ktp2019 Tra17000

You might also like

Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 211

‫محمد‬

‫مصطفى النور‬

‫سوداتك‬
‫المحدودة‬
‫‪962.2‬‬

‫ي‪ .‬د‬

‫دراسات في تاريخ السودان وأفريقيا وبالد العرب‪ ،‬الجزء الثالث‪/‬‬


‫فهرسة المكتبة الوطنية‬
‫يوسف فضل حسن‪ -‬ط‪ -1‬الخرطوم‪ ،‬سوداتك المحدودة‪2007 ،‬م‪،‬‬

‫‪ 247‬ص‪24 ،‬سم‪.‬‬

‫ردمك‪978-99942-887-1-7 :‬‬

‫السودان‪ -‬تاريخ‬

‫العالم العربي‪ -‬تاريخ‬

‫افريقيا‪ -‬تاريخ‬

‫أ‪ .‬العنوان‬
‫أبوبكر سليمان علي‬ ‫تصميم الغالف‪:‬‬

‫‪‬‬ ‫‪2‬‬
‫حقوق الطبع محفوظة للمؤلف‬

‫الطبعة األوىل‬
‫‪1429/2010‬‬
‫الناشر‪ :‬سوداتك احملدودة‬

‫‪3‬‬
‫النشاط االجتماعي والسياسي‬
‫للجالية اليهودية في السودان‬
‫محمد مصطفى النور‬

‫‪4‬‬
‫إلى روح والدي‬

‫رحمه هللا‬ ‫مصطفى النور أحمد‬

‫‪5‬‬
‫المحتويات‬
‫ج‬ ‫‪................ ............. .........................................................................‬‬ ‫اإلهداء‬
‫محتويات& البحث& ‪............... ....... ..................................................................‬د‬
‫و‬ ‫‪......... ....... ...........................................................‬‬ ‫قائمة بمالحق البحث&‬
‫ز‬ ‫‪............... ....... .......................................................................‬‬ ‫شكر وعرفان‬
‫ح‬ ‫‪......... ....... ......................................................................‬‬ ‫مستخلص البحث‬
‫ك‬ ‫‪......... ....... ........................................................................‬‬ ‫‪Abstract‬‬
‫‪1‬‬ ‫‪............. ....... .......................................................................‬‬ ‫مقدمة البحث&‬
‫‪21‬‬ ‫‪............. ..................‬‬ ‫تأسيس‪ &:‬الوجود اليهودي في السودان حتى عام ‪1898‬‬
‫‪ .1‬التواصل المبكر بين اليهود والمجموعات السودانية‬

‫‪22.. ....... ..................‬‬ ‫‪............. ....... .................. .‬‬ ‫(حتى عام ‪1821‬م)‬

‫‪ .2‬اليهود في السودان في ظل العهد التركي المصري‬

‫‪32 .....................‬‬ ‫‪............. ....... .................. ........‬‬ ‫(‪1885 -1821‬م)‬

‫‪ .3‬اليهود في السودان في ظل الدولة المهدية‬

‫‪6‬‬
‫‪40 ............‬‬ ‫‪............. ....... .................. ...........‬‬ ‫(‪1898 -1885‬م)‬

‫الفصل األول‪ :‬توافد اليهود إلى السودان بعد عام ‪1898‬‬


‫‪56‬‬ ‫‪....‬‬ ‫‪............. ....... .................. ......‬‬ ‫وتأسيس الجالية& اليهودية في السودان‬
‫‪ .1‬توافد اليهود إلى السودان في ظل رعاية‪ 0‬دولة الحكم الثنائي‪57 .......‬‬

‫‪ .2‬تأسيس الجالية‪ 0‬اليهودية في السودان ‪66 .................. .....................‬‬

‫الفصل الثاني‪ :‬النشاط& االقتصادي للجالية& اليهودية في السودان‬


‫‪82 ...‬‬ ‫‪............. ....... ..................‬‬ ‫‪............. ....... ..... ......‬‬ ‫(‪)1956 -1898‬‬
‫‪ .1‬الشخصية‪ 0‬االقتصادية اليهودية ‪83 ............. ............. ............. .........‬‬

‫‪ .2‬النفوذ االقتصادي للجالية‪ 0‬اليهودية في السودان‪87 ...... ............. .......‬‬

‫‪ .3‬رأس المال اليهودي واالستثمار في السودان ‪95 ......... ............. ......‬‬

‫الفصل الثالث‪ :‬النشاط االجتماعي للجالية اليهودية في السودان‬


‫‪117 ....‬‬ ‫‪............. ....... ..................‬‬ ‫‪............. ....... .......... .....‬‬ ‫(‪)1956 -1898‬‬
‫‪ .1‬المعابد اليهودية في السودان‪:‬‬

‫إنشاؤها ودورها في الحياة الدينية واالجتماعية للجالية اليهودية في السودان‪118 ...‬‬


‫‪126‬‬ ‫‪......... .............‬‬ ‫‪ .2‬الحياة االجتماعية‪ 0‬للجالية‪ 0‬اليهودية في السودان‬

‫‪ .3‬تنامي الشعور القومي اليهودي‪:‬‬

‫‪133‬‬ ‫‪......... .................‬‬ ‫والنشاط‪ 0‬الصهيوني للجالية اليهودية في السودان‬


‫الفصل الرابع‪ :‬خروج اليهود من السودان ‪155 ............. ............. ............. ...........‬‬
‫‪ .1‬أسباب‪ 0‬خروج اليهود من السودان ‪156 ............. ............. ...............‬‬

‫‪7‬‬
‫‪ .2‬صورة اليهودي في الذهن السوداني ‪163 .......... ............. .................‬‬

‫خاتمة البحث ‪176 ......... ...................... ........................ ............. .............‬‬


‫ثبت المصادر والمراجع ‪184 ......... ............. ............. ............. ............. ... .............‬‬
‫مالحق الدراسة ‪206 ....................................................................................‬‬

‫مقدمة‬

‫‪8‬‬
9
‫ال يلج هذا البحث في النشاط االقتصادي واالجتماعي للجالية اليهودية في السودان‬
‫مجاالً جديداً وحسب‪ ،‬وإ نما هو مجال معقد في أحسن األحوال‪ ،‬ولذا فإن الضرورة تقتضي‬
‫تحديد‪ G‬منهجية واضحة للبحث‪ ،‬فالبحث مع جدته في تناول موضوع يتعلق بالجاليات‬
‫األجنبية‪ ،‬والتي لم تحظ باهتمام كبير من الباحثين‪ ،‬فإنه يدرس أيضاً جالية تختلف عن بقية‬
‫الجاليات بكونها ذات عمق ديني اثني‪ ،‬مما يفرض على الباحث اإللمام بهذا البعد من حيث‬
‫هو عقيدة وشرائع وتعاليم‪ ،‬ومن حيث هو بعد قومي‪ /‬عنصري‪ /‬ثقافي‪ ،‬ومن حيث هو دراسة‬
‫لمجموعة من األشخاص داخل مؤسسة تنظيمية‪ G‬أساس تكوينها العناصر السابقة في بلد‬
‫غريب‪ ،‬ومن ثم توضيح حجم نشاط هذه المؤسسة وتأثيرها في ذلك البلد‪ .‬بناء على كل ذلك‬
‫نخوض غمار هذا البحث مستندين على المنهج التاريخي التحليلي‪ ،‬فهذا البحث مع كونه بحثاً‬
‫في التاريخ فهو دراسة معرفية تفسيرية ألن التاريخ ليس مجرد سرد سطحي لألحداث وإ نما‬
‫هو تفسير لها‪.‬‬
‫أسباب اختيار الموضوع‬
‫‪ .1‬الرغبة الذاتية للباحث‪ ،‬وإ حساس الباحث بأهمية الموضوع‪.‬‬
‫‪ .2‬ندرة البحوث حول الموضوع‪ ،‬أو باألحرى الغياب التام للدراسات األكاديمية‪ G‬حول الدور‬
‫االقتصادي واالجتماعي للجاليات األجنبية في السودان‪ ،‬والجالية اليهودية على وجه‬
‫الخصوص‪.‬‬
‫‪ .3‬عثور الباحث على بعض البيانات والوثائق التي تعكس األنشطة التجارية لبعض أفراد‬
‫الجالية اليهودية في السودان‪.‬‬
‫أهداف البحث‬

‫‪10‬‬
‫‪ .1‬شرح أبعاد الدور الذي لعبته الجاليات األجنبية‪ G،‬الجالية اليهودية‪ G‬على وجه التحديد‪ G،‬في‬
‫تاريخ السودان الحديث‪.‬‬
‫‪ .2‬محاولة قراءة التاريخ االقتصادي والسياسي للسودان الحديث من منظور جديد بالتركيز‬
‫على جدلية الخارج والداخل‪ ،‬والعام الخاص‪.‬‬
‫‪ .3‬نيل درجة الماجستير في الدراسات اإلفريقية واآلسيوية‪.‬‬
‫مشكلة البحث‬
‫على الرغم مما وفرته المصادر والوثائق والمذكرات الشخصية من معلومات تؤكد‬
‫على النشاط الكبير الذي لعبته الجاليات األجنبية في تاريخ السودان الحديث وما كانت تتمتع‪G‬‬
‫به من نفوذ اقتصادي‪ ،‬إال أن الباحث يجد تجاهالً واضحاً لهذا الدور إال من إشارات مقتضبة‪،‬‬
‫عرضية في أغلب األحيان‪ ،‬ليس فيها ما يشبع الفضول المعرفي حول الموضوع‪ .‬ولعل قلة‬
‫االهتمام بهذا النشاط‪ ،‬رغم أهميته‪ ،‬وغياب الدراسات األكاديمية الجادة القائمة على نهج‬
‫علمي يجعل ُج َّل معرفتنا بتاريخ السودان الحديث مضللة‪ ،‬أو قاصرة وغير دقيقة في أحسن‬
‫األحوال‪.‬‬
‫أهمية مشكلة البحث‬
‫تنبع أهمية البحث من أهمية الدور الذي لعبته هذه الجالية في مجاالت االستيراد‬
‫والتصدير والتجارة الخارجية‪ ،‬وهي النشاط المركزي لالقتصاد "الكولونيالي"‪ ،‬القائم على‬
‫تصدير المواد الخام بسعر زهيد واستيراد السلع االستهالكية باهظة الثمن‪ ،‬السائد في تلك‬
‫الفترة‪ ،‬والمعروف أن الجماعات اليهودية‪ G‬لعبت دوراً وظيفياً هاماً لألجهزة االستعمارية في‬
‫شمال أفريقيا بشكل عام‪ ،‬وقد شهد السودان توافد أعداد من اليهود في فترة الحكم الثنائي‪،‬‬
‫والبد أن دراسة نشاط هؤالء الوافدين الجدد ستكشف عن معرفة المزيد من حقائق تاريخ‬
‫السودان الحديث‪.‬‬

‫فـرضيات البحث‬
‫‪ .1‬كان للجالية اليهودية في السودان حضور مؤسس تعدى نشاطات األفراد إلى توفير‬
‫الحماية والدعم لهم داخل الجالية‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫‪ .2‬استطاع اليهود أن يتوغلوا في منشط التجارة الخارجية مما أكسبهم وزناً كبيراً‬
‫داخل السودان وخارجه‪.‬‬

‫‪ .3‬بنى الرأسمال اليهودي القواعد األساسية لتأسيس نشاط صناعي في السودان‪.‬‬

‫‪ .4‬استطاع األفراد من اليهود‪ ،‬ممن يتمتعون برأس مال جيد‪ ،‬أن يبنوا مؤسسات‬
‫اقتصادية ضخمة ال يمكن تجاوزها‪.‬‬

‫‪ .5‬هل كانت للجالية اليهودية‪ G‬في السودان أي أنشطة أو روابط صهيونية؟‬

‫‪ .6‬كان للجالية اليهودية نشاط اجتماعي مميز بين أفراد الجالية من جهة وبينهم وبين‬
‫الوطنيين من السودانيين‪ G‬من جهة أخرى‪.‬‬

‫‪ .7‬احتل العديد من المتعلمين‪ G‬من اليهود مناصب كبيرة في الخدمة المدنية والعسكرية‬
‫في حكومة السودان‪ .‬مما ساعد الجالية على االستقرار في السودان ودفع نشاطها‬
‫االقتصادي واالجتماعي‪.‬‬

‫‪ .8‬كان للشركات العالمية الممثلة لالقتصاد الكولونيالي في السودان عالقات مع يهود‬


‫السودان‪ ،‬ومع الشركات اليهودية‪ G‬في السودان‪.‬‬

‫‪ .9‬كانت الجالية اليهودية‪ G‬تتمتع بامتيازات وتسهيالت خاصة من حكومة الحكم الثنائي‪.‬‬

‫‪ .10‬هل كان االستثمار في مجال الترفيه حكراً على الجاليات األجنبية‪ ،‬والجالية‬
‫اليهودية على وجه الخصوص؟ وما هي هذه االستثمارات؟ وما هو حجمها؟‬

‫‪ .11‬لم يكن للجالية اليهودية في السودان أي نشاط سياسي‪.‬‬

‫‪ .12‬بعض اليهود تركوا السودان‪ ،‬وبعضهم اندمج في المجتمع السوداني‪.‬‬

‫‪ .13‬إذا كانت الجالية اليهودية‪ G‬قد تركت السودان‪ ،‬فما هي األسباب الحاسمة لهذه‬
‫الهجرة؟ وما هي تأثيرات هجرة رأس المال اليهودي على االقتصاد السوداني؟‬

‫‪12‬‬
‫منهج البحث‬
‫ينتهج البحث منهجاً تاريخياً تحليلياً في تتبع النشاط االقتصادي والسياسي للجالية‬
‫اليهودية في السودان منذ الوجود المبكر كما تعكسه األساطير والروايات الشفوية‪ ،‬كما أن‬
‫طرافة وجدة موضوع البحث تستلزم اللجوء إلى التحليل باستخدام جدليات‪ :‬الخاص والعام‪،‬‬
‫والداخل والخارج‪ ،‬والسابق والالحق‪ ،‬واستخدام مناهج نقد النصوص المختلفة (داخلياً‬
‫وخارجياً) لمناقشة المصادر والوثائق حتى يتسنى الخروج منها بمعلومات وحقائق حول‬
‫موضوع البحث‪.‬‬
‫حدود البحث‬
‫يقع البحث معرفياً في حقل التاريخ االقتصادي واالجتماعي‪ .‬أما زمانياً فيمتد‬
‫لحوالي خمسة عقود من الزمان تبدأ عام ‪ ،1898‬عند سيطرة اإلنجليز على السودان بعد‬
‫هزيمة قوات المهدية ومقتل الخليفة عبد اهلل تورشين في معركة كرري‪ ،‬وحتى عام ‪1956‬‬
‫بعد انتصار الحركة الوطنية ورفع العلم السوداني في مكان علمي دولتي الحكم الثنائي‪.‬‬
‫وجغرافياً فإن البحث يركز على منطقة الخرطوم (العاصمة المثلثة) باعتبارها محور نشاط‬
‫وتمركز الجالية اليهودية في السودان‪ ،‬لكن ذلك ال يعني عدم االهتمام بأوضاع ونشاط اليهود‬
‫في بعض مناطق وجودهم لقوة تأثيرها على المنطقة المعنية‪ G‬مثل مدن األبيض‪ ،‬والنهود‪،‬‬
‫ومروي‪ ،‬وبربر‪ ،‬ومدني‪ ،‬وبورتسودان‪ .‬ويزعم البحث أنه قادر على استخراج التعميمات‬
‫الالزمة من هذه النماذج إلسقاط نتائج الدراسة على كل السودان‪.‬‬

‫وصف واستعراض مصادر ومراجع البحث‪:‬‬


‫أوالً المصادر األولية‬
‫‪ .1‬الكتب السماوية والموسوعات‪ :‬وتشمل العهدين القديم والجديد والقرآن الكريم‪،‬‬
‫والموسوعة الفلسطينية والموسوعة البريطانية والموسوعة اإلسالمية‬
‫وموسوعة اليهود واليهودية والصهيونية وموسوعة األديان والمعتقدات‪ .‬وقد‬
‫شكلت هذه المصادر المادة النظرية األساسية لهذا البحث‪ :‬من هو اليهودي؟ الهوية‬
‫اليهودية‪ ،‬الديانة اليهودية‪ G،‬الجماعات اليهودية‪ G‬وأقسامها وشرائعها‪ .‬كما أفاد البحث‬
‫من مدخالت الموسوعات في شرح ما غمض من المصطلحات والمفاهيم المرتبطة‬
‫ببنية‪ G‬الجماعات اليهودية‪ G‬عرقياً ودينياً وتاريخياً‪ .‬وكان العهدان القديم والجديد معيناً‬

‫‪13‬‬
‫للفصل الثاني من هذا البحث وهو يطلب العمق التاريخي للتواصل بين اليهود‬
‫وسودان وادي النيل‪ .‬كما أفدنا من القرآن الكريم في خاتمة البحث باعتباره واحد‬
‫من المدخالت األساسية لصورة اليهودي في الذهن السوداني‪.‬‬

‫‪ .2‬الوثائق‪ :‬وقد حصلت عليها إبَّان بحثي في دار الوثائق القومية بالخرطوم‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫‪ .1‬ملف الجالية اليهودية في السودان ‪Jewish Community of the‬‬


‫‪ Sudan‬ويأخذ الرقم ‪ 6 /1 /10‬من مجموعة السكرتير اإلداري‪ ،‬ويحتوي‬
‫هذا الملف على سبع صفحات فقط هي عبارة عن مخاطبات‪ ،‬تدور في‬
‫معظمها حول تأسيس نادي للجالية اليهودية في السودان ممهورة بتواقيع كل‬
‫من مجلس الجالية اليهودية في السودان‪ ،‬والسكرتير اإلداري‪ ،‬ومدير عام‬
‫أراضي الخرطوم‪ ،‬والسكرتير المالي‪.‬‬

‫‪ .2‬ملف الجالية السورية في السودان ‪Syrian Community of the‬‬


‫‪ Sudan‬ويأخذ هذا الملف رقم ‪ 5 /1 /10‬من مجموعة السكرتير اإلداري‪،‬‬
‫ويحتوي هذا الملف على ‪ 14‬صفحة تشتمل على مخاطبات بين السكرتير‬
‫اإلداري وحاكم كردفان يتساءل فيها األخير عن عضوية بعض التجار الشوام‬
‫بجسم الجالية بالخرطوم‪ .‬ومخاطبات بين السكرتير اإلداري والجالية السورية‬
‫في مدني تحتوي على تفاصيل خالف بين أعضاء الجالية حول المجلس‬
‫التنفيذي للجالية‪ ،‬كما تفيد بإجراء انتخابات الجالية‪ ،‬وكشف باألعضاء‬
‫الملتحقين بالجالية السورية في الخرطوم‪ .‬وقد اعتمد الباحث على بعض مما‬
‫جاء في هذا الملف مما يفيد بيهودية بعض أفراد الجالية السورية‪ ،‬كما أن‬
‫بعض ممن ترد أسماؤهم في هذا الملف قد ورد ذكرهم في مصادر أخرى‬
‫على أنهم يهود‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫ج‪ .‬مجموعة مكتب األمن العام ‪ ،Public Securty office‬وهذا ملف كبير‬
‫متصل‪ ،‬غير مقسم لوحدات مثل مجموعة السكرتير اإلداري‪ ،‬يحتوي على‬
‫نحو من ‪ 75‬صفحة ويتناول في مجمله على قضية واحدة هي قضية مهاجرين‬
‫يهود على الحدود السودانية عام ‪ ،1938‬ويشتمل هذا الملف على مخاطبات‪،‬‬
‫بعضها له طابع سري‪ ،‬بين مكتب األمن العام و‪ :‬السكرتير اإلداري‪ ،‬مدير‬
‫جوازات حلفا‪ ،‬مدير الجوازات في مصر‪ ،‬الحاكم العام‪ ،‬وزارة الخارجية‬
‫البريطانية‪ .‬كما يحتوي الملف على قصاصات من الصحف البريطانية التي‬
‫تناولت القضية وتعليق مكتب مدير األمن العام عليها‪ .‬ويبدو واضحاً أن جهة‬
‫ما ترسل هذه القصاصات لمكتب األمن العام وتسأله إذا كانت تستحق الرد‬
‫عليها؟ وكيف يكون الرد عليها‪ .‬كما يحتوي هذا الملف على أسماء المهاجرين‬
‫اليهود وأعمارهم والجهات التي قدموا منها‪ .‬ولعل هذا الملف كان ليعطينا‬
‫صورة طيبة عن أحوال السودان إبَّان األزمة المالية العالمية وبعدها وأسباب‬
‫توافد المهاجرين اليهود وغيره مما يثري الفصل الثالث من هذا البحث‪ ،‬إال أن‬
‫اإلجراءات المشددة بدار الوثائق القومية حرمتني من االستفادة الكاملة من هذا‬
‫الملف وسمحت لي باإلطالع عليه ليوم واحد فقط‪ ،‬كما لم تسمح لي بتصويره‪.‬‬
‫هذه الوثائق في جملتها كانت معيناً جيداً للبحث‪ ،‬بل شكلت لحمته وسداه‪ ،‬وحددت مساره‬
‫وخطاه‪ ،‬وصاغت فرضياته األساسية‪ ،‬كما مثلت ثقالً مهماً في ميزان تقييمنا للوقائع‬
‫الواردة في بقية المصادر‪.‬‬
‫‪ .3‬كتب المذكرات ‪ :*Memoirs‬على الرغم من وقوعها في مزالق االنحياز والنظرة‬
‫الذاتية لألحداث‪ ،‬إال أن كتب المذكرات والسير تظل مصدراً أولياً في الكثير من‬
‫األحيان وتزودنا بتقارير أولية مباشرة‪ .‬وتتفاوت أهمية المعلومات التي قدمتها هذه‬
‫المذكرات من كتاب إلى آخر إال أنها تشترك جميعاً في أنها كتبت من إدراك واقعي‬
‫ومعايشة فعلية لوقائع في تاريخ السودان الحديث‪ .‬وكان من مهمة الباحث أن يضع‬

‫واحدة من فضائل المشرف على هذه الدراسة أنه نبَّهني إلى أهمية كتب السيرة والمذكرات الشخصية في هذه‬ ‫*‬

‫الدراسة‪ ،‬بل ووفر لي معظم هذه الكتب‪ ،‬والحق أني أفدت منها فائدة كبيرة‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫هذه المعلومات والمشاهدات في موقعها من اإلطار الموضوعي العام للتاريخ حتى‬
‫يخرج منها بنتائج تفيد موضوع البحث‪ .‬ومن أهم هذه الكتب مذكرات سالطين باشا‬
‫السيف والنار‪ ،‬ومذكرات األب أورفالدر عشر سنوات في سجن المهدي‪،‬‬
‫ومذكرات إبراهيم فوزي السودان بين يدي غردون وكتشنر‪ ،‬ومذكرات يوسف‬
‫ميخائيل‪ ،‬والجزئين األول والثاني من مذكرات بابكر بدري‪ ،‬ومذكرات إلياهو‬
‫سولومون ملكا ‪Jacob`s Children in the Land of the Mahdi: Jews‬‬
‫‪ of the Sudan‬والترجمة التفسيرية التي قام بها مكي أبو قرجة لمذكرات إلياهو‬
‫سولومون ملكا بعنوان اليهود في السودان‪ :‬أبناء يعقوب في بقعة المهدي‪ .‬وأهم‬
‫هذه المذكرات على اإلطالق هو كتاب‪:‬‬

‫‪‬‬ ‫‪Eli S. Malka, Jacob`s Children in the Land of the Mahdi: Jews‬‬
‫‪of the Sudan, Syracuse University Press, 6th edition, New‬‬
‫‪York, 2002.‬‬

‫(باللغة اإلنجليزية)‪ ،‬ويقع الكتاب في حوالي ‪ 260‬صفحة من القطع المتوسط‪ ،‬نشرت‬


‫طبعته األولى عام ‪ ،1997‬ونسبة لجدة موضوعه وتفرده فقد حقق قبوالً كبيراً فتوالت‬
‫طبعاته بمعدل طبعة سنوياً‪ ،‬وبحلول عام ‪ 2002‬نشرت الطبعة السادسة منه‪ .‬كما صممت له‬
‫صفحة على اإلنترنت إلدارة الحوارات والنقاشات حوله كجزء من ترويج الكتاب وتسويقه‪.‬‬
‫أهم ما يميز هذا الكتاب أن مؤلفه‪ ،‬إلياهو سولومون ملكا‪ ،‬هو اإلبن الكبر ألول حاخام‬
‫للجالية اليهودية في السودان‪ .‬كما أن المؤلف شغل العديد من الوظائف الحكومية والخاصة‬
‫المؤثرة في السودان‪ ،‬كما كان للمؤلف أدوار نشطة وسط الجالية اليهودية‪ G‬في السودان‪ ،‬وهو‬
‫من المؤسسين للنادي اليهودي‪ ،‬ومن العبي فريق مكابي لكرة القدم‪ ،‬كما حظي‪ ،‬كابن‬
‫للحاخام‪ ،‬بلقاء قادة الحركة الصهيونية في العالم ممن زاروا السودان‪.‬‬
‫بهذا الحضور الكثيف يأتي كتاب ملكا كسيرو يوثق فيها لحياته وحياة والده ولبعض‬
‫األسر اليهودية‪ G‬المؤثرة‪ ،‬ويتتبع مصائرها بعد خروجها من السودان‪.‬‬
‫قسم المؤلف كتابه إلى قسمين‪ :‬األول عن "المجتمع اليهودي في السودان" وتعرض فيه‬
‫ليهود المهدية‪ G،‬وعائلة بن زيون كوشتي على وجه الخصوص‪ ،‬وأوائل األسر اليهودية‪ G‬التي‬

‫‪16‬‬
‫اختارت السودان مقاماً لها‪ .‬كما تعرض في هذا الجزء لقدوم الحاخام سولومون ملكا‬
‫وتأسيس مجلس الجالية اليهودية في السودان‪ ،‬وإ نشاء المعبد اليهودي‪ ،‬وتنامي عدد أعضاء‬
‫الجالية‪ ،‬وتأسيس النادي اليهودي‪ ،‬وزيارات قادة الحركة الصهيونية للسودان‪ ،‬والتواصل بين‬
‫يهود السودان ويهود مصر وأثيوبيا وأريتريا واليمن‪ ،‬وتأسيس منظمة بناي بيرث في‬
‫السودان‪ ،‬ومصر‪ ،‬وبريطانيا‪ ،‬وفرنسا‪ ،‬والواليات المتحدة األمريكية‪ .‬ويتناول المؤلف في‬
‫هذا الجزء أيضاً موقف اليهود من االستقالل‪ ،‬كما يتتبع سياسات الحكومات الوطنية في‬
‫السودان من منظوره الشخصي حتى عام ‪.1997‬‬
‫أما القسم الثاني فتناول فيه طفولته في السودان‪ ،‬ونمو نشاطه التجاري‪ ،‬ورحالته من‬
‫السودان إلى الدول المجاورة‪ ،‬وإ لى غزة‪ ،‬وزواجه‪ ،‬وعائلته‪ ،‬وأطفاله‪ ،‬وحياته في الخرطوم‬
‫القديم‪ ،‬وحياته في فرنسا والواليات المتحدة‪ .‬وينتهي الكتاب بفهرست جيد مع ملحق بالوثائق‬
‫المهمة واألوراق التي كتبها والده بخط يده‪.‬‬
‫وعلى الرغم مما يحتويه الكتاب من معلومات قيمة‪ ،‬خصوصاً القسم األول منه‪ ،‬إال أنه‬
‫يتناول الجالية اليهودية من منظوره الشخصي‪ ،‬فيصر على تبيين دوره وأهميته‪ ،‬ودور والده‬
‫في تنظيم الجالية‪ ،‬ويورد الوقائع دون تحليل للدوافع أو متابعة للنتائج‪ .‬وقد تعاملنا مع هذا‬
‫الكتاب‪ ،‬وصنفناه‪ ،‬على أنه أحد كتب السيرة تحوطاً من الوقوع في فخ المعلومات المضللة‪.‬‬
‫أما الكتاب الثاني فهو‪:‬‬
‫مكي أبو قرجة‪ ،‬اليهود في السودان‪ :‬قراءة في كتاب إلياهو‬ ‫‪‬‬
‫سولومون ملكا أطفال يعقوب في بقعة المهدي‪ ،‬مركز عبد‬
‫الكريم ميرغني‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬الخرطوم‪.2007 ،‬‬

‫(باللغة العربية)‪ ،‬يقع الكتاب في حوالي ‪ 152‬صفحة من القطع المتوسط‪ .‬وهو ترجمة‬
‫تفسيرية لكتاب ملكا‪ .‬وأهم ما يميز الكتاب المقدمة الممتازة التي صال فيها المؤلف وجال‬
‫مستعرضاً معرفته الواسعة بالجالية اليهودية في السودان والتي استقاها من عدة مصادر‬
‫بخالف كتاب سولومون ملكا‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫‪ .4‬اإلفادات الشفوية‪ :‬رغم التحفظات التي يبديها بعض المؤرخين حول التاريخ‬
‫الشفوي‪ ،‬إال أن الشواهد الشفوية بعد نقدها وتمحيصها يمكن أن تشكل رافداً مهماً‬
‫للدراسة التاريخية‪ ،‬وفي حالة بحثنا هذا فإن للمصادر الشفوية وزناً خاصاً نسبة‬
‫لشح المصادر المكتوبة التي تناولت الموضوع‪ .‬وقد قام الباحث بجمع اإلفادات‬
‫الشفوية من مدن‪ :‬األبيض‪ ،‬مروي‪ ،‬الخرطوم‪ ،‬الخرطوم بحري‪ ،‬أم درمان‪ .‬وقد‬
‫شملت عينة اإلخباريين أفراداً ينحدرون من أسر يهودية‪ G،‬وأفراد عايشوا األسر‬
‫وج َّل الفئة األخيرة من‬
‫اليهودية‪ ،‬وأفراد ذوي معرفة بنشاط اليهود في السودان‪ُ ،‬‬
‫األكاديميين‪ .‬وقد جمعت هذه اإلفادات بمساعدة بعض الزمالء واألساتذة‪ ،‬وقمت‬
‫بتدوين‪ G‬اإلفادات كتابة‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬المصادر الثانوية‬


‫‪ .1‬الكتب‪.‬‬

‫‪ .2‬البحوث الجامعية‪.‬‬

‫‪ .3‬الدوريات‪.‬‬

‫وقد غطت هذه النوعية من المصادر خمسة محاور أساسية في البحث‪ ،‬هي‪:‬‬
‫المحور النظري‪ :‬وهو محور متعلق بطبيعة الجماعات اليهودية‪ ،‬وتكوينها‬ ‫‪.1‬‬
‫التاريخي‪ ،‬وسماتها االقتصادية‪ ،‬وشتاتها‪ ،‬وأوضاعها بعد الشتات‪ .‬وساعدت هذه‬
‫الكتب في اإللمام بالعنصر البشري في هذا البحث‪ .‬وال بد من اإلشارة هنا إلى‬
‫إسهامات الدكتور عبد الوهاب المسيري الذي جعل موضوع هذا المحور مشروعه‬
‫الفكري وانكب عليه‪ ،‬وأنتج حوله عشرات البحوث والكتب‪ .‬وفد قرأ الباحث ُج َّل ما‬
‫كتبه المسيري حول الموضوع‪ ،‬وإ ن اختلفنا معه في بعض أطروحاته إال أنه يظل‬
‫واحداً من األعمدة األساسية التي يرتكز عليها هذا البحث‪ .‬ومن أهم كتب المسيري‬
‫في هذا المحور‪:‬‬

‫‪18‬‬
‫عبد الوهاب المسيري‪ ،‬نهاية التاريخ‪ :‬مقدمة لدراسة بنية الفكر الصهيوني‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫مركز الدراسات السياسية واالستراتيجية‪ ،‬القاهرة‪( ،1973 ،‬د‪ .‬ط)‪( .‬باللغة‬
‫العربية) حوالي ‪ 128‬صفحة من القطع الصغير‪.‬‬

‫يحاول المؤلف في هذا الكتاب دراسة الجذور التاريخية لما أسماه "ببنية الفكر‬
‫الصهيوني" ليس كحركة صهيونية وحسب وإ نما كحركة حضارية "فاشية" تحاول أن تفرض‬
‫قيماً ال عقالنية‪ .‬ويحاول المؤلف من خالل دراسته الوصول إلى األساس الفلسفي الذي تستند‬
‫عليه الحركة الصهيونية موضحاً وحدة بنية الفكر الصهيونية وتجانسها رغم اختالف‬
‫المحتويات األيديولوجية من مدرسة صهيونية ألخرى‪ .‬ويحاول المؤلف أن يربط بين‬
‫األساس الفلسفي للصهيونية والموقف السياسي لها فيبين أن العنف‪ ،‬مثالً‪ ،‬ليس ظاهرة‬
‫عرضية في الصهيونية وإ نما هو في الواقع نتاج حتمي لموقف متكامل‪.‬‬
‫وقد أستفدنا من هذا الكتاب في تعريفه الدقيق الذي يميز بين الصهيونية واليهودية‪ G،‬وفي‬
‫نفس الوقت إبرازه للبعد‪ G‬الصهيوني الكامن داخل التراث اليهودي‪ .‬وال نأخذ هنا بتوجه‬
‫المؤلف حول عدم وجود شعور قومي يختبئ خلف الصهيونية‪ ،‬فرغم أن الصهيونية‪ ،‬كما قال‬
‫المؤلف‪ ،‬هي نتاج حضاري لظروف اقتصادية وتاريخية محددة إال أن ذلك ال يلغي الشعور‬
‫القومي اليهودي والذي ظل يتغذى باستمرار من تالوة التوراة‪ ،‬وحتى إذا اتفقنا مع المؤلف‬
‫في أن الشعور القومي لم يكن سبب نشوء الحركة الصهيونية إال أننا نؤكد أنه كان السبب‬
‫المباشر وراء انتشار الحركة الصهيونية بين يهود العالم الذين لم يخضعوا جميعاً لذات‬
‫الظروف االقتصادية والتاريخية‪ ،‬ومن هؤالء يهود السودان‪.‬‬
‫عبد الوهاب المسيري‪ ،‬الجماعات الوظيفية اليهودية‪ :‬نموذج تفسيري جديد‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫مركز دار الشروق‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬القاهرة‪( .2002 ،‬باللغة العربية) ‪550‬‬
‫صفحة من القطع المتوسط‪.‬‬

‫يضم هذا الكتاب أطروحة المسيري المركزية حول مفهوم الجماعة الوظيفية والذي‬
‫يزعم أنه أداة تحليلية لها قدرة تفسيرية عالية في دراسة الجماعات اليهودية‪ G.‬ويذهب الباحث‬
‫إلى أن الجماعة الوظيفية هي ظاهرة عالمية‪ ،‬ويحاول أن يضع عبر هذا المفهوم الجماعات‬

‫‪19‬‬
‫اليهودية في سياقاتهم التاريخية واإلنسانية‪ .‬ويصف عبر هذه األداة كيف استجلبت الجماعات‬
‫اليهودية من خارج المجتمع أو جندت في داخله للقيام بوظائف متعددة ال يمكن لغالبية أفراد‬
‫المجتمع القيام بها ألنها وظائف‪ :‬مشينة كالبغاء والربا‪ ،‬أو وظائف متميزة كالقضاء‬
‫والترجمة والطب‪ ،‬أو وظائف ذات حساسية خاصة كحراسة الملك أو الجاسوسية‪.‬‬
‫تستند هذه األطروحة على نماذج تاريخية متعددة تؤكد صالحية مفهوم الجماعة الوظيفة‬
‫كأداة تحليلية‪ ،‬وال يجد الباحث ما يمنع من استخدام هذه األداة في تفسير النشاط االقتصادي‬
‫واالجتماعي للجالية اليهودية‪ G‬في السودان‪.‬‬
‫عبد الوهاب المسيري‪ ،‬اليد الخفية‪ :‬دراسة في الحركات اليهودية الهدامة‬ ‫‪‬‬
‫والسرية‪ ،‬مركز دار الشروق‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،‬القاهرة‪( .2005 ،‬باللغة العربية)‬
‫‪ 326‬صفحة من القطع المتوسط‪.‬‬

‫يتناول هذا الكتاب فكرة المؤامرة اليهودية‪ G‬من خالل عرض أهم جوانبها ودراسة أهم‬
‫ظواهرها‪ ،‬فيتناول الفصل األول فكرة المؤامرة وبرتكوالت حكماء بني صهيون والتلمود‬
‫وارتباط اليهود بالسحر‪ .‬ويتناول الفصالن الثاني والثالث الحركات اليهودية الهدامة‪،‬‬
‫واإلسرائيليات‪ ،‬وظاهرة اليهود المتخفين‪ ،‬والماسونية‪ ،‬والبهائية‪ .‬ويرى البعض أن اليهود‪،‬‬
‫انطالقاً من رغبتهم المتأصلة في هدم المجتمعات اإلسالمية والمسيحية‪ ،‬انضموا للحركات‬
‫الشيوعية واالشتراكية‪ ،‬وهذا ما يناقشه المؤلف في الفصل الرابع‪ .‬أما الفصالن الخامس‬
‫والسادس فيتعامالن مع بعض الجرائم اليهودية‪ G‬المحددة مثل االشتغال بالبغاء والشذوذ‬
‫الجنسي والجاسوسية والجرائم المالية‪ .‬ويتناول الفصل السابع ما أسماه "بالعبقرية اليهودية"‪G.‬‬
‫أما الفصل الثامن فقد خصصه لقضية اللوبي اليهودي‪.‬‬
‫ورغم أن المؤلف ال ينفي عن اليهود عملهم في بعض هذه المنظمات السرية إال أنه‬
‫يؤكد على أن التصورات التآمرية التي تهيمن على العقل العربي‪ ،‬أو ما يسميه "بالنموذج‬
‫االختزالي"‪ ،‬أداة غير كافية بل مضللة أحياناً في دراستنا وفهمنا وتحليلنا "للعدو" ألنها تضفي‬
‫عليه قوة ال يستحقها‪.‬‬
‫ونتفق مع ُج َّل ما ذهب إليه الدكتور عبد الوهاب المسيري في هذا المؤلف‪ ،‬بل ويستند‬
‫عليه البحث في إلغاء اهتمامه بالماسونية التي يعتبرها الكثيرون تنظيماً يهودياً‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫عبد الوهاب المسيري‪ ،‬في الخطاب والمصطلح الصهيوني‪ :‬دراسة نظرية‬ ‫‪‬‬
‫وتطبيقية‪ ،‬مركز دار الشروق‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬القاهرة‪ ( .2005 ،‬باللغة العربية)‪G،‬‬
‫‪ 282‬صفحة من القطع المتوسط‪.‬‬

‫يحاول المؤلف في هذا الكتاب تحليل وتفسير ما تنطوي عليه المصطلحات الصهيونية‬
‫من مفاهيم عنصرية وادعاءات زائفة بغرض تضليل الذهن اإلنساني‪ .‬ويعتمد‪ G‬في محاولته‬
‫على تفكيك وإ عادة تركيب المصطلحات الصهيونية والمفاهيم الكامنة وراءها‪ .‬كما يحاول‬
‫الوصول إلى بعدها المعرفي ومرجعيتها النهائية‪ ،‬ويفترض أنها مرجعية واحدة ال تتغير‬
‫وهي االفتراض الصهيوني بأن اليهود شعب واحد له تاريخ مستقل ويتسم بخصوصية‬
‫يهودية‪ G،‬وأن فلسطين هي "إرتس إسرائيل"‪ ،‬وهي كلمة عبرية تعني أرض إسرائيل‪.‬‬
‫وقد أفادنا هذا المؤلف بما قدمه من تعاريف وشروحات للمفاهيم والمصطلحات وشرح لها‬
‫ولعمقها المعرفي ودالالتها الضمنية‪.‬‬
‫محور العالقات اليهودية العربية‪ :‬ومعظم بحوث هذا المحور غير موضوعية في‬ ‫‪.2‬‬
‫تناولها‪ ،‬فهي إما منطلقة من تحيز عربي أو تحيز يهودي‪ ،‬لكن ذلك ال يلغي‬
‫احتوائها على معلومات تاريخية ساعدت الباحث في مهمته‪ G.‬ومن أكثر البحوث‬
‫فائدة في هذا المحور مما أطلع عليه الباحث اسهامات الدكتور س‪ .‬د‪ .‬قويتين عن‬
‫العرب واليهود في التاريخ‪ ،‬لعل أهمها على اإلطالق دراسته الممتازة عن وثائق‬
‫جنيزة القاهرة‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫‪‬‬ ‫‪S.D. Goitein, A Mediterranean Society: The Jewish‬‬


‫‪Communities of the Arab World As Portrayed in the‬‬
‫‪Documents of Cairo Geniza, Vol. I, Economic Foundations,‬‬
‫‪University of California Press, London, 10th reprint, 1999.‬‬

‫(باللغة اإلنجليزية)‪ .‬ويحتوي هذا السفر على خمسة مجلدات ضخمة‪ ،‬ويقع الجزء األول‬
‫منه في نحو ‪ 600‬صفحة من القطع الكبير‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫يبين المؤلف في مقدمة الجزء األول أنه استند على فواتير يهودية مكتوبة باللغة العربية‬
‫بالحرف العبري‪ ،‬فعمل على ترجمتها وتحليلها‪ .‬وتعكس هذه الوثائق العالقات االقتصادية‬
‫لليهود بالعالم العربي‪.‬‬
‫وقد قمنا بتتبع فهرست الكتاب مستخدمين الكلمات المفتاحية‪( :‬النوبه ‪ ،Nuba‬زغاوة‬
‫‪ ،Zaghaua‬والنيل ‪ )Nile‬وهي األسماء المعروفة في تلك الفترة لبعض أقاليم السودان‪.‬‬
‫وبقراءة الصفحات المحددة‪ ،‬غير المتصلة‪ ،‬تكشف لنا وجود نشاط يهودي مبكر في السودان‬
‫كان قوامه تجارة الرقيق‪.‬‬
‫ورغم أهمية ما جاء في هذا الكتاب من معلومات‪ ،‬ورغم أنه ش ّكل جزءاً مهماً من‬
‫التمهيد‪ G‬الذي قمنا به حول التواصل المبكر بين اليهود وسودان وادي النيل‪ ،‬إال أننا لم نر ّكز‬
‫كثيراً على ما جاء في هذا السفر ألنه يقع خارج الحدود التاريخية التي يغطيها هذا البحث‪.‬‬
‫محور الوجود اليهودي في مصر‪ :‬ويكتسب هذا المحور أهميته من إمكانية قياس‬ ‫‪.3‬‬
‫أوضاع اليهود في مصر على أوضاع اليهود في السودان خصوصأ في الفترة ما‬
‫بين ‪ 1821‬حتى ‪ ،1956‬إذ كان السودان مرتبطاً بمصر سياسياً واقتصادياً رباطاً‬
‫ال فكاك منه‪ ،‬وكما كان هناك ملك مصر والسودان كان هناك حاخامباشي لليهود‬
‫في كال البلدين‪ .‬ومن أهم الدراسات التي اعتمد عليها البحث في هذا المحور دراسة‬
‫سهام نصار‪:‬‬

‫سهام نصار‪ ،‬اليهود المصريون بين المصرية والصهيونية‪ ،‬دار الوحدة‪ ،‬الطبعة‬ ‫‪‬‬
‫األولى‪ ،‬بيروت‪( .1980 ،‬باللغة العربية)‪ G،‬حوالي ‪ 161‬صفحة من القطع‬
‫المتوسط‪.‬‬

‫هذا الكتاب في األصل دراسة أعدتها الباحثة ونالت بموجبها درجة الماجستير في‬
‫اإلعالم من جامعة القاهرة عام ‪ ،1977‬بعنوان الصحف اليهودية العربية في مصر‪ .‬ولذا‬
‫فإن الكتاب يعتمد‪ G‬على الصحف اليهودية‪ G‬الصادرة من مصر‪.‬‬
‫استعرضت الباحثة في الفصلين األول والثاني أوضاع اليهود في المجتمع المصري‪،‬‬
‫وموقعهم من ظروف مصر السياسية‪ ،‬وهما الفصالن اللذان قدما فائدة كبيرة لهذا البحث‪ .‬أما‬

‫‪22‬‬
‫بقية الفصول السابعة فتدور موضوعاتها حول نشأة صحافة اليهود وتوجهاتها ودورها في‬
‫نشر الوعي اليهودي‪ .‬وقد أشارت إلى مشاركة بعض يهود السودان‪ ،‬مثل الحاخام ملكا‪،‬‬
‫بالكتابة في بعض هذه الصحف خصوصاً ذات التوجه الصهيوني منها مثل صحيفة الشمس‪.‬‬
‫كما تتعرض لتكوين المنظمات الصهيونية في مصر‪ ،‬منها منظمة بناي بيرت التي أنشأت‬
‫فرعاً لها في السودان‪.‬‬
‫اتبعت المؤلفة الفصالن األول والثاني منهجاً صارماً وسلساً في آن لعرض أوضاع‬
‫الجالية اليهودية في مصر‪ .‬إال أنها وانطالقاً من عروبية محضة تخرج بتعميمات مخلة عن‬
‫الوجود اليهودي في العالم العربي‪ ،‬وهو ما نسعى لتحقيقه في هذا البحث‪.‬‬
‫محور تاريخ السودان الحديث‪ :‬على الرغم من خلو هذا المحور من معلومات عن‬ ‫‪.4‬‬
‫النشاط اليهودي في السودان إال أنه َّ‬
‫شكل مرجعية مهمة لوضع المعلومات المتوافرة‬
‫في المصادر األخرى في سياقها التاريخي‪.‬‬

‫محور الوجود اليهودي في السودان‪ :‬وليس هناك دراسات جادة حول هذا المحور‬ ‫‪.5‬‬
‫باستثناء بحث تكميلي لنيل درجة الدبلوم العالي في الدراسات اإلفريقية واآلسيوية‬
‫عام ‪ 1976‬بعنوان موضوع عن اليهود في السودان‪ ،‬وهو العمل الذي قام معده‬
‫صالح محمد أحمد بإعادة تحريره ونشره في كتاب‪:‬‬

‫صالح محمد أحمد‪ ،‬الجالية اليهودية في السودان‪ :‬النشأة‪ ..‬الحياة‪ ..‬الهجرة‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫مركز الراصد للدراسات‪( ،‬د‪ .‬ط)‪ ،‬الخرطوم‪( .2004 ،‬باللغة العربية)‪ G،‬حوالي ‪6‬‬
‫‪ 3‬صفحة من القطع المتوسط‪.‬‬

‫على عكس ما يبدو من عنوانه‪ ،‬هذا بحث صغير غير دقيق إذ ال يغطي عنوانه‪ ،‬ويحمد‬
‫للمؤلف استناده على بعض الروايات التاريخية الشفوية في الجزء المتعلق بالسودان‪ ،‬إال أننا‬
‫نعيب عليه منهج تعامله مع هذه الروايات وقبولها بشكل كلي دون تحقيق أو تمحيص أو‬
‫مقارنة‪ .‬وقد استطاع المؤلف أن يجمع إفادات عدد من اإلخباريين وشهود العيان المهمين‬
‫والذين كانوا عناصر فاعلة في النشاط االقتصادي واالجتماعي للجالية اليهودية‪ G‬في السودان‪،‬‬
‫إال أن ضعف األساس المنهجي للمؤلف في جمع اإلفادات الشفاهية واإلفادة منها ضيع علينا‬

‫‪23‬‬
‫الكثير من المعرفة التي كان يمكن استخراجها من هؤالء الرواة الذين مات بعضهم وغادر‬
‫البالد بعضهم اآلخر ولم يتبق منهم إال عدد قليل‪ .‬كما لم يوفق المؤلف في التوثيق إلخباريه‪:‬‬
‫من هم؟ أعمارهم‪ ،‬وظائفهم‪ ،‬سكنهم‪ ،‬أصولهم‪ ،‬تعليمهم‪ ،‬أسرهم وأوضاعهم االجتماعية‪،‬‬
‫حضور اإلفادة‪ ،‬فكل هذه البيانات تؤثر بالضرورة على اإلفادة نفسها من ناحية المصداقية‪.‬‬
‫عنون المؤلف فصله األول "بالعائالت ذات األصول اليهودية في السودان" إال أنه في‬
‫ّ‬
‫واقع األمر تناول بعض العائالت ذات األصول اليهودية‪ G‬في السودان‪ .‬وحتى هذه لم يعالجها‬
‫وإ نما اكتفى بإشارات غير دقيقة في معظم األحوال‪ .‬أما الفصل الثاني‪ ،‬ويتكون من ثالث‬
‫صفحات فقط‪ ،‬فقد خصصه لمحاوالت الجالية اليهودية‪ G‬لالرتباط بالخارج‪ .‬وقد استقى هذا‬
‫الفصل بالكامل من كتاب إلياهو سولومون ملكا سابق الذكر‪ ،‬لذا جاء هذا الفصل باهتاً‬
‫ومقتضباً وال يحقق أي غاية إذ أخفق المؤلف في ربط الجالية اليهود في السودان بالحركات‬
‫اليهودية والصهيونية حول العالم‪ .‬ويشغل الفصل الثالث الجزء األكبر من هذا الكتاب‪ ،‬وهو‬
‫عبارة عن جدول يوضح أسماء بعض أفراد الجالية اليهودية‪ G‬في السودان‪ ،‬ومكان وتاريخ‬
‫ميالدهم‪ ،‬وتاريخ دخولهم ومغادرتهم للسودان‪ ،‬وأسباب المغادرة‪ .‬وقد اعتمد هذا الفصل على‬
‫ملفات إدارة المباحث الجنائية ووزارة الداخلية‪ .‬ورغم الجهد الكبير الذي بذل في هذا‬
‫المبحث إال أنه ال يحقق أي غاية للكتاب وال يثبت أو ينفي شيئاً ألنه افتقر لفرضية نظرية أو‬
‫هدف يسعى له المؤلف‪ .‬فال هو إحصاء ألعضاء الجالية‪ ،‬وال هو اختيار ألفراد برزوا بشكل‬
‫أو بآخر منهم‪ .‬ويتكون الفصل الرابع من ثالث صفحات‪ ،‬وفيه يتناول المؤلف ستاً من‬
‫الشخصيات اليهودية التي ارتبطت بالسودان‪ :‬مغامرين‪ ،‬ومؤرخين‪ ،‬وتجار‪ .‬في الفصل‬
‫الخامس واألخير يناقش المؤلف المقترحات والخطط الصهيونية التي سعت إلقامة وطن‬
‫قومي لليهود في السودان‪ .‬وهذا فصل جيد‪.‬‬

‫حول مفهوم اليهودية؟ ومن هو اليهودي؟‬

‫اليهودية (الحقل اللغوي واألصل الداللي)‪ :‬من المصطلحات التي تسبب اختالفا في داللتها‪.‬‬
‫يشير اليهود إلى عقيدتهم باسم التوراة (أي القانون‪ ،‬أو الشريعة)‪ .‬ظهر المصطلح للمرة‬

‫‪24‬‬
‫األولى في العصر الهيليني تمييزا بين عقائد وممارسات اليهود‪ ،‬والعبادات الموجودة في‬
‫الشرق األدنى‪.‬‬

‫أول من أشار إلى عقيدة اليهود باليهودية هو المؤرخ اليهودي المتأغرق يوسيفوس‬
‫فالفيوس‪ ،‬وذلك بالمقارنة مع "الهيلينية‪ :"G‬عقيدة أهل مقاطعة يهودا مقابل عقيدة سكان مقاطعة‬
‫هيالس‪ .‬فالمصطلحان بدءا اسمين جغرافيين قبل أن يشيرا إلى النسقين العقائديين‪.G‬‬

‫يرى الدارسون أن "اليهودية‪ "G‬كمصطلح ال يشير إلى النسق الديني للعبرانيين‪ G‬قبل‬
‫تدوين العهد القديم أثناء الهجرة األولى إلى بابل ‪ 578‬ق‪.‬م‪ ،.‬أي بعد موسى بمئات السنين‪،‬‬
‫واستمر التدوين حتى القرن الثاني قبل الميالد‪ ،G‬في وقت أصبحت فيه العبرية لغة ميتة ال‬
‫تستخدم إال في الطقوس الدينية‪ G،‬بينما أصبحت اآلرامية لغة اليهود‪ .‬لذا‪ ،‬قد يكون من األفضل‬
‫الحديث عن "عبادة يسرائيل" في المرحلة السديمية التي تسبق بناء الهيكل وتأسيس المملكة‬
‫العبرانية المتحدة عام ‪ 1020‬ق‪.‬م‪ ،.‬وعن "العبادة القربانية المركزية" بعد تأسيس الهيكل‬
‫وحتى هدمه عام ‪ 70‬ميالدية‪ ،‬واليهودية‪ G‬بشكل عام لما بعد ذلك‪.‬‬

‫اليهودية (خصائص النسق الديني)‪ G:‬نظرا لظهورها المبكر‪ ،‬ولتمثلها عناصر من الحضارات‬
‫في فلكها‪ ،‬تتسم اليهودية بتجانس أقل مما هو في حالة الديانات التوحيدية األخرى‪ ،‬خاصة بعد‬
‫سقوط الهيكل‪ ،‬واختفاء أي مركز ديني أو زمني لليهودية (أو اليهود)‪ ،‬وأصبحت اليهودية‪G‬‬
‫تراكميا لطبقات عدة الواحدة فوق األخرى‪ .‬أول من أشار لهذه الظاهرة بين الباحثين‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تركيبا‬
‫العرب هو الدكتور عبد الوهاب المسيري في موسوعته اليهود و اليهودية والصهيونية‬
‫ساردا عدة أسباب أدت لتحول الديانة اليهودية‪ G‬لهذا المركب الجيولوجي التراكمي‪ : ‬أهمها عدم‬
‫تدوين العهد القديم إال بعد نزوله بفترة طويلة فإذا كان عام ‪ 1200‬ق‪.‬م هو العام المعتمد من‬
‫قبل علماء اليهود للخروج فإن كتابة التوراة لم تتم إال بعد مئات السنين و لم تعتمد النسخة‬
‫شعبا بدوياً متنقالً‬
‫القانونية منه إال بعد ظهور يسوع المسيح ‪ ،‬يضاف لذلك كون بني إسرائيل ً‬
‫احتك بالعديد من الحضارات األخرى مثل الحضارة الفرعونية و فكرة التوحيد عند إخناتون‪،‬‬
‫والحضارة الفارسية في شرقي بالد الرافدين ‪ .‬سبب آخر أن اليهودية لم تستطع أن تشكل‬

‫‪25‬‬
‫سلطة مركزية تحدد جوهر الدين و منطلقاته وترفض ما هو خارج عن أسسه و منذ البدايات‬
‫انقسمت المملكة العبرانية و انقسمت المراكز الدينية‪ G‬فتأسس مركز في بيت إيل من ثم تأسس‬
‫مركز ديني في بابل يتحدث باآلرامية و ليس العبرية ثم مركز في مصر يتحدث باليونانية‪.‬‬
‫وبالمقارنة مع العقائد األخرى‪ ،‬تتسم التقاليد الشفوية اليهودية‪ G‬بسلطة تجعلها "شريعة شفوية"‬
‫تفوق "الشريعة المكتوبة"‪ ،‬أي التوراة‪ ،‬أهمية‪ .‬و الشريعة الشفوية هي مجموع تفسيرات‬
‫حاخامات اليهود و فقهائهم لمجمل الشريعة المذكورة في التوراة ‪ .‬جمعت هذه التعليمات الحقا‬
‫في كتاب دعى باسم التلمود‪ .‬كل هذه المكونات المختلفة للتركيب اليهودي جعلت العهد القديم‬
‫مليئا بالعبارات والمفاهيم المتناقضة‪.‬‬
‫أو ً‬

‫سفارد‪ :‬هو مصطلح مأخوذ من األصل العبري " سفارديم"‪ .‬وقد استخدم ابتداء من القرن‬
‫الثامن الميالدي لإلشارة إلى أسبانيا‪ ،‬ويستخدم في الوقت الراهن لإلشارة إلى اليهود الذين‬
‫عاشوا أصالً في أسبانيا والبرتقال ثم انتشروا‪ ،‬فيما بعد‪ ،‬في بلدان العالم اإلسالمي وبخاصة‬
‫سالونيكا التركية حتى أصبح المصطلح يعني "اليهود الشرقيين" أو "يهود العالم اإلسالمي" في‬
‫مقابل "اليهود الغربيين"‪.‬‬

‫أشكناز‪ :‬تختلف المصادر الدينية والتاريخية واللغوية في تحديد‪ G‬أصل كلمة "أشكناز" ومعناها‪،‬‬
‫إال أنها تعني في االستخدام الحالي "اليهود الغربيون" وبخاصة ذوي األصول الفرنسية‬
‫واأللمانية والبولندية‪G.‬‬

‫ومن الناحية الثقافية تختلف لغة السفارد العبرية عن عبرية األشكناز وذلك ألنهم‬
‫يستخدمون اللغة العربية في اقتصر استخدامهم للغة العبرية في الكتابات الدينية المتخصصة‪.‬‬
‫ومن ناحية العقيدة‪ ،‬ورغم اتفاق السفارد واألشكناز في جوهر العقيدة والعبادات‪ ،‬فقد ظهرت‬
‫اختالفات في بعض المظاهر والمصطلحات‪ .‬وهكذا فقد اكتسب مصطلحي سفارد وأشكناز‬
‫دالالت دينية‪ G‬إضافة لداللته االثنية‪ G.‬وقد عرف السودان اليهود "السفارد" واليهود "األشكناز"‬

‫‪26‬‬
‫إال أن الحساسية بينهم في السودان لم تكن على حالها إذ أن معظم اليهود األشكناز استجابوا‬
‫لعادات وتقاليد السفارد كما سنرى‪.‬‬

‫اليهود المتخفون‪ :‬وهم اليهود الذين يتظاهرون باعتناق دين آخر غير اليهودية بسبب‬
‫الظروف المختلفة‪ ،‬ويظلون على دينهم في الواقع‪ .‬وقد الحظ بعض الدارسين أن هذه الظاهرة‬
‫لم تظهر إال داخل التشكيل الحضاري اإلسالمي بسبب اختالط اليهود السفارد بالمسلمين وقد‬
‫أخذوا عن المسلمين مبدأ "التقية"‪ .‬ويشار لليهود المتخفين في العبرية باسم "أونسيم" وهي كلمة‬
‫عبرية تعني المكرهين‪ .‬ومن اليهود المتخفين يهود المارانو في أسبانيا ويهود الدونمة في‬
‫تركيا‪ .‬ويفترض البحث أن عدداً من الموظفين األتراك في السودان الذين يعودون ألصول‬
‫يهودية‪ G‬هم في الواقع يهود متخفون‪ ،‬وهو ما سنعرض له بالتفصيل داخل هذا البحث‪.‬‬

‫الوالء اليهودي المزدوج‪ :‬هو مصطلح يستخدمه المعادون لليهود انطالقاً من اإليمان بأن‬
‫اليهود ال يدينون‪ G‬بالوالء إال لوطنهم القومي ومصالحهم اليهودية ألنهم ال جذور لهم في‬
‫انتماء حقيقياً‪ .‬وهو مفهوم ليس صحيحاً بالضرورة‪ ،‬ويناقش البحث‬
‫ً‬ ‫مجتمعاتهم وال يتنمون لها‬
‫صحته من عدمها فيما يتعلق بحالة يهود السودان‪.‬‬

‫من هو اليهودي؟ يالحظ الباحث عدم وجود معيار متفق عليه بين اليهود أنفسهم حول أساس‬
‫االنتماء اليهودي‪ ،‬وهل هو ديني أم قومي أم ديني‪ /‬قومي؟ حتى أن البعض ذهب إلى معيار‬
‫خارجي تماماً عندما قال أن اليهودي هو من يعتبره اآلخرون كذلك! كما أن الهويات اليهودية‬
‫المتعددة‪ G‬تم تشكيلها في غياب سلطة مركزية دينية أو دنيوية‪ ،‬وعبر االحتكاك مع عشرات‬
‫الخبرات التاريخية والحضارية وهو ما نتج عنه تنوع كبير بين الجماعات اليهودية‪.‬‬

‫وال يعني هذا أن ننفي أهمية المشترك الديني‪ ،‬بل لعله أهم مكونات الهوية اليهودية‪ ،‬لكنه‬
‫ال يحدد بشكل قاطع من هو اليهودي‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫كما يالحظ الباحث غياب النظرة الموضوعية لإلجابة على هذا السؤال‪ ،‬فالفكر اليهودي‬
‫والفكر المعادي لليهود على حد سواء يستعجلون إيجاد الرابط للتنويعات اليهودية‪ G‬في "شعب‬
‫يهودي" مما يمكنهم من إطالق األوصاف‪ ،‬إيجابية أو سلبية‪ ،‬لخدمة أغراضهم األيديولوجية‪.‬‬

‫وعلى كل حال فمن بين كل العناصر المحددة للهوية يركز هذا البحث على سمتين‬
‫أساسيتين لتحديد هوية اليهودي‪ ،‬وليس بالضرورة أن تتوفرا معاً في "اليهودي" إذ يكتفي‬
‫البحث بوجود سمة واحدة كمعيار للهوية اليهودية‪ ،‬وهاتين السمتان هما‪:‬‬

‫أوالً‪ :‬الدين اليهودي‪ :‬بمعنى أن يدين الفرد باليهودية‪ G،‬وهي أهم عناصر تحديدنا للهوية‬
‫اليهودية‪ .‬واليهودية عقيدة وشرائع وتقاليد‪ ،‬ولما كانت تدخل في كافة أوجه حياة اليهودي من‬
‫االستحمام وارتداء المالبس وألوانها‪ ،‬والمعامالت االجتماعية‪ ،‬إلى الصلوات الدينية وحتى‬
‫رؤية اليهودي لنفسه وللعالم من حوله وتصوره المسبق لمآالت التاريخ‪ ،‬لكل ذلك فإن العامل‬
‫الديني يشكل أساس الثقافة اليهودية‪ ،‬ومن ثم فإن بعض "غير اليهود" ممن غيروا ديانتهم‬
‫اليهودية هم يهود بالتقاليد والثقافة‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬العرق اليهودي‪ :‬نقاء اليهود عرقياً عبارة تفترض أن أعضاء الجماعات اليهودية‬
‫حافظوا عبر التاريخ وفي كل زمان ومكان على نقائهم العرقي ولم يختلطوا باألجناس‬
‫والشعوب األخرى‪ .‬وهذه فكرة غير موضوعية يروج لها المفكرون اليهود إليجاد موطئ قدم‬
‫كشعب قومي والبد له من وطن قومي؛ كما يتبناها في نفس الوقت المعادون لليهود ليتخذونها‬
‫سبباً لعزل اليهود ورميهم بأبشع الصفات‪ .‬وبطبيعة الحال فإن هذا البحث ال يتبنى هذه الفكرة‬
‫بل ويالحظ الباحث أنه حتى التشريعات اليهودية‪ G‬التي تحرم الزواج المختلط لم تمنع اليهود من‬
‫التزاوج مع غيرهم من الشعوب‪ ،‬وسنناقش هذه المسألة في معرض حديثنا عن النشاط‬
‫االجتماعي للجالية اليهودية‪ G‬في السودان‪ .‬وعليه فإننا نعني بـ"العرق اليهودي" هنا تحدر‬
‫األفراد‪ ،‬الذين قد ال يدينون‪ G‬باليهودية‪ ،‬من أسر يهودية‪ G.‬فاليهودية‪ G‬كما ذكرنا من قبل ثقافة‬
‫وتربية وأيديولوجيا‪ .‬وسنالحظ في هذا البحث أن بعض المتحدرين من أسر يهودية‪ ،‬رغم عدم‬

‫‪28‬‬
‫يهوديتهم‪ ،‬فهم يبرزون تعاطفاً خاصاً تجاه الجالية اليهودية في السودان‪ ،‬وفي نفس الوقت‬
‫يبرزون مشاعر عدائية تجاه المسلمين والعرب في السودان‪.‬‬

‫وتجدر بي اإلشارة لوجود سمة ثالثة يهتم بها البحث على نحو خاص ويعتبرها سمة‬
‫مرادفة لليهودي وفقاً للسمتين السابقتين‪ ،‬وهي السمة االقتصادية‪ ،‬وهي سمة شكلتها الظروف‬
‫التاريخية التي عاشتها الجماعات اليهودية‪ G،‬وقد أفردنا لهذه السمة مبحثاً كامالً في الفصل‬
‫الرابع من هذا البحث‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫تأسيس‬
‫الوجود اليهودي في السودان حتى ‪1898‬‬
‫‪ .1‬التواصل المبكر بين اليهود والمجموعات السودانية (حتى عام‬
‫‪1821‬م)‬
‫‪ .2‬اليهود في السودان في ظل العهد التركي المصري (‪-1821‬‬
‫‪1885‬م)‬
‫‪ .3‬اليهود في السودان في ظل الدولة المهدية (‪1898 -1885‬م)‬

‫‪30‬‬
‫تأسيس (‪)1‬‬

‫التواصل المبكر بين اليهود والمجموعات السودانية حتى‬


‫عام ‪1821‬م‬

‫‪31‬‬
‫ورد في العهد القديم ذكر "كوش"‪ ،‬أحد األسماء التي عرفت بها بالد السودان‪،‬‬
‫ثالث مرات على األقل‪ :‬مرة في إشارة عرضية كاسم ألحد أوالد حام بن نوح‪" :‬وأبناء حام‪:‬‬
‫كوش ومصرايم وفوط وكنعان‪ .‬وأبناء كوش‪ :‬سبا وحويله وسبته ورعمه وسبتكا"‪ )1(،‬ومرة‬
‫في صيغة تحذيرية‪" :‬ويل ألرض حفيف األجنحة في َعبر أنهار كوش‪ ،‬التي تبعث رسالً في‬
‫البردى السابحة فوق المياه (‪ )2(G،")...‬أما اإلشارة الثالثة فقد جاءت في سفر‬
‫ِّ‬ ‫البحر في قوارب‬
‫صفنيا وفيها يشار إلى أرض كوش بأرض المتضرعين للرب‪" :‬لذلك يقول الرب‪ :‬انتظروني‬
‫ألني عزمت في اليوم الذي أقوم فيه كشاهد أن أجمع األمم وأحشد الممالك ألسكب عليهم‬
‫سخطي واحتدام غضبي‪ ،‬ألن األرض بكاملها ستؤكل بنار غيظي‪ .‬عندئذ أُنقِّي شفاه الشعب‬
‫ليدعو جميعهم باسم الرب ويعبدوه جنباً إلى جنب‪ .‬فيقرب إلي شعبي ذبيحة من وراء أنهار‬
‫(‪)3‬‬
‫إلي"‪.‬‬
‫كوش حيث يقيم المتضرعون َّ‬
‫ويفهم من هذه السياقات أن العهد القديم‪ ،‬كتاب اليهود المقدس‪ ،‬قد عرف أرض‬
‫وميز بين سكانها‪ ،‬نسل كوش‪ ،‬وبين أرض مصر وسكانها من نسل مصرايم‪ ،‬وأن‬
‫كوش‪ّ ،‬‬
‫بعض سكان كوش قد عرفوا اليهودية‪ G،‬او عبدوا رب اليهود‪ ،‬على أقل تقدير‪ ،‬وتضرعوا إليه‪،‬‬
‫على حد ما ورد في الكتاب المقدس‪.‬‬
‫ويشير العهد الجديد إلى أن اليهود قد عرفوا طريقهم إلى بالط مملكة مروي‪،‬‬
‫وعملوا في حكومة الكنداكة‪ ،‬بل ووصل أحدهم إلى منصب وزير الشؤون المالية للكنداكة‪.‬‬
‫وجاء في سفر أعمال الرسل‪ ،‬وهو بمثابة سجل تاريخي لنشأة الكنيسة وامتدادها‪ G،‬ما نصه‪:‬‬
‫"‪ ...‬ثم أن مالكاً من عند الرب كلّم فيلبس فقال له‪ :‬قم أذهب نحو الجنوب‪ ،‬ماشياً على‬
‫الطريق البرية بين أورشليم وغزة‪ .‬فقام وذهب‪ .‬وإ ذا رجل حبشي خصي‪ ،‬يعمل وزيراً‬

