Guide الدليل التوجيهي لمشروع اليد في اليد

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 38

»¡`«`LƒàdG π`«`dódG

´hô°ûª`d
zó«dG »`a ó«dG{

2018

1
2
‫المقدمة‬

‫• يع ّد هذا الدليل التوجيهي إسهاما يف تدشني مرحلة متقدمة إلرساء خطاب بديل للفاعلني الدينني يف تونس‬ ‫ ‬
‫عامة واألمئة الخطباء والوعاظ خاصة‪ .‬غاية مركز دراسة اإلسالم والدميقراطية الذي أرشف عىل إنجاز الدليل ضمن‬
‫مرشوع « اليد يف اليد» ملكافحة اإلرهاب والتطرف العنيف هو تعزيز جهود الفاعلني الدينيني املحليني يف التص ّدي‬
‫لظاهرة التطرف العنيف باعتامد مقاربات وخطاب يفكك اسرتاتيجيات ظاهرة التطرف العنيف ويتجاوزها بتدعيم‬
‫فكر إسالمي أصيل متجدد‪..‬‬

‫• لقد حرصنا يف هذا الدليل التوجيهي مبا وفّره من منهجية معارصة وإضاءات مفاهيمية ودالالت وتصورات‬ ‫ ‬
‫بص كل املهتمني بالشأن الديني مبستلزمات بناء خطاب إسالمي وا ٍع بأولوية «إدارة‬ ‫قرآنية ونبوية تأسيسية أن يُ ِّ‬
‫التم ّدن»‪ ،‬وتقدمها عىل سائر االعتبارات الفكرية والرتبوية واالجتامعية‪ .‬يف هذا اعتمدنا مقاربة مقاصدية تنويرية‬
‫وموجهات علمية وتراثية تساعد السادة األمئة الخطباء والوعاظ وكافة الفاعلني الدينيني عىل االرتقاء بالحصيلة‬
‫الفكرية واملعرفية والرتبوية التي يعتمدونها يف جهودهم من أجل خطاب مقنع‪ ،‬تواصيل بَ ّناء‪.‬‬

‫• وما انتهينا إليه يف الدليل التوجيهي جاء حصيلة سلسلة اجتامعات تشاورية وأعامل بحثية ولقاءات علمية‬ ‫ ‬
‫وورشات تفاعلية بارشها املرشوع منذ انطالقه معتمدا عىل رؤية تربوية متكاملة وف ّعالة‪ .‬شاركت يف هذا العمل‬
‫التأسييس كفاءاتٌ فكرية متميزة يف العلوم الرشعية واإلنسانية واالجتامعية والنفسية إىل جانب خرباء وفاعلني رسميني‬
‫ومبارشين عاملني يف مجال الخطابة والدعوة والرتبية دعمتها طاقات شبابية ترصد الواقع وتقيمه وهي جميعها متفقة‬
‫عىل أولوية وضع معامل الرؤية النظرية والعلمية لها من أجل تط ّور نوعي للخطاب الديني البديل‪.‬‬

‫• وما تأكدنا منه يف خالصة هذه األعامل التي جمعتنا هو أن ما ينبغي أن يتوفر لإلمام الخطيب والواعظ‬ ‫ ‬
‫املدرس من علوم رشعية ومعرفة تراثية ال ينفصل عن الحاجة امللحة إىل التحرر من مضائق التقليد وا ّدعاء امتالك‬
‫الحقيقة مع ما ينجر عن ذلك من فكر إطالقي شمويل‪ .‬لقد ذهلنا يف الغالب عن أصالة الروح النقدية التي عرفها‬
‫عب عنها الخليفة الثاين عمر ابن الخطاب ريض الله عنه حني خاطب عبد الله بن عباس‪ ،‬وهو‬ ‫املسلمون األوائل والتي ّ‬
‫فتى عندئذ‪ ،‬مشجعا إياه عىل السؤال واملراجعة واالجتهاد قائال‪« :‬قل يا ابن أخي وال تحقر نفسك»‪.‬‬

‫• كيف لنا أن نتجاوز ما ضاق من مجاالت االجتهاد والتجديد نتيجة اإلقرار بأنه «ليس باإلمكان أبدع مام‬ ‫ ‬
‫كان»؟ مبثل هذا السؤال برزت لنا ونحن نعمل يف الدليل التوجيهي رضورة االنتقال إىل مرحلة أكرث عملية وإجرائية مبا‬
‫تقتضيه اللقاءات التفاعلية وورشات العمل‪ .‬ذلك هو عني ما سيجسده الدليل التدريبي املكمل لهذا الدليل التوجيهي‬
‫مبقوماته التأسيسية والنظرية ومبا يفتحه الجانبان املتكامالن من أبواب التالزم العضوي بني النجاح يف إجراء الخصائص‬
‫العملية وما ينجر عنها من إعادة بناء الفكر والوعي والسلوك وبني حسن متثل األساس النظري الذي يستمد من الجهد‬
‫التدريبي مصداقيته وفاعليته وتجدده‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫مدخل منهجي‬

‫إن موضوعات الخطاب الديني تتفرع يف الجملة إىل ثالثة أصناف أ ّولها إرشادية يغلب عليها الطابع املعريف‬ ‫ ‬
‫والروحاين‪ .‬وثانيها تربوية غايتها تقويم السلوك األخالقي‪ ،‬وثالثها وإصالحية تحكمها املقاصد االجتامعية املرتبطة‬
‫بعالقة اإلنسان باإلنسان ومبختلف املناشط واملؤسسات العا ّمة‪.‬‬

‫وميكن إجامل الرشوط املنهجية التي تساعد عىل حسن تناول منف من هذه املواضيع‪ ،‬يف محارضة أو خطبة‬ ‫ ‬
‫منربية‪ ،‬يف املوجهات الستة التالية‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ حسن اختيار املوضوع بحسب الظرف املوضوعي الزماين واملكاين‪ ،‬االجتامعي والسيايس‪ ،‬وحتى املناخي‬ ‫ ‬
‫ـ املحيل والكوين ـ الذي يتنزل ضمنه الخطاب‪ .‬فتلك ضامنة أولية ألن يلقى الكالم املبثوث قبوال حسنا لدى املتلقني‪،‬‬
‫ويش ّد انتباههم فيتشوفون إىل الظفر مبقرتحات عملية مناسبة وحلول واقعية تتعلق باإلشكال املطروح ضمن الخطاب‬
‫امللقى‪،‬‬
‫‪ 2‬ـ رضورة طرح املوضوع يف قالب أسئلة من أجل ضامن شد انتباه السامعني‪ ،‬وإثارة الحرية لديهم‪ ،‬ودفع‬ ‫ ‬
‫عقولهم إىل التساؤل الواعي عام يروم املتكلم مخاطبتهم بشأنه‪ .‬فاملطلوب أن تقع صياغة اإلشكال العام‪ ،‬منذ مقدمة‬
‫الخطاب وجوبا؛ وأن يكون ذلك بأسلوب بيداغوجي مثري غري تلقيني وال مدريس رتيب‪ .‬الهدف األسايس من ذلك‬
‫تحريك سواكن الفكر والحثّ عىل متابعة الخطبة بطريقة إيجابية يحرض فيها العقل والوجدان معا‪ ،‬ويسودها نوع‬
‫من التشوف والتشويق‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ تفريع اإلشكال العام إىل إشكاليات ثانوية (يشار إليها يف املقدمة أيضا بإجامل وبأسلوب يحسن أن يكون‬ ‫ ‬
‫استفهاميا)‪ .‬تشكل هذه التفريعات عناوين أساسية لبنية املحارضة أو الخطبة كاملة‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ إن اإلعداد املسبق للخطاب (مرتجال كان أو مكتوبا) يُع ّد أمرا رضوريا‪ .‬فعدم اإلعداد يولّد االرتباك الخطايب‬ ‫ ‬
‫ويفكّك املعنى وقد يوقع يف التناقض‪ ،‬فيفقد الكالم فاعليته املرجوة يف اإلرشاد والرتبية واإلصالح‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ يقتيض حسن إعداد الخطاب ضبط ما ميكن أن نسميه «مراجع االستدالل» أو «العناوين الهادية»‬ ‫ ‬
‫للخطبة‪ .‬وهي مبثابة املواضيع املجاورة التي من شأنها أن تساعد عىل ضبط حدود املوضوع‪ ،‬ورسم وجهة الخطبة‪( ،‬أي‬
‫التخطيط القصدي لبنية الخطاب)‪ ،‬وأن توفر للمحارض أو الخطيب معينا زاخرا باملستندات واألدلة النصية والعقلية‬
‫التي تدعم أطروحته‪ ،‬وتساعد يف ذات الوقت عىل تفنيد نقيضها‪.‬‬

‫‪ 6‬ـ إن نجاعة الخطاب الديني يف اإلرشاد ويف اإلصالح الرتبوي واالجتامعي تفرض الخربة يف استعامل تقنيات‬ ‫ ‬
‫الخطاب السجايل‪ ،‬واجتناب تقنيات الخطاب الرسدي ما استطاع املرء إىل ذلك سبيال‪ .‬فالطريقة الرسدية عادة ما تكون‬
‫تعليمية وتقريرية مملة تحرص عىل نقل الروايات والرشوح من غري رابط موضوعي بينها أحيانا‪ .‬وعادة ما يكون‬
‫رهانها عىل إقناع السامعني بفحوى الخطاب باالستناد إىل فقه الدليل‪ ،‬أكرث من متكينهم من منهج متجدد يف التديّن‪،‬‬
‫أي جعلهم قادرين عىل متثل ذايت معارص للدين يتفاعل إيجابيا وبطريقة بناءة مع رشوط الواقع املعيش وإشكاالته‬
‫ومتطلباته‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫مفاهيم مفتاحية‬

‫‪ .1‬مفهوم الدين‬ ‫ ‬
‫تن ّوعت مفاهيم ال ّدين وتع ّددت حسب زوايا نظر الباحثني يف حقيقته ومعناه‪ ،‬وهو ما أ ّدى يف أغلب األحيان‬ ‫ ‬
‫يدل عىل قلق اإلنسان يف‬‫إىل التباس يف إدراك جوهره ومصدره وغاياته‪ ،‬فقد ا ْعتُ ِ َب مرحلة من مراحل التفكري البرشي ّ‬
‫الوجود وخوفه من قوى خفية تحكم هذا الوجود‪.‬‬
‫فكيف ميكن تحديد مفهوم الدين؟ ماهي أهدافه ودعامئه؟ ما الفرق بني الدين والتدين ؟ وماهي الحدود‬ ‫ ‬
‫الفاصلة والواصلة بينهام؟‬
‫املفاهيم املتصلة (الوسم)‪ :‬التد ّين‪ -‬الرشيعة‪-‬العقيدة‪ -‬امللّة‪ -‬املذهب‪.‬‬ ‫ ‬

‫أ‪ .‬تعريف الدين‬ ‫ ‬


‫• الدين ‪ :‬فكرة كلية مطلقة متعالية غري قابلة للتغري بفعل االجتامع‪ ،‬فالدين مصدره غيبي ويقوم عىل الوحي‬ ‫ ‬
‫اإلالهي‪.‬‬
‫‪ -‬موضوع الدين هو املسائل العقدية والتعبدية أي عالقة املخلوق بالخالق وعالقة املخلوق باملخلوق‬ ‫ ‬
‫‪ -‬ويتض ّمن الدين رضور ًة األبعاد املقاصدية إذ هو تيسري لحياة االنسان و ذلك بجلب املصالح ودرء املفاسد‬ ‫ ‬
‫وس ّد الذرائع يف دنياه وآخرته‬
‫‪ -‬يضمن الدين لإلنسان الحفاظ عىل دينه و نفسه وعقله وماله وعرضه‪.‬‬ ‫ ‬
‫‪ -‬للدين أبعاد قيمية كونية تشرتك فيها جميع اإلنسانية منها الرحمة واملحبة والسامحة واإليثار‪...‬‬ ‫ ‬

‫ب‪ .‬في الفرق بين الدين والم ّلة والمذهب‬ ‫ ‬


‫‪ -‬يكمن الفرق بني هذه املفاهيم يف نسبة كل واحد منها إىل مصدر مختلف إذ ينسب الدين إىل الله وامللة‬ ‫ ‬
‫إىل الرسول أو النبي واملذهب إىل املجتهد يف أمور الدين‪.‬‬

‫ج‪ .‬في العالقة بين الدين والعقل‬ ‫ ‬


‫‪ -‬ك ّرم الله العقل وجعله سبب التكليف إذ ال تكليف إالّ لعاقل‬ ‫ ‬
‫ِ‬
‫األبصار‪-‬الح ْجر‪ -‬أفال‬ ‫‪ -‬ذكر العقل والعبارات الدالة عليه عديد املرات يف القرآن الكريم (أولو األلباب‪ -‬أولو‬ ‫ ‬
‫يتدبرون ‪)-‬‬
‫ول‬‫‪ -‬حثّ الله أصحاب العقول عىل استخالص املوعظة والعربة‪ ،‬يقول تعاىل‪ ﴿ :‬لَ َقدْ كَانَ ِف َق َص ِصه ِْم ِع ْ َب ٌة ِلُ ِ‬ ‫ ‬
‫اب﴾ [يوسف‪]111 :‬‬ ‫ْالَلْ َب ِ‬
‫‪ -‬ذ ّم الله املقلّدين ألسالفهم واملدبرين عن فهم الحقائق بعقولهم يقول تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِ َذا ِق َيل لَ ُه ُم اتَّ ِب ُعوا َما أَنْ َز َل اللَّهُ َقالُوا‬
‫بَ ْل نَ َّتب ُِع َما أَلْ َف ْي َنا َعلَ ْي ِه آبَا َءنَا﴾ [البقرة‪ ]170 :‬فقد أجمع املجتهدون عىل أنه ال تعارض بني صحيح العقل ورصيح الرشع‪.‬‬

‫ ‬ ‫االستنتاج‬
‫أجمع العلامء عىل صعوبة توحيد الدالالت اللغوية ملصطلح الدين وهو ما يعني صعوبة تحديده معناه‪،‬‬ ‫ ‬
‫يصح تحديد تعريف للدين وقد تب ّنى مصطفى عبد الرازق وعبد الكريم الخطيب هذا املوقف‪،‬‬ ‫وذهبوا إىل أنه ال ّ‬
‫واعترب الخطيب أن الدين عاطفة إنسانية وأن الناس يختلفون يف الصدق واألمانة واملكابدة الروحية‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫‪ .2‬مفهوم التدين‬ ‫ ‬
‫تحض الشعوب وتوازنها الفكري والعقدي والروحي من خالل إدراك مظاهر تدينها وأشكال‬ ‫يفهم مقدار ّ‬ ‫ ‬
‫مامرسته‪ ،‬فكلّام حرضت املغاالة يف الدين والتش ّدد يف فهمه كان التديّن مظهرا من مظاهر الرتاجع الفكري والحضاري‪،‬‬
‫ومن هذا املنطلق تتباين الفروق بني الدين والتديّن‪.‬‬
‫املفاهيم املتّصلة (الوسم) الدين‪ -‬الرشع‪ -‬معتقد‪ -‬التخلّق‪ -‬اإلميان‪ -‬اإلسالم‪ -‬السلف ّية‪ -‬التشدد‬

‫أ‪ .‬تعريف التدين‬ ‫ ‬


‫‪ -‬التديّن هو تجليات ال ّدين مبا هو فكرة كليّة متعالية مصدرها إالهي‪ ،‬وتتمثل هذه التجليات يف االجتامع‬ ‫ ‬
‫وتتغي حسب ذاتية املتدين وحسب اختالف األزمنة واألمكنة واألعراف االجتامع ّية يف حني يتميز الدين‬ ‫ّ‬ ‫عرب املامرسة‪،‬‬
‫بالثبات واإلطالق ألنّه فكرة كل ّية مفارقة‪.‬‬
‫‪ -‬ويؤ ّدي التديّن إىل تضخيم الدين من خالل التأويل واالستئناس بنصوص أخرى تبني عن املسكوت عنه من‬ ‫ ‬
‫النص من خالل التديّن الس ّني والشيعي واألبايض‪.‬‬ ‫األحكام يف النص القرآين‪ ،‬وقد أ ّدى هذا إىل نوع من الرتاكم ّ‬
‫يتجل يف عامل الفرد يف جوانب‬ ‫‪ -‬والتدين هو املامرسة البرشية للدين‪ ،‬والجانب ال َع َريض املتغري منه‪ ،‬وهو ما ّ‬ ‫ ‬
‫ع ّدة من حياته الخارجية ومثاله امللبس واملرشب والعالقات االجتامعية واالعتقادات املشرتكة أو الفرديّة‪.‬‬
‫فيتغي‬
‫مم يجعله يتم ّيز بالظن ّية والنسب ّية‪ّ ،‬‬ ‫‪ -‬وهو فهم للدين يختلف باختالف األشخاص واألمصار واألعصار ّ‬ ‫ ‬
‫بتغي هذه العنارص‪ ،‬وقد يقارب الفهم الصائب ملقصود الخالق أو يبتعد عنه‪ ،‬من خالل تأويالت مغرضة أو أخرى‬ ‫ّ‬
‫قارصة عن التامس القرائن واألدلّة أو ثالثة محكومة ببنية ثقاف ّية كاملة‪.‬‬
‫ين َح ِنيفًا ِفطْ َر َت اللَّ ِه الَّ ِتي‬ ‫َ‬
‫‪ -‬والتديّن يف املفهوم اإلسالمي فطرة يف اإلنسان‪ ،‬يقول تعاىل‪َ ﴿ :‬فأ ِق ْم َو ْج َهكَ لِلدِّ ِ‬ ‫ ‬
‫اس َل َي ْعلَ ُمونَ ﴾ [الروم‪]30 :‬‬ ‫اس َعلَ ْي َها َل تَ ْب ِد َيل لِ َخل ِْق اللَّ ِه َذلِكَ الدِّ ي ُن الْ َق ِّي ُم َولَ ِك َّن أَك َ َْث ال َّن ِ‬‫َفطَ َر ال َّن َ‬
‫‪ -‬وتتغري أشكال التدين وتختلف من منطقة إىل أخرى ومن عهد إىل عهد ومن فئة اجتامعيّة إىل أخرى ومن‬ ‫ ‬
‫هذا املنطلق ميكن الحديث عن تديّن الفقهاء وتديّن الفالسفة وتديّن املتص ّوفة‪.‬‬

‫ب‪ .‬أشكال التدين‬ ‫ ‬


‫سلبي‬
‫ميكن تحديد شكلني للتديّن‪ :‬أ ّولهام تديّن إيجايب واآلخر تديّن ّ‬ ‫ ‬
‫أ‪ -‬التديّن اإليجايب‪ :‬هو املحدود تكليفيا بالقواعد والقيم التي جاء بها الوحي‪ ،‬فعالقة الدين بالتديّن اإليجايب‬ ‫ ‬
‫الكل الجزء‪ ،‬فيك ّمله ويغنيه ولكن ال يلغيه(صربي محمد‬ ‫هي عالقة تحديد وتكامل‪ ،‬أي أ ّن ال ّدين يح ّدده كام يح ّدد ّ‬
‫خريي‪ :‬التدين أبعاده وأمناطه وضوابطه)‬
‫ب‪ -‬التديّن السلبي‪ :‬هو املتجاوز تكليفيا للقواعد والقيم التي جاء بها الوحي‪ ،‬وهو ما يجعله يلغي الدين‬ ‫ ‬
‫ليحل محلّه‪ ،‬وقد تح ّدث أحمد الريسوين عن ثالثة أمناط للتديّن السلبي‪ ،‬وهي التديّن املعكوس‬ ‫يف شكل من أشكاله ّ‬
‫والتدين املحروس والتدين املغشوش‪.‬‬
‫ ب‪ -1‬التد ّين املغشوش‪ :‬وهو االعتناء بالظاهر مع إهامل الباطن مبعنى أ ّن املتديّن يعتني يف تدينه بتحسني‬
‫األعامل والصفات الظاهرة أو املرئيّة وامللموسة ويحرص عىل االلتزام عىل أحكام الرشع وآدابه فيها‪ ،‬بينام ال يبايل‬
‫بعكسها مامّ ال يراه الناّس وال يظهر للعيان‪.‬‬
‫ب‪ -2‬التديّن املعكوس‪ :‬وهو الذي يقلب أصحابه مراتب الرشع وقيمه ومقاصده وأولوياته‪ ،‬فيتش ّددون‬ ‫ ‬
‫ويبالغون فيام حققه الرشع أو ما مل يطلبه أصال‪ ،‬ويهملون ويض ّيعون ما ق ّدمه وعظّمه مثال‪ :‬التزامهم بصالة‬
‫الرتاويح – اإلغداق يف الوالئم والضيافات مع تضييع فرائض الزكاة‪.‬‬
‫ب‪ --3‬التديّن املحروس‪ :‬وهو الذي يقوم عىل اإللزام املوضوعي ال عىل االلتزام الذايت‪ ،‬ويع ّرفه الريسوين كاآليت‪ :‬هو‬
‫التدين الذي ال يلتزم به أصحابه واجباته إالّ باملراقبة واملطالبة واملالحقة ولو ت ُركوا َلتكوا‪.‬‬

‫االستنتاج‬ ‫ ‬
‫إن أمناط التدين هي انعكاس مبارش لطبيعة اإلنسان وطبيعة ظروفه وبيئته االجتامعية‪ .‬فإذا كان الدين‬ ‫ ‬
‫متعاليا عىل ظروف الزمان واملكان‪ ،‬وليس خاضعا ملقتضيات األوضاع االقتصادية واالجتامعية والسياسية‪ .‬فإن أمناط‬

‫‪6‬‬
‫التدين عىل العكس من ذلك متاما‪ .‬إذ هي نتاج الظروف والبيئة‪ .‬وال ميكن أن تتشكل أمناط التدين بعيدا عن جهد‬
‫اإلنسان ومستوى وعيه وإدراكه لعنارص واقعه وراهنه‪.‬‬

‫‪ .3‬مفهوم الغلوّ‬ ‫ ‬
‫إذا كان التفريط وجها من وجوه االنحالل والتسيب‪ ،‬فإ ّن اإلفراط عالمة تش ّدد ومجاوزة وقد يكون أمارة‬ ‫ ‬
‫رشع‪ ،‬ذاك أ ّن جلب املصلحة ودرء‬ ‫نص الشارع عىل تج ّنبهام حفاظا عىل روح الرشع ومقاصد امل ّ‬ ‫تط ّرف وعنف‪ ،‬ولهذا ّ‬
‫املفسدة ال يكونان إالّ بتوخي االعتدال يف التفكري واالعتقاد وانتهاج الوسطية يف السلوك واملعاملة‪.‬‬
‫املفاهيم املتّصلة( الوسم) التع ّمق‪ -‬التنطّع‪ -‬التش ّدد‪ -‬املجاوزة‪ -‬اإلفراط‪ -‬التع ّنت‪ -‬الغل ّو‬
‫أ‪ .‬في تعريف الغلوّ‬ ‫ ‬
‫تنص عليه الرشيعة ويف مجاوزة الح ّد يف‬ ‫نهى الله يف كتابه العزيز عن اإلفراط يف التأويل ويف اعتقاد ما مل ّ‬ ‫ ‬
‫تطبيقها‪ ،‬ذاك أ ّن اإلفراط ال ينبني عىل الحكمة والتعقّل‪ ،‬وإمنا مر ّده إىل األهواء واالنفعال وال يؤ ّدي يف النهاية إالّ إىل‬
‫الضالل وسوء املآل‪.‬‬
‫َ‬
‫اب َل تَ ْغلُوا ِفي ِدي ِنك ُْم َغ ْي َر الْ َح ِّق َو َل تَ َّت ِب ُعوا أ ْه َوا َء َق ْو ٍم َقدْ ضَ لُّوا ِم ْن َق ْب ُل‬ ‫َ‬
‫قال الله تعاىل‪ُ ﴿ :‬ق ْل يَاأ ْه َل الْ ِك َت ِ‬ ‫ ‬
‫السبِيلِ ﴾ [املائدة‪]77 :‬‬ ‫َوأَضَ لُّوا كَ ِثي ًرا َوضَ لُّوا َع ْن َس َوا ِء َّ‬
‫قال عبد الرحمن بن شبل‪ :‬سمعت رسول الله صىل الله عليه وسلم يقول‪« :‬اقرءوا القرآن وال تغلوا فيه وال تجفوا عنه‬
‫وال تأكلوا به وال تستكرثوا به»‪.‬‬
‫‪ -‬وقد ع ّرف أهل اللغة الغل ّو عىل أنّه مجاوزة الح ّد يف أمر ما والتش ّدد يف إقراره‪ ،‬ويطلق عليه لفظ التع ّمق أيضا‬ ‫ ‬
‫وهو التعريف نفسه الذي تبناه أهل الرشع إذ ع ّرفه الحافظ ابن حجر بأنّه «املبالغة يف اليشء والتشديد فيه بتجاوز الح ّد »‬
‫والنص الحديثي والتعريف اللغوي أنّ‪:‬‬ ‫النص القرآين ّ‬ ‫تبني من خالل ّ‬
‫النص القرآين‬ ‫‪ -‬الغل ّو هو تش ّدد يف فهم حدود الشارع‪ ،‬وهو رفض الدالالت املمكنة التي ميكن أن ينطوي عليها ّ‬ ‫ ‬
‫وهو دعوة إىل قراءة أحاديّة ي ّدعي فيها صاحبها امتالك الحقيقة والصواب وما دونه خطأ وضالل‪.‬‬
‫‪ -‬تؤ ّدي املغاالة يف الدين إىل ظاهرة التكفري واستحالل الدماء فهي مرحلة من مراحل مامرسة العنف الفكري‬ ‫ ‬
‫والعقدي وصوال إىل العنف الجسدي واملا ّدي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫واللفظي‬
‫‪ -‬تكشف املغاالة يف الدين عن رفض لكل ما هو مختلف وإقصاء ملقاالته وقضاياه‪ ،‬فهو يف شكل من أشكاله‬ ‫ ‬
‫وشق صفوف وحدتهم وإجامعهم‪.‬‬ ‫إثارة الفتنة بني املسلمني ّ‬
‫ب‪ .‬أسباب الغلوّ‬ ‫ ‬
‫تع ّددت أسباب الغل ّو وتن ّوعت عىل م ّر التاريخ تنوعا بحسب الفهوم واألوضاع السياسية والحضارية عا ّمة‬ ‫ ‬
‫تغذّيه الخلفيات املذهبية والعقدية والعرقية والطائفية الضيقة‪ ،‬ومن أه ّم األسباب‪:‬‬
‫‪ -‬عدم التفقه يف ال ّدين‪ :‬يُ ْعر ُِض املتش ّددون عن النصوص األصلية يف الترشيع والعقيدة‪ ،‬ويستأنسون بآراء بعض‬ ‫ ‬
‫العلامء املغالني عوض تدبّر مقصود الشارع يف القرآن وفهم بيان الس ّنة النبوية لهذا املقصود مع ّولني عىل التقليد‪،‬‬
‫متعصبني آلراء األمئة وتحميلها ما ال تحتمل‪.‬‬ ‫ّ‬
‫‪ -‬عدم األخذ عن العلامء‪ :‬إ ّن االستئناس بآراء العلامء وفتاويهم وقراءاتهم مطلب أسايس غايته إيضاح ما‬ ‫ ‬
‫َ‬
‫استكشل من أمور‪ ،‬ولهذا جعل الله العلامء ورثة األنبياء‪ ،‬وحثّ الناس عىل الرجوع إليهم يقول تعاىل‪ُ ﴿ :‬ه َو الَّ ِذي أنْ َز َل‬
‫ات َفأَ َّما الَّ ِذي َن ِف ُقلُو ِبه ِْم َز ْي ٌغ َف َي َّت ِب ُعونَ َما تَشَ ا َبهَ ِم ْنهُ‬ ‫اب َوأُ َخ ُر ُم َتشَ ا ِب َه ٌ‬‫ات ُم ْحك ََم ٌت ُه َّن أُ ُّم الْ ِك َت ِ‬‫اب ِم ْنهُ آ َي ٌ‬ ‫َعلَ ْيكَ الْ ِك َت َ‬
‫ابْ ِتغَا َء الْ ِف ْت َن ِة َوابْ ِتغَا َء تَأْوِيلِ ِه َو َما يَ ْعل َُم تَأْوِيلَهُ إِ َّل اللَّهُ َوال َّر ِاسخُونَ ِف الْ ِعل ِْم يَقُولُونَ آ َم َّنا ِب ِه ك ٌُّل ِم ْن ِع ْن ِد َربِّ َنا َو َما يَ َّذكَّ ُر‬
‫اب﴾ [آل عمران‪.]7 :‬‬ ‫إِ َّل أُولُو ْالَلْ َب ِ‬
‫يتصل باملنحى األخالقي عند بعض املؤ ّولني‪ ،‬إذ يعتربون أنفسهم أو‬ ‫‪ -‬االعتداد بالنفس‪ :‬وهو سبب قيمي ّ‬ ‫ ‬
‫النص الرشعي‪ ،‬فال يأبهون بتأويالت غريهم من املجتهدين أو العلامء‪ ،‬وقد يكون‬ ‫أمئتهم األقدر عىل الفهم وإدراك كنه ّ‬
‫التعصب والهوى للمذهب عىل إقصاء من خالفهم‪.‬‬ ‫هؤالء املؤ ّولون مج ّرد مقلّدين حملتهم نعرة ّ‬
‫ج‪ .‬أنواع الغلوّ‬ ‫ ‬
‫يل سلويك‬
‫اعتقادي وغل ّو عم ّ‬
‫ّ‬ ‫ميكن تقسيم الغل ّو نوعني غل ّو‬ ‫ ‬
‫رضع إىل األنبياء واألولياء الصالحني واالستغاثة‬
‫االعتقادي يف بعض مظاهر اإلرشاك من خالل الت ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬ويتمثل الغل ّو‬ ‫ ‬
‫بهم وتقديم القرابني إليهم‪ .‬ويتجىل الغل ّو أيضا من خالل ظاهرة التكفري والتفسيق واستحالل دم املسلمني وقد سعت‬
‫‪7‬‬
‫إىل ترسيخ هذا الفهم بعض الحركات ذات الطابع السيايس مثل الخوارج‪.‬‬
‫‪ -‬يتمثل الغل ّو السلويك يف التش ّدد يف تطبيق أحكام الرشيعة اإلسالم ّية وترك التيسري وترك األخذ األخذ بالرخص‬ ‫ ‬
‫وعدم مراعاة القواعد الفقهية يف الفتاوى‪ .‬ومن مظاهر التش ّدد إحداث البدع والتشديد يف العبادة ومن أمثلة ذلك‬
‫صيام الدهر وقيام الليل‪ ،‬واجتناب تفاصيل الحياة اليومية‪ .‬فقد نصح رسول الله صىل الله عليه وسلّم أحد الصحابة‬
‫م ّمن يصومون الدهر فقال‪« :‬يَا َع ْب َد اللَّ ِه ‪ ...‬الَ تَ ْف َع ْل ُص ْم َوأَف ِْط ْر‪َ ،‬وقُ ْم َونَ ْم‪ ،‬فَ ِإ َّن لِ َج َس ِد َك َعلَ ْي َك َحقًّا»‪.‬‬
‫د‪ .‬عالج الغلوّ‬ ‫ ‬
‫‪ -‬يقتيض التص ّدي للغل ّو تكامل الجهود بني علامء الدين وأويل األمر والجمعيّات املدنيّة العاملة يف الحقل‬ ‫ ‬
‫وتتجل سبل القضاء عىل الغل ّو يف‪:‬‬
‫ّ‬ ‫العلمي واالجتامعي‪.‬‬
‫‪ -‬تصحيح املفاهيم الخاطئة‪ :‬ويكون ذلك متى أدرك املتلقي الفروق بني املفردات واملصطلحات الواردة يف‬ ‫ ‬
‫املفسين واملح ّدثني العلامء‪.‬‬
‫القرآن واألحاديث‪ ،‬باالستعانة مبا جاء عن كبار ّ‬
‫‪ -‬ر ّد شبهات املغالني‪ :‬وذلك بتفكيك بنية تفكريهم وإدراك الخلفيات العقدية واملذهبية املتحكمة يف خطابهم‪،‬‬ ‫ ‬
‫قصد بلورة خطاب ضديد ير ّد شبهات املغالني ويكشف عن تهافتها وضعف الحجج فيها‪ ،‬وهذا أمر موكول إىل‬
‫مؤسسات علمية واسرتاتيجية تض ّم خرباء يف املجالني‪.‬‬
‫‪ -‬إصالح مناهج التعليم‪ :‬حتى يقوم بدوره يف ترسيخ البعد القيمي األخالقي يف الرشيعة اإلسالم ّية ويؤكّد‬ ‫ ‬
‫معاين الوسطية واالعتدال يف املعاملة والسلوك واالنفتاح والتعارف يف االعتقاد والفكر‪ ،‬وهو ما يحقق كونية اإلسالم‬
‫وعامليته‪.‬‬

