .
ومشى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف موضع املعركة وجعل يشري بيده ،ويقول :هذا
مصرع فالن ،هذا مصرع فالن ،هذا مصرع فالن إن شاء اهلل ،فما تعدى أحد منهم
موضع إشارته صلى اهلل عليه وسلم .
فلما طلع املشركون ،قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :اللهم هذه قريش جاءت خبيالئها
وفخرها ،جاءت حتادك ،وتكذب رسولك ،اللهم فنصرك الذي وعدتين .اللهم أحنهم
الغداة ،وقام ورفع يديه ،واستنصر ربه ،وبالغ يف التضرع ورفع يديه حىت سقط رداؤه .
وقال :اللهم أجنز يل ما وعدتين ،اللهم إين أنشدك عهدك ،اللهم إن هتلك هذه العصابة لن
تعبد يف األرض بعد ،فالتزمه أبو بكر الصديق من ورائه ،وقال :حسبك مناشدتك ربك ،يا
رسول اهلل ! فوالذي نفسي بيده لينجزن اهلل لك ما وعدك .واستنصر املسلمون اهلل واستغاثوه
،فأوحى اهلل إىل املالئكة " :أين معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي يف قلوب الذين كفروا
الرعب فاضربوا فوق األعناق واضربوا منهم كل بنان " ،وأوحى اهلل إىل رسوله " :أين
ممدكم بألف من املالئكة مردفني " ،بكسر الدال وفتحها ،قيل :إردافاً لكم ،وقيل :
يردف بعضهم بعضاً ،مل جييئوا دفعة واحدة .
فلما أصبحوا أقبلت قريش يف كتائبها ،وقلل اهلل املسلمني يف أعينهم ،حىت قال أبو جهل -ملا
أشار عتبة بن ربيعة بالرجوع ،خوفاً على قريش من التفرق والقطيعة ،إذا قتلوا أقارهبم -إن
ذلك ليس به ولكنه -يعين عتبة -عرف أن حممداً وأصحابه أكلة جزور ،وفيهم ابنه ،فقد
ختوفكم عليه .
101
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وقلل املشركني أيضاً يف أعني املسلمني ،ليقضي اهلل أمراً كان مفعوالً .
وأمر أبو جهل عامر بن احلضرمي -أخا عمرو بن احلضرمي -أن يطلب دم أخيه ،فصاح ،
وكشف عن استه يصرخ :واعمراه ،واعمراه ،فحمي القوم .ونشبت احلرب .
وعدل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الصفوف ،مث انصرف وغفا غفوة ،وأخذ املسلمني
النعاس وأبو بكر الصديق مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حيرسه ،وعنده سعد بن معاذ ،
ومجاعة من األنصار على باب العريش ،فخرج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يثب يف الدرع
،ويتلو هذه اآلية " :سيهزم اجلمع ويولون الدبر " .
ومنح اهلل املسلمني أكتاف املشركني ،فتناولوهم قتالً وأسراً ،فقتلوا سبعني ،وأسروا سبعني
.
وخرج عتبة وشيبة ابنا ربيعة ،والوليد بن عتبة :يطلبون املبارزة ،فخرج إليهم ثالثة من
األنصار ،فقالوا :أكفاء كرام ،ما لنا ما بكم من حاجة ،إمنا نريد من بين عمنا .فربز إليهم
محزة ،وعبيدة بن احلارث بن املطلب ،وعلي بن أيب طالب ،فقتل علي قرنه الوليد ،وقتل
محزة قرنه شيبة .واختلف عبيدة وعتبة ضربتني ،كالمها أثبت صاحبه .فكر محزة وعلي
على قرن عبيدة فقتاله ،واحتمال عبيدة ،قد قطعت رجله ،فقال :لو كان أبو طالب حياً
لعلم أنا أوىل منه بقوله :
ونذهل عن أبنائنا واحلالئل ونسلمه حىت نصرع حوله
ومات بالصفراء ،وفيهم نزلت " :هذان خصمان اختصموا يف رهبم " اآلية ،فكان علي
رضي اهلل عنه يقول " :أنا أول من جيثو للخصومة بني يدي اهلل عز وجل يوم القيامة" .
وملا عزمت قريش على اخلروج :ذكروا ما بينهم وبني بين كنانة من احلرب ،فتبدى هلم
إبليس يف صورة سراقة بن مالك ،فقال " :ال غالب لكم اليوم من الناس وإين جار لكم " ،
فلما تعبؤوا للقتال ،ورأى املالئكة :فر ونكص على عقبيه ،فقالوا :إىل أين يا سراقة !؟
فقال " :إين أرى ما ال ترون إين أخاف اهلل واهلل شديد العقاب " .
102
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وظن املنافقون ،ومن يف قلبه مرض :أن الغلبة بالكثرة ،فقالوا " :غر هؤالء دينهم " ،
فأخرب اهلل سبحانه :أن النصر إمنا هو بالتوكل على اهلل وحده .
وملا دنا العدو :قام رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فوعظ الناس ،وذكرهم مبا هلم يف الصرب
والثبات من النصر ،وأن اهلل قد أوجب اجلنة ملن يستشهد يف سبيله .فأخرج عمري بن احلمام
بن اجلموح مترات من قرنه يأكلهن ،مث قال " :لئن حييت حىت آكل مترايت هذه إهنا حلياة
طويلة" ،فرمى هبن ،وقاتل حىت قتل ،فكان أول قتيل .
وأخذ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ملء كفه تراباً ،فرمى به يف وجوه القوم .فلم ترتك
رجالً إال مألت عينيه ،فهو قوله تعاىل " :وما رميت إذ رميت ولكن اهلل رمى " .
واستفتح أبو جهل ،فقال :اللهم أقطعنا للرحم ،وآتانا مبا ال نعرف ،فأحنه الغداة .
وملا وضع املسلمون أيديهم يف العدو -يقتلون ويأسرون -وسعد بن معاذ واقف عند رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف رجال من األنصار يف العريش -رأى رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم يف وجه سعد الكراهية ،فقال :كأنك تكره ما يصنع الناس ،قال :أجل واهلل يا
رسول اهلل ! كانت أول وقعة أوقعها اهلل يف املشركني ،وكان اإلثخان يف القتل أحب إيل من
استبقاء الرجال .
وملا بردت احلرب ،واهنزم العدو ،قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :من ينظر لنا ما صنع
أبو جهل؟ ،فانطلق ابن مسعود ،فوجده قد ضربه معوذ وعوف -ابنا عفراء -حىت برد ،
فأخذ بلحيته ،فقال :أنت أبو جهل ؟ فقال :ملن الدائرة اليوم ؟ قال :هلل ورسوله ،مث قال
له :هل أخزاك اهلل يا عدو اهلل ؟ قال :وهل فوق رجل قتله قومه ؟ فاحتز رأسه عبد اهلل بن
مسعود .مث أتى النيب صلى اهلل عليه وسلم .فقال :قتلته ،آهلل الذي ال إله إال هو ؟ -ثالثاً-
مث قال " :احلمد هلل الذي صدق وعده ،ونصر عبده ،وهزم األحزاب وحده ،انطلق فأرنيه ،
فانطلقنا ،فأريته إياه ،فلما وقف عليه ،قال :هذا فرعون هذه األمة" .
وأسر عبد الرمحن بن عوف أمية بن خلف ،وابنه علياً .فأبصره بالل -وكان أمية يعذبه
مبكة -فقال :رأس الكفر أمية ؟ ال جنوت إن جنا .مث استحمى مجاعة من األنصار ،واشتد
103
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
عبد الرمحن هبما ،حيجزمها منهم ،فأدركوهم .فشغلهم عن أمية بابنه علي ،ففرغوا منه ،مث
حلقومها ،فقال له عبد الرمحن :ابرك .فربك ،وألقى عليه عبد الرمحن بنفسه .فضربوه
بالسيوف من حتته حىت قتلوه ،وأصاب بعض السيوف رجل عبد الرمحن .
وكان أمية قد قال قبل ذاك :من املعلم يف صدره بريش النعام ؟ فقال له :ذاك محزة بن عبد
املطلب ،قال :ذاك الذي فعل بنا األفاعيل .
وانقطع يومئذ سيف عكاشة بن حمصن ،فأعطاه النيب صلى اهلل عليه وسلم جذالً من حطب ،
فلما أخذه وهزه :عاد يف يده سيفاً طويالً ،فلم يزل يقاتل به حىت قتل يوم الردة .
وملا انقضت احلرب :أقبل النيب صلى اهلل عليه وسلم حىت وقف على القتلى ،فقال :بئس
عشرية النيب كنتم ،كذبتموين ،وصدقين الناس .وخذلتموين ،ونصرين الناس .
وأخرجتموين وآواين الناس .
مث أمر هبم فسحبوا حىت ألقوا يف القليب -قليب بدر -مث وقف عليهم ،فقال " :يا عتبة بن
ربيعة ! ويا شيبة بن ربيعة ! ويا فالنة ،ويا فالن :هل وجدمت ما وعدكم ربكم حقاً ؟ فإين
قد وجدت ما وعدين ريب حقاً ،فقال عمر :يا رسول اهلل ! ما ختاطب من أقوام قد جيفوا ؟
فقال :ما أنت بأمسع ملا أقول منهم [ولكنهم ال يقدرون أن جييبوا]" .
مث ارحتل مؤيداً منصوراً ،قرير العني ،معه األسرى واملغامن .
فلما كان بالصفراء :قسم الغنائم ،وضرب عنق النضر بن احلارث .
مث ملا نزل بعرق الظبية ،ضرب عنق عقبة بن أيب معيط .
مث دخل املدينة مؤيداً منصوراً ،قد خافه كل عدو له باملدينة .
فأسلم بشر كثري من أهل املدينة ،ودخل عبد اهلل بن أيب رأس املنافقني وأصحابه يف اإلسالم .
ومجلة من حضر بدراً :ثالمثائة وبضعة عشر رجالً ،واستشهد منهم أربعة عشر رجالً .
قال ابن إسحاق :كان أناس قد أسلموا ،فلما هاجر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حبسهم
أهلهم مبكة ،وفتنوهم فافتتنوا ،مث ساروا مع قومهم إىل بدر ،فأصيبوا فأنزل اهلل فيهم ":إن
الذين توفاهم املالئكة ظاملي أنفسهم " .
104
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
عمر كمثل نوح ،قال " :رب ال تذر على األرض من الكافرين ديارا " ،مث قال :أنتم اليوم
عالة ،فال ينفلنت منهم أحد إال بفداء ،أو ضرب عنق ،فأنزل اهلل تعاىل " :ما كان لنيب أن
يكون له أسرى حىت يثخن يف األرض " اآليتني .
قال عمر " :فلما كان من الغد ،غدوت على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فإذا هو قاعد
-هو وأبو بكر -يبكيان ،فقلت :يا رسول اهلل ! أخربين ما يبكيك وصاحبك ؟ فإن وجدت
بكاء بكيت ،وإن مل أجد تباكيت لبكائكما .فقال :أبكي للذي عرض علي أصحابك من
الغد :من أخذهم الفداء ،فقد عرض علي عذاهبم أدىن من هذه الشجرة -لشجرة قريبة منه
صلى اهلل عليه وسلم -وقال :لو نزل عذاب ما سلم منه إال عمر" .
وقال األنصار للنيب صلى اهلل عليه وسلم :نريد أن نرتك البن أختنا العباس فداءه ،فقال :ال
تدعوا منه درمهاً .
فاستشار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أصحابه يف اخلروج إليهم ،وكان رأيه أن ال خيرجوا
،فإن دخلوها قاتلهم املسلمون على أفواه السكك ،والنساء من فوق البيوت ،ووافقه عبد
اهلل بن أيب -رأس املنافقني -على هذا الرأي ،فبادر مجاعة من فضالء الصحابة -ممن فاته
بدر -وأشاروا على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم باخلروج ،وأحلوا عليه .فنهض ودخل
بيته ،ولبس ألمته ،وخرج عليهم ،فقالوا :استكرهنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على
اخلروج .مث قالوا :إن أحببت أن متكث باملدينة فافعل ،فقال :ما ينبغي لنيب إذا لبس ألمته
أن يضعها حىت حيكم اهلل بينه وبني عدوه .
فخرج يف ألف من أصحابه ،واستعمل على املدينة عبد اهلل بن أم مكتوم .
وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم رأى رؤيا :رأى أن يف سيفه ثلمة ،وأن بقراً تذبح .
وأنه يدخل يده يف درع حصينة .فتأول الثلمة :برجل يصاب من أهل بيته ،والبقر :بنفر
من أصحابه يقتلون ،والدرع باملدينة ،فخرج ،وقال ألصحابه :عليكم بتقوى اهلل ،والصرب
عند البأس إذا لقيتم العدو ،وانظروا ماذا أمركم اهلل به فافعلوا .
فلما كان بالشوط -بني املدينة وأحد -اخنزل عبد اهلل بن أيب بنحو ثلث العسكر ،وقال :
عصاين .ومسع من غريي ما ندري عالم نقتل أنفسنا ها هنا ،أيها الناس ؟ فرجع وتبعهم عبد
اهلل بن عمرو -والد جابر -حيرضهم على الرجوع ،ويقول :قاتلوا يف سبيل اهلل أو ادفعوا ،
قالوا :لو نعلم أنكم تقاتلون مل نرجع ،فرجع عنهم وسبهم .
وسأل نفر من األنصار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن يستعينوا حبلفائهم من يهود ،فأىب
،وقال :من خيرج بنا على القوم من كثب؟ .
فخرج به بعض األنصار ،حىت سلك يف حائط ملربع بن قيظي من املنافقني -وكان أعمى،-
فقام حيثو الرتاب يف وجوه املسلمني ،ويقول :ال أحل لك أن تدخل يف حائطي ،إن كنت
رسول اهلل .فابتدروه ليقتلوه .فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :ال تقتلوه فهذا أعمى
القلب أعمى البصر .
107
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
ونفذ حىت نزل الشعب من أحد ،يف عدوة الوادي الدنيا ،وجعل ظهره إىل أحد ،وهنى
الناس عن القتال حىت يأمرهم .
فلما أصبح يوم السبت تعبأ للقتال ،وهو يف سبعمائة ،منهم مخسون فارساً ،واستعمل على
الرماة -وكانوا مخسني -عبد اهلل بن جبري .وأمرهم :أن ال يفارقوا مركزهم ،ولو رأوا الطري
ختتطف العسكر ،وأمرهم :أن ينضحوا املشركني بالنبل ،لئال يأتوا املسلمني من ورائهم .
وظاهر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بني درعني .
وأعطى اللواء مصعب بن عمري ،وجعل على إحدى اجملنبتني الزبري بن العوام ،وعلى األخرى
:املنذر بن عمرو .واستعرض الشباب يومئذ ،فرد من استصغر عن القتال -كابن عمر ،
وأسامة بن زيد ،والرباء ،وزيد بن أرقم ،وزيد بن ثابت ،وعرابة األوسي -وأجاز من رآه
مطيقاً .
وتعبأت قريش ،وهم ثالثة آالف .وفيهم مائتا فارس ،فجعلوا ميمنتهم :خالد بن الوليد ،
وعلى امليسرة :عكرمة بن أيب جهل .
ودفع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم سيفه إىل أيب دجانة .
وكان أول من بدر من املشركني أبو عامر -عبد عمرو بن صيفي -الفاسق ،وكان يسمى
الراهب .وهو رأس األوس يف اجلاهلية ،فلما جاء اإلسالم شرق به ،وجاهر بالعداوة .
فذهب إىل قريش يؤلبهم على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ووعدهم :بأن قومه إذا رأوه
أطاعوه ،فلما ناداهم ،وتعرف إليهم ،قالوا :ال أنعم اهلل بك عيناً يا فاسق ،فقال :لقد
أصاب قومي بعدي شر .مث قاتل املسلمني قتاالً شديداً ،مث أرضخهم باحلجارة .
وأبلى يومئذ أبو دجانة ،وطلحة ،ومحزة ،وعلي ،والنضر بن أنس ،وسعد بن الربيع بالء حسناً
.
وكانت الدولة أول النهار للمسلمني ،فاهنزم أعداء اهلل ،وولوا مدبرين ،حىت انتهوا إىل
نسائهم ،فلما رأى ذلك الرماة ،قالوا :الغنيمة ،الغنيمة ،فذكرهم أمريهم عهد رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم ،فلم يسمعوا ،فأخلوا الثغر ،وكر فرسان املشركني عليه ،فوجدوه
108
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
خالياً ،فجاؤوا منه .وأقبل آخرهم حىت أحاطوا باملسلمني فأكرم اهلل من أكرم منهم
بالشهادة -وهم سبعون -ووىل الصحابة .
وخلص املشركون إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فجرحوه جراحات ،وكسروا
رباعيته .
وقتل مصعب بن عمري بني يديه ،فدفع اللواء إىل علي بن أيب طالب .وأدركه املشركون
يريدون قتله ،فحال دونه حنو عشرة حىت قتلوا ،مث جالدهم طلحة بن عبيد اهلل حىت
أجهضهم عنه ،وترس أبو دجانة عليه بظهره ،والنبل يقع فيه وهو ال يتحرك .
وأصيبت يومئذ عني قتادة بن النعمان ،فأتى هبا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فردها بيده ،
فكانت أحسن عينيه .
وصرخ الشيطان :إن حممداً قد قتل ،فوقع ذلك يف قلوب كثري من املسلمني .
فمر أنس بن النضر بقوم من املسلمني قد ألقوا بأيديهم ،فقالوا :قتل رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم .فقال :ما تصنعون باحلياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه .مث استقبل
الناس ،ولقي سعد بن معاذ ،فقال :يا سعد ! إين ألجد ريح اجلنة من دون أحد ،فقاتل
حىت قتل ،ووجد به سبعون جراحة .
وقتل وحشي محزة بن عبد املطلب رضي اهلل عنه ،رماه حبربة على طريقة احلبشة .
وأقبل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حنو املسلمني ،فكان أول من عرفه حتت املغفر :كعب
بن مالك ،فصاح بأعلى صوته :يا معشر املسلمني ! هذا رسول اهلل ،فأشار إليه :أن
اسكت ،فاجتمع إليه املسلمون ،وهنضوا معه إىل الشعب الذي نزل فيه .
فلما أسندوا إىل اجلبل أدركه أيب بن خلف على فرس له ،كان يزعم مبكة :أنه يقتل عليه
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فلما اقرتب منه طعنه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف
ترقوته ،فكر منهزماً .فقال له املشركون :ما بك من بأس ،فقال :واهلل لو كان ما يب
بأهل ذي اجملاز ملاتوا أمجعني ،فمات بسرف .
وحانت الصالة ،فصلى هبم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم جالساً .
109
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وشد حنظلة بن أيب عامر على أيب سفيان ،فلما متكن منه محل عليه شداد بن األسود فقتله ،
وكان حنظلة جنباً ،فإنه حني مسع الصيحة وهو على بطن امرأته :قام من فوره إىل اجلهاد ،
فأخرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن املالئكة تغسله .
وكان األصريم -عمرو بن ثابت بن وقش -يأىب اإلسالم ،وهو من بين عبد األشهل ،فلما
كان يوم أحد :قذف اهلل اإلسالم يف قلبه للحسىن اليت سبقت له .فأسلم وأخذ سيفه ،فقاتل
،حىت أثبتته اجلراح ،ومل يعلم أحد بأمره .فلما طاف بنو عبد األشهل يلتمسون قتالهم ،
وجدوا األصريم -وبه رمق يسري ،فقالوا :واهلل إن هذا األصريم ،مث سألوه :ما الذي جاء
بك ؟ أحدب على قومك ،أم رغبة يف اإلسالم ؟ فقال :بل رغبة يف اإلسالم ،آمنت باهلل
وبرسوله وأسلمت ،ومات من وقته .فذكروه لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فقال :هو
من أهل اجلنة ،ومل يصل هلل سجدة قط .
"وملا انقضت احلرب :أشرف أبو سفيان على اجلبل ،ونادى :أفيكم حممد ؟ فلم جييبوه ،
فقال :أفيكم ابن أيب قحافة ؟ فلم جييبوه .فقال :أفيكم ابن اخلطاب ؟ فلم جييبوه ،فقال :
أما هؤالء فقد كفيتموهم ،فلم ميلك عمر نفسه أن قال :يا عدو اهلل ! إن الذين ذكرهتم
أحياء ،وقد أبقى اهلل لك منهم ما يسوءك ،مث قال :اعل هبل ،فقال رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم :أال جتيبوه ؟ ،قالوا :ما نقول ؟ قال :قولوا :اهلل أعلى وأجل ،مث قال :لنا
العزى ،وال عزى لكم ،قال :أال جتيبوه ؟ قالوا :ما نقول ؟ قال :قولوا :اهلل موالنا ،وال
موىل لكم ،مث قال :يوم بيوم بدر ،واحلرب سجال ،فقال عمر :ال سواء ،قتالنا يف اجلنة
،وقتالكم يف النار" .
وأنزل اهلل عليهم النعاس يف بدر ويف أحد ،والنعاس يف احلرب من اهلل ،ويف الصالة وجمالس
الذكر :من الشيطان .
وقاتلت املالئكة يوم أحد عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم .
ففي الصحيحني عن سعد ،قال " :رأيت رسول اهلل يوم أحد ،ومعه رجالن يقاتالن عنه ،
عليهما ثياب بيض ،كأشد القتال ،وما رأيتهما قبل وال بعد" .
110
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
ومر رجل من املهاجرين برجل من األنصار -وهو يتشحط يف دمه -فقال :يا فالن !
أشعرت أن حممداً قتل ؟ فقال األنصاري :إن كان قد قتل فقد بلغ ،فقاتلوا عن دينكم ،
فنزل " :وما حممد إال رسول قد خلت من قبله الرسل " اآلية .
وكان يوم أحد يوم بالء ومتحيص ،اخترب اهلل عز وجل به املؤمنني ،وأظهر به املنافقني ،
وأكرم فيه من أراد كرامته بالشهادة ،فكان مما نزل من القرآن يف يوم أحد :إحدى وستون
آية من آل عمران ،أوهلا " :وإذ غدوت من أهلك تبوء املؤمنني مقاعد للقتال " اآليات .
وملا انصرفت قريش تالوموا فيما بينهم ،وقالوا :مل تصنعوا شيئاً ،أصبتم شوكتهم ،مث
تركتموه ،وقد بقي منهم رؤوس جيمعون لكم ،فارجعوا حىت نستأصل بقيتهم .
فبلغ ذلك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فنادى يف الناس باملسري إليهم ،وقال :ال خيرج
معنا إال من شهد القتال ،فقال له ابن أيب :أركب معك ؟ قال :ال .
فاستجاب له املسلمون -على ما هبم من القرح الشديد -وقالوا :مسعاً وطاعة .
وقال جابر :يا رسول اهلل ! إين أحب أن ال تشهد مشهداً إال كنت معك ،وإمنا خلفين أيب
على بناته ،فائذن يل أن أسري معك .فأذن له .
فسار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم واملسلمون معه ،حىت بلغوا محراء األسد ،فبلغ ذلك أبا
سفيان ومن معه ،فرجعوا إىل مكة .وشرط أبو سفيان لبعض املشركني شرطاً على أنه إذا مر
بالنيب صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه :أن خيوفهم ،ويذكر هلم :أن قريشاً أمجعوا للكرة
عليكم ليستأصلوا بقيتكم ،فلما بلغهم ذلك قالوا " :حسبنا اهلل ونعم الوكيل " .
112
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
واقتضى متام االبتالء :أن حبس اهلل عن رسوله الوحي شهراً يف شأهنا .ليزداد املؤمنون إمياناً
،وثباتاً على العدل والصدق ،ويزداد املنافقون إفكاً ونفاقاً ،ولتتم العبودية املرادة من
الصديقة وأبويها ،وتتم نعمة اهلل عليهم ولينقطع رجاؤها من املخلوق ،وتيأس من حصول
النصر والفرج إال من اهلل .
فدخل عليها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وعندها أبواها ،فحمد اهلل وأثىن عليه ،مث قال
:يا عائشة ،إن كنت بريئة فسيربئك اهلل ،وإن كنت قد أملمت بذنب فاستغفري ،فإن العبد
إذا اعرتف بذنبه ،مث تاب ،تاب اهلل عليه .
قالت ألبيها :أجب عين رسول اهلل ،قال :واهلل ما أدري ما أقول لرسول اهلل .فقالت ألمها
مثل ذلك ،وقالت أمها مثل ذلك .
قالت :فقلت :إن قلت إين بريئة -واهلل يعلم أين بريئة -ال تصدقوين ،وال أجد يل ولكم
مثالً إال أبا يوسف ،حيث قال " :فصرب مجيل واهلل املستعان على ما تصفون " .
قالت :فنزل الوحي على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فأما أنا فعلمت أن اهلل ال يقول إال
احلق .وأما أبواي :فوالذي ذهب بأنفاسهما ،ما أقلع عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
إال خفت أن أرواحهما ستخرجان ،فكان أول كلمة قاهلا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :
أما اهلل يا عائشة ! فقد برأك .
فقال أبوي :قومي إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم .قلت :واهلل ال أقوم إليه ،وال أمحد
إال اهلل .
وكان حسان رضي اهلل عنه ممن قيل عنه :إنه يتكلم مع أهل اإلفك ،فقال يعتذر إىل عائشة
،وميدحها :
وتصبح غرثى من حلوم الغوافل حصان رزان ما تزن بريبة
كرام املساعي جمدهم غري زائل عقيلة حي من لؤي بن غالب
وطهرها من كل سوء وباطل مهذبة قد طيب اهلل خيمها
فال رفعت سوطي إيل أناملي لئن كان ما قد قيل عين قلته
113
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
114
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وخرج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف ثالثة آالف من املسلمني ،فتحصن باجلبل من
خلفه -جبل سلع -وباخلندق أمامه ،وأمر بالنساء والذراري ،فجعلوا يف آطام املدينة
[واستخلف عليها ابن أم مكتوم] .