‫(‪ )1‬العهد القديم‪ ،‬سفر التكوين‪ ،‬اإلصحاح العاشر‪ ،‬اآليات ‪.7-6‬‬


‫(‪ )2‬العهد القديم‪ ،‬سفر أشعياء‪ ،‬اإلصحاح الثامن عشر‪ ،‬اآليات ‪.2-1‬‬
‫(‪ )3‬العهد القديم‪ ،‬سفر صفنيا‪ ،‬اإلصحاح الثالث‪ ،‬اآليات ‪.10 -8‬‬

‫‪32‬‬
‫للشؤون المالية عند كنداكة ملكة الحبشة‪ ،‬كان قد حج إلى أورشليم للسجود فيها‪ ،‬وهو راجع‬
‫(‪)4‬‬
‫إلى الحبشة راكباً في عربته‪ ،‬يقرأ في كتاب النبي أشعياء (‪".)...‬‬
‫ويرجح األب فانتيني أن يكون هذا الحدث قد وقع حوالي عام ‪37‬م‪ ،‬أي قبل أكثر‬
‫وأن الكنداكة ملكة الحبشة هي ملكة‬ ‫(‪)5‬‬
‫من ‪ 500‬عام من قيام الممالك المسيحية في السودان‪،‬‬
‫مروي‪ -‬كبوشية "إذ أن العديد‪ G‬من الوثائق تؤكد أن هذا اللقب اختصت به ملكة مروي‬
‫(‪)6‬‬
‫كبوشية"‪.‬‬
‫ولعل معرفة هذا الخصي بالديانة اليهودية‪ G‬مسألة طبيعية إذا صح ما زعمه فانتيني‬
‫من أن جزيرة الفنتينة‪ G،‬الواقعة جنوب أسوان‪ ،‬كانت تضم جالية يهودية بلغت نحواً من مليون‬
‫(‪)7‬‬
‫نسمة‪ ،‬كانت تحتكر التجارة بين مصر وبالد النوبه‪.‬‬
‫ونقرأ من بين سطور النص‪ :‬أن هناك لغة مشتركة بين الخصي وبين فيلبس ولعلها‬
‫اللغة اليونانية‪ ،‬اللغة التي كتب بها كتاب النبي أشعياء‪ .‬ونستنتج أن اليهودية كانت ديانة‬
‫معروفة في مملكة مروي‪ ،‬ولعل الوافدين إليها‪ ،‬من التجار اليهود‪ ،‬بشروا بها ونشروها في‬
‫البالط المروي‪ ،‬على األقل‪ ،‬وقد وصل اإليمان بها إلى درجة الحج إلى أورشليم من أجل‬
‫السجود فيها‪ .‬كما نستنتج أن التجار اليهود كان لهم وجود مؤثر في المنطقة الممتدة جنوب‬
‫عرف‬
‫مصر وشمال بالد النوبة‪ ،‬والبد أن االحتكاك المادي‪ ،‬والتواصل اللغوي والديني قد ّ‬
‫الشعبين السوداني واليهودي كالً باآلخر‪.‬‬

‫‪ )4‬العهد الجديد‪ ،‬سفر أعمال الرسل‪ ،‬اإلصحاح الثامن‪ ،‬اآليات ‪ .28 -26‬وتشرح بقية اآليات‬ ‫(‬

‫من ‪ 26‬حتى ‪ 39‬كيف تم تعميد هذا الخصي وتنصيره‪.‬‬


‫‪ )5‬ج‪ .‬فانتيني‪ ،‬تاريخ المسيحية في الممالك النوبية القديمة والسودان الحديث‪ ،‬الخرطوم‪،‬‬ ‫(‬

‫‪ ،1978‬ص ‪.41‬‬
‫(‪ )6‬نفسه‪ ،‬ص ص ‪.41 -40‬‬
‫‪ )7‬نفسه‪ ،‬ص ‪ .41‬ولعل الرقم الذي ذكره فانتيني مبالغ فيه‪ .‬وتشير بعض المصادر إلى الجزيرة‬ ‫(‬

‫باسم جزيرة إلفنتاين‪ ،‬وهي كلمة يونانية تعني (جزيرة الفيلة)‪ ،‬وقد تشكلت بها أول دياسبورا يهودية‬
‫استيطانية قتالية لحماية حدود مصر الجنوبية لصالح الفراعنة‪ .‬حول جزيرة إلفنتاين أنظر‪ :‬عبد‬
‫الوهاب المسيري‪ ،‬موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية‪ ،‬المجلد األول‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪ ،2003‬ص ص ‪.391 ،152 ،116‬‬

‫‪33‬‬
‫وتورد بعض المصادر عدداً من الروايات الشفوية التي توفر على جمعها بعض‬
‫الباحثين تفيد بقدوم جماعة من اليهود إلى السودان بحثاً عن مالذ آمن لها ولهيكل سليمان‪،‬‬
‫ومنها‪:‬‬
‫(‪)11‬‬
‫أوالً‪ :‬رواية ميشيل باركر‬
‫جمع ميشيل باركر‪ ،‬وهو قسيس ذو توجهات كنسية‪ ،‬هذه الرواية من الراوي (شيخ‬
‫عبد اهلل) في يناير ‪ 1996‬بمنطقة الجريف غرب بالخرطوم‪ .‬ويذكر أنه عرض الرواية على‬
‫عائلة الراوي المكونة من أكثر من ثالثمائة فرد وقد أكدوا جميعاً على صحة وقائعها‪ .‬وتدور‬
‫أحداث الرواية بين فلسطين واليمن وليبيا وجنوب مصر والسودان‪ .‬وفي السودان بين قريتي‬
‫جراد ونافع‪ ،‬في إقليم كردفان‪ ،‬ومدينتي الخرطوم وود مدني‪ .‬ويقول باركر أنه زار المناطق‬
‫السودانية التي وردت في الرواية وتحقق منها بنفسه‪ .‬ويمكن تلخيص الرواية‪ ،‬كما فهمها‬
‫باركر‪ ،‬من نسختها اإلنجليزية إلى‪:‬‬
‫"ينتمي الشيخ عبد اهلل وأفراد قرية جراد إلى قبيلة الهوارة الذين تعود أصولهم إلى‬
‫منطقة اليمن؛ وقد وصلوا إلى السودان في القرن السادس عشر‪ .‬وكلمة "الهوارة" هي كلمة‬
‫عربية لكن سكان منطقة جراد يعتقدون أنها مشتقة من االسم العبري "هور" ‪ Hur‬مشيرين‬
‫بذلك إلى جبل هور الذي توفى فيه هارون شقيق النبي موسى‪ .‬وانتشرت قبيلة الهوارة في‬
‫عدة مناطق وبأسماء مختلفة‪ ،‬لكنهم عرفوا باسم الهوارة في السودان‪ ،‬وليبيا‪ ،‬والجزء‬
‫الجنوبي من مصر‪ ،‬واليمن‪ ،‬وهم ينحدرون من الشعب العبراني‪ ،‬من داؤد ‪ )David،(12‬ثمرة‬
‫(‪)13‬‬
‫زواج النبي سليمان من ملكة سبأ‪.‬‬
‫وترى الرواية أن الرب أوحى لسليمان أنه سيلحق دماراً بالشعب العبراني البتعاده‬
‫عن تعاليم الرب‪ ،‬فقام سليمان بإبعاد عائلته الملكية من إسرائيل تحسباً للدمار القادم‪ ،‬وأرسل‬
‫وحمله هيكل العهد وغيره من األشياء المقدسة لتحفظ في مكان‬
‫ابنه داؤد إلى أخواله في اليمن ّ‬
‫(‬
‫‪11) Michael Parker, "Guardians of the Ark: A Sudanese Pilgrimage of‬‬
‫‪Faith", Presented at The Church in Sudan: Its Impact Past, Present and‬‬
‫‪Future, A Seminar held in Nairobi, February 16- 22, 1997, pp. 1- 20.‬‬
‫‪ )12‬ال تشير المصادر اليهودية إلى هذا الزواج‪.‬‬ ‫(‬

‫‪ )13‬أشار القرآن الكريم إلى أن ملكة سبأ هي بلقيس‪ ،‬وأشار للقاء بينها‪ G‬وبين سيدنا سليمان‪ ،‬لكن‬ ‫(‬

‫ليست هناك إشارة بحدوث زواج بينهما‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫آمن فال تدمر مع بقية المملكة‪ .‬ثم أنشأ سليمان هيكالً آخر ووضعه في قدس األقداس في‬
‫المعبد اليهودي‪.‬‬
‫وقد أعقب الملك داؤد سبعة ملوك من صلبه حكموا القبيلة وقد ذكروا في القرآن‬
‫وقد تعاقب هؤالء الملوك السبعة‪ ،‬وحفظ السر بينهم جيالً عن‬ ‫(‪)14‬‬
‫باسم التُبَّع في سورة التوبة‪.‬‬
‫جيل فظل الهيكل آمناً ترعاه األسرة الحاكمة‪ .‬وبعد عهد الملوك السبعة سقطت مملكتهم في‬
‫اليمن فانتقل جزء من القبيلة إلى جنوب مصر‪ ،‬وانتقل جزء آخر إلى ليبيا‪ ،‬وجزء ثالث اختار‬
‫السودان‪ .‬أما عائلة التُبَّع فقد تركت اليمن بعد فترة من هذه الهجرات‪ .‬فاتجهت أوالً إلى‬
‫البراد الذي‬
‫جنوب مصر واستقرت في مدينة‪( G‬قنا) ثم هاجرت إلى ليبيا بقيادة شيخ موسى ّ‬
‫توفي هناك ودفن في شرق ليبيا في مكان كان يحمل اسمه حتى تم تغييره حديثاً إلى بركة‪.‬‬
‫وكان لشيخ موسى سبعة أبناء أكبرهم اسمه شاع الدين‪ ،‬وقد قاد األخير أخوته في‬
‫القرن السادس عشر إلى جنوب مصر ثم إلى السودان حيث استقروا بإقليم كردفان‪ .‬وقد كان‬
‫شاع الدين يسعى لتحقيق كلمة اهلل‪" :‬المبعوثون يخرجون من مصر ‪ ..‬وأثيوبيا سوف‬
‫تستجيب بسرعة لخدام الرب"‪.‬‬
‫كان سكان السودان يسكنون على ضفاف النيل‪ ،‬وكانت كردفان غير مأهولة‬
‫لطبيعتها الصحراوية فأختارها شاع الدين مكاناً الستقرارهم‪ .‬وقد حصلوا منذ قدومهم على‬
‫احترام سكان المنطقة حيث تجلت كرامات شاع الدين‪ G.‬وأقطع سلطان كردفان الوافدين الجدد‬
‫زوج شاع الدين إحدى بناته‪ .‬واختار شاع الدين منطقة تشبه في‬ ‫ٍ‬
‫أراض واسعة‪ ،‬كما ّ‬
‫تضاريسها مدينة‪ G‬أورشليم وسكن فيها وأنشأ بالقرب منها مقبرة لألسرة ودفن فيه كنز العائلة‪.‬‬
‫وتنبأ شاع الدين أن أحد أفراد عائلته من الجيل الخامس سوف يكشف الغموض عن سر‬
‫المقبرة‪.‬‬

‫‪ )14‬لعل اإلشارة هنا لآلية الكريمة‪" :‬أهم خير أم قوم تُّب ٍع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا‬ ‫(‬

‫مجرمين"؛ أنظر‪ :‬القرآن الكريم‪ ،‬سورة الدخان‪ ،‬آية ‪ .37‬ويفسر الجاللين لفظ تُبَّع بأنه اسم لنبي أو‬
‫رجل صالح‪ .‬أنظر تفسير الجاللين العالمة جالل الدين محمد بن أحمد المحلي والعالمة جالل‬
‫الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي‪ ،‬مضافًا إليه كتاب لباب العقول في أسباب النزول‬
‫للسيوطي‪ ،‬دار الحكمة‪ ،‬دمشق‪1402 ،‬هـ‪ ،‬ص ‪.659‬‬

‫‪35‬‬
‫وتستمر رواية باركر لتصف عدداً من المالبسات المعاصرة حول إدعاء أحد أفراد‬
‫(‪)15‬‬
‫عائلة شاع الدين‪ G،‬من الجيل الخامس‪ ،‬للنبوة‪.‬‬
‫(‪)16‬‬
‫ثانياً‪ :‬رواية صالح عمر الصادق‬
‫أورد األستاذ صالح عمر الصادق‪ ،‬الباحث في اآلثار والفولكلور السوداني‪ ،‬رواية‬
‫حول جماعة يهودية استقرت بالخرطوم‪ ،‬ويقول في روايته‪:‬‬
‫"أن مجموعة سودانية تدعي االنتساب إلى سيدنا هارون وهي توجد عند منطقة أم‬
‫روابة‪[ .‬في إقليم كردفان]‪ .‬وتعتقد مجموعة من هذه القبيلة أن تابوت العهد مدفون بقرية‬
‫(‪)17‬‬
‫شمال أم روابة وأن هذه القبيلة نزحت من فلسطين وهي إحدى قبائل بني إسرائيل المفقودة‬
‫وأنهم دخلوا السودان يحملون معهم التابوت في ظروف تاريخية معينة عن طريق وادي‬
‫هور شمال غرب السودان وأنهم يرجعون بنسبهم إلى سيدنا هارون شقيق موسى عليه‬
‫السالم‪ .‬وكان كاتب هذه السطور على رأس بعثة من الهيئة القومية لآلثار والمتاحف يرافقه‬
‫أحد المبشرين المسيحيين الذي تخصص في العهد القديم (التوراة)‪ ،‬كما كان يرافقهم أحد‬
‫مهندسي هيئة الجيولوجيا السودانية وكان يحمل جهاز االستشعار المغناطيسي من البعد عن‬
‫المعادن‪ ،‬فقاموا بالبحث في منطقة جرادة مستعملين هذه األجهزة العلمية في المسح الدقيق‬

‫(‬
‫‪15) Michael Parker, op. cit.‬‬
‫‪ )16‬صالح عمر الصادق‪" ،‬تابوت‪ G‬العهد وهيكل إسرائيل في التوراة واإلسرائيليات والسودان" في‪:‬‬ ‫(‬

‫صالح عمر الصادق‪ ،‬دراسات سودانية في اآلثار والفولكلور‪ 0‬والتاريخ‪ ،‬دار عزة للطباعة والنشر‬
‫والتوزيع‪ ،‬الخرطوم‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،2006 ،‬ص ص ‪.309 -306‬‬
‫‪ )17‬هذه إشارة تفسيرية أظنها من وضع المؤلف نفسه‪ ،‬أما مسألة القبائل المفقودة من بني إسرائيل‬ ‫(‬

‫فحقيقتها‪ G‬أن أسباط بني إسرائيل اإلثني عشر انقسموا إلى مملكتين‪ ،‬بعد عهد سليمان‪ ،‬عشرة منهم‬
‫كونوا المملكة الشمالية وتسمى "يسرائيل"‪ ،‬وكونت القبيلتان المتبقيتان المملكة الجنوبية‪ .‬وإ ثر‬
‫وهجرت أعداداً من‬
‫صراع داخلي تدخلت فيه الدولة اآلشورية تم القضاء على مملكة "يسرائيل"‪ّ G‬‬
‫سكانها إلى آشور حيث انصهروا في المجتمع الجديد‪ .‬وتدور بعض األساطير حول مصير القبائل‬
‫العشر من سكان المملكة الشمالية بعد سقوطها إذ أن الذهن اليهودي لم يتقبل فكرة االنصهار أو‬
‫االندماج كحقيقة نهائية بل أعتبرهم مفقودين‪ ،‬ويذخر التراث اليهودي بتصورات عن مكان إقامتهم‬
‫المحتمل ونبوءات عن عودتهم إلى وطنهم‪ .‬للمزيد حول قبائل بني إسرائيل المفقودة أنظر‪ :‬عبد‬
‫الوهاب المسيري‪ ،‬الموسوعة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.416 -415 ،414‬‬

‫‪36‬‬
‫عن تابوت العهد‪ G،‬وكان البالغ المستلم هو وجود آثار ذهبية في تلك المنطقة دفنت في فترة‬
‫قديمة وكان هدف البعثة التأكد من هذه الرواية الشفاهية‪.‬‬
‫(‪)18‬‬
‫ثالثاً‪ :‬رواية محمد عبد القادر دوره‬
‫رواية عبد القادر محمد دوره‪ ،‬معلم من منطقة تقلي وحولها ُج َّل كتاباته‪ .‬روايته‬
‫مختصرة جداً ويرد فيها ما نصه‪:‬‬
‫"أن جماعة من اليهود جاءت إلى مملكة تقلي في عهد الملك جيلي عمارة وهم‬
‫يحملون خفية تابوت عيسى عليه السالم [هكذا] وطلبوا مكاناً للسكن فأنزلهم الملك في مكان‬
‫جنوب شرق رئاسة المملكة ‪ ..‬وبعد فترة بدأت الوفود تتقاطر عليهم للتوسل بالتابوت‬
‫فتخوف المك وأهالي تقلي من أن تنتشر المسيحية [هكذا] فأرسل لهم المك وأخذ منهم التابوت‬
‫وأخفاه في مكان ال يعرفه أحد وما زال مكان تابوت العهد سراً إلى يومنا هذا‪.‬‬
‫(‪)19‬‬
‫رابعاً‪ :‬رواية صالح محمد أحمد‬
‫رواية السفير صالح محمد أحمد هي في واقع األمر إشارة مقتضبة جداً أوردها في‬
‫معرض حديثه عن الشخصيات اليهودية التي ارتبطت بالسودان‪ ،‬وهو يرفض الرواية‬
‫ويصفها بأنها من نسج الخيال‪ .‬ويورد‪:‬‬
‫"ويبدو أن يهود الحبشة هم أول من قاموا بربط سبأ وسوبا [يعني من حيث التشابه‬
‫اللفظي]‪ ،‬إذ نسج خيالهم أسطورة تقول أن سليمان بن داؤد تزوج بلقيس ملكة سبأ وأنجبت‬
‫منه ولداً أرسل إلى السودان ونزل في مدينة‪ G‬سبأ التي تحولت إلى سوبا"‪.‬‬
‫(‪)20‬‬
‫خامساً‪ :‬رواية محمد آدم فاشر‬

‫‪ )18‬عبد القادر محمد عبد القادر دوره‪ ،‬الوسادة‪ :‬تاريخ مملكة تقلي اإلسالمية‪ ،‬دار سولو للطباعة‬ ‫(‬

‫والنشر‪ ،‬الخرطوم‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،2003 ،‬ص ‪.205‬‬


‫‪ )19‬صالح محمد أحمد‪ ،‬الجالية اليهودية في السودان‪ :‬النشأة‪ ،‬الحياة‪ ،‬الهجرة‪ ،‬مركز الراصد‬ ‫(‬

‫للدراسات‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬الخرطوم‪ ،2004 ،‬ص ‪.46‬‬


‫‪ )20‬محمد آدم فاشر‪" ،‬في تاريخ قبيلة الزغاوة"‪ ،‬في‪ :‬حيدر إبراهيم علي (تحرير)‪ ،‬التنوع الثقافي‬ ‫(‬

‫وبناء الدولة الوطنية في السودان‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬مركز الدراسات السودانية‪ ،‬القاهرة‪،2001 ،‬‬
‫ص ص ‪.229 -214‬‬

‫‪37‬‬
‫رواية محمد آدم فاشر‪ ،‬الباحث في تاريخ الزغاوة‪ ،‬جاء عرضها ضمن عدد من‬
‫الروايات لتأكيد‪ G‬معرفة شعوب العالم القديم بالزغاوة‪ ،‬وبما وصل إليه الزغاوة من حضارة‪.‬‬
‫وفي الجزء الذي يحاول فيه أن يحقق معرفة الزغاوة المبكرة باستخدام الحديد جاءت هذه‬
‫الرواية التي يحيل قارئها إلى صفحة ‪ 41‬من كتاب إمبراطورية البرنو اإلسالمية إلبراهيم‬
‫طوقان‪ .‬ويورد‪:‬‬
‫"أن الزغاوة طردوا من فلسطين أيام داؤد عليه السالم الذي قتل ملكهم جالوت‪،‬‬
‫وهاجروا بقيادة نون بن جشع‪ .‬ومهما قيل من األساطير فإن الزغاوة أدخلوا صناعة الحديد‬
‫جنوب الصحراء على األقل"‪.‬‬
‫(‪)21‬‬
‫سادساً‪ :‬رواية مكي أبو قرجة‪:‬‬
‫رواية مكي أبو قرجة‪ ،‬المؤلف والمترجم وله معرفة جيدة بتاريخ اليهود في‬
‫السودان إذ كتب كتاب اليهود في السودان المثبت في حواشي هذه الدراسة‪ ،‬وقد أورد‪:‬‬
‫"يشير عدد من المؤرخين المحدثين إلى وصول أعداد من اليهود في مراحل‬
‫مبكرة‪ .‬وذكروا أن مجموعة فيلة التي استقرت في مصر لفترة من الزمن أجبرت على‬
‫الرحيل فتوجهت جنوباً‪ ،‬وربما تكون قد أقامت في مناطق مختلفة بالسودان‪ .‬كما ذكروا أن‬
‫منليك الذي كان ثمرة الزواج بين نبي اهلل سليمان وبلقيس ملكة اليمن عاد إلى أثيوبيا يصحبه‬
‫جماعة من رفاقه بحثاً عن ملك أجداده‪ ،‬وقالوا أنهم ربما حملوا معهم ألواح موسى"‪.‬‬
‫ما يمكن قراءته من هذه الروايات‬
‫لعلنا ال نستطيع قراءة هذه الروايات بدون االستعانة بالرواية الشفوية األكثر شهرة حول‬
‫انتماء مجموعة أفريقية لبيت النبوة اليهودي في أورشليم‪ ،‬وهي رواية كبرانقست‪ ،‬المتداولة‬
‫(‪)22‬‬
‫في أثيوبيا‪ ،‬والتي يمكن تلخيص موتيفاتها األساسية في ست نقاط‪:‬‬

‫‪ )21‬مكي أبو قرجة‪ ،‬اليهود في السودان‪ :‬قراءة في كتاب إلياهو سولومون ملكا أطفال يعقوب‬ ‫(‬

‫في بقعة المهدي‪ ،‬مركز عبد الكريم ميرغني‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬الخرطوم‪.2007 ،‬‬
‫‪ )22‬قمت بتلخيص العناصر األساسية للقصة‪ ،‬ويمكن الرجوع إلى نص القصة في‪ :‬مجدي عبد‬ ‫(‬

‫الرازق سليمان (مترجم)‪ ،‬جالل الملوك‪ :‬نصوص حبشية قديمة‪ ،‬المجلس العلى للثقافة‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى‪ ،‬القاهرة‪ .2003 ،‬وكبرانقست‪ G‬كلمة باللغة الجعزية مكونة من مقطعين كبرا وهو الكبير أو‬
‫الجليل ونقست‪ G‬وهو الملك‪ ،‬ويرسمها البعض كبرانجشت‪ G‬ومنهم مترجم الكتاب المشار إليه‪ ،‬ولعل‬

‫‪38‬‬
‫‪ .1‬بلغت ملكة الحبشة ماكيدا شأناً عظيماً‪ ،‬إال أنها سمعت عن ملك يفوقها عظمة اسمه‬
‫سليمان‪.‬‬
‫‪ .2‬تذهب ماكيدا لمقابلة سليمان‪ ،‬فتؤمن بتفوقه عليها‪ ،‬وتعجب به وتتزوجه‪.‬‬
‫‪ .3‬تبقى معه ستة أشهر ثم ترجع لبالدها لتكتشف هناك أنها حامل وتنجب منليك‪ ،‬وهو‬
‫االبن البكر لسليمان‪ .‬وفي هذا األثناء يرى سليمان في منامه شمساً مشرقة تتوجه إلى‬
‫أرض الحبشة‪.‬‬
‫‪ .4‬ترسل ماكيدا ابنها ألبيه في أورشليم‪ ،‬حيث ينجح في اختبار البنوة ويقربه سليمان‬
‫إليه‪.‬‬
‫‪ .5‬يتذمر الشعب من االبن خوفاً من أن ينتقل عرش سليمان إلى وريث ال تنتسب أمه‬
‫إليهم‪ ،‬فيضطر سليمان إلرساله هو وكل بكور إسرائيل إلى الحبشة‪ ،‬ويسرق منليك‬
‫تابوت العهد ويحمله معه‪.‬‬
‫شماس آخر‪.‬‬
‫الشماس فيأبى التابوت التحرك حتى يحدد له ّ‬
‫‪ .6‬يموت ّ‬
‫إن التشابه المنطقي واحتواء كبرانقست على العديد‪ G‬من الوقائع الواردة في‬
‫الروايات السودانية يدفعنا لترجيح األصل الواحد لكل هذه الروايات الشفاهية المتداولة في‬
‫السودان وفي أثيوبيا‪ ،‬ويبدو أن عوامل التحريف في سلسلة التناقل الشفاهي كانت حاضرة في‬
‫انتقال هذه الرواية بحذف وإ ضافة العديد من الموتيفات‪.‬‬
‫اشتملت رواية باركر على العديد من موتيفات كبرانقست‪ ،‬وعلى الرغم من أن‬
‫الرواية األولى ال تشير إلى عظمة ماكييدا‪ G،‬إال أنها تشير إلى زواجها من سليمان وإ نجاب ابن‬
‫منه‪ ،‬وال تذكر كبرانقست هذا الزواج إال أنها تؤكد أن سليمان قد واقع ماكييدا وترك ثمرته‬
‫في أحشائها‪ .‬ولعل موتيفة عظمة ماكييدا في كبرانقست ما هي إال حبكة روائية لخلق مبرر‬
‫اللقاء بين ماكييدا وسليمان‪ .‬ويبدو أن طول االحتكاك بين اليمن والحبشة خلق االضطراب‬
‫في الروايات بين نسبة ماكييدا إلى الحبشة أو إلى اليمن‪ ،‬بل وتشير بعض الروايات إلى‬
‫الملكة ببلقيس‪ ،‬وهو ما يتفق مع النص القرآني للرواية‪ .‬وكلها اختالفات ال تغير من جوهر‬
‫الرواية‪.‬‬

‫الصواب هو (نقست) وقد عرفت كلمة (نقس) في السودان بمعنى‪ G‬حبشي‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫تشير رواية باركر إلى أن الرب أوحى لسليمان أنه سيخرب ديار بني إسرائيل وهو‬
‫ما دفع سليمان إلى إرسال ابنه وبعض المساعدين إلى أخواله‪ ،‬ويماثل حلم سليمان بالشمس‬
‫المتجهة إلى أرض الحبشة مسألة الوحي في رواية كييرا ناجستا إذ أدى لنفس النتيجة‪ ،‬مع‬
‫اختالف أنه أرسل معه كل بكور بني إسرائيل‪ .‬ويجب أن ننظر إلى مسألة البكورة هنا‬
‫باعتبارها رسالة الرواية لتأكيد‪ G‬شرعية االبن‪ .‬أما رواية باركر فتورد مسألة الشرعية هذه في‬
‫شماس آخر‪.‬‬
‫يعين له ّ‬
‫الشماس‪ ،‬رجل الدين‪ ،‬ورفض الهيكل للتحرك ما لم ّ‬
‫موتيفة موت ّ‬
‫ويبدو أن رواية صالح عمر الصادق هي نسخة أخرى غير مكتملة من رواية‬
‫باركر‪ ،‬إال أن رواية صالح عمر الصادق تضيف أن الطريق الذي سلكته الجماعة اليهودية‪G‬‬
‫هو طريق وادي هور‪ ،‬وهي بنظري إضافة تفسيرية تلمح للمجوعة نفسها "الهوارة"‪ ،‬أكثر من‬
‫كونها معلومة‪ ،‬وهي بذلك تقارب موتيفة رواية باركر التي تشير إلى أن أصل المجموعة في‬
‫جبل هور‪.‬‬
‫تختلف الروايات حول ما جاءت هذه الجماعة تحمله معها‪ :‬التابوت‪ ،‬تابوت العهد‪G،‬‬
‫الهيكل‪ ،‬ألواح موسى‪ ،‬المعرفة بصناعة الحديد‪ .‬ويبدو لي أن المراد هو أن المجموعة‬
‫اليهودية جاءت للسودان تحمل معها "أشياء مقدسة"‪ ،‬ويمكن أن يكون ذلك تجسيد للمعرفة‪،‬‬
‫سواء كانت معرفة دينية‪ G‬أو معرفة حضارية لم يصل إليها السكان المحليون‪.‬‬
‫باإلضافة لهذه االختالفات الروائية فإن كل رواية من هذه الروايات‪ ،‬على حدة‪،‬‬
‫تعاني من االضطراب‪ .‬فرواية محمد عبد القادر دورة تجعل في التابوت رفات سيدنا عيسى‬
‫عليه السالم‪ ،‬وتجعل من الجماعة اليهودية‪ G‬مبشرة بالدين المسيحي! ورواية صالح محمد‬
‫أحمد تتحدث عن يهود الحبشة وتجعل ملكتهم هي بلقيس! أما رواية مكي أبو قرجة فتجعل‬
‫الملكة بلقيس "اليمنية" تنجب منليك "الحبشي"!‬
‫يمكننا إجماالً أن نلخص الرسالة األساسية المشتركة بين كل هذه الروايات بعد‬
‫تجريدها إلى‪ :‬أن جماعة من اليهود هاجرت إلى اليمن‪ ،‬ومنه جاءت للسودان عن طريق‬

‫‪40‬‬
‫صعيد مصر‪ ،‬تحمل معها معرفة دينية أو حضارية لم يألفها سكان السودان‪ ،‬واستقرت‬
‫(‪)23‬‬
‫بمنطقة كردفان‪.‬‬
‫وأياً كان األمر فإنه من المؤكد أن السودان قد شهد هجرات عربية‪ -‬سامية واسعة‬
‫في الفترة بين القرنين الثاني عشر والخامس عشر الميالديين‪ ،‬يحملون معهم معرفة حضارية‬
‫ودينية‪ G‬أسفرت عن نشوء الممالك اإلسالمية‪ ،‬وقد سلكت بعض هذه الهجرات طريق مصر‬
‫وبالد اليمن عبر البحر األحمر‪.‬‬
‫كما أن االحتكاك المبكر بين العرب والسودانيين‪ G‬عبر ميناء عيذاب وعبر بالد‬
‫النوبه‪ ،‬بوابة مصر الجنوبية‪ ،‬قد أسس لتواصل فكري وثقافي بين السودانيين‪ G‬وسكان بالد‬
‫العرب‪ ،‬وقد أدى ذلك في أحايين كثيرة إلى وجود وإ قامة دائمتين‪ .‬فإذا كان العرب قد عرفوا‬
‫اليهودية في ذلك الوقت فإن هذه المعرفة قد انتقلت معهم‪ ،‬بال شك‪ ،‬إلى بالد السودان‪.‬‬
‫ونجد في المصادر العربية واليهودية‪ G‬ما يؤكد أن اليهودية‪ G‬قد وجدت سبيلها إلى بالد‬
‫العرب منذ وقت مبكر‪ ،‬فاعتنقها ملوك حدباب‪ ،‬كما اعتنقها ذو نواس‪ ،‬آخر ملوك حمير‪،‬‬
‫وتهودت معه حمير‪ )24(.‬كما يظهر في مواضع من التلمود أن نفراً من العرب قد اعتنقوا‬
‫ّ‬
‫(‪)25‬‬
‫اليهودية مثل‪ :‬حمير‪ ،‬بنو كنانة‪ ،‬بنو الحارث‪ ،‬بنو كعب‪ ،‬كنده‪ ،‬قيس عيالن‪ ،‬وغسان‪.‬‬
‫وج ّل هذه القبائل تدفق للسودان في موجة الهجرة العربية‪ ،‬خالل فترة الظالم التي عمت‬
‫ُ‬

‫‪ )23‬وبهذا المعنى فجملة هذه الرواية هي تصوير قصصي لنظرية الغريب الحكيم التي تنبه لها‬ ‫(‬

‫عدد من المؤرخين السودانييين‪ ،‬ولعل أول من أشار إليها هو البروفسير هولت ثم تبناها البروفسير‬
‫يوسف فضل حسن وأسس عليها دراساته حول قيام الممالك اإلسالمية في السودان الشرقي‪.‬‬
‫‪ )24‬أبو جعفر محمد بن جرير الطبري‪ ،‬تاريخ الرسل والملوك‪ ،‬تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم‪،‬‬ ‫(‬

‫الجزء الثاني‪ ،‬الطبعة السادسة‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،1990 ،‬ص ص ‪.119 -118‬‬
‫‪ )25‬نصر شمالي‪ ،‬مالحظات أساسية حول تاريخ المسألة اليهودية‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬دمشق‪،‬‬ ‫(‬

‫ال عن‪ :‬جواد علي‪ ،‬المفصل في تاريخ العرب قبل اإلسالم‪ ،‬الجزء السادس‪،‬‬
‫‪ ،1984‬ص ‪75‬؛ نق ً‬
‫الطبعة الثالثة‪ ،1980 ،‬ص ‪.514‬‬

‫‪41‬‬
‫سودان وادي النيل (‪ )26(،)1504 -1317‬في جموع كبيرة ألرض البجه‪ )27(.‬وقد أورد‬
‫جرجيوس أبو الفرج بارا عبرايا ‪Grigorios abu 'l- Faraj Bar 'Ebhraya (Bar‬‬
‫)‪ ،hebraeus) (1226- 1286‬المؤرخ العربي الذي ينحدر من أصل يهودي‪ ،‬في كتابه‬
‫تاريخ مختصر الدول أن الكنيسة القبطية قد توغلت في كل منطقة النوبة‪ .‬ولعل في كل ذلك‬
‫(‪)28‬‬
‫ما يعزز ما ذهبنا إليه من معرفة قديمة ألهل السودان باليهود واليهودية‪G.‬‬
‫والبد أن ميناء عيذاب‪ ،‬الذي كان مركزاً تجارياً تتجمع فيه أنواع البضائع المجلوبة‬
‫من أفريقيا‪ ،‬قد عرف عدداً من التجار اليهود‪ .‬وتفيد الفواتير اليهودية‪ G،‬المعروفة بفواتير‬
‫القاهرة ‪ )Cairo geniza،(29‬عن معرفة وثيقة للتجار اليهود بعيذاب وبالرقيق السوداني‬

‫‪ )26‬يوسف فضل حسن‪ ،‬حواش على متون علماء ومفكرين ومؤرخين في تاريخ السودان‬ ‫(‬

‫وأفريقيا‪ 0‬وبالد العرب‪ ،‬سوداتك المحدودة‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬الخرطوم‪ ،2006 ،‬ص ‪.123‬‬
‫‪ )27‬يوسف فضل حسن‪ ،‬دراسات في تاريخ السودان وأفريقيا‪ 0‬وبالد العرب‪ ،‬الجزء الثالث‪،‬‬ ‫(‬

‫سوداتك المحدودة‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،2008 ،‬ص ‪.177‬‬


‫‪ )28‬تذهب بعض المصادر إلى أن العالقات العربية العبرية سابقة لظهور اليهودية نفسها‪ ،‬فقد‬ ‫(‬

‫وجدت مجموعات عربية تتحدث اللغة اآلرامية‪ ،‬وبعد ظهور اليهودية واإلسالم‪ ،‬تطورت العالقات‬
‫بين الشعبين إلى وشائج ثقافية متينة فاللغة العبرية اقتبست بعض قواعدها من اللغة العربية‪ ،‬كما أن‬
‫العديد من العناصر العقائدية‪ ،‬والعبادات اإلسالمية‪ ،‬مستمدة من األفكار األساسية في الدين‬
‫اليهودي‪ .‬واستمرت العالئق بين الشعبين ففي العصر الذهبي للحضارة اإلسالمي كانت أوضاع‬
‫اليهود في ظل اإلسالم أفضل من أوضاع اليهود في أوربا تحت ظل سيف الكنيسة‪ ،‬كما عمل اليهود‬
‫في هذه البالد وساهموا في نهضتها وتطورها‪ .‬للمزيد حول الوشائج العربية العبرية عبر العصور‬
‫أنظر‪:‬‬
‫‪S. D. Goitein, Jews and Arabs: Their Contacts Through the Ages,‬‬
‫‪Schocken Books, New York, 1955, pp. 3-18, 19, 20, 23- 30, 62- 65, 89-‬‬
‫‪100.‬‬
‫(‬
‫‪29) S.D. Goilein, A Mediterranean Society: The Jewish Communities of the‬‬
‫‪Arab World As Portrayed in the Documents of Cairo Geniza, Vol. I,‬‬
‫‪"Economic Foundations", University of California Press, London, 10th‬‬
‫‪reprint, 1999.‬‬
‫تخزن فيه الأوراق‬
‫وكلمة جينزة باللغة العبرية تعني حجرة تتخذ كمخزن ملحق بالمعبد‪ ،‬أو أي مكان ُ‬
‫المكتوب عليها بالخط العبري‪ .‬ولم تكتشف حتى اآلن سوى جنيزة ُكنيس الفسطاط (مصر القديمة)‪،‬‬
‫والجنيزة القريبة من جبانة البساتين بالقاهرة‪ .‬وقد عرفت هاتان الجنيزتان باسم جنيزة القاهرة‪ .‬أنظر‪:‬‬

‫‪42‬‬
‫الجيدة من أمانة وصدق‬
‫وأنواعه‪ ،‬من عبيد وغلمان وجواري‪ ،‬وصفات هؤالء العبيد‪ّ G‬‬
‫وإ خالص للسيد‪ .‬وربما تعززت ثقة األسياد اليهود في عبيدهم المجلوبين من السودان وبالد‬
‫النوبة لهذه األسباب حتى أن بعضهم أوكل لعبيده اإلنابة عنه في أعماله التجارية وتمثيل سيده‬
‫وتعكس رسالة أحد الضباط اليهود لوالدته‪ ،‬وهو على‬ ‫(‪)30‬‬
‫في الموانئ التجارية حول العالم‪.‬‬
‫فراش الموت‪ ،‬والتي أرسلت من هكتار ‪ Acre‬قبيل سقوطها في يد الصليبيين عام ‪1104‬م‪،‬‬
‫(‪)31‬‬
‫الحالة العاطفية التي سادت بين السيد اليهودي وعبده من مودة عميقة وتفان وإ خالص‪.‬‬
‫يهودي في بالط سلطنة الفونج اإلسالمية‬
‫قدم إلى بالد الفونج الرحالة والمغامر اليهودي داؤد روبيني‪ ،‬ولعله "أول من قدم‬
‫وصفاً للفونج دون أن يسميهم"‪ )32(.‬وقد زار سوبا وبالد الجعليين‪ ،‬وهو أول من أشار إلى‬
‫سوبه بسبأ‪ .‬وكان روبيني شخصية مؤثرة في المسرح الدولي في القرن السادس عشر‪ ،‬فمن‬
‫هو داؤد روبيني؟ وما هو مبلغ تأثيره؟‬

‫س‪ .‬د‪ .‬قويتين‪" ،‬وثائق جنيزة القاهرة كمصدر لتاريخ اإلسالم االجتماعي [‪ ،"]1‬في‪ :‬س‪ .‬د‪ .‬قواتياين‪،‬‬
‫دراسات في التاريخ اإلسالمي والنظم اإلسالمية‪ ،‬تعريب وتحقيق‪ G‬عطيه القوصي‪ ،‬وكالة المطبوعات‪،‬‬
‫الكويت‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،1980 ،‬ص ص ‪ 189‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‬
‫‪30) Ibid, p. 132‬‬
‫(‬
‫‪31) Ibid, p. 132.‬‬
‫ويذكر نص الرسالة ما يمكن ترجمته إلى‪:‬‬
‫"‪ ...‬وصلت إلى فلسطين قبل سقوط هكتار وكنت شاهداً على حصارها‪ ،‬وقد واجهنا مصاعب متعددة‪،‬‬
‫وكنا قريبين من األعداء لدرجة أننا نسمع حديثهم ويسمعون حديثنا‪ ،‬لقد غطى الدم كل شيء‪ ،‬حتى‬
‫رغيفنا ‪ ...‬مبارك [العبد السوداني] يغريك‪ G‬السالم ويرسل لك تحياته‪ ،‬وليس لي في وحشتي ومرضي‬
‫سواه فهو يرعاني ويجهز سريري وينظف غرفتي ويطبخ أكلي ويهتم‪ G‬بي‪ ،‬وقد رفض أن يأخذ العشرة‬
‫دراهم التي أعطيها له كل شهر تقديرًا لوضعي الجديد‪ ،‬وطلب مني أن أحفظها له عند الرب"‪.‬‬
‫‪ )32‬االقتباس من‪ :‬يوسف فضل حسن‪ ،‬مقدمة في تاريخ الممالك اإلسالمية في السودان الشرقي‬ ‫(‬

‫‪ ،1821 -1450‬الطبعة الرابعة‪ ،‬سوداتك المحدودة‪ ،2002 ،‬ص ‪.54‬‬

‫‪43‬‬
‫أو في مكان ما‬ ‫( ‪)33‬‬
‫داؤد روبيني هو يهودي شرقي يرجح أنه ولد بآسيا الصغرى‪،‬‬
‫ووصل إلى إيطاليا عام ‪ ،1524‬وعمل منذ وصوله على تعكير صفو التعايش‬ ‫(‪)34‬‬
‫بأوربا‪،‬‬
‫الديني‪ ،‬وقد وجد صوته أذناً صاغية عند البابا كليمنت السابع (‪ )1534 -1523‬ولدى‬
‫وشقيق لملك اسمه‬ ‫(‪)35‬‬
‫المحكمة البرتقالية‪ .‬وقد أدعى أنه ابن ملك يهودي اسمه سليمان‪،‬‬
‫جوزيف [يوسف] وأن هذا الملك يحكم مجتمعاً يهودياً مستقالً في مكان ما من جزيرة العرب‪،‬‬
‫وأن شعبه مولع بالحرب مجيد لفنون القتال؛ وأن الملك أستأمنه ليعمل على تجنيد القوى‬
‫(‪)36‬‬
‫المسيحية التي لديها الرغبة في االنضمام إليه إذ أنه بصدد شن حملة على المسلمين‪.‬‬
‫(‪)37‬‬
‫ويضيف صالح محمد أحمد أن من أغراض الحملة المطالبة بفلسطين اليهودية‪.‬‬
‫التف يهود روما حول روبيني واكتتبوا له بعض األموال ليعيش بمستوى يليق‬
‫"بسفير ملك اليهود"‪ .‬وفي عام ‪ 1525‬نجح في مقابلة ملك البرتقال واستطاع أن يؤثر فيه‬
‫(‪)38‬‬
‫حتى أنه نجح في إيقاف المحاكمات البرتقالية ضد يهود المارانو‪.‬‬
‫وقد صادفت إدعاءات روبيني المتطرفة عصر النشاط البرتقالي في البحر األحمر‬
‫والحبشة‪ ،‬وعصر التوسع العثماني التركي الذي وضع يديه في ذلك الوقت على مصر‪ .‬وفي‬

‫‪ )33‬صالح محمد أحمد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪45‬؛ ونالحظ أنه يسميه ديفيد روبيني‪ ،‬وديفيد هو‬ ‫(‬

‫النسخة الالتينية من اسم داؤد‪ ،‬ولعل الصواب هو ما أثبتناه‪G.‬‬


‫(‪ )34‬نفسه‪.‬‬
‫‪ )35‬عبد الوهاب المسيري‪ ،‬الموسوعة‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬ص ‪.108‬‬ ‫(‬

‫(‬
‫‪36) S. Hillson, "David Reubeni: An Early Visitor to Sennar", Sudan Notes‬‬
‫‪and Records, Vol. 16, 1933, p 54.‬‬
‫‪ )37‬صالح محمد أحمد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.45‬‬ ‫(‬

‫‪ )38‬اطلقت كلمة مارانو على اليهود المتخفين في أسبانيا والبرتقال الذين تراجعوا ظاهرياً عن‬ ‫(‬

‫اليهودية وادعوا التنصر على المذهب الكاثوليكي حتى يتمكنوا من البقاء في شبه جزيرة أيبيريا مع‬
‫تراجع الحكم اإلسالمي‪ ،‬وطرد يهود البرتقال (ت‪ )1480 .‬وطرد يهود أسبانيا (‪ .)1492‬والمقابل‬
‫العبري لكلمة مارانو هو "أونسيم" ويعني "الذين أجبروا على التنصر"‪ .‬أنظر‪ :‬عبد الوهاب‬
‫المسيري‪ ،‬اليد الخفية‪ :‬دراسة في الحركات اليهودية الهدامة والسرية‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫الطبعة الثالثة‪ ،2005 ،‬ص ص ‪.91 -81‬‬

‫‪44‬‬
‫منحى جدياً لدى البابا حيث اقترح على اإلمبراطور‬
‫ً‬ ‫ظل هذا الواقع أخذت إدعاءات روبيني‬
‫شارلس الخامس تنظيم حملة لوضع حد للتوسع العثماني‪.‬‬
‫تهود‬
‫نجح روبيني في كسب شعبية كبيرة وسط المارانو ومن بينهم (ديوجو) الذي ّ‬
‫وغير اسمه إلى سولومون ملكو‪ ،‬وكانت لكليهما‪ ،‬روبيني ومولكو‪ ،‬تطلعات‬
‫مرة أخرى ّ‬
‫حيث كانا يقومان بإجبار اليهود المتنصرين‬ ‫(‪)40‬‬
‫بل لعلهما أدعيا النبوة‪،‬‬ ‫(‪)39‬‬
‫مشيحانية‪،‬‬
‫باالرتداد للدين اليهودي‪ .‬وقد أزعجت آراؤهم وتصرفاتهم هذه محاكم التفتيش التي بدأت في‬
‫مضايقتهم‪ ،‬وكانت النهاية عام ‪ 1532‬حيث أمر بحرق مولكو حتى الموت‪ ،‬أما روبيني فقد‬
‫)‬
‫سجن ومات في سجنه في أسبانيا عام ‪1535.(40‬‬
‫ُوثِّقَت نشاطات روبيني في الكتابات العبرية المعاصرة‪ ،‬وفي المصادر البرتقالية‪.‬‬
‫وقد كتب مذكراته حول رحالته وأخبارها باللغة العبرية وتضمنت رحلته إلى السودان‪ ،‬وبالد‬
‫الفونج‪.‬‬

‫‪ )39‬الماشيح كلمة عبرية تعني "المسيح المخلص" ومنها‪ G‬مشيحوت أي االعتقاد بمجيء الماشيح‪،‬‬ ‫(‬

‫وهو غير المسيح اإلنجيلي‪ ،‬وغير المسيح الدجال‪ ،‬فهو شخص مرسل من اإلله يتمتع بقداسة‬
‫خاصة‪ ،‬ويسمى "ابن اإلنسان" ألنه سيظهر في صورة إنسان وإ ن كانت طبيعته تجمع بين اإلله‬
‫واإلنسان‪ ،‬فهو تجسد اإلله في التاريخ أو نقطة الحلول اإللهي المكثف الكامل في إنسان فرد‪ .‬وهو‬
‫ملك من نسل داؤد سيأتي بعد ظهور النبي إلياهو ليعدل مسار التاريخ اليهودي‪ ،‬بل البشري كله‪،‬‬
‫فينهي عذاب اليهود ويأتيهم بالخالص ويجمع شتات المنفيين ويعود بهم إلى صهيون ويحطم أعداء‬
‫جماعة "يسرائيل" ويتخذ أورشليم عاصمة له ويعيد بناء الهيكل ويحكم بالشريعتين المكتوبة‬
‫والشفوية‪ ،‬ويعيد‪ G‬كل مؤسسات اليهود القديمة‪ ،‬ثم يبدأ الفردوس األرضي الذي سيدوم ألف عام‪.‬‬
‫للمزيد أنظر‪ :‬عبد الوهاب المسيري‪ ،‬الموسوعة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬ص ص ‪-104‬‬
‫‪.107‬‬
‫‪ )40‬إسماعيل راجي الفاروقي‪ ،‬الملل المعاصرة في الدين اليهودي‪ ،‬معهد الدراسات والبحوث‬ ‫(‬

‫العربية‪( ،‬د‪.‬ط)‪ ،1968 ،‬ص ‪.32‬‬

‫(‬
‫‪41) S. Hillson, "David Reubeni,ٍ S. N. R., p 54.‬‬

‫‪45‬‬
‫ورغم اآلراء السلبية للبعض حول روبيني والتي تصفه بالدجال‪ ،‬والمتعصب‪،‬‬
‫والجرئ‪ ،‬والحالم‪ ،‬فإنه قد لعب دوراً مؤثراً ومهماً في الحركة الصليبية وفي السياسة‬
‫(‪)41‬‬
‫العالمية‪.‬‬
‫وعن أسلوب كتابته لهذه المذكرات يقول محرر مذكراته (طبعة أكسفورد) أنه‬
‫أسلوب اليهود األلمان‪ ،‬كما أشار إلى أنه قد يكون من اليهود المصريين وفي هذه الحالة فإنه‬
‫يكون قد كتب باللغة العربية‪ ،‬اللغة األم لليهود المصريين‪ ،‬ثم وجدت كتاباته طريقها للغة‬
‫العبرية فيما بعد بواسطة أحد اليهود األلمان‪ ،‬وبذا يمكن تبرير أسلوب الكتابة غير المتماسك‬
‫والمشتت لمذكراته‪ .‬ومما يؤكد ما ذهب إليه محرر طبعة أكسفورد منهجية كتابة األسماء‬
‫العربية حيث تكتب بمخارج الحروف التي يستخدمها اليهود األلمان عوضاً عن مخارج‬
‫(‪)42‬‬
‫الحروف العربية‪.‬‬
‫هذه بعض المعلومات عن شخصية داؤد روبيني العالمة البارزة في التاريخ‬
‫السياسي للقرن السادس عشر‪ ،‬والذي زار السودان مدعياً النسب الشريف ومتظاهراً‬
‫باإلسالم‪ ،‬ومكث فيه ثمانية عشرة شهراً‪ ،‬من أواخر عام ‪ 1522‬إلى أوائل عام ‪،1523‬‬
‫ظهور شكل مبكر من أشكال التواصل بين اليهود بالد السودان‪.‬‬

‫(‬
‫‪42) Ibid, pp 54- 55.‬‬
‫(‬
‫‪43) Ibid, p 54.‬‬

‫‪46‬‬
‫تأسيس (‪)2‬‬

‫اليهود في السودان في العهد التركي المصري (‪-1821‬‬


‫‪)1885‬‬

‫حصر تقرير‪ ،‬أعده سردار الجيش المصري لوكيل وزارة الحربية‪ ،‬رعايا دولة‬
‫الحكم التركي المصري الذين بقوا في السودان بعد "سقوط" الخرطوم في يد المهدي‪،‬‬
‫العائالت واألسر اليهودية في أربع مجموعات أكبرها في الخرطوم وهي خمس أسر‪،‬‬
‫(‪)44‬‬
‫وأسرتان في كردفان‪ ،‬وأسرة في كل من بربر وكسال‪.‬‬
‫فهل كان هؤالء هم اليهود الذين قدموا للسودان في وقت مبكر؟ أم هم يهود توافدوا‬
‫على السودان في العهد التركي المصري؟ وإ ذا صح االفتراض الثاني فما الذي جذبهم‬
‫للسودان من سائر أنحاء اإلمبراطورية العثمانية؟ كما نالحظ أن ُج ّل اليهود الذين قدموا‬
‫للسودان في العهد التركي كانت مناطق استقرارهم في المراكز الحضرية‪ :‬الخرطوم‪ ،‬بربر‪،‬‬

‫‪ )44‬مكي أبو قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.8‬‬ ‫(‬

‫‪47‬‬
‫كسال‪ ،‬وكردفان‪ ،‬ولعل المراد مدينة‪ G‬األبيض‪ ،‬فما هي العوامل التي دفعتهم الختيار هذه‬
‫المدن؟ وكيف كانت حياتهم في ظل العهد التركي المصري في السودان؟‬
‫إن اإلجابة على هذه التساؤالت تتطلب منا مراجعة تطور المدينة‪ G‬السودانية‬
‫وسماتها في ذلك العهد‪ G،‬وأوضاع اإلمبراطورية العثمانية‪ G،‬ومن ثم العوامل التي دفعت اليهود‬
‫للهجرة من سائر أنحاء اإلمبراطورية العثمانية إلى السودان‪.‬‬

‫المدينة السودانية في العهد التركي المصري تطورها وسماتها‬


‫قرر الرحالة بوكهاردت عند زيارته للسودان في القرن الثامن عشر أنه ما من جزء‬
‫ولعله كان يتوقع أن يرى نفس النمط من‬ ‫(‪)45‬‬
‫في السودان يستحق أن يطلق عليه اسم مدينة‪.‬‬
‫التخطيط األوربي وهندسة البناء وشكل الحياة االجتماعية في المدينة األوربية‪.‬‬
‫وعلى خالف بوكهاردت يرى بعض المؤرخين السودانيين أن المدينة السودانية‪G،‬‬
‫من حيث أدائها لوظيفة المدينة على المستويين التجاري واإلداري‪ ،‬قد وجدت منذ وقت مبكر‪،‬‬
‫ولم تنحصر وظيفتها في المدن وحسب وإ نما امتد أثرها ليغطي الضواحي واألرياف المحيطة‬
‫(‪)46‬‬
‫بمركز المدينة‪G.‬‬
‫وقد ظهرت بهذا الشكل مدن كبيرة كانت ذات تواصل مع المحيط اإلقليمي‬
‫وقد وصلت‬ ‫(‪)47‬‬
‫سنار‪ ،‬التي كانت مركزاً تجارياً هاماً متصالً بسواكن وبمصر‪،‬‬
‫والعالمي مثل ّ‬
‫كما ظهرت مدينة‪ G‬شندي‪ ،‬ولعلها كانت أكبر‬ ‫(‪)48‬‬
‫تجارتها عبر البحار إلى بالد العرب والهند‪G.‬‬
‫المدن التجارية في عهد الفونج‪ ،‬وجاءت أهميتها من موقعها الجغرافي كملتقى للقوافل‬
‫التجارية؛ وكان بها سوق ال يقل عن أي مركز تجاري متمدن في العالم في ذلك الوقت‪،‬‬

‫(‬
‫‪45) Sayed El- Bushra, Towns in Sudan in the Eighteenth and Early‬‬
‫‪Ninteenth Centuries, Sudan Notes and Records, Vol. 52, 1971, p. 63.‬‬
‫(‬
‫‪46) Ibid, p. 70.‬‬
‫‪ )47‬تاج السر عثمان الحاج‪ ،‬لمحات من تاريخ سلطنة الفونج االجتماعي ‪،1823 -1504‬‬ ‫(‬

‫مركز محمد عمر بشير للدراسات السودانية‪ ،‬دار عزة للطباعة للنشر والتوزيع‪ ،‬الخرطوم‪،‬‬
‫‪ ،2004‬ص ‪.98‬‬
‫‪ )48‬أحمد بن الحاج علي‪ ،‬مخطوطة كاتب الشونة أو تاريخ ملوك سنار‪ ،‬تحقيق يوسف فضل‬ ‫(‬

‫حسن‪ ،‬تحت الطبع‪ .‬وقد أفدت من المخطوط بإذن من المحقق البروفسير يوسف فضل حسن‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫وكانت البضائع ترد إليها من الهند ومصر وجنوة والبندقية وأثيوبيا وألمانيا‪ )49(.‬وكانت شندي‬
‫قد عرفت التعامل السلعي النقدي‪ ،‬وكانت العملة الرئيسية المتداولة في سوقها هي الرياالت‬
‫(‪)50‬‬
‫األسبانية‪ ،‬كما كانت سائر أنواع العمالت مقبولة مما يشير إلى عالمية ذلك السوق‪.‬‬
‫ٍ‬
‫جاليات وتجاراً أحباشاً‬ ‫وظهرت مدن أخرى ازدهرت تجارتها مثل بربر وسواكن‪ ،‬وقد عرفتا‬
‫كما تخبرنا الطبقات عن ظهور مدن تجارية‬ ‫(‪)51‬‬
‫ومصريين وأتراكاً وعرباً ويمنيين‪ G‬وهنوداً‪.‬‬
‫(‪)52‬‬
‫مزدهرة مثل الدامر والحلفاية وأربجي وفازوغلي‪.‬‬
‫ومع ذلك فقد وضع الحكم التركي المصري (‪ )1885 -1821‬بصمات واضحة‬
‫في تطور المدينة‪ G،‬إذ أن السودان قد عرف في هذا العهد‪ G،‬ألول مرة‪ ،‬الكينونة‪ G‬السياسية‬
‫الموحدة التي نقلته من مجموعة نظم سياسية ذات عالقات محدودة بالعالم الخارجي إلى دولة‬
‫(‪)53‬‬
‫مركزية تخطو نحو االرتباط بالسوق العالمية بعالقات تجارية وثقافية‪.‬‬
‫اختار الحكام الجدد قرية صغيرة ال ذكر لها كحاضرة لحكمهم الجديد تلتقي عندها‬
‫ثالثة طرق نهرية وعدة طرق برية‪ ،‬فكانت مدينة الخرطوم السوق التجاري األول بالبالد في‬
‫ميادين التسويق والتوزيع واالستيراد‪ ،‬بل أصبحت سوقاً لكل المنطقة الممتدة‪ G‬بين وسط‬
‫(‪)54‬‬
‫أفريقيا وبحيرة شاد والبحر األحمر‪.‬‬
‫لقد لعب العامالن االقتصادي والسياسي دوراً كبيراً في نشوء وازدهار المدينة‬
‫السودانية في العهد التركي المصري‪ .‬فقد لعب العامل السياسي دوراً أساسياً في نشأة مدينة‬

‫‪ )49‬تاج السر عثمان الحاج‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.102‬‬ ‫(‬

‫‪ )50‬نفسه‪ ،‬ص ‪.102‬‬ ‫(‬

‫‪ )51‬نفسه‪ ،‬ص ص ‪.105 -104‬‬ ‫(‬

‫‪ )52‬أنظر‪ :‬محمد النور بن ضيف اهلل‪ ،‬كتاب الطبقات في خصوص األولياء والعلماء والشعراء‬ ‫(‬

‫في السودان‪ ،‬تحقيق يوسف فضل حسن‪ ،‬الخرطوم‪.1971 ،‬‬


‫‪ )53‬محمد سعيد القدال‪ ،‬تاريخ السودان الحديث ‪ ،1955 -1820‬مركز عبد الكريم ميرغني‬ ‫(‬

‫الثقافي‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،2002 ،‬ص ‪.20‬‬


‫‪ )54‬أحمد أحمد سيد أحمد‪ ،‬تاريخ مدينة الخرطوم تحت الحكم المصري ‪ ،1885 -1820‬الهيئة‬ ‫(‬

‫المصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،2000 ،‬ص ‪.180‬‬

‫‪49‬‬
‫وتعززت مكانتها‬ ‫(‪)55‬‬
‫كسال كمركز تجاري يشرف على ممتلكات الحكم الجديد في الشرق‪،‬‬
‫بقدوم السادة المراغنة الذين أعطوها ثقالً دينياً واجتماعياً‪ .‬كما أنعش المدينة العامل‬
‫االقتصادي‪ ،‬فبعد ضم مصوع للسودان أصبحت كسال تقع في وسط الطريق التجاري بين‬
‫مناطق اإلنتاج في والبحر األحمر‪ ،‬وبعد زراعة القطن في دلتا القاش وتشييد المحالج زاد‬
‫نشاط السوق في كسال وأصبح قوة جاذبة للتجار والمستهلكين من مختلف المجموعات التي‬
‫(‪)56‬‬
‫تمتلك قدرة شرائية‪.‬‬
‫وبسبب العامل االقتصادي‪ ،‬والتوسع في زراعة المحاصيل النقدية‪ ،‬تحولت‬
‫األسواق الموسمية تدريجياً إلى مراكز لتجميع المحصوالت‪ .‬كما أعطى النشاط التجاري‬
‫دفعة قوية لنمو المدن التجارية التي كانت قائمة من قبل مثل األبيض والمسلمية والقضارف‬
‫وشندي وسواكن‪ .‬فازدهار تجارة الصمغ وضم المديريات الجنوبية جعل األبيض في طريق‬
‫القوافل القادمة من بحر الغزال‪ ،‬وتجلى ازدهارها االقتصادي في قيام سوق عالمية للصرافة‬
‫أما بربر فقد تحولت إلى مركز يعج بالحركة التجارية إذ استثمرت موقعها في‬ ‫(‪)57‬‬
‫فيها‪.‬‬
‫(‪)58‬‬
‫طريق القوافل المتجهة شرقاً إلى سواكن وشمال مصر‪.‬‬
‫أصبحت المدينة السودانية في العهد التركي المصري تضم خليطاً من المجموعات‬
‫واألجناس الذين جذبهم النشاط التجاري وبريق المدينة‪ ،‬وكان بالمدينة‪ G‬جمهرة من التجار‬
‫األجانب المصريين والعرب والهنود واألوربيين‪ G،‬وأقاموا قنصلياتهم وشركاتهم وانتشروا‬
‫حتى في المديرية االستوائية‪ .‬وقد قدر عدد األجانب في مدينة‪ G‬الخرطوم وحدها‪ ،‬ما عدا‬
‫(‪)59‬‬
‫المصريين‪ ،‬عام ‪ 1883‬بألف وخمسمائة إلى ألفي نسمة‪.‬‬
‫وقد سنت اإلدارة التركية القوانين والتسهيالت اإلدارية الالزمة لتهيئة الجو‬
‫لالستثمارات األجنبية‪ ،‬خصوصاً في مدينة‪ G‬الخرطوم‪ .‬ولما كان معظم األجانب‪ ،‬خصوصاً‬
‫األوربيون‪ ،‬في السودان من التجار‪ ،‬فقد استوجب ذلك وجود ممثلين سياسيين لبالدهم لرعاية‬

‫‪ )55‬محمد سعيد القدال‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.121‬‬ ‫(‬

‫‪ )56‬نفسه‪ ،‬ص ص ‪.123 -122‬‬ ‫(‬

‫‪ )57‬نفسه‪ ،‬ص ‪.123‬‬ ‫(‬

‫‪ )58‬نفسه‪ ،‬ص ‪.123‬‬ ‫(‬

‫‪ )59‬أحمد أحمد سيد أحمد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.269‬‬ ‫(‬

‫‪50‬‬
‫مصالحهم وتذليل الصعاب التي تقوم بينهم وبين حكومة الخرطوم‪ .‬ومن أمثلة هذه الرعاية‬
‫االحتجاج العام الذي قدمه نواب القناصل األوربيين في الخرطوم برئاسة نائب قنصل النمسا‬
‫(‪)60‬‬
‫إلى عباس باشا ضد الحكمدار عبد اللطيف الذي كان يحتكر تجارة النيل األبيض‪.‬‬
‫(‪6‬‬
‫ولم تخل مدينة‪ G‬سودانية في ذلك العهد من الموظفين أو التجار أو الرحالة األجانب‪،‬‬
‫وقد ساعد على ذلك طبيعة المجتمع المفتوح في المدن السودانية في ذلك الوقت واستعداده‬ ‫‪)1‬‬

‫الستقبال الغرباء في حياة ماجنة أقرب إلى العبث من لهث حثيث وراء المتعة واللذة‬
‫(‪)62‬‬
‫الجنسية‪.‬‬
‫وظهر بين التجار األجانب في المدينة السودانية من يقوم بعمليات تسليف النقود‬
‫(‪6‬‬
‫وتحويلها إلى خارج البالد‪ G،‬ويبدو أن اليونانيين‪ G‬هم أكثر المشتغلين بهذه األعمال المصرفية‪.‬‬
‫‪)3‬‬

‫نفهم من كل هذا أن المدينة‪ G‬السودانية‪ ،‬التي نمت نمواً مضطرداً في العهد التركي‬
‫المصري وما واكبه من انتعاش اقتصادي‪ ،‬والطبيعة االنفتاحية لمجتمع المدينة ‪open‬‬
‫‪ society‬وارتفاع مستوى معيشة التجار واألجانب‪ ،‬وازدهار حركة التجارة الخارجية‪،‬‬
‫وظهور عمليات التحويل المالية واألعمال المصرفية‪ ،‬كل هذه األسباب جعلت السودان جاذباً‬

‫‪ )60‬نفسه‪ ،‬ص ‪.283‬‬ ‫(‬

‫‪ )61‬نفسه‪ ،‬ص ‪.283‬‬ ‫(‬

‫‪ )62‬تعكس لنا بعض المصادر التي تناولت الحياة االجتماعية في العهد التركي المصري هذه‬ ‫(‬

‫الحياة الماجنة في المدن السودانية من دعارة‪ ،‬ومتاجرة بالفتيات‪ G،‬وزنى بالجواري والسرايا‪ٍّ ،‬‬
‫وتفش‬ ‫ً‬
‫لللواط‪ .‬وكانت مواكب المتعة الجنسية من عاهرات ومثليين تجوب شوارع المدينة تعرض‬
‫بضاعتها البشرية في فجور صارخ‪ .‬للمزيد أنظر‪ :‬ريتشارد ِه ّل (مترجم من اإليطالية إلى‬
‫اإلنجليزية)‪ ،‬وعبد العظيم محمد أحمد (مترجم من اإلنجليزية إلى العربية)‪ ،‬على تخوم العالم‬
‫اإلسالمي‪ :‬حقبة من تاريخ السودان ‪ ،1841 -1822‬المطبوعات العربية للتأليف والترجمة‪،‬‬
‫الطبعة األولى‪ ،1987 ،‬الفصل الخاص بالحياة االجتماعية في السودان ص ص ‪.158 -155‬‬
‫أنظر أيضًا‪ :‬أحمد أحمد سيد أحمد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.296 -288‬‬
‫ال عن‪ J. A. Grant, A Walk Across Africa, p. 408 :‬؛ وقد أفادني الدكتور‬
‫‪ )63‬نفسه؛ نق ً‬ ‫(‬

‫قيصر موسى الزين أن اليهود قدموا أنفسهم كأغاريق في تلك الفترة‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫للتجار األجانب الطامعين في مراكمة أرباحهم‪ ،‬وللباحثين عن أوضاع اقتصادية أفضل‪،‬‬
‫وبطبيعة الحال فقد كان اليهود من بين هؤالء‪.‬‬

‫تدفق اليهود إلى السودان في ظل العهد التركي المصري (‪)1885 -1821‬‬


‫عانت الدولة العثمانية في بدايات القرن التاسع عشر من ٍ‬
‫تدن مريع في اقتصادها‪،‬‬
‫مقارنة مع اقتصادها المزدهر في القرن السادس عشر‪ .‬وقد تسببت العديد من العوامل‬
‫الداخلية والخارجية في تدهور االقتصاد العثماني من بينها تضاؤل أهمية البحر األبيض‬
‫المتوسط من الناحية االقتصادية وتحول المحيط األطلسي إلى ممر تجاري رئيسي‪ ،‬كما أن‬
‫السياسات الخاطئة التي انتهجتها الدولة وتسببت في دخولها لحروب عديدة‪ ،‬باإلضافة للعجز‬
‫الدائم في ميزان المدفوعات‪ ،‬مثلت أهم العوامل الداخلية التي أزمت وضع االقتصاد‬
‫(‪)64‬‬
‫العثماني‪ ،‬وتجلت كل تلك العوامل في ارتفاع معدل التضخم‪.‬‬
‫وقد عاشت الدولة العثمانية حالة ال مثيل لها من التخلف في مجاالت الصناعة‬
‫والزراعة ووسائل المواصالت‪ .‬ونتيجة لذلك تكدست أسواق الدولة العثمانية بكافة البضائع‬
‫األوربية مثل األجهزة والمنسوجات والمالبس واألطعمة وغيرها‪ .‬أما صادرات تركيا‬
‫(‪)65‬‬
‫التقليدية إلى البلدان األوربية فقد انخفض حجمها بشكل ملحوظ‪.‬‬
‫وقد استمر اليهود في مزاولة أنشطتهم االقتصادية التقليدية التي اعتادوا أن‬
‫يمارسوها في تركيا‪ :‬العمل كوسطاء‪ ،‬وفي األعمال المصرفية واألسواق المالية‪ ،‬وكعمالء‬
‫في مجال التجارتين الداخلية والخارجية‪ ،‬وجباية الضرائب‪ ،‬والمقايضة‪ ،‬وفي بعض المهن‬
‫(‪)66‬‬
‫األخرى مثل صناعة المنسوجات‪.‬‬
‫ومع تزايد حجم تدخل القوى العظمى في شؤون الدولة خاصة منذ نهايات القرن‬
‫الثامن عشر‪ ،‬ومع حركة الهجرة المسيحية الضخمة إلى المدن التركية‪ ،‬تزايد نشاط‬
‫المسيحيين في التجارتين الداخلية والخارجية وفي مجال المعامالت المالية وهي النشاطات‬