‫االستنتاج‬ ‫ ‬
‫‪ -‬تقاس درجة تقدّ م األمم مبدى سيطرتها عىل ظاهرة التشدّ د والغل ّو بني أفرادها ويف بنى تفكريها إذ أنّ‬ ‫ ‬
‫هذه الظاهرة سبيل إىل االنغالق الثقايف والتقوقع الحضاري والتكفري واختالق الفنت الطائفية والعصبيات الدينية‪.‬‬
‫‪ -‬يؤكد الشارع يف القرآن عىل مبدإ االعتدال والوسطية يف تدبّر املعاين والدالالت ويف مراعاة البعد اإلنساين‬ ‫ ‬
‫القيمي يف عالقة الخالق باملخلوق ويف عالقة املخلوق باملخلوق‪ ،‬ومن هذا املنطلق تكون املغاالة عنوان إقصاء‬
‫للمختلف وجحودا للخالق وإدبارا عن معاين التعارف والتآلف بني الشعوب والقبائل‪.‬‬

‫‪ .4‬مفهوم السماحة‬ ‫ ‬
‫انبنت روح الرشع اإلسالمي عىل أرضية التيسري ودرء املشقّة وجلب املصلحة‪ ،‬وال يتس ّنى تحقيق مبدإ التيسري‬ ‫ ‬
‫إالّ متى كان الرتفق واملالينة واملالطفة أسسا يف التعامل بني الناس وسلوكا يُ ْنتَ َه ُج يف عالقة املسلم مبحيطه‪.‬‬

‫املفاهيم املتصلة(الوسم)‪ :‬اللطف‪ -‬اللني‪ -‬السهولة‪ -‬الرفق‪ -‬السعة‪ -‬الرحابة‬ ‫ ‬

‫أ‪ .‬في المفهوم‬ ‫ ‬


‫‪-‬ورد مفهوم السامحة يف أحاديث الرسول متصال باملعاملة بني الناس وبتنظيم العالقات بينهم من الناحية‬ ‫ ‬
‫االجتامعية واالقتصادية والسياسية‪ ،‬وهو ما يؤكد جوهر اإلسالم إذ الدين معاملة قبل أن يكون عبادة‪.‬‬
‫وبالسعة ورفع الحرج والضيق‬ ‫‪ -‬وتتح ّدد السامحة من خالل الحديث النبوي بالسهولة واللني يف املعاملة ّ‬ ‫ ‬
‫والنأي عن املشقّة ونحو ذلك من املعاين الدالّة عىل السالسة والسهولة‪.‬‬
‫ب‪ .‬سماحة الرسل واألنبياء‬ ‫ ‬
‫‪ -‬تجلّــت ســاحة األنبيــاء عــر التاريــخ مــن خــال تخلّقهــم مبعــاين الرحمــة وصربهــم‬ ‫ ‬
‫عــى أذى أقوامهــم وصفحهــم ع ّمــن خالفوهــم وحاربوهــم فقــد كان النبــي يوســف عليــه الســام‬
‫ســمحا مــع إخوتــه رغــم كيدهــم لــه‪ ،‬وكان ابراهيــم عليــه الســام رحيــا بالنــاس شــفيقا عليهــم‬
‫صابــرا عــى آذاهــم‪ ،‬وكان يجــادل املــاك دفاعــا عــن قــوم لــوط خوفــا عليهــم مــن عــذاب اللــه‬
‫يب﴾‬‫يم أَ َّوا ٌه ُم ِن ٌ‬
‫يم لَ َحلِ ٌ‬
‫ُوط (‪ )74‬إِنَّ إِبْ َرا ِه َ‬
‫شى يُ َجا ِدلُ َنا ِف َق ْو ِم ل ٍ‬ ‫﴿ َفل ََّم َذ َه َب َع ْن إِبْ َرا ِه َ‬
‫يم ال َّر ْو ُع َو َجا َءتْهُ الْ ُب ْ َ‬
‫[هود‪]75 ،74 :‬‬
‫‪ -‬كان النبي ﷺ رحيام بالعباد واسع الصدر حليام‪ ،‬فعن أيب هريرة ريض الله عنه‪ :‬قيل يا رسول الله ادع‬ ‫ ‬
‫‪8‬‬
‫عىل املرشكني‪ ،‬قال ‪ّ »:‬إن مل أُ بعث لعاّنا وإنّ ا بُعثت رحمة»‪.‬‬
‫ج‪ .‬أنواع السماحة‬ ‫ ‬
‫ملاّ كانت السامحة معاملة وأخالقا‪ ،‬فقد تن ّوعت مظاهرها‪ ،‬وميكن أن نحرص تجلّيّاتها يف ثالثة رضوب‪:‬‬ ‫ ‬
‫• السامحة الدين ّية‪:‬‬ ‫ ‬
‫‪-‬ال تنبني العقيدة اإلسالم ّية عىل مخالفة الفطرة والعقل أو التعقيد واملشقّة‪ ،‬فعن أيب هريرة عن النبي صىل‬ ‫ ‬
‫الله عليه وسلم قال‪« :‬إ ّن الدين يرس ولن يشا ّد ال ّدين أحد إالّ غلبه»‪.‬‬
‫‪ -‬من مظاهر سامحة اإلسالم يف العبادات التيمم عند العوز إىل املاء‪ ،‬والتيسري يف كيفيّة أداء الصالة ومكانها‬ ‫ ‬
‫وكذا يف سائر العبادات األخرى‪.‬‬
‫‪ -‬من مظاهر سامحة اإلسالم احرتام أصحاب الديانات األخرى فقد نقلت لنا كتب السرية ترفق الرسول صىل‬ ‫ ‬
‫الله عليه وسلم وتلطفه يف معاملة أهل الذ ّمة واملخالفني عقيدة وملّة‪ ،‬فلم يجربهم عىل اعتناق اإلسالم وكذا فعل‬
‫بعده الخلفاء الراشدون‪ ،‬فمامّ رواه البخاري عن أنس «أ ّن غالما ليهود كان يخدم النبي صىل الله عليه وسلّم‪ ،‬فمرض‬
‫فأتاه النبي يعوده‪ ،‬فقال أسلم فأسلم»‬
‫• السامحة الفكريّة‬ ‫ ‬
‫وهي من رشوط املجادلة وبها يبعد املسلم عن الغلظة والتع ّنت والعنف اللفظي يقول تعاىل‪َ ﴿ :‬و َل تُ َجا ِدلُوا‬ ‫ ‬
‫اب إِ َّل بِالَّ ِتي ِه َي أَ ْح َس ُن﴾ [العنكبوت‪]46 :‬‬
‫أَ ْه َل الْ ِك َت ِ‬
‫ويؤ ّدي هذا باملجادل إىل اإلميان بقيمة االختالف وأهميته يف التنوع والرثاء رحمة‪.‬‬ ‫ ‬
‫• السامحة التخاطبية‬ ‫ ‬
‫اس‬‫نص اإلسالم عىل طيب الكالم وحسن املقال وإفشاء السالم وسالمة الصدر قال تعاىل‪َ ﴿ :‬و ُقولُوا لِل َّن ِ‬ ‫‪ّ -‬‬ ‫ ‬
‫ُح ْس ًنا﴾ [البقرة‪]83 :‬‬
‫‪ -‬نص اإلسالم عىل طالقة الوجه واستقبال الناس بالبرش والتبسم لهم وكظم الغيظ والحلم والتامس األعذار‬ ‫ ‬
‫لهم والتحيل بسعة الصدر لسامعهم يقول الرسول صىل الله عليه وسلم‪« :‬تبسمك يف وجه أخيك صدقة وأمرك‬
‫باملعروف صدقة ونهيك عن املنكر صدقة وإفراغك من دلوك يف دلو أخيك صدقة»‪.‬‬
‫• هل السامحة ميوعة ورعونة؟‬ ‫ ‬
‫السامحة اعتدال فهي ال تعني اإلفراط يف اللني واملالطفة فتمحى الضوابط ويغيب الج ّد يف العبادة وهي ال‬ ‫ ‬
‫تعني التضييق واملشقة فتيسء إىل روح الرشع ومبدإ التيسري فيه‬

‫االستنتاج‬ ‫ ‬
‫‪ -‬السامحة قيمة إنسانية قبل أن تكون قيمة دينية وعليها ينهض التآلف االجتامعي والتعامل البرشي‪،‬‬ ‫ ‬
‫تعم الفوىض ويستوحش اإلنسان ضدّ اإلنسان وينعدم االجتامع البرشي‪.‬‬ ‫وبانعدامها ّ‬
‫‪ -‬تكشف السامحة عن مقدار قبول االختالف وفهم أبعاده وخلفياته‪ ،‬كام تكشف عن ثقة اإلنسان يف خالقه‬ ‫ ‬
‫ويف نفسه‪ ،‬فأماّ ثقته يف الخالق فتتمثل يف أنّ رحمة املسلم للمسلم تؤدي إىل رحمة الخالق بعبده الراحم‪ ،‬وأماّ ثقته‬
‫يف نفسه فتتمثل يف رصانة أفعاله‪ ،‬والتحكم يف انفعاالته‪ ،‬وقدرته عىل أن يكون محبوبا من غريه‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫دالالت قرآنية‬

‫‪ .1‬مقصد الهداية‪:‬‬ ‫ ‬
‫اب َل َريْ َب ِفي ِه هُدً ى لِلْ ُم َّت ِقي َن (‪ )2‬الَّ ِذي َن يُ ْؤ ِم ُنونَ بِالْ َغ ْي ِب َويُ ِقي ُمونَ َّ‬
‫الص َل َة‬ ‫قال الله تعاىل ﴿الم (‪َ )1‬ذلِكَ الْ ِك َت ُ‬ ‫ ‬
‫َو ِم َّما َر َز ْق َنا ُه ْم ُي ْن ِفقُونَ (‪َ )3‬والَّ ِذي َن ُي ْؤ ِم ُنونَ ِب َما أُنْز َِل إِلَ ْيكَ َو َما أُنْز َِل ِم ْن َق ْبلِكَ َوب ِْال ِخ َر ِة ُه ْم ُيو ِق ُنونَ (‪ )4‬أُولَ ِئكَ َعلَى‬
‫هُدً ى ِم ْن َربِّه ِْم َوأُولَ ِئكَ ُه ُم الْ ُم ْفلِ ُحونَ ﴾ [البقرة‪]5 - 1 :‬‬
‫‪ -‬هذه هي اآليات األوىل من السورة األوىل بعد سورة الفاتحة‪ ،‬وهي تق ّدم تعريفا بالقرآن الكريم‪ ،‬وبالقارئ ‬ ‫ ‬
‫املستفيد من القرآن‪.‬‬
‫أ ّما القرآن فع ّرفته‪:‬‬ ‫ ‬
‫• تعريفا شكليّا فهو مك ّون من حروف عربية مثل األلف والالم وامليم‪.‬‬ ‫ ‬
‫• وتعريفا توثيق ّيا إذ ال ريب يف نسبته إىل الله تعاىل‪.‬‬ ‫ ‬
‫• وتعريفا مقصديّابأن جعل مقصد جميع آياته وسوره الهداية‪.‬‬ ‫ ‬
‫وتتأسس عىل أمرين أ ّولهام اإلميان بالغيب الذي‬ ‫‪ -‬ووصف القارئ املستفيد من هداية القرآن بصفة التقوى‪ّ ،‬‬ ‫ ‬
‫جاء منه القرآن‪ ،‬وبالكتب الساموية واآلخرة‪ .‬وثانيهام العبادة كالصالة والزكاة‪...‬‬
‫اس) [البقرة‪ ]185 :‬ووصف هنا بأنّه ﴿هُدٗ ى لّلم َّت ِق َني﴾‪ .‬وكونه‬ ‫‪ -‬وقد وصف القرآن يف آية أخرى بأنّه ( ُه ٗدى لِّل َّن ِ‬ ‫ ‬
‫هدى لل ّناس يعني الهداية العا ّمة لجميعهم يف مرحلة الدعوة والبيان‪ ،‬وكونه هدى للمتقني يعني االهتداء الفعيل بعد‬
‫اإلميان وقبول الدعوة‪.‬‬
‫‪ -‬والحاصل أ ّن القرآن نزل لغايات ومقاصد تعود كلّها إىل مقصد الهداية‪ .‬والهداية هي الداللة إىل الخري‬ ‫ ‬
‫واملصلحة مع توفّر رشطني يف ذلك أ ّولهام مضموين يتميز بالوضوح‪ ،‬أي بالبالغ املبني‪ ،‬وثانيهام أسلويب يتميز باللطف‪،‬‬
‫أي املخاطبة بالتي هي أحسن‪.‬‬

‫‪ .2‬ثراء الداللة القرآنية‪:‬‬ ‫ ‬


‫قال الله تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَ ْو أَنَّ َما ِفي ْالَ ْر ِض ِم ْن شَ َج َر ٍة أَ ْق َل ٌم َوالْ َب ْح ُر يَ ُمدُّ ُه ِم ْن بَ ْع ِد ِه َس ْب َع ُة أَبْ ُح ٍر َما نَ ِفدَ ْت كَلِ َم ُ‬
‫ات‬ ‫ ‬
‫يم﴾ [لقامن‪]27 :‬‬ ‫اللَّ ِه إِنَّ اللَّهَ َعزِي ٌز َح ِك ٌ‬
‫ميكن أن نستنتج من هذه اآلية عدّ ة حقائق‪:‬‬ ‫ ‬
‫ثري الداللة ال تنتهي معانيه‪ ،‬وال ميلّه العلامء املجتهدون‪ ،‬وإنّ ا ميلّه‬
‫‪ -‬أ ّن القرآن الكريم بوصفه كالم الله تعاىل ّ‬ ‫ ‬
‫املقلّدون الذين يجمدون عىل فهم واحد يك ّررونه‪.‬‬

‫‪ -‬أ ّن كلامت القرآن ليس لها سقف معريف تتوقف عنده إمدادا للبرشية وهداية مهام تغريت ظروفها وتعقدت‬ ‫ ‬
‫إشكالياتها‪ .‬فليست املشكلة يف قدرة القرآن عىل «اإلمداد» بل يف قدرة املسلمني عىل «االستمداد» عن طريق التدبّر‬
‫النص عىل الواقع‪.‬‬
‫وحسن تنزيل ّ‬
‫نصا عاديا‬
‫‪ -‬ال ميكن لعرص من العصور أن يبلغ نهاية ما أودعه الله تعاىل يف كلامته التي ال تنفد‪ ،‬فالقرآن ليس ّ‬ ‫ ‬
‫مفس واحد أو مذهب واحد‪ ،‬أل ّن عطاءه ال يتوقّف‪.‬‬ ‫معي أو أن يحتكر فهمه ّ‬ ‫ميكن أن يستنفد أغراضه زمن ّ‬
‫‪ -‬كام تكلّم العلامء قدميا عىل «تنجيم النزول» زمن الوحي فمن امله ّم أن نتكلم اليوم عىل «تنجيم الداللة» عرب الزمن‬
‫كله‪ ،‬مبعنى أ ّن كل عرص ميكنه أن يقرأ يف القرآن ما مل يقرأه السابقون‪ ،‬وإنّ ا تُستكشف دالالته مبرور الزمن يف إطار‬
‫السقف املعريف لكل عرص‪ ،‬ويف سياق التفاعل الحيوي بني النص والواقع‪.‬‬
‫‪10‬‬
‫‪ .3‬المنهج النبوي في تعليم القرآن‪:‬‬ ‫ ‬
‫قال الله تعاىل‪:‬‬ ‫ ‬
‫﴿ ُه َو الَّ ِذي َب َع َث ِفي ْالُ ِّم ِّيي َن َر ُس ًول ِم ْن ُه ْم َي ْتلُو َعلَ ْيه ِْم آ َياتِ ِه َو ُي َزكِّيه ِْم َو ُي َعلِّ ُم ُه ُم الْ ِك َت َ‬
‫اب َوالْ ِحكْ َم َة َوإِنْ كَانُوا‬ ‫ ‬
‫ِين﴾ [الجمعة‪]2 :‬‬ ‫ِم ْن َق ْب ُل لَ ِفي ضَ َللٍ ُمب ٍ‬
‫صل الله عليه وسلّم يف تعليم القرآن‪ ،‬وهو منهج منوذجي تخ ّرج عليه‬ ‫تبي هذه اآلية منهج الرسول ّ‬ ‫‪ّ -‬‬ ‫ ‬
‫الصحابة بوصفهم الدفعة األوىل من جيل القرآن‪.‬‬
‫‪ -‬يقوم هذا املنهج عىل أربعة عنارص واضحة ومتكاملة بحيث إذا فُقدت كلّها أو بعضها يكون املتعلّم عرضة‬ ‫ ‬
‫للوقوع يف الضالل املبني‪:‬‬
‫أ‪( .‬يَتلُواْ َعلَيهِم َءايَٰته)‪ :‬تحفيظ القرآن وتعليم التالوة قصد تأثيث الذاكرة وتوثيق النص‪ .‬لك ّن الحفظ وحده ال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ ‬
‫يؤ ّهل صاحبه للدعوة والفتيا‪.‬‬
‫ب‪َ ( .‬و ُي َزكِّيهِم)‪ :‬ترسيخ التفاعل الوجداين مع القرآن قصد تغذية القلب والروح لتكوين اإلنسان الصالح التقي‪.‬‬ ‫ ‬
‫لك ّن اإلنسان التقي الذي يحفظ كالم الله حفظا جيّدا يظل غري مؤ ّهل لالجتهاد وبيان أحكام القرآن‪ ،‬لذلك الب ّد من‬
‫إضافة العنرصين التاليني‪.‬‬
‫ج‪َ ( .‬ويُ َعلِّ ُم ُه ُم ٱلك َٰت َب)‪ :‬تعليم مضامني القرآن العقدية والعملية‪ ،‬وبيان أحكامه‪ ،‬وكيفية االجتهاد يف فهمه‬ ‫ ‬
‫قصد تغذية العقل‪.‬‬
‫د‪َ ( .‬وٱل ِحك َم َة)‪ :‬تعليم مقاصد القرآن قصد إحكام تنزيل نصوصه عىل الواقع‪ .‬ومن معاين الحكمة اتخاذ القرار‬ ‫ ‬
‫التنفيذي املناسب يف الظرف املناسب‪ .‬لذلك تطلق الحكمة عىل الس ّنة ألنّها تطبيق عميل حكيم للنص القرآين يف واقع‬
‫الرسالة‪.‬‬
‫‪ -‬فاملعرفة النظرية بأحكام القرآن غري كافية‪ ،‬بل قد تكون ضا ّرة إذا صحبها سوء تنزيل عىل الواقع‪ ،‬كتنزيل‬ ‫ ‬
‫اآليات الخاصة باملرشكني العرب عىل املسلمني قصد تكفريهم‪ ،‬وتنزيل اآليات التي تأمر بطاعة أويل األمر عىل أمراء‬
‫الجامعات اإلسالمية‪ ،‬وغري ذلك من التنزيالت الشاذّة‪.‬‬
‫‪ -‬لذلك كانت الحكمة رضورية يف كل برنامج تعليمي متعلّق بالقرآن‪ .‬ولذلك جمع املنهج النبوي يف تعليم‬ ‫ ‬
‫القرآن بني الرتتيل الرشيق‪ ،‬لتغذية الذاكرة‪ ،‬واإلميان الوثيق‪ ،‬لتغذية القلب‪ ،‬والفهم العميق‪ ،‬لتغذية العقل‪ ،‬والتطبيق‬
‫الدقيق‪ ،‬لتغذية الواقع‪ .‬وإنّ ا وقع الخلل يف تعاملنا مع النص القرآين بسبب انعدام التوازن بني هذه العنارص األربعة‪.‬‬

‫‪ .4‬وحدة األصول واختالف الشرائع والمناهج‪:‬‬ ‫ ‬


‫قال الله تعاىل‪:‬‬ ‫ ‬
‫يسى أَنْ‬ ‫وسى َو ِع َ‬ ‫ين َما َو َّصى ِب ِه نُو ًحا َوالَّ ِذي أَ ْو َح ْي َنا إِلَ ْيكَ َو َما َو َّص ْي َنا ِب ِه إِبْ َرا ِه َ‬
‫يم َو ُم َ‬ ‫﴿شَ َر َع لَك ُْم ِم َن الدِّ ِ‬ ‫ ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أقي ُموا الدِّ ي َن َو َل تَ َت َف َّر ُقوا فيه﴾ [الشورى‪]13 :‬‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫تدل هذه اآلية عىل أ ّن جميع الرسل يتفقون يف الدعوة إىل دين واحد ال اختالف فيه‪ .‬واملقصود بذلك هو‬ ‫‪ّ -‬‬ ‫ ‬
‫أصول الدين‪ ،‬أي عقائده وكلياته ومقاصده العليا‪.‬‬
‫‪ -‬لك ّن هذه األصول العقدية والنظرية تقتيض تديّنا ترشيعيا عىل مستوى العمل يف الواقع‪ ،‬وهذا الواقع‬ ‫ ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مختلف من عرص إىل آخر‪ ،‬لذلك جاءت الترشيعات مختلفة كام قال تعاىل‪﴿ :‬لك ٍُّل َج َعلْ َنا م ْنك ُْم ش ْر َع ًة َوم ْن َها ًجا َولَ ْو‬
‫شَ ا َء اللَّهُ لَ َج َعلَك ُْم أُ َّم ًة َوا ِحدَ ًة َولَ ِك ْن لِ َي ْبلُ َوك ُْم ِفي َما آتَاك ُْم﴾ [املائدة‪]48 :‬‬
‫‪ -‬تنفي هذه اآلية أن تكون إرادة الله تعاىل قد تعلّقت بجعل البرشية عىل م ّر التاريخ تتح ّرك بوصفها أ ّمة‬ ‫ ‬
‫كل أ ّمة ابتالء مخصوصا فيام آتاها من رشعة مخصوصة‪.‬‬ ‫واحدة تسري عىل رشيعة واحدة‪ ،‬ولك ّنه تعاىل أراد أن يبتيل ّ‬
‫‪ -‬واآلية واضحة يف أ ّن الرساالت تختلف يف الترشيع‪ ،‬ويف املنهاج‪ .‬فاالختالف مل يكن مضمونيا متعلقا بالترشيع‬ ‫ ‬
‫فحسب‪ ،‬بل كان منهجيا عىل معنى أ ّن الله جعل لكل منهجا عمليا يف تنزيلها عىل الواقع مناسبا لطبيعتها ولظرفها‬
‫نبي وعيا منهجيا مخصوصا مرتبطا برسالته‪ .‬فام هي الدروس التي نستفيدها من هذا‬ ‫كل ّ‬ ‫التاريخي‪ ،‬وهذا يعني أ ّن ّ‬
‫االختالف؟‬
‫أ‪ .‬واقعية الترشيع ومراعاته لسنن اختالف الظروف‪.‬‬ ‫ ‬
‫ب‪ .‬بناء عىل ذلك مت ّيز عدد من األنبياء بالرتكيز عىل مشاكل مخصوصة ظهرت يف أقوامهم‪.‬‬ ‫ ‬

‫‪11‬‬
‫ج‪ .‬أ ّما خصوص ّية رسالة اإلسالم فتتمثل يف الجمع بني كل الرشائع السابقة‪ ،‬فهي مل تأت ملعالجة مشاكل مؤقتة‬ ‫ ‬
‫ألقوام مخصوصني‪ ،‬بل هي مو ّجهة إىل الناس جميعا يف مختلف أنحاء العامل وال ريب أ ّن كل ظرف تاريخي أو اجتامعي‬
‫وسيايس له خصوصياته التي ميكن أن يجد لها صدى يف القرآن الكريم برشط حسن الفهم وإتقان عملية التنزيل‪.‬‬
‫د‪ .‬ويقتيض الشمول يف رسالة اإلسالم من املسلمني فهم متطلبات كل ظرف يعيشون فيه‪ ،‬ومعالجة قضاياه‬ ‫ ‬
‫املخصوصة بناء عىل منهجيات تناسب الكليات املشرتكة التي ينبغي استصحابها يف كل عرص‪.‬‬
‫هـ‪ .‬الحاصل‪ :‬كام أ ّن لكل نبي رشعة ومنهاجا يف إطار األصول املشرتكة فإ ّن لكل ظرف فقهه النظري املخصوص‬ ‫ ‬
‫ومنهجه التنزييل املخصوص يف إطار الثوابت املشرتكة‪.‬‬

‫‪ .5‬نفي اإلكراه على التدين‪:‬‬ ‫ ‬


‫ين َقد تَّ َب َّ َي ٱل ُّرشدُ ِم َن ٱلغ َِّي﴾ [البقرة‪]256 :‬‬
‫﴿ل ِإك َرا َه ِف ٱلدِّ ِ‬
‫قال تعاىل‪ٓ َ :‬‬ ‫ ‬
‫أي خالف يف موضوعه‪.‬‬ ‫«نص» من جهة أنّه ّبي بذاته‪ ،‬يلغي ّ‬ ‫‪ -‬يوصف الكالم يف هذه اآلية بأنّه ّ‬ ‫ ‬
‫الغي‬
‫تبي طريق الرشد والهدى من طريق ّ‬ ‫‪ -‬يؤكّد هذا النص املحكم أ ّن التديّن يقوم عىل االختيار بعد ّ‬ ‫ ‬
‫والضالل‪ .‬فمه ّمة ال ّداعية هي البيان ال اإلكراه والجرب‪.‬‬
‫يدل عىل أ ّن الدين يقوم عىل حرية االختيار أ ّن العلامء املسلمني ع ّرفوه بأنّه «وضع إلهي سائق لذوي‬ ‫مم ّ‬ ‫‪ّ -‬‬ ‫ ‬
‫العقول باختيارهم إىل ما فيه صالحهم يف الدنيا واآلخرة»‪.‬‬
‫وحل اإلكراه انتفى التديّن‪ ،‬أل ّن التديّن أمر قلبي داخيل يقوم عىل االقتناع الذايت‪ .‬فاإلكراه‬ ‫‪ -‬إذا انتفى االختيار ّ‬ ‫ ‬
‫ال ينتج يف الغالب إالّ النفاق الذي ال يعترب إميانا أل ّن صاحبه يق ّر ظاهريّا بألفاظ اإلميان مداراة وته ّربا من الضغط لك ّنه‬
‫غري مؤمن حقيقة‪ ،‬وهو ما قد يتط ّور إىل العداوة والبغضاء‪.‬‬
‫‪ -‬إ ّن حرف «ال» يف اآلية لنفي جنس اإلكراه ويُع ّد أقوى داللة عىل املقصود‪ ،‬فال وجود لإلكراه يف الدين أصال‪،‬‬ ‫ ‬
‫وال ميكن تص ّور الدين مع اإلكراه‪.‬‬
‫مم يؤكّد أ ّن اآلية محكمة أي غري قابلة للنسخ أمران‪:‬‬ ‫‪ّ -‬‬ ‫ ‬
‫أحدهام‪ :‬أ ّن صيغتها وردت عىل نسق القواعد الكلية‪ ،‬فهي قاعدة عامة وتأسيسية وظيفتها التأصيل‪ .‬والقواعد‬ ‫ ‬
‫الكلية ال تنسخها النصوص الفرعية‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬أ ّن صيغتها ليست إنشائية أي ليست نهيا وال أمرا يقبالن النسخ‪ ،‬وإنّ ا صيغتها «إخبارية» مبعنى أ ّن الله‬ ‫ ‬
‫تعاىل يخربنا أنّه ال وجود لإلكراه يف الدين‪ .‬ومعلوم عند علامء أصول الفقه أ ّن األخبار يف القرآن ال تقبل النسخ‪ ،‬أل ّن‬
‫ذلك يرتتب عليه ال ُخلْف‪ ،‬أي الكذب ومخالفة الخرب للواقع‪ ،‬وهو ال يجوز يف حق الله تعاىل‪.‬‬

‫‪ .6‬نهي القرآن عن التكـفير‪:‬‬ ‫ ‬


‫قال الله تعاىل‪:‬‬ ‫ ‬
‫﴿ َياأَ ُّي َها الَّ ِذي َن آ َم ُنوا إِ َذا ضَ َر ْب ُت ْم ِفي َسبِيلِ اللَّ ِه َف َت َب َّي ُنوا َو َل تَقُولُوا لِ َم ْن أَلْقَى إِلَ ْيك ُُم َّ‬
‫الس َل َم ل َْس َت ُم ْؤ ِم ًنا تَ ْب َتغُونَ‬ ‫ ‬
‫َع َر َض الْ َح َيا ِة الدُّ نْ َيا َف ِع ْندَ اللَّ ِه َمغَانِ ُم كَ ِثي َر ٌة كَ َذلِكَ كُ ْن ُت ْم ِم ْن َق ْب ُل َف َم َّن اللَّهُ َعلَ ْيك ُْم َف َت َب َّي ُنوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ ِب َما تَ ْع َملُونَ‬
‫َخبِي ًرا﴾ [النساء‪]94 :‬‬
‫من أه ّم ما ميكن استنتاجه‪:‬‬ ‫ ‬
‫بالتبي وعدم الحكم عىل ما يف قلوبهم‪.‬‬ ‫‪ -‬أ ّن اآلية فيها تحذير شديد اللهجة من تكفري الناس وأمر ّ‬ ‫ ‬
‫رسع يف‬ ‫صل الله عليه وسلّم ليس م ّربرا كافيا للت ّ‬ ‫‪ -‬أ ّن الخروج يف سبيل الله ويف قتال مرشوع مع الرسول ّ‬ ‫ ‬
‫تكفري الناس‪.‬‬
‫‪ -‬أ ّن هذا التكفري مل يكن خالصا لوجه الله بل كان دافعه اإلرساع إىل أخذ الغنيمة التي وصفها الله تعاىل بأنّها‬ ‫ ‬
‫«عرض الحياة الدنيا» فبغيتهم كانت دنيوية ال دين ّية‪.‬‬
‫‪ -‬يف اآلية تذكري لهؤالء املكفّرين بوضعيتهم قبل أن يؤمنوا‪ ،‬فلو أ ّن بعض الناس كفّروهم وقتلوهم ملا صاروا‬ ‫ ‬
‫مؤمنني‪ ،‬ولك ّن الله م ّن عليهم باإلميان‪ ،‬فلامذا يفعلون مع غريهم ما يكرهون ألنفسهم‪.‬‬