وانطلق حيي بن أخطب إىل بين قريظة ،فدنا من حصنهم ،فأىب كعب بن أسد أن يفتح له ،
فلم يزل يكتمه حىت فتح له .فلما دخل احلصن ،قال :جئتك بعز الدهر ،جئتك بقريش
وغطفان وأسد ،على قاداهتا حلرب حممد .قال كعب :بل جئتين واهلل بذل الدهر ،وجئتين
جبهام قد أراق ماءه ،فهو يرعد ويربق ،وليس فيه شئ .فلم يزل به حىت نقض العهد الذي
بينه وبني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ودخل مع املشركني .وسر بذلك املشركون ،
وشرط كعب على حيي :أهنم إن مل يظفروا مبحمد ،أن جييء حىت يدخل معهم يف حصنهم
،فيصيبه ما يصيبهم فشرط ذلك ووىف له .
وبلغ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم اخلرب ،فبعث إليهم السعدين -سعد بن معاذ ،وسعد بن
عبادة -وخوات بن جبري ،وعبد اهلل بن رواحة ،ليتعرفوا اخلرب .
فلما دنوا منهم وجدوهم على أخبث ما يكون ،وجاهروهم بالسب ونالوا من رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم .
فانصرفوا وحلنوا لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حلناً ،فعظم ذلك على املسلمني ،فقال
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :اهلل أكرب ،أبشروا ،يا معشر املسلمني .
واشتد البالء ،وجنم النفاق ،واستأذن بعض بين حارثة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف
الذهاب إىل املدينة ،وقالوا " :إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إال فرارا " .
وأقام املشركون حماصرين رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم شهراً ،ومل يكن بينهم قتال ،
ألجل اخلندق ،إال أن فوارس من قريش -منهم عمرو بن عبد ود -أقبلوا حنو اخلندق .فلما
وقفوا عليه قالوا :إن هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها ،مث تيمموا مكاناً ضيقاً منه ،
وجالت هبم خيلهم يف السبخة ،ودعوا إىل الرباز ،فانتدب لعمرو :علي بن أيب طالب ،
فبارزه فقتله اهلل على يدي علي .وكان من أبطال املشركني ،واهنزم أصحابه .
115
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وملا طالت هذه احلال على املسلمني أراد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن يصاحل عيينة بن
حصن ،واحلارث بن عوف -رئيسي غطفان -على ثلث مثار املدينة وينصرفا بقومهما ،
وجرت املفاوضة على ذلك .واستشار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم السعدين ،فقاال :إن
كان اهلل أمرك ،فسمعاً وطاعة .وإن كان شيئاً تصنعه لنا ،فال .لقد كنا حنن وهؤالء القوم
على الشرك ،وعبادة األوثان ،وهم ال يطمعون أن يأكلوا منها مثرة ،إال قرى أو بيعاً .أفحني
أكرمنا اهلل باإلسالم ،وأعزنا بك ،نعطيهم أموالنا ؟ واهلل ال نعطيهم إال السيف .فصوب
رأيهما ،وقال :إمنا هو شئ أصنعه لكم ،ملا رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة .
مث إن اهلل عز وجل -وله احلمد -صنع أمراً من عنده خذل به العدو .فمن ذلك .أن رجالً
من غطفان -يقال له :نعيم بن مسعود -جاء إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فقال :
قد أسلمت ،فمرين مبا شئت .فقال :إمنا أنت رجل واحد ،فخذل عنا ما استطعت ،فإن
احلرب خدعة .
فذهب إىل بين قريظة -وكان عشرياً هلم -فدخل عليهم ،وال هم يعلمون بإسالمه ،فقال :
إنكم قد حاربتم حممداً ،وإن قريشاً إن أصابوا فرصة انتهزوها ،وإال انشمروا [إىل بالدهم
راجعني ،وتركوكم وحممداً ،فانتقم منكم] ،قالوا :فما العمل ؟ قال :ال تقاتلوا معهم حىت
يعطوكم رهائن .فقالوا :قد أشرت بالرأي .مث مضى إىل قريش فقال :هل تعلمون ودي
لكم ونصحي ؟ قالوا :نعم ،قال :إن اليهود قد ندموا على ما كان منهم ،وإهنم قد أرسلوا
إىل حممد أهنم يأخذون منكم رهائن يدفعوهنا إليه ،مث ميالئونه عليكم ،فإن سألوكم فال
تعطوهم ،مث ذهب إىل غطفان ،فقال هلم مثل ذلك .
فلما كانت ليلة السبت من شوال بعثوا إىل يهود :إنا لسنا معكم بأرض مقام ،وقد هلك
الكراع واخلف .فأغدوا بنا إىل حممد حىت نناجزه .فأرسلوا إليهم :إن اليوم يوم السبت ،
وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حني أحدثوا فيه .ومع هذا فال نقاتل معكم حىت تبعثوا لنا
رهائن .فلما جاءهتم رسلهم قالوا :قد صدقكم واهلل نعيم ،فبعثوا إليهم .إنا واهلل ال نبعث
إليكم أحداً .فقالت قريظة :قد صدقكم واهلل نعيم ،فتخاذل الفريقان .
116
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وأرسل اهلل على املشركني جنداً من الريح ،فجعلت تقوض خيامهم ،وال تدع هلم قدراً إال
كفأهتا ،وال طنباً إال قلعته ،وجنداً من املالئكة يزلزلون هبم ،ويلقون يف قلوهبم الرعب ،
كما قال اهلل " :يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة اهلل عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم
رحيا وجنودا مل تروها " .
وأرسل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وسلم حذيفة بن اليمان يأتيه خبربهم ،فوجدهم على
هذه احلال ،وقد هتيئوا للرحيل ،فرجع إليه ،فأخربه برحيلهم .
فلما أصبح رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم انصرف عن اخلندق ،راجعاً واملسلمون إىل املدينة
،فوضعوا السالح .فجاءه جربيل ،وقت الظهر ،فقال :أقد وضعتم السالح ؟ إن املالئكة
مل تضع بعد أسلحتها ،اهنض إىل هؤالء -يعين بين قريظة -فنادى رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم :من كان سامعاً مطيعاً فال يصلني العصر إال يف بين قريظة .
فخرج املسلمون سراعاً ،حىت إذا دنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من حصوهنم ،قال :يا
إخوان القردة ،هل أخزاكم اهلل وأنزل بكم نقمته .
وحاصرهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مخساً وعشرين ليلة ،حىت جهدهم احلصار ،
وقذف اهلل يف قلوهبم الرعب ،فقال هلم رئيسهم كعب بن أسد :إين عارض عليكم خالالً
ثالثاً ،خذوا أيها شئتم :نصدق هذا الرجل ونتبعه ،فإنكم تعلمون :أنه للنيب الذي جتدونه
مكتوباً عندكم يف التوراة .قالوا :ال نفارق حكم التوراة أبداً .قالوا :فاقتلوا أبناءكم
ونساءكم واخرجوا إليه مصليت سيوفكم حىت حيكم اهلل بينكم وبينه .قالوا :فما ضر العيش
بعد أبنائنا ونسائنا ؟ قال :فانزلوا الليلة ،فعسى أن يكون حممد وأصحابه قد أمنوكم فيها
ألهنا ليلة السبت -لعلنا نصيب منهم غرة ،قالوا :ال نفسد سبتنا ،وقد علمت ما أصاب من
اعتدوا يف السبت .قال :ما بات رجل منكم -منذ ولدته أمه ليلة من الدهر حازماً .مث نزلوا
على حكم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم .فحكم فيهم سعد بن معاذ فحكم :أن تقتل
الرجال ،وتقسم األموال ،وتسىب النساء والذراري .
117
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وأنزل اهلل يف غزوة اخلندق صدر سورة األحزاب ،وذكر قصتهم يف قوله " :يا أيها الذين
آمنوا اذكروا نعمة اهلل عليكم " إىل قوله " :وأورثكم أرضهم وديارهم وأمواهلم " .
لقتال ،وإمنا جئنا عماراً ،وادعهم إىل اإلسالم ،وأمره أن يأيت رجاالً مبكة مؤمنني ونساء
مؤمنات ،فيبشرهم بالفتح ،وأن اهلل عز وجل مظهر دينه مبكة ،حىت ال يستخفى فيها
باإلميان .
فانطلق عثمان ،فمر على قريش ،فقالوا :إىل أين ؟ فقال :بعثين رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم أدعوكم إىل اهلل وإىل اإلسالم ،وخيربكم :أنه مل يأت لقتال ،وإمنا جئنا عماراً .قالوا
:قد مسعنا ما تقول ،فانفذ إىل حاجتك .
وقام إليه أبان بن سعيد بن العاص ،فرحب به ،ومحله على الفرس وأردفه أبان حىت جاء مكة
.
وقال املسلمون ،قبل أن يرجع :خلص عثمان من بيننا إىل البيت ،فقال رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم :ما أظنه طاف بالبيت وحنن حمصورون ،قالوا :وما مينعه يا رسول اهلل ،وقد
خلص ؟ قال :ذلك ظين به :أن ال يطوف بالكعبة حىت نطوف معه .
واختلط املسلمون باملشركني يف أمر الصلح ،فرمى رجل من أحد الفريقني رجالً من الفريق
اآلخر ،فكانت معاركة .وتراموا بالنبل واحلجارة ،وصاح الفريقان وارهتن كل منهما من
فيهم .
وبلغ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن عثمان قد قتل ،فدعا إىل البيعه ،فتبادروا إليه ،وهو
حتت الشجرة ،فبايعوه على أن ال يفروا ،فأخذ بيد نفسه ،وقال :هذه عن عثمان .
وملا متت البيعة رجع عثمان ،فقالوا له :اشتفيت من الطواف بالبيت ،فقال :بئسما ظننتم
يب ،والذي نفسي بيده لو مكث هبا سنة ،ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم باحلديبية ما طفت
هبا حىت يطوف ،ولقد دعتين قريش إىل الطواف فأبيت .فقال املسلمون :رسول اهلل أعلم باهلل
،وأحسننا ظناً .
وكان عمر أخذ بيد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم للبيعة ،وهو حتت الشجرة ،فبايعه
املسلمون كلهم ،مل يتخلف إال اجلد بن قيس .
وكان معقل بن يسار آخذ بغصنها يرفعه عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم .
119
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
120
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب حممد حممداً .واهلل ما انتخم خنامة إال وقعت يف كف
رجل منهم ،فدلك هبا وجهه وجلده .مث أخربهم جبميع ما تقدم ،مث قال :وقد عرض
عليكم خطة رشد فاقبلوها .
فقال رجل من بين كنانة :دعوين آته ،فقالوا :ائته .فلما أشرف على النيب صلى اهلل عليه
وسلم ،قال :هذا فالن ،وهو من قوم يعظمون البدن ،فابعثوها له ،ففعلوا .واستقبله القوم
يلبون ،فلما رأى ذلك ،قال :سبحان اهلل ! ما ينبغي هلؤالء أن يصدوا عن البيت ،فرجع إىل
أصحابه فأخربهم .
فبينا هم كذلك إذ جاء سهيل بن عمرو ،فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم :قد سهل لكم من
أمركم ،فقال :هات اكتب بيننا وبينك كتاباً ،فدعا الكاتب -وهو علي بن أيب طالب-
فقال :اكتب :بسم اهلل الرمحن الرحيم ،فقال سهيل :أما الرمحن ،فما أدري ما هو ؟ ولكن
اكتب :بامسك اللهم كما كنت تكتب .فقال املسلمون :واهلل ال نكتبها إال بسم اهلل الرمحن
الرحيم ،فقال صلى اهلل عليه وسلم :اكتب :بامسك اللهم ،مث قال :اكتب :هذا ما قاضى
عليه حممد رسول اهلل ،فقال سهيل :واهلل لو نعلم أنك رسول اهلل ما صددناك عن البيت ،
ولكن اكتب حممد بن عبد اهلل ،فقال :إين رسول اهلل ،وإن كذبتموين اكتب حممد بن عبد
اهلل ،مث قال النيب صلى اهلل عليه وسلم :على أن ختلوا بيننا وبني البيت فنطوف به ،فقال
سهيل :واهلل ال حتدث العرب أننا أخذنا ضغطة ،ولكن ذاك من العام املقبل ،فكتب .فقال
سهيل :وعلى أن ال يأتيك رجل منا ،وإن كان على دينك ،إال رددته إلينا ،فقال املسلمون
:سبحان اهلل ! كيف يرد إىل املشركني وقد جاء مسلماً ؟ .
فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل ،وقد خرج من أسفل مكة يرسف يف قيوده ،
حىت رمى بنفسه بني أظهر املسلمني ،فقال سهيل :هذا يا حممد! أول ما أقاضيك عليه أن
ترده إيل ،فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم :إنا مل نقض الكتاب بعد ،فقال :إذاً واهلل ال
أصاحلك على شئ أبداً .فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم :فأجزه يل ،قال :ما أنا مبجيزه لك
.قال :بلى ،فافعل ،قال :ما أنا بفاعل .قال أبو جندل :يا معشر املسلمني ! كيف أرد إىل
121
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
املشركني وقد جئت مسلماً؟ أال ترون ما لقيت ؟ -وكان قد عذب يف اهلل عذاباً شديداً -قال
عمر بن اخلطاب :واهلل ما شككت منذ أسلمت إال يومئذ .فأتيت النيب صلى اهلل عليه وسلم
،فقلت :يا رسول اهلل ! ألست نيب اهلل ؟ قال :بلى ،قلت :ألسنا على احلق ،وعدونا على
الباطل ؟ قال :بلى .قلت :عالم نعطى الدنية يف ديننا ؟ ونرجع وملا حيكم اهلل بيننا وبني
أعدائنا ؟ فقال :إين رسول اهلل ،وهو ناصري ،ولست أعصيه .قلت :ألست كنت حتدثنا
:أنا نأيت البيت ،ونطوف به .قال :بلى ،أفاخربتك أنك تأتيه العام ؟ قلت :ال ،قال :
فإنك آتيه ومطوف به .قال :فأتيت أبا بكر ،فقلت له مثلما قلت لرسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم ،ورد علي كما رد علي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم سواء ،وزاد :فاستمسك
بغرزه حىت متوت ،فواهلل إنه لعلى احلق ،فعملت لذلك أعماالً .
فلما فرغ من قضية الكتاب ،قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ألصحابه :قوموا فاحنروا،
مث احلقوا ،قال :فواهلل ما قام منهم رجل ،حىت قاهلا ثالث مرات .فلما مل يقم منهم أحد ،
قام ومل يكلم أحداً منهم حىت حنر بدنه ودعا حالقه .فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا ،وجعل
بعضهم حيلق بعضاً ،حىت كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً .مث جاء نسوة مؤمنات ،فأنزل اهلل " :
يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم املؤمنات مهاجرات فامتحنوهن " حىت بلغ " :بعصم الكوافر
" ،فطلق عمر يومئذ امرأتني كانتا له يف الشرك .ويف مرجعه صلى اهلل عليه وسلم :أنزل اهلل
سورة الفتح " :إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك اهلل ما تقدم من ذنبك وما تأخر " اآلية ،
فقال عمر :أو فتح هو يا رسول اهلل ؟ قال :نعم ،قال الصحابة :هذا لك يا رسول اهلل ،
فما لنا ؟ فأنزل اهلل " :هو الذي أنزل السكينة يف قلوب املؤمنني ليزدادوا إميانا مع إمياهنم "
اآليتني إىل قوله " :فوزا عظيما " .وملا رجع إىل املدينة جاءه أبو بصري -رجل من قريش-
مسلماً ،فأرسلوا يف طلبه رجلني ،وقالوا :العهد الذي بيننا وبينك ،فدفعه إىل الرجلني ،
فخرجا به ،حىت بلغا ذا احلليفة .فنزلوا يأكلون من متر هلم .فقال أبو بصري ألحدمها :إين
أرى سيفك هذا جيداً .فقال :أجل ،واهلل إنه جليد ،لقد جربت به مث جربت ،فقال :أرين
أنظر إليه ،فأمكنه به ،فضربه حىت برد ،وفر اآلخر ،حىت بلغ املدينة ،فدخل املسجد .
122
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :لقد رأى هذا ذعراً ،فلما انتهى إليه ،قال :قتل واهلل
صاحيب ،وإين ملقتول .فجاء أبو بصري ،فقال :يا نيب اهلل ! قد أوىف اهلل ذمتك ،قد رددتين
إليهم فأجناين اهلل منهم ،فقال صلى اهلل عليه وسلم :ويل أمه مسعر حرب ،لو كان له أحد
.فلما مسع ذلك عرف أنه سريده إليهم ،فخرج حىت أتى سيف البحر ،وتفلت منهم أبو
جندل ،فلحق بأيب بصري ،فال خيرج من قريش رجل -قد أسلم -إال حلق به ،حىت اجتمعت
منهم عصابة .فواهلل ما يسمعون بعري لقريش خرجت إىل الشام إال اعرتضوا هلا ،فقاتلوهم
وأخذوا أمواهلم ،فأرسلت قريش إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم تناشده اهلل والرحم ملا أرسل
إليهم ،فمن أتاه منهم فهو آمن .
124
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
فلما أراد أن جيليهم ،قالوا :حنن أعلم هبذه األرض منكم ،فدعنا نكون فيها .فأعطاهم
أياها ،على شطر ما خيرج من مثرها وزرعها .
مث قسمها على ستة وثالثني سهماً ،كل سهم مائة سهم .فكانت ثالثة آالف وستمائة سهم
.نصفها لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وما ينزل به من أمور املسلمني .والنصف اآلخر :
قسمة بني املسلمني .
125
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
126
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
فأقول :أين صاحبك ؟ فيقول :ال أدري ،فإذا كربت فكربوا ،وجردوا السيوف .مث كربوا
ومحلوا محلة واحدة وأحاطوا بالقوم ،وأخذهتم سيوف اهلل .
وسببها :أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعث احلارث بن عمري بكتاب إىل ملك الروم
-أو بصرى -فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساين .فقتله -ومل يقتل لرسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم غريه -فاشتد ذلك عليه .فبعث البعوث ،واستعمل عليهم زيد بن حارثة ،وقال :
إن أصيب زيد :فجعفر بن أيب طالب على الناس ،وإن أصيب جعفر :فعبد اهلل بن رواحة .
فتجهزوا ،وهم ثالثة آالف فلما حضر خروجهم ،ودع الناس أمراء رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم ،وسلموا عليه فبكى عبد اهلل بن رواحة ،فقالوا :ما يبكيك ؟ فقال :أما واهلل ما
يب حب الدنيا وال صبابة بكم ،ولكين مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقرأ آية من
كتاب اهلل ،يذكر فيها النار " :وإن منكم إال واردها كان على ربك حتما مقضيا " ،
ولست أدري كيف يل بالصدور بعد الورود؟ فقال املسلمون :صحبكم اهلل ودفع عنكم ،
وردكم إلينا صاحلني .فقال ابن رواحة :
وضربة ذات فرع تقذف الزبدا لكنين أسأل الرمحن مغفرة
حبربة تنفذ األحشاء والكبدا! أو طعنة بيدي حران جمهزة
ياأرشد اهلل من غاز وقد رشدا حىت يقال إذا مروا على جدثي:
مث مضوا حىت نزلوا معان .فبلغهم أن هرقل بالبلقاء يف مائة ألف من الروم ،وانضم إليه من
خلم وجذام وبلي وغريهم مائة ألف .
فأقاموا ليلتني ينظرون يف أمرهم ،وقالوا :نكتب إىل رسول اهلل فنخربه .فإما أن ميدنا ،وإما
أن يأمرنا بأمره .فشجعهم عبد اهلل بن رواحة ،وقال :واهلل إن الذي تكرهون للذي
خرجت تطلبون :الشهادة .وما نقاتل الناس بقوة وال كثرة ،ما نقاتلهم إال هبذا الدين الذي
أكرمنا اهلل به فانطلقوا ،فإمنا هي إحدى احلسنيني :إما ظفر ،وإما شهادة .
فمضى الناس ،حىت إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم اجلموع .فاحناز املسلمون إىل مؤتة ،مث
اقتتلوا عندها والراية يف يد زيد ،فلم يزل يقاتل هبا حىت شاط يف رماح القوم .فأخذها جعفر
فقاتل هبا ،حىت إذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه فعقرها ،مث قاتل حىت قطعت ميينه ،فأخذ
128
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
الراية بيساره ،فقطعت يساره ،فاحتضن الراية حىت قتل ،وله ثالث وثالثون سنة ،رضي
اهلل عنهم .
مث أخذها عبد اهلل بن رواحة ،فتقدم هبا ،وهو على فرسه ،فجعل يستنزل نفسه ،ويقول :
لتننزلن أو لتكـرهنه أقسم باهلل لتنزلنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنه ياطاملا قد كنت مطمئنه
ما يل أراك تكرهني اجلنة؟
ويقول أيضاً :
هذا محام املوت قد صليت يا نفس إن مل تقتلي متويت
إن تفعلي فعلهما هديت ومامتنيت فقد أعطيت
مث نزل ،فأتاه فناداه ابن عم له بعرق من حلم ،فقال :شد هبذا صلبك ،فإنك لقيت يف
أيامك هذه ما لقيت ،فأخذها فانتهس منها هنسة مث مسع احلطمة يف ناحية الناس ،فقال :
وأنت يف الدنيا ؟ فألقاها من يده وتقدم ،فقاتل حىت قتل .
مث أخذ الراية خالد بن الوليد ،فدافع القوم وخاشى هبم ،مث احنازوا ،وانصرف الناس .
وقال ابن عمر :وجدنا ما بني صدر جعفر ومنكبه ،وما أقبل منه :تسعني جراحة .
وقال زيد بن أرقم :كنت يتيماً لعبد اهلل بن رواحة ،فخرج يب يف سفره ذلك مرديف على
حقيبة رحله ،فواهلل إنه ليسري ذات ليلة ،إذ مسعته وهو ينشد شعراً :
مسرية أربع بعد احلساء إذا أديتين ومحلت رحلي
وال أرجع إىل أهلي ورائي فشأنك فانعمي وخالك ذم
بأرض الشام مستنهي الثواء وجاء املسلمون وغادروين
إىل الرمحن منقطع اإلخاء وردك كل ذي نسب قريب
وال خنل أسافلها روائي هنالك ال أبايل طلع بعل
قال :فبكيت ،فخفقين بالسوط وقال :ما عليك يا لكع ،أن يرزقين اهلل الشهادة ،وترجع
بني شعبيت الرحل .
129
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
130
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
مث خرج بديل بن ورقاء يف نفر من خزاعة ،حىت قدموا على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
املدينة ،فأخربوه مبا أصيب منهم ،ومبظاهرة قريش بين بكر عليهم ،فقال رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم للناس :كأنكم بأيب سفيان قد جاءكم ليشد العقد ،ويزيد يف املدة ،بعثته
قريش ،وقد رهبوا للذي صنعوا .
مث قدم أبو سفيان ،فدخل على ابنته أم حبيبة ،فلما ذهب ليجلس على فراش رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم طوته عنه ،فقال :يا بنية ،ما أدري أرغبت يب عن هذا الفراش ،أم
رغبت به عين ؟ قالت :بل هو فراش رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وأنت مشرك جنس .
فقال :واهلل لقد أصابك بعدي شر .
مث خرج حىت أتى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فكلمه ،فلم يرد عليه شيئاً .مث ذهب إىل
أيب بكر ،فكلمه يف أن يكلم النيب صلى اهلل عليه وسلم ،فقال :ما أنا بفاعل ،مث أتى عمر ،
فقال :أنا أشفع لكم ؟ واهلل لو مل أجد إال الذر ،جلاهدتكم به .مث دخل على علي ،وعنده
فاطمة -واحلسن غالم يدب بني يديها -فقال :يا علي ! إنك أمس القوم يب رمحاً ،وإين
جئت يف حاجة ،فال أرجعن خائباً ،اشفع يل إىل حممد ؟ فقال :قد عزم رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم على أمر ،ما نستطيع أن نكلمه فيه .فقال لفاطمة :هل لك أن تأمري ابنك
هذا ،فيجري بني الناس ،فيكون سيد العرب إىل آخر الدهر ؟ فقالت :ما يبلغ ابين ذلك ،
وما جيري أحد على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم .فقال :يا أبا احلسن ،إين رأيت األمور
قد اشتدت علي ،فانصحين .قال :واهلل ما أعلم شيئا يغين عنك .ولكنك سيد بين كنانة،
فقم وأجر بني الناس ،مث احلق بأرضك .فقال :أو ترى ذلك مغنياً عين شيئا؟ قال :ال ،واهلل
ما أظنه ،ولكن ما أجد لك غري ذلك .فقام أبو سفيان يف املسجد ،فقال :يا أيها الناس ،
إين قد أجرت بني الناس .مث ركب بعريه .وانصرف عائداً إىل مكة ،فلما قدم على قريش
قالوا :ما وراءك ؟ قال :جئت حممداً فكلمته ،فواهلل ما رد علي شيئاً ،مث جئت ابن أيب
قحافة ،فلم أجد فيه خرياً .مث جئت عمر بن اخلطاب ،فوجدته أدىن العدو -يعين :أعدى
131
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
العدو -مث جئت علياً فوجدته ألني القوم ،وقد أشار علي بكذا وكذا ،ففعلت .قالوا :فهل
أجاز ذلك حممد؟ قال :ال ،قالوا :ويلك ،واهلل إن زاد الرجل على أن لعب بك .
وأمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الناس باجلهاز ،وقال :اللهم خذ العيون واألخبار عن
قريش ،حىت نبغتها يف بالدها .
فكتب حاطب بن أيب بلتعة إىل قريش كتاباً ،خيربهم فيه مبسري رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم ،ودفعه إىل سارة -موالة لبين عبد املطلب -فجعلته يف رأسها ،مث فتلت عليه قروهنا ،
وأتى اخلرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من السماء ،فأرسل رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم علياً والزبري إىل املرأة ،فأدركاها بـ روضة خاخ .فأنكرت ،ففتشا رحلها ،فلم جيدا
فيه شيئاً ،فهدداها ،فأخرجته من قرون رأسها ،فأتيا به رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،
فدعا حاطباً ؟ فقال :ما هذا يا حاطب؟ فقال :ال تعجل علي يا رسول اهلل ! واهلل إين ملؤمن
باهلل ورسوله ،ما ارتددت وال بدلت ،ولكين كنت امرءاً ملصقاً يف قريش ،لست من
أنفسهم ،ويل فيها أهل وعشرية وولد ،وليس فيهم قرابة حيموهنم ،وكان من معك هلم
قرابات حيموهنم ،فأحببت أن أختذ عندهم يداً ،قد علمت أن اهلل مظهر رسوله ،ومتم له
أمره .