‫‪ )64‬صمويل أتينجر‪ ،‬اليهود في البلدان اإلسالمية ‪ ،1950 -1850‬ترجمة جمال أحمد‬ ‫(‬

‫الرفاعي‪ ،‬المجلس الوطني للفنون والثقافة واآلداب‪ ،‬الكويت‪ ،1985 ،‬ص ص ‪.180 -175‬‬
‫‪ )65‬نفسه‪ ،‬ص ‪.176‬‬ ‫(‬

‫‪ )66‬نفسه‪ ،‬ص ‪.178‬‬ ‫(‬

‫‪52‬‬
‫ففقد اليهود وظائفهم التقليدية التي اعتادوا العمل بها‪ ،‬كما‬ ‫(‪)67‬‬
‫التي اعتاد اليهود العمل فيها‪.‬‬
‫تضررت أعداد كبيرة من اليهود العاملين في صناعة المنسوجات‪ ،‬خصوصاً بعد حل سالح‬
‫(‪)68‬‬
‫اإلنكشارية عام ‪ 1826‬وقد كان اليهود يقومون بتزويد الجيش باحتياجاته من المالبس‪.‬‬
‫أسفرت هذه األوضاع عن إلحاق أشد الضرر باليهود‪ G،‬ليس بأثريائهم فقط‪ ،‬وإ نما‬
‫بأبناء الطبقة الوسطى أيضاً‪ .‬ووصلت الحال ببعض التجار اليهود أن أصبحوا من الطبقات‬
‫الفقيرة‪ .‬وخلق هذا الوضع خاصة في أوساط الطوائف اليهودية الكبيرة‪ ،‬مشكالت اجتماعية‬
‫حادة نجم معظمها عن عجز أبناء هذه الطوائف عن دفع الضرائب المباشرة أو غير المباشرة‬
‫لقادة الطوائف‪ .‬وقد سادت حالة من التوتر بين فقراء اليهود العاطلين عن العمل‪ ،‬وبين‬
‫وتسببت كل هذه العوامل‬ ‫(‪)69‬‬
‫األثرياء الذين كانوا يسيطرون على مجريات الطائفة اليهودية‪.‬‬
‫الطاردة في هجرة عدد من يهود تركيا‪ ،‬بحثاً عن أوضاع معيشية أفضل‪.‬‬
‫وعلى خالف سائر أنحاء اإلمبراطورية العثمانية في ذلك الوقت‪ ،‬شهد السودان في‬
‫هذه األثناء نشوء المدن وازدهار النشاط التجاري واالقتصادي‪.‬‬
‫تم ضم السودان إلى اإلمبراطورية العثمانية‪ ،‬وألحق بمصر‪ ،‬في عهد محمد علي‬
‫باشا‪ ،‬الذي وصل إلى حكم مصر في ‪ .1805‬وقد انتهج نهجاً تحديثياً على النمط األوربي‪،‬‬
‫فنفَّذ في مصر برنامجاً صناعياً طموحاً َّ‬
‫تكون بموجبه نظام رأسمالي تموله الدولة‪ ،‬وفتح‬
‫مجاالً لزراعة المحاصيل النقدية‪ .‬وبفضل محمد علي باشا تأسست في مصر دولة حديثة بها‬
‫جيش قوي وأسطول بحري‪ ،‬وأدخل إصالحات ثقافية‪ ،‬وبموجب كل ذلك غدت مصر تحت‬
‫وبطبيعة الحال فإن التبعية‪G‬‬ ‫(‪)70‬‬
‫قيادته الجزء الوحيد من اإلمبراطورية العثمانية الذي له قوة‪.‬‬
‫المطلقة للسودان بمصر في تلك الفترة قد ألقت بظاللها على نمو المدن السودانية وتحديثها‬
‫وازدهار أسواقها‪.‬‬

‫‪ )67‬نفسه‪ ،‬ص ‪.191‬‬ ‫(‬

‫‪ )68‬نفسه‪ ،‬ص ‪.179‬‬ ‫(‬

‫‪ )69‬نفسه‪ ،‬ص ‪.179‬‬ ‫(‬

‫‪ )70‬محمد سعيد القدال‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.26‬‬ ‫(‬

‫‪53‬‬
‫وفي ظل هذا الواقع‪ ،‬يمكننا أن نفهم توافد أعداد من اليهود‪ G،‬وأغلبهم من السفارديم‪،‬‬
‫إلى السودان‪ ،‬مركز الجذب الجديد‪.‬‬
‫وخلفاءه من بعده‪ ،‬وفي إطار سعيه لتحديث مصر‪ ،‬سمح‬
‫َ‬ ‫ويبدو أن محمد علي باشا‪،‬‬
‫وفي السودان‪،‬‬ ‫(‪)71‬‬
‫باستثمار األجانب‪ ،‬ومعظمهم من اليهود‪ G،‬لرؤوس أموالهم في مصر‪،‬‬
‫(‪)72‬‬
‫بالضرورة‪ ،‬وهو ما يفهم من االرتباط الوثيق بين يهود مصر ويهود السودان‪.‬‬
‫تمتع اليهود في السودان في ظل الحكم التركي المصري بكامل حريتهم في ممارسة‬
‫شعائرهم الدينية‪ G،‬وكان لديهم رئيس للجالية ومتحدث باسمها أمام السلطات الرسمية‪ ،‬وهو بن‬
‫زيون كوشتي‪ .‬وقد خصص جزءاً من منزله ألداء الشعائر اليهودية مثل شعيرة السبت‬
‫(‪)73‬‬
‫‪ Shabbat‬وغيرها من المناسبات والصلوات الدينية‪.‬‬
‫وفي هذا المناخ ُوجد يهود السودان ونشطوا في األعمال التجارية وفي التجارة‬
‫الخارجية على وجه الخصوص‪ ،‬فكانوا يصدرون المنتجات السودانية مثل الصمغ العربي‪،‬‬
‫والصوف‪ ،‬والعاج‪ ،‬وريش النعام‪ ،‬الذي كانت أوربا تتلقفه بلهفة شديدة في ذلك الوقت‪ .‬وإ لى‬
‫السودان كان التجار اليهود يستوردون احتياجات الطبقة الحاكمة والبرجوازية السودانية‬
‫الناشئة واألجانب الذين يعيشون في السودان حياة دعة ورفاهية‪ ،‬مثل المنسوجات‪ ،‬والصابون‬
‫وغيرها‪.‬‬
‫وقد سلك التجار اليهود في أعمال االستيراد والتصدير طريق البحر األحمر عبر‬
‫ميناء سواكن‪ ،‬وطريق درب األربعين المتجه إلى مصر ومنها عبر البحار إلى شواطئ‬
‫(‪)74‬‬
‫اليونان‪ ،‬ومنها إلى بقية أنحاء أوربا‪.‬‬
‫وعلى الرغم من أن التجارة الخارجية كانت المنشط الرئيسي ليهود السودان‬
‫التركي المصري‪ ،‬إال أن بعضهم امتهنوا مهناً أخرى مثل الصرافة والجزارة والحياكة‬
‫والفالحة وغيرها‪ .‬كما وفد بعض اليهود ألغراض استكشافية وبحثية وعلمية‪.‬‬

‫‪ )71‬سهام نصار‪ ،‬اليهود المصريون بين المصرية والصهيونية‪ ،‬دار الوحدة‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬ ‫(‬

‫بيروت‪ ،1980 G،‬ص ص ‪.13 -12‬‬


‫(‬
‫‪72) Eli S. Malka, Jacob`s Children in the Land of the Mahdi: Jews of the‬‬
‫‪Sudan, Syracuse University Press, 6th edition, New York, 2002, p. 12.‬‬
‫(‬
‫‪73) Ibid, 20.‬‬
‫(‬
‫‪74) Ibid, 19.‬‬

‫‪54‬‬
‫ومن أشهر اليهود الذين عاشوا في السودان‪ ،‬أو زاروه‪ ،‬في تلك الفترة‪ ،‬والذين‬
‫تضمنهم معجم السودان اإلنجليزي المصري لريتشارد ِه ّل(‪ )75‬بن زيون كوشتي‪ ،‬داؤد‬
‫ماندل‪ ،‬إسرائيل داؤد بنيامين‪ ،‬أمين باشا‪ ،‬فيتا حسن‪ ،‬سالطين باشا‪ ،‬بيالوتزكي‪ ،‬لومبروس‬
‫جياكومو‪ ،‬مور بورقو اساكيتو‪ .‬وتعطي هذه الشخصيات نماذج جيدة لليهود في السودان في‬
‫العهد التركي المصري‪ :‬من أين‪ ،‬وكيف جاءوا؟ وأين‪ ،‬وكيف عاشوا في السودان؟ وما هي‬
‫طبيعة األعمال التي زاولوها فيه؟‬
‫ولد بن زيون كوشتي )‪ ،Ben Zion Koshti (1842- 1917‬وهو رجل أعمال‬
‫يهودي‪ ،‬بفلسطين‪ ،‬ويعود بجذوره إلى أصول يهودية روسية‪ ،‬ويهودية أسبانية‪ ،‬وكان كبيراً‬
‫للحاخامات‪ ،‬لكنه اختار العمل في الحكومة العثمانية وشغل منصب إداري مالي في قريته‬
‫التي ولد فيها‪ .‬وبصحبة زوجته غادر فيما بعد إلى مصر أثناء فترة الحرب الروسية التركية‬
‫(‪ .)1878 -1877‬وفيما بعد قدم للسودان كمدير إلحدى الشركات التجارية المصرية‬
‫وعاش تاجراً بين الخرطوم والمسلمية‪ .‬ويبدو أنه بلغ وضعاً اقتصادياً مميزاً َّ‬
‫أهله إلقراض‬
‫(‪)76‬‬
‫غردون باشا المال الالزم لتحصين الخرطوم إبان حصارها (‪.)1885 -1884‬‬
‫أما داؤد ماندل )‪ ،Da'ud Mandil (1830- 1901‬فهو تاجر جزائري من أصل‬
‫نساجة األقمشة القطنية بواسطة الماكينات في‬
‫يهودي ولد في األسكندرية‪ ،‬وأصبح من أمهر ّ‬
‫الزيات حوالي عام ‪ .1870‬وقد جاء في وقت الحق إلى‬
‫القاهرة‪ .‬وأنشأ مصنعاً في كفر ّ‬
‫السودان وأنشأ إمبراطورية تجارية في مدينة‪ G‬األبيض‪ ،‬فكان يستورد المنتجات من مانشيستر‬
‫)‬
‫ويصدر الصمغ العربي وريش النعام إلى خارج السودان حتى عام ‪1881.(77‬‬
‫ومن بغداد‪ G‬توجه التاجر اليهودي إسرائيل داؤد بنيامين ‪Usra'il Da'ud‬‬
‫‪( Binyamin‬؟‪ )1915 -‬يافعاً إلى مصر وتزوج من سيدة ارستقراطية يهودية‪ G.‬ثم جاء‬

‫(‬
‫‪75 (Richared Hill, A Bibliography of the Anglo – Egyptian Sudan, from‬‬
‫‪Earliest Times to 1937, 2edition, Frank Cass & Co., LTD., London, 1967.‬‬
‫(‬
‫‪76(Ibid, p 78.‬‬
‫(‬
‫‪77) Ibid, pp. 109- 110.‬‬

‫‪55‬‬
‫ولعله امتهن‪ ،‬بعد استقراره‬ ‫(‪)78‬‬
‫إلى السودان في حوالي عام ‪ 1875‬وأدار متجراً لبيع الثياب‪،‬‬
‫في السودان‪ ،‬تجارة الرقيق المربحة‪.‬‬
‫(‪)79‬‬

‫ومن أشهر من يعودون بجذورهم ألصول يهودية‪ G‬وعمل في السودان‪ ،‬شناتيتزر‬


‫إدوارد كارل أوسكار ثيودور ‪ Schnitzer Eduard Carl Oscar Theodor‬الشهير‬
‫بأمين باشا (‪ ،)1892 -1840‬وهو طبيب وإ داري يهودي من أصول ألمانية‪ .‬ولد في‬
‫صقلية‪ .‬وبعد دراسته للطب في ألمانيا عمل في ألبانيا كمدير طبي في الخدمة العثمانية‪ G،‬وقد‬
‫تمثل الثقافة التركية تمثالً كامالً في زيه وفي سلوكه‪ ،‬كما سمى نفسه محمد األمين‪ ،‬ولعله من‬
‫وصل إلى الخرطوم في ظروف صعبة فكان مفلساً تماماً‪ ،‬وقد ساعده‬ ‫(‪)80‬‬
‫يهود الدونمة‪.‬‬
‫أعضاء المجتمع األوربي في الخرطوم عبر بعض األعمال الخاصة المؤقتة حتى وقف على‬
‫قدميه‪ G.‬وفي عام ‪ 1876‬دعاه الكولونيل سي‪ .‬ج‪ .‬غردون ‪ C. G. Gordon‬للعمل كموظف‬
‫طبي في االستوائية‪ .‬وأعجب به غردون فعينه مديراً طبياً لكل اإلقليم‪ ،‬كما كلفه ببعض المهام‬
‫اإلدارية األخرى‪ .‬وفي عام ‪ُ 1878‬عّين حاكماً على االستوائية‪ ،‬وهي الوظيفة التي شغلها‬
‫حتى عام ‪1889.(81‬‬
‫)‬

‫(‬
‫‪78) Ibid, p 187.‬‬
‫‪ )79‬مقابلة مع اإلخباري مصطفى إسحق داؤد (حفيد إسرائيل داؤد بنيامين)‪ .‬ولعل عدداً من‬ ‫(‬

‫القرائن التاريخية في حياة إسرائيل بين كردفان ودارفور واالستوائية تدفعنا لترجيح هذا الرأي‪ .‬وقد‬
‫أشار اإلخباري إلى أن سبب قدوم جده للسودان‪ ،‬كما سمع من والده‪ ،‬هو البحث عن وطن قومي‬
‫لليهود‪ .‬ويبدو لي أن هذا المنحى الروائي هو محاولة إليجاد دور بطولي لعميد العائلة أكثر من‬
‫كونه واقعاً حقيقياً‪ .‬وفي الواقع كانت هناك بعد المقترحات باختيار السودان كوطن قومي لليهود‬
‫قدمت بعد مؤتمر‪ G‬بازل (ت‪ )1897 .‬في حين كان قدوم داؤد إسرائيل بنيامين إلى السودان في نحو‬
‫عام ‪ .1875‬وسنناقش مقترحات إقامة وطن قومي لليهود بالسودان في الفصل القادم‪.‬‬
‫‪ )80‬يهود الدونمة هم مجموعة من اليهود هربوا من االضطهاد في أوربا والتجئوا للدولة‬ ‫(‬

‫العثمانية‪ ،‬ثم دخلوا اإلسالم‪ .‬ويعتقد البعض أنهم لم يكونوا صادقين في إسالمهم لكنهم إدعوا‬
‫اإلسالم‪ ،‬وتعكس‪ G‬مصائر هذه الطائفة صحة هذه الفرضية فقد تكشف أنهم كانوا يهودًا متخفين‬
‫يمارسون‪ ،‬مع إسالمهم‪ ،‬تقاليدهم اليهودية سرًا‪ ،‬ولكل منهم اسمان‪ :‬اسم تركي مسلم‪ ،‬وآخر عبراني‬
‫يهودي‪ .‬أنظر‪ :‬مصطفى طوران‪ ،‬يهود الدونمة‪ ،‬ترجمة كمال خوجة‪ ،‬دار السالم‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى‪ ،1977 ،‬ص ‪.53‬‬
‫(‬
‫‪)81) Richard Hill, op cit, p 333.‬‬

‫‪56‬‬
‫أيضاً جاء للسودان فيتا حسن‪ ،‬وهو صيدلي يهودي ولد في تونس‪ .‬بدأ دراسته في‬
‫اإلسكندرية إال أن عسره المالي أجبره على ترك الدراسة في عمر الخامسة عشر‪ ،‬ومن ثم‬
‫ارتاد األعمال الكيميائية‪ G‬والصيدالنية‪ G.‬وفي عمر التاسعة عشرة أصبح مديراً لصيدلية في‬
‫القاهرة‪ .‬وبمساعدة أرملة عباس باشا تمكن من ارتياد سلك الخدمات الطبية في الحكومة‬
‫المصرية‪ ،‬وعمل في العريش‪ .‬وفي عام ‪ 1880‬نقل إلى منطقة الالدو بالسودان حيث التحق‬
‫بقوات أمين باشا حاكم االستوائية وعمل معه ألكثر من عشر سنوات‪ .‬مات بمرض أصابه‬
‫من جراء الرحلة الطويلة التي قطعها للعودة من االستوائية إلى مصر‪ .‬وقد قال عنه أمين‬
‫باشا‪ ."Good as gold, but flghtly, hot- headed and a babbler" :‬وقد كتب فيتا‬
‫عن مغامراته المتعددة‪ G‬مع أمين باشا في كتابه ‪Die Wahrheit Uber Emin Pascha‬‬
‫الذي نشر عام ‪ 1893‬في برلين‪ .‬كما أعد مع ج‪ .‬كاساتي ‪ G. Casati‬دراسة مقارنة للغات‬
‫في جنوب السودان‪ ،‬وطبعت مساهمته في العدد‪ G‬األول من هذا السفر الموسوم ‪Dieci anni‬‬
‫‪ in Equatoria‬عام ‪1891.(82‬‬
‫)‬

‫ومن الشخصيات المثيرة للجدل‪ ،‬والتي تعود ألصول يهودية‪ G،‬وكان له دور مؤثر‬
‫في مسرح األحداث السودانية خالل ثالث حقب‪ ،‬السير البارون رودلف كارل فون سالطين‬
‫)‪ ،Sir Slatin Pasha Rudolf (1857- 1932‬النمساوي األصل‪ ،‬ولد بالقرب من فيينا‬
‫ألسرة أرستقراطية تعود ألصول يهودية‪ ،‬وعمل في الخدمة المصرية وفي حكومة السودان‪.‬‬
‫زار السودان يافعاً حوالي عام ‪ 1876 -1874‬حيث عمل لبعض الوقت مع نائب القنصل‬
‫األلماني وأصبح مسئوالً عن تجارته بين الخرطوم وكردفان؛ ثم عاد للنمسا عام ‪1876‬‬
‫إلكمال الخدمة العسكرية‪ ،‬وانضم إلى الحملة البوسنية عام ‪ .1878‬وفي تلك األثناء قدمت له‬
‫دعوة من غردون باشا‪ ،‬حاكم عام السودان‪ ،‬لينضم إلى حكومته فاستقال من الجيش النمساوي‬
‫وقدم للخرطوم ليشغل وظيفة مفتش مالي في أواخر عام ‪ .1878‬وفي عام ‪ُ 1879‬عّين‬
‫حاكماً على منطقة دارا بجنوب دارفور‪ .‬وفي عام ‪ 1881‬رقي إلى رتبة قامئقام ثم إلى رتبة‬
‫(‪)83‬‬
‫بيه‪.‬‬

‫(‬
‫‪)82)Ibid, p 374.‬‬
‫(‬
‫‪83)Ibid, pp 339- 340.‬‬

‫‪57‬‬
‫وممن يعودون ألصل يهودي لومبرسو جياكومو ‪Lumbarso, Giacomo ( -‬‬
‫)‪ ،1885‬وهو موظف إيطالي من أصل يهودي‪ .‬جاء إلى السودان عام ‪ 1861‬وعمل في‬
‫الصرافة في بنك السودان‪ ،‬وعند تصفية البنك في ‪ 1873‬تم تعيينه‪ G‬في مصلحة البريد في‬
‫الخرطوم‪ ،‬وأصبح فيما بعد مفتشاً للبريد في السودان ثم مديراً للبريد في مصر العليا وبالد‬
‫(‪)84‬‬
‫النوبه (ت‪.)1878 .‬‬
‫ومنهم موربورقو اساكيتو )‪ ،Morpurgo Isachetto (1820- 1890‬وهو تاجر‬
‫يهودي إيطالي من أسرة مقيمة باإلسكندرية‪ ،‬قاده عمله التجاري إلى السودان‪ .‬ورافق عند‬
‫عودته من األبيض إلى مصر الرحالة البريطاني م‪ .‬باركينز ‪ .M. Parkyns‬هاجر هو‬
‫وأسرته من مصر إلى إيطاليا عند اندالع الثورة العرابية‪ ،‬وواصل عمله التجاري بإيطاليا‬
‫(‪)85‬‬
‫حتى توفى عام ‪ .1890‬وأصبح ابنه فيما بعد وزيراً للبريد في إيطاليا‪.‬‬
‫وعمل بعض اليهود بالزراعة واألعمال الفالحية‪ ،‬فقد وصل في ‪ 1881‬إلى مدينة‬
‫مروي إلياهو شاؤل‪ ،‬الذي عرف بين السكان المحليين باسم الهُّ ُّو‪ ،‬وامتلك ساقية في قرية البلل‬
‫بمنطقة نوري‪ ،‬وخصص جزءاً من نشاطه للتجارة في السنامكة والحرجل وغيرها من‬
‫األعشاب المتوافرة في منطقة نوري‪ ،‬والتي يتزايد الطلب عليها الستخداماتها الصيدالنية‬
‫والطبية‪ ،‬كما تشير المصادر الشفوية إلى وجود عدد آخر من اليهود بمناطق‪ :‬نوري‪،‬‬
‫(‪)86‬‬
‫مروي‪ ،‬وكريمة‪.‬‬

‫(‬
‫‪84)Ibid, p 218.‬‬
‫(‬
‫‪85)Ibid, p 242.‬‬
‫‪ )86‬فاطمة أحمد علي‪ ،‬مروي المظهر والجوهر‪ ،‬دار عزة للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬الخرطوم‪،‬‬ ‫(‬

‫‪ ،2003‬ص ص ‪182 -181‬؛ وتشير المؤلفة إلى أن إلياهو قد اشترى ساقية بقرية حلوف‪ ،‬وهي‬
‫قرية تجاور قرية البلل‪ ،‬والصواب هو ما أثبتناه‪ G،‬وقد تحققت من األمر في زيارة ميدانية للمنطقة‪،‬‬
‫وقد اشترت الساقية من إلياهو أسرة الشباعين (نسبة إلى شبعان) وهي األسرة التي ما زالت تمتلك‬
‫الساقية‪ .‬أما اإلشارة بوجود عدد آخر من اليهود فقد تحصلت عليها من مقابلة مع السيد عوض عبيد‬
‫اهلل‪ ،‬بمدينة كريمة‪.‬‬

‫‪58‬‬
59
‫تأسيس (‪)3‬‬

‫اليهود في السودان في عهد الدولة المهدية (‪-1885‬‬


‫‪)1898‬‬

‫يبدو أن تطور المدن السودانية ديموغرافياً ومعمارياً‪ ،‬باستثناء مدينة أم درمان‪ ،‬قد‬
‫توقف إلى حد ما في عهد الدولة المهدية‪ G.‬فطبيعة الدولة "الجهادية"‪ ،‬والحروبات الخارجية‪،‬‬
‫وبالمقابل فإن مدينة‪G‬‬ ‫(‪)84‬‬
‫والصراعات الداخلية‪ ،‬شغلت نظام الحكم عن تنمية المدينة السودانية‪G.‬‬
‫أم درمان أصبحت بفعل سياسات الدولة المهدية مركز الثقل في التجارة الداخلية‪.‬‬
‫ورغم أن سياسة تنظيم السوق التي تبناها الخليفة عبد اهلل التعايشي قد أنعشت حركة‬
‫إال أن ذلك لم يدفع عملية‬ ‫(‪)85‬‬
‫السوق الداخلي وساهمت في انسياب البضائع وتراكم األرباح‪،‬‬
‫التجارة الخارجية‪ ،‬التي تعرضت لعثرات أهمها قرار المقاطعة االقتصادية الذي اتخذه‬
‫الخليفة عبداهلل من جانب‪ ،‬واتخذه النفوذ البريطاني في مصر من جانب آخر‪ .‬ويبدو أن ضغط‬

‫(‪ )84‬حول أسباب تناقص عدد السكان في السودان إبَّان الحكم المهدوي أنظر‪:‬‬
‫‪G. Ayoub Balamoan, Peoples and Economic in the Sudan 1884- 1956,‬‬
‫‪Harvard University Center for Population Studies, Cambridge,‬‬
‫‪Massachusettes, 1976, pp 15- 24.‬‬
‫(‪ )85‬محمد سعيد القدال‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.280 -275‬‬

‫‪60‬‬
‫إال أننا نستنتج‬ ‫(‪)86‬‬
‫جماعات المصالح من التجار قد أدى فيما بعد لكسر قرارات هذه المقاطعة‪،‬‬
‫أن التجارة الخارجية كانت ضعيفة بالمقارنة مع حالها في فترة العهد التركي‪.‬‬
‫ونتيجة لضعف التجارة الخارجية فإن إحجام التجار األجانب‪ ،‬بما فيهم اليهود‪ G،‬عن‬
‫التوافد إلى السودان يبدو لنا نتيجة منطقية‪ .‬وربما كان سوء المعاملة الذي تعرض له‬
‫األجانب‪ ،‬واليهود‪ ،‬من قبل "األنصار" سبباً آخر لهذا االحجام‪ ،‬بل أن من كان موجوداً منهم‬
‫(‪)87‬‬
‫بالسودان كان يتحين الفرصة المناسبة للهروب منه‪.‬‬
‫وتعكس لنا مذكرات يوسف ميخائيل صورة لخسارة التجار األجانب ألموالهم التي‬
‫راكموها في العهد التركي المصري‪ )...(" :‬بل قتل فيها [يعني مدينة‪ G‬األبيض] حكامها‬
‫وعمارها وتجارها كمثل محمود أبو أربعة وعبد اهلل المحسي‪ ،‬والخواجات أهل األموال‬
‫"(‪ )...‬ووضعوا يدهم [يعني األنصار] على أموال‬ ‫(‪)88‬‬
‫الجسيمة وصارت للعربان غنيمة"‪.‬‬
‫الحكومة وكافت [هكذا] بيوت األكابر‪ ،‬وأهل المدينة‪ G‬جملة‪ ،‬وجمعوا األموال بالكوم من منازل‬
‫(‪)89‬‬
‫الخواجات والتجار شي ال يوصف"‪.‬‬
‫كما تعكس هذه المذكرات سوء المعاملة التي القوها من قتل وسجن وتعذيب‬
‫وتمييز بسبب الدين‪ ،‬وهو ما يمكن فهمه من النص‪ )...(" :‬وعلى المقدر كان محمد سعيد‬
‫المسلماني عنده ولد اسمه الهادي البس جثت الصليب على رقبته‪ .‬عندهم خدامة توجهت‬

‫(‪ )86‬نفسه‪.263 ،‬‬


‫‪ )87‬اعتبر األنصار كل األجانب متعاونين مع األتراك فاستباحوا دماءهم وأموالهم‪ ،‬وتعرض‬ ‫(‬

‫بعض اليهود للقتل بصورة بشعة‪ ،‬منهم الحائك كالين فرانز وقد قتل ومثل بجثته وألقي برأسه تحت‬
‫أقدام زوجته وأوالده الذين كانت ترتعد فرائصهم من الرعب‪ .‬أنظر‪ :‬صالح محمد أحمد‪ ،‬مرجع‬
‫سابق‪ ،‬ص ‪ ،46‬وأورد فارويل هذه الواقعة لكنه أشار إلى هوية الضحية "بالحائك النمساوي"‪،‬‬
‫وأضاف أن األنصار قتلوا أيضاً ابنه البالغ ثمانية عشر عاماً‪ ،‬وألقوا بجثته تحت أقدام أمه‪ .‬أنظر‪:‬‬
‫‪Byron Farwell, Prisoners of the Mahdi, Harper and Row, New York, 1967, p.‬‬
‫"خدر"‬
‫‪ .97‬وقد أشارت بعض المقابالت‪ G‬إلى نجاح بعض اليهود في الهرب إلى مصر منهم خضر َ‬
‫عبد النبي‪ .‬مقابلة مع األستاذة هالة صالح الدين إسحق خضر‪.‬‬
‫‪ )88‬يوسف ميخائيل‪ ،‬مذكرات يوسف ميخائيل‪ :‬التركية والمهدية والحكم الثنائي‪ ،‬تحقيق وتقديم‬ ‫(‬

‫أحمد إبراهيم أبو شوك‪ ،‬مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي‪ ،2004 ،‬ص ‪.81‬‬
‫(‪ )89‬نفسه‪ ،‬ص ‪.93‬‬

‫‪61‬‬
‫للمهدي وقالت له‪ :‬إن محمد سعيد المسلماني لآلن نصراني عنده الصليب البسه ابنه الهادي؛‬
‫وقد ظبطوا الولد الصغير على حين غفلة‪ ،‬وجدوا عنده جثت الصليب‪ ،‬جردوا منزله وصار‬
‫سجنه سبعة أيام وبعد ذلك أطلق سراحه‪ .‬قام محمد سعيد أخذ جنزير حديد‪ ،‬ووضعه على‬
‫رقبته‪ ،‬وتوجه للمهدي وقال له‪ :‬يا سيدي أنا حصل مني ذنب في ذلك أعني عني [هكذا‪ ،‬ولعل‬
‫المراد أعفو عني]‪ .‬قال له‪ :‬عفونا عنك‪ ،‬ويكون مقدم عليكم عبد اهلل الرومي الشهير بمكادي‪.‬‬
‫عند سجن محمد سعيد حصل رعب شديد لكافت الرهبان القسسين والخواجات وحمدوا اهلل‬
‫(‪)90‬‬
‫على العفو"‪.‬‬
‫وكانت المهدية‪ G‬قد أجبرت كل "الكفار" على اإلسالم‪ ،‬وكانت تراقب تصرفاتهم‪،‬‬
‫عين الخليفة أحمد ولد بشارة لمراقبة هؤالء "المسالمة" وكان يقيم‬
‫وحضورهم للمسجد‪ ،‬وقد ّ‬
‫(‪)91‬‬
‫معهم ولعله كان مسموحاً له بحكم وظيفته أن يدخل ديارهم للتفتيش بين الحين واآلخر‪.‬‬
‫وقد منحت المهدية‪ G‬هؤالء المسالمة قطع أراض واسعة في أم درمان مساحة الواحدة‬
‫أكثر من ‪1000‬م‪ 2‬وسميت المنطقة باسم "المسالمة"‪ .‬كما كان بعض المسالمة يقيمون في‬
‫(‪)92‬‬
‫الخرطوم‪.‬‬
‫وضمن هؤالء "المسالمة" أو "المسلمانية" عاش اليهود مجبرين على اإلسالم‪ ،‬وعلى‬
‫‪)931‬‬
‫قطع عالقاتهم مع ذويهم بمصر‪ ،‬كما أجبروا على التزوج من سودانيات مسلمات‪.‬‬
‫ولعل اليهود‪ G،‬بخبرتهم بمثل هذه الضغوط‪ ،‬استطاعوا أن يأقلموا أنفسهم مع هذا‬
‫فبن زيون‬ ‫‪)942‬‬
‫الوضع الجديد‪ ،‬بل كان بعضهم يمارس شعائره سراً قبل الذهاب للمسجد‪.‬‬

‫(‪ )90‬نفسه‪ ،‬ص ‪.111‬‬


‫(‪ )91‬نفسه‪ ،‬ص ‪.128‬‬
‫(‬
‫‪92) G. Ayoub Balmoan, op cit, p14.‬‬
‫‪ )93‬يبدو أن معظم هؤالء الزوجات كن من السرايا فإسرائيل داؤد بنيامين تزوج من دينكاوية‬ ‫‪1‬‬

‫غير اسمها إلى سارة‪ ،‬وبن زيون كوشتي تزوج من فوراوية‪ ،‬أصبح اسمها َمنه‪،‬‬
‫تدعى أدوت‪ ،‬وقد ّ‬
‫كما يفهم من األسباب التي سردها منديل لعدم ارتداده لليهودية في عهد الحكم الثنائي (أنظر الفصل‬
‫الثالث من هذا البحث)‪ ،‬أنه قد تزوج من سودانية يغلب عليها اللون الزنجي‪ .‬ولعل هذا ما يبرر عدم‬
‫التفات السودانيين إلى ردة هؤالء الزوجات وأبنائهن فيما بعد‪ .‬وإ ن كان المتداول بين األسر‬
‫المنحدرة من هذا النسل أن في ذلك داللة على التسامح الديني‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪94) E. S. Malka, op cit, p 16.‬‬

‫‪62‬‬
‫غير اسمه إلى بسيوني‪ ،‬واستطاع بدهائه وحنكته أن يحظى بثقة الخليفة وأصبح‬
‫كوشتي‪ّ ،‬‬
‫يقوم بأداء بعض المهام التجارية الكبيرة لصالحه بما في ذلك مقايضة المنتجات السودانية‬
‫بالبضائع المستوردة من سواكن‪ ،‬وغيرها من ضروب التجارة‪ .‬وبلغ نفوذه أنه كان يمثل كل‬
‫(‪)95‬‬
‫اليهود في مجلس الخليفة ويدافع عن حقوقهم أمام اعتداءات األنصار‪.‬‬
‫ونجا داؤد ماندل‪ ،‬الذي غير اسمه إلى منديل‪ G،‬من الموت بعدما اعتقله األنصار ّإبان‬
‫(‪)96‬‬
‫سقوط األبيض‪ ،‬بل وأصبح مترجماً للخليفة عبد اهلل نفسه‪.‬‬
‫أما إسرائيل داؤد بنيامين فقد نجا من مذبحة الخرطوم‪ ،‬وانتقل للعيش بأمدرمان‪،‬‬
‫بجوار الخليفة بعدما حصل على تصريح منه لمواصلة أعماله التجارية المزدهرة بين‬
‫وقد اتسعت تجارته حتى امتلك أراضي واسعة في مدينة أم درمان‪.‬‬ ‫(‪)97‬‬
‫كردفان ودارفور‪.‬‬
‫(‪)98‬‬
‫ولعل سكنه بالقرب من بيت الخليفة مما يؤكد أنه كان من المقربين إلى الخليفة‪.‬‬
‫أما رودلف سالطين‪ ،‬فتم اعتقاله وسجن بسجن الساير إال أنه استطاع الهرب بعد‬
‫أحد عشر عاماً إلى مصر (ت‪ )1895 .‬عبر صحراء النوبه وانضم لجيش الغزو الثنائي‬
‫ويبدو أن محاوالت سالطين للتأقلم والتعايش مع المهدية‪ G‬لم تجد‬ ‫(‪)99‬‬
‫بقيادة كتشنر في دنقال‪.‬‬
‫قبوالً لدى الخليفة‪ ،‬إذ كان قد أعلن إسالمه وغير اسمه إلى عبد القادر سالطين‪ ،‬إال أنه عرف‬

‫وقد أكد لي هذه المعلومة حفدة إسرائيل وأضافوا أنهم سمعوا من والدهم عن جدهم أنه كان يقف عن‬
‫يمين الخليفة في الصالة بينما‪ G‬يقف بن زيون كوشتي عن يساره‪ ،‬خصوصاً صالة الصبح‪ ،‬حتى‬
‫والءهم له‪ .‬وقد كان بعض األنصار يتساءلون عن سر المعاملة الطيبة التي يتلقاها اليهود‬
‫يؤكدوا َ‬
‫من الخليفة على خالف غيرهم من األجانب‪ .‬مقابلة مع السيد مصطفى إسحق داؤد‪ ،‬بحارة اليهود‪،‬‬
‫حي البوستة‪.‬‬
‫(‬
‫‪95)Ibid, pp 16- 17.‬‬
‫(‬
‫‪96)Ibid, p p 109- 110.‬‬
‫(‬
‫‪97)Ibid, p 187.‬‬
‫‪ )98‬قمت بزيارة ميدانية للمنطقة التي كانت تسمى بحارة اليهود بأم درمان‪ ،‬وتقع بين مبنى‬ ‫(‬

‫محافظة أم درمان جنوبًا ومبنى البوستة من ناحية الشمال‪ ،‬وتكاد تالصق حوش الخليفة من جهة‬
‫الشرق‪ ،‬ويمتلك إسرائيل داؤد بنيامين ُّجل المنازل في هذا الحي وما زالت يتوارثها‪ G‬حفدته جيالً بعد‬
‫جيل‪.‬‬
‫(‬
‫‪99)Richard Hill, op cit, pp 339- 340.‬‬

‫‪63‬‬
‫ولعل عدم القبول سمة شخصية في سالطين‪ ،‬إذ أنه عرف بين‬ ‫(‪)100‬‬
‫بين األنصار بشويطين‪،‬‬
‫اإلنجليز في عهد الحكم الثنائي بالعبقري الشرير‪.‬‬
‫وقد نجح العديد من اليهود في مداهنة األنصار والتعايش معهم كمسلمين مخلصين‬
‫للمهدية‪ G،‬وزاولوا نشاطاتهم التجارية واالقتصادية بحرية مثل إبراهيم عبودي‪ ،‬صاحب متاجر‬
‫بل تفيد بعض الروايات أن داؤد وسليمان بسيوني كانا قيمين على النشاط‬ ‫(‪)101‬‬
‫عبودي‪،‬‬
‫وأسسوا في‬ ‫(‪)102‬‬
‫التجاري لألمير يعقوب "جراب الراي‪ ،‬الرجل الثاني في الدولة المهدية‪G.‬‬
‫نفس الوقت عالقات حميمة مع معارضي المهدية من أوالد البحر وغيرهم كانت معيناً لهم‬
‫في مقبل األيام‪ ،‬ومن أمثلة هذه العالقات ما كان بين إسرائيل داؤد بنيامين والشيخ أبو سن‬
‫(‪)103‬‬
‫ناظر الشكرية‪.‬‬

‫(‪ )100‬أنظر هوامش المحقق في‪ :‬مذكرات يوسف ميخائيل‪ ،‬مرجع سابق‪.123 ،‬‬
‫(‪ )101‬شوقي بدري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.178 -171‬‬
‫(‪ )102‬نفسه‪.‬‬
‫‪ )103‬مقابلة مع الدكتور صيدلي منصور إسحق إسرائيل‪ .‬وقد اشتهر الشيخ أبو سن بمعارضته‬ ‫(‬

‫للدولة المهدية‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫الفصل األول‬
‫توافد اليهود إلى السودان بعد عام ‪1898‬‬
‫وتأسيس الجالية اليهودية في السودان‬
‫‪ .1‬توافد اليهود إلى السودان في ظل رعاية دولة الحكم الثنائي‬
‫‪ .2‬تأسيس الجالية اليهودية في السودان‬

‫‪65‬‬
‫المبحث األول‬

‫توافد اليهود للسودان تحت رعاية الحكم الثنائي‬

‫‪66‬‬
‫شهد العام ‪ 1896‬دخول أول قطار سكة حديد إلى السودان حامالً داخل عرباته‪،‬‬
‫مع معدات جيش الحكم الثنائي‪ ،‬أعداداً من اليهود الذي قدموا للسودان يحدوهم الطموح‬
‫التجاري والبحث عن منافذ جديدة لنشاطهم االقتصادي‪ ،‬كما قدم بعضهم عامالً في خدمة‬
‫الجيش اإلنجليزي‪ .‬ولعل خير من يمثل هؤالء اليهودي مراد إسرائيل العيني الذي جاء إلى‬
‫السودان كمتعهد‪ G‬غذاء لجنود وضباط الجيش‪ .‬وقد كافأته الحكومة الجديدة بمنحه أول‬
‫(‪)1‬‬
‫ترخيص تجاري في مدينة الخرطوم بحري حيث انتهى خط السكة الحديد‪.‬‬
‫وقد أوردت العديد‪ G‬من المصادر خطط صهيونية إلنشاء وطن يهودي في السودان‬
‫في بداية القرن العشرين‪ )2(،‬األولى خطة راببورت (‪ ،)1950 -1871‬وهو بروفسير كان‬
‫مبعوثاً من قبل األليانس اإلسرائيلي العام لدراسة مجتمع الفالشا‪ .‬وقد أرسل خطته إلى اللورد‬
‫كرومر المندوب السامي البريطاني على السودان ومصر عام ‪ ،1900‬وقد رد عليه األخير‪:‬‬
‫"إن اقتراحك بإقامة مستعمرات يهودية في السودان لن يقابل بأي نوع من النجاح‪ ،‬لذا فأرى‬
‫أن من األفضل إسقاط هذه الخطة"‪ .‬والثانية خطة جاالنت وقدمها عام ‪ 1907‬وأرسلها إلى‬
‫عدد من المراكز والمعاهد والصحف والشخصيات المهمة‪ ،‬وتشتمل خطته على وصف دقيق‬
‫للسودان وسكانه وثقافته وبيئته‪ ،‬ومناخه‪ ،‬ومحصوله‪ ،‬وما يمكن زراعته‪ ،‬وطرق الري‬
‫المستخدمة‪ ،‬والتي يمكن استخدامها‪ ،‬واحتماالت التنمية المتوقعة خصوصاً في مجال القطن‬

‫(‬
‫‪1) Eli S. Malka, op cit, pp. 23- 24‬‬
‫‪ )2‬أنظر‪:‬‬ ‫(‬

‫‪Jacob M. Landau, Middle Eastern Themes: Papers in History and Politics,‬‬


‫‪Franc Cass, London, 1973.‬‬
‫وقد اشتملت صفحات ‪ 94 -77‬على وصف لخطتين بإقامة وطن قومي لليهود في السودان‪ .‬وعنه‬
‫ترجم ونقل عدد من الباحثين منهم‪ :‬صالح محمد أحمد‪ ،‬موضوع عن اليهود في السودان‪ ،‬بحث‬
‫تكميلي لنيل درجة الدبلوم العالي في الدراسات اإلفريقية واآلسيوية‪ ،‬جامعة الخرطوم‪1976 ،‬؛ و‬
‫سفيان أحمد برزق اليهود األثيوبيون "الفالشا"‪ 0‬وترحيلهم إلى إسرائيل‪ ،‬بحث مقدم لنيل درجة‬
‫الماجستير في الدراسات اإلفريقية واآلسيوية‪ ،‬جامعة الخرطوم‪.1989 ،‬‬

‫‪67‬‬
‫والتنقيب عن المعادن‪ .‬لكن هل كانت هذه هي أسباب تدفق اليهود إلى السودان؟ وإ ال فما هي‬
‫األسباب التي دفعت هؤالء اليهود للقدوم للسودان؟ وما مدى االرتباط بين اليهود وبريطانيا؟‬
‫وما هو أثر الرعاية البريطانية على أوضاع اليهود في مصر؟ وهل انعكست هذه الرعاية‬
‫على اليهود المتوافدين للسودان؟ وما هي الفئات االجتماعية التي ينتمي لها اليهود المتوافدون‬
‫للسودان؟ وما هي األنشطة االقتصادية التي احترفوها في مصر؟ وهل نقلوها معهم إلى‬
‫السودان؟ وما هي فرص الربح التي كانت متاحة لهم في السودان؟ وكيف استطاعت‬
‫الشخصية اليهودية أن تستفيد من هذه الفرص؟‬
‫سقطت مصر في قبضة االحتالل البريطاني منذ عام ‪ ،1882‬وقد أوجد هذا‬
‫االحتالل الظروف المالئمة لتواصل ازدهار أوضاع الجالية اليهودية في مصر‪ ،‬والذي ابتدأ‬
‫(‪)3‬‬
‫منذ إنشاء الدولة المصرية الحديثة في عهد محمد علي باشا (‪.)1848 -1805‬‬
‫وكانت بريطانيا هي الحليف األساسي للحركة القومية اليهودية‪ ،‬فهي الدولة التي‬
‫منحتهم فيما بعد تصريح بلفور بإنشاء وطن قومي في فلسطين‪ ،‬وعملت على تنفيذ ما وعدت‬
‫به‪ .‬وتحت مظلة هذه الرعاية مارس اليهود نشاطهم في مصر دون مضايقات‪ ،‬بل أصبحت‬
‫مصر هي القاعدة التي يحتشدون فيها قبل االنطالق‪.‬‬
‫وتعمق التحالف بين بريطانيا واألقليات اليهودية‪ G‬إبَّان الحرب العالمية األولى إذ‬
‫تطوعت أعداد كبيرة من اليهود للمشاركة بجانب بريطانيا في الحرب‪ ،‬وتم تكوين فرقة‬
‫عسكرية يهودية‪ G‬بالقرب من اإلسكندرية عام ‪ 1915‬أطلق عليها اسم "كتائب أبناء صهيون"‬
‫وتراوح عددها بين ‪ 500‬و ‪ 900‬جندي‪ .‬انضم إليهم فيما بعد حوالي ‪ 150‬من يهود‬
‫(‪)4‬‬
‫اإلسكندرية‪.‬‬
‫وفي عام ‪ ،1917‬ولما كانت الحرب تسير لغير صالح الحلفاء‪ ،‬تطوعت أعداد‬
‫جديدة من اليهود كونت "الفيلق اليهودي" الذي أعلن رسمياً في لندن باسم الكتيبة‪)38( G‬‬
‫وأسندت رئاستها إلى الكولونيل جون هنري باترسون‪ ،‬وهو ضابط يهودي‪ .‬وأرسلت القوات‬
‫إلى مصر في عام ‪ ،1918‬ثم تكونت فيما بعد الكتيبة (‪ )39‬ثم الكتيبة (‪ )40‬من الفيلق‬

‫‪ )2‬سهام نصار‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.12‬‬ ‫(‬

‫‪ )3‬نفسه‪ ،‬ص ‪.24‬‬ ‫(‬

‫‪68‬‬
‫اليهودي‪ ،‬وكان يهود مصر هم قوام كل هذه الوحدات العسكرية‪ .‬وتم افتتاح مكاتب خاصة‬
‫(‪)5‬‬
‫بتجنيد‪ G‬اليهود في كل من القاهرة واإلسكندرية‪.‬‬
‫كان اليهود يشكلون جماعة وظيفية لها أهميتها بالنسبة لبريطانيا سواء بالنسبة‬
‫لجهودهم العسكرية‪ ،‬أو خبراتهم المالية التي عززت االقتصاد البريطاني‪ .‬وفي نفس الوقت‬
‫أصبح وجودهم مصدر قلق بريطاني‪ .‬وإ زاء التدفق المستمر ليهود أوربا الشرقية عبر القنال‬
‫اإلنجليزي اضطرت بريطانيا إلصدار "الئحة األجانب" التي استهدفت منع المهاجرين اليهود‬
‫من دخول الجزر البريطانية‪ .‬وأصبح العقل البريطاني مشغوالً بالتفكير في إيجاد بدائل‬
‫)‬
‫لتوطين اليهود‪ ،‬وهي الظروف التي تجلت‪ ،‬في فترة الحقة‪ ،‬في تصريح بلفور عام ‪1917.(6‬‬

‫‪ )4‬نفسه‪ ،‬ص ‪ .24‬ولعل السودانيين في هذه األثناء كانوا يتعاطفون مع دول المحور يتجاوبون‪ G‬مع‬ ‫(‬

‫انتصارات ألمانيا نكاية في االستعمار اإلنجليزي‪ .‬أنظر‪ :‬نادية يس عبد الرحيم‪ ،‬بابكر كرار‪:‬‬
‫سيرته وفكره‪ ،‬مركز البحوث والدراسات اإلفريقية‪ ،‬جامعة أفريقيا العالمية‪ ،2005 ،‬ص ص ‪20‬‬
‫—‪ .21‬وكانت الدولة العثمانية قد أعلنت الحرب المقدسة في صفوف دول المحور ضد بريطانيا‪G‬‬
‫وقوات الحلفاء‪ .‬ويعتقد بعض الباحثين أن جمهور المسلمين في السودان لم يكن مواليًا لهذه الحرب‬
‫المقدسة وإ نما دافع عن بريطانيا‪ G‬الديمقراطية التي وفرت له األمن واالستقرار‪ .‬أنظر‪:‬‬
‫‪H. C. Jackson, The Fighting Sudanese, London, Mac,illan & Co. LTD., New‬‬
‫‪York, ST. Martin’s Press, 1954, p 32.‬‬
‫وتأكيداً لما ذهب إليه السيد جاكسون‪ ،‬وعلى عكس ما ذكر حول تأييد السودانيين لدول المحور‪ ،‬جاءت‬
‫مذكرات بابكر بدري مؤكدة التعاطف العام في السوادن مع الحلفاء‪ .‬أنظر‪ :‬بابكر بدري‪ ،‬تاريخ‬
‫حياتي‪ ،‬أم درمان‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،1960 ،‬ص ‪ .138‬ولعل الحقيقة تكمن في‬
‫تركيب‪ G‬من االثنين‪ :‬قاتلت القوات السودانية إلى جانب الحلفاء بدافع مهني‪ ،‬وكان بعض المعارضين‬
‫لبريطانيا‪ G‬ألسباب وطنية أو دينية يتعاطفون مع قوات الرايخ‪.‬‬
‫‪ )6‬خيرية قاسمية‪ ،‬النشاط الصهيوني في الشرق العربي وصداه ‪ ،1918 -1908‬منظمة‬ ‫(‬

‫التحرير الفلسطينية‪ ،‬مركز األبحاث‪ ،‬بيروت‪( ،1973 G،‬د‪ .‬ط)‪ ،‬ص ‪ .295‬والجماعات الوظيفية‬
‫طوره الدكتور عبد الوهاب المسيري ليؤسس عليه مشروعه الفكري في تفكيك‪ G‬وإ عادة‬
‫هو مفهوم ّ‬
‫تركيب‪ G‬المسألة اليهودية‪ ،‬وقد خصص واحداً من كتبه لمناقشة هذا المفهوم‪ ،‬أنظر‪ :‬عبد الوهاب‬
‫المسيري‪ ،‬الجماعات اليهودية الوظيفية‪ :‬نموذج تفسيري جديد‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪،2002 ،‬‬
‫‪ 550‬صفحة‪ .‬وملخص نظريته حول الجماعات الوظيفية‪ :‬أن هناك مركبًا من األسباب (تاريخية‪،‬‬
‫اجتماعية‪ ،‬دينية) حولت الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية‪ .‬فمن الناحية الدينية َّ‬
‫شكل الحنين‬
‫إلى صهيون وفكرة الوطن األصلي عامالً من عوامل تميز الجماعات اليهودية وتماسكها‪ ،‬ومع‬

‫‪69‬‬
‫وفي ظل هذا السعي يمكن أن نفهم أسباب الرعاية البريطانية للتمدد اليهودي في المنطقة‬
‫العربية‪ ،‬في مصر والسودان على وجه التحديد‪.‬‬
‫توغل اليهود إلى عمق النظام االقتصادي واالجتماعي والسياسي في مصر‪،‬‬
‫واحتلوا فيها مواقع اقتصادية وسياسية بارزة وحساسة‪ ،‬حتى أن الملك كان محاطاً بحاشية‬
‫معظم أفرادها من اليهود الذين تمتعوا بثقته‪ ،‬وبنفوذه في نفس الوقت‪ )7(.‬وبلغ عدد اليهود في‬
‫(‪)8‬‬
‫مصر عام ‪ 1947‬نحواً من ‪ 65.639‬نسمة‪.‬‬
‫وقد ساعدت طبيعة المجتمع المصري‪ ،‬في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن‬
‫العشرين‪ ،‬كمجتمع برجوازي ناشئ على إتاحة المجال أمام اليهود ليمارسوا نشاطهم‬
‫االقتصادي واالجتماعي في حرية واسعة‪ ،‬حتى استطاع بعضهم أن يسيطر على جوانب‬
‫هامة في االقتصاد المصري‪.‬‬
‫كان ارتفاع مستوى التعليم بين اليهود واختالطهم باألجانب‪ ،‬وتشجيع السلطات‬
‫البريطانية لهم‪ ،‬مع حاجة مصر للتطور‪ ،‬عوامل هامة الزدهار النشاط اليهودي‪ .‬فشمل‬

‫وزودت الجماعات اليهودية بقدر من‬


‫الوقت حلت فكرة الوطن األصلي محل الوطن األصلي نفسه! ّ‬
‫التمايز من محيطها االجتماعي‪ ،‬األمر الذي ساعد في تحول الجماعات اليهودية إلى جماعات‬
‫ودعم التلمود هذه االزدواجية بما حفل به من‬
‫وظيفية‪ ،‬وأن يكونوا في المجتمع دون أن يكونوا منه‪ّ .‬‬
‫تفاصيل الشعائر اليهودية‪ ،‬وما سيحدث بعد عودة الماشيح إلى صهيون‪ ،‬وحياة اليهودي خارج‬
‫وميزه‪.‬‬
‫كرس من عزلة اليهودي ّ‬
‫مجتمع‪" G‬األغيار"‪ ،‬كل ذلك ّ‬
‫ومن الناحية االجتماعية فقد كانت طبيعة المجتمعات اإلقطاعية األوربية وانقسام المجتمع إلى نبالء‬
‫ومحاربين من ناحية وفالحين من ناحية أخرى‪ ،‬وانغالق هاتين الطائفتين أمام اليهود‪ ،‬دفعهم إلى‬
‫القيام باألنشطة التي كانت هامشية وتتطلب عنصراً غريباً ألدائها‪ ،‬وهي الوظائف التجارية والمالية‬
‫وبعض الحرف‪ .‬ومع تطور الرأسمالية الغربية واالنفجار الذي حدث في تعداد الجماعات اليهودية‬
‫إلى جماعات وظيفية‪ ،‬والسمات األساسية لها هي‪ :‬التعاقدية النفعية‪ ،‬والعزلة والعجز‪ ،‬واالنفصال‬
‫عن المكان والزمان بسبب‪ G‬اإلحساس بالهوية والتميز‪ ،‬وازدواجية المعايير‪ G،‬والحركية‪ ،‬والتمركز‬
‫حول الذات وحول الموضوع‪.‬‬
‫‪ )7‬سهام نصار‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.33‬‬ ‫(‬

‫‪ )8‬نفسه؛ نقالً عن‪:‬‬ ‫(‬

‫‪Ministry of Finance and Economy, Statically Census Department,‬‬


‫‪Population Census of Egypt 1947, Government Press, Cairo, 1954‬‬

‫‪70‬‬
‫نشاطهم مجاالت العمل االقتصادي كافة في‪ :‬التجارة والصناعة والمصارف‪ .‬واستطاع‬
‫(‪)9‬‬
‫المستثمرون اليهود تكوين شركات كبيرة لالستغالل الزراعي مثل شركة "كوم أمبو"‪.‬‬
‫وكانت أعمال الصيرفة والربا من أهم مجاالت العمل التي اشتغل بها يهود مصر‪.‬‬
‫وكان الرأسماليون اليهود يساهمون في إدارة ‪ 103‬شركة من مجموع ‪ ،308‬ويسيطرون‬
‫على جانب ضخم من رؤوس أموال هذه الشركات‪ ،‬كما كان ّج ٌّل العاملين فيها من اليهود‪G.‬‬
‫(‪)10‬‬

‫وإ لى جانب اشتغالهم بالشؤون المالية فقد كان لليهود نشاط واسع في ميادين التجارة‬
‫كافة‪ .‬وكانت تجارة الذهب والقطن والمنسوجات في قبضتهم‪ ،‬وهي أهم أدوات االقتصاد‬
‫المصري‪ .‬ويبدو أن نسبة كبيرة من اليهود اشتغلوا في تجارة األقمشة‪ ،‬كما أن سماسرة‬
‫القطن في البورصة من اليهود كانوا يشكلون أكثر من ‪ %90‬من مجموع سماسرة القطن في‬
‫(‪)11‬‬
‫مصر‪.‬‬
‫وقد وصل بعض اليهود‪ ،‬من واقع نفوذهم االقتصادي واالجتماعي‪ ،‬إلى قمة الهرم‬
‫السياسي في مصر مثل ليون كاسترو‪ ،‬الذي مثّل مصر مع سعد زغلول في مفاوضاته في‬
‫بريطانيا‪ .‬ويوسف قطاوي باشا‪ ،‬الذي شغل منصب وزير المالية في حكومة سعد زغلول‬
‫(‪)12‬‬
‫(ت‪ ،)1924 .‬ومنصب وزير المواصالت في حكومة أحمد زيور باشا (ت‪.)1925 .‬‬
‫منذ سقوط السودان في يد االحتالل اإلنجليزي المصري أعطيت بريطانيا‬
‫صالحيات مطلقة في السودان بموجب اتفاقية الحكم الثنائي‪ ،‬وفي يوم توقيع االتفاقية (ت‪.‬‬
‫‪ 19‬يناير ‪ )1899‬تم تعيين اللورد كتشنر سردار الجيش المصري حاكماً عاماً للسودان‪.‬‬
‫ولعله‬ ‫(‪)13‬‬
‫وفي ‪ 12‬ديسمبر من نفس العام أعلن حاكم عام السودان فتح البالد للتجارة‪،‬‬
‫اإلعالن الذي اعتبره رأس المال اليهودي دعوة له باالستثمار في السودان‪.‬‬

‫(‬
‫‪9) Malka, op cit, p. 18‬‬
‫‪ )10‬سهام نصار‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.18 -17‬‬ ‫(‬

‫‪ )11‬نفسه‪ ،‬ص ‪.18‬‬ ‫(‬

‫‪ )12‬نفسه‪ ،‬ص ‪.18‬‬ ‫(‬

‫‪ )13‬نعوم شقير‪ ،‬تاريخ السودان القديم والحديث وجغرافيته‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬ ‫(‬

‫مصر‪ ،1903 ،‬ص ‪.160‬‬

‫‪71‬‬
‫لم يختلف نهج خلف كتشنر‪ ،‬وهوالفريق ونجت باشا (ت‪ 22 .‬ديسمبر ‪،)1899‬‬
‫عن نهج سلفه في فتح الباب للتجارة الخارجية‪ ،‬ورعاية التجارة وتشجيعها‪ ،‬فنقرأ من منشور‬
‫سياسته الذي استهل بها وظيفته كحاكم عام للسودان‪ )...(" :‬فإذا تم ذلك عمدت إلى التجارة‬
‫فأوسعت لكم ميادينها وأجريت لكم سيول خيراتها وأرضعتكم لبان ربحها وفعلت كل ما‬
‫فما‬ ‫(‪)14‬‬
‫تسمح به حال الحكومة من تعديل ضرائبها وضرائب األطيان وأجرة النقل (‪G.")...‬‬
‫الذي يبغيه‪ G‬رأس المال اليهودي غير ذلك ليتدفق من مصر إلى السودان‪.‬‬
‫كما ساعد على تسرب اليهود للسودان ظهور ما يعرف بالصهيونية المسيحية أو‬
‫صهيونية "األغيار" بين الضباط اإلنجليز العاملين في السودان‪ ،‬حيث تراجعت المشاعر‬
‫المسيحية الدينية خلف الرؤية اإلمبريالية وأطروحاتها‪ .‬وقد جعلت رعاية اليهود طريقاً لبسط‬
‫نفوذها االستعماري في منطقة الشرق األوسط‪ .‬ومن أشهر الضباط اإلنجليز الذين حملوا هذه‬
‫(‪)15‬‬
‫المشاعر ِمن َمن عملوا في السودان السيد تشارلز ونجت (‪.)1944 -1903‬‬
‫ولد تشارلز ونجت في الهند‪ G‬لعائلة ذات تاريخ في اإلرساليات التبشيرية المسيحية‪،‬‬
‫وبعد انضمامه للجيش عمل في قلم المخابرات المصرية يجمع التقارير عن السودان‪ ،‬ثم‬
‫التحق بحكومة السودان عام ‪ 1927‬وبقى بها حتى عام ‪ .1933‬وفي عام ‪ 1936‬نقل إلى‬
‫فلسطين كضابط مخابرات لدراسة الموقف السياسي والعسكري ولم يخف صهيونته أبداً‪ .‬وقد‬
‫أشرف على تنظيم وتدريب الفرق الليلية الخاصة التابعة لقوات الهاجاناة (المخابرات‬
‫الصهيونية) وكانت له دراية خاصة بأساليب التعذيب‪ ،‬وحصل لقاء ذلك على وسام الخدمة‬
‫المتميزة البريطاني كما ساهم في تطوير عمل المخابرات الصهيونية‪ ،‬وقام بدور مهم في‬
‫تطوير أساليب الحمالت اإلرهابية ضد الفالحين الفلسطينيين‪ G.‬وتخليداً لدوره وذكراه أطلق‬
‫الصهاينة عليه اسم "الصديق" و "لورانس اليهود"‪ ،‬ويطلق اسمه اآلن على عدة أماكن عامة‬

‫(‪ )14‬نفسه‪ ،‬ص ص ‪.162 -161‬‬


‫‪ )15‬السيد ونجت هذا ليس هو السير ريجنالد ونجت باشا حاكم عام السودان‪ ،‬وهو ما يبينه‬ ‫(‬

‫اختالف تاريخ مولده‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫في إسرائيل منها‪ :‬قرية لألطفال‪ ،‬كلية للتربية البدنية‪ ،‬ميدان في القدس‪ ،‬غابة أقامها الصندوق‬
‫(‪)16‬‬
‫القومي اليهودي‪.‬‬
‫وقد عمل في المخابرات اإلنجليزية عدد من يهود السودان‪ ،‬أشهرهم إسرائيل داؤد‬
‫بنيامين‪ G،‬وقد كلف بتأليب المواطنين ضد الخليفة عبد اهلل التعايشي‪ ،‬وبعد االحتالل كلف‬
‫(‪)17‬‬
‫بتأليب أهل دارفور ضد السلطان علي دينار‪.‬‬
‫ومنهم َخ َدر عبد النبي‪ ،‬الذي جاء إلى السودان من النجف بالعراق كطبيب أعشاب‪،‬‬
‫وأعلن إسالمه واستقر "بالمسالمة" وتزوج سودانية من قبيلة الشلك‪ ،‬وكان يعمل على نقل‬
‫أوضاع الدولة المهدية وحال جيوشها إلى المخابرات المصرية‪ ،‬ولعل أمره انكشف فهرب‬
‫(‪)18‬‬
‫وأبناءه‪ :‬صالح‪ ،‬وإ سحق‪ ،‬وعبد النبي‪ ،‬ونفيسة‪.‬‬
‫َ‬ ‫مسرعاً إلى مصر مخلفاً وراءه زوجته‬
‫ومن اليهود المصريين الذين عملوا في المخابرات في السودان ورافقوا جيش‬
‫كتشنر إبراهيم دمتري‪ ،‬وقد قال عنه ونجت باشا‪ )...(" :‬وحضر هذه الواقعة شاهين أفندي‬
‫جرجس وإ براهيم دمتري وكالهما من موظفي المخابرات فأظهرا فيها من الهمة واإلقدام ما‬
‫(‪)19‬‬
‫أظهراه في الوقائع السالفة"‪.‬‬
‫ويمكن إجماالً أن نقسم يهود مصر الذين قدموا للسودان إلى قسمين‪ :‬اليهود الذين‬
‫يتمتعون‪ G‬بالجنسية المصرية‪ ،‬أو بالجنسيات األوربية‪ ،‬وقد عاشت هذه الفئة وضعاً اقتصادياً‬
‫مزدهراً وكانوا في قمة الهرم االجتماعي واالقتصادي في مصر‪ ،‬وراكم هؤالء األرباح‬
‫التجارية والرأسمالية وأسسوا الشركات والبيوتات المالية‪ .‬وبنهاية العهد المهدوي وبداية‬
‫الحقبة الجديدة من الحكم الثنائي في السودان تفتحت أمام هذه الفئة أسواق جديدة لالستثمار‬
‫والتجارة وتصدير المنتجات السودانية واستيراد احتياجات حكومة السودان‪ ،‬وسكانه‪ ،‬من‬
‫المنسوجات والسكر ومختلف السلع االستهالكية‪ G.‬وولجت أعداد من هذه الفئة إلى السودان‬

‫‪ )16‬عبد الوهاب المسيري‪ ،‬موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬دار الشروق‬ ‫(‬

‫للنشر‪ ،‬القاهرة‪ ،2003 ،‬ص ‪.259‬‬


‫‪ )17‬مقابلة مع السيد مصطفى إسحق داؤد‪.‬‬ ‫(‬

‫‪ )18‬مقابلة مع األستاذة هالة صالح الدين إسحق خضر‪.‬‬ ‫(‬

‫‪ )19‬نعوم شقير‪ ،‬مرجع سابق ص ص ‪ .668 -667‬ويضيف نعوم شقير أن ونجت ُسر من سلوكه‬ ‫(‬

‫وسمي سكرتيراً لمفتش السودان العام سالطين باشا‪.‬‬


‫َّ‬ ‫وأوصى بترقيته ومنح النيشان المجيدي الرابع‬

‫‪73‬‬
‫وأسست فيه فروعاً لشركاتها‪ .‬كما استعانت الحكومة الجديدة بأعداد منهم إلدارة شؤون البالد‬
‫وتأهيلها لربطها بالسوق الرأسمالي العالمي‪ .‬وقد استقر معظم المنتمين‪ G‬لهذه الفئة في‬
‫الخرطوم‪ ،‬التي كانت تناسب وضعهم الطبقي‪ ،‬وقد نشأت على أكتافهم مؤسسات الجالية‬
‫اليهودية مثل المعابد واألندية‪ G،‬إال أن احتكاكهم بالمحيط السوداني كان ضعيفاً وال يعدو بعض‬
‫العالقات مع وجهاء البالد من التجار واألفندية‪G.‬‬
‫أما الفئة الثانية‪ ،‬وهم األقل عدداً في السودان‪ ،‬فلم يكونوا فقراء وإ ن كانوا أقل ثراء‬
‫من الفئة األولى‪ .‬ومعظم أفراد هذه الفئة ال يحملون أي جنسية على اإلطالق‪ ،‬ويعتمدون‪ G‬في‬
‫نشاطهم االقتصادي على مهاراتهم الحرفية وخبراتهم التجارية‪ .‬وقد وجدت هذه الفئة في‬
‫السودان "الجديد"‪ ،‬الذي لم يؤهل سكانه بعد الستيعاب المرحلة الجديدة وافتقروا للتعليم‬
‫والتأهيل المهني والحرفي وما زالوا يعيشون نمطاً تقليدياً من الحياة‪ ،‬وجدوا فيه الفرصة‬
‫المالئمة الستثمار مواهبهم‪ .‬وقد نشط هؤالء في تجارة التجزئة‪ ،‬وفي حرف مثل الحياكة‪،‬‬
‫وتصليح النظارات والساعات‪ .‬ويبدو أن أغلبهم استقر في مدينة‪ G‬أم درمان‪ :‬حارة اليهود‪ ،‬حي‬
‫البوستة‪ ،‬والمسالمة‪ ،‬وأبوروف‪ .‬ولعلهم اختاروا مدينة‪ G‬أم درمان لطابعها الشعبي‪ ،‬وانخفاض‬
‫تكاليف الحياة فيها‪ ،‬والستثمار القوة الشرائية الضخمة المتوافرة فيها‪ ،‬ولطبيعة أنواع التجارة‬
‫التي كانوا يمارسونها؛ كما استقروا في بعض المدن التجارية األخرى في السودان مثل مدينة‬
‫الخرطوم بحري‪ ،‬كسال‪ ،‬األبيض‪ ،‬وود مدني‪ ،‬التي يبدو أنها شهدت انتعاشاً تجارياً كبيراً‬
‫خصوصاً بعد إنشاء مشروع الجزيرة وتدفق العمالة إليها مما جعل قوتها الشرائية مربحة‬
‫للعمل التجاري‪ ،‬فوصلت إلى ود مدني أعداد من اليهود والشوام‪ ،‬وكان بعضهم يهوداً‪،‬‬
‫(‪)20‬‬
‫وحظوا بأفضل األراضي السكنية في المدينة‪.‬‬
‫وقد التحمت هذه الفئة من اليهود مع يهود السودان الذين عاصروا المهدية‪ G،‬ويبدو‬
‫أن بعض األسر من هذه الفئة كانت أكثر انفتاحاً على المجتمع السوداني فاختلطت به‬
‫وتشربت العادات والتقاليد السودانية وتزاوجت مع السودانيين‪ G،‬وقد أسلم‪ ،‬أو تسودن على أقل‬
‫تقدير‪ ،‬جزء كبير من هذه الفئة‪ ،‬ورفض بعضهم مغادرة السودان‪.‬‬