‫‪ .7‬يوسف عليه السالم داعية ومنقذ إنساني‪:‬‬ ‫ ‬


‫يعترب يوسف عليه السالم منوذجا ملؤمن اضطهد يف مجتمع غريب عن مجتمعه األصيل‪ ،‬لك ّنه مع ذلك صرب‬ ‫ ‬
‫‪12‬‬
‫محافظا عىل إميانه وأخالقه العالية حتى اكتسب ثقة الناس‪ ،‬وصار ممكّنا يف األرض ويعمل جاهدا لتحقيق مصالح‬
‫الجميع من منطلق إنساين بقطع النظر عن عقائد الناس‪.‬‬
‫ص َخ ْم ًرا َو َق َال ْال َخ ُر إِ ِّن أَ َر ِان أَ ْح ِم ُل َف ْو َق‬ ‫الس ْج َن َف َت َيانِ َق َال أَ َحدُ ُه َم إِ ِّن أَ َر ِان أَ ْع ِ ُ‬
‫قال تعاىل ﴿ َو َدخ ََل َم َعهُ ِّ‬ ‫ ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫َرأ ِس ُخ ْب ًزا تَأك ُُل الطَّ ْي ُر ِم ْنهُ نَ ِّب ْئ َنا ِب َتأوِيلِ ِه إِنَّا نَ َراكَ ِم َن الْ ُم ْح ِس ِني َن﴾ [يوسف‪]36 :‬‬ ‫ْ‬
‫للقصة اعتبار يوسف عليه السالم سجينا سياسيا‪ ،‬ألنّه ثبتت براءته من تهمة‬ ‫‪ -‬ميكن بناء عىل السياق املتق ّدم ّ‬ ‫ ‬
‫املراودة‪ ،‬ورغم ذلك سجن ظلام بناء عىل إرادة سيدة القرص‪.‬‬
‫‪ -‬والشاهد يف هذه اآلية أ ّن الفتيني اللذين كانا سجينني سياسيني قضيتهام يف طور التحقيق وثقا فيه دون غريه‬ ‫ ‬
‫من املساجني‪ ،‬ألنّهام رأياه من املحسنني داخل السجن‪.‬‬
‫‪ -‬قال تعاىل ﴿ َق َال َل يَأْتِيكُ َما طَ َعا ٌم تُ ْر َز َقانِ ِه إِ َّل نَ َّبأتُكُ َما ِب َتأوِيلِ ِه َق ْب َل أنْ يَأتِ َيكُ َما َذلِكُ َما ِم َّما َعلَّ َم ِني َربِّي إِنِّي‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ ‬
‫ُوب َما‬ ‫يم َوإِ ْس َح َاق َو َي ْعق َ‬ ‫تَ َرك ُْت ِملَّ َة َق ْو ٍم َل ُي ْؤ ِم ُنونَ بِاللَّ ِه َو ُه ْم ب ِْال ِخ َر ِة ُه ْم كَا ِف ُرونَ (‪َ )37‬واتَّ َب ْع ُت ِملَّ َة آ َبائِي إِ ْب َرا ِه َ‬
‫اصا ِح َب ِي‬ ‫اس َل يَشْ كُ ُرونَ (‪ )38‬يَ َ‬ ‫اس َولَ ِك َّن أَكْ َث َر ال َّن ِ‬ ‫كَانَ لَ َنا أَنْ نُشْ رِكَ بِاللَّ ِه ِم ْن شَ ْي ٍء َذلِكَ ِم ْن فَضْ لِ اللَّ ِه َعلَ ْي َنا َو َعلَى ال َّن ِ‬
‫اب ُم َت َف ِّر ُقونَ َخ ْي ٌر أَ ِم اللَّهُ الْ َوا ِحدُ الْ َق َّها ُر ﴾ [يوسف‪]39 ،38 :‬‬ ‫الس ْج ِن أَأَ ْربَ ٌ‬
‫ِّ‬
‫‪ -‬قبل أن يؤ ّول لكل واحد منهام رؤياه األصلية‪ ،‬أراد أن يكسب املزيد من ثقتهام بإخبارهام عن حقيقة كل‬ ‫ ‬
‫طعام قبل أن يأتيهام‪.‬‬
‫رصح لهام مبارشة بهويته العقدية‪ ،‬وهي هوية توحيدية تخالف املعتقدات السائدة يف مرص آنذاك‪.‬‬ ‫‪ّ -‬‬ ‫ ‬
‫اب ُم َت َف ِّر ُقونَ خ ْ ٌ‬
‫َي‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الس ْج ِن﴾ ومبنطق عقيل مقارن ﴿أأ ْربَ ٌ‬ ‫‪ -‬دعاهام إىل التوحيد بلطف يف الخطاب ﴿يَا َصا ِح َب ِي ِّ‬ ‫ ‬
‫أ ِم اللَّهُ الْ َوا ِحدُ الْ َق َّها ُر﴾‪.‬‬ ‫َ‬
‫يق أَ ْف ِت َنا ِفي‬ ‫الصدِّ ُ‬ ‫ف أَ ُّي َها ِّ‬ ‫‪ -‬قال تعاىل ﴿ َو َق َال الَّ ِذي نَ َجا ِم ْن ُه َما َوا َّدكَ َر َب ْعدَ أُ َّم ٍة أَنَا أُنَ ِّب ُئك ُْم ِب َتأْوِيلِ ِه َفأَ ْر ِسلُونِ (‪ُ )45‬ي ُ‬
‫وس ُ‬
‫اس لَ َعلَّ ُه ْم يَ ْعلَ ُمونَ (‪)46‬‬ ‫ات لَ َعلِّي أَ ْرجِ ُع إِلَى ال َّن ِ‬ ‫اف َو َس ْبعِ ُس ْن ُب َل ٍت خُضْ ٍر َوأُ َخ َر يَاب َِس ٍ‬ ‫ات ِس َمانٍ يَأْكُلُ ُه َّن َس ْب ٌع ِع َج ٌ‬ ‫َس ْبعِ بَ َق َر ٍ‬
‫َق َال تَ ْز َر ُعونَ َس ْب َع ِس ِني َن َدأَبًا َف َما َح َصدْ ت ُْم َف َذ ُرو ُه ِفي ُس ْن ُبلِ ِه إِ َّل َقلِ ًيل ِم َّما تَأْكُلُونَ (‪ )47‬ثُ َّم يَأْتِي ِم ْن بَ ْع ِد َذلِكَ َس ْب ٌع‬
‫اس َو ِفي ِه يَ ْع ِص ُرونَ ﴾‬ ‫ِشدَ ا ٌد يَأْكُلْ َن َما َقدَّ ْم ُت ْم لَ ُه َّن إِ َّل َقلِ ًيل ِم َّما تُ ْح ِص ُنونَ (‪ )48‬ثُ َّم يَأْتِي ِم ْن بَ ْع ِد َذلِكَ َعا ٌم ِفي ِه يُغ ُ‬
‫َاث ال َّن ُ‬
‫[يوسف‪]49 - 45 :‬‬
‫‪ -‬صارت رؤيا امللك قضية وطنية شغلت امللك والناس ومل يرت ّدد يوسف عليه السالم يف إجابة طلب الناس‪،‬‬ ‫ ‬
‫بل ق ّدم لهم وهو يف السجن خطة اإلنقاذ مبارشة دون أن يطلب شيئا لنفسه مقابل ذلك‪ ،‬ومل يفكّر أصال يف أنّهم غري‬
‫مؤمنني ال يستحقون العون‪ ،‬بل بذل النصح للناس دون اعتبار لوضعهم العقدي‪.‬‬
‫‪ -‬فجاء الذي نجا من الفتيني وخرب صدق يوسف بوصفه مبعوثا رسميا من امللك‪ ،‬وأخربه بأ ّن الناس ينتظرون‬ ‫ ‬
‫جوابه ليعلموا ماذا يفعلون‪.‬‬
‫‪ -‬وضع لهم مخططا اقتصاديا ينجيهم من املجاعة املحققة‪ .‬وهو مخطط ميتد خمسة عرش سنة وينقسم إىل‬ ‫ ‬
‫ثالث مراحل‪:‬‬
‫أ‪ -‬مرحلة الخصب‪ :‬يهت ّم الناس فيها بثالثة أمور‪:‬‬ ‫ ‬
‫بع ِس ِن َني َدأَبٗا﴾ قصد الرتفيع من طاقة اإلنتاج‪.‬‬ ‫األ ّول‪ :‬العمل الدؤوب ﴿تَز َر ُعونَ َس َ‬ ‫ ‬
‫الثاين‪ :‬ادخار فائض اإلنتاج ﴿ف ََم َح َصدتُّم َف َذ ُرو ُه ِف ُسن ُبلِ ِه﴾‪.‬‬ ‫ ‬
‫الثالث‪ :‬ترشيد االستهالك ﴿إِ َّل َقلِ ٗيل ِّم َّم تَأكُلُونَ ﴾‪.‬‬ ‫ ‬
‫ب‪ -‬مرحلة الجدب‪ :‬يهتم فيها الناس بأمرين‪:‬‬ ‫ ‬
‫األ ّول‪ :‬استهالك م ّدخرات سنوات الخصب‪ ،‬ويكون ذلك بحسن توزيعها‪.‬‬ ‫ ‬
‫الثاين‪ :‬تحصني البذور يف مخابئ آمنة حتى يقع زرعها يف سنة الغوث‪.‬‬ ‫ ‬
‫حصنوها‪ ،‬وتتوفر لهم‬ ‫ج‪ -‬مرحلة الغوث‪ :‬يف هذه املرحلة األخرية يغاث الناس باملطر فيزرعون البذور التي ّ‬ ‫ ‬
‫فوائض إنتاج بحيث ميكنهم أن يتمتعوا بشتى أنواع العصري‪.‬‬
‫اللتِي‬ ‫َاسأَلْهُ َما بَ ُال ال ِّن ْس َو ِة َّ‬‫‪ -‬قال تعاىل ﴿ َو َق َال الْ َملِكُ ائْ ُتونِي ِب ِه َفلَ َّما َجا َء ُه ال َّر ُس ُول َق َال ا ْرجِ ْع إِلَى َربِّكَ ف ْ‬ ‫ ‬
‫يم ﴾ [يوسف‪]50 :‬‬ ‫َ‬
‫َقطَّ ْع َن أيْ ِديَ ُه َّن إِنَّ َربِّي ِبكَ ْي ِد ِه َّن َعلِ ٌ‬
‫‪ -‬رغم بقائه يف السجن مظلوما بضع سنني رفض يوسف عليه السالم أن يكون خروجه بعفو مليك‪ ،‬أل ّن العفو‬ ‫ ‬
‫يقتيض ثبوت التهمة‪.‬‬
‫‪ -‬كام أنّه رفض الخروج مبارشة أل ّن خروجه عىل هذه الصورة قد يوهم بأنّه اسرتجع حريته مقابل التأويل يف‬ ‫ ‬
‫‪13‬‬
‫إطار صفقة سياسية قامئة عىل املنفعة الذاتية‪.‬‬
‫‪ -‬لذلك طالب بتحقيق العدالة وإعادة النظر يف القضية الكيدية التي اتُّهم فيها باطال حتى تثبت براءته‪.‬‬ ‫ ‬
‫‪ -‬بعد أن ثبتت براءته قال له امللك { إِن ََّك الْيَ ْو َم لَ َديْ َنا َم ِك ٌني أَ ِم ٌني} [يوسف‪ ]54 :‬وهذا يعني أنّه ظفر بثقة‬ ‫ ‬
‫امللك‪.‬‬
‫‪ -‬عند ذلك طلب منه أن يجعله مرشفا عىل تنفيذ املخطط الذي اقرتحه عليهم‪ ،‬وق ّدم نفسه بوصفه خبريا فيه‬ ‫ ‬
‫يم﴾ [يوسف‪.]55 :‬‬ ‫يظ َعلِ ٌ‬ ‫﴿ َق َال ا ْج َعلْ ِني َعلَى َخ َزائِ ِن ْالَ ْر ِض إِنِّي َح ِف ٌ‬
‫صح التعبري – يف دولة غري مسلمة‪ ،‬ألنّه كان ممكنا من‬ ‫تول يوسف عليه السالم وزارة االقتصاد – إن ّ‬ ‫‪ -‬وبذلك ّ‬ ‫ ‬
‫تنفيذ املخطط املفيد لعا ّمة الناس‪.‬‬

‫‪ .8‬ذو القرنين والسالم العالمي‪:‬‬


‫تعترب قصة ذي القرنني يف القرآن منوذجا ملا ينبغي أن تكون عليه الدولة القوية والكربى يف العامل فهي قصة‬ ‫ ‬
‫ملك قوي صالح نذر نفسه لنرش اإلميان وتحقيق األمن والعدالة والسالم يف العامل‪.‬‬
‫قال تعاىل ﴿ َويَ ْسأَلُونَكَ َع ْن ِذي الْ َق ْرن ْ َِي ُق ْل َسأَتْلُو َعلَ ْيك ُْم ِم ْنهُ ِذكْ ًرا (‪ )83‬إِنَّا َمكَّ َّنا لَهُ ِف ْالَ ْر ِض َوآتَ ْي َنا ُه ِم ْن ك ُِّل َ ْ‬
‫ش ٍء‬
‫َس َب ًبا﴾ [الكهف‪]84 :‬‬
‫‪ .1‬اكتسب ذو القرنني مكانته يف عرصه عن طريق العلم واملعرفة أي معرفة أسباب الق ّوة وبناء العمران‪.‬‬ ‫ ‬
‫‪ -‬وكان مبقتىض توحيده وتديّنه يؤمن بأ ّن األسباب إنّ ا هي تسخري من الله تعاىل‪ ،‬فقد كان عىل وعي بحسن‬ ‫ ‬
‫توظيف قوانني التسخري‪.‬‬
‫‪ -‬نستنتج من ذلك أ ّن السالم إنّ ا يصنعه األقوياء يف العامل واملتف ّوقون يف التم ّدن والعمران‪ ،‬أ ّما الضعفاء‬ ‫ ‬
‫فحظّهم االكتفاء باملطالبة بالسالم واملناداة بتحقيقه‪.‬‬
‫ومن أه ّم األسباب التي اعتمدها ذو القرنني أنّه كان يجتهد يف فهم مشكلة كل قوم مي ّر بهم‪ ،‬ويسعى إىل حلّها‪ .‬وبذلك‬
‫استطاع أن ينجز القواعد الكربى التي يتحقق بها االستقرار الحضاري والسالم يف العامل‪ ،‬وهي‪ :‬العدالة‪ ،‬والتنمية‪ ،‬واألمن‪.‬‬
‫القاعدة األوىل‪ :‬العدالة‬ ‫ ‬
‫قال تعاىل ﴿ َح َّتى إِ َذا بَلَ َغ َم ْغر َِب الشَّ ْم ِس َو َجدَ َها تَ ْغ ُر ُب ِفي َع ْي ٍن َح ِم َئ ٍة َو َو َجدَ ِع ْندَ َها َق ْو ًما ُقلْ َنا يَا َذا الْ َق ْرنَ ْي ِن إِ َّما أَنْ‬
‫ف نُ َع ِّذبُهُ ثُ َّم يُ َر ُّد إِلَى َربِّ ِه َف ُي َع ِّذبُهُ َع َذابًا نُكْ ًرا (‪َ )87‬وأَ َّما‬ ‫تُ َع ِّذ َب َوإِ َّما أَنْ تَ َّت ِخ َذ ِفيه ِْم ُح ْس ًنا (‪َ )86‬ق َال أَ َّما َم ْن ظَل ََم ف ََس ْو َ‬
‫ُول لَهُ ِم ْن أَ ْم ِرنَا يُ ْس ًرا﴾ [الكهف‪]88 - 86 :‬‬ ‫َم ْن آ َم َن َو َع ِم َل َصالِ ًحا َفلَهُ َج َزا ًء الْ ُح ْس َنى َو َس َنق ُ‬
‫‪ -‬أزال ذو القرنني حسب هذه اآليات الظلم املوجود يف هذا املجتمع بأن عاقب الظاملني‪ ،‬وأحسن جزاء املؤمنني الذين‬
‫يعملون الصالحات‪ ،‬وعاملهم باليرس‪.‬‬

‫القاعدة الثانية‪ :‬التنمية‬ ‫ ‬


‫قال تعاىل ﴿ َح َّت ٰى إِ َذا َبلَ َغ َمطْلِ َع الشَّ ْم ِس َو َجدَ َها تَطْل ُُع َعل َٰى َق ْو ٍم ل َّْم نَ ْج َعل لَّ ُهم ِّمن ُدونِ َها ِس ْت ًرا (‪ )90‬كَ َٰذلِكَ‬ ‫ ‬
‫َو َقدْ أَ َحطْ َنا ِب َما لَدَ يْ ِه ُخ ْب ًرا (‪[﴾)91‬الكهف‪]91 - 90 :‬‬
‫‪ -‬يظهر من هذه اآليات أ ّن رحلته الثانية قادته إىل قوم ليس لهم خربة باأللبسة وال بالبنايات التي تسرتهم‬ ‫ ‬
‫من ح ّر الشمس‪ ،‬إذ يبدو أ ّن بيئتهم كانت صحراوية‪ ،‬ومل تكن لهم دراية كافية بأسباب التم ّدن‪.‬‬
‫شك أ ّن ذي القرنني سار فيهم سرية عادلة كسريته مع الذين قبلهم وهو ما أشار إليه قوله تعاىل (كَ َٰذلِ َك)‬ ‫‪ -‬وال ّ‬ ‫ ‬
‫ومن املفروض أنّه ساعدهم عىل اكتساب خربات تسرتهم من الشمس‪.‬‬

‫القاعدة الثالثة‪ :‬األمن‬ ‫ ‬


‫السدَّ ْي ِن َو َجدَ ِم ْن ُدونِ ِه َما َق ْو ًما َل َيكَا ُدونَ َي ْف َق ُهونَ َق ْو ًل (‪َ )93‬قالُوا‬ ‫قال تعاىل ﴿ثُ َّم َأتْ َب َع َس َب ًبا (‪َ )92‬ح َّتى ِإ َذا َبلَ َغ َب ْي َن َّ‬
‫وج ُمف ِْسدُ ونَ ِفي ْالَ ْر ِض َف َه ْل نَ ْج َع ُل لَكَ َخ ْر ًجا َعلَى أَنْ تَ ْج َع َل بَ ْي َن َنا َوبَ ْي َن ُه ْم َسدًّ ا (‪)94‬‬ ‫وج َو َمأْ ُج َ‬ ‫يَا َذا الْ َق ْرنَ ْي ِن إِنَّ يَأْ ُج َ‬
‫َق َال َما َمكَّ ِّني ِفي ِه َربِّي َخ ْي ٌر َفأَ ِعي ُنونِي ِب ُق َّو ٍة أَ ْج َع ْل بَ ْي َنك ُْم َوبَ ْي َن ُه ْم َر ْد ًما (‪ )95‬آتُونِي ُزبَ َر الْ َح ِدي ِد َح َّتى إِ َذا َسا َوى بَ ْي َن‬
‫الصدَ َف ْي ِن َق َال انْ ُفخُوا َح َّتى إِ َذا َج َعلَهُ نَا ًرا َق َال آتُونِي أُ ْف ِر ْغ َعلَ ْي ِه ِقطْ ًرا (‪َ )96‬ف َما ْاسطَا ُعوا أَنْ يَظْ َه ُرو ُه َو َما ْاس َتطَا ُعوا لَهُ‬ ‫َّ‬
‫نَ ْق ًبا﴾ [الكهف‪]97 - 92 :‬‬
‫‪ -‬املشكلة األوىل أ ّن هؤالء القوم ال يفهمون لغته وال يفهم لغتهم‪ ،‬لك ّن ذا القرنني استطاع تجاوز هذا الحاجز‬ ‫ ‬
‫‪14‬‬
‫رمبا عن طريق الرتجمة بحيث فهم مطلبهم وخاطبهم بكالم يفهمونه‪.‬‬
‫‪ -‬املشكلة األساسية أ ّن هؤالء قوم مستضعفون يعيشون يف خوف مستمر من قوم أقوياء مفسدين وصفوهم‬ ‫ ‬
‫بأنّهم ياجوج وماجوج يَغريون عليهم من فتحة بني جبال شاهقة‪.‬‬
‫‪ -‬ويبدو أ ّن لهؤالء املستضعفني شعورا بالكرامة‪ ،‬فلم يريدوا أن يق ّدم لهم ذو القرنني خدمة مجانية‪ ،‬بل كان‬ ‫ ‬
‫حس اجتامعي تضامني لذلك ق ّرروا أن يتعاونوا فيام بينهم ليجمعوا له خراجا ماليا مقابل الس ّد الذي سيبنيه لهم‬ ‫لهم ّ‬
‫حتى يحميهم من املفسدين‪.‬‬
‫‪ -‬لك ّن ذا القرنني مبقتىض صالحه رفض أن يستغل ضعفهم وأن يبت ّز أموالهم وبعض م ّدخراتهم التي هم يف‬ ‫ ‬
‫أش ّد الحاجة إليها‪ .‬لذلك ق ّرر أن يرشكهم يف عملية بناء الس ّد الدفاعي التي صارت قضية وطنية تشغل الجميع‪.‬‬
‫‪ -‬هؤالء القوم هم مثال ملن ميلكون يف أرضهم ثروة معدنية مهمة وال يحسنون استغاللها‪ .‬وقد استطاع ذو‬ ‫ ‬
‫يحصن هؤالء الضعفاء من هجامت املفسدين‪.‬‬ ‫القرنني أن يحسن توظيف هذين املعدنني يف بناء س ّد دفاعي منيع ّ‬
‫‪ -‬من امله ّم يف األخري اإلشارة إىل أ ّن ذا القرنني بعد أن أنجز الس ّد مل ينسب الفضل إليه‪ ،‬ومل يطالب القوم‬ ‫ ‬
‫مبدحه ومتجيده بل نسب ذلك إىل رحمة الله تعاىل بهؤالء املستضعفني ﴿ َق َال َه َذا َر ْح َم ٌة ِم ْن َربِّي﴾ [الكهف‪.]98 :‬‬

‫‪15‬‬
‫تصورات تأسيسية‬

‫‪ .1‬آدم عليه السالم‬ ‫ ‬


‫قصها القرآن الكريم من تكوينه حتى استخالفه وبنيه يف األرض‬
‫  عند استعراض قصة آدم عليه السالم كام ّ‬
‫يتأكد تحديد جواب عن سؤال أي مسلك ينبغي أن نتدبر هذه القصة؟ وكيف نتعاطى مع ما تخللها وتفرع عنها من‬
‫قضايا من أبرزها استرشاف املالئكة إىل املرتبة التي أخربهم عنها سبحانه حني قال أنه جاعل يف األرض خليفة؟ ثم بأي‬
‫معنى نفرس هذا النداء الرباين املوجه آلدم‪﴿ :‬يا آدم أنبئهم بأسمائهم﴾ ؟‬

‫أ‪ .‬المعطيات األساسية‬ ‫ ‬


‫ُذكِ َر آدم يف القرآن ‪ 25‬مرة يف ‪ 9‬سور ‪ 3‬منها مدنية والبقية مكية‪.‬‬ ‫ ‬
‫تركّز حضور آدم يف القرآن الكريم يف ‪ 4‬قضايا رئيسية‪:‬‬ ‫ ‬
‫الن َْسانَ ِم ْن َصل َْصالٍ ِم ْن َح َمإٍ َم ْس ُنونٍ ﴾ [الحجر‪]26 :‬‬ ‫‪ -‬الخلق من طني والنفخ فيه من روح الله ﴿ َولَ َقدْ َخلَ ْق َنا ْ ِ‬ ‫ ‬
‫يس ل َْم يَكُن ِّم َن‬‫‪ -‬أمر املالئكة بتكرميه والسجود له ﴿‪ ...‬ثُ َّم ُقلْ َنا لِلْ َم َلئِكَ ِة ْاس ُجدُ وا ِل َد َم ف ََس َجدُ وا إِ َّل إِبْلِ َ‬ ‫ ‬
‫الساجِ ِدي َن﴾ [األعراف‪] 11/‬‬ ‫َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪ -‬استخالف آدم ﴿ َوإذ ق َال َربُّكَ للْ َم َلئكَة إنِّي َجاع ٌل في ْال ْر ِض َخلي َفة قالُوا أتَ ْج َع ُل في َها َمن يُفْسدُ في َها‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ ‬
‫َ‬
‫َويَ ْس ِفكُ الدِّ َما َء َونَ ْح ُن ن َُس ِّب ُح ِب َح ْم ِدكَ َونُ َقدِّ ُس لَكَ َق َال إِنِّي أ ْعل َُم َما َل تَ ْعلَ ُمونَ ﴾ [البقرة ‪]30/‬‬
‫‪ -‬آدم وزوجته يف الجنة والخروج منها ﴿ َو ُقلْ َنا يَا آ َد ُم ْاسكُ ْن أَ َ‬
‫نت َو َز ْو ُجكَ الْ َج َّن َة َوك َُل ِم ْن َها َر َغدً ا َح ْي ُث ِش ْئ ُت َما‬ ‫ ‬
‫َو َل تَ ْق َر َبا َٰه ِذ ِه الشَّ َج َر َة َف َتكُونَا ِم َن الظَّالِ ِمي َن (‪َ )35‬فأَ َزلَّ ُه َما الشَّ ْيطَانُ َع ْن َها َفأَ ْخ َر َج ُه َما ِم َّما كَانَا ِفي ِه َو ُقلْ َنا ا ْه ِبطُوا َب ْعضُ ك ُْم‬
‫ين﴾ [البقرة ‪]36/‬‬ ‫لِ َب ْع ٍض َعدُ ٌّو َولَك ُْم ِفي ْالَ ْر ِض ُم ْس َت َق ٌّر َو َم َتا ٌع إِل َٰى ِح ٍ‬
‫ب‪ .‬كيف نقارب المضمون؟‬ ‫ ‬
‫‪ -‬ينظر إىل ما ورد يف القرآن الكريم من قضايا (محاجة إبليس لله وإنظاره إىل يوم الدين‪ ،‬أو تعليم آدم أسامء‬ ‫ ‬
‫املسميات كلها) يف ضوء القضايا الرئيسية األربع السالفة وفيام تجلّيه من القضية الصميمية املتعلقة بحقيقة اإلنسان‬
‫وما يتطلبه من تحليل وتقويم لجوانبه الحس ّية والروح ّية والعقل ّية‪.‬‬
‫‪ -‬أما ما أثري من مباحث ومسائل متفرعة فتبقى عىل اختالفها جزئ ّية‪ :‬مثل موقع الجنة التي كان فيها آدم‬ ‫ ‬
‫وهل هي جنة املأوى أم من جنات األرض؟ وكيف ُخلقت حواء؟ وهل آدم هو أصل النوع اإلنساين أم أن اإلنسان نوع‬
‫النص القرآين ويؤكّده من مكانة اآلدمي وكرامته ومهمته الحضارية‬ ‫يؤسسه ّ‬ ‫مشتق من غريه؟ إنها مسائل ال ترقى ملا ّ‬
‫وحاجته املتواصلة لإلصالح واالرتقاء‪.‬‬
‫‪ -‬من جهة أخرى عند مقارنة ما ورد يف القرآن الكريم عن آدم عليه السالم وما نقرأه يف سفر التكوين يف‬ ‫ ‬
‫االصحاح ‪2‬و‪ 3‬نجد فروقا دالة‪ .‬فال نجد يف هذا األخري الحوار بني الله واملالئكة يف شأن خلق آدم كام ال توجد مسألة‬
‫سجود املالئكة آلدم وال مخالفة إبليس وتكربه وطرده من الجنة‪ .‬مقابل ذلك نجد تفاصيل عديدة منها ما يتعلّق مبوقع‬
‫الجنة التي وضع فيه آدم والنهر الذي يسقيها وما يتف ّرع منه من أنهار وبكيفية خلق حواء من ضلع من أضالعه‬
‫وبالح ّية التي أغرت زوجه باألكل من شجرة معرفة الخري والرش املمنوعة‪.‬‬

‫ج‪ .‬دالالت قصة آدم‬ ‫ ‬


‫‪ -‬لتدبر كافة اآليات القرآنية املشار إليها سابقا مبا تشتمل عليه من جزئ ّيات نحتاج إىل قراءة منهجية متسقة‬ ‫ ‬
‫مع ما يتميز به الكتاب العزيز من أنه كتاب هداية له غاية ورسالة تنتظم كل أطرافه وكافة أجزائه‪ .‬لذلك فإن كل عنرص‬
‫ُجل تلك الغاية الرئيسية نفسها‪.‬‬
‫وكل مقطع يفهامن ضمن تلك الرسالة الجامعة التي ال تعتني إال بالتفاصيل التي ت ّ‬
‫‪ -‬لهذا فال بد من تسديد ملضامني محاور القصة القرآنية فيام تحمله من داللة التعرف عىل آدم فهو امتداد‬ ‫ ‬
‫‪16‬‬
‫وانفتاح عىل اإلنسانية لكونه منطلق وجودها‪ .‬من ثم يكشف التأمل يف ما جاء عنه يف القرآن الكريم يف املحاور‬
‫األربعة الرئيسية عن حقيقة النفس البرشية املمتدة فينا جميعا‪ ،‬والتي تصدر يف سلوكاتنا عنها‪.‬‬
‫‪ -‬ما تتطلبه هذه املنهجية البنائية املتسقة هو أن رسد اآليات وتصنيف موضوعاتها وإبراز الروابط بينها (يف‬ ‫ ‬
‫قصة آدم أو يف غريها) وفيام ينتظمها جميعا يحتاج إىل عنرص إضايف أساس‪ .‬وهذا العنرص يتجاوز رتابة الرسد إىل‬
‫تحليل سنن الوجود ونواميس املجتمع وعالقة ذلك بفطرة اإلنسان وتنوع مآربه‪.‬‬
‫تفيد هذه القراءة الرتكيبية النفسية الحضارية لقصة آدم عليه السالم علام غزيرا ييضء جوانب مغمورة تفتح للذهن‬
‫من النظر وللبصرية آفاقا من العرب تتجدد بها معرفة اإلنسان لنفسه ولربه وملا يحيط به من الحقائق الظاهرة والخفية‬
‫مبا ينري مناهج صالحه وتسديد أعامله واستقامة أمره وأمر من حوله‬

‫د‪ .‬التقويم قاعدة االستخالف‬ ‫ ‬


‫‪ -‬ينتظم قصة آدم محوران أولهام التأكيد عىل ما يف برشيته من ضعف وغفلة وتساهل يف رعاية الحدود وما‬ ‫ ‬
‫يعتمل فيه من نشاط للغرائز املختلفة وعىل رأسها غريزة حب البقاء‪ .‬ويقابل هذا املحور املتعلق بالتكوين والنشوء‬
‫املحور الثاين الرسايل وال ُعلوي املميز للذي نفخ الله فيه من روحه مبا توفّر عليه اإلنسان من استعدادات ملعايل‬
‫الصفات ومواالة الحق وما تتطلبه معاين الق ّوة والع ّزة والرفعة املركوزة فيه من حاجة للتع ّهد وال ّرعاية‪.‬‬
‫‪ -‬جوهر ما تتوفر عليه هذه القصة التأسيسية يتجاوز مجرد اإلخبار والتعريف التاريخي ليكشف لالنسان حقائقه‬ ‫ ‬
‫التكوينية وتفاصيل مواهبه وقواه ليدرك صلته مبا حوله من آفاق كونية ظاهرة وخفية مبا يزيك نفسه ويس ّدد مساعيه‪.‬‬
‫‪ -‬وصميم هذه الغاية الرتبوية والرسالة الحضارية يتعني يف استعداد اآلدمي الفطري للتعلم التي يربزها قوله‬ ‫ ‬
‫تعاىل ‪﴿ :‬أَنْ ِب ْئ ُه ْم ِبأَ ْس َمائِه ِْم﴾ بعد عرض املسميات املختلفة عىل املالئكة وعجزهم عن التعرف عليها‪.‬‬
‫‪ -‬يف نداء ﴿يا آدم أنبئهم بأسمائهم﴾ يظهر فضل العلم الذي يتيح لإلنسان القادر عىل اإلجابة عل َّو الشأن‬ ‫ ‬
‫وفضل التقدم عىل املالئكة‪ .‬لقد صار مسجودا له الختصاصه بالعلم وما يستدعيه هذا املعنى من إصالح وتقويم‬
‫دامئني مبا يجعل اإلنسان أصلح لخالفة الله يف األرض من املالئكة الذين ال ميتلكون ما ميتلكه من القوى واملواهب‪.‬‬

