Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 273

0

‫هذا الكتاب‬
‫يتناول هذا الكتاب المناهج الكبرى التي اس تعملها العلم اء‬
‫والفالسفة والمتكلمون من المدارس المختلفة للداللة على وجود‬
‫هللا‪ ،‬مع ضرب األمثلة عن البراهين المرتبطة بها‪ ،‬وتقريراته ا‬
‫المختلفة‪ ،‬محاوال تبسيط ك ل ذل ك‪ ،‬باس تعمال الح وار والقص ة‬
‫والمثال وغيرها من أساليب التبسيط‪.‬‬
‫ذل ك أن الكث ير من تل ك المن اهج ـ وخاص ة الفلس فية أو‬
‫الكالمية منها ـ تعرض بطريقة يص عب على العام ة والبس طاء‬
‫التعرف عليها واالستفادة منها مع أهميتها البالغ ة‪ ،‬ول ذلك تبقى‬
‫محص ورة في دوائ ر ض يقة‪ ،‬م ع أنه ا من األس لحة المهم ة‬
‫والنافعة التي يواجه بها اإللحاد‪ ،‬وخاصة اإللح اد الجدي د ال ذي‬
‫يعتمد عرض األطروحات اإللحادي ة القديم ة بطريق ة بس يطة‪،‬‬
‫ويجد من يسمع له‪ ،‬وفي نفس الوقت ال يجد في الطرف المقابل‬
‫إال طروحات غاية في التعقيد والغم وض‪ ،‬وال تي ق د تث ير في ه‬
‫من اإلشكاالت أكثر مما تحل له من العقد‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫اإللحاد‪ ..‬والدجل‬

‫( ‪)2‬‬

‫الهاربون من جحيم اإللحاد‬


‫عرض مبسط ألمهات البراهين الدالة على وجود الله‬

‫د‪ .‬نور الدين أبو لحية‬


‫‪www.aboulahia.com‬‬

‫الطبعة األولى‬

‫‪2017 – 1438‬‬

‫دار األنوار للنشر والتوزيع‬



‫فهرس المحتويات‬
‫‪3‬‬ ‫فهرس المحتويات‬
‫‪5‬‬ ‫مقدمة الكتاب‬
‫‪10‬‬ ‫البداية‬
‫‪14‬‬ ‫البراهين القاطعة‬
‫‪16‬‬ ‫برهان العلية‪:‬‬
‫‪35‬‬ ‫برهان الحدوث‪:‬‬
‫‪50‬‬ ‫برهان التطبيق‪:‬‬
‫‪60‬‬ ‫برهان الخلق‪:‬‬
‫‪78‬‬ ‫المعاني الرقيقة‬
‫‪81‬‬ ‫برهان الفطرة‪:‬‬
‫‪92‬‬ ‫برهان الصديقين‪:‬‬
‫‪103‬‬ ‫البرهان الوجودي‪:‬‬
‫‪119‬‬ ‫البرهان الوجداني‪:‬‬
‫‪134‬‬ ‫العناية الرحيمة‬
‫‪138‬‬ ‫برهان التسخير‪:‬‬
‫‪152‬‬ ‫برهان التوفير‪:‬‬
‫‪163‬‬ ‫برهان التيسير‪:‬‬
‫‪171‬‬ ‫برهان التطوير‪:‬‬
‫‪182‬‬ ‫الصنعة العجيبة‬
‫‪182‬‬ ‫برهان التصميم‪:‬‬
‫‪192‬‬ ‫برهان التكيف‪:‬‬
‫‪199‬‬ ‫برهان التناسق‪:‬‬
‫‪204‬‬ ‫برهان التكامل‪:‬‬
‫‪214‬‬ ‫النظام البديع‬
‫‪214‬‬ ‫برهان الثبات‪:‬‬
‫‪220‬‬ ‫برهان التدبير‪:‬‬
‫‪235‬‬ ‫برهان الغائية‪:‬‬
‫‪256‬‬ ‫برهان التوازن‪:‬‬
‫‪265‬‬ ‫اآليات الباهرة‬
‫‪266‬‬ ‫برهان الكون‪:‬‬
‫‪282‬‬ ‫برهان الحياة‪:‬‬
‫‪294‬‬ ‫برهان الوعي‪:‬‬
‫‪307‬‬ ‫برهان المشاعر‪:‬‬

‫‪3‬‬
‫‪325‬‬ ‫الهداية المبينة‬
‫‪326‬‬ ‫برهان التواصل‪:‬‬
‫‪345‬‬ ‫برهان القيم‪:‬‬
‫‪358‬‬ ‫برهان النبوة‬
‫‪364‬‬ ‫برهان الوحي‪:‬‬
‫‪408‬‬ ‫النهاية‬

‫‪4‬‬
‫مقدمة الكتاب‬
‫يتناول هذا الكتاب المناهج الكبرى التي استعملها العلماء والفالس فة والمتكلم ون‬
‫من المدارس المختلفة للداللة على وجود هللا‪ ،‬مع ضرب األمثلة عن البراهين المرتبطة‬
‫بها‪ ،‬وتقريراتها المختلفة‪ ،‬محاوال تبسيط كل ذلك‪ ،‬باس تعمال الح وار والقص ة والمث ال‬
‫وغيرها من أساليب التبسيط‪.‬‬
‫ذلك أن الكثير من تلك المناهج ـ وخاص ة الفلس فية أو الكالمي ة منه ا ـ تُع رض‬
‫بطريق ة يص عب على العام ة والبس طاء التع رف عليه ا واالس تفادة منه ا م ع أهميته ا‬
‫البالغة‪ ،‬ولذلك تبقى محصورة في دوائر ضيقة‪ ،‬مع أنه ا من األس لحة المهم ة والنافع ة‬
‫ال تي يواج ه به ا اإللح اد‪ ،‬وخاص ة اإللح اد الجدي د ال ذي يعتم د ع رض األطروح ات‬
‫اإللحادي ة القديم ة بطريق ة بس يطة‪ ،‬ويج د من يس مع ل ه‪ ،‬وفي نفس ال وقت ال يج د في‬
‫الط رف المقاب ل إال طروح ات غاي ة في التعقي د والغم وض‪ ،‬وال تي ق د تث ير في ه من‬
‫اإلشكاالت أكثر مما تحل له من العقد‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك كله‪ ،‬فقد بنينا الحديث عن هذه المناهج والبراهين والتقريرات‬
‫المرتبطة بها على أساس التنوع الحاصل في طرق التفكير ومدارسه ومناهجه‪ ..‬ولذلك‬
‫لم نستعمل تلك الطريقة ال تي وق ع فيه ا بعض المؤم نين ال ذين راح وا ينتق دون من اهج‬
‫وبراهين لم تتناسب م ع ط رقهم في التفك ير‪ ،‬فراح وا يعط ون المالح دة األدوات ال تي‬
‫يواجهون بها تلك األدلة‪.‬‬
‫ولذلك قبلنا جميع األدلة‪ ،‬وبتقريراتها المختلفة‪ ،‬بن اء على القاع دة المعروف ة [هلل‬
‫طرائق بعدد الخالئق]‪ ،‬فقد ال يفهم بعض الن اس دليال من األدل ة كال دليل األنطول وجي‬
‫ألنسلم وديكارت‪ ،‬أو دليل الص ديقين للف ارابي وابن س ينا والمال ص درا‪ ..‬لكن في نفس‬
‫ال وقت ن رى من فهم تل ك األدل ة‪ ،‬واس تفاد منه ا‪ ،‬وتح ول بموجبه ا من اإللح اد إلى‬
‫اإليمان‪ ..‬ولذلك ال معنى النتقادها أو رفضها بحجة عدم تناسبها مع االتجاه الفك ري أو‬
‫المدرسة الفكرية‪.‬‬
‫ولهذا كان موقفنا في الكثير من القض ايا ه و قب ول ك ل م ا ي دعم اإليم ان بغض‬
‫النظ ر عن التفاص يل المرتبط ة ب ه‪ ..‬فمن المس ائل المطروح ة في ه ذا الب اب ـ مثال ـ‬
‫مسألة قدم العالم‪ ،‬وهل هي في حال صحتها ـ كما يقول الكث ير من الفالس فة ـ تتن اقض‬
‫مع اإليمان‪ ،‬أو ال تتناقض معه‪ ،‬وهل قدم العالم شرط لثبوت الص انع‪ ،‬أو ليس ش رطا‪..‬‬
‫فلم نهتم بهذه المسألة باعتبارها مسألة جزئي ة‪ ،‬وإنم ا اهتممن ا به ا باعتباره ا ش بهة ق د‬
‫يستفيد منها المالحدة‪.‬‬
‫ولذلك بحثنا فيها على كال االحتمالين‪ ..‬على احتمال الحدوث‪ ،‬وه و ال ذي ن ؤمن‬
‫به‪ ،‬وقد ذكرنا براهين كثيرة خاصة بذلك‪ ..‬أو على احتمال ع دم الح دوث ـ كم ا يق ول‬
‫الفالسفة ـ وقد ذكرنا أيضا أنه حتى لو كانت الحالة كذلك‪ ،‬فإنه ا ال تتن اقض م ع وج ود‬
‫هللا بناء على مبدأ العلية واإلمكان‪.‬‬
‫وقد استلهمنا الجانب الروائي والقصصي في ه ذا الكت اب مم ا ورد عن اجتم اع‬
‫المؤمنين في الجنة‪ ،‬وحديث بعض هم م ع بعض عن س بب ه دايتهم وض اللهم‪ ،‬وكي ف‬

‫‪5‬‬
‫ْض هُ ْم َعلَى بَع ٍ‬
‫ْض‬ ‫خرجوا من ذلك‪ ،‬وهو المشهد الذي نص عليه قوله تع الى‪﴿ :‬فَأ َ ْقبَ َل بَع ُ‬
‫ص ِّدقِينَ (‪)52‬‬ ‫ك لَ ِمنَ ْال ُم َ‬‫ين (‪ )51‬يَقُو ُل أَإِنَّ َ‬ ‫يَتَ َسا َءلُونَ (‪ )50‬قَا َل قَائِ ٌل ِم ْنهُ ْم إِنِّي َكانَ لِي قَ ِر ٌ‬
‫أَإِ َذا ِم ْتنَا َو ُكنَّا تُ َرابًا َو ِعظَا ًما أَإِنَّا لَ َم ِدينُونَ (‪ )53‬قَا َل هَلْ أَ ْنتُ ْم ُمطَّلِعُونَ (‪ )54‬فَ اطَّلَ َع فَ َرآهُ‬
‫ت ِمنَ‬‫ين (‪َ )56‬ولَ وْ اَل نِ ْع َم ةُ َربِّي لَ ُك ْن ُ‬ ‫فِي َس َوا ِء ْال َج ِح ِيم (‪ )55‬قَ َ‬
‫ال تَاهَّلل ِ إِ ْن ِك دْتَ لَتُ رْ ِد ِ‬
‫ض ِرينَ (‪ )57‬أَفَ َما نَحْ نُ بِ َميِّتِينَ (‪ )58‬إِاَّل َموْ تَتَنَا اأْل ُولَى َو َما نَحْ نُ بِ ُم َع َّذبِينَ (‪ )59‬إِ َّن‬ ‫ْال ُمحْ َ‬
‫هَ َذا لَه َُو ْالفَوْ ُز ْال َع ِظي ُم (‪[ ﴾)60‬الصافات‪]60-50 :‬‬
‫ولهذا جعلنا المؤلف يرحل بصحبة معلمه [معلم اإليمان] إلى روضات المؤمنين‬
‫الذين هربوا من جحيم اإللحاد‪ ،‬وهناك يجد حدائق كثيرة‪ ،‬ك ل حديق ة تض م جماع ة من‬
‫الجماعات‪ ،‬مقسمين على أساس المدارس الفكرية التي عرفوا هللا من خاللها‪.‬‬
‫وعند زيارته لكل جماعة يتعرف على المنهج العام الذي بنوا عليه اس تدالالتهم‪،‬‬
‫ثم يس مع من ك ل واح د منهم ال براهين التفص يلية المرتبط ة ب ذلك المنهج‪ ،‬على س بيل‬
‫الحكاية الرمزية‪ ،‬مع الحوارات التي تناقش الش بهات‪ ،‬وت رد عليه ا بسالس ة ووض وح‬
‫وتبسيط‪.‬‬
‫وقد قسمنا المناهج الكبرى التي تقوم عليها براهين وجود هللا إلى سبعة أقسام‪:‬‬
‫البراهين القاطعة‪ :‬ونقصد بها أصناف األدلة والبراهين التي اس تعملها الفالس فة‬
‫والمتكلم ون من أمث ال بره ان العلي ة‪ ،‬وبره ان لح دوث‪ ،‬وبره ان التط بيق أو نفي‬
‫التسلسل‪ ،‬وغيرها‪ ..‬وهي جميعا براهين تنطلق من الكون كواسطة للوصول إلى هللا‪.‬‬
‫المعاني الرقيقة‪ :‬ونقصد بها أصناف األدلة التي استعملها الفالسفة أو الص وفية‪،‬‬
‫وهي االنطالق من األعلى إلى األدنى أو من المك ون إلى الك ون‪ ،‬ومن أمثلته ا بره ان‬
‫الفطرة‪ ،‬وبرهان الصديقين‪ ،‬والبرهان الوجودي أو األنطولوجي‪ ،‬والبرهان الوجداني‪.‬‬
‫العناية الرحيمة‪ :‬ونقصد بها أصناف األدلة التي استعملها الفالس فة والمتكلم ون‬
‫والعلماء‪ ،‬والتي تتعلق بالنظر إلى عناية هللا بعباده ورحمته بهم‪ ،‬عبر المظاهر المختلفة‬
‫لتلك العناية‪ ،‬والتي دل العلم الحديث على تفاصيل الكثير منها‪.‬‬
‫الصنعة العجيبة‪ :‬ونقصد بها أص ناف األدل ة ال تي يس تعملها علم الكالم الجدي د‪،‬‬
‫والعلماء المعاصرون في الداللة على هللا انطالقا من براعة الصنعة وإتقانها‪ ،‬فالص نعة‬
‫المتقنة تدل على الصانع المبدع‪ ،‬وقد استفدنا في هذا المنهج خصوصا مما كتب ه علم اء‬
‫الفيزياء والفلك والطب وغيرهم في هذا الجانب محاولين تبسيطه قدر المستطاع‪.‬‬
‫النظ‪PP‬ام الب‪PP‬ديع‪ :‬ونقص د به ا أص ناف األدل ة ال تي يس تعملها علم الكالم الجدي د‬
‫خصوصا لنفي العشوائية والصدفة‪ ..‬فالنظ ام يحت اج إلى منظم‪ ،‬ويس تدعيه بالض رورة‬
‫العقلية‪.‬‬
‫اآليات الباهرة‪ :‬ونقصد بها أص ناف األدل ة ال تي تواج ه األطروح ات اإللحادي ة‬
‫التي تتصور أن األدلة على هللا أدلة نظرية وفلسفية فقط‪ ،‬ليس له ا أي ج انب حس ي أو‬
‫تجريبي‪ ..‬فهي تعطي الكثير من المناهج التي يمكنها أن تحول اإليم ان باهلل إلى تجرب ة‬
‫حسية‪ ،‬كسائر التجارب‪.‬‬
‫الهداية المبينة‪ :‬ونقصد به ا أص ناف األدل ة ال تي اس تعملتها الكتب المقدس ة في‬

‫‪6‬‬
‫الداللة على هللا‪ ،‬ال عبر االستدالل بنص وص تل ك الكتب المقدس ة نفس ها‪ ،‬ألن ذل ك ق د‬
‫يعبر دورا‪ ،‬وإنما باعتبارها ظاهرة من الظواهر الحسية‪ ،‬ال تي تحت اج إلى البحث فيه ا‬
‫من هذا الجانب‪ ،‬وقد حاولنا أن نبين أن هذه الظاهرة أكبر ظاهرة تعريفي ة باهلل‪ ،‬فاهلل لم‬
‫يعلن عن نفسه من خالل الكون وظواهره فق ط‪ ،‬وإنم ا أعلن عن ه ع بر رس له وكلمات ه‬
‫المقدسة لعباده‪ ..‬وقد اقتص رنا على بعض األمثل ة على ذل ك‪ ،‬بن اء على أنن ا خصص نا‬
‫سلسلة [حقائق ورقائق] جميعا إلثب ات النب وة بالمن اهج المختلف ة‪ ،‬وإثب ات النب وة‪ ،‬ليس‬
‫سوى إثبات لأللوهية بالدرجة األولى‪.‬‬
‫وق د اعتم دنا في ه ذا الكت اب على مص ادر كث يرة متنوع ة‪ ،‬وض عنا التوثيق ات‬
‫المرتبطة بها في الهوامش‪ ،‬ولم نبالغ في التوثيق عند ك ل مح ل‪ ،‬ألنن ا نتص رف كث يرا‬
‫في النصوص‪ ،‬فالهدف ليس النصوص بحد ذاته ا‪ ،‬وال أص حابها‪ ،‬وإنم ا األفك ار ال تي‬
‫تحملها‪.‬‬
‫وننبه أيضا إلى أننا في هذا الكتاب باعتب اره يم زج العلم ب الفن واألدب لم ن راع‬
‫التسلسل التاريخي في األحداث والوقائع ال تي يرويه ا أبط ال الرواي ة‪ ،‬وال المعلوم ات‬
‫الدقيق ة المرتبط ة بأشخاص هم‪ ..‬ألن ك ل ذل ك لم نقص د من ه س وى تق ريب الص ورة‪،‬‬
‫وتيسير الفهم‪ ،‬وتوضيح المقاصد‪.‬‬
‫وننبه أيضا إلى أن الكتاب باعتباره يخاطب جهات متعددة‪ ،‬فإن أس اليبه متع ددة‪،‬‬
‫فمنه ا المغ رق في التعقي د الفلس في‪ ،‬ومنه ا العلمي البس يط اليس ير‪ ،‬ومنه ا الخط ابي‬
‫ال وعظي‪ ..‬ول ذلك يمكن للق ارئ ال ذي لم يفهم نص ا من النص وص‪ ،‬أو برهان ا من‬
‫البراهين أن ينتقل لغيره من غير أن يؤثر ذلك في فهمه للمس ائل المطروح ة‪ ،‬ول و أنن ا‬
‫نعمد كل برهان إلى وضع تقريرات مختلفة تخاطب أصناف الناس‪ :‬الفيلس وف والع الم‬
‫والعامي وغيرهم‪.‬‬
‫وننب ه في األخ ير إلى أن ه ذا الكت اب ليس س وى ج زء من سلس لة [اإللح اد‪..‬‬
‫والدجل]‪ ،‬ولهذا لم نتعمق في تفاصيل بعض األدلة‪ ،‬باعتبار أننا سنتحدث عنها بتفصيل‬
‫في محالها من األجزاء الباقية‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫البداية‬
‫في صباح ذلك اليوم الذي التقيت فيه معلمي الجديد [معلم اإليمان] كنت في غاية‬
‫االكتئاب واإلحباط بسبب مش هد افتتحت ب ه ي ومي‪ ،‬جعل ني أمتلئ حنق ا على التط رف‬
‫والمتطرفين على أي ملة كانوا‪ ..‬متدينين أو غير متدينين‪.‬‬
‫فقد رأيت شابا كنت أعرفه بالتزامه ال ديني المتش دد‪ ،‬وبلحيت ه الطويل ة‪ ،‬ولس انه‬
‫الذي ال يقل عنها طوال‪ ..‬لكني رأيته في ذلك الصباح بصورة معاكسة تماما‪ ،‬فقد انتق ل‬
‫مباشرة ومن غير جسور من تطرف إلى تطرف‪ ،‬ومن غلو إلى غلو‪..‬‬
‫وكما تجلى تطرفه األول على شعر لحيته‪ ..‬فق د تجلى تطرف ه الث اني على ش عر‬
‫رأسه‪ ..‬فقد رأيته يقصه قصات غريبة‪ ،‬جعلتني أقترب منه‪ ،‬وأقول له بكل لطف‪ :‬ألست‬
‫فالنا؟‬
‫قال‪ :‬بلى‪ ..‬فما حاجتك إلي؟‬
‫قلت‪ :‬أال ترى أن ما فعلت بشعر رأسك ال يتناسب مع مؤمن مت دين‪ ..‬ف أنت تعلم‬
‫نهي النبي ‪ ‬عن‪..‬‬
‫بمجرد أن قلت هذا‪ ،‬قاطعني بغضب وجفاء وتجهم ال يقل عن تجهمه في تطرفه‬
‫األول‪ ،‬وقال‪ :‬دعني من أولئك البدو الجفاة الغالظ‪ ..‬فمن أين لي ب أن هللا أرس ل بش را‪..‬‬
‫ومن أين لك بأنه يوجد إله أصال‪ ..‬أنت ال تعلم ما قال العلم الحديث‪ ..‬وما قال‪..‬‬
‫قاطعته‪ ،‬وقلت‪ :‬هل أنت الذي تقول هذا؟‪ ..‬ما بك يا رجل؟‪ ..‬أين ذهب عقلك؟‬
‫قال‪ :‬بل أين ذهب عقلك أنت؟‪ ..‬لقد كنت غبيا مثلك‪ ..‬لكني اكتش فت الحقيق ة بع د‬
‫أن عاد إلي عقلي ووعيي‪ ..‬وأنا اآلن أعيش حياتي بكل حرية‪ ،‬ال يقي دني فيه ا إل ه‪ ،‬وال‬
‫يتحكم في دين‪ ..‬فأنا أحق بحياتي من غيري‪ ..‬لقد اكتش فت ـ كم ا اكتش ف س ارتر ـ أن‬
‫وجود هللا يعطل وجودي أنا‪ ،‬فلذلك كان (األفضل أن ال يك ون هللا موج ودًا ح تى أُوج د‬
‫أنا)‬
‫قال ذلك‪ ،‬ثم انصرف عني‪ ،‬وهو يصفر ويرقص كالمج انين‪ ..‬حينه ا لم أج د من‬
‫ف رط اكتئ ابي إال أن أس ير خ ارج قري تي ألس تلقي على عش ب بعض الم روج‪ ،‬أتأم ل‬
‫السماء والجمال المودع فيها‪ ،‬وأتعجب من تلك العقول التي تغفل عن كل ه ذه الص نعة‬
‫اإللهية‪ ،‬والعناية الربانية‪ ،‬لترتع في مستنقعات الشياطين‪.‬‬
‫حينها جاءني معلمي الجديد [معلم اإليمان] محاط ا بهال ة الن ور ال تي تغش اه من‬
‫مفرق رأسه إلى أخمص قدميه‪ ،‬وقال لي‪ :‬قم لنزور الهاربين من جحيم اإللحاد‪..‬‬
‫قلت‪ :‬أتري د أن تع ود بي إلى فن دق المالح دة‪ ..‬ذل ك الفن دق ال ذي امتألت في ه‬
‫بالمرارة واأللم؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬ستزور اليوم جنات اله اربين من جحيم اإللح اد‪ ..‬أولئ ك ال ذين أعمل وا‬
‫عقولهم‪ ،‬وطهروا نفوسهم‪ ،‬فاستعدوا لنيل فضل هللا بالهداية التي أخ رجتهم من ظلم ات‬
‫الضاللة إلى نور اإليمان‪ ..‬ومن جحيم الجحود إلى نعيم العرفان‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫قلت‪ :‬ال تذكرني بالجاحدين المارقين‪ ..‬فقد رأيت اليوم أحدهم‪ ،‬وكاد قل بي ينفط ر‬
‫لمرآه‪ ،‬وكادت يدي تمتد لرقبته‪ ،‬فتخنقها‪ ..‬ليتك سمعت ما قال‪.‬‬
‫قال‪ :‬ما أكثر من قال ما قال‪ ..‬لكنه عاد إلى وعيه‪ ،‬وعادت إليه فطرته‪ ،‬وف ر من‬
‫جحيم المالحدة لتستقبله جنان فضل هللا‪ ..‬فاهلل كريم غفور شكور‪..‬‬
‫قلت‪ :‬لكنك لم تسمع ما قال‪ ..‬ولو سمعته لما رددت علي هذا‪.‬‬
‫قال‪ :‬ربما لم أس معه‪ ،‬ولك ني س معت الس حرة حين دخل وا على فرع ون ق ائلين‪:‬‬
‫﴿بِ ِع َّز ِة فِرْ َع وْ نَ إِنَّا لَنَحْ نُ ْال َغ الِبُونَ ﴾ [الش عراء‪ ..]44 :‬ولم يخرج وا من عن ده إال وهم‬
‫يقولون‪﴿ :‬آ َمنَّا بِ َربِّ ْال َعالَ ِمينَ (‪َ )47‬ربِّ ُمو َسى َوهَارُونَ ﴾ [الشعراء‪]48 ،47 :‬‬
‫قلت‪ :‬ربما كان ألولئك السحرة بعض العقل الذي جعلهم يرددون ذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال تحجر هداية هللا وفضله العظيم‪ ..‬وسلم لربك‪ ،‬وال تقترح عليه‪ ..‬وإن كان‬
‫لك من شيء تفعله نحوهم‪ ،‬فهو أن تدعو هللا لهم بالهداية‪ ،‬وأن تقوم بما يجب علي ك من‬
‫يل َربِّكَ بِ ْال ِح ْك َم ِة َو ْال َموْ ِعظَ ِة‬‫ع إِلَى َس بِ ِ‬ ‫إقام ة الحج ة وال دليل‪ ..‬فاهلل تع الى يق ول‪ ﴿ :‬ا ْد ُ‬
‫ض َّل ع َْن َس بِيلِ ِه َوهُ َو أَ ْعلَ ُم‬ ‫ك هُ َو أَ ْعلَ ُم بِ َم ْن َ‬ ‫ْال َح َس نَ ِة َو َج ا ِد ْلهُ ْم بِ الَّتِي ِه َي أَحْ َس نُ إِ َّن َربَّ َ‬
‫بِ ْال ُم ْهتَ ِدينَ ﴾ [النحل‪]125 :‬‬
‫قلت‪ :‬لكن هؤالء ال يفهمون حج ة‪ ..‬وال يقتنع ون ب دليل‪ ..‬وكي ف يت اح لهم ذل ك‪،‬‬
‫وقلوبهم مغلقة‪ ،‬وعقولهم معطلة‪ ،‬ونفوسهم مدنسة؟‬
‫قال‪ :‬أد م ا علي ك من واجب‪ ..‬وات رك هلل الهداي ة‪ ..‬فـ ﴿ إِنَّكَ اَل تَ ْه ِدي َم ْن أَحْ بَبْتَ‬
‫َولَ ِك َّن هَّللا َ يَ ْه ِدي َم ْن يَ َشا ُء َوه َُو أَ ْعلَ ُم بِ ْال ُم ْهتَ ِدينَ ﴾ [القصص‪]56 :‬‬
‫قلت‪ :‬بأي لغة تريد أن أح دثهم‪ ..‬وب أي حج ة تري د أن أخ اطبهم‪ ..‬وهم ق د س دوا‬
‫آذانهم عن كل ألوان الحجج؟‬
‫قال‪ :‬خاطبهم بأي لغة تتناسب مع عقولهم وأمزجتهم‪ ..‬فلله طرائق بعدد الخالئق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهال وصفت لي بعضها‪ ..‬فأنت معلم اإليمان‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألجل هذا جئتك اليوم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هل تقصد تعليمي براهين اإليمان؟‬
‫قال‪ :‬سأذهب بك إلى من يعلمك تلك البراهين‪..‬‬
‫قلت‪ :‬من تقصد؟‬
‫ّ‬
‫قال‪ :‬أولئك الذين اكتووا بنار اإللحاد‪ ،‬ثم من هللا عليهم بالهداية‪ ،‬فهم أدرى الناس‬
‫بمسالك اإليمان لدرايتهم بمسالك الشبه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أتقصد أننا سنزور في رحلتنا هذه مالحدة؟‬
‫قال‪ :‬س نزور من اكت ووا في ي وم من أي ام حي اتهم بن ار اإللح اد‪ ..‬لكن هداي ة هللا‬
‫تداركتهم بسبب صفاء سرائرهم‪ ،‬وطه ر نفوس هم‪ ..‬فل ذلك خرج وا من جحيم اإللح اد‪..‬‬
‫ودخلوا جنات اإليمان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فمن هم؟‬
‫قال‪ :‬كثيرون‪ ..‬ستراهم‪ ..‬وتسمعهم‪ ..‬ولك أن تسألهم‪ ..‬ولهم أن يجيبوك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هل سنذهب اآلن إليهم‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬سيأتون هم إلينا‪..‬‬
‫قلت‪ :‬لم أفهم ما تعني‪.‬‬
‫قال‪ :‬حدق بصر اإليمان‪ ..‬وسترى ما لم تكن ترى‪ ،‬وتسمع ما لم تكن تسمع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما علي فعله؟‬
‫ق ال‪ :‬أغمض عين المل ك‪ ،‬وافتح عين الملك وت‪ ..‬وس ترى من الع والم م ا ك ان‬
‫محجوبا عنك‪.‬‬
‫فعلت م ا طلب ه م ني‪ ،‬كم ا درب ني على ذل ك معلم الس الم‪ ..‬وفج أة رأيت ش يئا‬
‫عجيبا‪..‬‬
‫لقد تحولت تلك المروج التي كنت مستلقيا على عشبها إلى جن ات وارف ة ممتلئ ة‬
‫بكل أصناف األزهار‪ ،‬وك ل أن واع الطي ور‪ ..‬وك ان أريجه ا يعب ق بنس يم علي ل ممتلئ‬
‫بالروائح الطيبة‪ ..‬وكأن الجنة قد تنزلت من عليائها إلى ذلك المكان‪..‬‬
‫وفجأة رأيت بشرا كثيرين يجتمعون جماعات متفرقة‪ ..‬يجلس ون على أرائ ك من‬
‫العشب الخالص‪ ..‬يبتسم بعضهم لبعض‪ ،‬ويحدث بعضهم بعضا‪..‬‬

‫‪10‬‬
‫البراهين القاطعة‬
‫فجأة اقترب مني أحدهم‪ ،‬وقال‪ :‬مرحب ا ب ك ي ا تلمي ذ اإليم ان‪ ..‬لق د أخبرن ا معلم‬
‫اإليمان عنك‪ ،‬وعن زيارتك لنا‪ ،‬ونتشرف بأن نكون أول من يستقبلك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬من أنت؟‬
‫قال‪ :‬لن تعرفني‪ ..‬وال حاجة لك بمعرفتي‪ ..‬ألن كل من تراه هنا تخلى عن اس مه‬
‫ورسمه منذ عرفه‪..‬‬
‫قلت‪ :‬أنت تذكرني ب ذلك ال ولي الص الح ال ذي س ئل عن اس مه‪ ،‬فق ال‪ :‬لق د ذهب‬
‫عني‪ ،‬ال أعاده هللا إلي‪.‬‬
‫قال‪ :‬صدق‪ ..‬فمن عرف هللا لم يحجب عنه بغيره كائنا من كان ح تى نفس ه ال تي‬
‫بين جنبيه‪..‬‬
‫قلت‪ :‬إن هذا من الحجب التي حالت بين بعض قومي وبين اإليم ان‪ ..‬فق د خ افوا‬
‫على وج ودهم أن يلغى بس بب وج ود هللا‪ ..‬فل ذلك راح وا يلغ ون وج ود هللا ليبقى لهم‬
‫وجودهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهل لهم وجود من دون مدده‪ ..‬إن إلغاءهم لوجود هللا هو إلغ اء لوج ودهم‪،‬‬
‫فال وجود إال منه‪ ،‬وال وجود إال به‪..‬‬
‫قلت‪ :‬هنيئا لك هذه المرتبة الرفيعة‪ ..‬وهذا المقام السامي‪ ..‬الشك أنك سليل أس رة‬
‫من الصالحين الذين توارثوا الوالية وأمجادها‪.‬‬
‫ّ‬
‫قال‪ :‬بل أنا سليل أسرة من المالحدة الذين ألغوا هلل من حياتهم‪ ..‬ول وال أن من هللا‬
‫علي بالهداي ة لكنت اآلن في فن دق المالح دة‪ ،‬ال في روض ات جن ات المؤم نين ال تي‬
‫تراها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف تخلصت من قيود اإللحاد‪ ..‬وكيف هربت من سجونهم؟‬
‫قال‪ :‬هلم بنا إلى مجلسنا‪ ،‬وسترى نفرا من أصحابي‪ ،‬وسنحدثك جميعا عن نعم ة‬
‫هللا علينا بالهداية‪ ،‬وكيف أخرجنا هللا من ظلمات الغواية إلى نور الهداية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أتقصد هذه األرائك التي يجلس عليها أولئك النفر من النوارنيين؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فلم أرى حلق ات كث يرة منفص لة‪ ..‬لم لم تجتمع وا جميع ا في مح ل واح د‪،‬‬
‫بحيث يسمع بعضكم بعضا‪ ،‬ويحكي بعضهم لبعض؟‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع ما قاله معلم اإليمان لك‪ ..‬هلل طرائق بعدد الخالئق؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬لقد قال لي ذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكل من تراه له طريقته الخاصة التي وص ل به ا إلى هللا‪ ..‬فاهلل ي دلي حب ال‬
‫فضله لعباده كل حين‪ ..‬فمن شاء أن يتعلق بها تعلق‪ ..‬ومن شاء أن يبقى في عوالم نفسه‬
‫بقي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فبأي حبل تعلقتم؟‬

‫‪11‬‬
‫قال‪ :‬أنا وأصحابي تعلقنا بحبل [البراهين القاطعة]‬
‫قلت‪ :‬فلم تعلقتم بها دون غيرها؟‬
‫قال‪ :‬لقد كنا قبل تنعمنا بنعمة اإليمان من الفالسفة الذين توهموا أن العقل يرفض‬
‫هللا‪ ..‬وال يثبت وج وده‪ ..‬أو يتوق ف في ذل ك‪ ..‬لكن ا بع د البحث والتح ري‪ ،‬والتأم ل‬
‫والتدقيق وصلنا إلى الحقيقة العظمى‪ ،‬وهي أن هللا هو ال دليل على خلق ه‪ ،‬وليس الخل ق‬
‫هو الدليل على هللا‪ ..‬فلوال هللا ما كان شيء من األشياء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكرتني بقولك بهذا بـ[فرنسيس بيك ون]‪ ،‬فق د ق ال‪( :‬القلي ل من الفلس فة‬
‫يمي ل بعق ل اإلنس ان إلى اإللح اد‪ ،‬ولكن التعم ق فيه ا ينتهي ب العقول إلى اإليم ان‪ ..‬إذا‬
‫أمعن (العقل) النظر وشهد سلس لة األس باب كي ف تتص ل حلقاته ا فأن ه ال يج د ب دًا من‬
‫التسليم باهلل)(‪)1‬‬
‫قال‪ :‬صدق فرنسيس بيك ون‪ ..‬لق د ك ان في ي وم من األي ام ص ديقي‪ ..‬والحم د هلل‬
‫كانت نصيحته تلك سببا من أسباب هدايتي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهال حدثتني عن ذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬هلم بنا نجلس إلى تلك األرائك حيث يجتمع أصحابي‪ ،‬وهناك ستس مع م ني‬
‫ومنهم‪.‬‬
‫برهان العلية‪:‬‬
‫جلسنا في حلقة من الحلقات‪ ،‬وبمجرد جلوسنا اقتربت أرائك اإلخ وان المن ورين‬
‫بنور اإليمان من بعضها بحرك ات آلي ة في منتهى الدق ة والجم ال‪ ،‬مم ا جعل ني أعيش‬
‫ُر ُمتَقَابِلِينَ ﴾ [الحجر‪]47 :‬‬ ‫قوله تعالى في وصف أهل الجنة‪﴿ :‬إِ ْخ َوانًا َعلَى ُسر ٍ‬
‫كان الجو ممتلئا باألنوار الجميلة الهادئة‪ ..‬وك ان النس يم ممل وءا ب العطر الف واح‬
‫الطيب‪ ..‬فانشرحت نفسي انشراحا شديدا‪ ،‬ورحت أقول من حيث ال أش عر‪ :‬هلم بن ا إلى‬
‫الحديث عن سر وجودكم هنا‪ ..‬فما أرسلني معلمي معلم اإليمان إال لهذا؟‬
‫قال أحدهم‪ ،‬وهو صاحبي الذي جاء بي إلى ذلك المجلس‪﴿ :‬إِنِّي َك انَ لِي قَ ِر ٌ‬
‫ين (‬
‫ص ِّدقِينَ (‪ )52‬أَإِ َذا ِم ْتنَا َو ُكنَّا تُ َرابً ا َو ِعظَا ًم ا أَإِنَّا لَ َم ِدينُونَ (‪﴾)53‬‬
‫ك لَ ِمنَ ْال ُم َ‬
‫‪ )51‬يَقُو ُل أَإِنَّ َ‬
‫[الصافات‪ ..]53-51 :‬ويقول لي‪ :‬هل تصدق حقا أن هن اك إل ه في ه ذا الوج ود‪ ..‬ف إن‬
‫كان هناك إله‪ ،‬فأين هو‪ ،‬ولم ال نراه‪ ،‬ولم ال يظهر لنا نفسه؟‬
‫وكنت أص دقه في كث ير مم ا يقول ه تبعي ة طوعي ة م ني‪ ،‬النبه اري ب الكثير من‬
‫منجزاته‪ ،‬والتي جعلتني أعطيه العصمة المطلق ة‪ ،‬وأق ول في نفس ي‪ :‬يس تحيل على من‬
‫استطاع أن يصل إلى كل ذلك المال والجاه‪ ،‬وأن يصطاد كل تلك القل وب والعق ول‪ ،‬أن‬
‫يكون كاذبا فيما ادعي‪..‬‬
‫لكن هللا بفضله الكريم خلص ني من ه بواقع ة بس يطة وقعت لي‪ ،‬لم أكن أعلم أنه ا‬
‫تخرجني من جحيم اإللحاد إلى جن ات اإليم ان‪ ..‬ف إن ش ئتم أن أذكره ا لكم فعلت‪ ..‬وإن‬
‫شئتم اقتصرت منها على البراهين التي أخرجني هللا بها من أوهامي‪.‬‬

‫‪ُ )(1‬ملحدون محدثون معاصرون‪ ،‬د‪ .‬رمسيس عوض‪ ،‬ص ‪.58‬‬

‫‪12‬‬
‫قال أحدهم‪ :‬هلم اذكرها لنا تفاصيلها‪ ..‬فما تحلو مجالسنا هذه إال بالتفاصيل‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬في ذلك اليوم دعيت للشهادة في المحكمة من ط رف ص احبي ال ذي‬
‫ذكرته لكم‪ ..‬وقد ذهبت إليه ا على ال رغم من أن ني لم أع اين ش يئا‪ ..‬ولك ني كنت واثق ا‬
‫تماما أن صاحبي ص احب العلم والم ال والج اه ال يمكن أن يظلم أو يغ در‪ ..‬فق د ك انت‬
‫ثق تي في ه ال ح د له ا‪ ..‬لكن هللا ش اء أن يجع ل ذل ك الي وم س ببا في اكتش افي لحقيقت ه‪،‬‬
‫واكتشافي بعد ذلك هلل تعالى‪.‬‬
‫وقد وضح لي ص احبي‪ ،‬وم دراء أعمال ه م ا علي أن أقول ه بدق ة‪ ..‬فحفظت ه عن‬
‫ظهر قلب‪ ..‬لك ني م ا دخلت القاع ة‪ ،‬وس معت كالم المتهم‪ ،‬ورأيت س نحة وجه ه ح تى‬
‫نسيت كل شيء‪.‬‬
‫لق د ك ان أول م ا ب دأ ب ه المتهم كالم ه‪ ،‬ه و ش هادته على نفس ه‪ ،‬وإق راره بأن ه‬
‫ص احب الفعل ة ال تي اتهم به ا‪ ،‬وأن ه ال يحت اج إلى أي ش هود يثبت ون ذل ك أو ينفون ه‪..‬‬
‫وسرني ذلك كثيرا‪ ،‬فقد ألقى عن ظهري تبعة الشهادة بما ال أعلم(‪..)1‬‬
‫لكن المتهم لم يكتف بذلك‪ ،‬بل راح يقول للقاضي‪ ،‬والمدعين عليه‪ :‬لكن اس معني‬
‫ـ سيدي ـ قبل أن تحكم علي بما تشاء ألذكر لك سر فعلتي تلك‪ ..‬ولعلك بعدها تعذرني‪..‬‬
‫ولعلك تنزل علي ما تشاء من العقوبة‪.‬‬
‫لم يجد القاضي ومن حوله من المستشارين سوى أن ي أذنوا ل ه بالح ديث‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫كل ما سأقوله لكم حقيقة مطلقة يشهد عليها ص احب المعم ل ال ذي ادعى علي‪ ،‬ويش هد‬
‫عليها كذلك العمال الذين حضروا‪ ،‬ف إن رأوا أني أض فت ش يئا من عن دي‪ ،‬فيمكنهم أن‬
‫يكذبوني‪.‬‬
‫قال ذلك‪ ،‬ثم التفت الى العمال الكثيرين ال ذين حض روا قاع ة المحاكم ة‪ ،‬وق ال‪:‬‬
‫سيدي القاضي‪ ..‬إن هؤالء العمال الذي ت راهم يش هدون أن الم دعي علي ك ان يجمعن ا‬
‫كل أسبوع ليلقي علينا محاضراته التشكيكية في كل الحقائق‪ ،‬مما جعل الكثير من ا يك اد‬
‫يفقد عقله‪ ،‬وبعضنا خرج من جميع معتقداته التي ورثها‪ ،‬وك ان س عيدا به ا من دون أن‬
‫يجد أي معتقدات صحيحة نافعة يمكن أن تعوض ها‪ ..‬ول ذلك ف إنني أدعي على الم دعي‬
‫علي بأن جريمته أكبر من جريمتي‪ ..‬فأنا لم أفعل سوى أن قطعت التيار الكهربائي عن‬
‫اآلالت عدة ساعات‪ ،‬مما أحدث بعض الخسارة في المعمل‪ ..‬لكن هذا الرجل قطع تي ار‬
‫الحياة عن أرواح أصحابي من العمال قطعا أبديا‪ ..‬وهو بذلك ق د ق ام بقتلهم من حيث ال‬
‫يشعر‪.‬‬
‫قال القاضي‪ :‬وضح ما تقول‪ ..‬فنحن ال نفهم شيئا‪.‬‬
‫قال المتهم‪ :‬أنتم تعلمون أن الرجل الواقف أمامكم‪ ،‬والذي يطلق عليه الناس اس م‬
‫[ديفيد هيوم(‪ ،])2‬ليس رجل أعمال فحسب‪ ،‬وإنما هو فيلسوف أيضا‪ ،‬مثله مثل زمالئ ه‬

‫‪ )( 1‬استلهمنا هذا المعنى من قصة إبراهيم عليه السالم‪ ،‬وما فعله مع األصنام ليقيم الحجة على قومه‪.‬‬
‫‪ )(2‬ديفيد هيوم (‪ ،)1776 ،1711‬فيلسوف واقتصادي ومؤرخ اسكتلندي ول د وت وفي ب أدنبره‪ ،‬أهم كتب ه‪ :‬بحث في‬
‫الطبيعة اإلنس انية‪ ،‬ثالث ة أج زاء‪ ،‬وفحص عن الفهم اإلنس اني‪ ،‬وفحص عن مب ادئ األخالق‪ ،‬والت اريخ الط بيعي لل ديني‪،‬‬
‫وغير ذلك راجع تاريخ الفلسفة الحديثة ليوسف كرم ‪ 172‬ـ ‪.173‬‬

‫‪13‬‬
‫في الفلسفة ديكارت وسبينوزا وبيكون وكانط وجون س تيوارت مي ل وبرن ارد راس ل‪..‬‬
‫وغيرهم‪.‬‬
‫قال القاضي‪ :‬نعم نعلم ذلك‪ ..‬فهل في ذلك مشكلة؟‬
‫قال المتهم‪ :‬لكن فلس فته ـ س يدي ـ ليس ت فلس فة عادي ة‪ ،‬إنه ا ن وع من الس موم‬
‫القاتلة‪ ..‬إن أفكاره تنخر العقل والروح‪ ،‬فال تبقي منهما شيئا‪ ..‬ب ل تجع ل اإلنس ان يش ك‬
‫في كل شيء‪.‬‬
‫قال القاضي‪ :‬وضح أكثر‪.‬‬
‫قال المتهم‪ :‬إن المتهم الواقف أم امكم س يدي يتم يز عن غ يره من الفالس فة بأن ه‬
‫سلك خطا ً فلسفيا جديداً خطيرا‪ ..‬فال هو سقط في المثالية المشغولة بالتأم ل العقلي‪ ..‬وال‬
‫هو ناصر المذهب التجريبي‪ ..‬لقد كان يذكر لنا كل حين أن مصدر المعرفة لإلنس ان ال‬
‫يكون بالعقل‪ ،‬كما أنه ال يكون بالحواس‪ ..‬بل هو يرى أن مصدر المعرفة عند اإلنس ان‬
‫ال يكون إال بالعادة والتكرار‪..‬‬
‫ولذلك أنكر وجود ما يسمى بالعقل البشري‪ ،‬وق ال‪ :‬إن العق ل ليس س وى ذاك رة‬
‫نحفظ بها تجاربنا وتجارب اآلخرين‪ ..‬وبهذا أبطل العلي ة‪ ،‬وفتح الب اب على مص راعيه‬
‫لهدم المنهج اإلستقرائي‪ ،‬ومنه له دم المنهج التجري بي‪ ..‬وب ذلك أح دث ه ذا الرج ل من‬
‫الفضائح الفلسفية ما هو وبال على البشرية جميعا‪ ..‬و‪..‬‬
‫قاطعه القاضي‪ ،‬وقال‪ :‬قبل أن تكمل‪ ،‬دعنا نسأل صاحب الدعوى ديفيد هيوم عن‬
‫مدى صحة ما قلت‪ ..‬وهل هو حقا يرفض السببية؟‬
‫قال ديفيد‪ :‬أجل ـ س يدي القاض ي ـ فق د اكتش فت أن الس بية ليس ت س وى نتيج ة‬
‫للبره ان االس تقرائي الق ائم من المالحظ ة المس تمدة من االط راد في الطبيع ة كوس يلة‬
‫للنظر للمستقبل والتنبؤ ب ه‪ ..‬فل و رأين ا ظ اهرتين تتب ع إح داهما األخ رى على ال دوام‪،‬‬
‫فالنتيجة أنهما سيستمران في التتابع إلى األبد‪..‬‬
‫التفت القاضي إلى المتهم‪ ،‬وقال‪ :‬واصل حديثك‪..‬‬
‫توجه المتهم إلى ديفيد هيوم‪ ،‬وقال(‪ :)1‬اسمعني ـ ديفيد ـ ألقول لك بكل صراحة‪:‬‬
‫لقد حجبك حسك الممتلئ بالزهو والغرور عن كل شيء‪ ..‬فرحت تعتبره المجال الوحيد‬
‫للمعرفة‪ ،‬والمنبع الفري د لإلدراك‪ ..‬ورحت تحص ر المع ارف في الم ادة الجام دة‪ ،‬وم ا‬
‫ارتبط بها‪ ..‬ورحت تعتبر كل ما يتحدث عنه العقالء من مص ادر للمعرف ة غ ير الحس‬
‫والمادة أوهاما ال حقيقة لها‪ ،‬وخرافة ال وجود لها إال في مخيلة أصحابها‪.‬‬
‫ولم تكت ف ب ذلك‪ ،‬ب ل رحت تعت بر ك ل معتق دات اإلنس ان وآراءه عن الع الم‬
‫الخارجي مجرد خياالت وأوهام ال وجود لها‪ ..‬وأنه ا مج رد م دركات ذهني ة مختزن ه‪،‬‬
‫وأن اإلنسان ال يفعل سوى أن يسقط كل ذلك على العالم الخارجي‪ ،‬ويفسره به‪ ،‬فتك ون‬
‫الحصيلة أن يعلن عن ذاته‪ ،‬وعن مكونات نفسه‪ ،‬وال يعلن عن الحقائق الخارجي ة ال تي‬
‫يزخر بها العالم الواقعي‪.‬‬

‫‪ )( 1‬النص الوارد هنا مقتبس بتصرف من كتاب [ما قاله المالحدة ولم يسجله التاريخ]‬

‫‪14‬‬
‫ولم تكتف بذلك‪ ،‬بل رحت تمعن في الحس والكثافة‪ ،‬فتعت بر ك ل أفع ال اإلنس ان‬
‫وك ل س لوكاته مج رد ردود أفع ال لم ا يعتم ل في نفس ه من إحس اس بالل ذة أو األلم‪،‬‬
‫واستجابة لكل ما يشعر به اتجاه األشياء من سعادة أو شقاء‪ ..‬وبذلك أص بحت الح واس‬
‫الظاهرة هي المتحكمة في كل شيء ابتداء من اإلحساس باللذة واأللم‪.‬‬
‫بل إنك اعتبرت الحواس الباطن ة مج رد ت ابع ذلي ل للح واس الباطني ة‪ ..‬ف ألغيت‬
‫بذلك وجودها وحقيقتها‪.‬‬
‫أتدري ما فعلت بفلسفتك الرعناء هذه‪ ..‬لقد قضيت على كل حقائق الوج ود‪ ،‬كم ا‬
‫قضيت على كل القيم النبيلة‪ ..‬وكيف ال تقض ي عليه ا‪ ،‬وق د جعلت األخالق قائم ة على‬
‫أصول حسية مادية بحتة‪ ..‬وكيف ال تقضي عليها‪ ،‬وق د ج ردت اإلنس ان من مس ئوليته‬
‫على أفعاله‪ ،‬وجعلت حركاته كلها مجرد ردود أفعال لما يحس به من ل ذة‪ ،‬أو م ا يحس‬
‫به من ألم‪..‬‬
‫سكت قليال‪ ،‬ثم قال‪ :‬إن المدعي علي الواق ف أم امكم ليس من أولئ ك الم ترددين‬
‫المت وقفين الالأدريين من أص حاب اإللح اد الس لبي‪ ..‬ب ل ك ان من أص حاب اإللح اد‬
‫اإليجابي الذين راح وا يح اولون التم اس األدل ة على نفي وج ود هللا‪ ..‬وق د رأى أن من‬
‫أص حابه في ك ل ت اريخ البش رية من وض ع ل ذلك مب ادئ ونظري ات ممتلئ ة ب العبث‬
‫والالعقالنية كنقض مبدأ الخلق‪ ،‬ومشكلة العدل والشر‪ ،‬واس تحالة ال وحي‪ ،‬ونق د الكتب‬
‫المقدسة لألديان‪ ،‬واستحالة الحياة بعد الموت‪ ..‬فراح يضيف إليها ش يئا جدي دا لم يس بقه‬
‫إليه أحد‪ ،‬بل لم يفكر فيه أحد أص ال‪ ،‬وه و [إبط ال مب دأ الس ببية](‪ )1‬ال ذي اتفقت علي ه‬
‫جميع العقول‪ ،‬بل اعتبر من (إحدى بدائه الفكر األساسية)‪ ،‬ذلك أنه (ال يحدث شيء بال‬
‫علة‪ ،‬أو على األقل بال سبب محدد)(‪)2‬‬
‫بل إن الفطرة تقتضيه‪ ،‬فالطفل الصغير إن تعرض لتأثير م ؤثر م ا؛ ت راه يطلب‬
‫ذل ك الم ؤثر ويبحث عن ه‪ ،‬فيلتفت ليبحث عمن ض ربه خلس ة‪ ،‬لكون ه مم ا ارتك ز في‬
‫فطرته‪ ،‬وفي مبادئ عملياته العقلية األولى أن لكل فعل فاعال‪ ،‬ولكل مص نوع ص انعا‪..‬‬
‫بل إنه إن لم يجد ذلك المؤثر يرتبك‪ ،‬بل لعله يخ اف ويهل ع‪ ،‬وس بب ذل ك الخ وف ليس‬
‫الجن أو الشياطين‪ ..‬فالطفل ال يدرك وجود تل ك الق وى غ ير المنظ ورة أص ال في تل ك‬
‫المرحلة المبكرة من حياته‪ ،‬ولكن سبب ذلك هو االضطراب النفسي الذي يصيبه نتيجة‬
‫اختالل المبادئ التي يفهم بها الوجود‪.‬‬
‫ولهذا كان البحث في العلل قديما قدم الفكر نفسه‪ ،‬فمنذ العصور الفلسفية لليون ان‬
‫اهتم أرسطو ب درس العل ل‪ ،‬وقس مها إلى عل ل أرب ع‪ :‬المادي ة‪ ،‬والص ورية (الهي ولى)‪،‬‬
‫والفاعلية‪ ،‬والغائية(‪ ..)3‬وقد أثبت باألدلة العقلية أن هللا هو العل ة األولى‪ ،‬وليس معل وال‬
‫لشيء آخر‪.‬‬
‫‪ )( 1‬استفدنا المادة العلمية هنا من مقال مهم بعنوان‪ :‬األسس الال عقلية لإللحاد‪ ..‬مشكلة مب دأ الع الم نموذج اً‪ ،‬لعم رو‬
‫بسيوني‪.‬‬
‫‪ )(2‬المعجم الفلسفي لجميل صليبا‪.1/649 ،‬‬
‫‪ )(3‬تاريخ الفلسفة اليونانية ليوسف كرم‪.148 ،‬‬

‫‪15‬‬
‫لكن صاحبنا هذا أثناء دفاعه عن اإللحاد‪ ،‬وحق ده على اإليم ان أنك ر ه ذا المب دأ‬
‫لسبب وحيد‪ ،‬وهو أن جميع المؤم نين من فالس فة ورج ال دين يعتم دون علي ه إلثب ات‬
‫وجود هللا‪.‬‬
‫التفت القاضي إلى ديفيد‪ ،‬وقال‪ :‬هل حقا ما يقول الرجل؟‬
‫قال ديفيد‪ :‬أجل‪ ..‬كل ما قاله صحيح‪ ..‬وأنا فخور بأني وجدت من عمالي من فهم‬
‫فلسفتي‪ ..‬الشك أن هذا العامل قرأ كت ابي األك بر(بحث في الطبيع ة اإلنس انية)‪ ،‬وال ذي‬
‫ذكرت فيه أن فكرة العلي ة قائم ة على أس س ثالث ة‪ :‬هي االتص ال (‪ ،)1‬واألس بقية (‪،)2‬‬
‫واالرتباط الضروري‪ ..‬ثم رحت أفند السبية فيهما جميعا‪.‬‬
‫لقد عبرت عن مقولتي في نفي االرتباط الضروري بقولي‪( :‬رؤية أي ش يئين أو‬
‫فعلين‪ ،‬مهم ا تكن العالق ة بينهم ا‪ ،‬ال يمكن أن تعطين ا أ ي فك رة عن ق وة‪ ،‬أو ارتب اط‬
‫بينهما‪ ،‬وأن ه ذه الفك رة تنش أ عن تك رار وجودهم ا مع ا‪ ،‬وأن التك رار ال يكش ف وال‬
‫يحدث أي شيء في الموضوعات‪ ،‬وإنما يؤثر فقط في العقل بذلك االنتقال المعتاد ال ذي‬
‫يحدثه‪ ،‬وأن هذه االنتقال المعتاد من العلة إلى المعلول هو‪ :‬القوة والضرورة)‬
‫وقلت‪( :‬ليست لدينا أي ة فك رة عن العل ة والمعل ول غ ير فك رة عن أش ياء ك انت‬
‫مرتبطة دائما‪ ،‬وفي جمي ع األح وال الماض ية ب دت غ ير منفص لة بعض ها عن بعض‪،‬‬
‫وليس في وسعنا النفوذ إلى سبب هذا االرتباط‪ ..‬وإنم ا نحن نالح ظ ه ذه الواقع ة فق ط‪،‬‬
‫ونجد أنه تبعا لهذا االرتب اط المس تمر ف إن األش ياء تتح د بالض رورة في الخي ال‪ ،‬ف إذا‬
‫حضر انطباع الواحد ك َّونا نحن في الحال فكرة زميله المرتبط به في العادة)(‪)3‬‬
‫التفت القاض ي إلى المتهم‪ ،‬وق ال‪ :‬واص ل‪ ..‬لكن ال تغ رق بن ا في بح ر الفلس فة‬
‫العميق‪ ..‬حدثنا فقط عن آثار أقواله عليك وعلى أصحابك من العمال‪.‬‬
‫قال المتهم‪ :‬أجل ـ سيدي ـ فه دفي من ك ل ذل ك الح ديث ه و الوص ول إلى ه ذه‬
‫النقطة الخطيرة‪ ..‬فقد كان ألقواله تلك‪ ،‬وال تي ش هد به ا على نفس ه أم امكم آث ار كث يرة‬
‫على أص حابي من العم ال وغ يرهم‪ ..‬فق د ك ان ل ه دوره في إم داد المالح دة بم ادة‬
‫العقالنية جديدة يقضون بها على كل الحجج العقلية للمؤمنين‪.‬‬
‫لقد عبر بعضهم عن ذلك‪ ،‬فقال‪( :‬هيوم أول فيلسوف أوروبي نقل فكرة العلة من‬
‫معانيها األرسطية إلى معنى التتابع المج رد بين الس بب والمس بب‪ ،‬أي التت ابع ال ذي ال‬
‫يعني شيئا أكثر من أن السبب سابق لمسببه فيما دلت عليه الع ادة (التجرب ة)‪ .‬وق د ك ان‬

‫‪ )(1‬يقصد باالتصال أن األسباب والمس ببات متص لة ببعض ها‪ ،‬وأن الش يء ال يمكن أن يحص ل في زم ان أو مك ان‬
‫ي ْبعُد عن زمانه ومكانه بالفعل‪.‬‬
‫‪ )(2‬ال يرى هيوم ضرورة أن تكون العلة ـ بحسب الظاهر ـ سابقة على معلولها‪ ،‬بل يراه ا أم را يحتم ل (الج دل )‪،‬‬
‫ومع تسليمه أن التجربة في معظم األحيان تنتصر ألسبقية العلة على المعلول‪ ،‬لكن مبدأ األسبقية يبقى ـ عنده ـ دائم ا غ ير‬
‫قابل للتدليل بنوع من االستنتاج أو البرهان !‪.‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬تحقيق في الذهن البشري لهي وم‪ ،‬ترجم ة د محم د محج وب‪ 116 ،‬ـ ‪ ،117‬و ‪ 126‬وهي وم ل زكي نجيب‬
‫محمود ‪.148‬‬

‫‪16‬‬
‫هكذا)(‪)1‬‬
‫يمكن عقال أن يجيء الترتيب على صورة أخرى‪ ،‬لكنه جاء‬
‫وق د اس تفاد من مقولت ه تل ك عمانوي ل كانط (‪ ،)2‬ال ذي أعطى المالح دة الم برر‬
‫العقلي لنفي وجود هللا‪ ،‬باعتبار أنه ال يمكن التدليل عليه بالدليل العقلي‪ ..‬بل راح ـ تحت‬
‫تأثير تلك المقولة ـ يزعم أنه يستحيل إثبات وج ود هللا بالعق ل‪ ،‬كم ا أن ه يس تحيل إثب ات‬
‫عدمه‪ ..‬ثم ترك القضية بعد ذلك للضمير‪ ،‬ولمصادرات العقل العملي‪.‬‬
‫لقد كان قبل احتكاكه به وبأفكاره المسمومة ال يقول بذلك‪ ،‬ب ل ك ان يق رر العلي ة‬
‫في كتبه‪ ،‬لكن ه بع د اطالع ه على مقالت ه تح ول إلى كان ط الم ؤمن الوحي د ال ذي يحب ه‬
‫المالحدة‪ ،‬ويستدلون بمقاالته لضرب ال دين‪ ..‬لق د ق ال في ذل ك‪( :‬إن هي وم أيقظ ني من‬
‫سباتي االعتقادي‪ ،‬وكان ذلك برأيه في مبدأ العلية بنوع خاص‪ ،‬إذ كان قد قال‪ :‬إن مب دأ‬
‫العلي ة ليس قض ية تحليلي ة‪ ،‬أي‪ :‬إن المعل ول ليس متض منًا في العل ة أو مرتبطً ا به ا‬
‫ارتباطًا ضروريًّا‪ ،‬وإن الضرورة التي ت بين ل ه م ا هي إال ولي دة ع ادة تتك ون بتك رار‬
‫التجربة)(‪)3‬‬
‫سكت قليال‪ ،‬ثم قال (‪ :)4‬لقد كان المدعي يجمعنا ـ معش ر العم ال البس طاء ـ ك ل‬
‫حين‪ ،‬ويقول لنا‪ :‬أنتم تزعمون أنه إذا كان للبيت مهندس‪ ،‬فال بد أن يكون للكون خالق‪..‬‬
‫وهذا قياس فاسد‪ ..‬فنحن لم نشاهد عالَما آخر لنقارنه بعالمن ا كي نس تنتج أن ه ذا الع الم‬
‫مخلوق بالضرورة‪.‬‬
‫كان يق ول ه ذا‪ ،‬وه و م درك تم ام اإلدراك أن ال بيت والك ون من جنس واح د‪،‬‬
‫فكالهما كيان مادي حادث في الزمان والمكان‪ ،‬وكالهما يحتاج إلى طاق ة‪ ،‬واالختالف‬
‫بينهما يقتصر على الصفات فقط‪ ،‬وليس الجنس‪.‬‬
‫قال القاضي‪ :‬سمعنا ما قلت‪ ..‬لكنا لم ندرك بعد عالقة ذلك بالجريمة التي فعلتها‪.‬‬
‫قال المتهم‪ :‬لقد فعلت تلك الجريمة التي اعترفت بها أمامكم بكل طواعي ة‪ ،‬ألثبت‬
‫له قانون العلية الذي راح ينفيه‪ ،‬ويتهم المؤمنين بالجنون لقولهم به‪ ..‬لق د ذك رت ل ه في‬
‫بعض المجالس التي عقدها لنا لتلقين اإللحاد قصة العجوز التي سئلت عن سر إيمانه ا‪،‬‬
‫فقالت‪( :‬من آلة النسيج هذه‪ ،‬فعند ما أمسك مقبضها وأدوّره بهذا الدوران ينس ج الحب ل‪،‬‬
‫وحيث أرف ُع ي دي وأتوق ف عن الت دوير تتوقّ ف ويبقي الص وف والقطن على حال ه‪،‬‬
‫عندها ال نس يج ينس ج‪ ،‬وال لي ف ي برم‪ ..‬من هن ا أيقنت أن لألفالك والنج وم والك واكب‬
‫السيّارة والشمس والقمر واألرض ونظام الخلق بأجمعه خالقا ً مقتدراً‪ ،‬متى ش اء عطّ ل‬
‫الوجود ورماه في هوّة العدم‪ .‬وإن شاء أم ّده بأسباب الحياة وأدار عجلة استمراره)(‪)5‬‬

‫‪ )(1‬مناهج البحث عند مفكري اإلسالم لعلي سامي النشار‪.164 ،‬‬


‫‪ )(2‬عمانويل كانط (‪ 1724‬ـ ‪ ،) 1804‬حاول التوسط بين التجريبية والعقالنية المثالية‪ ،‬ووجه نقدا عقليا لل دين‪ ،‬أهم‬
‫كتبه‪ :‬نقد العقل الخالص النظري (المشهور بنقد العقل المحض )‪ ،‬ونق د العق ل العملي‪ ،‬ونق د الحكم‪ ،‬وميتافيزيق ا األخالق‪،‬‬
‫ورسالة في السالم الدئم راجع يوسف كرم ‪ 208‬ـ ‪.216‬‬
‫‪ )(3‬تاريخ الفلسفة الحديثة‪ ،‬ليوسف كرم ‪.210‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬اإللحاد ووجود هللا‪ ،‬أحمد محمد حسن وأحمد دعدوش‪.‬‬
‫‪ )(5‬معرفة هللا‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.148 :‬‬

‫‪17‬‬
‫وذكرت له أن طائفة من المالح دة طلب وا من بعض العلم اء أن يثبت لهم وج ود‬
‫هللا‪ ،‬فقال لهم‪( :‬قبل أن أناظركم هلم بنا إلى الشاطئ‪ ،‬فقد علمت أن هناك سفينة ممل وءة‬
‫من البض ائع واألرزاق ج اءت تش ق عب اب الم اء ح تى أرس ت في المين اء‪ ،‬ون زلت‬
‫الحمولة وذهبت‪ ،‬وليس فيها قائد وال حمالون وال عساكر وال حراس‪ ..‬فهي فرص ة لن ا‬
‫للغنيمة منها)‪ ..‬ضحك المالحدة لقوله‪ ،‬وقالوا له‪( :‬كيف تريد أن تناظرن ا وأنت ال عق ل‬
‫لك‪ ..‬فهل يعقل أن سفينة تأتي بدون قائد وتنزل وتنصرف؟! حتى صبياننا ال يص دقون‬
‫هذا)‪ ..‬فقال‪( :‬كيف ال تعقلون هذا‪ ،‬وتعقلون أن هذه السماوات والشمس والقمر والنجوم‬
‫والجبال والشجر والدواب والناس كلها بدون صانع؟)‬
‫وذكرت له قول األعرابي عندما سئل‪ :‬بِ َم عرفتَ ربك؟ فق ال‪( :‬البَع رةُ ت دل على‬
‫اج‪ ،‬وس ماء ذات أب راج‪ ،‬أفال ت دل‬ ‫البعير‪ ،‬واألثَر يدل على المسير‪ ،‬ليل ٍ‬
‫داج‪ ،‬ونهار س ٍ‬
‫على الصانع الخبير؟!)‬
‫لكنه بدل أن يواجه حججي بالحجج راح يسخر مني أمام العمال‪ ،‬ويحول المسألة‬
‫عن مسارها‪ ،‬ويقول‪ :‬إن هذه المقولة مليئة بالمغالطات المنطقية‪ ..‬وأوله ا لم البع ير؟!‪..‬‬
‫لم ال يكون الجاموس أم البقر أم الماعز أم الجمل؟!‪ ..‬وه ذا ينطب ق على الك ون‪ ،‬فلم اذا‬
‫هو هللا؟ لم ليس فيشنو أو أودين أو زيوس أو أهووا مازدا؟‬
‫والثاني أننا نعرف شكل البعرة من الخبرات السابقة‪ ،‬ونعلم كيف يتم تكوينها؛ لذا‬
‫عندما نراها يساعدنا دماغنا على إمدادنا بمعلومة سابقة تمكننا من التعرف على الجسم‬
‫الموجود أمامنا‪ ،‬واآلن تأملوا معي ذلك األعرابي الذي وجد البعرة وأثر السير‪ ،‬تخيل وا‬
‫لو أنه رأى حفرة على شكل مثلث‪ ..‬ماذا كان سيقول؟ البعرة تدل على البعير‪ ،‬والحف رة‬
‫تلك تدل على‪ ..‬ببساطة لن يعلم؛ ألنه ليست لديه خبرات سابقة تمكنه من التعرف عليه‪.‬‬
‫كان العمال يضحكون من أمثال ه ذه الكلم ات‪ ،‬وهم ال ي دركون الكم الكب ير من‬
‫المغالطات التي تحويها‪..‬‬
‫التفت القاضي إلى ديفيد‪ ،‬وقال‪ :‬هل صحيح ما ذكره الرجل؟‬
‫قال ديفيد‪ :‬أجل‪ ..‬فقد نسي أنه يتحدث مع فيلسوف‪ ..‬فمن العجوز ومن األع رابي‬
‫حتى أتلقى منهم مع ارفي‪ ..‬إنهم ع وام بس طاء ال عق ول لهم‪ ..‬فكي ف أس لم لهم عقلي؟‪..‬‬
‫ولو أنه بدل ذلك حدثني بطريقتنا ـ نحن الفالسفة ـ لربما أكون قد ناقشته مناقشة علمية‪،‬‬
‫أو ربما أكون اتبعته في دعواه‪.‬‬
‫رفع رجل من القاعة يده‪ ،‬وقال‪ :‬ما دام قد طلب هذا‪ ،‬فليسمح لي ـ سيدي القاضي‬
‫ـ أن ألبي رغبته في هذا المجلس‪ ،‬وأن أحدثه بالطريقة ال تي يري دها‪ ..‬فأن ا ض يف على‬
‫هذه المدين ة‪ ،‬وأش تغل بالفلس فة‪ ،‬ول دي فيه ا أبح اث وكتب‪ ..‬وق د أتيت إلى هن ا عن دما‬
‫سمعت بالقصة‪ ،‬ألرى هل يحتفظ صديقي ديفيد بمبادئه في إنكار العلية أم ت راه يتركه ا‬
‫لتعارضها مع مصالحه‪ ..‬وقد رأيت أنه تركها بس هولة وبس اطة‪ ،‬فه و بمج رد حص ول‬
‫الحادثة في مصنعه تأكد أن هناك من يقف وراءها‪ ،‬فراح يتح رى عن ه إلى أن وج ده‪..‬‬
‫وهكذا لو تعامل مع الحقائق الكبرى‪ ،‬وتحرى عنها لوجد كل األدلة التي ترشد إليها‪.‬‬
‫قال القاضي‪ :‬لقد طلب أن تحدثه بطريقة الفالسفة‪ ..‬ال بطريقة العوام‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫قال الفيلسوف‪ :‬أجل‪ ..‬سأحدثه بذلك‪ ..‬إن ما عبر عنه العام ل بلغت ه البس يطة ه و‬
‫ما يعبر عنه في الفلسفة ب دليل العلي ة وه و دلي ل من بين آالف األدل ة على وج ود هللا‪..‬‬
‫بعضهم يسميه الدليل الكياني(‪.)1‬‬
‫والمقدمة األولى من هذا الدليل هي أننا نرى في العالم حادث ات‪ ،‬وتقلب ات‪ ،‬ح تى‬
‫إن وجودن ا نحن من جمل ة تل ك الحادث ات‪ ..‬وه ذه مقدم ةٌ‪ ،‬مبني ة على اإلحس اس‬
‫والمشاهدة‪ ،‬ومسلم بها عند أهل العلم القديم‪ ،‬والعلم الحديث‪.‬‬
‫ث من عل ٍة]‪،‬‬ ‫أما المقدمة الثانية‪ ،‬والتي أنكرها صاحبنا‪ ،‬فهي أنه [ال بد لكل ح اد ٍ‬
‫وهذه المقدمة‪ ،‬وإن كانت ال تستند بكليتها إلى اإلحس اس‪ ،‬والتجرب ة‪ ،‬والمش اهدة؛ بن ا ًء‬
‫ث‪ ،‬إال أنه ا ليس ت دون‬ ‫ي‪ ،‬ال يشاهَد‪ ،‬وال أنا َّ لم نشا ِهد كل ح اد ٍ‬
‫على أن العلية أمر معنو ٌّ‬
‫المقدمة األولى المبنية على الحسِّ في القوة؛ بل أقوى منها‪.‬‬
‫قال القاضي‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال الفيلسوف‪ :‬ألن حصول العلم بالمحسوس‪ ،‬بواس طة اإلحس اس‪ ،‬يتوق ف عن د‬
‫التحليل العلمي على تصديق هذه المقدمة الثانية‪ ،‬ولهذا‪ ،‬يحق الق ول‪ ،‬ب أن‪( :‬الش بهة في‬
‫مبدإ العلية‪ ،‬تستلزم الشبهة في وجود المحسوسات)‬
‫قال القاضي‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال الفيلسوف‪ :‬ذلك أن هذا المبدأ‪ ،‬القائل بلزوم علة لكل حادثة من مبادئ ال ذهن‬
‫ان‪ ،‬ويحكم به ا‪ ،‬قب ل الحكم‬ ‫األولى‪ ،‬بل هي من القضايا التي يتوقف عليها عقل كل إنس ٍ‬
‫بسائر القضايا‪ ،‬ويجعل لها قيم ة‪ ،‬وأهمي ة تجعالنه ا ف وق ك ل مناقش ة‪ ..‬فتل ك القض ايا‬
‫للتفكر‪ ،‬كالعضالت للمشي‪ ،‬على تشبيه الفيلسوف [له بينج]‬
‫ذلك أن كل إنسا ٍن يستخدمها ـ حتى ديفيد هيوم نفسه ـ ربما البعض ال يعرفها في‬
‫آخ ُر ت أمين على م ا يع رف‬ ‫حالت ه االبتدائي ة‪ ،‬أي يس تخدمها من حيث ال يش عر‪ ،‬وهي ِ‬
‫اإلنسان‪ ،‬وما يريد أن يعرفه من الحقائق؛ ولوالها‪ ،‬لما تقررت أي حقيقة في األذهان‪.‬‬
‫لق د ق ال أرس طو مع برا عن ذل ك‪( :‬للمب ادئ األولى خص لتان؛ األولى‪ :‬ع دم‬
‫احتياجها إلى اإلثبات بالدليل‪ ..‬والثانية‪ :‬كونه ا معلوم ة بيقين‪ ،‬أعلى من جمي ع النت ائج‪،‬‬
‫التي يمكن أن تُستنتج منها؛ ألن االستنتاج مجرى اليقين‪ ،‬والمبادئ معادنه)‪ ..‬وقال‪( :‬لو‬
‫احتاج كل معرفة إلى البرهنة‪ ،‬الستحال العلم)‪ ..‬أي‪ ،‬للزم التسلسل في البراهين‪.‬‬
‫فجميع العلوم ـ س يدي القاض ي ـ مدين ة لمب دإ العلي ة؛ ألن العلم معرف ة الش يء‬
‫بسببه؛ وبعبارة أخرى بدليله؛ فلوال مبدأ العلية في اإلنسان‪ ،‬لما انبعثت نفسه إلى تحري‬
‫األسباب‪ ،‬والعلل‪ ،‬وارتفعت العلوم‪.‬‬
‫و هذا الذي ذكرته ـ سيدي القاضي ـ ال خالف فيه بين الم ذاهب الفلس فية؛ وإنم ا‬
‫الخالف في أن تلك المبادئ‪ :‬فطرية مطلقاً؛ أو فطريةٌ للفر ِد‪ ،‬مكتسبةٌ للنوع؛ أو مكتس بةٌ‬
‫للفرد أيضاً؛ وأصح المذاهب أولها‪ ،‬كما أن األخير أضعفها‪.‬‬
‫التفت القاضي إلى ديفيد‪ ،‬وقال‪ :‬هل ترى الرجل حدثك باللغة التي تناسبك؟‬

‫‪ )( 1‬استفدنا بعض التقريرات هنا من [موقف العلم والعقل من رب العالمين]‪ ،‬مصطفى صبري‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫قال ديفيد‪ :‬ال‪ ..‬أريد لغة أخرى أكثر وضوحا‪..‬‬
‫ق ال الفيلس وف‪ :‬ال ب أس س أعرض ل ك البره ان على الطريق ة المتبع ة في علم‬
‫َث؛ وال واجباً‪،‬‬ ‫ث‪ ،‬يلزم أن يكون ممكناً؛ ال مستحيالً‪ ،‬وإال لما حد َ‬ ‫الكالم‪ ،‬وهي‪ :‬كل حاد ٍ‬
‫ً‬
‫وإال لما سبقه الع دم‪ ..‬والممكن‪ ،‬م ا ال يقتض ى لذات ه أن يك ون موج ودا‪ ،‬وال أن يك ون‬
‫معدوماً‪ ..‬فالوجود والعدم‪ ،‬سيان بالنسبة إليه؛ فإذا ُوجدَ‪ُ ،‬وج َد لعل ٍة ترجحه لهُ‪ ،‬لئالَّ يل زم‬
‫مرجح‪ ،‬وه و مح الٌ‪ ،‬ومس تلز ٌم لع دم تس اوي الوج ود والع دم‪ ،‬فيم ا‬ ‫ٍ‬ ‫الرجحان من غير‬
‫فُرض تساويهما فيه‪.‬‬
‫رض فيه التساوي‪ ،‬يستلزم خالف المفروض‪ ،‬المؤدي إلى‬ ‫و عد ُم التساوي فيما فُ َ‬
‫التناقض‪.‬‬
‫فعلى هذه الطريقة‪ ،‬تكون المقدم ة الثاني ة من مق دمات البره ان على وج ود هللا‪،‬‬
‫القائلة بأن لكل حادث علةٌ‪ ،‬ثابتةً بالبرهان‪ ،‬وعلى الطريقة األولى تكون بديهية‪.‬‬
‫فمقدمات هذا الدليل‪ ،‬أدناها درجةً في اليقينية‪ ،‬هي المقدم ة األولى‪ ،‬المبني ة على‬
‫الحس(‪ ..)1‬فإذا كانت مقدمات الدليل يقينية‪ ،‬كانت النتيجة المترتبة عليه ا أيض ا ً يقيني ة‪،‬‬
‫إال أن مرتبتها في اليقين‪ ،‬تكون على قدر أدنى المقدمات مرتبةً في ِه‪ ،‬ألن نتيجية القي اس‬
‫المنطقي تتب ع أخس المق دمتين الل تين يت ألف منهم ا القي اس‪ ..‬ح تى إن ه ذه الكائن ات‬
‫المحسوسة‪ ،‬التي نسميها [العالم]‪ ،‬إن لم تكن موج ودةً‪ ،‬وك انت حواس نا تغالطن ا‪ ،‬فعن د‬
‫ذلك ينهار الدليل الذي أقمناه إلثبات وجود هللا‪ ،‬بانهيار مقدمة من مقدماته‪.‬‬
‫لكنا ـ جميعا سيدي القاض ي ـ نحم د هللا على أنن ا لس نا من الحس بانية‪ ،‬ال ذين ال‬
‫يس تيقنون وج ود الع الم‪ ،‬وينف ون اليقين في ك ل ش يء‪ ..‬ولس نا ك ذلك من [أش باه‬
‫الحسبانيين] القائلين ب أن الع الم عب ارة عن ص ورة نفس ية‪ ،‬أنش أتها أذهانن ا في نفس ها‪،‬‬
‫ومخيالتُن ا في الخ ارج‪ ،‬وهم ال ذين ي تزعمهم الفيلس وف [ك انت]‪ ..‬كم ا أنن ا لس نا من‬
‫القائلين بوحدة الوج ود‪ ،‬وال ذين أع دموا ال دليل على وج ود هللا بإع دام الع الم؛ ألنهم لم‬
‫يُع ِدموا الدليل‪ ،‬وإنما ألحقوه بالمدلول‪.‬‬
‫نحن لسنا جميع أولئك‪ ..‬ولذلك نرى أن العاقل يدرك وجود هللا‪ ،‬كما يدرك وجود‬
‫المحسوس ات‪ ..‬أي أن إدراك وجوده ا‪ ،‬ليس أق وى من إدراك وج ود ِه بدليل ه العقلي‬
‫المنطقي‪.‬‬
‫لقد عبر عن ذلك [له بينج]‪ ،‬وهو من أكبر الفالسفة الغربيين األلمان‪ ،‬فق ال‪( :‬إن‬
‫اليقين البره اني‪ ،‬عب ارة عن اليقين الب ديهي‪ ،‬ال ذي ينطب ق على رابط ة بين الحق ائق‬
‫المتعددة‪ ،‬بدالً من انطباقه على حقيقة منفردة)‬
‫وهكذا قال [ديكارت]‪( :‬نحن ندرك وجود اإلدراك‪ ،‬ووج ود هللا‪ ،‬المس تنبَطَ من ه‪،‬‬
‫بال واس ط ٍة؛ أم ا وج ود الع الم‪ ،‬فليس ل ه مؤي ٌد غ ير ص دوقية هللا‪ ،‬ال ذي ال يحتم ل أن‬
‫يخدعنا‪ ،‬فيما جعلَنا ندرك وجود العالم‪ ،‬ونعاينه)‪ ..‬وقول ديك ارت ه ذا‪ ،‬ط و ٌر آخ ر في‬
‫إدراك وجود هللا‪ ،‬وهو طو ٌر يليق بخواص العقالء‪.‬‬

‫‪ )(1‬أي المقدمة القائلة بوجود أي حادث في الدنيا‪..‬‬

‫‪20‬‬
‫ق ال ذل ك‪ ،‬ثم التفت للحض ور‪ ،‬وق ال‪ :‬إني من م وقفي ه ذا أتح دى حض رة‬
‫الفيلس وف هي وم‪ ،‬وك ل من ي أبون االع تراف بق وة ه ذا ال دليل وقطعيت ه‪ ،‬أن ي أتوا‬
‫باعتراضهم عليه‪ ،‬من أي ناحية استطاعوا‪.‬‬
‫قام أحد الحض ور‪ ،‬وق ال‪ :‬م ا دمت ذك رت أن المقدم ة األولى من مق دمات ه ذا‬
‫البرهان ليست في أعلى درجات اليقين‪ ،‬فإن نتيج ة القي اس المنطقي ب ذلك تك ون تابع ة‬
‫ألخس المقدمات‪ ..‬وبذلك ال يثبت بهذا البرهان وجود هللا‪ ،‬على الوجه المطل وب‪ ،‬ال ذي‬
‫هو أن يكون وجوده ضرورياًّ‪ ،‬والذي به يتحقق كونه [واجب الوجود]‬
‫ابتسم الفيلسوف‪ ،‬وقال‪ :‬الشك أن ك أيه ا الس ائل‪ ،‬وأنتم ي ا جمي ع الحاض رين‪ ،‬ال‬
‫تشكون في ذواتكم ووجودكم‪ ،‬وال تشكون في وجود األشياء من ح ولكم‪ ..‬وإال لم ا كنتم‬
‫موجودين هنا‪ ..‬فأنتم جئتم إلى هنا لتثبتوا التهمة على هذا الرجل المسكين‪ ..‬ف إن لم يكن‬
‫موجودا‪ ،‬ولم يكن ما فعله سببا في حصول ما حصل‪ ..‬فلم وج ودكم هن ا‪ ،‬ولم ادع اؤكم‬
‫عليه؟‬
‫قال الرجل‪ :‬فلم ذكرت أن هذه المقدمة ليست في أعلى درجات اليقين؟‬
‫ق ال الفيلس وف‪ :‬لق د ذك رت ذل ك ألولئ ك ال ذين خرج وا من ط بيعتهم البش رية‪،‬‬
‫فراحوا يشككون في حقائق األشياء‪ ..‬ولذلك فإن الشبهة في ثبوت وجود هللا على الوج ه‬
‫المطلوب عندهم‪ ،‬تأتي من الشبهة في ثبوت وجود العالم نفس ه‪ ..‬فهم ال ينك رون وج ود‬
‫هللا فقط‪ ،‬وإنما ينكرون وجود العالم أيض ا‪ ..‬وه ؤالء بال ش ك ال يخ الفون عام ة الن اس‬
‫فقط‪ ،‬وإنما يخالفون أيضا بداهة الحس‪.‬‬
‫ولهذا سمينا هذا النوع من الضرور ِة‪[ :‬الضرورةَ بشرط المحمو ِل]؛ وهي كافي ةٌ‬
‫الس تلزام الض رورة المطلق ة‪ ،‬لوج ود هللا‪ ،‬بن اء على ص دق قولن ا‪( :‬إن ك ان الع الم‬
‫موجوداً‪ ،‬ضروري الوجود‪ ،‬م ا دام موج وداً؛ فوج ود هللا ض روريٌّ ض رورةً مطلق ةً‪،‬‬
‫ليك ون موج َد ه ذا الع الم المحت اج إلى اإليج اد)‪ ،‬فين دفع ت أثير الش بهة الثاني ة أيض اً‪،‬‬
‫المتصلة بوجود العالم‪ ،‬في قضية (وجود هللا‪ ،‬الضروري الوجود)‬
‫و لو أننا تنازلنا‪ ،‬وأعرنا الفالسفة الريبيين شيئا ً من االعت داد‪ ،‬وقلن ا في تص وير‬
‫قض يتنا‪( :‬إن ك ان الع الم موج وداً؛ فاهلل موج و ٌد بالض رور ِة)؛ كفان ا ذل ك في إثب ات‬
‫المطلوب‪.‬‬
‫و ال يرد علينا انتفاء هذه الضرورة‪ ،‬لوج ود هللا على تق دير ع دم وج ود الع الم‪،‬‬
‫ألنا ال نكتم أن دليلنا على معرفة وجود هللا‪ ،‬هو وجود العالم‪ ..‬ف إذا انتفى ال دليل‪ ،‬يك ون‬
‫انتفاء المدلول‪ ،‬الذي هو معرفة وجود هللا طبيعياًّ‪..‬‬
‫وبه ذا الكالم ينقط ع داب ر ك ل ش بهة تح وم ح ول المقدم ة األولى ل دليل إثب ات‬
‫الواجب‪ ..‬فإن كان لكم ـ سيدي القاضي أو للحضور الكرام ـ شبهة أخ رى‪ ،‬فأن ا مس تعد‬
‫لجوابها هنا‪.‬‬
‫قام رجل‪ ،‬وقال(‪ :)1‬ص دقت في ك ل م ا ذك رت‪ ..‬ولكن لم ال تعت بر عل ة وج ود‬
‫‪ )(1‬اقتبسنا بعض المعلومات الواردة هنا من مقال بعنوان‪ :‬مغالطات أكذوبة المالحدة‪ :‬أن الكونَ يس ير بق وانينَ ؛ فال‬
‫يحتاج إلى خالق ليدب َِّر أمره‪..‬‬

‫‪21‬‬
‫العالم هي قوانين الكون نفسها‪ ..‬أو هي الطبيعة‪ ..‬لم يشترط أن يك ون ذل ك ه و هللا‪ ..‬أو‬
‫واجب الوجود‪ ،‬كما ذكرت؟‬
‫قام آخر‪ ،‬وقال‪ :‬أال ترى أن الكون في ه أنظم ة وق وانين تُس يِّره؛ وه و ب ذلك ليس‬
‫بحاجة إلى خالق يدبر أموره؟‬
‫ترض وراء الق وانين‬ ‫َ‬ ‫قال آخ ر‪ :‬الع الم تح ُك ُم ه ق وانين‪ ،‬ولس نا بحاج ة إلى أن نف‬
‫خالقًا‪.‬‬
‫داعي للق ول بوج ود خ الق‬ ‫َ‬ ‫قال آخر‪ :‬ق وانينَ الك ون هي ال تي تح ُك ُم الك ون‪ ،‬وال‬
‫يدبِّ ُر أمر الكون ويُسيِّرُه‪.‬‬
‫ابتسم الفيلسوف‪ ،‬وقال‪ :‬م ع اح ترامي الش ديد لكم أيه ا الس ادة إال أن ق ولكم ه ذا‬
‫يشبه من يعتقد أن القوانين التي تع َمل بها السيارة يمكن أن تُس يِّر الس يارةَ دون الحاج ة‬
‫لمن يقُودها‪ ..‬ومثله مثل من يعتقد أن القوانين التي تعم ل به ا الط ائرة يمكن أن تج َعله ا‬
‫تطير دون الحاج ة لمن يقوده ا‪ ..‬ومثل ه مث ل من يعتق د أن الق وانينَ الحس ابية يمكن أن‬
‫ب مالي‪.‬‬ ‫ي عملية حسابية دون الحاجة إلى محاس ٍ‬ ‫تُجر َ‬
‫وال يخفى عليكم ـ سادتي الكرام ـ تفاه ةُ ه ذا االعتق اد‪ ..‬إذ ق وانينُ الك ون ليس ت‬
‫يير الك ون‪ ،‬س واء أك انت مجتمع ة أم متفرق ة‪ ..‬فق وانين‬ ‫عندها المقدرة على تدبير وتس ِ‬
‫السيارة ليست عن دها المق درة على قي ادة الس يارة‪ ،‬س واء أك انت مجتمع ة أم متفرق ة‪..‬‬
‫وقوانين الطائرة ليست عندها المقدرة على ط يران الط ائرة‪ ،‬س واء أك انت مجتمع ة أم‬
‫متفرقة!‬
‫وصف لطريقة َسيْر الكون‪ ،‬وليست هي َمن يُس يِّر‬ ‫ٌ‬ ‫وهكذا‪ ،‬فإن قوانين الكون هي‬
‫ف لطريق ة ط يران الط ائرة‪ ،‬وليس ت هي َمن‬ ‫الكون‪ ،‬كما أن قوانين الط ائرة هي وص ٌ‬
‫يقود الطائرة‪.‬‬
‫إن قوانينَ الكون ـ سادتي األفاضل ـ تدل بَداهةً على وج ود ُمقنِّن له ا‪ ،‬س َّن ه ذه‬
‫ان للبن اء‪،‬‬‫ب للكتاب ة‪ ،‬وب ٍ‬ ‫القوانين‪ ،‬وأودَعها في الكون‪ ،‬والعل ُم ب ذلك ك العلم بوج ود ك ات ٍ‬
‫ومؤثِّر لألثر‪ ،‬وفاعل للفعل‪ ،‬ومح ِدث للحدَث‪ ،‬وه ذه القض ايا المعيَّن ة الجزئي ة ال يش كُّ‬
‫دليل؛ فهي واضحةٌ ظاهرة‪.‬‬ ‫فيها أح ٌد ِمن العقالء‪ ،‬وال يُفتَقَر في العلم بها إلى ٍ‬
‫سن ه ذه‬ ‫قام رجل‪ ،‬وقال‪ :‬إذا كانت قوانينُ الكون تدلُّ بَداهةً على وجود ُمقنِّن لها َّ‬
‫القوانينَ وأودَعها في الكون؛ فلم ال يعتبر الكون نفسه هو الذي س ن ه ذه الق وانينَ ‪ ..‬أي‬
‫سن القوانين لنفسه؟‬
‫َّ‬
‫ابتس م الفيلس وف‪ ،‬وق ال‪ :‬ل و ك ان الك ونُ ه و ال ذي س ن ه ذه الق وانين لنفس ه‪،‬‬
‫تغييرها‪ ،‬وال الخ روج عنه ا‪،‬‬ ‫َ‬ ‫الستطاع أن يُغيِّ َرها كما يشاء‪ ،‬لكن الواقع أنه ال يستطيع‬
‫وإنما هي مفروضةٌ عليه فرضًا؛ فد َّل ذلك على أن هذه القوانينَ ليست ِمن الكون ِ‬
‫نفسه‪.‬‬
‫سن هذه القوانينَ هي القوانينُ نفسُها؟‬ ‫قال آخر‪ :‬فلم ال نقول بأن الذي َّ‬
‫ابتس م الفيلس وف‪ ،‬وق ال‪ :‬ه ذا تص وي ٌر للق وانين على أنه ا فاع ٌل مح رك‪ ،‬وه ذا‬
‫ف س لوك الظ واهر‬ ‫تصور غير ص حيح‪ ،‬والواق ع يرفض ه؛ ألن الق وانينَ مج ر ُد وص ِ‬ ‫ُّ‬
‫ُ‬
‫الطبيعي ة ال تي تح دُث في الك ون وتتك رَّر تحت نفس الظ روف‪ ،‬وليس ت هي الفاع َل‬

‫‪22‬‬
‫المحركَ للكون‪.‬‬
‫سن قوانينَ الكون هي الصدفة؟ُ‬ ‫قال آخر‪ :‬فلم ال نقول بأن الذي َّ‬
‫الص دفةَ تص ف كيفي ة الح دث‪ ،‬ووص فُ كيفي ة ح دوث‬ ‫ابتسم الفيلسوف‪ ،‬وقال‪ُّ :‬‬
‫أن الفعل حدَث دون قص ٍد‬ ‫الفعل حدَث صدفة َّ‬ ‫َ‬ ‫فاعل له‪ ..‬ومعنى أن‬
‫ٍ‬ ‫الفعل ال ينفي وجو َد‬
‫الفعل ليس له فاعلٌ‪.‬‬
‫َ‬ ‫وترتيب مسبق ِمن الفاعل‪ ،‬وليس أن‬
‫التفت للرجل‪ ،‬وقال‪ :‬على التسليم الجدلي بما ذكرت‪ ..‬أليس ِمن الممكن أن تو َج د‬
‫صدفةٌ أخرى تُ ْلغي هذه القوانينَ وتقضي عليها؟‬
‫سكت الرجل‪ ،‬فق ال الفيلس وف‪ :‬إن العالم ة المم يزة للص دفة‪ :‬هي ع د ُم الثب ات‪،‬‬
‫والص دفة ال تنتج ق وانينَ مط ردة‬ ‫ُّ‬ ‫وع دم االطِّراد‪ ،‬بينم ا ق وانينُ الك ون ثابت ةٌ مطَّردة‪..‬‬
‫فس رْ عان م ا ت زول ه ذه‬ ‫نزاًل أنه ا أنتجت ق وانينَ مط ردة‪َ ،‬‬ ‫ثابتة‪ ..‬ولو س لَّمنا ج داًل وت ُّ‬
‫القوانينُ ‪.‬‬
‫التفت للحضور‪ ،‬وقال‪ :‬أجيب وني ـ معش ر الحض ور الك رام ـ إذا ك انت ق وانينُ‬
‫الكون ُوجدت صدفةً‪ ،‬فكيف تبقى وتستمرُّ دون وجود ق وة خارجي ة تحاف ظُ على بقائِه ا‬
‫واستمرارها؟!‬
‫ِ‬
‫لم يجبه أحد‪ ،‬فقال‪ :‬ما دامت كل االحتماالت ال تي ذكرتموه ا مفن دة ب دليل الحس‬
‫والواقع والمشاهدة‪ ،‬فلم يبق إال احتمال واحد‪ ،‬وه و أن ال ذي س َّن ق وانينَ الك ون ش ي ٌء‬
‫ق‬ ‫ق للعقل‪ ..‬وهذا هو ما نعبر عنه بأنه [الخال ُ‬ ‫خار ٌج عن الكون‪ ..‬هذا هو الصحي ُح المواف ُ‬
‫الذي خلَق الكونَ ‪ ،‬وخلَق القوانين التي يَ ِسير بها الكون]‬
‫سكت قليال‪ ،‬ثم قال‪ :‬سأبسط المسألة أك ثر‪ ..‬ل و ُس ئل أي ش خص منكم يعم ل في‬
‫ه ذا المص نع‪َ :‬من يُ دير ه ذا المص نع؟‪ ..‬فأج اب‪ :‬إن هن اك ق وانين ت َِس يره تطبَّق على‬
‫الجميع‪ ..‬هل ترون إجابته صحيحة عند العقالء؟!‬
‫سكتوا‪ ،‬فقال‪ :‬إن وجود قوانينَ تح ُك ُم الكون ويَ ِسير به ا ال يمنَ ع وال يس تلزم ع د َم‬
‫ق للكون‪ ،‬بل وجو ُد ق وانينَ تح ُك ُم الك ونَ ويَ ِس ير به ا ي دلُّ ‪ -‬بوض وح ‪ -‬على‬ ‫وجود خال ٍ‬
‫ً‬
‫وجو ِد ُمقنِّن لهذه القوانين‪ ،‬يحفظها ويرعاها‪ ،‬ويجعلها مستمرة ثابتة مطردة‪.‬‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫بعد أن قال هذا‪ ،‬وبعد أن شعرت كما ش عر الجمي ع بق وة الحجج ال تي أدلى به ا‪،‬‬
‫قام صاحبي ديفيد هيوم يحاول أن يت دارك الموق ف بك ل م ا أوتي من ص نوف الحيل ة‪،‬‬
‫فقال(‪ :)1‬إن ما ذكرته أيها الفيلس وف الم راوغ من مغالط ات ال يس اوي عن دي ش يئا‪..‬‬
‫فوجود هللا ـ بالنسبة لي ـ مجرد فرضية كفرضية وجود الوحش االسباجيتي الطائر‪..‬‬
‫ثم التفت للحضور‪ ،‬وراح يؤدي دور المهرج‪ ،‬ويقول‪ :‬ه ل تس تطيعون ـ معش ر‬
‫الحضور ـ إثبات أن وحش المكرونة‪ ..‬أو الس باغيتي‪ ..‬كم ا ش ئتم‪ ..‬الط ائر ال ذي يأك ل‬
‫البسكويت غير موجود؟‪ ..‬أليس السؤال المنطقي هنا هو كوني أمل ك دلياًل على وج وده‬
‫أم ال؟‪ ..‬هل عدم قدرتكم على إثبات أنه غير موجود يعني أنه موجود؟‬
‫بنفس الطريقة‪ ،‬هللا غير موجود؛ ألنكم ال تستطيعون إثبات وجوده‪ ،‬والبره ان ال‬
‫‪ )(1‬اقتبسنا هذه المقوالت اإللحادية الساخرة من مقال بعنوان [فس اد أكذوب ة المالح دة أن وج ود هللا مج رد فرض ية‬
‫كفرضية وجود الوحش االسباجيتي]‬

‫‪23‬‬
‫يقع على عاتقنا لإلثبات بأن هللا غير موجود‪ ،‬بل يقع على عاتق المؤمن أن يثبت أن هللا‬
‫موجود بالدليل‪ ،‬بنفس الطريقة التي يقع على عاتقي إثبات أن وحش الس باغيتي الط ائر‬
‫موجود إذا ادعيت ذلك‪ ،‬وما قلته أنا ه و قاع دة علمي ة؛ فعبء اإلثب ات يق ع على ع اتق‬
‫الم َّد ِعي‪ ،‬وليس عبء اإلنكار يقع على عاتق المستمع‪.‬‬
‫قال الفيلسوف‪ :‬كالم ك ص حيح‪ ..‬وأن ا في ح واري معكم لم أذك ر س وى بره ان‬
‫واحد من البراهين الدالة على وج ود هللا‪ ،‬وه و بره ان ممتلئ بالعقالني ة‪ ..‬فك ل حياتن ا‬
‫ممتلئة بإرجاع األحداث ألسبابها‪ ..‬وما دمنا قد رأينا الكون بهذه الصفة‪ ،‬فالبد أن يك ون‬
‫هناك من خلقه‪ ،‬ودبر أموره بالشكل الذي نراه‪.‬‬
‫غضب ص احبي ديفي د‪ ،‬وق ال‪ :‬وج ود عل ة أولى ال يع ني وج ود إله ك ال ديني‪..‬‬
‫فخلق الكون ليس مسجاًل كبراءة اختراع لإلله الذي تعتقد ب ه‪ ،‬وال أي إل ه آخ ر‪ ..‬لم اذا‬
‫يفترض أن الفرضية المقبولة هي فكرة أحد آلهة األدي ان‪ ،‬وليس مثاًل وحش الس باغيتي‬
‫الطائر‪ ،‬أو إذا أردنا فرضية اقترحها بعض علماء الفيزياء النظري ة‪ ،‬فل دينا [نظري ة –‬
‫إم] التي يرى ستيفن هوكنج أنها تفسر وجود الكون دون حاجة إلى خالق؟‬
‫إن مثلك أيها الفيلسوف مثل رجل ذهب إلى الغابة‪ ،‬وعندما عاد ذك ر لقوم ه أن ه‬
‫رأى وح ًشا بسبعة أرجل وعشرين جناحًا‪ ،‬ونظ رًا الس تحالة األم ر كذب ه الجمي ع‪ ،‬لكن‬
‫ب داًل من أن يثبت لهم أن ال وحش موج ود‪ ،‬طلب منهم محاول ة نفي وج وده‪ ،‬ف إن لم‬
‫يستطيعوا نفي وجوده‪ ،‬فهذا يعني أنه موجود‪.‬‬
‫أال ترون أن المنطق الذي قام عليه السؤال غبي ج ًّدا‪ ،‬إذا ادعيت أن عن دي إلهً ا‬
‫اسمه وحش السباغيتي الطائر‪ ،‬هذا اإلله أوحى برس الة لن ا‪ ،‬وطلب من ا أن نعب ده‪ ،‬ه ل‬
‫تستطيع أن تكذب كالمي؟ هل علي أن أثبت لك أن وحش السباغيتي الطائر موج ود أم‬
‫عليك أنت أن تحاول نفي وجوده؟‬
‫وبقي يلقي أمثال هذه المغالطات إلى أن أمر القاض ي بانفض اض الجم ع‪ ،‬وحكم‬
‫على العامل بالبراءة‪ ،‬القتناعه التام بكل ما طرحه الفيلسوف من آراء‪.‬‬
‫أما صاحبي ديفيد فقد اعتزل الن اس جميع ا في تل ك األي ام‪ ..‬وراح يؤل ف الكتب‬
‫ال تي مأله ا بك ل أل وان الض اللة‪ ..‬وعن دما التقيت ب ه آخ ر م رة‪ ،‬بع د أن ذقت حالوة‬
‫اإليم ان راح يتجهم في وجهي‪ ،‬ويق ول‪ :‬ح تى أنت أيه ا األحم ق التهم ك وحش‬
‫السباغيتي‪.‬‬
‫قال ذلك‪ ،‬ثم التفت إلينا‪ ،‬وقال‪ :‬هذه قصتي مع اإليمان‪ ،‬وكي ف نج اني هللا تع الى‬
‫من كيد صاحبي ديفيد‪ ..‬ولست أدري اآلن ما حل به بعد أن فارقته فراقا أبديا‪.‬‬
‫م ا إن انتهى الرج ل من حديث ه ح تى س معنا ن داء من الس ماء يق ول‪﴿ :‬هَ لْ أَ ْنت ْمُ‬
‫ُمطَّلِعُونَ ﴾ [الصافات‪]54 :‬‬
‫فاطلعنا جميعا إلى مرآة عجيبة ت نزلت من الس ماء‪ ،‬وك ان فيه ا رج ل يت ألم ألم ا‬
‫ين (‪َ )56‬ولَوْ اَل نِ ْع َم ةُ‬ ‫شديدا‪ ،‬ما إن رآه صاحبها حتى راح يقول له‪ ﴿ :‬تَاهَّلل ِ إِ ْن ِكدْتَ لَتُرْ ِد ِ‬
‫ض ِرينَ (‪ )57‬أَفَ َم ا نَحْ نُ بِ َميِّتِينَ (‪ )58‬إِاَّل َموْ تَتَنَ ا اأْل ُولَى َو َم ا نَحْ نُ‬
‫ت ِمنَ ْال ُمحْ َ‬‫َربِّي لَ ُك ْن ُ‬

‫‪24‬‬
‫بِ ُم َع َّذبِينَ (‪ )59‬إِ َّن هَ َذا لَهُ َو ْالفَ وْ ُز ْال َع ِظي ُم (‪ )60‬لِ ِم ْث ِل هَ َذا فَ ْليَ ْع َم ِل ْال َع ا ِملُونَ (‪﴾)61‬‬
‫[الصافات‪]61 - 56 :‬‬
‫برهان الحدوث‪:‬‬
‫بعد أن انتهى الرجل األول حديثه‪ ،‬ق ام آخ ر‪ ،‬وق ال‪ :‬أظن أن ال دور وص ل إلي‪،‬‬
‫وسأحدثكم ـ أنا العبد الفقير إلى هللا ـ عن فضل هللا علي بالهداية‪ ،‬وإخراجي من ظلم ات‬
‫الجهل والغواية‪ ،‬وكيف أنقذني ربي من جحيم المالحدة‪ ..‬وزج بي في روضات جن ات‬
‫المؤمنين‪.‬‬
‫ق الوا جميع ا‪ :‬يس رنا ذل ك‪ ..‬فهلم ح دثنا بنعم ة هللا علي ك‪ ..‬فال نعم ة أفض ل من‬
‫الهداية‪ ..‬وال سعادة أعظم من إذن هللا لعبده بالتواصل معه‪.‬‬
‫قال‪ :‬في ذلك الزمان الذي كنت أتيه فيه بعقلي على كل شيء‪ ،‬كان لي الكثير من‬
‫األصدقاء الفالسفة الذين زينوا لي أنه حتى لو قلنا بمبدأ العلية‪ ،‬وأنه ال س بب إال ويق ف‬
‫وراءه مسبب‪ ،‬فإننا مع ذلك ال نحتاج إلى القول بضرورة وج ود إل ه‪ ..‬ألن الك ون ق ديم‬
‫قدما أزليا(‪ ..)1‬ولذلك لن يحتاج لمن يوجده‪.‬‬
‫وقد كانوا يذكرون لي ـ ليمألوني باالنبه ار ـ أس ماء الكث ير من كب ار الفالس فة‬
‫والعلماء في كل العصور‪ ..‬ويذكرون لي معها جدلهم مع خصومهم‪ ،‬وكي ف اس تطاعوا‬
‫أن ينتصروا عليهم بالحجج والبراهين الدامغة‪.‬‬
‫وكنت مستسلما لكل ذلك‪ ،‬مع أنه لم يكن لدي أي علم قطعي بحقيق ة األم ر‪ ..‬ألن‬
‫مداركي العقلية والعلمية لم يتح له ا ذل ك‪ ..‬فل ذلك اكتفيت بالتقلي د‪ ..‬وك ان ه و المرحل ة‬
‫األولى من مراحل موقفي من هذه القضية‪.‬‬
‫أما المرحلة الثانية‪ ،‬فقد تمثلت في خروجي من القول بقدم العالم‪ ،‬إلى التوقف في‬
‫شأنه‪ ،‬وقد كان ذلك بس بب حض وري من اظرة علمي ة بين ط رفين أح دهما ي دعي ق دم‬
‫العالم‪ ،‬واآلخر يدعي حدوثه‪.‬‬
‫فقد قال مدعي حدوث العالم مخاطبا م دعي قدم ه‪ :‬إذا افترض نا أن الع الم ب دون‬
‫بداية في الزمان‪ ،‬فإن هذا يعني أن كل حادثة فيه قد سبقتها حوادث أخرى النهاية له ا‪..‬‬
‫وال يمكن أن تأتي حادثة من سلسلة المتناهي ة من الح وادث‪ ..‬فكي نثبت ظه ور حادث ة‬
‫يجب علينا افتراض بداية أولى للزم ان‪ ..‬وه ذا الق ول نفس ه يس رى على المك ان‪ ،‬ف إذا‬
‫افترضناه كالً المتناهياً‪ ،‬فال معنى لوجود األمكنة الجزئية‪ ،‬ألن المكان الج زئي م ا ه و‬
‫إال ت ركيب لبعض خص ائص المك ان الواح د الكلي‪ ،‬أي الالمتن اهي‪ ..‬والالمتن اهي ال‬
‫يمكن أن يُخصَّص أو يُجزأ‪ ،‬ولذلك ال يمكن انقسام المكان الالمتناهي‪ ،‬ألن المنقسم ه و‬
‫المتناهي وحده‪ ..‬وبما أن هناك أمكن ة جزئي ة‪ ،‬وبم ا أن ه من الممكن أن ينقس م المك ان‪،‬‬
‫فيجب القول بتناهي المكان‪.‬‬
‫وقال اآلخر‪ ،‬أي مدعي حدوث العالم‪ ،‬ردا عليه‪ :‬ال بأس‪ ..‬فلنفترض كم ا زعمت‬

‫‪ )( 1‬القدم‪ :‬أو الوصف بالقديم تعني عند الفالسفة والمتكلمين ما ليس له أوّل البتّة‪ .‬فكلّ موجود لم يسبقه عدم البتّة‪ ،‬أو‬
‫ق بعدم‪ ،‬فمهم ا امت ّد في‬‫كلّ موجود خال بتاتا من حال لم يكن موجودا ث ّم كان‪ ،‬س ّموه قديما‪ .‬وكلّ موجود كان له أوّ ل أو ُسبِ َ‬
‫الماضي ولو كانت م ّدته آالف آالف السّنين‪ ،‬فهو ليس بقديم‪ ،‬بل إنّه حادث‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫أن للعالم بداية‪ ..‬وبما أن كل بداية تفترض زمانا ً خاليا ً سبقها‪ ،‬فمعنى ه ذا أنن ا نف ترض‬
‫زمانا ً سابقا ً على وجود العالم كان خاليا ً منه‪ ..‬لكن ال يمكن ظهور شئ من زمان خ ا ٍل‪،‬‬
‫ألن الزم ان الخ الي ال يمتل ك ش رطا ً يم يز وج ود أو ع دم وج ود الع الم‪ ..‬أي ليس ب ه‬
‫مرجح للوجود على العدم‪ ..‬وهكذا بالنسبة لمحدودية المكان‪ ،‬فإن الق ول ب ذلك يع ني أن‬
‫هذا العالم يقع في مكان خا ٍل‪ ،‬وه ذا مس تحيل‪ ،‬إذ ينط وي على الق ول ب أن للع الم ص لة‬
‫ال‪ ،‬أي بالالش ئ‪ ..‬فال يبقى إال الق ول ب أن الع الم المتن اه من حيث االمت دادين‬ ‫بمكان خ ٍ‬
‫الزماني والمكاني‪.‬‬
‫وهكذا بقيا يشاغبان ويجادالن إلى أن خرجت منهما به ذه الفائ دة الجدي دة‪ ،‬وهي‬
‫التوقف في شأن بداية الكون‪ ..‬وقد كان لذلك أثره اإليج ابي الكب ير علي في انتق الي من‬
‫مرحلة اإللحاد المطلق إلى مرحلة اإللحاد النسبي‪ ..‬فقد ص ار في نفس ي ش عور أن ه م ا‬
‫دام من المحتمل أن يكون لهذا الكون بداية‪ ،‬فمن الممكن أن يكون له صانع أخرج ه من‬
‫العدم إلى الوجود بناء على مبدأ العلية الذي تتفق عليه العقول‪.‬‬
‫ثم ما لبثت حتى ب دأت نس بة اإللح اد تنقص إلى ح د كب ير بع د أن التقيت ببعض‬
‫فالسفة المسلمين القائلين بقدم العالم‪ ،‬والذي تعجبت منه حين ذك ر لي أن ه ال تن افي بين‬
‫اإليمان باهلل‪ ،‬وبين قدم العالم‪ ..‬فالعالم ـ حتى لو قيل بقدمه ـ يظل عاجزا فقيرا محتاج ا‪،‬‬
‫ول ذلك يحت اج إلى من يعت ني ب ه ويرع اه وينظم ه ويعطي ه من الم دد م ا يس تمر ب ه‬
‫وجوده(‪.)1‬‬
‫وذكر لي أن أكثر القائلين بقدم العالم من الفالسفة كانوا من المؤمنين الموح دين‪،‬‬
‫من أمثال أرسطو والفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم كثير‪..‬‬
‫قلت له‪ :‬لكن كي ف يس تقيم اإليم ان باهلل م ع الق ول بق دم الع الم‪ ..‬فالع الم إن ك ان‬
‫قديما‪ ،‬فإنه ال يحتاج إلى علة توجده‪ ..‬وبذلك تنتفي ضرورة وجود اإلله؟‬
‫ابتسم‪ ،‬وقال‪ :‬هذا بالنظر المبدئي‪ ،‬أو ببادئ الرأي‪ ..‬لكن عند التأم ل في القض ية‬
‫بعمق تجد أن األم ر ال عالق ه ل ه ب ذلك‪ ..‬سأش رح ل ك ذل ك على ض وء اإليم ان باهلل‪..‬‬
‫وكيف أن اإليمان باهلل يقتضي القول بقدم العالم‪.‬‬
‫رحت أستمع له بكل جوارحي‪ ،‬فقد كان له أسلوب مميز في الكالم يأسر القل وب‬
‫والعقول أسرا شديدا‪ ..‬لقد قال لي‪ :‬أجبني‪ ..‬لو أراد شخص ما أن يصنع شيئا‪ ..‬ثم ت أخر‬
‫عن صنعه‪ ..‬ما ترى أسباب ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬أسباب ذلك كثيرة‪ ..‬فيمكن أن تكون المشكلة في ع دم ت وفر الم ادة‪ ..‬أو في‬
‫عدم توفر الوسيلة‪ ..‬أو في عدم توفر اإلرادة‪ ..‬أو أسباب أخرى‪.‬‬
‫قال‪ :‬فإن توفر كل ذلك‪ ..‬فهل يمكن أن يتأخر الصانع عن ص نع يري ده وي رغب‬
‫في حصوله؟‬
‫قلت‪ :‬ذلك يستحيل‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهكذا األمر بالنسبة هلل تعالى‪..‬‬
‫‪ )(1‬اقتبسنا بعض المادة العلمية هنا من مقال بعنوان‪ :‬شرح اعتراضات الغزالي على دليل الفالسفة األوّ ل في إثباتهم‬
‫لقدم العالم‪ ،‬لطفي خيرهللا‪..‬‬

‫‪26‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫ّ‬
‫قال‪ :‬لو فرضنا أن العالم الذي هو صنع هللا لم يكن قديما‪ ..‬أي أن ه ك ان في ف ترة‬
‫أن هللا كان عاجزا ث ّم ص ار‬ ‫من الفترات غير موجود‪ ..‬فإن هذا ال يخلو من وجوه‪ ..‬فإ ّما ّ‬
‫قادرا‪ ،‬وحين صار قادرا قام بصنعه‪ ،‬وه ذا مح ال‪ ..‬وإ ّم ا أن يك ون ق د افتق ر آلل ة من‬
‫اآلالت‪ ،‬ث ّم وج دت‪ ،‬وه ذا أيض ا مح ال‪ ،‬ألنّ ه من ض روريات ك ون اإلل ه إله ا قدرت ه‬
‫المطلقة‪ ،‬وكون كل ما سواه محتاجا ل ه‪ ،‬واآلالت مفعول ة ل ه‪ ،‬فكي ف تك ون ش رطا في‬
‫أن هللا لم يكن مري دا لوج ود الك ون‪ ،‬ول ذلك بقي معلّق ا في الع دم ح تى‬ ‫الخل ق؟‪ ..‬وإ ّم ا ّ‬
‫ّ‬
‫أراده‪ ..‬وهذا أيضا محال‪ ،‬ألنّه يجعل الذات اإللهيّة محالّ للحدوث والتغيّر‪ ..‬وألنّ ه ول و‬
‫إن ه ذه اإلرادة نفس ها المتج ّددة الّ تي‬‫افترضنا جواز كونه محالّ لتج ّدد ه ذه اإلرادة‪ ،‬ف ّ‬
‫كانت سببا إليجاد الع الم الح ادث‪ ،‬هي نفس ها محتاج ة إلرادة أخ رى متج ّددة لتوج دها‬
‫لكونها هي نفسها حادثة‪ ..‬فيتسلسل األمر إلى ما ال نهاية‪ ،‬وهذا محال‪.‬‬
‫قلت ل ه‪ :‬لكن كي ف يس تقيم أن يك ون الع الم ق ديما‪ ،‬وفي نفس ال وقت محتاج ا‬
‫لصانع‪ ..‬فهو مصنوع بذاته‪ ..‬ومن كان مصنوعا بذاته ال يحتاج إلى صانع؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬ليس بالضرورة ذلك‪..‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬أال ترى أن ظلك تابع لك‪ ،‬وال يمكن أن يك ون موج ودا ب دونك‪ ،‬وم ع ذل ك‬
‫يظل موجودا معك في كل حين‪ ..‬وهكذا نور الشمس يظل تابعا للشمس مرتبطا به ا في‬
‫كل األزمنة‪ ،‬مع أنه ال وجود له من دونها‪ ..‬وهكذا الخالق‪ ..‬فمن ض روريات كون ه إل ه‬
‫كونه خالقا‪ ..‬ول ذلك ينش أ الخل ق عن ه كم ا تنش أ عن الش مس أش عتها من غ ير ارتب اط‬
‫بزمن‪.‬‬
‫***‬
‫عندما قال لي هذا بدأت نسبة كبيرة من اإللحاد تتالشى وتتبخر ألشعر بن وع من‬
‫الراحة النفسية تجاه هذه المسألة‪ ..‬فاهلل قد صار في ذهني مثل الشمس تمام ا‪ ،‬والش مس‬
‫ضرورية لوجود النور‪ ..‬وكذلك هللا ضروري لوجود خلقه‪.‬‬
‫لكن المسألة‪ ..‬وبعد التطورات العلمية الكثيرة التي شهدها الع الم حينه ا‪ ..‬راحت‬
‫تميل بعقلي إلى القول بحدوث الع الم‪ ..‬وال ذي ينفي ك ل ش بهة تتعل ق بوج ود هللا مهم ا‬
‫كانت هزيلة وحقيرة‪ ..‬وقد حص ل لي ذل ك اليقين بع د حض وري مجلس ا من المج الس‬
‫العلمية‪ ،‬والتي اجتمع فيها نخبة العلماء من المتخصصين في مجاالت مختلفة‪.‬‬
‫سأحكيها لكم طبعا‪ ..‬ولكن قب ل أن أحكيه ا لكم‪ ،‬س أذكر لكم ح ديثا ج رى لي م ع‬
‫بعض فالسفة المسلمين من القائلين بحدوث العالم‪ ،‬فقد التقيت ب ه حينه ا‪ ،‬وأخبرت ه عن‬
‫زميله القائل بقدم العالم‪ ،‬والعلل ال تي تعل ل به ا ل ذلك‪ ..‬فق ال لي(‪ :)1‬م ا ذك ره أخي في‬
‫الفلسفة من األسباب الداعية للقول بقدم العالم ال يمكن قبولها جملة‪ ،‬وال رفضها جمل ة‪..‬‬
‫فليس من العلم وال من الفلسفة وال من األدب أن نعمم اإلنكار والنقد‪ ..‬ولهذا فأنا أنك ر ـ‬

‫‪ )(1‬أشير هنا باختصار النتقادات الغزالي لقول الفالسفة بقدم العالم‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫مثلما أنك ر ـ أن يك ون س بب ح دوث الع الم ه و فق د الم ا ّدة‪ ،‬أو فق د اآلالت‪ّ ،‬‬
‫ألن ذل ك‬
‫يتعارض مع القدرة اإللهيّة المطلقة‪ ،‬وكون ك ّل الموج ودات م ا س وى هللا معل ول ل ه‪..‬‬
‫ّ‬
‫لكن المسألة ال تتعلق بذلك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وبم تتعلق إذن؟‬
‫قال‪ :‬إن زميلي في الفلسفة قد مال إلى القول بقدم العالم لتوهمه أن ح دوث الع الم‬
‫يستدعي القول بتجدد إرادة هللا‪ ..‬وهذا غير صحيح‪ ..‬فقد ت وهم ذل ك لمقارنت ه بين إرادة‬
‫هللا وإرادة خلقه‪ ،‬فقاس الغائب على الشاهد‪ ،‬والخالق على المخلوق‪..‬‬
‫قلت‪ :‬ما تعني؟‬
‫قال‪ :‬سأضرب لك مثاال يقرب لك ذلك‪ ..‬عندما يريد النجّار صناعة ب اب ال ش ّ‬
‫ك‬
‫أننا نقول أنه قد تج ّددت إرادته بتلك الصناعة‪ ..‬أي أنه ح دثت في ه ص فة لم تكن‪ ..‬وه ذا‬
‫عيب فيه‪ ،‬ودال على حدوثه‪ ..‬ولذلك توهم صاحبي في الفلسفة أن القول بحدوث الع الم‬
‫يعني نفس القصور بالنسبة هلل تعالى‪ ..‬بينما األمر يختلف‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف يختلف‪ ..‬أنا أرى أن لقوله قوة وحجة صحيحة‪.‬‬
‫قال‪ :‬سننظر إلى األم ر من زاوي ة أخ رى‪ ..‬أال يمكن أن يك ون الن ّج ار ق د يري د‬
‫صناعة الباب‪ ،‬ولكنه بدل صناعته في الحين‪ ،‬يعلّق تحقي ق إرادت ه ب وقت مت أ ّخر ي راه‬
‫مناسبا‪ ،‬كأن يقول‪ :‬إنّي عزمت على أن أصنع بابا‪ ،‬لكنّي سأصنعه السّبت القابل‪..‬‬
‫قلت‪ :‬أجل يمكن ذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬وحين يحين الموعد الذي حدده‪ ..‬ويأخذ في صنعه الب اب‪ ..‬ه ل تران ا ن ذكر‬
‫أنه صنعه بإرادة متج ّددة‪ ..‬أو بنفس اإلرادة األولى؟‬
‫قلت‪ :‬بنفس اإلرادة األولى‪..‬‬
‫فإن ت أ ّخر ص نعه ق د نع زوه إلى‬ ‫قال‪ :‬فهكذا األمر بالنسبة للقول بحدوث الكون‪ّ ،‬‬
‫اإلرادة اإللهيّة من غير أن يلزم عن ذلك محال تج ّدد صفة اإلرادة في هللا‪..‬‬
‫قلت‪ :‬لكن هناك إشكاال خطيرا يعرض لما ذكرت‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬أعرفه‪ ..‬وحله بسيط جدا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف عرفته‪ ،‬وأنا لم أنطق به‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكيف أكون فيلسوفا‪ ،‬وأنا ال أعرف اإلشكاالت التي قد ترد على أي برهان‬
‫من البراهين؟‬
‫قلت‪ :‬ال بأس‪ ..‬فاذكره لي إذن‪.‬‬
‫ّ‬
‫قال‪ :‬أنت تريد أن تذكر لي بأنه إذا كانت األوق ات كله ا متماثل ة بالنس بة لإلرادة‬
‫اإللهية‪ ،‬فلم تخصّص وقتا دون غيره؟‪ ..‬وما الذي جعله ا ت رجح وج ود الع الم في ذل ك‬
‫الوقت‪ ،‬وليس في وقت آخر؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬هذا بالضبط ما كنت أريد طرحه عليك‪ ..‬وهو الزم عن مب دأ م درك‬
‫إن اإلرادة ال يمكن أن تتعلّ ق‬ ‫ببديهة العقل‪ ،‬وهو أنّ ه إذا ك ان هن اك أش ياء متش ابهة‪ ،‬ف ّ‬
‫الش يء عن‬ ‫مخص ص ي رجّح ج انب ّ‬ ‫ّ‬ ‫بواحد دون آخ ر إالّ اعتباط ا واتّفاق ا‪ ،‬ال بم وجب‬
‫مثله‪ ..‬فلو افترضنا مثال رجال عطشانا ووض عنا بين يدي ه ق دحين من م اء ليس بينهم ا‬

‫‪28‬‬
‫ي اختالف ال في ذاتهم ا‪ ،‬وال باإلض افة للرّج ل‪ ،‬فه و إ ّم ا أن ال ت ترجّح إرادة الر ّج ل‬ ‫أ ّ‬
‫بتاتا ألخذ القدح‪ ،‬وإن ترجّحت فترجّحها لن يكون بحسب مخصّص في قدح منهما‪ ،‬ب ل‬
‫اعتباط ا واتّفاق ا‪ ..‬وهك ذا األم ر في تعلّ ق اإلرادة األزليّ ة بإيج اد الع الم في وقت دون‬
‫وقت‪ ،‬لو ُسلِّ َم بصحّة ذلك‪ ،‬فإنّه لن يكون إالّ اتّفاقا‪ ،‬ولكن لو جاز أن يكون ترجّح جانب‬
‫الوجود عن العدم في العالم قد حصل اتّفاقا‪ ،‬لجاز أن يك ون الع الم ق د ُو ِج َد من ذ الق دم‪،‬‬
‫وعلى الهيئة التّي وجد عليها إنّما كان اتّفاقا‪.‬‬
‫قال‪ :‬أنت به ذا المث ال تق ع فيم ا وق ع في ه أخي في الفلس فة‪ ،‬فتقيس الغ ائب على‬
‫الشاهد‪ ،‬وهللا على عباده‪ ..‬وإرادة هللا على إرادة البشر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل هناك خالف بينهما؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬كما أن هللا يختلف عن خلقه‪ ..‬فصفاته تختل ف عنهم أيض ا‪ ..‬فإرادتن ا‬
‫نحن لكوننا بشرا ذوي نقص ال يمكنها أن تخصّص شيئا عن مثله إالّ بوجود مرجّح في‬
‫أن الق دحين متش ابهين من‬ ‫ال ّشيء نفسه‪ ،‬فمثال الرّجل العطشان الذي ذكرت ه حين ي رى ّ‬
‫الص فة االموج ودة في الق دح‬ ‫فإن ه ذا ّ‬‫ك ّل الوجوه‪ ،‬لكن أحدهما أيسر مأخذا من اآلخر‪ّ ،‬‬
‫األوّل تجعل إرادته تميل إلى أخ ذه‪ ..‬وه ذا يختل ف اختالف ا ج ذريا عن إرادة هللا تع الى‬
‫صاحب الغنى المطلق‪ ،‬والقدرة المطلقة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن قولك هذا يبقي السؤال كما هو‪ ..‬فكي ف تجيب ني‪ ،‬وكي ف تجيب إخوان ك‬
‫في الفلسفة؟‬
‫ق ال‪ :‬أجيبهم بنفس المنهج ال ذي يفك رون ب ه‪ ..‬فهم أنفس هم مض طرّون للق ول‬
‫بتخصيص ال ّشيء عن مثله باإلرادة القديمة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫بأن العالم قد صدر بالضّرورة عن الواجب‪ ..‬وأن ه ذو‬ ‫قال‪ :‬أال ترى أنّهم قد قالوا ّ‬
‫هيئة خاصة ونظام خاص‪..‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬ذلك ما قالوه‪.‬‬
‫قال‪ :‬أال ترى أن هناك وجوها أخرى ال نهائيّة ك ان يمكن للع الم أن يخل ق به ا‪..‬‬
‫فلِ َم اختصّ بهذا الوجه دون اآلخر؟ وماال ّشيء الّذي كان ق د خصّص ه‪ ،‬وه و يماث ل من‬
‫حيث االمكان تمام المماثلة الوجه الّذي قد وجد عليه بالفعل؟‬
‫أن نظ ام الع الم الكلّي ال يمكن أن يس تقيم إالّ على‬ ‫قلت‪ :‬ق د يجيب ون على ذل ك ب ّ‬
‫الوجه الّذي ُو ِج َد عليه‪ ،‬وك ّل الوجوه األخرى مع كونه ا ممكن ة إال أنه ا ق د تس بب خلال‬
‫فيه‪ ..‬فلو ُو ِج َد أكبر أو أص غر‪ ،‬أو ذو ع دد أق ّل أو أك ثر من الك واكب واألفالك الخت ّل‬
‫فإن تخصيص اإلرادة القديمة له دون الهيئات األخ رى الممكن ة ليس‬ ‫هذا النّظام‪ ..‬لذلك ّ‬
‫الش يء عن مثل ه بخالف ح دوث الع الم في وقت دون وقت فه و‬ ‫من ب اب تخص يص ّ‬
‫بالضّرورة من باب تخصيص ال ّشيء عن مثله‪ ،‬ألنّه ك ّل األوقات هي متشابهة‪ ،‬والع الم‬
‫إن وجد في وقت قبل الوقت الّذي وجد فيه أو بعده ال يتصوّر تغيّر من نظامه شيء‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫ق ال(‪ :)1‬أج ل‪ ..‬يمكنهم االع تراض به ذا‪ ..‬ولك ني أرى أن ه ذا في ه الكث ير من‬
‫التحكم والتنافي مع اإلرادة اإللهية المطلقة عن كل قيد‪ ..‬فلم ال نترك األم ر هلل في ش أن‬
‫خلق ه من دون أن نف رض علي ه زمن ا وال هيئ ة وال نوع ا وال ش كال‪ ..‬فمن نحن ح تى‬
‫نحجر على هللا؟‬
‫***‬
‫كانت تلك نهاية حديثي مع هذا الفيلسوف المسلم الذي أسرني بحديث ه وأدب ه م ع‬
‫المخالفين له‪ ..‬وال أكتمكم أني ملت إلى قوله كثيرا‪ ،‬وبدأت الكثير من اإلشكاالت تنح ل‬
‫بعد هذا المجلس الذي جلسته معه‪.‬‬
‫وقد زاد في حلها مجلسا علميا آخر حضرته‪ ،‬عقد في بلدتي في ذل ك الحين‪ ،‬بين‬
‫أكابر علماء ذل ك العص ر من مختل ف التخصص ات‪ ..‬س أحكي لكم بعض ه‪ ،‬ألن هن اك‬
‫الكثير من التفاصيل التي قد ال يحتاج إليها تلميذ اإليمان‪.‬‬
‫بدأ ذل ك المجلس برج ل كنت أعرف ه تمام ا‪ ،‬وكنت أع رف دفاع ه عن اإللح اد‪،‬‬
‫وعن كل المقوالت التي تساهم في نشره وتثبيته‪ ،‬ومن بينها القول بقدم العالم‪..‬‬
‫قام‪ ،‬وقال بحماسة ال نظير لها‪ :‬اسمعوني يا قوم‪ ..‬فقدم العالم لم يع د فق ط مج رد‬
‫طروحات فلسفية قال بها العقل المجرد‪ ..‬وإنما تحول إلى علم‪ ..‬فالعلم اآلن بك ل أدوات ه‬
‫يثبت أن الع الم ق ديم ق دما أزلي ا س رمديا‪ ..‬لق د ذك ر ه ذا كب ار علم اء الع الم في ك ل‬
‫المجاالت‪ ..‬ومنهم ثالثة من كبار علماء الفلك يعملون في جامعة ك امبردج بلن دن‪ ،‬إنهم‬
‫فريد هويل‪ ،‬وهيرمان بوندي‪ ،‬وتوم غولد(‪ ..)2‬فقد أثب وا بك ل األدل ة العلمي ة أن الم ادة‬
‫كانت الشيء الوحيد الموجود في الكون‪ ،‬وأن الكون وجد في الزمن الالنهائي‪ ،‬وس وف‬
‫يبقى إلى األبد‪.‬‬
‫لقد قال العالمة الجليل (بولتزر) في كتابه [المبادئ األساس ية في الفلس فة] يع بر‬
‫عن هذا‪( :‬الكون ليس شيئا ً مخلوقاً‪ ،‬فإذا كان كذلك فهذا يقتضي أن ه خل ق في لحظ ة م ا‬
‫من قبل إله‪ ،‬وبالتالي ظهر إلى الوجود من ال شيء‪ ،‬ولقبول الخل ق يجب على اإلنس ان‬
‫أن يقبل في المقام األول أنه كانت توج د لحظ ة لم يكن فيه ا الك ون موج وداً‪ ،‬ثم انبث ق‬
‫شيء من العدم‪ ،‬وهذا أمر ال يمكن للعلم أن يقبل به)‬
‫عندما انتهى من حديثه قام رج ل آخ ر‪ ،‬كنت أعرف ه جي دا‪ ،‬وأع رف جمع ه بين‬
‫العلم واإليمان‪ ،‬قام وقال‪ :‬اسمح لي ـ سيدي الكريم ـ أن أذكر ل ك أن ح ديثك ه ذا مب ني‬
‫على معلومات قديمة‪ ،‬وأن قولك هذا مفند اآلن تفنيدا علميا مطلقا‪ ..‬طبعا لن أتحدث لكم‬
‫إال عن اختصاصي‪ ،‬وأنا كما تعرفون باحث في الفلك‪ ..‬ولذلك سأذكر لكم آخر الحق ائق‬
‫العلمية المرتبطة بهذا الجانب‪.‬‬

‫‪ )( 1‬أجاب الغزالي على هذا بذكره بعض ما يقوله الفالسفة على حسب علم الفلك القديم‪ ،‬وقد أعرضنا عن ه لص عوبة‬
‫فهمه على الكثير من القراء‪ ،‬ولعدم الحاجة إليه‪.‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الموسوعة الكونية الكبرى‪ ،‬د‪ .‬ماهر أحمد الصوفي‪..2/57 ،‬‬

‫‪30‬‬
‫الشك أنكم تعلمون أن علم الفلك الحديث تقدم تقدما ً كبيراً في هذا العصر‪ ..‬وكان‬
‫من نت ائج تقدم ه تقديم ه ال دليل الم ادي لنش أة الك ون‪ ..‬ب ل إن ه أج اب عن كث ير من‬
‫التساؤالت المرتبطة بكيفية ذلك‪.‬‬
‫طبع ا‪ ..‬نحن هن ا ال تعنين ا الكث ير من التفاص يل المرتبط ة بالكيفي ة‪ ،‬فق د يك ون‬
‫بعضها ص حيحا ص حة مطلق ة‪ ،‬وبعض ها مج رد تخمين‪ ..‬لكن ال ذي يعنين ا ه و الق ول‬
‫ببداية الكون‪..‬‬
‫وأول م ا ي دل على ذل ك االكتش اف ال رهيب ال ذي توص ل إلي ه الع الم الفلكي‬
‫األم ريكي [أدوين هاب ل] ع ام ‪1929‬م‪ ،‬وال ذي أدى إلى إح داث تغي ير كب يرفي عل وم‬
‫الفضاء‪ ..‬وبسبب هذا االكتشاف سمي منظار ناسا الشهير فيما بع د باس م (هاب ل) نس بة‬
‫إليه‪.‬‬
‫لقد كان هذا العالم يراقب النجوم بمنظاره‪ ..‬فاكتشف أن لون الطيف الص ادر من‬
‫النجم الذي ك ان يراقب ه يتح ول إلى الل ون األحم ر‪ ..‬ومع نى ه ذا حس ب نظري ات علم‬
‫الفيزياء الفلكية أنه عندما ينقلب لون الطيف الصادر من جسم سماوي (سوبر نوفا) إلى‬
‫األشعة الحمراء‪ ..‬فإن ه ذا يع ني أن النجم يبتع د عن األرض‪ ،‬وأم ا إذا ك ان ه ذا النجم‬
‫يقترب من األرض فإن الطيف يظهر اللون األزرق‪ ،‬وكان هذا أول اكتشاف لهاب ل من‬
‫ناحية حركة النجوم‪.‬‬
‫ثم تابع هابل أبحاثة‪ ،‬فاكتشف أن النجوم ال تبتعد عن األرض فحس ب‪ ،‬ب ل يبتع د‬
‫بعضها عن بعض‪ ..‬بما يشبه البالون عند نفخه‪ ..‬وهذا يدل على أن هذا الكون في تم دد‬
‫دائم كل ثانية‪.‬‬
‫وقد توصل هاب ل بع د ذل ك إلى أن الك ون يتم دد باس تمرار وبس رعة متزاي دة‪..‬‬
‫واكتشف أيضا ً أن المجرات التي ولدت تبتعد عن مركز االنفجار األول‪ ،‬وك ذلك تبتع د‬
‫عن بعضها البعض‪..‬‬
‫التفت العالم المؤمن للحضور‪ ،‬وقال‪ :‬أتدرون ما يعني هذا؟‬
‫قالوا‪ :‬وما يعني؟‬
‫قال‪ :‬إن هذا يعني أن كل المعارف السابقة‪ ،‬والتي تتبنى سرمدية الك ون وأزليت ه‬
‫قد تبخرت م ع ه ذا االكتش اف‪ ..‬وله ذا‪ ،‬فق د ب ادر الكث ير من العلم اء إلى تك ذيب ه ذه‬
‫النظرية قبل التثبت من صدقها‪ ..‬ألن اإليمان بها ك ان يس توجب الكث ير من التغي ير في‬
‫طريقة التفكير التي كان يتبعها العلماء في نشأة الكون واستقراره‪.‬‬
‫قام العالم الملحد‪ ،‬وقال‪ :‬أنا ال أشك في القدرات العلمية لهابل‪ ،‬ولكني ال أرى أي‬
‫عالقة بين اكتشافاته‪ ،‬وما تدعيه من حدوث الكون‪.‬‬
‫قال العالم المؤمن‪ :‬أال ت رون أن من أب رز مقتض يات ه ذه النظري ة أن ه إذا ك ان‬
‫الكون اليوم يتباعد‪ ،‬فالبد أنه كان في يوم ما متقارباً؟‬
‫قالوا‪ :‬بلى‪ ..‬هذا ضروري‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولو فرضنا أن بداية ذلك التباعد قديمة أزلية‪ ..‬فهل يمكن أن ن رى ش يئا من‬
‫األشياء؟‬

‫‪31‬‬
‫قالوا‪ :‬لم نفهم‪..‬‬
‫قال‪ :‬تصوروا معي‪ ..‬لو أن مجموعة رجال يبتعد بعض هم عن بعض هم ك ل ي وم‬
‫مسافة متر واحد فقط‪ ..‬فهل يمكن أن يرى بعضهم بعضا بعد مليون سنة؟‬
‫ق الوا‪ :‬ذل ك مس تحيل‪ ..‬ألن المس افة بينهم حينه ا س تكون ملي ون م تر‪ ..‬أي أل ف‬
‫كيلومتر‪..‬‬
‫قال‪ :‬فلو فرضنا أن المسافة بينهما كانت أكثر من ذلك‪..‬‬
‫قالوا‪ :‬ذلك أدعى بأن تكون مستحيلة استحالة مطلقة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهكذا لو جمعنا بين هذه الحقيقة العلمية التي دلت عليها كل األدل ة‪ ،‬والق ول‬
‫بتلك النظرية الفلسفية القديمة القائلة بقدم العالم‪ ..‬فلو فرضنا أن العالم يتباعد من ذ م ا ال‬
‫نهاية فإن هذا يجعلنا ال نرى شيئا من العالم‪ ..‬ورؤيتنا له دليل على حدوثه‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ذلك صحيح‪ ،‬ومنطقي‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولهذا‪ ،‬فإن علم الفلك الحديث يبذل كل الجه ود ليح دد عم ر الك ون(‪ )1‬بن اء‬
‫على ما لديه من معطيات علمية‪ ..‬ونحن وإن كنا ال نثق ثقة مطلقة في كل النت ائج ال تي‬
‫قد يصل إليها‪ ،‬ألنها ق د تتغ ير م ع ال زمن‪ ،‬لكن ال ذي يعنين ا ه و وج ود بداي ة للك ون‪..‬‬
‫ووجود بداية للكون يستدعي بالضرورة العقلية وج ود إل ه ص احب علم وإرادة وق درة‬
‫مطلقة قام بإخراجه من العدم إلى الوجود‪.‬‬
‫قام آخر‪ ،‬وقال‪ :‬لقد أدلى زميلي الفلكي مشكورا بما لديه من معلومات لها عالق ة‬
‫بتخصص ه‪ ..‬وس أتحدث أن ا بم ا ل ه عالق ة بتخصص ي‪ ..‬فأن ا مختص في [ال ديناميكا‬
‫الحرارية]‪ ..‬طبعا لن أصدع رؤوس كم بالتفاص يل العلمي ة المرتبط ة ب ذلك(‪ ..)2‬ولك ني‬
‫سأقتصر على ما له عالق ة بح دوث الع الم‪ ..‬وسأقتص ر بالتحدي د على م ا يطل ق علي ه‬
‫[تبرد الكون]‪ ،‬أو [قانون الديناميكا الحرارية الثاني]‪ ،‬وهو القانون ال ذي ينص على أن‬
‫الكون يستمر باستنفاد طاقته حتى يصل إلى حالة التوازن‪ ..‬أي الحالة التي تستوي فيه ا‬
‫درجات حرارة جميع أجزاء الكون‪ ..‬حتى يصل في نهاية المطاف إلى ما يسمى عن دنا‬
‫ـ معشر الفيزيائيين ـ بالموت الحراري‪ ..‬هل تدركون ما عالقة هذا بحدوث الكون؟‬
‫قال رجل من الحاضرين‪ :‬إن كان األمر كم ا تق ول‪ ،‬ف إن ه ذا يع ني بالض رورة‬
‫وجود بداية للكون‪ ..‬وإال لوصل الكون إلى حالته األخيرة من التوازن قب ل زمن طوي ل‬
‫ال حدود له‪.‬‬
‫قال العالم المؤمن‪ :‬صدقت‪ ..‬فقوانين ال ديناميكا الحراري ة تثبت بك ل وض وح أن‬
‫هذا الكون ال يمكن أن يكون أزليا‪ ،‬فهناك انتق ال ح راري مس تمر من األجس ام الح ارة‬
‫إلى األجسام الب اردة‪ ،‬وال يمكن أن يح دث العكس بق وة ذاتي ة‪ ..‬ومع نى ذل ك أن الك ون‬
‫يتج ه إلى درج ة تتس اوى فيه ا ح رارة جمي ع األجس ام‪ ،‬وينض ب منه ا معين الطاق ة‪..‬‬

‫‪ )(1‬من األمثلة على ذلك إعالن وكالة أبحاث الفضاء األمريكية ناسا أن عمر الكون ‪ 13،7‬مليار سنة ضوئية‪ ،‬وذلك‬
‫من خالل استعمال مجسات فضائية متطورة جداً ومناظير إلكترونية محمولة على أقمار صناعية‪ ،‬وهذا االكتش اف إق رار‬
‫من الوكالة بأن لهذا الكون بداية‪.‬‬
‫‪ )(2‬سنعرض لها بتفصيل في الجزء الخاص بـ [اإللحاد ‪ ..‬والكون]‬

‫‪32‬‬
‫ويومئذ لن تكون هناك عمليات كيماوية أو طبيعية‪ ..‬ولن يكون هنالك أثر للحي اة نفس ها‬
‫في هذا الكون‪ ..‬لذلك ف إن النتيج ة الطبيعي ة له ذا هي أن ه ذا الك ون ال يمكن أن يك ون‬
‫أزلياً‪ ،‬وإال الستهلكت طاقته منذ زمن بعيد‪ ،‬وتوقف كل نشاط في الوجود‪.‬‬
‫وهكذا توصل العلم إلى أن لهذا الكون بداية‪ ..‬وهو بذلك ي دل دالل ة قطعي ة على‬
‫وجود هللا‪ ..‬ذل ك أن م ا ك ان ل ه بداي ة ال يمكن أن يك ون ق د ب دأ بنفس ه‪ ،‬وال ب د ل ه من‬
‫مبديء‪ ،‬أو من محرك أول‪ ،‬أو من خالق‪.‬‬
‫قام عالم آخر‪ ،‬وقال‪ :‬شكرا جزيال سادتي العلم اء على ه ذه المعلوم ات القيم ة‪..‬‬
‫واسمحوا لي أن أشارك في نفس الموضوع‪ ،‬وبحس ب تخصص ي العلم‪ ،‬وال ذي كش ف‬
‫لي بطريقة قطعية ليس فيها ارتياب عن أن الكون له بداية‪.‬‬
‫وحتى أبسط لكم هذا وأختصره‪ ،‬أقول‪ :‬أنتم تعلمون جميعا أن ذرات الك ون كله ا‬
‫مؤلفة من جزيئات كهربائية سالبة وموجب ة‪ ..‬وتعلم ون أن الموجب ة يطل ق عليه ا اس م‬
‫البروتون‪ ..‬والسالبة يطلق عليها اس م اإللك ترون‪ ..‬وتعلم ون أن أنوي ة ال ذرات إال ذرة‬
‫الهي دروجين فيه ا زي ادة على ذل ك ش حنة معتدل ة تس مى ني ترون‪ ..‬وأن ال بروتون‬
‫والنيترون يشكالن نواة الذرة بينما اإللكترونات تش كل الك واكب الس يارة له ذه الن واة‪..‬‬
‫وهي تدور حولها بسرعة هائلة بحركة دائرية إهليلجية‪ ..‬وبس بب ه ذه الس رعة الهائل ة‬
‫في حركة اإللكترون يبقى اإللكترون متحركا هذه الحركة‪ ،‬إذ لوال هذا الدوران لج ذبت‬
‫كتلة النواة كتلة اإللكترون‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬نعلم ذلك جميعا‪ ،‬فما عالقته ببداية الكون؟‬
‫قال‪ :‬بناء على ذلك‪ ..‬وبناء على أن هذه الحركة التي نجدها في اإللكترون نجدها‬
‫في كل جرم في الفضاء‪ ،‬نقول‪ :‬إن الشيء الدائر ال بد أن تكون ل ه نقط ة بداي ة زماني ة‬
‫ومكانية بدأ منها دورته‪ ..‬ولما ك انت اإللكترون ات واألج رام كله ا في حرك ة دائري ة‪..‬‬
‫ولما كانت هذه الحركة غير مستأنفة كما يبدو‪ ..‬فإذن ال بد أن تكون هناك بداي ة زماني ة‬
‫ومكانية لحركة اإللكترون‪ ..‬وهذه البداية في الحقيقة هي بداي ة وج ود ال ذرات نفس ها‪..‬‬
‫وبهذا نكون قد وصلنا إلى أن لهذا الكون بداية ونشأة وخالقا من العدم‪ ..‬إذ العدم ال ينتج‬
‫عنه وجود‪.‬‬
‫قام آخر‪ ،‬وق ال‪ :‬قب ل أن أذك ر لكم وجه ة نظ ري أحب أن أرس م لخي الكم مع نى‬
‫األزلية‪ ..‬ألن البعض قد ال يفهم معنى ما نقوله بسبب تبسيطه لمعناها‪ ..‬ل و فرض نا أنن ا‬
‫وضعنا الرقم ‪ 1‬وأمامه أصفار ممتدة منه إلى محي ط الك رة األرض ية‪ ،‬ف إن ه ذا ال رقم‬
‫الكبير من السنين ال يمثل إال جزءا كالصفر تقريب ا بالنس بة إلى الالنهاي ة أو الالبداي ة‪..‬‬
‫ونفس الشيء لو كان الرقم ‪ 1‬أمامه أصفار من أول الكون إلى نهايته فإن ه ذا ال رقم ال‬
‫يمثل إال جزءا من الالنهاية يشبه الصفر‪ ..‬وكذلك هو بالنسبة لألزل‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فإن الذين يقولون بقدم المادة إنما يعطونها هذا المعنى‪ ،‬وه ذا ال ذي تثبت‬
‫الظواهر كله ا اس تحالته‪ ..‬ومن األمثل ة البس يطة على ذل ك الطاق ة الشمس ية‪ ..‬فمن أين‬
‫تأتي الشمس بطاقتها؟ وكيف تحافظ على حرارتها؟‬

‫‪33‬‬
‫قام رجل‪ ،‬وقال‪ :‬لقد أجيب عن ه ذا الس ؤال أجوب ة كث يرة‪ ..‬لع ل آخره ا ه و أن‬
‫ذراته ا هي وس ائر النج وم تتحطم في قلبه ا مرتف ع الح رارة‪ ..‬وبواس طة ه ذا التحطم‬
‫الهائل الواسع المستمر تتولد هذه الطاقة الحرارية التي ال مثيل لها‪.‬‬
‫قال العالم المؤمن‪ :‬ال ش ك أنكم تعلم ون أن ال ذرة عن دما تتحطم تفق د ج زءا من‬
‫كتلتها‪ ،‬حيث يتحول هذا الجزء إلى طاقة‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬أجل‪.‬‬
‫قال‪ :‬بحسب هذا‪ ،‬فإنه ال يمر يوم على أي شمس حتى تفقد ولو ج زءا بس يط من‬
‫كتلتها‪.‬‬
‫قال رجل منهم‪ :‬أجل‪ ..‬وقد حسب بعضهم المقدار الدقيق لذلك‪ ..‬لكني ال أذكره‪.‬‬
‫ق ال الع الم الم ؤمن‪ :‬فل و أن ه ذه الش مس قديم ة أزلي ة ه ل يمكن أن تك ون في‬
‫وضعها الحالي‪ ،‬أو أنها تكون قد استنفدت طاقتها‪ ،‬وانتهى أمرها؟‬
‫قالوا جميعا‪ :‬ال شك أنها تكون قد استنفذت طاقتها‪..‬‬
‫قال‪ :‬فطبقوا هذا على سائر مواد الكون‪ ..‬وسترون أنها جميعا ستنفذ كل طاقتها‪..‬‬
‫قبل ما ال يمكن عده من السنين‪.‬‬
‫قال رجل من القوم‪ :‬فلم ال نقول بأن الكون كله كان في األص ل طاق ة‪ ،‬ثم تح ول‬
‫إلى مادة‪ ..‬وهو اآلن مادة يتحول إلى طاقة‪ ..‬وهكذا يبقى مترددا بين المادة والطاقة؟‬
‫قال العالم المؤمن‪ :‬إن المغالط ة في ه ذا واض حة‪ ..‬ذل ك أن الطاق ة كطاق ة إنم ا‬
‫تظهر إذا وجدت مادة ما تقوم به ا‪ ،‬فالطاق ة تحت اج إلى ذات‪ ،‬وب دون ذات تك ون أش به‬
‫بمعدوم‪ ،‬أو بتعبير الفالس فة الق دامى‪ :‬الطاق ة ع رض تحت اج إلى ج وهر لتظه ر في ه‪..‬‬
‫فإش عاع الش مس عن دما يص ادف األرض مثال تأخ ذ ذرات األرض حرارت ه‪ ،‬وبه ذا‬
‫تصبح ذرات األرض مشحونة بالطاقة الحرارية‪ ،‬ولكن إذا لم يصادف هذا الشعاع مادة‬
‫فلن يتحول هو نفسه إلى ذرة مادية‪.‬‬
‫وبهذا يتضح بم ا ال ش ك في ه أن ه ذا الك ون ليس ق ديما‪ ،‬وأن ل ه بداي ة‪ ،‬وأن ه ال‬
‫يتصور وجوده لوال أن له خالقا هذا الخالق هو ابتدأ خلقه ووجوده بعد إذ لم يكن‪.‬‬
‫قام رجل من القوم‪ ،‬وقال‪ :‬اسمحوا لي ـ أنا تلميذ الفالسفة القدامى ـ أن أع بر لكم‬
‫عن هذا بلغة أساتذتي من الفالس فة‪ ..‬فق د قس موا م ا في الك ون إلى ن وعين‪ :‬ن وع يق وم‬
‫بذاته‪ ،‬ونوع ال يقوم بذاته‪ ..‬فمثال الجسم يقوم بذات ه‪ ..‬لكن الم رض ال يك ون بال جس م‪..‬‬
‫والذرة تقوم بذاتها‪ ..‬ولكن الحرارة ال تكون بال ذات‪.‬‬
‫وقد سموا ما يقوم بذاته [الجوهر]‪ ..‬وس موا م اال يق وم إال ب الجوهر [ع رض]‪..‬‬
‫فالذرة جوهر وحرارتها ع رض‪ ..‬والجس م ج وهر والص حة ع رض‪..‬وبن اء على ه ذا‬
‫ذكروا أن الجوهر ال ينفك عن األعراض‪ ،‬فما رأينا ج وهرا إال ويالزم ه ع رض م ا‪..‬‬
‫وكل عرض حادث‪ ..‬فالظالم حادث‪ ،‬فمنذ فترة كان قبل ه نه ار‪ ..‬والنه ار ح ادث‪ ،‬فمن ذ‬
‫فترة كان قبله ليل‪ ..‬وحرارة الذرات مهما كانت فإن لها بداي ة‪ ..‬وإذا ك ان ال ج وهر إال‬
‫بعرض فال جوهر إال وله بداية‪ ،‬فالكون جواهره وأعراضه كله حادث وليس أزليا‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫برهان التطبيق‪:‬‬
‫بعد أن انتهى الرجل الثاني حديثه‪ ،‬ق ام آخ ر‪ ،‬وق ال‪ :‬أظن أن ال دور وص ل إلي‪،‬‬
‫وسأحدثكم ـ أنا العب د الض عيف ـ عن فض ل هللا علي بالهداي ة‪ ،‬وإخ راجي من ظلم ات‬
‫الجهل والغواية‪ ،‬وكيف أنقذني ربي من جحيم المالحدة‪ ،‬وزج بي في روض ات جن ات‬
‫المؤمنين‪ ..‬وكل ذلك بفضل بره ان بس يط واض ح أطل ق علي ه المن افحون عن ع رض‬
‫الحقيقة لقب [برهان التطبيق]‪ ،‬وهو البرهان الذي يدل على استحالة التسلسل(‪.)1‬‬
‫قالوا جميعا‪ :‬يسرنا ذلك‪ ..‬فهلم حدثنا بنعمة هللا عليك‪.‬‬
‫قال‪ :‬أذكر جيدا أنه في ذلك الحين كنت تلميذا وفيا للكث ير من الفالس فة والعلم اء‬
‫الذين أخرجوني من حصون فطرتي المنيع ة‪ ،‬وألق وني في ص حراء الش كوك والعبثي ة‬
‫وكل أنواع الفوضى الفكري ة‪ ..‬وك انت خطتهم ال تي تس للوا به ا إلى حص وني ليس م ا‬
‫مارسه ديفيد هيوم ومن تبعه من الفالسفة‪ ،‬مثلما حكى لكم صاحبي‪ ..‬وإنما خطة جدي دة‬
‫كانت أكثر ذكاء وحنكة‪ ..‬استثمرت مبدأ العلية‪ ،‬واستخدمته في غير موضعه‪.‬‬
‫وكان أستاذي األكبر فيها فيلسوف يقال له [اللورد برتران د راس ل]‪ ..‬وق د تبعت ه‬
‫تبعي ة طوعي ة‪ ،‬ال بس بب اقتن اعي بطروحات ه الفكري ة‪ ،‬ولكن بس بب بعض مواقف ه‬
‫اإلنسانية‪ ،‬مثل رفضه التجنيد في الحرب العالمي ة األولى‪ ،‬ومث ل تحريض ه المواط نين‬
‫اإلنجليز على العصيان‪ ،‬وقد تحمل السجن نتيجة لذلك‪ ،‬إضافة إلى تأليفه قراب ة س بعين‬
‫كتاب ا ً في الفلس فة والرياض يات والسياس ة واألخالق واالجتماعي ات‪ ،‬وق د ك انت كتب ه‬
‫حينها ثورة في المنهج التحليلي والمنطقي‪ ،‬ولذلك كرم بجائزة نوبل في األدب‪..‬‬
‫وقد كان لتلك الصفات‪ ،‬وذلك التكريم أثره الكبير علي‪ ،‬وعلى الكثير من جيلي‪..‬‬
‫فقد كنا نتصور أن جائزة نوبل ال تعطى إال لمن كانت له عصمة عقلية وفكري ة تح ول‬
‫بينه وبين الخطأ‪.‬‬
‫ولهذا لم نكن نناقش ما يقول‪ ،‬وإنما نسعى بكل جهدنا أن نفهم ما يق ول‪ ،‬ثم نعتق د‬
‫رغما عنا‪ ،‬وإال اعتبرنا من حولن ا من زم رة المتخلفين الرجع يين ال ذين لم يرتق وا في‬
‫سلم التطور اإلنساني إلى مداه األعلى‪.‬‬
‫في ذلك الزمان البعيد حضرت محاضرة لراسل بعنوان [لم اذا لس ت مس يحيا]‪،‬‬
‫ذكر فيها سبب الحاده‪ ،‬فقال‪( :‬لقد قبلت لوقت طويل بفرضية المسبب األول‪ ،‬حتى ج اء‬
‫اليوم الذي تخليت عن هذه الفرضية‪ ،‬وذلك بع د ق راءتي لس يرة حي اة ج ون س تيوارت‬
‫ميل‪ ،‬حيث قال فيها ‪( :‬لقد علمني وال دي إجاب ة الس ؤال ع ّمن خلق ني‪ .‬وبع دها مباش رة‬
‫طرحت سؤاالً أبعد من هذا‪ ،‬من خلق اإلله ؟)‪ ..‬إن هذه الجملة القص يرة‪ ،‬علمت ني‪ ،‬إلى‬
‫اآلن‪ ،‬كيف أن مبدأ المسبب األول هو مبدأ مغالط ومسفسط‪ .‬فإذا كان لكل شيء مسبب‪،‬‬

‫‪ )(1‬ننبه فقط الذين يشكلون على هذا البرهان ويعترضون عليه بأنه نُظم في األصل إلبطال حوادث ال أول له ا كم ا‬
‫أن وجود حوادث ال آخر لها جائز ‪-‬عقاًل ‪ -‬ألن سبب وجود هذه السلسلة‬ ‫نعلم‪...‬وليس إلبطال ما ال آخر له‪ ،‬و الفرق بينهما ّ‬
‫من الحوادث خارج عن ذاتها‪ ،‬و هذا ما ال يمكن أن تقول ه في سلس لة الح وادث ال تي ال أول له ا دون أن تق ع في تن اقض‬
‫يرفضه العقل السليم‪..‬‬

‫‪35‬‬
‫فيجب أن يكون هلل مسبب أيضاً‪ .‬وإذا كان كل شيء بال مسبب‪ ،‬فسيكون الع الم ه و هللا!‬
‫لهذا وجدت أنه ال مصداقية في هذه الفرضية)‬
‫أذكر جيدا أنه عندما قال هذا صاح الكل معج بين‪ ،‬وص حت معهم‪ ،‬وق د خرجن ا‬
‫جميعا وقد تخلينا على هللا في ذلك المجلس‪ ..‬من دون أن نن اقش م ا ق ال أدنى مناقش ة‪،‬‬
‫فقد كانت طريقة راسل في الحديث تشبه طريق ة الس حرة‪ ..‬ول ذلك خ دعنا به ا انخ داعا‬
‫تاما‪.‬‬
‫ولم أكتف بخداع نفسي بذلك الزخرف من الح ديث ال ذي ألق اه علين ا‪ ،‬ب ل رحت‬
‫أبشر به من حولي‪ ..‬وقد كان الكث ير منهم يس تقبل م ا أطرح ه فرح ا مس رورا‪ ،‬وكأن ه‬
‫اكتشف االكتشاف العجيب الذي يخلصه من ربه‪ ،‬ليرفع عنه إصر كل القيم النبيلة‪.‬‬
‫لكن رجال واحدا‪ ،‬ق ال لي‪ ،‬وه و يض حك‪ :‬ل و دخلت إلى مكتب ك ووج دت كتاب ا‬
‫على الطاولة‪ ..‬ووجدت في نفس الوقت رجال جالسا على كرسي‪ ،‬ثم خرجت ورجعت‪،‬‬
‫فوج دت الكت اب ال ذي ك ان على الطاول ة داخ ل ال درج‪ ،‬ووج دت الرج ل جالس ا على‬
‫البس اط‪ ..‬فال ش ك أن ك ستس أل من نق ل الكت اب إلى ال درج‪ ..‬دون أن تس أل عمن نق ل‬
‫الرجل إلى البساط‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬ذلك صحيح‪.‬‬
‫قال‪ :‬أتدري لم؟‬
‫قلت‪ :‬أج ل‪ ..‬فالكت اب ليس ل ه إرادة‪ ،‬ويحت اج إلى من ينقل ه‪ ،‬وال يتح رك بذات ه‪،‬‬
‫فلذلك كان السؤال منطقيًا واقعيًا‪ ..‬بخالف السؤال عن الرجل‪ ،‬ذلك أن لديه ق وة وطاق ة‬
‫واختيارا وارادة يستطيع بها أن ينتقل بنفسه من غير أن ينقله أحد‪.‬‬
‫قال‪ :‬فطبق هذا على تلك الشبهة التي أثاره ا لكم ذل ك الفيلس وف‪ ..‬وستص ل إلى‬
‫الجواب‪..‬‬
‫كان في إمكاني حينها أن أطبق ما قاله‪ ،‬فأكتشف أن من ضروريات خالق الكون‬
‫أن يكون صاحب إرادة وقدرة‪ ،‬وأنه يختلف تماما عن كونه‪ ..‬ولذلك ال يمكننا أن نطب ق‬
‫عليه نفس المقاييس التي نطبقه ا على الك ون‪ ..‬لكن ني لم أفع ل‪ ..‬ربم ا ألن ني كنت أبل ه‬
‫وحريصا على تلك الفكرة ال تي ت زينت لي بس ببها ك ل أن واع الرذائ ل‪ ،‬بع د أن أخليت‬
‫وجودي من ربي‪.‬‬
‫***‬
‫لكن هللا برحمته لم يدعني‪ ،‬بل ك ان يرس ل لي ك ل حين من ينبه ني إلى غفل تي‪،‬‬
‫ويسد علي تلك األبواب الشيطانية التي فتحها راسل على عقلي وقلبي‪.‬‬
‫ومن تلك األبواب أنني بعد أن ألقيت تلك الشبهة في بعض المج الس‪ ،‬ق ام رج ل‬
‫بكل هدوء‪ ،‬وقال‪ :‬إن في هذا اإلعتراض مغالط ة كب يرة ال تتناس ب م ع فيلس وف مث ل‬
‫برتراند‪ ..‬ألنه يفترض أن االله مثله‪ ..‬أي له م ادة مث ل م ادة الك ون‪ ،‬مم ا يمكن س حب‬
‫القياس عليها‪ ،‬وهذا غير صحيح‪ ..‬فاهلل ال يشبه مخلوقا في شيء‪..‬‬

