Professional Documents
Culture Documents
رسائل إلى رسول الله
رسائل إلى رسول الله
رسائل إلى رسول الله
()2
الطبعة األولى
1440ـ 2019
3
المقدمة
هذا الكتاب محاولة للتقرب من رسول هللا ،من خالل رسائل موجهة إليه،
تخاطبه مباشرة ،ومن غير حواجز ،فال حواجز وال حجب تحول بيننا وبين رســول
هللا غير تلك األوهام التي صنعناهاـ بأنفسنا ،وإال فإن رســول هللا أقــرب إلينــا
منا ،ويمكنناـ أن نتواصل معه متى نشاء.
وكيف ال يمكن ذلك ،وعالقته بأمته ـ كما يذكر في أحاديثــه الكثــيرة ــ عالقــة
ممتدة ،ال منقطعــة ..والقطيعــة إن حصــلت ليســت من النبــوة ،وإنمــا من المتعــاملين
معها ،ذلك أنها مثل الشمس ،ال تحتجب إال على من يشاء أن يحجب نفسه عنها.
وبما أن أجمل نجوى مــع هللا هي الحــديث في تنزيهــه وتقديســه وحمــده؛ فــإن
أجمــل حــديث مــع رســول هللا هــو الحــديث عمــا آتــاه هللا من أصــناف الكمــال
والجمال ..حتى يكـون ذلـك بمثابـة التريـاق الـذي يزيـل الشـبهات ،واإلكسـيرـ الـذي
يزرع المحبة في القلب.
فنحن مطالبون في عالقتنا برسول هللا أن تكــون عالقــة محبــة ،ال مجــرد
طاعة ،ذلك أن المحب ال يكتفي بالطاعة الظاهرة ،وبــأداء التكــاليف ،وإنمــا يضــيفـ
إلى ذلك التعامل الوجداني معها ،وهو ما يجعلها في أرقىـ مراتب الكمال.
ولهذا ،فإن هذه الرسائل تهدف إلى ثالثة أهداف كبرى:
أوال ـ بيان كماالت رسول هللا في المجاالت المختلفة ،فالحب ال يكـون إال
بعد إدراك الكمال.
ثانيا ـ ـ رد الشــبهات والتحريفــات عن رســول هللا ،ذلــك أنهــا تتنــافى مــع
الكمال ،وقدـ تسيء إليه ،وقد تكون هي الحجاب الذي يحول بين القلب وبين المحبة.
ثالثا ـ التوسل برسولـ هللا لتحقيـق مـا يرتبـطـ بالكمـال من سـلوك وأخالق
وغيرها ،وقد جعلنا ذلك في خاتمة كل رسالة ،مثلما يقدم للدعاء بالثنــاء على هللا ،ثم
يختم بطلب الحاجات.
ولم يكن هدفنا من التوسل طلب الحاجــة فقــط ،وإنمــا كــان هــدفنا األكــبر منــه
تبيين األثر السلوكيـ لمحبة رسول هللا في كـل جـانب من الجـوانب ،ألن العقيـدة
التي ال تثمر عمال عقيدة الكسالى والمدعين ،ال المجدين والصادقين.
وقــد جمعنــا في هــذه الرســائل أربعين صــفة من صــفات رســول هللا ،
وشرحناها ،وبينا أدلتها المختلفة من خالل تلك الخطابات الموجهة إليه.
وتلك الصفات هي :السراج المنير ..الوسيلة العظمى ..أسوة المتــألمين ..النبــأ
العظيم ..الرحمة المهداة ..القرآن الناطق..ـ العالم الراسخ ..العارف المحقــق ..اإلمــام
المم ّكن ..القائــد الملهم ..المبلــغ األمين ..الواعــظ الخطيب ..البشــير النــذير ..الحكيم
البليــغ ..المعلم الناصــح ..الشــهم الشــجاع ..المخلِص المخلَص ..رســول العــالَمين..
النــبي المعصــوم..ـ خــاتم النبــيين ..المخلّص الموعــود ..المؤيــد بــالمعجزات ..المنبــأ
4
بــالنبوءات ..مجــاب الــدعوات ..مهبــط البركــات ..المستبصــرـ المتوســم..ـ المبجــل
المكرم ..المحبوب المعظم ..المتبتل العابد ..العفيف الزاهد ..المقاوم المجاهد ..التقي
النقي ..المتواضــع األبي ..المــؤدب الحــيي ..الــذاكر النجي ..الجــواد الكــريم ..العفــو
الحليم ..الصادق األمين ..العبقري الخبير ..الهادي البصير.
وننبه إلى أنا تعمدنا ذكر أكبر عدد من النصوص واألحاديث ،ألن الهدف من
الكتاب هو التعريف برسولـ هللا ،وتقريبه ،وتعميق اإليمان به ،ولذلك كــان لتلــك
النصوص دورهاـ الكبير في إعطاء تلك الصـورة الجميلـة ،ألنهــا وحــدها من يمكنـه
نفي تلك الصورة المشوهة الـتي رسـمها لـه أعـداؤه القـدامى والمحـدثين ،من الـذين
يشعرون أو ال يشعرون.
وننبه ـ كذلك ـ إلى أنا ابتعدنا في الكثير من تلك الرواياتـ على النقل الحــرفي
لها ،إما بسبب احتوائها للكثير من التفاصيل التي ال تغنينــا ،أو لكونهــا تحتــوي على
بعض التشويهاتـ التي نرى أنها دست على النبوة.
وهذا بناء على تصورناـ للتعامل مع الحديث ،والذيـ تحدثنا عنــه بتفصــيل في
كتاب [سنة بال مذاهب] ،وهو عدم رمي الحديث بســبب بعض ألفاظــه أو جملــه ،إذا
مــا كــان فيــه بعض المعــاني الصــحيحة ،ذلــك أن الجــزء المرفــوضـ قــد يكــون من
تصرفـ الرواة ،وليس من أصل الحديث ،كما رويـ عن أبي هريــرة أنــه حــدث عن
رسول هللا أنه قال( :أفضــل الصــدقة مــا تــرك غــنى ،واليــد العليــا خــير من اليــد
السفلى ،وابدأ بمن تعــول .تقــول المــرأة :إمــا أن تطعمــنيـ وإمــا أن تطلقــني ،ويقــول
العبد :أطعمني واستعملني،ـ ويقول االبن :أطعمني ،إلى من تدعني)()1
وعندما سئل بعد روايتـه للحـديث ،فقيـل لـه :يـا أبـا هريـرة ،سـمعت هـذا من
رسول هللا ؟ قال( :ال ،هذا من كيس أبي هريرة) ()2
فــالجزء األول من الحــديث صــحيح ،لكن الجــزء الثــاني ،وهــو قولــه( :تقــول
المرأة :إما أن تطعمنيـ وإما أن تطلقني ،ويقول العبد :أطعمــنيـ واســتعملني،ـ ويقــول
االبن :أطعمني ،إلى من تدعني) ،فإنه واضح في كونه من تصرف الراوي ،ولــذلك
ال يصح رمي الحديث جميعا بسبب تصرفـ الراوي في بعض أجزائه.
)(1رواه أحمد )7423( 252 /2وفي ،)10175( 476 /2والبخاري 5355 :وأبو داود...1676 :
)(2التخريج السابق.
5
النبأ العظيم
سيدي يا رسول هللا ..أيها النبأ العظيم الذي هم فيه يختلفون.
لقـــد بحثت في تـــاريخ البشـــرية ،وقلبت صـــفحات عظمائهـــا ،فالســـفتهم،
وعلمائهم ،وقادتهم ،وزعمائهم ،ورجال دينهم ..فلم أجد شخصاـ كان له ذلــك التــأثيرـ
الذي كان لك على الرغم من أنك عشت في بيئة صحراوية بدوية متخلفــة عن ركب
األمم التي كانت تعاصرها.
وعلى الرغم من كونك لم تكن مؤيدا بقيصر وال بكســرى وال بفرعــون ..وال
بأي حاكم يمدك بما تتطلبه الشهرة والجاه من فنون اإلشهار.
وعلى الــرغم من كونــك تعرضــت للكثــير من الهجمــات من قوم ـكـ األدنين،
ومن غيرهم من األبعــدين ..الــذي اجتمعــوا جميعــا على حربــك وتشــويهك..ـ فكتبــوا
القصائد ،ونشرواـ الجنود ،وأعدوا كل أنواع العدة إلطفاء نورك..ـ ومـع ذلـك لم تــزد
األيام نورك إال تألقا واشتعاال ولمعانا.ـ
ولم يكن ذلك وحده ما أثار عجبي ..وإنما ذلك التسجيل العجيب لكل مجريات
حياتــك ..بــل حــتى لمن حظي بــالجلوس إليــك ومواالتــك ،أو خســر باالبتعــاد عنــك
ومعاداتك..ـ كلهم حفظت أسماؤهم وأنسابهم والكثير من تفاصيل حياتهم.
أمــا أنت ،فقــد حفظت لنــا حركاتــك وســكناتك..ـ وأقوالــك وأفعالــك..ـ حــتى
ابتســامتك الــتي كنت ترســلها كــل حين ..حفظت لنــا ،فعرفنـاـ مــتى ابتســمت ،ومــتى
غضبت ..وما الذي فعلت ،وما الذي لم تفعل.
وقــدـ جُنــد لــذلك جنــود كثــيرون من الــرواة والمحــدثين والعلمــاء في كــل
المجاالت ..ال دور لهم إال ذلك..
وعندما عدت لتاريخ غيرك من الزعماء والعلماء وحتى األنبياء ..لم أجــد إال
شيئا قليال ال يكاد يذكر أمام ما هيء لك.
فموسىـ عليه السالم على الرغم من كونه كان محاطــا بــالكثير من الكتبــة ،ال
نعلم عن حياته ـ حسب األسفار الخمسة من التــوراة ــ إاَّل قتالــه وقيادتــه في الحــرب
وبسالته فيها ،ثم ال نــرى بعـد ذلـك شـيئا كثــيرا يتعلـق بحياتــه ،وكيفيـة التعامــل مــع
أحوالها المختلفة.
وهكذا ال نجد في األناجيل تفاصيل كثيرة ترتبط بحياة المســيح عليــه الســالم،
وكيفـ كان يتعامل مع القضايا المختلفة..
وهكــذا ال نجــد في ســيرة بــوذا إال هجرتــه ألهلــه وعيالــه إلى الصــحاريـ
والغابات؛ وكونــه لم يــر ولــده الوحيــد مــرةً أخــرى ،وكونــه تــرك عن كاهلــه أعبــاء
ال ُح ْكم ،وارتضائه للموت أخيرا طريقا للخالص.
وهكذا عندما عدت للفالسفة الكبار والقــادة العظــام لم أجــد من اهتم بتفاصــيل
حياتهم مثلما وجدت من اهتم بكل تفاصيل حياتك.
6
وعنــدما رحت أبحث عن أكــثر األســماء شــهرة وترديــدا،ـ وفي جميــع أنحــاء
العالم ،وجدت اسمك هو االسم الوحيد الذي يردد كل يوم وعلى جميع مــآذن العــالم،
وبصوتـ عال ،وهو ينادي (محمد رسول هللا)
أســـمعه من على المنـــارات ،وفي القنـــوات الفضـــائية ،وفي البث اإلذاعي..
وأسمع معه ماليين ،بل ماليير الحناجر ،وهي تصلي وتسلم عليك كلما ذكرت..
عندما سمعت كل هذا رحت أقرأ تلــك الكلمــات الـتي أوحاهـا هللا إليــك ،وأنت
في مكة المكرمة ،تُكال لــك كــل ألــوان التهم ،وتُقــذف بكــل أنــواع الســباب ،وتُــرمى
بالحجارة ،ويسخر الكــل منــك ..لكن هللا تعــالى كــان يقــول لــك حينهــا مطمئنــا :أَلَ ْم
ك (َ )3و َرفَ ْعنَـاـ ض ظَ ْهـ َ
ـر َ ك ( )2الَّ ِذي أَ ْنقَ َ ض ْعنَاـ َع ْنــكَ ِو ْز َر َك (َ )1و َو َ نَ ْش َرحْ لَكَ َ
ص ْد َر َـ
صبْ ْر يُ ْسرًا ( )6فَإِ َذا فَ َر ْغتَ فَا ْن َ ْ
ْر يُ ْسرًا ( )5إِ َّن َم َع ال ُعس ِ ْ
ك ( )4فَإِ َّن َم َع ال ُعس ِ ك ِذ ْك َر َ لَ َ
(َ )7وإِلَى َربِّكَ فَارْ غَبْ ([ )8الشرح]8 ،1 :
ثم يقول لك ،وأنت في المدينة ،وبعد أن تحزبت عليك كل األحزاب ،واجتمــع
ـور هَّللا ِ بِــأ َ ْف َوا ِه ِه ْم َويَــأْبَى هَّللا ُ إِاَّل أَ ْن يُتِ َّم لحربك كــل الحاقــدين :ي ُِريـ ُدونَ أَ ْن ي ْ
ُطفِئُــوا نُـ َ
ُظ ِهـ َرهُ ق لِي ْ ين ْال َحـ ِّورهُ َولَوْ َك ِرهَ ْال َكافِرُونَ ( )32هُ َو الَّ ِذي أَرْ َس َل َر ُسـولَهُ بِ ْالهُـدَى َو ِد ِ نُ َ
ُطفِئُوا َعلَى الدِّي ِن ُكلِّ ِه َولَوْ َك ِرهَ ْال ُم ْش ِر ُكونَ [ التوبة ،]33 ،32 :ويقول :ي ُِري ُدونَ لِي ْ
ـرهَ ْال َكــافِرُونَ ( )8هُـ َو الَّ ِذي أَرْ َسـ َل َر ُسـولَهُ ور هَّللا ِ بِــأ َ ْف َوا ِه ِه ْم َوهَّللا ُ ُمتِ ُّم نُـ ِ
ـور ِه َولَــوْ َكـ ِ نُ َ
ِّين ُكلِّ ِه َولَوْ َك ِرهَ ْال ُم ْش ِر ُكونَ [ الصف]9 ،8 : ُظ ِه َرهُ َعلَى الد ِ ق لِي ْ ين ْال َح ِّبِ ْالهُدَى َو ِد ِ
لقد علمت بعد هذا كله المدد الذي كنت تُمد به ..وأنه ليس من الشــرق وال من
الغــرب ..وال من العــرب وال العجم ..وال من المحــدثين وال من الفقهــاء ..وإنمــا من
هللا ..فاهلل هو الذي أراد السمك أن يقترن باسمه ،حــتى ال يصــل إليــه إال من وصــل
إليك.
لقد أراد هللا أن يسمع بك العالم أجمع ..وأن يبحث عنك العالم أجمع ..ذلــك أن
من وصل إليك وصل إلى الحقيقة والسراطـ المستقيم ،وفازـ بسعادة األبد.
ولذلك حــاول الشــياطين أن يســيئوا إلى اســمك ،فربطــواـ ذلــك الشــعار العظيم
[محمد رسول هللا] الذي أقض مضــاجعهم ،بأولئــك المغفلين الحاقــدين الــذين ورثــوا
دين الفئة الباغية ،وأصحاب الملك العضوض.
لقد راحوا يرسمون اسمك على رايــاتهم الســوداء كســواد قلــوبهم ،والملطخــة
بالدماء ،ليسيئوا إليك ،وإلى القيم النبيلة التي تمثلها..
وراح غــيرهم يرســمون الرســومـ الســاخرة ،أو ينتجــون األفالم الوقحــة ،أو
يكتبون الروايات البذيئة ..لينزلوكـ عن ذلك المقام الرفيع الذي أنزلك هللا إياه.
ولن يفلحوا في ذلــك ..كمــا لم يفلح القرشــيون واليهــود والمنــافقون ومرضـىـ
القلــوب ..وكمــا لم تفلح كــل تلــك الترســانة من الــرواة الــذين جنــدهم ســالطين الفئــة
الباغية.
فأنت ـ يا سيدي ـ نور هللا الذي ســيبقى مشــعا حــتى تنمحي جميــع الظلمــات..
7
وحــتى يهيمن دينــك على الــدين كلــه ..وحــتى يتســاقطـ أمامــك كــل أولئــك الــدجالين
والمشعوذين الذين راحوا يتالعبون بالحقائق ،ويشوهونها.
سيدي رسول هللا..
أنا العبد الضعيف الذي يتشــرف بــأن يكــون خادمــا لنعلكم ،بــل للــتراب الــذي
تمشــون عليــه ..أســألك أن تقربــنيـ منــك ،حــتى أحظى بنــورك الحقيقي الــذي يطفئ
جميــع ظلمــاتي ..فقــد راح الكثــير من الــدجالين يخلطــون نــورك بنــيران الشــياطين
ليشوهواـ جمال النــور الــذي جئت بــه ..فيجعلــوا منــه نيرانــا يحرقــون بهــا الحقــائق،
ويهدمون بها القيم.
وأســألك ــ ســيديـ ــ أن أعرفــك كمــا أنت ،ال كمــا صــوروك ..فــأنت الصــفاء
والنورـ والجمال ..وأنت األخالق الرفيعــة ،والقيم الســامية ..وأنت الرحمــة المهــداة،
والنعمة المسداة ،وسراط هللا المستقيم ..وأنت أنت..
8
السراج المنير
ســيدي يــا رســول هللا ..يــا من وصــفك ربــك ،فقــالَ :ودَا ِعيًــا إِلَى هَّللا ِ بِإِ ْذنِ ـ ِه
َو ِس َرا ًجاـ ُمنِيرًا[ األحزاب]46 :
أنت ـ سيدي ـ سراج منير بكل المقاييس ،وما وصفك ربك به حقيقة ال مجال
فيهـا للشـك ،وال للمبالغـة ،بـل هي تصـوير إلهي بـديع لحقيقتـك ،وحقيقـة الوظـائفـ
العظيمة التي ُوكلت لك ..والتي يرتبط بها ذلك العالم الجميل المغيب الذي ال نــراه..
لكننا بواسطتكـ يمكننا أن نراه ونعيشه ونتواصل معه ،ونصبح جزءا منه.
فكما أن حكمة هللا تعالى ولطفه بعبــاده ورحمتــه بهم اقتضــت أن يجعــل لهــذه
األرض شمسا تمدها بــالنور ..ولوالهــا لعاشــت األجســاد في الظلمــات المدلهمــة ،ال
ترى ربيعــا ،وال تســمع تغاريـدـ العصــافير ،وال تقطــف ثمــار األشــجار ،وال تتــذوقـ
طعما ألي شيء ،كما وصفـ هللا تعالى ذلك ،فقــالَ :و َج َع ْلنَــا ِسـ َراجًا َوهَّا ًجــا ()13
ت أَ ْلفَافًــا ( ت َما ًء ثَجَّاجًا ( )14لِنُ ْخ ِر َج بِ ِه َحبًّا َونَبَاتًا (َ )15و َجنَّا ٍ ْص َرا ِـ َوأَ ْن َز ْلنَاـ ِمنَ ْال ُمع ِ
[ )16النبأ]16 - 13 :
فالجنــات الملتفــة ،والنباتــات المتنوعــة ،والثمــار اللذيــذة ،واأللــوان الباهيــة،
والنسيمـ العليل ،والدفء الذي تستشعره األجســام ،وتنتشـيـ لــه ..كــل ذلــك فيض من
كرم تلك الشمس التي أودعها هللا لتكون سـراجا لعـالم األجسـاد ..ولـذلك ال يمكن أن
تقوم الحياة من دونها.
وهكذا أنت ــ يــا رســول هللا ــ في عــالم األرواح ..فلــوالك لم نــر إال األشــباح
المخيفة ،والشياطين المرعبة ..ولوالك لعشنا في سجون التشاؤمـ المطبــق ،والحــزن
الشديد ،والكآبة التي ال عالج لها.
ولوالك لم نر أشجار الحقائق الممتلئة بكــل ثمــار الجمــال ..ولــوالك لم نتمكن
من قطــف أي ثمــرة منهــا ..وكيــف نقطفهــا ،ونحن ال نهتــدي إليهــا ،وال نراهــا ،وال
نسمع بها ..وهــل يمكن ألحــد أن يهتــدي لشــيء ،وهــو يعيش في ذلــك العــالم المظلم
ت فِي بَحْ ٍر لُ ٍّ
جِّي يَ ْغ َشاهُ َموْ ٌج ِم ْن فَوْ قِ ِه َموْ ٌج الذي وصفه هللا تعالى ،فقال :أَوْ َكظُلُ َما ٍ
ْض إِ َذا أَ ْخ َر َج يَـ َدهُ لَ ْم يَ َكـ ْد يَ َراهَــا [ النــور: ق بَع ٍ ضهَا فَوْ َـ ِم ْن فَوْ قِ ِه َس َحابٌ ظُلُ َم ٌ
ات بَ ْع ُ
]40
ولذلك كنت أنت النور الذي أمــدنا هللا بــه ،لــنرى ربيــع الحقــائق ،ونشــم أريج
عطرها الفواح الذي لم نكن لنهتدي إليه لوال ذلــك الضــياء الــذي جعلــك هللا مصــدراـ
ور [ النور]40 : لهَ ،و َم ْن لَ ْم يَجْ َع ِل هَّللا ُ لَهُ نُورًا فَ َما لَهُ ِم ْن نُ ٍ
أنت سيدي منبع األنوارـ الحقيقية التي لم تختلط بنيران الشــياطين ..فلــذلك من
لجأ إليك ،واحتمى بنورك ،واستمد منه ،واكتفى به ،لم يضل عن السراط المستقيم.
وعندما يأتي في ذلك الموقف الذي تنكشف فيه الحقائق ،ويرتفع التمويه يجــد
نفسه ممتلئا بأنوارك ،فلذلك ال يرى الظلمات ،وال ترعبه األشباح ،وال يقــع في تلــك
9
الحفر الكثيرة ،بل سيكون صاحب نور عظيم ،وبصيرة قوية ..كما قال تعالى{ :يَوْ َم
ت يَ ْس َعى نُو ُرهُْـم بَ ْينَ أَ ْي ِدي ِه ْم َوبِأ َ ْي َمانِ ِه ْم} [الحديد]12 : ت ََرى ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َو ْال ُم ْؤ ِمنَا ِ
وكيف ال يكون كذلك ،وهو لم يكن يخلط نورك بالظلمات ،وال بالنيران ..بــل
كان مكتفيا بك ،يعيش في عالمك الممتلئ بالجمال.
أما أولئك الكذبة المخادعون ،والذين لم يكتفوا بسراجك ،أو رأوا أن ســراجك
أدنى من أن يضــيء لهم الظلمــات ،فراحــوا إلى غــيرك ،وخلطــوا الحــق بالباطــل،
وأكلوا الثمار المسمومة التي نهوا عن أكلها..
في ذلــك الموق ـفـ الشــديد ..تختلــط عليهم األمــور..ـ ويــذهب كــل ذلــك النــور
الكاذب الذي لم يكن يستمد من سراج هللا الذي نصبه لعالم األرواح ،بل كــان يســتمد
من نيران الشياطين التي كانت تخدع البشر..
لقد ذكر هللا تعالى ذلك الموقف الشديد ،وحذرناـ منه أبلغ تحذير ،فقال :يَوْ َم
ـل ارْ ِج ُعــوا ـات لِلَّ ِذينَ آ َمنُــوا ا ْنظُرُونَــا نَ ْقتَبِسْ ِم ْن نُـ ِ
ـور ُك ْـم قِيـ َ يَقُــو ُل ْال ُمنَــافِقُونَ َو ْال ُمنَافِقَـ ُـ
اطنُهُ فِي ـ ِه الرَّحْ َمـ ةُ َوظَــا ِه ُرهُ ِم ْن ُور لَهُ بَابٌ بَ ِ
ب بَ ْينَهُ ْم بِس ٍ ُر َـ َو َرا َء ُك ْم فَ ْالتَ ِمسُوا نُورًا فَض ِ
قِبَلِ ِه ْال َعـ َذابُ ( )13يُنَــادُونَهُْـم أَلَ ْم نَ ُك ْن َم َع ُك ْم قَــالُوا بَلَى َولَ ِكنَّ ُك ْم فَتَ ْنتُ ْم أَ ْنفُ َسـ ُك ْم َوتَ َرب ْ
َّصـتُ ْم
َوارْ تَ ْبتُ ْم َو َغ َّر ْت ُك ُم اأْل َ َمــانِ ُّي َحتَّى َجـ ا َء أَ ْمـ ُر هَّللا ِ َو َغـ َّر ُك ْم بِاهَّلل ِ ْال َغـ رُو ُـر ([ )14الحديــد:
]14 ،13
هؤالء ـ سيدي ـ الذين أعرضوا عنــك ،وعن وصــاياك ،وراحــوا يتصــورون
أنهم يمكنهم أن يحولوا من أهوائهم سرجا بديلة لسراجك ،فخدعتهم أحوج مــا كــانوا
إليها.
لقد كذبوا على أنفسهم في الدنيا ،فلذلك كذبت عليهم أنفسهم هناك..
هناك ـ سيدي ـ يمتلئ بالحزن واألسى واأللم كــل من أعرضــواـ عن ســراجك
المنير ،وراحوا لتلك الســرج المزيفــة يستضــيئون بهــا ،فــأكلوا من ثمارهــا ســموما،
وربواـ في حقول نفوسهم حيات وعقارب ..سرعان ما كشرت لهم عن أنيابها عنــدما
أزيل ستار التمويه ،ورأى الخلق الحقائق.
ُّ َّ َ َ ْ
لقد ذكر هللا تعالى ذلك ،وحذر منه أبلــغ تحــذير ،فقــال :إِذ تبَـرَّأ ال ِذينَ اتبِ ُعــوا
ـال الَّ ِذينَ اتَّبَ ُعــوا لَــوْ ت بِ ِه ُم اأْل َ ْسبَابُ (َ )166وقَـ َ اب َوتَقَطَّ َع ْ ِمنَ الَّ ِذينَ اتَّبَعُوا َو َرأَ ُوا ْال َع َذ َ
ت َعلَ ْي ِه ْم َو َمــا أَ َّن لَنَا َك َّرةً فَنَتَبَرَّأَـ ِم ْنهُ ْم َك َما تَبَ َّر ُءوا ِمنَّا َك َذلِكَ ي ُِري ِه ُم هَّللا ُ أَ ْع َمــالَهُ ْم َح َسـ َرا ٍ
ار[ البقرة]167 ،166 : خَار ِجينَ ِمنَ النَّ ِ هُ ْم بِ ِ
هؤالء ـ سيدي ـ هم أولئك الذين أعرضوا عن نورك ،وعن ســراجك المنــير،
وراحواـ يقيمون أندادا وأصناماـ وطواغيت ركنــوا لهــا ،وهجــروك ،وتصــورواـ أنهــا
تعسفهم عندما يحتاجون إليها ،فتخلت عنهم ،وهم أحوج ما يكونون إليها.
سيدي رسول هللا ..أنا العبد الفقير الحقــير الــذي تشــرف بــأن يكــون فــردا من
أمتك..
أسألك أن تنقذني من كــل تلــك الســرج الكاذبــة ..فال تطيــق نفســي أن تحــترقـ
10
بلهيبها.
ضمني إلى نــورك ،واجعلـنيـ أعيش في ربيعــك ،وفيـ الحقـول الجميلـة الــتي
نضجت من أنوار سراجك..
اجعلني زهرة من أزهارها ..وثمرة من ثمارها ..ونورا من أنوارها.
واجعلني أتجــول في تلــك الجنــات الفســيحة الــتي تنعمت بــأن تكــون ســراجها
المنير ،فحياتي التي يملؤها البرد القارس ال يمكن أن تجد لذة الدفء من دونك.
وحياتي التي تلمؤها الظلمــات ال يمكن أن تبصــر الجمــال ،وتتنعم بالتواصــل
معه من دون أن تكون أنت نورها وضياءهاـ وعينها.
فــاجعلني أفــنى عن نفســي بــك ..ألبصــرـ العــالم بعينيــك ..وأعيش الحقــائق
بروحك..ـ
11
الوسيلة العظمى
سيدي يــا رســول هللا ..يــا من جعلــك هللا الوســيلة العظمى ،والحبــل الممــدود،
وسفينة النجاة..
كيف ال نشتاق إليك ،وأنت أشد ضرورة لنا من الهواء الــذي نتنفســه ،والمــاء
الذي نشربه ،والروح التي نعيش بها؟
بل لوالك لكانت أرواحنا مثل أجسادنا ..مجرد طين وماء وحمأ مسنون..
كيف ال نشتاق إليك ،وأنت الذي أعطيت الحياة طعمها ولونهاـ وجمالها..
فلوالك ما أزهر الربيع ،وما أشرقت الشمس ..وما تبينت لنــا حقــائق األشــياء
المخبأة في سراديب الظلمات.
لوالك لكان كل شيء مقبرة وموتا ،وأشباحاـ مخيفة..
أنت لنا مثل العينين اللتين ال يمكن أن نــرى األلــوان ،وال جمــال األشــياء من
دونهما.ـ
بل أين العينان منك ..وما أبعدهما عنك ..فهما وسيلتناـ لذلك الجمــال المحــدودـ
الذي سرعان ما يذبل ..أما أنت فوسيلتنا إلى الجمال الكامــل الحقيقي الــدائم الــذي ال
تستطيعـ األيام أن تغيره ،وال الحوادث أن تبدله.
ولذلك أنت لنا العينان الحقيقيتان اللتــان ال يمكن أن نــرى الكـون على حقيقتــه
من دونهما ..فمن لم ير الكون بك عاش أعمى ،حتى لو امتلــك من أجهــزة اإلبصــار
ما يرى به جميع األفالك ..دقيقها وجليلها.
وأنت لنا األذنان اللتان نســمع بهمــا حقــائق الوجــود ..ومن مصــدر الوجــود..
ولوالكـ لعشنا في عالم الصمت المطبق..
يا رسول هللا ..كم يصيبنا األلم عندما نشعر بأولئك الذين تخلو حيــاتهم منــك..
ويلهم كيف يمكنهم أن يعيشوا ،وهم ال يــرون الســراج المنــير الــذي يضــيء لهم في
مدلهمات الظلمات؟
وكيف يمكنهم أن يهتدوا إلى حقــائق الوجــود ..وهم ال يتــأملون في صــحيفتك
التي جعلها هللا مرآة صقيلة لتعرفهم بالوجود..ـ وحقائقه وقوانيه؟
لقــد خــرجت اليــوم إلى المقــبرة ..وكــانت موحشــة جــدا ،وعنــدما رأيتهــا،
وتصورت نفسي في قبر من قبورها ..رأيت الحياة مجــرد مزحــة ثقيلــة ..وأصــابني
اكتئاب وألم شديد.
لكني عندما توسلت بك ..ورحت أنظر إليها من خاللك ..بــدت لي شــيئا آخــر
تماما ..وبدا لي ذلك القبر الموحش جنة غناء ..وبرزتـ لي آفاق جديدة في الحيــاة لم
يكن عقلي لوالك ليحلم بها ،وال ليعرفها ،وال ليصلها ..حتى الخيال لم يكن ليتطــاول
للوصولـ إليها.
بعـــد أن عـــدت من المقـــبرة ،ورحت أنظـــر إلى الحيـــاة كلهـــا من عينيـــك
12
الجميلتين ..رأيتها شيئا آخر تماما..
لقد كانت سابقا في عيني مفازة للتنافس على المال والجــاه والســلطان ..لكنهــا
بفضل عينيك تحولت إلى مفازة للقيم النبيلة واألخالق الرفيعة والحقائق السامية.
كنت قبل أن أرى الحياة بعينيك أحسد كل أمير أو وزيــر أو ملــك أو صــاحب
قصرـ فخم ،أو مركب فاره ..لكني عندما رأيتها بعينيــك اســتحالت كــل تلــك األشــياء
مجرد لهو ولعب ال يختلف عن لهو األطفال ولعبهم.
لقد كانت جل مطالبي من دونــك خدمــة تــرابي ومــائيـ وخاليــاي وأنســجتي..ـ
لكني بعد أن عرفتك ترقيت عن عالم الطين إلى عالم العقـل والقلب والــروح والســر
وكل المعارج التي أرحل بها إلى ذلك العالم األسمى..
بفضلك سيدي ..صرت أشعر أني أتحرك بحركة جوهرية نحو عوالم الكمال
الــتي كنت محجوبــا عنهــا عنــدما كنت بعيــدا عنــك ،ولم تكن أنت وســيلتي ،ولم تكن
سفينتك مركبي ،وال دربك دربي.
لكــني بعــد أن ســرت خلفــك ،ومــددت يــدي إليــك ،وإلى حبــك ..وامتطيت
سفينتك ..رأيت الخلق جميعــا غــرقى في طوفــان األهــواء ،يعيشــون مثــل الصــغار،
ويموتون مثل تلك البهائم التي ال ترى الحياة إلى في المــرعى إلى أن يــأتي الجــزار
ليسلبها منها.
بفضلك سيدي تغــيرت نظـرتيـ للكـون ..ولنفســي ..وللحيــاة ..وللعــالم ..ولكـل
شيء..
بفضــلك ســيدي زالت كــآبتي وتشــاؤميـ ويأســي ..ألن الحيــاة بعينيــك أجمــل
بكثير ..هي كلها ربيع ..ألن سراجك المنير يضيء عليها..
بل يملؤهـا بـاأللوان الـتي ال يمكن لعيوننـاـ أن تراهـا ..فال يمكن أن نراهـا إال
بعينيـــك ..مثـــل ذلـــك الفلكي الـــذي ال يمكنـــه أن يـــرى الكـــواكب البعيـــدة من دون
مرصاده..
وأين مرصادـ الفلكي منك ..فهو ال يريه إال حجارة في السماء ،أما أنت فنرى
بك من العوالم ما ال تطمع جميع مراصد الدنيا في اكتشافه.
وأنت فوقـ ذلك كله ال ترينا الحقائق فقط ،بل تدلنا على الطريـقـ الــذي نصــل
به إلى السعادة األبدية..
تلك السعادة التي تاهت عنها كل العقول التي تكبرت عن أن تنظر إلى الحيــاة
من منظارك.ـ
فأنت لذلك ـ ســيدي ــ منارتنــا الــتي نهتــدي بهــا في الظلمــات ،وأنت ســراطناـ
المعبد الذي يقينا من الوقوع في المهالك الكثيرة التي وضعت في غير طريقك..
وأنت الذي تمد يديك لمن شاء أن يمسك بهمــا ،حــتى يعيش معــك ،ومــع ذلــك
العالم الجميــل الــذي دللتنــا عليــه ،وكنت تحــزن حزنــا شــديدا عنــدما تــرى الخالئــق
معرضين عنك ،مكتفين بتلك العيون التي ال يرون بها إال المراعي والمقابر.
13
ولذلك ـ سيدي ـ أنت لنا الروح الحقيقية ..فلوالكـ لكانت أرواحنا مثل أجسادنا
مجرد طين وماء وحمأ مسنون.
وأنت لنا العقل الذي نبصــر بــه الحقــائق ..ولــوالك لكنــا مجــانين ..ألنــا نــرى
الحقائق خالف ما هي عليه في الواقع.
وأنت لنا القلب الطــاهر الـذي نعشـق بــه الحقــائق ..ولـوالكـ لغرقنـا في حمــأة
الحب المدنس الذي يرميناـ في مستنقعات األهواء.
ولذلك أنت لنا الحياة الحقيقية ..الــتي لوالهــا لعشــنا حيــاة مزيفــة ،مثــل أولئــك
الذين يعمرون دهرا طويال ،ويتمتعون بمتع كثيرة ..ثم يخرجون من الحياة ،قبــل أن
يكتشفوا أجمل ما فيها..
َّ َ
ولذلك صدق ربك عندما اعتبرك مصدراـ للحياة ،فقــال :يَاأيُّهَــا ال ِذينَ آ َمنُــوا
ا ْستَ ِجيبُواـ هَّلِل ِ َولِل َّرس ِـ
ُول إِ َذا َدعَا ُك ْم لِ َما يُحْ يِي ُك ْم [ األنفال]24 :
فأنت سيديـ ذلك الداعي الذي ينفخ الحياة الحقيقية في كــل من آمن بــه وأحبــه
واتبعه ..وبقدر المحبة تكون روح الحيــاة الجديــدة ..الــتي ال يمكن لإلنســان أن يولــد
الوالدة الحقيقة من دونها.
14
أسوة المتألمين
سيدي يا رسول هللا ..يا أسوة كل المضحين والمتألمين والمتعبين..
أكتب هــذه الرســالة إليــك بعــد أن أصــابني بعض اإلرهــاق ،نتيجــة أعمــال
بسيطة ،تصورت أني قمت بهـا في خدمـة دينــك ..وتـوهمت معهــا كــذبا وزوراـ أني
قدمت بعض التضحيات أثناء ذلك.
لكني عندما تركت النظر في مرآة نفسي األمــارة بالســوء ،ورحت أنظــر إلى
مرآتك الصقيلة ،ورأيت كــل تلــك اآلالم العظيمــة الــتي مــرت عليــك طيلــة حياتــك..
وتلك التضحيات التي ال نزال نعيش آثارهــا ..اســتحييت من نفســي ،وامتألت خجال
من ذلك الذي سميته تعبا وألما وتضحية..
فأين تعبي وألمي وتضحيتي ..بل أين تعب الماليين وآالمهمـ وتضحياتهمـ ممــا
حصل لك في حياتك ..أنت الـذي قضـيت حياتــك كلهـا في خدمــة رســالتك ومبادئـكـ
والقيم العظيمة التي جئت بها.
لقد تذكرت ـ سيدي ـ كيف أمرك ربك أن تنزع الدثار عنــك ،وتخــرج إلنــذار
أولئك األجالف الغالظ المســتكبرين ..الــذين لم يراعــوا حرمتــك ،وال كرامتــك ،وال
نبلك ،وال نبوتك ..وهم الذين كانوا يعرفون دماثة أخالقك ،وسماحة طبعك..
بمجرد أن جاءك األمر اإللهي رحت مسرعا تنفــذه من دون أي تــردد ،أو أي
حســاب ألي أذى يمكن أن تتعــرض لــه ..مــع أنــك كنت تعلم أن الكــل ســيقف في
وجهك ..وأنهم سيرددون عليك ما ردده الجهلة على أنبيائهم.ـ
لكنك ـ سيدي ــ لم تبــال بكــل مــا يقولونــه لــك ..فليقولــوا:ـ ســاحر أو كــاهن أو
مجنون أو ابن أبي كبشة ..أو ما شاءت لهم لغتهم من ألفاظ البذاءة ،ومــا شــاءت لهم
نفوسهمـ من سمومـ الحقد.
لقد كنت مترفعاـ عليهم ،ألنك لم تكن تستمع إال إلى ربك ،وهو يســليك بقولــه:
ك َو ُك ْن ِمنَك بِ َمــا يَقُولُــونَ ( )97فَ َســبِّحْ بِ َح ْمــ ِد َربِّ َ صــ ْد ُر َق َضــي ُـَ ولَقَــ ْد نَ ْعلَ ُم أَنَّكَ يَ ِ
اليَقِينُ [ الحجر ،]99 - 97 :ويقول لك : السَّا ِج ِدينَ (َ )98وا ْعبُ ْد َربَّكَ َحتَّى يَأْتِيَكَ ْ
ـؤ ِمنِينَ [ الــذاريات: ـوم (َ )54و َذ ِّك ْـر فَـإِ َّن الـ ِّذ ْك َرى تَ ْنفَـ ُع ْال ُمـ ْ فَتَ َو َّل َع ْنهُ ْم فَ َما أَ ْنتَ بِ َملُـ ٍ
]55 ،54
لم تكن تسمع إال إلى ربك ،وهو يحكي لك قصص األنبياء ،وهم يعانون مثلما
تعــاني ،ويتــألمون مثلمــا تتــألم ..ليكــون ذلــك األلم ،وتلــك التضــحية عالمـة الصــدقـ
األكبر ..فهل يمكن للكاذب والمدعي أن يضحي أو يتألم أو يرضى بأن يواجه بمثــل
تلك المعامالت القاسية؟
ولم تكن تلك المعامالت القاسية قاصرة على الكلمات البذيئة الممتلئة بالحقد..
بل كانت تتحول كثيرا إلى أفعال ،تنم عن حقد عظيم..
لقد سجل لنا الرواة بعض مشاهد تلك اآلالم ..حيث ذكروا لنـا أنـك ــ سـيدي ـ
15
كنت تصــلي بفنــاء الكعبــة ،ومــع علمهم بحرمتهــا إال أن بعضــهمـ جــاء إليــك ،وأخــذ
بمنكبك ،ولوى ثوبه في عنقك ،وخنقك خنقا شديدا(..)1
وروواـ أنهم كانوا يطرحون عليــك أحشــاء الــذبائح ،وأنت تصــلي ..بــل كــانوا
يضــعونها في طريقــك ،وأمــام بيتــك ..ولم تكن تملــك إال أن تقــول لهم :أي جــوارـ
هـــذا()2؟ ..ثم تســـتمر في دعـــوتهم إلى هللا ،وبأســـلوبك الهـــادئ الممتلئ بالحكمـــة
والرحمة والتواضع.ـ
ولم يكن ذلك ألمك الوحيــد ــ ســيدي ــ بــل كنت تســير على قــدميك المســافات
الطويلة ،وأنت تبشر وتنذر ،وهم خلفك يســتهزئون بــك ،ويحــذرون منــك ..وأنت ال
تبالي بما يقولون ،وال ما يفعلون.
ولم تكتـــف في ســـيرك بأســـواق عكـــاظ ،وال ذي المجـــاز وال غيرهـــا من
األسواق..ـ بل كنت تقطع المسافات الطويلة ..حتى أنك سرت إلى الطائف رجــاء أن
تجد فيهم من اللين ما لم تجده في قريش..
لكنهم اســتقبلوك ــ ال كمــا يســتقبلون الــدعاة عنــدنا بالهــدايا والتحــف ــ وإنمــا
بالحجارة التي أدمت قدميك ..فـرحت تفـر منهم ،وتشـكو إلى ربـك مـا نـزل بـك من
الهموم واآلالمـ من غير ضـجر وال انزعـاج ..بـل كـانت شـكواك شـكوى المحـبين..
تقول له فيها( :اللهم إليك أشكو ضعفـ قوتي ،وقلة حيلتي ،وهــواني على النــاس ،يــا
أرحم الـــراحمين ،أنت رب المستضـــعفين ،وأنت ربي ،إلى من تكلـــني؟ إلى بعيـــد
يتجهمني؟ـ أم إلى عــدو ملكتــه أمــري؟ إن لم يكن بــك علي غضــب فال أبــالي ،ولكن
عافيتك هي أوسع لي ،أعوذ بنور وجهك الذي أشــرقت لــه الظلمــات ،وصــلح عليــه
أمر الدنيا واآلخرة من أن تنزل بي غضبك ،أو يحل علي سخطك ،لك العتـبى حـتى
ترضى ،وال حول وال قوة إال بك)()3
وهكذا كانت حالك مع أولئــك األجالف الغالظ الــذين كــانوا يهمــون كــل حين
بقتلك إال أن هللا عصمك منهم..
وكنت تعلم كل ذلـك ..وتعلم كـل التهديـدات الـتي توجـه لـك كـل حين ..وتعلم
معها كل اإلغراءات الـتي تقـدم لـك إن أنت تــركت دعوتـك ،وسـرتـ في طــريقهم..
لكنك لم تفعل ..ولم تهم ..ولم يخطــر على بالــك ..بــل كنت ترســل لهم بــذلك الشــعار
الذي صار علما وراية لكل األحرار( :وهَّللا لو وضعواـ الشمس في يميني والقمر في
شمالي على أن أترك هذا األمر حتى يظهره هَّللا أو أهلك فيه ما تركته)()4
ولم يكن ذلك ـ سيدي ـ ألمك الوحيد ..بل إن قومــك وإمعانـاـ في اســتعمال كــل
الوسائل لصدك عن دعوتك ،راحــوا يواجهونـكـ بعشــيرتك..ـ حيث حاصــروك معهم
17
اعذرنا ـ سيدي ـ فنحن الذين كان ينبغي لنا أن نتخذك أسوة لم نفعل ..فالــدعاة
عندنا أثرياء وجهاء ..تتنقل بهم السيارات الفخمة ،ويملكون من كل شهوات الــدنيا..
وبعضهم يملــك حرســا خاصــا ..والكثــير منهم يتــأفف لكلمــة نقــد بســيطة ،ليس فيهــا
تجريح وال أذى ..في نفس الوقت الـذي يتحـدث فيـه عنــك وعن سـال الجــزور الــتي
طرحت عليك..
فاعذرنا سيدي عن سوء خالفتنا لك ،واعذرنا في تشــويهنا لــدعوتك الممتلئــة
بالصدقـ والتضحية ،والتي حولناهاـ إلى مصيدة نصطاد بها األموال والقلوب ،لنهدم
كل ما بنيته ،ونقضي على كل تلك القيم الجميلة التي جئت بها.
18
الرحمة المهداة
سيدي يـا رسـول هللا ..يـا من وصـفك ربـك ،فقـال :لَقَـ ْد َجـ ا َء ُك ْم َر ُسـو ٌـل ِم ْن
وف َر ِحي ٌم [ التوبة]128 : َزي ٌز َعلَ ْي ِه َما َعنِتُّ ْم َح ِريصٌ َعلَ ْي ُك ْم بِ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َر ُء ٌ
أَ ْنفُ ِس ُك ْم ع ِ
لقد رحت أبحث عن أكبر وصفـ أو لقب يعبر عنك ،فلم أجد مثــل هــذه اآليــة
الكريمة التي تصفك ،وتصف المصدر الذي صدرت منـه ،والمظهــر الـذي ظهـرت
به.
فأنت ـ يا سيدي يا رسول هللا ــ رحمــة إلهيــة مهــداة إلى خلقــه ،ليخــرجهم من
عالم الظلمات الممتلئة باآلالم والكآبة والحزن إلى عالم األنــوار الممتلئ بكــل ألــوان
السعادة والسرورـ والفرح.
أنت مثل ذلك الطبيب الذي وجد شيخا كبيرا مقعدا مرميا على األرض ،يلتف
بــه البعــوض والــذباب ،وتنهشــه الحيــات والعقــارب ..وتفترســه كــل ألــوان اآلالم..
ظــاهرا وباطنــا..ـ فــراح يضــع يــد كرمــه وشــفائه عليــه ،فحولــه من الشــيخوخة إلى
الشباب ،ومن المرض إلى الصحة ،ومن القعــود إلى النشــاط..ـ ثم أبعــد عنــه كــل مــا
يؤذيه ظاهرا وباطنا ..ومأله بكل ما يسعده ،ويملــؤه فرحــا وأمال ..فتحــول من حــال
إلى حال.
وهذا فعلك بنا ،وبكل البشرية يا سيدي يا رسول هللا..
فلوالك لعــاش البشــر جميعــا في شــيخوخة اآلالم ،مقعــدين متــألمين حــزانى..
تحيط بهم الشياطين ،وتسقيهمـ من كل ألوان السموم..
ولوالك لم نعرفـ حقيقتنا ،وال مصيرنا..ـ وال سر الكون الذي نعيش فيــه ،وال
سر الحياة التي نعيشها..
ولوالك لعشنا بما تمليه علينا أهواؤنا ،ال بما تمليه علينا حقائق الوجود.
أنت ـ سيدي ـ هدية هللا لعباده ،وحبله الذي أرسله إلنقاذهم.
وأنت ـ سيدي ـ ذلك الداعي الذي ســار في األرض يبشــر بمــا أعــد هللا لعبــاده
من فضله إن هم أطاعوه.
وأنت ـ سيدي ـ ذلك الحريص الذي كان يمتلئ ألما إلعراض المعرضــين ،ال
ألجله ،وإنما ألجلهم ..فقد كنت تراهم يتهافتون في النار تهافت الفراش ،وأنت تذبهم
عنها ،لكنهم يأبون إال الوقوع فيها.
لقد عبرت عن ذلك بلسانك البليغ ،فقلت( :مثلي كمثل رجل استوقد نارا ،فلمــا
أضاءت مـا حولهــا جعـل الفــراش وهــذه الــدواب الــتي في النـار يقعن فيهـا ،وجعــل
يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها ،فذلكم مثلي ومثلكم ،أنا آخذ بحجزكم عن النار ،هلم
عن النار ،هلم عن النار فتغلبوني تقحمون فيها)()1
27
وصل إليها لن يكون مضطرا للتعرف على كل تلك التفاصيل التي أدت إليها.
وهكذا يمكن أن يكتفي من يريد أن يصل إلى حقائق علم الفلــك جميعــا ،بعيــدا
عن كل األوهام التي تسربت إليها عبر التاريخ أن يشاهد فلما واحدا يريه المجــرات
والنجومـ والكواكب وغيرها ..ليبز بعلمه حينها كل من مر في التاريخ ،وهــو متعلــق
بأوهامـ كثيرة.
فإذا كان هذا حال من يشاهد فلما ..فكيف بمن كان قلبه مــرآة ومرصــداـ يــرى
الكون واإلنسان والمجتمعـ وكل شــيء كمــا هــو بالفعــل ،ال كمــا يوصـفـ لــه ..وهــل
يحتاج المبصر لشرح أو توضيح أو إطالة تفصيل ..وهل الخبر كالعيان؟
ليت األمر توقف عند هـؤالء ..بـل إن بعضـهمـ ممن يزعمـون أنهم يعرفـوك،
راحوا يشـكلون على هـذا الوصـفـ فيـك ..ويضـربون جميـع تلـك اآليـات القرآنيـة،
واألحاديثـ القطعية ،بحديث وضعه أعــداؤك الــذي آلمهم أال تكــون مثلهم في جهلهم
وضاللهم،ـ حيث رووا أنك لما قــدمت المدينــة ،وجــدتهمـ يلقحــون النخــل ،فقلت( :مــا
تصــنعون؟) قــالوا :كنــا نصــنعه ،فقلت( :لعلكم لــو لم تفعلــوا كــان خــيرا) ،فــتركوه،
فتأثرتـ محاصيلهم لذلك ،فذكروا ذلك لك ،فقلت( :إنما أنــا بشــر ،إذا أمــرتكم بشــيء
من دينكم فخذواـ به ،وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر)()1
ولم يكتفوا ـ لجهلهم ـ بهذه الرواية ،بل عضدوها بالروايات الكثيرة ،وذكــروا
أن الحادثة متعددة ،أي أنك مررت على ناس متعددين ،وأخبرتهم جميعا بأن التــأبير
ال منفعة فيه ..ثم تبين للجميع أن أخــذهم بنصــيحتك أضــر بهم ،فكنت أنت ســبب مــا
حصل لهم ولمحاصيلهم ،وفيـ أول دخولك للمدينة.
فهل يعقل هــذا ،وهــل يعقــل أن تكــون أول نصــيحة تقــدمها للفالحين نصــيحة
تضر بهم ،وبمنتوجهم الذي يعتمدون عليه في حياتهم؟
لقد راح كل أولئك يتعلقون بهذه الرواية المدسوسة عنك ،ليشــيعوا بين النــاس
مســلمهم وغــير مســلمهم ،بــأن علومــك غــير المرتبطــة بالشــريعة ،هي نفس علــوم
قومك ،وأن األخطاء التي كانت لديهم ،كانت لديك.
لقد قال بعض المعاصرين يذكر ذلــك ،وال يســتحييـ منــه( :ال يجب أن يكــون
اعتقاده في أمور الدنيا مطابقا للواقع ،بل قد يقع الخطأ في ذلك االعتقــاد قليال أو
كثيرا ،بل قد يصــيب غــيره حيث يخطئ هــو ..وليس في ذلــك حــطّ من منصــبه
العظيم الذي أكرمه هللا به؛ ألن منصــب النبــوة ُمنصــب على العلم بــاألمورـ الدينيــة:
من االعتقاد في هللا ومالئكته وكتبه ورســله واليــوم اآلخــر ،ومن األمــور الشــرعية.
أما إن اعتقد دواء معينا يشفي من مرض معين ،فإذا هو ال يشفي منه ،أو أن تــدبيرا
زراعيــا أو تجاريــا أو صــناعيا يـؤدي إلى هـدف معين ،فـإذا هـو ال يــؤدي إليـه ،أو
يؤديـ إلى عكسه ،أو أن تدبيرا عســكريا أو إداريــا ســينتج مصــلحة معينــة ،أو يــدفع
ضرراـ معينا ،فإذا هو ال يفعل ،فإن ذلك االعتقاد ال دخل له بــالنبوة ،بــل هــو يعتقــده
)(1رواه مسلم..
28
من حيث هو إنسان ،له تجاربه الشخصــية ،وتأثراتــه بمــا ســبق من الحــوادث ،ومــا
سمع أو رأى من غيره؛ مما أدى إلى نتائج معينة .فكل ذلك يؤدي إلى أن يعتقد كمــا
يعتقد غيره من البشر ،ثم قد ينكشف الغطاء فإذا األمر على خالف ما ظن أو اعتقد)
()1
وقال آخــر ،وهــو من القــدامى ،يتهم مــا جــاءت بــه الروايــات عنــك في حفــظ
الصحة ،والنصائح العظيمة المرتبطة بهــا( :الطب المنقــول في الشــرعيات من هــذا
القبيل ،وليس من الوحي في شيء ،وإنما هو أمر كان عاديا ً للعرب ،ووقع في ذكــر
أحوال النبي من نوع ذكــر أحوالــه الــتي هي عــادة وجبلــة ،ال من جهــة أن ذلــك
مشروعـ على ذلك النحو من العمـل ،فإنـه إنمـا بعث ليعلمنـا الشـرائع ،ولم يُبعث
لتعريفـ الطب وال غيره من العاديات .وقد وقــع لــه في شــأن تلقيح النخــل مــا وقــع،
فقال( :أنتم أعلم بأمور دنياكم)...؛ فال ينبغي أن يُحمل شيء من الطب الذي وقع في
األحاديث المنقولة على أنــه مشــروع ،فليس هنــاك مــا يــدل عليــه ،اللهم إذا اســتعمل
على جهة التبرك وصدق القصد اإليماني ،فيكون له أثر عظيم النفع ،وليس ذلك في
الطب المزاجي)()2
وقــال آخــر( :أمــا أحوالــه في أمــور الــدنيا؛ فنحن نســبرها على أســلوبهاـ
المتقدم بالعقد والقول والفعل؛ أما العقد منها ،فقد يعتقد في أمــور الــدنيا الشــيء على
وجه ويظهر خالفه ،أو يكون منه على شك أو ظن بخالف أمــور الشــرع -ثم ذكــر
حديث تأبير النخل -ثم قال :وهذا على ما قررناه فيما قالــه من قبــل نفســه في أمــور
الدنيا وظنه من أحوالها ال ما قالـه من قبـل نفسـه واجتهـاده في شـرع شـرعه وسـنة
سنها ..فمثل هذا وأشباهه من أمور الدنيا التي ال مدخل فيها لعلم ديانة ،وال اعتقادها
وال تعليمها ،يجوز عليه فيهــا مــا ذكرنــاه ،إذ ليس في هــذا كلــه نقيصــة وال محطــة،
وإنما هي أمور اعتيادية يعرفها من جربها وجعلها همه وشغل نفسه بها ،والنبي
مشحون القلب بمعرفة الربوبية ،مآلن الجوانح بعلومـ الشريعة ،مقيد البــال بمصــالح
األمة الدينية والدنيوية)()3
وغيرها من األقوال الكثيرة التي ألغي بها القرآن الكريم تعلقا بالحــديث الــذي
يسمونه حديث [تأبير النخل] ،والذين محوا به كل ما ورد في القرآن الكريم من أنك
ال تنطقـ عن الهوى ،وكل معارفكـ وعلومك لدنية.
ـوى ( )3إِنْ ْ ْ
ولو أنهم اكتفوا بقراءة قوله تعالى في حقـكَ ﴿ :و َمــا يَن ِطـ ُ
ق ع َِن الهَـ َ
ي يُو َحى﴾ [النجم،3 :ـ ،]4لعلموا أن هذه اآليات وحدها كافية لتكذيب كل هُ َو إِاَّل َوحْ ٌ
روايــة تخالفهــا ،لكنهم ال يرجعــون للقــرآن ،بــل ينســخون معانيــه بمــا يصــلهم من
)(1انظر ملفا بعنوان [الطب النبوي ..رؤى نقدية أحاديث “الطب النبوي” ..هل يُحتج بها] على إسالم أون الين
وغيره من المواقع.
)(2مقدمة ابن خلدون :ص.493
)(3الشفا بتعريف حقوق المصطفى.185 -183/ 2 :
29
الروايات التي دسوها عليك ،حتى يقللوا من شأنك.