‫(‪ )20‬نادية يس عبد الرحيم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.54‬‬

‫‪74‬‬
‫وتوالى قدوم اليهود إلى السودان‪ ،‬من مصر‪ ،‬للعمل في مجال تجارة التجزئة لما‬
‫فطنوا لألرباح العالية في هذا المنشط‪ ،‬فأسسوا المتاجر‪ ،‬ليس في أم درمان وحسب وإ نما في‬
‫عدة مدن من السودان‪ .‬ونالحظ أن معظم هؤالء اليهود يأتون فرادى في بادئ األمر‪ ،‬لكن‬
‫سرعان ما تلحق بهم أسرهم‪ ،‬ثم عائالتهم‪ ،‬ثم أصدقائهم‪ ،‬وهو ما يعكس لنا استقرار‬
‫(‪)21‬‬
‫أوضاعهم‪ ،‬وقابلية السودان الستيعاب المزيد منهم‪.‬‬
‫وقد ارتبطت هذه األسر مع يهود مصر بصالت قربى‪ ،‬كما يبدو أنهم نقلوا معهم‬
‫من مصر نفس األنماط من النشاط االقتصادي فتخصصوا في تجارة القطن واألقمشة‬
‫الحريرية والمنسوجات ولوازم الخياطة‪ ،‬باإلضافة لتجارة الجلود والصوف والصمغ العربي‪.‬‬
‫وعادة ما تتخصص كل أسرة في منشط اقتصادي واحد أو منشطين على أكثر تقدير‪.‬‬
‫ومع بداية األزمة المالية (‪ ،)1938 -1930‬هاجر بعض اليهود خارج السودان إال‬
‫أنهم سرعان ما عادوا أدراجهم‪ ،‬ولعل أوضاعهم في السودان في ظل هذه األزمة كانت‬
‫أفضل من غيره إذ توافدت أعداد جديدة إلى السودان والتحمت بمن سبقهم من اليهود‬
‫"الغرباء"‪.‬‬
‫وكان قد قدم للسودان‪ ،‬هروباً من الهولوكوست‪ ،‬أعداد من األشكناز الباحثين عن‬
‫(‪)22‬‬
‫األمن والحرية الدينية‪ ،‬وهو ما كان متوافراً لهم في السودان في ظل الرعاية البريطانية‪.‬‬
‫وبطبيعة الحال فإن اإلدارة البريطانية ما كانت لتقدم الرعاية ليهود السودان لو لم‬
‫تجد في ذلك مصلحة لها‪ ،‬وقد تعارضت هذه المصالح عام ‪ 1938‬بعد انفراج األزمة المالية‬
‫العالمية‪ ،‬إذ تخوفت اإلدارة البريطانية من النمو المضطرد لألوضاع االقتصادية ليهود‬
‫وهو ما يزعزع‬ ‫(‪)23‬‬
‫السودان وقد بدأت بعض األصوات السودانية تتضجر من هذا الوضع؛‬
‫ثقة المواطنين في الحكومة خصوصاً وقد بدأت بشائر الوعي والحركة الوطنية في السودان‬
‫في تلك األثناء بنشوء مؤتمر الخريجين‪ .‬فعملت الحكومة البريطانية على الحد من الهجرات‬
‫اليهودية للسودان‪.‬‬
‫(‬
‫‪21) Malka, op cit, pp 23- 33.‬‬
‫‪ )22‬مقابلة‪ ،‬عبر اإلنترنت باستخدام تقنية الماسنجر‪ ،‬مع الدكتور هيربرت وايز‪ ،‬وهو ينتمي‪G‬‬ ‫(‬

‫ألحد العائالت اليهودية التي هربت من المحرقة النازية إلى السودان‪.‬‬


‫‪ )23‬أنظر الفصل الرابع من هذا البحث ص ‪ 155‬وما بعدها‪.‬‬ ‫(‬

‫‪75‬‬
‫ونفهم من تقرير مدير األمن العام في السودان أن السلطات السودانية قد أغلقت‬
‫حدودها أمام ستمائة الجئ يهودي‪ ،‬معظمهم أطفال قدموا للسودان من أثيوبيا‪ ،‬وبعضهم قدم‬
‫إلى السودان من أوربا الشرقية‪ ،‬بينهم سيدة نمساوية‪ ،‬وآخر ألماني‪ ،‬وثالث سويدي‪ ،‬ورابع‬
‫(‪)24‬‬
‫بولندي‪.‬‬
‫وقد برر مدير األمن العام في السودان عدم سماحه للمهاجرين اليهود بدخول‬
‫السودان في سببين‪ :‬السبب األول هو عدم امتالك هؤالء المهاجرين لجنسيات تحدد هوياتهم‬
‫بشكل قاطع‪ ،‬ولعل اإلدارة البريطانية لم تكن ترغب في دخول عدد من اليهود الذين والوا‬
‫قوات النازي‪ .‬والسبب الثاني هو أن األزمة المالية التي مر بها السودان ال تسمح له‬
‫(‪)25‬‬
‫باستيعاب مهاجرين جدد في هذه الفترة‪.‬‬
‫وقد حذر التقرير من "أن السماح للمزيد من اليهود بالدخول للسودان سيؤلب‬
‫كراهية الناس ضد اليهود أنفسهم‪ ،‬وأن هذه الكراهية اآلن ال تعدو أن تكون انعكاساً لموقف‬
‫الدول العربية األخرى‪ ،‬وهي كراهية محصورة في فئة قليلة من الناس‪ ،‬أما وإ ذا سمح لهؤالء‬
‫(‪)26‬‬
‫المهاجرين اليهود بالدخول للسودان فإننا نعطي سبباً للكراهية ونوسع من دائرتها"‪.‬‬
‫وبطبيعة الحال فإن كراهية الناس لليهود ستجر معها قاطرة نضالهم الوطني ضد المستعمر‪،‬‬
‫وهو ما فطن له التقرير‪.‬‬
‫وقد واجهت حكومة السودان ضغطاً شديداً من الرأي العام البريطاني تجاه موقفها‬
‫إال أن قرار حكومة السودان كان بتجاهل ما تنشره الصحف‬ ‫(‪)27‬‬
‫من هؤالء المهاجرين اليهود‪G،‬‬
‫حتى انقشاع القضية‪ .‬وقد نجحت في ذلك‪.‬‬

‫(‪ ، )24‬دار الوثائق القومية‪ ،‬الخرطوم‪.Public Security Office 6, 3, 17, 1938.‬‬


‫(‪ )25‬الوثيقة نفسها‪ ،‬خطاب بتاريخ ‪ 16‬ديسمبر ‪.1938‬‬
‫(‪ )26‬الوثيقة نفسها‪.‬‬
‫‪ )27‬أنظر‪ :‬الوثيقة نفسها‪ ،‬وقد احتوت الوثيقة على قصاصة من صحيفة األوبزيرفر اللندنية “‬ ‫(‬

‫‪Jewish children from Ethiopia: Training in Sudan”, Observer, Sunday‬‬


‫‪ .Dec. 11 1938‬وتحتها‪ G‬تعليق مدير األمن العام للجهة التي رفع لها التقرير بأنه "ال ضرورة‬
‫للرد على هذا الخبر حتى اآلن"‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫أما اليهود الذين كانوا بالسودان منذ العهد التركي المصري‪ ،‬والذين داهنوا المهدية‪G،‬‬
‫فقد ارتد ُجلُّهم بعد دخول قوات الحكم الثنائي إلى أم درمان‪ ،‬ولعلهم استطاعوا تهويد‪ G‬أبنائهم‬
‫(‪)28‬‬
‫وزوجاتهم من السودانيات‪.‬‬
‫تضامن يهود السودان مع االحتالل الجديد تضامناً كامالً‪ ،‬ولعل الظروف القاسية‬
‫التي عاشوها في المهدية‪ G‬من أسلمة قسرية وتمييز ديني دفعتهم العتبار االحتالل البريطاني‬
‫للسودان استقالالً لهم وفكاً لطوق من حديد وضعته المهدية‪ G‬على أعناقهم‪ ،‬وعلى كل األقليات‬
‫الدينية‪ G.‬ونفهم من مذكرات يوسف ميخائيل كيف كانت هذه األقليات تترقب دخول قوات‬
‫(‪)29‬‬
‫كتشنر للسودان بشوق ولهفة ورغبة في الخالص‪.‬‬
‫وكان من نتائج تطوع اليهود المصريين في الجيش اإلنجليزي أن أصبحت لهم‬
‫حظوة لدى الحكم الجديد في السودان خصوصاً وأن ُج ّل يهود السودان كانوا قد قدموا إليه من‬
‫مصر‪ .‬كما كان الحاخامباشي‪ ،‬كبير حاخامات مصر‪ ،‬هو المسئول عن الرعاية الدينية‪ G‬ليهود‬
‫ولعل يهود مصر‪ ،‬ويهود بريطانيا إلى حد ما‪ ،‬عملوا لصالح يهود السودان‬ ‫(‪)30‬‬
‫السودان‪،‬‬
‫وضغطوا ألجل تحقيق قدر طيب من االستقرار والحماية لهم‪ .‬وهو ما يمكن فهمه من تأسيس‬

‫‪ )28‬مكي أبو قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.21 -20‬‬ ‫(‬

‫‪ )29‬أنظر‪ :‬يوسف ميخائيل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ .165‬ويذكر‪ )...(" :‬ونحن في حظ وانبساط‬ ‫(‬

‫وما نسمعوا إال أخوانا التجار الذين يحضروا من بحري يقولوا الترك [يعني قوات الحكم الثنائي]‬
‫متحركين ألجل محاربة الخليفة‪ ،‬وإ ن هذا الكالم سرًا في البيوت نقولوا‪ :‬ليته فال وكان حتى‬
‫نخلصوا من هذا الظلم الحاصل وسفك الدما بالباطل‪ ،‬الكن ال يقدر واحد منا يطلع هذا الخبر برا‬
‫عم‬
‫إال في البيوت‪ G‬لما نكونوا لوحدنا (‪ .")...‬كما تعكس مذكرات بابكر بدري حالة التخاذل الذي َّ‬
‫جيش المهدية نتيجة ما ّلم به من فقر وظلم وقهر من أقارب الخليفة‪ ،‬ويذكر بابكر بدري وضع‬
‫قوات المهدية قبل وأثناء معركة كرري وكيف هرب الجنود بإدعاء اإلصابة بجرح من المعركة‬
‫فيحمل المصاب أربعة من الجنود ويهربون‪ G‬خمستهم‪ ،‬وبذا تسربت قوات الخليفة ثم ما لبثت أن‬
‫انفرجت أسارير هؤالء الجنود وهم ينظرون لقوات كتشنر وهي تتمختر‪ G‬في شوارع أم درمان‪.‬‬
‫أنظر‪ :‬بابكر بدري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬ص ص ‪.185 -178‬‬
‫‪ )30‬نفهم هذا األمر من سلطته التي أهلته ليصدر أمراً ألحد حاخامات اليهود بالذهاب للسودان‬ ‫(‬

‫واإلشراف على تقاليد الطائفة الدينية‪ .‬للمزيد أنظر‪:‬‬


‫‪Malka, op cit, p 27‬‬

‫‪77‬‬
‫اليهود المصريين والبريطانيين للمنظمات الخيرية لمساعدة اليهود حول العالم مثل منظمة‬
‫"مهر العذارى"‪ ،‬و"نقطة اللبن"‪ ،‬و"الصدقة في السر"‪ ،‬و"بناي بريت"‪ ،‬التي مارست أنشطتها‬
‫وقد قدمت هذه‬ ‫(‪)31‬‬
‫الخيرية في كل من القاهرة واإلسكندرية‪ G،‬وافتتح فرع لها في السودان‪.‬‬
‫وال شك أن من بينهم يهود‬ ‫(‪)32‬‬
‫المنظمات يد العون للمحتاجين من اليهود في كل مكان‪،‬‬
‫السودان‪.‬‬
‫وفي بداية الخمسينات تدفقت إلى السودان مجموعة من اليهود المصريين الهاربين‬
‫من مشاعر العداء والكراهية في مصر بعد الحرب العربية اإلسرائيلية (ت‪ ،)1948 .‬وبعد‬
‫قيام ثورة يوليو ‪ 1952‬وما طرحته من برنامج وحدة عربية‪ ،‬ثم كانت قرارات التأميم‬
‫الناصرية ومن بعدها العدوان الثالثي على مصر (ت‪ )1956 .‬عوامل دفعت هؤالء اليهود‬
‫(‪)33‬‬
‫للجوء للسودان‪.‬‬
‫عمل اليهود المصريون‪ ،‬الوافدون "الجدد"‪ ،‬في مجال تجارة األقطان‪ ،‬وقد كان هذا‬
‫المنشط محتكراً بصورة كاملة للشركات اإلنجليزية‪ ،‬إال أن هؤالء الوافدين الجدد استفادوا من‬
‫كونوا بضع شركات للعمل في‬
‫خبرتهم في هذا المجال ونافسوا الشركات اإلنجليزية‪ ،‬قد ّ‬
‫والتحموا في‬ ‫(‪)34‬‬
‫تجارة األقطان منها شركتي "الخرطوم لألقطان" و"اإلسكندرية لألقطان"‪.‬‬
‫الحياة االجتماعية مع من سبقهم من يهود في السودان‪.‬‬
‫ولعل إجادة يهود مصر للغة العربية‪ ،‬باللهجة المصرية أو باللهجات الشامية‪ ،‬جعل‬
‫السلطات البريطانية تستعين بهم كطرف وسيط بينها وبين السكان المحليين في السودان‬
‫كمترجمين‪ ،‬أو كموظفين منفذين لسياستها‪ ،‬وكانت بريطانيا تتفادى تعيين المصريين‪ ،‬وهو ما‬

‫‪ )31‬سنتطرق لهذه المنظمة عند حديثنا عن النشاط االجتماعي للجالية اليهودية في السودان (‬ ‫(‬

‫‪ )1956 -1898‬ص ‪ 117‬وما بعدها‪.‬‬


‫‪ )32‬صمويل أتينجر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.369‬‬ ‫(‬

‫‪ )33‬لم تكن مشاعر السودانيين خالية من أصداء هذه العداوة‪ ،‬لكنها لم تكن بأي حال مفضية‬ ‫(‬

‫لعمل عدائي تجاه اليهود حتى ذلك الوقت‪ .‬أنظر الفصل األخير من هذه الدراسة "خروج اليهود‬
‫من السودان"‪.‬‬
‫‪ )34‬مقابلة مع السيد إبراهيم منعم منصور‪ ،‬وزير المالية السابق (‪-1981 /1975 -1971‬‬ ‫(‬

‫‪.)1984‬‬

‫‪78‬‬
‫تفاقم بعد مقتل السير لي ستاك في القاهرة (ت‪ ،)1924 .‬وقيام ثورة ‪ 1924‬في السودان‪.‬‬
‫وبالمقابل وفرت الحكومة لليهود النفوذ‪ ،‬والحماية والرعاية‪ ،‬فلم تقدم وال شكوى واحدة حول‬
‫على خالف حال اليهود في بلدان‬ ‫(‪)35‬‬
‫سوء معاملة اليهود طوال فترة الحكم الثنائي للسودان‪،‬‬
‫بل وجد اليهود في السودان ما م ّكنهم من السيطرة‬ ‫(‪)36‬‬
‫شمال أفريقيا تحت االحتالل الفرنسي‪.‬‬
‫وقد منحتهم اإلدارة البريطانية جوازات سفر سودانية‬ ‫(‪)37‬‬
‫على مفاصل التجارة الخارجية‪.‬‬
‫(‪)38‬‬
‫سواء لليهود المقيمين في السودان‪ ،‬أو الذين وفدوا إليه بعد االحتالل‪.‬‬
‫واعتمدت اإلدارة البريطانية التقاليد والشرائع اليهودية في قانون األحوال الشخصية‬
‫وخول حاخام اليهود بالبت في القضايا التي تخص اليهود‬
‫وتم تطبيقها على الجالية اليهودية‪ّ G،‬‬
‫وأعطي صالحية أن يكون قراره ملزماً للمحاكم السودانية‪ G،‬في القضايا التي يكون طرفاها‬
‫ووصلت قدرة اليهود على التدخل في شؤون الحكومة أن‬ ‫(‪)39‬‬
‫من اليهود‪ G،‬تطبيقاً وتنفيذاً‪.‬‬
‫أعلنوا احتجاجهم على قرار تخصيص مدير مركز الخرطوم الذي يفرض على التجار إغالق‬
‫محالهم التجارية يومي الجمعة واألحد‪ ،‬وطالبوا بأن يشمل هذا القرار يوم السبت ليتمكن‬
‫ويمكن أن نقرأ مدى انتشار واستقرار اليهود في السودان في ما‬ ‫(‪)40‬‬
‫اليهود من أداء صلواتهم‪.‬‬
‫نشرته صحيفة الرأي العام‪" :‬الخرطوم غدت أجنبية ليس فيها أثر للعروبة وال للوطنيين‪،‬‬
‫فأينما سرت في طرقاتها تبد هذه البنايات الضخمة فتسأل نفسك فيجيبك أن هذه البناية ملك‬
‫لليهودي فالن‪ ،‬وتلك الفيال بناها اليهودي فالن‪ ،‬وهذه األرض الفضاء اشتراها يهودي ثالث‬
‫من أربابها الوطنيين بثمن مرتفع ‪ ...‬حتى األراضي الزراعية التي يملكها بعض الوطنيين‬
‫(‪)41‬‬
‫الفقراء في الضواحي يحاول اليهود شراءها بأثمان مغرية"‪.‬‬

‫‪ )35‬مكي أبو قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.76‬‬ ‫(‬

‫‪ )36‬صمويل أتينجر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪ 408‬وما بعدها‪.‬‬ ‫(‬

‫‪ .Malka, op cit, p 112 )37‬وسنناقش هذه المسألة باستفاضة في الجزء الخاص بالنشاط‬ ‫(‬

‫االقتصادي للجالية اليهودية في السودان (‪ ،)1956 -1898‬ص ‪ 82‬وما بعدها‪.‬‬


‫(‬
‫‪38) Ibid, p 112.‬‬
‫(‪ .Ibid, p 113 )39‬؛ أنظر أيضًا‪ :‬مكي أبو قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.76‬‬
‫‪ )40‬أبو قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.64‬‬ ‫(‬

‫(‪ )41‬باب "كلمة ونصف‪ ،‬صحيفة الرأي العام‪ ،‬بتاريخ االثنين ‪ 16‬ديسمبر ‪.1946‬‬

‫‪79‬‬
80
‫المبحث الثاني‬

‫تأسيس الجالية اليهودية في السودان‬

‫إذا كان بن زيون كوشتي (أو بسيوني) هو رجل المجتمع اليهودي األول طوال‬
‫حقبتي التركية والمهدية‪ ،‬فإن نشوء وتأسيس الجالية اليهودية‪ G‬في السودان في بداية القرن‬
‫والذي شكل‬ ‫(‪)42‬‬
‫العشرين ارتبط بقدوم الحاخام سولومون ملكا إلى السودان (ت‪،)1906 .‬‬
‫قدومه العالمة الفارقة في تاريخ الجالية اليهودية في السودان‪ .‬وما كان لرجل واحد أن يؤثر‬
‫في مجرى التاريخ‪ ،‬إال أن الحاخام سولومون ملكا بتعليمه الديني المتقدم‪ ،‬وبنزعته الصهيونية‬
‫القومية‪ ،‬وبشخصيته الكاريزمية المؤثرة أصبح األداة التاريخية التي تحققت بها الظروف‬
‫الموضوعية‪ ،‬التي أسلفنا ذكرها في المبحث السابق من هذا الفصل‪ ،‬من رعاية بريطانية‬
‫ليهود السودان‪ ،‬ومن ازدهار أوضاع يهود مصر وتفتح أسواق السودان ومنتجاته أمامهم بعد‬
‫االحتالل‪ ،‬وتفوق اليهود في ميادين من األنشطة التي كانت تحتاجها البالد لتلتحق بالسوق‬

‫(‬
‫‪42) Malka, op cit, p 27.‬‬

‫‪81‬‬
‫الرأسمالي العالمي مثل أعمال الصرافة والتجارة الخارجية والمهارات الحرفية والمهنية‬
‫والتجارية‪.‬‬
‫على الرغم من عدم وجود إحصائيات دقيقة ألعداد اليهود في السودان في فترة‬
‫الحكم الثنائي إال أن عدداً من القرائن يدفعنا لترجيح أنه لم يكن كبيراً ولكنه كان يتنامى يوماً‬
‫بعد يوم‪.‬‬
‫فيشير إحصاء غير رسمي إلى أن عدد المصريين والهنود واألقباط والسوريين‬
‫(‪4‬‬
‫واألغاريق في أم درمان عام ‪ 1921‬بلغ حوالي ‪ 1.689‬شخصاً من جملة ‪ 42.604‬نسمة‪،‬‬
‫كما ورد في نفس اإلحصاء أن عدد "المولدين"‪ ،‬وهم وفق هذا التعريف اإلحصاء الذين‬ ‫‪)3‬‬

‫ولدوا في السودان من أمهات سودانيات‪ ،‬بحوالي ‪ 739 .8‬نسمة‪ .‬وال يورد التقرير ذكراً‬
‫لعدد اليهود وال ندري هل أدرجوا ضمن "األجانب" أم أدرجوا ضمن "المولدين"‪.‬‬
‫وقد أورد حاخمباشي مصر في تقرير عن زيارته لليهود في السودان (ت‪)1908 .‬‬
‫أن عدد اليهود الذين اجتمع بهم كان حوالي ‪ 20‬رجالً‪ .‬فإذا أضفنا لهذه العدد‪ 20 G‬زوجة لكل‬
‫رجل ومتوسط ابنين إلى ثالثة لكل أسرة فإن عدد اليهود في السودان يتراوح بين ‪ 80‬إلى‬
‫(‪)44‬‬
‫‪ 100‬شخص‪.‬‬
‫وأورد بارنت مؤلف كتاب ‪ Jewish Chronile‬أن عدد اليهود عند زيارته‬
‫أما ألياهو سولمون ملكا فقد حصر عدد اليهود في‬ ‫(‪)45‬‬
‫للسودان كان حوالي ‪ 350‬فرداً‪.‬‬
‫ولعل العدد الذي ذكره بارنت هو‬ ‫(‪)46‬‬
‫السودان في فترة الحكم الثنائي بحوالي ‪ 1000‬فرد‪.‬‬
‫عدد من قابلهم من اليهود‪ G،‬أو ربما يكون عدد البالغين منهم‪ ،‬الذين يرتادون النادي اليهودي‪،‬‬
‫وفي ظل هذه االحتماالت فال أرى تضارباً بين اإلحصاءين‪.‬‬
‫ونرجح أن عدد اليهود الذين شاركوا في تأسيس الجالية وانتخاب مجلسها لم يتعد‪G‬‬
‫‪ 100‬شخص‪ ،‬منهم ‪ 20‬شخصاً فقط ُحق لهم التصويت‪ .‬وتنامى عدد اليهود بعد هذه الفترة‬
‫(‬
‫‪43) F. Rehcisch, "An Unrecorded Population Count of Omdurman",‬‬
‫‪Sudan Notes and Records, 46, 1965, pp 33- 39.‬‬
‫‪ )44‬هذا التعداد التقريبي بافتراض أن كل البالغين من الرجال الذين حق لهم التصويت كانوا‬ ‫(‬

‫متزوجين‪ ،‬كما ال يتضمن هذا التعداد اليهود خارج مدينة الخرطوم‪.‬‬


‫‪ )45‬صالح محمد أحمد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.12‬‬ ‫(‬

‫(‬
‫‪46) Malka, op cit, p 64.‬‬

‫‪82‬‬
‫لكنه لم يتجاوز ‪ 1000‬شخص موزعين بين مدن الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان‬
‫ومدني وبورتسودان وشندي ومروي واألبيض والنهود‪.‬‬
‫وصل إلى السودان‪ ،‬قادماً من طبرية بفلسطين‪ ،‬مروراً بمصر‪ ،‬الحاخام سولمون‬
‫ملكا استجابة لرغبة الحاخام إلياهو حازان حاخامباشي اإلسكندرية وكبير حاخامات مصر‪،‬‬
‫والذي كان يشغل منصب كبير حاخامات ليبيا‪ ،‬كما أصبح من بين مبعوثي االستيطان‬
‫(‪)47‬‬
‫اليهودي في فلسطين‪.‬‬
‫لعل الجالية اليهودية في السودان كانت فرعاً لنظيرتها في مصر‪ .‬واتساقاً مع تمسك‬
‫مصر بحقها في السودان كان الملك يقوم بتعيين‪ G‬كبير حاخامات واحد لمصر والسودان‪ ،‬ففي‬
‫عام ‪ 1925‬أصدر الملك فؤاد أمراً ملكياً بتعيين الحاخام حاييم ناحوم‪ ،‬النائب في البرلمان‬
‫(‪)48‬‬
‫المصري وعضو المجمع اللغوي في مصر‪ ،‬كبيراً لحاخامات مصر والسودان‪.‬‬
‫الحظ إلياهو حازان النمو المضطرد ليهود السودان مع عدم وجود حاخام لتنظيم‬
‫حياتهم الدينية‪ ،‬لذا فقد أصدر أمراً للحاخام بالسفر إلى السودان والقيام بواجب القيادة الدينية‪G‬‬
‫وكان الحاخام سولومون ملكا وقتها في الثامنة‬ ‫(‪)49‬‬
‫ليهود السودان وتنظيم شؤون الجالية‪.‬‬
‫والعشرين من عمره‪ ،‬وكان حاخاماً متخصصاً في التوراة والتلمود وعضواً في المحكمة‬
‫الدينية (بيت دين) في طبرية‪ ،‬وتمت إجازته من قبل ثالثة حاخامات إشكناز في صفد أقروا‬
‫بنبوغه ومعرفته الدينية‪ .‬وبهذا العمر والمعرفة والحماسة الدينية‪ G‬نفهم االندفاع الذي جاء به‬
‫ملكا للسودان‪.‬‬
‫كان أول ما ابتدر به ملكا نشاطه في السودان هو تأسيس وتنظيم الجالية‪ ،‬وتأسيس‬
‫معبد‪ G‬لممارسة الشعائر اليهودية‪ G،‬إال أن عدداً كبيراً من يهود السودان كانوا قد أسلموا تحت‬
‫بطش الدولة المهدية‪ .‬ولما كانت مهمتا تنظيم الجالية وتأسيس المعبد‪ G‬ال يمكن إنجازهما‬
‫باالعتماد على الوافدين الجدد من اليهود وحدهم‪ ،‬فقد ابتدر ملكا دعوة يهود المهدية‪ G‬لالرتداد‪G‬‬

‫‪ )47‬صمويل أتينجر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.296‬‬ ‫(‬

‫(‬
‫‪48) Malka, op cit, pp 104- 105.‬‬
‫(‬
‫‪49) Ibid, p27.‬‬

‫‪83‬‬
‫عن اإلسالم والعودة للديانة اليهودية‪ ،‬وما قد يتطلبه ذلك من تهويد الزوجات واألبناء‬
‫(‪)50‬‬
‫تهود "األغيار" باالنتساب‪.‬‬
‫المسلمين والسودانيين‪ G‬فاليهودية تقبل ُّ‬
‫ويبدو أن األوضاع االقتصادية المتحسنة لغير المسلمين في العهد الثنائي‪ ،‬وبراعة‬
‫الحاخام الجديد وكاريزميته‪ ،‬وإ غراءات هذين العاملين قد أفضيا إلى ردة العديد من "المسالمة"‬
‫مع زوجاتهم وأبنائهم إلى الدين اليهودي وفقاً لتقاليد الهاالكاه ‪ )Halakha.(51‬ولعل أول‬
‫"منة بسيوني" وأعطيت اسم حنا بت إبراهام ‪Hanna Bat‬‬ ‫سودانية تهودت مع زوجها هي َ‬
‫تهودهم رسمياً في‬
‫وتهود معها أبناؤها‪ :‬نعيمة "ناعومي"‪ ،‬وإ ستر‪ ،‬وداؤد وأعلنوا ّ‬
‫‪ّ Abraham‬‬
‫يوم ‪ 31‬يناير ‪ ،1908‬في حضور حاخامباشي اإلسكندرية وكبير حاخامات مصر إلياهو‬
‫أي بعد عام واحد من مقدم الحاخام ملكا‪ .‬وتبعتها بعد قليل "روزا سليمان هندي"‪،‬‬ ‫(‪)52‬‬
‫حازان ‪.‬‬
‫زوجة اليهودي شالوم حكيم‪ ،‬ولقبت "بروزا السودانية"‪ ،‬وقد انتقلت للعيش بإسرائيل بعد وفاة‬
‫(‪)53‬‬
‫زوجها وتأسيس الكيان اإلسرائيلي‪.‬‬

‫(‬
‫‪50) Ibid, 31.‬‬
‫‪ )51‬كما تنصر العديد من "المسالمة" الذين كان بعضهم يهودياً فيما مضى والبعض اآلخر‬ ‫(‬

‫كان مسيحياً‪ .‬والهاالكاه كلمة عبرية يقابلها بالعربية مصطلح "قانون" أو تشريع‪ ،‬وأصلها من‬
‫"هاالخاه" اآلرامية‪ ،‬ومعناها‪ G‬الحرفي "الطريق القويم"‪ ،‬وقد وردت الكلمة ألول مرة في كتابات‪G‬‬
‫معلمي المشناة (أنظر هامش رقم ‪ 6‬من الفصل الرابع) وكانت‪ G‬تعني في بداية األمر "الحكم‬
‫الشفهي الذي يصدره الفقهاء"‪ ،‬ثم أصبحت الكلمة تشير إلى الفقرة الواحدة المتضمنة في سنة‬
‫واحدة في الفقهيات‪ G‬الشرعية‪ .‬ثم أصبحت الكلمة تشير إلى الجانب التشريعي في اليهودية ككل‬
‫وضمن ذلك الشريعة الشفوية‪ .‬أي أنها أصبحت تضم العرف والعادة والقوانين المحلية‬
‫والمراسيم الشرعية‪ ،‬وهي في ذلك مثل كلمة "قانون" التي يمكن أن تشير إلى "القانون‬
‫الجنائي" أو " قانون العقوبات"‪ G‬وتشير في نفس الوقت إلى "القانون" بشكل عام‪ .‬وتكاد كلمة‬
‫ال أن كلمة‬
‫هاالكاه أن تكون مرادفة لكلمة "توراة" التي تعني الشريعة‪ .‬ويمكن أن نقول إجما ً‬
‫هاالكاه تشير إلى الصياغة القانونية المحددة لتفاصيل الشريعة اليهودية‪.‬‬
‫(‬
‫‪52) Malka, op cit, p 31‬‬
‫‪ )53‬أبو قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.21‬‬ ‫(‬

‫‪84‬‬
‫وسرعان ما أعلن معظم يهود المهدية يهوديتهم هم وعائالتهم السودانية‪ G.‬وقد تمسك‬
‫بعض اليهود بدينهم اإلسالمي مثل سليمان منديل الذي أصبح فيما بعد من أشد المتحمسين‬
‫(‪)54‬‬
‫للدين اإلسالمي والباذلين ما استطاعوا من أجل رفعته في السودان‪.‬‬

‫ولعل بعضهم تعلل بأنه قد أنجب عقباً من زوجاتهم السودانيات‪ ،‬وبالتالي فأوالده‬
‫وبناته لن يجدوا قبوالً عرقياً‪ -‬دينياً بين اليهود بيض البشرة المتوافدين حديثاً من مصر‪،‬ألنهم‬
‫(‪)55‬‬
‫من أمهات سودانيات‪.‬‬

‫(‬
‫‪54) Malka, op cit, p 22.‬‬
‫(‬
‫‪55) Ibid, 22.‬‬
‫وقد أغفل إلياهو سولمون ملكا‪ ،‬بقصد أو دون قصد‪ ،‬عن ذكر العديد من األسر اليهودية التي‬
‫احتفظت بإسالمها‪ G‬ولم تقبل باالرتداد عنه‪ ،‬وهي أسر كثيرة‪ ،‬ويبدو أن سمة التسامح الديني‬
‫بين السودانيين قد انسحبت حتى على اليهود فقد تجد في األسرة اليهودية الواحدة من ارتد إلى‬
‫اليهودية‪ ،‬ومن تنصر مع الحكم الجديد‪ ،‬ومن آثر االحتفاظ بدينه اليهودي‪ .‬وعلى الرغم من‬
‫أني لم أجد أسرة يهودية بهذه المواصفات إال أن اإلخباري السيد إبراهيم منعم منصور أكد‬
‫هذه المعلومة‪ .‬مقابلة مع السيد إبراهيم منعم منصور‪ ،‬وزير المالية السابق (‪/1976 -1971‬‬
‫‪ ،)1984 -1981‬كما أفادنا اإلخباري مصطفى إسحق أن منزل والده‪ ،‬المسلم‪ ،‬إسحق‬
‫إسرائيل كان يستقبل‪ G‬الزوار اليهود خصوصاً في األعياد والمناسبات الدينية‪ ،‬ومن أمثلة ذلك‬
‫عيد األضحى المبارك حيث كانت زوجة إسحق أسماء محمد عبد الرحيم تعد لهم المائدة‬
‫السودانية من "كمونية"‪ ،‬و"مرارة"‪ ،‬و"عصيدة"‪ ،‬و"مالح‪ G‬تقلية"‪ ،‬و"مالح‪ G‬روب"‪ ،‬وكان اليهود‬
‫يقبلون على هذه األطعمة ويشاركون اليهود "المتأسلمين" فرحتهم بأعيادهم الدينية‪ .‬مقابلة مع‬
‫السيد مصطفى إسحق داؤد‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫وقد تجد في األسرة الواحدة من ارتد إلى اليهودية‪ ،‬أو تهود‪ ،‬ومن تمسك بإسالمه‪،‬‬
‫ومن نماذج األسر اليهودية التي تهود بعضها أسرة إسرائيل داؤد بنيامين‪،‬‬ ‫(‪)56‬‬
‫ومن تنصر‪.‬‬
‫(‪)58‬‬
‫في حين تمسك أبناؤه‪ :‬إبراهيم وإ سحق باإلسالم‪.‬‬ ‫(‪)57‬‬
‫وقد تهود رب األسرة إسرائيل داؤد‬
‫لم يكتف يهود السودان الجدد بتهويد‪" G‬المسالمة" احتفاالً بزيارة الحاخام إلياهو‬
‫حازان‪ ،‬فكرموه أيضاً بإنشاء مجلس للجالية اليهودية‪ G‬في السودان‪ .‬وتحت رعايته جرت أول‬
‫انتخابات للجالية اليهودية في السودان في ‪ 30‬يناير ‪ 1908‬بمعبد‪ G‬أم درمان‪ .‬واتفق‬
‫المجتمعون على تكريم ممثلهم في فترتي التركية المصرية والمهدية‪ ،‬بن زيون كوشتي‪،‬‬
‫وقرر المجتمعون أن يعقد‬ ‫(‪)59‬‬
‫بانتخابه رئيساً مدى الحياة للجالية اليهودية‪ G‬في السودان‪.‬‬
‫اجتماع الجالية في يناير من كل عام الستيعاب الوافدين الجدد من اليهود خالل العام‪ ،‬وإ عادة‬
‫انتخاب مجلس الجالية‪ .‬وأرسلت نتيجة االنتخابات إلى الحكومة السودانية في تقرير رسمي‬
‫إال أن هذا الجسم الجديد لم يعتمد‪ G‬بشكل رسمي حتى عام ‪ ،1933‬وهو‬ ‫(‪)60‬‬
‫من مجلس الجالية‪.‬‬
‫(‪)61‬‬
‫ما تبيِّنه‪ G‬المراسالت بين مجلس الجالية والسكرتير اإلداري للحكومة السودانية‪.‬‬
‫بجانب بن زيون كوشتي تم انتخاب أربعة أعضاء يكونون معاً المجلس الخماسي‬
‫للجالية اليهودية في السودان‪ ،‬وهم‪ :‬نسيم شالوم‪ ،‬نائب رئيس الجالية ‪ ،Sokhan‬وإ دوارد‬

‫‪ )56‬مقابلة مع‪ :‬إبراهيم منعم منصور‪.‬‬ ‫(‬

‫‪ )57‬ويبدو أنه التحق بجهاز المخابرات البريطانية في السودان‪ ،‬وقد بعث إلى دارفور لتأليب‬ ‫(‬

‫مواطنيها ضد السلطان علي دينار الذي اختار مواالة الخالفة العثمانية ودول المحور في الحرب‬
‫العالمية األولى‪ .‬وقد قبض عليه السلطان علي دينار وقتله عام ‪ ،1915‬وبعدها بحوالي العام‬
‫ضمت دارفور‪ ،‬بالقوة‪ ،‬إلى الحكومة البريطانية في السودان‪.‬‬
‫‪ )58‬ومن األمثلة التي تعكس االنتماء‪ G‬الوجداني إلى السودان واإلسالم لدى يهود السودان أن‬ ‫(‬

‫العديد من رؤوس األموال اليهودية حاولت استمالة إسحق إسرائيل واستخدام اسمه البتدار نشاط‬
‫استثماري في السودان فرفض‪ .‬أما إبراهيم فقد كان من الناشطين في نادي الخريجين‪ .‬أنظر‬
‫الفصل الرابع من هذا البحث ص ‪ 117‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‬
‫‪59) Malka, op cit, p 34.‬‬
‫(‬
‫‪60) Ibid, p 35.‬‬
‫‪ )61‬ملف في مجموعة السكرتير اإلداري بعنوان‪Jewish Community of the :‬‬ ‫(‬

‫‪ Sudan, 10, 1, 6‬وتحتوي على نحو سبع وثائق‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫كاسترو‪ ،‬سكرتيراً للجالية ‪ ،Mazkir‬ومناحيم صالح ومايير إفرايم‪ ،‬مستشارين للجالية‬
‫)‬
‫‪Yoasim.(62‬‬
‫نستشف من هذه االنتخابات ثالث نقاط أساسية‪ :‬األولى‪ ،‬االرتباط العميق بين يهود‬
‫السودان ويهود مصر‪ ،‬ويبدو أن حاخام مصر والسودان كان ذا طموح قومي صهيوني‪.‬‬
‫ضمن إعادة‬
‫والثانية‪ ،‬أن األوضاع في السودان كانت تبشر بتوافد المزيد من اليهود للحد الذي َّ‬
‫تعدادهم كل سنة كواحدة من أهم أجندة اجتماع الجالية السنوي‪ .‬والنقطة األخيرة أن تكوين‬
‫(‪)63‬‬
‫الجالية اليهودية وممارسة أنشطتها كان يتم بعلم ورعاية اإلدارة البريطانية في السودان‪.‬‬
‫وجدت الجالية اليهودية‪ G‬اعترافاً رسمياً بها وبانتخاباتها من قبل الحكومة السودانية‪G،‬‬
‫وكانت تستقبل خطابات معنونة إلى مجلس الجالية معظمها كدعوات للمشاركة في االحتفاالت‬
‫والمناشط العامة التي تقام في حديقة قصر الحاكم العام‪ ،‬كما كانت تقدم لهم الدعوات‬
‫(‪)64‬‬
‫للمشاركة في استقبال الضيوف المهمين‪ G‬القادمين‪ G‬للسودان من الخارج‪.‬‬
‫وفي ظل هذه الظروف إزدهرت الجالية اليهودية‪ G‬وانضبطت تنظيمياً‪ .‬وكانت‬
‫انتخابات مجلس الجالية تجري سنوياً بسالسة ويسر وتناغم يهودي وحكومي‪ .‬وقد تعاقب‬
‫على رئاسة مجلس الجالية حتى عام ‪ 1955‬أحد عشر رئيساً‪ ،‬بعضهم تم انتخابه ألكثر من‬
‫دورة رئاسية‪ .‬ونالحظ أن ُج َّل رؤساء الجالية اليهودية كانوا من كبار رجال األعمال وذوي‬
‫النفوذ االقتصادي القوي في السودان‪.‬‬
‫امتدت فترة رئاسة بن زيون كوشتي منذ عام ‪ 1908‬حتى وفاته عام ‪،1917‬‬
‫وخلفه روفائيل عدس الذي استمرت فترة رئاسته حتى عام ‪ .1920‬وانتخب جوزيف فورتي‬

‫(‬
‫‪62) Ibid, p 35‬‬
‫‪ )63‬يذكر السكرتير اإلداري لحكومة السودان ما يمكن ترجمته إلى‪ :‬وأرجو أن تقوموا‬ ‫(‬

‫بإطالعنا على نتائج انتخابات الجالية بشكل دوري ومنتظم" وهي عبارة تعكس أن اإلدارة‬
‫البريطانية كانت على علم بالجالية كمؤسسة اجتماعية وبانتخاباتها‪ G‬وغير ذلك‪ .‬كما أن الخطاب‬
‫المرسل من السكرتير اإلداري بتاريخ ‪ 19‬فبراير ‪ 1933‬يؤكد ما ذهبنا إليه من اعتراف‬
‫الحكومة بالجالية فالخطاب معنون إلى‪ :‬سكرتير الجالية اليهودية‪ .‬أنظر وثيقة رقم ‪ 10,1,6‬من‬
‫مجموعة السكرتير اإلداري‪ ،‬دار الوثائق القومية‪ ،‬الخرطوم‪.‬‬

‫(‬
‫‪64) Malka, op cit, p54.‬‬

‫‪87‬‬
‫عام ‪ ،1921‬وكانت فترة رئاسته من أكثر الفترات التي شهدت نشاطاً اجتماعياً للجالية‬
‫اليهودية تمخض عنها تأسيس الكنيس اليهودي في الخرطوم‪ .‬ثم انتخب ألبرت فورتي عام‬
‫‪ 1927‬واستمرت فترة رئاسته حتى عام ‪ .1930‬وفي عام ‪ 1931‬انتخب إبراهيم سيروسي‪،‬‬
‫وامتدت فترة رئاسته حتى عام ‪ ،1933‬وكان ذا توجهات قومية يهودية‪ G‬أسفرت عن تأسيس‬
‫(‪6‬‬
‫فرع لجمعية بناي بريت ذات التوجهات الصهيونية في السودان‪ .‬وأعقبه موريس الجنادو‪،‬‬
‫ثم اليهودي المتزمت إبراهيم دويك في الفترة بين عامي ‪ 1936‬و ‪ ،1939‬تلته فترة رئاسة‬ ‫‪)5‬‬

‫)‬
‫إيلي تمام المتدة من عام ‪ 1939‬حتى عام ‪1941.(66‬‬
‫ومنذ بداية األربعينيات تولت رئاسة الجالية اليهودية في السودان وإ دارة شؤونها‬
‫أجيال جديدة من الشباب الذين ولدوا في السودان أو الذين جاءوا إليه صغاراً وترعرعوا‬
‫فيه‪ ،‬وشهدت هذه الفترة قمة نشاط الجالية وتوسع عالقاتها داخل وخارج السودان‪ ،‬وافتخارها‬
‫باإلعالن عن نفسها‪ ،‬وإ نشاء نادي اجتماعي حافل بالحيوية والحركة‪ .‬وقد تعاقب على رئاسة‬
‫الجالية من هذا الجيل‪ :‬موسى إسرائيل العيني‪ ،‬خريج كلية غردون التذكارية وامتدت رئاسته‬
‫من ‪ 1941‬حتى ‪ .1944‬وجوزيف تمام‪ ،‬ورأس مجلس الجالية منذ ‪ 1945‬حتى ‪.1947‬‬
‫ونسيم قاوون‪ ،‬الذي شغل فيما بعد منصب رئيس اتحاد السفارديم الدولي‪ ،‬وقد رأس مجلس‬
‫الجالية لدورتين منفصلتين األولى بين عامي ‪ 1947‬حتى عام ‪ ،1948‬والثانية من عام‬
‫‪ 1950‬حتى عام ‪ .1953‬وتولى رئاسة الجالية في الفترة من ‪ 1948‬حتى ‪ 1950‬إلياهو‬
‫ملكا ابن الحاخام سولومون ملكا‪ ،‬ثم أعيد انتخابه في دورة منفصلة أخرى امتدت بين عامي‬
‫)‬
‫‪ 1954‬و ‪1955.(67‬‬
‫ومن المناصب المهمة في مجلس الجالية منصب السكرتير العام وقد شغله إلياهو‬
‫ملكا ألكثر من عشر سنوات‪ ،‬وديفيد بسيوني‪ ،‬وإ دوارد دويك‪ ،‬وإ دجار روبي‪ .‬أما منصب‬
‫(‪)68‬‬
‫نائب الرئيس فكان من أشهر من تواله هنري فرحي وموريس قولدينبيرج‪.‬‬

‫(‪ )65‬مجموعة السكرتير اإلداري‪.6 ،1 ،10 ،‬‬


‫‪ )66‬أبو قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.39 -35‬‬ ‫(‬

‫(‬
‫‪67)Malka, op cit, 60- 61.‬‬
‫‪ )68‬أبو قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.39‬‬ ‫(‬

‫‪88‬‬
‫شكلت الجالية اليهودية‪ G‬في السودان‪ ،‬كمؤسسة اجتماعية اقتصادية ليهود السودان‪،‬‬
‫واحدة من أهم أدوات استقرارهم في السودان وتحسن أوضاعهم المعيشية‪ .‬وتعكس مخاطبات‬
‫مجلس الجالية‪ ،‬الممهورة بتوقيع سكرتير الجالية‪ ،‬مع السكرتير اإلداري لحكومة السودان‬
‫(‪)69‬‬
‫الدور الكبير الذي لعبته الجالية للحصول على امتيازات لليهود بالسودان‪.‬‬
‫كانت الجالية اليهودية‪ G‬في الخرطوم بمثابة المركز والقلب النابض لليهود في‬
‫السودان‪ ،‬فقد ضمت أثرياء اليهود في مجلسها التنفيذي‪ ،‬وهم بدورهم يديرون عدداً من‬
‫الشركات التي تعمل في أقاليم السودان المختلفة‪ ،‬وقد استوعبت فروعها اليهود الموجودين‬
‫في تلك الجهات‪ .‬وبالمقابل كانت الجالية اليهودية‪ G‬في السودان رافداً للجالية اليهودية في‬
‫مصر‪ .‬ولعل مصر بدورها كانت رافداً للجاليات اليهودية في الشرق األوسط‪.‬‬
‫كان حوالي ‪ %90‬من أفراد الجالية اليهودية في السودان من أصول سفاردية قدموا‬
‫للسودان عن طريق مصر‪ ،‬من المغرب وتونس والجزائر‪ ،‬وبعضهم قدم من فرنسا وإ يطاليا‬
‫واليونان وتركيا‪ .‬أم النسبة القليلة من األشكناز فقد اندمجوا في الحياة السفاردية‪ ،‬وتزوج‬
‫(‪)70‬‬
‫معظمهم من اليهود السفارديم بمصر وبالسودان‪.‬‬
‫وقد حمل بعض اليهود في ألقابهم الجهات التي قدموا منها مثل‪ :‬البغدادي‪،‬‬
‫تمصر معظم اليهود قبل قدومهم‬
‫والمغربي‪ ،‬والحلبي‪ ،‬والسولوني (نسبة إلى سالونيكا)‪ .‬وقد ّ‬
‫(‪)71‬‬
‫للسودان‪.‬‬
‫وكان معظم يهود السودان يتحدثون باللغة العربية باللهجة المصرية أو باللهجة‬
‫الشامية‪ .‬أما اليهود القادمين من أوربا فقد كانوا يتحدثون اللغة اإلنجليزية أو الفرنسية بجانب‬
‫(‪)72‬‬
‫اللغة العربية التي كانت لغة التخاطب والتواصل والتالقي بين كل يهود السودان‪.‬‬

‫‪ )69‬مجموعة السكرتير اإلداري‪ .6 ،1 ،10 ،‬الخطابات بتاريخ‪ 4 :‬نوفمبر ‪ 7 ،1935‬نوفمبر‬ ‫(‬

‫‪11 ،1937‬نوفمبر ‪ 1937‬ويظهر فيها الضغط الذي مارسته الجالية على السكرتير اإلداري‪،‬‬
‫الذي بدوره يضغط على السكرتير المالي إلعطاء الجالية بعض االمتيازات المالية‪ .‬وسنناقش‬
‫هذه االمتيازات في الفصل الرابع من هذا البحث ص ‪.155‬‬
‫(‬
‫‪70) Malka, op cit, p 65.‬‬
‫(‬
‫‪71)Ibid, p65‬‬
‫(‬
‫‪72)Ibid, p65.‬‬

‫‪89‬‬
‫ويبدو أن عدداً من اليهود لم يعلنوا يهوديتهم صراحة‪ ،‬وعاشوا كيهود متخفين تحت‬
‫مظلة واسعة هي مظلة الشوام‪ ،‬وبالتالي فهم لم ينتموا لمؤسسة الجالية اليهودية في السودان‪.‬‬
‫ومما يؤكد ما ذهبنا إليه أن عدداً من اليهود الذين ورد ذكرهم في مذكرات إلياهو‬
‫كانوا ينتمون للجالية السورية في مدينة‪ G‬ود مدني‪ ،‬وقد بعثوا خطاباً بتاريخ‬ ‫(‪)73‬‬
‫سولومون ملكا‪،‬‬
‫(‪)74‬‬
‫‪ 23‬يوليو ‪ 1931‬يطلبون إلحاقهم بالجالية السورية في الخرطوم‪.‬‬
‫ومن القرائن المثيرة أن مدينة‪ G‬النهود‪ G،‬وهي مركز تجاري مهم في منطقة شمال‬
‫كردفان‪ ،‬عرفت أعداداً من اليهود المتخفين كشوام ولم يعلنوا يهوديتهم صراحة‪ ،‬الذين عاشوا‬
‫بين النهود واألبيض كيهود متخفين‪ .‬ويبدو أن ساسون البني قد انكشف أمره‪ ،‬وهو ما نفهمه‬
‫من رفض المسلمين دفنه في مقابرهم باألبيض‪ ،‬كما رفض المسيحيون أيضاً أن تضم‬
‫مقبرتهم رفاته‪ .‬وقد دفن ساسون في مكان بين المقبرتين‪.‬‬
‫وتزوج إبراهيم إسرائيل من زهرة محمد نور‪ ،‬ابنة أحد أعيان مدينة‪ G‬النهود‪ G،‬ويبدو‬
‫ولعل هذا ما خلق‬ ‫(‪)75‬‬
‫أن هذه الزيجة أعقبها عدد من الزيجات والمصاهرات في مدينة‪ G‬النهود‪G.‬‬
‫(‪)76‬‬
‫المناخ المناسب لتأليف وتداول المثل "النهود بلد اليهود" السائد في منطقة شمال كردفان‪.‬‬

‫(‬
‫‪73)Malka, op cit.‬‬
‫‪ )74‬ملف بمجموعة السكرتير اإلداري بعنوان‪ . Syrian Community, 10,1,5 :‬ووقع‬ ‫(‬

‫عليه عدد من السوريين بينهم‪ G‬يهود مثل‪ :‬جورج أصالن‪ ،‬صالح باروخ‪ ،‬سليمان بينو‪ G،‬وإ براهيم‬
‫عدس‪.‬‬
‫‪ )75‬مقابلة مع السيد مصطفى إسحق داؤد؛ أيضًا مقابلة مع السيدة ليلى إبراهيم إسرائيل‪.‬‬ ‫(‬

‫‪ )76‬مقابلة مع السيد إبراهيم منعم منصور وهو من أعيان منطقة النهود وقد أخبرنا بالمثل‬ ‫(‬

‫المتداول‪" :‬النهود بلد اليهود ‪ ..‬يا تنفع تفوت يا تفشل تموت"‪.‬‬

‫‪90‬‬
91
‫الفصل الثاني‬
‫النشاط االقتصادي للجالية اليهودية في السودان (‪)1956 -1898‬‬
‫‪ .1‬الشخصية االقتصادية اليهودية‬
‫‪ .2‬النفوذ االقتصادي للجالية اليهودية في السودان‬
‫‪ .3‬رأس المال اليهودي واالستثمار في السودان‬

‫‪92‬‬
‫المبحث األول‬

‫الشخصية االقتصادية اليهودية‬

‫‪93‬‬
‫إن قولنا بوجود سمات مميزة للشخصية اليهودية ال يقوم على أساس عنصري أو‬
‫ديني‪ ،‬وإ نما على أساس عوامل تاريخية وجغرافية موضوعية ش ّكلت نمطاً من التشابه في‬
‫طبيعة الحرف والمهن التي يجيدها اليهود دون غيرها‪ ،‬كما جعلت من اليهود جماعة متنقلة‬
‫ذات ذكاء وحرية تتيح لها اكتشاف الفرص والهجرة إليها متى شاءت‪ .‬وتفيدنا معرفة‬
‫الشخصية اليهودية لنفهم طبيعة النشاط االقتصادي الذي مارسوه في السودان عندما واتتهم‬
‫الفرصة في عهد الحكم الثنائي‪ .‬إذاً فنحن هنا نقتفي أثر ماركس وهو "يفحص اليهودي‬
‫(‪)1‬‬
‫الواقعي وليس يهودي السبت"‪.‬‬
‫يؤكد التاريخ االقتصادي لألقليات اليهودية‪ G،‬في أوربا‪ ،‬انشغال اليهود بمهن معينة‬
‫مثل التجارة والربا‪ ،‬ولعله األساس الذي نشأت منه عملية اإلقراض نظير فائدة وغيرها من‬
‫العمليات المصرفية‪ ،‬وبحرف مثل قطع الماس وصنع الحلي وصياغة المجوهرات‪ )2(.‬وكذا‬
‫هو حال اليهود في المشرق حيث عملوا بشتى أنواع التجارة‪ ،‬وبحرفة الصياغة وتجارة‬
‫المجوهرات على نحو خاص‪ ،‬ويروي السيوطي شكوى تقدمت بها أسرة كافور األخشيدي‬
‫إلى الخليفة المعز لدين اهلل الفاطمي فحواها أن الصائغ اليهودي أنكر وديعتهم وهي قباء من‬
‫لؤلؤ منسوج بالذهب‪ ،‬فأمر الخليفة بتفتيش بيت الصائغ وعثروا على الحلية مدفونة في‬
‫(‪)3‬‬
‫حجرة‪.‬‬
‫ومع ذلك فإن اليهود لم يحتكروا هذه المهن والحرف دون سواها كما أنهم بالمقابل‬
‫لم يقتصروا عليها‪ ،‬فقد عمل اليهود في الزراعة وفالحة األرض‪ ،‬فيهود الكوفة اشتغل‬
‫معظمهم في الزراعة‪ ،‬وتوزع بقيتهم على مختلف الحرف‪ ،‬وقد ترك عمر بن الخطاب‬
‫أرضهم لهم مقابل دفعهم للخراج بدالً عن الجزية‪ )4(.‬كما امتلك اليهود في العصور الوسطى‬
‫أراضي واسعة وزرعوها خصوصاً في بالد األندلس وأسبانيا المسيحية وفي صقلية وسيليزيا‬

‫‪ )1‬نصر شمالي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.20 -19‬‬ ‫(‬

‫‪ )2‬عبد الوهاب محمد المسيري‪ ،‬األيديولوجي‪0‬ة الصهيونية‪ :‬دراسة حالة في علم اجتماع‬ ‫(‬

‫المعرفة‪ ،‬ج‪ ،1‬المجلس الوطني للثقافة واآلداب والفنون‪ ،‬الكويت‪ ،1982 ،‬ص ص ‪.12 -11‬‬
‫ال عن‪ :‬السيوطي‪ ،‬حسن المحاضرة‪ ،‬ح‪ ،‬ص ‪.13‬‬
‫‪ )3‬نفسه‪ ،‬نق ً‬ ‫(‬

‫‪ )4‬نفسه‪ ،‬نقالً عن‪ :‬يوسف رزق اهلل‪ ،‬نزهة المشتاق‪ ،‬ص ‪.103‬‬ ‫(‬

‫‪94‬‬
‫وبولندا وإ نجلترا وفرنسا‪ )5(.‬ومما يؤكد أن اليهود احترفوا الزراعة أن الكتاب األول من‬
‫المشناة يسمى كتاب "زراعيم" أي البذر أو اإلنتاج الزراعي‪ )6(.‬كما أن أهم األعياد اليهودية‬
‫هو عيد "شافعوت" أي عيد الحصاد الذي يأخذ فيه الفالحون اليهود ثمار الحصاد ويقدمونها‬
‫للهيكل‪ )7(.‬وقد احترف عدد كبير من يهود المشرق الصباغة ونسج الحرير وصناعة الزجاج‬
‫وإ دارة السفن‪ ،‬كما احترفوا مهنة الطب ويروي ابن عربي أنه كان للحجاج ابن يوسف الثقفي‬
‫(‪)8‬‬
‫طبيبان يهوديان‪.‬‬
‫ويورد المسيري العوامل التي دفعت اليهود نحو االشتغال بالتجارة واألعمال‬
‫حرم القانون الروماني على الشيوخ وأبنائهم استثمار‬
‫المالية‪ ،‬ففي اإلمبراطورية الرومانية ّ‬
‫حرم القانون الروماني‪ ،‬ومن‬
‫أموالهم في التجارة فأصبح لليهود‪ ،‬كتجار‪ ،‬أهمية متعاظمة‪ .‬كما ّ‬

‫‪ )5‬نفسه‪ ،‬نقالً عن‪ :‬ول ديورانت‪ ،‬قصة الحضارة‪" 0:‬عصر اإليمان"‪ ،‬الجزء الثالث‪ ،‬ص ص‬ ‫(‬

‫‪.60 -59‬‬
‫‪ )6‬عبد الوهاب محمد المسيري‪ ،‬األيديولوجية الصهيونية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ .12‬والمشناه‬ ‫(‬

‫هي مجموعة موسوعية من الشروح والتفاسير تتناول العهد القديم وتتضمن مجموعة من‬
‫الشرائع اليهودية التي وضعها معلمو المشناة على مدى عدة أجيال‪ .‬وتعد المشناه مصدرًا من‬
‫المصادر األساسية للشريعة‪ ،‬وتأتي في المقام الثاني بعد العهد القديم‪ .‬وتنقسم‪ G‬المشناه إلى ستة‬
‫أقسام (سدرايم)‪ .1 :‬سد زراعيم‪ ،‬ويعني‪ G‬بالقوانين الدينية المتصلة بالزراعة والحاصالت‬
‫الزراعية ونصيب الحاخام من الثمار‪ .2 .‬سدر موعيد‪ ،‬ويعني باألعياد و"السبت" واألحكام‬
‫المتصلة به‪ .3 .‬سدر ناشيم‪ ،‬وفيه نظم الزواج والطالق وأحكامهما‪ .4 G.‬سدر نزيقين‪ ،‬ويتناول‪G‬‬
‫األحكام المتعلقة باألشياء‪ G‬المفقودة والبيع بالربا والغش‪ .‬كما يتحدث عن عصر المسيح ومحاكمته‬
‫وصلبه‪ .5 .‬كتاب‪ G‬قداشيم‪ ،‬ويحوي شرائع الذبح الشرعي‪ ،‬والطقس القرباني وخدمة الهيكل‪.6 .‬‬
‫كتاب طهاروت‪ ،‬ويعالج أحكام الطهارة والنجاسة‪ .‬ويرى واضعو المشناه أنها جزء ال يتجزأ من‬
‫الوحي الذي تلقاه موسى‪ .‬وظلت المشناه أهم كتب اليهود المقدسة والمصدر الحقيقي للتشريع‬
‫واألحكام والفتاوي رغم الهالة التي تحيط بالعهد‪ 0‬القديم‪ .‬للمزيد أنظر‪ :‬عبد الوهاب‪ ،‬الموسوعة‪،‬‬
‫الجزء الثاني‪ ،‬ص ص ‪.36 -35‬‬
‫‪ )7‬نفسه‪ ،‬ص ‪.12‬‬ ‫(‬

‫‪ )8‬علي حسني الخربوطلي‪ ،‬العرب واليهود في العصور القديمة واإلسالمية‪ ،‬معهد البحوث‬ ‫(‬

‫والدراسات العربية‪ ،‬جامعة الدول العربية‪ ،‬المطبعة الفنية الحديثة‪( ،‬د‪.‬ط)‪ ،1969 ،‬ص ‪100‬؛‬
‫نقالً عن‪ :‬ابن العربي‪ ،‬تاريخ مختصر الدولة‪ ،‬ص ‪.914‬‬

‫‪95‬‬
‫وقد جاء في سفر‬ ‫(‪)9‬‬
‫بعده القانون المسيحي‪ ،‬تعاطي الربا على عكس اليهودية‪ G‬التي لم تحرمه‪.‬‬
‫التثنية ما يحرم التعامل الربوي بين اليهود‪ ،‬إال أنه يعطي اليهود التصريح الديني والمبرر‬
‫النظري للتعامل بالربا مع غير اليهود‪ G،‬ويذكر النص التوراتي‪:‬‬
‫"ال تتقاضوا فوائد مما تقرضونه إلخوتكم من بني إسرائيل‪ ،‬سواء كانت القروض‬
‫فضة أو أطعمة أو أي شيء آخر‪ .‬أما األجنبي فأقرضوه بربا‪ .‬إنما إياكم إقراض أخيكم‬
‫بفائدة‪ ،‬ليبارككم الرب إلهكم في كل ما تنتجه أيديكم في األرض التي أنتم ماضون‬
‫(‪)10‬‬
‫المتالكها"‪.‬‬
‫ويبدو أن العبرانيين القدامى‪ ،‬بوصفهم بدواً رحالً‪ ،‬كانوا مرشحين أكثر من غيرهم‬
‫للقيام بدور التاجر الذي ينقل البضائع من مجتمع زراعي مستقر إلى مجتمع آخر‪ .‬ولعل‬
‫السبي البابلي‪ ،‬واحتكاك اليهود بمجتمعات مختلفة‪ ،‬كان لها أثر كبير على اتجاه اليهود نحو‬
‫االشتغال بالتجارة بالربا‪ ،‬فقد وجد اليهود عند البابليين عالقات اقتصادية متطورة للغاية‬
‫جعلتهم يكتسبون الخبرات الالزمة لممارسة التجارة والمعامالت المالية‪ .‬باإلضافة إلى أنهم‬
‫كغرباء‪ ،‬ليست لديهم جذور راسخة في مجموع هذه المجتمعات‪ ،‬سهل عليهم القيام بمهمة‬
‫ولعل طبيعة "الغرباء" جعلت اليهود جزءاً من حلقة واسعة من‬ ‫(‪)11‬‬
‫التجارة في العالم القديم‪.‬‬
‫االتصاالت التي تشمل جاليات من أبناء جلدتهم مما يسر التعامالت التجارية والمالية‪ ،‬كما‬
‫أنهم بهذا المعنى يكونون ملمين بأكثر من لغة تسهل عليهم عملية التجارة الدولية‪.‬‬
‫بدأ فك احتكار اليهود للتجارة الدولية مع الحروب الصليبية حيث سيطر المسيحيون‬
‫على طرق التجارة واشتغلوا فيها‪ .‬ومع هذا الوضع‪ ،‬وتأسيساً على التصريح الديني سالف‬
‫الذكر‪ ،‬وجد اليهود أنفسهم مضطرين إلى التخلي عن مواقعهم كتجار محليين واتجهوا نحو‬
‫تحويل مدخراتهم إلى النوع "السائل" فاتجهوا أوالً إلى مبادلة النقد ثم بعد ذلك إلى اإلقراض‬
‫بالربا‪ .‬ومن العناصر التي ساعدت على سرعة تحول اليهود عن التجارة أن هذا التحول‬
‫صادف الوقت الذي نشأت فيه حاجة المجتمع األوربي في العصر الوسيط إلى مال سائل‬

‫‪ )9‬نفسه‪ ،‬ص ص ‪.16 -15‬‬ ‫(‬

‫‪ )10‬العهد القديم‪ ،‬سفر التثنية‪ ،‬اإلصحاح ‪ ،23‬اآليات ‪.20-19‬‬ ‫(‬

‫(‬
‫‪11) Roth Cecil, A History of the Jews From Earliest Times Through‬‬
‫‪the Six- Day War, New York, 1970, pp. 190.‬‬

‫‪96‬‬
‫وتطور دور اليهود في هذه‬ ‫(‪)12‬‬
‫لتمويل الحمالت الصليبية وحركة بناء الكاتدرائيات‪.‬‬
‫المعامالت التجارية حتى أنهم في الفترة بين القرنين الثاني عشر والخامس عشر الميالديين‪G‬‬
‫وسيطروا على األموال والمرافق العامة‪،‬‬ ‫(‪)13‬‬
‫كانوا قد احتكروا عملية اإلقراض نظير فائدة‪،‬‬
‫(‪)14‬‬
‫وكونوا طبقة برجوازية‪.‬‬
‫وكما هو الحال في أوربا فقد أصبحت كلمة يهودي مرادفة لكلمة (تاجر) أو‬
‫(مرابي) في الوجدان العربي‪ ،‬فقد أصبح اليهود في الشرق مرتبطين باألنشطة التجارية‬
‫وكانت التجارة أكثر المهن شيوعاً بين اليهود‪ ،‬خاصة في المدينة‬ ‫(‪)15‬‬
‫والمعامالت المالية‪.‬‬
‫المنورة في صدر اإلسالم وفي مصر‪ ،‬واشتهروا بالتجارة في السلع االستهالكية وفي مقدمتها‬
‫وكان يهود المقدس يحتكرون تجارة األصباغ في المدينة‪ ،‬كما‬ ‫(‪)16‬‬
‫األقمشة والمنسوجات‪.‬‬
‫(‪)17‬‬
‫احتكروا في األندلس صناعة خصي الرقيق‪.‬‬
‫وكان التجار اليهود القادمين من أوربا معروفين في البالد اإلسالمية‪ ،‬وكانوا‬
‫يتحدثون باللغات العربية والفارسية واليونانية والفرنسية واألسبانية والروسية ويتنقلون بين‬
‫المشرق والمغرب براً وبحراً متنقلين بين أوربا وجدة وعمان وبغداد والهند والصين‪،‬‬
‫متاجرين في الخدم والجواري والغلمان والديباج وجلود الخز والفراء والسيوف‪ ،‬والمسك‬
‫(‪)18‬‬
‫والعود والكافور‪.‬‬

‫‪ )12‬عبد الوهاب المسيري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.18‬‬ ‫(‬

‫(‬
‫‪13) Fredrick Schweitzer, A History of the Jews Since the First Century‬‬
‫‪A. D, Macmillan, New York, 1971, p. 171.‬‬
‫‪ )14‬إسماعيل راجي الفاروقي‪ ،‬الملل المعاصرة في الدين اليهودي‪ ،‬معهد الدراسات والبحوث‬ ‫(‬

‫العربية‪( ،‬د‪.‬ط)‪ ،1968 ،‬ص ‪.27‬‬


‫(‬
‫‪15) Fredrick Schweitzer, op. cit, p. 177.‬‬
‫‪ )16‬عبد الباسط عبد المعطي"صورة اإلسرائيلي لدى المصري بين ثقافة الهامش والدراما‬ ‫(‬

‫التلفزيونية"‪ ،‬ص ص ‪ ،33 -28‬في‪ :‬الطاهر لبيب (تحرير)‪ ،‬صورة اآلخر‪ :‬العربي ناظراً‬
‫ومنظوراً إليه‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى‪1999 ،‬‬
‫ال عن‪ :‬ابن حوقل‪ ،‬المسالك والممالك‪ ،‬ص‬
‫‪ )17‬علي حسني الخربوطلي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬نق ً‬ ‫(‬

‫‪.75‬‬
‫‪ )18‬نفسه‪ ،‬نقالً عن‪ :‬ابن خرداذبة‪ ،‬المسالك والممالك‪ ،‬ص ‪.153‬‬ ‫(‬