‫‪36‬‬
‫ولهذا ال يصح أن نخضعه لتصوراتنا‪ ،‬ألنه ليس شبيها بشئ نعرف ه ح تى نقيس ه‬
‫عليه‪ ..‬ف إذا ك ان ف وق تص وراتنا ومعارفن ا‪ ،‬ب ل ف وق ق درات عقولن ا مهم ا تض خمت‬
‫ماليين المرات‪ ،‬فإن هذا السؤال يعد مستحيال فى حقه‪ ،‬بل وغير منطقى أيضا‪.‬‬
‫ذلك أن جميع المخلوقات يصح فى حقها هذا السؤال‪ ،‬ألنها تتح رك وف ق ق وانين‬
‫نكاد نعرفها جميعا‪ ،‬ويمكن إخضاعها للتجربة والقياس والحس ابات الرياض ية‪ ،‬لكن هللا‬
‫ليس خاضعا لكل هذا‪ ،‬ألنه فوق علمنا وتصوراتنا‪ ،‬وما يمكن أن نقترحه على مانعرف ه‬
‫اليمكن اقتراحه على ماهو فوق معارفنا وتصوراتنا‪ ..‬بل الشئ الوحيد الذى نتأك د من ه‬
‫أنه ليس مشابها لكل مانعرف وما نتوقع معرفته‪ ،‬وال يمكن أن تسرى عليه تخيالتنا‪.‬‬
‫بعد أن أنهى حديثه الهادئ‪ ،‬قام آخر‪ ،‬وقال‪ :‬وف ق أى ق انون يمكن أن نس أل ه ذا‬
‫السؤال‪ ،‬وهل يمكن للعقل البشرى أن يجعل هللا مادة لمعرفته فى ذات ه‪ ..‬إن مع نى ذل ك‬
‫هو أن هذا العقل البشرى بلغ من القدرة أن يكون إلها‪ ..‬ولكن الثابت أن هذا العق ل بك ل‬
‫وسائله‪ ،‬وبكل معارفة الحديثة اليزال عاجزا عن تفسير أشيئا كثيرة فى عالم الماديات‪،‬‬
‫ورغم كل معارفه فال يزال الكون مجهوال بالنسبة له‪ ،‬وهو مازال يط ور ويص حح فى‬
‫معلوماته كل يوم‪ ،‬ومع كل كشف جديد‪ ..‬ف إذا ك ان العق ل ومقاييس ه ومعارف ه اليمكن ه‬
‫إدراك أغلبية الحق ائق المخلوق ة‪ ،‬فكي ف فى وثب ة من الغ رور يري د أن يخض ع خالق ه‬
‫وخالق معارفه ومقاييسه ألدواته البدائية هذه‪ ..‬إن المنطق ال يقبل أن يكون الطفل ال ذى‬
‫يحبو‪ ،‬ويستطلع األشياء من حوله قادرا على فهم ما يفهمه الشيخ المجرب العالم‪.‬‬
‫***‬
‫بعد أن قال هذا وغيره بعض ما ذكرته لكم ب دأت بعض التش كيكات تتس رب إلى‬
‫الشبهة التي أودعها في نفسي راسل وغيره من فالسفة اإللحاد‪..‬‬
‫لكن الشبهة لم تزل زواال كليا إال في ذلك اليوم ال ذي التقيت في ه ذل ك الفيلس وف‬
‫المسلم الذي راح يخاطب عقلي باللغة التي تتناسب مع ه‪ ،‬واس تطاع أن يض ع مش رطه‬
‫على الورم الذي غرسه راسل في عقلي‪ ،‬وأزاله إزالة كلية‪.‬‬
‫لقد قال لي‪ ،‬وهو يحاورني‪ :‬إن م ا طرح ه أس تاذك في الفلس فة م ع احترامن ا ل ه‬
‫ولمواقفه اإلنسانية وقدراته العلمية واألدبي ة يتن افى م ع بعض الق وانين العقلي ة المهم ة‬
‫التي تتفق العقول على اإلذعان لها‪ ..‬ولذلك اسمح لي أن أناقشه من ه ذه الزاوي ة فق ط‪..‬‬
‫ال من زاوية مواقفه اإلنسانية التي أحترمها كثيرا‪.‬‬
‫ك ان يتكلم بطريق ة ممتلئ ة ب األدب واله دوء‪ ،‬ول ذلك لم أمل ك إال أن آذن ل ه أن‬
‫يحدثني‪..‬‬
‫قال لي (‪ : )1‬إن ما ذكره أستاذك المحترم ينطبق علي ه م ا يطل ق علي ه الحكم اء‬
‫[التسلسل]‪ ،‬وهو باطل عقال عند جميع العقالء‪.‬‬
‫وق د نص وا على ه ذا ب ذكرهم أن عالمن ا ال ذي نعيش في ه غ ني بمجموع ة من‬
‫الظواهر الطبيعية‪ ..‬وك ّل ظاهرة إ ّما أن تكون علّة أو معلول ة‪ ،‬فهي علّ ة للظ اهرة ال تي‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬مصدر الوجود بين العلم والفلسفة‪ ،‬الشيخ جعفر السبحاني‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫تليها‪ ،‬ومعلولةً لظاهرة قبلها‪ ..‬ولوال وجود العلّة لم يحدث المعلول‪ ،‬وبانعدام العلّة ينعدم‬
‫المعلول‪ ..‬وهكذا يتحقّق وجوده بوجودها‪.‬‬
‫وفي هذه الحالة نحن في العلل التي نشأت بها الظواهر الكونية بين أم رين‪ ..‬إم ا‬
‫أن نصل بها في التسلسل إلى علة نهائي ة هي العلّ ة الموج دة للك ون‪ ..‬وهي هللا تع الى‪،‬‬
‫وهو الغني بالذات‪ ،‬ويعتبر هو الخالق لهذه السلسلة‪.‬‬
‫وإما أن نستمر في التسلسل إلى ما ال نهاية له من العلل‪ ..‬وهذا مستحيل عقال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف اعتبرته مستحيال؟‬
‫قال‪ :‬كيف يمكننا أن نتصوّر مجموع ة من الكائن ات الحيّ ة ـ وال تي ك انت فاق دة‬
‫للحياة يوما ً ما‪ ،‬ثم أصبحت فجأة قادرة عليها ـ أنها أوجدت نفسها من الع دم من دون أن‬
‫يكون هناك طرف خارجي صاحب قدرة مطلقة هو الذي أوجدها؟‬
‫ذلك أن ك ّل كائن في هذا العالم يشهد بصدق بأنّه لم يكن صانع نفسه‪ ،‬بل يع ترف‬
‫أن وج ودهم وحقيقتهم لم تكن من ذات‬ ‫بوج ود عل ة موج دة ل ه‪ ..‬وجميعهم يش هدون ب ّ‬
‫أنفسهم‪ ..‬إذن من أين أتى وجودهم وخلقهم‪ ،‬وكيف؟‬
‫ليس أمامنا إالّ طريق واحد‪ ،‬وهو االعتراف بأن ك ّل موج ود ح ادث ون اتج عن‬
‫موج ود غ ني بال ّذات‪ ،‬وعن ده يتوقّ ف التسلس ل‪ ،‬إذ يعت بر ه و العلّ ة الرئيس ية لجمي ع‬
‫المعلوالت‪ ،‬وهو الخالق القدير‪.‬‬
‫أن الكائن ات ق د‬‫ثم ابتسم‪ ،‬وقال ـ وقد رأى الحيرة في وجهي ـ ‪ :‬إن من ي ّدعي ب ّ‬
‫أوجدت نفسها من العدم دون اس تعانة بك ائن خ ارجي‪ ،‬يش ابه من ي دعي بأنن ا يمكن أن‬
‫نحصل على عدد صحيح عند اجتماع ما ال نهاية له من األص فار‪ ،‬أو يمكنن ا الحص ول‬
‫على الوجود أو الحياة عندما تتراكم ما ال نهاية من العدوم‪.‬‬
‫عندما قال ذل ك‪ ،‬ورآني أهم باالنص راف عن ه‪ ،‬وأن ا ممتلئ ب الحيرة‪ ،‬ربت على‬
‫أن وج ود ه ذه المخلوق ات ق د انحص ر‬ ‫كتفي‪ ،‬وقال‪ :‬البد لك ّل متف ّكر عاقل أن يعترف ب ّ‬
‫تحقّقها بكائن حي غني على اإلطالق‪ ،‬إذ يعتبر نهاية للتسلسل‪ ،‬ومنبعا ً للكائنات جميعاً‪..‬‬
‫وأنه هو العلّة المطلقة‪ ..‬وما دام كذلك‪ ،‬فهو ليس بمعلول‪ ..‬فيستحيل على العل ة المطلق ة‬
‫أن تكون معلولة‪ ..‬ذلك أن وجودها ينبع من نفسها‪ ،‬وهي غير محتاجة إلى سواها‪.‬‬
‫ثم قال لي‪ :‬إن قدر لك أن تلتقي أستاذك في الفلسفة‪ ،‬فوجه إليه نفس السؤال‪ ..‬ق ل‬
‫له‪( :‬إذا كان ك ّل موجود معلول لعلّة‪ ،‬والعلّة له هي الم ا ّدة‪ ،‬فم ا هي إذن العلّ ة الموج دة‬
‫للمادة؟)‬
‫***‬
‫طبعا‪ ..‬لم يقدر لي أن ألتقي بأستاذي برتراند‪ ..‬ولكني التقيت ب الكثير من أمثال ه‪،‬‬
‫وكلهم راح يتالعب باأللف اظ ليص رفني عن الحقيق ة‪ ..‬لكن زخ رف األلف اظ لم يع د‬
‫يتالعب بعقلي أو يتحكم في ه خاص ة وأن ه قيض لي بع د ذل ك أن ألتقي ب الكثير من‬
‫الباحثين الصادقين الذين وضحوا لي األمر بك ل وس ائل التوض يح‪ ،‬ح تى ص رت أرى‬
‫وجود هللا أكثر وضوحا من وجود كل شيء‪ ..‬ألن كل شيء منه ينبع‪ ،‬وإليه يعود‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫ومن أولئ ك الب احثين الص ادقين رج ل س معته يتح دث في جم ع من المالح دة‪،‬‬
‫يخاطبهم بقوله‪ :‬من كان لديه أي ش بهة بع د ه ذا في وج ود هللا‪ ..‬فليطرحه ا‪ ،‬وس أجيبه‬
‫عنها بإذن هللا‪.‬‬
‫حينها قام أحدهم‪ ،‬وكان من زمالئي الذين تتلمذوا على برتراند راسل وغيره من‬
‫الفالسفة‪ ،‬وقال(‪ :)1‬ال شك أنكم أيها المؤمنون بوجود إله‪ ،‬انطلقتم في بحثكم عن هللا من‬
‫السؤال عن علة وجود الم ادة األولى للك ون‪ ..‬ثم أجبتم أنفس كم ب أن عل ة وج ود الم ادة‬
‫األولى للكون هي هللا‪ ،‬ونحن نسألكم بنفس ما س ألتم ب ه‪ :‬وم ا عل ة وج ود هللا؟‪ ..‬الش ك‬
‫أنكم ستحتالون علينا بأن هللا غير معلول الوجود‪ ..‬وإن كان األمر كذلك‪ ،‬فلماذا توقف ون‬
‫مبدأ السببية وتعطلونه عندما يتعل ق األم ر باهلل؟‪ ..‬وهن ا نجيبكم‪ :‬ولم اذا ال نف ترض أن‬
‫المادة األولى غير معلولة الوجود؟! وب ذلك يُحس م النق اش بينن ا وبينكم‪ ..‬وطبع ا يحس م‬
‫النقاش لصالحنا‪.‬‬
‫صفق الكثير من الحضور على كالمه‪ ،‬فقال الرجل المؤمن به دوء‪ :‬ه ل انتهيت‬
‫من طرح إشكالك‪ ،‬ألجيبك عليه؟‬
‫ق ال الملح د‪ :‬ب ل أنهيت ب ه ك ل م ا يمكن أن تقول ه من حجج‪ ..‬فه ل يمكن ك أن‬
‫تضيف بعد هذا شيئا‪ ،‬وقد ألجأتك إلى هذه المضايق الحرجة؟‬
‫قال المؤمن‪ :‬ال بأس دعني أجيبك بما أراه‪ ..‬وليس عليك أن تقتنع بما أقول‪ ..‬إنن ا‬
‫معشر المؤمنين نرى بمقدمات عقلية كثيرة أن األصل في الخ الق الوج ودُ؛ إذ ل و ك ان‬
‫األصل فيه الع دم لَ َم ا أوج د الك ون؛ ففاق د الش يء ال يعطي ه‪ ،‬وإذا ك ان وج ود هللا ه و‬
‫موج ٍد يوجده‪ ،‬وال علة لوج وده؛ إذ ال يُب َحث عن‬
‫ِ‬ ‫األصل‪ ،‬فهذا يستلزم أنه ال يحتاج إلى‬
‫عل ِة وجو ِد ما األص ُل فيه الوجود!‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن قول القائل‪ :‬إن خالق الكون بحاجة إلى خالق‪ ،‬رغم أنه خ الق‪ ،‬ق ريب‬
‫من قول القائل‪ :‬إن ال ِملح يحتاج إلى ملح كي يك ون مال ًح ا رغم أن ه م الح‪ ..‬وإن الس كر‬
‫يحتاج إلى سكر حتى يكون حل ًوا رغم أنه سكر‪ ..‬وإن األحمر يحتاج إلى اللون األحم ر‬
‫كي يكون أحم َر رغم أنه أحمر‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فإن قول القائل‪( :‬من خلق هللا؟) يساوي قوله‪ :‬ما الذي سبق الشيء ال ذي‬
‫ال شيء قبله؟‪ ..‬ويساوي قوله‪ :‬ما بداية الشيء ال ذي ال بداي ة ل ه؟‪ ..‬ويس اوي قول ه‪ :‬م ا‬
‫بداية وجود الش يء ال ذي ال بداي ة لوج وده؟‪ ..‬وه ذه األق وال جميع ا في غاي ة الس خف‬
‫والسقوط واالستحالة‪.‬‬
‫قال الملحد‪ :‬إن قولك ب أن هللا ال عل ة لوج وده‪ ،‬يس تلزم أن هللا توق ف في وج وده‬
‫على نفسه؛ أي‪ :‬إن هللا هو الذي أوجد نفسه بنفسه‪ ،‬وهذا يستلزم أن هللا علة لنفسه‪.‬‬
‫ابتسم المؤمن‪ ،‬وقال‪ :‬إن كالمك ه ذا يمكن قبول ه ل و ك ان هللا ممكن الوج ود؛ إذ‬
‫ممكن الوجود هو ما كان حادثًا بعد عدم؛ أي‪ :‬وجوده له بداية‪ ،‬فيتص ور العق ل وج وده‬
‫وعدم وجوده‪ ،‬فيمكن أن يوجد‪ ،‬ويمكن أال يوجد‪ ،‬وهذا الح ادث بع د ع دم ال ب د ل ه من‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬مقاال بعنوان [الملح د وس ؤاله الخ اطئ من خل ق هللا؟]‪ ،‬وانظ ر‪:‬الفيزي اء ووج ود الخ الق د‪ .‬جعف ر ش يخ‬
‫إدريس‪ ..‬صراع مع المالحدة حتى العظم الشيخ عبدالرحمن الميداني‪ ..‬كواشف زيوف الشيخ عبدالرحمن الميداني‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫ث يُح ِدثه‪ ..‬ولكن هللا ‪ -‬عندنا معشر المؤمنين ‪ -‬واجب الوج ود؛ أي‬ ‫موجد يوجده‪ ،‬ومحد ٍ‬
‫أن وجوده ذاتي ال ينف ك عن ه‪ ،‬فلم ي ُك ْن في زمن من األزم ان بمفتق ٍر إلى الوج ود‪ ..‬ولم‬
‫يكن في زمن من األزم ان مع دو ًما ح تى يحت اج إلى من يخرج ه من الع دم إلى َحيِّز‬
‫ق عليه أنه مخلوق‬ ‫الوجود‪ ..‬سبحانه‪ ،‬فهو خالق الزمان والمكان‪ ،‬وعليه فإن هللا ال يص ُد ُ‬
‫ومعلول حتى نسأل عن خالقه وعلته‪ ،‬أو أن نقول بأنه خلَق نفسه بنفسه‪.‬‬
‫قال الملحد‪ :‬فلماذا توقفون مبدأ السببية وتعطلونه عندما يتعلق األمر باهلل؟‬
‫قال المؤمن‪ :‬جواب ذلك بسيط‪ ،‬وهو أن األصل في الخ الق الوج ود؛ إذ ل و ك ان‬
‫األص ل في ه الع دم لم ا أوج د الك ون؛ ألن فاق د الش يء ال ذي ال يملِك ه وال يملِ ك س ببًا‬
‫إلعطائه ال يعطيه‪ ،‬وإذا كان األصل في الخالق الوجود‪ ،‬فال يص ح أن نس أل عن س بب‬
‫وجوده‪.‬‬
‫أزلي؛ فوج وده‬‫ٌّ‬ ‫هذا أوال‪ ..‬ثانيا‪ ..‬إن هللا ـ كما تدل علي ه األدل ة العقلي ة الكث يرة ـ‬
‫ذاتي ال ينفك عنه‪ ،‬فال يصح أن نسأل عن سبب وجوده‪ ،‬ووجوده ليس له بداية‪.‬‬
‫ثالث ا‪ ..‬إن هللا ل ه الكم ال المطل ق؛ إذ ه وواهبُ الكم ال لمخلوقات ه؛ فه و أح ق‬
‫باالتصاف به من الموهوب‪ ،‬وكل كما ٍل ثبت للمخلوق الممكن‪ ،‬فإنه يكون ثابتً ا للخ الق‬
‫من باب أَوْ لى‪ ..‬وإذا كان الكمال المطلق هلل‪ ،‬واالحتياج يناقض الكمال المطلق‪ ،‬فالكامل‬
‫المطلَق ال يحتاج إلى غيره‪ ،‬وعليه فالخالق ال يحتاج إلى غيره‪ ،‬وإذا لم يحتَجْ إلى غيره‬
‫فهو غير معلول‪ ،‬وإذا كان غير معلول فال يصح أن نسأل عن علته‪.‬‬
‫رابعا‪ ..‬إن السؤال عن سبب وجود شيء يصح فيما ك ان األص ل في ه الح دوث‪،‬‬
‫وأنه لم يكن موجودًا ثم أصبح موجودًا بعد عدم‪ ،‬وهللا قديم وليس حادثًا‪.‬‬
‫خامسا‪ ..‬لو قلنا بأن ك َّل خالق له َمن خلَقه؛ أي‪ :‬خ الق الك ون ل ه َمن خلق ه‪ ،‬و َمن‬
‫خالق الكون له َمن خلَقه‪ ،‬وهكذا إلى م ا‬ ‫ِ‬ ‫ق الكون له َمن خلَقه‪ ،‬و َمن خلَق خال َ‬
‫ق‬ ‫خلَق خال َ‬
‫ق للكون‪ ،‬وهذا باطل لوجود الك ون؛ فوج ود الك ون‬ ‫ال نهاية‪ ،‬فإن هذا يستلزم ْ‬
‫أن ال خال َ‬
‫يستلزم عدم تسلسل الفاعلين إلى ما ال نهاية؛ إذ ال بد أن تصل سلسلة الفاعلين إلى عل ة‬
‫غير معلولة‪ ،‬وال ب د ِمن س بب تنتهي إلي ه األس باب‪ ،‬وليس هن اك أس باب ال تنتهي إلى‬
‫شيء‪ ،‬وإال لم يكن هناك شيء؛ أي‪ :‬إن التسلسل في الفاعلين ممنوع‪ ،‬بل ال بد أن نصل‬
‫إلى نهاية‪ ،‬وه ذه النهاي ة في الف اعلين أو الم ؤثرين هي إلى هللا تع الى‪ ..‬وه ذا م ا نص‬
‫عليه كتابنا المقدس في قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬وأَ َّن إِلَى َربِّكَ ْال ُم ْنتَهَى﴾ [النجم‪ ..]42 :‬أي أن ك ل‬
‫شيء ينتهي إليه‪.‬‬
‫ضحك الملحد بصوت عال‪ ،‬وق ال‪ :‬أال ت رون غب اء المؤم نين‪ ..‬نحن نطلب من ه‬
‫الدليل على وجود هللا‪ ..‬وهو يذكر لنا كالم من يصفه باإلله ليستدل لنا به‪.‬‬
‫قال المؤمن‪ :‬أنا لم أذكر لك كالم ربي كدليل عليه‪ ،‬وإنما ذكرته ل ك ألن ه يح وي‬
‫الدليل‪ ..‬فاهلل أخبر أن نهاية كل شيء إليه‪ ،‬كما أن بداية كل شيء منه‪.‬‬
‫لم يجد الملحد ما يقول‪ ،‬فقال المؤمن‪ ،‬موجه ا كالم ه للحض ور‪ :‬ال ش ك أن فيكم‬
‫من خدم في يوم من األيام الخدمة العسكرية‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬كلنا فعل ذلك‪ ..‬فهل لذلك عالقة بوجود هللا؟‬

‫‪40‬‬
‫قال‪ :‬لو أنكم تدبرتم نظام الجندية وقوانينها لوصلتم إلى هللا بسهولة‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬ألستم ترون أن هناك مراتب في القي ادة في النظ ام العس كري‪ ،‬ح تى أن ه ال‬
‫يطلق جندي رصاصة إال بعد أمر القائد له بذلك؟‬
‫قالوا‪ :‬أجل‪ ..‬فهل ترى في ذلك حرجا؟‬
‫قال‪ :‬فلنف رض أن ه ذا النظ ام ال نهاي ة لتسلس له‪ ..‬أي أن الجن دي قب ل أن ي رمي‬
‫الرصاص ة يس تأذن من المجن د ال ذي فوق ه مرتب ة‪ ،‬وه و ك ذلك ال يعطي اإلذن ح تى‬
‫يس تأذن ممن فوق ه‪ ،‬وهك ذا إلى م ا ال نهاي ة‪ ..‬أجيب وني‪ ..‬ه ل يمكن في ه ذه الحال ة أن‬
‫يطلق الجندي النار؟‬
‫سكت الجميع‪ ،‬لكن بعض المالح دة ق ال‪ :‬ال يمكن أن يطل ق الرصاص ة في ه ذه‬
‫الحالة‪ ،‬ألنه لن يصل إلى الجندي الذي سيعطيه اإلذن بإطالق النار‪.‬‬
‫قال المؤمن‪ :‬صدقت‪ ..‬إذن البد من انتهاء السلسلة إلى شخص ال يوجد فوقه أحد‬
‫ليعطيه اإلذن بإطالق النار‪ ،‬حينها ستنطلق الرصاصة‪ ..‬وب دون ه ذا الش خص‪ ،‬ومهم ا‬
‫كثُر عدد األشخاص‪ ،‬لن تنطلق الرصاصة؛ ألنهم حينها كاألصفار إذا وضعتها بج انب‬
‫بعضها البعض‪ ،‬فمهما كثرت وبلغت ح ًّدا ال نهاية ل ه‪ ،‬فس تظل ال تس اوي ش يئًا‪ ،‬إال أن‬
‫يوضع قبلها رقم‪ 1 :‬فأكثر‪ ..‬حينها يصبح لها وجود واعتبار‪.‬‬
‫ت أثر الكث ير من المالح دة بقول ه ه ذا إال رأس هم‪ ،‬فق د راح يش اغب ويج ادل‪،‬‬
‫ويسخر‪ ،‬وبما أننا في محل ﴿اَل لَ ْغ ٌو فِيهَ ا َواَل تَ أْثِي ٌم﴾ [الط ور‪ ،]23 :‬فال يص ح أن أذك ر‬
‫لكم ما قاله‪.‬‬
‫برهان الخلق‪:‬‬
‫بعد أن انتهى الرج ل األول من حديث ه‪ ،‬ق ام آخ ر‪ ،‬وق ال‪ :‬أظن أن ال دور وص ل‬
‫إلي‪ ،‬وس أحدثكم ـ أن ا العب د الض عيف ـ عن فض ل هللا علي بالهداي ة‪ ،‬وإخ راجي من‬
‫ظلم ات الجه ل والغواي ة‪ ،‬وكي ف أنق ذني ربي من جحيم المالح دة‪ ..‬وزج بي في‬
‫روضات جنات المؤمنين‪.‬‬
‫قالوا جميعا‪ :‬يسرنا ذلك‪ ..‬فهلم حدثنا بنعمة هللا عليك‪.‬‬
‫ق ال(‪ :)1‬أذك ر جي دا أن ه في ذل ك الحين كنت تلمي ذا وفي ا للكث ير من الفالس فة‬
‫والعلماء الذين كانوا يص يحون في عقلي ك ل حين‪ :‬إن ك ل م ا ت راه من أن واع الجم ال‬
‫والنظام‪ ،‬واإلبداع واإلتقان ليس سوى نتاج خلق إلهي محكم‪ ،‬وإنما هو ثمرة لصدفة(‪)2‬‬
‫عشوائية تنقلت طورا فطورا إلى أن تحولت إلى العالم الذي نراه بأحيائه وجماداته‪.‬‬
‫‪ )( 1‬استفدنا الكثير من المادة العلمية المرتبطة بهذا المطلب من كتاب [الملحد واستدالله الخ اطئ بالص دفة] د‪ .‬ربي ع‬
‫أحمد‪.‬‬
‫معان‪ ،‬منها‪ :‬ح دوث الش يء دون عل ة؛ كغلي ان الم اء دون أي س بب‪ ،‬وه ذا مس تحيل؛ فمن‬
‫ٍ‬ ‫‪ )(2‬يقصد بالصدفة عدة‬
‫المستحيل حدوث شيء دون علة وسبب‪ ..‬ومنها‪ :‬حدوث الشيء بعلة مجهولة‪ ،‬مثل صديق ك ان يمش ي في ش ارع لزي ارة‬
‫أحد أقاربه‪ ،‬فوجد صديقًا ل ه ك ان ذاهبً ا لش راء طع ام من الس وق ص دفة‪ ،‬وهن ا تراف ق وت زامن‪ ..‬ومنه ا‪ :‬ح دوث الك ون‬
‫وانتظامه عبر سلسلة من العلل غير العاقلة وغير المدركة‪ ،‬ومنها‪ :‬التق اء عرض ي لسلس لتين من األس باب‪ ،‬ومنه ا‪ :‬ت وفر‬
‫مجموعة من العوامل بطريقة غير واعية لتُشكل ظاهرة‪..‬‬

‫‪41‬‬
‫وكان أحدهم‪ ،‬وي دعى [توم اس ه نري هاكس لي(‪ ،] )1‬وال ذي كن ا ن دعوه (كلب‬
‫داروين) نتيجة إخالصه الشديد لدارون ونظرية التطور يق ول لن ا ك ل حين‪ :‬ل و تركن ا‬
‫س تة ق رود تض رب على آل ة كاتب ة تح وي ‪ 26‬حرف ا‪ ،‬و‪ 4‬رم وز‪ ،‬ومس افات‪ ،‬وزمن ا‬
‫طويال‪ ،‬فإنها يمكنها أن أن تكتب االعمال الكاملة لويليام شكسبير‪..‬‬
‫وقد حاولنا تجربة ذل ك على مجموع ة من الق ردة‪ ،‬وبع د ت دريبها على الض رب‬
‫على لوحة المفاتيح‪ ،‬وبعد أن تركناها مدة طويلة‪ ،‬لم تتمكن من كتابة كلمة واحدة كامل ة‬
‫(‪.)2‬‬
‫وعن دما أخبرن ا بعض أص حابنا من المالح دة ب ذلك راح يج ري تع ديال على‬
‫النظرية‪ ،‬فاستبدلها بنظرية جديدة‪ ،‬وهي [نظرية القردة الال متناهية]‬
‫وقال لنا آخر‪ :‬ال نحت اج إلى ذل ك‪ ..‬فل و جلس س تة من الق ردة على آالت كاتب ة‪،‬‬
‫وظلت تض رب على حروفه ا لماليين الس نين‪ ،‬فال نس تبعد أب دا أن نج د في بعض‬
‫األوراق األخيرة التي كتبوها قصيدة من قصائد شكسبير‪..‬‬
‫وقال لنا آخر‪ :‬دعونا من القردة‪ ..‬فالحي اة نش أت ص دفة ع بر سلس لة طويل ة من‬
‫التط ور الكيمي ائي م ا قب ل الحي وي اس تمر لماليين الس نين‪ ،‬ابت دا ًء من الكيميائي ات‬
‫البسيطة‪ ،‬مرو ًرا بالجزيئات المتعددة‪ ،‬والجزيئات المتعددة الناسخة ذاتيًّا داخلة بدورات‬
‫تحفيزية‪ ،‬وصواًل إلى كائنات [ما قبل بكتيرية]‪ ،‬وأخيرًا وصواًل إلى بكتريا بسيطة‪.‬‬
‫وصور لنا آخر ذلك بدقة‪ ،‬وكأنه كان شاهد عي ان لم ا حص ل بالض بط‪ ،‬أو كأن ه‬
‫نصب كاميرات على الكون قب ل تش كله‪ ،‬فق ال‪ :‬إن الك ون ال ذي ن راه به ذا االنتظ ام لم‬
‫يتكون إال صدفة نتيجة سلسلة من العلل المادية غ ير العاقل ة وغ ير المدرك ة‪ ..‬ونتيج ة‬
‫لتوافر الظروف والعلل المادية لنشأة الكون نش أ الك ون دون حاج ة لق وة عاقل ة مري دة‬
‫أرادت إنشاءه على هذا الشكل‪.‬‬
‫وهكذا ظللت مدة طويلة أرت ع في أمث ال ه ذه الم راعي إلى أن تح ولت الحق ائق‬
‫عندي إلى مغالطات‪ ،‬وانطمست فطرتي انطماسا تاما‪ ،‬إلى أن من هللا علي ب ذلك الي وم‬
‫الذي التقيت فيه بعض العلماء العقالء ممن لم تتدنس فطرهم بأرجاس الهوى‪ ..‬فقد ك ان‬
‫أول من بذر في عقلي بذور التشكيك في الصدفة وأصحابها‪.‬‬
‫التقيته في متحف ط بيعي ك ان ق د وض ع في ه الكث ير من اآلث ار القديم ة‪ ،‬وك ان‬
‫بجانبها بعض الجماجم وغيرها‪..‬‬
‫وكان مما شد انتباهي آلة قديمة على شكل اصطرالب‪ ،‬وفيها رس وم ذات أل وان‬
‫زاهية لم يؤثر فيها التاريخ الطويل‪ ..‬فقلت له‪ :‬إلى أي حضارة تعود هذه التحفة األثري ة‬
‫الثمينة؟‬

‫‪ )(1‬توماس هنري هاكسلي‪ )1895 -1825( :‬عالم أحياء بريطاني‪ ..‬كان ق د لقب بـ (كلب داروين) لدفاع ه الق وي‬
‫عن نظرية تشارلز داروين النشوء والتطور‪ ..‬التقى تشارلز داروين في حوالي ‪ ..1856‬وهو صاحب نظرية القرد ‪.‬‬
‫‪ )(2‬أراد المركز البريطاني للبحوث اختبار هذه النظرية حاسوبيا ً ‪ ..‬فوضع ستة قردة افتراضية ب دأت تض رب على‬
‫اآلل ه الكاتب ة لم دة ش هر كام ل لم يج دوا فيه ا كلم ة مكون ة من ح رف واح د ‪ ..‬في اإلنجليزي ة‪ ،‬م ع العلم أن الح رف في‬
‫اإلنجليزية يعتبر كلمة اذا كان مسبوقا ً ومتبوعا ً بفراغ‪..‬‬

‫‪42‬‬
‫فقال لي‪ ،‬وكان يعرفني‪ ،‬ويعرف مذهبي‪ :‬ه ذه تحف ة طبيعي ة‪ ..‬وج دت هك ذا في‬
‫الطبيعة‪ ،‬وليست ثمرة ألي حضارة‪ ..‬أال ترانا وضعناها بجانب الجماجم وغيرها؟‬
‫قلت‪ :‬أتقصد أن هذه التحفة وجدت هكذا صدفة؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬ما دامت الجماجم ال تي تراه ا‪ ،‬وال تي هي أك ثر إب داعا وإتقان ا منه ا‬
‫وجدت صدفة‪ ..‬فما المانع أن توجد هذه التحفة صدفة؟‬
‫لم أستسغ ما قاله‪ ،‬بل رحت في نفسي أرميه ب الخرف‪ ..‬وقلت ل ه مخت برا‪ :‬أتظن‬
‫أن أهرامات المصريين أيضا وجدت صدفة؟‬
‫ق ال‪ :‬أليس من الممكن أن تهب الزواب ع والعواص ف وتتجم ع األحج ار الكث يرة‬
‫لتتشكل منها تلك األهرامات العجيبة؟‬
‫قلت‪ :‬إن ما تقوله محال‪ ،‬ولست أراك إال صاحب خرافة‪ ،‬وال عالقة لك بالعلم؟‬
‫قال‪ :‬كيف تقول لي هذا‪ ،‬وأنا العالم الذي أدي ر ه ذا المتح ف‪ ..‬وك ل م ا ت راه من‬
‫تحف هنا من اكتشافي‪ ..‬وكل ما سجل من تاريخ حولها هو من كتابتي؟‬
‫قلت‪ :‬لكن كالمك يتناقض مع ما تدعيه‪.‬‬
‫قال‪ :‬أخبرني أنت عن هذه الجماجم كيف وجدت‪ ..‬وأن ا حينه ا يمكن ني أن أع دل‬
‫من موقفي‪ ..‬فأنا مطالب أن أخاطب الناس على قدر عقولهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال ذي أعرف ه أن ه ذه الجم اجم تش كلت من ذ ماليين الس نين نتيج ة حرك ة‬
‫تطورية للكائنات الحية بدأت عن طريق الصدفة‪..‬‬
‫ق ال‪ :‬ألم يحتج التص ميم العجيب له ا ألي عق ل م دبر أو إرادة حكيم أو ص انع‬
‫خبير؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬هي لم تحتج ل ذلك كل ه‪ ..‬ولم اذا تحت اج م ا دامت ق وانين الص دفة‬
‫موجودة؟‬
‫ق ال‪ :‬دعن ا من مص درها‪ ،‬وأخبرن ا عن حقيقته ا‪ ،‬فه ل هي أك ثر إتقان ا من ه ذه‬
‫التحف التي أعجبتك أم أقل إتقانا منها؟‬
‫قلت‪ :‬بل هي أقل إتقانا بكثير‪ ..‬ألن الذي ص مم ه ذه التح ف ليس س وى جمجم ة‬
‫من هذه الجماجم‪.‬‬
‫قال‪ :‬أال ت رى أن ك تتن اقض م ع نفس ك‪ ..‬ف تزعم أن الجمجم ة الممتلئ ة بالغراب ة‬
‫وج دت هك ذا ص دفة‪ ،‬بينم ا اخ تراع بس يط من اختراعاته ا ت راه من المح ال أن ينش أ‬
‫صدفة‪..‬‬
‫قال ذلك‪ ،‬ثم انصرف عني‪ ،‬وتركني لحيرتي‪ ،‬بعد أن بذر أول بذور التشكيك في‬
‫نفسي‪.‬‬
‫***‬
‫بعدها التقيت ببعض األصدقاء ممن تلم ذ معي على [كلب دارون(‪ ،])1‬وأخبرت ه‬
‫عما حصل لي مع مدير المتحف‪ ،‬فقال لي‪ :‬صدق‪ ..‬فمن الص عب أن نقب ل الص دفة في‬

‫‪ )(1‬لقب كان يلق به توماس هنري هاكسلي كما مر معنا‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫أمثال تلك المحال‪ ..‬يمكننا قبول الصدفة فقط باعتبارها تص ف كيفي ة الح دث‪ ..‬لكنن ا ال‬
‫يمكن قبولها لنفي وجود فاعل للحدث‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم أفهم‪ ..‬ما الذي تقصده؟‬
‫قال‪ :‬سأضرب ل ك مث اال يوض ح ل ك ذل ك‪ ..‬عن دما اكتش ف أه الي إح دى ق رى‬
‫المنوفية بمصر عن طريق الصدفة مدخل مق برة فرعوني ة أثن اء إج راء حف ائر لتش ييد‬
‫مسجد‪ ،‬وقاموا بإبالغ مسؤولي المجلس األعلى لآلثار‪ ،‬الذين أوفدوا لجن ة فني ة وأثري ة‬
‫متخصصة‪ ،‬وتبين لهم ـ بعد البحث والتنقيب ـ أنه من االكتشافات األثرية المهمة‪ ،‬وأن ه‬
‫يعود إلى العصر الفرعوني المتأخر للدولة الفرعونية القديمة‪.‬‬
‫فهنا عبرنا عن االكتشاف بكونه صدفة‪ ..‬لكنا لم نعبر عن المكت َشف بأن حص وله‬
‫كان صدفة‪ ،‬وإنما رحنا نبحث بجد عن حقيقته وتاريخه والتفاصيل المرتبط ة ب ه‪ ،‬ول و‬
‫اعتبرناه صدفة لما فعلنا ذلك‪.‬‬
‫وهكذا عندما نس مع أن أح د الق وانين الفيزيائي ة اكتش ف ص دفة‪ ..‬مث ل اكتش اف‬
‫أرشميدس لقانون الطفو‪ ،‬واكتشاف نيوتن للجاذبية‪ ..‬ال نفهم من ذلك أن القانون ليس ل ه‬
‫مكت ِشف‪ ..‬وإنما طريقة االكتشاف فقط كانت عن طريق الصدفة‪.‬‬
‫وهك ذا عن دما نس مع أن ش يئًا من األش ياء اخ ترع ص دفة‪ ..‬مث ل اخ تراع ه انز‬
‫ليبرش للنظارة الطبية‪ ،‬واختراع جون واكر ألعواد الثقاب‪ ،‬واختراع ليب ارون سبنس ر‬
‫مخترع‪.‬‬
‫ِ‬ ‫للميكروويف‪ ..‬ال نفهم من ذلك أن هذا الشيء ليس له‬
‫وهكذا عندما نس مع أن جريم ة من الج رائم اكتش فت ص دفة ال نفهم من ذل ك أن‬
‫هذه الجريمة ليس لها مرتكب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أتعني ب ذلك أن اعتب ار أص حابنا‪ ،‬وخصوص ا [كلب دارون] لنش أة الك ون‬
‫بكونها ليست دليالً على وجود خالق؛ ألن الكون نشأ صدفة نتيجة سلسلة من التفاعالت‬
‫الطويلة‪ ،‬دون تنظيم أو تخطيط سابق‪ ..‬مقولة غير صحيحة؟‬
‫ق ال‪ :‬إذا اعتبرن ا ذل ك‪ ..‬فلم ال نعمم ه في ك ل ش يء؟‪ ..‬لم نقص ره فق ط إلزال ة‬
‫اإليمان بالخالق؟‪ ..‬لم ال نطبقه على كل األشياء حتى ال نقع في المكاييل المزدوجة؟‬
‫***‬
‫لم أدر ما أقول له‪ ،‬لكني تذكرت حينها ذلك الملحد الذي كان يصيح كل حين بأن‬
‫الكون نشأ صدفة‪ ،‬وأنه ال يحتاج إلى خالق‪ ،‬وال إلى مدبر‪..‬‬
‫ت ذكرت [ك ارل س اغان]‪ ،‬وروايت ه [اتص ال] ال تي حولته ا [هولي ود] إلى فلم‬
‫سينمائي يحكي قص ة عالِم ة فل ك ت دعى [إيلي] ك انت ت درس م ع زمالئه ا في مرك ز‬
‫أبحاث [سيتي] إشارات واردة من أعماق الفض اء‪ ،‬وت بين من خالل البحث أنه ا تتمت ع‬
‫بصفتي التفرد والتعقيد‪ ،‬وذلك ما جعل أعضاء فريق البحث يؤكد أنها يستحيل أن تكون‬
‫قد نشأت بالصدفة‪ ،‬ولذا يصيحون‪( :‬إنها ليست تشويشا كونيا‪ ..‬إنه ا تحم ل نظام ا)‪ ..‬ثم‬
‫تكشف أحداث الفيلم عن ورود تلك الرسائل بالفعل من عوالم أخرى‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫فالرواية‪ ،‬والفيلم الذي مثلها يؤك د أن رس الة معق دة واح دة ك انت كافي ة إلثب ات‬
‫وج ود مرس ل ذكي‪ ،‬لكن ه ذا الرج ل نفس ه وماليين الملح دين لم يس تخدموا نفس ه ذا‬
‫المنطق عندما يرون تعقيد الحمض النووي‪..‬بل يعتبرونه نشأ عن صدفة عشوائية‪.‬‬
‫بعد أن ف ارقت ص احبي‪ ،‬وم ا أث اره في من ش كوك جدي دة‪ ،‬التقيت مس لما ربت‬
‫على كتفي‪ ،‬وق ال به دوء‪ ،‬وه و يبتسم(‪ :)1‬أال ت رى من الغراب ة أن بعض الن اس ممن‬
‫يدعون العقل والحكمة والعلم يرى حجرين موضوعين في نظام معين أو قُطّعا لغرض‬
‫معين‪ ،‬فيستنتج أن هذا من عمل إنسان ما في الزمان القديم‪ ..‬لكن ه إذا وج د ب القرب من‬
‫الحجر جمجمة بشرية أكثر كماالً وأكثر تعقي داً بدرج ة ال تق ارن لن يفك ر في أنه ا من‬
‫صنع كائن واع‪ ،‬بل ينظر إليها باعتبارها نشأت بذاتها وصدفة‪.‬‬
‫أردت أن أجيب ه‪ ،‬فأكم ل دون أن يتلت ف إلي ق ائال‪ :‬وهك ذا تران ا نقيم مش اريع‬
‫عمالق ة للبحث عن مؤش رات لوج ود كائن ات حي ة في ك واكب أخ رى‪ ،‬وذل ك برص د‬
‫اإلشارات الالسلكية والميكروية القادم ة من أعم اق الك ون‪ ،‬أمال في أن تحم ل رس ائل‬
‫مشفرة تختلف عن النبضات والموجات الكونية العادية‪ ..‬وهذا يدل على أننا نعتق د فعال‬
‫بأن العوالم األخرى ال يجب أن تنسحب عليها مبادئنا العقلية‪.‬‬
‫قال ذلك‪ ،‬ثم انصرف عني‪ ،‬وقد بذر بذورا تشكيكية جديدة‪ ،‬ك ان له ا دوره ا في‬
‫سقي شجرة اإليمان في عقلي وقلبي‪.‬‬
‫***‬
‫التقيت بعدها عالما آخر‪ ،‬لست أدري من أي دين كان‪ ،‬وال على أي مذهب‪ ،‬ق ال‬
‫لي بكل هدوء‪ :‬اسمعني يا تلميذ [كلب دارون] الوفي هذه الكلمة التي قد ال تنفعك اليوم‪،‬‬
‫ولكن ال شك أنها ستنفعك غدا‪ ..‬إذا سلمنا جدال بأن الكون نشأ ص دفة نتيج ة سلس لة من‬
‫التفاعالت الطويلة دون تنظيم أو تخطيط سابق‪ ،‬فإن ه ذا ال ينفي وج ود خ الق للك ون‪،‬‬
‫ومكون له؛ ألن الصدفة ليست فاعلة‪ ،‬ولكنها صفة للفعل الصادر من الفاعل‪ ،‬والفعل ال‬
‫يوجد بدون فاعل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم أفهم‪ ..‬ما الذي تقصد؟‬
‫قال‪ :‬لو أن الكون نشأ نتيجة سلسلة من التفاعالت الطويلة دون تنظيم أو تخطي ط‬
‫موجد للكون هو الذي أنشأ المادة التي كونت الك ون‪ ..‬وه و‬ ‫ِ‬ ‫سابق‪ ،‬فإنه ال بد من وجود‬
‫ال ذي جع ل جزيئاته ا تتفاع ل‪ ..‬وه و ال ذي أعطاه ا القابلي ة للتفاع ل والتش كل‪ ..‬وه ذه‬
‫السلسلة من التف اعالت له ا ش روط معين ة للح دوث‪ ..‬ول ذلك تحت اج إلى من يه يئ له ا‬
‫الشروط المعينة لحدوثها‪ ..‬وتحتاج إلى من يحافظ عليها كي تعطي نتائجها‪ ..‬ولذلك فإنه‬
‫حتى لو سلمنا بالصدفة‪ ،‬فإنها ال تلغي حاجة الكون إلى مكون‪ ،‬والمخلوق إلى خالق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن لم ال يقال بالصدفة المحضة‪ ..‬وهي ال تحتاج لكل ما ذكرت؟‬
‫قال‪ :‬إن قول ذلك ممتلئ بالمحاالت العقلية‪ ..‬ذلك أنه يقتضي أن تكون خص ائص‬
‫مادة الكون هي التي أنشأته‪.‬‬

‫‪ )(1‬اإلسالم بين الشرق والغرب‪ ،‬علي عزت بيجوفيتش‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬لم ال نقول بذلك؟‪ ..‬وبذلك لن يحتاج الكون إلى قوة خارجية‪.‬‬
‫قال‪ :‬إن هذا يعني أن الكون أنشأ نفسه بنفسه‪ ..‬أي أنه علة لنفسه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما المانع من ذلك؟‬
‫قال‪ :‬إن ذلك يقتضي أن يكون الكون س ابقًا على نفس ه في الوج ود من حيث ه و‬
‫علة‪ ،‬ومتأخرًا على نفسه في الوجود من حيث ه و معل ول‪ ..‬فه ل يمكن لعقل ك أن يقب ل‬
‫كل هذا التناقض؟‬
‫***‬
‫لم أدر ما أجيبه‪ ..‬فقد كان لحجته من القوة ما لم أمل ك مع ه أي رد‪ ..‬لك ني ذهبت‬
‫إلى بعض كالب دارون األوفياء الذين لم يفعلوا سوى أن أضافوا قرودا جديدة لتتع اون‬
‫جميعا على كتابة المجموعة الكاملة ألعمال شكسبير‪.‬‬
‫التقيت بعدها بعض المخترعين ممن ك انت لهم الي د الط ولى في ص ناعة الكث ير‬
‫من األجه زة واألدوات‪ ،‬وس ألته عن دور الص دفة في اختراعات ه‪ ،‬فق ال لي‪ :‬من واق ع‬
‫خ برتي في تخصص ي‪ ..‬ف إن الص دفة وح دها أص غر من أن تفس ر ش يئا‪ ..‬ذل ك أن‬
‫االختراعات التي يذكر الناس أنها حص لت لي ص دفة‪ ..‬كنت أن ا ال ذي وف رت له ا ك ل‬
‫وسائل الظهور إلى أن ظهرت بالشكل الذي هو عليه‪ ..‬ولذلك ال أستطيع أن أعتبر تل ك‬
‫االختراعات نشأت صدفة‪ ..‬وإنما نشأت بسببي‪ ،‬وبسبب الظروف التي وفرتها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما تقول في نشأة الكون صدفة؟‬
‫ق ال‪ :‬من واق ع تجرب تي م ع اختراع اتي البس يطة‪ ،‬مقارن ة ب األجهزة المعق دة‬
‫الموجودة في الكون‪ ،‬فإن نشأة الكون صدفة مس تحيل‪ ..‬ذل ك أن تك وين ه ذا الك ون من‬
‫ذرات على النحو الذي ه و علي ه يس تلزم أن تك ون ه ذه ال ذرات ق د ص ممت وه يئت‪،‬‬
‫بحيث إنها إذا اجتمعت بطريقة معينة يتكون منها ش يء معين في الك ون‪ ..‬مثالً تتجم ع‬
‫الذرات بطريقة معينة تكون ما ًء‪ ..‬وبطريقة أخ رى تك ون أكس جين‪ ..‬وبطريق ة أخ رى‬
‫تكون نيتروجين‪ ..‬وبطريقة أخرى تك ون ذهبً ا‪ ،‬وهك ذا‪ ،‬فال ب د من وج ود مص مم له ا‬
‫ومهيئ لها قبل وجودها وقبل نشأة الكون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما تعني بذلك؟‬
‫ً‬
‫قال‪ :‬إن فروع العلم كافة تثبت أن هنالك نظا ًما معجزا يسود هذا الك ون‪ ،‬أساس ه‬
‫القوانين والسنن الكونية الثابتة التي ال تتغ ير وال تتب دل‪ ..‬فمن ال ذي س ن ه ذه الق وانين‬
‫وأودعها كل ذرة من ذرات الوجود‪ ،‬بل في كل ما هو دون ال ذرة عن د نش أتها األولى؟‬
‫ومن الذي خلق كل ذلك النظام والتوافق واالنسجام؟ من الذي صمم فأبدع وق َّدر فأحسن‬
‫التقدير؟ هل خلق كل ذل ك من غ ير خ الق أم هم الخ القون؟ إن النظ ام والق انون وذل ك‬
‫اإلبداع الذي نلمسه في الكون حيثما اتجهت أبص ارنا ي دل على أن هن اك عليم ا خب يرا‬
‫وراء كل ذلك(‪.)1‬‬
‫ً‬
‫قلت‪ :‬ولكن أصحابنا يذكرون أن نشأة الحياة ليست دليال على وجود خالق؛ ألنها‬

‫‪ )( 1‬من مقدمة مترجم كتاب‪ :‬هللا يتجلى في عصر العلم‪ ،‬الدكتور الدمرداش عبدالمجيد ص ‪.7‬‬

‫‪46‬‬
‫نشأت صدفة عبر سلسلة طويلة من التطورات الكيميائية ما قبل الحيوية استمر لماليين‬
‫الس نين ابت دا ًء من الكيميائي ات البس يطة‪ ،‬م رورًا بالجزيئ ات المتع ددة‪ ،‬والجزيئ ات‬
‫المتعددة الناسخة ذاتيًّا داخلة بدورات تحفيزي ة‪ ،‬وص واًل إلى كائن ات م ا قب ل بكتيري ة‪،‬‬
‫وأخيرًا وصواًل إلى بكتريا بسيطة‪.‬‬
‫قال‪ :‬كالمهم هذا ال يمكن أن يص ح في م وازين العق ول‪ ،‬ب ل ه و ينم عن جهلهم‬
‫بمفه وم الص دفة‪ ..‬فح تى ل و س لمنا ج دال أن الحي اة نش أت ص دفة نتيج ة سلس لة من‬
‫التفاعالت‪ ،‬فهذا ال ينفي وجود خالق للحي اة؛ ألن الص دفة ليس ت فاعل ة‪ ،‬ولكنه ا ص فة‬
‫للفعل الصادر من الفاعل‪ ،‬والفعل ال يوجد بدون فاعل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن نفرا من أصحابي وصفوا الكثير من المشاهد عن نشأة الحياة صدفة‪.‬‬
‫قال‪ :‬أعرفهم‪ ..‬إنهم تكلموا عن كيفية نشأة الحياة ـ بحسب أوهامهم ـ وليس لم اذا‬
‫نشأت الحياة‪ ..‬ومن الذي أنشأها؟‪ ..‬ومن ال ذي جعله ا تنش أ بتل ك الطريق ة؟‪ ..‬وع ذرهم‬
‫الوحي د ال ذي ق د نلتمس ه لهم ه و أن العلم يبحث عن الفع ل‪ ،‬وال يبحث عن الفاع ل‪..‬‬
‫ويبحث عن الحدث‪ ،‬وال يبحث عن المحدث‪.‬‬
‫وله ذا‪ ،‬فإن ه ل و ك انت الحي اة ق د نش أت ـ كم ا ي ذكرون ـ نتيج ة سلس لة من‬
‫موجد للمواد التي تتفاعل‪ ..‬وال بد من وجود من أعطى‬ ‫ِ‬ ‫التفاعالت‪ ،‬فإنه ال بد من وجود‬
‫هذه المواد القابلية للتفاعل‪ ..‬ووفر لها الشروط التي تحتاجها للتفاعل‪..‬‬
‫وهكذا ل و ك انت الحي اة ق د تط ورت من م ادة غ ير حي ة‪ ،‬فمن ال ذي ط ور ه ذه‬
‫المادة؟‪ ..‬إذ أي تطور ال بد له من مط ِّور‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هم يذكرون أن المادة هي التي طورت نفسها عبر ماليين السنين‪.‬‬
‫قال‪ :‬إن هذا يستلزم أن األدنى يتط ور بنفس ه إلى األعلى‪ ..‬والتط ور ال ذاتي إلى‬
‫األكمل دون تدبير حكيم عليم قدير خالق‪ ،‬أم ٌر مستحيل عقاًل ؛ إذ الناقص ال ينتج الكامل‬
‫في خط ٍة ثابتة‪ ،‬وهو بمثابة إنتاج العدم للوجود‪ ..‬باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬فإن ه يل زم من ه ذا‬
‫قب ول تح ول الن اقص إلى الكام ل بنفس ه‪ ،‬وه ذا نظ ير وج ود الش يء من الع دم الكلي‬
‫المحض(‪.)1‬‬
‫***‬
‫لم أدر ما أجيبه‪ ..‬لكني ذهبت إلى بعض أصدقائي‪ ،‬وح دثتهم بم ا حص ل لي م ع‬
‫الرجل‪ ،‬فلم يجيبوا عن إشكاالتي‪ ،‬وإنما علموني حيال جديدة‪ ،‬وكأن مشكلتي لم تكن في‬
‫عقلي الذي صار ال يستوعب الصدفة‪ ،‬أو يتقبلها‪ ،‬وإنما في االنتصار على أولئك ال ذين‬
‫يلقونني كل حين من الحجج ما ال أملك معه أي رد‪.‬‬
‫بعدها التقيت رجال آخر ال يقل عقال عن سابقيه‪ ،‬قال لي‪ ،‬وقد رأى ح يرتي‪ :‬خ ذ‬
‫مني هذه الحكمة‪ ..‬وتأمل فيها‪ ..‬فعساها تنفع ك‪ ..‬إن (احتم ال وق وع الح دث ال يس تلزم‬
‫وقوعه)‬
‫قلت‪ :‬ما تعني؟‬

‫‪ )(1‬كواشف زيوف للشيخ عبدالرحمن حبنكة الميداني ص ‪.331‬‬

‫‪47‬‬
‫قال‪ :‬لو كان عندك قطعة معدنية بها وجه صورة‪ ،‬ووجه كتابة عندما نلقيه ا على‬
‫األرض‪ ،‬فاحتمال وقوع وجه الصورة في كل مرة واحد من اثنين‪ ..‬أليس كذلك؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬هذا ما تقوله قوانين االحتماالت‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكن مع ذلك يمكن أن تلقي القطعة المعدنية عشر مرات‪ ،‬وال تحصل على‬
‫وجه الصورة‪ ..‬بل يمكن أن تلقيها عشرين مرة وال تحصل على وجه الصورة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ذلك صحيح‪..‬‬
‫قال‪ :‬فلذلك ال تستسلم لمغالطاتهم في الحس اب‪ ،‬وفي تكث ير الق ردة‪ ،‬وفي تطوي ل‬
‫الزمان‪ ..‬فاالحتمالية الرياضية ال تعني قبول الحدث للخ روج إلى ح يز الواق ع دون أن‬
‫تتوافر له المقدمات التي تنسجم مع القوانين الموجدة له(‪.)1‬‬
‫قلت‪ :‬هال ضربت لي مثاال يوضح لي ذلك‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬إن ق ال ل ك ط الب ال يراج ع دروس ه‪ :‬إن احتم ال نج احي ه و بنس بة ‪50‬‬
‫بالمائ ة‪ ،‬ألس ت تق ول ل ه‪ :‬إن النج اح ل ه أس بابه‪ ..‬وليس مع نى احتمالي ة نجاح ك في‬
‫االمتحان إمكان أن تنجح دون مراجعة؛ فمن جد وجد‪ ،‬ومن زرع حصد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬صدقت في ذلك‪ ..‬ولكن من أساتذتي من لقنني أن أقول لك‪ ..‬إذا ك ان هن اك‬
‫احتم ال ‪ -‬ول و ض ئيالً ‪ -‬في أن تنش أ الحي اة من الم ادة ص دفة بال خ الق ع بر ماليين‬
‫السنين‪ ،‬فمن الممكن أن تنشأ الحياة من المادة صدفة عبر تلك المدة الطويلة‪ ..‬وفي ظ ل‬
‫وجود الكثير من الوقت فإن المس تحيل يص بح ممكنً ا‪ ..‬والممكن يص بح من المحتم ل‪..‬‬
‫والمحتم ل ق د يص بح مؤك دًا‪ ..‬وم ا على الم رء إال االنتظ ار‪ ،‬وال وقت نفس ه ينف ذ‬
‫المعجزات‪.‬‬
‫ابتسم‪ ،‬وقال‪ :‬إن هذا القول يس تلزم أن الم ادة ال تي ال حي اة فيه ا يمكن أن تعطي‬
‫الحياة لغيرها‪ ،‬وهذا باطل مستحيل؛ ألن فاق د الش يء ال يعطي ه‪ ..‬فال يعطي الش يء إال‬
‫من يملِكه ويملك أسبابه‪ ..‬وبما أن المادة تفتقد الحياة‪ ،‬فكيف تهب الحياة لغيرها؟‪ ..‬وبم ا‬
‫أن الحياة شيء غير مادي‪ ،‬فكيف تكون ناتجة من شيء مادي؟‬
‫أال ترى أن كالم هؤالء يستلزم قبول تحول الناقص إلى الكام ل بنفس ه‪ ،‬وه ذا ال‬
‫يختلف عن دعوى وجود الشيء من العدم الكلي المحض(‪.)2‬‬
‫قلت‪ :‬ولكنك نسيت عنصر الزمن‪ ..‬فله دوره الكبير في تحقيق المعجزات‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬ال وقت عام ل ه دم ال عام ل بن اء‪ ..‬فالكائن ات من إنس ان وحي وان ونب ات‬
‫وأسماك وطيور وحشرات كلها ته َر ُم وتم وت بم رور ال وقت‪ ..‬والجم ادات من بي وت‬
‫وقصور تف ُس ُد وتبلى بمرور الوقت‪ ..‬وإذا ت ركت طعا ًم ا أو لح ًم ا تج ده يفس د بع د م دة‬
‫معينة‪ ..‬حتى النجوم فإنها بمرور الوقت تفقد وقودها‪ ‬من‪ ‬غاز الهيدروجين الذي يزودها‬
‫ف إلى ذلك كله فإن الشيء الممكن قد يصير مستحيالً بمرور الوقت‪.‬‬ ‫أض ْ‬
‫بالطاقة‪ِ ..‬‬
‫لم أجد ما أرد عليه‪ ،‬فقد نفذ كل ما لقنني إياه أصدقائي من أسلحة المواجهة‪ ،‬ولما‬

‫‪ )(1‬خرافة اإللحاد للدكتور عمر شريف ص ‪.337‬‬


‫‪ )(2‬كواشف زيوف للشيخ عبدالرحمن حبنكة الميداني ص ‪.446‬‬

‫‪48‬‬
‫رأى صمتي‪ ،‬قال‪ :‬أضف إلى ما ذكرت لك هذه القاعدة الذهبي ة ال تي تمس ح عن عقل ك‬
‫كل فيروسات الصدفة‪ ..‬إن [تكرار الحدث يقلل من احتمالية الصدفة]‬
‫قلت‪ :‬ما تعني بذلك؟‬
‫قال‪ :‬أنت ترى الب احثين عن دما ي رون حادث ة تتك رر بنفس النم ط‪ ،‬ف إن أول م ا‬
‫يستبعدونه هو الصدفة‪ ،‬ولهذا يبحثون عن األسباب الحقيقية للحادثة‪ ..‬فالصدفة‪ ‬ال تکون‬
‫أکثرية أو دائمية في الحدوث‪ ،‬بل عشوائية‪ ،‬ال قصد فيه ا وال ت رتيب‪ ،‬وال يمكن التنب ؤ‬
‫بها قبل حدوثها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهال ضربت لي مثاال على ذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬لو أنك وجدت حادثة من الحوادث تتك رر من حين آلخ ر في نفس المك ان‪،‬‬
‫وبنفس النمط‪ ،‬ال شك أنك ستستبعد الصدفة‪ ،‬وتبحث عن سبب وراء ذلك‪ ،‬وهذا الس بب‬
‫ربما يكون خلالً ما في هذا المكان‪ ،‬أو شخصًا معينًا يتسبب في ذلك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ذلك صحيح‪.‬‬
‫قال‪ :‬ومثل ذلك ما ل و رس ب طالب مدرس ة معين ة في امتح ان معين دون ب اقي‬
‫المدارس‪ ،‬ال شك أنك ستستبعد الصدفة‪ ،‬وتبحث عن سبب وراء ذلك‪ ،‬ربما يك ون خلالً‬
‫في المنظومة التعليمية‪ ،‬أو إهمال أُ َس ِر الطالب ألبنائهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ذلك صحيح‪ ..‬وكل الدراسات الميداني ة تنطل ق من ه ذا لتص ل إلى النت ائج‬
‫العلمية التي تعالج المشكلة‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهكذا لو أن شخصا كان يسكن في شقة وحيدًا‪ ،‬يذهب لعمله صباحًا وي أتي‬
‫ليالً‪ ،‬لكنه عندما عاد في م رة من الم رات وج د ناف ذة حج رة الن وم مفتوح ة‪ ،‬رغم أن ه‬
‫يغلق جميع نوافذ الشقة قب ل خروج ه منه ا‪ ،‬فإن ه يش ك في الب دء بكون ه نس ي‪ ،‬لكن إن‬
‫تكرر هذا األمر‪ ،‬فال شك أنه سيس تبعد الص دفة‪ ،‬ويبحث عن س بب وراء ذل ك‪ ،‬ويفك ر‬
‫في أن شخصًا ما يتسلل إلى شقته‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ذل ك ص حيح‪ ..‬وربم ا أك ون أن ا ذل ك الش خص‪ ،‬فق د حص ل لي بعض م ا‬
‫ذكرت‪.‬‬
‫عندما قلت ل ه ه ذا‪ ،‬ق رأ لي من الق رآن الك ريم قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬وفِي أَ ْنفُ ِس ُك ْم أَفَاَل‬
‫ْصرُونَ ﴾ [الذاريات‪ ،]21 :‬ثم انصرف عني‪ ،‬وتركني ألفك اري ال تي ص ارت أق رب‬ ‫تُب ِ‬
‫ما تكون إلى تلمس الحقيقة المجردة من أي وقت مضى‪.‬‬
‫***‬
‫لكني عندما ذهبت إلى أص دقائي وأس اتذتي من المالح دة راح وا يقول ون لي‪ :‬ال‬
‫تلتفت لكالم أولئ ك الخراف يين‪ ..‬فم ادة الك ون ك انت موج ودة‪ ،‬ثم انفج رت وتباع دت‬
‫أجزاؤها وتناثرت‪ ،‬وفي اللحظات األولى من االنفجار الهائ ل ارتفعت درج ة الح رارة‬
‫إلى عدة تريليونات‪ ،‬حيث كونت فيها أجزاء الذرات‪ ،‬ومن هذه األجزاء كونت الذرات‪،‬‬
‫وهي ذرات الهيدروجين والهليوم‪ ،‬ومن هذه الذرات تألَّف الغب ار الك وني ال ذي نش أت‬
‫منه المجرات فيما بع د‪ ،‬ثم تك ونت النج وم والك واكب‪ ،‬وم ا زالت تتك ون ح تى وص ل‬
‫تدخل قوى عاقلة مريدة‪.‬‬ ‫الكون إلى ما نراه عليه اليوم‪ ،‬وكل هذا صدفة دون ُّ‬

‫‪49‬‬
‫وبعد أن غ ادرتهم‪ ،‬رحت إلى بعض أص دقائي من الفيزي ائيين‪ ،‬وط رحت علي ه‬
‫المشكلة‪ ،‬فقال لي‪ :‬إن ما ذكروه من الصدفة المجردة يتنافى م ع أول ق انون من ق وانين‬
‫الفيزياء‪ ،‬وهو أن الجسم الس اكن يبقى س اكنًا م ا لم ت ؤثر علي ه ق وة خارجي ة فتحرك ه‪،‬‬
‫والجسم المتحرك بسرعة ثابتة في خط مستقيم يبقى على ه ذه الحال ة م ا لم ت ؤثر علي ه‬
‫قوة خارجية فتغ ير الحال ة الحركي ة ل ه‪ ..‬وبم ا أن م ادة الك ون األولى ك انت س اكنة ثم‬
‫انفجرت‪ ،‬فال بد من وجود قوة خارجية أدت إلى ذلك؛ فكل حدث ال بد له من مح ِدث‪.‬‬
‫قلت‪ :‬صدقت‪ ..‬كيف غاب عنهم هذا؟‬
‫ق ال‪ :‬ليس ذل ك فق ط م ا غ اب عنهم‪ ..‬لق د غ اب عنهم أيض ا أن أي انفج ار‬
‫يتبعه‪ ‬تناثر ألشالء عدي دة وجس يمات ص غيرة‪ ،‬فكي ف يتب ع االنفج ار تج ُّمع للجزئي ات‬
‫والجسيمات‪ ،‬وتكوين أرض وجبال وكواكب ونجوم ومج رات وغ ير ذل ك دون وج ود‬
‫قوة خارجية حكيمة عالمة أدت لذلك‪ ..‬فتناسق الكون وانتظامه يشهد بذلك‪ ،‬وك ل ش يء‬
‫في الكون يوجد في المكان المناسب له‪ ،‬وجمال الطبيعة دليل على حكم ة وعلم وإب داع‬
‫خالقها‪ ،‬والعشوائية ال تنتج نظا ًما‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬كالمك صحيح‪ ..‬فكيف غاب عنهم كل هذا؟‬
‫ق ال‪ :‬ليس ذل ك فق ط م ا غ اب عنهم‪ ..‬لق د غ اب عنهم أيض ا أن أي انفج ار‬
‫يتبعه‪ ‬دمار‪ ،‬فكيف يتبع االنفجار الك وني العظيم عم ار‪ ،‬وتك وين أرض وجب ال وبح ار‬
‫ومحيطات وأنهار وكواكب وأقمار ونجوم ومجرات دون وجود قوة عالمة حكيمة‪..‬‬
‫عندما أردت االنصراف من عنده‪ ،‬قال لي‪ :‬هل سألت نفسك عن السر في توقف‬
‫الصدفة التي أنشأت هذا الكون عن العمل؟‬
‫قلت‪ :‬ما تقصد؟‬
‫قال(‪ :)1‬إذا كان وجود هذا الكون عن طريقة الصدفة‪ ،‬أليس من الممكن‪ ،‬والحال‬
‫هكذا‪ ،‬أن توجد صدفة أخرى تقضي على هذا الكون؟‪..‬وعلى التسليم الجدلي بأن تكوين‬
‫كوكب من الكواكب كان صدفة‪ ،‬فكيف تفسر الصدفة تكوين الك واكب األخ رى؟‪ ..‬ول و‬
‫كان تكوين أحد األقمار صدفة‪ ..‬فكيف تفس ر الص دفة تك وين األقم ار األخ رى؟‪ ..‬ف إذا‬
‫سلمنا جدالً أن الصدفة أح دثت كوكبً ا‪ ،‬أفال يمكنه ا أن تك رر إح داث ك وكب آخ ر ك ل‬
‫مرة؟‬
‫***‬
‫بعد أن تركته سرت في طريقي‪ ،‬وقد قررت حينها قرارا جازما أن أتخذ أصدقاء‬
‫جددا‪ ،‬يمل ؤون قل بي بالحق ائق ب دل الخراف ات‪ ..‬ويص دقونني‪ ،‬وال يك ذبون علي‪ ..‬وم ا‬
‫أسرع ما لبى هللا أمنيتي‪.‬‬
‫ففي مسيرتي تلك إلى بيتي‪ ،‬وج دت نف را من أت رابي يتح دثون‪ ،‬ف اقتربت منهم‪،‬‬
‫وكانوا في قمة األدب واألخالق‪..‬‬
‫قال أحدهم‪ :‬لقد أجريت بعض الحسابات التي طلبتموها م ني‪ ..‬وه ا أن ذا أذكره ا‬

‫‪ )( 1‬المذاهب الفكرية المعاصرة ودورها في المجتمعات للدكتور غالب عواجي ‪.1175 - 2/1174‬‬

‫‪50‬‬
‫لكم‪ ..‬لقد ذك رتم لي أن ه ل و أن ه زة أرض ية قلبت ص ناديق الح روف في مطبع ة‪ ،‬به ا‬
‫نصف مليون حرف‪ ،‬فخلطتها ببعضها‪ ،‬فأخبرنا صاحب المطبعة أنه تكون من اختالط‬
‫الحروف ص دفة عش ر كلم ات متفرق ة؛ وق د وج دت بحس اب االحتم االت أن المس ألة‬
‫تحتمل التصديق‪ ،‬وتحتمل النفي‪.‬‬
‫لكنه لو أخبرنا ب أن الكلم ات العش ر ك ونت جمل ة مفي دة‪ ،‬الزدادت درج ة النفي‬
‫واالستبعاد‪ ،‬لكننا قد ال نجزم باالستحالة‪.‬‬
‫لكنه لو أخبرنا بأن الحروف المبعثرة كونت كتابًا من مائة ص فحة‪ ،‬وب ه قص يدة‬
‫كاملة منسجمة بألفاظها‪ ،‬وأوزانها‪ ،‬فاالستحالة في هذه الحالة بحكم البديهية‪.‬‬
‫قال آخر‪ :‬بورك في ك‪ ..‬ه ذه حج ة قوي ة لل رد على أولئ ك السفس طائيين الق ائلين‬
‫بالصدفة‪ ..‬فالكون وأجزاؤه‪ ،‬وما فيها من إتق ان وإحك ام وعناي ة أعق د بكث ير من مث ال‬
‫حروف المطبعة؛ ألن الحروف هنا ج اهزة معب أة في ص ناديقها‪ ..‬والص دفة في مج ال‬
‫الكون مستحيلة في ذاتها‪ ،‬فضاًل عن أن ينبثق عنه ا ه ذا اإلحك ام والنظ ام‪ ،‬ول و س لمنا‬
‫ج داًل بص دفة واح دة في البداي ة‪ ،‬فه ل يقب ل عقلن ا بسلس لة طويل ة متتابع ة من‬
‫المصادفات(‪)1‬؟‬
‫قال آخر‪ :‬وهكذا لو قال شخص‪ :‬وجدت قصرًا شديد الجم ال‪ ،‬مكونً ا من خمس ة‬
‫طوابق‪ ،‬فيه ثالثون غرفة‪ ،‬كل غرفة مفروشة بأجمل أنواع الفرش‪ ،‬ومزخرف ة بأجم ل‬
‫ان‪ ،‬وال مص مم‪ ،‬وإنم ا تك َّون ص دفة ع بر‬ ‫أن واع الزخ ارف‪ ،‬وه ذا القص ر ليس ل ه ب ٍ‬
‫عشرات السنين‪ ،‬أترى أحدًا يص دق ه ذا الكالم؟‪ ..‬وإذا لم يص دق أح د أن ه ذا القص ر‬
‫تكون صدفة‪ ،‬وهو جماد ال حي اة في ه‪ ،‬وال وعي وال إدراك وال مش اعر وال أحاس يس‪،‬‬
‫فكيف يصدق أح ٌد أن هذا الكون تكون صدفة دون قوة عالمة حكيمة رغم ما في الك ون‬
‫من جمال وإبداع؟‬
‫قال آخر‪ :‬يقال لكل قائل بالصدفة‪ :‬ما تقول في دوالب دائر على نهر‪ ،‬قد أحكمت‬
‫آالته‪ ،‬وأحكم تركيبه‪ ،‬وقدرت أدواته أحس ن تق دير وأبلغ ه‪ ،‬بحيث ال ي رى الن اظر في ه‬
‫خلاًل في مادته وال في صورته‪ ،‬وقد جعل على حديقة عظيمة فيها من كل أنواع الثم ار‬
‫والزروع يسقيها حاجتها‪ ،‬وفي تلك الحديقة من يلم شعثها‪ ،‬ويحس ن مراعاته ا وتعه دها‬
‫والقيام بجميع مصالحها‪ ،‬فال يختل منها شيء‪ ،‬وال يتلف ثماره ا‪ ،‬ثم يقس م قيمته ا عن د‬
‫الجذاذ على سائر المخارج بحسب حاجاتهم وضروراتهم‪ ،‬فيقس م لك ل ص نف منهم م ا‬
‫يليق به‪ ،‬ويقسمه هكذا على الدوام‪ ،‬أترى هذا اتفاقًا بال صانع وال مختار وال مدبر‪ ،‬ب ل‬
‫اتفق وجود ذلك الدوالب والحديقة وكل ذلك اتفاقًا من غير فاعل وال م دبر؟ أف ترى م ا‬
‫يقول لك عقلك في ذلك لو كان؟ وما الذي يفتيك به؟ وما الذي يرشدك إليه(‪)2‬؟‬
‫قال آخر‪ :‬وهكذا لو قال شخص‪ :‬وجدت كتابًا مح َك ًما في علم من العل وم‪ ،‬يتك ون‬
‫من مجلدين‪ ،‬والمجلد يتكون من جزأين‪ ،‬وكل ج زء مك ون من ثالثمائ ة ص فحة‪ ،‬وك ل‬

‫‪ )(1‬عقيدة التوحيد للدكتور محمد ملكاوي ص ‪.150 - 149‬‬


‫‪ )(2‬مفتاح دار السعادة البن القيم ‪.1/214‬‬

‫‪51‬‬
‫صفحة بها عشرون سط ًرا‪ ،‬وكل سطر به عشرون كلمة‪ ،‬وهذا الكتاب ليس ل ه مؤل ف‪،‬‬
‫وال كاتب‪ ،‬وإنم ا ت ألف وكتب ص دفة ع بر عش رات الس نين‪ ،‬أت رى أح دًا يص دق ه ذا‬
‫الكالم؟!‪ ..‬وإذا لم يصدق أحد أن هذا الكتاب ُكتب وأُلِّف صدفة‪ ،‬وهو جماد ال حياة فيه‪،‬‬
‫وال وعي وال إدراك وال مشاعر وال أحاسيس‪ ،‬فكيف يصدق أحد أن ه ذا الك ون تك َّون‬
‫ص دفة بم ا في ه من آالف الحيوان ات‪ ،‬وآالف الطي ور‪ ،‬وآالف الزواح ف‪ ،‬وآالف‬
‫النبات ات‪ ،‬ويمكن أن تكتب عش رات المجل دات في إحك ام ونظ ام ك ل ن وع من ه ذه‬
‫الكائنات؟‬
‫***‬
‫ما أنهى صاحبنا حديثه حتى انتش رت أن وار لطيف ة على تل ك الروض ة الجميل ة‬
‫ال تي اجتمعت فيه ا ك ل تل ك العق ول الكب يرة‪ ،‬وق د س رى أريج تل ك العط ور إلى ك ل‬
‫لطائفي‪ ،‬فحلت به الكثير من العقد التي كنت أحاول كل جهدي فهمها‪ ،‬فال أفهمها‪.‬‬
‫وحينذاك عرفت أنه ـ كم ا أن هللا ص احب العق ول ال تي نفك ر به ا ـ فه و ك ذلك‬
‫صاحب تدبيرها‪ ..‬فمن لم يحل عقله بين وبين ربه‪ ..‬ومن جعله عقل ه يتق رب من رب ه‪..‬‬
‫فإن هللا بفضله الكريم‪ ،‬يزيده عقال على عقل‪ ،‬ووعيا على وعي‪ ،‬وفهما على فهم‪ ..‬ومن‬
‫حجبه عقله القاصر عن ربه‪ ،‬حجب عن عقله‪ ،‬وصار أبعد الناس عنه‪ ..‬بل صار أغبى‬
‫األغبياء‪ ،‬وأكثر الغافلين غفلة‪ ،‬وإن توهم نفسه أذكى الناس‪ ،‬وأكثرهم إعماال لعقله‪..‬‬
‫وكي ف يك ون ص احب عق ل من يك ل عقل ه عن فهم ك ل تل ك الض رورات‬
‫والبديهيات والمسلمات التي اتفقت عليها كل العقول السليمة؟‬
‫وكيف يكون ص احب عق ل من راح يجح د الحقيق ة العظمى ال تي ش هد له ا ك ل‬
‫شيء‪ ،‬ودل عليها كل شيء‪ ،‬ونطق بالتنزيه لها والثناء عليها لسان كل شيء؟‬

‫‪52‬‬
‫المعاني الرقيقة‬
‫ما شعرت بتلك المشاعر اإليمانية العميقة التي س رت من عقلي إلى قل بي‪ ،‬ح تى‬
‫رأيت شابا قادما على أريكته العجيبة من روضة أخرى من الري اض المج اورة‪ ،‬ثم م ا‬
‫لبث حتى اقترب مجلسه من مجلسي‪ ،‬ثم نظ ر إلي‪ ،‬وق ال‪ :‬لق د أرس ل لن ا معلم اإليم ان‬
‫رسالة يدعونا فيها الستقبالك في روضتنا‪ ..‬فهلم بنا إليها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ش كرا ل ه ولكم‪ ..‬ولكن كالم ا كث يرا ال أزال أحب س ماعه من أه ل ه ذا‬
‫المجلس‪ ،‬فدعني ريثم ا أنتهي من ه‪ ،‬وسأحض ر بنفس ي‪ ..‬أو اجلس معن ا لتس معه‪ ،‬فإن ك‬
‫ستسمع كالما لن تسمع مثله في حياتك‪.‬‬
‫ابتسم‪ ،‬وقال‪ :‬لن تخرج من هنا لو ظللت في ه ذه الروض ة‪ ،‬أو في أي روض ة‪..‬‬
‫فكل حديث عن هللا جميل‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فهل في روضتكم أحاديث مثل هذه األحاديث؟‬
‫قال‪ :‬لو كانت أحاديثنا مثل هذه األحاديث لكنا هن ا‪ ،‬ولم نكن هن اك‪ ..‬ألس ت تق رأ‬
‫ت﴾ [التكوير‪]7 :‬‬ ‫قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا النُّفُوسُ ُز ِّو َج ْ‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬وأفهم منها أن هللا تعالى بكرمه يضع كل المتشاكلين في محل واح د‪،‬‬
‫لينسجم بعضهم مع بعض‪ ،‬ويكمل بعضهم بعضا‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولهذا وضع أص حاب ال براهين القاطع ة في ه ذه الروض ة‪ ..‬أم ا روض تنا‬
‫فمختلفة تماما عنها‪ ..‬إنها روضة المعاني الرقيقة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‪ ..‬أليست كل البراهين كلها تعود إلى العقول؟‬
‫قال‪ :‬بلى‪ ..‬ولكن براهينهم تنطل ق من الك ون لتص ل إلى المك ون‪ ..‬أم ا براهينن ا‬
‫فتنطل ق من المك ون لتص ل إلى الك ون‪ ..‬ول ذلك ك انت معانيه ا رقيق ة ودقيق ة‪ ،‬فال‬
‫يستوعبها إال أصحاب النفوس الطاهرة‪ ،‬والقلوب الخاشعة‪ ،‬واألرواح السامية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم أفهم‪ ..‬أو لم أعقل‪ ..‬هل يمكن أن توجد براهين بهذا النوع؟‪ ..‬وهل هن اك‬
‫من العقول من يسلم لها؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬وقد وجد ذلك في كل فن من الفنون‪ ..‬ألس ت ت رى ماليين طلب ة العلم‬
‫في الدنيا‪ ،‬لكن ال ينبغ منهم إال العدد المحدود؟‬
‫قلت‪ :‬ذلك صحيح‪..‬‬
‫قال‪ :‬فما دامت عقولهم واحدة‪ ..‬فكيف اختلف النبوغ فيهم؟‬
‫قلت‪ :‬هناك أسباب كثيرة‪ ..‬فبعضهم يفكر تفكيرا غليظا كثيفا مح دودا‪ ..‬وبعض هم‬
‫يفكر تفكيرا رقيقا عميقا واسعا‪ ..‬وهم الثل ة القليل ة من أص حاب العق ول ال ذين نس ميهم‬
‫عباقرة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهكذا األمر مع الحقائق اإليمانية‪ ..‬فهناك من يحتاج إلى األدلة الكثيفة ال تي‬
‫تحاول أن تزيل الغشاوة عن عينيه‪ ،‬وق د تفلح وال تفلح‪ ..‬وهن اك من يك ون مبص را‪ ،‬ال‬
‫غشاوة على عينيه‪ ،‬ولذلك ال يحتاج إلى أي أدلة‪ ،‬ألنه مبصر بالفطرة أو االكتساب‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫قلت‪ :‬لق د ذكرت ني بق درات بعض العق ول في الحس اب‪ ..‬حيث أن ه تلقى إلي ه‬
‫المسائل العويصة الصعبة‪ ،‬فيحلها في طرفة عين‪ ،‬وكأنه يراها بأم عيني ه‪ ..‬وهن اك من‬
‫يبذل جهدا كبيرا في حلها‪ ،‬ويستعمل كل ألوان األقالم‪ ،‬ومع ذل ك ق د يخطئ في حله ا‪..‬‬
‫لكن كيف يخاطب هؤالء غيرهم؟‪ ..‬وكيف يثبت هؤالء لغيرهم ما ثبت لهم؟‬
‫قال‪ :‬لك ل ق وم لغتهم الخاص ة بهم‪ ..‬ول ذلك ت رى من لم ينج ذب عقل ه لل براهين‬
‫القاطعة‪ ،‬لكنه ما إن يسمع المعاني الرقيقة حتى يذوب فيها‪ ..‬وينتقل مباشرة من اإللحاد‬
‫إلى اإليمان‪ ..‬ومن الغفلة إلى اليقين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أتعني أن األدلة العقلية ليست وحدها براهين المعرفة اإللهية؟‬
‫قال‪ :‬وهل عرف سحرة موسى عليه السالم ربهم وس جدوا ل ه وض حوا بأنفس هم‬
‫في سبيله نتيجة لخطابات عقلية من موسى عليه السالم؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬بل رأوا حججه الواضحة‪ ،‬وأدلته القاطعة التي تحدثت بها العصا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقد كانت اآليات الباهرة هي دليلهم إلى هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ذلك صحيح‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهكذا ﴿لِ ُك ِّل قَوْ ٍم هَا ٍد﴾ [الرعد‪ ..]7 :‬ولكل أمة رسول‪ ..‬ولكل عقل حجة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما حجة قومك؟‬
‫قال‪ :‬تعال معي‪ ،‬واسمع األمر من أهله‪ ..‬فخير من حدث عن المرء لسانه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وأصحابي هؤالء‪ ..‬أأتركهم من غير وداع؟‬
‫قال‪ :‬أنت تراهم يتحدثون‪ ،‬وكأنهم ال يعلمون بحديثك معي‪.‬‬
‫التفت إليهم‪ ،‬فوجدتهم منشغلين ع ني‪ ،‬ويتح دثون ويض حك بعض هم م ع بعض‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وكأني لست معهم‪ ..‬وكأنه لم تكن بيننا أي أحاديث‪..‬‬
‫قلت‪ :‬كيف هذا؟‪ ..‬ولم هذا؟‬
‫ق ال‪ :‬أنت مكل ف بمهم ة مح دودة ومؤقت ة‪ ..‬ول ذلك لن تس مع إال م ا يت اح ل ك‬
‫سماعه‪ ..‬ولن ترى إال ما يؤذن لك في رؤيته‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أتعني أن هناك أشياء كثيرة تراها أنت‪ ،‬وال أراها أنا؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬بل إن رؤيتنا نفسها تختلف‪ ،‬وتذوقنا لألشياء يختلف‪ ..‬ف أنت ال ت زال‬
‫تحمل مدارك أهل الدنيا المحدودة‪ ..‬وأنا وكل من حولي لنا مدارك أخرى تتيح لنا م ا ال‬
‫تتيح لك‪.‬‬
‫سرنا بين روضات كث يرة مملتئ ة بالجم ال إلى أن وص لنا إلى روض ة المع اني‬
‫الرقيقة‪ ،‬وقد دهشت لألنوار الجميلة التي تحيط بها‪ ..‬ودهشت لكل تلك الروائح العط رة‬
‫التي تصل مباشرة إلى القلب‪ ،‬فتجعل ه يخف ق بك ل مع اني العش ق والهيم ان‪ ..‬ودهش ت‬
‫لأللوان البديعة للورود والزهور التي لم أر في حياتي مثل جمالها ودقة صنعها‪.‬‬
‫ولكن ك ل تل ك الدهش ة ال تي أص ابتني لم تكن تع دل ج زءا بس يطا من دهش تي‬
‫ألولئك الطيبين الذين اجتمعوا يتحدثون عن سر وجودهم في تلك الروض ة‪ ..‬فق د ك انوا‬
‫في منتهى الكمال والجمال‪ ،‬وقمة األدب واللطف‪ ،‬وغاية العقل والحكمة‪.‬‬
‫برهان الفطرة‪:‬‬

‫‪54‬‬
‫بع د أن اس تقر بي المجلس‪ ،‬وزال ع ني بعض آث ار تل ك الدهش ة واالنبه ار‪،‬‬
‫وسلمت على الجمع المنور بنور اإليمان‪ ،‬وس لموا علي‪ ،‬ق ال أح دهم مخاطب ا رس ولهم‬
‫ال ذي ج اء بي إلى ذل ك المجلس‪ :‬فلتب دأ أنت ي ا ص احب الفط رة الط اهرة لتح دثنا عن‬
‫أسرار إيمانك‪ ،‬وكي ف أنق ذك هللا من ب راثن الملح دين‪ ،‬وزج ب ك في رح اب روض ات‬
‫المؤمنين‪.‬‬
‫قال‪ :‬إن في قصتي لعبرة‪ ،‬وهي تدل على فضل هللا العظيم علي بالهداي ة‪ ،‬فل واله‬
‫لكنت اآلن في فنادق المالحدة‪ ،‬أو في غياهب سجونهم‪.‬‬
‫ففي بداي ة أم ري كنت أعيش في زمن الحكم العس كري المش دد للح زب‬
‫الشيوعي‪ ..‬وكنت حينها رفيقا من الرفاق الذين تشبعوا بكل ما تعلموه في الم دارس من‬
‫أنواع اإللحاد والمادية إلى أن أصبحت بينهم في درج ة المبلغين وال دعاة ال ذين يمكنهم‬
‫أن يحطموا أي جدار من جدر اإليمان‪ ،‬وأي حصن من حصونه‪.‬‬
‫وقد أرسلوني بتلك األفكار التي سقوني بها م ع الم اء والحليب إلى بل دة من بالد‬
‫المس لمين‪ ،‬ك انت ال ت زال مص رة على الحف اظ على دينه ا‪ ..‬وأعط وني الكث ير من‬
‫الصالحيات التي تخول لي أن أحول من جحيم حياتهم نعيما إن هم أطاعوني‪ ،‬وتحولوا‬
‫عن اإليمان إلى المذاهب المادية اإللحادية التي كانت تنتشر في ذلك الحين‪.‬‬
‫عندما ذهبت كنت موقنا تماما أنه لن تم ر إال أي ام قليل ة ح تى تتح ول البل دة عن‬
‫معتقداتها إلى معتقداتي‪ ..‬لكني لم أدرك أبدا أن ص بية البل دة وعوامه ا البس طاء يمكنهم‬
‫أن يحولوا عقال كعقلي درس كل فنون اإللحاد‪ ،‬وتدرب على كل أنواع المحاجة‪.‬‬
‫***‬
‫في بداية نزولي بينهم‪ ،‬لم أشأ ـ كما تدربت على ذلك ـ أن أبادرهم بما عن دي من‬
‫معتقدات‪ ،‬بل رحت أحاول السماع منهم‪ ،‬ألعرف الثغرات التي أدخل إليهم من خاللها‪.‬‬
‫وقد كنت تعلمت من فنون الديالكتيك‪ ،‬واستفدت من نظرية التطور‪ ،‬والكث ير من‬
‫العلوم الحديثة ما تصورت أنها أسلحة يمكنني أن أواجه به ا أي حج ة من الحجج ال تي‬
‫ي دلون به ا‪ ..‬لك ني لم أج د م بررا الس تعمال أي معرف ة من مع ارفي‪ ،‬أو حج ة من‬
‫حججي‪ ..‬فقد كان إيمانهم باهلل يستند لركن أوثق من ك ل األرك ان‪ ،‬وس ند أعلى من ك ل‬
‫األسانيد‪ ..‬وهو الفطرة والجبلة الطاهرة التي كان كيانهم قد امتأل بها‪ ،‬فلم يتلطخ بأوزار‬
‫المادي ة‪ ،‬ولم يت دنس ب دنس الكبري اء والغ رور والعجب ال ذي أص اب أص حاب الفك ر‬
‫المادي‪.‬‬
‫فذلك السند العالي يصل بفطرتهم نفسها إلى هللا مباش رة من دون أي وس ائط من‬
‫األدلة والبراهين‪ ،‬وكأنهم تذكروا بمجرد مجيئهم للدنيا قوله تعالى مخاطب ا اإلنس ان في‬
‫ْت بِ َربِّ ُك ْم قَالُوا بَلَى َش ِه ْدنَا أَ ْن تَقُولُوا يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة إِنَّا ُكنَّا ع َْن هَ َذا َغ افِلِينَ ﴾‬
‫عالم الذر‪ ﴿ :‬أَلَس ُ‬
‫[األعراف‪]172 :‬‬
‫أذكر أني في بداية دخولي للمدينة زرت مدرس ة من مدارس ها‪ ،‬وق د ك انت تلقن‬
‫اإللحاد كما تلقن الرياضيات والعلوم‪ ..‬لكني مع ذل ك اص طدمت بتالمي ذها‪ ،‬فق د س ألت‬
‫أحدهم عن هللا‪ ،‬وعن األدلة عليه‪ ،‬فقال لي مبتسما‪ :‬لست محتاجا إلى ذلك‪..‬‬

‫‪55‬‬
‫قلت‪ :‬أتراك ال تؤمن باهلل؟‬
‫قال‪ :‬وكيف ال أؤمن به‪ ..‬وأعماقي كلها تشعر به‪ ..‬ووجداني كله يسبح بحمده‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما دليلك عليه؟‬
‫قال‪ :‬لقد ذكرت لك أن أعماقي ووجداني هي دليلي عليه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم أفهم‪.‬‬
‫أن غرائز اإلنسان ذاتي ة ل ه ال يمكن فص لها عن ه‪ ،‬وال تحت اج إلى‬ ‫قال‪ :‬أال ترى ّ‬
‫أن عواطف اإلنسان وأحاسيس ه ج زء من‬ ‫من يدله عليها‪ ،‬أو يعلمه علومها ؟‪ ..‬أال ترى ّ‬
‫خلقته وكيانه‪ ،‬فال يحتاج إلى من يرشده إليها‪ ،‬أو ينبئه عنها؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬ولكن تلك العواطف والغرائز‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬فق د أودع هللا في فط رتي من ذ نش أتي ش عوري باهلل‪ ،‬وأن ا ال أحت اج دليال‬
‫خارجيا فوق هذا الشعور‪ ،‬ألنه أكثر بداه ة عن دي من الحس نفس ه‪ ..‬وه ل يمكن ألح د‬
‫من الناس أن يشك فيما يحس فيه‪ ،‬أو يشعر به؟‬
‫قلت‪ :‬ولكن كيف توصل قناعاتك هذه للناس؟‬
‫قال‪ :‬بإرشادهم إلى العودة إلى نفوسهم‪ ،‬والتخلي عن كبريائهم الحائل بينهم وبين‬
‫الشعور بما تدعو إليه فطرهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما تعني؟‬
‫ق ال‪ :‬إن المحج وبين عن هللا لم يحجب وا عن ه بق وة دلي ل‪ ،‬وإنم ا حجب وا عن ه‬
‫بكبريائهم‪ ،‬فاهلل أوضح من أن يحتاج إلى دليل يدل عليه‪ ..‬إن مثل أولئك كمثل الجوعان‬
‫الذي راح يقنع نفسه بأنه ال حاجة له إلى الطعام‪ ..‬وبقي جوعان إلى أن انهارت قواه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أراك تشبه هللا بالطعام‪.‬‬
‫قال‪ :‬ما دمنا نحتاج إلى الطعام‪ ،‬وال يمكنن ا االس تغناء عن ه‪ ..‬وال يمكن ألح د أن‬
‫يقنعنا بعدم حاجتنا إليه‪ ،‬فيمكن ني أن أش بهه ب ذلك‪ ..‬بالنس بة لي أو للبش ر جميع ا‪ ..‬وإن‬
‫كان األمر أعظم من ذلك‪ ،‬فنحن أحوج إلى هللا من حاجتنا إلى الطعام والشراب‪ ،‬ألنهما‬
‫جميعا خلق من خلق ه‪ ،‬ويمكن أن يغنين ا عنهم ا كم ا أغ نى عنهم ا المالئك ة‪ ،‬ولكنن ا لن‬
‫نستطيع أبدا أن نستغني عن هللا‪..‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫هَّللا‬ ‫هَّللا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫لقد قال هللا تعالى ي ذكر ذل ك‪ ﴿ :‬يَاأيُّهَ ا الناسُ أنت ُم الفق َرا ُء إِلى ِ َو ُ ه َو الغنِ ُّي‬
‫ق َج ِدي ٍد (‪َ )16‬و َم ا َذلِ كَ َعلَى هَّللا ِ بِ َع ِزي ٍز (‪﴾)17‬‬ ‫ْال َح ِمي ُد (‪ )15‬إِ ْن يَ َشأْ ي ُْذ ِه ْب ُك ْم َويَأْ ِ‬
‫ت بِ َخ ْل ٍ‬
‫[فاطر‪]17 - 15 :‬‬
‫قلت‪ ،‬وأن ا أض حك‪ :‬بحس ب قول ك ه ذا‪ ..‬ف إن البش رية جميع ا جائع ة في ه ذا‬
‫العصر‪ ..‬فكلها تميل إلى اإللحاد؟‬
‫ق ال‪ :‬وله ذا ت رى الص راع بينهم‪ ..‬ألن عق ولهم الجائع ة إلى الحقيق ة جعلتهم‬
‫يصارعون كل القيم‪ ،‬ويحطمون أركان كل الفضائل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن‪ ..‬لو كان التوجه إلى هللا أمراً فطريا كم ا ت زعم‪ ..‬فلم عب د الن اس في‬
‫ً‬
‫مختلف العصور آلهة شتى‪ ..‬ولم تدينوا بأديان مختلفة متناقضة؟‬

‫‪56‬‬
‫قال‪ :‬إن ذلك كمن استبد به الج وع‪ ،‬فإن ه إذا لم يج د الطع ام الطيب ال ذي يناس به‬
‫سيتناول كل ما يمكن أكله‪ ،‬ولو كان خبيثا ليسد به جوعته‪ ..‬فالفطرة ت دعو اإلنس ان إلى‬
‫االتجاه إلى الخالق‪ ،‬لكن اإلنسان قد تحيط به عوامل تنح رف ب ه عن المس ار الص حيح‬
‫لها‪ ..‬واالنحراف عن الطريق‪ ،‬ال يلغي وجود الطريق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن‪ ..‬أال ترى أنه لو كان ال دين ص حيحا التف ق علي ه الن اس‪ ..‬ول و ك ان‬
‫اإلله موجودا التفق الخلق على ص فاته‪ ..‬ول و ك ان التوج ه إلى هللا أم راً فطري ا ً ـ كم ا‬
‫تدعي ـ لما عبد النّاس آلهة شتى؟‬
‫ق ال‪ :‬مثلم ا اختل ف الخل ق في تص ور المط اعم والمش ارب النافع ة لهم‪ ..‬ك ذلك‬
‫اختلفوا في تص ورهم هلل‪ ..‬لكن االختالف في أن واع الطع ام ال يلغي ض رورة الطع ام‪..‬‬
‫وهكذا االختالف في هللا ال يلغي ضرورة هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن كيف نصل إلى اإلله الحقيقي؟‬
‫قال‪ :‬كما نصل إلى الطعام الحقيقي‪..‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫ق ال‪ :‬ب البحث والعلم‪ ..‬والت دقيق والتح ري‪ ..‬فال يص ح أن نخلص طعامن ا من‬
‫السموم‪ ،‬وال نخلص ديننا من السموم‪ ..‬وبالدين تقوم حي اة أرواحن ا‪ ،‬كم ا بالطع ام تق وم‬
‫حياة أجسادنا‪.‬‬
‫لم أجده ما أقول له‪ ..‬فقد كان يجيبني عن كل شبهة أطرحها عليه بدقة عالية‪..‬‬
‫***‬
‫تركته‪ ،‬بعد أن امتألت نفسي له احتراما‪ ،‬وذهبت إلى أس تاذ الفص ل المخص ص‬
‫لتدريس اإللحاد‪ ،‬وسألته عن مواقف الطلبة من دروس ه‪ ،‬فابتس م‪ ،‬وق ال‪ :‬هم يحفظونه ا‬
‫بدقة‪ ..‬ويكتبون في ورقة االمتحان كل ما أمليه عليهم‪ ..‬وهم ينالون لذلك عالمات جيدة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم أسألك عن هذا‪ ..‬سألتك عن قناعتهم بما تقول‪.‬‬
‫ابتسم‪ ،‬وقال‪ :‬وهل يمكن للجدار أن يقتنع بم ا تملي ه علي ه‪ ..‬إنهم كالج در ال تي ال‬
‫تخترق‪ ،‬والحصون التي ال تهدم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل استعملت معهم كل وسائل اإلقناع؟‬
‫قال‪ :‬استعملت معهم ما خطر ببالك‪ ،‬وما لم يخط ر‪ ..‬ح تى أني رض يت منهم أن‬
‫يعتقدوا بأي اعتقاد مادي شيوعيا كان أو غير شيوعي‪ ..‬فلم يقبلوا إال بما ورثوه‪ ،‬والذي‬
‫يذكرون لي أنه فطرتهم‪ ،‬وقناعتهم التي ال يمكن زحزحتها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهال ضربت لي مثاال على موقف من مواقفهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬أذك ر م رة أني أردت إقن اعهم بع دم وج ود هللا بال دليل الحس ي‪ ،‬فقلت لهم‪:‬‬
‫أترونني؟‪ ..‬فقالوا‪ :‬نعم‪ ..‬قلت‪ :‬فإذن أنا موجود‪ ..‬ثم قلت لهم‪ :‬أترون اللوح؟ ق الوا‪ :‬نعم‪..‬‬
‫قلت‪ :‬ف اللوح إذن موج ود‪ ..‬ثم قلت لهم‪ :‬أت رون هللا؟ ق الوا‪ :‬ال‪ ..‬قلت‪ :‬فاهلل إذن غ ير‬
‫موجود! فوقف أحد التالميذ‪ ،‬وقال‪ :‬أترون عقل األستاذ؟‪ ..‬قالوا جميعا‪ :‬ال‪ ..‬ق ال‪ :‬فعق ل‬
‫األستاذ إذن غير موجود‪.‬‬
‫التفت المعلم إلي‪ ،‬وقال‪ :‬كيف يمكنك أن تقنع أمثال هؤالء؟‬

‫‪57‬‬
‫قلت‪ :‬ألم تلقن في معاهد تكويننا كيفية اإلجابة عن مثل هذه األطروحات؟‬
‫ق ال‪ :‬أج ل‪ ..‬وطرحته ا عليهم جميع ا‪ ،‬لكنهم ك انوا يقابلونه ا بأص وات فط رتهم‬
‫الهادئة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أخاف أن تكون قد تأثرت بهم‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬إن ش ئت الص دق‪ ..‬فق د حص ل لي ذل ك‪ ..‬فهم وذووهم من أطيب الن اس‪..‬‬
‫ويأسرونك بأخالقهم وكرمهم‪ ..‬وأحسب أن ه ل وال تل ك العقائ د ال تي يعتق دونها م ا ك ان‬
‫سلوكهم ليرقى لهذه المقامات العالية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل أسرك سلوكهم‪ ..‬أم أسرتك عقائدهم أيضا؟‬
‫قال‪ :‬إن شئت الصدق‪ ..‬فقد أسرني كالهما‪ ..‬فكالهما يرتبط بعض ه ببعض‪ ..‬فهم‬
‫على الفطرة اإلنسانية النقية بعقائدهم أو بسلوكهم‪ ..‬أما نحن‪ ..‬فقد حاولنا أن نتملص من‬
‫إنس انيتنا‪ ،‬والنتيج ة م ا ت راه في واقعن ا من ك ل أل وان االنحالل والعق د واألم راض‬
‫والصراع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن أال يمكن أن يحيا اإلنسان من دون هللا؟‬
‫قال‪ :‬كما ال يمكن أن يحيا اإلنس ان من دون طع ام‪ ..‬فك ذلك ال يمكن أن يحي ا من‬
‫دون هللا‪ ..‬أال ترى من العجب كيف أنه ال توجد حضارة من الحضارات‪ ..‬وال قبيلة من‬
‫القبائل إال وهي تعتقد في وجود قوة غيبية تتحكم في الكون؟‬
‫قلت‪ :‬ولكنها جميعا مملوء بالخرافات‪.‬‬
‫قال‪ :‬أحيانا كثيرة تكون الحقيقة مختلطة بالخرافة‪ ..‬وليس علين ا أن نلغي الحقيق ة‬
‫ألجل خرافة ارتبطت به ا‪ ..‬كم ا أنن ا ال يمكن أن نس تغني عن الطع ام بس بب أن بعض‬
‫الناس وضع السم في طعام من األطعمة‪ ،‬وفي يوم من األيام‪.‬‬
‫***‬
‫لم أدر ما أقول له‪ ..‬فق د ك ان م ا قال ه حقيق ة ش هد به ا ك ل الم ؤرخين‪ ،‬وعلم اء‬
‫االجتماع حتى فالسفة قومي الذين راحوا يفلسفون ذلك بحسب ما تصوره أوه امهم‪ ،‬ال‬
‫بحسب الواقع‪.‬‬
‫ّ‬
‫لقد قال [ويليام جيمس ديو َرانت] يذكر ذلك‪( :‬صحيح أن بعض الشعوب البدائي ة‬
‫ليس لها ديانة على الظاهر فبعض قبائل األقزام في إفريقية لم يكن لهم عقائد أو ش عائر‬
‫دينية على اإلطالق‪ ،‬إالّ ّ‬
‫أن هذه الح االت ن ادرة الوق وع وال ي زال االعتق اد الق ديم ب ّ‬
‫أن‬
‫الدين ظاهرة تعم البشر جميعا ً اعتقاداً سليما ً وهذه في رأي الفيلسوف حقيقة من الحقائق‬
‫التاريخية والنفسية)(‪)1‬‬
‫ويعبر في موضع آخر ـ وهو الم ؤرخ الكب ير للحض ارات البش رية ـ عن م دى‬
‫تجذر الدين في الفطرة‪ ،‬وأن استثمار رجال ال دين ل ذلك ي دل على م دى ترس خه فيه ا‪،‬‬
‫(إن الكاهن لم يخلق الدين خلقا ً لكن استخدمه ألغراض ه كم ا يس تخدم السياس ي‬ ‫فيقول‪ّ :‬‬
‫دواف ع اإلنس ان الفطري ة وغرائ زه‪ ،‬فلم تنش أ العقي دة الديني ة عن تلفيق ات أو االعيب‬

‫‪ )(1‬قصة الحضارة‪..99 / 1 :‬‬

‫‪58‬‬
‫اإلنسان)(‪)1‬‬ ‫كهنوتية إنّما نشأت عن فطرة‬
‫ويقول الع الم االجتم اعي [ص موئيل كوني ك] عن د حديث ه عن ج ذور ال دين في‬
‫(إن أسالف البشر المعاصر ـ كما تشهد آثارهم التى حص ل عليه ا‬ ‫األسالف من البشر‪ّ :‬‬
‫في الحفريات ـ كانوا أصحاب دين‪ ،‬ومتدينين‪ ،‬بدليل أنَّهم ك انوا ي دفنون موت اهم ض من‬
‫طق وس ومراس يم خاص ة وك انوا ي دفنون معهم أدوات عملهم‪ ،‬وبه ذا الطري ق ك انوا‬
‫يثبتون اعتقادهم بوجود عالم آخر‪ ،‬وراء هذا العالم)(‪)2‬‬
‫وعبر عن ذلك آخر ال أذكره اآلن‪ ،‬فقال‪( :‬لقد وج دت وتوج د جماع ات إنس انية‬
‫من غير علوم وفنون وفلسفات‪ ،‬لكن لم توج د جماع ة بغ ير ديان ة‪ ..‬فالش عور الفط ري‬
‫بوجود خالق مدبر للكون شعور مشترك بين جميع الناس‪ ،‬مغ روس في النف وس‪ ،‬يق وم‬
‫في نفس الطف ل الص غير‪ ،‬واإلنس ان الب دائي‪ ،‬واإلنس ان المتحض ر‪ ،‬والجاه ل والع الم‬
‫والباحث والفيلس وف‪ ،‬ك ل ه ؤالء يش عرون بش عور مش ترك ال يس تطيعون دفع ه عن‬
‫أنفسهم)‬
‫***‬
‫بعد انصرافي عن تلك المدرسة التقيت عالم نفس من بلدتي‪ ،‬وقد رأيت أن أس أله‬
‫عن سر تجذر الدين في أهل تلك البلدة‪ ،‬وعدم استطاعة الديالكتيك وغيره من الفلس فات‬
‫المادية التأثير فيه ا‪ ..‬وق د كنت أتص ور أن ه س يحدثني بم ا درس ه عن فروي د من األن ا‬
‫األدنى أو األنا األعلى‪ ..‬أو يحدثني بما ذكره دوركايم أو إنجلز أو غيرهم من فالسفتنا‪..‬‬
‫لكن ه لم يفع ل ذل ك‪ ،‬وإنم ا ق ال لي‪ :‬لق د أج اب عن س ؤالك ه ذا الفيلس وف االنجل يزي‬
‫(إن الذين يريدون إثبات وجود هللا بالبرهان وال دليل م ا هم إالّ‬‫[توماس كارليل] بقوله‪ّ :‬‬
‫كالذي يريد االستدالل على وجود الشمس الساطعة الوهّاجة بالفانوس)‬
‫قلت‪ :‬ما يعني بقوله هذا؟‪ ..‬وما تعني بنقلك لقوله؟‬
‫قال‪ :‬إن هؤالء الذين تراهم يقفون بعق ولهم وقل وبهم بك ل ق وة في وج ه الزح ف‬
‫المادي الذي اكتسح البشرية جميعا يعود إلى ما ذكره ذلك الفيلس وف اإلنجل يزي‪ ..‬فه و‬
‫قد صور حالهم بكل دقة‪ ..‬فهم مثل من شاهد الشمس‪ ..‬وهل يمكن لمن شاهد الشمس أن‬
‫يقنعه أحد من الناس بعدم وجودها؟‬
‫قلت‪ :‬نعم ذلك صعب جدا‪.‬‬
‫قال‪ :‬بل مستحيل‪ ..‬استحالة مطلقة‪.‬‬
‫ثم ابتسم‪ ،‬وقال لي‪ :‬إن مهمتك ـ يا سيدي ـ مستحيلة‪ ..‬وأنصحك أن تتخلى عنها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكني لم آت باألفكار فقط‪ ..‬وإنما أتيت باألموال أيضا‪ ..‬وأتيتهم بم ا يرف ع‬
‫بؤسهم‪ ،‬ويحول حياتهم إلى الجنة التي يحلمون بها‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال تتعب نفسك‪ ..‬فه ؤالء ق د ي أكلون خ بزك‪ ،‬ولكنهم ال يبيعون ك دينهم‪ ..‬ألم‬
‫يخبرك معلم المدرسة كيف ينال التالميذ عنده العالمات الكامل ة في اإللح اد‪ ،‬وفي نفس‬

‫‪ )(1‬قصة الحضارة‪..99 / 1 :‬‬


‫‪ )(2‬كتاب جامعه شناسي ‪.192 :‬‬

‫‪59‬‬
‫الوقت ينالون العالمات الكاملة في اإليمان؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬لقد أخبرني بذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬فلذلك لك أن تصرف عليهم من األم وال م ا ش ئت‪ ..‬لكن تأك د تمام ا أن ه ال‬
‫أموالك وال أم وال الدول ة جميع ا تس تطيع أن تغ رز أنيابه ا في عقائ دهم‪ ..‬ألن له ا من‬
‫الرسوخ ما ال يمكن أن يؤثر فيه شيء‪.‬‬
‫لقد عبر الفيلسوف الفرنسي ديكارت عن حالهم بقوله‪( :‬ال يبقى ما يقال بع د ذل ك‬
‫إال أن هذه الفك رة ول دت ووج دت معي من ذ خلقت‪ ،‬كم ا ول دت الفك رة ال تي ل دي عن‬
‫نفسي‪ ،‬والحق أنه ال ينبغي أن نعجب من أن هللا حين خلقني غرس ف ّي هذه الفك رة لكي‬
‫تكون عالمة للصانع مطبوعة على صنعته)‬
‫ب ل ع بر عن ذل ك الفيلس وف االس كتلندي الش كاك [ديفي د هي وم] ال ذي ق ال في‬
‫[حواراته]‪( :‬ليس هنالك من هو أشد مني إحساسًا بالدين المنطبع في نفسي أو أشد تعلقًا‬
‫بالموجود اإللهي كما ينكشف للعقل بين ابتداع الطبيع ة وص ناعتها الل ذين من الص عب‬
‫تفسيرهما)‪ ..‬وق ال في موض ع آخ ر من الكت اب‪( :‬ال توج د حقيق ة أظه ر وأوض ح من‬
‫وجود إله)‬
‫***‬
‫بعد أن قال لي هذا تركته‪ ،‬وأنا يا ئس تمام ا من النج اح في تحقي ق المهم ة ال تي‬
‫وكلت لي‪ ..‬لك ني في أثن اء جمعي لحق ائبي للع ودة إلى بالدي بخفي ح نين‪ ..‬خط ر لي‬
‫خاطر جعلني أعدل عن ذل ك‪ ..‬لق د قلت لنفس ي‪ :‬إلى أي بل د س أعود‪ ..‬وه ل هن اك بل د‬
‫أفضل من هذا البلد‪ ..‬وهل هناك جيران أفضل منهم أبقى معهم طول حياتي؟‬
‫وبالفعل بدأت حياتي معهم‪ ،‬لكن ال كأستاذ لهم‪ ،‬وإنما كتلميذ من تالميذهم‪ ،‬وك ان‬
‫أول من التقيت به منهم بعد ذلك القرار ش يخ كب ير‪ ،‬س ألته عن س ر ذل ك الج دار ال ذي‬
‫يقف بين عقلي وقلبي وحقائق الوجود‪ ،‬فقال لي‪ :‬ذلك هو الران‪ ..‬وفي إمكانك أن تزيل ه‬
‫بضربة قوية منك‪ ..‬لتعود إلى إنسانيتك حقيقتها‪ ..‬وإلى فطرتك صفاءها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما الران؟‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫اَّل‬ ‫َ‬
‫قال‪ :‬ذلك الذي ذك ره هللا تع الى‪ ،‬فق ال‪ ﴿ :‬ك َب لْ َرانَ َعلى قل و ِب ِه ْم َم ا ك انوا َيك ِس بُون﴾‬
‫(المطففين‪ ،)14:‬أي أن كس ب اإلنس ان وعمل ه وحرك ة قلم ه هي ال تي مألت فطرت ه بقع ا‬
‫منحرفة حالت بينها وبين التعرف على الحق أو سلوكه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬لقد فسر نبينا ‪ ‬كيفية حصول ذل ك على م رآة القلب‪ ،‬فق ال‪(:‬إن العب د إذا أذنب‬
‫ذنباً كانت نكتة س وداء في قلب ه‪ ،‬ف إن ت اب منه ا ص قل قلب ه‪ ،‬وإن زاد زادت‪ ،‬ف ذلك ق ول هّللا‬
‫سبُونَ ﴾)(‪)1‬‬‫تعالى‪َ ﴿:‬كاَّل َبلْ َرانَ َع َلى قُلُو ِب ِهم َّما َكانُوا َي ْك ِ‬
‫قلت‪ :‬أريد توضحا أكثر لذلك‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه الترمذي والنسائي‪ ،‬وقال الترمذي‪ :‬حسن صحيح‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫قال‪ :‬إن أردت تمثيال واقعيا ل ذلك‪ ،‬فه و م ا نعرف ه في الواق ع من ت أثير اإلدم ان على‬
‫الجسد‪ ،‬بحيث ال يملك صاحبه دفع آثاره‪ ،‬فالمدمن هو الذي أقبل على ما أدمن عليه باختياره‪،‬‬
‫ولكنه نتيجة للمبالغة فيه وصل إلى حالة المتحكم فيه بعد أن كان متحكما في نفسه‪.‬‬
‫ثم التفت إلي‪ ،‬وق ال‪ :‬وأنت ي ا ب ني من ذ نش أتك الب اكرة‪ ،‬وأنت تتمل ذ على مث ل تل ك‬
‫األفكار التي تألمت لها فطرتك‪ ،‬وانتكست لها طبيعتك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما الحل الذي تراه لعودة فطرتي إلى أصالتها؟‬
‫قال‪ :‬باللجوء إليه وحده‪ ..‬فهو الذي بيده قلبك وعقلك وكلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬كيف ألجأ إليه‪ ،‬وأنا ال أؤمن به؟‬
‫قال‪ :‬خاطبه بتواضع وأدب ومحبة‪ ،‬وقل له‪ :‬يا مدبر هذا الوجود‪ ..‬أنا عبدك الض عيف‬
‫بين يديك‪ ..‬فإن كنت موجودا ومدبرا ألمري‪ ،‬فخلص قلبي من ك ل م ا يح ول بي ني وبين ك‪..‬‬
‫وامأل قلبي باإليمان‪.‬‬
‫رحت أكتب ما يقول‪ ..‬ثم أردده ك ل حين‪ ..‬وأن ا في غاي ة الخش وع والخض وع‪ ..‬فم ا‬
‫أسرع ما بدأت أشعر أن يدا حانية تمتد إلى فطرتي‪ ،‬فتمسح كل آثار ال ران ال تي علقت به ا‪..‬‬
‫وما هي إال أيام معدودة حتى دخلت رحاب اإليمان من غ ير أن أحت اج إلى أي بره ان‪ ..‬فاهلل‬
‫وحده تولى تعريفي بنفسه بعد أن خلصني من كبريائي وغروري‪ ،‬ومسح على فط رتي ك ل‬
‫آثار االنتكاسة التي حصلت لها‪.‬‬
‫***‬
‫بعد مضي عشر سنوات عدت إلى بلدي‪ ،‬وهناك التقيت بالذي أرسلني إلى تلك البلدة‪،‬‬
‫بعد أن أنهى عمله‪ ،‬وأحيل إلى التقاعد‪ ،‬وقد عجبت إذ رأيته بغير الص ورة ال تي كنت أراه ا‪،‬‬
‫فقد سلم علي‪ ،‬وسألني عني‪ ،‬وكان في أثناء حديثه معي يذكر هللا كل حين‪ ..‬فسألته عن ذل ك‪..‬‬
‫وكي ف يمكن لملح د أن ي ذكر هللا؟‪ ..‬فابتس م‪ ،‬وق ال‪ :‬ال ت ذكرني بتل ك األي ام‪ ..‬فق د كن ا نعيش‬
‫موضة قديمة‪ ..‬أما الموضة الحالية‪ ،‬فهي موضة اإليمان‪ ..‬لق د ع اد لإليم ان وج وده في ه ذه‬
‫البالد بعد أن استعملت كل األساطيل لحربة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لكن كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬النهر قد يجف‪ ..‬واألرض قد تشح‪ ..‬لكن ذلك لن يدون طويال‪ ..‬فاهلل بكرمه ي نزل‬
‫الغيث كل حين‪ ،‬ليعيد للحياة جمالها وبهاءها‪ ..‬وال جمال وال بهاء للحياة من دون هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهال قصصت لي كيف عدت لإليمان؟‬
‫قال‪ :‬في ذلك اليوم كنت فيه مع بعض الرفاق ال ذين يفخ رون بإلح ادهم نمتطي بعض‬
‫الطائرات لنسير لبعض البالد المسلمة لننشر بينها اإللحاد‪ ..‬وكان معنا في الطائرة شيخ مسلم‬
‫يحمل مسبحة‪ ،‬ويذكر هللا ك ل حين‪ ..‬وكن ا نس خر من ه‪ ..‬لكن حص ل أثن اء تحليقن ا م ا جعلن ا‬
‫جميعا نجثو بين يديه ونطلب منه أن يفعل شيئا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬لقد أصاب الطائرة عطب شديد‪ ،‬وكادت تهوي بنا‪ ،‬وهناك تخلص نا من إلحادن ا‪..‬‬
‫لقد صحنا جميعا نطلب النجدة من هللا‪ ..‬ثم لجأنا إلى الش يخ نطلب من ه أن ي دعو هللا لن ا‪ ..‬لق د‬

‫‪61‬‬
‫شعرنا حينها بأنه ال يمكن أن يغيثنا غير ربنا‪ ..‬لقد عادت فطرتنا في ذل ك الحين إلى وض عها‬
‫الطبيعي‪ ،‬بعد أن نبهت ذلك التنبيه الشديد‪.‬‬
‫وعندما من هللا علينا بالنجاة‪ ،‬راح بعض رفاقي يستمرون في حياتهم العادية‪ ،‬وكأنه لم‬
‫يحصل شيء‪ ..‬أما أنا فرحت أص حب الش يخ‪ ،‬وأتعلم من ه اإليم ان‪ ،‬ولم أحتج من ه أي دلي ل‪،‬‬
‫ألن ما حصل لي كان هو الدليل‪..‬‬
‫لقد أخبرني الشيخ حينها أن ذلك تنبي ه من هللا‪ ..‬وأن هللا بكرم ه يس تعمل ك ل الوس ائل‬
‫التي تغسل الران عن قلوب عباده‪ ..‬وقرأ علي حينها قوله تع الى‪﴿ :‬هُ َو الَّ ِذي ي َُس يِّرُ ُك ْم ِفي ْال َب رِّ‬
‫ف َو َج ا َءهُ ُم‬ ‫ط ِّي َب ٍة َو َف ِرحُوا ِب َها َجا َء ْت َها ِريحٌ ع ِ‬
‫َاص ٌ‬ ‫يح َ‬ ‫حْر َحتَّى ِإ َذا ُك ْنتُ ْم ِفي ْالفُ ْل ِك َو َج َر ْينَ ِب ِه ْم ِب ِر ٍ‬ ‫َو ْال َب ِ‬
‫صينَ َلهُ ال ِّدينَ َل ِئ ْن َأ ْن َج ْي َتنَا ِم ْن َه ِذ ِه َل َن ُك ون ََّن‬ ‫ظ ُّنوا َأنَّه ُْم أُ ِحي َ‬
‫ط ِب ِه ْم َدع َُوا هَّللا َ ُم ْخ ِل ِ‬ ‫ان َو َ‬ ‫ْال َموْ جُ ِم ْن ُكلِّ َم َك ٍ‬
‫ض ِب َغي ِْر ْال َح ِّق َي َاأ ُّي َها النَّاسُ ِإنَّ َما َب ْغيُ ُك ْم َع َلى‬
‫ِمنَ ال َّشا ِك ِرينَ (‪َ )22‬ف َل َّما َأ ْن َجاه ُْم ِإ َذا ه ُْم َي ْب ُغونَ ِفي اأْل َرْ ِ‬
‫رْج ُع ُك ْم َفنُ َن ِّبئُ ُك ْم ِب َما ُك ْنتُ ْم تَعْ َملُونَ (‪[ ﴾)23‬يونس‪]23 ،22 :‬‬ ‫َأ ْنفُ ِس ُك ْم َمتَا َع ْال َح َيا ِة ال ُّد ْن َيا ثُ َّم ِإ َل ْينَا َم ِ‬
‫برهان الصديقين‪:‬‬
‫بعد أن أنهى الرجل األول حديث ه‪ ،‬ق ام آخ ر‪ ،‬وق ال‪ :‬أظن أن ال دور وص ل إلي‪،‬‬
‫وسأحدثكم ـ أنا العبد الفقير إلى هللا ـ عن فضل هللا علي بالهداية‪ ،‬وإخراجي من ظلم ات‬
‫الجه ل والغواي ة‪ ،‬وكي ف أنق ذني ربي من جحيم المالح دة‪ ..‬ووض عني معكم معش ر‬
‫المنورين بنور اإليمان‪.‬‬
‫ق الوا جميع ا‪ :‬يس رنا ذل ك‪ ..‬فهلم ح دثنا بنعم ة هللا علي ك‪ ..‬فال نعم ة أفض ل من‬
‫معرفة هللا‪ ..‬وال هدية أعظم من التواصل معه‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد عشت فترة حياتي ال دنيا في ف ترة س ماها أه ل الق رون التالي ة [الق رون‬
‫الوسطى]‪ ..‬وكنت من مدرسة فلسفية ترى الكون ثابثا مستقرا منذ األزل‪ ..‬وترى أنه ال‬
‫بداية له وال نهاية‪.‬‬
‫ولذلك لم تكن ترى حاجة لوجود إله‪ ..‬فدور اإلل ه منت ف كم ا ت ذكر‪ ..‬ألن دوره‬
‫هو إخراج الوجود من العدم‪ ..‬وما دام الوجود خارجا بنفسه‪ ،‬بل لم يسبق له ع دم‪ ،‬ف إن‬
‫الحاجة لإلله منتفية‪.‬‬
‫وقد أرسلني ق ومي حينه ا بك ل م ا يملك ون من األدل ة لبل دة من بالد المس لمين‪،‬‬
‫كانت تمتلئ بالفالس فة والحكم اء‪ ،‬وذك روا لي أني إن اس تطعت إقن اعهم‪ ،‬فس أكون ق د‬
‫قدمت خدمة كبيرة للحقيقة‪ ،‬وخلصتهم من كل الخرافات التي يدينون بها‪.‬‬
‫لكني ما إن ذهبت إليهم‪ ،‬وألقيت إليهم ببضاعتي‪ ،‬حتى ابتسموا‪ ،‬وقالوا‪ :‬فلنفرض‬
‫أن ما تقوله صحيح‪ ..‬ولنفرض أن الكون قديم‪ ..‬وأزلي‪ ..‬وال بداية له‪ ..‬فه ل يع ني ذل ك‬
‫عدم وجود إله؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬فإن كان الكون قديما وأزليا‪ ..‬فما الضرورة لوجود إله؟‬
‫قال لي أحدهم‪ ،‬وهو يبتسم‪ :‬نحن ال نحتاج في إثب ات اإلل ه إلى أي وس ائط‪ ..‬فاهلل‬
‫يدل بنفسه على نفسه؟‬
‫قلت‪ :‬أال ترى أن ذلك دور‪ ..‬فكيف يدل بنفسه على نفسه؟‬
‫قال‪ :‬ليس في ذلك أي دور‪ ..‬سأش رح ل ك المس ألة بط رق مختلف ة‪ ..‬وس أخاطبك‬

‫‪62‬‬
‫باعتبارك فيلسوفا‪ ..‬فلدينا نحن أيضا الكث ير من الفالس فة‪ ..‬وس أبدا ل ك بفيلس وف كب ير‬
‫عندنا نطلق عليه ابن سينا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أعرفه جيدا‪ ..‬إنه من كبار الفالسفة الذين استفاد منهم قومي‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد وضع هذا الفيلسوف الكبير برهانا حول هذا سماه [برهان الص ديقين]‪..‬‬
‫ألن األش ياء‬‫سماه بذلك ألنه ال يحتاج إلى أي وسائط‪ ..‬ولذلك اعتبره أشرف البراهين‪ّ ..‬‬
‫ت فيه واسطة في اإلثبات‪..‬‬ ‫والمخلوقات لم تأ ِ‬
‫قلت‪ :‬فكيف قرر هذا البرهان؟‬
‫ق ال‪ :‬لق د انطل ق في ه من ظ اهرة متف ق عليه ا بين البش ر جميع ا‪ ،‬وهي ظ اهرة‬
‫اإلمكان‪ ..‬فمن تعقّل معنى اإلمكان‪ ،‬ونظر إلى هذا العالَم فسوف ي راه موج ودًا ممكنً ا‪..‬‬
‫فكل ما فيه يدل على ذلك‪ ..‬كل ما فيه يدل على أن الوجود ليس من ذاتيّاته‪ ..‬وأنّ ه ل ذلك‬
‫يحت اج إلى عل ة خارجي ة ت وفر ل ه ه ذا الوج ود‪ ..‬وهك ذا ننتق ل إلى ص فة أساس ية من‬
‫صفات مو ِجد هذا العالم‪ ،‬وهي صفة وجوب الوج ود ال تي تع ني ذاتي ة وج وده‪ ،‬وع دم‬
‫إمكان تعقّله دون وجود‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هال وضحت لي أكثر‪..‬‬
‫ق ال‪ :‬لتفهم ه ذا البره ان تحت اج إلى التو ّغ ل قليالً وراء الظ واهر الطبيعي ة‬
‫والحيثيّات المحسوسة لألشياء‪ ..‬فهذا ‪ -‬ورغم بداهته ‪ّ -‬‬
‫لكن أذهاننا لم تعتد عليه‪ ..‬فغالبً ا‬
‫ما نتعرّف إلى األشياء بواسطة حيثياتها وخصائصها المحسوس ة‪ ،‬ثم ننتق ل إلى التعميم‬
‫من خالل عملية انتزاع فكري نزيل فيها الحيثي ات المفرّق ة بين األش ياء‪ ،‬ونر ّك ز على‬
‫الحيثيات المشتركة‪.‬‬
‫ّ‬
‫خاص ة‪،‬‬ ‫ألست ترى أننا في بدء األمر نتعرّف على الشخص بما ل ه من حيثيّ ات‬
‫كطوله وعرضه واسمه وعنوانه ونسبه وم ا ش اكل ذل ك‪ ..‬لكنّن ا لن نطل ق علي ه ص فة‬
‫اإلنسانية إال إذا قارناه بغيره من األفراد الكثيرين‪ ،‬والحظنا جهة االشتراك بينهم‪ ،‬وهي‬
‫الناطقي ة والفك ر والنم و والحرك ة‪ ،‬فنص ل بع دها إلى مع نى اإلنس انية المش هور بين‬
‫الفالسفة وهو [الحيوان الناطق]‬
‫لكنّا ـ في ه ذا البره ان ـ نتج اوز مث ل ه ذه الحرك ة الفكري ة التحليلي ة‪ ،‬لن دخل‬
‫مباش رة إلى أص ل وج ود األش ياء‪ ..‬وه ذا يتطلّب المزي د من التعميم‪ ..‬أي يتطلب‬
‫االس تمرار في الحرك ة الفكري ة الس ابقة لننظ ر إلى م ا ه و مش ترك ع ام بين جمي ع‬
‫الكائنات‪..‬‬
‫وعند النظر في ذلك المشترك نجد أنه الوج ود‪ ..‬أو ه و ذوات الماهيّ ات بمع زل‬
‫عن ماهيّاتها‪ ..‬وعند التأمل في هذا المشترك الذي يجمع بينها‪ ،‬وهو الوج ود نج د أن ه ـ‬
‫بحسب الواقع والتصوّر ـ غير واجب لها‪ ،‬بل هو ممكن‪..‬‬
‫فعند تعقلّنا لإلنس ان أو لماهي ة الش جر مثالً‪ ،‬ال يخط ر ببالن ا ض رورة أن يك ون‬
‫مصداق اإلنسانية أو الشجرية موجودا‪ ،‬بل نس تطيع أن نتعقل ه دون أن نل تزم وج وده‪..‬‬
‫وهذا معنى اإلمكان الذي هو من لوازم الماهيات‪..‬‬
‫ّ‬
‫قلت‪ :‬أتعني أن اإلمكان يعني تساوي نسبة الوجود والعدم في عملية التعقل‪ ..‬وأن‬

‫‪63‬‬
‫الممكن ه و الش يء ال ذي إذا تص وّرناه ال يوص لنا تص وّره إلى ض رورة أن يك ون‬
‫موجودا‪ ،‬وال أن يكون معدوما‪.‬‬
‫ّ‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬ذلك صحيح‪ ..‬ونحن أم ام ه ذه الظ اهرة ال تي نتعقله ا في ك ّل الع الم‬
‫ي موجود ه و دلي ل واض ح‬ ‫أن إمكان العالم وإمكان أ ّ‬‫ومكوّناته‪ ،‬ونتفق عليها‪ ،‬يتبّين لنا ّ‬
‫على وجوب وجود خالقه وعلته‪ ..‬أو بعبارة أخرى‪ :‬إن هذه الظ اهرة الكوني ة هي أك بر‬
‫دليل على ضرورة كون وجود العلّة الخالقة أمرًا حتميًا وواجبًا‪ ،‬ولهذا يوص ف الخ الق‬
‫األول بأنه واجب الوجود‪.‬‬
‫التفت إلي‪ ،‬وقال‪ :‬أرى أنك ـ باعتبارك فيلسوفا ـ لن تحت اج إلى جه د كب ير لفهم‬
‫هذا التقرير المبسط‪ ..‬ذلك أنه ال يعتم د إال على التعقّ ل‪ ..‬وك ّل من تم ّكن ذهن ه من ه ذا‬
‫التجريد‪ ،‬سيجد سهولة للوصول إلى النتيجة من غير أي مقدمات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬في هذه الحالة لن تحتاجوا إلى إثبات حدوث العالم‪..‬‬
‫قال‪ :‬لن نحتاج إلى أي شيء آخ ر‪ ..‬فيكفي أن يك ون الع الم بك ل تفاص يله ممكن ا‬
‫لنثبت افتقاره إلى صاحب الوجود الحقيقي‪ ..‬إن مثل ذل ك مث ل الظ ل‪ ..‬فيكفي أن يك ون‬
‫ظال حتى نثبت أن هناك ذات ا تس ببت في وج وده‪ ..‬فيس تحيل أن يك ون الش يء ظال من‬
‫غير وجود ذات تسببت في ذلك‪.‬‬
‫***‬
‫التقيت بعدها حكيما آخر‪ ،‬قال لي ـ وقد رآني مزمعا إلى السفر إلى بالدي ـ‪ :‬هلم‬
‫إلي أحكي لك عن برهان الصديقين لتأخذه معك إلى قومك عساهم ينتفعوا به‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد سمعته من بعضكم‪ ..‬ويكفيني ذلك‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬ال‪ ..‬الفيلس وف ال يكتفي ب التقرير والتقري رين‪ ..‬فه و ال يخ اطب العق ل‬
‫والعقلين‪ ..‬ولذلك اسمع من الجميع‪ ،‬فعسى أن تجد من التعابير ما يرفع عنك الحجب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل لك تقرير يرتبط به تريد أن تفيدني إياه‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فمن كرم الضيافة أن تك رم الفالس فة بم ا يغ ذي عق ولهم بك ل أل وان‬
‫المقدمات‪ ،‬وبأجمل أصناف النتائج‪ ،‬في أجمل صحون التقريرات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولم حرصت على برهان الصديقين دون غيره من البراهين؟‬
‫ق ال‪ :‬ألن ني أحب أن أك ون من الص ديقين‪ ..‬وألني ال أحب أن أض ع بين عقلي‬
‫وبين هللا أي واسطة‪ ..‬ولذلك وجدت هذا البرهان أشرف الطرق لمعرفة هللا تعالى‪ ،‬ألنه‬
‫يعتمد منذ خطواته األولى على حقيقة واجب الوج ود‪ ،‬في حين تب دأ ال براهين األخ رى‬
‫من المخلوقات وتجعلها واسطة إلثبات وجود هللا‪ ،‬والمخلوقات مشوبة بالعدم والنقص‪..‬‬
‫باإلض افة إلى ذل ك وجدت ه أبس ط ال براهين وأس هلها‪ ..‬باإلض افة إلى ذل ك وج دت أن ه‬
‫البرهان الوحيد الذي يكفي إلثبات ذات الحق‪ ،‬وتوحيد ال ذات‪ ،‬ومعرف ة ص فات الح ق‪،‬‬
‫وتوحيد الصفات‪ ،‬ومعرفة أفعال الحق‪ ،‬وتوحيد األفعال‪ ،‬خالفا ً لكل لبراهين األخ رى‪..‬‬
‫باإلض افة إلى ذل ك كل ه وج دت في بعض التقري رات أن ني ال حاج ة لي عن د تقري ره‬
‫إلبطال الدور والتسلسل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هل يمكن هذا‪ ..‬هل يمكن أن تثبت وجود هللا من غير حاجة إلبط ال ال دور‬

‫‪64‬‬
‫والتسلسل؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬سأشرح لك ذلك بكل ما أستطيع من تفاصيل‪ ..‬أنت تعلم أن ال براهين‬
‫التي تثبت وجود هللا إما أن تجعل المخلوق ات واس طة في االس تدالل‪ ،‬لتس تعين به ا في‬
‫إثبات وجوده‪ ،‬وهي التي يطلق عليه ا ال براهين اإلني ة‪ ..‬وهي ال تي تس لك الطري ق من‬
‫المعلول إلى العلة‪ ..‬وإما أال تحتاج إلى ذل ك‪ ..‬وهي ال تي يطل ق عليه ا ال براهين اللميّ ة‬
‫(‪ .. )1‬وهي التي تصل إلى العلة بواسطة العلة ذاتها‪ ..‬فال تجعل من المخلوقات واسطة‬
‫إلثبات وجود هللا‪ ..‬وإنما تصل إلى هللا عن طريق حقيق ة الوج ود ومفه وم الوج ود‪ ..‬أو‬
‫بعبارة أخرى تستدل بذات الحق على ذات الحق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهمت هذا‪ ..‬ولكني أنتظر منك أن تشرح لي م ا ذك رت من أن االس تيعاب‬
‫الجيد لهذا البرهان‪ ،‬يجعلنا ال نحتاج إلبطال الدور والتسلسل‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬أنت تدفعني اآلن ألذكر لك تقريرا لهذا البرهان أورده بعض حكمائنا‬
‫الكبار‪ ..‬إنه من يطلق عليه [المال صدرا] أو صدر المت ألهين‪ ..‬وه و ص احب [الحكم ة‬
‫المتعالية]‪ ..‬وقد أقام تقريره على أساس األصول والقواعد التي تقوم عليه ا‪ ..‬ولتفهم م ا‬
‫أورده سأذكر لك أربع قواعد يقوم عليها تقريره لهذا البرهان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما القاعدة األولى؟‬
‫قال‪ :‬القاعدة األولى هي قوله بأصالة الوجود‪ ،‬واعتبارية الماهية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما يعني بذلك؟‬
‫قال‪ :‬من خالل تأملنا في كل موجود في العالم الخ ارجي نج د أن ه ال يمل ك أك ثر‬
‫من واقعي ة واح دة‪ ..‬أي أن ال ذهن ه و ال ذي ين تزع مفه ومي الوج ود والماهي ة من‬
‫الموجود‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هال وضحت لي ذلك‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬أنت ت رى ـ مثال ـ إنس انا ً معين اً‪ ،‬أو ش جرة معين ة ليس لهم ا مس ميان‬
‫خارجيان‪ ..‬اسم أحدهما الوجود‪ ..‬واسم اآلخر الماهية‪ ..‬ولكننا وبالتحلي ل ال ذهني ن رى‬
‫أن ماهية أي شيء وخصوصيته تختلف عن أصل وجوده‪ ..‬فماهية الشخص أو الشجرة‬
‫تأتي إلى الذهن كما هي عليه في الخارج‪ ،‬لكن وجوده مختلف ما بين الخارج وال ذهن‪،‬‬
‫فه و في الخ ارج غ يره في ال ذهن‪ ..‬وإذ لم يكن هن اك وج ود‪ ،‬فال يمكن أن تتحق ق أي‬
‫ماهية للمخلوقات‪ ..‬فالوجود هو الذي يخرج ماهية الشجرة أو اإلنسان من مرحلة العدم‬
‫إلى ساحة الوجود‪ ،‬وإال فإن ماهية األش ياء ليس له ا أي ن وع تعل ق في أن تك ون أو ال‬
‫‪ )(1‬البرهان الل ِم ُّي هو‪ :‬ما يكون الحد األوسط فيه علةً لثبوت النتيجة في الذهن والخ ارج‪ ..‬والبره ان اإلنِّ ُّي ه و‪ :‬م ا‬
‫يكون الحد األوسط فيه علةً لثبوت النتيجة فقط‪.‬‬
‫ومن األمثلة على البرهان الل ِم ُّي قولنا‪ :‬هذه الحديدة ارتفعت حرارته ا‪ ..‬وك ل حدي دة ارتفعت حرارته ا فهي متم ددة‪..‬‬
‫فهذه الحديدة إذن متمددة‪ ..‬فالحد األوسط في هذا البرهان هو ارتفاع الحرارة‪ ،‬وهو سبب وعلة إثبات النتيجة‪..‬فهذا بره ان‬
‫لمي مأخوذ من كلمة [لم] الدالة على السببية‪ ،‬ألن الحد األوسط هو علة إلثبات النتيجة في الذهن‪ ،‬وه و بنفس ال وقت عل ة‬
‫حقيقية لثبوت التمدد في الخارج‪.‬‬
‫ومن األمثلة على البرهان اإلنِّ ُّي قولنا‪ :‬ه ذه الحدي دة متم ددة‪ ..‬وك ل حدي دة متم ددة مرتفع ةُ الح رارة‪ ..‬فه ذه الحدي دة‬
‫مرتفعة الحرارة‪ ..‬فإن الحد األوسط هنا وهو التمدد علة إلثبات النتيجة‪ ،‬ولكنه ليس علة ارتفاع الح رارة ب ل ب العكس ه و‬
‫معلول وعلته هي ارتفاع الحرارة‪..‬فهذا برهان إنِّي منسوب لكلمة ّ‬
‫إن التي تدل في اللغة على التحقيق والثبوت‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫تك ون‪ ..‬ألنه ا ـ أي الماهي ة ـ من حيث هي ليس ت إال هي ال موج ودة وال معدوم ة‪..‬‬
‫وكون الشيء ال يتحقق إال بالوجود‪ ،‬وب انتزاع الوج ود من ه يص ير إلى الع دم والفن اء‪،‬‬
‫يدل عن كون الماهية ليست أصيلة‪ ..‬بل األصيل هو الوجود‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وعيت هذا‪ ..‬فما القاعدة الثانية؟‬
‫قال‪ :‬القاعدة الثانية هي أن [الوجود مفهوم مشكك]‬
‫قلت‪ :‬ما تعني بذلك؟‬
‫قال‪ :‬عند التأم ل في الوج ود نفس ه نج د أن ه حقيق ة واح دة‪ ..‬ولكن م ع ذل ك له ا‬
‫مراتب في الشدة والضعف‪ ..‬فجميع الموجودات ابتدا ًء من واجب الوجود وحتى الم ادة‬
‫األولى ال تي تش كل منه ا الك ون تتمت ع به ذه الحقيق ة بحس ب مرتبته ا‪ ..‬أي أن الجمي ع‬
‫يشترك في سنخ الوجود‪ ،‬ولكن التمايز يكون بالمرتبة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وعيت هذا فما القاعدة الثالثة؟‬
‫قال‪ :‬القاعدة الثالثة هي [بساطة الوجود]‬
‫قلت‪ :‬فما تعني؟‬
‫قال‪ :‬عند التأمل في الوجود نفسه نجد أنه حقيقة بسيطة‪ ،‬فليس له ج زء‪ ،‬وال ه و‬
‫جزء لشي ٍء آخر‪ ..‬ألنه ال يوجد شيء غير الوجود‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا صحيح‪ ..‬وهي حقيقة بديهية‪ ..‬فما القاعدة الرابعة؟‬
‫قال‪ :‬القاعدة الرابعة هي [المعلول هو عين الربط والحاجة للعلة]‬
‫قلت‪ :‬فما تعني؟‬
‫ق ال‪ :‬عن د التأم ل في عالق ة المعل ول بالعل ة نج د أنه ا عالق ة الفق ر‪ ..‬وبم ا أن‬
‫المعلول يأخذ كامل وجوده وهويته من العلة‪ ،‬ف إن وج وده وج ود ربطي‪ ،‬وليس ل ه أي‬
‫وجود بدون العلة‪ ..‬وبذلك يكون ارتباطه بالعلة ارتباطا مطلقا‪ ،‬وال يمكن أن ننتظ ر من‬
‫ذات المعلول إال المحدودية واالحتياج والفقر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وعيت هذا‪ ..‬فكيف قرر المال صدرا هذا البرهان بناء على هذه القواعد؟‬
‫ق ال‪ :‬لق د ذك ر أن ه م ا دام الوج ود حقيق ة عيني ة واح دة بس يطة ال اختالف بين‬
‫أفرادها لذاتها إال بالكمال والنقص‪ ،‬والشدة والضعف‪ ،‬ونحو ذلك‪ ..‬فإن الوجود إذن إم ا‬
‫أن يكون مستغنيا عن غيره‪ ،‬وإما مفتقرا لذاته إلى غيره‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا تقسيم صحيح‪.‬‬
‫قال‪ :‬أما األول‪ ،‬وهو المس تغني عن غ يره‪ ،‬فه و واجب الوج ود‪ ..‬وه و ص رف‬
‫الوجود ال ذي ال أتم من ه‪ ،‬وال يش وبه ع دم وال نقص‪ ..‬وأم ا الث اني‪ ،‬فه و م ا س واه من‬
‫أفعاله وآثاره‪ ،‬وال قوام لما سواه إال بواجب الوجود‪.‬‬
‫***‬
‫بعد أن فارقت تلميذ المال صدرا‪ ..‬التقيت حكيما آخر‪ ،‬ق ال لي‪ :‬تع الى أق رر ل ك‬
‫ه ذا البره ان على منهج [التّق ّدم والتّ أ ّخر بين العلّ ة والمعل ول]‪ ..‬وه و منهج اس تعمله‬
‫بعض فالسفتنا‪ ،‬ويدعى [أبو نصر الفارابي]‪ ،‬وق د أقام ه ليثبت امتن اع تسلس ل العل ل‪..‬‬
‫وهو يدل أيضا على إثبات واجب الوجود‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف برهن على ذلك؟‬
‫ّ‬
‫قال‪ :‬من المتفق عليه بين العقالء أن العل ة ذات تق ّدم وج ودي على المعل ول‪ ..‬ال‬
‫تق ّد ًما زمانيًا‪ ..‬فالمعلول رغم اقترانه مع العلّة‪ ،‬ليس له تق ّدم وت أ ّخر من ه ذه الناحي ة في‬
‫البين‪ ،‬لكنّه الحق للعلّة في المرتب ة والمرحل ة‪ ..‬وه و ـ باإلض افة إلى ذل ك ـ مش روط‬
‫بوجود العلّة‪ ،‬خالفا ً للعلّة فإنها ليست مشروطة بوجود المعلول‪ ..‬ولذلك يصح أن نقول‪:‬‬
‫(ما لم تتوفر العلة على الوجود فه و ال يت وفّر على الوج ود)‪ ..‬ولكن ال يص ح أن نق ول‬
‫بشأن العلّة (ما لم يتوفّر المعلول على الوجود فهي ال تتوفّر على الوجوب)‬
‫قلت‪ :‬فهال وضحت لي هذا‪.‬‬
‫قال‪ :‬سأضرب لك مثاال على ذلك يقربه لك‪ ..‬أرأيت لو أن مجموع ة من الجن ود‬
‫تريد القيام بعمل‪ ،‬كالهجوم على العدو مثالً‪ ،‬لكن أيا ً من أفراد هذه الجماعة غير مس تعد‬
‫ألن يكون هو المتق ّدم في عملية الهجوم‪ ،‬بل غير مس تعد ألن يك ون في خ ط واح د م ع‬
‫اآلخرين‪ ..‬فإذا ذهبنا إلى الفرد الثاني يقول ما قال ه األول بالنس بة إلى الث الث‪ ..‬والث الث‬
‫يقول ذلك بالنسبة إلى الرابع وهكذا‪ ..‬فال نجد فرداً واحداً يوافق على الهجوم بال شرط‪،‬‬
‫فهل يمكن في مثل هذه الحال أن يحصل الهجوم؟‬
‫ألن كل الهجوم ات مش روطة بهج وم واح د‪ ،‬وليس‬ ‫قلت‪ :‬الشك أنه لن يحصل‪ّ ..‬‬
‫لدينا هجوم غير مشروط‪ ..‬والهجوم ات المش روطة ال تي تش ك ّل سلس لة ال تت وفّر على‬
‫الوجود من دون تحقّق الشرط‪ ،‬مما يعني عدم وقوع أي هجوم‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهكذا إذا فرضنا سلسلة غير متناهية من العل ل والمعل والت‪ ،‬فبحكم كونه ا‬
‫بك ّل آحادها ممكنة الوجود‪ ،‬فسوف يكون وج ود ك ل واح د من ه ذه السلس لة مش روطا ً‬
‫بوجود اآلخر‪ ،‬وهذا اآلخر بدوره مشروط بفرد آخر‪ ،‬وجميع آحاد ه ذه السلس لة كأنه ا‬
‫إن‬‫تقول‪( :‬ما لم يتوفّر فرد آخر على الوج ود فس وف ال أت وفّر على الوج ود)‪ ..‬وحيث ّ‬
‫لسان الحال هذا هو لسان حال الجمي ع بال اس تثناء‪ ،‬إذاً فجمي ع ه ذه األف راد مش روطة‬
‫ي منها على الوجود‪.‬‬ ‫بشرط ال وجود له‪ ،‬إذاً فسوف ال يتوفّر أ ّ‬
‫لكن بم ا أن هن اك موج ودات قائم ة في ع الم الوج ود‪ ..‬إذاً فمن المحتّم وج ود‬
‫واجب بالذات‪ ،‬وعلّة غير معلولة‪ ،‬وشرط غير مش روط في نظ ام الوج ود‪ ،‬حيث ك ان‬
‫هو الذي أوجد سائر الموجودات األخرى‪.‬‬
‫***‬
‫بعد أن فارقت تلميذ الفارابي‪ ،‬التقيت فيلسوفا آخر يقال له [العالمة الطباطب ائي]‬
‫قال لي(‪ :)1‬بم ا أن ه ال يوج د ل دينا أدنى ش ك في واقعي ة الوج ود‪ ،‬وال في ثبوت ه‪ ..‬فهي‬
‫واقعية ال تقبل النفي وال الفناء عند العقالء ما عدا السفسطائية‪..‬‬
‫قلت‪ :‬الحمد هلل‪ ..‬أنا لست سفسطائيا‪ ،‬وأنا مقر بواقعية الوجود‪ ،‬وأنها واقعية دون‬
‫قيد أو شرط‪.‬‬
‫قال‪ :‬بما أنك صرحت بذلك‪ ..‬فإن عليك أيضا أن تصرح أن هذا الع الم وأج زاءه‬

‫‪ )(1‬ذكر العالمة الطباطبائي هذا التقرير في كتابه [أصول الفلسفة]‬

‫‪67‬‬
‫ليس كذلك‪ ،‬فهو يقبل النفي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أصرح بذلك أيضا‪ ..‬فهو ليس الزم الوجود‪.‬‬
‫قال‪ :‬إن هذا يدعوك ألن تصرح أيضا ب أن ه ذا الع الم ـ م ا دام موج ودا ـ فه و‬
‫يستند إلى واقعية ال تقبل النفي‪ ،‬وبوجودها تكون له واقعي ة‪ ،‬ول و لم تكن ه ذه الواقعي ة‬
‫موجودة لما وجد هذا العالم وأجزاؤه‪.‬‬
‫س كت‪ ،‬فق ال‪ :‬ال يص ح أن تفهم ني خط أ‪ ..‬فتعت بر أن ه ذه الواقعي ة متح دة م ع‬
‫األش ياء أو أنه ا تح ل فيه ا‪ ،‬أو أن أج زا ًء من ه ذه الواقعي ة ق د انفص لت واتص لت‬
‫باألشياء‪ ..‬إنها فقط مثل النور الذي تصبح به األجس ام المظلم ة أجس اما ً مض يئة‪ ،‬ومن‬
‫دونه تبقى مظلمة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وعيت هذا‪ ..‬أنت تريد أن تصل بي إلى أن أصل الواقعية ال واجب األزلي‪،‬‬
‫وبذلك تكون الواقعيات القابل ة لل زوال والموج ودات المح دودة مرتبط ة به ذه الواقعي ة‬
‫غير القابلة للزوال ومعتمدة عليها‪.‬‬
‫قال‪ :‬ذلك صحيح‪ ..‬فتأمل فيه‪ ..‬ودع عنك تلك الوسائط الممتلئة بالشبهات‪ ،‬وال تي‬
‫حجبتك عن الوصول للحقيقة‪ ..‬فـ (شتان بين من يستدل به‪ ،‬أو يستدل عليه‪ ،‬المستدل به‬
‫عرف الحق ألهله‪ ،‬فأثبت األمر من وجود أصله‪ ،‬واالستدالل علي ه من ع دم الوص ول‬
‫إليه‪ ،‬وإال فمتى غاب حتى يستدل عليه‪ ،‬ومتى بعد حتى تك ون اآلث ار هي ال تي توص ل‬
‫إليه)‬
‫***‬
‫بعد أن قال لي هذا انزاحت الكث ير من الش بهات‪ ..‬وامتألت ب الكثير من األن وار‬
‫لكني لم أتخلص كليا من دين قومي إال وأنا سائر إلى بل دي‪ ،‬حيث تهت في الص حراء‪،‬‬
‫لوال أن من هللا علي ببعض أهل البادية ممن أنقذ جسدي‪ ،‬وأنقذ إيماني أيضا‪ ..‬فقد رأيته‬
‫يق وم في منتص ف اللي ل إلى وض وئه‪ ،‬ثم إلى ص الته‪ ،‬ثم إلى دعائ ه ومناجات ه لرب ه‪..‬‬
‫وكان مما سمعته منه‪ ..‬ودخل قلبي من دون استئذان قوله ـ وهو يناجي ربه ـ ‪( :‬إلهي‪،‬‬
‫كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك‪ ..‬أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك‬
‫حتى يكون هو المظهر لك‪ ..‬متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل علي ك‪ ..‬وم تى بع دت‬
‫حتى تكون اآلثار هي التي توصل إليك!!)‬
‫عندما قال هذا اغرورقت عياني بالدموع‪ ،‬وأسرعت إليه‪ ،‬أس أله عن رب ه‪ ،‬فق ال‬
‫لي‪ :‬ربي معي‪ ..‬يسكن في قلبي‪ ..‬وفي كل لطيفة من لطائفي‪ ..‬وال حياة لي من دونه‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكني أراه محجوبا عن خلقه‪.‬‬
‫قال‪ :‬أنت الذي حجبت نفسك عنه‪ ..‬وإال فإنه أعظم من أن يحجب ه ش يء‪ ..‬فكي ف‬
‫يتصور أن يحجبه شئ‪ ،‬وهو الذي أظهر كل شئ‪ ..‬وكيف يتصور أن يحجبه شئ‪ ،‬وهو‬
‫الذي ظهر بكل شئ‪ ..‬وكيف يتصور أن يحجب ه ش ئ‪ ،‬وه و ال ذي ظه ر في ك ل ش ئ‪..‬‬
‫وكيف يتصور أن يحجبه شئ‪ ،‬وهو الظاهر قب ل وج ود ك ل ش ئ‪ ..‬وكي ف يتص ور أن‬
‫يحجبه شئ‪ ،‬وهو أظهر من كل شئ‪ ..‬وكيف يتصور أن يحجبه شئ‪ ،‬وهو الواحد ال ذي‬
‫ليس معه شئ‪ ..‬وكيف يتصور أن يحجبه شئ‪ ،‬وهو أق رب إلي ك من ك ل ش ئ‪ ..‬وكي ف‬

‫‪68‬‬
‫يتصور أن يحجبه شئ‪ ،‬ولواله ما كان وجود شئ‪.‬‬
‫عندما سمعت هذا منه‪ ،‬لم أجد إال أن أترك مت اعي وك ل ش يء لي‪ ،‬وأعيش في‬
‫صحبته في تلك البادي ة‪ ،‬ننق ذ الت ائهين‪ ،‬ونرش د الغ افلين إلى أن هللا من علي ب الجلوس‬
‫إليكم‪ ،‬وصحبتكم في هذه الروضة المباركة‪.‬‬
‫البرهان الوجودي‪:‬‬
‫بعد أن أنهى الرجل الثاني حديثه‪ ،‬قام ثالث‪ ،‬وقال‪ :‬ال دور دوري بال ش ك‪ ،‬فليس‬
‫بعد برهان الصديقين إال البرهان الوجودي(‪ ..)1‬وأن ا لي عالق ة كب يرة ب ه‪ ،‬وبأص حابه‬
‫بدءا من الراهب أنسلم‪ ،‬وانتهاء بالفيلسوف الكبير ديكارت‪..‬‬
‫ولهذا يشرفني أن أحدثكم ـ أنا العبد الفق ير إلى هللا ـ عن فض ل هللا علي بالهداي ة‬
‫بسبب هذا البرهان العظيم‪ ..‬فبه أخرجني هللا من ظلمات الجه ل والغواي ة‪ ،‬وب ه أنق ذني‬
‫من جحيم المالحدة‪ ..‬ووضعني معكم معشر المنورين بنور اإليمان‪.‬‬
‫ق الوا جميع ا‪ :‬يس رنا ذل ك‪ ..‬فهلم ح دثنا بنعم ة هللا علي ك‪ ..‬فال نعم ة أفض ل من‬
‫معرفة هللا‪ ..‬وال هدية أعظم من التواصل معه‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬اس محوا لي قب ل أن أح دثكم عن أس باب فض ل هللا علي بالهداي ة‪ ،‬وعلى‬
‫البرهان الذي جذبني هللا به إليه‪ ،‬أن أذكر لكم فضل أستاذي [رينيه ديكارت] ذلك ال ذي‬
‫يطلق عليه [مؤسس الفلسفة الحديثة]‪ ..‬فق د ك انت فلس فته هي الس بب ال ذي تواف ق م ع‬
‫عقلي وطبعي‪ ،‬فجعلني أتحول من اإللح اد إلى اإليم ان‪ ،‬ومن السفس طة والج دل العقيم‬
‫إلى التحقيق والعلم المنير‪.‬‬
‫لقد كانت فلسفته فلسفة جديدة بالفعل‪ ..‬فقد طرح أفكاره بطريقة مختلفة تماما عن‬
‫الطريقة التي طرحت بها الفلسفة طوال عشرة قرون من قبله‪ ..‬أقصد الفلسفة المدرس ية‬
‫المعروفة‪ ..‬فلسفة أفالطون وأرسطو اللتين سادتا التفكير الفلسفي في أوربا أيام العص ر‬
‫الوسيط‪.‬‬
‫والذي جعلني أميل إلى فلسفته خصوصا هو أنها ليس ت مج رد ت أمالت خالص ة‬
‫أو أفكار عقيمة‪ ..‬وإنما كانت ذات مردودات عملية تتعلق بجميع جوانب الحياة‪.‬‬
‫ومن أهم تلك الجوانب التي أفادتني كثيرا‪ ،‬بل أنقذتني من اإللحاد والسفسطة كما‬
‫ذك رت لكم أس لوبه الجدي د ال ذي وض عه للوص ول إلى المعرف ة‪ ،‬وخاص ة المعرف ة‬
‫اإللهية‪ ..‬حيث كان السائد في العصور السابقة‪ ،‬وخاصة في الفلسفة اليونانية أن معرف ة‬
‫هللا ال تكون إال عن طري ق الك ون‪ ..‬ثم بع دها يس مو اإلنس ان بفك ره إلى أن يص ل إلى‬
‫وجود هللا‪.‬‬
‫لكن ديك ارت خ الف ه ذه النظ رة‪ ،‬وط رح فك رة بديل ة‪ ،‬وهي الوص ول إلى هللا‬
‫تعالى أوال‪ ،‬ثم الوصول إلى كونه‪ ..‬أي أنه فعل مثلما فعل فالسفة برهان الص ديقين من‬
‫الدعوة إلى أن تبدأ المعرف ة من األعلى واألش رف إلى األدنى‪ ..‬أو كم ا أش ار إلى ذل ك‬
‫‪ )(1‬سمي بذلك‪ ،‬وبالبرهان األنطولوجي‪ ،‬ألن الفالس فة الغرب يين – وعلى رأس هم الفيلس وف كان ط ‪ -‬أس موا مجم ل‬
‫منظور أنسيلم ومن على شاكلته بالبرهان األنطولوجي أي البرهان الوجودي المتأسس في تكوين يقينياته على الوجود بين‬
‫الضرورة واإلمكان‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫ق أَ َولَ ْم‬
‫اق َوفِي أَ ْنفُ ِس ِه ْم َحتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ ْم أَنَّهُ ْال َح ُّ‬
‫وبعده قوله تعالى‪َ ﴿ :‬سنُ ِري ِه ْم آيَاتِنَا فِي اآْل فَ ِ‬
‫ك أَنَّهُ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َش ِهي ٌد﴾ [فصلت‪]53 :‬‬ ‫ف بِ َربِّ َ‬‫يَ ْك ِ‬
‫فقد أشارت اآلي ة الكريم ة إلى ك ل أن واع ال براهين‪ :‬س واء تل ك ال تي يب دأ فيه ا‬
‫الب احث من األدنى إلى األعلى ع بر البحث في اآلف اق واألنفس‪ ..‬أو ع بر الب دء من‬
‫األعلى إلى األدنى‪ ،‬وهو شهادة هللا على الكائنات‪ ،‬أو للكائنات‪ ..‬أي أنه هو الشاهد على‬
‫وجودها‪ ،‬فلوال وجوده ما كان وجودها‪.‬‬
‫طبعا لم يكن ديكارت وحده ص احب ه ذا التوج ه في الفلس فة األوروبي ة‪ ،‬وإنم ا‬
‫كان ممثال لسلسلة من أصحاب التوجه التأملي العرفاني الذي ب دأ بالق ديس أوغس طين‪،‬‬
‫وانتهى به‪ ..‬مثله مثل هذا التوجه عن د المس لمين‪ ،‬وال ذي اختل ف في ه أص حاب التوج ه‬
‫العرفاني الصوفي عن التوجه العقلي الفلسفي‪ ..‬وإن اتفق الجميع على هللا‪ ..‬ولم تختل ف‬
‫إال مسالكهم في الوصول إليه‪.‬‬
‫وهكذا عندما كنت في أوروبا في ذلك الزمان كان هن اك تي اران كالهم ا يح اول‬
‫أن يواجه اإللحاد كل بأسلوبه الخاص‪:‬‬
‫أما التيار األول‪ ،‬فتمثل في التوجه األكويني المنتسب لـ [توماس األكويني] الذي‬
‫ب نى براهين ه على أس اس اثنيني ة العق ل وهللا مت أثرا بأفك ار أرس طو‪ ،‬وبطروح ات‬
‫الفيلسوف ابن رش د وأتباعه‪ ..‬وه و م ا يهتم ب ه أص حاب روض ة [ال براهين القاطع ة]‬
‫الذين يرحلون من الكون إلى المكون‪.‬‬
‫أما التي ار الث اني‪ ،‬فه و التوج ه األغوس طيني اإليم اني ال ذي ب نى براهين ه على‬
‫أساس اثنينية النفس وهللا‪ ،‬وقد تأثر أيضا باألفكار الصوفية اإلس المية‪ ،‬وال ذين ي دعون‬
‫دوما إلى البدء في الرحلة من هللا للوصول إلى أكوان ه‪ ..‬ب ل ربم ا يك ون ت أثر ب الطرح‬
‫القرآني نفسه‪ ،‬والذي يعتبر هللا حقيقة بديهية ال تحتاج إلى أي ب راهين ت دل عليه ا‪ ،‬فاهلل‬
‫ك فَ ا ِط ِر‬ ‫ُس لُهُ ْم أَفِي هَّللا ِ َش ٌّ‬ ‫تر ُ‬ ‫تعالى يخبر عن منهج دعوة الرسل ألقوامهم‪ ،‬فيقول‪﴿ :‬قَالَ ْ‬
‫ض﴾ [إبراهيم‪]10 :‬‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ال َّس َم َ‬
‫بل إن القرآن الكريم يذكر أن وج ود هللا حقيق ة نفس ية موج ودة ح تى في نف وس‬
‫المالح دة أنفس هم‪ ،‬وأن س بب ع دم اع ترافهم به ا ه و ك برهم وجح ودهم‪ ،‬ق ال تع الى‪:‬‬
‫﴿ َو َج َحدُوا بِهَا َوا ْستَ ْيقَنَ ْتهَا أَ ْنفُ ُسهُ ْم ظُ ْل ًما َو ُعلُ ًّوا فَا ْنظُرْ َك ْيفَ َكانَ عَاقِبَةُ ْال ُم ْف ِس ِدينَ ﴾ [النم ل‪:‬‬
‫‪ ..]14‬ولذلك كان كفرهم ه و كف ر نفس ي‪ ،‬قب ل أن يك ون كف را عقلي ا‪ ..‬أي أنهم كف روا‬
‫بحقائق آمنت بها أنفسهم‪ ،‬ودلت عليها فطرهم‪ ،‬لكنهم لكبرهم جحدوها‪.‬‬
‫***‬
‫س كت قليال‪ ،‬ثم ق ال(‪ :)1‬لق د ك ان من أب رز أعالم ه ذه المدرس ة‪ ،‬وربم ا يك ون‬
‫ديكارت من المتأثرين به والمتتلم ذين على يدي ه الفيلس وف والمتأل ه [أنس يلم]‪ ،‬وال ذي‬
‫تحول في ذلك العص ر إلى أفض ل ممث ل للتوج ه األغوس طيني المؤس س على اإليم ان‬
‫والعرفان‪ ..‬وميزته أنه حاول أن يك ون حلق ة وص ل بين األغوس طينية والتوماوي ة‪ ،‬أو‬

‫‪ )( 1‬استفدنا المعلومات الواردة هنا من مقال بعنوان‪ :‬البرهان األنطولوجي عند أنسيلم‪ ،‬عبد العالي العبدوني‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫بين اإلشراق الداخلي والتأمل العقلي‪ ..‬وهذا م ا جعل ني أنج ذب إلي ه‪ ..‬كم ا أنج ذب إلى‬
‫ديكارت من بعده‪.‬‬
‫فق د ق دم ه ذا الفيلس وف في كتاب ه الموس وم بـ [بروس لجيون]‪ ،‬نفس ه على أن ه‬
‫الس اعي لـ (إيج اد حج ة دامغ ة ال ب د أن تكفي – وح دها – في البرهن ة على أن هللا‬
‫موجود حقا‪ ،‬وأنه الخير األسمى‪ ،‬وأنه غني عن العالمين‪ ،‬وأن جمي ع الخل ق يحت اجون‬
‫إليه في وجودهم وفي سعادتهم‪ ،‬وفي البرهنة على كل ما نعتقده في الجوهر اإللهي)(‪)1‬‬
‫وبن اء على ذل ك خ اطب أنس ليم نف وس ك ل أولئ ك المتش ككين أو الم ترددين أو‬
‫المالحدة‪ ،‬بأساليب مختلفة‪ ،‬ولغ ات متع ددة‪ ،‬لين ال ك ل واح د منهم حظ ه من المعرف ة‪،‬‬
‫بحسب طبيعته ومرتبته وتجرده‪..‬‬
‫ومن خطابات ه ال تي ال أزال أذكره ا قول ه لهم‪ :‬ع ودوا إلى أنفس كم‪ ..‬وفي ﴿ َوفِي‬
‫ْصرُونَ ﴾ [الذاريات‪ ..]21 :‬وسترون أن اسم هللا مكتوب على ص حائفها‪،‬‬ ‫أَ ْنفُ ِس ُك ْم أَفَاَل تُب ِ‬
‫وفي صفحاتها‪ ..‬ذلك أنه حتى األحمق ال يتصور في ذهن ه أن هن اك موج ود أعظم من‬
‫هللا‪ ..‬فما ال نستطيع أن نتصور أعظم منه في الذهن هو كذلك في الواقع وإال لزم الدور‬
‫في تص ور عظم ة س واه‪ ..‬وذل ك أن رس وخية ثب وت وج ود هللا وص لت ح د ع دم‬
‫االستطاعة على تصور عدم وجوده‪.‬‬
‫وكان يقول لهم‪ :‬إنكم مهما تصورتم ـ أيها الناس ـ من ك ائن ممكن الوج ود على‬
‫أنه أكبر شيء‪ ،‬فسوف تجدون بأنه ليس ذلك الكائن األك بر‪ ،‬ألن ه ليس بوج ود حقيقي‪..‬‬
‫ولهذا السبب يجب على الكائن ذي الكم ال المطل ق أن يحت وي في وج وده‪ ،‬إلى ج انب‬
‫الكماالت األخرى‪ ،‬الوجود الواقعي الكامل‪ ..‬فالوجود الحقيقي هو المكون الماهوي لهذا‬
‫الكائن الالمتناهي‪ ،‬بخالف باقي الموجودات الممكنة والتي ال تمتلك هكذا ماهية‪.‬‬
‫وكان يقول لهم‪ :‬إذا ك ان هللا إله ا‪ ،‬ف إن هللا موج ود ف الوجود اإللهي كفي ل للق ول‬
‫بوجود هللا‪.‬‬
‫وكان يق ول لهم‪ :‬البره ان على وج ود هللا ال يب دأ من الوج ود‪ ،‬ب ل من فك رة هللا‬
‫نفسها‪ ..‬ولما كان هللا هو ما ال يتصور أعظم منه‪ ..‬أي الموجود الكام ل‪ ،‬وك أن الوج ود‬
‫أحد هذه الكماالت‪ ،‬فاهلل موجود‪ ..‬فالموجود الكامل ال يوج د فق ط في ال ذهن‪ ،‬ب ل أيض ا‬
‫في الواقع وإال كان مجرد تصور‪ ،‬وال فرق في ذل ك بين الم ؤمن وغ ير الم ؤمن‪ ،‬فه و‬
‫دليل طبيعي مفطور عليه اإلنسان‪.‬‬
‫وكان يق ول لهم‪ :‬إن الك ائن ال ذي يك ون ع دم وج وده ممكن ا ه و أق ل كم اال من‬
‫الوجود الذي يكون فيه عدم الوجود مستحيال‪ ..‬ذلك أن اعتقاد عدم وجود موج ود يظ ل‬
‫منقصة في الموجود ألنه من المتيسر تصور عدم وجوده‪ ،‬أما الموجود ال ذي ال يتيس ر‬
‫تصور عدم وجوده فهو أكمل من سابقه‪ ،‬النتفاء هذه المنقصة فيه‪.‬‬
‫وكان يقول لهم‪ :‬إن الكائن ال ذي يوج د بالض رورة‪ ،‬وال ذي ال يمكن تمي يزه عن‬
‫وجوده هو أكثر كماال من الكائن ال ذي يك ون وج وده غ ير مهم‪ ،‬بمع نى أن وج وده أو‬