ولــو أنهم رجعــواـ إلى األحــاديث الــتي يعتبرونهــا نفســها ،لوجــدوا الحقيقــة،
وعلموا أنه يستحيل عليك أن تقول شيئا يخالفه الواقع ،وكيف يكون ذلك ،وهل ذلــك
إال الكذب المحض؟
لو أنهم ـ يا سيدي يا رسول هللا ـ رجعوا لتلك الرواية التي حدث بهــا عبــد هللا
بن عمرو قال :كنت أكتب كل شيء أســمعه من رســول هللا أريــد حفظــه فنهتــنيـ
قريش وقالوا :أتكتب كل شــيء؟ ورســول هللا بشــر يتكلم في الغضــب والرضــا،ـ
فأمسكت عن الكتاب ،فــذكرت ذلــك لرســول هللا ،فأومــأ بإصــبعه إلى فيــه فقــال:
(اكتب فوالذيـ نفسي بيده ما يخرج منه إال حق)()1
هل رأيت سيدي المصدرـ الــذي أخــذوا منــه ذلــك الموقــف،ـ إنهــا قــريش الــتي
استكبرت عليك ،وعادتك ،وبعدـ أن رأت انتصاراتك المتوالية ،لم تجد إال أن تتبعك،
وفيـ قلبها كل تلك األحقاد عليك؟
ال نملك ـ يــا ســيدي يــا رســول هللا ــ إال أن نحــزن على تلــك العقــول الــتي لم
تعرفك..ـ والتي امتألت باألوهــامـ والجهــل الــذي حجبهــا عن أن تســتوعب فضــل هللا
عليك..
فنسألك ـ يا سيديـ يــا رســول هللا ــ يــا من يجــير من التجــأ إليــه ،وال يــرد من
استغاث به ،أن تجيرنا من تلـك الفهــوم ،وأن تحفـظ عقولنــا وتغيثهــا من أن تتسـرب
إليها تلك األوهام ،حتى نزداد حبا لك ،وتقديرا لما وهبك هللا من فضله العظيم.
)(1تفسير ابن جرير الطبري ( ،)236 /2وتفسير ابن كثير ( ،)386 /1وتفسير البغوي ()322 /1
34
فأممتهم)()1 اإلسراء قولك( :وقد رأيتني في جماعة من األنبياء ..فحانت الصالة
ولهــذا ورد في األحــاديث الكثــيرة أنــك في ذلــك الموقــف الشــديد الــذي تقفــه
الخالئــق يــوم الحســاب ،وبعــد أن يجهــدوا للبحث عمن يكــون إمــامهم وقائــدهم
وواسطتهمـ إلى هللا للشفاعة بتعجيل الحساب ،تكون أنت إمام ذلــك الموقــف وســيده..
ولو أنهم بادروا إليك من أول الحساب لما ظلوا فيه لحظة واحدة.
لقد كنت تغضب سيدي عندما ترى من يريد أن يأتم بغيرك ،أو ينهل الحقــائق
والقيم من سواك ،ولم يكن غضبك لنفسك ،فــأنت أرفــع وأعظم من أن تغضــب لهــا،
وإنما كان غضبك لــترك المنبــع الصــافيـ الممتــد لمصــدر الحقيقــة ،واالغــتراف من
الروافدـ الصغيرة ،الممتلئة بالدنس ،وقد روي أن بعضهم جـاءك ،فقـال( :يـا رسـولـ
ـأخ لي من قُ َر ْيظَــة ،فكتب لي َج َوام ـ َع من التــوراة ،أال أعرضــها ُ
ـررت بـ ٍهللا ،إني مـ
عليك؟) ،فقلت له( :لو أن موسى كان حيا ما وسعه إال أن يتبعنى)()2
كان غضبك سيدي كغضب الطبيب من المــريض الــذي يــترك العالج عنــده،
ويــذهب إلى المشــعوذينـ والــدجالين ليــدمر صــحته باتبــاعهم ،وتــركـ من جعلهم هللا
واسطة لحفظ صحته ،وعالج أدوائه.
ولــذلك كنت أنت يــا رســول هللا وال تــزال ترياقــاـ يعــالج كــل همــوم األمــة
ومشــاكلها ..وكنت وال تــزال اإلكســيرـ األحمــر الــذي يحــول حالهــا من أســوئها إلى
أحسنها ..وكنت أنت المنقذ والمغيث لألمة والمخلص لها من كل األزمات.
وقد شهد لك بذلك من عرفوك ولو لم يتبعوا سبيلك ،وقدـ قال المفكــر واألديب
اإلنجلــيزيـ [جــورج برنــاردـ شــو] عنــك( :ما أحــوج العــالم الى محمد ليحل مشــاكل
العالم وهو يحتسي فنجان قهوة)
وقال [ليتسين] مخاطباًـ لك بأبيات من الشعر يقول فيها( :يا ابن مكة ويا نســل
األكرمين ..يا معيــد مجـد اآلبـاء واألمهــات ..يـا مخلص العـالم من ذا العبوديـة ..إن
العالم ليفتخر بك ..ويشكرـ هللا على تلك المنحة العزيزة ..ويقدر لك مجهوداتكـ كلها..
يا نسل الخليل إبراهيم ..يا من منحت السالم الى العالم ..ووفقت بين قلــوب البشــر..
وجعلت الخالص شعارك ..يا من قلت في شريعتك:ـ إنما األعمال بالنيــات ..لــك منــا
جزيل الشكر)
وقــال [ســاديو لــويس]( :لم يكن محمــد نــبي العــرب بالرجل البشــير للعــرب
فحسب .بل للعالم .لو أنصفه الناس .ألنه لم يأت بدين خــاص بــالعرب .وأن تعاليمــه
الجديرة بالتقدير واإلعجاب تــدل على أنــه عظيم في دينــه .عظيم في أخالقــه .عظيم
في صفاته .وما أحوجنا الى رجال للعالم أمثال محمد نبي المسلمين)
لكن الكثير من أمتك سيدي ـ مع كـل هـذا الكمـال والجمـال الـذي كنت عليـه،
)(1مسلم ()172
)(2رواه أحمد ( ،387 /3رقم )15195قال الهيثمى ( :)174 /1رواه أحمد ،وأبو يعلى ،والبزار.
35
وجئت بــه ـ ـ أعرضــواـ عنــك ،وراحــواـ يعملــون أهــواءهم ،ويقتبســون من الشــرق
والغرب ،ويخلطون ذلك ببعض هديك كما يفعل من يخلط الســم بالعســل ..فــأوهمهم
العسل أنهم على هديك ،وأنك إمــامهم لكن الســم كــان يســري في حقــائقهم ليــدمرها،
ويشوهك،ـ ويشوه هديك.
لقــد ذكــرت ســيديـ ذلــك ،وحــذرت منــه ،ودعــوت إلى صــفاء المنبــع ،فقلت:
ق (والّذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقيّة ال تسألوهم عن شــيء فيخــبروكم بح ـ ّ
أن موسـى صـلّى هللا عليـه فتكذبوا به أو بباطل فتص ّدقوا به ،والّـذي نفسـي بيـده لـو ّ ّ
وسلّم كان حيّا ما وسعه إاّل أن يتّبعني)()1
وقد أخبرت سيدي عن ذلك الدخن الــذي يختلــط فيــه هــديك بغــيره ،فقلت لمن
سألك( :هل بعد ذلك ال ّش ّر من خير؟) ،فأجبته قائال( :نعم ،وفيه دخن) ،فسئلت :ومــا
دخنه؟ فقلت( :قوم يستنّون بغير سنّتي ،ويهدون بغير هديي ،تعرف منهم وتنكر)()2
ولذلك كنت تحذر من البدع ،واتباعها ،وتعتبرها أكبر من يصرف الناس عن
إمامتك ،ليتخذ الناس بعدك أئمة جهلة يضلون ويُضــلون ،وكنت تقــول( :من أحــدث
في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ر ّد)()3
بل إن القرآن نطق بذلك ،ودعا إليه ،وحذرـ من تركــك إلى غــيرك ،وقــد ورد
ق بِ ُك ْم اطيـ ُم ْسـتَقِي ًما فَــاتَّبِعُوهُ َواَل تَتَّبِعُـوا ُّ
السـب َُل فَتَفَـ َّر َ صـ َر ِ فيه قوله تعالىَ :وأَ َّن هَ َذا ِ
ع َْن َسبِيلِ ِه َذلِ ُك ْم َوصَّا ُك ْم بِ ِه لَ َعلَّ ُك ْم تَتَّقُونَ [ األنعام]153 :
وقد حـدث ابن مسـعود عن تفسـيرك لآليـة ،واسـتعمالكـ لبيانهـا مـا يوضـحهاـ
أحسن توضيح ،فقال :خط لنا رســول هللا يومــا خطــا فقــال( :هــذا ســبيل هللا) ،ثم
خط خطوطاـ عن يمين الخط ويساره وقال( :هذه سُبل ،على كـل ســبيل منــه شـيطان
ق بِ ُك ْم ع َْن اطي ُم ْستَقِي ًما فَاتَّبِعُوهُ َواَل تَتَّبِعُوا ال ُّسب َُل فَتَفَـ َّر َص َر ِيدعوه ،ثم تالَ :وأَ َّن هَ َذا ِ
َسبِيلِ ِه َذلِ ُك ْم َوصَّا ُك ْـم بِ ِه لَ َعلَّ ُك ْم تَتَّقُونَ [ األنعام ]153 :يعني الخطوطـ الــتي عن يمينــه
ويساره)()4
فهذا الحديث يبين أن سبيل الحق واحد ،وسبل الشيطان متعددة ،وأن الحق قد
يختلط بالباطل حتى يتوهم الناس أنه الحق ..ويبين فـوقـ ذلـك كلـه أنـك أنت مصـدر
الحق وإمامه ..ومن ينهل الحق من غيرك ضل.
ولهذا كــان ورثتــك الصــادقونـ يحــذرون من أولئــك الــذين تركــوك ،وراحــواـ
يأتمون بغيرك ،وقد قال اإلمام علي ،لمن رآهم يهجرونــك ،ويتبعــون غــيرك( :أيُّهــا
الناس إنّما بَ ْد ُء وقوعـ الفتن ،أهوا ٌء تُتَّبع ،وأحكام تُبتدع ،يُخالف فيها كتاب هللا ،يتولىـ
أن الحــق أن الباطــل خلص لم يُخــف على ذي حجى ،ولــو ّ فيهــا رجــال رجــاالً ،فلــو ّ
)(1الكافي.55 /1 ،
)(2الكافي.55 /1 ،
)(3كنز العمال.44216 | 184 /16 ،
)(4تحف العقول.211 ،
37
القائد الملهم
سيدي يا رسول هللا ..أيها القائد الملهم الحكيم الذي اســتطاعـ من غــير جيــوش
جرارة ،وال إرث حضاريـ عريق ،أن يخرج أمة من البدو واألعــراب ،وفي فيــافيـ
ومفـــازات مجدبـــة قاحلـــة ،من كـــل آثـــار التخلـــف والبـــداوة ،إلى كـــل قيم التقـــدم
والحضــارة ..وفي ســنين معــدودات ،على الــرغم من كــل ألــوان المواجهــات الــتي
تعرض لها ..ولم يكتف بذلك ،بل استطاع أن يؤسس لدولة صارت لهــا القــدرة على
مواجهة أكبر اإلمبراطوريات وتحديها.ـ
ولم يحصل ـ سيدي ـ مثل هذا في التـاريخ جميعـا ..ال للقـادة التـاريخيين ،وال
لألنبياء والمرسلين ..وكان ذلك وحــده كافيــا للعقــول الجــادة الصــادقة أن تبحث عن
سر ذلك المدد اإللهي الذي أمددت به ،واإللهامـ العظيم الــذي ألهمــك هللا إيــاه ،لتســير
في ركاب النصر ،متحدياـ كل العقبـات إلى أن بلغت أمتــك أوجهــا بين األمم ..وكــان
ذلك كله بقيادتك الحكيمة.
وقد كان في إمكان األمة لو الـتزمت هـديك ،ولم تخـالف وصـاياك ،أن تنشـر
علم الهدايــة في األرض جميعــا ،ومن غــير جيــوش وال ســيوف ..لكن داء األمم من
قبلها تسرب إليهـا ،فخـالفت مـا عاهـدتك عليـه ،فحـاق بهـا مـا نـزل بكـل المخـالفين
لرسلهم ،وكنت البريء ،وكانواـ الضحايا.
ال أزال أذكــر ســيدي كيــف كنت في مكــة المكرمــة ،وبين قوم ـكـ الممتلــئين
بالقسوة ،وأنت تقول لهم ،بعد أن عرضوا عليك أن تملكهم ،وتقودهم بمــا يرغبــون،
ال بما ترغب الحقيقة مخاطباـ عمك الولي الصالح( :يا عم وهللا لــو وضــعواـ الشــمس
في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا األمر حــتى يظهــره هللا أو أهلــك فيــه
ما تركته) ()1
وال أزال أردد معها ما أنزل هللا عليك حينها يــأمركـ بــأن تخــاطب الكــافرين،
وتتبرأـ من كــل الجــرائم الــتي يــدعونك إلى تأييــدها حــتى تنــال القبــول عنــدهم ،قــال
تعالى :قُلْ يَاأَيُّهَا ْال َكافِرُونَ ( )1اَل أَ ْعبُ ُد َما تَ ْعبُ ُدونَ (َ )2واَل أَ ْنتُ ْم عَابِ ُدونَ َمــا أَ ْعبُ ـ ُد (
ين (6 َ )3واَل أَنَا عَابِ ٌد َما َعبَ ْدتُ ْم (َ )4واَل أَ ْنتُ ْم عَابِ ُدونَ َما أَ ْعبُــ ُد ( )5لَ ُك ْم ِدينُ ُك ْم َولِ َي ِد ِ
[الكافرون]6 - 1 :
لقد كنت حينها ـ سيدي ـ وكان أتباعك في منتهى الضــعف والفاقــة والحاجــة،
وكانواـ يُضربون بكل السياط ،ويُسلطـ عليهم كــل ألــوان البالء ..لكنــك كنت تــأبى أن
تضحي بالمبادئـ من أجل المصالح ..أو أن تبيع شريعة هللا بشريعة األهواء.
كان بعض المشركين حينها قد رأى فيك مخايل النجابة والعبقريــة ،وعلم أنــه
سيكون لك شأن عظيم ،وأن دعوتك ستنتصـر؛ـ فلـذلك راح يبتهـل الفرصـة ،ويقـول
ولهذا كنت تعتبر الحجاب نوعــا من االســتبداد ،وقــد قلت محــذرا من يتولــون
القيادة في أمتك من االحتجاب عن الرعية( :من واله هللا شــيئا ً من أمــور المســلمين،
فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقــرهم ،احتجب هللا دون حاجتــه وخلتــه وفقـره يــوم
القيامة) ()2
وهم يرون القادة ـ مع ضعفهم وقصورهمـ ـ يسـتبدون بـالرأي ،وال يشـاورون
رعيتهم ،وال من يكونون معهم ..لكنهم يرونك بخالف ذلك؛ فمع أن هللا تعالى أمــدك
بإلهامــه ووحيــه ..ومــع أنــك في ذاتــك في قمــة العبقريــة والحكمــة إال أنــك كنت
تستشيرهم ،وتنزل عنـد رأيهم ،ولـو خـالف رأيـك ،وقـد قـال هللا تعـالى يثـني عليـك
بذلك ،ويدعوك إلى االستمرارـ عليه ،حتى يكون ذلك قدوة لكـل القـادة:فَبِ َمـا َرحْ َمـ ٍة
اس ـتَ ْغفِرْ
ب اَل ْنفَضُّ وا ِم ْن َحوْ لِكَ فَاعْفُ َع ْنهُ ْم َو ْ ِمنَ هَّللا ِ لِ ْنتَ لَهُ ْم َولَوْ ُك ْنتَ فَظًّا َغلِيظَ ْالقَ ْل ِ
ـر فَـإِ َذا َعــزَ ْمتَ فَت ََو َّكلْ َعلَى هَّللا ِ إِ َّن هَّللا َ ي ُِحبُّ ْال ُمتَـ َو ِّكلِينَ [ آل
اورْ هُ ْم فِي اأْل َ ْمـ ِ
لَهُ ْم َو َشـ ِ
عمران]159 :
وقد نزلت هذه اآلية الكريمة بعد غزوة أحد ،والتي خالفت فيها رأيك ،ونزلت
فيها عند رأيهم ،وكان ذلك سبب ما حصل من انتكاسة ،وكأنهــا تقــول لــك( :اســتمر
على مشاورتهم ،وال تتراجع بسبب ما حصل ..ففي ذلك الخير والبركة ،وإن جاءت
النتيجة في إحدى المرات على غير ما تحب ،فالعبرة بالعاقبة)
ولذلك تروي كتب السـيرة والسـنن الكثـير من مشـاوراتك؛ـ فقـد شـاورتهم في
غزوة بدر ،قبل القتال ،وفى أثنائه ،وبعده .ولم تدخل المعركــة إال بعــد أن اطمــأننت
على رضا جمهورهم.
وشــاورتهمـ في غــزوة أحــد؛ فــنزلت إلى رأى األكثريــة الــتي تخــالف رأيــك،
وخرجت إلى المشركين ،مع أنك كنت ترى البقاء والقتال داخل المدينة.
وشاورتهم في الخندق ،وقد أشار عليك حينها ســلمان الفارســي باالقتــداء بمــا
كان الفرس يفعلونــه للــدفاع في الحــرب ،وقــال لــك( :يــا رســول هللا كنــا بفــارس إذا
حوصرنا خندقناـ علينا)؛ ففعلت ما ذكره ،ورحت كواح ـدـ من النــاس تشــتغل بــالحفر
معهم ،وكلما صعب عليهم الحفر في موضع ،انتدبوك لتقوم بذلك.
لقد كانت تلك الغزوة التي اجتمعت فيها كل األحــزاب لتستأصــل اإلســالم من
جــذوره ،أعظم دليــل على قيادتــك الحكيمــة لألمــة ،فقــد أنقــذت المســلمين من تلــك
المؤامرة بصبرك وحكمتــك ،وارتـدـ المشـركون والمنــافقون واليهــود وغــيرهم ممن
)(1رواه ابن إسحاق الزجاجي في تاريخه.
)(2رواه أبو داود ،والترمذي.
40
تألبوا عليك فارغي الوفاض ،ال يقدرون على شيء ..بل زادت مهابتــك في قلــوبهم،
فلم يتجرؤوا على أن يجتمعوا مجددا.
لقد ذكر هللا تعالى تلك المواقف الحرجة التي مر بها المســلمون ،وكيــف كنت
تالســبب في خالصــهم ،فقــال :إِ ْذ َجـ ا ُءو ُك ْم ِم ْن فَــوْ قِ ُك ْـم َو ِم ْن أَ ْس ـفَ َل ِم ْن ُك ْم َوإِ ْذ زَ ا َغ ِ
الظنُونَاـ ( )10هُنَالِكَ ا ْبتُلِ َي ْال ُم ْؤ ِمنُــونَ ت ْالقُلُوبُ ْال َحنَا ِج َـر َوتَظُنُّونَ بِاهَّلل ِ ُّ اأْل َب َ
ْصا ُـر َوبَلَ َغ ِ
َو ُز ْل ِزلُوا ِز ْل َزااًل َش ِديدًا (َ )11وإِ ْذ يَقُو ُل ْال ُمنَافِقُونَ َوالَّ ِذينَ فِي قُلُوبِ ِه ْم َم َرضٌ َما َوعَــ َدنَا
ب اَل ُمقَــا َم لَ ُك ْم ت طَائِفَــةٌ ِم ْنهُ ْم يَاأَ ْهــ َل يَ ْث ِ
ــر َ هَّللا ُ َو َر ُســولُهُ إِاَّل ُغــ رُو ًراـ (َ )12وإِ ْذ قَــالَ ْ
ي يَقُولُــونَ إِ َّن بُيُوتَنَـاـ َعــوْ َرةٌ َو َمــا ِه َي بِ َعــوْ َر ٍة إِ ْن فَــارْ ِجعُوا َويَ ْسـتَأْ ِذنُ فَ ِريـ ٌـ
ق ِم ْنهُ ُم النَّبِ َّ
ي ُِري ُدونَ إِاَّل فِ َرارًا [ األحزاب]13 - 10 :
وهكذا كان الجميع يتذرعون للفرار من المعركــة ..لكنــك بحكمتــك اســتطعت
أن تنتصر ،ومن غير سفك للدماء.
وفوقـ ذلك كله كانت قيادتكـ لمجتمع متنوع ،فيه كل أصنافـ التمييز والطبقية
والعنصرية ،ومع ذلك استطعت أن تمأل حيــاتهمـ باالنســجام ،وأن تخلصــهم من تلــك
َصــ ُموا العصبيات ،وأن تنشر بينهم قيم األخوة ،لقد ذكر هللا تعالى ذلك ،فقالَ :وا ْعت ِ
بِ َح ْب ِل هَّللا ِ َج ِميعًا َواَل تَفَ َّرقُواـ َو ْاذ ُكرُوا نِ ْع َمتَ هَّللا ِ َعلَ ْي ُك ْم إِ ْذ ُك ْنتُ ْم أَ ْعدَا ًء فَأَلَّفَ بَ ْينَ قُلُــوبِ ُك ْم
ار فَأ َ ْنقَـ َذ ُك ْـم ِم ْنهَـا َكـ َذلِكَ يُبَيِّنُ هَّللا ُ
ـر ٍة ِمنَ النَّ ِ فَأَصْ بَحْ تُ ْم بِنِ ْع َمتِ ِه إِ ْخ َوانًا َو ُك ْنتُ ْم َعلَى َشفَا ُح ْفـ َ
لَ ُك ْم آيَاتِ ِه لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْهتَ ُدونَ [ آل عمران]103 :
لقد استطعت ـ سيدي ـ في ظــل قيادتــك الحكيمــة أن تمحــو كــل تلــك الفــوارقـ
االجتماعية التي كانت تمأل حياة المجتمعات جميعا ،فقد كنت تــردد عليهم كــل حين:
(إن هللا قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرهاـ باآلباء ،مؤمن تقى وفـاجرـ شـقى ،أنتم
بنو آدم وآدم من تراب ،ليدعن رجال فخــرهم بــأقوامـ إنمــا هم فحم من فحم جهنم ،أو
ليكونن أهون على هللا من الجعالن التى تدفع بأنفها النتن) ()1
وهكذا كانت قيادتك ــ ســيديـ ــ على خالف قيــادة غــيرك ،ممتلئــة بالتواضــع
والرحمة واللطف والقيم ..وفوق ذلك كله كانت ممتلئة بالزهد والعفـاف والنبــل ..فلم
تكن تطلب من وراء تلك الخدمات العظيمة التي قدمتها لألمة أي أجــر ..وقــد أمــرك
هللا تعالى أن تقول :ال أَسْأَلُ ُك ْم َعلَ ْي ِه أَجْ راً إِ ْن هُ َو إِاَّل ِذ ْك َرى لِ ْل َعالَ ِمينَ ) (األنعام،)90 :
وأن تقــولَ :مــا أَ ْســأَلُ ُك ْم َعلَيْــ ِه ِم ْن أَجْــ ٍر إِاَّل َم ْن َشــا َء أَ ْن يَتَّ ِخــ َذ إِلَى َربِّ ِه َســبِيالً
(الفرقان ،)57:وأن تقولَ :ما أَسْأَلُ ُك ْم َعلَ ْي ِه ِم ْن أَجْ ٍر َو َمــا أَنَــا ِمنَ ْال ُمتَ َكلِّفِينَ ( صّ :
)86
ولهذا اعتبر من أدلة صدقك لكل المناوئين والمشــككين ،عفافــك عن األمــوال
ـر ٍم ُم ْثقَلُــونَ ( الطــور:ـ،)40 والمصــالح ،قــال تعــالى :أَ ْم ت َْسـأَلُهُ ْم أَجْـ راً فَهُ ْم ِم ْن َم ْغـ َ
َّازقِينَ ( المؤمنون)72: خَرا ُج َربِّكَ خَ ْي ٌر َوهُ َو َخ ْي ُر الر ِ وقال :أَ ْم تَسْأَلُهُ ْم خَرْ جا ً فَ َ
)(1رواه أحمــد (/2ــ ،523رقم ،)10791وأبــو داود (/4ــ ،331رقم ،)5116والــبيهقى (/10ــ ،232رقم
.)20851وأخرجه أيضا :الترمذى ( ،735 /5رقم )3956
41
فأنت ـ سيديـ ـ لم تكن لتنال على تلك الوظيفة الخطيرة التي كلفت بها ،والتي
جعلتك مشغوال في كل األوقات ،ال ترتــاح ليــل نهــار ،أي أجــر ســوى األجــر الــذي
أعده هللا لك.
بل إن هللا تعالى فوقـ ذلك أمر بأن تعيش جميع حياتــك ــ مهمــا فتح هللا عليــك
من الدنيا ـ بتواضع وزهد وبعد عن الملذات التي يتهافت عليها النــاس ،قــال تعــالى:
ك اخفِضْ َجن َ
َاحـ َ ال تَ ُم َّد َّن َع ْينَ ْيكَ إِلَى َمــا َمتَّ ْعنَــا بِـ ِه أَ ْز َواجـا ً ِم ْنهُ ْم َوال تَحْـ َز ْن َعلَ ْي ِه ْم َو ْ
لِ ْل ُم ْؤ ِمنِينَ ( الحجر ،)88:وقال تعالىَ :وال تَ ُم َّدنَ َع ْينَ ْيــكَ إِلَى َمــا َمتَّ ْعنَــا بِـ ِه أَ ْز َواجـا ً
ق َربِّكَ خَ ْي ٌر َوأَ ْبقَى( طه)131: ِم ْنهُ ْم َز ْه َرةَ ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا لِنَ ْفتِنَهُ ْم فِي ِه َو ِر ْز ُـ
هذه سيدي بعض مالمح قيادتك لألمة ..وهي كافية ألن تجعلك أسـوة صـالحة
للقيادة الحكيمــة ،الــتي ال تريــد جــزاء وال شــكورا ،وإنمــا تهــدف إلى تحقيــق العــدل
والرحمة ،ونشر الخير والبركة.
ولو أن األمة استنت بســنتك ..لمــا حصــل لهــا هــذا التخلــف واالســتبدادـ الــذي
نعانيه ،ذلك أنها تركتك ،وتركت وصــاياك ،وراحت تســتن بســنة كســرى وقيصــر،
وحولت دينك من دين العدالة إلى دين الجــور ،ومن دين الرحمــة إلى دين االســتبداد
والقسوة.
فنسألك يا سيديـ يا رســول هللا ،وأنت وســيلتناـ العظمى ،أن تكــون أنت قائــدناـ
وقدوتنا ،حتى ال تمزقناـ الطوائف ،وال تشتتناـ المذاهب ،وال تفرقنا الملل.
واجعلنــا ســيدي تحت لوائــك في الــدنيا واآلخــرة ،حــتى ننــال شــرف الجنديــة
ضمن جنودك الذين ال ينقطعون ،وفيـ جميع األزمنة.
ونعوذ بك أن نفرق صف أمتك ،أو نخلفك فيها بسوء ،أو نسيء إلى تعاليمــك
المقدسة ،أو يدب إلينا داء األمم من قبلنــا ..إنــك تجــير من اســتجار بــك ،وتحمي من
التجأ إليك ،وتجيب من سألك ،فجاهك العظيم عنــد هللا ،ومقامــك الرفيــع عنــده أرفــع
من أن يرد يدي خائبتين.
42
المبلغ األمين
سيدي يا رســول هللا ..يــا من اختــاره هللا لتبليــغ آخــر كلماتــه المقدســة للبشــر،
فبلغها كما سمعها ،لم يغير ولم يبدل ..وبلغها لكل الناس بجميع طبقــاتهم ،فلم يســتثن
منهم أحدا ..وبلغها في كل الظروف اللينة والقاسية ..وكــان أمينــا في كــل ذلــك ..فلم
تختلط كلماته بكلمات هللا ،وال الهدي الذي نطق به بالهدي الــذي أنــزل عليــه مــع أن
المنبع واحد ،والسراج واحد.
ولو أن أولئك المتحذلقين المدعين للعقالنية ،صدقوا مع عقولهم ،واكتفوا منك
بهذا الباب من أبواب الداللة عليك ،ألوصلهم إليك ،ولكان مقدمة لهم ليعرفوك.
فلو أنهم نظــرواـ إلى الظــروف الــتي كــانت تتــنزل عليــك فيهــا كلمــات ربــك،
وقارنوهاـ بالظروفـ التي كتب فيها كل العباقرة ما كتبــوه لوجــدواـ أن الكلمــات الــتي
بلغتها يستحيل أن تكون من عندك.
فالعباقرة أو من يظنون أنفسهم كذلك ،كانوا يكتبون كلمـاتهم في ظـل التمجيـد
والتعظيم والتقديس ،بينما كنت تبلغ كلمات ربك ،وأنت محــاط بأولئــك القســاة الــذين
كانوا يسخرون منك ومنها ،ويستعملون كل وسائلـ اإليذاء والتنفير التي وصــفها هللا
آن َو ْال َغوْ ا فِيـ ِه لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْغلِبُــونَ تعالى بقولهَ :وقَا َل الَّ ِذينَ َكفَرُوا اَل تَ ْس َمعُواـ لِهَ َذا ْالقُرْ ِ
ك ا ْفت ََراهُ َوأَعَانَـهُ َعلَ ْيـ ِه قَــوْ ٌم [فصلت ،]26 :وبقولهَ :وقَا َل الَّ ِذينَ َكفَرُوا إِ ْن هَ َذا إِاَّل إِ ْف ٌ
اطي ُـر اأْل َ َّولِينَ ا ْكتَتَبَهَـا فَ ِه َي تُ ْملَى َعلَيْـ ِه آ َخرُونَ فَقَ ْد َجا ُءوا ظُ ْل ًما َو ُزو ًراـ (َ )4وقَالُواـ أَ َسـ ِ
صياًل [ الفرقان]5 ،4 : بُ ْك َرةً َوأَ ِ
وقد كان الـوحي حينهــا يتـنزل عليـك بكـل أصــناف الحجج الـتي تـرد عليهم،
وتبين لهم أن مصدر الكلمات التي جئتهم بها من هللا ،وليس من عندك ،قــال تعــالى:
ض إِنَّهُ َكـــانَ َغفُـــورًا َر ِحي ًما ت َواأْل َرْ ِ اوا ِ الســـ َّر فِي َّ
الســـ َم َ قُـــلْ أَ ْن َزلَـــهُ الَّ ِذي يَ ْعلَ ُم ِّ
صرُونَ ( )39إِنَّهُ لَقَوْ ُل ْصرُونَ (َ )38و َما اَل تُ ْب ِ [الفرقان ،]6 :وقال :فَاَل أُ ْق ِس ُم بِ َما تُب ِ
اع ٍر قَلِياًل َما تُ ْؤ ِمنُونَ (َ )41واَل بِقَوْ ِل َكــا ِه ٍن قَلِياًل َرسُو ٍل َك ِر ٍـيم (َ )40و َما ه َُو بِقَوْ ِل َش ِ
ـل ( اويـ ِْض اأْل َقَ ِ
َما تَ َذ َّكرُونَ ( )42تَ ْن ِزي ٌل ِم ْن َربِّ ْال َعالَ ِمينَ (َ )43ولَــوْ تَقَـ َّو َل َعلَ ْينَــا بَع َ
ـوتِينَ ( )46فَ َمــا ِم ْن ُك ْم ِم ْن أَ َحـ ٍد َع ْنـهُ خَذنَا ِم ْنهُ بِ ْاليَ ِمي ِن ( )45ثُ َّم لَقَطَ ْعنَــا ِم ْنـهُ ْالـ َ
)44أَل َ ْ
َحا ِج ِزينَ [ الحاقة]47 - 38 :
وغيرها من اآليات الكريمة التي تخبر أنك مبلغ عن هللا ،وأن الــذي جئت بــه
ليس من عندك..وقدـ كان في إمكانك ـ سيدي لو كنت كما يــذكرون ــ أن تنســب تلــك
الكلمات إليك ،وحينها سينبهرون بك ،وببالغتك المعجزة ،وسيصــبحون جميعــا من
أتباعك ،وليس أولئــك العبيــد والفقــراء فقــط ..وحينهـاـ كــان يمكن أن يتوجــوكـ بتــاج
الملك عليهم..
وهــذا وحــده كــاف للعقــول في كونــك رســوال هلل ،وأن مــا جئت بــه ليس من
عندك ..وإال فإنهم لو الحظوا كل الشعراء واألدباء والفالسفة وغــيرهم ،وحرصــهمـ
43
على نسبة كل كلمة أو جملـة إليهم ،وفــرحهم بمــا يكتبونــه أو يذكرونــه ،لعرفــوا أنـه
يستحيل أن تكون تلك الكلمات النورانية المعجزة من عندك.
وكيف تكون من عندك ،وهي تدعوك ،وفيـ تلك الظروفـ القاســية ،أن تــترك
األمر هلل ،ليعذبهم ،أو يرحمهم ،ألنك مجرد مبلغ عن هللا ،ولســت مكلفــا بهــدايتهم أو
ق فَ َم ِن ا ْهتَدَى فَلِنَ ْف ِس ِه اس بِ ْال َح ِّ
َاب لِلنَّ ِك ْال ِكت َ السيطرة عليهم ،قال تعالى :إِنَّا أَ ْنزَ ْلنَا َعلَ ْي َ
ضلُّ َعلَ ْيهَا َو َما أَ ْنتَ َعلَ ْي ِه ْم بِ َو ِكي ـ ٍل( الزمــر ،)41:وقــالَ :والَّ ِذينَ ض َّل فَإِنَّ َما يَ ِ َو َم ْن َ
ـل( الشــورى،)6: َ ٌ هَّللا َ
اتَّخَ ـ ُذوا ِم ْن دُونِ ـ ِه أوْ لِيَــا َء ُ َحفِيــظ َعلَ ْي ِه ْم َو َمــا أ ْنتَ َعلَ ْي ِه ْم بِ َو ِكيـ ٍ
َّار فَ َذ ِّك ْـر بِ ْالقُرْ آ ِن َم ْن يَخَافُ َو ِعي ِد وقال :نَحْ نُ أَ ْعلَ ُم بِ َما يَقُولُونَ َو َما أَ ْنتَ َعلَ ْي ِه ْم بِ َجب ٍ
صــي ِْط ٍـر( الغاشــية ،)22:وغيرهــا من اآليــات ق ،)45:وقــال :لَ ْســتَ َعلَ ْي ِه ْم بِ ُم َ ( ّ
الكريمة التي تنزع عنك كل مسؤولية على العباد ،وتجعل األمر هلل وحده.
ولــو أنهم ــ ســيديـ ــ نظــروا في تلــك اآليــات الــتي تــدعوك لمقابلــة ســخرية
الساخرين واستهزاءهمـ بــالعفو والصــفح والحلم ،لعلمــوا أن األمــر خــارج عن عــالم
البشــرية ،وأن الــذي قــال تلــك الكلمــات أقـدس من أن تـؤثر فيــه البيئـة أو الظـروف
ـاربِّ إِ َّن هَـؤُاَل ِء قَــوْ ٌم اَل المختلفة ..فقد كان القرآن حينها ينزل ليقــول لــكَ :وقِيلِـ ِه يَـ َ
ف يَ ْعلَ ُمــونَ [ الزخــرف،88 :ـ ،]89 ي ُْؤ ِمنُونَ ( )88فَاصْ فَحْ َع ْنهُ ْم َوقُلْ َسـاَل ٌم فَ َسـوْ َـ
ص ْدرُكَ بِ َما يَقُولُونَ ( )97فَ َسبِّحْ بِ َح ْمـ ِد َربِّكَ َو ُك ْن ِمنَ ق َ ضي ُـويقولَ :ولَقَ ْد نَ ْعلَ ُم أَنَّكَ يَ ِ
ْ
السَّا ِج ِدينَ (َ )98وا ْعبُ ْد َربَّكَ َحتَّى يَأتِيَكَ ْاليَقِينُ [ الحجر]99 - 97 :
ولو أنهم ـ سيديـ ـ تأملوا في تلك اآليات التي تعاتبك ،بل تشتد عليــك ،لعلمــوا
أنه يستحيل أن يعاتب الشــخص نفســه ،وبتلــك الشــدة ،وقـدـ قــالت عائشــة تخــبر عن
بعض تلك اآليات ،وأنها دليل على كونك لم تكتم شيئا من الوحي الذي أنزل عليــك:
(لو كان رسول هللا كاتما شــيئا ممــا أنــزل هللا عليـه ،لكتم هـذه اآليـة على نفسـه:
ق هَّللا َ َوتُ ْخفِي ك َواتَّ َِ وإِ ْذ تَقُو ُل لِلَّ ِذي أَ ْن َع َم هَّللا ُ َعلَ ْيـ ِه َوأَ ْن َع ْمتَ َعلَ ْيـ ِه أَ ْم ِسـ ْك َعلَ ْيــكَ زَ وْ َجـ َ
ضى زَ ْي ٌد ِم ْنهَا َوطَرًا ق أَ ْن ت َْخ َشاهُ فَلَ َّما قَ َ اس َوهَّللا ُ أَ َح ُّ
ك َما هَّللا ُ ُم ْب ِدي ِه َوت َْخ َشى النَّ َ فِي نَ ْف ِس َ
ضـوْ اـ ِم ْنه َُّن اج أَ ْد ِعيَــائِ ِه ْم إِ َذا قَ َ
ـر ٌج فِي أَ ْز َو ِ ـؤ ِمنِينَ َحـ َ َز َّوجْ نَا َكهَا لِ َك ْي اَل يَ ُكــونَ َعلَى ْال ُمـ ْ
ر هَّللا ِ َم ْف ُعواًل [ األحزاب)1()]37 : َوطَ ًراـ َو َكانَ أَ ْم ُ
ض هَّللا ُ لَ ـهُ ـر َ ج فِي َمــا فَـ َ وقد جاء بعدها قوله تعالىَ :ما َكانَ َعلَى النَّبِ ِّي ِم ْن َح َر ٍ
ُسنَّةَ هَّللا ِ فِي الَّ ِذينَ خَ لَوْ ا ِم ْن قَ ْب ُل َو َكانَ أَ ْم ُر هَّللا ِ قَ َدرًا َم ْقدُورًا[ األحـزاب ،]38 :وهــو
يدل على أنك ـ سيدي ـ لحرصك على إيمان الناس كنت تتمنى أن توافقهم في بعض
ما يطلبونه من الشؤون الخاصة بك ،حتى ال يكون ذلك فتنة لهم.
لكن هللا تعالى كان ينهاك عن ذلك ،ويخــبركـ أن الفتنــة ضــرورية للتمحيص،
حتى يتبين الصادقـ من الكاذب ،كما قال تعالىَ :وإِ ْذ قُ ْلنَا لَــكَ إِ َّن َربَّكَ أَ َحــاطَ بِالنَّ ِ
اس
اس َوال َّش َج َرةَ ْال َم ْلعُونَةَ فِي ْالقُــرْ آ ِن َونُخَـ ِّوفُهُْـم َو َما َج َع ْلنَا الرُّ ْؤيَا الَّتِي أَ َر ْينَاكَ إِاَّل فِ ْتنَةً لِلنَّ ِ
فَ َما يَ ِزي ُدهُ ْم إِاَّل طُ ْغيَانًا َكبِي ًر[ اإلسراء]60 :
45
وإنهللا ع ّز وجلّ ،وطرف بأيديكمـ فتمسّكواـ به ال تضلّوا ،واآلخر األصغرـ عــترتيّ ،
اللّطيف الخبير نبّأني أنّهمــا لن يتفرّقـاـ حتّى يــردا عل ّي الحــوض ،فســألت ذلــك لهمــا
ربّي ،فال تق ّدموهماـ فتهلكوا ،وال تقصرواـ عنهما فتهلكوا)
ث ّم أخذت يد اإلمام علي بيدك الشريفة ،ثم رفعتها ،حتى بان بيــاض إبطيهمــا،
ثم قلت مخاطبــا الجمــوع الكثــيرة(( :أيّهــا النّــاس ،من أولى النّــاس بــالمؤمنين من
(إن هللا موالي ،وأنــا مــولى المؤمــنين، أنفسهم؟) ،فأجابوا:ـ هللا ورسوله أعلم ،فقلتّ :
وأنــا أولى بــالمؤمنين من أنفســهم ،فمن كنت مــواله فعل ّي مــواله) ،ثم كــررت ذلــك،
وأكدتــه ،ثم ختمــه بقولــه( :الله ّم وال من وااله ،وعــاد من عــاداه ،وأحبّ من أحبّــه،
ق معــه حيث وأبغض من أبغضه ،وانصر من نصره ،واخــذل من خذلــه ،وأدرـ الح ـ ّ
شاهد الغائب)()1 دار ،أال فليبلّغ ال ّ
لقــد كنت تعلم تــأثير ذلــك في النــاس ،وخاصــة في القرشــيين الــذين كــانوا
يتوهمون أن اإلمامة منصب دنيوي ،وأنه كما كان لبني هاشــم النبــوة ،كــان لغــيرهم
من القرشــيين اإلمامــة ،لكنــك مــع ذلــك بلغت أمــر هللا ،ولــو أنــك كنت تعلم أنهم لن
ينفذوه..
ولـذلك أثــنى هللا تعــالى عليــك ،وأنـك كنت المبلــغ لكــل حقـائق الـدين وقيمــه،
ت هَّللا ِ َويَ ْخ َشـوْ نَهُ َواَل يَ ْخ َشـوْ نَ
وبأحسن صـورة ،قـال تعـالى :الَّ ِذينَ يُبَلِّ ُغـونَ ِر َسـااَل ِ
أَ َحدًا إِاَّل هَّللا َ َو َكفَى بِاهَّلل ِ َح ِسيبًا [ األحزاب]39 :
هذه بعض جوانب أمانتك في التبليغ ،وحرصــك عليــه ..وال يمكننــا أن نحيــط
بها جميعا ..فقــد كنت القــرآن النــاطق الــذي لم يكتــف بتبليــغ الكلمــات ،وإنمــا أعطى
النمــوذج الــدال عليهــا ،والشــارح لهــا ..فكــانت حياتــك كلهــا بالغــا عن هللا ،وبكــل
جزئياتهاـ وتفاصيلها.
وكانت كذلك على الـرغم من ثقـل التكليـف الـذي كلفت بـه ،والـذي جعلـك ال
ترتــاح ليال وال نهــارا ..وقــد قــال تعــالى يخــبر عن تلــك المشــقة الــتي كنت تلقاهــا،
صــفَهُ أَ ِو ْــل إِاَّل قَلِياًل ( )2نِ ْ والتعب الــذي كــان يصــيبك:ـ يَاأَيُّهَــا ْال ُم َّز ِّم ُل ( )1قُ ِم اللَّي َ
ا ْنقُصْ ِم ْنهُ قَلِياًل ( )3أَوْ ِز ْد َعلَ ْي ِه َو َرتِّ ِل ْالقُرْ آنَ تَرْ تِياًل ( )4إِنَّا َسنُ ْلقِي َعلَ ْي َ
ك قَوْ اًل ثَقِياًل
طئًاـ َوأَ ْق َو ُم قِياًل [ المزمل]6 - 1 : ( )5إِ َّن نَا ِشئَةَ اللَّي ِْل ِه َي أَ َش ُّد َو ْ
لقد كان ذلك البالغ الذي كلفت به غير خــاص بــالخلق فقــط ،وإنمــا كــان يبــدأ
بــك ،بــل كــانت أشــد التكــاليف تتــنزل عليــك ،وتعفي غــيرك ،فمــع أن غــيرك من
المؤمنين أعفي من قيامـ الليل إال أنك كنت مطالبا بــه على الــرغم من تعبــك الطويــل
في النهار ،ومشقة األعمال الكثيرة التي كنت تقوم بها ..لقد قال تعالى يأمرك بــذلك:
َسـى أَ ْن يَ ْب َعثَــكَ َربُّكَ َمقَا ًمــا َمحْ ُمــو ًداـ [ اإلســراء: كع َ َ و ِمنَ اللَّي ِْل فَتَهَ َّج ْد بِ ِه نَافِلَـةً لَـ َ
]79
)( 1ما أوردناه هنا هو من روايات متفرقة وردت في الصحاح والسنن وغيرها ،انظر :صـحيح مسـلم ()2408
والترمذي ( )3788واللفظ له .وغيرهما كثير.ـ
46
وكنت لذلك تسهر أكثر الليل قائما هلل إلى أن تفطــرت قــدماك ..ثم إذا اســتيقظ
الناس لصالة الفجر كنت أولهم ،بل موقظهم ..ثم تقضــي بعــد ذلــك ســائر النهــار في
تلــك األعبــاء الكثــيرة الــتي كلفت بهــا ..وفي وســط مملــوء بالمعانــدين والمنــافقين
والمشاغبين الذين ال يكاد أحد يطيقهم ،وهم متفرقون ،لكنك أطقتهم وهم مجتمعون.
ولم تكن تطلب من ذلك التعب الكبير جزاء وال شــكورا ،بــل إن الــوحي كــان
يتنزل عليك حينها ليأمرك بالزهد في كل المتاع ،قال تعالىَ :واَل تَ ُم َّد َّن َع ْينَ ْيكَ إِلَى
ق َربِّكَ خَ ْيـ ٌر َوأَ ْبقَى َما َمتَّ ْعنَا بِ ِه أَ ْز َواجًا ِم ْنهُ ْم َز ْه َرةَ ْال َحيَــا ِة ال ـ ُّد ْنيَا لِنَ ْفتِنَهُ ْم فِي ـ ِه َو ِر ْز ُ
[طه]131 :
وحينمـاـ اشـتكى أزواجــك تلـك الحـال الــتي كــانوا يعيشـون عليهـا من الفاقــة،
وطلبــوا منــك تحســين وضــعية معيشــتهمـ أنــزل هللا عليــك قولــه :يَاأَيُّهَــا النَّبِ ُّي قُــلْ
ـر ْدنَ ْال َحيَــاةَ الـ ُّد ْنيَا َو ِزينَتَهَــا فَتَ َعــالَ ْينَ أُ َمتِّ ْع ُك َّن َوأُ َسـرِّحْ ُك َّن َسـ َرا ًحاـ ك إِ ْن ُك ْنتُ َّن تُـ ِ أِل َ ْز َو ِ
اج َـ
تـرةَ فَـإِ َّن هَّللا َ أَ َعـ َّد لِ ْل ُمحْ ِسـنَا ِ
ار اآْل ِخـ َ ـر ْدنَ هَّللا َ َو َر ُسـولَهُ َوالـ َّد َ َج ِمياًل (َ )28وإِ ْن ُك ْنتُ َّن تُـ ِ
َظي ًما[ األحزاب]29 ،28 : ِم ْن ُك َّن أَجْ رًا ع ِ
وقد ورد في التفسير أنها بمجردـ أن أنــزلت عليــك ،رحت تــدعوهن ليخيرنــك
أو يخيرن زهرة الحياة الدنيا ،فاخترنكـ جميعا ..وهل يمكن لعاقل أن يختارـ غيرك.
فأسألك ـ يا سيديـ يا رسول هللا ـ أن تتوســل إلى هللا بــأن أكــون وارثــا لــك في
البالغ؛ فأصبر كما صبرت ،وأدعو كما دعوت ،وأتحمل كما تحملت ،وال ألين كمــا
لم تلن ..حتى أكون من أهل قولك( :نضر هللا عبدا سمع مقـالتي هـذه فحملهـا ،فـرب
حامل الفقه فيه غير فقيه ،ورب حامل الفقه إلى من هو أفقه منه) ()1
وحتى أحشر مع الــذين وصــفهم هللا تعــالى بــأنهم ال يخــافون فيــه لومــة الئم..
وحتى أكون تحت لواء الصادقين معك يوم القيامــة ..فال ينــال شــرف الــدخول تحت
ذلك اللواء في اآلخرة إال من كان تحته في الدنيا.
وأســألك أال أكــون من الــذين يبلغــون مــا ال يفهمــون ،أو يــدعون إلى مــا ال
يستوعبون ،أو يخــالفون بأفعــالهم مــا يبلغونــه بــأقوالهم ،حــتى ال يكــون بالغي فتنــة
وتشويها لدينك ورسالتك..ـ فإنك يا سيدي يــا رســول هللا ال تــرد من اســتجارـ بــك ،أو
طلب شفاعتك..
)(1رواه أحمد ،وأبو يعلى ،مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ()210 /7
48
الناس وصالحهم ،ألنك تــرى رأي العين النــيران الــتي يقحمــون فيهــا أنفســهم ،قــال
َزي ٌز َعلَ ْي ِه َما َعنِتُّ ْم َح ِريصٌ َعلَ ْي ُك ْم بِ ْ
ــال ُم ْؤ ِمنِينَ تعالى :لَقَ ْد َجا َء ُك ْم َرسُو ٌـل ِم ْن أَ ْنفُ ِس ُك ْم ع ِ
وف َر ِحي ٌم[ التوبة]128 : َر ُء ٌ
وكيــفـ ال تكــون كــذلك ،وأنت عين من عيــون رحمــة هللا لعبــاده ،بــل أنت
الرحمة الكبرى ،بل شمس الرحمة التي تفيئ إلى دفئهاـ جميع الخالئق؟
ولــذلك كــانت كلماتــك ترياقــا يعــالج النفــوس ،ومعراجــا تعــرج بــه األرواح،
وإكسيراـ تتحرك فيه الذوات أسمى حركة جوهرية عرفها الوجود..ـ
ال أزال أذكر سيدي تلك الموعظة البليغة التي وعظت بهــا شــابا صــغيرا هــو
ابن عمك ابن عباس ..وقد مألني ذلك انبهارا وإعجابا وتــأثرا؛ فــأنت تعــظ الجميــع،
وفيـ كل المحال ،وال يعنيك أن تنصب لك المنابر ،أو يجتمع الناس حولك..
ـال(:يــالقد ذكر ابن عباس موعظتك له ،فقــال :كنت خلــف النــبي يومــا فقَـ َ
غالم إني أعلمك كلمات :احفظ هَّللا يحفظك ،احفظ هَّللا تجده تجاهك ،إذا سألت فاسألـ
هَّللا ،وإذا استعنت فاست َع ْن باهَّلل ،واعلم أن األمة لــو اجتمعت َعلَى أن ينفعــوك بشــيء
لم ينفعــوك إال بشــيء قــد كتبــه هَّللا لــك ،وإن اجتمعــوا َعلَى أن يضــروكـ بشــيء لم
يضروك إال بشيء قد كتبه هَّللا عليك ،رفعت األقالم وجفت الصحف)()1
مـا أجمـل هــذه الكلمـات ،وأعظم تأثيرهـا ،فهي تتســلل إلى النفـوس والقلـوب
لتمألها بالحكمة والجد ..فهي ال تذكر المطالب فقط ،وإنمــا تعــد بــالمواهب ..لعلمهــا
أن النفس اإلنســانية مثــل ذلــك التــاجر الــذي ال ينشــط إال حيث يجــد األربــاح ،وال
يتكاسل إال حيث يفقدها..
ولذلك ذكرت له أن كل معاملة يعامل به اإلنسان ربه ،سيعامله ربه بها ..فإن
حفظ هللا حفظه ..وإن سأل هللا أجابه ..وإن توكل على هللا أعانه ..وإن رجا هللا حقــق
رجاءه ..وإن خاف هللا أمنه من كل مخافة ..وهكذا كان يمكن البن عباس ،ولكل من
سمع هذه الموعظة البليغة أن يبحر فيها إلى معاني كثيرة جــدا ،ال تفيــد عقلــه فقــط..
إنما تفيد قلبـه وروحـه ونفسـه وكـل لطائفـه ،لتحركهـا جميعـا نحـو شـمس الحقيقـة،
وتجعله مقبال عليها برغبته وكليته.
وهكذا كانت كل مواعظك ،ولذلك كان الجالسون إليك ،أو إلى مواعظك التي
ال نــزال نحفظهــا ،ال يجــدون أنفســهم إال وأعينهم تفيض من الــدمع ممــا عرفــوا من
الحق.
وقد وصف بعض أصحابك ذلك ،فقال(:وعظنا رسولـ هللا موعظة بليغة،
ذرفت منها العيون ،ووجلت منها القلوب)2()..
)(1رواه أحمــد ( /1ـ ،)307والترمــذي ( )2518مختصــرا ،وقــال حــديث حســن صــحيح ،وفي روايــة غــير
الترمذي «:احفظ هللا تجده أمامك ،تعرف إلى هللا في الرخاء يعرفك في الشدة ،واعلم أن ما أخطــأك لم يكن ليصــيبك،
وما أصابك لم يكن ليخطئك ،واعلم أن النصر مع الصبر ،وأن الفرج مع الكرب ،وأن مع العسر يسرا ».
)(2رواه أبو داود ( ،)4607وابن ماجة ( ،)42أحمد ( ،)127 ،126 /4الحاكم (.)97 /96 /1
49
وهو ال يريد من كونها بليغة ما يتوهمه المتكلفــون والمتنطعــون والمتقعــرون
من كثرة محسناتهاـ البديعية ،وسجعها ،وغريب ألفاظها ،فأنت أبعد الناس عن ذلــك،
وبالغتــك الــتي اســتفدتها من الــوحي المــنزل عليــك أعظم من أن تســجن نفســها في
سجون األلفاظ والتراكيب..ـ ولذلك كانت بالغة موعظتــك في قــدرتهاـ على التوصــل
إلى إفهام المعاني ،وإيصالها إلى قلوب السامعين بأحسن صــورة وأجملهــا وأحالهــا
وأكثرهاـ تأثيرا.
أما ذلك التكلف الممقــوت الــذي راح بعض الخطبــاء يشــوه بــه المعــاني الــتي
(إن هللا عـ ّز وجـ ّل جئت بها ،فقد كنت تنهى عنــه ،وتحــذرـ منــه ،وقــد قلت في ذلــكّ :
يبغض البليغ من الرّجال الّذي يتخلّل بلسانه تخلّل البقرة بلسانها)()1
وكنت تعتبرـ أولئك المتكلفين المتنطعين أبعد الناس عنــك ،وعن الهــدي الــذي
جئت به ،وقـدـ قلت في ذلــك( :إن من أحبكم إل ّي وأقــربكم مجلسـا ً مــني يــوم القيامــة:
أحاســـنكم أخالقـــاً ،وإن أبغضـــكم إل ّي ،وأبعـــدكم مـــني يـــوم القيامـــة الثرثـــارون،
والمتشدقون ،والمتفيهقون)()2
ولذلك كانت مواعظك ـ سيدي ـ مرسلة سهلة بسيطة ،ولكنها مع ذلــك عميقــة
دقيقة ،ال يمكن تغيير لفظة عن محلها ،وال تبديلها بأخرى.ـ
وكانت لــذلك قصــيرة يمكن لمن شــاء أن يحفظهــا ،ليرددهـاـ كــل حين ويتــأثر
لمعانيها ..فالكالمـ الطويل يؤثر بعضه على بعض ،وينسخ بعضــه بعضــا ،وقــد وردـ
في الحديث أنك لم تكن تطيل الخطبة يــوم الجمعــة ،وقــد ذكــر ذلــك آخــر ،فقــال(:إن
النبي كان يحدث حديثا ً لو ع ّده العا ّد ألحصاه)()3
وكنت سيديـ في مواعظك تنتهج ما أمرك به القرآن الكريم من الموازنــة بين
التبشيرـ واإلنذار؛ فأنت المبشر النذير الذي يعرف النفوس ودوافعها،ـ فيحركهـاـ بكــل
لطف ،لتهذب نفسها بنفسها ،وبلين ولطف من غير إكراه وعنف.
وكنت ســيدي في مواعظــك تســتعمل كــل مــا آتــاك هللا من األســاليب ..فتقص
عليهم القصص ،وتذكرـ لهم األمثال ،وتبين لهم أنواع العــبر الــتي يمكن أن يعتــبروا
بها.