فقال عمر :يا رسول اهلل ! دعين أضرب عنقه ،فإنه قد خان اهلل ورسوله ،وقد نافق " ،فقال
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :إنه شهد بدراً وما يدريك يا عمر ؟ لعل اهلل أطلع على أهل
بدر ،فقال :أعملوا ما شئتم ،فقد غفرت لكم" ،فذرفت عينا عمر ،وقال :اهلل ورسوله
أعلم .
مث مضى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وعمى اهلل األخبار عن قريش ،لكنهم على وجل ،
فكان أبو سفيان يتجسس ،هو وحكيم بن حزام ،وبديل بن ورقاء .
وكان العباس قد خرج قبل ذلك بأهله وعياله مسلماً مهاجراً ،فلقي رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم باجلحفة .فلما نزل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مر الظهران نزل عشاء ،فأمر
اجليش فأوقدوا النريان .فأوقد أكثر من عشرة آالف نار ،فركب العباس بغلة رسول اهلل
132
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
صلى اهلل عليه وسلم ،وخرج يلتمس ،لعله جيد بعض احلطابة ،أو أحداً خيرب قريشاً ،
ليخرجوا يستأمنون رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قبل أن يدخلها عنوة .قال :فواهلل إين
ألسري عليها ،إذ مسعت كالم أيب سفيان ،وبديل ،يرتاجعان ،يقول أبو سفيان :ما رأيت
كالليلة نرياناً قط وال عسكراً .قال :يقول بديل :هذه واهلل خزاعة ،محشتها احلرب .قال :
يقول أبو سفيان :خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نرياهنا .فقلت :أبا حنظلة !؟ فعرف
صويت ،فقال :أبا الفضل !؟ قلت :نعم ،قال :ما لك ،فداك أيب وأمي ؟ قال :قلت :
هذا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف الناس واصباح قريش واهلل ،قال :فما احليلة ؟ قلت :
واهلل لئن ظفر بك ليضربن عنقك ،فاركب يف عجز هذه البغلة ،حىت آتيه بك ،فأستأمنه
لك .فركب خلفي ،ورجع صاحباه ،فجئت به ،فكلما مررت بنار من نريان املسلمني ،
قالوا .من هذا ؟ فإذا رأونا قالوا :عم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على بغلته ،حىت
مررت بنار عمر ،فقال :من هذا ؟ وقام إيل فلما رأى أبا سفيان ،قال :عدو اهلل ؟ احلمد
هلل الذي أمكن اهلل منك بغري عقد وال عهد .
مث خرج يشتد حنو رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وركضت البغلة فسبقته ،واقتحمت
عنها ،فدخلت على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،ودخل عليه عمر .فقال :يا رسول
اهلل ! هذا أبو سفيان ،قد أمكن اهلل منه بغري عقد وال عهد ،فدعين أضرب عنقه .فقلت :يا
رسول اهلل ! إين قد أجرته .فلما أكثر عمر ،قال :مهالً يا عمر ،فواهلل لو كان من بين
عدي بن كعب ما قلت هذا .قال :مهالً يا عباس ! فواهلل إلسالمك كان أحب إيل من
إسالم اخلطاب لو أسلم ،وما يب إال أين عرفت أن إسالمك كان أحب إىل رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم من إسالم اخلطاب .فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :اذهب به يا عباس
إىل رحلك ،فإذا أصبحت فائتين به .ففعلت .مث غدوت به إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم .فقال :وحيك يا أبا سفيان ! أمل يأن لك أن تعلم :أن ال إله إال اهلل ؟ ،قال :بأيب
أنت وأمي ،ما أحلمك وأكرمك وأوصلك!! واهلل لقد ظننت أن لو كان باهلل غريه لقد أغىن
عين شيئاً بعد .قال :وحيك يا أبا سفيان ،أمل يأن لك أن تعلم :أين رسول اهلل ؟ ،قال :
133
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
بأيب أنت وأمي ،ما أحلمك وأكرمك وأوصلك .أما هذه ففي النفس حىت اآلن منها شئ .
فقال له العباس :وحيك .أسلم قبل أن يضرب عنقك .قال :فشهد شهادة احلق ،فأسلم .
فقال العباس :إن أبا سفيان رجل حيب الفخر ،فاجعل له شيئاً .قال :نعم من دخل دار أيب
سفيان فهو آمن ،ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ،ومن دخل املسجد فهو آمن .فلما ذهب
لينصرف قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :يا عباس ! أحبسه مبضيق الوادي عند خطم
اجلبل ،حىت متر به جنود اهلل فرياها ،قال :فخرجت حىت حبسته .ومرت القبائل على راياهتا
،حىت مر به رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف كتيبته اخلضراء -لكثرة احلديد وظهوره فيها-
فيها املهاجرون واألنصار -ال يرى منهم إال احلدق ،فقال :سبحان اهلل ! يا عباس ! من
هؤالء ؟ قلت :هذا رسول اهلل يف املهاجرين واألنصار ،قال :ما ألحد هبؤالء طاقة .
وكانت راية األنصار مع سعد بن عبادة ،فلما مر بأيب سفيان ،قال :اليوم يوم امللحمة ،
اليوم تستحل احلرمة .اليوم أذل اهلل قريشاً .فذكره أبو سفيان لرسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم ،فقال :كذب سعد .ولكن هذا اليوم يوم تعظم فيه الكعبة ،اليوم أعز اهلل قريشاً ،
مث نزع اللواء من سعد ،ودفعه إىل قيس ابنه .ومضى أبو سفيان ،فلما جاء قريشاً صرخ
بأعلى صوته :هذا حممد قد جاءكم مبا ال قبل لكم به ،فمن دخل دار أيب سفيان فهو آمن .
قالوا :قاتلك اهلل ،وما تغين عنا دارك ؟ قال :ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ،ومن دخل
املسجد فهو آمن ؟ فتفرق الناس إىل دورهم وإىل املسجد .
وسار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حىت دخل مكة من أعالها ،وأمر خالد بن الوليد،
فدخلها من أسفلها ،وقال :إن عرض لكم أحد من قريش فأحصدوهم حصداً ،حىت توافوين
على الصفا ،فما عرض هلم أحد إال أناموه .وجتمع سفهاء قريش مع عكرمة بن أيب جهل ،
وصفوان بن أمية ،وسهيل بن عمرو ،باخلندمة ليقاتلوا ،وكان محاس بن قيس يعد سالحاً
قبل جميء رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فقالت له امرأته :واهلل ما يقوم حملمد وأصحابه
شئ ،فقال :واهلل إين ألرجو أن أخدمك بعضهم ،مث قال :
هذا سالح كامل وأله إن يقبلوا اليوم فما يل عله
134
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
135
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وكان طوافه على راحلته ،ومل يكن حمرماً يومئذ ،فاقتصر على الطواف ،فلما أكمله دعا
عثمان بن طلحة ،فأخذ منه مفتاح الكعبة ،فأمر هبا ففتحت ،فدخلها .فرأى فيها الصور ،
ورأى صورة إبراهيم وإمساعيل يستقسمان باألزالم .فقال :قاتلهم اهلل ،واهلل إن استقسما هبا
قط ،وأمر بالصور فمحيت .
مث أغلق عليه الباب ،هو وأسامة ،وبالل ،فاستقبل اجلدار الذي يقابل الباب ،حىت إذا كان
بينه وبينه قدر ثالثة أذرع وقف وصلى هناك .مث دار يف البيت .وكرب يف نواحيه ،ووحد اهلل
.مث فتح الباب ،وقريش قد مألت املسجد صفوفاً ،ينظرون ماذا يصنع هبم ؟ فأخذ بعضاديت
الباب ،وهم حتته .فقال :ال إله إال اهلل وحده ال شريك له ،صدق وعده ،ونصر عبده ،
وأعز جنده ،وهزم األحزاب وحده -أال كل مأثرة ،أو مال ،أو دم ،فهو حتت قدمي هاتني ،
إال سدانة البيت ،وسقاية احلاج .أال وقتل اخلطإ شبه العمد -السوط والعصا -ففيه الدية
مغلظة ،مائة من اإلبل ،أربعون منها يف بطوهنا أوالدها .يا معشر قريش ! إن اهلل قد أذهب
عنكم خنوة اجلاهلية ،وتعظمها باآلباء .الناس من آدم ،وآدم من تراب ،مث تال هذه االية " :
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند
اهلل أتقاكم إن اهلل عليم خبري " .
مث قال " :يا معشر قريش ! ما ترون أين فاعل بكم ؟ قالوا :خرياً ،أخ كرمي .وابن أخ كرمي ،
قال :فإين أقول لكم كما قال يوسف إلخوته :ال تثريب عليكم اليوم ،اذهبوا فأنتم
الطلقاء" .
مث جلس يف املسجد ،فقام إليه علي -ومفتاح الكعبة يف يده -فقال :يا رسول اهلل ! امجع لنا
احلجابة مع السقاية .صلى اهلل عليك .فقال صلى اهلل عليه وسلم :أين عثمان بن طلحة ،
فدعي له ،فقال :هاك مفتاحك يا عثمان ! اليوم يوم بر ووفاء .
وأمر بالالً أن يصعد على الكعبة فيؤذن -وأبو سفيان بن حرب ،وعتاب بن أسيد ،واحلارث
بن هشام ،وأشراف قريش جلوس بفناء الكعبة -فقال عتاب :لقد أكرم اهلل أسيداً أن ال
يكون مسع هذا .فقال احلارث :أما واهلل لو أعلم أنه حق التبعته .فقال أبو سفيان :ال أقول
136
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
شيئاً ،لو تكلمت ألخربت عين هذه احلصباء .فخرج عليهم النيب صلى اهلل عليه وسلم ،
فقال :قد علمت الذي قلتم ،مث ذكر ذلك هلم .فقال احلارث وعتاب :نشهد أنك رسول
اهلل ،واهلل ما اطلع على هذا أحد كان معنا ،فنقول :أخربك .
مث دخل صلى اهلل عليه وسلم دار أم هاىنء ،فاغتسل ،وصلى مثان ركعات ،صالة الفتح ،
وكان أمراء اإلسالم إذا افتتحوا بلداً صلوا هذه الصالة .
وملا استقر الفتح :أمن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الناس كلهم ،إال تسعة نفر ،فإنه أمر
بقتلهم ،وإن وجدوا حتت أستار الكعبة :عبد اهلل بن أيب سرح ،وعكرمة بن أيب جهل ،
وعبد العزى بن خطل ،واحلارث بن نفيل ،ومقيس بن صبابة ،وهبار بن األسود ،وقينتان
البن خطل ،وسارة موالة لبعض بين عبد املطلب .
فأما ابن أيب سرح :فجاء فاراً إىل عثمان ،فاستأمن له رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،
فقبل منه ،بعد أن أمسك عنه ،رجاء أن يقوم إليه بعض الصحابة فيقتله .
وأما عكرمة :فاستأمنت له امرأته بعد أن هرب ،وعادت به .فأسلم وحسن إسالمه .
وأما ابن خطل ،ومقيس ،واحلارث ،وإحدى القينتني :فقتلوا .
وأما هبار :ففر مث جاء فأسلم ،وحسن إسالمه .
واستؤمن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لسارة ،وإلحدى القينتني ،فأسلمتا .
فلما كان الغد من يوم الفتح ":قام رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف الناس خطيباً ،فحمد
اهلل وأثىن عليه ؟ مث قال :أيها الناس ! إن اهلل حرم مكة يوم خلق السموات واألرض [فهي
حرام حبرمة اهلل إىل يوم القيامة] ،فال حيل المرىء يؤمن باهلل واليوم اآلخر :أن يسفك هبا
دماً ،أو يعضد هبا شجرة .فإن أحد ترخص بقتال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقولوا له
:إن اهلل أذن لرسوله ،ومل يأذن لك .وإمنا أحلت يل ساعة من هنار . "...
وهم فضالة بن عمري بن امللوح الليثي أن يقتل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وهو يطوف
.فلما دنا منه ،قال :أفضالة؟ قال :نعم فضالة يا رسول اهلل ! قال :ماذا حتدث به نفسك
؟ ،قال :ال شئ ،كنت أذكر اهلل ،فضحك صلى اهلل عليه وسلم ،مث قال :استغفر اهلل ،مث
137
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وضع يده على صدره ،فسكن قلبه .وكان فضالة يقول :واهلل ما رفع يده عن صدري حىت
ما من خلق اهلل شئ أحب إيل منه ،قال فضالة :فرجعت إىل أهلي ،فمررت بامرأة كنت
أحتدث إليها ،فقالت :هلم إىل احلديث .فقال :ال .وانبعث فضالة يقول :
يأىب اإلله عليك واإلسالم قالت :هلم إىل احلديث فقلت :ال
بالفتح يوم تكسر األصنام لو قد رأيت حممداً وقبيله
والشرك يغشى وجهه اإلظالم لرأيت دين اهلل أضحى بيناً
وفر يومئذ صفوان بن أمية ،وعكرمة بن أيب جهل ،فاستأمن عمري بن وهب رسول اهلل
لصفوان ،فلحقه ،وهو يريد أن يركب البحر فرده .
واستأمنت أم حكيم بنت احلارث بن هشام لزوجها عكرمة ،فلحقت به باليمن فردته .
مث أمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم متيم بن أسيد اخلزاعي ،فجدد أنصاب احلرم .
وبث صلى اهلل عليه وسلم سراياه إىل األوثان اليت كانت حول مكة ،فكسرت كلها ،منها :
الالت ،والعزى ،ومناة .
ونادى مناديه مبكة :من كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر :فال يدع يف بيته صنماً إال كسره .
يف عشرين فارساً ،حىت انتهى إليها .وعندها سادهنا ،فقال :ما تريد؟ قال :هدمها ،قال :
أنت وذاك .فأقبل سعد ميشي إليها ،وخترج إليه امرأة عريانة سوداء ،ثائرة الرأس ،تدعو
بالويل ،وتضرب صدرها .فقال هلا السادن .مناة دونك بعض عصاتك .فضرهبا سعد
فقتلها ،وأقبل إىل الصنم فهدمه ،ومل جيدوا يف خزانتها شيئاً .
غزوة حنين :
قال ابن إسحاق :ملا مسعت هوازن بالفتح ،مجعها مالك بن عوف النصري مع هوازن ثقيف
كلها .
فلما أمجع مالك السري إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ساق مع الناس أمواهلم ونساءهم
وذراريهم ،فلما نزل بأوطاس ،اجتمعوا إليه .وفيهم دريد بن الصمة اجلشمي ،وهو شيخ
كبري ،ليس فيه إال رأيه ،وكان شجاعاً جمرباً .فقال :بأي واد أنتم ؟ قالوا :بأوطاس .قال
:نعم جمال اخليل ،ال حزن ضرس ،وال سهل دهس .ما يل أمسع رغاء البعري ،وهناق احلمري ،
وبكاء الصغري ،ويعار الشاء؟ قالوا :ساق مالك مع الناس أبناءهم ونساءهم وأمواهلم .قال :
أين مالك ؟ فدعي له ،فقال :إنك قد أصبحت رئيس قومك ،وإن هذا يوم له ما بعده من
األيام ،فلم فعلت هذا ؟ قال :أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ،ليقاتل عنهم.
قال :راعي ضأن واهلل ،وهل يرد املنهزم شئ؟ إهنا إن كانت لك مل ينفعك إال رجل بسيفه
ورحمه ،وإن كانت عليك :فضحت يف أهلك ومالك .مث قال :ما فعلت كعب وكالب ؟
قالوا :مل يشهدها منهم أحد .قال :غاب احلد واجلد ،لو كان يوم عالء ورفعة مل يغيبوا،
ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكالب ،فمن شهدها ؟ قالوا :عمرو بن عامر ،
وعوف بن عامر .قال :ذانك اجلذعان من عامر ،ال ينفعان وال يضران .يا مالك ! إنك مل
تصنع بتقدمي البيضة -بيضة هوازن -إىل حنور اخليل شيئاً ،ارفعهم إىل ممتنع بالدهم ،وعليا
قومهم ،مث الق الصباء على متون اخليل .فإن كانت لك :حلق بك من وراءك ،وإن كانت
عليك ألفاك ذاك وقد أحرزت أهلك ومالك .
139
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
قال .واهلل ال أفعل ،إنك قد كربت وكرب عقلك ،واهلل لتطيعنين يا معشر هوازن ،أو
ألتكئن على هذا السيف حىت خيرج من ظهري .وكره أن يكون لدريد فيها ذكر ،أو رأي .
قالوا :أطعناك ،فقال دريد :هذا يوم مل أشهده ،ومل يفتين .
أخب فيها وأضع ياليتين فيها جذع
كأهنا شاة صدع أقود وطفاء الزمع
مث قال مالك :إذ رأيتموهم ،فاكسروا جفون سيوفكم ،مث شدوا شدة رجل واحد .مث
بعث عيوناً من رجاله ،فأتوه وقد تفرقت أوصاهلم من الرعب واهللع .فقال هلم :ويلكم ،
ما شأنكم ؟ قالوا :رأينا رجاالً بيضاً على خيل بلق ،واهلل ما متاسكنا أن أصابنا ما ترى ،
فواهلل ما رده ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد .وملا مسع هبم رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم .بعث إليهم عبد اهلل بن حدرد األسلمي .وأمره أن يداخلهم حىت يعلم علمهم .
فانطلق .فداخلهم حىت علم ما هم عليه ،فأتى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فأخربه اخلرب
.
فلما أراد املسري ،ذكر له :أن عند صفوان بن أمية أدراعاً وسالحاً -وهو يومئذ مشرك،-
فقال له :يا أبا أمية ! أعرنا سالحك هذا ،نلق فيه عدونا غداً ،فقال :أغصباً يا حممد ؟ قال
:بل عارية مضمونة ،حىت نؤديها إليك ،فأعطاه مائة درع مبا يكفيها من السالح .
فخرج صلى اهلل عليه وسلم ،ومعه ألفان من أهل مكة ،وعشرة آالف من أصحابه الذين
فتح اهلل هبم مكة ،فكانوا اثين عشر ألفاً .واستعمل عتاب بن أسيد على مكة .فلما استقبلوا
وادي حنني ،احندروا يف واد من أودية هتامة أجوف يف عماية الصبح .قال جابر :وكانوا قد
سبقونا إليه ،فكمنوا يف شعابه ومضايقه ،قد هتيئوا .فواهلل ما راعنا إال الكتائب ،قد شدوا
علينا شدة رجل واحد ،فانشمر الناس راجعني ال يلوي أحد على أحد .واحناز رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم ذات اليمني ،مث قال :أيها الناس ! أنا رسول اهلل ،أنا حممد بن عبد اهلل،
وبقي معه نفر من املهاجرين ،وأهل بيته ،فاجتلد الناس فواهلل ما رجعت الناس من هزميتهم
حىت وجدوا األسرى عند رسول اهلل .
140
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وكانوا حني رأوا كثرهتم قالوا :لن نغلب اليوم عن قلة ،فوقع هبم ما وقع من ابتالء اهلل
لقوهلم ذلك .
قال ابن إسحق :وملا وقعت اهلزمية تكلم رجال من جفاة أهل مكة مبا يف أنفسهم من الضغن
،فقال أبو سفيان :ال تنتهي هزميتهم دون البحر ،وصرخ جبلة بن احلنبل :أال بطل السحر
اليوم .فقال له أخوه صفوان بن أمية -وكان بعد مشركاً : -اسكت ،فض اهلل فاك ،فواهلل
ألن يرييب رجل من قريش أحب إيل من أن يربين رجل من هوازن .
وذكر ابن إسحاق عن شيبة بن عثمان احلجيب ،قال :ملا كان يوم الفتح قلت :أسري مع
قريش إىل هوازن ،لعلي أصيب من حممد غرة .فأكون أنا الذي قمت بثأر قريش كلها،
وأقول :لو مل يبق من العرب والعجم أحد إال تبعه ،ما اتبعته أبداً .فلما اختلط الناس ،
اقتحم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن بغلته وأصلت السيف ،فدنوت أريد ما أريد ،
ورفعت سيفي حىت كدت أسوره .فرفع يل شواظ من نار كالربق ،كاد أن ميحشين .
فوضعت يدي على بصري خوفاً عليه ،فالتفت إيل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فناداين
:يا شيب ،أدن مين ،فدنوت منه ،فمسح صدري .مث قال :اللهم أعذه من الشيطان ،فو
اهلل هلو كان ساعئذ أحب إيل من مسعي وبصري ونفسي .مث قال :أدن ،فقاتل ،فتقدمت
أمامه أضرب بسيفي .اهلل يعلم أين أحب أن أقيه بنفسي .ولو لقيت تلك الساعة أيب ألوقعت
به السيف .فجعلت ألزمه فيمن لزمه ،حىت تراجع الناس ،وكروا كرة رجل واحد .وقربت
بغلة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فاستوى عليها .وخرج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
يف أثرهم حىت تفرقوا [يف كل وجه] ،ورجع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل معسكره ،
فدخل خباءه ،فدخلت عليه ،ما دخل عليه غريي ،حباً لرؤية وجهه ،وسروراً به ،فقال :
يا شيب ! الذي أراد اهلل لك ،خري من الذي أردت لنفسك .
قال العباس :إين ملع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم -وكنت امرءاً جسيماً شديد الصوت-
فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم -حني رأى ما رأى من الناس : -إيل أيها الناس ،أنا
النيب ال كذب ،أنا ابن عبد املطلب ،فلم أر الناس يلوون على شئ ،فقال :أي عباس ،
141
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
اهتف بأصحاب السمرة ،فناديت :يا أصحاب السمرة ! يا أصحاب سورة البقرة ! فكان
الرجل يريد أن يرد بعريه فال يقدر ،فيأخذ سالحه ،ويقتحم عن بعريه ،وخيلي سبيله ،ويؤم
الصوت ،فأتوا من كل ناحية :لبيك ،لبيك ،حىت إذا اجتمع إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم منهم مائة استقبلوا الناس ،فاقتتلوا ،فكانت الدعوة أوالً :يا لألنصار ،يا لألنصار ،مث
خلصت الدعوة :يا لبين احلارث بن اخلزرج ،وكانوا صرباً عند احلرب .
ويف صحيح مسلم " :مث أخذ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حصيات ،فرمى هبا وجوه
القوم ،مث قال :اهنزموا ،ورب حممد ،فما هو إال أن رماهم ،فما زلت أرى حدهم كليالً ،
وأمرهم مدبراً" .
وملا اهنزم املشركون أتوا الطائف ،ومعهم مالك بن عوف .وعسكر بعضهم بأوطاس .
وبعث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف أثر من توجه حنو أوطاس أبا عامر األشعري ،
فأدرك بعضهم فناوشوه القتال ،فهزمهم اهلل تعاىل .وقتل أبو عامر ،فأخذ الراية أبو موسى
األشعري ،فلما بلغ اخلرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،قال :اللهم أغفر أليب عامر وأهله
،وأجعله يوم القيامة فوق كثري من خلقك .
[وأمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بالسيب والغنائم أن جتمع ،وكان السيب ستة آالف رأس
،واإلبل :أربعة وعشرين ألفاً ،والغنم :أربعني ألف شاة ،وأربعة آالف أوقية فضة ،
فاستأىن هبم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم] .
وأمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن يقدموا موالني مسلمني ،بضع عشرة ليلة .مث بدأ
باألموال فقسمها .وأعطى املؤلفة قلوهبم أول الناس .فأعطى أبا سفيان مائة من اإلبل ،
وأربعني أوقية .وأعطى ابنه يزيد مثل ذلك وأعطى ابنه معاوية مثل ذلك .وأعطى حكيم بن
حزام مائة من اإلبل ،مث سأله مائة أخرى فأعطاه ،وذكر ابن إسحاق أصحاب املائة
وأصحاب اخلمسني .
مث أمر زيد بن ثابت بإحصاء الغنائم والناس ،مث فضها على الناس .
142
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
قال ابن إسحاق :حدثين عاصم بن عمر بن قتادة عن حممود بن لبيد عن أيب سعيد اخلدري
رضي اهلل عنه ،قال " :ملا أعطى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من أعطى من تلك العطايا
يف قريش وقبائل العرب ،ومل يكن يف األنصار منها شئ ،وجدت األنصار يف أنفسهم ،حىت
كثرت منهم القالة ،حىت قال قائلهم :لقي واهلل رسول اهلل قومه .فدخل عليه سعد بن عبادة
،فذكر له ذلك ؟ فقال :فأين أنت من ذلك يا سعد؟ ،قال :يا رسول اهلل ! ما أنا إال من
قومي .قال :فامجع يل قومك يف هذه احلظرية ،فجاء رجال من املهاجرين ،فرتكهم فدخلوا
.وجاء آخرون فردهم ،فلما اجتمعوا أتاه سعد فأخربه .فأتاهم رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم فحمد اهلل وأثىن عليه مبا هو أهله ،مث قال :يا معشر األنصار ،ما مقالة بلغتين عنكم
؟ وجدة وجدمتوها يف أنفسكم ؟ أمل آتكم ضالالً ،فهداكم اهلل يب ؟ وعالة فأغناكم اهلل يب ؟
وأعداء فألف اهلل بني قلوبكم يب ،قالوا :اهلل ورسوله أمن وأفضل .مث قال :أال جتيبوين ،يا
معشر األنصار؟ .
قالوا :مباذا جنيبك يا رسول اهلل ؟ وهلل ولرسوله املن والفضل .