‫‪ )(1‬نماذج من الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط‪ :‬أوغسطين – أنسيلم – توما األكويني‪ ،‬حسن حنفي ‪ ،‬ص ‪.137‬‬

‫‪71‬‬
‫عدم وجوده سيان‪.‬‬
‫وكان يقول لهم(‪ :)1‬إن الموجود الذي ال يمكن تص ور ش يء أعظم من ه ال يمكن‬
‫أن يوجد في العقل وحده‪ ،‬وبالفعل‪ ،‬حتى إذا كان موجودا في العقل وح ده‪ ،‬فمن الممكن‬
‫أن نتصور موجودا مثله له وجود في الواقع أيضا‪ ،‬وهو بالتالي أعظم منه‪ ،‬وعلي ه‪ ،‬إذا‬
‫ك ان موج ودا في العق ل وح ده‪ ،‬ف إن الموج ود ال ذي ال يمكن تص ور ش يء أعظم من ه‬
‫سيكون من طبيعة تستلزم أن يكون باإلمكان تصور شيء أعظم منه‪.‬‬
‫جاءه في ذلك اليوم أحدهم‪ ،‬وقال‪ :‬أرى أنك تتكلم كالما غريبا‪ ،‬ال داللة ل ه‪ ،‬فهال‬
‫وضحته لي‪ ،‬ولهؤالء الذين يحيطون بك‪.‬‬
‫ّ‬
‫قال أنسلم‪ :‬أجبني‪ ..‬هل يمكن أن تتص َّور أي شيء في الذهن مهما كان عظيما؟‬
‫قال الرجل‪ :‬نعم‪ ..‬يمكنني ذلك‪.‬‬
‫ّ‬
‫الش يء ال ذي ورد في‬ ‫قال أنس لم‪ :‬فه ل يمكن أن تتص َّور م ا ه و أعظم من ذل ك َّ‬
‫خيالك؟‬
‫قال الرجل‪ :‬نعم‪ ،‬يمكن تصوّر شيء أعظم من ذلك‪.‬‬
‫قال أنسلم‪ :‬فلنس ِّم هذا األعظم الذي ال أعظم منه [هللا]‪ ..‬أترى أن هذا خاص ب ك‪،‬‬
‫أم يشمل جميع الناس؟‬
‫قال الرجل‪ :‬بل جميع الناس يستوون في هذا‪ ..‬ح تى األحم ق يمكن ه أن يتص َّور‬
‫هذا ال َّشيء األعظم في ذهنه؟‬
‫قال أنسلم‪ :‬فه ل ه ذا الش يء الّ ذي يتص وره الجمي ع‪ ..‬الم ؤمن وغ ير الم ؤمن‪..‬‬
‫موجود في الذهن فقط أم موجود في الذهن‪ ،‬وفي الواقع؟‬
‫قال الرجل‪ :‬ربّما يكون موجودا في الذهن فقط‪.‬‬
‫أن هذا األعظم موج ود في ال ّذهن فق ط نك ون‬ ‫قال أنسلم‪ :‬أال ترى أننا حين نذكر َّ‬
‫قد حقرناه‪ ،‬ولم نعطه أي قيمة‪ ،‬بل إن أي موجود مهما ك ان حق يرا يص بح أعظم من ه‪..‬‬
‫فإن هذا األعظم ال يبقى عظي ًما‪.‬‬‫وبالتّالي َّ‬
‫قال الرجل‪ :‬هذا صحيح‪...‬‬
‫ّ‬
‫قال أنسلم‪ :‬فإذن ليك ون ه ذا األعظم عظي ًم ا ينبغي أن يك ون موج ودًا في ال ذهن‬
‫وفي الواقع‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬نعم‪ ،‬بك ّل تأكيد‪.‬‬
‫تصور هذا الموجود األعظم‪ ،‬والّذي هو هللا‪ ،‬فإنَّ‬
‫ُّ‬ ‫قال أنسلم‪ :‬إذن‪ ،‬مادمنا نستطيع‬
‫الذهن وفي الواقع‪.‬‬ ‫هذا يعني أن هللا موجود في ّ‬
‫***‬
‫أذكر أن الكثير في ذلك الزمان أعجبوا بهذا البرهان‪ ،‬واستفادوا من ه‪ ،‬وتخلص وا‬
‫من كثير من الشبه التي كانت تعرض لهم جراء البراهين األخرى‪ ..‬لكن آخرين راح وا‬
‫يعترضون عليه‪ ،‬ويسخرون منه حتى من الرهبان أنفسهم‪ ..‬لكنه ك ان ال يأب ه لهم‪ ..‬ألن‬

‫‪ )(1‬إميل برهييه في تاريخ الفلسفة (‪)3/51‬‬

‫‪72‬‬
‫حديث ه لم يكن معهم‪ ،‬وإنم ا ك ان م ع المتج ردين‪ ..‬وله ذا ك ان يق ول لهم‪ ،‬ول راهب‬
‫م ارموتيو خصوص ا‪ ،‬وال ذي اع ترض علي ه كث يرا‪ :‬ال تع ترض علي‪ ..‬فلك ل ق وم‬
‫مشربهم‪َ ﴿ ..‬ولِ ُك ِّل قَوْ ٍم هَا ٍد﴾ [الرعد‪ ..]7 :‬و﴿ لَ ُك ْم ِدينُ ُك ْم َولِ َي ِد ِ‬
‫ين﴾ [الكافرون‪]6 :‬‬
‫وأذكر في ذلك الحين أن ذلك الراهب كتب كتابا ح اوره في ه على لس ان ش خص‬
‫غير مؤمن بوجود خالق للكون قال ل ه في ه‪ :‬يل زم من برهان ك ه ذا أن مج رد التص ور‬
‫لشيء ما يستلزم وجوده الخارجي‪ ..‬وبناء على قولك هذا توجد [الجزيرة المثلى]‪ ..‬ولو‬
‫أن الجزيرة المثلى لم توجد‪ ،‬ف إن ذل ك س وف يتن اقض م ع كونه ا مثلى‪ ..‬وعلي ه فإنه ا‬
‫وغيرها مما نعتبرها مثاليًا‪ ،‬يجب وجوده‪ ..‬وهذا أمر غير منطقي؛ ألن الجزي رة المثلى‬
‫ال توجد بالفعل‪ ..‬وإذا كانت البراهين الموازية للبرهان األص لي غ ير منطقي ة ف األخير‬
‫يكون غير منطقي كذلك‪.‬‬
‫وقد كتب له أنسلم ردًا يقول له فيه‪ :‬أنت لم تع برهاني‪ ..‬ففرق كب ير بين الوج ود‬
‫ال واجب‪ ،‬والوج ود الممكن‪ ..‬أم ا الجزي رة ال تي ذكرته ا ورحت تش نع به ا علي فهي‬
‫ممكنة‪ ،‬ووجودها ممكن؛ ألنه يفتقر إلى وجود البحر واألرض‪ ،‬والجزر نفسها ال يل زم‬
‫وجودها‪ ،‬فهو إذن وجود غير واجب‪ ..‬فكيف تبطل ما ذكرت بما ذكرت‪ ..‬وكيف تبط ل‬
‫بالممكن الواجب‪.‬‬
‫***‬
‫سكت قليال‪ ،‬ثم قال‪ :‬هذا بعض ما سمعته من الراهب أنسلم‪ ..‬أما ديكارت‪ ..‬وه و‬
‫أستاذي األكبر‪ ..‬فقد سمعت منه الكث ير‪ ..‬دع وني قب ل أن أح دثكم عن برهان ه ال ذي ال‬
‫يختلف كثيرا عن برهان أنسلم أن أذكر لكم قيمة هذا الرج ل‪ ،‬مقارن ة بأولئ ك الفالس فة‬
‫الجاحدين(‪.)1‬‬
‫ذلك أني رأيت الكث ير من الفالس فة والمس لمين منهم خصوص ا يهتم ون بك انت‬
‫األلماني‪ ،‬أكثر من اهتمامهم بديكارت الفرنس ي‪ ..‬م ع أن فلس فة ك انت ك انت من أب رز‬
‫أسباب التيه في فهم موقف الدين من العقل والعلم‪ ..‬ففلسفة كانت ـ كما تعلم ون ـ ك انت‬
‫تهدف إلى إبعاد العلم والعقل النظري من المسائل الدينية بخالف فلسفة ديكارت‪.‬‬
‫ولألسف فقد كانوا يسيئون أيضا إلى فلسفة ديكارت حينما يسمونها فلسفة الشك‪،‬‬
‫وحين يعتبرون ديكارت زعيم الشاكين‪ ،‬والمشككين للناس في هللا‪ ..‬وه ذا خط أ جس يم‪،‬‬
‫ف ديكارت ك ان في طليع ة المؤم نين باهلل‪ ،‬الموق نين إيقان ا ً يجعل ه أس اس العلم وأص له‬
‫ومنبعه‪.‬‬
‫أما مسألة الشك الشائعة عن ه‪ ،‬ف إن ديك ارت ـ على حس ب م ا عرفت ه من خالل‬
‫فلسفته‪ ،‬ومن خالل صحبتي له ـ لم يضعها إلثارة الشك في ك ل ش يء‪ ،‬وإنم ا وض عها‬
‫لهدم صرح الشك‪ ،‬الذي كان الحسبانيون قد أسسوه في قلوب الناس‪.‬‬
‫فقد كان العصر ال ذي يعيش في ه‪ ..‬وه و بداي ة عص ر التن وير ق د امتحن بتس لط‬
‫الحسبانية المتوارثة من الفلسفة اليونانية عليه‪ ،‬وعلى أفكار الفالسفة الغربيين‪ ،‬والسيما‬
‫‪ )( 1‬الثناء المذكور هنا هو للعالمة مصطفى صبري في كتابه [موقف العقل والعلم] الذي يذكر إعجابه به ك ل حين‪،‬‬
‫ويتعجب من عدم اهتمام المصريين في زمنه به في نفس الوقت الذي يهتمون بكانط‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫المس يحيين منهم‪ ،‬فك ان ديك ارت ـ بمنهج ه وفلس فته ـ أول من دك دع ائم الش ك في‬
‫الغرب‪ ،‬وأبعده عن الفلسفة‪.‬‬
‫وكان من دالئل ذكائه وعبقريته أنه جع ل الش ك نفس ه يه دم الش ك‪ ..‬ول ذلك ق ال‬
‫مخاطب ا المش ككين‪ :‬إني أش ك‪ ،‬ف أدرك‪ ..‬ألن الش ك ن وع من اإلدراك‪ ،‬أي أن ه إدراك‬
‫م تردد بين اإليج اب والس لب‪ ..‬ثم أدرك من ه ذا أني موج ود‪ ..‬ول و لم أكن موج وداً‬
‫النتفى شكي‪ ،‬وإدراكي المندمج فيه بانتفائي‪ ،‬مع أني قلت لكم‪ :‬إني أش ك‪ ،‬وأنتم معاش ر‬
‫الريبيين صدقتموني في قولي هذا‪.‬‬
‫وبهذه المقولة وض ع ديك ارت أس اس العلم تج اه داء الش ك الم زمن‪ ،‬مستخلص ا ً‬
‫دواءه من نفس الداء‪ ،‬وحصل على أول يقين من إدراك اإلنسان وجود نفسه‪.‬‬
‫لقد قال معبرا عن ذلك‪ :‬إن قضية [أدرك فأنا إذن موجو ٌد]‪ ،‬حقيقة بديهية‪.‬‬
‫وبذلك يخطئ من يظن أن ديكارت كان يدعو إلى الشك في كل شيء‪ ،‬بل إنه هو‬
‫الذي استخرج ‪-‬ح تى من الش ك‪ -‬حقيق ة متحقق ة‪ ..‬وه و الفيلس وف الوحي د بين فالس فة‬
‫الغرب الذي ألغى ثنائي ة العق ل واإليم ان المنتقل ة من فلس فة الق رون الوس طى‪ ،‬وال تي‬
‫تأثرت بها المسيحية‪ ،‬فأدخلت اإليمان في نظرية اليقين ركنا ً جديداً؛ بحج ة أن العق ل ال‬
‫يتخلص من الحس بانية في اكتس اب اليقين‪ ،‬فيحت اج إلى دعم ه باإليم ان المب ني على‬
‫اإلرادة‪ ..‬ولم يكن ذلك سوى توهينا ً للعقل‪ ،‬أكثر من دعم له‪ ،‬التهامه بالعجز‪ ،‬وتفض يل‬
‫قوة اإليمان على قوته‪.‬‬
‫وأنتم تعلمون السبب الذي جعل رج ال ال دين المس يحي يتوجه ون ه ذا التوج ه‪،‬‬
‫فهو ليس حرصا على اإليم ان بوج ود هللا‪ ،‬وال حرص ا على كماالت ه‪ ،‬ألن العق ل يؤي د‬
‫ه ذين األم رين جميع ا‪ ..‬ولكن دفع وا ل ذلك لعج زهم عن إثب ات تل ك اإلض افات ال تي‬
‫أضافوها لإليمان باهلل‪ ،‬والتي عجزت العقول عن تعقلها أو تصورها‪.‬‬
‫لقد قال [بول زانه] يذكر ذلك‪( :‬يُفهم أن القرون الوس طى‪ ،‬لم توف ق في علمه ا‪،‬‬
‫ولم تستطع تأليف العقل باإليمان‪ ،‬فسعى لتغليب الثاني على األول)‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن ديكارت عندما جاء في ذلك العصر راح يلغي ثنائية العقل واإليمان‪،‬‬
‫باطراح اإليم ان‪ ،‬وإع ادة حق وق العق ل إلي ه‪ ،‬وتخليص ه من الحس بانية‪ ،‬وقض ائه على‬
‫بسالح مأخو ٍذ من الشك نفسه‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫الشك‪،‬‬
‫ً‬
‫وليس معنى إشادتي بطرحه لإليمان‪ ،‬أنه فعل ذلك مطلقا‪ ،‬كم ا ق د يت وهم‪ ،‬وإنم ا‬
‫طرح اعتب اره ركن ا ً في نظري ة اليقين‪ ،‬وس نداً للعق ل في إدراك الحق ائق؛ فليس العق ل‬
‫عنده تابعا ً لإليمان‪ ،‬بل اإليمان تابع للعقل‪.‬‬
‫لقد عبر عن ذلك بقوله‪(:‬إن قضية [أدرك فأنا إذن موجو ٌد] حقيق ةٌ بديهي ة‪ ،‬وه ذه‬
‫الحقيقة ال تسقط في أي زمان بساحة الذاكرة‪ ،‬وال تزال غير فاقدة لبداهتها ح تى تص ل‬
‫إلى هللا؛ ف إذا وص لت إلي ه تُيقِّن أن العق ل أنش ئ لفهم الحقيق ة‪ ،‬ويتض من ه ذا اليقينَ‬
‫المقدمات المستخدمة في إثبات وجود هللا أيضا ً)(‪)1‬‬
‫ُ‬

‫‪ )(1‬المطالب والمذاهب‪( ،‬ص‪.)68 :‬‬

‫‪74‬‬
‫وهو يقص د ب ذلك أن ه يش ك في ك ل م ا ليس بم برهن علي ه‪ ،‬وال يُقبَ ل‪ ،‬م ا ع دا‬
‫الظاهر بذاته‪ ،‬أو بغيره‪ ،‬أو تدل األدلة والبراهين عليه‪..‬‬
‫وقد مارس بذلك ما مارسه جميع المؤمنين الذي قد ينطلق ون من الش ك‪ ،‬ليحقق وا‬
‫اإليم ان‪ ،‬ف الخروج من اإليم ان ال وراثي يس تدعي ط رح تس اؤالت تش كيكية ليص ل‬
‫صاحبها بع دها إلى بح ر الحقيق ة ال ذي ال س احل ل ه‪ ..‬ول ذلك يحت اج إلى أن يبح ر في‬
‫زورق صحيح من البراهين العقلية‪ ،‬ليتمكن من االستمرار في الطريق‪.‬‬
‫لقد فعل ذلك الكثير من الفالسفة والمفكرين‪ ،‬ومنهم [طوماس في سوم أولوزيك]‬
‫الذي بدأ أبحاثه اإللهي ة بط رح ه ذا الس ؤال‪( :‬ه ل هللا موج ود؟ )‪ ،‬ثم راح يجيب علي ه‬
‫بقوله‪( :‬و ليكن جوابنا بالنفي)‪ ..‬ثم راح يورد االعتراضات العقلي ة على ذل ك النفي إلى‬
‫أن أثبت الوجود‪.‬‬
‫***‬
‫والميزة الثانية التي جعلت من أستاذي الكب ير ديك ارت أس تاذا لإليم ان كم ا أن ه‬
‫أستاذ في الفلسفة ه و اعتب اره لموجودي ة اإلدراك األس اس ال ذي ينطل ق من ه اكتش اف‬
‫الحقائق‪.‬‬
‫ق د ع بر عن ذل ك بقول ه‪( :‬مهم ا ك ان ت رتيب المع اني‪ ،‬ال ذي ي راد تقري ره في‬
‫الفلسفة‪ ،‬فالشيء الذي يبقى حقيقة دائماً‪ ،‬هو الشعور؛ فقد أشك في وجود األجسام‪ ،‬وق د‬
‫أشك في وجود هللا‪ ،‬وفي الحق ائق الرياض ية؛ لكن ال أش ك أص الً في وج ود ش عوري‪،‬‬
‫ألن شكي في وجود شعوري‪ ،‬شعو ٌر أيضاً؛ والح ال أن ش عوري‪ ،‬أي ش كي معن اه أني‬
‫يشك أيضاً؛ وبنا ًء عليه‪ ،‬فأنا مدرك‪ ،‬ش اعرٌ‪ ،‬موج و ٌد‪ ،‬من‬ ‫ُّ‬ ‫موجو ٌد‪ ،‬فإن من ال يوجد‪ ،‬ال‬
‫ك‪ ،‬إن لم أكن موجوداً بأي حيثية)‬ ‫حيث أني مدر ٌ‬ ‫ُ‬
‫وبناء على هذا لم يستعمل ديكارت األدلة الطبيعية‪ ..‬ال الدليل الكياني‪ ..‬وال دلي ل‬
‫العلة الغائية‪ ..‬الذي استعمله سائر الفالسفة‪ ..‬ألنه رأى أن وجو َد الكائنات المادية يحتاج‬
‫أوال إلى إثبات وجودها إلى وج ود هللا؛ وال ذي ال يحت اج في إثب ات وج وده إلى وج ود‬
‫هللا‪ ،‬إنما هو وجود نفس ه‪ ،‬فال دور‪ ..‬فوج ود نفس ه‪ ،‬المس تفاد من إدراك ه‪ ،‬ه و الحقيق ة‬
‫األولى الثابتة‪ ،‬ثم يترتب عليه وجود هللا‪ ،‬ثم يترتب عليه ثبوت وجود العالم‪.‬‬
‫ففلس فة ديك ارت به ذا تمت از بكون ه أثبت وج ود هللا‪ ،‬قب ل إثب ات وج ود الع الم‬
‫المادي‪ ،‬واستدل عليه من وجود نفسه الناطق ة‪ ،‬ووج ود ش عوره‪ ،‬وتمت از أيض ا ً بكون ه‬
‫بنى حقية وجود العالم على صدوقية هللا‪.‬‬
‫لعل كل ذلك‪ ..‬وكل تلك المعاني السامية ال تي أش ار إليه ا ديك ارت متض منة في‬
‫ق ِم ْث َل َما أَنَّ ُك ْم تَ ْن ِطقُ ونَ ﴾ [ال ذاريات‪،]23 :‬‬ ‫قوله تعالى‪﴿ :‬فَ َو َربِّ ال َّس َما ِء َواأْل َرْ ِ‬
‫ض إِنَّهُ لَ َح ٌّ‬
‫فقد أخبر هللا تعالى في هذه اآلية الكريمة عن أحقي ة ربوبي ة هللا للك ون ب دليل ش عوري‬
‫نفسي وهو النطق‪ ..‬فكما أن اإلنسان يشعر بنطقه‪ ،‬وال يجادله أحد في وجوده‪ ،‬فإن ذل ك‬
‫الشعور البد أن يكون أداته ووسيلته للوصول إلى الحق‪.‬‬
‫***‬
‫بناء على هذا‪ ،‬راح ديكارت مثله مثل أنس لم والق ديس أوغس طين وغيرهم ا من‬

‫‪75‬‬
‫الفالسفة والباحثين عن هللا يخاطبون زمر المشككين والالأدريين والمالح دة بقول ه‪ :‬إذا‬
‫قلت هللا‪ ،‬فإني أفهم منه جوهراً أزليا ًّ غير متنا ٍه‪ ،‬وال ٍ‬
‫قابل للتغير‪ ،‬عليماً‪ ،‬قديراً‪ ،‬أوجدني‬
‫وسائر األشياء على تقدير ثبوتها‪ ..‬فمن أين يأتيني هذا المفهوم؟‪ ..‬ومن حيث أن ه مع نى‬
‫من المع اني‪ ،‬يل زم أن يوض ح منش أه؟‪ ..‬وهب أني لك وني ج وهراً‪ ،‬أتص ور في نفس ي‬
‫جوهراً غيري‪ ،‬ولكني جوه ٌر متنا ٍه؛ فكيف أتصور جوهراً غ ير متن ا ٍه؟‪ ..‬أال يكفي ه ذا‬
‫للداللة على وجود هللا؟‬
‫وكان يقول ـ مخاطبا علم اء الرياض يات والهندس ة (‪ )1‬ـ ‪ :‬من الحق ائق م ا ه و‬
‫ي أزلي‪ ،‬وتل ك الحق ائق ال تخ رج من أن تك ون حق اًّ‪ ،‬ول و لم يوج د ش ي ٌء من‬ ‫ض رور ٌّ‬
‫األشياء‪ ،‬التي تعمل فيها‪ ،‬مثالً إن زوايا المثلث مساوية لقائمتين‪ ،‬فال تحتاج هذه الحقيقة‬
‫في أن تكون حقاًّ‪ ،‬إلى تحق ق أي مثلث في الواق ع‪ ،‬وال تحت اج أيض ا ً إلى وج ود ال ذهن‬
‫ق‪ ،‬ولو لم يوج د إنس ان في ال دنيا‪ ،‬وإذا لم يكن له ا أي توق ف‬ ‫اإلنساني ليعلمها‪ ،‬فهي ح ٌّ‬
‫على العالم‪ ،‬وال على الروح اإلنسانية‪ ،‬لزم أن تكون مربوطة بوجود آخر‪.‬‬
‫وكان يقول مخاطبا لهم‪ :‬إن وجود هللا يقيني‪ ،‬أكثر من يقينية الدعاوى الهندس ية‪،‬‬
‫والقوانين الرياضية‪ ،‬ألن تلك الدعاوى‪ ،‬وتلك الق وانين ال تي ال تحت اج في كونه ا حق اًّ‪،‬‬
‫ثابتةٌ إلى وجود ما تنطبق عليه من الكائنات في الع الم‪ ،‬وال في أذه ان من يتص ورونها‬
‫من علماء البشر الرياضيين‪.‬‬
‫وكانوا يق ول مخاطب ا ال ذين لم يستس يغوا رفض التسلس ل‪ ،‬ولم تقنعهم ال براهين‬
‫المرتبطة بذلك‪ :‬أنتم لستم في حاجة للبرهنة على بطالن التسلسل‪ ،‬فبقاء الك ون على م ا‬
‫عليه دليل على هللا‪ ..‬ذلك أن حفظ الجوهر‪ ،‬وإبقاءه‪ ،‬عينُ خلقه‪ ..‬فمن خلقني س ابقاً‪ ،‬ه و‬
‫الذي يبقيني حاالً؛ مع أني ال يمكنني إن لم أسنده إلى من يمل ك جمي ع الكم االت‪ ،‬وأج د‬
‫ي علة أخرى‪.‬‬ ‫مفهومه في ذهني‪ ،‬أن أسنده ال إل ّي‪ ،‬وال إلى والديّ‪ ،‬وال إلى أ ّ‬
‫وكان يرد على الذين يناقشونه في هذا الدليل بقوله‪ :‬إن العلة الموجدة ألي شيء‪،‬‬
‫يلزم أن تبقى ما دام معلولها باقياً‪ ،‬ح تى ل و زالت علت ه‪ ،‬انع دم معه ا المعل ول‪ ،‬فيك ون‬
‫العدم‪ ،‬عدم العلة)‬
‫ِ‬ ‫زوال العلة علةٌ لعدم الحادث؛ ومن هنا يقال‪( :‬علة‬
‫***‬
‫بعد هذا كله اسمحوا لي معشر اإلخوان المنورين بنور اإليمان أن أذك ر لكم أهم‬
‫دليل ذكره ديكارت‪ ،‬أعتبره السبب األكبر في خروجي من أوهام اإللحاد‪ ..‬إنه ما يطلق‬
‫عليه [ال دليل الوج ودي]‪ ،‬أو [ال دليل االنطل وجي]‪ ،‬وال ذي اس تفاده من أنس لم‪ ،‬وق رره‬
‫تقريرات جميلة‪ ،‬وفي منتهى الوضوح والدقة‪.‬‬
‫سأنقل لكم بعض ما قاله‪ ،‬وهو يخاطب زمر الملحدين والمشككين الذين انتش روا‬
‫بكثرة في ذلك الزمان‪ ..‬لقد كان يقول لهم‪ :‬أال ترون الفنان أو الصانع الذي يختم بصفته‬
‫واسمه على صورته واختراعه ليسجل ذلك براءة اختراعه وتصميمه له؟‬
‫قالوا‪ :‬بلى‪ ..‬نحن نرى ذلك‪ ..‬وال أحد إال ويفع ل ذل ك‪ ..‬ح تى تنس ب األش ياء إلى‬

‫‪ )(1‬هذا االستدالل في إثبات وجود هللا للفيلسوف بوسسوئه‪ ،‬وهو يشبه ما يطرحه ديكارت‪..‬‬

‫‪76‬‬
‫أصحابها‪.‬‬
‫قال‪ :‬أترون أن الذي أبدع هذا الكون جميعا تركه من دون أن يض ع في ه أي ختم‬
‫أو بصمة أو توقيع أو عالمة على كونه الخالق المدبر؟‬
‫ق الوا‪ :‬ف أين ذل ك‪ ..‬فنحن ن رى ص ورة التواقي ع ال تي يوقعه ا الفن انون‬
‫والمخترعون‪ ..‬وال نرى صورة توقيع اإلله الذي تذكره‪.‬‬
‫ْصرُونَ ﴾ [الذاريات‪]21 :‬‬ ‫قال‪َ ﴿ :‬وفِي أَ ْنفُ ِس ُك ْم أَفَاَل تُب ِ‬
‫قالوا‪ :‬ما تعني؟‬
‫قال‪ :‬أال ت رون في نفوس كم أن ه إذا تحققت لإلنس ان معرف ة ذات ه بص ورة تام ة‪،‬‬
‫وأدرك أن أخص خصائصه يتمثل في الدافع نحو الكم ال‪ ،‬فإن ه حينئ ذ يع رف حقيق تين‬
‫في وقت واحد‪ ..‬الحقيقة األولى تتمثل في أنه شيء ن اقص ومعتم د على غ يره ومفتق ر‬
‫إليه‪ ..‬والحقيقة الثانية أن هذا الموجود الذي يعتمد عليه يملك بالفعل – وإلى ما ال نهاي ة‬
‫– كل الكمال‪ ..‬وبذلك يكون افتقاره المطلق هو دليله إلى الغني المطلق‪.‬‬
‫لقد أشارت إلى ذلك تلك الكلم ات الخاتم ة المقدس ة ال تي أنزله ا هللا على عب اده‪،‬‬
‫والتي يقول فيها‪﴿ :‬يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَ ْنتُ ُم ْالفُقَ َرا ُء إِلَى هَّللا ِ َوهَّللا ُ ه َُو ْال َغنِ ُّي ْال َح ِميدُ﴾ [فاطر‪]15 :‬‬
‫وقد عبر عن ه ذا البره ان في مح ل آخ ر‪ ،‬فق ال‪( :‬إني ألتص ور ه ذه المش ابهة‬
‫المتضمنة لفك رة هللا بعين الملك ة ال تي أتص ور به ا نفس ي‪ ،‬أي أني حيث أجع ل نفس ي‬
‫موضوع تفكيري‪ ،‬ال أتبين فقط أني شيء ناقص‪ ،‬غير تام‪ ،‬ومعتمد على غ يري‪ ،‬ودائم‬
‫النزوع واالشتياق إلى شيء أحن وأعظم مني‪ ،‬بل أع رف أيض ا ً وفي ال وقت نفس ه أن‬
‫الذي اعتمد عليه يملك في ذاته كل هذه األشياء العظيمة التي أش تاق إليه ا‪ ،‬وال تي أج د‬
‫في نفس أفكا ًر عنها‪ ،‬وأنه يملكها العلى نحو معين أو بالقوة فحسب‪ ،‬ب ل يتمت ع به ا في‬
‫الواقع وبالفعل وإلى غير نهاية‪ ،‬ومن ثم أعرف أنه هو هللا)‬
‫وعبر عنه في محل آخر‪ ،‬فقال‪ :‬أال ترون معشر المشككين أن نفس الشكوك التي‬
‫تع تريكم دلي ل على هللا‪ ..‬ذلك أن الش ك ينط وي على النقص‪ ..‬ولم ا ك ان م اهو ن اقص‬
‫اليمكن أن يكون سببا ً لما هو كامل بمقتضى مبدأ الس بب الك افي ال ذي يكش فه لن ا ن ور‬
‫العق ل الفط ري‪ ..‬ولم ا ك ان ذل ك ك ذلك فمن المح ال أن نحص ل على فك رة الكم ال‬
‫الالمتن اهي من ت راكم أفك ار أش ياء متناهي ة‪ ،‬ألن المتناهي ات اليمكن أن ت ؤدي إلى‬
‫المتناهي‪ ،‬ولهذا‪ ،‬مهما بلغت معرف تي من العظم‪ ،‬فإنه ا ال تبل غ ح داً المتناهي ا ً بالفع ل‪،‬‬
‫ألنها اليمكن أن تصل إلى نقطة التكون عندها قابلة للزيادة‪.‬‬
‫وعبر عنه في محل آخر‪ ،‬فقال‪ :‬م ا دمتم ال تنظ رون إلى أنفس كم‪ ..‬ف انظروا إلي‬
‫أنا جيدا‪ ..‬انظروا إلى ديكارت‪ ..‬وسترون أن ه موج ود غ ير ت ام الكم ال‪ ..‬ب ل ن اقص‪..‬‬
‫وهو ليس الكائن الوحيد في الوج ود‪ ،‬إذ الب د لوج وده من عل ة‪ ..‬والعل ة الب د أن تك ون‬
‫مكافئة على األقل للمعلول إن لم تكن أكثر من ه فض الً وكيف اً‪ ..‬وبم ا أن ديك ارت ال ذي‬
‫يقف أمامكم ليس علة لوج ود نفس ه‪ ،‬إذ ل و ك ان ك ذلك الس تطاع أن يحص ل من نفس ه‬
‫لنفس ه على ك ل م ايعرف أن ه ينقص ه من الكم االت‪ ،‬ألن الكم ال ليس إال محم والً من‬

‫‪77‬‬
‫محموالت الوجود‪ ،‬والذي يستطيع أن يهب الوجود يس تطيع أن يهب الكم ال‪ ..‬والتأم ل‬
‫في هذا يدلكم على وجود علة وج وده‪ ،‬وهي ذات تت وفر على ك ل م ا ال يمكن تص وره‬
‫من الكماالت وهذه هي ذات هللا تعالى (‪. )1‬‬
‫وعبر عنه في محل آخر مخاطبا به بعض المهندسين والرياضيين‪ ،‬فقال‪ :‬كما أن‬
‫فكرتنا عن المثلث تستتبع أن تكون زواي اه الداخلي ة مس اوية لق ائمتين (‪ 180‬درج ة )‪،‬‬
‫كذلك فإن فكرتنا عن هللا باعتباره كائنا ً كامالً متناهيا ً تستلزم وجوده بالضرورة‪ ..‬ففكرة‬
‫الوجود متضمنة في تعري ف المثلث‪ ..‬وعلي ه ف إذا ك ان من التن اقض أن نعت بر الزواي ا‬
‫الداخلية للمثلث التساوي قائمتين‪ ،‬فمن التناقض ك ذلك أن نعت بر هللا غ ير موج ود‪ ،‬ألن‬
‫الوج ود متض من في ماهي ة هللا على نح و م ا تك ون مس اواة الزواي ا الداخلي ة للمثلث‬
‫لقائمتين متضمنة في تعريف المثلث‪.‬‬
‫***‬
‫سكت قليال‪ ،‬ثم قال‪ :‬لقد كانت أمثال تلك الطروح ات والتأم ل فيه ا وح دها ك اف‬
‫لعقلي أن يدع كبرياءة وغروره‪ ،‬ويلتحق بركب اإليمان‪..‬‬
‫لقد كنت حينها ش غوفا بالرياض يات‪ ..‬وك انت الرياض يات والمثلث ات وك ل تل ك‬
‫األرقام المجردة دليلي على هللا‪..‬‬
‫أذكر جيدا أنني التقيت في ذل ك الزم ان البعي د‪ ،‬أي قب ل ديك ارت بف ترة طويل ة‪،‬‬
‫عالما من علماء المسلمين‪ ..‬التقيت به في قرطبة‪ ..‬يقال له [ابن حزم]‪ ..‬وق د رأى م دى‬
‫ح بي للرياض يات واألع داد‪ ،‬فق ال لي‪ :‬تع ال ألع رج ب ك من ع الم األع داد إلى ع الم‬
‫األلوهية‪..‬‬
‫قلت‪ :‬وهل يمكن ذلك؟‬
‫قال‪ :‬يستحيل على ربك أن يخلق شيئا‪ ،‬ثم ال يضع فيه التوقيع الدال عليه‪.‬‬
‫جلست فرحا مسرورا لما دع اني إلي ه‪ ..‬فق ال‪ ،‬وه و يح اورني (‪ : )2‬إن خاص ة‬
‫العدد هو أن يوجد عدد آخر مساو له‪ ،‬وعدد آخر ليس مساويا ً له‪ ،‬هذا ال يخلو منه ع دد‬
‫أصالً‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬المساواة هي أن تك ون أبعاض ه كله ا مس اوية ل ه إذا ج زئت‪ ..‬أال ت رى أن‬
‫الفرد والف رد مس اويان لالث نين‪ ،‬وأن ال زوج والف رد ليس ا مس اويين لل زوج ال ذي ه و‬
‫االثنان‪ ،‬والخمسة مساوية لالثنين والثالثة‪ ،‬غير مس اوية للثالث ة‪ ..‬وهك ذا ك ل ع دد في‬
‫العالم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وعيت هذا‪ ..‬فما تريد منه؟‬
‫ً‬
‫قال‪ :‬كل ما كان له أبعاض فهو مركب كثيرا بال شك‪ ،‬فه و إذن بالض رورة ليس‬
‫واحداً‪ ،‬فالواحد ضرورة هو الذي ال أبعاض له‪.‬‬
‫‪ )(1‬الفلس فة الحديث ة من ديك ارت إلى هي وم‪ ،‬ص ‪ .97‬وانظ ر‪:‬دراس ات في الفلس فة الحديث ة والمعاص رة‪ ،‬د‪ /‬يحي‬
‫هويدي‪ ،‬ص ‪.46‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الفصل البن حزم ‪.84-1/83‬‬

‫‪78‬‬
‫قلت‪ :‬هذا صحيح‪.‬‬
‫قال‪ :‬فإن الحس وض رورة العق ل يش هدان بوج ود الواح د‪ ،‬إذ ل و لم يكن الواح د‬
‫موجوداً لم يقدر على عدد أصالً‪ ،‬إذ الواح د مب دأ الع دد والمع دود ال ذي ال يوص ل الى‬
‫عدد وال معدود إال بعد وجوده‪ ،‬ولو لم يوجد الواحد لما وجد في العالم ع دد وال مع دود‬
‫أصالً‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وعيت هذا‪ ..‬فما تريد منه؟‬
‫قال‪ :‬بما أن العالم كل ه أع داد ومع دودات موج ودة‪ ..‬ف إن الواح د الب د أن يك ون‬
‫موجودا بالضرورة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬ل و نظرن ا في الع الم كل ه نظ راً طبيعي ا ً ض روريا ً لم نج د في ه واح داً على‬
‫الحقيقة البتة بوجه من الوجوه‪ ،‬ألن كل جرم من العالم منقسم‪ ..‬محتمل للتجزئة‪ ..‬متكثر‬
‫باالنقسام أبداً بال نهاية‪ ..‬وكل حركة فهي أيضا ً منقسمة بانقسام المتحرك به ا ال ذي ه و‬
‫المدة‪ ..‬وكذلك كل معقول‪ ،‬من جنس أو نوع أو فصل‪ ..‬وكذلك كل ع رض محم ول في‬
‫جرم فإنه منقسم بانقسام حامله‪..‬‬
‫قلت‪ :‬صحيح‪ ..‬وهذا أمر يعلم بضرورة العقل والمشاهدة‪ ،‬وليس العالم كل ه ش يئا ً‬
‫غير ما ذكرت‪.‬‬
‫قال‪ :‬بما أن أمر العالم كما ذكرت‪ ..‬وبما أنه ليس في العالم واحد البتة‪ ..‬وبم ا أن‬
‫البرهان قائم على ض رورة وج ود الواح د‪ ،‬ف إذن الب د من وج وده‪ ..‬وبم ا أن ه ليس في‬
‫العالم‪ ،‬فهو إذا شيء غير العالم‪..‬‬
‫***‬
‫لست أدري كيف صحت من قوة هذا البرهان وس المته ودقت ه‪ ..‬وكنت أبش ر ب ه‬
‫وبغيره من البراهين التي اس تفدتها من ديك ارت وأنس لم وغيرهم ا إلى أن من هللا علي‬
‫بلقياكم في هذه الروضة من روضات النعيم‪.‬‬
‫نعم وجد من أهل ذل ك الزم ان ممن لم يكن لهم الق درة على اس تيعاب م ا أذك ره‬
‫لهم‪ ..‬لكني لم أكن أعنف عليهم‪ ،‬ولم أكن أتهمهم بالغفلة أو الغباء‪ ،‬وإنما كنت أق ول لهم‬
‫بكل رحمة وشفقة ونصح‪ :‬اذهبوا فلستم بحاجة إليها‪ ..‬فلل ه من األب واب والط رق م ا ال‬
‫عد له وال حصر‪ ..‬فال تكتفوا بإعدام م ا ال تفهمون ه‪ ،‬فع دم ق درتي على إثب ات الحقيق ة‬
‫األزلية لعقولكم ال يعني عدم ثبوتها‪ ،‬وإنما يعني أننا نفكر بطرق مختلفة‪.‬‬
‫البرهان الوجداني‪:‬‬
‫بعد أن أنهى الرجل الثالث حديثه‪ ،‬قام رجل رابع‪ ،‬وقال‪ :‬سأحكي لكم اآلن حكاية‬
‫برهاني‪ ..‬والذي له عالقة بجميع ما ذكرتم وه من ب راهين‪ ..‬ال أدعي أن ه يعوض ها‪ ،‬أو‬
‫يتجاوزها‪ ..‬ولكنه يفيدها‪..‬‬
‫فالكثير ممن ينكر برهان الفطرة‪ ،‬أو برهان الص ديقين‪ ،‬أو البره ان الوج ودي‪،‬‬
‫أو حتى براهين الفالسفة الذين يس تخدمون الوس ائط للدالل ة على هللا‪ ..‬ال يك ون إنك اره‬
‫لها إال بسبب خرم خطير في ذاته ووجدانه جعله ال يرى األشياء بحقيقتها‪ ..‬ولذلك ك ان‬

‫‪79‬‬
‫البرهان الوجداني هو النظارة التي تصحح له الرؤية‪ ،‬فيفهم البراهين بدقة‪.‬‬
‫إن تلك النظارة الوجدانية‪ ،‬أو ذلك التلس كوب اإليم اني‪ ،‬أو ذل ك الميكروس كوب‬
‫العقدي‪ ،‬هو الذي أخرجني من ظلمة نفسي ودنسها إلى أنوار الوجود وقدس يتها‪ ..‬ح تى‬
‫جعلني أرى المعاني اإليمانية رؤية أوضح من رؤية العينين الباصرتين‪ ..‬ولذلك لم أعد‬
‫أحتاج إلى أي دليل‪ ..‬وهل بعد العيان من خبر؟‪ ..‬وهل بعد المشاهدة من إنكار؟‬
‫وأول من علمني حق ائق ه ذا البره ان ومقدمات ه‪ ،‬وأقنع ني ب ه‪ ،‬ومارس ته مع ه‪،‬‬
‫وتدربت عليه بصحبته عالم من علماء المسلمين وع ارفيهم التقيت ب ه في ذل ك الزم ان‬
‫البعيد في بلدة من خراسان‪ ،‬وقد سمعت أنه كان تلميذا للفيلسوف والالهوتي [أبي حامد‬
‫الغزالي]‪ ،‬التقيته‪ ،‬وبثثت له شكوكي‪ ،‬وأني لم أعد أطيقها‪.‬‬
‫قال لي‪ :‬ال تقلق من ذلك‪ ..‬فالشك مقدمة اليقين ومبدؤه‪ ..‬وق د ح دثني ش يخي أب و‬
‫حامد الغزالي أنه مر بتجربة شك أخرجته من صحراء التقليد إلى جن ان التحقي ق‪ ..‬لق د‬
‫ذك ر لي ذل ك‪ ،‬فق ال‪( :‬إن اختالف الخل ق في األدي ان والمل ل‪ ،‬ثم اختالف األئم ة في‬
‫المذاهب‪ ،‬على كثرة الفرق وتباين الطرق بحر عميق غرق فيه األكثرون‪ ،‬وما نجا منه‬
‫إال األقلون‪ ،‬وكل فريق يزعم أنه الناجي‪ ..‬وق د ك ان التعطش إلى درك حق ائق األم ور‬
‫دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري‪ ،‬غريزة وفطرة من هللا وضعتا في جبلتي‪،‬‬
‫ال باختياري وحيلتي‪ ،‬حتى انحلت عني رابطة التقليد وانكسرت على العقائ د الموروث ة‬
‫على ق رب عه د س ن الص با‪ ،‬إذ رأيت ص بيان النص ارى ال يك ون لهم نش وء إال على‬
‫التنصر‪ ،‬وصبيان اليهود ال نشوء لهم إال على التهود‪ ،‬وصبيان المس لمين ال نش وء لهم‬
‫إال على اإلسالم‪ ،‬وسمعت الحديث المروي عن رسول هللا ‪ ‬يقول‪( :‬ك ل مول ود يول د‬
‫على الفطرة‪ ،‬فأبواه يهودانه وينصرناه ويمجسانه)‪ ،‬فتح رك ب اطني إلى حقيق ة الفط رة‬
‫األص لية‪ ،‬وحقيق ة العقائ د العارض ة بتقلي د الوال دين واألس تاذين‪ ،‬والتمي يز بين ه ذه‬
‫التقليدات وأوائلها تلقينات‪ ،‬وفي تميز الحق منها عن الباطل اختالفات)(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬عجبا‪ ..‬إن ما ذكرته عن شيخك‪ ..‬هو نفس ما ذكره شيخي‪.‬‬
‫قال‪ :‬ومن شيخك؟‬
‫قلت‪ :‬أال تعرفه‪ ..‬إنه ديكارت أبو الفلسفة الحديثة ورائدها‪.‬‬
‫قال‪ :‬بلى‪ ..‬أعرفه جيدا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فقد حدث عن نفسه‪ ،‬فقال‪( :‬ليس باألمر الجديد ما تبينت من أنني منذ حداثة‬
‫سني قد تلقيت طائفة من اآلراء الباطلة وكنت أحسبها صحيحة‪ ،‬وأن ما بنيت ه من ذ ذل ك‬
‫الحين على مبادئ هذا حاله ا من الزعزع ة واالض طراب‪ ،‬ال يمكن أن يك ون إال ش يئا ً‬
‫مشكوكا ً فيه جداً‪ ..‬فحكمت حينئذ بأنه ال بد لي م رة في حي اتي من الش روع الج دي في‬
‫إطالق نفسي من جمي ع اآلراء ال تي تلقيته ا في اعتق ادي من قب ل‪ ،‬وال ب د لي من بن اء‬
‫جديد من األسس إذا كنت أريد أن أقيم في العلوم شيئا ً وطيداً مستقراً)(‪)2‬‬

‫‪ )(1‬المنقذ من الضالل (ص‪)110 :‬‬


‫‪ )(2‬التأمالت في الفلسفة األولى‪ ،‬رينه ديكارت‪ ،‬ص‪.53‬‬

‫‪80‬‬
‫ابتسم‪ ،‬وقال‪ :‬ما دام لك مثل هذا الشيخ‪ ..‬فما ال ذي جعل ك تقط ع الفي افي والقف ار‬
‫لتشكو لغيره ما حصل لك؟‪ ..‬وهل يمكن لمن يكون لديه ط بيب مث ل ديك ارت أن يبحث‬
‫عن طبيب آخر؟‬
‫قلت‪ :‬لك الحق فيما تقول‪ ..‬ولكن ديكارت هو الذي أصابني بهذا ال داء‪ ،‬ثم عج ز‬
‫عن عالجه‪.‬‬
‫قال‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬لقد شجعني على الشك‪ ..‬وعندما طرح علي ال براهين ال تي تزي ل الش ك لم‬
‫ينمح‪ ،‬ولم يزل‪ ،‬بل زاد وترسخ إلى أن أصبحت أعاني منه عناء شديدا‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألم ينصحك بالذهاب للفالسفة الذين استعملوا الوسائط للداللة على هللا؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬لقد أرسلني إليهم‪ ..‬لكن الشك بلغ بي مبلغ ا عظيم ا وص ل إلى إنك ار‬
‫العقليات والحسيات‪ ..‬وهي جميعا مما يعتمد علي ه في ك ل بره ان‪ ..‬وأن ا اآلن في ح ال‬
‫السفسطة‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬فق د وقعت على الخب ير إذن‪ ..‬إن م ا ذكرت ه عن نفس ك ه و نفس م ا ذك ره‬
‫أستاذي أبي حامد عن نفسه‪ ..‬سأحكي لك ما قال‪ ،‬وسأذكر لك العالج الذي إن اس تعملته‬
‫فلن تخرج من طوس إال وأنت ولي أو قديس‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما قال الغزالي؟‬
‫قال‪ :‬لقد ذكر عن نفسه أنه ـ في مرحلة الشك التي اعتترته ـ فجعلته ي رفض ك ل‬
‫المعلوم ات ال تي حص لها عليه ا عن طري ق الح واس بالتقلي د والتلقين‪ ..‬اتج ه إلى‬
‫المحسوسات لعله يج د فيه ا اليقين‪ ،‬لكن ه اص طدم بأنه ا هي األخ رى عرض ة للش ك‪..‬‬
‫فالمعرفة الحسية عرضة للخطأ‪ ..‬وأكبر دليل على ذلك ما يقع من خداع الحواس‪ ،‬حيث‬
‫نرى الكواكب ص غيرة ج دا في مق دار ال دينارن بينم ا األدل ة الهندس ية تثبت عكس م ا‬
‫نرى‪ ،‬بل تثبت أن الكواكب منها ما هو أكبر من األرض بكثير‪.‬‬
‫ابتسمت‪ ،‬وقلت‪ :‬هذا بالضبط ما حصل لي‪ ..‬بل هو نفس ه م ا حص ل ل ديكارت‪..‬‬
‫فقد استبعد في حوار جرى لي مع ه ش هادة الح واس‪ ،‬وق ال لي‪ :‬أال ت رى أنّه ا تخ دعنا‬
‫أحيانا ً كثرة‪ ..‬ولذلك من الفطنة أالّ نأمن أمنا ً تا ّما ً من خدعنا ولو م َّرةً واح دة‪ ..‬لق د ق ال‬
‫لي معبرا عن ذلك‪( :‬كل ما تلقيته ح تى الي وم وآمنت بأن ه أص دق األش ياء وأوثقه ا ق د‬
‫اكتس بته من الح واس أو بواس طة الح واس‪ ،‬غ ير أني ج ربت ه ذه الح واس في بعض‬
‫األحيان فوجدتها خداعة‪ ،‬ومن الحكمة أن ال نطمئن كل االطمئنان إلى من خدعونا ولو‬
‫مرة واحدة)‬
‫وقد ض رب لي في نهاي ة تأمل ه الفلس في الث اني‪ ،‬مث ال قطع ة الش مع ال ذي ك ان‬
‫يكرره علي وعلى تالميذه مرات كثيرة‪ ،‬فقد ذكر أن قطعة الشمع ال تي تم استخالص ها‬
‫من خلية النحل صلبة وباردة ومتينة نسبيا‪ ،‬وعندما نلمسها يص در عنه ا ص وت‪ ،‬لكنن ا‬
‫م ا إن نقربه ا من الن ار ح تى تتغ ير تغ يرا تام ا‪ ،‬فش كلها يتغ ير‪ ،‬وتتح ول إلى س ائل‪،‬‬
‫وتسخن‪ ،‬وال يصدر عنها أي صوت‪..‬‬
‫ثم يعقب على هذا المشهد بقوله‪ :‬ب ذلك ال يتم تص ور الش مع إذن إال ع بر فحص‬

‫‪81‬‬
‫عقلي‪ ..‬فالحواس ال تمنحنا مطلقا إال معطيات هاربة‪ ،‬قابل ة لالنمح اء وغ ير منتظم ة‪..‬‬
‫بل إنها ال تقدم لنا أي فكرة عن األشياء كما نصوغها نحن بواسطة العقل‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد ذكرني كالمك هذا بإشكال خطير يتعل ق ب الحواس‪ ،‬وص عوبة االعتم اد‬
‫على المع ارف المرتبط ة به ا‪ ..‬فق د ذك ر أس تاذي الغ زالي عن د نق ده للح واس اختالط‬
‫اليقظة بالنوم‪ ،‬وصعوبة التفري ق بينهم ا‪ ،‬فق ال‪( :‬فت وقفت النفس في ج واب ذل ك قليالً‪،‬‬
‫وأيدت إشكالها بالمنام وقالت‪ :‬أما تراك تعتقد في النوم أموراً‪ ،‬وتتخي ل أح واالً‪ ،‬وتعتق د‬
‫لها ثباتا ً واستقراراً‪ ،‬وال ش ك في تل ك الحال ة فيه ا‪ ،‬ثم تس تيقظ فتعلم أن ه لم يكن لجمي ع‬
‫متخيالتك ومعتقداتك أصل وطائل؟ فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظت ك بحس‬
‫أو عقل هو حق باإلض افة إلى حالت ك ال تي أنت فيه ا‪ .‬لكن يمكن أن تط رأ علي ك حال ة‬
‫تكون نسبتها إلى يقظتك كنسبة يقظتك إلى منامك‪ ،‬وتك ون يقظت ك نوم ا ً بالنس بة إليه ا‪،‬‬
‫فإذا أوردت تلك الحالة تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خياالت ال حاصل لها)(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬عجبا‪ ..‬ما أعظم التشابه بين أستاذك الغزالي وأستاذي ديك ارت‪ ..‬فق د ذك ر‬
‫هو اآلخر هذا الجانب‪ ،‬وما ينشأ عن ه من إش كاالت‪ ،‬فق ال‪( :‬ينبغي علي هن ا أن أعت بر‬
‫أني إنس ان‪ ،‬وأن من ع ادتي ل ذلك أن أن ام‪ ،‬وأني أرى في أحالمي عين األش ياء ال تي‬
‫يتخيلها أولئ ك المخبول ون في يقظتهم؛ ب ل ق د أرى أحيان ا ً أش ياء أبع د عن الواق ع مم ا‬
‫يتخيلون‪ ..‬كم مرة وق ع لي أن أرى في المن ام أني في ه ذا المك ان‪ ،‬وأني البس ثي ابي‪،‬‬
‫وأني قرب النار‪ ،‬م ع أني أك ون في س ريري متج رداً من ثي ابي‪ ،‬يب دو لي اآلن أني ال‬
‫أنظر إلى هذه الورقة بعي نين ن ائمتين‪ ،‬وأن ه ذا ال رأس ال ذي أه زه ليس ناعس اً‪ ..‬لكن‬
‫عن دما أطي ل التفك ير في األم ر‪ ،‬أت ذكر أني كث يراً م ا انخ دعت في الن وم بأش باه ه ذه‬
‫الرؤى‪ ،‬وعندما أقف عند هذا الخاطر أرى بغاي ة الجالء أن ه ليس هن اك أم ارات يقين ة‬
‫نستطيع بها أن نميز بين اليقظة والنوم تمي يزاً دقيق اً‪ ،‬فيس اورني ال ذهول‪ ،‬وأن ذه ولي‬
‫لعظيم‪ ،‬حتى يكاد يصل إلى إقناعي بأني نائم)(‪)2‬‬
‫قال‪ :‬لم يتوقف شك أستاذي على تأثير المن ام على اإلدراك ات الحس ية‪ ..‬ب ل إن ه‬
‫امتد ليشمل المدركات العقلية أيضاً‪ ،‬فالمنام تخيل‪ ،‬والتخيل قوامه الصور الحس ية ال تي‬
‫تختزنها الذاكرة‪ ..‬وهذا حال المحسوسات‪ ،‬فما هو مصير المعق والت‪ ..‬أو الض رورات‬
‫العقلية؟‬
‫لقد ذكر أستاذي الغزالي تلك الشكوك التي راودته حول العقلي ات‪ ،‬فق ال‪( :‬فلعل ه‬
‫ال ثق ة إال بالعقلي ات ال تي هي من األولي ات كقولن ا‪ :‬العش رة أك ثر من الثالث ة‪ ،‬والنفي‬
‫واإلثبات ال يجتمعان في الشيء الواحد‪ ،‬والشيء الواحد ال يكون حادثا ً ق ديماً‪ ،‬موج وداً‬
‫معدوما ً واجبا ً محاالً)(‪)3‬‬

‫‪ )(1‬المنقذ‪-‬ص‪..30‬‬
‫‪ )(2‬التأمالت – ص ‪.55‬‬
‫‪ )(3‬المنقذ‪-‬ص‪.29‬‬

‫‪82‬‬
‫قلت‪ :‬وقد ذكر ذلك أستاذي ديكارت‪ ،‬فقال‪( :‬في حين أن الحساب والهندس ة وم ا‬
‫شاكلهما من العلوم التي ال تنظر إال في أمور بسيطة جداً وعامة جداً‪ ،‬دون اهتمام كثير‬
‫بالوقوف على مبلغ تحق ق ه ذه األم ور في الخ ارج أو ع دم تحققه ا‪ ،‬إنم ا تش تمل على‬
‫شيء يقيني ال سبيل إلى الشك فيه‪ :‬فسواء كنت متيقظا ً أو نائما ً هناك حقيق ة ثابت ة وهي‬
‫أن مجموع اثنين وثالثة هو خمسة دائماً‪ ،‬وأن المربع لن يزيد على أربعة أضالع أب داً‪،‬‬
‫وليس يبدو في اإلمك ان أن حق ائق بلغت ه ذه المرتب ة من الوض وح والجالء يص ح أن‬
‫تكون موضع شبهة خطأ أو انعدام يقين)(‪)1‬‬
‫قال‪ :‬لكن أستاذي لم يلبث حتى أصابه الشك في تلك الضرورة العقلية أيضا‪ ،‬وقد‬
‫قال معبرا عن ذلك الشك‪( :‬لعل وراء إدراك العق ل حاكم ا ً آخ ر‪ ،‬إذا تجلى ك ذب العق ل‬
‫في حكمه كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه‪ ،‬وعدم تجلي ذلك األم ر ال ي دل‬
‫على استحالته)(‪)2‬‬
‫قلت‪ :‬وقد عرض نفس ذلك الشك على أستاذي ديك ارت‪ ،‬فق ال‪( :‬وم ع ذل ك ف إن‬
‫معتقداً قد رسخ في ذهني منذ زمن طوي ل‪ ،‬وه و أن هن اك إله ا ً ق ادراً على ك ل ش يء‪،‬‬
‫وهو صانعي وخالقي على نحو ما أنا موجود‪ ،‬فما يدريني لعله قد قض ى ب أن ال يك ون‬
‫هناك أرض وال سماء وال جسم ممتد وال شكل وال مقدار وال مكان‪ ،‬ودبَّر مع ذلك كل ه‬
‫أن أحس هذه األشياء جميعاً‪ ،‬وأن تبدو لي موج ودة على نح و م ا أراه ا؟ ب ل لم ا كنت‬
‫أرى أحيانا ً أن أناسا ً يغلطون في األمور التي يحسبون أنهم أعلم الناس بها‪ ،‬فما يدريني‬
‫لعله قد أراد أن أغلط أنا أيضا ً كلما جمعت اثنين إلى ثالثة‪ ،‬أو أحص يت أض الع مرب ع‬
‫ما)(‪)3‬‬
‫وق ال‪( :‬إذن فس أفترض‪ ،‬ال أن هللا ـ وهو أرحم ال راحمين وهو المص در األعلى‬
‫للحقيقة ـ بل إن ش يطانا ً خبيث ا ً ذا مكر وب أس ش ديدين قد اس تعمل ما أوتي من مه ارة‬
‫إلضاللي‪ ،‬وسأفترض أن السماء والهواء واألشياء الخارجية ال تعدو أن تك ون أوهام ا ً‬
‫وخياالت قد نصبها ذلك الشيطان فخاخا ً القتناص سذاجتي في التصديق‪ ،‬وسأعد نفس ي‬
‫خلواً من اليدين والعينين واللحم والدم‪ ،‬وخلواً من الحواس‪ ،‬وأن الوهم ه و ال ذي يخي ل‬
‫لي أني مالك لهذه األشياء كلها وسأصر على التشبث بهذا الخاطر) (‪)4‬‬
‫***‬
‫ق ال‪ :‬أرى أن كال األس تاذين ق د م را بنفس التجرب ة‪ ..‬فل ذلك ال أظن أن ك س تجد‬
‫عندي ما لم تجد عنده‪.‬‬
‫قلت‪ :‬اذكر لي ما عندك‪ ..‬وكيف خ رج أس تاذك من الش ك إلى اليقين لعلي أنتف ع‬
‫به؟‬
‫‪ )(1‬التأمالت – ص ‪..57-56‬‬
‫‪ )(2‬المنقذ –ص‪..30-29‬‬
‫‪ )(3‬التأمالت ص ‪..57‬‬
‫‪ )(4‬التأمالت ص ‪..57‬‬

‫‪83‬‬
‫قال‪ :‬اذكر لي أنت أوال كيف خرج أستاذك‪ ..‬ألن المخرج الذي خرج به أس تاذي‬
‫يحتاج إلى الكثير من العمل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكر أستاذي المخرج الذي خرج به من ذلك‪ ..‬فق ال‪( :‬ولكن ني س رعان‬
‫م ا الحظت وأن ا أح اول على ه ذا المن وال أن أعتق د بطالن ك ل ش يء‪ ،‬أن ه يلزم ني‬
‫ضرورة‪ ،‬أنا صاحب هذا االعتقاد‪ ،‬أن أكون شيئا ً من األشياء‪ ،‬ولما رأيت هذه الحقيق ة‪،‬‬
‫أنا أفكر‪ ،‬إذن أنا موجود‪ ،‬هي من الرسوخ بحيث ال تزعزعها ف روض الريب يين‪ .‬مهم ا‬
‫يكن فيها من شطط حكمت بأني أستطيع مطمئنا ً أن أتخذها مبدأ أول للفلس فة ال تي كنت‬
‫أبحث عنها)(‪)1‬‬
‫قال‪ :‬أما أستاذي‪ ،‬فقد خرج من ذلك باعتقاده بالهداي ة اإللهي ة ال تي ت نزلت علي ه‬
‫بعد أن امتأل فقرا إلى هللا وحاجة إليه‪ ،‬وبعد أن تألم ألما شديدا نتيجة ذلك الحجاب ال ذي‬
‫ابتلي به‪ ،‬وقد قال معبرا عن ذل ك‪( :‬ورجعت الض روريات العقلي ة مقبول ة موثوق ا ً به ا‬
‫على أمن ويقين‪ ،‬ولم يكن ذلك بنظم دلي ل وت رتيب كالم‪ ،‬ب ل بن ور قذف ه هللا تع الى في‬
‫الصدور‪ ،‬وذل ك الن ور ه و مفت اح أك ثر المع ارف‪ ،‬فمن ظن أن الكش ف موق وف على‬
‫األدلة المحررة فقد ضي َّق رحمة هللا تعالى الواسعة)(‪)2‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن‪ ..‬هل ذلك خاص ب ه‪ ..‬أم ه و ع ام لك ل من ع رض ل ه من الش ك م ا‬
‫عرض له؟‬
‫قال‪ :‬جلت رحمة هللا أن تفرق بين الفقراء والمحتاجين‪ ..‬أال ترى رزق هللا يشمل‬
‫الجميع؟‬
‫قلت‪ :‬ولكن كي ف خص ته العناي ة دوني‪ ..‬فأن ا ال أزال أس ير ش كي‪ ..‬وق د س رت‬
‫البالد‪ ،‬وخدمت العباد‪ ..‬ولما يزل شكي‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد مررت بنفس تجربتك‪ ..‬وأتيت شيخي وأس تاذي الغ زالي‪ ،‬وأخبرت ه عن‬
‫ذلك‪ ،‬فقال لي‪ :‬يا بني أنت محتاج ألن تع دل في جه از اس تقبالك للحق ائق‪ ..‬ذل ك أن ه ال‬
‫ينكر أحد الحقائق أو يشك فيها إال بسبب خلل حصل لوجدانه‪ ،‬فجعله ال ي رى الحق ائق‪،‬‬
‫أو جعله يبصرها بصورة مشوهة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أكل المالحدة والمشككين والالأدريين حصل لهم هذا؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬ولوال ذلك ما أنكروا الحقائق‪ ،‬فلها من الوضوح والقوة ما ال يستطيع‬
‫أن يجادل فيه مجادل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال(‪ :)3‬اعلم ـ يا بني ـ أن القلب أو العق ل ال ذي نتلقى بواس طته المع ارف يش به‬
‫المرآة‪ ،‬والحقائق لها من الجمال والصفاء مثلما للمرآة‪ ..‬فإذا ق ابلت م رآة القلب والعق ل‬

‫‪ )(1‬مقالة في الطريقة‪ -‬ص‪..134‬‬


‫‪ )(2‬المنقذ من الضالل –ص‪..31‬‬
‫‪ )(3‬ما نذكره من حقيقة العلم اللدني واالستدالل ل ه مس تفاد من مراج ع مختلف ة للغ زالي منه ا (اإلحي اء)‪ ،‬و(كيمي اء‬
‫السعادة)‪ ،‬و(معارج القدس في معرفة النفس)‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫الصافية بمرآة الحقائق حلت صور إحداهما في األخرى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلم ال يحصل ذل ك لك ل الن اس‪ ..‬وتنتهي الش كوك‪ ،‬وينتهي معه ا اإللح اد‪،‬‬
‫وكل أنواع الضالل؟‬
‫قال‪ :‬بسبب علل تحصل في مرآة العقل والقلب تحول بينه وبين رؤية الحقائق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما هي؟‬
‫قال‪ :‬إن هذا يستدعي البحث عن الحجب التي تحول بين مرائي الن اس والص ور‬
‫المقابلة لها‪ ..‬وإدراك ذلك بس يط ال يس تدعي إال التأم ل في س ر ع دم انكش اف األش ياء‬
‫للمرآة الحسية مع وجودها‪ ،‬ووجود األشياء حولها‪ ..‬فأخبرني عما تراه من أسباب ذلك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ربما ال تنكشف للمرآة الصورة بسبب نقصان صورتها كجوهر الحديد قبل‬
‫أن يدور ويشكل ويصقل‪ ..‬وربما يكون لكدورة الم ادة ال تي ص نعت منه ا الم رآة‪ ،‬وإن‬
‫كانت تامة الشكل‪ ..‬وربما لكونه ا مع دوالً به ا عن جه ة الص ورة إلى غيره ا‪ ،‬كم ا إذا‬
‫ك انت الص ورة وراء الم رآة‪ ..‬وربم ا لحج اب مرس ل بين الم رآة والص ورة‪ ..‬وربم ا‬
‫للجهل بالجهة ال تي فيه ا الص ورة المطلوب ة ح تى يتع ذر بس ببه أن يح اذى به ا ش طر‬
‫الصورة وجهتها‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬فهك ذا م رآة القلب‪ ..‬فهي تحجب عن الحق ائق باألس باب الخمس ة ال تي‬
‫ذكرتها‪ ..‬أما أولها‪ ،‬فهو نقصانها في ذاتها كقلب الص بي‪ ،‬فإن ه ال ينجلى ل ه المعلوم ات‬
‫لنقصانه‪..‬‬
‫وأما الثاني‪ ،‬فلكدورة المعاصي والخبث الذي ي تراكم على وج ه القلب من ك ثرة‬
‫الشهوات‪ ،‬فإن ذلك يمنع صفاء القلب وجالءه فيمتنع ظهور الحق فيه لظلمته وتراكمه‪..‬‬
‫وأما الثالث‪ ،‬فأن يكون معدوالً به عن جهة الحقيق ة المطلوب ة‪ ،‬ف إن قلب المطي ع‬
‫الصالح وإن كان صافياً‪ ،‬فإنه ليس يتضح فيه جلية الح ق ألن ه ليس يطلب الح ق وليس‬
‫محاذيا ً بمرآته شطر المطلوب‪..‬‬
‫وأما الرابع‪ ،‬فالحجاب‪ ..‬فإن المطيع القاهر لشهواته المتجرد الفكر في حقيق ة من‬
‫الحقائق قد ال ينكشف له ذلك لكونه محجوبا ً عنه باعتقاد سبق إليه منذ الصبا على سبيل‬
‫التقلي د والقب ول بحس ن الظن‪ ،‬ف إن ذل ك يح ول بين ه وبين حقيق ة الح ق ويمن ع من أن‬
‫ينكشف في قلبه خالف ما تلقفه من ظاهر التقليد‪..‬‬
‫وأما الخامس‪ ،‬فالجهل بالجهة التي يقع منها العث ور على المطل وب‪ ،‬ف إن ط الب‬
‫العلم ليس يمكنه أن يحصل العلم بالمجهول إال بالتذكر للعلوم التي تناسب مطلوبه حتى‬
‫إذا تذكرها ورتبها في نفسه ترتيبا ً مخصوصا ً يعرفه العلماء بطرق االعتبار‪ ،‬فعند ذل ك‬
‫يكون قد عثر على جهة المطلوب فتنجلى حقيقة المطلوب لقلب ه‪ ،‬ف إن العل وم المطلوب ة‬
‫التي ليست فطرية ال تقتنص إال بشبكة العلوم الحاصلة‪ ،‬ب ل ك ل علم ال يحص ل إال من‬
‫علمين س ابقين يأتلف ا ويزدوج ان على وج ه الخص وص فيحص ل من ازدواجهم ا علم‬
‫ثالث‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أهذه هي األسباب المانعة للقلوب من معرفة حقائق األمور؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فكل قلب هو بالفطرة صالح لمعرفة الحقائق‪ ،‬ألنه أمر رباني شريف‬

‫‪85‬‬
‫فارق سائر جواهر العالم بهذه الخاصية والشرف‪.‬‬
‫***‬
‫قلت‪ :‬ولكن العجب ال ي زال يح ول بي ني وبين فهم م ا تق ول‪ ..‬ف أنت بقول ك ه ذا‬
‫تجعل اإلنسان تلميذا لمصادر خارجية غ ير العق ل وغ ير الح واس‪ ..‬ب ل غ ير أس اتذته‬
‫الذين يدرس على يديهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬ففي وج داننا من األس اتذة والمعلمين والم ربين من يغنون ا عن كث ير‬
‫من المدارس التي تراها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫ق ال‪ :‬سأض رب ل ك مث اال ق د يق رب ل ك ه ذا‪ ..‬ل و فرض نا حوض ا ً محف وراً في‬
‫األرض‪ ،‬فإنه يحتمل أن يساق الماء من فوقه بأنهار تفتح فيه‪ ،‬ويحتم ل أن يحف ر أس فل‬
‫الحوض ويرفع منه التراب إلى أن يقرب من مستقر الم اء الص افي‪ ،‬فينفج ر الم اء من‬
‫أسفل الحوض ويكون ذلك الماء أصفى وأدوم‪ ،‬وق د يك ون أغ زر وأك ثر‪ ..‬ف ذلك القلب‬
‫مثل الحوض‪ ،‬والعلم مثل الماء‪ ،‬وتكون الحواس الخمس مث ال األنه ار‪ ..‬وق د يمكن أن‬
‫تساق العلوم إلى القلب بواسطة أنهار الحواس واالعتبار بالمشاهدات حتى يمتلئ علماً‪،‬‬
‫ويمكن أن تس د ه ذه األنه ار ب الخلوة والعزل ة وغض البص ر‪ ،‬ويعم د إلى عم ق القلب‬
‫بتطهيره ورفع طبقات الحجب عنه حتى تنفجر ينابيع العلم من داخله‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف يتفجر العلم من ذات القلب وهو خال عنه؟‬
‫قال‪ :‬كما أن المهندس يصور أبنية الدار في بياض‪ ،‬ثم يخرجها إلى الوجود على‬
‫وفق تلك النسخة‪ ،‬فكذلك فاطر السموات واألرض كتب نسخة العالم من أوله إلى آخ ره‬
‫في اللوح المحفوظ‪ ،‬ثم أخرج إلى الوجود على وفق تل ك النس خة‪ ،‬والع الم ال ذي خ رج‬
‫إلى الوجود بصورته تتأدى منه صورة أخرى إلى الحس والخي ال‪ ،‬ف إن من ينظ ر إلى‬
‫السماء واألرض ثم يغض بصره يرى ص ورة الس ماء واألرض في خيال ه ح تى كأن ه‬
‫ينظر إليه ا‪ ،‬ول و انع دمت الس ماء واألرض وبقي ه و في نفس ه لوج د ص ورة الس ماء‬
‫واألرض في نفس ه كأن ه يش اهدهما وينظ ر إليهم ا‪ ،‬ثم يت أدى من خيال ه أث ر إلى القلب‬
‫فيحصل فيه حقائق األشياء التي دخلت في الحس والخيال‪ .‬والحاص ل في القلب مواف ق‬
‫للعالم الحاصل في الخيال‪ ،‬والحاصل في الخيال موافق للعالم الموجود في نفسه خارجا ً‬
‫من خيال اإلنسان وقلبه‪ ،‬والعالم الموجود موافق للنسخة الموجودة في اللوح المحفوظ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لكأن للعالم ـ بحسب ما تصفه ـ أربع درجات في الوجود‪ :‬وج ود في الل وح‬
‫المحفوظ وهو س ابق على وج وده الجس ماني‪ ،‬ويتبع ه وج وده الحقيقي‪ ،‬ويتب ع وج وده‬
‫الحقيقي وجوده الخيالي‪ ..‬أي وجود صورته في الخيال‪ ..‬ويبتع وج وده الخي ال وج وده‬
‫العقلي‪ ..‬أي وجود صورته في القلب‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬أج ل‪ ..‬وبعض ه ذه الوج ودات روحاني ة وبعض ها جس مانية‪ ،‬والروحاني ة‬
‫بعضها أشد روحانية من البعض‪ ..‬وه ذا اللط ف من الحكم ة اإللهي ة‪ ،‬إذ جع ل ح دقتك‬
‫على صغر حجمها تنطبع صورة العالم والسموات واألرض على اتس اع أكنافه ا فيه ا‪،‬‬
‫ثم يسري من وجودها في الحس وجود إلى الخيال‪ ،‬ثم منه وجود في القلب‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫قلت‪ :‬وعيت هذا‪ ..‬لكن ال يزال في نفسي بعض الغموض‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬أعلم ذل ك‪ ..‬وسأوض حه ل ك به ذه الحكاي ة‪ ..‬روي في الحكاي ات أن أه ل‬
‫الصين وأه ل ال روم تب اهوا بين ي دي بعض المل وك بحس ن ص ناعة النقش والص ور‪،‬‬
‫فاستقر رأي الملك على أن يسلم إليهم صفة لينقش أهل الصين منها جانب ا ً وأه ل ال روم‬
‫جانبيا ً ويرخى بينهم حجاب يمنع اطالع كل فريق على اآلخ ر ففع ل ذل ك‪ ،‬فجم ع أه ل‬
‫الروم من األصباغ الغريبة ما ال ينحصر‪ ،‬ودخل أه ل الص ين من غ ير ص بغ وأقبل وا‬
‫يجلون جانبهم ويصقلونه‪ ،‬فلما فرغ أه ل ال روم ادعى أه ل الص ين أنهم فرغ وا أيض ا ً‬
‫فعجب المل ك من ق ولهم وأنهم كي ف فرغ وا من النقش من غ ير ص بغ؟ فقي ل‪ :‬وكي ف‬
‫فرغتم من غير صبغ! فقالوا‪ :‬ما عليكم ارفعوا الحجاب‪ ،‬فرفعوا وإذا بجانبهم يتألأل منه‬
‫عجائب الصنائع الرومية مع زيادة إشراق وبريق‪ ،‬إذ قد صار ك المرآة المجل وة لك ثرة‬
‫التصقيل فازداد حسن جانبهم بمزيد التقصيل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن هذا مثال جميل‪ ..‬فما تفسيره؟‬
‫قال‪ :‬إن عناية األولياء بتطهير القلب وجالئه وتزكيت ه وص فائه ح تى يتألأل في ه‬
‫جلية الحق بنهاية اإلشراق كفع ل أه ل الص ين‪ ،‬وعناي ة الحكم اء والعلم اء باالكتس اب‬
‫ونقش العلوم وتحصيل نقشها في القلب كفعل أهل الروم‪.‬‬
‫***‬
‫قلت‪ :‬فكيف نعرف هذه الطريق‪ ،‬ونتأكد من وجودها؟‬
‫ق ال‪ :‬ه ذه الطري ق ال يفهم إال بالتجرب ة‪ ،‬وإن لم تحص ل بال ذوق لم تحص ل‬
‫بالتعليم‪ ..‬والواجب التصديق بها حتى ال تحرم منها‪ ..‬ومن لم يبصر لم يصدق‪ ،‬كما قال‬
‫ب الَّ ِذينَ ِم ْن قَ ْبلِ ِه ْم‬ ‫تعالى ‪ ﴿:‬بَلْ َك َّذبُوا بِ َما لَ ْم ي ُِحيطُ وا بِ ِع ْل ِم ِه َولَ َّما يَ أْتِ ِه ْم تَأْ ِويلُ هُ َك َذلِ َ‬
‫ك َك َّذ َ‬
‫فَا ْنظُرْ َك ْيفَ َكانَ عَاقِبَةُ الظَّالِ ِمينَ ) (يونس‪ ،)39:‬وقال ‪َ ﴿:‬وإِ ْذ لَ ْم يَ ْهتَدُوا بِ ِه فَ َسيَقُولُونَ هَ َذا‬
‫ك قَ ِدي ٌم)(االحقاف‪ :‬من اآلية‪)11‬‬ ‫إِ ْف ٌ‬
‫قلت‪ :‬فكي ف تتس نى لي التجرب ة؟‪ ..‬ه ا أن ذا بين ي ديك‪ ،‬فس د ع ني أب واب ه ذه‬
‫الشكوك التي تكاد تقتلني؟‬
‫ق ال‪ :‬الب د أوال من أن تخلص المجاه دة والرياض ة‪ ،‬وتتخلص من ي د الش هوة‬
‫والغض ب واألخالق القبيح ة واألعم ال الرديئ ة‪ ..‬ف إن معرف ة هللا ك نز ثمين‪ ،‬وج وهر‬
‫طاهر‪ ،‬وهي ال تحل إال بأصحاب العقول والقلوب الطاهرة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهبني فعلت ذلك‪ ..‬فما أفعل بعده؟‬
‫قال‪ :‬حينها تتوجه إلى هللا‪ ..‬وتفتح عين الباطن وسمعه‪ ،‬وتردد بكل ش وق‪( :‬هللا ‪-‬‬
‫هللا – هللا)‪ ..‬وحينها سيفتح فض ل هللا علي ك‪ ..‬ويكش ف عن عقل ك وقلب ك الحجب ل ترى‬
‫الحقائق واضحة ال تحتاج أي دليل يدل عليها‪ ..‬وهل يحتاج النهار إلى دليل؟‬
‫عن دما ق ال لي ه ذا‪ ،‬رحت أص حبه‪ ،‬وأم ارس ك ل م ا يطلب ه م ني من أن واع‬
‫الرياضات‪ ..‬وقد فتح هللا علي بسبب ذلك من غير أي معاناة‪ ..‬بل أضاف لي من فض له‬
‫من األذواق والمواجيد ما ال يساويه أي نعيم من نعم الدنيا‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫***‬
‫بع د أن حكى لي تلمي ذ الغ زالي حكايت ه ه ذه ش عرت بش وق عظيم للقي ام بنفس‬
‫التجربة التي قام به ا‪ ..‬وم ا هي إال أي ام مع دودات ح تى رأيت الحق ائق أوض ح من أن‬
‫أتكلف أي دليل يدل عليها‪.‬‬
‫وقد شعرت حينها بمدى صدق أولئك األولياء الذين كنت أسخر منهم‪ ،‬وأعتبرهم‬
‫أبعد الناس عن العقل‪ ،‬بينما كانوا أكثر الناس استعماال له‪ ..‬فقد كانوا ي رددون ك ل حين‬
‫مخاطبين ربهم عز وجل‪:‬‬
‫إال على أكمه ال يبصر‬ ‫لقد ظهرت فال تخفي على‬
‫القمرا‬ ‫أحد‬
‫وكيف يعرف من بالعزة‬ ‫لكن بطنت بما أظهرت‬
‫أستترا‬ ‫محتجبا ً‬
‫***‬
‫ما أنهى صاحبنا حديثه حتى انتش رت أن وار لطيف ة على تل ك الروض ة الجميل ة‬
‫التي اجتمعت فيها كل تلك النفوس الطاهرة‪ ،‬واألرواح السامية‪ ،‬والعقول الكب يرة‪ ،‬وق د‬
‫سرى أريج تلك العطور إلى كل لطائفي‪ ،‬فحلت ب ه الكث ير من العق د ال تي كنت أح اول‬
‫كل جهدي فهمها‪ ،‬فال أفهمها‪.‬‬
‫وحين ذاك ع رفت أن هللا تع الى أق رب إلين ا من أنفس نا‪ ،‬وأنن ا لوخلعن ا حجب‬
‫الكبرياء والغفلة والغرور والجهل التي تحول بيننا وبينه‪ ،‬فإنن ا لن ن درك وج وده فق ط‪،‬‬
‫بل ندرك معها عظمته ولطفه وكرمه‪ ..‬بل فوق ذلك يصبح لنا من العالقة به والتواصل‬
‫معه ما يمأل حياتنا بالسعادة والطمأنينة والسالم‪.‬‬
‫وأدركت مع ذلك أيض ا غبن أولئ ك ال ذين يس ارعون ل رفض األدل ة وال براهين‬
‫الدالة على وجود هللا وعظمته دون أن يس محوا ألنفس هم بلحظ ة تبص ر أو تأم ل ح تى‬
‫ترى مدى مصداقية تلك األدلة‪ ..‬في نفس الوقت الذي نراهم فيه يس تعملون ك ل وس ائل‬
‫التحقيق من أجل بعض مصالحهم الزائلة الباهتة التي ال تساوي شيئا أمام هللا‪.‬‬
‫وحين أدركت هذا عرفت عزة هللا‪ ،‬وأنهم م ا حجب وا عن ه إال بس بب حجب ه لهم‪،‬‬
‫فهو أكرم من أن يعرفوه‪ ..‬وه و أع ز من أن يتص لوا ب ه‪ ..‬فجن اب هللا العظيم عزي ز ال‬
‫يناله إال من طهرت نفسه‪ ،‬وسلم عقله‪ ،‬وسمت روحه‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫العناية الرحيمة‬
‫ما خطر هذا ببالي حتى جاءني من روضة من الروضات المج اورة رج ل على‬
‫أريكته العجيبة المتحرك ة‪ ،‬واق ترب م ني‪ ،‬وق ال‪ :‬ص دق هللا تع الى حين ق ال‪ ﴿ :‬يَاأَيُّهَ ا‬
‫َّس و ِل إِ َذا َد َع ا ُك ْم لِ َم ا يُحْ يِي ُك ْم َوا ْعلَ ُم وا أَ َّن هَّللا َ يَ ُح و ُل بَ ْينَ‬
‫اس تَ ِجيبُوا هَّلِل ِ َولِلر ُ‬
‫الَّ ِذينَ آ َمنُ وا ْ‬
‫ْال َمرْ ِء َوقَ ْلبِ ِه َوأَنَّهُ إِلَ ْي ِه تُحْ َشرُونَ ﴾ [األنفال‪]24 :‬‬
‫قلت‪ :‬ما تعني بإيرادك لهذه اآلية؟‬
‫قال‪ :‬هذه اآلية الكريمة توضح س را من أس رار اإللح اد‪ ..‬وه و ذل ك التك بر عن‬
‫االستجابة‪ ..‬فأنت تعلم أن الكثير من الذين حجبوا عن ش هود هللا ومعرفت ه‪ ..‬ب ل حجب وا‬
‫عن مجرد االع تراف ب ه واإلذع ان ل ه‪ ..‬لم يحص ل لهم ذل ك بس بب وج ود م ا يحجب‬
‫عقولهم عن هللا‪ ،‬ألن كل ما هو موجود مس تنير بن وره‪ ،‬ومن ثم فه و دال علي ه‪ ..‬وإنم ا‬
‫حجب وا بس بب ذل ك اإلع راض والك بر والغ رور‪ ..‬ول ذلك ب دل أن يق ابلوا بلط ف هللا‬
‫ورحمته‪ ،‬قوبلوا بقهر هللا وعزته‪ ..‬فاهلل ال يعطي اإلنسان إلى بحس ب قابليت ه‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫ك َمحْ ظُ ورًا ﴾‬ ‫ك َو َم ا َك انَ َعطَ ا ُء َربِّ َ‬ ‫تع الى‪ُ ﴿ :‬كاًّل نُ ِم ُّد هَ ؤُاَل ِء َوهَ ؤُاَل ِء ِم ْن َعطَ ا ِء َربِّ َ‬
‫[اإلسراء‪]20 :‬‬
‫قلت‪ :‬صدق هللا العلي العظيم‪ ..‬لكأنك كنت تسمع حديثي مع نفسي‪.‬‬
‫ابتسم‪ ،‬وقال‪ :‬بل كنت أقرؤه في مالمح وجهك‪ ..‬ألست تؤمن بالفراسة؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬وكيف ال أؤمن بها‪ ،‬وقد ورد في النصوص المقدسة الحديث عنها‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬فق د آتى هللا المؤم نين في ه ذه الروض ات تل ك الفراس ة‪ ،‬ول ذلك يفهم ون‬
‫بعضهم بعضا من غير حديث‪..‬‬
‫قلت‪ :‬ذلك من فضل هللا العظيم‪ ..‬ما أعظم عناية هللا بعباده‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فاهلل خلقهم‪ ،‬وهو أدرى بحاجاتهم‪ ،‬ول ذلك يعطيهم من فض له بحس ب‬
‫جوده وكرمه‪ ،‬وهو ال حدود له‪ ..‬ولذلك ال حدود للعناية ال تي يعت ني هللا به ا بعب اده في‬
‫كل طور من أطوار حياتهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ألج ل ه ذا ن رى الق رآن الك ريم ممل وءات ب ذكر نعم هللا على عب اده‪ ،‬فاهلل‬
‫ض ِمهَ ادًا (‪)6‬‬ ‫تعالى يخاطب عباده بك ل حن ان ورحم ة‪ ،‬ويق ول لهم‪ ﴿ :‬أَلَ ْم نَجْ َع ِل اأْل َرْ َ‬
‫اس ا (‬ ‫ال أَوْ تَادًا (‪َ )7‬و َخلَ ْقنَا ُك ْم أَ ْز َواجًا (‪َ )8‬و َج َع ْلنَا نَوْ َم ُك ْم ُسبَاتًا (‪َ )9‬و َج َع ْلنَا اللَّي َْل لِبَ ً‬ ‫َو ْال ِجبَ َ‬
‫ار َم َعا ًشا (‪َ )11‬وبَنَ ْينَا فَوْ قَ ُك ْم َس ْبعًا ِشدَادًا (‪َ )12‬و َج َع ْلنَا ِس َراجًا َوهَّا ًج ا (‬ ‫‪َ )10‬و َج َع ْلنَا النَّهَ َ‬
‫ت أَ ْلفَافً ا‬
‫ت َما ًء ثَجَّاجًا (‪ )14‬لِنُ ْخ ِر َج بِ ِه َحبًّا َونَبَاتًا (‪َ )15‬و َجنَّا ٍ‬ ‫ْص َرا ِ‬ ‫‪َ )13‬وأَ ْن َز ْلنَا ِمنَ ْال ُمع ِ‬
‫(‪[ ﴾)16‬النبأ‪]16 - 6 :‬‬
‫قال‪ :‬إن مثل ذلك مثل رجل كريم أع د ض يافة لق وم من الن اس‪ ،‬ثم راح يخ برهم‬
‫بما أعد لهم من وسائل الراحة ليلتفتوا إليها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬فالقرآن الكريم يذكر لنا ذلك‪ ،‬ويعده لنا‪ ،‬حتى نلتفت إليه‪ ،‬ب ل يأمرن ا‬
‫بع ّده‪ ،‬فيقول‪َ ﴿ :‬وإِ ْن تَ ُع ُّدوا نِ ْع َمةَ هَّللا ِ اَل تُحْ صُوهَا إِ َّن هَّللا َ لَ َغفُو ٌر َر ِحي ٌم ﴾ [النحل‪]18 :‬‬

‫‪89‬‬
‫ص وهَا إِ َّن اإْل ِ ْن َس انَ لَظَلُ و ٌم َكفَّارٌ﴾‬ ‫قال‪ :‬ويقول أيضا‪َ ﴿ :‬وإِ ْن تَ ُع ُّدوا نِ ْع َمتَ هَّللا ِ اَل تُحْ ُ‬
‫[إبراهيم‪ ..]34 :‬أتدري لم ختمت اآلية باتهام اإلنسان بالظلم والكفران؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬فهي تعبر عن الواقع‪ ..‬فمع كون هذه النعم من فضل هللا العظيم على‬
‫عب اده إال أن من العب اد من راح يعتبره ا نعم ا عبثي ة وص لته عن طري ق الص دفة‬
‫والتطور‪ ،‬ولم تصله عن طريق إرادة حكيمة‪ ،‬ولطف وتدبير عظيم‪.‬‬
‫قال‪ :‬إن مثل ذلك مثل ضيف لئيم‪ ،‬يقابل كل الكرم الذي يبديه ل ه مض يفه ب أنواع‬
‫اإلهانة والتحقير والجحود‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬فجهل اإلنسان الذي ينتج عنه الكف ر‪ ،‬وك بره ال ذي ينتج عن ه الظلم‪،‬‬
‫هما اللذان يعميان اإلنسان الملحد عن رؤية بداه ة نعم هللا‪ ..‬ب ل تجعالن ه ال ينس بها إلى‬
‫هللا بإخالص وتجرد‪ ،‬بل ينسبها إلى أي شيء‪ ،‬مهما كان تافها وباطال‪.‬‬
‫﴿وإِ َذا ُذ ِك َر هَّللا ُ َوحْ َدهُ‬
‫ق ال‪ :‬ص دق هللا العلي العظيم حين أش ار إلى ذل ك‪ ،‬فق ال‪َ :‬‬
‫ت قُلُوبُ الَّ ِذينَ اَل ي ُْؤ ِمنُونَ بِ اآْل ِخ َر ِة َوإِ َذا ُذ ِك َر الَّ ِذينَ ِم ْن دُونِ ِه إِ َذا هُ ْم يَ ْستَب ِْش رُونَ ﴾‬ ‫ا ْش َمأ َ َّز ْ‬
‫[الزمر‪]45 :‬‬
‫قلت‪ :‬بل أشار إلى ذلك عندما ذكر عجز البشر عن مواجهة ذبابة تلتهم طعامهم‪،‬‬
‫ُون هَّللا ِ لَ ْن‬
‫اس تَ ِمعُوا لَ هُ إِ َّن الَّ ِذينَ تَ ْد ُعونَ ِم ْن د ِ‬ ‫ب َمثَ ٌل فَ ْ‬ ‫ض ِر َ‬ ‫ق ال تع الى‪﴿ :‬يَاأَيُّهَ ا النَّاسُ ُ‬
‫ض عُفَ الطَّالِبُ‬ ‫يَ ْخلُقُوا ُذبَابًا َولَ ِو اجْ تَ َمعُوا لَهُ َوإِ ْن يَ ْس لُ ْبهُ ُم ال ُّذبَابُ َش ْيئًا اَل يَ ْس تَ ْنقِ ُذوهُ ِم ْن هُ َ‬
‫طلُوبُ ﴾ [الحج‪]73 :‬‬ ‫َو ْال َم ْ‬
‫قال‪ :‬إن هذه اآلية تتحدى كل أولئك الماديين من عبدة الطبيعة والمادة أن يخلق وا‬
‫ذبابة واحدة‪ ..‬أو أن يستعيدوا شيئا سلبهم منهم الذباب‪..‬‬
‫قلت‪ :‬إن التح دى ال ي زال قائم ا‪ ..‬فهم م ع ك ل وس ائلهم ال تي يفخ رون به ا‪ ،‬لم‬
‫يستطيعوا صناعة الحي اة في خلي ة واح دة‪ ..‬بينم ا يتص ورون أن الحي اة هك ذا ص نعت‬
‫صدفة من غير سبب‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬وله ذا يبتلي هللا عب اده بس لب النعم‪ ،‬ال عقوب ة لهم‪ ،‬وإنم ا تأديب ا وتربي ة‬
‫ليكتشفوا حقيقة المنعم‪ ،‬ألن ه ال س عادة لهم إال في ج واره وص حبته‪ ،‬والعيش في ظالل‬
‫رعايته وعنايته‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكرتني بذلك التأديب اإللهي الذي حصل لقوم فرعون عندما أعرض وا‬
‫عن موسى عليه السالم‪ ،‬والذي نص عليه قوله تع الى‪َ ﴿ :‬وقَ الُوا َم ْه َم ا تَأْتِنَ ا بِ ِه ِم ْن آيَ ٍة‬
‫الطوفَ انَ َو ْال َج َرا َد َو ْالقُ َّم َل‬
‫لِت َْس َح َرنَا بِهَ ا فَ َم ا نَحْ نُ لَ كَ بِ ُم ْؤ ِمنِينَ (‪ )132‬فَأَرْ َس ْلنَا َعلَ ْي ِه ُم ُّ‬
‫اس تَ ْكبَرُوا َو َك انُوا قَوْ ًم ا ُمجْ ِر ِمينَ (‪َ )133‬ولَ َّما َوقَ َع‬ ‫ت فَ ْ‬ ‫ص اَل ٍ‬ ‫ت ُمفَ َّ‬
‫ضفَا ِد َع َوال َّد َم آيَ ا ٍ‬ ‫َوال َّ‬
‫ع لَنَا َربَّكَ بِ َما َع ِه َد ِع ْندَكَ لَئِ ْن َك َش ْفتَ َعنَّا الرِّجْ زَ لَنُ ْؤ ِمنَنَّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫َعلَ ْي ِه ُم الرِّجْ ز قالوا يَا ُمو َسى اد ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ك َولَنُرْ ِسلَ َّن َم َعكَ بَنِي إِس َْرائِي َل (‪[ ﴾)134‬األعراف‪]134 - 132 :‬‬ ‫لَ َ‬
‫قال‪ :‬وما أكثر ما يبتلى البشر بمثل هذا في جميع األزمنة‪ ،‬لكنهم ب دل أن يعلم وا‬
‫أن صاحب النعم هو مغيرها‪ ،‬تجدهم ينسبون ك ل ش يء للطبيع ة‪ ،‬ب ل يتهم ون هللا بأن ه‬
‫صانع للشرور‪ ،‬ويروحون يجحدونه بسبب ذلك‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكر هللا ذلك الموقف عن قوم فرعون‪ ،‬فق ال‪﴿ :‬فَلَ َّما َك َش ْفنَا َع ْنهُ ُم الرِّجْ َز‬
‫إِلَى أَ َج ٍل هُ ْم بَالِ ُغوهُ إِ َذا هُ ْم يَ ْن ُكثُونَ (‪ )135‬فَا ْنتَقَ ْمنَا ِم ْنهُ ْم فَأ َ ْغ َر ْقنَ اهُ ْم فِي ْاليَ ِّم بِ أَنَّهُ ْم َك َّذبُوا‬
‫بِآيَاتِنَا َو َكانُوا َع ْنهَا غَافِلِينَ (‪[ ﴾ )136‬األعراف‪]137 - 135 :‬‬
‫قال‪ :‬وهذه سنة هللا مع عباده‪ ..‬فالنعم رس ول من رس ل الهداي ة‪ ..‬فمن رآه ا بقلب‬
‫طاهر وعقل سليم عرج بها في سموات الحقائق لينال نعما أعظم‪ ،‬ورعاية أكرم‪ ..‬لكن ه‬
‫إن لم يلتفت لها‪ ،‬وحجب عنها‪ ،‬وجحدها كانت مصيدة من مص ايد الهالك‪ ،‬ومنهج ا من‬
‫مناهج الخسران‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أج ل‪ ..‬واس مح لي أني لم أتع رف إلي ك‪ ..‬فمن أنت؟ ومن أي روض ة من‬
‫رياض الجنان التي أراها؟‬
‫قال‪ :‬أنا عبد من عب اد هللا المتم رغين في نعم ه‪ ،‬المستض افين في دار ض يافته‪..‬‬
‫أما روضتي فهي [روضة العناية الرحيم ة]‪ ..‬فق د ك انت عناي ة هللا هي الطري ق ال ذي‬
‫عرفنا به ربنا وعبدناه‪ ..‬وكانت هي مالذنا الذي فررنا به من جحيم اإللح اد إلى جن ات‬
‫اإليمان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهلم بنا إليها‪ ..‬فما أجملها من روضة‪ ،‬وما أعقلها من براهين‪.‬‬
‫***‬
‫س رنا بين روض ات كث يرة مملتئ ة بالجم ال إلى أن وص لنا إلى روض ة العناي ة‬
‫الرحيم ة‪ ،‬وق د دهش ت لجماله ا وبهائه ا وك ثرة النعم المفاض ة عليه ا‪ ..‬ولكن ك ل تل ك‬
‫الدهشة لم تكن تعدل جزءا من دهشتي لك ثرة أولئ ك الطي بين ال ذين اجتمع وا يتح دثون‬
‫عن سر وجودهم في تلك الروضة‪ ..‬فق د ك انوا كث يرين ج دا‪ ،‬بحيث لم أس تطع ع دهم‪،‬‬
‫وكأنهم شعوب كثيرة اجتمعت في تلك الروضة‪ ..‬والعجب أنها وسعتهم جميعا‪.‬‬
‫سألت صاحبي عن س ر ذل ك‪ ،‬فق ال لي‪ :‬إن ك ل واح د من ه ؤالء ج ذب إلى هللا‬
‫بنوع من أنواع العناية‪ ..‬وبما أن أنواع العناية ال حد لها‪ ،‬فلذلك كان له ؤالء من الك ثرة‬
‫ما تراه‪ ..‬بل إن من ال تراه أكبر بكثير ممن تراه‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فهل سأسمع هنا براهينهم التي وصلوا بها إلى هللا؟‬
‫قال‪ :‬ستسمع بعضها فقط‪ ..‬وإال فإن الدنيا جميعا ال تكفي إلحصاء ما يرتبط به ذا‬
‫النوع من البراهين من الحجج والدالئل‪.‬‬
‫برهان التسخير‪:‬‬
‫بع د أن اس تقر بي المجلس‪ ،‬وزال ع ني بعض آث ار تل ك الدهش ة واالنبه ار‪،‬‬
‫وس لمت على ذل ك الجم ع المن ور بن ور اإليم ان‪ ،‬وس لموا علي‪ ،‬ق ال أح دهم مخاطب ا‬
‫رس ولهم ال ذي ج اء بي إليهم‪ :‬فلتب دأ أنت ي ا ص احب النفس الط اهرة‪ ،‬والعق ل الس ليم‬
‫لتحدثنا عن أسرار إيمانك‪ ،‬وكيف أخرجك هللا من قيود المالحدة‪ ،‬وزج ب ك في رح اب‬
‫روضات المؤمنين‪.‬‬
‫ابتسم‪ ،‬وقال‪ :‬ال أزال أذكر تلك األيام جيدا‪ ..‬فق د ك انت من أغلى ه دايا هللا ال تي‬
‫أهداها لي‪ ..‬وكلها غالية‪ ..‬لقد ربيت في أسرة طيبة‪ ..‬كان كل من فيه ا مس خر لخ دمتي‬
‫ابتداء من والدي‪ ،‬وانتهاء بالخدم الكثيرين ال ذين ال وظيف ة لهم س وى تحقي ق مط البي‪،‬‬

‫‪91‬‬
‫وجلب السعادة لي‪..‬‬
‫لك ني م ع ذل ك كل ه لم أكن س عيدا‪ ..‬فق د ك ان أولئ ك المحيطين بي والمس خرين‬
‫بخدمتي يلب ون مط الب جس دي‪ ،‬ولكنهم ال يعرف ون مط الب روحي‪ ،‬فل ذلك لم يكون وا‬
‫يلتفون إليها‪..‬‬
‫في ذل ك ال وقت‪ ،‬وفي تل ك األي ام ال تي من هللا علي بالهداي ة التقيت رجال من‬
‫المؤمنين‪ ،‬وقد كان بسيطا جدا‪ ،‬لكنه كان يشعر بسعادة عظيمة‪ ،‬فسألته عن ذلك‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫وكيف ال أسعد بذلك‪ ،‬وأنا في رعاية إله حكيم‪ ،‬وفر لي كل ما أحتاج ه‪ ،‬وأن ا م وقن أن ه‬
‫كما لم يضيعني في حياتي هذه‪ ،‬فإنه لن يضيعني في حياتي األخرى‪ ..‬وأن ه كم ا س خر‬
‫لي من فضله العظيم م ا مألني بالس عادة‪ ،‬ف إن فض له وكرم ه وج وده س يظل معي أب د‬
‫اآلبدين‪.‬‬
‫كنت في ذلك الحين ممتلئا بتلك األفكار التي تتربى عليه ا األس ر األرس تقراطية‬
‫التي تدعي التن وير‪ ،‬بينم ا هي تعيش في أحل ك أن واع الظلم ات‪ ،‬ول ذلك قلت ل ه‪ ،‬وأن ا‬
‫أسخر منه‪ :‬عن أي إله تتحدث؟‪ ..‬وفي أي حياة تأم ل؟‪ ..‬ليس هن اك إال م ا ت راه عين اك‬
‫من حياة‪ ..‬وليس هناك من مدبر للكون غير تلك الصدفة العبثية‪ ،‬والطبيعة العمياء‪.‬‬
‫قال لي‪ ،‬وهو يبتسم‪ :‬ما دام األمر كذلك‪ ..‬فكي ف س خر الخ دم ل ك‪ ،‬ولم يس خروا‬
‫لغيرك من الذين تراهم‪ ،‬وما أكثرهم‪ ..‬أم أن الصدفة اختارتك من بينهم؟‬
‫قلت‪ :‬الخدم الذين يخ دمونني‪ ..‬ال يخ دمونني إال لم الي‪ ..‬وهم تب ع لوال دي‪ ..‬ول و‬
‫كان ألولئك الذين تذكرهم أموال كأموالي‪ ،‬ووال د ث ري كوال دي‪ ،‬لس خر لهم من الخ دم‬
‫والحشم ما سخر لي‪.‬‬
‫قال‪ :‬فاعبر من خدمك وحشمك ال ذين س خروا ل ك لتص ل إلى هللا وتع رف آالءه‬
‫التي وفرها لك كم ا وفره ا لك ل ش يء‪..‬فيس تحيل على العطي ة أن ال يك ون له ا مع ط‪،‬‬
‫ويستحيل على النعمة أن ال يكون لها منعم‪.‬‬
‫***‬
‫ق ال لي ه ذه الكلم ات‪ ،‬ثم انص رف‪ ،‬وق د غ رس في قل بي ب ذرة اإليم ان ال تي‬
‫تعاهدها هللا بفضله‪ ،‬فنَ َمت رويدا رويدا إلى أن تحولت إلى ش جرة باس قة‪ ،‬أثم رت بع د‬
‫ذلك كل أنواع القيم والفضائل‪ ،‬وخلّصت روحي من كل تل ك الكآب ة ال تي ك انت تس كن‬
‫فيها‪.‬‬
‫كانت كلماته هي المفتاح الذي أزاح عني غش اوة رؤي ة المنعم‪ ..‬فق د كنت أعيش‬
‫النعم‪ ،‬وأتصور أنه ا هك ذا ج اءت‪ ..‬وأنه ا اخت ارتني هك ذا ص دفة‪ ..‬لك ني بع د التأم ل‬
‫والتحقيق‪ ..‬وبعد الرحلة والسير‪ ..‬شعرت بصحبة المنعم ولطف ه العظيم‪ ،‬وكأن ه ين اولي‬
‫بيده كل فضل من أفضاله ونعمة من نعمة‪.‬‬
‫في ذل ك الحين‪ ..‬وقب ل أن يس تقر اإليم ان في قل بي‪ ..‬التقيت فيلس وفا من بالد‬
‫المسلمين‪ ،‬كان تلميذا البن رشد‪ ،‬وحدثني عنه كثيرا‪ ،‬وهو ممتلئ باإلعج اب ب ه‪ ،‬فقلت‬
‫له‪ :‬عجبا‪ ..‬هل يمكن أن يكون المرء فيلسوفا‪ ،‬ثم يكون مسلما؟‬
‫ق ال‪ :‬وم ا الم انع من ذل ك‪ ..‬ب ل إن الفلس فة الحقيقي ة هي طري ق اإليم ان‪ ،‬ومن‬

‫‪92‬‬
‫حجبته فلسفته عن اإليمان‪ ،‬فهو لم يعرف الفلسفة‪ ،‬ولم يشم رائحتها‪.‬‬
‫ثم حدثني عن أس تاذه الفيلس وف‪ ،‬وكي ف أل ف الرس ائل والكتب ال تي ترب ط بين‬
‫اإليمان والفلسفة‪ ،‬وأنه ال تعارض بينهما‪ ..‬وحدثني في ذلك عن كتاب له بعنوان [فصل‬
‫المقال فيما بين الحكم ة والش ريعة من االتص ال]‪ ،‬وأخ برني أن ه ذك ر في ه أن الفلس فة‬
‫ليست سوى رحلة إلى الموجودات وحقائقها‪ ،‬وهي لن توصلنا إال إلى موجدها‪ ..‬ول ذلك‬
‫ال تعارض بين الدين والفلسفة‪ ..‬فكالهما سبيل ص الح للتع رف على الخ الق ال ذي حث‬
‫على وجوب استعمال النظر العقلي والبرهان والحجة بجميع أنواعها‪.‬‬
‫وأخبرني أنه ذكر في الكتاب كيف أوجبت النص وص المقدس ة ال تي أوحاه ا هللا‬
‫لرسله النظر العقلي في الموجودات‪ ،‬والذي يسمى بالبرهان‪ ..‬والذي ال يمكن اس تعماله‬
‫إال بمعرفة أنواعه وقواع ده وأش كاله وأوج ه االختالف بين ه وبين ب اقي أن واع القي اس‬
‫كالقياس الجدلي‪ ،‬والخطابي والمغالطي وغيرها‪.‬‬
‫كما أخبرني أن البشر مختلفون في طباعهم وطريقة تفكيرهم‪ ،‬فمنهم من يص دق‬
‫باألقاوي ل الجدلي ة ال تي تعتم د على المق دمات الظني ة‪ ،‬ومنهم من يص دق باألقاوي ل‬
‫الخطابية التي تعتمد على المقدمات العاطفية‪ ،‬ومنهم من يصدق بالبره ان العقلي الق ائم‬
‫على الحجج المنطقية‪.‬‬
‫وأخبرني أن صاحبه دافع عن الفالسفة ضد من أنكر عليهم‪ ،‬مبين ا أنهم يؤمن ون‬
‫بوجود هللا‪ ،‬وأن البراهين العقلية تؤدي ال محالة إلى معرفة هللا حق المعرفة‪.‬‬
‫وأخبرني أن تلك اإلشاعات التي تشاع عنهم بأنهم يقولون ب أن هللا تع الى ال يعلم‬
‫الجزئيات كذب عليهم‪ ،‬وتحريف لكالمهم‪ ،‬بل إنهم يرون أن هللا تع الى يعلمه ا بطريق ة‬
‫سامية ال يمكننا فهمها‪ ،‬والدليل على ذلك أنهم يرون أن الرؤيا الصادقة تتضمن اإلنذارا‬
‫بالجزئيات الحادثة في المستقبل‪ ،‬وهي كلها من الجزئيات المتغيرة‪ ،‬مما يعني علمه بها‬
‫كما يعلم بالكليات‪.‬‬
‫وهك ذا راح ي دافع عن م وقفم من المس ائل المختلف ة‪ ،‬ولم يكن يعني ني أك ثر م ا‬
‫ذكره‪ ،‬بل كل ما ذكره‪ ،‬فقد كنت مشغوال بالبحث عن الحقيقة التي بذرها في عقلي ذل ك‬
‫المؤمن الذي التقيته‪ ،‬ولذلك رحت أسأله‪ :‬دعنا من الفلسفة والفالسفة‪ ،‬وأخبرني بما ه و‬
‫أهم من ذلك كله‪ ..‬أخبرني بالبرهان الذي جعل ص احبك يخت ار اإليم ان على اإللح اد‪..‬‬
‫وهل هو من البراهين المنطقية‪ ،‬أم هو من الخطابات العاطفية والمغالطية والجدلية‪.‬‬
‫قال‪ :‬يستحيل على صاحبي أن يختار في هذه المسألة الخطيرة تلك األنواع الغث ة‬
‫من الخطابات‪ ..‬فتلك قد ترتبط بإقناع الجماهير والغوغاء بالمصالح المؤقتة‪ ..‬أما مسألة‬
‫وجود هللا وكماالته‪ ،‬فإنها تحتاج إلى اإلثبات بأقوى أنواع البراهين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل تحفظ عن أستاذك شيئا في هذا الباب؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬وكيف ال أحفظ‪ ..‬ولم يكن هن اك مجلس‪ ،‬وال مناس بة إال ح دثنا عن ه‪،‬‬
‫ليمأل قلوبنا باإليمان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فاذكر لي ما كان يقول لكم‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال يمكن ذلك‪ ..‬فمجالسه في ذلك ال تعد وال تحصى‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫قلت‪ :‬فأخبرني عن مجامعه‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد كان أستاذي الحكيم ابن رشد يعلم ك ل أن واع ال براهين ال تي أث رت عن‬
‫الفالسفة من أمثال برهان الحركة والعلية والتطبيق وغيرها كثير‪ ..‬ولكنه كان يؤثر م ا‬
‫يسميه برهان العناية على غيرها من البراهين‪ :‬لوض وحه أوال‪ ..‬ولتناس به م ع م ا ورد‬
‫في كلمات هللا المقدسة ثانيا‪.‬‬
‫لقد سمعته يقول في ذلك‪( :‬الطريق التي نبه الكتاب العزيز عليها ودع ا الك ل من‬
‫بابها إذا استقرىء الكتاب العزيز وجدت تنحصر في جنسين‪ :‬أحدهما ‪ :‬طريق الوقوف‬
‫على العناية باإلنسان وخلق جميع الموجودات من أجله ا ولنس م ه ذه (دلي ل العناي ة )‪..‬‬
‫والطريقة الثانية ‪ :‬ما يظهر من اختراع جواهر األشياء الموجودات مثل اختراع الحي اة‬
‫في الجماد واإلدراكات الحسية والعقل‪ ،‬ولنسم هذه (دليل االختراع )(‪)1‬‬
‫ثم راح يذكر لي وجه االستدالل على البرهان األول [برهان العناية]‪ ..‬ف ذكر لي‬
‫أنه ينبني على أصلين بقدر فهمهما والرسوخ في معرفتهما‪ ،‬بقدر ما يتوض ح البره ان‪،‬‬
‫وتزال اإلشكاالت المرتبطة به‪.‬‬
‫أم ا األص ل األول‪ ،‬فه و (أن جمي ع الموج ودات ال تي ه ا هن ا موافق ة لوج ود‬
‫اإلنسان)‪ ،‬وأما األصل الث اني‪ ،‬فه و (أن ه ذه الموافق ة ض رورة من قب ل فاع ل قاص د‬
‫لذلك‪ ،‬مريد‪ ،‬إذ ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة باالتفاق‪ ..‬أي صدفة)‬
‫ثم راح يفصل لي بعض الحق ائق المرتبط ة باألص ل األول‪ ،‬فق ال‪( :‬فأم ا كونه ا‬
‫موافقة لوجود اإلنسان‪ ،‬فيحصل اليقين ب ذلك باعتب ار موافق ة اللي ل والنه ار‪ ،‬والش مس‬
‫والقمر لوجود اإلنسان‪ ،‬وكذلك موافقة األزمنة األربعة له‪ ،‬والمكان الذي هو في ه أيض ا‬
‫وه و األرض‪ ،‬وك ذلك تظه ر أيض ا موافق ة كث ير من الحي وان ل ه والنب ات والجم اد‬
‫وجزئيات كث يرة مث ل األمط ار واألنه ار والبح ار‪ ،‬وبالجمل ة‪ ،‬األرض والم اء والن ار‬
‫والهواء‪ ،‬وكذلك أيضا تظهر العناية في أعضاء البدن وأعضاء الحي وان‪ ،‬أع ني كونه ا‬
‫موافقة لحياته ووجوده‪ ..‬وبالجملة فمعرفة ذلك أعني منافع الموج ودات داخل ة في ه ذا‬
‫الجنس‪ ،‬ولذلك وجب على من أراد أن يعرف هللا تعالى المعرف ة التام ة أن يفحص عن‬
‫منافع المجودات)‬
‫وهكذا ذكر لي [داللة االختراع] على هللا‪ ،‬ولها عالقة أيضا بـ [دالل ة العناي ة]‪،‬‬
‫وذكر لي أنها أيض ا تنب ني على أص لين موج ودين ب القوة في جمي ع فِط ر الن اس‪ ،‬أم ا‬
‫أحدهما‪ ،‬فهو (أن هذه الموجودات مخترعة‪ ..‬فإنا نرى أجساما جمادي ة‪ ،‬ثم تح دث فيه ا‬
‫الحياة‪ ،‬فنعلم قطعا أن ها هنا موجدا للحياة ومنعما بها‪ ،‬وه و هللا تب ارك وتع الى‪ ..‬وأم ا‬
‫السموات فنعلم من قبل حركاتها التي ال تفتر أنها مأمورة بالعناية بما ه ا هن ا ومس خرة‬
‫لنا‪ ،‬والمسخر المأمور مخترع من قبل غيره ضرورة)‬
‫خترع فله ُمخت َِرع‪ ،‬فيصح من هذين األص لين‬ ‫وأما األصل الثاني‪ ،‬فهو (أن كل ُم َ‬
‫مخترعا له)‬
‫ِ‬ ‫أن للموجود فاعال‬

‫‪ )(1‬وهو ما ذكرناه في الفصل التالي لهذا الفصل باسم برهان [الصنعة العجيبة]‬

‫‪94‬‬
‫ثم ذكر لي دعوة ابن رشد إلى البحث في اآلفاق واألنفس للتعرف على هللا‪ ..‬فق د‬
‫نصب هللا دالئل التعرف عليه في مخلوقاته‪ ..‬وقرأ علي قوله تعالى‪َ ﴿ :‬سنُ ِري ِه ْم آيَاتِنَا فِي‬
‫ف بِ َربِّكَ أَنَّهُ َعلَى ُك لِّ َش ْي ٍء َش ِهي ٌد﴾‬ ‫ق أَ َولَ ْم يَ ْك ِ‬
‫اق َوفِي أَ ْنفُ ِس ِه ْم َحتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ ْم أَنَّهُ ْال َح ُّ‬
‫اآْل فَ ِ‬
‫[فصلت‪]53 :‬‬
‫ثم ذك ر لي ق ول ابن رش د‪( :‬ول ذلك ك ان واجب ا على من أراد معرف ة هللا ح ق‬
‫معرفته أن يعرف جواهر األشياء ليقف على االختراع الحقيقي في جميع الموج ودات‪،‬‬
‫ألن من لم يعرف حقيقة الش يء لم يع رف حقيق ة االخ تراع‪ ،‬وإلى ه ذا اإلش ارة بقول ه‬
‫ق هَّللا ُ ِم ْن َش ْي ٍء﴾‬ ‫ض َو َم ا خَ لَ َ‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬‫اوا ِ‬ ‫الس َم َ‬‫ت َّ‬ ‫تع الى‪ ﴿ :‬أَ َولَ ْم يَ ْنظُ رُوا فِي َملَ ُك و ِ‬
‫[األع راف‪ ..]185 :‬وك ذلك أيض ا من تتب ع مع نى الحكم ة في وج ود موج ود‪ ،‬أع ني‬
‫معرفة السبب الذي من أجله خلق‪ ،‬والغاية المقصودة ب ه ك ان وقوف ه عى دلي ل العناي ة‬
‫أتم)‬
‫ثم ذكر لي أن هذا النوع من األدلة هو الذي دلت عليه النص وص المقدس ة‪ ،‬ففي‬
‫الق رآن الك ريم الكث ير من (اآلي ات المنبه ة على األدل ة المفض ية إلى وج ود الص انع‬
‫سبحانه في الكتاب العزيز وهي منحصرة في هذين الجنسين من األدل ة‪ ،‬ف ذلك بيّن لمن‬
‫تأمل اآلي ات ال واردة في الكت اب العزي ز في ه ذا المع نى‪ ..‬وذل ك أن اآلي ات ال تي في‬
‫الكتاب العزيز في هذه المعنى إذا تصفحت وجدت على ثالثة أنواع‪ :‬إما آي ات تتض من‬
‫التنبيه على داللة العناية‪ ،‬وإما آيات تتض من التنبي ه على دالل ة االخ تراع‪ ،‬وإم ا آي ات‬
‫تجمع األمرين من الداللة جميعا)‬
‫ثم أحضر مصحفا‪ ،‬وقرأ لي الكثير من النصوص المقدسة التي تتحدث عن ه ذه‬
‫األنواع من النعم‪ ،‬والتي تبين مجامعها الكثيرة‪.‬‬
‫وقد شد انتباهي منها تلك اآليات ال تي تتح دث عن التس خير‪ ..‬ف رحت أبحث عن‬
‫أسراره‪ ..‬وكيف أن كل شيء مسخر لإلنسان متناسب معه مهيأ ل ه ليس تفيد من ه‪ ،‬مثلم ا‬
‫كان الخدم والحشم المحيط ون بي مس خرون لك ل غ رض من أغراض ي‪ ،‬وحاج ة من‬
‫حاجاتي‪.‬‬
‫وقد جعلني ذلك أخرج من كسلي‪ ،‬ومن حياتي التي ال معنى لها‪ ،‬ألخوض بح ار‬
‫علوم مختلفة‪ ،‬أتعلم أسرارها‪ ،‬وأستكنه أغوارها‪ ،‬وأالح ظ في ك ل ط رف من أطرافه ا‬
‫العناية اإللهية‪ ،‬وهي تقدم لي خدماتها التي ال تنتهي‪.‬‬
‫***‬
‫بع د ه ذا اس محوا لي أن أذك ر لكم مجلس ا من المج الس ال تي جلس تها‪ ،‬وال تي‬
‫رسخت في قلبي اإليمان‪ ،‬وأخرجتني من رؤية النعم واالستغراق فيها إلى رؤي ة المنعم‬
‫والبحث عنه‪ ،‬ومحاولة التواصل معه‪.‬‬
‫في ذل ك المجلس ال ذي جم ع ناس ا مختلفي المش ارب واألذواق والم ذاهب‬
‫والطوائف قام رجل من أهلنا ممن يزعمون ألنفسهم التنوير المضمخ بخرافات اإللح اد‬
‫يخاطب شيخا وقورا من مشايخ المسلمين‪ ،‬ويقول له ساخرا‪ :‬إن قرءانكم ي زعم أن ك ل‬
‫ما في السموات واألرض مسخر لإلنسان‪ ..‬ففيه هذه اآلي ة‪﴿ :‬أَلَ ْم تَ َروْ ا أَ َّن هَّللا َ َس َّخ َر لَ ُكم‬

‫‪95‬‬
‫اس َمن‬ ‫ظ ا ِه َرةً َوبَا ِطنَ ةً َو ِمنَ النَّ ِ‬ ‫ض َوأَ ْس بَ َغ َعلَ ْي ُك ْم نِ َع َم هُ َ‬
‫ت َو َم ا فِي األَرْ ِ‬ ‫َّما فِي َّ‬
‫الس َما َوا ِ‬
‫ير﴾ [لقم ان‪ ..]28:‬وفي ه ه ذه اآلي ة‪:‬‬ ‫ب ُّمنِ ٍ‬ ‫ْ‬ ‫هَّللا‬
‫يُ َج ا ِد ُل فِي ِ بِ َغ ْي ِر ِعل ٍم َوال هُ دًى َوال ِكتَ ا ٍ‬
‫ِّ‬
‫ت لقَ وْ ٍم‬‫ض َج ِمي ًع ا ِّم ْن هُ إِ َّن فِي َذلِ كَ آَل يَ ا ٍ‬ ‫ت َو َم ا فِي األَرْ ِ‬ ‫﴿ َو َس َّخ َر لَ ُكم َّما فِي َّ‬
‫الس َما َوا ِ‬
‫يَتَفَ َّكرُونَ ﴾ [الجاثية‪]13:‬‬
‫وهو دليل على أن الذي كتب تلك الكلمات ال يعرف الك ون وس عته‪ ..‬وال يع رف‬
‫أن األرض ليس ت ذرة رم ل في بح ر الك ون الواس ع‪ ..‬فكي ف يس خر الك ون جميع ا‬
‫لإلنسان‪ ،‬وهو ال يساوي شيئا في الكون جميعا؟‬
‫ابتسم الشيخ‪ ،‬وقال‪ :‬هل يمكنك أن تغلق أنفك وفمك ولو لدقائق محدودة؟‬
‫قال الرجل‪ :‬ألم يعجبك كالمي‪ ..‬فرحت تأمرني بالسكوت؟‬
‫قال الشيخ‪ :‬ال‪ ..‬أنا لم آمرك بالسكوت‪ ..‬لكني أجبتك عن سؤالك‪ ..‬فطلبت منك أن‬
‫تتوقف عن التنفس لبضع دقائق‪ ،‬وأحببت أن أرى هل تطيق ذلك‪ ،‬أم ال؟‬
‫قال الرجل‪ :‬ال حاجة لي ألن أفعل ذلك‪ ..‬فأنا أعلم أنني ال أطيق ذلك‪..‬‬
‫قال الشيخ‪ :‬لم؟‬
‫قال الرجل‪ :‬هذا لن تفهمه أنت‪ ..‬ولكني مع ذلك سأشرحه للحضور‪..‬‬
‫ثم توجه للحض ور‪ ،‬وق ال‪ :‬لق د دلت الحق ائق العلمي ة التجريبي ة على أن وظيف ة‬
‫الجه از التنفس ي هي توف ير غ از األوكس جين لك ل خلي ة من خالي ا الجس م‪ ،‬ومن ثم‬
‫تخليصها من غاز ثاني أكسيد الكربون الذي تنتجه هذه الخالي ا‪ ..‬واألوكس جين عنص ر‬
‫ضروري إلنجاز عملية تحويل المواد الغذائي ة إلى طاق ة تل زم إلج راء مختل ف أن واع‬
‫العمليات الحيوية التي تجري في داخل الخاليا‪ ،‬أو م ا يس مى ب الحرق أو اله دم‪ ،‬وينتج‬
‫عن عملية التحويل هذه غ از ث اني أكس يد الكرب ون‪ ..‬وتق وم مكون ات الجه از التنفس ي‬
‫المختلف ة بأخ ذ األوكس جين من الج و‪ ،‬ومن ثم يتم إيص اله إلى خالي ا الجس م من خالل‬
‫الدم‪ ،‬والذي يعود محمال بثاني أكسيد الكربون فيق وم الجه از التنفس ي بس حبه من ال دم‬
‫وطرده إلى الجو‪..‬‬
‫وبما أن الجس م ال يمكن ه أن يخ زن األوكس جين في داخل ه فإن ه من الض روري‬
‫تزويده بهذه العنصر الهام بشكل متواصل؛ حيث أن انقطاع وصوله للجس م لم دة ثالث‬
‫دقائق في المتوسط يؤدي إلى موت اإلنسان‪ ،‬بينما يمكن أن يعيش اإلنسان ب دون طع ام‬
‫لعدة أسابيع‪ ،‬وبدون ماء لعدة أيام‪.‬‬
‫وإلى ج انب ه ذه الوظيف ة الرئيس ية يق وم الجه از التنفس ي بوظيف تين ث انويتين‪:‬‬
‫أوالهما استخدام الهواء الخ ارج من الرئ تين لتولي د األص وات من خالل م روره على‬
‫الحبال الص وتية‪ ،‬ومن ثم الفم واألن ف‪ ..‬وثانيهم ا اس تخدام اله واء المستنش ق المحم ل‬
‫بالمواد المتط ايرة من مختل ف المص ادر للتع رف على روائحه ا من خالل مس تقبالت‬
‫الشم الموجودة في سقف األنف‪.‬‬
‫قال الشيخ‪ :‬بورك فيك على هذه المعلومات القيمة التي أف دتنا به ا‪ ..‬ف أجبني اآلن‬
‫أو أجب الحضور‪ ..‬لو أن ه ذا األكس جين ال ذي تتح دث عن ه لم يكن موج ودا‪ ،‬أو ك ان‬
‫موجودا بنسبة ضئيلة أو نسبة زائدة‪ ..‬هل يمكنك أن تستفيد منه؟‬

‫‪96‬‬
‫قال الرجل‪ :‬أظن أنك تريد أن تختبر معلوم اتي‪ ..‬ال ب أس‪ ..‬س أذكر ل ك مع ارفي‬
‫فيه ا‪ ،‬فأن ا مختص في ه ذه الج وانب(‪ ..)1‬إن األكس جين يعت بر بال ش ك الغ از األهم‬
‫الموجود على األرض‪ ..‬فلو كان غ ير موج ود لم ا تمكن أي ك ائن حي من العيش على‬
‫هذا الك وكب‪ ..‬وق د أثبت العلم اء أن ه ذا العنص ر يش كل رب ع نس بة الغ ازات الجوي ة‬
‫الموجودة حولنا‪ ..‬وأثبتوا أنه لو اختفى عن األرض لمدة ‪ 5‬ثوان فقط فإن نت ائج كارثي ة‬
‫كبيرة ستحصل‪..‬‬
‫منها أن كل شخص تلمس جلده أش عة الش مس س وف يص اب بح روق خط يرة‪،‬‬
‫وذلك ألن جزيئات األكسجين تحمينا من األشعة فوق البنفسجية المنبعثة من الشمس‪.‬‬
‫ومنها أن سماء الصباح سوف تكون مظلمة كالليل تماما‪ ،‬ألنه بانعدام األكس جين‬
‫سوف تقل قابلية الجسيمات الموجودة في الجو على بعثرة الضوء األزرق‪.‬‬
‫ومنها أن كل قطع الحديد غير المعالجة س وف تلتحم م ع بعض ها البعض ف ورا‪،‬‬
‫ألن ما يمنع الحديد من اإللتصاق هو في الواقع طبقة من األكسيد‪.‬‬
‫ومنها أن القش رة األرض ية س تنهار‪ ،‬وذل ك ألن األكس جين يش كل نس بة ‪ 45‬في‬
‫المائة منها‪.‬‬
‫ومنه ا أن جمي ع آذان المخلوق ات س وف تنفج ر‪ ،‬ألن األكس جين يش كل ‪ 21‬في‬
‫المائة من غازات الهواء الجوي فبانعدامه سوف نفق د نس بة ‪ 21‬بالمائ ة من في لحظ ة‪،‬‬
‫أي ما يعادل اإلنتقال فوريا ألعلى قمة في جبال األنديز بارتفاع حوالي ‪ 2000‬متر‪.‬‬
‫ومنها أن كل مبنى صنع من األسمنت سوف يتحول إلى غبار‪ ،‬فاألكسجين يعتبر‬
‫مادة مهمة للتماسك بين الجزيئات في المواد الخرسانية‪ ،‬وبدونه المركب ات األخ رى ال‬
‫يمكنها تحمل الثقل‪.‬‬
‫ومنها أن المحيطات سوف تتبخر وتتناثر في الفضاء‪ ،‬فكم ا ه و مع روف الم اء‬
‫مكون من ذرتين هيدروجين وذرة أكسجين‪ ،‬وباختف اء األكس جين س يبقى الهي دروجين‬
‫على شكل غاز‪ ،‬وألنه خفيف الوزن سوف يرتفع إلى طبقات الجو العلي ا ومنه ا س وف‬
‫يتسرب للفضاء الخارجي‪.‬‬
‫قال الشيخ‪ :‬فهذا الغاز ـ على حسب ما ذكرت ـ مس خر في خدم ة اإلنس ان‪ ..‬وال‬
‫حياة لإلنسان من دونه‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬أجل‪ ..‬والحقائق العلمية كلها تثبت ذلك‪ ..‬فخدماته لإلنس ان والطبيع ة‬
‫التي يستفيد منها اإلنسان ال حدود لها‪.‬‬
‫قال الشيخ‪ :‬فه ل لوج ود ه ذا الغ از به ذا الش كل على األرض‪ ،‬وبالمق ادير ال تي‬
‫يوجد عليها عالقة باألرض فقط‪ ..‬أم له عالقة بالمجموعة الشمسية أيضا؟‬
‫قال الرجل‪ :‬ما تقول؟‪ ..‬إن معلوماتك محدودة كثيرا في هذا الجانب‪ ..‬فه ذا الغ از‬
‫ونسبته له عالقة بكل ما تراه في السماء من كواكب‪ ..‬فالكون مرتبط بعضه ببعض‪..‬‬
‫فقد اكتشف علماء الفلك والكونيات مث ل الع الِم الش هير [س ير‪ .‬م ارتن ِريس] أن‬

‫‪ )(1‬انظر مقاال بعنوان‪ :‬ماذا سيحدث لو اختفى األكسجين لمدة ‪ 5‬ثواني عن كوكبنا؟‬

‫‪97‬‬
‫كوننا يتمتع بخاصية غاية في اإلدهاش وهي ما تُس َّمى بـ [الضبط الطفي ف] حيث وج د‬
‫ِريس أن خصائص الكون تتح َّدد بستة عوامل فيزيائية‪ ،‬وهذه العوامل تتخذ قي ًم ا معين ة‬
‫ال بد منها لوجود حياة في الك ون‪ ،‬ف إذا ح اد أي منهم عن قيمت ه حي ودًا طفيفً ا اس تحال‬
‫إعالة الكون للشفرة الحيوية‪ ،‬وبالتالي استحالة وجود حياة‪..‬‬
‫من هذه العوامل ما يطلق علي ه [إبس لن]‪ ،‬قيمت ه في كونن ا هي بالض بظ ‪0.007‬‬
‫وهي نسبة الهيدروجين الذي تح َّول إلى هيليوم في االنفج ار العظيم‪ ..‬وه ذا العام ل ل و‬
‫قلت قيمته إلى ‪ 0.006‬مثاًل لضعفت القوى النووي ة الض عيفة‪ ،‬وبالت الي لم يُتح لل ذرات‬
‫الثقيلة مثل الكربون الالزم للحياة أن تتكون‪ ،‬ولم يُتح للنجوم أن تتك ون ولص ار الك ون‬
‫كل ه مليئً ا بعنص ر الهي دروجين فق ط‪ ..‬أم ا إذا زادت لقيم ة مث ل ‪ 0.008‬ف إن ك ل‬
‫الهي دروجين س يتحول إلى هيلي وم‪ ..‬ولم ا تبقى أي ة ذرات هي دروجين تعطي طاق ة‬
‫اندماجها في النجوم إلى هليوم للكون والحياة فيه‪.‬‬
‫ومنها ما يطل ق علي ه [أن] وقيمت ه في كونن ا (‪ 1‬وعلى يمين ه ‪ 36‬ص فرًا) وهي‬
‫نسبة القوة الكهرومغناطيس ية في الك ون إلى الق وة الجذبوي ة في ه‪ ،‬فل و ك انت الجاذبي ة‬
‫أض عف قلياًل لم ا تك ونت النج وم‪ ،‬ولم ا أدف أت وال أن ارت كوكبن ا والنح درت درج ة‬
‫حرارته إلى الهاوية السحيقة بحيث الصمت المطبق فال حي اة‪ ..‬وإذا زادت ق وة الج ذب‬
‫الكوني قلياًل لتكونت النجوم سريعًا‪ ،‬واحترقت سريعًا الندفاع كميات رهيبة من الطاق ة‬
‫منها‪ ،‬وذلك لكثافتها المهولة التي تس مح بازدي اد مع دل اح تراق وق ود النج وم الن ووي‬
‫وانتهائ ه س ريعًا‪ .‬وي ترتب على ذل ك اح تراق أي أث ر للحي اة أثن اء تس رُّ ب الطاق ة من‬
‫النجوم سريعًا ثم يخيم الموت األسود البارد على الكون‪.‬‬
‫ومنها ما يطلق عليه [أوميغ ا]‪ ،‬فل و ك انت قليل ة التس ع الك ون س ريعًا دون ٍ‬
‫كبح‬
‫لجماحه‪ ،‬وخيمت الظلمة والبرودة على الك ون لتتجم د أي حي اة‪ ..‬ول و ك انت أك بر من‬
‫ذلك قلياًل النكمش الكون سريعًا وعاد إلى انه دام عظيم قب ل تواج د الظ روف المواتي ة‬
‫لخلق أي حياة‪ ..‬لقد قال م ارتن ريس مع برا عن ذل ك‪( :‬ل و اختلفت أوميغ ا عن الواح د‬
‫الصحيح بعد ثانية واح دة من االنفج ار العظيم بقيم ة ‪ 1‬على ملي ون بلي ون ‪-‬البلي ون =‬
‫‪ -1000000000‬لما كنت تقرأ مقالتي اآلن أيها القارئ العزيز!)‬
‫ومنها ما يطلق عليه [الثابت الكونياتي]‪ ..‬وهذه الكمية هي التي تعبر عن تسارع‬
‫اتساع الكون والتي يجب أن تكون قيمتها في نطاق ضيق ج دًا‪ ،‬ف إذا زادت قلياًل التس ع‬
‫الكون قبل أن تستقر الحياة المخلوقة على األرض‪ ،‬وكذلك يحدث لو قلت قلياًل فسينهدم‬
‫الكون بعد قليل من فتق الرتق‪ ،‬وبالتالي فسيكون كونًا مبتسرًا ال حياة فيه‪.‬‬
‫ومنها ما يطلق عليه [كا] وهي كمية عجيب ة تع بر عن م دى ع دم انتظ ام كثاف ة‬
‫الطاقة الفائرة عند فتق الرت ق وهي تس اوي في كونن ا (‪ ،)100000\1‬فل و ك انت ه ذه‬
‫الطاقة منتظمة ومتماثلة تم ام التماث ل لظلت هك ذا إلى األب د‪ ،‬ولم ا تك ونت النج وم وال‬
‫الكواكب‪ ،‬ولما كان يوجد تمايز بين أبعاض الكون‪ ،‬وبالتالى الستحال وجود أية حي اة‪..‬‬
‫ولو كانت غير منتظمة أك ثر مم ا هي علي ه لعج الك ون ب الثقوب الس وداء ال تي تجع ل‬

‫‪98‬‬
‫النجوم قريبة جدًا من بعضها مما ال يتيح تكون كواكب ت دور حوله ا وبالت الي يس تحيل‬
‫وجود حياة‪.‬‬
‫ومنها ما يطلق عليه [دي] وهي عدد األبعاد الفضائية‪ ،‬وقد وجد العلماء استحالة‬
‫وجود حياة إذا كان الكون بعدًا واحدًا ألنه حسب ميكانيكا الكم فإن الجس يمات في البُع د‬
‫الواحد تمرُّ من بعض ها البعض وال يمكن أن تتماس ك بح ال‪ ..‬أم ا في بع دين فيس تحيل‬
‫وجود حي اة ألنه ا لن تس تطيع أن تتغ ذى‪ ..‬تخيل وا معي كائنً ا ثن ائي األبع اد ف إن قنات ه‬
‫ستقسمه إلى جزئين وتتفكك الحي اة ال تي‬ ‫ِ‬ ‫الهضمية من موضع الفم إلى موضع اإلخراج‬
‫تعت ِمد على التغذية‪ ..‬أي كل أنواع الحياة المعروفة‪ .‬من ناحية أخ رى فنظ رًا لتعقي د مخ‬
‫ال أن تتك ون ش بكة عص بية معق دة‪ ،‬فك ل خلي ة‬ ‫الحي اة الذكي ة لإلنس ان‪ ،‬فال يمكن بح ٍ‬
‫عصبية ترتبط بـ ‪ 10000‬خلي ة أخ رى من أخواته ا في مخ اإلنس ان في ك ون ذي بع د‬
‫واحد أو بعدين اثنين‪ ..‬أم ا ل و زادت ع دد األبع اد عن ‪ 3‬أبع اد فض ائية فق د وج د ب ول‬
‫ايرينفيست المعاصر ألينشتين س نة ‪1917‬م أن م دارات الك وكب واإللكترون ات ح ول‬
‫الشموس وأنوية الذرات بالترتيب لن تكون مستقرة وبالتالي يستحيل تواجد أية حياة‪.‬‬
‫قال الشيخ‪ ،‬وهو يبتسم‪ :‬بورك فيك يا بني‪ ..‬فقد قمت بدلي بتفسير اآلي ة الكريم ة‬
‫التي سردتها علي‪ ..‬وقد كفيتني شرحها‪ ..‬بل لم أكن ألشرحها بمثل ما شرحتها أنت‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬ما تعني بقولك هذا؟‬
‫قال الشيخ‪ :‬أنت ترى ـ بحسب ما شرحت ـ أن كل ما في الكون مسخر لإلنسان‪..‬‬
‫وأنه لو اختل جزء بسيط منه لقضي على كل شيء بما فيه اإلنسان‪ ..‬أنس يت أن ك نقلت‬
‫عن مارتن ريس قوله‪( :‬ل و اختلفت أوميغ ا عن الواح د الص حيح بع د ثاني ة واح دة من‬
‫االنفجار العظيم بقيمة ‪ 1‬على مليون بليون ‪-‬البليون = ‪ -1000000000‬لما كنت تق رأ‬
‫مقالتي اآلن أيها القارئ العزيز!)‬
‫***‬
‫لم يج د الرج ل م ا يجيب‪ ..‬وانص رف الش يخ‪ ،‬ورحت أتبع ه‪ ..‬ف دخل المس جد‪..‬‬
‫ودخلت معه إليه من غير أن أك ون مؤمن ا في ذل ك ال وقت‪ ..‬وم ا هي إال ف ترة وج يزة‬
‫ح تى ص عد المن بر‪ ،‬وراح يق رأ آي ات التس خير في الق رآن الك ريم‪ ،‬ثم يخطب في‬
‫الحاضرين‪ ..‬ومما أذكره قوله‪ :‬هل ف َّكرت ـ أيها اإلنسان ـ يو ًما لم اذا تص حو من الن وم‬
‫صباح كل يوم فتجد هناك جاذبية أرضية ولم يحدث مرة في حيات ك أن انقطعت خدم ة‬
‫الجاذبي ة عن منزل ك كم ا تنقط ع خدم ة الكهرب اء بس بب األعط ال الفني ة في ش ركة‬
‫الكهرباء؟!‬
‫هل تفكرت يو ًما لماذا ال ي زداد ث ابت الج ذب الع ام فج أة عش رة أض عاف فتج د‬ ‫َّ‬
‫نفسط ملق ًى على األرض ال تستطيع ِحرا ًكا‪ ،‬بل تجد أن الغالف الجوي قد انضغط ج دًا‬
‫حتى صار الضغط رهيبًا؟! بل وتجد القمر قد اقترب إلينا بحيث يجرُّ معه مي اه البح ار‬
‫والمحيط ات ج ًًّّرا ليُص بح الم ُّد رهيبً ا فتغ رق الم دن الس احلية‪ .‬ب ل وتج د األرض ق د‬
‫اقتربت من الشمس فازدات حرارتها فوق احتمالنا؟ لقد ذكر هللا تعالى ذل ك‪ ،‬فق ال‪َّ :‬‬
‫﴿إن‬
‫ض أَن تَ ُزوال َولَئِن زَ الَتَ ا إِ ْن أَ ْم َس َكهُ َما ِم ْن أَ َح ٍد ِّمن بَ ْع ِد ِه إِنَّهُ‬
‫ت َواألَرْ َ‬ ‫هَّللا َ يُ ْم ِس ُ‬
‫ك ال َّس َما َوا ِ‬

‫‪99‬‬
‫َكانَ َحلِي ًما َغفُورًا﴾ [فاطر‪ ،]41:‬هذا مثال واحد لقيومية هللا تعالى على تسخير الجاذبي ة‬
‫الكونية لنستفيد منها‪ ،‬فكيف بباقي المسخرات التي ال عد لها؟‬
‫ثم أضاف يقول‪ :‬إن الكون بعظمته ُمس َّخ ٌر لك أيها اإلنسان‪ .‬وهو ليس ُمس َّخرًا لك‬
‫لتستخدمه في معصية من س َّخره ل ك‪ ،‬وإنم ا ه و ُمس َّخ ٌر ل ك لتق وم بوظيفت ك المح َّددة‬
‫بوضوح من قِبل ربك تعالى وهي عبادته‪.‬‬
‫ف إن أردت أن تس تخدم نعم ة هللا ال تي ال تُحص ى في معص يته‪ ،‬فلتعص ه ب دون‬
‫جسدك المملوك هلل ال ُمس َّخر لك وبدون كونه المملوك له تعالى ال ُمس َّخر ل ك ح تى تك ون‬
‫قد تحليت ببعض الحياء‪ .‬فمن قلة الحياء أن تُعادي ربك بفضله!‬
‫***‬
‫بعد أن سمعت هذا خرجت إلى بعض المراصد الفلكية‪ ،‬بعد أن س معت أن هن اك‬
‫فيزيائيين وفلكيين كبارا حض روا البل دة بع د أن اكتش ف بعض أهله ا اكتش افات فلكي ة‬
‫مهمة‪ ،‬فجاءوا لزيارته وتكريمه‪.‬‬
‫وقد تسنى لي بفعل عالقات الكثيرة‪ ،‬أن أجلس إليهم‪ ،‬وأستمع منهم‪ ..‬وي ا س بحان‬
‫هللا‪ ..‬فقد كانت أحاديثهم كلها تدور حول تسخير هللا لمخلوقاته‪ ..‬وك أن هللا ق د أرس ل لي‬
‫هذا المفتاح أللج منه إلى أبواب فضله وكرامته‪.‬‬
‫لقد كان مما سمعته منهم قول أحدهم‪ :‬إنه لمن المدهش حقا أن يك ون ه ذا الك ون‬
‫الشاسع الهائل بكل م ا في ه من أج رام س ماوية‪ ،‬ومخلوق ات أرض ية‪ ،‬مس خرا تس خيرا‬
‫خاصا لخدمتنا نحن البشر‪.‬‬
‫قال آخر‪ :‬لقد كانت النظرة السائدة إبان الثورة العلمي ة األوروبي ة‪ ،‬وخاص ة بع د‬
‫نظري ات البالس وني وتن وغيرهما‪ ،‬احتق ار اإلنس ان‪ ،‬واحتق ار م ا ورد في الكتب‬
‫المقدسة من تسخير الكون له‪ ..‬ولهذا اعتبروا األرض كوكبا تافها‪ ،‬كتفاه ة حب ة الرم ل‬
‫إذا م ا ق ورنت بش واطئ البح ار‪ ..‬لكن بع د التط ورات الكث يرة ال تي عرفته ا الفيزي اء‬
‫الحديثة ظهرت نظريات أك ثر علمي ة وأك ثر دق ة‪ ،‬وق د أع ادت لإلنس ان مكانته ا ال تي‬
‫اعتبرتها األديان والكتب المقدسة‪.‬‬
‫ق ال آخ ر‪ :‬لق د ق ال مؤل ف كت اب العلم من منظ وره الجدي د يحكي قص ة ذل ك‪:‬‬
‫(وهكذا بعد أن كان اإلنسان يعتبر مخلوق ا ً يس كن كوكب ا ً متواض عا ً ي دور ح ول نجم ال‬
‫شأن له في مجرة تح وى ‪ 100‬ملي ار نجم آخ ر‪ ،‬أص بح اآلن يق وم ب دور المش ارك في‬
‫مسرحية كونية عظيمة‪ ،‬هذا إلى جانب جميع األح داث الكوني ة ب دءاً باالنفج ار العظيم‬
‫فصاعداً كانت قد صممت بحيث تسمح بوجود مخلوقات واعية في مكان م ا من الك ون‬
‫المتمدد وفي حقبة من حقب تاريخ ه‪ ..‬ك ل ه ذه أدل ة تحم ل في طياته ا اإلقن اع الك افي‬
‫بنشوء تصور كوني جديد للع الم‪ ..‬ف النظرة القديم ة هي في س بيل إفس اح المج ال أم ام‬
‫نظرة جديدة تركز على اإلنسان بوصفه مراقبا ً ومشاركا ً واعيا ً وتفرد للعقل وللعملي ات‬
‫الذهنية مكانة تضاهي مكانة العالم المادي)(‪)1‬‬

‫‪ )(1‬العلم من منظوره الجديد‪ ،‬ص ‪.12‬‬

‫‪100‬‬
‫قال آخر‪ :‬وقال [أندرو كونواي ايغي] أحد أشهر علماء الطبيعة في أوائل الق رن‬
‫العشرين‪( :‬ففي علم وظائف األعضاء تدل خياشيم األسماك على أسبقية الماء‪ ،‬كما تدل‬
‫أجنحة الطيور ورئات اإلنس ان على أس بقية اله واء‪ ،‬وت دل أعين اإلنس ان على أس بقية‬
‫الضوء‪ ،‬كما يدل حب االس تطالع العلمي على أس بقية الوق ائع‪ ،‬وكم ا ت دل الحي اة على‬
‫أسبقية القانون الطبيعي الالزم لنش أتها‪ ..‬وإن ني أتس اءل اآلن‪ :‬أفال ي دل الت دبر العمي ق‬
‫والتفك ير الص افي والش جاعة العظمى وال واجب األعظم واإليم ان الكب ير والحب‬
‫العميق‪ ..‬أفال يدل كل أولئك على شيء س ابق؟ من الحماق ة أن نظن أن أعم ق األفك ار‬
‫والعواطف واألعمال التي نشاهدها في اإلنسان ال تدل على شيء سابق‪ ..‬إنها تدل على‬
‫أسبقية وجود عقل علوي‪ .‬إنها تدل على وج ود خ الق يتجلى في خ برة أولئ ك ال ذين ال‬
‫يضعون الحواجز في طريق عقولهم عند البحث عن العقل األس مى أو الخ الق األعلى)‬
‫(‪)1‬‬
‫ما سمعت هذا حتى رحت أصرخ في القاع ة‪ ،‬وأم ام الجم ع الكث ير من العلم اء‪:‬‬
‫(ي ا هللا‪ ..‬ي ا هللا‪ ..‬ي ا هللا)‪ ،‬وبقيت أردده ا وأبكي‪ ..‬والعجب أن ك ل القاع ة بعلمائه ا‬
‫وفالسفتها وعوامها وخواصها رددوها معي بكل عشق وشوق‪.‬‬
‫برهان التوفير‪:‬‬
‫بعد أن أنهى الرجل األول حديثه‪ ،‬قام آخر‪ ،‬وقال‪ :‬بعد أن ح دثكم ص ديقي وأخي‬
‫عن [برهان التسخير]‪ ،‬وكيف خرج به من ظلم ات الجه ل والغواي ة إلى ن ور اإليم ان‬
‫والهداية‪ ..‬فاسمعوا حديثي الذي ال يقل عنه عجبا‪ ..‬وهو عن برهان من براهين العناي ة‬
‫الرحيمة‪ ،‬أطلقت عليه اسم [برهان التوفير]‪ ..‬وهو برهان يدل على هللا من كل الوجوه‪،‬‬
‫وبكل المقدمات‪ ،‬وبجميع اللغات‪..‬‬
‫فاهلل برحمت ه وف ر لن ا ك ل م ا نحتاج ه‪ ..‬وبق در م ا نحتاج ه‪ ..‬وفي ال وقت ال ذي‬
‫نحتاجه‪ ..‬وبالدقة التي نحتاجها‪ ..‬وكل ذلك ال يدل على وجوده فقط‪ ،‬بل ي دل على م دى‬
‫عنايته ورحمته ولطفه بعباده‪ ،‬وأنه ما خلقهم إال ليكرمهم‪ ،‬ويمن عليهم من فضله‪.‬‬
‫وقد كان التأمل في هذا وحده هو رسول ربي إلي لإليمان‪ ..‬فق د كنت في بيئ ة لم‬
‫يكن فيها مؤمن واح د‪ ..‬وال ش يخ واح د‪ ..‬ولم أكن أس مع باألدي ان أص ال‪ ..‬ألني لم أكن‬
‫أعيش إال وسط المخابر‪.‬‬
‫لكن التأمل في الكائنات والبحث في المع ارف المختلف ة ق ادوني جميع ا إلى هللا‪..‬‬
‫وسأحكي لكم قصة هدايتي‪ ..‬وكيف جذبني هللا إليه بهذه السالسل من فضله‪.‬‬
‫كان أول ما أثار انتباهي في ه ذا ه و اللبن‪ ..‬ذل ك الغ ذاء األساس ي ال ذي يعتم د‬
‫عليه الرضيع في نشأته‪ ..‬والذي ل واله لم تس تمر الحي اة‪ ،‬ولم تص ر إلى الص ورة ال تي‬
‫نراها‪ ..‬لقد كان اللبن مثار اهتمام شديد من ط رفي في ذل ك ال وقت ال ذي كنت ال أؤمن‬
‫فيه إال بمادية الحياة‪ ،‬وأنها لم تكن سوى نتيجة تطور وجد بالصدفة‪..‬‬
‫لقد وجدت ذلك السائل العجيب‪ ،‬وفي تل ك المرحل ة الدقيق ة والخط يرة من عم ر‬

‫‪ )(1‬هللا يتجلى في عصر العلم‪ ،‬كريسى موريسون‪ ،‬ج ‪ 2‬ص ‪.156‬‬

‫‪101‬‬
‫اإلنسان‪ ،‬آية من آيات هللا العظمى‪ ،‬التي لو تأملها اإلنسان‪ ،‬واكتفى بها لوصل إلى هللا‪..‬‬
‫ولهذا وجدت في رحلتي إلى هللا كيف أشاد القرآن الكريم به‪ ،‬وكيف دعا إلى النظر في ه‬
‫ض ْعنَ‬‫َات يُرْ ِ‬ ‫﴿و ْال َوالِ د ُ‬
‫باعتباره برهانا عظيما من براهين الداللة على هللا‪ ..‬ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫﴿وإِ َّن لَ ُك ْم فِي‬
‫َّضا َعةَ﴾ [البقرة‪ ،]233 :‬وقال‪َ :‬‬ ‫أَوْ اَل َده َُّن َحوْ لَي ِْن َكا ِملَي ِْن لِ َم ْن أَ َرا َد أَ ْن يُتِ َّم الر َ‬
‫اربِينَ ﴾‬
‫لش ِ‬ ‫ص ا َس ائِ ًغا لِ َّ‬ ‫اأْل َ ْن َع ِام لَ ِع ْب َرةً نُ ْس قِي ُك ْم ِم َّما فِي بُطُونِ ِه ِم ْن بَي ِْن فَ رْ ٍ‬
‫ث َود ٍَم لَبَنً ا خَالِ ً‬
‫[النحل‪]66 :‬‬
‫لقد كان أول ما بدأت به أبحاثي هو مقارنتي بين اللبن الطبيعي ال ذي تف رزه األم‬
‫بعد الوالدة مباشرة‪ ،‬لتوفر البنها الغذاء الذي يحتاجه‪ ،‬وبين اللبن الذي أنتجته مص انعنا‬
‫المتطورة‪ ،‬والذي لم تس تطع تص نيعه وال تص ميمه إال بع د أبح اث طويل ة‪ ،‬ومن كب ار‬
‫المختص ين‪ ،‬وبإس ناد كب ير من جه ات كث يرة متع ددة‪ ..‬وعن دما رأيت الف رق العظيم‬
‫بينهما‪ ،‬قلت في نفسي‪ :‬هل يمكن أن يكون اللبن الذي وجد صدفة‪ ،‬وبطريق ة عش وائية‪،‬‬
‫ومن طبيعة عمياء صماء بكماء أكثر إتقانا وإبداعا من لبن وضعه كبار الباحثين‪ ،‬وبعد‬
‫خبرة طويلة؟‬
‫لق د جعل ني ه ذا أعي د النظ ر في م واقفي فيمن ص مم اللبن األول‪ ..‬لق د قلت في‬
‫نفس ي‪ :‬ه ل يمكن أن تك ون الص ورة المتقن ة ال تي ال تح وي أي ثغ رة‪ ،‬وال أي خط أ‪،‬‬
‫صورة عشوائية‪ ،‬لم يقم برسمها أي فنان‪ ،‬بينما الصورة الممتلئ ة باألخط اء والثغ رات‬
‫صورة تحتاج إلى مبدع وفنان؟‬
‫اسمحوا لي أن ألقي على مسامعكم بعض ما اكتشفت في ذلك الحين‪ ،‬والذي ك ان‬
‫من أول البراهين واآليات التي جذبتني إلى هللا(‪.)1‬‬
‫لقد رأيت من خالل أبحاثي‪ ،‬وأبحاث غ يري الكث يرة في ه ذا المج ال‪ ،‬أن حليب‬
‫األم يتطور تركيبه من ي وم آلخ ر بحس ب م ا يالئم حاج ة الرض يع الغذائي ة‪ ،‬وبحس ب‬
‫تحمل جسمه‪ ،‬وم ا يالئم غريزت ه وأجهزت ه ال تي تتط ور يوم ا ً بع د ي وم‪ ،‬وذل ك عكس‬
‫الحليب الصناعي الثابت التركيب‪..‬‬
‫فمثالً تفرز األم في األيام األولى لبنا يحوي أضعاف ما يح وي اللبن الع ادي من‬
‫البروتين والعناصر المعدنية‪ ،‬لكنه فقير بالدسم والسكر‪ ،‬كما يحوي أضدادا لرفع مناعة‬
‫الوليد‪ ،‬وله فعل ملين‪ ،‬هو الغذاء المثالي للوليد‪.‬‬
‫كما رأيت أنه يخف إدرار اللبن من ثدي األم‪ ،‬أو يخف تركيزه بين فترة وأخرى‬
‫بشكل غريزي‪ ،‬وذلك إلراحة الجه از الهض مي عن د الولي د‪ ،‬ثم يع ود بع دها بم ا يالئم‬
‫حاجة الطفل‪.‬‬
‫ورأيت أن لبن األم أسهل هضما من اللبن الصناعي‪ ،‬وذلك الحتوائه على خمائر‬ ‫ً‬
‫هاضمة تساعد خمائر المعدة عند الطفل على الهضم‪ ،‬وتستطيع المعدة إف راغ محتواه ا‬
‫منه بعد ساعة ونصف‪ ،‬وتبقى حموضة المعدة طبيعية ومناس بة للقض اء على الج راثيم‬
‫التي تصلها‪ ،‬بينم ا يت أخر هض م خ ثرات الجبن في غ يره من األلب ان‪ ،‬لثالث ة أو أرب ع‬
‫‪ )( 1‬رجعنا للمعلومات العلمية في هذا المطلب إلى كتاب (مع الطب في القرآن الكريم ) للدكتور عب د الحمي د دي اب‪،‬‬
‫والدكتور أحمد قرقوز‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫ساعات‪ ،‬كما تعدل األمالح الكثيرة الموجودة في غيره من األلب ان حموض ة المع دة ‪،‬و‬
‫تنقصها مما يسمح للجراثيم وخاصة الكولونية بالتكاثر مما يؤدي لإلسهال واإلقياء‪.‬‬
‫باإلض افة إلى ه ذا وج دت أن حليب األم معقم‪ ،‬بينم ا ين در أن يخل و الحليب في‬
‫الرض اع الص ناعي من التل وث الجرث ومي‪ ،‬وذل ك يح دث إم ا عن د عملي ة الحلب‪ ،‬أو‬
‫باستخدام اآلنية المختلفة أو بتلوث زجاجة اإلرضاع‪.‬‬
‫ووجدت أن درجة حرارة لبن األم ثابتة ومالئمة لحرارة الطفل‪ ،‬وال يت وفر ذل ك‬
‫دائما ً في اإلرضاع الصناعي‪.‬‬
‫ووج دت أن لبن األم يحت وي على أجس ام ض دية نوعي ة‪ ،‬تس اعد الطف ل على‬
‫مقاومة األمراض‪ ،‬ووجدت أنها تتواجد بنسبة أقل بكثير في غيره من األلبان‪ ،‬كما أنه ا‬
‫غير نوعية‪ ،‬ولهذا فمن الث ابت أن األطف ال ال ذين يرض عون من أمه اتهم أق ل عرض ة‬
‫لإلنتان ممن يعتمدون على اإلرضاع الصناعي‪.‬‬
‫ووجدت أن اإلرضاع الط بيعي ي دعم الزم رة الجرثومي ة الطبيعي ة في األمع اء‬
‫ذات الدور الفعال في امتصاص الفيتامينات وغيرها من العناصر الغذائية‪ ،‬بينما يس بب‬
‫اإلرضاع الصناعي اضطراب هذه الزمرة‪.‬‬
‫ووج دت في مقاب ل ذل ك أن اإلرض اع الص ناعي يهيء الطف ل لإلص ابة أك ثر‪،‬‬
‫بأمراض مختلفة‪ ،‬كالتهابات الطرق التنفسية‪ ،‬وتحدد الرئة المزمن الذي يرتبط بترس ب‬
‫ب روتين اللبن في بالس ما الطف ل‪ ..‬والته اب األذن الوس طى‪ ،‬ألن الطف ل في اإلرض اع‬
‫الصناعي يتناول وجبته وهو مضطجع على ظه ره‪ ،‬فعن د قيام ه ب أول عملي ة بل ع بع د‬
‫الرض اعة ينفتح نف ير أوس تاش وي دخل الحليب واللع اب إلى األذن الوس طى مؤدي ا ً‬
‫اللتهابها‪.‬‬
‫ووجدت أن الرضاع الصناعي يزيد حاالت التهاب اللثة واألنسجة الداعمة للسن‬
‫بنسبة ثالثة أضعاف‪ ،‬عن الذين يرض عون رض اعة طبيعي ة‪ ،‬أم ا تش نج الحنج رة‪ ،‬فال‬
‫يشاهد عند األطفال الذين يعتمدون على رضاعة طبيعية‪.‬‬
‫وقد وجدت بعد كل هذا أن هذه الفروق وغيرها ليست بسيطة‪ ،‬أو يمكن الم رور‬
‫عليها مرور الكرام‪ ،‬بل إنها مهمة جدا‪ ،‬وهي تفسر لنا نسبة الوفيات عند األطفال الذين‬
‫يعتمدون اإلرضاع الصناعي عن نسبة وفيات إخوانهم الذين يرضعنو رضاعة طبيعية‬
‫بمقدار أربعة أضعاف رغم كل التحسينات ال تي أدخلت على طريق ة إع داد الحليب في‬
‫الطرق الصناعية‪ ،‬وعلى طريقة إعطائه للرضيع‪..‬‬
‫باإلض افة إلى ذل ك كل ه وج دت أن هن اك فوائ د نفس ية واجتماعي ة كث يرة لألم‬
‫ورضيعها بسبب تلك الرض اعة الطبيعي ة‪ ،‬فق د أك د علم اء النفس أن الرض اعة ليس ت‬
‫مجرد إشباع حاجة عضوية إنم ا ه و موق ف نفس ي اجتم اعي ش امل‪ ،‬تش مل الرض يع‬
‫واألم وهو أول فرصة للتفاعل االجتماعي‪.‬‬
‫ففي الرضاعة الطبيعية يشعر الطفل بالحنان والحب والطمأنينة‪ ،‬ويحدث اندماج‬
‫في المش اعر بين الطف ل وأم ه‪ ،‬وه ذا يح دث من التص اقه بأم ه أثن اء الرض اعة‪،‬‬
‫وخصوصا الرضاعة لفترة طويلة‪ ..‬وبذلك تقوي العالقة بين الطفل واألم عكس الطف ل‬