وأنت في ذلك تنفذ ما أمرك به ربــك من تلــك األســاليب الــتي ال يــزال البشــر
ص صـ َ ص ْالقَ َ صـ ِـ يعتبرونها أرقىـ أساليب التأثير والتربيــة ،وقــد قــال لــك ربــك ﴿:فَا ْق ُ
لَ َعلَّهُ ْم يَتَفَ َّكرُونَ ﴾ (ألعراف)176:
بل إن هللا تعالى هو الذي تــولى تعليمــك فن القصــص الــتربوي،ـ فقــال ﴿:نَحْ نُ
ك هَـ َذا ْالقُــرْ آنَ َوإِ ْن ُك ْنتَ ِم ْن قَ ْبلِـ ِه لَ ِمنَ
ص بِ َمــا أَوْ َح ْينَــا إِلَ ْيـ َ
صـ ِك أَحْ َسـنَ ْالقَ َ
نَقُصُّ َعلَ ْيـ َ
ْال َغــافِلِينَ ﴾ (يوســف ،)3:وأخــبر عن تــأثيرـ القصــص في نفس المتلقي ،فقــالَ ﴿:وكُاّل ً
)(1أبو داود ( )5005واللفظ له ،الترمذي ( )2853وقال :حديث حسن غريب من هذا الوجه.
)(2رواه أحمد ( )446 /6وأبو داود ()4799
)(3رواه البخاري ( )4/231ومسلم ()7/167
50
ك ِم ْن أَ ْنبَا ِء الرُّ ُس ِل َما نُثَب ُ
ِّت بِ ِه فُؤَادَكَ ﴾ (هود)120: نَقُصُّ َعلَ ْي َ
وهكذا كنت تضرب في مواعظك األمثال ،وتعبر لهم عن معانيهــا ،تأدبــا بمــا
علمك ربك؛ فالقرآن الكريم هو مدرسة األمثال الكبرى ،وأنت تلميذه األكبر ،ولذلك
ال غرابة أن تكون أمثالك مدرسة لهذا الفن العظيم من فنون المواعظ.
لست أدري ما أقول لك سيدي ..وكيفـ أشكو لك حال المواعظ بعدك ،وكيــف
تحولت إلى بضاعة يتاجر بها المتكلفون المتنطعــون الســتدرار العواطـفـ من غــير
أن يكون لها تأثير حقيقي ..حيث يكون همهم ذلك التأثير العاطفي المحــدودـ الــذي ال
ينبني عليه أي عمل ..بخالف مواعظك سيدي ،والتي تصف الداء والدواء ..وتتسلل
إلى النفوس والقلوب والجــوارح ،وتمأل الحيــاة بالحركــة اإليجابيــة النافعــة الممتــدة،
التي ال يتوقفـ تأثيرها على تلك اللحظات المحدودة.
فأســألكـ ـ ـ يــا ســيديـ يــا رســول هللا ـ ـ وأتوســل بــك إلى ربي أن يجعلــني من
المستنين بسنتك في الوعظ والهدايــة ..حــتى تكــون كلمــاتي دواء ال داء ..وترياقــا ال
سما ..ومعراجا يصعد باإلنسان ،ال هاوية يسقط فيها ..فإن قوما من الواعظين الذين
زعموا أنهم يستنون بسنتك راحوا يعظون باسمك؛ فمألوا الدنيا خرابا ،ومألوا حياة
الناس شقاء ..وشوهوكـ وشوهوا دينك أعظم تشويه.
51
البشير النذير
سيدي يا رسول هللا ..يا من أرسله هللا ليحمل أعظم الحقائق للبشــر ،وأكثرهــا
تعلقا بسعادتهم وشقاوتهم ،فكان البشير الذي يبشر بالســعادة وأبوابهــا ومفاتيحهــا في
الــدنيا واآلخــرة ،وكــان النــذير الــذي يحــذر من كــل مــا يحــرم من الســعادة ،ويجلب
الشقاء ،وفي كل الشؤون ،وكل األزمنة.
لقد تأملت كل المبشرين والمنذرين في الدنيا؛ فوجدتهم أقزاما بجنبك ،وبجنب
ما جئت به ..فالطبيبـ يبشرنا بالصحة ،ويحذرنا من المرض ..لكن الصحة سـرعان
ما تتهدم ،والمرض سرعان ما يتغلب ..والنشوة التي حصلت بهــا البشــارة ســرعان
ما تزول.
واألستاذ يبشرناـ بالنجاح ،ويحذرناـ من الرسوب ..لكن نشوة النجاح تذهب مع
األيام ..والسرور الذي صاحبها يتالشى ..وال تبقى منه إال الذكريات التي قــد تنســى
حالوتها ،وقد تتحول إلى مرارة.
وهكذا ..فإن كــل المبشــرين أو المنــذرين غــيرك ..يبشــرون بشــؤون قاصــرة
محدودة ..أو ينذرون من أمورـ يفيد إنذارهم فيها زمنـا محـدودا ،ال ممـدودا ..ولـذلك
يتالشى التبشيرـ واإلنذار بتالشيها.
أما أنت يا سيديـ يا رسول هللا ..فتبشــيركـ وإنــذارك يمتــد لألبــد ..فــأنت جئت
لذلك اإلنسان البسيط المحدودـ الذي ينظر إلى تعاقب الليل والنهار كل حين ،لينتظــر
اللحظـات الـتي يحـل عليـه فيهـا العجـز والمـرض والمـوت ..وهـو ممتلئ بـالخوفـ
منها ..ومن المصير الذي سيصيرـ إليه..
جئت إليه لتخبره أنه ال داعي لكل تلك اآلالم ..فما يعيشه في الدنيا ليس سوى
مرحلة اختبار ..وأنه بعد نجاحــه في االختبــارـ ســيتحول إلى عــالم مملــوء بالجمــال،
تتحقق له فيه كل األمنيات ..فالفقير يغتني ..والمريض يشفى ..والشيخ يصيرـ شابا..
والمبتلىـ يصير معافى ..والذي فقد أحبابــه يعــودون إليــه ..والــذي فقــد مســكنه أو لم
يجد أين يلجأ سيجد القصور في تلك الدار التي ال يصــيبها المــوت ،وال الفنــاء ..وال
تنزل بأرضهاـ الزالزل ..وال تتنزل من سمائها حمم البراكين.
ولم تأت لتخبره بذلك فقط ..وإنما جئت تــذكره بــالطريقـ المســتقيم المختصــر
الذي يوصله إلى تلك المحال الشريفة الممتلئة بالسعادة من غير معاناة وال ألم.
وجئت لتخبره بالعقبات التي تقف بينه وبين تلــك المحــال الســعيدة ..والشــقاوة
التي تنتظره إن هو لم يتجاوزها ،أو سكن إليها ،أو سكن إلى أعدائه ووسوستهم.
وكــل هــذه المعــاني ال يمكن أن تكــون لغــيرك ـ ـ ســيدي .فكــل المبشــرين أو
المنذرين السائرين على غير طريقك ،لم يتجاوزواـ هــذه الــدنيا ،ومــا يرتبــط بهــا من
سعادة ورفاه ..ولذلك كانت بشاراتهمـ وإنذاراتهمـ محــدودة قاصــرة ،ال تلــبي حاجــات
النفس التي ال تنتهي ..وطمعها الذي ال يملؤه إال الخلود.
52
لذلك كنت ـ سيدي ـ باب السعادة األكبر ..فمن وصل إليك دخل مدينة السعادة
التي لن يخرج منها أبدا..
وال أقصدـ بالسعادة ـ سيديـ ـ ســعادة اآلخــرة فقــط ..بــل ســعادة الــدنيا أيضــا..
فأنت لم تبشرناـ بالجنان فقط ،وإنما بشـرتناـ بربنـا ..وأخبرتنـاـ أننـا لسـنا مهملين على
هذه األرض ،وإنمــا لنــا رب رحيم كــريم لطيــف ،نحن نــأوي إلى كنفــه ،ونأكــل من
رزقه ،وننهل من خيره ،فكل مفاتيح سعادتنا بيده ..فلذلك كانت صلتنا به هي الجنة،
وكان تواصلنا معه هو الحياة الحقيقية التي ال يحلم بها من لم يعرفه ،أو يعــرفـ لــذة
وصاله.
سيدي يا رسول هللا ..لم تكن تلك المعـاني العظيمــة الــتي مألت قلوبنــا بشــارة
بها مجرد أماني أو أحالم أو أفكار فيلسوف ،أو خياالت أديب ..وإنمــا كـانت حقـائق
مؤيدة بالمعجزات الباهرة ،والدالئل الواضحة ..فأنت لم تكن تنطقـ من عنــد نفســك،
وإنما من وحي ربك.
فربك هو الذي أمرك بأن تخبر عبادك عنه ،وتعــرفهمـ بــه ..وربـكـ هــو الــذي
َّحي ُم َوأَ َّن َع َذابِي ه َُو ْال َع َذابُ اأْل َلِي ُم﴾ (الحجر: قال لك ﴿ :نَبِّئْ ِعبَا ِدي أَنِّي أَنَا ْال َغفُو ُر الر ِ
ت ُكـ َّل صـيبُ بِـ ِه َم ْن أَ َشـا ُء َو َرحْ َمتِيـ َو ِسـ َع ْ 49ـ ،)50وهو الذي قال لكَ ﴿ :ع َذابِي أُ ِ
َش ْي ٍء﴾ (ألعراف ،)156:وهو الذي قال لــكَ ﴿:وإِ ْذ تَــأ َ َّذنَ َربُّ ُك ْم لَئِ ْن َشـكَرْ تُْـم أَل َ ِزيـ َدنَّ ُك ْم
َولَئِ ْن َكفَرْ تُ ْم إِ َّن َع َذابِي لَ َش ِدي ٌد﴾ (ابراهيم)7:
ولذلك كان من وظائفكـ التي ندبك لها ،وسماك بها ،كونك بشيرا ونذيرا،ـ قــال
ب ْال َج ِح ِيم﴾ (البقــرة: صـ َحا ِ ق بَ ِشيراً َونَـ ِذيراً َوال تُ ْسـأ َ ُل ع َْن أَ ْ ك بِ ْال َح ِّ
تعالى ﴿:إِنَّا أَرْ َس ْلنَا َ
اس ال اس بَ ِشــيراً َونَــ ِذيراًـ َولَ ِك َّن أَ ْكثَــ َر النَّ ِ ك إِاَّل َكافَّةً لِلنَّ ِ ،)119وقــالَ ﴿:و َمــا أَرْ َســ ْلنَا َ
يَ ْعلَ ُمــونَ ﴾ (ســـبأ ،)28:وقــال على لســانك ﴿:إِ ْن أَنَــا إِاَّل نَ ـ ِذي ٌر َوبَ ِشـي ٌـر لِقَــوْ ٍم ي ُْؤ ِمنُــونَ ﴾
(ألعراف ،)188:وقال ﴿:أَاَّل تَ ْعبُدُواـ إِاَّل هَّللا َ إِنَّنِي لَ ُك ْم ِم ْنهُ نَ ِذي ٌر َوبَ ِشيرٌ﴾ (هود)2:
وهكذا ،فإن كل تفاصــيل البشــارات واإلنــذاراتـ الــتي جئت بهــا ،والــتي تمأل
الدنيا واآلخــرة بالســعادة الحقيقيــة لم يكن مصــدرهاـ إال هللا ..فاهلل هــو الــذي أعطــاك
البشارة ،وهو الذي أعلمك بمصير المبشرين ،وباإلعمال التي عليهم القيام بهــا ثمنــا
ت تَجْ ِري ِم ْن ت أَ َّن لَهُ ْم َجنَّا ٍ
للبشارة ..قال تعالىَ ﴿:وبَ ِّش ِر الَّ ِذينَ آ َمنُوا َو َع ِملُوا الصَّالِ َحا ِ
ُز ْقنَا ِم ْن قَ ْب ُل َوأُتُوا بِ ِه ُزقُواـ ِم ْنهَا ِم ْن ثَ َم َر ٍة ِر ْزقاًـ قَالُوا هَ َذا الَّ ِذي ر ِ تَحْ تِهَا اأْل َ ْنهَا ُر ُكلَّ َما ر ِ
ُمتَ َشابِهاًـ َولَهُ ْم فِيهَــا أَ ْز َوا ٌج ُمطَه ََّرةٌ َوهُ ْم فِيهَــا خَالِـ ُدونَ ﴾ (البقــرة ،)25:وقــال ﴿ :إِ َّن هَّللا َ
ا ْشتَ َرىـ ِمنَ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ أَ ْنفُ َسهُ ْم َوأَ ْمـ َوالَهُ ْم بِــأ َ َّن لَهُ ُم ْال َجنَّةَ يُقَــاتِلُونَ فِي َسـبِي ِل هَّللا ِ فَيَ ْقتُلُــونَ
آن َو َم ْن أَوْ فَى بِ َع ْه ـ ِد ِه ِمنَ هَّللا ِ ـل َو ْالقُــرْ ِ َويُ ْقتَلُــونَ َو ْعــداً َعلَ ْي ـ ِه َحقّ ـا ً فِي التَّوْ َرا ِة َواأْل ِ ْن ِجيـ ِ
فَا ْستَ ْب ِشرُواـ بِبَي ِْع ُك ُم الَّ ِذي بَايَ ْعتُ ْم بِـ ِه َو َذلِـكَ هُـ َو ْالفَــوْ ُز ْال َع ِظي ُم﴾ (التوبـة ،)111:وقــال﴿:
ـال َم ْعر ِ
ُوف اج ُدونَ اآْل ِمـ رُونَ بِـ ْ السـائِحُونَ الرَّا ِك ُعــونَ َّ
السـ ِ التَّائِبُونَ ْال َعابِ ُدونَ ْال َحا ِمـ ُدونَ َّ
َوالنَّاهُونَ ع َِن ْال ُم ْن َك ِر َو ْال َحافِظُونَ لِ ُحدُو ِد هَّللا ِ َوبَ ِّش ِـر ْال ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ (التوبة)112:
وغيرها من اآليات الكريمة التي تبين حقيقة البشارة ،ومظاهرها ،ووسائطهاـ
53
التي تكفل تحققها ،أو التي ال تتحقق من دونها ..ولذلك لم تكن بشاراتك مجرد نشــوة
أو فرح زائل ،وإنما كانت مصدرا لهمة عظيمة ،وتغيير يرتبطـ بالحياة جميعا..
ولهذا كان المؤمنون بك ،الصادقون معك ،ال يفرحــون بشــيء كمــا يفرحــون
بتلك البشارات التي تزفهاـ إليهم ،لتنسيهم كل همــومهم ..فقــد كــانت ســلوى آل ياســر
لمواجهة ما أعد لهم الطواغيت من عذاب هو مــا ذكرتــه لهم ،وأنت تــرى عظيم مــا
يعانونه ..لقد قلت لهم( :صبرا آل ياسرـ إن موعدكم الجنة)( ..)1فما إن سمعوهاـ منك
حتى طارت نفوسهم شوقاـ إلى الجنة ،وخرجوا من الدنيا ،وهم يبتسمون.
وفي معركــة بــدر ،حين اشــت ّد البالء على المســلمين ،ورأيت قلــة عــددهم،
وضعفـ عتادهم ،كانت جائزتكـ العظمى الـتي حـولت كـل واحـد منهم إلى جبـل من
جبــال العزيمــة ،وحصــن من حصــون القــوة قولــك لهم( :قومــواـ إلى جنــة عرضــها
الســموات واألرض ،والــذي نفس محمــد بيــده ال يقــاتلهم اليــوم رجــل فيقتــل صــابراًـ
محتسبا ً مقبالً غير مدبر ،إال أدخله هللا الجنة)()2
حينها هزت البشرى قلوب أصحابك؛ فقام عمــير بن الحمــام ،وقــال مندهشــا:
(عرضــها الســموات واألرض؟) ،فقلت(:نعم) ،فقــال ،والفرحــة تكــاد تطــير بــه(:بخ
بخ) ،فقلت( :ما يحملك على قولك بخ بخ؟) ،قال(:رجاء أن أكــون من أهلهــا) ،فقلت
مبشرا ،وقد علمت صدقه(:فإنك من أهلها)
فتقدم الرجل حين سمع تلك البشارة ممتلئا سرورا؛ فكسر جفن سيفه ،وأخرج
تمرات فجعل يأكل منهن ،ثم ألقى بقيتهن من يده ،وهو يقــول( :لئن أنــا حــييت حــتى
آكلهن إنها لحياة طويلة) ،ثم تقدم فقاتل حتى قتل.
وهكذا عندما كنت في مكة المكرمة ،حيث فقــدت الناص ـرـ والمعين ..ولم يكن
بجــواركـ إال عمــك ،كنت تــذهب إلى أســواق عكــاظ ومجنــة ،وفي المواســم ،وأنت
تخاطب الناس قائال( :من يؤويني؟ من ينصرني؟ـ حتى أبلغ رسالة ربي ولــه الجنــة)
( ..)3فقد كانت الجنة هي بشارتكـ لهم ..ال الدنيا ..وال الرفــاه ..وال أي شــيء آخــر..
وهل هناك شيء أفضل من الجنة؟ وهل هناك طريق للرفاه والحياة الســعيدة أفضــل
من اإليمان بالجنة؟
وهكذا عندما رحل إليك السبعون الذين التقوا بك في شعب العقبة ،وقالوا(:يــا
رســـول هللا عالم نبايعــك؟) ،فقلت(:تبـــايعوننيـ على الســمع والطاعــة في النشـــاط
والكسل ،والنفقة في العســر واليســر ،وعلى األمــر بــالمعروفـ والنهي عن المنكــر،
وأن تقولــوا في هللا ال تخــافواـ في هللا لومــة الئم ،وعلى أن تنصــروني فتمنعــوني إذا
قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم) ،فقالوا( :يا رســولـ هللا إن
بيننا وبين الرجــال حبــاالً وإنــا قاطعوهــا ،وإنــا نأخــذك على مصــيبة األمــوال وقتــل
56
الحكيم البليغ
سيدي يا رسول هللا ..يا من آتاه هللا فصاحة اللسان ،وبالغة البيان ،واختصــر
لــه الكالم اختصــارا..ـ فصــارتـ كلماتــه دررا ،يحفظهــا الحكمــاء ،ويتتلمــذ عليهــا
العقالء ،ويجتنون من أطايبها كل فنون الحكمة ..فأنت ســيد الحكمــاء ،وأنت معلمهم
وأستاذهم ومربيهم.ـ
وكيف ال تكون كذلك ــ ســيدي ــ وقـدـ أخــبر هللا تعــالى أن من فضــائله عليــك
تعليمك الحكمة ،من غير أستاذ تفد عليه ،وال معلم تتذلل بين يديه ..بــل كــان هللا هــو
ـاب َو ْال ِح ْك َمـ ةَ ك ْال ِكتَـ َ معلمك الذي أغناك عن كل معلم ،قــال تعــالىَ :وأَ ْنــزَ َل هَّللا ُ َعلَ ْيـ َ
َظي ًما [ النساء]113 : َوعَلَّ َمكَ َما لَ ْم تَ ُك ْن تَ ْعلَ ُم َو َكانَ فَضْ ُل هَّللا ِ َعلَ ْيكَ ع ِ
وكيف ال تكون كذلك ـ سيدي ـ وقد أخبر هللا تعالى أن من أوتي الحكمة أوتي
خيرا كثيرا ،وهل هناك من أوتي الخير الكثير مثلــك ،قــال تعــالى :يُـ ْـؤتِي ْال ِح ْك َمـ ةَ
ب َم ْن يَ َشا ُء َو َم ْن يُـ ْـؤتَ ْال ِح ْك َمـ ةَ فَقَـ ْد أُوتِ َي َخ ْيـرًا َكثِــيرًا َو َمــا يَـ َّـذ َّك ُر إِاَّل أُولُــو اأْل َ ْلبَــا ِ
[البقرة]269 :
وكيف ال تكون كذلك ـ سيدي ـ وأنت الـذي أمـرت بالـدعوة إلى هللا بالحكمـة،
ك ع إِلَى َسـبِي ِل َربِّ َ وهل يمكن أن يأمرك هللا بــأمر ليس في طاقتــك ،قــال تعــالى :ا ْد ُ
بِ ْال ِح ْك َم ِة َو ْال َموْ ِعظَ ِة ْال َح َسنَ ِة [ النحل]125 :
وكيــف ال تكــون كــذلك ـ ـ ســيدي ـ ـ وأنت الــذي ذكــر هللا من وظائفــك تعليم
الحكمة ،فأنت لست حكيما فقط ،وإنما معلم الحكماء ،قال تعــالى ذاكــرا دعــاء جــدك
ث فِي ِه ْـم َر ُس ـواًل ِم ْنهُ ْم يَ ْتلُــو َعلَ ْي ِه ْم آيَاتِــكَ َويُ َعلِّ ُمهُ ُمإبــراهيم عليــه الســالمَ :ربَّنَــا َوا ْب َع ْ
َاب َو ْال ِح ْك َمةَ َويُزَ ِّكي ِه ْم إِنَّكَ أَ ْنتَ ْال َع ِزي ُـز ْال َح ِكي ُم[ البقرة]129 : ْال ِكت َ
ولهــذا ،فإنــك ســيدي ـ ـ كمــا ذكــرت عن نفســك ـ ـ مدينــة الحكمــة ،وأميرهــا،
ومعلمهــا ،وأســتاذها،ـ ومن شــاء أن يلقن الحكمــة ،فإنــه ال يمكن أن يجــدها في غــير
مدينتك وال مدرستك ،لقد قلت في ذلك( :أنا مدينة الحكمة ،وعلي بابها ،فمن أرادهــا
آتاها من بابها)()1
ولذلك كانت كلمات اإلمام علي ـ لطول صحبته لك ،وتلمذته على يديك ـ ـ من
أفضل مصادرـ الحكمة ،وأوثقها ،وأجملها ..وعندما تعجب بعضهم من كالمه ،وقال
له( :يا أمير المؤمنين أفنبي أنت؟) ،فقال لــه اإلمــام علي( :ويلــك ،إنمــا أنــا عبــد من
عبيد محمد )2()
لقد رجعت ـ ســيدي ــ إلى كلماتــك الــتي لم يــؤثرـ فيهــا تــدليس المدلســين ،وال
عبث العابثين ..تلك التي تنورت بنــور القــرآن ..وحفظت كمــا حفــظ الــذكر الحكيم..
)(1رواه البيهقى فى شعب اإليمان ( ،2/160رقم ،)1436وروى أوله البخاري ،90 / 6ومسلم رقم ()523
)(2ابن ماجــه ( ،2/1332رقم ،)4019وأبــو نعيم ( ،)8/333والحــاكم ( ،4/583رقم ،)8623والــبيهقى فى
شعب اإليمان ( ،3/197رقم ،)3315وابن عساكر ()35/260
)(3رواه أبو داود والحاكم.
)(4رواه البخاري.
58
تلك النفوس التي ال تشبع ،والتي راحت تسرقـ خــبز غيرهــا ،وتقهــرهم ،وتســخرهم
لمصالحها.ـ
ولو أن الخلق التزموا بتلك الحكم العظيمة التي تأمر فيها بالتحكم في اللسان،
وعدم إتاحة الفرصة له ليعبر عما يريد من غير ضوابطـ تحكمــه ،لوقــوا أنفســهم من
فتن كثيرة ،ومفساد ال نهاية لها ..فقد كنت تردد كل حين ،وعلى مسمع كــل األجيــال
قائال( :الصمت حكم وقليــل فاعلـه)(( ..)1الصـمت زين للعــالم وســتر للجاهــل)(..)2
(الصمت سيد األخالق ،ومن مزح استخف به) (( ..)3قولوا خيرا تغنمـوا ،واسـكتوا
عن شــر تســلموا)(( ..)4من صــمت نجــا)(( ..)5رحم هللا من حفــظ لســانه ،وعــرف
زمانه ،واستقامت طريقته)(( ..)6من كثر كالمه كثر سـقطه ،ومن كـثر سـقطه كـثر
كذبه ،ومن كثر كذبه كثرت ذنوبــه ،ومن كــثرت ذنوبــه كــانت النــار أولى بــه)(..)7
(من كف لسانه عن اعراض المسلمين أقال هللا عثرتــه يــوم القيامــة)(( ..)8ال تــدخل
حالوة االيمان قلب امرئ حتى يترك بعض الحديث خوف الكذب وإن كان صــادقا،
ويتركـ المراء وإن كان محقا)(( ..)9ال تقل بلســانك إال معروفــا ،وال تبســط يــدك إال
إلى خير)(( ..)10ك ّل كالم ابن آدم عليه ال له إاّل أمر بمعــروف،ـ أو نهي عن منكــر،
ـإن كــثرة الكالم بغــير ذكــر هّللا
أو ذكر هّللا )(( ..)11ال تكثروا الكالم بغير ذكر هّللا ،فـ ّ
وإن أبعد النّاس من هّللا القلب القاســي)(( ..)12من حســن إســالم المــرء قسوة للقلبّ ،
تركه ما ال يعنيه)(( ..)13من يضــمن لي مــا بين لحييــه ومــا بين رجليــه أضــمن لــه
الجنّة)( ..)14وغيرها من الحكم الكثيرة التي تحفظ من يلتزم بها من كــل المصــائب
التي يجلبها له لسانه ،كما تلقنه كل الثمار الطيبة للسان الذي التزم عبودية ربــه ،فلم
)( 1رواه الترمذي وقال :غريب ،ورواه أحمد والحاكم والبيهقي .وقال الحاكم :صحيح وأقره الذهبي.
)( 2رواه الحاكم واللفظ له وقال :صحيح اإلسناد ،ورواه الطبراني في الكبير.
)(3رواه الديلمي في الفردوس.
)(4رواه الطبراني في الصغير واألوسط والبزار.
)(5رواه البخاري ومسلم.
)(6رواه مسلم.
)(7رواه مسلم.
)(8رواه أحمد والبزار.
60
تعسـرواـ وسـ ّكنوا وال تنفّــروا)(يسـرواـ وال ّ
على ك ّل قريب هيّن سهل)( ..)1وتقــولّ :
( ..)2وتقول( :من أعطي حظّـه من الرّفــق فقـد أعطي حظــه من الخـير ،ومن حـرم
ّ
حظّه من الرّفق حرم حظّه من الخير)( ..)3وتقول( :من يحرم الرّفق يحــرم الخــير)
()4
وهكـذا كـانت حكمـك تحض على اإلحسـان ،وفي كـل المجـاالت ،حيث كنت
(إن هّللا كتب اإلحســان على كـ ّل شــيء فــإذا قتلتم فأحســنوا القتلــة ،وإذا ذبحتمـ
تقولّ :
فأحسنوا الذبح ،وليح ّد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)()5
وهكــذا كــانت حكمــك ـ ـ ســيدي ـ ـ كافيــة لمن يريــد أن يســير على ســراطك
المستقيم ،الذي لم ينحرف ذات اليمين ،وال ذات الشمال ،ذلك السراطـ الذي ارتضــاه
هللا لعباده ،ولم يقبل منهم المرور على غيره.
وهي جميعا مدرســة في األخالق واآلداب والسياســة والحضــارة ..وال تلــتزمـ
أمة بها إال ،وتــرقت..ـ وال نفس بهــا إال تطهــرت ..وال مجتمــع بهــا إال كــان مجتمعــا
متكافال متناصرا متراحما ممتلئا بالحكمة.
فأسألك سيدي ،وأتوسل بك إلى هللا تعـالى أن أكـون من أولئـك الـذين تتلمـذوا
على كلماتك وهديك ،فصار لهم من الحكمة ما يصلحون به شــؤون دينهمـ ودنيــاهم..
حتى تتحكم عقولهم في نفوسهم ،ويتحكمـ دينهم في دنياهم.ـ
وأســألك ســيدي أن ترفــع درجــتي حــتى أكــون من الــدعاة إلى هللا بالحكمــة
والموعظة الحسنة ،أولئك الذين ساروا على هديك ،وهدي ورثتك؛ فصارتـ لهم من
حكمة القول والفعل والتدبير مــا يجعلهم دعــاة إلى هللا على بصــيرة ،ال على هــوى،
وعلى هدى ،ال على ضاللة.
وأسألك ســيديـ أن ينــالني بعض فضــل هللا عليــك في البالغــة الــتي تيســر لي
تبليغ الحكمة ،والدعوة إليها ،حتى يفهمني قومي،ـ وحتى أبلـغ لهم دين هللا بمـا ييسـر
بلوغه لعقولهم وقلوبهم وأرواحهم ..فأنت وسيلة هللا العظمى ،وباب رحمته األكبر.
)(1رواه البخاري.
67
الشهم الشجاع
ســيدي يــا رســول هللا ..أيهــا الشــهم الشــجاع الــذي اكتملت فيــه كــل أركــان
الشخصية القوية بجميع معانيها؛ فصارـ أنموذجهاـ األمثل ،وقدوتهاـ األعلى ،وأسوتها
الحسنة.
عندما أتأمل مواقفك طيلــة حياتــك ،وخاصــة في تلــك الفــترة الــتي كلفت فيهــا
بأعظم رســالة ،وبين أشــرس قــوم ،وفي أحلــك ظــروف ..أعلم يقينــا أن القلب الــذي
استطاعـ تحمل تلك التكاليف الثقيلة ال يمكن إال أن يكون في قمــة الشــجاعة والقــوة..
وإال فمن يجرؤ على مواجهة أقوام تجذر فيهم الشرك ،وكل عادات الجاهليــة ،بــذلك
التحدي ،وبتلك الدعوات التي جعلتهم ينهضون جميعا على بكرة أبيهم لمواجهته.
ولــو أن أولئــك المشــككين المخــدوعين عن الحقيقــة ،تــأملوا في هــذه الناحيــة
وحدها ،لهدتهم إليك ،ولعرفوا أن هَّللا ُ أَ ْعلَ ُم َحي ُ
ْث يَجْ َع ُل ِر َسالَتَهُ [ األنعام،]124 :
فيستحيلـ على من كان كاذبــا أو مخــدوعا أو مخادعــا أن يتجــرأ على تلــك الــدعوات
التي لن ينال منها إال المواجهة والحرب والتشويه والتشويش..ـ مع أنه يمكن أن ينال
كل أغراضه بمجردـ أن يسمع قومه فصاحته وبالغته وحكمته.
فالمواجهة ـ يا سيدي يا رسول هللا ــ والشــجاعة األدبيــة المرتبطــة بهــا أعظم
من الشجاعة التي يبرزهاـ المحاربون في حربهم ،أو الشجعان في منازالتهم..
ولذلك قلت مبينا عظم شهادة من قال كلمة الحــق عنــد ســالطين الجــور( :من
أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر)()1
ال تــزال ذكريــات شــجاعتك في هــذا الجــانب تــرد على خــاطري ،وتملــؤني
بالنشوة ،وأنا أشعر بأن ذلك الحبيب العظيم الذي امتأل قلبي حبا له وشوقا إليه ،ليس
عارفا ،وال عالمــا ،وال عابــدا ،وال عبقريــا فقــط ..وإنمــا هــو فــوق ذلــك يــتربع على
عرش الشجاعة الذي ال ينافسه فيه أحد.
فالشجاعة التي واجهت بها المشركين واليهود والمنــافقين ..وكــل المنــاوئين..
لم يكن ليجسر على اإلقدام عليها غيرك ..وغير من اهتدى بهديك.
ال أزال أذكــر ســيدي ذلــك الموقــف الــذي وقفتــه على الصــفا ،وأنت تعلم
خطورته ،وتأثيره في قومك الحريصين على أصنامهمـ وأوثانهم..ـ لقد رحت تنــاديهم
أن خيال بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم بكل قوة ،وتقول لهم( :أرأيتم لو أخبرتكمـ ّ
مص ّدقي) ،قالوا :نعم ،ما جرّبنا عليك إاّل صدقا..ـ فقلت لهم( :فإني نذير لكم بين يدي
ّ
عذاب شديد) ،حينها قام عمك أبو لهب غاضــبا ،وهــو يقــول( :تبّــا لــك ســائر اليــوم،
ألهذا جمعتنا؟)()2
)(1رواه الطيالسى ،وابن أبى شيبة ،وأحمــد ،وأبــو عبيــدة فى الغــريب ،والنســائى ،وأبــو يعلى ،والحــاكم ،وابن
جرير وصححه ،والحارث ،والبيهقى فى الدالئل[ ،كنزـ العمال ]35463
)(2رواه والبخاري ( )2820و ( )2866و ( )2908و ( )3040و ( ،)6033ومسلم ()48( )2307
)(3الشفا بتعريف حقوق المصطفى -وحاشية الشمني ()116 /1
69
أتباع األنبياء ،فأنت أولى بهــا ..وكيــف ال تكــون كــذلك ،وأنت ســيد األنبيــاء ،وســيدـ
أتباعهم ،ونموذجهمـ األمثل ،وقدوتهم العظمى.
وكيف ال تكون كذلك ،وأنت صاحب اإليمان العظيم الذي يرى الحقــائق رأي
العين ،فلــذلك ال يــؤثر فيــه ذلــك البهــرج الكــاذب الــذي يــؤثرـ في الجبنــاء ..فيمألهمـ
بالمخافة والرهبة.
وكيف ال تكون كذلك ،وهللا تعالى هو الذي أمرك بالثبات والغلظة على أولئك
الذين يجاوزون حدودهم ،فيظلمون الناس ،ويعتدون على الحرمات ،قال هللا تعــالى:
ص ـي ُـر ظ َعلَ ْي ِه ْم َو َمــأْ َواهُْـم َجهَنَّ ُم َوبِ ْئ َ
س ْال َم ِ يَاأَيُّهَا النَّبِ ُّي َجا ِه ِد ْال ُكفَّا َر َو ْال ُمنَافِقِينَ َوا ْغلُ ْ
[التوبة]73 :
ولذلك ،فإنك ــ ســيدي ــ كمــا كنت لينــا رحيمــا لطيفــا بــالمؤمنين والمســالمين
والصــالحين ،كنت في نفس الــوقت شــديدا على الطغــاة والمجــرمين والمحــاربين..
فــاكتملت لــك بــذلك اإلنســانية في أجمــل جوانبهــا ..واكتملت لــك الشــهامة في أروع
صورها.ـ
فقــد كنت تحفــظ شــجاعتك بشــهامتك ،فال تظلم ،وال تعتــدي ،وإنمــا تكتفي
بمواجهة من يظلم المستضعفين ،أو يريد التسلط عليهم..
ولهذا كنت في كل حروبك التي فرضت عليك ،صاحب شهامة ونبــل ،تكتفي
بقتال من قاتلك ،وبحــرب من حاربــك ،من دون أن تجــاوزـ الحــدود الــتي أتاحهــا هللا
لك.
وقد شهد لك كل أصحابك بأنك في غزواتك جميعــا كنت البطــل األكــبر ،ففي
غزوة بدر وأحد وغيرهما كنت أنت القائد ،الذي يقدم على غمــار المــوت ،بشــجاعة
وبطولة ،حتى ُش َّج وجهك ،و ُك ِسرتـ َرباعيتُك.
وفي يوم ُحنَيْن ثبت في وجه اآلالف من هـوازن ،بعـد أن تفـرق عنـك النـاس
خوفــاًـ واضــطراباًـ من الكمين المفــاجيء الــذي تعرضــوا لــه ..وقــد وصــف بعض
صحابتكـ ثباتك ،فقال لمن سأله( :أكنتم وليتم يوم حــنين؟)( :أشــهد على نــبي هللا
ُسـرـ (من ال ســالح معهم) إلى هــذا الحي أخفَّاء من النــاس وح َّ ما ولَّى ،ولكنه انطلــق ِ
من هوازن وهم قومـ رماة ،فرموهمـ برشـق من نبــل كأنهـا ِرجْـ ل (قطيــع) من جـراد
فانكشفوا،ـ فأقبل القوم إلى رســول هللا وأبــو ســفيان بن الحــارث يقــود بــه بغلتــه،
فنزل ودعا واستنصرـ وهو يقول :أنا النبي ال كذب ،أنا ابن عبد المطلب)()1
وذكر صحابي آخر بعض مواقفـ شجاعتك ،فقال( :غزونا مع رسول هللا
ضـا ِه (شــجر فيــه غَزَ اة قِبَ َل نَجْ د ،فأَدركنا رســولـ هللا في القائلــة في واد كثــير ال ِع َ
ص ـن ِمن أغصــانها ،وتف ـرّق شوك) ،فنزل رسول هللا تحت شجرة فَعلّق سيفه بِ ُغ ْ
الناس في الواديـ يستظلون بالشجر ،فقال رسول هللا :إِ َّن رجال أتاني وأنا نــائم فأخــذ
ص ْلتا (مسلوال) في يــده فقــالَ :من السيف فاستيقظتـ وهو قائم على رأسي ،والسيفـ َ
)(1رواه البخاري ( ،)2930ومسلم ()79( )78( )1776
70
يَ ْمنَعُــكَ مــني؟ قلت :هللا ،فشــا َم الســيف (رده في ِغ ْمــده) ،فهــا هــو ذا جــالِس ،ثم لم
يعرض له رسول هللا )1() ِ
وما ذلك ـ سيدي ـ إال لمعرفتكـ باهلل ..فيستحيلـ أن تجتمع المعرفة مع الجبن..
فأول عالمات العارف باهلل شجاعته ..وكيف ال يكون شجاعا ،وهو يرى هللا في كــل
شيء ..ويرى قوة هللا في كل محل ،ولذلك كنت تردد متأسفا( :انتـدب هللا لمن خـرج
في سبيله ال يخرجه إاّل إيمان بي وتصديقـ برســلي أن أرجعــه بمــا نــال من أجــر أو
ق على أ ّمتي مــا قعــدت خلــف ســريّة ،ولــوددت غنيمة ،أو أدخله الجنّة .ولوال أن أش ّ
أنّي أقتل في سبيل هللا ث ّم أحيا ،ث ّم أقتل ث ّم أحيا ،ث ّم أقتل)()2
باإلضافة إلى ذلك كله ـ سيدي ـ اتفق كل من رآك وعرفك وصحبكـ على تلك
القوة التي كنت عليها ..والتي عجز من كان يزعم لنفسه القوة على مجاراتــك فيهــا..
وكيفـ ال تكون كذلك ،وقوة الجسد من قوة القلب ..وقوة القلب من قوة الروح ..وقوة
الروح من صـلتها بربهـا ..وأنت أعظم المتصـلين باهلل ،والمتواصـلين معـه ..فلـذلك
تجلى عليك باسمه القوي ،فلم يغلبك أحد.
وقد ورد في الحديث أن رجال من العــرب كــان يطلــق عليــه ركانــة ،ولم يكن
أحد يستطيع مواجهته ،أو منازلته ،وعندما سمع بك ،طلب أن يصارعك ،فاســتجبت
لطلبه ،وسرعان ما صرعته ،فلم يصدق عينه ،فطلب اإلعادة ،فصرعته مرة ثانية،
فقال :عاودني ،فصرعته الثالثة ،فقال( :يا محمد ،ما وضع ظهريـ إلى األرض أحد
ي منــك ،وأنــا أشــهد أن ال إلـه إال هللا وأنــك رســولـ هللا قبلك ،وما كان أحــد أبغض إل َّ
)3()
ولهذا كان الصحابة يلجؤون عليك عند كل شدة ،أو ثقل ينــوء بهم ،فقــد روي
أنهم يــوم حفــر الخنــدق في غــزوة األحــزاب ،عجــزوا عن كســر صــخرة عظيمــة
عرضت لهم في طريق الحفــر ،فاســتنجدواـ بــك ،فأخــذت المعــول ،وضــربتها حــتى
عادت كثيبا ً أهيل ،أو كالرمل الذي ال يتماسك.
فأسألك ـ يا سيديـ يــا رســول هللا بجاهــك العظيم عنــد هللا ــ أن أنــال حظــا من
شجاعتك وقوتك ،فال ألين مــع الطغــاة ،وال أســكن للظلمــة ،وال أخــاف في هللا لومــة
الئم ..بل أكون شهما شــجاعا أقــف مــع المستضــعفين المظلــومين ،كمــا كنت تقــف،
وكما دعوتنا أن نقف ..إنك أنت صاحب الوسيلة العظمى ،والجاه العظيم.
)(1رواه أبو نعيم والبيهقي وصححه الضياء في المختــارة ،ســبل الهــدى والرشــاد في ســيرة خــير العبــاد (/10
)254
)( 2رواه أبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي ،سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ()254 /10
)(3رواه البزار والطبراني ،سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ()255 /10
)(4رواه أحمد والنسائي ،سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (.)255 /10
73
ألخذه)()1 يأكلني) ،وقد قلت حينها مبينا سر ما حصل له( :ذاك جبريل ،لو دنا مني
وروواـ أنه لمــا نــزلت ســورة المســد ،أقبلت أم جميــل ،امــرأة أبي لهب ،ولهــا
ولولة ،وفي يديها فهر ،وهي تقول( :مذمما أبينا ،ودينه قلينا ،وأمره عصينا) ،وأنت
جالس في المسجد مع بعض أصــحابك ،فقــال لــك( :لقــد أقبلت هــذه ،وأنــا أخــاف أن
تراك) ،فقلت له مطمئنا( :إنها لن تراني) ،فراحت تصرخ :أين الذي هجــاني وهجــا
زوجي؟..ـ فسألها من معك عن رؤيتهاـ لك ،فقــالت( :أتهــزأ بي وهللا ،مــا أرى عنــدك
أحدا) ،ثم انصــرفت ،فســئلت عن سـر عـدم رؤيتهـاـ لـك ،فقـال( :حــال بيـني وبينهــا
جبريل ،يسترني بجناحيه حتى ذهبت)()2
وهكذا كنت محجوبا عن كل أعدائك الــذين يتربصــون بــك ..وكيـفـ ال تكــون
كذلك ،وأنت القرآن الناطق ،وقد قال هللا تعالى فيك وفيهَ :وإِ َذا قَ َر ْأتَ ْالقُرْ آنَ َج َع ْلنَا
ك َوبَ ْينَ الَّ ِذينَ اَل ي ُْؤ ِمنُونَ بِاآْل ِخ َر ِة ِح َجابًا َم ْستُو ًراـ[ اإلسراء]45 : بَ ْينَ َ
وقد روي أن نفرا من قومك تواصواـ بك ليقتلوك ،منهم أبــو جهــل والوليــد بن
المغيرة وغيرهما ،فبينمـاـ أنت قــائم تصــلي ،ســمعوا قراءتــك ،فأرســلوا إليــك الوليــد
ليقتلك ،فانطلقـ حتى انتهى إلى المكان الذي تصــلي فيــه ،فجعــل يســمع قراءتــك وال
يراك ،فرجع إليهم فأعلمهم بذلك ،فأتاك من بعده أبو جهل والوليــد ونفــر منهم ،فلمــا
انتهــوا إلى الصــوت ،فــإذا الصــوت من خلفهم ،فينتهــون إليــه فيســمعونه أيض ـا ً من
خلفهم ،ثم انصرفواـ ولم يجدوا إليك سبيال(.)3
وغيرهــا من الروايــات الكثــيرة المتــواترة ،والــتي دل عليهــا ،وعلى صــحتها
قولـــه تعـــالىَ :و َج َع ْلنَـــا ِم ْن بَي ِْن أَيْــ ِدي ِه ْم َســـ ًّدا َو ِم ْن َخ ْلفِ ِه ْم َســ ًّدا فَأ َ ْغ َشـــ ْينَاهُ ْم فَهُ ْم اَل
صرُونَ [ يس]9 : يُ ْب ِ
وقد روي في ســبب نزولهـاـ أن بعض المشـركين وقفــوا أمـام بيتــك ،يريـدونـ
قتلك ،فخرجت عليهم ،وأحدهم يقول ألصحابه( :إن محمــدا يــزعم أنكم إن تــابعتموه
كنتم ملوكا ،فإذا متم بعثتم بعد موتكم ،وكانت لكم جنان خير من جنان األردن وأنكمـ
إن خالفتموه كان لكم منــه ذبح ،ثم بعثتم بعــد مــوتكم وكــانت لكم نــار تعــذبون بهــا)،
فالتفت إليهم من غير أن يشعروا بك ،فوضــعت الــتراب على رؤوســهم ،وأنت تقــرأ
بداية سورة يس ،ولم يفطنوا ألنفســهم إال بعــد أن تســاقطـ الــتراب من على رؤوســهمـ
(.)4
وهكــذا شــملك هللا بحفظــه في أشــد الظــروف صــعوبة ،مثلمــا حصــل لجــدك
إبراهيم عليه السالم عندما صارت النار بردا وسالما عليــه ،ليســتطيعـ أداء الوظيفــة
)( 1رواه ابن إسحاق وأبو نعيم والبيهقي ،سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ()255 /10
)( 2رواه أبو يعلى وابن حبان والحاكم ،وصححه ابن مردويه ،والبيهقي ،سبل الهــدى والرشــاد في ســيرة خــير
العباد ()256 /10
)(3رواه البيهقي ،سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ()257 /10
)(4انظر الروايات الواردة في ذلك في :تفسير ابن كثير ()564 /6
74
التي كلف بها.
وعندما هاجرت إلى المدينة أرسلوا في طلبك حيــا أو ميتــا ..لكن هللا نصــرك
عليهم ،وأيــدك بحفظــه ..كمــا ذكــر ذلــك قولــه تعــالىَ :وإِ ْذ يَ ْم ُكـ ُر بِــكَ الَّ ِذينَ َكفَـرُوا
ك َويَ ْم ُكــ رُونَ َويَ ْم ُكــ ُـر هَّللا ُ َوهَّللا ُ خَ يْــ ُر ْال َمــا ِك ِرينَ ك أَوْ ي ُْخ ِرجُــو َـ ك أَوْ يَ ْقتُلُــو َ لِي ُْثبِتُــو َـ
[األنفال]30 :
صـرُوهُ فَقَـ ْد وأمام الغـار ،حصـل الموقــف الــذي أرخ لـه قولــه تعــالى :إِاَّل تَ ْن ُ
صـا ِحبِ ِه اَل ـار إِ ْذ يَقُــو ُل لِ َ
َص َرهُ هَّللا ُ إِ ْذ أَ ْخ َر َجهُ الَّ ِذينَ َكفَرُوا ثَــانِ َي ْاثنَي ِْن إِ ْذ هُ َمــا فِي ْال َغـ ِ ن َ
َّ َ هَّللا َ هَّللا
تَحْ َز ْن إِ َّن َ َم َعنَا فَأ ْنزَ َل ُ َس ِكينَتَهُ َعلَ ْي ِه َوأيَّ َدهُ بِ ُجنُــو ٍد لَ ْم ت ََروْ هَــا َو َج َعـ َل َكلِ َمـ ةَ ال ِذينَ
َزي ٌز َح ِكي ٌم [ التوبة]40 : َكفَرُوا ال ُّس ْفلَى َو َكلِ َمةُ هَّللا ِ ِه َي ْالع ُْليَا َوهَّللا ُ ع ِ
لقد مكثت حينها في غار ثور ثالثة أيــام حــتى لــو أن أحــدهم نظــر إلى قدميــه
ألبصرـ تحتهما ،وحينهاـ امتأل صاحبك المرافق لك حزنا ،فقلت له بكل هدوء ،وأنت
ن هَّللا َ َم َعنَا[ التوبة)1( ]40 : تعلم أن هللا لن يضيعك :اَل تَحْ َز ْن إِ َّ
لقد كان ذلك الموقفـ يشبه كثيرا موقف نــبي هللا موســى عنــدما كــان فرعــون
خلفه ،والبحرـ أمامه ،فقال له أصحابه :إِنَّا لَ ُم ْد َر ُكونَ [ الشعراء ،]61 :فــرد عليهم
ين[ الشعراء]62 : بكل هدوءَ :كاَّل إِ َّن َم ِع َي َربِّي َسيَ ْه ِد ِ
وعنـــدما ذهبت إلى المدينـــة ،وزاد أعـــداؤك ،بعـــد أن انضـــم إليهم اليهـــود
والمنافقون ،وأعلنت كــل الحــروب عليــك ،وجــرت الكثــير من محــاوالت اغتيالــك،
فشلت جميعا..
ومن تلك المحاوالت ما أشار إليه قوله تعالى :أَفَ ُكلَّ َما َجـ ا َء ُك ْم َر ُسـو ٌل بِ َمــا اَل
تَه َْوى أَ ْنفُ ُس ُك ُم ا ْستَ ْكبَرْ تُْـم فَفَ ِريقًا َك َّذ ْبتُ ْم َوفَ ِريقًا تَ ْقتُلُــونَ [ البقــرة ،]87 :فقــد روي أنــك
ذهبت إليهم لبعض األمــور بنــاء على المعاهــدة الــتي كــانت بين المســلمين وبينهم،
فأجلسوك في حائط لهم ثم عزموا على قتلك ،بقذف رحى عظيمة من فــوق الحائــط،
لكن هللا تعــالى عصــمك من شــرهم ،وأحبــط كيــدهم ،وأبلغــك بعــزمهمـ ففــارقت
موضعك ،وكــان ذلــك من أســباب جالئهم عن المدينــة كمـا ذكـر هللا تعــالى ذلـك في
سورة الحشر.
لقد رأى بعض الصحابة حينها أو بعدها أن يتخذوا لــك حرســا يحرســك ،بعــد
أن كثر المنافقون والمتربصون بك من البالد المختلفة ..لكن هللا تعــالى أنــزل عليــك
اس ﴾ [المائدة ،]67:فصرفتـ الحرس عنك ،وما حاجتك ك ِمنَ النَّ ِ ْص ُم َ
قوله ﴿ َوهللاُ يَع ِ
إليهم ،وأنت في حفظ هللا.
وهكذا كان أعداؤك يخططون كل حين لقتلك ..لكن محــاوالتهمـ جميعــا بــاءت
بالفشل ..ومنها تلك المحاولة الـتي قـام بهــا الطلقــاء ،ومن معهم من المنــافقين الــذين
أجمعــوا على أن يقتلــوك ،فلمــا أردت أن تســلك العقبــة أرادوا أن يســلكوها معــك،
ليدفعوك عن راحلتك في الوادي ،فأخبركـ هللا تعالى بمكرهم ،فلما بلغت تلك العقبة،
)(1روى الحادثة أحمد عن أبي الطّفيــل ،والــبيهقي عن حذيفــة ،وابن ســعد عن جبــير بن مطعم وابن أبي حــاتم
وأبو الشيخ عن الضحاك والبيهقي عن عروة ،والبيهقي عن ابن إســحاق ،وغــيرهم ،ســبل الهــدى والرشــاد في ســيرة
خير العباد ()466 /5
)(2رواه البخاري ( ) 2474ومسلم ( ) 2190
)(3رواه البخاري ( ) 4165
76
أركن لتخويفهمـ وإرهابهم ،بل أوقن بما أوصيتناـ به في وصاياك العظيمــة حين قلت:
(إن العباد لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه هللا لك ،لم يقــدروا على ذلــك،
ولو اجتمعوا على أن يضروكـ بشيء لم يكتبه هللا عليك ،لم يقدروا على ذلــك ،جفت
األقالم ،وطويت الصحف)()1
وأتوسل بك إلى هللا ـ سيدي ـ أن يحفظ قلوبناـ من أن تنـدس إليهـا األهـواء ،أو
تمألها الشياطين بوساوسها ،أو تغير عليها جنود الخوف والفــزع ،فتمنعهــا من أداء
ما كلفت به من واجبات ..إنك أنت الوسيلة العظمى ،وصاحب الجاه العظيم.
)(1تفسير ابن جرير الطبري ( ،)236 /2وتفسير ابن كثير ( ،)386 /1وتفسير البغوي ()322 /1
)(2رواه مسلم :ج ،١ص ،134ح .240
)(3رواه البخاري 369 / 1و ،370ومسلم رقم ()521
)(4رواه أحمد (.)3/387
78
أممهم بذلك؟
وما لنا نعود إلى األحاديث التي نراهم يسارعون إلى تكذيبها من غــير مــبرر
إال األهواء المجردة ،ونترك القرآن الكريم الذي صرح بذلك ،وفي مواضــع كثــيرة،
فاهلل تعالى أخبر أن رســالتكـ إلى كافــة النــاس بخالف رســائل ســائرـ الرســل ،والــتي
ذكر أنها ألقوامهم خاصة ..ولو أنهم قرؤوهاـ وتدبروهاـ لعــادوا إلى رشــدهم ،وكفــوا
عن غيرهم ،وتضليلهم للخلق.
لقد قال هللا تعــالى ينص على عالميــة رســالتكـ الــتي تقتضــي وجــوب اتباعــك
اس بَ ِشيرًا َونَ ِذيرًا َولَ ِك َّن أَ ْكثَ َر وطاعتك في كل ما جئت بهَ ﴿ :و َما أَرْ َس ْلنَاكَ إِاَّل َكافَّةً لِلنَّ ِ
اس اَل يَ ْعلَ ُمون﴾ [سبأ ،]28 :وكونك بشــيرا ونــذيراـ لكــل الخلــق يــدل على أن كــل النَّ ِ
البشــارات أو اإلنــذارات الــتي نطقت بهــا ،أو نطــق بــه القــرآن الكــريم ،وفي آحــاد
األعمال تنطبقـ على الخلق جميعا ،وليس على األمــة الـتي حظيت باتباعــك ..فالكــل
مسؤولـ عن اتباعك.
وهللا تعالى يدعوك ألن تخبر الناس جميعـا ،بـأنهم مكلفـون باتباعـك ،وأنـه ال
مناص لهم من ذلك ،حتى لو بعث أنبياء الديانات التي ينتمون إليها؛ فــإنهم ال يجــوزـ
لهم اتباعهم ،بل عليهم اتباعك ،لقد قال هللا تعالى يدعوك لذكر ذلك لهم ﴿ :قُلْ يَا أَيُّهَـا
ض ال إِلَـهَ إِاَّل هُـ َو ت َواأْل َرْ ِ اوا ِ ك َّ
السـ َم َ النَّاسُ إِنِّي َرسُو ُل هَّللا ِ إِلَ ْي ُك ْم َج ِميعـا ً الَّ ِذي لَـهُ ُم ْلـ ُ
يت فَــآ ِمنُواـ بِاهَّلل ِ َو َر ُســولِ ِه النَّبِ ِّي اأْل ُ ِّم ِّي الَّ ِذي ي ْ
ُــؤ ِمنُ بِاهَّلل ِ َو َكلِ َماتِــ ِه َواتَّبِعُــوهُ يُحْ يِي َويُ ِم ُ
لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْهتَ ُدونَ ﴾ (ألعراف)158:
فاآليـة الكريمـة ال تـأمرهمـ بمجـرد اإليمــان بــك ،وإنمـا تضــيف إليـه وجـوب
اتباعك ،مع أن مجرد اإليمان بك كاف في وجــوب اتباعــك؛ فيســتحيل على من يعلم
أنك رسول هللا ،وأن الشريعة التي جئت بها هي شريعة هللا المعبرة عن مراضيه أن
يتركهاـ لغيرها من الشرائع التي شهد القرآن الكريم بتحريفها وتبديلها.ـ
وهكذا نجد اآليات الكثيرة المخبرة عن كونك رســوال ورحمــة للعــالمين ،قــال
ك الَّ ِذي نَ َّز َل ْالفُرْ قَانَ َعلَى َع ْب ِد ِه لِيَ ُكــونَ لِ ْل َعــالَ ِمينَ نَـ ِذيراً﴾ (الفرقــان،)1: تعالى ﴿ :تَبَ َ
ار َ
ـو إِاَّل ِذ ْكـ ٌر وقــال ﴿ :إِ ْن هُ ـ َو إِاَّل ِذ ْكــ َرى لِ ْل َعــالَ ِمينَ ﴾ (األنعــام ،)90 :وقــالَ ﴿ :و َمــا هُـ َ
لِ ْل َعالَ ِمينَ ﴾ (القلم ،)52:وقالَ ﴿ :و َما أَرْ َس ْلنَاكَ إِاَّل َرحْ َمةً لِ ْل َعالَ ِمينَ ﴾ [األنبياء]107:
وغيرهــا من اآليــات الكريمــة الــتي ال يفهم منهــا إال كــون رســالتك شــاملة
للعالمين جميعا ..وفيـ كل األجيال ..ولكل البشر ..وألصحاب كل األديان ..وال عذر
ألحدهم بعدم اتباعك بعد سماعه بك ،واطالعه على ما جئت به.
ســيدي يــا رســول هللا ..يــا رحمــة هللا للعــالمين ..لقــد تــرك أولئــك الــدجالون
المشاغبون كل هذه النصوص الصريحة الواضحة ،وراحــواـ يتعلقــون بالمتشــابهاتـ
من النصوص ،والتي دل القرآن الكريم نفسه على معانيها..
لقد فعلوا مثلما فعل المجسمة وغيرهم الذين تعلقوا بنصوص متشابهة تحتمــل
معاني متعدد ،وراحواـ يفرضون عليها المعنى الــذي يريــدون ،من دون أن يحــاولوا
79
الجمــع بين النصــوص كمــا هــو األصــل في التعامــل مــع النصــوص المقدســة عنــد
التعارض.