قال :أما واهلل ،لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم ،أتيتنا مكذباً فصدقناك ،وخمذوالً
فنصرناك ،وطريداً فآويناك ،وعائالً فآسيناك .أوجدمت علي يا معشر األنصار! يف أنفسكم
يف لعاعة من الدنيا ،تألفت هبا قوما ليسلموا ،ووكلتكم إىل إسالمكم ؟ أال ترضون يا معشر
األنصار :أن يذهب الناس بالشاء والبعري ،وترجعون أنتم برسول اهلل إىل رحالكم ؟ فوالذي
نفس حممد بيده ! ملا تنقلبون به خري مما ينقلبون به ،ولوال اهلجرة لكنت امرءاً من األنصار .
ولو سلك الناس شعباً ووادياً ،وسلكت األنصار شعباً ووادياً ،لسلكت شعب األنصار
وواديها .األنصار شعار ،والناس دثار اللهم أرحم األنصار ،وأبناء األنصار ،وأبناء أبناء
األنصار .قال :فبكى القوم ،حىت أخضلوا حلاهم ،وقالوا :رضينا برسول اهلل قسماً وحظاً
" .مث انصرف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وتفرقوا.
وقدمت الشيماء بنت احلارث -أخت رسول اهلل صلى اهلل عليه وآله وسلم من الرضاعة-
فقالت :يا رسول اهلل ! أنا أختك .فبسط هلا رداءه .وأجلسها عليه .وقال :إن أحببت
143
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
فعندي مكرمة ،وإن أحببت أن أمتعك وترجعي إىل قومك .فقالت :بل متتعين ،وتردين إىل
قومي .ففعل وأسلمت .فأعطاها ثالثة أعبد وجارية ونعماً وشاء .
ملا أمت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم واملسلمون معه فتح مكة ؟ اقتضت حكمة اهلل أن
أمسك قلوب هوازن عن اإلسالم ،لتكون غنائمهم شكراناً ألهل الفتح ،وليظهر حزبه على
الشوكة اليت مل يلق املسلمون مثلها ،فال يقاومهم أحد بعد من العرب .وأذاق املسلمني أوالً
مرارة الكسرة ،مع قوة شوكتهم ،ليطامن رؤوساً رفعت بالفتح ،ومل تدخل حرمه كما
دخله رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم واضعاً رأسه ،منحنياً على فرسه ،حىت إن ذقنه ليكاد
ميس قربوس سرجه تواضعاً لربه .وليبني سبحانه -ملن قال :لن نغلب اليوم عن قلة -أن
النصر إمنا هو من عنده سبحانه ،وأن من خيذله فال ناصر له غريه .وأنه سبحانه الذي توىل
نصر دينه ،ال كثرتكم .فلما انكسرت قلوهبم ،أرسل إليها خلع اجلرب مع بريد النصر " مث
أنزل اهلل سكينته على رسوله وعلى املؤمنني وأنزل جنودا مل تروها " ،وقد اقتضت حكمته
أن خلع النصر إمنا تفيض على أهل االنكسار " ونريد أن منن على الذين استضعفوا يف األرض
وجنعلهم أئمة وجنعلهم الوارثني " .
غزوة الطائف :
وملا أراد املسري إىل الطائف -وكانت يف شوال سنة مثان -بعث الطفيل بن عمرو إىل ذي
الكفني -صنم عمرو بن محمة الدوسي -يهدمه ،وأمره أن يستمد قومه ويوافيه بالطائف .
فخرج سريعاً فهدمه وجعل حيثو النار يف وجهه ،ويقول :
ميالدنا أكرب من ميالدكا يا ذا الكفني لست من عبادكا
إين حشوت النار يف فؤادكا
واحندر معه من قومه أربعمائة سراعاً ،فوافوا النيب صلى اهلل عليه وسلم بالطائف -بعد مقدمه
بأربعة أيام -وقدم بدبابة ومنجنيق.
قال ابن سعد :ملا اهنزموا من أوطاس دخلوا حصنهم ،وهتيؤوا للقتال ،وسار رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم ،فنزل قريباً من حصن الطائف ،وعسكر هناك .فرموا املسلمني بالنبل
رمياً شديداً ،كأنه رجل جراد ،حىت أصيب ناس من املسلمني جبراحة .وقتل منهم اثنا عشر
رجالً ،فارتفع صلى اهلل عليه وسلم إىل موضع مسجد الطائف اليوم ،فحاصرهم مثانية عشر
145
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
يوماً .ونصب عليهم املنجنيق -وهو أول من رمى به يف اإلسالم -وأمر بقطع أعناب ثقيف .
فوقع الناس فيها يقطعون ،فسألوه :أن يدعها هلل وللرحم ،فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم :فإين أدعها هلل وللرحم .
ونادى مناديه :أميا عبد نزل من احلصن ،وخرج إلينا ،فهو حر ،فخرج منهم بضعة عشر
رجالً ،فيهم أبو بكرة بن مسروح ،فأعتقهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،ودفع كل
رجل منهم إىل رجل من املسلمني ميونه .
ومل يؤذن يف فتح الطائف ،فأمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عمر بن اخلطاب رضي اهلل
عنه فأذن بالرحيل ،فضج الناس من ذلك ،وقالوا :نرحل ،ومل يفتح علينا؟ [فقال رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم :اغدوا على القتال ،فغدوا ،فأصاهبم جراحات] ،فقال رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم :إنا قافلون غداً إن شاء اهلل ،فسروا بذلك ،وجعلوا يرحلون ورسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم يضحك .
فلما ارحتلوا واستقلوا " ،قال :قولوا :آيبون ،تائبون ،عابدون ،لربنا حامدون" .
وقيل :يا رسول اهلل ! ادع اهلل على ثقيف " ،فقال :اللهم أهد ثقيفاً وائت هبم" .
مث خرج إىل اجلعرانة ،فدخل منها إىل مكة حمرماً بعمرة فقضاها ،مث رجع إىل املدينة .
فصل
قال ابن إسحاق :وقدم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من تبوك يف رمضان ،وقدم عليه يف
ذلك الشهر وفد ثقيف .
وكان من حديثهم :أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ملا انصرف عنهم :اتبع أثره عروة بن
مسعود ،حىت أدركه قبل أن يدخل املدينة .فأسلم ،وسأله :أن يرجع إىل قومه باإلسالم ،
فقال له رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :إن فيهم خنوة االمتناع ،فقال :يا رسول اهلل ! أنا
أحب إليهم من أبكارهم .وكان فيهم كذلك حمبباً مطاعاً .
فخرج يدعوهم إىل اإلسالم ،رجاء أن ال خيالفوه ،ملنزلته فيهم .فلما أشرف هلم على علية
-وقد دعاهم إىل اإلسالم -رموه بالنبل من كل وجه ،فأصابه سهم فقتله ،فقيل له :ما ترى
146
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
من دمك ؟ فقال :كرامة أكرمين اهلل هبا ،وشهادة ساقها اهلل إيل ،فليس يف إال ما يف
الشهداء الذين قتلوا يف سبيل اهلل مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قبل أن يرحتل عنكم ،
فادفنوين معهم .فدفنوه معهم ،فزعموا أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال :إن مثله يف
قومه كمثل صاحب يس يف قومه .
مث أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهراً ،مث ائتمروا بينهم ،ورأوا أهنم ال طاقة هلم حبرب من
حوهلم من العرب ،وقد أسلموا وبايعوا ،فأمجعوا أن يرسلوا إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم رجالً ،كما أرسلوا عروة .
فكلموا عبد ياليل بن عمرو ،وعرضوا عليه ذلك ،فأىب ،وخشي أن يصنع به كما صنع
بعروة ،فقال :لست فاعالً حىت ترسلوا معي رجاالً ،فأمجعوا أن يرسلوا معه رجلني من
األحالف وثالثة من بين مالك ،منهم عثمان بن أيب العاص .فلما دنوا من املدينة ونزلوا قناة
،ألفوا هبا املغرية بن شعبة ،فاشتد ليبشر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم [بقدومهم ،فلقيه
أبو بكر ،فقال :أقسمت عليك باهلل ال تسبقين إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم] ،حىت
أكون أنا أحدثه .ففعل ،مث خرج املغرية إىل أصحابه ،فروح الظهر معهم .وعلمهم كيف
حييون رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم .فلم يفعلوا إال بتحية اجلاهلية ،فضرب عليهم قبة يف
ناحية املسجد .
وكان فيما سألوه :أن يدع هلم الالت ال يهدمها ثالث سنوات ،فأىب .فما برحوا يسألونه
سنة ،فيأىب ،حىت سألوه شهراً واحداً ،فأىب عليهم أن يدعها شيئاً مسمى .وإمنا يريدون
بذلك -فيما يظهرون -أن يسلموا برتكها من سفهائهم ونسائهم ،ويكرهون أن يروعوهم
هبدمها ،حىت يدخلهم اإلسالم ،فأىب إال أن يبعث أبا سفيان بن حرب واملغرية بن شعبة
يهدماهنا .
فلما أسلموا أمر عليهم عثمان بن أيب العاص -وكان من أحدثهم سناً -وذلك :أنه كان من
أحرصهم على التفقه يف الدين ،وتعلم القرآن .
147
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
فلما توجهوا راجعني بعث معهم أبا سفيان واملغرية بن شعبة ،حىت إذا قدموا الطائف أراد
املغرية :أن يقدم أبا سفيان ،فأىب ،وقال :ادخل أنت على قومك .وأقام أبو سفيان مباله
بذي اهلدم .فلما دخل املغرية عالها يضرهبا باملعول .وقام دونه بنو معتب ،خشية أن يرمى
،كما فعل بعروة ،وخرج نساء ثقيف حسراً يبكني عليها ،فلما هدمها أخذ ماهلا وحليها
وأرسل به إىل أيب سفيان .
148
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وملا قدم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم املدينة ،ودخلت سنة تسع ،بعث املصدقني يأخذون
الصدقات من األعراب .
وفيها :بعث علياً رضي اهلل عنه إىل صنم طي ليهدمه ،فشنوا الغارة على حملة آل حامت مع
الفجر ،فهدموه ،ومألوا أيديهم من السيب والنعم والشاء .ويف السيب سفانة أخت عدي بن
حامت ،وهرب عدي إىل الشام .ووجدوا يف خزانته ثالثة أسياف ،وثالثة أدرع .وقسم علي
الغنائم يف الطريق ،ومل يقسم السيب من آل حامت حىت قدم هبم املدينة .
قال عدي :ما كان رجل من العرب أشد كراهة لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مين ،حني
مسعت به ،وكنت رجالً شريفاً نصرانياً ،وكنت أسري يف قومي باملرباع ،وكنت يف نفسي
على دين ،فقلت لغالم يل راع إلبلي :اعدد يل من إبلي أمجاالً دلالً مساناً ،فإذا مسعت
جبيش حممد قد وطىء هذه البالد فآذين .فأتاين ذات غداة فقال :ما كنت صانعاً إذا غشيتك
خيل حممد فاصنع اآلن ،فإين قد رأيت رايات ،فسألت عنها ؟ فقالوا :هذه جيوش حممد .
قلت :قرب يل أمجايل .فاحتملت بأهلي وولدي ،مث قلت :احلق بأهل ديين من النصارى
بالشام .وخلفت بنتاً حلامت يف احلاضرة .فلما قدمت الشام أقمت هبا ،وختالفين خيل رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فتصيب ابنة حامت ،فقدم هبا على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
يف سبايا من طيء .
وقد بلغ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم هريب إىل الشام ،فمر هبا ،فقالت :يا رسول اهلل !
غاب الوفد ،وانقطع الوالد ،وأنا عجوز كبرية ،ما يب من خدمة ،فمن علي ،من اهلل
عليك .فقال :من وافدك ؟ ،قالت :عدي بن حامت ،قال :الذي فر من اهلل ورسوله ؟
-وكررت عليه القول ثالثة أيام -قالت :فمن علي ،وسألته احلمالن ،فأمر هلا به وكساها
ومحلها وأعطاها نفقة .
فأتتين ،فقالت :لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها .ائته راغباً أو راهباً ،فقد أتاه فالن
فأصاب منه ،وأتاه فالن وأصاب منه .قال :فأتيته ،وهو جالس يف املسجد ،فقال القوم :
هذا عدي بن حامت -وجئت بغري أمان وال كتاب -فأخذ بيدي -وكان قبل ذلك قال :إين
149
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
ألرجو أن جيعل اهلل يده يف يدي -فقام إيل ،فلقيته امرأة ومعها صيب ،فقاال :إن لنا إليك
حاجة ،فقام معهما حىت قضى حاجتهما .مث أخذ بيدي حىت أتى داره ،فألقت له الوليدة
وسادة .فجلس عليها ،وجلست بني يديه .فحمد اهلل وأثىن عليه ،مث قال :ما يفرك ؟ أيفرك
أن تقول ال إله إال اهلل ؟ فهل تعلم من إله سوى اهلل ؟ فقلت :ال ،فتكلم ساعة .مث قال :
أيفرك أن يقال :اهلل أكرب ؟ وهل تعلم شيئاً أكرب من اهلل ؟ قلت :ال ،قال :فإن اليهود
مغضوب عليهم ،والنصارى ضالون ،فقلت :فإين حنيف مسلم .فرأيت وجهه ينبسط فرحاً
.
مث أمر يب فأنزلت عند رجل من األنصار ،وجعلت آتيه طريف النهار .فبينا أنا عنده ،إذ جاءه
قوم يف ثياب من صوف من هذه النمار ،فصلى مث قام .فحث بالصدقة عليهم ،وقال":أيها
الناس ،أرضخوا من الفضل ولو بصاع ،ولو بنصف صاع ،ولو بقبضة ،ولو ببعض قبضة ،
يقي أحدكم وجهه حر جهنم -أو النار -ولو بتمرة ،ولو بشق مترة .فإن مل جتدوا فبكلمة
طيبة ،فإن أحدكم الق اهلل ،فقائل له ما أقول لكم :أمل أجعل لك ماالً وولداً ؟ فيقول :
بلى ،فيقول :أين ما قدمت لنفسك ؟ فينظر قدامه وخلفه ،وعن ميينه وعن مشاله ،فال جيد
شيئاً يقي به وجهه حر جهنم ،ليق أحدكم وجهه النار ،ولو بشق مترة ،فإن مل جيد فبكلمة
طيبة .فإين ال أخاف عليكم الفاقة .فإن اهلل ناصركم ومعطيكم ،حىت تسري الظعينة ما بني
يثرب واحلرية ،ما ختاف على مطيتها السرق" .
فجعلت أقول :فأين لصوص طيء .
فهل لك فيما قلت؟ وحيك هل لكا؟ أال أبلغا عين جبريا رسالة
على أي شئ غري ذلك دلكا؟ فبني لنا إن كنت لست بفاعل
عليه ومل تلف عليه أخاً لكا على خلق مل تلف أماً وال أباً
وال قائل إما عثرت :لعا لكا فإن أنت مل تفعل فلست بآسف
وأهنلك املأمون منها وعلكا سقاك هبا املأمون كأساً روية
فلما أتت جبرياً كره أن يكتمها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فقال رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم :سقاك هبا املأمون ،صدق واهلل ،وإنه لكذوب ،أنا املأمون ،وملا مسع :على
خلق مل تلف أماً وال أباً عليه ،قال :أجل مل يلف عليه أباه وال أمه .
مث قال جبري بن زهري :
تلوم عليها باطالً وهي أحزم؟ من مبلغ كعباً فهل لك يف اليت
فتنجو إذا كان النجاء وتسلم إىل اهلل-ال العزى وال الالت-وحده
من الناس إال طاهر القلب مسلم لدى يوم ال ينجو وليس مبفلت
ودين أيب سلمى علي حمرم فدين زهيـ ــر-وهو ال شئ-دينه
فلما بلغ كعباً ضاقت عليه األرض ،وأشفق على نفسه ،فلما مل جيد من شئ بداً ،قال
قصيدته اليت ميدح فيها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،مث خرج حىت قدم املدينة .فنزل على
رجل كان بينه وبينه معرفة .فغدا به إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فذكر يل أنه قام
فجلس إليه -وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ال يعرفه -فقال :يا رسول اهلل ! إن
كعب بن زهري قد جاء ليستأمنك تائباً مسلماً ،فهل أنت قابل منه ،إن أنا جئتك به ؟ قال :
نعم ،قال :أنا كعب بن زهري .
قال ابن إسحاق :فحدثين عاصم بن عمر بن قتادة :أنه وثب عليه رجل من األنصار .فقال
:يا رسو ل اهلل ! دعين وعدو اهلل أضرب عنقه .فقال :دعه عنك ،فقد جاء تائباً نازعاً
عما كان عليه ،فغضب كعب على هذا احلي من األنصار ،وذلك أنه مل يتكلم فيه رجل من
املهاجرين إال خبري ،فقال قصيدته اليت أوهلا :
151
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
152
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
واستخلف على املدينة حممد بن مسلمة األنصاري ،فلما سار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
،ختلف عبد اهلل بن أيب ومن كان معه ،وختلف نفر من املسلمني من غري شك وال ارتياب
،منهم الثالثة -كعب بن مالك ،وهالل بن أمية ،ومرارة بن الربيع -وأبو خيثمة الساملي ،
وأبو ذر ،مث حلقاه .وشهدها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف ثالثني ألفاً من الناس ،
واخليل عشرة آالف فرس ،وأقام هبا عشرين ليلة يقصر الصالة ،وهرقل يومئذ حبمص .
قال ابن إسحاق " :وملا خرج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،خلف علياً على أهله .فقال
املنافقون :ما خلفه إال استثقاالً له ،وختففاً منه ،فأخذ سالحه وحلق به باجلرف .فقال :يا
نيب اهلل ! زعم املنافقون أنك ما خلفتين إال استثقاالً .فقال :كذبوا ،ولكين خلفتك ملا
تركت ورائي ،فارجع فاخلفين يف أهلي وأهلك ،أو ال ترضى أن تكون مين مبنزلة هارون
من موسى ؟ إال أنه ال نيب بعدي" ،فرجع .
ودخل أبو خيثمة إىل أهله يف يوم حار ،بعدما سار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أياماً ،
فوجد امرأتني له يف عريشني هلما يف حائط ،قد رشت كل واحدة منهما عريشها ،وبردت
له ماء ،وهيأت له طعاماً .فلما دخل قام على باب العريش ،فنظر إىل امرأتيه وما صنعتا ،
فقال :رسول اهلل يف الضح ،والريح واحلر ،وأبو خيثمة يف ظل بارد ،وطعام مهيأ ،وامرأة
حسناء ؟ ما هذا بالنصف ،مث قال .واهلل ال أدخل عريش واحدة منكما حىت أحلق برسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فهيئا يل زاداً ،ففعلتا .مث قدم ناضحه فارحتله ،مث خرج حىت
أدرك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حني نزل تبوك .
وقد كان عمري بن وهب اجلمحي أدرك أبا خيثمة يف الطريق فرتافقا ،حىت إذا دنوا من تبوك
،قال أبو خيثمة له :إن يل ذنباً ،فال عليك أن تتخلف عين حىت آيت رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم ،ففعل ،حىت إذا دنا من رسول اهلل ،قال الناس :هذا راكب على الطريق مقبل
،فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :كن أبا خيثمة ،قالوا :يا رسول اهلل ! هو واهلل أبو
خيثمة .فلما أناخ أقبل فسلم على رسول اهلل ،فقال له :أوىل لك يا أبا خيثمة ،فأخربه اخلرب
،فقال له خرياً ،ودعا له .
154
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وقد "كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،ملا مر باحلجر -من ديار مثود -قال :ال تدخلوا
على هؤالء القوم املعذبني ،إال أن تكونوا باكني ،فإن مل تكونوا باكني فال تدخلوا عليهم ،
ال يصيبكم مثل ما أصاهبم" .
وقال " :ال تشربوا من مائها شيئاً ،وال تتوضؤوا منه للصالة ،وما كان من عجني عجنتموه
فاعلفوه اإلبل وال تأكلوا منه شيئاً ،وأمرهم :أن يهريقوا املاء ،وأن يستقوا من البئر اليت
كانت تردها الناقة" .
ويف صحيح مسلم "عن أيب محيد الساعدي ،قال :انطلقنا حىت قدمنا تبوك ،فقال رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم :ستهب عليكم الليلة ريح شديدة ،فال يقم أحد منكم ،فهن كان له
بعري فليشد عقاله ،فهبت ريح شديدة ،فقام رجل ،فحملته الريح حىت ألقته حببلي طيئ" .
قال ابن إسحاق " :وأصبح الناس وال ماء معهم .فشكوا ذلك إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم ،فدعا اهلل ،فأرسل اهلل سحابة ،فأمطرت حىت ارتوى الناس ،واحتملوا حاجتهم من
املاء" .
مث سار حىت إذا كان ببعض الطريق جعلوا يقولون :ختلف فالن ،فيقول :دعوه ،فإن يك
فيه خري فسيلحقه اهلل بكم ،وإن يك غري ذلك فقد أراحكم اهلل منه .
وتلوم على أيب ذر بعريه ،فلما أبطأ عليه أخذ متاعه على ظهره مث خرج يتبع أثر رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم ماشياً .
و"نزل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف بعض منازله ،فنظر ناظر املسلمني فقال :يا رسول
اهلل ! إن هذا الرجل ميشي على الطريق ،فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :كن أبا ذر،
فلما تأملوه ،قالوا :يا رسول اهلل ! هو واهلل أبو ذر .فقال :رحم اهلل أبا ذر ،ميشي وحده ،
وميوت وحده ،ويبعث وحده" .
ويف صحيح ابن حبان عن أم ذر قالت " :ملا حضرت أبا ذر الوفاة بكيت ،فقال :ما يبكيك
؟ فقلت :وما يل ال أبكي ،وأنت متوت بفالة من األرض ،وليس عندي ثوب يسعك كفناً
،وال يدان يل يف تغيبك ؟ فقال :أبشري وال تبكي ،فإين مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه
155
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وسلم يقول لنفر -وأنا فيهم: -ليموتن رجل منكم بفالة من األرض ،يشهده عصابة من
املسلمني ،وليس من أولئك النفر أحد إال وقد مات يف قرية ومجاعة ،فأنا ذلك الرجل ،
فواهلل ما كذبت وال كذبت ،فأبصري الطريق .،فكنت أشتد إىل الكثيب أتبصر ،مث أرجع
فأمرضه .فبينا أنا وهو كذلك ،إذا أنا برجال على رحاهلم ،كأهنم الرخم ختب هبم رواحلهم ،
قالت :فأشرت إليهم .فأسرعوا إيل حىت وقفوا علي ،فقالوا :يا أمة اهلل ! ما لك؟ قلت :
امرؤ من املسلمني ميوت تكفنوه .قالوا :من هو ؟ قلت :أبو ذر ،قالوا :صاحب رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم؟ قلت :نعم ،ففدوه بآبائهم وأمهاهتم ،وأسرعوا إيل حىت دخلوا
عليه .فقال هلم :أبشروا ،فإين مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم -وذكر احلديث -مث
قال :وإنه لو كان عندي ثوب يسعين كفناً يل والمرأيت مل أكفن إال يف ثوب هو يل ،أو هلا
،فإين أنشدكم اهلل أن ال يكفنين رجل منكم كان أمرياً أو عريفاً ،أو بريداً أو نقيباً .وليس
من أولئك النفر أحد إال وقد قارف بعض ما قال إال فىت من األنصار .قال :يا عم ،أنا
أكفنك يف ردائي هذا .ويف ثويب يف عيبيت من غزل أمي ،قال :فأنت تكفين ،فكفنه
األنصاري ،وأقاموا عليه ودفنوه يف نفر كلهم ميان" .
وملا انتهى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل تبوك أتاه صاحب أيلة .فصاحله وأعطاه اجلزية
،وأتاه أهل جرباء وأذرح فأعطوه اجلزية ،وكتب هلم كتاباً فهو عندهم .
مث بعث خالد بن الوليد إىل أكيدر دومة ،وقال خلالد :إنك جتده يصيد البقر ،فخرج خالد
،حىت إذا كان من حصنه مبنظر العني يف ليلة مقمرة -وهو على سطح له -فبانت البقر حتك
بقروهنا باب القصر .فقالت له امرأته :هل رأيت مثل هذا قط ؟ قال :ال واهلل ،قالت :فمن
يرتك مثل هذه ؟ قال :ال أحد .مث نزل فأمر بفرسه فأسرج له ،وركب معه نفر من أهل بيته
.فلما خرجوا تلقتهم خيل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فأخذته وقتلوا أخاه ،وقدم به
خالد على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فحقن له دمه ،وصاحله على اجلزية ،مث خلى
سبيله ،فرجع إىل قريته .
156
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
قال ابن إسحاق :فأقام رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بتبوك بضع عشرة ليلة ،مث انصرف
إىل املدينة .قال :وحدثين حممد بن إبراهيم بن احلرث التميمي :أن ابن مسعود كان حيدث
،قال :قمت من جوف الليل ،وأنا مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف غزوة تبوك ،
فرأيت شعلة من نار يف ناحية العسكر ،فأتبعتها أنظر إليها ،فإذا رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم وأبو بكر وعمر ،وإذا عبد اهلل ذو البجادين -والبجاد الكساء األسود -املزين قد مات
،وإذا هم قد حفروا له ،ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف حفرته ،وأبو بكر وعمر ،
يدليانه إليه ،وهو يقول :أدليا إيل أخاكما ،فأدلياه إليه .فلما هيأه لشقه ،قال :اللهم إين
قد أمسيت راضياً عنه ،فأرض عنه ،قال :يقول عبد اهلل بن مسعود :يا ليتين كنت صاحب
احلفرة .
وأقبل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من تبوك ،حىت كان بينه وبني املدينة ساعة ،وكان
أصحاب مسجد الضرار أتوه -وهو يتجهز إىل تبوك -فقالوا :يا رسول اهلل ! إنا بنينا
مسجداً لذي العلة واحلاجة ،والليلة املطرية ،وإنا حنب أن تصلي فيه ،فقال :إين على جناح
سفر ،ولو قدمنا إن شاء اهلل ألتيناكم .