‫هـ‪ .‬إرادة وهبوط وارتقاء‬ ‫ ‬


‫‪ -‬ملزيد الرتكيز ميكن أن نقول إن قصة آدم عليه السالم يف القرآن الكريم متثل لحظة البداية وما يعقبها من‬ ‫ ‬
‫مآالت وسريورة‪ .‬لذلك فال صلة لها مبا ساد من االعتقاد من داللة عىل ظهور اإلنسان األ ّول عىل كوكب األرض‪.‬‬
‫‪ -‬الداللة األساس ّية ملا سبق أن اتضح من معان تربوية حضارية تتحد ضمن خصوص ّيات اإلنسان يف قدرتها عىل‬ ‫ ‬
‫التشكُّل عرب أطر مختلفة ويف انبعاثها ضمن حراك ممتد كانت أبرز مراحله تح ّو ُل آدم من الج ّنة إىل األرض‪.‬‬
‫قصة نزول آدم إبرازها ألبعاد ذات ّية اإلنسان يف من ّوها من حالة بدائية إىل مرحلة أكرث‬‫‪ -‬من األه ّمية مبكان يف ّ‬ ‫ ‬
‫تط ّورا‪ .‬هو من ٌّو ينقل اآلدمي من وضع يكون فيه مرتكزا عىل الشهوة الغري ّزية ومقطوعا عن البيئة التي يعيش فيها إىل‬
‫آخر يعي فيه أن له نفسا استيقظت لتدرك أنّها صاحبة إرادة وفعل‪.‬‬
‫بهذا املعنى يصبح «هبوط» آدم ارتقاء ألنه يحقّق لإلنسان شعورا بأنّه ذو صلة ِعليِّة وشخصيّة بوجوده‪ .‬بذلك‬ ‫ ‬
‫قصة «هبوط» آدم بداي َة نشوء الذّات الح ّرة عن رغبة ورضا‪ .‬ذلك أ ّن الهبوط هو تجسيد للفعل اإلنساين القائم‬ ‫تضحي ّ‬
‫عىل ح ّرية االختيار‪ .‬إنّه اإلعالن عن بروز ذات متناهية لها القدرة عىل أن تختار‪.‬‬
‫القصة القرآنية ميكن قراءة ما ورد من أكل من الشجرة ضمن هذه الحرك ّية‪ .‬فاإلنسان‬ ‫‪ -‬ث ّم إلمتام جوانب ّ‬ ‫ ‬
‫أي كدح‪.‬‬
‫الّذي أكل من الشجرة (رمز املعرفة) أخطأ من حيث أراد أن يصل إىل مثرها من أقرب طريق ودون ّ‬
‫‪ -‬تصحيح هذا الخطأ يكون بانتقال آدم وبنيه إىل البيئة املالمئة إلبراز قواهم العاقلة عن طريق الك ّد‬ ‫ ‬
‫والتصحيح‪ .‬من خالل تلك البيئة تحقّق خصوصيات اآلدمي باعتباره كائنا متميزا باملعرفة والحريّة ال ميكنه أن يفتِّق‬
‫ذاتَه إالّ عرب الرصاع والرضا بالتناهي‪.‬‬
‫هذه لحظة البداية وتلك هي مستلزماتها االستخالفية‪.‬‬ ‫ ‬
‫الخالصة ‪ :‬الحياة اإلنسانية يف لحظة النشوء والتكوين وما تستدعيه من حاجيات التقويم لتسديد الفعل‬ ‫ ‬
‫ومتثل رسالة االستخالف‪.‬‬
‫الوسم ‪ :‬آدم ‪-‬الروح ‪ -‬الجنة – املعرفة – الحرية – اإلرادة – املالئكة – األرض – الغرائز‪-‬‬ ‫ ‬
‫‪17‬‬
‫‪ .2‬الرحمة القرآنية – الرحمن – الرحيم –‬ ‫ ‬
‫‪ -‬بأي معنى ينبغي أن نتعاطى مع الداللة الحضارية لرسالة اإلسالم اليوم؟ وهل تكون مسألة الرحمة هي من‬ ‫ ‬
‫صميم تحديد نظرة املسلم إىل اآلخر املختلف وأن حل مشكلة عالقتنا باآلخر تتطلب من أهم ما تتطلب تأصيل قوله‬
‫تعاىل‪« :‬ورحمتي وسعت كل يشء»؟‬
‫‪ -‬كان فتح مكة من أعظم أيام اإلسالم‪ ،‬وكانت غالب العرب ينتظرونه ليح ّددوا موقفهم النهايئ من اإلسالم‪،‬‬ ‫ ‬
‫لذلك كانوا ير ّددون‪ :‬ات ْ ُركُو ُه َوقَ ْو َم ُه‪ .‬وملا كان الْ َفتْ ِح م ّر الفاتحون بأيب سفيان‪ ،‬وحني طَلَ َع ْت كَ ِتي َب ُة َر ُسو ِل اللّ ِه َص ّل اللّ ُه‬
‫ول اللّ ِه صىل الله عليه وسلم َرايَتَ ُه َس ْع َد بْ َن ُع َبا َدةَ‪ ،‬زعيم‬ ‫ضاء ِفي َها الْ ُم َها ِج ُرو َن َوالْ َن َْصا ُر‪ ،‬أَ ْعطَى َر ُس ُ‬ ‫َعلَ ْي ِه َو َسلّ َم الْ َخ ْ َ‬
‫الخزرج‪ ،‬فَل َّم َم ّر َس ْع ٌد ِب َرايَ ِة ال ّنب ِّي صىل الله عليه وسلم نَا َدى ‪ :‬يَا أَبَا ُس ْفيَانَ‪ ،‬الْيَ ْو َم يَ ْو ُم الْ َملْ َح َم ِة الْيَ ْو َم ت ُْستَ َح ّل الْ ُح ْر َم ُة‪،‬‬
‫الْ َي ْو َم أَذ َّل اللّ ُه قُ َريْشً ا‪.‬‬
‫ول اللّ ِه َما نَأْ َم ُن َس ْع ًدا أَ ْن يَكُو َن ِم ْن ُه ِف قُ َريْ ٍش َص ْولَ ٌة‪.‬‬ ‫‪ -‬ق ََال َع ْب ُد ال ّر ْح َمنِ بْ ُن َع ْو ٍف َو ُعث َْم ُن بْ ُن َعفّانَ‪ :‬يَا َر ُس َ‬ ‫ ‬
‫ول اللّ ِه صىل الله عليه وسلم‪« :‬الْ َي ْو َم يَ ْو ُم الْ َم ْر َح َم ِة‪ ،‬الْ َي ْو َم أَ َع ّز اللّ ُه ِفي ِه قُ َريْشً ا»‬ ‫فَق ََال َر ُس ُ‬
‫ق ََال‪َ :‬وأَ ْر َس َل َإل َس ْع ٍد‪ ،‬فَ َع َزلَ ُه َو َج َع َل اللّ َوا َء َإل ابنه قَيْ ِس بْنِ َس ْع ٍد‪ .‬فَأَ َب َس ْع ٌد أَ ْن يُ َسلّ َم اللّ َوا َء إلّ ِبأَ َما َر ِة ِم ْن ال ّنب ِّي صىل‬
‫ول اللّ ِه صىل الله عليه وسلم ِب ِع َم َم ِت ِه فَ َع َرفَ َها َس ْع ٌد فَ َدفَ َع اللّ َوا َء َإل ابْ ِن ِه قَ ْي ٍس‪.‬وبادر الناس‬ ‫الله عليه وسلم‪ ،‬فَأَ ْر َس َل َر ُس ُ‬
‫بِالدخول يف ا ِإل ْسالَم ونزلت سورة النرص‪.‬‬
‫‪ -‬من درس الفتح العظيم نقف عىل حقيقة اإلسالم وطبيعة هذا الدين وخاصية الرسالة والرسول الذي كان‬ ‫ ‬
‫اس َوأَ ْر َح َمهم َوأَ ْو َصلَهم‪.‬‬ ‫أبر ال ّن ِ‬
‫وهذا ما تجمعه قولة «الْ َي ْو َم يَ ْو ُم الْ َم ْر َح َم ِة»‪ ،‬مؤكدة أن هذا الدين مل يأت لإلكراه والقهر رغم أن املسلمني‬ ‫ ‬
‫يف الفتح كانوا يف عز وغلبة أمام زعامء قريش‪ .‬ومع ذلك فإن القائد األعىل صىل الله عليه وسلم ال يرتدد يف هذا‬
‫املوضوع‪ .‬فأقال القائد ورفض سفك الدماء واالعتداء عىل األعراض‪ .‬فقد دعا ربّه قبل أن يتجه إىل مكة فاتحا أالّ تسمع‬
‫قريش بخروجه حرصا عىل أال تحصل معركة أصالفق ََال عليه السالم ‪« :‬اللّ ُه ّم ُخ ْذ الْ ُعيُو َن َوالْ َ ْخبَا َر َع ْن قُ َريْ ٍش َحتّى‬
‫نَ ْب َغتَ َها ِف ب َِل ِد َها»‬

‫أ‪ .‬الرحمة‬ ‫ ‬
‫‪ -‬هذا التجيل التاريخي للرحمة يف سرية الرسول األكرم يعود إىل مكانتها يف القرآن مام جعلها مفهوما قرآنيا‬ ‫ ‬
‫صميم ّيا مؤسسا للبناء التص ّوري والخلقي والحضاري لإلسالم‪.‬‬
‫‪ -‬لقد ورد لفظ الرحمة يف ‪ 268‬موضعا بالصيغة االسمية مثل قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬و َر ْح َم ِتي َو ِس َع ْت ك َُّل شَ ْي ٍء﴾‬ ‫ ‬
‫َاسرِي َن﴾ [األعراف‪:‬‬ ‫[األعراف‪ ،]156 :‬وبالصيغة الفعلية مثل قوله ﴿ َقالُوا لَ ِئ ْن ل َْم َي ْر َح ْم َنا َر ُّب َنا َو َي ْغ ِف ْر لَ َنا لَ َنكُونَ َّن ِم َن الْخ ِ‬
‫‪ .]149‬هذا إضافة إىل صيغتي املبالغة الرحمن والرحيم اللتني تردان يف البسملة‪.‬‬
‫‪ -‬إذا كانت الرحمة تفيد الرقة والعطف والرأفة واإلحسان باملرحوم‪ ،‬فإن االستعامل جعل هذا املعنى صفة‬ ‫ ‬
‫لله تثبت له ما يليق بجالله وعظمته كقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬و َربُّكَ الْ َغ ِن ُّي ُذو ال َّر ْح َم ِة﴾ [األنعام‪ .]133 :‬أو جعله شامال لكل‬
‫خري يصدر عنه ويكون فيه نفع يعود لإلنسان يف دنياه وآخرته‪.‬‬
‫وسعت معنى اإلحسان بإكسابه قيمة‬ ‫‪ -‬من هذا االعتبار اكتست الرحمة يف االستعامل القرآين داللة مميزة ّ‬ ‫ ‬
‫تصورية أصيلة وشاملة تنتظم رؤية املؤمن للحياة بكل متظهراتها‪ .‬لهذا ُع َّد من لوازم الرحمة القرآنية داللتها عىل الجنة‬
‫وذلك يف قوله تعاىل ‪﴿ :‬أُولَ ِئكَ يَ ْر ُجونَ َر ْح َم َت اللَّ ِه﴾ [البقرة‪ ،]218 :‬أو أنها تعني القرآن ذاته يف قوله‪ُ ﴿ :‬ق ْل ِبفَضْ لِ‬
‫ِالسو ِء إِ َّل َما َر ِح َم‬‫ْس َلَ َّما َر ٌة ب ُّ‬
‫اللَّ ِه َو ِب َر ْح َم ِت ِه َف ِب َذلِكَ َفلْ َي ْف َر ُحوا﴾ [يونس‪ ،]58 :‬أو أنها العصمة يف قوله تعاىل ﴿إِنَّ ال َّنف َ‬
‫َربِّي﴾[يوسف‪.]53 :‬‬
‫‪ -‬ندرك من هذا االتساع الداليل التالزم بني الرحمة القرآنية واسم الجاللة فَتَ َمثُّلُ َها مالزم لصفة القدرة‪ ،‬فقد‬ ‫ ‬
‫خلق الله تعاىل الخلق بقدرته وهيأه برحمته‪ .‬لذلك قيل إنه ال تَ َق ُّر َب إىل الله بأعظم من التعلق بالرحمة‪ ،‬فكانت‬
‫أفضل وسيلة للتقرب إليه رحم ُة عباده فقد خلقهم الله لريحمهم وليسعدهم‪.‬‬
‫‪ -‬تتأكد هذه القيمة العالية والشاملة للرحمة يف القرآن إذ ال نجد قضية تناولها القرآن إال كانت الرحمة‬ ‫ ‬
‫َ‬
‫علّتها ومقصدها مبا يجعل اإلسالم دين الرحمة اعتقادا وترشيعا وأخالقا تصديقا لقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬و َما أ ْر َسلْ َناكَ إِ َّل َر ْح َم ًة‬
‫لِلْ َعالَ ِمي َن﴾ [األنبياء‪.]107 :‬‬

‫‪18‬‬
‫‪ -‬نجد هذا الطابع التصوري املؤسس يف رواية البخاري قال‪« :‬جعل الله الرحمة مئة جزء‪ ،‬فأمسك عنده تسعة‬ ‫ ‬
‫وتسعني‪ ،‬وأنزل يف األرض جز ًءا واح ًدا‪ ،‬فمن ذلك الجزء يرتاحم الخالئق»‪.‬‬

‫ب‪ .‬الرحمن‬ ‫ ‬
‫‪ -‬اسم الرحمن وصف ذايت ثابت له سبحانه يستغرق كل رحمة تالزم املخلوقات كافة من حيث الوجود‬ ‫ ‬
‫والتقدير والتقويم والعناية واللطف‪.‬‬
‫‪ -‬معنى ذلك أن كل املخلوقات تفضّ ل الله عليها برحمته عندما أوجدها بعد أن مل تكن وعندما خلقها بنظام‬ ‫ ‬
‫واتزان وعدل وتسوية‪ .‬يظهر هذا يف سورة امللك اآلية ‪ 19‬يف قوله عن الطري يف الجو ﴿ َما يُ ْم ِسكُ ُه َّن إِ َّل ال َّر ْح َم ُن﴾‬
‫الن َْسانَ (‪َ )3‬علَّ َمهُ الْ َب َيانَ ﴾ [الرحمن‪:‬‬ ‫[امللك‪ .]19 :‬وتشهد سورة الرحمن بكاملها‪﴿ :‬ال َّر ْح َم ُن (‪َ )1‬عل ََّم الْ ُق ْرآنَ (‪َ )2‬خل ََق ْ ِ‬
‫‪ ]4 - 1‬عىل أن جميع املخلوقات مشمولة برحمته وعنايته‪.‬‬
‫‪ -‬تلك هي رحمة الرحمن التي كتبها الله عىل نفسه عندما برش املؤمنني قائال ﴿ َوإِ َذا َجا َءكَ الَّ ِذي َن يُ ْؤ ِم ُنونَ‬ ‫ ‬
‫بِآيَاتِ َنا َفق ُْل َس َل ٌم َعلَ ْيك ُْم كَ َت َب َربُّك ُْم َع َل نَف ِْس ِه ال َّر ْح َم َة﴾ [األنعام‪ .]54 :‬وقد كتبها تفضال وإحسانا ويصدق هذا عىل‬
‫الجميع دون استثناء‪ .‬وهذا ما يفرس ورود التذكري املتواصل للثقلني من الجن واإلنس «فبأي آالء ربكام تكذبان» للنعم‬
‫الشاملة لهم والشاهدة عىل حقيقة الرحمة اإلله ّية‪.‬‬

‫ج‪ .‬الرحيم‬ ‫ ‬
‫‪ -‬اسم من أسامء الله الحسنى وهو الذي يدل عىل خصوصية الرحمة باملؤمنني وعىل تجددها واستمرارها‪.‬‬ ‫ ‬
‫فإذا كانت رحمة «الرحمن» عامة شاملة للمخلوقات فإن رحمة «الرحيم» خاصة باملؤمنني بإميانهم ودعائهم وصالح‬
‫أعاملهمويتعني ذلك يف اآلخرة خاصة‪.‬‬
‫يم } [األحزاب‪ ]43 :‬وأنه يتوب عىل التائبني منهم قال‬ ‫‪ -‬لذلك نجد يف محكم التنزيل ﴿ َوكَانَ بِالْ ُم ْؤ ِم ِن َني َر ِح ً‬ ‫ ‬
‫اب ال َّر ِحي ُم﴾ [البقرة‪ ،]37 :‬وأن املؤمنني يدعونه باسم الرحيم‬ ‫تعاىل‪{ :‬فَتَلَقَّى آ َد ُم ِم ْن َربِّ ِه كَلِ َم ٍت فَتَ َ‬
‫اب َعلَ ْي ِه إِنَّ ُه ُه َو التَّ َّو ُ‬
‫لئال يقنطوا من رحمته‪ُ ﴿ :‬ق ْل َيا ِع َبا ِد َي الَّ ِذي َن أَ ْس َرفُوا َعلَى أَنْف ُِسه ِْم َل تَ ْق َنطُوا ِم ْن َر ْح َم ِة اللَّ ِه إِنَّ اللَّهَ َي ْغ ِف ُر ال ُّذن َ‬
‫ُوب‬
‫يم﴾ [الزمر‪.]53 :‬‬ ‫َج ِمي ًعا إِنَّهُ ُه َو الْ َغفُو ُر ال َّر ِح ُ‬
‫‪ -‬وإذا كان الرحمن صفة ذاتية فهي أش ّد مبالغة من الرحيم يف الدنيا يف حني أن الرحيم صفة فعلية أشد‬ ‫ ‬
‫مبالغة من الرحمن يف اآلخرة فهو يجازي املؤمنني أضعاف حسناتهم‪.‬يقول الله تعاىل عىل لسان أهل الجنة‪﴿ :‬إِنَّا كُ َّنا‬
‫يم﴾ [الطور‪]28 :‬‬ ‫ِم ْن َق ْب ُل نَدْ ُعو ُه إِنَّهُ ُه َو ال َ ُّْب ال َّر ِح ُ‬
‫‪ -‬بناء عىل ما سبق أمكن القول إن اإلنسان قبل اإلميان يف رحمة الرحمن وبعد اإلميان يف رحمة الرحيم فطوىب‬ ‫ ‬
‫ملن جمع بينهام‪.‬‬

‫• الرحمة القرآنية وعالمية اإلسالم‬ ‫ ‬


‫نتبي أ ّن ربوبية الله مبنية يف اإلسالم عىل الرحمة الواسعة للخلق لكونه «رب‬
‫‪ -‬من هذا التبرص لنسق الرحمة ّ‬ ‫ ‬
‫العاملني» فهي ليست ربوبية قهر وانتقام بل ربوبية رحمة وإنعام‪.‬‬
‫‪ -‬هذا ما تظهره سورة الفاتحة إذ وصف الله نفسه بأنه «الرحمن الرحيم» تأكيدا لطبيعة الصلة بني الخالق‬ ‫ ‬
‫واملخلوق أيا كان‪ ،‬إنها صلة إحاطة للرحمة القرآنية مبا تدل عليه الصفة العامة للرحمن وما تتميز به الصفة الخاصة للرحيم‪.‬‬
‫وسعت كل يشء‪ ،‬وهي ربوبية رحمة‪ ،‬وليست ربوبية بطش‬ ‫ْ‬ ‫‪ -‬مؤدى ذلك أنه «رب العاملني» فالربوبية شاملة‬ ‫ ‬
‫وجربوت‪.‬‬
‫‪ -‬ذلك ما تكشفه مكامن الرحمة القرآنية وما يعنيه أن الرسول محمدا عليه الصالة والسالم «نبي الرحمة» مبا‬ ‫ ‬
‫يتجاوز التفسري الذي يحرص سريته يف مجال الغزو وال يهتم يف دعوة أتباعه إال يف أدائهم العسكري‪.‬‬
‫‪ -‬من تحليل نسق الرحمة وداللة اسمي الرحمن والرحيم يف النسيج القرآين ويف السرية النبوية تتضح طبيعة‬ ‫ ‬
‫االعتقاد والسلوك اللذين دخل به املسلمون عىل العامل لبناء رحمة قرآنية ومدنية ممتدة يف العاملني‪.‬‬
‫‪ -‬تلك هي الرحمة القرآن ّية التي عىل أساسها ميكن للعقل املسلم املعارص إعادة بناء ذاته ومعارفه ورؤيته‬ ‫ ‬
‫للعامل‪ ،‬وصوال إىل تحديد سلم أولوياته مبا يسمح له أن يدخل من جديد عىل العامل دخول تعارف‪ ،‬وإسهاما يف ترسيخ‬
‫قيم الرحمة والسلم واالختالف‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫الخالصة ‪ :‬أساس حضارة اإلسالم وعامليته يف وعيه وتأصيله لبناء إنسان يكون جوهره يف تحديد نظرته لآلخر‬ ‫ ‬
‫املختلف‪.‬‬
‫الوسم ‪ :‬الرحمة ‪-‬الرحمن– الرحيم – املرحمة – اإلسالم الحضاري – اآلخر – العاملية‪.‬‬ ‫ ‬

‫‪ .3‬اإليمان بالغيب‬ ‫ ‬
‫يقصد من النظر يف اإلميان بالغيب تحقيق األهداف التالية‪:‬‬ ‫ ‬
‫‪ .1‬هدفان علميّان‪ :‬تحديد معنى اإلميان بالغيب‪ ،‬وعرض األدلّة من القرآن والس ّنة‪.‬‬ ‫ ‬
‫‪ .2‬أهداف دعويّة تربويّة‪ :‬وهي كشف قيمة اإلميان بالغيب ‪ :‬يف إحداث التوازن النفيس لإلنسان‪ ،‬ويف إحداث‬ ‫ ‬
‫التوازن االجتامعي لإلنسان‪ ،‬ويف تربية اإلنسان عىل املسؤول ّية الجامع ّية (مدن ّية اإلنسان)‪.‬‬
‫أ‪ .‬تحديد المفهومين‬ ‫ ‬
‫اإلميان‪ :‬لغة‪ :‬التصديق‪ ،‬ورشعا‪ :‬االعتقاد بالقلب واإلقرار باللسان‪ .‬والغيب غيبان‪ :‬غيب حقيقي مطلق وهو ما‬ ‫ ‬
‫غاب عن الخلق أجمعني‪ .‬وغيب إضايف وهو ما غاب علمه عن بعض املخلوقني دون بعض كالذي يعلمه املالئكة وال‬
‫يعلمه البرش‪...‬‬
‫والغيب اإلضايف أنواع أخرب عنها الوحي وهي‪ :‬الغيب ما يقابل الشهادة‪ ،‬فيدخل يف ذلك‪ :‬املالئكة والجن‬ ‫ ‬
‫والجنة والنار‪ ، ...‬والغيب ما مىض من أحداث الخلق األ ّول أو أخبار األ ّولني‪ .‬والغيب ما غاب عن العباد من الحارض‬
‫واملستقبل‪.‬‬
‫ب‪ .‬معنى اإليمان بالغيب‪:‬‬ ‫ ‬
‫‪ -‬هو التصديق بالقلب بوجود عامل الغيب‪ ،‬وبص ّحة ما أخربنا به الله ورسوله‪ ،‬وكل هذا مض ّمن يف الشهادتني‪.‬‬ ‫ ‬
‫ج‪ .‬مضمون اإليمان بالغيب‬ ‫ ‬
‫ويشمل اإلميان بالغيب اإلميان بالخلق األ ّول وبالله ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر والقدر‪.‬‬ ‫ ‬
‫• اإليمان بالخلق األوّل‪ :‬ونعني به كل ما يتعلّق ببدايات الكون والحياة واإلنسان‪.‬‬ ‫ ‬
‫ف َبدَ أَ الْ َخل َْق﴾ [العنكبوت‪]20 :‬‬ ‫﴿ ُق ْل ِسي ُروا ِفي ْالَ ْر ِض فَانْظُ ُروا كَ ْي َ‬ ‫ ‬
‫وأورد البخاري أ ّن رسول الله قال‪« :‬كان الله ومل يكن يشء قبله وكان عرشه عىل املاء‪ .‬ثم خلق السموات واألرض‪،‬‬
‫وكتب يف الذكر كل يشء»‪.‬‬
‫مم‬
‫ترفع اإلجابة عىل سؤال الخلق األ ّول الحرية عن مسائل وجوديّة مل ّحة تح ّدد بشكل عميق موقف اإلنسان ّ‬ ‫ ‬
‫يدور يف الحياة‪.‬‬
‫وأن يربط الفرد (أو األ ّمة) حياته بعامل غيب إقرار بحكمة الخلق وبتكريم اإلنسان‪ ،‬وهو ما يوفّر رؤية للكون‬ ‫ ‬
‫واإلنسان تقوم عىل الغائ ّية والعدالة بعكس الرؤية التي تقيم الوجود عىل الصدفة أو الرصاع التي تدفع نحو اإلميان‬
‫بالعبث ّية املطلقة والعدم ّية اله ّدامة‪.‬‬
‫• معرفة اهلل واإليمان به‪ :‬وهذا أه ّم ما يتعلّق به اإلميان بالغيب‪.‬‬ ‫ ‬
‫ات َو ْالَ ْر ِض َو ُه َو يُطْ ِع ُم َو َل يُطْ َع ُم‪[ ﴾...‬األنعام‪]14 :‬‬ ‫الس َما َو ِ‬ ‫﴿ ُق ْل أَ َغ ْي َر اللَّ ِه أَتَّ ِخ ُذ َولِ ًّيا ف ِ‬
‫َاط ِر َّ‬ ‫ ‬
‫«روى مسلم‪ ...‬قال‪ :‬قال رسول الله صىل الله عليه وسلم‪« :‬لو يعلم املؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته‪،‬‬
‫ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته»‪.‬‬
‫اإلميان بالله انخراط يف منهاج يح ّدد سلوك الفرد والجامعة بجملة من القيم ميكن أن تضبط ضمن منظومات‬ ‫ ‬
‫أه ّمها املنظومة األخالقيّة‪.‬‬
‫يو ّجه اإلميان بالله اإلنسا َن وجهة تقوم عىل حسن العودة إليه فالحياة ليست غاية يف ذاتها‪.‬‬ ‫ ‬
‫• اإليمان بالقدر‪ :‬اإلميان بالقدر نتيجة لسائر مضامني اإلميان بالغيب‪ ،‬فمعرفة الله ومعرفة صفاته تؤ ّديان‬ ‫ ‬
‫إىل اإلميان بالقدر‪.‬‬
‫اب ِم ْن َق ْبلِ أَنْ نَ ْب َرأَ َها﴾ [الحديد‪]22 :‬‬
‫اب ِم ْن ُم ِصي َب ٍة ِفي ْالَ ْر ِض َو َل ِفي أَنْف ُِسك ُْم إِ َّل ِفي ِك َت ٍ‬ ‫﴿ َما أَ َص َ‬ ‫ ‬
‫روى الرتمذي‪ ...‬قال‪ :‬خرج رسول الله صىل الله عليه وسلم ونحن نتنازع يف القدر‪ ،‬فغضب‪ ،‬حتى كأمنا فُقئ يف وجهه‬
‫حب الرمان حمر ًة من الغضب‪ ،‬فقال‪« :‬أبهذا أمرتم؟ أم بهذا أرسلت إليكم؟‪.»...‬‬
‫يبعد اإلميان بقدر الله اإلنسا َن عن الحرسة والتوتّر حينام يقع املكروه وعن ادعاء القدرة املطلقة عىل الفعل حينام‬
‫يتحقّق له ما يريد‪ .‬واألوىل مصدر األمل‪ ،‬والثانية مصدر الكرب وكلتاهام تفسد الوعي والعالقة باآلخرين وباملوجودات‪.‬‬
‫‪20‬‬
‫يوفّر اإلميان بالقدر لإلنسان األساس النفيس والنظري ملنهج يف الحياة يح ّدد الواجب يف الكدح إىل الخالق أ ّما النتيجة‬
‫فبيد الله فإن تحقّق لإلنسان ما يريد فم ّنة من خالقه وإن مل يتحقّق فبإرادة منه والخري لإلنسان يف كلتا الحالتني‪.‬‬
‫• اإليمان بالمالئكة‪ :‬املالئكة مخلوقات خلقها الله خلقا مغايرا لإلنسان‪ ،‬ال يعصون الله ما أمرهم‪.‬‬ ‫ ‬
‫﴿ َو َم ْن يَكْ ُف ْر بِاللَّ ِه َو َم َلئِكَ ِت ِه َوكُ ُت ِب ِه َو ُر ُسلِ ِه َوالْ َي ْو ِم ْال ِخ ِر َف َقدْ ضَ َّل ضَ َل ًل بَ ِعيدً ا﴾ [النساء‪]136 :‬‬ ‫ ‬
‫• اإليمان بالجنّ والشياطين‪ :‬هم من عامل الغيب والج ّن مكلّفون مبا جاء به الرسول مح ّمد صىل الله‬ ‫ ‬
‫رش‪.‬‬
‫عليه وسلّم‪ ،‬أ ّما الشياطني فهم املخلوقات التي تأيت عىل النقيض من املالئكة إذ هم أهل الغواية وال ّ‬
‫ ﴿يَا بَ ِني آ َد َم لَ يَ ْف ِت َن َّن ُك ُم الشَّ يْطَا ُن ك ََم أَ ْخ َر َج أَبَ َويْ ُك ْم ِم َن الْ َج َّن ِة يَ ْن ِز ُع َع ْن ُه َم لِبَ َاس ُه َم‪[ ﴾...‬األعراف‪]27 :‬‬
‫روى مسلم‪ :‬قال رسول الله صىل الله عليه وسلم «خلقت املالئكة من نورٍ‪ .‬وخلق الجان من مار ٍج من نارٍ‪.‬‬ ‫ ‬
‫وخلق آدم مام وصف لكم»‪.‬‬
‫يؤمن املسلم باملالئكة والشياطني والج ّن فيكون بإميانه واعيا بأنّه ليس وحيدا يف الكون‪ ،‬وبأ ّن املالئكة قدوة‬ ‫ ‬
‫له‪ ،‬بعد الرسول األكرم مح ّمد‪ ،‬يف التق ّرب إىل الله‪ ،‬وبأ ّن الشياطني أعداؤه فيكون بذلك حذرا يف أفعاله وأقواله‪ ،‬وذلك يف‬
‫إطار تحقيق الخالفة يف األرض‪.‬‬
‫واإلميان باملالئكة إميان بكائنات مل يخالطها الدنس والعصيان‪ ،‬واإلميان بالشياطني والج ّن إميان بكائنات ذات‬ ‫ ‬
‫ق ّوة خارقة‪ ،‬ورغم ذلك فقد كتب عليها ما كتب عىل اإلنسان من املوت بل إن لإلنسان درجة عىل املالئكة من خالل‬
‫التزامه اإلرادي بدين الله‪ ،‬ودرجة عىل الج ّن والشياطني رغم ضعفه الظاهر‪.‬‬
‫• اإليمان بالكتب‪ :‬الكتب التي يؤمن املسلم أن الله أنزلها عىل رسله وأنبيائه غري محصورة بالعدد ولك ّن‬ ‫ ‬
‫الله ذكر منها أربعة‪ ،‬وأشار يف مواطن من القرآن إىل صحف إبراهيم وأورد بعض ما فيها‪.‬‬
‫﴿آ َم َن ال َّر ُس ُول ِب َما أُنْز َِل إِلَ ْي ِه ِم ْن َر ِّب ِه َوالْ ُم ْؤ ِم ُنونَ ك ٌُّل آ َم َن بِاللَّ ِه َو َم َلئِكَ ِت ِه َوكُ ُت ِب ِه َو ُر ُسلِ ِه﴾ [البقرة‪]285 :‬‬
‫أَ ْخ َ َبنَا ُم َعا ُذ بْ ُن َهانِئٍ ‪َّ :...‬‬
‫السبْ ُع الطُّ َو ُل ِمث ُْل التَّ ْو َرا ِة‪َ ،‬والْ ِم ِئ َني ِمث ُْل ا ِإلنْجِيلِ ‪َ ،‬والْ َمث َِان ِمث ُْل ال َّزبُورِ‪َ ،‬و َسائِ ُر الْ ُق ْرآنِ بَ ْع ُد فَضْ ٌل‪.‬‬
‫• اإليمان بالرسل‪ :‬اإلميان بالرسل رشط اإلميان بالغيب‪.‬‬ ‫ ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫﴿إِنَّ الَّ ِذي َن يَكْ ُف ُرونَ بِاللَّ ِه َو ُر ُسلِ ِه َويُرِيدُ ونَ أنْ يُ َف ِّر ُقوا بَ ْي َن اللَّ ِه َو ُر ُسلِ ِه‪ )150( ...‬أولَ ِئكَ ُه ُم الْكَا ِف ُرونَ َحقًّا‪﴾...‬‬
‫[النساء‪]151 ،150 :‬‬
‫«روى أحمد عن أيب ذر قال‪ :‬أتيت النبي صىل الله عليه وسلم وهو يف املسجد فجلست ‪ ...‬قلت؟ يا رسول‬ ‫ ‬
‫رش جام غف ًريا)‪»...‬‬ ‫الله‪ :‬أي األنبياء كان أول؟ قال‪( :‬آدم)‪ ...‬قلت‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬كم املرسلون؟ قال‪( :‬ثالمثائ ٍة وبضعة ع َ‬
‫يدل املؤمن عىل الغيب الذي يؤمن به‪ .‬وهو ما يد ّعم الدالالت‬ ‫اإلميان بالكتب والرسل استناد عىل دليل ملموس ّ‬
‫االجتامع ّية والنفس ّية التي تنتج عن اإلميان بالله وبالقدر‪...‬‬
‫اإلقرار بتواتر األنبياء وبحملهم لدين واحد عىل مراحل يدرج الحركة اإلنسانيّة يف التاريخ يف مسار معقول‪،‬‬ ‫ ‬
‫ويحدث عالقات قبول متبادل عميقة مع أصحاب الديانات األخرى‪.‬‬
‫• اإليمان باليوم اآلخر‪ :‬وهو أن يص ّدق املسلم تصديقا سليام بأن الله يبعث من يف القبور ملحاسبتهم يف‬ ‫ ‬
‫يوم هو يوم القيامة وأن املحسن يف الج ّنة واملجرم يف النار‪َ ﴿ .‬واللَّهُ الَّ ِذي أَ ْر َس َل ال ِّر َي َ‬
‫اح َف ُت ِثي ُر َس َحا ًبا ف َُس ْق َنا ُه إِلَى َبلَ ٍد‬
‫َم ِّي ٍت َفأَ ْح َي ْي َنا ِب ِه ْالَ ْر َض بَ ْعدَ َم ْوتِ َها كَ َذلِكَ ال ُّنشُ و ُر﴾ [فاطر‪]9 :‬‬
‫روى الطرباين قال‪ :‬قال رسول الله صىل الله عليه وسلم‪« :‬يطلع عليكم قبل الساعة سحابة سوداء من‬ ‫ ‬
‫قبل املغرب مثل الرتس فال تزال ترفع يف السامء وتنترش حتى متأل السامء ثم ينادي مناد أيها الناس أىت أمر الله فال‬
‫تستعجلون»‬
‫تخص‬
‫إذا كان ما سبق من مضمون اإلميان بالغيب قامئا عىل االقتناع العقيل أو النفيس‪ ،‬فإن لإلميان باليوم اآلخر أسسا ّ‬
‫كل مجاالت الحياة اإلنسان ّية‪ .‬فهو إميان قائم عىل اإلخالص لله والتوكل عليه‪ ،‬إذ اإلميان باليوم اآلخر يستدعي املحاسبة‬
‫واالعتبار والخوف والرجاء‪ .‬فعن الغفلة عن الله واليوم اآلخر تنتج الخبائث كلها‪.‬‬
‫هذه املحاسبة اليوم ّية تعطي للقانون (أو الرشيعة) سلطانا نفس ّيا قويّا‪ ،‬تقوم عليه كل رشيعة تحظى باحرتام‬ ‫ ‬
‫يؤسس مدنيّة عالقة الفرد واملجموعات باألفراد واملجموعات‪.‬‬ ‫أصحابها‪ ،‬وهذا السلطان هو الذي ّ‬
‫الحواس وفق ما أق ّرته الكتب السامويّة من وحدان ّية لله وملا يف‬ ‫ّ‬ ‫أهم النتائج‪ :‬اإلميان بالغيب إميان مبا ال يقع تحت‬ ‫ّ‬
‫ستتم يف املستقبل‪.‬‬ ‫عاملي السامء واألرض وملا وجد من أحداث متّت يف املايض أو يف الحارض أو ّ‬
‫ولهذا اإلميان أهم ّية عظيمة يف تحديد املسار العميل لإلنسان ولسلطة القانون وملدن ّية العالقات بني األفراد‬
‫والجامعات‪.‬‬
‫‪21‬‬
‫الوسم‪ :‬اإلميان؛ الغيب؛ غيب حقيقي؛ غيب إضايف؛ املالئكة؛ الج ّن؛ العالقات املدن ّية؛ االطمئنان النفيس؛ اإلخالص؛‬
‫عالقات التبادل بني أهل الديانات املختلفة؛ األنبياء‪...‬‬