‫‪103‬‬
‫ال ذي يأخ ذ غ ذاءه عن طري ق الرض اعة الص ناعية‪ ،‬فه و مح روم من الحب والحن ان‬
‫والشعور‪ ،‬ولهذا يكون دائما خائف ا‪ ،‬وتك ون العالق ة بين ه وبين أم ه مض طربة الى ح د‬
‫كبير مم ا ي ؤدي فيم ا بع د أو أثن اء ف ترة الطفول ة الى االس تعداد لإلص ابة ب األمراض‬
‫النفسية المختلفة‪.‬‬
‫ولذلك وجدت أن الرضاعة الطبيعية تعتبر مناعة طبيعي ة ض د ح دوث الم رض‬
‫النفسي والعقلي سواء في فترة الطفولة أو ب اقي مراح ل الحي اة‪ ..‬ووج دت أن األطف ال‬
‫الذين تم تغذيتهم عن طريق الرضاعة الطبيعية أكثر ذكاء‪ ،‬ويمتازون بسلوكيات سوية‪،‬‬
‫مث ل التعام ل م ع اآلخ رين والتفاع ل الجي د والس ليم م ع المواق ف المختلف ة‪ ..‬بخالف‬
‫األطفال الذين كانوا يتعاطون الرضاعة الصناعية الذين كانوا أقل ذكاء‪ ،‬وأك ثر ت وترا‪،‬‬
‫وأقل تعاونا مع اآلخ رين‪ ..‬وك انوا يع انون من بعض األم راض النفس ية مث ل الحرك ة‬
‫الزائدة‪ ،‬أو التخل ف في بعض منهم وال تردد واإلص ابة بالنزع ات العص بية واألزم ات‬
‫وكذلك األنانية والتمركز حول الذات والعنف واالندفاعية‪.‬‬
‫ووجدت باإلضافة إلى ذلك كله أن في الرضاعة الطبيعية فوائد اقتصادية كبيرة‪،‬‬
‫ال على األسرة وحدها بل على المجتمع أيضا‪ ،‬ولهذا رأيت ح رص الش ركات الك برى‬
‫الممونة للرضاعة الصناعية على إشهار منتوجاتها تحت عناوين مختلفة‪.‬‬
‫وق د ق رأت حينه ا مق اال ألح دهم ي ذكر في ه ه ذه الناحي ة الخط يرة ال تي جلبته ا‬
‫الحضارة الحديثة لإلنسانية‪ ،‬يقول فيه‪( :‬يعتبر مسحوق اللبن الصناعي صنفا محبب ا من‬
‫أصناف الغذاء الذي تقدمه الدول الغنية إلى الدول التي تع اني من ك وارث ومجاع ات‪،‬‬
‫ولكن المعارضة على هذه المعونات تتزاي د ألنه ا تعي ق اس تمرار الرض اعة الطبيعي ة‬
‫التي تعتبر أفضل وسيلة لحماي ة الطف ل‪ ،‬فاس تخدام ق ارورة الرض اعة م رة واح دة ق د‬
‫يجع ل الطف ل يع اف الرض اعة من الث دي م رة أخ رى‪ ،‬كم ا تتع رض ه ذه المس احيق‬
‫بس هولة إلى التل وث أثن اء تحض يرها نتيج ة لت دني مس تويات النظاف ة في المن اطق‬
‫المنكوبة‪ ،‬وهذا كله يعرض األطفال في تلك المجتمعات الفقيرة للخطر‪ ،‬ويهدد بانتش ار‬
‫أوبئة اإلسهال والنزالت الشعبية والرئوية القاتل ة‪ ..‬وعلى ال رغم من توص يات خ براء‬
‫التغذية بعدم التوسع في استخدامها‪ ،‬مازالت المجتمعات الدولية تق دم األلب ان الص ناعية‬
‫كمعون ات‪ ،‬وتعت بر منظم ة الص ليب األحم ر أك بر المنظم ات ال تي ت وزع األلب ان‬
‫الصناعية في العالم‪ ،‬وأحد األسباب الهامة وراء انخفاض معدالت الرض اعة الطبيعي ة‬
‫كان بسبب برامج المساعدات الدولية في فترة األربعينيات والخمسينيات) (‪)1‬‬
‫***‬
‫سكت قليال‪ ،‬ثم ق ال‪ :‬لم يكن حليب األم وح ده س بب ه دايتي م ع أن ه ك ان حقيق ا‬
‫ب ذلك‪ ..‬ولك ني ولك ثرة م ا غ رس في عقلي وقل بي من ش بهات كنت أع اني من تل ك‬
‫الخراسانة المسلحة التي وضعها في عقلي العلم الحديث المطعم باإللحاد‪ ..‬وله ذا رحت‬
‫أستعمل كل معاول العلم الحقيقي ألحطم ذل ك الج دار الس ميك ال ذي يح ول بي ني وبين‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬مقاال بعنوان (معون ات األلب ان الص ناعية‪ ..‬خطـر يه دد أطف ال الع الم)لل دكتور‪ :‬محم د مص طفى كام ل‬
‫مروان‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫إدراك حقائق الوجود‪.‬‬
‫لقد قلت في نفسي‪ :‬فليكن هذا السائل العجيب بداية رحلتي للحقيقة‪ ..‬فهل التوف ير‬
‫الذي وفر للرضيع في بداية نشوئه‪ ،‬خاص به أم أن مصمم هذا الكون تعام ل م ع الك ل‬
‫بهذا االعتب ار‪ ،‬ف وفر ل ه ك ل م ا يحتاج ه بالق در ال ذي يحتاج ه والنس بة ال تي يحتاجه ا‬
‫والزمن الذي يحتاجه؟‬
‫وكان أول ما ب دأت ب ه ذل ك الطع ام ال ذي ال يس تغني عن ه أح د من المخلوق ات‬
‫الحية‪ ،‬وهو ذلك الهواء الذي نتنفسه‪ ،‬والذي لواله لم تكن الحياة‪ ،‬ولم تستمر‪..‬‬
‫واس محوا لي قب ل أن أح دثكم عن ه‪ ،‬أن أذك ر لكم ش ريكي في البحث في ه وفي‬
‫غيره‪ ..‬بل شريكي في البحث عن اإليمان‪ ..‬وهو صديقي العزيز [كريس ى موريس ون]‬
‫الذي كان حينها يم ارس أهم الوظ ائف العلمي ة في أمريك ا‪ ،‬فق د ك ان رئيس ا ألكاديمي ة‬
‫العلوم بنيويورك‪ ،‬ورئيسا للمعهد االمريكي لمدينة نيويورك‪ ،‬وعضوا للمجلس التنفيذي‬
‫لمجلس البح وث الق ومي بالوالي ات المتح دة‪ ،‬وزميال في المتح ف االم ريكي للت اريخ‬
‫الطبيعي‪ ،‬وعضوا للمعهد الملكي البريطاني‪ ..‬وكل هذه الم راتب العلمي ة الكب يرة ال تي‬
‫أتيحت له كانت بسبب أبحاثه الكثيرة والجادة في المجاالت العلمية المختلفة‪.‬‬
‫قال لي في بداية التقائي به في أكاديمية العلوم بنيويورك‪ ،‬وهو يحاورني‪ :‬ال شك‬
‫أن لبن األم قد أثار اهتمامك‪ ،‬وجعلك تتساءل تساؤالت فلسفية‪ ،‬ال صبغة علمية لها؟‬
‫قلت‪ :‬كيف تق ول ذل ك‪ ..‬ونحن نم زج في دراس اتنا العلم بالفلس فة‪ ،‬ب ل نخلطهم ا‬
‫خلطا عجيبا‪ ،‬ال يتسنى ألحد أن يتخلص منه بسهولة‪ ..‬هذا إن استطاع أن يتخلص‪.‬‬
‫قال‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬ألسنا نعبر عن الحليب الصحي المتناسب مع طبيعة اإلنسان وحاجاته باسم‬
‫[الحليب الطبيعي]‪ ،‬بينم ا نع بر عن منتجاتن ا في ه ذا المج ال‪ ،‬والممل وءة ب الثغرات بـ‬
‫[اللبن الصناعي]؟‬
‫قال‪ :‬وما في ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬ألم تتس اءل عن س ر نس بة الحليب الص حي المتناس ب م ع اإلنس ان إلى‬
‫الطبيعة‪ ،‬بينما نسب اآلخر للصناعة؟‬
‫قال‪ :‬هم يعبرون عن ذلك لكون الطبيعة هي التي ص نعته‪ ..‬بينم ا الحليب اآلخ ر‬
‫نسب إلينا ألننا نحن ومصانعنا المتطورة هي التي قامت بذلك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ومن الطبيعة؟‪ ..‬وهل لها من الذكاء والقدرات العقلية والعلمية م ا تس تطيع‬
‫تصميم مثل ذلك اللبن العجيب الذي عجزت عن تقليده مصانعنا المتطورة؟‬
‫ق ال‪ :‬ص دقت في ه ذا‪ ..‬فنحن نه رب بنس بتنا األش ياء للطبيع ة عن البحث عن‬
‫منتجها الحقيقي‪..‬‬
‫ق ال لي ذل ك‪ ،‬ثم أخ ذني إلى بعض المخ ابر‪ ،‬وراح يح دثني عن اله واء‪ ،‬ذل ك‬
‫الغذاء األساسي الذي ال يستغني عنه اإلنسان‪ ..‬بل ال تستغني عنه الحياة‪ ..‬وق ال لي(‪:)1‬‬
‫‪ )(1‬المعلومات التي سنوردها هنا ملخصة بتصرف كبير من كتاب [العلم يدعو لإليمان]‪ ،‬كريسى موريس ون‪ ،‬وه و‬
‫من أهم الكتب التي ألفت في هذا المجال‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫إن األوكسجين هو نسمة الحياة لكل الحيوانات التي ف وق األرض‪ ،‬وال يمكن الحص ول‬
‫علي ه له ذا الغ رض إال من اله واء‪ ..‬وه ذا ي دعونا إلى التس اؤل عن س بب ك ون ه ذا‬
‫العنص ر ذي النش اط الب الغ من الوجه ة الكيموي ة‪ ،‬ق د أفلت من االتح اد م ع غ يره من‬
‫العناصر‪ ،‬وترك في الجو بنفس النسبة تقريبا الالزمة لجميع الكائنات الحية؟‬
‫فل و ك ان األوكس جين بنس بة ‪ 50‬بالمائ ة مثال أو أك ثر من اله واء ب دال من ‪21‬‬
‫بالمائة‪ ،‬فإن جميع المواد القابلة لالحتراق في العالم تصبح عرضة لالشتعال لدرجة أن‬
‫أول شرارة من البرق تصيب شجرة البد أن تلهب الغابة حتى لتكاد تنفجر‪.‬‬
‫ولو أن نسبة األوكسجين في الهواء قد هبطت إلى ‪ 10‬بالمائة أو أقل‪ ،‬فإن الحي اة‬
‫ربم ا ط ابقت نفس ها عليه ا في خالل ال دهور‪ ،‬ولكن في ه ذه الحال ة ك ان القلي ل من‬
‫عناصر المدنية التي ألفها اإلنسان – كالنار مثال – تتوافر له‪ ..‬واذا امتص األوكس جين‬
‫الطليق‪ ،‬ذل ك الج زء الواح د من ع دة ماليين من م ادة األرض‪ ،‬فن ك ل حي اة حيواني ة‬
‫تنقرض على الفور‪.‬‬
‫وق ال لي‪ ،‬وه و يش ير إلى غ از آخ ر‪ :‬إن ث اني أوكس يد الكرب ون‪ ،‬من الغ ازات‬
‫الضرورية التي تعتمد عليها الحياة‪ ،‬وهو يعلق باألرض‪ ،‬وال يتم فصله إلى أوكس يجين‬
‫وكربون إال بصعوبة كبيرة‪ ..‬وعليه تعتمد حياة كل نب ات‪ ..‬ف أوراق الش جر هي بمثاب ة‬
‫رئات‪ ،‬ولها الق درة في ض وء الش مس على تجزئ ة ث اني اوكس يد الكرب ون العني د إلى‬
‫كربون واوكسيجين‪.‬‬
‫وبتعبير آخر‪ :‬يلفظ األوكسجين ويحتف ظ ب الكربون متح داً م ع هي دروجين الم اء‬
‫الذي يستمده النبات من جذوره‪ .‬وبكيمياء س حرية‪ ،‬يص نع من ه ذه العناص ر س كرا أو‬
‫سيلولوزا ومواد كيموية أخرى عديدة وفواك ه وأزه اراً‪ ..‬ويغ ذي النب ات نفس ه‪ ،‬وينتج‬
‫فائض ا يكفي لتغذي ة ك ل حي وان على وج ه األرض‪ .‬وفي ال وقت نفس ه‪ ،‬يلف ظ النب ات‬
‫األوكسجين الذي نتنسمه‪ ،‬والذي بدونه تنتهي الحياة بعد خمس دقائق‪.‬‬
‫وهكذا نجد أن جميع النبات ات‪ ،‬والغاب ات واألعش اب‪ ،‬وك ل قطع ة من الطحلب‪،‬‬
‫وك ل م ا يتعل ق بحي اة ال زرع‪ ،‬تب ني تكوينه ا من الكرب ون والم اء على األخص‪..‬‬
‫والحيوانات تلفظ ثاني اوكسيد الكربون‪ ،‬بينم ا تلف ظ النبات ات األوكس يجين‪ ،‬ول و ك انت‬
‫هذه المقايضة غير قائمة‪ ،‬فإن الحياة الحيوانية أو النباتي ة ك انت تس تنفد في النهاي ة ك ل‬
‫األوكس جين أو ك ل ث اني اوكس يد الكرب ون‪ ،‬تقريب اً‪ ،‬وم تى انقلب الت وازن تمام ا ً ذوي‬
‫النبات أو مات االنسان‪ ،‬فيلحق به اآلخر وشيكا‪.‬‬
‫وقد اكتشف أخيراً أن وجود ثاني اوكسيد الكرب ون بمق ادير ص غيرة‪ ،‬ه و أيض ا ً‬
‫ضروري لمعظم حياة الحيوان‪ ،‬كما اكتشف أن النباتات تستخدم بعض االوكسيجين‪.‬‬
‫وقال لي‪ ،‬وهو يشير إلى غاز آخ ر‪ :‬ويجب أن يض اف الهي دروجين أيض ا‪ ،‬وإن‬
‫كنا ال نتنسمه‪ ،‬فبدون الهي دروجين ال يمكن وج ود الم اء‪ ..‬فاألوكس جين والهي دروجين‬
‫وثاني اوكس يد الكرب ون والكرب ون‪ ..‬س واء أك انت منعزل ة أم على عالقاته ا المختلف ة‬
‫بعضها مع بعض هي العناصر الرئيسية لتكون الحياة‪ ..‬وهي عين األس اس ال ذي تق وم‬

‫‪106‬‬
‫عليه الحياة‪..‬‬
‫قلت‪ :‬أليس من الغريب أن تجتمع جميع هذه الغازات الضرورية في محل واحد‪،‬‬
‫وبنسب مضبوطة مع الحياة‪ ..‬وأن تتوفر في نفس الوقت لجميع الكائنات الحية من دون‬
‫بذل أي جهد في تحصيلها؟‬
‫قال‪ :‬بلى‪ ..‬إنه غ ريب ج دا‪ ،‬فاالحتم االت المرتبط ة ب ذلك ال تع د وال تحص ى‪..‬‬
‫والقول بأن كل ذلك جاء مص ادفة من غ ير ي د خارجي ة ص ممته مس تحيل من الناحي ة‬
‫العقلية استحالة تامة‪ ..‬بل إنه قول يتحدى جميع العلوم الرياضية‪.‬‬
‫قلت‪ ،‬وأنا أبتسم‪ :‬ولكن مع ذلك‪ ..‬هن اك غ از ق د يش ير إلى احتمالي ة ذل ك‪ ..‬فه و‬
‫غاز موجود في الطبيعة بشكل كثيف وكثير من غير أن تكون هناك أي دواع لوجوده‪..‬‬
‫وبذلك قد يكون مبررا للقائلين بالعبثية والصدفة‪.‬‬
‫ابتسم‪ ،‬وقال‪ :‬ال أشك أنك تقصد النتروجين؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬ألست تراه ال أهمي ة ل ه وال ض رورة‪ ،‬ال للنب ات‪ ،‬وال للحي وان‪ ،‬وال‬
‫لإلنسان؟‬
‫ق ال‪ :‬ال تق ل ه ذا أب دا‪ ..‬ف أنت تخطئ في حق ه‪ ،‬وفي ح ق المص مم العظيم ال ذي‬
‫صممه‪ ،‬فهذا الغاز ال يقل أهمية عن كل الغازات التي ذكرتها‪ ،‬ونسبته مض بوطة بدق ة‬
‫مثل سائر الغازات‪ ..‬فهو يعمل كمخفف لألوكسيجين‪ ،‬ويخفض ه إلى النس بة ال تي تالئم‬
‫اإلنسان والحيوان‪ ..‬وهو يتوافر بقدر حاجتنا بالضبط‪ ،‬ال يزيد عنها وال ينقص‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬فإن النتروجين لو توافر بمقادير أكثر أو أقل مم ا ه و علي ه‪،‬‬
‫لما أمكن أن تكون الحياة بهذا الشكل‪ ،‬ذلك أن هناك سلسلة من المواد الكيموية التي يجد‬
‫النتروجين جزءا منها‪ ،‬والتي يمكن أن يقال عنها بصفة عام ة أنه ا ن تروجين م ركب‪..‬‬
‫أي النتروجين الذي يمكن ان تتلقاه النباتات‪ ،‬أو الن تروجين ال ذي يتك ون من ه العنص ر‬
‫النتروجيني في أغذيتنا التي بدونها يموت اإلنسان جوعا‪ ..‬وبدون النتروجين‪ ،‬في شكل‬
‫ما‪ ،‬ال يمكن أن ينمو أي نبات من النباتات الغذائية‪.‬‬
‫***‬
‫وهكذا بقيت م ع ص ديقي [كريس ى موريس ون] ننتق ل من عنص ر إلى عنص ر‪،‬‬
‫ومن مادة إلى مادة‪ ،‬وقد وجدنا أن هللا تعالى بحكمت ه ورحمت ه ورعايت ه ولطف ه بعب اده‬
‫وفر لهم كل ما يحتاجونه‪ ،‬وبدقة عالية ال يمكن تصورها‪.‬‬
‫لقد جعلنا ذلك نش هد أن له ذا الك ون مص مما وخالق ا وبارئ ا‪ ،‬وأن ه من الخراف ة‬
‫والجهل عدم اعتب ار ذل ك‪ ..‬وق د ط رح علي ص ديقي موريس ون حينه ا أن نش ترك في‬
‫كتابة كتاب يلخص أبحاثنا في هذا الجانب‪ ..‬وأن نس ميه [العلم ي دعو لإليم ان]‪ ،‬فطلبت‬
‫منه أن يقوم بصياغته وبحثه‪ ،‬فهو صاحب المبادرة فيه‪ ..‬وقد نفذ م ا طلبت ه من ه‪ ،‬وق ال‬
‫في مقدمته يذكر شهادته في هذا الجانب‪( :‬إن وجود الخالق تدل عليه تنظيمات ال نهاي ة‬
‫لها‪ ،‬تكون الحياة بدونها مستحيلة‪ .‬وإن وج ود اإلنس ان على ظه ر االرض‪ ،‬والمظ اهر‬

‫‪107‬‬
‫الكون)(‪)1‬‬ ‫الفاخرة لذكائه‪ ،‬إنما هي جزء من برنامج ينفذه بارئ‬
‫برهان التيسير‪:‬‬
‫بعد أن أنهى الرجل الثاني حديثه‪ ،‬قام آخر‪ ،‬وقال‪ :‬بعد أن ح دثكم ص ديقي وأخي‬
‫عن [برهان التوفير]‪ ،‬وكيف خ رج ب ه من ظلم ات الجه ل والغواي ة إلى ن ور اإليم ان‬
‫والهداية‪ ..‬فاسمعوا حديثي الذي ال يقل عنه عجبا‪ ..‬وهو عن برهان من براهين العناي ة‬
‫الرحيم ة‪ ،‬أطلقت علي ه اس م [بره ان التيس ير]‪ ..‬وه و بره ان ي دل على هللا من ك ل‬
‫الوجوه‪ ،‬وبكل المقدمات‪ ،‬وبجميع اللغات‪..‬‬
‫فاهلل برحمته لم يوفر لنا فقط كل ما نحتاجه‪ ،‬بل يسر لنا أيضا تناول ه والحص ول‬
‫عليه واالستفادة منه بطرق عجيبة غاية في الدقة والجمال‪.‬‬
‫لست أدري ما أقول لكم حول الجديد الذي سأذكره في قص تي إض افة لم ا ذك ره‬
‫أخي وصديقي صاحب [برهان التوفير]‪ ،‬ذلك أن نفس ما عرض له عرض لي‪ ،‬ونفس‬
‫الطريقة التي قام بها في البحث قمت به ا‪ ،‬ونحن ال نختل ف إال في الص ديق ال ذي لقي ه‬
‫هو‪ ،‬والصديق الذي لقيته أنا‪ ..‬أما هو فقد لقي عالم ا غربي ا‪ ..‬وأم ا أن ا فق د لقيت عالم ا‬
‫عربيا‪ ..‬وأنتم تعلمون أن العلم ال وطن له‪ ..‬والحقيقة ال جنسية لها‪.‬‬
‫عندما لقيته في ذلك ال وقت‪ ،‬وكنت مش حونا من رأس ي إلى ق دمي بتل ك المادي ة‬
‫المقيتة التي حفظناها في المدارس كم ا نحف ظ ج دول الض رب‪ ..‬وكنت حينه ا منش غال‬
‫باالضطرابات السياسية ال تي أص ابت الع الم‪ ،‬فك درت علي ه ص فوه‪ ،‬وجعلت ه يس تعلي‬
‫بعضه على بعض‪ ،‬ويظلم بعض ه بعض ا‪ ..‬ق ال لي وه و يح اورني‪ :‬دع ني من سياس ة‬
‫العالم‪ ،‬وهلم بنا نبحث في سياسة الجسد‪ ..‬ل نرى عج ائب التنظيم المودع ة في ه‪ ..‬فلعلن ا‬
‫نجد في نظام الجسد ما يحفظ نظام العالم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهل هناك سياسة في الجسد حتى نستفيد منها في سياسة العالم؟‬
‫قال‪ :‬لو لم تكن في الجسد سياسة وتنظيم‪ ،‬لما قام لحظة واحدة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ها أنا أستمع‪ ..‬فحدثني‪.‬‬
‫ق ال(‪ :)2‬يمكن تش بيه الجس م إلى ح د بعي د باألم ة والدول ة‪ ..‬فالخالي ا هي أف راد‬
‫الش عب العام ل‪ ..‬وتجم ع الخالي ا في عم ل واح د يش به الم ديريات والمؤسس ات‪..‬‬
‫واالختصاصات في الجسم تشبه الوزارات إلى حد ما‪ ..‬فالجهاز العصبي المركزي ه و‬
‫بمثابة السلطة الحاكمة المهيمنة‪ ،‬المخلصة‪ ،‬العاقلة‪ ،‬العالمة‪ ،‬والجسم كله يمث ل الش عب‬
‫المتفاني في الطاعة وتقديم الوالء‪.‬‬
‫قلت مبتسما‪ :‬وجهاز الدوران‪ ..‬ما هي الوزارة التي سلمتها له؟‬
‫قال‪ :‬هو يجمع بين خاصية نقل الغذاء واالكسجين إلى األنسجة العطشى الجائع ة‬
‫وإرجاع بقايا االحتراق ونفاي ات الغ ذاء‪ ،‬فه ذا الجه از يعبّ د الط رق‪ ،‬ويش ق المم رات‬
‫ويحس الوصل‪ ..‬ولذا فهو أشبه بوزارة المواصالت‪.‬‬

‫‪ )(1‬من مقدمة كتاب [العلم يدعو لإليمان]‬


‫‪ )(2‬اقتبسنا المعلومات الواردة هنا بتصرف من كتاب [الطب محراب لإليمان] للطبيب خالص جلبي كنجو‪..‬‬

‫‪108‬‬
‫قلت‪ :‬والجهاز الهضمي؟‬
‫ق ال‪ :‬ه و ينق ل إلى األمع اء النش ويات والبروتين ات والدس م والم اء واألمالح‬
‫المعدنية والفيتامينات‪ ،‬ويلقي الفضالت والقمامة التي ال يحتاجها الب دن‪ ،‬ول ذا ف إن ه ذا‬
‫الجهاز أشبه بوزارة التموين في الجسم‪.‬‬
‫قلت‪ ،‬وكأني أريد أن أتحداه‪ :‬والغدد العرقية؟‬
‫قال بهدوء‪ ،‬وكأنه أعد اإلجابة إعدادا‪ :‬هي أش به ب وزارة الس ياحة واالص طياف‬
‫ألنها تبرد الجسم وتخفف من حرارته‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والجلد واللحف(‪ )1‬واألظافر واالشعار؟‬
‫قال‪ :‬هي تمثل االنسان من الخارج‪ ،‬فهي أشبه بوزارة الخارجية!‬
‫قلت‪ :‬وجهاز التنفس؟‬
‫قال‪ :‬هو يأتي بالغازات الضرورية للبدن مث ل االكس جين‪ ،‬ويط رح غ از الفحم‪،‬‬
‫وهكذا يتصفى الدم من الكدر‪ ،‬ولذا فهو أشبه بوزارة االقتصاد ألنه يستورد ويصدر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والعضالت والمفاصل والعظام؟‬
‫قال‪ :‬هي أشبه بوزارة الدفاع أو الحربية والجيش‪ ،‬ألنها ت دافع عن االنس ان كم ا‬
‫تقوم بالهجوم إذا لزم األمر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والكبد؟‬
‫قال‪ :‬هو مركز الجمارك العام‪ ،‬ألن كل ما يرد إلى الب دن من الطري ق الهض مي‬
‫يمر فيه حيث يبعد المشتبه به‪ ،‬ويدخل المرغوب فيه‪ ،‬كم ا يع دل الش يء المش كوك ب ه‬
‫ويرس ل مع ه مراقب ا ً ح تى يلقي ه خ ارج الح دود عن طري ق الكلي ة‪ ،‬وه و م ا يع رف‬
‫باالزدواج الكبريتي أو الغلو ك وروني‪ ،‬ألن ه اتين الم ادتين تترافق ان م ع الم ادة ال تي‬
‫ستطرح إلى الكلية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والطحال؟‬
‫قال‪ :‬هو المقبرة الموحشة للكريات الحمر‪ ،‬ألن الكرية ال تعيش أكثر من شهرين‬
‫وسطيا ً حيث تنقل إلى الطحال وتواري مثواها األخير‪..‬‬
‫قلت‪ :‬والنخاع الموجود في باطن العظام وأماكن أخرى متناثرة في الجسم؟‬
‫قال‪ :‬هو أشبه ما يكون بوزارة الصناعة ألن ه يص نع الكري ات الحم ر وال بيض‬
‫والصفيحات‪ ،‬وعناصر أخرى كثيرة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والجهاز البولي؟‬
‫قال‪ :‬هو أشبه بوزارة الداخلية‪ ،‬ألنه يطرح العناصر غير المرغوب فيه ا خ ارج‬
‫الحدود‪ ،‬ويحافظ على نظ ام الب دن ال داخلي ح تى ي تزن وال يتقلب‪ ،‬كم ا ينظم الس وائل‬
‫الداخل ة والخارج ة ح تى ال يحص ل العبث بالنظ ام ال داخلي‪ ،‬ول ذا فه و مص فاة الب دن‬
‫الكبيرة والمحافظة على االتزان الداخلي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والحواس؟‬
‫‪ )(1‬يقصد باللحف األغشية الخارجية ال تي تغطي الفوه ات الخارجي ة مث ل العين حيث تغطيه ا الملتحم ة‪ ،‬والفم من‬
‫الداخل الغشاء المخاطي وهكذا‪..‬‬

‫‪109‬‬
‫قال‪ :‬هي امتدادات وزارة الخارجية‪ ..‬أي الجلد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬واللسان وأعضاء التصويت؟‬
‫ق ال‪ :‬هي وزارة اإلعالم ال تي ت ذيع األخب ار وتبث األح اديث‪ ،‬وتنق ل األفك ار‬
‫والمفاهيم‪ ،‬واإلذاع ة هي مراك ز التص ويت المتجمع ة في الحب ال الص وتية والحنج رة‬
‫وغضاريفها‪ ،‬واللسان وعضالته‪ ،‬والجمجمة وحفرها‪ ،‬والشفة ومقدم الفم‪.‬‬
‫***‬
‫لقد ك ان حوارن ا ه ذا مقدم ة لح وارات كث يرة جعلتن ا نخ رج من ع الم اإلنس ان‬
‫المحدود إلى عالم الوجود الال محدود‪ ..‬لقد جعلنا هذا نتساءل عن سر ذلك التيسير الذي‬
‫توفر لكل شيء حتى يعيش حياته بأحسن ما ي رام‪ ،‬من غ ير تكل ف وال عنت إال العنت‬
‫الذي يجلبه لنفسه‪.‬‬
‫من تلك الحوارات التي جمعت ني م ع ص ديقي الط بيب [خ الص جل بي]‪ ،‬وال تي‬
‫جمعها بعد ذل ك في كت اب خ اص س ماه [الطب مح راب لإليم ان] ه ذا الح وار‪ ،‬وه و‬
‫يوضح بدقة البرهان الذي ذكرته لكم [برهان التيسير] بإعطاء نموذج عنه‪ ،‬وهو تيسير‬
‫حصول اإلنسان على غذائه من الطبيعة‪ ..‬ألن التوف ير وح ده ال يكفي م ا لم يكن هن اك‬
‫تيسير‪.‬‬
‫قال لي‪ ،‬وهو يحاورني‪ :‬ألم تتساءل كيف يس تطيع اإلنس ان أن يتغ ذى بك ل ه ذه‬
‫األنواع‪ ،‬من األطعم ة‪ ،‬من الم اء الى الخ بز الى اللحم إلى الفاكه ة الى الخض راوات‪..‬‬
‫وكيف تهضم أمعاؤه كل هذه األصناف المتباين ة من األغذي ة؟‪ ..‬كي ف تهض م المش وي‬
‫والمقلي والمسلوق؟‪ ..‬وكي ف تهض م المطب وخ وال نيء؟‪ ..‬وكي ف تتقب ل وبنفس ال وقت‬
‫المالح والحامض والحلو والمر؟‪ ..‬ثم كيف تتحول هذه األغذية الى طاقة تح رك الب دن‪،‬‬
‫ومواد ترميم‪ ،‬وخامات تصنيع جديدة؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬لقد تساءلت كثيرا عن ذلك‪..‬‬
‫قاطعني‪ ،‬وهو يقول‪ ،‬وكأنه لم يسمعني‪ :‬لننظر في األسنان والشفاه والفم‪ ،‬وكي ف‬
‫ركب بش كل م دهش لتقب ل الطع ام‪ ..‬فاألس نان منه ا القواط ع والثناي ا األمامي ة لتقطي ع‬
‫الطع ام‪ ،‬ومنه ا األني اب لتمزي ق اللحم واألش ياء القاس ية‪ ،‬واألض راس في ك ل ج انب‬
‫لطحن وجرش المأكوالت‪ ،‬بحيث أن اللقمة تنقلب إلى عجينة عن دما تص ل إلى الم ري‬
‫والمعدة‪.‬‬
‫التفت إلي‪ ،‬وقال‪ :‬وهل تعرف دور الغدد اللعابية في هذه العملية؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬فما دورها؟‬
‫قال‪ :‬هذه الغدد تفرز المصل والمخاط والخمائر الخاصة بهضم النشويات‪ ،‬وتبلل‬
‫الطعام‪ ،‬وتبلل الحلق ويصل إفرازها الي ومي إلى قراب ة الل تر‪ ،‬والخم يرة ال تي تهض م‬
‫النشا يبقى تأثيرها حتى الساعة والنصف‪ ..‬ولواله ا لت أخر امتص اص النش ويات‪ ،‬كم ا‬
‫تذيب مفرزات الغدد المواد فنشعر بطعمه ا‪ ،‬وهك ذا نش عر بطعم الم واد وم ذاقها‪ ،‬كم ا‬
‫تشترك في تزليق المواد الصلبة فيسهل بلعها‪ ،‬وفي تل يين الغ ذاء فيس هل مض غه‪ ،‬كم ا‬
‫تقوم هذه المفرزات بتع ديل الم واد الداخل ة الى الفم فيم ا إذا ك انت ض ارة أو ح ارة أو‬

‫‪110‬‬
‫باردة‪ ،‬كما تقوم بجرف الخاليا المتوسفة وبقايا األغذي ة والج راثيم‪ ..‬وهك ذا تفع ل ه ذه‬
‫الغدد كما تفعل أمانة البلدية في تنظيف هذه األماكن وتطهيرها‪ ،‬كم ا تعت بر مش عراً في‬
‫العطش فعندما تنقص السوائل في البدن يشعر اإلنسان بجفاف حلقه فيشرب الماء‪.‬‬
‫التفت إلي‪ ،‬وق ال‪ :‬أال ت رى كي ف اجتمعت ك ل ه ذه الوظ ائف في ه ذا اللع اب‬
‫العجيب‪ ،‬فهو المنظف‪ ،‬والمطهر‪ ،‬والمعدل‪ ،‬والمرطب‪ ،‬والمزل ق‪ ،‬والملين‪ ،‬والح امي‪،‬‬
‫والمبل ل‪ ،‬والم ذوق‪ ،‬والمحل ل‪ ،‬والمش عر‪ ،‬وج رس االن ذار في الفم‪ ..‬إنه ـ ـ ــا عش رات‬
‫الوظائف في سائل واحد في الفم ناهيك عن المواد المتعددة الداخلة في تركيبه من الماء‬
‫والمعادن واألمالح والقلويات والخمائر‪.‬‬
‫سكت قليال‪ ،‬ثم قال‪ :‬هل تعرف دور المعدة في الطعام؟‬
‫قلت‪ :‬ذلك مما يشترك الجميع في معرفته‪.‬‬
‫قال‪ :‬بل ذلك مما يشترك الجميع في الجه ل ب ه‪ ..‬فهم يتص ورون عملي ة الهض م‬
‫عملي ة س هلة بس يطة‪ ،‬بينهم ا هي من أعق د العملي ات ال تي ال تس تطيع مص انعنا مهم ا‬
‫تطورت أن تقلدها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫ق ال‪ :‬س أبدأ ل ك من األول‪ ..‬عن دما يص ل الطع ام إلى المع دة ينفتح الف ؤاد على‬
‫مص راعيه ل دخول اللقم ة الطعامي ة‪ ،‬وتتس ارع غ دد المع دة لف رش المك ان الس تقبال‬
‫الضيف‪ ،‬وينهم ر المخ اط المزل ق‪ ،‬والحمض والخم ائر‪ ،‬وم واد أخ رى ليب دأ التفاع ل‬
‫التاريخي لهضم الطعام‪ ..‬فجدار المعدة مفروش بخمسة وثالثين مليون غدة‪ ،‬فيها أربعة‬
‫أنواع من الخاليا‪ ،‬وتفرز هذه الخاليا مواد متباينة منها خميرة المعدة المسماة بالببسين‪،‬‬
‫وحمض كلور الماء‪ ،‬والمخاط‪ ،‬وهكذا يتهيأ ربط المعدة بالحمض‪ ،‬كما يتس ارع تفاع ل‬
‫هضم الطعام‪ ،‬ويزداد تحلله‪ ..‬وهك ذا ينقلب إلى م ا يس مى ب الكيلوس بع د أن تعم ل ب ه‬
‫خمائر الهضم الموجودة في المعدة‪ ،‬ويتهيأ الطعام لدخول األمع اء الدقيق ة ح تى يمتص‬
‫ويرسل إلى مركز الجمارك العام وهو الكبد‪.‬‬
‫قاطعت ه‪ ،‬وقلت‪ :‬أجب ني‪ ..‬لم تهض م المع دة اللحم وهي لحم‪ ،‬ولكنه ا ال تهض م‬
‫نفسها؟‬
‫قال‪ :‬السر في ذلك يعود إلى المخاط الذي تفرزه ماليين الغدد المستقرة في جدار‬
‫المعدة‪ ،‬وهو إما أن يحوي مادة معدلة تحمي المعدة أو تحدث فراشا ً داخليا ً يغطي جدار‬
‫المعدة كله من الداخل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد وصلنا بالطعام إلى المعدة‪ ،‬وقامت بهضمه‪ ،‬فما الذي يحصل بعد ذلك؟‬
‫قال‪ :‬بعد أن يص ل الطع ام إلى المعي ال دقيق تت دفق علي ه عص ارات قادم ة من‬
‫الكب د والمعثكل ة لهض م الطع ام وتحليل ه الى عناص ره األولي ة‪ ..‬وهك ذا يتحل ل الس كر‬
‫والبروتين والدسم وغيره‪ ،‬ثم تنش أ عملي ات معق دة تش ترك فيه ا عش رات الخم ائر من‬
‫أجل ايجاد الصيغة المناسبة لوض ع الم واد ح تى يمكن ادخاله ا من زغاب ات األمع اء‪..‬‬
‫وحين ذاك ننظ ر ف نرى بس تانا ً عجيب ا من الزغاب ات‪ ،‬وهي ت تراقص على ط ول نف ق‬

‫‪111‬‬
‫االمعاء‪ ،‬وكأنها السنبل األخضر تداعبه النسمات الرخي ة‪ ،‬ويبل غ ه ذا الحق ل الس حري‬
‫من الزغابات رقما ً عجيبا ً حيث يوجد في السنتمتر المرب ع الواح د ثالث ة آالف زغاب ة‪،‬‬
‫م ع العلم أن ط ول ه ذا النف ق يبل غ ثماني ة أمت ار‪ ،‬ويف رش س طحا ً يبل غ ( ‪ )48‬ثماني ة‬
‫وأربعين متراً مربعاً‪ ،‬أي إن ع دد الزغاب ات يص ل في المعي الرقي ق (‪ )1440‬ملي ون‬
‫زغابة معوية‪ ،‬ويقع خلفها سطح دموي يبلغ (‪ )11‬متراً مربعا ً ومع ه أمت ار مربع ة من‬
‫اللنف‪ ،‬ألن العرق اللنفاوي هو الذي ينقل الدسم بشكل رئيسي‪ ،‬وكل زغابة معوية عالم‬
‫بذاته فهي مؤلف ة من ش ريان ووري د دم وي وع رق لنف اوي‪ ،‬كم ا يوج د على س طحها‬
‫الخارجي المطل على لمعة المعي طبق من العصيات الصغيرة المترابطة التي تق در بـ‬
‫(‪ )3000‬في كل خلية أي يبل غ ع ددها في (الملم ‪ 2‬الواح د ) الملم تر المرب ع الواح د (‬
‫‪ )200‬مليون فكم ستبلغ في سطح االمعاء كلها؟!‬
‫قلت‪ :‬فما الذي يحصل بعد ذلك؟‬
‫قال‪ :‬من هذا المكان يتحول الطعام إلى سائل من نوع خاص ح تى يمتص‪ ،‬وهن ا‬
‫ت رتب ج وازات الس فر ح تى يمكن عب ور الغش اء المخ اطي‪ ،‬وال دخول إلى الزغاب ة‬
‫المعوية‪ ،‬وبالتالي إلى الدم ال داخلي ح تى يمكن الوص ول إلى الكب د‪ ،‬ألن األوردة ال تي‬
‫تنقل محتوى األغذية المختصة من األمعاء تنقل بواسطة الوريد الباب‪ ،‬وهذا يصل أوالً‬
‫إلى الكبد مركز الجمارك العام‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما الذي يحصل هناك؟‬
‫قال‪ :‬الكبد عب ارة عن غ دة ت زن كيل وغرام ونص ف‪ ،‬وهي تق وم بم ا يص ل إلى‬
‫سبعين وظيفة من وظائف الجسم الهامة‪ ،‬والتي بدونها ال يعيش الجسم أكثر من ساعات‬
‫محدودة مع دودة‪ ..‬ففي ه ذا المرك ز مس تودعات التخ زين العظيم ة للس كر وال بروتين‬
‫والدسم والماء والدم والفيتامينات‪ ..‬وه ذا التخ زين متح رك‪ ،‬وليس بث ابت‪ ،‬ف المواد في‬
‫حركة دائمة وتبدل دائم‪ ..‬كما أن فيه تحوالت مدهشة‪ ،‬فالسكر عندما يخ زن يكث ف إلى‬
‫الغليكوجين‪ ،‬كما ينحل إلى غلوكوز عندما يراد إطالق ه إلى ال دوران‪ ،‬وه ذا االخ تزان‬
‫عجيب في تنوعه‪ ،‬فالمستودعات العادية ال يمكنها أن تخزن الجوامد والسوائل وبق رب‬
‫بعض ها البعض‪ ،‬بينم ا يق وم الكب د بتخ زين الس كر وال بروتين والدس م والم اء وال دم‬
‫واألمالح والفيتامينات وبشكل مح وّر‪ ،‬وق درة الكب د في اخ تزان ال دم تجعل ه احتياطي ا ً‬
‫محترما ً في حاالت احتياج البدن للدم‪ ،‬كما تجعله يتدخل في تنظيم كتلة الدم الجوّال ة في‬
‫الدوران‪ ،‬وبالتالي في ضغط الدم‪.‬‬
‫وأم ا عملي ات التك وين فهي أغ رب‪ ،‬فمن الكب د يتم تص نيع بروتين ات ال دم‪،‬‬
‫واألجسام الضديه والعوامل المتدخلة في تخثر ال دم‪ ..‬وكله ا ض رورية للجس م ال يمكن‬
‫االستغناء عنها‪ ،‬فمثالً نجد من وظائف الكبد تكوين [البورترومبين‪ ،‬والهيبارين]‪ ..‬ومن‬
‫ات زان ه ذين العنص رين ينس اب ال دم في الع روق كأفض ل م ا يك ون‪ ،‬وينق ل الغ ذاء‬
‫واألكسجين‪ ،‬ويعود حامالً غاز الفحم وفضالت االحتراق‪ ،‬ولو زادت نس بة أح د ه ذين‬
‫العنصرين بمقدار طفيف جداً لكان هذا معناه تخثر الدم‪ ،‬أي تجلط ه وانقالب ه إلى أش به‬
‫ما يكون بالوحل‪ ،‬كما أن العكس يجعل الدم في ميوعته كالم اء‪ ..‬وبه ذا االت زان الب ديع‬

‫‪112‬‬
‫ينساب الدم في مجاريه محتفظا بلزوجته‪ ،‬قائما ً بوظائفه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكرت أن الكبد يقوم بدور الجمارك‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬حيث أنه يصطاد الجراثيم والصباغات والمواد السامة‪ ..‬وه و ألج ل‬
‫ذلك يفتش الدم القادم‪ ،‬فيبعد المشبوه ويمرر الطبيعي‪ ،‬فإذا ما لوحظ أن هن اك من يبعث‬
‫بالنظ ام تص دى ل ه بط رق يعج ز عنه ا أعق ل العقالء‪ ..‬وه ذه العملي ة تس مى بتع ديل‬
‫السموم‪ ،‬فالسموم الداخلة إلى البدن يقوم الكبد بإيقاف أذاها بعدة ط رق‪ ،‬منه ا االعتق ال‬
‫والقاء القبض على المجرم الضار حيث توض ع في يدي ه األقف ال ويرس ل مخف وراً إلى‬
‫المراك ز ال تي تت ولى طرح ه خ ارج الب دن‪ ،‬وهي م ا تع رف ب االزدواج الكبري تي أو‬
‫الغلوكوروني‪ ،‬أو االزدواج مع الحمض األميني‪.‬‬
‫باإلض افة الى ه ذا توج د الش بكات المنتش رة في الكب د ال تي تص طاد الج راثيم‬
‫واالصبغة‪ ،‬وهي أشبه ب دوريات الش رطة ال تي تق ف عن د المراك ز الحساس ة‪ ،‬وهك ذا‬
‫يتخلص البدن من أذى السموم والجراثيم واألصبغة‪.‬‬
‫ه ذا ج زء بس يط من رحل تي م ع ص ديقي [خ الص جل بي] في البحث في ه ذا‬
‫البرهان‪ ..‬برهان التيسير‪ ..‬وقد كان من نتائج تلك البح وث تن ور قلوبن ا باإليم ان‪ ،‬وق د‬
‫كان الطب هو المحراب الذي وصلنا به إلى أعظم هدية من هللا لعباده‪ :‬هدية اإليمان‪.‬‬
‫برهان التطوير‪:‬‬
‫بعد أن أنهى الرجل الثالث حديثه‪ ،‬قام آخر‪ ،‬وقال‪ :‬بعد أن ح دثكم ص ديقي وأخي‬
‫عن [برهان التيسير]‪ ،‬وكيف خ رج ب ه من ظلم ات الجه ل والغواي ة إلى ن ور اإليم ان‬
‫والهداية‪ ..‬فاسمعوا حديثي الذي ال يقل عنه عجبا‪ ..‬وهو عن برهان من براهين العناي ة‬
‫الرحيم ة‪ ،‬أطلقت علي ه اس م [بره ان التط وير]‪ ..‬وه و بره ان ي دل على هللا من ك ل‬
‫الوجوه‪ ،‬وبكل المقدمات‪ ،‬وبجميع اللغات‪..‬‬
‫فاهلل برحمته لم يوفر لنا فقط كل ما نحتاجه‪ ،‬ولم ييس ر لن ا فق ط ك ل م ا نتناول ه‪،‬‬
‫وإنما أيضا وفر لنا من القدرات‪ ،‬وأعطانا من الطاقات‪ ،‬ورزقنا من المواهب ما نط ور‬
‫به أنفسنا‪ ،‬فنخرج به من عالمنا الحدود إلى عوالم أوسع وأك بر‪ ،‬وه ذا م ا لم يت وفر في‬
‫أي صناعة من صناعات الدنيا‪ ،‬فلم نر في حياتنا دراجة تتح ول إلى س يارة‪ ،‬أو س يارة‬
‫قديمة تتحول إلى سيارة جديدة‪ ..‬وهكذا نرى الفرق الكبير بين صنعة هللا وصنعة خلقه‪.‬‬
‫بداي ة قص تي تنطل ق من مخ بري ال بيولوجي المتط ور ال ذي كنت أعم ل باحث ا‬
‫متخصص ا في ه‪ ،‬وق د اس ترعى انتب اهي حينها (‪ )1‬تل ك الم ادة العجيب ة المس ماة‬
‫[الكولس ترول]‪ ،‬ال تي يص نعها الجس م البش ري‪ ،‬فهي ـ م ع كونه ا في األص ل ـ م ادة‬
‫شحمية دسمة‪ ،‬تدخل ضمن دسم البدن‪ ..‬واألصل فيها كأي مادة أن تبقى كذلك‪..‬‬
‫لكنها ال تفعل‪ ..‬ب ل تظه ر بص ور مختلف ة بحس ب الحاج ة‪ ،‬وكأنه ا ك ائن عاق ل‬
‫يع رف م ا يفع ل بالض بط‪ ..‬ول ذلك رأيته ا تتح ول في ك ل لحظ ة إلى م ركب جدي د‬
‫وشخصية جديدة‪ ،‬فهي تارة كولس ترول في ال دم بش كل م ادة ش حمية إذا ترس بت على‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الطب محراب لإليمان‪ ،‬خالص جلبي‪ ،‬ج‪.1‬‬

‫‪113‬‬
‫جدران األوعية الدموية سببت ارتفاع الضغط‪ ..‬وتارة بش كل ين افي ذل ك تمام ا ً م ع أن‬
‫البناء الكيمياوي واحد في كال الحالتين‪ ..‬ولكن تتغير بعض ذرات البناء فقط‪ ،‬ف إذا به ذا‬
‫الم ركب يص بح هورمون ا ً يعطي ص فات ال ذكورة كله ا من ت وزع الش عر في الب دن‬
‫وخاصة الوجه‪ ،‬وغلظ الصوت‪ ،‬وشدة العضالت‪ ..‬وغيره ا‪ ..‬وبينم ا ه و يم ارس تل ك‬
‫الوظيف ة إذا بتح والت بس يطة تط رأ على بعض ذرات ه‪ ،‬ف إذا ب ه ينقلب بش كل عجيب‬
‫ليصبح هورمونا ً أنثويا ً يعطى لألنثى كل صفات األنوثة من توزع الشعر‪ ،‬ورقة الجلد‪،‬‬
‫ونعومة الصوت‪ ،‬وضعف العضالت‪ ..‬وغيرها‪.‬‬
‫وال تكتفي هذه المادة العجيبة بكل تلك التحوالت‪ ،‬بل إنها تمعن في الغراب ة حين‬
‫تتح ول إلى منتج جدي د تمام ا ه و [فيت امين د] ال ذي يلعب دوراً مهم ا ً في امتص اص‬
‫الكلس من األمعاء‪ ،‬وترسيبه على العظام‪ ،‬وبناء العظام وتمتينها ح تى يتس نى لإلنس ان‬
‫أن يعتمد على هذا الهيكل‪ ..‬وكل ذلك بسبب تغيير جديد بسيط في ه ذا الم ركب ينس جم‬
‫مع حاجة الجسم‪..‬‬
‫وال تكتفي بذلك‪ ،‬بل إنها تتحول إلى حموض صفراوية تف رز من الكب د‪ ،‬لتس هل‬
‫امتصاص األغذية من األمعاء‪ ،‬وتقلب الخمائر في األمعاء من شكل خامل ه ادىء إلى‬
‫شكل فعال نشيط‪.‬‬
‫وال تكتفي بذلك‪ ،‬بل إنه ا تتح ول إلى أهم هورمون ات قش ر الكظ ر ال ذي يحبس‬
‫الملح والماء في الجسم‪ ..‬وتتحول إلى مركب يشد عضالت القلب ويقويها‪.‬‬
‫وهكذا رأيته يتح ول من م ادة دس مة‪ ..‬إلى هورم ون‪ ..‬إلى فيت امين‪ ..‬إلى حمض‬
‫صفراوي‪ ..‬إلى مادة تقوي القلب‪ ..‬وكل هذه التح والت جعلت ني أمتأل ب العجب‪ ..‬فكي ف‬
‫لهذه المادة أن تفعل كل هذه األفعال وتتح ول ك ل ه ذه التح والت‪ ..‬وتحت إدارة من؟‪..‬‬
‫تحت إدارة الطبيعة التي كنت أؤمن بها في ذل ك الحين‪ ..‬وكي ف تفع ل الطبيع ة ذل ك؟‪..‬‬
‫وهي مجرد قوانين ال مقنن لها‪ ..‬وأعمى ال قائد له‪.‬‬
‫***‬
‫ك انت تل ك الم ادة هي أول مرحل ة لي في البحث عن هللا‪ ..‬وق د جعلت ني أتأم ل‬
‫الكثير من الظواهر الموجودة في جس م اإلنس ان أو جس م الك ون جميع ا‪ ،‬فوج دت أنه ا‬
‫جميعا تتفق مع تلك المادة في تلك التحوالت والتطورات المنظمة والهادفة والغريبة‪.‬‬
‫وكان من أغرب ما رأيته‪ ..‬والذي يستحيل تفسيره تفسيرا مادي ا مهم ا أوتين ا من‬
‫قوة الجدل والدجل [العقل البشري](‪ )1‬الذي لم يكت ف بتش يدد األه رام بمض اعفة الق وة‬
‫الفردية‪ ..‬ولكنه اكتشف الرافعة والطنب ور‪ ،‬والعجل ة‪ ،‬والن ار‪ ،‬وجع ل حيوان ات الحم ل‬
‫مستأنسة‪ ،‬وأضاف اليها عجلته‪ ،‬وبذلك أطال في ساقيه‪ ،‬وقوى من ظهره‪..‬‬
‫ولم يكت ف ب ذلك‪ ،‬ب ل تغلب على ق وة س قوط الم اء‪ ،‬وتحكم في البخ ار والغ از‪،‬‬
‫والكهرباء‪ ،‬وحول العمل اليدوي إلى مجرد السيطرة على األجهزة الميكانيكية التي هي‬
‫من مستحدثات عقله‪..‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬العلم يدعو لإليمان‪ :‬كريسى موريسون‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫وهو في انتقاله من مكان إلى مكان فاق الظبي في س رعته‪ ..‬وحين ركب أجنح ة‬
‫لعربته سبق الطيور في طيرانها‪ ..‬فهل حدث ذلك كله عن طريق تفاعل في المادة وق ع‬
‫مصادفة؟‬
‫أذكر جيدا أني ذهبت بتلك الحيرة إلى صديق لي‪ ،‬كان هو اآلخ ر ملح دا ومادي ا‬
‫وطبيعيا ال يؤمن بالغيب‪ ،‬وال باإلله‪ ،‬لكني عندما ذكرت له ذلك‪ ،‬راح هو اآلخ ر يب دي‬
‫له استغرابه مما الحظ ه في مج ال تخصص ه‪ ،‬وق د ك ان متخصص ا في علم [وظ ائف‬
‫األعضاء]‬
‫قال لي‪ ،‬وهو يح اورني‪ ،‬وق د امتأل بالدهشة(‪ :)1‬لس ت أدري م ا أق ول ل ك‪ ..‬لق د‬
‫ألفت كتب كثيرة في فيزيولوجيا الهضم‪ ..‬لكن كل عام ي أتي باكتش افات جدي دة مدهش ة‬
‫تجعله جديدا دائما‪ ..‬وتجعلنا نرى هذا الجهاز من أخط ر أجه زة ال دنيا‪ ،‬وأش دها تعقي دا‬
‫وغرابة‪ ..‬فنحن نلقي الطعام الذي نأكله إلى هذا الجهاز‪ ،‬ثم نغفل عنه وننام‪ ،‬بينما يعمل‬
‫هو بكل الوسائل العاقلة ليح ول من ذل ك الطع ام الغف ل إلى م واد ينتف ع به ا الجس م‪ ،‬ثم‬
‫يطرح ما ال يحتاجه منها‪.‬‬
‫انظ ر إلين ا‪ ،‬وكي ف نأك ل ش رائح اللحم والك رنب والحنط ة والس مك المقلي‪..‬‬
‫وندفعها بأي قدر من الماء‪ ،‬ثم نختمها بأي مشروب أو فواكه أو حلويات‪ ..‬وقد نض يف‬
‫إليها أدوية وعق اقير غاي ة في التعقي د‪ ..‬ومن بين ك ل ه ذا الخلي ط‪ ،‬تخت ار المع دة تل ك‬
‫األش ياء ال تي هي ذات فائ دة‪ ،‬وذل ك بتحطيم ك ل ص نف من الطع ام إلى أجزائ ه‬
‫الكيمياوية‪ ،‬دون مراعاة للفضالت‪ ،‬وتعي د تك وين الب اقي إلى بروتين ات جدي دة تص بح‬
‫غذاء لمختلف الخاليا‪..‬‬
‫ثم تختار أداة الهضم الكبريت واليود والحديد وكل الم واد األخ رى الض رورية‪،‬‬
‫وتعني بعدم ضياع األجزاء الجوهرية‪ ،‬وبإمكان انتاج الهرمون ات‪ ،‬وب أن تك ون جمي ع‬
‫الحاجات الحيوية للحياة حاضرة في مقادير منتظمة‪ ،‬ومستعدة لمواجهة كل ضرورة‪.‬‬
‫وهي تخزن الدهن والم واد االحتياطي ة األخ رى‪ ،‬للق اء ك ل حال ة طارئ ة‪ ،‬مث ل‬
‫الجوع‪ ،‬وتفعل ذلك كله بالرغم من تفكير اإلنسان أو تعليله‪.‬‬
‫التفت إلي‪ ،‬وق ال‪ :‬إنن ا نص ب ه ذه األن واع ال تي ال تحص ى من الم واد في ه ذا‬
‫المعمل الكيمياوي‪ ،‬بصرف النظر كلي ة تقريب ا ً عم ا تناول ه‪ ،‬معتم دين على م ا نحس به‬
‫عملية ذاتية إلبقائنا على قيد الحياة‪.‬‬
‫وحين تتحلل هذه األطعمة‪ ،‬وتجهز من جديد‪ ،‬تق دم باس تمرار إلى ك ل خلي ة من‬
‫باليين الخالي ا‪ ،‬ال تي تبل غ من الع دد أك ثر من ع دد الجنس البش ري كل ه على وج ه‬
‫األرض‪ ..‬ويجب أن يكون التوريد إلى كل خلية فردية مس تمراً‪ ،‬وأال ي ورد س وى تل ك‬
‫المواد التي تحتاج إليها تلك الخلي ة المعني ة لتحويله ا إلى عظ ام وأظ افر ولحم وعي نين‬
‫وأسنان كما تتلقاها الخلية المختصة‪.‬‬
‫سكت قليال‪ ،‬ثم قال‪ :‬أال ترى أننا أمام معمل كيمي اوي ينتج من الم واد أك ثر مم ا‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬العلم يدعو لإليمان‪ :‬كريسى موريسون‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫ينتجه أي معمل ابتكره ذكاء االنسان الممتلئ بالغرور؟‪ ..‬أال ترى أننا أمام نظام للتوريد‬
‫أعظم من أي نظام للنقل أو التوزيع عرف ه الع الم‪ ،‬ويتم ك ل ش يء في ه بمنتهى النظ ام‪،‬‬
‫ومنذ الطفولة إلى الشيخوخة ال يخطئ هذا المعم ل خط أ ذا ب ال‪ ،‬م ع أن الم واد نفس ها‬
‫التي يعالجها يمكن أن تكون بالفع ل أك ثر من ملي ون ن وع من الجزيئ ات‪ ،‬وكث ير منه ا‬
‫سام؟‬
‫***‬
‫عندما قال لي هذا س رت مع ه إلى ص ديق لن ا ك ان ط بيب أعص اب‪ ،‬وبثثن ا ل ه‬
‫شكوانا من تلك الفلسفات التي درسناها‪ ،‬والتي صورت لن ا ك ل ش يء على أن ه مول ود‬
‫للطبيعة‪ ،‬وابن لها‪ ،‬مع كونها عدما محضا‪ ..‬في نفس الوقت الذي نفتخر في ه بمنج زات‬
‫باهتة ال يمكن أن تساوي معمال بسيطا من المعامل التي تشتغل في جسم كل إنسان لي ل‬
‫نهار دون كلل أو ملل‪.‬‬
‫عندما قلنا له هذا بدا عليه التأثر الشديد‪ ،‬وقال(‪ :)1‬أجل‪ ..‬لقد اكتشفت أننا ض حايا‬
‫لخدعة كبرى‪ ..‬فنحن الذين نزعم ألنفسنا العلم نتعام ل بك ل أن واع المكايي ل المزدوج ة‬
‫مع الكون ومدبره‪ ،‬حيث نعطي ألنفس نا وج راء أعم ال بس يطة الح ق في حف ظ ب راءة‬
‫اختراعنا وتسجيله بأسمائنا وصفاتنا‪ ..‬بينما إذا عدنا لمنتجات هذا الكون البديعة‪ ،‬وال تي‬
‫تس تدعي مب دعا رحن ا نرميه ا بالعش وائية والص دفة والعبثي ة والعدمي ة‪ ..‬وك ل أن واع‬
‫الهرطقات الفلسفية التي تصرفنا عن حقيقة األمر‪.‬‬
‫سكت قليال‪ ،‬ثم قال‪ :‬ال تستغربوا مما أقول ه‪ ..‬فم ا أراه ك ل ي وم من مش اهدات ال‬
‫يدل إال على هذا‪ ..‬انظروا إلى جسم اإلنسان‪ ..‬ه ذا الجس م المعج زة ال ذي ال يمكن ف ك‬
‫ألغازه‪ ..‬انظروا في الخاليا العظمية‪ ،‬والنس ج‪ ،‬والعض الت‪ ،‬واألجه زة‪ ،‬ح تى الش عر‪،‬‬
‫وأي خلية في الجسم ترونها تتبدل من خمس إلى س بع س نوات‪ ..‬أي أنن ا بع د ك ل س بع‬
‫سنوات نرى إنسانا آخر بخاليا جديدة‪ ،‬وبجسم جديد‪..‬‬
‫وض ع ي ده على ص دري به دوء‪ ،‬وق ال‪ :‬انظ ر‪ ..‬ليس في جس مك خلي ة واح دة‬
‫قديمة‪ ،‬فعظمك يتب دل‪ ،‬وجل دك يتب دل‪ ،‬وش عرك يتب دل‪ ،‬وأقص ر عم ر خلي ة في جس م‬
‫اإلنسان خلية بطانة األمعاء‪ ،‬الزغابات تتبدل كل ثمان وأربعين ساعة‪ ،‬أي في كل ثمان‬
‫وأربعين ساعة هناك زغابات جديدة‪ ،‬وأطول هذه الخاليا تعيش سبع سنوات‪ ،‬أو خمس‬
‫سنوات‪ ،‬معنى ذلك أنك تتبدل تبدال جذريا كل سبع سنين على األكثر‪..‬‬
‫أطلق يده عني‪ ،‬وسار في القاعة قليال‪ ،‬وهو يق ول‪ :‬تص وروا ل و أن ه ذا التب دل‬
‫حصل في خاليا الدماغ المرتبطة بالذاكرة‪..‬‬
‫وضع يده على صدر صاحبي‪ ،‬وراح يقول له مخاطبا‪ :‬حينه ا س يتبدل دماغ ك‪..‬‬
‫وحينها ستنسى اختصاصك‪ ..‬وستنسى حرفتك‪ ..‬وستنسى معارفك‪ ..‬وستنس ى أوالدك‪..‬‬
‫وستنسى خبراتك‪ ..‬وستنسى ذكرياتك‪ ..‬وستنسى زوجتك وأوالدك‪.‬‬
‫انظروا إلى هذا العجب الذي يفرضه علينا أولئك الكهنة ال ذين يرفض ون وج ود‬

‫‪ )(1‬موسوعة اإلعجاز العلمي في القرآن والسنة‪ :‬محمد راتب النابلسي‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫المب دع المص مم العظيم ال ذي ي دل علي ه ك ل ش يء‪ ..‬إنهم يلقونن ا في جحيم الجن ون‪،‬‬
‫وهاوية العبث‪.‬‬
‫***‬
‫عندما قال لنا ه ذا س رنا جميع ا إلى ص ديق لن ا ك ان ع الم حيوان ات‪ ،‬وبثثن ا ل ه‬
‫شكوانا من تلك المادية التي ملئت بها عقولنا‪ ،‬والتي وجدنا في تخصصاتنا ما يدل على‬
‫استحالتها‪.‬‬
‫عندما قلنا له هذا أشار لنا إلى قفص ك ان أمام ه‪ ،‬وك ان في ه خف اش‪ ..‬وق ال‪ :‬م ا‬
‫ذكرتموه لي عن الكوليسترول والمع دة وال دماغ رأيت ه هن ا في ه ذا القفص‪ ..‬فالخف اش‬
‫الذي ترون من عجائب هذا الكون التي ال يمكن تفسيرها تفسيرا ماديا(‪.)1‬‬
‫لقد رأيت فيه من الطاقات والقدرات ما مألني بالعجب(‪ ..)2‬فمقدرة الخفاش على‬
‫تحديد هدفه عن طريق الصدى أمر يثير الدهشة واالستغراب‪.‬‬
‫لقد اكتشفت ـ من خالل سلسلة كبيرة من التج ارب قمت به ا أن ا وزمالئي ـ أن ه‬
‫يستحيل أن تفسر تلك القدرات تفسيرا ماديا وال بيولوجيا وال تطوريا‪..‬‬
‫سأحكي لكم عن بعض التجارب التي أجريناها عليه‪ ..‬منه ا ـ مثال ـ أنن ا ـ وفي‬
‫بداية بحثنا عن أدواته اإلدراكية ـ تركن اه في غرف ة مظلم ة تمام اً‪ ،‬ووض عنا ذباب ة في‬
‫إحدى زوايا الغرفة كفريسة له‪ ..‬وضعنا كاميرا ليلي ة لمراقب ة الوض ع‪ ..‬وم ا إن ب دأت‬
‫الذبابة بالطيران حتى تحرك الخفاش بغاية الخفة نحوها‪ ،‬وانقض عليها‪ ..‬فاس تنتجنا من‬
‫هذا أن الخفاش يتمتع بحاسة إدراك حادة جداً حتى في الظالم الحالك‪.‬‬
‫لكنا رحنا نتساءل‪ :‬هل حاسة اإلدراك هذه له ا عالق ة بحاس ة الس مع؟ أم أن ه ذا‬
‫المخلوق يرى في الظالم؟‪ ..‬لإلجابة على ذلك قمنا بتجربة أخرى‪ ،‬فوض عنا يُس روعين‬
‫ُض ْع‬‫في زاوية من زوايا الغرفة نفسها وغطيناهما بصحيفة‪ ،‬وعندما أطلق الخفاش لم ي ِ‬
‫وقتا ً في رفع الصحيفة والتهام اليُس روعين‪ ..‬فأدركن ا أن مه ارة الخف اش ال عالق ة له ا‬
‫بحاسة الرؤيا‪.‬‬
‫ض َع خف اش في إح دى‬ ‫ثم رحن ا نق وم بتجرب ة جدي دة في دهل يز طوي ل‪ ،‬حيث ُو ِ‬
‫الزواي ا ومجموع ة من الف راش في الزاوي ة األخ رى‪ .‬وض عت ح واجز متعام دة م ع‬
‫الجدران الجانبية‪ ،‬يحتوي كل منها على ثقب كبير بما يكفي لمرور الخفاش من ه‪ ،‬ولكن‬
‫هذه الثقوب لم تكن متعاقبة‪ ،‬بل كانت موجودة في كل حاجز بمكان يختلف عن اآلخ ر‪،‬‬
‫أي أنه يتوجب على الخفاش أن يسلك طريقا ً متعرجا ً ليجتازها‪ ..‬وبدأنا المراقبة‪ ..‬فرأينا‬
‫أنه بمجرد تحريرنا للخفاش في هذا الدهليز الغارق في الظالم حتى وصل إلى الح اجز‬
‫األول‪ ،‬ثم تمكن من اجتياز الثقب بسهولة‪ ..‬وهكذا لم يتمكن الخفاش من تحدي د الح اجز‬
‫فحسب‪ ،‬بل من تحديد مكان الثقوب أيضاً‪ ،‬وبعدما اجتاز الثقب األخير كان الخف اش ق د‬
‫مأل معدته بصيده الثمين‪.‬‬

‫‪ )( 1‬انظر‪ :‬التصميم في الطبيعة‪ :‬هارون يحيى‪ ،‬ترجمة‪:‬أورخان محمد علي‪.‬‬


‫‪ )( 2‬انظر‪ :‬التصميم في الطبيعة‪ :‬هارون يحيى‪ ،‬ترجمة‪:‬أورخان محمد علي‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫لقد صعقنا لما شاهدناه‪ ..‬لكنا رحنا نجري تجارب أخرى أكثر طرافة‪ ،‬منه ا أنن ا‬
‫جهزن ا نفق ا ط ويال مظلم بأس الك فوالذي ة يبل غ قط ر ك ل منه ا ‪0,6‬ملم تت دلى بش كل‬
‫عشوائي من السقف‪ ..‬وقد رأينا الخفاش يتابع رحلته دون أن يلمس أيا ً من هذه العوائ ق‬
‫على الرغم من ضآلتها‪.‬‬
‫وقد اكتشفنا من خالل هذه التجارب وغيرها أن لدى الخفاش ق درة معج زة على‬
‫اإلدراك تتعل ق بنظ ام تحدي د الص دى لدي ه‪ ،‬حيث يتمكن بواس طته من تحدي د خارط ة‬
‫البيئة التي يوجد فيها من خالل االنعكاسات الصوتية التي تصدر عن األشياء‪ ،‬والتي ال‬
‫يمكن لألذن البشرية أن تتحسسها‪ ..‬وهذا يعني أن إحساس الخفاش بالذباب ة ك ان بس بب‬
‫األصوات التي انعكست منها إليه‪.‬‬
‫وبموجب ذلك عرفنا أن نظام صدى الصوت عن د الخف اش يس جل ك ل نبض ات‬
‫األص وات الص ادرة‪ ،‬ويق ارن األص وات األص لية م ع الص دى العائ د‪ ،‬ويق دم ال وقت‬
‫الفاصل بين توليد الصوت الصادر واستقبال الص دى ال وارد تقييم ا ً دقيق ا ً عن المس افة‬
‫الفاصلة بين الخفاش والهدف‪.‬‬
‫التفت إلينا‪ ،‬وقال‪ :‬هذا مثال بسيط عن بعض قدرات هذا الك ائن العجيب‪ ..‬وأرى‬
‫أنه آية من اآليات ومعجزة من المعجزات التي تدعونا إلى البحث عن مصممها العظيم‬
‫الذي ال يمكن تصور عظمتها‪ ..‬فالطبيعة والمادة والصدفة والتطور كل ذلك ال يفسر لنا‬
‫الحقيقة التي يحتوي عليها دماغ هذا المخلوق العجيب‪.‬‬
‫***‬
‫عندما قال لنا هذا سرنا جميعا إلى صديق لنا كان عالم نفس‪ ،‬وحدثناه عم ا رأين ا‬
‫من العجائب‪ ،‬وطلبنا منه أن يعطينا تفسيرا لها‪ ..‬فقال‪ :‬وهل أكذب عليكم حين أدعي أنه‬
‫في إمك اني أن أعطيكم تفس يرا له ا‪ ..‬فأن ا أيض ا ممتلئ عجب ا مثلكم‪ ..‬وأرى أن ك ل‬
‫األطروحات التي فسر لنا بها الك ون ممتلئ ة بال دجل والك ذب وال تزوير‪ ..‬فه ذا الك ون‬
‫يستحيل أن يقوم وحده‪ ..‬فك ل األدل ة ت دل على أن ه تحت إدارة إل ه حكيم ق دير ال يمكن‬
‫تصور عظمته‪.‬‬
‫سكت قليال‪ ،‬ثم قال(‪ :)1‬بما أنكم حدثتموني على ضوء اختصاصاتكم‪ ،‬فس أحدثكم‬
‫على ضوء اختصاصي‪ ،‬فقد رأيت أن التصور من أعجب طاقات اإلنسان التي ال يمكن‬
‫تفسيرها تفسيرا ماديا‪ ..‬فاإلنس ان ـ باس تعماله لتص وره ـ يس افر على الف ور إلى حيث‬
‫يشاء‪ ..‬والخطيب قد ينتقل بسامعيه إلى حيث يريد‪ ..‬فهو إذا وصف جزيرة مرجانية من‬
‫جزر الهن د الش رقية انتق ل ذهن ه وأذه ان س امعية إلى تل ك الجزي رة‪ ..‬ف إذا بهم ي رون‬
‫بأذهانهم سلسلة صخور مرجانية تحيط بها‪ ،‬ويرون الشاطئ المرجاني‪ ،‬وتغيرات ل ون‬
‫المحيط‪ ،‬والسماء المطلة عليها‪ ،‬والنخي ل ال تي تهزه ا ال ريح‪ ،‬وجزي رة في الوس ط في‬
‫حلة قشيبة من نباتات المناطق الحارة‪.‬‬
‫وهكذا قد يصف لهم البحيرة الرائقة‪ ،‬وهي زرق اء مث ل ص فحة الس ماء‪ ،‬ص افية‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬العلم يدعو لإليمان‪ :‬كريسى موريسون‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫كالمرآة‪ ،‬واذا انتقل به الفكر إلى أبعد من ذلك‪ ،‬فقد يرى سامعوه أعماق تلك البحيرة‪.‬‬
‫سكت قليال‪ ،‬ثم ق ال‪ :‬لق د اكتش فت أن ق وة التص ور هي مص در س عادة للطف ل‪..‬‬
‫حيث أنه يستخدمها في لعب ه كم ا يحل و ل ه‪ ..‬وم ا عليكم إال أن تطلع وا على م ا يعتق ده‬
‫األطفال في نفوسهم حين اللعب معا‪ ..‬فالغالم الذي يحمل على كتفه بندقية من الخش ب‪،‬‬
‫قد يعتقد أنه جندي بالفعل‪.‬‬
‫ال تتوقف فائدة ذلك عند الطفل‪ ..‬فالتعليم والتجربة والبيئة والمه ارة‪ ،‬ك ل أولئ ك‬
‫قد تحيل الخيال الرائع إلى قطعة فنية‪ ،‬سواء أكانت رواية تمثيلي ة أم قطع ة موس يقية أم‬
‫لوحة رسم أم جهازا دقيقا‪ ..‬واألفكار إنما هي بنات التصور‪ ،‬فهي اذن أس س العبقري ة‪،‬‬
‫وأعظم نتاج العقل البشري‪.‬‬
‫عندما قال لنا هذا‪ ،‬سألناه عن سره‪ ،‬فقال‪ :‬دعوني من التفس يرات ال تي درس ناها‬
‫وحفظناها وبسببها رقينا في وظائفنا‪ ..‬دعونا من كل ذلك‪ ..‬وهلم بن ا نبحث عن الحقيق ة‬
‫من بابها الصحيح‪ ،‬ال من أبوابها العشوائية‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬ما جئناك إال لذلك؟‬
‫قال‪ :‬هل رأيتم في حياتكم آل ة تتط ور من تلق اء ذاته ا‪ ،‬لتتح ول إلى آل ة أخ رى‪،‬‬
‫وبوظائف أخرى في منتهى الدقة والكمال؟‬
‫قلنا‪ :‬ال‪ ..‬لم نر ذلك‪ ..‬فلم تسعد البشرية بمثل هذا االختراع إلى اآلن؟‬
‫قال‪ :‬فهل يمكن ألي آلة من اآلالت التي ترون أن تتطور من تلقاء ذاتها؟‬
‫قلنا‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬مثال يتطور جهاز الحاسوب من الجيل األول ليقفز للجي ل الث اني أو الجي ل‬
‫الثالث من دون حاجة ألي مطورين أو مصممين أو علماء أو فنيين؟‬
‫قلنا‪ :‬ذلك مستحيل‪ ..‬بل إن تغييرا بسيطا في أي جه از‪ ،‬وألداء وظ ائف مح دودة‬
‫جدا‪ ،‬نحتاج إلى جيش من الخبراء في كل المجاالت‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكي ف إذن يعت برون عج ائب الكوليس ترول ال ذي يتغ ير بحس ب الحاج ة‪..‬‬
‫والمعدة‪ ..‬والمخ‪ ..‬والخفاش‪ ..‬وكل شيء‪ ..‬كيف يعتبرون ه ذا حرك ة من دون مح رك‪،‬‬
‫وصنعة من دون صانع؟‬
‫سكتنا‪ ،‬فقال‪ :‬لكم أن تسكتوا‪ ..‬أما أنا فقد أخذت قراري‪.‬‬
‫أخرج لنا مصحفا‪ ،‬وقال‪ :‬لقد رأيت في هذا المصحف كل األجوبة على أسئلتي‪..‬‬
‫فربي الذي خلق كل شيء‪ ،‬أرسل لي من يدلني عليه‪ ،‬ويعلم ني ب ه‪ ،‬وق د وض ع لي في‬
‫هذا الكتاب كل األدلة ال تي تجعل ني أرى الك ون بص ورته الحقيقي ة‪ ،‬ال بص ورته ال تي‬
‫علمنا إياها دجاجلة المادة والطبيعة‪.‬‬
‫ون أُ َّمهَ اتِ ُك ْم اَل‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫﴿و ُ أخ َر َجك ْم ِمن بُط ِ‬ ‫َ‬ ‫هَّللا‬ ‫قال لنا ذلك‪ ،‬ثم راح يقرأ علينا قوله تعالى‪َ :‬‬
‫ار َواأْل َ ْفئِ َدةَ ل َعلك ْم تَش كرُونَ (‪ )78‬أل ْم يَ َروْ ا إِلى‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْص َ‬ ‫الس ْم َع َواأْل َب َ‬ ‫تَ ْعلَ ُمونَ َش ْيئًا َو َج َع َل لَ ُك ُم َّ‬
‫ت لِقَ وْ ٍم ي ُْؤ ِمنُ ونَ (‬ ‫ت فِي َج ِّو ال َّس َما ِء َم ا يُ ْم ِس ُكه َُّن إِاَّل هَّللا ُ إِ َّن فِي َذلِ كَ آَل يَ ا ٍ‬ ‫الطَّي ِْر ُم َس َّخ َرا ٍ‬
‫‪[ ﴾)79‬النح ل‪ ،]79 ،78 :‬وغيره ا من اآلي ات الكوني ة‪ ،‬وال تي ختمت بقول ه تع الى‪:‬‬
‫ْرفُونَ نِ ْع َمتَ هَّللا ِ ثُ َّم يُ ْن ِكرُونَهَا َوأَ ْكثَ ُرهُ ُم ْال َكافِرُونَ ﴾ [النحل‪]83 :‬‬ ‫﴿ يَع ِ‬

‫‪119‬‬
‫ثم قال‪ :‬أال ترون أن هذه اآلية الكريم ة تخاطبن ا‪ ،‬فنحن ال ذين نع رف نعم ة هللا‪،‬‬
‫ونحن الذين نعرف الكثير من تفاصيل خلقه وعجائبها‪ ،‬وم ع ذل ك ننك ر نس بتها إلى هللا‬
‫العليم المريد القدير‪ ..‬وننسبها إلى الطبيعة الصماء البكماء العمي اء‪ ..‬أليس ذل ك ينطب ق‬
‫علينا؟‬
‫لم نجد ما نقوله له‪ ..‬ولكنا رحنا نسأله عن رحلته إلى ذلك الكت اب المق دس ال ذي‬
‫يحمله‪ ..‬وقد حكى لنا من تفاصيلها ما جعلنا ن دخل مع ه جن ة اإليم ان‪ ،‬ونف ر من جحيم‬
‫الكفران والطغيان‪.‬‬
‫***‬
‫ما أنهى صاحبنا حديثه حتى انتش رت أن وار لطيف ة على تل ك الروض ة الجميل ة‬
‫التي اجتمع فيها كل أولئك العلماء المنورين بنور اإليمان‪ ،‬وقد سرى أريج تلك األن وار‬
‫إلى كل لطائفي‪ ،‬فص رت أرى ي د هللا الحاني ة‪ ،‬وهي تمت د إلين ا ك ل حين بك ل ص نوف‬
‫الرعاية والحماية واللطف‪.‬‬
‫ورأيتها أنها كلها تدعونا إلى رحلة أعظم وأشرف ن رى فيه ا الحق ائق‪ ،‬ونتص ل‬
‫بها‪ ،‬ونتعايش معها بكل سعادة‪ ..‬فاهلل ما أرسل إلينا هدايا لطفه إال لنهتدي إليه‪ ،‬ونط رق‬
‫بابه‪ ،‬حتى ال نحجب بالنعمة عن المنعم‪ ،‬وبالهدية عن المهدي‪ ،‬وبالرعاية عن الراعي‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫الصنعة العجيبة‬
‫في تلك اللحظات‪ ،‬جاءني رجل على أريكته العجيب ة المتحرك ة‪ ،‬واق ترب م ني‪،‬‬
‫وقال‪ :‬كما أن النعمة تحتاج إلى منعم‪ ..‬والهدية إلى مهد‪ ،‬والرعاي ة إلى راع‪ ..‬فالص نعة‬
‫ـ كذلك ـ تحتاج إلى صانع‪ ..‬فهلم بنا إلى روضة [الصنعة العجيب ة]‪ ،‬لتس مع من رف اقي‬
‫في اإليمان كي ف رحل وا من الص نعة إلى الص انع‪ ،‬كم ا رح ل أه ل ه ذه الروض ة من‬
‫العناية إلى المعتني‪.‬‬
‫لم أش أ أن أس أله‪ ،‬فق د علمت أن ه ال توج د حرك ة عش وائية في تل ك الجن ات‬
‫المقدسة‪ ..‬فلذلك سرت معه بكل لطف وسكينة إلى أن رأيت روضة جميلة م زودة بك ل‬
‫ألوان التقنيات البديعة التي لم أر مثلها في حياتي‪ ..‬والعجيب أنه ا جميع ا تخل و من ك ل‬
‫أنواع التلوث التي تعاني منه ا ص ناعتنا‪ ،‬فليس فيه ا تل وث ص وتي وال بي ئي‪ ..‬وال أي‬
‫شيء‪ ،‬بل هي جمال محض‪.‬‬
‫برهان التصميم‪:‬‬
‫ما إن وصلنا‪ ،‬واستقر بنا المجلس في تلك الروض ة البديع ة‪ ،‬وس لمت على ذل ك‬
‫الجمع المنور بنور اإليمان‪ ،‬وسلموا علي‪ ،‬حتى قال أحدهم مخاطبا رسولهم ال ذي ج اء‬
‫بي إليهم‪ :‬فلتبدأ أنت يا صاحب النفس الطاهرة‪ ،‬والعقل الس ليم لتح دثنا عن رحلت ك إلى‬
‫هللا‪ ،‬وكي ف تمت‪ ،‬وكي ف خ رجت من س جون المالح دة وجحيمهم‪ ،‬لتن ال فض ل هللا‬
‫بالدخول إلى روضات جنات المؤمنين؟‬
‫ق ال‪ :‬ال أزال أذك ر تل ك األي ام جي دا‪ ،‬حين كنت مزه وا بنفس ي‪ ،‬وبتل ك الهال ة‬
‫اإلعالمية التي كانت تحيط بي‪ ،‬وتسجل كل حركاتي‪ ،‬وتعتبرني العبقري الذي ال يفرى‬
‫فريه‪ ،‬وال يبلغ مبلغه‪ ..‬وأذكر أيضا أولئك األغنياء وأص حاب األم وال الض خمة ال ذين‬
‫ك انوا يرس لون الرس ل‪ ،‬وي تزلفون لي بك ل الوس ائل لعلي أنعم عليهم ب اختراع من‬
‫اختراعاتي‪ ،‬ليؤسسوا من خاللها مصانعهم ومعاملهم وشركاتهم‪.‬‬
‫وال أزال أذكر تلك المعاناة النفسية التي كانت هي األخرى تالحقني عند كل ثناء‬
‫يثنى علي‪ ،‬أو مديح أمدح به‪ ..‬لقد كنت أقول لنفسي الجاحدة الممتلئة بالكبر‪ :‬أال يخجلك‬
‫أن تفتخري بتلك المخترعات البسيطة التي توصلت إليها في نفس الوقت الذي تجحدين‬
‫فيه من صمم كل تلك االختراعات التي ال حدود لها‪ ،‬بما فيها عقلك الذي تفتخرين به؟‬
‫وكنت أقول لها‪ :‬أليس كل م ا اخترعت ه ال يع دو أن يك ون تقلي دا لم ا وجدت ه في‬
‫الطبيعة من مخترعات مصممة تصميما دقيقا ال حدود له‪ ..‬فهل كنت تقلدين أعمى أبكم‬
‫أصم‪ ..‬وهو تلك الطبيعة‪ ..‬أم أنك كنت تقلدين صنعة عليم لطيف خبير؟‬
‫***‬
‫في تلك األيام كان لي ص ديق نص وح‪ ،‬ه و اآلن بينن ا‪ ،‬ربم ا ك ان الوحي د ال ذي‬
‫صحبني بصدق‪ ،‬فلم يكن يطلب مني ماال وال جاها وال أي غرض من أغراض الدنيا‪..‬‬
‫كان يصحبني فقط ليستفيد من علمي‪ ،‬واستفيد من حكمته‪ ..‬وكان ما اس تفدته من ه أك ثر‬

‫‪121‬‬
‫مما استفاد مني‪ ..‬فقد فارقه ما استفاده مني‪ ،‬وبقي ما استفدته منه‪.‬‬
‫في ذل ك الي وم ال ذي حكيت ل ه في ه هم ومي‪ ،‬ق ال لي‪ :‬م ا ذكرت ه من تس اؤالتك‬
‫صحيح وطبيعي‪ ،‬وهو يدل على أن فطرتك ال تزال سليمة‪ ..‬لقد فكرت قبل ك كث يرا في‬
‫مثل هذه األمور‪ ،‬ووص لت(‪ )1‬إلى أن ك ل المخلوق ات الموج ودة على س طح األرض‪،‬‬
‫بما فيها نحن البشر‪ ،‬ليست سوى تصميم فريد ممتلئ بالغرابة‪ ..‬وبما أن ك ل تص ميم ال‬
‫بد له من مصمم‪ ..‬فالنتجية الطبيعية لتينك المق دمتين الض روريتين هي أن ه ال ب د له ذه‬
‫الخالئق من خالق خلقها وقت ما يشاء‪ ،‬وحفظ بقاءها بقوة وحكمة مطلقة‪.‬‬
‫قلت‪ ،‬وأنا ال أزال تحت إصر تلك الفلسفات المادية التي شربناها م ع الحليب في‬
‫صغرنا الباكر‪ :‬لكن ما تقول ه مرف وض من قب ل نظري ة التط ور‪ ،‬فهي ت رى أن جمي ع‬
‫أنواع المخلوق ات ق د ظه رت إلى الوج ود ع بر سلس لة من األح داث المتص ادفة ال تي‬
‫تطور كل منها عن اآلخر‪ ..‬وبذلك ف إن المقدم ة األساس ية له ذه النظري ة هي أن جمي ع‬
‫أشكال الحياة تمر عبر تغيرات عشوائية‪.‬‬
‫قال‪ :‬على أي أساس يقولون هذا؟‬
‫قلت‪ :‬أنت تعرف ذلك‪ ..‬فهم يذكرون أن الطفرة هي ال تي ق امت ب ذلك‪ ،‬فتح ولت‬
‫الحياة إلى ما نراها عليها؟‬
‫قال‪ :‬أليست الطفرة هي تلك االنفصاالت واالنحرافات غير المنتظمة في جين ات‬
‫الكائنات الحية؟‬
‫قلت‪ :‬بلى هي كذلك‪ ..‬أنت تعرف ذلك‪ ،‬وال حاجة لك أن تسألني‪.‬‬
‫قال‪ :‬أال ترى أن أكثر حاالت الطفرات التي عرفته ا البش رية ك انت تض عف أو‬
‫تضر بالكائنات الحية التي تطرأ عليها‪ ..‬وفي أفضل الحاالت كانت ذات تأثير حيادي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬ذلك صحيح‪ ..‬وهو ثابت علميا‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬فكي ف يمكن لتل ك الطف رة أن تص مم ه ذه التص ميمات العجيب ة‪ ..‬إن ه ذا‬
‫التفكير ال يشبه سوى من أطل ق رصاص ا على جم ع من الن اس‪ ،‬وه و يأم ل أن تس فر‬
‫اإلصابات عن أشخاص أوفر صحة وأحسن حاالً‪ ..‬فهل يمكن قبول هذا؟‬
‫لم أدر ما أقول له‪ ..‬ولكني كنت أشعر بصدق ما يقول‪ ،‬فقد ك ان الق ول ب الطفرة‪،‬‬
‫وكونها المخترع لتلك التصميمات العجيبة نوعا من الجنون الذي ال يقبله عقل‪..‬‬
‫حين سكت‪ ،‬ولم أرد عليه‪ ،‬بادرني بقوله‪ :‬ألست تحف ظ م ا قال ه دارون في كتاب ه‬
‫(أصل األنواع) عن األعضاء المعقدة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬فقد قال‪( :‬إذا تمت البرهنة على وج ود أي عض و معق د تش كل ع بر‬
‫تعديالت ضخمة ومتتالية‪ ،‬فإن نظريتي ستنسف من أساسها)‬
‫قال‪ :‬فهل تمت البرهنة على ما عجز دارون عن البرهن ة علي ه بس بب إمكاني ات‬
‫القرن التاسع عشر العلمية البسيطة؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬فالبحث العلمي الدقيق الذي تميز به القرن العش رون‪ ،‬وال ذي تن اول‬

‫‪ )( 1‬انظر‪ :‬التصميم في الطبيعة‪ :‬هارون يحيى‪ ،‬ترجمة‪:‬أورخان محمد علي‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫أدق التفاص يل‪ ،‬ب رهن على أن غالبي ة األنظم ة الحيوي ة هي بني ة معق دة ال يمكن‬
‫تجزئته ا‪ ..‬ومن األمثل ة على ذل ك أن اآلذان تتحس س األص وات فق ط إذا م رت ع بر‬
‫سلس لة من األعض اء الص غيرة‪ ..‬ف إذا م ا ن زع أو عطّ ل أي واح د منه ا مث ل إح دى‬
‫عظيمات األذن الوسطى‪ ،‬فإن النتيجة تعطيل حاسة السمع بشكل تام‪.‬‬
‫قال‪ :‬فالعلم أثبت إذن تعقيد هذا الجهاز المصمم اللتقاط األصوات؟‬
‫قلت‪ :‬أج ل‪ ..‬فكي تتفاع ل األذن م ع األص وات الخارجي ة‪ ،‬يجب أن تعم ل ك ل‬
‫أجزائها دون استثناء في وقت متزامن ابتداء من القناة الس معية الخارجي ة‪ ..‬إلى غش اء‬
‫الطبل‪ ..‬إلى عظيم ات األذن الوس طى‪ ،‬وهي المطرق ة والس ندان وعظم الرك اب‪ ..‬إلى‬
‫الس ائل ال ذي يمأل قوقع ة األذن‪ ..‬إلى المس تقبالت الس معية‪ ..‬إلى ش بكة األعص اب‬
‫المتصلة مع المركز السمعي في الدماغ‪ ..‬وغيرها من التفاصيل التي لم أذكرها‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهل يمكن لهذا النظام السمعي أن يتطور بشكل أجزاء منفصلة؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬ال يمكن ذلك أبدا‪ ..‬ال يمكن ألي جزء أن يعمل بمعزل عن باقي أجزاء‬
‫النظام‪.‬‬
‫قلت ذلك بقوة‪ ،‬وكأني أحمل مطرقة‪ ،‬وأضرب بها تل ك الخراف ات ال تي جعلت ني‬
‫أهرب من المصمم الحقيقي ألضع كل تلك التصميمات البديعة في يدي طفرة أو طبيعة‬
‫عشوائية صماء بكماء‪.‬‬
‫***‬
‫في ذل ك الحين تس نى لي أن أزور بل دة من بالد المس لمين دعيت إلى بعض‬
‫جامعاتها كأستاذ زائر‪ ،‬وهناك سئلت أسئلة كثيرة حرجة‪ ،‬حاولت أن أتملص منه ا ق در‬
‫اإلمكان‪ ،‬لكن نفسي لم تتملص منها‪ ،‬بل بقيت تلح علي بها إلى أن هداني هللا بسببها إلى‬
‫اإليمان‪.‬‬
‫لقد قال لي أحدهم‪ ،‬وكان يبدو شابا متدينا‪ :‬لقد ورد في كتابنا المق دس ه ذه اآلي ة‬
‫ق هَّللا ِ فَ أَرُونِي َم ا َذا َخلَ َ‬
‫ق الَّ ِذينَ ِم ْن دُونِ ِه﴾ [لقم ان‪ ،]11 :‬ونحن نري د‬ ‫الكريمة‪﴿ :‬هَ َذا خَ ْل ُ‬
‫منك توضيحها لنا بحسب اختصاصك‪.‬‬
‫حينها ابتسمت‪ ،‬وقلت مخاطبا سائر الطلبة‪ :‬أظن أن زميلكم لم يعرف من أك ون‪،‬‬
‫فتصورني رجل دين‪ ..‬أنا لست كذلك ي ا ب ني‪ ..‬أن ا ع الم ومخ ترع‪ ..‬وف وق ذل ك أن ا ال‬
‫أؤمن بكل األديان‪ ..‬بل ال أؤمن باهلل أص ال‪ ..‬حيث أني وج دت في الم ادة والطبيع ة م ا‬
‫يفسر لي الكون والحياة‪.‬‬
‫قلت ذلك كما تعودت أن أقوله مراغما به حقيقتي التي كانت تخالفني أي مخالفة‪،‬‬
‫بل تقف في وجهي بكل قوة‪..‬‬
‫لكن ذلك الشاب‪ ،‬ومع تلك الشدة التي واجهته بها‪ ،‬رد علي بأدب‪ :‬أنا ال ش أن لي‬
‫بمعتق داتك‪ ..‬ف ذلك ش يء خ اص ب ك‪ ..‬ولك ني أردت فق ط أن أعلم عالق ة تص ميماتك‬
‫واختراعاتك التي نجلها ونقدرها كما نجلك ونقدرك بهذه التص ميمات ال تي نراه ا نحن‬
‫تصميات إلهية‪ ،‬وتراها أنت تصميمات طبيعية مادية ال عالقة لها بإله‪.‬‬
‫قلت‪ ،‬وق د أث ر في أدب ه وأخالق ه‪ :‬أم ا إن قلت ه ذا‪ ..‬ف أقول ل ك الحقيق ة بك ل‬

‫‪123‬‬
‫تواضع‪ ..‬إن كل ما نق وم ب ه نحن المخ ترعين ليس س وى تقلي د للنم اذج الموج ودة في‬
‫الطبيعة‪ ..‬كل ما تراه من اختراعات ليس سوى مجرد تقليد يحاول أن يرقى إلى م ا في‬
‫الطبيعة من كماالت‪ ،‬ولكنه ال يستطيع‪ ،‬فيكتفي بما قدر عليه‪.‬‬
‫قال أحد الحاضرين‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫ً‬
‫قلت‪ :‬ال يمكن ألي مصمم بشري أن يصمم شيئا لم يره أو يعرفه في حياته‪ ،‬فه و‬
‫يستمد إيحاءات مشروعه من الطبيعة حوله‪ ،‬فكل ما فيها ه و تص ميم ق ائم بح د بذات ه‪..‬‬
‫سأضرب لكم مثاال يقرب لكم ذلك(‪ ..)1‬لقد قام الجيش األمريكي باختراع آالت صغيرة‬
‫جدا‪ ،‬تم تصنيعها الستخدامها كجيش ص غير أعض اؤه بحجم النمل ة‪ ،‬ليخ ترق ص فوف‬
‫األع داء دون أن ي ُْؤبَ ه ل ه‪ ،‬ويق وم بتعطي ل ال رادارات والمحرك ات النفاث ة‪ ،‬وتعطي ل‬
‫معلومات الحواسيب‪.‬‬
‫وقد ب ادرت الش ركتان اليابانيت ان العمالقت ان [ميتسوبيش ي وماتسوش يتا] بتنظيم‬
‫شراكة للعمل في هذا الموضوع‪ ،‬وأثمرت عن رجل آلي صغير جداً يزن حوالي ‪0,42‬‬
‫غرام ويسير بسرعة ‪ 4‬أمتار في الدقيقة‪.‬‬
‫وهك ذا رحت أع دد لهم الكث ير من األمثل ة في ه ذا المج ال‪ ،‬ومم ا ذكرت ه لهم‪،‬‬
‫ق ولي‪ :‬إن نظ ام الط يران عن د حش رة [اليعس وب] ليس إال معج زة من معج زات‬
‫التصميم‪ ..‬فقد أنجزت الشركة الرائدة في صناعة طائرات الهيليكوب تر [سيكوريس كي]‬
‫إحدى طائراته ا متخ ذة اليعس وب نموذج ا ً له ا‪ ..‬كم ا ب دأت ش ركة ‪ IBM‬ال تي س اعدت‬
‫[سيكورسكي] في مشروعها بوضع نموذج اليعسوب على الحاس ب (‪ ،)IBM 3081‬وق د‬
‫تم تنفيذ ألفي طريقة أداء على الكمبيوتر على ضوء المناورات التي يقوم بها اليعس وب‬
‫في الهواء‪ ،‬وبذلك تم بناء نموذج سيكورسكي للطائرات الحربية ولط ائرات النق ل على‬
‫غرار نموذج اليعسوب‪.‬‬
‫وق د ق ام [جيل ز م ارتن] المص ور للظ واهر الطبيعي ة‪ ،‬ب إجراء دراس ات على‬
‫اليعسوب استغرقت سنتين‪ ،‬وهو يذكر ب أن ه ذه المخلوق ات له ا آلي ة ط يران غاي ة في‬
‫التعقيد‪.‬‬
‫ثم رحت أخرج صورة من محفظتي لليعسوب‪ ،‬وأقول لهم‪ :‬يشبه جسم اليعس وب‬
‫البني ة الحلزوني ة المغلف ة بالمع دن‪ ،‬حيث يتص الب جناح اه م ع جس مه ويب دو لونهم ا‬
‫متدرجا ً من اللون األزرق الثلجي إلى األحم ر ال داكن‪ ..‬وبس بب ه ذه البني ة يتم يز ه ذا‬
‫المخلوق بقدرة عجيبة على المن اورات‪ ..‬وبغض النظ ر عن الس رعة أو االتج اه ال ذي‬
‫يتح رك وفق ه‪ ،‬يمكن له ذه الحش رة أن تتوق ف فج أة‪ ،‬ثم تش رع ب الطيران في االتج اه‬
‫المعاكس‪ ..‬كما يمكنها فضالً عن ذلك أن تبقى معلقة في الهواء بغرض الص يد في ه ذا‬
‫الوضع‪ ،‬ولتستطيع أن تتحرك بمرونة نحو فريستها‪ ،‬كذلك يمكنها أن تزيد من سرعتها‬
‫التي تعتبر غير عادية بالنسبة لحشرة ‪ 40‬كم في الس اعة‪ ..‬وعن دما يص طدم اليعس وب‬
‫مع هذه السرعة بالفريسة تكون صدمة المفاجئة شديدة الوقع‪ ..‬وبسبب أسلحة اليعس وب‬

‫‪ )( 1‬انظر‪ :‬التصميم في الطبيعة‪ :‬هارون يحيى‪ ،‬ترجمة‪:‬أورخان محمد علي‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫ال تي تتم يز بمرون ة فائق ة ومقاوم ة ش ديدة ف إن البني ة المرن ة لجس مه تمتص ص دمة‬
‫االرتطام‪ ،‬وهذا بالطبع ما ال يحدث للفريسة التي ما تلبث أن تقع ُمغمى عليه ا أو ح تى‬
‫ميتة من شدة الصدمة‪.‬‬
‫ً‬
‫وبع د االص طدام تأخ ذ س اقا اليعس وب دوره ا ك أكثر أس لحته فتك ا‪ ،‬حيث تمت د‬
‫الساقان إلى األمام لإلمساك بالفريسة المصدومة ال تي ال تلبث أن تص بح رهين ة الفكين‬
‫القويين ليتوليا تمزيقها‪.‬‬
‫أما عيناه فتعتبران أفضل نموذج لعيون الحشرات‪ ،‬حيث يحمل اليعسوب عي نين‬
‫تحتوي كل منها على ثالثين ألف عدسة مختلفة‪ ،‬وتزود هاتان العينان الشبه كروي تين ـ‬
‫والتي يبلغ حجم كل منهما نصف حجم الرأس تقريبا ً ـ الحشرة بمجال رؤيا واسع جداً‪..‬‬
‫وبفضلهما يمكن أن يبقى اليعسوب على اطالع بما يجري وراء ظهره‪.‬‬
‫وهكذا يبدو اليعسوب مجموعة من األنظم ة‪ ،‬ك ل منه ا يحت وي على بني ة فري دة‬
‫ي من هذه األنظمة يعطل عم ل النظ ام اآلخ ر‪،‬‬ ‫ومثالية‪ ،‬إال أن أي تشوه قد يطرأ على أ ً‬
‫ومع ذلك فق د ص ممت ك ل ه ذه األنظم ة دون أي ص دع أو ش رخ‪ ،‬وهك ذا أمكن له ذه‬
‫الحشرة أن تستمر في دورتها الحيوية؟‬
‫بعد أن أنهيت هذه األمثلة وغيرها‪ ،‬قام ش اب آخ ر‪ ،‬وق ال‪ :‬والذباب ة‪ ..‬ألم تلهمكم‬
‫هي األخرى بعض االختراعات التي نراها؟‬
‫ابتس مت‪ ،‬وقلت‪ :‬لق د ذكرت ني بش يء مهم‪ ..‬فق د ق ام المهندس ون ال ذين ط وروا‬
‫الرجل اآللي بدراسة الحش رات الس تقاء أفك ارهم‪ ..‬فق د أظه ر الرج ل اآللي ال ذي ق ام‬
‫بناؤه على مبدأ أرجل الحشرات توازنا ً أفضل‪ ..‬وعندما تم ت ركيب وس ائد ش افطة على‬
‫أقدام الرجل اآللي أصبح بإمكانه السير على الجدران مثل الذبابة تماماً‪..‬‬
‫ثم ابتسمت‪ ،‬وقلت‪ :‬أال تعجبون أن يكون الرجل اآللي الذي صنعته تل ك الش ركة‬
‫اليابانية‪ ،‬والذي انبهر له مئات الماليين من الناس‪ ..‬لم يكن سوى تقليدا للذبابة ولغيره ا‬
‫من الحشرات؟‬
‫قال آخر‪ :‬كيف ذلك‪ ..‬وهل يمكن لهذا الذباب الذي يت وفر ب الماليير أن تك ون ل ه‬
‫كل هذه األهمية‪ ،‬وكل هذه الطاقات؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬فالذبابة المنزلي ة ظ اهرة على درج ة كب يرة من التعقي د‪ ..‬حيث أنه ا‬
‫تق وم في البداي ة بمعاين ة األعض اء ال تي ستس تخدمها في الط يران‪ ..‬ثم تأخ ذ وض عية‬
‫التأهب للطيران‪ ،‬وذل ك بتع ديل وض ع أعض اء الت وازن في الجه ة األمامي ة‪ ..‬ثم تق وم‬
‫بحساب زاوية اإلقالع معتمدة على اتجاه الريح وسرعة الضوء ال تي تح ددها بواس طة‬
‫حساسات موجودة على قرون االستش عار‪ ..‬ثم في األخ ير تق وم ب الطيران‪ ..‬وك ل ه ذه‬
‫العمليات مجتمعة ال تستغرق أكثر من جزء من مائة جزء من الثانية‪ ..‬وهي قادرة على‬
‫زيادة سرعتها حتى تصل إلى ‪ 10‬كم في الساعة‪.‬‬
‫له ذا الس بب يطل ق عليه ا عن دنا [س يدة الط يران البهل واني]‪ ،‬فهي تس لك أثن اء‬
‫طيرانها مس اراً متعرج ا ً في اله واء بطريق ة خارق ة‪ ،‬كم ا يمكنه ا اإلقالع عمودي ا ً من‬
‫المكان الذي تقف في ه‪ ،‬وأن تح ط بنج اح على أي س طح بغض النظ ر عن انح داره أو‬

‫‪125‬‬
‫عدم مالئمته‪ ،‬كما يمكنها أن تقف على األسقف مع أن قانون الجاذبية يستدعي وقوعه ا‬
‫إلى األسفل‪ ،‬إال أنها ص ممت بنظ ام خ اص يقلب المس تحيل معق والً‪ ،‬حيث يوج د على‬
‫رؤوس أقدامها وسادات شافطة‪ ،‬تفرز سائالً لزجا ً عندما تالمس السقف‪.‬‬
‫وهكذا رحت أصف لهم بدقة العجائب التي أودعها هللا في الذباب ة وق دراتها على‬
‫الطيران‪ ،‬مما أثار إعجابهم‪ ،‬وقد سمعت بعضهم حينها يقرأ قول ه تع الى‪﴿ :‬يَاأَيُّهَ ا النَّاسُ‬
‫ُون هَّللا ِ لَ ْن يَ ْخلُقُوا ُذبَابًا َولَ ِو اجْ تَ َم ُع وا لَ هُ‬
‫ب َمثَ ٌل فَا ْستَ ِمعُوا لَهُ إِ َّن الَّ ِذينَ تَ ْد ُعونَ ِم ْن د ِ‬‫ُر َ‬
‫ض ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ضعُفَ الطالِبُ َوال َمطلوبُ ﴾ [الحج‪ ،]73 :‬لكني‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫َوإِ ْن يَ ْسل ْبهُ ُم الذبَابُ َش ْيئًا اَل يَ ْستَ ْنقِذوهُ ِم ْنهُ َ‬
‫تظاهرت بعدم سماعي له‪ ،‬ألني لم أحب أن أبدو بغير المظهر الذي جئت به‪.‬‬
‫***‬
‫بعد أن قلت هذا‪ ،‬قام شاب آخر‪ ،‬وقال‪ :‬اسمح لي أن أقول لك بأنني أنا ومجموعة‬
‫من زمالئي مثل ك نحب العلم‪ ،‬ونكتفي بتفس يراته‪ ،‬ول ذلك لن ا موق ف س لبي من ال دين‪،‬‬
‫ومن اإلله‪ ..‬مع تعايش نا طبع ا م ع زمالئن ا ال ذين يخالفونن ا ال رأي‪ ..‬ولكن ا نج د بعض‬
‫اإلشكاالت‪ ،‬فأرجو أن تجيبني عنها‪ ،‬ولعلها تكون سببا في خروج زمالئنا المؤمنين من‬
‫التفسيرات الدينية التي ترجع األمر لمصمم غيبي تس ميه [هللا]‪ ..‬إلى التفس يرات علمي ة‬
‫واقعية نسميها [الطبيعة والمادة]‬
‫قلت‪ :‬ما دام األمر كما تقول‪ ،‬فهات أسئلتك‪ ،‬وسأجيبك على ضوء اختصاصي‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد قرأنا عن أعالم نظرية التطور الكبار أن الطيور تنحدر من الزواحف‪..‬‬
‫وأنها في أصلها كانت منها‪ ،‬ثم تطورت‪ ..‬لكنا نرى أن هذا التفسير ال يدل على أي آلية‬
‫من آليات عمل أجسام الطيور التي تختلف كليا ً عن بنية الثدييات‪.‬‬
‫قلت‪ ،‬وقد استفزني السؤال‪ ،‬وذكرني بحديث صاحبي‪ :‬وما المانع من ذلك؟‬
‫قال‪ :‬المانع من ذلك أشياء كثيرة‪ ..‬مثال تشكل األجنحة في الطيور‪ ،‬وال تي تعت بر‬
‫الخاصية الرئيسية فيها عائقا ً كبيراً يص عب تفس يره‪ ..‬ح تى أن بعض التط وريين ع بر‬
‫عن ذلك بقوله‪( :‬من الميزات التي تمتاز بها األعين واألجنحة هي أنه ا يمكن أن تعم ل‬
‫فقط إذا كانت مكتملة التطور‪ ..‬بتعبير آخ ر‪ :‬العين المتط ورة نص فيا ً ال يمكن أن ت رى‪،‬‬
‫وأجنحة نصفية ال يمكن أن تطير‪ ..‬أما كيف ج اءت ه ذه األعض اء إلى الطبيع ة‪ ،‬فه ذا‬
‫أمر ال يزال يكتنفه الغموض)‬
‫لم أج د إال أن أص ارحه بق ولي‪ :‬ال يمكن ني أن أجيب ك عن ه ذا الس ؤال‪ ..‬ففي‬
‫الحقيقة من الصعب اإلجابة عنه‪ ،‬بل من المستحيل‪ ..‬ذلك أن البنية المتقنة لألجنح ة من‬
‫التعقيد بحيث يصعب تصورها أو تفسيرها خالل سلسلة من الطفرات المتتالي ة‪ ..‬ومث ل‬
‫ذلك تفسير تحول الساق األمامية إلحدى الزواحف إلى جناح عصفور‪ ،‬هي أيض ا تبقى‬
‫غير ممكنة التفسير إلى األبد‪..‬‬
‫وليس ذل ك فق ط‪ ،‬ب ل إن وج ود األجنح ة ال يكفي وح ده لتتح ول الزواح ف أو‬
‫غيرها إلى طيور‪ ..‬ذلك أن عددا كبيرا من اآلليات التي يستخدمها الط ائر في الط يران‬
‫هي أيضا تحتاج إلى تفسير‪ ..‬فعظام الطائر على سبيل المثال أخف من تلك التي تحملها‬
‫الثدييات بشكل متميز‪ ..‬ومثل ذلك بني ة الرئ ة وعمله ا‪ ..‬والبني ات الهيكلي ة والعض لية‪..‬‬

‫‪126‬‬
‫كلها تختلف عن تلك الموجودة في الثدييات‪ ..‬وهكذا ال يمكن لكل هذه اآلليات أن توج د‬
‫عبر الزمان عن طريق عمليات تراكمية‪..‬‬
‫ق ال الش اب‪ :‬إن ك بقول ك ه ذا تحطم األس س ال تي يق وم عليه ا إيمانن ا بنظري ة‬
‫التطور‪ ،‬والتي وجدنا أنها مالذنا الوحيد الذي يفسر نشأة الحياة بعيدا عن الحاجة إلله‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لست أدري ما أقول لك‪ ..‬ولكن هذه هي الحقيق ة ال تي أؤمن به ا‪ ..‬فنظري ة‬
‫التطور من الضعف بحيث ال تستطيع أن تتكهن بأمثال هذه التفاصيل‪.‬‬
‫قال الشاب‪ :‬ولكن قولك هذا يصب في مصلحة المؤمنين بوجود إله؟‬
‫قلت‪ :‬أنا ال يهمني في مصلحة من يصب‪ ..‬أنا أتكلم عن الحقيق ة العلمي ة في ه ذا‬
‫الجانب‪ ،‬أما كونها أداة تستخدم في مصلحة الدين أو غيره‪ ،‬فال شأن لي بذلك‪.‬‬
‫قال الشاب‪ :‬فكيف نواجه من يخالفنا من المتدينين‪ ،‬وأنت إمامنا تقول هذا؟‬
‫لم أج د م ا أق ول ل ه إال م ا تع ودت س ماعه من أس اتذتي عن دما يص يبهم البهت‬
‫والحرية‪ :‬أخبروهم أن العلم لم يكتشف ذلك بعد‪ ..‬وقد يكتشفه في المستقبل‪.‬‬
‫قال الشاب‪ :‬فقد يواجهوننا بنفس جوابنا‪ ،‬فيقولون‪ :‬وما أدراكم لعل العلم سيكشف‬
‫عن وج ود المص مم الحقيقي ال ذي ص مم ه ذا الك ون‪ ،‬وأن ه عليم خب ير لطي ف‪ ،‬وليس‬
‫طبيعة عمياء صماء بكماء‪.‬‬
‫***‬
‫لم أجد ما أقول له إال أنني أدركت بعد خروجي من تلك المحاضرة أن الش اب لم‬
‫يكن ملحدا كما ذكر‪ ،‬وإنما كان مؤمنا‪ ،‬وكان يعرف الطريقة التي يصطاد به ا أمث الي‪..‬‬
‫ومع علمي بذلك إال أنني لم أتأثر‪ ،‬وإنما فرحت بكوني أجبت بما علي أن أجيب به‪.‬‬
‫لقد كان لتل ك الرحل ة أثره ا في نفس ي‪ ،‬وق د ذهبت لص احبي ال ذي ذكرت ه لكم‪،‬‬
‫وأخبرت ه عنه ا‪ ،‬فطلب م ني أن أذهب مع ه لتل ك البالد‪ ،‬وأن نالقي أولئ ك الش باب‪،‬‬
‫وبالفع ل ذهبت مع ه إليه ا‪ ،‬لكن ال بص فتي أس تاذي زائ را مخترع ا ممتلئ ا ب الزهو‬
‫والغرور‪ ،‬وإنما رجعت إليها بصفتي تلميذا بسيطا من تالميذ اإليمان‪.‬‬
‫وقد بقيت بينهم م ع ص ديقي ش هرا ك امال نتح اور‪ ،‬ونتن اظر في ك ل المس ائل‪..‬‬
‫وعلى الرغم من طرحنا لكل ما في جعبتنا من الشبهات إال أن أولئك الشباب المن ورين‬
‫بنور اإليمان أجابوا عنها أحسن إجابة‪ ،‬وأدق إجابة‪.‬‬
‫لم نملك بعد ذلك إال أن ندخل جنة اإليمان‪ ،‬ونفر من جحيم الجحود والكفران‪.‬‬
‫برهان التكيف‪:‬‬
‫بعد أن أنهى الرجل األول حديثه‪ ،‬قام آخر‪ ،‬وقال‪ :‬بعد أن ح دثكم ص ديقي وأخي‬
‫عن [برهان التصميم]‪ ،‬وكيف خرج به من ظلم ات الجه ل والغواي ة إلى ن ور اإليم ان‬
‫والهداية‪ ..‬فاسمعوا حديثي عن بره ان من ب راهين الص نعة البديع ة‪ ،‬أطلقت علي ه اس م‬
‫[برهان التكيف]‪ ..‬وهو برهان يدل على هللا من كل الوجوه‪ ،‬وبكل المق دمات‪ ،‬وبجمي ع‬
‫اللغات‪ ،‬فاهلل تعالى وفر لكل صنعة صنعها البيئة المناسبة لها‪ ،‬والكيفية التي تستطيع أن‬
‫تؤدي بها وظائفها بكل يسر وسهولة‪.‬‬
‫وألبسط لكم هذا أض رب لكم مث اال عن الس يارة ومخترعه ا ه ل ترون ه اخ ترع‬

‫‪127‬‬
‫السيارة فقط‪ ،‬أم أنه اخترع معها الطريق التي تسير عليها‪ ،‬وكل الظ روف ال تي تحي ط‬
‫بها‪ ..‬الشك أنكم تعلمون أن كل مخترع أو ص انع في ال دنيا يقتص ر على بعض أج زاء‬
‫الص نعة‪ ،‬أم ا تفاص يل البيئ ة المحيط ة به ا‪ ،‬فيحت اج إلى خ براء آخ رين‪ ،‬وفي ك ل‬
‫المجاالت‪.‬‬
‫أم ا ص نعة هللا تع الى‪ ،‬فهي في منتهى الكم ال‪ ،‬ول ذلك ت راعي ك ل الظ روف‬
‫والبيئات التي تتواجد فيها‪ ..‬وقد كان هذا أول ما أثار في التس اؤالت الداعي ة للبحث في‬
‫الحقائق اإليمانية‪.‬‬
‫وقد بدأ ذلك برحلة علمية قمت به ا إلى الص حراء(‪ )1‬حيث الح ر القائ ظ نه اراً‪،‬‬
‫وال برد الق ارس ليالً‪ ،‬والجف اف المس تمر ألس ابيع‪ ،‬ب ل لش هور عدي دة‪ ..‬فك ل ه ذه‬
‫الخصائص تميّز الحياة في البيئة الصحراوية‪.‬‬
‫لكن رغم ه ذه الظ روف ال تي تب دو ص عبة للغاي ة‪ ،‬وج دت الكث ير من أن واع‬
‫الكائنات الحية تستطيع أن تعيش في هذه البيئة‪ ،‬وبكل يسر وسهولة‪ ..‬وه ذا مم ا مألني‬
‫بالعجب‪.‬‬
‫قلت حينه ا لمرش دي‪ ،‬وه و من س كان تل ك الص حراء ال تي ذهبت إليه ا‪ :‬كي ف‬
‫تستطيع هذه الحيوانات أن تعيش في هذا الجحيم الذي ال يطاق؟‬
‫ابتسم‪ ،‬وقال‪ :‬ال تقلق عليها‪ ..‬فقد خلق هللا لها من الخصائص الجسمية ما تستطيع‬
‫به العيش في هذه البيئة القاسية‪.‬‬
‫قلت له مختبرا‪ :‬دعنا من الحديث عن هللا‪ ..‬وح دثنا بلغ ة العلم‪ ..‬ف العلم ال يع رف‬
‫إال ما تنتجه المخابر والمعامل‪.‬‬
‫قال مبتسما‪ :‬لقد أجبتك بكال اإلجابتين‪ ..‬فقد أخبرتك بما ذك ره العلم من تزوي دها‬
‫بالخصائص المناسبة التي تيسر عليها التكيف مع البيئة التي تعيش فيه ا‪ ..‬وذك رت ل ك‬
‫أيضا أن تلك الخصائص ال يمكن أن تكون وليدة ذاته ا‪ ،‬وإنم ا ولي دة ط رف خ ارجي‪،‬‬
‫وذلك الطرف خارجي هو ما أطلق عليه أنا وجميع المؤمنين اسم [هللا]‪ ..‬وإن ش ئت أن‬
‫تطلق عليه اسما آخر‪ ،‬فلك ذلك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنا والعلماء نطلق عليه اسم [الصدفة]‬
‫ق ال‪ :‬الص دفة ليس ت طرف ا خارجي ا‪ ..‬ب ل هي ن وع من اله روب من الحقيق ة‪..‬‬
‫والصدفة محكومة باالحتماالت الرياضية‪ ،‬وهي يستحيل أن تنطبق على ه ذه الكائن ات‬
‫الغريبة ال تي تراه ا‪ ..‬ب ل يس تحيل أن تنطب ق على ش يء‪ ..‬ف العبث ال ينتج نظام ا‪ ،‬وال‬
‫صنعة بديعة‪ ..‬بل ال ينتج شيئا‪.‬‬
‫لم أش أ أن أرد علي ه‪ ،‬ألن كنت مقتنع ا بجواب ه‪ ..‬فالص دفة لم تكن إال هروب ا من‬
‫الحقيقة العظمى‪ ..‬التي يدل كل شيء عليها‪.‬‬
‫***‬
‫بعد أن جرى بيني وبينه هذا الحوار سرت معه مسافات هائلة وس ط الص حراء‪،‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الروعة في كل مكان‪ :‬هارون يحيى‪ ،‬ترجمة‪:‬مصطفى الستيتي‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫ومعنا جميع األجهزة والمعدات‪ ..‬وفي الطريق وجدنا األفعى الصّحراوية‪ ،‬وقد بدت لنا‬
‫غريب ة عجيب ة في تل ك الص حراء القاحل ة ال تي تك اد تص بح ن ارا حارق ة‪ ..‬وم ع ذل ك‬
‫رأيناها‪ ،‬وهي تعيش تحت الرمال‪ ،‬بل تدفن نفسها في الرمال بحرك ة تموجي ة جانبي ة‪،‬‬
‫ثم يتحرك ذيلها بسرعة من اليسار إلى اليمين‪ ،‬وسرعان م ا تش مل ه ذه الحرك ة جس م‬
‫األفعى كله حتى تدفن داخل الرمال‪ ،‬وعلى شكل ثالثة الت واءات‪ ..‬وأحيان ا ً ت ترك عين ا ً‬
‫واحدة أو كلتيهما خارج الرمال‪ ،‬حتى تستطيع اصطياد فرائسها‪.‬‬
‫لق د أث ار ذل ك تعج بي‪ ،‬فس ألت المرش د عن األذى ال ذي يمكن أن يلح ق بعي ون‬
‫األفعى بسبب هبوب العواصف الرملي ة‪ ،‬فق ال لي‪ :‬ال تقل ق عليه ا‪ ،‬فق د زود هللا عينه ا‬
‫ب الكثير من المزاي ا ال تي تحميه ا من أذى العواص ف‪ ،‬فهي مغلف ة بطبق ة ش فافة تقيه ا‬
‫أثرها‪.‬‬
‫لم أشأ أن أعلق عليه هذه المرة‪ ،‬فقد علمت أن اسم [هللا] يجري على لسانه بشكل‬
‫اعتيادي‪ ،‬كما يجري اسم [الطبيعة] على لساني‪ ،‬ولم يكن هناك فرق بيني وبين ه س وى‬
‫في كون إلهه عالما قدير خبيرا حيا‪ ،‬وطبيعتي بكماء صماء عمياء ميتة‪.‬‬
‫***‬
‫بعدها سرنا في الصحراء‪ ،‬حيث رأينا الثّعلب الصحراوي ال ذي يُ َع ُّد من أص غر‬
‫أنواع الثعالب‪ ،‬والذي يمتاز باتساع أذنيه إلى درجة كبيرة‪.‬‬
‫وقد سألت صاحبي عنه‪ ،‬وعن س ر أذني ه الكب يرتين‪ ،‬فق ال لي‪ :‬لق د حب ا هللا ه ذا‬
‫النوع من الثعالب بأذنين كبيرتين‪ ،‬ال لتمييز أصوات الفرائس فحسب‪ ،‬بل لضبط درجة‬
‫حرارة الجسم أيضا‪ ..‬فلها كال هذين الدورين المهمين لحياته واستقراره‪.‬‬
‫[الس حلية ذات األن ف المج دافي]‪ ،‬وهي تق وم بتحري ك‬ ‫أكملنا سيرنا‪ ،‬حيث رأينا ّ‬
‫أقدامها وذيلها على الرمال بحركة شبيهة بالرقص‪ ..‬فسألت صاحبي عنها‪ ،‬فذكر لي أن‬
‫غرضها من ذلك هو تبريد أقدامها وذيلها‪..‬‬
‫وهكذا سرنا في الصحراء‪ ،‬وهو يفسر لي كل ما أراه من مش اهد‪ ،‬وي بين لي م ا‬
‫أودع هللا فيه ا من الخص ائص والق وى ال تي ت تيح له ا العيش بس هولة ويس ر‪ ..‬إلى أن‬
‫مررن ا على مجموع ة كب يرة من الجم ال في وس ط الص حراء‪ ..‬فق ال لي من غ ير أن‬
‫أسأله‪ :‬انظر إلى الجم ل‪ ،‬فق د دعان ا ربن ا إلى النظ ر إلي ه‪ ،‬والتأم ل فيم ا أودع في ه من‬
‫ت ﴾ [الغاشية‪]17 :‬‬ ‫لطيف صنعه‪ ..‬لقد قال في ذلك‪﴿ :‬أَفَاَل يَ ْنظُرُونَ إِلَى اإْل ِ بِ ِل َك ْيفَ ُخلِقَ ْ‬
‫قلت‪ ،‬وأنا أبتس م‪ :‬أليس من العجب أن يتح دث اإلل ه ال ذي ت ذكر أن ه ص مم ه ذا‬
‫الكون جميعا‪ ،‬عن هذا المخلوق‪ ..‬فأين يكون الجم ل أم ام المج رات والنج وم العظيم ة‬
‫والثقوب السوداء؟‬
‫ابتس م‪ ،‬وق ال‪ :‬الك ل خل ق هللا‪ ..‬ول ه أن يح دثنا عم ا يش اء‪ ..‬وه و يخاطبن ا نحن‬
‫البشر‪ ،‬كما خاطب غيرنا من المخلوقات‪ ،‬بما يتناسب مع طبيعتنا وبيئاتنا المختلفة‪..‬‬
‫وهللا لم يح دثنا عن الجم ل فق ط‪ ..‬ب ل ح دثنا عن الس موات واألرض والنج وم‬
‫والكواكب والبحار واألنهار والجبال والصحراء‪ ..‬وكل ما يخطر ببالك‪ ،‬وم ا ال يخط ر‬
‫على بالك‪ ..‬حتى البعوض حدثنا هللا عنه‪ ،‬وأمرنا باالعتب ار ب ه‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬إِ َّن هَّللا َ اَل‬

‫‪129‬‬
‫ضةً فَ َما فَوْ قَهَ ا فَأ َ َّما الَّ ِذينَ آ َمنُ وا فَيَ ْعلَ ُم ونَ أَنَّهُ ْال َح ُّ‬
‫ق ِم ْن‬ ‫ب َمثَاًل َما بَعُو َ‬‫يَ ْستَحْ يِي أَ ْن يَضْ ِر َ‬
‫ُضلُّ بِ ِه َكثِيرًا َويَ ْه ِدي بِ ِه َكثِ يرًا‬ ‫َربِّ ِه ْم َوأَ َّما الَّ ِذينَ َكفَرُوا فَيَقُولُونَ َما َذا أَ َرا َد هَّللا ُ بِهَ َذا َمثَاًل ي ِ‬
‫اسقِينَ ﴾ [البقرة‪]26 :‬‬ ‫ضلُّ بِ ِه إِاَّل ْالفَ ِ‬‫َو َما يُ ِ‬
‫ك ان لقراءت ه وق ع خ اص في قل بي‪ ،‬وك ان للمع اني ال تي ش رحها لي من اآلي ة‬
‫تأثيرها الكبير في نفسي‪ ،‬فرحت أقول له جادا ال مازحا‪ :‬ما دام ربك ق د أم رك ب النظر‬
‫إلى الجمال‪ ،‬فال شك أنك قد نفذت أمره‪ ،‬فأخبرني ما الذي رأيته فيها؟‬
‫قال‪ ،‬وق د س ره س ؤالي(‪:)1‬أول م ا يلفت األنظ ار في اإلب ل خصائص ها البين ات‬
‫والشكل الخارجي الذي ال يخلو تكوينه من لط ائف تأخ ذ باأللب اب‪ ،‬فالعين ان محاطت ان‬
‫بطبقتين من األهداب الطوال تقيانهم ا الق ذى والرم ال‪ ..‬أم ا األذن ان فص غيرتان قليلت ا‬
‫البروز‪ ،‬فضالً عن أن الشعر يكتنفها من كل جانب‪ ،‬ليقيها الرمال التي تذروها الرياح‪،‬‬
‫ولهما القدرة عن االنثناء خلفا ً وااللتصاق بالرأس إذا ما هبت العواص ف الرملي ة‪ ..‬أم ا‬
‫المنخران‪ ،‬فيتخذات شكل شقين ض يقين مح اطين بالش عر وحافتهم ا لحمي ة‪ ،‬فيس تطيع‬
‫الجمل أن يغلقهما دون ما ق د تحمل ه الري اح إلى رئتي ه من دق ائق الرم ال‪ ..‬أم ا ذيل ه ‪،‬‬
‫فيحمل على جانبيه شعراً يحمى األجزاء الخلفية من حبات الرم ل ال تي تثيره ا الري اح‬
‫السافيات كأنها وابل من طبقات الرصاص‪ ..‬أما قوائم الجمل‪ ،‬فهي طويلة لترفع جس مه‬
‫عن كثير مما يثور تحته من غبار‪ ،‬كما أنها تساعده على اتساع الخطو وخفة الحركة‪.‬‬
‫وهكذا تتحصن أقدام الجمل بخف يغلفه جلد قوي غليظ يضم وسادة عريضة لينة‬
‫تتسع عندما يدوس الجمل بها فوق األرض‪ ،‬ومن ثم يس تطيع الس ير ف وق أك ثر الرم ل‬
‫نعوم ة‪ ،‬وه و م ا يص عب على أي ة داب ة س واه‪ ،‬وه ذاما يجعل ه ج ديراً بلقب (س فينة‬
‫الصحراء)‬
‫ومما يناسب ارتف اع ق وائم الجم ل ط ول عنق ه‪ ،‬ح تى يتن اول طعام ه من نب ات‬
‫األرض‪ ،‬كما أنه يستطيع قضم أوراق األشجار المرتفعة حين يصادفها‪ ،‬هذا فضالً عن‬
‫أن هذا العنق الطويل يزيد الرأس ارتفاعا ً عن األق ذاء‪ ،‬ويس اعد الجم ل على النه وض‬
‫باألثقال‪.‬‬
‫لهذه الخصائص وغيرها‪ ،‬وال تي حباه ا هللا لإلب ل‪ ،‬ال ت زال تعت بر في كث ير من‬
‫المناطق القاحلة الوسيلة المثلى الرتياد الصحارى‪ ،‬فقد تقطع قافلة اإلب ل بم ا عليه ا من‬
‫زاد ومتاع نحوا من خمسين أو ستين كيلومترا في اليوم الواحد‪ ،‬ولم تس تطع الس يارات‬
‫بعد منافسة الجمل في ارتياد المناطق الصحراوية الوعرة غير المعبدة‪.‬‬
‫وحين يبرك الجمل للراحة أو يناخ ليعد للرحيل يعتمد جس مه الثقي ل على وس ائد‬
‫من جلد قوي سميك على مفاصل أرجله‪ ،‬ويرتكز بمعظم ثقله على كلكله‪ ،‬ح تى أن ه ل و‬
‫جثم به فوق حيوان أو إنسان طحنه طحناً‪.‬‬
‫وهذه الوسائد إحدى معجزات الخالق ال تي أنعم به ا على ه ذا الحي وان العجيب‪،‬‬
‫حيث أنها تهيئه ألن يبرك فوق الرمل الخشنة الش ديدة الح رارة ال تي كث يراً م ا ال يج د‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬كتاب رحيق العلم واإليمان‪ ،‬الدكتور أحمد فؤاد باشا‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫الجمل سواها مفترشا ً له‪ ،‬فال يبالي بها وال يصيبه منها أذى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأنت ترى بأن هللا أعد اإلبل إعدادا من أجل مهام السفر الصعبة!؟‬
‫ق ال‪ :‬ليس ذل ك فق ط‪ ..‬أو ب األحرى ذل ك م ا يمكن أن يع رف ب النظر البس يط‬
‫القاصر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل هناك نظر آخر أعمق وأطول؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬هناك أشياء تحتاج إلى نظر أعمق‪ ،‬أو بأجهزة تعين البصر القاصر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثني عن بعض ما دل عليه النظر األعمق‪.‬‬
‫قال‪ :‬منها أن الجمل يحاف ظ على مياه ه بق در اإلمك ان‪ ،‬ألن ه في ص حراء قليل ة‬
‫المي اه‪ ،‬فل ذلك ال ت راه يتنفس من فم ه‪ ،‬وال يلهث أب داً مهم ا اش تد الح ر‪ ،‬أو اس تبد ب ه‬
‫العطش‪ ،‬وهو بذلك يتجنب تبخر الماء من هذا السبيل‪ ..‬وهو ال يفرز إال مق دار ض ئيالً‬
‫من العرق عند الضرورة القصوى بفض ل ق درة جس مه على التكي ف م ع المعيش ة في‬
‫ظروف الصحراء التي تتغير فيه ا درج ة الح ارة بين اللي ل والنه ار‪ ،‬ويس تطيع جه از‬
‫ضبط الحرارة في جسم الجمل أن يجعل مدى تفاوت الحرارة نحو سبع درج ات كامل ة‬
‫دون ضرر‪ ،‬وال يضطر الجمل إلى العرق إال إذا تجاوزت حرارة جس مه ‪41‬م ويك ون‬
‫هذا في فترة قصيرة من النهار‪ ،‬أما في المس اء ف إن الجم ل يتخلص من الح رارة ال تي‬
‫اختزنها عن طريق اإلشعاع إلى هواء الليل البارد دون أن يفقد قطرة ماء‪ ،‬وهذه اآللي ة‬
‫وحدها توفر للجمل خمسة ألتار كاملة من الماء‪.‬‬
‫و هناك أمر آخ ر يس تحق ال ذكر‪ ،‬وه و أن الجس م يكتس ب الح رارة من الوس ط‬
‫المحيط به بقدر الفرق بين درجة حرارته ودرجة ذلك الوسط‪ ،‬ولو لم يكن جهاز ض بط‬
‫حرارة جسم الجمل ذكيا ً ومرنا بق درة الخ الق اللطي ف لك ان الف رق بين درج ة ح رارة‬
‫الجم ل ودرج ة ح رارة هج ير الظه يرة فرق ا ً كب يراً يجع ل الجم ل إلى ‪41‬م في نه ار‬
‫الصحراء الحارق يصبح هذا الفرق ضئيالً وتقل تبعا ً لذلك كمية الحرارة التي يمتص ها‬
‫الجسم‪ ،‬وهذا يعني ان الجمل الظمآن يكون أقدر على تحمل القي ظ من الجم ل الري ان ‪،‬‬
‫فسبحان هللا العليم بخلقه‪.‬‬
‫قاطعته قائال‪ :‬فكل هذا من الخصائص التي وف رت له ذا الحي وان ليك ون مركب ا‬
‫صالحا في الصحراء القاحلة‪.‬‬
‫قال‪ :‬هذا بعض ما تمكن العلم من معرفته‪ ..‬وهن اك الكث ير مم ا ال ي زال في طي‬
‫الغيب‪.‬‬
‫***‬
‫بقيت معه مدة أحدث ه ويح دثني‪ ،‬وق د ح اولت أن أس تعمل ك ل الوس ائل إلقناع ه‬
‫بالصدفة والتطور والطبيعة وكل المصطلحات ال تي حفظناه ا إال أن ه ك ان ي أبى علي‪،‬‬
‫لكنه في األخير أبدى نوع ا من االستس الم المش روط‪ ،‬حيث ق ال لي‪ ،‬ونحن في ج وف‬
‫الصحراء‪ :‬سأقوم بعم ل خط ير‪ ،‬وه و أن أثقب عجالت ه ذه الس يارة‪ ..‬أو أفرغه ا من‬
‫الوقود‪ ..‬وبعد ذلك ن ترك للص دفة أن تعم ل عمله ا في تص ليح العجالت‪ ،‬أو في توف ير‬
‫عجالت بديلة‪ ،‬أو في توفير الوقود الضائع‪ ..‬إن قبلت بهذا فسؤؤمن بالصدفة؟‬

‫‪131‬‬
‫قلت‪ ،‬وقد امتألت بالرعب‪ :‬كيف تقول هذا‪ ..‬أتريد أن تلقي بنا إلى التهلكة؟‬
‫ق ال‪ :‬فلم تطب ق الص دفة على من تش اء‪ ،‬وتنزعه ا ممن تش اء‪ ..‬أت رى أن العق ل‬
‫الحكيم يقول هذا؟‬
‫لم أجد ما أجيبه به‪ ..‬لكني امتألت رعبا مما قاله‪ ،‬حتى أني طلبت من ه أن نع ود‪،‬‬
‫وأنا في غاية الخوف‪ ،‬ألني أعلم أن من ضاع في تلك الصحراء القاحلة لن يعود أبدا‪.‬‬
‫لكن قوله هذا كان له ت أثيره الش ديد على لجم ذل ك الغ رور ال ذي أص ابني طيل ة‬
‫حياتي‪ ،‬حتى أن الهلع صار يصيبني كل م ا س معت كلم ة [الص دفة] إلى أن ج اء ذل ك‬
‫الي وم ال ذي تخلص ت في ه من كبري ائي وعق دي النفس ية‪ ،‬وص حت في ه بمأل ص وتي‬
‫باإليمان‪ ،‬وقد كان أول ما فعلته ه و ذه ابي لتل ك الص حراء‪ ،‬وزي ارتي ل ذلك الص ديق‬
‫العبقري الذي أوصل لي رسائله بكل دقة وهدوء وأدب‪.‬‬
‫برهان التناسق‪:‬‬
‫بعد أن أنهى الرجل الثالث حديثه‪ ،‬قام آخر‪ ،‬وقال‪ :‬بعد أن ح دثكم ص ديقي وأخي‬
‫عن [برهان التكيف]‪ ،‬وكيف خ رج ب ه من ظلم ات الجه ل والغواي ة إلى ن ور اإليم ان‬
‫والهداية‪ ..‬فاسمعوا حديثي عن برهان من ب راهين الص نعة العجيب ة‪ ،‬أطلقت علي ه اس م‬
‫[برهان التناسق]‪ ..‬وهو برهان يدل على هللا من كل الوجوه‪ ،‬وبكل المقدمات‪ ،‬وبجمي ع‬
‫اللغات‪..‬‬
‫فقد كان أول ما شد انتباهي ـ وأن ا ال ذي كنت أم ارس ألوان ا مختلف ة من الفن ون‬
‫ابتداء بالرسم والنحت وانتهاء بالغناء والموسيقى ـ هو ذل ك الجم ال العظيم ال ذي يب دو‬
‫مالزما ً لكل أجزاء الكون‪ ،‬والذي لم يس تطع عقلي أن يهض م كون ه ج اء ص دفة‪ ،‬وعن‬
‫طرق عشوائية ال تدبير وراءها وال تصميم‪.‬‬
‫لقد كان(‪ )1‬جمال السحب‪ ،‬وقوس قزح‪ ،‬والسماء الزرقاء‪ ،‬والبهجة الرائعة ال تي‬
‫تمال نفس الناظر إلى النجوم‪ ،‬وإلى القمر في طلوع ه‪ ،‬والش مس في غروبه ا‪ ،‬وروع ة‬
‫الظه ر الفائق ة‪ ،‬ك ل ذل ك يه ز كي اني ومش اعري ويمألني بتش رب ك ل أل وان الجم ال‬
‫وسحره‪.‬‬
‫وهكذا كنت أتأمل من خالل المجاهر أصغر حي وان‪ ،‬وأدق زه رة‪ ،‬ف أرى كي ف‬
‫تزينها خطوط من الجمال محكمة الصنع‪ ..‬وكنت أرى الخطوط البلورية التي توجد في‬
‫العناصر والمركبات‪ ،‬من ندفة الثلج إلى األشكال األصغر منها‪ ،‬إلى م ا ال نهاي ة‪ ،‬كله ا‬
‫في منتهى الجمال والدقة والتناسق‪.‬‬
‫وهك ذا كنت أرى ك ل ورق ة من األوراق وهي تخت ال في أكم ل ش كل‪ ،‬وأجم ل‬
‫تخطيط‪ ..‬وأرى لكل نبتة صفة فردية‪ ،‬وخطوط فن أص يلة‪ ،‬وبتنظيم ات كامل ة‪ ،‬ووف ق‬
‫تصميمات ص حيحة‪ ،‬وأرى ألوانه ا‪ ،‬وهي موزع ة بش كل م دهش‪ ،‬ومن الن ادر‪ ،‬إن لم‬
‫يكن من المحال‪ ،‬ان تختلط معاً‪.‬‬
‫وهكذا كنت أرى الوادي األخضر‪ ،‬واألشجار الباسقة‪ ،‬والصخور‪ ،‬والجبال التي‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬العلم يدعو لإليمان‪ :‬كريسى موريسون‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫يجل ل قممه ا الثلج‪ ..‬وأرى التت ابع الف اخر ألم واج المحي ط‪ ،‬وتالطمه ا على أرض‬
‫الشاطئ‪ ،‬وتحلي ق الطي ور في الج و‪ .‬س واء ف وق البح ر أو على ط ول الش اطئ أو في‬
‫الغابة مع ألوانها المكيفة‪.‬‬
‫كل ذلك كان يهزني هزا‪ ،‬وأحاول تقليده في اللوحات التي أرس مها‪ ،‬والموس يقى‬
‫ال تي أس جلها‪ ،‬ولك ني لم أكن أوص ل إلى المهتمين بف ني والمعج بين ب ه س وى مق دارا‬
‫ضئيال من ذلك الجمال الذي حبا هللا به الكائنات‪.‬‬
‫***‬
‫وقد كنت مع كل ذلك الجمال الذي أعيشه في ص حبة الكائن ات أت ألم ألم ا ش ديدا‬
‫لألفكار التي تعشش في عقلي‪ ،‬والتي ربيت عليها‪ ،‬وغ ذيت به ا‪ ،‬وال تي تجعل ني أرمي‬
‫كل ذلك الجمال واإلبداع والتنسيق بالعشوائية والصدفة‪ ..‬إلى أن ج اء ذل ك الي وم ال ذي‬
‫التقيت فيه الفنان الحقيقي ال ذي دل ني على ربي‪ ،‬وه داني إلي ه‪ ،‬وبواس طته حللت بينكم‬
‫في هذه الروضة الممتلئة بالبركات‪.‬‬
‫لقد قال لي‪ ،‬بعد أن زار معرضا كنت أقمته في البلدة التي يسكن فيها‪ :‬مرحبا بك‬
‫ضيفا عندنا‪ ..‬واسمح لي أن أذكر لك شيئا س معته عن ك‪ ..‬ولس ت أدري م دى ص حته‪..‬‬
‫وأظن على الغالب أنه غير صحيح‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنا في االستماع‪ ،‬فاذكر ما سمعت‪ ،‬وسأجيبك‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬س معت أن لوحات ك ه ذه ليس ت من تص ميمك‪ ،‬وأن ك لس ت المب دع ال ذي‬
‫أبدعها‪ ،‬وال الفنان الذي أخرجها‪..‬‬
‫قلت‪ ،‬وقد امتألت غيظا‪ :‬من قال هذا‪ ..‬من قال هذا فهو حاسد حاقد‪ ..‬وأنا مس تعد‬
‫ألن أرميه في السجن بسبب هذه الدعوى الممتلئة بالحسد‪.‬‬
‫اجتمع الناس حولنا‪ ،‬عندما سمعوا صراخي‪ ،‬وراحوا يحاولون بك ل الوس ائل أن‬
‫يهدئوني‪ ،‬لكني لم أستطع الهدوء‪ ،‬فقد شعرت أن كرامتي قد ه درت‪ ،‬وأن عرض ي ق د‬
‫استبيح بتلك الدعوى‪ ..‬لذلك أمسكت بتالبيب الرجل الذي حدثني‪ ،‬ورحت أطلب منه أن‬
‫يذكر لي اسم الذي قال له هذا‪.‬‬
‫لكنه قال لي بهدوء‪ ،‬وأمام جميع الحضور‪ :‬سأذكره لك‪ ..‬فدع عنك ثيابي‪..‬‬
‫تركته‪ ،‬فقال بكل هدوء‪ :‬إنها امرأة سمعت أن اس مها [ص دفة]‪ ،‬وبعض هم يطل ق‬
‫عليها [طبيعة]‪ ،‬ولس ت أدري كي ف تس مى في بالدكم‪ ..‬لق د أخ برني بعض هم أنه ا هي‬
‫التي صممت هذه اللوحات‪ ..‬وما كان دورك أنت إال إخراجها ونسبتها إلى نفسك‪.‬‬
‫لم ألتفت في ذلك الحين من فرط غضبي لما ذكره من أسماء‪ ،‬وما يريد بها‪ ..‬ب ل‬
‫رحت أقول للجمع الحاضر‪ :‬هل تعرفون هذه المرأة‪ ..‬أعد لهم ذك ر اس مها‪ ..‬أخ بروني‬
‫أين تسكن‪ ..‬وسأبلغ الشرطة عنها حاال؟‬
‫ض حك الجمي ع‪ ،‬فتعجبت لض حكهم‪ ،‬وزاد غض بي‪ ،‬لكنهم اس تطاعوا ته دئتي‪،‬‬
‫وأخبروني بما أراده الرجل‪ ،‬فتنفست الصعداء‪ ،‬وشعرت حينها بأن ه ق د وج ه لي أك بر‬
‫حجة يمكن أن يوجهها أحد من الناس‪..‬‬
‫***‬

‫‪133‬‬
‫طلبت من بعض أصدقائي عندما انتهى المعرض أن يحضره لي‪ ،‬فقال لي‪ ،‬وق د‬
‫توهم أني أريد به سوءا‪ :‬ال تغضب‪ ،‬فالرجل لم يقصد أن يؤذيك‪ ..‬فأنا أعرفه جيدا‪ ،‬فهو‬
‫فنان مبدع‪ ،‬وهو مثلك تماما يمارس أنواعا مختلفة من الفنون‪ ..‬لكنه أراد فقط أن يمزح‬
‫معك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬الرجل ال يمزح‪ ..‬الرج ل لم يق ل إال الح ق‪ ..‬لق د ق دم لي أعظم هدي ة‪..‬‬
‫وأنا أريد حضوره ليكمل لي ما بدأه‪ ..‬ليخلصني من غفوتي وجه التي‪ ،‬ويعي د إلي ذاتي‬
‫وحقيقتي‪.‬‬
‫تعجب الرجل من هذا الح ديث ال ذي حدثت ه ب ه‪ ،‬وكي ف تح ولت من تل ك الح ال‬
‫الغاضبة إلى هذه الحال الجديدة‪ ،‬ولذلك أسرع يحث الخطى إلي ه‪ ،‬وم ا هي إال س اعات‬
‫قليلة حتى جاء به‪ ،‬فطلبت منه أن يذكر لي سر قوله ذلك‪ ،‬فق ال‪ :‬لق د ك ررت علي ك م ا‬
‫حصل لي في يوم من األيام حين كنت أؤمن بالصدفة والطبيعة‪ ،‬وأنها ملهمة الكون كل‬
‫الجمال الذي يحويه‪..‬‬
‫وق د أرس ل هللا لي حينه ا رجال رآني منبه را أم ام لوح ة طبيعي ة جميل ة‪ ،‬بيعت‬
‫بأثمان غالية جدا‪ ،‬فقال لي‪ ،‬وهو يحاورني(‪ :)1‬أراك مندهشا أمام هذه اللوحة‪ ،‬فاني ا في‬
‫جمالها؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬إنها أثر عظيم؟‬
‫قال‪ :‬لماذا حكمت عليها بذلك؟‬
‫قلت‪ :‬لم ا فيه ا من إب داع في التص وير والتعب ير والج و والظالل والتناس ق‬
‫والتفاعل‪ ..‬إنها بكل ما فيها تثير اإلعجاب في نفس كل من يشاهدها‪.‬‬
‫قال‪ :‬لك الح ق في ذل ك‪ ،‬فهي مث يرة لإلعج اب‪ ..‬فمن أب دعها‪ ..‬أم ت رى األل وان‬
‫تساقطت عليها‪ ،‬فتشكلت هكذا صدفة؟‬
‫قلت‪ ،‬وقد امتألت غضبا‪ :‬يس تحيل على ه ذا األث ر الف ني العظيم أن يك ون ولي د‬
‫صدفة عشوائية‪ ..‬إن الذي أبدعها فنان ماهر‪ ..‬يعرف كل لون أين يض عه‪ ..‬وك ل ش كل‬
‫كيف يرسمه‪ ..‬نعم ال أعرفه‪ ..‬ولكني م ع ذل ك م وقن تمام ا أن من رس مها يس تحيل أال‬
‫يكون فنانا ماهرا‪.‬‬
‫قال‪ :‬ما دمت تعتبر من المحال أن تكون هذه اللوح ة خ رجت هك ذا ص دفة‪ ،‬م ع‬
‫كونها لم تفعل سوى أن حاولت تص وير مش هد ط بيعي موج ود‪ ،‬ن راه جميع ا باألبع اد‬
‫الثالثة‪ ..‬ألم يخطر ببالك أن تكون تلك المشاهد هي أيضا ليس ت ولي دة ص دفة‪ ..‬أم أن ك‬
‫تعتبر المقلد مبدعا‪ ،‬والمصمم صدفة؟‬
‫لم أجد بما أجيبه إال أني رحت أراجع حسابات أفكاري‪ ،‬فرحت أصرف بص ري‬
‫عن اللوحة المحدودة الضيقة وأتجول به في أنحاء الكون الواسع‪ ،‬فرأيت مشهدا إبداعيا‬
‫عظيما في الكون لم أكن أراه من قبل‪ ..‬لقد أعمتني األلفة عن النظر إليه‪ ،‬والتأمل فيه‪..‬‬
‫لقد وجدت أن ربنا المبدع العظيم هو الذي جعل فين ا اإلحس اس باإلب داع‪ ،‬وحب‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬هللا جل جالله‪ :‬سعيد حوى‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫الجمال‪ ،‬وتذوقه‪ ،‬لننتقل بمداركنا من لوحات الوجود‪ ،‬وحجب السماوات واألرض‪ ،‬إلى‬
‫رب الوجود ورب السموات واألرض‪ ..‬كما ننتقل من التع رف على جم ال اللوح ة إلى‬
‫جمال روح الفنان الذي أبدعها‪.‬‬
‫لقد قال لي صاحبي هذا بعد أن رآني متأمال ما يقول‪ :‬ال يفوتنك يا صاح أن ترى‬
‫اإلبداع‪ ،‬وال تعرف المبدع‪ ،‬أو تلمس اإلحسان‪ ،‬وتنسى المحسن‪ ،‬أو تعشق الجم ال وال‬
‫يمتلئ قلبك بحب خالق الجمال‪.‬‬
‫***‬
‫ما قال لي هذا حتى شعرت بأنوار اإليمان تتغلغل إلى روحي وقلبي وعقلي وكل‬
‫لطائفي‪ ..‬وقد سرت معه في ذلك المساء نحو بعض الحدائق الغناء‪ ،‬وقد رأيت فيه ا من‬
‫اللوحات والرسوم ما لم أكن أراه‪ ..‬وكان أجمل ما شدني فيها هو ذل ك التوقي ع الرب اني‬
‫الذي يحمله كل لون من ألوانها‪ ،‬وشكل من أشكالها‪.‬‬
‫برهان التكامل‪:‬‬
‫بعد أن أنهى الرجل الثالث حديثه‪ ،‬قام آخر‪ ،‬وقال‪ :‬بعد أن ح دثكم ص ديقي وأخي‬
‫عن [برهان التناسق]‪ ،‬وكيف خرج ب ه من ظلم ات الجه ل والغواي ة إلى ن ور اإليم ان‬
‫والهداي ة‪ ..‬فاس معوا ح ديثي ال ذي ال يق ل عن ه عجب ا‪ ..‬وه و عن بره ان من ب راهين‬
‫الصنعة العجيبة‪ ،‬أطلقت عليه اسم [برهان التكامل]‪ ..‬وهو برهان يدل على هللا من ك ل‬
‫الوجوه‪ ،‬وبكل المقدمات‪ ،‬وبجميع اللغات‪..‬‬
‫فاهلل تعالى كما أعطى كل شيء خلقه وهداه وأبدعه وزين ه بجمي ع أن واع الزين ة‬
‫وفر له كذلك من أبناء جنسه أو غيرهم م ا يتكام ل بهم‪ ،‬وي ؤدي دوره ووظائف ه معهم‪،‬‬
‫وهذا ما تفتقر إليه جميع الصناعات البشرية‪.‬‬
‫وقد كان التفكير هذا ه و بداي ة رحل تي إلى هللا‪ ،‬وخ روجي من الجه ل والغواي ة‬
‫التي ربيت عليها بين مدارس قومي‪ ،‬والتي جعلتني أرى كل شيء عبثا ال معنى ل ه إال‬
‫المعنى الذي تحمله المواد التي يتركب منها‪.‬‬
‫لقد رأيت(‪ )1‬أن رحيق أزهار بعض النباتات يوجد في جوفه ا العمي ق‪ ،‬وق د ب دا‬
‫لي ذلك في البداية أمرا سلبيا ال مع نى ل ه‪ ..‬فالحش رات والطّي ور ال تس تطيع الوص ول‬
‫إليه‪ ،‬ولذلك يكون انتشاره غير ممكن‪ ،‬وينتج عن ذلك ـ كما توهمت ـ استحالة إخصاب‬
‫الزهرة‪ ..‬لكني وجدت بعد ذلك أن هناك من الكائنا الحية من يستطيع أن يصل إلى ذل ك‬
‫الرحيق القابع في جوف الزهرة‪ ..‬وكأن هللا خص تلك الكائن ات ب ذلك الرحي ق ح تى ال‬
‫تنافسها فيه الكائنات الحية األخرى‪ ،‬والتي تجد غذاءها في أزهار أخرى كثيرة‪.‬‬
‫ّ‬
‫العث‪ ..‬فش جرة الثري ا‬ ‫وهكذا وج دت تالؤم ا مدهش ا بين ش جرة الثري ا وحش رة‬
‫يكون سطحها الخارجي مغطى ب أوراق كب يرة تش به الش ارات المعلق ة على الص دور‪،‬‬
‫وفي مركز هذه البقع ة الورقي ة توج د س اق رفيع ة تحم ل أزه ارا تش به ل ون القش دة‪..‬‬
‫وتتميز بكون حبوب اللق اح فيه ا تك ون في أج زاء منحني ة‪ ،‬وله ذا الس بب اليمكن ألي‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الروعة في كل مكان‪ :‬هارون يحيى‪ ،‬ترجمة‪:‬مصطفى الستيتي‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫حشرة أن تجمع هذه الحبوب إال إذا كانت ذات فم يستطيع االنحناء بسهولة مث ل حش رة‬
‫ّ‬
‫العث‪.‬‬
‫وله ذا ن رى ه ذه الحش رة تق وم بتجمي ع ه ذه الحب وب وجعله ا مك ورة‪ ،‬ومن ثم‬
‫تحملها إلى شجرة ثريا أخرى‪ ،‬وفي مرحلة أولى ت نزل ه ذه الحش رة إلى ق اع الزه رة‬
‫كي تضع بيضها‪ ،‬ثم تصعد إلى حافة الزهرة‪ ،‬وتقوم بضرب ما جلبته من حبوب اللقاح‬
‫المجمعة بشكل كرات على حافة الزهرة كي تتساقط حبوب اللقاح نحو األسفل‪.‬‬
‫فهذه الحشرة بعمله ا ه ذا ت وفر م ادة غذائي ة الزم ة لليرق ات ال تي س تخرج من‬
‫ال بيض فيم ا بع د‪ ،‬وهي أيض ا تس اعد على إخص اب الزه رة‪ ،‬ألن أش جار الثري ا ال‬
‫تستطيع أن تخصب أزهارها إال بتلك الواسطة‪.‬‬
‫وهكذا وجدت أن ثمة ترابط ا عجيب ا بين إخص اب زه رة الثري ا وتغذي ة حش رة‬
‫العث‪ ،‬ووجدت أن هذا الترابط الوثيق لم يحدث بإرادة الثريا‪ ،‬وال بإرادة حش رة العث‪..‬‬
‫فرحت أبحث عن سر ذلك الترابط ومن وضعه‪ ..‬وكيف تكاملت المصلحتان؟‬
‫وق د وج دت في خالل بح ثي أن ه ال يمكن لنبت ة أو حش رة أن تط ور أس لوبا م ا‬
‫اعتمادا على احتياجات كائن آخر‪ ،‬وال يمكن لهما أن يكونا على علم بهذه االحتياج ات؛‬
‫ألن ه ذه الكائن ات الحي ة غ ير عاقل ة وغ ير مدرك ة‪ ،‬وال يمكن أن تنق ل م ا تتبع ه من‬
‫أسلوب حياتي إلى كائن حي آخر‪.‬‬
‫فعرفت أن هذا الترابط الوثيق‪ ،‬أو االنسجام الخارق الموجود بين الكائنات الحية‬
‫مصدره أمر خارج عنها‪ ،‬وأن هناك قوة غيبية هي التي جعلت كل واحد منهم ا لآلخ ر‬
‫في نفس حاجته إليه‪.‬‬
‫***‬
‫أخذت هذه التساؤالت التي أثارت اهتمامي إلى ص ديق ق ديم لي‪ ،‬ك ان زميال في‬
‫الدراسة‪ ،‬وكنت أراه كثير المناقش ة لألس اتذة ح ول القض ايا العلمي ة ال تي يطرحونه ا‪،‬‬
‫وكان دائما يغلبهم في الحوار‪ ،‬فال يكادون يستطيعون إجابت ه‪ ،‬فيتحاش ونه‪ ،‬ويس خرون‬
‫منه‪.‬‬
‫وقد تذكرته في ذلك اليوم‪ ،‬فرحت إليه عساني أجد عن ده من العلم م ا توق ف في ه‬
‫عقلي‪ ..‬وما إن بادرته بذلك‪ ،‬ح تى ق ال لي(‪ :)1‬ه ل يمكن للزه رة أن تع رف م ا تري ده‬
‫الحشرة؟ وهل يمكن لها أن تخطط إليقاع الحشرة في حبائله ا‪ ،‬وأن تق وم بتغي يرات في‬
‫بنيتها للوصول إلى ذلك الهدف؟‬
‫قلت‪ :‬من المستحيل طبعا أن تقوم زهرة ما أو حش رة م ا بإدخ ال تغي يرات على‬
‫شكلها بمحض إرادتها‪ ..‬فالزهرة أضعف من أن تفعل ذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬لكنا لو ألقينا نظرة على ما يحدث في العالم الذي نعيش ه ن رى أمثل ة عدي دة‬
‫على هذه التغييرات‪ ،‬أو باألحرى على هذه األساليب‪ ..‬من األمثل ة على ذل ك األس لوب‬
‫الذي تتبعه نبتة [أوركيدة الكوريانثيس] في جذب الحشرات كوس يلة للتك اثر‪ ..‬حيث أن‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الروعة في كل مكان‪ :‬هارون يحيى‪ ،‬ترجمة‪:‬مصطفى الستيتي‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫تكاثر هذا النبات يعتمد على تحميل حبوب اللقاح على أجسام الحش رات‪ ..‬وأزه ار ه ذا‬
‫النبات تكون على شكل باقات متجمعة‪ ،‬وأمام كل زهرة توجد وريقتان على شكل جناح‬
‫مقعر‪ ،‬وخلف كل وريقة توجد وريقة أخرى صغيرة مقع رة‪ ،‬وعن د تفتح ه ذه األزه ار‬
‫يسيل إفراز خاص نحو الحافة الس فلى له ذه الوريق ات‪ ..‬وبع د م دة تتخ ذ الزه رة لون ا‬
‫أخضر قاتما‪ ،‬وتفوح منها كذلك رائحة جذابة تجلب إليها النحل‪ ،‬ومصدر ه ذه الرائح ة‬
‫هو السائل الذي تم إفرازه عند تفتح الزهرة‪.‬‬
‫وهكذا تبدأ ذكور النحل بالطيران حول الزهرة التي تفوح منها الرائحة الجذاب ة‪،‬‬
‫ثم تحاول هذه الذكور التمسك بحواف الزهرة القائمة ثم تحطّ عليها‪ ،‬وتب دأ ب البحث عن‬
‫مكان في الجزء الرابط بين الزهرة وجذع النبات كي تتمسك ب ه بأرجله ا الخلفي ة‪ ،‬لكن‬
‫هذا الجزء بالذات يمتاز باالنحن اء والملمس ال ّدهني األملس‪ ،‬ول ذلك ف إن ال ذكور ال تي‬
‫تحوم حول الزهرة سرعان ما تسقط داخل تلك الوريقات المقعرة المليئة بالس ائل ال ذي‬
‫تم إفرازه حينما تحاول التمسك بالزهرة‪.‬‬
‫وهكذا ال يجد النحل الذي يسقط داخل الزه رة مخرج ا إال الج دار األم امي له ا‪،‬‬
‫وهو عبارة عن أنب وب ض يق يفتح إلى الخ ارج‪ ،‬وتك ون حاف ة ه ذا األنب وب بم وازاة‬
‫السائل الدهني الذي يغمر قاع الخلية‪ ..‬ولهذا يضطر النحل إلى السباحة حتى يصل إلى‬
‫الحافة أو المخرج‪ ،‬وأثناء سباحته يمر من تحت األعضاء الذكرية للزهرة والتي تك ون‬
‫مح ّملة بحبوب اللقاح‪ ..‬وهكذا تنجح الحش رة في الخ روج من الزه رة‪ ،‬وتنجح الزه رة‬
‫في إيصال حويصالتها إلى زهرة أخرى‪ ..‬وبذلك يحدث اإلخصاب‪.‬‬
‫التفت إلي‪ ،‬وقال‪ :‬أنت ت رى أن ه ذه العملي ة ليس ت مفي دة في إخص اب الزه رة‬
‫ألن السائل الذي يسبح في ه النّح ل مهم ج دا بالنس بة‬
‫فحسب‪ ،‬بل هي مفيدة للنحل أيضا؛ ّ‬
‫إليه‪ ،‬فهذا السائل يكسب الذكر الرائحة المميزة والتي بواس طتها يس تطيع ج ذب األن ثى‬
‫أثناء فترة التكاثر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن ما ذكرته هو نفس ما اكتشفته‪ ..‬فما تفسير ذلك؟‬
‫قال‪ :‬ال يمكن تفسير ذلك بأي نظرية من النظريات المادي ة ال تي درس ناها‪ ..‬فمن‬
‫المستحيل للزهرة أن تط ور أي أس لوب لخ داع أي حش رة أو ج ذبها بمحض إرادته ا‪،‬‬
‫ومن المستحيل ألي حشرة أن تطور أي أسلوب للحصول على أي مادة ض رورية له ا‬
‫من أي زهرة وبمحض إرادتها؟‬
‫قلت‪ :‬فما التفسير الذي تراه خالفا للنظريات التي درسناها؟‬
‫إن هذا االنسجام بين هذه الكائنات يدل على أن هن اك ق وة خارجي ة له ا من‬ ‫قال‪ّ :‬‬
‫العلم والحكمة واللطف واإلرادة ما يجعلها توف ق بين ه ذه الكائن ات وترب ط بينه ا به ذه‬
‫الروابط التي لم يقصداها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما هي هذه القوة‪ ..‬أال يمكن أن تكون هي اإلله الذي يذكره المتدينون؟‬
‫***‬
‫قال‪ :‬دعنا ال نستعجل‪ ..‬وهلم بنا إلى بعض أس اتذتنا‪ ،‬فلعلن ا نج د عن ده الج واب‪،‬‬
‫فهو أكثر منا سنا‪ ،‬وأطول منا خبرة‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫ثم سمى لي األستاذ‪ ،‬وهو [أنتوني فلو]‪ ..‬وقد عجبت ألن ذلك األس تاذ ه و نفس ه‬
‫الذي كان يثير معه الكثير من النقاش ات‪ ،‬فقلت ل ه‪ :‬أت دري م ا تق ول‪ ..‬إن أنت وني أبع د‬
‫الن اس عن مث ل ه ذه المس ائل‪ ،‬ألم ت ر كي ف ك ان يدرس نا أمث ال ه ذه النظري ات ال تي‬
‫يعتبرها مقدسة‪ ،‬وال يح ق ألح د أن ين اقش فيه ا‪ ..‬ب ل إن ه ك ان يعت بر مج رد مناقش تها‬
‫خروجا من العقل والعلمية وسقوطا في التيه والخرافة‪.‬‬
‫قال‪ :‬كان ذلك كذلك منذ زمن بعيد‪ ..‬أما اآلن فربما يكون ق د تغ ير‪ ..‬لق د الحظت‬
‫عليه إبان تدريسه لنا أنه لم يكن مقتنعا تماما بما يقول‪ ..‬فهلم بنا إليه‪ ،‬ف إن وج دنا عن ده‬
‫الجواب الكافي‪ ،‬اكتفينا به وإال فما أكثر األساتذة والباحثين‪.‬‬
‫ذهبنا إلى بيته الذي كان يعرف صاحبي جيدا‪ ،‬وق د عجبت إذ قي ل لن ا‪ :‬انتظ روه‬
‫حتى ينهي صالته‪.‬‬
‫فقد كنت أتصور أن كل الناس يمكنهم أن يؤمنوا إال أنتوني فلو‪ ،‬فقد كان أش رس‬
‫دعاة اإللحاد‪ ،‬بل ألف أكثر من ثالثين كتابًا تدور حول فكرة اإللحاد‪.‬‬
‫قلت لمن ذكر لنا أنه يصلى‪ :‬أمتأكد أنت مما تقول؟‬
‫قال‪ :‬وكيف ال أكون متأكدا‪ ،‬وأنا حفيده الذي ربيت على يديه‪ ..‬وق د كنت أص لي‬
‫معه‪ ،‬وانتهت صالتنا‪ ،‬لكنه بقي يضيف ما تعود إليها من النوافل؟‬
‫قلت‪ :‬لكنه ألف أكثر من ثالثين كتابًا تدعو إلى اإللحاد؟‬
‫قال‪ :‬وقد ألف أيضا‪ ،‬وقبل فترة قصيرة كتابا نسخ به كل كتبه السابقة‪ ،‬وقد س ماه‬
‫[هنالك إله]‪ ..‬وقد تعرض بسبب ذلك لحمل ة تش هير ض خمة من المواق ع اإللحادي ة في‬
‫العالم‪ ،‬بل أزاحوا عنه كل تلك النياش ين ال تي علقوه ا ل ه بس بب وحي د‪ ،‬وه و اختي اره‬
‫اإليمان‪.‬‬
‫ما هي إال لحظات‪ ،‬حتى قدم [أنتوني]‪ ،‬وحيانا بكل أدب‪ ،‬بل طلب من ا أن ن دخل‬
‫بيته‪ ،‬وقدم لنا الشاي‪ ،‬وعاملنا بكل احترام من غ ير أن يس ألنا عن غرض نا ال ذي جئن ا‬
‫من أجله‪ ..‬وهذا ما لم نكن نعهده منه‪ ،‬فقد كان قاسيا شرسا صعب المعاملة‪.‬‬
‫سألته‪ ،‬وهو يقدم لنا الشاي‪ :‬سمعت أن ك بع د رحلت ك الطويل ة في ع الم اإللح اد‪،‬‬
‫تحولت إلى اإليمان‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل يا بني‪ ..‬لقد من هللا علي بالهداية بعد غفلتي الطويل ة‪ ..‬وبع د ص راعي‬
‫الشديد معه‪ ،‬لكنه لحلمه ورأفته قابلني بجوده ومغفرته‪ّ ،‬‬
‫ومن على قلبي بنور اإليمان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف كان ذلك‪ ..‬ولم كان ذلك؟‬
‫قال‪ :‬أسباب ذلك كث يرة ذكرته ا في كت ابي ال ذي أدع و في ه ك ل من س اهمت في‬
‫تضليلهم إلى اإليمان‪ ..‬ومنها ذلك التعقيد العالي‪ ،‬والمثير للدهشة في شريط الدي آن أي‬
‫في الخلية الحية‪ ،‬فقد رأيته مصمما تعصميما عجيبا لم أشك أبدا أن يكون هن اك ُمص مم‬
‫ذكي وراءه‪.‬‬
‫ومن تل ك األس باب م ا رأيت ه من تع اون عجيب في ع الم الحش رات‪ ،‬وه و م ا‬
‫جعلني أوقن تماما باستحال تفسير ذلك ماديا‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫سأضرب لكما مثال على ذلك بالنحل البناء(‪ ..)1‬والذي يُ َع ُّد من أكثر أنواع النحل‬
‫اهتماما ببن اء الخالي ا‪ ،‬حيث تق وم األن ثى ب البحث عن المك ان المناس ب لبن اء الخلي ة‪،‬‬
‫وعن دما تج ده تش رع في تنظيف ه مباش رة‪ ..‬وبم ا أن بن اء الخلي ة يحت اج إلى كمي ة من‬
‫الطين‪ ،‬فلهذا تلجأ إلى تراب ناعم‪ ،‬وتخلطه بإفراز خ اص لتحول ه إلى طين مالئم لبن اء‬
‫الخلية‪ ،‬ثم تب دأ بالبن اء بالتق اط كمي ة من الطين بواس طة فكه ا ال ذي تس تخدمه كوس يلة‬
‫للحفر في الطين‪ ،‬ومن ث ّم تحركه بأقدامها ليصبح على هيئة كرة‪ ،‬ومع إضافة جزء بعد‬
‫آخر تبدو النّحلة وكأنها تعد قالبا للبناء‪ ،‬ثم تمس ك األن ثى به ذه الكتل ة الطيني ة بواس طة‬
‫الفك السفلي لتعود بها إلى المكان المعد لبناء الخلية‪.‬‬
‫وعندما تعود إلى المكان المع ّد لبناء الخلية ال تبدأ بالعمل بص ورة عش وائية‪ ،‬ب ل‬
‫تباشر العمل وفق خطة معينة مرسومة لبناء الخلية‪ ،‬وهي تقترب في شكلها من النّف ق‪،‬‬
‫ووفقا لهذه الخطة‪ ،‬تستخدم الكرة الطينية التي أع دتها مس بقا لبن اء الج زء الخلفي ألول‬
‫غرفة في الخلية ذات الطرف المسدود‪ ،‬وتستمر شيئا فشيئا في تكملة بن اء ه ذه الغرف ة‬
‫عن طريق جلب كميات أخرى من الطين‪.‬‬
‫وعند اكتمال البناء تبدأ بجلب الغذاء لتخزينه في هذا الجزء من الخلية‪ ،‬وأوّل م ا‬
‫تق وم بتخزين ه ه و حب وب اللق اح ال تي جمعته ا‪ ،‬وتخزنه ا في ه ذا الج زء الخلفي من‬
‫الخلية‪ ،‬وبعد ك ّل عملية تخزين تقوم بإفراز العسل على كل طبقة من حبوب اللقاح التي‬
‫جمعتها في رحلة سابقة‪ ،‬وبهذا ال ّشكل تك ون ق د أنهت تحض يراتها األولي ة قب ل وض ع‬
‫البيض‪.‬‬
‫وبعد أن تنتهي من تخزين حبوب اللقاح تبدأ على الفور بوضع ال بيض‪ ،‬ثم تع ود‬
‫إلى إكمال البناء انطالقا من األماكن التي توقفت فيها ووضعت عليها إشارات معينة‪.‬‬
‫وهكذا تستمر في بناء الخلية جزءا بعد جزء بعد أن تض ع ال بيض في ك ل ج زء‬
‫يتم بناؤه‪ ،‬وبذلك تأخذ هذه األقسام المبنية شكال متسلس ال ومتعاقب ا‪ ،‬ويص بح ك ل ج زء‬
‫في الخلية يحتوي على بيضة مع جزء من حبوب اللّقاح التي تم خزنها للغذاء‪ ..‬ويفصل‬
‫كل جزء عن اآلخر بجدار طيني‪.‬‬
‫وبعد أن تنتهي من بناء آخر جزء في الخلية وغلق ه ت ترك فراغ ا مح ددا وتس دهّ‬
‫بمسد محدد أيضا‪ ،‬وهذا المس ّد يمنع الغرب اء من بن اء األعش اش أم ام الخلي ة‪ ،‬وبالت الي‬
‫يكون بإمكان اليرقات الخروج إلى العالم الخارجي‪.‬‬
‫التفت إلينا‪ ،‬وقال‪ :‬لقد اتضح لنا من خالل ك ّل خطوة من الخطوات ال تي يقطعه ا‬
‫النحل البناء إلنشاء خليته أن هناك سلوكا عاقال ومدركا لما يفعل‪.‬‬
‫وق د س معت وأن ا في ف رط دهش تي من ذل ك األس لوب العجيب لتل ك الحش رة‬
‫﴿وأَوْ َحى َربُّكَ إِلَى النَّحْ ِل أَ ِن اتَّ ِخ ِذي ِمنَ ْال ِجبَ ا ِل بُيُوتً ا‬ ‫البسيطة مسلما يقرأ قوله تع الى‪َ :‬‬
‫ك ُذلُاًل‬
‫اس ل ِكي ُس ب َُل َربِّ ِ‬‫ُ‬ ‫تف ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ْر ُش ونَ (‪ )68‬ث َّم كلِي ِم ْن ك لِّ الث َم َرا ِ‬ ‫َو ِمنَ َّ‬
‫الش َج ِر َو ِم َّما يَع ِ‬
‫ف أَ ْل َوانُهُ فِي ِه ِشفَا ٌء لِلنَّ ِ‬
‫اس إِ َّن فِي َذلِكَ آَل يَ ةً لِقَ وْ ٍم يَتَفَ َّكرُونَ‬ ‫يَ ْخ ُر ُج ِم ْن بُطُونِهَا َش َرابٌ ُم ْختَلِ ٌ‬