ومن تلك النصوص التي راحوا يستدلون بهــا مــا ورد في القــرآن الكــريمـ من
ب لَ ْس ـتُ ْمدعوة أهل الكتاب إلقامة التوراة واإلنجيل ،كقوله تعالى ﴿ :قُلْ يَا أَ ْه ـ َل ْال ِكتَــا ِ
ُ
ـز َل إِلَ ْي ُك ْم ِم ْن َربِّ ُك ْـم ﴾ [المائــدة،]68 : َعلَى َش ْي ٍء َحتَّى تُقِي ُموا التَّوْ َراةَ َواإْل ِ ْن ِجي َل َو َما أ ْنـ ِ
وقدـ توهموا أن هذه اآلية الكريمــة تــدعو أهــل الكتــاب للعمــل بكتبهم ،وعــدم العــودة
للقرآن الكريم ،الذي جعله هللا مهيمنا على كل الكتب.
وقد غفلوا عن أن تلك اآلية الكريمة قد عقبت مباشرة بمــا يزيــل الفهم الســيء
ُ
ـز َل إِلَ ْيــكَ ِم ْن ﴿ولَيَ ِزيد ََّن َكثِيرًا ِم ْنهُ ْم َمــا أ ْنـ ِ الذي قد يفهم منها؛ فاهلل تعالى عقبها بقولهَ :
س َعلَى ْالقَــوْ ِم ْال َكــافِ ِرينَ ﴾ [المائــدة ،]68 :حيث اعتــبرهم ك طُ ْغيَانًــا َو ُك ْفـرًا فَاَل تَــأْ َ َربِّ َ
كافرين إلعراضهم عما أنزل من القرآن الكريم.
وبذلك فإن الذي يقيم التوراة واإلنجيل مضطر معهما إلقامــة القــرآن الكــريم،
ب َوتَ ْكفُـرُونَ ْض ْال ِكتَــا ِ حتى ال يكــون من الــذين قــال هللا تعــالى فيهم﴿ :أَفَتُ ْؤ ِمنُــونَ بِبَع ِ
ي فِي ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َويَــوْ َم ْالقِيَا َمـ ِة يُـ َر ُّدونَ ْض فَ َما َجزَ ا ُء َم ْن يَ ْف َع ُل َذلِكَ ِم ْن ُك ْم إِاَّل ِخ ْز ٌ بِبَع ٍ
ب﴾ [البقرة]85 : إِلَى أَ َش ِّد ْال َع َذا ِ
فإذا فعلوا ذلك ،وأقامواـ القرآن الكريم نتيجة إيمــانهم بــه مثــل إيمــانهم بكتبهم،
ونتيجة إيمانهم بك ،ذلك أنه ال يمكن اإليمان بك دون اإليمان بما أنزل عليه ..حينهــا
يصبح اإليمان المجرد عن االتباع لغوا ،وهو ما ينقض كل األصــول الــتي اعتمــدوا
عليها.
ولو أنهم ـ سيديـ ـ تركوا كبرياءهم وغرورهمـ ـ ـ وعــادوا إلى القــرآن الكــريم
الذي يتوهمون أنهم يستندون إليه في دعواهم ،وسألوه عن نوع اإلقامــة الــتي طلبهــا
هللا تعالى منهم ،لعلموا أنها ما ورد في كتبهم من تلك الوصاياـ التي أمــر بهــا القــرآن
الكريم ،والتي ال يمكن تنفيذها إال بتلك الشرائع التي جئت بها.
ولو أنهم رجعواـ لكتبهم ،وكــانواـ صــادقين في رجــوعهم ،لعلمــوا أنـه ال يمكن
إقامة كتبهم من دون اتباعك؛ فأول ما يجدونه فيها تلك البشارات الــتي امتألت بهــا،
والتي تدعو إلى وجوب اتباعك ،وهي كثيرة جدا ،وقدـ أشار إليها القــرآن الكــريم في
ي الَّ ِذي يَ ِجدُونَهُ َم ْكتُوبًا ي اأْل ُ ِّم َّ مواضع منه ،كقوله تعالى ﴿ :الَّ ِذينَ يَتَّبِعُونَ ال َّرس َ
ُول النَّبِ َّ
ـر َويُ ِحـ لُّ لَهُ ُم ُوف َويَ ْنهَــاهُ ْم ع َِن ْال ُم ْن َكـ ِ ـال َم ْعر ِ ـل يَــأْ ُم ُرهُ ْم بِـ ْ
ِع ْن ـ َدهُ ْم فِي التَّوْ َرا ِة َواإْل ِ ْن ِجيـ ِ
َت َعلَ ْي ِه ْمصـ َرهُ ْم َواأْل َ ْغاَل َل الَّتِي َكــان ْ ضـ ُـع َع ْنهُ ْم إِ ْ ث َويَ َ ت َويُ َحــرِّ ُـم َعلَ ْي ِه ُم ْالخَ بَــائِ َ
الطَّيِّبَا ِ
ك هُ ُم ــز َل َم َعــ هُ أُولَئِــ َ ُ
َصــرُوهُ َواتَّبَعُــوا النُّو َـر الَّ ِذي أ ْن ِ فَالَّ ِذينَ آ َمنُــوا بِــ ِه َوعَــ َّزرُوهُ َون َ
ْال ُم ْفلِحُونَ ﴾ [األعراف]157 :
بل أخبر القرآن الكريم أنه قد ورد في الكتاب المقدس من التفاصيل المرتبطة
بك ما يجعلهم موقنين بك ،غير شاكين فيك ،كما قــال تعــالى﴿ :الَّ ِذينَ آتَ ْينَــاهُ ُم ْال ِكتَـ َ
ـاب
ق َوهُ ْم يَ ْعلَ ُمونَ ﴾ [البقــرة: ون أَ ْبنَا َءهُ ْم َوإِ َّن فَ ِريقًا ِم ْنهُ ْم لَيَ ْكتُ ُمونَ ْال َح َّ ْرفُ َـ ْرفُونَهُ َك َما يَع ِ يَع ِ
80
]146
ولو أن أولئك المجادلين المشاغبين الــذين توهمــوا أنــه يمكن إقامــة الــدين من
دون اتباعك ،رجعوا إلى القرآن الكريم ،واستمعوا بوعي لمــا ورد فيــه من اإلخبــار
عن التحريفات التي حصلت في كتب جميع األديان ،وأن أهل الكتاب كانوا يشترون
بتحريفها ثمنا قليال ،لعلموا أنه ال يمكن أن يأمر هللا باتباع كتب محرفة ..فهــل يعقــل
أن يــأمر هللا تعــالى أهــل الكتــاب بــأن يقيمــوا مــا حــرف من كتــابهم ،قــال تعــالى:
ق ِم ْنهُ ْم يَ ْسـ َمعُونَ كَاَل َم هَّللا ِ ثُ َّم يُ َح ِّرفُونَـهُ ِم ْنَط َمعُونَ أَ ْن ي ُْؤ ِمنُـواـ لَ ُك ْم َوقَـ ْد َكـانَ فَ ِريـ ٌـ ﴿أَفَت ْ
بَ ْع ِد َما َعقَلُوهُ َوهُ ْم يَ ْعلَ ُمونَ ﴾ [البقرة]75 :
ولو أن أولئك المجادلين المشاغبين كلفوا أنفسهم بالعودة إلى تلك الكتب الــتي
ي ّدعون أنه يمكن ألهل الكتاب أن يكتفوا بهــا عن اتباعــك ،لــرأوا فيهــا من الطامــات
والخرافات والخزعبالت واألساطيرـ ما يتنافىـ مــع دين هللا ..فهــل يمكن أن يطــالبوا
باإليمان بكــل ذلــك؟ ..هــل يمكن أن نعتــبر تلــك الكتب بعــد ذلــك ،ثم نطلب من أهــل
الكتـاب إقامتهـا ،وأن يضـيفوا إليهـا فقـط االعـتراف بكونـك مجـرد رسـول ال يجب
اتباعه؟
إن هؤالء سيدي لم يفهمــوا الغــرض من تلــك اآليــات الكريمــة ،ألنهم حكمــوا
أهــواءهم فيهــا ..ولــو أنهم عــادوا للراســخين في العلم الــذين يحكمــون المحكم على
المتشابه لعلموا أن المراد منها غير ما فهموه.
فاهلل تعالى في تلك اآلية الكريمة يــدعو أهــل الكتــاب للعــودة لكتــابهم ليتمثلــوا
القيم النبيلة الموجودة فيه ،ويتمثلوا ما وردـ فيــه من أوامــر باتباعــك ..وهي ال تعــني
بذلك اكتفاؤهم بما فيها عن اتباعك.
بل إن مثل ذلك مثل من يخاطب سياسيا يراه قد انحــرف عن مشــروعه الــذي
طرحه ،بالعودة إلى مشروعه ،والعمل بما فيه ،مما كان قد وعد به ،وذلــك ال يعــني
أن مشروعه معصوم ،أو أنه كاف ،وإنما هو نــوع من التــنزل في مخاطبــة اآلخــر،
كما قال تعالى في مخاطبـة المشـركين﴿ :قُـلْ اَل تُ ْسـأَلُونَ َع َّما أَجْ َر ْمنَـا َواَل نُ ْسـأ َ ُل َع َّما
تَ ْع َملُونَ ﴾ [ســبأ ،]25 :فهـل يمكن االسـتدالل بهــذه اآليـة الكريمــة على أن المسـلمين
كانوا مجرمين؟
َّ
ومثل ذلك تنزل إبراهيم عليه الســالم مــع الملــك ،عنــدما قــال لـه َ رب َِّي ال ِذي
يت[ البقــرة: يت[ البقرة ،]258 :فجادله الملك ،وقــال :أَنَــا أُحْ يِي َوأُ ِم ُ يُحْ يِي َويُ ِم ُ
،]258حينها لم يشأ إبراهيم عليه السالم أن يناقشه في ذلـك ،وإنمــا انتقـل بـه لــدليل
آخر ..وهو ال يعني إقراره بأن الملك يحيي ويميت.
وهكذا نجدهم يستدلون بما ورد في القرآن الكــريم من النصــوص الدالــة على
صــا َرىـ نجــاة غــير المســلمين ،كقولــه تعــالى﴿ :إِ َّن الَّ ِذينَ آ َمنُــوا َوالَّ ِذينَ هَــادُوا َوالنَّ َ
ص ـالِحًا فَلَهُ ْم أَجْـ ُرهُ ْم ِع ْنـ َد َربِّ ِه ْـم َواَل
ـل َ
ـر َو َع ِمـ َ الص ـابِئِينَ َم ْن آ َمنَ بِاهَّلل ِ َو ْاليَــوْ ِم اآْل ِخـ ِ
َو َّ
َّ ُ َّ ُ
ف َعل ْي ِه ْم َواَل هُ ْم يَحْ َزنونَ ﴾ [البقرة ،]62 :وقولــه﴿ :إِ َّن ال ِذينَ آ َمنــوا َوال ِذينَ هَــادُوا َ خَ وْ ٌ
81
ف َعلَ ْي ِه ْم صـالِحًا فَاَل َخــوْ ٌ ـر َو َع ِمـ َل َ ارىـ َم ْن آ َمنَ بِاهَّلل ِ َو ْاليَوْ ِـم اآْل ِخـ ِ ص َ َوالصَّابِئُونَ َوالنَّ َ
َواَل هُ ْم يَحْ َزنُونَ ﴾ [المائدة]69 :
مع أن هذه اآليات الكريمة ال يمكن فهمهــا إال في ضــوء النصــوص األخــرى
الكثيرة الدالة على كفر من أشــرك باهلل من اليهــود والنصــارىـ كقولــه تعــالى ﴿ :لَقَـ ْد
َكفَ َر الَّ ِذينَ قَالُوا إِ َّن هَّللا َ هُ َو ْال َم ِسي ُح ابْنُ َمرْ يَ َم ﴾ [المائدة ،]17 :وقوله ﴿ :لَقَ ْد َكفَ َر الَّ ِذينَ
يل ا ْعبُـدُوا هَّللا َ َربِّي ـال ْال َم ِسـي ُح يَــا بَنِي إِ ْسـ َرائِ َ ـو ْال َم ِسـي ُح ابْنُ َمــرْ يَ َم َوقَـ َ قَــالُوا إِ َّن هَّللا َ هُـ َ
َو َربَّ ُك ْـم إِنَّهُ َم ْن ي ُْشـ ِر ْك بِاهَّلل ِ فَقَـ ْد َحـ َّر َم هَّللا ُ َعلَ ْيـ ِه ْال َجنَّةَ َو َمــأْ َواهُ النَّا ُر َو َمــا لِلظَّالِ ِمينَ ِم ْن
ث ثَاَل ثَ ٍة َو َمــا ِم ْن إِلَ ـ ٍه ار ﴾ [المائدة ،]72 :وقوله ﴿ :لَقَ ْد َكفَ َر الَّ ِذينَ قَالُوا إِ َّن هَّللا َ ثَالِ ُ ص ٍـ أَ ْن َ
إِاَّل إِلَــهٌ َوا ِحــ ٌد َوإِ ْن لَ ْم يَ ْنتَهُــوا َع َّما يَقُولُــونَ لَيَ َم َّســ َّن الَّ ِذينَ َكفَــرُوا ِم ْنهُ ْم عَــ َذابٌ أَلِي ٌم﴾
[المائــدة ،]73 :وغيرهــا من اآليــات الكريمــة الــتي تنص على كفــر من أشــرك باهلل
تعالى ،أو لم يتبعك أو كذبك.
ولو أنهم آمنوا بهذه اآليات جميعا ،لعلمــوا أن القــرآن الكــريم ال يتحــدث عمن
رأوك وعاصروك وسمعواـ بك أو جاءوا من بعدك ،فأولئكـ يجب عليهم اإليمان بــك
واتباعك ،وإنما يتحدث عمن لم يتشرفوا برؤيتك ،أو لم يسمعوا بك ألســباب زمانيــة
أو مكانية خارجة عن قدراتهم.ـ
أمــا الزمانيــة؛ فلكــونهم في أزمنــة ســبقت اإلســالم ،ولم يعرفــواـ دينــا إال تلــك
الديانات ،فهم غير مكلفين إال بها ..وأما المكانيــة؛ فهــو كــونهمـ في أقصــى األرض،
ولم يتهيأ لهم أن يسمعوا باإلسالم ،فهم غير مؤاخذين بسبب ذلك.
ولو أنهم تواضعوا ،ورجعواـ إلى األســلوب القــرآني في التعبــير ،لوجــدواـ هللا
ق َوبِـ ِه وسـىـ أُ َّمةٌ يَ ْهـ ُدونَ بِـ ْ
ـال َح ِّ ﴿و ِم ْن قَوْ ِـم ُم َ تعالى يقول عند حديثه عن بني إسرائيلَ :
يَ ْع ِدلُونَ ﴾ [األعراف ،]159 :فهذه اآلية الكريمة ال تقصد وجودهم في كــل األزمنــة،
وإنما تقصد وجودهمـ في األزمنة السابقة قبل رسالتك ،ألنه بعد إرسال هللا لك صــار
على الجميع وجوب اتباعك.
ولو أن هؤالء المجادلين استمعواـ بوعي وتدبرـ لما ورد في القرآن الكــريم في
نصارىـ نجران المسالمين الذي تعاملت معهم بكل سماحة ولطف ،ولكنــك مــع ذلــك
لم تسكت عن كفرهم وجحودهمـ عن اتباعــك ،بــل دعــوتهم إلى المباهلــة ،الــتي نص
ع ك فِيـ ِه ِم ْن بَعْـ ِد َمـا َجـ ا َءكَ ِمنَ ْال ِع ْل ِم فَقُـلْ تَ َعـالَوْ ا نَـ ْد ُ عليهـا قولـه تعـالى ﴿ :فَ َم ْن َحا َّج َ
أَ ْبنَا َءنَا َوأَ ْبنَا َء ُك ْم َونِ َسا َءنَا َونِ َسا َء ُك ْـم َوأَ ْنفُ َسـنَا َوأَ ْنفُ َس ـ ُك ْم ثُ َّم نَ ْبتَ ِهــلْ فَنَجْ َعــلْ لَ ْعنَتَ هَّللا ِ َعلَى
ْال َكا ِذبِينَ ﴾ [آل عمران]61 :
ب لِ َم ـل ْال ِكتَــا ِ وقــد ورد في تلــك اآليــات الــتي تخــاطبهمـ قولــه تعــالى ﴿ :يَــا أَ ْهـ َ
ب لِ َم ـل ْال ِكتَــا ِ ت هَّللا ِ َوأَ ْنتُْـم تَ ْشهَ ُدونَ ﴾ [آل عمران ،]70 :وقوله لهم﴿ :يَا أَ ْهـ َ تَ ْكفُرُونَ بِآيَا ِ
ق َوأَ ْنتُْـم تَ ْعلَ ُمونَ ﴾ [آل عمران]71 : اط ِل َوتَ ْكتُ ُمونَ ْال َح َّ ق بِ ْالبَ ِت َْلبِسُونَ ْال َح َّ
وهكذا ورد في القرآن الكريمـ اآليات الكثيرة التي تخــبر عن الموقــف الحقيقي
من أهل الكتاب ،وهو الموقفـ الذي يبين ضــاللهم عن الحــق ،وكفــرهم بســبب عــدم
82
اتباعهم لك ،في نفس الوقت الذي تأمر فيه بالسماحة معهم ،وتأليفـ قلوبهم..
وال تعــارض بين األمــرين ،فــالقول بكفــرهم وجحــودهمـ للحــق ،ال يقتضــي
المعاملة السيئة لهم؛ فقد تعاملت مع وفد نجران بكل سماحة وأدب ،ولكنك مــع ذلــك
لم تــداهنهم ولم تجــاملهم ،ولم تــنزل إلى رغبــاتهم ،بــل بينت لهم حقيقــة ضــاللهم،
ودعوتهمـ إلى المباهلة عند جحودهمـ لها.
ولــو أن هــؤالء المشــاغبين والمجــادلين والمنفــرين من اتباعــك ،رجعــوا إلى
الكتب الـــتي يصـــورون أنهـــا تعـــوض القـــرآن ،واألنبيـــاء الـــذين يتوهمـــون أنهم
يعوضونك ،لوجدواـ غير ما كانوا يظنون..
ذلــك أن كــل البشــارات الــتي تبشــر بــك في تلــك الكتب تخــبر أن رســالتك
للعالمين ،وأن على اليهود والنصارى وغيرهم وجوب اتباعك ،ذلك أن كل الشرائع
تنسخ بشريعتك ،وقد ورد في إنجيل متى [ ]18-5/17قول المسيح عليه السالم( :ال
تظنواـ أني جئت ألنقض الناموس أو األنبياء ،ما جئت ألنقض بل ألكمل ،فإني الحق
أقول لكم :إلى أن تزول السماء واألرض ال يزول حرف واحــد أو نقطــة واحــدة من
الناموس حتى يكون الكل) ،فهذا المبشر بــه هــو الكــل الــذي لــه الكــل ،وهــو أنت يــا
سيدي يا رسول هللا.
لقد قال هذا في نفس الوقت الذي قال فيه عن نفسه كما جاء في إنجيل مــتى [
( :]24 / 15لم أرسل إال إلى خراف بيت إسرائيل الضالة)؟
ولهـذا جــاء اليهـود إلى المدينـة المنــورة ،ألنهم كــانوا يـترقبون مجيئـك إليهــا
بحسب ما تدل عليه كتبهم ،والتي تأمرهمـ بوجـوب اتباعـك ،كمـا قـال تعـالى مخـبرا
ق لِ َمــا َم َعهُ ْم َو َكــانُوا ِم ْن قَبْــ ُل عن ذلــكَ ﴿ :ولَ َّما َجــ ا َءهُ ْم ِكتَــابٌ ِم ْن ِع ْنــ ِد هَّللا ِ ُم َ
صــ ِّد ٌ
يَ ْســتَ ْفتِحُونَ َعلَى الَّ ِذينَ َكفَــرُوا فَلَ َّما َجــ ا َءهُ ْم َمــا ع ََرفُــوا َكفَــرُوا بِــ ِه فَلَ ْعنَــةُ هَّللا ِ َعلَى
ْال َكافِ ِرينَ ﴾ (البقرة)89:
فهذه اآلية الكريمة تنص على أن اليهود كانوا من قبل مجيئك بالقرآن الكــريم
يستنصرون بمجيئك على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم ،وقد نقل لنا المؤرخون
ـ باألسانيدـ الصحيحة ـ أقوالهمـ الدالة على ذلك ..فقد كانوا يقولون :إنــه ســيبعث نــبي
في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم.
وقــد نقــل بعضــهم شــهادة عنــه في ذلــك ،فقــال :فينــا وهللا ،وفيهمـ ــ يعــني في
األنصاروفي اليهود الذين كانوا جيرانهمـ ـ نزلت هذه اآليــة ــ يقصــد االيــة الســابقة ـ
كنــا قــد علونــاهم دهـرًا في الجاهليــة ،ونحن أهــل شــرك ،وهم أهــل كتــاب ،فكــانواـ
يقولون( :إن نبيًا من األنبياء يبعث اآلن نتبعه ،قد أظل زمانه ،نقتلكم معــه قتــل عــاد
وإرم) ،فلما بعث هللا رسوله من قريش واتبعناه كفروا به ..فــذلك قولــه تعــالى ﴿:فَلَ َّما
َجا َءهُ ْم َما ع ََرفُوا َكفَرُوا بِ ِه فَلَ ْعنَةُ هَّللا ِ َعلَى ْال َكافِ ِرينَ ﴾(النساء)155 :
وقد ذكر المؤرخون بعض المحاجة التي أقامها أهل المدينة على جيرانهمـ من
اليهود ،فذكروا أن معاذ بن جبل ،وبشر بن البراء بن َم ْعرُور ،قاال( :يامعشر يهود،
83
اتقوا هللا وأسلموا ،فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك ،وتخبرونناـ
بأنه مبعوث ،وتصفُونه لنا بصــفته) ،فقــال َسـالم بن ِم ْشـكم أخــو بــني النضــير( :مــا
جاءنا بشيء نعرفه ،وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل هللا في ذلك من قــولهم:ـ﴿ َولَ َّما
ق لِ َمــا َم َعهُ ْم َو َكــانُواـ ِم ْن قَ ْبـ ُل يَ ْسـتَ ْفتِحُونَ َعلَى الَّ ِذينَ َجا َءهُ ْم ِكتَــابٌ ِم ْن ِع ْنـ ِد هَّللا ِ ُم َ
صـ ِّد ٌ
رينَ ﴾(البقرة)1()89: َكفَرُوا فَلَ َّما َجا َءهُ ْم َما ع ََرفُواـ َكفَرُوا بِ ِه فَلَ ْعنَةُ هَّللا ِ َعلَى ْال َكافِ ِ
فيا سيدي يا رسول هللا ..يا رحمة هللا للعالمين ..ويا وسيلته العظمى ..أتوســل
بك إلى ربي أن يوفقنيـ ألن أبلغ دينــك للعــالمين ..فلــو ســمعوا بــه ،وعرفــواـ حقيقتــه
الجميلة ،وقيمه النبيلة ،لتهافتواـ عليه ،ولدخلوا فيه أفواجا ..وهل يمكن أن تقارن تلك
الديانات المحرفة الممتلئة بالخرفــات بـدينك الممتلئ بالطهــارة والعقالنيـة واألخالقـ
العالية والقيم الرفيعة.
واقبلني سيديـ في جملة أتباعك الصادقين المخلصين الــذين لم يخلطــوا دينــك
بأي هوى أو فلسفة أو هرطقة أو زندقــة ..حــتى يكــون ديــني هــو دينــك ،أبيض نقيــا
صافياـ كما أنزله عليك ربك ..إنك أنت الوسيلة العظمى ..وأنت رحمة هللا للعالمين.
86
الحــديث الــذي رواه رجــال كبــار كالبخــاريـ ومســلم وأحمــد وابن ماجــة والنســائي
والبيهقي وغيرهم(.)1
وعندما ذكرت لهم أن هؤالء بشــر ،قــد يخطئــون وقــد يصــيبون ،وأن الــرواة
الذين روواـ عنهم ،قد يغفلون أو يتسرب إليهم المدلسون ،فيدســوا في الســنة مــا ليس
منها ..ولذلك كان الح َكم هو القرآن الكريم.
عندما ذكرت لهم هــذا عبســوا ،واعتــبرونيـ منكــرا للســنة ،مــع أني أتعبــد هللا
بقراءة أحاديثك ،كما أتعبد بقراءة القرآن الكريم ..ومــا نفيت من الســنة إال مــا رأيتــه
مخالفا لكتاب هللا ،ومخالفا لكل تلــك القيم الــتي جئت بهــا ..ولم أجــز لنفســي أن أتبــع
راوياـ أو مجموعة رواة ،ثم أحطم من خاللهم كل تلك الثوابت الــتي رســخها القــرآن
الكريم في نفسي عنك.
لم يقبلوا هذا مني ..فقلت لهم :أال تعلمون أن هللا تعالى قال لنبيه َ : و ِم َّم ْن
ـاق اَل تَ ْعلَ ُمهُ ْم نَحْ نُ
ـردُواـ َعلَى النِّفَ ِ ـل ْال َم ِدينَـ ِة َم َ
ب ُمنَـافِقُونَ َو ِم ْن أَ ْه ِ َحوْ لَ ُك ْم ِمنَ اأْل َ ْعـ َرا ِ
َظ ٍيم [ التوبــة ..]101 :ثم قلت لهم: بع ِ نَ ْعلَ ُمهُ ْم َسنُ َع ِّذبُهُْـم َم َّرتَي ِْن ثُ َّم يُ َر ُّدونَ إِلَى َع َذا ٍ
أال يمكن أن يكون في أولئك الرواة من وثقهم الموثقون من غير معرفــة كاملــة بهم،
فدسواـ في اإلسالم ما ليس منه؟
فرفضوا ما ذكرت لهم ،وظلواـ على تعلقهم بأنك ســحرت ،وأنــه صــار يخيـ ُل
إليك أنك فعلت الشيء مـع أنـك لم تفعلـه ..وهي حالـة خطـيرة جــدا بالنســبة إلنســان
عادي ،فكيفـ بنبي ،فكيف بخاتم األنبياء وسيدهم؟
إنهم ـ سيديـ ـ لم يدركوا أن ذلك الشيء الذي يخيل إليك أنك فعلته مع أنــك لم
تفعله قد يرتبط بتبليغ الدين ..وليس في الحديث الذي يروونه مــا ينفي ذلــك ..وبــذلك
يكون جزء مهم من الدين لم يصل إلينا بسبب أنك ـ تعاليت عن ذلــك علــوا عظيمــا ـ
كنت تتوهمـ أنك بلَّغته مع أنك لم تبلغه..
ولو أنهم ـ سيديـ ـ رجعوا لتلك النصوص الــتي تقدســك وتنزهــك وتخــبر عن
عصمتك المطلقة ،الكتفوا بها.
لو أنهم قرؤواـ قول هللا تعالى الواضح الدقيقـ الدال على أن حياتك كلها دعــوة
ـوى ( )3إِ ْن هُ ـ َو ق ع َِن ْالهَـ َ
صا ِحبُ ُك ْم َو َما غ ََوى (َ )2و َما يَ ْن ِط ُ ض َّل َ وبالغ عن هللاَ ﴿ :ما َ
ي يُـــو َحىـ ([ ﴾)4النجم- 2 :ـــ ]4لكفـــوا عن غلـــوهم وتعظيمهم للحـــديث، إِاَّل َوحْ ٌ
وهجرهمـ للقرآن الكريم.ـ
بل إنهم لو رجعوا للسنة نفسها ،لوجدوا الحديث الذي يرويه عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده ،والذي يقول فيه :قلت :يا رسول هللا اكتب كل ما أسمع منك؟ قال:
( )1()1الحديث رواه البخاري رقم ( )5766في الطب ،باب السحر ،وباب هل يستخرجـ السحر ،وباب السحر
وفي الجهاد باب هل يعفى الذمي إذا سحر ،وفي األدب باب قول هللا تعالى﴿ :إِنَّ هّللا َ يَأْ ُم ُر ِب ْال َع ْد ِل َو ِ
اإلحْ َس ِ
ان﴾ ،ومسلم
رقم ( )2189في السالم ،باب السحر ،ورواه أيضا ً أحمد والنسائي وابن سعد والحاكم وعبد بن حميد وابن مردويه،
والبيهقي في ((دالئل النبوة)) وغيرهم.
87
حقا) ()1 نعم ،قلت :في الرضا والغضب؟ قال( :نعم فإنيـ ال أقول في ذلك كله إال
ولو أنهم سيديـ رجعوا لتلك األحاديث الكثيرة الــتي تخــبر عن كشــف هللا لــك
لكل ما حولك كشفا واضحا ،بحيث ال يستطيعـ أحد أن يتجــرأ عليــك ..الكتفــوا بهــا..
وردواـ بها تلك الرواية الهزيلة التي تسيء إليك.
لــو أنهم عــادوا لمــا يروونــه من أن رجال جــاءك ،فقــال :من أنت؟ فقلت(:أنــا
نبي) ،فقال :وما نبي؟ قلت(:رسول هللا) ،فقــال :مــتى تقــوم الســاعة؟ قلت(:غيب وال
يعلم الغيب اال هللا) ،فقلت :أرني سيفك ،فأعطيته سيفك ،فهــزه ،ثم رده عليــك ،فقلت
له(:أما إنك لم تكن تستطيع ذلك الذي أردت)( ..)2ثم قلت ألصحابك(:إن هــذا أقبــل،
فقال :آتيه ،فاسأله ثم آخذ السيف ،فاقتله ثم أغمد السيف)()3
وهكذا كنت تخبر أصــحابك بمــا يحــدثون بــه أنفســهم من التعــرض لــك ،فعن
شيبة بن عثمان قال :لما فتح رسول هللا مكة ،قلت :أسير مع قريش إلى هوازن،
بحنين فعسى أن اختلطوا أن أصيب غرة من محمد فأكون أنا الذي قمت بثأر قريش
كلها ،وأقول:ـ لو لم يبق من العرب والعجم أحد إال أتبع محمدا مــا أتبعــه أبــدا ،فكنت
مرصداـ لما خرجت له ال يزداد األمر في نفســي إال قــوة ،فلمــا اختلــط النــاس ،اقتحم
رسول هللا عن بغلته ،فدنوت منه ،ورفعت سيفي حــتى كــدت أســوره ،فرفـعـ لي
شواطـ من نار كالبرق كاد يمحشني فوضعتـ يدي على بصــريـ خوفــا عليــه فــالتفت
إلي رسول هللا وقال(:ادن مني) ،فدنوت فمســح صــدري ،وقــال(:اللهم أعــذه من
الشيطان) فو هللا لهـو حينئـذ أحب الي من سـمعي وبصـري ونفسـي ،وأذهب هللا مـا
كان بي ،فقال(:يا شيبة ،الذي أراد هللا بك خيرا ممــا أردت بنفســك؟) ثم حــدثني بمــا
اضمرت في نفسي! فقلت :بأبي أشهد أن ال اله اال هللا ،وأنك رسول هللا ،استغفر لي
يا رسول هللا ،قال(:غفر هللا لك)()4
ومثل ذلك ما يروونه عن عمير بن وهب أنه جاء يريد قتلك ،فسألته :ما جــاء
بك يا عمير؟ فقال :جئت لهذا األسير الذي في أيــديكم فأحســنوا فيــه؛ فقلت لــه :فمــا
بال السيف في عنقك؟ فقال :قبحها هللا من ســيوف ،وهــل أغنت عنــا شــيئا ؟ فقلت :
اصدقني ،ما الــذي جئت لــه ؟ فقــال :مــا جئت إال لــذلك ،فقلت لــه( :بــل قعــدت أنت
وصفوان بن أميـة في الحجـر ،فـذكرتماـ أصـحاب القليب من قـريش ،ثم قلت :لـوال
دين علي وعيــال عنــدي لخــرجت حــتى أقتــل محمــدا ،فتح ّمــل لــك صــفوان ب ـ َديْنك
وعيالك ،على أن تقتلــني لــه ،وهللا حائــل بينــك وبين ذلــك)؛ فانــدهشـ عمــير حينهــا،
وقال( :أشهد أنك رسول هللا ،قد كنا يا رسولـ هللا نكذبك بما كنت تأتينــا بــه من خــبر
السماء ،وما ينزل عليك من الوحي ،وهــذا أمــر لم يحضــره إال أنــا وصــفوان ،فوهللا
)(1رواه الترمذي.
)(2رواه الحاكم وصححه والطبراني.
)(3رواه الطبراني.
)(4رواه ابن سعد وابن عساكر.
88
إني ألعلم ما أتاك به إال هللا ،فالحمد هلل الذي هداني لإلسالم ،وسـاقني هــذا المسـاق،
ثم شهد شهادة الحق) ،فقلت( :فقهوا أخــاكم في دينــه ،وأقرئــوه القــرآن ،وأطلقــوا لــه
أسيره)()1
وهكذا حماك هللا تعالى من حوادث كثيرة كـان يمكن أن تـودي بـك ،ولكن هللا
تعالى أنبأك عنها قبل أن تقع ..وهذا ما يهدم كل األسس التي قام عليها ذلك الحــديث
الذي يشوهك أعظم تشويه..
عندما ذكرت لهم هــذا ،وقلت لهم :هــل كــان هللا يخــبر نبيــه عن كــل تلــك
الحوادث ،ويخبره مباشرة عما يكاد له ،من غير حاجــة إلى مالك أو غــيره ..إال في
حديث السحر ..فهل كان للسحرة من الكيد والقدرة على التخفي ما لم يستطع رسول
هللا أن يطلع عليه؟
لم يجدوا ما يجيبون به إال ما تعودوا أن يجيبوا به من يخالفهم برميه بالبدعــة
والزندقة ،وإنكارـ السنة ،وكأن كـل تلـك األحـاديث ،لم تكن من السـنة ،وال كـل تلـك
المعاني القرآنية التي تتحدث عنك لم تكن من السنة.
هذا سيدي غيض من فيض من إساءتهم لك ..وأنا أبرأ إلى هللا من كل حــديث
يشوهك ،أو كل راو يسيء إليك ..فألن أضحي بكل دواوين الدنيا أهون علي من أن
أضحي بشعرة منك.
فأتوسل بك ــ ســيدي يــا رســول هللا ــ إلى ربي أن يحفظــني ،ويحفــظ أخالقي
ونفسي وروحي وقلــبي وجســدي ..حــتى أمتلئ بالطهــارة والصـفاء والنبـل ..وحــتى
أكون صالحا التباعك ،وتكون أنت قدوتي وأسوتي.
وأسألك أن أكون من الذابين عنك ،المدافعين عن القيم التي جئت بها ،فــأعظم
الجهاد المنافحة عنك وعن أخالقك الطاهرة التي هي مراد هللا من عباده.
95
اخرج فاستق لنــا .فيقــول :ال وهَّللا حــتى تقــدموا أمــام مخــرجكمـ صــدقة .فنقــول :كم؟
فيقول :صاع من تمر أو مدين من شعير .فنخرجه ثم يخرج إلى ظاهر حرتنا ونحن
معه فيستقي فو هَّللا ما يقوم من مجلسه حتى تمر السحاب .قد فعل ذلك غير مرة وال
مرتين وال ثالثة .فحضــرته الوفــاة فاجتمعنـاـ إليــه فقــال :يــا معشــر يهــود مــا ترونــه
أخرجـنيـ من أرض الخمـر والخمـيرـ إلى أرض البـؤس والجـوع؟ قـالوا :أنت أعلم.
قال :فإنــه إنمــا أقــدمنيـ هــذه البلــدة أتوكــف خــروج نــبي قــد أظــل زمانــه هــذه البالد
مهاجرة فأتبعه فال تسبقن إليه إذا خرج يا معشـر يهـود ..ثم مـات .فلمـا كـانت الليلـة
التي فتحت فيها قريظة قال أولئك الفتية ـ وكانواـ شبابا أحداثا ـ يــا معشــر يهــود وهَّللا
إنه الذي ذكر لكم ابن الهيبان .فقالوا :ما هو به .قالوا :بلى وهَّللا إنها لصفته .ثم نزلوا
فأسلمواـ وخلوا أموالهم وأوالدهم وأهــاليهم في حصــن مــع المشــركين ،فلمــا فتح رد
ذلك عليهم)()1
وحدث آخر قال :حضرت سوق بصرىـ فإذا راهب في صومعته يقول :سلوا
أهل هذا الموسمـ هل فيهم أحد من أهل الحرم؟ فقلت :نعم أنا .قال :هــل ظهــر أحمــد؟
قلت :ومن أحمد؟ قال :ابن عبد هللا بن عبد المطلب ،هذا شهره الذي يخرج فيه وهو
آخر األنبياء مخرجه من الحرم ومهاجرة إلى نخل وح ـرّة وســباخ ،فإيــاك أن تســبق
إليه .قال الراوي :فوقع في قلــبي مــا قــال .فقــدمت مكــة فقلت :هــل كــان من حــدث؟
قالوا( :نعم محمد بن عبد هللا األمين تنبأ)()2
وحدث ثالث ،فقال :وهَّللا لقــد علمت أن محمــدا رســول هَّللا قبــل أن يبعث،
فقيل له :وكيف ذاك؟ قال :فزعنا إلى كاهن لنا في أمر نزل بنا ،فقـال الكــاهن :أقسـم
بالسماء ذات األبـراج واألرض ذات األدراج والـريح ذات العجـاج إن هـذا إلمـراج
ولقاح ذي نتاج .قالوا:ـ وما نتاجــه؟ قــال :ظهــور نــبي صــادق بكتــاب نــاطق وحســامـ
ذالق ،قالوا :أين يظهرـ وإالم يدعو؟ قــال :يظهــر بصــالح ويــدعو إلى فالح ويعطــل
األقداح ،وينهى عن الراج والسفاح وعن كل أمر قباح ،قالوا :ممن هو؟ قال من ولد
الشيخ األكرم حافرـ زمزم ومطعمـ الطير المحرّم والسباع الضرم .قالوا :وما اســمه؟
قال :محمد ،وعزه سرمد ،وخصمه مكمد(.)3
وقال رابع( :إن مما دعانا إلى اإلسالم ،مع رحمــة هللا تعــالى وهــداه لنــا ،لمــا
كنا نسمع من رجال يهـود ،وكنــا أهـل شــرك أصــحاب أوثـان ،وكــانوا أهــل كتـاب،
عندهم علم ليس لنا ،وكــانت ال تــزال بيننــا وبينهمـ شــرور ،فــإذا نلنــا منهم بعض مــا
يكرهون ،قالوا لنا :إنه قد تقــارب زمــان نــبي يبعث اآلن نقتلكم معــه قتــل عــاد وإرم
فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم .فلمــا بعث هللا رســوله أجبنــاه ،حين دعانــا إلى هللا
تعالى ،وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به ،فبادرناهمـ إليـه ،فآمنــا بــه ،وكفــرواـ بـه ،ففينــا
)(1رواه البيهقي ،انظر :سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ()192 /2
)(2رواه ابن سعد والبيهقي ،سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ()193 /2
)(3سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ()192 /2
96
وفيهمـ نزل هؤالء اآليـات من البقــرةَ :ولَ َّما َجـ ا َءهُ ْم ِكتَــابٌ ِم ْن ِع ْنـ ِد هَّللا ِ ُم َ
صـ ِّد ٌ
ق لِ َمـا
َم َعهُ ْم َو َكانُواـ ِم ْن قَ ْب ُل يَ ْستَ ْفتِحُونَ َعلَى الَّ ِذينَ َكفَرُوا فَلَ َّما َجـ ا َءهُ ْم َمــا ع ََرفُـواـ َكفَـرُوا بِـ ِه
رينَ [ البقرة)1()]89 : فَلَ ْعنَةُ هَّللا ِ َعلَى ْال َكافِ ِ
وقال خامس ( :كان لنا جار من اليهود بالمدينة فخرج علينا قبل البعثة بزمان
فذكرـ الحشر والجنة والنار ،فقلنا له :وما آية ذلــك؟ قــال خــروج نــبي يبعث من هــذه
البالد ـ وأشار إلى مكة ـ فقالوا متى يقـع ذلـك؟ قـال فـرمى بطرفـه إلى السـماء وأنـا
أصغر القوم ،فقال :إن يستنفد هذا الغالم عمره يدركه .قال فما ذهبت األيام والليالي
حتى بعث هللا تعالى نبيه ،وهو حي ـ أي اليهوديـ ـ فآمنَّا به وكفر هو بغيا ً وحســداً )
()2
وقال سادس( :كنا ويهود فينا كانوا يذكرون نبيا يبعث بمكة اســمه أحمــد ،ولم
يبق من األنبياء غيره ،وهو في كتبنا ،وما أخذ علينا منه ،وصــفته كــذا وكــذا ،حــتى
يأتوا على نعته قال :وأنا غالم وما أرى أحفظ ،وما أســمع أعي ،إذ ســمعت صــياحا
من ناحية بني عبد األشهل ،فأرىـ قوما فزعوا وخافواـ أن يكون أمر حــدث ،ثم خفي
الصوت ،ثم عاد ،فصاح ،ففهمنا صياحه :يا أهل يثرب ،هذا كوكب أحمد الــذي ولــد
به .قال :فجعلنــا نعجب من ذلــك ،ثم أقمنــا دهــرا طــويال ،ونســينا ذلــك ،فهلــك قــوم،
وحدث آخرون ،وصرتـ رجال كبيرا ،فـإذا مثــل ذلــك الصـياح :يــا أهـل يــثرب ،قــد
خرج أحمد وتنبأ ،وجاءه الناموس األكبر الذي كــان يــأتي موســى عليــه الســالم ،فلم
ألبث أن سـمعت أن بمكــة رجال خـرج يـدعي النبــوة ،وخـرج من خــرج من قومنـا،
وتأخرـ من تأخر ،وأسلم فتيان منا أحداث ،ولم يقض لي أن أسلم ،حــتى قــدم رســول
هللا المدينة)()3
وقال سابع( :جئت بــني عبــد األشــهل يومــا ،ألتحــدث فيهم ،ونحن يومئــذ في
هدنة من الحرب ،فسمعت يوشع اليهودي يقول :أظــل خــروج نــبي ،يقــال لــه أحمــد
يخرج من الحرم ،فقال له خليفة بن ثعلبة األشهلي كالمستهزئ به :مــا صــفته؟ قــال:
رجل ليس بقصير ،وال بالطويل ،في عينيه حمرة ،يلبس الشــملة ،ويــركب الحمــار،
سيفه على عاتقه ،وهذا البلــد مهــاجره .قــال :فخــرجت إلى قــوميـ بــني خــدرة ،وأنــا
يومئذـ أتعجب مما قال ،فأسمع رجال يقول :ويوشع يقول هذا وحده ،كل يهود يــثرب
تقول هذا؟ قال أبي مالك بن سنان :فخــرجت حــتى جئت بــني قريظــة ،فأجــد جمعــا،
فتذاكروا النبي ،فقال الزبير بن باطا :قد طلع الكوكب األحمر الــذي لم يطلــع إال
بخروج نبي وظهوره ،ولم يبق أحد إال أحمد ،وهذه مهاجره قال أبو سعيد :فلما قــدم
رسول هللا المدينة أخبره أبي هذا الخبر ،فقال رســول هللا ( :لــو أســلم الزبــير
103
المؤيد بالمعجزات
ســيدي يــا رســول هللا ..يــا من أيــده هللا بــالمعجزات البــاهرات ،والخــوارق
الواضحات ،واآليات البينات ،حتى يثبت لكل العقول ،وكل األجيال أنك النبي الــذي
جعل هللا في اإليمان به واتباعه خالص البشــرية ،وســعادتها ،وصــالحها ،في الــدنيا
واآلخرة.
لقد رحت سيدي إلى دواوين الــوراقين أبحث في كــل األديــان ،عن معجــزات
تشــبه المعجــزات الــتي جئت بهــا ،والــدالئل الـتي دل هللا بهـا عليــك؛ فلم أجـد عشــر
معشار ما أتيت به..
وليس ذلك عجيبــا ..فقــد كــان األنبيــاء يبعثــون إلى أقــوام محــدودين ،وأزمنــة
محدودة ،أما أنت فقد جئت للبشر جميعا ،بــاختالف طبــاعهم وعقــولهم ومشــاربهم..
ولكل األزمنة متقدمها ،ومتأخرهــا ..ولــذلك كنت بحاجــة إلى كــل أصــناف البينــات،
حتى يقيم هللا الحجة بك على خلقه ..فقد جرت سنة هللا أال يترك رسله من غير آيات
تدل عليهم ،حتى ال يزاحمهم في ذلك الكذابون والمدعون والدجالون.
لقد أشرت ســيدي إلى عظمــة مــا آتــاك هللا من آيــات بينــات ،مقارنــة بالرســل
عليهم الصالة والسالم ،فقلت( :ما من األنبياء نبي إال أعطي من اآليات ما مثله آمن
عليه البشر ،وإنما كان الذي أوتيتــه وحيــا أوحــاه هللا إلي؛ فــأرجو أن أكــون أكــثرهم
تابعا يوم القيامة)()1
فرجاؤك سيدي ألن يكون أتباعك أكثر من ســائر األنبيــاء عليهم الســالم يــدل
على امتداد حجتك ألكثر البشر والعقول واألزمنة..
يؤسفني ـ سيدي ـ أن أذكر لك بأن بعض قومي راحــوا يقــرؤون حــديثك هــذا
على خالف ما قصدته؛ فقد توهمواـ أن القرآن الكريم هو معجزتك الوحيدة ،وأن كل
المعجزات التي جرت لألنبياء من قبلك ،والتي خرقت لهم بها مــا يعرفــه النــاس من
قوانين لم تتحقق لك.
وقد وهموا في ذلك؛ فأنت لم ترد الحديث عن تلك المعجزات الحسية الــتي لم
يشاهدها إال قومك ..وإنما أردت المعجــزة الممتــدة الــتي يراهــا كــل األجيــال ..وهي
المعجــزة الوحيــدة الباقيــة على األرض ..ذلــك أن كــل معجــزات األنبيــاء ذهبت
بــذهابهم ،ولم يشــاهدهم إال قــومهم ،أو الــذين طــالبوا بهــا ..أمــا من عــداهم؛ فصــار
إيمــانهم بهــا تقليــدا ال رؤيــة ،أو نتيجــة تلــك األخبــار المتــواترة عنهم ،ال عن حقيقـة
عاينوها بأنفسهم.
لذلك كان حديثك عن معجزتك الخالدة الدائمة لكل العصور ،وليس عن سائر
المعجزات والكرامات والخوارق التي هيأها هللا لك كما هيأهــا لغــيرك من األنبيــاء،
109
وتلــوت على أســماعهم تلــك اآليــتين الكريمــتين اللــتين تتنبــآن بهــذه الحقيقــة
ضـلُّ ِم َّم ْن العظيمة ،قال تعالى :قُلْ أَ َرأَ ْيتُ ْم إِ ْن َكــانَ ِم ْن ِع ْنـ ِد هَّللا ِ ثُ َّم َكفَــرْ تُ ْم بِـ ِه َم ْن أَ َ
ـاق َوفِي أَ ْنفُ ِسـ ِه ْم َحتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ ْم أَنَّهُ ق بَ ِعيـ ٍد (َ )52سـنُ ِري ِه ْم آيَاتِنَــا فِي اآْل فَـ ِ هُ َو فِي ِشـقَا ٍ
ك أنَّهُ َعلَى ُكلِّ َش ْي ٍء َش ِهي ٌد [ فصلت]53 ،52 : َ ف بِ َربِّ َ ق أَ َولَ ْم يَ ْك ِ
ْال َح ُّ
وقلت لهم :إن هــذه اآليــات الكريمــة ال تتحــدث فقــط عن معجــزات اآلفــاق
واألنفس الدالــة على هللا ،بــل هي تتحــدث أيضــا ـ ـ بحســب مــا يــدل الســياق ـ ـ على
معجزات هللا في اآلفاق واألنفس الدالة على القرآن الكريم ،وعلى صدقك.
وذكرت لهم أن تلك اآليات ليست وحدها مــا يعــد البشــرية بفيض المعجــزات
ـو إِاَّل ِذ ْكـ ٌرالتي يختزنها القرآن الكريم ،بل نجد هذا واضحا في قوله تعالى :إِ ْن هُـ َ
ين ([ )88ص،87 :ـ ،]88وهي واضــحة في لِ ْل َعالَ ِمينَ (َ )87ولَتَ ْعلَ ُم َّن نَبَــأَهُ بَ ْعـ َد ِح ٍ
أن حقائق القرآن الكريم ستتجلى في كل العصور ،بمــا يكفي للداللــة على كونــه من
عند هللا ،وكونك نبي هللا ،وقد قال بعض المفسرين القدامى في ذلك( :وأولى األقوال
في ذلك بالصواب أن يقال :إن هللا أعلم المشركين بهذا القرآن أنهم يعلمون نبــأه بعــد
حين ،من غير حد منه لــذلك الحين بحــد ،وال حــد عنــد العــرب للحين ال يجــاوز وال
يقصر عنه ،فإذا كان ذلك كذلك ،فال قول فيــه أصــح من أن يطلــق ،كمــا أطلقــه هللا،
من غير حصر ذلك على وقت دون وقت)()1
وقــال آخــر( :ومعجــزة القــرآن مســتمرة إلى يــوم القيامــة ،وخرقــه للعــادة في
أسلوبه ،وفي بالغته ،وإخباره بالمغيبات ،فال يمر عصر من األعصار ،إال ويظهر
فيه شيء مما أخبر به أنه سيكون؛ يدل على صــحة دعــواه ...فعم نفعــه من حضــر،
ومن غاب ،ومن وجد ،ومن سيوجد)()2
لكنهم ســيدي أبــوا إال أن يحصــروا القــرآن الكــريم في مجــاالت محــدودة،
ويسخروا من كل من يبحث في طالقة إعجازه بما آتاه هللا من علم ..مع أن ذلك كان
سببا في هدايات عظيمة تحققت لمن آمن بذلك ،واهتدى به.
فيا سيدي يا رسول هللا ..يا من آتاك هللا المعجزات الباهرات الواضحات التي
ال ينكرهــا إال المكــابرون الجاحــدون أســألك وأتوســل بــك إلى هللا أن تكــون أنت
معجزتي الكبرى التي ال أحتاج معها إلى أي معجزة ..فأنت كلك معجزة ..ولــو أنهم
اكتفوا بك ،لوصلوا إلى اليقين الذي يقطع كل شك ،والعلم الذي ينفي كل وهم.
وأسألك سـيدي وأتوسـل بــك إلى هللا أن يجعــل إيمــاني إيمـان الموقــنين الـذين
يثقون في قدرة ربهم المطلقة؛ فلذلك ال ينكرون شيئا من مظــاهر قدرتـه ،بـل يــرون
كل شيء منه وبــه ولــه ،ولــذلك يســلمون هلل في كــل شــيء ،فكــل شــيء آيــة بــاهرة،
ومعجزة خارقة.
)(1رواه مسلم.
)(2رواه أبو داود.
)(3شرح األخبار ،139 :1وقد روى الحاكم في المستدرك [رقم الحديث ])3394 ( :عن عامر بن واثلة ،قال:
سمعتـ عليا ً قام ،فقال :سلوني قبل أن تفقدوني ،ولن تسألوا بعدي مثلي ،فقام ابن الكواء فقال :من الَّ ِذينَ بَـ َّدلُوا ِن ْع َمتَ
ضـ َّل َسـ ْعيُهُ ْم ِفي ْال َحيَــا ِة َار ْالبَ َو ِ
ار[ إبراهيم]28 :؟ ،قال :منــافقو قــريش ،قــال :فمن الَّ ِذينَ َ هَّللا ِ ُك ْفرً ا َوأَ َحلُّوا قَوْ َمهُ ْم د َ
صـ ْنعًا [ الكهـف]104 :؟ ،قـال :منهم أهـل حــروراء) ،قـال الحـاكم :هــذا حــديث ال ُّد ْنيَا َوهُ ْم يَحْ َسبُونَ أَنَّهُ ْم يُحْ ِسـنُونَ ُ
صحيح عال.
112
بالفعــل ،وق ـدـ روي في الحــديث عن بعض أصــحابك قــال :كنــا مــع رســول هللا
فانقطعت نعله ،فتخلف علي يخصفها ،فمشى قليال ثم قــال( :إن منكم من يقاتــل على
تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله) ،فقال أبو بكر :أنا ،قال( :ال) ،قــال عمــر :أنــا،
قال( :ال ولكن خاصف النعل)()1
وفي حــديث آخــر عن صــحابيـ آخــر قــال( :أمــر رســول هللا عليــا بقتــال
الناكثين والقاسطين والمارقين)()2
وأخبر اإلمام علي عن نفسه قال( :إن مما عهد إلي النبي أن األمة ستغدر
بي بعده)()3
ولهذا كان اإلمام علي موقناـ تماما أنه لن يموت قبل أن يحصل له مــا أخبرتــه
عنه؛ فقد روي أنه لما مرض وهو في ينبع عاده بعض الصحابة والتابعين ،وطلبــوا
منه أن ينتقل إلى المدينة ،حتى إذا حضر أجله وليه الصحابة وصــلّواـ عليــه ،أمــا إذا
مات في مكانه فال يحضره إال أعراب جهينة ،فأجابهم بقوله ـ بناء على ما ذكرته له
من نبوءات ـ( :لكني وهللا ما تخوّفتـ على نفســي منــه ،ألني ســمعت رســول هللا
الصادقـ المصدوقـ يقول( :إنك ستُضرب ضربةً ههنا ،ويكون صاحبها أشقاها ،كما
ر الناقة أشقى ثمود)()4
كان عاق ُ
وهكذا ورد في النبوءات تحذيرك ألم المؤمنين عائشة من أنها ستقع في فتنــة
خروجهاـ في معركة الجمل ،فقد روي أنك قلت لعلي( :إنه سيكون بينك وبين عائشة
أمرٌ) ،قال( :أنا يا رسول هللا؟) ،فقلت :نعم ..فقال :فأنا أشقاهم يــا رســول هللا؟ فقلت:
(ال ..ولكن إذا كان ذلك ،فارددها إلى مأمنها)()5
بل إنك ـ سيدي ـ ذكرت العالمة التي ستكون عنــد ظهــورـ هــذا الخالف ،كمــا
أشرت إلى الظرف الذي ستكون عليه تلك األحوال ،فقــد رويـ عن عائشــة أنهــا لمــا
أتت على الحوأب ،وسمعت نبـاح الكالب ،قـالت :سـمعت رسـولـ هللا يقـول لنـا:
(أيتكن تبنح عليها كالب الحوأب)()6
بل إنك ـ سيدي ـ أخبرت بدقة عما يحصل في تلــك المعركــة ،فقــد روي أنــك
قلت مخاطبــا نســاءك( :ليت شــعريـ أيتكن صــاحبة الجمــل األدبب ،تخــرج فينبحهـاـ
)( 1رواه البزار والطحاوي ،برجال ثقات ،كما قال الحافظان الهيثمي وابن حجر.
)(2رواه الحاكم وصححه والبيهقيـ وأبو نعيم.
)(3رواه الحاكم وصححه والبيهقي.ـ
)(4رواه أبو يعلى والحاكم والبيهقي وأبو نعيم.
)(5رواه الحاكم.
)(6رواه البيهقي في الدالئل.
)(7وقعة صفين (ص.)342 :
)(8وقعة صفين (ص.)342 :
114
شراب أشربه لبن حين أموت(.)1
وقد حصل ما أخبرت عنه ،وبدقة ،فقد كان عمــار في جيش اإلمــام علي يــوم
صفين ،وقتله معاوية وجيشه من أهل الشام الذين خرجواـ بغاة ظالمين.