‫‪ .4‬األمة والجماعة‬ ‫ ‬
‫غايتنا يف هذه الورقة‪ :‬بيان معنى األ ّمة لغة واصطالحا‪ ،‬ثم بيان مفهوم األ ّمة يف اإلسالم‪ ،‬والتع ّرف عىل الفروق‬ ‫ ‬
‫بني مفهوم األ ّمة ومفهوم الجامعة‪.‬‬
‫‪ .1‬األمة لغة‪:‬‬ ‫ ‬
‫للفظ «أمة» لغة أربع دالالت هي‪ :‬األصل‪ ،‬واملرجع‪ ،‬والجامعة‪ ،‬والدين‪ .‬أ ّما يف القرآن فتأيت األمة بعدة معان أهمها‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ الجيل أو الجنس من األحياء‪ :‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬و َما ِم ْن َدابَّ ٍة ِفي ْالَ ْر ِض َو َل طَائِ ٍر يَ ِطي ُر ِب َج َنا َح ْي ِه إِ َّل أُ َم ٌم‬ ‫ ‬
‫أَ ْمثَالُك ُْم﴾ [األنعام‪.]38 :‬‬
‫‪ 2‬ـ الدين‪ :‬قال تعاىل‪﴿ :‬إِنَّا َو َجدْ نَا آبَا َءنَا َعلَى أُ َّم ٍة﴾ [الزخرف‪.]22 :‬‬ ‫ ‬
‫اس يَ ْسقُونَ ﴾ [القصص‪ ،]23 :‬وجاء يف صحيفة املدينة التي‬ ‫ُ‬
‫‪ 3‬ـ الجامعة‪ :‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬و َجدَ َعلَ ْي ِه أ َّم ًة ِم َن ال َّن ِ‬ ‫ ‬
‫كتبها رسول الله ﷺ ‪« :‬إن يهود بني عوف أمة مع املؤمنني» (سرية ابن هشام‪.)3/34 ،‬‬
‫يم كَانَ أُ َّم ًة﴾ [النحل‪.]120 :‬‬ ‫‪ 4‬ـ اإلمامة‪ :‬قال تعاىل‪﴿ :‬إِنَّ إِ ْب َرا ِه َ‬ ‫ ‬
‫‪ 5‬ـ الرجل املنفرد بدينه‪ :‬قال الرسول الله ﷺ يف زيد بن عمرو بن نُفيل‪ ،‬وهو رجل عاش قبل البعثة عىل‬ ‫ ‬
‫ملة النبي إبراهيم‪« :‬يُب َعث أمة وحده» (النسايئ‪ ،‬السنن الكربى)‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ جامعة العلامء‪ :‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولْ َتكُ ْن ِم ْنك ُْم أُ َّم ٌة يَدْ ُعونَ إِلَى الْ َخ ْيرِ﴾ [آل عمران‪.]104 :‬‬ ‫ ‬
‫‪ 7‬ـ املدة يف الزمن‪ :‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬و َق َال الَّ ِذي نَ َجا ِم ْن ُه َم َوا َّدكَ َر َب ْعدَ أُ َّم ٍة﴾ [يوسف‪.]45 :‬‬ ‫ ‬
‫‪ .2‬األمة اصطالحا‬ ‫ ‬
‫أما اصطالحا‪ ،‬فإن األمة تعني أنرتوبولوجيا الجامعة الكبرية من الناس الذين تربطهم وشائج ثقافية من أهمها‬ ‫ ‬
‫الدين واللغة‪ ،‬ولهم تاريخ مشرتك‪ ،‬وتجمعهم مصالح كربى مشرتكة تقتضيها حياتهم املادية والرمزية‪ ،‬ولهم حضارة‬
‫ممتدة يف الزمن‪.‬‬
‫وقد زادت بعض التعريفات مفهوم األمة حرصا وتضييقا‪ ،‬فجعلت من رشوط قيامها أن يرتبط أفرادها بوشائج‬ ‫ ‬
‫عرقية ودموية واحدة‪ ،‬وأن يتكلموا بلسان واحد‪ ،‬ويعيشوا يف رقعة ترابية واحدة‪ ،‬ويجمعهم كيان سيايس مشرتك‪.‬‬
‫يف ضوء هذه الرشوط اإلضافية ميكن أن نالحظ إن مفهوم األمة غدا أقرب إىل مفهوم «الشعب» سواء باملعنى‬
‫األنرتوبولوجي الذي مييل إىل ما يسمى «الصفاء العرقي» (الذي تقول به النظرية الصهيونية اليهودية‪ ،‬وسبق أن قالت‬
‫به النظرية النازية يف زمن هتلر‪ ،)..‬أو باملعنى السيايس األضيق املعت َمد يف معجم الفكر السيايس الحديث والذي يقرتن‬
‫مبفهومي الوطن والدولة‪.‬‬
‫‪ .3‬مفهوم األمة في اإلسالم‬ ‫ ‬
‫الوقوف عندها بالتأمل والتحليل‪:‬‬ ‫َ‬ ‫لألمة يف االصطالح القرآين مواصفات أربعة أساسية يقتيض تحدي ُد املفهوم‬ ‫ ‬
‫خية‪ ،‬وسط وشاهدة‪.‬‬ ‫فهي أمة واحدة‪ِّ ،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أ‪ .‬أمة واحدة بدليل قوله تعاىل‪﴿ :‬إِنَّ َه ِذ ِه أ َّم ُتك ُْم أ َّم ًة َوا ِحدَ ًة َوأنَا َربُّك ُْم فَا ْع ُبدُ ونِ ﴾ [األنبياء‪َ ﴿ ،]92 :‬وإِنَّ‬ ‫ ‬
‫َ‬
‫َه ِذ ِه أ َّم ُتك ُْم أ َّم ًة َوا ِحدَ ًة َوأنَا َربُّك ُْم فَاتَّقُونِ ﴾ [املؤمنون‪ .]52 :‬يتضح من سياق النصني املتقدمني أهمية معنى الوحدة‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫بني البرش ليس باعتباره معطى َخلقيا موضوعيا محتوما‪ ،‬وإمنا باعتباره حصيلة مسرية تاريخية قادها عدد كبري من‬
‫األنبياء ومن أتباعهم املؤمنني‪ ،‬وباعتباره مقصدا لرابطة األمة يحث النص القرآين ضمنيا عىل استمرار تحقيقه‪.‬‬
‫ما يلفت االنتباه أن هذا التوحيد يف بعده األفقي األريض االجتامعي اإلنساين مقرتن بتوحيد ذي بعد آخر عمودي وذي‬
‫طبيعة تصورية عقدية وروحانية‪.‬‬
‫مؤدى ذلك أن الرشط األساس لألمة اإلسالمية هو رشط ثقايف جوهري يتمثل يف اشرتاك املنتمني إليها يف اإلميان‬ ‫ ‬
‫بالله الواحد‪ .‬فهي إذن أمة املؤمنني برصف النظر عن اختالف ألوانهم‪ ،‬وألسنتهم‪ ،‬وأوطانهم‪ ،‬وجنسياتهم‪ ،‬ودولهم‪،‬‬
‫ومصالحهم‪..‬‬
‫اس﴾ [آل عمران‪ .]110 :‬فالصيغة التقريرية التي‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫خية بدليل قوله تعاىل‪﴿ :‬كُ ْن ُت ْم َخ ْي َر أ َّم ٍة أ ْخ ِر َج ْت لِل َّن ِ‬ ‫ب‪ .‬أمة ِّ‬ ‫ ‬
‫وردت بها هذه اآلية ال تدل البتة عىل أن خريية األمة هي معطى يتعلق بانتامئها العرقي ألن ذلك من شأنه أن يس ّوغ‬
‫متيي َز األمة اإلسالمية تفاضليا عن غريها من األمم عىل أساس عرقي يفيض إىل العنرصية‪ .‬وهذا غري جائز مبقتىض البنية‬
‫‪22‬‬
‫العامة لآلية التي تورد األمر باملعروف والنهي عن املنكر ثم اإلميان بالله باعتبارها أسبابا للخريية ورشوطا لتحققها‪.‬‬
‫بذلك تكون الخرييّة نتيجة لفعل إنساين حر مطلوب تحققه‪ .‬وأبعاد هذا الفعل األخالقية وأولوية اإلصالح االجتامعي‬
‫والسيايس فيه (األمر باملعروف والنهي عن املنكر) مبنيّة عىل االعتبار العقدي الذي جاء يف آخر اآلية‪.‬‬
‫ج‪ .‬أمة وسط بدليل قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وكَ َذلِكَ َج َعلْ َناك ُْم أُ َّم ًة َو َسطًا‪[ ﴾...‬البقرة‪ .]143 :‬ومام تعنيه الوسطية اعتدال‬ ‫ ‬
‫التصور والسلوك بني طرفني مذمومني‪ :‬إفراط وتفريط وتخاذل وتشدد وميوعة وتطرف‪ ..‬وتعني الوسطية أيضا العدل‬
‫بني الناس‪ .‬فقد ورد يف القرآن الكريم‪َ ﴿ :‬ق َال أَ ْو َسطُ ُه ْم أَل َْم أَ ُق ْل لَك ُْم لَ ْو َل ت َُس ِّب ُحونَ ﴾ [القلم‪ ، ]28 :‬قال املفرسون‪:‬‬
‫أوسطهم أي أعدلهم‪ .‬فهل يعني ذلك أن الله قد أوجد األمة اإلسالمية عىل هيئة مكتملة ونهائية من الوسطية كام قد‬
‫يُفهم من لفظة «جعلناكم» الواردة يف اآلية؟‬
‫ينبغي االنتباه إىل الفرق بني مفهوم «الخلق» ومفهوم «الجعل»‪ .‬فإذا كان الخلق متعلقا بفعل إلهي مفض‬ ‫ ‬
‫إىل نتيجة محتومة‪ ،‬فإن الجعل هو فعل إلهي ال يستبعد الكسب اإلنساين بل يوفر أسبابه يف ذات اإلنسان بحكم ما‬
‫أوجده الله فيه من استعدادات أولية وإرادة حرة‪ .‬وهذا أساس ديني متني للحرية يح ّمل اإلنسان مسؤولية كاملة عن‬
‫عمله االختياري سواء باتجاه تحقيق املراد اإللهي (وهو يف صورة الحال أن تكون األمة وسطا)‪ ،‬أو باتجاه مغاير لذلك‬
‫املراد‪ .‬فشتان بني الخلق القدري السالب للحرية‪ ،‬وبني الجعل الذي يضمر يف ذات الوقت دعوة إىل الفعل اإلنساين‬
‫الصالح ويوفر أسباب تحققه‪.‬‬
‫د‪ .‬أمة شاهدة بدليل قوله تعاىل‪﴿ :‬لِ َتكُونُوا شُ َهدَ ا َء َعلَى ال َّن ِ‬
‫اس َويَكُونَ ال َّر ُس ُول َعلَ ْيك ُْم شَ هِيدً ا﴾ [البقرة‪.]143 :‬‬ ‫ ‬
‫كل قوم نب ّيهم وينكرون أنّه بلّغهم رسالة ربّهم ولك ّن‬ ‫والشهادة نوعان‪ :‬شهادة أخروية‪ :‬ففي يوم القيامة يكذّب ّ‬
‫املسلمني يشهدون بأنّه بلّغ ما أمر بتبليغه‪ .‬وشهادة دنياوية‪ :‬وهي أن يشهد الناس املسلمون لشخص عىل التقوى أو‬
‫الفساد‪.‬‬
‫يُفهم من هذا أن لألمة مسؤولية ثابتة إزاء ذاتها‪ ،‬حاال ومآال‪ ،‬وإزاء اإلنسانية قاطبة‪ ،‬حاال ومآال‪ ،‬سواء بسواء‪.‬‬ ‫ ‬
‫كام يُفهم أن األمة مستأمنة بشكل جامعي عىل مدى تحقيق مراد الله يف تعمري األرض وصالحها وعدم إفسادها‪ ،‬مبا‬
‫مينع قيام أي بديل عن إرادتها العامة‪ ،‬سواء من داخلها أو من خارجها‪ ،‬مهام كانت الذرائع الدينية والسياسية وغريها‪..‬‬
‫الجامعة بُعد عمراين سيايس‬
‫إذا كان مفهوم األمة يف اإلسالم تغلب عليه االعتبارات الثقافية القامئة عىل معاين الوحدة والتوحيد وقيم الخري‬ ‫ ‬
‫والوسطية والشهادة‪ ،‬فإن مفهوم الجامعة تغب عليه االعتبارات االجتامعية والسياسية األقرب إىل املجال العميل وإىل‬
‫مقتضيات إدارة العمران وتدبري أمور السلطة عىل نحو ما وردت يف النصوص املرجعية اإلسالمية‪.‬‬
‫ولعل هذا ما يفرس وفرة ورود مصطلح الجامعة يف املعجم اللغوي للسنة النبوية بالقياس إىل محدودية حجم‬ ‫ ‬
‫وروده وصيغه الضمنية يف املعجم القرآين‪ .‬ذلك أن النبوة ذات تعلق أكرب باملجال العميل الدنيوي بينام الرسالة‪ ،‬التي‬
‫تجد أصلها األول يف القرآن‪ ،‬متعلقة أساسا مبسائل بناء التصور واالعتقاد وقيم األخالق والسلوك‪ .‬من ثم كانت آيات‬
‫األحكام قليلة نسبيا (يف حدود الخمس مائة آية‪ ،‬وهي أقل من ذلك بحسب بعض العلامء)‪ .‬وقد وردت كثري من تلك‬
‫األحكام املتعلقة خاصة بقضايا االجتامع والسياسة كلية عامة‪ ،‬مبا يفتح باب االجتهاد يف شأنها‪.‬‬
‫جامع القول أن االستقراء املستفيض لألحاديث النبوية التي تتحدث عن الجامعة يفيد أن هذا املفهوم متعلق‬ ‫ ‬
‫بالتكريس العميل التطبيقي ملعاين األمة عىل نحو ما سبق بيانها‪ ،‬ولزوم مقتضياتها العمرانية والسياسية التي منها عدم‬
‫التفرق‪ ،‬واعتامد اإلمرة‪ ،‬والشورى‪...‬‬
‫وال يخفى ما يف تواتر عبارة «عدم إجامع األمة عىل الضاللة» ضمن األحاديث النبوية من أهمية يف تأسيس‬ ‫ ‬
‫مبدأ اإلرادة العامة يف الفكر السيايس اإلسالمي‪ ،‬باعتبارها أساسا لحكم األغلبية‪ ،‬ومن ثم لرشعية السلطة ومنع‬
‫االستبداد‪.‬‬
‫الوسم‪ :‬أمة‪ ،‬توحيد‪ ،‬وسط‪ ،‬خري‪ ،‬شهادة‪ ،‬عمران‪ ،‬إرادة عامة‪ ،‬إمرة‪ ،‬إجامع‪ ،‬رشعية‪ ،‬استبداد‪.‬‬ ‫ ‬

‫‪ .5‬اآلخر وموقف الذات منه‬ ‫ ‬


‫‪ -‬يعود االهتامم باآلخر ومبسؤول ّية الذات أو اإلنسان إىل‪ :‬أهم ّية املسألة يف الفكر الحديث الفلسفي منه‬ ‫ ‬
‫والقانوين السيايس‪ .‬وإىل تأثري هذا االهتامم يف الصورة التي نرسمها للذات وللمجتمع‪ .‬وإىل قيمة هذا املبحث يف السلم‬
‫االجتامعي‪.‬‬
‫‪ -‬وسنعمل عىل تحقيق أهداف هي‪ :‬إحياء روح التسامح والتثاقف التي أرساها اإلسالم وانطمرت ألسباب‬ ‫ ‬
‫‪23‬‬
‫معقّدة‪ .‬ونرش ثقافة التن ّوع وقبول اآلخر‪ .‬وربط التدبّر الديني بالقضايا االجتامع ّية السياس ّية والفلسف ّية الحديثة مبا‬
‫يخدم فاعل ّية االجتهاد يف الدين‪.‬‬
‫وسنهت ّم بها‪ :‬انطالقا من التعريفات ذات املرجع ّية األكادمي ّية املحرتمة‪ ،‬ثم بيان املوقف القرآين والحديثي والفكري‬
‫الديني‪ .‬وربط نتيجة تلكم التعريفات وهذا املوقف بالجوانب الحيات ّية امللموسة لإلنسان املسلم تأكيدا عىل الصبغة‬
‫العمل ّية لهذه املسألة رغم طابعها التجريدي‪.‬‬
‫أ‪ .‬تحديدات عامة‬ ‫ ‬
‫ينبغي التمييز بني اآلخروالغري‬ ‫ ‬
‫‪ -‬اآلخر هو كل مختلف عن الذات من كل املوجودات‪.‬‬ ‫ ‬
‫‪ -‬الغري هو كل إنسان آخر مختلف عن الذات‪.‬‬ ‫ ‬
‫‪ -‬الغري هو أنا مختلفة عن ذايت هي أنا آخر يقابلني‪.‬‬ ‫ ‬
‫ويقيم هذا التمييز بني اآلخر والغري أهم ّية للذات اإلنسان ّية يف عالقتها بالذات فردا أو أ ّمة‪ ،‬وهو بذلك يحدث‬ ‫ ‬
‫وعيا قويّا بأ ّن لإلنسان منزلة أرقى من مج ّرد مخلوق أو يشء يف الوجود‪.‬‬
‫قيمة هذا التمييز يف تنبيهه إىل أنّه ال ميزة للذات ملج ّرد أنّها ذاتك عىل غريك ملج ّرد أنّه غريك‪.‬‬
‫‪ -‬فحديث ال فرق لعريب عىل أعجمي إال بالتقوى يؤكّد عدم وجود هذه امليزة الذات ّية يف الذات‪ ،‬فالتفاضل‬ ‫ ‬
‫تفاضل بالعمل ال بالعنرص‪.‬‬
‫‪ -‬وقوله تعاىل يف آيات كثرية تثبت التساوي بني املؤمنني والكفّار يف أصل الوجود وأمام الرسالة غري أن الفرق‬ ‫ ‬
‫أن املؤمنني آمنوا يف حني أن الكفّار جحدوا الرسالة‪.‬‬
‫وظيفة هذا التمييز التقريب من املختلفني حتى وإن كان االختالف تناقضا يف الدين‪:‬‬ ‫ ‬
‫‪ -‬كالعالقة التي أكّدها القرآن بني املسلمني ومن عاهدوا من الكفّار (ب ّر املعاهد)‬ ‫ ‬
‫القوي بسالحه مبن ليس مسلام وهو ضعيف ال يقدر أن يدافع عن نفسه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ -‬بل كعالقة املسلم‬ ‫ ‬
‫يقول الله تعاىل‪َ ﴿ :‬ياأَ ُّي َها الَّ ِذي َن آ َم ُنوا إِ َذا ضَ َر ْب ُت ْم ِفي َسبِيلِ اللَّ ِه َف َت َب َّي ُنوا َو َل تَقُولُوا لِ َم ْن أَلْقَى إِلَ ْيك ُُم َّ‬
‫الس َل َم ل َْس َت ُم ْؤ ِم ًنا‬
‫تَ ْب َتغُونَ َع َر َض الْ َح َيا ِة الدُّ نْ َيا﴾ [النساء‪]94 :‬‬

‫ب‪ .‬مفهوم اآلخر في علم النفس‪-‬االجتماعي‪:‬‬ ‫ ‬


‫‪« -‬مفهوم الذات بناء متنوع يتكون من عدد هائل من املعلومات واالعتقادات الخاصة بالذات التي تراكمت‬ ‫ ‬
‫خالل خربات الفرد يف مواقف حياتية مختلفة‪ .‬وال ميكن الوعي بها أو اسرتجاعها جميعا يف لحظة زمنية معينة‪.‬‬
‫‪ -‬يبني الفرد عىل بعض هذه العنارص تصوره لذاته حسب متطلبات املوقف وحسب أهدافه‪.‬‬ ‫ ‬
‫‪ -‬فمفهوم الذات يتسم بالطواعية والتنوع‪ ،‬أي أنه يتغري يف املواقف املختلفة ويشتمل عىل أفكار متناقضة‪ ...‬ال‬ ‫ ‬
‫يعيها‪» .‬‬
‫• مي ّيز علم النفس االجتامعي بني ‪ 3‬أنواع من اآلخر‪:‬‬ ‫ ‬
‫‪ -‬اآلخر الحميم (أنت)‪ :‬وهو أقرب اآلخرين إليك كاألبوين وخصوصا األ ّم يف س ّن مبكّرة‪.‬‬ ‫ ‬
‫أرسي أو جسدي‪ .‬إنّه كل من يعيش يف األرسة‬ ‫‪ -‬اآلخر الحميم األكرب (نحن)‪ :‬وهو اآلخر القريب م ّنا قربا غري ّ‬ ‫ ‬
‫من أفراد‪ ،‬ث ّم األصدقاء والزمالء واملجتمع برمته‪.‬‬
‫‪ -‬آخر اآلخر (هم)‪ :‬وهو من نعي به يف مرحلة متأ ّخرة ولذلك يتأ ّخر فهمنا له وقبولنا به‪ ،‬والسبب أن إدراكنا‬ ‫ ‬
‫لآلخر (هم) مرتبط بثقافتنا ومبا نتعلّمه‪« ...‬ويتضح أنه مبجرد إنشاء صورة اآلخر [الحميم‪( ،‬أنت)]‪ ،‬تتحقق نزعة الفرد‬
‫إىل خلق انشطار بني (نحن) و(هم)‪ .‬وقد تكون لآلخر أولوية أكرب يف هذه الحالة»‪.‬‬
‫«وتخضع عملية إدراك آخر اآلخر (هم) ‪-‬يف بعض األحيان‪ -‬للتشويه‪ ،‬إذا كانت (أنت) أو (نحن) تشعر‬ ‫ ‬
‫أنه يهدد وجودها أو كيانها‪ .‬أما إذا كانت العالقة جيدة‪ ،‬وال تشعر (أنت) و(نحن) بالخطر منها‪ ،‬أو شعرت بالراحة‬
‫والطأمنينة‪ ،‬فإن مفهوم أفرادها آلخر اآلخر (هم)‪ ،‬يكون موجباً‪ .‬وأخطر مشاعر الكره والحقد التي ترسم تجاه مفهوم‬
‫آخر اآلخر(هم)‪ ،‬عندما يكون (هم) عدوا ً لآلخر الحميم (أنت)‪ ،‬أو لآلخر القريب (نحن)»‪.‬‬
‫ج‪ .‬مفهوم اآلخر في الفكر الفلسفي الغربي‪:‬‬ ‫ ‬
‫ارتبطت مسألة اآلخر يف الفكر الفلسفي املعارص مبا أحدث من تط ّور يف املنهج الفلسفي (هيغل واملنهج‬ ‫ ‬
‫الجديل الذي ق ّوض مبادئ أرسطو الثالثة) ويف علم النفس (ما اكتشفه فرويد بخصوص تركيب الجهاز النفيس الفردي‬

‫‪24‬‬
‫والجامعي وما أحدثه مفهوم الالشعور من زلزلة لقطب ّية الذات ومركزيّتها) ويف علم االجتامع واألنرثوبولوجيا (ما أحدثته‬
‫األقل] يعي وجودها ويدرك ثقافاتها‪)...‬‬
‫الدراسات األنرثوبولوج ّية من تعريف بشعوب مل يكن أحد [يف الغرب عىل ّ‬
‫د‪ .‬مفهوم اآلخر في الفكر الديني‪:‬‬ ‫ ‬
‫النص الديني أوجب أن يكون اآلخر‬ ‫ال نجد يف الفكر الديني وعيا باآلخر باعتباره مشكلة فلسف ّية‪ ،‬ولك ّن ّ‬ ‫ ‬
‫حارضا يف جملة من العلوم أه ّمها علام الفقه والكالم‪:‬‬
‫يف الفقه اإلسالمي‪:‬‬ ‫ ‬
‫‪ -‬يشار إىل اآلخر هنا من حيث األحكام الفقه ّية القانون ّية اإلسالم ّية التي تعنيه وتتعلّق هذه األحكام‬ ‫ ‬
‫بالعالقات الجامعة بني املسلم وغري املسلم ال غري وال تشمل ما يه ّمه من حيث أفعاله وعباداته ألنّه ليس معن ّيا‬
‫باألحكام اإلسالم ّية يف ذلك‬
‫الخاصة بالعالقات الجامعة بني املسلم واآلخر تصنيفه إىل أنواع‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ -‬وقد أوجبت األحكام‬ ‫ ‬
‫• أهل الحرب وهؤالء ليس لهم يف الفقه اإلسالمي إال ما طلبوه‪ ،‬عىل أنّه من الرضوري التأكيد أن املسلمني ال‬ ‫ ‬
‫يعلنون الحرب إال عىل من أعلنها عليهم وال يبدؤون الغري بها‪.‬‬
‫• طالبو األمن يف حمى املسلمني رغم كونهم يف األصل من أهل الحرب ولكن سعيهم إىل األمن أخرجهم‬ ‫ ‬
‫َ‬
‫من النوع األ ّول فأوجب عندئذ حكام مخالفا وهو االستجارة وتوفري األمن له يقول تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِنْ أ َحدٌ ِم َن الْ ُمشْ ِر ِكي َن‬
‫ْاس َت َجا َركَ َفأَجِ ْر ُه َح َّتى يَ ْس َم َع ك ََل َم اللَّ ِه ثُ َّم أَبْلِغْهُ َمأْ َم َنهُ َذلِكَ ِبأَنَّ ُه ْم َق ْو ٌم َل يَ ْعلَ ُمونَ ﴾ [التوبة‪]6 :‬‬
‫• املعاهدون‪ :‬وهم يف األصل أهل الحرب ولك ّنهم تعاهدوا مع املسلمني عىل عدم خوضها‪ ،‬ولذلك أوجب‬ ‫ ‬
‫الس ِم ُ‬
‫يع‬ ‫لسل ِْم فَا ْج َن ْح لَ َها َوتَ َوك َّْل َعلَى اللَّ ِه إِنَّهُ ُه َو َّ‬
‫الرشع عىل املسلمني احرتام عهودهم‪ .‬يقول الله تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِنْ َج َن ُحوا لِ َّ‬
‫الْ َعلِيم﴾ [األنفال‪]61 :‬‬
‫• أهل الذ ّمة‪ :‬وهم الذين رضوا بالعيش يف بالد املسلمني أو الذين رضوا بأن يكون الحاكم مسلام دون أن‬ ‫ ‬
‫يتع ّرضوا للدولة ولقوانينها باملعارضة أو املحاربة‪ .‬وللفقه اإلسالمي باب كامل يف ما يعرف بـ»أحكام أهل الذ ّمة»‪،‬‬
‫ويتم ّيز عيشهم يف بالد املسلمني باألمن وعدم اإليذاء والكرامة واملساواة يف كل الحقوق والواجبات‪ ...‬وقد ح َّرم ُ‬
‫رسول‬
‫صل الله عليه وسلَّم ‪ -‬ظلمهم والتعدي عليهم بالقتل‪.‬‬ ‫الله ‪َّ -‬‬
‫يقول القرايف‪« :‬إ َّن َع ْق َد الذمة يوجب حقوقًا علينا لهم؛ ألنَّهم يف جوارنا ويف خفارتنا‪ ،‬و ِذ َّم ِة الله تعاىل‪ ،‬و ِذ َّم ِة‬ ‫ ‬
‫أحدهم‪ ،‬أو نوع من أنواع األذيَّة‪ ،‬أو أعان‬ ‫رسوله‪ ،‬و ِدينِ اإلسالم‪ ،‬فمن اعتدى عليهم ولو بكلم ِة سوء‪ ،‬أو ِغيبة يف ِع ْرض ِ‬
‫عىل ذلك‪ ،‬فقد ض َّي َع ِذ َّمة الله تعاىل و ِذ َّمة رسوله‪ ،‬و ِذ َّمة ِدين اإلسالم»‪.‬‬
‫يف علم الكالم‪:‬‬ ‫ ‬
‫يتعلّق االهتامم باآلخر يف علم الكالم مبن يخالفون الذات يف املذهب ويف الفرقة الدين ّية‪ .‬وعىل هذا فاملوا ّد‬ ‫ ‬
‫التي تتناولهم يف علم الكالم هي تلك التي تتعلّق باإلميان والكفر أو بالتفسيق والتكفري والتبديع‪...‬‬