‫‪ )( 1‬الكالم المذكور هنا ليس من أبحاث أنتوني فلو‪ ،‬وإنما هو من كتاب‪ :‬الروعة في كل مكان‪ :‬هارون يحيى‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫(‪[ ﴾)69‬النحل‪]69 ،68 :‬‬
‫وقد هزتني اآلية هزا‪ ،‬فرحت أطلب من القارئ أن يعيدها علي‪ ،‬فرحت أتأمله ا‪،‬‬
‫وأتأمل الطلب األخير الذي ورد فيها‪ ،‬والذي يحث على التفكير‪ ..‬فال يكتش ف آي ات هللا‬
‫في خلقه إال المفكرون‪.‬‬
‫وبعد عمليات تفكير طويلة ومعقدة اكتشفت فيها أن هذه الكائنات أض عف من أن‬
‫تقوم بما تقوم به من دون إلهام إلهي‪ ،‬وتوجيه رباني‪ ..‬وك ان ذل ك مقدم ة إيم اني ال ذي‬
‫سرت فيه إلى النهاية التي رأيتموها‪.‬‬
‫***‬
‫لست أدري كيف تركناه من غير أن نخبره خبرن ا‪ ،‬وال س بب مجيئن ا إلي ه‪ ،‬لكن ا‬
‫آثرنا أال نخبره في ذلك الحين‪ ،‬فلم يكن الوقت مناس با‪ ،‬وفي طريقن ا إلى منازلن ا التقين ا‬
‫صديقا آخر لنا‪ ،‬سألناه عن وجهته‪ ،‬فذكر لنا أنه ذاهب ألس تاذنا [أنت وني فل و]‪ ،‬فس ألناه‬
‫عن س بب ت ذكره ل ه‪ ،‬فق ال‪ :‬لق د كنت أت ابع ش ريطا وثائقي ا عن ع الم النم ل األبيض‪..‬‬
‫الس حاب‪ ..‬وق د جعل ني ذل ك‬ ‫ورأيته كيف يجتمع ويتآلف في جيش واحد ليبني ناطحات ّ‬
‫أتساءل‪ :‬هل يمكن لعمال عميان أن ينشئوا ناطحات سحاب عمالقة مث ل مب نى (إمب اير‬
‫ستايت)؟‬
‫لق د رأيت أن ه ذا مس تحيل بالنس بة لإلنس ان ص احب ال وعي والعق ل‪ ،‬فكي ف‬
‫استطاع النّمل األبيض األعمى أن يشيّد مثل هذه األبنية طوال حياته؟‬
‫قلنا له‪ :‬لم نفهم ما تعني؟‬
‫قال‪ :‬الشك أنكم ال تعرف ون النم ل األبيض وقدرات ه العجيب ة على بن اء أعش اش‬
‫قوية للغاية ال يستطيع حتى اإلنسان أن يهدمها بسهولة‪ ..‬ليس ذلك فقط‪ ،‬بل إن كل ن وع‬
‫من أنواع النمل األبيض يبني عشه بالشكل الذي يلبي احتياجاته‪ ..‬فهناك نوع يبني عشه‬
‫بالشكل الذي يقيه من الحر القائظ‪ ،‬ونوع آخر يبنيه كي يقيه من األمطار الغزيرة‪ ،‬ومن‬
‫األعشاش ما يبنى في ج وف األش جار‪ ،‬ومنه ا م ا يب نى تحت الترب ة‪ ،‬ومنه ا م ا يب نى‬
‫فوقها‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ذل ك‪ ،‬ف إن ه ذه األعش اش تحت وي على قن وات للتهوي ة ومم رات‬
‫خاصة ومتاهات للتمويه‪ ..‬وفوق ذلك كله‪ ،‬فإن الخاصّية اإلعجازية الملفتة لالنتباه ل دى‬
‫هذا النوع من النّمل هي كونها عمياء تماما‪ ،‬وعلى الرغم من ذلك تستطيع أن تبني هذه‬
‫األعشاش الشبيهة باألبراج العالية‪.‬‬
‫ّ‬
‫وهذا األمر يثير الحيرة طبعا‪ ..‬فالنمل ال يستطيع رؤية القنوات التي ينشئها‪ ،‬وال‬
‫المواد الخام التي يستخدمها في البناء‪ ،‬وال التراب الذي يُ َع ُّد المادة األساس ية في البن اء‪،‬‬
‫وال الغرف التي يشيدها على ارتفاع عال جدا‪.‬‬
‫ولو قارنا بين األعشاش التي يشيدها النمل األبيض واألبنية التي يشيدها اإلنسان‬
‫لكانت النتيجة محيرة للعقول إلى درجة كبيرة‪ ..‬والس تيعاب نتيج ة ه ذه المقارن ة يمكن‬
‫الرجوع إلى ناطحات السحاب (إمباير ستايت) الموجودة في أمريك ا‪ ،‬فارتف اع العم ارة‬

‫‪140‬‬
‫الشاهقة يبلغ ‪ 443‬مترا‪ ،‬أما طول النمل األبيض فيبلغ ‪ 2-1‬سم‪ ..‬وعلى ال رغم من ه ذا‬
‫القصر فإنه يستطيع بناء عشّ يبلغ ارتفاعه سبعة أمتار‪ ..‬ولو كان النمل األبيض بط ول‬
‫اإلنسان العادي الستطاع بناء ناطحة س حاب ارتفاعه ا أربع ة أمث ال (إمب اير س تايت)‪.‬‬
‫وهذا العمل الذي يعجز عنه اإلنسان يقوم بإنجازه النم ل األبيض األعمى من ذ أن وج د‬
‫على وجه البسيطة‪ ،‬أي منذ ماليين السنين‪.‬‬
‫لم نجد ما نقول له أمام هذه المعلومات الخطيرة التي ذكرها لنا إال أن نطلب من ه‬
‫أن نسير جميعا إلى أستاذنا القديم‪ ،‬والذي علمنا اإللحاد في مراحل الدراسة‪ ،‬لنتعلم من ه‬
‫اإليمان بعد تخرجنا‪.‬‬
‫***‬
‫ما أنهى صاحبنا حديثه حتى انتش رت أن وار لطيف ة على تل ك الروض ة الجميل ة‬
‫التي اجتمع فيها كل أولئك العلماء المنورين بنور اإليمان‪ ،‬وقد سرى أريج تلك األن وار‬
‫إلى كل لطائفي‪ ،‬فصرت أرى عظمة هللا‪ ،‬وهي تتجلى بكل بهاء وجمال في ك ل ص نعة‬
‫من مصنوعاته‪.‬‬
‫ورأيتها جميعا تدعونا بلسان حالها ومقالها إلى رحل ة أعظم وأش رف ن رى فيه ا‬
‫الحقائق‪ ،‬ونتصل بها‪ ،‬ونتعايش معها بك ل س عادة‪ ..‬فاهلل م ا أران ا ب ديع ص نعه وجمي ل‬
‫فضله إال لنهتدي إليه‪ ،‬ونطرق بابه‪ ،‬حتى ال نحجب بالصنعة عن الص انع‪ ،‬وبالتص ميم‬
‫عن المصمم‪ ،‬وبالجمال عن الجميل المبدع‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫النظام البديع‬
‫في تلك اللحظات‪ ،‬جاءني رجل على أريكته العجيب ة المتحرك ة‪ ،‬واق ترب م ني‪،‬‬
‫وقال‪ :‬كما أن الصنعة تحتاج إلى صانع‪ ..‬والتصميم إلى مص مم‪ ،‬واإلب داع إلى مب دع‪..‬‬
‫فالنظام ـ ك ذلك ـ يحت اج إلى منظم‪ ..‬فهلم بن ا إلى روض ة [النظ ام الب ديع]‪ ،‬لتس مع من‬
‫رفاقي في اإليمان كيف رحلوا من النظام إلى المنظم‪ ،‬كما رحل أهل ه ذه الروض ة من‬
‫الصنعة إلى الصانع‪.‬‬
‫س رت مع ه بين تل ك الجن ات‪ ،‬كم ا طلب م ني‪ ،‬إلى أن رأيت روض ة جميل ة ال‬
‫تختلف عن سائر الروضات في جمالها وإتقانها‪ ،‬وقد ك ان مم ا أث ار إعج ابي به ا ذل ك‬
‫النظام الذي بدت به‪ ،‬وهو نظام ال يمكن تصويره‪ ،‬وال التعبير عنه‪..‬‬
‫برهان الثبات‪:‬‬
‫ما إن وصلنا‪ ،‬واستقر بنا المجلس في تلك الروض ة البديع ة‪ ،‬وس لمت على ذل ك‬
‫الجمع المنور بنور اإليمان‪ ،‬وسلموا علي‪ ،‬حتى قال أحدهم مخاطبا رسولهم ال ذي ج اء‬
‫بي إليهم‪ :‬فلتبدأ أنت يا صاحب النفس الطاهرة‪ ،‬والعقل الس ليم لتح دثنا عن رحلت ك إلى‬
‫هللا‪ ،‬وكي ف تمت‪ ،‬وكي ف خ رجت من س جون المالح دة وجحيمهم‪ ،‬لتن ال فض ل هللا‬
‫بالدخول إلى روضات جنات المؤمنين؟‬
‫قال‪ :‬ال أزال أذكر تلك األيام جي دا‪ ،‬حينه ا كنت أجم ع بين تخصص ين علم يين‪:‬‬
‫تخصص في العلوم القانونية‪ ،‬وتخص ص في العل وم المادي ة‪ ..‬وق د ك ان من فض ل هللا‬
‫علي الجمع بين ذينك التخصصين‪ ..‬فق د ك ان األول ه و من دع اني لتص حيح أخط ائي‬
‫عن الثاني‪ ..‬وكان الثاني هو ملهمي في تعديل بعض أفكاري في التخصص األول‪.‬‬
‫لقد كان مما شد انتباهي في الكون‪ ،‬كما شد انتباهي في المجتمعات القوانين ال تي‬
‫تحكمها‪ ،‬فق د كنت أرى أن ثب ات الق وانين وحزمه ا ودقته ا هي وح دها الكفيل ة بتنظيم‬
‫المجتمعات ورقيها‪ ،‬وأن تخلفها هو سبب كل المآسي التي تحصل لها‪ ..‬وقد دفع ني إلى‬
‫ذل ك م ا كنت أراه في المجتمع ات المتخلف ة من ع دم ال تزام ب القوانين‪ ،‬وتالعب به ا‪،‬‬
‫واحتيال عليها‪.‬‬
‫وقد شاء هللا أن يكون ذلك التفك ير ه و المقدم ة ال تي أركب به ا س فينة اإليم ان‪،‬‬
‫ألجلس فيها معكم هذا المجلس‪..‬‬
‫والبداية كانت مع القوانين الفيزيائية والكيميائية التي بهرتني بثباته ا ال ذي ل واله‬
‫لم يكن الك ون بالص ورة ال تي ه و عليه ا‪ ..‬ب ل ل واله لم تكن هن اك عل وم وال مع ارف‬
‫أصال‪ ،‬فهي جميعا وليدة للثبات الذي بنيت عليه قوانين الكون ونواميسه‪.‬‬
‫من األمثل ة على ذلك(‪ )1‬ق وانين [االنص هار والجم ود] في المع ادن‪ ..‬ف المواد‬
‫الصلبة تتحول إلى حالة سائلة باالنصهار‪ ..‬ولوال هذه الخاص ة لم نتمكن من اس تخراج‬
‫المعادن من مظانها الختالطها بالتربة‪ ..‬وكيف يمكن أن نعيد تش كيلها ل وال انص هارها‬
‫‪ )(1‬موسوعة اإلعجاز العلمي في القرآن والسنة‪ :‬محمد راتب النابلسي‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫وتجمدها‪ ..‬فباالنصهار والتجمد نأخذ المعادن من أعماق األرض‪ ،‬وبهما نشكل المعادن‬
‫كما نريد‪ ..‬وقد جعلني هذا أتساءل عن المقنن الذي وضع لها هذه القوانين‪ ،‬والتي كانت‬
‫سببا في االستفادة منها‪ ،‬ولوال ذلك لم يستفد منها أحد‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك قوانين [التبخر والتكثيف]‪ ،‬فلوال هذان القانون ان لم ت نزل‬
‫األمطار‪ ،‬ولم تتشكل ذلك أن البح ر الملح األج اج‪ ،‬ه و ال ذي يتبخ ر م اؤه بفع ل أش عة‬
‫الشمس ليتشكل منه الماء‪ ،‬فمن الذي قنن قانون ذلك التبخر؟‪ ..‬ومن قنن قانون التك ثيف‬
‫حيث يتحول الماء إلى بخار‪ ،‬والبخار إلى ماء دون أن تعلق المواد الراس بة في الس ائل‬
‫في البخار؟‬
‫مع العلم أنه لوال هذين القانونين‪ ..‬قانون التبخ ر والتك ثيف‪ ..‬لم ا ك انت أمط ار‪،‬‬
‫ولما كانت مياه عذبة نشربها‪ ،‬ونرتوي بها‪.‬‬
‫وهكذا رحت أنظر في ظاهرة الذوبان‪ ..‬فلوال ذوبان أمالح المعادن في الماء لم ا‬
‫أمكن للنبات أن يأخذ كل المعادن من التربة‪ ..‬فك ل أمالح المع ادن ت ذوب في الم اء‪ ،‬ثم‬
‫يصعد الماء مع أمالح المعادن المذاب ة‪ ،‬لتأخ ذ األوراق حاجته ا‪ ..‬ول وال ه ذه الظ اهرة‬
‫والقوانين المرتبطة بها لما ذابت األطعمة على شكل سائل‪ ،‬ولم ا تنق ل ه ذا الس ائل إلى‬
‫الدم‪ ،‬ليتحول إلى الخاليا‪.‬‬
‫***‬
‫حملت ه ذه األس ئلة‪ ،‬ورحت إلى بعض أص دقائي ال ذين أش ربوا مثلي بش راب‬
‫اإللحاد‪ ،‬فقال لي(‪ :)1‬إن ما ذكرته شد انتب اهي أن ا أيض ا‪ ..‬وق د ت ذكرت م ا قال ه بعض‬
‫أساتذتنا من أن هناك خصيصية ص غيرة في الم اء‪ ،‬ل و أنه ا فق دت النتهت الحي اة على‬
‫سطح األرض‪ ..‬وأتذكر كيف امتألنا رعبا حين ذكر لنا ذلك‪..‬‬
‫وحين سألناه عنها‪ ،‬قال لنا‪ :‬إن الماء إذا بردته ينكمش‪ ،‬شأنه في ذل ك كش أن ك ل‬
‫العناصر التي على وجه األرض من الغازات‪ ،‬والسوائل‪ ،‬واألجس ام الص لبة‪ ،‬حيث إن‬
‫ك ل العناص ر تتم دد ب الحرارة‪ ،‬وتنكمش ب البرودة‪ ،‬والم اء منه ا‪ ،‬ف إذا أردت أن ت برد‬
‫الم اء‪ ،‬وك ان في درج ة الغلي ان وراقبت حجم ه ب أجهزة حساس ة فإن ه ينكمش‪ ،‬ف إذا‬
‫انخفض ت الدرج ة إلى زائ د أرب ع درج ات؛ عندئ ذ تنعكس القاع دة‪ ،‬ف يزداد حجم ه‬
‫ويتمدد‪ ..‬وهذا عجيب ج دا‪ ..‬يمكنكم أن ت روه ب أعينكم‪ ..‬يمكنكم أن تض عوا في الثالج ة‬
‫ماء في وعاء‪ ،‬وراقبوا حجمه‪ ،‬فسترونه بعد التجمد يزداد حجمه‪ ،‬فإذا كان في ق ارورة‬
‫تنكسر‪.‬‬
‫وحين سألناه عن عالقة هذه الخاص ية بحي اة اإلنس ان‪ ،‬ق ال لن ا‪ :‬ل و أن الم اء إذا‬
‫تجمد انكمش‪ ،‬أي قل حجمه‪ ،‬فزادت كثافته‪ ،‬فغاص في أعماق البحار‪ ،‬فإنه سيأتي ي وم‬
‫تصبح جميع البحار فيه متجمدة من سطحها إلى أعماقها‪ ..‬ف إذا تجم دت انع دم التبخ ر‪،‬‬
‫وإذا انعدم التبخر انعدمت األمطار‪ ،‬فماتت النباتات‪ ،‬وم ات الحي وان‪ ،‬وم ات اإلنس ان‪،‬‬
‫فلو أن الماء شأنه في التمدد واالنكماش كشأن جميع العناصر‪ ،‬لك انت الحي اة ق د انتهت‬

‫‪ )(1‬موسوعة اإلعجاز العلمي في القرآن والسنة‪ :‬محمد راتب النابلسي‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫من ذ ماليين الس نين‪ ،‬ولكن ازدي اد حجم الم اء‪ ،‬وتم دده في ه ذه الدرج ة الحرج ة‪ ،‬في‬
‫درجة زائد أربع‪ ،‬هذه الخصيصة التي أودعها هللا فيه هي ال تي تجع ل الحي اة مس تمرة‬
‫على وجه األرض‪ ،‬فإذا تجم دت المحيط ات ك ان ه ذا التجم د باعث ا على ازدي اد حجم‬
‫الماء‪ ،‬وإذا ازداد حجمه قلت كثافته‪ ،‬وإذا قلت كثافته طفا على وجه الماء‪ ،‬فل ذلك ن رى‬
‫في المحيطات المتجمدة في القطبين التجمد في الطبقة السطحية‪ ،‬وأما في أعماق البح ر‬
‫فالمياه سائلة تسبح فيها الكائنات الحية مثلها مثلما في غيرها من البحار‪.‬‬
‫***‬
‫التفت إلي صديقي‪ ،‬وقال‪ :‬أتذكر جيدا أنني سألت حينها أستاذي عن واض ع ه ذا‬
‫القانون الذي حمى األرض من أن تنعدم فيها الحياة‪ ،‬وكيف خص الماء دون غيره ب ه‪..‬‬
‫فأجابني األستاذ بكل برودة‪ :‬إنها الطبيعة؟‬
‫فسألته‪ :‬كيف تعمل الطبيعة؟‬
‫فقال‪ :‬الطبيعة هي ذلك القانون‪ ..‬فالقوانين هي الطبيعة‪ ..‬والطبيعة هي القوانين‪.‬‬
‫فقلت له‪ :‬الذي أعلمه أن القانون يحتاج إلى مقنن‪ ..‬والنظام إلى منظم‪.‬‬
‫فقال لي بك ل ب رودة‪ :‬إال ق وانين الطبيع ة‪ ..‬فهي وح دها ال تي ال تحت اج إلى ك ل‬
‫ذلك‪.‬‬
‫طبع ا لم أقتن ع بمقولت ه‪ ..‬ورحت أبحث وأبحث إلى أن أيقنت أن ك ل م ا قال ه‬
‫األستاذ لنا في ذلك الحين كان نوعا من الهروب من الحقيقة‪..‬‬
‫التفت إلي‪ ،‬وق ال‪ :‬ه ذه هي رؤي تي ال تي وص لت إليه ا‪ ،‬وال علي ك أن تتهم ني‬
‫بالخرافة أو ما يتهم به المؤمنون عندكم من اتهامات‪ ..‬فلذلك أقول لك‪ ،‬وبك ل ص راحة‪:‬‬
‫إن هذه الخصيصة التي وجدت في الماء‪ ،‬فجعلته بذلك الش كل لم ت أت مص ادفة‪ ،‬وإنم ا‬
‫أتت من لدن حكيم لطيف خبير عارف بمصالح خلقه‪ ،‬ولذلك خل ق الك ون بم ا يتناس ب‬
‫معهم‪ ..‬ووضع فيه من القوانين ما يتناسب مع مصالحهم‪.‬‬
‫ق ال ذل ك‪ ،‬ثم راح يس ألني عن تخصص ي األول في الق انون إلى الدرج ة ال تي‬
‫ظننت أن ه ق د خ رج من الموض وع‪ ،‬لك ني اكتش فت أن ه راح يس تثمر تخصص ي في ه‬
‫ليقنعني بما ذكره لي‪.‬‬
‫قال لي‪ :‬بحكم خبرتك في القانون وفي تواريخ الق وانين‪ ..‬ه ل رأيت قانون ا يحكم‬
‫أي مجتمع من المجتمعات دون أن تكون هناك جهة ما قامت بتش ريعه‪ ..‬وجه ة أخ رى‬
‫قامت بتنفيذه‪ ..‬وجهة أخرى راحت تراقب الصرامة في ذلك التنفيذ؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬فال يوجد قانون من دون مقنن‪ ..‬وال نظام من دون منظم‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬فكي ف نحكم على ه ذه الق وانين المنظم ة للك ون‪ ،‬وال تي لواله ا لم يكن‬
‫بالصورة التي هو عليها‪ ،‬بأنها صدرت من غير مقنن وال منظم وال مقدر؟‬
‫قلت‪ :‬أساتذتنا يذكرون أنها الطبيعة‪.‬‬
‫ابتسم‪ ،‬وقال‪ :‬م ا دام للطبيع ة ك ل ه ذه الس لطة‪ ،‬فلم لم ت ذهب إلى تل ك الش عوب‬
‫المتخلفة‪ ،‬لتفرض عليها من القوانين ما يخرجها من تخلفها وفوضاها وعبثيتها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬في إمكان تلك الشعوب أن تنظم نفسها بنفسها‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫قال‪ :‬لكنها لم تفعل‪ ..‬فكيف سكتت الطبيعة عنها؟‬
‫قلت‪ :‬أنت تتحدث عن الطبيعة‪ ،‬وكأنها كائن مستقل له قدراته الخاصة‪.‬‬
‫قال‪ :‬وما هي إذن؟‬
‫قلت‪ :‬هي القوانين نفسها‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهل يمكن للقوانين وحدها أن تفع ل ش يئا‪ ..‬وه ل يمكن للق وانين أن تص در‬
‫من غير عاقل وال واع وال مدرك؟‬
‫***‬
‫لم أجد بما أجيبه‪ ..‬وتركت نفسي تسدر في غيها‪ ،‬ورحت ألقي آالف األك وام من‬
‫التجاهل على تلك األسئلة ال تي ك انت تلح علي إلى أن من هللا علي في ي وم من األي ام‪،‬‬
‫وفي زيارة سياحية لي لبعض بالد المسلمين‪ ،‬أن أزيل تلك األكوام‪ ،‬وأكتش ف الحقيق ة‪،‬‬
‫وأذعن لكل متطلباتها‪.‬‬
‫لقد رأيت حينها رجال يخطب في الناس‪ ،‬فرحت أقترب من ه‪ ،‬فس معته يق ول(‪:)1‬‬
‫ض‬‫لقد طلب مني بعضكم أن أفسر له قوله تعالى‪﴿ :‬أَلَ ْم تَ َر أَ َّن هَّللا َ َس َّخ َر لَ ُك ْم َم ا فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ض إِاَّل بِإِ ْذنِ ِه إِ َّن هَّللا َ‬
‫الس َما َء أَ ْن تَقَ َع َعلَى اأْل َرْ ِ‬
‫ك َّ‬ ‫ك تَجْ ِري فِي ْالبَحْ ِر بِ أ َ ْم ِر ِه َويُ ْم ِس ُ‬ ‫َو ْالفُ ْل َ‬
‫ت‬ ‫وف َر ِحي ٌم ﴾ [الحج‪ ،]65 :‬وقوله‪﴿ :‬أَلَ ْم تَ َر أَ َّن ْالفُ ْلكَ تَجْ ِري فِي ْالبَحْ ِر بِنِ ْع َم ِ‬ ‫اس لَ َر ُء ٌ‬ ‫بِالنَّ ِ‬
‫ور ﴾ [لقم ان‪ ،]31 :‬وس ألني عن‬ ‫َّار َش ُك ٍ‬ ‫صب ٍ‬ ‫ت لِ ُك ِّل َ‬
‫ك آَل يَا ٍ‬ ‫هَّللا ِ لِي ُِريَ ُك ْم ِم ْن آيَاتِ ِه إِ َّن فِي َذلِ َ‬
‫معنى التسخير في اآلي تين الكريم تين‪ ..‬وس أجيبه على ذل ك‪ ،‬ف أرجو أن تص غوا آذانكم‬
‫لي‪ ،‬وإن كنت أخطأت فقوموني‪.‬‬
‫س كت قليال‪ ،‬ثم ق ال‪ :‬عن دما تض ع الدول ة قانون ا يس مح للرعي ة باالس تفادة من‬
‫مرافق معينة مجانا‪ ..‬أال يمكن للدولة حينها ـ على لسان مسؤوليها ـ أن تق ول للرعي ة‪:‬‬
‫لقد سخرنا كل تلك المرافق لمصلحتكم؟‬
‫قالوا‪ :‬بلى‪ ..‬ذلك صحيح‪.‬‬
‫قال‪ :‬فاعبروا من تلك المرافق البسيطة إلى ما ذك ره هللا تع الى عن البح ر‪ ..‬فاهلل‬
‫تعالى وفر لعباده فيه من القوانين والنظم ما ييسر عليهم استغالله وتسخيره لمصالحهم‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬لوال أن هللا تعالى جعل في المياه [قانون ال دفع نح و األعلى] لم ا أمكن ألي‬
‫سفينة أن تنقل تلك البضائع الثقيلة التي تحملها‪..‬‬
‫قالوا‪ :‬لم نفهم ما تعني‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد جعل هللا بمنه وكرمه البحر وسيلة اتصال بين الق ارات‪ ،‬وجع ل س طحه‬
‫موزع ا بين الق ارات‪ ،‬وح تى يمكن الرب ط بينه ا‪ ،‬فق د جع ل في المي اه قانون ا يس مح‬
‫بالتواصل بين البشر‪ ،‬وبين أهل تلك القارات‪ ،‬ولواله لما أمكن التواصل‪ ..‬وهذا القانون‬
‫هو قانون الدفع‪ ،‬فكل جسم غاطس في الماء يتلقى من األسفل إلى األعلى دفعا عموديا‪،‬‬
‫قائما‪ ،‬مساويا لوزن الماء المزاح المعادل لحجم ذلك الجسم‪ ..‬فلوال هذا القاون لما أمكن‬

‫‪ )(1‬موسوعة اإلعجاز العلمي في القرآن والسنة‪ :‬محمد راتب النابلسي‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫ألحد أن يركب البحر‪ ..‬ولما أمكن لألسماك أن تسبح فيه‪ ..‬ولما وجدت في البحر سمكة‬
‫واحدة‪ ،‬فاألسماك تسبح في البحر ألن وزنها أقل من وزن الماء الذي أزاحته بانغماسها‬
‫في الماء‪ ،‬لذلك تجد السمكة قوة دافعة نحو األعلى‪ ..‬ولوال هذا القانون لما أمكن لس فينة‬
‫أن تمخر عباب البحر‪ ،‬لذلك قال لنا ربنا في كلماته المقدسة‪ ﴿ :‬هَّللا ُ الَّ ِذي َس َّخ َر لَ ُك ُم ْالبَحْ َر‬
‫ك فِي ِه بِأ َ ْم ِر ِه َولِتَ ْبتَ ُغوا ِم ْن فَضْ لِ ِه َولَ َعلَّ ُك ْم تَ ْش ُكرُونَ ﴾ [الجاثية‪]12 :‬‬
‫ي ْالفُ ْل ُ‬
‫لِتَجْ ِر َ‬
‫***‬
‫عندما قال هذا‪ ،‬شعرت بن وع من الح نين له ذا اإلل ه ال ذي تح دث عن ه‪ ،‬ف رحت‬
‫أتقرب منه وأسأله‪ ،‬وقد وجدت عنده الجواب عن جمي ع األس ئلة ال تي ك انت تح يرني‪،‬‬
‫والتي كنت أهرب من اإلجابة عنها‪ ،‬ومن العجيب أنني عند زيارتي لمدرس ته‪ ،‬وج دت‬
‫فيها صديقي الذي حدثتكم عنه‪ ..‬واألغرب من ذلك أني وجدت معه أستاذه الذي حدثني‬
‫عنه‪ ..‬فالكل شملهم نور اإليمان الذي شملني بفضل هللا وهدايته‪.‬‬
‫برهان التدبير‪:‬‬
‫بعد أن أنهى الرجل األول حديثه‪ ،‬قام آخر‪ ،‬وقال‪ :‬بعد أن ح دثكم ص ديقي وأخي‬
‫عن [برهان الثبات]‪ ،‬وكي ف خ رج ب ه من ظلم ات الجه ل والغواي ة إلى ن ور اإليم ان‬
‫والهداي ة‪ ..‬فاس معوا ح ديثي عن بره ان من ب راهين النظ ام الب ديع‪ ،‬أطلقت علي ه اس م‬
‫[برهان التدبير]‪ ..‬وهو برهان يدل على هللا من كل الوجوه‪ ،‬وبك ل المق دمات‪ ،‬وبجمي ع‬
‫اللغات‪ ..‬فاهلل تعالى لم يخلق الكون ويتركه هكذا سدى‪ ،‬وإنما خلق ه ودب ر أم ره‪ ،‬وأم ر‬
‫كل ما يرتبط به‪ ..‬فاهلل هو القادر المدبر‪ ،‬والخالق المصرف‪.‬‬
‫وقد كان دافعي للتأمل في هذا البرهان‪ ،‬والولوج منه إلى هللا هو أنني ـ باإلضافة‬
‫إلى معارفي العلمية التي اكتسبتها من خالل البيئة التي كنت أعيش فيها ـ كنت أم ارس‬
‫وظيفة قيادية في بعض المراكز التي كان لي اإلشراف عليها وإدارته ا‪ ،‬والتحكم فيه ا‪،‬‬
‫وكنت مسؤوال عن كل ما يحص ل‪ ..‬وله ذا كنت أرى م دى المش قة والجه د الش ديد في‬
‫ذلك التدبير البسيط الذي كنت أمارسه‪..‬‬
‫وقد كان ذل ك دافع ا لي للتأم ل في كيفي ة ت دبير ه ذا الك ون العجيب‪ ،‬واس تغرب‬
‫عقلي أيما استغراب أن تكون الصدفة العبثية أو الطبيعة العمياء هي التي تقوم بذلك‪..‬‬
‫كنت حينها اتجه ببص ري إلى جمي ع األش ياء ال تي تحي ط بي‪ ،‬ف أرى ك ل ش يء‬
‫ينط ق بلس ان حال ه على وج ود م دبر حكيم ي دبر ش ؤونه بمنتهى الحكم ة واإلب داع‪،‬‬
‫والقانون والنظام‪.‬‬
‫التقيت حينه ا ب أول دلي ل ي دلني على هللا‪ ،‬وك ان زميال من زمالئي الق دامى في‬
‫الدراسة‪ ،‬كان اسمه [سيسل هامان]‪ ،‬وهو من علماء الحياة الكبار ال ذين ينك رون بش دة‬
‫كل النظريات المادية التي تفسر الكون وحركت ه بعي دا عن هللا‪ ،‬ق ال لي‪ ،‬بع د أن س ألته‬
‫عن سر إنك اره للمادي ة ونظرياتها(‪ :)1‬س ر في طري ق مش مس‪ ،‬وتأم ل ب دائع ت ركيب‬
‫‪ )(1‬هللا يتجلى في عصر العلم ‪ -‬كريسى موريسون‪ ،‬وهو من مقال بعنوان‪ :‬الزه ر وطي ور ب التيمور‪ ،‬كتب ه‪ :‬سيس ل‬
‫هامان‪ ،‬وهو عالم بيولوجي حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة بوردو‪ -‬أستاذ في جامعة كنتاكي وجامعة سانت ل ويز‬
‫سابقا – أستاذ في كلية آسبوري – اخصائي في تقسيم الطفيليات الحيوانية‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫األزهار‪ ،‬واستمع إلى تغريد الطيور‪ ،‬وانظر إلى عجائب األعش اش‪ ،‬فه ل ك ان محض‬
‫مصادفة أن تنتج االزهار ذلك الرحيق الحل و ال ذي يجت ذب الحش رات‪ ،‬فتلقح االزه ار‬
‫وتؤدي إلى زيادة المحصول في العام التالي؟‬
‫وهل ه و محض مص ادفة أن تهب ط حب وب اللق اح الرقيق ة على مبس م الزه رة‪،‬‬
‫فتنبت وتسير في القلم حتى تصل إلى المبيض فيتم التلقيح وتتكون البذور؟‬
‫أليس من المنطق أن نعتقد بأن يد هللا التي ال نراها هي ال تي رتبت ونظمت ه ذه‬
‫األشياء تبعا لقوانين ما زلنا في بداية الطريق نحو معرفتها والكشف عنها؟‬
‫أراني عشا لبعض الطيور‪ ،‬ثم قال لي‪ :‬هذا عش طائر بالتيمور‪ ..‬هل تعرفه؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬فما عالقته بما تحدثني عنه؟‬
‫قال‪ :‬لكل ش يء عالق ة باهلل‪ ..‬وك ل ش يء يمكن أن يك ون دليل ك على هللا‪ ..‬وك ل‬
‫شيء يمكن أن يأخذ بيدك ليدخل بك إلى رحاب هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهذا الطير كيف دخل بك أنت إلى هللا؟‬
‫قال‪ :‬ألم تتساءل من الذي علم هذا الطير ذلك الفن الرفي ع؟ ولم اذا تتش ابه جمي ع‬
‫األعشاش التي تبنيها الطيور من هذا النوع؟‬
‫قلت‪ :‬إن قومنا يذكرون أنها الغريزة‪ ..‬هكذا علمونا في المدارس‪.‬‬
‫قال‪ :‬إن ذلك ليس سوى هروب من السؤال‪ ..‬أو هو ن وع من المخ ارج للس ؤال‪،‬‬
‫ولكنه ليس اإلجابة‪ ..‬أو هو على األقل إجابة قاصرة‪ ..‬فما هي الغرائز؟‬
‫قلت‪ :‬إنهم يذكرون أنها السلوك الذي ال يتعلمه الحيوان‪ ..‬وإنما يوجد فيه هكذا‪.‬‬
‫ضحك‪ ،‬وقال‪ :‬وهل يمكن أن يوجد شيء من دون موجد‪ ..‬أو تتح رك حرك ة من‬
‫غير محرك‪ ..‬أو يتم تدبير من غير مدبر؟‬
‫سكت‪ ،‬فقال‪ :‬نعم إنني اعتقد بوجود هللا‪ ..‬وأعتقد أنه هو القدير الذي خل ق الك ون‬
‫وحفظه‪ ،‬وليس ذلك فحسب‪ ،‬بل إنني أعتقد أنه هو الذي يرعى درة خلقة وهو اإلنسان‪.‬‬
‫ربت على كتفي بهدوء‪ ،‬ثم قال‪ :‬ال يخطر على بالك أن ذلك يعود إلى تأثير البيئة‬
‫التي عشت فيها فحسب‪ ،‬فأنت تع رف جي دا البيئ ة ال تي نعيش فيه ا‪ ..‬ولكن ه يرج ع إلى‬
‫مشاهداتي العلمية لعجائب الكون‪ ،‬كما يرجع إلى شعوري به وإحساسي بوج وده داخ ل‬
‫نفسي‪ ..‬فحيثما قلب اإلنسان وجهه وج د أس ئلة ال يج د له ا جواب ا‪ ،‬وه و عن د محاولت ه‬
‫العثور على الجواب يف ترض فروض ا عدي دة‪ ،‬ثم ال يلبث أن يهج ر معظمه ا أو يعدل ه‬
‫تعديال شامالً قبل أن يصل إلى االجابة عن سؤاله‪.‬‬
‫***‬
‫ق ال لي ذل ك‪ ،‬ثم أخ ذني لبعض المنتزه ات‪ ،‬وق ال‪ :‬دع ني أح دثك عن بعض‬
‫مش اهداتي ال تي جعلت ني أعتق د باهلل وبت دبيره للك ون‪ ..‬عن دما أذهب ـ بحكم وظيف تي‬
‫وتخصصي ـ إلى المعم ل وأفحص قط رة من م اء المس تنقع تحت المجه ر لكي أش اهد‬
‫سكانها‪ ،‬فإنني أرى من عجائب هذا الكون ما يبعث على الدهشة‪ ..‬فتلك األميب ا تتح رك‬
‫في بطء‪ ،‬وتتجه نحو كائن صغير فتحوطه بجسمها‪ ،‬فإذا به داخلها‪ ،‬وإذا به يتم هض مه‬
‫وتمثيله داخل جسمها الرقيق‪ ..‬فإذا ما الحظن ا ه ذا الحي وان ف ترة أط ول‪ ،‬فإنن ا نش اهد‬

‫‪147‬‬
‫كيف ينشطر جس مه ش طرين‪ ،‬ثم ينم و ك ل من ه ذين الش طرين ليك ون حيوان ا جدي دا‬
‫كامال‪.‬‬
‫تلك خلية واحدة تقوم بجميع وظائف الحياة التي تحتاج الكائنات الكبيرة األخ رى‬
‫في أدائها إلى آالف الخاليا أو ماليينها‪..‬‬
‫لقد تساءلت في نفس ي كلم ا رأيت ذل ك‪ ،‬وقلت‪ :‬الش ك أن ص ناعة ه ذا الحي وان‬
‫العجيب الذي بلغ من الصغر حد النهاية تحتاج إلى أكثر من المصادفة‪..‬‬
‫س كت قليال‪ ،‬ثم ق ال‪ :‬لق د كش فت ق وانين الكيمي اء الحيوي ة من أس رار الحي اة‬
‫وظواهرها ما لم تكشفه القوانين في أي ميدان آخر من ميادين الدراس ات العلمي ة‪ ..‬لق د‬
‫كان الناس ينظرون إلى خفايا عمليات الهضم واالمتصاص‪ ،‬ويستدلون بها على وج ود‬
‫الت دبير المق دس‪ ..‬أم ا في ال وقت الحاض ر فق د أمكن ش رح ه ذه العملي ات ومعرف ة‬
‫التفاعالت الكيماوية التي تنطوي عليها والخميرة التي تقوم بكل تفاعل‪ ..‬ولكن هل ي دل‬
‫ذلك على أنه لم يعد هلل مكان في كونه؟ فمن إذن ال ذي دب ر له ذه التف اعالت أن تس ير؟‬
‫وأن تسيطر عليها األنزيمات تلك السيطرة الدقيقة المحكمة؟‬
‫إن نظرة واحدة إلى إحدى الخرائط ال تي ت بين التف اعالت الدائري ة العدي دة وم ا‬
‫يدور بين كل منها واآلخر من تفاعالت أخرى‪ ،‬كفيلة بأن تقن ع اإلنس ان ب أن مث ل ه ذه‬
‫العالقات ال يمكن أن تتم بمحض المصادفة‪ ،‬ولعل هذا المي دان يه يئ لالنس ان من العلم‬
‫ما ال يهيئه اي ميدان آخر بان هللا يسير ه ذا الك ون تبع ا لس نن رس مها ودبره ا عن دما‬
‫خلق الحياة‪.‬‬
‫سكت قليال‪ ،‬ثم رفع رأسه إلى السماء‪ ،‬وقال‪ :‬إذا رفعنا أعيننا نحو السماء‪ ،‬فال بد‬
‫أن يستولي علينا العجب من كثرة ما نشاهده فيها من النجوم والك واكب الس ابحة فيه ا‪،‬‬
‫والتي تتبع نظاما دقيقا ال تحيد عنه قي د أنمل ة مهم ا م رت به ا اللي الي وتع اقبت عليه ا‬
‫الفصول واألعوام والقرون‪ ..‬إنها تدور في أفالكها بنظ ام يمكنن ا من التنب ؤ بم ا يح دث‬
‫من الكسوف والخسوف قبل وقوع ه بق رون عدي دة‪ ..‬فه ل يظن أح د بع د ذل ك أن ه ذه‬
‫الكواكب والنجوم قد ال تكون أكثر من تجمع ات عش وائية من الم ادة تتخب ط على غ ير‬
‫هدى في الفضاء؟‬
‫وإذا لم يكن لها نظام ثابت‪ ،‬ولم تكن تتبع قوانين معينة‪ ،‬فهل ك ان من الممكن أن‬
‫يثق اإلنسان بها‪ ،‬ويهتدي بهديها في خضم البحار السبعة‪ ،‬وفي متاهات الطرق الجوي ة‬
‫التي تتبعها الطائرات؟‬
‫التفت إلي‪ ،‬ف رآني ص امتا محت ارا‪ ،‬فق ال‪ :‬ق د ال يس لم بعض الن اس بوج ود هللا‬
‫وبقدرته‪ ،‬ومع ذلك فإنهم يسلمون بأن هذه األج رام الس ماوية تخض ع لق وانين خاص ة‪،‬‬
‫وتتبع نظاما معينا‪ ،‬وأنها ليست حرة تتخبط في السماء كيف تشاء‪.‬‬
‫وضع يده على نبع ماء كان موجودا في ذلك المنتزه‪ ،‬ثم ق ال‪ :‬الح ق أق ول ل ك‪..‬‬
‫إنه من قطرة الم اء ال تي رأيته ا تحت المجه ر‪ ..‬إلى تل ك النج وم ال تي ش اهدتها خالل‬
‫المنظار المكبر‪ ..‬لم يسعني إال أن أمجد ذلك النظام الرائ ع‪ ،‬وتل ك الدق ة البالغ ة‪ ،‬وتل ك‬
‫القوانين التي تعبر عن تماثل السلوك وتجانسه‪..‬‬

‫‪148‬‬
‫ال تتصور أن هذا اعتق ادي وح دي‪ ..‬فك ل الن اس ـ بم ا فيهم الم اديون أنفس هم ـ‬
‫يعتقدون أن هنالك قوانين يمكن كشفها وتحديدها‪ ،‬وإال لما أضاع الناس أعم ارهم بحث ا‬
‫عنها‪ ..‬فبدون هذا االعتقاد وتلك الثق ة في نظ ام الك ون يص ير البحث عبث ا ليس وراءه‬
‫طائل‪ .‬ولو أنه كلما أجريت تجربة أعطيت نتيج ة مخالف ة لس ابقتها بس بب توقفه ا على‬
‫المصادفة أو عدم وجود قوانين مسيطرة‪ ،‬فأي تقدم كان من الممكن أن يحققه اإلنسان؟‬
‫لكن الف رق بين اعتق ادي واعتق اد الم اديين ه و أنهم يهرب ون من الس ؤال عن‬
‫مصدر تل ك الق وانين‪ ،‬أو يدلس ون في اإلجاب ة علي ه ألي س بب من األس باب‪ ..‬أم ا أن ا‬
‫فرحت أجيب عنه بكل علمية وعقالنية مهما كلفني ذلك‪..‬‬
‫لقد رأيت أنه البد أن يكون وراء ك ل ذل ك النظ ام خ الق أعلى‪ ،‬فليس مم ا يقبل ه‬
‫العقل أن يكون هنالك نظام أو قوانين دون أن يكون وراءها عقل أعلى ومنظم مبدع‪..‬‬
‫لقد رأيت أنه كلما وصل اإلنسان إلى قانون جديد فإن هذا الق انون ين ادي بلس ان‬
‫حاله قائال‪( :‬إن هللا هو خالق‪ ،‬وليس اإلنسان سوى مستكشف)‬
‫***‬
‫بعد انصرافه‪ ،‬وبعد مدة من الزمن قيض هللا لي بفضله صديقا لي‪ ..‬ك ان طبيب ا‪..‬‬
‫زرت ه في عيادت ه إلج راء بعض الكش وف‪ ،‬وق د اس تغربت في تحول ه من اإللح اد إلى‬
‫اإليمان‪ ..‬فقد كان كل ما في عيادته يدل على ذلك‪ ..‬وعندما سألته عن سر ذل ك التح ول‬
‫العجيب‪ ،‬قال لي(‪ :)1‬لقد كان من أوائل ما اهت ديت ب ه إلى هللا ت أملي في قلب اإلنس ان‪،‬‬
‫فقد رأيت أن هللا دبر أمره تدبيرا عجيب ا‪ ،‬ول واله لم ا بقي حي على ه ذه األرض‪ ..‬فق د‬
‫جعله متبدل االستطاعة‪ ،‬بحسب الظ روف ال تي يم ر به ا‪ ،‬فبينم ا ينبض من س تين إلى‬
‫ثمانين نبضة في الدقيق ة‪ ،‬وه ذا ه و الح د األدنى الث ابت‪ ،‬إذا ب ه حينم ا يواج ه ظروف ا‬
‫صعبة‪ ،‬مثل ص عود جب ال‪ ،‬أو حينم ا يواج ه مش كلة نفس ية‪ ،‬أو حينم ا يخ اف‪ ..‬ترتف ع‬
‫نبضاته إلى مئة وثمانين نبضة‪.‬‬
‫التفت إلي‪ ،‬وق ال‪ :‬أليس ه ذا ت دبيرا عجيب ا‪ ..‬أرني أي مح رك في ال دنيا تتب دل‬
‫استطاعته بحسب الظروف؟‬
‫قلت‪ :‬المحرك له استطاعة‪.‬‬
‫قال‪ :‬أعلم ذلك‪ ..‬لكن له استطاعة واحدة‪ ،‬أما هذا القلب البشري فتتبدل استطاعته‬
‫بحسب الظروف التي يمر بها‪.‬‬
‫***‬
‫سكت قليال‪ ،‬ثم قال‪ :‬وهكذا رأيت العين‪ ..‬فهي ترى ك ل ش يء بوض وح ت ام بع د‬
‫س تة أمت ار‪ ،‬أم ا قب ل الس تة أمت ار فال ب د من عملي ة في غاي ة اإلعج از‪ ،‬هي عملي ة‬
‫المطابقة‪ ،‬فإذا أردت أن تنظر إلى كرة‪ ،‬فك أن ثم ة جه ة ثالث ة تقيس المس افة بين العين‬
‫والكرة‪ ،‬وتضغظ على الجسم البلوري ضغطا بمعشار الميكرون‪ ،‬حيث يبقى خيال ه ذا‬
‫الجسم على شبكية العين‪ ،‬وهذه المطابقة حتى هذه الساعة تفسيراتها غير مقنع ة‪ ،‬ل ذلك‬

‫‪ )(1‬موسوعة اإلعجاز العلمي في القرآن والسنة‪ :‬محمد راتب النابلسي‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫لم أجد من تفسير صحيح له ا إال عناي ة هللا ع ز وج ل وت دبيره لعب اده‪ ،‬وأبس ط ش ؤون‬
‫عباده‪.‬‬
‫***‬
‫س كت قليال‪ ،‬ثم ق ال‪ :‬دع ني أح دثك عن ش يء آخ ر‪ ..‬أنت تعلم أن اإلنس ان من‬
‫الكائنات الثابتة حرارتها‪ ،‬لكن كيف يواجه اإلنسان الجو الحار؟‬
‫قلت‪ :‬يواجهه بماليين الغدد العرقية‪ ..‬وهي جهاز ب الغ الدق ة في تك ييف الجس م‪،‬‬
‫فحينما تفرز هذه الغدد السائل‪ ،‬وحينما يتم التب ادل الح روري بين ه ذا الم اء‪ ،‬وح رارة‬
‫الجلد يكسب الماء من الجلد حرارته‪ ،‬وتخف بذلك حرارة الجلد‪.‬‬
‫قال‪ :‬فالتعرق إذن وسيلة بالغة الدقة والتعقيد‪ ،‬يتالفى بها الجسم ارتفاع الحرارة‪،‬‬
‫فإذا انفخض ت الح رارة عن الح د المعق ول ي أتي الرجف ان ليح رك العض الت‪ ،‬وليول د‬
‫حرارة‪ ،‬ويقف ش عر الجس م ليخ زن كمي ة من اله واء الس اخن تعين ه على تالفي الج و‬
‫البارد‪ ،‬إذا بالقشعريرة والتعرق يستطيع الجسم موجهة الجو الحار والبارد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬كل ذلك صحيح‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت إلى ه ذا اإلنس ان المعج ز في خلق ه‪ ..‬ت ارة في ه ث وابت‪ ..‬وت ارة في ه‬
‫تغيرات‪ ..‬ضربات القلب ثابتة‪ ،‬ولكن تصل عند الض رورة إلى مئ ة وثم انين‪ ..‬ورؤي ة‬
‫العين ثابت ة‪ ،‬ولكن دون الس تة أمت ار تج ري مطابق ة من أدق العملي ات في العين‪..‬‬
‫وحرارة الجسم ثابتة‪ ،‬لكن القشعريرة والتعرق وس يلتان يتكي ف بهم ا الجس م م ع الج و‬
‫الحار والجو البارد‪ ..‬والدماغ يشعر باأللم بش كل ث ابت‪ ،‬لكن حينم ا ي زداد األلم يت دخل‬
‫الدماغ‪ ،‬فيفرز مادة تخدره‪ ،‬وهذه هي حالة اإلغماء التي يعاني منها اإلنسان أحيانا‪..‬‬
‫التفت إلي‪ ،‬وقال‪ :‬أليس في كل هذا تدبيرا حكيما من هللا اللطيف الخبير بعباده؟‬
‫لم أج د بم ا أجيب ه حينه ا‪ ،‬فق د ك ان من الص عب علي أن أتخلص من ك ل تل ك‬
‫الرواسب ال تي تش كلت في عقلي من ص غري الب اكر‪ ..‬لك ني كنت أش عر أن مث ل ه ذه‬
‫األحاديث تشبه ذلك المعول ال ذي يه وي على الص خور ليحطمه ا‪ ..‬وبالفع ل فق د ك ان‬
‫أولئك األصدقاء الذين أخ رجهم هللا من جحيم اإللح اد هم الس بب ال ذي ب ه اهت ديت إلى‬
‫هللا‪.‬‬
‫***‬
‫بعدها بفترة قصيرة التقيت صديقا آخر‪ ،‬كان أستاذا في الجامعة‪ ،‬ومتخصصا في‬
‫علم وظائف األعضاء‪ ..‬وق د اح ترت أيض ا في حالت ه الجدي دة‪ ..‬فلم أكن أراه إال مادي ا‬
‫مسرفا في ماديته‪ ..‬لكنه تحول إلى عكس ذلك تماما‪ ،‬ق ال لي‪ ،‬وه و يح دثني عن س بب‬
‫إيمانه(‪ :)1‬الشك أنك تعرف أجراس اإلنذار التي نستعملها في بيوتن ا أو في غيره ا من‬
‫المحال؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬وهي من منتجات حضارتنا المادية التي أراك تنفر منها‪.‬‬
‫قال‪ :‬أنا ال أنفر من منتجات حضارتنا‪ ،‬وإنما أنف ر من طريق ة تفكيره ا الم ادي‪،‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬موسوعة اإلعجاز العلمي في القرآن والسنة‪ :‬محمد راتب النابلسي‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫وإال فال عالقة للتطور العلمي بجحود هللا‪ ..‬بل إن هللا هو الذي علمنا كيف ننج ز أمث ال‬
‫تلك األجراس‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال(‪ :)1‬لقد كان ذلك من أسباب إيماني‪ ..‬فقد رأيته أن هللا الذي خلق اإلنس ان في‬
‫أحسن تقويم زوده بالكثير من األجهزة التي تدبر شؤون حيات ه‪ ..‬ومنه ا أجه زة اإلن ذار‬
‫المبكر‪ ..‬وهذه األجهزة متوض عة في الجل د‪ ،‬فالجل د ه و س طح يغطي ش بكة هائل ة من‬
‫األعصاب‪ ..‬وهي تنتهي بجسيمات خاص ة‪ ،‬يختص ك ل منه ا بنق ل حس معين‪ ،‬فهن اك‬
‫جسيمات تنقل الحر والبرد‪ ..‬وهناك جسيمات تتحس س بالض غط‪ ،‬واللمس‪ ،‬ف أنت ت رى‬
‫اإلنسان يتقلب في الليلة الواحدة ما يزيد على أربعين م رة‪ ،‬ألن الجس م إذا ض غط على‬
‫جهة معينة ضاقت الشرايين‪ ،‬فضعفت التروي ة‪ ،‬ل ذلك ه ذه الجس يمات تنق ل اإلحس اس‬
‫بالضغط إلى المخ‪ ،‬وأنت نائم‪ ،‬والمخ يصدر أمرا بالحركة‪.‬‬
‫سكت قليال‪ ،‬ثم قال‪ :‬لقد ذكر ربي في كلماته المقدسة ه ذا المع نى‪ ،‬كنم وذج عن‬
‫الش َما ِل ﴾‬ ‫ين َو َذاتَ ِّ‬ ‫تدبير هللا ألبسط شؤون خلق ه‪ ..‬لق د ق ال في ذل ك‪َ ﴿ :‬ونُقَلِّبُهُ ْم َذاتَ ْاليَ ِم ِ‬
‫[الكهف‪]18 :‬‬
‫***‬
‫وهكذا بقيت أتردد بين أصدقاء كثيرين‪ ،‬كلهم تحولوا إلى اإليمان بع د أن ع اينوا‬
‫لطائف تدبير هللا لخلقه‪..‬‬
‫لكني مع ذلك كله لم أتمكن من تحطيم آخر صنم إلحادي يجث و على عقلي إال في‬
‫ذلك اليوم الذي استمعت فيه إلى خطب ة ش يخ مس لم‪ ،‬وجدت ه في مي دان الحري ة يح دث‬
‫الناس عن لطائف تدبير هللا‪ ،‬ويملؤهم باألم ل ال ذي ي دعوهم إلى الثق ة في هللا‪ ،‬وأن ه ال‬
‫يريد بهم إال الخير‪.‬‬
‫كان مما سمعته من ه قوله(‪ :)2‬كم ا أن ك ل ش يء من الكائن ات مل ك هلل‪ ،‬ال يح ق‬
‫التصرف فيه إال باسم هللا‪ ،‬فإن كل شيء مما نراه من أنواع التدبير مل ك هلل ك ذلك‪ ،‬فاهلل‬
‫تعالى هو المتصرف في كل شيء المحرك لكل شيء الفاعل لك ل ش يء‪ ..‬اس معوا إلى‬
‫هللا تع الى‪ ،‬وه و يخ اطب عب اده بك ل رحم ة ولط ف ق ائال‪ ﴿::‬إِ َّن َربَّ ُك ُم هَّللا ُ الَّ ِذي خَ لَ َ‬
‫ق‬
‫ش يُ َدبِّ ُر اأْل َ ْم َر َما ِم ْن َشفِ ٍ‬
‫يع إِاَّل ِم ْن‬ ‫ض فِي ِستَّ ِة أَي ٍَّام ثُ َّم ا ْستَ َوى َعلَى ْال َعرْ ِ‬ ‫ت َواأْل َرْ َ‬ ‫ال َّس َم َ‬
‫اوا ِ‬
‫بَ ْع ِد إِ ْذنِ ِه ذلِك ُم ُ َربُّك ْم فاعبُدُوهُ أفال تذكرُونَ ﴾ (يونس‪)3:‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫هَّللا‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ليست هذه اآلية فقط هي التي تتحدث عن لط ائف ت دبير هللا لكون ه‪ ..‬فكلم ات هللا‬
‫المقدسة لعباده تمتلئ بذلك‪ ..‬فهي تذكر أنواع التدبير اإللهي لألشياء‪ ،‬وتعرضها بص يغ‬
‫مختلفة ليقرأ المؤمن من خالل تدبير هللا لألشياء صفات كمال هللا‪ ،‬قال تع الى‪ ﴿:‬قُ لْ َم ْن‬
‫ي ِمنَ ْال َميِّ ِ‬
‫ت‬ ‫ار َو َم ْن ي ُْخ ِر ُج ْال َح َّ‬ ‫ْص َ‬ ‫الس ْم َع َواأْل َب َ‬
‫ك َّ‬ ‫ض أَ َّم ْن يَ ْملِ ُ‬
‫يَرْ ُزقُ ُك ْم ِمنَ ال َّس َما ِء َواأْل َرْ ِ‬
‫َوي ُْخ ِر ُج ْال َميِّتَ ِمنَ ْال َح ِّي َو َم ْن يُ َدبِّ ُر اأْل َ ْم َر فَ َسيَقُولُونَ هَّللا ُ فَقُلْ أَفَال تَتَّقُونَ ﴾ (يونس‪)31:‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬موسوعة اإلعجاز العلمي في القرآن والسنة‪ :‬محمد راتب النابلسي‪.‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬رسالة أكوان هللا من سلسلة رسائل السالم‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫وهذا التدبير يشمل جميع األشياء‪ ،‬حتى م ا نتوهم ه مظ اهر طبيعي ة‪ ،‬ناتج ة عن‬
‫ار فِي اللَّي ِْل َو َس َّخ َر‬ ‫ار َويُولِ ُج النَّهَ َ‬ ‫أسبابها الفلكية الحسية‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿:‬يُولِ ُج اللَّي َْل فِي النَّهَ ِ‬
‫ك َوالَّ ِذينَ تَ ْد ُعونَ ِم ْن دُونِ ِه‬ ‫س َو ْالقَ َم َر ُك ٌّل يَجْ ِري أِل َ َج ٍل ُم َس ّم ًى َذلِ ُك ُم هَّللا ُ َربُّ ُك ْم لَهُ ْال ُم ْل ُ‬ ‫ال َّش ْم َ‬
‫ير﴾ (فاطر‪)13:‬‬ ‫ْ‬
‫َما يَ ْملِ ُكونَ ِم ْن قِط ِم ٍ‬
‫فاهلل تعالى هو الذي يمدنا بضوء النهار وسكينة اللي ل‪ ،‬ال حرك ات األرض‪ ،‬ق ال‬
‫ْص َرةً لِتَ ْبتَ ُغ وا‬ ‫ار ُمب ِ‬ ‫ار آيَتَ ْي ِن فَ َم َحوْ نَا آيَةَ اللَّي ِْل َو َج َع ْلنَا آيَ ةَ النَّهَ ِ‬ ‫تعالى‪َ ﴿:‬و َج َع ْلنَا اللَّي َْل َوالنَّهَ َ‬
‫ص يالً﴾ (االس راء‪:‬‬ ‫اب َو ُك َّل َش ْي ٍء فَص َّْلنَاهُ تَ ْف ِ‬ ‫فَضْ الً ِم ْن َربِّ ُك ْم َولِتَ ْعلَ ُموا َع َد َد ال ِّسنِينَ َو ْال ِح َس َ‬
‫‪)12‬‬
‫هَّللا‬
‫وهللا هو الذي يقلب الليل والنهار‪ ،‬ال ما نتوهمه من أسباب‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿:‬يُقَلِّبُ ُ‬
‫ار﴾ (النور‪ ،)44:‬وقال تع الى‪َ ﴿:‬وهُ َو الَّ ِذي‬ ‫ص ِ‬ ‫ك لَ ِع ْب َرةً أِل ُولِي اأْل َ ْب َ‬ ‫ار إِ َّن فِي َذلِ َ‬ ‫اللَّ ْي َل َوالنَّهَ َ‬
‫َج َع َل لَ ُك ُم اللَّي َْل لِبَاسا ً َوالنَّوْ َم ُسبَاتا ً َو َج َع َل النَّهَ ا َر نُ ُش وراً﴾ (الفرق ان‪ ،)47:‬وق ال تع الى‪:‬‬
‫﴿ َوهُ َو الَّ ِذي َج َع َل اللَّي َْل َوالنَّهَا َر ِخ ْلفَةً لِ َم ْن أَ َرا َد أَ ْن يَ َّذ َّك َر أَوْ أَ َرا َد ُش ُكوراً﴾ (الفرقان‪)62:‬‬
‫قال رجل من الحاضرين‪ :‬أال ترى أن ما تذكره من ت دبير هللا للك ون يتن افى م ع‬
‫ما يذهب إليه العلم من أنواع التفسيرات لكل ما يحدث؟‬
‫قال الشيخ‪ :‬معاذ هللا أن أقول ذلك‪ ..‬أو يقول القرآن الكريم ذل ك‪ ..‬فليس هن اك أي‬
‫ذكرت وما ذكرتَ ‪ ،‬فال علمنا بتدبير هللا ينفي األسباب التي وض عها هللا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تناقض بين ما‬
‫وال األسباب تنفي تدبير هللا‪ ،‬فاألش ياء وأس بابها جميع ا خل ق من خل ق هللا‪ ،‬وله ذا ورد‬
‫التعبير القرآني عن تعاقب اللي ل والنه ار بص يغة التقليب‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿:‬يُقَلِّبُ هَّللا ُ اللَّ ْي َل‬
‫ار﴾ (النور‪)44:‬‬ ‫ص ِ‬‫َوالنَّهَا َر إِ َّن فِي َذلِكَ لَ ِع ْب َرةً أِل ُولِي اأْل َ ْب َ‬
‫وبمثل ذلك يتح دث الق رآن الك ريم عن جمي ع المظ اهر ال تي ينس بها الجاح دون‬
‫اح‬ ‫والغافلون للطبيعة‪ ،‬فالرياح ال تهب‪ ،‬وإنما ترسل‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬وه َُو الَّ ِذي يُرْ ِس ُل الرِّ يَ َ‬
‫ت فَأ َ ْن َز ْلنَ ا بِ ِه ْال َم ا َء‬ ‫ت َس َحابا ً ثِقَ االً ُس ْقنَاهُ لِبَلَ ٍد َميِّ ٍ‬ ‫ب ُْش راً بَ ْينَ يَ َديْ َرحْ َمتِ ِه َحتَّى إِ َذا أَقَلَّ ْ‬
‫ت َك َذلِكَ نُ ْخ ِر ُج ْال َموْ تَى لَ َعلَّ ُك ْم تَ َذ َّكرُونَ ﴾ (ألعراف‪)57:‬‬ ‫فَأ َ ْخ َرجْ نَا بِ ِه ِم ْن ُكلِّ الثَّ َم َرا ِ‬
‫وبمث ل ذل ك ج اء تعب ير (فَأ َ ْس قَ ْينَا ُك ُموهُ) ب دل تعب ير (فش ربتم) في قول ه تع الى‪:‬‬
‫ازنِينَ ﴾‬ ‫الس َما ِء َم ا ًء فَأ َ ْس قَ ْينَا ُك ُموهُ َو َم ا أَ ْنتُ ْم لَ هُ بِخَ ِ‬ ‫اح لَ َواقِ َح فَأ َ ْن َز ْلنَ ا ِمنَ َّ‬ ‫﴿ َوأَرْ َس ْلنَا ال ِّريَ َ‬
‫(الحجر‪)22:‬‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫هَّللا‬
‫وبمثل ذلك جاء تعبير (فأحْ يَ ْينَا) ب دل (حيت) في قول ه تع الى‪َ ﴿:‬و ُ ال ِذي أرْ َس َل‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ض بَ ْع َد َموْ تِهَ ا َك َذلِكَ النُّ ُش ورُ﴾‬ ‫ت فَأَحْ يَ ْينَ ا بِ ِه اأْل َرْ َ‬ ‫اح فَتُثِي ُر َس َحابا ً فَ ُس ْقنَاهُ إِلَى بَلَ ٍد َميِّ ٍ‬ ‫الرِّ يَ َ‬
‫(فاطر‪)9:‬‬
‫بل إن القرآن الكريم يرشدنا إلى نسبة ما نتوهم ه من أفعالن ا إلى هللا‪ ،‬فاهلل تع الى‬
‫ينسب إليه ما يتصور اإلنسان تفرده بتصريفه‪ ،‬قال تعالى عن عملي ة الح رث وال زرع‬
‫ار ُع ونَ‬ ‫التي ينسبها كل إنسان إلى نفسه‪ ﴿:‬أَفَ َرأَ ْيتُم َّما تَحْ ُرثُونَ أَأَنتُ ْم ت َْز َرعُونَهُ أَ ْم نَحْ نُ ال َّز ِ‬
‫﴾‪ ،‬ومثله قوله تعالى‪ ﴿:‬فَلَ ْم تَ ْقتُلُ وهُ ْم َولَ ِك َّن هَّللا َ قَتَلَهُ ْم َو َم ا َر َميْتَ إِ ْذ َر َميْتَ َولَ ِك َّن هَّللا َ َر َمى﴾‬
‫(ألنفال‪ ،)17 :‬فاهلل تعالى هو المتفرد بالتدبير والتصريف‪.‬‬
‫وهك ذا‪ ..‬مم ا ال يمكن حص ره في الق رآن الك ريم‪ ..‬ف القرآن الك ريم ينبهن ا إلى‬

‫‪152‬‬
‫الفاع ل الحقيقي ح تى ال ننحجب بع الم الحكم ة عن ق درة هللا‪ ،‬فع الم الحكم ة يرين ا‬
‫األسباب‪ ،‬وعالم القدرة يرينا رب األسباب‪ ،‬وكالهما يدل عليه العقل والذوق‪.‬‬
‫ولهذا كان أكبر القوادح في التوحيد نسبة أحداث الكون للك ون‪ ،‬ب ل نص الق رآن‬
‫ص ينَ لَ هُ ال ِّدينَ‬ ‫ك َد َع ُوا هَّللا َ ُم ْخلِ ِ‬ ‫الكريم على كونه شركا‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿:‬فَإِ َذا َر ِكبُوا فِي ْالفُ ْل ِ‬
‫فَلَ َّما نَجَّاهُ ْم إِلَى ْالبَ ِّر إِ َذا هُ ْم يُ ْش ِر ُكونَ ﴾ (العنكبوت‪)65:‬‬
‫لقد قال علماؤنا معبرين عن المعنى الذي تشير إلي ه تل ك اآلي ات الكريم ة‪(:‬ومن‬
‫أن الريح هو الهواء‪ ،‬والهواء ال يتحرّك بنفسه ما‬ ‫انكشف له أمر العلم كما هو عليه علم ّ‬
‫لم يحرّكه مح رّك‪ ،‬وك ذلك محرّك ه‪ ،‬وهك ذا إلى أن ينتهي إلى المح رك األوّل ال ذي ال‬
‫محرّك له وال هو متحرك في نفسه عز وجل)(‪)1‬‬
‫ال ارْ َكبُ وا‬ ‫ولهذا بين لنا هللا تعالى ما ينبغي أقواله عند رك وب الفل ك‪ ،‬فق ال‪َ ﴿:‬وقَ َ‬
‫فِيهَ ا بِ ْس ِم هَّللا ِ َمجْ َراهَ ا َو ُمرْ َس اهَا إِ َّن َربِّي لَ َغفُ و ٌر َر ِحي ٌم﴾ (ه ود‪ )41:‬فمج رى الس فينة‬
‫ومرساها من هللا تعالى‪.‬‬
‫ُور ِه ثُ َّم ت َْذ ُكرُوا نِ ْع َم ةَ َربِّ ُك ْم إِ َذا ْ‬
‫اس ت ََو ْيتُ ْم َعلَ ْي ِه‬ ‫وعلمنا أن نقول‪ ﴿:‬لِتَ ْستَ ُووا َعلَى ظُه ِ‬
‫َوتَقُولُوا ُس ْب َحانَ الَّ ِذي َس َّخ َر لَنَا هَ َذا َو َما ُكنَّا لَهُ ُم ْق ِرنِينَ ﴾ (الزخرف‪)13:‬‬
‫فاألنع ام مس خرة ـ كم ا تنص اآلي ة ـ وهي ل ذلك تس ير ب أمر هللا‪ ،‬وتتح رك‬
‫بتصريف هللا‪ ،‬والعاقل هو الذي يلجأ إلى اآلمر ال إلى المأمور‪.‬‬
‫***‬
‫قال رجل من القوم‪ :‬ألست ترى أنكم معشر المؤم نين تهرب ون من الواق ع بنس بة‬
‫التدبير إلى هللا؟‬
‫قال الشيخ‪ :‬لس ذلك كذلك يا أخي‪ ..‬فشعورنا بالتدبير اإللهي‪ ،‬ال ينفي مسؤولياتنا‬
‫وواجباتنا‪ ..‬وال يجعلنا نتوقف عن البحث عن عالم الحكم ة واألس باب‪ ..‬نحن نش ارككم‬
‫في كل ذلك‪ ..‬ولكنا نزيد عليكم بأشياء ممتلئة بالسمو والرفع ة‪ ..‬فنحن نح ترم ت دبير هللا‬
‫لش ؤون خلق ه‪ ،‬ونش عر ب األنس حين يمتلئ القلب بنش وة النظ ر إلى هللا وه و يجيب‬
‫ض ُك َّل يَ وْ ٍم‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫الحاجات المختلفة للكائنات‪ ،‬كما قال تعالى‪ ﴿:‬يَسْأَلُهُ َم ْن فِي ال َّس َما َوا ِ‬
‫هُ َو فِي َشأْ ٍن﴾ (الرحمن‪ ..)29:‬ثم بعد هذا نتطلع لما في يد هللا من فضل‪ ..‬ونتضرع إلي ه‬
‫في تحقيقه فهو صاحب الحكمة والقدرة‪ ،‬ويعمل وفق ما نراه من قوانين‪ ،‬أو م ا ال ن راه‬
‫منها‪.‬‬
‫وفوق ذلك‪ ،‬فإن العالم بتصريف هللا للكائنات ال يحزن ما يحصل له منها‪ ،‬أو م ا‬
‫يفوته من منافعها‪ ،‬ألن سبب الحزن هو فوات المقدور عليه‪ ،‬أما ما يعتقد استحالته ف إن‬
‫نفس استحالته تعزيه عن عدم حصوله عليه‪.‬‬
‫فلذلك ال يخاف مالك على ملكه‪ ،‬م ا دام هللا ه و م ؤتي المل ك ونازع ه‪ ،‬ف إن أتى‬
‫فبفض ل هللا‪ ،‬وإن ذهب فبق درة هللا‪ ،‬ولن تس تطيع ق وة في الع الم نزع ه أو تثبيت ه‪ ،‬ق ال‬
‫ع ْال ُم ْل كَ ِم َّم ْن ت ََش ا ُء َوتُ ِع ُّز َم ْن‬ ‫ك تُ ْؤتِي ْال ُم ْلكَ َم ْن ت ََش ا ُء َوتَ ْن ِز ُ‬
‫ك ْال ُم ْل ِ‬
‫تعالى‪ ﴿:‬قُ ِل اللَّهُ َّم َمالِ َ‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫ك َعلَى ُكلِّ َش ْي ٍء قَ ِديرٌ﴾ (آل عمران‪)26:‬‬ ‫ك ْال َخ ْي ُر إِنَّ َ‬
‫تَ َشا ُء َوتُ ِذلُّ َم ْن تَ َشا ُء بِيَ ِد َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وال يخاف على رزق ه م ا دام هللا ه و ال رازق ق ال تع الى‪ ﴿:‬ق لْ َم ْن يَ رْ ُزق ُك ْم ِمنَ‬
‫ت َوي ُْخ ِر ُج‬ ‫ي ِمنَ ْال َميِّ ِ‬‫ار َو َم ْن ي ُْخ ِر ُج ْال َح َّ‬‫ْص َ‬ ‫الس ْم َع َواأْل َب َ‬‫ك َّ‬ ‫ض أَ َّم ْن يَ ْملِ ُ‬‫الس َما ِء َواأْل َرْ ِ‬ ‫َّ‬
‫ْال َميِّتَ ِمنَ ال َح ِّي َو َم ْن يُ َدبِّ ُر ا ْم َر فَ َسيَقولونَ ُ فَقلْ أفَال تَتَّقونَ ﴾ (يونس‪)31:‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫هَّللا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫أْل‬ ‫ْ‬
‫ك لِنَ ْف ِس ي‬ ‫وال يخاف الضر‪ ،‬وال يرجو النف ع من غ يره‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿:‬قُ لْ ال أَ ْملِ ُ‬
‫ض ّراً َوال نَ ْفع ا ً إِاَّل َم ا َش ا َء هَّللا ُ لِ ُك ِّل أُ َّم ٍة أَ َج ٌل إِ َذا َج ا َء أَ َجلُهُ ْم فَال يَ ْس تَأْ ِخرُونَ َس ا َعةً َوال‬ ‫َ‬
‫يَ ْستَق ِد ُمونَ ﴾ (يونس‪)49:‬‬ ‫ْ‬
‫وهكذا في جميع ش ؤون حيات ه‪ ..‬لق د ق ال بعض علمائن ا مع برا عن ذل ك‪ ..(:‬أن‬
‫ينكشف لك أن ال فاعل إال هللا تعالى‪ ،‬وأن ك ل موج ود من خل ق ورزق وعط اء ومن ع‬
‫وحي اة وم وت وغ نى وفق ر إلى غ ير ذل ك مم ا ينطل ق علي ه اس م ف المنفرد بإبداع ه‬
‫واختراعه هو هللا عز وجل ال شريك له فيه‪ ،‬وإذا انكشف ل ك ه ذا لم تنظ ر إلى غ يره‪،‬‬
‫بل كان منه خوفك وإليه رجاؤك وب ه ثقت ك وعلي ه اتكال ك‪ ،‬فإن ه الفاع ل على االنف راد‬
‫دون غ يره‪ ،‬وم ا س واه مس خرون ال اس تقالل لهم بتحري ك ذرّة من ملك وت الس موات‬
‫واألرض‪ ،‬وإذا انفتحت لك أبواب المكاش فة اتض ح ل ك ه ذا اتض احا ً أتم من المش اهدة‬
‫بالبصر)(‪)1‬‬
‫وهذه المعارف إذا انصبغ بها كي ان اإلنس ان وتوح د قلب ه عن د النظ ر للك ون أو‬
‫التعامل معه هو الكفيل الوحيد بتحقيق الراحة والسعادة والطمأنين ة‪ ،‬ألن مص در القل ق‬
‫واالضطراب هو الشتات الذي يحصل في اإلنسان نتيج ة رؤي ة األش ياء قائم ة ب ذاتها‪،‬‬
‫فتت وزع في نفس ه الرغب ة منه ا أو الرهب ة‪ ،‬وهي متناقض ة مختلف ة‪ ،‬فيحص ل في ه من‬
‫التناقض بحسب ما في األشياء من تناقض‪ ..‬أما إذا رآها جميعا بيد هللا‪ ،‬فإن قلبه يتوح د‬
‫مع هللا‪.‬‬
‫وهكذا فإن من نتائج هذه النظ رة الس امية‪ :‬اللج وء إلى هللا ال إلى الك ون‪ ،‬وطلب‬
‫األشياء من هللا ال من األشياء‪ ،‬فاهلل هو المتصرف ال األش ياء‪ ..‬ومن الحماق ة أن ن ترك‬
‫اآلمر ونتوجه إلى المأمور‪ ،‬وقد ذك ر بعض علمائن ا مث اال ي بين ته افت ال ذين ينس بون‬
‫األشياء إلى ما يتوهمونه‪ ،‬ثم يلجؤون إليه بضراعة والرج اء بقول ه‪(:‬فالتف ات العب د في‬
‫النجاة إلى الريح يضاهي التفات من أخ ذ لتح ز رقبت ه فكتب المل ك توقيع ا ً ب العفو عن ه‬
‫وتخليته‪ ،‬فأخذ يشتغل بذكر الحبر والكاغد والقلم الذي به كتب التوقيع يق ول‪ :‬ل وال القلم‬
‫لما تخلصت‪ ،‬فيرى نجاته من القلم ال من محرّك القلم وهو غاية الجهل)(‪)2‬‬
‫ومن نتائج تل ك النظ رة الس امية ش عورنا ب أن ك ل النعم المس خرة في الك ون هي من‬
‫فضل هللا علينا‪ ،‬وهي نظرة تخ الف نظ رة الم ادي الجاح د هلل‪ ،‬ال ذي يمتلئ ك برا وغ رورا‪،‬‬
‫فيتصور أنه مصارع عنيف‪ ،‬فلذلك يفرض وجوده على هذه األرض بجهده وحيلت ه وقوت ه‪،‬‬
‫ويقول ـ كما عبر القرآن الكريم على لسان قارون ـ‪ِ ﴿:‬إنَّ َما أُو ِتيتُهُ َع َلى ِع ْل ٍم ِع ْن ِدي ﴾ (القص ص‪:‬‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫رُون َم ْن ه َُو َأ َش ُّد ِم ْن هُ‬
‫‪ )78‬فلذلك رد عليه تعالى مكمال‪َ ﴿:‬أ َو َل ْم َيعْ َل ْم َأ َّن هَّللا َ َق ْد َأ ْه َلكَ ِم ْن َق ْب ِل ِه ِمنَ ْالقُ ِ‬
‫جْر ُمونَ ﴾ (القصص‪ )78 :‬فهل علمه من القصور م ا‬ ‫قُ َّو ًة َو َأ ْك َثرُ َج ْمعاً َوال يُسْأَلُ ع َْن ُذنُو ِب ِه ُم ْال ُم ِ‬
‫جعله ال يمتد إلى معرفة مصاير القرى الهالكة‪ ،‬ليرى أسباب هالكها؟‬
‫ومثل قارون من أنعم هللا عليه بنعمة العافي ة بع د البالء‪ ،‬فينس ى المبتلي والمع افي‪ ،‬ال‬
‫ال ِإنَّ َم ا أُو ِتيتُ هُ‬
‫خَو ْل َن اهُ ِنعْ َم ًة ِمنَّا َق َ‬
‫يذكر إال نفسه‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬فإِ َذا َمسَّ اأْل ِ ْن َسانَ ضُرٌّ َدعَانَا ثُ َّم ِإ َذا َّ‬
‫َع َلى ِع ْل ٍم َبلْ ِه َي ِف ْت َنةٌ َو َل ِك َّن َأ ْك َث َره ُْم ال َيعْ َل ُمونَ ﴾ (الزمر‪)49 :‬‬
‫وهكذا اإلنس ان الثام ل بخم رة العلم الح ديث‪ ،‬والس اجد أم ام وثن العق ل يتص ور أن ه‬
‫يصارع الطبيعة‪ ،‬ويغلبها غلبة األبطال‪.‬‬
‫وفي مقابل ذلك نجد القرآن الكريم يص ور النعم المستس خرة بص ورة اله دايا المقدم ة‬
‫على أطباق‪ ،‬ومعها ختم المهدي‪ ،‬فاهلل تعالى صور ـ مثال ـ األرض بصورة المركب الذلول‪،‬‬
‫ال َف ْام ُش وا ِفي َمنَا ِك ِب َه ا‬ ‫ض َذلُ و ً‬ ‫المحتوية على كل المنافع‪ ،‬فقال تعالى‪ ﴿:‬ه َُو الَّ ِذي َج َع َل َل ُك ُم اأْل َرْ َ‬
‫َو ُكلُوا ِم ْن ِر ْز ِق ِه َو ِإ َل ْي ِه ال ُّن ُشورُ﴾ (الملك‪)15:‬‬
‫فاآلية تصف األرض بكونها ذلوال‪ ،‬وهذا الوص ف يطل ق ع ادة على الداب ة‪ ،‬ليص ور‬
‫في األذهان ويغرس في العقول والقلوب بينما يصورها الجاحدون في صورة الدابة الرامح ة‬
‫الراكضة التي تحتاج فارسا قويا مثل فرسان رعاة البقر ليقوم بترويض جماحها على نغمات‬
‫تصفيق المعجبين‪.‬‬
‫وقد عقد بعض علمائنا مقارنة بين التعبير القرآني في وصف الشمس في قوله تع الى‪:‬‬
‫الشمس سراجاً ﴾ (نوح‪ ،)16:‬وبين التعبير العلمي الحديث الجاف‪ ،‬فقال عن التعب ير‬ ‫َ‬ ‫﴿ َو َج َع َل‬
‫القرآني‪(:‬في تعبير السراج تصوير العالم بصورة قصر‪ ،‬وتصوير األشياء الموجودة في ه في‬
‫صورة لوازم ذلك القصر‪ ،‬ومزيّناته‪ ،‬ومطعوماته لسكان القصر ومسافريه‪ ،‬واحساسٌ أنه ق د‬
‫مسخر وسراج من َّور‪ .‬ففي‬ ‫َّ‬ ‫ال مأمور‬ ‫كريم رحيم‪ ،‬وما الشمسُ إ ّ‬ ‫أحضرتها لضيوفه وخ ّدامه ي ُد ٍ‬ ‫َ‬
‫تعبير السراج تنبيه الى رحمة الخالق في عظمة ربوبيت ه‪ ،‬وافه ا ُم إحس انه في س عة رحمت ه‪،‬‬
‫واحساسُ كرمه في عظمة سلطنته)(‪)1‬‬
‫أما العلم الحديث فيعرف الشمس بأنه ا (كتل ة عظيم ة من الم ائع الن اري ت دور ح ول‬
‫نفس ها في مس تقرها‪ ،‬تط ايرت منه ا ش رارات وهي أرض نا وس يارات أخ رى فت دور ه ذه‬
‫االجرام العظيمة المختلفة في الجسامة‪ ..‬ضخامتها كذا‪ ..‬ماهيتها كذا‪)..‬‬
‫غير الح يرة المدهش ة‬ ‫وعقب على هذه المقارنة بقوله‪(:‬فانظر ماذا أفادتك هذه المسألة َ‬
‫ال علمياً وال ذوقاً روحياً وال غاية إنسانية وال فائدة دينية)‬ ‫والدهشة الموحشة‪ ،‬فلم تُ ِف ْدك كما ً‬
‫***‬
‫ك انت كلم ات ذل ك الش يخ هي ال دافع ال ذي جعل ني ألتقي ب ه‪ ،‬وأس أله عن ك ل‬
‫الش بهات ال تي تمأل عقلي وقل بي‪ ،‬وق د أج ابني عنه ا جميع ا بقول ه وس لوكه وأخالق ه‬
‫الرفيعة‪ ،‬والعجب أني عندما زرته في بيت ه رأيت جمي ع أص دقائي ال ذين كنت ح دثتكم‬
‫عنهم‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬المكتوب التاسع عشر‪ ،‬النورسي‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫برهان الغائية‪:‬‬
‫بعد أن أنهى الرجل الثاني حديثه‪ ،‬قام آخر‪ ،‬وقال‪ :‬بعد أن ح دثكم ص ديقي وأخي‬
‫عن [برهان التدبير]‪ ،‬وكي ف خ رج ب ه من ظلم ات الجه ل والغواي ة إلى ن ور اإليم ان‬
‫والهداي ة‪ ..‬فاس معوا ح ديثي عن بره ان من ب راهين النظ ام الب ديع‪ ،‬أطلقت علي ه اس م‬
‫[برهان الغائية]‪ ..‬وهو برهان يدل على هللا من كل الوجوه‪ ،‬وبك ل المق دمات‪ ،‬وبجمي ع‬
‫اللغات‪..‬‬
‫فاهلل برحمت ه لم يض ع ق وانين ثابت ة لكون ه فق ط‪ ..‬ولم يقم بت دبيره فق ط‪ ..‬وإنم ا‬
‫أضاف إلى ذلك بلسم رحمته ولطفه‪ ،‬فجعل ك ل تدبيرات ه في غاي ة المنفع ة والمص لحة‬
‫لعباده‪ ..‬فلن ترى فيها إال الرحمة واللطف‪ ،‬سواء علمنا ذلك أو جهلناه‪.‬‬
‫وق د ب دأت ب ذور ه ذا الن وع من التفك ير تنم و في عقلي من ذ بداي ة دراس تي‬
‫الجامعية‪ ،‬فقد كنت أدرس الطب‪ ،‬وكنت أتعجب من جسم اإلنسان الذي ال يوجد فيه أي‬
‫شيء زائد أو ال وظيفة له‪ ،‬أو ال قيمة له‪ ..‬فكل شيء له دوره المحدد المضبوط حتى ما‬
‫كنا نتوهمه ال قيمة له‪ ،‬ثبتت قيمته العلمية مع الزمن‪.‬‬
‫من األمثلة على ذلك ما يطلق عليه [الغ دة الص عترية] (‪ ،)1‬وهي غ دة تنم و في‬
‫بداية الوالدة‪ ،‬وتضمر بعد سنتين‪ ،‬مما حمل بعض العلماء على أن يعتبروا هذه الغدة ال‬
‫وظيفة لها‪ ،‬وال شأن لها في حياة اإلنسان إطالقا‪ ..‬لكنهم اكتش فوا بع د ذل ك‪ ،‬ومن غ ير‬
‫قصد‪ ،‬أن هذه الغدة من أخطر الغدد في حياة اإلنسان‪.‬‬
‫سأحكي لكم ما ذكر لنا أستاذنا في ذلك الحين عند حديثه عن ه ذه الغ دة‪ ،‬وكي ف‬
‫كان حديث ه الب ذرة األولى لش جرة اإليم ان في قل بي وعقلي‪ ..‬لق د ق ال لن ا‪ :‬الش ك أنكم‬
‫تعرفون أن جهاز المناعة المكتسب من أخطر األجهزة في الجس م‪ ،‬وأن ه جيش دف اعي‬
‫عالي المستوى والجاهزية‪ ،‬فيه فرق االستطالع‪ ،‬وفرق تصنيع السالح‪ ،‬وفرق القت ال‪،‬‬
‫وفرق الخدمات‪ ،‬وفرقة المغاوير‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬نعرف ذلك‪ ..‬وقد شرحته لنا سابقا بتفصيل‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬وأضيفوا إلى تلك المعلومات ما تقوم به هذه الغدة التي توهمناه ا في‬
‫البداية غدة ال قمية لها وال دور‪ ..‬وتبين بع د ذل ك أن له ا دورا مهم ا ج دا‪ ،‬فهي بمثاب ة‬
‫مدرسة حربية تدرس الكريات البيضاء التي ف رزت للقت ال م ادتين أساس يتين‪ ..‬األولى‬
‫التعريف بالذات والصديق‪ ..‬والثانية التعريف بالعدو الممرض‪.‬‬
‫أما في المقرر األول‪ ،‬فتعرض على هذه الخالي ا مئ ات األل وف من البروتين ات‬
‫التي ت دخل في بن اء الجس م البش ري‪ ،‬ثم ترم ز ه ذه العناص ر الص ديقة‪ ،‬وت درب ه ذه‬
‫الخاليا على أال تهاجمها‪ ،‬ألنها إن هاجمتها فمعنى ذلك أن الجس م ي دمر نفس ه‪ ،‬ويتل ف‬
‫بعضه‪.‬‬
‫أما في المقرر الثاني‪ ،‬فيعرض على هذه الخاليا م ا عرف ه الن وع البش ري ع بر‬
‫األجيال على أنه عنصر ممرض‪ ،‬من خالل مناع ات األم ال تي تص ل إلى المول ود من‬

‫‪ )(1‬موسوعة اإلعجاز العلمي في القرآن والسنة‪ :‬محمد راتب النابلسي‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫خالل الحليب‪ ،‬ومن خالل التجرب ة الحي ة‪ ..‬ومن خالل ه ذه المحاض رات تع رف ه ذه‬
‫الكري ات البيض اء المقاتل ة العناص ر المعادي ة ال تي عليه ا أن تهاجمه ا‪ ،‬أو ت ذيع نب أ‬
‫وجودها‪ ،‬أو تسهم في إلقاء القبض عليها‪.‬‬
‫وبع د أن ت درس الغ دة الص عترية ه ذه المق ررات على الكري ات البيض اء تق وم‬
‫بامتحانها في بوابات امتحانية خاصة‪ ..‬وفي نوعين من االمتحان‪ ..‬في االمتح ان األول‬
‫يع رض على الكري ة البيض اء الممتحن ة عنص ر ص ديق‪ ،‬ف إن هاجمت ه أخفقت في‬
‫االمتح ان‪ ،‬ومنعت من مغ ادرة الغ دة الص عترية‪ ،‬وقتلت؛ ألنه ا إن خ رجت إلى ال دم‬
‫ه اجمت الجس م ال ذي ش كلها‪ ..‬وفي االمتح ان الث اني يع رض على الكري ة البيض اء‬
‫الممتحن ة عنص ر ع دو مم رض‪ ،‬ف إن أخفقت في تمي يزه‪ ،‬وال رد علي ه رس بت في‬
‫االمتح ان‪ ،‬ومنعت من مغ ادرة الكلي ة‪ ،‬وقتلت‪ ،‬ألنه ا إن خ رجت إلى ال دم غفلت عن‬
‫العدو‪ ،‬ومكنته من مهاجمة الجسم‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬ما دام لهذه الغدة كل هذه الخطورة‪ ،‬فلم تضمر بعد ذلك؟‬
‫قال‪ :‬يستمر عمل هذه الكلية الحربية (الغدة الص عترية) من ب دء ال والدة‪ ،‬وح تى‬
‫السنة الثالثة‪ ،‬وبع دها تق وم بت وريث علم مراقب ة وض بط عم ل الكري ات البيض اء إلى‬
‫الكري ات البيض اء الناجح ة في االمتح ان‪ ،‬وال تي س ميت بع د التخ رج الخالي ا التائي ة‬
‫المثقفة‪ ،‬لتقوم بدورها في نقل هذا العلم على أجيال الكريات البيضاء الالحقة‪.‬‬
‫س كت قليال‪ ،‬ثم ق ال‪ :‬أظن أن الغ دة الص عترية علمتكم أن ه ال يوج د عبث في‬
‫الكون‪ ..‬فكل شيء له غاية ووظيفة محددة ال يتجاوزها‪ ..‬ووجودة مرتبط بتلك الوظيفة‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬أجل‪ ..‬فهو درس قيم لنا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فاعبروا منه إلى الكون جميعا‪ ..‬فهل ترون الذي صمم هذه الغدة‪ ،‬وأعطاه ا‬
‫هذه الوظائف التي لم ننتبه لها‪ ،‬فرميناها بالعبثية‪ ،‬يسلك سلوكا عبثيا مع سائر الكون‪.‬‬
‫سكتنا‪ ،‬فقال‪ :‬ال يكفي أن تحفظوا العلوم‪ ،‬بل ال بد أن تفكروا وتتدبروا فيم ا وراء‬
‫الظواهر من حقائق‪ ..‬فما وراءها أعظم منها بكثير‪.‬‬
‫قال لنا ذلك‪ ،‬ثم ترك الحرية لنا في التفكير‪ ،‬ولم يفسر لنا شيئا‪ ..‬ولكن كالم ه م ع‬
‫ذلك بقي يحرك عقلي إلى أن هداني هللا لإليمان‪.‬‬
‫***‬
‫أذك ر في ذل ك الحين أني ذهبت في فص ل الش تاء إلى بعض المن اطق الريفي ة‬
‫الممتلئ ة بالبس اتين والحق ول‪ ،‬وهن اك أص ابني زك ام ش ديد‪ ،‬فجيء لي ب الكثير من‬
‫الحمضيات‪ ،‬فأكلتها وشربت عصيرها‪ ،‬فتحسنت كثيرا‪.‬‬
‫وقد سألت حينها الذي جاءني بها‪ ،‬وقد رأيته في كل حين يذكر هللا‪ ،‬ويثني علي ه‪،‬‬
‫عن سر إيمانه‪ ،‬فقال لي‪ :‬هذه الفواكه هي سر إيماني‪..‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬لق د رأيت أنه ا دون أك ثر الفواك ه تنبت في فص ل الش تاء‪ ،‬وكأنه ا جه زت‬
‫خصيصا له ذا الفص ل ومواجه ة األم راض المرتبط ة ب ه‪ ..‬لق د رأيت أن في البرتق ال‬
‫مركبات غذائية‪ ،‬وفيتامينات واقية‪ ،‬وأبرزها فيتامين (ج)‪ ،‬ال ذي يق اوم ض عف البني ة‪..‬‬

‫‪157‬‬
‫ويقاوم إدماء الجلد‪ ..‬ويقاوم تحلل المادة الكلس ية في العظ ام‪ ..‬ويق اوم ارتب اك الهض م‪..‬‬
‫ويقاوم فقد الشهية‪ ..‬ويقاوم االلتهابات‪.‬‬
‫***‬
‫بعد أن فارقت هذا الرجل‪ ،‬وما تركه في من آثار‪ ..‬ذهبت إلى الصحراء‪ ..‬وهناك‬
‫وبس بب م ا رأيت من م آس وآالم ك دت أفق د تل ك الب ذور ال تي ب ذرت في عقلي من‬
‫اإليمان‪ ..‬لكن هللا ت داركني بلطف ه‪ ..‬وك انت تل ك الص حراء م ع المآس ي واآلالت ال تي‬
‫تحملها سببا في تقوية إيماني‪ ،‬بل في تخلصي التام من كل مظاهر الوثنية اإللحادية‪.‬‬
‫وق د ك ان س بب ذل ك رج ل م ؤمن غاي ة اإليم ان‪ ،‬رآني ض يق النفس بس بب‬
‫الحشرات والبعوض وغيرها‪ ،‬حتى قلت‪ :‬ما فائ دة ه ذه الحش رات‪ ..‬ولم وج دت‪ ..‬إنه ا‬
‫شر محض‪.‬‬
‫فقال لي(‪ :)1‬لك الحق في أن تضيق نفسك‪ ،‬ولك الحق في أن تتألم‪ ..‬لكن ليس لك‬
‫الحق في أن تعتبرها شرا محضا‪ ..‬فهذه الكائنات التي ضاقت نفسك منها‪ ،‬حتى ما ك ان‬
‫منها ساما لها منافع عديدة في ت وازن البيئ ة‪ ..‬فهي تق وم بتطه ير األج واء من التل وث‪،‬‬
‫ألنها تأخذ السموم من الهواء كما تفع ل األش جار ال تي تأخ ذ ث اني أكس يد الكرب ون من‬
‫الجو وتحوّله إلى أوكسجين‪.‬‬
‫قلت ساخطا‪ :‬واألفاعي التي تسبب الخوف والهلع والرعب والتسمم‪ ..‬أله ا فوائ د‬
‫هي األخرى؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬لها فوائد عظيمة للبيئة‪ ،‬فسم األفاعي يعت بر من األدوي ة ذات الفوائ د‬
‫الكب يرة‪ ،‬ويس تخدم حاليً ا في عالج العدي د من األم راض‪ ..‬باإلض افة إلى ذل ك ف إن‬
‫األف اعي ذات فائ دة في ض بط حال ة الت وازن في البيئ ة‪ ،‬فهي تتغ ذى على الحش رات‬
‫واألحياء التي لو بقيت وتكاثرت ألثّ رت على حي اة اإلنس ان‪ ،‬ومن بين تل ك الحيوان ات‬
‫التي تقضي عليها الفئران‪.‬‬
‫قلت مازحا‪ :‬والبومة‪ ..‬أليست نذير شؤم‪ ،‬وال تستحق سوى القتل؟‬
‫ق ال‪ :‬ال تق ل ذل ك‪ ..‬ف البوم ال ذي يعيش داخ ل الم دن والق رى‪ ،‬ه و من يص طاد‬
‫الفئران التي تستغل ظلمة الليل لتعيث الفساد والخراب‪..‬‬
‫قلت‪ :‬والخفافيش؟‬
‫قال‪ :‬لقد ذكرتني بسؤالك عنها بم ا فعل ه س كان إح دى الوالي ات األمريكي ة حين‬
‫اعترض وا قب ل أع وام على اتخ اذ عش رات اآلالف من الخف افيش مالذا له ا تحت أح د‬
‫الجسور مطالبين بقتلها أو ترحيلها‪ ،‬ولكنهم سحبوا الشكوى بعد أن ش رحت لهم البلدي ة‬
‫أن هذه الحيوانات تأكل يوميا ً ما مجموع ه عش رون طن ا ً من الحش رات الط ائرة خالل‬
‫الليل‪ ،‬معظمها من البعوض والهوام‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والحشرات‪ ..‬ذلك الهم األكبر الذي يملؤنا بالضيق والتقزز؟‬
‫قال‪ :‬لقد دلت الدراس ات على أن ‪ 99‬بالمائ ة من الحش رات مفي دة لإلنس ان‪ ،‬إم ا‬

‫‪ )(1‬انظر مقاال بعنوان‪ّ :‬‬


‫الذباب إذا غاب‪ ..‬اختلّ توازنَ البيئة!‪ ،‬موقع فلسطين أون الين‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫بش كل مباش ر كالنح ل ودودة الق ز‪ ،‬أو غ ير مباش ر كالحش رات ال تي تلتهم الحش رات‬
‫الضارة‪ ..‬والحشرات المؤذية كالذباب والبعوض يعتبر وجودها ضروريًا مع مالمستها‬
‫لإلنسان لتمنحه المناعة من األمراض منذ صغره أكثر األحيان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والفئران‪ ..‬والفساد الذي تحدثه؟‬
‫قال‪ :‬الفئران أيضا لها دورها الكبير في الحف اظ على الت وازن البي ئي‪ ،‬والقض اء‬
‫عليها قد يؤدى إلى خلل فيه‪ ،‬مم ا ي ؤدى إلى ظه ور الثع ابين وخروجه ا من جحوره ا‬
‫على مشارف المدن‪ ،‬وتب دأ في مهاجم ة الحيوان ات‪ ،‬وق د ت دخل إلى المن ازل‪ ..‬وزي ادة‬
‫أعدادها سببه سلوك اإلنسان وتصرفاته التي أدت إلى انقراض األعداء الطبيع يين له ا‪،‬‬
‫والتي كانت تتغذى عليها مثل الحدأة والبومة والثعابين‪.‬‬
‫وهكذا بقي يحدثني عن كل ما كنت أراه مؤذيا‪ ،‬وال مبرر لوجوده‪ ،‬فيقنع ني ب أن‬
‫له دوره خاص‪ ،‬وأن سوء تعاملنا مع البيئة هو الذي يسبب لنا المتاعب‪.‬‬
‫***‬
‫لكن كل هذه المعاني التي نمت في عقلي‪ ،‬راحت تتبخر بسبب حديث س معته من‬
‫بعض أصدقائي من المالحدة الذي ردد على مسامعي ما س ماه [معض لة الش ر]‪ ،‬وق ال‬
‫لي معبرا عنها‪ :‬أي عقل يمكن أن يعترف بوج ود هللا‪ ،‬وه و ي رى الش ر أمام ه في ك ل‬
‫مكان؟‪ ..‬كيف يس كت هللا عن ك ل ه ذه االنتهاك ات في ح ق األطف ال ك ل ي وم؟‪ ..‬كي ف‬
‫يرضى هللا عن كل هذا الشر‪ ،‬وكل هذا الدم؟‪ ..‬لماذا يخلق هللا أطف ااًل ُمش وّهين إذا ك ان‬
‫قادرًا على خلقهم في صورة سويّة؟‪ ..‬وهل اإلله عاجز‪ ،‬فهو ال يس تطيع أن يوق ف ك ل‬
‫ه ذا الس وء والش ر في الع الم؟‪ ..‬أم أن ه ش رير‪ ،‬فه و يتغنّى بص راخ األطف ال‪ ،‬ويتل ذذ‬
‫بإهراق الدماء‪ ،‬ويستمتع بقتل العزل واألبرياء؟‬
‫لم أجد ما أقول له‪ ،‬فلم يكن لدي من المعارف في هذا الب اب م ا أجيب ه ب ه‪ ..‬وق د‬
‫ت والت علي بع دها األح اديث ال تي ال تبش ر إال به ذا‪ ..‬من ذل ك أني س معت (مايك ل‬
‫روس)‪ ،‬وه و أش هر فالس فة العل وم المن افحين بشراس ة عن الدارويني ة‪ ،‬يق ول في‬
‫مناظرته مع (فزاال رنا)‪ :‬أنا ال أرفض اإليمان بوجود هللا إال لسبب واحد‪ ،‬وهو مش كلة‬
‫الشر‪.‬‬
‫وسمعت الشاعر األلماني الملحد (جورج بوخ نر) يعت بر ه ذه المش كلة [ص خرة‬
‫اإللحاد]‬
‫وسمعت كاهن اإللحاد األكبر (ريتشارد دوكنز)‪ ،‬يعتبرها من أدلته الك برى على‬
‫اإللحاد‪ ،‬حيث يقول في كتاب ه [وهم اإلل ه]‪( :‬ال ب د من المس ير إلى ق ول بس يط وس هل‬
‫وهو اإلقرار بوجود الشر‪ ،‬ورد وجود هللا)‬
‫لقد اعتبر كل هؤالء‪ ،‬أن وجود الشر في العالم يتنافى مع كون اإلل ه عليم ا؛ ألن‬
‫علمه يقتض ي أن يمن ع ه ذا الش ر من الوج ود‪ ..‬ويتن افى م ع كون ه ق ديرا؛ ألن قدرت ه‬
‫تقتضي أن يمنع هذا الشر من الوجود‪ ..‬ويتنافى مع كون ه رحيم ا؛ ألن رحمت ه تقتض ي‬
‫أن يمنع هذا الشر من الوجود‪ ..‬ولذلك فإن وج ود الش ر ينفي وج ود ه ذا اإلل ه ال ذي ال‬
‫يمكن أن يفتقد الص فات الثالث الس ابقة جمل ة [وج ود إل ه كام ل العلم‪ ..‬كام ل الق درة‪..‬‬

‫‪159‬‬
‫كامل الرحمة]‬
‫ك انت ه ذه المعض لة هي الع ائق ال ذي ح ال بين قل بي وبين ت ذوق اإليم ان أو‬
‫اإلذعان له‪ ،‬مع كثرة األدلة التي تدل عليه‪.‬‬
‫***‬
‫لكن هذه المعضلة سرعان م ا ب دأت تتبخ ر بع د أن س رت في األرض‪ ،‬والقيت‬
‫ناس ا كث يرين‪ ..‬وك ان أولهم رج ل م ؤمن ق ال لي س اخرا بع د أن عرض ت علي ه ه ذه‬
‫المعضلة(‪ :)1‬فلنفرض أن الشر الذي ذكره مقص ود لذات ه‪ ،‬وأن ه من عم ل اإلل ه‪ ..‬فه ل‬
‫ينفي ذلك وجوده؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬ينفي وجوده‪ ..‬فكيف يكون إلها شريرا؟‬
‫ق ال‪ :‬ولكن ك لم تن ف وج ود المل وك الظلم ة‪ ،‬والطغ اة المس تبدين‪ ..‬فه ل ينفي‬
‫طغيانهم حقيقة وجودهم؟‬
‫لم أدر ما أجيبه به‪ ،‬لكني قلت‪ :‬الحكام والطغاة شيء‪ ..‬وهللا شيء آخر‪.‬‬
‫قال‪ :‬هذا يسمونه التفكير الرغبوي‪ ..‬فأنت تريد أن تفرض على هللا كي ف يك ون‪،‬‬
‫وكيف يتعامل مع خلق ه‪ ..‬واألص ل أن تبحث أوال عن أدل ة وج وده‪ ،‬ف إن رأيته ا كافي ة‬
‫واقتنعت بها حينذاك تبحث في أفعاله وأس رارها‪ ..‬وال يح ق لعاق ل أن يف رض على هللا‬
‫ما الذي يفعله‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما تعني بقولك هذا؟‬
‫قال‪ :‬الشر ال يعني العدم‪ ..‬بل الشر يعني أنه ليس ش يئا جميال‪ ..‬ولكن ه ليس ش يئا‬
‫معدوما‪ ..‬بدليل أننا نرى أشياء كثيرة شريرة‪ ،‬فهل ذلك ينفي وجودها‪ ..‬وبه ذا ف إن ه ذه‬
‫التي س ميناها معض لة تقض ي على نفس ها بنفس ها‪ ..‬فكي ف تثبت وج ود الش ر‪ ،‬ثم تنفي‬
‫وجود صانع له بحجة أنه ال يمكن أن يكون الصانع شريرا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم أفهم ما تقصد؟‬
‫قال‪ :‬ألست ترى الخلق يذكرون نيرون وجرائمه‪ ،‬وفرعون وطغيانه؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬هم يذكرون ذلك‪ ..‬وقد يكونون مخطئين فيه‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهل يمكن لعاقل أن يذكر من أدلة عدم وجود نيرون وفرعون كونه طاغي ة‬
‫أو ظالما؟‬
‫قلت‪ :‬ال يمكنهم ذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهكذا تعامل مع ربك‪ ..‬فال تفرض عليه ما يفعل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أتؤمن باهلل‪ ..‬وتؤمن في نفس الوقت بكونه شريرا؟‬
‫قال‪ :‬أنا أؤمن باهلل‪ ،‬وأؤمن بحكمته المطلقة‪ ،‬وأؤمن أن عقلي أض عف بكث ير من‬
‫أن يفهم أسرار حكمته في خلقه‪ ..‬ولهذا أسلم األمر له‪ ..‬نعم قد أرى بعض األش ياء مث ل‬
‫الثعابين والفئران شريرة لكني موقن أن الحكيم الذي أبدعها لم يبدعها هكذا عبثا‪ ،‬وإنما‬
‫له حكمته في وجودها‪ ،‬وعدم فهي لها ال يعني عدم وجودها‪ ..‬كما أن عدم فهمي لبعض‬

‫‪ )(1‬اقتبسنا بعض الردود هنا من مقال بعنوان‪[ :‬هل يمكن لإلله أن يكون شريرً ا؟] محمود ماهر‪.‬‬

‫‪160‬‬
‫وظائف األعضاء في جسمي ال يعني أنها أعضاء ال قيمة لها‪ ،‬وال حاجة‪.‬‬
‫قال لي ذلك‪ ،‬ثم انصرف بعد أن قضى على الكث ير من وساوس ي المتعلق ة بتل ك‬
‫المعضلة‪..‬‬
‫***‬
‫التقيت بعده آخر‪ ،‬قال لي بمجرد أن عرضتها عليه‪ :‬لو أنك ت أملت فيم ا طرحت ه‬
‫لي‪ ،‬الكتشفت أن وجود الشر يؤكد وجود مصدر مفارق للعالم‪ ،‬بدال من أن يك ون دليال‬
‫على عدم وجوده‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬ألن االعتقاد بأن وجود الشر ال يتناسب مع وجود إله رحيم يحب الخير هو‬
‫ميل نفسي‪ ،‬وليس دليال عقليا‪ ،‬فال يتناقض في العقل وجود هذا اإلله مع سماحه بوج ود‬
‫الشر في العالم ال ذي خلق ه لغ رض االمتح ان‪ ..‬فوج ود الش ر يؤك د بالفع ل وج ود إل ه‬
‫مفارق لهذا العالم المادي‪ ،‬ألنه اعتراف بوجود إله يمث ل الخ ير ب الفطرة‪ ،‬وإال فمن أين‬
‫أتى التمي يز البش ري بين الخ ير والش ر إن ك ان األص ل في الوج ود الم ادي ه و ع دم‬
‫الترجيح في األفعال بين خير وشر؟‬
‫سكت قليال‪ ،‬ثم قال‪ :‬اإلل ه المف ارق للموج ودات ه و ال ذي أعطى مع نى الخ ير‪،‬‬
‫وهو الذي منح اإلنسان الق درة على تمي يزه عن الش ر‪ ،‬بينم ا ال يس تطيع أي ب احث أن‬
‫يج زم ب أن الخ ير بمعن اه الع ام ه و األص ل الوحي د في نف وس اإلنس ان والحيوان ات‪،‬‬
‫خصوص ا وأن من ي ؤمن بنظري ة التط ور ي رى أن اس تمرار الحي اة ق ائم أص ال على‬
‫الصراع وأن البقاء لألقوى‪ ،‬فاألقوى هو األقدر على قتل الضعيف ونهب حقوقه وليس‬
‫العكس‪.‬‬
‫***‬
‫التقيت بعدها آخر‪ ..‬قال لي من غير أن أسأله ـ وكأنه علم ما يجول في نفسي ـ ‪:‬‬
‫أال ترى أن األصل في كل شيء هو الخير‪ ،‬وأن الشر غ ير موج ود إطالقً ا‪ ،‬غ ير أن ه‬
‫يتخلل الخير‪ ،‬كشذرات أو استثناءات؟‬
‫قلت‪ :‬ما تعني بذلك؟‬
‫قال‪ :‬أال ترى أن األصل في كل شيء هو الصحة‪ ،‬وأما الم رض في دخل عليه ا‪،‬‬
‫وال يلبث ـ ـ ـ عادة أن يذهب ثانية‪ ،‬وترجع الصحة م رة أخ رى‪ ..‬وأن األص ل في المط ر‬
‫أن ه خ ير‪ ،‬ولكن يتخل ل ه ذا الخ ير اس تثناءات‪ ،‬فيص ير المط ر س يواًل ت د ّمر الط رق‬
‫والبيوت‪ ،‬لكن هذا مج رد اس تثناء‪ ..‬واألص ل في الحي اة أنه ا س الم‪ ،‬ولكن يش وب ه ذا‬
‫الس الم اس تثناءات؛ فتح دث ح روب ونزاع ات ت دمر الق رى والبالد‪ ،‬لكن ه ذا مج رد‬
‫اس تثناء‪ ..‬واألص ل في الج و االعت دال‪ ،‬وأم ا العواص ف‪ ،‬أو موج ات ال برد والح ر‪،‬‬
‫فتحدث خالل فترات قليل ة من الس نة‪ ،‬ويظ ل الج و معت داًل ب اقي الس نة‪ ..‬واألص ل في‬
‫البراكين أنها تنفجر في المحيطات أو بعيدًا عن البشر‪ ،‬لكن تحدث اس تثناءات‪ ،‬فتنفج ر‬
‫بجانب قرية ما‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬ما تقول صحيح‪ ..‬لكن لماذا صرنا نشعر ب أن ك ل المط ر ش ر‪ ،‬وأن‬
‫الحروب والمعارك تسود العالم‪ ،‬وبأن البراكين تنفج ر يوميً ا مس ببة مئ ات اآلالف من‬
‫القتلى؟‬
‫قال‪ :‬سبب ذلك بسيط‪ ،‬وهو أننا نسمع أخب ار ه ذه االس تثناءات ونهتم له ا‪ ،‬ح تى‬
‫أمسينا نعتقد أنها األصل‪ :‬فنحن ال نسمع في األخبار ـ مثاًل ـ عن هطول األمطار بسالم‬
‫في بلد كذا‪ ،‬وأنها س قت الن اس‪ ،‬بع د ظم أ‪ ،‬وروت ال زرع‪ ،‬بع د جف اء‪ ،‬وص ار الن اس‬
‫يهللون من الفرحة‪ ،‬وال نسمع في األخبار عن الدولة كذا‪ ،‬التي تنعم بالسالم‪ ،‬ويس ودها‬
‫األمن واألمان‪ ،‬وال نسمع عن البركان الذي انفجر في المحيط‪ ،‬ولم ي ؤذ أح دًا‪ ..‬نحن ال‬
‫نس مع عن ه ذا أب دًا‪ ،‬ب ل نس مع عن اآلالم والمص ائب فق ط؛ ح تى ثبت في عقولن ا أن‬
‫الكوارث والحروب تع ّم األرض‪.‬‬
‫ربت على كتفي‪ ،‬وقال‪ :‬لذلك ال تسمع ألولئ ك ال ذين انغلقت قل وبهم عن الخ ير‪،‬‬
‫فلم يروا في الكون إال الشر‪ ..‬فإن الشر محدود جدا مقارنة بالخير‪ ..‬ومن يعترض على‬
‫اعتراض ا على الفيض انات‪ ..‬أو كمن‬ ‫ً‬ ‫أس باب الش ر‪ ،‬كمن يع ترض على خل ق الم اء؛‬
‫ّ‬
‫المخص بة للترب ة‪ ،‬والح رارة الالزم ة لحي اة اإلنس ان؛‬ ‫يع ترض على خل ق المع ادن‬
‫إعتراضًا على ثوران البراكين‪.‬‬
‫ثم سار‪ ،‬وهو يقول‪ :‬لو كان اإلله شريرًا‪ ..‬فلماذا الش ر نس بي؟‪ ..‬ول و ك ان اإلل ه‬
‫شري ًرا‪ ،‬لماذا أعطانا العقل‪ ،‬وسخر لنا األرض‪ ،‬وأمدنا ب األدوات الالزم ة؛ لكي نتغلب‬
‫على هذا الشر النسبي؟‪ ..‬ولو أن معاشر المالحدة قارنوا بين ما نراه في عالم ال دنيا من‬
‫خير وما نراه فيها من شر نسبي‪ ،‬لعلموا أن هذا اإلله له كامل العناية بعباده‪ ..‬وأن ع دم‬
‫إدراكنا لسر وجود ما نراه من شر‪ ،‬ال يعني أنه شر بالفعل‪ ،‬وأن المقصود من ه إذيتن ا‪..‬‬
‫ولو أنهم تركوا كبرياءهم وغرورهم وراحوا إلى المص ادر المقدس ة لألدي ان‪ ،‬لوج دوا‬
‫عندها الحل السهل البسيط العقالني لهذه التي سموها معضلة‪..‬‬
‫***‬
‫كان لكالمه تأثيرا كبيرا على نفسي‪ ..‬سرت بع دها‪ ،‬فلقي ني ص ديق ش اعر‪ ،‬راح‬
‫يسمعني قصيدة قال فيها‪:‬‬
‫كيف تغدو اذا غدوت‬ ‫أيها الشاكي وما بك دا ٌء‬
‫عليال‬
‫تتوقى قبل الرحيل الرحيال‬ ‫ان شر الجناة في االرض‬
‫نفس‬
‫‪ .‬أن ترى فوقها الندى‬ ‫وترى الشوك في الورد‬
‫يرى في الوجود شيئا ً‬‫اكليال‬ ‫وتعمى‬
‫ال‬ ‫والذي نفسه بغير جما ٍل‬
‫جميال‬
‫ال تخف ان يزول حتى‬ ‫فتمتع بالصبح ما دمت فيه‬
‫يزوال‬
‫فمن العار ان تظل جهوال‬ ‫ادر َكت كنهها طير الروابي‬

‫‪162‬‬
‫كن جميالً ترى الوجود‬ ‫ايها الشاكي وما بك دا ٌء‬
‫جميال‬
‫***‬
‫كان لكل هذا تأثيره الكبير على انحالل عقد تلك المعضلة من عقلي وقل بي‪ ،‬لكن‬
‫القضاء النهائي عليها لم يتم إال في ذل ك الي وم‪ ،‬وفي بل دتي‪ ،‬وفي س احة الحري ة فيه ا‪،‬‬
‫حيث لقيت مسلما يقف في وسط جم ع من الن اس يح دثهم عن ه ذه الش بهة من منطل ق‬
‫الكلمات المقدسة التي أوحى بها هللا إلى نبيه‪.‬‬
‫لم أسمع ما دار بينهم من أول الحديث‪ ،‬لكني سمعت أحدهم يسأله‪ ،‬ويق ول له(‪:)1‬‬
‫نعم‪ ،‬لقد أقنعتنا بأن أقدار هللا ال تتنزل إال ب الخير‪ ،‬فص فات هللا تع الى‪ ،‬وال تي هي كله ا‬
‫محامد ال يصدر منه ا إال الخ ير‪ ،‬وإنم ا كس ب اإلنس ان ه و ال ذي يح ول الخ ير ش را‪،‬‬
‫والعافية بالء‪ ،‬والجمال دمامة‪ ..‬لكن ما القول في بعض ما ن راه ش را مج ردا‪ ،‬ال وج ه‬
‫للخيرية فيه‪ ،‬كخلق الشياطين المضللة‪ ،‬بل كتقدير المعاص ي نفس ها‪ ،‬فل و أن هللا تع الى‬
‫خلقنا معصومين لما حاق بنا ذلك العذاب‪،‬ولما تنزلت بنا تلك اآلالم؟‬
‫ابتسم الشيخ‪ ،‬وقال‪ :‬الجواب عن ذلك بسيط‪ ،‬وهو أن كل ما قد نتص وره من ش ر‬
‫مجرد‪ ،‬هو في حقيقته ـ ومن جهة تقدير هللا له ـ خير عظيم‪ ،‬ولكن سوء تعاملنا معه هو‬
‫الذي يحول ذلك الخير إلى شر نتهم به األقدار‪..‬‬
‫ً‬
‫سأضرب لك مثاال على ذلك بالنار‪ ،‬فإن لها فوائد ومنافع كث يرة ج دا‪ ،‬فال يـحق‬
‫ألحد أن يقول‪ :‬إن إيـجاد النار ش ّر اذا ما أساء استعمالها باختياره وجعلـها ّشـراً ووب االً‬
‫على نفسه(‪ ..)2‬وهكذا الكالم عن المعاصي‪ ،‬فهي ليست شرا ـ من جهة تقديرها ـ بل قد‬
‫أخ بر ‪ ‬أن البش ر ل و لم يخطئ وا لخل ق هللا ب دلهم من يخطئ‪ ،‬ولكن الش ر في س وء‬
‫التعامل معها‪.‬‬
‫فالمعاصي المقدرة من هللا رحمة محضة‪ ،‬كرحم ة هللا عب اده بخل ق الن ار‪ ،‬ولكن‬
‫العاصي الذي يسيئ التعامل مع هذا التقدير هو ال ذي يح رق نفس ه به ا‪ ،‬كال ذي يح رق‬
‫نفسه بالعبث مع النار‪.‬‬
‫قام رجل من الجالس ين‪ ،‬وق ال‪ :‬إن م ا تقول ه غ ريب‪ ..‬ب ل ه و ن وع من اإللح اد‬
‫والهرطقة‪ ،‬والشطح والبدعة‪ ،‬فكيف تكون المعاصي رحمة؟‬
‫قال‪ :‬لو أنك تأملت في قصة آدم وإبليس لعرفت ذلك‪ ..‬فإبليس عص ى هللا تع الى‪،‬‬
‫ولعلها أول معصية تحدث في الكون‪ ،‬لكنه انشغل بك ون المعص ية مق درة عن التعام ل‬
‫معها وفق ما يحبه هللا ويرضاه‪ ،‬فلذلك عندما سأله هللا تعالى‪ ،‬وهو أعلم ب ه‪ ،‬عن ال دافع‬
‫ص ْل َ‬
‫ص ا ٍل ِم ْن َح َم أٍ َم ْس نُو ٍن﴾‬ ‫لمعصيته‪ ،‬أجابه بكبرياء‪ ﴿:‬لَ ْم أَ ُك ْن أِل َ ْس ُج َد لِبَ َش ٍر خَ لَ ْقتَ هُ ِم ْن َ‬
‫(الحجر‪)33 :‬‬

‫‪ )(1‬النص المذكور هنا ملخص باختص ار ش ديد من كت اب [أس رار األق دار]‪ ،‬سلس لة [رس ائل الس الم]‪ ،‬ومن ش اء‬
‫المزيد من التفاصيل يجده فيه‪.‬‬
‫‪ )(2‬الكلمة السادسة والعشرون‪ ،‬رسالة القدر‪ ،‬النورسي‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫كان في إمكان إبليس بعد ما حاقت به اللعنة أن يقول‪ :‬اغفر لي وتب علي‪ ،‬ولكن‬
‫ما تنطوي نفسه المتكبرة‪ ،‬والتي أبرز كبرياءها أم ره بالس جود آلدم ‪ ‬جعلت ه يطلب‬
‫ك هَ َذا الَّ ِذي َك َّر ْمتَ َعلَ َّ‬
‫ي لَئِ ْن‬ ‫شيئا آخر‪ ،‬هو مدد لمعصيته األولى‪ ،‬جعلته يق ول‪ ﴿:‬أَ َرأَ ْيتَ َ‬
‫أَ َّخرْ ت َِن إِلَى يَوْ ِم ْالقِيَا َم ِة أَل َحْ تَنِ َك َّن ُذ ِّريَّتَهُ إِاَّل قَلِيالً﴾ (االسراء‪)62 :‬‬
‫فإبليس‪ ،‬أو طبيعة إبليس حولت من المعصية إلى شر محض استحق بس ببه تل ك‬
‫اآلالم‪.‬‬
‫أما آدم ‪ ،‬ف إن المعص ية ك انت وس يلة لتبوئ ه تل ك المكان ة العظيم ة من هللا‪،‬‬
‫فف رق كب ير بين آدم ال ذي يس رح بين الجن ان‪ ،‬وآدم ال ذي هب ط إلى األرض متبتال‬
‫للرحمن‪ ،‬قد انطوى قلبه على كل المشاعر النبيلة نحو ربه‪.‬‬
‫فآدم ‪ ‬بأكله من الشجرة‪ ،‬وإدراكه حقيقة نفسه الشهوانية أقر بقصوره وكم ال‬
‫َاب َعلَ ْي ِه إِنَّهُ ه َُو التَّوَّابُ ال َّر ِحي ُم﴾ (البق رة‪ ،)37:‬فك ان‬‫ت فَت َ‬ ‫ربه‪ ﴿:‬فَتَلَقَّى آ َد ُم ِم ْن َربِّ ِه َكلِ َما ٍ‬
‫ذلك اإلقرار هو سبب الرفعة العظيمة التي نالها في جوار هللا‪.‬‬
‫انطالقا من ه ذين المث الين الل ذين قص هما الق رآن الك ريم‪ ،‬ف إن المعاص ي‪ ،‬وإن‬
‫احتوت على مساخط ال رب تع الى إال أن في تق ديرها من المحاس ن م ا يجعله ا رحم ة‬
‫محضة سواء من ناحية عالقة اإلنسان بنفسه أو عالقته بربه أو عالقته بالمجتمع‪..‬‬
‫أما من الناحية النفس ية‪،‬فإن ه بالمعاص ي يع رف اإلنس ان نفس ه‪ ،‬وأنه ا الخط اءة‬
‫من ب ه علي ه ال من نفس ه‪..‬‬ ‫الجاهلة‪ ،‬وأن كل ما فيه ا من علم أو عم ل أو خ ير فمن هللا َّ‬
‫ولتق ريب الرحم ة المنطوي ة في ه ذا المع نى أق ول لكم‪ :‬إن دور المعاص ي في تق ويم‬
‫اإلنسان وتهذيبه وتطييبه ليصلح لمعرفة رب ه ول دخول جنت ه ه و نفس دور األع راض‬
‫التي تصاحب األمراض من حمى وآالم وغيرها‪ ،‬فإنها وإن كانت مكروه ة في نفس ها‪،‬‬
‫إال أن فيها خيرا عظيما‪ ،‬فلوالها لم يتعرف اإلنسان على مرضه‪ ،‬ولم يسع للعالج منه‪،‬‬
‫ولذلك‪ ،‬فإن أخطر األمراض ما تسرب تسربا خفيا إلى الجسد وصار ينخ ر في ه إلى أن‬
‫يستحكم نخره من غير ان يظهر لذلك من اآلالم ما يتناسب مع دوره التهديمي‪.‬‬
‫زيادة على هذا‪ ،‬فإن االنش غال برؤي ة الطاع ة ق د يص حبه اإلدالل على هللا به ا‪،‬‬
‫وهو من أكبر الموبقات‪ ،‬بخالف المعية التي يصحبها االنكسار‪ ،‬ولهذا ورد في الحديث‬
‫الشريف‪(:‬لو لم تكونوا تذنبون لخفت عليكم م ا ه و أك بر من ذل ك العجب العجب) (‪،)1‬‬
‫وفي األثر اإللهي‪(:‬لوال أن الذنب خير لعب دي الم ؤمن من العجب م ا خليت بين عب دي‬
‫المؤمن وبين الذنب)‬
‫زيادة على هذا‪ ،‬فإن حسن التعامل مع المعصية يزيد في مناعته منها ويدفعه إلى‬
‫المزي د من التيق ظ والح ذر من مص ايد الع دو ومكاي ده‪ ،‬ويعرف ه من أين ي دخل علي ه‪،‬‬
‫وبماذا يحذر منه‪ ،‬كالطبيب الذى ذاق المرض والدواء‪.‬‬
‫***‬

‫‪ )( 1‬رواه الخرائطي في مساوي االخالق‪ ،‬والحاكم في تاريخه وأبو نعيم والديلمي‪.‬‬

‫‪164‬‬
‫قام رجل من القوم‪ ،‬وقال‪ :‬كي ف تق ول ه ذا‪ ..‬وم ا الرحم ة ال تي أتنعم به ا‪ ،‬وأن ا‬
‫مبتلى بش يطان يض ع خرطوم ه على ص دري ال يك ف عن بث الوس اوس في قل بي؟‬
‫وكيف أتنعم وشياطين اإلنس والجن تترصد لي؟‬
‫ابتسم الشيخ‪ ،‬وقال‪ :‬إن سمو اإلنسان وكماله وتدرجه في مع ارج الرحل ة إلى هللا‬
‫مربتط بمجاهدته ه ذه الش ياطين‪ ،‬فل ذلك ـ كم ا يق ول بعض علمائن ا ـ (ال يس يغ لـمن‬
‫استسلـم للشيطان ‪ -‬باختياره وكسبه الـخاطىء ‪ -‬أن يقول‪ :‬ان خلق الشيطان ش رٌ‪ ،‬اذ ق د‬
‫عمل الشر لنفسه بكسبه الذاتي) (‪)1‬‬
‫فالشيطان ليس له من دور إال الكشف عن الخبايا اآلثمة للنفس‪ ،‬ولذلك ي برأ ي وم‬
‫القيامة من أن يكون له أي سلطان على سلوك اإلنسان‪ ،‬بل إن سلوك اإلنسان كان نابعا‬
‫من طبيعته واختياره‪ ..‬والشياطين في هذا تشبه تلك المحاليل الكاشفة التي توض ع على‬
‫مواد معينة للتعرف على مكوناتها‪ ،‬فإن انفعال تلك المواد هو الذي يح دد طبيعته ا‪ ،‬أم ا‬
‫المحاليل‪ ،‬فليس لها من دور إال الكشف عن تلك المواد‪.‬‬
‫ولهذا أخبر تعالى الشيطان بأنه ليس له من سلطان على عب اده المخلص ين‪ ،‬ق ال‬
‫َاوينَ ﴾ (الحج ر‪ ،)42:‬ب ل‬‫ان إِاَّل َم ِن اتَّبَ َعكَ ِمنَ ْالغ ِ‬
‫ك َعلَ ْي ِه ْم س ُْلطَ ٌ‬
‫ْس لَ َ‬
‫تعالى‪ ﴿:‬إِ َّن ِعبَا ِدي لَي َ‬
‫صينَ ﴾ (الحجر‪)40:‬‬ ‫ك ِم ْنهُ ُم ْال ُم ْخلَ ِ‬
‫استثنى الشيطان نفسه هؤالء بقوله‪ ﴿:‬إِاَّل ِعبَا َد َ‬
‫وذلك ألن عباد هللا المخلصين‪ ،‬هم الذين تخلصوا من كل الش وائب ال تي تتفاع ل‬
‫معها وساوس الشيطان‪ ،‬فلذلك ال يصدر منهم إال الخير‪.‬‬
‫ومثل تسليط الشياطين تسليط ال دواعي ال تي تمتطيه ا الش ياطين لالس تيالء على‬
‫قلب اإلنسان من الش هوة والغض ب ودواعيهم ا‪ ،‬وإرس ال ري اح الفتن الختب ار طبيع ة‬
‫اإلنسان‪ ،‬فإن كل ذلك ـ بالتأمل الصادق ـ رحمة إلهية عظمى‪.‬‬
‫فإنه لوال هذا لفات اإلنسان من الفضائل م ا ه و أض عاف اآلالم الممزوج ة به ذه‬
‫ال دواعي‪ ،‬فلواله ا لم تحص ل فض يلة الص بر وال جه اد النفس ومنعه ا من حظوظه ا‬
‫وشهواتها محبة هلل وإِيثاراً لمرضاته وطلبا ً للزلفى لديه والقرب منه‪.‬‬
‫بل لوالها ما تحقق سير السائرين إلى هللا‪ ،‬كما يقول ابن عطاء هللا‪(:‬لوال مي ادين‬
‫النفوس ما تحقق س ير الس ائرين‪ ،‬إذ ال مس افة بين ك وبين ه ح تى تطويه ا رحلت ك‪ ،‬وال‬
‫قطعة بينك وبينه حتى تمحوها وصلتك)‬
‫فالسير إلى هللا إنما هو قطع عقبات النفس‪ ،‬إذ ال مسافة حسية بين هللا وعبده‪ ،‬وال‬
‫مقاطعة توجب البعد المعن وي بين هللا وعب ده ح تى تمحوه ا وص لته‪ ،‬وليس ثم حج اب‬
‫غير حجاب النفس‪.‬‬
‫فلذلك كان من رحمة هللا خلق هذه النفس بهذه الصورة ليتحقق من قط ع عقباته ا‬
‫التعرف على هللا والوصول إليه‪.‬‬
‫***‬

‫‪ )(1‬اللمعة الثالثة عشر‪ ،‬النورسي‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫قام رجل من القوم‪ ،‬وقال‪ :‬فلماذا ال نكون بهيئة أخرى ومع ذلك ينعم علين ا ـ من‬
‫غير مجاهدة ـ بهذه المعرفة وذلك الوصول؟‬
‫َ‬
‫ابتسم الشيخ‪ ،‬وقال‪ :‬إن األمر لو لم يكن بهذه الصفة‪ ،‬لم ا ك انت النش أة ا ِإلنس انية‬
‫إِنسانية‪ ،‬بل كانت ملكية‪ ،‬ولما كان اإلنسان حينها إنسانا بل كان مالكا‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬فلماذا لم أكن مالكا‪ ،‬وينتهي األمر؟‬
‫قال الشيخ‪ :‬أنت تقول ه ذا‪ ،‬ألن ك ال تعلم قيم ة النش أة اإلنس انية‪ ،‬فهي في منتهى‬
‫السمو والرفعة‪ ،‬بل إن اإلنسان فهرس العالم األكبر‪ ،‬وجامع تفاصيله‪ ..‬وهللا تع الى أنعم‬
‫على اإلنسان بأن جعله عالما ً متوسطا ً بين ملكه‪ ،‬وهو عالم الشهادة‪ ،‬وملكوته وهو عالم‬
‫الغيب‪ ،‬ولم يجعل ه ملكي ا ً محض ا ً وال ملكوتي ا ً محض اً‪ ،‬ب ل جع ل في ه من كال الع المين‬
‫ليعلمه جاللة قدره بين مخلوقاته‪ ،‬حيث جمعت بين الظاهر والباطن‪ ،‬وبين الجس مانيات‬
‫والروحانيات‪ ،‬فانطوى فيه العالم األكبر‪.‬‬
‫***‬
‫قام رجل آخر‪ ،‬وقال‪ :‬نعم‪ ،‬إن كسب اإلنسان هو الذي يحول الخير شرا والعافي ة‬
‫بالء‪ ،‬والجمال دمامة‪ ،‬ولكن م ا الق ول في أولئ ك الص الحين الع ارفين ال ذين ي تربعون‬
‫على عروش الوالية‪ ،‬والذين يمتلئ كيانهم بجميع األنوار‪ ،‬وال يعرج منهم إلى ربهم إال‬
‫الحسنات المتأللئة العظيمة‪ ،‬فكيف يجازون بالبالء الذي تنهد له الجبال؟‬
‫قال‪ :‬لذلك حكم كثيرة ال يمكن تفصيلها جميع ا هن ا‪ ..‬لك ني أقتص ر على بعض ها‬
‫فقط(‪ ..)1‬فمنه ا أن الص الحين يعطيهم هللا من الق وة واإليم ان بحيث يواجه ون البالء‬
‫باالبتسامة العذبة‪ ،‬ويرونه هدايا جزيلة من محبوبهم تعالى ال ذي فن وا بمحبت ه عن ك ل‬
‫ألم‪ ،‬فلذلك (لو أصبحت الكرة االرضية قنبلة ُمد ِّمرة وانفجرت‪ ،‬فلربم ا ال تخي ف عاب داً‬
‫هلل ذا قلب من َّور‪ ،‬بل قد ينظر اليها أنها خارقة من خوارق القدرة الص مدانية‪ ،‬ويتماله ا‬
‫باعجاب ومتع ة‪ ،‬بينم ا الفاس ق ذو القلب الميت ول و ك ان فيلس وفا ً ـ ممن يُع ّد ذا عق ل‬
‫راجح ـ اذا رأى في الفضاء نجما ً مذنبا ً يعتوره الخوف وي رتعش هلع ا ً ويتس اءل بقل ق‪:‬‬
‫أال يمكن لهذا النجم أن يرتطم بأرضنا؟ فيتردى في وادي األوهام)‬
‫ً‬
‫لق د ض رب بعض العلم اء على ذل ك مث اال ب رجلين يس افران مع ا الى عاص مة‬
‫سلطان عظيم‪ ،‬ويدخالن الى قص ر الس لطان الع امر بالعج ائب والغ رائب‪ ،‬أح دهما ال‬
‫يعرف السلطان ويريد ان يس كن في القص ر خلس ة ويمض ي حيات ه بغص ب االم وال‪،‬‬
‫فيعمل في حديقة القصر‪ .‬ولكن ادارة تلك الحديق ة وت دبيرها وتنظيم وارداته ا وتش غيل‬
‫مكائنه ا واعط اء ارزاق حيواناته ا الغريب ة وامثاله ا من اموره ا المرهق ة دفعت ه الى‬
‫االضطراب الدائم والقلق المستمر‪ ،‬حتى اصبحت تلك الحديقة الزاهي ة الش بيهة بالجن ة‬
‫جحيما ً ال يطاق‪ .‬اذ يتألم لكل شئ يعجز عن ادارته‪ ،‬فيقضي وقته باآلهات والحس رات‪.‬‬
‫واخيراً يُلقى به في السجن عقابا ً وتأديبا ً له لسوء تصرفه وادبه‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر في تفاصيل هذا رسالة (ابتسامة األنين)‬

‫‪166‬‬
‫أما الشخص الث اني فان ه يع رف الس لطان‪ ،‬ويع ّد نفس ه ض يفا ً علي ه‪ ،‬ويعتق د ان‬
‫جمي ع االعم ال في القص ر والحديق ة ت دار بس هولة تام ة‪ ..‬بنظ ام وق انون وعلى وف ق‬
‫برن امج ومخط ط‪ ،‬فيلقى الص عوبات والتــكاليـف الى ق انون السلــطان‪ ،‬مســتفيداً‬
‫بانــشــراح تام وصفاء كامـل من متــع تلــك الحديــقة الـزاهــرة كالجـنــة‪ ،‬ويــرى‬
‫كــل شـــئ جميالً حق اً‪ ،‬اس تناداً الى عط ف الس لطان ورحمت ه‪ ،‬واعتم اداً على جم ال‬
‫قوانينه االدارية‪ ..‬فيقضي حياته في لذة كاملة وسعادة تامة (‪.)1‬‬
‫ب‬ ‫َ‬
‫هذا الجواب األول‪ ..‬أما الجواب الثاني‪ ..‬فهو م ا دل علي ه قول ه تع الى‪ ﴿:‬أ َح ِس َ‬
‫النَّاسُ أَ ْن يُ ْت َر ُكوا أَ ْن يَقُولُوا آ َمنَّا َوهُ ْم ال يُ ْفتَنُونَ ﴾ (العنكبوت‪ ،)2:‬فقد أخ بر تع الى أن من‬
‫مقتضيات ادعاء اإليمان االبتالء حتى يعلم الص ادق من الك اذب‪ ،‬ومن ي ؤثر هللا‪ ،‬ومن‬
‫يؤثر هواه‪..‬‬
‫وأما الجواب الثالث‪ ،‬فقد عبر عنه بعضهم عن دما س ئل‪(:‬أيم ا أفض ل للرج ل أن‬
‫يمكن أو يبتلى؟)‪ ،‬فق ال‪( :‬ال يمكن ح تى يبتلى‪ ،‬ف إن هللا ابتلى نوح ا وإب راهيم وموس ى‬
‫وعيسى ومحمدا ـ صلوات هللا وسالمه عليهم أجمعين ـ فلما صبروا مكنهم)‬
‫فاهلل تعالى ـ بحكمته المطلقة ـ يربي عباده الصالحين الذين جعلهم وسائط للهداية‬
‫والرحمة بينه وبين خلقه بأنواع البالء المتناسب مع نوع الرسالة التي يكلفون بها‪.‬‬
‫ومث ل ذل ك مث ل من يري د تعلم ص ناعة معين ة‪ ،‬فإن ه يحت اج إلى الت دريب ال ذي‬
‫يتناسب مع تلك الص ناعة‪ ،‬ف إن نجح في ه أه ل ومكن من ص ناعته‪ ،‬وإن لم ينجح ط رد‬
‫وأبعد عنها‪.‬‬
‫وقد ضرب هللا تعالى األمثلة القرآنية الكثيرة على ذلك‪ ،‬ولعل أوضحها م ا حك اه‬
‫عن نبيين كريمين هما يوسف وموسى ـ عليهما السالم ـ فإن هللا تعالى دربهما بصنوف‬
‫البالء ليتمكنا من أداء الوظيفة التي كلفا بها‪.‬‬
‫وأما الجواب الرابع‪ ،‬فهو أن العارفين الذين يعتبرون أفع ال هللا تع الى فيهم وفي‬
‫غيرهم رسائل رحمة ومودة ال يفهمون من تلك األنات والباليا إال أنه ا ح روف من هللا‬
‫تشهدهم وج ود ف اقتهم‪ ،‬وتش عرهم بحقيقتهم‪ ،‬لتش غلهم باهلل عن أنفس هم‪ ،‬وله ذا قي ل‪ :‬إن‬
‫السبب الذي حمل فرعون على قوله‪﴿ :‬أَنَا َربُّ ُك ْم اأْل َ ْعلَى﴾ (النازع ات‪ )24:‬ط ول العافي ة‬
‫والغنى‪.‬‬
‫***‬
‫قام رجل من القوم‪ ،‬وقال‪ :‬نعم إن المزيج الذي مزجت ب ه ه ذه اآلالم ه و نتيج ة‬
‫حتمية ألفعال المكلفين‪ ،‬أو لها عالقة بتهذيبهم‪ ،‬أو لها عالق ة برف ع درج اتهم وتق ريبهم‬
‫من ربهم وتعريفهم به‪ ،‬لكن ما القول في اآلالم المحضة ال تي يع اني مرارته ا ال ذين لم‬
‫يمنحهم ال رحيم تع الى قابلي ة التكلي ف‪ ،‬فال عالق ة لآلالم بته ذيبهم‪ ،‬لع دم تلطخهم‪ ،‬وال‬
‫عالقة له بأعمالهم لعدم تكليفهم؟‬

‫‪ )(1‬الكلمة السادسة والعشرون‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫قال‪ :‬إن هذه المسألة من أخطر المسائل التي تاه فيها العقل البش ري‪ ،‬إلى أن ج ر‬
‫بعضهم إلى اإللح اد بس ببها‪ ،‬حيث اعتق د أن ذل ك من تص رف الطبيع ة وفعله ا‪ ،‬وليس‬
‫لذلك فاعل مختار مدبر بمشيئته وقدرته‪.‬‬
‫وذهب آخ رون إلى الق ول بالتناس خ‪ ..‬وأن األرواح الف اجرة الظالم ة ت ودع فى‬
‫الحيوانات التى تناسبها‪ ،‬فينالها من أَلم الضرب والعذاب بحسبها‪ ،‬فلذلك ك انت مس تحقة‬
‫لما يصيبها من آالم‪.‬‬
‫وذهب آخ رون إلى إس ناد الش ر والخ ير إلى إلهين مس تقلين ك ل منهم ا ي ذهب‬
‫اإلله الش رير المظلم‪ ،‬فال تض اف إِلى ا ِإلل ه‬‫بخلقه‪ ،‬وذكروا أَن هذه اآلالم والشرور من ِ‬
‫الخير العادل وال تدخل تحت قدرته‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫وذهب آخرون إلى أن البهائم مكلفة مأمورة منهية مثابة معاقبة‪ ،‬وأن فى كل أم ة‬
‫منها رسول ونبى منها‪ ،‬وهذه اآلالم والعقوبات الدنيوية ج زا ٌء على مخالفته ا لرس ولها‬
‫ونبيها‪.‬‬
‫وذهب آخرون إلى أن البهائم واألَطفال ال تتألم أبدا(‪.)1‬‬
‫وكل هذه أقوال جر إليها العق ل المج رد ال ذي لم يس تند إلى ال وحي‪ ،‬وال إلى م ا‬
‫تقتضيه المعرفة باهلل من حقائق‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬هذا ما قالوا‪ ..‬فما تقول أنت؟‬
‫قال‪ :‬أنا أقر بين أيديكم ب أن كش ف س ر الرحم ة في ه ذا يتطلب اإليم ان بجمي ع‬
‫الحقائق‪ ،‬وأولها الثقة في هللا وفي حكمته ولطفه وت دبيره لخلق ه‪ ،‬فه و أعلم بهم‪ ،‬وأدرى‬
‫بمصالحهم‪ ،‬وما نجهله من ذلك في الوقت الحالي قد يكشف في يوم من األيام‪ ،‬فلذلك ال‬
‫يصح أن نستعجل‪.‬‬
‫ولذلك علينا أن نحيل علم تفاصيل الرحم ة المنطوي ة في ظ ل ه ذه اآلالم إلى هللا‬
‫تعالى‪ ،‬ألنه أخبرن ا ب أن رحمت ه وس عت ك ل ش يء‪ ،‬وأن الم زيج الم ؤلم ال ذي يختل ط‬
‫برحمته هو مزيج يرتب ط بالكس ب‪ ،‬ال بالرحم ة والمق ادير‪ ..‬فل ذلك‪ ،‬إذا جهلن ا س را م ا‬
‫نلجئه إلى هذه المعرفة التي برهنت عليها كل الدالئل‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬فإن من أسماء هللا تعالى (الشكور) ‪ ،‬وهو يعني أن هللا تع الى‬
‫برحمت ه ق د يستس خر من خلق ه من يق وم بوظيف ة معين ة إظه ارا لحكم ة من حكم ه أو‬
‫لمقتضى من مقتضيات أسمائه الحسنى‪ ،‬فإذا قام ذل ك المستس خر بتل ك الوظيف ة ج ازاه‬
‫عليها أضعاف أضعاف اآلالم التي تحملها‪.‬‬

‫‪ )(1‬وهذا المذهب له وجوه من الحقيق ة ت دل علي ه‪ ،‬فاألطف ال والبه ائم ال ت درك اآلالم حس بما ي دركها العقال ُء‪ ،‬ف إن‬
‫العاقل إذا أدرك تأَلم جوارحه وأَحس به تأْلم قلبه وطال حزنه وكثر هم روحه وغمه ا‪ ،‬وه ذه اآلالم زائ دة على مج رد أَلم‬
‫الطبيع ة‪ ،‬وال ريب أن البه ائم واألطف ال ال تحص ل له ا تل ك اآلالم كم ا يحص ل للعاق ل المم يز‪ ،‬ف إن أَراد الق وم ه ذا فهم‬
‫مصيبون‪ ،‬وإن أرادوا أنه ال شعور لها باآلالم البتة وأنها ال تحس بها فمكابرة ظاهرة‪ ،‬فإن الواحد منا يعلم باض طرار أَن ه‬
‫كان يتألم فى طفولته بمس النار له وبالضرب وغير ذلك‪ .‬انظر‪ :‬طريق الهجرتين‪.249 :‬‬

‫‪168‬‬
‫فلذلك كان من حكمة هللا التي اقتضاها وجود الكون بهذه الصورة أن توجد اآلالم‬
‫التي قد نتوهمها آالما محضة‪ ،‬ولكنها في حقيقتها تنطوي على رحمة خفية إم ا في ذات‬
‫وجودها‪ ،‬أو بما يترتب عليها‪.‬‬
‫فلذلك من حكم ة هللا أن يستس خر ه ؤالء لتحم ل بعض اآلالم اللحظي ة ليس توفوا‬
‫بعد ذلك أجورا تتناسب مع شكر هللا وجوده‪.‬‬
‫ولو أنا نرى أن هللا تعالى يخفف عنهم اآلالم إلى درجة قد ال يحس ون به ا‪ ،‬وإلى‬
‫ذلك اإلشارة بما أخ بر عن ه ‪ ‬من أن (الش هيد ال مس القت ل إال كم ا يج د أح دكم مس‬
‫القرصة يقرصها) (‪)1‬‬
‫***‬
‫قام رجل من القوم‪ ،‬وقال‪ :‬فإذا كان هللا ق ادراً على التفض ل ب العوض وبأض عافه‬
‫بدون توسط األلم فأى حاجة إلى توسطه؟ وهل يصح ألحدنا أن ي ؤلم غ يره ثم يعوض ه‬
‫عن آالمه؟‬
‫قال الشيخ‪ :‬الجواب عن ذلك هو أن هللا تعالى مع مشيئته المطلقة ال تي ال يح دها‬
‫شيء‪ ،‬وال يحجر عليها حاجر أخبرنا ـ من خالل النص وص الكث يرة ـ على أن حكمت ه‬
‫تأبى وضع شيء في غ ير موض عه‪ ،‬ل ذلك ورد أن ه ـ بالنس بة للمكلفين ـ ي وزع البالء‬
‫عليهم بحسب ما يص لحهم‪ ،‬كم ا ورد في األث ر اإللهي‪(:‬وإن من عب ادي المؤم نين لمن‬
‫سألني من العبادة فأكفه عنه ولو أعطيته إياه لدخله العجب وأفسده ذلك وإن من عب ادي‬
‫المؤمنين لمن ال يصلحه إال الغنى ولو أفقرته ألفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن‬
‫ال يصلحه إال الفقر ولو أغنيته ألفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن ال يص لحه إال‬
‫الصحة ولو أسقمته ألفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن ال يصلحه إال الس قم ول و‬
‫أصححته ألفسده ذلك وإني أدبر لعبادي بعلمي بقلوبهم إني عليم خبير) (‪)2‬‬
‫ولذلك ـ نؤمن انطالقا من ذلك ـ إيمان ا جازم ا أن الرحم ة في ذل ك البالء بغض‬
‫النظر عن نوع الرحمة في ذلك‪.‬‬
‫وانطالقا من هذا نرى(‪ )3‬فرقا عظيما بين إيالم البش ر وإيالم هللا‪ ،‬ف إِن من قط ع‬
‫يد غ يره أَو رجل ه ليعوض ه عنه ا لم يحس ن ذل ك من ه‪ ،‬ألن الع وض يص ل إلي ه وه و‬
‫مقطوع اليد والرج ل‪ ،‬وليس من العقال ِء من يخت ار مل ك ال دنيا م ع ذل ك‪ ،‬وهللا يوص ل‬
‫األعواض فى اآلخرة إلى األحياء وهم أكمل شي ٍء خلق ا ً وأَتم ه أَعض ا ًء‪ ،‬فل ذلك اف ترق‬
‫الشاهد والغائب فى هذا‪.‬‬
‫أما إذا فرض أن األذى تحقق مع سالمة األعض ا ِء‪،‬وك ان في ه مص لحة ورض ى‬
‫المضروب بذلك وعظمت األعواض عنه فهو حسن فى العق ل ال محال ة‪ ،‬ألن الع وض‬

‫‪ )(1‬رواه الترمذي والنسائي وابن حبان‪.‬‬


‫‪ )( 2‬رواه ابن ابى الدنيا في كتاب االولياء والحكيم وابن مردوديه وأبو نعيم في االسماء وابن عساكر‪.‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص‪)149 :‬‬

‫‪169‬‬
‫يخرج األلم عن كونه ظلماً‪ ،‬ألنه نفع موقوف على مض رة األلم‪ ،‬وباعتب ار كون ه لطف ا ً‬
‫فى الدين يخرج عن كونه عبثاً‪.‬‬
‫***‬
‫بعد أن سمعت هذا منه لم أجد إال أن أتبعه‪ ،‬وأسمع منه‪ ،‬وأتتلمذ على يدي ه‪ ،‬ومن‬
‫العجب أني وجدت كل من لقيتهم سابقا في مدرسته‪ ،‬بما فيهم من بث معض لة الش ر في‬
‫نفس ي‪ ،‬ب ل إن ه أص بح من بينن ا جميع ا أك بر من يواجهه ا وي دعو إلى من اظرة من‬
‫يتزعمها‪.‬‬
‫برهان التوازن‪:‬‬
‫بعد أن أنهى الرجل الثالث حديثه‪ ،‬قام آخر‪ ،‬وقال‪ :‬بعد أن ح دثكم ص ديقي وأخي‬
‫عن [برهان الغائية]‪ ،‬وكي ف خ رج ب ه من ظلم ات الجه ل والغواي ة إلى ن ور اإليم ان‬
‫والهداي ة‪ ..‬فاس معوا ح ديثي عن بره ان من ب راهين النظ ام الب ديع‪ ،‬أطلقت علي ه اس م‬
‫[برهان التوازن]‪ ..‬وهو برهان يدل على هللا من كل الوجوه‪ ،‬وبكل المقدمات‪ ،‬وبجمي ع‬
‫اللغات‪..‬‬
‫فاهلل تعالى كما وضع للكون قوانينه الثابتة‪ ،‬وس ننه المرعي ة‪ ..‬وكم ا ق ام بت دبيره‬
‫وتصريفه على أحسن الوجوه‪ ..‬وكما قام بإعطاء كل شيء خلق ه‪ ،‬ثم هدايت ه إلى غايت ه‬
‫التي خلقه من أجلها‪ ..‬فإنه كذلك خلق كل ش يء بم يزان دقي ق‪ ،‬ومق ادير مح ددة‪ ،‬ودق ة‬
‫عالية‪ ،‬فال يطغى شيء على شيء‪ ،‬وال يظلم شيئا‪.‬‬
‫وقد كان أول ما دعاني إلى التفكير في هذا‪ ،‬واالستدالل ب ه على وج ود هللا‪ ،‬م ع‬
‫كوني عشت في بيئة بعيدة عن هللا‪ ،‬وال تلقي له باال‪ ،‬أني وجدت كل شيء خلق ه هللا في‬
‫محله المناسب‪ ،‬وبموازين دقيقة مقدرة‪ ،‬ال يمكن اكتش افها وال فهمه ا إال بع د دراس ات‬
‫وتحليالت عميقة ومن علوم مختلفة‪..‬‬
‫وقد كان أول سؤال خطر على بالي حينه ا ه و‪ :‬كي ف يمكن أن تك ون الم وازين‬
‫الدقيقة محض صدفة‪ ،‬أو وليدة طبيعة عمياء بك اء ص ماء‪ ،‬بينم ا من اكتش ف ذل ك‪ ،‬أو‬
‫بعض ذلك‪ ،‬يعتبر ذكيا وعبقريا وتوهب له الجوائز العالمية‪ ..‬أي منطق هذا الذي يفك ر‬
‫بهذه الطريقة؟‬
‫ول ذلك ك ان مج رد اكتش افي لبعض الق وانين الض ابطة للك ون وح ده ك اف في‬
‫شعوري باهلل‪ ..‬ولم أحتج بحمد هللا إلى أي معلم أو فيلسوف ليثبت لي ذل ك‪ ..‬لكن البحث‬
‫الذي عانيته هو في تحديد اإلله الذي يتناسب مع الحقيقة‪ ،‬ويتناسب كذلك مع الكون‪.‬‬
‫وقد يسر هللا لي وضع ضوابط ذلك أيضا‪ ،‬فقد وج دت أن اإلل ه ال ذي ي ذكر تل ك‬
‫الموازين‪ ،‬ويدعو إلى مراعاتها‪ ،‬ويضع الشريعة التي تتناسب معها هو اإلله الذي دب ر‬
‫الكون‪ ،‬وهو اإلله الذي يستحق العبادة‪ ..‬وما أسرع ما وجدت ذل ك بفض ل هللا ورحمت ه‬
‫وهدايته‪.‬‬
‫وهذا ال يعني أني لم ألتق في حياتي بباحثين أو علماء‪ ..‬فق د التقيت الكث ير منهم‪،‬‬
‫وكلهم بحمد هللا شعر بما شعرت‪ ،‬وآمن قلبه وعقله بما آمنت‪.‬‬
‫***‬

‫‪170‬‬
‫وق د ك ان أولهم أس تاذي في عل وم األرض‪ ،‬ال ذي راح يح دثني عن األرض‪،‬‬
‫فيقول(‪ :)1‬األرض كوكب يعج بالحياة‪ ،‬ويحوي الكثير من األنظمة المعق دة ال تي تعم ل‬
‫مع بعضها البعض بشكل متكامل مت وازن وب دون أي توق ف‪ ..‬وعن دما نق ارن األرض‬
‫بالكواكب األخرى‪ ،‬يتضح من النظرة األولى أن األرض تتم يز بتص ميم خ اص لحي اة‬
‫البشر‪ ،‬فقد بُنيت بتوازن دقيق بحيث تغلب الحياة على كل بقع ة من بقاعه ا‪ ،‬من أع الي‬
‫الغالف الجوي حتى أعماق األرض‪.‬‬
‫قلت له‪ :‬هال وضحت لي ذلك‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬مثال ن رى أن حجم األرض ه و الحجم المث الي من حيت الكتل ة لتتمس ك‬
‫بغالفها الجوي‪ ..‬ولهذا إذا نقصت هذه الكتل ة قليالً‪ ،‬س تكون ق وة الجاذبي ة غ ير كافي ة‪،‬‬
‫وس يتبدد الغالف الج وي في الفض اء‪ ..‬أم ا إذا ازدادت كتلته ا قليالً‪ ،‬ف إن ق وة الجاذبي ة‬
‫ستزداد بشكل كبير‪ ،‬وستتشرب األرض كل الغازات الموجودة في الغالف الجوي‪..‬‬
‫وهك ذا ن رى أن ُس مك القش رة األرض ية يح وي نوع ا آخ ر مهم ا من الت وازن‬
‫الدقيق‪ ..‬فلو كانت القشرة األرضية أس مك‪ ،‬النتق ل الكث ير من األوكس جين من الغالف‬
‫الج وي إلى القش رة األرض ية‪ ،‬وه و م ا يس بب في ت أثيرات خط يرة على الحي اة‬
‫ق‪ ،‬ف إن ال براكين ستنش ط‬ ‫البش رية‪..‬أم ا إذا ك ان العكس‪ ،‬وك انت القش رة األرض ية أر ّ‬
‫كثيرا‪ ،‬ويكون حينها من الصعب أن توجد حياة‪.‬‬
‫وهكذا نرى التوازن في طبقة األوزون في الغالف الجوي‪ ،‬وهو أم ر حاس م في‬
‫حياة البشر‪ ،‬ألنه إذا كانت أقل سم ًكا مما هي عليه حاليًا‪ ،‬ألصبحت حرارة سطح الك رة‬
‫ق بقلي ل ف إن ح رارة س طح األرض س تكون‬ ‫األرضية منخفضة جدًا‪ ..‬أما إذا ك انت أر ّ‬
‫مرتفعة جدًا‪ ،‬وسينفذ الكثير من األشعة فوق البنفسجية‪.‬‬
‫وهكذا نرى التوازن في وضع ه ذه األرض ال تي نعيش عليه ا‪ ،‬لتك ون ص الحة‬
‫لنوع الحياة‪ .‬فإن افتراض أي اختالل في أية نسبة من نسبها يؤدي بهذه الحياة كله ا‪ ،‬أو‬
‫ال يسمح أصالً بقيامها‪ ..‬فحجم هذه األرض‪ ،‬وكتلتها‪ ،‬وبع دها عن الش مس‪ .‬وكتل ة ه ذه‬
‫الش مس‪ ،‬ودرج ة حرارته ا‪ ،‬ومي ل األرض على محوره ا به ذا الق در‪ ،‬وس رعتها في‬
‫دورتها حول نفسها وحول الش مس‪ .‬وبع د القم ر عن األرض وحجم ه وكتلت ه وتوزي ع‬
‫الم اء والي ابس في ه ذه األرض‪ ..‬إلى آالف من ه ذه النس ب المق درة تق ديراً‪ ،‬ل و وق ع‬
‫االختالل في أي منها لتبدل كل شيء‪ ،‬ولكانت هي النهاية المقدرة لعمر هذه الحياة على‬
‫هذه األرض!‬
‫قلت‪ :‬ألهذه الدرجة كان للتوازن دوره في حفظ األرض‪ ،‬وما عليها من حياة؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬إن فقدان توازن واحد فق ط من ه ذه التوازن ات سيض ع نهاي ة للحي اة‬
‫على األرض‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فهل يمكن أن تكون كل هذه التوازنات الدقيقة‪ ،‬ما علمنا منه ا‪ ،‬وم ا لم نعلم‬
‫وجدت هكذا بمحض صدفة؟‬