فلما نزل بذي أوان ،جاءه خرب املسجد من السماء ،فدعا مالك بن الدخشم ومعن بن
عدي ،فقال :أنطلقا إىل هذا املسجد الظامل أهله ،فاهدماه ،وحرقاه ،فخرجا مسرعني حىت
أتيا بين سامل بن عوف -وهم رهط مالك بن الدخشم -فقال ملعن :أنظرين حىت أخرج إليك
بنار من أهلي .فدخل إىل أهله ،فأخذ سعفاً من النخل .فأشعل فيه ناراً ،مث خرجا يشتدان
حىت دخاله -وفيه أهله -فحرقاه وهدماه .وأنزل اهلل سبحانه " :والذين اختذوا مسجدا
ضرارا وكفرا وتفريقا بني املؤمنني " إىل قوله " :واهلل عليم حكيم " .
قال ابن عباس يف اآلية :هم أناس من األنصار ابتنوا مسجداً ،فقال هلم أبو عامر الفاسق :
ابنوا مسجدكم ،واستمدوا ما استطعتم من قوة ومن سالح ،فإين ذاهب إىل قيصر ملك
الروم ،فآت جبند من الروم ،فأخرج حممداً وأصحابه .فلما فرغوا من بنائه ،أتوا النيب صلى
اهلل عليه وسلم ،فقالوا :إنا قد فرغنا من بناء مسجدنا ،وحنب أن تصلي فيه ،وتدعو
157
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
بالربكة ؟ فأنزل اهلل عز وجل " :ال تقم فيه أبدا " إىل قوله " :ال يزال بنياهنم الذي بنوا ريبة
يف قلوهبم " ،يعين الشك " ،إال أن تقطع قلوهبم " يعين باملوت .
وملا دنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من املدينة ،خرج الناس لتلقيه ،والنساء والصبيان
والوالئد يقلن :
من ثنيات الوداع طلع البـدر علينا
ما دعـا للـه داع وجب الشكر علينا
وكانت غزوة تبوك أخر غزوة غزاها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بنفسه ،وأنزل اهلل فيها
سورة براءة .
وكانت تسمى يف زمان النيب صلى اهلل عليه وسلم وبعده املبعثرة ،ملا كشفت من سرائر
املنافقني وخبايا قلوهبم .
ويف غزوة تبوك :كانت قصة ختلف كعب بن مالك ،ومرارة بن الربيع ،وهالل بن أمية
الواقفي -ممن شهدوا بدراً -ومل يكن هلم عذر يف التخلف عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
.فلما عاد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل املدينة ،جاء املعذرون من األعراب من
املنافقني ،حيلفون أهنم كانوا معذورين ،فقبل منهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم .وأرجأ
كعب بن مالك وصاحبيه حىت أنزل اهلل يف شأهنم ويف توبتهم -وكانوا من خيار املؤمنني" : -
لقد تاب اهلل على النيب واملهاجرين واألنصار الذين اتبعوه يف ساعة العسرة من بعد ما كاد
يزيغ قلوب فريق منهم مث تاب عليهم إنه هبم رؤوف رحيم * وعلى الثالثة الذين خلفوا "
اآليتني ،خلفهم اهلل وأخر توبتهم ليمحصهم ويطهرهم من ذنب تأخرهم ،ألهنم كانوا من
الصادقني .
158
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
قال ابن إسحاق :وإمنا كانت العرب تربص باإلسالم أمر هذا احلي من قريش ،وأمر رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم .
وذلك :أن قريشاً كانوا إمام الناس وهداهتم ،وأهل البيت واحلرم ،وصريح ولد إمساعيل
عليه السالم ،وقادة العرب ال ينكرون ذلك .وكانت قريش هي اليت نصبت حلرب رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم .فلما افتتحت مكة ،ودانت له قريش ،عرفت العرب أن ال طاقة
هلم حبرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وال عداوته ،فدخلوا يف دين اهلل أفواجاً .كما
قال اهلل تعاىل " :إذا جاء نصر اهلل والفتح * ورأيت الناس يدخلون يف دين اهلل أفواجا *فسبح
حبمد ربك واستغفره إنه كان توابا " .
إال كذلك عند الفخر نرتفع إنا أبينا ومل يأىب لنا أحد
يف أبيات ذكرها ،فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حلسان :قم فأجب الرجل فقام ،
فقال :
قد بينوا سنناً للناس تتبع إن الذوائب من فهر وإخوهتم
تقـوى اإلله وكل اخلري يصطنع يرضى هبا كل من كانت سريرته
أو حاولوا النفع يف أشياعهم :نفعوا قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم
إن اخلالئق فاعلم شرها البدع سجية تلك منهم غري حمدثة
فكل سبق ألدىن سبقهم تبع إن كان يف الناس سباقون بعدهم
إىل أن قال :
وال ميسهم من مطمع طبع ال يبخلون على جار بفضلهم
وإن أصيبوا فال خور وال هلع ال يفخرون إذا نالوا عدوهم
إذا الزعانف من أظفارها خشعوا نسمو إذا احلرب نالتنا خمالبها
إىل أن قال :
إذا تفرقت األهواء والشيع أكرم بقوم رسول اهلل شيعتهم
فيما حيب لسان حائك صنع أهدي هلم مدحيت قلت ووزاره
وقال الزبرقان أيضاً :
إذا احتفلوا عند احتضار املواسم آتيناك كيما يعلم الناس فضلنا
وأن ليس يف أرض احلجاز كدارم فإنا ملوك الناس يف كل موطن
ونضرب رأس األغيد املتفاخم وإنا نذود املعلمني إذا انتخوا
تغري بنجد أو بأرض األعاجم وأن لنا املرباع يف كل غارة
فأجابه حسان بن ثابت رضي اهلل عنه :
وجاه امللوك واحتمال العظائم؟ هل اجملد إال السؤدد العود والندى
على أنف راض من معذ وراغم نصرنا وآوينا النيب حممداً
160
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
فتضمن يل مبا فيه ؟ قال :نعم ،أنا ضامن لذلك ،إن الذي أدعوك إليه خري من الذي كنت
عليه ،فأسلم وأسلم أصحابه .فكان حسن اإلسالم صلباً يف دينه ،حىت هلك ،وقد أدرك
الردة .
وكان يف الوفد األشج ،الذي "قال له رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :إن فيك خلصلتني
حيبهما اهلل :احللم ،واألناة " .
وقد كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعث العالء بن احلضرمي -قبل فتح مكة -إىل املنذر
بن ساوى العبدي ،فأسلم وحسن إسالمه .مث هلك بعد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،
قبل ردة أهل البحرين .والعالء عنده أمرياً لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على البحرين .
162
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وقال للرجلني اللذين أتيا بكتابه :ما تقوالن أنتما؟ فقاال :نقول كما قال " ،فقال :أما واهلل
،لوال أن الرسل ال تقتل ،لضربت رقابكما" ،وذلك يف آخر سنة عشر .
حجة أبي بكر بالناس :
مث أقام رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعد رجوعه من تبوك -بقية رمضان وشوال وذي
القعدة -مث بعث أبا بكر رضي اهلل عنه أمرياً على احلج ليقيم للناس حجهم .وأهل الشرك
على دينهم ومنازهلم من حجهم .فخرج أبو بكر يف ثالمثائة من املدينة .وبعث معه رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعشرين بدنة .قلدها وأشعرها بيده ،مث نزلت سورة براءة يف نقض
ما بني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وبني املشركني من العهد الذي كانوا عليه ،فأرسل هبا
علي بن أيب طالب على ناقته العضباء ،ليقرأ براءة على الناس .وينبذ إىل كل ذي عهد عهده
،فلما لقي أبا بكر قال له :أمري ،أو مأمور ؟ فقال علي :بل مأمور ،فلما كان يوم النحر
قام علي بن أيب طالب ،فقال " :يا أيها الناس ! ال يدخل اجلنة كافر ،وال حيج بعد العام
مشرك ،وال يطوف بالبيت عريان .ومن كان له عهد عند رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
فهو إىل مدته" .
163
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
و"ملا كان مبىن خطب الناس خطبته اليت بني فيها ما بني ،فحمد اهلل وأثىن عليه ،مث قال :أيها
الناس ،امسعوا قويل ،فإين ال أدري ،لعلي ال ألقاكم بعد عامي هذا .أيها الناس ،إن
دماءكم وأموالكم وأغراضكم عليكم حرام إىل أن تلقوا ربكم .وكل رباً موضوع ،وأول
رباً أضعه :ربا العباس بن عبد املطلب ،فإنه موضوع كله .وإن كل دم يف اجلاهلية موضوع
،وأول دم أضعه دم [ابن] ربيعة بن احلارث بن عبد املطلب ،وإين تركت فيكم ما إن
اعتصمتم به ما لن تضلوا بعده -كتاب اهلل -وأنتم مسؤولون عين ،فما أنتم قائلون ؟ قالوا :
نشهد أنك قد بلغت ،وأديت ،ونصحت .فجعل يرفع إصبعه إىل السماء ،وينكبها إليهم ،
ويقول :اللهم اشهد -ثالث مرات" .
وكانت هذه احلجة تسمى حجة الوداع ،ألنه صلى اهلل عليه وسلم مل حيج بعدها .
فلما انقضى حجه ،رجع إىل املدينة ،فأقام صلى اهلل عليه وسلم بقية ذي احلجة واحملرم
وصفر .
مث ابتدأ برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وجعه الذي مات فيه يف آخر صفر .
164
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
كان خلليقاً لإلمارة ،وإن كان أبوه ملن أحب الناس إيل وإن هذا ملن أحب الناس إيل من
بعده" ،مث نزل .
وانكمش الناس يف جهازهم ،فاشتد برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وجعه .وخرج أسامة
جبيشه ،فعسكر باجلرف ،وتتام إليه الناس ،فأقاموا لينظروا ما اهلل تبارك وتعاىل قاض يف
رسوله صلى اهلل عليه وسلم .
مرض رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :
قال ابن إسحاق :حدثت عن أسامة ،قال :ملا ثقل برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،
هبطت وهبط الناس معي إىل املدينة ،فدخلت على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وقد
أصمت ،فال يتكلم .وجعل يرفع يده إىل السماء مث يضعها علي ،أعرف أنه يدعو يل .
قال ابن إسحاق :وحدث عن أيب مويهبة ! موىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،قال :
بعثين رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من جوف الليل ،فقال :يا أبا مويهبة ! قد أمرت أن
أستغفر ألهل هذا البقيع ،فانطلق معي .فانطلقت معه ،فلما وقف عليهم ،قال :السالم
عليكم -يا أهل املقابر ! ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه .أقبلت الفنت مثل
قطع الليل املظلم ،يتبع آخرها أوهلا ،اآلخرة شر من األوىل .مث أقبل علي ،فقال :إين قد
أعطيت مفاتيح خزائن الدنيا واخللد فيها [مث اجلنة] ،فخريت بني ذلك وبني لقاء ريب واجلنة .
فقلت :بأيب أنت وأمي ،فخذ مفاتيح خزائن الدنيا واخللد فيها ،مث اجلنة قال :ال واهلل ،يا
أبا مويهبة! قد اخرتت لقاء ريب واجلنة .مث استغفر ألهل البقيع ،مث انصرف.
فبدأ به وجعه ،فلما استعز به ،دعا نساءه فاستأذهنن :أن ميرض يف بيت عائشة رضي اهلل
عنها ،فأذن له .
وعن أيب سعيد اخلدري رضي اهلل عنه قال " :خطب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فقال :
إن اهلل خري عبداً بني الدنيا وبني ما عنده ،فاختار ذلك العبد ما عند اهلل ،فبكى أبو بكر ،
فتعجبنا لبكائه :أن خيرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن عبد خري ! فكان رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم هو املخري .وكان أبو بكر أعلمنا ،فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
165
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
:إن من أمن الناس علي يف صحبته وماله :أبو بكر ،ولو كنت متخذاً خليالً -غري ريب-
الختذت أبا بكر خليالً ،ولكن أخوة اإلسالم ومودته .ال يبقني يف املسجد باب إال سد ،إال
باب أيب بكر" .
ويف الصحيح " :أن ابن عباس وأبا بكر مرا مبجلس لألنصار ،وهم يبكون .فقاال :ما يبكيكم
؟ قالوا :ذكرنا جملس رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم منا ،فدخل على النيب صلى اهلل عليه
وسلم فأخربه بذلك ،فخرج ،وقد عصب على رأسه حباشية برد .فصعد املنرب -ومل يصعده
بعد ذلك اليوم -فحمد اهلل وأثىن عليه ،مث قال :أوصيكم باألنصار خرياً ،فإهنم كرشي
وعيبيت وقد قضوا الذي عليهم ،وبقي الذي هلم .فاقبلوا من حمسنهم ،وجتاوزوا عن
مسيئهم" ،
ويف الصحيح عن أيب موسى األشعري قال " :اشتد مرض رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،
فقال :مروا أبا بكر ،فليصل بالناس .قالت عائشة :يا رسول اهلل ! إنه رجل رقيق ،إذا قام
مقامك ال يسمع الناس ،فلو أمرت عمر ؟ قال :مروا أبا بكر فليصل بالناس ،فعادت .
فقال :مروا أبا بكر فليصل بالناس ،فإنكن صواحب يوسف ،فأتاه الرسول .فصلى بالناس
يف حياة النيب صلى اهلل عليه وسلم ،قالت :وواهلل ما أقول إال أين أحب أن يصرف ذلك عن
أيب بكر ،وعرفت أن الناس ال حيبون رجالً قام مقامه أبداً ،وأن الناس سيتشاءمون به يف كل
حدث كان .فكنت أحب أن يصرف ذلك عن أيب بكر" .
بكر إىل أهله بالسنح .فتويف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حني اشتد الضحى من ذلك
اليوم" .
قال ابن إسحاق :قال الزهري :حدثين سعيد بن املسيب عن أيب هريرة قال " :ملا تويف
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قام عمر ،فقال :إن رجاالً من املنافقني يزعمون أن رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد تويف ،وإن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم واهلل ما مات ،ولكنه
قد ذهب إىل ربه ،كما ذهب موسى بن عمران فقد غاب عن قومه أربعني ليلة ،مث رجع
إليهم بعد أن قيل مات .وواهلل لريجعن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعد حني ،كما رجع
موسى ،فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه قد مات" .
قال :وأقبل أبو بكر ،حىت نزل على باب املسجد .حني بلغه اخلرب -وعمر يكلم الناس-
فلم يلتفت إىل شئ ،حىت دخل على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف بيت عائشة ،
ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مسجى يف ناحية البيت ،عليه بردة حربة .فأقبل حىت
كشف عن وجهه .مث أقبل عليه فقبله .مث قال :بأيب أنت وأمي ،أما املوتة اليت كتبها اهلل
عليك فقد ذقتها ،مث لن تصيبك بعدها موتة أبداً .مث رد الربد على وجهه .وخرج -وعمر
يكلم الناس -فقال :على رسلك يا عمر ،أنصت ،فأىب إال أن يتكلم .فلما رآه أبو بكر ال
ينصت أقبل على الناس .فلما مسع الناس كالم أيب بكر أقبلوا عليه ،وتركوا عمر .فحمد اهلل
تعاىل ،وأثىن عليه ،مث قال :أيها الناس ،إنه من كان يعبد حممداً ،فإن حممداً قد مات .
ومن كان يعبد اهلل تعاىل ،فإن اهلل حي ال ميوت .مث تال هذه اآلية " :وما حممد إال رسول
قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن
يضر اهلل شيئا وسيجزي اهلل الشاكرين " .
قال :فو اهلل لكأن الناس مل يعلموا أن هذه اآلية نزلت ،حىت تالها أبو بكر يومئذ ،قال :
وأخذها الناس عن أيب بكر ،فإمنا هي يف أفواههم .
قال أبو هريرة " :فقال عمر :فو اهلل ما هو إال أن مسعت أبا بكر تالها ،فعثرت حىت وقعت
على األرض ،ما حتملين رجالي ،وعرفت أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد مات" .
167
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
168
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
قال ابن عباس :فقدمنا املدينة يف عقب ذي احلجة ،فلما كان يوم اجلمعة ،عجلت الرواح
حني زالت الشمس ،فأجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالساً إىل ركن املنرب ،فجلست
حذوه ،متس ركبتاي ركبتيه ،فلم أنشب أن خرج عمر ،فما رأيته مقبالً ،فقلت لسعيد :
ليقولن العشية على هذا املنرب مقالة مل يقلها منذ استخلف .فأنكر علي سعيد بن زيد ذلك .
وقال :وما عسى أن يقول مما مل يقل قبله ؟ فجلس عمر على املنرب .
فلما سكت املؤذن ،فقام .فأثىن على اهلل مبا هو أهله ،مث قال :أما بعد ،فإين قائل لكم
مقالة قد قدر يل أن أقوهلا ،وال أدري لعلها بني يدي أجلي ؟ فمن عقلها ووعاها فليأخذ هبا
حيث انتهت به راحلته .ومن خشي أن ال يعيها ،فال أحل ألحد أن يكذب علي .إن اهلل
بعث حممداً صلى اهلل عليه وسلم باحلق ،وأنزل عليه الكتاب ،فكان مما أنزل عليه :آية
الرجم ،فقرأناها وعلمناها ووعيناها .ورجم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ورمجنا بعده .
فأخشى -إن طال بالناس زمان -أن يقول قائل :واهلل ما جند آية الرجم يف كتاب اهلل ،
فيضلوا برتك فريضة قد أنزهلا اهلل .وإن الرجم يف كتاب اهلل ،حق على من زىن ،إذا أحصن
،من الرجال والنساء إذا قامت البينة ،أو كان احلبل أو االعرتاف .مث إنا قد كنا نقرأ فيما
نقرأ من الكتاب " :الترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم -أو كفر لكم -أن ترغبوا عن آبائكم
،أال إن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال :ال تطروين كما أطري عيسى ابن مرمي .فإمنا
أنا عبد ،فقولوا :عبد اهلل ورسوله" ،مث إنه قد بلغين أن فالناً قال :لو قد مات عمر بن
اخلطاب لقد بايعت فالناً .فال يغرتن امرؤ يقول :إن بيعة أيب بكر كانت فلتة فتمت .أال
وإهنا واهلل قد كانت كذلك ،إال أن اهلل وقى شرها .وليس فيكم من تنقطع دونه األعناق
إليه مثل أيب بكر ،فمن بايع رجالً عن غري مشورة املسلمني ،فإنه ال بيعة له هو ،وال الذي
بايعه ،تغرة أن يقتال .إنه كان من خربنا -حني توىف اهلل نبيه حممداً صلى اهلل عليه وسلم-
أن األنصار خالفونا ،فاجتمعوا بأشرافهم يف سقيفه بين ساعدة .وختلف عنا علي بن أيب طالب
والزبري بن العوام ،ومن معهما .واجتمع املهاجرون إىل أيب بكر .فقلت أليب بكر :انطلق
بنا إىل إخواننا هؤالء األنصار .فانطلقنا نؤمهم ،حىت لقينا منهم رجالن صاحلان ،فذكرا لنا
169
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
ما متاأل عليه القوم .وقاال لنا :أين تريدون يا معاشر املهاجرين ؟ قلنا :نريد إخواننا هؤالء
من األنصار .فقاال :ال عليكم ،أال تقربوهم يا معشر املهاجرين ،اقضوا أمركم .قال :قلت
:واهلل لنأتينهم .فانطلقنا ،حىت أتيناهم يف سقيفة بين ساعدة .فإذا بني ظهرانيهم رجل مزمل
،فقلت :من هذا ؟ قالوا :سعد بن عبادة ،قلت :ما له ؟ قالوا :وجع .فلما جلسنا ،
تشهد خطيبهم .فأثىن على اهلل عز وجل مبا هو له أهل ،مث قال :أما بعد ،فنحن أنصار اهلل ،
وكتيبة اإلسالم ،وأنتم يا معشر املهاجرين ،رهط منا ،وقد دفت دافة من قومكم ،قال:
وإذا هم يريدون أن خيتارونا من أصلنا ،ويغتصبونا األمر .فلما سكت أردت أن أتكلم -وقد
زورت يف نفسي مقالة قد أعجبتين ،أريد أن أقدمها بني يدي أيب بكر .وكنت أداري منه
بعض احلد .فقال أبو بكر :على رسلك يا عمر .فكرهت أن أعصيه .فتكلم -وهو كان
أعلم مين وأحكم وأحلم وأوقر -فواهلل ما ترك من كلمة أعجبتين من تزويري إال قاهلا يف
بديهته ،أو أفضل ،حىت سكت .فقال :أما بعد ،فما ذكرمت فيكم من خري ،فأنتم له أهل
.ولن تعرف العرب هذا األمر إال هلذا احلي من قريش .هم أوسط العرب نسباً وداراً .وقد
رضيت لكم أحد هذين الرجلني ،فبايعوا اآلن أيهما شئتم .فأخذ بيدي ،وبيد أيب عبيدة
عامر بن اجلراح -وهو جالس بيننا -فلم أكره شيئاً مما قال غريها ،كان واهلل أن أقدم
فتضرب عنقي ال يقربين ذلك إىل إمث ،أحب إيل من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر .قال :
فقال قائل من األنصار :أنا جذيلها احملكك وعذيقها املرجب ،منا أمري ومنكم أمري ،يا
معشر قريش .قال :فكثر اللغط ،وارتفعت األصوات ،حىت خشينا االختالف .فقلت :
ابسط يدك يا أبا بكر .فبسطها ،فبايعته .مث بايعه املهاجرون ،مث بايعه األنصار .ونزونا
على سعد بن عبادة ،فقال قائل منهم :قتلتم سعد بن عبادة .قال :قتل اهلل سعد بن عبادة .
صلى اهلل عليه وسلم .ولكين قد كنت أرى أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم سيدبر أمرنا
-يقول :يكون آخرنا -وإن اهلل قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى رسوله صلى اهلل عليه
وسلم .فإن اعتصمتم به هداكم اهلل ملا كان هدى له رسوله .إن اهلل قد مجعكم على خريكم
-صاحب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وثاين اثنني إذ مها يف الغار -فقوموا فبايعوه .
فبايع الناس أبا بكر البيعة العامة ،بعد بيعة السقيفة .
مث تكلم أبو بكر رضي اهلل عنه ،فحمد اهلل ،وأثىن عليه بالذي هو أهله ،مث قال :أما بعد ،
أيها الناس ،فإين قد وليت عليكم ،ولست خبريكم ،فإن أحسنت فأعينوين .وإن أسأت
فقوموين .الصدق أمانة ،والكذب خيانة ،والضعيف فيكم قوي عندي ،حىت أريح عليه
حقه ،إن شاء اهلل .والقوي فيكم ضعيف عندي ،حىت آخذ احلق منه ،إن شاء اهلل .ال
يدع قوم اجلهاد يف سبيل اهلل إال ضرهبم اهلل بالذل .وال تشيع الفاحشة يف قوم قط إال عمهم
اهلل بالبالء .أطيعوين ما أطعت اهلل ورسوله .فإذا عصيت اهلل ورسوله ،فال طاعة يل عليكم .
بأرجل أزواج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،ما رددت جيشاً وجهه رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم ،وال حللت لواء عقده .فوجه أسامة ،فجعل ال مير بقبائل يريدون االرتداد ،إال
قالوا :لو ال أن هلؤالء قوة ،ما خرج مثل هؤالء من عندهم .ولكن ندعهم حىت يلقوا الروم
.فلقوا الروم ،فهزموهم ،ورجعوا ساملني ،فثبتوا على اإلسالم ،وهلل احلمد .
172
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
عدوهم -وهم أهل الردة -وذلك :أن العرب افرتقت يف ردهتا .فقالت فرقة :لو كان نبياً
ما مات .وقالت فرقة :انقضت النبوة مبوته .فال نطيع أحداً بعده .ويف ذلك يقول قائلهم :
فيا لعباد اهلل ما أليب بكر؟ أطعنا رسول اهلل ما كان بيننا
فتلك لعمر اهلل قاصمة الظهر أيورثها بكراً إذا مات بعده
وقالت فرقة :نؤمن باهلل .وقال بعضهم :نؤمن باهلل ،ونشهد أن حممداً رسول اهلل ،ولكن
ال نعطيكم أموالنا .
فجادل الصحابة أبا بكر رضي اهلل عنهم ،وقالوا :احبس جيش أسامة ،فيكون أماناً باملدينة
.وارفق بالعرب حىت يتفرج هذا األمر .فلو أن طائفة ارتدت .قلنا :قاتل مبن معك من
ارتد .وقد أصفقت العرب على االرتداد .وقدم على أيب بكر عيينة بن حصن ،واألقرع بن
حابس يف رجال من أشراف العرب .فدخلوا على رجال من املهاجرين ،فقالوا :إنه قد ارتد
عامة من وراءنا عن اإلسالم ،وليس يف أنفسهم أن يؤدوا إليكم ما كانوا يؤدونه إىل رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فإن جتعلوا لنا جعالً كفيناكم .فدخل الصحابة على أيب بكر ،
فعرضوا عليه ذلك ،وقالوا :نرى أن تطعم األقرع وعيينة طعمة يرضيان هبا ،ويكفيانك من
وراءمها ،حىت يرجع إلينا أسامة وجيشه ،ويشتد أمرك ،فإنا اليوم قليل يف كثري ،فقال أبو
بكر :فهل ترون غري ذلك ؟ قالوا :ال .قال :قد علمتم أن من عهد نبيكم إليكم املشورة
فيما مل ميض فيه أمر من نبيكم ،وال نزل به الكتاب عليكم .وأنا رجل منكم ،تنظرون فيما
أشري به عليكم ،وإن اهلل لن جيمعكم على ضاللة ،فتجتمعون على الرشد يف ذلك .فأما أنا،
فأرى أن ننبذ إىل عدونا .فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .وأال ترشون على اإلسالم ،
فنجاهد عدوه كما جاهدهم .واهلل لو منعوين عقاالً ،لرأيت أن أجاهدهم عليه حىت آخذه .
وأما قدوم عيينة وأصحابه إليكم :فهذا أمر مل يغب عنه عيينة ،هو راضيه ،مث جاء له .ولو
رأوا ذباب السيف ،لعادوا إىل ما خرجوا منه ،أو أفناهم السيف ،فإىل النار .قتلناهم على
حق منعوه وكفر اتبعوه .فبان للناس أمرهم .فقالوا له :أنت أفضلنا رأياً ،ورأينا لرأيك
تبع .فأمر أبو بكر رضي اهلل عنه الناس بالتجهز ،وأمجع على املسري بنفسه .