ولهذا كان عمار يذكر لمن يعوده في أمراضه أنه لن يمــوت فيهــا ،بنــاء على
تلك الوعود التي وعدته بها ..فعن موالة لعمار قالت :اشتكى عمار بن ياسرـ شــكوى
ثقل منهــا ،فغشـيـ عليــه ،فأفــاق ،ونحن نبكي حولــه قــال :مــا يبكيكم؟ أتحســبون أني
أموت على فراشي ،أخبرنيـ حبيبي رسول هللا أنه تقتلني الفئة الباغية ،وأنا آخر
زادي مذقة من لبن(.)2
وهكذا أخبرت أبا ذر الغفاري بالبالء الذين ينتظره ،وقد شــاهده أبــو ذر رأي
العين ،فعن إبراهيم بن األشتر ،أنـه لمـا حضـر المــوت أبــا ذر ،وهــو بالربـذة فبكت
امرأته ،فقال :ما يبكيك؟ فقالت :أبكي أنه ال يد لي بنفســك ،وليس عنــدي ثــوب يســع
لك كفناً ،قال :ال تبكي ،فإني سمعت رسول هللا يقول( :ليمــوتن رجــل منكم بفالة
من األرض تشهده عصابة من المؤمنين) ،قال :فكل من كان معــه في ذلــك المجلس
مات في جماعة وقرية ،ولم يبق منهم غيري ،وقد أصبحت بــالفالة أمــوت ،فراقــبيـ
الطريقـ فإنك سوف ترين ما أقول ،فإني وهللا ما َكذبت وال ُكذبت ،قالت :وأنى ذلــك
وقدـ انقطع الحاج ،قال :راقبيـ الطريق ،قال :فبينا هي كذلك إذا هي بــالقوم تخب بهم
رواحلهمـ كأنهم الرخم ،فأقبل القوم حتى وقفوا عليها فقالوا :ما لك؟ فقالت :أمرؤ من
المســلمين تكفنــوه وتــؤجرون فيــه ،قــالوا :ومن هــو؟ قــالت :أبــو ذر ،ففــدوه بآبــائهمـ
وأمهاتهمـ ووضعوا سياطهمـ في محورها يبتدرونه ،فقال :أبشروا ،فأنتمـ النفــر الــذين
قال رسول هللا فيكم ما قال ،ثم أصبحت اليوم حيث تــرون ،ولــو أن لي ثوبـا ً من
أثوابي يسع ألكفن فيـه ،فأنشـدكم باهلل ال يكفـني رجـل منكم كـان عريفـا ً أو أمـيراً أو
بريداً ،فكل القوم قد نال من ذلك شيئا ً إال فتى من األنصار كان مــع القــوم ،قــال :أنــا
صاحبك ،ثوبان في عيبتي من غزل أمي وأحــد ثــوبي هــذين الــذين علي ،قــال :أنت
صــاحبي ،فكفنــه األنصــاري في النفــر الــذين شــهدوه منهم حجــر بن األدبــر ومالــك
األشتر في نفر كلهم يمان(.)3
وعن القــرظي ،قـال :خـرج أبــو ذر إلى الربـذة فأصــابه قـدره ،فأوصــاهم أن
غسلوني وكفنوني ،ثم ضعونيـ على قارعة الطريق ،فأول ركب يمرون بكم فقولوا:
هذا أبو ذر صاحب رسول هللا فأعينونا على غسله ودفنه ففعلوا ..فأقبلـ عبــد هللا
بن مسعود في ركب من العراق ،وقد وضــعت الجنــازة على قارعــة الطريــق ،فقــام
118
مجاب الدعوات
سيدي يا رسول هللا ..يا صــاحب الجــاه العظيم ،والمقــام الرفيــع الــذي ال تــرد
معه الدعوات ..وال تصد عنه الحاجات ..وال تقف دونه الحجب.
لقد بلغ قربك من هللا تعالى إلى الدرجة التي ال تدعو فيها بــدعاء إال اســتجيب
لك ،وال تتمنى أمنية إال تحققت ،وال ترغب في شيء إال كان بين يديك؛ فلــذلك كنت
وسيلة الصادقين إلى ربهم ..لعلمهم أن دعاءك لهم أقرب من دعائهم ألنفسهم.
وكيف يكون دعاؤهم ألنفسهم أقــرب إلى هللا من دعائــك ،وقــد قــال هللا تعــالى
ك ْـم بَ ْعضًا[ النور)1(]63 : ضُ عن دعائك :اَل تَجْ َعلُوا ُدعَا َء ال َّرس ِ
ُول بَ ْينَ ُك ْم َك ُدعَا ِء بَ ْع ِ
وكيف يكون دعاؤهم أقرب إلى هللا ،وأنت الذي قال لك ربــكَ :ولَــوْ أَنَّهُ ْم إِ ْذ
ظَلَ ُموا أَ ْنفُ َسهُ ْم َجا ُءو َ
ك فَا ْستَ ْغفَرُواـ هَّللا َ َوا ْستَ ْغفَ َر لَهُ ُم ال َّرسُو ُل لَ َو َجـ دُواـ هَّللا َ تَ َّوابًــا َر ِحي ًمــا
[ النساء ،]64 :وقد كان يمكن أن يدعوهم إلى االسـتغفار بأنفسـهم ألنفسـهم ،لكنـه
طلب منهم العودة إليك ،فاستغفاركـ لهم أجدى من استغفارهم ألنفسهم.
ولذلك كنت ـ سيدي ـ ملجأ السائلين في حياتك ،وبعد وفاتك..ـ فكــل من احتــاج
حاجة لجأ إليك ،وطلب دعاءك ،أو توسل إلى هللا بدعائك ،أو توسل إلى هللا بجاهك،
أو لجـأ إليـك أن تـدعو لـه ..إال أولئـك المحجـوبين الـذين توهمـوا أن المـوت قضـىـ
عليك ،وأنه لم يعد لك من األمر شيء ،وأن قربك من هللا لن يــتيح لــك أن تلجــأ إليــه
إلغاثة من طلب الغوث ،أو إجــارة من طلب اإلجــارة ،أو إجابــة من طلب شــيئا من
شؤون الدنيا واآلخرة ..وكل ذلك لكونهمـ حجبوا بأنفسهم وأهوائهمـ ووساوسهم عنك،
وإال فإنهم لو تركوا تلك الحجب لرأوك ال تزال مستقرا على العرش الذي بــوأك هللا
إياه ،وأنزلك فيه ،ال ترد من سألك ،وال يحجب عنك من طلبك.
ولو أنهم فعلواـ ذلك ..لعاشوا معــك مثلمــا عــاش صــحابتك ،يطلبونــك في كــل
ملمة ،ويلجئون إليك عنــد كــل حاجــة ..فيجــدون عنــدك كــل مــا يطلبــون ،وفــوقـ مــا
يطلبون.
اسمح لي ـ سيدي ـ أن أشنف قلبي بذكر بعض تلك األخبار الجميلة التي نقلها
لنا الرواة عنك ،والتي تدل على تكريم هللا لك بإجابــة الــدعاء ،وفي كــل المناســبات،
ولكــل الحاجــات ..فال يخيب من لجــأ إليــك ،وال يــرد صــفر اليــدين من مــد يــده إلى
حضرتك.ـ
فمن تلك األخبار ما يرتبط بلجوء المرضى إليك ،بعد أن علموا أنك طــبيبهم،
وأن كل من دخل عيادتك ،شفي مهما كان مرضه ،ومن غير معاناة ،وبغيرـ أدويــة..
فقد وردت الروايات الكثيرة تخبر بــذلك عنــك ،وبأســانيدـ كثــيرة متــواترة ،ال يشــكك
)(1هذا أحد األقوال التي فسرت بها اآلية ،فقـد قـال ابن كثــير في تفسـيره (/6ـ :)89أي :ال تعتقــدوا أن دعــاءه
على غيره كدعاء غيره ،فإن دعاءه مستجاب ،فاحذروا أن يدعو عليكم فتهلكوا .حكاه ابن أبي حاتم ،عن ابن عبــاس،
والحسن البصري ،وعطية ال َعوفي ،وهللا أعلم.
119
فيها إال جاحد.
ومن تلك الروايــات مــا روي في إبرائــك األعمى واألرمـدـ ومن فقئت عينــه،
وغيرهم ..فقد روي أنك سألت يوم خيبر عن اإلمام علي ،فقيــل لــك :يــا رســول هللا،
يشتكي عينيه ،فقلت( :فأرسلواـ إليه) ،فأتي به فنفثت في عينيه ،ثم دعوت له ،فبرئ،
حتى كأنه لم يكن به وجع ،ثم أعطيته الراية(.)1
ومن تلك الروايات ما روي عن حبيب بن فديك أن أباه خرج به إليك ،وعيناه
مبيضتان ال يبصرـ بهما شيئا ،فسألته( :ما أصابك؟) فقال :وقعت رجلي على بيضــة
حية فأصيب بصري ،فنفثت في عينيه ،ودعوت له ،فأبصر ،حتى أنـه صـارـ ــ كمــا
يذكر الراويـ عنه ــ يـدخل الخيـط في اإلبـرة ،وإنـه البن الثمـانين سـنة ،وإن عينيـه
لمبيضتان(.)2
ومن تلــك الروايـات مــا رويـ أن قتــادة بن النعمـان أصـيبت عينـه يـوم أحــد،
فسالت حدقته على وجنته ،فــأرادواـ أن يقطعوهــا ،ثم بــدا لهم أن يستشــيروك ،فقلت:
(ال تقطعوها) ،ثم رفعت حدقتــه ،ثم غمزتهــا براحتــك الشــريفة ،وأنت تقــول( :اللهم
اكسبه جماال) ،فكانت ـ كما يذكر الرواة ـ أصح عينيه وأحسنهما ،بل كــان ال يــدري
أي عينيه أصيبت(.)3
ومن تلك الروايات ما روي عن رفاعة بن رافع بن مالــك قــال :رميت بســهم
يوم بدر ،ففقئت عيني ،فنفث فيها رسول هللا ودعا لي ،فما آذاني منها شيء(.)4
ومن تلك الروايات ما روي في إبرائك األبكم والرتــة ،ومن أمثلتهــا مــا روي
أن امرأة جاءتك بصبيـ قد شب ،فقالت :يا رسول هللا ان ابني هذا لم يتكلم منــذ ولــد،
فقلت له مخاطبا( :من أنا؟) قال( :أنت رسول هللا)( ،)5ثم صارـ يتحدث من حينها.
ومنها ما رويـ عن بشير بن عقربة الجهــني قــال :أتى عقربــة رســول هللا
فقال( :من هذا معك ،يا عقربة؟) قال :ابني بحير قال( :ادن) فدنوت حتى قعدت عن
يمينه ،فمسح على رأسي بيده ،فقال( :مــا اســمك؟) قلت :بحــير يــا رســول هللا ،قـال:
(ال ،ولكن اسمك بشير) وكانت في لساني عقدة ،فنفث النبي في في ،فانحلت من
لساني وأبيض كل شيء من رأسي ما خال ما وضع يده عليه فكان أسود)()6
)(1انظر الحديث كامال في :المعجم الكبير للطبراني 30 /9:و ..31وانظر قصة األعمى في :أحمد في المسند
( ،)138 /4والترمذي (تحفة ،)133 ،132 /10والنسائي في عمل اليوم والليلة (ص ،)417وابن ماجة في السنن (
/1ـ )441والبخاري في التاريخ الكبير (/6ـ .)210والطبراني في المعجم الكبير (/9ـ ،)19وفي الــدعاء أيضـا ً (/2
)1289والحاكم في المستدرك ( )519 ،313 /1وصححه وسلمه الذهبي والبيهقي في دالئل النبوةـ ( ،)166 /6وفي
الدعوات الكبير.
125
مهبط البركات
سيدي يا رسول هللا ..أيها العبد المباركـ الذي جعله هللا ربيعا للحياة؛ فحيث ما
حــل أزهــرت وأينعت وأثمــرت ..فال يســكن قلبــا إال ســكن معــه الســرور ،ومألت
جوانحه السعادة ..وال يسكن عقال إال طردت عنه األوهــام والوســاوس والشــبهات..
وال تتبنى اسمه دولة إال انتصرت على أعدائها ،وتطورت في كل المجاالت..
وكيف ال تكون كذلك سيدي ،وأنت القريب من هللا ..فال يقـترب منـك أحـد إال
اقــترب من فضــل هللا ،ونــال من بركاتــه ..وال يبتعــد عنــك إال ونــزل عليــه الشــؤم،
وامتألت حياته بالتعاسة والظلمات ..وكيف ينال النور من ابتعد عن سراجه المنير؟
ال أزال أذكــر ســيدي حليمــة الســعدية ..تلــك الــتي جــاءت مكــة ،وأنت صــبي
صغيرـ ال تزال في حجر أمك ،فقد ذكرت أنها خرجت من بلــدها مــع زوجهــا ،وابن
لها صغير ترضعه في نسوة من بني سعد ،وذلك في سنة شهباء ،لم تبــق لهم شــيئا..
لكنها فوجئت بالسعد يطل عليها بمجرد حملها لــك ،وأخــذكـ معهــا إلى بالدهــا ،وقـدـ
عبرت عن ذلك بقولها( :فلما أخذته رجعت به إلى رحلي ،فلما وضــعته في حجــري
أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن ،فشرب حتى روي وشرب معه أخوه حــتى روي،
ثم ناما ،وما كنا ننام معه قبل ذلك ..وقــام زوجيـ إلى شـارفنا تلــك ،فـإذا إنهــا لحافــل
فحلب منها ما شرب وشربتـ معه حتى انتهينــا ريــا وشــبعا ،فبتنــا بخــير ليلــة ،فقــال
صاحبيـ حين أصبحنا :تعلمي وهللا يا حليمــة لقــد أخــذت نســمة مباركــة ،فقلت :وهللا
إني ألرجو ذلك)()1
ثم ذكــرت عجبهــا وعجب النــاس ممــا حصــل لهم عنــد العــودة ،فقــالت( :ثم
خرجنا وركبت أتاني ،وحملته عليها معي ،فوهللا لقطعت بالركب ما يقدر عليها أبي
ذؤيب ،حــتى قــال الــذين معي :ويحــك أربعي علينــا ،أليســت هــذه أتانــك الــتي كنت
خــرجت عليهــا؟ فــأقول لهن :بلى وهللا إنهــا لهي هي ،فيقلن :وهللا إن لهــا لشــأنا ..ثم
قدمناـ منازلنا من بالد بني سعد ،وما أعلم أرضا من أرض هللا أجــدب منهــا ،فكــانت
غنمي تروح علي حين قدمناـ به معنا شباعا لبنا ،فنحلب ونشــرب ومــا يحلب إنســان
قطرة لبن وال يجدها في ضرع حتى كان الحاضرون من قومنـاـ يقولــون لرعيــانهم:
ويلكم اسرحواـ حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب ،فتروحـ أغنامهم جياعــا مــا تبض
بقطرة لبن وتروحـ غنمي شباعا لبنا ..فلم نزل نتعرفـ من هللا الزيــادة والخــير حــتى
مضت سنتاه وفصلته)()2
وال أزال أذكر ـ سـيدي ــ فـترة كفالـة عمـك أبي طـالب لـك ،وكيــف ظهـرت
بركاتكـ عليه ..وقد وصف بعضــهمـ ذلــك ،فقــال( :لمــا تــوفيـ عبــد المطلب كفــل أبــو
)(1رواه أبو يعلى ،انظر :السيوطي في الدر المنثور 20 / 2وابن كثير في التفسير .29 / 2
)(2رواه ابن سعد.124 / 1:
128
فأبى أن ينظره ،فكلمك لتشفع إليه ،فجئت اليهودي ،فكلمتــه ليأخــذ تمــر نخلــه بالــذي
له ،فأبى ،فدخلت إلى بستانه ،فمشــيت فيــه ،ثم قلت لـه :يــا جـابر ،جــد له( ،)1فأوفــه
الذي له ،فجد بعدما رجعت ،فأوفاه ثالثين وسقا ،وفضلت له سبعة عشر وسقا(.)2
ومثل ذلك ما حصــل لفــرس أنس بن مالــك ،الــتي حــدث عنهــا وعن بركاتــك
عليهــا ،فقــال( :فــزع النــاس ،فــركب النــبي فرســا ألبي طلحــة بطيئــا ،ثم خــرج
يركض وحده ،فركب الناس يركضون خلفــه ،فقــال( :لن تراعــوا إنــه لبحــر) ،قــال:
فوهللا ما سبق بعد ذلك اليوم)()3
ومثل ذلك ما حصل لخباب بن األرت ،فقد حدثت ابنته ،قــالت :خــرج خبــاب
في سرية ،فكان رسول هللا يتعاهدنا حتى كان يحلب عنزا لنــا ،فكــان يحلبهــا في
جفنة لنا فتمتلئ فلما قدم خباب حلبهـا ،فعـاد حالبهــا كمــا كــان ،فقـالت أمي :أفســدت
علينا شاتنا ،قال :وما ذاك؟ قالت :إن كانت لتحلب مل ء هذه الجفنة ،قال :ومن كــان
يحلبها؟ قالت :رسول هللا قال :وقد عدلتيني به؟ هو وهللا أعظم بركة (.)4
ومثل ذلك ما حصل لنوفل بن الحارث فقد روي عنه أنه استعان بك من أجــل
الـزواج ،فأرسـلت بعض أصـحابك بدرعـه فرهنـاه عنـد يهـودي بثالثين صـاعا من
شعير ،فدفعته إليه ،قال :فطعمنا منــه نصــف ســنة ثم كلنــاه فوجــدناه ،كمــا أدخلنــاه..
وعندما ذكر ذلك لك قلت له( :لو لم تكله ألكلت منه ما عشت)()5
ومثل ذلك ما حصل لحمزة األسلمي ،فقـد روي عنـه أنـه قــال :عملت طعامــا
للنبي ثم ذهبت به ،فتحرك بــه النحي فــأهريق مــا فيــه ،فقلت :على يــدي أهريــق
طعام رسول هللا ،فقال رســول هللا ( :ادنــه) فقلت :يــا رســول هللا ال أســتطيع،
فرجعت مكاني ،فإذا النحي يقول قب قب ،فقلت :مه قد أهريــق فضــلة فضــلت فيــه،
فاجتذبته ،فإذا هو قد ملئ إلى يديه ،فأوكيته ،ثم جئت إلى رسول هللا فــذكرت لــه
ذلك ،فقال( :أما إنك لو تركته لسال واديا سمنا)()6
ومثــل ذلــك مــا حصــل لمســعود بن خالــد فقــد روي عنــه أنــه قــال :بعثت إلى
رسول هللا شاة ،ثم ذهبت في حاجة ،فرد رسول هللا شطرها ،فــرجعت ،فــإذا
لحم ،فقلت :يا أم خناس ما هذا اللحم؟ قالت :رد رسول هللا من الشــاة الــتي بعثت
بهــا إليــه شــطرها ،قلت :مالــك ال تطعمينــه عيالــك ،قــالت :هــذا ســؤرهم ،وكلهم قــد
)(1الجداد :قطع الثمر َ
وج ْنيُه وحصاده.
)( 2رواه البخاري ،قال ابن كثير :وهذا الحديث قد روي من طرق متعددة عن جــابر بألفــاظ كثــيرة،ـ وحاصــلها
أنه ببركة رسول هللا ،ودعائه له ،ومشيه في حائطه وجلوسه على تمرهَ ،وفَى هللا دين أبيـه ،وكـان قـد قتـل بأحـد،
وجابر كان ال يرجو وفاءه في ذلك العام وال ما بعده ،ومع هذا فضل له من التمر أكثر وفوق ما كــان يؤملــه ويرجــوه
وهلل الحمد والمنة (.انظر :البداية والنهاية )6/0121
)(3رواه البخاري.
)(4رواه أحمد وأبو داود الطيالسي وابن سعد والطبراني.
)(5رواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في الدالئل.
)(6رواه الطبراني وأبو نعيم والبيهقي.
129
أطعمت ،وكانوا يذبحون الشاتين والثالثة فال تجزئهم(.)1
ومثل ذلك ما حصل لعبد هللا بن طهفة فقد روي عنه أنه قال :كان رســول هللا
إذا اجتمع الضيفان قال( :لينقلب كل رجل مع جليسه) ،فكنت أنا ممن انقلب مــع
رســول هللا فقــال( :يــا عائشــة ،هــل من شــيء) قــالت :حويســة كنت أعــددتها
إلفطارك ،فأتي بها في قعبة فأكل منهــا رســول هللا شــيئا ثم قــدمها إلينــا ثم قــال:
(بسم هللا كلوا) فأكلنا منها حتى وهللا ما ننظر إليها ،ثم قال( :هل من شراب؟) فقالت
لبينة :أعددتها إلفطارك ،فجاءت بها فشرب منها شيئا ،ثم قال( :باســم هللا اشــربوا)،
فشربنا حتى وهللا ما ننظر إليها(.)2
ومثل ذلك ما حصل لرجل أتاك يستطعمك ،فأطعمته شطر وسق شــعير ،فمــا
زال يأكل منه هو وامرأته ومن ضيفهما حتى كالوه فأخبروك ،فقلت له( :لو لم تكلـه
ألكلتم منه ولقام لكم)()3
ومثل ذلك مــا حصــل ألم ســليم ،فقــد حــدثت عن بعض مــا رأتــه من بركاتــه،
فقالت :كــانت لنــا شــاة فجمعت من ســمنها في عكــة فمألتهــا العكــة ،وبعثت بهــا مــع
الجارية فقالت :أبلغي هذه العكة رسول هللا فقالت :يا رسول هللا هذه عكــة ســمن
بعثت بهــا إليــك أم ســليم ،قــال( :فرغــوا لهــا عكتهــا) ،ففــرغت العكــة فــدفعت إليهــا
فانطلقت وجــاءت أم ســليم ،فــرأت العكــة ممتلئــة تقطــر فقــالت :أليس قــد أمرتــك أن
تنطلقي بهــا إلى رســول هللا فقــالت :قــد فعلت فــإن لم تصــدقيني فــانطلقي فســلي
رسول هللا فانطلقت أم ســليم ،فقــالت :يــا رســول هللا إني بعثت إليــك بعكــة ســمن
قال( :قد فعلت جاءت بها) ،قالت :والذي بعثك بالهدى ودين الحق إنها لممتلئة تقطر
سمنا ،فقال لها رسول هللا ( :يا أم سليم أتعجبين إن كان هللا أطعمــك كمــا أطعمت
نبيه ،كلي وأطعمي) ،فجاءت إلى البيت ،ففتت لنا كذا وكذا وتركت فيهــا مــا ائتــدمنا
شهرا أو شهرين(.)4
ومثل ذلك ما حصل يــوم الخنــدق ،حيث أطعمت ــ ســيدي ــ جيش المســلمين
الذي كان يحفر يوم الخندق من طعام فئة قليلة من الناس ،وقد حدث صاحب الوليمة
جابر بن عبد هللا عن ذلك ،فقال :كنا يوم الخندق نحفر الخندق ،فعرضتـ فيه كذانة،
وهي الجبل ،فقلنا :يا رسول هللا ،إن كذانــة قــد عرضــت فيــه ،فقــال رســول هللا :
(رشوا عليها) ،ثم قام رسول هللا ،فأتاهــا ،وبطنــه معصــوب بحجــر من الجــوع،
فأخذ المعول أو المسحاة ،فسمى ثالثا ثم ضرب ،فعادت كثيبا أهيل ،فقلت لــه :ائــذن
لي يــا رســول هللا إلى المــنزل ،ففعــل ،فقلت للمــرأة :هــل عنــدك من شــيء؟ فقــالت:
عندي صاع من شعير وعناق ،فطحنت الشــعير وعجنتــه ،وذكت العنــاق وســلختها،ـ
)(1رواه الطبراني.
)(2رواه أحمد وأبو نعيم في الدالئل.
)(3رواه مسلم.
)(4رواه أبو يعلى والطبراني وأبو نعيم وابن عساكر.
130
وخليت من المرأة ،وبين ذلك ،ثم أتيت رسول هللا ،فجلست عنـده سـاعة ثم قلت:
ائذن لي يا رسولـ هللا ،ففعل ،فأتيت المرأة فإذا العجين واللحم قد أمكنا ،فرجعت إلى
رســول هللا ،فقلت :إن عنـدي طعيما( )1لنـا ،فقم يـا رسـول هللا أنت ورجالن من
أصحابك ،فقال( :وكم هو؟) فقلت :صاع من شعير ،وعناق ،فقال للمسلمين جميعــا:
(قومواـ إلى جابر) ،فقاموا ،فلقيت من الحياء ما ال يعلمه إال هللا ،فقلت :جــاء بــالخلق
على صاع شعير وعناق ،فدخلت على امرأتي أقول :افتضــحت ،جــاءك رســول هللا
بالجنــد أجمعين ،فقــالت :هــل كــان ســألك كم طعامــك؟ فقلت :نعم ،فقــالت :هللا
ورسوله أعلم ،قد أخبرناه ما عندنا ،فكشفت عني غما شديدا ..فــدخل رســول هللا
فقال :خذي ودعيني من اللحم ،فجعل رسول هللا يثرد ،ويغــرف اللحم ،ثم يخمــر
هذا ،ويخمرـ هـذا ،فمــا زال يقـرب إلى النـاس حـتى شـبعوا أجمعين ،ويعــود التنــور
والقدر أمأل ما كانا ،ثم قال رسول هللا ( :كلي وأهدي) ،قال جابر :فلم نزل نأكــل
ونهديـ يومنا أجمع(.)2
ومثل ذلك ما حصل في نفس الغزوة ،فقد حدثت ابنــة بشــير بن ســعد ،قــالت:
دعتني أمي فأعطتنيـ جفنة من تمــر في ثــوبي ،ثم قــالت :يــا بنيــة ،اذهــبي إلى أبيــك
وخالــك عبــد هللا بغــدائهما ،قــالت :فأخذتــه ثم انطلقت بهــا ،فمــررت برســول هللا
فقال( :تعالي ما معك؟) فقلت :يا رسول هللا هذا تمــر بعثتــني بــه أمي إلى أبي بشــير
بن سعد وخالي عبد هللا بن رواحة يتغديانه ،فقال( :هاتيه) ،فصببته في كفي رســول
هللا فما مألها ،ثم أمر بثوب فبســط،ـ ثم دعــا بــالتمر فصــبه فــوق الثــوب ،ثم قــال
إلنسان عنده( :اخرج في أهـل الخنــدق أن هلمــوا إلى الغـداء ،فــاجتمع أهـل الخنــدق
عليه ،فجعلواـ يأكلون منه وجعل يزيد حتى صدرـ أهل الخندق عنه ،وإنه ليســقط من
أطرافـ الثوب)()3
ومثل ذلك مــا حــدث بـه أنس ،قــال :جئت رســول هللا فوجدتــه جالســا مــع
أصحابه يحدثهم قد عصب بطنه بعصابة ،فقلت لبعض أصحابه :لم عصــب رســول
هللا بطنه؟ فقـالوا :من الجـوع ،فـذهبت إلى أبي طلحـة فأخبرتـه فـدخل على أمي
فقال :هل من شيء؟ قالت :نعم عندي كسر من خبز وتمرات ،فإن جاءنا رســول هللا
وحده أشبعناه وإن جاء معــه بأحــد قــل عنهم ،فقــال لي أبــو طلحــة :قم قريبـاـ من
رسول هللا فإذا قام فدعه حـتى يتفـرق عنـه أصـحابه ثم اتبعـه حـتى إذا قـام على
عتبة بابه ،فقل :أبي يدعوك ،ففعلت ذلك ،فلما قلت :أبي يدعوك ،قال ألصحابه( :يــا
هؤالء تعالوا) ثم أخذ بيدي فشدها ،ثم أقبل بأصحابه حتى إذا دنونــا من بيتنــا أرســل
يدي فدخلت وأنا حزين لكثرة من جــاء بــه ،فقلت :يــا أبتــاه ،قــد قلت لرســولـ هللا
)(1رواه مسلم (/ 143ـ )2040والبيهقيـ في الدالئل / 1ـ 963وأبو نعيم في الدالئل 148وانظر المجمع / 8
.306
)(2رواه أحمد.231
)(3رواه أحمد.
132
بقباء ،فسأله عن بئر هنــاك ،قــال :فدللتــه عليهــا فقــال :لقــد كــانت هــذه ،وإن الرجــل
لينضح على حماره فتنزح ،فجاء رسول هللا وأمر بذنوب ،فسقى ،فإما أن يكــون
توضأ منه ،وإما أن يكون تفل فيه ،ثم أمر به ،فأعيد في البئر ،فما نزحت بعد(.)1
ومثل ذلك ما حصل ببئر باليمن ،فعن زياد بن الحــارث الصــدائي قــال :قلت:
يا رسول هللا ،إن بئرنا إذا كان الشتاء وسـعنا ماؤهــا واجتمعنـا عليهـا ،وإذا كـان في
الصيف قل ماؤها وتفرقنا عن مياه حولنا ،وقد أسلمنا وكل من حولنا لنا عدو ،فــادع
هللا لنا في بئرنا ،فيســقينا ماؤهــا ،فنجتمــع عليهــا ،وال نتفــرق ..فــدعا رســول هللا
بسبع حصيات ،فعركهن بيده ،ودعــا فيهن ،ثم قــال( :اذهبــوا بهــذه الحصــيات ،فــإذا
أتيتم البئر فألقوا واحدة واحدة ،واذكروا اسم هللا عز وجل) ،قال :ففعلنا مــا قــال لنــا،
فما استطعنا أن ننظر إلى قعرها (يعني البئر)()2
ومثل ذلك مــا حصــل ببــئر أنس ،فعن أنس قــال :أتى رســول هللا منزلنــا،
فسقيناه من بئر كانت لنا في دارنا ،وكانت تسمى في الجاهليــة (الــنزور) فتفــل فيهــا
فكانت ال تنزح بعد.
ومثل ذلك ما حصل ببئر الحديبية ،فعن البراء وسلمة بن األكوع قــاال :قــدمنا
مع رسول هللا الحديبية ،ونحن أربع عشرة مائة ،والحديبيــة بــئر ،فنزحناهــا ،فلم
نترك فيها قطرة ،فقعد رسول هللا على شفيرها ،قال البراء :وأتي بــدلو فيــه مــاء
فبصق ودعا ،ثم قال( :دعوها ساعة) وقال سلمة :فجاشت ،فأرووا أنفسهم وركــابهم
بالماء ،فسقينا واستقينا)()3
ومثل ذلك ما حصل ببئر غرس بالمدينة ،فعن أنس قال :جئنا مــع رســول هللا
إلى قباء ،فانتهى إلى بئر غرس ،وإنــه ليســتقي منــه على حمــار ،ثم نقــوم عامــة
النهار ما نجد فيها ماء ،فمضمض في الدلو ورده ،فجاشت بالرواء(.)4
ومثــل ذلــك مــا ورد في الروايــات الكثــيرة من بركاتــك على المــاء القليــل،
فيتحول إلى كثير ،ومن تلك الروايات ما حدث به أنس قال :كنا في سفر مع رســول
هللا ،فقال ألبي قتادة( :أمعكم ماء؟) ،قلت :نعم ،في ميضــأة فيهــا شــيء من مـاء،
قال( :ائت بها) ،قال :فأتيتــه بهــا ،فقــال ألصــحابه( :تعــالوا مســوا منهــا فتوضــئوا)،
وجعل يصب عليهم ،فتوضأ القوم ،وبقيت جرعة ،فقال( :يا أبا قتادة ،احفظها ،فإنها
ستكون لها نبأ) ..فذكر الحـديث إلى أن قـال :فقـالوا :يـا رســول هللا ،هلكنــا عطشــنا،
انقطعت األعنــاق ،فقــال( :ال هلــك عليكم) ،ثم قــال( :يــا أبــا قتــادة ،ائت بالميضــأة)،
فأتيته بها ،فقال( :أطلقوا لي قــدحي) ،فحللتــه فأتيتــه بــه ،فجعــل يصــب فيــه ويســقي
)(1رواه البيهقي.
)(2البيهقيـ في الدالئل 357 / 5 ،127 / 4 :وابن كثير في البداية.84 / 5 :
)( 3رواه البخاري ومسلم ،وفي غير روايتيهما من طريق ابن شهاب فأخرج سهما من كنانته فوضــعه في قليب
بئر ليس فيه ماء فروى الناس حتى ضربوا بعطن خيامها.
)(4رواه ابن سعد.
133
النــاس ،فــازدحم النــاس ،فقــال رســول هللا ( :أيهــا النــاس أحســنوا المأل ،فكلكم
ســيروى) ،فشــرب القــوم ،وســقوا دوابهم وركــابهم وملئــوا مــا كــان معهم من إداوة
وقربة ومزادة حتى لم يبق غيري وغيره ،قال( :اشرب يـا أبـا قتـادة) ،قلت :اشــرب
أنت يا رسول هللا ،قال( :ساقي القوم آخرهم شربا) ،فشربت ،وشــرب بعــدي ،وبقي
في الميضأة نحو مما كان فيها وهم يومئذ ثالثمائة(.)1
ومثل ذلك ما حصـل في غـزوة هـوازن ،فقـد حـدث سـلمة بن األكــوع ،قـال:
غزونا مع رسول هللا هوازن فأصابنا جهد شديد فأتى بشــيء من مــاء في إداوة،
فأمر بها فصبت في قدح ،فجعلنا نتطهر حتى تطهرنا جميعا(.)2
ومثل ذلك ما حــدث بـه عمـران بن حصــين قــال :كنــا مــع رســول هللا في
سفر ،فاشتكى إليه النــاس العطش ،فــنزل ثم دعــا عليــا ،ورجال آخــر ،فقــال( :اذهبــا
فابغيا الماء فإنكما ستجدان امرأة بمكــان كــذا وكــذا معهــا بعــير عليــه مزادتــان فأتيــا
بها) ،فانطلقا فلقيا امرأة بين مزادتين من ماء على بعــير لهـا ،فقــاال لهــا :أين المـاء؟
قالت :عهدي بالماء أمس هذه الساعة ،فقــاال لهــا :انطلقي إذا ،قــالت :إلى أين؟ قــاال:
إلى رسول هللا قالت :الذي يقال له الصـابئ؟ قــاال :هـو الـذي تعـنين( ،)3فانطلقـا
فجاءا بها إلى النبي وحدثاه بالحديث ،قال :فاستنزلوها عن بعيرهــا ودعــا النــبي
بإناء ،فــأفرغ فيـه من أفــواه المـزادتين ،فمضـمض في المـاء ،وأعـاده في أفــواه
المــزادتين ،وأوكــأ أفواههمــا ،وأطلــق الغــرارتين ،ونــودي في النــاس( :اســقوا،
واستقوا) ،فسقى من شــاء ،واســتقى من شــاء ،ومألنــا كــل قربــة معنــا وإداوة ،وهي
قائمة تنظر ما يفعل بمائها وأيم هللا ،لقد أقلع عنها ،وإنها ليخيل إليهــا أنهــا أشــد ملئــة
منها حيث ابتدأ فيها فقال النبي ( :اجمعوا لها طعاما) ،فجمعوا لها مــا بين عجــوة
ودقيقة وسويقة حتى جمعوا لها طعامــا ،فجعلــوه في ثــوب ،وحملوهـا على بعيرهــا،
ووضعوا الثوب بين يديها ،وقالوا لها :تعلمين ما رزأنا من مائك شيئا ،ولكن هللا هو
الذي أسقانا ..فجاءت المرأة أهلها فأخبرتهم ،فقالت :جئتكم من أسحر الناس ،أو إنــه
لرسول هللا حقا ،قال :فجاء أهل تلك القرية ،حتى أسلموا كلهم(.)4
ومثل ذلك ما وردت به النصوص الكثيرة المتواترة( )5من نبع المــاء من بين
)(1رواه مسلم.
)(2الدالئل للبيهقي (.)119 / 4
)( 3ذكر العلماء حسن األدب الذي حوى عليه قول علي ورفيقه لها لما قالت :الصابئ( :هو الذي تعــنين)،ـ ألنــه
لو قاال لها :ال ،لفات المقصود ،أو نعم ،لما حسن بهما ،إذ فيه طلب تقرير ذلك ،فتخلصا أحسن تخليص.
)(4رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
)(5قال القرطبي :قصة نبع الماء من بين أصابعه تكررت منه في عدة مواطن في مشاهد عظيمة ،ووردت
عنه من طرق كثيرة يفيد عمومها العلم القطعي المســتفاد من التــواتر المعنــوي ،قــال :ولم يســمع بمثــل هــذه المعجــزة
العظيمة من غير نبينا حيث نبع الماء من بين عظمه وعصبه ولحمه ودمه.
ونقل ابن عبد البر عن المزني أنه قال :نبع الماء من بين أصــابع النــبي أبلــغ في المعجــزة من نبــع المــاء من
الحجر حيث ضربه موسى بالعصا فتفجرت منه المياه ،الن خروج المــاء من الحجــارة معهــود ،بخالف خروجــه
من بين اللحم والدم.
134
أصابعك الشريفة ،وفي مرات متعددة كثيرة ..ومن تلك الروايات ما حدث بــه أنس،
قال :كان رسول هللا بالزوراء ،وحانت صالة العصر ،والتمس النــاس الوضــوء
فلم يجدوا مــاء ،فــأتى رســول هللا بوضــوء ،فوضــع رســول هللا يــده في ذلـك
اإلناء ،فحين بسط يده فيه فضم أصابعه فأمر الناس أن يتوضؤوا منه ،فرأيت المــاء
ينبع من بين أصابع النبي فتوضأوا من عند آخــرهم ..قــال قتــادة :قلت ألنس :كم
كنتم؟ قال :كنا زهاء ثلثمائة(.)1
وحدث به عبد هللا بن مسعود قــال :بينمــا نحن عنــد رســول هللا ليس معنــا
ماء ،فقال :اطلبوا من معه فضل ماء ،فأتى بماء فوضعه في إناء ،فوضــع يــده فيــه،
فجعل الماء يجري ـ وفي لفظ يخرج من بين أصابعه ـ ـ ثم قــال( :حي على الطهــور
المبارك ،البركة من هللا) فتوضأوا وشربوا ،قال عبد هللا :كنــا نســمع تســبيح الطعــام
وهو يؤكل)()2
وحدث جابر بن عبد هللا قال :عطش الناس يوم الحديبية ،وكان الذي بين يديه
ركوة يتوضأ منها وجهش الناس نحوه ،قال( :مالكم؟) قالوا :ليس عندنا ماء نتوضــأ
به ،وال ماء نشربه إال ما بين يديك ،فوضع يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين
أصابعه كأمثال العيون ،فشربنا وتوضأنا ،قال سالم :قلت لجــابر :كم كنتم؟ قــال :لــو
كنا مائة ألف لكفانا ،كنا خمس عشرة مائة(.)3
وحدث أبو قتادة ،قال :بينما نحن مع رسول هللا نسير في الجيش إذ لحقهم
عطش كاد يقطع أعنـاق الرجـال والخيـل والركـاب عطشـا ،فـدعا بركـوة فيهـا مـاء
فوضع أصابعه عليها ،فنبــع المــاء من بين أصــابعه ،فاســتقى النــاس ،وفــاض المــاء
حتى رووا خيلهم وركابهم ،وكان من العسكر اثنا عشر ألف بعير ،والنــاس ثالثــون
ألفا ،والخيل اثنا عشر ألف فرس(.)4
وحدث ابن عبــاس قــال :أصــبح رســول هللا ذات يــوم ،وليس في العســكر
ماء ،فقال رجل :يا رسول هللا ،ليس في العسكر ماء ،قال :هل عندك شــيء؟ ..قــال:
نعم فــأتي بإنــاء فيــه شــيء من مــاء فجعــل رســول هللا أصــابعه في اإلنــاء وفتح
أصابعه ،قال :فرأيت العيــون تنبــع من بين أصــابع النــبي فــأمر بالال ينــادي في
137
المستبصر المتوسم
ســيدي يــا رســول هللا ..يــا من جعلــك هللا بشــرا لكن ال كالبشــر ..فــأنت في
صورتك مثلهم ..لكن حقيقتك العظمى تجاوزتهمـ بكثير ..فقد غلبت روحك جســدك..
وبصيرتك بصرك ..وحقيقتك مظهرك ..فلذلك كنت ترى ما ال يرون ..وتسمع ما ال
يسمعون ..ولك من القدرات والطاقات ما ال يملكون..
وكيف ال تكون كذلك ــ سـيدي ــ وأنت الــذي تطهــرت نفسـك طهـارة كاملـة،
وسمت روحك سموا رفيعا..ـ وأوتيت العصمة المطلقــة ..فلــذلك رقــا جســدك إلى مــا
رقت إليه روحك ،فصرت روحا تمشي على األرض ..ونوراـ يمشي بين الناس.
ولوال ذلك سيدي ما أطقت تحمل الوحي الذي كان يتنزل عليــك ..ومــا أطقت
أن تكون واسطة بين الغيب والشهادة ..واألرض والسماء ..والملك والملكوت ..فقــد
كنت تملك كال الجانبين ..فأنت معهم في عالم الملــك ..لكنــك كنت تبصــر وبدقــة مــا
حولك من عالم الملكوت.
لقد عبر عن كل هذه المعاني قولـه تعـالى ،وهـو يصــفك :قُـلْ إِنَّ َمـا أَنَـا بَ َشـ ٌر
ي [ فصلت ..]6:فأنت بشر مثلهم في الصورة ..لكن تلـك الخاصـية ِم ْثلُ ُك ْم ي َ
ُوحى إِلَ َّ
العظيمة التي أهلتك لتنزل الوحي عليك ،جعلتك مختلفا عنهم تماما..
إن مثل ذلك ـ سيدي ـ مثل شخصين أحــدهما أصــم أبكم أعمى مقعــد فيــه كــل
العاهات واآلفــات ..وآخــر ســليم منهــا جميعــا ،وفيـ قمــة القــوة والشــباب ،وفي قمــة
الصالح والتقوى ،وفي قمة العلم والخبرة ..فكالهما بشر ..لكن الفــرق بينهمــا عظيم
جدا..
فهكذا األمر بالنســبة لســائر البشــر مقارنــة بــك ..فهم ال يــرون مــا تــرى ،وال
يسمعون ما تسمع ..وال تتحرك أرجلهم للعوالم الــتي يمكن أن تســير إليهــا ،وفيـ أي
لحظة تريد..
لذلك كنت أهال لتنزل الوحي عليك ،والذي ال يطيقه غيرك ..وقــد قــال تعــالى
في شــأنك ﴿ :إِنَّا َسـنُ ْلقِي َعلَ ْيـ َ
ك قَــوْ الًـ ثَقِيالً﴾ (المزمــل ،)5:فــإن كــان هــذا القــول ثقيال
بالنسبة لك ،فكيف هو بالنسبة لغيرك.
وقــد روي في الحــديث أن بعضــهم ســألك ،فقــال :يــا رســولـ هللا ،هــل تحس
بالوحي؟ـ فقلت له( :أسمع صالصيل ،ثم أسكت عند ذلك ،فما من مرة يوحى إلي إال
ظننت أن نفسي تفيض)()1
لقد وصف المعايشون لك ـ سـيديـ ــ بعض مظـاهر ثقـل ذلـك الـوحي ،فقـال:
(أنزل على رسول هللا وفخذه على فخذي ،فكادت فخذه ترض فخذي)()2
)(1رواه ابن أبي حاتم وابن عساكر مرسال ،السيوطي في الدر المنثور 317 /1وانظر كنز العمال ()1879
)( 2رواه البخاري في التاريخ ،سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ()3 /10
)(3أخرجه البخاري 232 ،170 /6ومسلم في كتاب صالة المسافرين ()241
)(4رواه البخاري والبيهقي وأبو نعيم.
)(5رواه مسلم والبيهقي.
)(6رواه البيهقي.
141
والذي بعثك بالحق ،ما تركت من حديثه حرفا لم تــذكره ،وان أمــرهم لكمــا ذكــرت،
فقلت( :إن هللا رفع لي األرض حتى رأيت معتركهم)()1
وهكذا حدث الرواة عن إخبارك بأن خيبر تفتح على يــد علي بن أبي طــالب،
فقد حدث بعضهم أنك قلت يوم فتح خيبر( :ألعطين هــذه الرايــة غــدا رجال يفتح هللا
على يديــه) ،فلمــا أصــبحت قلت( :أين علي بن أبي طــالب؟) قــالوا :يشــتكي عينيــه،
قلت( :فأرسلوا إليه) ،فأتي به إليك ،فنفثت في عينيه ،ودعوت له فــبرأ حــتى كــأن لم
يكن به وجع ،ثم سار إلى المعركة ،وفتح هللا عليه (.)2
ولم تكن تكتفي بكــل ذلــك ـ ـ ســيدي ـ ـ بــل كنت تخــبرهم عمــا تحدثــه بــه في
نفوسهم ،وبكل دقة ،فيمتلئون من ذلك عجبا ،ويمتلئون معه إيمانا ويقينا وطمأنينة..
ومما يروى في ذلك ما حدث به بعضــهمـ من أنــه كــان معــك إذ جــاءك رجــل
فقال :من أنت؟ قلت( :أنا نبي) ،قال :وما نبي؟ قلت( :رســول هللا) ،قــال :مــتى تقــوم
الســاعة؟ قلت( :غيب وال يعلم الغيب اال هللا) ،قــال :أرني ســيفك ،فأعطيتــه ســيفك،
فهزه الرجل ،ثم رده عليك ،فقلت له( :أمــا انــك لم تكن تســتطيعـ ذلــك الــذي أردت)،
قال :وقد كان(.)3
ثم قلت مخاطبا أصحابك( :إن هذا أقبل ،فقــال :آتيــه ،فاســأله ثم آخــذ الســيف،
فاقتله)()4
وحدث آخر أنك كنت مع أصحابك ،وهم يتحـدثون بإعجـاب شـديد عن رجـل
من المجاهدين معك ،لكنك قلت لهم( :أما انه من أهل النـار) ،فاتبعـه بعضـهم لـيرى
سر قولك ،فإذا به يرى الرجل يجرح جرحا شديدا ،جعله يأخــذ ســيفه ،ويقتــل نفســه
به ،منتحرا ،فرجع إليك ،وهو يقول :أشهد أنك رسول هللا ،فقلت( :إن الرجل ليعمــل
بعمل أهل الجنة فيما يبدوـ للناس ،وهو من أهل النار ،وإن الرجل ليعمل عمــل أهــل
النار ،فيما يبدو للناس ،وهو من أهل الجنــة)( ،)5ثم قلت لبالل( :يــا بالل ،قم فــأذن:
ال يدخل الجنة اال مؤمن ،وان هللا ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)
وحــدث آخــر قــال :اســتأذن عيينــة بن حصــين رســولـ هللا أن يــأتي أهــل
الطائف يكلمهم ،لعل هللا تعالى أن يهديهم فأذن له ،فأتــاهم ،فقــال :تمســكواـ بمكــانكم،
فوهللا لنحن أذل من العبيد ،وأقسم باهلل لو حدث به حدث لتمسن العرب عــز ومنعــة،
فتمسكوا بحصنكم ،وإياكمـ أن تعطوا بأيديكم،ـ وال يتكاثرن عليكم قطــع هــذا الشــجر،
ثم رجع فقال له رسول هللا ( :مــاذا قلت لهم؟) قــال :قلت لهم ،وأمــرتهمـ باإلســالمـ
ودعوتهمـ إليه ،وحذرتهم من النــار ،ودللتهم إلى الجنــة ،قــال( :كــذبت ،بــل قلت لهم:
146
المبجل المكرم
سيدي يا رسول هللا ..يا من تحققت فيــك العبوديــة بأجمــل صــورهاـ وأكملهــا،
ولذلك نلت من فضل هللا وتكريمه وتبجيله مــا لم يحــظ بمثلــه بشــر ،بــل مــا لم يحــظ
بمثله مخلوق..ـ يا من آتاك هللا الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعــة والمقــام المحمــود
في الدنيا واآلخرة ..فال يذكر هللا إال وتذكرـ معــه ،وال يطــاع إال بطاعتــك ،وال ينــال
أحد رضوانه قبــل أن ينــال رضــاك..ـ فــأنت بــاب الهدايــة ومفتاحهــا ،وعين الرحمــة
وسراجها ..ومن أراد الدخول على الحق بعيدا عنك لم يجــد إال الضــاللة ،ومن أراد
أن يسير على السراط المستقيم بعيدا عن سنتك لم يجد إال الهاوية.
لقد تأملت ـ سيدي ـ أصناف التكريماتـ التي كرمــك بهــا ربــك ،فوجــدت أنــك
حقيــق بكــل ذلــك التكــريم..ـ فــأنت الــذي صــبرت على كــل أنــواع البالء والســخرية
واالحتقارـ في سبيل أن تبلــغ دين ربــك ،من غــير أن تطلب أي أجــر ،وال أن تنتظــر
أي ثناء..
لقد كان حاديك إلى ذلك كله طاعتك لربك ،وصدقـ عبوديتك ،وحرصك على
الخلــق الــذين كلفت بــدعوتهم وهــدايتهم ..ولــذلك كنت تقابــل كــل أنــواع الســخرية
واالستهزاء بكل أنواع الصبر والرضا..ـ فال تنزعج ،وال تتضجر.ـ
ك لقد ذكر هللا تعالى بعض ذلك األذى الذي كنت تتعرض له ،فقــالَ ﴿ :وإِ َذا َرآ َ
ك إِال هُـ ُز ًوا أَهَـ َذا الَّ ِذي يَـ ْـذ ُك ُر آلِهَتَ ُك ْم َوهُ ْم بِـ ِذ ْك ِر الـرَّحْ َم ِن هُ ْم الَّ ِذينَ َكفَرُوا إِ ْن يَتَّ ِخـ ُذونَ َـ
ث ك إِ ْن يَتَّ ِخـ ُذونَكَ إِال هُـ ُز ًوا أَهَـ َذا الَّ ِذي بَ َع َ َكافِرُونَ ﴾(األنبياء ،)36 :وقــالَ ﴿:وإِ َذا َرأَوْ َـ
هَّللا ُ َرسُوال ﴾(الفرقان)41 :
ولذلك كان من مقتضيات اسم هللا [الشكور] أن تقابَل السخرية بالثناء ،ويقابَل
االستهزاء بتلك المكانة الرفيعة التي بــوأك هللا إياهــا ..بــل أمــر المؤمــنين جميعــا أن
يبوئوكـ إياها ،فقال ـ مخاطباـ لك ـ :إِنَّا أَرْ َس ْلنَاكَ َشا ِهداً َو ُمبَ ِّشراً َونَ ِذيراًـ لِتُ ْؤ ِمنُــوا بِاهَّلل ِ
صيالً( الفتح)9 - 8: َو َرسُولِ ِه َوتُ َع ِّزرُوهُ َوتُ َوقِّرُوهُ َوتُ َسبِّحُوهُ بُ ْك َرةً َوأَ ِ
ونهى أن يقدم أحد رأيه عليك ،أو يعقب على ما تذكره ،فقـال :يَــا أَيُّهَــا الَّ ِذينَ
َي هَّللا ِ َو َرسُولِ ِه َواتَّقُوا هَّللا َ إِ َّن هَّللا َ َس ِمي ٌع َعلِي ٌم) (الحجرات)1: آ َمنُوا ال تُقَ ِّد ُموا بَ ْينَ يَد ِ
ك ُحـ دُو ُد هَّللا ِ ونهى أن يتجاوز أحد حدودك ،أو يتساهل في طاعتك ،فقال ﴿:تِ ْل ـ َ
ت تَجْـ ِري ِم ْن تَحْ تِهَــا اأْل َ ْنهَــا ُـر خَالِـ ِدينَ فِيهَــا َو َذلِــكَ َو َم ْن يُ ِط ِع هَّللا َ َو َر ُسـولَهُ يُ ْد ِخ ْلـهُ َجنَّا ٍ
ْالفَوْ ُز ْال َع ِظي ُم﴾ (النساء)13:
َّســو َل واعتبر طاعتك سببا للفوز بالدرجات العالية ،فقالَ ﴿:و َم ْن ي ُِط ِع هَّللا َ َوالر ُ
صدِّيقِينَ َوال ُّشهَدَا ِء َوالصَّالِ ِحينَ َو َح ُسـنَ ك َم َع الَّ ِذينَ أَ ْن َع َم هَّللا ُ َعلَ ْي ِه ْم ِمنَ النَّبِيِّينَ َوال ِّ فَأُولَئِ َـ
ك َرفِيقاً﴾ (النساء)69: أُولَئِ َ
ُول فَقَ ْد أَطَا َع هَّللا َ َو َم ْن ت ََولَّى
واعتبر طاعتك مثل طاعته؛ فقالَ ﴿:م ْن ي ُِط ِع ال َّرس َ
ك َعلَ ْي ِه ْم َحفِيظاً﴾ (النساء)80: فَ َما أَرْ َس ْلنَا َ
147
واعتبر اتباعك السبيل الوحيدـ إلثبات محبة هللا ،فقال ﴿:قُـلْ إِ ْن ُك ْنتُ ْم تُ ِحبُّونَ هَّللا َ
فَاتَّبِعُونِي يُحْ بِ ْب ُك ُـم هَّللا ُ َويَ ْغفِرْ لَ ُك ْم ُذنُوبَ ُك ْـم َوهَّللا ُ َغفُو ٌر َر ِحي ٌم﴾ (آل عمران)31:
ونهى أن ترفع األصوات أمام حضرتك ،فقال :يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا ال تَرْ فَعُوا
ْض أَ ْن تَحْ بَـطَ ْضـ ُك ْـم لِبَع ٍ ـر بَع ِ ت النَّبِ ِّي َوال تَجْ هَرُوا لَهُ بِـ ْ
ـالقَوْ ِل َك َج ْهـ ِ صوْ ِ ق َ أَصْ َواتَ ُك ْـم فَوْ َ
أَ ْع َمالُ ُك ْم َوأَ ْنتُ ْم ال تَ ْش ُعرُونَ ) (الحجرات)2:
ونهى أن تدعى كما يدعى سائر الناس ،أو يعتبر دعاؤك كدعائهم ،فقــال :ال
ْضـ ُك ْم بَعْضـا ً قَـ ْد يَ ْعلَ ُم هَّللا ُ الَّ ِذينَ يَت ََسـلَّلُونَ ِم ْن ُك ْم
ول بَ ْينَ ُك ْم َكـ ُدعَا ِء بَع ِ َّسـ ِتَجْ َعلُوا ُدعَا َء الر ُ
ُص ـيبَهُْـم َعـ َذابٌ أَلِي ٌم ص ـيبَهُ ْم فِ ْتنَ ـةٌ أَوْ ي ِ ـر ِه أَ ْن تُ ِ
لِ ـ َواذاً فَ ْليَحْ ـ َذ ِـر الَّ ِذينَ يُ َخــالِفُونَ ع َْن أَ ْمـ ِ
(النور)63:
وأمــر فــوق ذلــك كلــه بتعظيم ـكـ وتوقــيرك وبــرك ،فقــال مخاطب ـاـ لــك :إِنَّا
ـوقِّرُوهُ ك َش ـا ِهدًا َو ُمبَ ِّش ـ ًراـ َونَ ـ ِذيرًا ( )8لِتُ ْؤ ِمنُــوا بِاهَّلل ِ َو َر ُس ـولِ ِه َوتُ َعـ ِّزرُوهُ َوتُـ َ أَرْ َس ـ ْلنَا َـ
صياًل [ الفتح]9 ،8 : َوتُ َسبِّحُوهُ بُ ْك َرةً َوأَ ِ
إن ونهى عن كل أشكال اإلذيــة لــك ،وتوعــد من يفعــل ذلــك باللعنــة ،فقــالَّ :
ــر ِة َوأَعَــ َّد لَهُ ْم عَــ َذابًا ُم ِهينًا ُــؤ ُذونَ هَّللا َ َو َر ُســولَهُ لَ َعنَهُ ُم هَّللا ُ فِي الــ ُّد ْنيَا َواآْل ِخ َ الَّ ِذينَ ي ْ
[األحزاب]57 :
وكــل هــذا ـ ـ ســيدي ـ ـ ليتحقــق االبتالء بــك للخلــق ،ليتمــيز الصــادقينـ الــذي
يرتضون اصطفاء هللا لك ،ويسلمون لــه ،والــذين يســتكبرون ،ويفعلــون مثلمــا فعــل
إبليس عندما أبى الســجود آلدم ،فـنزلت عليـه اللعنـات ..ذلـك أنـه آمن باهلل ،ولكنـه ـ
ق َمــا يَ َشـا ُء لسوء طالعه ـ راح يناقش هللا فيما ال مجال له فيه ..ولم يعلم أن هللا ﴿:يَ ْخلُ ُ
َويَ ْختَا ُـر َما َكانَ لَهُ ُم ْال ِخيَ َرةُ ُس ْب َحانَ هَّللا ِ َوتَ َعالَىـ َع َّما يُ ْش ِر ُكونَ ﴾ (القصص)68:
ولو أنه نظر إلى هذا الكون الواسع بعين الحكمة والبصيرة ،لرأى كيـف مـيز
هللا بعض خلقه عن بعض وفق عدله وحكمته ورحمته وعلمــه بخلقــه ..فلــذلك جعــل
منهم من يستحقون رئاسة معينة على سائر البشر ،ألنهم في جسم اإلنسانية كالدماغ
والقلب في جسم اإلنسان.