‫‪ )( 1‬انظر مقاال بعنوان‪ :‬التوازن في الكون‪ ،‬وهذه المعلومة موجودة في المصادر المختلفة‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫سكت‪ ،‬وقال‪ :‬سل عقلك‪ ..‬فستجد فيه كل األجوبة‪ ..‬وال تسل الناس‪ ،‬فيضلوك‪.‬‬
‫وق د ع رفت حينه ا من يقص د‪ ،‬فق د ك ان أك ثر من ي درس في تل ك الجامع ة من‬
‫المالحدة‪ ،‬وق د خش ي أن يس ميهم لي‪ ،‬فل ذلك اكتفى ب داللتي على األس تاذ األك بر ال ذي‬
‫نصبه هللا في شخص كل إنسان‪ ..‬أستاذ العقل‪ ..‬حجة هللا على عباده‪ ،‬ورسوله إليهم‪.‬‬
‫***‬
‫أما األستاذ الثاني الذي اهتديت به لبعض مظ اهر الت وازن في الك ون‪ ،‬فق د ك ان‬
‫أستاذ الفلك‪ ،‬الذي راح يحدثني كما يحدث زمالئي عن عجائب الكون‪ ،‬والنظ ام ال دقيق‬
‫الذي يسير به‪..‬‬
‫وك ان مم ا ذك ره لن ا قول ه‪ :‬إن ك ل م ا ت رون في الك ون من نج وم وك واكب‬
‫موض وعة في محال ة بدق ة عالي ة‪ ..‬فلك ل نجم وك وكب فل ك أو م دار‪ ،‬ال يتج اوزه في‬
‫جريانه أو دورانه‪ ..‬والمسافات بين النج وم والك واكب مس افات هائل ة اليمكن تخيله ا‪..‬‬
‫وقد قدر لها أن تكون ك ذلك لتحف ظ من التص ادم والتص دع‪ ..‬فالش مس ال ينبغي له ا أن‬
‫تدرك القمر‪ ..‬والليل ال يسبق النه ار‪ ،‬وال يزحم ه في طريق ه‪ ،‬ألن ال دورة ال تي تجيء‬
‫بالليل والنهار ال تختل أبداً فال يسبق أحدهما اآلخر أو يزحمه في الجريان‪.‬‬
‫لقد وجدت بعد إيم اني‪ ،‬وبع د بح ثي عن اإلل ه الحقيقي أن م ا ذك ره أس تاذنا في‬
‫الفل ك ليس س وى إع ادة ص ياغة لم ا ورد في الق رآن الك ريم من الح ديث عن الك ون‪،‬‬
‫الش ْمسُ يَ ْنبَ ِغي لَهَ ا أَ ْن تُ ْد ِركَ ْالقَ َم َر َواَل اللَّ ْي ُل‬
‫وتوازناته الدقيقة‪ ،‬فاهلل تع الى يق ول‪﴿ :‬اَل َّ‬
‫ك يَ ْسبَحُونَ ﴾ [يس‪]40 :‬‬ ‫ار َو ُك ٌّل فِي فَلَ ٍ‬
‫ق النَّهَ ِ‬
‫َسابِ ُ‬
‫***‬
‫أما األستاذ الثالث الذي اهتديت به لبعض مظ اهر الت وازن في الك ون‪ ،‬فق د ك ان‬
‫أس تاذ عل وم الحي اة‪ ،‬فق د فس ر لن ا من حيث ال يش عر قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬و َم ا ِم ْن دَابَّ ٍة فِي‬
‫ض َواَل طَائِ ٍر يَ ِطي ُر بِ َجنَا َح ْي ِه إِاَّل أُ َم ٌم أَ ْمثَالُ ُك ْم َما فَر ْ‬
‫َّطنَ ا فِي ْال ِكتَ ا ِ‬
‫ب ِم ْن َش ْي ٍء ثُ َّم إِلَى‬ ‫اأْل َرْ ِ‬
‫َربِّ ِه ْم يُحْ َشرُونَ ﴾ [األنعام‪]38 :‬‬
‫لقد قال لنا في ذل ك‪ ،‬وه و يض رب لن ا بعض األمثل ة عن الت وازن الموج ود في‬
‫األحياء‪ :‬إن الجوارح التي تتغذى بصغار الطيور قليلة العدد‪ ،‬ألنها قليل ة ال بيض‪ ،‬قليل ة‬
‫التفريخ‪ ،‬فضالً على أنها ال تعيش إال في مواطن خاصة محدودة‪ ..‬وهي في مقاب ل ه ذا‬
‫طويلة األعمار‪ ،‬ولو كانت مع عمرها الطويل‪ ،‬كثيرة الف راخ مس تطيعة الحي اة في ك ل‬
‫موطن‪ ،‬لقضت على صغار الطي ور وأفنته ا على كثرته ا وك ثرة تفريخه ا‪ ..‬وذل ك كي‬
‫تتعادل عوامل البقاء وعوامل الفناء بين الجوارح والطيور‪.‬‬
‫وض رب لن ا األمثل ة على ذل ك أيض ا بالذباب ة ال تي ت بيض ماليين البويض ات‪،‬‬
‫ولكنها ال تعيش إال أسبوعين‪ ..‬ولو كانت تعيش بضعة أعوام‪ ،‬تبيض فيه ا به ذه النس بة‬
‫لغطى الذباب وجه األرض بنتاجه؛ ولغدت حياة كث ير من األجن اس‪ ،‬وأوله ا اإلنس ان‪،‬‬
‫مستحيلة على وجه هذه األرض‪ ..‬ولكن التوازن ال ذي ال يخت ل‪ ،‬في الق درة ال تي ت دبر‬
‫هذا الكون‪ ،‬وازنت بين كثرة النسل وقصر العمر فكان هذا الذي نراه‪.‬‬
‫وذكر لنا الميكروبات‪ ،‬وهي أكثر األحياء عدداً‪ ،‬وأسرعها تكاثراً‪ ،‬وأشدها فتك ا‪ً،‬‬

‫‪172‬‬
‫وهي كذلك أضعف األحياء مقاومة وأقصرها عمراً‪ ،‬حيث تم وت بماليين الماليين من‬
‫ال برد‪ ،‬ومن الح ر‪ ،‬ومن الض وء‪ ،‬ومن أحم اض المع دات‪ ،‬ومن أمص ال ال دم‪ ،‬ومن‬
‫عوامل أخرى كثيرة‪ ،‬وال تتغلب إال على عدد محدود من الحيوان واإلنسان‪ ،‬ولو كانت‬
‫قوية المقاومة أو طويلة العمر لدمرت الحياة واألحياء‪.‬‬
‫وذك ر لن ا عج ائب الت وازن في خل ق الطي ور‪ ..‬حيث خلقت أجس ام الطي ور في‬
‫تصميم خ اص يلغي أي احتم ال الختالل الت وازن أثن اء الط يران‪ ..‬ف رأس الط ير مثالً‬
‫ص ِّم َم ليكون بوزن خفيف حتى ال ينحني الطائر أثناء الطيران‪ ..‬وبنية الري اش متناس بة‬ ‫ُ‬
‫مع الديناميكية الهوائية‪ ،‬حيث تس هم الري اش‪ ،‬وخاص ة ري اش ال ذيل واألجنح ة بش كل‬
‫فعال جداً في توازن الطائر‪..‬‬
‫***‬
‫أما األستاذ الرابع الذي اهتديت به لبعض مظ اهر الت وازن في الك ون‪ ،‬فق د ك ان‬
‫أستاذ العلوم‪ ،‬وقد ضرب لنا أمثلة كثيرة عن ذلك أبدعها هللا في جسم اإلنسان‪ ،‬قال لن ا‪،‬‬
‫وهو متفاعل تفاعال شديدا مع درسه(‪ :)1‬إذا جئنا إلى تشريح اإلنسان نفسه فسوف نرى‬
‫المعجز والملغز من أمر هذا التوازن الدقيق المحسوب‪ ..‬فكل عنصر ل ه في ال دم نس بة‬
‫ومقدار‪ ..‬الصوديوم‪ ..‬البوتاسيوم‪ ..‬الكالس يوم‪ ..‬الس كر‪ ..‬الكوليس ترول‪ ..‬البولين ا‪ ..‬وأي‬
‫اختالل في هذه النسب ولو بمقادير ضئيلة يك ون معن اه الم رض‪ ..‬ف إذا تف اقم االختالل‬
‫فه و العج ز والم وت‪ ..‬والجس م مس لح بوس ائل آلي ة تعم ل في تلقائي ة على حف ظ ه ذا‬
‫التوازن طوال الحياة‪.‬‬
‫بل إن قلوية الدم لها ضوابط لحفظها‪ ..‬وحموض ة الب ول له ا ض وابط لحفظه ا‪..‬‬
‫ودرجة الحرارة المكيفة دائما ً عند ‪ 37‬مئوية من ورائها عمليات فس يولوجية وكيميائي ة‬
‫ثابتة متزنة عن هذا المستوى‪ ..‬وكذلك ضغط الدم‪ ..‬وت وتر العض الت‪ ..‬ونبض القلب‪..‬‬
‫ونظام االمتصاص واإلخراج‪ ..‬ونظام االحتراق الكيميائي في ف رن الكب د‪ ..‬ثم االت زان‬
‫العصبي بين عوامل التهدئة واإلثارة‪.‬‬
‫ثم عملية التنظيم التي تق وم به ا الهرمون ات واإلنزيم ات بين التعجي ل واإلبط اء‬
‫للعمليات الكيميائية والحيوية‪.‬‬
‫وق ال لن ا‪ ،‬وق د خف ف من بعض انفعال ه متح دثا عن دور الفيتامين ات في حي اة‬
‫اإلنسان‪ :‬لقد تنبه العالم في فترة متأخرة إلى أهمية الفيتامينات‪ ..‬وال شك أن اإلنسان ق د‬
‫ع اش ماليين الس نين دون أن ي دري بوج ود ه ذه الم واد الض رورية لبقائ ه على قي د‬
‫الحياة‪ ..‬مع أهميتها الشديدة‪ ،‬فنقصانها أو فقدانها يسبب الكثير من األم راض المعروف ة‬
‫بأمراض نقص التغذية‪.‬‬
‫وهكذا عاش اإلنسان فترات طويلة قب ل أن يع رف وظ ائف المعام ل الكيمياوي ة‬
‫الصغيرة المعروفة باسم الغدد الصماء‪ ،‬التي تمده بالتركيبات الكيمياوية الضرورية ل ه‬
‫ضرورة مطلقة‪ ،‬والتي تصنعها وتسيطر على وجوه نشاطه‪ .‬وفضال عن ذلك‪ ،‬فان تلك‬

‫‪ )(1‬رحلتي من الشك إلى اإليمان‪ ،‬مصطفى محمود‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫المواد التي بلغت من القوة أن جزءا من بلي ون منه ا يح دث آث ارا بعي دة الم دى‪ ..‬وهي‬
‫مرتبة بحيث ينظم كل منها غيرها‪ ،‬ويضبطه ويوازنه‪ ..‬ومن المتفق عليه أن ه إذا اخت ل‬
‫توازن هذه االفرازات المعقدة تعقيدا مدهشا‪ ،‬فإنها تحدث اختالال ذهني ا وجس مانيا ب الغ‬
‫الخط ر‪ ..‬ول وعمت ه ذه الكارث ة النتش رت المدين ة وانحطت البش رية إلى حال ة‬
‫الحيوانات‪ ،‬هذا إذا بقيت على قيد الحياة‪.‬‬
‫***‬
‫أما األستاذ الخامس الذي اهتديت به لبعض مظاهر التوازن في الكون‪ ،‬فق د ك ان‬
‫ض َم َد ْدنَاهَا‬‫﴿واأْل َرْ َ‬ ‫أستاذ علوم النب ات‪ ،‬وق د فس ر لن ا من حيث ال يش عر قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫ش‬‫اس َي َوأَ ْنبَ ْتنَا فِيهَ ا ِم ْن ُك ِّل َش ْي ٍء َم وْ ُزو ٍن (‪َ )19‬و َج َع ْلنَ ا لَ ُك ْم فِيهَ ا َم َع ايِ َ‬ ‫َوأَ ْلقَ ْينَا فِيهَا َر َو ِ‬
‫َر َم ْعلُ ٍ‬
‫وم (‬ ‫ازقِينَ (‪َ )20‬وإِ ْن ِم ْن َش ْي ٍء إِاَّل ِع ْن َدنَا خَزَ ائِنُهُ َو َما نُن َِّزلُهُ إِاَّل بِقَد ٍ‬
‫َو َم ْن لَ ْستُ ْم لَهُ بِ َر ِ‬
‫‪[ ﴾)21‬الحجر‪]21 - 19 :‬‬
‫وقد حكى لنا للداللة على ذلك قصة نبتة الصبار‪ ،‬فقال‪ :‬منذ س نوات عدي دة زرع‬
‫نوع من الصبار في استراليا‪ ،‬كسياج وقاتي‪ ..‬ولكن هذا ال زرع مض ى في س بيله ح تى‬
‫غطى مس احة تق رب من مس احة انجل ترا‪ ،‬وزاحم أه الى الم دن والق رى‪ ،‬وأتل ف‬
‫مزارعهم‪ ،‬وحان دون الزراعة‪ ،‬ولم يجد األهالى وسيلة لصده عن االنتشار‪ ،‬وص ارت‬
‫أستراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرع صامت‪ ،‬يتقدم في سبيله دون عائق!‬
‫وطاف علماء الحشرات بن واحي الع الم ح تى وج دوا أخ يرا حش رة ال تعيش إال‬
‫على ذلك الصبار وال تتغذى بغيره‪ ،‬وهي سريعة االنتش ار وليس له ا ع دو يعوقه ا في‬
‫استراليا‪ ..‬وما لبثت هذه الحشرة حتى تغلبت على الصبار‪ ،‬ثم ت راجعت‪ ،‬ولم يب ق منه ا‬
‫سوى بقية قليلة للوقاية‪ ،‬تكفي لصد الصبار عن االنتشار إلى االبد‪..‬‬
‫وهكذا كانت هذه الدروس وغيرها سببا له دايتي‪ ،‬وس رعان م ا رحت أبحث في‬
‫األديان عن اإلله الذي يتناسب مع هذا الكون المتوازن‪ ،‬وسرعان ما وجدته في الق رآن‬
‫الكريم‪ ،‬فقد كان الكتاب المقدس الوحي د ال ذي ع رف هللا بك ل ص فات الكم ال من دون‬
‫تحريف وال تبديل‪ ..‬وكان الكتاب الوحيد الذي صحح ما أضافه الكتبة الكذب ة إلى س ائر‬
‫الكلمات المقدسة التي كلم هللا بها عباده‪.‬‬
‫***‬
‫ما أنهى صاحبنا حديثه حتى انتش رت أن وار لطيف ة على تل ك الروض ة الجميل ة‬
‫التي اجتمع فيها كل أولئك العلماء المنورين بنور اإليمان‪ ،‬وقد سرى أريج تلك األن وار‬
‫إلى كل لطائفي‪ ،‬فصرت أرى عظمة هللا‪ ،‬وهي تتجلى بكل بهاء وجمال في ك ل ص نعة‬
‫من مصنوعاته‪.‬‬
‫ورأيتها جميعا تدعونا بلسان حالها ومقالها إلى رحل ة أعظم وأش رف ن رى فيه ا‬
‫الحقائق‪ ،‬ونتصل بها‪ ،‬ونتعايش معها بك ل س عادة‪ ..‬فاهلل م ا أران ا ب ديع ص نعه وجمي ل‬
‫فضله إال لنهتدي إليه‪ ،‬ونطرق بابه‪ ،‬حتى ال نحجب بالصنعة عن الص انع‪ ،‬وبالتص ميم‬
‫عن المصمم‪ ،‬وبالجمال عن الجميل المبدع‪.‬‬

‫‪174‬‬
‫اآليات الباهرة‬
‫في تلك اللحظات‪ ،‬جاءني رجل على أريكته العجيب ة المتحرك ة‪ ،‬واق ترب م ني‪،‬‬
‫وقال‪ :‬كما أن الصنعة تحتاج إلى صانع‪ ..‬والتصميم إلى مصمم‪ ..‬واإلب داع إلى مب دع‪..‬‬
‫والنظام إلى منظم‪ ..‬فإن اآلية تحتاج إلى عليم قدير لطيف له من الكمال ما يعجز العق ل‬
‫عن معرفته‪ ..‬فهلم بنا إلى روضة [اآليات الباهرة]‪ ،‬لتسمع من رفاقي في اإليمان كي ف‬
‫رحلوا إلى هللا عن طريق النظر في آياته الباهرة‪ ،‬ومعجزاته الخارقة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أراك تريد أن تأخ ذني إلى أق وام األنبي اء ال ذين ع اينوا المعج زات‪ ،‬ورأو‬
‫اآليات الباهرات‪ ،‬مثل ناقة صالح‪ ،‬وعصا موسى‪ ،‬ومائدة المسيح؟‬
‫قال‪ :‬وهل اآليات والمعجزات خاصة بذلك؟‬
‫قلت‪ :‬ه ذا م ا نعرف ه‪ ..‬ول ذلك ن رى من مالح دة قومن ا من يطلب ون المعج زات‬
‫الحسية الخارق ة ليؤمن وا‪ ..‬فيتوق ف المؤمن ون عن ج وابهم‪ ،‬ألن ذل ك يرتب ط بالرس ل‪،‬‬
‫وليس بآحاد الناس‪.‬‬
‫قال‪ :‬لو أنكم قرأتم القرآن الكريم لع رفتم أن اآلي ات والمعج زات مبثوث ة في ك ل‬
‫شيء‪ ،‬وان اسم هللا موضوع في كل مسمى‪ ،‬بل ال مسمى من دونه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنت تذكرني بقول أبي العتاهية‪:‬‬
‫تدل على أنه‬ ‫وفي كل شيء له‬
‫واحد‬ ‫آية‬
‫ف اللَّ ْي ِل‬ ‫ض َو ْ‬
‫اختِاَل ِ‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ق ال َّس َم َ‬‫قال‪ :‬وأذكرك قبله بقوله تعالى‪﴿ :‬إِ َّن فِي َخ ْل ِ‬
‫اس َو َم ا أَ ْن زَ َل هَّللا ُ ِمنَ َّ‬
‫الس َما ِء ِم ْن َم ا ٍء‬ ‫ك الَّتِي تَجْ ِري فِي ْالبَحْ ِر بِ َما يَ ْنفَ ُع النَّ َ‬ ‫ار َو ْالفُ ْل ِ‬
‫َوالنَّهَ ِ‬
‫ب ْال ُم َس َّخ ِر‬
‫اح َوالس ََّحا ِ‬
‫يف الرِّ يَ ِ‬‫ث فِيهَا ِم ْن ُكلِّ دَابَّ ٍة َوتَصْ ِر ِ‬ ‫فَأَحْ يَا بِ ِه اأْل َرْ َ‬
‫ض بَ ْع َد َموْ تِهَا َوبَ َّ‬
‫ت لِقَوْ ٍم يَ ْعقِلُونَ ﴾ [البقرة‪ ،]164 :‬وغيره ا من اآلي ات الكث يرة‬ ‫ض آَل يَا ٍ‬‫بَ ْينَ ال َّس َما ِء َواأْل َرْ ِ‬
‫التي تدعو إلى النظر في اآليات المبثوثة في الكون‪ ..‬فكل آية منها دليل ق ائم بذات ه على‬
‫هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكرتني بعلم من أعالمن ا المعاص رين(‪ )1‬ص اغ ه ذا الن وع من األدل ة‬
‫صياغة منطقية‪ ،‬فقال‪( :‬والحجة القرآني ة ه ذه يمكن وض عها في ه ذا الش كل المنطقي‪،‬‬
‫كأن نقول مخاطبين الملحد‪ :‬أنت تعلم من نفسك أنك حادث وجدت بعد أن لم تكن‪ ..‬فإم ا‬
‫أن تكون قد وجدت من العدم أو أن ش يئا ً أوج دك‪ ..‬من المس تحيل أن توج د من الع دم‪..‬‬
‫إذن فق د أوج دك ش يء‪ ..‬ه ذا الموج د إم ا أن يك ون نفس ك أو أن يك ون غ يرك‪ ..‬من‬
‫المستحيل أن تكون أنت الذي أوجدت نفسك‪ ..‬إذن البد أن يكون شيء غيرك ه و ال ذي‬

‫‪ )(1‬أقصد محمد أبو القاسم حاج حمد (‪2004-1941‬م)‪ ،‬فقد دعا في كتبه إلى االهتمام بهذا الن وع من األدل ة‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫(هذه الحجة القرآنية ‪ -‬التي أس ميناها دلي ل اآلي ات ‪ -‬يمكن وض عها هي األخ رى في ص يغة من الص يغ المنطقي ة العقلي ة‬
‫المعروفة‪ ،‬وذلك أن الحجج المنطقية ليست محصورة في االستنباط‪ ،‬أو ما كان يسميه علماؤنا بقياس الش مول‪ ،‬ب ل هنال ك‬
‫حجج أخرى منطقية عقلي ة ص حيحة يس تعملها الن اس في عل ومهم ب ل في حي اتهم اليومي ة‪ ،‬وإن لم يص وغها الص ياغات‬
‫المنطقية)‬

‫‪175‬‬
‫أوجدك‪ ..‬هذا الغير إما أن يكون مثل ك في حاجت ه إلى من يوج ده أو ال يك ون‪..‬ال يمكن‬
‫أن يكون مثلك؛ إذ ما قيل عنك سيقال عنه أيضاً‪ ..‬البد إذن أن يك ون خالق ا ً بنفس ه غ ير‬
‫مفتقر إلى من يوجده؛ وهذا هو هللا تعالى)‬
‫قال‪ :‬صدق في ذلك‪ ..‬فكل شيء خلقه هللا آية دال ة علي ه‪ ..‬وهلم بن ا إلى أص حابنا‬
‫ليحدثوك عن آيات هللا في خلقه‪ ،‬وكيف أنقذتهم من جحيم اإللحاد‪ ،‬وقذفت بهم في جن ان‬
‫اإليمان؟‬
‫س رت مع ه بين تل ك الجن ات‪ ،‬كم ا طلب م ني‪ ،‬إلى أن رأيت روض ة ال يمكن‬
‫وصف جمالها‪ ،‬فقد كانت معجزة بكل ما في الكلمة من معنى‪ ،‬ح تى أن اللغ ة ال تس مح‬
‫بوصف ما فيها‪.‬‬
‫برهان الكون‪:‬‬
‫ما إن وصلنا‪ ،‬واستقر بنا المجلس في تلك الروض ة البديع ة‪ ،‬وس لمت على ذل ك‬
‫الجمع المنور بنور اإليمان‪ ،‬وسلموا علي‪ ،‬حتى قال أحدهم مخاطبا رسولهم ال ذي ج اء‬
‫بي إليهم‪ :‬فلتبدأ أنت يا صاحب النفس الطاهرة‪ ،‬والعقل الس ليم لتح دثنا عن رحلت ك إلى‬
‫هللا‪ ،‬وكي ف تمت‪ ،‬وكي ف خ رجت من س جون المالح دة وجحيمهم‪ ،‬لتن ال فض ل هللا‬
‫بالدخول إلى روضات جنات المؤمنين؟‬
‫قال‪ :‬ال أزال أذكر تل ك األي ام جي دا‪ ،‬حينه ا كنت أص يح في ك ل حين في وج وه‬
‫المؤمنين‪ :‬إن كان إللهكم وجود فليرنا نفسه‪ ،‬أو ليعلن عنه ا‪ ،‬أو ليظه ر آي ة من اآلي ات‬
‫حتى لو كانت بسيطة‪ ..‬فال يمكن أن نؤمن بشيء من غير أن يظهر نفسه‪.‬‬
‫وكنت أضيف إلى هذه الكلمات الكثير من التصرفات التهريجية التي أتح دى بهم‬
‫المؤمنين‪ ،‬فأضع ورقة صغيرة على الطاولة‪ ،‬وأقول لهم‪ :‬أنتم تزعم ون أن إلهكم ق ادر‬
‫على كل شيء‪ ..‬ما دام كذلك‪ ،‬فليظهر نفسه برف ع ه ذه الورق ة‪ ،‬ول و م ترا واح دا‪ ..‬ب ل‬
‫حتى سنتمتر‪ ..‬أو ملمتر‪.‬‬
‫ثم أمكث مدة أنتظر‪ ..‬وبعدها أقول لهم‪ :‬هل رأيتم عج ز إلهكم؟‪ ..‬إن ه ال يس تطيع‬
‫رفع ورقة مع أننا أعطيناه وقتا كافيا لفعل ذلك‪.‬‬
‫ثم أطلب من صبي من الص بيان أن يحم ل الورق ة‪ ،‬ويرفعه ا‪ ،‬ثم أق ول‪ :‬ه ا أنتم‬
‫رأيتم بأم أعينكم أن هذا الصبي الصغير أقوى من إله المؤمنين‪.‬‬
‫وكان المؤمنون عندما يسمعون هذا يتألمون‪ ،‬وال يجدون ما يقول ون‪ ،‬وإن ك انوا‬
‫في قرارة قلوبهم يتمنون لو أن هللا حقق المعجزة‪ ،‬ورف ع الورق ة‪ ..‬أم ا غ يرهم‪ ،‬فك انوا‬
‫يض حكون ويص فرون ويرقص ون ويتص ورون أن ني ق د وض عت حج را في أف واه‬
‫المؤمنين بتلك اللعب التي ألعبها‪.‬‬
‫لك ني في ق رارة نفس ي لم أكن مقتنع ا بم ا أق ول‪ ،‬فاهلل ليس ملزم ا أن يس تجيب‬
‫ألمثالي من الساخرين‪ ،‬ولو أنه فعل ذلك ألصبح الكل يطالب ه بم ا يش اء‪ ،‬ولتغ ير نظ ام‬
‫المجتم ع‪ ،‬ب ل نظ ام الك ون ألن هن اك من ال يقن ع برف ع الورق ة‪ ،‬فيطالب ه ب أن يغيب‬
‫الشمس‪ ،‬أو يحول الليل نهارا والنهار ليال‪ ..‬أو يقتل فالنا‪ ..‬أو يحيي ميتا‪ ..‬وهكذا يصبح‬
‫الكل يتدلل على هللا‪ ،‬ويطالبه بالمعجزات ليمن عليه بعد ذلك باإليمان‪ ..‬وكأن هللا مفتق ر‬

‫‪176‬‬
‫لخلقه حتى يؤمنوا به‪.‬‬
‫وعندما أعود إلى بيتي‪ ،‬ويع ود إلي الكث ير من عقلي أدرك أن ني لم أكن أم ارس‬
‫احتجاج ات عقلي ة‪ ،‬ب ل كنت أم ارس مغالط ات تهريجي ة ال عالق ة له ا ب المنطق‪ ،‬وال‬
‫بالعقل‪.‬‬
‫بل إنني كنت أشعر أنني لم أكن أغالط إال نفسي‪ ،‬ف أين اإللح اد‪ ،‬وأين المنطق؟‪..‬‬
‫وهل يمكن أن يكون الملحد منطقيا أو عقالنيا؟‪ ..‬وكيف يكون كذلك‪ ،‬وه و ال ي ؤمن إال‬
‫بالم ادة‪ ،‬والم ادي ال يمكن ه أن ي ؤمن بق وانين المنط ق‪ ،‬ألن ه يعتق د ب أن ك ل ش يء في‬
‫الوجود مادة فقط‪ ..‬وقوانين المنطق ليست مادية‪ ..‬ولهذا فإن قوانين المنطق ال يمكن أن‬
‫تتواج د في الع الم اإللح ادي‪ ..‬وب الرغم من ذل ك‪ ،‬ف إن ال ُملح د ين اقض نفس ه حين‬
‫يستخدمها‪..‬‬
‫إنه في ذلك يشبه الشخص الذي يذكر أنه ال ي ؤمن ب الهواء‪ ،‬وفي نفس ال وقت ال‬
‫يستطيع أن يعيش من دون هواء‪ ..‬هك ذا ه و الملح د بالض بط‪ ،‬ه و ينك ر الس يارة ال تي‬
‫يركبها‪ ،‬ويجحد العقل الذي يستعمله‪ ،‬ويغفل عن الحقيقة التي يستند إليها وجوده‪.‬‬
‫***‬
‫أذكر أني التقيت بعد نهاية بعض تلك التهريجات قسا مس يحيا‪ ،‬فقلت ل ه س اخرا‪:‬‬
‫هل تؤمن بأن المسيح مشى على الماء؟‬
‫فقال لي‪ :‬أجل‪ ..‬وأنت هل تؤمن بأن الماء وجد هكذا وحده من ال شيء؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬أنا أؤمن بذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬فلماذا تنكر علي معجزة أنت تؤمن بما هو أخطر منها‪ ..‬ف إن قلت لي‪ :‬أثبت‬
‫لي بأن المسيح مشى على الماء‪ ..‬فإني سأقول لك أنا أيضا‪ :‬أخرج لي لترا أو قطرة من‬
‫الماء من الشي‪..‬‬
‫ثم قال لي‪ :‬أنا أؤمن بإله خالق يستطيع أن يُعط ل أو يعّل ق ق وانين الطبيع ة ال تي‬
‫خلقها‪ ،‬ويمارس ما شاء فيها من المعج زات‪ ،‬ألن ه ال ش يء يعج زه‪ ..‬وق د دل ني ال دليل‬
‫العقلي على ذلك‪ ..‬ذلك أن ه أثبت لي قدرت ه بك ل ه ذه اآلي ات المعج زات ال تي أراه ا‪..‬‬
‫وبذلك فأنا ال أقفز على عقلي‪ ،‬وال أؤمن بالخرافة‪ ..‬ألني ما دمت مؤمن ا ب أن هللا خ الق‬
‫كل شيء في الك ون‪ ،‬فليس من الغراب ة أن أؤمن بأن ه ليس مقي دا بق وانين الك ون ال ذي‬
‫خلقه هو‪ ،‬ووضعها هو‪ ..‬وب ذلك ف إن هللا م ا دام خل ق الم اء‪ ،‬فإن ه بالتأكي د يس تطيع أن‬
‫يجعل في أي شخص شاء القدرة على أن يمشي عليه‪.‬‬
‫***‬
‫ثم قال لي‪ ،‬وهو يبتسم(‪ :)1‬أنتم أيضا تؤمنون بالمعجزات التي تنسبونها للص دفة‬
‫والطبيعة‪ ..‬بل إن معج زاتكم أخط ر من معجزاتن ا‪ ،‬ألنن ا ننس ب معجزاتن ا لعاق ل عليم‬
‫خبير‪ ،‬وأنتم تنسبون معجزاتكم لطبيعة عمياء بكماء صماء ال عق ل له ا‪ ..‬ونحن ننس بها‬
‫إلله مريد يعرف ماذا يفعل‪ ..‬وأنتم تنسبونها لطبيعة عشوائية ال تعرف شيئا‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر مقاال بعنوان‪ :‬اإللحاد‪ :‬أساطير وخرافات‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫ثم قال لي بعد أن صمت أمامه‪ ،‬فلم أجد ما أقول له‪ :‬أخبر أص دقاءك التط وريين‬
‫الذين يذكرون أن النجوم والكواكب تش كلت عن دما ض غطت أج زاء من الم ادة والغ از‬
‫ض غطا تلقائيً ا أنهم ينتهك ون ق انون الع الم [بوي ل] عن الغ ازات‪ ،‬وال ذي يص رح ب أن‬
‫الغازات ال يمكن ضغطها بدون آليات داخلية‪ ..‬فما هي اآلليات التي تدخلت هنا؟‬
‫لم أجد ما أجيبه به‪ ،‬فقال‪ :‬ال شيء‪ ..‬إنهم يذكرون أنها حدثت بنفسها‪ ..‬أي أن ك ل‬
‫ذلك حصل معجزة‪ ..‬وهم يعتقدون بأن الكائنات البيولوجية تستطيع أن تنتج نسال ع الي‬
‫التعقي د بواس طة االنتق اء الط بيعي‪ ..‬م ع أن ه ذا ليس علم ا‪ ،‬ب ل إن ه ي دخل في نط اق‬
‫المعجزات‪.‬‬
‫ثم سكت قليال‪ ،‬وقال‪ :‬أخبرهم أن لديهم من المعج زات في دي انتهم التطوري ة م ا‬
‫يفوق ما لدينا من معجزات‪ ..‬ألن كل ما نؤمن به ليس خوارق‪ ،‬وإنما هي حق ائق ألنه ا‬
‫مستندة لقدير على كل شيء‪ ،‬والقادر على كل شيء ال يعجزه شيء‪.‬‬
‫***‬
‫التقيت بعده رجال من المسلمين‪ ،‬رحت أسخر منه قائال‪ :‬أليس في كتابكم المقدس‬
‫هذه اآلية‪ ﴿ :‬قُ ْلنَا يَانَا ُر ُكونِي بَرْ دًا َو َساَل ًما َعلَى إِب َْرا ِهي َم﴾ [األنبياء‪]69 :‬‬
‫فقال‪ :‬أجل‪ ..‬هي فيه‪ ..‬ونحن نعتقد بموجبها‪ ،‬وموجب غيرها من اآليات أن النار‬
‫ال تحرق إال بإرادة هللا‪ ،‬فإذا شاء هللا لها أن تحرق أحرقت‪ ،‬وإن لم يشأ لم تفعل‪ ..‬ونعتقد‬
‫فوق ذلك أن الماء مائع بمشيئة هللا‪ ،‬فإذا ش اء هللا ل ه أن يك ون ص لبا ص ار ص لبا‪ ..‬لق د‬
‫ق‬ ‫ك ْالبَحْ َر فَ ا ْنفَلَ َ‬ ‫صا َ‬ ‫اض ِربْ بِ َع َ‬ ‫وس ى أَ ِن ْ‬ ‫ذكر كتابنا المقدس ذلك‪ ،‬فقال‪﴿ :‬فَأَوْ َح ْينَا إِلَى ُم َ‬
‫ق َكالطَّوْ ِد ْال َع ِظ ِيم ﴾ [الشعراء‪]63 :‬‬ ‫فَ َكانَ ُكلُّ فِرْ ٍ‬
‫قلت‪ :‬أال ترى أنك بهذه االعتقادات لم تبق إنس انا عص ريا وال علمي ا‪ ،‬ب ل ع دت‬
‫إلى القرون البدائية الممتلئة بالجهل والخرافة؟‬
‫قال‪ :‬ال تقل ه ذا‪ ،‬فالجه ل والخراف ة موج ودة في ك ل العص ور‪ ،‬وال عالق ة له ا‬
‫بعصر دون عصر‪ ..‬وما دمت مؤمنا بأن هناك إلها خالقا لهذا الك ون‪ ،‬ف إني ال أس تطيع‬
‫أن أفرض عليه ما يفعل‪ ..‬ألن علمي لم يبلغ مبلغ علمه‪ ،‬وال قدرتي بلغت مبلغ قدرت ه‪..‬‬
‫فلذلك كان العلم والعقل يقتضي مني أن أسلم ل ه‪ ..‬مثلم ا أس لم جس دي للط بيب الخب ير‪،‬‬
‫ومثلما أسلم كل أموري للخبراء الذين أثق فيهم من دون أن أجادلهم‪.‬‬
‫لقد ذكر ربي ذلك في رسائله التي خاطبنا بها عندما أراد أن يقنعنا بوجود البعث‬
‫ب لَنَا َمثَاًل َون َِس َي خَ ْلقَهُ قَ ا َل َم ْن يُحْ ِي ْال ِعظَ ا َم َو ِه َي‬ ‫ض َر َ‬ ‫والحياة بعد الموت‪ ..‬فقد قال‪َ ﴿ :‬و َ‬
‫ق َعلِي ٌم (‪ )79‬الَّ ِذي َج َع َل لَك ْمُ‬ ‫َر ِمي ٌم (‪ )78‬قُلْ يُحْ يِيهَا الَّ ِذي أَ ْن َشأَهَا أ َّو َل َم َّر ٍة َوه َُو بِك لِّ خَ ل ٍ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ت‬
‫الس َما َوا ِ‬ ‫ق َّ‬ ‫ْس الَّ ِذي خَ لَ َ‬ ‫ض ِر نَ ارًا فَ إِ َذا أَ ْنتُ ْم ِم ْن هُ تُوقِ ُدونَ (‪ )80‬أَ َولَي َ‬ ‫الش َج ِر اأْل َ ْخ َ‬
‫ِمنَ َّ‬
‫ق ْال َعلِي ُم (‪ )81‬إِنَّ َم ا أَ ْم ُرهُ إِ َذا أَ َرا َد‬‫ق ِم ْثلَهُ ْم بَلَى َوهُ َو ْالخَ اَّل ُ‬ ‫ض بِقَ ا ِد ٍر َعلَى أَ ْن يَ ْخلُ َ‬ ‫َواأْل َرْ َ‬
‫َش ْيئًا أَ ْن يَقُو َل لَهُ ُك ْن فَيَ ُكونُ (‪[ ﴾ )82‬يس‪]83 - 78 :‬‬
‫فهذه اآليات الكريمة تثبت أن ص احب الق درة المطلق ة يمكن أن يفع ل م ا يش اء‪،‬‬
‫ضى أَ ْمرًا فَإِنَّ َما يَقُو ُل لَهُ ُك ْن فَيَ ُكونُ ﴾ [البقرة‪]117 :‬‬ ‫﴿ َوإِ َذا قَ َ‬
‫قلت‪ :‬أرى أن دينكم حول عقولكم إلى سلة للمهمالت ال يمكن أن ينفع فيها منطق‬

‫‪178‬‬
‫وال عقل‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال بأس سأس لم ل ك ج دال ب أني أعتق د بالخراف ات‪ ..‬وتع ال لنقيس خراف اتي‬
‫وخرافاتك‪ ..‬فهل تراهنني على ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬بماذا؟‬
‫قال‪ :‬بما شئت‪ ..‬وبما أنك ال تؤمن إال بالمادة‪ ..‬فحدد المبلغ ال ذي تش اء ألراهن ك‬
‫عليه‪ ،‬وحكم بيننا من تشاء من الناس‪.‬‬
‫لم أدر ما أجيبه به‪ ،‬ألني أعلم مدى ضحالة المنطق الذي أفك ر ب ه‪ ..‬فقلت‪ :‬دعن ا‬
‫من هذا‪ ،‬وأثبت لي ما نقول‪ ،‬فنحن نتحاور ال نتقامر‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬أحس نت في ه ذا‪ ..‬واع ذرني ألني اس تعملت األس لوب ال ذي يس تعمله‬
‫أصحابك ألني ظننتك مثلهم‪ ..‬وما دمت قد قلت هذا‪ ،‬فال شك أنك أعقل منهم بكثير‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هات التحدي الذي أردت أن تتحداني به‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت إن رأينا آلة عظيمة تستطيع أن تقوم بوظائف كثيرة‪ ..‬فذكرت لك أن‬
‫صاحبها الذي اخترعها والعارف بتفاصيلها يمكنه أن يعطلها م تى ش اء‪ ،‬ب ل يمكن ه إذا‬
‫أجرى عليها بعض التعديالت التي ال نراها أن يحوله ا إلى أداة لوظ ائف أخ رى‪ ..‬ه ل‬
‫أكون في ذلك مخطئا أو خرافيا؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬لن تكون كذلك‪ ..‬فمصمم اآللة أدرى بتفاصيلها‪ ..‬ولذلك هو يحتف ط من‬
‫معارفها وتقنياتها ما لم يبثه لسائر الناس‪.‬‬
‫قال‪ :‬فإذا ما قال شخص‪ :‬إن ذلك مستحيل‪ ..‬وإن صاحبها ال يستطيع ذلك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬من السهل ال رد علي ه‪ ..‬فم ا علين ا إال أن نطلب من ص احبها أن يدل ه على‬
‫بعض التفاصيل التي لم يرها غيره‪.‬‬
‫قال‪ :‬فطبق هذا على ص نعة هللا‪ ..‬فنحن ن ؤمن ب أن هللا ه و ال ذي ص مم آل ة ه ذا‬
‫الكون العظيم بكل تفاصيلها‪ ..‬ولذلك ـ باعتبار علمه وقدرته بتفاصيلها ـ يمكن أن يفع ل‬
‫ما يشاء‪ ،‬مما نعقله ومما ال نعقله‪ ..‬ألن عقولنا لن ترقى لمبلغ علمه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أصدقك في هذا لو كنت أؤمن بإله‪ ..‬وأنا ال أؤمن بإله‪.‬‬
‫قال‪ :‬في ذلك الحين أنت أشد خرافة من الذي اعترف بص احب الص نعة‪ ،‬وأنك ر‬
‫قدرته على تغييرها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬ألنك تؤمن بالكون‪ ..‬وتؤمن بحدوثه‪ ..‬وأنه كان وقت من األوق ات ال يوج د‬
‫زمان والمكان‪ ..‬ثم فجأة وج د المك ان والزم ان‪ ،‬ووج د ه ذا الك ون العظيم‪ ..‬ووج دت‬
‫الحياة بتفاصيلها من ال شيء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل أنا أؤمن بهذا‪ ..‬وهو منطقي وبديهي‪.‬‬
‫قال‪ :‬إن هذا يشبه من يعتبر تلك اآللة التي ذكرناها ليس لها صانع‪ ،‬وإنما ج اءت‬
‫لوحدها من دون أن يكون لها مصمم أو صانع أو عليم أو قدير‪.‬‬
‫***‬
‫التقيت بعده آخر‪ ،‬وكان عالما في الفيزياء النظرية‪ ،‬ويرأس كلية الرياض يات في‬

‫‪179‬‬
‫إحدى الجامعات الكندية‪ ،‬وك ان من الح ائزين على إح دى الج وائز العالمي ة في مج ال‬
‫تخصصه‪ ،‬قال لي‪ ،‬وهو يعاتبني(‪ :)1‬أال ترى أنك تس رف في الس خرية من المؤم نين‪،‬‬
‫فلو أنك أبدلت أسلوبك ذلك بأسلوب أكثر علمية وعقالنية؟‬
‫قلت‪ :‬ال ينفع معهم إال ذلك‪ ..‬فما ترجو ممن يؤمن بالخراف ات واألباطي ل‪ ..‬وه ل‬
‫تريدني أن أسكت عمن يمأل عقول البشر بالضالالت واألوهام؟‬
‫قال‪ :‬ال بأس‪ ..‬ل ك أن تفع ل ذل ك‪ ..‬ولكن علي ك أيض ا أن تعمم ه على جمي ع من‬
‫ينشر الخرافات‪ ..‬وليس على أهل األديان وحدهم‪ ..‬هكذا يقتضي المنطق والعلم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما تقصد؟‬
‫قال‪ :‬أقص د ك ل من ي ؤمن بخراف ة‪ ..‬أو آمن به ا في وقت من األوق ات ح تى ل و‬
‫نسب للعلم وللبحث العلمي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬فالكثير من رجال الدين ينسبون أنفسهم للعلم من غ ير أن يك ون لهم‬
‫حظ فيه‪.‬‬
‫قال‪ :‬من رجال الدين وغيرهم‪ ..‬ما تقول في نيوتن وأعالم الفيزياء التقليدية؟‬
‫قلت‪ :‬ال ش ك أنهم من كب ار العلم اء‪ ،‬وهم ال ذين خلص وا البش رية من كث ير من‬
‫األوهام التي سببها الدين‪.‬‬
‫قال‪ :‬أال ترى أن النظام الذي جاء ب ه ني وتن ومن مع ه للك ون لم يع د ل ه م برر‪،‬‬
‫فالم ادة فى رأى ني وتن مكون ة من جس يمات كب يرة وص لبة ومتحرك ة وغ ير قابل ة‬
‫لالختراق وذات أحجام وأشكال مختلفة‪ ..‬أما خ واص الم ادة فيع دد منه ا ني وتن التم دد‬
‫والصالبة والالاختراقية والقصور الذاتي‪ ..‬وأما طبيعة هذه الجسيمات وخواصها‪ ،‬فهي‬
‫عنده ثابتة إلى األبد‪ ..‬والذرة عنده أص غر جس يم يمكن تص وره‪ ..‬أم ا الزم ان والمك ان‬
‫فكالهما فى تصور نيوتن حقيقت ان مطلقت ان‪ ..‬أى أنهم ا س يظالن موج وديين ح تى ل و‬
‫فنيت كل األشياء المادي ة فى الك ون‪ ..‬وه و يعت بر المك ان مطلق ا بطبيعت ه ذاته ا ودون‬
‫عالقة بأى شىء خارج عنه‪ ،‬ويظل متم اثال وغ ير متح رك‪ ..‬ويعت بر الزم ان مطلق ا‪..‬‬
‫ويعتبر التغيرات التى تطرأ على االشياء المادية قاصرة على مختلف عمليات انفص ال‬
‫هذه الجسيمات الثابتة وعلى عمليات اتحادها وحركاتها الجديدة‪..‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬كل ما ذكرته من ذلك صحيح‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهل يعتبر الفيزيائيون المحدثون ما ذكره نيوتن حقيقة أم خرافة؟‬
‫لم أدر ما أجيبه‪ ،‬فق ال‪ :‬ال ب أس‪ ..‬س أطرح الس ؤال علي ك بطريق ة أك ثر ته ذيبا‪،‬‬
‫ومراعاة للمشاعر‪ ،‬فأن ا أعلم قيم ة ني وتن وزمالئ ه عن دكم‪ ..‬أخ برني ل و أن باحث ا في‬
‫مخبر من المخابر الفيزيائية لم يدرس إال فيزياء نيوتن وال يؤمن به ا‪ ،‬ه ل يمكن قبول ه‬

‫‪ )(1‬النص مقبس بتصرف من كتاب [العلم في منظوره الجديد] لروبرت م‪.‬أغ روس وج ورج ن‪ .‬ستانس يو‪ ،‬ترجم ة‬
‫كمال خااليلي‪ ،‬والذي طبعته سلسلة عالم المعرفة‪ ،‬ورقمه في السلسلة (‪ ..)134‬وه و يتح دث عن التط ورات ال تي وقعت‬
‫في العلم الحديث‪ ،‬وعن النتائج الفلسفية والديني ة المترتب ة عليه ا‪ .‬وأثبت المؤلف ان أن العلم الح ديث يق رر وج ود هللا‪ ،‬وأن‬
‫للكون بداية وينفي بصورة قاطعة أزلية الكون‪ .‬وفي الكتاب شرح مفصل وواضح لكث ير من النظري ات العلمي ة ال تي له ا‬
‫تعلق بقضية الدين نفيا ً أو إثباتا من المالحدة وغيرهم‪..‬‬

‫‪180‬‬
‫في هذه المخابر؟‬
‫ً‬
‫قلت‪ :‬مع أن نظام نيوتن لقي نجاحا في العديد من المجاالت‪ ،‬والسيما في مج الي‬
‫الفيزي اء والكيمي اء‪ ،‬وأح رز تق دما ً بفض ل جه ود علم اء من أمث ال ف اراداي وكلفن‬
‫وهيرشل ومئات غيرهم‪ ،‬وتمت له الغلبة بشرحه ظ واهر الحرك ة والح رارة والض وء‬
‫والكهرباء‪ ،‬إال أن نظامه يعتبر في الوقت الحالي عتيقا وبدائيا‪ ..‬فالعلم تط ور كث يرا في‬
‫ه ذا المج ال‪ ..‬ول ذلك دخلت معلوم ات ني وتن في إط ار الت اريخ‪ ،‬وخ رجت من إط ار‬
‫العلوم‪.‬‬
‫قال‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬لقد حصل في القرن العشرين فتوحات علمية جديدة باهرة‪ ،‬ولكنها لألس ف‬
‫لم تكم ل فيزي اء ني وتن‪ ،‬ب ل أط احت به ا‪ ..‬فق د ه دم أينش تاين في ع ام ‪ 1905‬رك نين‬
‫أساسيين من أركان النظام القديم‪ ..‬ذلك أن نظرية النس بية الخاص ة ق ادت علم الفيزي اء‬
‫إلى التخلى إلى األبد عن فكرتي المكان المطلق والزمان المطلق‪ ..‬حيث أثبت أينش تاين‬
‫أن عالق ات المك ان والزم ان وق وانين الحرك ة اليمكن تعريفه ا إال بوص فها الموق ف‬
‫الشخصي للمراقب ولظروفه المادية‪ ..‬أما السمات األخ رى لنظري ة النس بية الخاص ة‪،‬‬
‫كتكافؤ المادة والطاقة‪ ،‬فهي في الواقع نتائج مترتب ة على محوري ة الم راقب‪ ..‬وبفض ل‬
‫النسبية الخاصة أض حى الم راقب فج أة ج زءا أساس يا ً من ع الم الفيزي اء‪ ،‬ولم يع د في‬
‫مقدور الباحث العلمي أن يعتبر نفسه متفرجا ً حياديا ً كما في نظام نيوتن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هل هذا ما حصل فقط؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬لم يحصل هذا فقط‪ ..‬بل حدثت ث ورة متش ابهة في فيزي اء الجس يمات‪..‬‬
‫فقد أثبت ايرنست رزرفورد عام ‪ 1911‬أن الذرة تتكون من نواة متناهية الصغر يحيط‬
‫بها حشد من اإللكترونيات‪ ..‬وحاول الفيزيائيون أن يفس روا ت ركيب ال ذرة اس تناداً إلى‬
‫فيزياء نيوتن‪ ،‬غير أن كل محاولة من محاوالتهم كانت تسفر عن تناقض ات تبعث على‬
‫اإلحباط‪ ..‬وأخيراً أدى هذا الفشل إلى التخلى كليا ً عن نظام نيوتن على المستوى الذري‬
‫وإلى التعجيل بتطوير ميكانيكا الكم في العشرينات من هذا القرن على أي دي علم اء من‬
‫أمث ال نيلزب ور وفيرنره ابزنلبالغ‪ ..‬وبمجيء ميكانيك ا الكم تض اعفت أهمي ة دور‬
‫المراقب في النظرية الفيزيائية‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬ف أنت بقول ك ه ذا أثبت أن نظري ة النس بية وميكانيك ا الكم تمثالن خروج ا‬
‫مشتركا ً بينهما على تفسير نيوتن بإدخالهما العقل في المعادلة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬فقد أكدت الفيزياء في القرن العش رين ت دريجيا ً على أن الفك ر يق وم‬
‫بدور جوهري في الكون‪.‬‬
‫قال‪ :‬أال ترى أن األمر أصبح مثيرا‪ ..‬وأن العلم أصبح متجها أكثر لإلله؟‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬أن يصدر التأكيد على دور العقل في علم الفيزياء محير‪ ..‬ذل ك أن ه إن ق در‬
‫للمادة وللمذاهب المادية أن يصادفوا نجاحا ً في أي مكان‪ ،‬فإن أول نجاح يمكنهم توقع ه‬
‫ه و في مج ال دراس ة الم ادة ذاته ا‪ ..‬أي في علم الفيزي اء‪ ..‬وال تي أض افت إلى الم ادة‬

‫‪181‬‬
‫والقوانين الطبيعية العقل‪ ،‬والذي أصبح عنصرا فعاال بع د أن لم يكن ش يئا م ذكورا في‬
‫النظرية القديمة‪.‬‬
‫***‬
‫لم أجد ما أجيبه به‪ ،‬فقد كان كالمه في غاية الدقة والمنطقي ة‪ ..‬لك ني م ع ذل ك لم‬
‫أستس لم‪ ،‬ب ل رحت أمعن في كبري ائي‪ ،‬ورحت أتب ع أولئ ك ال ذين امتألوا ك برا على‬
‫الحقائق‪ ،‬فراحوا يفرض ون المح ال‪ ،‬ويتعلق ون بخراف ات جدي دة‪ ،‬ال لش يء إال إلثب ات‬
‫عدم حاجة الكون إلله‪.‬‬
‫لقد ذهبت إليهم لينقذوني من أس ئلة المؤم نين المح يرة‪ ..‬فراح وا يطرح ون علي‬
‫جيال جدي دا من الحي ل س موه بأس ماء متع ددة منها(‪[ )1‬األك وان المتع ددة]‪ ،‬و[نظري ة‬
‫األوتار]‪ ،‬و[النظرية (إم)]‪ ،‬وراحوا يطلبون مني أن أبشر بها‪..‬‬
‫أذكر جيدا أنني سمعت حينها وينبرغ يقول لزميله دوكينز‪( :‬إذا اكتش فت أن ه ذا‬
‫الكون المدهش معد فعليا ً بعناية‪ ،‬فأعتقد أنه ليس أمامك س اعتها إال أح د احتم الين‪ ،‬إم ا‬
‫خالق عظيم‪ ،‬وإما أكوان متعددة)‬
‫وبما أنه لم يكن من السهل علينا تقبل الخالق العظيم‪ ،‬فقد رحنا نبشر بك ل باله ة‬
‫باألكوان المتعددة‪ ،‬على الرغم من أنه كان من المستحيل إثبات وجودها علمي ا‪ ،‬وف وق‬
‫ذلك إثبات نشأتها ومصدر قوانينها وثوابتها الفيزيائية‪.‬‬
‫لقد قال لنا حينها صديقنا الفيزيائي [ليونارد سوسكايند]‪( :‬إن الث ابت الك وني من‬
‫الرهبة بمكان بحيث أنه يصير بهذا المق دار ال ذي ال يس مح بت دمير النج وم والك واكب‬
‫والذرات‪ ،‬لكن ما هذه القوة الغامضة والعجيبة التي استطاعت أن تحسب ه ذا الموق ف‬
‫المعقد للغاية؟ إن قوانين الفيزياء متوازنة على حافة سكين حاد للغاية‪ ،‬وإذا ك ان األم ر‬
‫كذلك فإنه يطرح أسئلة كبيرة)‬
‫وق د ح اول ص ديقنا اآلخ ر [البروفيس ور ل ورنس ك راوس] أن يعطين ا ب دائل‬
‫أخرى‪ ،‬حيث ذكر في كتابه [كون من الشيء] إمكانية انبث اق الك ون الم ادي من الع دم‬
‫من تلقاء نفسه‪ ..‬ولم يلتفت إلى أنه حاول خداع قرائه بأن (الالشيء) هو (العدم) نفس ه‪..‬‬
‫ألن الالشيء مقبول في اللغة‪ ،‬لكنه مغالطة كبيرة في الفيزي اء‪ ..‬فحس ب فيزي اء الكم ال‬
‫يوجد فراغ‪ ،‬أي ليس هناك شيء هو عدم محض‪ ..‬فالعدم هو نقيض الوجود أصال‪ ،‬وال‬
‫يمكن للعدم أن يوجد‪ ،‬وقياس طاقة الفراغ في زمن مح دد يجب أن يح وي ق درا م ا من‬
‫الطاقة حتى لو كان للجسيمات االفتراضية التي تظهر وتختفي‪ ،‬وهو م ا يس مى بالق در‬
‫األدنى من الطاقة الممكنة‪ ،‬فال يمكن إذن أن يوجد هذا العدم المحض ليك ون ه و أص ل‬
‫الكون‪.‬‬
‫لكني مع ذلك كله أعجبتني فرضية األكوان المتعددة‪ ،‬فرحت أبش ر به ا‪ ،‬وكأنه ا‬
‫حقيقة مطلقة‪ ،‬بل كأنها وحي تنزل علينا لينقذنا من براهين المؤمنين‪.‬‬
‫***‬
‫‪ )(1‬سنناقش هذه المسائل في الجزء الخاص بذلك‪ ،‬وهو [اإللحاد‪ ..‬والكون]‬

‫‪182‬‬
‫لقد كنت أقول في محاضراتي الممتلئ ة ب التهريج والعبث‪ :‬إن دق ة ض بط الك ون‬
‫التي يستند إليها المؤمن ون في نفي الص دفة والعش وائية ال م برر له ا تحت س تار العلم‬
‫الجدي د‪ ..‬فق د ذك ر أعالمن ا المعاص رون الكب ار من أمث ال س تيفن وين برج‪ ،‬وس تيفن‬
‫هوكينج‪ ،‬وغيرهما أن هذا الض بط الم دهش يمكن أن يك ون ل ه تفس ير إذا افترض نا أن‬
‫هناك أوتارا تهتز في الوجود ينتج عنها معا أكوان مثل الفقاعات‪ ..‬أي أك وان متع ددة‪..‬‬
‫وبعدد مهول جدا‪ ..‬وبتوليفات من القوانين والثوابت العشوائية المغ ايرة لكونن ا‪..‬ول ذلك‬
‫من المستغرب أن يكون كوننا هو الوحيد الذي ظهر منها بهذا التولي ف ال ذي س مح ل ه‬
‫بأن يكون كما هو اآلن بما فيه ظهور الحياة وظهور اإلنسان‪.‬‬
‫كنت أقول هذا‪ ..‬ثم أضع بين أيديهم أرقاما وصورا وجداول كثيرة‪ ..‬أنا نفس ي لم‬
‫أكن أفهمه ا‪ ..‬ولك ني كنت أفع ل ذل ك ح تى أجعلهم يعتنق ون م ا أري د من أفك ار‪ ،‬فق د‬
‫اكتشفت أن الغموض والتعمية هي الطريقة الوحيدة لنشر الفكر اإللحادي‪.‬‬
‫أذكر أنني بعد انتهائي من بعض محاضراتي في هذه النظريات التي كنت أمليها‬
‫على أصحابي كما تملى الكلمات اإللهية المقدسة التقيت بعض المؤمنين‪ ،‬ولس ت أدري‬
‫من أي دين ك ان‪ ،‬ق ال لي‪ :‬هال ش رحت لي م ا كنت تقول ه‪ ،‬ألني أري د أن أس ألك عن‬
‫بعض ما خطر بالي نحوه‪ ..‬وال تخف‪ ..‬فأنا لست من المؤمنين‪ ..‬أن ا ملح د مثل ك‪ ..‬ومن‬
‫مؤسسة إلحادية كبرى تابعة لدوكينز‪.‬‬
‫قلت‪ :‬مرحب ا ب ك‪ ..‬في الحقيق ة أص بح ه ذا الن وع من الطروح ات الجدي دة ه و‬
‫موضة العصر‪ ،‬ولذلك أنصحكم بتعلم كل ما يرتبط ب ه للقض اء الت ام على ك ل ش بهات‬
‫المؤمنين‪.‬‬
‫قال‪ :‬فعلمني من ذلك ما ينفعني‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هن اك اقتراح ات كث يرة تتعل ق بالكيفي ة ال تي ق د تك ون تك اثرت به ا ه ذه‬
‫األكوان‪ ،‬وباألمكنة التي ق د تش غلها‪ ..‬منه ا مثال أنه ا ق د تك ون موجـودة في بق اع من‬
‫الفضاء بعيدة جدا عن موقعنا‪ ،‬وهذا م ا توصـل إلي ه نم وذج التض خم الشواش ي ال ذي‬
‫أنجزه (كوت) و(لنـد) وآخرون(‪ ..)1‬ومنها أنها قد تكون نشأت في عص ور مختلف ة من‬
‫ال زمن‪ ،‬وه ذا م ا نصَّ علي ه نم وذج الك ون ال دوري الــــذي اقتــرحـــــه‬
‫(ســـتاينهـــارت) و(تـوروك)‪ ..‬وقــــد تكــــون فـي فــضــــائنــــا نفســـه‪ ،‬ولكــــن‬
‫فـي فـــــرع مخـتـــلـــــف مــــن دالـة الموج ة الكمومي ة‪ ،‬وهـذا م ا دافـع عنـــه‬
‫(دوتش)(‪ ..)2‬وربّم ا ال يك ون له ا موق ع لكونه ا منفص لة كلي ا عن زمكانن ا‪ ،‬وه ذا م ا‬
‫اقترحه (تكمارك) و(سكيام)(‪..)3‬‬
‫ومهما يكن فالخالف بينها بسيط‪ ،‬وهي مجرد اقتراحات‪ ،‬ونحن ال يهمنا منها إال‬
‫استخدامها في مواجهة المؤمنين‪ ..‬ألنها لم توضع إال لذلك‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظـر‪( :‬الكون التضخمي المتجدد ذاتيا)‪ ،‬مجلة العلوم‪ ،‬العددان ‪،)1995( 8/9‬ص‪.24‬‬
‫‪ )(2‬انظــر‪( :‬الفيزياء الكمومية للسفر في الزمن)‪،‬مجلة العلوم‪ ،‬العددان ‪،)1996( 11/12‬ص‪.42‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪( :‬أكوان متكافئة)‪،‬مجلة العلوم‪ ،‬العددان ‪،)2003( 11/12‬ص‪.4‬‬

‫‪183‬‬
‫قال‪ :‬فهال وضحت لي نموذجا منها أبشر به‪ ،‬مثلما تفعل أنت‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬لك ذلك م ا دمت من تالمي ذ دوكي نز‪ ،‬فه و ص ديقنا الغ الي ال ذي ال‬
‫نستطيع أن نرفض له وال لتالميذه طلبا‪ ..‬اسمعني جيدا‪ ..‬إن أكثر الخي ارات قب وال على‬
‫نطاق واسع هو نموذج التضخم الشواشي‪ ،‬وفكرته هي أن الفضاء بمعن اه الواس ع‪ ،‬ه و‬
‫خالء يتمدد إلى األبد‪ ،‬ويرافق هذا التمدد آث ار كمومي ة تول د باس تمرار أكوان ا ً جدي دة‪..‬‬
‫مثله مثل الطفل الذي يذر فقاقيع الصابون في الهواء‪.‬‬
‫ويعود هذا المفهوم إلى الثمانينات من الق رن العش رين‪ ،‬وق د درس ه الفيزي ائيون‬
‫بالتفصيل‪ ،‬معتمدين على أش مل نظري اتهم في الطبيع ة‪ :‬نظري ة األوت ار‪ ..‬حيث تس مح‬
‫هذه النظرية بأن تبدو الفقاقيع مختلفة جدا بعضها عن بعض‪ ..‬وفي الحقيقة‪ ،‬ال تبدأ ك ل‬
‫منها حياتها بتوزع عشوائي للمادة فحسب‪ ،‬بل أيضا بأنواع عشوائية من المادة‪..‬‬
‫أنت ترى أن عالمنا يحتوي على جسيمات مثل اإللكترونات والكوارك ات‪ ،‬وهي‬
‫تتفاع ل فيم ا بينه ا بت أثير ق وى مث ل الق وة الكهرطيس ية‪ ..‬وه ذا ال يس تدعي أن تك ون‬
‫األكوان األخرى بنفس الشكل‪ ،‬فقد تكون لها أنواع مختلفة من الجس يمات والق وى‪ ..‬أي‬
‫أن هناك قوانين فيزيائية أخرى هي التي تحكمها‪ ..‬وق د أطل ق العلم اء على المجموع ة‬
‫الكاملة من القوانين المحلية باسم المشهد الط بيعي‪ ..‬وه و مش هد ض خم يض من وج ود‬
‫قدر هائل من األكوان المتنوعة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهمت هذا‪ ،‬وشكرا جزيال‪..‬‬
‫قلت‪ :‬انتظر‪ ..‬ال زلت تحتاج إلى بعض التفاصيل المهمة‪.‬‬
‫قال‪ :‬أنا في االستماع فهلم بها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬حين يحدق الفلكيون في الك ون‪ ،‬ف إن م دى رؤيتهم تمت د مس افة ‪ 42‬بلي ون‬
‫سنة ضوئية تقريبا‪ ،‬وهو مدى أفق رؤيتنا الذي يمثل المسافة ال تي قطعه ا الض وء من ذ‬
‫االنفجار األعظم‪ ..‬ويمث ل أيض ا مق دار تم دد حجم الك ون من ذ ح دوث ه ذا االنفج ار‪..‬‬
‫وبافتراض أن الفضاء ال يتوق ف عن د ه ذا الح د‪ ،‬وأن ه ق د يك ون المتناهي ا في الك بر‪،‬‬
‫يط رح الكوس مولوجيون تخمين ات علمي ة لم ا ق د تك ون علي ه بقي ة الفض اء‪ ..‬وأق رب‬
‫فرضية تخطر بالبال هي أن حجم فضائنا يمثل عينة من الكون كلّه‪ ،‬والكائنات الغريب ة‬
‫عنا والبعيدة‪ ،‬ترى حجوما مختلفة‪ ،‬لكنها جميعا تب دو أساس ا متش ابهة‪ ،‬ماع دا تغ يرات‬
‫عشوائية في توزع المادة‪ ..‬وهذه المناطق جميعها‪ ،‬المرئية منها وغ ير المرئي ة‪ ،‬تك وّن‬
‫نمطا أساسيا لكون متعدد‪.‬‬
‫ويذهب كوسمولوجيون آخرون شوطا أبعد إذ يتصورون أن األشياء البعيدة ج دا‬
‫عنا تظهر بمظهر مختلف تماما عما ن راه‪ ،‬وربم ا يك ون جوارن ا إح دى فق اقيع عدي دة‬
‫عائمة في خلفية خاوية‪ ،‬وتختلف القوانين الفيزيائية من فقاعة إلى أخرى‪ ،‬وه ذا ي ؤدي‬
‫إلى تن وع من النت ائج يك اد ال يمكن إدراك ه‪ ..‬وق د تك ون الفق اقيع األخ رى مس تحيلة‬
‫الرصد‪ ،‬ولو من حيث المبدأ‪.‬‬
‫وكثير من الفيزيائيين الذين يتحدثون عن الكون المتعدد‪ ،‬وبخاصة المدافعين عن‬
‫مشهد األوتار‪ ،‬ال يهتمون باألكوان المتوازية في حد ذاتها؛ فاالعتراض ات على الك ون‬

‫‪184‬‬
‫المتعدد كمفهوم أمر غ ير ذي ب ال بالنس بة إليهم‪ .‬فنظري اتهم تحي ا أو تم وت بن اء على‬
‫اتساقها الداخلي وعلى التجارب المختبري ة المأمول ة؛ وهم يقبل ون بوج ود ك ون متع دد‬
‫كإط ار في نظري اتهم غ ير مهتمين بكيفي ة نش وئه ألن ه ذا الموض وع يع ني‬
‫الكوسمولوجيين‪.‬‬
‫أراد أن ينصرف‪ ،‬فقلت له‪ :‬انتظر‪ ..‬ال زال هناك المزيد من الشرح‪.‬‬
‫قلت ذلك‪ ،‬ورحت أشرح من غير أن يأذن لي بالكالم‪ ..‬ولك ني رحت أفع ل ألني‬
‫كنت أتصور أني كلما أكثرت من ذك ر ه ذه المع اني كلم ا تق ررت في نفس ي‪ ،‬وزادت‬
‫قناعتي بها‪ ..‬قلت له‪ :‬هناك اختالف ات كب يرة بين الفلك يين والفزي ائيين في هيئ ة الك ون‬
‫الرصود‪ ..‬هل هو كروي الشكل (تحدبه إيج ابي) أو زائ دي (تحدب ه س لبي) أو منبس ط‬
‫(غير محدب)‪ ..‬وبصورة عامة ال تتنبأ سيناريوهات الكون المتعدد بكروية الكون‪ ،‬ألن‬
‫الكرة منغلقة على نفسها‪ ،‬وبالت الي فحجمه ا منت ه‪ ..‬ولس وء الح ظ‪ ،‬فه ذا االختب ار ليس‬
‫دقيق ا‪ ،‬ف الكون الموج ود وراء أفقن ا ق د يك ون ل ه ش كل مختل ف عن ذاك الموج ود في‬
‫الجزء المرصود؛ وأك ثر من ذل ك‪ ،‬ال تس تثني جمي ع نظري ات الك ون المتع دد هندس ة‬
‫كروية‪ ..‬وهناك اختبار أفضل هو طبولوجيا الكون‪ :‬فهل يلتف الك ون ح ول نفس ه مث ل‬
‫كعكة‪ ،‬أو مثل قطعة الحلوى الشهيرة على شكل عقدة؟ فإذا كان كذلك‪ ،‬فس يكون حجم ه‬
‫طعا معظم نماذج التضخم‪ ،‬وبوجه خاص‪ ،‬سيناريوهات الكون‬ ‫منتهيا‪ ،‬الذي قد يستبعد قَ ْ‬
‫المتعدد المبنية على التضخم الشواشي‪ .‬قد يولد أشكاال تتكرر في السماء‪ ،‬مث ل الدوائـر‬
‫العمالقة في إش عاع الخلفي ة الك وني الميك روي الموج ة‪ ..‬وق د بحث الراص دون عنه ا‬
‫ولكنهم فشلوا في العثور على أي من هذه األشكال‪ .‬ال يمكن اعتبار هذه النتيجة الالغي ة‬
‫في مصلحة الكون المتعدد‪.‬‬
‫وأخيرا‪ ،‬قد يستطيع الفيزيائيون إثب ات أو دحض بعض النظــريات ال تي تتنبــأ‬
‫بوجــود كــون متعدد‪ ..‬وربمـــا يعثــرون على دليــــل رصـــــدي يدحــض النمــاذج‬
‫الشــواشــية للتضــخم‪ ،‬أو يكتشفون تناقض ا رياض ياتيا أو تجربي ا يج برهم على هج ر‬
‫مشهد نظرية األوتار‪ ،‬وسيقوض هذا السيناريو عندئذ أغلب الدوافع ل دعم فك رة الك ون‬
‫المتعدد‪ ،‬مع أنه ربما ال يلغي هذا المفهوم برمته‪.‬‬
‫كنت أقول هذا بثقة عظيمة‪ ،‬وكأنني عاينت تلك األكوان المتعددة غير المحدودة‪،‬‬
‫ورأيت تفاصيلها‪ ،‬مع أن ذل ك لم يكن س وى مخ ارج لله روب من هللا‪ ..‬فلم يكن القص د‬
‫هو البحث عن الكون وتفاصيله‪ ،‬وإنما كان الهروب من هللا‪ ..‬ولو إلى الخرافة‪.‬‬
‫ألن النظريات القديمة كانت مالذا آمن ا للملح دين بس بب قوله ا ب الكون المس تقر‬
‫واألزلي‪ ،‬لكن عندما ثبت علميا اس تحالة أزلي ة الك ون وق ع المالح دة في ح رج كب ير‪،‬‬
‫فراحوا يرسمون سيناريوهات مختلفة ليجادلوا بها المؤمنين‪.‬‬
‫بقيت م دة طويل ة أح دث من ذك ر لي أن ه تلمي ذ ل دوكينز‪ ..‬وق د رأيت أني كلم ا‬
‫ازدادت حماستي في الشرح‪ ،‬كلما اصفر لونه‪ ،‬وتغيرت مالمحه إلى أن سقط بين ي دي‬
‫مغمى عليه‪ ،‬فأسرعت به إلى المستشفى‪ ،‬فلما أفاق اقتربت منه‪ ،‬ف راح يص يح‪ :‬أبع دوه‬
‫عني‪ ..‬أبعدوه عني‪ ..‬إنه يكاد يصيبني بالجنون‪ ..‬إن عقلي ال يطيق سماعه‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫***‬
‫أس رع الممرض ون إلي يخرجون ني من عن ده‪ ..‬ولم ألت ق ب ه بع د ذل ك إال في‬
‫مدرس ة [الك ون الم ؤمن]‪ ،‬وهي المدرس ة ال تي التج أت إليه ا في مرحل ة متقدم ة من‬
‫عمري بعد أن رأيت أن خرافات المالحدة حول الك ون ال يقبله ا إال المج انين‪ ..‬ورأيت‬
‫أن إرجاع أمر نشأة الكون وم ا بث في ه من تص ميم عجيب إلى إل ه ق دير حكيم لطي ف‬
‫خبير أعلم وأعقل بكثير‪.‬‬
‫ومنذ ذلك الحين تغيرت نظرتي للكون تماما‪ ،‬فق د أص بحت أراه بص ورة جميل ة‬
‫جدا‪ ،‬ولم ينف هذا في عقلي وجود عوالم متعددة‪ ،‬ولكن الفرق بين العوالم الجديدة ال تي‬
‫صرت أؤمن بها‪ ،‬واألكوان المتعددة التي لقنني إياها أصحابي هو أن أكوانهم المتع ددة‬
‫عشوائية‪ ،‬أم ا الع والم ال تي ص رت أؤمن به ا‪ ،‬فهي ع والم في منتهى العق ل والحكم ة‬
‫والنظام‪ ،‬ألن مصممها عالم وحكيم ومنزه عن العبث‪.‬‬
‫برهان الحياة‪:‬‬
‫بعد أن أنهى الرجل األول حديثه‪ ،‬قام آخر‪ ،‬وقال‪ :‬بعد أن ح دثكم ص ديقي وأخي‬
‫عن [برهان الك ون]‪ ،‬وكي ف خ رج ب ه من ظلم ات الجه ل والغواي ة إلى ن ور اإليم ان‬
‫والهداية‪ ..‬فاسمعوا ح ديثي عن بره ان من ب راهين اآلي ات الب اهرة‪ ،‬أطلقت علي ه اس م‬
‫[برهان الحياة]‪ ..‬وهو برهان يدل على هللا من كل الوج وه‪ ،‬وبك ل المق دمات‪ ،‬وبجمي ع‬
‫اللغات‪..‬‬
‫وأحب أن أصرح لكم ب أني لم أص ل إلى ه ذا البره ان إال بع د عن اء ش ديد‪ ،‬فق د‬
‫شكلت المدارس ووسائل اإلعالم والمنابر الثقافية عقلي تشكيال جدي دا مخالف ا للفط رة‪،‬‬
‫بحيث أص بح ال يس مح بم رور الحق ائق اإليماني ة‪ ،‬ح تى ل و ك انت في قم ة العقالني ة‬
‫والعلمية‪.‬‬
‫ولهذا كان من العصي علي تقبل كل أولئك الذين أرسلهم هللا لي له دايتي وتق ويم‬
‫عقلي‪ ،‬ولكن هللا ت داركني في األخ ير‪ ،‬ف وفر لي من ال زالزل م ا أع اد لعقلي وعي ه‬
‫وفطرته وطهارته‪ ..‬وقد كان ذلك مقدمة لإليم ان‪ ..‬فال يمكن لإليم ان أن يح ل في عق ل‬
‫مشوش‪ ،‬وال في قلب مدنس بدنس األهواء‪.‬‬
‫في بداية أمري(‪ )1‬كنت أعتقد أن يد العلم والمعرفة ق د أزالت جمي ع الحجب عن‬
‫عالم المجهوالت للبشرية‪ ،‬ولم تدع بقعة ظلماء في عالم الكون إالّ أضاءتها بنور العلم‪.‬‬
‫وله ذا رحت أص رخ مخاطب ا جمي ع المؤم نين‪ :‬م ا ح اجتكم هلل بع د أن اكتُش فت‬
‫الخفايا المكنون ة في الطبيع ة‪ ،‬وم ا وراء الطبيع ة‪ ..‬إنّن ا كن ا نحت اج إلى هللا عن دما كنّ ا‬
‫نجه ل العل ل والح وادث‪ ،‬أ ّم ا الي وم‪ ،‬وبفض ل العلم وتق ّدم ه‪ ،‬فق د اكتش فنا تل ك العل ل‪،‬‬
‫واطلعنا عليها سواء ما كان منها في السماء‪ ،‬أو ما كان في األرض‪.‬‬
‫وكنت أض رب المث ل لهم بالعوام ل ال ذي ك انت تس بّب األم راض‪ ..‬والعوام ل‬
‫المس ببة للزل زال والمط ر وغيرهم ا‪ ،‬ثم أق ول لهم‪ :‬أرأيتم ه ا ق د ح ل العلم ك ل‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬مصدر الوجود بين العلم والفلسفة‪ :‬الشيخ جعفر السبحاني‪..‬‬

‫‪186‬‬
‫المعض الت‪ ..‬وع رف ك ل العل ل واألس باب‪ ..‬وعلم بك ل العل ل المجهول ة ال تي كنتم‬
‫تنسبونها إلى هللا‪ ..‬فما حاجتكم إلى هللا بعد هذا؟‬
‫وكان الكثير منهم يسكتون‪ ..‬وكان بعضهم يذكر لي مقوالت العلماء ال ذين ك انوا‬
‫أكثر تواضعا مع مكانتهم العلمية‪ ،‬فيذكرون لي رد أنشتاين على من س أله ـ بع د كش فه‬
‫عن أسرار الذرّة ـ عن نسبة معلوماته إلى مجهوالته؟ فأجاب وه و واق ف بج انب ُس لّم‬
‫(إن النسبة تشابه نسبة هذا السُّلّم إلى فضاء العالم الالمتناهي)‬
‫قصير في مكتبته‪ ،‬قائالً‪ّ :‬‬
‫(إن العل وم البش رية ال زالت في‬‫ويذكرون لي قول [وال تر اوس كار لن دربرج]‪ّ :‬‬
‫مراحلها اإلبتدائية‪ ،‬إذ في الوقت الذي يقيس اإلنسان حجمه مع حجم األجرام السماويّة‪،‬‬
‫والمسافات بين النجوم‪ ،‬يجد نفس ه جرم ا ً ص غيراً‪ ،‬ونس بته ه ذه تافه ةً للغاي ة كم ا ه و‬
‫واضح)‬
‫ّ‬
‫المتخص ص في الفيزي اء‬ ‫وي ذكرون لي ق ول [ي ول كالرنس ابرس ولد]‪ ،‬وه و‬
‫الذريّة والفيزياء الحياتية وخاصية اإلشعاعات النيوتروني ة واإليزوتوبي ة‪( :‬كنت أعتق د‬
‫أن العلم يوما ً ما سوف يكتشف ك ّل ش يء‪ ،‬ولكن كلّم ا تق ّدمت في دراس تي‪،‬‬ ‫في السابق ّ‬
‫وأخذت استعرض الكائنات من الذرة إلى األجرام‪ ،‬ومن الميكروب إلى اإلنسان‪ ،‬أيقنت‬
‫إن العلم اء باس تطاعتهم دراس ة‬ ‫أن هناك الكثير ال ذي ال ي زال في ع الم المجه والت‪ّ ..‬‬ ‫ّ‬
‫كيفية وك ّمية األجسام‪ ،‬ولكن يستحيل عليهم أن يبيّنوا علّة وجودها وعلّة خاصيتها)‬
‫(إن العلم يسعى إلتمام‬ ‫ويذكرون لي قول العالم الطبيعي [ايروينج ويليام نبلوج]‪ّ :‬‬
‫فرضياته كي يقترب من الحقائق‪ ،‬ولكنّه يبدو كلّم ا ح اول االق تراب من الحق ائق ازداد‬
‫إن إدراكنا من هذا العالم يت ّم بواسطة حواسّنا الناقصة‪ ،‬وأدواتنا غير الدقيقة‬ ‫عنها بعداً‪ّ ..‬‬
‫وغ ير الحسّاس ة‪ ..‬ال يس تطيع العلم أن يح ّدثنا عن جس م ص غير ج داً (ال ذرة)‪ ،‬وال تي‬
‫يصعب رؤيتها حتى بالمجهر‪ ،‬من أين أتت‪ ،‬وال يستطيع أيضا ً أن يعيّن على أي ق انون‬
‫أو صدفة ترغم الذرات على أن تجتمع مع بعضها البعض كي ينشأ منها جسم حي)‬
‫لكني كنت أصم أذني عما ذكروه‪ ،‬وأق ول لهم‪ :‬ومن أدراكم أن ه ؤالء ق الوا ه ذا‬
‫الكالم‪ ..‬وح تى ل و ق الوه‪ ،‬ف العبرة ب العلم ال بالرج ال‪ ..‬والحق ائق تثبت ب ذاتها ال بمن‬
‫يمثلها‪.‬‬
‫***‬
‫ولهذا كنت أصف لهم ما قال العلم في نشأة الحياة‪ ،‬وأنه ال ضرورة لوجود خالق‬
‫وال مصمم وال صانع‪ ..‬فالحياة كلها تطور بعضها من بعض‪ ..‬ولذلك ال حاج ة لعوام ل‬
‫غيبية لتفسير تنوعها‪.‬‬
‫أذكر جيدا أن بعضهم سألني في بعض المج الس عن الث دييات البحري ة‪ ،‬وكي ف‬
‫نشأت‪ ،‬فرحت أصف ذلك‪ ،‬كما لقنني أساتذتي‪ ،‬وك أنني ش اهد عي ان لم ا حص ل بدق ة‪،‬‬
‫فقلت لهم‪ ،‬وأنا واثق تماما مما أقول‪ :‬لقد تطورت قبل ‪ 60‬ملي ون س نة‪ ..‬حيث غ امرت‬
‫بعض الثدييـات‪ ،‬ونزلت إلى المـــاء بحث ا عن الطعـام‪ ..‬وهن اك‪ ،‬وم ع ال وقت‪ ،‬ب دأت‬
‫تختفي األرجل الخلفية‪ ،‬ثم ما لبثت األرجل األماميـة أن تح ولت إلى زعـانف‪ ،‬وتغ ير‬
‫شكل األنف‪ ،‬واختفى الشعر وتحول إلى جلد‪.‬‬

‫‪187‬‬
‫قال لي آخر‪ ،‬وكأنه عند حكواتي‪ ،‬وليس عند عالم‪ :‬فما أصل الثدييـات؟‬
‫أجبت بس رعة‪ :‬أص لها يع ود للزواح ف‪ ..‬وقص ة ذل ك كم ا حكاه ا لن ا العلم اء‬
‫المتخصصون هي أنه في فترة من الفترات شرعت بعض الزواحف في تطوير أُسلوب‬
‫للحفاظ على حرارة جسمها‪ ،‬حيث تحولت القشور إلى فرو‪ ..‬حينه ا ح دث بالص دفة أن‬
‫بعض صغـار الزواحف بدأت تلعق عرق األُم لتلطيف جسمها‪ ،‬وبدأت بعض ال ُغ دد في‬
‫إفراز عرق أكثر كثافة‪ ،‬ثم تحول هذا العرق في النهـاية إلى لبن‪.‬‬
‫قال لي آخر‪ :‬هل صحيح أن أصل الحوت البحري يرجع إلى الدببة؟‬
‫قلت‪ :‬أجل ‪ ..‬لق د ذك ر داروين ذل ك في الطبع ة األولى من كتاب ه العظيم (أص ل‬
‫األنواع)‪ ،‬حيث قال ـ تعليقا على مشاهدة صديقه (هرني) لل دب األس ود يع وم لس اعات‬
‫في أمريكا الشمالية فاتحا فمه ليصطاد الحشرات مثلما يفعل الحوت ـ ‪( :‬أن ا ال أج د أي‬
‫صعوبة في تخيل نوع من الدببة وبمزيد من السلوكيات البحرية في حياته ا ومزي د من‬
‫اتساع فمها ومع االنتخاب الطبيعي أن تصبح يوما ما مخلوقا في حجم الحوت الض خم)‬
‫(‪)1‬‬
‫***‬
‫ك ان الجمي ع يس تمتع بح ديثي‪ ،‬وكنت أتص ور أن اس تمتاعهم ك ان بس بب دقت ه‬
‫العلمية‪ ،‬واكتشفت بعد ذلك أنه كان بسبب استغراقه في الخيال الذي يناسب الحكوات يين‬
‫أكثر من مناسبته للعلماء والباحثين‪..‬‬
‫قال لي حينها بعضهم‪ :‬ما الحاجة لكل هذا‪ ..‬وما الفائدة التي ترجى منه ا‪ ،‬فس واء‬
‫كانت الثدييات البحرية خلقت ابتداء‪ ،‬أو تطورت من غيره ا‪ ،‬فإنه ا تبقى دائم ا ث دييات‬
‫بحرية‪.‬‬
‫قلت له بقوة‪ :‬أنت ال تعلم م ا تق ول‪ ..‬إنن ا أم ام احتم الين ال ث الث لهم ا‪ ..‬فإم ا أن‬
‫نقول بأن الكائنـات الحية على وجه األرض جاءت فجـأة‪ ..‬وهذا ي دعم النظ رة اإليم ان‬
‫التي تقول بالخلق المباشر‪ ..‬وإما أن نذكر بأنها تطورت من بعض ها البعض‪ ،‬وب ذلك ال‬
‫يجد المؤمنون مبررا الفتراض وجود الخالق‪ ..‬وال يوجد بديل ثالث‪..‬‬
‫***‬
‫لكن الحظوظ لم تكن دائما في صالحي‪ ..‬فقد كنت أحيانا أصطدم ببعض أصحاب‬
‫العقول الذين ال أتمكن من إقن اعهم‪ ..‬فل ذلك أرميهم بع دم فهم ه ذه النظري ة‪ ،‬وأذك ر أن‬
‫عقولهم لم تتطور بعد لفهمها‪ ..‬فقد صار مقياسي لتواصل التطور في عالم اإلنس ان ه و‬
‫الموقف من هذه النظرية‪.‬‬
‫من أولئك الذين رميتهم بهذا ع الم من علم اء الفيزيولوجي ا ترك ني أتح دث وقت ا‬
‫طويال إلى أن تصورت أني أقنعته إقناعا تاما‪ ،‬لكني بع د أن أنهيت ح ديثي ق ال لي(‪:)2‬‬
‫يكفيك لحظة تأمل في خلية واحدة من خاليا اإلنسان لتكف عن كل ه ذه ال دعاوى ال تي‬

‫‪ )(1‬الطبعة األولى من أصل األنواع‪ ،‬ص ‪ ..184‬وقد حذفها بعد ذلك استجابة لطلب أصحابه‪.‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬كواشف زيوف للشيخ عبدالرحمن حبنكة الميداني‪.‬‬

‫‪188‬‬
‫تطلقها‪ ..‬خلي ة فق ط‪ ..‬ال أط الب ب أكثر من ذل ك‪ ..‬م ع العلم أن ع دد الخالي ا في الجس م‬
‫البشري يزيد على مئة ألف ألف مليون‪ ،‬أي مئة ألف بليون‪ ،‬أو مئة ترليون خلية‪.‬‬
‫تظاهرت بالسكون والهدوء‪ ،‬وقلت‪ :‬هي ا ه ات م ا عن دك‪ ..‬لكن إي اك أن تس رب‬
‫خرافات المتدينين‪ ..‬فالعلم ال يقبل الخرافة‪.‬‬
‫قال‪ :‬أنا عالم مختص في هذا المجال‪ ،‬وقد كنت أقول بقولك‪ ..‬لكني عن دما رحت‬
‫أتأمل الخلية اإلنسانية وجدت شيئا عجيبا جعلني أرمي كل تل ك التص ورات ال تي كنت‬
‫أتصورها بالخرافة والدجل‪ ..‬لقد رأيت أن كل خلية في اإلنسان تشبه المصنع‪ ،‬وبم ا أن‬
‫كل مصنع به مدير‪ ،‬ومشرف‪ ،‬وأرضية‪ ،‬وقس م للتس وق واالس تقبال‪ ،‬وعم ال لهم دور‬
‫في تصنيع منتجات المص نع‪ ،‬وقس م لتعبئ ة المنتج ات وتهيئته ا‪ ،‬وح راس أمن‪ ،‬ومول د‬
‫للطاقة‪ ..‬فقد رأيت أن الخلية اإلنسانية تتوفر فيها كل هذه المقومات‪.‬‬
‫ففيه ا الن واة‪ ،‬وهي كالم دير للخلي ة‪ ،‬تتحكم في جمي ع أنش طة الخلي ة‪ ،‬وص فات‬
‫البروتين الذي سوف يصنع‪ ..‬وفي الخلية السيتوبالزم‪ ،‬وه و كاألرض ية للخلي ة‪ ،‬تس بح‬
‫فيه عضيات الخلية‪ ..‬وفي الخلية غش اء خل وي‪ ،‬وه و يش به قس م التس وق واالس تقبال؛‬
‫حيث إن أي جسم يحاول دخول الخلية عليه أن يبرز هويته‪ ،‬وينظم مرور الم واد ع بر‬
‫الخلية‪ ،‬وم ا ال ذي ي دخل‪ ،‬وم ا ال ذي يخ رج‪ ..‬وفي الخلي ة الريبوس ومات‪ ،‬وهي تش به‬
‫العمال‪ ،‬حيث له ا ال دور في تص نيع البروتين ات‪ ..‬وفي الخلي ة الش بكة اإلندوبالزمي ة‪،‬‬
‫وهي مكان عمل الريبوسومات‪ ..‬وفي الخلي ة جه از ج ولجي‪ ،‬وه و يش به قس م التعبئ ة‬
‫والتهيئة والتغليف؛ فه و يق وم بإع داد وتهيئ ة ال بروتين لالس تعمال أو التص دير‪ ..‬وفي‬
‫الخلية األجسام الحالة‪ ،‬وهي تشبه رجال األمن؛ حيث تهاجم كل جسم يحاول اإلض رار‬
‫بالخلية‪ ..‬وفي الخلية الميتوكوندريا‪ ،‬وهي كمولدات الطاقة‪.‬‬
‫التفت إلي‪ ،‬وقال‪ :‬انظر‪ ..‬هذه خلية واحدة‪ ..‬وفيها كل هذا‪ ..‬إنها مص نع متكام ل‪،‬‬
‫وكل شيء فيها يجري بنظام ودقة‪ ..‬فهل سمعت أن عاقال يمكن أن يقبل بوجود مالي ير‬
‫ماليير المصانع هكذا صدفة دون وجود مصدر وراءها‪ ..‬هل رأيت مصنعا واحدا بهذا‬
‫الشكل في حيات ك تش كل ص دفة؟‪ ..‬ب ل ه ل رأيت أي مص نع مهم ا ك ان حق يرا ص نع‬
‫صدفة؟‬
‫لم أجد بما أجيبه‪ ،‬فقال‪ :‬هل يمكن أن يوجد جه از دقي ق الحجم‪ ،‬معق د ال تركيب‪،‬‬
‫محكم الوظ ائف بال موج د؟‪ ..‬م ا حكم م ا يق ول ه ذا عن د العقالء؟‪ ..‬وأيهم ا أعظم في‬
‫الحكم‪ :‬هذا الجهاز الدقيق أم هذه الخلية الحي ة‪ ،‬دقيق ة الحجم‪ ،‬معق دة ال تركيب‪ ،‬محكم ة‬
‫الوظائف؟‬
‫وهي باإلض افة إلى ذل ك كل ه تنم و وتتك اثر وتتنفس وتتغ ذى‪ ،‬وتق وم بعملي ات‬
‫حيوية تعجز عن محاكاتها أكبر المصانع في العالم‪ ..‬واألعجب من ذلك كل ه أن الم واد‬
‫الميتة خارج الخلية كالكربوهيدرات والبروتينات عندما تعبر غشاء الخلية‪ ،‬ويسمح لها‬
‫باالندماج مع مكونات الخلية وعضياتها تتحول من مواد ميتة ال حياة فيها إلى عضيات‬
‫حية تتغذى وتتنفس‪.‬‬
‫***‬

‫‪189‬‬
‫قال ذلك‪ ،‬ثم أخذ يصيح في الحضور الذين ك انوا يس تمعون لحوارن ا‪ :‬إني أس أل‬
‫أي شخص منكم ه ل رأى في حيات ه أج زاء س اعة تجمعت‪ ،‬ثم تح ولت إلى س اعة في‬
‫غاي ة الروع ة والدق ة‪ ..‬ثم أخ ذت تعم ل دون الحاج ة لمجم ع وم ركب ومح رك ع الم‬
‫حكيم‪ ..‬هل تقبل عقولكم هذا؟‬
‫صاحوا جميعا‪ :‬ال يمكن ذلك‪ ..‬فذلك مستحيل‪ ..‬بل هو معجزة‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬والخلي ة الحي ة أعظم وأعق د بكث ير من الس اعة؛ فهي حي ة ذاتي ة الحرك ة‪،‬‬
‫تستجيب للمؤثرات‪ ،‬وتنمو تتكاثر‪ ،‬وتنتج طاقة تخرج فضالتها‪.‬‬
‫قال ذلك‪ ،‬ثم راح يسألهم‪ :‬إني أسأل أي شخص منكم‪ ..‬هل رأى في حياته أج زاء‬
‫سيارة تجمعت‪ ،‬وكونت سيارة في غاية الروع ة والدق ة‪ ،‬والس يارة تعم ل دون الحاج ة‬
‫لمجمع ومركب ومحرك عالم حكيم‪ ..‬هل تقبل عقولكم هذا؟‬
‫صاحوا جميعا‪ :‬ال يمكن ذلك‪ ..‬فذلك مستحيل‪ ..‬بل هو معجزة‪.‬‬
‫قال‪ :‬والخلي ة الحي ة أعظم وأعق د بكث ير من الس يارة؛ فهي حي ة ذاتي ة الحرك ة‪،‬‬
‫تستجيب للمؤثرات‪ ،‬تنمو تتكاثر‪ ،‬تنتج طاقة تخرج فضالتها‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬إني أسأل أي فنان فيكم رأى لوحة فني ة ممتلئ ة بالجم ال‪ ..‬ه ل يمكن ه أن‬
‫يذكر أنها هكذا رسمت صدفة دون رسام مبدع رسمها؟‬
‫قالوا‪ :‬ذلك مستحيل‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكيف إذا كانت هذه الصورة مجسمة‪ ..‬هل يمكن أن تنشأ هك ذا ص دفة دون‬
‫ت دخل ك ائن مري د مب دعظ‪ ..‬فكي ف به ذا الك ون الشاس ع المليء بالمن اظر الخالب ة‪،‬‬
‫والكائنات العجيبة المدهشة؟‬
‫***‬
‫لم يكن ذلك العالم وحده من وقف في وجهي أثناء بثي ألطروحاتي اإللحادية‪ ،‬بل‬
‫كان منهم الكثير‪ ..‬أذك ر منهم ذل ك ال ذي راح يق ول لي‪ :‬أنت ال ت زال تأخ ذ علم ك من‬
‫جهة واح دة فق ط‪ ..‬والعلم يحت اج من ا إلى البحث أك ثر‪ ،‬ومن ك ل المص ادر‪ ..‬فالحقيق ة‬
‫أعظم من أن يحتكرها أحد من الناس‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل تعرف من العلماء من يخالفني‪..‬‬
‫ورحت أؤك د على كلم ة العلم اء‪ ،‬وأق ول‪ :‬ال أري د خراف يين وال مت دينين‪ ..‬ب ل‬
‫علماء‪ ..‬علماء حقيقيين‪ ..‬أي يعرفون المنهج التجريبي ال المنهج الميتافيزيقي‪.‬‬
‫قال‪ :‬أنا أعرف [جوناثان ويلز]‪ ،‬وهو عالم أحياء أمريكي أنهى ال ّدراسات العلي ا‬
‫هـاو‪ ..‬وق د‬
‫ِ‬ ‫والدكتوراه في جامعتي يالي وكاليفورني ا‪ ..‬فه و متخص ص‪ ،‬وليس مج رد‬
‫سافر على متن سفينة‪ ،‬وظل يراقب مناقير البط مثله مثل داروين‪ ،‬وقد ق ال مع برا عن‬
‫اكتشافاته في هذه الجانب‪( :‬من النّ ادر للغاي ة أن يتم اطالع المجتم ع كل ه بم ا يق وم ب ه‬
‫العلم اء المتخصص ون من تفس يرات علمي ة تتعل ق باإلبه ام والغم وض العميقين‬
‫بخص وص أص ل االنس ان‪ ،‬وب ديال عن ذل ك نتلقى مج رد خ بر عن آخ ر نظري ة له ذا‬
‫الشخص أو ذاك وال ينقلون لنا الحقيق ة ال تي لم يس تطيعوا هم أيض ا ً فهمه ا بخص وص‬
‫هذا الموضوع‪ ..‬فيتم الترويج للنظرية وتزيبها بشكل دقيق‪ ،‬وباالستعانة ببعض الرسوم‬

‫‪190‬‬
‫والص ور المت َخيَّل ة إلنس ان الكه ف أو لج د االنس ان بوض ع كث ير من الماكي اج عليه ا‬
‫والواضح أن أحداً من قبل لم ينسج خياالً واسعا إلى هذا الحد بخصوص جزئية بس يطة‬
‫إلى هذا القدر في أى فرع من فروع العلم المختلفة)(‪)1‬‬
‫ق ال ذل ك‪ ،‬ثم راح يعقب علي ه‪ ،‬وه و يلتفت لي بقول ه‪ :‬انظ ر إن ه يص رح أن‬
‫الداروينية خيـال علمي‪ ..‬ولست أنا الذي قلت هذا‪ ،‬ب ل ه و ع الم البيولوجي ا األم ريكي‬
‫جوناثان ويلز‪..‬‬
‫وه و ليس وح ده في ه ذا‪ ..‬ب ل ق ال قبل ه ريتش اد ليكي‪ ،‬وه و أح د علم اء‬
‫الباليوأنثروبولوجيا‪ ،‬الذي يبحث في أص ول اإلنس ان الق ديم‪( :‬ل و أنكم جئتم برج ل علم‬
‫ذكي ماهر من فرع مختلف من فروع العلم‪ ،‬وأطلعتم وه على م ا ل دينا من دالئ ل غ ير‬
‫كافية فإنه سيقول لكم وبكل تأكي د‪ :‬انس وا ه ذا الموض وع‪ ،‬فليس ل ديكم دعام ة أو س ند‬
‫كاف لالستمرار فيه‪ ،‬فالدالئل لدينـا غير كافية إطالقا)(‪)2‬‬
‫وقال‪( :‬لقد أصبحت الفكرة التي تقول بأن تاريخ تط ور الكائن ات الحي اة عب ارة‬
‫عن مسألة أو قضية استكشافية أصبحت مجرد خرافة‪ ..‬فل و ك ان به ذا الش كل ووج دنا‬
‫حفريات كثيرة لكائنات شبيهة باإلنسان لكان من الضروري أن تتح ول حكاي ة التط ور‬
‫أن الحقيقة هي أنه عندما ك ان يح دث ش يء ك ان يح دث‬ ‫إلى شكل أكثر وضوحاً‪ ،‬غير ّ‬
‫شيء آخر على النقيض تماما من األول)‬
‫لم أجد بما أجيبه‪ ،‬فقال‪ :‬ألم تالحظ أنك ال تزال متخلفا عن أبناء جيلك؟‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫ق ال‪ :‬ألم ت ر أن ه ب دءا من أوائ ل التسعينـات ب دأ اإلس تهزاء ب التطوريين في‬
‫األوسـاط العلمية حتى أن هنري جي‪ ،‬وهو المحرر العلمي في مجلة الطبيعة‪ ،‬قال‪ّ :‬‬
‫(إن‬
‫عملية أخذ مجموع ة من الحفري ات‪ ،‬والق ول بأنه ا تعكس وج ود سلس لة قراب ة هي في‬
‫الواقع ليست فرضية علمية يمكن إخضاعها لالختب ار‪ ،‬وك ل م ا في األم ر أنه ا مج رد‬
‫حكاية أو حدوته من أحاجي منتصف اللي ل المس لية ال تي ق د تك ون ُم َو ِّجهَ ةً أو ُمرْ ِش َدةً‬
‫ي أساس علمي)‬ ‫لالنسان في كثير من األحيان إال أنها ومع ذلك ال تستند أل ّ‬
‫وهك ذا ق ال ميلف ورد ولب وف من جامع ة ميتش جان‪ ،‬وآالن ث ورن من جامع ة‬
‫كانبيرا‪ ،‬حيث ذكرا أن (اإلنسان منتص ب القام ة ليس إال تص نيفا خيالي ا ال وج ود ل ه‪،‬‬
‫وأن الحفريات التي أدمجت في هذا التصنيف هي عبارة عن اإلنسان العاقل من أعراق‬
‫مختلفة)‬
‫بل إن كثيرا من علماء الغرب أص بحوا ي رددون ق ائلين‪( :‬نحن في حاج ة ماس ة‬
‫وعاجلة إلى عدم الدفع بالعلم إلى دائ رة الخراف ة)‪ ،‬فم ا ال ذي يس تفيده العلم من معرف ة‬
‫درجات القرابة بين الحيوانات المختلفة‪ ..‬وهل تحول العلماء إلى علماء أنساب؟‬

‫‪ )(1‬أيقونات التطور‪ :‬لم يكون معظم ما ندرسه عن التطور خاطئاً‪ ،‬جوناثان ويلز‪ ،‬ص ‪ 225‬ملخصاً‪..‬‬
‫‪ )( 2‬انظر‪ :‬المصادر الموثقة لهذا النص وغيره في كتاب‪ :‬الرد على الملحدين العرب‪ :‬د‪ .‬هيثم طلعت علي سرور‪..‬‬

‫‪191‬‬
‫قال ذلك‪ ،‬ثم نظر إلي بعطف وحنان‪ ،‬وقال‪ :‬ال يسعني في نهاية ح ديثي مع ك إال‬
‫أن أبدي لك عن مقدار عطفي وش فقتي لحالت ك‪ ..‬وأذك ر ل ك م ا قال ه [ج ريج ك يربي]‬
‫لبعض المبشرين بهذه النظرية‪( :‬لو أنكم قضيتم حي اتكم كله ا في جم ع العظ ام والقط ع‬
‫الصغيرة من الجمجمة والذقن‪ ،‬فإنكم ستشعرون برغبة ملح ة في أن تب الغوا في أهمي ة‬
‫هذا القطع الصغيرة التي قمتم بجمعها)‬
‫ثم أضاف قائال‪ :‬الدالئل العلمية كلها تق ف ض د التط ور‪ ..‬العلم نفس ه يق ف ض د‬
‫التطور‪ ..‬وم ا دامت ه ذه النظري ة ق د انه ارت فليس ل ك من ح ل إال اإليم ان بالخ الق‬
‫المبدع‪ ..‬وصدقني لن تجد في حياتك ما هو ألذ من اإليمان‪ ..‬لعقلك وقلبك وكل لطائفك‪.‬‬
‫***‬
‫لكني مع ذلك كله لم أكن أستسلم أب دا‪ ،‬ب ل كنت أحت ال بص نوف من الحي ل على‬
‫كل مؤمن‪ ..‬من ذلك مثال أني كنت أقول لهم‪ :‬هل ي زول اعتق ادكم باهلل‪ ،‬عن د اس تطاعة‬
‫اإلنسان خلق كائن ح ّي؟‬
‫طبعا كان العوام يسلمون لي‪ ،‬ويتصورون أن األمر قد تحقق بالفعل‪ ،‬وأن هن اك‬
‫بشرا أو حيوانات قد تم خلقها في المخ ابر والمعام ل‪ ،‬لكن الب احثين المتح ررين ك انوا‬
‫يص طدمون معي‪ ،‬وك ان بعض هم يس خر م ني‪ ،‬وك ان بعض هم يتعام ل معي به دوء‪،‬‬
‫ويجيب عن أطروحتي بلغة علمية في قمة العقل والحكمة‪.‬‬
‫ومنهم ذلك الذي راح يخاطبني بهدوء بقوله‪ :‬أنت تذكرني بق ول بعض هم‪( :‬إنّ ني‬
‫أستطيع أن أخلق لكم إنسانا من الماء والهواء وبعض المواد الكيمياوية)‬
‫قلت‪ ،‬وقد امتألت حماسة لذكره لهذا‪ :‬أجل‪ ..‬فهو رجل من أص حابنا‪ ..‬أرأيتم ثق ة‬
‫العلماء بعلومهم‪ ،‬وبأنفسهم‪.‬‬
‫أن مص نوعه ه ذا ال يختل ف عن أي تمث ال غ ير ذي روح‪،‬‬ ‫قال‪ :‬لكنه غف ل عن ّ‬
‫فه و يعتق د بأنّ ه يكفي لخل ق اإلنس ان أن تجتم ع بعض العناص ر‪ ،‬وتخل ط م ع بعض ها‬
‫البعض‪ ..‬ولكن كل ذلك لم يتم مع مرور فترة طويلة على تصريحه ذلك‪ ..‬فالعلم اء إلى‬
‫الوقت الحاضر لم يستطيعوا أن يوجدوا خليّة حية واحدة في المختبر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬دعنا من الواقع الحالي‪ ..‬لكن المستقبل مليئ بالمبشرات‪ ..‬فيمكن للبش ر في‬
‫المستقبل أن يخلقوا خليّة حيّة في أُنبوبة االختبار‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬ال ب أس‪ ..‬فلنس لم ب ذلك‪ ..‬ولكن بش رط أن ال يس تخدموا الم واد األولي ة‬
‫الموجودة في الطبيعة‪ ..‬ألنهم إذا فعلوا ذلك لن يكون دورهم س وى التجمي ع وال تركيب‬
‫ال الصناعة البحتة‪ ..‬وبذلك ال يحق لهم أن يزعموا أن االختراع اختراعهم‪ ،‬ألن الم واد‬
‫األوليّة وحقيقتها وكيفية نشوئها خارج ة عن علمهم‪ ،‬ولع ّل أس رار الحي اة كامن ة فيه ا‪،‬‬
‫ولعلها تكون هي منبعا للحركة‪ ،‬وما عَم ُل اإلنسان إالّ توفير الظروف المناس بة لنموّه ا‬
‫وحيويّتها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما تعني بذلك؟‬
‫قال‪ :‬لو قدر أن يستخدم اإلنسان الكهرباء‪ ،‬وبعضا من الم واد الكيمياوي ة إلنش اء‬
‫إن حقيق ة الكهرب اء ال ت زال بعي دة عن إدراك العق ل البش ري‪ ،‬وبع د‬ ‫موج ود حي‪ ،‬ف ّ‬

‫‪192‬‬
‫افتراض وجود الكائن الحي‪ ،‬يبقى أن نعلم كيف تستطيع أن تكون هي المول دة للحرك ة‬
‫أن هن اك بعض الق وى في جس م اإلنس ان ال ت زال‬ ‫واإلحساس في الكائن الجدي د‪ ..‬كم ا ّ‬
‫معقّدة وغير مفهومة في معظم األقسام‪ ..‬وبذلك فإنا ال نستطيع القول ّ‬
‫بأن اإلنس ان ق ادر‬
‫إن اإلنس ان ق د وفّ ر‬
‫على خلق خليّة حيّة‪ ،‬وإعطاء ال روح إلى الجم اد‪ ..‬ب ل إنن ا نق ول ّ‬
‫المق ّدمات والشروط الالزمة لها‪ ،‬دون معرفة بالمقوّمات‪ ،‬وأُعطيت الحياة من قبل ق وى‬
‫غيبية وعوامل مجهولة‪.‬‬
‫ثم سكت قليال‪ ،‬وقال‪ :‬أجبني‪ ..‬أال تستدل بصنع اإلنس ان له ذا الك ائن الحي ـ في‬
‫حال قدرته عليه ـ على نبوغه وعقله وذكائه؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬وذلك مما ينفي وجود هللا‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬ال‪ ..‬ذل ك ليس دليال‪ ..‬ب ل إن ه دلي ل على أن هللا خل ق إنس انا ذكي ا وعبقري ا‬
‫استطاع أن يفعل ما فعل‪.‬‬
‫ثم قال لي‪ :‬إذا كان البشر جميعا‪ ،‬وبكل معاملهم ومخابهم لم يستطيعوا أن ينشئوا‬
‫خلية واحدة من العدم‪ ..‬فكيف بهذا العالم الرحب والكون الواسع؟‬
‫***‬
‫لكن كل ذلك الصرح الذي أسسته لنفسي‪ ،‬وكل تلك الحصون التي تحص نت به ا‬
‫راحت تتهاوى واحدا واحدا إلى أن سقطت في األخير‪ ،‬وكانت آخ ر لبن ة س قطت منه ا‬
‫بي د بعض المؤم نين ال ذي راح يس ألني ق ائال(‪ :)1‬ه ل ت رى العلم أك ثر عقالني ة من‬
‫اإليمان؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬لق د ذك ر أس تاذنا الكب ير [ريتش رد دوك نز] في كتاب ه المق دس[وهم‬
‫اإلله] أن اإليمان الديني غير عقالني‪ ..‬وأنه عملية عدم التفك ير‪ ..‬وهي عملي ة ش ريرة‪،‬‬
‫ألنها ال تتطلب أي تبرير‪ ،‬وال حجج‪ ..‬بل هي تفرض نفسها على العقول فرضا‪.‬‬
‫قال لي‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬مثال إذا أردن ا أن نع رف أن الم اء مك ون من ذرتي هي دروجين وذرة‬
‫أكسجين‪ ،‬استطعنا أن نثبت ذلك في المخابر‪ ،‬وبالبراهين العلمية‪.‬‬
‫قال‪ :‬أنا ال أختل ف مع ك في ه ذا‪ ..‬وال يوج د من يختل ف مع ك في ه ذا األم ر‪..‬‬
‫ونحن نتفق مع دوك نز والملح دين أن العلم يعطي أدل ة واض حة وموثوق ة ودقيق ة على‬
‫أسئلة مهمة كثيرة‪ ..‬ولكن‪ ،‬ماذا بخصوص هذا السؤال‪ :‬م ا مع نى الحي اة؟‪ ..‬ه ذا س ؤال‬
‫مهم وجوهري‪ ..‬هل يستطيع العلم على أن يجيب عليه؟ حسب دوكنز والملح دين‪ ،‬العلم‬
‫ال يكشف عن معنى الحياة‪ ،‬ولهذا؟ ال يوجد معنى للحياة؟ فهل هذا صحيح؟‬
‫لم أجد بما أجيبه‪ ،‬فراح يقول‪ :‬لقد سمعت من أحد علماء جامعة أكس فورد‪ ،‬وه و‬
‫[بي تر ب راين م د َّور]‪ ،‬وه و ح ائز على ج ائزة نوب ل في الطب قول ه‪( :‬العلم ه و أك ثر‬
‫طريقة ناجحة للحصول على المعرف ة‪ ،‬ولكن يجب التفري ق بين األس ئلة الميتافيزيقي ة‪،‬‬
‫التي يجب أن يُجاب عليه ا بواس طة ال دين والميتافيزيقي ا‪ ،‬وبين األس ئلة ال تي طبيعته ا‬

‫‪ )(1‬انظر مقاال بعنوان‪ :‬اإللحاد‪ :‬أساطير وخرافات‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫تختص بالكون المادي والتي ال يوجد حدود للعلم لمعرفتها)‬
‫ولهذا إن أردت أن تبحث عن سر الحياة‪ ،‬وسر الكون‪ ،‬فابحث عن الدين الحقيقي‬
‫الذي يدلك على ذلك‪ ..‬أما في المناهج التجريبي ة ال تي نس تعملها في العلم فلن تج د فيه ا‬
‫أي تفسير لذلك‪ ..‬وحال من يبحث في العلم عن هذا مثل حال من يريد أن يس مع بعيني ه‬
‫أو يتكلم بأذنيه‪.‬‬
‫عندما قال لي هذا‪ ،‬لم أجد إال أن أبذل جهدا كبيرا في البحث عن ال دين الحقيقي‪،‬‬
‫والحمد هلل‪ ،‬فقد يسر هللا لي فوجدته‪ ،‬ووجدت األستاذ الذي لقنني إياه‪ ،‬وقد وجدت عن ده‬
‫الكثير من األساتذة الذين مألوا عقلي بأمثال تلك األوهام التي قضيت ج زءا ط ويال من‬
‫عمري أدافع عنها‪ ،‬وأبشر بها‪.‬‬
‫برهان الوعي‪:‬‬
‫بعد أن أنهى الرجل الثاني حديثه‪ ،‬قام آخر‪ ،‬وقال‪ :‬بعد أن ح دثكم ص ديقي وأخي‬
‫عن [برهان الحي اة]‪ ،‬وكي ف خ رج ب ه من ظلم ات الجه ل والغواي ة إلى ن ور اإليم ان‬
‫والهداية‪ ..‬فاسمعوا ح ديثي عن بره ان من ب راهين اآلي ات الب اهرة‪ ،‬أطلقت علي ه اس م‬
‫[برهان الوعي]‪ ..‬وهو برهان يدل على هللا من كل الوجوه‪ ،‬وبك ل المق دمات‪ ،‬وبجمي ع‬
‫اللغات‪..‬‬
‫فاهلل برحمته لم يخلق الكون كمادة فحسب‪ ،‬وإنما أضاف إليه الحي اة‪ ..‬ثم أض اف‬
‫إلى الحياة أهم عنصر فيها‪ ،‬وهو الوعي والعقل‪ ..‬وذلك من أكبر اآليات الباهرة التي ال‬
‫يمكن ألحد من العقالء أن يجادل في حاجتها إلى قوة خارجية تتصف بكل أنواع الكمال‬
‫تكون مصدرا لها‪ ..‬فيستحيل على العقل األصغر أن ال يكون مصدره عقال أكبر‪ ..‬ففاقد‬
‫الشيء ال يعطيه‪.‬‬
‫ول ذلك ك ان دي دني م ع أص دقائي وأس اتذتي من المالح دة اس تعمال ك ل الحي ل‬
‫لتفسير العقل والوعي تفسيرا ماديا بيولوجيا بعيد عن كل مصدر خارجي‪.‬‬
‫وقد استعملنا لذلك حيال كثيرة(‪ ..)1‬منها تعريف العقل بكونه ليس سوى تفاعالت‬
‫بين جسيمات مادية‪ ،‬مثله مثل الماء سائل الذي ت نزلق جزيئات ه بج انب بعض ها بعض ا‬
‫بقليل من اإلحتكاك‪ ..‬ومثله مثل المطاط المتمغ ط بس بب مرون ة جزيئات ه‪ ..‬ومثل ه مث ل‬
‫الماس شديد الصالبة بس بب ك ون ك ون ذرات الكرب ون الموج ودة في ه متراص ة على‬
‫هيئة شعرية محكمة النسج‪ ..‬وبذلك فإن نفس القوانين البد أن تنطبق على العقل‪.‬‬
‫وقد اجتمعت حينها مع مجموع ة من األص دقاء م ع ع الم األحي اء [توم اس هـ‪.‬‬
‫هكسلي]‪ ،‬فقال لي‪ :‬إن األفكار التي أعبر عنها بالنطق‪ ،‬وأفكاركم فيما يتعل ق به ا‪ ،‬إنم ا‬
‫هي عبارة عن تغيرات جزيئية‪ ..‬ولذلك فخير طريقة للبحث في العقل هي إظهار كيفي ة‬
‫انبثاق العقل من المادة‪.‬‬
‫قال له أحدنا‪ :‬ولكن النتائج المستتبعة لهذه الرؤية هي أن العقل البشري سيص بح‬
‫خاضعا للحتمية الطبيعية‪ ..‬وب ذلك ال تبقى ل ه حري ة االختي ار والتفك ير‪ ..‬ألن الم ادة ال‬
‫‪ )(1‬انظر الفرق بين النظرة القديمة والجديدة نحو العقل في كت اب [العلم في منظ وره الجدي د] لروب رت م‪.‬أغ روس‬
‫وجورج ن‪ .‬ستانسيو‪ ،‬ترجمة كمال خااليلي‪.‬‬

‫‪194‬‬
‫تتصرف إال بضرورة ميكانيكية‪.‬‬
‫فرد عليه بقوله‪ :‬ذلك هو الواقع‪ ..‬ونحن ال نصف إال الواقع‪ ..‬فالحتمية هي قانون‬
‫الكون جميعا‪ ،‬وال يصح أن نخرج أي شيء من دائرتها‪ ،‬ال الفسيولوجيا‪ ،‬وال الكيمي اء‪،‬‬
‫وال الفيزياء‪ ..‬وال أي شيء آخر‪ ..‬وبما أن العقل أحد ه ذه األش ياء‪ ،‬فال يص ح إخراج ه‬
‫أيضا‪ ..‬وإال وقعنا في التناقض‪ ،‬ولم نستطع رد التس اؤالت ال تي يس ألها المؤمن ون عن‬
‫مصدر العقل‪.‬‬
‫حينذاك أصابتني حماسة قوية‪ ،‬هي حماسة الشباب‪ ،‬فرحت أق ول بان دفاع‪ :‬أج ل‬
‫ما تقوله صحيح‪..‬فالتغيرات المادية هي التي تسبب األفكار‪ ،‬ال العكس‪.‬‬
‫حينها ألقى صديقنا [و‪.‬ك كليف ورد]‪ ،‬ع الم الرياض يات المع روف معادلت ه ال تي‬
‫عبر عنها بقوله‪( :‬إذا قال أحد أن اإلرادة تؤثر في المادة فقوله ليس كاذبا ً فحسب‪ ،‬وإنما‬
‫هو هراء)‬
‫أعجب صديقنا هكسلي بهذا التجاوب الذي أبديناه لفكرته‪ ،‬فراح يفسر لنا العالق ة‬
‫بين العقل والجسد بقوله‪( :‬يبدو أن ال وعي متص ل بآلي ات الجس م كنتيج ة ثانوي ة لعم ل‬
‫الجسم‪ ،‬ال أكثر‪ ،‬وأن ليس له أي قدرة كانت على تعديل عمل الجسم مثلما يالزم صفير‬
‫البخار حركة القاطرة دونما تأثيرعلى آليتها)‬
‫حينها قلت بحماسة‪ :‬أجل‪ ..‬لك الحق في ذلك‪ ..‬وحينها سنصطاد عصفوين بحجر‬
‫واحد‪ ..‬أما األول فه و ال رد على المؤم نين ال ذين ي ذكرون افتق ار العق ل األص غر إلى‬
‫العقل األك بر‪ ..‬ون رد ك ذلك على دع واهم ب اآلخرة والحي اة بع د الم وت‪ ..‬فالش يء في‬
‫اإلنسان يمكن أن يبقى بعد الموت‪ ..‬ألنه إذا ك ان التفك ير واإلرادة نش اطين من أنش طة‬
‫الدماغ‪ ،‬فليس هناك سبب يجعلنا نفترض أن هذين النشاطين يمكن أن يستمرا بع د فن اء‬
‫الدماغ‪ ..‬وإذا كان كل جزء من أجزاء اإلنسان مادة‪ ،‬فالبد من أن يك ون ك ل ج زء من ه‬
‫عرضه للفناء‪ ..‬فالخلود إال للمادة‪.‬‬
‫***‬
‫كانت هذه آراؤنا ودعاوانا العريضة ال تي خرجن ا نتي ه به ا على الن اس‪ ،‬وكأنن ا‬
‫اكتشفنا الحقيقة التي غفل عنها جميع عقالء الع الم على م دار الت اريخ‪ ..‬لكن ا كن ا نق ف‬
‫محتارين عندما يطلب منا توضيحات حول كيفية انبثاق العقل من المادة‪..‬‬
‫وكان الكثير منا للتهرب من ه ذه المس ألة ي ذكر أن المس تقبل س يأتي ب الجواب‪..‬‬
‫أذكر أنه في عام ‪ 1886‬كتب هكسلي يقول‪( :‬وهكذا سيوسع علم وظائف األعض اء في‬
‫المستقبل شيئا فشيئا من عالم المادة وقوانينها إلى أن يص بح مس اويا في امت داده نط اق‬
‫المعرفة والشعور والعمل)‬
‫لكن نبوءة صديقنا هكسلي لم تتحقق‪ ،‬فعندما قدم القرن العشرون بكشوفه الكثيرة‬
‫في عالم وظائف األعضاء‪ ،‬لم يأت بأي دلي ل يس اند تل ك النظ رة المادي ة‪ ..‬ب ل إن ه أتى‬
‫فوق ذلك بما يضادها تماما‪ ،‬وبما يثبت للعقل دوره المميز الذي حاولنا تغييبه في وسط‬
‫المادة‪.‬‬
‫***‬

‫‪195‬‬
‫أذكر حينها أني ذهبت إلى زمي ل لي ك ان في بداي ة أم ره مثلي تلمي ذا لهكس لي‪،‬‬
‫وتلميذا لرؤيتنا المادية‪ ،‬كان اسمه [السير تشارلز س رنغتون]‪ ،‬وق د ك ان بح ق مؤس س‬
‫فسيولوجيا األعص اب الحديث ة‪ ..‬ذهبت إلي ه أستفس ر من ه عن الجدي د ال ذي ج اءت ب ه‬
‫كشوفه‪ ،‬ومدى الخدمات التي قدمتها لنب وءة أس تاذنا‪ ،‬فق ال لي‪ :‬يؤس فني أن أق ول أن ه‪،‬‬
‫ونتيجة بحوثي الرائدة في الجهاز العصبي والدماغ وصلت إلى أنه (ظهر فرق ج ذري‬
‫بين الحي اة والعق ل‪ ،‬فالحي اة مس ألة كيمي اء وفيزي اء‪ ،‬أم ا العق ل فه و يستعص ي على‬
‫الكيمياء والفيزياء)‬
‫قلت‪ :‬ما تقصد؟‬
‫قال‪ :‬قد نفسر الحياة بكونها التغذية الذاتي ة‪ ،‬واس تقالب الخالي ا والنم و‪ ..‬وحينه ا‬
‫يمكن التعبير عن أن هذه الظواهر تتم بواسطة قوانين الفيزياء والكيمي اء‪ ..‬لكن أنش طة‬
‫العقل ال يمكن أبدا أن تخضع آلليات الفيزياء والكيمياء‪.‬‬
‫***‬
‫تركته‪ ،‬وأنا أحاول كل جهدي أن أنسى ما ذكره‪ ..‬ثم ذهبت إلى صديق آخ ر ه و‬
‫[السير جون اكلس]‪ ،‬وهو متخصص في األعصاب‪ ،‬فحكيت له ما ق ال تش ارلز‪ ،‬فق ال‬
‫لي‪( :‬التجارب التي تنم عن الوعي تختلف في نوعها كل االختالف عما يحدث في آلي ة‬
‫األعصاب‪ ..‬ومع ذلك فإن مايحدث في آلية األعصاب ش رط ض روري للتجرب ة‪ ..‬وإن‬
‫كان هذا شرطا ً غير كاف)‬
‫قلت‪ :‬ما تعني بذلك؟‬
‫قال‪ :‬سأضرب لك مثاال يوضح لك هذا‪ ..‬عندما ي رى أح دنا ش جرة‪ ..‬ف إن أش عة‬
‫الشمس المنعكسة من الشجرة تدخل في بؤبؤ عينه‪ ،‬وتمر من خالل العدسة ال تي ترك ز‬
‫ص ورة مقلوب ة ومص غرة للش جرة على ش بكة العين‪ ،‬فتح دث فيه ا تغ يرات فيزيائي ة‬
‫وكيميائية‪..‬‬
‫قلت‪:‬أراك تريد أن تفسر عملية اإلبصار كما فسرها أساتذتنا‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬فهذه العملية ال تفسر عملية اإلبصار‪ ..‬ألن اإلنسان ح تى ل و ك ان فاق د‬
‫الوعي‪ ،‬فإننا يمكن تركيز تلك الص ورة على ش بكية عيني ه‪ ..‬وهي ب ذلك س تحدث نفس‬
‫التغيرات الفيزيائية والكيمائية‪ ..‬ومع ذلك اليبصر شيئا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف تفسر عملية اإلبصار إذن؟‬
‫ق ال‪ :‬إذا أردن ا أن نفس ر اإلبص ار فنحن بحاج ة إلى أك ثر من ذل ك كث يرا‪ً..‬‬
‫فالشبكية‪ ،‬وهي صفحة من المستقبالت شديدة التراص (عش رة ماليين مخ روط ومائ ة‬
‫مليون قضيب)‪ ،‬تبدأ‪ ،‬حين ينشطها الض وء المنبعث من الش جرة بإرس ال نبض ات الى‬
‫العصب البصري الذي ينقلها بدوره إلى قشرة الدماغ البصرية‪..‬‬
‫قلت‪ :‬هذا جيد‪ ..‬وهو متوافق مع رؤيتنا المادية‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬كل ش يء إلى اآلن قاب ل ألن يفس ر بلغ ة الفيزي اء والكيمي اء‪ ..‬ولكن‬
‫المشكلة تكمن في مك ان الل ون األخض ر وس ائر األل وان من ك ل ه ذا‪ ..‬فال دماغ نفس ه‬
‫رمادي اللون أبيضه‪ ..‬فكيف يستطيع أن يتلقى لونا جديداً دون أن يفق د لون ه الس ابق؟‪..‬‬

‫‪196‬‬
‫وكيف يستطيع أن يبصر الضوء إذا كان دماغه مغلقا ً ومعزوالً تماما عن أي ضوء؟‪..‬‬
‫ابتسم‪ ،‬وقال‪ :‬لو أننا عند الرؤية ـ على حسب تفسيراتنا التي تلقيناها من أس اتذتنا‬
‫ـ أحسسنا ب أزيز من الكهرب اء في أدمغتن ا لك ان ذل ك مقب وال ومعق وال‪ ..‬لكن أن يك ون‬
‫األمر بتلك الصورة‪ ،‬فنرى األلوان واألشكال والحركات والضوء‪ ..‬وبأبعادها الثالث ة‪..‬‬
‫فإن هذا من العسير على أي عاق ل أن يتص ور ك ون س ببه يع ود إلى الم واد الكيميائي ة‬
‫والكهرباء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما سر اإلبصار‪ ..‬أو اإلدراك الحسي في تصورك؟‬
‫قال‪ :‬أليس صحيحا ً أن أكثر تجاربنا شيوعا ً تقبل دون أي تقدير لما تنطوي علي ه‬
‫من غم وض هائ ل؟‪ ..‬ألس نا ال ن زال كاألطف ال في نظرتن ا إلى مانقبل ه من تجاربن ا‬
‫المتعلقة بالحياة الواعية‪ ،‬فال نتريث إال ن ادراً للتفك ير في أعجوب ة التجرب ة الواعي ة أو‬
‫لتقديرها؟‬
‫لم أدر ما أقول له‪ ،‬فراح يقول‪ :‬البصر‪ ،‬مثال‪ ،‬يعطينا في كل لحظة صورة ثالثية‬
‫األبعاد لعالم خارجي‪ ..‬وال يكتفي بذلك‪ ،‬بل يركب في هذه الصورة من سمات االلتم اع‬
‫والتلون ما الوجود له إال في اإلبصار الناشيء عن نشاط الدماغ‪ ..‬ونحن بالطبع ن درك‬
‫اآلن النظائر المادية لهذه التجارب المتولدة من اإلدراك الحسي كح دة المص در المش ع‬
‫والطول الم وجي لإلش عاع المنبعث‪ ،‬وم ع ذل ك فعملي ات اإلدراك ذاته ا تنش أ بطريق ة‬
‫مجهولة تماما عن المعلومات المنقولة بالرموز من شبكية العين إلى الدماغ‪.‬‬
‫قلت ل ه‪ ،‬وق د أعجبت ني أطروحات ه من الوجه ة العلمي ة‪ ،‬وإن لم ترض ني من‬
‫الوجهة الفلسفية‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬إن كل عملية إدراك حسي تتكون من ثالث مراحل‪ :‬المنبه األص لي لعض و‬
‫الحس‪ ..‬والنبضات العصبية المرس لة إلى ال دماغ‪ ..‬ونم ط النش اط العص بي المث ار في‬
‫الدماغ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هال وضحت لي هذا أكثر‪.‬‬
‫قال‪ :‬سأبسط لك ذلك‪ ..‬إن عالم اإلحساس ـ حسبما وصلت إلي ه أبح اثي وأبح اث‬
‫كثيرة جديدة ـ أن ه يحت اج ـ كم ا ذك ر أس اتذتنا ـ إلى الفيزي اء والكيمي اء‪ ..‬ولكن ه ليس‬
‫مقصوراً عليهما‪..‬‬
‫قلت‪ :‬هال ضربت لي مثاال يوضح هذا‪.‬‬
‫قال‪ :‬من المؤكد أن وجود كتاب ما يتوقف على عناصر الورق والصمغ والح بر‬
‫التي يتكون منها‪ ،‬ومن دونها اليمكن أن يوجد الكتاب‪ ..‬ومع ذلك‪ ،‬فالكت اب اليٌفهم فهم ا ً‬
‫كافيا ً بمجرد إجراء تحليل كيميائي للحبر وأللياف الورق‪ ..‬وحتى لو عرفنا طبيع ة ك ل‬
‫جزء من جزيئات ال ورق والحبرمعرف ة كامل ة‪ ،‬ف ذلك اليكش ف لن ا ش يئا عن محت وى‬
‫الكتاب‪ ..‬ذلك أن محتوى الكتاب يشكل نظاما ً أسمى يتج اوز ع الم الفيزي اء والكيمي اء‪..‬‬
‫وبذلك فإن أحاسيسنا تتوقف على أعضاء الجسم‪ ،‬ولكن اليمكن حص رها في الخ واص‬
‫الفيزيائية والكيميائية للمادة‪.‬‬
‫***‬

‫‪197‬‬
‫لست أدري كيف أخ ذت ه ذه المعلوم ات‪ ،‬وع دت إلى ص ديقي [الس ير تش ارلز‬
‫سرنغتون]‪ ،‬وذكرتها له‪ ،‬فقال لي‪ ،‬وهو يبتسم‪ :‬وأخيرا عدت إلي‪..‬‬
‫قلت‪ :‬أنت ال تزال صديقي‪ ..‬وحتى لو اختلفت معك‪ ،‬فهذا ال يفسد المودة بيننا‪.‬‬
‫قال‪ :‬الشك انك جئتني من عند صديقنا [السير جون اكلس]‬
‫قلت‪ :‬كيف عرفت ذلك؟‬
‫قال‪ :‬كل من ذهب إليه يعود إلي‪ ،‬ليتأكد مما ذك ره‪ ..‬خش ية على معارف ه المادي ة‬
‫من أن تنهار هكذا بسهولة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل يمكنك إنقاذها؟‬
‫ق ال‪ :‬ولم اذا أنق ذها‪ ..‬وال براهين كله ا ترفض ها‪ ..‬لق د أص بحت متيقن ا تمام ا أن‬
‫النشاط الفسيولوجى والكيميائى للدماغ أمر ض روري لإلحس اس م تزامن مع ه‪ ،‬ولكن ه‬
‫ليس اإلحساس بعينه‪ ..‬فالمادة وحدها ال تستطيع أن تفسر اإلدراك الحسى‪.‬‬
‫نعم يمكن ألس اتذتنا الق دامى أن يتح دثوا عن الموج ات الض وئية‪ ،‬والتغ يرات‬
‫الكيميائية‪ ،‬والنبضات الكهربائية فى األعصاب‪ ،‬ونشاط خالي ا المخ‪ ..‬أم ا الح ديث عن‬
‫عمليات اإلبص ار والش م وال ذوق والس مع واللمس ذاته ا‪ ،‬فليس لهم الح ق في الح ديث‬
‫عنه‪ ،‬ألنه ليس مجالهم‪.‬‬
‫ثم أضاف يقول‪ ،‬وهو يتأمل األفق البعيد‪ :‬إن اإلدراك الحسى حقيقة‪ ..‬ولكنه ليس‬
‫م ادة‪ ،‬وال ه و من خ واص الم ادة‪ ..‬وليس فى مق دور الم ادة أن تفس ره‪ ..‬وله ذا‪ ،‬ف إن‬
‫وجودنا مؤلف من عنصرين جوهريين‪ :‬الجسم والعقل‪ ..‬أو المادة والوعي‪.‬‬
‫***‬
‫بعد أن انهارت أول لبنات القصر المادي ال ذي ك انت تس كن في ه أفك اري ح ول‬
‫العقل والوعي‪ ..‬رحت أستعمل كل أنواع الحيل لتغطية ما وصل إليه البحث العلمي في‬
‫ذلك المجال‪ ..‬والذي يوجب بالضرورة وجود اإلله‪.‬‬
‫وللقيام بذلك رحت أستنجد ببعض األذكياء من أصحابي في أن يج د لن ا نموذج ا‬
‫خاليا من اإلله مثلما وجد هوكينغ في الكون‪ ،‬ومثلما وجد دوكينز في الحي اة‪ ..‬فق ال لي‪:‬‬
‫األمر أخطر مما ذكر صديقانا‪ ..‬فالعقل ال يقتص ر على الم دارك الحس ية‪ ..‬ول ذلك ف إن‬
‫عجزنا عن تفسير المدارك الحسية تفسيرا ماديا‪ ،‬يجعلنا نعجز أكثر عن تفسير الملك ات‬
‫العقلية األخرى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما تعني‪ ..‬هل ترى أنه من المستحيل أن نج د نموذج ا مادي ا يفس ر الرؤي ة‬
‫والسمع وغيرها من المدارك الحسية؟‬
‫قال‪ :‬ليت األمر كان قاصرا على ذلك‪ ..‬وإال اس تطعنا أن نحت ال عليه ا بص نوف‬
‫الحيل‪ ..‬األمر أخطر بكثير‪ ..‬فكلمة [إدراك] ال تقتص ر على الم دارك الحس ية فحس ب‪،‬‬
‫بل تعنى فوق ذلك المعرفة‪ ..‬وتعني الوعى‪ ..‬وبهذا المعنى ف إن أي نش اط ينط وى على‬
‫معرفة أو إدراك هو من أنشطة العق ل الم درك ال تي تب دأ ب اإلدراك الحس ى والح واس‬
‫الخارجي ة‪ ..‬وتنتهي بغيره ا من الم دارك الكث يرة ال تي هي أك ثر تط ورا من الم دارك‬
‫الحسية‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫قلت‪ :‬ما تعني بهذا؟‬
‫ق ال‪ :‬نعم إن الم دارك الحس ية هى األس اس األول لك ل المع ارف اإلنس انية‬
‫ومصدرها‪ ،‬ومن دونها ال يكون لدى ال ذاكرة أى ش ىء تت ذكره‪ ،‬وال للخي ال أى ش يء‬
‫يتصوره‪ ،‬وال للوعي أى شىء يفهمه‪ ..‬ولكنها مع ذلك ليست المدارك الوحيدة‪.‬‬
‫ذلك أننا نجد تحت تصرفنا مجموعة كبيرة من ملكات اإلحساس الداخلى‪ ..‬فنحن‬
‫نملك القدرة على اإلحساس ال بالبياض وبحالوة الطعم فحسب‪ ،‬بل على إدراك الف ارق‬
‫بينهما‪ ،‬فالعين تدرك البياض‪ ،‬وال تدرك الحالوة‪ ..‬واللس ان ي درك الحالوة‪ ،‬وال ي درك‬
‫البياض‪ ..‬فال اللسان‪ ،‬وال العين يستطيعان التمييز بين البياض والحالوة‪ ،‬ألن أيا منهم ا‬
‫ال يدرك االثنين معا‪.‬‬
‫وهكذا نرى الفرق بين ارتفاع الص وت‪ ،‬وارتف اع الح رارة‪ ..‬ذل ك ألن أى ملك ة‬
‫قادرة على مقارنة ش يئين ال ب د له ا من أن تعرفهم ا كليهم ا‪ ..‬وم ا من حاس ة خارجي ة‬
‫تستطيع أن تؤدى هذه المهم ة تبع ا ل ذلك‪ ..‬وه ذا يقتض ي أن تك ون فين ا حاس ة داخلي ة‬
‫تستطيع أن تدرك جميع الصفات التى تدركها الحواس الخارجية‪ ،‬وأن تميز بينهما‪.‬‬
‫***‬
‫بعد أن انه ارت لبن ة أخ رى من لبن ات أفك اري المادي ة ح ول العق ل وال وعي‪..‬‬
‫رحت أستنجد بصديق آخر كان أكثر ذك اء من ه‪ ،‬لك ني لم أكن مع ه إال كالمس تجير من‬
‫الرمضاء بالنار‪ ،‬فقد قابل إلحاحي الشديد في أن نسرع بإيجاد حل قبل أن يعود اإليم ان‬
‫باهلل من جدي د مس تغال ه ذه الثغ رة الخط يرة‪ ،‬ثغ رة العق ل‪ ،‬ب برودة ق ائال‪ :‬ليس األم ر‬
‫قاصرا على ذلك فقط‪ ..‬األمر أخطر من أن تتصور‪ ..‬فنحن ال نملك تلك األدوات فقط‪..‬‬
‫والتي ال يمكن تفسيرها تفسيرا ماديا‪ ،‬وإنما نملك أيضا القدرة على أن نس تدعى أم ورا‬
‫لم تعد حاضرة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما تعني بذلك؟‬
‫قال‪ :‬من عمليات العقل الكبرى التي ال يمكن تفسيرها تفسيرا ماديا باإلضافة إلى‬
‫ما سبق عملية الت ذكر‪ ..‬ففي اإلدراك ات الس ابقة يك ون الش ىء حاض را بالفع ل‪ ..‬ولكن‬
‫الشىء الذى نتذكره ليس كذلك‪ ..‬إذ أن إدراكنا الحس ى األص لى ق د زال على نح و م ا‪،‬‬
‫ولكنه مع ذلك بقي تحت تصرفنا‪ ..‬فالذاكرة ال تستحضر التجربة الماضية فحس ب‪ ،‬ب ل‬
‫تستحضرها بوصفها حدثا ماضيا‪ ،‬وتستطيع ترتيبها من حيث ص لتها بتج ارب أخ رى‬
‫ماض ية‪ ..‬ب ل إن األدعى الى الدهش ة ه و ق درتنا على أن نجع ل أنفس نا نت ذكر الش ىء‬
‫المنسى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن الذاكرة تخونن ا أحيان ا‪ ،‬فال نس تطيع أن نت ذكر اس م ش خص م ا‪ ..‬أال‬
‫يشكل هذا مدخال لتحويل الذاكرة إلى كيان مادي؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬ال يمكن ذلك‪ ..‬فنحن نستطيع فى الغالب أن نحمل أنفسنا على ت ذكر أي‬
‫شيء بالتركيز على أمور أخرى مرتبطة بذلك الشيء الذي نسيناه‪.‬‬
‫سكت قليال‪ ،‬ثم قال‪ :‬عجائب العقل ال تتوقف على ذلك‪ ..‬فهاك الخيال‪ ،‬وهو ملكة‬
‫حس ية داخلي ة أخ رى نس تطيع بواس طتها أن نتص ور ال األش ياء المدرك ة ب الحواس‬

‫‪199‬‬
‫فحس ب‪ ،‬ب ل األش ياء ال تى ال ت دركها ه ذه الح واس‪ ،‬كجب ل من ذهب‪ ،‬أو في ل بحجم‬
‫ال برغوث‪ ..‬فالخي ال‪ ،‬بخالف ال ذاكرة‪ ،‬يس تخدم المعلوم ات ال واردة من الح واس‬
‫الخارجية الخمس بحرية‪ ،‬وبطريقة إبداعية‪.‬‬
‫***‬
‫بعد أن انه ارت لبن ة أخ رى من لبن ات أفك اري المادي ة ح ول العق ل وال وعي‪..‬‬
‫رحت أستنجد بصديق آخر كان أكثر ذك اء من الجمي ع‪ ،‬فق ال لي‪ ،‬وه و يبتس م‪ :‬أض ف‬
‫إلى ما ذك ره زمالئي من ق درات العق ل العجيب ة ال تي ال يمكن تفس يرها تفس يرا مادي ا‬
‫[الفهم] أو ما نطلق عليه بلغتنا (‪)understanding‬‬
‫قلت‪ :‬ما تعني؟‬
‫قال‪ :‬قدرة العقل على معرفة ماهيه األش ياء وعلله ا‪ ..‬وه و م ا ال يمكن لحواس نا‬
‫وال لخيالنا أن يدركه‪ ..‬بل يحتاج إلى قوة أخرى هي قوة الفهم‪ ..‬وهي قوة من المستحيل‬
‫أن نفس رها تفس يرا مادي ا‪ ..‬م ع العلم أنه ا الق وة ال تي تط ورت به ا العل وم والفن ون‬
‫والفلسفات ولوالها لم تكن حضارة وال أي شيء آخر‪.‬‬
‫أردت أن أذهب‪ ،‬فقال لي‪ :‬توقف‪ ..‬فهناك قدرة أخرى تحتاج إلى معرفتها ليته دم‬
‫كل بنيان العقل المادي الذي تحاول إنقاذه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هل هناك شيء آخر تريد أن تضيفه إلى هذا؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬هناك اإلرادة‪ ..‬فاإلرادة تختار وفقا لما يراه العقل‪ ..‬والشك أنك تؤمن‬
‫بأن لك إرادة‪ ..‬ولوال أن لك إرادة لم ا رحت ت دور بينن ا لتبحث عن ح ل للمش كلة ال تي‬
‫وقع فيها عقلك‪.‬‬
‫***‬
‫لم أجد ما أجيبه به إال أني ذهبت إلى صديق لي يدعى [ويلدربنفيلد]‪ ،‬ذل ك ال ذي‬
‫يلقب ه الن اس [أعظم كن دي حي]‪ ،‬وق د ك ان جراح ا كب يرا لألعص اب واألدمغ ة‪ ،‬وق د‬
‫سمعت أنه قام بم ا يرب و على أل ف عملي ة لم ريض فى حال ة ال وعى‪ ،‬وس معت أن ل ه‬
‫مالحظات مهمة في هذا المجال تفوق فى قوتها وكماله ا ك ل م ا س بقها من مالحظ ات‬
‫غ ير مباش رة مس تفادة من بح وث أج ريت على حيوان ات‪ ،‬أو من عملي ات جراحي ة‬
‫أجريت على أدمغة أشخاص مبنجين‪.‬‬
‫وقد سمعت أن له الفضل فى إدم اج مب احث األعص اب وفس يولوجيا األعص اب‬
‫وجراحة األعصاب‪ ،‬وأنه نشر كل ذلك في كتابه المسمى (لغز العقل)‬
‫عندما دخلت إليه عيادته‪ ،‬وحكيت له ما جرى لي‪ ،‬قال لي‪ ،‬وه و يبتس م‪ :‬س أذكر‬
‫لك حادثة وقعت لي‪ ..‬لقد اكتش فت بمحض الص دفة أن تنبي ه من اطق معين ه فى ال دماغ‬
‫بالكهرباء تنبيها خفيفا يح دث اس ترجاعا فجائي ا لل ذاكرة عن د الم ريض ال واعى‪ ..‬وق د‬
‫س اورتني حينه ا الش كوك‪ ،‬ثم أخ ذتني الدهش ه عن دما المس االلك ترود قش رة مخ‬
‫مريضة‪ ..‬حيث تذكرت المريضة س ماعها آلالت موس يقية تع زف لحن ا من األلح ان‪..‬‬
‫فرحت أعيد تنبيه الموضع نفسه ثالثين مرة محاوال تض ليلها‪ ..‬لكنه ا لم تض لل‪ ،‬وكلم ا‬
‫أع دت تنبي ه الموض ع ك انت المريض ة تس مع اللحن من جدي د‪ ،‬وك ان اللحن يب دأ فى‬

‫‪200‬‬
‫المك ان نفس ه‪ ،‬ويس تمر من الالزم ة إلى مقط ع األغني ة وعن دما دن دنت‪ ،‬مص احبة‬
‫الموسيقا‪ ،‬وكان ايقاعها يسير بالسرعة المتوقعة له‪.‬‬
‫صحت فرحا‪ :‬وأخيرا حللت المشكلة ي ا ص ديقي‪ ..‬ه ا ق د أثبت العلم أن ال ذاكرة‬
‫ليست سوى كيان مادي موجود في الدماغ‪.‬‬
‫ابتسم‪ ،‬وقال‪ :‬هناك شيء لم تنتبه له يا صديقي‪ ..‬وقد انتبه له كل المرض ى ال ذي‬
‫كانوا يحسون بالدهشة لتذكر الماضى بمثل تلك التفاصيل الحية‪ ..‬فقد كانوا ينس بون لي‬
‫أنني أنا الجراح هو المسؤول عن تنبيه الذاكرة التى ما كانت تت اح ل والي‪ ..‬ه ل فهمت‬
‫ما أعني‪ ،‬أم تريد أن أوضح لك أكثر؟‬
‫قلت‪ :‬هال وضحت لي أكثر‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬لق د اكتش فت نتيج ة مراقب ة مئ ات المرض ى إلى أن عق ل الم ريض ال ذى‬
‫يراقب الموقف بمثل ه ذه العزل ة ال ب د من أن يك ون ش يئا آخ ر يختل ف كلي ا عن فع ل‬
‫األعص اب الالإرادي ة‪ ..‬وم ع أن مض مون ال وعى يتوق ف إلى ح د كب ير على النش اط‬
‫المادي‪ ،‬فاإلدراك نفسه ال يتوقف على ذلك‪.‬‬
‫لقد استطعت بهذه الطريقة أن أرسم خريطة كاملة تبين مناطق الدماغ المس ؤولة‬
‫عن النطق والحركة وجميع الحواس الداخلي ة والخارجي ة غ ير أن ني لم أس تطع تحدي د‬
‫موقع العقل أو اإلرادة فى أى جزء من الدماغ‪ ..‬فال دماغ ه و مق ر اإلحس اس وال ذاكرة‬
‫والعواطف والقدرة على الحركة‪ ،‬ولكنه فيما يبدو ليس مقر العقل أو اإلرادة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬ألني لم أجد فى قشرة ال دماغ أى مك ان يس تطيع التنبي ه الكهرب ائى في ه أن‬
‫يجعل المريض يعتقد أو يقرر شيئا‪ ..‬فااللكترود يستطيع أن يثير األحاسيس والذكريات‬
‫غ ير أن ه ال يق در أن يجع ل الم ريض يص طنع القي اس المنطقى‪ ،‬أو يح ل مس ائل فى‬
‫الج بر‪ ،‬ب ل إن ه ال يس تطيع أن يح دث فى ال ذهن أبس ط عناص ر الفك ر المنطقى‪..‬‬
‫وااللكترود يستطيع أن يجعل جسم المريض يتحرك‪ ،‬ولكنه ال يستطيع أن يجعل ه يري د‬
‫تحريك ه‪ ..‬إن ه ال يس تطيع أن يك ره اإلرادة فواض ح إذا أن العق ل البش رى واإلرادة‬
‫البشرية ليس لهم أعضاء جسدية‪.‬‬
‫***‬
‫بعد أن انهارت كل األس س ال تي ق امت عليه ا تص وراتي للعق ل‪ ،‬لم أج د إال أن‬
‫أخضع ألحكامه‪ ،‬وإلى اعتباره كيانا موجودا محترما‪ ،‬ومختلفا تماما عن المادة‪.‬‬
‫لكن هداية هللا لي في ه ذا الج انب لم تتوق ف على ذل ك‪ ..‬ب ل ه داني إلى م ا ه و‬
‫أعظم من ذلك‪ ..‬وهو هدايتي إليه‪ ،‬ألخرج من جحيم اإللحاد وضالالته إلى جنة اإليمان‬
‫وأنواره‪.‬‬
‫وقد كانت بداية ذلك حوارا حضرته في حديقة من حدائق الحري ة‪ ،‬حيث وج دت‬
‫رجال مسلما يلتف حوله بعض الناس يسألونه‪ ،‬قال له أحدهم‪ :‬لماذا ال ن رى هللا جه رةً‪،‬‬
‫وهل يمكن تصوّر موجود ال يرى بالعين المجردة؟!‪ ..‬ولماذا لم نر أثراً من الخ الق في‬
‫المختبرات‪ ،‬إنّنا لم نشاهد في عالمنا هذا سوى المادة؟‬

‫‪201‬‬
‫فقال الرجل المؤمن بهدوء(‪ :)1‬إنكم بتصوراتكم هذه ترون أن الكون بما في ه من‬
‫كائنات ال يتجاوز المادة‪ ..‬وترون أن ك ّل الموجودات البد له ا من ل ون وش كل‪ ..‬والب د‬
‫أن تح ّدد بزمان أو مكان‪ ..‬وترون أنه ل و ف رض أن يك ون هن اك موج و ٌد‪ ،‬ولم يتص ف‬
‫بالصفات المذكورة فهو إلى العدم أقرب منه إلى الوجود‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬أجل‪ ..‬نحن نقول ذلك‪ ..‬وكل العقالء يقولون ذلك‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬فاس محوا لي أن أس ألكم م ا دمتم ق د ذك رتم ه ذا‪ ..‬وم ا دمتم ذك رتم أنكم‬
‫أصحاب علم وعقل‪ ..‬هل استطعتم بعقولكم الجبّارة أن تسيروا في ك ّل أرجاء هذا الكون‬
‫أن ك ّل ما في هذا الكون مادة وليس إال المادة‪ ..‬وه ل انتهى علمكم إلى‬ ‫الواسع لتكتشفوا ّ‬
‫أن ك ّل موجود ال بد له من بعد زماني أو مكاني‪ ،‬أو أنّه البد أن يتّصف بلون أو شكل؟‬ ‫ّ‬
‫سكت الجميع‪ ،‬فقال‪ :‬أظن أنكم‪ ..‬بل نحن جميعا قد بالغنا كثيرا في تصور قدراتنا‬
‫على استكناه أسرار الوجود‪ ..‬فاإلنسان بما أحرزه من تق ّدم في العلوم الطبيعيّة ال ي زال‬
‫ع اجزاً عن فهم وإدراك أبس ط المواض يع في علم األحي اء‪ ،‬وهي الخالي ا وم ا تش تمل‬
‫عليه من صفات وعناصر‪ ..‬فكيف يستطيع أن ينفي ك ّل موجود عدا المادة والطاقة؟‬
‫وما دام األمر كذلك‪ ،‬فكيف يتطلع إلى التعرف على ذات ه وحقيقت ه ال تي ال يمكن‬
‫إدراكها مطلقا‪ ..‬ألن ذات هللا تختلف عن خلق ه‪ ..‬ونحن ال نع رف من ذوات األش ياء إال‬
‫ما له عالقة بنا‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬فكيف نعرف هللا إذن ما دامت عقولنا قاصرة عن معرفته؟‬
‫ق ال‪ :‬هي قاص رة عن تص وره‪ ..‬ألن التص ور خي ال‪ ..‬والخي ال ابن للم دركات‬
‫الحسية‪ ،‬ويستحيل على هللا أن يخضع للمدركات‪ ،‬ألنه حينئذ سيكون من جنسها‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬فما المجال المسموح لعقولنا به إذن؟‬
‫قال‪ :‬إذا تتبعنا الحقائق المطلقة وج دناها ال تقتص ر على الما ّدي ات فق ط‪ ..‬ب ل إن‬
‫الوج ود أوس ع بكث ير من ك ل تص وراتنا المح دودة‪ ..‬نعم باس تطاعتنا إدراك األل وان‬
‫واألوزان بحواسنا هذه‪ ،‬أو بمس اعدة المجه ر‪ ..‬لكن هن اك أش ياء كث يرة ال نس تطيع أن‬
‫نشاهدها أو نلمسها أو أن نحسّ بها بحواسّنا هذه‪ ،‬سواء أكانت مج ردة أو مجه زة‪ ..‬ب ل‬
‫أن العق ل يع ترف بوجوده ا قطع ا ً دون ت ر ّدد‪ ..‬وعن طري ق األدلّ ة وال براهين العقلي ة‬ ‫ّ‬
‫يُؤمن بوجودها في عالم الغيب‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬فهال ضربت لنا مثاال على ذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬هذه عقولكم أمامكم‪ ..‬هل يمكن ألي طبيب أو باحث أو مخبر أن يدلكم على‬
‫مكانها‪ ..‬نعم هم يعرفون آثاره ا على وعيكم وتفك يركم‪ ،‬لكنهم لم يش اهدوا العق ل أب دا‪،‬‬
‫ولم يلمسوه‪ ،‬ولم يروا لونه‪ ..‬وإن كنتم ال تصدقونني‪ ..‬فها هو ذا أمامكم فاسألوه‪.‬‬
‫ثم التفت إلي‪ ،‬وقال‪ :‬ها هو أمامكم فقد عمل كل جه ده‪ ،‬وب ذل ك ل م ا في وس عه‬
‫ليرى عقله‪ ،‬ويرى المحل الذي يوجد فيه‪ ،‬والشكل الذي يك ون علي ه‪ ..‬لكن ه في األخ ير‬
‫استسلم‪ ،‬وعرف أن أمره أعظم من أن يحبس في سجون المادة‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬مصدر الوجود بين العلم والفلسفة‪ :‬الشيخ جعفر السبحاني‪..‬‬

‫‪202‬‬
‫***‬
‫أصابني إرباك عندما قال هذا‪ ،‬فلم أكن أعرفه‪ ،‬ولم يكن يعرف ني‪ ..‬ولم تكن بينن ا‬
‫أي عالقة ال من قريب وال من بعيد‪..‬‬
‫عن دما انتهى من حديث ه ذهبت إلي ه‪ ،‬واكتش فت عن ده من أس رار العق ول م ا لم‬
‫يدركه كل العلماء الذين أدركتهم والتقيتهم‪ ،‬والعجيب أني وجدتهم جميعا ض يوفا عن ده‪،‬‬
‫وتالميذ يدرسون على يديه‪.‬‬
‫برهان المشاعر‪:‬‬
‫بعد أن أنهى الرجل الثالث حديثه‪ ،‬قام آخر‪ ،‬وقال‪ :‬بعد أن ح دثكم ص ديقي وأخي‬
‫عن [برهان الوعي]‪ ،‬وكي ف خ رج ب ه من ظلم ات الجه ل والغواي ة إلى ن ور اإليم ان‬
‫والهداية‪ ..‬فاسمعوا ح ديثي عن بره ان من ب راهين اآلي ات الب اهرة‪ ،‬أطلقت علي ه اس م‬
‫[برهان المشاعر]‪ ..‬وهو برهان يدل على هللا من كل الوجوه‪ ،‬وبكل المقدمات‪ ،‬وبجميع‬
‫اللغات‪..‬‬
‫فاهلل برحمته لم يخلق الكون مادة فحسب‪ ،‬وإنما أض اف إلي ه الحي اة‪ ..‬ثم أض اف‬
‫إلى الحياة أهم عنصر فيه ا‪ ،‬وه و ال وعي والعق ل‪ ..‬ثم أض اف إلى ال وعي والعق ل أهم‬
‫عنصر فيها‪ ،‬وهو المشاعر واألحاسيس والعواطف والمواجيد‪ ..‬وذلك من أكبر اآلي ات‬
‫الباهرة التي ال يمكن ألحد من العقالء أن يجادل في حاجته ا إلى ق وة خارجي ة تتص ف‬
‫بكل أنواع الكمال تكون مصدرا لها جميعا‪..‬‬
‫وقد أشار الق رآن الك ريم إلى ه ذا الن وع من اآلي ات في قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬وأَنَّهُ هُ َو‬
‫ك َوأَ ْب َكى﴾ [النجم‪ ،]43 :‬فالض حك والبك اء تعب يران حس يان عن الكث ير من‬ ‫ض َح َ‬ ‫أَ ْ‬
‫المش اعر اإلنس انية‪ ،‬ومن العجيب أن ه ذه اآلي ة تليت بقول ه تع الى‪َ ﴿ :‬وأَنَّهُ هُ َو أَ َم اتَ‬
‫طفَ ٍة إِ َذا تُ ْمنَى (‪َ )46‬وأَ َّن‬‫ق ال َّزوْ َج ْي ِن ال َّذ َك َر َواأْل ُ ْنثَى (‪ِ )45‬م ْن نُ ْ‬
‫َوأَحْ يَ ا (‪َ )44‬وأَنَّهُ َخلَ َ‬
‫َعلَ ْي ِه النَّ ْشأَةَ اأْل ُ ْخ َرى (‪َ )47‬وأَنَّهُ هُ َو أَ ْغنَى َوأَ ْقنَى﴾ [النجم‪ ،]48 - 44 :‬وهي التي تشير‬
‫الش ْع َرى﴾ [النجم‪ ،]49 :‬وهي‬ ‫﴿وأَنَّهُ هُ َو َربُّ ِّ‬
‫إلى برهان الحي اة‪ ..‬وتليت بقول ه تع الى‪َ :‬‬
‫التي تشير إلى برهان الكون‪.‬‬
‫وقد بدأ اهتمامي به ذه المش اعر بأنواعه ا المختلف ة في وقت مبك ر حيث كنت ال‬
‫أزال مرتبطا بالحس‪ ،‬ومتوهم ا أن الحس ه و مص در ك ل ش يء‪ ،‬فل ذلك كنت أرى(‪)1‬‬
‫العواطف ليست سوى ملكات حس ية وناش ئة عنه ا‪ ..‬وكنت أق ول لص احبي ال ذي ج اء‬
‫يحاورني في ذلك‪ :‬انظر إلى الغضب‪ ..‬فهو ال يثيره إال اإلحساس بالضرر أو اإلهان ة‪..‬‬
‫والخوف ال يحرك ه إال تخي ل وق وع ش ر يته ددنا فى المس تقبل‪ ..‬والح زن ال يس ببه إال‬
‫اإلحساس بألم حاض ر أو ت ذكر ألم مض ى زمان ه‪ ..‬وله ذا ف إن العواط ف يطل ق عليه ا‬
‫أحيانا كثيرة اسم [األحاسيس]‬
‫وكان محاوري يقول لي‪ :‬قد يكون بعض ما تقوله صحيح‪ ..‬ولكن العواطف أكبر‬
‫من ذل ك‪ ،‬ومجاله ا أرحب‪ ،‬وتعبيراته ا أعم‪ ..‬وهي ب ذاتها ليس ت أفع اال تن درج تحت‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬العلم في منظوره الجديد‪ ،‬لروبرت م‪.‬أغروس وجورج ن‪ .‬ستانسيو‪ ،‬ترجمة كمال خااليلي‪.‬‬

‫‪203‬‬
‫اإلدراك الحسى‪ ..‬ف الخوف ال ي دل على مج رد اإلحس اس بش ىء م ا‪ ،‬وإنم ا ي دل على‬
‫موقف أو رد فعل إزاء ذلك الشىء‪ ..‬والعاطفة ليست عملية اإلبصار‪ ،‬ولكنها رد الفع ل‬
‫إزاء الشىء المبصر‪ ،‬والذى يجعلنا نميل إليه أو يدفعنا بعيدا عنه‪.‬‬
‫وكان ينظر إلى تصوراتي المادية عن اإلنسان وكل م ا يرتب ط ب ه من عواط ف‬
‫أحاسيس‪ ،‬ويقول لي بحنان ورحمة‪ :‬انظر جيدا‪ ..‬فلو كان اإلنسان مج رد ك ائن م ادي‪،‬‬
‫كما ت زعم لك ان من المعق ول أن تتخ ذ أش ياء مادي ة أبس ط‪ ،‬ك اآلالت‪ ،‬نم اذج للس لوك‬
‫البشري‪ ..‬فلكل آلة دافعة تشغلها‪ ،‬كالبخار أو الكهرباء أو االحتراق الداخلي‪..‬‬
‫وحينها أقول له‪ ،‬وكأني وجدت الحل الذي يزي ل المش كلة من أساس ها‪ :‬م ا دمت‬
‫ذكرت هذا‪ ،‬فإن أهم عنصر في اإلنسان هو قوته الدافعة‪ ..‬وليس تل ك الق وى إال الق وى‬
‫المادية الموجودة في اآللة اإلنسانية‪ ،‬والتي تتخذ شكل غرائز وانفعاالت‪ ..‬وعند التأم ل‬
‫فيها نجد أنها مصدر جميع األعمال التي يقوم بها اإلنسان‪.‬‬
‫عندما أقول له هذا يرد علي بغضب‪ :‬ما دام اإلنسان كائنا ماديا‪ ،‬كما تذكر‪ ،‬ف أين‬
‫العقل؟‬
‫وحينها أرد عليه بكل تبجح وكبرياء‪ :‬العقل ال يملك زمام األمر‪ ،‬ألنه ليس سوى‬
‫نتاج ثانوي للمادة‪..‬‬
‫هذا ما كنت أقوله لصاحبي المؤمن الذي كان يذكرني كل حين بحقيق ة اإلنس ان‪،‬‬
‫لينطلق منها إلى هللا‪ ..‬لكني كنت أقطع عليه الطريق من أولها‪ ..‬فال أع ترف باإلنس ان‪..‬‬
‫وال أراه إال مجموعة تفاعالت كيميائية‪ ،‬مثله مثل أي شيء آخر في الكون‪.‬‬
‫***‬
‫وقد كان يعينني في موقفي هذا‪ ،‬أو يلقنني إياه الكث ير من أس اتذتي ال ذين راح وا‬
‫يحللون النفس اإلنسانية ليبحثوا عن دوافعها بحثا ماديا بحتا‪ ..‬والبداية ك انت م ع أس تاذ‬
‫من أساتذة التطور الذي راح يفسر لي اإلنسان‪ ،‬وجمي ع أحاسيس ه ومش اعره بقوله(‪:)1‬‬
‫في البدء‪ ..‬وبعدما بردت األرض وتكونت بحارها وجباله ا وس هولها وغالفه ا الج وى‬
‫واستعدت الستقبال الحياة عليها‪ ،‬وذلك بعد تعرض ها خالل ماليين الس نين للتط ور من‬
‫ح ال إلى ح ال‪ ..‬ك ان أول ظه ور للحي اة على األرض ف وق س طح الم اء والمحيط ات‬
‫والمستنقعات وعلى شواطئ المسطحات المائية التى تك ونت عن دها م ادة الطين‪ ،‬حيث‬
‫اختلط الماء بالتراب‪ ..‬ومن عفن الطين المنتن نشأت أبسط وأصغر أن واع الحي اة ال تى‬
‫نراها ممثلة في بعض أنواع البكتيريا وبعض الكائنات وحيدة الخلية التى لم تتم يز بع د‬
‫على أنها نبات أو حيوان‪ ..‬ومن هذا األصل المشترك لجميع الكائن ات نبت فرع ان من‬
‫الخاليا المجهرية ـ أى التى ال ت رى إال بواس طة المج اهر المك برة ـ تول د من أح دهما‬
‫النبات‪ ،‬ومن اآلخر الحيوان‪.‬‬
‫ثم ذكر لي تفاصيل كثيرة بعدها‪ ،‬وكأنه رآها بأم عينيه‪ ،‬قصها علي كما يقص الحكواتي‬
‫قصصه وحكاياته‪ ..‬وعندما سألته عن محل العواطف اإلنس انية من ك ل ذل ك‪ ،‬ق ال لي‪ :‬إنه ا‬

‫‪ )( 1‬نقلنا هنا بتصرف كبير بعض ما ذكرناه في رسالة [سالم للعالمين]‪ ،‬فصل [األنا]‪ ،‬من سلسلة [حقائق ورقائق]‬

‫‪204‬‬
‫الغريزة‪ ..‬فالغريزة هي التفسير العلمي لكل تلك العواطف ال تي تراه ا‪ ،‬والس لوكيات الناش ئة‬
‫عنها‪ ..‬إنها التفسير الصحيح لقابلية الحيوان للقيام بسلوك معين منذ الوالدة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنت تتحدث عن الحيوان‪ ..‬وأنا أسألك عن اإلنسان‪.‬‬
‫ضحك بصوت عال‪ ،‬وقال‪ :‬وهل اإلنسان سوى حيوان أكثر تطورا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف اكتسبت الحيوانات هذه الغريزة؟‪ ..‬وكيف كان ظه ور أول س لوك غري زي‬
‫لديها؟‪ ..‬وكيف تم انتقال هذه الغريزة كابر ًا عن كابر؟‬
‫سكت قليال‪ ،‬وكأنه يتأمل سؤالي‪ ،‬ثم قال‪ :‬إن شئت الحقيقة‪ ..‬هناك أجوبة كثيرة عن هذا‪..‬‬
‫ولكنها تكاد تكون أس ئلة هي األخ رى‪ ،‬ال أجوب ة‪ ..‬فك ل س ؤال منه ا سيس تدعي من ك أس ئلة‬
‫أخرى‪ ..‬ولو بقينا هنا إلى آخر الدهر مع مثل هذه األسئلة‪ ،‬فلن نخرج أبدا‪.‬‬
‫ثم أضاف‪ :‬ربما تكون الغرائز مجرد جينات موجودة لدى الحيوانات‪ ،‬تظهر على ش كل‬
‫أنماط سلوكية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهل تؤمن بهذا؟‬
‫قال‪ :‬لقد ذكرت لك أن هذا نفسه سيحتاج إلى أسئلة جديدة‪ ،‬بل أسئلة كثيرة‪ ..‬أولها ستقول‬
‫لي‪ :‬لو كانت الكائنات الحية مبرمجة على أن تسلك هذا السلوك المعين فمن الذي ب رمج ه ذا‬
‫السلوك؟‪ ..‬أنا أعلم أنه ال يوجد أي برنامج مبرمج من تلقاء نفسه‪ ..‬وأنه ال بد لكل برن امج من‬
‫مبرمج‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ..‬كنت سأسألك هذه األسئلة‪ ..‬فما اإلجابة التي أعددتها لها؟‬
‫قال‪ :‬لقد وفر أصحابنا العناء على أنفسهم‪ ..‬ف ذكروا إجاب ة ربم ا ستس تدعي من ك أس ئلة‬
‫أخرى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما قالوا؟‬
‫قال‪ :‬هم يقولون‪ ..‬أو باألحرى نحن نقول بأن الطبيعة األم ـ ال تي تتش كل من البح يرات‬
‫والجبال واألشجار والظواهر المختلفة ـ لها القدرة على الخل ق‪ ،‬إنه ا ب ديل علمي منطقي عن‬
‫الخالق‪..‬‬
‫قلت‪ :‬إن الطبيعة كيان متعدد األنواع‪ ..‬فأي نوع منها لديه القدرة على إكساب الحيوانات‬
‫المختلفة أنماطها السلوكية المختلفة؟‬
‫قال‪ :‬كنت أعلم أنك ستسأل هذا السؤال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لست أنا وحدي الذي يسأله‪ ..‬بل عقلك أيضا يسأله‪ ،‬أنا أشعر أن عقل ك يحت اج إلى‬
‫إجابة منطقية على هذا السؤال‪ ..‬إن الطبيعة تتألف من الحجر والتراب واألشجار والنبات ات‪..‬‬
‫فمن من هذه العناصر تكون له القدرة على إكساب الكائنات الحية هذا السلوك المبرمج؟‪ ..‬أي‬
‫جزء من الطبيعة لديه القدرة والعقل على فعل ذلك؟‬
‫هل ترى أنه يمكن لإلنسان العاقل أن يق ول‪ ،‬وه و ي رى لوح ة زيتي ة جميل ة‪(:‬م ا أحلى‬
‫األصباغ التي رسمت هذه اللوحة )؟‪ ..‬بال شك فإن كالمه لن يكون منطقي ا‪ ..‬إذن ف إن ادع اء‬
‫كون المخلوق خالقاً لألشياء هو بال شك ادعاء غير منطقي‪..‬‬