173
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وقد كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم -ملا صدر من احلج سنة عشر -وقدم املدينة أقام
حىت رأى هالل احملرم سنة إحدى عشرة ،فبعث املصدقني يف العرب .
وملا كان من العرب ما كان ،ومنع من منع منهم الصدقة .جد بأيب بكر اجلد يف قتاهلم .
وأراه اهلل رشده فيهم ،وعزم على اخلروج بنفسه .فخرج يف مائة من املهاجرين واألنصار ،
وخالد حيمل اللواء ،حىت نزل بقعاء ،يريد أن يتالحق الناس ،ويكون أسرع خلروجهم ،
ووكل بالناس حممد بن مسلمة يستحثهم .وأقام ببقعاء أياماً ينتظر الناس .ومل يبق أحد من
املهاجرين واألنصار إال خرج .
فقال عمر :ارجع يا خليفة رسول اهلل ،تكن للمسلمني فئة ،فإنك إن تقتل يرتد الناس ،
ويعلو الباطل احلق ،فدعا زيد بن اخلطاب ليستخلفه ،فقال :قد كنت أرجو أن أرزق
الشهادة مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فلم أرزقها .وأنا أرجو أن أرزقها يف هذا الوجه
.وإن أمري اجليش ال ينبغي أن يباشر القتال بنفسه .
فدعا أبا حذيفة ابن عتبة ،فعرض عليه ذلك ،فقال مثلما قال زيد ،فدعا ساملاً موىل أيب
حذيفة ،فأىب عليه .فدعا خالداً فأمره على الناس ،وكتب معه هذا الكتاب :
بسم اهلل الرمحن الرحيم ....
هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل خالد بن الوليد ،حني بعثه
لقتال من رجع عن اإلسالم إىل ضاللة اجلاهلية ،وأماين الشيطان ،وأمره :أن يبني هلم الذي
هلم يف اإلسالم ،والذي عليهم ،وحيرص على هداهم .فمن أجابه قبل منه ،وإمنا يقاتل من
كفر باهلل على اإلميان باهلل .فإذا أجاب إىل اإلميان ،وصدق إميانه مل يكن له عليه سبيل .
وكان اهلل حسيبه بعد يف عمله .وال يقبل من أحد شيئاً أعطاه إياه إال اإلسالم ،والدخول
فيه ،والصرب به وعليه وال يدخل يف أصحابه حشواً من الناس ،حىت يعرف :عالم اتبعوه ،
وقاتلوا معه ؟ فإين أخشى أن يكون معكم ناس يتعوذون بكم ،ليسوا بكم ،وال على دينكم
،فيكونون عوناً عليكم .وارفق باملسلمني يف مسريهم ومنازهلم ،وتفقدهم ،وال تعجل
بعض الناس عن بعض يف املسري ،وال يف االرحتال .واستوص مبن معك من األنصار خرياً ،
فإن فيهم ضيقاً ومرارة وزعارة ،وهلم حق وفضيلة وسابقة ووصية من رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم ،فاقبل من حمسنهم ،وجتاوز عن مسيئهم .
175
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
ويروى أن أبا بكر كتب مع هذا كتاباً آخر ،وأمر خالداً أن يقرأه يف كل جممع ،وهو :
كتاب أبي بكر ألمرائه :
بسم اهلل الرمحن الرحيم . . .
من أيب بكر خليفة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،إىل من بلغه كتايب هذا ،من عامة الناس
أو خاصتهم ،أقام على اإلسالم أو رجع عنه .سالم على من اتبع اهلدى ،ومل يرجع بعد
اهلدى إىل الضاللة والعمى ،فإين أمحد إليكم اهلل الذي ال إله إال هو .وأشهد أن ال إله إال اهلل ،
وأشهد أن حممداً عبده ورسوله ،اهلادي غري املضل .أرسله باحلق من عنده إىل خلقه ،بشرياً
ونذيراً ،وداعياً إىل اهلل بإذنه ،وسراجاً منرياً ،لينذر من كان حياً ،وحيق القول على
الكافرين .فهدى اهلل باحلق من أجاب إليه ،،وضرب باحلق من أدبر عنه ،حىت صاروا إىل
اإلسالم طوعاً وكرهاً .مث أدرك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عند ذلك أجله .وقد كان
اهلل بني له ذلك ألهل اإلسالم يف الكتاب الذي أنزل عليه ،فقال ":إنك ميت وإهنم ميتون
" ،وقال " :وما جعلنا لبشر من قبلك اخللد أفإن مت فهم اخلالدون " اآلية ،وقال للمؤمنني
" :وما حممد إال رسول قد خلت من قبله الرسل " اآلية ،فمن كان يعبد حممداً ،فإن حممداً
قد مات ،ومن كان يعبد اهلل وحده ،ال شريك له ،فإن اهلل له باملرصاد حي قيوم ال ميوت ،
وال تأخذه سنة وال نوم ،حافظ ألمره منتقم من عدوه وجمزيه ،وإين أوصيكم أيها الناس
[بتقوى اهلل ،وأحضكم على حظكم ونصيبكم من اهلل ،وما جاء به نبيكم صلى اهلل عليه
وسلم .وأن هتتدوا هبداه ،وتعتصموا بدين اهلل] ،فإن كل من مل حيفظ اهلل ضائع ،وكل من
مل يصدقه كاذب ،وكل من مل يسعده اهلل شقي ،وكل من مل يرزقه حمروم ،وكل من مل
ينصره اهلل خمذول .فاهتدوا هبدى اهلل ربكم ،فإنه من يهدي اهلل فهو املهتدي .ومن يضلل
فلن جتد له ولياً مرشداً .
وإنه قد بلغين رجوع من رجع منكم عن دينه ،بعد أن أقر باإلسالم ،وعمل به ،اغرتاراً باهلل
،وجهالة بأمر اهلل وطاعة للشيطان .قال اهلل تعاىل " :إن الشيطان لكم عدو فاختذوه عدوا إمنا
يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعري " وإين قد بعثت إليكم خالداً يف املهاجرين واألنصار
176
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
.والتابعني هلم بإحسان .وأمرته أن ال يقاتل أحداً حىت يدعوه إىل داعية اهلل ،فمن دخل يف
دين اهلل وعمل صاحلاً قبل ذلك منه ،ومن أىب فال يبقي على أحد ،وحيرقهم بالنار ،ويسيب
الذراري والنساء .
وعن عروة بن الزبري قال :جعل أبو بكر يوصي خالداً ،ويقول :عليك بتقوى اهلل ،والرفق
مبن معك .أهل السابقة من املهاجرين واألنصار ،فشاورهم ،مث ال ختالفهم .وقدم أمامك
الطالئع ترتد لك املنازل ،وسر يف أصحابك على تعبئة جيدة ،فإن أعطاك اهلل الظفر على أهل
اليمامة ،فأقل البقيا عليهم ،إن شاء اهلل وإياك أن تلقاين غداً مبا يضيق به صدري منك .
امسع عهدي ووصييت ،وال تغرين على دار مسعت فيها أذاناً ،حىت تعلم ما هم عليه .واعلم
أن اهلل يعلم من سريرتك ما يعلم من عالنيتك .واعلم أن رعيتك تعمل مبا تراك تعمل ،
تعاهد جيشك ،واهنهم عما ال يصلح هلم .فإمنا تقاتلون من تقاتلون بأعمالكم ،وهبذا نرجو
لكم النصر على أعدائكم ،سر على بركة اهلل تعاىل .
فسار خالد على تعبئته ،وطلب إليه عدي أن جيعل قومه مقدمة أصحابه .فقال :أخاف أن
أقدمهم ،فإذا أجلمهم القتال انكشفوا ،فانكشف من معنا ،ولكن دعين أقدم قوماً صرباً ،هلم
سوابق .فقال عدي :الرأي ما رأيت ،فقدم املهاجرين واألنصار .ومل يزل يقدم الطالئع
منذ خرج من بقعاء ،حىت قدم اليمامة .وأمر عيونه أن خيتربوا كل من مروا هبم عند مواقيت
الصالة باألذان هلا ،فيكون ذلك دليالً على إسالمهم .
فلما انتهوا إىل طليحة األسدي ،وجدوه وقد ضربت له قبة ،وأصحابه حوله .فضرب خالد
خيام عسكره على ميل أو حنوه ،وخرج يسري على فرس ،معه نفر من الصحابة ،فوقف
قريباً من العسكر ،ودعا بطليحة فخرج إليه ،فقال :إن من عهد خليفتنا إلينا :أن ندعوك
إىل اهلل وحده ال شريك له ،وأن حممداً عبده ورسوله ،وأن تعود إىل ما خرجت منه .فأىب
طليحة ،وكان عيينة بن حصن قد قال له :ال أبالك ،هل أنت مرينا؟ -يعين نبوتك -فقد
رأيت ورأينا ما كان يأيت حممداً .قال :نعم ،فبعث عيوناً له ،ملا أقبل خالد إليهم ،قبل أن
يسمع الناس بإقباله .فقال :إن بعثتم فارسني يف فرسني ،أغرين حمجلني ،من بين نصر بن
قعني ،أتوكم من القوم بعني .فبعثوا كذلك ،فلقيا عيناً خلالد ،فأتوا به ،فزادهم فتنة .فلما
أىب طليحة أن جييب خالداً ،انصرف خالد إىل عسكره ،فاستعمل تلك الليلة على حرسه
مكنف بن زيد اخليل وعدي بن حامت ،فلما كان من السحر هنض خالد ،فعبأ أصحابه ،
ووضع ألويته مواضعها ،ودفع اللواء األعظم إىل زيد بن اخلطاب ،فتقدم به ،وتقدم ثابت
بن قيس بن مشاس بلواء األنصار ،وطلبت طئ لواء ،فعقد هلم خالد لواء ،ودفعه إىل عدي
.فلما مسع طليحة احلركة عبأ أصحابه ،حىت إذا استوت الصفوف زحف هبم خالد حىت دنا
من طليحة ،فأخرج طليحة أربعني غالماً جلداً ،فأقامهم يف امليمنة ،وقال :اضربوا حىت
تأتوا امليسرة ،فتضعضع الناس ،ومل يقتل أحد حىت أقامهم يف امليسرة ،ففعلوا مثل ذلك ،
واهنزم املسلمون .فقال خالد :يا معشر املسلمني ! اهلل ،اهلل .واقتحم وسط القوم وكر معه
أصحابه ،فاختلطت الصفوف ،ونادى يومئذ مناد من طيء ،عندما محل أولئك األربعون :
يا خالد ! عليك بسلمى وأجأ -جبلى طيء -فقال :بل إىل اهلل امللتجأ .مث محل فما رجع ،
178
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
حىت مل يبق من األربعني رجل واحد .وتراد الناس بعد اهلزمية ،واشتد القتال ،وأسر حبال
بن أيب حبال ،فأرادوا أن يبعثوا به إىل أيب بكر ،فقال :اضربوا عنقي ،وال تروين حممديكم
هذا .فضربوا عنقه .
وملا اشتد القتال ، ،تزمل طليحة بكساء له ،وهم ينتظرون أن ينزل عليه الوحي ،فلما طال
ذلك على أصحابه ،وهدهتم احلرب ،جعل عيينة يقاتل ويذمر الناس ،حىت إذا أحل املسلمون
عليهم السيف ،أتى طليحة ،وهو يف كسائه ،فقال :ال أبا لك هل أتاك جربيل بعد ؟ قال
:ال واهلل ،قال :تباً لك سائر اليوم .مث رجع عيينة فقاتل ،وجعل حيض أصحابه على القتال
،وقد ضجوا من وقع السيوف .فلما طال ذلك عليهم ،جاء إىل طليحة وهو متلفف
بكسائه .فجبذه جبذة شديدة جلس منها ،وقال :قبح اهلل هذه من نبوة ،ما قيل لك بعد
شئ ؟ قال :بلى ،قد قيل يل :عيينة إن ذلك رحى كرحاه ،وأمراً لن تنساه .فقال عيينة :
أظن أن قد علم اهلل أنه سيكون لك حديث لن تنساه ،يا بين فزارة ! هكذا -وأشار حتت
الشمس -انصرفوا .هذا واهلل كذاب ،ما بورك لنا وال له فيما يطلب .فانصرفت فزارة ،
وذهب عيينة وأخوه يف آثارمها ،فأدرك عيينة فأسر ،وأفلت أخوه .وملا رأى طليحة ما فعل
أصحابه خرج منهزماً ،فجعل أصحابه يقولون :ماذا تأمرنا ؟ وقد كان أعد فرسه ،وهيأ
امرأته ،فوثب على فرسه ومحل امرأته وراءه ،مث وىل هارباً ،وقال :من استطاع منكم أن
يفعل هكذا فليفعل .مث هرب حىت قدم الشام .وذكر :أنه قال ألصحابه ،ملا رأى اهنزامهم
.ويلكم ،ما يهزمكم ؟ فقال له رجل :أنا أخربك ،إنه ليس منا رجل إال وهو حيب أن
صاحبه ميوت قبله ،وإنا نلقى قوماً كلهم حيب أن ميوت قبل صاحبه .
وملا وىل طليحة هارباً ،تبعه عكاشة بن حمصن وثابت بن أقرم .وكان طليحة قد أعطى اهلل
عهداً :أن ال يسأله أحد النزول إال فعل ،فلما أدبر ناداه عكاشة بن حمصن :ياطليحة !
فعطف عليه ،فقتل عكاشة ،مث أدركه ثابت ،فقتله أيضاً طليحة ،مث حلق املسلمون
أصحاب طليحة فقتلوا وأسروا .وصاح خالد :ال يطبخن رجل قدراً وال يسخن ماء ،إال
وأثفيته رأس رجل .
179
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وتلطف رجل من بين أسد حىت وثب على عجز راحلة خالد ،فقال :أنشدك اهلل ،أن ال
يكون هالك مضر على يدك ،يا خالد ! حكمك يف بين أسد .فنادى خالد :من قام فهو
آمن ،فقام الناس كلهم .ومسعت بذلك بنو عامر ،فأعلنوا اإلسالم .وأمر خالد باحلظائر أن
تبىن ،مث أوقد فيها النار .مث أمر باألسرى فألقيت فيها ،وألقي فيها يومئذ حامية بن سبيع
الذي استعمله رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على صدقات قومه .وأخذت أم طليحة ،
فعرض عليها اإلسالم ،فوثبت .وأخذت فحمة من النار ،وهي تقول :يا موت عم صباحاً
،كافحته كفاحاً إذ مل أجد براحاً .
وذكر الواقدي :أن خالداً مجع األسرى يف احلظائر ،مث أضرمها عليهم فاحرتقوا أحياء ،ومل
حيرق أحداً من فزارة .
فقيل لبعض أهل العلم :مل حرق هؤالء من بني أهل الردة ؟ فقال :بلغته عنهم مقالة سيئة ،
وثبتوا على ردهتم .
وعن ابن عمر ،قال :شهدت بزاخة مع خالد ،فأظفرنا اهلل على طليحة ،وكنا كلما أغرنا
على قوم سبينا الذراري ،واقتسمنا األموال .
وبعث بعيينة إىل أيب بكر جمموعة يداه يف وثاقه ،فجعل غلمان املدينة ينخسونه باجلريد ،
ويضربونه .ويقولون :أي عدو اهلل ،أكفرت باهلل بعد إميانك ؟ فيقول :واهلل ما كنت آمنت
باهلل قط .
وأخذ خالد من بين عامر وغريهم من أهل الردة -ممن بايعه على اإلسالم -كل ما ظهر من
سالحهم ،واستحلفهم على ما غيبوا منه ،فإذا حلفوا تركهم ،وإن أبوا شدهم أسرى حىت
أتوا مبا عندهم .فأخذ منهم سالحاً كثرياً ،فأعطاه أقواماً حيتاجون إليه يف قتال عدوهم ،
وكتبه عليهم مث ردوه بعد .
وحدث يزيد بن أيب شريك الفزاري عن أبيه ،قال :قدمت مع أسد وغطفان على أيب بكر
وافداً ،حني فرغ خالد منهم .فقال أبو بكر :اختاروا بني خصلتني :حرب جملية ،أو سلم
خمزية .فقال خارجة بن حصن :هذه احلرب اجمللية قد عرفناها ،فما السلم املخزية ؟ قال :
تشهدون أن قتالنا يف اجلنة ،وقتالكم يف النار .وأن تردوا علينا ما أخذمت منا ،وال نرد
عليكم ما أخذنا منكم .وأن تدوا قتالنا ،كل قتيل مائة بعري ،منها أربعون يف بطوهنا
أوالدها ،وال ندي قتالكم .ونأخذ منكم احللقة والكراع ،وتلحقون بأذناب اإلبل حىت
يري اهلل خليفة نبيه واملؤمنني ما شاء فيكم ،أو يرى منكم إقباالً ملا خرجتم منه .فقال
خارجة :نعم ،يا خليفة رسول اهلل .فقال أبو بكر :عليكم عهد اهلل وميثاقه أن تقوموا
بالقرآن آناء الليل وآناء النهار .وتعلمون أوالدكم ونساءكم ،وال متنعوا فرائض اهلل يف
أموالكم .قالوا :نعم .قال عمر :يا خليفة رسول اهلل ،كل ما قلت كما قلت ،إال أن يدوا
من قتل منا ،فإهنم قوم قتلوا يف سبيل اهلل .فتتابع الناس على قول عمر .
فقبض أبو بكر كل ما قدر عليه من احللقة والكراع ،فلما تويف رأى عمر :أن اإلسالم قد
ضرب جبرانه ،فدفعه إىل أهله وإىل ورثة من مات منهم .
عهد إلينا ذلك ،وليس بنا قوة .وقد كل املسلمون ،وعجف كراعهم ،فقال خالد :ال
أستكره أحداً ،وسار مبن تبعه .وأقامت األنصار يوماً أو يومني ،مث تالومت فيما بينها .
وقالت :واهلل ما صنعنا شيئاً ،واهلل لئن أصيب القوم ليقولن خذلتموهم ،وإهنا ملسبه عارها
باق إىل آخر الدهر ،ولو أصابوا فتحاً ،إنه خلري منعتموه ،فابعثوا إىل خالد يقيم حىت تلحقوه
.فبعثوا إليه .فأقام حىت حلقوه ،فاستقبلهم يف كثرة من املسلمني حىت نزلوا .
وساروا مجيعاً حىت انتهوا إىل البطاح ،من أرض بين متيم ،فلم جيدوا هبا مجعاً .ففرق خالد
السرايا يف نواحيها ،فأتت سرية منهم بين حنظلة -وسيدهم مالك بن نويرة -وكان قد بعثه
النيب صلى اهلل عليه وسلم مصدقاً على قومه ،فجمع صدقاهتم فلما بلغته وفاة النيب صلى اهلل
عليه وسلم ،جفل إبل الصدقة -أي ردها إىل أهلها فلذلك مسي اجلفول -ومجع قومه ،فقال
:إن هذا الرجل قد هلك ،فإن قام قائم بعده :رضي منكم أن تدخلوا يف أمره ،ومل يطلب
ما مضى ،ومل تكونوا أعطيتم الناس أموالكم ،فتسارع إليه مجهورهم .فقام فيهم قعنب
-سيد بين يربوع -فقال .يا بين متيم ! الترجعوا يف صدقاتكم ،فريجع اهلل يف نعمه عليكم ،
وال تتجردوا للبالء ،وقد ألبسكم اهلل العافية وال تستشعروا خوف الكفر ،وأنتم يف أمن
اإلسالم ،إنكم أعطيتم قليالً من كثري ،واهلل مذهب الكثري بالقليل ،ومسلط على أموالكم
غداً من يأخذها على غري الرضى ،وإن منعتموها قتلتم ،فأطيعوا اهلل واعصوا مالكاً .فقام
مالك ،فقال :يا بين متيم ! إمنا رددت عليكم أموالكم إكراماً لكم ،وإنه ال يزال يقوم منكم
قائم خيطئين ،واهلل ما أنا بأحرصكم على املال ،وال بأجزعكم من املوت ،وال بأخفاكم
شخصاً إن أقمت ،وال بأخفاكم راحلة إن هربت .فرتضوه عند ذلك وأسندوا أمرهم إليه ،
وأىب اهلل إال أن يتم أمره فيهم .وقال مالك يف ذلك :
وقال رجال :مالك مل يسدد وقال رجال :سدد اليوم مالك
فلم أخط رأياً يف املعاد والالبد فقلت :دعوين الأبا ألبيكمو
مصررة أخالفها مل جترد فدونكوموها إهنا صدقاتكم
فأرهنكم يوماً مبا قلت يدي سأجعل نفسي دون ما حتذرونه
182
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
أطعنا وقلنا :الدين دين حممد فإن قام باألمر اجملرد قائم
وملا بلغ ذلك أبا بكر واملسلمني حنقوا عليه ،وعاهد اهلل خالد لئن أخذه ليجعلن هامته أثفية
للقدر .فلما وصلتهن السرية -مع طلوع الشمس -فزعوا إىل السالح ،وقالوا :من أنتم ؟
قالوا :حنن عباد اهلل املسلمون .قالوا وحنن عباد اهلل املسلمون .قالوا :فضعوا السالح ،
ففعلوا ،فأخذوهم .وجاؤوا هبم إىل خالد .فقال له أبو قتادة -وهو مع السرية : -أقاتل
أنت هؤالء ؟ قال :نعم ،قال :إهنم اتقونا باإلسالم ،أذنا فأذنوا ،وصلينا فصلوا .وكان
عهد أيب بكر :أميا دار غشيتموها ،فسمعتم األذان فيها بالصالة ،فأمسكوا عن أهلها حىت
تسألوهم :ماذا نقموا ؟ وماذا يبغون ؟ وإن مل تسمعوا األذان :فشنوا عليها الغارة ،فاقتلوا
وحرقوا .فأمر هبم خالد فقتلوا ،وأمر برأس مالك ،فجعل أثفية للقدر ،ورثاه أخوه متمم
بقصائد كثرية .
وروي أن عمر قال له :لوددت أين رثيت أخي زيداً مبثل ما رثيت به أخاك مالكاً .فقال
متمم :لو علمت أن أخي صار حيث صار أخوك ما رثيته .فقال عمر :ما عزاين أحد عن
أخي مبثل تعزيته .
وجد بعدو اهلل ضالله ،بعد وفاة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم .وأصفقت معه بنو حنيفة
على ذلك ،إال أفذاذاً من ذوي عقوهلم .
وكان من أعظم ما فنت به قومه :شهادة الرجال بن عنفوة له بإشراك النيب صلى اهلل عليه
وسلم إياه يف األمر .وكان الرجال من الوفد الذين قدموا على النيب صلى اهلل عليه وسلم .
فقرأ القرآن ،وتعلم السنن .قال ابن عمر :وكان من أفضل الوفد عندنا ،فكان أعظم فتنة
على أهل اليمامة من غريه ،ملا كان يعرف به .
قال رافع بن خديج :كان بالرجال من اخلشوع ولزوم قراءة القرآن واخلري فيما يرى -شئ
عجب ،وكان ابن عمر اليشكري من أشرافهم ،وكان صديقاً للرجال .وكان مسلماً يكتم
إسالمه .فقال شعراً فشا يف اليمامة حىت كان الوليدة والصيب ينشدونه :
طال ليلي بفتنة الرجال يا سعاد الفؤاد بنت أثال
عليكم كفتنة الدجال إهنا يا سعاد من حدث الدهر
عزيز ذو قوة وحمال فنت القوم بالشهادة واهلل
مـر قباالً وما احتذى من قبال اليساوي الذي يقول من األ
ـوم رجال ليسوا لنا برجال إن ديين ديـن النيب ويف القـ
ورجال ليسوا لنا برجال أهلك القوم حمكم بن طفيل
فلن يرجعوه أخرى الليايل بزهم أمرهم مسيلمة اليوم
ـرب وساءت مقالة األنذال: قلت للنفس إذ تعاظمها الصـ
له فرجة كحل العقال رمبا جتزع النفوس من األمر
ــه حنيفاً فإنين الأبايل إن تكن ميتيت على فطرة اللـ
فبلغ ذلك مسيلمة وحمكم وأشرافهم ،ففاهتم .وحلق خبالد ،فأخربه حباهلم ،ودله على
عوراهتم .
وعظمت فتنة بين حنيفة بكذاهبم ،إذا كان يدعو ملريضهم ،ويربك على مولودهم ،وال
ينهاهم عن االغرتار به ما يريهم اهلل ما حيل به من اخليبة واخلسران .
184
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
جاءه رجل مبولود ،فمسح رأسه ،فقرع ،وقرع كل مولود له .وجاءه آخر ،فقال :إين
ذو مال ،وليس يل مولود يبلغ سنتني حىت ميوت ،إال هذا املولود .وهو ابن عشر سنني ،
ويل مولود ولد أمس .فأحب أن تبارك فيه ،وتدعو أن يطيل اهلل عمره .قال :سأطلب لك
،فرجع الرجل إىل منزله مسروراً ،فوجد األكرب قد تردى يف بئر ،ووجد األصغر يف نزع
املوت ،فلم ميس ذلك اليوم حىت ماتا مجيعاً .وتقول أمهما :ال واهلل ،ما أليب مثامة عند إهله
منزلة حممد .
وحفرت بنو حنيفة بئراً فاستعذبوها ،فأتوا مسيلمة ،وطلبوا أن يبارك فيها ،فبصق فيها
فعادت ملحاً أجاجاً .
وكان الصديق رضي اهلل عنه قد عهد إىل خالد -إذا فرغ من أسد وغطفان والضاحية -أن
يقصد اليمامة ،وأكد عليه ذلك .فلما أظفر اهلل خالداً هبم ،تسلل بعضهم إىل املدينة ،
يسألون أبا بكر :أن يبايعهم على اإلسالم .فقال :بيعيت إياكم وأماين لكم :أن تلحقوا
خبالد ،فمن كتب إيل خالد :أنه حضر معه اليمامة ،فهو آمن .وليبلغ شاهدكم غائبكم ،
وال تقدموا علي .