ولــو أنــه نظــر بعين العدالــة اإللهيــة ،لعلم أن هــؤالء المختــارين لم يختــاروا
جزافا ،وإنما بناء على مقتضيات العدالة اإللهيــة الــتي وضــعتهم في كــير االختبــار،
فنجحــواـ فيــه ،كمــا قــال تعــالى عن إبــراهيم عليــه الســالمَ :وإِ ِذ ا ْبتَلَى إِ ْبـ َرا ِهي َم َربُّهُ
ـال اَل يَنَـا ُل َعهْـ ِدي ـال َو ِم ْن ُذرِّ يَّتِي قَ َ ت فَـأَتَ َّمه َُّن قَـا َل إِنِّي َجا ِعلُـكَ لِلنَّ ِ
اس إِ َما ًمـا قَ َ بِ َكلِ َما ٍ
الظَّالِ ِمينَ [ البقرة]124 :
ولــذلك رد هللا تعــالى على أولئــك المشــاغبين المجــادلين الــذين يتوهمــون أن
ـل َمــا تكريمـ هللا مناف لعدالته ،فقالَ ﴿ :وإِ َذا َجا َء ْتهُ ْم آيَةٌ قَالُوا لَ ْن نُ ْؤ ِمنَ َحتَّى نُـ ْـؤتَى ِم ْثـ َ
ْث يَجْ َع ُل ِر َسالَتَهُ ﴾ (األنعام)124 : أُوتِ َي ُر ُس ُل هَّللا ِ هَّللا ُ أَ ْعلَ ُم َحي ُ
لقد قال هللا ذلك لمن أنكروا أن يتفضل هللا عليك ــ ســيدي ــ كمــا تفضــل على
إخوانك من سائر األنبياء والمرسلين.
148
لقد كــان أولئــك الغالظ الجاحــدون ،وهم في كــل األزمنــة ،ينظــرون باحتقــار
إليك ،ألنهم كانوا يتصورون أن الرسول الــذي يختــاره هللا ينبغي أن يكــون من تلــك
ـز َل هَـ َذا ْالقُــرْ آنُ َعلَى الفئة المستكبرة الغنية الوجيهة ،كما قال تعالىَ ﴿:وقَالُواـ لَــوْ ال نُـ ِّ
َر ُج ٍل ِمنَ ْالقَرْ يَتَ ْي ِن َع ِظ ٍيم﴾ (الزخرف ،)31:أو كما يتصورـ اليهود أن هللا تعــالى البــد
أن يختار رسوال من بني إسرائيل ،وكأن بـني إســرائيل وحـدهم خلــق هللا ،وغــيرهم
خلق الشيطان.
ْ َ
لقد رد هللا على هــذا االحتقــار ،فقــال ﴿:أهُ ْم يَق ِسـ ُمونَ َرحْ َمتَ َربِّكَ نَحْ نُ قَ َسـ ْمنَا
ت لِيَتَّ ِخـ َذ بَع ُ
ْضـهُْـم ْض د ََر َجـ ا ٍ ق بَع ٍ بَ ْينَهُ ْم َم ِعي َشتَهُْـم فِي ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َو َرفَ ْعنَا بَع َ
ْضـهُ ْم فَــوْ َ
ك خَ ْي ٌر ِم َّما يَجْ َمعُونَ ﴾ (الزخرف)32: بَعْضا ً س ُْخ ِريّاًـ َو َرحْ َم ُ
ت َربِّ َ
ولهــذا كلــه نص القــرآن الكــريم ،وبنصــوص قطعيــة صــريحة على وجــوب
تكريمك ،واعتبره عالمة اإليمان والصــدق ،واعتــبر خالفــه عالمــة الشــك والــريب
والكفر..
وليس في تكريمـ الخلق لك ـ سيدي ـ أي زيادة لك ،فأنت الغني بربك عن كــل
شيء ..وإنمــا هــو زيــادة لنــا ..فــالقلب ال يعشـقـ إال من يعظمــه ،ويــراه في قمــة قمم
الكمال ،فإن غض منه أو احتقــره ،لم يسـتطع أن يحبـه ..وإن لم يحبـه لم يسـتطع أن
يستفيد منه.
ولذلك أمرنا هللا تعالى بالصالة والسالم عليك ،حتى نتملئ بتعظيمكـ وذكــرك
كل حين ..فتكون صالتنا لك هي معراج قربناـ منك ..وقربنا منك هــو معــراج قربنـاـ
ُصـلُّونَ َعلَى النَّبِ ِّي يَــا أَيُّهَــا الَّ ِذينَ آ َمنُــوا من هللا ..قال هللا تعــالى :إِ َّن هَّللا َ َو َماَل ئِ َكتَـهُ ي َ
صلُّوا َعلَ ْي ِه َو َسلِّ ُموا تَ ْسلِي ًما[ األحزاب]56 : َ
لقد علمت ـ سـيدي ــ ومن خالل التجربـة والواقـعـ أن انشـغال القلب واللسـان
بالصالة عليك أكبر مصدرـ للسعادة والراحة والطمأنينة ..وهي بمثابــة انفتــاح القلب
على عـالم الملكـوت ..أو بمثابـة فتح النوافـذ إلى تلـك العـوالم المقدسـة الـتي يخفيهـا
الدنس الـذي نعيشـه ..ولـذلك كــان تكــريم هللا تعــالى لـك بالصــالة عليـك تكريمـا لنــا
أيضا ..فمن يصلي عليك ،سينال ال محالة صالتك عليه ،بل صالة هللا عليه.
فبالصالة عليك نذكرك ..وبذكرك نتعـرفـ عليـك ..وبـالتعرفـ عليـك نحبـك..
وبحبك نصل إليك ..وبالوصولـ إليك ننال كل خير في الدنيا واآلخرة.
إن المكروب منا يصلي عليك ،فيجد من لذة األنس بك ما يشغله عن كربه.
وإن صاحب الحاجة منا تنسد في طريقه األبــواب ،فــإذا صــلى عليــك فتح هللا
عليه مغاليقها.
لقد عرفنا هذا بالتجربة ،وعرفناه من خالل أحاديثك الكثيرة الــتي تحثنــا فيهــا
على الصالة عليك ،لعلمك بأنها طريقـ من طرقـ الوصول ..ومن ســار في الطريــق
وصل.
لقد أخبرتنا أن أول جــزاء ينالــه من صــلى عليــك أن يصــلي هللا عليــه ،فقلت:
149
(من صــلى علي صــالة واحــدة صــلى هللا عليــه عشــر صــلوات ،وحــط عنــه عشــر
خطيئات)()1
وقلت( :إنه أتاني الملك فقال :يا محمد أما يرضيك أن ربــك عــز وجــل يقــول
إنه ال يصلي عليك أحد من أمتك إال صـليت عليــه عشـرًا ،وال يسـلم عليـك أحـد من
أمتك إال سلمت عليه عشرًا؟ قلت :بلى)()2
بل ورد في حــديث آخــر مــا هــو أعظم من ذلــك كلــه ،فقــد قلت تحكي عن هللا
تعالى( :من صلى عليك صليت عليه ،ومن سلم عليك سلمت عليه)()3
هل هناك ـ سيدي ـ تكريمـ أعظم من هذا التكريم ..هللا خالق كل شيء ،ومالــك
كل شيء ،وملك كل شـيء يقـول لنـا هـذا ،ويربــط صـالته وسـالمه علينـا بصـالتنا
وسالمناـ عليك.
ولم يكن ذلك هو الجــزاء الوحيــد لمن يتشــرفـ بالصــالة عليــك ،فقــد ورد في
الحديث أن المالئكــة ال تــزال تصــلي على من يصــلي عليــك ،فقــد قلت( :من صــلى
علي صــالة لم تــزل المالئكــة تصــلي عليــه مــا صــلى علي ،فليقــل عبــد من ذلــك أو
ليكثر)()4
وأخبرت أن الذين يصلون عليك هم أولى الناس بك ،وبشفاعتك يــوم القيامــة،
فقلت( :إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صالة)()5
وقلت( :إذا سمعتمـ المؤذن ،فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي ،فإنه من صلى
علي صالة صلى هللا عليه بها عشرا ،ثم سلوا لي الوسيلة فإنهــا منزلــة من الجنــة ال
تنبغي إال لعبد من عباد هللا وأرجوـ أن أكون أنا هــو ،فمن ســأل هللا لي الوســيلة حلت
له الشفاعة)()6
وقلت ـ تعلمنا كيفية الصالة عليك ــ( :من قـال :اللهم صـل على محمـد وعلى
آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم ،وباركـ على محمــد وعلى آل محمــد
كمــا بــاركت على إبــراهيم وآل إبــراهيم ،وتــرحمـ على محمــد وعلى آل محمــد كمــا
ترحمت على إبراهيم وآل إبراهيم ،شهدت له يوم القيامة بالشهادة وشفعت له)()7
وأخبرت عن األجور الكثيرة بأنواعها المختلفة التي أعــدها هللا لمن يصــلون
)(1رواه أحمد.
)(2رواه أحمد وابن حبان ،وفي رواية أخرى رواهــا أحمــد والنســائي عن أبي طلحــة األنصــاري قــال :أصــبح
رسول هللا يو ًمــا طيب النفس يــرى في وجهــه البشــر ،قــالوا :يــا رســول هللا أصــبحت اليــوم طيب النفس يــرى في
وجهك البشر ،قال «:أجل ،أتاني آت من ربي عز وجل فقال :من صلى عليك من أمتك صـالة كتب هللا لـه بهـا عشـر
حسنات ،ومحا عنه عشر سيئات ،ورفع له عشر درجات ،ورد عليه مثلها»
)(3رواه أحمد والحاكم..
)(4رواه أحمد وابن أبي شيبة وابن ماجه.
)(5رواه الترمذي وابن حبان.
)(6رواه مسلم وأبو داود والترمذي.
)(7رواه البخاري.
150
مخلصـا من قلبـه صــلى هللا عليـه بهــا
ً عليك ،فقلت( :من صلى علي من أمتي صالة
عشر صلوات ،ورفعه بها عشر درجات ،وكتب له بها عشــر حســنات ،ومحــا عنــه
بها عشر سيئات)()1
ولم يكن جزاء الصالة عليك تلك األجور األخرويــة فقـط ،بـل أخــبرت أن هللا
تعالى يجازي المصلين عليك بأجور الـدنيا أيضـا ..وكيـف ال يفعـل ذلـك ..وهللا رب
الدنيا واآلخرة ..فقد ورد في الحديث أن بعض أصحابكـ قـال لـك :كم أجعـل لــك من
صالتي؟ فقلت له( :ما شـئت) ،قـال :الربـع؟ قلت( :مـا شــئت ،فـإن زدت فهــو خـير
لــك) ،قــال :النصــف؟ قلت( :مــا شــئت وإن زدت فهــو خــير لــك) ،قــال :أجعــل لــك
صالتي كلها؟ قلت( :إذا يُكفي همك ،ويغفر ذنبك)()2
وفي حديث آخر قال لك بعضهم :يا رسولـ هللا أرأيت إن جعلت صالتي كلهــا
عليك؟ فقلت له( :إذا يكفيك هللا تبارك وتعالى ما أهمك من دنياك وآخرتك)()3
ولهذا اعتبر الصالحون الصالة عليك مفتاحا إلجابة الدعاء ،وقــد قــال اإلمــام
علي( :كل دعاء محجوب حتى يصلى على محمد )4()
ولهذا علمتنا ـ سيدي ــ كيــف نمــزج في دعائنــا بين مطالبنــا الشخصــية وبين
الصالة عليك ،ففي الحديث أنك سمعت رجال يدعو في صالته من غير أن يمجد هللا
تعالى أو يصلي عليك ،فقلت( :عجل هذا) ،ثم دعوته ،وقلت له( :إذا صــلى أحــدكم،
فليبدأ بتمجيد ربه سبحانه والثناء عليه ،ثم يصلي علي ،ثم يدعو بعد بما شاء)()5
وحدث بعضهم عن نفسه قــال( :كنت أصــلي والنــبيـ ،فلمــا جلســت بــدأت
بالثناء على هللا ثم الصالة على النــبي ثم دعــوت لنفســي ،فقــال النــبي ( :ســل
تعطه ،سل تعطه)()6
فيا سيدي يا رسول هللا ..يا صــاحب الجــاه العظيم ،والمقــام الرفيــع ،والمكانــة
الشريفة الرفيعة ،أسألك وأتوسل بــك إلى هللا أن يجعلــني من المعظمين لــك بقلــوبهم
وعقولهم وأرواحهم وجميــع لطــائفهم ،حــتى تكــون أنت ســراجي الــذي يضــيء لي،
ومعراجي الذي أرقى به.
وأسألك ـ سيدي ـ أن يصير لساني مدمنا على الصالة عليك ،وقلبي مستشعرا
لمحبتك والشوقـ إليك ..وحياتيـ كلها وفـقـ هــديك وســنتك ،حــتى ألقــاك وأنت راض
عني ..فمن رضيت عنه سعد في الدنيا واآلخرة.
)(1عن (اإلسالم نهر يبحث عن مجرى) الدكتور شوقي أبو خليل (.)15
156
والمساواة االجتماعية ،وأحل النظام والتناسقـ والطاعة والعــزة في أقــوامـ ال تعــرف
غير الفوضى)
وقال عنك رجل الدولة والسياسي األلماني [بســمارك]( :يــا محمــد أنــا متــأثر
جداً إذ لم أكن معاصراً لك! إن البشرية رأت قـدوة ممتـازة مثلـك مـرة واحـدة ،وأنـا
أعظمك بكمال االحترام)
وقال عنك المؤرخ والشاعر اإلنجليزي [كريستوفرـ دارسون]( :إن األوضاعـ
العالمية تغيرت تغيراً مفاجئا ً بفعل فرد واحد ظهر في التاريخ هو محمد)
وقال عنك الباحث الفرنسي [كليمان هوارت]( :لم يكن محمد نبيا ً عادي ـاً ،بــل
استحق بجــدارة أن يكــون خــاتم األنبيــاء ،ألنــه قابــل كــل الصــعاب الــتي قــابلت كــل
األنبياء الذين سـبقوه مضـاعفة من بـني قومـه … نـبي ليس عاديـا ً من يقسـم أنـه (لـو
سرقت فاطمة ابنته لقطع يـدها)! ولـو أن المسـلمين اتخـذوا رسـولهمـ قـدوة في نشـر
الدعوة ألصبح العالم مسلماً)
هــذه ســيدي قطــرات من بحــر كلمــات الــذين أعجبــوا بــك ،وأحبــوك ،ولــو لم
يكونواـ على دينك ..ومن ذا يملك أن يعرفك ،ثم ال يمتلئ قلبه حبا لـك ...وهـل هنـاك
من ال يستطيع أن يحب الزهرة الجميلة التي تفوح بكل أنواع األريج العطر؟ ..وأين
منك الزهرة وأريجهاـ وجمالها ..وهو ال يساويـ قطرة من بحر جمالك؟
لقد رأيت ـ ســيدي ــ كــل العقالء مجمعين على تعظيمــك ،حــتى أولئــك الــذين
ناصــبوك العــداء في فــترة مــا من حيــاتهم ،وقبــلـ أن يعرفــوك..ـ لكنهم بمجــرد أن
عرفوك ،راحوا يعتذرون إليك ،مثلما فعل الفيلسوفـ الفرنسـي [فولتــير] الـذي أعلن
توبته عن مواقفه منــك ومن دينــك ..لكن المغرضــين والحاقــدين تناســواـ أقوالــه بعــد
توبته ،وراحوا ينشرون أقواله قبل توبته.
لقد ذكر في توبته سبب بغضه لك وأنه كان ضحية ألفكارـ سائدة خاطئـة كـان
ينشــرها الحاقــدون عنــك ،فقــال( :قــد هــدم محمــد الضــالل الســائد في العــالم لبلــوغ
الحقيقة ،ولكن يبدو أنه يوجد دائما ً من يعملون على استبقاء الباطل وحماية الخطأ)
وقال في قاموسه الفلســفي( :أيهــا األســاقفة والرهبــان والقسيســون إذا فُــرض
عليكم قــانون يحــرمـ عليكم الطعــام والشــراب طــوال النهــار في شــهر الصــيام..ـ إذا
فرض عليكم الحج في صحراء محرقــة ..إذا فُــرض عليكم إعطــاء 2،5بالمائــة من
مــالكم للفقــراء ..إذا ُحـ رِّم عليكم شــرب الخمــورـ ولعب الميســر ..إذا كنتم تتمتعــون
بزوجاتـ تبلغ ثماني عشــرة زوجــة أحيانـاً ،فجــاء من يحــذف أربــع عشــرة من هــذا
لذات؟!) العدد ،هل يمكنكم االدعاء مخلصين بأن هذه الشريعة شريعة ّ
وقال( :لقد قام الرسولـ بأعظم دور يمكن إلنســان أن يقوم بــه على األرض..
إن أقل ما يقال عن محمد أنه قـــد جاء بكتاب وجاهــد ،واإلســالمـ لم يتغــير قــط ،أمــا
أنتم ورجال دينكم فقد غيرتم دينكم عشرين مرة)
سيدي يا رسول هللا ..لسنا نحن البشر ..وال المالئكة ..وال كــل أولئــك العقالء
157
من العوالم األخــرى ..وحــدهم من عرفــوا قــدرك ،وبجلــوكـ وكرمــوك..ـ بــل إن كــل
شيء فعل ذلك ..فقد بث هللا محبتك في قلوب الكائنات ..حتى تلك التي نتـوهم أنـه ال
عقول وال قلوب لها ..وهــل يعقــل أن يخلــق هللا شــيئا من دون أن يكــون لـه عقـل أو
قلب؟ ..لكن كبرياءنا جعلنا نتوهم أن العقل لن يكــون إال في جهــاز عصــبي ،والقلب
لن يكون إال في جهاز دوري.ـ
لقد ورد في الروايات الكثيرة المتواترة الــتي ال يــؤمن بهــا إال الصــادقون في
إيمانهم ،أولئك الذين يعلمون أن قدرة هللا ال يعجزها شيء ..ما يدل على أن األرض
بحجارتهــا وأشــجارهاـ وحيواناتهــا ،كـانت تظهـر لــك ــ سـيدي ــ كـل ألــوان المـودة
والحنين والحب..
فقـد أخـبرت عن جبــل أحـد ،وحبــك لـه ،وحبـه لــك ،فقلت( :هــذا جبــل يحبنـا
ونحبه)()1
ووصلناـ بأسانيد كثيرة( )2أنك كنت تخطب إلى جــذع نخلــة ،فاتخــذ لــك منــبر
بدله ،فلما فارقت الجذع ،وغدوت إلى المنبر الذي صنع لك حن لك كما تحن الناقة،
فــنزلت إليــه ،فضــممته إليــك ،فســكن ،وقلت عنــه( :لــو لم أحتضــنه ،لحن إلى يــوم
القيامة) ()3
لقد عبر الشاعر عن ذلك الحنين الذي أبداه لك الجذع ،فقال:
و يـــذرفـ دمعـــه حزنـــا ً يحن الجذع من شــوق إليك
عليــــــــــــــــــــــــــــــــك
لفقــد حــديثكم وكــذا يــديك و يجهش بالبكاء وبالنحيبـ
و حلمي أن أقبــل مقلتيــك فمــالي ال يحن إليــك قلــبي
و ينعم نــــــــــــاظري من و أن ألقاك في يــوم المعــاد
وجنتيــــــــــــــــــــــــــــكـ
و أبذل مهجتي دوما ً فداك فداك قرابتي وجميـع مـالي
إذا بــــــذلت حيــــــاتي في تــــــدوم ســــــعادتي ونعيمـ
رضــــــــــــــــــــــــــــــاكـ روحي
فحبي ال يحــق في ســماك حـــــبيب القلب عـــــذرا ال
تلمــــــــــــــــــــــــــــــــني
)(1رواه البخاري ومسلم.
)(2روى القصــة جمــع من الصــحابة ،منهم أبي بن كعب رواه الشــافعي وأحمــد وابن ماجــه والبغــوي وابن
عساكر،ومنهم أنس بن مالك رواه أحمد والترمذي وصححه وأبو يعلى والبزار وابن ماجه وأبــو نعيم من طــرق على
شرط مسلم ،ومنهمـ بريــدة ،رواه الــدارمي ،وجــابر بن عبــد هللا ،رواه أحمــد والبخــاري والترمــذي ،والمطلب بن أبي
وداعة ،رواه الزبير بن بكار ،وأبو سعيد الخدري ،رواه عبد بن حميد وابن أبي شيبة ،وأبو يعلى وأبو نعيم بسند على
شرط مسلم ،وعائشــة رواه الطــبراني والــبيهقي ،وأم سـلمة رواه أبــو نعيم والـبيهقي بإســناد جيــد ..كلهــا روي بألفـاظ
متقاربة المعنى وهو بذلك حديث متواترـ المعنى.
)(3الدارمي ( )39و ( ،)1563وابن ماجه ( ،)1415والطبراني ( ،)12841والبيهقي .2/558
158
و أطمح أن أُقـــــــرب من ذنـــوبي أقعـــدتنيـ عن علو
عالك
فتجـــبرـ مـــا تصـــدع من لعل محبتي تسمو بــروحيـ
هــــــــــــــــــــــــــــــــواك
وقد ورد ــ ســيدي ــ من الروايــات مــا يــدل على شــهادة تلــك الكائنــات الــتي
نتهمها بعدم العقل لك في الوقت الذي جحدك فيه الغافلون قساة القلوب ،ففي الحديث
عن جابر قال :أقبلنا مع رسول هللا من سفر حتى إذا دفعناـ إلى حائط بني النجار
إذا فيه جمل ال يدخل أحد إال شد عليــه ،فــذكر ذلــك لرســولـ هللا فجــاء حــتى أتى
الحائط فدعا البعير ،فجــاء واضــعا مشــفره إلى األرض حــتى بــرك بين يديــه ،فقــال
النبي ( :هاتوا خطامه) ،ودفعه إلى صاحبه ثم التفت إلى الناس ،فقــال( :إنــه ليس
شئ بين السماء واألرض إال يعلم أني رسولـ هللا إال عاصي االنس والجن)()1
وقــدـ روي بأســانيدـ مختلفة( ،)2أنــك مــررت على قــوم قــد اصــطادوا ظبيــة
فشدوها على عمود فشطاط فقالت :يا رسول هللا أخذت ولي خشفان في البرية ،وقــد
انعقد اللبن في أخالفي ،فال هو يذبحني فأستريح ،وال يدعني ،فأرجع إلى خشفي في
البرية)( ،)3فقلت لهــا( :إن تركتـكـ تــرجعين؟) ،قــالت( :نعم ،وإال عــذبني هللا عــذابا
أليما) ،فقلت( :أين صاحب هذه؟) ،فقال القوم :نحن يا رسول هللا ،فقلت( :خلوا عنها
حــتى تــأتي خشــفها ترضــعهاـ وترجــعـ إليكم) ،فقــالوا :من لنــا بــذلك؟ قلت( :أنــا)،
فأطلقوهــاـ فــذهبت فأرضــعت ثم رجعت إليهم فأوثقوهــا ،فمــررتـ بهم فقلت( :أين
صاحب هذه؟) ،قالوا :هوذا نحن يا رسول هللا ،فقلت( :تبيعونها؟) ،فقالوا :هي لك يا
رسول هللا ،فقلت( :خلـوا عنهـا) ،وأطلقوهـا ،فــذهبت ،وهي تضـرب برجلهــا فرحـاـ
وتقول( :أشهد أن ال إله إال هللا ،وأنك رسول هللا)
سيدي ..لقد رأيت من قوميـ من يضحك على مثل هذا ..ولست أدري ما الذي
س َوالطَّ ْيـ ِ
ـر ُش َر لِ ُس ـلَ ْي َمانَ ُجنُــو ُدهُ ِمنَ ْال ِجنِّ َواإْل ِ ْن ِ يضحكه ،وهو يقرأ قوله تعالىَ :وح ِ
َ
ت نَ ْملَ ـةٌ يَاأيُّهَــا النَّ ْمـ ُل ا ْد ُخلُــوا فَهُ ْم يُوزَ ُعــونَ (َ )17حتَّى إِ َذا أَتَــوْ ا َعلَى َوا ِد النَّ ْمـ ِ
ـل قَــالَ ْ
اح ًكاـ ِم ْن ضـ ِ َم َس ـا ِكنَ ُك ْـم اَل يَحْ ِط َمنَّ ُك ْـم ُس ـلَ ْي َمانُ َو ُجنُــو ُدهُ َوهُ ْم اَل يَ ْش ـ ُعرُونَ ( )18فَتَبَ َّس ـ َم َ
ي َوأَ ْن أَ ْع َمـ َل ي َو َعلَى َوالِ َد َّ ك الَّتِي أَ ْن َع ْمتَ َعلَ َّ قَوْ لِهَاـ َوقَا َل َربِّ أَوْ ِز ْعنِي أَ ْن أَ ْش ُك َر نِ ْع َمتَ َ
ك فِي ِعبَا ِدكَ الصَّالِ ِحينَ [ النمل- 17 :ـ ]19؛ فهــل ضاهُ َوأَ ْد ِخ ْلنِي بِ َرحْ َمتِ َـ
صالِحًا تَرْ ََ
كان سليمان عليه السالم أعلم منك بلغـة هــذه الكائنـات ..وهـو ليس ســوى تلميــذ من
تالميذك ..فأنت سيد المرسلين ،وأشرفـ خلق هللا أجمعين.
ليس ذلك فقط سيدي ..بــل إن الروايــات الكثــيرة تــذكر شــهادة الحصــى لــك..
وليس ذلك بمستغرب ،وقدـ قال هللا تعالى :لَوْ أَ ْنزَ ْلنَــا هَـ َذا ْالقُــرْ آنَ َعلَى َجبَـ ٍل لَ َرأَ ْيتَـهُ
)(1رواه مسلم.
)(2رواه الطبراني والبيهقيـ وأبو نعيم.
)(3وفي رواية أنس :كنا مع رسول هللا في بعض سكك المدينـة فمررنـا بخبـأ أعـرابي وإذا بظبيـة مشـدودة
إلى الخباء ،فقالت :يا رسول هللا ،إن هذا االعرابي اصطادني.
159
اس لَ َعلَّهُ ْم يَتَفَ َّكرُونَ خَشــيَ ِة هَّللا ِ َوتِ ْلــكَ اأْل َ ْمثَــا ُل ن ْ
َضــ ِربُهَا لِلنَّ ِ َصــ ِّدعًا ِم ْن ْ
خَاشــعًا ُمت َ
ِ
[الحشر]21 :
لقد قال بعض أصحابكـ يحدث عن بعض ذلــك :قــدم ملــوك حضــرموت على
رسول هللا وفيهمـ االشعث بن قيس ،فقالوا إنــا قــد خبأنــا لــك خبــأ فمــا هــو؟ قــال:
(سبحان هللا إنما يفعل هذا الكاهن والكهانة في النار) ،فقالوا :فكيفـ نعلم أنك رســول
هللا عز وجل ،فأخــذ رســول هللا كفــا من حصــى ،فقــال( :هــذا يشــهد أني رســول
هللا) ،فسبح الحصى في يده ،فقالوا :نشهد أنك رسول هللا عز وجل(.)1
وحدث آخر قال :كنــا نأكــل مــع رســول هللا فنســمع تســبيح الطعــام ،وهــو
يؤكل(.)2
وحــدث آخــر قــال :أتي رســول هللا بطعــامـ ثريــد ،فقــال( :إن هــذا الطعــام
يسبح) ،قالوا :يا رسول هللا ،وتفقــه تســبيحه ،قــال( :نعم) ،ثم قــال لرجــل( :ادن هــذه
القصعة من هذا الرجل) ،فأدناها منه فقــال :نعم ،يــا رســول هللا ،هــذا الطعــام يســبح
فقال( :ادنها من آخر) وأدناهـا منـه فقـال :هـذا الطعـام يسـبح ثم قـال( :ردهـا) فقـال
رجل :يا رسول هللا ،لو أمرت على القوم جميعا ،فقال( :ال إنها لو سكتت عند رجــل
لقالوا :من ذنب ردها) ،فردها(.)3
وقــد ورد في الروايــات واألحــاديث الكثــيرة أنهــا لم تكن تكتفي بالشــهادة لــك
فقط ،وإنما كانت تحييك وتبجلك وتسجد تكريماـ لك ،فعن اإلمام علي قــال :كنت مــع
رسول هللا بمكة فخرجناـ في بعض نواحيها ،فما استقبله جبل وال شــجر إال قــال:
السالم عليك ،يا رسول هللا(.)4
وعن بــرة بنت أبي تجــراة قــالت :إن رســولـ هللا حين أراد هللا كرامتــه
وابتدأه بالنبوة كان إذا خرج لحاجتــه أبعــد حــتى ال يــرى بيتــا ويفضـيـ إلى الشــعاب
وبطون األودية ،فال يمر بحجر وال شجر إال قال :السالم عليك يا رسول هللا ،وكــان
يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فال يرى أحدا(.)5
وذكر جابر بن عبـد هللا جمال جـاء إليـك ،فلمـا كـان قريبـا منـك خـر سـاجدا،
فقلت( :يا أيها الناس ،من صاحب هذا الجمل؟) ،فقال فتية من األنصــار:ـ هــو لنــا يــا
رسول هللا ،فقلت( :فما شأنه؟) ،قالو :سنونا عليــه عشــرين ســنة ،فلمــا كــبرت ســنه،
أردنا نحره ،فقلت( :تبيعونه؟) ،فقالوا :هو لك يا رسول هللا فقلت( :أحسنواـ إليه حتى
يأتيه أجله) ،فقــالوا :يــا رســول هللا ،نحن أحــق أن نســجد لــك من البهــائم ،فقلت( :ال
162
أطرت النصارىـ المسيح ابن مريم فإنما أنا عبد ،فقولوا عبد هللا ورسوله)(،)1
وقلت في حديث آخر مبينا فضل عبودية هللا على كل شيء( :أتــاني ملــك إلى
حجرة الكعبة ،فقال :إن ربك يقرئك الســالم ،ويقــول لــك :إن شــئت كنت نبيــا ،ملكــا
وإن شئت نبيا عبدا ،فقلت :نبيا عبدا)()2
لقــد تجلت ــ ســيديـ ــ عبوديتـكـ هلل في كــل شــيء ..ابتــداء من حرصــك على
الشعائرـ التعبدية التي كنت تؤديها بخشوع عظيم ..بـل بشـوق عظيم ..وكنت تقضـي
معها معظم ليلك ،بعد ذلك النهار الطويل الممتلئ بالمشاق والمتاعب.
وقد كان ذلك منــك ــ ســيدي ــ منــذ األيــام األولى من إرســال هللا لــك ..حينهــا
أمرك بأن تقوم أكثر الليل ،وأن تكثر من ذكره ،وأن تتبتل إليه تبتيال ،فقال :يَا أَيُّهَا
ْال ُم َّز ِّم ُل ( )1قُ ِم اللَّي َْل إِاَّل قَلِياًل ( )2نِصْ فَهُ أَ ِو ا ْنقُصْ ِم ْن ـهُ قَلِياًل ( )3أَوْ ِز ْد َعلَ ْي ـ ِه َو َرتِّ ِل
طئًــا َاشـئَةَ اللَّ ْيـ ِل ِه َي أَ َشـ ُّد َو ْ ك قَــوْ اًل ثَقِياًل ( )5إِ َّن ن ِ ْالقُرْ آنَ تَــرْ تِياًل ( )4إِنَّا َسـنُ ْلقِي َعلَ ْيـ َ
ار َس ْبحًا طَ ِوياًل (َ )7و ْاذ ُك ِـر ا ْس َم َربِّكَ َوتَبَتَّلْ إِلَيْــ ِه تَ ْبتِياًل َوأَ ْق َو ُم قِياًل ( )6إِ َّن لَكَ فِي النَّهَ ِ
ب اَل إِلَهَ إِاَّل ه َُو فَاتَّ ِخ ْذهُ َو ِكياًل [ المزمل]9 - 1 : ق َو ْال َم ْغ ِر ِ(َ )8ربُّ ْال َم ْش ِر ِ
وقـدـ ظــل ذلــك ديــدنك طيلــة حياتــك ..فويــل ألولئــك الــذين راحــوا يتهمونـكـ
باالستغراق في الدنيا ،وهم يرونـكـ في نهــارك داعيــة ومجاهــدا وقائــدا ..وفي ليلــك
متبتال وقانت ـاـ وعابــدا ..فهــل يمكن لمن يكــون هــذا حالــه أن يكــون لــه ادنى اهتمــام
بالدنيا؟
ليت أولئك الذين ال يعرفونكـ راحــوا يقــرؤون تلــك األوامــر اإللهيــة الخاصــة
بك ،والــتي تــأمرك بالقيــام والتهجــد هلل ،في الــوقت الــذي أعفيت أمتــك فيــه من هــذا
ك َمقَا ًمــا ك َربُّ َ َسـى أَ ْن يَ ْب َعثَـ َ
التكليف( ،)3قال تعالىَ :و ِمنَ اللَّي ِْل فَتَهَ َّج ْد بِ ِه نَافِلَةً لَــكَ ع َ
َمحْ ُمو ًداـ[ اإلسراء]79 :
ك تَقُــو ُم وليتهم قرأواـ معهــا شــهادة هللا لــك بــذلك ،حيث قــال :إِ َّن َربَّكَ يَ ْعلَ ُم أَنَّ َ
أَ ْدنَى ِم ْن ثُلُثَ ِي اللَّ ْي ِل َونِصْ فَهُ َوثُلُثَهُ َوطَائِفَةٌ ِمنَ الَّ ِذينَ َم َعكَ َوهَّللا ُ يُقَ ِّد ُر اللَّي َْل َوالنَّهَا َـر َعلِ َم
َاب َعلَ ْي ُك ْم [ المزمل]20 : أَ ْن لَ ْن تُحْ صُوهُ فَت َ
وليتهم قرأواـ معها تلك الشهادات الكثيرة التي شهد بها من عايشوك ،ليعرفــوا
سر تفطر أقدامك ،وأنت قائم وراكع وساجدـ لربك.
فقد حدث صاحبك حذيفة عن ليلة من ليــالي تعبــدك لربــك ،وكيــف حــاول أن
يتأســى بــك فيهــا ،لكنــه عجــز عن ذلــك ،فقــال :قــام النــبي ليلــة وهــو يصــلي في
المسجد ،فقمت أصلي وراءه يخيل إلي أنه ال يعلم ،فاستفتح بسورة البقرة ،فقلت :إذا
)(1رواه البخاري.
)(2رواه البيهقي.
)(3قال ابن كثير في [تفسيره (/5ـ ])103واختلف في معنى قوله :نافلــة لك فقيــل :معنــاه أنــك مخصــوص
بوجوبـ ذلك وحـدك ،فجعلـوا قيـام الليـل واجبـا في حقـه دون األمـة .رواه العـوفي عن ابن عبـاس ،وهـو أحـد قـولي
العلماء ،وأحد قولي الشافعي ،رحمه هللا ،واختاره ابن جرير.
163
جاء مائة آية ركــع ،فجاءهـا فلم يركـع ،فقلت :إذا جــاء مـائتي آيـة ركــع فجاءهــا فلم
يركع ،فقلت :إذا ختمها ركع فختمهاـ فلم يركع فلما ختم ،قــال( :اللهم لــك الحمــد) ،ثم
استفتح آل عمران فقلت :إذا ختمها ركع فختمها ولم يركع وقال( :اللهم لــك الحمــد)،
ثم استفتح النساء ،فقلت :إذا ختمها ركع ،فختمهاـ فلم يركع وقــال( :اللهم لــك الحمــد)
ثالثا ثم استفتح بسورة المائدة ،فقلت :إذا ختمها ركع ،فختمها فركــع فســمعته يقــول:
(سبحان ربي العظيم) ،ويرجع شفتيه فأعلم أنه يقــول غــير ذلــك ،فال أفهم غــيره ،ثم
استفتح بسورة األنعام ،فتركته وذهبت(.)1
وذكــر موقفــا آخــر ،فقــال :أتيت رســول هللا ذات ليلــة ألصــلي بصــالته،
فاستفتح الصالة فقرأ قــراءة ليســت بالرفيعــة وال الخفيفــة ،قــراءة حســنة يرتــل فيهــا
يسمعنا ،قال :ثم ركع نحوا من سورة قال ثم رفع رأســه فقــال( :ســمع هللا لمن حمــده
ذو الجبروت والملكوت والكبرياءـ والعظمة) ،ثم قام نحــوا من ســورة ،وســجد نحــوا
من ذلك حتى فرغ من الطول وعليه سواد من الليل(.)2
وذكر موقفا آخر ،فقال :لقد لقيت رسولـ هللا بعد العتمة ،فقلت :يــا رســولـ
هللا ائذن لي أن أتعبد بعبادتك فــذهب وذهبت معــه إلى البــئر ،فأخــذت ثوبــه فســترتـ
عليــه ،ووليتــه ظهــري ،ثم أخــذ ثــوبي فســترـ علي حــتى اغتســلت ،ثم أتى المســجد
فاستقبل القبلة ،وأقامني عن يمينه ،ثم قرأ الفاتحة ،ثم استفتح سورة البقرة ،وال يمــر
بآية رحمة إال سأل هللا ،وال آية تخويفـ إال استعاذ ،وال مثل إال فكر حــتى ختمهــا ثم
كبر ،فرفع ،فسمعته يقول في ركوعه( :سبحان ربي العظيم) ويردـ فيــه شــفتيه حــتى
أظن أنه يقول( :وبحمده) ،فمكث في ركوعه قريباـ من قيامه ،ثم رفع رأســه ثم كــبر
فســجد فســمعته يقــول في ســجوده( :ســبحان ربي األعلى) ويــرد شــفتيه ،فــأظن أنــه
يقول( :وبحمده) ،فمكث في سجوده قريباـ من قيامه ،ثم نهض حين فرغ من ســجدته
فقرأ فاتحة الكتاب ،ثم استفتح (آل عمران) ال يمر بآيـة رحمــة إال ســأل وال مثـل إال
فكــر ،حــتى ختمهــا ،ثم فعــل في الركــوع والســجود كفعــل األول ،ثم ســمعت النــداء
بالفجر ،قال حذيفة :فما تعبدت عبادة كانت علي أشد منها(.)3
وذكر موقفا آخر ،فقــال :صــليت مــع رســولـ هللا من الليــل فلمــا دخــل في
الصالة قال( :هللا أكبر ،سبحان ذي الملك والجـبروتـ والكبريـاء والعظمـة) ،ثم قـرأ
(البقرة) قراءة ليست بالخفيضة وال بالرفيعة ،حسنة يرتــل فيهــا ليســمعنا ،ثم يركــع،
فكان ركوعه نحــوا من قيامــه ،وكــان يقــول( :ســبحان ربي العظيم) ثم يرفــع رأســه
فكان قيامه نحوا من ركوعه وهو يقول( :ســمع هللا لمن حمــده) ،ثم قــال( :الحمــد هلل
ذي الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة) ،فكان سجوده نحــوا من قيامــه ،وكــان
يقول (سبحان ربي األعلى) ثم رفع رأســه ،وكــان بين الســجدتين نحــوا من الســجود
ســيدي يــا رســول هللا ..أيهــا العفيــف الزاهــد ..الــذي تــزينت لــه الــدنيا بكــل
محاسنها ،وتعرضت له بجميع مباهجها ..فراح يعرض عنها بكل كيانــه ،مقبال على
ربه ،منشغال بما طوق به عنقه من أصناف التكاليف.
لقد رحت ـ سيدي ـ أتأمل حياتك ،وكيف كنت تعيش في مكة الــتي كرمهــا هللا
بنشأتك فيها ،والمدينة التي نورها هللا بهجرتك إليها ..فوجــدت حياتــك وحــدها أكــبر
دليل على نبوتك وعظمتك واصطفاء هللا لك ..فحياتك ـ سيدي ـ في فترة االضــطهاد
والحصار والمواجهة ال تختلف في أي شيء عن حياتك في فــترة التمكين والقيــادة..
ففي كليهما كنت الزاهد العفيف الذي يرضى بالعيش القليل الــذي يربــأ عنــه الفقــراء
أنفسهم.
أصدقك ـ سيدي ـ أني مـع تقديسـي وتعظيمي لـك ،تــألمت كثــيرا لتلــك الحيــاة
التي كنت تعيشها ،والتي اختلط فيها الجـوع مـع التعب مـع أنـواع المواجهـات الـتي
كنت تقابلها جميعا بصبرك الجميل ،ورضاك عن ربك الذي ال حدود له.
ولم يكن ذلــك ســبب ألمي الوحيــد؛ فأنــا أعلم أنــك تعيش في عــوالم الجمــال
والكمال التي تجعلك ترى الدنيا كلها بصورتها الحقيقية الممتلئة بالزيف والخديعــة..
لكني أتألم ألولئك المجازفين بهجرانك ،المصدقين لدعاوى الحاقدين عليك.
ولو أنهم ـ سيدي ـ نظروا إلى حياتك المليئة بكــل ألــوان المشــاق والمتــاعب..
والتي كنت تــأوي منهــا إلى بيتــك البســيط الــذي ال يختلــف عن بيــوت أفقــر الفقــراء
والمساكين ..لو رأوا ذلك لكفاهم في الداللة على صدقك.
فهل يمكن لمدع وكاذب ومخادع أن يبــذل حياتــه جميعــا مضــحيا ،ثم ال ينــال
من الحياة إال ذلك الشظف والمعاناة التي وصفها بعض أصحابك عندما دخل عليك،
فرآك متكئا على رمال حصير قد أثر في جنبك؛ فرفع رأسه في البيت ،فما رأى فيه
شيئا يرد البصر ،إال ثالثة بسط معلقة ،وصبرة من شعير ،فهملت عينــاه ،فقلت :مــا
لك؟ فقال :يا رسول هللا أنت صفوة هللا من خلقه ،وكسرى وقيصر فيمــا همــا فيــه؟..
فقلت لــه بكــل هــدوء( :أفي شــك أنت ..أولئــك قــوم عجلت لهم طيبــاتهم في حيــاتهم
الدنيا ،أما ترضى أن تكون لهم الــدنيا ،ولنــا اآلخــرة؟) ،فقــال( :بلى ،يــا رســول هللا،
فأحمد هللا عــز وجــل) ،فقلت لــه( :لــو شــئت أن يســير الجبــال الراســيات معي ذهبــا
لسارت)()1
وحـدث آخـر ،قـال :اضـطجع رسـول هللا على حصـير فـأثر في جنبـه ،فلمـا
استيقظ جعلت أمسح عنه ،فقلت :يا رسول هللا أال آذنتنا فبسطت شيئا يقيك منه ،تنام عليه،
فقال( :ما لي وللدنيا ،ما أنا والدنيا إال كراكب سار في يوم صـائف ،فقـال تحت شـجرة ثم
)(1رواه أحمد وأبو يعلى ،وتمام الرازي ،وابن عساكر وأبو داود الطيالســي ،والترمــذي ،وصــححه ..والجملــة
األخير زادها أبو الحسن بن الضحاك.
167
راح وتركها)()1
لم يكن أولئك ـ سيدي ـ فقط من أخطأ في حقك ..بل هناك غيرهم كثــير ..حــتى أن
هنــاك من راح يــدعي أنــك إذا عــدت إلى الــدنيا للبســت بذلــة عصــرية ،وامتلكت أغلى
السيارات ،وسكنت أرفه القصور ..ولم يلتفت هؤالء المحجوبون بزخارف الــدنيا أن كــل
ذلك ،وفوقه أضعافا مضاعفة أتيح لك ..لكنك كنت ترفض ذلك..
ولواله ـ سيدي ـ لما كنت سـيد الزهـاد وأسـوتهم ،فالـذي بـه فاقـة ضـرورية قـد ال
يفطن لكونه زاهدا ،بل قد يكون راغبا ،والفاقة هي التي جعلته يبــدو من الزهــاد ..ولكنــك
سيدي لم تكن كذلك ..فقد أتيحت لك كل الخيارات ..لقد كان الغنى أمامك ،وبين يديك ..بل
كان الغنى أقرب إليك من الفقر ..والرفاه أقرب إليك من الشظف ..ولكنك ـ سيدي ـ آثرت
حياة الزهاد على حياة المترفين ..ورضيت أن تكون كأبسط النـاس ،لتكـون أسـوة لجميـع
الناس ،وحتى ال يأتي أحد من النــاس ،فيتصــور أن النبــوة وســيلة من وســائل الــثروة ،أو
طريق من طرقها.
لقد حدثت ـ سيدي ـ عن هذا الخيار الذي أتاحـه هللا لـك ،فقلت( :لـو شـئت لسـارت
معي جبال الذهب) ()2
وفي حديث آخر ،قلت( :عــرض علي ربي بطحــاء مكــة ذهبــا ،فقلت :ال يــا رب،
ولكني أجوع يوما ،وأشبع يومـا ،فـإذا شـبعت حمـدتك ،وشـكرتك ،وإذا جعت تضـرعت
إليك ،ودعوتك)()3
وفي حديث آخر روي أنه قيل لـك :يـا رسـول هللا إن شـئت أعطينـاك خـزائن
الدنيا ،ومفاتيحها لم نعطها أحدا قبلـك ،وال نعطيهـا أحـدا بعـدك ،ال ينقصـك ذلـك عنـد هللا
ـاركَ الَّ ِذي ِإ ْن َشـا َء
شيئا ،فقلت( :اجمعوها لي في اآلخرة) ،فأنزل هللا تعالى عليك قولهَ ﴿:ت َب َ
صـور ًا﴾ (الفرقــان)10: َجْري ِم ْن تَحْ ِت َها اأْل َ ْن َهارُ َو َيجْ َعلْ َلــكَ قُ ُ
تت ِ َج َع َل َلكَ خَ يْر ًا ِم ْن َذ ِلكَ َجنَّا ٍ
()4
وفي حديث آخر عن أم سلمة قالت :نام رسول هللا على وسـادة حشـوها ليـف،
فقام وقد أثر بجلده ،فبكيت فقال( :يا أم سلمة ما يبكيك؟) قلت :ما أرى من أثر هذه ،فقــال:
(ال تبكي ،لو أردت أن تسير معي هذه الجبال لسارت)()5
وقد ظل هذا الخيار مفتوحا أمامك جميـع حياتـك ،فقـد حـدث بعض أصـحابك عن
األيام األخيرة لك ،فذكر أنك جلست على المنبر ،فقلت( :إن عبدا خيره هللا تعالى أن يؤتيه
من زهرة الدنيا وما عنده ،فاختار ما عنده)()6
)( 1رواه أحمد وأبو يعلى ،وتمام الرازي ،وابن عساكر وأبو داود الطيالسي ،والترمذي.
)(2رواه ابن عساكر.
)( 3رواه ابن سعد ،والترمذي ،وأبو الشيخ عن أبي هريرة وابن سعد وابن حبان عن أبي أمامة.
)(4تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر ()243 /19
)(5رواه أبو ذر الهروي.
)(6رواه البخاري ،وغيره.
168
بل إنك ـ سيدي ـ كنت تدعو هللا كل حين ،وفي تلك الظـروف الصـعبة أن يرزقـك
هللا القوت والكفاف من غير أن يتجاوزهما ،فقـد كنت تقـول(:اللهم اجعـل رزق آل محمـد
قوتا)()1
بـل إنـك ــ سـيدي ــ كنت تسـأل هللا حيـاة المسـكنة الـتي هي أقـرب أنـواع الحيـاة
للعبوديــة ،وكنت تقــول( :اللهم أحيــني مســكينا ،وأمتــني مســكينا ،واحشــرني في زمــرة
المساكين)()2
وكنت تقول( :اللهم توفني فقيرا ،وال توفني غنيا ،واحشرني في زمـرة المسـاكين،
فإن أشقى األشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا ،وعذاب اآلخرة)()3
ولم تكن تكتفي بذلك ـ سيدي ــ بـل كنت تتهـرب من كـل مـا يمكن أن يمأل حياتـك
بذخا وترفا ..بل من كل ما يملؤها هدوءا ودعـة ..فقـد روي أن امـرأة من األنصـار رأت
فراشك عباءة خشنة ،فانطلقت ،فبعثت إليك بفــراش حشــوه الصــوف ،فلمــا رأيتــه ســألت
عنه ،فقيل لك :يا رسول هللا فالنة األنصارية دخلت ،فرأت فراشــك ،فــذهبت ،فبعثت إلي
بهذا الفراش ،فأمرتهم برده ،وقلت( :وهللا لو شئت ألجرى هللا معي الجبال ذهبــا وفضــة)
()4
ولذلك تواترت الروايات ومعها الشهود الكثـيرون على تلـك الحيـاة البسـيطة الـتي
كنت تعيشها ،والتي دعاك هللا إليها ،فقالَ :واَل َت ُم َّد َّن َع ْي َن ْيكَ ِإ َلى َما َمتَّعْ َنــا ِبـ ِه َأ ْز َواجًــا ِم ْنه ُْم
ق َربِّكَ خَ يْرٌ َو َأ ْب َقى[ طه]131 : زَ ْه َر َة ْال َح َيا ِة ال ُّد ْن َيا ِل َن ْف ِت َنه ُْم ِفي ِه َو ِر ْز ُ
بل أمرك بأن تخير أزواجك بين الرضا بها ،وبين أن يعدن لحيــاتهن الــتي تعــودن
اجكَ ِإ ْن ُك ْنتُ َّن تُ ِر ْدنَ ْال َح َيا َة الـ ُّد ْن َيا َو ِزي َن َت َهــا َف َت َعــا َل ْينَ أُ َم ِّتعْ ُك َّن عليها ،فقالَ :ي َاأ ُّي َها النَّ ِب ُّي قُلْ أِل َ ْز َو ِ
ـر َة َفـإِ َّن هَّللا َ َأ َعـ َّد ار اآْل ِخـ َ ـر ْدنَ هَّللا َ َو َر ُسـو َلهُ َوالـ َّد َ ُ
َوأ َسـرِّحْ ُك َّن َسـ َراحًا َج ِمياًل (َ )28و ِإ ْن ُك ْنتُ َّن تُـ ِ
ت ِم ْن ُك َّن َأجْرًا ع َِظي ًما [ األحزاب]29 ،28 : حْسنَا ِِل ْل ُم ِ
ومن تلك الشهادات ــ سـيدي ــ شـهادة زوجتــك عائشـة ،والــتي عـبرت عنهـا
مرات كثيرة ،خاصة ألولئك الذي جرفتهم الدنيا بأهوائها ،وغفلوا عن الوصية الــتي
أوصيتهم بها ،فقد كانت تقول لهم( :كان يأتي علينا الشهر ،وما نوقد فيــه نــارا ،إنمــا
هوالتمر والماء ،إال أن نؤتى باللحم(.)5
وقالت(:ما شبع آل محمد من خبز بر ثالثة أيام متتابعات ،حتى قبض )
وقالت(:ما أكل آل محمد أكلتين في يوم واحد إال إحداهما تمر)
وقالت :توفي رسول هللا حين شبع الناس من األسودين ،التمر والماء.
)(1رواه ابن سعد وأحمد برجال الصحيح وابن عساكر وابن الجوزي.
)(2رواه ابن عساكر.
)(3رواه ابن عدي.
)(4رواه ابن سعد.
)(5رواه ابن عساكر.
)(6رواه أحمد ،وابن سعد وأبو داود ،والحارث بن أبي أسامة برجال ثقات.
)(7رواه البخاري ومسلم.
)( 8رواه ابن أبي شيبة ،أحمد ،وأبو يعلى ،والترمذي في الشمائل ،وابن سعد بإسناد صحيح.
)(9رواه ابن سعد.
)(10رواه أبو الحسن بن الضحاك.
171
سميطا قط (.)1
وغيرها من الشهادات الكثـيرة الـتي لم يخـالف فيهـا أحـد من أصـحابك ،بـل كلهم
كانوا متفقين على ذلك الزهد الذي مأل حياتك كلها ،فجعلك المثل األعلى له.
بل إنهم لم يكتفوا بذلك ،وإنما نقلوا لنا صورا عن مبلــغ ذلــك الزهــد؛ فــذكروا أنــك
كنت تعصب في أحيان كثيرة الحجر على بطنـك من الجـوع ( ..)2فعن ابن عبـاس قـال:
احتفر رسول هللا الخندق وأصحابه قد شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع(.)3
وعن جبير بن نفير قـال :قـال أبـو البجـير :أصـاب رسـول هللا يومـا الجـوع،
فوضع على بطنه حجرا ،وقال( :يا رب نفس ناعمة طاعمة ،جائعة عاريـة يـوم القيامـة)
()4
وعنه قال :كان رسول هللا يشد حبليه بالحجر من الغرث (.)5
وعن جابر قـال :مكث رسـول هللا وأصـحابه ،وهم يحفـرون الخنـدق ثالثـا لم
يذوقوا طعاما ،قال جابر :فحانت مني التفاتة فإذا رسول هللا قد شد على بطنــه حجــرا
من الجوع (.)6
وعن أنس قال :قــال أبــو طلحــة :شـكونا إلى رســول هللا الجـوع ،ورفعنــا عن
حجر حجر ،فرفع النبي عن حجرين(.)7
وعن أبي البجير قال :أصاب النبي جوع يوما ،فعمد إلى حجــر فوضــعه على
بطنه (.)8
وعن أنس قال :جئت رسول هللا يوما فوجدته جالسا مع أصحابه يحدثهم ،وقــد
عصب على بطنه بعصـابة ،قـال أسـامة :أنـا أشـد على حجـر ،فقلت لبعض أصـحابه :لم
عصب رسول هللا بطنه؟ قالوا :من الجوع (.)9
وعن حصين بن يزيد الكلبي قال :ربما شد رســول هللا على بطنــه الحجــر من
الجوع (.)10
174
المقاوم المجاهد
ســيدي يــا رســول هللا ..أيهــا المقــاوم المجاهــد ..الثــابت في كــل المعــارك..
المناضل على كل الجبهــات ..الصــامد أمــام كــل التحــديات ..الثــائر على كــل أنــواع
التسلط واالستبداد والبغي ..المقوّم لكل االنحرافات والضالالتـ والتيه.
لقــد درســت ــ ســيدي ــ حياتــك بكــل تفاصــيلها الــتي أوردهـاـ لنــا المحــدثون
والمؤرخون من المدارس المختلفة ،وقارنتها بحياة كــل األبطــال والمقــاومين الــذين
انبهر البشر بشجاعتهم وبطـولتهم ومقـاومتهم ..فلم أجـد سـيدي أحـدا يضـاهيك ،بـل
يدانيك ..بل وجدتهمـ جميعا تالميذ صغارا أمام بطولتكـ وثباتك وشــجاعتك وجهــادكـ
في كل المجاالت.
لقد رأيتهم سيدي جميعا يناضلون في ميدان واحــد ..ورأيتــك تناضــل في كــل
الميــادين ..فــأنت ال تكتفي بمواجهــة الشــرك والخرافــة والــدجل ..وال بــزرع القيم
األخالقية والروحية ..وال بالنشاط السياسيـ والعسكري ..وإنما كنت تمارس النضال
في جميع مجاالت الحياة ..وتعطيـ النموذج األمثل فيهــا ،لتكــون قــدوة لكــل مقاومــة
شريفة ال تكتفي بالجزئيات عن الكليات ،وال باألشياء عن اإلنسان.
وقد رأيتك سيدي فوق ذلك تثبت أمام جميع أنــواع التحــديات ..مــا يســر منهــا
وما يضر ..فلم تلن ولم تساوم ،ولم تبع دينك بشيء من الدنيا ..بــل كنت تقــرأ عليهم
في ذلك الوقت الذي كانوا يؤذونـكـ فيــه أعظم إذيــة ،ويغرونـكـ أعظم إغــراء ،قولــه
تعالى :قُلْ يَاأَيُّهَا ْال َكافِرُونَ ( )1اَل أَ ْعبُ ُد َما تَ ْعبُ ُدونَ (َ )2واَل أَ ْنتُ ْم عَابِ ُدونَ َمــا أَ ْعبُ ـ ُد (
ين ()6 َ )3واَل أَنَا عَابِ ٌد َما َعبَ ْدتُ ْم (َ )4واَل أَ ْنتُ ْم عَابِ ُدونَ َما أَ ْعبُــ ُد ( )5لَ ُك ْم ِدينُ ُك ْم َولِ َي ِد ِ
[ الكافرون]6 - 1 :
لقد كنت ـ سيدي ـ تقرؤها عليهم في الوقت الــذي كنت فيــه مــع أصــحابك في
حاجة ألي سند يخفف عنكم ذلك االضطهاد الجائر الذي كان يمارس عليكم.