‫الخاتمة‬ ‫ ‬
‫‪ .1‬ما يحتقظ به المتقبل‬ ‫ ‬
‫يخص اإلنسان املختلف‬
‫يخص كل املوجودات ومصطلح الغري ّ‬ ‫‪ -‬مصطلح اآلخر ّ‬ ‫ ‬
‫‪ -‬قبول اآلخر والتسامح فلسفة يقوم عليها الدين اإلسالمي وليست مج ّرد فرع ّيات أو آيات منسوخة بآية السيف‬ ‫ ‬
‫‪ -‬فلسفة االختالف تقوم عىل إعادة فهم مقاصدي للخطاب القرآين مبني عىل تصنيف اآليات إىل آيات‬ ‫ ‬
‫تأسيس ّية وآيات فرع ّية وآيات تفصيل ّية‬
‫‪ -‬من هذه اآليات اآليات التي تدعو إىل العدل واإلحسان وإىل القسط وإىل الحريّة‪...‬‬ ‫ ‬
‫‪ -‬فلسفة االختالف تقوم عىل ضوابط حديث ّية ب ّينت كيف ّية التعامل مع الغري سواء كان مسلام أوغري مسلم‬ ‫ ‬
‫‪ -‬يف ضوء فلسفة االختالف واالعرتاف باآلخر تقرأ مصطلحات من قبيل االستخالف والحاكم ّية والتعارف‬ ‫ ‬
‫‪ -‬ميكن أن نعيد بناء فقه األقل ّيات والطوائف يف ضوء فلسفة االختالف‬ ‫ ‬
‫‪ -‬تفهم آية السيف والحرب ضمن فلسفة االختالف‪.‬‬ ‫ ‬
‫‪ .2‬أهمّ الكلمات المفاتيح‬
‫اآلخر؛ الغري؛ فلسفة االختالف؛ التسامح؛ التعارف؛ السالم؛ العدل؛ الحريّة؛ السلم األهيل؛ التالقي؛ التثاقف؛ االستخالف؛‬
‫االعرتاف بالغري‪...‬‬

‫‪25‬‬
‫في إدارة التمدن‬

‫‪ .1‬تفعيل فروض الكـفاية‪:‬‬ ‫ ‬


‫يقسم العلامء الفرائض من حيث املطالبني بأدائها إىل قسمني‪ :‬فروض عني‪ ،‬وفروض كفاية‪ :‬وفرض العني‬ ‫‪ّ -‬‬ ‫ ‬
‫كل مكلّف مطالبة فردية وال تجوز فيه النيابة واملسؤولية فيه فردية‪ .‬وفرض الكفاية فاملطالَب به هو األ ّمة‬ ‫يطالَب به ّ‬
‫اإلسالمية كلها‪ ،‬وتجوز فيه النيابة‪.‬‬
‫وتظهر مسؤولية هذين الفرضني يف اآلخرة عن طريق كتب األعامل‪ ،‬وهي حسب النص القرآين نوعان‪ :‬كتاب‬ ‫ ‬
‫الفرد‪ ،‬وكتاب األ ّمة‪.‬‬
‫الكتاب األ ّول‪ :‬كتاب فروض العني‪:‬‬ ‫ ‬
‫قال تعاىل ﴿ َوك َُّل إِن َْسانٍ أَلْ َز ْم َنا ُه طَائِ َر ُه ِفي ُع ُن ِق ِه َونُ ْخر ُِج لَهُ يَ ْو َم الْ ِق َيا َم ِة ِك َتابًا يَلْقَا ُه َم ْنشُ و ًرا﴾ [اإلرساء‪]13 :‬‬ ‫ ‬
‫أ‪ .‬الحساب يف هذا الكتاب فردي يتعلق بالتكاليف الخاصة بكل إنسان‪.‬‬ ‫ ‬
‫نصت عليه آيات أخرى‪.‬‬ ‫ب‪ .‬هذا الكتاب يتلقاه صاحبه يوم القيامة إ ّما بيمينه أو بشامله من وراء ظهره كام ّ‬ ‫ ‬
‫الكتاب الثاين‪ :‬كتاب فروض الكفاية‪:‬‬ ‫ ‬
‫قال الله تعاىل ﴿ َوتَ َرى ك َُّل أُ َّم ٍة َجاثِ َي ًة ك ُُّل أُ َّم ٍة تُدْ َعى إِلَى ِك َتا ِب َها﴾ [الجاثية‪.]28 :‬‬ ‫ ‬
‫كل‬
‫كل أ ّمة وليس الكتاب املن ّزل عىل ّ‬ ‫سجل أعامل ّ‬ ‫املفسين إىل أ ّن املقصود بالكتاب هنا هو ّ‬ ‫أ‪ .‬ذهب كثري من ّ‬ ‫ ‬
‫أ ّمة‪.‬‬
‫كل أ ّمة ترىت كتابها يف اآلخرة وهي مشهد جث ّو‬ ‫كل فرد يؤىت كتابه إ ّما بيمينه أو بشامله فإ ّن ّ‬ ‫ب‪ .‬إذا كان ّ‬ ‫ ‬
‫وخضوع بسبب ثقل املسؤوليات الجامعية‪.‬‬
‫ج‪ .‬هذا الكتاب تستنسخه املالئكة وتكتب فيه كل ما كانت تعمله األ ّمة‪ :‬إيجابياتها إن كانت‪ ،‬والواجبات‬ ‫ ‬
‫الجامعية التي تخلّت عنها‪.‬‬
‫والواجبات الكربى التي تخلّت عنها األ ّمة اليوم كثرية‪ ،‬منها واجب الوحدة‪ ،‬وواجب االتصاف بالوسطية‬ ‫ ‬
‫والشهادة عىل الناس‪ ،‬وواجب األمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬وكذلك عىل الخصوص واجب تجديد النظر يف الدين‪،‬‬
‫وواجب بيانه للناس عىل وجه مقنع وواضح‪.‬‬
‫كل فرد مطالب بأن يتوب توبة فردية عن تفريطه يف فروض العني فإ ّن األ ّمة مطالبة بأن تتوب‬ ‫لهذا فكام أ ّن ّ‬ ‫ ‬
‫توبة جامعية عن فروض الكفاية التي أهملتها‪.‬‬
‫ومن أخطر ما وقعت فيه األ ّمة أ ّن عددا من األفراد وبعض الجامعات الذين ليسوا من أهل العلم والكفاية‪،‬‬ ‫ ‬
‫وال يعرفون إالّ بعض فروض العني ق ّدموا أنفسهم ليقوموا بفروض الكفاية مثل الدعوة والجهاد يف غري محلّه فش ّوهوا‬
‫صورة اإلسالم وأوقعوا األ ّمة يف عجز وشقاق وتقاتل ألنّهم غري مؤ ّهلني لهذه الوظيفة التي هي من اختصاص أهل‬
‫العلم‪.‬‬

‫‪ .2‬المواطنة ومدنيّة اإلسالم‬ ‫ ‬


‫كانت األعامل الكربى األوىل التي قام بها الرسول إثر قدومه إىل املدينة املن ّورة‪ :‬بناء املسجد وكتابة «صحيفة‬ ‫ ‬
‫املدينة»‪ ،‬وفرض الهجرة عىل املؤمنني التحاقا باأل ّمة ال ّناشئة‪ .‬فم ّهد السبيل أمام العرب يك يتد ّرجوا يف مدارج ال ّرقي‬
‫حض‪.‬‬‫والتّ ّ‬
‫أ‪ .‬التعرّب والتمدن‪:‬‬ ‫ ‬
‫بيﷺ املسلمني أن يهملوا هذا االسم‪ ،‬وأن يستعملوا بدله «املدينة»‬
‫‪ -‬س ّميت املدينة قبل الهجرة « يرثب»‪ .‬و أمر ال ّن ّ‬ ‫ ‬
‫النبي‬
‫‪ -‬لقّبت املدينة باملن ّورة ألنّها شهدت األنوار املح ّمديّة‪ ،‬وعرفت الهداية ال ّنبويّة‪ ،‬وحوت أرضها جثامن ّ‬ ‫ ‬
‫الطّاهرﷺ‪.‬‬
‫‪26‬‬
‫وإل اعترب مرت ّدا عىل عقبيه –ال‬
‫‪ -‬ومن هاجر إىل املدينة‪ -‬يف ذلك ال ّزمان‪ -‬مل يكن له أن يغادرها إىل غريها‪ّ ،‬‬ ‫ ‬
‫مبعنى أنّه ترك اإلميان‪ -‬ولكن مبعنى أنّه تع ّرب بعد هجرته أي صار أعراب ّيا وعاد إىل حياة «اله ّمج» بعد التّم ّدن‪ .‬ولهذا‬
‫كان من الكبائر‪ :‬التع ّرب بعد الهجرة‪.‬‬
‫‪ -‬وسم القرآن األعراب الذين كانوا حول املدينة بنعوت سلب ّية وذلك بسبب غلظتهم وجالفة طبعهم‪.‬‬ ‫ ‬
‫‪ -‬لنئ انتهت الهجرة إىل املدينة بفتح مكّة‪ ،‬فإ ّن التع ّرب باق‪ ،‬وهو يقوى ويخفت تبعا لقرب املسلم من‬ ‫ ‬
‫التم ّدن اإلسالمي وبعده عنه‪.‬‬
‫‪ -‬تخرج املدينة البدو (وهم مادتها البرشيّة) من تع ّربهم‪ ،‬وتدمجهم يف هويّة جديدة واسعة هي هويّة اللّغة‬ ‫ ‬
‫وال ّدين والقيم‪.‬‬
‫‪ -‬تتك ّون املدينة ماديّا من مجموعة برشيّة هم أهلها وق َْص الحكم وفيه حاكمها واألسواق وفيها معاشهم‪،‬‬ ‫ ‬
‫ومسجد ذي منرب منه تستم ّد القدس ّية والقيم الحضاريّة‪ ،‬وهذه القيم هي أه ّم ما مي ّيز املدينة عن غريها‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫‪ -‬فالقضيّة يف هذا املقام تتعلّق بالطّابع الثّقايف للتّعايش وبال ّروح التّعاقديّة ال ّراسخة بني مواطني املدينة‪.‬‬ ‫ ‬
‫ويعب مفهوم املواطنة عن تشارك يف العيش بني مواطنني‪ ،‬يسود بينهم االحرتام والتّسامح تجاه التّن ّوع الذي‬ ‫‪ّ -‬‬ ‫ ‬
‫يزخر به املجتمع‪ .‬وهذا تضبطه القيم‪ ،‬وتح ّدده مبادئ العيش املشرتك‪ ،‬وتحفظه سلطة القانون‪.‬‬
‫‪ -‬وتقوم املواطنة عىل التم ّدن وهو االنتقال من الهمج ّية والخشونة إىل الرقي والحضارة‪ .‬فعندما يتم ّدن املرء‬ ‫ ‬
‫التبية والتعليم‬‫يكون مواطنا‪ ،‬فمج ّرد سكنى املدينة دون االلتزام مبا تستوجبه املواطنة ال يع ّد مت ّدنا‪ .‬وسبيل التم ّدن ّ‬
‫قي»‪.‬‬
‫لذا قالوا‪»:‬ليس كالتّعليم مي ّدن اإلنسا َن ويدفعه إىل ال ُّر ّ‬
‫ب‪ .‬مبادئ المدنيّة‪:‬‬ ‫ ‬
‫تتأسس املدنيّة املنتجة للمواطنة يف اإلسالم عىل املبادئ اآلتية‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ ‬
‫َ‬
‫وحدة األصل البرشي‪ :‬فالبرش جميعا خلقهم الله تعاىل من أصل واحد‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬و ِم ْن آيَاتِ ِه أنْ َخلَ َقك ُْم ِم ْن‬ ‫ ‬
‫اب ثُ َّم إِ َذا أنْ ُت ْم بَشَ ٌر تَ ْن َت ِش ُرونَ ﴾ [الروم‪ .]20 :‬ويف الحديث‪« :‬كلكم بنو آدم‪ ،‬وآدم من تراب»‪.‬‬ ‫َ‬ ‫تُ َر ٍ‬
‫• الكرامة‪ :‬ملطلق اإلنسان قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَ َقدْ كَ َّر ْم َنا َب ِني آ َد َم﴾ [اإلرساء‪ .]70 :‬دون تخصيص بدين أو عرق‬ ‫ ‬
‫إلهي ليس ألحد ال ّنزاع فيه أو االجتهاد يف معناه‪.‬‬ ‫قومي أو فئة اجتامعيّة أو انتامء ثقا ّيف‪ .‬وهذا التكريم قرار ّ‬
‫اس أُ َّم ًة َوا ِحدَ ًة َو َل يَ َزالُونَ ُم ْخ َتلِ ِفي َن (‪ )118‬إِ َّل َم ْن َر ِح َم َربُّكَ َولِ َذلِكَ‬ ‫االختالف‪ :‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَ ْو شَ ا َء َربُّكَ لَ َج َع َل ال َّن َ‬
‫َخلَ َق ُه ْم﴾ [هود‪ .]119 ،118 :‬فاالختالف حالة واقع ّية قضتها المشيئة اإللهية‪ .‬وهو حقيقة في الطّبيعة البشريّة ﴿ َو ِم ْن‬
‫ات لِلْ َعالِ ِمي َن﴾ [الروم‪.]22 :‬‬ ‫ف أَل ِْس َن ِتك ُْم َوأَلْ َوانِك ُْم إِنَّ ِفي َذلِكَ َل َي ٍ‬ ‫ات َو ْالَ ْر ِض َوا ْخ ِت َل ُ‬ ‫آ َياتِ ِه َخل ُْق َّ‬
‫الس َما َو ِ‬
‫اس‬ ‫• التعارف ‪ :‬وهو حقيقية اجتامعية وثقافيّة يف املجتمع املدين يق ّررها القرآن‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬يَاأَيُّ َها ال َّن ُ‬ ‫ ‬
‫يم َخبِي ٌر﴾‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫إِنَّا َخلَ ْق َناك ُْم ِم ْن َذكَ ٍر َوأنْثَى َو َج َعلْ َناك ُْم شُ ُعوبًا َو َق َبائِ َل لِ َت َعا َرفُوا إِنَّ أكْ َر َمك ُْم ِع ْندَ اللَّ ِه أتْقَاك ُْم إِنَّ اللَّهَ َعلِ ٌ‬
‫[الحجرات‪ . ]13 :‬واالختالف سبيل للتعارف‪ ،‬ودافع للتّعاون والتعايش‪.‬‬
‫عم يعتنقه املرء من آراء‬ ‫• الحر ّية‪ :‬وهي مثرة االختالف والتعارف معا‪ ،‬فال معنى لالختالف دون التعبري ّ‬ ‫ ‬
‫وأفكار‪ ،‬ومن مث ّة تأيت ال ّدعوة بالحكمة واملوعظة الحسنة‪ .‬واألصل يف الحريّة حريّة املعتقد والفكر‪ .‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وقُلِ‬
‫الْ َح ُّق ِم ْن َربِّك ُْم َف َم ْن شَ ا َء َفلْ ُي ْؤ ِم ْن َو َم ْن شَ ا َء َفلْ َيكْ ُف ْر﴾ [الكهف‪.]29 :‬‬
‫كل عظيم يعتمده اإلنسان يك يستجيب الحتياجاته فتستم ّر حياته‪ ،‬بدفع اإلثم‬ ‫• التعاون‪ :‬وهو مبدأ ّ‬ ‫ ‬
‫والعدوان‪ ،‬ويحقّق سعادته بجلب ال ّرب‪ .‬ومنشأ التعاون الحاجة واختالف ال ّناس يف ال ّدرجة واألحوال والقدرات‪ ،‬وهام‬
‫الثْ ِم َوالْ ُعدْ َوانِ ﴾ [املائدة‪.]2 :‬‬ ‫قوام التم ّدن واالجتامع البرشي‪َ ﴿ .‬وتَ َعا َونُوا َعلَى الْ ِب ِّر َوال َّت ْق َوى َو َل تَ َعا َونُوا َعلَى ْ ِ‬
‫املعاملة وال ّنصيحة‪ :‬حيث جعل النبيﷺ ال ّدين كلّه فيهام‪ ،‬فقال‪« :‬ال ِّدي ُن ال َّن ِصي َح ُة»‪ .‬وقال‪« :‬ال َّد ِّال َع َل الْ َخ ْ ِي‬
‫كَفَا ِعلِ ِه»‪.‬‬

‫ج‪ .‬تجسّد المدنيّة من خالل المواطنة‪« :‬دستور المدينة»‬ ‫ ‬


‫بي ﷺ إىل املدينة‪ ،‬كتب كتابا صار يعرف بدستور املدينة فيه تجسيد ملبادئ املدن ّية‬‫عندما انتقل ال ّن ّ‬ ‫ ‬
‫واملواطنة‪.‬‬
‫إقرار التّن ّوع واالختالف‪ :‬شمل هذا الكتاب ببنوده سكّان املدينة من مسلمني( املهاجرون واألنصار)‪ ،‬ومرشكني‬ ‫ ‬
‫(كانوا ال يزالون عىل وثنيّتهم)‪ ،‬ويهود‪.‬‬
‫‪27‬‬
‫ضامن حرية االعتقاد والتعبد والتفكري‪ :‬فق ّرر‪« :‬لِلي ُهو ِد ِدي ُن ُه ْم ولِلْ ُمسلِ ْ ِ‬
‫مي ِدي ُن ُه ْم»‪ .‬وأق ّر مبدأ التناصح عىل‬ ‫ ‬
‫الخري وهو ال يكون إال عن اختيار وحريّة‪ ،‬فقال‪«:‬وأ ّن بينهم ال ّنصح وال ّنصيحة وال ّرب دون اإلثم»‪.‬‬
‫السلمي‪ :‬ففيه «أنه من خرج آمن‪ ،‬ومن قعد آمن باملدينة‪ّ ،‬إل من ظلم وأثم‪ ،‬وأن الله جار‬ ‫األمن الجامعي والتّعايش ّ‬
‫حق الجار يف األمن واعترب الحفاظ عليه كاملحافظة عىل النفس‪ ،‬فقال‪«:‬وأ ّن الجار كال ّنفس‬ ‫ملن ب ّر واتقى»‪ ،‬كام حفظ ّ‬
‫غري مضار وال آثم‪».‬‬
‫لكل‬
‫التّعاون واملشاركة يف الحياة العا ّمة‪ :‬فمبدأ النصيحة والتعاون عىل «ال ّرب دون اإلثم» يتيح الفرصة ّ‬ ‫ ‬
‫املتعاقدين من أهل الوطن الواحد للمشاركة الف ّعالة واالستفادة ال ّدامئة من الطّاقات والخربات فيام ينفع البالد‬
‫والعباد‪.‬‬
‫نصت الوثيقة عىل شخص ّية العقوبة وأنّها تقترص عىل الجاين وحده وال تتع ّداه‬ ‫إقرار مبدأ املسؤولية الفرديّة‪ّ :‬‬ ‫ ‬
‫الحق تكون للمظلوم مسلام أو غري‬ ‫إىل غريه‪ ،‬وال يؤخذ غري املعتدي رهينة بجرم غريه (قريبه أو حليفه)‪ ،‬وأ ّن نرصة ّ‬
‫مسلم‬
‫لكل مواطنيها مسلمني‬ ‫• حرمة الوطن‪ :‬كانت املدينة وطنا ألهلها‪ ،‬ومركز املجتمع التّعاقدي املتن ّوع‪ ،‬وحرمتها ّ‬ ‫ ‬
‫للسلم وصونا للحرمات‪.‬‬‫ويهود ووثنيني‪ ،‬تثبيتا ّ‬
‫السيايس‪ ،-‬تنتسب‬ ‫الصحيفة» أ ّمة واحدة – باملعنى ّ‬ ‫• املساواة يف االنتساب إىل الوطن‪ :‬حيث صار«أهل هذه ّ‬ ‫ ‬
‫ولكل طرف من املتعاقدين عليها عقيدته وح ّريته فيام يعبد‪ ،‬وعنارصها متساوون أمام القانون‬ ‫إىل وطن واحد‪ّ ،‬‬
‫يخضعون له خضوعا مدن ّيا ال دين ّيا‪ ،‬وعىل ال ّدولة العدل بينهم وتقسط إليهم ما داموا عىل السلم بعيدين عن الغدر‬
‫والعدوان‪.‬‬
‫• الوالء للوطن‪ :‬وهو يقتيض أداء ما يجب من نفقات تستخلص للشأن العام ويطلب من الجميع –عىل‬ ‫ ‬
‫اختالف مللهم‪ -‬بذل النفس واملال دفاعا عن حياض الوطن‪.‬‬

‫االستنتاج‪:‬‬ ‫ ‬
‫السعة والحر ّية‪ ،‬وتوطئة للعيش أحرارا‬
‫كانت الهجرة انتقاال من مكان إىل آخر‪ ،‬وكانت خروجا من االستبداد إىل ّ‬
‫كواطنني متعاونني‪ .‬ووراء ذلك عمل دؤوب من ال ّتعليم‪ ،‬وتهذيب الخلق برفق إخراجا لإلنسان من ال ّتوحش إىل‬
‫التّمدّ ن ومن «الهمج ّية» والفردان ّية إىل األنس واملواطنة‪.‬‬
‫الوسم‪ :‬الهجرة – التع ّرب – التوحش‪ -‬املدينة‪ -‬املواطنة‪ -‬التعارف‪ -‬الحريّة ‪...‬‬

‫‪ .3‬المرأة في القرآن‬ ‫ ‬
‫يحتاج حضور املرأة يف القرآن تجلية وبيانا‪ ،‬ووعيا بالوحي املح ّمدي ومقاصده يف شأن اإلنسان ودوره يف‬ ‫ ‬
‫الحياة‪ ،‬وهنا نعرض إىل بعض املسائل املفاهيم ّية ذات العالقة الوطيدة بكتاب الله يف شأن املرأة‪.‬‬
‫أ‪ .‬في أصل الخلق واإلنسانيّة‪:‬‬ ‫ ‬
‫خلق الرجل واملرأة من نفس واحدة فهام يف الجنس واألصل واإلنسانيّة سواء‪ ،‬وقد س ّوي خلقهام وع ّدل يف‬ ‫ ‬
‫أحسن صورة مركّبة‪ ،‬مبقتىض إرادة الله وسابق مشيئته‪.‬‬
‫أ ّما قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَ ْي َس ال َّذكَ ُر ك َْالُنْثى﴾ ‪[ 36‬آل عمران] فيؤخذ عىل ظاهره‪ .‬فال ّنفي نفى للمثلية‪ ،‬وليس نفيا‬ ‫ ‬
‫للمساواة يف أصل الخلقة واملاهية‪.‬‬
‫ب‪ .‬في التّكريم والتّكليف‪:‬‬ ‫ ‬
‫واملرأة مساوية للرجل يف التّكريم ألنّه تكريم لإلنسان عموما وليس للذّكر عىل حساب األنثى‪ .‬يف التّكليف‪:‬‬ ‫ ‬
‫والتغيب وهو ما توضّ حه‬
‫الشع ّية واألخالق ويف التّحذير ّ‬
‫وتستوي املرأة وال ّرجل يف التّكليف عىل مستوى الواجبات ّ‬
‫آيات القرآن‬
‫‪ -‬وهام يستويان يف واجب التديّن والعبادة‪ ،‬وتقاس أعاملهام مبقياس واحد‪.‬‬ ‫ ‬
‫ج‪ .‬القوامة والوالية‪:‬‬ ‫ ‬
‫• القوامة‪:‬‬ ‫ ‬
‫لئل‬
‫‪ -‬الحياة الزوج ّية حياة اجتامعية وال ب ّد فيها من يتح ّمل مسؤول ّية الجامعة زيادة عىل مسؤول ّية نفسه ّ‬ ‫ ‬
‫ويختل نظامهم‪ .‬فاملساواة بني الرجال والنساء ليست مطّردة‬
‫ّ‬ ‫يعمل كل فرد ض ّد اآلخر فتنفصم عروة الوحدة الجامعة‬
‫‪28‬‬
‫‪ -‬ال تتعلق ال ّرئاسة بالذكورة أو األنوثة‪ ،‬وإنّ ا تتعلّق بالعائلة باعتبارها هيئة مرك ّبة من ائتالف أشخاص‪ ،‬ويف‬ ‫ ‬
‫حالة التّوافق والشّ ورى ويف كنف املو ّدة وال ّرحمة‪ ،‬ليست ال ّرئاسة يف العائلة سوى تراتب ّية اعتباريّة ال تشعر بالتّسلّط‬
‫الصاع‪ ...‬يف مقابل أداء واجب حامية األرسة وتثبيت اجتامعها وصيانة وجودها من أن تفرتسه‬ ‫وال تثري التوت ّر وال ّ‬
‫عوامل التّصدع والشّ قاق‪.‬‬
‫‪ -‬يقيض واجب حامية األبناء بش ّد حبل مصلحتهم بعنق أحد الوالدين‪ ...‬وهو يف هذه الحالة‪ :‬األب‪ .‬والطّاعة‬ ‫ ‬
‫يف البيت إنّ ا هي يف املعروف والخري‪...‬‬
‫‪ -‬وأصل القيام يف اللّغة هو االنتصاب املضا ّد للجلوس واالضطجاع‪ ،‬وإنّ ا يقوم القائم لقصد عمل صعب ال‬ ‫ ‬
‫السيادة‬
‫يتأت من قعود فعندما ينتصب ال ّرجل خادما ألهله يكون للبيت ق ّواما‪ ..‬وعىل قدر القوامة أي الخدمة‪ ،‬تكون ّ‬ ‫ّ‬
‫«س ِّي ُد الْ َق ْو ِم َخا ِد ُم ُه ْم»‪.‬‬
‫وال ّرئاسة(‪ )...‬ويف الحديث َ‬
‫‪ -‬والقوامة املذكورة يف اآلية هي قوامة الرجل داخل أرسته ال غري‪ ،‬فيجوز أن تكون املرأة رئيسة رجل يف‬ ‫ ‬
‫أي عمل خارج البيت‪ .‬وإذا كانت لل ّرجل زوجة طبيبة يف مستشفى فال دخل له يف عملها الف ّني‪ ،‬وال سلطان له عىل‬ ‫ّ‬
‫وظيفتها يف مستشفاها‪) (..‬‬
‫• الوالية‪:‬‬ ‫ ‬
‫بي‬‫يستدل املانعون للمرأة من بلوغ منصب الوالية العا ّمة ومن املشاركة يف املجالس النياب ّية بحديث ال ّن ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪-‬‬ ‫ ‬
‫صىل الله عليه وسلم أنّه سأل‪َ :‬م ْن يَ ِل أَ ْم َر فَار َِس؟ « قَالُوا‪ :‬ا ْم َرأَةٌ‪ ،‬ق ََال‪َ :‬ما أَفْل ََح قَ ْو ٌم يَ ِل أَ ْم َر ُه ْم ا ْم َرأَ ٌة » ومناسبة الورود‬
‫تدل عىل أ ّن املقصود هي مملكة فارس الضعيفة – حينها‪ -‬وقد جعل مرياث عرشها لفتاة ال تدري شيئا‪ ،‬فكان ذلك‬ ‫ّ‬
‫إيذانا بأ ّن ال ّدولة كلّها إىل ذهاب‪.‬‬
‫تول اإلمامة العظمى (الخالفة) أل ّن من رشطها عندهم «الذّكورة» فيمن‬ ‫اتفق الفقهاء عىل منع املرأة من ّ‬ ‫ ‬
‫باملؤسسات‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫خاصا باألفراد بل‬ ‫يليها‪..‬والواقع أن أمر الوالية مل يعد ّ‬
‫مؤسيس يشرتك يف الحكم فيه عدد من القضاة‪ ..‬فإذا كانت‬ ‫الفردي إىل قضاء ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪ -‬فقد تح ّول القضاء من القضاء‬ ‫ ‬
‫املرأة عضوا مشاركا يف هيئة املحكمة‪ ،‬فال معنى لل ّنظر هل واليتها رشع ّية أم ال‪ ،‬ألن الوالية هنا ملؤسسة وجمع‪،‬‬
‫وليست لفرد من األفراد‪ ،‬رجالً كان أو امرأة‪.‬‬
‫خصيص يف تقنني‬ ‫مؤسسية متثّل االجتهاد الجامعي والتّ ّ‬ ‫‪ -‬واستنباط القانون ومدارسته يت ّم مبشاركة جامعيّة ّ‬ ‫ ‬
‫األحكام وصياغتها‪ .‬والقايض تبعا لذلك ليس له أن يحكم وفق اجتهاده املطلق وإنّ ا صار منفّذا للقانون الذي ق ّننته‬
‫املؤسسة الترشيع ّية‪.‬‬
‫يصح أيضا يف السلطة التّتنفيذيّة يف ال ّنظم ال ّدميقراط ّية « حيث تح ّولت‬ ‫السالفتني ّ‬ ‫السلطتني ّ‬ ‫صح يف ّ‬ ‫‪ -‬وما ّ‬ ‫ ‬
‫واملختصة يف صناعة القرار‪ ...‬فإذا شاركت املرأة يف هذه‬ ‫ّ‬ ‫املؤسسات املق ّننة واملراقَبة‬ ‫من الفرد إىل الجامعة يف إطار ّ‬
‫املؤسسات وانتخبت لرئاستها فليس من الوارد الحديث عن والية املرأة ‪ -‬يف املطلق‪ -‬باملعنى الذي ارتسم قدميا –‬ ‫ّ‬
‫بحكم الواقع‪ -‬يف أذهان الفقهاء‪.‬‬
‫قصة ملكة سبأ فأثنى عليها ألنّها‬ ‫‪ -‬وهذا الفهم‪ ،‬من جهة طبيعة الحكم ونظام ال ّدولة‪ ،‬ش ّجع عليه القرآن يف ّ‬ ‫ ‬
‫باملؤسسة الشورية‪ .‬وذ ّم فرعون‪ ،‬وهو رجل‪ ،‬النفرده بالوالية العامة‪ ،‬واستبداده بالرأي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫كانت تحكم‬
‫تول سلطة ال ّدولة‪ ،‬وإمنا العربة باألساس يف كون هذه الوالية «مؤسسة‬ ‫‪ -‬فليست العربة باألنوثة أو الذكورة ىف ّ‬ ‫ ‬
‫فردي مطلق مستب ّد»؟‬ ‫شورية منتخبة ومراقَ َبة أم هي «سلطان ّ‬
‫لضو َر ِة ك ََم قَالَ ُه ابْ ُن َع ْب ِد َّ‬
‫الس َل ِم»(‬ ‫‪ -‬ويف كتب الفقه قالوا‪َ )...( «:‬ولَ ْو اُبْتُلِي َنا ِبوِلَ يَ ِة ا ْم َرأَ ٍة ْ ِ‬
‫ال َما َم َة نَ َف َذ ُح ْك ُم َها لِ َّ ُ‬ ‫ ‬
‫نص قطعي ال تتنازعه ال ّرؤى يف املسألة وإمنا بني القول عندهم باملنع ملا كان معتادا بينهم من‬ ‫)‪ ،‬وهذا ينفي وجود ّ‬
‫حال املرأة يف عزلها عن الشّ أن العام‪.‬‬