قال ابن اجلهم :أولئك الذين حلقوا به :هم الذين انكسروا باملسلمني يوم اليمامة ثالث
مرات ،وكانوا على املسلمني بالء .
قال شريك الفزاري :كنت ممن شهد بزاخة ،مع عيينة بن حصن ،مث رزقين اهلل اإلنابة ،
فجئت أبا بكر ،فأمرين باملسري إىل خالد .وكتب معي إليه :أما بعد ،فقد جاءين كتابك ،
تذكر ما أظفرك اهلل بأسد وغطفان .وإنك سائر إىل اليمامة ،فاتق اهلل وحده ال شريك له ،
وعليك بالرفق مبن معك من املسلمني ،كن هلم كالوالد .وإياك يا ابن الوليد وخنوة بين
املغرية ،فإين عصيت فيك من مل أعصه يف شئ قط .فانظر بين حنيفة .فإنك مل تلق قوماً
يشبهوهنم ،كلهم عليك .وهلم بالد واسعة .فإذا قدمت فباشر األمر بنفسك .واستشر من
معك من أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم .واعرف هلم فضلهم ،فإذا لقيت القوم ،
فأعد لألمور أقراهنا ،فإن أظفرك اهلل هبم ،فإياك واإلبقاء عليهم ،أجهز على جرحيهم ،
185
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
واطلب مدبرهم ،وامحل أسريهم على السيف ،وهول فيهم القتل ،وحرقهم بالنار ،وإياك
أن ختالف أمري ،والسالم .
وملا اتصل بأهل اليمامة مسري خالد إليهم ،بعد الذي صنع بأمثاهلم ،حريهم ذلك .وجزع له
حمكم بن طفيل سيدهم ،وهم أن يرجع إىل اإلسالم .مث استمر على ضاللته ،وكان صديقاً
لزياد بن لبيد األنصاري .فقال له خالد :لو ألقيت إليه شيئاً تكسره به ؟ فإنه سيدهم ،
وطاعتهم بيده .فبعث إليه هذه األبيات :
هلل در أبيكم حية الوادي يا حمكم بن طفيل قد أتيح لكم
كالشاء أسلمها الراعي آلساد يا حمكم بن طفيل إنكم نفر
من دار قوم وإخوان وأوالد ما يف مسيلمة الكذاب من عوض
تعفي فوارس قوم شجوها بادي فأكفف حنيفة عنه قبل نائحة
حتت العجاجة مثل األغطف العادي ال تأمنوا خالداً بالربد معتجراً
إن جالت اخليل فيها بالقنا الصادي ويل اليمامة ويل ال فراق لـه
حىت تكونوا كأهل احلجر أو عاد واهلل ال تنثين عنكم أعنتها
ووردت على حمكم ،وقيل له :هذا خالد يف املسلمني .فقال :رضي خالد أمراً ،ورضينا
غريه ،وما ينكر خالد أن يكون يف بين حنيفة من أشرك يف األمر ؟ فسريى -إن قدم علينا-
يلق قوماً ليسوا كمن لقي .مث خطبهم ،فقال :إنكم تلقون قوماً يبذلون أنفسهم دون
صاحبهم ،فابذلوا نفوسكم دون صاحبكم .
وكان عمري بن ضاىبء يف أصحاب خالد ،ومل يكن من أهل حجر ،كان من أهل ملهم ،
فقال له خالد :تقدم إىل قومك فاكسرهم .فأتاهم ،فقال :يا أهل اليمامة ! أظلكم خالد يف
املهاجرين واألنصار .قد تركت القوم واهلل يتبايعون على فتح اليمامة ،قد قضوا وطراً من أسد
وغطفان ،وأنتم يف أكفهم .وقوهلم :ال قوة إال باهلل ،إين رأيت أقواماً إن غلبتموهم بالصرب
غلبوكم بالنصر .وإن غلبتموهم على احلياة غلبوكم على املوت .وان غلبتموهم بالعدد
غلبوكم باملدد ،لستم والقوم سواء ،اإلسالم مقبل ،والشرك مدبر ،وصاحبهم نيب ،
186
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وصاحبكم كذاب .ومعهم السرور ،ومعكم الغرور .فاآلن -والسيف يف غمده ،والنبل يف
جفريه قبيل أن يسل السيف ،ويرمي بالسهم ،فكذبوه واهتموه .
وقال مثامة بن أثال فيهم ،فقال :امسعوا مين ،وأطيعوا أمري ،ترشدوا .إنه ال جيتمع نبيان
بأمر واحد .إن حممداً ال نيب بعده ،وال نيب يرسل معه ،مث قرأ :بسم اهلل الرمحن الرحيم "
حم * تنزيل الكتاب من اهلل العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي
الطول ال إله إال هو إليه املصري " ،هذا كالم اهلل عز وجل .أين هذا من :يا ضفدع يا
ضفدعني .نقي ،كم تنقني؟ نصفك يف املاء ونصفك يف الطني .ال الشراب متنعني وال املاء
تكدرين ،وال الطني تفارقني .لنا نصف األرض ،ولقريش نصفها ،ولكن قريشاً قوم
يعتدون .واهلل إنكم لرتون هذا ما خيرج من إل .وقد استحق حممد أمراً أذكره به :خرجت
معتمراً ،فأخذتين رسله يف غري عهد وال ذمة ،فعفا عن دمي ،فأسلمت وأذن يل يف اخلروج
إىل بيت اهلل .فتويف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وقام هذا األمر رجل من بعده ،هو
أفقههم يف أنفسهم ،ال تأخذه يف اهلل لومة الئم .مث بعث إليكم رجالً ،ال يسمى بامسه ،وال
باسم أبيه ،يقال له :سيف اهلل ،معه سيوف هلل كثرية ،فانظروا يف أمركم ،فآذاه القوم مجيعاً
،أو من آذاه منهم .وقال مثامة يف ذلك :
فإنك يف األمر مل تشرك مسيلمة ارجع والمتحك
وكان هواك هوى األنوك كذبت على اهلل يف وحيه
وإن يأهتم خالد ترتك ومناك قومك أن مينعوك
مالك يف األرض من مسلك فما لك من مصعد يف السماء
طلب رجل أصاب فيهم دماً ،وهم ال يشعرون بإقبال خالد ،فسألوهم :من أنتم ؟ فقالوا :
من بين حنيفة ،فقالوا :ما تقولون يف صاحبكم ؟ فشهدوا أنه رسول اهلل ،فقالوا جملاعة :ما
تقول أنت ؟ فقال :ما كنت أقرب مسيلمة ،وقد قدمت على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
فأسلمت ،وما غريت وال بدلت .فضرب خالد أعناقهم ،حىت إذا بقي سارية بن عامر ،
قال :يا خالد ! إن كنت تريد بأهل اليمامة خرياً أو شراً ،فاستبق جماعة .وكان جماعة
شريفاً ،فلم يقتله .وترك أيضاً سارية ،وأمر هبما فأوثقا يف جوامع من حديد .
وكان يدعو جماعة -وهو كذلك -فيتحدث معه ،وهو يظن أن خالداً يقتله .فقال :يا ابن
املغرية ! إن يل إسالماً ،واهلل ما كفرت ،وأعاد كالمه األول .فقال خالد :إن بني القتل
والرتك منزلة ،وهي احلبس ،حىت يقضي اهلل يف حربنا ما هو قاض .ودفعه إىل أم متمم
زوجته ،وأمرها أن حتسن إساره .فظن جماعة أن خالداً يريد حبسه ألجل أن خيربه عن عدوه
ويشري عليه .فقال :يا خالد ،لقد علمت أين قدمت على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،
فبايعته على اإلسالم .وأنا اليوم على ما كنت عليه أمس .فإن يكن كذاب خرج فينا ،فإن
اهلل يقول " :وال تزر وازرة وزر أخرى " ،فقال :يا جماعة ! تركت اليوم ما كنت عليه
باألمس ،وكان رضاك بأمر هذا الكذاب ،وسكوتك عنه -وأنت أعز أهل اليمامة ،وقد
بلغك مسريي -إقراراً له ،ورضى مبا جاء به ،فهال أبديت عذراً ،فتكلمت فيمن تكلم ؟
فقد تكلم مثامة .فرد وأنكر ،وتكلم اليشكري ،فإن قلت :أخاف قومي ،فهال عمدت إيل
،أو بعثت إيل رسوالً ؟ فقال :إن رأيت يا ابن املغرية ! أن تعفو عن هذا كله ؟ فقال :قد
عفوت عن دمك ،ولكن يف نفسي من تركك حرج .
فقال له ذات يوم :أخربين عن صاحبك ،ما الذي يقرئكم ؟ هل حتفظ منه شيئاً ؟ قال :نعم
،فذكر له شيئاً من رجزه .فضرب خالد بإحدى يديه على األخرى ،وقال :يا معشر
املسلمني ! امسعوا إىل عدو اهلل ،كيف يعارض القرآن ؟ فقال :وحيك ،يا جماعة ! أراك سيداً
عاقالً ،تسمع إىل كتاب اهلل ،مث انظر كيف عارضه عدو اهلل ؟ فقرأ عليه خالد :بسم اهلل
الرمحن الرحيم " :سبح اسم ربك األعلى * الذي خلق فسوى " .مث قال خالد :أفما كان
188
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
يف هذا لكم ناه ،وال زاجر؟ مث قال :هات من كذب اخلبيث .فذكر له بعض رجزه .فقال
خالد :وقد كان عندكم حقاً وكنتم تصدقونه ؟ فقال :لو مل يكن عندنا حقاً ملا لقيك غداً
أكثر من عشرة آالف سيف ،يضاربونك حىت ميوت األعجل .فقال خالد :إذاً يكفيناهم
اهلل ،ويقر دينه ،فإياه يعبدون ودينه يؤيدون .
قال عبيد اهلل بن عبد اهلل :ملا أشرف خالد ،وأمجع أن ينزل عقرباء ،ودفع الطالئع أمامه ،
فرجعوا إليه فأخربوه :أن مسيلمة ومن معه قد نزلوا عقرباء ،فشاور أصحابه :أن ميضي إىل
اليمامة ،أو ينتهي إىل عقرباء .فأمجعوا أن ينتهي إىل عقرباء ،فزحف خالد باملسلمني إليها ،
وكان املسلمون يسألون عن الرجال بن عنفوة ،فإذا الرجل على مقدمة مسيلمة ،فلعنوه
وشتموه .فلما فرغ خالد من ضرب عسكره -وبنو حنيفة تسوي صفوفها -هنض خالد إىل
صفوفه فصفها .وقدم رايته مع زيد بن اخلطاب ،ودفع راية األنصار إىل ثابت بن قيس بن
مشاس ،فتقدم هبا .وجعل على ميمنته :أبا حذيفة بن عتبة ،وعلى ميسرته :شجاع بن
وهب ،واستعمل على اخليل الرباء بن مالك ،مث عزله ،واستعمل أسامة بن زيد .فأقبل بنو
حنيفة ،وقد سلوا السيوف .فقال خالد :يا معشر املسلمني ! أبشروا ،فقد كفاكم اهلل أمر
عدوكم ،ما سلوا السيوف من بعد إال لريهبوا .فقال جماعة :كال ،يا أبا سليمان ! ولكنها
اهلندوانية ،خشوا حتطمها ،وهي غداً باردة ،فأبرزوها للشمس لتسخن متوهنا .فلما دنوا
من املسلمني نادوا :إنا نعتذر إليكم من سلنا سيوفنا ،واهلل ما سللناها ترهيباً ،ولكن غداة
باردة ،فخشينا حتطمها ،فأردنا أن تسخن متوهنا إىل أن نلقاكم ،فسرتون .
فاقتتلوا قتاالً شديداً ،وصرب الفريقان صرباً طويالً ،حىت كثر القتل واجلراح يف الفريقني .
واستحر القتل يف املسلمني ومحلة القرآن ،حىت فنوا إال قليالً .وهزم كل من الفريقني حىت
دخل املسلمون عسكر املشركني ،واملشركون عسكر املسلمني مراراً .وجعل زيد بن
اخلطاب -ومعه الراية -يقول :اللهم إين أبرأ إليك مما جاء به مسيلمة ،وأعتذر إليك من فرار
أصحايب ،وجعل يشتد بالراية يف حنور العدو ،مث ضارب بسيفه حىت قتل ،رمحه اهلل ورضي
189
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
عنه .فأخذ الراية سامل موىل أيب حذيفة ،فقال املسلمون :إنا خناف أن نؤتى من قبلك .
فقال :بئس حامل القرآن أنا ،إذا أتيتم من قبلي .
ونادت األنصار ثابت بن قيس -ومعه رايتهم : -الزمها ،فإهنا مالك القوم ،فتقدم سامل
فحفر لرجليه [حىت بلغ أنصاف ساقيه ،وحفر ثابت لرجليه] مثل ذلك ،مث لزما رايتيهما .
ولقد كان الناس يتفرقون يف كل وجه ،وإن ساملاً وثابتاً لقائمان ،حىت قتل سامل ،وقتل أبو
حذيفة مواله .
قال وحشي بن حرب :اقتتلنا قتاالً شديداً ،حىت رأيت شهب النار خترج من خالل السيوف
،حىت مسعت هلا صوتاً كاألجراس .
القتل ،حىت انقطعت احلرب بعد العصر .فصلى بنا خالد الظهر والعصر .مث بعث السقاة
يطوفون على القتلى ،فطفت معهم .فمررت بعامر بن ثابت ،وإىل جنبه رجل من بين حنيفة
به جراح ،فسقيت عامراً .فقال احلنفي :اسقين فدى لك أيب وأمي .فقلت :ال ،وال كرامة
،ولكين أجهز عليك .قال :أحسنت ،أسألك مسألة ال شئ عليك فيها .قلت :ما هي ؟
قال :أبو مثامة ،ما فعل ؟ قلت :واهلل قتل ،قال :نيب ضيعه قومه .
وملا قتل منهم من قتل ،وكانت هلم أيضاً يف املسلمني مقتلة عظيمة ،قد أبيح أكثر أصحاب
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وقيل :ال تغمدوا السيوف ،وفينا وفيهم عني تطرف ،
وكان فيمن بقي من املسلمني جراحات كثرية .فلما أمسى جماعة ،أرسل إىل قومه ليالً أن
ألبسوا السالح النساء والذرية ،مث إذا أصبحتم فقوموا مستقبلي الشمس على حصونكم ،
حىت يأتيكم أمري .وبات املسلمون يدفنون قتالهم ،فلما فرغوا ،جعلوا يتكمدون بالنار من
اجلراح .فلما أصبحوا أمر خالد ،فسيق جماعة يف احلديد ،يعرفهم القتلى فمر برجل وسيم ،
فقال :يا جماعة ،أهو هذا ؟ قال :هذا أكرم منه ،هذا حمكم بن الطفيل ،إن الذي تبتغون
لرجل أصيفر أخينس .فوجدوه ،فوقف عليه خالد ،فحمد اهلل كثرياً ،وأمر به فألقي يف
البئر اليت كان يشرب منها .
وكان خالد يرى أنه مل يبق منهم أحد إال من ال عتاد عنده ،فقال :يا جماعة ! هذا صاحبكم
الذي فعل بكم األفاعيل ،ما رأيت عقوالً أضعف من عقول أصحابك ،مثل هذا فعل بكم
ما فعل ؟ فقال جماعة :قد كان ذلك ،وال تظن أن احلرب انقطعت ،وإن قتلته .إن مجاعة
الناس ،وأهل البيوتات لفي احلصون ،فانظر .فرفع خالد رأسه ،فإذا السالح واخللق الكثري
على احلصون ،فرأى أمراً غمه .مث استند ساعة ،مث أدركته الرجولة ،فقال ألصحابه :يا
خيل اهلل ! اركيب ،يا صاحب الراية قدمها .فقال جماعة :إين لك ناصح ،وإن السيف قد
أفناك ،فتعال أصاحلك عن قومي .وقد أخل خبالد مصاب أهل السابقة ،ومن كان عنده
الغناء .فقد رق وأحب املوادعة ،مع عجف الكراع .فاصطلحوا على الصفراء والبيضاء ،
واحللقة والكراع ونصف السيب .مث قال جماعة :إين آت القوم فعارض عليهم ما صنعت .
191
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
قال :فانطلق ،فذهب .مث رجع ،فأخربه :أهنم أجازوه .فلما بان خلالد أمنا هم النساء
والصبيان ،قال :ويلك يا جماعة ! خدعتين .قال :قومي ،فما أصنع ؟ وما وجدت من
ذلك بداً .
وقال أسيد بن حضري وغريه خلالد :اتق اهلل ،وال تقبل الصلح .فقال :إنه قد أفناكم السيف
.قالوا :وأفىن غرينا أيضاً .قال :ومن بقي منكم جريح .قالوا :ومن بقي من القوم
جرحى ،ال ندخل يف الصلح أبداً .أغد بنا عليهم ،حىت يظفرنا اهلل هبم أو نبيد عن آخرنا.
امحلنا على كتاب أيب بكر إن أظفرك اهلل هبم ،فال تبق منهم أحداً ،فبينا هم على ذلك ،إذ
جاء كتاب أيب بكر يقطر الدم ،وفيه :إن أظفرك اهلل هبم ،فال تستبق رجالً مرت عليه
املوسى .فتكلمت األنصار يف ذلك ،وقالوا :أمر أيب بكر فوق أمرك .فقال :إين واهلل ما
ابتغيت يف ذلك إال الذي هو خري .رأيت أهل السابقة وأهل القرآن قد قتلوا ،ومل يبق معي
إال من ال بقاء له على السيف لو جل عليهم .فقبلت الصلح ،مع أهنم قد أظهروا اإلسالم ،
واتقوا بالراح .
ومت الصلح ،وكتب إىل أيب بكر يعتذر إليه .فتكلم عمر يف شأن خالد بكالم غليظ ،فقال
أبو بكر :دع عنك هذا .فقال :مسعاً وطاعة .وقال أبو بكر :ليته محلهم على السيف ،
فلن يزالوا من كذاهبم يف بلية إىل يوم القيامة ،إال أن يعصمهم اهلل .وكانت وقعة اليمامة يف
ربيع األول سنة اثنيت عشرة .
وذكر عمر يوماً وقعة اليمامة ،ومن قتل فيها من أهل السابقة ،فقال :أحلت السيوف على
أهل السوابق ،ومل يكن املعول يومئذ إال عليهم .خافوا على اإلسالم أن يكسر بابه ،فيدخل
منه إن ظهر مسيلمة ،فمنع اهلل اإلسالم هبم حىت قتل عدوه ،وأظهر كلمته وقدموا -رمحهم
اهلل -على ما يسرون به من ثواب جهادهم من كذب على اهلل وعلى رسوله ،فاستحر هبم
القتل ،فرحم اهلل تلك الوجوه .
192
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وقال يعقوب بن سعيد بن عبيد الزهري :قتل من بين حنيفة أكثر من سبعة آالف ،وكان
داؤهم خبيثاً ،والطارىء منهم على اإلسالم عظيماً ،فاستأصل شأفتهم ،واحلمد هلل رب
العاملني .ذكر ردة بين سليم :
ذكر الواقدي -من حديث سفيان بن أيب العرجاء السليمي .وكان عاملاً بردة قومه -قال :
أهدى ملك من ملوك غسان إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم لطيمة فيها مسك وعنرب ،وخيل .
فخرجت هبا الرسل ،حىت إذا كانت بأرض بين سليم بلغتهم وفاة النيب صلى اهلل عليه وسلم ،
فتشجع بعض بين سليم على أخذها والردة ،وأىب بعضهم من ذلك ،وقال :إن كان حممد قد
مات ،فإن اهلل حي ال ميوت ،فانتهب الذين ارتدوا منهم اللطيمة .
فلما ويل أبو بكر رضي اهلل عنه :كتب إىل معن بن حاجر ،فاستعمله على من أسلم من بين
سليم ،وكان قد قام يف ذلك قياماً حسناً ،ذكر وفاة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،
وذكر الناس ما قال اهلل لنبيه " :إنك ميت وإهنم ميتون " ،وقال " :وما حممد إال رسول قد
خلت من قبله الرسل " ،مع آي من كتاب اهلل .فاجتمع إليه بشر من بين سليم .واحناز أهل
الردة منهم ،فجعلوا يغريون على الناس .
قتل الفجاءة وتحريقه: W
فلما بدا أليب بكر أن يوجه خالداً ،كتب إىل معن أن يلحق خبالد ،ويستعمل على عمله
أخاه طريفة بن حاجر ،ففعل .وأقام طريفة يكالب من ارتد مبن معه من املسلمني ،إذ قدم
الفجاءة -وامسه إياس بن عبد اهلل بن عبد ياليل -على أيب بكر .فقال :إين مسلم ،وقد أردت
جهاد من ارتد ،فامحلين ،فلو كان عندي قوة مل أقدم عليك .فسر أبو بكر مبقدمه ،ومحله
على ثالثني بعرياً ،وأعطاه سالحاً .فخرج يستعرض املسلم والكافر ،يقتلهم ويأخذ أمواهلم
.ويصيب من امتنع منهم ،ومعه رجل من بين الشريد .يقال له :جنبة بن أيب امليثاء ،مع
قوم من أهل الردة .فلما بلغ أبا بكر خربه ،كتب إىل طريفة بن حاجر :
بسم اهلل الرمحن الرحيم .من أيب بكر إىل طريفة ،سالم عليك .أما بعد ،فإن عدو اهلل
الفجاءة أتاين .فزعم أنه مسلم وسألين :أن أقويه على قتال من ارتد عن اإلسالم ،فحملته
193
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وسلحته ،وقد انتهى إيل من يقني اخلرب أن عدو اهلل قد استعرض الناس :املسلم واملرتد ،
يأخذ أمواهلم ويقتل من خالفه منهم .فسر إليه مبن معك من املسلمني ،حىت تقتله ،أو
تأخذه ،فتأتيين به .
فقرأ طريفة الكتاب على قومه ،فحشدوا إىل الفجاءة .فقدم عليه ابن املثىن ،فقتل جنبة،
وهرب منه إىل الفجاءة .مث زحف طريفة إىل الفجاءة ،فتصادما .فلما رأى الفجاءة اخللل يف
أصحابه ،قال :يا طريفة ! واهلل ما كفرت ،وإين ملسلم .وما أنت بأوىل بأيب بكر مين ،أنت
أمريه وأنا أمريه .قال طريفة :إن كنت صادقاً فألق السالح ،مث انطلق إىل أيب بكر .فأخربه
خربك .فوضع السالح ،فأوثقه طريفة يف جامعة ،فقال :ال تفعل .فقال طريفة :هذا كتاب
أيب بكر إيل .فقال الفجاءة :مسعاً وطاعة .فبعث به يف جامعتة مع عشرة من بين سليم ،
فأرسل به أبو بكر إىل بين جشم ،فحرقته بالنار .
وقدم على أيب بكر -رضي اهلل عنه -قبيصة -أحد بين الظربان -فذكر أنه مسلم ومل يرتد
فأمره أن يقاتل مبن معه من ارتد ،فرجع قبيصة .فاجتمع إليه ناس كثري ،فخرج يتبع هبم أهل
الردة ،يقتلهم حيث وجدهم ،حىت مر ببيت محيضة بن احلكم الشريدي ،فوجده غائباً ،
جيمع أهل الردة ،ووجد جاراً له مرتداً ،فقتله واستاق ماله .فلما أتى محيضة أخربه أهله
خبرب جاره ،فخرج يف طلبهم ،فأدركهم ،فقال لقبيصة :قتلت جاري ؟ فقال :إن جارك
ارتد عن اإلسالم .فقال :أمن بني من كفر تعدو على جار جلأ إيل ألمنعه ؟ فقال قبيصة :قد
كان ذلك .فطعنه محيضة بالرمح ،فوقع عن بعريه ،مث قتله .وكان قبيصة قد فرق أصحابه
قبل أن يلحقه محيضة .
وكتب أبو بكر رضي اهلل عنه إىل خالد :إن أظفرك اهلل ببين حنيفة ،فأقل اللبث فيهم ،حىت
تنحدر إىل بين سليم ،فتطأهم وطأة يعرفون هبا ما منعوا ،فإنه ليس بطن من العرب أنا أغيظ
عليه مين عليهم ،فإن أظفرك اهلل هبم ،فال آلوك فيهم :أن حترقهم بالنار ،وهول فيهم القتل
حىت يكون نكاالً هلم.
194
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
ومسعت بنو سليم بإقبال خالد ،فاجتمع منهم بشر كثري ،واستجلبوا من بقي من العرب
مرتداً .وكان الذي مجعهم :أبو شجرة بن عبد العزى .فانتهى خالد إىل مجعهم مع الصبح
،فصاح خالد يف أصحابه ،وأمرهم بلبس السالح .مث صفهم ،وصفت بنو سليم ،وقد كل
املسلمون وعجف كراعم وخفهم ،وجعل خالد يلي القتال بنفسه ،حىت أثخن فيهم القتل .
مث محل عليهم محلة واحدة ،فاهنزموا .وأسر منهم بشر كثري .مث حظر هلم احلظائر وحرقهم
فيها .
وجرح أبو شجرة يومئذ يف املسلمني جراحات كثرية ،وقال يف ذلك أبياتاً ؟ منها :
وإين ألرجو بعدها أن أعمرا فرويت رحمي من كتيبة خالد
مث أسلم ،وجعل يعتذر ،وجيحد أن يكون قال البيت املتقدم .فلما كان زمن عمر رضي اهلل
عنه قدم املدينة ،وأناخ راحلته بصعيد بين قريظة مث أتى عمر -وهو يقسم بني الفقراء-
فقال :يا أمري املؤمنني ! أعطين ،فإين ذو حاجة .فقال :من أنت ؟ قال :أنا أبو شجرة .
قال :يا عدو اهلل ! ألست الذي تقول فرويت رحمي -البيت ؟ عمر سوء ،واهلل ما عشت
لك يا خبيث .مث جعل يعلوه بالدرة على رأسه ،حىت سبقه عدواً ،وعمر يف طلبه ،حىت
أتى راحلته فارحتلها .مث اشتد هبا يف حرة شوزان ،فما استطاع أن يقرب عمر حىت تويف .
وكان إسالمه ال بأس به .وكان إذا ذكر عمر ترحم عليه ،ويقول :ما رأيت أحداً أهيب
من عمر رضي اهلل عنه .