في ذلك الحين ساومك المشــركون على دينــك ،وعرضــوا عليــك أن يعطــوك
ماال ،لتكون أغنى رجل بمكة ،وعرضواـ عليك أن يزوجوك أجمل نســائهم ..وقــالوا
لك بعدها( :هذا لك يا محمد وكف عن شتم آلهتنا وال تذكر آلهتنا بسوء؛ فإن لم تفعل
فإنا نعرض عليك خصلة واحدة ولك فيها صالح) ،فقلت لهم :مــا هي ،فقــالوا :تعبــد
آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة..
حينها لم تدر ما تقول لهم ،ال ترددا ،وال ريبة ،ولكن لعجبك من هــذا الطــرح
الذي طرح عليك ..حينها نزلت عليك سورة الكافرون ،لتتــولى اإلجابــة عنــك ..فهي
الســورة الــتي تعلن المفاصــلة التامــة بين اإليمــان وقيمــه الرفيعــة ،والكفــر وقيمــه
الوضيعة ..فال يمكن لمن أسلم وجهه هلل أن يجمع بين تلك القيم المتنــافرة ،وإال كــان
منافقا ومخادعا ودجاال.
في ذلك الحين أيضا ،وبعدها ،نزلت عليك اآليات الكثــيرة تــدعوك للمفاصــلة
175
التامة مع كل ما يعرضونه عليك من أصناف المساومات..ـ نــزل عليــك حينهــا قولــه
ُّك أَ ْعلَ ُم بِ ْال ُم ْف ِسـ ِدينَ ()40 تعــالىَ :و ِم ْنهُ ْم َم ْن يُـ ْـؤ ِمنُ بِـ ِه َو ِم ْنهُ ْم َم ْن اَل يُـ ْـؤ ِمنُ بِـ ِه َو َرب َـ
ــري ٌء ِم َّما ك فَقُــلْ لِي َع َملِي َولَ ُك ْم َع َملُ ُك ْم أَ ْنتُ ْم بَ ِريئُــونَ ِم َّما أَ ْع َمــ ُل َوأنَــا بَ ِ
َ ــذبُو َ َوإِ ْن َك َّ
تَ ْع َملُونَ [ يونس]41 ،40 :
ونزل عليك معها قولــه تعــالى :قُــلْ اَل تُ ْسـأَلُونَ َع َّما أَجْ َر ْمنَــا َواَل نُ ْسـأ َ ُل َع َّما
ق َوه َُو ْالفَتَّا ُح ْال َعلِي ُم[ سبأ،25 : تَ ْع َملُونَ ( )25قُلْ يَجْ َم ُع بَ ْينَنَا َربُّنَا ثُ َّم يَ ْفتَ ُح بَ ْينَنَا بِ ْال َح ِّ
]26
وغيرهــا من اآليــات الكريمــة الــتي تــدعوك ،وتــدعو كــل المؤمــنين في كــل
األجيـــال إلى الصـــمودـ والمقاومـــة وعـــدم االستســـالم للمســـاوماتـ واإلغـــراءات
واالضطهادات ..وعدم تغليب المصالح الوقتية على المبادئـ الدائمة.
وقد كنت ـ سيدي ـ القرآن الناطق لتلك اآليات جميعا؛ فقد واجهت في حياتــك
مــا لــو ســلط على الحديــد لــذاب ،أو على الجبــال النــدكت ..فقــد أُلب أهلــك عليــك..
وأوذيتـ في أصحابكـ وأقاربك ..وحوصرت اقتصاديا ..واتّهمت بالجنون والســحر..
وسلطـ عليك الصبيان والمجانين ..وعرضت عليك في ذلك الوقت المليء بكل ألوان
األسى كل أنواع اإلغراءات ..فواجهت ذلك جميعــا ،وبقــوة وصــالبة ..وكنت تقــول
في تحــد ال يضــاهى مخاطبــا عمــك المجاهــد الصــابر المحتســب( :يــا عم وهللا لــو
وضعواـ الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا األمــر حــتى يظهــره
هللا أو أهلك فيه ما تركته)()1
لقد ذكر القرآن الكريم بعض ما أوذيت بــه ،ومنــه رميهمـ لــك بــالجنون ،فقــال
ـون﴾ (الحجــر ،)6:وقــال حاكيًا عنهمَ ﴿:وقَالُواـ يَا أَيُّهَا الَّ ِذي نُ ِّز َل َعلَ ْي ِه ال ِّذ ْك ُر إِنَّكَ لَ َمجْ نُـ ٌ
ار ِه ْم لَ َّما َسـ ِمعُوا الـ ِّذ ْك َر َويَقُولُــونَ إِنَّهُ ْصـ ِ تعالىَ ﴿:وإِ ْن يَ َكا ُد الَّ ِذينَ َكفَرُوا لَي ُْزلِقُونَــكَ بِأَب َ
ون﴾ (القلم)51: لَ َمجْ نُ ٌ
وكان القرآن الكــريمـ يثبتــك في تلــك المواقـفـ الصــعبة ،ويخــبرك أن هــذا مــا
ك َمــا أَتَى الَّ ِذينَ ِم ْن حصل لألنبيــاء عليهم الســالم من قبلــك ،كمــا قــال تعــالىَ ﴿ :كـ َذلِ َ
ت قَ ْبلَهُ ْم قَوْ ُمون﴾ (الذريات ،)52 :وقالَ ﴿:ك َّذبَ ْ ُول إِاَّل قَالُوا َسا ِح ٌر أَوْ َمجْ نُ ٌ قَ ْبلِ ِه ْم ِم ْن َرس ٍ
از ُد ِج َر﴾ (القمر)9: ون َو ْ وح فَ َك َّذبُوا َع ْب َدنَا َوقَالُوا َمجْ نُ ٌ نُ ٍ
اس َع َجبـا ً أَ ْن أَوْ َح ْينَــا إِلَى ومنها رميهم لك بالسحر ،كما قال تعــالى ﴿:أَ َكــانَ لِلنَّ ِ
ق ِع ْنــ َد َربِّ ِه ْم قَــا َل صــ ْد ٍ اس َوبَ ِّشــ ِـر الَّ ِذينَ آ َمنُــوا أَ َّن لَهُ ْم قَــ َد َم ِ ُــل ِم ْنهُ ْم أَ ْن أَ ْنــ ِذ ِر النَّ َ
َرج ٍ
ْال َكافِرُونَ إِن هَذا ل َسا ِح ٌـر ُمبِين﴾ (يونس ،)2:وقــالَ ﴿:وع َِجبُــوا أن َجـ ا َءهُ ْم ُمنـ ِذ ٌر ِمنهُ ْم
ْ ْ ْ َ ٌ َ َ َّ
َوقَا َل ْال َكافِرُونَ هَ َذا َسا ِح ٌر َك َّذابٌ ﴾ (صّ )4:
وكان القرآن الكريم يثبتك ،ويخبرك أن هذا ما حصــل لألنبيــاء عليهم الســالم
من قبلــك ،كمــا قــال تعــالى ﴿:قَــا َل ْال َمأَل ُ ِم ْن قَــوْ ِم فِرْ عَــوْ نَ إِ َّن هَــ َذا لَ َســا ِح ٌر َعلِي ٌم﴾
ق لَ َّما َجـ ا َء ُك ْم أَ ِس ـحْ ٌر هَ ـ َذا َوال يُ ْفلِ ُح ال ُمو َسى أَتَقُولُونَ لِ ْل َح ِّ (ألعراف ،)109:وقال ﴿:قَ َ
)(1سيرة ابن إسحاق ،السير والمغازي (ص)154 :
176
َان أَ ْن ي ُْخ ِر َجــا ُك ْم ِم ْن ان ي ُِري ـد ِ
اح َر ِان لَ َس ِ السَّا ِحرُونَ ﴾ (يونس ،)77:وقال ﴿:قَالُوا إِ ْن هَ َذ ِ
ض ُك ْـم بِ ِسحْ ِر ِه َما َويَ ْذهَبَا بِطَ ِريقَتِ ُك ُـم ْال ُم ْثلَى﴾ (طـه)63: أَرْ ِ
ومنها رميهم لك بالشعر ،مع علمهم بأن القرآن الكريم ليس لــه أوزان الشــعر
اع ٌر فَ ْليَأْتِنَـا بِآيَـ ٍة
الم بَ ِل ا ْفت ََراهُ بَلْ ه َُو َشـ ِ َاث أَحْ ٍ
وال طريقته قال تعالى ﴿:بَلْ قَالُواـ أَضْ غ ُ
ُ
اع ٍر َمجْ نُو ٍن﴾ َك َما أرْ ِس َل اأْل َ َّولُونَ ﴾ (االنبياء ،)5:وقالَ ﴿:ويَقُولُونَ أَإِنَّا لَت ِ
َار ُكو آلِهَتِنَا لِ َش ِ
ْب ْال َمنُــو ِن﴾ (الطــور:ـ،)30 اع ٌر نَت ََربَّصُ بِ ـ ِه َري َ (الصافات ،)36:وقال ﴿:أَ ْم يَقُولُونَ َش ِ
اع ٍر قَلِيالً َما تُ ْؤ ِمنُونَ ﴾ (الحاقة)41: وقالَ ﴿:و َما هُ َو بِقَوْ ِل َش ِ
ت َربِّكَ بِ َكــا ِه ٍن َ
ومنها رميهم لك بالكهانة ،كما قال تعالى ﴿:فَ َذ ِّكرْ فَ َما أ ْنتَ بِنِ ْع َم ِ
ون﴾ (الطور ،)29:وقالَ ﴿:وال بِقَوْ ِل َكا ِه ٍن قَلِيالً َما تَ َذ َّكرُونَ ﴾ (الحاقة)42: َوال َمجْ نُ ٍ
ْ
ومنها احتقارهم لك ،كما قال تعالىَ ﴿:وقَالُواـ لَوْ ال نُ ِّز َل هَ َذا القُــرْ آنُ َعلَى َر ُجـ ٍل
ِمنَ ْالقَرْ يَتَ ْي ِن َع ِظ ٍيم﴾ (الزخرف)31:
وغيرها من اآليات الكريمة التي رسم فيها القرآن الكــريمـ بعض الصــور لمــا
كان المشــركون وغــيرهم يؤذونــك بــه ..ولم تكن تقابــل ذلــك إال بالصــبرـ والرضــى
والثبات والمقاومة الباسلة.
ائذن لي سيدي أن أشنف آذان قلبي ومرآة خيالي بتلك المشاهد العظيمــة الــتي
وقفتها..ـ والتي كلما قرأتها أو تذكرتها شعرت بالنشاطـ يسري في عروقي ،ويــدفعني
لمواجهة كل العالم من أجلك ..فتلك المشاهد ـ سيدي ـ هي زادي وزاد كل حر يريــد
أن يخرج من البوتقة التي فرضهاـ عليه قومه.
دعني ـ سيدي ـ أذكر ذلــك الموقــف الشــديد القاســي الــذي مــر عليــك في أول
دعوتك ،والذي تولى كبره بعض أقاربك المقربين ،ذلك العم القاسي أبــو لهب ،الــذي
نزلت في حقه سورة كاملة تبين الخسارة التي وقع فيها حين باعك بأهوائــه وأمــوال
قريش..
فقد روي بأسانيد مختلفة ( )1أنك لما أنزل هللا عليــك قولــهَ ﴿:وأَ ْنـ ِذرْ ع َِش ـي َرتَكَ
اأْل َ ْق َربِينَ ﴾(الشعراء )214:قمت على الصــفا ،فعلــوت أعالهــا حجــرا ،ثم نــاديت :يــا
صباحاه ،فقالوا :من هــذا؟ ..وجعــل الرجــل إذا لم يســتطع أن يخــرج يرســل رســوال
لينظر ما الذي يحصل.
حينها جاء عمك أبو لهب ومعه وجهاء قريش ،فاجتمعوا إليك؛ فقلت لهم( :إن
أخبرتكم أن خيال تخرج من سفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟)
وطبعا لم يجدوا إال أن يصــدقوا ،فقــد كنت تــدعى بينهم الصــادق األمين ،ولم
يجربوا عليك كذبا قط ،فلذلك قالوا( :ما جربنا عليك كذبا)
حين أقروا لك بذلك ،وأقمت عليهم الحجة بكونك صادقا ،قلت لهم( :يا معشر
قريش ،أنقذوا أنفسكم من النار ،فإني ال أغني عنكم من هللا شيئا ،يا بني عبد منــاف،
أنقذوا أنفسكم من النار ،فإني ال أغني عنكم من هللا شيئا ،يا بــني عبــد شــمس أنقــذوا
برزق كل غد)
)(1رواه البخاري.
)(2رواه أحمد وأبو يعلى بسند جيد.
)(3رواه ابن أبي شيبة في المصنف.
)(4رواه البخاري.
185
المتواضع األبي
سيدي يا رسول هللا ..أيها المتواضــع الــذي جعلتــه عبوديتــه هلل قريبـاـ من كــل
المستضعفين المظلومين المحتقرين ..فكان سندهم الذي به يفرحون ،ومنه يقتربون،
فيستغنون باالقتراب منه من كل أولئك الذين يستكبرون عليهم ،ويذلونهم.
ســيدي يــا رســول هللا ..يــا من اخــترت العبوديــة على الملــك ،والمســكنة على
الــترف ،ورضــيت بــأن تكــون كالعبيــد والفقــراء والمســاكين ،تأكــل كــأكلهم ،وتلبس
كلبسهم ،وتأوي إلى بيت ال يختلف عن بيوتهم ..وتعيش مثلهم ،ال بل دونهم ،تجــوع
يوما وتشبع يوما ..فإذا شبعت شكرت ،وإذا جعت صبرت.
ماذا عساي أذكر من تواضعك ،وأنت الذي رضيت بأن تضــحي بــالكثير من
المكاسب المرتبطة بدعوتك في ســبيل أولئــك العبيــد والفقــراء والمستضــعفين الــذين
التفوا بك ،فحال التفافهم بك أولئك المستكبرين من الجلوس معك ،أو االستماع إليك.
سيدي ..ائذن لي أن أذكر بعض مشاهد تواضعك ،ألرد بها على أولئك الــذين
لم يعرفوك ،فراحوا يرسمون صورا مشوهة عنك ،هي أقرب إلى صور أبي سفيان
وأبي جهل منها إليك ..أولئك الذين اتبعوا دين البغاة والمحرفين ،وتركوا الدين الذي
أوصــيتهم بــه ،دين عترتــك الطــاهرة ،وأصــحابك المنتجــبين الــذين لم يغــيروا ولم
يبدلوا ،وعاشوا حياة التواضع والمسكنة التي أمرتهم بها إلى آخر أيام حياتهم.
لقد حدث بعضهم عنك يصفك ،فقال( :كانت في رسول هللا خصال ليســت
في الجبارين ،كان ال يدعوه أحمر ،وال أسود ،إال أجابه ،وكان ربما وجد تمرة ملقاة
فيأخــذها ،فــيرمي بهـا إلى فيــه ،وإنـه ليخشــى أن تكــون من الصــدقة ،وكــان يـركب
الحمار عريا ،ليس عليه شيء)()1
وحدث آخر قال :بينما رسول هللا يمشي مع أصـحابه إذ أخـذ رجـل منهم،
فستره بثوب فلما رأى ما عليه ،رفع رأسه ،فإذا هــو عاله قبلي ســتر ،فقــال( :مــه)،
ك ْم ﴾ (الكهف)2()110 : فأخذ الثوب ،فوضعه ،وقال ﴿:إِنَّ َما أَنَا بَ َش ٌر ِم ْثلُ ُ
وحدث آخر ،قال :كان رسول هللا ،ومن قبله من األنبياء ـ عليهم الســالم ـ
يمشون على العصا ،يتوكئون عليها ،تواضعا هلل عز وجل(.)3
وحدث آخر ،قال :كان رسول هللا يركب الحمـار ،ويــردف بعــده ،ويجيب
دعوة المملوك(.)4
)(1رواه الدارمي.
)(2رواه أبو الشيخ عن ابن عباس ،وابن سعد عن أنس.
)(3رواه الترمذي.
)(4رواه أحمد في الزهد ،وابن عساكر -وقال هذا حديث مرسل -وقد جاء معناهـ في األحاديث المسندة.
)(5رواه ابن ماجه.
)(6رواه ابن ماجه.
)(7رواه البخاري ومسلم.
)(8رواه الترمذي وصححه والبيهقي.
)(9رواه البخاري.
187
المملوك ،وكان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليــف ،على إكــاف من
ليف(.)1
بل اتفقوا على أنك كنت تردفـ خلفك ..وقـدـ ذكــر العلمــاء أســماء من ردفتهم،
وهم كثيرون جدا ،فقد حدث أنس قال :كــان رســول هللا إذا ســافر ،وغــزا أردف
كل يوم رجال من أصحابه (.)2
واتفقوا على أنك كنت تلبس لباسا بسيطا كســائر النــاس ،ففي الحــديث :خــرج
رسول هللا وقدـ عقد عباءة بين كتفيه فلقيه أعرابي ،فقال :لم لبست هذا يا رســول
هللا؟ فقال( :ويحك ،إنما لبست هذا ألقمع به الكبر)()3
واتفقوا على أنك كنت تجيب كل من دعاك ،وألي شيء دعاك ،حتى لو كــان
حقيرا ،فعن ابن عباس قــال :كــان رســول هللا يجلس على األرض ،ويأكــل على
األرض ،ويعقـــل الشـــاة ،ويجيب دعـــوة المملـــوك ،ويقـــول( :لـــو دعيت إلى ذراع
ألجبت ،ولو أهدي إلي كراع لقبلت)()4
وقد بلغ األمر ببعض أصــحابك المشــفقين عليــك ،لِمــا رأوه من تواضــعكـ أن
يطلبواـ منك أن تتخذ محال خاصا بك ،بحيث ال تؤذيكـ مخالطتهم ،فأبيت ذلك بشــدة،
وقلت له( :ال أزال بين أظهرهم يطئون عقبى وينازعونيـ ثوبي ،ويؤذيني غبــارهم،
حتى يكون هللا هو الذي يرحمنيـ منهم)()5
ولم تكن تكتفي بكل ذلك ـ سيدي ـ مع داللته على تواضعك ،وإنما كنت تضــم
إليه مشــاركتك لهم في كــل أعمــالهم ،حــتى الشــديدة منهــا ،بــل كنت تســتأثر بهــا من
دونهم..
فمن مشــاركتك لهم مشــاركتهم في بنــاء المســجد بعــد هجرتــك إلى المدينــة
المنورة بالرغم من العناء الكبير الذي القيته في هجرتك؛ فعن الحسن قال :لمــا قــدم
النبي المدينــة قـال :ابنـوا لنـا مسـجدا ،قـالوا :كيــف يـا رســول هللا؟ قــال :عــرش
كعرش موسى ،ابنوا لنا بلبن ،فجعلوا يبنون ورسول هللا يعــاطيهم اللبن على مــا
دونه ثوب ،وهو يقول:
فـــــــاغفر لالنصـــــــار اللهم إن العيش عيش
والمهـــــــــــــــــــــاجرة اآلخــــــــــــــــــــــــــــــــرة
فمر عمار بن ياسر فجعل النبي ينفض التراب عن رأسه ،ويقول :ويحك
يا ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية(.)6
)(1رواه الترمذي.
)(2رواه أحمد والبخاري وأبو يعلى.
)(3رواه ابن عدي.
)(4رواه أبو الشيخ ،وابن سعد.
)(5رواه ابن إسحاق الزجاجي في تاريخه.
)(6رواه ابن عساكر.
188
وحــدث يعقــوب بن يزيــد قــال :كــان رســول هللا يتبــع غبــار المســجد
بجريدة(.)1
وفي غزوة الخندق ..بعد أن أحــاطت األحــزاب بالمدينــة المنــورة ..وفي ذلــك
الموقــف الشــديد الـذي تزلــزلت لـه القلــوب ..والــذي يكتفي فيــه القــادة بـالجلوس في
غرفهم المكيفة للتخطيط وإلقاء األوامر ..كنت ـ سيدي ـ مـع أصـحابك تشــاركهم في
كل صغيرة وكبيرة..
وقد حدثت أم سلمة عن موقف من مواقفك يوم الخندق ،فقالت :ما نسيت يــوم
الخندق ،وهو يعاطيهم اللبن ،وقد اغبر شعره ،تعني النبي .)2(
وحدث البراء قال :لقد رأيت رسول هللا يحمل التراب على ظهــره ،حــتى
حال التراب بيني وبينه وإني النظر إلى بياض بطنه(.)3
بل كنت ـ سيدي ـ في ذلـك الموقـف الشــديد تتكفــل بكــل عمـل شــاق يتوقفــون
عنده ،فقد ذكر جــابر بن عبــد هللا أن المســلمين عــرض لهم في بعض الخنــدق كديــة
عظيمــة شــديدة بيضــاء مــدورة ،ال تأخــذ فيهــا المعــاول ،فكســرت حديــدهم ،وشــقت
عليهم ،فشكوا ذلك إليك ،فقمت إليها ،وبطنك معصوب بحجــر من الجــوع ،ألنــك لم
تأكل منذ ثالثة أيــام ،فــدعوت بإنــاء من مــاء فتفلت فيــه ،ثم دعــوت بمــا شــاء هللا أن
تدعو به ،ثم نضحت من ذلك الماء عليها ،فعادت كالكثيب المهيل مــا تــرد فأســا وال
مسحاة(.)4
ولم تكن ــ ســيدي ــ في ذلــك الموقــف الشــديد تكتفي بالعمــل فقــط ..بــل كنت
تسليهم وترتجز بما يرتجزون ،وتضحك كمـا يضـحكون ،وقـد حـدث بعضــهم قــال:
ارتجز المسلمون في الخنــدق برجـل يقـال لـه (جعيـل) أو جعالـة بن ســراقة ،وكــان
رجال دميما صالحا ،وكان يعمل في الخندق ،فغير رسول هللا اسمه يومئذ فسماه
عمرا ،فجعل المسلمون يرتجزون ويقولون:
سماه من بعد جعيل عمرا وكان للبائس يوما ظهرا
وجعل رسول هللا ال يقول شيئا من ذلك ،إال إذا قــالوا :عمــرا ،وإذا قــالوا:
ظهرا ،قال :ظهرا)
وحدث البراء قال :رأيت رسول هللا ينقل التراب يوم الخندق حــتى وارى
التراب بياض بطنه ،وكان كثيف الشعر ،فسمعته يرتجز بكلمات البن رواحة:
وال تصـــــــــدقناـ وال وهللا لــوال مــا اهتــدينا
صـــــــــــــــــــــــــلينا
وثبت االقـــــــــدامـ إن فــــأنزلن ســــكينة علينا
القينا
)(1رواه ابن أبي شيبة.
)(2رواه أحمد برجال الصحيح وأبو يعلى.
)(3رواه محمد بن عمر.
)(4رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
189
إذا أرادوا فتنــــة أبينا والمشــركون قــد بغــوا
علينا
ورفع بها صوته :أبينا أبينا)()1
وكنت ـ سيدي ـ في ذلك الموقف الشديد الــذي وصــفه هللا تعــالى بقولــه :إِ ْذ
ت ْالقُلُــوبُ ْال َحنَـ ِ
ـاج َر ت اأْل َب َ
ْصـا ُر َوبَلَ َغ ِ َجـ ا ُءو ُك ْم ِم ْن فَــوْ قِ ُك ْم َو ِم ْن أَ ْس ـفَ َل ِم ْن ُك ْم َوإِ ْذ زَ ا َغ ِ
ك ا ْبتُلِ َي ْال ُم ْؤ ِمنُـــونَ َو ُز ْل ِزلُـــوا ِز ْلـــ َزااًل َشـــ ِديدًا
الظنُونَـــا ( )10هُنَالِـــ َ َوتَظُنُّونَ بِاهَّلل ِ ُّ
[األحزاب،10 :ـ ،]11تــدعو لهم ،وتشــجعهم بكــل مــا أطقت أن تشــجعهم بــه ،وقــد
حــدث ســهل بن ســعد قــال :جاءنــا رســول هللا ونحن نحفــر في الخنــدق ،وننقــل
التراب على أكتادنا في غداة باردة ،ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك ،فلما رأى مــا هم
فيــه من النصــب والجــوع قــال(:اللهم ال عيش إال عيش اآلخــرة ،فــاغفر لالنصــار
والمهاجرة) ،فقالوا مجيبين له:
على الجهاد مــا بقينــا نحن الـــــذين بـــــايعوا
أبــــــــــــــــــــــــــــدا محمـــــــــــــــــــــــــدا
ولم تكن تكتفي بكـــل ذلـــك ــــ ســـيدي ــــ ..لم تكن تكتفي بمجـــرد المشـــاركة
والمواساة والخلطة المجردة ..بـل كنت فــوق ذلــك كلـه ،ومــع ذلــك كلـه ،تبـادر ألي
خدمة سواء شوركت فيها أم لم تشارك ،وسواء كانت في بيتك أو خارجــه ،ال تســأل
على ذلك أجرا وال شكرا.
وقــد حــدث أنس عن بعض مواقفــك في ذلــك ،فقــال :ذهبت بعبــد هللا بن أبي
طلحة إلى النبي يوم ولد ،والنبي في عباءة يهنأ بعيرا له(.)2
ووصفت عائشة ما كنت تصنع في بيتك ،فقالت(:كان بشــرا من البشــر ،يفلي
ثوبه ،ويحلب شاته ويخيط ثوبــه ،ويخــدم نفســه ،ويخصــف نعلــه ،ويعمــل مــا تعمــل
الرجال في بيوتهم ،ويكون في مهنة أهله ،يعني خدمة أهله ،فإذا سمع المؤذن خــرج
إلى الصالة)()3
وعنهـا قــالت :كـان رســول هللا يعمــل عمـل أهــل الـبيت وأكـثر مــا يعمــل
للخياطة(.)4
وكنت خارج بيتك تقوم بكل ما يحتاجه المســلمون ،ال تســتكبر عن أي عمـل،
وخاصة إن ارتبط بوظيفتك الــتي كلفــك هللا بهـا ،وهي تعليم النــاس ،وقــد حــدث أبــو
رفاعة تميم بن أسي ٍد قال :انتهيت إلى رسول هللا وهــو يخطب ،فقلت :يــا رســول
هللا ،رج ٌل غريبٌ جاء يسأل عن دينه ال يدري ما دينــه؟ فأقبــل علي رســول هللا ،
بكرسي ،فقعد عليه ،وجعــل يعلمــني ممــا علمــه ٍ وترك خطبته حتى انتهى إلي ،فأتي
)(1رواه مسلم.
)(2رواه مسلم.
191
المؤدب الحيي
ســيدي يــا رســول هللا ..يــا من أدبــك ربــك ،فأحســن تأديبــك ،وهــذبك فأحســن
تهذيبك ،فلم يكن لك معلم غير ربك ،ولم تكن لك مدرسة غير مدرســته ..لــذلك كنت
األمي الذي لم يتعلم من بشر ،وإنما تعلم من رب البشر ،فصار لذلك سيد البشر.
لقد قرأت القرآن الكريم ،فوجدته يخاطبك ويعاتبك ويعلمك ،ليكــون كــل ذلــك
تأديبا وتهذيبا لنا ..لنرقى إلى سموات القيم العالية واألدب الرفيع الذي بوأك هللا إياه.
آوى [ الضحى،]6 : لقد قرأت قوله تعالى وهو يخاطبك :أَلَ ْم يَ ِج ْد َ
ك يَتِي ًما فَ َ
والتي عقب عليها قوله :فَأ َ َّما ْاليَتِي َم فَاَل تَ ْقهَرْ [ الضحى ،]9 :فعلمت أن هللا تعالى
ما أراد بجعلك يتيمــا إال تأديبــا لــك لتشــعر بالمستضــعفين واليتــامى ،ألنــك ستصــير
األب والسند الروحي لهم.
ولهــذا امتألت أحاديثــك ووصــاياك بالحنــان عليهم والرأفــة بهم ،فال نجــد من
اهتم بهم مثلــك ،وال من أوصــى بهم مثلمــا أوصــيت بهم ،فقــد كنت تقــول مخاطبــا
أصحابك ،واألمة من بعدك( :خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه ،وشــر
بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه)()1
وكنت تقول مخبرا عن فضل المسح على رأس اليتيم عطفا وحنان ـاـ ورحمــة:
(من مسح على رأس يتيم لم يمسحه إال هلل كانت له في كــل شــعرة مــرت عليهــا يــده
حسنات)()2
وكنت تعتبرـ الساعي عليهم كالمجاهد والقائم ،فتقــول(:الســاعي على األرملــة
والمسكين كالمجاهد في سبيل هللا تعالى ،وكالقائم ال يفتر ،وكالصائمـ ال يفطر)()3
وكنت تخـــبر عن أنـــواع الجـــزاء العظيم الـــذي ينالـــه المهتمـــون باليتـــامى،
والراعون لمصالحهم ،فتقول(:ما قعد يتيم مــع قــوم على قصــعتهمـ فيقــرب قصــعتهم
الشـيطان)( ،)4وتقـول( :من ضـم يتيمـا من بين مسـلمين إلى طعامـه وشـرابه حـتى
يغنيه هللا عز وجل غفرت له ذنوبه البتة إال أن يعمــل عمال ال يغفــر ،ومن أذهب هللا
كريمتيه فصبرـ واحتســب غفــرت لــه ذنوبــه)( ،)5وتقــول( :والــذي بعثــني بــالحق ال
يعذب هللا يــوم القيامــة من رحم اليــتيم والن لــه في الكالم ورحمـ يتمــه وضــعفه ،ولم
)(1ابن ماجه.
)(2أحمد وغيره.
)(3الشيخان.
)(4الحارث ،والطـبراني في األوســط عن أبي موسـى وأورده ابن الجـوزي في الموضــوعات ،وهنـاك حـديث
آخر قريب منه هو « ما من مائدة أعظم بركة من مائدة جلس عليها يتيم » رواه لديلمي عن أنس.
)(5ابن سعد ،والطبراني في الكبير.
192
يتطاولـ على جاره بفضل ما آتاه هللا)( ،)1وتقول( :من قبض يتيمــا من بين مســلمين
إلى طعامه وشرابه أدخله هللا الجنة ألبتة إال أن يعمل ذنبــا ال يغفــر لــه)( ،)2وتقــول:
(أنا أول من يفتح باب الجنة إال أني أرى امــرأة تبــادرني ،فــأقول مــا لــك ومن أنت؟
تقول :أنا امرأة قعدت على أيتام لي)()3
وغيرها من األحاديث الكثيرة التي كانت ثمرة لتــأديب هللا لــك ،ودعوتــك إلى
حفظ اليتيم وعدم قهره واإلحسان له..
وهكذا ـ سيدي ـ كان القرآن الكريم يؤدبك ،ويهذبك بكل كلمــة من كلماتــه ،أو
حرف من حروفه..
ولهذا صــارت ســنتك وهــديك هي القــرآن النــاطق الــذي مثــل الحقــائق والقيم
القرآنية أحسن تمثيل.
وقد ذكر تلميذك األكبر اإلمام علي ،ذلك الذي كان أكــثر النــاس صــحبة لــك،
ومعرفة بك تعاهد هللا لك بالتأديب والتربية ،فقال( :ولقد قرن هللا بــه من لــدن أن
كان فطيما أعظم ملك من مالئكته يسلك به طريق المكـارم ،ومحاسـن أخالق العـالم
ليله ونهاره) ()4
وكان يذكر كل حين ألولئك المبدلين والمغيرين عظيم صفاتك وحســن أدبــك،
وكيف كنت األسوة الحسنة في كل المجاالت ،فقال يصف شجاعتك ( :كنا إذا احمــر
البأس اتقينا برسول هللا ، ،فلم يكن أحد منا أقرب إلى العدو منه) ()5
وعنــدما طلب منــه أن يصــفك بدقــة ،قــال( :كــان نــب ّي هّللا أبيض اللّــون،
كث اللّحية ،ذا وفــرة ،دقيــق المســربة ،كـ ّ
ـأن مشرباـ حمرة ،أدعج العين ،سبط الشعر ّ
ضة ،يجري في تراقيه الذهب ،له شــعر من لبّتــه إلى سـرّته ،كقضــيب عنقه إبريق ف ّ
خيط إلى الس ّرة ،و ليس في بطنه و ال صدره شــعر غــيره .شــئن الكفّين و القــدمين،
شئن الكعبين ،إذا مشى كأنّما يتقلع من الصخر ،إذا أقبل كأنّما ينحدر من صبب ،إذا
التفت التفت جميعا بأجمعه كلّه ،ليس بالقصيرـ المتردد ،وال بالطويلـ الممغط ،وكــان
في الوجه تدوير ،إذا كان في الناس غمرهم ،كأنّمـا عرقـه في وجهـه اللؤلـؤ ،عرقـه
أطيب من ريح المســك ،ليس بالعــاجز و ال بــاللئيم .أكــرم النــاس عشــرة ،و ألينهم
عريكة ،و أجــودهمـ كفّــا ،من خالطــه بمعرفــة أحبّــه ،من رآه بديهــة هابـه ،عـ ّزه بين
عينيه ،يقول ناعته :لم أر قبله و ال بعده مثله)6() ،
وهكذا كــان يصــف تواضــعك ،ويقــول ( :ولقــد كــان يأكــل على األرض،
)(1الطبراني بسند رواته ثقات إال واحدا ومع ذلك ليس بالمتروك.
)(2الترمذي وصححه.
)(3أبو يعلى بسند حسن.
)(4نهج البالغة ،ج ،۲خطبة ،۱۹۲ص .۱٥۷
)(5نهج البالغة ،ج ،٤خطبة ،۹ص .٦۱
)(6حلية األبرار في أحوال محمد و آله األطهار ،ج ،1ص.164 :
193
ويجلس جلسة العبد ،ويخصفـ بيده نعله ،ويرقع بيده ثوبه ،ويركب الحمار العاري،
ويردف خلفه ،ويكون الستر على باب بيته فتكون فيه التصاوير فيقول ( :يا فالنــة ـ
إلحدى أزواجه ـ غيبيه عني ،فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفهاـ ) ()1
وكان يصف موقفك من الدنيا ،فيقول ( :قد حقر الدنيا وصغرها ،وأهــون بهــا
وهونها ،وعلم أن هللا زواهــا عنـه اختيـارا ،وبســطها لغــيره احتقــارا ،فـأعرض عن
الدنيا بقلبه ،وأمات ذكرها عن نفسه ،وأحب أن تغيب زينتهــا عن عينــه ،لكيال يتخــذ
منها رياشا ،أو يرجوـ فيها مقاما .بلغ عن ربـه معـذرا ،ونصـح ألمتـه منـذرا ،ودعـا
إلى الجنة مبشرا ،وخوفـ من النار محذرا ) ()2
ويقول في خطبة أخــرى ( :أهضــم أهــل الــدنيا كشــحا ،وأخمصــهمـ من الــدنيا
بطنا ،عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها ،وعلم أن هللا سبحانه أبغض شيئا فأبغضه،
وحقر شيئا فحقـره ،وصــغرـ شـيئا فصـغره .ولــو لم يكن فينــا إال حبنـا مــا أبغض هللا
ورسوله ،وتعظيمناـ ما صغر هللا ورسوله ،لكفى به شقاقا هلل ،ومحادة عن أمر هللا...
فــأعرض عن الــدنيا بقلبــه ،وأمــات ذكرهــا من نفســه ،وأحب أن تغيب زينتهــا عن
عينه ،لكيال يتخذ منها رياشا ،وال يعتقدها قــرارا ،وال يرجــو فيهــا مقامــا ،فأخرجهــا
من النفس ،وأشخصــهاـ عن القلب ،وغيبهــا عن البصــر .وكــذلك من أبغض شــيئا
أبغض أن ينظر إليه ،وأن يذكر عنده ) ()3
ولهــذا كــان يــدعو إلى اعتبــارك األســوة والقــدوة ،ويــرد على أولئــك الــذين
وضــعوا الكثــير من البــدائل الــتي اســتبدلوك بهــا ،حــتى اعتــبر بعضــهم كــل قومــك
وصــحبك صــالحين ألن يكونــوا قــدوة ..ومن أقــوالهم في ذلــك في بعض وصــاياه:
( تـأس بنبيــك األطيب األطهـر فـإن فيـه أســوة لمن تأســى ،وعـزاء لمن تعـزى.
وأحب العباد إلى هللا المتأسي بنبيه ،والمقتص ألثره .قضم الدنيا قضــما ،ولم يعرهــا
طرفا ،أهضم أهل الدنيا كشحا ،وأخمصهم من الدنيا بطنا ،عرضت عليه الدنيا فأبى
أن يقبلها ،وعلم أن هللا سبحانه أبغض شــيئا فأبغضــه ،وحقــر شــيئا فحقــره ،وصــغر
شيئا فصغره .ولو لم يكن فينا إال حبنا مـا أبغض هللا ورســوله ،وتعظيمنـا مـا صـغر
هللا ورسوله ،لكفى به شقاقا هلل ومحادة عن أمر هللا) ()4
وغيرها من األحاديث الكثيرة التي وصف فيها أخالقك وآدابك العظيمة الــتي
أمرنا هللا تعالى بالتأسي بها..
لكن المغرضين والحاقدين ـ سيدي ـ راحوا يشوهون جمــال صــفاتك ،وعظيم
أدبك ،حتى ينفــر العقالء منــك ،وتكــون أســوة لالنحــراف ال للصــالح ،وللصــلف ال
)(1رواه مسلم.
)(2ومنها ما روي عن محمد بن عبد هللا بن جحش أن النبي مر على معمر بفناء المسجد محتبيا كاشــفا عن
طرف فخذه فقال له النبي ( :خمــر فخـذك يــا معمــر فـإن الفخـذ عــورة) ،رواه أحمـد ورواه الطــبراني في الكبــير،
ورجال أحمد ثقات.
195
هللا ( :إني ألنظـــر إلى شـــياطين اإلنس والجن قـــد فـــروا من عمـــر) ،قـــالت:
فرجعت(.)1
هل رأيت سيدي تلك الصورة المشوهة التي صــوروك بهــا ..لقــد ذكــروا أنــه
كانت هناك جارية ..وأنها عاقلة بالغة ..بدا لهـا أن تـرقص كمـا يـرقص الحبشـة في
الشــارع ..وأمــام النـاس ..وكـان الصــبية يلتفــون حولهــا ،وهي بتلـك الحالـة ..وأنــك
لمحتها ،فأســرعت إلى عائشــة ،وطلبت منهــا أن تحضــر مجلس الــرقص ..وعنــدما
حضرت وضعت عائشة ـ بحسب الحديث ـ ذقنها على منكبك ..وأمام الناس ..وبعــد
مدة طلع عمر فانفض الناس عن الجارية خوفا منه ..مع أنك كنت معهم ..ومع ذلــك
لم يشعروا بشيء..
وليت األمر توقف عند هذا ..بل إنهم ذكروا أنــك عنــدما رأيت النــاس يفــرون
لحضور عمر قلت معظما له ومثنيا عليه( :إني ألنظر إلى شياطين اإلنس والجن قد
فروا من عمر)
وهذا عجب عجاب ..وتصور المشهد وحده كاف لضرب كل القيم الــتي جــاء
بها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ،التي تمثلك ـ سيدي ـ أحسن تمثيل.
ولم يكتفوا بهذا سيدي في تشويهك ،بل راحوا يروون الروايات الكثــيرة الــتي
تجعلك فاحشا ومتفحشا ،ال تختلف عن قومك األجالف الغالظ الذين لم ينالوا حظهم
من التأديب الذي أدبك به ربك(.)2
فأسألك ـ سيدي ـ وأتوسل بــك إلى هللا أن يجعلــني من الــذابين عنــك ،الــرادين
لتلك التشويهات ..فال يمكن لألمة أن تعرفك ،أو تحسن عالقتها بك ،وهي تعتقــد في
تلــك الروايــات المريضــة الــتي وضــعها مرضــى القلــوب ليشــوهوك ،ويحولــوا بين
العقالء وبينك.
وأسألك سيدي أن أكون من المتأدبين على يديك ،الراعين للحقــوق واألخالق
التي أمرت برعايتها ،حتى أكون أقرب الناس إليك في الدنيا واآلخــرة ،فال فــوز إال
لمن كان قريبا منك.
)(1رواه الترمذي.
)(2ذكرنا الكثير من األمثلة على ذلك ،ورددنا عليها في كتاب [رسول هللا والقلوب المريضة] ،وذكرنا فيــه
القاعدة التي نتبناها في الموقف من أمثال تلك األحاديث.
196
الذاكر النجي
ســيدي يــا رســول هللا ..أيهــا الــذاكر الــذي ال يغفــل ..والعابــد الــذي ال يفــتر..
والخاشع الذي ال يتيه قلبه في أودية األماني ..والنجي( )1المناجي الذي ال يكف عن
الحديث إلى ربه ،والحضور بين يديه.
لقد رحت ـ سيدي ــ إلى مــا ورد في ســنتك المطهــرة من األدعيــة المحفوظــة
عنك ،أرتلها ،وأقارنها بكل مــا ورد في تــراث العــالم من أدعيــة؛ فوجــدت أن زمــام
التواصل مع هللا كله بيدك ،وأن كل من يريد أن يتعلم كيــف ينــاجي ربــه يحتــاج إلى
التعلم في مدرستك ..فأنت أســتاذ الــذكر والــدعاء ،وشــيخ مريــدي الحضــرة اإللهيــة
ودار البقاء ..ومن لم يتعلم على يديك تلك الفنون ظــل جــاهال في التعامــل مــع ربــه،
مسيئا لألدب معه.
فإذا ضممت إلى ذلك ـ ســيدي ــ مــا ورد عن عترتــك الطــاهرة الــتي ورثتهــا
علومك وأحوالك وآدابك ،ثم أوصيت باتباعها ،وركوب ســفينة نجاتهــا ،وجــدت من
األدعية والمناجيات واألذكار ،التي لم تكن سوى أثر من آثارك ،وقبس من أنوارك،
ما ال يمكن عده وال حصـره ..وبـذلك تكـون هـذه األمـة هي المتفـردة بكـل الوسـائل
المؤدية إلى الحضور مع هللا ،وال يوجد في األمم من يضاهيها فيه أو يدانيها.
ولذلك كان هذا الجــانب وحــده كافيــا للعقالء والبــاحثين عن هللا ،ليســتدلوا بــه
على نبوتك ،واستمرارها ،فأول أهداف النبوة وأعظمها الداللة على هللا ،والتواصــل
معه ،والذكر والمناجيات هي الحبال الموصولة من هللا لعباده لتحقيق ذلك..
ولذلك كنت ـ سيدي ـ من أعظم الناصحين لنا بذكر هللا ودعائـه واللجـوء كـل حين
إليه ،بل إنك اعتبرت حياتنا متوقفة على الذكر ..ال على مـا نتنفسـه من هـواء ،أو نشـربه
من ماء ..فالماء والهواء يغذيان الطين ،ويمدانها بالحياة ،أما ذكـر هللا ،فهـو غـذاء الـروح
ومددها ،وال حياة لمن لم تحيا روحه ..لقـد قلت معـبرا عن ذلـك( :مثـل الـذي يـذكر ربـه
والذي ال يذكر ربه مثل الحي والميت) ()2
ولهذا كنت تستعمل كل أساليب الترغيب والترهيب لتحض القلـوب واأللسـن على
كثرة ذكر هللا ،فتقول لها ـ مرغبا في جوائز هللا المعدة للذاكرين ـ( :ال يقعــد قــوم يــذكرون
هللا إال حفتهم المالئكة ،وغشيتهم الرحمة ،ونزلت عليهم السكينة ،وذكرهم هللا فيمن عنده)
()3
وتقول ألصحابك أثناء مروركم في طريق مكــة على جبـل جمــدان( :سـيروا هـذا
جمدان ،سبق المفردون) ،قالوا :وما المفردون يا رســول هللا؟ قلت( :الــذاكرون هللا كثــيرا
)(1المراد بالنَّجي :ال ُم ِ
ناجي ،كما قال تعالى :فَلَ َّما ا ْستَيْأَسُوا ِم ْنـهُ خَ لَ ُ
صـوا ن َِجيًّــا [ يوســف ،]80 :أي ينــاجي
بعضهم بعضا.
)(2رواه البخاري ومسلم.
)(3رواه مسلم.
197
()1 والذاكرات)
وترغب الفقـراء إلى هللا ،الـذين ال يريـدون من هللا إال هللا ،بـأن هللا يـذكرهم حالمـا
يذكرونه ،وكيفما يذكرونه ،وتقول في ذلك( :قال هللا عز وجــل :أنــا عنــد ظن عبــدي بي،
وأنا معه إذا ذكرني ،فإن ذكرني في نفسه ذكرتـه في نفسـي ،وإن ذكـرني في مأل ذكرتـه
في مأل خير منهم)()2
وهكذا كنت ترشد من يريـد من األشـياء عصـارتها ،ومن الطـرق أخصـرها ،إلى
ذكـر هللا ..فقـد جـاءك رجـل ،فقـال :يـا رسـول هللا! إن شـرائع اإلسـالم قـد كـثرت علي،
فأخبرني بشيء أتشبث به ،فقلت له( :ال يزال لسانك رطبا من ذكر هللا)()3
وهكذا كنت ترشد من يريد أن يظفـر بـالخير بجميـع أصـنافه ،وبالصـالح بجميـع
أنواعه ،وبالحسنات بجميع أشـكالها إلى ذكـر هللا ،فتقـول لـه( :أال أنـبئكم بخـير أعمـالكم،
وأزكاها عند مليككم ،وأرفعها في درجاتكم ،وخير لكم من إنفاق الذهب والــورق ،وخــير
لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضـربوا أعنـاقكم؟ قـالوا :بلى ،قـال :ذكـر هللا
تعالى)()4
ولم تكتف بذلك ـ سيدي ـ بل إنك وضعت لنا الكثير من األذكار التي تعمــق جميــع
جــوانب اإليمــان ،وبأجمــل صــياغة وأرقهــا ..فمن داوم عليهــا وصــل إلى هللا ،وبأقصــر
الطرق ،وأيسرها ،وأضمنها.
ومن األمثلة على ذلك ـ سيدي ــ تلـك الصـيغ الـتي علمتنـا فيهـا كيـف نسـبح ربنـا
وننزهه ونقدسه ،في نفس الـوقت الـذي نحمـده ونعظمـه ونمجـده ونـذكر كماالتـه ..وهي
صيغ كثيرة كافية لمأل القلب بكل هذه المعاني اإليمانية.
ومنها مــا ذكــرت لصــاحبك أبي ذر ،حين قلت لــه( :أال أخــبرك بــأحب الكالم إلى
هللا؟) ،ثم قلت( :إن أحب الكالم إلى هللا :سبحان هللا وبحمده)()5
وقلت( :كلمتــان خفيفتــان على اللســان ،ثقيلتــان في المــيزان ،حبيبتــان إلى
الرحمن :سبحان هللا وبحمده ،سبحان هللا العظيم)()6
وقلت( :ألن أقول سبحان هللا ،والحمد هلل ،وال إله إال هللا ،وهللا أكــبر أحب إلي
مما طلعت عليه الشمس)()7
وكنت تقول مرغبا فيهـا( :يصــبح على كــل سـالمى من أحـدكم صــدقة ،فكــل
تسبيحة صدقة ،وكل تحميدة صدقة ،وكل تهليلة صدقة ،وكل تكبــيرة صــدقة ،وأمــر
)(1رواه مسلم.
)(2رواه البخاري ومسلم.
)(3رواه الترمذي وابن ماجه..
)(4رواه الترمذي وابن ماجه.
)(5رواه مسلم.
)(6رواه البخاري ومسلم.
)(7رواه مسلم.
198
صدقة)()1 بالمعروف صدقة ،ونهي عن المنكر
وروي أن ناسا من أصحابك الفقــراء شــكوا إليــك عــدم قــدرتهم إلى الصــدقة،
فقالوا :يا رسول هللا ذهب أهل الدثور باألجور ،يصلون كما نصلي ،ويصومون كما
نصوم ،ويتصدقون بفضول أمــوالهم ،وال نتصــدق ،فقلت لهم( :أوليس قــد جعــل هللا
لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة ،وكل تكبيرة صدقة ،وكــل تحميــدة صــدقة،
وكل تهليلة صدقة ،وأمر بالمعروف صدقة ،ونهي عن منكر صدقة)()2
وروي أن أعرابيا جاءك ،فقال :علمني كالما أقوله؟ فقلت :قل( :ال إله إال هللا
وحده ال شريك له ،هللا أكبر كبيرا ،والحمــد هلل كثــيرا ،ســبحان هللا رب العــالمين ،ال
حول وال قوة إال باهلل العزيز الحكيم) ،قال :فهؤالء لربي ،فما لي؟ فقلت :قــل( :اللهم
اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني)()3
وهكذا كنت تذكر لهم الكثــير من صــيغ الــذكر ،وتــرغبهم فيهــا بكــل أصــناف
الترغيب ،ومن ذلك قولك( :لقيت إبراهيم ليلة أسري بي ،فقال :يا محمد أقرئ أمتك
مــني الســالم ،وأخــبرهم أن الجنــة طيبــة التربــة ،عذبــة المــاء ،وأنهــا قيعــان ،وأن
غراسها :سبحان هللا ،والحمد هلل ،وال إله إال هللا ،وهللا أكبر)()4
وكنت تقول لهم( :ما على األرض أحــد يقــول :ال إلــه إال هللا ،وهللا أكــبر ،وال
حول وال قوة إال باهلل ،إال كفرت عنه خطاياه ،ولو كانت مثل زبد البحر)()5
وكنت تقول( :من قال ال إله إال هللا وحده ال شريك له ،لـه الملـك ولـه الحمـد،
وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت لــه عــدل عشــر رقــاب ،وكتبت لــه
مائة حسنة ،ومحيت عنه مائة سيئة ،وكانت له حرزا من الشيطان يومــه ذلــك حــتى
يمسي ،ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إال أحد عمل أكثر من ذلك)()6
وغيرها من األذكار الكثيرة التي ال يزال طالبو هللا ومريــدوه في كــل العــالم،
وفي كل األزمنة يترددون عليها ،ويرددونها ،ليترقوا بها إلى منازل القرب التحققية
والتخلقية.
ولم تكتف بذلك ـ سـيدي ــ بـل إنـك وضـعت لنـا منظومـة كاملـة من األذكـار
واألدعيــة ،ولكــل المناســبات ،حــتى نرتبــط مــع هللا في جميــع أحوالنــا ،مثلمــا كنت
مرتبطا به في جميع أحوالك.
ومن األمثلة عنها تلــك األذكــارـ الــتي علمتنــا فيهــا كيــف نطبــق تلــك األوامــر
اإللهية التي تدعونا إلى الذكر صباحا ومساء ،كقوله تعالىَ ﴿ :و ْاذ ُك ِر ا ْس َم َربِّكَ بُ ْك َرةً
)(1رواه مسلم.
)(2رواه مسلم.
)(3رواه مسلم.
)(4رواه الترمذي.
)(5رواه أحمد والترمذي.
)(6رواه البخاري ومسلم.
199
َوأَ ِ
صــيالً﴾ (االنســان ،)25:وقولــه ﴿:فَ ُســب َْحانَ هَّللا ِ ِحينَ تُ ْم ُســونَ َو ِحينَ تُ ْ
صــبِحُونَ ﴾
(الروم)17:
ومن األمثلة عنها ما ورد في قولــك( :مــا من عبــد يقــول في صــباح كــل يــوم
ومساء كل ليلة :بسم هللا الذي ال يضــر مــع اســمه شــيء في األرض وال في الســماء
وهو السميع العليم ،ثالث مرات ،لم يضره شيء)()1
ومنها هذا الدعاء الجميل الجــامع الــذي تقــول فيــه( :اللهم أنت ربي ال إلــه إال
أنت ،خلقتني وأنا عبدك ،وأنا على عهدك ووعدك ما اســتطعت ،أعــوذ بــك من شــر
ما صنعت ،أبوء لك بنعمتك علي ،وأبوء لك بذنبي فاغفر لي ،فإنه ال يغفــر الــذنوب
إال أنت) ،والذي سميته ]سيد االستغفار] ،وذكرت الجزاء الذي أناطه هللا بــه ،فقلت:
(من قالها من النهار موقنا بها فمات من يومــه قبــل أن يمســي فهــو من أهــل الجنــة،
ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة)()2
ومنها هذا الدعاء الخاشع( :أمسينا وأمسى الملك هلل ،والحمد هلل ،ال إله إال هللا
وحده ال شريك له ،له الملك وله الحمد وهو على كل شـيء قــدير ،رب أســألك خــير
ما في هذه الليلة وخير ما بعدها ،وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة وشر ما بعدها،
رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر ،رب أعوذ بـك من عـذاب في النـار ،وعـذاب
في القبر) ()3
وغيرهــا من األذكــار واألدعيــة الكثــيرة الــتي خصصــت بهــا ذينــك الوقــتين
المباركين.
وهكــذا تــركت لنــا ــ ســيدي ــ ثــروة كبــيرة من الــذكر والــدعاء ترتبــط بكــل
الجوانب ..منها القصير ومنهــا الطويـل حـتى تـراعي الظــروف المختلفـة ألصــناف
الناس ،فمن األدعية المأثورة عنك في السفر ما حدث بــه بعضــهم عنــك ،قــال :كــان
رســول هللا إذا أراد أن يخــرج في الســفر قــال( :اللهم أنت الصــاحب في الســفر،
والخليفة في األهل ،اللهم إني أعوذ بــك الضــبنة في الســفر ،اللهم إني أعــوذ بــك من
وعث السفر ،كآبة المنقلب ،اللهم اقبض لنا األرض ،وهون علينا السفر)()4
وحدث آخر قال :كان رسول هللا إذا خرج إلى سفر قال( :اللهم بلغ بالغـا يبلـغ
خيرا ،ومغفرة منك ورضوانا ،بيدك الخير ،إنك على كل شئ قـدير ،اللهم أنت الصـاحب
في السفر ،والخليفة في األهل ،اللهم هون علينا السفر ،واطو لنا األرض ،اللهم إني أعـوذ
بك من وعثاء السفر ،وكآبة المنقلب)()5
وحدث آخر قال :لم يرد رسول هللا سفرا قط إال قـال حين ينهض من جلوسـه:
)(1رواه الترمذي.
)(2رواه البخاري.
)(3مع تبديل الصيغة بقوله :( :أصبحنا وأصبح الملك هلل) رواه مسلم.
)(4رواه مسدد وابن أبي شيبة وأحمد ،والطبراني ،والبزار.
)(5رواه أبو يعلى برجال ثقات.
200
(اللهم بك انتشرت ،وإليك توجهت ،وبــك اعتصــمت ،اللهم أنت رجــائي ،اللهم اكفــني مــا
أهمــني ،ومــا ال أهتم لــه ،ومــا أنت أعلم بــه مــني ،وزودني التقــوى ،واغفــر لي ذنــبي،
ووجهني للخير حيث ما توجهت)()1
ومن األدعية المأثورة عنـك عنـد الـدخول إلى السـوق قولــك( :باسـم هللا اللهم
إني أسألك خير هذه السوق وخير ما فيها وأعوذ بك من شرها وشــر مــا فيهــا ،اللهم
إني أعوذ بك أن أصيب فيها يمينا فاجرة أو صفقة خاسرة)()2
ومن األدعية المأثورة عنك عند الــدخول إلى الــبيت قولــك( :اللهم إني أســألك
خير المولج وخير المخرج باسم هللا ولجنا وباسم هللا خرجنا وعلى هللا ربنا توكلنــا..
الحمد هلل الذي كفاني وآواني والحمد هلل الذي أطعمني وســقاني والحمــد هلل الــذي من
علي أسألك أن تجيرني من النار)( ،)3ثم تسلم على أهلك.