‫‪205‬‬
‫حينها غضب األستاذ‪ ،‬وقال لي‪ :‬أرى أن صاحبك المؤمن ق د أث ر في ك‪ ..‬ف اختر لنفس ك‬
‫أحد الخيارين‪ ..‬إما أن تسير في طريق الدين وما فيه من خراف ات وأباطي ل‪ ..‬وإم ا أن تس ير‬
‫في طريق العلم‪ ..‬وحينها البد أن تؤمن بكل الحقائق التي ذكرتها لك‪..‬‬
‫***‬
‫كان لتلك الدروس والحوارات التي أجريها مع أساتذتي تأثيرها الكبير على شخص يتي‪،‬‬
‫حيث وج دتني بع د أن وض عت بين تل ك الخي ارات المح دودة أقن ع نفس ي رغم ا عنه ا بم ا‬
‫يقولون‪ ..‬بل وجدتني أنقلب إنسانا آخر‪ ..‬بل وجدت نفسي قد انسلخت من إنس انيتي‪ ،‬ألرت دي‬
‫كل مرة حلة من حلل البهائم والسباع‪ ..‬فمرة أصير خنزيرا أرتع من لذات الدنيا‪ ..‬ومرة كنت‬
‫أسير في الش وارع كم ا تس ير األس ود مكش رة عن أنيابه ا‪ ..‬وم رة كنت ـ وتحت الض غوط‬
‫الشديدة ـ أتحول إلى فرد من عائلة الخنافس والجعالن‪..‬‬
‫وهكذا انتقلت من حيوان إلى حيوان‪ ..‬وقد وجدت الكثير من األساتذة يستغلون حالي في‬
‫ذلك أبشع استغالل‪..‬‬
‫وكان منهم كارل ماركس الذي اعتبر الكفاح من أجل البقاء بين الكائن ات العض وية م ع‬
‫الكفاح من أجل السيطرة السياسية بين الطبقات االجتماعية‪ ..‬واعتمد ُك ّتاب وب احثون آخ رون‬
‫على فكرة االنتخاب الط بيعي لكي ي برروا مفه وم تط ور العنص ر اإلنس اني ال راقي للجنس‬
‫البشري‪.‬‬
‫واستخدم بعض الدارسين الذين عرفوا باسم الداروينيين االجتماعيين أفكارداروين لتأييد‬
‫الفكرة التي تق ول ب أن على الن اس في أي مجتم ع‪ ،‬وعلى الجماع ات أن تتن افس على البق اء‬
‫حيثما كانت‪.‬‬
‫ال من أن يشعر بتأنيب الضمير ـ صار يشعر‪ ،‬بل يعتقد من خالل‬ ‫بل إن االستعمار ـ وبد ً‬
‫ه ذه النظري ة أن ه يق وم برس الة حض ارية عن دما يزي ل م واريث األمم والب نى التحتي ة له ا‬
‫ومجتمعها المدني القائم بها والحرف والص ناعات الخاص ة به ا‪ ،‬ويعت بر نفس ه أن ه يم دنها‪..‬‬
‫حتى أن ماركس اعتبر غزو فرنسا للجزائر من التم دن وإزال ة الرجعي ة والتخل ف وتح دث‬
‫بنفس هذا المنطق عن الهند‪..‬‬
‫***‬
‫وهك ذا أرس لني ه ؤالء األس اتذة إلى فروي د ال ذي انح رف بي عن إنس انيتي انحراف ا‬
‫خطيرا‪ ،‬ظللت تحت أسره دهرا طويال من الزمان‪ ..‬لقد بدأ فعمق في نفسي الهوة التي ك انت‬
‫تتوسع بيني وبين كل القيم اإلنسانية‪..‬‬
‫أذكر أنه في أول لقاء لي مع ه‪ ،‬رأيت ه يق رأ خطاب ا أرس له ل ه أح د األطب اء األمريك يين‬
‫الشبان يلومه فيه على عدم إيمان ه‪ ،‬ويس رد ل ه في خطاب ه قص ة م ؤثرة عن كيفي ة رجوع ه‬
‫لإليمان بعد شك في وجود هللا‪ ،‬وأن ذلك الرج وع ج اء نتيج ة لت أثره بوف اة مريض ة عج وز‬
‫بريئة مالمح الوجه؛ كما ذكر هذا الطبيب الشاب في خطابه لفرويد أنه بعد شكه في هللا دخ ل‬
‫في أزمة نفسية انتهت بسماع صوت من داخل نفسه مازال يحثه على الرجوع إليمان ه ح تى‬
‫رجع له يقينه بوجود هللا‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫لقد ض حك فروي د حينه ا‪ ،‬ثم رد علي ه يق ول ‪(:‬إن هللا لم يس معني ص وتا داخلي ا كال ذي‬
‫أسمعك إياه‪ ..‬وإذا تباطأ هللا في هذا األمر رغم علمه بكبر سني‪ ،‬فإن ه س وف ال يك ون الخط أ‬
‫خطئي لو بقيت إلى نهاية حياتي على اعتقادي الحالي)‬
‫ولم يكتف بذلك‪ ،‬بل راح يحلل خطاب الطبيب نفسيا وينشر ذلك كله في مق ال بعن وان ‪:‬‬
‫‪ ..A religious Experience‬في ذلك المقال يهوي فرويد بأحاسيس الرجل اإلنس انية ال تي تجلت‬
‫في ألمه لرؤية وجه السيدة الوقورة الميتة إلى حض يض التفس ير الجنس ي والعق دة األوديبي ة‬
‫بأسلوب متهافت ومنطق غريب‪.‬‬
‫ومما جاء في ذلك المقال ‪(:‬إن رؤية جسد المرأة الميتة الذي ربما كان عاريا أو كان في‬
‫طريقه ألن يتعرى من المالبس قد ذ َّكر هذا الشاب الطبيب بأمه (ال شعوريا) وقد أث ارت في ه‬
‫هذه الذكرى شوقا لوالدته نبع من عقدته األوديبية‪ ..‬وهذا الشعور سرعان ما أثار في ه البغض‬
‫والغضب على والده‪ ..‬وبمــا أن أفكاره عن والده وعن هللا لم تنفصل بعد بما فيه الكفاية‪ ،‬ف إن‬
‫رغبته في تحطيم والده على المستوى الالشعوري قد ظهر شعوريا في شكل شكه في وج ود‬
‫هللا‪ ،‬وإنه لمن المعلوم لدينا أن الطفل يعتبر ما يفعل والده ألمــه في صلته الجنس ية به ا نوع ا‬
‫من سوء المعاملة والقسوة)‬
‫سألته حينها متعجبا من هذا الموقف‪ ،‬وقلت‪ :‬أهذا هو مصدر العقيدة في هللا؟‬
‫رد علي بثقة عظيمة‪ :‬أجل لقد وقفنا من خالل التحليل النفس ي على ه ذا الرب اط الوثي ق‬
‫بين عقدة الوالدية‪ ..‬عقدة أوديب‪ ..‬وبين نشوة اإليمان باهلل لدى األفراد بما ال يدع مجاال للش ك‬
‫في أن اإلله ما هو إال صورة بديلة عن األب‪.‬‬
‫ثم أضاف معقبا بطريقته التمثيلية التي كانت تجذبني بشدة في ذلك الوقت‪ :‬إن ه الص ورة‬
‫المكبرة عن تلك التي يكونها الطفل عن أبيه في طفولته كمص در للحب والحماي ة والرعاي ة‪،‬‬
‫فالتدين وثيق الصلة بالحاجة الدائمة لإلنسان الطفل للحماية والمساعدة‪.‬‬
‫وكان يقول لي بعدها كل حين ‪(:‬إن التحليل النفس ي يمث ل المرحل ة األخ يرة من الث ورة‬
‫العلمية التي مازالت تعري للبشرية هذاءاتها المتمثلة في الدين)‬
‫وكان يقول لي ـ وهو يفسر نزعة التدين ـ‪(:‬إن هذه االعتقادات التي تعرض في الدروس‬
‫الدينية ال تنبع من الخبرات البشرية المتراكمة‪ ،‬وليس ت هي نتاج ا للتفك ير المس تقيم إنم ا هي‬
‫نوع من الهذاءات؛ بل هي إش باع ألق دم وأق وى وأش د رغب ات الجنس البش ري إلحاح ا‪..‬إن‬
‫اإلحساس بالتهديد والخوف والشعور بعدم األمان لدى طف ل ال يق در على مواجه ة ظ روف‬
‫الحياة أيقظ لديــــه الحاجة إلى الحماية والحب في الوقت نفسه‪ ،‬وهو األمر الذي يت واله األب‬
‫عادة‪ ..‬ثم إن عجز اإلنسان البدائي على مواجهة قوى الطبيعة وقلة حيلتة جعلته في حاجة إلى‬
‫حماية دائمة من هذه األخطار التي تتهدد حياته فتعلق بـ (أب) أك بر في ه ذه الم رة‪ ،‬إن ه هللا‪..‬‬
‫لقد وجدت مشاعر القلق التي تنتاب اإلنسان أمام عجزه على مواجهة أخطار الحياة هذه حلها‬
‫في الدين في ظل الحماية اإللهية والتعاليم السماوية التي سنت الق وانين األخالقي ة ال تي تنتظم‬
‫العالم وتلبي حاجة اإلنسان إلى العدل األخروي الذي قلم ا تحق ق في ع الم الن اس‪ ،‬وم ا يتب ع‬

‫‪207‬‬
‫ذلك من اإليمان بالحساب واإليمان بحياة أخ رى هي في الحقيق ة امت داد لحي اة قلم ا اس تطاع‬
‫اإلنسان أن يشبع فيها كل رغباته)‬
‫هذا موقفه من الدين‪ ،‬وتفسيره له‪ ،‬وعندما سألته عن تفسيره للعواط ف والمش اعر ال تي‬
‫أعيش ها كإنس ان‪ ،‬ق ال لي‪ :‬ك ل ه ذه األش ياء ليس ت إال تعب يرا عن ال دوافع الغريز ّي ة ل دى‬
‫اإلنسان‪..‬‬
‫وعندما سألته عن الدين‪ ،‬قال لي‪ :‬الدين يستقي أصوله من رغبتنا إلى الرعاية الس ماوية‬
‫التي نتصورها في صورة األب الحنون الذي يحل مح ل األب الحقيقي‪ ،‬ألن ه ذا ال يلبث أن‬
‫يخيب آمالنا كلما شببنا عن الطوق‪ ،‬وبلغنا مبلغ الرجولة‪.‬‬
‫وعن دما س ألته عن األخالق‪ ،‬ق ال لي‪ :‬م ا األخالق إال قواع د أوج دها اإلنس ان لتك ون‬
‫كالحاجز تصد غرائزه التي لو انطلقت من زمامها لجعلت النظام االجتماعي أمر ًا مستحي ً‬
‫ال‪.‬‬
‫وعندما سألته عن الفن‪ ،‬قال لي‪ :‬أم ا الفن فقيمت ه إنم ا تنبث ق من حاج ة اإلنس ان إلى أن‬
‫يبتدع أنواعاً من الوهم تقي ه من النظ ر إلى األش ياء كم ا هي في حقيقته ا مم ا ال يس هل على‬
‫اإلنسان أن يحتمله‪.‬‬
‫ثم رفع يديه إلى السماء‪ ،‬وكأنه يخاطب نفسه‪ ،‬وقال‪ :‬هذا هو التسامي‪ ..‬فاألنا ـ ال تي هي‬
‫المسيطر على الحركات اإلرادية ـ تتقبل الدافع الغريزي وتتسامى ب ه‪ ،‬وذل ك ب أن تحيل ه من‬
‫صورته التي هو عليها أو من وضعه إلى وضع آخر ذي قيمة‪.‬‬
‫ثم أض اف يق ول بق وة‪ :‬إن المنبه ات القوي ة الص ادرة عن المص ادر الجنس ية المختلف ة‬
‫تنصرف وتستخدم في ميادين أخرى بحيث تؤدي الميول ال تي ك انت خط رة في البداي ة إلى‬
‫زيادة القدرات والنشاط النفسي زيادة ملحوظة‪ ..‬تلك إحدى مصادر اإلنتاج الفني‪ ،‬وإن تحليل‬
‫شخصية األفراد ذوي المواهب الفنية ليدلنا على العالقات المتغ يرة القائم ة بين الخل ق الف ني‬
‫ال أم ناقصاً‪ ..‬وإن الجانب األكبر لما نس ميه‬‫واالنحراف والعصاب‪ ،‬بقدر ما كان التسامي كام ً‬
‫الطبع مركب من مادة المنبهات الجنسية ومؤلف من ميول ثبتت منذ الطفولة أو اكتس بت عن‬
‫طريق التسامي أبنية الغاية منها كبت االتجاهات المنحرفة التي استحال استخدامها‪.‬‬
‫كان في القاعة التي نجلس فيها لوحة كبيرة من رسم (ليوناردو دافنش ي) ‪ ،‬أش ار إليه ا‪،‬‬
‫وقال‪ :‬هذه اللوحة دليل لما أقول‪ ..‬لقد درست هذه اللوحة دراسة متمعن ة‪ ..‬ب ل درس ت جمي ع‬
‫الجبل الذي كان سطحه (ليوناردو دافنشي)‪ ،‬وسميت تلك الدراسة (ليوناردو دافنش ي دراس ة‬
‫نفسية جنسية لذكريات طفولية)‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫لق د قمت في ذل ك البحث العمي ق بتحلي ل شخص ية دافنش ي تحليال نفس يا متكئ ا على‬
‫مالحظة وجدتها في إحدى أوراق الرسام العظيم‪ ..‬وهي رؤي ا طفولي ة‪ ،‬فق د روى أن ه ي ذكر‬
‫عندما كان في المهد أنه رأى نسر ًا ينزل عليه ويفتح له فمه ويض ربه بذيل ه على ش فتيه ع دة‬
‫مرات‪.‬‬
‫وفي ضوء هذه الرؤيا اكتش فت س ر ذل ك البطء ال ذي اش تهر ب ه دافنش ي‪ ،‬وه و ينج ز‬
‫أعماله العظيمة‪ ،‬واكتش فت س ر تنقالت ه الكث يرة‪ ،‬وس ر غم وض ابتس امة (الجوكن دا)‪ ..‬لق د‬
‫اكتشفت أنه كان ضحية انحراف جنسي على مستوى الالوعي‪ ،‬تأثرت ب ه حيات ه‪ ،‬وت أثر ب ه‬
‫فنه‪.‬‬

‫‪208‬‬
‫أخرج كتبا كثيرة‪ ..‬وراح يحللها جميع ا بمقاييس ه ال تي وض عها‪ ،‬ثم ق ال‪ :‬هك ذا وج دت‬
‫جميع المبدعين‪ ..‬هم جميعا عصابيون‪ ،‬كثيرو االنطواء‪ ،‬على صدام دائم مع الواق ع ال ذي ال‬
‫يسمح لهم بإظهار دوافعهم الغريزية‪ ..‬ولذلك يلجؤون إلشباعها إلى عالم الوهم حيث يج دون‬
‫ال عن اإلرضاء المباشر لرغباتهم‪ ،‬ويستعينون للوص ول إلى تحوي ل مط البهم الالواقعي ة‬ ‫بدي ً‬
‫إلى غاي ات قابل ة للتحقي ق من الوجه ة الروحي ة على األق ل بم ا يمكن تس ميته بالق درة على‬
‫التسامي‪ ..‬وهذه إحدى آليات الدفاع التي تعفيهم من القصاص أو المرض‪ ،‬لكنها ـ م ع ذل ك ـ‬
‫تجعلهم رهائن عالم وهمي لن يطول األمد به حتى يصبح مرضاً عصابيا‪.‬‬
‫***‬
‫بهذه الصورة الباهتة الحقيرة اختصر لي أستاذي فرويد اإلنسان ومش اعره وعواطف ه‪..‬‬
‫فكل سلوك عنده ناتج عن تلك الدوافع الغريزية ال تي يمتلئ به ا الالش عور‪ ..‬ومهم ة المحل ل‬
‫النفسي منحصره في أن يكشف دالالت هذه الرموز الجنسية ال تي يس تحيل فيه ا اإلب داع إلى‬
‫استراتيجية من الدعارة المقنعة‪ ،‬والهوس الجنس ي الم راوغ ؛ ألن ك ل ق ائم في ص ورة إنم ا‬
‫يرمز إلى عضو الذكورة‪ ،‬وأن كل تجوي ف يع ني أعض اء الم رأة التناس لية‪ ،‬وأن العم ود أو‬
‫التمثال المنحوت لجسم إنسان منتص ب لم يكن في األص ل غ ير رم ز لعض و التناس ل‪ ،‬وأن‬
‫الجزء الداخلي من المبني يرمز إلى رحم المرأة‪ ..‬وهكذا‪.‬‬
‫وهك ذا بقيت أت ردد على أس اتذة مختلفين ك ل منهم يفس ر لي حقيق ة اإلنس ان وعواطف ه‬
‫تفسيرا مختلفا‪ ،‬وبثقة عظيمة‪ ،‬كان منهم رجل يقال له (إدلر)‪ ..‬لقد جاءني في اللحظ ات ال تي‬
‫بدأ الشك فيها يتسرب إلي من رؤى فرويد‪ ،‬وقال لي‪ ،‬وهو يهمس في أذني‪ :‬أتدري‪ ..‬لقد كان‬
‫سيدنا فرويد مخطئا خطأ شديدا في إرجاع ه الس لوك اإلنس اني إلى الجنس‪ ..‬ال‪ ..‬ليس األم ر‬
‫كما يقول‪ ..‬لقد بحثت وحللت‪ ..‬فوجدت أن الموجه للسلوك اإلنساني أمر أخطر بكثير من تلك‬
‫النزوات الحقيرة الموقوتة‪..‬‬
‫نظرت إليه‪ ،‬والفرحة تمأل أسارير وجهي‪ ،‬وقلت‪ :‬فما الذي اكتشفت؟‬
‫قال‪ :‬الشعور بالنقص‪..‬‬
‫قلت‪ :‬الشعور بالنقص !؟‪ ..‬ما تقصد؟‬
‫قال‪ :‬لقد رأيت أن كل نشاط يمكن تفسيره بهذه القوة الدافعة‪ ..‬قوة الشعور ب النقص‪ ..‬لق د‬
‫رأيت أنه قوة الدفع األولى للسلوك‪ ..‬لقد كتبت في ذلك كتابا أثبت فيه هذا‪.‬‬
‫ناولني كتابا كان بيده‪ ،‬وقال‪ :‬هذا هو الكتاب‪ ..‬لقد سميته‪( ..‬فهم الطبيعة البشرية)‪ ..‬اسمع‬
‫ما أقول فيه‪( :‬إن كل طفل وهو يقف بمفرده أعزل عن معونة اآلخرين ال يلبث أن يش عر إن‬
‫ال بعجزه عن معالجة شؤون العالم ال واقعي‪ ،‬وه ذا الش عور ب العجز ه و الق وة‬ ‫ال‪ ،‬أو آج ً‬
‫عاج ً‬
‫الدافعة ونقطة االرتكاز األولى التي يب دأ منه ا جه اد اإلنس ان‪ ،‬وه و يق رر اله دف األقص ى‬
‫لوجوده)‬
‫أغلق الكتاب‪ ،‬ثم نظر إلي‪ ،‬وقال‪ :‬الطفل حين يولد‪ ،‬يكون بحاج ة إلى ن وع من الرعاي ة‬
‫واالهتمام‪ ،‬وهي رعاية سرعان ما تستحيل في نظر الطفل إلى نوع من التسلط على نفسيته؛‬
‫ألنها تشعره بعجزه‪ ،‬األمر الذي يو ِّلد لديه شعور ًا بالنقص‪ ،‬مما يفضي به إلى أن يب ني لنفس ه‬

‫‪209‬‬
‫عالماً من الخيال يكون فيه سيد ًا مطاع اً‪ ،‬ويس عى إلى تق ديم نفس ه لآلخ رين على أن ه مرك ز‬
‫القوة‪ ،‬وسيد القرار‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنت تقل د أس تاذنا فروي د في ترك يزه في تحليل ه للس لوك اإلنس اني على س نوات‬
‫الطفولة األولى؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ..‬لقد اكتشفت أنه ا الموجّ ه للس لوك في المس تقبل‪ ،‬ألن األس اليب ال تي يتخ ذها‬
‫الطفل للتعويض عن شعوره بالنقص تقرر طبيع ة اله دف ال ذي يوج ه نش اطه خالل حيات ه‬
‫كلها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن‪ ..‬هل أمكنك تفسير كل النشاط اإلنساني بهذا الدافع؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬لقد وج دت أن ك ل النش اط اإلنس اني تعب ير عن ه ذا الش عور‪ ..‬فق ط الن اس‬
‫يختلفون في طبيعة النقص‪ ،‬وطريقة التعبير عنه وتعويضه‪ ..‬وقد وجدت أن هذا التعويض ال‬
‫يتم إال على أنقاض اآلخرين من خالل ق وة اإلرادة‪ ،‬وفرض ها على الجماع ة‪ ،‬والتس لط على‬
‫المجتمع‪ ،‬فال يمكن أن تتحقق األهداف من دون الكفاح‪ ،‬واالقتحام‪..‬‬
‫قلت‪ :‬أال يمكن تحقيق األهداف عن طريق األلفة والتعاون مع المجتمع‪..‬‬
‫ضحك ضحكة عالية‪ ،‬وقال‪ :‬ال‪ ..‬ال يمكن للف رد النج اح في مس اعيه‪ ،‬وه و يحم ل ه ذه‬
‫القيم‪ ..‬إن النج اح ال يع ني عن دي إال ش يئا واح دا‪ ..‬ه و الحيلول ة بين اآلخ رين وبين تحقي ق‬
‫أهدافهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن هذا يجر إلى الصراع؟‬
‫قال‪ :‬ال يمكن للحياة أن تستقيم بال صراع‪ ..‬أليست المادية الجدلي ة عن د لي نين‪ ،‬والمادي ة‬
‫التاريخية عند ماركس صراع على مطالب اإلنسان في هذه الحياة؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪..‬‬
‫قال‪ :‬ال يمكن لنظرية من النظريات أن تنجح‪ ،‬وهي تستظل بظل السالم‪.‬‬
‫***‬
‫لم يطل مكثي معه طويال‪ ،‬فقد جاءني رجل يسمى (يونج) الذي راح يقنعني بالالش عور‬
‫الجمعي‪ ..‬والذي اعتبره رواسب نفسية لتجارب ابتدائية ال شعورية‪ ،‬ال تحصى‪ ،‬ش ارك فيه ا‬
‫األسالف في عصور بدائية‪ ،‬وقد ورثت في أنسجة الدماغ‪ ،‬بطريق ة م ا‪ ،‬فهي ‪ -‬إذن ‪ -‬نم اذج‬
‫أساسية قديمة لتجربة إنسانية مركزية‪.‬‬
‫ً‬
‫سألته حينها‪ :‬الوعي اإلنساني عندك إذن ليس مقصورا على عالق ة الطف ل بوالدي ه كم ا‬
‫ذكر فرويد؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬الوعي اإلنساني عن دي‪ ..‬أن ا ي ونج‪ ..‬إنم ا يتش كل في ظالل مخ زون ثق افي‬
‫موروث يمتد حتى تجربة اإلنسان البدائي مع الكائنات واألشياء‪ ،‬وقوام هذا المخزون هو م ا‬
‫أسميه بـ (الالشعور الجمعي) أو (األنماط العُليا)‬
‫قلت‪ :‬األنماط العليا!؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬وهي تتشكل من تلك األساطير التي يحركها ن داء الالوعي‪ ،‬فتب دو في أحالم‬
‫األفراد ورؤى الفنانين العرافين‪ ،‬كي تعيد التوازن النفسي للعصر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فمحور نظريتك ينطلق من األنماط العليا إذن؟‬

‫‪210‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬ولها عندي‪ ..‬أنا يونج‪ ..‬مرتبتان‪:‬‬
‫أما المرتبة األولى‪ ،‬فقد أسميتها (األنماط العليا الشخصية) كنمط الظل‪ ،‬وال ِقران المق دس‬
‫ال م ع ظل ه أو م ع‬ ‫واألنيما‪ ،‬وهذه تبرز في شكل شخصي فترى مباش رة‪ ..‬فاإلنس ان يلتقي أو ً‬
‫وجهه الذي يخفيه بواسطة الشخصية‪ ،‬ويلتقي بوالديه اللذين يشكالن له نمط ال ِقران المق دس‪،‬‬
‫ويواجه أحوال الالشعور‪ ،‬وهي األنيما أو النفس‪.‬‬
‫أما المرتبة الثانية‪ ،‬فقد أسميتها (أنماط التحول)‪ ،‬كنمط األم‪ ،‬ونمط الطفل‪ ،‬ونم ط البنت‪..‬‬
‫فنم ط األم يحم ل ص ورة األم الطبيعي ة‪ ،‬واألم األرض‪ ،‬واألم ال روح‪ ،‬ونم ط الطف ل يحم ل‬
‫صورة الطفل اإلله أو الطفل البطل‪ ،‬ونمط البنت يحمل صورة العذراء‪ ،‬واألن ثى المجهول ة‪،‬‬
‫واألنثى الخرافية‪ ،‬واألنثى األضحية‪.‬‬
‫وعلى هذا تكون هذه األنماط الشخصية‪ ،‬وأنماط التحول ميراثاً إنسانياً انبثق من تص ور‬
‫اإلنسان البدائي للكون‪ ،‬وهو ما يسمى باألساطير‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أراك تعطي مصداقية كبرى لألساطير مع أنه ال دليل عليها‪.‬‬
‫لست أدري كيف غض ب غض با ش ديدا‪ ،‬وق ال‪ :‬ال‪ ..‬ليس ت األس اطير كم ا ت زعم‪ ..‬إن‬
‫األساطير هي تاريخ البشرية األولى‪ ..‬نعم تنوسيت مالمحه الدقيقة‪ ،‬وأضفى الخيال اإلنس اني‬
‫عليه جو ًا فضفاضاً‪ ..‬لكنه يظل مع ذلك هو تاريخ اإلنسانية األول‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما تقول في األساطير التي تؤرخ لآللهة؟‬
‫قال‪ :‬لقد ذكرت لك أن العقل اإلنساني أضفى خياال على الحقائق التاريخية ال تي تحمله ا‬
‫األس اطير‪ ،‬فل ذلك‪ ،‬ف إن األس اطير المرتبط ة باآلله ة ليس ت في الحقيق ة إال تأريخ ا لعص ر‬
‫األبط ال‪ ،‬حين ك ان اإلنس ان يعجب ب القوة والج بروت‪ ،‬والبطول ة في ش تى ألوانه ا المادي ة‬
‫والمعنوية‪ ،‬ويتطور هذا اإلعجاب عند األجيال إلى نزعة من التقديس تتالشى معها حيناً بع د‬
‫حين الحدود الفاصلة بين المح دود المطل ق‪ ،‬وبين حق ائق الواق ع اإلنس اني‪ ،‬وخفاي ا الوج ود‬
‫الغيبي‪ ،‬فتصل إلى حد عبادة اآلب اء‪ ،‬ثم تص ل إلى تناس ي ه ذه األب وة‪ ،‬ودخوله ا في مرحل ة‬
‫تالية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬سلمت لك بهذا‪ ..‬فما تق ول في عبقري ة اإلب داع الف ني‪ ..‬ه ل تراه ا كامن ة في ه ذه‬
‫الصور األسطورية؟‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فالصور األسطورية هي ال تي تش كل قاس ما مش تركا بين الن اس‪ ..‬إنه ا هي‬
‫التي تطلق قوى المخيلة للمبدع‪ ..‬ومن هنا كانت الروائع في األعم ال الفني ة خال دة وال وطن‬
‫لها‪ ..‬ذلك ألنها إنما تنب ع من الالش عور الجمعي‪ ،‬حيث ينبس ط الت اريخ وتلتقي األجي ال‪ ،‬ف إذا‬
‫غاص الفنان إلى هذه األعماق فقد بلغ قلب اإلنسانية‪ ،‬وإذا ع رض على الن اس قبس اً من ه ذا‬
‫المنبع العظيم عرفوا أنه منهم ولهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكر لي فرويد أن اإلبداع يعتمد على التسامي‪..‬‬
‫قاطعني‪ ،‬وقال‪ :‬أخطأ فرويد‪ ..‬اإلبداع ال يعتمد على التسامي‪ ..‬بل يعتمد على اإلسقاط‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما اإلسقاط؟‬
‫قال‪ :‬هو العملية النفسية التي يحول بها الفنان تلك المشاهد الغريب ة ال تي تطل ع علي ه من‬
‫أعماقه الالشعورية إلى موضوعات خارجية يمكن أن يتأملها األغيار‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫قلت‪ :‬كيف يتم هذا اإلسقاط؟‬
‫ً‬
‫ق ال‪ :‬ه ذا اإلس قاط ال يتم إال من خالل الرم ز الن اتج عن إطالع المب دع حدس يا على‬
‫الالشعور الجمعي‪ ،‬ولهذا ك ان إب داع الرم ز أعظم وظ ائف الالش عور؛ ألن ه أفض ل ص يغة‬
‫ممكنة للتعبير عن حقيقة مجهولة نسبياً‪.‬‬
‫***‬
‫بعد أن حدثني أستاذي (ي ونج) بتل ك األح اديث‪ ،‬ب ل أقنع ني به ا‪ ،‬لم يع د لي من هم في‬
‫حياتي إال البحث في األساطير والخرافات القديمة ألحاول أن أجد من خاللها حقيقتي‪..‬‬
‫كان البحث مضنيا‪ ..‬وكان فك الرموز أكثر صعوبة‪ ..‬وفوق ذلك لم يكن لي من ال دالئل‬
‫ما يقنعني بصحة أي من التحليالت الكثيرة المتناقضة‪.‬‬
‫في غم رة تل ك الجه ود الش اقة ج اءني رج ل يق ال ل ه (واطس ون)‪ ..‬ش يخ (المدرس ة‬
‫السلوكية)‪ ،‬وقال لي‪ :‬دعك من فرويد‪ ..‬وهلم إلى ني وتن‪ ..‬فمن اس تطاع أن يفس ر الك ون ه و‬
‫الوحيد المخول بأن يفسر اإلنسان‪ ،‬ألنه الوحيد الذي يمكن أن يفهم اإلنسان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نيوتن يفهم اآللة‪ ..‬ال اإلنسان؟‬
‫قال‪ :‬ليس اإلنسان سوى آلة‪ ..‬ال تختلف عن أي آلة‪..‬‬
‫قلت‪ :‬والعقل‪ ..‬والمشاعر‪ ..‬والعواطف!؟‬
‫ضحك ضحكة هستيرية‪ ،‬وقال‪ :‬وهل رأيتها؟‬
‫قلت‪ :‬الكل يذكر العقل‪ ..‬ويذكر الشعور‪ ..‬بل ويذكر الالشعور‪..‬‬
‫قال‪ :‬ما اإلنسان إال ما تراه من جسمه‪ ..‬أما ما تسميه الشعور فال يعدو أن يكون حص يلة‬
‫ثانوية لعمليات جسمية‪ ،‬يصاحبها أحياناً‪ ،‬وإن كان ذلك يحدث بصورة عرضية‪.‬‬
‫سكت قليال‪ ،‬ثم استأنف يقول‪ :‬لست وحدي الذي يقول هذا‪ ..‬حتى ماركس‪ ..‬ذلك األحمق‬
‫الشيوعي كان يقول‪(:‬في اإلنتاج االجتماعي الذي يزاوله الناس تراهم يقيمون عالقات محددة‬
‫ال غنى عنها‪ ،‬وهي مستقلة عن إرادتهم‪ ،‬وعالقات اإلنتاج تطابق مرحلة محدودة من تط ور‬
‫قواهم المادية في اإلنتاج‪ ،‬والمجموع الكلي لهذه العالقات يؤلف البن اء االقتص ادي للمجتم ع‪،‬‬
‫وهو األساس الحقيقي الذي تقوم عليه النظم القانونية والسياسية والتي تطابقها أشكال محدودة‬
‫من ال وعي االجتم اعي‪ .‬فأس لوب اإلنت اج في الحي اة المادي ة ه و ال ذي يعين الص فة العام ة‬
‫للعملي ات االجتماعي ة والسياس ية والمعنوي ة في الحي اة‪ .‬ليس ش عور الن اس ه و ال ذي يعين‬
‫وجودهم‪ ،‬بل إن وجودهم هو الذي يعين مشاعرهم)‬
‫قلت‪ :‬ولكنك بنزع العقل من اإلنسان لن تبقي له أي شيء؟‬
‫قال‪ :‬بل أعيده إلى ذاته‪ ..‬فمن الخطر ومن الخطأ أن يظ ل اإلنس ان يبحث في األس اطير‬
‫عن ذاته‪ ..‬بينما ذاته أمامه يستطيع أن يشرحها كما يشاء‪.‬‬
‫ً‬
‫قال ذلك‪ ،‬ثم نظر إلي ليتأمل تأثير كالمه علي‪ ،‬ثم قال‪ :‬لقد ظلت المادية تعاني ضعفا منذ‬
‫أن كانت تفتقد هذه الحلقة أي منذ ك ان الميك انزم العص بي مجه و ً‬
‫ال‪ ،‬واس تغل المث اليون ه ذا‬
‫الضعف‪ ،‬واستفاد منه الرجعيون لنشر الجهل وتش ويش الفك ر وخل ق أس اطير عن الطبيع ة‬
‫البشرية‪..‬‬

‫‪212‬‬
‫قال ذلك‪ ،‬ثم نظر إلي‪ ،‬فوجدني ال أزال ال أنبس ببنت ش فة‪ ،‬فق ال‪ :‬تع ال معي‪ ..‬ال يمكن‬
‫أن تقتنع قبل أن ترى بعينك‪ ..‬فليس الخبر كالعيان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إلى أين تريد أن تأخذني؟‬
‫قال‪ :‬ألست تبحث عن اإلنسان؟‪ ..‬تعال أريك اإلنسان‪.‬‬
‫س رت مع ه في كث ير من المتاه ات إلى أن وص لنا حج رة س معنا فيه ا ص ياح كلب‪..‬‬
‫فالتصقت به‪ ،‬وقلت‪ :‬أنا أخاف من الكالب‪ ..‬هيا بنا نبتعد عنها‪.‬‬
‫قال‪ :‬لن تفهم اإلنسان حتى تفهم الكالب‪ ..‬تعال معي‪.‬‬
‫دخلنا حجرة استقبلنا فيها رجل اسمه (بافلوف)‪ ..‬لم يطل ب ه ترحيب ه لن ا‪ ..‬ب ل قادن ا إلى‬
‫حيث يوجد الكلب الذي أفزعني نباحه‪ ..‬ثم قرع جرسا‪ ،‬فإذا بالكلب يسيل لعابه بقوة‪ ..‬قال لن ا‬
‫بافلوف‪ :‬انظروا‪ ..‬لقد عودت هذا الكلب على أن ال أقدم له الطعام إال بعد أن أق رع الج رس‪..‬‬
‫انظروا تأثير ذلك عليه‪ ..‬صار الجرس عنده مثيرا‪ ..‬لقد استطعت أن أس تبدل رائح ة الطع ام‬
‫بصوت الجرس‪.‬‬
‫التفت إلى صاحبي‪ ،‬وقلت‪ :‬لقد أخبرتني أنك ستدلني على اإلنسان‪ ..‬فأين هو اإلنسان؟‬
‫أشار إلى الكلب‪ ،‬وقال‪ :‬هذا هو اإلنسان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا كلب‪ ..‬وليس إنسانا‪.‬‬
‫ضحك مع صاحبه بافلوف ضحكة عالية‪ ،‬ثم ق ال‪ :‬نعم‪ ..‬هن اك ف روق بينهم ا‪ ..‬لكن م ع‬
‫ذلك نستطيع أن ندرس اإلنسان من خالل دراستنا للكلب‪ ..‬بل للحشرات‪..‬‬
‫قلت‪ :‬ما الجامع بينهما؟‬
‫قال‪ :‬ألم يفسر ني وتن جمي ع حرك ات الك ون من خالل تفاح ة؟‪ ..‬فك ذلك نحن يمكنن ا أن‬
‫نفسر كل الظواهر السلوكية لإلنسان من خالل الظواهر السلوكية للكالب‪.‬‬
‫قاال لي هذا‪ ..‬ثم سارا بي في متاهات كثيرة‪ ..‬ومدة طويلة من الزمان ص رت أرى فيه ا‬
‫نفسي كما أرى أي آلة‪ ..‬وقد عذبتني هذه الرؤية كثيرا‪..‬‬
‫***‬
‫بعد كل تلك الجوالت الطويلة التي أخذت جزءا كبيرا من عمري‪ ،‬وتهت فيها عن نفسي‬
‫وحقيقتي بس بب غفل تي عن ربي ج اءني الم دد اإللهي ال ذي خلص ني من ك ل تل ك األوه ام‬
‫والخرافات التي لبست ثياب العلم‪ ..‬وكان أول ذلك معرفتي ل ربي‪ ،‬ف ربي ه و ال ذي عرف ني‬
‫بنفسي وحقيقتي وما وهبني من الكمال‪ ،‬وما أفاض علي من التكريم‪.‬‬
‫وقد وجدت أن كل ما قام به أساتذتي من تحريفات للحقيقة اإلنسانية ليس سوى ن وع من‬
‫الهروب من هللا‪ ..‬وعندما هربوا من هللا لم يجدوا إال السراب‪.‬‬
‫***‬
‫ما أنهى صاحبنا حديثه حتى انتش رت أن وار لطيف ة على تل ك الروض ة الجميل ة‬
‫التي اجتمع فيها كل أولئك العلماء المنورين بنور اإليمان‪ ،‬وقد سرى أريج تلك األن وار‬
‫إلى كل لطائفي‪ ،‬فصرت أرى عظمة هللا‪ ،‬وهي تتجلى بكل بهاء وجمال في كل آي ة من‬
‫آياته‪.‬‬
‫لقد رأيتها جميعا تدعونا بلسان حالها ومقاله ا إلى الرحل ة إلى هللا‪ ..‬فاهلل م ا أرن ا‬

‫‪213‬‬
‫بديع آياته إال لنهتدي إليه‪ ،‬ونط رق باب ه‪ ،‬ونتع رف علي ه‪ ..‬ونمتلئ بالمش اعر الجميل ة‪،‬‬
‫ونحن في صحبته‪.‬‬

‫‪214‬‬
‫الهداية المبينة‬
‫في تلك اللحظات‪ ،‬جاءني رجل على أريكته العجيب ة المتحرك ة‪ ،‬واق ترب م ني‪،‬‬
‫وقال‪ :‬إن هللا تعالى بعنايته ورحمته ولطفه بعباده لم يكتف باإلعالن عن نفسه من خل ل‬
‫صنعته‪ ،‬وال من خالل آياته‪ ،‬وال النظام الذي نظم به الكون‪ ..‬وإنما أضاف إلى ذلك كله‬
‫هدايته لعباده‪ ،‬وداللت ه لهم بك ل األلس نة واللغ ات والوس ائل واألس اليب‪ ،‬ح تى ال تبقى‬
‫حجة لمحتج‪ ،‬وال عذر لمعتذر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما أحسن هذا النوع من البراهين‪ ..‬إن ه س يدخل بن ا إلى حض رات األنبي اء‬
‫واألولياء واألصفياء‪ ..‬وسيجعلنا نتواصل م ع كلم ات هللا المقدس ة‪ ..‬ولكن أال ت رى في‬
‫ذل ك دورا؟‪ ..‬فكي ف نكل ف الخل ق باإليم ان بالرس ل‪ ،‬وبكلم ات هللا المقدس ة‪ ،‬وهم ال‬
‫يؤمنون باهلل أصال؟‪ ..‬إن ذلك سيجعلنا مثار سخرية لديهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬أليسوا يطالبون بأدلة حسية على هللا؟‪ ..‬ألم يطالبوا هللا في كل حين بأن يعلن‬
‫عن نفسه إن كان موجودا؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬هم يذكرون ذلك في كل محل‪ ،‬ويجعلون من ت بريراتهم إللح ادهم أن‬
‫هللا تعالى لم يدل على نفس ه‪ ،‬ولم يعلن عنه ا‪ ،‬ول و أن ه أعلن عنه ا لك انوا من الس باقين‬
‫لإليمان به‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬أال ي دعوهم ذل ك للبحث والتنقيب والمس ح والت دقيق في ك ل من ي دعي‬
‫التواصل مع هللا ليعرفوا بعد ذلك الصحيح من الزائف‪ ،‬والحق من الباطل؟‬
‫قلت‪ :‬لقد اكتفوا ببعض النماذج‪ ،‬وراحوا يعممونها على الجميع‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهل هذا من مقتضيات العلم؟‬
‫قلت‪ :‬هم يضعون هذا ضمن االستقراء الناقص‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهل ينفع في هذا االستقراء‪ ..‬هل يمكن أن نحكم على قرية تلبس ثالث ة من‬
‫أفرادها بجرم من الجرائم‪ ،‬بكون كل القرية مجرمة؟‬
‫قلت‪ :‬ذلك لن ينفع‪ ..‬بل حتى ل و ثبتت التهم ة على ثل ثي أه ل القري ة‪ ،‬فال يمكنن ا‬
‫الحكم على ثلثها الباقي ما لم نحقق فيه‪.‬‬
‫قال‪ :‬بل لو ثبتت التهمة على كل أهل قرية ما عدا فردا منهم‪ ،‬فال يصح أن نحكم‬
‫عليه ما لم نتثبت‪ ،‬فلعله يكون البريء الوحيد بينهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬صدقت في هذا‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولهذا فإن هللا أقام حجت ه على خلق ه‪ ..‬فالص ادقون هم ال ذين راح وا ينقب ون‬
‫عن الحقائق في وسط الركام‪ ،‬ليميزوا الطيب من الخبيث‪ ..‬والملحدون هم الذين اكتف وا‬
‫ببعض الخبيث وراحوا يرمون به كل الطيب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنت تفسر الواقع تفسيرا صحيحا ودقيقا‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولهذا فإن من أكبر األدلة على هللا هي تواصله مع خلقه‪ ،‬إما م ع ك ل واح د‬
‫منهم‪ ،‬وإما مع الوسائط التي أرسلها لهدايتهم‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫قلت‪ :‬ال شك أن روضتك هي روضة الهداية المبينة‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فهلم بنا إليها‪ ،‬لتسمع الحقائق من أهلها‪.‬‬
‫س رت مع ه بين تل ك الجن ات‪ ،‬كم ا طلب م ني‪ ،‬إلى أن رأيت روض ة جميل ة ال‬
‫تختلف عن سائر الروضات في جمالها وإتقانها‪ ،‬لكن الذي ميزها عن غيره ا ه و تل ك‬
‫الهالة من النور التي تنبعث من وجوه أصحابها‪ ،‬فتجعلهم أنوارا خالصة‪..‬‬
‫برهان التواصل‪:‬‬
‫ما إن وصلنا‪ ،‬واستقر بنا المجلس في تلك الروض ة البديع ة‪ ،‬وس لمت على ذل ك‬
‫الجمع المنور بنور اإليمان‪ ،‬وسلموا علي‪ ،‬حتى قال أحدهم مخاطبا رسولهم ال ذي ج اء‬
‫بي إليهم‪ :‬فلتبدأ أنت يا صاحب النفس الطاهرة‪ ،‬والعقل الس ليم لتح دثنا عن رحلت ك إلى‬
‫هللا‪ ،‬وكي ف تمت‪ ،‬وكي ف خ رجت من س جون المالح دة وجحيمهم‪ ،‬لتن ال فض ل هللا‬
‫بالدخول إلى روضات جنات المؤمنين؟‬
‫قال‪ :‬لقد كان أول ما دعاني إلى هللا هو ذل ك التفك ر والتأم ل في خل ق هللا ابت داء‬
‫من أصغر ذراته إلى أكبر أجرامه‪ ..‬ومن أبسط أشكاله إلى أعقد مظاهره‪..‬‬
‫وقد كان مظهر الهداية‪ ،‬وتواصل هللا م ع كائنات ه‪ ،‬ه و دليلي األول إلى هللا‪ ..‬فق د‬
‫كنت أقول في نفسي‪ :‬إن كان هللا موجودا‪ ،‬فيستحل أال يتواصل م ع خلق ه‪ ،‬ب أي طريق ة‬
‫من طرق التواصل‪ ..‬والبد أن تكون له لغته الخاصة في تواصله بهم‪ ..‬ألنه يستحيل أن‬
‫يكون اإلله من جنس مخلوقاته‪ ،‬ولذلك ف إن تواص له معهم يس تحيل أن يك ون من جنس‬
‫تواصل مخلوقاته بعضها ببعض‪.‬‬
‫وقد عرفت بعد ذلك‪ ،‬بعد أن من هللا علي بالهداية التام ة أن الق رآن الك ريم ذك ر‬
‫ه ذا ال دليل على لس ان موس ى علي ه الس الم حين س أله فرع ون‪ ،‬فق ال‪ ﴿ :‬فَ َم ْن َربُّ ُك َم ا‬
‫يَا ُمو َسى ﴾ [طه‪ ،]49 :‬فقال له موسى عليه السالم‪َ ﴿ :‬ربُّنَا الَّ ِذي أَ ْعطَى ُك َّل َش ْي ٍء َخ ْلقَهُ ثُ َّم‬
‫هَدَى﴾ [طه‪]50 :‬‬
‫فاهلل لم يكتف بخلق خلقه‪ ،‬وال العناية بهم‪ ..‬بل يتواص ل معهم ك ل حين له دايتهم‬
‫وداللتهم على مصالحهم في كل جزئية منها أو كلية‪.‬‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ودل على هذا النوع من البراهين كذلك قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وأوْ َحى َربُّكَ إِلى النحْ ِل أ ِن‬
‫ْر ُش ونَ (‪ )68‬ثُ َّم ُكلِي ِم ْن ُك لِّ الثَّ َم َرا ِ‬
‫ت‬ ‫اتَّ ِخ ِذي ِمنَ ْال ِجبَ ا ِل بُيُوتً ا َو ِمنَ َّ‬
‫الش َج ِر َو ِم َّما يَع ِ‬
‫اس إِ َّن فِي‬ ‫ف أَ ْل َوانُهُ فِي ِه ِش فَا ٌء لِلنَّ ِ‬
‫فَا ْسلُ ِكي ُسبُ َل َرب ِِّك ُذلُاًل يَ ْخ ُر ُج ِم ْن بُطُونِهَا َش َرابٌ ُم ْختَلِ ٌ‬
‫ك آَل يَةً لِقَوْ ٍم يَتَفَ َّكرُونَ ﴾ [النحل‪ ،]69 ،68 :‬فهاتان اآليت ان الكريمت ان تش يران إلى أن‬ ‫َذلِ َ‬
‫ما نراه من عجائب النحل ليس بسبب الغريزة كما يصور قومنا‪ ،‬وإنما هي هداية إلهي ة‬
‫خاصة‪ ،‬ال نعرف سرها وال كنهها وال كيفيتها‪ ..‬ولكنا نرى بك ل دق ة آثاره ا ال تي ت دل‬
‫عليها‪.‬‬
‫وقد كان أول ما دعاني إلى ه ذا الن وع من التفك ير أني كنت أش اهد في ي وم من‬
‫األيام شريطا وثائقيا عن ثعبان الماء(‪ ،)1‬وكيف يقطع آالف األميال في المحيط‪ ،‬قاصدا‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬هللا جل جالله‪ :‬سعيد حوى‪.‬‬

‫‪216‬‬
‫األعماق السحيقة جنوب برمودا حيث يلتقي ثعابين الماء من ك ل أنح اء الع الم‪ ،‬وهن اك‬
‫تبيض وتموت‪ ،‬أما صغارها التي ال تملك وسيلة تتعرف بها على أي شيء‪ ،‬سوى أنه ا‬
‫في مي اه قف رة‪ ،‬فإنه ا تع ود أدراجه ا‪ ،‬وتج د طريقه ا إلى الش اطئ ال ذي ج اءت من ه‬
‫أمهاتها‪ ..‬ومن ثم إلى كل نهر أو بركة صغيرة‪ ..‬وقد مألني هذا بالعجب‪ ،‬فكيف اهت دت‬
‫تلك الصغار إلى محالها بدق ة عالي ة‪ ،‬ل و لم تكن هن اك هداي ة خاص ة‪ ،‬هي ال تي أرته ا‬
‫الطريق‪ ،‬وهي التي أوصلتها إليها‪.‬‬
‫وهك ذا رأيت الج راد الب الغ من العم ر س بعة عش ر عام ا في والي ة نيوانكالن د‪.‬‬
‫يغادر شقوقه تحت األرض حيث عاش في ظالم مع تغ ير طفي ف في درج ة الح رارة‪،‬‬
‫ويظهر بالماليين في ‪ 24‬مايو من السنة السابعة عشرة تمام ا‪ ..‬بحيث يض بط مواعي ده‬
‫للظهور في اليوم تقريبا بهداية يعجز عنها اإلنسان لوال أنه يستعمل التقويم‪.‬‬
‫وهكذا رأيت في اإلنسان من دالئل الهداية م ا مألني ب العجب‪ ..‬فق د رأيت كي ف‬
‫تنمو الغدد التي تصنع اللبن أثناء الحمل‪ ،‬يدفعها إلى هذا النمو مواد يفرزها المبيض ان‪،‬‬
‫وفي نهاية الحمل وبدء الوضع‪ ،‬تتلقى هذه الغدد النخامية الموجودة في قاعدة الجمجم ة‬
‫أمرا بالبدء في صنع اللبن‪ ،‬وما يكاد الطفل يولد حتى يبحث عن ثدي أمه بهداي ة ال ح د‬
‫لها‪ ،‬وعملية الرضاعة عملي ة ش اقة‪ ،‬إذ أنه ا تقتض ي انقباض ات متوالي ة في عض الت‬
‫وجه الرضيع ولسانه وعنق ه‪ ،‬وحرك ات متواص لة في فك ه األس فل‪ ،‬وتنفس ا من أنف ه‪،‬‬
‫ويقوم الطفل بهذا كله بهداية تامة من أول رضعة لس اعة فطام ه‪ ..‬وق د ذك ر لي بعض‬
‫المختصين في هذا أن الرجل نفسه ال يستطيع أن يق وم بعملي ة الرض اع كم ا يق وم به ا‬
‫الطفل الذي ال يتجاوز عمره ساعات‪.‬‬
‫ه ذه بعض النم اذج ال تي ك ان التفك ير فيه ا أول رحل تي إلى هللا‪ ..‬وهي ظ اهرة‬
‫أشمل مما ذكرت بكثير‪ ..‬فهي تنتظم شؤون الكون كله من اإللكترون ات في ال ذرة‪ ،‬إلى‬
‫الذرة‪ ،‬إلى العناصر‪ ،‬إلى األرض‪ ،‬إلى الشموس‪ ،‬إلى المج رات بك ل حوادثه ا إلى ك ل‬
‫خلية من خاليا الحيوان‪ ،‬إلى كل جهاز من أجهزته‪ ،‬إلى ك ل حي وان من وحي د الخلي ة‪،‬‬
‫إلى النحلة‪ ،‬إلى اإلنسان‪ ..‬وهكذا‪.‬‬
‫وقد جعلني هذا أتس اءل بي ني وبين نفس ي‪ :‬ه ل يمكن أن تك ون هن اك هداي ة بال‬
‫هاد؟‪ ..‬وهل يمكن أن تسير الطائرات والسيارات من غير أن يكون هناك قائ د يقوده ا‪،‬‬
‫أو دليل يدلها على الطريق؟‬
‫***‬
‫وقد جعلني هذا التفكير أنتقل إلى نوع آخر من البحث‪ ،‬لعل ه أك ثر ص لة بالدالل ة‬
‫على هللا‪ ..‬وهو في إمكانية تواصل هللا م ع عب اده‪ ..‬وه ل أن هللا وض ع الق وانين لعب اده‬
‫هكذا‪ ،‬ثم تركهم‪ ،‬أم أنه يقوم بنفسه بداللتهم عليه ا ك ل حين‪ ،‬وأن ه إذا م ا احت اجوا إلي ه‬
‫كان غوثهم وعونهم ومددهم‪.‬‬
‫طبع ا لم أكن في ذل ك الحين مؤمن ا بإل ه‪ ،‬كم ا أني لم أكن ك ذلك من المك ابرين‬
‫الذين يجحدون هللا ويستعملون ك ل الوس ائل لجح وده‪ ..‬ب ل كنت ال أدري ا‪ ..‬وله ذا كنت‬
‫بحوثي وتأمالتي في هذا المجال هي للتأكد من الفرضيات التي وضعتها‪ ..‬وال تي رأيت‬

‫‪217‬‬
‫أن هللا بكرم ه دله ا عليه ا جميع ا ابت داء من ظ اهرة الهداي ة ال تي ذكرته ا إلى ظ اهرة‬
‫التواصل المباشر مع عباده وإجابته لدعواتهم‪ ،‬وتحقيقه ألمنياتهم‪.‬‬
‫وقد رحت للتأكد من مدى تواص ل هللا م ع عب اده أذهب إلى المح ال ال تي يك ون‬
‫فيها المؤمنون الصادقون المتواضعون وأسألهم عن تجاربهم الخاصة في ه ذا المج ال‪،‬‬
‫فكان كل واحد منهم يذكر لي تجربته الخاصة في إجابة هللا لدعواته‪ ،‬أو إغاثة هللا له في‬
‫كرب من الكروب أو محنة من المحن‪..‬‬
‫ويذكرون لي كيف أنهم بمجرد التواصل مع هللا بصدق وعبودية وتواضع كي ف‬
‫يعود الرخاء بعد الضراء‪ ،‬وكيف تزول الكروب‪ ،‬وكيف يقضى على الشدائد‪.‬‬
‫وقد ذكر لي بعضهم أن هللا تعالى ذكر هذا‪ ،‬فق ال‪ ﴿ :‬قُ لْ أَ َرأَ ْيتَ ُك ْم إِ ْن أَتَ ا ُك ْم َع َذابُ‬
‫صا ِدقِينَ (‪ )40‬بَلْ إِيَّاهُ تَ ْد ُعونَ فَيَ ْك ِش فُ َم ا‬ ‫هَّللا ِ أَوْ أَتَ ْت ُك ُم السَّا َعةُ أَ َغي َْر هَّللا ِ تَ ْد ُعونَ إِ ْن ُك ْنتُ ْم َ‬
‫تَ ْد ُعونَ إِلَ ْي ِه إِ ْن َشا َء َوتَ ْن َسوْ نَ َما تُ ْش ِر ُكونَ ﴾ [األنعام‪]41 ،40 :‬‬
‫الض رُّ َدعَانَ ا لِ َج ْنبِ ِه أَوْ قَا ِع دًا أَوْ قَائِ ًم ا‬
‫ُّ‬ ‫﴿وإِ َذا َمسَّ اإْل ِ ْن َسانَ‬
‫وقال في موضع آخر‪َ :‬‬
‫ض ٍّر َم َّس هُ َك َذلِكَ ُزيِّنَ لِ ْل ُم ْس ِرفِينَ َم ا َك انُوا‬ ‫ض َّرهُ َم َّر َكأ َ ْن لَ ْم يَ ْد ُعنَا إِلَى ُ‬ ‫فَلَ َّما َك َش ْفنَا َع ْنهُ ُ‬
‫يَ ْع َملُونَ ﴾ [يونس‪]12 :‬‬
‫َض رُّ عًا‬‫ت ْالبَرِّ َو ْالبَحْ ِر تَ ْدعُونَ هُ ت َ‬ ‫وقال في موضع آخر‪﴿ :‬قُلْ َم ْن يُنَجِّي ُك ْم ِم ْن ظُلُ َما ِ‬
‫الش ا ِك ِرينَ (‪ )63‬قُ ِل هَّللا ُ يُنَجِّي ُك ْم ِم ْنهَ ا َو ِم ْن ُك لِّ‬ ‫َو ُخ ْفيَ ةً لَئِ ْن أَ ْن َجانَ ا ِم ْن هَ ِذ ِه لَنَ ُك ون ََّن ِمنَ َّ‬
‫ب ثُ َّم أَ ْنتُ ْم تُ ْش ِر ُكونَ ﴾ [األنعام‪]64 ،63 :‬‬ ‫كَرْ ٍ‬
‫ومن الش واهد ال تي ال أزال أذكره ا في ه ذا م ا نش رته مجل ة [المخت ار ري در‬
‫دايجست] في عدد أكتوبر ‪ 1944‬تحت عنوان [أال تؤمن بالصالة والدعاء]‪ ،‬فقد ذكرت‬
‫حادثة ترتبط به ا‪ ،‬وع برت عنه ا بقوله ا‪( :‬الي وم تت دفق األدل ة ال تي ال تنقض من ك ل‬
‫ناحية‪ ،‬على فضل الدعاء وقوته‪ ،‬وليس مم ا ي دهش أن يتوج ه الن اس في س اعة الش دة‬
‫والحاجة إلى القوة الخارجية‪ ،‬وإنما الشيء الوحيد المدهش في هذا هو أن ن راه مدهش ا‬
‫وما يصنع هؤالء المصلون ال داعون من الجن ود والبح ارة والطي ارين؛ إال كم ا ص نع‬
‫لنكولن الذي قال في أحلك أيام الحرب األهلي ة‪ :‬بغ ير معون ة من هللا ال ذي ه و معي ال‬
‫أس تطيع أن أنجح‪ ،‬وبه ذه المعون ة ال يمكن أن أخف ق‪ ،‬وال يك اد يوج د ف وق األرض‬
‫مخلوق ال ينطوي على الشوق الروحاني‪ ،‬أو على ش عور ب اطن مبهم‪ ،‬ب أن هن اك ق وة‬
‫يتوجه إليها بفطرته)‬
‫ثم ذك رت ه ذه المجل ة تص ريحات الم اجور [ألن لن دبرج] من وس تفيلد بوالي ة‬
‫نيوجيرسي‪ ،‬بعد أن اضطر للنزول بطائرته في البحر في طريق ه إلى اس تراليا بع د أن‬
‫ساد االعتقاد بأنه هو والتسعة الذين معه قد فقدوا‪ ،‬وقد قال في بعض حديثه‪( :‬تمكن ا من‬
‫الخ روج على ط وفين من المط اط‪ ،‬وك دنا ال نفع ل‪ ،‬ولم تكن معن ا كس رة من خ بز أو‬
‫قطرة من ماء‪ ،‬وكان رجال الط ائرة كلهم قلقين إال الش اويش ال برت هرن ادز الم دفعي‬
‫الخلفي وق د عك ف من ف وره على ال دعاء واالبته ال‪ ،‬وس رعان م ا راعن ا بقول ه‪ :‬إن ه‬
‫يعرف أن هللا قد استمع إليه‪ ،‬وأنه سيساعدنا‪ ،‬وظلوا يهيمون تحت ش مس محرق ة‪ ،‬وق د‬
‫تشققت شفاههم‪ ،‬وورمت ألسنتهم‪ ،‬فعجزوا عن مجاراة هرناندز في التهلي ل والتس بيح‪،‬‬

‫‪218‬‬
‫ولكنهم كانوا يدعون مع ذلك‪ ،‬وبعد ثالثة أيام‪ ،‬وقبل دخول اللي ل لمح وا مع الم جزي رة‬
‫ص غيرة‪ ،‬وم ا لبث وا أن ش اهدوا م ا لم يكن يج ري لهم في خل د‪ ،‬ف أقبلت عليهم ثالث ة‬
‫زوارق فيها رجال عراة األجساد‪ ،‬واتضح أن منقذيهم من أهل أستراليا األصليين‪ ،‬وهم‬
‫صيادون سود األجس ام منفوش و ال رؤوس‪ ،‬وق د ج اءوا من داخ ل البالد على مس افات‬
‫مئات األميال‪ ،‬وذك روا أنهم دفع وا ب دافع غ ريب إلى تغي ير اتج اههم فج اءوا إلى ه ذا‬
‫الشاطئ المرجاني الذي ال سكان فيه وهناك لمحوا لندبرج وزمالءه)‬
‫وهكذا قرأت في مجلة األبحاث الطبية الصادرة في إنكلترا حادثة نشرتها بتوقيع‬
‫الطبيب الذي جرت معه الحادثة‪ ،‬وقصتها هي أن شابا بقي مريضا بمرض مزمن م دة‬
‫ثالثة عشر عاما‪ ،‬وأعيا األطباء دون أن يصل إلى نتيجة‪ ،‬وقد دخل عليه آخ ر كط بيب‬
‫الط بيب ال ذي ي روي القص ة‪ ،‬وبع د أن أتم فحص ه رأى أن ه ال أم ل ل ه‪ ،‬وهن اك س أله‬
‫المريض بلهجة يائسة‪ :‬ال أمل يا دكت ور؟ فق ال ال دكتور‪ :‬هن اك أم ل واح د في الس ماء‬
‫فجرب أن تدعوا‪ ،‬أال تعرف أن تصلي؟ وألول مرة يدعو الشاب الذي دام مرضه ثالثة‬
‫عشر عاما‪ ،‬وعن دما زاره الط بيب بع د أس بوع وج د الم ريض مع افى‪ ،‬وق د ش في من‬
‫مرضه الذي لم يستطع األطباء أن يعالجوه منه)‬
‫***‬
‫وهكذا كنت مهتما بهذه الظواهر‪ ،‬وقد وجدت األدلة الكثيرة التي تشير إليها‪ ،‬وقد‬
‫جعل ني ه ذا أس ير إلى بعض أص دقائي من األطب اء‪ ،‬وأحدث ه عن بعض م ا ش اهدته‬
‫وقرأت عنه‪ ،‬فقال لي‪ :‬صدقت‪ ..‬وأنا تمر علي حاالت كث يرة مث ل ه ذه‪ ..‬وق د رأيت أن‬
‫تأثير االستعانة باهلل ليس فقط في المدد الذي يحصل ثمرة لها‪ ،‬والذي ال شك عندي فيه‪ ،‬وإنما‬
‫تكمن قوتها أيضا في نفس االستعانة بما تحدثه من أمل في القلب‪ ،‬وانشراح في الصدر‪.‬‬
‫ثم حكى لي قصة وقعت له‪ ، ،‬فقال(‪ :)1‬في ف ترة حي اتي المادي ة كنت أتص ور العالج‬
‫عملية رياضية محضة‪ ،‬تكفي فيها المواد الكيميائية‪ ،‬وال عالقة لها بالحالة النفس ية أو التوج ه‬
‫اإليماني‪ ..‬لكني تحولت بعد ذلك ألقر بدور اإليمان واالستعانة باهلل في الشفاء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هال وضحت لي أكثر‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد درست ـ عندما كنت أتعلم الطب ـ أحد المبادىء المادية األساسية ال تي تفس ر‬
‫ما يحدث من تغيرات داخل الجسم عندما يصيبها عطب أو تلف‪ ،‬تفس ير ًا مادي اً ص رفاً‪ ،‬كم ا‬
‫فحصت قطاعات مجهرية لهذه األنسجة‪ ،‬وتبينت أن الظروف المناس بة تعينه ا على أن تل تئم‬
‫بسرعة وتتقدم نح و الش فاء‪ ،‬وعن دما اش تغلت جراح اً في أح د المستش فيات بع د ذل ك‪ ،‬كنت‬
‫على إال أن أه يئ‬‫أستخدم المبدأ السابق استخداما يتس م بالثق ة في ه واالطمئن ان إلي ه‪ .‬ولم يكن ّ‬
‫الظروف المادية والطبية المناسبة‪ ،‬ثم أدع الجرح يلتئم‪ ،‬وكلي ثقة بالنتيجة المرتقبة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذه هي المعرفة التي يؤمن بها أكثر األطباء‪ ،‬ويكتفون بها‪.‬‬
‫ض من عالجي‬ ‫ُ‬
‫ق ال‪ :‬ولكن ني لم ألبث غ ير قلي ل ح تى اكتش فت أن ني ق د ف اتني أن أ ِّ‬
‫وأفكاري الطبية أهم العناصر وأبعدها أثر ًا في إتمام الشفاء أال وهو االستعانة باهلل‪.‬‬

‫‪ )(1‬هو بول إرنست أدولف‪ ،‬أستاذ مساعد التشريح بجامعة سانت جونس وعضو جمعية الج راحين األمريكي ة‪ ،‬عن‬
‫كتاب (هللا يتجلى في عصر العلم)‬

‫‪219‬‬
‫قلت‪ :‬فهل ذكرت لنا سر تحولك هذا؟‬
‫قال‪ :‬سأذكر مثاال على التج ارب ال تي م ررت به ا‪ ،‬وال تي جعلت ني أتح ول إلى ه ذه‬
‫القناعة‪ ..‬عندما كنت أعم ل جراح اً في أح د المستش فيات‪ ،‬ج اءتني ذات ي وم ج دة ج اوزت‬
‫السبعين تشكو من شدخ في عظ ام ردفه ا‪ ،‬وبع د أن وض عت ف ترة تحت العالج أدركت من‬
‫فحص سلسلة الصور التي أخذت لها على فترات تحت األشعة أنها تتقدم بسرعة عجيبة نحو‬
‫الشفاء‪ ،‬ولم تمض أيام قليلة حتى تقدمت إليها مهنئاً بما تم له ا من ش فاء ن ادر عجيب‪ ،‬عندئ ذ‬
‫اس تطاعت الس يدة أن تتح رك ف وق المقع د ذي العجالت‪ ،‬ثم س ارت وح دها متوكئ ة على‬
‫عصاها‪ ،‬وقررنا أن تخرج تلك السيدة في مدى أربع وعشرين ساعة وت ذهب إلى بيته ا‪ ،‬فلم‬
‫يعد بها حاجة إلى البقاء في المستشفى‪.‬‬
‫وكان صباح اليوم التالي هو األحد‪ ،‬وقد عادتها ابنتها في زي ارة األح د المعت ادة حيث‬
‫أخبرتها أنها تستطيع أن تأخذها والدتها في الصباح إلى المنزل ألنه ا تس تطيع اآلن أن تس ير‬
‫متوكئة على عصاها‪.‬‬
‫ولم تذكر لي ابتنها شيئاً مما جال في خاطره ا‪ ،‬ولكنه ا انتحت بأمه ا جانب اً وأخبرته ا‬
‫أنها قد قررت باالتفاق مع زوجها أن يأخذا األم إلى أحد مالجيء العجزة ألنهما ال يستطيعان‬
‫أن يأخذاها إلى المنزل‪.‬‬
‫ولم تكد تنقضي بضع ساعات على ذلك حتى اس تدعيت على عج ل إلس عاف الس يدة‬
‫العجوز‪ ،‬ويا لهول ما رأيت‪ ..‬لقد كانت المرأة تحتضر‪ ،‬ولم تمض ساعات قليلة حتى أسلمت‬
‫الروح‪.‬‬
‫وقد اكتشفت حينها أنها لم تمت من كسر في عظام ردفه ا‪ ،‬ولكنه ا م اتت من انكس ار‬
‫في قلبها‪ ،‬لقد حاولت دون جدوى أن أقدم لها أقصى ما يمكن من وسائل اإلسعاف‪ ،‬وضاعت‬
‫كل الجهود سدى‪.‬‬
‫لقد شفيت تلك السيدة من مرضها بسهولة‪ ،‬ولكن قلبها الكسير لم يمكن شفاؤه برغم ما‬
‫كانت قد تناولته في أثناء العالج من الفيتامين ات والعق اقير المقوي ة وم ا تهي أ له ا من أس باب‬
‫الراحة‪ ،‬ومن االحتياجات ال تي ك انت تتخ ذ لتعينه ا على الم رض وتعج ل له ا الش فاء‪ ..‬لق د‬
‫التأمت عظامها المكسورة التئاماً تاماً ومع ذلك فإنها ماتت‪.‬‬
‫صحت‪ :‬لماذا؟‬
‫نظر إلي‪ ،‬وق ال‪ :‬إن أهم عام ل في ش فائها لم يكن الفيتامين ات وال العق اقير وال التئ ام‬
‫العظام‪ ،‬ولكنه كان األمل‪ ،‬وعندما ضاع األمل تعذر الشفاء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما نواحي األمل التي غابت عن ذهن هذه العجوز في تصورك كطبيب؟‬
‫قال‪ :‬أثرت ه ذه الحاث ة في نفس ي ت أثير ًا عميق اً‪ ،‬وقلت في نفس ي‪ :‬ل و أن ه ذه الس يدة‬
‫وضعت أملها في هللا ما ضيعها وما انهارت ولم ا ح دث له ا م ا ح دث‪ ..‬وب رغم أن ني كنت‬
‫أومن باهلل خالق كل شيء بحكم اش تغالي ب العلوم الطبي ة‪ ،‬ف إنني كنت أفض ل بين معلوم اتي‬
‫الطبية والمادية‪ ،‬وبين اعتقادي في وجود هللا كما لو لم تكن هنالك صلة بين هذين األمرين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فقد وصلت إذن إلى ضرورة اإليمان للشفاء والعافية والسعادة؟‬

‫‪220‬‬
‫قال‪ :‬لقد أيقنت أن العالج الحقيقي البد أن يشمل الروح والجسم مع اً وفي وقت واح د‪،‬‬
‫وأدركت أن من واجبي أن أطبق معلوماتي الطبية والجراحية إلى جانب إيم اني باهلل وعلمي‬
‫به‪ ،‬ولق د أقمت كلت ا الن احيتين على أس اس ق ويم‪ ..‬به ذه الطريق ة وح دها اس تطعت أن أق دم‬
‫لمرضاي العالج الكامل الذي يحت اجون إلي ه‪ ..‬ولق د وج دت بع د ت دبر عمي ق أن معلوم اتي‬
‫الطبية وعقيدتي في هللا هما األساس الذي ينبغي أن تقوم عليه الفلسفة الطبية الحديثة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أهذه قناعتك وحدك؟‪ ..‬أم ترى من زمالئك من اقتنع بهذه القانعة؟‬
‫قال‪ :‬الواقع أن النتيجة التي وصلت إليها تتفق كل االتفاق مع النظري ة الطبي ة الحديث ة‬
‫عن أهمية العنصر السيكولوجي في العالج الح ديث‪ ،‬فق د دلت اإلحص ائيات الدقيق ة على أن‬
‫‪ 80‬بالمائ ة من المرض ى بش تى األم راض في جمي ع الم دن األمريكي ة الك برى ترج ع‬
‫أمراضهم إلى حد كبير إلى مسببات نفسية‪ ،‬ونص ف ه ذه النس بة من األش خاص ال ذين ليس‬
‫لديهم مرض عضوي في أية صورة من الصور‪ ..‬وليس معنى ذلك أن هذه األمراض مجرد‬
‫ال ويمكن الوصول إليه ا عن دما‬ ‫أوهام خيالية حقيقة‪ ،‬وليست أسبابها خيالية ولكنها موجودة فع ً‬
‫يستخدم الطبيب المعالج بصيرته بها‪.‬‬
‫***‬
‫بعد أن سمعت هذه األحاديث من ص ديقي الط بيب رحت إلى ص ديق آخ ر ك ان‬
‫مختصا في علم النفس‪ ،‬ورحت أبث له ما اكتشفته‪ ،‬وما أخ برني ب ه ص ديقي الط بيب‪،‬‬
‫فطلب مني كتابة ما شاهدته‪ ،‬أو سمعت به في هذا المجال‪ ،‬فقلت‪ :‬لم؟‬
‫قال‪ :‬أنا اآلن بصدد تقديم بحث حول برهان من براهين وجود هللا سميته [المنهج‬
‫الس يكولوجي في إثب ات وج ود هللا](‪ ،)1‬ول ذلك أن ا أجم ع ك ل الش هادات المرتبط ة‬
‫بالموضوع‪ ،‬ألبين من خاللها أن من أكبر األدلة على وجود هللا تواصله مع خلقه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل أتاك غيري‪ ،‬وحدثك بمثل ما حدثتك به‪.‬‬
‫أخرج لي دفترا كبيرا‪ ،‬وقال‪ :‬في ه ذا ال دفتر آالف الش هادات ال تي ت ذكر لي م ا‬
‫ذك رت‪ ..‬وهي كله ا ش كلت لي ظ اهرة تحت اج إلى دراس ة وتمعن مثله ا مث ل س ائر‬
‫الظواهر التي ندرسها بسبب تكرر أمثالها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أال يمكن أن يكون من ذكر لك تلك الشهادات دجاال أو كاذبا أو مزورا؟‬
‫قال‪ :‬أنا ال أتيح هذا ال دفتر إال لمن أث ق فيهم‪ ..‬أو لمن يظه ر لي ص دقهم‪ ..‬وم ع‬
‫ذلك ف إنني أمحص الكث ير منه ا‪ ..‬وأحيان ا أحت اج إلى التنق ل للتأك د من الظ واهر ال تي‬
‫يذكرونها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أت رى أن وج ود هللا يفتق ر لمث ل ه ذا ال دليل؟‪ ..‬أو ه ل ت رى أن هن اك من‬
‫سيؤمن بهذا الدليل إن ذكرته؟‬
‫قال‪ :‬أنا ال يهمني من ي ؤمن أو ال ي ؤمن‪ ..‬أن ا ب احث علمي‪ ..‬وأؤدي دوري ه ذا‬
‫في إطار تخصصي‪ ،‬وال تهمني نتائج بحثي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل ترى وجود هللا يفتقر إلى األدلة التي ذكرت؟‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬مقاال بعنوان‪ :‬المنهج السيكولوجي في إثبات وجود هللا ـ دراس ة نقدي ة مقارن ة لمن اهج إثب ات المب دأ ـ د‪.‬‬
‫السيد محمد علي ديباجي‪..‬‬

‫‪221‬‬
‫قال‪ :‬وجود هللا ال يفتقر لشيء‪ ،‬ولكنا نحن المحجوب ون عن ه هم ال ذين نفتق ر إلى‬
‫رفع تلك الحجب‪ ..‬والبراهين هي التي توصلنا إلى رفع تلك الحجب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما النتائج التي وصلت إليها؟‬
‫ق ال(‪ :)1‬لق د وج دت أن مفه وم األم ل واض ح ل دى الجمي ع‪ ..‬كم ا ّ‬
‫أن اآلم ال‬
‫والمطامح اإلنسانية بشكلها المألوف السائد ذات ماهية واحدة تقريباً‪ ..‬فجميع البشر مثالً‬
‫يأملون السعادة‪ ،‬وكلهم يرونها في التح رّر من اآلالم والص عوبات‪ ،‬وليس له ذه اآلم ال‬
‫حدود تح ّدها لكن لها مساحة مشتركة هي السعادة‪.‬‬
‫كم ا رأيت أن للبش ر كافّ ة أفك ارهم وب رامجهم لمس تقبلهم‪ ،‬وه ذه ال برامج‬
‫والتطلّعات هي نفسها ـ تقريبا ً ـ اآلمال‪ ،‬أو لنقل‪ :‬إنها مرتبطة به ا‪ ،‬لكنن ا علمن ا ـ طبق ا ً‬
‫للمبدأ المنهجي ـ أنه ال ضرورة وال تعيّن في شؤون الع الم وأم وره‪ ،‬أي ال توج د مث ل‬
‫هذه الضرورة على نحو كامن في الظاهرة أو الفعل الطبيعي أو العالم الجسماني‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما استنتجت من هذا؟‬
‫قلت‪ :‬لقد وجدت من خالل النتيجتين السابقتين أن البش ر لهم آم الهم‪ ،‬وهم ي رون‬
‫أن آمالهم هذه في الغالب معقولةً وممكنة‪ ..‬وقد جعل ني ه ذا أتس اءل عن المرج ع ال ذي‬
‫يتوقّعون منه تلبية حاجاتهم واالستجابة لطموحاتهم‪.‬‬
‫لقد وجدتهم يتفاءلون بالمسار الط بيعي لألم ور في الع الم‪ ،‬ويتوقع ون أن يك ون‬
‫المستقبل كالماضي‪ ،‬فيخطّطون ويبرمجون ألنفس هم ولمس تقبلهم انطالق ا ً من تج اربهم‬
‫ومعلوماتهم ال تي اكتس بوها في الماض ي‪ ..‬وق د جعل ني ه ذا أتس اءل عن الملج أ ال ذي‬
‫راح وا يعتم دون علي ه ح تى دع اهم إلى التف اؤل به ذه الص ورة‪ ،‬ب ل جعلهم يعم رون‬
‫أرواحهم باألم ل والمش اريع والتطلّع ات لمس تقبلهم‪ ،‬ويت ابعون ش ؤونهم وينجزونه ا‬
‫اعتماداً على تجاربهم السابقة؟‬
‫قلت‪ :‬فما كانت إجابتك على هذه التساؤالت؟‬
‫قال‪ :‬لم أجد إجابة على هذه التساؤالت إال أنه يوجد في ذواتهم وحقائقهم ووعيهم‬
‫الداخلي شعور بأن هناك من يلبي لهم ك ل تل ك الطلب ات‪ ..‬وذل ك ال يمكن أن يك ون إال‬
‫هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل تثبت من هذا الموقف؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬لقد أصبح عندي من الضرورات العقلية‪ ..‬وال شأن لي بمن ينكره‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف ثبت لديك ذلك؟‬
‫قال‪ :‬أال ترى أن الجوع دلنا على الطعام‪ ..‬والعطش دلنا على الماء؟‬
‫قلت‪ :‬وما عالقة هذا بذاك؟‬
‫قال‪ :‬واألمل أيضا يدل على أن هناك جهة ما تحقق من اآلمال م ا ال يطي ق أح د‬
‫تحقيقه‪ ..‬لقد علمت أنه إن لم يكن ثمة مرجع أو مر ّد معروف لض مان تحق ق المش اريع‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬مقاال بعنوان‪ :‬المنهج السيكولوجي في إثبات وجود هللا ـ دراس ة نقدي ة مقارن ة لمن اهج إثب ات المب دأ ـ د‪.‬‬
‫السيد محمد علي ديباجي‪..‬‬

‫‪222‬‬
‫والبرامج واآلمال‪ ،‬فلماذا تنبثق هذه اآلمال والتطلّع ات في نفس اإلنس ان دائم اً‪ ،‬وتُت ابع‬
‫في العالم الخارجي إلى أن تؤتي ثمارها ونتائجها؟‬
‫لماذا نرسم دائما خطّة ونف ّك ر ببرن امج‪ ،‬ونأم ل أن يتحق ق‪ ،‬ثم نحقق ه في ال وقت‬
‫المقرّر ـ ربما بفوارق طفيفة عن الخطّة وال زمن المرس وم أو طبق ا ً للموع د بالض بط ـ‬
‫ويرسم ذهننا ونظامنا الفكري مشروعا ً ويتأمل أن يؤتي ثماره ونتائج ه‪ ..‬إن ه ليس أمالً‬
‫خياليا ً أو طفولياً‪ ،‬إنما هو جزء من بنيتنا الذهنية‪.‬‬
‫إن هذه اآللية ـ التي ال يُنكرها أح د‪ ،‬ب ل يعيش الجمي ع وفق ا ً له ا ـ ال تنس جم في‬ ‫ّ‬
‫ماهيتها مع المسار المعروف لشؤون العالم طبق ا ً للتحلي ل الفلس في والعلمي‪ ،‬رغم أنه ا‬
‫في العادة متجانسة ومتماشية معه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لكن قد يقال بأن األمل مج رد ع ادة من ع ادات البش ر‪ ،‬وال يمكن اعتب اره‬
‫دليالً على وجود مالذ أو سند خارج أذهاننا‪.‬‬
‫قال‪ :‬العادة مص طلح ع رفي ال يتمت ع اس تخدامه بالدق ة العلمي ة والفلس فية‪ ،‬فه و‬
‫أعجز عن أن يفسّر عقالنية األم ل أو يبرّره ا‪ ..‬فنحن نواج ه عملي ة نفس ية في أذهانن ا‬
‫ودواخلنا نجدها معقول ة‪ ،‬وه ذه العقالني ة غ ير متناغم ة تمام ا ً م ع المعطي ات العلمي ة‬
‫ألن تلك اآللية تظهر األمل أمراً معقوالً‪ ،‬بينما ال تري هذه المع ارف‬ ‫والرؤى الفلسفية؛ ّ‬
‫والتصوّرات ضمانةً وتعيّنا ً لهذا األمل‪ ..‬وهكذا ل و أردن ا اعتب ار الع ادة وح دها أساس ا ً‬
‫ألن العادة ـ أوالً ـ ال يمكنه ا أن تك ون أساس ا ً‬
‫لألمل نكون قد ضللنا الطريق الصحيح؛ ّ‬
‫للس لوك‪ ،‬وإنم ا هي تعب ير عن آلية‌ الس لوك‪ ،‬وثاني ا ً حينما ال تس تطيع النظ رة الفلس فية‬
‫والعلمية تسويغ سلوك ما كيف ستستطيع العادة تسويغه؟!‬
‫قلت‪ :‬فق د يق ال ب أن اإلنس ان يتعلّم األم ل من والدي ه ومعلّمي ه‪ ،‬ف التعليم إذن ه و‬
‫األساس العقالني لألمل!‬
‫ّ‬
‫ق ال‪ :‬للتعليم تع اريف متع ددة‪ ،‬والنقط ة المش تركة بينه ا هي أن ه عملي ة معرف ة‬
‫ّ‬
‫وينض جها‬ ‫أن التعليم يكشف عن فاعلي ات ال ذهن‪،‬‬ ‫الموهبة وتفعيلها وليس إيجادها‪ ..‬أي ّ‬
‫لتبلغ مرحلة االكتمال‪ ،‬ال أنه يخلق موهبةً في الذهن؛ وعليه‪ ،‬فح ال التعليم ح ال الع ادة‬
‫يعبّر عن آلية السلوك‪ ،‬وهو بالطبع ي رجح على الع ادة في أن ه يق وم على منهج خ اص‬
‫وعملية خاصة من المعرفة‪ ،‬لكنه مع ذلك ال يمكن أن يك ون عم اداً لس لوك دائمي ل دى‬
‫اإلنسان مثل األمل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫وبتعبير بسيط‪ ..‬األمل ليس ش يئا يتعلم ه اإلنس ان‪ ،‬إنم ا يتعلم أين يأم ل وكي ف‪..‬‬
‫فأساس األمل جز ٌء من البنية الداخلية لإلنسان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إذا كان األمر على النحو الذي ذكرت‪ ،‬فلم اذا ال يرتض ي ك ّل الن اس ه ذه‬
‫الفكرة‪ ،‬ولماذا ال يتفطنون لها؟‬
‫إن قبول الشيء والتنبّه إليه غير حقيقته وواقعيّت ه؛ فق د يك ون األم ر حقيق ةً‬ ‫قال‪ّ :‬‬
‫واقعةً لكنّه غير مالحظ من قِبل اإلنسان نفس ه؛ واألمثل ة على مث ل ه ذه األم ور كث يرة‬
‫جداً في الحياة الخاصّة واالجتماعية‪.‬‬

‫‪223‬‬
‫قلت‪ :‬ما دام األمر كما تذكر‪ ،‬لوجب أن يكون البشر جميعهم ع ارفين باهلل؛ ألنهم‬
‫جميعا ً ذوو آمال وطموحات‪.‬‬
‫قال‪ :‬هناك مشكلة تعترضهم في هذا‪ ،‬وهي أن معرف ة هللا واالس تمرار على ه ذه‬
‫المعرفة والعمل على أساسها منوط بإرادة اإلنسان وتأمالته النفسية‪ ،‬وإذا لم تتوفر ه ذه‬
‫الشروط فقد تتحقّق تلك المعرفة للحظ ٍة ما عند هذا الموجود اآلم ل‪ ،‬لكنه ا لن تس تمرّ‪..‬‬
‫وإذا فسّر اإلنسان ممارساته اآلملة بنح و آخ ر غ ير االعتم اد على هللا‪ ،‬فألن ه لم ي وفر‬
‫شروط معرفة هللا وتكريس هذه المعرفة بواسطة إرادته‪ ،‬بل ير ّك ز اهتمام ه ع ادة على‬
‫سند آخر يظنّه ـ خطأ ـ مالذه الحقيقي‪.‬‬
‫إن الناس في ذلك يشبهون الب احثين عن ال ذهب ال ذين يعرف ون‬ ‫ثم راح يضيف‪ّ :‬‬
‫ال ذهب الحقيقي جي داً‪ ،‬لكنهم يقنع ون ويفرح ون بال ذهب المغش وش بس بب ص عوبة‬
‫الحصول على الذهب الحقيقي‪.‬‬
‫***‬
‫بع د أن ذك ر لي ه ذا‪ ،‬رحت إلى ص ديق لي ك ان مختص ا في ت اريخ األدي ان‪،‬‬
‫وأخبرته بما سمعته‪ ،‬واالستنتاجات التي وصلت إليها‪ ،‬فقال لي‪ :‬عجبا إن ما ذكرت ه من‬
‫براهين واستدالالت هو نفسه الذي دفعني إلى االهتمام بهذا التخصص‪..‬‬
‫لقد كنت أقول في نفسي‪ :‬لو أن هللا لم يكن موجودا لما كان كل هذا االهتم ام ب ه‪،‬‬
‫ولماذا يظهر في كل جيل من كبار الفالسفة والعقالء والعلماء والقديسين من ي دافع عن‬
‫وجوده؟‬
‫قلت‪ :‬فما الذي وصلت إليه؟‬
‫قال‪ :‬لقد وصلت إلى أن هللا هو الذي يحرك تلك العقول لصياغة ال براهين الدال ة‬
‫عليه‪ ..‬ألن هللا الذي صمم هذا الكون وأبدعه وأحسن صنعه يستحيل أن يترك خلق ه بال‬
‫هداية‪ ،‬ولهذا كان من وسائل هدايته إليهم تسخير كبار عباقرة الدنيا ليدلوا عليه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن هناك أيضا من ألحدوا‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال نسبة لمن ألحد بمن آمن‪ ..‬فأكثر العب اقرة والعلم اء والفالس فة على م دار‬
‫التاريخ كانوا مؤمنين‪ ..‬بل كتبوا يذكرون تجاربهم في اإليمان وب راهينهم علي ه‪ ،‬وذل ك‬
‫دلي ل على أن ك ل ذل ك من هللا‪ ..‬فاهلل يتواص ل م ع عب اده ع بر الفالس فة والعلم اء‬
‫والقديسين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن هذا يستدعي عصمتهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬هم ليسوا معصومين كآحاد‪ ..‬ولكنهم معصومون كمجموع‪ ..‬أي أن أفكارهم‬
‫التي اتفقوا عليها هي مح ل العص مة‪ ..‬وكلهم اتفق وا على وج ود هللا‪ ،‬وعلى إثب ات ك ل‬
‫أنواع الكماالت له‪ ..‬وكلهم على تنزيهه عن جميع النق ائص‪ ..‬وه ذا يكفي وح ده للدالل ة‬
‫على اإليمان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهال برهنت لي على ذلك‪ ..‬فأنت تعلم أني ال أقبل شيئا من غير برهان‪.‬‬
‫قال‪ :‬يسرني ذلك‪ ..‬فهلم بي إلى مكتب تي‪ ،‬وس أريك ال دواوين الكث يرة ال تي كتبت‬
‫في الداللة على هللا‪.‬‬

‫‪224‬‬
‫سار بي في مكتبته الواسعة‪ ،‬ثم وقف عند جناح منها‪ ،‬وقال‪ :‬في هذا الجناح كتب‬
‫في الالهوت المسيحي‪ ،‬وقد رأيت أن براهين معرفة هللا عندهم تتوزع عادة إلى خمس ة‬
‫أنواع‪ :‬الوجود‪ ،‬والكون‪ ،‬والغايات‪ ،‬والتجربة الدينية‪ ،‬واألخالق‪.‬‬
‫أخرج لي كتابا منها‪ ،‬ثم قال‪ :‬من األمثلة على ذل ك م ا كتب ه الاله وتي المس يحي‬
‫الكب ير الق ديس أغس طين‪ ،‬ال ذي أس هب في الح ديث عن هللا في كتابي ه الرئيس يين‪:‬‬
‫[االعتراف ات] و[مدين ة هللا]‪ ..‬ويمكنن ا اس تخالص أدل ة إثب ات وج ود هللا في كتابات ه‬
‫مستم ّدةً ِمن رؤيته العامة للعالم‪.‬‬
‫أخرج كتابا آخر‪ ،‬ثم قال‪ :‬بعد نحو س تة ق رون من أغس طين ظه ر في الاله وت‬
‫المسيحي القديس أنسلم ليق ّدم برهانا ً خالداً في إثبات الخالق‪ ..‬والواق ع أن ه ق ّدم بره انين‬
‫في ه ذا المض مار‪ :‬أح دهما البره ان المص طبغ بط ابع الفلس فة األفالطوني ة المحدث ة‪،‬‬
‫والقائم على أساس مراتب الكمال‪ ،‬وثانيهما البرهان المع روف بالبره ان الوج ودي أو‬
‫البرهان األنطولوجي‪ ..‬وقد أضفى أن س لّم نفس ه أهمي ةً أك بر على البره ان الوج ودي‬
‫وصاغه في كتابه المهم [بروسلوجيوم] بعدة أشكال‪.‬‬
‫وقد قال آتين جيلسون عنه‪[ :‬ظهر البرهان الوجودي من ذ الق رون الوس طى فم ا‬
‫بع د بأش كال مختلف ة‪ ،‬وأعي دت ص ياغته من جدي د في م ذاهب ديك ارت‪ ،‬وم البرانش‪،‬‬
‫وليبنتس‪ ،‬واس بينوزا‪ ،‬وح تى في فلس فة هيغ ل‪ ..‬وب دوره ذهب ج ون هي غ إلى أن ه ذا‬
‫البرهان ـ وألسباب ع ّدة ـ أهم بره ان فلس في بين ب راهين إثب ات هللا‪ ،‬ويمت از بجاذبي ة‬
‫دائمة‪ ،‬إذ اليزال لح ّد اآلن علي نفس درجة الجذابية واإلمتاع التي كانت له في الق رون‬
‫الوسطى)(‪)1‬‬
‫س ار بي قليال في أرج اء المكتب ة‪ ،‬ثم أش ار إلى بعض الكتب‪ ،‬وق ال‪ :‬في ه ذا‬
‫الكتاب نرى [توما األكويني] الذي ترتقي أهميته إلى القديس أغسطين‪ ،‬يسجل في كتابه‬
‫المعروف (خالصة الالهوت) خمسة براهين إلثبات هللا مس تقاة من الفلس فة األرس طية‬
‫والثقاف ات األفالطوني ة المحدث ة‪ ،‬والمس يحية‪ ،‬واإلس المية‪ ،‬وهي‪ :‬بره ان الحرك ة أو‬
‫التغيير‪ ..‬وبرهان العلية‪ ..‬وبرهان اإلمكان‪ ..‬وبرهان درجات الكمال‪ ..‬وبرهان النظم‪.‬‬
‫سار بي قليال في أرجاء المكتبة‪ ،‬ثم أشار إلى بعض الكتب‪ ،‬وقال‪ :‬في هذه الكتب‬
‫ن رى ب راهين ذكره ا فالس فة عقلي ون مث ل ديك ارت‪ ،‬وليبنتس‪ ،‬وباس كال‪ ..‬ف ديكارت‬
‫يس تنتج وج ود هللا من اإلدراك الواض ح لتص وّر هللا أو مفه وم هللا‪ ..‬وليبنتس يس تنتج‬
‫وجود هللا من التبيان الذاتي لوجود هللا (االعتماد على مبدأ الجهة الكافية)‪ ..‬أم ا باس كال‬
‫ال ذي ه اجم ب راهين إثب ات هللا وش ّدد على أهمي ة اإليم ان‪ ،‬ف أطلق نظريت ه المعروف ة‬
‫[المراهنة] على ح ّد تعبير كابلستون‪ ،‬مقدما ً دليالً إلثبات وجود هللا‪ ،‬فحواه أن وجود هللا‬
‫ينطوي علي احتمال أكبر قدر من المنفعة وأقل قدر من الضرر؛ وهكذا ق ّدم هذا الفريق‬
‫من الفالسفة والمتكلّمين براهين جديدة مؤسّسين لالهوت جديد‪.‬‬

‫‪ )(1‬جون هيغ‪ ،‬إثبات وجود هللا‪ ،29 :‬الدكتور عبدالرحيم كواهي‪.‬‬

‫‪225‬‬
‫سار بي قليال في أرجاء المكتبة‪ ،‬ثم أشار إلى بعض الكتب‪ ،‬وقال‪ :‬في هذه الكتب‬
‫نرى براهين ذكرها فالسفة وأدباء وعلماء ممن أُطلق على تصوّراتهم حول اإلل ه اس م‬
‫[الالهوت الطبيعي]‪ ،‬وقد سجلوا حضورهم على صعد ش تى من ذ عص ر النهض ة‪ ،‬ب ل‬
‫حتى قبل ذلك‪ ،‬إلى نهايات القرن الثامن عشر وبواكير التاسع عشر‪ ..‬وك ان من ألمعهم‬
‫فولتيير‪ ،‬ومونتسكيو‪ ،‬وغاليلو‪ ،‬ونيوتن‪ ،‬وروب رت بوي ل‪ ،‬وج ون راي‪ ،‬وولي ام ب الي‪..‬‬
‫والفكرة الرئيسة ل دى ه ؤالء الطبيع يين هن ا هي أن بالمق دور معرف ة هللا وحكمت ه عن‬
‫طريق النظر الدقيق في الطبيعة‪ ،‬وال حاجة بنا من أجل ذلك إلى الالهوت الوحياني‪.‬‬
‫وبالطبع لم يكن هؤالء يش ّكلون جماعةً منتظمة ذات معتق دات متماثل ة متش ابهة‪،‬‬
‫إنما يمكن رصد أشخاص من بينهم ـ نظير ني وتن ـ لم ي تزحزح إيم انهم باهلل والمس يح‬
‫كما ترويه األناجيل‪ ،‬لكنهم سعوا إلى تكريس دعائم المسيحية علمياً‪.‬‬
‫كما نجد منهم شخصيات هاجمت الالهوت الوحي اني وأنك رت علي ه‪ ،‬وق د ر ّك ز‬
‫الط بيعيّون جميعهم على بره ان النظم وإتق ان الص نع‪ ..‬وان برى ني وتن في كت اب‬
‫[البصريات] لل دفاع علمي ا ً عن ص فة النظ ام في الع الم وداللته ا على حكم ة الخ الق‪..‬‬
‫وأط َّل جون راي (ع الم النب ات) في كتاب ه [حكم ة هللا تتجلّى في آث اره] بنظ رة علمي ة‬
‫على إتق ان الص نع‪ ..‬وق دم ولي ام ب الي في كتاب ه [الاله وت الط بيعي] نم اذج لظ واهر‬
‫طبيعية بوصفها أدلةً على وجود هللا‪ ،‬وقال روبرت بويل‪ :‬إن العلم رس الة ديني ة تتمث ل‬
‫في الكشف عن أسرار الطبيعة التي أودعها هللا في العالم)‬
‫سار بي قليال في أرجاء المكتبة‪ ،‬ثم أشار إلى بعض الكتب‪ ،‬وقال‪ :‬في هذه الكتب‬
‫نرى انتقادات وجهه ا علم الاله وت المس يحي لألطروح ات المادي ة ال تي ظه رت في‬
‫القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من أمثال أطروحات ديفيد هيوم‪ ،‬وتشارلز داروين‪،‬‬
‫وعمانوئيل كان ط‪ ،‬ومن أمثلته ا طروح ات [ش اليرماخر] المهم ة المتعلق ة بـ [نظري ة‬
‫التجرب ة الديني ة]‪ ،‬ورودول ف بولتم ان بـ [معرف ة ال ذات الوجودي ة]‪ ،‬وك ارل ه ايم‬
‫بتوكيدات ه على المج ال النفس ي‪ ،‬وتيليخ ب الالهوت المنتظم‪ ،‬وكريكج ارد بالثيولوجي ا‬
‫األنفسية‪ ،‬ووايتهايد ب الالهوت الق ائم على فلس فة الحرك ة‪ ،‬كم ا ق ّدم بعض هم الاله وت‬
‫المعتدل‪ ،‬فيما ر ّكز فالسفة آخ رون على األخالق اإلنس انية‪ ،‬مح اولين ـ كلّهم ـ إحي اء‬
‫الثيولوجي ا بلغ ة جدي دة أو ال دفاع عن اإليم ان ال ديني حي ال تي ارات اإللح اد والالدين‬
‫والنقود العلمية والفلسفية‪.‬‬
‫ومن المالحظات المهمة المرتبطة به ذا أن ه ذا التي ار انط وى على ض رب من‬
‫العودة إلى الالهوت الوحياني؛ إذ نالحظ مثل هذه العودة في أعمال ال ُكتّاب اإلنجيل يين؛‬
‫فجون بيلي ـ على سبيل المثال ـ أحد رموز هذا التيار ويعتبر في كتابه [معرفتنا هلل] ّ‬
‫أن‬
‫العه دين‪ :‬الق ديم والجدي د خالي ان من ب راهين تث بيت وج ود هللا‪ ،‬ويق ول‪ :‬إن هللا في‬
‫العهدين‪ :‬الجديد والقديم وجو ٌد متفرد ينبغي معرفته عبر توجّه الروح والنفس اإلنس انية‬
‫إلى ذاتها‪.‬‬
‫سار بي قليال في أرجاء المكتبة‪ ،‬ثم أشار إلى بعض الكتب‪ ،‬وقال‪ :‬في هذه الكتب‬
‫نرى ردودا علمية على المالحدة الذين ظهروا في العص ر الح ديث من أمث ال برتران د‬

‫‪226‬‬
‫راس ل‪ ،‬وج ون هاس برز‪ ،‬وبعض الوض عيين المنطق يين كرودول ف كارن اب‪ ،‬وألف رد‬
‫جولز آير‪..‬‬
‫سار بي قليال في أرجاء المكتبة‪ ،‬ثم أشار إلى بعض الكتب‪ ،‬وقال‪ :‬في هذه الكتب‬
‫نرى طروحات كثيرة تتعلق ببراهين ذكرها فالسفة والهوتي ون مس لمون ح ول وج ود‬
‫هللا‪ ..‬منها برهان النهايات‪ ..‬وبرهان الشبه‪ ..‬وبرهان االجتم اع‪ ..‬وبره ان األع راض‪..‬‬
‫وبرهان استحالة التسلسل‪ ..‬وبرهان التخص يص‪ ..‬وبره ان ت رجيح الوج ود‪ ..‬وبره ان‬
‫الخلود‪ ..‬وكلها قائمة في األساس إلثبات ح دوث الع الم‪ ،‬وحاجت ه إلى موج ود ق ديم أي‬
‫هللا‪.‬‬
‫سار بي قليال في أرجاء المكتبة‪ ،‬ثم أشار إلى بعض الكتب‪ ،‬وقال‪ :‬في هذه الكتب‬
‫ن رى طروح ات بعض علم اء المس لمين من أمث ال الغ زالي والفخ ر ال رازى‪ ،‬وال تي‬
‫تستعمل أدوات أخرى في البرهنة على وجود هللا‪ ،‬منها هذه الرس الة المس ماة [الحكم ة‬
‫في مخلوقات هللا عزوج ل]‪ ،‬وال تي تط رّق فيه ا الغ زالي لوص ف حي اة وطب اع بعض‬
‫الحيوان ات على غ رار الق ائلين بنظم الص نع وإتقان ه‪ ،‬ليس تد ّل ب ذلك على وج ود هللا‬
‫ويتحدث عن علمه وقدرته وحكمته‪ ..‬ومثله الفخر الرازي في كتابيه‪[ :‬المطالب العالي ة‬
‫من العلم اإللهي] و[المباحث المشرقية] حين عرض برهان اإلمكان والوجوب إلثب ات‬
‫وجود هللا‪.‬‬
‫سار بي قليال في أرجاء المكتبة‪ ،‬ثم أشار إلى بعض الكتب‪ ،‬وقال‪ :‬في هذه الكتب‬
‫نرى طروحات أمثال المفضل‪ ،‬والشيخ الصدوق‪ ،‬والش يخ المفي د‪ ،‬والس يد المرتض ى‪،‬‬
‫والتي اعتمدوا فيها على أحاديث أئمتهم من أمثال اإلمام علي واإلمام الص ادق واإلم ام‬
‫الرضا؛ ليستدلّوا بالخلقة والنظام وعظمته على وجود اإلله الحكيم‪..‬‬
‫وتليها كتب أخرى ألفها نصيرالدين الطوسي‪ ،‬والعالمة الحلي‪ ،‬وميثم البح راني‪،‬‬
‫والالهيجي‪ ،‬والذين اس تعانوا ب براهين الحكم اء في ه ذا المج ال مث ل بره ان اإلمك ان‬
‫والوجوب‪ ،‬وغيرها من البراهين‪.‬‬
‫سار بي قليال في أرجاء المكتبة‪ ،‬ثم أشار إلى بعض الكتب‪ ،‬وقال‪ :‬في هذه الكتب‬
‫نرى كتب الفالسفة وما فيها من البراهين على وج ود هللا من أمث ال الكن دي والف ارابي‬
‫مؤسّس الفلسفة اإلس المية‪ ،‬وال ذي أتى ببره ان الوج وب واإلمك ان المع روف إلثب ات‬
‫وج ود هللا في كتب ه المختلف ة‪ ،‬مث ل [عي ون المس ائل] و[آراء اه ل المدين ة الفاض لة]‬
‫و[شرح رسالة زينون]‪ .‬وقد أضحى هذا البرهان فيما بعد أساسا ً فلسفيا ً مهم ا ً لمف ّك رين‬
‫كبار نظير ابن سينا والمالصدرا‪.‬‬
‫سار بي قليال في أرجاء المكتبة‪ ،‬ثم أشار إلى بعض الكتب‪ ،‬وقال‪ :‬في هذه الكتب‬
‫نرى براهين أثبتها ابن سينا أكبر الفالسفة المش ائين المس لمين‪ ،‬في مب احث الطبيعي ات‬
‫عن هللا بوصفه علّة العلل والمحرك األول مستعينا ً بأدلّة من قبيل العلية والحركة‪.‬‬
‫أشار إلى كتب أخرى‪ ،‬وقال‪ :‬هذه كتب البن رش د في التوحي د ومعرف ة هللا؛ فق د‬
‫ك ان ابن رش د ناق داً للفالس فة والمتكلّمين في الش رق اإلس المي ومن اهجهم في إثب ات‬
‫وجود هللا‪ ،‬وساق في كتابه [الكشف عن مناهج األدل ة] دليلين في معرف ة هللا أس ماهما‪:‬‬

‫‪227‬‬
‫االخ تراع والعناي ة‪ .‬وكال ال دليلين مس تلهم من الق رآن الك ريم‪ ..‬وفي ال دليل األول‬
‫(االختراع) يجري الحديث عن مصدر إيجاد الحياة في الموجودات أو المواد الجام دة‪..‬‬
‫إن ك ل‬‫أن اإلنس ان مح ور كاف ة المخلوق ات؛ إذ ّ‬ ‫وفي دليل العناية يج ري الح ديث عن ّ‬
‫المحظي بالعناية الخاصة من بين كل األشياء والمخلوق ات‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫شيء قد خلق من أجله فهو‬
‫فإن علّة ذلك االختراع وفاعل هذه العناية هو هللا‪ ..‬ويعتم د ابن رش د أيض ا على‬
‫ً‬ ‫وهكذا ّ‬
‫برهان المحرك األول ألرسطو ويشرحه‪.‬‬
‫أشار إلى كتب أخرى‪ ،‬وقال‪ :‬هذه كتب للفالسفة الطبيعيين المس لمين كمحم د بن‬
‫زكري ا ال رازي‪ ،‬وأبي ريح ان الب يروني‪ ،‬وال ذين اعت بروا هللا العلّ ة األولى والص انع‬
‫الحكيم‪ ،‬واستدلوا على ذات الخالق بواسطة الصياغة التجريبية لبرهان العلي ة وبره ان‬
‫يشبه برهان النظم‪.‬‬
‫***‬
‫بعد كل تلك الحوارات والش هادات ق ررت أن أج رب التواص ل م ع هللا بنفس ي‪،‬‬
‫لكني لم أجربه كما يجربه أولئك المستكبرون الذين يقفون أمام المأل‪ ،‬ويتحدون هللا ب أن‬
‫يحقق لهم رغباتهم حتى يمن وا علي ه ب االعتراف ب ه واإلذع ان ل ه‪ ..‬فق د رأيت أن ذل ك‬
‫مسلك تضليلي‪ ،‬وحتى البشر ال يقبلونه ألنفس هم‪ ،‬فه و إذالل لآلخ ر‪ ،‬وليس طلب ا ل ه أو‬
‫منه‪.‬‬
‫ولذلك رحت بكل تواض ع وأدب وس كون أختلي وح دي م ع هللا‪ ،‬وأخاطب ه بك ل‬
‫رقة وحنان وأدب وعبودية‪ ،‬وأقول له‪ :‬يا رب لقد امتأل عقلي بالوساوس التي تصرفني‬
‫عنك‪ ،‬فإن كنت موجودا وقادرا فقيض لي من وسائط هدايتك ما ي دلني علي ك‪ ..‬واق ذف‬
‫في قلبي اإليمان ألعرفك‪ ،‬وأتأدب بين يديك‪.‬‬
‫ما فعلت هذا حتى شعرت براحة نفسية عميق ة‪ ،‬ثم ش عرت بع دها ب أنوار تت نزل‬
‫علي‪ ،‬ثم ما لبثت حتى وجدت وسائط الهداية الذين علموني كيف أتعامل مع هللا‪ ،‬وكيف‬
‫أقضي عمري جميعا في صحبته والتواصل معه‪.‬‬
‫برهان القيم‪:‬‬
‫بعد أن أنهى الرجل األول حديثه‪ ،‬قام آخر‪ ،‬وقال‪ :‬بعد أن ح دثكم ص ديقي وأخي‬
‫عن [برهان التواصل]‪ ،‬وكيف خرج به من ظلمات الجه ل والغواي ة إلى ن ور اإليم ان‬
‫والهداية‪ ..‬فاس معوا ح ديثي عن بره ان من ب راهين الهداي ة المبين ة‪ ،‬أطلقت علي ه اس م‬
‫[برهان القيم]‪ ..‬وهو برهان ي دل على هللا من ك ل الوج وه‪ ،‬وبك ل المق دمات‪ ،‬وبجمي ع‬
‫اللغات‪..‬‬
‫وق د دفع ني إلى ه ذا البره ان م ا وج دت علي ه من رذائ ل وانحراف ات في‬
‫المجتمعات الملحدة‪ ،‬أو فيمن تبنى اإللحاد فكرا أو عقيدة أو سلوكا‪ ..‬وفهم سر ذلك ليس‬
‫صعبا‪ ،‬ذلك أن الملحد ال يعتقد بأي ضوابط أخالقية‪ ..‬وفي حال اعتقاده بها‪ ،‬فه و ي رى‬
‫أنه هو وحده من يضع تلك الض وابط‪ ،‬وال يح ق ألح د غ يره أن يفرض ه عليه ا‪ ..‬وفي‬
‫التنفيذ ال يرى نفسه ملزما بها‪ ،‬ألنه ال يخ اف أي عقوب ة على انحراف ه‪ ،‬وال يرج و أي‬
‫جزاء على استقامته‪ ..‬ذلك أن نظرية لألشياء مادية براغماتية ال مبدئية وأخالقية‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫في تلك األيام التقيت أول من أرشدني إلى االهتمام بهذا الن وع من التفك ير‪ ،‬وق د‬
‫كان من كبار المفكرين المطلعين على الفلسفات المادية والناقدين لها‪ ،‬كان اس مه [علي‬
‫عزت بيجوفيتش]‪ ،‬وقد كان حينه ا رئيس البوس نة والهرس ك‪ ،‬ولكن م ع ذل ك ك ان في‬
‫غاية التواضع واألدب‪ ..‬وما كان له ليكون كذلك لو لم يكن ممتلئا بالقيم اإليمانية‪.‬‬
‫قال لي‪ ،‬وهو يحاورني(‪ :)1‬لقد الحظت من خالل مقارناتي الكثيرة بين الموق ف‬
‫المادي من األخالق والقيم والموقف اإلنس اني أن األخالق المادي ة تنطل ق من التس وية‬
‫بين اإلنس ان والم ادة‪ ،‬وب ذلك يص بح اله دف الوحي د لك ل منهم ا ه و البق اء‪ ..‬وآليات ه‬
‫األساسية هي الذكاء والقوة‪ ..‬في هذا اإلط ار الم ادي ال يمكن أن نتح دث إال عن الفع ل‬
‫ورد الفعل‪ ..‬فالمثير الم ادي تتبع ه اس تجابة مادي ة بال ت ردد أو ثنائي ات أو ذكري ات أو‬
‫كوابح أو محرمات‪.‬‬
‫وفي هذا الصراع من أج ل البق اء الم ادي ال يف وز األفض ل ب المعنى األخالقي‪،‬‬
‫وإنما األقوى‪ ،‬واألكثر تكيفا مع قوانين الطبيعة‪ ،‬أي األفضل بالمعنى الطبيعي المادي‪..‬‬
‫ال األفضل بالمعنى اإلنساني‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فما سر هذا الفرق؟‪ ..‬ولم كان األمر كذلك؟‬
‫قال‪ :‬تفسير ذلك سهل‪ ..‬ألن صوت الطبيعة الذي عبر عنه نيتش ه ال ذي دع ا إلى‬
‫قتل اإلله هو‪( :‬تخلَّص من الض مير والش فقة والرحم ة‪ ..‬اقه ر الض عفاء واص عد ف وق‬
‫جثثهم)‬
‫وهو ما عبر عنه نيتشة ـ عند حديثه عن المجتمعات اإلنسانية ـ بقول ه‪(:‬اإلنس ان‬
‫جاء إلى الحياة ليتمتع بما فيها‪ ،‬وكل ما يهيء له طريق التمتع فهو خير‪ ،‬وم ا يق ال عن‬
‫تساوي الخلق بعض هم م ع بعض خط أ‪ ،‬ب ل الح ق أن في الن اس س ادة وعبي دا‪ ،‬وعلى‬
‫العبيد أن يهيئوا وسائل الراحة للسادة)‬
‫وما عبر عنه ـ عند حديثه عن االقتصاد ـ بقوله‪(:‬البد أن يستثمر القوي الضعفاء‬
‫بأقل ما يمكن‪ ،‬وأن يحاول كل مكار خداع السيطرة على اآلخرين في هذا المجال)‬
‫وما ع بر عن ه ـ عن د حديث ه عن األخالق ـ بقول ه‪(:‬واألخالق من الض عف؛ إن‬
‫الجزء األعظم من فطرة اإلنسان التعدي والظلم‪ ،‬وإن الجزء األقل هو العقل والعاطفة‪،‬‬
‫والجزء األعظم هو الذي يجب أن يتبع)‪ ،‬وقوله‪(:‬والبد أن يمارس اإلنسان كل نوع من‬
‫أنواع اإلجرام ليعيش في رفاه وسعادة)‬
‫وما عبر عنه ـ عند حديثه عن السياسة ـ بقول ه‪( :‬وعلى ه ذا األس اس فالسياس ة‬
‫تقوم على خدمة األقوياء وسحق الضعفاء وكل ما هن اك من ال دين واألخالق فإنم ا ه و‬
‫وسيلة للسيطرة على المستضعفين)‬
‫وهك ذا في ك ل الش ؤون ك ان نيتش ة ممثال للمادي ة واإللحادي ة ب أجلى ص ورها‬
‫وأفصح لغاتها‪ ..‬وما فعل ه ليس س وى تط بيق للمب ادئ اإللحادي ة‪ ،‬ولق وانين البيولوجي ا‬
‫على اإلنس ان‪ ،‬فك انت النتيج ة المنطقي ة هي نب ذ الحب والرحم ة وت برير العن ف‬

‫‪ )(1‬اإلسالم بين الشرق والغرب‪ :‬علي عزت بيجوفيتش‪.‬‬

‫‪229‬‬
‫والكراهية‪.‬‬
‫وبذلك فإن األخالق المادية هي النفعية المادية‪ ،‬ومن ثم يكون االنغماس في كثير‬
‫من النشاطات المادية لإلنس ان ال تي تحق ق ال ربح الم ادي ل ه ه و قم ة االل تزام الخلقي‬
‫المادي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هال ضربت لي مثاال على القيم المادية‪ ،‬ليتضح األمر لي‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬من األمثل ة الواض حة ال تي تراه ا أين س رت في المجتمع ات الغربي ة‬
‫خصوصا‪ ،‬ما يسمى بالجرائم المقنَّن ة‪ ..‬أي ال تي يس مح به ا الق انون‪ ..‬ك الفن اإلب احي‪،‬‬
‫والكتابات الداعرة‪ ،‬واستعراضات العرايا‪ ،‬وقصص الجرائم وما ش ابه ذل ك‪ ..‬ف أي فيلم‬
‫داعر أرخص في إنتاجه عشرات المرات من إنتاج فيلم عادي‪ ،‬وأرباحه تزيد عش رات‬
‫المرات على أرباح الفيلم العادي‪.‬‬
‫إن إنت اج أمث ال ه ذه األفالم من منظ ور المع ايير المادي ة أفض ل من إنت اج فيلم‬
‫يلتزم بالمعايير الثقافية واإلنسانية‪ ..‬ومع غياب أي منظومات أخالقية متج اوزة للنظ ام‬
‫الطبيعي المادي تصبح الل ذة هي الخ ير واأللم ه و الش ر‪ ..‬ويص بح م ا يحقق ه اإلنس ان‬
‫نفسه من منفعة مادية تزيد من إمكانيات بقائه المادي ه و الخ ير األعظم‪ ،‬أو كم ا ع بر‬
‫عنذلك [بنتام] صاحب مذهب المنفعة‪( :‬لقد أخضعت الطبيعة البشر لحكم سيدين‪ ،‬هم ا‪:‬‬
‫اللذة واأللم‪ ،‬فهما وحدهما اللذان يحكمان أفعالنا)‬
‫قلت‪ :‬أال يمكن للعقل المادي أن يولد منظومات أخالقية يستغني بها عن الدين؟‬
‫أجابني بقوله‪ :‬ال‪ ..‬ذلك مستحيل‪ ..‬فالعقل يستطيع أن يختبر العالقات بين األشياء‬
‫ويحددها‪ ،‬ولكنه ال يستطيع أن يصدر حك ًما قيميًا عندما تكون القضية قضية استحس ان‬
‫أو استهجان أخالقي‪ ..‬فالطبيع ة والعق ل على الس واء ال يمكنهم ا التمي يز بين الص حيح‬
‫والخطأ‪ ،‬بين الخير والشر‪ ..‬فهذه الصفات ليست موجودة في الطبيعة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولك ني أرى الكث ير من الس لوكات الطيب ة في المجتمع ات ال تي ال تهتم‬
‫بالدين‪ ،‬وال تعترف باإلله‪.‬‬
‫قال‪ :‬ذلك صحيح‪ ..‬ولكن ه مح دود ب ذلك المج ال‪ ..‬فمحاول ة إقام ة األخالق على‬
‫أساس عقلي ال تستطيع أن تتح رك أبع د مم ا يس مى ب األخالق االجتماعي ة‪ ،‬أو قواع د‬
‫السلوك الالزمة للمحافظة على جماع ة معين ة‪ ..‬وهي في واق ع األم ر ن وع من النظ ام‬
‫االجتم اعي‪ ..‬أو ن وع من اإلج راءات والق وانين الخارجي ة‪ ،‬كم ا أن التحلي ل العقلي‬
‫لألخالق يختزلها إلى أنانية وتضخيم للذات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن مع ذل ك أال نس تطيع أن نق ول ب أن اإلنس ان في تل ك المجتمع ات ق د‬
‫تجاوب مع ذلك الوضع‪ ،‬وبالتالي أصبح طبيعيا وفطريا بالنسبة له؟‬
‫قال‪ :‬ذلك في ظاهر األمر‪ ..‬لكن حين نتفحص األمر بشيء من العمق نجد أن في‬
‫اإلنسان ما يرفض هذا النموذج المادي‪ ..‬بل نجد ما يدل على أن األخالق الحقيقية ض د‬
‫الطبيعة والمادة‪..‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬أال ت رى أن اإلنس ان يض حي بنفس ه من أج ل ال وطن أو من أج ل ج وانب‬

‫‪230‬‬
‫معنوية ليست لها أي قيمة مادية‪ ،‬ويموت دفاعا عن الشرف‪ ،‬وهو‪ ،‬حينم ا ي رى مش هد‬
‫العدالة المهزومة‪ ،‬قد يهب لنصرة المظلوم برغم القوة الغاشمة‪ ،‬وبالرغم من أنه يعرف‬
‫أن هذا قد يودي به‪ ،‬ولكن مع ذلك يكون على استعداد للتضحية بنفسه من أج ل الغ ير‪..‬‬
‫فإذا غامر اإلنسان بحياته فاقتحم منزال يحترق لينقذ طفل جاره‪ ،‬ثم عاد يحمل جثته بين‬
‫ذراعيه‪ ،‬فهل نقول إن عمله كان بال فائدة ألنه لم يكن ناجحا!؟‬
‫قلت‪ :‬هل تعني بذلك أن القيم اإلنسانية تتناقض مع اإللحاد؟‬
‫ملموس ا فاص الً بين‬
‫ً‬ ‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فالتضحية على س بيل المث ال تمث ل خطًّ ا فارقً ا‬
‫اإلنسان والحيوان‪ ..‬وهو مبدأ مناقض لمبدأ المصلحة والمنفعة والحاجات‪..‬‬
‫قلت‪ :‬لكني أرى المجتمعات المتقدمة‪..‬‬
‫بمج رد أن قلت ه ذا راح يق اطعني‪ ،‬ويق ول‪ :‬ب أي معي ار تص نفها مجتمع ات‬
‫متقدمة‪ ..‬إن هذا مصطلح استكباري عنصري ال عالقة له باألخالق‪ ،‬وال ب القيم‪ ..‬وه و‬
‫مفهوم مادي‪ ،‬ال عالقه له باإلنسان‪ ،‬وال بقيم اإلنسان‪.‬‬
‫بل إن هذه المجتمع ات ال تي تص فها ب ذلك الوص ف انح رفت باإلنس ان انحراف ا‬
‫شديدا مليئا بالعنصرية واالستبداد والتكبر‪..‬‬
‫***‬
‫كان ه ذا أول ه اد اهت ديت ب ه إلى م ا في اإللح اد من انحراف ات‪ ،‬وت بين لي من‬
‫خالله أنه ال يمكن أن تقوم لإلنسان قائمة من غ ير دين يحف ظ وج وده وحقيقت ه وقيم ه‪،‬‬
‫ولو لم يكن في الدين إال هذه المصلحة لكفى‪.‬‬
‫التقيت بع ده ع الم أخالق‪ ،‬ق ال لي‪ ،‬وه و يح اورني‪ ،‬بع د أن ط رحت علي ه‬
‫تساؤالتي حول إمكانية الجمع بين التح رر من ال دين والتحلي ب القيم(‪ :)1‬هن اك مش اكل‬
‫كثيرة تحول دون ارتباط القيم النبيلة باإللحاد‪ ..‬أولها‪ ،‬وربما تعرفه هي أنه ال وجود في‬
‫المنطق اإللحادي لشيء اسمه النبل أو األخالق‪ ..‬ألن كل شيء مادي‪ ..‬والمادية يستوي‬
‫أمامها كل شيء‪..‬‬
‫والث اني‪ ،‬وه و األخط ر هي أن ص احب الخل ق يق وم ب الكثير من التض حيات‬
‫والمتاعب والمجهودات‪ ،‬وهو لذلك ينتظر عوضا‪ ..‬فقد يكون الصدق ـ مثال ـ س ببا في‬
‫خس ارة مالية‪ ،‬أو فق دان مكان ة اجتماعية‪ ،‬ب ل ق د يوق ع الص دق أحيان ا في عقوب ات‬
‫جسدية‪ ..‬ونفس الشيء يقال عن الكذب‪ ،‬فالكاذب ال يع اقب دائم ا ً على كذب ه في ال دنيا‪،‬‬
‫بل قد يك ون كذب ه وس يلة إلى كس ب م الي‪ ،‬أو ني ل منص ب اجتم اعي‪ ،‬أو تف ادي أذى‬
‫جسدي‪ ،‬ولوال ذلك ما كذب إنسان‪.‬‬
‫فالمشكلة إذن هي أن الذين ينفعون المجتمع ق د يص ابون بأض رار مادي ة‪ ،‬بينم ا‬
‫الذين يضرونه قد ينتفعون مادي ا ً‪ ..‬ف إذا لم يكن هنال ك وازع مث ل ال وازع الموج ود في‬
‫ال دين‪ ،‬وه و وج ود خ الق ي رى ويس مع م ا يفع ل البش ر‪ ،‬ودار أخ رى ي ثيب هللا فيه ا‬
‫المحسن على إحسانه‪ ،‬ويعاقب المسيء على إساءته‪ ،‬فإن الكسب المادي في هذه الحي اة‬
‫‪ )( 1‬انظر‪ :‬الفيزياء ووجود الخالق‪ :‬مناقشة عقالنية إسالمية لبعض الفيزيائيين والفالسفة الغربيين‪ ،‬أب و القاس م ح اج‬
‫حمد‪.‬‬

‫‪231‬‬
‫هو وحده الكسب المعتبر في النظرة المادية‪ ،‬أما الصادقون األمن اء الموف ون بعه ودهم‬
‫فهم بهذا االعتبار المادي مغفلون ال عقل لهم‪.‬‬
‫والنتيجة الطبيعية الخط يرة له ذا‪ ،‬هي أن س يطرة مث ل ه ؤالء على المجتمع ات‬
‫وعلى العالم يصبح تقويضا ً لكل المبادئ التي تقوم عليها الحياة اإلنسانية‪.‬‬
‫س كت قليال‪ ،‬ثم ق ال‪ :‬ليس ذل ك فق ط م ا لم يفطن ل ه أولئ ك المجرم ون ال ذين‬
‫ينشرون اإللحاد بين الن اس باس م التن وير‪ ..‬هم ال يعرف ون أن عام ة الن اس مفط ورون‬
‫على أن ه ذه القيم قيم يحس ن بهم أن يل تزموا بها‪ ،‬فهي ج زء من تك وينهم العقلي‪ ،‬وهم‬
‫يش عرون ل ذلك بالس عادة حين يص دقون الح ديث‪ ،‬وي ؤدون األمانة‪ ،‬ويوف ون بالعه د‪..‬‬
‫ويشعرون بالشقاء حين يكذبون‪ ،‬أو يخونون‪ ،‬وينكثون‪.‬‬
‫ولذلك فإن الملحد الذي يريد أن يتصرف وفق ما يقتض يه إلح اده؛ يم ر بح االت‬
‫يشعر فيه ا ب التمزق بين وازع ه ال داخلي‪ ،‬وتفك يره العقالني؛ فبينم ا يق ول ل ه ال وازع‬
‫الداخلي‪ :‬اصدق فهذا أريح لنفسك وأس عد لقلبك‪ .‬يق ول ل ه فك ره‪ :‬لكن ك تعتق د أن ه ليس‬
‫وراء الحياة من حياة‪ ،‬والصدق في هذه الح ال يف ِّوت علي ك ل ذة عاجلة‪ ،‬ففيم التض حية‬
‫بها وأنت ال تنتظر أخرى بعدها آجلة؟‬
‫قلت‪ :‬لكن الواقع أنه ما كل الملحدين ك ذابون‪ ،‬وال ك ل المؤم نين ص ادقون؛ فق د‬
‫يصدق الملحد‪ ،‬وقد يكذب المؤمن‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬أج ل‪ ..‬لكن الملح د حين يص دق يتن اقض م ع مقتض يات مبدئه‪ ،‬أي إن ه ال‬
‫يصدق صدقا ً يف ِّوت علي ه مص لحة إال حين يتخلى مؤقت ا ً عن مبدئه أو عن عقل ه‪ ..‬أم ا‬
‫المؤمن فاألمر بالنس بة ل ه عكس ذل ك تمام ا ً‪ ،‬فه و حين يك ذب يك ون ق د س لك س لوكا ً‬
‫يتناقض مع مبدئه ومع عقله‪ ،‬وحين يصدق يك ون موافق ا ً لهم ا ولفطرت ه‪ ..‬وعلي ه فإن ه‬
‫كلما ك ثر ع دد الملح دين‪ ،‬واش تد اق ترابهم من مقتض يات م ذهبهم ف إن الك ذب عن دهم‬
‫س يزداد ال محالة‪ ،‬وكلم ا ك ثر ع دد المؤم نين واش تد استمس اكهم ب دينهم‪ ،‬ازداد ع دد‬
‫الصادقين منهم ال محالة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد سمعت بعض الفالسفة الماديين يذكر أنه ال معنى للسلوك الخلقي ال ذي‬
‫يمارسه المتدينون‪ ..‬ذلك أن من يعمل الخير رجاء الثواب ال يك ون س لوكه ه ذا س لوكا ً‬
‫ُخلُقيا‪ ً،‬بل تجارياً؟‬
‫ابتسم‪ ،‬وقال‪ :‬وليكن تجاريا‪ ..‬وما الضرر في ه‪ ..‬م ا دامت التج ارة م ع هللا‪ ..‬وم ا‬
‫دام ذلك المضحي الذي تألم بسبب تضحيته وصدقه يشعر بلذة ما فعل‪ ،‬وأن ما فعله من‬
‫خ ير س يعوض علي ه‪ ..‬ألم يعلم ه ؤالء أن التض حية المطلق ة ال تي ي دعون إليه ا‪ ،‬وهم‬
‫يكذبون في ذلك‪ ،‬أمر يتنافى مع العقل الذي يسير عليه الناس في حياتهم الدنيوي ة كلها‪،‬‬
‫وإال لو كانت مثل هذه التضحية مم ا ي دعو إلي ه العقل‪ ،‬لك ان أعق ل الن اس هم ال ذين ال‬
‫يسعون لنيل ل ذة‪ ،‬وال يعمل ون على اتق اء أذى‪ ..‬وإذا ك ان ه ذا غ ير س ائغ عقالً فلم اذا‬
‫يسوغ في حالة السلوك ال ُخلُقي؟‪ ..‬وما الفرق بين هذا السلوك وغيره من أنواع السلوك؟‬
‫قلت‪ :‬قد يقال إن الفرق هو ما ذكرته من أن في اإلنسان وازعا ً داخليا ً يدعوه إلى‬
‫السلوك ال ُخلُقي؟‬

‫‪232‬‬
‫قال‪ :‬وهنا تكمن مشكلة أخرى للملحد الذي ال يجد كي ف يوف ق بين ذل ك ال وازع‬
‫الداخلي الذي يدعوه إلى مك ارم األخالق‪ ،‬والعق ل ال ذي ي دعوه إلى تحص يل م ا ينفع ه‬
‫ودرء ما يضره‪ ..‬فأنت ترى أنه ال ح ل عن د الملحد؛ ألن إلح اده ي وجب علي ه‪ ،‬إم ا أن‬
‫يكون داعيا ً إلى نب ذ األخالق‪ ،‬أو يك ون داعي ا ً إلى نب ذ العقل‪ ،‬وكال الط رفين في قص د‬
‫األمور ذميم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف يحل الدين هذا اإلشكال؟‬
‫قال‪ :‬الدين الحق يحل هذا بطريقة بس يطة‪ ،‬وهي أن ه يقن ع العق ول والقل وب ب أن‬
‫األخالق نفسها تقتضي أن يثاب المحسن على إحسانه‪ ،‬ويعاقب المس يء على إس اءته‪..‬‬
‫ولكن هذا ال ي أتي في دار ال دنيا كم ا ه و مش اهد‪ ..‬وال يمكن إذن أن ي أتي إال في حي اة‬
‫أخرى بعد هذه الحياة‪ ..‬وأنت تعلم طبعا أنه ال يمكن القول بوج ود حي اة ثاني ة‪ ،‬ووج ود‬
‫ج زاء فيه ا إال إذا اعتق دنا ب أن هنال ك إل ه عليم ع ادل حكيم‪ ،‬يعلم م ا يعم ل الن اس في‬
‫حياتهم األولى ليجازيهم عليه في حياتهم األخرى‪ ..‬فالمؤمن يعمل الخ ير ألن هللا فط ره‬
‫على حبه‪ ،‬ويعمله ألن هللا يثيبه على فعله‪ ،‬وال تناقض بين األم رين ألن إثاب ة المحس ن‬
‫هي نفسها مبدأ خلقي‪.‬‬
‫س كت قليال‪ ،‬ثم ق ال‪ :‬من خالل بح ثي في ه ذا الج انب وج دت الق رآن‪ ..‬الكت اب‬
‫المقدس المسلمين‪ ..‬مليئا بمثل هذه المعاني‪ ،‬ففيه هذه اآلية التي أعتبرها ش عارا عظيم ا‬
‫للقيم‪ ﴿ ..‬هَلْ َجزَ ا ُء اإْل ِ حْ َسا ِن إِاَّل اإْل ِ حْ َسانُ ﴾ [الرحمن‪ ..]60 :‬وأنت ت رى أن الس ؤال في‬
‫اآلية سؤال استنكاري‪ ،‬وكأنها تق ول‪ :‬إن ه ذا ه و األم ر ال ذي ت دلكم عق ولكم على أن ه‬
‫ينبغي أن يكون؛ فكيف تتوقعون غيره؟‬
‫تجول قليال في أنح اء القاع ة‪ ،‬ثم ق ال‪ :‬إن ه ذا البره ان ال ذي ي دل بك ل اللغ ات‬
‫واألساليب على وجود هللا‪ ..‬بل على ضرورة وجوده‪ ..‬ال يرتبط بنا فقط كبشر‪ ،‬ب ل ه و‬
‫يرتبط بنظام كوني عظيم ممتلئ بالتناسق والعناية ال دالتين على أن له ذا الك ون مب دعا ً‬
‫حكيما ً رحيما‪ ..‬والحكيم ال يفعل شيئا ً عبثا ً‪.‬‬
‫ولذلك كان عدم وج ود دار آخ رة يلقى فيه ا المحس ن ث واب إحس انه‪ ،‬والمس يء‬
‫عقاب إساءته مما يتناقض مع تلك الحكمة وذلك اإلحكام‪.‬‬
‫وقد رأيت من خالل مطالعاتي الكثيرة للقرآن كتاب المسلمين المقدس أن ه ي دعو‬
‫إلى التفكر في الكون لمعرفة أن ل ه خالق ا ً حكيم ا ً لم يخل ق أي ش يء عبث ا ً وال لعب ا ً وال‬
‫باطالً‪ ،‬وإنما خلق ب الحق‪ ،‬أي من أج ل غاي ة‪ ..‬وق د وج دت في أكثره ا ربط ا ً بين نفي‬
‫البطالن واللعب والعبث عن خلق الكون‪ ،‬وبين أنه ال بد أن تكون هناك دار آخ رة‪ ..‬أي‬
‫إنه لو لم تكن آخرة لكان خلق هذا الكون كله عبثا ً وباطالً ولعبا ً ولم يكن حق ا ً؛ ألن ه ذا‬
‫يتنافى مع اإلحكام الذي فيه‪ ،‬ومع ما ي دل علي ه ه ذا اإلحك ام من كون ه مخلوق ا ً لخ الق‬
‫حكيم‪..‬‬
‫ً‬
‫فالخالق الحكيم ال يخلق خلقا فيأمرهم وينهاهم‪ ،‬ثم يجعل مص ير ال ذين اس تجابوا‬
‫لرسله فعملوا صالحا ً كمصير الذين تمردوا عليهم وخاضوا فيك ل فع ل ق بيح؛ ف اآلخرة‬
‫إذن ضرورة ُخلُقية‪.‬‬

‫‪233‬‬
‫اسمع لهاتين اآليتين لترى كيف جعلت اإلحكام في خل ق هللا دليالً على ض رورة‬
‫ت أَ ْن نَجْ َعلَهُ ْم َكالَّ ِذينَ آ َمنُ وا َو َع ِملُ وا‬ ‫ب الَّ ِذينَ اجْ تَ َر ُح وا َّ‬
‫الس يِّئَا ِ‬ ‫وج ود اآلخ رة‪﴿ :‬أَ ْم َح ِس َ‬
‫ت‬‫الس َما َوا ِ‬ ‫ق هَّللا ُ َّ‬
‫ت َس َوا ًء َمحْ يَ اهُ ْم َو َم َم اتُهُ ْم َس ا َء َم ا يَحْ ُك ُم ونَ (‪َ )21‬و َخلَ َ‬ ‫الص الِ َحا ِ‬ ‫َّ‬
‫ت َوهُ ْم اَل يُظلَ ُمونَ ﴾ [الجاثية‪]22 ،21 :‬‬‫ْ‬ ‫س بِ َما َك َسبَ ْ‬ ‫ْ‬
‫ق َولِتُجْ زَى ُكلُّ نَف ٍ‬ ‫ْ‬
‫ض بِال َح ِّ‬ ‫َ‬
‫َواأْل رْ َ‬
‫واسمع لهاتين اآليتين كيف ربطت أوالهما بين خلق السموات واألرض ب الحق‪،‬‬
‫وبين ع دم الظلم‪ ،‬وكي ف ربطت اآلي ة التالي ة بين ع دم خلقه ا ب اطالً وبين مس اواة‬
‫اطاًل َذلِ كَ ظَ ُّن الَّ ِذينَ‬ ‫ض َو َم ا بَ ْينَهُ َم ا بَ ِ‬‫الس َما َء َواأْل َرْ َ‬‫﴿و َم ا َخلَ ْقنَ ا َّ‬ ‫المحسنين بالمس يئين‪َ :‬‬
‫ت‬
‫الص الِ َحا ِ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫ار (‪ )27‬أ ْم نَجْ َع ُل ال ِذينَ آ َمنُ وا َو َع ِمل وا َّ‬ ‫َكفَ رُوا فَ َو ْي ٌل لِلَّ ِذينَ َكفَ رُوا ِمنَ النَّ ِ‬
‫َّار﴾ [ص‪]28 ،27 :‬‬ ‫ض أَ ْم نَجْ َع ُل ْال ُمتَّقِينَ َك ْالفُج ِ‬
‫َك ْال ُم ْف ِس ِدينَ فِي اأْل َرْ ِ‬
‫سكت قليال‪ ،‬ثم قال‪ :‬إن اآلخرة ضرورة ُخلُقية‪ ،‬ولو ش ئت لقلت ض رورة عقلية؛‬
‫ألن المبادئ ال ُخلُقية‪ ،‬هي من بين الموازين التي فطر هللا عليه ا العق ول لقي اس األم ور‬
‫وتقويمها‪ ،‬فالذي يتنافى مع األخالق يتنافى مع هذا العقل الفطري‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف تخاطب من ال يؤمن إال بما تقوله العلوم المادية؟‬
‫قال‪ :‬العلوم المادية البحتة ال تتن افى م ع هللا‪ ،‬وال م ع الي وم اآلخ ر‪ ،‬ب ل هي ت دل‬
‫عليهما‪ ..‬والمشكلة ليست فيها‪ ،‬وإنما في توجيهها وفلسفتها‪ ..‬ول ذلك ف إن ال ذي يتص ور‬
‫الحياة محصورة في تلك القوانين المادية‪ ،‬ويلغي الروح والقيم المرتبطة بها يس يء إلى‬
‫تلك العلوم ألنه يحملها فوق ما تحتمل‪ ،‬ذلك أنه ال مكان في الفيزي اء وال في غيرها من‬
‫العلوم الطبيعية للقيم ال ٌخلٌقية‪ ،‬أو الجمالية أو غيرها من القيم؛ ذلك ألن مجال هذه العلوم‬
‫إنما هو الكائنات الطبيعية‪ ،‬لكن الناس ال يكفيهم في حياتهم علمهم بالطبيعة مهم ا ازداد‬
‫وعظم؛ إنهم يحت اجون م ع ه ذا إلى قيم يهت دون به ا في مع امالتهم ‪ ،‬ف إذا حلَّت العل وم‬
‫الطبيعي ة مح ل ال دين كما يريد لها الملح دين في عص رنا‪ ،‬وإذا حُصر الحق فيما ي أتي‬
‫عن طريق هذه العلوم؛ فأنى يجد الناس تلك الهداية التي هي من ضرورات حياتهم؟‬
‫س كت قليال‪ ،‬ثم ق ال‪ :‬إن كث يراً من مالح دة العلم اءالطبيعيين يع ترفون به ذه‬
‫المش كلة لكنهم ال يح يرون له ا جواب ا ً‪ ..‬فق د نق ل (تيل ر) عن ع الم األحي اء البريط اني‬
‫(ميداور) وهو ملحد مثله قوله‪( :‬إن اإلجاب ة عن األس ئلة المتعلق ة بالب دايات والنهاي ات‬
‫أمر خارج – منطقيا ً – عن مقدرة العلم الطبيعي)(‪ ..)1‬ثم يعلق على هذا بقوله‪( :‬إن هذا‬
‫مسلك يصعب قبوله‪ ،‬فما زالت هنالك فجوه في حياة أناس كثيرين بس بب انع دام الغاي ة‬
‫هذه‪ .‬لقد كتب الع الم النفس ان ك ارل ي ونج‪( :‬إن ه لم يكن من بين مرض اي ال ذين هم في‬
‫النصف الثاني من عمرهم أحد لم تكن مشكلته في النهاي ة هي الظف ر بنظ رة ديني ة إلى‬
‫الحياة)‬
‫ثم ينقل عن صحفي معاصر – يقول عنه‪ :‬إنه ابن ألح د الفيزي ائيين – قوله‪( :‬إن‬
‫العلم الطبيعي ليس س لعة محاي دة أو بريئ ة يمكن أن يس تخدمها لالس تفادة منه ا ق وم ال‬
‫يريدون إال أن يكون لهم نصيب من قوة الغرب المادية‪ ..‬إن ه م دمر روحي ا ً‪ ،‬م و ٍد بك ل‬
‫‪ )(1‬عندما دقت الساعة صفراً‪ ،‬جون تيلر‪ ،‬ص‪.5‬‬

‫‪234‬‬
‫المرجعيات والتقاليد القديمة‪ ..‬وبعد أن ي ودي بك ل منافس يه يبقى الس ؤال‪ :‬أي ن وع من‬
‫الحياة تلك التي يقدمها العلم الطبيعي ألهله؟‪ ..‬ماذا يقول لن ا عن أنفس نا وكي ف نحيا؟)‪،‬‬
‫ثم يجيب على ذلك بقوله‪( :‬ليس هنالك من جواب جاهز على هذا السؤال)‬
‫***‬
‫كان لكلمات عالم األخالق المؤمن تأثيرها الكبير على نفسي‪ ،‬لكنها لم تؤثر فيه ا‬
‫الت أثير الك افي‪ ،‬فق د كنت أتص ور أن ه يمكن للمالح دة والم اديين أن يج دوا مناف ذ لهم‬
‫تعوضهم عن هللا واليوم اآلخ ر‪ ،‬ومن تل ك المناف ذ الق وانين‪ ..‬وق د دع اني إلى ذل ك م ا‬
‫رأيته من تأثير القوانين وصرامتها في بعض المجتمعات الملحدة‪..‬‬
‫ولهذا رحت لصديق آخر لي ‪ ،‬ك ان يعم ل أس تاذا في الجامع ة‪ ،‬وك ان باحث ا في‬
‫ت اريخ الق وانين‪ ..‬رحت أس أله عن العالق ة بين الق انون االخالق‪ ،‬وه ل يمكن إقام ة‬
‫القانون من دون أخالق؟‪ ..‬وكان قصدي من هذا السؤال هو إيجاد مخرج لإللح اد ح تى‬
‫يستطيع الحفاظ على القيم من دون تفريط في تصوراته الفكرية‪ ..‬أي أن تصبح القوانين‬
‫الرادعة هي المحفز والزاجر بدل اإلله‪.‬‬
‫عندما سألته عن هذا تأمل قليال‪ ،‬ثم قال‪ :‬سأض رب ل ك مث اال تس تنتج من خالل ه‬
‫هذه العالقة‪ ..‬فلنفرض أن ه ط رحت قض ية أم ام الق انون‪ ،‬وتعم د الفريق ان وش هودهما‬
‫الكذب‪ ،‬فلم يتبين الصدق أمام القاضي‪ ..‬حينها هل يمكن للقاضي أن يقضي بالعدل؟‬
‫قلت‪ :‬ذلك مستحيل‪..‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬ذلك مستحيل‪ ..‬ألنه البد من قانون آخر يحرك الن اس‪ ،‬ويحملهم على‬
‫اإلدالء بالبيانات الصادقة للوصول الى العدل‪ ..‬لقد اع ترفت جمي ع مح اكم الع الم به ذا‬
‫المبدأ‪ ،‬حتى أنها تلزم كل شاهد بالقس م قب ل اإلدالء بش هادته‪ ..‬وه و دلي ل يؤك د أهمي ة‬
‫العقائد الدينية لصون حرمة القانون‪.‬‬
‫سكت قليال‪ ،‬ثم قال‪ :‬أمر ثان‪ ..‬وهو البد أن تعرفه بخصوص هذه العالق ة‪ ،‬وه و‬
‫أن القانون ال يمكن أن يؤثر حتى يشعر مرتكب الجريمة بأنه مذنب‪ ،‬ويعت بره المجتم ع‬
‫مذنبا‪ ..‬ويقبض عليه رجال الشرطة بكل اقتناع‪ ،‬ثم يصدر قاض ي المحكم ة ـ وه و في‬
‫غاية االطمئنان ـ ـ ـ حكما ضد ذلك الرجل‪ ..‬ول ذلك ك ان الب د أن تك ون ك ل جريم ة ذنب ا‬
‫أيضا‪..‬‬
‫لق د نص على ه ذا أص حاب المدرس ة التاريخي ة من رج ال الق انون‪ ،‬فق د ق ال‬
‫أحدهم‪( :‬إن أي تش ريع لن يص يب هدف ه اال اذا ك ان مطابق ا لالعتق ادات الس ائدة عن د‬
‫المجتمع الذي وضع له ذلك القانون‪ ،‬ولو لم يطابق التش ريع اعتق ادات المجتم ع‪ ،‬فالب د‬
‫من فشله)‬
‫سكت قليال‪ ،‬ثم قال‪ :‬أمر ثالث‪ ..‬وهو أن خوف الشرطة والمحكم ة اليكفي ل درء‬
‫الجرائم‪ ،‬وإنما البد أن يكون هناك وازع في المجتمع يمنع الناس من ارتكاب الج رائم‪،‬‬
‫ألن الرش اوي‪ ،‬والمحس وبيات‪ ،‬وخ دمات المح امين الب ارعين‪ ،‬وش هود ال زور كله ا‬
‫عوام ل تكفي لحماي ة المج رم من أي ش رطة أو محكم ة إنس انية‪ ،‬والمج رم الي رهب‬

‫‪235‬‬
‫عقابا‪ ،‬أي عقاب‪ ،‬لو استطاع أن يفلت من أيدي القانون‪.‬‬
‫بعد أن ذكر لي هذا رحت أقول له‪ :‬فما البديل إذن؟‬
‫قال‪ :‬البديل الوحيد المتاح لإلنس ان ه و الع ودة هلل‪ ..‬فال يمكن أن يكتش ف نفس ه‪،‬‬
‫وال حقيقته‪ ،‬وال قيمه‪ ،‬وال فطرته من دون تلك العودة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهال وضحت لي سر ذلك؟‬
‫قال‪ :‬ألن الشرع االلهي يستوفي كل ما ذكرته لك من أمور‪ ،‬فعقيدة اآلخرة‪ ،‬التي‬
‫يحملها الشرع االلهي‪ ،‬هي خير وازع عن ارتكاب الج رائم‪ ،‬وهي تكفي لتبقى إحساس ا‬
‫بالجريمة واللوم يعمل في قرارة ضمير االنسان‪،‬لو أدلى بشهادة كاذبة أمام القاضي‪.‬‬
‫والوازع الذي يمنع من ارتكاب الجرائم ليس هو الدين في حد ذات ه‪ ،‬فإن ه اليق دم‬
‫لنا تشريعا فحسب‪ ،‬وإنما يخبرنا أن صاحب هذا التش ريع يش اهد ك ل أعمالن ا من خ ير‬
‫وشر‪ ..‬فنياتنا وأقوالنا وحركاتنا بأكملها تسجل بواسطة أجه زة ه ذا المش رع‪ ،‬ولس وف‬
‫نقف بعد الممات أمامه‪ ،‬ولن نستطيع ان نفرض ستارا على أدنى أعمالنا‪.‬‬
‫ولو أننا اس تطعنا اله روب من عق اب محكم ة ال دنيا‪ ،‬فلن نتمكن بالتأكي د من أن‬
‫نفلت من عقاب صاحب التشريع السماوي‪ ..‬ولو أننا حاولنا تفادي عقاب الدنيا‪ .‬فس وف‬
‫نذوق عذابا مضاعفا يوم القيامة‪ ،‬يفوق عقاب األرض ماليين المرات‪ ،‬قسوة وعنفا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن واق ع المت دينين مختل ف عم ا تق ول‪ ..‬ب ل نج د فيهم المتط رفين‬
‫اإلرهابيين الذين يرتكبون كل أنواع الجرائم؟‬
‫ق ال‪ :‬ه ذا وق ع ال يمث ل الت دين وال ال دين‪ ..‬وه و واق ع أسس ه المس تكبرون‬
‫واستثمروه‪ ..‬أما الدين فأعظم من أن يمثله أولئك المتطرفون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكنهم مع ذلك متدينون‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬أرأيت إن وج دت فاكه ة مس مومة بس بب بعض المبي دات ال تي وض عت‬
‫عليها‪ ..‬هل تنظ ف الفاكه ة‪ ،‬أم تبحث عن فاكه ة أخ رى غ ير مس مومة‪ ،‬أم أن ك تح رم‬
‫الفاكهة على نفسك‪ ،‬وتدعو غيرك لتحريمها؟‬
‫قلت‪ :‬ال أشك أني ال أقوم بالثالث‪ ..‬بل أقوم باألول أو الثاني‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهكذا الدين‪ ..‬فوجود أفراد مسمومين فيه ال يلغي ال دين‪ ،‬وإنم ا ي دعونا إلى‬
‫البحث عن الدين اإللهي الصحيح الذي يمثل القيم اإللهية التي أرادها هللا لإلنسان‪ ،‬ومن‬
‫اإلنسان‪.‬‬
‫***‬
‫ك انت ه ذه الكلم ات دافع ا لي للبحث عن ال دين الح ق ال ذي تت وفر في ه ك ل‬
‫الخص ائص ال تي تجم ع بين مقتض يات العق ل والس لوك‪ ..‬والحم د هلل م ا أس رع م ا‬
‫تداركتني هداية هللا وعنايته الخاص ة بي‪ ..‬وم ا أس رع م ا وج دت اله داة ال ذين من هللا‬
‫علي بصحبتهم‪ ،‬وبأن جعلني فردا في مجموعتهم‪.‬‬
‫برهان النبوة‪:‬‬
‫بعد أن أنهى الرجل الثاني حديثه‪ ،‬قام آخر‪ ،‬وقال‪ :‬بعد أن ح دثكم ص ديقي وأخي‬
‫عن [بره ان القيم]‪ ،‬وكي ف خ رج ب ه من ظلم ات الجه ل والغواي ة إلى ن ور اإليم ان‬

‫‪236‬‬
‫والهداية‪ ..‬فاس معوا ح ديثي عن بره ان من ب راهين الهداي ة المبين ة‪ ،‬أطلقت علي ه اس م‬
‫[برهان النبوة]‪ ..‬وهو برهان يدل على هللا من كل الوج وه‪ ،‬وبك ل المق دمات‪ ،‬وبجمي ع‬
‫اللغات‪..‬‬
‫فاهلل برحمت ه لم يتواص ل م ع آح اد خلق ه برعاي ة حاج اتهم وإجاب ة دع واتهم‬
‫فحسب‪ ..‬ولم يحفظ عليهم حياتهم بالقيم ال تي وفره ا لهم فق ط‪ ..‬وإنم ا أض اف إلى ذل ك‬
‫إرسال وسائط الهداية لهم ليكونوا نماذج تيسر عليهم تحقيق الكمال‪ ،‬وليبلغوهم الحق ائق‬
‫التي ال يمكن أن يصلوا إليها بعقولهم المجردة‪.‬‬
‫وقد كان أول ما دفعني إلى هذا البرهان هو شعوري بأن الذي خلق هذا الك ون ـ‬
‫إن كان موجودا فعال ـ فإنه البد أن يتصل بخلقه بأي طريقة من الطرق ليع رفهم بنفس ه‬
‫أوال‪ ،‬ويع رفهم بحقيقتهم وغاي ة وج ودهم ثاني ا‪ ،‬وليعلمهم ك ذلك القيم ال تي عليهم أن‬
‫يسلكوها لينسجم وجودهم مع الكون جميعا‪.‬‬
‫وقد التقيت حينها رجال جمع بين الفلسفة والعلم راح يقول لي ـ بع د أن عرض ت‬
‫له ما خطر على بالي ـ‪ :‬إن ما تقوله صحيح‪ ..‬ومنطقي‪ ..‬فيس تحيل على من ص مم ه ذا‬
‫الكون بهذا اإلبداع‪ ،‬وأبرز في ه لخلق ه ك ل أن واع العناي ة والرعاي ة‪ ،‬أن يغف ل عن ه ذه‬
‫النقطة التي اهتدى إليها عقلك‪ ..‬ذلك يستحيل‪.‬‬
‫ذل ك أن االنس ان اليس تطيع أن يص ل الى حق ائق الوج ود الك برى بجه وده‬
‫الشخصية‪ ..‬وال يستطيع أن يصل إلى فهم أسرار بدء الحياة ونهايتها‪ ..‬وال حقائق الش ر‬
‫والخير‪ ..‬وال كيفية تنظيم أجهزة الحياة(‪.)1‬‬
‫وله ذا ت رى قومن ا‪ ،‬ب ل من قبلهم من الفالس فة ت اهوا بعق ولهم‪ ،‬ولم يتمكن وا أن‬
‫يصلوا بها إلى شيء‪ ..‬لقد ذكر صديقنا [ألكسيس كريل] هذا‪ ،‬فقال‪( :‬إن مبادىء الث ورة‬
‫الفرنس ية‪ ،‬وأفك ار م اركس‪ ،‬ولي نين‪ ،‬التنطب ق إال على االنس ان العقلي المث الى‪ ..‬ومن‬
‫الواجب أن نشعر بص راحة تام ة ب أن ق وانين العالق ات االنس انية لم تكش ف بع د‪..‬أم ا‬
‫االجتم اع واالقتص اد وم ا أش بههما‪ ،‬فهي عل وم افتراض ية محض ة‪ ،‬ب دون أدل ة يمكن‬
‫اثباتها بها)‬
‫ومثله قال األستاذ [ج‪ .‬و‪ .‬ن‪ .‬سوليفان]‪( :‬إن الكون الذي كشفه العلم الح ديث ه و‬
‫أكثر غموضا وابهام ا من الت اريخ الفك ري بأكمل ه‪ ،‬والش ك في أن علمن ا عن الطبيع ة‬
‫أكثر غزارة من أي عصر مضى‪ ،‬ولكن هذه المعلومات كلها غير مقنعة‪ ،‬فنحن نواج ه‬
‫اليوم االبهام والمتناقضات في كل ناحية)‬
‫إن هذا الجهل المطبق لإلنس ان بمث ل ه ذه الحق ائق الض رورية يس تدعي البحث‬
‫عن مصدر آخر نتعرف من خالله على هذه الحقائق‪.‬‬
‫ثم التفت إلي‪ ،‬وق ال‪ :‬إن ه ذه الحال ة وح دها تكفي لنت بين حاجتن ا الش ديدة الى‬
‫التواصل مع مبدع هذا العالم‪ ،‬ذلك أن سر الحياة يدل على أنه البد أن تأتي المعرفة من‬
‫الخارج تماما مثلما يأتينا الضوء والحرارة اللذين تتوقف عليهما حياة االنسان‪.‬‬

‫‪ )(1‬االسالم يتحدى‪ :‬وحيد الدين خان‪.‬‬

‫‪237‬‬
‫قلت‪ :‬فلم ال يك ون ه ذا التواص ل ع بر ك ل ش خص على ح دة‪ ،‬وال يحت اج إلى‬
‫خواص الناس‪ ،‬ليتم التواصل عبر واسطتهم؟‬
‫نظر إلى الشمس‪ ،‬وقال‪ :‬إن طرح ك ه ذا يش به من يطلب أن يك ون لك ل إنس ان‬
‫شمسه الخاصة به‪ ..‬والتي ينير بها الكون متى شاء‪ ..‬ويجعله مظلما متى شاء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما تعني؟‬
‫قال‪ :‬كما أن الشمس واسطة النور والدفء‪ ..‬وأش ياء كث يرة مم ا تنعم ب ه أجس اد‬
‫الناس وحياتهم‪ ..‬فإن وسائط الهداية اإللهية هم شموس األرواح وهداتها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هال وضحت لي أكثر‪.‬‬
‫قال(‪ :)1‬الحدس الشخصي ال يُس تفاد من ه إال لتث بيت اإليم ان واليقين بع د اقتن اع‬
‫العقل وانكشاف الحقائق‪ ،‬لكنه ال يصلح أن يكون مصدرا يتفق عليه الناس ألن ه خ اص‬
‫بكل منهم على ح دة‪ ،‬وال يمكن طبع ا أن يُعتم د مص درا للتش ريع والق وانين‪ ،‬فال يمكن‬
‫لبقية الناس أن يتحققوا من زعم أحد بأنه تلقى قانونا ً إلهيا ً بحدسه الخاص‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلماذا ال تكون حلقة الوصل هذه من كائنات أخرى غير البشر؟‬
‫قال‪ :‬لقد ذكرني سؤالك هذا بآي ة وردت في الق رآن‪ ..‬كت اب المس لمين المق دس‪..‬‬
‫ض َماَل ئِ َك ةٌ يَ ْم ُش ونَ‬‫ففيه هذه اآلية التي تجيب ك بك ل لفظ ة فيه ا‪﴿ :‬قُ لْ لَ وْ َك انَ فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ُم ْ‬
‫ط َمئِنِّينَ لَنَ َّز ْلنَا َعلَ ْي ِه ْم ِمنَ ال َّس َما ِء َملَ ًكا َر ُسواًل ﴾ [اإلسراء‪]95 :‬‬
‫قلت‪ :‬لم أفهم المراد منها‪ ،‬فهال وضحته لي‪.‬‬
‫قال‪ :‬هي تريد أن تقول لنا بأن هللا يبعث للناس رسال من جنسهم لكي يتمكنوا من‬
‫رؤيته ومخالطته والتواصل معه والتعلم من سلوكه وأفعال ه وأقوال ه‪ ،‬وليض عوه أيض ا‬
‫رس ل‬‫موضع االختبار والتمحيص‪ ..‬ولو أن هللا منح الناس القدرة على رؤي ة المالك ال ُم َ‬
‫في حال إرساله بدال من رسول بش ري‪ ،‬فربم ا ك ان الجاح دون س يطرحون اعتراض ا‬
‫آخر من قبيل‪ :‬وما ال ذي يض من لن ا أن ه ذا المالك مرس ل من هللا أيض ا وليس مج رد‬
‫كائن فضائي أو شيطان متجسد ؟‬
‫قلت‪ :‬إن هذا يقتضي بحثا مستحيال في هذا الزخم الكبير من األديان‪ ..‬فمن أدرانا‬
‫من هو الصادق من المدعي‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهنا تكمن مسؤولية اإلنسان في البحث عن الوحي الص حيح‪ ،‬والتحق ق من‬
‫صدق نس بته إلى هللا وس المته من التب ديل والتحري ف‪ ،‬وذل ك ب التحقق أوال من ص دق‬
‫األشخاص الذين زعموا أنهم أنبياء مرسلون من هللا‪ ،‬بدراسة سيرتهم ومعج زاتهم وم ا‬
‫نُق ل عنهم من أق وال وأفع ال‪ ،‬ثم ب التحقق من ص دق ال وحي ال ذي ج اؤوا ب ه‪ ،‬وذل ك‬
‫بعرضه على العقل ودالئل الحس‪ ..‬وغيرها من أنواع التمحيص والتدقيق‪.‬‬
‫***‬
‫كانت تلك الكلمات القليلة أول ما دفعني إلى القيام بسمح شامل لألديان باعتبارها‬
‫وحدها من يزعم التواص ل م ع الس ماء‪ ،‬لك ني اص طدمت ب الكثير من أص حابنا ال ذين‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬مقاال بعنوان [نبوة محمد]‪ ،‬أحمد دعدوش وربى الحسني‪..‬‬

‫‪238‬‬
‫راحوا يسخرون منهم‪ ،‬ويزعمون اس تحالة ذل ك التواص ل من الناحي ة العلمي ة‪ ،‬فكي ف‬
‫يسمع مدعي النبوة‪ ،‬ما ال يسمع الناس‪ ،‬وكيف يتسنى له أن يرى ما ال يرون؟‬
‫لكن هللا تعالى برحمته ولطفه وهدايته تداركني‪ ،‬فأزال ع ني تل ك الش بهة بأيس ر‬
‫األدلة وأكثرها إقناعا‪ ،‬قال لي(‪ :)1‬إن هناك وقائع كثيرة ج دا تج ري من حولن ا في ك ل‬
‫لحظ ة‪ ،‬ونحن نعج ز عن ادراكه ا أو س ماعها‪ ،‬أو االحس اس به ا بوس اطة أجهزتن ا‬
‫العصبية‪ ،‬وقد استطاع العلم الحديث أن ييسر لنا إدراكها بفضل األجه زة العلمي ة ال تي‬
‫اخترعناها‪ ..‬وهذه األجهزة تستطيع أن تدل على ص وت ذب اب ط ائر على بع د بض عة‬
‫أميال‪ ،‬وكأنه يطير عند أذنك‪ ..‬ومن األجهزة العلمية ما وص ل التق دم في ه إلى ح د أنه ا‬
‫تسجل صدام األشعة الكونية في الفضاء‪.‬‬
‫لقد اخترعنا آالت كثيرة أثبتت أنها تستطيع إدراك كث ير ج دا من األح داث ال تي‬
‫اليمكننا سماعها بالطرق السمعية التقليدية‪ ..‬وهذ الطاق ة غ ير العادي ة للس ماع التخص‬
‫اآلالت العلمية الحديثة‪ ،‬وانما وهبها هللا لبعض الحيوانات أيضا‪.‬‬
‫فمم ا الش ك في ه أن جه از س ماع االنس ان مح دود ج دا‪ ،‬ولكن أجه زة بعض‬
‫الحيوانات تختلف كل االختالف؛ فالكلب‪ ،‬مثال‪ ،‬يستطيع أن يشم ريح الحيوان الذي م ر‬
‫من الطريق‪ ،‬ومن ثم استغلت الكالب في البحث عن الجرائم والمجرمين‪..‬‬
‫وهن اك حيوان ات كث يرة تس مع أص واتا تخ رج عن نط اق أس ماعنا‪ ،‬وق د أثبتت‬
‫البحوث في هذا الميدان أن بعض الحيوانات يتمت ع بق وة االش راق‪ ..‬فل و أن ك وض عت‬
‫حشرة مما يطلق عليه (العثة)‪ ،‬وهي حشرة مجنحة على نافذة مفتوحة‪ ،‬فستحدث صوتا‬
‫يسمع زوجها على مسافة بعيدة جدا‪.‬‬
‫وهناك نوع خاص من هذه الحشرات ي دعى (الجن دب)‪ ،‬يح ك رجلي ه وجناحي ه‬
‫ويصوت بطريق غير عادي ة‪ ،‬ويس مع على مبع دة نص ف مي ل‪ ،‬وه و يح رك في ه ذه‬
‫العملية ستمائة طن من الهواء‪ ،‬ليدعو زوجه‪ ،‬وهذه الزوج ترسل أيضا وهي ساكنة بال‬
‫حراك جوابا النعرفه‪ ،‬وإنما يعرفه الجندب الذكر‪ ،‬ثم يلحق بها أينما كانت‪.‬‬
‫التفت إلي‪ ،‬وقال‪ :‬إذا كان األمر ك ذلك‪ ،‬فم ا وج ه الغراب ة في ادع اء إنس ان أن ه‬
‫يسمع صوتا من لدن ربه‪ ،‬اليدرك ه عام ة الن اس‪ ..‬م ادام من الممكن أن توج د في ه ذا‬
‫العالم حركات وأصوات التسمعها آذان االنسان‪ ،‬ولكن تسجلها اآلالت‪ ..‬ومادامت هناك‬
‫رسائل تدركها حيوانات دون أخرى‪ ..‬ما هو جانب التعجب واالستبعاد؟‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬أم أنك تتصور أن الذي أبدع هذا الكون تض يق قدرت ه على مث ل ه ذا؟‪..‬‬
‫إن هذا مستحيل‪ ..‬فالذي يمكن تلك الحيوانات البسيطة من تلك القدرات الهائلة ال يعج ز‬
‫أن يرسل ـ لحكمة يعلمها ـ ـ رسائل خافت ة خفي ة إلى االنس ان المخت ار للرس الة‪ ،‬بع د أن‬
‫يودع فيه صالحية التقاطها وفهمها‪ ..‬فليس هناك من تصادم في الحقيقة‪ ،‬بين مشاهداتنا‬
‫وتجاربنا العلمية‪ ،‬فهو واقع من الوقائع الكثيرة التي نشاهدها ونجربها في أمكنة وطرق‬
‫مختلفة‪.‬‬