‫‪97‬‬
‫ولما كانت مكة‪ ،‬قبل اإلسالم‪ ،‬مركزاً تجارياً رئيسياً كحلقة اتصال بين اليمن‬
‫ّ‬
‫والحبشة وفارس وبيزنطة‪ ،‬فقد تطورت حركتها التجارية حتى أصبحت تعقد فيها كل‬
‫المعامالت التجارية في المنطقة بشكل أشبه بالبورصة التي تحدد فيها األسعار دولياً‪،‬‬
‫وأصبحت تتم فيها المضاربات المالية‪ ،‬ويجري تبادل السلع اسمياً بين التجار المضاربين‬
‫(‪)19‬‬
‫وهي ما زالت في المخازن أو في الطريق‪.‬‬
‫لقد عرفت مكة األعمال المصرفية‪ :‬فكان توظيف المال عملية سائدة ومعروفة عن‬
‫كما انتشرت في مكة‬ ‫(‪)20‬‬
‫طريق القرض نظير فائدة بسيطة أو مركبة وبضمانات مختلفة‪.‬‬
‫وعلى مقربة من هذا‬ ‫(‪)21‬‬
‫تجارة العبيد الذين يجلبون ليباعوا فيها ثم ينقلون إلى أسواق أخرى‪،‬‬
‫المركز التجاري العالمي‪ ،‬في يثرب واليمن‪ ،‬عاشت أوساط يهودية‪ G‬المذهب حياة دعة‬
‫(‪)22‬‬
‫ورفاهية‪.‬‬
‫لقد استطاعت األعداد الكبيرة من اليهود الذين نزحوا‪ ،‬كجزء من طبيعتهم الرعوية‬
‫أو هرباً من بطش الرومان في فلسطين‪ ،‬إلى الجزيرة العربية‪ ،‬وباإلفادة من وضعهم الجديد‬
‫"كغرباء"‪ ،‬وبما اكتسبوه من وعي تجاري‪ ،‬وما راكموه من مال‪ ،‬وما لديهم من تصريح ديني‬
‫وخبرة في أعمال الصيرفة واالحتكار واستثمار األموال‪ ،‬أن يسيطروا على اقتصاديات‬
‫(‪)23‬‬
‫الجزيرة العربية‪.‬‬
‫أما في شمال أفريقيا فقد تطور نشاط اليهود التجاري والربوي بظهور شريحة‬
‫اجتماعية جديدة من اليهود يعمل أبناؤها في التجارة الدولية وفي البنوك‪ .‬كما استطاع اليهود‬
‫أن يقتربوا بخطواتهم من الحكام المستعمرين والوطنيين فيما بعد‪ G،‬وسيطروا على أموال‬

‫‪ )19‬نصر شمالي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪72 -69‬؛ نقالً عن‪ :‬سعيد األفغاني‪ ،‬أسواق‬ ‫(‬

‫العرب‪.‬‬
‫‪ )20‬نفسه‪ ،‬ص ‪.73‬‬ ‫(‬

‫(‪ )21‬لم تكن طبيعة المجتمع المكي بحاجة إلى أعداد كبيرة من العبيد النعدام النشاط‬ ‫(‬

‫االقتصادي المرتكز على قواعد إنتاجية‪ ،‬فقد كان االقتصاد المكي يقوم على التجارة والرعي‬
‫بصورة أساسية‪ ،‬ولم تكن الحاجة للعبيد تتعدى األعمال المنزلية البسيطة‪.‬‬
‫‪ )22‬نصر شمالي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.74‬‬ ‫(‬

‫‪ )23‬علي حسن الخربوطلي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.59‬‬ ‫(‬

‫‪98‬‬
‫السلطة ومعامالتها التجارية‪ ،‬واحتكروا منشطي االستيراد والتصدير الذي لم ينافسهم فيه إال‬
‫(‪)24‬‬
‫أبناء الطبقة الحاكمة‪.‬‬

‫المبحث الثاني‬

‫النفوذ االقتصادي للجالية اليهودية في السودان‬

‫بدأ رأس المال اليهودي في مصر يتطلع نحو السودان منذ إعادة احتالله (ت‪.‬‬
‫‪ )1898‬كنافذة جديدة للثراء‪ ،‬فالسودان بأرضه الغنية ومنتجاته متزايدة الطلب في السوق‬
‫العالمي مثل الصمغ العربي والقطن‪ ،‬وبموقعه االستراتيجي كبوابة ألفريقيا جنوب الصحراء‬
‫التي يسيل لعاب التجار أمام ثرائها بمنتجات يحتاجها المجتمع المخملي في أوربا مثل العاج‬
‫وريش النعام‪ ،‬بكل هذه المغريات كان السودان نافذة استعصت أمام رأس المال اليهودي‬
‫طوال فترة الحكم المهدوي؛ أما وقد زال ذلك النظام وأستبدل بنظام "صديق" فإن الفرصة‬
‫أصبحت مواتية لرأس المال اليهودي‪.‬‬

‫‪ )24‬صمويل أتينجر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.287‬‬ ‫(‬

‫‪99‬‬
‫وبعد عامين فقط من إعادة احتالل السودان سارع رأس المال اليهودي لالستثمار‬
‫في السودان فعملت الشركات اليهودية‪ G‬المصرية إلى افتتاح فروع لها في كافة مدن السودان‪،‬‬
‫(‪)25‬‬
‫وتسرب صغار المستثمرين وتجار التجزئة إلى السودان‪.‬‬
‫ويورد نعوم شقير قائمة طويلة برؤوس األموال المصرية التي سارعت للسودان‬
‫بينها "(‪ )...‬تجار كثيرون يتجرون مع السودان وقد أسسوا فيه محالت تجارية وأشهرهم‬
‫الخواجة شمعون أربيب اإلسرائيلي (‪ G)...‬وممن أشتهر من تجار مصر في الفتح األول‬
‫بالتجارة مع السودان وكان ألكثرهم مشارع في بحر الغزال الخواجات سياهو عدس وكبريت‬
‫وغاصين (‪ )...‬ومن تجار مصر الذين لهم محالت مشهورة في بيروت ويتجرون مع‬
‫(‪)26‬‬
‫السودان الخواجات صهيون ومنسي وشركاهم"‪.‬‬
‫كانت البرجوازية السودانية منهكة القوى بعد خروجها من الدولة المهدية لما عاشته‬
‫من تدهور في التجارة الخارجية‪ ،‬من حروبات متواصلة‪ ،‬وصراعات داخلية‪ ،‬وظهور مفهوم‬
‫والبد أن هذه العوامل أضعفت تراكم األرباح‬ ‫(‪)28‬‬
‫وتدهور اإلنتاج الزراعي‪.‬‬ ‫(‪)27‬‬
‫جديد للغنيمة‪،‬‬
‫لدى التجار السودانيين‪ .‬ولكن هل كانت هذه األسباب كافية لجعل البرجوازية السودانية‬

‫(‬
‫‪25) Eli S. Malka, op cit, p 25.‬‬
‫‪ )26‬نعوم شقير‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪ .155 -154‬وكل من أوردناهم من هذا االقتباس هم من‬ ‫(‬

‫اليهود الذين ابتدروا نشاطاً تجارياً بأم درمان واألبيض‪.‬‬


‫‪ )27‬أدخلت المهدية مفهوم التغنيم‪ ،‬وهو االستيالء على أموال المعارضين حتى في حاالت السلم‪.‬‬ ‫(‬

‫ولعل البعض يصنفون كمعارضين من أجل أموالهم وليس ألنهم معارضين بالفعل‪ .‬والبد أن مثل‬
‫ال بالمثل السوداني "المال تلتو وال‬
‫هذه السياسات تقلل من نشاط التجار وسعيهم‪ G‬نحو الربح عم ً‬
‫كتلتو"‪ G.‬حول مفهوم الغنيمة والتغنيم أنظر‪ :‬محمد سعيد القدال‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪ 263‬وما‬
‫بعدها‪.‬‬
‫‪ )28‬يقول الحاردلو عن ذلك في قصائده التي كان ينظمها سراً ضد المهدية‪:‬‬ ‫(‬

‫ناساً قُباح من الغرب ُج ُونا‬


‫جابوا التزرعة ومن البلد َمرقونا‬
‫سوونا‬‫أوالد ناسًا ُعزاز ِمتل الكالب ُّ‬
‫يا يابا النقس يا اإلنجليز ألفونا‬
‫أنظر محمد سعيد القدال‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.255‬‬

‫‪100‬‬
‫تتخلف وتتراجع أمام توافد التجار اليهود واألجانب؟ لقد كانت البرجوزاية السودانية‪ ،‬بعد‬
‫الحكم الثنائي‪ ،‬وتوقف الحروبات والصراعات الخارجية والداخلية وتوفير األمن واالستقرار‬
‫وانفتاح أبواب التجارة الخارجية‪ ،‬كانت تمتلك مقومات النهوض من خبرة طويلة باالستثمار‬
‫التجاري في السودان‪ ،‬وبعالقات متينة مع المنتجين والمزارعين في أنحاء السودان المختلفة‬
‫تعززها عوامل الثقافة والعرق والدين واللغة والتاريخ المشترك‪ .‬فلماذا تراجع التجار‬
‫السودانيون مفسحين مجاالت االستثمار لألجانب؟ وكيف وجد رأس المال اليهودي مناخاً‬
‫جيداً لالستثمار في السودان في هذا الوقت بالذات؟‬
‫البد أن الخبرة التاريخية المتراكمة لدى التجار اليهود كانت عامالً مهماً لنجاح‬
‫االستثمار اليهودي في السودان‪ ،‬ومن الدالئل على هذه الخبرة أن التجار اليهود لم ينافسوا‬
‫التجار المحليين في غالب األحوال وإ نما أبدعوا مجاالت جديدة للتجارة لم يكن التجار‬
‫الوطنيون يلقون لها باالً‪ ،‬لصغرها وعدم أهميتها في نظرهم‪ ،‬مثل التجارة في إبر الخياطة‬
‫وبكرات الخيوط وصبغة المالبس "التفتة"‪ ،‬وأزرة المالبس الضاغطة‪ ،‬و "السست" وغير ذلك‬
‫من السلع التي احتكروها‪ ،‬وعلى الرغم من أنها سلع غير أساسية لكنها ضرورية في الحياة‬
‫وبهذا االحتكار استطاع التاجر اليهودي أن يحدد أسعار سلعته وزيادة فائض‬ ‫(‪)29‬‬
‫اليومية‪.‬‬
‫لكن هل يكمن االستثمار اليهودي في السودان في خبرة التجار اليهود فقط؟ أم أن‬ ‫(‪)30‬‬
‫ربحه‪.‬‬
‫هناك عوامل أخرى ساهمت في هذا االزدهار؟‬
‫تقودنا اإلجابة على هذه األسئلة للحديث عن النفوذ االقتصادي للجالية اليهودية‪ G‬في‬
‫السودان‪ ،‬والذي يتمثل في الرعاية البريطانية للتجار األجانب بصورة عامة‪ ،‬ولليهود‬
‫موضوع بحثنا على وجه الخصوص‪ ،‬وتوابع هذه الرعاية من تسهيالت استثمارية‪.‬‬
‫كانت بنية المجتمع السوداني عند دخول قوات الحكم الثنائي تعتمد‪ G‬على المعايير‬
‫ولما أصبح الحكام‬ ‫(‪)31‬‬
‫العرقية والثقافية وكان المجتمع يلتف حول قياداته الدينية‪ G‬والقبلية‪.‬‬

‫‪ )29‬البد أن الحاجة لهذه السلع في بعض األحيان تجعلها أهم السلع على اإلطالق‪ ،‬فاإلبرة والخيط‬ ‫(‬

‫هي أهم سلعة لمن تمزق قميصه! وتعرف هذه المسألة في االقتصاد باسم القيمة الفعلية للبضاعة‪.‬‬
‫‪ )30‬مقابلة مع السيد إبراهيم منعم منصور‪.‬‬ ‫(‬

‫‪ )31‬خالد الكد‪" ،‬الذاتية السودانية بين القومية واإلثنية والعنصرية"‪ ،‬في‪ :‬حيدر إبراهيم علي‬ ‫(‬

‫(تحرير)‪ ،‬التنوع الثقافي‪ 0‬وبناء الدولة الوطنية في السودان‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬مركز الدراسات‬

‫‪101‬‬
‫الجدد على رأس المجتمع ابتعد‪ G‬عنه السودانيون إلى قياداتهم التقليدية‪ ،‬فأفسحوا المجال أمام‬
‫الذين تقبلوا الثقافة األوربية ليأخذوا الموقع الثاني في التراتب االجتماعي‪ -‬االقتصادي‬
‫الجديد‪.‬‬
‫ولعل يهود السودان انتبهوا لهذا التراتب فتقربوا من الحكام الجدد وتمثلوا ثقافتهم‪،‬‬
‫وانتقلت أعداد من اليهود في فترة الحقة من أم درمان إلى الخرطوم رغم ضخامة القوة‬
‫الشرائية في أم درمان وانخفاض تكاليف الحياة فيها‪ ،‬فأصبحوا ملتحمين مع الطبقة العليا من‬
‫(‪)32‬‬
‫سادة المجتمع الجديدين‪ G‬فاحتكوا بهم وعايشوهم وشاركوهم مناسباتهم‪.‬‬
‫وصفت الخرطوم في هذه الفترة بأنها مدينة أوربية الطابع‪ ،‬فمعظم سكانها من‬
‫األجانب‪ ،‬باستثناء عدد قليل من السودانيين المرتبطين بالجهاز اإلداري للدولة‪ ،‬وحتى هؤالء‬
‫كانوا في الغالب يؤمونها في الصباح ويغادرونها آخر اليوم‪ ،‬باإلضافة لكبار األعيان مثل‬
‫السيد عبد الرحمن والسيد علي الميرغني‪.‬‬
‫وضحنا في المبحث السابق العالقة المركبة بين األقليات اليهودية‪ G‬في العالم‪ ،‬وفي‬
‫مصر‪ ،‬وبين المملكة المتحدة‪ .‬وقد انتقلت هذه الرعاية إلى السودان حيث استوعبت حكومة‬
‫العهد الثنائي أعداداً من اليهود في جهازها الوظيفي‪ ،‬بل وحصل بعضهم على مناصب عليا‬
‫مؤثرة‪ ،‬البد وأن تكون قد كسرت حاجز الثقة بين الحكومة والمستثمرين اليهود‪ ،‬وربما قدم‬
‫هؤالء الموظفون ألبناء جاليتهم من التسهيالت ما يعزز استثماراتهم المالية‪.‬‬
‫من أهم الوظائف التي شغلها يهودي في حكومة السودان منصب المفتش العام الذي‬
‫أنشيء عام ‪ 1900‬خصيصاً ليشغله سالطين باشا‪ ،‬ذو الجذور اليهودية‪ G،‬وقد حددت مهام‬
‫الوظيفة بصورة معممة مما أعطى سالطين ميداناً رحباً للحركة‪ .‬فكان "ذو نفوذ كبير في‬
‫ومن أهم المسئوليات التي كان يقوم بها من موقعه‬ ‫(‪)33‬‬
‫تصريف سياسة حكومة السودان"‪.‬‬
‫كمفتش عام السودان‪ ،‬والتي يمكن أن يقدم عبرها تسهيالت كبيرة لالستثمار اليهودي في‬

‫السودانية‪ ،‬القاهرة‪.2001 ،‬‬


‫‪ )32‬للمزيد حول انتقال اليهود من أم درمان إلى الخرطوم أنظر الجزء الخاص بالنشاط االجتماعي‬ ‫(‬

‫للجالية اليهودية في السودان (‪.)1956 -1898‬‬


‫‪ )33‬االقتباس من‪ :‬عبد الرحمن المهدي‪ ،‬مذكرات اإلمام عبد الرحمن المهدي‪ :‬ال شيع وال طوائف‬ ‫(‬

‫وال أحزاب‪ ،‬ديننا اإلسالم ووطننا السودان‪ ،‬مركز الدراسات السودانية‪ ،‬القاهرة‪ ،1996 ،‬ص ‪.35‬‬

‫‪102‬‬
‫السودان‪ ،‬مهمتا تقديم النصح للحاكم العام فيما يخص القوانين واللوائح‪ ،‬وتقديم آرائه حول‬
‫(‪)34‬‬
‫الضرائب وأسلوبها‪.‬‬
‫ومع تأثير الوظيفة الكبيرة‪ ،‬وشخصية سالطين القوية‪ ،‬وعالقته بالمخابرات‬
‫البريطانية‪ ،‬فقد لعب سالطين دوراً مؤثراً في مسارات السياسة اإلدارية لحكومة العهد الثنائي‬
‫في السودان طوال أربعة عشر عاماً انتهت باستقالته‪ ،‬ولعله كان يتدخل في كل شؤون اإلدارة‬
‫(‪)35‬‬
‫والحكم في السودان‪.‬‬
‫أختار سالطين باشا يهودياً آخر ليشغل منصب سكرتير المفتش العام وهو إبراهيم‬
‫ويعكس سجل الرجل دوره الفعال في خدمة بريطانيا وفي "فتوح" السودان‪ ،‬وكان‬ ‫(‪)36‬‬
‫دمتري‪.‬‬
‫(‪)37‬‬
‫من موظفي المخابرات المصرية‪ ،‬وهي وظيفة مدنية‪G.‬‬
‫(‪3‬‬
‫ومن الوظائف المهمة التي شغلها يهودي منصب نائب حاكم منطقة البحر األحمر‪،‬‬
‫وشغله السيد نسيم قاوون‪ .‬وقد كانت بورتسودان في ذلك الوقت نافذة السودان على العالم‬ ‫‪)8‬‬

‫الخارجي‪ ،‬فبورتسودان‪ ،‬التي نشأت كمدينة‪ G‬متواضعة‪ ،‬تطورت بسرعة لتصبح من أهم المدن‬
‫السودانية وفيها الميناء األول بالبالد‪ .‬فتكونت فيها جاليات تجارية أجنبية‪ .‬وقد تبوأ السيد‬
‫ألبرت قاوون منصب نائب الحاكم العام للمنطقة‪ ،‬وهو الرجل الذي أصبح ابنه نسيم قاوون‬
‫فيما بعد رئيساً للجالية اليهودية في السودان‪.‬‬
‫أنشأ الحكم البريطاني شبكة من خطوط التلغراف بدأها مع بداية الغزو عام ‪.1896‬‬
‫وفي عام ‪ 1914‬أدخل التلغراف الالسلكي‪ ،‬وأدخل التلفون عام ‪ ،1937‬ثم أدخل التلفون‬
‫اآللي عام ‪ )1938.(39‬وفيما بعد ضمت مصلحة التلغراف مع مصلحة البريد في مصلحة‬
‫واحدة‪ .‬وشهدت تلك الفترة تطور نظام البريد في السودان‪ ،‬ومع الخارج‪ .‬وبلغت الرسائل‬

‫‪ )34‬محمد سعيد القدال‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.332‬‬ ‫(‬

‫‪ )35‬نفسه‪ ،‬ص ‪332‬‬ ‫(‬

‫‪ )36‬ورد ذكره في مذكرات إلياهو سولومون ملكا كيهودي‪ ،‬إال أن نعوم شقير يورده باعتباره‬ ‫(‬

‫شامي‪ .‬أنظر نعوم شقير‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.668 -667 ،646 -645‬‬
‫(‪ )37‬نفسه‪ ،‬ص ص ‪.668 -667‬‬
‫(‪ )38‬مكي أبو قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.31‬‬ ‫(‬

‫‪ )39‬محمد سعيد القدال‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.366‬‬ ‫(‬

‫‪103‬‬
‫البريدية التي تداولتها مصلحة البريد في الفترة من عام ‪ 1898‬حتى عام ‪ 1956‬حوالي ‪21‬‬
‫وأصبحت مصلحة البريد والبرق من أهم عناصر البنية التحتية لحكم‬ ‫(‪)40‬‬
‫مليون رسالة‪.‬‬
‫السودان ومن أهم المرافق التي تدير عملية استغالل البالد‪ G.‬وقد ولج اليهود إدارة هذا المرفق‬
‫الهام‪ ،‬فعمل فينستين وبيرنارد جولدينبيرج رئاسة مصلحة البريد والبرق‪ .‬وكان اليهود قد‬
‫ولجوا هذا المجال في السودان منذ وقت مبكر يعود لفترة الحكم التركي المصري حيث تقلد‬
‫ديفيد هورنستين‪ ،‬اليهودي القادم من مصر‪ ،‬منصب مدير خط البريد الخديوي في السودان‪.‬‬
‫وجاء اليهودي آن ميارا‬ ‫(‪)41‬‬
‫وفي عام ‪ 1907‬أدخلت الكهرباء إلى مدينة‪ G‬الخرطوم‪،‬‬
‫من مصر ليعمل كبيراً لمهندسي شركة الماء والكهرباء‪ ،‬وكان مسئوالً عن جميع إنشاءاتها‬
‫(‪)42‬‬
‫في مدينة الخرطوم‪ ،‬ثم مددت صالحياته لتشمل مدينة‪ G‬ود مدني‪.‬‬
‫عمل جوزيف ناحوم‪ ،‬ابن الحاخام ناحوم أفندي كبير حاخامات مصر‪ ،‬بعد قدومه‬
‫ولعله أهم المرافق المالية في السودان حيث‬ ‫(‪)43‬‬
‫للسودان في بنك مصر األهلي بالخرطوم‪،‬‬
‫ظل البنك الوحيد بالبالد حتى عام ‪ 1916‬وكانت العملة المصرية هي العملة النقدية المتداولة‬
‫في السوق السوداني في ذلك الوقت‪ .‬حتى تم إنشاء بنك انجلترا‪ ،‬وأعتمد‪ G‬تداول الجنيه‬
‫(‪)44‬‬
‫البريطاني مع العملة المصرية‪.‬‬
‫وفي عام ‪ 1901‬جاء اليهودي البريطاني جي وولف ليعمل مفتشاً للمالية في‬
‫وكان منصباً كبيراً ونافذاً في ذلك الوقت‪.‬‬ ‫(‪)45‬‬
‫حكومة السودان‪،‬‬
‫شغل آي سيجال‪ ،‬وهو يهودي قادم من فلسطين‪ ،‬منصب كبير مسئولي الجوازات‬
‫ورغم أنه عمل في المنصب لفترة وجيزة‪ ،‬إال أن مجرد وصول‬ ‫(‪)46‬‬
‫في حكومة السودان‪،‬‬
‫يهودي إلى هذا المنصب الحساس يؤكد مدى النفوذ اليهودي في حكومة السودان‪ .‬وليس‬

‫‪ )40‬نفسه‪ ،‬ص ‪.366‬‬ ‫(‬

‫‪ )41‬نفسه‪.395 ،‬‬ ‫(‬

‫‪ )42‬مكي أبو قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.32‬‬ ‫(‬

‫‪ )43‬نفسه ص ‪.32‬‬ ‫(‬

‫(‬
‫‪44)El- Waleed Mohamed Taha, "From Dependent Currency to Central‬‬
‫‪Banking in the Sudan: A Survey", Sudan Notes and Records, Vol. 51,‬‬
‫‪1970, pp 95- 104.‬‬
‫‪ )45‬مكي أبو قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.32‬‬ ‫(‬

‫‪104‬‬
‫غريباً وهذا هو الحال أن يحصل أفراد الجالية اليهودية‪ G‬على جوازات سودانية في اإلدارة‬
‫(‪)47‬‬
‫البريطانية‪.‬‬
‫البد أن هذا النفوذ ذو الطابع السيادي قد انعكس على األحوال االقتصادية للجالية‪،‬‬
‫خصوصاً وقد جمع بعضهم بين عمله الحكومي والعمل التجاري الخاص مثل نسيم قاوون‬
‫كما كان للجالية اليهودية نفوذ‬ ‫(‪)48‬‬
‫نائب حاكم البحر األحمر والذي أنشأ شركة للتصدير‪.‬‬
‫اقتصادي مباشر إذ تبوأ بعضهم رئاسة‪ ،‬وعدداً من المناصب الرفيعة في العديد‪ G‬من الشركات‬
‫األجنبية في السودان‪.‬‬
‫سيطرت الشركات البريطانية واألجنبية على التجارة في السودان‪ ،‬فكانت تحتكر‬
‫ُج َّل النشاط التجاري عبر توكيالتها التجارية المتعددة‪ G.‬ومن بين أهم الشركات البريطانية‬
‫التي حقق عبرها االستعمار غاياته االقتصادية األساسية‪ ،‬من ربط السودان بالسوق‬
‫الرأسمالي العالمي واحتكار المادة الخام السودانية وتصديرها واحتكار السوق الداخلي في‬
‫السودان لتوزيع المنتجات البريطانية الصناعية‪ ،‬شركات جالتلي هانكي‪ ،‬وميتشل كوتس‪،‬‬
‫عابرة للبحار‪ ،‬في قمتها اإلدارية‬ ‫(‪)49‬‬
‫وسودان مكرنتايل‪ ،‬وكلها شركات بريطانية كبيرة‪،‬‬
‫المديرون اإلنجليز‪ ،‬لكنها استوعبت رجال األعمال والمحاسبين اليهود في اإلدارة التنفيذية‪G‬‬
‫لهذه الشركات في السودان‪ .‬فما هو حجم نشاط هذه الشركات؟ وبالتالي ما هو مدى نفوذها؟‬
‫وكيف أصبح هذا النفوذ نفوذاً اقتصادياً لالستثمار اليهودي في السودان؟ سنحاول اإلجابة‬
‫على هذه األسئلة بالتركيز على شركة جالتلي هانكي كنموذج‪.‬‬

‫‪ )46‬لم نجد تاريخاً محدداً للفترة التي شغل فيها آي سيجال منصب كبير مسئولي الجوازات‪ ،‬لكن الراجح‬ ‫(‬

‫أنه كان قبل عام ‪ 1938‬حيث ظهرت مشكلة الالجئين اليهود في الحدود السودانية‪ .‬أنظر الفصل الرابع‬
‫من هذا البحث ص ‪.155‬‬
‫‪ )47‬أنظر الفصل الثالث من هذا البحث ص ‪ 117‬وما بعدها‪.‬‬ ‫(‬

‫‪ )48‬أنظر الجزء الخاص "باالستثمار‪ G‬اليهودي في السودان" ص ‪ 95‬وما بعدها‪.‬‬ ‫(‬

‫‪ )49‬أحمد عبد الوهاب محمد سعيد‪ ،‬الخرطوم أيام زمان‪ :‬ذكريات وخواطر عن الخرطوم‪،‬‬ ‫(‬

‫منشورات الخرطوم عاصمة للثقافة العربية‪ ،‬الخرطوم‪ ،2005 ،‬ص ‪ .27‬أنظر أيضًا‪ :‬محمد سعيد‬
‫القدال‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.377 -376 ،375‬‬

‫‪105‬‬
‫"جاءت شركة جالتلي هانكي إلى منطقة البحر األحمر (ت‪)1886 -1884 .‬‬
‫وافتتحت مكاتبها في مينائي سواكن بالسودان وجدة بالحجاز‪ .‬وكانا عامرين بالحركة‬
‫والنشاط في ذلك الوقت‪ ،‬إذ احتويا على محطتين لتزويد السفن العابرة بالوقود‪ ،‬كما شهد‬
‫الميناءان النشاط الخاص بإمداد القوات البريطانية‪ ،‬وحركة الحجيج المسلمين إلى األراضي‬
‫المقدسة‪.‬‬
‫ومن مقرها في سواكن تمددت شركة جالتلي بمكاتبها وخدماتها في السودان‬
‫ومنطقة البحر األحمر‪ .‬وفي عام ‪ 1905‬افتتحت مكاتبها في ميناء بورتسودان الجديد‪.‬‬
‫وافتتحت مكاتبها في الخرطوم عام ‪ 1911‬حيث انتقلت المكاتب الرئيسية للشركة‪ .‬ومن‬
‫مصوع (ت‪ ،)1915 .‬أسمرا (ت‪ ،)1925 .‬وأديس أبابا وجيبوتي‬
‫ّ‬ ‫هناك أسست فروعها في‬
‫(ت‪.)1926 .‬‬
‫في جميع هذه الموانئ كانت شركة جالتلي توفر كامل خدمات الشحن والتفريغ بما‬
‫في ذلك التخزين في المستودعات والمراقبة والتأمين والتزويد بالوقود‪ .‬وفي وقت الحق‬
‫تطورت هذه الخدمات إلى الدرجة التي أصبحت معها شركات خاصة داخل مجموعة جالتلي‬
‫مثل‪ :‬الشركة السودانية للتخزين في المستودعات‪ ،‬شركة البحر األحمر للتحميل والتفريغ‪،‬‬
‫والشركة السودانية للشحن والمخازن العامة‪ .‬وظلت شركة جالتلي هانكي تستأثر بنسبة‬
‫‪ %50‬من خدمات الشحن للصادر والوارد لحكومة السودان طوال فترة الحكم الثنائي‪.‬‬
‫أنشأت شركة جالتلي التجارية‪ ،‬أحد أهم فروع شركة جالتلي هانكي‪ ،‬أقساماً‬
‫عينت‬
‫تجارية في كل من بورتسودان ووادي حلفا وود مدني واألبيض وكوستي وجوبا‪ ،‬كما ّ‬
‫وكالء وعمالء في جميع أنحاء السودان‪ .‬وكانت هذه األقسام المختلفة تعمل كمراكز لبيع‬
‫السلع المستوردة وشراء المنتجات الخاصة بالتصدير‪.‬‬
‫وفي الفترة التي بلغ فيها إنتاج الذرة ذروته كان مجلس إدارة مشروع الجزيرة‬
‫ووزارة الزراعة من أكبر المشترين للخيش واألسمدة والمبيدات‪ ،‬وكانت شركة جالتلي‬
‫تحتكر الجزء األكبر من عطاءات هذه المشتريات‪ .‬كما كانت تحتكر عطاءات مصلحة‬
‫الجمارك السودانية المسئولة عن إدارة احتكار الحكومة لسلعة السكر‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫أما قسم التوكيالت بشركة جالتلي التجارية فكان محتكراً لتوكيالت تمتد من‬
‫مشتريات ألن آند هانبري إلى منتجات نيستله‪ ،‬ومن منسوجات مانشيستر إلى المبيدات‬
‫الحشرية‪.‬‬
‫من بين أقسام شركة جالتلي التجارية قسم اإلمدادات واآلليات مع الورش التابعة‬
‫له‪ ،‬وكان مديره وكيالً لشركة إمبلاير لآلالت الكاتبة‪ ،‬وشركة جيستنتر لآلالت الناسخة‪.‬‬
‫ومن األقسام المهمة لشركة جالتلي قسم مواد البناء بمخازنه الرئيسية في المنطقة‬
‫الصناعية بالخرطوم والذي يقوم باستيراد وتخزين جميع المواد الضرورية للبناء من حديد‬
‫وألمونيوم وأخشاب وأسمنت وأصباغ وغيرها‪ .‬وأشرفت جالتلي على إنشاء مصانع شركة‬
‫بورتالند لألسمنت بالسودان بمدينة‪ G‬عطبرة‪.‬‬
‫قسم التصدير كان هو الوحدة األكثر أهمية في شركة جالتلي التجارية حيث‬
‫استطاع تطوير عمليات الصادر للمنتجات السودانية وأقام عالقات جيدة في األسواق‬
‫العالمية‪ .‬وكان يصدر بذور القطن من مشروع الجزيرة ومشاريع دائرة المهدي الزراعية‬
‫وغيرها من مشاريع منتجي األقطان إلى مصانع الزيوت العالمية مثل مصانع شركة يوني‬
‫(‪)50‬‬
‫ليفل بروذرس في روتردام‪ ،‬وشركة شسمن أويل ميلس في حيفا"‪.‬‬
‫استطاع رجال األعمال اليهود أن يتوغلوا داخل جسم شركة جالتلي هانكي حتى‬
‫وصل بعضهم إلى أعلى المناصب فيها‪ ،‬فعمل إلياهو سولومون ملكا مديراً تنفيذياً لشركة‬
‫وفعال‬
‫جالتلي هانكي التجارية منذ عشرينات القرن الماضي‪ ،‬واستمر في عمله كمدير نشط ّ‬
‫وعمل في نفس الوقت كمستشار لمصنع جالتلي هانكي للصابون‪،‬‬ ‫(‪)51‬‬
‫ألكثر من ثالثين عاماً‪.‬‬
‫وكمستشار تجاري لفروع الشركة في أثيوبيا وأرتريا ومصر‪.‬‬
‫باإلضافة لراتبه كمدير للشركة كان ملكا يأخذ بدل سكن مفروش ويتقاضى‬
‫العموالت المجزية التي ال تفتأ تتصاعد نسبتها‪ ،‬باإلضافة إلى تذاكر السفر الجوي في الدرجة‬

‫‪ )50‬النبذة عن شركة جالتلي هانكي مقتبسة بتصرف من مذكرات مدير شركة جالتلي هانكي‬ ‫(‬

‫التجارية إلياهو سولمون ملكا‪ .‬للمزيد أنظر‪ :‬مكي أبو قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪119 -106‬؛‬
‫أنظر أيضًا‪Malka, op cit, pp 161- 173 :‬‬
‫‪ )51‬مكي أبو قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.107 -106‬‬ ‫(‬

‫‪107‬‬
‫األولى له ولزوجته إلى الواليات المتحدة األمريكية‪ ،‬كما كان يتقاضى نسبة من أرباح شركة‬
‫جالتلي التجارية‪ .‬وقد مكنته هذه العموالت من شراء منزلين أحدهم بالخرطوم والثاني‬
‫بالعاصمة السويسرية جنيف‪ .‬كما ألتحق أبناؤه بأفضل المدارس والجامعات األوربية‪.‬‬
‫ويعكس كل هذا كيف أصبح إلياهو ملكا من صفوة المجتمع في السودان‪.‬‬
‫ومن اليهود الذين التحقوا بشركة جالتلي جوزيف سوريانو وعمل مديراً‬
‫(‪)52‬‬
‫لمستودعات التخزين بالشركة‪ ،‬وكبير المحاسبين‪ ،‬ثم أصبح مديراً ألحد فروع الشركة‪.‬‬
‫وهنري رومي‪ ،‬وموريس‬ ‫(‪)53‬‬
‫ومايير ملكا وهو أحد المديرين‪ G‬األوائل لقسم التصدير بالشركة‪.‬‬
‫ماكروفيتش‪ ،‬وعمل هؤالء بمكاتب الشركة الرئيسية بالخرطوم‪ ،‬وبوريس جويرتزمان‪ ،‬الذي‬
‫التحق بمكاتب الشركة في أرتريا‪ ،‬وفليكس هاروش وماكس بيرجمان‪ ،‬وعمال بمكاتبها‬
‫ببورتسودان‪.‬‬
‫ومما يؤكد مدى نفوذ شركة جالتلي هانكي أن مدير الشركة‪ ،‬إلياهو سولومون‬
‫ملكا‪ ،‬تم تعيينه‪ G‬في مجلس اإلمداد الحربي للحكومة ّإبان الحرب العالمية الثانية لتنظيم‬
‫واردات السلع االستهالكية والتحكم فيها واخضاعها لنظام الحصص التموينية‪ .‬كما كان‬
‫إلياهو عضواً في مجلس غرفة التجارة السودانية التي تقوم بتحديد‪ G‬الهامش الربحي المسموح‬
‫ويبدو أن ملكا أصبح رقماً ال يمكن تجاوزه في دنيا األعمال والتجارة‬ ‫(‪)54‬‬
‫به لجميع الواردات‪.‬‬
‫في السودان‪ .‬فكيف تحول نفوذ شركة جالتلي هانكي إلى نفوذ اقتصادي للجالية اليهودية في‬
‫السودان؟‬
‫عمل ملكا رئيس الجالية اليهودية‪ ،‬وابن القائد الديني للجالية في السودان‪ ،‬على‬
‫مساعدة أبناء جاليته ووضع كل نفوذ شركة جالتلي هانكي العمالقة في خدمتهم‪ .‬فكان يقدم‬
‫عطاءات إنتاج مشروع الجزيرة في الغرفة التجارية بالسودان نيابة عن التجار اليهود‪ G،‬مع‬
‫العلم أن شركة جالتلي لم تدخل في عمليات تصدير القطن أو الصمغ العربي‪ .‬كما كان‬

‫‪ )52‬نفسه‪ ،‬ص ‪.116‬‬ ‫(‬

‫‪ )53‬نفسه‪ ،‬ص ‪.21‬‬ ‫(‬

‫‪ )54‬نفسه‪ ،‬ص ‪.113‬‬ ‫(‬

‫‪108‬‬
‫يفاوض في العديد من األحيان نيابة عن الشركات اليهودية مستغالً منصبه ونفوذه كمدير‬
‫(‪)55‬‬
‫لشركة جالتلي هانكي‪.‬‬
‫وعملت في السودان شركات أجنبية أخرى كان لها نفوذها‪ ،‬وقد استطاع أبناء‬
‫الجالية اليهودية التسلل إلى قمة هذه الشركات مثل‪ :‬شركة سوكونو فاكوم‪ ،‬والتي أصبحت‬
‫شركة ريمنجتون آلالت الطباعة‪ ،‬وعمل اليهودي جوزيف دانون‬ ‫(‪)56‬‬
‫فيما بعد موبل أويل‪،‬‬
‫مديراً لها‪ .‬وشركة بروفيشنال للتأمين التي التحق بإدارتها جاك كارمونا‪ .‬وأدار ألكسندر‬
‫حاييم شركة دباس أخوان‪ ،‬تجار القطن وأصحاب محلج القطن في بورتسودان‪ .‬أما إسرائيل‬
‫كامينسكي فد أدار ومثل فرع شركة محمد علي لألقطان في الخرطوم‪ .‬كما مثل آر فيشرمان‬
‫وفيكتور حايمان وروفائيل حكيم عدداً من الشركات المصرية في السودان‪ .‬وعمل روبرت‬
‫بروتستين مديراً لشركة بنيتو‪ G.‬وأدار هنري فارحي شركة إمبلاير للكيماويات والبوهية‪ .‬وأدار‬
‫مارك ميرزان شركة الغزل‪ .‬وأصبح صمويل ملكا مديراً لقسم االستيراد بشركة بيطار‪.‬‬
‫وأدار أخوه ديفيد ملكا شركة مواد البناء في الخرطوم‪ .‬وافتتح ِعزرا رودريجويز‪ ،‬صاحب‬
‫(‪)57‬‬
‫األنشطة الصهيونية‪ ،‬فرعاً لشركة سنجر لماكينات الخياطة في السودان (ت‪.)1934 .‬‬
‫والبد أن الوجود اليهودي في هذه المؤسسات االقتصادية األجنبية والبريطانية قد‬
‫عزز النفوذ االقتصادي للجالية اليهودية في السودان‪ ،‬سواء عن قصد أو دون قصد‪ ،‬بشكل‬
‫دعم من االستثمارات اليهودية‪ G‬في السودان‪.‬‬
‫مباشر أو غير مباشر‪ ،‬ولعل هذا النفوذ ّ‬

‫‪ )55‬نفسه‪ ،‬ص ‪.118‬‬ ‫(‬

‫(‪ )56‬أحمد عبد الوهاب محمد سعيد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.43‬‬
‫‪ )57‬نفسه‪ ،‬ص ص ‪.63 ،41 ،40 ،33 ،32 ،31‬‬ ‫(‬

‫‪109‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫رأس المال اليهودي واالستثمار في السودان‬

‫كان يهود السودان كحال معظم الجماعات اليهودية‪ G‬في شمال أفريقيا يلعبون دوراً‬
‫مهماً في عالقات المنطقة االقتصادية مع أوربا‪ ،‬وقد أعتمد حكام هذه البلدان في عالقاتهم‬
‫التجارية مع أوربا على التجار اليهود الذين اشتغلوا بالوساطة التجارية بين أوربا وهذه‬
‫فحقق‬ ‫(‪)58‬‬
‫البلدان‪ ،‬فحصلوا على حقوق التصدير للبلدان األوربية بشروط أفضل من غيرهم‪.‬‬
‫وعمل اليهود‬ ‫(‪)59‬‬
‫رأس المال اليهودي ثروات ضخمة عززت من مكانتهم في هذه الدول‪.‬‬
‫على استثمار هذا التراكم الربحي من جديد‪ ،‬وكانت التجارة الخارجية‪ ،‬االستيراد والتصدير‬
‫من أهم ميادين االستثمار في ذلك الوقت‪ ،‬باإلضافة للتجارة الداخلية أو تجارة التجزئة‪،‬‬

‫‪ )58‬صمويل أتينجر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.283‬‬ ‫(‬

‫‪ )59‬والتر رودني‪ ،‬أوربا والتخلف في أفريقيا‪ ،‬ترجمة أحمد القصير‪ ،‬المجلس الوطني للثقافة والفنون‬ ‫(‬

‫واآلداب‪ ،‬الكويت‪ ،1988 ،‬ص ص ‪.319 ،202‬‬

‫‪110‬‬
‫واالستثمار في مجاالت الترفيه‪ ،‬واالستثمار الصناعي‪ ،‬والنشاط الربوي ومضاربات‬
‫األرض‪.‬‬
‫التجارة الخارجية‬
‫تضافرت عدة عناصر ساعدت على تطور النشاط التجاري في السودان في فترة‬
‫الحكم الثنائي أهمها ما تحقق في ذلك العهد من أمن واستقرار‪ ،‬وإ دخال االتصاالت‬
‫والمواصالت الحديثة‪ ،‬وإ نشاء ميناء بورتسودان‪ ،‬وإ نتاج المحاصيل النقدية وفق األسس‬
‫العالمية‪ ،‬وانتظام كمياتها‪ ،‬وتوافر الرعاية البيطرية في مناطق اإلنتاج الحيواني‪ ،‬وإ دخال‬
‫وارتباط البالد بالسوق‬ ‫(‪)60‬‬
‫النظم المصرفية الحديثة بافتتاح بنك باركليز لما وراء البحار‪.‬‬
‫العالمي‪.‬‬
‫وتطورت التجارة الخارجية تطوراً ملحوظاً مع بداية الحرب العالمية األولى نتيجة‬
‫الرتفاع الطلب على المنتجات الزراعية التي تحتاجها بريطانيا لبعض الصناعات الحربية أو‬
‫لكفاية جيوشها من الغذاء‪ .‬فارتفعت الصادرات السودانية بنسبة ‪ %54‬عن ما كانت عليه عام‬
‫‪ .1914‬وبعد إنشاء مشروع الجزيرة قفزت الصادرات مرة أخرى‪ ،‬ثم انخفضت إبَّان‬
‫سنوات األزمة المالية العالمية‪ ،‬إال أنها سرعان ما عادت لالرتفاع مرة أخرى حتى عام‬
‫)‬
‫‪1941.(61‬‬
‫وعملت في السودان عدد من الشركات األجنبية من غير البريطانيين‪ ،‬وكان‬
‫وكان رأس المال اليهودي حاضراً بينها‪.‬‬ ‫(‪)62‬‬
‫معظمهم يعملون بتجارة االستيراد والتصدير‪،‬‬

‫االستثمار اليهودي في قطاع الصادرات‬


‫كانت صادرات السودان تعتمد على المواد الخام من المنتجات الزراعية مثل القطن‬
‫والصمغ العربي والحبوب الزيتية‪ .‬وكان القطن يشكل ‪ %65‬من صادرات السودان‪ ،‬أما‬

‫‪ )60‬محمد سعيد القدال‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.375‬‬ ‫(‬

‫‪ )61‬نفسه‪ ،‬ص ‪.376‬‬ ‫(‬

‫‪ )62‬مأمون بحيري‪ ،‬لمحات من تجارب رجل خدمة عامة من جيل الرواد السودانيين‪ ،‬مركز محمد‬ ‫(‬

‫عمر بشير للدراسات السودانية‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،2001 ،‬ص ‪.30‬‬

‫‪111‬‬
‫الصمغ العربي فقد ارتفعت نسبته في صادرات السودان من ‪ %11.5‬عام ‪ 1936‬إلى ‪%46‬‬
‫)‬
‫عام ‪1946.(63‬‬
‫ونالحظ أن صادرات السودان ما عادت تتجه لمصر بعد عام ‪ ،1920‬ولعل السبب‬
‫في ذلك هو ازدياد أهمية القطن السوداني في السوق الرأسمالي العالمي‪ ،‬ولما كان القطن من‬
‫ولعل‬ ‫(‪)64‬‬
‫الحاصالت المشتركة بين البلدين فإن الصادر بينهما قد أصبح محط تنافس وندية‪.‬‬
‫الوسطاء في عمليات الصادر السوداني إلى مصر لم يكونوا مهمومين بالتجارة مع مصر‬
‫نفسها وإ نما كانوا يلهثون وراء أرباحهم‪ ،‬وقد أصبحت ضمانات الربح خارج مصر أفضل‪.‬‬
‫والراجح أن جزءاً كبيراً من هؤالء الوسطاء كانوا يهوداً‪ .‬وقد ذكرنا في الفصل الثالث أن‬
‫وجلّهم نقل نشاطه للسودان بعد‬
‫اليهود شكلوا أكثر من ‪ %90‬من سماسرة القطن في مصر‪ُ .‬‬
‫إعادة احتالله‪.‬‬
‫من أهم الشركات اليهودية‪ G‬التي عملت في مجال الصادرات والتجارة الخارجية في‬
‫السودان شركة بي ناثان ‪ .B. Nathan & Co‬وقد تخصصت في تصدير القطن السوداني‬
‫إلى مصانع النسيج في بريطانيا‪ .‬كما عملت الشركة في تصدير مختلف المنتوجات‬
‫السودانية‪ G،‬باإلضافة لالستيراد وتجارة الجملة‪ .‬وكان معظم العاملين في الشركة‪ ،‬وفي‬
‫فروعها المختلفة في أنحاء السودان‪ ،‬من اليهود‪ G.‬وقد تعاقب على إدارة الشركة أربعة مديرين‬
‫يهود شغل ثالثة منهم منصب رئيس الجالية اليهودية في السودان‪ ،‬وهم‪ :‬روفائيل عدس‪،‬‬
‫كما كان المدير الرابع وهو كازار ليفي من أنشط‬ ‫(‪)65‬‬
‫وجوزيف فورتي‪ ،‬وألبرت فورتي‪.‬‬
‫(‪)66‬‬
‫اليهود في الفعاليات المختلفة التي تقيمها الجالية‪.‬‬
‫ومن رؤوس األموال اليهودية المستثمرة في السودان شركة تصدير الحبوب الزيتية‬
‫واألمباز‪ ،‬والتي كانت تصدر‪ ،‬إضافة للحبوب الزيتية واألمباز‪ ،‬كافة المنتجات السودانية ذات‬
‫الطلب العالي في الخارج‪ .‬وقد استطاع مؤسسا الشركة‪ ،‬ألبرت قاوون ونسيم قاوون‪ ،‬تطوير‬

‫‪ )63‬نفسه‪ ،‬ص ص ‪.376 -375‬‬ ‫(‬

‫(‬
‫‪64) R.H.B. Condie,”Egypt trade With the Sudan”, Sudan Notes and‬‬
‫‪Records, Vol. 36, 1955, p 63.‬‬
‫‪ )65‬أنظر الجزء الخاص بتأسيس‪ G‬وتنظيم الجالية اليهودية في السودان ص ‪ 66‬وما بعدها‪.‬‬ ‫(‬

‫(‬
‫‪66) Malka, op cit, p 26.‬‬

‫‪112‬‬
‫الشركة لتصبح أهم شركات التصدير في السودان‪ ،‬كما نجحا في إنشاء فرع للشركة في‬
‫وراكما من األرباح ما أهلهما فيما بعد المتالك‬ ‫(‪)67‬‬
‫جنيف‪ ،‬وأسسا شركة أوليجين العالمية‪.‬‬
‫مجموعة شركات معروفة عالمياً بـ"نوجا" العاملة في مجال التجارة العالمية والمضاربات‬
‫المالية واإلنشاءات والعقارات والفنادق‪.‬‬
‫ومن الشركات اليهودية‪ G‬التي عملت في مجاالت التصدير المختلفة‪ :‬شركة تصدير‬
‫الجلود التي أسسها ألبرت تمام وليون تمام وجابرائيل تمام‪ .‬وشركة تصدير الصمغ العربي‬
‫التي أسسها إلياس بنواز وأخوته (ت‪ ،)1915 .‬ولعلهم كانوا من المستثمرين المؤثرين في‬
‫مجال تصدير الصمغ العربي على مدار جيلين متتاليين‪.‬‬
‫ونشأت عدد من االستثمارات اليهودية البسيطة المرتبطة بنشاط الصادرات‬
‫والواردات وكان يقوم بها في الغالب السماسرة اليهود مثل عمليات التخليص الجمركي‪ ،‬ومن‬
‫أمثلة هذه االستثمارات شركة تروكو أخوان للتخليص الجمركي التي أسسها وامتلكها إسحق‬
‫(‪)68‬‬
‫بنيتو‪ G،‬كما كان في نفس الوقت وكيالً للجالية اليهودية‪ G‬بميناء بورتسودان‪.‬‬

‫االستثمار اليهودي في قطاع الواردات‬


‫كانت معظم واردات السودان من المواد االستهالكية مثل السكر والدقيق واألقمشة‬
‫والمواد البترولية‪ ،‬وظل الوارد من تلك السلع يرتفع ارتفاعاً ملحوظاً‪ .‬فالسكر مثالً‪ ،‬والذي‬
‫يعد من أهم واردات السودان‪ ،‬قفز من نسبة ‪ %6.9‬من جملة واردات السودان عام ‪1934‬‬
‫إلى ‪ 17.5‬عام ‪ )1939.(69‬ويرجح القدال أن معدل استهالك الفرد في السودان من السكر‬
‫(‪)70‬‬
‫بلغ حوالي رطالً كامالً في الشهر‪.‬‬
‫ويمكن أن ننظر مثاالً لذلك في مقدار واردات السودان من السلع االستهالكية‬
‫والمواد البترولية في الفترة من عام ‪ 1913‬حتى عام ‪ 1918‬في الجدول التالي‪:‬‬

‫(‬
‫‪67) Ibid, 41.‬‬
‫(‬
‫‪68) Ibid, p 43.‬‬
‫‪ )69‬محمد سعيد القدال‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.377‬‬ ‫(‬

‫‪ )70‬نفسه‪.376 ،‬‬ ‫(‬

‫‪113‬‬
‫القيمة بالجنيه‬ ‫الكمية بالطن‬ ‫النوع‬
‫‪432822‬‬ ‫‪12991‬‬ ‫السكر‬
‫‪74783‬‬ ‫‪5662‬‬ ‫الدقيق‬
‫‪646856‬‬ ‫‪3606‬‬ ‫األقمشة القطنية‬
‫‪111807‬‬ ‫‪2407‬‬ ‫البن‬
‫‪62133‬‬ ‫‪636‬‬ ‫الشاي‬
‫‪17294‬‬ ‫‪202‬‬ ‫المواد البترولية‬
‫‪201528‬‬ ‫‪58455‬‬ ‫الفحم الحجري‬
‫المصدر‪ :‬نقالً عن‪ :‬محمد سعيد القدال‪ ،‬تاريخ السودان الحديث‬

‫ومع هذا االزدهار في نشاط الوارد كان البد لرأس المال اليهودي‪ ،‬الباحث عن‬
‫الربح‪ ،‬من االستثمار في هذا الضرب‪ .‬ومن الشركات اليهودية الكبيرة التي عملت في مجال‬
‫االستيراد في السودان شركة جيوليو بادوفا‪ ،‬وكانت مورداً رئيسياً للبضائع المتوافرة في‬
‫السوق السوداني إذ تخصصت الشركة في مجال استيراد السلع االستهالكية المختلفة‪ ،‬والمواد‬
‫البترولية‪ ،‬وبيعها بالجملة لتجار التجزئة في الخرطوم وأم درمان‪ .‬وكان ُج َّل المديرين‪ G‬الذين‬
‫تعاقبوا على إدارة الشركة من الناشطين في الجالية اليهودية‪ ،‬ومن أهمهم هارون دويك‬
‫وشاباتي دويك وجوزيف تمام‪ ،‬وقد تولى األخير رئاسة مجلس الجالية في السودان (ت‪.‬‬
‫(‪)71‬‬
‫‪.)1945‬‬
‫وأسس نسيم قاوون وألبرت قاوون شركة االستيراد الكبرى‪ ،‬وأصبح رئيس الشركة‬
‫من رجال األعمال المعروفين في سويسرا والواليات المتحدة األمريكية‪.‬‬
‫أما شركة أوالد مراد فكانت االسم التجاري لمجموعة شركات صالح وسليمان‬
‫وإ براهيم زكي وجاك العيني‪ ،‬أوالد مراد إسرائيل العيني‪ .‬وقد أصبحت بمرور الوقت من‬

‫(‬
‫‪71) Malka, op cit, pp 25- 27.‬‬

‫‪114‬‬
‫أهم الوكاالت التجارية وبيوتات االستيراد في السودان‪ .‬وكانت تورد مختلف أنواع البضائع‬
‫(‪)72‬‬
‫من الشاي والخيوط القطنية والصوفية إلى السيارات والمعدات الثقيلة‪.‬‬
‫ومن شركات االستيراد اليهودية في السودان شركة الخرطوم لالستيراد ومبيعات‬
‫(‪)73‬‬
‫الجملة التي امتلكها وأدارها داؤد إسحق وأوالده‪.‬‬
‫كما نشط حبيب كوهين في مجال االستيراد وأصبح بفضل جهوده شريكاً في شركة‬
‫(‪)74‬‬
‫عثمان صالح لالستيراد‪.‬‬
‫وتبين مذكرات محمد خير البدوي عن وجود شركة يهودية كبيرة في السودان في‬
‫وال ندري على وجه‬ ‫(‪)75‬‬
‫بداية األربعينات من القرن العشرين يمتلكها اليهودي يوسف تابت‪،‬‬
‫الدقة ما هو المجال الذي تخصصت فيه هذه الشركة‪ ،‬لكنه في كل األحوال يرتبط بقطاع‬
‫التجارة الخارجية في مجال الصادرات أو مجال الواردات‪.‬‬
‫ويبدو أن الشركات اليهودية‪ G،‬مع غيرها من الشركات األجنبية العاملة في مجال‬
‫االستيراد‪ ،‬استطاعت أن تعيد شكل العالقة بين السودان ومصر من عالقة التبعية‪ G‬في العهد‬
‫التركي المصري إلى عالقة جديدة قائمة على الندية وعلى األسس الربحية‪ .‬فثلما انخفضت‬
‫صادرات السودان إلى مصر‪ ،‬انخفض أيضاً استيراد السودان من المنسوجات المصرية‬
‫والسكر‪ ،‬وهما أهم واردات المصرية إلى السوق السوداني‪ .‬ولعل السبب في اتجاه رأس‬
‫المال اليهودي إلى خارج مصر هو سبب ربحي بحت يعود إلى أفضلية المنسوجات الهندية‬
‫(‪)76‬‬
‫والبريطانية‪ ،‬فاألولى زهيدة الثمن والثانية عالية الجودة‪ ،‬ولكل منها زبائنها في السودان‪.‬‬

‫(‪ )72‬مكي أبو قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.40‬‬ ‫(‬

‫(‬
‫‪73) Ibid, p40.‬‬
‫(‬
‫‪74) Ibid, p 41.‬‬
‫‪ )75‬محمد خير البدوي‪ ،‬قطار‪ 0‬العمر‪ :‬في أدب المؤانسة والمجالسة‪ ،‬دار النهار للطباعة‪ ،‬الطبعة‬ ‫(‬

‫األولى‪ ،‬الخرطوم‪ ،2008 ،‬ص ‪ .73‬ويذكر أنه بعد فصله من كلية غردون "(‪ )...‬أعانني حسين‬
‫التاجر في أم درمان‪ ،‬في الحصول على وظيفة في شركة اليهودي يوسف تابت للعمل في فرعها في‬
‫جمبيال على الحدود السودانية األثيوبية"‪.‬‬
‫(‬
‫‪76) R. H. B. Condie, op cit, p 59.‬‬

‫‪115‬‬
‫أما السكر فقد انخفض إنتاجه في مصر حتى لم يعد يكفي بحاجة المستهلك المصري نفسه‪،‬‬
‫(‪7‬‬

‫(‪)78‬‬
‫‪)77()7‬فاتجهت الشركات الستيراده من بلدان أخرى‪.‬‬

‫تجارة التجزئة‬
‫ومن بينهم‬ ‫(‪)79‬‬
‫بدأت تجارة التجزئة في المدن الكبرى على يد التجار األجانب‪،‬‬
‫اليهود الذين ارتادوا هذا المنشط في السودان منذ العهد التركي المصري‪ .‬وبعد إعادة احتالل‬
‫(‪)80‬‬
‫السودان توافد المزيد من اليهود‪.‬‬
‫كان معظم تجار التجزئة اليهود قد وفدوا للسودان من مصر‪ ،‬ومعظمهم من أبناء‬
‫الطبقة الوسطى‪ .‬وقد افتتحوا متاجرهم بأسواق الخرطوم والخرطوم بحري‪ ،‬إال أن الجزء‬
‫األكبر منهم اختار سوق أم درمان المزدهر في بادئ األمر‪ ،‬كما توجه جزء قليل منهم إلى‬
‫مدن أخرى مثل كسال وبربر واألبيض والنهود وشندي ومروي‪.‬‬
‫وكما ذكرنا من قبل فقد كانت العائالت اليهودية عادة ما تتخصص في منشط‬
‫تجاري واحد أو منشطين على أكثر تقدير؛ وتكون هذه المناشط في الغالب مبتكرة لم يسبقهم‬
‫عليها أحد من الوطنيين‪ ،‬وكان معظمهم قد أختار التخصص في تجارة األنسجة القطنية‬
‫واألقمشة الحريرية والمالبس ولوازم الخياطة‪ .‬ومن أشهر العائالت اليهودية‪ G‬التي ولجت هذا‬
‫المنشط عائلة شوا بقيادة فرج شوا‪ ،‬وعائلة إسحق داؤد‪ ،‬وعائلة إيلي ماشيح‪ ،‬وعائلة يعقوب‬
‫(‪)81‬‬
‫إيلون‪ ،‬وعائلة باروخ إسرائيل‪.‬‬
‫وانضمت إليهم فيما بعد للتجارة في نفس التخصص عائلة صالح وحزقيال باروخ‪،‬‬
‫وعائلة هيرمان بيلينستين‪ G،‬وعائلة شارلس وينبيرج‪ ،‬وعائلة موسى كوهين‪ ،‬وعائلة أصالن‬
‫(‪)82‬‬
‫ياتاه‪ ،‬وعائلة سليمان قُدسي‪ ،‬وعائلة موسى هراري‪ ،‬وعائلة ماثيو سيدس‪.‬‬

‫(‬
‫‪77) Ibid, p 59.‬‬
‫(‬
‫‪78) Ibid, p 60.‬‬
‫‪ )79‬محمد سعيد القدال‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.379‬‬ ‫(‬

‫‪ )80‬أشرنا إلى أن أحد تجار التجزئة من اليهود كان قد حصل على أول ترخيص تجاري بمدينة‬ ‫(‬

‫الخرطوم بحري‪.‬‬
‫(‬
‫‪81) Malka, op cit, p 25.‬‬
‫(‬
‫‪82)Ibid, p. 24- 25.‬‬

‫‪116‬‬
‫كما انضم للعمل في تجارة المنسوجات إبراهيم دويك القادم من حلب‪ ،‬وقد بزغ‬
‫نجمه في هذا المنشط ودر عليه نشاطه أرباحاً كبيرة‪ ،‬واستمر هو وعائلته من بعده في بيع‬
‫(‪)83‬‬
‫المنسوجات لمدة جيلين متتاليين‪G.‬‬
‫وتخصصت بعض العائالت اليهودية‪ G‬في تجارة الجلود والصوف وأشهرها عائلة‬
‫وعائلة سيروسي بقيادة إبراهيم سيروسي‪ ،‬وتوارثت عائلة سيروسي هذا‬ ‫(‪)84‬‬
‫سليمان َعني‪.‬‬
‫المنشط االقتصادي لمدة أربعة أجيال‪ ،‬وشهدوا تطوراً مستمراً من جيل إلى آخر حتى‬
‫أصبحت العائلة فيما بعد تمتلك سمعة عالمية واسعة ومتاجر غنية الستيراد الجلود من‬
‫نيجيريا ومختلف أنحاء أفريقيا وبيعها في الواليات المتحدة ومختلف العواصم األوربية‪.‬‬
‫واختارت عائالت أخرى العمل في مجال تجارة المحاصيل مثل عائالت ألفرد‬
‫قاعون‪ ،‬وحبيب كوهين‪ ،‬وألبرت أشكنازي‪ ،‬وشاؤل الذي عمل في تجارة البلح‪ .‬باإلضافة‬
‫لعائالت‪ :‬آل العيني‪ ،‬وآل دويك‪ ،‬التي ولجت هذا المجال مع تخصصها في تجارة‬
‫(‪)85‬‬
‫المنسوجات‪.‬‬
‫ومن المناشط الرئيسية التي تاجر فيها وعمل فيها يهود السودان منشط تجارة‬
‫الذهب وأعمال الصاغة واشتهرت به أسرة خضر عبد النبي‪ ،‬وعمل في هذا المنشط حسن‬
‫(‪)86‬‬
‫صالح خضر‪ ،‬وسليمان صالح خضر‪.‬‬
‫وتوزعت بقية العائالت اليهودية العاملة في تجارة التجزئة على مختلف أنواع‬
‫المبيعات والسلع أهمها تجارة األولني المنزلية‪ ،‬وتجارة الذهب وأعمال الصاغة‪ ،‬وتجارة‬
‫لوازم النجارة‪ .‬ومن أشهر هذه العائالت‪ :‬عائلة إيلي تمام‪ ،‬وعائلة جبرا كوهين‪ ،‬وعائلة جبرا‬
‫بينتو‪ G،‬وعائلة عبد اهلل سالتون‪ ،‬وعائلة يوسف عبودي‪ ،‬وعائلة عباديه الصفدي‪.‬‬

‫(‬
‫‪83) Ibid, p 25.‬‬
‫‪َّ )84‬‬
‫عني أو عاني‪ ،‬تشير إلي بعض المصادر كاسم لعائلة مختلفة عن عائلة العيني‪ .‬أنظر‪:‬‬ ‫(‬

‫‪ .Malka, op cit, p23‬ولعل الصواب أنه االسم الجديد الذي اختاره أحفاد مراد إسرائيل العيني‬
‫للعيش كيهود متخفين في السودان‪ .‬مقابلة مع السيد يعقوب‪ G‬داؤد سليمان العيني‪.‬‬
‫(‪ )85‬أحمد عبد الوهاب محمد سعيد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.7‬‬
‫‪ )86‬مقابلة مع األستاذة هالة صالح الدين (حفيدة خضر عبد النبي)‪ ،‬وهي تنحدر من يهود‬ ‫(‬

‫المسالمة‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫ومن ضروب تجارة التجزئة تصليح وبيع النظارات واشتهرت به عائلة موريس‬
‫قولدنبيرج‪ ،‬التصوير الفوتغرافي واشتهرت به عائلة سايمون وقد تحول أستوديو التصوير‬
‫الذي كانت تمتلكه العائلة إلى استديو النيل‪ ،‬تصليح وبيع األحذية واشتهرت به عائلة البون‬
‫(‪)87‬‬
‫مارسيه ويعتقد البعض أنهم وراء بعض شركات صناعة األحذية الخفيفة‪.‬‬
‫ولم تكن تجارة التجزئة قاصرة على الرجال‪ ،‬فقد اشتهرت نساء اليهود في المسالمة‬
‫بصناعة وبيع منتجات األلبان كالزبادي والجبنة المضفرة والمش‪ ،‬وكذلك صناعة الفسيخ‬
‫وتعليب الخضروات‪ ،‬وصناعة الصلصة‪ ،‬وكانت تجارة رائجة تدر أرباحاً وفيرة خصوصاً‬
‫مسألة بيع الخضروات والطماطم في غير موسمها‪ ،‬وقد اشتهرت من نساء اليهود السيدة‬
‫فورتين من عائلة آل منديل وأصبحت من نساء األعمال إذ كثيراً ما يلجأ إليها صغار التجار‬
‫(‪)88‬‬
‫بسوق أم درمان لإلستدانة وتمويل تجارتهم‪.‬‬

‫االستثمار في مجال الترفيه‬


‫كانت الخرطوم‪ ،‬بمناخها األوربي الذي أشرنا إليه سابقاً‪ ،‬مع طبيعة سكانها من‬
‫األوربيين والموظفين في حكومة السودان‪ ،‬وهم في الغالب بعيدون عن أسرهم يعيشون جواً‬
‫من االغتراب والخواء االجتماعي‪ ،‬في ظل هذه الظروف كانت مناخاً خصباً لالستثمار في‬
‫فاتجهت بعض رؤوس الموال اليهودية لالستثمار في هذا المجال‪.‬‬ ‫(‪)89‬‬
‫مجال الترفيه‪.‬‬
‫أنشأ الزوجان جيمي كين وزوجته ترودي‪ ،‬وهما فنانان جاءا إلى السودان من‬
‫ملهى ليلياً عرف بكاباريه غردون أو صالة غردون‬
‫ً‬ ‫ألمانيا النازية فراراً من الهولكوست‪،‬‬
‫)‬
‫للموسيقى ‪Gordon Music Hall.(90‬‬

‫(‪ )87‬نفسه‪.‬‬
‫‪ )88‬نفسه‪.‬‬ ‫(‬

‫‪ )89‬للمزيد حول الخواء االجتماعي‪ ،‬وبحث الموظفين األوربيين في الخرطوم عن المتعة والبهجة‬ ‫(‬

‫وأماكن الترفيه لتزجية الوقت وقتل الفراغ أنظر‪ :‬الفصل السادس " الموظف في السودان‪ -‬أوقات‬
‫راحته" في‪ :‬دونالد هولي‪ ،‬نقوش الخطى على رمال السودان‪ ،‬ترجمة موسى عبد اهلل حامد‪( ،‬د‪.‬‬
‫ت)‪( ،‬د‪ .‬ط)‪ ،‬الخرطوم‪ ،‬ص ص ‪.127 -118‬‬
‫‪ )90‬أبو قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.20‬‬ ‫(‬

‫‪118‬‬
‫كان كباريه غردون مقصد كبار الموظفين وأبناء الطبقة البرجوازية في الخرطوم‬
‫وجلَّهم من األوربيين‪ ،‬حيث يمارسون الرقص الغربي على أنغام الموسيقى‪ .‬وكان ينافسه‬
‫ُ‬
‫ملهى ليلي آخر‪ ،‬ال ندري مالكه على وجه الدقة ويبدو أنه يعود لمالك بريطاني‪ ،‬هو ملهى‬
‫ً‬
‫بريطانيا العظمى ‪ Great Britain‬واشتهر اختصاراً بالجي بي ‪.G.B‬؛ ولكن يبدو أن ملهى‬
‫غردون استطاع أن يجذب العدد‪ G‬األكبر من الزبائن وقد أبتدع الطرق المتعددة‪ G‬لذلك خصوصاً‬
‫استقدامه للفتيات الجميالت من مختلف أنحاء العالم ليقدمن العروض الراقصة‪ ،‬مثل جيمي‬
‫كيرك الهنغارية التي يبدو أنها كانت من اإلثارة بحيث جذبت موظفاً كبيراً في اإلدارة‬
‫(‪)91‬‬
‫البريطانية مثل السير دونالد هولي‪ ،‬حتى أنه ضمنها في مذكراته عن السودان‪.‬‬
‫ولعلها كانت الوحيدة‬ ‫(‪)92‬‬
‫وأنشأ ماتياس ناحمياس‪ ،‬وأدار‪ ،‬صالة للتزلج بالخرطوم‪،‬‬
‫من نوعها بالسودان‪ ،‬وكانت تجذب أعداداً من هواة التزلج من الموظفين والجنود البريطانيين‬
‫(‪)93‬‬
‫الذين يجدون فيها متعة كبيرة‪.‬‬
‫ونشط بعض أفراد الجالية في األعمال الفندقية‪ G،‬وكانت الخرطوم قد شهدت افتتاح‬
‫فندق القراند هوتيل ‪ Grand Hotel‬عام ‪ )1902.(94‬كما أنشيء فندق آخر‪ ،‬فيما بعد‪ G،‬في‬
‫مدينة‪ G‬بورتسودان هو فندق البحر األحمر ‪ ،Red Sea Hotel‬وقد التحق به بعض اليهود‬
‫(‪)95‬‬
‫مثل ماكس جابرايئيل‪.‬‬
‫كما اشتهر اليهود بإدارة البارات وبيع الخمور في المدن السودانية‪ G،‬ففي مدينة‬
‫(‪)96‬‬
‫كريمة مثالً اشتهر دمتري وخضر وموسى شاؤول بامتالك بار كبير في المدينة‪G‬‬