ومن األدعية واألذكار المأثورة عنك عند الطعام ما ورد في قولــك( :إذا أكــل
أحدكم فليذكر اسم هللا تعــالى في أولــه ،فــإن نســي أن يــذكر اســم هللا تعــالى في أولــه
فليقل :بسم هللا أوله وآخره)()4
وقولك( :من أكل أو شرب فقال :الحمد هلل الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيــه
من غير حول مني وال قوة غفر له ما تقدم من ذنبه)()5
وقولــك عنــد االنتهــاء من الطعــام( :الحمــد هلل الــذي أطعمنــا وســقانا وجعلنــا
مسلمين)( ،)6وقولــك( :اللهم أطعمت وسـقيت وأغـنيت وأقـنيت وهـديت واجتـبيت فلـك
الحمد على مـا أعطيت)( ،)7وقولـك( :الحمـد هلل كثـيرا طيبـا مباركـا فيـه غـير مكفي وال
مودع وال مستغني عنه ربنا)()8
ومن األدعية واألذكار المأثورة عنك عند النوم قولك( :اللهم ،فاطر السموات
واألرض ،عالم الغيب والشهادة ،رب كل شــئ ،وإلــه كــل شــئ ،أشــهد أن ال إلــه إال
أنت ،وحدك ال شريك لــك ،وأن محمــدا عبــدك ورســولك ،والمالئكــة يشــهدون،
اللهم أعــوذ بــك من الشــيطان وشــركه ،وأن أقــترف على نفســي إثمــا أو أجــره على
مسلم)()9
وقولك( :باسم هللا وضعت جنبي ،اللهم اغفر لي ذنبي وأخسئ شيطاني ،وفك
)(1رواه البخاري.
)(2رواه أبو داود.
)(3رواه الطبراني برجال ثقات.
)(4رواه الطبراني.
203
ومنها( :اللهم اجعلني أخشاك حتى كأني أراك أبدا حتى ألقاك ،وأســعدني بتقــواك،
وال تشقني بمعصيتك ،وخر لي في قضائك ،وبارك لي في قدرك حتى ال أحب تعجيل ما
أخرت ،وال تـأخير مـا عجلت ،واجعـل غنـائي في نفسـي ،وامتعـني بسـمعي وبصـري،
واجعلهما الوارث مني ،وانصرني على من ظلمني ،وأرني فيه ثأري ،وأقر بذلك عيني)
()1
ومنها( :اللهم إني أسألك إيمانا يباشر قلبي ،حـتى أعلم أنـه ال يصـيبني إال مـا كتب
لي ،ورضا من المعيشة بما قسمت لي)()2
ومنها( :اللهم بارك لي في ديني الذي هو عصمة أمـري ،وفي آخـرتي الـتي إليهـا
مصيري وفي دنياي التي فيها بالغي ،واجعل حياتي زيادة في كل خير ،واجعــل المــوت
راحة لي من كل شر)()3
ومنها( :اللهم اجعلني شكورا ،واجعلني صبورا واجعلني في عيني صــغيرا ،وفي
عين الناس كبيرا) ()4
ومنهـا( :اللهم اغفـر لي خطيئـتي وجهلي وإسـرافي في أمـري ،ومـا أنت أعلم بـه
مني ،اللهم اغفر لي جدي وهزلي ،وخطئي وعمدي وكل ذلك عنـدي ،اللهم اغفـر لي مـا
قدمت ،وما أخرت ،وما أسررت وما أعلنت ،وما أنت أعلم بــه مــني ،أنت المقــدم ،وأنت
المؤخر ،وأنت على كل شئ قدير)()5
ومنها( :اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والــبرد ونــق قلــبي من الخطايــا كمــا نقيت
الثوب األبيض من الدنس ،وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب)
()6
ومنها( :اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد ،اللهم طهر قلبي من الخطايا كمـا
طهرت الثوب األبيض من الـدنس ،وباعـد بيـني وبين ذنـوبي كمـا باعـدت بين المشـرق
والمغرب اللهم إني أعوذ بك من قلب ال يخشع ،ونفس ال تشبع ودعـاء ال يسـمع ،وعلم ال
ينفع ،اللهم إني أعوذ بـك من هـؤالء األربـع اللهم إني أسـألك عيشـة نقيـة ،وميتـة سـوية،
ومردا غير مخز وال فاضح)()7
ومنها( :اللهم إني ضـعيف فقـو في رضـاك ضـعفي ،وخـذ إلى الخـير بناصـيتي،
واجعـل اإلسـالم منتهى رضـائي ،اللهم إني ضـعيف فقـوني ،وإني ذليـل فـأعزني ،وإني
فأغنني ،اللهم بلغني من رحمتك ما أرجو من رحمتـك ،واجعـل لي ودا عنـد الـذين آمنـوا
207
العفو الحليم
سيدي يا رسول هللا ..يا من أدبه ربه فأحسن تأدبيــه ،وربــاه فأحســن تربيتــه..
يل[ الحجر ،]85 :وقوله :فَاصْ فَحْ ص ْف َح ْال َج ِم َ وكان من تأديبه له قوله :فَاصْ فَ ِ
ح ال َّ
ف يَ ْعلَ ُمونَ [ الزخرف:ـ ]89 َع ْنهُ ْم َوقُلْ َساَل ٌم فَ َسوْ َـ
لقــد رحت أقــرأ هــذه الكلمــات المقدســة في ســفر حياتــك؛ فوجــدتهاـ منطبعــة
بحروفها في كل لحظة من لحظاتهــا ..أو موقــف من مواقفهــا ..حــتى تلــك المواقــف
الشديدة التي تهتز لها القلوب ..ويأبى الطبـع إال أن يغلب صـاحبه فيهـا ..لكنــك ــ يـا
سيدي يا رسول هللا ـ كنت تملك زمام نفسك ،وتواجههـاـ بمـا أدبـك ربـك من الصـفح
الجميل.
ال أزال أرى بعيـــني ذلـــك األعـــرابي الـــذي راح يـــدنس المســـجد ..فهم بـــه
األصــحاب لينهــروه ..لكنــك نهــرتهم بكــل لطــف ..وقلت لهم بكــل هــدوء( :دعــوه
ميسـرين ولم تبعثـوا وأهريقواـ على بوله ذنوبا من ماء أو سجال من مـاء فإنّمـا بعثتم ّ
معسّرين) ()1
وال أزال أرى بعيني ثمامــة بن أثــال ،ذلــك الــذي حاربــك ،فلمــا تمكنت منــه،
وأصبح أسيرا لديك ،خرجت إليه ،وقلت لــه( :مــا عنــدك يــا ثمامــة؟) فقــال( :عنــدي
خير يا مح ّمد إن تقتلني تقتل ذا دم ،وإن تنعم تنعم على شاكر.ـ وإن كنت تريـد المــال
فسل منه ما شئت) ..فأطلقته من غير أن تطــالب بفديــة وال مــال ..فـانطلق إلى نخــل
قريب من المسجد ،فاغتسل ث ّم دخل المسجد ،وقال مخاطبا لك ،بعد أن أسرت قلبــك
أن مح ّمــدا رســول هّللا .يــا
بصفحك وجميل أخالقك( :أشهد أن ال إلـه إاّل هّللا ،وأشــهد ّ
مح ّمد ،وهّللا ما كــان على األرض وجــه أبغض إل ّي من وجهــك ،فقــد أصــبح وجهــك
أحبّ الوجــوه إل ّي .وهّللا مــا كــان من دين أبغض إل ّي من دينــك ،فأصــبح دينــك أحبّ
ال ّدين إل ّي .وهّللا ما كان من بلد أبغض إل ّي من بلــدك ،فأصــبح بلــدك أحبّ البالد إل ّي)
()2
وال أزال أرى ذلك الذي سل سيفه عليك ،ليقتلك ،فلما تمكنت منــه بفضــل هللا
عفوت عنه ،وتركته يعــود إلى أهلــه من غــير أن تفــرض عليــه أن يصــحبك ،أو أن
تكرهه على اإلسالم ..لقد حدث حديثه جابر بن عبد هللا ،فقال :غزونا مع رسول هللا
قبــل نجــد ،فل ّمــا قفــل رســول هللا قفــل معــه ،فــأدركتهم القائلــة في واد كثــير
العضاه ،فنزل رسول هللا ،وتفرّق النّاس يستظلّون بال ّشجر .فنزل رسولـ هللا
تحت شجرة وعلّق بهــا ســيفه ونمنــا نومــة ،فــإذا رســول هللا يــدعونا ،وإذا عنــده
(إن هذا اخترطـ عل ّي سيفي وأنا نائم ،فاستيقظتـ وهــو في يــده صــلتا، أعراب ّي فقالّ :
)(1رواه الطبرانى ( 5/222رقم )5147قال الهيثمىـ ( :)8/240رجاله ثقات .والحاكم ( ،3/700رقم )6547
وقال :صحيح اإلسناد.
)(2رواه ابن سعد .142 -141 /2
)(3البخاري -الفتح ،)3477( 6مسلم ()1792
)(4مسلم ( ،2008 /4رقم ،)2601وأحمد ( ،493 /2رقم )10408
210
حقا) ()5 الرضا والسخط؟) ،فقلت( :نعم ،فإنه ال ينبغي لي أن أقول في ذلك إال
بل إنهم لو عرضوا ذلك الحديث على القرآن الكريم ،وسمعوا منه قوله تعالى
ق ع َِن ْالهَـ َوى ( )3إِ ْن هُـ َو إِاَّلصا ِحبُ ُك ْم َو َما َغـ َوى (َ )2و َمــا يَ ْن ِطـ ُ
ض َّل َ
في حقكَ :ما َ
ي يُو َحى ([ )4النجم- 2 :ـ ]4لعلموا أنك أرفــع من أن يصــيبك ذلــك الضــعف َوحْ ٌ
الذي يصيب غيرك ،فيتكلم في حال غضبه بما ال يرضيـ هللا.
)(5رواه الحاكم ،1/105وابن عبد البر في جامع بيان العلم ،ص .89
211
الجواد الكريم
سيدي يا رسول هللا ..أيها الجواد الكريم الذي ال يضاهيه أحــد في جــوده ،وال
في كرمه ..وأنى له ذلك ،وجودكـ شـمل األزمنــة ،ومــدد فضـلك تعــالى أن تحصــره
األمكنة ..فنحن ال نزال نعيش في فيض كرمك ومددك..ـ فكــل من أقبــل عليــك أقبلت
عليه بأنواع اإلكرام والتفضل.
وكيف ال تفعل ذلك سيدي ،وقدـ قال هللا تعــالى عن أولئــك الجاحــدين الــذين لم
يعرفوا قيمتكَ :و َما نَقَ ُموا إِاَّل أَ ْن أَ ْغنَاهُ ُم هَّللا ُ َو َرسُولُهُ ِم ْن فَضْ لِ ِه [ التوبة]74 :؟
وما لك ال تكــون كــذلك ســيدي ،وأنت عبــد هللا الــذي تجلى عليــه هللا بأســمائه
الحســنى وصــفاته العليــا ،فتخلــق بهــا ،وتحققت فيــه ،فصــارـ مــرآة لهــا ،وقبسـاـ من
نورها ،وقد قلت معبرا عن ذلك( :أال أخبركم عن األجــود؟ هللا األجــود ،وأنــا أجــود
ولد آدم ،وأجودهم من بعــدي رجــل تعلم علمــا فنشــر علمــه ،يبعث يــوم القيامــة أمــة
وحده ،ورجل جاهد في سبيل هللا حتى يقتل)()1
وما لك ال تكون كذلك سيدي ،وأنت الذي كنت تعطي من سألك ،وتبــدأ من لم
يسألك ،وال تحتفظ في بيتك بدينار واحد ..وعندما دخلت على بالل الذي وكلته بكــل
مال يحصل لديك ،فوجدت عنده صبرة من تمر ،قلت له( :مــا هــذا يــا بالل؟) فقــال:
تمر أدخره ،فقلت( :ويحك يا بالل ،أو ما تخاف أن يكون له بخار في النار؟ أنفق يا
بالل ،وال تخش من ذي العرش إقالال) ()2
ولذلك كنت تنفق كــل مــا يصــل إليــك من المــال في كــل مواضــع الخــير ،وال
تحتفــظ لنفســك بشــيء ،وقــد روي أنــك دخلت على أم ســلمة ،فرأتــك كئيبــا حزينــا،
فسألتكـ عن سبب ذلك ،فقلت لها( :من أجل الدنانير الســبعة الـتي أتتنـا بــاألمس ،ولم
نقسمها)()3
وحدثت عائشة قالت ـ مخاطبـة شخصـين جـاءا يسـأالنهاـ عنـك ــ :لـو رأيتمـا
رسول هللا في مرض له ،وكانت عندي ستة دراهم أو سبعة ،فأمرني أن أفرقها،
فشغلنيـ وجعه حتى عافاه هللا ،ثم سألني عنها ،فقال( :مــا فعلت ،أكنت فــرقت الســتة
الدنانيرـ أو السبعة؟) فقلت :ال ،وهللا ،لقد كان شغلني وجعك ..فدعا بها ،فوضعها في
كفه ،فقال( :ما ظن نبي هللا لو لقي هللا وهذه عنده؟)()4
وحدث بالل قــال :دخــل رســول هللا ،وعنــدي شــيء من تمــر ،فقــال( :مــا
)(1رواه مسلم.
)(2رواه مسلم.
)(3رواه الدارمي.
)( 4رواه البخاري ،وابن ماجه ،وابن سعد ،والطبراني ،واإلسماعيلي والنسائي
)(5رواه الدارمي.
)(6رواه البخاري
214
فينطلقـ بمسألته يتأبطها،ـ وما هي إال نار) ،فقال عمر :يــا رســول هللا ،فلم تعطهمـ مــا
هو نار؟ فقال( :يأبون إال أن يسألوني ويأبيـ هللا لي البخل) ()1
وذكر في حديث آخر أن ناســا من األنصــارـ ســألوك ،فــأعطيتهم،ـ ثم ســألوك،
فأعطيتهم ،ثم قلت( :ما يكون عندي من خير ،فلن أدخره عنكم ،ومن يستعفف يعفــه
هللا ،ومن يستغن يغنه هللا ،ومن يتصبر يصبره هللا ،وما أعطي أحد عطاء هو خير،
وأوسعـ من الصبر) ()2
وحدث جبير بن مطعم أنـه بينمـا كـان معـك مقبال من حـنين علقت بـك األعـراب
يســألونك ،حــتى اضــطروك إلى ســمرة فخطفت رداءك ،فــوقفت ،وقلت لهم( :أعطــوني
ردائي ،فلو كان لي عدد هذه العضاة نعمـا لقسـمته عليكم ال بخيال ،وال كـذابا ،وال جبانـا)
()3
وحدث أنس أنك عام حنين سألك الناس ،فأعطيتهم من البقـر والغنم واإلبـل ،حـتى
لم يبق من ذلك شئ فقلت( :ماذا تريدون؟ أتريدون أن تبخلوني؟ فوهللا مــا أنــا ببخيــل ،وال
جبان ،وال كذوب) ،فجذبوا ثوبك حتى بدت رقبتك(.)4
وحدث سهل بن سعد قال :حكيت لرسول هللا حلة أنمار صوف أســود ،فجعــل
حاشيتها بيضاء ،وقام فيها إلى أصحابه ،فضرب بيده إلى فخذه فقال( :أال ترون إلى هــذه
ما أحسنها!) فقال أعرابي :يا رسول هللا بأبي أنت وأمي هبها لي ،وكان رسول هللا ال
يسأل شيئا أبدا فيقول :ال ،فقال( :نعم) ،فأعطاه الجبة(.)5
ولم يقف كرمـك ــ سـيدي ــ بهـذا الحـد ،بـل كنت في حـال عـدم قـدرتكـ على
العطاء تتكلف كل السبل لترضيـ من سألك ،حـتى ال يــذهب إال راضـيا ،وقــد حــدث
عمر قال :جاء رجل إلى النبي فقال :مــا عنـدي شـئ أعطيــك ،ولكن اسـتقرض،
حتى يأتينا شئ فنعطيك ،فقال عمر :ما كلفك هللا هذا ،أعطيت ما عندك ،فإذا لم يكن
عندك فال تكلف ،فكره رسول هللا ذلك ،حتى عرف في وجهه ،فقــال الرجــل :يــا
رسول هللا ،بــأبي وأمي أنت ،فأعــط ،وال تخش من ذي العــرش إقالال ،فتبسـمـ وجــه
رسول هللا وقال( :بهذا أمرت) ()6
هذه سيدي بعض مشاهد جودك وكرمك ،وهي كافية للمستبصــرين المؤمــنين
بك ،الذين يعلمون أنك المثل األعلى في كل شيء ..فأسألك سيدي ،وأتوسل بــك إلى
هللا أن يمأل القلب بالمعارفـ التي تجعلني جوادا كريما ،ال أقبض يدي عن معروف،ـ
وال أبخل بها عن إحسان ،حتى أكون أهال لصــحبتك ،ومعيتــك في الــدنيا واآلخــرة،
216
الصادق األمين
سيدي يا رسول هللا ..أيها الصادق الذي شهد لـه كـل شـيء بالصـدق ..األمين
الذي أقر له كل شيء باألمانة ..حتى صار لقبه في العالمين :الصادق األمين.
وكيف ال تكون كذلك سيدي ،وأنت الذي حُّ ملت أعظم رسالة ،و ُكلّفت بأضخم
مهمة ،وأنيطت بك أثقل أمانة ..فأديتها بكل دقة ورعاية وإتقان ،وبجميع تفاصــيلها،
ظاهرا وباطنا ،حتى لقيت هللا تعالى ،وقد أديت كل ما عليك من تكاليف..
الص ـ ْد ِ
ق ب بِ ِّ ـذ َب َعلَى هَّللا ِ َو َكـ َّ وقد شهد هللا لك بذلك ،فقال :فَ َم ْن أَ ْ
ظلَ ُم ِم َّم ْن َك َذ َ
ق بِ ِه أُولَئِــكَص َّد َ
ق َو َ ْس فِي َجهَنَّ َم َم ْث ًوى لِ ْل َكافِ ِرينَ (َ )32والَّ ِذي َجا َء بِالصِّ ْد ِ إِ ْذ َجا َءهُ أَلَي َ
هُ ُم ْال ُمتَّقُونَ [ الزمر]33 ،32 :
وقد أثبتت األيام صدق كل ما ذكرته ،فال استطاع العلم وال التطور وال التقدم
التقني وال العقول البشرية الكثيرة ،وال المؤسسات العلمية الضخمة ،أن تكذب حرفا
واحدا مما جئت به ،بل كلها أقــرت لــك بالصــدق ،وأنــك بلغت كــل مــا ُكلفت بــه من
غير زيادة وال نقصان.
وأثبتت األيام معها عظيم نصحك ألمتك التي خالفتك في كثــير من وصــاياك؛
فنزل بها ما نزل باألمم قبلها من البعد عن كتابها وهــديك ،فــآل حالهــا إلى الضــعف
واالستبداد والتفرق ،ولو أنها اتبعت وصاياك ،ونفذت تعاليمــك كمــا بلغتهــا ،لكــانت
أفضل األمم ،وأقواها ،وأطهرها ،وفي جميع العصور.
ولم تكن األيام فقط هي التي شهدت لك بذلك ـ سيدي ـ بــل إن قومــك أنفســهم،
أولئك الذين نصـبوا لـك العـداء ،كـانوا أكـثر النـاس تصـديقا لكم ،لكن الكـبر والظلم
ك الَّ ِذي والعتــو حــال بينهم وبين اتباعــك ،كمــا قــال هللا تعــالى :قَـ ْد نَ ْعلَ ُم إِنَّهُ لَيَحْ ُزنُـ َ
ت هَّللا ِ يَجْ َح ُدونَ [ األنعام]33 : ك َولَ ِك َّن الظَّالِ ِمينَ بِآيَا ِ
يَقُولُونَ فَإِنَّهُ ْم اَل يُ َك ِّذبُونَ َ
وقد روي في سبب نزولها أن أبا جهل لقيك؛ فقال :إنا ال نكذبك ،ولكن نكــذب
ما جئت به (.)1
وحدث بعضهم قال :لقي النبي أبا جهل فصافحه ،قال لــه رجــل :أال أراك
تصافح هذا الصابئ؟! فقال :وهللا إني أعلم إنه لنبي ،ولكن متى كنا لبني عبــد منــاف
تبعا؟
ْ
وروي أنــه جــاء يســتمع لقراءتــك من الليــل ،هــو وأبــو ســفيان ،واألخنَس بن
ِشريْق ،وال يشعر واحـ ٌد منهم بــاآلخر ،فاســتمعوها إلى الصــباح ،فلمــا ه ََجم الصــبح
تَف َّر قوا ،فجمعتهم الطريق ،فقال كل منهم لآلخر :ما جاء بك؟ فذكر له ما جاء له ،ثم
تعاهدوا أال يعودوا ،لما يخافون من علم شباب قريش بهم ،لئال يفتتنوا بمجيئهم ،فلما
كانت الليلة الثانية جاء كل منهم ظَنًـا أن صــاحبيه ال يجيئـان ،لمــا تقـدم من العهــود،
سيدي يا رسول هللا ..أيها الملهم المسدد ..المعلّم المؤيــد ..يــا من علمــك ربــك
ورباك ،وفهمك ووعاك ..وأعطاك من كل أنــواع اإلدراك ..فصــار الكــل تالميــذك،
وصرت أنت إمامهم وخبيرهم وقائدهم وحكيمهم.
وكيف ال تكون كذلك ـ سيدي ــ وهَّللا ُ أَ ْعلَ ُم َحي ُ
ْث يَجْ َعـ ُل ِر َسـالَتَهُ [ األنعــام:
..]124فما كان لمن يتولى ذلك المنصب الرفيع الذي توليته ،والذي صــرت بســببه
الواسطة بين هللا وعباده ..إال أن يكون لك من قــوة العلم واإلدراك والفهم والحكمــة،
ما يجعلك مسددا تضع كل األمور في مواضعها الصحيحة :إمــا بإرشــاد مباشــر من
هللا تعــالى وذلــك هــو اإللهــام والــوحي ..أو بالصــفاء والقدســية ،وتلــك هي العبقريــة
والخبرة.
فلذلك كنت ـ سيدي ـ تملك من القـدرات اإلدراكيـة مــا يفـوق بــدرجات كثـيرة
جميع العقول ،ولو اجتمعت مع بعضها بعضا؛ فقد كنت تملــك قــوة الــذكاء والــذاكرة
وحدة الذهن ودقة المالحظة واستبصار العواقب وغير ذلك مما تحتاج إليه الوظيفــة
التي أنيطت بك.
باإلضــافة إلى ذلــك كلــه ،ذلــك الصــفاء والقدســية الــتي تجعلــك محال لتــنزل
إلهامــات هللا ومالئكتــه ،فــترى العــواقب ،واألمــور كمــا هي من غــير تشــويه وال
تحريف وال تبديل.
ومن يجادل في امتالكك لكل تلك القدرات جاهل بقدر النبوة وعظمتهــا ،ذلــك
أن النبوة تتناقض مع كل ما يخل بأدوات اإلدراك ،واالســتقبال؛ فيســتحيل أن يكــون
النبي أبله أو غبيا أو مغفال أو غير ذلــك من النقــائص الــتي يتــبين من خاللهــا نقص
جوهره ،وضعف إدراكه.
وكيف يكون ذلــك ســيدي؟ ..وهــل يمكن لمن اســتطاع أن يعــاين الملكــوت أن
يعجز عن معاينة الملك؟ ..وهل يمكن لمن استطاع أن يتواصــل مــع عــالم الغيب أن
يعجــز عن التواصــل مــع عــالم شــهاده؟ ..وهــل يمكن لمن اســتطاع أن تمتــد عينــاه
لألفالك العليــا ،فــيرىـ من أســرارها مــا ال يــراه غــيره أن يعجــز عن رؤيــة مــا هــو
أمامه؟
إن الذي يقول ذلك ســيدي ،ال يختلــف عن ذلــك الــذي يتصــور أنــه يمكن لمن
استطاع عقله أن يحـل أعقـد المسـائل الرياضـية أن يعجـز عن حـل مسـألة جمـع أو
طرح أو ضرب.
بــل إن األمــر بالنســبة لــك أعظم؛ فــأنت لم تكن تملــك الــذكاء المجــرد ،وال
العبقرية البشــرية المحــدودة فقــط ،وإنمــا كنت تملــك معهمــا حكمــة مســددة من المأل
األعلى متواصلة تواصال دائما معك..
إن هللا ورســولهولذلك كنت غنيا عن استشارة غيرك ،وقد قلت في ذلك( :أما َّ
221
لغنيان عنها ،ولكن جعلها هللا تعالى رحمة ألمتي ،فمن استشار منهم لم يعدم رشــداً،
ومن تركها لم يعدم غيًّا)()1
بل إن القرآن الكـريم أشـار إلى ذلـك عنـدما أمـرك باستشـارة أصـحابك ،فقـد
أخبرك أن ذلك من مقتضيات رحمتك بهم ،وتأليفك لقلوبهم ،قال تعالى﴿ :فَبِ َما َرحْ َم ٍة
اس ـتَ ْغفِرْ
ك فَاعْفُ َع ْنهُ ْم َو ْ ب اَل ْنفَضُّ وا ِم ْن َحوْ لِ َ ِمنَ هَّللا ِ لِ ْنتَ لَهُ ْم َولَوْ ُك ْنتَ فَظًّا َغلِيظَ ْالقَ ْل ِ
اورْ هُ ْم فِي اأْل َ ْم ِر﴾ [آل عمران]159 : لَهُ ْم َو َش ِ
إن مثلك في ذلك ـ سيدي ـ مثل األستاذـ الذي يتيح لطلبته أن يــدلوا بــآراهم في
مسألة من المسائل ،ثم يظهر عجبه من عبقريتهم وذكائهم،ـ وإن كــان هــو نفســه يعلم
بذلك مسبقا ..ولكن رحمته بهم تجعله ينهج ذلك المنهج.
وقــد ورد هــذا في شــمائلك ــ ســيدي ــ فقــد وصــفك هنــد بن أبي هالــة ،فقــال:
(يضــحك ممــا يضــحكون منــه ،ويعجب ممــا يعجبــون منــه ،ويصــبر للغــريب على
الجفوة في المنطق)()2
وقريب منــه مــا وصــفك بــه أنس حين قــال( :كــان إذا لقيــه أحــد من أصــحابه
فتناول أذنه ،ناوله إياها ،ثم لم ينزعها حتى يكون الرجل هو الذي ينزعها عنه)()3
وقريب من ذلك أيضا ما ورد في القرآن الكريم من عتاب هللا تعالى لك ،وهو
عتاب المحب لمحبه ،فعند التأمل في مواردها نجدها جميعا تنبعث من رحمتــك بمن
تريد أن تؤلف قلوبهم ..ولذلك فــإن ذلــك العتــاب لم يكن حقيقيــا ،وإنمــا هــو من بــاب
[إياك أعني واسمعي يا جارة]
إن مثله ـ سيدي ـ مثل أن يقول الوالد لمعلم ابنه :لم لم تعاقبــه عنــدما أخطــأ؟..
ولم لنت له مع أنه كان في إمكانك أن تعاقبـه؟ ..وهـو ال يقصــد بـذلك عتــاب المعلم،
وإنما يقصد توجيه اللوم البنه وتربيته من خالل ذلك.
ك ولهذا ،فإن قولــه تعــالى مخاطبـاـ لــك﴿ :يَاأَيُّهَــا النَّبِ ُّي لِ َم تُ َحــرِّ ُم َمــا أَ َحـ َّل هَّللا ُ لَـ َ
ك َوهَّللا ُ َغفُو ٌر َر ِحي ٌم﴾ [التحريم ]1 :ليس من ذلك العتاب الذي ضاتَ أَ ْز َوا ِج َـ تَ ْبت َِغي َمرْ َ
يفهمه المحجوبون ،وإنما هو من عتاب المحبين..
فأنت لم تحرم ما أحــل هللا لــك إال ألنــك كنت تشــعر أنــك مــأمور بــأن تحســن
لزوجاتك،ـ وأن تعطي المثل للمؤمنين في الرفــق بهن مهمــا أســأن التصــرف معــك،
ولذلك كنت تســعى في مرضــاتهن ،ال ألجلهن ،وإنمــا ألجــل تحقيــق عبوديــة هللا في
التعامل معهن ،ولهذا نبهك هللا ،أو نبههن بطريق غير مباشرـ إلى أن يراعين حســن
العشرة معك..
ولهذا جاء بعد تلك اآليات ذلك التهديد الشديد لنسائك إن أسأن العشــرة معــك،
َت قُلُوبُ ُك َما َوإِ ْن تَظَاه ََرا َعلَ ْي ِه فَإِ َّن هَّللا َ ه َُو َمــوْ اَل هُ صغ ْ قال تعالى﴿ :إِ ْن تَتُوبَا إِلَى هَّللا ِ فَقَ ْد َ
)(1رواه ابن عدي والبيهقيـ في الشعب.
)(2شمائل الترمذي.
)(3رواه ابن سعد.
222
َسـى َربُّهُ إِ ْن طَلَّقَ ُك َّن أَ ْن صالِ ُح ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َو ْال َماَل ئِ َكةُ بَ ْعـ َد َذلِــكَ ظَ ِهــي ٌر ( )4ع ََو ِجب ِْري ُـل َو َ
تت ثَيِّبَــا ٍ ت َسـائِ َحا ٍ ت عَابِـدَا ٍ ت قَانِتَــا ٍ
ت تَائِبَــا ٍ يُ ْب ِدلَهُ أَ ْز َوا ًجاـ َخ ْيرًا ِم ْن ُك َّن ُم ْسلِ َما ٍ
ت ُم ْؤ ِمنَا ٍ
َوأَ ْب َكا ًراـ ([ ﴾)5التحريم]5 ،4 :
ومثل ذلـك مـا ورد في قولـه تعـالى مخاطبـا لـكَ ﴿ :عفَـا هَّللا ُ َع ْنـكَ لِ َم أَ ِذ ْنتَ لَهُ ْم
ص َدقُوا َوتَ ْعلَ َم ْال َكا ِذبِينَ ﴾ [التوبة ،]43 :فقد كنت ـ ـ ســيدي ـ ـ في َحتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّ ِذينَ َ
قمة الصفاء والرقة والرحمة ..ولذلك كنت تقبل كل من اعتذر لك حتى لو كنت تعلم
كذبه حرصا عليه ورحمة به ،فنبهك هللا أو نبههم إلى أن إذنك ال ينفع إال الصادقين.
ومثل هذا أيضا تلك الرحمة التي كنت تبديها للمنافقين ،والتي تصور البعض
أنك كنت مخطئا فيها حتى جاء من جاء ليصحح لك خطأك.
وهكذا يقال في كل ما ورد في الروايــات من استشــارتك ألصــحابك؛ فلم تكن
عن نقص حكمة ،وال عن حاجتك لهم ،وإنما كانت تأليفا لقلوبهم وتربية لهم.
لكن المغرضين سيدي ،راحوا يفهمونها من غير مراعاة لقدرك ،وال احــترام
لنبوتك ،ولذلك رموك بالعظائم ،وجردوك ـ من حيث يشعرون أو ال يشعرون ـــ من
كل معاني الحكمة والذكاء والبصيرة ،وجعلوك عاجزا تنتظر ما يقرره أصحابك..
وكل ذلك ـ ســيدي ــ في ســبيل أن يرفعــوا أصــحابك ،ويثبتــوا منــاقبهم ،الــتي
توهموا أنها ال يمكن أن تثبت إال بالحط من شأنك ،وإبراز ضعفك ،لتبرز من خالل
تلـك المواقــف قـدرة أصـحابك وذكــاؤهم وحكمتهم ،وأن هللا اصــطفاهم لـك ،وأنـك ـ
لوالهم ـ لنزل بك العذب ،وألخرجت من ديوان النبوة.
ال يمكنني ـ سيدي ـ أن أورد لك هنا ما ذكروا ،فهو كثير جدا ،وهم يذكرونــه
بفخــر واعــتزاز ،معظمين لــذلك الصــحابي الــذي جــرت تلــك المواقــف على يديــه،
متناسين أنهم برفعهم له وضعوك ..وبتبــيينهم لذكائــه وفطنتــه وحكمتــه واستبصــاره
لألمور اتهموك بالغباء والغفلـة والعجلـة وغيرهـا من الصـفات الـتي ال تتوافـق مـع
نبوتك.
ومن األمثلة على ذلك ما يســمونه [موافقــات عمــر] ،والــتي ألفت فيهــا الكتب
التي حاول أصحابها ـ من أجل إعطــاء المزيــد من القدســية للصــحابة ــ أن يعتــبروا
عمر هو صاحب الفضل في تلك األحكام اإللهية ..وهــو مــا يعطي بعــد ذلــك ذريعــة
لكل مشكك في أن يعتبر عمر ممن أسسوا هذا الدين ،وممن وضعوا بعض األحكــام
المرتبطة به..
فمن تلك الموافقات :الصالة عند مقام إبراهيم ،والتي ورد بشأنها قوله تعالى:
صًلـًّّى ﴾(البقرة)125 : وا ِمن َّمقَ ِام إِ ْب َرا ِهي َم ُم َ ﴿ َواتَّ ِخ ُذ ْ
ومنها دعوته للحجـاب ،والـذي نـزل في شـأنه قولـه تعـالىَ ﴿:وإِ َذا َسـأ َ ْلتُ ُموه َُّن
ب ﴾ (األحزاب)53 : َمتَاعا ً فَاسْأَلُوه َُّن ِمن َو َراء ِح َجا ٍ
َسـى َربُّهُ إِن طَلَّقَ ُك َّن أَن يُ ْب ِدلَـهُ أَ ْز َواجـا ً خَ ْيــراً ومنها قوله ألمهات المؤمنين﴿ :ع َ
ت( ﴾....التحريم ،)5 :فنزلت كما قال. ِّمن ُك َّن ُم ْسلِ َما ٍ
223
ك َع ِن ومنها ما ورد في تحريم الخمــر في عــدة آيــات ،كقولــه تعــالى ﴿يَ ْسـأَلُونَ َ
اس ﴾ (اليقرة ،)219 :وقوله تعالى﴿ :يَــا ْالخَ ْم ِر َو ْال َم ْي ِس ِر قُلْ فِي ِه َما إِ ْث ٌم َكبِي ٌر َو َمنَافِ ُع لِلنَّ ِ
ـوا َمــا تَقُولُــونَ ﴾ (النســاء: ارى َحتَّ َى تَ ْعلَ ُمـ ْ صالَةَ َوأَنتُ ْم ُسـ َك َ وا الَ تَ ْق َرب ْ
ُوا ال َّ أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ
نصـابُ َواألَ ْزالَ ُم ـوا إِنَّ َمـا ْالخَ ْمـ ُر َو ْال َمي ِْسـ ُر َواألَ َ ،)43وقوله تعالى﴿ :يَا أَيُّهَـا الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ
ِرجْ سٌ ِّم ْن َع َم ِل ال َّش ْيطَا ِن فَاجْ تَنِبُوهُ لَ َعلَّ ُك ْم تُ ْفلِحُونَ ﴾(المائدة)90 :
ـاركَ هَّللا ُ أَحْ َس ـنُ ومنهــا مــا ورد في ســورة المؤمنــون من قولــه تعــالى ﴿ :فَتَبَـ َ
ْالخَالِقِينَ ﴾(المؤمنون)14 :
ومنها الصالة على المنافقين عند موتهم في واقعة مــوت عبــد هللا ابن أبي ابن
صلِّ َعلَى أَ َح ٍد ِّم ْنهُم َّماتَ أَبَداً َوالَ تَقُ ْم َعلَ َى قَب ِْر ِه﴾ سلول ونزول قول هللا تعالىَ ﴿ :والَ تُ َ
(التوبة)84 :
َ َ
﴿س ـ َواء َعلَ ْي ِه ْم أ ْس ـتَ ْغفَرْ تَ لَهُ ْم أ ْم لَ ْم ومنهــا اإلســتغفار للمنــافقين ،قــال تعــالىَ :
تَ ْستَ ْغفِرْ لَهُ ْم لَن يَ ْغفِ َر هَّللا ُ لَهُ ْم إِ َّن هَّللا َ اَل يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم ْالفَا ِسقِينَ ﴾(المنافقون)6 :
﴿ولَــوْ اَل إِ ْذ َسـ ِم ْعتُ ُموهُ قُ ْلتُم َّما يَ ُكــونُ لَنَــا أَن ومنها واقعة اإلفك في قوله تعــالىَ :
َظي ٌم ﴾(النور)16 : َان ع ِ ك هَ َذا بُ ْهت ٌنَّتَ َكلَّ َم بِهَ َذا ُس ْب َحانَ َ
ومنهــا واقعــة اليهـود وعــداوة جبريــل وقــول هللا تعــالى﴿ :قُـلْ َمن َكـانَ عَـ ُد ّواً
صدِّقا ً لِّ َما بَ ْينَ يَ َد ْي ِه َوهُدًى َوبُ ْش َرى لِ ْل ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ ك بِإِ ْذ ِن هّللا ِ ُم َلِّ ِجب ِْري َل فَإِنَّهُ نَ َّزلَهُ َعلَى قَ ْلبِ َ
(البقرة)97 :
ومنهــا واقعــة قتــل عمــر لمن رفض حكم رســول هللا حيث قــال تعــالى﴿ :فَالَ
ُوا فِي أَنفُ ِسـ ِه ْم َح َرجـا ً ِّم َّما ك فِي َما َش َج َر بَ ْينَهُ ْم ثُ َّم الَ يَ ِجـ د ْ َو َربِّكَ الَ ي ُْؤ ِمنُونَ َحتَّ َى يُ َح ِّك ُمو َ
وا تَ ْسلِيما ً ﴾(النساء)65 : ضيْتَ َويُ َسلِّ ُم ْ قَ َ
ومنها واقعة اإلستئذان في الـدخول وقــول هللا تعـالى﴿ :يَـا أَيُّهَـا الَّ ِذينَ آ َمنُـوا اَل
تَ ْد ُخلُوا بُيُوتـا ً َغ ْيـ َر بُيُــوتِ ُك ْم َحتَّى تَ ْستَأْنِ ُسـوا َوتُ َسـلِّ ُموا َعلَى أَ ْهلِهَــا َذلِ ُك ْم خَ ْيـ ٌر لَّ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم
تَ َذ َّكرُونَ ﴾(النور،)27 :
ومنها حكمه في أسـارى بـدر ،فـنزلت كمـا ذكـرَ ﴿:مـا َكـانَ لِنَبِ ٍّي أَن يَ ُكـونَ لَـهُ
ض( ﴾ ...األنفال)67 : أَس َْرى َحتَّى ي ُْث ِخنَ فِي األَرْ ِ
وفي هذا المقــام يــذكر الخطبــاء والوعــاظ كثــيرا ،وببعض التبــاهي أنــك حين
ض﴾ (األنفــال: نزلت هذه اآليةَ ﴿:ما َكانَ لِنَبِ ٍّي أَن يَ ُكونَ لَهُ أَ ْس ـ َرى َحتَّى ي ُْث ِخنَ فِي األَرْ ِ
)67قلت( :لو نزلت نار من السماء ألحرقتنا إال عمر)()1
وهم ال يكتفون بذلك ـ سيدي ـ بل إنهم يمططون في القصة ،ويضــيفون إليهــا
بعض التوابل ليخرج الناس منبهرين بعبقريــة عمــر وذكائــه وحكمتــه ،وينســوا أنهم
خرجوا أيضا وقد بنوا كل ذلك البنيان على حساب تقديرهم لك ولنبوتك وإللهــام هللا
لك.
ونحن ال يهمنا ـ سيدي ـ أن يقدروا عمر أو غيره من الصحابة أو التابعين أو
)(1ذكر القصة الطبري وابن كثير والقرطبي وابن العربي والماوردي وغيرهم.
224
تابعيهم ..ولكن ال على حسابك ..فنحن مأمورون بالتأســي بـك وتعظيمـك وتعزيــرك
وتوقيرك ..ولسنا مأمورين بفعل ذلك مع غيرك.
لم يكتفوا بذلك ـ سيدي ـ بل إنهم راحوا ألخطر موقف وقفــه بعض أصــحابك
معك ،وذلك عند احتضارك ،في ذلك الحين الذي كــان األصــل أن يطلبــوا منــك فيــه
الوصية ،ليعرفوا من هو خليفتك من بعدك ..لكنهم لم يفعلوا ،بل راحوا يمنعونــك أن
توصي..
لقد ذكر ابن عباس ما حدث في ذلك اليوم متأســفا حزينــا ،فقــال( :لمــا حضــر
رسول هللا ،وفي البيت رجال منهم عمر بن الخطاب ،قال النــبي ( :هلم أكتب لكم
كتابـا ً ال تضـلوا بعــده) ،فقــال عمـر( :إن النـبي قــد غلب عليـه الوجــع ،وعنــدكم
القرآن ،حسبنا كتاب هللا) ،فــاختلف أهــل الــبيت فاختصــموا ،منهم من يقــول :قربــوا
يكتب لكم النبي كتابا ً لن تضلوا بعده ،ومنهم من يقول ما قال عمر ،فلمــا أكــثروا
اللغــو ،واالختالف عنــد النــبي ،قــال رســول هللا ( :قومــوا) ،قــال عبيــد هللا:
(راوي الحديث عن ابن عباس ،وهو ابنه) :فكان ابن عباس يقــول( :إن الرزيــة كــل
الرزيـة ،مـا حـال بين رســول هللا وبين أن يكتب لهم ذلـك الكتـاب من اختالفهم،
ولغطهم)()1
لقد روى ابن عباس هذه الحادثة متألما متأسفا ،وكان األصل في كل األمة أن
تفعــل ذلــك ،فكيــف يحــال بين نــبي وبين أن يوصــي؟ ..لكنهم لألســف ــ ســيدي ــ لم
يفعلوا ،بل راحــوا يعتبرونــك مخطئــا بطلب كتابـة الوصـية ،ويعتـبرون الحكمــة في
قول من منعك ..وكل ذلك جهال بقدرك.
لقــد عــبر بعضــهم عن ذلــك ،فقــال( :إنمــا جــاز للصــحابة االختالف في هــذا
الكتاب مع صريح أمره لهم بذلك ،ألن األوامر قــد يقارنهــا مــا ينقلهــا من الوجــوب،
فكأنــه ظهــرت منــه أي من كالم الرســول قرينــة دلت على أن األمــر ليس على
التحتم ،بل على االختيار ،فــاختلف اجتهــادهم ،وصــمم عمــر على االمتنــاع لمــا قــام
عنــده من القــرائن بأنــه قــال ذلــك عن غــير قصــد جــازم ،وعزمــه كــان إمــا
بــالوحي وإمــا باالجتهــاد ،وكــذلك تركــه إن كــان بــالوحي فبــالوحي وإال فباالجتهــاد
أيضاً)2()..
وما قاله عجيب جدا ،فكيــف يقــال ألمــرك ــ ســيدي ــ أنــه لم يكن على ســبيل
الحتم واللزوم ،وقد ورد في القرآن الكريم التشديد على إجابتـك مطلقـا ،قـال تعـالى:
ُول إِ َذا َدعَا ُك ْم لِ َمــا يُحْ يِي ُك ْم﴾ [األنفــال ،]24 :بــل ﴿يَاأَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا ا ْست َِجيبُوا هَّلِل ِ َولِل َّرس ِ
حذر بعدها من الفتنة التي قد تنجر من عدم إجابتك ،فقـالَ ﴿ :واتَّقُـوا فِ ْتنَـةً اَل تُ ِ
صـيبَ َّن
ب ﴾ [األنفال]25 : صةً َوا ْعلَ ُموا أَ َّن هَّللا َ َش ِدي ُد ْال ِعقَا ِ
الَّ ِذينَ ظَلَ ُموا ِم ْن ُك ْم خَ ا َّ
ثم كيــف يقـال بـأن ذلـك األمــر لم يكن على سـبيل الحتم واللـزوم ،وقــد قلت ـ
)(1رواه البخاري.
)(2هو قول المازري ،كما نقله الحافظ في الفتح ()7/740
225
سيدي ـ مبينا أهميته وخطره( :هلم أكتب لكم كتابا ً ال تضلوا بعده) ،فهل هناك شــيء
أهم من عدم الضالل ..بل عدم الضالل األبدي؟
ومثل ذلك ـ سيدي ـ ما ذكره آخر مـبررا فعـل عمـر ،حيث قـال( :إنمـا قصـد
عمر التخفيف على رسول هللا حين غلبه الوجع ،ولو كان مراده أن يكتب ما
ُ
ال يستغنون عنــه لم يتركــه الختالفهم وال لغــيره لقولــه تعــالى ﴿ بَلِّ ْغ َمــا أ ْنـ ِ
ـز َل إِلَ ْيــكَ ﴾
[المائدة ]67 :كما لم يترك تبليــغ غــير ذلــك لمخالفـة من خالفــه ومعــاداة من عــاداه،
وكما أمر في ذلك الحال بإخراج اليهود من جزيرة العرب وغير ذلك مما ذكــره في
الحديث)()1
وما ذكره هذا ال يقل غرابة عما ذكره من قبلــه ،ألنــه يتنــافى مــع مــا ورد في
الحديث من اهتمامك بالوصــية ،أمــا تركــك للكتابــة ،فليس تقصــيرا منــك ــ ســيدي ـ
حاشاك ..وإنما يفسر األمر فيها كما يفسر سكوتك عن تحديد ليلة القدر بعدما حصل
التنازع ،فقد ورد في الحديث عن عبادة بن الصامت قــال :خــرج النــبي ليخبرنــا
ليلــة القــدر فتالحى (أي تخاصــم وتنــازع) رجالن من المســلمين ،فقــال( :خــرجت
ألخــبركم بليلــة القــدر ،فتالحى فالن وفالن ف ـرُفعت ،وعســى أن يكــون خــيراً لكم،
فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة)()2
وهكــذا كــان التنــازع ســببا في الحرمــان من تحديــد ليلــة القــدر ..ألنهــا نعمــة
كبرى ..فلما لم يقدروها حق قدرها حرموا من ذلك ..وهكذا كــان حرمــانهم من تلــك
الوصية العظيمة بسبب التنازع ..ألنه حصل لــك علم ــ ســيدي ــ بــأن هــؤالء الــذين
اجترأوا على التنازع بين يديك لن يصعب عليهم أن يمزقوا وصيتك أو يؤولوهــا أو
يفعلوا بها ما شاءوا.
وهكذا قال آخر مبررا فعل عمر( :ائتوني أمر ،وكان حق المــأمور أن يبــادر
لالمتثال ،لكن ظهر لعمر مع طائفة أنه ليس على الوجوب ،وأنــه من بــاب اإلرشــاد
لألصلح ،فكرهوا أن يكلفوه من ذلك ما يشق عليه في تلك الحالــة مــع استحضــارهم
ب ِم ْن َشـ ْي ٍء [ األنعــام ،]38 :وقولــهَ :ونَ َّز ْلنَــا لقوله تعالىَ :ما فَر ْ
َّطنَــا فِي ْال ِكتَــا ِ
َاب تِ ْبيَانًا لِ ُكلِّ َش ْي ٍء[ النحــل ،]89 :ولهــذا قــال عمــر :حســبنا كتــاب هللا، ك ْال ِكت َ
َعلَ ْي َ
وظهر لطائفة أخرى أن األولى أن يكتب لما فيه من زيادة اإليضاح ،ودل أمــره لهم
بالقيام على أن أمره األول كان على االختيار ،ولهــذا عــاش بعــد ذلــك أيامـا ً ولم
يعاود أمرهم بذلك ،ولو كان واجبا ً لم يتركه الختالفهم ،ألنه لم يترك التبليغ لمخالفة
من خالف ،وقد كان الصحابة يراجعونه في بعض األمور مــا لم يجــزم بــاألمر فــإذا
عزم امتثلوا)()3
وقال آخر( :أما كالم عمر فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحــديث على
228
الهادي البصير
سيدي يا رسول هللا ..أيها الداعي إلى هللا على بصيرة ..يا من ال يستنير بنور
هـــدايتك إال الموفقـــون المتـــأدبون المتواضـــعون ..وال يغض الطـــرف عنهـــا إال
المخذولون المستكبرون المتفيهقون.
لقد رحت ـ سيدي ـ أتأمل فيما جئت به من ألوان الهدايــة ومعانيهــا ،وقارنتهــا
بكل ما جاء به غيرك؛ فوجدت أنك األوحد الـذي جـاء بالهدايـة الشـاملة الـتي تجيب
عن كل األسئلة ،وتصـحح كـل األخطـاء ،وتكشــف كـل الغــوامض ،وتـرد على كـل
الشــبهات ،وتشــمل جميــع لطــائف اإلنســان ،وتعم كــل منــاحي حياتــه ..فمن اكتفي
بهــدايتك هُــدي إلى الســراط المســتقيم ،ومن ابتغى عنهــا بــدال ،أو خلطهــا بغيرهــا،
انحرف عنه إلى أهوائه وشياطينه.
ولم تكن هــدايتك ســيدي قاصــرة على تلــك التفســيرات الــتي أعطت للحيــاة
صورتها الجميلة التي يراها عليها المؤمنــون ،وال تلــك القيم الرفيعــة الــتي ضــبطت
بها حياتهم ،وال تلــك األذواق اللطيفــة الــتي جعلت المؤمــنين يستشــعرون الطمأنينــة
والسعادة والسالم التي ال يمكن تذوقها من منــابع غــيرك ..وإنمــا في تلــك األســاليب
والوسائل الكثيرة التي وضحت بها الحقائق ،وبينت بها القيم حتى فقهها عامة الناس
وخاصتهم ..كل على حسب قدرته وفهمه.
ولم يجتمع كل ذلك ـ سيدي ـ ألحد غــيرك ..فلــذلك كـان من أتباعـك الفالســفة
والحكمــاء ..واألدبــاء والشــعراء ..والعلمــاء والفقهــاء ..والمتخصصــون في كــل
المجاالت ..كما كان من أتباعك العامة البسطاء ..وغيرهم من أصناف النــاس ..ممــا
ال نراه اجتمع عند غيرك.
وكلهم ســيدي يــذكر أنــه نهــل من منابعــك العذبــة ،وارتــوى من حوضــك
الشريف ،وأنك كفيته وأغنيتــه وآويتــه ..وأنــه لم يجــد الســعادة إال في صــحبتك ،وال
السالم إال في اتباع تعاليمك.
وكيف ال تكون كذلك ـ سيدي ـ وأنت الذي لم تــدعو إلى هللا من تلقــاء نفســك،
وإنما دعوت إليه بإذنه ،ولذلك وصفك هللا تعالى ،فقــال :يَاأَيُّهَــا النَّبِ ُّي إِنَّا أَرْ َسـ ْلنَا َ
ك
َشـــا ِهدًا َو ُمبَ ِّشـــرًا َونَـــ ِذيرًا (َ )45ودَا ِعيًـــا إِلَى هَّللا ِ بِإِ ْذنِـــ ِه َو ِســـ َراجًا ُمنِـــيرًا ()46ـــ
[األحزاب]47 - 45 :
وكيــف ال تكــون كــذلك ،وأنت الــذي آتــاك هللا البصــيرة ،فلم تختلــط دعوتــك
باألهواء ،وإنما كانت عن رؤية خالصة ،قال تعالى مخاطبــا لــك :قُــلْ هَـ ِذ ِه َسـبِيلِي
صـي َر ٍة أَنَــا َو َم ِن اتَّبَ َعنِي َو ُسـب َْحانَ هَّللا ِ َو َمــا أَنَــا ِمنَ ْال ُم ْشـ ِر ِكينَ
أَ ْد ُعــو إِلَى هَّللا ِ َعلَى بَ ِ
[يوسف]108 :
ولذلك ـ سيدي ــ انتشــرت دعوتــك بين ماليــير البشــر ،وفي جميــع األجيــال،
وبين جميع اللغات واألعراق والبلدان ..واحتوتهم جميعا ،وشعروا جميعا أنك النبي
229
الذي يمكنهم أن يفهموه ويتبعوه ويحبوه.
لذلك ـ سيدي ـ كنت أنت الهادي البصــير ..الــذي يقــود لــواء الــدعوة إلى هللا..
فال ينجح داعية إال إذا استن بسنتك ..وال يفشل أو يُخذل إال بابتعاده عنها.
ائذن لي سيدي ،أن أشكو إليك بعض ما فعله من يسمون أنفسهم دعــاة وهــداة
من قومي ..فقد راحوا يتركون اتباع سنتك في الهداية إلى هللا ،تلك الــتي عــبر عنهــا
ك بِ ْال ِح ْك َم ِة َو ْال َموْ ِعظَـ ِة ْال َح َسـنَ ِة َو َجـ ا ِد ْلهُ ْم بِــالَّتِي ع إِلَى َسبِ ِ
يل َربِّ َ هللا تعالى بقوله :ا ْد ُ
ْ
ـو أ ْعلَ ُم بِال ُم ْهتَـ ِدينَ [ النحــل: َ ضـ َّل ع َْن َسـبِيلِ ِه َوهُـ َ َ
ـو أ ْعلَ ُم بِ َم ْن َ
ك هُـ َ ِه َي أَحْ َسـنُ إِ َّن َربَّ َ
،]125وراحــو يســتعملون بــدلها طرقــا كثــيرة ،خلطوهــا بــأهوائهم ..فــزادوا دينــك
تشويها ،وزادوا الخلق تنفيرا.
فبعضهم ــ ســيدي ــ راح يعــرض اإلســالم كمــا تعــرض األحــزاب السياســية
مشاريعها ،ولذلك استعمل كل الحيل ،ولجأ إلى كل أنواع التمييع لــدينك ،حــتى يــراه
الناس بالصورة التي يرغبون فيها ..ولذلك بدل أن يرفع الخلق إلى دينــك ،والهدايــة
التي جئت بها ،راح ينزل بدينك إلى مستواهم ،ليتحللوا من كل شرائعه وقيمه ..وقــد
غفــل هــؤالء أن دين هللا أعظم من أن يكــون حزبــا من األحــزاب ،أو جمعيــة من
الجمعيات التي تخلط الدين بالدنيا ،والقيم باألهواء.
وراح آخـــرون يأخـــذون من الـــدين بعض مظـــاهره البعيـــدة عن حقائقهـــا،
فــاعتبروا ســنتك مجــرد لحيــة طويلــة ،ولبــاس قصــير ،ومعهمــا الكثــير من الجفــاء
والغلظة.
وراح آخرون يصورون الدين بصورة السيف والعنف واإلرهاب..
وهكذا راح الكثير يســتعملون وســائل منحرفــة للــدعوة إلى دينــك ..بعيــدا عن
الهدي الذي جئت به ،واتباعا لألهواء التي حذرت منها.
ولو أنهم سيدي تخلوا عن أهوائهم ،ولجأوا إليك ،وإلى القرآن الكريم الــذي لم
يترك شاردة وال واردة إال بينها وفسـرها ..ولجـأوا ــ مثلهــا ــ إلى سـنتك الصـحيحة
الموافقــة للقــرآن ..ولجــأوا ــ معهمــا ــ إلى اعترتــك الطــاهرة الــتي حفظت هــديك..
الهتدوا ..ودعوا إلى هللا على بصيرة ..ولدخل الناس حينها في دين هللا أفواجا.
فأسألك ـ سيدي ـ وأتوسل بك إلى هللا ..أن يعصمني من كل تلــك التحريفــات،
وأن تكــون أنت قــدوتي في الــدعوة إلى هللا ..حــتى ال أشــوه دينــك أو أحــرف القيم
العظيمة الـتي جئت بهـا ..وحـتى أكـون أهال لصــحبتك ومعيتـك ،إنـك أنت صـاحب
الوسيلة العظمى ،والجاه العظيم.
230
هذا الكتاب
تهدف هذه الرسائل إلى ثالثة أهداف كبرى:
أوال ـ بيان كماالت رسول هللا في المجاالت المختلفة ،فالحب ال
يكون إال بعد إدراك الكمال.
ثانيا ـ رد الشبهات والتحريفات عن رسول هللا ،ذلك أنها تتنافى
مع الكمال ،وقد تسيء إليه ،وقد تكون هي الحجاب الذي يحول بين القلب
وبين المحبة.
ثالثا ـ التوسل برسول هللا لتحقيق ما يرتبــط بالكمــال من ســلوك
وأخالق وغيرها ،وقد جعلنا ذلك في خاتمة كل رسالة ،مثلما يقدم للــدعاء
بالثناء على هللا ،ثم يختم بطلب الحاجات.
ولم يكن هــدفنا من التوســل طلب الحاجــة فقــط ،وإنمــا كــان هــدفنا
األكبر منه تبيين األثر السلوكي لمحبــة رســول هللا في كــل جــانب من
الجوانب ،ألن العقيــدة الــتي ال تثمــر عمال عقيــدة الكســالى والمــدعين ،ال
المجدين والصادقين.
وقد جمعنــا في هــذه الرســائل أربعين صــفة من صــفات رســول هللا
،وشرحناها ،وبينا أدلتها المختلفة من خالل تلــك الخطابــات الموجهــة
إليه.
231