النصرانية ؟ وإين مل آتكم قط إال خبري ،وإن اهلل تعاىل بعث نبيه ،ونعى له نفسه ،فقال ":
إنك ميت وإهنم ميتون " ،وقال " :وما حممد إال رسول قد خلت من قبله الرسل " اآلية .
ويف لفظ أنه قال :ما شهادتكم على موسى ؟ قالوا :نشهد أنه رسول اهلل ،قال :فما
شهادتكم على عيسى؟ قالوا :نشهد أنه رسول اهلل ،قال :وأنا أشهد أن ال إله إال اهلل ،وأن
حممداً عبده ورسوله .عاش كما عاشوا ،ومات كما ماتوا ،وأحتمل شهادة من أىب أن
يشهد على ذلك منكم .فلم يرتد من عبد القيس أحد .
وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد استعمل أبان بن سعيد على البحرين ،وعزل العالء
بن احلضرمي ،فقال :أبلغوين مأمين ،فأشهد أمر أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،
فأحيا حبياهتم ،وأموت مبوهتم .فقالوا :ال تفعل ،فأنت أعز الناس علينا ،وهذا علينا وعليك
فيه مقالة ،يقال :فر من القتال .فأىب ،وانطلق يف ثالمثائة رجل يبلغونه املدينة .فقال له أبو
بكر رضي اهلل عنه :أال ثبت مع قوم مل يبدلوا ومل يرتدوا ؟ فقال :ما كنت ألعمل ألحد
بعد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم .فدعا أبو بكر العالء بن احلضرمي .فبعثه إىل البحرين
يف ستة عشر راكباً .وقال :امض ،فإن أمامك عبد القيس ،فسار .ومر بثمامة بن أثال
فأمده برجال من قومه بين سحيم ،مث حلق به .
فنزل العالء حبصن يقال له :جواثى ،وكان خمارق قد نزل مبن معه من بكر بن وائل :حصن
املشقر -حصن عظيم لعبد القيس -فسار إليهم العالء ،فيمن اجتمع إليه .فقاتلهم قتاالً
شديداً ،حىت كثر القتلى يف الفريقني ،واجلارود بن املعلى باخلط يبعث البعوث إىل العالء .
وبعث خمارق :احلطم بن شريح -أحد بين قيس بن ثعلبة -إىل مرزبان اخلط يستمده ،فأمده
باألساورة .فنزل احلطم ردم القداح -وكان حلف أن ال يشرب اخلمر حىت يرى هجراً -
وأخذ املرزبان اجلارود رهينة عنده .وسار احلطم وأجبر العجلي حىت حصلوا العالء جبواثى .
فقال عبد اهلل بن حذف ،وكان من صاحلي املسلمني :
وسكان املدينة أمجعينا أال أبلغ أبا بكر رسوال
قعود يف جواثى حمصرينا فهل لكمو إىل نفر يسري
196
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
197
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
مث سار العالء إىل اخلط ،حىت نزل إىل الساحل .فجاءه نصراين ،فقال :ما يل إن دللتك
على خماضة ختوض منها اخليل إىل دارين ؟ قال :وما تسألين ؟ قال :أهل بيت بدارين .قال
:هم لك .فخاض به ،فظفر هبم عنوة ،وسىب أهلها .وقيل :حبس هلم البحر ،حىت
خاضوه ،وكانت جتري فيه السفن قبل ،مث جرت بعد .
ويروى :أن العالء وأصحابه جأروا إىل اهلل ،وتضرعوا إليه يف حبس البحر ،فأجاب اهلل
دعاءهم .وكان دعاؤهم :يا أرحم الرامحني ! يا كرمي ! يا حليم ! يا أحد ! يا صمد ! يا
حي يا حميي املوتى ،يا حي يا قيوم ،ال إله إال أنت يا ربنا ،فأجازوا ذلك اخلليج بإذن اهلل
مجيعاً ميشون على مثل رملة .فقال عفيف بن املنذر يف ذلك :
وأنزل بالكفار إحدى اجلالئل؟ أمل تر أن اهلل ذلل حبره
بأعظم من فلق البحار األوائل دعونا الذي شق البحار فجاءنا
وملا رأى ذلك أهل الردة من أهل البحرين ،صاحلوا على ما صاحل عليه أهل هجر .
وملا ظهر العالء على أهل الردة واجملوس :بعث رجاالً من عبد القيس إىل أيب بكر رضي اهلل
عنه ،فنزلوا على طلحة ،والزبري رضي اهلل عنهما ،وأخربومها بقيامهم يف أهل الردة .مث
دخلوا على أيب بكر ،وحضر طلحة والزبري ،فقالوا :يا خليفة رسول اهلل ! إنا قوم أهل
إسالم .وليس شئ أحب إلينا من رضاك ،وحنن حنب أن تعطينا أرضاً من البحر وطواحني .
وكلمه يف ذلك طلحة والزبري .
فأجاب ،وقالوا :اكتب لنا كتاباً ،فكتب .فانطلقوا بالكتاب إىل عمر رضي اهلل عنه .فلما
قرأه ،تفل يف الكتاب وحماه .ودخل طلحة والزبري ،فقاال :واهلل ما ندري ،أنت اخلليفة أم
عمر ؟ فقال أبو بكر :وما ذاك ؟ فأخربوه ،فقال أبو بكر :لئن كان عمر كره شيئاً من
ذلك ،فإين ال أفعله .فبينما هم على ذلك إذ جاء عمر ،فقال له أبو بكر :ما كرهت من
هذا ؟ قال :كرهت أن تعطي اخلاصة دون العامة ،وأنت تقسم على الناس ،فتأىب أن تفضل
أهل السابقة ،وتعطي هؤالء قيمة عشرين ألفاً دون الناس .فقال أبو بكر :وفقك اهلل ،
وجزاك خرياً .هذا هو احلق .
198
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
199
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
أو سلم خمزية .قالوا :أما احلرب اجمللية .فقد عرفناها ،فما السلم املخزية ؟ قال :تشهدون
أن قتالنا يف اجلنة وقتالكم يف النار ،وأن كل ما أخذناه منكم فهو لنا ،وما أخذمتوه فهو رد
لنا ،وأنا على حق وأنتم على باطل وكفر ،وحنكم فيكم مبا رأينا .فأقروا بذلك .فقال :
اخرجوا عزالً ،ال سالح معكم .ففعلوا ،فدخل املسلمون حصنهم ،فقال حذيفة :إين قد
حكمت فيكم :أن أقتل أشرافكم ،وأسيب ذراريكم .فقتل من أشرافهم مائة رجل ،وسيب
ذراريهم .وقدم حذيفة بسبيهم املدينة ،وهم ثالمثائة من املقاتلة ،وأربعمائة من الذرية
والنساء .وأقام عكرمة بدبا عامالً عليها أليب بكر .
فلما قدم حذيفة بسبيهم :أنزهلم أبو بكر رضي اهلل عنه دار رملة بنت احلارث ،وهو يريد أن
يقتل من بقي من املقاتلة .والقوم يقولون :واهلل ما رجعنا عن اإلسالم ،ولكن شححنا على
أموالنا .فيأىب أبو بكر أن يدعهم هبذا القول ،وكلمه فيهم عمر ،وكان رأيه أن ال يسبوا .
فلم يزالوا موقوفني يف دار رملة حىت مات أبو بكر .فدعاهم عمر ،فقال :انطلقوا إىل أي
بالد شئتم ،فأنتم قوم أحرار .فخرجوا حىت نزلوا البصرة .وكان فيهم أبو صفرة -والد
املهلب -وهو غالم يومئذ .وملا قدم غزو أهل دبا أعطاهم أبو بكر مخسة دنانري مخسة دنانري
.
وورث منه أبوه أبو قحافة السدس ،وملا ورد كتاب أيب بكر رضي اهلل عنه إىل أمراء األجناد
باستخالف عمر بايعوه .مث ساروا إىل فحل بناحية األردن ،وقد اجتمع هبا الروم .فكانت
وقعة فحل املشهورة ،ونصر اهلل املسلمني ،واحناز املشركون إىل دمشق .
بن الفرخزاد .فخرج بنفسه يف مائة وعشرين ألفاً .سوى التبع والرقيق ،حىت نزل القادسية ،
وبينه وبني املسلمني جسر القادسية ،وقيل :كانوا ثالمثائة ألف ،ومعهم ثالثة وثالثون فيالً.
واجتمع املسلمون حىت صاروا ثالثني ألفاً ،فكانت وقعة القادسية املشهورة اليت نصر اهلل فيها
املسلمني ،وهزم املشركني .فلما هزم اهلل الفرس ،كتب عمر إىل سعد :أن أعد للمسلمني
دار هجرة ،وإنه ال يصلح العرب إال حيث يصلح للبعري والشاء ،ويف منابت العشب ،فانظر
فالة إىل جانب حبر .فبعث سعد عثمان بن حنيف ،فارتاد هلم موضع الكوفة ،فنزهلا سعد
بالناس ،مث كتب عمر إىل سعد :أن ابعث إىل أرض اهلند -يريد البصرة -جنداً ،فلينزلوها.
فبعث إليها عتبة بن غزوان يف ثالمثائة رجل حىت نزهلا .وهو الذي بصر البصرة .
ويف هذه السنة :كانت وقعة الريموك املشهورة بالشام .وخرج عمر إىل الشام ،ونزل اجلابية
،فصاحل نصارى بيت املقدس -وكانوا قد أبوا أن جييبوا إىل الصلح مع أيب عبيدة ،حىت
يكون عمر يعقدون الصلح معه -فصاحلهم .واشرتط عليهم إجالء الروم إىل ثالث ،واجتمع
إليه أمراء األجناد .فلما رجع إىل املدينة وضع الديوان ،فأعطى العطايا على مقدار السابقة .
فبدأ بالعباس ،حرمة لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،مث باألقرب فاألقرب .
204
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وفتح اهلل على يديه من بالد الكفار ألفاً وستاً وثالثني مدينة .وخرب أربعة آالف بيعة
وكنيسة .وبىن أربعة آالف مسجد .ودون الدواوين ،ومصر األمصار .ووضع اخلراج ،
وأرخ التاريخ .وله الفضائل املشهورة ،والسوابق املأثورة ،رمحه اهلل ورضي عنه .
حوادث سنة أربع وعشرين :
مث دخلت السنة الرابعة والعشرون :
فاستخلف فيها عثمان بن عفان رضي اهلل عنه ،لغرة هالل احملرم -أو لثالث من احملرم -بعد
دفن عمر بثالثة أيام .أسلم قدمياً ،وكان من ذوي السابقة ،ومن ذوي الشرف والعلم .
هاجر اهلجرتني ،وصلى القبلتني .وزوجه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم االبنتني .ومل
ينكح ابنيت نيب من آدم إىل قيام الساعة غريه .وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقدمه
ويستحي منه ،ويقول :ما يل ال أستحي ممن تستحي منه مالئكة السماء ؟ .
ويف هذه السنة :تويف سراقة بن مالك ،وأم الفضل زوجة العباس ،وأم أمين بركة موالة
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم .
206
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وفيها :غزا عبد اهلل بن سعد بن أيب سرح إفرقية ،ومعه العبادلة -عبد اهلل بن نافع بن قيس ،
وعبد اهلل بن نافع بن احلصني وعبد اهلل بن الزبري -فلقي جرجس ملك الرببر يف مائيت ألف ،
فقتل جرجس ،قتله عبد اهلل بن الزبري ،وفتح اهلل على املسلمني .
وفيها :مات خارجة بن زيد األنصاري الذي تكلم بعد املوت .وكان من كالمه :خلت
ليلتان .وبقيت أربع ،بئر أريس ،وما بئر أريس ؟
وفيه اعتمر عثمان ،فكلمه أهل مكة أن حيول الساحل إىل جدة ،وقالوا :هي أقرب إىل مكة
وأوسع ،وكانوا يرسون قبل ذلك يف الشعبية .فخرج عثمان إىل جدة فرآها ،وحول
الساحل إليها .
208
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وفيها :زاد عثمان النداء الثالث يوم اجلمعة على الزوراء حني كثر الناس ،فثبت األمر على
ذلك إىل اليوم ،والزوراء دار كانت له باملدينة .
وفيها :مات أيب بن كعب ،سيد القراء ،وأحد القراء األربعة .
209
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
فتمادوا يف غيهم وجهالتهم وشرهم .فنفاهم معاوية عن الشام ،وكانوا عشرة :كميل بن
زياد ،واألشرت النخعي -مالك بن يزيد ،-وعلقمة بن قيس النخعي ،وثابت بن زيد النخعي
،وجندب بن زهري العامري ،وجندب بن كعب األزدي ،وعروة بن اجلعد ،وعمرو بن
احلمق اخلزاعي ،وصعصعة بن صوحان ،وأخوه زيد بن صوحان وابن الكواء .فأووا إىل
اجلزيرة مث استقروا حبمص حىت كانت الفتنة اليت قادوها لقتل عثمان .
وفيها :مات املقداد بن عمرو رضي اهلل عنه .
210
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
مبحاصرة عثمان رضي اهلل عنه واغتياله ،وهو يتلو كتاب اهلل تعاىل .وكان بيد أولئك
اجملرمني اخلوارج يف ذي احلجة من هذه السنة ،رضي اهلل عنه .
وبقتله وقعت الفتنة العظيمة اليت أخرب هبا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،والناس يف بقايا
من شرها إىل اليوم .
ويروى :أن عثمان رضي اهلل عنه صلى يف الليلة اليت حوصر فيها ونام ،فأتاه آت يف منامه ،
فقال له :قم فاسأل اهلل أن يعيذك من الفتنة اليت أعاذ منها صاحلي عباده .فقام فصلى ،
ودعاه فاشتكى ،فما خرج إال جنازته .
قال أهل السري :ملا كان من أمر عثمان ما كان ،قعد علي بن أيب طالب يف بيته ،فأتاه الناس
،وهم يقولون :علي أمري املؤمنني ،فقال :ليس ذلك إليكم ،إمنا هو إىل أهل بدر .فأتاه
أهل بدر ،فلما رأى ذلك علي خرج فبايعه الناس ومل يدخل يف طاعته معاوية وأهل الشام ،
فهم علي بالشخوص إليهم .
211
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وكانت وقعة اجلمل يف مجادى اآلخرة سنة ست وثالثني .مث التقى علي وعائشة .فاعتذر كل
منهما لآلخر .مث جهزها إىل املدينة ،وأمر هلا بكل شئ ينبغي هلا ،وأرسل معها أربعني امرأة
من نساء أهل البصرة املعروفات .
ويف هذه السنة :مات حذيفة بن اليمان ،وأبو رافع موىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،
وقدامة بن مظعون رضي اهلل عنهم .
212
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
فقال هلم :أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب اهلل احلكم ،وحدثتكم من سنة نبيكم ما ال
تنكرون ،أترجعون ؟ قالوا :نعم .فقلت :أما قولكم :إنه حكم الرجال يف دين اهلل ،فإن اهلل
تعاىل يقول " :يا أيها الذين آمنوا ال تقتلوا الصيد وأنتم حرم " إىل قوله " :حيكم به ذوا
عدل منكم " ،وقال تعاىل " :وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من
أهلها " ...أنشدكم اهلل ،أفتحكيم الرجال يف إصالح ذات بينهم .وحقن دمائهم وأمواهلم
أحق ،أم يف أرنب مثنها ربع درهم ،أو بضع امرأة ؟ فقالوا :اللهم بلى ،يف حقن دمائهم ،
وإصالح ذات بينهم ،فقلت :أخرجت من هذه ؟ فقالوا :اللهم نعم .
وأما قولكم :إنه قاتل ومل يسب ومل يغنم ،أفتسبون أمكم ،وتستحلون منها ما تستحلونه
من غريها ؟ فإن قلتم :نعم ،فقد كفرمت .وإن زعمتم أهنا ليست لكم بأم ،فقد كفرمت ،
ألن اهلل يقول " :وأزواجه أمهاهتم " ،فإن كنتم ترتددون بني ضاللتني ،فاختاروا أيتهما
شئتم .أخرجت من هذه ؟ قالوا :اللهم نعم .
قال :وأما قولكم :إنه حما نفسه من أمري املؤمنني ،فإن النيب صلى اهلل عليه وسلم -يوم
احلديبية -أراد أن يكتب بينه وبني قريش يف الصلح .فقال لعلي :اكتب :هذا ما قاضى عليه
حممد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فقالوا :لو نعلم أنك رسول اهلل ،ما صددناك عن
البيت ،وال قاتلناك ،ولكن اكتب :حممد بن عبد اهلل ،امح يا علي ! واكتب .حممد بن
عبد اهلل ،فقال :واهلل ال أحموك أبداً .قال :فأرين موضعه ،فأراه ذلك ،فمحاه رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم بيده ،فواهلل لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أفضل من علي ،أخرجت
من هذه ؟ قالوا :اللهم نعم.
فرجع منهم أربعة آالف ،وخرج عليه باقيهم ،فقاتلوه ،فقتل منهم مقتلة عظيمة ،وأمر
بالتماس املخدج ذي الثدية ،فلما وجده سجد هلل شكراً .
ويف هذه السنة مات خباب بن األرت ،وخزمية ذو الشهادتني ،وسفينة موىل رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم ،وعبد اهلل بن سعد بن أيب السرح رضي اهلل عنهم .
213
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
214
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وأن ما فعل احلسن بن علي رضي اهلل عنهما :أحب إىل اهلل مما فعل أبوه علي ،ألن رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم ال ميدحه على ترك واجب ،أو مستحب .
وأمجع أهل السنة على السكوت عما شجر بني الصحابة رضي اهلل عنهم .وال يقال فيهم إال
احلسىن ،فمن تكلم يف معاوية أو غريه من الصحابة ،فقد خرج عن اإلمجاع ،واهلل سبحانه
وتعاىل أعلم .
عام الجماعة:
وكان هذا العام يسمى عام اجلماعة ،الجتماع املسلمني فيه على إمام واحد ،بعد الفرقة ،
وهو عام إحدى وأربعني يف ربيع األول ،فاجتمعوا على معاوية رضي اهلل عنه ،ودعي أمري
املؤمنني ،ورجع احلسن بن علي رضي اهلل عنهما إىل املدينة .
مث دخلت سنة اثنتني وأربعني :
فيها مات عمرو بن العاص رضي اهلل عنه مبصر ،وهو واليها .
مث دخلت سنة ثالث وأربعني :
فيها مات عبد اهلل بن سالم رضي اهلل عنه .
مث دخلت سنة أربع وأربعني :
فماتت فيها أم حبيبة بنت أيب سفيان ،أم املؤمنني رضي اهلل عنهما .
مث دخلت سنة مخس وأربعني :
فماتت فيها حفصة بنت عمر ،أم املؤمنني ،وزيد بن ثابت رضي اهلل عنهم .
مث دخلت سنة ست وأربعني :
فمات فيها حممد بن مسلمة ،رضي اهلل عنه .
مث دخلت سنة سبع وأربعني :
فمات فيها قيس بن عاصم رضي اهلل عنه .
حوادث سنة تسع وأربعني :
مث دخلت سنة تسع وأربعني :
215
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وفيها :كانت غزوة يزيد بن معاوية بن أيب سفيان الروم ،حىت بلغ قسطنطينية .ومعه ابن
عباس ،وابن عمر ،وابن الزبري ،وأبو أيوب األنصاري .
وفيها :مات احلسن بن علي ،وجويرية بنت احلارث أم املؤمنني ،وصفية بنت حيي أم
املؤمنني ،وجبري بن مطعم ،وحسان بن ثابت ،ودحية بن خليفة الكليب ،وكعب بن مالك
،وعمرو بن أمية الضمري ،وعقيل بن أيب طالب ،وعتبان بن مالك ،واملغرية بن شعبة
رضي اهلل عنهم أمجعني .
مث دخلت سنة إحدى ومخسني :
فمات فيها سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ،وجرير بن عبد اهلل البجلي ،رضي اهلل عنهم .
مث دخلت سنة اثنتني ومخسني :
فمات فيها أبو أيوب خالد بن زيد األنصاري غازياً ،ودفن عند سور القسطنطينية .وكان
النصارى يستسقون بقربه رضي اهلل عنه ،وبرأه اهلل من عقائد النصارى .ومات هبا أبو موسى
األشعري ،وعمران بن حصني رضي اهلل عنهما .
مث دخلت سنة ثالث ومخسني :
فمات فيها صعصعة بن ناجية الصحايب ،الذي يقال :إنه أحيا أربعمائة موؤدة يف اجلاهلية ،
وزياد بن مسية رضي اهلل عنهم .
مث دخلت سنة أربع ومخسني :
فماتت فيها سودة بنت زمعة أم املؤمنني ،وأبو قتادة األنصاري ،وحكيم بن حزام رضي اهلل
عنهم .
مث دخلت سنة مخس ومخسني :
فمات فيها سعد بن مالك ،واألرقم بن أيب األرقم -الذي كان رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم يدعو إىل اإلسالم خمتبئاً يف داره -وسحبان وائل ،البليغ الذي يضرب به املثل يف
الفصاحة .
مث دخلت سنة ست ومخسني :
216
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
217
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
فلما مات مروان توىل بعده ابنه عبد امللك سنة مخس وستني .وملا توىل تصدى حلرب عبد
اهلل بن الزبري ،فجرى بينهما ما يطول ذكره ،وآخره :أنه وجه لقتال ابن الزبري جيشاً عليهم
احلجاج بن يوسف الثقفي ،فحصره مبكة ،مث قتله رضي اهلل عنه ،سنة ثالث وسبعني .
فاجتمع الناس بعده على عبد امللك بن مروان ،فلم يزل والياً كذلك إىل سنة ست ومثانني ،
فمات واستخلف ولده الوليد .فبقي يف اخلالفة سبع سنني وأشهراً .
ويف أيامه مات أنس بن مالك رضي اهلل عنه ،واحلجاج بن يوسف .
مث ويل بعده أخوه سليمان بن عبد امللك .فبقي سنتني وأشهراً .واستخلف عمر بن عبد
العزيز ،فبايعه الناس سنة تسع وتسعني يف صفر .فسار رمحه اهلل سرية اخللفاء الراشدين .
وأحيا السنن وأمات البدع .وبقي يف اخلالفة رشيداً مهدياً سنتني وأشهراً ،ومات يف رجب
سنة إحدى ومائة .
ومات يف أيامه ابنه عبد امللك ،وكان يشبه أباه رمحهما اهلل .
مث توىل بعده :يزيد بن عبد امللك ،بقي أربع سنني وشهراً واحداً .وتويف سنة مخس ومائة .
مث توىل بعده :أخوه هشام بن عبد امللك ،فبقي تسع عشرة سنة وأشهراً .ويف خالفته ظهر
اجلعد بن درهم ،أول من قال خبلق القرآن ،وأظهره يف دمشق .فطلبه بنو أميه ،فهرب
منهم إىل الكوفة .فلما أظهر قوله هناك :أخذه خالد بن عبد اهلل القسري ،قتله يوم عيد
األضحى من سنة أربع وعشرين ومائة .خطب الناس ،فقال :أيها الناس ضحوا ،تقبل اهلل
ضحاياكم .فإين مضح باجلعد بن درهم ،إنه زعم :أن اهلل مل يتخذ إبراهيم خليالً ،ومل
يكلم موسى تكليماً ،تعاىل اهلل عما قال اجلعد علواً كبرياً .مث نزل فذحبه يف أصل املنرب .
وتويف هشام بن عبد امللك سنة مخس وعشرين ومائة .
مث توىل بعده :ابن أخيه الوليد بن يزيد بن عبد امللك ،فبقي سنة أو أقل أو أكثر ،مث قتل
سنة ست وعشرين ومائة .
مث توىل بعده :ابن عمه يزيد بن الوليد بن عبد امللك ،فبقي مخسة أشهر .وتويف يف ذي
القعدة -أو يف أول ذي احلجة -من سنة ست وعشرين ومائة .
218
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وبعده انقضت اخلالفة التامة .ومل جتتمع األمة بعده على إمام واحد إىل اليوم .وهو آخر
اخللفاء االثين عشر ،الذين ذكرهم النيب صلى اهلل عليه وسلم يف احلديث الصحيح ": :ال يزال
أمر هذه األمة عزيزاً ،ينصرون على من ناوأهم إىل اثين عشر خليفة ،كلهم من قريش" .
ويف لفظ ملسلم " :إن هذا األمر ال ينقض ،حىت ميضي فيهم اثنا عشر خليفة" .
وعند البزار " :ال يزال أمر أميت قائماً ،حىت ميضي اثنا عشر خليفة" .ويف لفظ " :ال يزال
اإلسالم عزيزاً منيعاً إىل اثين عشر خليفة" .وعند أيب داود " :قالوا :مث يكون ماذا ؟ قال :مث
يكون اهلرج" .
فلما مات يزيد :طلب األمر أخوه إبراهيم ،فبايعه أخوه ،ومل ينتظم له أمر .
فطلب األمر مروان بن حممد بن مروان -الذي يقال له مروان احلمار -فبايعه بعض الناس يف
صفر سنة سبع وعشرين ومائة .ومل يزل يف حروب وختبيط إىل آخر سنة اثنيت وثالثني ومائة
-يوم األحد لثالث بقني من ذي احلجة -فقتل يف كنيسة أيب صري .وكانت مدة خالفته :
مخس سنني وعشرة أشهر وعشرة أيام ،وهو آخر من ويل اخلالفة من بين أمية .دولة بين
العباس :
219
بداية سيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وقام بعده :املأمون ،وهو الذي جر على املسلمني كثرياً من الفنت يف العقائد .فرتجم كتب
اليونان يف الفلسفة .وأظهر القول خبلق القرآن وألزم الناس القول به وامتحن اإلمام أمحد
وغريه من األئمة رمحهم اهلل يف ذلك .
وكان الفراغ من نسخ هذا الكتاب الشريف يوم األربعاء ،إلحدى عشرة خلت من شهر
رجب سنة 1309على يد الفقري إىل ربه .سليمان بن سحمان ،غفر اهلل له ولوالديه
وللمسلمني واملسلمات ،واملؤمنني واملؤمنات .
220