‫‪ )951‬دونالد هولي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.126‬‬ ‫(‬

‫‪ )92‬أبو قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.32‬‬ ‫(‬

‫‪ )93‬دونالد هولي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.120‬‬ ‫(‬

‫(‬
‫‪94) C. E. J. Walkley, M. B. E., "The Story of Khartoum", Sudan Notes and‬‬
‫‪Records., Vol. 19 (part one), 1930, p. 83.‬‬
‫‪ )95‬أبو قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.32‬‬ ‫(‬

‫‪ )96‬مقابلة مع اإلخباري‪ ،‬عوض عبيد اهلل‪.‬‬ ‫(‬

‫‪119‬‬
‫وكانت الجالية تضم أعداداً من الحرفيين الذين برعوا في صناعة األناتيك‬
‫والمشغوالت الجلدية والخشبية‪ ،‬والبد أنها كانت سوقاً مزدهراً في أوساط البريطانيين‪ ،‬الذين‬
‫انتهت فترة خدمتهم في البالد‪ G،‬كتذكار للفترة التي قضوها في السودان‪.‬‬
‫ويبدو أن بعض اليهود من الفقراء ومحدودي الدخل قد احترفوا الدعارة في بيوت‬
‫أعدت خصيصاً لهذا الغرض في منطقة عرفت بأبو صليب‪ ،‬وكانت الدعارة تتم في هذه‬
‫المنطقة بشكل رسمي يشتمل على فحص صحي دوري على المومسات‪ ،‬وكان الجنود‬
‫اإلنجليز‪ ،‬وبعض األغنياء من الوطنيين واألجانب‪ ،‬هم المستهدفين‪ G‬بهذا المنشط االقتصادي‬
‫(‪)97‬‬
‫"الترفيهي"‪.‬‬

‫االستثمار في قطاع الصناعة‬


‫على عكس التجارتين الخارجية والداخلية واالستثمار في مجال الترفيه‪ ،‬واجه رأس‬
‫المال اليهودي مصاعب عديدة‪ G‬في االستثمار الصناعي في السودان‪ .‬فالسياسة االقتصادية‬
‫لإلدارة البريطانية في السودان لم تكن ترغب في تطوير الصناعات في السودان لتظل البالد‬
‫كما تريدها هي مصدراً للمواد الخام الزهيدة الثمن وسوقاً لبضائعها المستوردة التي تحدد هي‬

‫‪ )97‬أحمد عبد الوهاب محمد سعيد‪ ،‬مرجع سابق ص ‪ .18‬ويتناقض ما ذكره مع أمرين‪ :‬األول ما‬ ‫(‬

‫ذهبت إليه معظم المصادر والروايات الشفوية من أن اليهود في السودان لم يضموا فقيرًا‪ ،‬خصوصًا‬
‫وأنهم كانوا متضامنين نوعًا ما‪ .‬األمر الثاني أن الزنا مع "األغيار" يعد من أكبر الموبقات في‬
‫الديانة اليهودية‪ .‬ولعل من امتهنوا هذا المنشط كن من اليهوديات األشكناز الالتي وفدن بعد األزمة‬
‫المالية ولم تستهوهم‪ G‬حياة السفارديم في السودان أو وجدوا أنفسهم في عزلة عنهم نتيجة قلة عدد‬
‫األشكناز في السودان‪ ،‬وقد وجدن في كنف "بنت بيال"‪ G‬الرعاية الجيدة والخدمات المريحة‪ .‬وبنت‬
‫بيال هذه إحدى المومسات‪ G‬القادمات من المغرب العربي وقد عملت في السودان واحتكت بالطبقات‬
‫الحاكمة من الضباط ورجال الخدمة المدنية‪ ،‬وفيما بعد أدارت مؤسسات كبيرة‪ G‬للدعارة بالخرطوم‬
‫في منطقة أبو صليب ومنطقة العمارات والخرطوم شرق‪ ،‬وكانت تجلب الفتيات من أوربا والحبشة‬
‫وأمريكا الالتينية ومن كافة أنحاء العالم‪ ،‬وال نستبعد أن كان ممن بينهن‪ G‬عدد من اليهوديات‪ G.‬مقابلة‬
‫مع السيد قيصر موسى الزين (الدكتور)‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫أسعارها بدون منافسة داخلية‪ ،‬وليظل السودان مرتبطاً بالباب الخلفي للسوق الرأسمالية‬
‫(‪)98‬‬
‫العالمية وفق شروط وروابط غير متكافئة‪.‬‬
‫وبرغم هذه العقبات نجح رأس المال اليهودي في مراوغة السياسة االقتصادية‬
‫لبريطانيا‪ ،‬بتجنبه للصناعات القائمة على اإلنتاج الزراعي‪ ،‬وأسس عدداً من الصناعات‪،‬‬
‫وعلى الرغم من الطابع الربحي لهذه الصناعات البسيطة‪ ،‬إال أنها بال شك كانت ضربة‬
‫البداية في سبيل إنشاء قاعدة صناعية بالسودان‪.‬‬
‫ويبدو أن الحاخام سولومون ملكا استطاع في الفترة بين عامي ‪ 1920‬و‪ 1930‬أن‬
‫يراكم أرباحاً مكنته من إنشاء مصنع للبالط وآخر للشعيرية‪ ،‬وهما األوالن من نوعهما‬
‫وقد أستورد لمصنعيه السلع الرأسمالية والمعدات واآلليات الالزمة لبدء العمل‬ ‫(‪)99‬‬
‫بالبالد‪.‬‬
‫فيهما‪ .‬وبالفعل باشرا إنتاجهما‪ .‬كان مصنع البالط ينتج البالط األسود واألبيض واألحمر‪،‬‬
‫وقد وجد رواجاً كبيراً لدى الطبقة البرجوازية في مدينة الخرطوم‪ ،‬ويبدو أن معظم بيوت‬
‫أفراد هذا المجتمع في الخرطوم كانت من زبائنه‪ ،‬واستمر المصنع لفترة طويلة قبل أن‬
‫يتوقف عن العمل‪.‬‬
‫أما مصنع الشعيرية الذي أنشأه ملكا بطرف السوق العربي وألحق به مكتبه الخاص‬
‫(‪1‬‬
‫فيبدو أنه وجد رواجاً كبيراً وسط عامة السودانيين‪ G،‬الذين يفضلون الشعيرية على المكرونة‪،‬‬
‫ولما كانت الشريحة األكبر من المستهلكين السودانيين للشعيرية يعيشون خارج مدينة‪G‬‬ ‫‪)00‬‬

‫‪ )98‬يقول تمام همام تمام في هذا الخصوص أن هدف اإلدارة البريطانية هو‪" :‬بقاء الوضع الراهن‬ ‫(‬

‫دون تطوير حتى تضمن لنفسها البقاء أكبر مدة ممكنة‪ ،‬ويكفيها أن تهتم بتطوير الغالت التي تحتاج‬
‫إليها مصانعها‪ ،‬وظلت إمكانات السودان األخرى معطلة (‪ )...‬وكانت الحكومة ترى أن السودان بلد‬
‫زراعي رعوي من الدرجة األولى‪ ،‬وأن السودانيين أنفسهم ال يحتاجون إلى السلع المصنعة كثيراً‬
‫ومن األفضل لهم أن يبيعوا المواد الخام للبالد األجنبية التي تقوم بتصنيعها‪ )...( G‬وكما أشاع‬
‫اإلنجليز أن مصر بلد زراعي وال مستقبل للصناعة فيه‪ ،‬فقد طبقوا هذه الدعاية نفسها على‬
‫السودان"‪ .‬أنظر‪ :‬تمام همام تمام‪ ،‬السياسية المصرية تجاه السودان ‪ ،1953 -1936‬سلسلة‬
‫تاريخ المصريين‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪( ،‬د‪ .‬ط)‪ ،1999 ،‬ص ص ‪-120‬‬
‫‪.129‬‬
‫(‬
‫‪99) Malka, pp. 32- 33.‬‬
‫(‬
‫‪100) Ibid, p. 32‬‬

‫‪121‬‬
‫الخرطوم فإننا نستنتج أن توزيع منتجات المصنع كان يتجاوز مدينة‪ G‬الخرطوم إلى مدينتي‬
‫الخرطوم بحري وأم درمان على أقل تقدير‪.‬‬
‫وأنشأت شركة كيستون التي يملكها إبراهام بينين‪ G‬أول مصنع للزراير في السودان‬
‫بمدينة عطبرة‪ ،‬وكان المصنع يعتمد في مواده الخام على المنتوجات السودانية مثل ثمار‬
‫(‪)101‬‬
‫شجر الدوم المنتشر في السودان‪.‬‬
‫طورت مناشطها لتستوعب عدداً من الصناعات الجديدة‬
‫أما شركة أوالد مراد فقد ّ‬
‫مثل تصنيع العطور‪ ،‬وتصنيع مستحضرات التجميل‪ ،‬وتصنيع المسامير‪ ،‬وتصنيع أواني‬
‫(‪)102‬‬
‫األلمونيوم‪.‬‬
‫كما ارتادت شركة الخرطوم لالستيراد والبيع بالجملة مجال االستثمار الصناعي‬
‫(‪)103‬‬
‫فأنشأت عدداً من المصانع الصغيرة إلنتاج العطور‪.‬‬
‫وتمكن ليون تمام‪ ،‬أحد أثرياء الجالية اليهودية في السودان‪ ،‬من إنشاء أكبر مصنع‬
‫(‪)104‬‬
‫لألدوية في السودان‪.‬‬
‫كما حاول بعض المستثمرين اليهود إنشاء بعض الصناعات الصغيرة‪ ،‬فأنشأت‬
‫وأنشأ البعض اآلخر مصانع‬ ‫(‪)105‬‬
‫شركة تصدير الجلود عدداً من المعامل لدباغة الجلود‪،‬‬
‫(‪)106‬‬
‫لتصنيع الصابون‪ ،‬ومعاصر هيدروليكية إلنتاج الزيوت بدالً من المعاصر التقليدية‪.‬‬

‫المضاربات المالية وأعمال الصرافة‬


‫عمل في السودان طوال الفترة من ‪ 1898‬وحتى ‪ 1956‬بنكان فقط هما البنك‬
‫(‪)107‬‬
‫األهلي المصري‪ ،‬والذي كان بمثابة بنك الحكومة‪ ،‬ثم التحق به بنك باركليز البريطاني‪.‬‬

‫‪ )101‬أبو قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.32‬‬ ‫(‬

‫‪ )102‬نفسه‪ ،‬ص ‪.40‬‬ ‫(‬

‫‪ )103‬نفسه‪ ،‬ص ‪.40‬‬ ‫(‬

‫‪ )104‬نفسه‪ ،‬ص ص ‪.41 -40‬‬ ‫(‬

‫‪ )105‬أبو قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.41‬‬ ‫(‬

‫(‬
‫‪106) Malka, op cit, p 33.‬‬
‫(‪ )107‬مأمون بحيري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.61‬‬

‫‪122‬‬
‫وقد ارتاد عدد من اليهود العمل في منشط الصرافة فعملوا في هذين البنكين‪ G‬وفي‬
‫(‪)108‬‬
‫الشركات الخاصة وفي حكومة السودان كمحاسبين أو صيارفة‪.‬‬
‫ومن الراجح أن العدد األكبر من اليهود المحاسبين والصيارفة قد عملوا في البنك‬
‫األهلي المصري‪ ،‬ومما يعزز هذا االحتمال‪ :‬أوالً أن البنك األهلي المصري كان هو البنك‬
‫الوحيد في السودان حتى عام ‪ .1916‬ثانياً أن جوزيف ناحوم‪ ،‬ابن حاخامباشي مصر عمل‬
‫في إدارة هذا البنك في السودان ولعله كلن متأثراً بالتعصب لليهود كما هو حال والده‪ .‬ثالثاً‪،‬‬
‫وهو من أهم األسباب‪ ،‬أن البنك األهلي المصري هو في األساس بنك يهودي بريطاني‬
‫ساهمت في إنشائه الجماعات المصرفية اليهودية‪ G‬بالتعاون مع رأس المال البريطاني (ت‪.‬‬
‫(‪)109‬‬
‫‪.)1897‬‬
‫كما عمل المحاسبون والصيارفة اليهود في بنك باركليز بعد إنشائه عام ‪،1916‬‬
‫(‪11‬‬
‫حتى أن صبون فوح شوعة‪ ،‬وهو يهودي ولد في الخرطوم‪ ،‬وصل مرتبة مدير لهذا البنك‪.‬‬
‫‪)0‬‬

‫إال أن النشاط الخاص بالمضاربة المالية في مجال األرض واجه رفضاً حاسماً من‬
‫اإلدارة البريطانية التي تنبهت منذ سنواتها األولى إلى ضرورة إيقاف نشاط األجانب في‬
‫(‪)111‬‬
‫المضاربة في األرض عن طريق الربا‪.‬‬

‫‪ )108‬قدمنا عرضاً نماذجاً لليهود الذين عملوا في هذه المناشط ص ‪ 85‬وما بعدها‪.‬‬ ‫(‬

‫‪ )109‬عبد الوهاب المسيري‪ ،‬موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‬ ‫(‬

‫‪.271‬‬
‫(‪ )110‬صالح محمد أحمد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.42‬‬
‫‪ )111‬محمد سعيد القدال‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ .359‬وال يشير القدال إلى اليهود لكنه يذكر أن‬ ‫(‬

‫هؤالء األجانب هم "أعداد من السوريين واألتراك واليونانيين والمصريين"‪ .‬ونرجح أن اليهود‬


‫كانوا غالبيتهم لسببين‪ :‬األول خبرتهم الطويلة في التعامالت‪ G‬الربوية‪ ،‬مع شرعية هذا المنشط‬
‫بالنسبة لهم على عكس المسلمين والمسيحيين من الشوام والمصريين واألتراك واليونانيين‪،‬‬
‫والسبب الثاني أن معظم اليهود كانوا يحملون انتماءات مزدوجة فهم يهود لكنهم في نفس‬
‫الوقت شوام سوريون أو مصريون أو أتراك أو يونانيون‪ .‬للمزيد حول هذه النقطة أنظر في‬
‫الجزء الخاص بالنشاط االجتماعي للجالية اليهودية في السودان (‪ )1956 -1898‬ص ‪117‬‬
‫وما بعدها‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫وقد خشيت اإلدارة البريطانية أن يتطور النشاط الربوي إلى خلق سوق لألرض‪.‬‬
‫فالمضاربة في األرض‪ ،‬التي ابتدرها األجانب في الواليات الشمالية‪ ،‬ستعمل على تحويل‬
‫عدد من الملكيات الصغيرة إلى ملكية واحدة كبيرة مما قد يشكل أساساً لالستثمار الصناعي‬
‫القائم على المنتجات الزراعية‪ ،‬وهو ما يتناقض مع جوهر السياسة االقتصادية للنظم‬
‫وبرغم هذا المنع فقد ظهر بين يهود السودان من يقوم بعمليات اإلقراض‬ ‫(‪)112‬‬
‫االستعمارية؛‬
‫وجلَّهم من النساء‪ ،‬ومن أشهر المرابيات اليهود في مدينة أم درمان السيدة‬
‫نظير فائدة‪ُ ،‬‬
‫كونت رأس مال سائل عن طريق التوفير وصناعة وبيع بعض‬
‫فورتين من آل منديل والتي ّ‬
‫وفي مدينة‪ G‬الخرطوم السيدة روز باروخ والتي كانت تقرض التجار‬ ‫(‪)113‬‬
‫المنتجات المنزلية‪.‬‬
‫(‪)113‬‬
‫نظير فائدة تتضاعف عند تأخير أجل السداد‪.‬‬

‫‪ )112‬للمزيد من التفصيل حول هذه النقطة أنظر‪ :‬محمد سعيد القدال‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪-359‬‬ ‫(‬

‫‪.360‬‬
‫‪ )113‬مقابلة مع األستاذة هالة صالح الدين إسحق خضر‪.‬‬ ‫(‬

‫‪ )113‬مقابلة مع الدكتورة‪ G‬فريدة إسحق إسرائيل‪.‬‬ ‫(‬

‫‪124‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫النشاط االجتماعي للجالية اليهودية في السودان (‪)1956 -1898‬‬
‫المعابد اليهودية في السودان‪ :‬إنشاؤها ودورها في الحياة الدينية‬ ‫‪.1‬‬
‫واالجتماعية للجالية اليهودية في السودان‬
‫الحياة االجتماعية للجالية اليهودية في السودان‬ ‫‪.2‬‬
‫تنامي الشعور القومي اليهودي والنشاط الصهيوني للجالية اليهودية في‬ ‫‪.3‬‬
‫السودان‬

‫‪125‬‬
‫المبحث األول‬

‫المعابد اليهودية‬
‫إنشاؤها ودورها في الحياة الدينية واالجتماعية للجالية اليهودية في السودان‬

‫‪126‬‬
‫إنشاء المعابد اليهودية في الخرطوم‬
‫أشار العهد القديم إلى مكان العبادة‪ ،‬وهو في نفس الوقت المكان الذي خاطب فيه‬
‫الرب موسى‪ ،‬بخيمة االجتماع‪ )...(" :‬وأخذ موسى خيمة ونصبها بعيداً خارج المخيم‬
‫ودعاها خيمة االجتماع‪ .‬فكان كل ملتمس للرب يسعى إلى خيمة االجتماع القائمة خارج‬
‫المخيم‪ .‬وكلما مضى موسى إلى الخيمة كان كل واحد من الشعب يقف في باب خيمته‪،‬‬
‫ويتابعونه بأنظارهم إلى أن يدخلها‪ .‬وما أن يتوارى موسى فيها حتى ينزل عمود السحاب‬
‫واقفاً عند باب الخيمة فيسجدون للرب‪ ،‬كل واحد أمام باب خيمته فكان الرب يكلم موسى‬
‫وجهاً لوجه كما يكلم اإلنسان صاحبه (‪ )1(G.")...‬ومن هنا أطلق على مكان العبادة "مكان‬
‫االجتماع" ويرادفه بالعبرية تعبير "بيت هاكنيست"‪ .‬أما كلمة معبد بمعنى "مكان العبادة"‪،‬‬
‫فيبدو أنها لم ترد في العهد القديم على اإلطالق‪ ،‬مما يرجح أن ظهور المعابد ونشأتها قد ألحق‬
‫بالتاريخ اليهودي لضرورة اقتضاها هذا التاريخ نفسه‪ ،‬ويذهب بعض الباحثين إلى أن ظهور‬
‫(‪)2‬‬
‫المعابد يعود إلى الفترة التي أعقبت السبي البابلي‪.‬‬
‫وبعد تخريب الهيكل‪ ،‬بالقدس‪ ،‬أصبح المعبد‪ G‬هو المركز الروحي واالجتماعي‬
‫لألقليات اليهودية‪ G‬في أماكن شتاتها حول العالم‪ )3(.‬ويبدو أن المعبد اليهودي تحول إلى‬
‫مؤسسة تؤدي أغراض دينية‪ G‬واجتماعية وتعليمية‪ ،‬وألحقت به "يشيفاه"‪ ،‬وهي مدرسة خاصة‬
‫بالصبية‪ ،‬كما ألحقت به محكمة خاصة بالطائفة‪ ،‬وقاعة لالحتفاالت‪ ،‬وصاالت الجتماعات‬

‫(‪ )1‬العهد القديم‪ ،‬سفر الخروج‪ ،‬اإلصحاح ‪ ،33‬اآلية ‪.7‬‬


‫‪ )2‬النبوي جبر سراج‪ ،‬المعابد اليهودية ودورها في حياة اليهود بمصر‪ :‬آثاراً‪ ،‬تاريخاً‪ ،‬عمارة‪،‬‬ ‫(‬

‫زخرفة‪ ،‬وأهمية وثائق الجينزاة‪ ،‬شركة اإلسالم مصر للطباعة‪ ،‬القاهرة‪( ،‬د‪.‬ط)‪( ،‬د‪ .‬ت)‪ ،‬ص‬
‫‪.19‬‬
‫‪ )3‬بل وتصف األقليات اليهودية نفسها على أنها أمة دينية‪ ،‬وتنتشر‪ G‬بين هذه األقليات مقولة "شعبنا‪G‬‬ ‫(‬

‫هو شعب بسبب التوراة" التي أطلقها الحاخام ساويا هاغون‪ ،‬وقد صارت مقولته هذه أشبه بالقول‬
‫المأثور بين كل اليهود‪ .‬للمزيد أنظر‪ :‬إسرائيل شاحاك‪ ،‬تاريخ اليهود وديانتهم‪ :‬عبء ثالثة آالف‬
‫عام‪ ،‬ترجمة ناصرة السعدون‪ ،‬دار كنعان للنشر‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬دمشق‪ ،2008 ،‬ص ‪49‬‬

‫‪127‬‬
‫الطائفة وللزواج وغيرها من الواجبات المقدسة‪ ،‬وحماماً للطهور والوضوء‪ ،‬كما ألحقت‬
‫(‪)4‬‬
‫ببعض المعابد حجرات الستراحة المسافرين والضيوف‪.‬‬
‫بهذه األهمية المركزية التي يلعبها المعبد‪ G‬في حياة اليهود الدينية واالجتماعية فإن‬
‫الجالية اليهودية في السودان كان البد أن تؤسس معبدها الخاص ألداء طقوسها وشعائرها‬
‫اليهودية‪.‬‬
‫تؤكد المعلومات التي تحصلنا عليها أن السودان شهد قيام أربعة معابد يهودية‪ G،‬على‬
‫األقل‪ ،‬في الخرطوم وحدها‪ .‬ولما كان عدد الجالية‪ ،‬كما ذكرنا من قبل‪ ،‬ليس بالكثرة التي‬
‫تستدعي قيام أربعة معابد فإننا نرجح أن هذه المعابد قد أنشئت بالتعاقب باستثناء معبدين‬
‫أحدهما في أم درمان والثاني في الخرطوم‪ ،‬وقد أكدت مصادر الدراسة أنهما عمال معاً لفترة‬
‫وجيزة‪.‬‬
‫أنشيء أول معبد يهودي بمدينة‪ G‬أم درمان عام ‪ ،1898‬وهو معبد صغير أنشأه بن‬
‫زيون كوشتي في منزله بحي المسالمة‪ )5(.‬وليس لدينا وصف لهذا المعبد أو طبيعة الشعائر‬
‫التي كانت تؤدى فيه‪ .‬والراجح‪ ،‬بحكم أنه لم ينشأ كمعبد في األساس‪ ،‬فإنه كان محصوراً بين‬
‫فئة محدودة من يهود أم درمان‪ ،‬ولعلهم من اليهود الذين عاصروا الحكم المهدوي‪ .‬وربما لم‬
‫تتعد‪ G‬الشعائر الممارسة فيه الطقوس السبتية‪ .‬وكانت اإلدارة الدينية‪ G‬للمعبد‪ G‬مستمدة من السلطة‬
‫االجتماعية لبن زيون كوشتي رغم ما يسندها من معرفته الدينية‪G.‬‬
‫وبعد مقدم الحاخام سولومون ملكا‪ ،‬أستأجر منزالً آخر في حي المسالمة وقام‬
‫وزوده بمخطوطات من التوراة التي جلبها من مصر ومن‬
‫بتحويله إلى معبد‪( G‬ت‪ّ ،)1910 .‬‬
‫فلسطين‪ ،‬وتحتوي على الطقوس واالحتفاالت والصلوات الدينية‪G.‬‬
‫ويبدو أنه بتأسيس معبد‪ G‬سولومون ملكا توقف نشاط معبد بن زيون كوشتي‪ ،‬أو على‬
‫العبَّاد على حساب معبد بن زيون كوشتي‪ ،‬فالمعبد‪G‬‬
‫األقل ازداد رواد معبد سولومون ملكا من ُ‬
‫الجديد كان أكبر حجماً‪ ،‬منزل كامل في مقابل جزء من منزل‪ ،‬ويديره حاخام مجاز من‬
‫مجلس الحاخامات في صفد‪ ،‬ويستمد شرعيته الدينية من تفويض كبير حاخامات مصر‬

‫(‪ )4‬النبوي جبر سراج‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.18 -17‬‬


‫(‪ )5‬صالح محمد أحمد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.8‬‬ ‫(‬

‫‪128‬‬
‫والسودان‪ ،‬الحاخام إلياهو حازان‪ ،‬والذي كان ملكا يرجع إليه في كل صغيرة وكبيرة من‬
‫شؤون الطائفة‪ ،‬وعلى يد حاخام المعبد الجديد تمت عملية تهويد‪" G‬المسالمة"‪ ،‬كما انضم‬
‫الوافدون الجدد من اليهود إلى المعبد الجديد‪.‬‬
‫تمكن المعبد الجديد من أداء عدد أكبر من الشعائر والطقوس اليهودية‪ ،‬كما وفّر‬
‫اللحوم المذبوحة على الطريقة اليهودية (الكشر)‪ ،‬وقام بأداء عهد الختان‪ ،‬باإلضافة للشعائر‬
‫(‪)6‬‬
‫السبتية وغيرها من الطقوس‪.‬‬
‫وعلى الرغم من كل ذلك فإن إمكانات معبد سولومون ملكا كانت محدودة يقعد بها‬
‫بعدها عن السلطة السياسية في الخرطوم‪ ،‬وشح التمويل‪ ،‬وقلة عدد المتعبدين‪ G.‬وكان الحاخام‬
‫(‪)7‬‬
‫ملكا حتى ذلك الوقت يقوم بواجباته متطوعاً دون مقابل مادي‪.‬‬
‫وفي عام ‪ 1918‬انتقلت مجموعة كبيرة من يهود أم درمان لالستقرار في الخرطوم‬
‫بحثاً عن فرص أكبر لالحتكاك بالطبقة الحاكمة‪ ،‬وهناك أنشأ أحد المتدينين‪ G‬من يهود‬
‫(‪)8‬‬
‫الخرطوم‪ ،‬وهو فرج شوا‪ ،‬معبداً صغير في أحد المنازل‪ ،‬وأصبح هو بنفسه قيماً عليه‪.‬‬
‫ويبدو أن معبد‪ G‬فرج شوا كان معاصراً لمعبد سولومون ملكا بأم درمان‪ ،‬وربما كان‬
‫معبد‪ G‬فرج شوا مقصوراً على يهود الخرطوم‪ ،‬وهم يمثلون أثرياء اليهود والملتحمين منهم‪ ،‬أو‬
‫الذين التحموا حديثاً‪ ،‬بالجهاز السياسي للدولة‪.‬‬
‫وليس لدينا أي معلومات عن معبد‪ G‬فرج شوا أو الشعائر التي كانت تؤدى فيه‪ ،‬إال أن‬
‫العّباد فيه كانوا من الوافدين الجدد إلى مدينة‬
‫موقعه في مدينة‪ G‬الخرطوم يجعلنا نرجح أن ُج ّل ُ‬
‫الخرطوم‪.‬‬
‫المعبد الرابع‪ ،‬ولعله أهم المعابد اليهودية في السودان في الفترة من ‪ 1898‬إلى‬
‫‪ ،1956‬تم تأسيسه في عام ‪ ،1926‬حيث اتحد معبدا سولومون ملكا وفرج شوا بمكوناتهما‬
‫االجتماعية من يهود أم درمان ويهود الخرطوم في المعبد‪ G‬اليهودي الجديد‪ G،‬الذي نجح في‬
‫استيعاب الوافدين الجدد من اليهود‪ ،‬كما نجح في استقطاب الدعم المالي من مصر‪.‬‬

‫(‪ )6‬سنناقش التقاليد والشعائر اليهودية في مكان آخر من هذا المبحث‪.‬‬


‫‪ )7‬مكي أبو قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.25‬‬ ‫(‬

‫(‬
‫‪8) Eli S. Malka, Ibid,, p 37.‬‬

‫‪129‬‬
‫بلغت تكلفة إنشاء المعبد اليهودي في الخرطوم نحواً من ثالثة آالف جنيه‪ ،‬وهو‬
‫مبلغ ضخم بمقاييس ذلك الوقت‪ .‬وقد جمع المبلغ من تبرعات أفراد الجالية‪ ،‬من الرجال‬
‫والنساء‪ ،‬الوافدين والمقيمين‪ ،‬باإلضافة لتبرعات المنظمات واألفراد من يهود مصر‪ )9(.‬الذين‬
‫يبدو أن دعمهم كان كبيراً إذ أن أبراهام بيتش وحده تبرع بمبلغ ‪ 500‬جنيه قدم منها ‪250‬‬
‫كما ساهم يهود انجلترا بنفوذهم‬ ‫(‪)10‬‬
‫جنيه لمعبد الخرطوم‪ ،‬و‪ 250‬جنيه لمعبد تل أبيب‪.‬‬
‫(‪)11‬‬
‫ودعمهم المالي إلنشاء المعبد اليهودي في الخرطوم عبر الوكالة اليهودية‪ G‬في لندن‪.‬‬
‫لعب مجلس الجالية اليهودية بعالقاته وبنفوذه السياسي دوراً مهماً في إنشاء هذا‬
‫المعبد سواء باستقطاب الدعم الخارجي أو بتفعيل المشاركات الداخلية‪ ،‬أو باالستفادة من‬
‫النفوذ في انتزاع التسهيالت الحكومية والقانونية‪ .‬واستطاع مجلس الجالية‪ ،‬الذي كان يرأسه‬
‫وقتها جوزيف فورتي مدير شركة بي ناثان‪ ،‬أن يحصل على قطعة أرض واسعة في موقع‬
‫ممتاز على شارع فكتوريا‪ ،‬شارع القصر حالياً‪ ،‬وكان أحد أجمل شوارع الخرطوم ويؤدي‬
‫لقصر الحاكم العام مباشرة‪ ،‬وتحيط به األشجار العالية الجميلة التي غرسها كتشنر عند إعادة‬
‫(‪)13‬‬
‫وتم تشييد المعبد ليسع نحو ‪ 500‬متعبد‪G.‬‬ ‫(‪)12‬‬
‫بناء الخرطوم‪.‬‬
‫يختلف هذا المعبد‪ G‬عن المعابد التي سبقته في أنه أنشيء من األساس ليناسب‬
‫أغراض المعبد اليهودي‪ ،‬وبالتالي فقد التزم إلى حد كبير ببناء العناصر والوحدات المعمارية‬
‫األساسية التي عادة ما تحتويها معابد السفارديم‪ ،‬مثل‪ :‬الهيكل‪ ،‬المنصة‪ ،‬أرون هاقودش‪،‬‬
‫(‪)15‬‬
‫وكرسي إلياهو‪.‬‬ ‫(‪)14‬‬
‫المزوزاة‪ ،‬شرفة النساء‪ ،‬تيفاه‪،‬‬

‫(‪ )9‬مكي أبو قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.25‬‬


‫(‪ )10‬نفسه‪ ،‬ص ‪.25‬‬
‫(‪ )11‬نفسه‪ ،‬ص ‪.25‬‬
‫(‬
‫‪12) Malka, op cit, p 37.‬‬
‫(‬
‫‪13) Ibid, p. 37.‬‬
‫(‪ )14‬النبوي جبر سراج‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.30 -26‬‬
‫‪ )15‬أبو قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ .26‬وقد سماه أبو قرجه "النبي أليجا" والصحيح هو ما ذهبنا‬ ‫(‬

‫تسمى به في اللغة العربية‪ .‬وألياهو هو أول‬


‫إليه "إلياهو"‪ ،‬وهو الصيغة اليونانية السم ألياس الذي ُي َ‬
‫األنبياء‪" G‬الكبار" في الدين اليهودي وكان راعيًا حاول استرجاع العبادة األصلية بعد أن دخلت‬
‫المملكة الشمالية في عبادة بعل‪ ،‬وقد أضطر إلياهو للهرب إلى الصحراء‪ ،‬لكنه عاد وقاد الشعب‬

‫‪130‬‬
‫يعتبر الهيكل من أهم الوحدات المعمارية بالمعبد‪ G‬اليهودي في الخرطوم‪ ،‬ويقع‪ ،‬مثل‬
‫كافة معابد السفارديم‪ ،‬بالحائط الشرقي للمعبد‪ G،‬وهو القبلة التي يتجه إليها اليهود في صالتهم‬
‫أينما كانوا وهو المكان الذي كانوا يقدمون عنده القرابين قديماً‪.‬‬
‫حفظت مخطوطات التوراة المكتوبة بخط اليد‪ ،‬في معبد الخرطوم‪ ،‬في اسطوانات‬
‫خشبية وتمت تغطيتها بالمخمل ووضعت فوقها األجراس ووضعت على أبواب الهيكل مما‬
‫يجعلها تقرع عند فتح الباب لتعطي إحساساً بالخشوع وجواً من الرهبة عند دخول الهيكل‪.‬‬
‫ويبدو أن حفظ مخطوطات التوراة في األسطوانات قد ح ّل مكان وحدتين معماريتين في معابد‬
‫السفارديم‪ :‬أرون هاقودش‪ ،‬وهو دوالب مخصص لحفظ مخطوطات التوراة‪ ،‬والمزوزاة‪ ،‬أو‬
‫عضادة الباب وهي اسطوانات تثبت على القوائم اليمنى لألبواب وتحتوي على بضع آيات‬
‫(‪)16‬‬
‫من التوراة مكتوبة بخط اليد‪.‬‬
‫أوصى العهد القديم بفصل الرجال عن النساء في المعبد لذا فإن شرفة النساء‪،‬‬
‫وتسمى بالعبرية "عزرات نشيم"‪ ،‬هي واحدة من الوحدات والعناصر المعمارية المهمة في‬
‫وقد ألحقت بمعبد الخرطوم‬ ‫(‪)17‬‬
‫المعابد اليهودية‪ G.‬وتكون عادة بالطابق العلوي للمعبد‪G.‬‬
‫(‪)18‬‬
‫"عزرات نشيم" في الطابق العلوي من المعبد‪ G‬في مقابل الهيكل‪.‬‬
‫وفي وسط معبد‪ G‬الخرطوم أقيمت منصة متحركة مع مكتب عرضه ثمانية أقدام‬
‫ليكون بمثابة "بيماه" أو "تيفاه"‪ ،‬وهي مفردات عبرية‬ ‫(‪)19‬‬
‫مواجه للمصليين في اتجاه الهيكل‪،‬‬
‫تعني المنبر الذي تدار من فوقه الصالة وقراءة أسفار التوراة‪.‬‬

‫اليهودي وذبح كهنة بعل‪ ،‬وقد شاركه في ثورته النبي إليشع‪ .‬وبحسب الرواية التوراتية فإن إلياهو‬
‫لم يمت وإ نما صعد إلى السماء في عربة نارية‪ ،‬لذا فهو يكون حاضراً في الشعائر اليهودية‪،‬‬
‫وسيعود إلى األرض فيكون مقدمه هو البشارة لقدوم الماشيح "مخلص اليهود"‪ .‬للمزيد حول النبي‬
‫إلياهو أنظر‪ :‬عبد الوهاب المسيري‪ ،‬الموسوعة‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.32‬‬
‫(‪ )16‬النبوي جبر سراج‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.27 -26‬‬
‫(‪ )17‬نفسه‪ ،‬ص ص ‪.29 -28‬‬
‫(‬
‫‪18) Malka, op cit, pp 37- 38.‬‬
‫(‪ )19‬مكي أبو قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.24‬‬

‫‪131‬‬
‫ووضع في أحد أركان المعبد‪ G‬ما يعرف بكرسي النبي ألياهو‪ ،‬وقد تم صنعه من‬
‫الخشب بارتفاع تسعة أقدام وعرض خمسة أقدام‪ ،‬وفيه تتم شعائر الختان ودعاءات قضاء‬
‫ويعتقد اليهود أن النبي ألياهو يكون حاضراً خصوصاً عند تنفيذ عهد الختان إال‬ ‫(‪)20‬‬
‫الحاجات‪.‬‬
‫(‪)21‬‬
‫أن الرجل العادي ال يستطيع أن يراه‪.‬‬
‫ممارسة الشعائر والطقوس اليهودية‬
‫للشعائر تاريخ طويل في اليهودية‪ ،‬وقد استمر تراكم الشعائر‪ ،‬وهي كثيرة‬
‫وصارمة‪ ،‬ومن أهمها الصالة التي ال يمكن أن تقام إال بوجوب النصاب "منيان" وارتداء شال‬
‫الصالة "طاليت" وطاقية الصالة "يرملك"‪ .‬وعلى اليهودي أن يقيم شعائر كثيرة من المهد إلى‬
‫اللحد فهناك الختان وشعائر بلوغ سن التكليف الديني‪ ،‬وعليه طوال حياته أن يتبع قوانين‬
‫(‪)22‬‬
‫الطعام والذبح الشرعي‪ ،‬وغيرها من الطقوس‪.‬‬
‫كان الحاخام ملكا هو القائد الديني للمعبد‪ G‬الجديد في الخرطوم‪ ،‬وقد أصبح اآلن‬
‫يتقاضى راتباً نظير قيادته الدينية‪ G‬للجالية‪ ،‬وكان يقوم بمهام تهويد أبناء الطائفة وتنفيذ عهد‬
‫ختانهم‪ ،‬وتهذيبهم وتثقيفهم‪ ،‬وتحرير عقود الزواج‪ ،‬ومباشرة إجراءات دفن الموتى‪ ،‬وإ قامة‬
‫حلقات الوعظ‪ ،‬وكل ذلك وفقاً "للهاالكاه"‪ ،‬أو الشريعة اليهودية‪G.‬‬
‫فقد جاء في‬ ‫(‪)23‬‬
‫يعتبر الختان في الدين اليهودي عهداً بين الرب وأبناء إبراهيم‪،‬‬
‫العهد القديم‪" :‬وقال الرب إلبراهيم‪ :‬أما أنت فأحفظ عهدي‪ ،‬أنت وذريتك من بعدك‪ G‬مدى‬
‫أجيالهم‪ .‬هذا عهدي الذي بيني وبين ذريتك من بعدك الذي عليكم أن تحفظوه‪ :‬أن ُيختتن كل‬
‫ذكر منكم تختنون رأس قلفة ُغرلتكم فتكون عالمة العهد الذي بيني وبينكم تختنون على مدى‬
‫أجيالكم كل ذكر فيكم ابن ثمانية أيام سواء كان المولود من ذريتك أم كان ابناً لغريب مشترى‬
‫بمالك ممن ليس من نسلك‪ .‬فعلى كل وليد سواء ولد في بيتك أم اشترى بمال أن يختن فيكون‬
‫عهدي في لحمكم عهداً أبدياً‪ .‬أما الذكر األغلف الذي لم يختن‪ ،‬يستأصل من بين قومه ألنه‬

‫(‬
‫‪20)Malka, op cit, p 40.‬‬
‫(‬
‫‪21)Louis Ginzberg, The Legends of the Jews, The Jews Population Society‬‬
‫‪of Amirca, Philadelphia, 1968, p 338.‬‬
‫(‪ )22‬عبد الوهاب المسيري‪ ،‬الموسوعة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.45‬‬
‫(‬
‫‪23)E. Royston Pike, Encyclopedia of Religion and Religious, The World‬‬
‫‪Publishing Company, New York, 4th reprinting, 1961, p. 215.‬‬

‫‪132‬‬
‫ونتبين أهمية عهد الختان في الدين اليهودي إذا علمنا أن الطفل إذا مات قبل‬ ‫(‪)24‬‬
‫نكث عهدي"‪.‬‬
‫مرور سبعة أيام على والدته فإن جثمانه يختن ويعطى اسماً عبرياً قبل أن يدفن في مقابر‬
‫(‪)25‬‬
‫اليهود‪.‬‬
‫واستجابة لهذه التوجيهات الصارمة كانت مهمة تنفيذ عهد الختان من أولى المهام‬
‫التي تطوع الحاخام سولومون ملكا بأدائها‪ ،‬فأصبح موهيل الجالية‪ ،‬وتعني الطهّار‪ ،‬وتعرف‬
‫عملية الختان في الشريعة اليهودية‪ G‬ببيرت مياله‪.‬‬
‫كان أول بيرت مياله في نحو عام ‪ 1909‬وأجراه الموهيل على ابنه في اليوم‬
‫الثامن لوالدته‪ ،‬وذلك لما رآه من خوف اليهود على أوالدهم من عدم نجاح العملية‪ .‬وقد نجح‬
‫شجع بقية أفراد الجالية على تقديم أوالدهم للموهيل‬
‫الختان دون أي أضرار جانبية مما ّ‬
‫الجديد‪ ،‬وكان من أوائل األطفال الذين تم ختنهم في الخرطوم‪ ،‬ديفيد بسيوني‪ ،‬وسليمان‬
‫بسيوني‪ ،‬وقد أجريت لهم العملية بعدما تجاوزوا اليوم الثامن بل أن ديفيد بسيوني كان قد‬
‫وبعد ذلك التزمت الجالية بختان كل أبنائها الذكور في اليوم الثامن‬ ‫(‪)26‬‬
‫أكمل العام من عمره‪.‬‬
‫من والدتهم تنفيذاً لعهد الرب‪.‬‬
‫وبعد تأسيس معبد الجالية الجديد في الخرطوم أصبح "لبيرت مياله" شكل أكثر‬
‫طقوسية‪ ،‬فيؤخذ "كرسي إلياهو" إلى دار المولود الجديد ويختن الطفل بعد إجالسه في كرسي‬
‫النبي إلياهو في اليوم الثامن من عمره‪ .‬ويلبس الطفل ثوباً طويالً من الحرير األبيض يغطي‬
‫سرواله‪ ،‬وفي لحظة الختان ينشد الحاخام بعض المقاطع باللغة العبرية مرحباً باسم الرب‪:‬‬
‫)‬
‫"باروخا حابا بي شيم أدوناي ‪Baroukha Habba Be Shem Adonai".(27‬‬
‫ويبدو أن البعد الصوفي واإليمان بالغيبيات كان متوافراً لدى يهود السودان‪ ،‬إذ‬
‫كانت النسوة الراغبات في اإلنجاب من العاقرات يأتين ليتحلقن حول "كرسي النبي إلياهو"‬
‫ويلمسنه‪ ،‬ولعله يشكل رمز الذكورة أو الفحولة بالنسبة إليهن لما يصاحبه من طقس مرتبط‬
‫بعضو الذكورة عند الرجل‪ .‬كذلك تأتي لكرسي إلياهو الباحثات عن الزواج من الفتيات‬

‫(‪ )24‬العهد القديم‪ ،‬سفر التكوين‪ ،‬اإلصحاح السابع عشر‪ ،‬اآليات ‪.14 -9‬‬
‫(‪ )25‬عبد الوهاب المسيري‪ ،‬الموسوعة‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.47‬‬
‫(‬
‫‪26)Malka, op cit, p 31.‬‬
‫(‬
‫‪27) Ibid, p 48.‬‬

‫‪133‬‬
‫والعوانس والعازبات حيث يرتدين فساتين الزفاف بخمارها األبيض ويتسابقن لحمل الطفل‬
‫(‪)28‬‬
‫المختون ظناً منهن أن من ستحظى بهذا الشرف فهي ستحظى بعريس بال شك‪.‬‬
‫واستطاع المعبد اليهودي‪ ،‬بإشراف الحاخام‪ ،‬أن يوفر احتياجات الجالية من اللحم‬
‫المعد وفقاً لتعاليم الشريعة اليهودية‪ ،‬وكان المعبد‪ G‬يشرف على عملية ذبح احتياجات الجالية‬
‫من اللحم في مذبحة أم درمان للتأكد من إجرائها بالشكل الشرعي "شحيطاه"‪ ،‬ويتم الذبح‬
‫الشرعي بسكين ذي مواصفات محددة‪ ،‬وبطريقة معينة بعد فحص الحيوان فحصاً دقيقاً للتأكد‬
‫من طهارته‪ ،‬وألهمية وتعقيد عملية الشحيطاه فيجب أن يقوم بها شخص مؤهل يطلق عليه‬
‫وبذا فإننا نستنتج أن مذبحة أم درمان البد وأن تكون قد عرفت شحيطاً ما‪،‬‬ ‫(‪)28‬‬
‫اسم "شحيط‪.‬‬
‫وهو ما لم نجده في المصادر المختلفة‪.‬‬
‫وفي داخل المعبد مارس اليهود شعائرهم السبتية واليومية والموسمية‪ ،‬مثل‬
‫االحتفال بيوم كيبور‪ ،‬وكان يهود السودان يصومون في هذا اليوم‪ ،‬ويفطرون على مشروب‬
‫"الحلو مر" السوداني ألنه يساعدهم على االرتواء‪ .‬وهو ما يعكس ارتباطهم الثقافي‬
‫كما مارسوا عاداتهم وتقاليدهم العبرانية والسفاردية بحرية كاملة دون مضايقة‬ ‫(‪)30‬‬
‫بالسودان‪.‬‬
‫سواء من السلطات البريطانية أو من السودانيين‪G.‬‬

‫(‬
‫‪28) Malka, op cit, p 31‬‬
‫(‬
‫‪29) Ibid, p 31.‬‬
‫ولعل الذبح الشرعي اليهودي ال يختلف كثيراً عن نظيره اإلسالمي‪ ،‬يقول تعالى "وطعام الذين أوتوا‬
‫الكتاب حل لكم" ويبدو أن المعني طعام اليهود‪ ،‬والشاهد ما أورده عبد اهلل الطيب من "أن النصارى‬
‫يخنقون الدجاج والبط واألوز الرومي‪ ،‬والطواويس يخنقونها في هولندا والمنخنقة مما حرم‪.‬‬
‫ولألوربيين في قتل الحيوانات أساليب منكرة‪ G‬منها الطعن بآلة حادة في الرأس‪ ،‬ثم يقطعون رؤوسها‬
‫من وراء‪ .‬وأكل المجثمة حرام"‪ ،‬وجملة هذه األسباب تجعل المسلمين في أوربا يبحثون عن‬
‫المطاعم اليهودية‪ ،‬إذا تعذر وجود مطاعم إسالمية‪ ،‬لتناول وجباتهم‪ .‬أنظر‪ :‬عبد اهلل الطيب‪ ،‬من‬
‫نافذة‪ 0‬القطار‪ ،‬دار جامعة الخرطوم للنشر‪ ،1980 ،‬ص ‪.22‬‬
‫‪ )30‬يوم كيبور‪ Yom Kippur G‬هو أحد األعياد اليهودية المهمة وكيبور كلمة عبرية تعني‬ ‫(‬

‫التكفير‪ ،‬فهو عيد التكفير عن ذنوب "شعب اهلل"‪ .‬أنظر في هذا الخصوص‪:‬‬
‫‪Encyclopedia Britannica, Chicago, 1971, Vol. 10, p. 218.,‬‬
‫وقد اتفقت ُج ّل المقابالت‪ G‬التي قمت بإجرائها أن اليهود والسودانيون كانوا يتشاركون الطعام‪ .‬أما‬
‫الحلو مر أو اآلبري فهو مشروب سوداني يصنع من منقوع‪ G‬الذرة وتضاف إليه التوابل والبهارات‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫وكان الحاخام يشرف أيضاً على أداء الشعائر الجنازية قبل دفن األموات من أفراد‬
‫ولم يكن‬ ‫(‪)31‬‬
‫الجالية‪ ،‬وأنشئت مقابر خاصة بالجالية بمنطقة الخرطوم عند مدخلها الجنوبي‪.‬‬
‫(‪)32‬‬
‫مسموحاً أن يدفن بها غير اليهود‪ G،‬وسمحوا لها أن تضم رفات اليهود من خارج السودان‪.‬‬
‫كانت وفاة الحاخام سولومون ملكا في ‪ 1949‬حدثاً أفجع قلوب أفراد الجالية‬
‫اليهودية في السودان‪ ،‬وقد دفن في مقابر اليهود بالخرطوم وفقاً للشريعة اليهودية‪ ،‬ويبدو أن‬
‫نفوذه كان واسعاً وعالقاته كانت ممتدة‪ G،‬فقد شارك في تشييع جثمانه ممثلون لحكومة‬
‫السودان‪ ،‬ورجال الدين اإلسالمي‪ ،‬والمسيحي‪ ،‬وزعماء الطوائف الدينية مثل السيد عبد‬
‫الرحمن المهدي والسيد علي الميرغني‪ ،‬وأسقف الكنيسة الكاثوليكية الرومانية‪ ،‬ورئيس‬
‫(‪)33‬‬
‫األكليروس البروتستانت بأم درمان‪.‬‬
‫وتخليداً لذكراه وتقديراً لتفانيه في خدمة الجالية اليهودية‪ G‬بالسودان لنحو خمسة‬
‫وأربعين عاماً‪ ،‬أطلق اسم "أوهيل شيلومو" على المعبد‪ G‬اليهودي في الخرطوم (ت‪،)195 .‬‬
‫ووضعت لوحة رخامية ضخمة على الجدار في الهيكل كتب عليها عبارة "إهداء للحاخام‬
‫وزوجته حنا"‪ .‬كما قام يهود السودان بوضع لوحة تذكارية للحاخام ملكا في الطابق الثاني من‬
‫(‪)34‬‬
‫معبد‪ G‬السفارديم المركزي "بيسابراشا" بالقدس‪.‬‬

‫‪ )31‬يبدو أنه كانت للجالية اليهودية أكثر من مقبرة في الخرطوم وأم درمان‪ ،‬كما كان للجالية جزء‬ ‫(‬

‫خاص لدفن الموتى من اليهود في مقابر النصارى بأبو صليب‪ ،،‬لكن أشهر المقابر اليهودية‬
‫بالسودان هي مقبرة الخرطوم ومكانها‪ G‬تحت كبري الحرية حاليًا‪ ،‬وتشير بعض المصادر إلى أن‬
‫يهود المهجر نقلوا رفات ذويهم من هذه المقابر؛ أنظر في هذا الخصوص‪ :‬عادل سيد أحمد‪" ،‬يهود‬
‫السودان من زمان حتى اآلن" سلسلة مقاالت‪ G‬صحفية‪ ،‬صحيفة الوطن‪ ،‬ابتداء من تاريخ ‪ 29‬يونيو‬
‫‪ .2008‬كما أكد لي المعلومة الدكتور قيصر موسى الزين وقد عاصر عملية نقل الرفات إبان سكنه‬
‫بمنزل هاشم البغدادي بحي أبو صليب‪.‬‬
‫‪ )32‬مكي أبو قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪34‬؛ ويذكر أنه في نحو عام ‪ 1945‬تحطمت طائرة قادمة‬ ‫(‬

‫من جنوب أفريقيا وبها طياران من اليهود‪ ،‬فسمح بدفنهم في مقابر اليهود في الخرطوم وأقيمت لهما‬
‫مراسم جنائزية يهودية بإشراف حاخام الجالية اليهودية في السودان‪ ،‬وحضرها مفتش مركز‬
‫الخرطوم اإلنجليزي نفسه‪.‬‬
‫(‬
‫‪33) Malka, op cit, p 45.‬‬
‫(‪ )34‬مكي أبو قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.29 -28‬‬

‫‪135‬‬
‫ويبدو أن الجالية واجهت صعوبات في إيجاد حاخام بديل إذ تعاقدت مع الحاخام‬
‫ماسياله واستقدمته من تل أبيب إال أنه ما لبث أن عاد أدراجه‪ ،‬ثم استقدمت الحاخام حاييم‬
‫سيموني الذي لم يبق أكثر من سابقه‪.‬‬
‫وأخيراً نعمت الجالية ببعض االستقرار الديني مع استقدامها لحاخام شاب من مصر‬
‫اسمه مسعود الباز وقد عمل في خدمة الجالية واإلشراف على حياتها الدينية حتى أوائل‬
‫السبعينات من القرن العشرين‪ ،‬حيث انتقل إلى المعبد اليهودي بجنيف‪ ،‬سويسرا‪ ،‬الذي أنشأه‬
‫(‪)35‬‬
‫نسيم قاوون‪ ،‬أحد أبناء الجالية اليهودية بالسودان‪.‬‬
‫ويبدو أن الجالية السودانية قد عرفت حاخاماً آخر هو إسرائيل برودي لكنه لم‬
‫يرتبط بالمعبد‪ G‬اليهودي في الخرطوم‪ ،‬ولم ينشيء معبداً خاصاً به‪ .‬ولعله استقدم من بريطانيا‬
‫للقيام بواجب الرعاية الدينية لليهود العاملين في الجيش اإلنجليزي إذ كان يقطن في ثكنات‬
‫(‪)36‬‬
‫الجيش البريطاني بالسودان‪ ،‬وكان يزور الحاخام سولومون ملكا بين الحين واآلخر‪.‬‬

‫(‪ )35‬نفسه‪ ،‬ص ‪.28‬‬


‫‪ )36‬صالح محمد علي عمر‪ ،‬الدور السوداني في تحرير أثيوبيا وإ رجاع اإلمبراطور هيالسالسي إلى‬ ‫(‬

‫عرشه ‪ ،1941 -1935‬مركز البحوث والدراسات اإلفريقية‪ ،‬الخرطوم‪ ،2005 ،‬ص ‪.186‬‬

‫‪136‬‬
‫المبحث الثاني‬

‫الحياة االجتماعية للجالية اليهودية في السودان‬

‫‪137‬‬
‫تأسيس النادي اليهودي في الخرطوم وتعزيز التواصل الداخلي بين اليهود‬
‫لم تكن فكرة إنشاء نادي‪ ،‬أو أي ملتقى عام تتجمع فيه الجالية اليهودية‪ G،‬فكرة مقبولة‬
‫على اإلطالق وسط كبار السن من اليهود‪ G.‬وهو شعور طبيعي لمجموعة تحمل في ظهرها‬
‫عبء تاريخ طويل من االضطهاد وسوء المعاملة‪ ،‬والحياة القاسية في الجيتوهات‪ ،‬في‬
‫مختلف أنحاء العالم‪ ،‬وفي ظل الدولة المهدية‪ G‬في السودان‪ .‬إال أن الجيل الجديد من اليهود‬
‫الذين ولدوا في السودان‪ ،‬أو قدموا إليه وهم أطفال‪ ،‬كانوا أكثر حماسة للتعبير عن أنفسهم‬
‫وتعزيز عالقاتهم ببعضهم البعض‪.‬‬
‫بدأ النادي اليهودي كفريق لكرة القدم (ت‪ )1928 .‬يضم الشباب من أبناء الجالية‬
‫وأطلق عليه اسم فريق مكابي لكرة القدم‬ ‫(‪)37‬‬
‫الذين تتراوح أعمارهم بين ‪ 25 -15‬سنة‪،‬‬
‫وتيمناً بفريق مكابي للسلة القاهري والذي اكتسب بانتصاراته‬ ‫(‪)38‬‬
‫استلهاماً لتاريخهم العبري‪،‬‬
‫(‪)39‬‬
‫شهرة واسعة في أوربا وفي الشرق األوسط‪.‬‬

‫(‬
‫‪37) Malka, op cit, p 66.‬‬
‫‪ )38‬أطلق اسم المكابيين على عائلة يهودية ثارت ضد ملك سوريا في نحو عام ‪ 170‬ق‪ .‬م‪،‬‬ ‫(‬

‫ومكابي‪ G‬هو اسم جوداش‪ ،‬أحد أبناء ماثياس‪ ،‬ولعله أول من ثار؛ وقد تطورت ثورته من معارضة‬
‫دينية لعدم تقديس يوم السبت إلى ثورة قومية انتهت‪ G‬بانتصار المكابيين واستقالل اليهود وإ نشاء‬
‫جمهورية يهودية دامت نحو ثمانين عاماً انتهت‪ G‬بدخول الرومان مسرح األحداث عام ‪70‬م‪ .‬وقد‬
‫وثقت‪ G‬أحداث قصة مكابي كتابة عام ‪ 100‬ق‪ .‬م على نحو يختلط فيه التاريخ باألسطورة‪ ،‬ويعتبر‬
‫ال في تقاليدهم الشفاهية الموروثة‪ ،‬ورمزًا من رموز القومية للشعب‬
‫اليهود هؤالء المكابيين أبطا ً‬
‫العبراني‪ .‬للمزيد حول هذا الخصوص أنظر‪:‬‬
‫‪E. Royston Pike, Encyclopeadia of Religon and Religions, op cit, pp 238-‬‬
‫‪239.‬‬
‫أنظر أيضاً‪ :‬محمود محمد طه‪ ،‬مشكلة الشرق األوسط‪ :‬تحليل سياسي‪ ،‬استقراء تاريخي‪ ،‬حل‬
‫علمي‪ ،‬أم درمان‪( ،‬د‪ .‬ط)‪ ،1967 ،‬ص ص ‪.97 -96‬‬
‫(‬
‫‪39) Malka, op cit, p 66.‬‬

‫‪138‬‬
‫كان الالعبون األساسيون بفريق مكابي‪ ،‬كما ذكرنا‪ ،‬من المولودين في الخرطوم أو‬
‫الذين قدموا إليه وهم أطفال أمثال‪ :‬سليمان بسيوني‪ ،‬ديفيد بسيوني‪ ،‬إلياهو ملكا‪ ،‬شالوم‬
‫كما ضم الفريق شاباً مسلماً اسمه ماهر‪ ،‬وكان اليهود‬ ‫(‪)40‬‬
‫سيروسي‪ ،‬لوموريس ماكوفيتش‪.‬‬
‫وقد شارك الفريق في دورة روابط كرة القدم بالخرطوم مع فرق‬ ‫(‪)41‬‬
‫ينادونه باسم مايير‪.‬‬
‫(‪)42‬‬
‫الجاليات‪ :‬اليونانية‪ ،‬والسورية‪ ،‬والبريطانية‪.‬‬
‫ولعل االستقرار الذي نعمت به الجالية وعدم تعرضها ألية مضايقات جراء إعالن‬
‫الشباب عن أنفسهم‪ ،‬كل ذلك غيَّر من موقف كبار الجالية ودفعهم الستيعاب الواقع الجديد‪G.‬‬
‫(‪)43‬‬
‫وسرعان ما استجابوا لنداء الشباب بتكوين نادي يهودي‪.‬‬
‫استُْئ ِج َر للنادي مقر بشارع فكتوريا‪ ،‬أي بالقرب من المعبد اليهودي‪ ،‬وأصبح طابعه‬
‫ْ‬
‫اجتماعياً أكثر منه رياضياً‪ .‬إال أن النادي لم يكن مستقراً في بادئ األمر بسبب عدم ملكية‬
‫النادي‪ ،‬وبسبب الحذر والتردد في اإلقبال على النادي خصوصاً من النساء وكبار السن‪ .‬وفي‬
‫عام ‪ 1930‬اشترت شركة ليكوس أخوان ‪ Licos Brothers‬مقر النادي من مالكه وأنشأت‬
‫(‪)44‬‬
‫في مكانه صالة عرض سينمائي‪.‬‬
‫بعد بيع المقر توقف نشاط النادي لمدة عشر سنوات‪ .‬وفي مطلع عام ‪ 1940‬تعاون‬
‫شباب الجالية‪ ،‬الذين أصبحوا رجاالً‪ ،‬مع كبار السن في الجالية واستطاعوا تأمين قطعة‬
‫أرض واسعة باسم الجالية خلف المعبد اليهودي وأسسوا فوقها النادي اليهودي في الخرطوم‪،‬‬
‫(‪)45‬‬
‫والذي لعب دوراً كبيراً في حياة الجالية في مقبل األيام‪.‬‬
‫بذل مجلس الجالية اليهودية في السودان جهداً إدارياً كبيراً للحصول على قطعة‬
‫أرض إلنشاء النادي اليهودي في الخرطوم‪ .‬ونفهم من الخطاب الذي أرسله مدير عام‬

‫(‪ )40‬مكي أبو قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.46‬‬


‫(‬
‫‪41) Malka, op cit, p 67.‬‬
‫(‪ )42‬مكي أبو قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.46 -45‬‬
‫(‬
‫‪43) Malka, op cit, p 67.‬‬
‫(‬
‫‪44) Ibid, 67.‬‬
‫ال عن كلمة شراء إذ أن األرض منحت لليهود بسعر رمزي جدًا‪.‬‬
‫‪ )45‬نستخدم هنا كلمة "تأمين" بد ً‬ ‫(‬

‫أنظر‪ :‬مجموعة السكرتير اإلداري‪ ..Jewish Community in the Sudan, 10, 1, 6 ،‬دار‬
‫الوثائق القومية‪ ،‬الخرطوم‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫أراضي الخرطوم للسيد السكرتير بواسطة السيد السكرتير اإلداري أن الجالية اليهودية‪G‬‬
‫تقدمت بطلب لمنحها قطعة أرض مساحتها ‪ 800‬متر مربع في منطقة الخرطوم شرق إلقامة‬
‫النادي اليهودي‪ .‬وقد أوصى الحاكم العام بمنح الجالية قطعة األرض التي طلبوها مستنداً‬
‫على ما ذكرته الجالية من مبررات‪ ،‬وهي‪ :‬أن الجالية فقيرة وال تستطيع شراء قطعة‬
‫األرض‪ ،‬وأن النادي الذي كانت تستأجره قد قام بشرائه السيد ليكوس بغرض إقامة سينما‬
‫وأن الحكومة سبق ومنحت قطعة أرض للمدرسة السودانية لتقيم عليها نادياً‪ ،‬وعلى‬ ‫(‪)46‬‬
‫عليه‪.‬‬
‫(‪)47‬‬
‫الحكومة أن تعامل الجالية اليهودية‪ G‬بالمثل‪.‬‬
‫ورغم تعليق السكرتير اإلداري في رده على الخطاب بأنه ليست هناك مقارنة بين‬
‫نادي الجالية ونادي المدرسة‪ ،‬وعدم اقتناعه بمسألة فقر الجالية خصوصاً عند مقارنتها مع‬
‫(‪)48‬‬
‫الجاليات األخرى إال أنه دعم الطلب‪.‬‬
‫وأخيراً منحت الجالية قطعة األرض التي أرادتها على شارع فكتوريا وأنشيء‬
‫عليها النادي اليهودي في الخرطوم‪.‬‬
‫احتوى النادي على مسرح مفتوح للرقص‪ ،‬وغرف لالجتماعات‪ ،‬وكافتريا تقدم‬
‫الطعام المذبوح والمعد على الشريعة اليهودية‪ G.‬كما قامت الجالية باستئجار األراضي‬
‫(‪)49‬‬
‫المجاورة للنادي‪ ،‬وأقامت فيها ميادين لممارسة كرة القدم وغيرها من المناشط الرياضية‪.‬‬
‫احتكر شباب الجالية‪ ،‬مؤسسو نادي مكابي لكرة القدم‪ ،‬رئاسة النادي‪ .‬فكان شالوم‬
‫سيروسي‪ ،‬الظهير األيمن للفريق‪ ،‬أول رئيس للنادي‪ ،‬ثم ألبرت قاوون‪ ،‬ثم موريس‬
‫(‪)50‬‬
‫سيروسي‪ ،‬ثم ديفيد ملكا‪ ،‬وأخيراً ليون تمام‪.‬‬

‫‪ )46‬البد وأن مسألة فقر الجالية ال تعدو كونها إحدى المبررات التي ال تعبر عن حقيقة وضعها‬ ‫(‬

‫االقتصادي‪ .‬والسينما المذكورة هنا هي سينما‪ G‬كولوزيوم‪.‬‬


‫‪ )47‬خطاب من مدير عام األراضي للسيد السكرتير المالي عبر السيد السكرتير اإلداري بتاريخ ‪7‬‬ ‫(‬

‫نوفمبر ‪ .1935‬أنظر مجموعة السكرتير اإلداري ‪ .10,1,6 :‬دار الوثائق القومية‪ ،‬الخرطوم‪.‬‬
‫‪ )48‬خطاب السكرتير اإلداري المرفق للسيد السكرتير المالي بتاريخ ‪ 11‬نوفمبر ‪ .1935‬الوثيقة‬ ‫(‬

‫السابقة‪.‬‬
‫(‪ )49‬مكي أبو قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.46‬‬
‫(‬
‫‪50) Malka, op cit, pp 68- 69.‬‬

‫‪140‬‬
‫وقد عزز النادي من عالقات اليهود وتواصلهم االجتماعي وأصبح من أحب‬
‫األماكن لقضاء األمسيات في التحادث وتبادل التحايا والسؤال عن األحوال‪ ،‬وعقد صفقات‬
‫التعاون التجاري‪ ،‬ولعب الورق‪ ،‬والطاولة‪ ،‬وتنس الطاولة‪ ،‬وإ قامة الحفالت الراقصة‪،‬‬
‫والتعارف بين شباب الجنسين وبذر العالقات الحميمة التي أفضى العديد منها لزيجات وإ نشاء‬
‫(‪)51‬‬
‫أسر ناجحة‪.‬‬
‫وأسهم إنشاء النادي في العديد‪ G‬من الروابط االجتماعية فقد شهدت الجالية اليهودية‬
‫في الخرطوم وحدها نحواً من ‪ 35‬زيجة منذ تأسيس النادي (ت‪ )1940 .‬حتى عام ‪،1956‬‬
‫من بين نحو مائة زيجة في الخرطوم وأم درمان والخرطوم بحري طوال الفترة الممتدة من‬
‫)‬
‫عام ‪ 1907‬حتى عام ‪1956.(52‬‬
‫وحتى ال نقع في فخ تنميط الجماعات فينبغي أن نشير هنا إلى أن هذه الفترة شهدت‬
‫عدداً من الصراعات اليهودية اليهودية التي كان معظمها يدور حول مسألة الميراث‪ ،‬ولعل‬
‫هذه الصراعات تركزت بين اليهود الذين كانوا بالسودان قبل الحكم الثنائي إذ أن القادمين‬
‫حديثاً كان كل منهم قد أنشأ نشاطه بمفرده‪ .‬ومن أكبر هذه الصراعات ما وقع بين أبناء‬
‫(‪)53‬‬
‫إسرائيل داؤد بنيامين والذي يتلمس الباحث آثاره حتى اآلن‪.‬‬
‫كما تعكس المعلومات التي تحصلنا عليها على وقوع عدد من الشروخات األسرية‬
‫وسط الجماعات اليهودية‪ G،‬فالعديد‪ G‬من اآلباء‪ ،‬الذي أجبروا على الزواج من سودانيات في‬
‫العهد المهدوي‪ ،‬هربوا من أبنائهم والتحقوا بشريكات يهوديات مثل خضر عبد النبي‪ ،‬وداؤد‬
‫العاني‪ .‬بل أن بعضهم لم يعترف بمن انجب من سودانيات مثل داؤد العاني الذي كان له ابن‬
‫اسمه سليمان من زوجته السودانية‪ ،‬فتزوج من يهودية‪ G‬وسمى ابنه منها بسولومون‪ ،‬ناكراً أن‬
‫له ابن آخر بهذا االسم‪ .‬وقد تسببت هذه الشروخات في أزمات انتماء حادة لدى يهود‬

‫(‬
‫‪51) Ibid, p, 68.‬‬
‫‪ )52‬الزواج "نيسوئين" يجد تشجيعاً كبيراً في اليهودية لكنه ليس من الشعائر المقدسة كما هو الحال‬ ‫(‬