‫االستنتاج‪:‬‬ ‫ ‬
‫‪ -‬املرأة يف اإلسالم كائن مك ّرم مثيل لل ّرجل يف الخلق ويف الحقوق والواجبات‪ ،‬وإن كان لل ّرجل عليها درجة‬ ‫ ‬
‫فذلك لرضورة مبارشة شؤون العائلة وإلزامه بحقوق األبناء حال انفصام ال ّزوج ّية‪ ،‬وهذه القوامة تكون له مبقدار ما‬
‫يخدم أهله ويكون ق ّواما عليهم‪ ،‬وهي له يف بيته‪ ،‬وداخل أرسته‪...‬‬
‫السلطة‪ ..‬وما يعرتض به عليها ناشئ عن عادة ال ّتف ّرد‬
‫تتول مناصب ّ‬‫‪ -‬أ ّما يف مسألة الوالية فللمرأة أن ّ‬ ‫ ‬
‫بالسلطة ‪...‬أ ّما يف الحكم الجامعي املؤطّر بنصوص القانون املراقب من الهيئات االجتامع ّية فإنّ القرارات فيه ال‬
‫ّ‬
‫‪29‬‬
‫تنسب للذكر وال لألنثى ألنّها قرارت جامع ّية قانون ّية شور ّية‪.‬‬
‫الوسم‪ :‬الخلق ‪.‬التكريم‪ .‬التكليف‪ .‬الحقوق‪ .‬القوامة‪ .‬الدرجة‪ .‬الوالية‪.‬‬

‫‪ .4‬نماذج من التعارف‬ ‫ ‬
‫بالسيف تقابلها حقيقة أنّه كان األقوى ح ّجة يف جداله مع األديان واألفكار فدخل فيه‬
‫شبهة انتشار اإلسالم ّ‬ ‫ ‬
‫الناس أفواجا يطلبون راحة ال ّروح وطأمنينة القلب وصفاء العقل؟ شعوب كثرية كان يكفيها التع ّرف عىل هذا اإلسالم‬
‫عرب حسن املعاملة واستقامة السلوك‪ ...‬يك يسلموا‪.‬‬
‫أ‪ .‬إسالم ثمامة بن أثال‪:‬‬ ‫ ‬
‫كان مثامة س ّيدا من سادات الياممة يقف عىل تجارتها‪ .‬أرس يف املدينة وربط إىل سارية يف املسجد النبوي‪ ،‬وكان الرسول‬
‫غي الله قلبه نحو الرغبة يف اإلسالم‪ ،‬ومح ّبة الرسول‪.‬‬ ‫يحسن إليه يف القول ث ّم أمر بإطالقه يف اليوم الثالث فأسلم وقد ّ‬
‫وحينام اعتمر أخرب املرشكني يف مكّة‪َ « :‬والَ َواللَّ ِه‪ ،‬الَ يَأْتِي ُك ْم ِم َن اليَ َم َم ِة َحبَّ ُة ِح ْنطَ ٍة‪َ ،‬حتَّى يَأْ َذ َن ِفي َها ال َّنب ُِّي صىل الله عليه‬
‫وسلم‪».‬‬
‫ب‪ .‬اإليناس بترانيم القسس‪:‬‬ ‫ ‬
‫فقد كان املسلمون يجدون يف ترانيم القساوسة ما يؤنسهم حتّى أ ّن النووي أخرب أ ّن اسم تونس راجع إىل عبارة قالها‬
‫عقبة بن نافع الفهرى فاتح املغرب إذ كان يسمع قرب معسكره أنغام القسس وهم يرتنّ ون يف اللّيل فقال هذه البقعة‬
‫تونس ‪ -‬بحذف الهمزة‪ -‬فس ّميت بذلك»‪.‬‬
‫ج‪ .‬نصرة القبطيّ‪:‬‬ ‫ ‬
‫وحادثة القبطي الذي رضبه ابن عمرو بن العاص مشهورة فقد رضب ابن عمرو بن العاص املرصي فشكاه إىل‬ ‫ ‬
‫اقتص له من ظامله وقال قولته الشهرية‪« :‬يا عمرو‪ ،‬متى استعبدتُم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم‬ ‫عمر بن الخطّاب الذي ّ‬
‫أحرا ًرا؟»‬
‫د‪ .‬جواز الهدية إلى المشرك المحارب‪:‬‬ ‫ ‬
‫عن عبد الله بن عمر قال‪«:‬جاءت رسول الله صىل الله عليه وسلم ُح ٌلل‪ ،‬فأعطى عمر منها ُحلَّة‪ ،‬فقال عمر‪:‬‬ ‫ ‬
‫قلت يف حلّة عطارد ما قلت؟» فقال رسول الله صىل الله عليه وسلم‪« :‬إين مل أَك ُْس َك َها‬ ‫يا رسول الله‪ ،‬كسوتنيها وقد َ‬
‫لتَلبِسها»‪ ،‬فكساها عمر أ ًخا له مرشكًا مبكّة‪.‬‬
‫هـ‪ .‬الدّعاء للكافر بالهداية‪:‬‬ ‫ ‬
‫فقد دعا رسول الله بالهداية لقبيلة دوس وثقيف يف حادثتني مشهورتني‪.‬‬ ‫ ‬
‫و‪ .‬تعرّف المسيحيّين على اإلسالم‪:‬‬ ‫ ‬
‫وأخبار انتقال املسيح ّيني إىل اإلسالم كثرية ترجع ملّها إىل سامحة املسلمني وعظمة سلوكهم‪.‬‬ ‫ ‬
‫ز‪ .‬االطمئنان إلى حكم المسلمين‪:‬‬ ‫ ‬
‫بالشق من سقوط بيت املقدس يف يد املسلمني فيقول‪ :‬ومن املؤكّد أ ّن‬ ‫لقد ّبي سري أرنولد موقف املسيح ّيني ّ‬ ‫ ‬
‫املسيحيّني من أهايل هذه البالد قد آثروا حكم املسلمني عىل الصليبيّني‪ .‬ويظهر أن أهايل فلسطني من املسيحيّني‪ ،‬مل ّا‬
‫بالسادة الجدد واطأمنّوا إليهم ورضوا بحكمهم‪.‬‬ ‫وقع بيت املقدس ىف أيدي املسلمني نهائيا سنة ‪1244‬م ر ّحبوا ّ‬
‫ح‪ .‬التعرف على قيم اإلسالم‪:‬‬ ‫ ‬
‫مبش دومينقاين زار‬ ‫ويذكر (أرنولد) أ ّن ركلدوس دي مونت كروسيس ‪ ،de Monte Crusis Ricoldus‬وهو ّ‬ ‫ ‬
‫الرشق يف نهاية القرن الثالث عرش‪ ،‬كان ينطلق بالثّناء عىل املسلمني الذين كان قد اشتغل بني أظهرهم‪ ،‬وكان يقول‪«:‬‬
‫الصالة‪ ،‬وأيّة‬ ‫أي إخالص يف ّ‬ ‫من ذا الذي ال يعجب إذا تأ ّمل ج ّيدا أيّة عناية فائقة بال ّدراسة ميكن أن توجد بني العرب‪ّ ،‬‬
‫وأي وقار يف أخالقهم‪ ،‬ويف معاملتهم للغرباء‪ ،‬وأيّة‬ ‫وأي تبجيل السم الله واألنبياء واألماكن املق ّدسة‪ّ ،‬‬‫رحمة بالفقري‪ّ ،‬‬
‫مو ّدة تربط بني جنسهم؟»‬
‫ط‪ .‬ال إكره في الدّين‪:‬‬ ‫ ‬
‫ومم أورده توماس أرنولد محاولة‬ ‫وقد أعجب الغرب بسامحة املسلمني وعدم إكراه غريهم عىل دينهم‪ّ ،‬‬ ‫ ‬
‫املأمون يف دعوة زعيم املجوس إىل اإلسالم فرغم رفضه الدعوة‪ ،‬أمر املأمون بحراسة موكبه حتى يصل إىل فارس‪.‬‬
‫ي‪ .‬نصارى جبل لبنان‬ ‫ ‬
‫ومن العجب أ ّن ال ّنصارى املجاورين لجبل لبنان إذا رأوا به بعض املنقطعني من املسلمني جلبوا لهم القوت وأحسنوا‬
‫‪30‬‬
‫إليهم ويقولون‪ :‬هؤالء ممن انقطع إىل الله عز وجل فتجب مشاركتهم‪.‬‬
‫ابن جبري‪ ،‬األندليس‪( ،‬ت‪614‬هـ)‪ ،‬رحلة ابن جبري‪ ،‬ص ‪.259‬‬
‫ك‪ .‬دخول اإلسالم مملكة تايالند‪:‬‬ ‫ ‬
‫السابع امليالدي عىل أيدي التّجار العرب والفرس املسلمني‪ ،‬الذين‬ ‫ظهر اإلسالم يف تايالند منذ منتصف القرن ّ‬ ‫ ‬
‫الصين ّية‪ ،‬وكان احتكاكهم املستمر مع األهايل‪ ،‬وخصوصا‬ ‫ات ّخذوا األرايض التايالندية طرقا لهم بني أرخبيل املاليو والهند ّ‬
‫التّجار منهم قد م ّهد السبيل لظهور الدعوة بينهم‪ ،‬وكانت سالمة ال ّدعوة بينهم وبعدها عن التّد ّخل يف الشّ ؤون‬
‫السليم هي التي جعلت‬ ‫السياسيّة قد ضمن لها االستمرار يف الحركة‪ ،‬كام أ ّن التّعاليم املنسجمة مع التفكري اإلنساين ّ‬ ‫ّ‬
‫ال ّديانة املحل ّية (البوذيّة وغريها) ال تجد ح ّجة قويّة معقولة لص ّد ال ّدعوة اإلسالم ّية عن مواصلة سريها إىل األمام‪ ...‬ويف‬
‫والصوم‪.‬‬
‫كالصالة ّ‬
‫تلك املرحلة كان ال ّداخلون يف اإلسالم يكتفون بإعالن الشّ هادتني وأداء أركان اإلسالم‪ّ ،‬‬
‫االستنتاج‪:‬‬ ‫ ‬
‫تربز هذه ال ّنامج اقتدار اإلسالم عىل ال ّنفاذ إىل قلوب املخالفني يف لني ورفق‪ ،‬ويعود ذلك أساسا إىل ارتكاز‬ ‫ ‬
‫ييس عىل املتع ّرف عليه سبيل‬ ‫مم ّ‬
‫السليم‪ ،‬وانسجام تعاليمه مع الفطرة البرشيّة‪ّ ،‬‬ ‫عقائده عىل بداهات العقل ّ‬
‫اعتناقه وارتضائه دينا ورشعة ومنهاج حياة‪.‬‬
‫الوسم‪ :‬مثامة بن أثال – ترانيم القسس‪ -‬املرشك‪ -‬صالح الدين‪ -‬يزدانبخت‪ -‬النصارى‪ -‬تايالند‪...‬‬ ‫ ‬

‫‪ .5‬الرفق‬
‫مم فسد من خلق الجاهل ّية وميلؤهم مبكارم األخالق اإلنسان ّية‬ ‫بي صىل الله عليه وسلم يفرغ أصحابه ّ‬ ‫كان ال ّن ّ‬ ‫ ‬
‫واآلداب اإلسالميّة‪ ،‬وكانت الهجرة إىل املدينة ومشاهدة األنوار املح ّمديّة سبيال لتم ّدن العر ّيب ورقيّه الحضاري‪ ...‬لكن‬
‫من شأن األخالق أن تذهب‪ ،‬ومن حال سلوك أهلها أن ينحرف‪ ...‬وإذا ك ّنا نعيش أزمة قيم وتر ّدي خلق‪ ...‬فهل ميكن‬
‫استعادة مدن ّيتنا بالعودة إىل حاضنة ال ّدين وما حفلت به نصوصه من توجيهات خلق ّية وإسوة حسنة؟‬
‫الشيف ما يكفل لنا بناء شخص ّية مدن ّية وييرس ضبط‬ ‫إ ّن يف تت ّبع معاين النامذج اآلتية من نصوص الحديث ّ‬ ‫ ‬
‫منوذج ملواطنة راقية‪.‬‬
‫أ‪ .‬الرفق‪:‬‬ ‫ ‬
‫السا ُم َعلَ ْي َك‪ ،‬فَق ََال ال َّنب ُِّي صىل الله عليه‬ ‫َع ْن عائشة أ َّن الْ َي ُهو َد َد َخلُوا َع َل ال َّنب ِِّي صىل الله عليه وسلم‪ ،‬فَقَالُوا‪َّ :‬‬ ‫َ‬ ‫ ‬
‫ول الل ِه صىل الله عليه وسلم‪ «:‬يَا َعائِشَ ُة‪َ ،‬م ْه ال تكوين‬ ‫السا ُم‪ ،‬فَق ََال َر ُس ُ‬‫وسلم‪«:‬السا ُم َعلَ ْي ُك ْم»‪ ،‬فَقَال َْت َعائِشَ ُة‪ :‬بل َعلَ ْي ُك ْم ّ‬ ‫َّ‬
‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫ول الله أ َما َسم ْع َت َما قَالُوا؟ ق ََال‪ «:‬أ َو َما َسم ْعت َما َر َددْتُ َعلَيْ ِه ْم؟ يَا َعائشَ ة‪ ،‬لَ ْم يَ ْد ُخلِ ال ِّرف ُْق ِف‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫فاحشة»‪ ،‬فَقَال َْت‪ :‬يَا َر ُس َ‬
‫شء إِ َّل شَ انَ ُه»‪.‬‬‫ٍ‬ ‫ش ٍء إِ َّل زَانَ ُه‪َ ،‬ولَ ْم يُ ْن َز ْع ِم ْن َ ْ‬
‫َْ‬
‫ب‪ .‬السالم‪:‬‬ ‫ ‬
‫ول الل ِه صىل الله عليه وسلم‪«:‬لَ تَ ْد ُخلُو َن الْ َج َّن َة َحتَّى تُ ْؤ ِم ُنوا‪َ ،‬ولَ تُ ْؤ ِم ُنوا َحتَّى‬ ‫َع ْن أَ ِب ُه َريْ َرةَ‪ ،‬ق ََال‪ :‬ق ََال َر ُس ُ‬ ‫ ‬
‫ش ٍء إِذَا فَ َعلْتُ ُمو ُه تَ َحابَبْتُ ْم؟ أَفْشُ وا َّ‬
‫الس َل َم بَيْ َن ُك ْم»‪.‬‬ ‫تَ َحابُّوا‪ ،‬أَ َولَ أَ ُدلُّ ُك ْم َع َل َ ْ‬
‫ات الْ ُم ْسلِم‪:‬‬‫ج‪ .‬التعاون‪ :‬قَضَ ا ُء َحا َج ِ‬ ‫ ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َع ْن أن َِس بْنِ َمالِ ٍك‪ ،‬أ َّن ال َّنب َِّي صىل الله عليه وسلم ق ََال‪«:‬الْ َخل ُْق كُلُّ ُه ْم ِع َي ُال الل ِه‪ ،‬فَأ َح ُّب الْ َخلْقِ إِ َل الل ِه أنْ َف ُع ُه ْم لِ ِع َيالِ ِه»‪.‬‬ ‫َ‬
‫د‪ .‬األلفة‪:‬‬ ‫ ‬
‫اس َويَ ْص ِ ُب َع َل أَذَا ُه ْم أَفْضَ ُل‬ ‫ول اللَّ ِه صىل الله عليه وسلم‪«:‬الْ ُم ْؤ ِم ُن ال َِّذي يُ َع ِ ُ‬
‫اش ال َّن َ‬ ‫َعنِ ابْنِ ُع َم َر ق ََال‪ :‬ق ََال َر ُس ُ‬ ‫ ‬
‫َ‬
‫اس َولَ يَ ْص ِ ُب َع َل أذَا ُه ْم»‪.‬‬ ‫اش ال َّن َ‬‫ِم َن الْ ُم ْؤ ِمنِ ال َِّذي لَ يُ َع ِ ُ‬
‫هـ‪ .‬اإلصالح بين الناس‪:‬‬ ‫ ‬
‫الص َدقَ ِة‪ ،‬قَالُوا‪:‬‬ ‫الصالَ ِة َو َّ‬ ‫ول الل ِه صىل الله عليه وسلم‪ :‬أَالَ أُ ْخ ِ ُبكُ ْم ِبأَفْضَ َل ِم ْن َد َر َج ِة ِّ‬
‫الص َي ِام َو َّ‬ ‫َع ْن أَ ِب ال َّد ْر َدا ِء‪ ،‬ق ََال‪ :‬ق ََال َر ُس ُ‬
‫َات البَ ْ ِي ِه َي ال َحالِ َق ُة»‪.‬‬
‫َات البَ ْيِ‪ ،‬فَ ِإ َّن ف ََسا َد ذ ِ‬ ‫بَ َل‪ ،‬ق ََال‪َ :‬صال َُح ذ ِ‬
‫و‪ .‬صون األعراض والحرمات‪:‬‬ ‫ ‬
‫ول اللَّ ِه صىل الله عليه وسلم ق ََال‪«:‬لَ ْي َس ِم َّنا َم ْن أَف َْس َد ا ْم َرأَ ًة َع َل َز ْو ِج َها»‪.‬‬
‫اس أَ َّن َر ُس َ‬
‫َعنِ ابْنِ َع َّب ٍ‬
‫ز‪ .‬األخوّة في اهلل‪:‬‬ ‫ ‬
‫وعن أَن َُس أَ َّن ال َّنب َِّي صىل الله عليه وسلم ق ََال‪«:‬لَ تَبَاغَضُ وا‪َ ،‬ولَ تَ َح َاس ُدوا‪َ ،‬ولَ تَ َدابَ ُروا‪َ ،‬وكُونُوا ِعبَا َد الل ِه إِ ْخ َوانًا‪َ ،‬ولَ يَ ِح ُّل‬
‫‪31‬‬
‫لِ ُم ْسلِ ٍم أَ ْن يَ ْه ُج َر أَ َخا ُه فَ ْو َق �ث َ َل ِث لَ َيا ٍل‪ ،‬يَلْتَ ِق َيانِ فَ َي ُص ُّد َهذَا َويَ ُص ُّد َهذَا‪َ ،‬و َخ ْ ُي ُه َم ال َِّذي يَ ْب َدأُ ب َّ‬
‫ِالس َل ِم»‪.‬‬
‫مسلم وَاحت َقا ِرهِ‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫يم ُظ ْل ِم ا ْل‬‫ح‪ .‬تح ِر ِ‬ ‫ ‬
‫املسلم؛ ال يَظْلِ ُم ُه‪،‬‬
‫ِ‬ ‫قال‪«:‬املسلم أخو‬ ‫رسول الل ِه صىل الله عليه وسلم َ‬ ‫ريض الل ُه عنهام أ َّن َ‬ ‫عبد الل ِه بن عم َر َ‬ ‫عن ِ‬ ‫ ‬
‫ِ‬
‫كربات‬ ‫مسلم كُرب ًة؛ ف َّرج الله عن ُه كُ ْرب ًة ِمن‬ ‫وال يُ ْسلِ ُم ُه‪ ،‬و َمن كا َن يف حا َج ِة أخي ِه؛ كان الله يف حا َج ِته‪ ،‬و َمن فَ َّرج عن ٍ‬
‫يوم القيا َم ِة‪ ،‬و َمن َس َ َت مسلامً؛ سرته الله يو َم القيا َم ِة»‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ط‪ .‬صون ال ّلسان عن الفحش واألذى‪:‬‬ ‫ ‬
‫ُول‪«:‬الظُّلْ ُم ظُل َُمتٌ يَ ْو َم الْ ِقيَا َم ِة‪،‬‬ ‫ول الل ِه صىل الله عليه وسلم يَق ُ‬ ‫َع ْن َعبْ ِد الل ِه بْنِ َع ْمرِو ق ََال‪َ :‬س ِم ْع ُت َر ُس َ‬ ‫ ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫َوإِيَّاكُ ْم َوالْ ُف ْح َش‪ ،‬فَ ِإ َّن الل َه لَ يُح ُّب الْ ُف ْح َش‪َ ،‬و َل التَّ َف ُّح َش‪َ ،‬وإِيَّاكُ ْم والشُّ َّح‪ ،‬فَ ِإ َّن الشُّ َّح أ ْهل ََك َم ْن كَا َن قَ ْبلَ ُك ْم‪ ،‬أ َم َر ُه ْم‬
‫ول الل ِه‪ ،‬أَ ُّي الْ ِ ْس َل ِم‬ ‫بِالْق َِطي َع ِة‪ ،‬فَ َقطَ ُعوا‪َ ،‬وأَ َم َر ُه ْم بِالْ ُب ْخلِ ‪ ،‬فَ َب ِخلُوا‪َ ،‬وأَ َم َر ُه ْم بِالْ ُف ُجورِ‪ ،‬فَ َف َج ُروا» ق ََال‪ :‬فَقَا َم َر ُج ٌل فَق ََال‪ :‬يَا َر ُس َ‬
‫أَفْضَ ُل؟ ق ََال‪«:‬أَ ْن يَ ْسلَ َم الْ ُم ْسلِ ُمو َن ِم ْن لِ َسانِ َك َويَ ِد َك»‪.‬‬
‫ي‪ .‬الكذب‪:‬‬ ‫ ‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫َع ْن َص ْف َوا َن بْنِ ُسلَ ْي ٍم؛ أنَّ ُه ق َيل لِ َر ُسو ِل الل ِه صىل الله عليه وسلم‪ :‬أيَكُو ُن الْ ُم ْؤ ِم ُن َج َباناً؟ فَق ََال‪«:‬نَ َع ْم‪ .‬فَ ِق َيل لَ ُه‪:‬‬ ‫ ‬
‫َ‬
‫أيَكُو ُن الْ ُم ْؤ ِم ُن بَ ِخيالً؟ فَق ََال‪« :‬نَ َع ْم»‪ .‬فَ ِق َيل لَ ُه‪ :‬أيَكُو ُن الْ ُم ْؤ ِم ُن كَذَّاباً ؟ فَق ََال‪« :‬الَ»‪.‬‬ ‫َ‬
‫ك‪ .‬عمارة األرض‪:‬‬ ‫ ‬
‫ول الل ِه صىل الله عليه وسلم‪َ «:‬ما ِم ْن ُم ْسلِ ٍم يَ ْز َر ُع َز ْر ًعا‪ ،‬أَ ْو يَ ْغر ُِس َغ ْر ًسا‪ ،‬فَيَأْك ُُل ِم ْن ُه ط ْ ٌَي‪،‬‬ ‫َع ْن أَن ٍَس ق ََال‪ :‬ق ََال َر ُس ُ‬ ‫ ‬
‫َ‬
‫أ ْو إِن َْسانٌ‪ ،‬أ ْو بَهِي َم ٌة إِ َّل كَا َن لَ ُه ِب ِه َص َدقَ ٌة»‪.‬‬ ‫َ‬
‫ل‪ .‬العمل وإتقانه‪:‬‬ ‫ ‬
‫َع ْن َعائِشَ َة‪ ،‬أَ َّن ال َّنب َِّي صىل الله عليه وسلم ق ََال‪ «:‬إِ َّن الل َه تَ َبا َر َك َوتَ َع َال يُ ِح ُّب إِذَا َع ِم َل أَ َح ُدكُ ْم َع َم ًل أَ ْن يُتْ ِق َن ُه»‪.‬‬ ‫ ‬
‫م‪ .‬آداب الطريق‪:‬‬ ‫ ‬
‫ول‬‫َات‪ ،‬قَالُوا‪ :‬يَا َر ُس َ‬ ‫ُوس ِف الطُّ ُرق ِ‬ ‫ول اللَّ ِه صىل الله عليه وسلم ‪«:‬إِيَّاكُ ْم َوالْ ُجل َ‬ ‫َ‬
‫َع ْن أ ِب َس ِع ٍيد الْ ُخ ْدر ِِّي ق ََال‪ :‬ق ََال َر ُس ُ‬ ‫ ‬
‫ول اللَّ ِه‪,‬‬ ‫ِيق َح َّق ُه‪ ،‬قَالُوا‪ :‬يَا َر ُس َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اللَّ ِه‪َ ,‬ما لَ َنا ِم ْن َم َجالِ ِس َنا بُ ٌّد نَتَ َح َّدثُ ِفي َها‪ ،‬ق ََال‪ :‬فَأ َّما إِذَا أبَ ْيتُ ْم إِال الْ َم ْجلِ َس‪ ,‬فَأ ْعطُوا الطَّر َ‬
‫الم‪َ ،‬واألَ ْم ُر بِالْ َم ْع ُر ِ‬
‫وف‪َ ،‬وال َّن ْه ُي َعنِ الْ ُم ْن َكرِ‪.‬‬ ‫ص‪َ ،‬وك َُّف األَذَى‪َ ،‬و َر ُّد َّ‬
‫الس ِ‬ ‫ف ََم َح ُّق الطَّرِيقِ ؟ ق ََال‪ :‬غ َُّض الْ َب َ ِ‬
‫ن‪ .‬احترام ذي الشيبة والرفق بالصغير وإجالل أهل العلم‪:‬‬ ‫ ‬
‫ول الل ِه صىل الله عليه وسلم ق ََال‪ «:‬لَ ْي َس ِم ْن أُ َّم ِتي َم ْن لَ ْم يُج َِّل كَ ِب َرينَا‪َ ،‬ويَ ْر َح ْم َص ِغ َرينَا‪،‬‬
‫الصا ِم ِت‪ ،‬أَ َّن َر ُس َ‬
‫َع ْن ُع َبا َد َة بْنِ َّ‬
‫ول الل ِه صىل الله عليه وسلم‪ «:‬إِ َّن ِم ْن إِ ْج َل ِل الل ِه إِكْ َرا َم ِذي الشَّ ْي َب ِة الْ ُم ْسلِ ِم»‪.‬‬
‫َويَ ْعر ِْف لِ َعالِ ِم َنا»‪َ .‬وق ََال َر ُس ُ‬

‫االستنتاج‪:‬‬ ‫ ‬
‫تشتمل هذه النامذج الحديث ّية عىل قسط وفري من األخالق اإلسالم ّية املؤطرة لحركة املسلم يف معاشه‬ ‫ ‬
‫والضّ ابطة لتفاعله مع غريه ومحيطه‪ ...‬ويحتاج متثّلها يف الواقع إىل اقتناع بها وتدريب عليها‪.‬‬
‫السالم‪ -‬ال ّتعاون‪ -‬الكذب‪ -‬الفحش‪ -‬األرض‪ -‬العمل‪...‬‬‫الوسم‪ :‬ال ّرفق ‪ّ -‬‬ ‫ ‬