‫‪ )(1‬االسالم يتحدى‪ :‬وحيد الدين خان‪.‬‬

‫‪239‬‬
‫ثم نقل لي عن صديقنا الدكتور [الكسيس كريل] قوله‪( :‬إن حدود الفرد في إط ار‬
‫الزمان والمكان هي مج رد اف تراض‪ ،‬حيث يس تطيع عام ل اإلش راق أن يجعل ك تن ام‪،‬‬
‫وتضحك‪ ،‬أو تبكي‪ ،‬كما يستطيع أن ينقل اليك كلمات أو خواطر‪ ،‬لس ت على علم به ا‪..‬‬
‫إنها عملية التستعمل فيها أية وسائل‪ ،‬واليشعر بها غير عامل اإلشراق وصاحبه)‬
‫ثم قال لي معقبا عليه‪ :‬فإذا كان األمر كذلك مع هذا العبد الضعيف‪ ،‬فكيف باإلل ه‬
‫القادر على كل شيء‪ ..‬كيف يعجز أن يتواصل بطرقه الخاصة مع من يشاء من عباده‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬ما ذكره كاريل صحيح‪ ..‬وقد عرض العلماء نظريات عدي دة لش رح‬
‫هذه الصور من عملية االشراق‪ ،‬ومنها أن أمواجها تص در من المخ وتنتش ر في الع الم‬
‫أجمع بسرعة فائقة‪ ،‬ولذلك سموها بنظرية الموجة المخية‪.‬‬
‫قال‪ :‬فإذا كان األمر كذلك‪ ..‬وكان في إمك ان اإلنس ان تحوي ل أفك اره الى إنس ان‬
‫آخر‪ ،‬على بعد غير عادي‪ ،‬وبدون استعمال أي واسطة مادية ظاهرية‪ ..‬فلم اذ تس تحيل‬
‫نفس العملية بين اإلله وعباده؟‬
‫***‬
‫كانت هذه الحوارات وغيرها دوافع لتقصي الحقيقة من خالل األدي ان المختلف ة‪،‬‬
‫والبحث فيه ا‪ ،‬وفي م دعي النب وة إلى أن اكتش فت الحقيق ة ال تي دلت عليه ا ك ل‬
‫البراهين(‪ ..)1‬وذلك في مناظرة كبرى جرت بين مجموعة علماء من أديان مختلفة‪.‬‬
‫حين دخلت قاعة المحاضرات في الجامعة ال تي أقيمت فيه ا المن اظرة رأيت م ديرها‬
‫يحمل مكبر الصوت‪ ،‬ويقول‪ :‬بناء على مبدأ (حري ة التعب ير) ال ذي تبنت ه جامعتن ا الم وقرة‪..‬‬
‫اسمحوا لي أن أق دم لكم الي وم شخص يات من مختل ف األدي ان‪ ..‬جئن ا به ا إلى ه ذه الجامع ة‬
‫العريقة لتجيبنا على هذا الس ؤال الخط ير‪ :‬من ه و اإلنس ان ال ذي يمكن اعتب اره وس يطا بين‬
‫الخالق واإلنسان‪ ،‬بحيث يستطيع الضمير أن يطمئن للسير خلفه‪ ،‬واالستنان بسنته؟‬
‫بع د أن انتهى م دير الجامع ة من تقديم ه‪ ،‬تق دم الكث ير من رج ال ال دين‪ ،‬وطرح وا‬
‫أطروحاتهم المختلفة في هذا الباب‪ ،‬لكن ال ذي أث ر في منه ا م ا قال ه ع الم مس لم ه و الس يد‬
‫سليمان الندوي(‪ ،)2‬ذلك أنني رأيته يعترف بكل الوسائط الذين سبق لغ يره أن تح دث عنهم‪،‬‬
‫ورأيت ه يث ني عليهم جميع ا‪ ،‬وه ذا أول م ا ش دني إلي ه‪ ..‬والث اني أن طرح ه ك ان في منتهى‬
‫العقالنية‪ ،‬وقد تجاوبت معه كل جوارحي‪..‬‬
‫طبعا ال يمكنني هنا أن أذكر لكم كل ما قال‪ ..‬ولهذا سأقتطف منه م ا أراه مناس با له ذا‬
‫المجلس‪..‬‬

‫‪ )(1‬ما نذكره هنا من الدليل على نبوة محمد ‪ ‬هو مجرد دليل واحد‪ ..‬وهو مرتبط بهذا الب اب ال ذي نحن في ه‪ ..‬أم ا‬
‫األدلة على نبوة محمد ‪ ‬فال يمكن حصرها‪ ..‬وقد خصصنا لذلك سلسلة [حقائق ورقائق]‬
‫‪ )(2‬أشير به إلى العالمة الس يد س ليمان الن دوي‪ ،‬وك انت جامع ة (م دراس) ق د أب احت لبعض أحب ار المس يحية من‬
‫األمريكيين وغيرهم إلقاء محاضرات في البحوث التي وقفوا حياتهم عليه ا‪ ..‬وق د س بقت محاض راتهم محاض رات الس يد‬
‫سليمان الندوي‪ ،‬والتي ذكرنا ملخصها بتصرف كبير هنا مختصرين ذلك مما ذكرناه في رسالة [النبي اإلنسان]‬

‫‪240‬‬
‫لقد راح يقول‪ ،‬وهو واقف من غير أن يجلس على الكرسي الذي أعد له‪ :‬اس محوا لي‬
‫أن أخاطبكم‪ ،‬وأنا واقف‪ ..‬ألني سأتحدث عن رجل ظل طول حيات ه واقف ا ألداء م ا كل ف ب ه‬
‫من مهام‪ ..‬ولم يعرف الراحة إال بعد أن قضى هللا بأن يصير في الرفيق األعلى‪.‬‬
‫إن السؤال الذي طرحه مدير الجامعة المحترم سؤال ال غنى لإلنس ان العاق ل‪ ..‬ب ل ال‬
‫غنى لإلنسانية جميعا عن اإلجابة عنه‪ ..‬إنه ليس ترفا من البحث‪ ..‬وال فض وال من المعرف ة‪..‬‬
‫إن الحياة ال يمكن أن تستقيم لإلنسان إال بمعرفة ذلك اإلنسان‪ ..‬ألن هللا الذي خلق هذا الك ون‪،‬‬
‫ورتب ما فيه أحسن ترتيب‪ ،‬وخلق اإلنسان‪ ،‬وأعطاه من القوى والطاقات ما أعط اه يس تحيل‬
‫أن يتركه همال من غير أن يبين له حقيقته وحقيقة ما حوله‪ ،‬ووظيفته وعالقته بما حوله‪.‬‬
‫انطالق ا من ه ذا‪ ،‬ف إني في محاض رتي ه ذه ال تي ش رفتموني به ا لن أملي عليكم أي‬
‫فكرة‪ ..‬ولن أفرض عليكم أي قناعة‪ ..‬بل سأكتفي بأن أحدثكم عن رحل تي في البحث عن ه ذا‬
‫اإلنسان‪ ..‬وسأذكر لكم قصتي من أولها‪..‬‬
‫صاح رجل من الحاضرين‪ :‬كيف تقول هذا‪ ..‬وأنت رجل نبت في اإلسالم من جذوره‬
‫األولى‪ ..‬بل إن نسبك يرتفع إلى هذا الذي تريد أن تحدثنا عنه‪.‬‬
‫التفت إليه بابتسامة‪ ،‬وق ال‪ :‬ك ل ش يء يمكن أن ي ورث إال اإليم ان‪ ..‬فه و ال يمكن أن‬
‫يورث‪ ..‬ألنه وليد القناعة العقلية‪ ..‬والعقل ال يقنعه إال الغذاء الذي جعله هللا له‪.‬‬
‫ولذلك فإني ما ش ببت عن الط وق ح تى رفض عقلي ك ل المس لمات الموروث ة‪ ..‬ب ل‬
‫رحت أمحو كل عقيدة أمليت علي‪ ،‬أو تلقيتها تقليدا‪.‬‬
‫وقد كان أول ما بدأت به ـ بعد أن أيقنت بأدلة كث يرة ال حص ر له ا‪ ..‬وليس ه ذا مح ل‬
‫ذكرها‪ ..‬بأن هللا خلق الكون‪ ،‬ودبره أحسن تدبير‪ ..‬وأنه خلق اإلنسان‪ ،‬ودبر له من التدبير م ا‬
‫يمأل حياته بالسعادة والسكينة والسالم ـ أني وج دت في اإلنس ان ج انبين‪ :‬ج انب ال خ يرة ل ه‬
‫فيه‪ ..‬فهو فيه مضطر مكره ال حظ له من الحرية‪..‬‬
‫وجانب له فيه كل الخيرة‪ ..‬فهو إن شاء سار ذات اليمين‪ ،‬وإن شاء سار ذات الش مال‪،‬‬
‫ال يقف في طريقه شيء‪.‬‬
‫ووج دت أن اإلنس ان في الج انب ال ذي أك ره في ه يعيش الس الم والس كينة في أروع‬
‫مظاهرها‪ ..‬فقلبه يخفق بانتظام ودقة ليمأل جس ده ب دماء الحي اة‪ ..‬ورئت اه تمدان ه بم ا ش اء من‬
‫هواء‪ ..‬ومعدته تهضم كل ما يزورها من طع ام‪ ..‬وهك ذا ك ل أجهزت ه‪ ..‬ال يع ارض بعض ها‬
‫بعضا‪ ،‬وال يتدخل بعضها في تخصصات بعض‪.‬‬
‫ولك ني في مقاب ل ذل ك وج دت اإلنس ان في جانب ه االختي اري يعيش فراغ ا مقيت ا‪،‬‬
‫وصراعا حادا‪ ..‬فقبله يطلب ما يخالف عقله‪ ..‬ونفسه تصارع روحه‪ ..‬وكل لطيفة من لطائف ه‬
‫تشتهي أن تكون الدولة لها‪ ..‬واإلنس ان محت ار بينه ا جميع ا ال ي دري أي واد يس لك‪ ،‬وال أي‬
‫بحر يخوض‪.‬‬
‫ووجدت البشر يختلفون في اختياراتهم‪ ..‬وينجم عن اختالفهم ص راع ح اد بينهم وبين‬
‫أنفسهم‪ ،‬وصراع حاد بينهم وبين البشرية جميعا‪ ..‬بل بينهم وبين الكون نفسه‪.‬‬
‫وقد قلت لنفسي حين رأيت ذلك‪ :‬أيمكن أن يكون المدبر الب ديع ال ذي دب ر ك ل ش يء‪،‬‬
‫وأتقن تدبيره غاية اإلتقان غفل عن هذه الناحية‪ ..‬فلم يدبرها‪ ،‬ولم يضع الحلول لها؟‬

‫‪241‬‬
‫وبعد تأمل طويل‪ ..‬رأيت أنه من المحال أن يحصل ذلك‪ ..‬فكل شيء يدل على رحم ة‬
‫هللا وحكمته ولطفه ومودته‪ ..‬ويستحيل على من هذه صفاته أن ي دع عب اده همال من غ ير أن‬
‫يبين لهم السبيل الصحيح الذي يخرجهم به من هاوية الصراع‪.‬‬
‫وقد جعلني ذلك أبحث عن السبيل التي يعلم هللا بها عباده‪..‬‬
‫ووجدت بأدلة كثيرة أن الوسيلة الوحيدة الممكنة لذلك هي أن يختار إنسانا منهم ليؤدي‬
‫هذه الوظيفة‪ ..‬فال يمكن أن يكون معلم اإلنسان إال إنسانا‪.‬‬
‫وقد جعلني ذلك أبحث بكل ما أوتيت من جه د ـ ال أمتطي مطي ة س وى مطي ة العق ل‬
‫المجرد ـ عن اإلنسان الذي استحق ذلك الشرف الرفيع‪ ..‬شرف الوساطة بين هللا وعباده‪.‬‬
‫لقد قلت لنفسي في بداية بح ثي عن ه ذا اإلنس ان الكام ل ال ذي اس تحق ذل ك الش رف‬
‫الرفيع‪ :‬الشك أن هذا اإلنسان ممتلئ بالعظمة‪ ..‬وممتلئ بالشهرة‪ ..‬ألن هللا الحكيم يس تحيل أن‬
‫يبعث رجال خامال مغمورا ال يعرف ه الن اس‪ ..‬وإال كي ف يهت دون إلي ه‪ ،‬وكي ف يتأس ون ب ه‪..‬‬
‫وكيف يتعلمون علومه(‪.)1‬‬
‫وق د ج رني ذل ك إلى وض ع س جل ض خم لك ل العظم اء ال ذين اش تهر بهم ت اريخ‬
‫اإلنسانية‪ ..‬وقد وضعت في ذلك السجل أسماء ملوك جبابرة‪ ،‬عاشوا في قصورهم الشامخة‪..‬‬
‫ووضعت فيه أسماء قادة جيوش عاشوا بين ض باطهم وجن ودهم يُرْ ِهب ون الن اس ويخيف ونهم‬
‫بش دة بأس هم‪ ..‬ووض عت في ه أس ماء مس تعمرين دوخ وا البالد‪ ،‬واس تولوا ع َلى الممالي ك‪..‬‬
‫ووضعت فيه أسماء حكماء وفالسفة‪ ..‬ووضعت فيه أس ماء ش عراء‪ ..‬ووض عت في ه أس ماء‬
‫أغنياء‪..‬‬
‫س كت قليال‪ ،‬وكأن ه يس ترجع ذكري ات بعي دة‪ ،‬ثم ق ال‪ :‬لق د وض عت في ذل ك الس جل‬
‫أسماء‪ :‬هنيبع ل القرط اجني واإلس كندر المق دوني وقيص ر ال روم ودارا الفارس ي ون ابليون‬
‫الفرنسي‪ ..‬وغيرهم ممن كان يمأل عيون بني آدم بعظمته وأحداث حياته ومختلف أعماله‪.‬‬
‫ووضعت فيه أسماء سقراط وأفالطون وديوجنس وغيرهم من حكماء اليون ان وغ ير‬
‫اليونان ـ مثل سبنسر وأضرابه ـ ؛ وكل من تجتذب سيرتهم النفوس وتروق القلوب‪.‬‬
‫وبعد أن انتهيت من إحصاء ما استطعت من أس ماء‪ ..‬رحت أس أل نفس ي‪ ..‬ب ل أس أل‬
‫األسماء التي مألت علي عقلي‪ ،‬كما مألت قبل ذلك سجلي أق ول له ا‪ :‬من منكم لدي ه التري اق‬
‫الذي يض من ب ه فالح اإلنس انية؟‪ ..‬من منكم لدي ه الطاق ة ال تي يس تطيع به ا أن يض ع منهج‬
‫صالح اإلنسانية وسعادتها؟‪َ ..‬من منكم إذا اهتدى الناس بهديه َينجون من المهالك‪ ،‬ويس لكون‬
‫سبيل السعادة والهناء؟‪َ ..‬من منكم وقف حياته ع َلى حل ُمعضالت البشر‪ ،‬وكانَ حريصًا ع َلى‬
‫عقد أواصر اإلخاء بينهم ع َلى الحق والتواصي في الخير؟‬
‫لقد قلت لهم‪ :‬هل يوجد فيكم ما يس تعين ب ه بن و اإلنس ان ع َلى تخفي ف م ا يُعانون ه من‬
‫الغم رات في حي اتهم االجتماعي ة؟ أم في أخالقكم وأعم الكم م ا ييس ر لإلنس انية الش فاء من‬
‫أمراضها الخلقية وأوصابها النفسية؟ أم في دعوتكم ما يجلو ص دأ القل وب ورينه ا‪ ،‬أو يرت ق‬
‫َف ْت ًقا في الحياة االجتماعية؟‬
‫‪ )(1‬ننبه إلى أننا اقتبسنا هذه األدلة من كتاب (الرس الة المحمدي ة) للس يد س ليمان الن دوي‪ ..‬وق د اختل ط أس لوبنا في ه‬
‫بأسلوبه بناء على الضرورة الفنية‪ ..‬ولذلك لم نلجأ للتوثيق كل مرة‪.‬‬

‫‪242‬‬
‫لم أجد أي إجابة على أي سؤال طرحته‪ ..‬وقد أجابني جمي ع الش عراء واألدب اء ابت داء‬
‫ِمن هوم يروس‪ ،‬إ َلى ام رئ القيس‪ ..‬فمن بع ده من ش عراء األمم‪ :‬بأن ه َلم يكن منهم إاَّل إث ارة‬
‫ك امن العواط ف‪ ،‬وتنبي ه الن ائم من األفك ار‪ ،‬أو إح داث ل ذة أو ألم في النف وس‪ ..‬أم ا ح ل‬
‫معضالت الحياة اإلنسانية‪ ،‬وعويصات مشاكلها؛ فذلك أمر بعيد المنال‪ ..‬وسبب ذلك بس يط‪..‬‬
‫وهو أنهم في سيرتهم وأعمالهم ال يُ َقدِّمون للناس ال ُمثُل الَّ ِتي تُحت ذى‪ ،‬واألس وة الَّ ِتي يُق َت دى بهم‬
‫فيها‪.‬‬
‫فتركتهم‪ ،‬ورحت إلى الفالسفة والحكماء الذين بهروا العقول بفلسفتهم‪ ،‬وحاولوا تغيير‬
‫تيار الحياة البشرية؛ فلم أجد عندهم ما يشفي غليلي‪..‬‬
‫وهكذا رأيت في الكلي ات المختلف ة أفاض ل من العلم اء وفح ول األس اتذة والمدرس ين‬
‫ُعْجب الطلب َة فصيحُ كالمهم‪ ،‬وبراعةُ بيانهم‪ ،‬وبلي ُغ ِح وارهم‪ ،‬و َع ْذبُ ح ديثهم‪ ،‬وهم يُ ؤَ ِّثرون‬ ‫ي ِ‬
‫فيهم بذالقة ألسنتهم‪ ،‬واتساق أفكارهم‪ ،‬وترتيب معانيهم‪ .‬لكنهم؛ ال تعدوا محاضراتهم ج دران‬
‫كلياتهم وقاعات محاضراتهم‪ ،‬وإذا خرج وا منه ا أص بحوا كعام ة الن اس ال يمت ازون عليهم‬
‫ق يختلفون به عن غيرهم ه َْديًا و َس ْم ًتا‪.‬‬ ‫بخلُ ٍ‬
‫بعمل تتخذه اإلنسانية مثااًل يُحتذى‪ ،‬وال ُ‬
‫وقد رأيت في مقابل الفالسفة والحكماء كثيرًا من الملوك الجبابرة الَّ ِذين حكموا الع ا َلم‪،‬‬
‫واس تولوا ع َلى الممالي ك‪ ،‬واس تعبدوا األمم‪ ،‬كم من أرض عمروه ا‪ ،‬ومدين ة دمروه ا‪ ،‬وكم‬
‫وضعوا شعوبًا ورفعوا آخرين‪ ،‬وكم سلبوا ومنح وا‪ ،‬وض روا ونفع وا‪ ..‬لكن س يوفهم ـ ال تي‬
‫قدرت على كل ذلك ـ لم تستطع أن تستل الرذائل من قلوب أهلها‪ ،‬وأن تحس م م ادة الش ر في‬
‫نفوسهم‪ ،‬وأن تطهر صدورهم من فساد السرائر‪ ،‬ذلك الفساد الَّ ِذي يحم ل أهل ه ع َلى ارتك اب‬
‫المعاصي واقتراف السيئات‪.‬‬
‫لقد وجدت أن أقصى ما يترتب ع َلى رهب ة المج رمين وال ُم رجفين من س يف المل وك‬
‫ال ُم َسلَّط عليهم أن َيسود األمن والسالم سبل البالد وأسواق الم دن وش وارعها وحاراته ا‪ ،‬أم ا‬
‫إصالح القلوب وتهذيب النفوس فمما يخرج عن سلطان السيف وتعجز عنه إرادة الملوك‪.‬‬
‫وأن كل فساد‬ ‫أن رأس كل شرّ إنما ن ََج َم من قصور أكثر الملوك‪َّ ..‬‬ ‫بل وجدت فوق ذلك َّ‬
‫نبت نابت ه في فن اء حص ونهم‪ ،‬ب ل في قص ورهم نبعت عي ون الف واحش والج رائم‪ ،‬ومن‬
‫حصونهم انفجرت ينابيع الظلم والعدوان‪ ،‬وعلى أي ديهم تف اقم ك ل ش رّ‪ ،‬ومن أخالقهم َس َرت‬
‫العدوى إ َلى أخالق الناس‪ ،‬و ِل َفساد قلوبهم وسوء أعمالهم اتسع الـخَرْق ع َلى الراقع ح تى أعي ا‬
‫األطباء داء المجتمع البشري‪.‬‬
‫وقد دعاني ذلك إلى تساؤل غيرت به منهج بحثي‪..‬‬
‫لقد قلت لنفسي‪ :‬إن كل هؤالء الذين مألت بهم س جلك ال عالق ة لهم بم ا تبحث عن ه‪..‬‬
‫أنت كمن يبحث في قوائم المهندسين عن طبيب‪ ..‬أو في قوائم األطباء عن مهندس‪..‬‬
‫نعم‪ ..‬إن هؤالء لهم شهرتهم التي مألت اآلفاق‪ ..‬ولكنهم لم يشتهروا بأنهم وس طاء بين‬
‫هللا وعب ادهم‪ ..‬ولم يق ل أح د منهم‪( :‬إني رس ول ي وحى إلي)‪ ،‬ولم ي زعم أح د منهم أن لدي ه‬
‫الترياق الذي يعالج به كل ما تحتاجه البشرية من ألوان العالج‪.‬‬
‫وقد دعاني ذلك إلى البحث عن كل من له عالقة بدين‪ ..‬أو يزعم لنفس ه‪ ،‬أو ي زعم ل ه‬
‫أتباعه أن له عالقة بالمبدع الذي أبدع كل شيء‪.‬‬

‫‪243‬‬
‫وقد وجدت في بداية بحثي أن البشرية لم تستنر في جميع عهودها إال بهؤالء‪ ..‬وأنه ال‬
‫قيمة تذكر للملوك‪ ،‬ومن داناهم أو زاد عليهم بجنب هؤالء‪..‬‬
‫لقد وجدت أن يد األيام عبثت ـ كما يشهد التاريخ ـ بالراجا (أشوكا) ملك (ﭘاتلي ﭘات ر)‪،‬‬
‫بق يد ال ِب َلى من أوامره وأحكامه إاَّل ص خورًا منقوش ة وحجـارة منحـوتة‪ ..‬أم ا (ب وذا)؛‬ ‫ولم تُ ِ‬
‫فإنه ال يزال يحكم القلوب‪ ،‬وسُننه وقوانينه ال يزال كث ير من الن اس َي دينون له ا ويُط أطؤون‬
‫الرّؤوس لـحُرْمتها‪.‬‬
‫َ‬
‫ووجدت أن أوامر ملوك (أجين) و(هستاﭘور) في دلهي وقنوج أ ْم َست أث رًا بع د عين‪،‬‬
‫بل د ََر َست آثارهم و َع َفت أعالمهم‪ ،‬وأصبحت ديارهم كأطالل خولة‪ ..‬أم ا (ده رم شاس تر) ـ‬
‫وهو كتاب العقائد الَّ ِذي جاء به ( ِمنو) ـ فال زال باقيًا ناف ًذا أمره‪.‬‬
‫ووجدت أن الملك (حمورابي) من مل وك باب ل ك ان أول َمن َس ّن الق وانين‪ ،‬ولكن أين‬
‫أوامره وأحكامه؟! لقد نسجت عليها العنكبوت منذ زمان طويل‪ ،‬ولم تدع يد ال ِب َلى من قوانين ه‬
‫وأحكامه شي ًئا‪ ..‬أما تعاليم نبي هللا إبراهيم فما َب ِر َحت غَضَّة َ‬
‫ط ِريَّة‪.‬‬
‫نبـي هللا‬‫ّ‬ ‫ض حُو َكة‪ ..‬أمـا‬ ‫ُ‬
‫ووج دت ( ِفرْ َع ون) ودع واه (أن ا ربكم األعلى) أصبـحت أ ْ‬
‫موسى؛ فإنَّه يسود نوازع القلوب‪ ،‬ويملك أهواء النفوس‪ ،‬و َي دين ل ه كث ير من الن اس‪ ،‬وتُ َس ِّلم‬
‫آلياته وبيناته طوائف غير قليلة‪.‬‬
‫ووجدت قوانين (سولون) زال العمل بها وشي ًكا‪ ،‬بينم ا الت وراة المنزل ة من الس ماء ال‬
‫تنفك أحكامها وقوانيها تجد من يخضع لها‪ ،‬وبتعبد بها‪.‬‬
‫ووجدت (القانون الروماني) الَّ ِذي َع َّد المسيح جانيًا مجر ًما‪ ،‬واعتبره قد اجترح الس وء‬
‫وأتي ذنبًا؛ قد خلت القرون تسفيه برياحها؛ فأصبح هشي ًما مضمحاًل ‪ ..‬أما المسيح؛ فإن تعليمه‬
‫ـجلَّي به ظلمات القلوب‪ ،‬وهُدًى ت َْطهُ ر ب ه نف وس الم ذنبين‪ ،‬وتُ زَ َّكي ب ه أرواح‬ ‫ال يزال نورًا تُ َ‬
‫المجرمين‪.‬‬
‫ْص ر) ال روم‬ ‫سْرى)الفرس ودولته وجبروت ه‪ ،‬و( َقي َ‬ ‫ووجدت (أبا جهل) وكبرياءه‪ ،‬و( ِك َ‬
‫وحكومته وطغيانه‪ ..‬ق د ط وى ال دهر ص حائفهم‪ ،‬وطمس ت األق دار د َُولهم‪ ،‬وته دم مج دهم‪،‬‬
‫وس نَّته‬‫حُكمه ما زال باقيًا ع َلى الدهر‪ ،‬وأوام ره ناف ذة‪ُ ،‬‬ ‫فإن ْ‬
‫وذهبوا أدراج الرياح‪ ..‬أما محمد؛ َّ‬
‫ُمتَّبعة في كل زمان ومكان‪.‬‬
‫لكني بعد أن وصلت إلى هذه القناعة وقفت حائرا في اإلنسان ال ذي أتبع ه من ه ؤالء‬
‫جميعا‪..‬‬
‫لقد خيل لي في البدء‪ :‬أنه يمكنني أن أعت برهم جميع ا س رجا أستض يء به ا‪ ،‬وأس لك‬
‫سلوكها‪ ..‬لكني وجدت التناقض بين أتباعها حادا بحيث ال يستطيع أحد أن ينضم إلى جهة إال‬
‫إذا ترك ما عداها‪.‬‬
‫وقد جعلتني تلك الحيرة أبحث عن المنهج ال ذي أتع رف ب ه على األح ق منهم جميع ا‬
‫بأن يكون اإلنسان الكامل الذي أبحث عنه‪.‬‬
‫وقد هداني إلى بعض هذا المنهج لقاء يس ره هللا م ع الش اعر ط اغور‪ ..‬ذل ك أني كنت‬
‫أمتطي الب اخرة (كروكودي ا) ـ الَّ ِتي ركبناه ا في عودتن ا من مص ر والحج از‪ ،‬في (ش باط‬
‫‪ )1924‬ـ وقد اجتمعنا فيها عرضًا بالدكتور طاغور ـ الشاعر الذائع الصيت ـ وكان قافاًل من‬

‫‪244‬‬
‫سياحته في أمريكا؛ فسأله بعض رفقته‪ :‬ما بال ِنحْ َلة (برهمو سماج) أخفقت في مس اعيها ولم‬
‫ومن مبادئه ا‬‫تنجح‪ ،‬م ع أنه ا أنص فت األدي ان‪ ،‬وجمعت الحس نات‪ ،‬وس المت جمي ع ال ِم َل ل‪ِ ،‬‬
‫وأصولها أن الديانات كلها ع َلى حق‪ ،‬وأن جميع المصلحين من األنبي اء والرس ل واله داة هم‬
‫خيار الناس وصلحاؤهم‪ ،‬ثم إنها ليس فيها ما يُخالف العقل‪ ،‬أو يعارض المدنية الحاضرة‪ ،‬أو‬
‫يناوئ الفلسفة الحديثة‪ ،‬وصاحب ه ِذ ِه ال ِّنحْ َلة قد راعى فيها الظروف الراهنة والشئون المألوفة‬
‫اآلن‪ ،‬ومع ذلك كله لم تنل من الفوز شي ًئا‪ ،‬ولم يُتَح لها من النجاح قليل وال كثير!؟‬
‫فأجاب الشاعر على البديهة‪( :‬إن ال ِّنحْ َلة لم يكن له ا داعي ة ي دعو الن اس إليه ا بس يرته‬
‫الكاملة وهديه العالي‪ ،‬ولم يكن لها لسان يدعو ُمؤَ ِّيدًا بعمل يص دِّقه؛ فته وي إلي ه أفئ دة الن اس‬
‫وتطمح إليه أبصارهم‪ ،‬ويكون لهم من الدعاة أسوة يأتسون بها‪ ،‬وقدوة يقتدون بها)‬
‫لقد جعلني كالمه هذا أضع تصورا عن هذا اإلنسان الذي هو حقيق بأن يكون واسطة‬
‫بين هللا وعباده‪.‬‬
‫فأول شروطه أن تجتمع في ه جمي ع أل وان الكم ال‪ ،‬وأن يك ون مح ل ق دوة في جمي ع‬
‫النواحي التي يحتاجها البشر في جميع مناحي حي اتهم‪ ..‬ليتق ولب البش ر في قالب ه‪ ..‬ويتحول وا‬
‫إلى نسخة عنه‪ ..‬فيسري إليهم من كمالهم ما يملؤهم بالكمال‪.‬‬
‫ولكن هذا الشرط يستدعي شرطا آخر‪ ..‬وهو أن يحفظ هللا كل ما يرتبط بهذا اإلنسان‪..‬‬
‫بحيث ال تضيع منه صغيرة وال كبيرة‪ ..‬فال يمكن للبشر أن يقتدوا إال بمن يعرفون سيرته في‬
‫جميع أحواله ومواقفه‪.‬‬
‫وقد جعلني هذا أختصر رحلتي في البحث عن هذا اإلنسان‪ ،‬بالبحث عن البش ر ال ذي‬
‫تحقق فيهم هذان الشرطان(‪.)1‬‬
‫سكت قليال‪ ،‬ثم قال‪ :‬لقد ب دأت أبحث في جمي ع م واريث البش رية عمن تحققت حيات ه‬
‫بالشرط األول‪ ..‬فال يمكن أن أتعرف على الثاني إال بعد أن أتعرف على األول‪.‬‬
‫قال رجل من الجمع‪ :‬فماذا وجدت؟‬
‫قال‪ :‬لقد ب دأت بأق دم األمم عه دًا‪ ..‬هن ادك الهن د‪ ..‬لق د وج دت في ت اريخهم مئ ات ِمن‬
‫العظماء والنابهين‪ ..‬فرحت أبحث عن تفاصيل سيرهم ألعرف كيف أص ير ك امال باالقت داء‬
‫بهم‪..‬‬
‫لكني وجدت التاريخ أعجز من أن يعرفني بهم‪ ..‬لقد وجدت أن الكث ير منهم ال يع رف‬
‫الناس ِمن ش ؤون حي اتهم وحق ائق أح والهم إاَّل أس ماءهم‪ ،‬وهم ال يحظ ون في كتب الت اريخ‬
‫بمكانة؛ وإنما تُ َع ّد سيرتهم ِمن علم األساطير وخرافات الوثنية‪..‬‬

‫‪ )(1‬عبر السيد سليمان الندوي عن هذه الشروط بقوله‪ّ :‬‬


‫(إن حياة العظيم الَّ ِتي يجدر بالناس أن يتَّ ِخذوا منه ا ق دوة لهم‬
‫في الحياة؛ ينبغي أن تتوفَّر فيها أربع خصال‪:‬‬
‫‪1‬ـ أن تكون تاريخيّة؛ أي‪ :‬أن التاريخ الصحيح الممحّ ص يصدِّقها ويشهد لها‪.‬‬
‫‪2‬ـ أن تكون جامعة؛ أي‪ :‬محيطة بأطوار الحياة ومناحيها وجميع شؤونها‪.‬‬
‫متسلسلة‪ ،‬ال تنقِص شيئًا من حلقات الحياة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪3‬ـ أن تكون كاملة؛ أي‪ :‬أن تكون‬
‫(‪)4‬ـ أن تكون عمليّة؛ أي‪ :‬أن تكون الدعوة إلَى المبادئ والفضائل والواجبات بعمل الداعي وأخالقه‪ ،‬وأن يك ون ك ل‬
‫ما دعا إليه بلسانه قد حقّقه بسيرته‪ ،‬و َع ِم َل ب ه في حيات ه الشخص يّة والعائليّ ة واالجتماعيّ ة؛ فأص بحت أعمال ه ُمثُاًل ع ُْلي ا‬
‫للناس يأتَسون بها)‪ ..‬وقد رأينا اختصارها في الشرطين اللذين ذكرناهما‪.‬‬

‫‪245‬‬
‫تركت الهند ألذهب إلى فارس حيث صادفت زرادشت ـ صاحب الديان ة المجوس ية ـ‬
‫ظ ًما عند كث ير من أتباع ه‪ ..‬وبحثت في الت اريخ عن ه وعن تفاص يل حيات ه‪ ..‬لكن‬ ‫ووجدته ُم َع َّ‬
‫التاريخ لم ينبئني من نبئه ما يرضي غليلي‪ ..‬ب ل إن الت اريخ لم يكش ف الحج اب عن وج وده‬
‫سرا غامضًا ِمن أسرار التاريخ‪ ،‬ح تى ش ك بعض الم ؤرخين من‬ ‫الحقيقي بعد‪ ..‬فهو ال يزال ًّ‬
‫األمريكين واألوروبيين في نفس وجوده!‬
‫وعذري الذي جعلني أنفر من كل ذلك هو أني وصلت إلى قناعة ال يزعزعه ا الش ك‬
‫بأن اإلنسان الذي يختاره هللا لهذه الوظيفة العظيمة سيكون محفوظا في وجه كل األعاصير‪..‬‬
‫حتى تبقى سيرته وذكراه منارة يهتدي بها الجميع‪.‬‬
‫بعد أن يئست من زرادشت سرت نحو ب وذا‪ ..‬وق د وج دت أن البوذي ة أق دم األدي ان‪،‬‬
‫وأوسعها نطا ًقا‪ ،‬وأكثرها انتشارًا في سالف األيام‪ ،‬فقد ك ان له ا س لطان ع َلى الهن د والص ين‬
‫وآسيا الوسطي وأفغانستان وتركستان‪ ،‬وال تزال إ َلى اآلن في سيام والصين والياب ان وتبت‪..‬‬
‫وغيرها من دول العالم‪.‬‬
‫وقد دعاني ذلك إلى البحث عن بوذا‪ ..‬وكان أول سؤال سألته‪ :‬ه ل يُقيم الت اريخ وز ًن ا‬
‫لوجود بوذا؟ وهل َي ْق ِدر مؤرخ ع َلى أن يعرض للناس صورة حقيقية لتاريخه؟ وهل يس تطيع‬
‫كاتب أن يصف ظروفه وأحواله الَّ ِتي كان عليها في حياته وص ًفا ك اماًل ال يغ ادر ش ي ًئا ـ من‬
‫تحديد زمن ميالده‪ ،‬ووطنه‪ ،‬وأصول دينه كما دعا هو إليه‪ ،‬ومبادئ دعوته وأهدافها ـ؟‬
‫وبحثت في بطون التاريخ‪ ،‬وفي بطون الكتب المقدسة للبوذيين عن جواب علمي لهذا‬
‫السؤال‪ ..‬فوجدت أن الجواب عن كل ذلك محجوب عن علم الناس بظلمات كثيف ة متراكم ة‪،‬‬
‫وكل ما أمكن للباحثين أن يعرفوه هو أنهم حاولوا تعيين زمان وجوده بحوادث راجوات بالد‬
‫ارن زمن ه ؤالء الراج وات‬ ‫وتس نَّى لم ؤرخ أن يُق ِ‬
‫(مك ده)‪ ،‬ولم يكن لهم س بيل س وى ذل ك‪َ ،‬‬
‫بملوك اليونان الَّ ِذين كانت بينهم وبين راجوات مكده روابط‪.‬‬
‫وهذه المعارف‪ ..‬وغيرها مما اكتنف بظلمات األوهام واألساطير‪ ..‬لم يكف ني للتع رف‬
‫على ب وذا‪ ..‬فانص رفت عن ه إلى (كونفوش يوس) ـ ص احب ال ِّنحْ َل ة المعروف ة في الص ين ـ‬
‫ألبحث في حياته كما بحثت في حياة غيره‪ ..‬لكني وجدت أن المعلومات الواردة عنه أق ل من‬
‫المعلومات الواردة عن بوذا‪ ،‬مع أن المنتسبين لطريقته الدينية يبلغ عددهم مئات الماليين‪.‬‬
‫فانصرفت عنهم‪ ..‬وعن هذه المنطقة جميعا‪ ..‬وصوبت وجهي نحو البالد التي س ميت‬
‫بالد األنبياء‪ ..‬وسمعت بها أسماء كثير من األنبياء مما تمتلئ بذكرهم األسفار المقدسة لليه ود‬
‫والمسيحيين‪..‬‬
‫ورحت أستعمل المنهج العلمي في البحث‪ ..‬وال ذي اس تعملته م ع ك ل العظم اء ال ذين‬
‫سبق ذكرهم‪ ..‬فوجدت أن أسفار اليهود الَّ ِتي تضمنت سير هؤالء األنبي اء ق د خ الج المحققين‬
‫من العلماء ضروب من الشك في كل ِس ْفر منها(‪.)1‬‬
‫وجُم َعت‬
‫فأحوال موسى المذكورة في أسفار التوراة ـ حس بما يؤك د الب احثون ـ د ُِّونَت ِ‬
‫بعد موسى بقرون كثيرة‪ ..‬وأحوال المسيح وس يرته مكتوب ة في األناجي ل‪ ،‬واألناجي ل ـ كم ا‬

‫‪ )(1‬انظر رسالة (الكلمات المقدسة) من هذه السلسلة‪.‬‬

‫‪246‬‬
‫تعلم ون ـ كث يرة‪ ،‬غ ير أن أكثري ة المس يحيين اقتص رت ع َلى أربع ة أناجي ل‪ ،‬أم ا (إنجي ل‬
‫الطفولة) و(إنجيل برنابا) وغيرهما فال يعتبرونهم ا‪ .‬وم ع ذل ك؛ ف إن اإلناجي ل األربع ة الَّ ِتي‬
‫اقتصروا عليها لم َي ْل َق أحد ِمن الَّ ِذين جمعوها المسيح‪.‬‬
‫وبحثت َع َّمن َر َووا ه ِذ ِه األناجيل؛ فوج دت الت اريخ يجه ل ذل ك ك ل الجه ل‪ ..‬وي زداد‬
‫الم رء ش ًّكا إذا توص ل إ َلى حقيقي ة أخ رى؛ وهي‪ :‬أن الرج ال األربع ة المنس وبة إليهم ه ِذ ِه‬
‫األناجيل األربعة ال يمكن القطع يقي ًنا بأنهم هم الَّ ِذين جمعوها في الواقع‪ ..‬فإذا كان األش خاص‬
‫المنس وبة إليهم ه ِذ ِه األناجي ل ال يطمئن الت اريخ إ َلى ص دورها عنهم؛ فكي ف يطمئن إ َلى‬
‫صحتها؟‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫وزاد الطين بلة أني وج دت الجه ل مطبق ا باللغ ة ال ِتي ُك ِتبت به ا ه ِذ ِه األناجي ل في‬
‫األصل‪ ،‬وفي أي زمان ُك ِت َبت! فقد اختلف ُم َف ِّس روا األناجي ل اختال ًف ا ش ديدًا في تع يين زم ان‬
‫فمن قائ ل أنه ا ُك ِتبت س نة ‪ 60‬للميالد‪ ..‬و ِمن قائ ل أنه ا جمعت بع د ذل ك‬ ‫جمعه ا وت دوينها‪ِ :‬‬
‫التاريخ بكثير‪..‬‬
‫لقد نفضت يدي من كل هؤالء بعد أن علمت أنه ال يوجد في التاريخ ما يجلي س يرتهم‬
‫ويرسم حياتهم لتصير منهاجا للبشرية تهتدي به‪.‬‬
‫نعم كنت أكن لهم كل االحترام والتقدير‪ ..‬ولم يكن يعتريني الشك الذي اع ترى أولئ ك‬
‫الباحثين حول وجودهم‪ ..‬ولكني كنت أقول لهم بكل تواضع‪ :‬أعلم أنكم عظم اء‪ ..‬وأنكم خ يرة‬
‫هللا من خلق ه‪ ..‬ولكن اع ذروني على أني لم أنتهج نهجكم‪ ..‬فليس ذل ك احتق ارا ل ه وال لكم‪..‬‬
‫وإنما ألنه ليس لدي من العلم بكم ما يمكنني من ذلك‪.‬‬
‫لقد قلت لهم ـ ولعلهم في غياهب الغيب قد سمعوني‪ ،‬وع ذروني ـ‪ :‬كي ف يمكن اتخ اذ‬
‫األسوة الكاملة الَّ ِتي تطمئن لها القلوب إن لم تكن جميع نواحي الحي اة في الشخص ية ال ُمقت دَى‬
‫بها معلومة‪ ،‬وليس فيها ما يجهله الناس‪ ،‬وما هو مكتوم عنهم وراء حجب التاريخ‪.‬‬
‫إن ال ُمقتدَى به والذي َيتخذ الناس ِمن حياته أسوة ال ُب َّد أن تك ون حيات ه كله ا واض حة‬
‫صافية كالمرآة‪ ،‬ليلها كنهاره ا؛ لتت بين للن اس ال ُمثُ ل العُلي ا الَّ ِتي يحت ذونها في حي اتهم بجمي ع‬
‫أطوارها ومناحيها‪.‬‬
‫لقد قلت مخاطبا بوذا‪( :..‬اعذرني يا ب وذا‪ ..‬فم ع أن ع دد المنتس بين إلي ك رُب ع س كان‬
‫المعمورة‪ ،‬إال أن التاريخ لم يحفظ ِمن سيرتك إاَّل ع دة أقاص يص وحكاي ات؛ ل و أنن ا نق دناها‬
‫بمقاييس التاريخ ـ لنتخذ ألنفسنا قدوة من حياتك وسيرتك ـ لخرجنا ِمن ذلك خاسرين)‬
‫وقلت مخاطبا زردشت‪( :‬إن المعلومات التي وردتنا عنك قليلة باهتة متناقضة‪ ..‬فلس نا‬
‫ن دري أيه ا أنت‪ ..‬ه ل أنت زرادش ت الَّ ِذي عرفن اه ِمن أبي ات ش عرية في (كاث ا)‪ ،‬أو أن ك‬
‫زرادشت الَّ ِذي نراه في (وستا) الجديدة‪ ..‬وخالصة ما نعلمه عنك ـ إن صح ـ هو أن ك ُو ِل دت‬
‫في مقاطعة أذربيجان‪ ،‬ونَشرت دعوتك في بلخ وأطرافه ا‪ ،‬وأن المل ك (هشتاس ب) دخ ل في‬
‫وو ِلد لك أوالد‪ ،‬ثم تُوفيت بع د ك ل ذل ك‪..‬‬ ‫ِدينك‪ ،‬ثم ظهرت ع َلى يدك معجزات‪ ،‬وقد تزوجت ُ‬
‫فهل يمكن لهذه المعلومات الضئيلة أن تتأسس عليها حياة أحد من الناس)‬
‫وقلت مخاطبا موسى‪( :‬اعذرني يا موس ى‪ ..‬ال ش ك أن ك عظيم من العظم اء‪ ،‬وأن هللا‬
‫اختارك في يوم من األيام لتكون واسطة بينه وبين عباده‪ ..‬والشك أنك ِمن أكثر األنبياء ِذك رًا‬

‫‪247‬‬
‫وأوضحهم حياة‪ ..‬ولكن حياتك مع وضوحها التكفي لتبنى عليها حياتنا‪ ..‬إن األسفار الخمس ة‬
‫ِمن التوراة التي فصلت تفاصيل حياتك ـ بغض النظر عن ذلك االنقطاع الخطير في س ندها ـ‬
‫ال تكفي التخاذك أسوة)‬
‫نظ ر س ليمان إلى الجم ع‪ ،‬وق ال‪ :‬ال ش ك أن فيكم يه ودا ومس يحيين‪ ..‬وال ش ك أنهم‬
‫يعرف ون أن األم ور الَّ ِتي ك ان يحت اج البش ر إ َلى معرفته ا ِمن حي اة موس ى االجتماعي ة هي‬
‫األخالق والعادات والهدي‪ ،‬وكل ذلك ال نجده في سيرته‪.‬‬
‫ْ‬
‫أما ِذكر أسماء الرجال وأنسابهم وأم اكنهم وبالدهم وع ددهم فمم ا ال يهمن ا ِعلم ه في‬
‫مقام القدوة واألسوة والهداية‪ ،‬مع أنه هو الَّ ِذي نراه مفصاًل في التوراة‪ ..‬وكذلك نرى فيها شي ًئا‬
‫كثيرًا ِمن القوانين والمبادئ واألصول‪ ،‬لكن ه ِذ ِه األمور والتي سبقتها مهما تكن أهميته ا عن د‬
‫علماء الجغرافيا واألنساب والحقوق؛ فإنها ال تعنينا نحن ِمن جهة األسوة والق دوة في الحي اة‪،‬‬
‫وال تَس ّد الخلل الواقع في سيرة موسى ِمن ه ِذ ِه الناحي ة الَّ ِتي ال يكم ل بيانه ا إاَّل ب ِذ ْكر أخالق ه‬
‫وشؤون حياته وأحواله في معاشـرته؛ وهـو مـا ال بُ َّد منه ليتخذه البشر ِمثااًل يعمل به‪.‬‬
‫سكت قليال يستجمع أنفاسه‪ ،‬وقال‪ :‬وهكذا سرت أبحث عن كل نبي من األنبياء إلى أن‬
‫وصلت إلى المسيح‪ ..‬المسيح الَّ ِذي يزيد عدد المنتسبين إليه ـ بحس ب إحص اءات األورب يين ـ‬
‫ع َلى عدد المنتسبين إ َلى الديانات األخرى‪.‬‬
‫لقد استغربت كثيرا حين علمت بعد جهد جهيد أن شؤون حياته وأحوال معيشته أخ َفى‬
‫من غيره وأغمض‪.‬‬
‫لقد استفرغ العالمة رينان جهده؛ ولقي من العن اء والنص ب مبل ًغ ا عظي ًم ا ليق ف ع َلى‬
‫حياة المسيح كاملة تامة؛ ومع ذل ك؛ ف إن ش ؤون المس يح وأحوال ه ال ت زال س ًّرا مكنو ًن ا في‬
‫ضمير الزمن لم َيبُح به لسانه بعد‪.‬‬
‫أين قضى المسيح الثالثين ـ أو الخمس والعشرين سنة (ع َلى األقل) ـ من حيات ه؟ وفي َم‬
‫قضاها؟ وبأي األعمال شغل هذا الفراغ الواسع من عمره؟‬
‫إن الدنيا ال تعلم عن ذلك ش ي ًئا ولن تعلم‪ ..‬وح تى الس نوات الثالث األخ يرة م اذا نج د‬
‫ص ِلب؛ ف انطوت ص حيفة‬ ‫العظ ات‪ ..‬ثم قي ل إن ه ُ‬ ‫فيها؟‪ ..‬آيات ومعجزات معدودات‪ ،‬وبعض ِ‬
‫حياته‪.‬‬
‫سمعت بعض الجلبة في القاعة أحس بها السيد سليمان‪ ،‬فراح يقول‪ :‬اعذروني‪ ..‬أن ا لم‬
‫أقل إال ما وصلت إليه‪ ..‬وإن ك ان فيكم من لدي ه من العلم م ا ي دلني ب ه على مخطوط ات ق د‬
‫تكون غابت عني‪ ..‬فيها تفاص يل أك ثر عن المس يح‪ ،‬أو عن غ يره من األنبي اء‪ ..‬فأن ا مس تعد‬
‫لسماعها‪ ،‬بل مسرور بذلك‪ ..‬ولكن ذلك لم يكن‪ ..‬ولن يكون‪.‬‬
‫أنا ال أقول ما أقول جُزا ًفا‪ ،‬وادعاء مني ألج ل عقي دة لي خاص ة أعتق دها؛ وإنم ا هي‬
‫حقيقة يشهد لها التاريخ‪ ،‬وتؤيدها البراهين والدالئل‪.‬‬
‫َّ‬
‫إن العقل السليم يدل ـ بشواهد كثيرة ال يمكن إحصاؤها ـ على أن السيرة ال ِتي يح ق أن‬
‫يتخ ذ الن اس ِمنه ا أس وة حس نة ومثاًل أعلى؛ ي ُْش تَرط له ا قب ل ك ل ش يء أن تك ون س يرة‬
‫(تاريخية)‪ ،‬أما السيرة القائمة ع َلى أساطير ال تدعمها الروايات الموث وق بص حتها؛ ف إن من‬
‫طبيعة اإلنسان أن ال يتأثر بما يُحْ َكى له من سيرة لشخص ية مفترض ة ال يع رف له ا الت اريخ‬

‫‪248‬‬
‫اخت َل ق له ا المن اقب أن اسٌ أحس نوا الظن به ا‪ ،‬ورفع وا مكانه ا‪ ،‬وق د‬ ‫أص اًل ص حيحًا؛ وإنم ا ْ‬
‫َّ‬
‫َي ْخدَعون بهذه المن اقب بعض الن اس أم دًا قص يرًا حين يعرض ونها عليهم في حُ لة قش يبة من‬
‫األلفاظ‪ ،‬وثوب قشيب من العبارات‪ ،‬ثم ال تلبث الحقيقة أن تظه ر من وراء غالئ ل األوه ام؛‬
‫ُعْرض الناس عنها إعراضًا؛ ألنها قامت ع َلى غير أساس من التاريخ‪.‬‬ ‫في ِ‬
‫ال بُ َّد لكل سيرة من سير الكمال اإلنساني يدعى الناس إ َلى اإلقتداء بها واتخاذها أسوة؛‬
‫أن يدعمها التاريخ ويشهد له ا المحقق ون؛ وله ذا ن رى النف وس البش رية ال تت أثر باألس اطير‬
‫واألوهام كتأثرها بحوادث التاريخ والرواي ات الثابت ة عن الثق ات األثب ات؛ وذل ك ألن س يرة‬
‫ويروح وا به ا عن‬ ‫ِّ‬ ‫عرض ع َلى الناس ليشغلوا به ا أوق ات ف راغهم‪،‬‬ ‫الرجل العظيم الكامل ال تُ َ‬
‫عرض عليهم لي ُْدعوا إ َلى اإلقتداء بها‪ ،‬واتخاذها نبراسًا‬‫أنفسهم في حالة ال َملل أو الضجر؛ بل تُ َ‬
‫لحياتهم‪.‬‬
‫قال رجل من الجمع‪ :‬قد وعينا ما ذكرته‪ ..‬ونحسب أنا ال نخالفك فيه‪ ..‬ولكن هل يمكن‬
‫أن يكون هن اك بش ر على ه ذه األرض حف ظ الت اريخ من س يرته م ا يمكن أن يك ون من ارة‬
‫تهتدي به ا البش رية؟‪ ..‬ثم يك ون حف ظ الت اريخ لس يرته خالي ا من ك ل خراف ة بعي دا عن ك ل‬
‫أسطورة‪.‬‬
‫قال سليمان‪ :‬أجل‪ ..‬المنطق السليم يدل على ضرورة وجود مثل هذا الرجل‪ ..‬فالخ الق‬
‫المدبر الذي دبر كل شيء يستحيل أن ال يدبر هذا‪ ..‬فحي اة البش ر جميع ا واس تقامتهم تتوق ف‬
‫على هذا‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬فهل وجدته؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬بعد أن فرغت من كل من س مع بهم الع الم من العظم اء من رج ال ال دنيا‬
‫والدين‪ ..‬صوبت وجهي نحو محمد‪..‬‬
‫قالوا‪ :‬فلم أخرته؟‪ ..‬ولم لم تبدأ به؟‬
‫قال‪ :‬لقد آثرت أن ال أبدأ به حتى ال يقف بي التقليد دون مواصلة البحث‪ ..‬وقد كان من‬
‫رحمة هللا أن كان نهاية بحثي‪ ،‬وخاتمة المسك التي مألتني بالطمأنينة واليقين‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬فحدثنا عن بحثك عنه‪..‬‬
‫قال‪ :‬لقد كان المنهج الذي تبنيته في هذا هو أن الحياة التي يبنبغي أن تنقل لن ا عن ه ذا‬
‫الذي هو واسطة بين هللا وعباده يشترط لها شرطان‪ :‬الصحة‪ ،‬والتفصيل‪.‬‬
‫أما الصحة‪ ..‬فلتفادي الخرافة واألسطورة‪ ..‬فال يمكن للعقل السليم أن يسلم لهما‪.‬‬
‫وأما التفصيل‪ ..‬فإن تفاصيل الحياة وعقدها ال يكفي فيها اإلجمال والغموض‪.‬‬
‫قالو‪ :‬فحدثنا عن الصحة‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد ب دأت بح ثي فيه ا‪ ..‬ف أخوف م ا يخ اف العاق ل على م ا يص ل إلي ه من العلم‬
‫األسطورة والخرافة واألهواء‪ ..‬فهي فيروسات خطيرة تحول من العلم جهال‪ ،‬ومن المعارف‬
‫دجال‪.‬‬
‫لقد رحت أبحث في المنهج الذي نقل ب ه المس لمون أخب ار ن بيهم وأحاديث ه وتفاص يل‬
‫حياته‪ ،‬فوجدت من ذلك ما لم أجده في جميع مناهج العالم‪..‬‬

‫‪249‬‬
‫لقد وقف العا َلم كله موق ف العجب واالس تغراب من ال ذين َو َقفُ وا حي اتهم من ذ عص ر‬
‫ض َبطوها بع دهم‬ ‫محمد ع َلى حفظ أقواله ورواية أحاديثه وكل ما يتعلق بحياته؛ أ َّدوها إ َلى من َ‬
‫وكتبوها‪ ،‬وصاروا يُ َس ّمون (راوة الحديث) أو (المحدِّثين) و(أصحاب السير)‬
‫قام رجل من الجمع‪ ،‬وقال‪ :‬ال نحسبك كاذبا فيما تق ول‪ ،‬وال م دعيا فيم ا ت ذكر‪ ..‬فنحن‬
‫نعلم م دى حرص ك على ص دق المعلوم ة‪ ..‬ونعلم م دى ح رص المس لمين عليه ا‪ ..‬وم دى‬
‫خوفهم من الكذب‪ ..‬فحدثنا عن الجانب الثاني الذي ال يمكن أن يتحقق الحفظ إال بوجوده‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬الج انب الث اني ه و التفص يل‪ ..‬فال يش ك أح د في ص دق الكث ير من األح داث‬
‫التاريخية‪ ..‬وال يشك أحد في الكثير من الشخصيات العالمية‪ ..‬ولكن المعلومات الواردة عنهم‬
‫ال تكفي لتجعلهم أسوة لغيرهم‪ ..‬فاألسوة تقتضي العلم‪ ..‬والعلم يقتضي التفصيل‪..‬‬
‫قالوا‪ :‬فما وجدت؟‬
‫قال‪ :‬لقد تتبعت ما ورد عن كل عظماء العالم ـ بغض النظر عن ص دق م ا ورد ـ فلم‬
‫أجد رجال اهتم الناس بكل ما في حياته من تفاصيل كاهتم امهم بمحم د‪ ..‬ح تى لكأن ه بينن ا ال‬
‫يزال حيا بكل ما في الحياة من معنى‪.‬‬
‫سأذكر لكم ـ باختصار ـ المصادر التي تناولت حياة محمد وتفاص يلها‪ ،‬لتعرف وا م دى‬
‫االهتمام الذي أواله العامة والخاصة لحياة محمد‪.‬‬
‫أول المصادر ـ بعد القرآن الذي سجل الكثير مما يرتبط بحياة محم د وس لوكه ـ كتب‬
‫ظت لنا من أقوال محمد وأفعاله وأحواله ما يبلغ مائة ألف حديث‪ ،‬وقد‬ ‫الحديث؛ وهي كتب َح ِف َ‬
‫امتاز الصحيح منها عن الضَّعيف والموضوع‪ ،‬والقويّ منها عن غير القويّ‪.‬‬
‫ازي‪ .‬ومعظم م ا فيه ا ِذ ْك ر الغ زوات النبو ّي ة‪ ،‬وق د تتض ّمن أم ورًا‬ ‫ومنه ا كتب المغ ِ‬
‫أخرى‪.‬‬
‫ومنها كتب التاريخ اإلسالمي العا ّم؛ الَّ ِتي تبتدئ بالسيرة النبوية‪.‬‬
‫ومنها الكتب الَّ ِتي ألفت في المعجزات؛ وتُ َس ّمى بكتب الدالئل‪.‬‬
‫ومنها كتب الشمائل؛ وهي مقصورة ع َلى ِذ ْكر أخالق محمد وعادات ه وفض ائله‪ ،‬وم ا‬
‫كان يعمل في يومه من الصباح إ َلى المساء‪ ،‬وفي ليله من المساء إ َلى الصباح‪.‬‬
‫ومنها الكتب الَّ ِتي ص ّنفها بعض العلماء المتقدِّمين في أحوال مك ة والمدين ة البالد ال تي‬
‫سكنها محمد‪ ،‬لقد ذكروا كل ما يرتبط بهذين البلدَين من بقاع وأماكن وأودية وجبال وخط ط‪،‬‬
‫وذكروا َمن تولَّى إمارتهما‪ ،‬بادئين بكل ما له عالقة بمحمد‪..‬‬
‫نظر إلى الجمع‪ ،‬واالبتسامة تعلو محي اه‪ ،‬وق ال‪ :‬أرأيتم ـ أيه ا الجم ع الك ريم ـ ح تى‬
‫الحجارة التي تشرفت بوطء محمد قدمه عليها حفظ التاريخ ذكرها‪ ..‬وال يزال يحفظه‪.‬‬
‫قال ذلك‪ ،‬ثم استأنف يقول‪ :‬لم تكن تلك الكتابات مجرد أوراق مخزنة على الرفوف ال‬
‫يلتفت لها أحد‪ ..‬لقد وجدت أنها الثقافة التي كانت تسود فترات كثيرة المجتمعات اإلسالمية‪..‬‬
‫أضف إلى ذلك كله اهتمام العالم كله بنشر كل ما يرتبط بمحمد‪ ..‬وكأن هناك يدا خفي ة‬
‫توجههم إلى ذلك‪.‬‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫لق د رأيت أن م ا ألف ه الن اس في س يرة محم د من عه د الرس الة إلى يومن ا ه ذا ـ في‬
‫واعتبر ذل ك بم ا‬‫باأللُوف‪ْ ،‬‬ ‫مختلف األوطان اإلسالمية واألجنبية‪ ،‬في معظم لُغات العالم ـ يُ َع ّد ُ‬

‫‪250‬‬
‫َص ر‬
‫أن األوردية لم ت ِ‬‫صُ ِّنف باللَّغة األوردية الحديثة وحدها في موضوع السيرة النبويـة ـ مع ّ‬
‫ص ِّنف به ا وح دها في الس يرة‬ ‫لغة تأليف إاَّل منذ قرنَين ع َلى األكثر ـ ؛ وفي تق ديري أن م ا ُ‬
‫النبوية يبلغ أل ًفا ـ إن لم َي ِزد عليه‪.‬‬
‫ولم تكن الكتابة حكرا على المسلمين‪ ..‬بل هناك الكثير ممن ألَّف في سيرة محم د ممن‬
‫ال يؤ ِمنون بنبوّته وال يو ِقن ون برس الته؛ فإنن ا نج د في الهن د نفس ها ع َلى اختالف ِم َلله ا ـ من‬
‫الهنادك والسيخ والبرهمو سماج ـ كثيرًا من علمائهم قد ألَّفوا في سيرته‪.‬‬
‫يؤمنون بالرسالة المحمدية ـ فق د ص ّنف‬ ‫أما األوربيون ـ الَّ ِذين ال يدينون باإلسالم وال ِ‬
‫المبش رون من دُع اة النص رانية والمستش ِرقون عناي ًة منهم‬ ‫ِّ‬ ‫منهم في س يرة محم د ح تى‬
‫َّ‬ ‫الع ْل ّ‬
‫مي‪ ،‬ويُ َع ّد ما ألفوه في ذلك بالمئات‪.‬‬ ‫بالتاريخ‪ ،‬وإروا ًء لظمإهم ِ‬
‫قال رجل من الجمع‪ :‬عرفنا الشرط األول‪ ..‬وانفراد محم د من بين ك ل عظم اء ال دنيا‬
‫بالتحقق به‪ ..‬فهل تحقق الشرط الثاني؟‬
‫قال‪ :‬بعد أن استيقنت ب أن الحي اة الوحي دة المحفوظ ة بك ل تفاص يلها هي حي اة محم د‬
‫وتعاليمه‪ ،‬رحت أبحث عن مدى تحققها بالكمال اإلنساني‪.‬‬
‫لقد كنت أدرك بأدل ة ال حص ر له ا ب أن هللا لن يخت ار إال اإلنس ان الكام ل‪ ..‬فالقاص ر‬
‫والعاجز والضعيف ال يمكن أن يكون قدوة لغيره‪ ..‬وال يمكن لغيره أن يسير سيره‪ ،‬أو يس تن‬
‫بسنته‪ ،‬وإال كان حاله كحال المريض الذي يتبع سيرة مريض‪ ..‬فح ري به ذا الم ريض أن ال‬
‫يزداد إال مرضا‪.‬‬
‫ثم بحثت في نواحي الكمال ال تي ي دعيها الكث ير‪ ..‬فوج دت أن الكم ال نوع ان‪ :‬كم ال‬
‫نظري‪ ،‬وكمال عملي‪ ..‬أما الكمال النظري‪ ،‬فهو الكمال المرتبط باألفك ار ال تي يحمله ا ذل ك‬
‫العظيم‪ ،‬أو هي المشروع الذي يحمله‪ ،‬ويدعو الن اس إلى تحمل ه‪ ..‬وأم ا الكم ال العملي‪ ،‬فه و‬
‫تطبيق العظيم لما يدعو إليه من سلوك‪ ،‬حتى يكون بسلوكه ترجمة عملية لكل ما يدعو له‪.‬‬
‫في تزود الن اس من خالل ه ذا العظيم جمي ع المع ارف العلمي ة والعملي ة‪ ،‬ب ل يرونه ا‬
‫أمامهم عيانا‪.‬‬
‫قال رجل من الجمع‪ :‬عرفنا هذا المنهج‪ ..‬ونحن نسلم بص حته‪ ..‬ب ل ال ن رى أن هن اك‬
‫من يخالفك فيه‪ ..‬فهل طبقته على العظماء الذين بحثت في سيرهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬لقد بدأت البحث من جديد‪ ..‬ف تركت ك ل م ا وص لت إلي ه من تل ك ال ثروة‬
‫الضخمة التي دلتني على أن محمدا هو اإلنسان الوحيد الذي حفظ هللا كل ما يرتبط به‪.‬‬
‫لقد قلت لنفسي‪ ،‬أو قال لي عقلي‪ :‬ربما يكون ما حفظ عن محمد ابتالء لإلنسان ليس ير‬
‫في طريق النقص والضعف واالنحط اط‪ ..‬وربم ا يك ون الش يطان‪ ..‬ال هللا‪ ..‬ه و ال ذي حف ظ‬
‫جميع تعاليمه‪ ،‬وجميع ما يرتبط به ليكون مادته ال تي يتوص ل من خالله ا إلى الوسوس ة إلى‬
‫البشر‪ ،‬ورميهم في حظيظ جهنم‪.‬‬
‫ولذلك بدأت في البحث عن الناحية الثانية‪ ..‬ناحية الكمال‪ ..‬وكأني لم أبحث في الناحي ة‬
‫السابقة‪ ..‬لقد عرفت أن الكمال النظري منحصر في أربعة أركان ال مناص منها جميعا‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬فما هي؟‬
‫قال‪ :‬هي اإليمان‪ ،‬والعبادات‪ ،‬والمعامالت‪ ،‬واألخالق‪.‬‬

‫‪251‬‬
‫قالوا‪ :‬فما وجه الحصر فيها‪.‬‬
‫قال‪ :‬لق د رأيت أن ه ال يكم ل ال دين ح تى يش تمل على أم رين‪ ،‬كالهم ا تتوق ف علي ه‬
‫حاجات اإلنسان المرتبطة بالدين‪ :‬أمر يتعلق بقلب اإلنسان؛ ويُ َس َّمى (اإليم ان)‪ ،‬وآخ ر يتعل ق‬
‫بجوارحه وبما يملكه؛ ويُدعَى (العمل)‬
‫ورأيت أن العمل ينقسم إ َلى ثالثة أقسام‪ :‬أولها يتعلق باهلل (وهو العبادة)‪ ،‬والثاني يتعلق‬
‫بما يتعاط اه الن اس بعض هم م ع بعض (وهي المع امالت)‪ ،‬ومعظمه ا الق وانين واألص ول‪،‬‬
‫والثالث يتعلق بآداب النفس وآداب المجتمع (وهي األخالق)‬
‫قالوا‪ :‬فحدثنا عن الركن األول‪.‬‬
‫قال‪ :‬بما أن اإليمان هو األصل الذي ينطلق منه العمل‪ ..‬فقد بدأت البحث فيه‪.‬‬
‫بدأت البحث عن حقائق الوجود والكون والحي اة واإلنس ان‪ ،‬وموق ف زعم اء األدي ان‬
‫منها‪.‬‬
‫قال رجل من الجمع‪ :‬فماذا وجدت؟‬
‫قال‪ :‬لقد وجدت أن الديانات التي اهتمت بهذه الجوانب نوعان‪:‬‬
‫نوع ال نجـد فيه ذكر هللا البتة‪ ..‬وكأنه ال وجود ل ه إطالق ا‪ ..‬ومن ه ذا الن وع دين ب وذا‬
‫ودين الصين؛ فليس فيهما ذكر هلل وال لصفاته‪ ،‬وليس فيهما فرائض وواجبات ع َلى اإلنس ان‪،‬‬
‫و ِمن باب أو َلى؛ ليس فيهما ذك ر للحبّ هلل وتوحي ده واإلخالص ل ه؛ فال ذي يبحث فيهم ا عن‬
‫ه ِذ ِه األمور ال يخرج من بحثه بشيء‪.‬‬
‫ونوع فيه ذكر هلل‪ ..‬ودعوة إلى اإليمان به‪ ..‬وق د وج دت من خالل البحث المستقص ي‬
‫عن حقائق ه ذا اإليم ان أن األدي ان الس ابقة لإلس الم‪ ،‬والَّ ِتي ك انت ت دعو إلى توحي د هللا؛ ق د‬
‫تطرَّق إليها الفساد في أمر التوحيد؛ لوجوه ثالثة‪ :‬األول‪ :‬التشبيه والتمثيل‪ ،‬أي‪ :‬أنهم قد ش بَّهوا‬
‫هللا بغيره من خلقه‪ ..‬والث اني‪ :‬أنهم جعل وا هلل ص فات منفص لة عن ه ومس ّ‬
‫تقلة‪ ..‬والث الث‪ :‬أنهم‬
‫وخ ِدعُوا بضروب من مصنوعات هللا وآثار مقدوراته‪.‬‬ ‫اغتَروا بكثرة المظاهر في العالم‪ُ ،‬‬
‫قال رجل من الجمع‪ :‬هذا ما حصل لسائر األديان‪ ..‬فكيف وجدت اإلسالم‪ ،‬وه ل وقي‬
‫شر هذه الثالثة؟‬
‫قال‪ :‬مع طول بحثي في المسألة‪ ..‬لم أجد دينا تمثل فيه التوحيد بأرفع صوره كما تمثل‬
‫في اإلسالم(‪ ..)1‬بل لو اعتبرنا اإلسالم هو الدين الوحيد الذي قال بالتوحيد‪ ،‬ونادى ب ه وأف رد‬
‫هللا باأللوهية‪ ..‬لم نكن كاذبين‪ ..‬فالتوحيد فيه عقيدة وحياة ومواجيد‪ ..‬وهو فيه مع ارف عقلي ة‪،‬‬
‫وطمأنينة قلبية‪ ،‬وأذواق روحية‪..‬‬
‫قال رجل من الجمع‪ :‬عرفنا هذا‪ ،‬وقد شوقتنا للبحث فيه‪ ..‬فح دثنا عن الج انب الث اني‪،‬‬
‫والذي يرتبط بعالقة اإلنسان بربه‪.‬‬
‫ب‬‫قال‪ :‬لق د وج دت أن ك ل األدي ان لم تخل و من العب ادة هلل‪ ،‬لكن األدي ان القديم ة َح ِس َ‬
‫أتباعُها أن الدِّين يطالبهم بإيذاء أجسامهم وتعذيبها‪ ،‬وأن الغرض من العب ادة إدخ ال األلم ع َلى‬
‫الجوارح‪ ،‬وأن الجسم إذا ازدادت آالمه كان في ذلك طهارة للروح ونزاهة للنفس‪.‬‬

‫‪ )( 1‬انظر التفاصيل الوافية الدالة على هذا في رسالة (الباحثون عن هللا) من هذه السلسلة‪.‬‬

‫‪252‬‬
‫وعن ه ِذا الفهم للعبادة نشأ التب ُّتل عند الهنادك‪ ،‬والرهباني ة عن د المس يحيين‪ ،‬وابت دعوا‬
‫من رياضات الجسم أنواعًا عجيب ة‪ ،‬أش دها ع َلى الجس م أفض لها عن دهم وأقربه ا إ َلى هللا في‬
‫زعمهم‪ :‬فمنهم َمن آل ع َلى نفس ه أاَّل يغتس ل ط ول حيات ه‪ ،‬وفيهم َمن يرف ع إح دى يدي ه في‬
‫وتجف‪ ،‬وكان بعضهم يحبس نفسه ما استطاع‬ ‫ّ‬ ‫الهواء ويب َقى كذلك طول عمره حتى تي َبس يده‬
‫ّ‬
‫وهو يح َسب أن ذلك من العبادة‪ ،‬وال يزال في الهند َمن يتعلق بشجرة من ِّكسًا رأسه إ َلى تحت‪.‬‬
‫ضحكت الجماعة المحيطة به‪ ،‬فقال‪ :‬ال تضحكوا‪ ..‬هذا واقع‪ ..‬وهو ليس واقعا نش ازا‪،‬‬
‫بل هو واقع زاحم الحياة البشرية في كل عهودها‪.‬‬
‫ق ال رج ل من الجم ع‪ :‬نحن في الهن د‪ ..‬ونحن ال نس تغرب مث ل ه ذا‪ ..‬فح دثنا عن‬
‫التشريعات التي جاء بها محمد لتبين للناس كيف يعبدون هللا‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد رأيت كل التعاليم التي جاء بها محمد‪ ،‬والتي امتألت به ا النص وص المقدس ة‬
‫التي جاء بها تركز على المعاني الروحية في العبادة دون مبالغة فيما يرتبط بها من طقوس‪..‬‬
‫لقد خاطب محمد أمته بقوله لها‪( :‬إن هللا ال ينظر إ َلى صوركم وأموالكم؛ بل ينظر إ َلى قل وبكم‬
‫وأعمالكم)(‪)1‬‬
‫ورأيته يبدأ‪ ،‬فينهى عن تكليف الناس بما ال تطيق‪ ،‬يقول الق رآن‪ ﴿:‬ال يُ َك ِّلفُ هَّللا ُ َن ْفس اً ِإاَّل‬
‫ُو ْس َع َها ﴾ (البقرة‪ ،)286 :‬ويقول‪ ﴿:‬ال يُ َك ِّلفُ هَّللا ُ َن ْفساً ِإاَّل َما آتَاهَا﴾ (الطالق‪)7 :‬‬
‫ولهذا أنكر اإلسالم الرهبانية التي تعتبر تعذيب الجس د عب ادة‪ ،‬واعتبره ا بدع ة‪ ،‬ق ال‬
‫ب‬ ‫يس ى اب ِْن َم رْ َي َم َوآ َت ْي َن ا ُه اأْل ِ ْن ِجي َل َو َج َع ْل َن ا ِفي قُلُ و ِ‬ ‫القرآن‪ ﴿:‬ثُ َّم َقفَّ ْينَا َع َلى آ َث ِ‬
‫ار ِه ْم ِبرُ ُس ِلنَا َو َقفَّ ْي َن ا ِب ِع َ‬
‫ان هَّللا ِ َف َم ا َرعَوْ َه ا‬ ‫ض َو ِ‬ ‫الَّ ِذينَ اتَّ َبعُو ُه َر ْأ َف ًة َو َرحْ َم ًة َو َر ْه َبا ِنيَّ ًة ا ْب َت َدعُوهَا َما َك َت ْبنَاهَا َع َل ْي ِه ْم ِإاَّل ا ْب ِتغَا َء ِر ْ‬
‫اسقُونَ ﴾ (الحديد‪)27:‬‬ ‫جْره ُْم َو َك ِثيرٌ ِم ْنه ُْم َف ِ‬ ‫ق ِرعَا َي ِت َها َفآ َت ْينَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا ِم ْنه ُْم َأ َ‬ ‫َح َّ‬
‫وأنكر على من أراد أن يحرم ما لم يحرم هللا‪ ،‬فقال‪ ﴿:‬قُلْ َم ْن َح رَّ َم ِزي َن َة هَّللا ِ الَّ ِتي َأ ْخ َر َج‬
‫ص لُ‬ ‫ص ًة َي وْ َم ْال ِق َيا َم ِة َك َذ ِلكَ نُ َف ِّ‬‫ق قُلْ ِه َي ِللَّ ِذينَ آ َمنُوا ِفي ْال َح َيا ِة ال ُّد ْن َيا خَا ِل َ‬ ‫ت ِمنَ ْ‬
‫الرِّز ِ‬ ‫ِل ِع َبا ِد ِه َو َّ‬
‫الط ِّي َبا ِ‬
‫وْم َيعْ َل ُمونَ ﴾(ألعراف‪)32:‬‬ ‫اآْل يا ِ‬
‫ت ِل َق ٍ‬
‫سكت قليال‪ ،‬ثم قال‪ :‬لقد ك ان قت ل الم رء نفس ه مم ا يتق رّب ب ه األق دمون إ َلى اآلله ة؛‬
‫ُ‬
‫حْرقت لحوم‬ ‫فكانوا ينذرون آللهتم قرابين بشرية تُذ َبح كاألضاحي؛ استرضاء لآللهة‪ ،‬وربما أ ِ‬
‫وبخرت بدخانها؛ وألج ل ذل ك ك ان اليه ود يحرق ون لح وم‬ ‫األضاحي وج ِّمرت بها األصنام ِّ‬
‫األضاحي‪.‬‬
‫رض من األض احي‪ ،‬وح رَّم ذبح اإلنس ان وتقديم ه‬ ‫َ‬ ‫أما اإلس الم؛ فق د بيَّن رس وله الغ‬
‫قربا ًنا‪ ،‬وأحلَّ تضحية البهائم‪.‬‬
‫لقد ذكر القرآن ما في التضحية من مقاصد‪ ،‬فق ال‪َ ﴿:‬و ْالبُ ْدنَ َج َع ْلنَا َه ا َل ُك ْم ِم ْن َش َعا ِئ ِر هَّللا ِ‬
‫ط ِع ُم وا ْال َق ا ِن َع‬ ‫ت جُ نُوبُ َه ا َف ُكلُ وا ِم ْن َه ا َو َأ ْ‬ ‫اف َف إِ َذا َو َج َب ْ‬ ‫ص َو َّ‬ ‫اس َم هَّللا ِ َع َل ْي َه ا َ‬ ‫َل ُك ْم ِفي َها خَ يْرٌ َف ْاذ ُكرُوا ْ‬
‫ال هَّللا َ لُحُو ُم َه ا َواَل ِد َماؤُ َه ا َو َل ِك ْن َينَالُ هُ‬ ‫َو ْال ُمعْ تَرَّ َك َذ ِلكَ َس َّخرْ نَاهَا َل ُك ْم َل َعلَّ ُك ْم ت َْش ُكرُونَ (‪َ )36‬ل ْن َي َن َ‬
‫حْس ِنينَ (‪( ﴾)37‬الحج)‬ ‫التَّ ْق َوى ِم ْن ُك ْم َك َذ ِلكَ َس َّخ َرهَا َل ُك ْم ِلتُ َكبِّرُوا هَّللا َ َع َلى َما َهدَا ُك ْم َو َب ِّش ِر ْال ُم ِ‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم‪.‬‬

‫‪253‬‬
‫هذه هي العقيدة التي تمتزج فيها العب ادة بالمص الح المختلف ة للفق راء والمحت اجين‪ ..‬ال‬
‫العقيدة التي ليس لها من هم سوى القضاء على كل ما تملكه البشرية من مقومات الحياة‪.‬‬
‫قال رجل من الجمع‪ :‬فهل وجدت في النصوص المقدسة للمسلمين ما ترى أن ه يش في‬
‫غليل اإلنسان في هذه الناحية؟‬
‫قال‪ :‬إن ما اإلسالم من هذه الناحية يمأل النفس باالنبهار ففيه منظومة كاملة لعبادة هللا‪،‬‬
‫تجتمع فيها تربية النفس‪ ،‬م ع توثي ق العالئ ق بين أف راد المجتم ع‪ ،‬م ع تنظيم حي اة اإلنس ان‪،‬‬
‫وحياة المجتمع جميعا‪.‬‬
‫َّ‬
‫وموض حة‬ ‫لقد وجدت فيه الصالة والصوم والحج‪ ،‬مفصَّلة آداب كل منه ا وش رائطه‪،‬‬
‫طرق عبادته وسُننها‪ ..‬وهو يرشد الناس إ َلى كيفية ذكر هللا‪ ،‬وبأي دعاء يدعون‪ ،‬وبأي كلمات‬
‫بليغة يس ألون رب الع المين‪ ..‬وق د عيّن لهم م واقيت الص الة والص وم والحج‪ ،‬وأحك ام ه ِذ ِه‬
‫العبادات وسُننها‪ ،‬وكي ف يس ألون ربهم فيه ا ليس تنزلوا رحمت ه ويس تغفروا ذن وبهم‪ ،‬وكي ف‬
‫يتضرعون إليه ويخشعون له ويناجونه في ِسرّهم‪ ،‬ويذكرون ه في عالنيتهم‪ ،‬وكي ف يتوب ون‬
‫َوخين تزكي ة نفوس هم‪ ،‬وتنزي ه أرواحهم‪ ،‬وتطه ير‬ ‫بزالتهم‪ُ ،‬منيبين إليه منها‪ ،‬مت ّ‬‫إليه معترفين َّ‬
‫قلوبهم‪ ،‬والتقرّب إ َلى ربهم بكل م ا ين الون ب ه مرض اته؛ لتك ون روح ال دين قائم ة وحقيقت ه‬
‫ملموسة‪.‬‬
‫قال رجل من الجمع‪ :‬وعينا هذا‪ ..‬ونحس ب أن ا ال نخالف ك في ه‪ ..‬فإن ا ال ن رى أم ة من‬
‫األمم تهتم بعباداتها كاهتمام المسلمين‪ ..‬نحن نرى بأعيننا كثرة المساجد وامتالئه ا بالمص لين‬
‫في كل وقت من أوقات الصالة‪ ..‬بل في غير أوقات الصالة‪ ..‬فحدثنا عن الناحية الثالثة‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬الناحي ة الثالث ة ال تي تحت اج البش رية للتع رف عليه ا عن طري ق ال دين هي‬
‫المعامالت‪ ،‬أو ما يمكن تسميته قوانين المدنية‪ ،‬وأصول المعاشرة‪.‬‬
‫لقد وجدت بعض القوانين المرتبطة بهذا النوع في الكتاب المقدس الذي يدين بأحكام ه‬
‫اليهود‪ ..‬لكني لم أجد فيها ما يشفي غليل البشرية إلى القوانين العادلة التي تنظم حياتهم بجميع‬
‫نواحيها‪ ..‬بل إني وجدت مثالب كثيرة تصرف األنظار عن تبني مثل تلك القوانين‪.‬‬
‫أما المسيحية‪ ..‬فقد وجدتها قاص رة تمام ا عن تلبي ة ه ذا الن وع من الحاج ات‪ ..‬وله ذا‬
‫اضطرت األمم المسيحية إ َلى استعارة ه ِذ ِه القوانين من األمم الوثنية‪ ،‬كاإلغريق والروم‪.‬‬
‫أما الرسالة المحمدية‪ ..‬فقد وجدت فيها العجب العجاب في ه ذا الب اب‪ ..‬فهي لم ت ترك‬
‫صغيرة وال كبيرة مما يتعلق بسياسة المال‪ ،‬أو سياسة المجتم ع‪ ،‬أو سياس ة األم ة إال تناولت ه‬
‫بتفصيل عجيب‪..‬‬
‫لقد وضع القرآن ومعه النصوص المقدسة التي تكلم بها محمد ‪ ‬قوانين حياة تجتمع‬
‫فيها المثالية بأرقى صورها مع الواقعية في أدنى درجاتها‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬كيف ذلك‪ ،‬وحياة الناس تختلف بيئاتها وأزمانها‪ ،‬وما يص لح لق وم ق د ال يص لح‬
‫لغيرهم؟‬

‫‪254‬‬
‫الض رب من حاج ات األمم نظ رًا ثاق ًب ا‬ ‫قال‪ :‬لقد نظ رت الش ريعة اإلس المية إ َلى ه ذا َّ‬
‫اَّل‬
‫حكي ًما؛ فاستوعبته من جميع نواحيه‪ ،‬مستقص ية جهات ه كله ا؛ فلم ت ترك ناحي ة منه ا إ وق د‬
‫أتمتها؛ ف َسنَّت قوانين ُكليّة‪ ،‬أقامتها ع َلى أصول جامعة‪.‬‬
‫وقد عمل بذلك المسلمون في مختلف بقاع األرض وأقطارها‪ ،‬وال يع رف الع الم كل ه‬
‫إ َلى اآلن قانو ًنا أعدل وال أرحم باإلنسانية وال أصلح لها من قوانين اإلسالم(‪.)1‬‬
‫قالوا‪ :‬فحدثنا عن الناحية الرابعة‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد وجدت أن حياة البشر ال يمكن أن تنظمها القوانين وح دها‪ ..‬ف القوانين يمكنه ا‬
‫أن تنظم السلوك العام‪ ،‬وتمنع شر الناس عن الناس‪ ..‬ولكنه ال طاقة لها بأن تلطف حياة بحيث‬
‫تعمق األخوة بينهم‪ ..‬وال يمكنها أن تهذب سلوك الفرد بحيث تملؤه باإلنسانية الراقي ة‪ ..‬فل ذلك‬
‫احتاج اإلنسان إلى األخالق‪.‬‬
‫وألجل هذا رجت أبحث في األديان عن موقفها من األخالق‪ ،‬وعن نوع األخالق التي‬
‫تدعو إليها‪..‬‬
‫لقد وجدت أن في التوراة أحكا ًما عديدة تتعلق باألخالق‪ ،‬منها سبعة تُ َع ّد أصواًل ‪ ،‬وليس‬
‫في ه ِذ ِه األصول السبعة إاَّل أصل واحد إيجابي؛ وهو‪ :‬األمر بطاعة الوا ِلدَين والبرّ بهم ا‪ ،‬أم ا‬
‫زن‪ ،‬ال تش هد ع َلى ج ارك‬ ‫ال ِّستَّة األخرى فكلها سلبيّة؛ وهي النواهي‪ :‬ال تقتل‪ ،‬ال تس رق‪ ،‬ال ت ِ‬
‫شهادة ُزور‪ ،‬ال تخادن َحليلة جارك‪ ،‬ال تطمع في مال جارك‪ ،‬وبعض ه ِذ ِه األصول داخل في‬
‫بعض؛ فهي في الحقيقة أربعة‪.‬‬
‫وقد وجدت اإلنجيل ير ّدد ه ِذ ِه األحكام السبعة كما هي في التوراة‪ ،‬ويزيد عليها‪ :‬الحث‬
‫ع َلى محبة الغير؛ فجاء بزيادة واحدة ع َلى ما في التوراة‪ ..‬أما اإلس الم فق د رأيت في ه أحكام ا‬
‫كثيرة في المعاشرة‪ ،‬وقوانين مفصَّلة في المعامالت‪ ،‬أفاض فيم ا ك ان نه رًا ح تى جع ل من ه‬
‫بحرًا‪.‬‬
‫سكت قليال‪ ،‬ثم قال‪ :‬سأضرب لكم مثاال آخر‪ ..‬أو مقارنة أخ رى‪ ..‬بين األص ول ال تي‬
‫بنى عليها اإلسالم بنيانه األخالقي الرفيع‪ ،‬وبين أصول غيره من الديانات‪.‬‬
‫لقد رأيت خالل البحث في تواريخ سلوك األمم قب ل اإلس الم أن عقائ د كث يرة باطل ة‪،‬‬
‫وأوهاما كثيرة سخيفة تملكتهم‪ ..‬صار بموجبها أهل كل دين في مملكة من الممال ك يحس بون‬
‫أن مملكتهم هي الدنيا كلها؛ فكان براهمة الهن د ومتص وفوها ي رون أن بالدهم هي أرض هللا‬
‫طان بالدهم‪،‬‬ ‫الممتازة‪ ،‬وما خرج عنها ال نصيب له من رحمة هللا؛ ألن هللا ال يريد الخير إاَّل لقُ َّ‬
‫وأمر الرس الة اإللهي ة والهداي ة الرباني ة ق د اختُصّ ب ه بعض البيوت ات من س دنة المعاب د ال‬
‫يعدوهم أبدًا‪.‬‬
‫وهكذا نطق أتب اع زرادش ت‪ ،‬حين حس بوا أن اإلل ه إنم ا يُعنَى ب أمر بالدهم المقدس ة‬
‫وحدها‪ ،‬وبأهل وطنهم األخيار‪ ،‬وال تعنيه بالد أخرى وال أُ ّمة أخرى‪.‬‬
‫وهكذا فعل بنو إسرائيل‪ ،‬حين ظن وا أن رس االت هللا خاص ة ببعض أس باطهم‪ ،‬وأنه ا‬
‫حقهم الموروث‪ ..‬أما اإلسالم؛ فقد اختلف موقفه في هذا عن موقف الكل‪..‬‬

‫‪ )( 1‬انظر التفاصيل الوافية عن هذا في رسالة (عدالة للعالمين) من هذه السلسلة‪.‬‬

‫‪255‬‬
‫لقد َوسَّع ع َلى اإلنسانية ما ضيَّقه اآلخرون‪ ،‬وأعلن أن الناس كلهم سواسية‪ ،‬وأن دعوة‬
‫هللا غير مخصوصة ببالد دون أخرى؛ فمشرق الدنيا ومغربها وش مالها وجنوبه ا وفلس طين‬
‫وفارس والهند‪ ،‬كل قد خال فيها رسول أو نبي‪ ،‬وأن هللا ـ تعالى ـ تستوي عنده األمم واللغ ات‬
‫في بعثة األنبياء؛ فشمس النبوة أشرقت ع َلى البشر جمي ًع ا‪ ،‬وتألالت فيهم أن وار الرس الة‪ِ ﴿:‬إنَّا‬
‫َأرْ َس ْل َناكَ ِب ْال َح ِّق َب ِش ير ًا َو َن ِذير ًا َو ِإ ْن ِم ْن أُ َّم ٍة ِإاَّل خَال ِفي َه ا َن ِذيرٌ﴾ (ف اطر‪ِ ﴿ ..)24 :‬إنَّ َم ا َأ ْنتَ ُم ْن ِذرٌ‬
‫وْم ِه ْم َف َج ا ُءوه ُْم ِب ْال َب ِّي َن ا ِ‬
‫ت َفا ْن َت َق ْم َن ا‬ ‫ال ِإ َلى َق ِ‬ ‫وْم هَا ٍد﴾ (الرعد‪َ ﴿ ..)7 :‬و َل َق ْد َأرْ َس ْلنَا ِم ْن َق ْب ِلكَ رُ ُس ً‬ ‫َو ِل ُكلِّ َق ٍ‬
‫ْ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫جْر ُموا َو َكانَ َحقا َع َل ْينَا َنصْرُ ال ُم ْؤ ِم ِنينَ ﴾ (الروم‪)47 :‬‬ ‫َ‬
‫ِمنَ الَّ ِذينَ أ َ‬
‫لق د رأيت اليه ود ال يؤمن ون بن بي ليس منهم‪ ..‬ورأيت المس يحيين ال يوجب ون ع َلى‬
‫أنفسهم اإليمان بنبي من بني إسرائيل أو غيرهم‪ ،‬وال ي رون إذا لم يؤمن وا ببعض األنبي اء أن‬
‫ذلك يخلّ بشيء من دينهم‪ ..‬ورأيت الهنادك ال يعتقدون ب أن اإلله ام اآللهي وال وحي الرب اني‬
‫نزل ع َلى بالد غير بالدهم‪ ..‬وهكذا شأن المجوس أتباع زردشت؛ فإنهم يذهبون إ َلى أن الدنيا‬
‫كلها مظلمة سوداء؛ فال نور إاَّل ببالدهم بالد النار‪.‬‬
‫أما محمد؛ فقد أعلنت أن الدنيا كلها هلل وح ده‪ ،‬وأن س كانها أجمعين من خل ق هللا‪ ،‬وأن‬
‫وحظ ا من‬ ‫ًّ‬ ‫األق وام ع َلى اختالفه ا سواس ية في ِن َعم ه وآالئ ه‪ ،‬وكلهم ن الوا نص يبًا من دعوت ه‬
‫ث فيها نبي دعاها‬ ‫رحمته‪ ،‬وما من بالد ع َّمرتها أُ ّمة إاَّل وقد أضاء فيها نور من هداية هللا‪ ،‬وب ُِع َ‬
‫إ َلى الحق‪ ،‬وبلَّغها أوامر هللا ونواهيه‪.‬‬
‫فرض ع َلى كل َمن دخل في ه أن ي ؤمن بجمي ع أنبي اء هللا ورس له‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ولهذا‪ ،‬فإن اإلسالم‬
‫وبالكتب الس ماوية الَّ ِتي أوحى هللا به ا من ق ديم الزم ان‪ ،‬وليس بمس لم َمن لم ي ؤمن باألنبي اء‬
‫كلهم‪ ،‬وبالكتب المنزلة ع َلى الرسل المبع وثين من قب ل؛ فالرس ل الَّ ِذين س ماهم هللا في الق رآن‬
‫يجب ع َلى المسلم أن يؤمن بهم إيم ان تفص يل‪ ،‬وال ذين لم تُ ذ َكر أس ماؤهم ي ؤمن المس لم بهم‬
‫إيمان إجمال بأنهم كانوا صادقين ه داة للبش ر‪ ،‬وك انوا ين ابيع الخ ير والحكم ة‪ .‬وق د وص ف‬
‫المسلمون في القرآن بأنهم ﴿ َالَّ ِذينَ ي ُْؤ ِمنُونَ ِب َم ا أُ ْن ِز َل ِإ َل ْي كَ َو َم ا أُ ْن ِز َل ِم ْن َق ْب ِل كَ ﴾ (البق رة‪)4 :‬؛‬
‫فليس للمسلم أن ي ؤمن ببعض الرس ل ويكف ر ببعض‪ .‬وق د خ اطب الق رآن المس لمين جمي ًع ا‬
‫ب الَّ ِذي‬ ‫ب الَّ ِذي َن َّز َل َع َلى َر ُس و ِل ِه َو ْال ِك َت ا ِ‬ ‫بقوله‪َ ﴿ :‬يا َأ ُّي َها الَّ ِذينَ آ َمنُ وا آ ِمنُ وا ِباهَّلل ِ َو َر ُس و ِل ِه َو ْال ِك َت ا ِ‬
‫ض الال َب ِعي د ًا﴾‬ ‫ض لَّ َ‬ ‫وْم اآْل ِخ ِر َف َق ْد َ‬‫رُس ِل ِه َو ْال َي ِ‬
‫زَل ِم ْن َق ْب لُ َو َم ْن َي ْكفُ رْ ِباهَّلل ِ َو َمال ِئ َك ِت ِه َو ُكتُ ِب ِه َو ُ‬ ‫َأ ْن َ‬
‫(النساء‪)136:‬‬
‫قال رجل من الجمع‪ :‬لقد عرفت إذن بأن التعاليم التي جاء بها محمد هي أكمل التعاليم‬
‫وأوفاها وأوالها باالتباع‪ ..‬فهل اكتفى عقلك بذلك‪ ،‬فصرت تعتقد بأن محمدا هو وسيط الهداية‬
‫بين هللا وبين عباده‪ ،‬وبأنه النموذج األكمل لإلنسان‪ ،‬وأن اإلنسان لن يصير إنسانا إال باتباعه‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬لم أكتف بذلك‪ ..‬لقد بدأت البحث من جديد‪ ..‬فتركت ك ل م ا وص لت إلي ه من‬
‫تلك الثروة الضخمة من التعاليم العظيمة التي جاء بها محمد‪..‬‬
‫لقد قلت لنفسي‪ ،‬أو قال لي عقلي‪ :‬ربما يكون كل ما ج اء ب ه محم د نفح ة من نفح ات‬
‫العبقرية‪ ..‬أو حصاد من زرع الذكاء‪..‬‬
‫قال الرجل‪ :‬فكيف تخلصت من هذا الهاجس‪ ..‬وهو ال يمكن أن يتخلص منه؟‬

‫‪256‬‬
‫قال‪ :‬لقد قال لي عقلي‪ :‬ابحث في سيرة هذا ال ذي دع ا إلى تل ك التع اليم‪ ..‬وانظ ر ه ل‬
‫يخالف قوله فعله‪ ..‬أم أن قوله وفعله يصدران من مشكاة واحدة؟‬
‫َّ‬
‫وقال لي‪ :‬ليست األفكار الصحيحة‪ ،‬والنظري ات الش ائقة‪ ،‬واألق وال الحس نة؛ هي ال ِتي‬
‫تجعل اإلنسان إنسا ًنا كاماًل ‪ ،‬وتجعل من حياته أسوة للناس‪ ،‬ومثاًل أع َلى في الحياة؛ بل أعم ال‬
‫الداعي وأخالقه هي الَّ ِتي تجعله كذلك‪ ..‬ولوال ذلك؛ لم ا ك ان هن اك ف رق بين الخ ير والش رّ‪،‬‬
‫بالثرث ارين وال ُمتفيهقين الَّ ِذي يقول ون م ا ال‬ ‫ولم ا تم ّي ز المص ِلح عن غ يره‪ ،‬والمتألت ال دنيا ّ‬
‫يفعلون‪.‬‬
‫َّ‬
‫وقال لي‪ :‬إن الحياة المثالية لن تك ون أس وة للن اس م ا لم تكن أعم ال ص احبها ـ ال ِذي‬
‫يؤسّس دي ًنا ويدعو الناس إليه ـ مثااًل وأنموذجًا لما ي دعو إلي ه‪ ،‬وال يتط رّق الش ك إ َلى الن اس‬
‫بأن ما يدعو إليه هو مما يعمل به‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬فما الذي فعلت حتى تقطع هذه العقبة الكؤود التي وضعك فيها عقلك؟‬
‫قال‪ :‬لقد رحت أبحث من جديد في السير المتبقية ل دينا عن العظم اء ألرى فيه ا م دى‬
‫اكتمال صالحيتها ألن تكون النموذج األكمل لإلنسان‪.‬‬
‫لقد رحت أصيح من جديد في التاريخ ألقول ل ه‪َ :‬من ذا الَّ ِذي تُ َع ّد حيات ه أس وة للبش ر‪،‬‬
‫ص ِلحين‪،‬‬ ‫الرُّس ل واألنبي اء وعظم اء ال ُم ْ‬
‫وفيها المثل األعلى للبشر‪ِ ،‬من بين مئات األلوف من ُ‬
‫ممن شرعوا لإلنسانية ِدياناتها‪ ،‬و َس ّنوا ال ُّسنَن للناس؟‬
‫قال الرجل‪ :‬فقد عدت لما بدأت به‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬ولكني اقتصرت على زعماء األديان الكبرى‪ ..‬أما غيرهم‪ ..‬فقد عرفت أن‬
‫شأنهم أحقر من أن يوزنوا في موازين ه ذا الن وع من العظم اء‪ ..‬ول ذلك لم ي ولهم البش ر أي‬
‫أهمية في هذا الجانب‪ ..‬ولذلك ال نعرف عنهم ما يمكن اعتبارهم موضع قدوة فيه‪ ..‬باإلضافة‬
‫إلى أن وجدت أكثرهم تابعا لزعيم من زعماء األدي ان‪ ،‬وال يمكن للت ابع أن يص ير متبوع ا‪..‬‬
‫وال يمكن أن نترك المتبوع‪ ،‬ونلهث وراء التابع‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬فقد بدأت ببوذا إذن؟‬
‫َ‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬لقد تتبعت سيرة ب وذا من ذ هج ر أهل ه وعيال ه إلى الص حاري والغاب ات؛‬
‫وتتبعت خطواته منذ ترك خَليلته الَّ ِتي ك انت حبيب ة قلب ه‪ ،‬ولم ي ر ول ده الوحي د م ر ًة أخ رى‪،‬‬
‫وترك ِخاَّل نه وأحباءه؛ فخفف عن كاهله أعباء الحُ ْكم‪ ،‬وارتض ى الم وت آخ ر وس يلة ل ه إ َلى‬
‫القصوى للحياة البشرية عنده‪.‬‬ ‫َ‬ ‫النجاة؛ فكان األجل المحتوم الغاية‬
‫وعندما انتهيت من ه ذا البحث المستقص ي قلت لنفس ي‪ ،‬أو ق ال لي عقلي‪َ :‬من ذا من‬
‫يرضى بأن يتخذ من حياة ب وذا أس وة في ه ِذ ِه ال دنيا؛ الَّ ِتي ال بق اء له ا وال عم ران إاَّل‬ ‫َ‬ ‫البشر‬
‫اع ي رعَى‬ ‫ّ‬
‫بالحياة االجتماعي ة والرواب ط العمراني ة واألواص ر اإلنس انية‪ ،‬وال بُ د فيه ا من َر ٍ‬
‫رعيّته‪ ،‬وصديق يألف صديقه‪ ،‬ووالد يُشفق ع َلى ولده‪ ،‬وأُ ّم تحن ع َلى َفلذة كبدها؟!‬
‫وهل في حياة بوذا شيء من ذلك يكون به أسوة للجمي ع ـ من الرهب ان الَّ ِذين انقطع وا‬
‫العيال‪ ،‬وأصحاب الضياع والمزارع والمصانع واألموال!؟‬ ‫لآلخرة‪ ،‬إ َلى اآلباء ذوي ِ‬
‫لقد أجابتني حقائق التاريخ بلسان فصيح‪ :‬كاَّل ‪ ..‬ليس هذا الرج ل ه و من تبحث عن ه‪..‬‬
‫فإن سيرة بوذا لم تكن قط أسوة للهن اء الع ائلي‪ ،‬وال أله ل الص ناعات والمت اجر‪ ،‬ول و اتَّخ ذ‬

‫‪257‬‬
‫أتباع بوذا قدوة لهم من حياة بوذا؛ لما قامت لهم ه ِذ ِه الدول في الص ين والياب ان وس يام وتبت‬
‫وبورما‪ ،‬ولما ع ّمرت للتجارة في بالدهم سوق‪ ،‬وال دبّت الحي اة في ص ناعاتهم ومص انعهم‪.‬‬
‫ولو اختار أهل تلك البالد سيرة متبوعهم سيرة لهم وساروا عليها؛ ألقفرت األرض الع امرة‪،‬‬
‫وتحوّلت إ َلى صحاري قاحلة‪ ،‬وألصبحت المدن خرابًا أو أرضًا جرداء!‬
‫قال رجل من الجمع‪ :‬فقد عزلت بوذا إذن من أن يكون رجل هذه الناحية؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ..‬ولكني لم أعزل ه‪ ،‬وأن ا أهين ه بع زلي‪ ،‬وإنم ا عزلت ه ألن مق اييس بح ثي لم‬
‫تنطبق عليه‪ ..‬فال يمكنني أن أكلف نفسي وال الناس عنت ا ب أن أس ير خل ف من ليس ل دي من‬
‫سيرته ما يمكنني من السير خلفه‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬وحياة موسى‪ ..‬ألم تر فيها ما تبحث عنه‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد بحثت فيها بحثا طويال مفص ال‪ ..‬ولك ني لم أج د في حيات ه ـ حس ب األس فار‬
‫الخمسة من التوراة ـ إاَّل قتال ه وقيادت ه في الح رب وبس الته فيه ا‪ ،‬أم ا الن واحي األخ َرى من‬
‫حياته ـ كالحقوق في أمور الدنيا‪ ،‬والف رائض والواجب ات ـ ؛ فلم أره ا واض حة جلي ة بحيث‬
‫يمكن السير على منوالها‪..‬‬
‫قال الرجل‪ :‬فقد عزلته إذن كما عزلت بوذا؟‬
‫قال‪ :‬عزل احترام ال عزل احتقار‪ ..‬لقد علمت أنه عظيم‪ ..‬ولكني لم أجد في سيرته م ا‬
‫يكفي ألن أجعله األنموذج األكمل لإلنسان‪.‬‬
‫صاح رجل من بعيد‪ :‬الشك أنك وجدت هذا اإلنس ان في المس يح‪ ..‬فه و الوحي د ال ذي‬
‫نقلت لنا سيرته بالتفصيل‪ ..‬فاألناجيل ال هم لها إال ترديد كل ما ورد عنه‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد بحثت في سيرة المسيح ألرى مدى اكتمال هذه الناحية فيها‪..‬‬
‫فوجدت أن المسيح عاش عيشة المغلوبين المحك ومين؛ فله ذا لم أج د في حيات ه مث ااًل‬
‫من واجبات الحاكم الغا ِلب‪.‬‬
‫ووجدت أنه لم يكن له زوجة؛ ولذلك لم أر في حياته مثااًل لما ينبغي أن يتبادله ال زوج‬
‫والزوجة من واجبات وحقوق‪ ،‬خصوصًا وأن الَّ ِذي بين الزوجين من الصِّ َلة أوث ق وأش ّد من‬
‫الَّ ِذي بين األوالد وآبائهم؛ كما جاء في ِس ْفر التَّكوين (انظر‪ِ :‬س ْفر التكوين ( ‪ 27 :1‬و ‪ 15 :8‬ـ‬
‫‪)19‬‬
‫ّ‬
‫لقد وجدت أن معظم سكان ه ِذ ِه الدنيا يعيشون عيشة األزواج‪ ..‬ولذلك‪ ،‬فإنهم لن يج دو‬
‫في حياة المسيح أي موضع أسوة في هذا الجانب‪.‬‬
‫بل إني ـ حتى في األمور التي يستوي فيها المسيح مع سائر الن اس ـ لم أج د فيه ا من‬
‫النصوص ما أستشف منه كيف كان المسيح في حياته‪.‬‬
‫قال الرجل من القوم‪ :‬ولكن المسيح هو ال ذي ص اح بم ا لم يص ح ب ه أح د حين ق ال‪:‬‬
‫(تحب الربَّ إلهك من كل قلبك‪ ،‬ومن كل نفسك‪ ،‬ومن كل فكرك‪ .‬أحبب أع داءك‪َ .‬من لطم ك‬
‫ِأيض ا‪َ .‬من س َّخرك مياًل ف اذهب مع ه ميلين‪َ .‬من أراد أن‬‫فحول ل ه اآلخ ر ً‬‫ع َلى خدك األيمن؛ ِّ‬
‫يخاصمك ويأخذ ثوبك؛ فاترك له الرِّداء أيضًا‪ .‬اذهب و ِبع أمالكك وأعط الفقراء‪ .‬واع فُ عن‬
‫أخيك سبعين مرة‪ .‬يعسر أن يدخل غني إ َلى ملكوت السماوات)‬

‫‪258‬‬
‫ابتسم الس يد س ليمان‪ ،‬وق ال‪ :‬إن م ا تقول ه وأمثال ه ال ش ك أن ه من الموعظ ة الحس نة‬
‫المحبّبة إ َلى النفوس‪ ،‬لكنها ال تُ َع ّد سيرة ما لم يُقتَرن بها العم ل‪ ..‬نعم؛ إنه ا ق ول ليّن‪ ،‬وح ديث‬
‫لذيذ‪ ،‬ولكن الَّ ِذي ال َي ْغ ِلب عدوّه؛ كيف يتسنَّى له العف و‪ ،‬و َمن ال يمل ك و َمن ال يك ون ل ه م ال؛‬
‫كيف يتص ّدق ع َلى الفقراء والمساكين واليتا َمى‪ ،‬وكيف يقضي لهم حاجاتهم؟ و َمن ال زوج له‬
‫وال ولد وال أهل؛ كيف تكون حيات ه أس وة لألزواج وذوي الب نين والمت أهِّلين وهم هم الن اس‬
‫الَّ ِذي تع ّمر الدنيا بهم؟ و َمن لم يتفق له أن يصفح عن أحد في حياته؛ كيف يقت ِدي ب ه َمن ك ان‬
‫شديد الغضب سريع البادرة؟‬
‫سكت قليال‪ ،‬ثم قال‪ :‬الحس نات ِقس مان‪ :‬س لبيّة وإيجاب ّي ة‪ ..‬وأنتَ إذا اع تزلت ال دنيا في‬
‫غار بسفح جبل؛ تعبد فيه ربك‪ ،‬ولم تبرحه طول حياتك‪ ،‬تصرف فيه أوقاتك بالتب ّت ل إ َلى هللا؛‬
‫فإن أحسن ما يقال في َم ْد ِحك‪ :‬أنك اتقيتَ الشرّ‪ ،‬ولم تقترف سيئة تُ َذ ّم عليه ا‪ ..‬نعم إن ذل ك من‬ ‫ّ‬
‫الحسنات‪ ..‬ولكنها حسنات سلبيّة‪ ..‬وهي ال تكفي وحدها‪.‬‬
‫اًّل‬
‫ولذلك فإن الكمال يطالبك بالحسنات اإليجابية‪ ..‬ه ل حملتَ ك ‪ ،‬أو نص رتَ مظلو ًم ا‪،‬‬
‫أو كس بتَ ُمعْ َد ًما‪ ،‬أو أطعمتَ جائ ًع ا‪ ،‬أو كس وتَ عار ًي ا‪ ،‬أو س اعدتَ فق يرًا‪ ،‬أو ُذدتَ عن‬
‫ضعيف‪ ،‬أو هديتَ ضااًّل ؟‬
‫والص ْدع‬
‫َّ‬ ‫إن األخالق الحسنة ومكارمها‪ ..‬من العفو‪ ،‬والسماحة‪ ،‬وال ِق َرى وبذل الم ال‪،‬‬
‫بالحق‪ ،‬والحميّة في قمع الباطل‪ ،‬والجهاد في أداء ال واجب‪ ..‬وغيره ا‪ ..‬ال تُ َع ّد مك ارم أخالق‬
‫ألجل ترك الدنيا والتب ّتل في ع ُْز َلة عن المجتمع‪ ،‬وليست الحسنات من األمور السلبيّة فحسب؛‬
‫ابي الَّ ِذي يق وم ب ه الم رء‪ ،‬وال يكفي فيه ا ت رك‬ ‫ب ل معظم الحس نات ترج ع إ َلى العم ل اإليج ّ‬
‫المعاصي واجتناب السوء‪.‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن اإلنسان ينشد مثااًل يقت ِدي به في كل عمل يُ ْق ِدم عليه؛ في غن اه وفق ره‪ ،‬وفي‬
‫وحربه‪ ،‬ويتحرَّى السبيل الَّ ِذي يسلكه إذا تزوج أو بقي عزبًا‪ ،‬ويريد أنموذجً ا عال ًي ا ي أت ّم‬ ‫ِس ْلمه َ‬
‫به إذا َع َب َد ربه أو عاشر الناس‪ ،‬ويح اول أن يل ّم ب القوانين الَّ ِتي ينبغي العم ل به ا بالنس بة إ َلى‬
‫الراعي والرعيّة‪ ،‬والح َّكام والمحك ومين‪ ..‬وجمي ع ه ِذ ِه األم ور ينبغي للم رء أن يتَّ ِخ ذ لنفس ه‬
‫الموص ل إ َلى ح لّ‬
‫ِ‬ ‫التوت عليها ه ِذ ِه المسألة؛ فأهمها التماس الطريق‬‫القدوة فيها؛ ألن األمم قد َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ه ِذ ِه المعضالت‪ ،‬وتذليل ه ِذ ِه المصاعب‪ .‬ومعظم الشعوب تش عر بالحاج ة الش ديدة إلى ال ُمث ل‬
‫الع ُْليا في ذلك؛ لتخ ِّفف عن اإلنسانية آالمها‪ ،‬وتأسو جراحها‪ ،‬وهي متل ِهفة ع َلى مثال ل ذلك من‬
‫األعمال‪ ،‬ال ع َلى مثال عليه من األقوال‪.‬‬
‫قال رجل من الجمع‪ :‬فهل في تاريخ البشرية من اجتمعت له كل هذه الكم االت‪ ،‬ح تى‬
‫صار المنارة التي تهتدي بها جميع سفن العالم؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬البد أن توجد مثل هذه المنارة‪ ..‬وإال تاهت جمي ع س فن الع الم في ظلم ات‬
‫المحيطات‪ ..‬واللهتمتها كل الغيالن‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬فأين وجدت هذه المنارة؟‬
‫قال‪ :‬في محمد‪ ..‬لقد رأيت أنه اإلنسان الوحيد الذي ت وفر ل ه من الظ روف‪ ،‬وك ان ل ه‬
‫من المواقف ما يجعله اإلنسان الكامل الذي يصح اعتباره األنموذج األكمل لإلنسان‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬إن إثبات مثل هذا صعب‪.‬‬

‫‪259‬‬
‫ق ال‪ :‬ولكن ه ليس مس تحيال‪ ..‬لق د وض عت منهج ا للتحق ق من ذل ك‪ ،‬يق وم على ثالث‬
‫دعامات‪:‬‬
‫األولى‪ :‬الشهادات التي يبثها المخالطون‪ ،‬سواء كانوا من المقربين منه الموالين له‪ ،‬أو‬
‫من المبعدين الساخطين عليه‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬السلوك الذي سلكه في حياته ومدى انطباقه على ما كان يدعو إليه‪.‬‬
‫والثالثة‪ :‬اآلثار التي تركها‪ ..‬والتي يصح لها أن تعبر عنه‪.‬‬
‫قال رجل من الجمع‪ :‬نوافقك في صحة ه ذا‪ ..‬فم ا ذك رت من ال دعامات ك اف لي دلك‬
‫على ما تريد‪ ..‬فهل طبقتها على ما ورد عن محمد‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬وكي ف ال أفع ل ذل ك‪ ..‬وه ل يمكن أن يس تقيم إيم اني‪ ،‬ويخ رج من ط ور‬
‫التقليد دون ذلك‪.‬‬
‫قا ل ذلك‪ ،‬ثم راح يفصل لنا بالوثائق الكثيرة ما يدل على ذلك‪.‬‬
‫وما انتهى من حديث ه ح تى ارتف ع اآلذان‪ ..‬وق د ش اء هللا أن ال نس مع من ه إال (محم د‬
‫رس ول هللا)‪ ..‬فص اح الجم ع ـ بمختل ف ط وائفهم ـ من غ ير ش عور (محم د رس ول هللا)‪..‬‬
‫وصحت معهم بها‪ ..‬فتنزلت علي حينها أنوار لو كانت بحار الدنيا مدادا‪ ،‬وأش جارها أقالم ا‪،‬‬
‫واجتمعن ليعبرن عنها ما أطقن‪.‬‬
‫برهان الوحي‪:‬‬
‫بعد أن أنهى الرجل الثالث حديثه‪ ،‬قام آخر‪ ،‬وقال‪ :‬بعد أن ح دثكم ص ديقي وأخي‬
‫عن [برهان النب وة]‪ ،‬وكي ف خ رج ب ه من ظلم ات الجه ل والغواي ة إلى ن ور اإليم ان‬
‫والهداية‪ ..‬فاس معوا ح ديثي عن بره ان من ب راهين الهداي ة المبين ة‪ ،‬أطلقت علي ه اس م‬
‫[برهان الوحي]‪ ..‬وهو برهان يدل على هللا من كل الوجوه‪ ،‬وبك ل المق دمات‪ ،‬وبجمي ع‬
‫اللغات‪..‬‬
‫فاهلل برحمت ه لم يتواص ل م ع آح اد خلق ه برعاي ة حاج اتهم وإجاب ة دع واتهم‬
‫فحسب‪ ..‬ولم يحفظ عليهم حياتهم ب القيم ال تي وفره ا لهم فق ط‪ ..‬ولم يرس ل لهم وس ائط‬
‫الهداية ليكونوا نماذج تيسر عليهم تحقيق الكمال فقط‪ ..‬وإنما أض اف إلى ذل ك أن أن زل‬
‫إليهم وحيه وكلماته المقدسة لتبقى نورا بينهم يهتدون بها‪ ،‬ويتواصلون معه عبرها‪.‬‬
‫ولذلك كان البحث عن المصادر المقدسة لألديان ه و أول م ا ب دأت ب ه أبح اثي‪،‬‬
‫حيث رحت أجمعها جميعا‪ ،‬وأح ول أن أطب ق عليه ا جمي ع المق اييس ألرى م دى دق ة‬
‫كونها مقدسة كما تزعم األديان التي تنسب إليها‪.‬‬
‫وقد جعلني ذل ك أق وم ب رحالت كث يرة‪ ،‬وألتقي ناس ا كث يرين‪ ،‬وأص رف أم واال‬
‫ضخمة على كل ذلك‪ ..‬وما كنت أجد أي مشقة في ممارسة ذل ك‪ ..‬ذل ك أني كنت أبحث‬
‫عن اإلكسير األحم ر‪ ..‬وعن ك نز األب د‪ ..‬وعن مف اتيح الوج ود ال تي إن وص لت إليه ا‬
‫وصلت إلى كل شيء‪.‬‬
‫وكان أول ما بدأت به الكتاب المقدس الذي كان متوفرا لدينا في البيئ ة المس يحية‬
‫التي كنا نعيش فيها‪ ..‬وقد قرأته مرات كثيرة‪ ..‬وقد شعرت نحوه بمشاعر مختلفة ممتلئة‬

‫‪260‬‬
‫بالتن اقض(‪ ..)1‬ففي مواض ع أش عر أن ه كالم هللا الجمي ل المت دفق بين ابيع الرحم ة واللط ف‬
‫والمودة‪ ،‬وأشعر حينها بأن كل ذرة من ذرات الوجود تش هد ل ه ب ذلك‪ ،‬ب ل ت ترنم معي‪ ،‬وأن ا‬
‫أرتله بخشوع وتدبر‪.‬‬
‫وفي مواض ع أش عر أن ه لغ و أو له و ف ارغ ال يعني ني‪ ،‬وال يع ني البش رية المتش وفة‬
‫للخالص‪ ..‬لكني أعتذر بيني وبين نفسي لصاحب الكالم الذي أتهمه بهذه التهم‪.‬‬
‫وفي مواضع أشعر بأنه كتاب خطير‪ ..‬لو سرت تعاليمه إلى األرض ألحرقت األخضر‬
‫واليابس‪ ،‬ومحت معها كل وجود اجتماعي على األرض‪.‬‬
‫أحيان ا أش عر أن ه كالم من هللا المتع ال‪ ..‬وأحيان ا أش عر أن ه كالم حك واتي ف ارغ يهتم‬
‫بالتفاصيل التي ال حاجة لها‪..‬‬
‫أحيانا أشعر أنه كالم ينبع من من ابع تمتلئ بالعنص رية والحق د والالإنس انية‪ ..‬وأحيان ا‬
‫أشعر أنه كالم يفيض من منابع الرحمة والحنان واإلنسانية‪.‬‬
‫وقد جعلني ذلك ال أثق في موقفي منه‪ ..‬وأبحث عن مواقف أك ثر علمي ة‪ ،‬وك ان‬
‫أول من عرضت عليه ما حصل لي صديق فلكي صار ملحدا بعد أن كان مؤمن ا مس يحيا‪،‬‬
‫وعندما سألته عن سر تحوله من المسيحية إلى اإللحاد‪ ،‬أخذ الكتاب المقدس‪ ،‬وق ال‪ :‬ه ذا ه و‬
‫السبب‪ ،‬فإن ما احتواه من أمور تعتبر أخطاء في الموازين العلمية جعلني أنفر منه‪ ..‬فيستحيل‬
‫على خالق هذا الكون أن يخطئ مثل تلك األخطاء‪.‬‬
‫ثم قرأ علي ما جاء في التوراة من شرح ألحداث أيام الخل ق‪ ،‬ثم ق ال بك ل حس رة‪ :‬إن‬
‫هذا النص الطويل هو السبب فيما حصل لي من ابتع اد عن هللا‪ ،‬أن ا أش عر باهلل‪ ..‬وأش عر أن ه‬
‫يستحيل أن ينبني هذا الكون من غير أن يكون ل ه ص انع يص نعه ويبدع ه‪ ..‬ولك ني في نفس‬
‫الوقت أشعر بأن اإلل ه ال ذي ق ال ه ذا الكالم إل ه ال يس تحق أي اح ترام‪ ..‬ألن ه يجه ل أبس ط‬
‫المبادئ العلمية‪..‬‬
‫إن هذا النص القصير بم وازين م ا ورد في الكت اب المق دس من نص وص مطول ة عن‬
‫األنساب والمطاعم والمشارب (‪ )2‬يحوي أخطاء كثيرة جدا ال يمكن أن تغتفر(‪:)3‬‬
‫لقد ذكر هذا النص أنه في اليوم األول خلق هللا الليل والنهار‪ ،‬وفي اليوم الث اني خل ق هللا‬
‫السماء‪ ،‬وفي اليوم الثالث خلق هللا البر والبحر والنباتات‪ ،‬وفي اليوم الراب ع خل ق هللا الش مس‬
‫والقمر والنجوم‪ ،‬وفي اليوم الخامس خلق هللا أسماك البحر والزواحف وطي ور الس ماء‪ ،‬وفي‬
‫اليوم السادس خلق الحيوانات األليفة والمفترسة واإلنسان‪.‬‬

‫‪ )(1‬شرحنا بتفصيل ما يتعلق بهذا في كتاب [الكلمات المقدسة]‬


‫‪ )(2‬انظر فصل (الحق) من (الكلمات المقدسة)‬
‫‪)(3‬طبعا‪ ..‬فإن هذا النقد الموجه هنا للت وراة ليس للت وراة ال تي أنزله ا هللا على موس ى ‪ ،‬وإنم ا ه و نق د للت وراة‬
‫المحرفة‪ ،‬وإبراز للتحريف الذي نص القرآن الكريم على حصوله لها‪.‬‬
‫(أ)ما التوراة الحقيقية فقد ورد في فضلها النصوص الكثيرة كقوله تعالى‪﴿:‬إِنَّا أَ ْنزَ ْلنَا التَّوْ َراةَ ِفيهَا هُدىً َونُ و ٌر يَحْ ُك ُم ِبهَ ا‬
‫ب هَّللا ِ َوكَانُوا َعلَ ْي ِه ُش هَدَا َء)(المائ دة‪ :‬من اآلية‬ ‫النَّ ِبيُّونَ الَّ ِذينَ أَ ْسلَ ُموا ِللَّ ِذينَ هَادُوا َوال َّربَّانِيُّونَ َواأْل َحْ بَا ُر ِب َما ا ْستُحْ فِظُوا ِم ْن ِكتَا ِ‬
‫يل َو َما أُ ْن ِز َل إِلَ ْي ِه ْم ِم ْن َربِّ ِه ْم أَل َ َكلُ وا ِم ْن فَ وْ قِ ِه ْم َو ِم ْن تَحْ ِ‬
‫ت أَرْ ُجلِ ِه ْم ِم ْنهُ ْم‬ ‫‪ ،)44‬وقوله تعالى‪َ ﴿:‬ولَوْ أَنَّهُ ْم أَقَا ُموا التَّوْ َراةَ َواأْل ِ ْن ِج َ‬
‫َص َدةٌ َو َكثِي ٌر ِم ْنهُ ْم َسا َء َما يَ ْع َملُونَ ) (المائدة‪ )66:‬انظر تفاصيل ذلك في (الكلمات المقدسة)‬ ‫أُ َّمةٌ ُم ْقت ِ‬

‫‪261‬‬
‫كل هذه المخلوقات موج ودة‪ ..‬وال ج دل في وجوده ا‪ ..‬ولكن الج دل في ال ترتيب ال ذي‬
‫رتبت به‪ ..‬إنها كمن يرتب أحداث التاريخ‪ ،‬فيجعل عصرنا قبل العصور الوس طى‪ ،‬ب ل كمن‬
‫يجعل عصرنا مقدمة للعصور الحجرية‪..‬‬
‫أال ترى كيف يقدم خلق الليل والنه ار على خل ق الش مس م ع أن ظ اهرة الي ل والنه ار‬
‫مرتبطة بوجود الشمس‪ ..‬بل إن النص ذات ه أش ار في أح داث الي وم الراب ع إلى ه ذه الحقيق ة‬
‫ار َواللَّي ِْل)‬‫ص َل َب ْينَ النَّ َه ِ‬ ‫فقال‪ِ (:‬ل َت ُك ْن َأ ْن َوارٌ ِفي َج َل ِد ال َّس َم ِ‬
‫اء ِل َت ْف ِ‬
‫ليس ذلك فقط‪ ..‬وإن كان ذلك كافيا‪ ..‬فاألخطاء ال تزال تتسلسل كما تتسلسل إجابة طالب‬
‫بليد اختلطت عليه دروسه‪ ..‬لقد ذكر ذلك النص تقديم خلق النباتات بجميع أنواعها على خل ق‬
‫الشمس مع العلم بأنه ال يمكن للنباتات بأي حال من األحوال أن تعيش بدون الطاق ة الشمس ية‬
‫التي تحتاجها في عملية التركيب الضوئي‪.‬‬
‫ومن أشنع األخطاء أن كاتب ه ذا النص ال ذي زعم لنفس ه اإلله ام اف ترض أن األرض‬
‫موج ودة من ذ بداي ة أي ام الخل ق‪ ،‬ولم ي بين الم دة ال تي اس تغرقها خل ق ه ذه األرض الخرب ة‬
‫والخالية‪.‬‬
‫ومن أشنعها ما ذكره من أن الشمس والقمر والنجوم قد تم خلقها في الي وم الراب ع‪ ،‬بينم ا‬
‫تم خلق األرض في اليوم األول‪ ..‬وهذا ما ال يقبل ه العق ل‪ ،‬فال يمكن أن توج د األرض ب دون‬
‫الشمس‪.‬‬
‫ومن أشنعها أن ه ذا النص أش ار إلى أن هللا خل ق الس ماوات واألرض من ذ البداي ة ( ِفي‬
‫ض)‪ ،‬ثم أشار إلى أن ه خل ق س ماء واح دة‪ ،‬وليس س ماوات في‬ ‫األرْ َ‬ ‫ت َو َ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ْال َب ْد ِء خَ َل َق ُ‬
‫هللا ال َّس َم َ‬
‫أحداث اليوم الثاني‪ ..‬ومثل ذلك اختلط عليه األمر في الطريقة ال تي تم من خالله ا خل ق ه ذه‬
‫الس ماء‪ ..‬حيث أن ه ذه الس ماء فص لت المي اه عن بعض ها البعض فأص بح قس م منه ا ف وق‬
‫السماء‪ ،‬وآخر تحتها‪ ،‬ومن هذا القسم األخير تكونت مياه األرض‪ ..‬اس مع م ا تق ول الت وراة‪:‬‬
‫هللا ْال َج َل دَ‪َ ،‬و َف َ‬
‫ص َل َب ْينَ‬ ‫اص ً‬
‫ال َب ْينَ ِم َيا ٍه َو ِم َيا ٍه) َف َع ِم َل ُ‬ ‫هللا‪ِ (:‬ل َي ُك ْن َج َل ٌد ِفي َو َس ِط ْال ِم َيا ِه‪َ .‬و ْل َي ُك ْن َف ِ‬ ‫ال ُ‬ ‫(و َق َ‬
‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫هللا ال َجل َد َس َما ًء‪َ .‬وك انَ َم َس ا ٌء‬ ‫ْال ِم َيا ِه ال ِتي ت ال َجل ِد َوال ِم َيا ِه ال ِتي فوْ َق ال َجل ِد‪َ .‬وكانَ ك ذ ِلكَ‪َ .‬و َد َع ا ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫تَ‬ ‫َحْ‬ ‫َّ‬
‫ص َباحٌ َيوْ ًما َثا ِنيًا)‬ ‫َو َكانَ َ‬
‫لم أجد حينها بما أجيبه‪ ،‬فقد صارحني الرجل في خلوة بيني وبينه بما يعانيه من تشويش‬
‫بسبب هذا النص الذي تكلف فيه كاتبه كل هذا التكلف‪ ..‬وكأنه أراد أن يحطم الكت اب المق دس‬
‫من أول إطاللة عليه(‪ ..)1‬أو كأنه أراد أن يص رف العلم اء عن النظ ر في الكت اب المق دس‪،‬‬
‫ليخلو الجو بعدها لألحبار والرهبان‪.‬‬
‫***‬
‫بعده‪ ،‬وبعد جولة طويلة في مصادر مقدسة أخرى‪ ،‬وجدت فيها نفس م ا وج دت‬
‫في الكت اب المق دس من أخط اء رحت أس تعرض الق رآن الك ريم‪ ..‬وق د جعلت ه آخ ر‬
‫المص ادر المقدس ة احتق ارا ل ه‪ ،‬ألني كنت أتص ور أن المس لمين هم ال ذين يمثلون ه‬
‫ويطبقونه‪ ،‬وقد كنت أرى مدى تخلفهم واستبدادهم‪ ،‬فأتصور أن كل ذلك س ببه كت ابهم‪..‬‬

‫‪ )(1‬من المعلوم أن ذلك اإلصحاح هو أول ما يبدأ به الكتاب المقدس‪.‬‬

‫‪262‬‬
‫خاصة وأنه قد سرى إلي أن المسلمين من ينكر أبسط البديهيات العلمية بحجة أن كتاب ه‬
‫ينكرها‪.‬‬
‫لك ني م ع ذل ك‪ ..‬رحت أتخلى عن تل ك األحك ام المس بقة‪ ،‬وأق ول لنفس ي‪ :‬وم ا‬
‫أدراني‪ ..‬لع ل المس لمين يختلف ون عن كت ابهم‪ ..‬أو لعلهم لم يفهم وه‪ ،‬فليس من ض وابط‬
‫الكلمات المقدسة أن تطبق وال أن تفهم الفهم الصحيح‪.‬‬
‫ولست أدري السر الذي جعلني بمجرد أن أفتحه داخل مكتبة جامعية في ب اريس‬
‫أن يدخل إلي [موريس بوكاي]‪ ،‬وهو طبيب فرنسي‪ ،‬ب ل ه و رئيس قس م الجراح ة في‬
‫جامع ة ب اريس‪ ،‬وق د منحت ه األكاديمي ة الفرنس ية ع ام ‪1988‬م ج ائزة في الت اريخ‬
‫المعروف‪ ..‬فلما رآني أحمل القرآن الكريم تعجب عجبا شديدا‪ ،‬وق ال‪ :‬أرى أن ه حص ل‬
‫لك ما حصل لي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما حصل لك؟‬
‫قال(‪ :)1‬لقد قمت بدراسة القرآن‪ ،‬وذلك دون أي فك ر مس بق وبموض وعية تام ة‬
‫باحثًا عن درجة اتفاق نص القرآن ومعطي ات العلم الح ديث‪ ..‬وكنت أع رف‪ ،‬قب ل ه ذه‬
‫الدراس ة‪ ،‬وعن طري ق الترجم ات‪ ،‬أن الق رآن ي ذكر أنوا ًع ا كث يرة من الظ اهرات‬
‫الطبيعي ة‪ ،‬ولكن معرف تي ك انت وج يزة‪ ..‬وبفض ل الدراس ة الواعي ة للنص الع ربي‬
‫استطعت أن أحقق قائمة أدركت بعد االنتهاء منها أن القرآن ال يحت وي على أي ة مقول ة‬
‫قابلة للنقد من وجهة نظر العلم في العصر الحديث‪.‬‬
‫وبنفس الموضوعية قمت بنفس الفحص على العهد القديم واألناجيل‪ ..‬أما بالنسبة‬
‫للعهد القديم فلم تكن هناك حاجة للذهاب إلى أبعد من الكتاب األول‪ ،‬أي س فر التك وين‪،‬‬
‫فق د وج دت مق والت ال يمكن التوفي ق بينه ا وبين أك ثر معطي ات العلم رس و ًخا في‬
‫عصرنا‪ .‬وأما بالنسبة لألناجيل‪ ..‬فإننا نجد نصّ إنجيل م تى ين اقض بش كل جلي إنجي ل‬
‫لوقا‪ ،‬وأن هذا األخير يقدم لنا صراحة أمرًا ال يتفق مع المعارف الحديثة الخاص ة بق دم‬
‫اإلنسان على األرض‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فقد أصحبت تقر إذن بأن هذا القرآن كلمات إلهية مقدسة؟‬
‫قال(‪ :)2‬أجل‪ ..‬لقد أثارت الجوانب العلمية التي يختص به ا الق رآن دهش تي العميق ة في‬
‫البداية‪ ،‬فلم أكن أعتقد ق ط بإمك ان اكتش اف ع دد كب ير إلى ه ذا الح ّد من ال دعاوى الخاص ة‬
‫بموضوعات شديدة التنوع ومطابقته تما ًما للمعارف العلمية الحديثة‪ ،‬وذلك في نصّ كتب منذ‬
‫أكثر من ثالثة عشر قر ًنا‪ ..‬في البداية لم يكن لي أي إيمان باإلسالم‪ ..‬وقد طرقت دراس ة ه ذه‬
‫النصوص بروح متحررة من كل حكم مسبق وبموضوعية تامة‪.‬‬
‫(تناولت القرآن منتبهًا بشكل خ اص إلى الوص ف ال ذي يعطي ه عن حش د كب ير من‬ ‫ُ‬ ‫لقد‬
‫الظاهرات الطبيعية‪ ..‬لقد أذهلتني دقة بعض التفاصيل الخاصة بهذه الظاهرات وهي تفاصيل‬
‫ال يمكن أن تدرك إال في النص األصلي‪ ،‬أذهلت ني مطابقته ا للمف اهيم ال تي نملكه ا الي وم عن‬

‫‪ )(1‬القرآن الكريم والتوراة واإلنجيل والعلم‪ ،‬ص ‪.150‬‬


‫‪ )(2‬القرآن الكريم والتوراة واإلنجيل والعلم‪ ،‬ص ‪.145‬‬

‫‪263‬‬
‫أدنى فكرة)‬ ‫نفس هذه الظاهرة والتي لم يكن ممك ًنا ألي إنسان في عصر محمد أن يكون عنها‬
‫(‪)1‬‬
‫لقد كنت أقول لنفسي‪( :‬كي ف يمكن إلنس ان – ك ان في بداي ة أم ره أ ّم ًي ا ‪ ..-‬أن يص رح‬
‫بحقائق ذات طابع علمي لم يكن في مقدور أي إنسان في ذلك العصر أن يكونها‪ ،‬وذل ك دون‬
‫أن يكشف تصريحه عن أقل خطأ من هذه الوجهة؟)(‪)2‬‬
‫ليس ذل ك فق ط ه و ال ذي جعل ني أمتلئ قناع ة باإلس الم‪ ،‬هن اك ش يء آخ ر ل ه أهميت ه‬
‫الكبرى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هل تقصد موقف اإلسالم من العلم؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فهو موقف مختلف كثيرا‪ ،‬بل من اقض لموق ف الكنيس ة‪ ،‬فـ(اإلس الم اعت بر‬
‫دائ ًما أن الدين والعلم توأمان متالزمان‪ .‬فمن ذ الب دء ك انت العناي ة ب العلم ج ز ًءا ال يتج زأ من‬
‫الواجبات التي أم ر به ا اإلس الم‪ .‬وأن تط بيق ه ذا األم ر ه و ال ذي أدى إلى ذل ك االزده ار‬
‫العظيم للعلوم في عصر الحضارة اإلسالمية‪ ،‬تلك التي اقتات منها الغرب نفس ه قب ل عص ر‬
‫النهضة في أوروبا)(‪)3‬‬
‫وق ال لي‪( :‬في اإلس الم ك ان الموق ف إزاء العلم مختل ًف ا [عن المس يحية] إذ ليس هن اك‬
‫أوضح من ذلك الحديث الشهير للن بي ‪ ‬ال ذي يق ول‪( :‬اطلب العلم من المه د إلى اللحد) أو‬
‫ذلك الحديث اآلخ ر ال ذي يق ول‪( :‬طلب العلم فريض ة على ك ل مس لم ومس لمة) هن اك أم ر‬
‫أيض ا‬
‫رئيسي‪ :‬القرآن‪ ،‬إلى جانب أنه يدعو إلى المواظبة على االشتغال ب العلم‪ ،‬فإن ه يحت وي ً‬ ‫ّ‬
‫على تأمالت عديدة خاصة بالظاهرات الطبيعية وبتفاصيل توضيحية تتفق تما ًما مع معطيات‬
‫العلم الحديث)(‪)4‬‬
‫وقد ذكر لي ـ بعد جلسات كثيرة معه ـ أن تلك المقارنات ال تي ك ان يجريه ا بين موق ف‬
‫المسلمين من العلم طيل ة ت اريخهم الطوي ل مقارن ة بموق ف الكنيس ة ك انت س ببا من أس باب‬
‫إسالمه‪ ،‬فهو يقول‪( :‬علين ا أن نت ذكر أن ه في عص ر عظم ة اإلس الم‪ ،‬أي بين الق رن الث امن‬
‫والقرن الثاني عش ر من العص ر المس يحي‪ ،‬وعلى حين ك انت تف رض القي ود على التط ور‬
‫العلمي في بل داننا المس يحية‪ ،‬أنج زت كمي ة عظيم ة من األبح اث واالكتش افات بالجامع ات‬
‫اإلسالمية‪ ..‬في ذلك العصر ك ان الب احث به ذه الجامع ات يج د وس ائل ثقافي ة عظيم ة‪ ،‬ففي‬
‫قرطبة كانت مكتبة الخليفة تحتوي على أربعمائة ألف مجلد‪[ ..‬وكان] الكثيرون يسافرون من‬
‫مختلف بالد أوروبا للدراسة فيها‪ ،‬ولكن كم هي كثيرة تلك المخطوطات القديمة التي وص لت‬
‫إلينا بواسطة األدباء العرب ناقلة بذلك الثقافة إلى البالد المفتوح ة‪ ،‬ولكم نحن م دينون للثقاف ة‬
‫العربية في الرياض يات (ف الجبر ع ربي) وعلم الفل ك والفيزي اء (البص ريات) والجيولوجي ا‬
‫وعلم النبات ات والطب إلى غ ير ذل ك‪ .‬لق د اتخ ذ العلم ألول م رة ص فة عالمي ة في جامع ات‬

‫‪ )(1‬القرآن الكريم والتوراة واإلنجيل والعلم‪ ،‬ص ‪.145‬‬


‫‪ )(2‬القرآن الكريم والتوراة واإلنجيل والعلم‪ ،‬ص ‪.150‬‬
‫‪ )(3‬دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة‪ ،‬ص ‪.14‬‬
‫‪ )(4‬دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة‪ ،‬ص ‪.140‬‬

‫‪264‬‬
‫العصر الوسيط اإلسالمية‪ .‬في ذلك العصر كان الناس أكثر تأثرًا بالروح الدينية مما هم علي ه‬
‫في عصرنا‪ ،‬ولكن ذلك لم يمنعهم من أن يكونوا في آن واحد مؤمنين وعلماء‪ .‬كان العلم األخ‬
‫التوأم للدين‪ .‬لكم كان ينبغي على العلم أال يكف عن أن يكون كذلك)(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬فما الشعاع األول الذي اهتديت به إلى القرآن؟‬
‫قال(‪ :)2‬أنت تعلم أن فرنسا من أكثر الدول اهتماما باآلثار والتراث‪ ،‬وله ذا عن دما تس لم‬
‫الرئيس الفرنسي (فرانسوا ميتران) زمام الحكم في البالد عام ‪ 1981‬طلبت فرنسا من دول ة‬
‫(مصر) في نهاية الثمانينات استضافة مومياء (فرعون مصر) إلى فرنسا إلجراء اختب ارات‬
‫وفحوصات أثرية ومعالجة‪..‬‬
‫لقد كان المعالجون ـ في ذلك الموق ف ـ مهتمين ب ترميم المومي اء‪ ،‬بينم ا ك ان اهتم امي‬
‫مختلفا عنهم غاية االختالف‪ ..‬فقد كنت أحاول أن أكتشف كيف مات ه ذا المل ك الفرع وني‪..‬‬
‫وفي ساعة متأخرة من الليل ظهرت نتائج تحليلي النهائي ة‪ ..‬لق د ك انت بقاي ا الملح الع الق في‬
‫جسده أكبر دليل على أنه مات غريقا‪ ،‬وأن جثته اس تخرجت من البح ر بع د غرق ه ف ورا‪ ،‬ثم‬
‫أسرعوا بتحنيط جثته لينجو بدنه‪.‬‬
‫لكن ثم ة أم ر ًا غريب اً م ازال يح يرني‪ ،‬وه و كي ف بقيت ه ذه الجث ة دون ب اقي الجثث‬
‫الفرعونية المحنطة أكثر سالمة من غيرها رغم أنها استخرجت من البحر‪!..‬‬
‫بعد أن أعددت تقرير ًا نهائيا عما كنت أعتقده اكتشافاً جديد ًا في انتشال جث ة فرع ون من‬
‫البحر وتحنيطها بعد غرقه مباشرة ‪ ،‬همس أحدهم في أذني ق ائال‪ :‬ال تتعج ل‪ ،‬ف إن المس لمين‬
‫يتحدثون عن غرق هذه المومياء‪.‬‬
‫لكني استنكرت بشدة هذا الخبر ‪ ،‬واستغربته ‪ ،‬فمث ل ه ذا اإلكتش اف اليمكن معرفت ه إال‬
‫بتطور العلم الحديث وعبر أجهزة حاسوبية حديثة بالغ ة الدق ة ‪ ،‬فق ال لي أح دهم‪ :‬إن ق رآنهم‬
‫الذي يؤمنون به يروي قصة عن غرقه وعن سالمة جثته بعد الغرق‪.‬‬
‫فازداد ذهولي وأخذت أتساءل‪ :‬كيف يكون هذا وهذه المومي اء لم تكتش ف أص ال إال في‬
‫عام ‪ 1898‬ميالدي ة أي قب ل م ائتي ع ام تقريب ا ‪ ،‬بينم ا ق رآنهم موج ود قب ل أك ثر من أل ف‬
‫وأربعمئة عام‪ ..‬وكيف يستقيم في العقل هذا ‪ ،‬والبشرية جمعاء وليس الع رب فق ط لم يكون وا‬
‫يعلمون شيئا عن قيام قدماء المصريين بتحنيط جثث فراعنتهم إال قبل عقود قليلة من الزم ان‬
‫فقط‪.‬‬
‫جلست ليلتها محدقا بجثمان فرعون ‪ ،‬أفكر بإمعان عما همس به ص احبي من أن ق رآن‬
‫المسلمين يتحدث عن نجاة هذه الجثة بعد الغ رق‪ ..‬بينم ا الكت اب المق دس يتح دث عن غ رق‬
‫فرعون أثناء مطاردته لموس ى دون أن يتع رض لمص ير جثمان ه البت ة‪ ..‬وأخ ذت أق ول في‬
‫نفسي‪ :‬هل يعقل أن يكون هذا المحنط أمامي هو فرعون مصر الذي كان يطارد موس ى !؟‪..‬‬
‫وهل يعقل ان يعرف محمدهم هذا قبل أكثر من ألف عام وأنا للتو أعرفه !؟‬

‫‪ )(1‬دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة‪ ،‬ص ‪.141 – 140‬‬


‫‪ )(2‬انظر في هذا مقاال لد‪.‬محمد يوسف المليفي في كتاب (لماذا أسلموا)‬

‫‪265‬‬
‫لم يستطع ليلتها أن أنام ‪ ،‬ورحت أق رأ في (س فر الخ روج) قول ه (فرج ع الم اء وغطى‬
‫مركبات وفرسان جميع جيش فرعون الذي دخل وراءهم في البحر لم يبق منهم وال واحد)‬
‫بقيت حينها حائرا‪ .ً.‬فحتى الكتاب المقدس لم يتحدث عن نجاة ه ذه الجث ة وبقائه ا س ليمة‬
‫بعد أن تمت معالجة جثمان فرعون وترميمه‪.‬‬
‫أعادت فرنسا لمصر المومياء بتابوت زجاجي فاخر يليق بمقام فرع ون‪ ..‬لك ني لم يهن أ‬
‫لي قرار حتى حضرت مؤتمرا طبيا يتواجد فيه جمع من علماء التشريح المس لمين‪ ..‬وهن اك‬
‫كان أول حديث تحدثه معهم عما اكشتفه من نجاة جثة فرعون بعد الغرق‪ ..‬فقام أح دهم وفتح‬
‫المصحف وأخذ يقرأ لي قوله تعالى‪َ ﴿:‬ف ْال َيوْ َم نُ َنجِّيكَ ِب َب َد ِنكَ ِل َت ُك ونَ ِل َم ْن ْ‬
‫خَل َف كَ آ َي ًة َو ِإ َّن َك ِث ير ًا ِمنَ‬
‫اس ع َْن آ َيا ِتنَا َلغَا ِفلُونَ ﴾ (يونس‪)92:‬‬
‫النَّ ِ‬
‫لقد كان وقع اآلية علي شديدا‪ ..‬بل رجت له نفس ي رج ة جعلت ني أق ف أم ام الحض ور‪،‬‬
‫وأصيح‪( :‬لقد آمنت بهذا القرآن)‬
‫رجعت بعدها إلى فرنسا بغير الوجه الذى ذهبت به‪ ..‬وهناك مكثت عش ر س نوات ليس‬
‫لدي شغل يشغلني سوى دراسة م دى تط ابق الحق ائق العلمي ة والمكتش فة ح ديثا م ع الق رآن‬
‫الكريم ‪ ،‬والبحث عن أي تناقض علمي واحد مم ا يتح دث ب ه الق رآن ألخ رج بع دها بنتيج ة‬
‫اط لُ ِم ْن َبي ِْن َي َد ْي ِه َوال ِم ْن ْ‬
‫خَل ِف ِه َت ْن ِزي لٌ ِم ْن َح ِك ٍيم َح ِمي ٍد ﴾‬ ‫نص عليه ا قول ه تع الى‪ ﴿:‬ال َي ْأ ِتي ِه ْال َب ِ‬
‫(فصلت‪)42:‬‬
‫كان من ثمرة هذه السنوات التي قضيتها أن خرجت بتأليف كتاب عن القرآن الكريم هز‬
‫الدول الغربية قاطبة ورج علماءها رجا ‪ ،‬لقد كان عنوان الكتاب (القرآن والت وراة واإلنجي ل‬
‫والعلم‪ ..‬دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة)‬
‫قلت‪ :‬ألم يلق هذا الكتاب أي رد عليك من الدوائر العلمية؟‬
‫قال‪ :‬بلى‪ ..‬لقد بذلوا كل جه ودهم لل رد علي ه‪ ..‬ومنهم رج ل أعرف ه ب دأ يجه ز رد ًا على‬
‫الكتاب‪ ،‬فلما انغمس بقراءته أكثر وتمعن في ه زي ادة‪ ..‬لم يج د إال أن ي ؤمن ب القرآن باعتب اره‬
‫كلمات هللا المقدسة‪.‬‬
‫***‬
‫التقيت بعدها رجاال كث يرين من أه ل العلم‪ ،‬كلهم ش هد لي بم ا ش هد ب ه م وريس‪ ،‬منهم‬
‫(كيث م ور)‪ ،‬وق د تع رفت علي ه في بعض الجامع ات حيث تق دم ليلقي محاض رة بعن وان‬
‫(مطابقة علم األجنة لما في القرآن والس نة)‪ ،‬وق د قدم ه م دير الجامعة(‪ )1‬بقول ه‪ :‬محاض رنا‬
‫اليوم هو األستاذ كيث مور‪ ..‬وهو أستاذ علم التشريح واألجنة في جامعة تورنتو بكندا‪.‬‬
‫وبعد تقديم طويل ذكر فيه المقدم المكانة العلمية لل دكتور م ور تق دم إللق اء محاض رته‪،‬‬
‫فقال‪( :‬لقد أسعدني جد ًا أن أشارك في توضيح هذه اآليات واألحاديث التي تتحدث عن الخل ق‬
‫في القرآن الكريم والحديث الشريف‪ ،‬ويتضح لي أن هذه األدلة حتماً ج اءت لمحم د من عن د‬
‫هللا ألن كل هذه المعلومات لم تكتشف إال حديثاً‪ ،‬وبع د ق رون ع دة وه ذا يثبت لي أن محم د ًا‬
‫رسول هللا)‬
‫‪ )(1‬المقدم هو الدكتور عبدهللا نصيف مدير جامعة الملك عب دالعزيز في ذل ك الحين‪ ،‬وق د ت ولى منص ب أمين الع ام‬
‫لرابطة العالم اإلسالمي بعد ذلك‪.‬‬

‫‪266‬‬
‫ثم قال‪( :‬إنني أشهد بإعجاز هللا في خل ق ك ل ط ور من أط وار الق رآن الك ريم‪ ،‬ولس ت‬
‫أعتقد أن محمد ًا أو أي شخص آخر يس تطيع معرف ة م ا يح دث في تط ور الج نين‪ ،‬ألن ه ذه‬
‫التطورات لم تكتشف إال في الجزء األخير من القرن العشرين‪ ،‬وأري د أن أؤك د على أن ك ل‬
‫شيء قرأته في القرآن عن نشأة الجنين وتطوره في داخل الرحم ينطبق على ك ل م ا أعرف ه‬
‫كعالم من علماء األجنة البارزين)‬
‫الحظت في وجوه الجمع الحاضر سرورا عظيما‪ ،‬واهتماما كب يرا بم ا يقول ه‪ ..‬ح اولت‬
‫أن أقترب منه ألستوضح أسرار ذلك التصريح الخطير‪ ،‬لكني لم أتمكن‪ ،‬لكني سمعته يق ول‪:‬‬
‫(إن التعبيرات القرآنية عن مراحل تكون الجنين في اإلنس ان لتبل غ من الدق ة والش مول م الم‬
‫يبلغه العلم الحديث‪ ،‬وهذا إن دل علي شئ فإنما يدل علي أن هذا الق رآن اليمكن أن يك ون إال‬
‫كالم هللا‪ ،‬وأن محمد ًا رسول هللا)‬
‫وقد سمعت أنه قيل له بعد انتهاء محاضرته‪ :‬هل أنت مسلم؟‪ ..‬فقال‪ :‬ال‪ ..‬ولكني أشهد أن‬
‫القرآن كالم هللا‪ ..‬وأن محمد ًا مرسل من عن د هللا‪ ،‬فقي ل ل ه‪ :‬إذ ًا‪ ..‬ف أنت مس لم‪ ،‬ق ال‪ :‬أن ا تحت‬
‫ضغوط اجتماعية تحول دون إعالن إسالمي‪ ..‬ولكن التتعجبوا إذا سمعتم يوماً أن كيث م ور‬
‫قد دخل اإلسالم‪.‬‬
‫***‬
‫ومن ال ذين التقيت بهم بع د كيث م ور (البروفس ور جف ري النج)‪ ،‬وه و أس تاذ‬
‫الرياضيات في الجامعات األميركية‪ ،‬وقد سمعت أنه ألف كتابا بعنوان (ح تى المالئك ة‬
‫تسأل)‪ ،‬حكى فيه رحلته إلى القرآن واإلسالم‪ ،‬فأحببت أن أستوضح منه شخصيا‪.‬‬
‫فاستقبلني في بيته‪ ،‬وراح يقول لي‪ :‬في جامعة (س ان فرانسيس كو) تع رفت على ط الب‬
‫عربي كنت أُدرِّ ُسهُ‪ ،‬فتوثقت عالقتي ب ه‪ ،‬وأه داني نس خة من الق رآن‪ ،‬فلم ا قرأت ه ألول م رة‬
‫شعرت كأن القرآن هو الذي (يقرأني)‪ ،‬فلم أجد إال أن أسلم وجهي هلل‪.‬‬
‫وقد انه الت األس ئلة علي بع دها تس أل عن س ر إس المي‪ ،‬فكنت أق ول‪( :‬في لحظ ة من‬
‫في ما أكابد من‬
‫علي‪ ،‬بعد أن وجد ّ‬ ‫من هللا بواسع علمه ورحمته ّ‬ ‫اللحظات الخاصة في حياتي‪ّ ،‬‬
‫الع ذاب واأللم‪ ،‬وبع د أن وج د ل دي االس تعداد الكب ير إلى َملء الخ واء ال روحي في نفس ي‪،‬‬
‫فأصبحت مسلماً‪ ..‬قبل اإلسالم لم أكن أعرف في حياتي مع نى للحب‪ ،‬ولكن ني عن دما ق رأت‬
‫القرآن شعرت بفيض واسع من الرحمة والعطف يغمرني‪ ،‬وبدأت أش عر بديموم ة الحب في‬
‫تقاوم) (‪)1‬‬
‫قلبي‪ ،‬فالذي قادني إلى اإلسالم هو محبة هللا التي ال َ‬
‫وكنت أقول‪( :‬اإلسالم هو الخضوع إلرادة هللا‪ ،‬وطري ق يق ود إلى ارتق اء ال ح دود ل ه‪،‬‬
‫وإلى درجات ال حدود لها من السالم والطمأنينة‪ ..‬إنه المحرك للقدرات اإلنسانية جميعها‪ ،‬إنه‬
‫التزام طوعي للجسد والعقل والقلب والروح) (‪)2‬‬
‫ّ‬
‫وكنت أقول‪( :‬القرآن هذا الكتاب الكريم قد أسرني بقوة‪ ،‬وتمل ك قل بي‪ ،‬وجعل ني أستس لم‬
‫هلل‪ ،‬والقرآن يدفع قارئه إلى اللحظة القصوى‪ ،‬حيث يتب ّدى للقارئ أنه يقف بمفرده أمام خالقه‪،‬‬

‫‪ )(1‬حتى المالئكة تسأل‪ ،‬د‪ .‬جيفري النغ‪.211 :‬‬


‫‪ )(2‬حتى المالئكة تسأل‪ ،‬د‪ .‬جيفري النغ‪.75:‬‬

‫‪267‬‬
‫وإذا ما اتخذت القرآن بجدية فإنه ال يمكنك قراءته ببساطة‪ ،‬فهو يحمل عليك‪ ،‬وكأن له حقوق اً‬
‫عليك!وهو يجادلك‪ ،‬وينتقدك ويُخجلك ويتحداك ‪ ..‬لقد كنت على الطرف اآلخر‪ ،‬وبدا واضحاً‬
‫أن ُمنزل القرآن كان يعرف ني أك ثر مم ا أع رف نفس ي ‪ ..‬لق د ك ان الق رآن يس بقني دوم اً في‬
‫تفكيري‪ ،‬وكان يخاطب تساؤالتي ‪ ..‬وفي كل ليلة كنت أضع أس ئلتي واعتراض اتي‪ ،‬ولكن ني‬
‫كنت أكتـشف اإلجابــة في اليوم التالي ‪ ..‬لقد قابلت نفسي وجهاً لوجه في ص فحات الق رآن‪)..‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ُ‬
‫وكنت أقول‪( :‬بعد أن أسلمت كنت أجهد نفسي في حضور الصلوات كي أس مع ص وت‬
‫القراءة‪ ،‬على الرغم من أني كنت أجهل العربي ة‪ ،‬ولم ا ُس ئلت عن ذل ك أجبت‪ :‬لم اذا يس كن‬
‫الطفل الرضيع ويرتاح لصوت أمه؟أتمنى أن أعيش تحت حماية ذلك الصوت إلى األبد)(‪)2‬‬
‫***‬
‫طبعا مع ثقتي الشديدة بكل من ذكرت إال أني لم أسلم لهم عقلي إسالما تام ا‪ ،‬ب ل‬
‫رحت أبحث في القرآن الكريم من ك ل الزواي ا مثلم ا بحث وا(‪ ،)3‬وليس من زاوي ة العلم‬
‫فحس ب‪ ،‬وق د وج دت أن ه أك بر بره ان على وج ود هللا وكماالت ه‪ ،‬وعلى ك ل حق ائق‬
‫الوجود‪ ..‬وقد استغربت أن يبحث الباحثون عن األدلة الحسية على وج ود هللا‪ ..‬وال دليل‬
‫الحسي أمامهم ينطق بكل لغة‪ ،‬ويص يح بك ل لس انه من أن ه من ﴿ ِم ْن لَ د ُْن َح ِك ٍيم خَ بِ ٍ‬
‫ير﴾‬
‫[هود‪]1 :‬‬

‫‪ )(1‬حتى المالئكة تسأل‪.209:،‬‬


‫‪ )(2‬الصراع من أجل اإليمان‪.34:‬‬
‫‪ )( 3‬لم نشأ التفصيل في هذا البرهان هنا ألنا ذكرناه بتفصيل في سلسلة [حقائق ورقائق]‬

‫‪268‬‬
‫النهاية‬
‫لست أدري كيف تالشت فجأة تل ك الري اض الجميل ة الممتلئ ة بالقداس ة‪ ،‬وكي ف‬
‫تالشى معك أولئك الطاهرون الذين عشت معهم أس عد لحظ ات حي اتي‪ ..‬ولس ت أدري‬
‫هل أنا ال ذي ف ارقتهم‪ ،‬أم هم ال ذين ف ارقوني‪ ،‬أم أنن ا ال ن زال م ع بعض نا بعض ا‪ ،‬لكن‬
‫حجب الغفلة هي التي أبعدتني عنهم‪ ،‬وحجب الملكوت هي التي أبعدتهم عني‪.‬‬
‫بعد أن نظرت إلى مروج قريتي‪ ،‬وقد عادت إلى وضعها‪ ،‬وعدت إليها كما كنت‬
‫فيها‪ ..‬رحت أتأمل فيها من جديد‪ ،‬وأنظر إليها بحسب الدروس اإليماني ة ال تي تعلمته ا‪،‬‬
‫فرأيت في كل ورقة من أرواقها‪ ،‬وهبّة من نسيمها‪ ،‬وقطرة من مائه ا آي ة من آي ات هللا‬
‫العظمى التي ال تقل في عظمتها عن تلك الروضات ال تي رأيته ا‪ ..‬ففي ك ل ح رف من‬
‫حروفها‪ ،‬وبسمة من بس ماتها توقي ع هللا وختم ه وآيات ه‪ ..‬وهي مص در جماله ا‪ ،‬وأريج‬
‫عطرها‪.‬‬
‫ع دت بتل ك الس عادة والس رور العظيمين إلى بي تي‪ ،‬ورحت إلى قراطيس ي‬
‫وأقالمي ألس جل ك ل كلم ة س معتها‪ ،‬وحرك ة رأيته ا‪ ،‬ألنش رها كم ا طلب م ني معلم‬
‫اإليمان‪ ..‬وم ا هي إال أي ام قليل ة ح تى اكتملت‪ ،‬وس ميتها بحس ب م ا طلب م ني معلمي‬
‫[الهاربون من جحيم اإللحاد]‬
‫ثم أسرعت إلى الناشرين‪ ،‬من عرفت منهم‪ ،‬ومن لم أع رف‪ ،‬أطلب نش رها على‬
‫أوسع نطاق لتكون نورا يضاف لتلك األن وار الط اهرة ال تي ق امت على م دار الت اريخ‬
‫بمواجهة ظلم ات الش ياطين وأذن ابهم وأتب اعهم‪ ..‬ولتوض يح الحقيق ة ال تي تح اول ك ل‬
‫مشاريع الظالم طمسها‪ ،‬ليخلو الجو لها‪ ،‬ولشياطينها ودجاجلتها ليمارس وا إفس ادهم في‬
‫األرض‪ ،‬واستكبارهم فيها‪ ،‬ألن ه ال يمكن أن يق وم للش يطان مش روع في ظ ل اإليم ان‬
‫باهلل‪ ..‬فهو أساس القيم الرفيعة‪ ،‬ومنبع الفضائل السامية‪.‬‬
‫ما هي إال أيام قليلة بعد نشرها حتى سمعت باب بيتي يطرق‪ ،‬فأس رعت لفتح ه‪،‬‬
‫وإذا بي أفاجأ بالشاب الذي رأيته قبل رحلتي ومجموعة من الشباب الذين كنت أعرفهم‬
‫بتطرفهم الديني والالديني‪ ،‬وقد عجبت عندما رأيتهم جميعا يحملون نس خا من الكت اب‪،‬‬
‫ثم يقول ون لي‪ :‬ب ورك في ك‪ ..‬لق د أنق ذنا كتاب ك ه ذا من جحيم اإللح اد‪ ..‬وزج بن ا في‬
‫روضات جنات المؤمنين‪.‬‬
‫قلت لهم‪ :‬هذا ليس كتابي‪ ..‬أنا لم أفعل سوى أن وص فت م ا وق ع لي بدق ة‪ ..‬ف إن‬
‫كان لكم أن تش كروا أح دا‪ ،‬فاش كروا قراطيس ي وأقالمي‪ ،‬واش كروا قب ل ذل ك معلمي‪،‬‬
‫فلوالهم لم يتح لي أن أسجل فيه حرفا واحدا‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬نعم‪ ..‬نعرف ذلك‪ ..‬وقد جئنا إليك لتأخذنا لتلك الروضات‪ ..‬فقد حنت قلوبن ا‬
‫شوقا إليها وإلى أهلها‪ ..‬فنحن نريد أن نحدثهم ببراهين جديدة لم يذكروها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما تقولون؟‪ ..‬إن ذلك ليس باليسير‪ ..‬أنا نفسي لم أدر كي ف حص ل معي م ا‬
‫حصل‪.‬‬

‫‪269‬‬
‫قالوا‪ :‬سر بنا إلى حيث رأيتها‪ ،‬ودعنا وشأننا‪ ،‬فالذي رفع الحجب عن عيني ك لن‬
‫يبخل على أعيننا برفع الحجب عنها‪.‬‬
‫لم أدر ما أقول لهم‪ ..‬لك ني س رت بهم إلى ض واحي القري ة‪ ..‬إلى حيث الم روج‬
‫الجميلة الخضراء‪ ..‬وقد كان عجبي حينها ال ينفذ‪ ..‬فقد رأيت أولئك الش باب بمج رد أن‬
‫وصلوا إليها راحوا يص يحون بجماله ا وروعته ا‪ ..‬لم أص دق عي ني‪ ،‬فأن ا لم أكن أرى‬
‫سوى المروج‪.‬‬
‫سألتهم عنها‪ ..‬فوصفوها لي بدقة كما عش تها ورأيته ا‪ ..‬ثم م ا لبثت ح تى رأيتهم‬
‫يس رعون إلى روض اتها‪ ،‬ويجلس ون على أرائكه ا‪ ،‬ويتح دثون م ع أهله ا‪ ،‬وك أنهم‬
‫يعرفونها من زمان قديم‪.‬‬
‫عدت إلى بيتي وأنا ممتلئ عجبا من كل ما حصل‪ ..‬لقد أيقنت حينها أن فضل هللا‬
‫وكرم ه أعظم من أن يوص ف‪ ..‬فل ذلك ليس لن ا مع ه إال التس ليم والتعظيم واإلجالل‪..‬‬
‫وليس لنا إال نجثو في محرابه المقدس لنس قي قلوبن ا ك ؤوس محبت ه ال تي ال يش قى من‬
‫شرب منها‪ ،‬وال يتألم من تداوى ببلسمها‪.‬‬

‫‪270‬‬
‫هذا الكتاب‬
‫يتن اول ه ذا الكت اب المن اهج الك برى ال تي اس تعملها العلم اء‬
‫والفالسفة والمتكلمون من المدارس المختلفة للداللة على وجود هللا‪ ،‬م ع‬
‫ض رب األمثل ة عن ال براهين المرتبط ة به ا‪ ،‬وتقريراته ا المختلف ة‪،‬‬
‫محاوال تبسيط كل ذلك‪ ،‬باستعمال الحوار والقصة والمثال وغيره ا من‬
‫أساليب التبسيط‪.‬‬
‫ذلك أن الكثير من تلك المناهج ـ وخاصة الفلسفية أو الكالمية منها‬
‫ـ تع رض بطريق ة يص عب على العام ة والبس طاء التع رف عليه ا‬
‫واالستفادة منها م ع أهميته ا البالغ ة‪ ،‬ول ذلك تبقى محص ورة في دوائ ر‬
‫ضيقة‪ ،‬مع أنها من األسلحة المهم ة والنافع ة ال تي يواج ه به ا اإللح اد‪،‬‬
‫وخاص ة اإللح اد الجدي د ال ذي يعتم د ع رض األطروح ات اإللحادي ة‬
‫القديمة بطريقة بسيطة‪ ،‬ويجد من يسمع له‪ ،‬وفي نفس الوقت ال يج د في‬
‫الطرف المقابل إال طروحات غاية في التعقيد والغموض‪ ،‬والتي قد تثير‬
‫فيه من اإلشكاالت أكثر مما تحل له من العقد‪.‬‬

‫‪271‬‬

You might also like