‫في المسيحية‪ ،‬إنما هو عقد ذو طابع اخالقي ديني‪ ،‬وال يمكن أن يتم إال بموافقة الزوجة لذا فإن‬
‫التعارف من أهم الخطوات التمهيدية للزواج‪ ،‬وقد قام النادي بأداء هذا الدور‪ .‬وهو ما دفعنا للحديث‬
‫ال من ذكره مع الشعائر اليهودية‪.‬‬
‫عن الزواج في معرض حديثنا عن النادي بد ً‬
‫(‪ )53‬وقد الحظت رواسب هذا الخالف ّإبان عملي الحقلي مع األسرة ألغراض هذا البحث‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫السودان‪ ،‬وبالمقابل فإن هؤالء األبناء انتموا إلى عائالت أمهاتهم‪ ،‬ولم يجدوا اعترافاً يهودياً‬
‫(‪)54‬‬
‫بهم لعدم تحدرهم من أم يهودية‪.‬‬
‫التحق معظم أبناء الجالية اليهودية في السودان‪ ،‬أسوة بنظرائهم من أبناء الجاليات‬
‫األجنبية في السودان‪ ،‬بالمدارس النظامية منذ وقت مبكر‪ .‬وقد التحق بعضهم بالمدارس‬
‫الحكومية مثل‪ :‬يوسف كوهين وإ براهيم كوهين ويعقوب إبراهيم عدس وفكتور إبراهيم عدس‬
‫وموسى إبراهيم عدس وزكي إبراهيم عدس‪ ،‬الذين التحقوا بالمدرسة األميرية الوسطى‬
‫إال أن معظم اليهود كانوا يحبذون أن يتعلم أوالدهم‬ ‫(‪)55‬‬
‫بمدينة ود مدني (ت‪.)1929 .‬‬
‫بمدارس كمبوني ومدرسة الراهبات ومدرسة االتحاد العليا‪ ،‬ثم يرسلونهم إلى أوربا‪ ،‬وإ لى‬
‫ومع ذلك فقد التحق بعضهم‬ ‫(‪)56‬‬
‫بريطانيا على وجه الخصوص‪ ،‬إلكمال تعليمهم الجامعي‪.‬‬
‫بكلية الخرطوم الجامعية مثل فيوال باروخ التي درست في كلية اآلداب‪ ،‬وشيرلي سيزار ليفي‬
‫(‪)57‬‬
‫التي درست في كلية الطب‪ ،‬وموسى ساسون الذي درس في كلية الهندسة‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫واستطاعت الجالية أن تؤمن تدريس العهد القديم ومبادئ الدين اليهودي ألبنائها‬
‫كدراسات متخصصة لمرتين في األسبوع في مدارس الكمبوني‪ ،‬المدرسة الكاثوليكية الكندية‬
‫(‪)58‬‬
‫في مرحلتي التعليم االبتدائي والثانوي‪.‬‬
‫العالقات بين اليهود والسودانيين‬
‫(‪)59‬‬
‫لم يعرف السودان جيتو خاصاً باليهود‪ ،‬كما كان حالهم في معظم أنحاء العالم‪،‬‬
‫وإ ن كان لهم تجمعات سكانية مثل سكنهم في حي المسالمة وحارة اليهود بأم درمان‪ ،‬وحي‬

‫عبر عدد ممن قابلتهم من نسل هؤالء صراحة على الضيق النفسي وانعدام االحساس‬
‫‪ )54‬وقد ّ‬
‫(‬

‫باألمان‪ ،‬ورغبتهم في إيجاد انتماء وهوية‪ .‬وقد ّأزم من موقف هؤالء تصاعد الوالءات القبلية في‬
‫السودان‪ ،‬واعتبار مسألة النسب أساس التقييم االجتماعي في السودان‪.‬‬
‫‪ )55‬صالح محمد أحمد‪ ،‬موضوع عن اليهود في السودان‪ ،‬بحث مقدم لنيل درجة الدبلوم العالي‬ ‫(‬

‫في الدراسات اإلفريقية واآلسيوية‪ ،‬جامعة الخرطوم‪ ،1976 ،‬ص ‪18‬؛ نقالً عن‪ :‬كشوفات تسجيل‬
‫مدرسة مدني األميرية الوسطى‪.‬‬
‫(‪ )56‬نفسه‪ ،‬ص ‪.18‬‬
‫‪ )57‬مقابلة مع السيد يوسف فضل حسن (البروفسير)‪ .‬وقد تأكدت لي هذه المعلومات في مقابلتي‬ ‫(‬

‫األولى مع الدكتورة فريدة إسحق إسرائيل‪.‬‬


‫(‬
‫‪58) Malka, op cit, p 88.‬‬

‫‪142‬‬
‫(‪)60‬‬
‫أبو صليب بالخرطوم‪ .‬وكان معظم اليهود من الطبقة الغنية أو المتوسطة الدخل‪،‬‬
‫باإلضافة لنيلهم حظاً طيباً من التعليم‪ ،‬مما مكنهم من االحتكاك مع صفوة المجتمع السوداني‬
‫في ذلك الوقت من كبار التجار وأثرياء ووجهاء الخرطوم وزعماء الطوائف والمثقفين‬
‫والبيروقراطية السودانية الناشئة‪ ،‬وإ قامة العالقات الحميمة معهم‪.‬‬
‫وقد الحظت أن العالقات بين اليهود والسودانيين‪ G‬قد تأسست على ما أسميناهم بالفئة‬
‫وتتكون من اليهود الذين عاصروا السودان منذ عهد الدولة المهدية‪ G،‬والحرفيين‪،‬‬ ‫(‪)61‬‬
‫الثانية‪،‬‬
‫وصغار التجار‪ ،‬ومتوسطي الدخل‪ ،‬و"المسالمة"‪ ،‬واليهود المتخفين‪.‬‬
‫ولعل االرتباط البيولوجي الذي فرضته المهدية‪ G‬بإجبار "المسلمانية" على الزواج من‬
‫سودانيات‪ ،‬كان أساساً للتواصل وترابط العالقات بين اليهود والسودانيين‪ .‬ومن أنصع األمثلة‬
‫على هذه االرتباطات زواج سليمان ماندل "منديل" من سودانية‪ ،‬وقد أقام ماندل بمدينة‬
‫األبيض وأنجب أبناء سودانيين‪ ،‬وعرف ابنه داؤد بنشاطه الصحفي الواسع‪.‬‬
‫لم تكن بالسودان صحيفة غير جريدة حضارة السودان‪ ،‬وقد شجعت على قيامها‬
‫الحكومة ومنحت امتيازها للسادة الثالثة‪ :‬عبد الرحمن المهدي‪ ،‬علي الميرغني‪ ،‬والشريف‬
‫يوسف الهندي‪ ،‬وكانت جريدة شبه رسمية تعبر عن رأي حكومة السودان‪ .‬فكان أن ابتدر‬
‫والتي نشرت لرواد الحركة الوطنية في‬ ‫(‪)62‬‬
‫داؤد منديل إنشاء جريدة ملتقى النهرين‪،‬‬

‫‪ )59‬الجيتو هو الحي المقصور على إحدى األقليات الدينية أو القومية‪ ،‬لكن التسمية أصبحت‬ ‫(‬

‫ترتبط‪ G‬أساساً بأحياء اليهود في أوربا‪ ،‬والمعنى الشائع له أنه المكان الذي ُيفرض على اليهود أن‬
‫يعيشوا‪ G‬فيه‪ ،‬ويحاط الجيتو بسور عال له بوابة أو أكثر تغلق عادة عند المساء‪ .‬حول الجيتو‬
‫وخصائصه وبنيته أنظر‪ :‬عبد الوهاب المسيري‪ ،‬الموسوعة‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‬
‫‪ .434‬والشاهد أن اليهود رغم تجمعهم‪ G‬للسكن بجوار بعضهم البعض إال أن ذلك عادة ما يتم برضا‬
‫منهم وربما دون وعي‪ ،‬كما لم ِّ‬
‫يؤد هذا الطابع لعزل اليهود إنما شاركهم بالسكن في أماكن تجمعاتهم‪G‬‬
‫بعض من أعيان البالد‪.‬‬
‫(‪ )60‬صالح محمد أحمد‪ ،‬موضوع عن اليهود‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.62‬‬
‫(‪ )61‬أنظر الفصل الثالث من هذا البحث‪.‬‬
‫‪ )62‬خضر حمد‪ ،‬مذكرات خضر حمد‪ :‬الحركة الوطنية السودانية‪ ،‬االستقالل وما بعده‪ ،‬الطبعة‬ ‫(‬

‫األولى‪ ،1980 ،‬ص ‪.44‬‬

‫‪143‬‬
‫كما اهتم داؤد منديل بالتراث السوداني فكان أول من نشر الدوبيت السوداني‬ ‫(‪)63‬‬
‫السودان‪.‬‬
‫وبالجملة فقد أصبح نسل سليمان منديل‬ ‫(‪)64‬‬
‫وراتب اإلمام المهدي‪ ،‬وطبقات ود ضيف اهلل‪.‬‬
‫سودانيين عاطفة وانتماء‪ ،‬وبذلوا ألجل هذا االنتماء كل ما وسعهم‪.‬‬
‫ومن األمثلة الساطعة لتفاعل اليهود مع الحياة السودانية أسرة التاجر البغدادي‬
‫وأنجب منها أحد رواد‬ ‫(‪)65‬‬
‫إسرائيل داؤد بنيامين‪ G،‬وقد تزوج في العهد المهدوي من سودانية‪،‬‬
‫الحركة الوطنية وأحد طالئع المسرحيين في السودان وهو السيد إبراهيم إسرائيل الشهير‬
‫بإبراهيم إسرائيلي‪.‬‬
‫وكان من‬ ‫(‪)66‬‬
‫انتخب السيد إبراهيم إسرائيل في أول لجنة لنادي الخريجين‪،‬‬
‫وعلى الرغم من أن رئاسة هذا النادي الفخرية‬ ‫(‪)67‬‬
‫المساهمين نظرياً في تأسيس هذا النادي‪.‬‬
‫كانت للسيد سامسون نائب مدير المعارف اإلنجليزي‪ ،‬إال أن تشكيل أعضاء اللجنة يعكس‬
‫الوجهة الوطنية للنادي‪.‬‬

‫‪ )63‬كانت جريدة ملتقى النهرين صحيفة وطنية ورغم أنها كانت صحيفة أدبية‪ ،‬إال أن رواد‬ ‫(‬

‫الحركة الوطنية كانوا يمتطون األدب للتعبير عن تطلعاتهم االستقاللية‪ .‬ولعل مما يؤكد هذا األمر‬
‫أن الصحيفة كانت تنشر لرواد الحركة الوطنية تحت أسماء مستعارة‪ .‬أنظر‪ :‬خضر حمد‪ ،‬المرجع‬
‫السابق‪ ،‬ص ‪.45‬‬
‫‪ )64‬أبو قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ .13‬أنظر أيضاً‪:‬‬ ‫(‬

‫‪Richard Hill, Bibliography of the Anglo – Egyptian Sudan, from Earliest‬‬


‫‪Times to 1937, 2edition, Frank Cass & Co., LTD., London, 1967. p78‬‬
‫(‪ )65‬أنظر الجزء الموسوم‪" :‬اليهود في السودان في ظل الدولة المهدية" ص ‪.40‬‬
‫‪ )66‬الدرديري محمد عثمان‪ ،‬مذكراتي ‪ ،1958 -1914‬مطبعة التمدن‪ ،‬الخرطوم‪ ،‬الطبعة‬ ‫(‬

‫األولى‪ ،1961 ،‬ص ‪.14‬‬


‫‪ )67‬نادي الخريجين ليس هو مؤتمر‪ G‬الخريجين‪ ،‬وإ ن كان مؤتمر الخريجين‪ ،‬على حد تعبير السيد‬ ‫(‬

‫إبراهيم منعم منصور‪ ،‬هو امتداد لنادي الخريجين‪ .‬مقابلة مع السيد إبراهيم منعم منصور‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫ضمت اللجنة بجانب إبراهيم إسرائيل عدداً من رواد الحركة الوطنية منهم‪ :‬الشيخ‬
‫(‪6‬‬
‫أحمد عثمان القاضي‪ ،‬السيد محمد الحسن دياب‪ ،‬السيد الدرديري محمد عثمان‪ ،‬وآخرون‪.‬‬
‫‪)8‬‬

‫ومن اليهود الذين التحقوا بركب الحركة الوطنية في السودان طالب كلية غردون‬
‫الشاب ديمتري البازار‪ ،‬اإلغريقي األب ويتحدر من جهة والدته من أصل يهودي نمساوي‬
‫وهو حفيد سالطين باشا‪ ،‬وقد فصل من الكلية بعد االحتجاجات والمظاهرات التي نظمها وقام‬
‫(‪)69‬‬
‫بها طالب كلية غردون عام ‪ 1919‬تضامناً مع ثورة سعد زغلول في مصر‪.‬‬
‫ولعل رأس المال اليهودي قد شارك في دفع مسيرة الحركة الوطنية‪ ،‬فتشير بعض‬
‫كما تبرع‬ ‫(‪)70‬‬
‫المصادر إلى أن إسحق إسرائيل قد تبرع من ماله إلنشاء نادي الخريجين‪،‬‬

‫‪ )68‬يقول السيد الدرديري محمد عثمان عن هذا النادي‪" :‬لقد اتجه هذا النادي منذ اليوم األول نهجًا‬ ‫(‬

‫إصالحيًا بهدف تكوين نواة لجيل صالح يتحمل المسئولية"‪ )...(" ،‬ومن حقي أن أقول أنه بالرغم‬
‫من أن أعمال اللجنة لم تنل حظها من الذيوع واالهتمام فقد رسمت منهجاً وطريقاً‪ .‬ولم تذهب‬
‫مجهوداتها‪ G‬هدراً‪ .‬لقد كانت جزءاً من تقاليد السلوك العام الباقية لآلن‪ .‬لقد رميت بحجر في البركة‬
‫الساكنة فولدت الموجة بعد الموجة واتسعت لتشمل دوائر أكبر فأكبر"‪ .‬أنظر‪ :‬الدرديري محمد‬
‫عثمان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪ .15 ،14‬حول هذا النادي ودوره في إثراء ودفع الحركة الوطنية‬
‫في السودان أنظر أيضًا‪ :‬أحمد محمد يس‪ ،‬مذكرات أحمد محمد يس‪ ،‬مركز محمد عمر بشير‪ ،‬أم‬
‫درمان‪ ،‬دار عزة للطباعة والنشر‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،2001 ،‬ص ص ‪.60 -38‬‬
‫‪ )69‬أحمد محمد يس‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ .17‬ويذكر صاحب المذكرات‪ " :‬أن المشاعر الوطنية‬ ‫(‬

‫وحدت بينها آصرة األخوة‬


‫ال تقف عند حد‪ ،‬فال الدين وال الجنس يمكن أن يعيق تلك المشاعر التي ّ‬
‫والمشاركة والحياة المتصلة (‪ )...‬كان ذلك الشاب فناناً بطبعه‪ ،‬ووطد حبه للفن مع أصدقاء له‬
‫شعراء هم المغفور لهم خليل فرح وأحمد عبد الرحيم العمرابي ومصطفى بطران‪ ،‬فلما اندلعت‬
‫الثورة عام ‪ ،1919‬وكان هذان الشابان من المؤمنين بقضية وادي النيل‪ ،‬تقدما موكب‪ G‬المظاهرات‬
‫الهاتف بوحدة وادي النيل وشعارها تحيا مصر‪ ،‬فهتف البازار معهم من كلية غردون التذكارية"‪.‬‬
‫‪ )70‬مقابلة مع اإلخباري مصطفى إسحق داؤد‪ .‬والشاهد أن إبراهيم إسرائيل‪ ،‬األخ األكبر إلسحق‪،‬‬ ‫(‬

‫والذي ساهم في هذا التبرع كان عضواً بلجنة النادي كما ذكرنا‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫حبيب كوهين عبر شركته مع عثمان صالح إلنشاء السينما الوطنية التي أصبحت أول شركة‬
‫(‪)71‬‬
‫مساهمة عامة سودانية‪G.‬‬
‫وعلى الرغم من أن عدداً كبيراً من يهود المهدية ارتدوا عن اإلسالم إال أن االنتماء‬
‫الديني لم يقف عثرة أمام االرتباط البايولوجي‪ ،‬فاحتفظوا بهذا الرابط وأنشأوا من فوقه‬
‫العالقات االجتماعية التي تعززه وتنميه‪ .‬ويبدو أن معظم هؤالء "المندمجين" قد اختاروا‬
‫مفارقة الدين اليهودي‪ ،‬أو كانوا من اليهود العلمانيين إذ تحرم اليهودية‪ G‬الزواج بين اليهود‬
‫وغير اليهود‪ ،‬بل تعتبر أن مثل هذا الزواج هو فجور وزنا مستمرين‪ ،‬ويعتبر األوالد الذين‬
‫(‪)72‬‬
‫يولدون من هذه المعاشرة "المرذولة" أبناء زنى‪.‬‬
‫ومما يؤكد ما ذهبنا إليه ما تعرض له أبناء إسرائيل داؤد بنيامين حيث رفض اليهود‬
‫السماح لهم بالصالة في المعبد‪ G‬اليهودي ألنهم ال يتحدرون من أم يهودية‪ G،‬وقد تمسك أبناء‬
‫إسرائيل بحقهم في الصالة في المعبد حتى وصل األمر إلى حد التشاجر باأليدي‪ .‬وقد انتهى‬
‫األمر بأن أعلن االبن األكبر إلسرائيل تخليه عن الدين اليهودي والتحاقه باإلسالم‪ ،‬وتبعه‬
‫(‪)73‬‬
‫أخوته في ذلك‪.‬‬
‫وقد نبَّه شوقي بدري في كتاباته عن مدينة‪ G‬أم درمان إلى فضل بعض العائالت‬
‫واألسر اليهودية‪ G‬وشرح تعاطيها العميق مع الحياة السودانية بعاداتها وتقاليدها‪ ،‬وتحدث عن‬
‫العديد‪ G‬من الزيجات الطوعية التي تمت بين السودانيين واليهود‪ ،‬ومن أشهرها زواج محمد‬
‫الفضل‪ ،‬أول مدير سوداني لمصلحة السكة الحديد‪ ،‬من السيدة وردة إسرائيل‪ ،‬وزواج إسحق‬
‫إسرائيل من كريمة محمد عبد الرحيم‪ ،‬المؤرخ السوداني الكبير‪ .‬وقد أسفرت معظم هذه‬
‫(‪)74‬‬
‫الزيجات عن أسر ناجحة وأبناء متعلمين‪G.‬‬

‫‪ )71‬عثمان حسن أحمد‪ ،‬بين األصالة والتحديث ‪ ..‬إبراهيم أحمد‪ :‬حياة إنسان‪ ،‬أفروجراف‬ ‫(‬

‫للطباعة والتغليف‪ ،‬الخرطوم‪ ،1994 ،‬ص ص ‪.89 -84‬‬


‫‪ )72‬على الرغم من هذا التحريم القاطع إال أننا نجد بعض أنبياء اليهود وزعمائهم كانوا يتزوجون‬ ‫(‬

‫من غير اليهوديات‪ .‬أنظر‪ :‬عبد الوهاب المسيري‪ ،‬الموسوعة‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‬
‫‪.65‬‬
‫‪ )73‬مقابلة مع السيد مصطفى إسحق داؤد‪.‬‬ ‫(‬

‫‪146‬‬
‫ولعل الطائفة اليهودية‪ G‬كانت‪ ،‬مع بقية الطوائف المسيحية‪ ،‬تتباحث عن العناصر‬
‫المشتركة بين اليهودية والمسيحية واإلسالم وكيفية إبرازها باعتبار أن اإلسالم هو أنسب‬
‫المداخل للتعامل مع المسلمين‪ .‬ويفيدنا سولومون ملكا أن والده الحاخام ملكا كان يستقبل في‬
‫مكتبه األب بولس قسيس الكنيسة البروتستانتية في أم درمان‪ ،‬وهو مسلم تنصر بواسطة‬
‫اإلرسالية التبشيرية ‪ ،Church Missionary Society‬والسيد ريفينيد ريفينجتون‪ ،‬أستاذ‬
‫مدرسة الكنيسة في القاهرة‪ ،‬وغيرهم من رجال الدين للتباحث حول القرآن الكريم والنقاط‬
‫(‪7‬‬
‫التي يلتقي فيها مع ما جاء في الكتاب المقدس ويكتبون مالحظاتهم على هوامش المصحف‪.‬‬
‫‪)5‬‬

‫أبناءهم على‬
‫كما كان اليهود واعين بخصوصية المجتمع السوداني‪ ،‬فكانوا يربون َ‬
‫احترام العادات والتقاليد السودانية‪ G،‬ويتداول يهود السودان حتى مقولة إستر بسيوني‪ ،‬ابنة بن‬
‫عراب الجالية اليهودية‪ G‬في السودان‪ ،‬ألبنائها‪" :‬إذا كنتم في السودان فتصرفوا‬
‫زيون كوشتي َّ‬
‫وألبسوا كما يتصرف ويلبس السودانيون‪ ،‬وإ ذا ذهبنا إلى إسرائيل فأفعلوا ما يفعله‬
‫كما شاعت بين‬ ‫(‪)76‬‬
‫اإلسرائيليون"‪ ،‬ويعتبر يهود السودان هذه المقولة منهجاً في تربية أبنائهم‪.‬‬
‫(‪)77‬‬
‫يهود السودان مقولة "كن يهودياً داخل بيتك وإ نساناً خارجه"‪.‬‬
‫ولعلهم نجحوا في محاوالتهم لوضع أساس نظري للتواصل بين السودانيين‪ G‬إذ لم‬
‫يقع بين أيدينا ما يفيد بتطرف إسالمي تجاه اليهود في السودان طوال هذه الفترة‪ .‬إال من‬

‫‪ )74‬للمزيد حول هذا الموضوع‪ :‬أنظر شوقي بدري‪ ،‬حكاوي أم درمان‪ ،‬دار الكاتب السوداني‪،،‬‬ ‫(‬

‫القاهرة‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،1999 ،‬ص ص ‪.178 -171‬‬


‫(‬
‫‪75) Malka, op cit, p 32.‬‬
‫‪ )76‬مقابلة مع اإلخباري مصطفى إسحق داؤد‪ .‬والشاهد أن إبراهيم إسرائيل‪ ،‬األخ األكبر إلسحق‪،‬‬ ‫(‬

‫والذي ساهم في هذا التبرع كان عضواً بلجنة النادي كما ذكرنا‪.‬‬
‫‪ )77‬أطلق هذه المقولة القاص والشاعر والناقد العبري يهودا جودردون‪ ،‬وهو من مواليد ليتوانيا (‬ ‫(‬

‫؟ ‪ .)1883 -‬وال أدري كيف انتقلت هذه المقولة إلى يهود السودان في الفترة بين ‪-1898‬‬
‫‪ .1956‬والراجح أنه قد نقلها بعض اليهود الوافدين للسودان‪ ،‬كما أن هذا األديب اليهودي كان‬
‫مهتمًا‪ G‬باليهود في البالد العربية‪ ،‬وقد عبر عن حماسته لالستعمار البريطاني لمصر عام ‪.1982‬‬
‫للمزيد حول هذا األديب أنظر‪ :‬عبد الوهاب المسيري‪ ،‬اليهود في عقل هؤالء‪ ،‬سلسلة إقرأ‪ ،‬دار‬
‫المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،1989 ،‬ص ص ‪.60 -55‬‬

‫‪147‬‬
‫بعض الدعاوى التي تبنتها بعض الجماعات المتضررة من ازدهار الوضع االقتصادي‬
‫(‪)78‬‬
‫لليهود‪.‬‬
‫ويمكننا أن نفهم مدى ارتباط بعض اليهود بالسودانيين‪ G،‬إذا علمنا أنهم يكونون في‬
‫مهاجرهم روابط ليهود السودان‪ ،‬ويؤمون المنتديات والحفالت واألماكن الي يرتادها‬
‫السودانيون‪ G،‬ويسارعون لصاالت المطارات الستقبال السودانيين ويبالغون في االحتفاء بهم‪،‬‬
‫ويمارس بعضهم العادات السودانية في الطعام والزواج‪ .‬ويحكي شوقي بدري عن حفل‬
‫عرس يهودي ضخم بفندق هيلتون بتل أبيب جرت مراسمه على الطقوس والتقاليد‬
‫(‪)79‬‬
‫السودانية‪G.‬‬

‫‪ )78‬في الفترة من ‪ ،1948‬أي بعد تأسيس الكيان اإلسرائيلي‪ ،‬بدأت بعض الدعوات لمقاطعة اليهود‬ ‫(‬

‫وعدم التعامل معهم‪ ،‬وسنناقش هذه المسألة عند حديثنا عن أسباب خروج اليهود من السودان ص‬
‫‪ 156‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )79‬شوقي بدري‪ ،‬حكاوى‪ 0‬أم درمان‪ ،‬ص ص ‪.178 -171‬‬

‫‪148‬‬
‫المبحث الثالث‬

‫تنامي الشعور القومي اليهودي‬


‫والنشاط الصهيوني للجالية اليهودية في الخرطوم‬

‫نتفق مع ما ذهب إليه عبد الوهاب المسيري من وجود عوامل موضوعية انبثقت‬
‫منها المسألة الصهيونية‪ .‬ويمكن تلخيص فكرته األساسية في‪ :‬إخفاق المسيحية الغربية في‬
‫صياغة رؤية محدودة نسبياً تجاه األقليات بشكل عام‪ ،‬والجماعات اليهودية‪ G‬على وجه‬
‫(‪)80‬‬
‫الخصوص‪.‬‬

‫‪ )80‬ويعتقد المسيري أن الجماعات اليهودية هي رمز الوضاعة الذي يجب أن يظل قائماً بالنسبة‬ ‫(‬

‫للتيار الكاثوليكي للتذكير بخطيئة اليهود ومسئوليتهم من قتل المسيح‪ .‬وهم بالنسبة للبروتستانت‪G‬‬
‫قربان للرب فهم رمز الخالص المسيحي‪ .‬وهم بهذا المعنى ليسوا بشرًا‪ ،‬من حيث الحقوق‪ ،‬وإ نما‬
‫جماعة وظيفية تقدم خدمة وجودية للمجتمع الكنسي األوربي‪ .‬للمزيد حول هذه األطروحة النظرية‬
‫أنظر‪ :‬عبد الوهاب المسيري‪" ،‬اإلمكانات‪ G‬األيديولوجية والصهيونية"‪ G،‬في‪ :‬العرب ومواجهة‬

‫‪149‬‬
‫ثم جاء االنفجار السكاني بين يهود شرق أوربا كعامل فعَّال في مضايقة يهود‬
‫ثم هجرة أعداد كبيرة منهم لالستقرار في المناطق الحدودية في أوربا الغربية‬
‫روسيا ومن ّ‬
‫مما أحدث اضطراباً سياسياً في المنطقة‪ ،‬دفع الحكومات األوربية للبحث عن بديل يهاجر إليه‬
‫اليهود‪ ،‬وتصادفت هذه الظروف مع نمو النزعة العنصرية لدى الشعوب الغربية من جهة‪،‬‬
‫ومع بزوغ نجم المثقف اليهودي العلماني كبديل للحاخام في أوساط المجتمع اليهودي من جهة‬
‫(‪)81‬‬
‫أخرى‪.‬‬
‫ومن وجهة نظر المسيري فإن القول بتنامي الشعور القومي عند اليهود ليس سبباً‬
‫للنشاط الصهيوني‪ ،‬وهو ال يعدو أن يكون تعميماً سطحياً أوجده الصهاينة أنفسهم إلعطاء‬
‫(‪)82‬‬
‫حركتهم بعداً عاطفياً‪.‬‬
‫ومع وجاهة أطروحة المسيري‪ ،‬فإنها ال تفسر أسباب اتساع النشاط الصهيوني بين‬
‫يهود البلدان العربية‪ ،‬وهم كانوا يعيشون أوضاعاً أفضل من أوضاع يهود أوربا‪ ،‬كما أن‬
‫الظروف التاريخية الموضوعية التي قدمها المسيري ال يمكن تعميمها على يهود البلدان‬
‫العربية‪ .‬ولعل قولنا بأن الشعور بالقومية اليهودية‪ G‬في البلدان العربية كان حاضراً وراء‬
‫اتساع النشاط الصهيوني في المنطقة ال يتناقض مع نظرية المسيري إذا افترضنا أن الشعور‬
‫القومي هو التعبير األيديولوجي الذي تبنته الجماعات الصهيونية في أوربا وعملت على نشره‬
‫وسط األقليات اليهودية في البلدان العربية‪ .‬ومن هنا نطلب في هذا المبحث الشعور القومي‬
‫اليهودي‪ :‬أسبابه‪ ،‬تجلياته ومظاهره‪ ،‬وتطبيقاته الصهيونية في السودان‪.‬‬
‫والحق أن الشعور القومي عند اليهود‪ ،‬على الرغم من اعتناق العديد‪ G‬منهم لديانات‬
‫أخرى‪ ،‬ورغم عمليات االندماج المستمرة التي تعرضوا لها في الديسابورا‪ ،‬فإنه ظل حاضراً‬
‫(‪)83‬‬
‫بينهم ويتنامى يوماً بعد يوم‪.‬‬

‫إسرائيل‪ :‬احتماالت المستقبل‪ ،‬الجزء األول (الدراسات األساسية)‪ ،‬بحوث ومناقشات الندوة الفكرية‬
‫التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬بيروت‪ ،2000 ،‬ص ص ‪-289‬‬
‫‪.321‬‬
‫(‪ )81‬نفسه‪ ،‬ص ص ‪.292 -290‬‬
‫(‪ )82‬نفسه‪ ،‬ص ‪.289‬‬

‫‪150‬‬
‫تأثرت الجماعات اليهودية‪ G‬بحركة الهسكاله‪ ،‬وهو تعبير عبراني يمكن ترجمته إلى‬
‫"حركة التنوير"‪ ،‬ونادت هذه الحركة باندماج اليهود في األوطان والشعوب التي يقيمون فيها‪،‬‬
‫إال أنهم سرعان ما ارتدوا إلى القومية اليهودية عندما واجهوا عدم تقبل المجتمعات األخرى‬
‫(‪)84‬‬
‫للجماعات اليهودية بينها‪.‬‬
‫يذهب العديد من المفكرين إلى أن القومية اليهودية‪ G‬متجذرة في الدين اليهودي نفسه‬
‫"فما عرف التاريخ عنصرية كعنصرية اليهود في تماسكها واستعصائها على التطور‬
‫(‪)85‬‬
‫واكتفائها بنفسها‪ ،‬ولعل أهم أسباب صالبة هذه العنصرية قيامها على عوامل دينية"‪.‬‬
‫وأخذ الشعور القومي للجماعات اليهودية يتنامى في ظل متالزمة "أن المقدس هو‬
‫وهكذا اكتسبت القومية اليهودية السند الديني باإلضافة‬ ‫(‪)86‬‬
‫القومي والقومي هو المقدس"‪.‬‬
‫وزعمت أن‬ ‫(‪)87‬‬
‫للداللة العرقية‪ ،‬فادعت الحق التاريخي الديني في إنشاء تكوين سياسي‪.‬‬
‫(‪)88‬‬
‫يكون عرقاً نقياً‪.‬‬
‫الشعب اليهودي ِّ‬
‫ويعتقد إسرائيل شاحاك أن أسطورة األرض المقدسة كانت سبباً مهماً لتنامي‬
‫لكنها ليست السبب الوحيد إذ تتداخل معها أسطورة شعب اهلل‬ ‫(‪)89‬‬
‫الشعور القومي لليهود‪،‬‬
‫وقد ترسخت هذه األساطير الدينية‪ G‬بحيث احتلت مكاناً في الشعور منفصالً عن‬ ‫(‪)90‬‬
‫المختار‪،‬‬

‫‪ )83‬جورج جبور‪" ،‬دروس التجارب التاريخية"‪ ،‬في‪ :‬العرب في مواجهة إسرائيل‪ :‬احتماالت‬ ‫(‬

‫المستقبل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.37 -36‬‬


‫‪ )84‬عبد الوهاب المسيري‪ ،‬نهاية التاريخ‪ :‬مقدمة لدراسة بنية الفكر الصهيوني‪ ،‬مركز الدراسات‬ ‫(‬

‫السياسية واالستراتيجية‪ ،‬القاهرة‪( ،1973 ،‬د‪ .‬ط)‪ ،‬ص ‪.23‬‬


‫‪ )85‬محمود محمد طه‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ .91‬ولتأكيد وجهة نظره استشهد ببعض اآليات الواردة‬ ‫(‬

‫في العهد القديم‪ ،‬سفر المزامير‪ ،‬مزمور ‪" :137‬على أنهار بابل هناك جلسنا وبكينا أيضاً عندما‬
‫تذكرنا صهيون‪ .‬كيف نرنم ترنيمة الرب في أرض غريبة؟ إن نسيتك يا أورشليم تنسى يميني‪،‬‬
‫ليلتصق لساني بحنكي إن لم أذكرك‪ ،‬إن لم أفضل أورشليم على أفضل فرحي‪.‬‬
‫(‪ )86‬نفسه‪ ،‬ص ‪.37‬‬
‫‪ )87‬وليم فهمي‪ ،‬الهجرة إلى فلسطين‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪( ،‬د‪ .‬ط)‪ ،1974 ،‬ص ‪.9‬‬ ‫(‬

‫(‪ )88‬نفسه‪ ،‬ص ‪.17‬‬


‫(‪ )89‬إسرائيل شاحاك‪ ،‬تاريخ اليهود وديانتهم‪ ،0‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.35‬‬
‫(‪ )90‬أنظر في هذا الخصوص‪ :‬عبد الوهاب المسيري‪ ،‬الموسوعة‪ ،‬مرجع سابق‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫الدين؛ فهناك يهود ال يؤمنون بوجود اهلل نفسه‪ ،‬لكنهم في نفس الوقت يؤمنون بأنه أعطاهم‬
‫(‪)91‬‬
‫أرض إسرائيل!‬
‫ويبدو أن اليهود السفارديم في البلدان العربية قد تحولوا نحو القومية اليهودية كرد‬
‫(‪)92‬‬
‫فعل لتنامي النزعة الوطنية في البلدان العربية في محاولتها لالنفكاك من الدولة العثمانية‪.‬‬
‫فتحولت اليهودية‪ G‬في ظل هذا الوضع من رابطة روحية‪ ،‬شأنها كشأن سائر األديان‪ ،‬إلى‬
‫(‪)93‬‬
‫رابطة قومية عنصرية ادعت أن المسألة اليهودية هي مسألة قومية‪.‬‬
‫الشعور القومي اليهودي عند الجالية اليهودية في السودان‬
‫ذكرنا في مكان سابق مدى الترابط العضوي‪ ،‬االقتصادي واالجتماعي والتنظيمي‪،‬‬
‫بين يهود السودان ويهود مصر‪ .‬ولما كانت مصر مسرحاً لنشاط الحركة الصهيونية منذ‬
‫خصوصاً مدينة‪ G‬اإلسكندرية‪ ،‬التي يشرف حاخامباشيها على يهود السودان‪ ،‬فإنه‬ ‫(‪)94‬‬
‫بداياتها‪،‬‬
‫لمن الطبيعي أن ينتقل اإلحساس بالفرادة وبالقومية اليهودية‪ G‬إلى يهود السودان‪.‬‬
‫كان حاخام الجالية اليهودية في السودان يقوم بزيارات متكررة‪ ،‬شبه دورية‪ ،‬إلى‬
‫ولعل من أغراض هذه الزيارات رفع تقريره الدوري عن‬ ‫(‪)95‬‬
‫القاهرة وإ لى اإلسكندرية‪.‬‬
‫الجالية اليهودية في السودان إلى كبير حاخامات مصر والسودان‪.‬‬

‫‪ )90‬إسرائيل شاحاك‪" ،‬فكرة الترحيل في المذهب الصهيوني"‪ G،‬ص ‪ ،9‬في‪ :‬الترانسفير في الفكر‬ ‫(‬

‫الصهيوني‪ ،‬منظمة التحرير الفلسطينية‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،1989 ،‬دار العرب‪ ،‬تونس‪ ،‬ص ص ‪-9‬‬
‫‪.60‬‬
‫‪ )91‬خيرية قاسمية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.11 -7‬‬ ‫(‬

‫‪ )92‬وليد الجعفري (إعداد وتحقيق)‪ ،‬المستعمرات االستيطانية اإلسرائيلية في األراضي المحتلة‬ ‫(‬

‫‪ ،1980 -1967‬مؤسسة الدراسات الفلسطينية‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،1981 ،‬صفحات‬


‫التقديم‪.‬‬
‫‪ )94‬في عام ‪ ،1896‬ومع صدور كتاب هيرتزل‪ :‬الدولة اليهودية‪ ،‬وفد إلى مصر جوزيف ماركو‬ ‫(‬

‫باروخ من أجل تأسيس هيئة صهيونية بمدينة القاهرة‪ ،‬وأثمرت جهوده عن تأسيس أول جمعية‬
‫صهيونية بمدينة القاهرة عام ‪ 1897‬وهي جمعية بركوخبا الصهيونية‪ .‬وتوالت المنظمات‪G‬‬
‫الصهيونية في الظهور منذ ذلك التاريخ واتساع نشاط الحركة الصهيونية‪ .‬للمزيد حول الحركة‬
‫الصهيونية في مصر أنظر‪ :‬سهام نصار‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.24 -21‬‬
‫(‬
‫‪95) Malka, op cit, pp 33- 48.‬‬

‫‪152‬‬
‫وعلى كل فإن مشاعر القومية اليهودية‪ G‬انتقلت ليهود السودان‪ ،‬بشكل أو بآخر‪ ،‬وال‬
‫بد أن التوجه القومي الحاد للحاخام ملكا كان مؤثراً في تبلور هذا الشعور لدى يهود السودان‪،‬‬
‫فقد كان المعبد اليهودي في الخرطوم يقوم بتحفيظ األطفال نشيد الهاتيكفاه ‪ ،Hatikvah‬وهو‬
‫نشيد يغذي اآلمال بالعودة إلى أرض الميعاد‪ ،‬ويقوم األطفال بترديده في المناسبات المختلفة‬
‫ويمكن ترجمة المقطعين األولين من هذا النشيد إلى‪:‬‬ ‫(‪)96‬‬
‫التي تقام بالمعبد‪ G‬أو بالنادي اليهودي‪.‬‬
‫ما دامت روح اليهودي في أعماق القلب تتوق‬
‫وعيوننا تتطلع إلى صهيون‬
‫فأملنا لم يفقد أبداً‬
‫في األوبة إلى أرض اآلباء ‪ ..‬أرض صهيون‬
‫***‬
‫أمل ألفي عام‬
‫في أن نصبح أحراراً في وطننا‬
‫أرضنا القديمة‪G‬‬
‫أرض أورشليم ‪ ..‬أرض صهيون‬
‫وقد تم تحوير هذا النشيد بعد تأسيس الكيان الصهيوني (ت‪ )1948 .‬إلى‪:‬‬
‫آمالنا ما زالت حاضرة ولم تغيب‬
‫أحالمنا بالحياة الحرة في أرضنا‬
‫(‪)97‬‬
‫أرض صهيون ‪ ..‬أرض صهيون‬
‫أما خطبة الصالة في المعبد‪ G‬اليهودي بالخرطوم فكانت تلهج بالدعاء‪ ،‬إضافة للملك‬
‫المفوض‬
‫جورج الخامس والملك فؤاد والحاكم العام البريطاني‪ ،‬للسير هيربرت صمويل ّ‬
‫السامي البريطاني في فلسطين‪ .‬وبعد قيام دولة إسرائيل تضمنت الخطبة الدعاء لحاييم‬
‫(‪)98‬‬
‫وايزمان وبن جوريون‪.‬‬

‫(‬
‫‪96) Ibid, p 44.‬‬
‫(‬
‫‪97) Ibid, p 44.‬‬
‫(‪ )98‬مكي أبو قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.28 -27‬‬

‫‪153‬‬
‫القومية اليهودية ليهود السودان من خالل دالالت أسماء بعض أفراد الجالية‬
‫يذكر التلمود أن اسم الشخص يؤثر في مستقبله‪ .‬ونجد في العهد القديم بعض‬
‫أسماءها عقب المرور بتجربة مهمة الستيعاب الداللة الجديدة‪ ،‬ومن أشهر‬
‫َ‬ ‫الشخصيات تغير‬
‫(‪)99‬‬
‫هذه األسماء اسم إسرائيل نفسه الذي اتخذه يعقوب‪.‬‬
‫تدلنا نظرة سريعة على دالالت األسماء التي تسمى بها يهود السودان على غلبة‬
‫التوجه القومي اليهودي بين يهود السودان‪ .‬فاألسماء تعبر عن نفسية الجماعة التي أطلقت‬
‫االسم‪ ،‬كما يشكل االسم في نفس الوقت أحد أهم محددات سلوك المسمى بعد أن يعي المعنى‬
‫المراد من االسم‪.‬‬
‫مثلما أنجلز يهود انجلترا والواليات المتحدة أسماؤهم إلى‪ :‬سولومون ‪،Solomon‬‬
‫وديبي ‪ ،Debbie‬وساول ‪ Saul‬بدالً عن‪ :‬شولومون ‪ ،Shalomon‬وديبوراه ‪،Deborah‬‬
‫أسماءهم إلى جين ‪ ،Jean‬وجانيت ‪ ،Jeannette‬بدالً عن‬
‫َ‬ ‫فرنس يهود فرنسا‬
‫وشاول‪ .‬ومثلما َ‬
‫أسماءهم‪ ،‬وبعضهم بدلها‬
‫َ‬ ‫عرب يهود السودان‬
‫جوناثان ‪ ،Jonathan‬وحنا ‪ .Hanna‬فقد ّ‬
‫ألغراض التخفي‪.‬‬
‫فمن األسماء المعربة‪ :‬داؤد ‪ Daoud‬بدالً عن ديفيد ‪ ،David‬وجبرا ‪Gabra‬‬
‫بدالً عن جبرائيل ‪ ،Gabraiel‬وموسى بدالً عن موسس ‪ Moses‬أو موشيه ‪،'Moshe‬‬
‫وإ براهيم بدالً عن أبراهام ‪ ،Abraham‬وإ سحق بدالً عن إشاحاك ‪ ،Ishak‬أو يتزاك‬
‫‪ ،Yitzak‬وسليمان بدالً عن سولومون‪ ،‬ويعقوب بدالً عن جاكوب ‪ Jacob‬أو يعكوف‬
‫)‬
‫‪Ya'acov.(100‬‬

‫غير يعقوب اسمه إلى إسرائيل‪ ،‬ومعناه مصارع الرب‪ ،‬بعدما مر بتجربة صارع فيها الرب‬
‫‪َّ )99‬‬ ‫(‬

‫صراع الند للند وانتهت بخلع فخذه‪ .‬ولعل هذه الحادثة إحدى تأثيرات األساطير اليونانية على الديانة‬
‫اليهودية‪ .‬حول هذا الموضوع أنظر‪ :‬عبد الوهاب المسيري‪ ،‬الموسوعة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.333‬‬
‫‪ Malka,op cit, p 24P )100‬أنظر أيضًا‪ :‬سناء عبد اللطيف‪ ،‬الهوية اليهودية وأسماء األعالم‬ ‫(‬

‫العبرية‪ :‬دراسة في األصول والدالالت والبعد األيديولوجي الصهيوني‪ ،‬مكتبة مدبولي‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى‪ ،‬القاهرة‪ ،2008 ،‬ص ص ‪ 119‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫وخدر‬
‫بدلت ألغراض التخفي‪ :‬إسرائيل واستبدل باسم إسحق‪َ ،‬‬ ‫ومن األسماء التي ّ‬
‫(‪)101‬‬
‫وأستبدل باسم ِخضر‪ ،‬والعيني واستبدل باسم العاني‪.‬‬
‫وتدل أسماء اليهود في السودان على تأصل الثقافة الدينية‪ G‬اليهودية‪ G،‬وهي أهم‬
‫(‪)102‬‬
‫الروافد التي غ ّذت الشعور القومي لليهود في السودان‪ ،‬ومنها األسماء التوراتية مثل‪:‬‬
‫يعقوب (ابن إسحق وهو اسم توراتي)‪ ،‬إسحق (وهو ابن إبراهيم‪ ،‬ومعناه يضحك وسمي بهذا‬
‫االسم ألن إبراهيم وزوجته ساره ضحكا عندما سمعا البشرى بأنه سيكون لهما ابن وهما في‬
‫الشيخوخة)‪ ،‬إبراهيم (وهو أبو اليهود وكان يدعى أفراهام فتغير اسمه بأمر الرب إلى‬
‫أفراهيم)‪ ،‬بنيامين (األخ األصغر ليوسف)‪ ،‬حزقيال‪ ،‬إسرائيل (وهو االسم الذي اكتسبه‬
‫يعقوب بعد أن صارع اهلل‪ ،‬ويطلق على نسل يعقوب واألسباط اإلثني عشر)‪ ،‬شاؤل (اسم ورد‬
‫لشاؤل بن قيش‪ ،‬الملك األول لبني إسرائيل)‪ ،‬شمعون (ورد اسماً لالبن الثاني ليعقوب وليئة)‪،‬‬
‫موسى (وهو موشيه‪ ،‬ومعناه المنتشل من الماء وهو األخ األصغر لمريم وهارون وابن‬
‫عمرام ويوخاخيد)‪ G،‬داؤد (ملك إسرائيل)‪ ،‬سليمان وسولومو وشلومو (وسليمان هو الملك‬
‫الثالث بعد أن عرف بنو إسرائيل الملكية)‪ G،‬إستير (اسم ملكة يهودية وبطلة دينية‪ G‬تم تخليدها‬
‫في التاريخ اليهودي ألنها أنقذت عمها مردخاي وجميع يهود فارس من المذبحة التي كان قد‬
‫دبرها هامان وزير أحشويروش ملك فارس)‪.‬‬
‫ومن أسماء يهود السودان ذات البعد‪ G‬الديني القومي األسماء المقرائية مثل‪ :‬آرون‬
‫(وهي كلمة عبرية تعني التابوت أو الخزانة‪ ،‬ويقال أنها إشارة إلى تابوت العهد أو الخزانة‬
‫التي حفظت فيها لوحات العهد في هيكل سليمان)‪ .‬وهناك أيضاً األسماء المرتبطة باإلله مثل‪:‬‬
‫إيلي (وتعني إلهي)‪ ،‬إليعازر (إلهي المستعان)‪ ،‬إلياهو (هو اهلل)‪ ،‬دانيال (اإلله العادل)‪ .‬ومن‬
‫األسماء الدالة على فكرة القومية العنصرية اسم بن زيون (أبناء صهيون)‪ .‬وتعكس ُج ٌّل‬
‫أسماء اليهود في السودان توجهاً دينياً توراتياً عميقاً‪.‬‬

‫النشاط الصهيوني للجالية اليهودية في السودان‬

‫‪ )101‬مقابلة مع السيد يعقوب‪ G‬داؤد سليمان العيني‪.‬‬ ‫(‬

‫(‪ )102‬نستند في تفسير األسماء على‪ :‬سناء عبد اللطيف‪ ،‬مرجع سابق‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫عززت زيارات كبار اليهود ذوي النزعة الصهيونية إلى السودان من التوجه‬
‫القومي الذي ابتدرته الجالية اليهودية في السودان منذ أن اختارت اسم مكابي عنواناً لنشاطها‬
‫الرياضي واالجتماعي‪ ،‬وإ صرارها على ترديد أناشيد الهاتيكفاه‪.‬‬
‫ففي عام ‪ 1934‬زار السودان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية السيد ناحوم‬
‫وهو من كبار المعجبين بثيودور هرتزل‪ ،‬وقد انضم إليه ليعمل كسكرتير‬ ‫(‪)103‬‬
‫سوكولوف‪،‬‬
‫عام لمنظمة الصهيونية التي أسسها هرتزل‪ ،‬كما شارك ناحوم في المفاوضات اليهودية التي‬
‫توجت بالحصول على وعد بلفور (ت‪ .)1917.‬وتولى رئاسة الوفد اليهودي لمؤتمر السالم‬
‫ِّ‬
‫في باريس (ت‪ .)1919 .‬وأخيراً تولى رئاسة الوكالة اليهودية‪ G‬والمنظمة الصهيونية‬
‫العالمية‪ ،‬وله عدة كتب وترجمات أهمها كتابه تاريخ الصهيونية الذي يحلل فيه الجذور‬
‫(‪)104‬‬
‫الغربية للفكرة الصهيونية‪ ،‬ويعد أول تاريخ للصهيونية وبمنزلة تاريخها الرسمي‪.‬‬
‫ولعل االستقبال الكبير والحاشد الذي القاه من الجالية يعكس مدى تنامي الشعور‬
‫القومي لليهود في السودان‪ .‬وقد أعد له حفل استقبال كبير في نادي مكابي الرياضي حضره‬
‫جميع أفراد الجالية بما فيهم المترددون‪ G‬من نساء وشيوخ‪ .‬بل وقادت الجالية مسيرة صغيرة‬
‫(‪)105‬‬
‫للترحيب بالضيف الكبير‪.‬‬
‫وزار السودان أيضاً إسحق حليفي هيرتزوج كبير حاخامات اليهود األشكناز في‬
‫وكان‬ ‫(‪)106‬‬
‫إسرائيل‪ ،‬ووالد حاييم هيرتزوج رئيس الكيان الصهيوني (ت‪.)1993 -1983 .‬‬
‫استقبال اسحق حليفي أكثر حيوية من استقبال ناحوم سوكولوف‪ .‬فأعدت له الجالية استقباالً‬
‫ويعكس‬ ‫(‪)107‬‬
‫كبيراً بالمعبد اليهودي بالخرطوم‪ ،‬وجمع له األطفال في المعبد ليقوم بمباركتهم‪.‬‬
‫هذا األمر نوع التنشئة االجتماعية التي كان يتلقاها أطفال الجالية اليهودية‪ G‬في الخرطوم‪.‬‬
‫كان لهاتين الزيارتين المهمتين وقعهما في نفوس أفراد الجالية اليهودية وبث الروح‬
‫القومية فيهم‪ ،‬فكيف عبروا عن هذا الشعور؟‬

‫(‬
‫‪103) Malka, op cit, p70.‬‬
‫(‪ )104‬عبد الوهاب المسيري‪ ،‬الموسوعة‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.276 -275‬‬
‫(‬
‫‪105) Ibid, p 71.‬‬
‫(‬
‫‪106) Ibid, p74.‬‬
‫(‪ )107‬مكي أبو قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.52 -50‬‬

‫‪156‬‬
‫كان أول شكل من أشكال التعبي‪G‬ر الصهيوني للجالية اليهودية‪ G‬في السودان هو‬
‫(‪)108‬‬
‫مشاركتها الراتبة في الكتابة لصحيفة الشمس اليهودية األسبوعية التي تصدر من مصر‪،‬‬
‫وهي صحيفة يهودية باللغة العربية بدأت في الصدور عام ‪ ،1934‬وكان يرأس تحريرها‬
‫‪)1093‬‬
‫سعد يعقوب مالكي‪ ،‬وهو من كبار الصهاينة في مصر‪.‬‬
‫وعبرت الصهيونية عن نفسها صراحة في السودان بقدوم ألكسندر بن السين‪ ،‬مدير‬
‫قسم االستيراد بشركة راي إيفانز‪ ،‬إلى الخرطوم وهو صهيوني بارز من اإلسكندرية‪ .‬ويبدو‬
‫أن مهمة ألكسندر السين األساسية كانت تجنيد عدد من الشباب اليهودي الذي وفد إلى‬
‫جند له هؤالء الشباب‪ ،‬لكنه يبدو من‬
‫الخرطوم‪ ،‬وال نعرف تحديداً ما هو الغرض الذي كان ُي ّ‬
‫(‪)110‬‬
‫البديهي أن البعد‪ G‬الصهيوني كان حاضراً في هذه المهمة‪.‬‬
‫كما أصبحت الجالية مكاناً يحتشد فيه يهود اليمن وأثيوبيا وإ رتريا قبل ترحيلهم إلى‬
‫إسرائيل‪ ،‬وكانت الجالية اليهودية في السودان تقوم بواجب إسكانهم وإ عاشتهم وترحيلهم‬
‫بالقطار إلى بورتسودان‪ ،‬ثم يتولى بعض أفراد الجالية في بورتسودان ترحيلهم بواسطة‬
‫(‪)111‬‬
‫الزوارق إلى حيفا‪.‬‬
‫وكان قمة تجلي الشعور القومي اليهودي وتعبيره العملي الصارخ عن نشاط‬
‫صهيوني في السودان يتمثل في إنشاء فرع لمنظمة بناي بيرت في السودان‪ .‬فما هي هذه‬
‫المنظمة؟ وما هي أنشطتها؟ وكيف تأسس فرعها في السودان؟‬
‫أثار تصريح بلفور بالحق اليهودي في فلسطين موجة ضخمة من الحماس في‬
‫أوساط يهود شمال أفريقيا‪ ،‬كان من بين مظاهرها تنظيم اليهود لصلوات جماعية وتأييدهم‬
‫(‬
‫‪108) Malka, op cit, pp 39- 40.‬‬
‫‪ )109‬سهام نصار‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص‪ .67 -63‬وتذكر الكاتبة أن التوجه الصهيوني‪G‬‬ ‫‪3‬‬

‫للصحيفة وضح منذ الوهلة األولى فقد جندت الصحيفة نفسها لخدمة هدف الصهيونية الرئيسي وهو‬
‫المطالبة بحق العودة إلى فلسطين وإ قامة وطن قومي فيها‪ ،‬وقد نجحت الصحيفة في إيجاد رابطة‬
‫شبه قومية بين اليهود الشرقيين‪ ،‬وبثت الروح القومية اليهودية وقوتها بين اليهود في المشرق‪ .‬وقد‬
‫أغلقت الصحيفة مكاتبها‪ G‬عام ‪ 1948‬بعد الشكوى التي قدمت ضدها من جامعة الدول العربية بتهمة‬
‫تأييد الصهيونية وتصدير األموال العربية لصالح الحركة الصهيونية في فلسطين‪.‬‬
‫(‪ )110‬أنظر مكي أبو قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.43‬‬
‫(‬
‫‪111) Malka, op cit, p 85.‬‬

‫‪157‬‬
‫للفكرة الصهيونية وأنشطتها‪ ،‬وإ قامتهم للعديد‪ G‬من التنظيمات بغرض الهجرة إلى إسرائيل‪،‬‬
‫وتنشيط منظماتهم الدينية التي كانت قائمة وإ عادة تهيئتها كمنظمات صهيونية‪ ،‬وإ قبالهم على‬
‫(‪)112‬‬
‫شراء الشيقل الصهيوني‪.‬‬
‫تأسست منظمة بناي بريت في بادئ األمر كهيئة يهودية‪ G‬أخوية بهدف "توحيد‬
‫اإلسرائليين للعمل من أجل تنمية مصالحهم العليا ومصالح اإلنسانية"‪ ،‬وكان شعارها "المعاملة‬
‫الطيبة والحب األخوي والتوافق بين اليهود" وقد نمت بناي بريت حتى أصبح لها فروع في‬
‫(‪)113‬‬
‫‪ 45‬دولة‪ ،‬وتضم نحو ‪ 500‬ألف عضو‪.‬‬
‫وكانت منظمة بناي بيرت‪ ،‬ومعناها أخوان العهد‪ G،‬قد نشأت منذ عام ‪ .1843‬ثم‬
‫والبد أن‬ ‫(‪)114‬‬
‫أنشأت فروعها في كل من القاهرة واإلسكندرية عام ‪ 1891‬كمنظمة خيرية‪.‬‬
‫تصريح بلفور قد أعطاها روحاً جديدة تجلّت في اتساع قاعدتها لتفتتح فرعاً لها في السودان‪.‬‬
‫ففي عام ‪ 1934‬قام أمين مال منظمة بناي بريت في مصر‪ ،‬ورئيسها فيما بعد‪،‬‬
‫السيد عزرا رودريجيز بزيارة للسودان اجتمع فيها مع أعضاء الجالية‪ ،‬ومع مجلسها‪،‬‬
‫لمناقشة مسألة تأسيس فرع للمنظمة في الخرطوم كجزء من المنظمة اإلقليمية بالقاهرة‪ .‬وفي‬
‫ديسمبر من نفس العام‪ ،‬وبحضور عزرا رودريجيز تم افتتاح فرع لمنظمة بناي بيرت في‬
‫الخرطوم‪ ،‬وأعطيت اسم بن زيون كوشتي‪ ،‬ولعله االسم الذي ال خالف عليه في السودان‬
‫والذي سيضمن التفاف أفراد الجالية اليهودية حول المنظمة الصهيونية الجديدة‪ .‬وشهدت‬
‫مباني المعبد اليهودي في الخرطوم االجتماع التأسيسي للمنظمة حيث تم تكوين مكتبها‬
‫التنفيذي من‪ :‬إبراهيم سيروسي رئيساً‪ ،‬الحاخام سولومون ملكا راعياً‪ ،‬الدكتور سليمان‬
‫(‪)115‬‬
‫بسيوني نائباً للرئيس‪ ،‬إلياهو ملكا وليون أورتاسي نواباً للرئيس وسكرتارية للمنظمة‪.‬‬

‫(‪ )112‬صمويل أتينجر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.418‬‬


‫(‪ )113‬عبد الوهاب المسيري‪ ،‬الموسوعة‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.335‬‬
‫(‪ )114‬نفسه‪ ،‬ص ‪.369‬‬
‫(‬
‫‪115) Malka, op cit, pp 86- 99.‬‬

‫‪158‬‬
‫شارك يهود السودان بفعالية في هذه المنظمة‪ ،‬وكتبوا في مجلتها الدورية بناي‬
‫بيرت مقزين ‪ ،B'nai B'irth Magazine‬ويبدو أن من أبواب المجلة نافذة تطل على يهود‬
‫)‬
‫السودان اسمها "يهود السودان ‪Jews of the Sudan".(116‬‬
‫ولما كان رئيس فرع المنظمة في السودان إبراهيم سيروسي‪ ،‬هو في نفس الوقت‬
‫رئيس الجالية اليهودية في السودان‪ ،‬وراعي المنظمة هو القائد الديني للجالية‪ ،‬فيمكننا أن‬
‫نستنتج أن التالزم بين اليهودية‪ G‬والصهيونية في السودان كان قائماً بشكل مركب فكرياً‬
‫وتنظيمياً‪ ،‬ولعلنا ال نعدو الصواب إذا حكمنا بأن معظم أعضاء الجالية اليهودية في السودان‬
‫كانوا في نفس الوقت أعضاء المنظمة اليهودية في السودان‪.‬‬
‫ولعل مصائر أفراد الجالية اليهودية في السودان بعد مغادرتها تؤكد ما ذهبنا إليه إذ‬
‫توجه جزء كبير منهم إلى إسرائيل وعاشوا فيها كيهود وكصهاينة بالضرورة‪ .‬والتحق‬
‫اآلخرون منهم بالمنظمات الصهيونية المختلفة ومنها منظمة بناي بيرت في فرنسا وفي‬
‫(‪)117‬‬
‫الواليات المتحدة‪ ،‬وتقلدوا منها على أوسمة الخدمة الممتازة‪.‬‬

‫(‬
‫‪116)Ibid, pp 39- 40.‬‬
‫(‬
‫‪117) Ibid, pp 86- 99.‬‬

‫‪159‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫خروج اليهود من السودان‬
‫‪ .1‬أسباب خروج اليهود من السودان‬
‫‪ .2‬صورة اليهودي في الذهن السوداني‬

‫‪160‬‬
‫المبحث األول‬

‫أسباب خروج اليهود من السودان‬

‫‪161‬‬
‫نفهم من التقرير الذي كتبه مدير األمن العام في الخرطوم عام ‪ ،1938‬أنه كان‬
‫بالسودان‪ ،‬حتى نهاية عقد الثالثينات‪ ،‬حوالي ‪ 40‬عائلة يهودية‪ G‬تعيش بين الناس باحترام‬
‫وتناغم كاملين‪ ،‬وأن الكراهية تجاه اليهود تكاد تكون معدومة فهي محصورة وسط عدد قليل‬
‫(‪)1‬‬
‫من الناس وليس وراءها دافع محدد وإ نما هي انعكاس لموقف الدول العربية األخرى‪.‬‬
‫وتبين هذه اإلفادة أن اليهود كانوا يتمتعون‪ G‬حتى ذلك الوقت باحترام الناس وحسن التعامل‬
‫معهم‪ .‬ولعل االستثناء الذي أسماه التقرير "بالفئة المحدودة" لم يكن تأثراً بموقف الدول‬
‫العربية األخرى وحسب وإ نما كان وراءه تناقض خفي يكمن في ازدهار وضع هذه األسر‬
‫اليهودية‪ .‬ويبدو أن هذه "الفئة المحدودة" اتسعت شيئاً فشيئاً حتى أصبحت هي الرأي العام‬
‫السائد في السودان حول اليهود ونظرة عامة الناس لهم‪.‬‬
‫لقد شهدت الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية انهيار غالبية النظم التي وفرت‬
‫الظروف المالئمة للجاليات اليهودية في شمال أفريقيا‪ ،‬وفي السودان التقى الخاص‪ ،‬متمثالً‬
‫(‪)2‬‬

‫في األحداث التي شهدها السودان‪ ،‬بالعام المتمثل في التحوالت السياسية والتاريخية في‬
‫منطقة الشرق األوسط‪ ،‬فأدت كل هذه التغييرات إلى مغادرة اليهود للسودان‪.‬‬
‫بدأت أوضاع الجالية اليهودية‪ G‬في السودان تتدهور منذ نهاية عقد األربعينات‪،‬‬
‫وتحديداً منذ تأسيس الكيان اإلسرائيلي في فلسطين (ت‪ ،)1948 .‬وحتى بداية عقد السبعينات‬
‫عندما طبقت حكومة النميري (‪ )1985 -1969‬القوانين االشتراكية‪ .‬وبين هذين التاريخين‬
‫محطات مهمة أضعفت الجالية اليهودية‪ G‬في السودان وعمقت من غربتها أهمها نجاح الضباط‬
‫األحرار في السيطرة على مقاليد الحكم في مصر (ت‪ ،)1952 .‬واستقالل السودان (ت‪.‬‬

‫‪ )1‬تقرير كتبه مدير األمن العام في الخرطوم بتاريخ ‪ 16‬ديسمبر ‪ .1938‬أنظر‪:‬‬ ‫(‬

‫دار الوثائق القومية ‪Public security office, Kh,6, 3, 17‬‬


‫‪ )2‬صمويل أتينجر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.439‬‬ ‫(‬

‫‪162‬‬
‫يناير ‪ ،)1956‬والعدوان الثالثي على مصر (يوليو ‪ ،)1956‬وحرب النكسة (ت‪ .‬يونيو‬
‫‪ ،)1967‬ومؤتمر القمة العربية في الخرطوم الشهير بمؤتمر الالءات الثالث (ت‪.)1967.‬‬
‫لم تكن هذه األحداث منفصلة عن بعضها البعض‪ ،‬وبالتالي ال يصح لنا أن نتناول أياً‬
‫منها بمعزل عن اآلخر‪ ،‬خصوصاً وأنها ما كانت أن تغير من نظرة السودانيين‪ G‬وتقبلهم لليهود‬
‫لوال بزوغ األيديولوجيا العربية اإلسالمية كعنصر فعال جعل من هذه األحداث زيتاً صب‬
‫على النار فأسعر العداء لليهود ولكيانهم الجديد‪.‬‬
‫ولكن ال تنشأ األيدلوجيات من فراغ‪ ،‬فالبد أن ترتكز على أرضية صلبة من الواقع‪،‬‬
‫والبد أن تجد المحمول االجتماعي الذي يرى فيها معبراً عنه وبالتالي يتبناها‪ .‬فما هي هذه‬
‫األرضية التي بني عليها العداء لليهود؟ ومن ثم كيف عبرت األيديلوجيا العربية عن هذا‬
‫العداء؟‬
‫تقودنا اإلجابة على هذه التساؤالت للنظر في التناقضات الداخلية لظاهرة االزدهار‬
‫التجاري واالقتصادي ليهود السودان‪ ،‬فقد تضررت من هذا االزدهار فئة واسعة من التجار‬
‫الوطنيين وهم‪ ،‬بمقتضى الحال‪ ،‬وبحكم تكوينهم العرقي ووعيهم االجتماعي‪ ،‬طالئع المجتمع‬
‫الجديد وقيادته‪ ،‬ومنهم تحدرت البرجوازية السودانية الصاعدة من أفندية ومثقفين وإ داريين‪.‬‬
‫وقد ضاقت األحوال بهذه الفئة في ظل تنافس حاد‪ ،‬وهو في معظم األحوال غير شريف‪ ،‬في‬
‫ظل التسهيالت اإلدارية واالقتصادية التي تقدمها حكومة العهد الثنائي لليهود وللتجار‬
‫األجانب بصورة عامة‪ .‬وبهذا المعنى فإن تدهور أوضاع اليهود في السودان كان كامناً في‬
‫االزدهار الذي عاشوه طوال فترة الحكم الثنائي‪.‬‬
‫وكانت الخرطوم قد شهدت مداً تجارياً يهودياً ضخماً‪ ،‬ونشط التجار اليهود في‬
‫شراء األراضي الزراعية حول الخرطوم‪ ،‬وبعض العمارات والمساكن واألراضي داخل‬
‫الخرطوم‪ ،‬فشعر التجار الوطنيون‪ ،‬ومنسوبو البرجوازية الوطنية بصورة عامة‪ ،‬أنهم على‬
‫وشك خسارة موقعهم االقتصادي واالجتماعي‪.‬‬
‫عبرت هذه الفئة عن مخاوفها صراحة‪ ،‬فنشرت صحيفة الرأي العام "(‪ )...‬قد‬
‫وقد ّ‬
‫ال تمضي سنوات قليلة حتى تصبح الخرطوم وأراضي النواحي الزراعية ملكاً خالصاً لليهود‬
‫ال ينازعهم فيها منازع من الوطنيين بفضل مهارتهم التجارية وتجاربهم في استثمار المال‬

‫‪163‬‬
‫للمستقبل وغفلة الوطنيين وفقرهم‪ ،‬األمر الذي يجعلنا نعيش في بالدنا غرباء‪ ،‬وأن ندفع ثمن‬
‫غفلتنا وفقرنا غالياً في أيامنا القادمة"‪ )3(.‬ويكشف المقال عن مصدر مخاوف هذه الفئة‪" :‬إننا‬
‫ال ننفس على اليهود رزقهم الوفير الذي يمكنهم من أراضينا ونعلم حق العلم أن اليهود مذ‬
‫(‪)4‬‬
‫وجدوا على األرض نهازو [هكذا] فرص التجارة والعمران"‪.‬‬
‫ويبدو أن مخاوف هذه الفئة على موقعها االقتصادي قد تجلَّت وتشكلت في ظل‬
‫األيديولوجيا العربية تدعمها الثقافة العربية‪ ،‬لغةً وديناً‪ ،‬واالنتماء أو إدعاء االنتماء للعرق‬
‫العربي‪ .‬وقد كانت األيديولوجيا العربية وقتها تعلو بصوت الكفاح ضد االغتصاب اليهودي‬
‫ألرض فلسطين‪ ،‬وهي بذلك خير ما يعبر عن العداء لليهود‪ ..." :‬ولكننا نخشى أن يؤول‬
‫أمرنا إلى ما آل إليه أمر فلسطين ‪ ..‬دماء ودموع واغتصاب وسلطان‪ .‬فمشكلة فلسطين بدأت‬
‫بالتملك الفردي للدور واألراضي في غفلة من أهلها ثم تطورت إلى الوضع المؤلم الحاضر‬
‫(‪)5‬‬
‫الذي استعصى على الحل"‪.‬‬
‫تبنت الفئات السودانية المختلفة‪ ،‬المتضررة من االزدهار االقتصادي والتجاري‬
‫للجالية اليهودية في السودان‪ ،‬األطروحة العروبية‪ ،‬وعملت على نشرها وبثها وسط عامة‬
‫المواطنين‪ .‬ونشرت الدعاية المضادة لليهود‪ )6(،‬واستنجدت هذه الفئات بحكومة السودان‬
‫لوقف المد التجاري اليهودي‪" :‬لذا نرجو من حكومة السودان التي نصبت نفسها وصية على‬
‫هذا الشعب أن تحفظ له أراضيه ومنازله من هذا التوسع اليهودي الجديد فال تدعه يستغل فقر‬
‫وجهل الشعب في إقامة وضع يتعسر حله في المستقبل على الحكومة وعلى الشعب‪ .‬وإ لى أن‬
‫تستيقظ الحكومة لوضع حد لهذا األمر سنردد في حسرة وداعاً عاصمتنا ‪ ..‬وداعاً‬
‫(‪)7‬‬
‫أراضينا"‪.‬‬

‫‪ )3‬صحيفة الرأي العام‪ 16 ،‬ديسمبر ‪ .1946‬وقد مهر المقال بتوقيع‪ G‬التاجر ورجل األعمال‬ ‫(‬