‫‪ .6‬الجهاد منزَّها عن العدوان‬ ‫ ‬


‫إن كل مضطلع مبه َّمة إرشاد ديني‪ ،‬وبخاصة اإلمام الخطيب‪ ،‬يف حاجة أكيدة إىل وضوح أهم القضايا العقدية‬ ‫ ‬
‫والقيم واألحكام التي توجه حياة املسلم وتنظم عالقته بالله واملجتمع والكون‪.‬‬
‫وتزداد أهمية هذا الوضوح كلام رمنا صياغ َة خطاب ديني رشيد يجمع بني الوفاء ملرجعيات الدين الخالص‬ ‫ ‬
‫والقدرة عىل مخاطبة الناس بأسلوب معارص وحكيم يؤدي يف ذات الوقت إىل إقناعهم ودحض مقوالت الغلو والتشدد‬
‫ولعل من أه ّم هذه القضايا قض ّية االجتهاد التي فهمت عىل أنّها االعتداء‬
‫التي تسببت يف شتى رضوب العنف والدمار‪ّ .‬‬
‫املجاين عىل الناس‪.‬‬
‫أ‪ .‬إشكالية الجهاد‬ ‫ ‬
‫لقد تح ّول الجهاد الذي وصفه الرسول ﷺ بـ «ذروة سنام اإلسالم» اليوم إىل باب للشبهة وسبب لالتهام‪ ،‬ألن‬ ‫ ‬
‫بعض املنتسبني إىل اإلسالم ممن يصفون أنفسهم «بالجهاديني» قد اتخذوه عنوانا القرتاف أبشع الفظائع يف حق البرش‬
‫وترويجها بالصوت والصورة‪ .‬وهو ما يفرض التصدي لهذا االنحراف التصوري والسلويك‪ ،‬وفق منهج علمي صارم رصني‪.‬‬
‫‪32‬‬
‫ب‪ .‬الجهاد يشمل الحياة‬ ‫ ‬
‫إن أول ما ينبغي تقريره بهذا الشأن أن معنى الجهاد ال ينحرص يف القتال‪ ،‬بل يرتبط بكل مناحي حياة املسلم‪.‬‬ ‫ ‬
‫أما القتال فهو فرع منه محدود حجام و ُحكام بحدود رشعية‪.‬‬
‫وميكن مقاربة البعد الرتبوي للجهاد مثال بتدبر املوضوع املحوري لسورة العنكبوت التي ورد معناه األسايس‬ ‫ ‬
‫يف فواتحها مقرتنا بالحث عىل تح ّمل تبعات الفتنة‪ .‬فكان يف ذلك املقام داال عىل كامل اإلميان وصدقه‪ .‬قال تعاىل‪:‬‬
‫اس أَنْ ُي ْ َتكُوا أَنْ َيقُولُوا آ َم َّنا َو ُه ْم َل ُي ْف َت ُنونَ (‪َ )2‬ولَ َقدْ َف َت َّنا الَّ ِذي َن ِم ْن َق ْبلِه ِْم َفلَ َي ْعلَ َم َّن اللَّهُ الَّ ِذي َن‬
‫﴿امل (‪ )1‬أَ َح ِس َب ال َّن ُ‬
‫َصدَ ُقوا َولَ َي ْعلَ َم َّن الْكَا ِذ ِب َني﴾ [العنكبوت‪ .]3 - 1 :‬وقد ورد يف الحديث النبوي أن‪« :‬أفضل جهاد أن يجاهد اإلنسان‬
‫نفسه وهواه» ‪.‬‬
‫وميكن مقاربة الجهاد يف مجال التبليغ والتعليم بالتأمل يف قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَ ْو ِش ْئ َنا لَ َب َع ْث َنا ِفي ك ُِّل َق ْر َي ٍة نَ ِذي ًرا‬ ‫ ‬
‫(‪ )51‬ف ََل ت ُِط ِع الْكَا ِفرِي َن َو َجا ِهدْ ُه ْم ِب ِه جِ َها ًدا كَبِي ًرا﴾ [الفرقان‪ ،]52 ،51 :‬والتأمل يف حديث الرسول ﷺ‪« :‬من جاء‬
‫مسجدي هذا مل يأته إال لخري يتعلمه أو يعلّمه فهو مبنزلة املجاهدين يف سبيل الله‪ ،‬ومن جاءه لغري ذلك فهو مبنزلة‬
‫الرجل ينظر إىل متاع غريه» ‪.‬‬
‫وميكن مقاربة الجهاد يف العمل وكسب املعاش بالتأمل يف قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وآ َخ ُرونَ َيضْ ِر ُبونَ ِفي ْالَ ْر ِض َي ْب َتغُونَ‬ ‫ ‬
‫ِ‬
‫واملكتسبني‬ ‫ِم ْن فَضْ لِ اللَّ ِه َوآ َخ ُرونَ ُيقَاتِلُونَ ِفي َسبِيلِ اللَّه﴾ [املزمل‪ ، ]20 :‬حيث َس ّوى الل ُه تعاىل بني درجة املجاهدين‬
‫َ‬
‫املال الحالل‪.‬‬
‫ج‪ .‬القتال فرع محدود من الجهاد‬ ‫ ‬
‫إن اإلذن بالقتال قد ورد يف القرآن الكريم تحت عنوان الدفاع‪ .‬قال تعاىل‪﴿ :‬إِنَّ اللَّهَ ُيدَ ا ِف ُع َع ِن الَّ ِذي َن آ َم ُنوا إِنَّ‬ ‫ ‬
‫َص ِه ْم لَ َق ِدي ٌر﴾ [الحج‪]38-39 :‬‬ ‫اللَّهَ َل ُي ِح ُّب ك َُّل َخ َّوانٍ كَفُو ٍر (‪ )38‬أُ ِذنَ لِلَّ ِذي َن ُيقَاتَلُونَ ِبأَنَّ ُه ْم ظُلِ ُموا َوإِنَّ اللَّهَ َع َل ن ْ ِ‬
‫ويرى الشيخ محمد الطاهر بن عاشور أن آية «أ ِذن للذين يقاتَلون بأنهم ظلِموا‪ »..‬جاءت يف مقام لغوي يدل عىل أن‬
‫القتال املأذون به واحد من أوجه دفاع املسلمني عن أنفسهم يف حال وقوع العدوان عليهم‪.‬‬
‫يؤكد هذا املعنى قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬و َقاتِلُوا ِفي َسبِيلِ اللَّ ِه الَّ ِذي َن ُيقَاتِلُونَك ُْم َو َل تَ ْعتَدُ وا إِنَّ اللَّهَ َل ُي ِح ُّب‬ ‫ ‬
‫الْ ُم ْع َت ِدي َن﴾ [البقرة‪ .]190 :‬وهي آية تفيد أيضا أن القتال املرشوع هو الذي يكون ضد َمن يبارش العدوان عىل‬
‫املسلمني‪ ،‬فتجب مقاتلته دون سواه ممن مل يرفع سالحا ضدهم‪ .‬وقد تضمنت اآلية تحريم العدوان بنهي رصيح يف‬
‫يجل الطابع اإلنساين ألخالق الحرب يف اإلسالم‪.‬‬ ‫آخرها‪ ،‬مبا ّ‬
‫لكن ما الذي س ّوغ لبعض املسلمني مخالفة هذا الفهم الرشيد والقول مبا يسمى «جهاد الطلب» الذي‬ ‫ ‬
‫استباحوا به سفك الدماء املعصومة تحت عنوان مقدس؟‬
‫د‪ .‬مراجع استدالل‬ ‫ ‬
‫إن الجواب عىل هذا السؤال يقتيض مراجعة الرسدية التأويلية ملا سمي بـ «آية السيف» يف ضوء املرجعية‬ ‫ ‬
‫املتمسكة بنصوص القرآن والسنة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالمية‬
‫إن هذه النصوص تتضمن مراجع استدالل أساسية تساعد عىل مقاربة سليمة ملوضوع الجهاد يف بعده القتايل‪.‬‬ ‫ ‬
‫وهي مراجع اجتهدنا أن نجملها يف عرشة التالية‪:‬‬
‫َ‬
‫‪ 1‬ـ اتصاف رسالة اإلسالم بالرحمة‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬أ ْم ًرا ِم ْن ِع ْن ِدنَا إِنَّا كُ َّنا ُم ْر ِسلِي َن (‪َ )5‬ر ْح َم ًة ِم ْن َربِّكَ إِنَّهُ ُه َو‬ ‫ ‬
‫يم﴾ [الدخان‪.]6 ،5 :‬‬ ‫يع الْ َعلِ ُ‬
‫الس ِم ُ‬
‫َّ‬
‫‪ 2‬ـ إثبات كرامة اإلنسان‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَ َقدْ كَ َّر ْم َنا َب ِني آ َد َم﴾ [اإلرساء‪]70 :‬‬ ‫ ‬
‫اس َج ِمي ًعا﴾ [املائدة‪.]32 :‬‬ ‫‪ 3‬ـ قدسية الحق يف الحياة‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬و َم ْن أَ ْح َيا َها َفكَأَنَّ َا أَ ْح َيا ال َّن َ‬ ‫ ‬
‫ين﴾ [البقرة‪.]256 :‬‬ ‫﴿ل إِكْ َرا َه ِفي الدِّ ِ‬
‫‪ 4‬ـ منع اإلكراه‪ ،‬قال تعاىل‪َ :‬‬ ‫ ‬
‫‪ 5‬ـ احرتام حرية اإلنسان‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ف َم ْن شَ ا َء َفلْ ُي ْؤ ِم ْن َو َم ْن شَ ا َء َفلْ َيكْ ُف ْر﴾ [الكهف‪.]29 :‬‬ ‫ ‬
‫ات﴾‬‫‪ 6‬ـ أصالة التعدد داخل األمة‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ف ِم ْن ُه ْم ظَالِ ٌم لِ َنف ِْس ِه َو ِم ْن ُه ْم ُم ْق َت ِصدٌ َو ِم ْن ُه ْم َساب ٌِق بِالْ َخ ْي َر ِ‬ ‫ ‬
‫[فاطر‪.]32 :‬‬
‫‪ 7‬ـ الحق يف االختالف بني البرش‪ ،‬قال تعاىل‪َ ...﴿ :‬و َل يَ َزالُونَ ُم ْخ َتلِ ِفي َن (‪ )118‬إِ َّل َم ْن َر ِح َم َربُّكَ َولِ َذلِكَ‬ ‫ ‬
‫َخلَ َق ُه ْم﴾ [هود‪.]119 ،118 :‬‬
‫‪ 8‬ـ النهي عن االحرتاب البيني قال عليه السالم‪« :‬ال ترجعوا بعدي كفارا يرضب بعضكم رقاب بعض»‪.‬‬ ‫ ‬
‫‪ 9‬ـ تأسيس العالقات اإلنسانية عىل التعارف‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬و َج َعلْ َناك ُْم شُ ُعوبًا َو َق َبائِ َل لِ َت َعا َرفُوا﴾ [الحجرات‪.]13 :‬‬ ‫ ‬
‫‪33‬‬
‫‪ 10‬ـ واجب الجنوح إلى السلم‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬وإِنْ َج َن ُحوا لِ َّ‬
‫لسل ِْم فَا ْج َن ْح لَ َها﴾ [األنفال‪.]61 :‬‬ ‫ ‬
‫هـ‪ .‬نقد تأويلية ما يسمي «آية السيف»‬ ‫ ‬
‫تبي معنى الجهاد الصحيح‪ ،‬فإن فريقا من املفرسين والفقهاء قد‬ ‫ورغم هذه املراجع والنصوص املحكمة التي ّ‬ ‫ ‬
‫جنحوا منذ القديم إىل تأويل خاطئ إلحدى آيات القرآن الكريم‪ ،‬وانحرفوا مبفهوم الجهاد عن حقيقته ومقاصده‪.‬‬
‫يتعلق األمر باآلية الخامسة من سورة التوبة التي ورد فيها قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬فإِ َذا ان َْسلَخَ ْالَشْ ُه ُر الْ ُح ُر ُم فَا ْق ُتلُوا الْ ُمشْ ِر ِكي َن‬
‫الص َل َة َوآتَ ُوا ال َّزكَا َة َف َخلُّوا َسبِيلَ ُه ْم‬ ‫َح ْي ُث َو َجدْ تُ ُمو ُه ْم َو ُخ ُذو ُه ْم َوا ْح ُص ُرو ُه ْم َوا ْق ُعدُ وا لَ ُه ْم ك َُّل َم ْر َص ٍد َفإِنْ تَا ُبوا َوأَ َقا ُموا َّ‬
‫يم﴾ [التوبة‪.]5 :‬‬ ‫إِنَّ اللَّهَ َغفُو ٌر َر ِح ٌ‬
‫لقد درجت بعض كتب الفقه والتفسري عىل تسمية هذه اآلية بـ «آية السيف» إبرازا ملا تضمنته من رصامة‬ ‫ ‬
‫وخصوها مبنزل ٍة عليا يف تحديد معنى بقية آيات القرآن‪ ،‬فا ّدعوا أنها ناسخة ملا يفوق املائة‬ ‫حربية يف مواجهة املرشكني‪ّ .‬‬
‫آية مام نزل قبلها من آيات الجهاد‪ .‬وهذا ادعاء ال يقوم عليه دليل قاطع من قرآن أو سنة‪ .‬إمنا استند القائلون بالنسخ‬
‫املزعوم إىل مجرد تأخر نزول اآلية زمنيا‪ ،‬وإىل رواية مقدوح فيها عن الصحايب ابن عباس (رض) وعن بعض التابعني‪،‬‬
‫منهم قتادة‪ .‬والحال أن قول الصحايب ال يجوز أن يكون دليال عىل النسخ أبدا‪ ،‬ناهيك عن قول التابعي‪.‬‬
‫فاآلية املوالية يف الرتتيب‪ ،‬أي السادسة من سورة التوبة‪ ،‬تفند هذا املنحى التأوييل السقيم من أساسه‪ ،‬إذ جاء‬ ‫ ‬
‫فيها‪َ ﴿ :‬وإِنْ أَ َحدٌ ِم َن الْ ُمشْ ِر ِكي َن ْاس َت َجا َركَ َفأَجِ ْر ُه َح َّتى َي ْس َم َع ك ََل َم اللَّ ِه ثُ َّم أَ ْبلِغْهُ َمأْ َم َنهُ َذلِكَ ِبأَنَّ ُه ْم َق ْو ٌم َل َي ْعلَ ُمونَ ﴾‬
‫[التوبة‪ ،]6 :‬مبا يفيد أنه ال معنى لوجوب مواجهة املرشكني بالقتل عىل اإلطالق‪ ،‬وإال ملا جازت الدعوة إىل إيواء املرشك‬
‫وحاميته‪.‬‬
‫هذا ما يؤكد أن كل آيات الجهاد الواردة يف القرآن الكريم محكمة غري منسوخة‪ ،‬وأن كل آية ينبغي أن تف َهم‬ ‫ ‬
‫يف سياقها املخصوص‪.‬‬

‫خاتمة‬ ‫ ‬
‫إن الجهاد يف وجهه القتايل إمنا هو مبدأ دفاعي رشعه اإلسالم حامية لكيان املجتمع وأمنه‪ ،‬وجعله محكوما‬ ‫ ‬
‫برشوط وأحكام منها أن يكون تحت راية الدولة‪ ،‬حتى ال يكون سببا يف التنازع واالحرتاب البيني أو العدوان عىل‬
‫الغري‪ .‬وبهذا املعنى تكون وزارة الدفاع يف أي دولة مسلمة هي املخولة الوحيدة إلدارة الشأن الجهادي دون سواها‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫فن الخطابة‬
‫في كيفية بناء الخطبة واإلقناع‬

‫التوطئة‬ ‫ ‬
‫• نروم يف هذه الورقة أن نحقّق األهداف التالية‪:‬‬ ‫ ‬
‫– تقديم تعريفات لجملة من املفاهيم واملصطلحات التي تحتاج إىل توضيح‬ ‫ ‬
‫– بيان كيف ّية بناء الخطبة بناء يحقّق لها أهدافها‬ ‫ ‬
‫– توضيح أنواع الحجاج ومراتب االستفادة منها‬ ‫ ‬
‫• يقوم عملنا منهجيّا عىل‪:‬‬ ‫ ‬
‫– تقسيم دقيق ملراحل بناء الخطبة من قبل تحديد موضوعها إىل كيف ّية إلقائها‬ ‫ ‬
‫– عرض األفكار مخترصة مركّزة دون إحاالت كثيفة قد تفسد استيعاب املضمون‬ ‫ ‬
‫نعني بإنتاج الخطبة الكيف ّية التي بها تتحقّق الخطبة وقد ضبطت بـ‪ 3‬مراحل هي اإليجاد‪ ،‬والرتتيب‪،‬‬ ‫ ‬
‫والتعبري شفويّا كان أو كتاب ّيا‪.‬‬

‫أ‪ .‬اإليجاد‬ ‫ ‬
‫• تعريف اإليجاد‪:‬‬ ‫ ‬
‫– اإليجاد هو القدرة عىل بلورة األفكار بشأن موضوع‪( ،‬أمثلة‪ ،‬حجج‪)...‬‬ ‫ ‬
‫– يتعلّق اإليجاد مبا لنا من طاقة خالّقة‪ ،‬ومن ثقافة واسعة واستيعاب دقيق مله ّمتنا وملا نريد قوله‪.‬‬ ‫ ‬
‫– وميكن تقسيم اإليجاد إىل ما يتعلّق مبا ّدة أو موضوع وما يتعلّق بأطروحة‪:‬‬ ‫ ‬
‫• املا ّدة أو املوضوع‪:‬‬ ‫ ‬
‫‪ .01‬ما يتعلّق مبا ّدة أو موضوع عا ّم وهو ما ميكن أن يتناوله بالدرس كل مشتغل بالعلم كأن تكون القض ّية‬ ‫ ‬
‫اجتامع ّية (األرسة‪ ،‬العالقات يف الشارع‪ ،‬عالقات الصداقة والزمالة‪ )...‬أو أن تكون القض ّية تربويّة (الشباب‪ ،‬الدروس‬
‫الخصوصيّة‪ ،‬أهميّة التعليم‪ )...‬أو أن تكون القضيّة ص ّحيّة (األمراض‪ ،‬املخ ّدرات‪ ،‬الص ّحة النفسيّة‪)...‬‬
‫خاص وهو ما ال ميكن أن يتناوله بالدرس إال الخطيب كأن تكون القض ّية‬ ‫‪ .02‬ما يتعلّق مبا ّدة أو موضوع ّ‬ ‫ ‬
‫(الحج‪ ،‬الصالة‪ ،‬قضايا التفسري‪ )...‬أو أن تكون القض ّية‬
‫ّ‬ ‫وعظ ّية (االبتالء‪ ،‬السعادة‪ ،‬الرضا بالقضاء‪ )...‬أو أن تكون تعليم ّية‬
‫مم يحدث‪ ،‬تدبّر القرآن‪ ،‬تهذيب النفس‪)...‬‬ ‫اعتباريّة (العربة ّ‬
‫• األطروحة‪:‬‬ ‫ ‬
‫خاصة‪ ،‬وهي فكرة أساس ّية أو فرع ّية‬‫‪ -‬واألطروحة جزء من املا ّدة أو املوضوع سواء كانت ما ّدة القول عا ّمة أو ّ‬ ‫ ‬
‫يطرحها الخطيب عىل سامعيه‪.‬‬
‫‪ -‬وتستدعي األطروحة نشاطا فكريّا يقوم به الخطيب وسامعوه يف وقت واحد عرضا واستيعابا‪.‬‬ ‫ ‬
‫• رشوط اإليجاد‪:‬‬ ‫ ‬
‫‪ -‬الرشط هو ما يتوقف عليه وجود اليشء‪ ،‬وليس جزءا ً منه‪ ،‬من ذلك رشوط الصالة التي منها الطهارة (يف‬ ‫ ‬
‫الثوب واملكان‪ )...‬والطهارة ليست من الصالة‪.‬‬
‫‪ -‬وترتبط رشوط اإليجاد مبتلقي الخطبة ومبناسبتها ومبقامها‪.‬‬ ‫ ‬
‫• املتلقّي‬ ‫ ‬
‫محل اهتامم الخطيب وهدف كالمه‪.‬‬ ‫‪ -‬املتلقّي أو السامع هو ّ‬ ‫ ‬

‫‪35‬‬
‫الشاب ومنهم الشيخ‪...‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬واملتلقّي أنواع فمنهم العامل مبوضوع الخطبة ومنهم غري ذلك ومنهم‬ ‫ ‬
‫• املناسبة‬ ‫ ‬
‫املناسبة هي موافقة الكالم للظرف االجتامعي العام الذي مي ّر بها املتلقّي‪ .‬وتكون املناسبة بنوع املعاين املؤكّد‬ ‫ ‬
‫ولكل موضوع أسلوبه وهو ما يرتبط باملقام‪.‬‬ ‫ولكل مناسبة مواضيعها ّ‬ ‫عليها وبنوع األلفاظ واألساليب املوظّفة‪ّ .‬‬
‫• املقام‬ ‫ ‬
‫يحف بعمل ّية الكالم كمكان الخطبة وزمانها وأحوال سامعيها‪ ...‬فهو مجموع الرشوط االجتامع ّية‬ ‫كل ما ّ‬ ‫‪ -‬هو ّ‬ ‫ ‬
‫والثقافيّة التي يتح ّدد بها خطاب ما‪ .‬ومجموع املعطيات املشرتكة ألطراف الخطاب حول حالتهم الثقافيّة والنفسيّة‪.‬‬
‫‪ -‬ويوجب املقام عىل الخطيب لباسا مخصوصا (تعارف عليه أن يكون زيتون ّيا)‪ .‬ولغة مدروسة بعناية وتنويعا‬ ‫ ‬
‫يف طرق بسط أطروحته‪...‬‬
‫• الحجاج‬ ‫ ‬
‫‪ -‬الحجاج عمليّة ذهنيّة تقوم عىل توفري مجموعة من الرباهني لدعم أطروحة معيّنة أو دحضها‪.‬‬ ‫ ‬
‫‪ -‬وتكمن قيمة الحجاج يف قدرة صاحبه عىل بنائه وترتيب براهينه وفق الغاية التي يريد الوصول إليها‬ ‫ ‬
‫األقل املسار االستقرايئ واملسار التفسريي‬ ‫‪ -‬وعمل ّية بناء الحجاج تس ّمى مسارا حجاج ّيا وهي ثالثة أنواع عىل ّ‬ ‫ ‬
‫واملسار االستنتاجي‪ .‬وميكن للخطيب أن يكتفي مبسار واحد من هذه املسارات الحجاج ّية وميكنه أن يوظّفها جميعا‪.‬‬
‫• املسار االستقرايئ‪:‬‬ ‫ ‬
‫يهت ّم الخطيب فيه بالبحث عن براهني فكرته باستقراء الظواهر أو األحداث التاريخ ّية ليستخرج أمثلة دقيقة‬ ‫ ‬
‫تربهن عىل ما يق ّدم‪ ،‬أو باستقراء اإلحصائ ّيات أو الشهادات املق ّدمة يف ما ّدة أطروحته‪.‬‬
‫• املسار التفسريي‪:‬‬ ‫ ‬
‫ويقوم عىل ضبط املفاهيم التي يعرضها وتوضيحها‪ ،‬وعىل وصف أطروحته ومك ّوناتها‪ ،‬وعىل إقامة مقارنات‬ ‫ ‬
‫بني ما يعرضه وما يوجد عند غريه أو بني ما مي ّيز موضوعه عن مواضيع أخرى‪ ،‬وأه ّم ما يعتني به الخطيب يف املسار‬
‫نص ّية من القرآن أو من الس ّنة او من أقوال العلامء‪.‬‬ ‫التفسريي ما يراكمه من حجج ّ‬
‫• املسار االستنتاجي‪:‬‬ ‫ ‬
‫الكل إىل الجز ّيئ‪...‬‬
‫الخاص او من ّ ّ‬
‫ّ‬ ‫ويكون ببناء الحجاج بناء ينطلق من املق ّدمة إىل النتيجة أو من العا ّم إىل‬ ‫ ‬
‫ب‪ .‬الترتيب‬ ‫ ‬
‫• تعريف الرتتيب‬ ‫ ‬
‫‪ -‬اختيار األطروحة يجعل الخطبة كال متامسكا‪ .‬وينتج الخطيب خطبة تقوم عىل الحجاج‪ ،‬ولذلك فعليه أن‬ ‫ ‬
‫يرتّب مختلف عنارص كالمه ترتيبا يحقّق هدف الخطبة‪.‬‬
‫ينسق الرتتيب األفكار التي جمعتها مرحلة اإليجاد ويُظهر االرتباط فيام بينها‪.‬‬ ‫‪ّ -‬‬ ‫ ‬
‫‪ -‬يقوم الرتتيب عىل تقسيم األفكار وتفريعها‪ .‬وهو عمليّة تقديم وتأخري لجملة الحجج واألفكار التي تؤث ّث‬ ‫ ‬
‫الخطبة‪.‬‬
‫يتغي من وحدة إىل أخرى‪.‬‬ ‫‪ -‬ويقوم الرتتيب عىل مقياس مح ّدد يحسن أن ال ّ‬ ‫ ‬
‫• أنواع الرتتيب‬ ‫ ‬
‫للرتتيب أنواع كثرية نذكر منها خمسة هي األكرث استعامال‪:‬‬ ‫ ‬
‫التمش الجديل‪ :‬ويقوم عىل عرض األطروحة ومسارها الحجاجي‪ ،‬ثم عىل عرض أطروحة تناقضها ومسارها‬ ‫‪ّ -‬‬ ‫ ‬
‫الحجاجي‪ ،‬ث ّم تقديم األطروحة التي يريد الخطيب أن يقنع بها املتلقي‪.‬‬
‫التمش التصنيفي‪ :‬ويقوم عىل ضبط حجج األطروحة بحسب تصنيف مخصوص يختاره‪.‬‬ ‫‪ّ -‬‬ ‫ ‬
‫التمش التعاريض‪ :‬ويقوم عىل بيان ما يتعلّق باألطروحة من مقابالت أو تعارضات مثل محاسن املسألة‬ ‫‪ّ -‬‬ ‫ ‬
‫ومساوئها‪ ،‬أسباب الظاهرة ونتائجها‪...‬‬
‫مم هو رشط رضوري إىل األقل رضورة إىل البعيد‪...‬‬ ‫التمش املباعد‪ :‬ويقوم عىل تت ّبع األطروحة بالتنقّل ّ‬‫‪ّ -‬‬ ‫ ‬
‫التمش الزمني‪ :‬وذلك بتت ّبع األطروحة يف تط ّورها الزمني‪.‬‬ ‫‪ّ -‬‬ ‫ ‬
‫• ضوابط الرتتيب‬ ‫ ‬
‫‪ -‬ال ينبغي أن نجاوز الح ّد يف التقسيم والتفريع‪ ،‬إذ غاية الخطيب الوضوح‪.‬‬ ‫ ‬

‫‪36‬‬
‫‪ -‬االختزال يف التفريع يبقي األطروحة غامضة فيتعطّل اقتناع املتلقّي بها‪ .‬واملبالغة يف التفريع يثقل ذهنه‬ ‫ ‬
‫فينقطع اهتاممه بالخطبة‪.‬‬
‫‪ -‬وغاية الرتتيب إقناع السامع‪ .‬وأفضل ترتيب أن يبدأ الخطيب بالح ّجة الضعيفة متد ّرجا إىل ح ّجة اقوى منها‬ ‫ ‬
‫حتى يصل إىل الح ّجة التي ال ميكن ر ّدها‪ .‬يح ّدد ضعف الح ّجة وق ّوتها بحسب مقام الخطبة وما ّدة األطروحة‪.‬‬
‫ج‪ .‬التعبير‬ ‫ ‬
‫•تعريف التعبري‬ ‫ ‬
‫التعبري هو املرحلة األخرية من عمل ّية بناء الخطبة وهو أه ّم املراحل إذ يت ّم فيها اإلنجاز‪ ،‬ويستعني الخطيب يف‬ ‫ ‬
‫أداء خطبته بال ّنربات والحركات واإلمياءات ونحو ذلك‪ .‬ونهت ّم هنا مبا يتعلّق بالخطبة ومبا يتعلّق بالخطيب‪.‬‬
‫• ما تعلّق بالخطبة‬ ‫ ‬
‫عىل الخطيب أن يكون يف خطبته فصيحا وإال فإنّه سيجد عناء كبريا يف تحقيق أهداف خطبته‪ .‬وتشمل‬ ‫ ‬
‫والنص‬
‫الفصاحة الكلمة والجملة ّ‬
‫‪ -‬وتظهر فصاحة الكلمة يف بعدها عن الغموض وعدم الدقّة يف التعبري عن فكرتها‪ ،‬ويف أالّ تكون غريبة عن‬ ‫ ‬
‫املتلقّني (ويغلب عليهم األميّون أو ذوو التكوين املحدود)‪.‬‬
‫‪ -‬وتظهر فصاحة الجملة يف بعدها عن تنافر الكلامت التي تك ّونها‪ ،‬ويف متانة تأليفها‪ ،‬وتج ّنب التعقيد والتكرار‬ ‫ ‬
‫يف بنائها‪.‬‬
‫النص يف حسن الفصل والوصل بني عنارصه الكربى والصغرى‪ ،‬ويف عدم اإلطالة‪.‬‬ ‫ونتبي الفصاحة يف ّ‬ ‫‪ّ -‬‬ ‫ ‬
‫• ما تعلّق بالخطيب‬ ‫ ‬
‫وعىل الخطيب أن يكون حسن السمت يف غري مبالغة‪ ،‬قريبا من الناس يف مظهره يف غري ابتذال‪ .‬وأه ّم ما يؤث ّر‬ ‫ ‬
‫يف بالغ الخطيب صفات تتعلّق بصوته‪ ،‬وأخرى بلغته‪ ،‬وثالثة بثوبه‬
‫‪ -‬وأه ّم صفة يف صوته أن يكون قويّا جهريا يف غري إزعاج مع سكون الجوارح أو تحريكها يف غري مبالغة‪.‬‬ ‫ ‬
‫‪ -‬وأن تكون لغته بني اللغة الفصحى واللهجة العا ّميّة‪.‬‬ ‫ ‬
‫‪ -‬أن يكون ثوب الخطيب مالمئا ملقام خطبته‪ .‬فقد قال أناس زمن الجاحظ ألحد البلغاء بعد أن أهانوه «‬ ‫ ‬
‫زي مسكني‪ ،‬تكلمنا بكالم امللوك‪».‬‬ ‫الذنب مقسوم بيننا وبينك‪ ،‬أتيتنا يف ّ‬

‫الخالصة‬ ‫ ‬
‫أهم ما يحتفظ به متلقّي هذه الورقة‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ ‬
‫• تعدّ الخطبة إعدادا علم ّيا دقيقا‪ ،‬وغري كاف أن يكون الخطيب فصيحا إن كان غري قادر عىل بناء خطبته‬ ‫ ‬
‫بناء علم ّيا حجاج ّيا‬
‫• مي ّر إعداد الخطبة بـ‪ 3‬مراحل هي‪ :‬اإليجاد‪ ،‬والرتتيب‪ ،‬والتعبري‪.‬‬ ‫ ‬
‫• يحدّ د اإليجاد موضوع الخطبة وحججها‪ ،‬ويحدّ د الرتتيب أنواع املسار الحجاجي‪ ،‬ويحدّ د التعبري رشوط‬ ‫ ‬
‫إلقاء الخطبة‪.‬‬
‫• ال بدّ يف وضع حجج األطروحة من ترتيبها ترتيبا مخصوصا وفق ما يريده الخطيب‪ ،‬ويحسن أن يكون‬ ‫ ‬
‫الرتتيب من الحجج الضعيفة إىل الح ّجة القويّة عىل أن ال تتجاوز الثالثة أو األربعة‪.‬‬
‫ونصا وهيئة‬
‫• يعتني الخطيب بالتعبري لفظا ّ‬ ‫ ‬

‫التمش‬
‫الوسم‪ :‬البالغة؛ التفكري؛ الحجاج؛ التعبري؛ الفصاحة؛ الخطاب؛ الخطبة؛ اإليجاد؛ التعبري؛ الرتتيب؛ ّ‬ ‫ ‬
‫النص؛ األطروحة؛ املا ّدة؛ أنواع‬
‫التمش املباعد؛ ّ‬
‫التمش التصنيفي؛ ّ‬
‫التمش الزمني؛ ّ‬ ‫التمش التعاريض؛ ّ‬ ‫الجديل؛ ّ‬
‫الحجاج؛ املقام؛ املناسبة؛ املتلقّي‪...‬‬

‫‪37‬‬
‫الفهرس العام‬

‫المقدمة ‪3 ................................................................................................................................................‬‬

‫مدخل منهجي ‪4 .....................................................................................................................................‬‬

‫‪5‬‬ ‫مفاهيم مفتاحية ‪.................................................................................................................................‬‬


‫‪5‬‬ ‫‪ .1‬مفهوم الدين ‪ ............................................................................................................................‬‬ ‫ ‬
‫‪6‬‬ ‫‪ .2‬مفهوم التديّن ‪ ...........................................................................................................................‬‬ ‫ ‬
‫‪7‬‬ ‫‪ .3‬مفهوم الغل ّو ‪ .............................................................................................................................‬‬ ‫ ‬
‫‪8‬‬ ‫‪ .4‬مفهوم السامحة ‪ .......................................................................................................................‬‬ ‫ ‬

‫دالالت قرآنية ‪10 .......................................................................................................................................‬‬


‫‪ .1‬مقصد الهداية‪10 .......................................................................................................................... :‬‬ ‫ ‬
‫‪ .2‬ثراء الداللة القرآنية‪10 .................................................................................................................. :‬‬ ‫ ‬
‫‪ .3‬املنهج النبوي يف تعليم القرآن‪11 ................................................................................................... :‬‬ ‫ ‬
‫‪ .4‬وحدة األصول واختالف الرشائع واملناهج‪11 .................................................................................. :‬‬ ‫ ‬
‫‪ .5‬نفي اإلكراه عىل التدين‪12 ............................................................................................................ :‬‬ ‫ ‬
‫‪ .6‬نهي القرآن عن التكـفري‪12 ............................................................................................................ :‬‬ ‫ ‬
‫‪ .7‬يوسف عليه السالم داعية ومنقذ إنساين‪12 .................................................................................... :‬‬ ‫ ‬
‫‪ .8‬ذو القرنني والسالم العاملي‪14 ........................................................................................................ :‬‬ ‫ ‬

‫‪16‬‬ ‫تصورات تأسيسية ‪..............................................................................................................................‬‬


‫‪16‬‬ ‫‪ .1‬آدم عليه السالم ‪ ........................................................................................................................‬‬ ‫ ‬
‫‪18‬‬ ‫‪ .2‬الرحمة القرآنية – الرحمن – الرحيم – ‪ .......................................................................................‬‬ ‫ ‬
‫‪20‬‬ ‫‪ .3‬اإلميان بالغيب ‪ ..........................................................................................................................‬‬ ‫ ‬
‫‪22‬‬ ‫‪ .4‬األمة والجامعة ‪ ..........................................................................................................................‬‬ ‫ ‬
‫‪23‬‬ ‫‪ .5‬اآلخر وموقف الذات منه ‪ ...........................................................................................................‬‬ ‫ ‬

‫في إدارة التمدن ‪26 .................................................................................................................................‬‬


‫‪ .1‬تفعيل فروض الكـفاية‪26 .............................................................................................................. :‬‬ ‫ ‬
‫‪ .2‬املواطنة ومدن ّية اإلسالم ‪26 .............................................................................................................‬‬ ‫ ‬
‫‪ .3‬املرأة يف القرآن ‪28 ..........................................................................................................................‬‬ ‫ ‬
‫‪ .4‬مناذج من التعارف ‪30 .....................................................................................................................‬‬ ‫ ‬
‫‪ .5‬الرفق ‪31 .......................................................................................................................................‬‬ ‫ ‬
‫‪ .6‬الجهاد من َّزها عن العدوان ‪32 .........................................................................................................‬‬ ‫ ‬

‫فنّ الخطابة ‪35 ........................................................................................................................................‬‬

‫‪38‬‬

You might also like