‫السوداني المعروف محمد أحمد السلمابي‪.‬‬


‫(‪ )4‬نفسه‪.‬‬
‫(‪ )5‬نفسه‪.‬‬
‫‪ )6‬نفسه‪.‬‬ ‫(‬

‫‪ )7‬نفسه‪.‬‬ ‫(‬

‫‪164‬‬
‫واستطاعت هذه الدعاوى أن تكتسح الرأي العام السوداني‪ ،‬خصوصاً في منطقة‬
‫وسط السودان‪ ،‬التي يغلب عليها االنتماء العربي‪ ،‬وهي في ذات الوقت مركز الثقل‬
‫الحضاري والسياسي في السودان‪ .‬وأصبحت قضية االعتداء الصهيوني على فلسطين هي‬
‫الشغل الشاغل للسودانيين‪.‬‬
‫وكان من نتاج هذا المد العروبي اإلسالمي أن تخلى الشعب السوداني‪ ،‬خصوصاً‬
‫(‪)8‬‬
‫في منطقة الوسط‪ ،‬عن تسامحه الديني وأصبحت قضية الديانة من أهم قضايا الساحة‪.‬‬
‫وفي عام ‪ 1948‬اجتمعت اللجنة الستينية لمؤتمر الخريجين لمناقشة مسألة‬
‫"اغتصاب" األراضي العربية في فلسطين‪ ،‬وتمخض االجتماع عن تشكيل لجنتين إحداهما‬
‫مالية لجمع التبرعات وإ رسالها لجامعة الدول العربية دعماً للجيوش العربية في فلسطين‪،‬‬
‫واألخرى عسكرية لتجنيد السودانيين‪ G‬وبعثهم إلى مقدمة الجيوش العربية المدافعة عن‬
‫فلسطين‪ )9(.‬ولم يكن غريباً أن يكون التجار على رأس اللجنة األولى ممثلين في شخص‬
‫التاجر الشيخ حسن هريدي‪ ،‬والشيخ أحمد السيد الفيل‪.‬‬
‫ويعكس نجاح اللجنة األولى في جمع أربعة آالف جنيه‪ ،‬وهو مبلغ ضخم جداً‬
‫أمران‪ :‬األول هو تفشي موجة العداء‬ ‫(‪)10‬‬
‫بمقاييس تلك األيام‪ ،‬خالل ثالث ساعات فقط‪،‬‬
‫لليهود‪ ،‬وتجاوب السودانيين مع الحق الفلسطيني‪ ،‬ولكن التجاوب وحده لن يكون كافياً لجمع‬
‫كل هذا المبلغ‪ .‬واألمر الثاني أن التجار الوطنيين‪ ،‬وغيرهم من التجار العرب والشوام‬
‫والمصريين المتضررين من تنامي النفوذ التجاري لليهود‪ G،‬قد تدافعوا للتبرع لهذه اللجنة‪،‬‬
‫يدفعهم موقفهم الذاتي‪ ،‬وربما حماستهم العربية واإلسالمية‪.‬‬

‫‪ )8‬ومن ذلك أن قضية فتاة سودانية تنصرت بواسطة اإلرسالية األنجليكانية في أم درمان كانت‬ ‫(‬

‫موضوعاً لغضبة شعبية جارفة ومظاهرات أمها المثقفون وعامة الشعب كتفاً بكتف‪ .‬أنظر‪ :‬محمد خير‬
‫البدوي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.92 -91‬‬
‫‪ )9‬عمر محمد أحمد صديق‪ ،‬السودان والقضية الفلسطينية‪ ،‬بحث مقدم لنيل درجة الدبلوم العالي في‬ ‫(‬

‫الدراسات اإلفريقية واآلسيوية‪ ،‬جامعة الخرطوم‪ ،1980 ،‬ص ‪.28‬‬


‫‪ )10‬نفسه‪ ،‬ص ص ‪.29 -28‬‬ ‫(‬

‫‪165‬‬
‫أما اللجنة العسكرية فقد نجحت في تجنيد ‪ 7.500‬متطوع "للجهاد" في فلسطين‪ ،‬تم‬
‫تقسيمهم على ثمان سرايا‪ .‬ويعكس هذا العدد‪ G‬الكبير سيادة األيديولوجيا العربية بين‬
‫(‪)11‬‬
‫السودانيين‪ G‬في تلك الفترة‪.‬‬
‫لم تتدخل الحكومة اإلنجليزية لوقف نشاط هذه اللجان‪ ،‬ويبدو أنها كانت تتهيب أي‬
‫وفي ظل هذا الوضع امتدت األيديولوجيا‬ ‫(‪)12‬‬
‫رد فعل سوداني يقوم على أيديولوجيا دينية‪.‬‬
‫الجديدة ذات البعدين‪ G‬العربي واإلسالمي جاعلة من فلسطين محوراً لها‪ ،‬تغذيها البرجوازية‬
‫الوطنية وتعبر عنها‪.‬‬
‫وتجاوبت األوساط الشعبية مع تطورات الموقف في فلسطين‪ ،‬فأغلقت المحال‬
‫التجارية في مدينة األبيض يوم ‪ 11‬مايو ‪" 1946‬إكراماً" للشهداء في فلسطين‪ .‬وارتفعت‬
‫النداءات في المساجد السودانية تدعو لنصرة الشعب الفلسطيني‪ ،‬وأبرق المصلون إلى اللجنة‬
‫العليا لفلسطين باسم "عرب السودان" يؤيدون الحق الفلسطيني ويستنكرون العدوان‬

‫‪ )11‬نفسه‪ ،‬ص ‪ .33‬وقد راجعت ما أوردته الموسوعة الفلسطينية عن الجيوش العربية المشاركة‬ ‫(‬

‫في حرب ‪ 1948‬ولم أجد ذكراً لهذه السرايا السودانية‪ ،‬فإما أنها وزعت على الوحدات العسكرية في‬
‫الجيوش العربية المختلفة وبخاصة الجيش المصري‪ ،‬أو أنها لم تصل إلى فلسطين‪ ،‬أو أنها قوبلت‬
‫بالتجاهل هناك‪ .‬للمزيد حول مشاركة الجيوش العربية في حرب ‪ 1948‬أنظر مدخل "حرب ‪"1948‬‬
‫في‪ :‬الموسوعة الفلسطينية‪ ،‬المجلد الثاني (ج‪ -‬ش)‪ ،‬ص ص ‪.162 -150‬‬
‫تخوف الحكومة من الثورات‬
‫‪ )12‬إن المطّلع على السياسة اإلنجليزية في السودان يستطيع‪ G‬أن يقرأ ّ‬
‫(‬

‫الدينية‪ ،‬خصوصاً وأنها قد ذاقت المرين من الثورة المهدية‪ ،‬وبهذا المنطق نستطيع‪ G‬أن نفهم نوبة الذعر‬
‫التي أصابت الحكومة عند قيام حركة ود حبوبة في الحالوين‪ ،‬وما القمع الذي جوبهت به تلك الحركة‬
‫إال تعبيراً‪ G‬عن هذا الذعر‪ .‬للمزيد بخصوص هذا الموضوع أنظر‪ :‬محمد سعيد القدال‪ ،‬مرجع سابق‪،‬‬
‫ص ص ‪ 409‬وما بعدها‪ .‬أنظر أيضًا تقديم يوسف فضل حسن في‪ :‬عثمان عوض الكريم محمدين‪،‬‬
‫عبد القادر ود حبوب والعوامل المؤثرة على شخصيته‪ ،‬شركة مطابع السودان للعملة‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫‪ ،2008‬ص ص ك‪ -‬س‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫وفي هذه األثناء كانت األلسن اليهودية في السودان تلهج بالدعاء لحاييم‬ ‫(‪)12‬‬
‫"اليهودي"‪.‬‬
‫(‪)13‬‬
‫وايزمان وبن غوريون‪.‬‬
‫كان التعاطف مع الفلسطينيين‪ G‬هو الوجه اآلخر من العداء لليهود‪ G،‬وقد عمق من هذا‬
‫التوجه اختيار الحركة الصهيونية السم إسرائيل‪ ،‬ذو المحموالت الداللية الدينية اليهودية‪،‬‬
‫عنواناً لكيانهم الجديد‪G.‬‬
‫وانتظم المثقفون في ركب هذا التيار المعادي لليهود تعاطفاً مع الفلسطينيين‪ ،‬فكتبت‬
‫مجلة الفجر منتقدة إعطاء اليهود حقاً في فلسطين على حساب العرب رغم وقوف العرب‬
‫بجانب الحلفاء في الحرب‪ )...(" :‬فعلى حساب العرب إذن تقدم المكافأة لليهود نظير‬
‫مساعدتهم للحلفاء في حرب أقل ما يقال عنها أن العرب لم يشعروا في يوم من األيام بأنهم‬
‫خرجوا منها بمغنم (‪ G)...‬وأن الدور الذي لعبه العرب بجانب الحلفاء ال يقاس بما لعبه اليهود‬
‫(‪ G)...‬بل أن اليهود الذين يأتون إلى فلسطين وقفوا في وجه صفوف الحلفاء إما قهراً من‬
‫(‪)14‬‬
‫النازي أو حباً فيه"‪.‬‬
‫ولما كانت القصيدة واحدة من أدوات التعبير النضالي في السودان في تلك الفترة‪،‬‬
‫فقد انبرى الشعراء للتعبير عن هذه األيديولوجيا‪ ،‬فنظم الناصر قريب اهلل قصيدة بعنوان‬
‫"فلسطين الجريحة"‪ ،‬جاء فيها‪:‬‬
‫ما باله يعصي الرجاء إذ يرجف‬ ‫"دمع بأنفاس الرجاء يخفف‬
‫ويكفه سؤال الرجاء الملحف‬ ‫إني علمت الدمع يجريه األسى‬
‫بالغاصب الجاني فكيف يكفف‬ ‫إال دموع المبتلى في أرضه‬
‫(‪)15‬‬
‫من ناره في كل يوم يقذف"‬ ‫وإ لى فلسطين القناء بحاصب‬
‫وبنفس العنوان نظم أحمد محمد صالح‪:‬‬
‫وكيف الكفاح وفيم الخور‬ ‫"قل للعروبة أين السالح‬

‫‪ )12‬عمر محمد أحمد صديق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ ،17‬نقالً عن‪ :‬صحيفة الرأي العام بتاريخ ‪ 14‬مايو‬ ‫(‬

‫‪.1946‬‬
‫‪ )13‬أنظر الفصل الخامس من هذا البحث‪.‬‬ ‫(‬

‫‪ )14‬مجلة الفجر‪ 16 ،‬يونيو‪ ،1947 G‬المجلد الثاني‪ ،‬ص ‪.296‬‬ ‫(‬

‫‪ )15‬عمر محمد صديق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.25‬‬ ‫(‬

‫‪167‬‬
‫وننعم نحن بحلو الثمر‬ ‫أتصلى فلسطين نار السعير‬
‫ونحن نجير نجر األزر‬ ‫ويرسف في الذل إخوان لها‬
‫(‪)16‬‬
‫وقولوا لصهيون أين المفر"‬ ‫فكونوا لصهيون سيوط العذاب‬
‫وكتب محمد المهدي المجذوب متعرضاً لوعد بلفور‪:‬‬
‫أبلفور إله خانه اليهود‬ ‫"وعد بلفور!! أي وعد؟‬
‫(‪)17‬‬
‫عدنان وخلف من رمله من عديد"‬ ‫أين بلفور كي يرى بطش‬
‫ونظم عبد اهلل الطيب‪:‬‬
‫وبائس شك في الرحمن وارتابا‬ ‫"كم في فلسطين موفور ومشاكله‬
‫(‪)18‬‬
‫والمال غودر أنفاالً وأسالباً"‬ ‫الدور صارت إلسرائيل خالصة‬
‫ويمكن القول إن التعاطف مع فلسطين‪ ،‬وما يقابله من عداء لليهود‪ ،‬أصبح الموقف‬
‫العام للسودانيين‪ G‬بعامة‪ ،‬والمثقفين على وجه الخصوص‪ ،‬في أواخر األربعينات‪ .‬قد أحدث‬
‫موقف السودانيين‪ G‬قلقاً في أوساط الجالية اليهودية في السودان‪ .‬وتفاقم األمر بعد هزيمة‬
‫الجيوش العربية (ت‪ )1948 .‬وتأسيس الكيان اإلسرائيلي‪ .‬وبالمقابل عزز هذا الموقف‬
‫الدافع الديني للعديد من اليهود بالهجرة إلى أرض الميعاد‪.‬‬
‫لم يكن للوضع أن يظل على ما هو عليه‪ ،‬فاألحداث المتسارعة زادت من كراهية‬
‫السودانيين‪ G‬لليهود‪ G،‬وفي عام ‪ 1952‬وصل جمال عبد الناصر إلى سدة الحكم في مصر‪ ،‬ومنذ‬
‫البداية تبنى األيديولوجيا العربية ودعا لها‪ ،‬وبدأت أجهزة اإلعالم المصرية تبث الدعاية ضد‬
‫اليهود واألجانب بصورة عامة‪ ،‬ورددت القلوب السودانية صدى هذه الدعاية‪.‬‬
‫وقد شهدت هذه الفترة مداً وطنياً ونشاطاً حزبياً كثيفاً في السودان‪ ،‬اتفق في مجمله‬
‫مع الحق الفلسطيني‪ ،‬تدفعه أمانيه العربية وسطوته اإلسالمية‪ ،‬بل حتى الحركة السودانية‬

‫‪ )16‬نفسه‪ ،‬ص ص ‪.27 -26‬‬ ‫(‬

‫‪ )17‬نفسه‪ ،‬ص ‪.27‬‬ ‫(‬

‫‪ )18‬نفسه‪ ،‬ص ‪.27‬‬ ‫(‬

‫‪168‬‬
‫للتحرر الوطني‪ ،‬حستو‪ ،‬ذات التوجهات اليسارية اتخذت موقفاً متضامناً مع الشعب‬
‫(‪)19‬‬
‫الفلسطيني‪.‬‬
‫توج المد الوطني في السودان بنيل االستقالل عام ‪ ،1956‬وبهذا انكشف الغطاء‬
‫ّ‬
‫عن كل أشكال الحماية والتسهيالت التي كانت تجدها األنشطة اليهودية‪ G‬في السودان‪ .‬وما هي‬
‫(‪)20‬‬
‫إال سبعة أشهر فقط حتى وقع العدوان الثالثي على مصر‪.‬‬
‫ورغم أن العالقات السودانية المصرية لم تكن في أحسن أحوالها في ذلك الوقت‪ ،‬إذ‬
‫إال أن‬ ‫(‪)21‬‬
‫لم تكن مصر راضية عن اختيار السودانيين لالستقالل بدالً من الوحدة مع مصر‪،‬‬

‫‪ )19‬يقرر رفعت السعيد في هذا الخصوص أن الحركة المصرية للتحرر الوطني (حدتو) ونظيرتها‬ ‫(‬

‫السودانية (حستو)‪ ،‬اتخذتا موقفاً مطابقاً حيال القضية الفلسطينية فحواه تعبئة الرأي العام بضرورة‬
‫محاربة الجيوش اإلنجليزية في مصر والسودان رفضاً لالستعمار في فلسطين‪ .‬أنظر‪ :‬رفعت السعيد‪،‬‬
‫اليسار المصري والقضية الفلسطينية‪ :‬كراسة وثائق‪ ،‬دار الفارابي‪ ،‬بيروت‪ ،1974 G،‬ص ص ‪-45‬‬
‫‪.46‬‬
‫‪ )20‬جعلت حكومة عبد الناصر من إقامة جيش وطني قومي في مصر أحد أهدافها‪ ،‬وأخذت تعيد‬ ‫(‬

‫تنظيم الجيش وتزويده‪ G‬بأحدث األسلحة وتدريبه على أنجح األساليب والطرائق القتالية الحديثة‪ .‬وعقدت‬
‫صفقات لشراء السالح مع االتحاد السوفيتي وبعض الدول االشتراكية‪ .‬وتبع ذلك تأميم قناة السويس‬
‫في ‪ 26‬يوليو ‪ .1956‬ووجدت إسرائيل أن في تطوير الجيش المصري إخالالً بتوازن القوى في‬
‫المنطقة‪ ،‬كما أن مصر كانت قاعدة تنطلق منها عمليات الفدائيين الفلسطينيين‪ .‬وكانت‪ G‬فرنسا تتحين‬
‫الفرصة إلنزال الضرر بمصر رداً على دعم األخيرة للثورة الجزائرية‪ ،‬كما أن فرنسا تضررت في‬
‫نفس الوقت من قرار تأميم شركة القناة‪ ،‬وهو نفس الضرر الذي لحق ببريطانيا‪ G،‬إضافة لرغبة‬
‫الحكومة البريطانية في استعادة مركزها السابق في مصر قبل ثورة تموز ‪ .1952‬وهكذا اجتمعت‪G‬‬
‫لدى هذه الدول الثالث المبررات الكافية لشن العدوان على مصر‪ .‬للمزيد حول العدوان الثالثي على‬
‫مصر أنظر مدخل "حرب ‪ "1956‬في‪ :‬الموسوعة الفلسطينية‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ص ‪170 -163‬‬
‫‪ )21‬كان الرأي العام المصري والحكومة المصرية على السواء ال يقبالن مسألة استقالل السودان‬ ‫(‬

‫عن مصر فحق سيادتها على السودان من المسائل الحساسة في السياسة المصرية‪ ،‬حتى أن مصر‬
‫رفضت الموافقة على منح السودان استقالله‪ .‬أنظر في هذا الخصوص‪ :‬سير هارولد ماكمايكل‪،‬‬
‫السودان‪ ،‬ترجمة محمود صالح عثمان‪ ،‬مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي‪ ،‬الطبعة األولى‪،2006 ،‬‬
‫الفصل السابع عشر "دور مصر"‪ ،‬ص ص ‪ .300 -291‬وقد كان رد الفعل السوداني عنيفًا‪ ،‬وهو ما‬
‫يمكن أن نقرأه في كلمة األستاذ صالح عبد القادر شديدة اللهجة‪ ،‬والتي ختمها بقوله‪" :‬أرجو أن تفهم‬

‫‪169‬‬
‫السودانيين‪ G‬تضامنوا مع مصر وأرسلوا المجندين‪ G‬والمتطوعين إلى مصر للدفاع عن‬
‫"األراضي العربية"‪ ،‬ونشطت حركات المقاطعة لليهود‪ G،‬وحركة جمع التبرعات المالية وسط‬
‫(‪)22‬‬
‫االتحادات المهنية‪ G‬والنقابات‪.‬‬
‫وإ زدادت حماسة السودانيين‪ G‬تجاه أطروحة العروبة والوحدة العربية بعد حرب‬
‫النكسة (ت‪ ،)1967 .‬وانعقاد مؤتمر القمة العربية في الخرطوم في ‪ 29‬أغسطس‪1 -‬‬
‫سبتمبر من العام نفسه‪ ،‬وهو االجتماع الشهير بقمة الالءات الثالث‪" :‬ال لالعتراف بإسرائبل‪،‬‬
‫(‪)23‬‬
‫ال للصلح مع إسرائيل‪ ،‬ال للتفاوض مع إسرائيل"‪.‬‬
‫ألحق التضامن السوداني "العربي"‪ ،‬وموجة العداء التي ذكرناها‪ ،‬ضرراً بالغاً‬
‫باليهود في السودان‪ .‬وتعكس مذكرات إلياهو سولومون ملكا هذه األوضاع‪ ،‬فيذكر أنه اشتكى‬
‫لرئيس الحكومة السودانية عبد اهلل خليل‪ ،‬من هجمات الصحف اليومية وحمالتها على اليهود‬
‫بعد العدوان الثالثي‪ .‬كما اشتكى للسيد عبد الرحمن المهدي من الهجوم الذي تشنه صحيفة‬
‫ورغم أن صحيفة صوت األمة لم تتعرض لليهود بعد هذه الشكوى‪ ،‬إال أن‬ ‫(‪)24‬‬
‫صوت األمة‪.‬‬
‫(‪)25‬‬
‫هجوم بقية الصحف على اليهود أصبح أشد ضرواة‪.‬‬
‫ويبدو أن األمر قد وصل حد التطرف‪ ،‬وربما توقعت الحكومة حدوث اعتداءات‬
‫على اليهود في السودان فقررت حمايتهم دون إخطارهم‪ ،‬أو لعلها قررت مراقبتهم‪ ،‬فبدأت‬

‫[الخطاب موجه للصاغ صالح سالم] أننا لسنا منك ولستم منا ولن نكون مصريين ولن تكونوا‬
‫سودانيين وثق أننا سنستقل شئت أم أبيت وأنك بهذه السياسة الطائشة القائمة على األطماع غير‬
‫المتناهية لن تخسر هذه الرابطة الهزيلة التي تتحدث عنها وتصبو إليها فقط بل ستخسر حسن الجوار‬
‫أيضاً أما نحن فلن نخسر شيئاً"‪ .‬ويمكن اإلطالع على الكلمة كاملة في باب "في الصميم"‪ ،‬صحيفة‬
‫صوت األمة بتاريخ االثنين ‪ 15‬أغسطس ‪.1955‬‬
‫‪ )22‬عمر محمد صديق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.46 -43‬‬ ‫(‬

‫‪ )23‬خضر حمد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.330‬‬ ‫(‬

‫(‪ )24‬لم أجد في مذكرات السيد اإلمام عبد الرحمن المهدي أي صدى لهذ المقابلة‪.‬‬
‫(‬
‫‪25) Eli S. Malka, Ibid, pp 115- 120.‬‬

‫‪170‬‬
‫والبد أن هذه الرقابة‬ ‫(‪)26‬‬
‫عيون الحكومة تتابع تحركات أفراد الجالية اليهودية‪ G‬في السودان‪.‬‬
‫عمقت من مشاعر الضيق واالغتراب لدى أفراد هذه الجالية‪.‬‬
‫وإ زاء هذه التحوالت أضطر أفراد الجالية اليهودية‪ G‬لمغادرة السودان‪ .‬وقد تأزم‬
‫الموقف أكثر عندما قررت حكومة عبود سحب الجنسية السودانية من عدد من اليهود‬
‫(‪)27‬‬
‫السودانيين‪.‬‬
‫مثلما شهدت الفترة من ‪ 1960‬وحتى ‪ 1969‬تنامي المد العربي اإلسالمي‪ ،‬فقد‬
‫شهدت تنامي المد االشتراكي من جهة أخرى‪ .‬وقد التقى التياران في العداء لليهود إما بدافع‬
‫"التضامن اإلسالمي العربي"‪ ،‬أو بدافع "التضامن الشعوبي ومحاربة األذرع اإلمبريالية في‬
‫(‪)28‬‬
‫المنطقة"‪.‬‬
‫وكان الوجود اليهودي في السودان قد أصبح اسمياً في نحو عام ‪ 1970‬قوامه بضع‬
‫أسر يهودية‪ G‬أغلبها في طور نحو االندماج الكامل في المجتمع السوداني‪ .‬وحتى هذه األسر‬
‫عملت على تغيير أسمائها وقبلت بأن تعيش متخفية وراء الجلباب السوداني مثل أسرة‬
‫مصطفى إسحق إسرائيل التي تغيرت إلى مصطفى إسحق داؤد حتى يتمكن أحد أفراد األسرة‬
‫بااللتحاق بالجيش السوداني‪ ،‬وانتمت هذه األسرة إلى أخوالها البديرية‪ G.‬وأسرة يعقوب داؤد‬
‫العيني التي تغير اسمها إلى يعقوب داؤد عاني وبذا استطاع ابنهم االلتحاق بالشرطة‬
‫السودانية‪ G،‬وانتمت إلى أخوالها الجعليين‪ .‬وقد تسبب االنتماء اليهودي في العديد‪ G‬من‬
‫(‪)29‬‬
‫المضايقات لهذه األسر الكريمة منذ االستقالل وحتى اآلن‪.‬‬

‫‪ )26‬الحظ إلياهو سولومون ملكا أن شرطيًا يقف بصورة دائمة في ركن منزله في شارع السيد عبد‬ ‫(‬

‫الرحمن‪ ،‬وعندما استفسر عن السبب أبلغ بأنه إجراء من أجل حمايته الشخصية‪ .‬أنظر‪ :‬مكي أبو‬
‫قرجة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.81‬‬
‫(‪ )27‬نفسه‪ ،‬ص ‪.81‬‬
‫‪ )28‬أنظر الباب األول من‪ :‬الشريف يوسف الهندي‪ ،‬لوطني وللتاريخ‪ :‬مذكرات الشهيد الشريف‬ ‫(‬

‫حسن الهندي‪ ،‬مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،2006 ،‬ص ص ‪.143 -71‬‬
‫‪ )29‬عكست لي أسرة مصطفى إسحق إسرائيل وأسرة يعقوب داؤد العيني نماذج من هذه المضايقات‬ ‫(‬

‫التي وصلت حد الفصل من العمل ومطاردة أفراد األسرة واعتقالهم بصورة متكررة‪ G‬واتهامهم بالعمالة‬
‫وخيانة الوطن‪ ،‬إضافة للمضايقات الساذجة التي تعرض لها أطفال هذه األسرة في المدارس والشارع‬

‫‪171‬‬
‫وكانت قرارات التأميم العشوائية التي أصدرتها حكومة النميري قاصمة الظهر‬
‫فصفت أعمالها‪ .‬وبهذا أسدل الستار عن فترة مزدهرة من‬
‫ّ‬
‫(‪)30‬‬
‫للجالية اليهودية في السودان‪،‬‬
‫تاريخ األقليات اليهودية‪ G‬في الدياسبورا‪.‬‬
‫ويبدو أن أثر الجالية اليهودية االقتصادي في السودان كان كبيراً كرأس مال‬
‫مستثمر ال منتمي‪ ،‬إذ أصدرت الحكومة السودانية‪ G،‬بعد خمسة أعوام فقط‪ ،‬نداء أشبه بالتوسل‬
‫لكن هيهات أن يغامر رأس المال اليهودي بمثل‬ ‫(‪)31‬‬
‫لرأس المال اليهودي للعودة إلى السودان‪.‬‬
‫هذه المخاطرة مرة أخرى‪.‬‬

‫العام‪.‬‬
‫‪ )30‬شملت قرارات المصادرة الشركات اليهودية‪ ،‬والشركات األجنبية عموماً‪ ،‬والتي كان اليهود‬ ‫(‬

‫يتمتعون بإدارتها أو العمل فيها‪ .‬كما شملت قرارات المصادرة منازل اليهود في الخرطوم‪ .‬للمزيد‬
‫حول تضرر الجالية اليهودية من قرارات المصادرة أنظر‪.Eli S. Malka, Ibid :‬؛ أنظر أيضاً‪:‬‬
‫مكي أبو قرجة‪ ،‬اليهود في السودان‪ ،‬مرجع سابق؛ أنظر أيضًا‪ :‬عادل سيد أحمد‪" ،‬يهود السودان من‬
‫زمان حتى اآلن" سلسلة مقاالت صحفية‪ ،‬صحيفة الوطن‪ ،‬ابتداء من تاريخ ‪ 29‬يونيو ‪.2008‬‬
‫‪ )31‬أنظر‪ :‬صالح محمد أحمد‪ ،‬موضوع عن اليهود في السودان‪ ،‬مرجع سابق‪.‬‬ ‫(‬

‫‪172‬‬
‫المبحث الثاني‬

‫صورة اليهودي في الذهن السوداني‬

‫ينظر هذا المبحث في الذهن السوداني بتغليب البعدين العربي واإلسالمي عليه‬
‫باعتبارهما البعدان اللذان تشكلت عبرهما صورة اليهودي في الذهن السوداني‪ .‬ويستمد‬
‫المبحث مضمونه "الصورة" من مدخلين‪ :‬األول هو الواقع التاريخي والموضوعي الذي‬
‫تطورت فيه الشخصية اليهودية‪ G،‬وهو ما ناقشناه في الفصل الثالث من هذه الدراسة تحت‬

‫‪173‬‬
‫عنوان "الشخصية اليهودية‪ G:‬مالمح من التاريخ االقتصادي لألقليات اليهودية"‪ G.‬والمدخل‬
‫الثاني هو الصورة الذهنية التي تشكلت في الوجدان الذاتي "لألنا" السوداني حول اليهودي‬
‫"كآخر"‪ .‬المدخل األول‪ ،‬بما هو مصدر‪ ،‬هو رافد مهم من الروافد التي غذت المدخل الثاني‬
‫كتجلي تعبيري عن ذلك الواقع‪.‬‬
‫ولعل من نافلة القول أن نذكر هنا أن الصورة الذهنية‪ G‬لآلخر هي ليست بالضرورة‬
‫صادقة أو نهائية‪ ،‬فهي غير صادقة ألنها ليست هي "اآلخر" وإ نما هي مقابل أو معارض‬
‫وبالتالي "فاآلخر" يتراوح وفقاً لذات‬ ‫(‪)32‬‬
‫"األنا" باعتبارها الشرط الرئيسي لوجود "اآلخر"‪،‬‬
‫"األنا" االقتصادية واالجتماعية والثقافية‪ ،‬كما أن صورة "اآلخر" تنحو نهجاً اختزالياً في حسم‬
‫مما‬ ‫(‪)33‬‬
‫مجموع كبير من المعارف حول اآلخر في سمة واحدة لتسهيل إمكانية التعايش معه‪،‬‬
‫يلغي‪ ،‬بالضرورة‪ ،‬عدداً آخر من الصفات التي تكون من صميم شخصية "اآلخر"‪ .‬وصورة‬
‫اآلخر ليست نهائية ألنها تتغذى باستمرار من األحداث اليومية والراهنة ووسائل اإلعالم‬
‫(‪)34‬‬
‫المختلفة‪ ،‬والخبرات المباشرة الناتجة عن االحتكاك باآلخر‪.‬‬
‫مع الدور الكبير الذي لعبه العامل االقتصادي في تشكيل صورة اليهودي في الذهن‬
‫السوداني‪ ،‬فإن هناك عوامل أخرى أثرت على مدخالت إدراك صورة اليهودي في الذهن‬
‫السوداني أهمها الخبرة المباشرة في التعامل مع اليهود وهي خبرة ال تخلو من األبعاد‬
‫األسطورية‪ ،‬والسيرورة التاريخية بتعارضاتها وتالقيها بين اليهودي والعربي‪ ،‬باإلضافة‬
‫للنص الديني القرآني‪ ،‬والثقافة الشعبية‪ ،‬والتعليم الرسمي‪ ،‬ووسائل اإلعالم المختلفة‪ ،‬والمنتج‬
‫(‪)35‬‬
‫الفني واألدبي‪.‬‬

‫‪ )32‬جان فارو‪" ،‬اآلخر بما هو اختراع تاريخي"‪ ،‬في‪ :‬الطاهر لبيب (تحرير)‪ ،‬صورة اآلخر‪ :‬العربي‬ ‫(‬

‫ناظراً ومنظوراً إليه‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،1999 ،‬ص ص ‪-45‬‬
‫‪.51‬‬
‫(‪ )33‬دالل البزري‪" :‬اآلخر‪ :‬المفارقة الضرورية"‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص ‪.110 -99‬‬
‫‪ )34‬ريجين عزريَّه‪" ،‬اليهود والعرب‪ :‬صورة اآلخر وآثار المرآة"‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص ‪-497‬‬ ‫(‬

‫‪.508‬‬
‫‪ )35‬عبد الباسط عبد المعطي‪" ،‬صورة اإلسرائيلي لدى المصري بين ثقافة الهامش والدراما‬ ‫(‬

‫التلفزيونية"‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص ‪.372 -357‬‬

‫‪174‬‬
‫وحتى نسير في الطريق الصحيح لمعرفة مدخالت اليهودي في الذهن العربي بكل‬
‫تعقيداتها سابقة الذكر فإن علينا أن نعود قليالً إلى أسطورة التأسيس المشتركة أو "التكوين‬
‫للعالقات الرابطة بين العربي واليهودي‪.‬‬ ‫(‪)36‬‬
‫عزريه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫األول"‪ ،‬كما يسميه ريجين‬
‫أول ما يظهر في هذا "التكوين األول" هو االزدواج التقابلي عربي‪ /‬يهودي‪ ،‬فنجد‬
‫منذ البداية الرابطة األخوية إسماعيل‪ /‬إسحق‪ .‬فاليهود والعرب بهذا المعنى يتحدرون من أب‬
‫واحد هو إبراهيم الخليل‪ ،‬لكنهم أيضاً يتحدرون من أمين متضارتين هاجر‪ /‬سارة‪ ،‬وهما‬
‫بشكل أو بآخر إنعكاس كل منهما لآلخر عربي‪ /‬عبري‪ ،‬وعلينا أن نالحظ هنا تغير مواضع‬
‫الحروف‪ ،‬وتخبرنا األسطورة أن العبرانيون سموا بهذا االسم ألنهم هم الذين "عبروا" نهر‬
‫وتختلف األمتان العربية والعبرية حول هوية الذبيح‪ G‬هل هو إسماعيل‬ ‫(‪)37‬‬
‫الفرات مع إبراهيم‪.‬‬
‫أم إسحق‪ ،‬فبينما يوحي النص القرآني بأن الذبيح‪ G‬هو إسماعيل جاءت التوراة تقطع الشك‬
‫ألتباعها بأن الذبيح‪ G‬هو إسحق‪:‬‬
‫المريا وقدمه محرقة على أحد‬
‫"خذ ابنك وحيدك‪ ،‬إسحق الذي تحبه‪ ،‬وانطلق إلى أرض ُ‬
‫(‪)38‬‬
‫الجبال الذي أهديك إليه"‪.‬‬
‫وتأخذ قصة الذبيح‪ G‬أهمية محورية في كل من الدينين بما هي صراع حول الشرعية‬
‫"ابنك وحيدك"‪ ،‬فهي واحدة من أركان الحج في الدين اإلسالمي‪ ،‬وهي أساس وراثة النبوة في‬
‫الدين اليهودي‪ .‬إذاً فنحن هنا أمام إلغاء أحد الطرفين أحدهما لآلخر‪ ،‬فبينما يشدهما النسب‬
‫المشترك من جهة األب‪ ،‬يباعد بينهما النسب من جهة األم ويقيم بينهما نزاعاً حول الشرعية‪،‬‬
‫ويقضي بصياغة صورة عن اآلخر في منتهى الضدية‪.‬‬
‫وقد أدخلت خبرة السودانيين باليهود‪" ،‬كغرباء" زاحموهم في أرزاقهم على الرغم‬
‫من أن التجار اليهود كانوا عادة ما يبتدرون ضروباً جديدة من التجارة لم يمتهنها تجار‬
‫السودان‪ ،‬ولعل هذه الصورة من المدخالت التي صدرت للذهن السودان من الخبرة اإلنسانية‬

‫عزريه‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.508 -497‬‬


‫ّ‬ ‫(‪ )36‬ريجين‬
‫‪ )37‬علي حسن الخربوطلي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.11‬‬ ‫(‬

‫‪ )38‬العهد القديم‪ ،‬سفر التكوين‪.2 :22 ،‬‬ ‫(‬

‫‪175‬‬
‫صور‬
‫العامة حول العالم عن اليهود‪ G.‬ومع اعتماد حكومة العهد الثنائي على اليهود كوسطاء‪ّ ،‬‬
‫اليهود كمستغلين جشعين‪ ،‬وكمعاونين لالستعمار وشركاء في نهب خيرات البالد‪G.‬‬
‫أقام السودانيون تطابقاً بين اليهودي واإلسرائيلي وفي بعض األحيان بين اليهودي‬
‫والصهيوني والماسوني؛ ومن ثم فقد جعلوا من الديني والسياسي مترادفين متالزمين يستخدم‬
‫أحدهما للداللة على اآلخر‪ ،‬ومما عزز هذا التطابق اختيار الكيان اإلسرائيلي السم إسرائيل‬
‫كتعبير عن دولتهم الجديدة (ت‪ ،)1948 .‬فهو اختيار جاء محمالً بدالالت دينية‪ G‬وسياسية‬
‫وعنصرية‪ ،‬األمر الذي يستدعي مباشرة لدى العربي المرجعية الدينية‪ G‬ومتالزماتها من ربط‬
‫بين اليهود وبين إسرائيل حيث يطلق القرآن تعبير بني إسرائيل للداللة على اليهود‪ G،‬وأيضاً‬
‫صفات اليهود في القرآن الكريم والتي تمركزت حول خيانتهم للعهود ومساومتهم في كل‬
‫األمور حتى المقدس منها‪ .‬وقد حرص رجال الدين اإلسالمي على تأكيد هذا البعد‪ G‬الديني‬
‫واستدعائه في تأسيس صورة اليهودي في خطب المساجد والمنابر وفي تناولهم لقضية‬
‫فلسطين وأزمات الشرق األوسط‪.‬‬
‫من صفات التنميط االجتماعي للشخصية اليهودية‪ G‬في السودان تبرز سمات‪ :‬خائن‬
‫والبرود العاطفي ولعل أساسه النظرة‬ ‫(‪)39‬‬
‫للعهود‪ ،‬وهي صورة يعززها النص القرآني‪"،‬‬
‫المادية لألشياء الناتجة عن النزوع نحو الفردانية‪ .‬واالفتقاد لإلحساس بالجذرية وهي تعكس‬
‫الواقع التاريخي الذي نشأ فيه اليهود وهي سمة صاحبت اليهود في كيانهم الجديد وجعلت من‬
‫مسألة البحث التاريخي واآلثاري عن أدلة تثبت الوجود التاريخي لليهود في فلسطين شغل‬
‫والحساسية المفرطة تجاه النقد وهي‬ ‫(‪)40‬‬
‫اليهود الشاغل سواء بالنسبة للمؤسسات أو األفراد‪،‬‬

‫‪ )39‬هناك عدد من اآليات القرآنية حول هذا المعنى منها على سبيل المثال قوله تعالى‪" :‬ألم تر‬ ‫(‬

‫إلى المأل من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل اهلل قال هل‬
‫عسيتم أن كتب عليكم القتال أال تقاتلوا قالوا ومالنا أال نقاتل في سبيل اهلل وقد أخرجنا من ديارنا‬
‫وأبنائنا‪ G،‬فلما كتب عليهم القتال تولوا إال قليل منهم واهلل عليم بالظالمين"‪ .‬القرآن الكريم‪ ،‬سورة‬
‫البقرة‪ ،‬آية ‪.246‬‬
‫‪ )40‬رشاد عبد اهلل الشامي‪ ،‬الشخصية اليهودية اإلسرائيلية والروح العدوانية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص‬ ‫(‬

‫‪.142 -103‬‬

‫‪176‬‬
‫كما‬ ‫(‪)42‬‬
‫والخبث‪.‬‬ ‫(‪)41‬‬
‫ناتجة من افتقار اليهودي الخفي للثقة في النفس‪ ،‬والخيانة‪ ،‬والمراوغة‪،‬‬
‫نجد عدداً من الصفات السلبية التي جعلت هدفها نفسية الشخصية اليهودية مثل‪ :‬االنطوائية‪،‬‬
‫التشكك‪ ،‬الشعور بالدونية‪ G،‬الالمباالة‪ ،‬اإلحساس بالفشل‪ ،‬الكآبة‪ ،‬التشاؤم‪ ،‬الحاجة للمديح‪G‬‬
‫(‪)43‬‬
‫واإلطراء‪ ،‬خشونة المظهر‪ ،‬انفعالية األعماق‪.‬‬
‫ولعل صورة اليهودي في الذهن األوربي ال تختلف عن ما ذكرناه‪ ،‬ففي الدراما‬
‫األوربية مثّل اليهود جماعة وظيفية هامة في البلدان التي عاشوا فيها‪ ،‬بل إن الكوميديا كانت‬
‫تنصب على السخرية من اليهود‪ G،‬وتصورهم في صورة البخالء البائسين الضعفاء‬
‫ّ‬ ‫دائما‬
‫الجبناء‪ .‬وتظهر الصورة النمطية لليهودي كممثل للجماعة الوظيفية المالية جليَّة في مسرحية‬
‫كريستوفر مارلو "يهودي مالطا"؛ حيث يظهر اليهودي المخادع المحب للمال‪ ،‬الخائن الكاره‬
‫للبشر‪ ،‬وتتكرر تلك الصورة عند ويليام شكسبير في "تاجر البندقية"؛ حيث صار "شيلوك"‬
‫أحيانا كثيرة للتدليل على‬
‫اليهودي َعلَ ًما على الكراهية والحقد‪ .‬ويتم استخدام هذا الرمز ً‬
‫(‪)44‬‬
‫صورة اليهودي الالتاريخية‪ ،‬خاصة من ِقَبل ال ُكتَّاب العرب‪.‬‬
‫وفي دراسته الطريفة حول صورة اإلسرائيلي في مصر وجد عبد الباسط عبد‬
‫المعطي أن ثقافة العامة حرصت على تفكيك الجسد وتجسيم أعضائه وتصويرها على نمط‬
‫كاريكتوري بشكل يحقق الفرضيات السابقة‪ ،‬فالذكر اإلسرائيلي هو غالباً أصلع‪ ،‬له لحية‬
‫تلتقي مع الشارب‪ ،‬أنفه بارز‪ ،‬أذنه طويلة وكبيرة‪ ،‬يميل إلى البدانة‪ G،‬يختار األلوان الداكنة‪G،‬‬
‫يخفض صوته ويوظف أنفه كأحد مخارج الكالم‪ .‬وهكذا فنحن هنا أمام شخص مريب فاللحية‬

‫‪ )41‬عبد الباسط عبد المعطي‪ ،‬صورة اإلسرائيلي في مصرمرجع سابق‪ ،‬ص ‪.89‬‬ ‫(‬

‫‪ )42‬زينب الخضيري‪" ،‬الفقر في كتاب الفالكة والمفلكون"‪ ،‬في‪ :‬محمود الكردي (تحرير)‪ ،‬الفقر‬ ‫(‬

‫في مصر‪ ،‬وقائع الندوة السنوية السادسة لقسم االجتماع بكلية اآلداب‪ ،‬جامعة القاهرة‪ ،1999 ،‬ص‬
‫ص ‪.74 -67‬‬
‫‪ )43‬عبد الباسط عبد المعطي‪" ،‬صورة اإلسرائيلي لدى المصري بين ثقافة الهامش والدراما‬ ‫(‬

‫التلفزيونية"‪ ،‬نقالً عن‪ :‬قدري حنفي‪ ،‬اإلسرائيليون‪ :‬من هم؟‪ ،‬الباب الثالث‪ ،‬ص ‪.391‬‬
‫‪ )44‬أسامة القفاش‪" ،‬رحلة من شكسبير وكريستوفر مارلو إلى وودي آالن ومل بروكس‪ :‬كيف‬ ‫(‬

‫تغيرت‪ G‬صورة اليهودي في الدراما الغربية"؟ مقال منشور على الشبكة العنكبوتية‪ .‬أبحث عبر‬
‫محرك البحث ‪.Google‬‬

‫‪177‬‬
‫والشارب تخفي مالمح الوجه وانفعاالته‪ ،‬واللون الداكن للتواري وعدم الظهور الحاد‪،‬‬
‫فما هي المواصفات الجسدية لليهودي في‬ ‫(‪)45‬‬
‫والصوت المنخفض يعطي انطباعاً بالمسكنة‪.‬‬
‫الذهن السوداني؟‬
‫يختزل صالح محمد أحمد المالمح الجسدية لليهود في األنف الطويل المعكوف‪،‬‬
‫فيقول في معرض روايته عن زيارته للكنيس اليهودي في الخرطوم عام ‪)..(" :1977‬‬
‫فوجدت بداخله شخصاً يدعى إبراهيم باخوس أو باغوص وهو في مالمحه نموذج لليهودي‬
‫بأنفه الطويل المعكوف (‪ )46(.")..‬ونالحظ أن صورة اليهودي ذو األنف المعكوف هي الغالبة‬
‫حول تصور السودانيين للنمط الجسماني لليهود‪ G،‬وقد عملت وسائل اإلعالم المختلفة في‬
‫السودان‪ ،‬الدراما المصرية منها على وجه الخصوص مثل مسلسل رأفت الهجان الذي وجد‬
‫قبوالً واسعاً في السودان‪ ،‬على تأكيد هذه السمة‪.‬‬
‫وكان سكان مدينة‪ G‬الخرطوم يتداولون فيما بينهم عدداً من حكايات الخوف بطلها‬
‫كائن شرير "مقيت" يظهر في األماكن المهجورة والنجسة مثيراً الرعب لدى اإلنسان العادي‪.‬‬
‫أطلقوا عليه اسم "أبو كدوس"‪ ،‬يتفق وصفه الخارجي مع الوصف العام لليهود فهو يرتدي‬
‫المالبس الداكنة‪ ،‬والقبعة الطويلة‪ ،‬والبذلة الطويلة التي تصل حد الركبة‪ ،‬و"ينخنخ"‪ ،‬أي يخرج‬
‫صوته من األنف مما يجعل حديثه مبهماً وغير واضح‪ ،‬وهي صورة تقارب وتحاكي مخارج‬
‫الحروف العبرية‪ ،‬هو يمسك بين شفتيه بالغليون "الكدوس"؛ وهذه المواصفات تجعل "أبو‬
‫(‪)47‬‬
‫كدوس" بزيه وغليونه شخصية أوربية غير سودانية‪.‬‬
‫ومن أهم صفات "أبو كدوس" غير المرئية أنه يمثل الحي‪ /‬الميت‪ ،‬ويشرب دم‬
‫ضحيته‪ ،‬وهنا تلتقي حكايات "أبو كدوس" مع حكايات دراكوال مصاص الدماء في المجتمع‬
‫األوربي‪ ،‬وتفيد بعض الدراسات أن شخصية دراكوال هي تجسيد للمواصفات الذهنية‬

‫‪ )45‬عبد الباسط عبد المعطي‪ ،‬صورة اإلسرائيلي في مصر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.33 -28‬‬ ‫(‬

‫‪ )46‬صالح محمد أحمد‪ ،‬الجالية اليهودية في السودان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.9‬‬ ‫(‬

‫‪ )47‬قيصر موسى الزين‪ ،‬الحركة التاريخية‪ :‬المدينة والدين في أفريقيا الشرقية‪ ،‬أطروحة مقدمة‬ ‫(‬

‫لنيل درجة الدكتوراة في التاريخ‪ ،‬كلية اآلداب‪ ،‬جامعة الخرطوم‪ ،1991 ،‬ص ‪ .73‬وقد ذكر أنه‬
‫جمع عددًا من الروايات المتداولة عن "أبو كدوس" ّإبان جمعه الميداني إلعداد أطروحته‪ ،‬ويفسر‬
‫هذه الروايات بأنها أحد أشكال المقاومة والتعبير الشعبي عن رفض االستعمار‪.G‬‬

‫‪178‬‬
‫لليهودي في أوربا وال أستبعد‪ G‬أن تكون صورة اليهودي في أوربا قد غ ّذت تصور السودانيين‬
‫لليهود‪ ،‬فقد كان األوربيون ينظرون إلى اليهود نظرة إزدراء وكراهية‪ ،‬وكان اليهود ينعتون‬
‫بالخيانة‪ .‬وقد ساعد الجيتو اليهود على تغذية‪ G‬هذه النظرة بمنعه لالتصال بين اليهود والشعوب‬
‫التي عاشوا بينها‪ ،‬فانتشرت الشائعات التي تروج لسحر اليهود وشيطنتهم ووحشيتهم‬
‫كما أن تفوق اليهود في العلوم الطبية والجراحية والكيمياء عزز الشائعات حول‬ ‫(‪)48‬‬
‫وغدرهم‪.‬‬
‫ولعل بعض األجانب الذين عملوا في السودان‬ ‫(‪)49‬‬
‫أن اليهود سحرة وأنهم أخوان الشيطان‪.‬‬
‫حملوا معهم هذه األفكار‪ ،‬فمثلت الرافد الخارجي الذي تغذت منه صورة اليهودي في الذهن‬
‫السوداني الذي كان مهيأً لمثل هذه األفكار بخلفيته الدينية‪ G‬والقرآنية‪.‬‬
‫من أكثر السمات الراسخة في الذهن السوداني عن الشخصية اليهودية‪ ،‬والتي يبدو‬
‫أنها تغذت من الوضع االقتصادي لليهود‪ G،‬تبرز صفات‪ :‬الجشع‪ ،‬وحب المال‪ ،‬وكنزه‪ ،‬والبخل‬
‫الشديد‪ ،‬واألنانية‪ ،‬والمراباة‪ ،‬وتجاوز العواطف اإلنسانية بسبب البخل والمادية‪ .‬واليهودي في‬
‫نفس الوقت ذكي‪ ،‬حسن التدبير‪ G،‬ناجع الحيلة‪ ،‬ويتداول بعض السودانيين في هذا الخصوص‬
‫حديثاً موضوعاً للرسول صلى اهلل عليه وسلم يدعون أنه جرى إبَّان فتح خيبر قاتل الصحابة‬

‫‪ )48‬إسماعيل راجي الفاروقي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ .25‬وفيما يخص مسألة شرب دماء الضحية‬ ‫(‬

‫فقد شاع في المجتمع األوربي ما يعرف "بتهمة الدم"‪ ،‬ومؤداها اتهام اليهود بأنهم يقتلون صبياً‬
‫واستهزاء من صلب المسيح‪ ،‬وتطور االتهام إلى االعتقاد بأن اليهود‬
‫ً‬ ‫مسيحياً‪ G‬في عيد الفصح سخرية‬
‫يستعملون دماء ضحيتهم في شعائرهم الدينية وأعيادهم حيث أشيع أن خبز الفطير غير المخمر‬
‫"ماتزوت" الذي يأكله اليهود في عيد الفصح يعجن بدماء الضحايا هذه‪ .‬ثم تطورت اإلشاعة إلى‬
‫القول بأن اليهود يصفُّون دماء ضحاياهم ألسباب طبية أو الستخدامه في عالج الجروح الناجمة عن‬
‫عمليات الختان‪ .‬وقد وجهت تهمة الدم لليهود في البالد العربية فيما عرف وقتها "بحادثة دمشق"‬
‫(ت‪ )1840 .‬وكانت‪ G‬سوريا حينها تحت الحكم المصري‪ ،‬حيث اتهم يهود دمشق بقتل راهب‬
‫مسيحي وخادمه المسلم الستخدام دمائهما في أغراض شعائرية‪ .‬ولعل وقوع هذه الحادثة في سوريا‬
‫وتحت الحكم المصري يجعل إمكانية انتقال ما يدور حولها من حكايات إلى السودان أمراً طبيعياً‪G‬‬
‫ومتوقعاً‪ G.‬للمزيد حول تهمة الدم يمكن الرجوع إلى‪ :‬عبد الوهاب المسيري‪ ،‬في الخطاب والمصطلح‬
‫الصهيوني‪ :‬دراسة نظرية وتطبيقية‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الصانية‪ ،2005 ،‬ص ص‬
‫‪.200 -197‬‬
‫‪ )49‬نفسه‪ ،‬ص ‪.26‬‬ ‫(‬

‫‪179‬‬
‫(‪)50‬‬
‫اليهود‪ ،‬فأشار الرسول على أصحابه بوقف القتال قائالً‪" :‬خلوا باقي النصاره للبصاره"‪.‬‬
‫ورغم عدم صحة هذا الحديث إال أنه يعطي فكرة واضحة عن االعتراف الجمعي بشأن‬
‫التفوق األوربي‪ ،‬واليهودي‪ ،‬ولعله محاولة من "األنا" السودانية لتبرير عجزها في مقابل قدرة‬
‫"اآلخر" وبراعته في مناشط الحياة "الدنيا" على اعتبار أنه ليس لهذا "اآلخر" نصيب في الحياة‬
‫"األخرى"‪.‬‬
‫وقد أكدت إفادات اإلخباريين‪ ،‬الذين قابلتهم في مدينة‪ G‬مروي‪ ،‬هذه الصفات وزادوا‬
‫عليها أن اليهودي ملحاح في عملية البيع والشراء التي تأخذ منه ومن البائع‪ ،‬لهذا السبب‪ ،‬وقتاً‬
‫طويالً‪ ،‬ويحكى في هذا السياق أن عدداً من تجار المدينة كانوا يعطون اليهودي السلعة التي‬
‫(‪)51‬‬
‫إعطاءهم ما يراه مناسباً‪.‬‬
‫َ‬ ‫يريدها وعندما يسألهم عن الثمن ال يجاوبونه وإ نما يطلبون منه‬
‫كما أبرز سكان مروي عن اليهود صفة إضمار الشر للمسلمين‪ ،‬ولعلها مستمدة من النص‬
‫القرآني‪" :‬ولن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى اهلل هو الهدى‬
‫(‪)52‬‬
‫أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من ولي وال نصير"‪.‬‬
‫َ‬ ‫ولئن إن اتبعت‬
‫ويروى في هذا الخصوص أن الطريق إلى مسجد مروي كان يمر بمنزل أحد‬
‫اليهود وكان ينتظرهم في مواعيد الصلوات ويقدم لهم الماء البارد‪ ،‬إال أنهم لم يكونوا يشربون‬
‫(‪)53‬‬
‫منه‪ ،‬والسبب في ذلك أنهم يشكون أنه كان يبصق في الماء الذي يقدمه لهم‪.‬‬
‫وتؤكد اإلفادات الشفوية أن اليهود يبدون ظاهر الرحمة ويبطنون الشر‪ ،‬فزوجة أحد‬
‫يهود مدينة‪ G‬مروي كانت رحيمة جداً حتى أنهم أسموها "حنينه" لكنهم مع ذلك كانوا يعتقدون‬
‫أنها تتصنع هذه الرحمة لتحظى بمكانة وسط مجتمعهم‪ ،‬وقد استخدم اإلخباري عبارة " مرة‬
‫كانت طيبة لكن يهودية‪ G‬برضو" لإلشارة على أنها ال تخرج من النمط العام لليهودي‬
‫(‪)54‬‬
‫"الخائن"‪.‬‬

‫‪ )50‬والنصارى عند السودانيي‪G‬ن هم كل األجانب من أوربيين وشوام وغيرهم من ذوي البشرة‬ ‫(‬

‫البيضاء أو الصفراء بغض النظر عن دينهم‪.‬‬


‫‪ )51‬إفادة اإلخباري عبد القادر محمد عبد القادر‪ ،‬مدينة مروي‪.‬‬ ‫(‬

‫‪ )52‬القرآن الكريم‪ ،‬سورة البقرة‪ ،‬آية ‪.120‬‬ ‫(‬

‫‪ )53‬إفادة اإلخباري عبد القادر محمد عبد القادر‪ ،‬مدينة مروي‪.‬‬ ‫(‬

‫‪ )54‬نفسه‪.‬‬ ‫(‬

‫‪180‬‬
‫ويسود في السودان اعتقاد مؤداه أن اهلل قد منح اليهود قدراً من الحظ أكثر من‬
‫"حظ يهود"‬ ‫(‪)55‬‬
‫غيرهم‪ ،‬وهو ما يتكشف من مناسبة واستخدام ما يجري مجرى المثل الشعبي‬
‫الذي يقال لكل من وهب قدراً من الحظ‪ .‬فهل لهذا االعتقاد عالقة بمسألة "شعب اهلل المختار"‬
‫ورسوخها في الذهن الشعبي السوداني؟ أم هي أصداء للقصص القرآني حول شعب إسرائيل‬
‫(‪)56‬‬
‫ومعاصيهم وغفران اهلل لهم؟‬

‫‪ )55‬ما يجري مجرى المثل هو مصطلح فولكلوري يشير إلى العبارات المألوفة والنعوت‪ G‬الجاهزة‬ ‫(‬

‫التي يتداولها المجتمع في مناسبات‪ G‬معينة‪.‬‬


‫‪ )56‬يقول اهلل تعالى‪" :‬يا بني إسرائيل أذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وإ ني فضلتكم على‬ ‫(‬

‫العالمين"‪ .‬القرآن الكريم‪ ،‬سورة البقرة‪ ،‬آية ‪.122‬‬

‫‪181‬‬
‫خاتمة البحث‬

‫‪182‬‬
‫خاتمة‬

‫‪183‬‬
‫حاولت هذه الدراسة‪ ،‬من خالل فصولها األربعة‪ ،‬أن تستبين أوجه النشاط‬
‫االقتصادي واالجتماعي للجالية اليهودية في السودان خالل فترة الحكم الثنائي‪ ،‬وأن تستجلي‬
‫الحقائق وتستنطقها وتدرسها على ضوء معطيات الواقع الموضوعي والتاريخي لتلك الفترة‪.‬‬
‫حاول التأسيس اإلجابة عن التساؤالت حول وجود عالقات تواصل مبكر بين‬
‫اليهود والمجموعات السودانية من عدمها‪ ،‬ما أرجو أن يكون ما وصلت إليه من خالل هذا‬
‫المبحث هو تحقيق وجود يهودي مبكر في السودان من عدمه؟ واستطاع البحث أن يعكس‬
‫معرفة اليهود بالسودان من خالل العهد القديم والعهد الجديد‪ ،‬ومعرفة التجار اليهود ببالد‬
‫السودان وبضائعه وموانيه‪ ،‬وهو ما تؤكده وثائق الجينيزة‪ ،‬وربما يكون هؤالء التجار قد‬
‫زاروا السودان لجلب هذه البضائع‪ .‬كما بحثت الدراسة في مذكرات داؤد روبيني‪ ،‬المغامر‬
‫عرفت أعداداً من‬
‫اليهودي‪ ،‬المكتوبة باللغة العبرية قبل عام ‪1535‬م والتي البد وأن تكون قد َّ‬
‫اليهود ببالد السودان‪ .‬كما تناول البحث عدداً من الروايات التاريخية ذات الطابع الشفاهي‬
‫دونها بعض المؤلفين والكتاب‪ ،‬وهي تفترض هجرة مجموعات يهودية كاملة إلى‬
‫والتي ّ‬
‫السودان‪.‬‬
‫وبالمقابل فإنه من الطبيعي أن تؤثر هذه العناصر كلها في معرفة أهل السودان‬
‫باليهود‪ ،‬كتجار أو غرباء وافدين‪ ،‬كما أن عالقة بالد السودان الحميمة ببالد‪ G‬العرب البد أن‬
‫عرفت أهله باليهود إذ وجدت اليهودية‪ G‬سبيلها بين العرب منذ وقت مبكر‪.‬‬
‫تكون قد ّ‬

‫‪184‬‬
‫وللتحقق من أسباب توافد الجماعات اليهودية‪ G‬في العهد التركي المصري تعرض‬
‫البحث إلى التاريخ االقتصادي للدولة العثمانية ّإبان القرن التاسع عشر وخلصت إلى أنه‬
‫اتسم بظاهرتين رئيستين‪ :‬تمثلت الظاهرة األولى في ركود الوضع االقتصادي بالداخل‬
‫وتدهور حجم التجارة الخارجية مع الدول األوربية‪ .‬وتمثلت الظاهرة الثانية في تحسن مكانة‬
‫المسيحيين في الحياة االقتصادية بالدولة‪ .‬وقد ألحقت هاتان الظاهرتان أضراراً ضخمة‬
‫بأوضاع اليهود االقتصادية فأصبحت أنشطتهم التجارية محدودة للغاية‪ ،‬كما تحول بعض‬
‫منهم إلى أجراء فقراء‪ .‬وبالمقابل توصل البحث إلى أن السودان بحكم تبعيته‪ G‬لحكومة محمد‬
‫علي باشا‪ ،‬وخلفائه من بعده‪ ،‬انتهج المنحى التحديث‪G‬ي األوربي في الحكم‪ ،‬فتطورت قدراته‬
‫االقتصادية على خالف سائر أنحاء اإلمبراطورية العثمانية‪ G.‬وأمام هذا الوضع أضطر العديد‪G‬‬
‫من اليهود للهجرة من الدولة العثمانية المتهالكة إلى السودان‪ ،‬الذي فتح أذرعه الستقبال‬
‫استثماراتهم وخبراتهم‪ .‬وقد وجد اليهود مناخاً طيباً في السودان واعترافاً بهم وبحقهم في‬
‫ممارسة شعائرهم الدينية‪ ،‬وكان لديهم متحدث باسمهم هو بن زيون كوشتي‪ .‬إال أن الوجود‬
‫اليهودي في السودان لم يرق مؤسسياً لمستوى الجالية‪.‬‬
‫أما فترة الدولة المهدية‪ G‬فلم تشهد توافد أعداد جديدة من اليهود‪ ،‬وكان اليهود قد‬
‫تعرضوا في ظل الدولة المهدية‪ G‬للقتل والتشريد والتعذيب والسجن والسلب‪ ،‬شأنهم شأن معظم‬
‫األجانب في ذلك‪ ،‬بسبب عالقتهم بالحكم السابق‪ ،‬أو بسبب التمييز الديني‪ .‬إال أن عدد من‬
‫اليهود‪ ،‬وربما معظم اليهود‪ G،‬استطاعوا التأقلم مع النظام الجديد وهم ينتظرون زواله‪ ،‬ونجحوا‬
‫في متابعة نشاطهم االقتصادي والتجاري في السودان‪.‬‬
‫خصصنا الفصل األول من هذا البحث لدراسة توافد اليهود إلى السودان‪ ،‬قادنا‬
‫لإلجابة على أسئلة فرعية أخرى من شاكلة‪ :‬هل كان السودان في الفترة التي أعقبت غزوه‬
‫في ‪ 1898‬بلداً سانحاً لالستثمار؟ ومن أين قدم يهود السودان؟ وما هي المغريات التي دفعت‬
‫اليهود للتوافد للسودان؟ وما هي العوامل التي ساعدتهم على ذلك؟ وهل تمتع اليهود بأي‬
‫تسهيالت من حكومة العهد الثنائي؟‬
‫وخلص البحث في هذا الخصوص إلى أن ظروف السودان "الجديد" (ت‪)1898 .‬‬
‫بعد إعادة احتالله كانت مهيأة الستقبال المستثمرين اليهود‪ ،‬الذين وجدوا من الحكومة‬

‫‪185‬‬
‫السودانية البريطانية رعاية وحماية كفلت وضعاً مميزاً سواء من حيث التسهيالت اإلدارية‪،‬‬
‫أو استيعاب الوافدين الجدد من اليهود في األعمال الحكومية المختلفة‪ ،‬وقد مكنتهم ملكاتهم‬
‫ومهاراتهم‪ ،‬وقدرتهم على التحدث باللغة العربية من العمل كوسطاء بين الحكومة اإلنجليزية‬
‫والمجتمع السوداني في ظل السياسة البريطانية الرامية لعزل الموظفين المصريين‬
‫واالستغناء عنهم‪ .‬وقد وفد معظمهم إلى السودان من مصر‪ ،‬وهم ينتمون إلى فئتين‪ G:‬رجال‬
‫األعمال و أثرياء اليهود‪ G،‬وعلى هؤالء تأسس نشاط الجالية اليهودية في السودان؛ والحرفيين‬
‫ومتوسطي الدخل‪ ،‬وقد اندمج معظم هؤالء في الحياة السودانية‪ G.‬ووجد اليهود اعترافاً رسمياً‬
‫بهم من حكومة السودان‪ ،‬كما لم يواجهوا صعوبة في الحياة في ظل مجتمع متسامح فتمكنوا‬
‫من أداء طقوسهم وشعائرهم الدينية‪ G‬بحرية كاملة‪.‬‬
‫وهكذا تهيأت كل الظروف المواتية إلنشاء جالية يهودية في السودان في فترة الحكم‬
‫الثنائي من‪ :‬رعاية بريطانية‪ ،‬وازدهار ألوضاع يهود مصر والسودان‪ ،‬وتفتح األسواق‬
‫السودانية أمام رأس المال اليهودي‪ ،‬وبدأت الجماعات اليهودية‪ G‬الوافدة تنظم نفسها وتفعِّل‬
‫اليهود الموجودين في السودان‪ ،‬وقد نجحت في إقناع معظمهم باالرتداد عن اإلسالم والعودة‬
‫ثم تم تشكيل مجلس منتخب للجالية اليهودية في السودان تحت إشراف‬
‫للديانة اليهودية‪ G.‬ومن ّ‬
‫حاخامباشي مصر والسودان‪ ،‬ووجد المجلس اعترافاً رسمياً من السلطات السودانية‪ G،‬وبهذا‬
‫أصبح للوجود اليهودي في السودان شكله التنظيمي والمؤسسي‪.‬‬
‫الفصل الثاني من البحث خصص للتحقق من فرضية النفوذ االقتصادي للجالية‬
‫اليهودية في السودان‪ ،‬وهو ما تتطلب أن نبدأ بتشريح الشخصية االقتصادية اليهودية‪ ،‬وهو ما‬
‫أوصلنا إلى أن مجتمع الدياسبورا الذي أجبر عليه المجتمع اليهودي عبر تاريخه الطويل‪،‬‬
‫باإلضافة إلى الطبيعة الرعوية المتنقلة للمجتمع اليهودي‪ ،‬مع تباين المراحل االجتماعية‬
‫االقتصادية للمجتمعات التي تنقلوا فيها‪ ،‬كل هذه األسباب مجتمعة ساهمت في تطور الوعي‬
‫االجتماعي لألقليات اليهودية فإذا وضعنا في االعتبار التضامن الداخلي للجماعات اليهودية‪G‬‬
‫جراء االضطهاد ومحاكم التفتيش والهجمات الخارجية التي تعرضوا لها‪ ،‬فيمكننا أن نفهم‬
‫سهولة التعامل والتواصل بين األقليات اليهودية حول العالم مما كسر حواجز اللغة والجغرافيا‬
‫فنمت حرفة التجارة الخارجية والدولية عند اليهود في ظل هذه المعطيات‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫والبد أن تفوق اليهودي‪ ،‬متمثالً‪ G‬في بروز النزعات الفردانية وتطور الوعي‬
‫بالتعامل النقدي والربوي‪ ،‬وبراعة اليهود "كغرباء" و"ال منتمين"‪ G‬في الحرف غير ذات‬
‫الجذور كالصياغة وصناعة الحلي والمجوهرات والهندسة والطب والتجارة‪ ،‬وتقربهم من‬
‫الطبقات الحاكمة‪ ،‬كل ذلك راكم من أرباح اليهود في مجتمعات ال ينتمون إليها مما منحهم‬
‫قدراً من الحرية في الحركة من مكان إلى آخر متى ما كانت الفرصة سانحة لالستثمار‪.‬‬
‫بعد رسم المالمح األساسية للشخصية االقتصادية اليهودية‪ G‬التفت البحث لإلجابة‬
‫على أسئلة‪ :‬هل احتل اليهود مناصب ذات نفوذ في حكومة العهد الثنائي؟ وما هي عالقتهم‬
‫بالشركات البريطانية العالمية الممثلة لالقتصاد الكولونيالي في السودان؟ وكيف تحول نفوذ‬
‫هذه الشركات إلى نفوذ اقتصادي للجالية اليهودية في السودان؟‬
‫وتوصلت الدراسة إلى أن يهود السودان استطاعوا تسلق الهرم اإلداري والوظيفي‬
‫في حكومة العهد الثنائي‪ ،‬وأصبح لهم وجود نافذ مؤثر مما عزز من وضع الجالية اليهودية‬
‫في السودان ومن استثماراتها االقتصادية فيه‪ .‬كما َّأم اليهود معظم الشركات البريطانية‬
‫واألجنبية التي احتكرت النشاط التجاري في السودان أو كادت‪ ،‬واستطاع األفراد المتنفِّذون‬
‫من اليهود أن يحولوا نفوذهم ونفوذ هذه الشركات الضخمة إلى نفوذ اقتصادي للجالية‬
‫اليهودية في السودان نفسها‪ ،‬وأصبحت بذلك قوة اقتصادية ال يمكن تجاوزها في السوق‬
‫السودانية‪G.‬‬
‫كما ناقش الفصل الثاني موضوع استثمار رأس المال اليهودي في السودان‪،‬‬
‫وعالقة الجالية اليهودية بقطاع التجارة الخارجية ومنشطي االستيراد والتصدير‪ ،‬وعالقة‬
‫رأس المال اليهودي باالستثمار الصناعي‪ ،‬وباالستثمار في قطاع الصرافة والعمل البنكي‬
‫وقطاع الترفيه والخدمات في السودان‪ .‬وبمتابعة العوامل المتعددة التي تضافرت لتساعد‬
‫رأس المال اليهودي على االستثمار في السودان‪ ،‬عرضت الدراسة نشاط الشركات اليهودية‪G‬‬
‫في قطاع التجارة الخارجية بقسميها االستيراد والتصدير حتى كادت أن تحتكر السوق‬
‫السودانية‪ G.‬ومغامرة رأس المال اليهودي باالستثمار في قطاع الصناعة على الرغم من‬
‫تعارض هذا المنشط مع سياسة الحكومة اإلنجليزية‪ ،‬ونجاح رأس المال اليهودي في وضع‬
‫البنى األولى لعدد من الصناعات في السودان مثل صناعة الشعيرية‪ ،‬والمكرونة‪ ،‬والبالط‪،‬‬

‫‪187‬‬
‫والزراير‪ ،‬والعطور‪ ،‬باإلضافة إلدخال اآللة في معاصر الزيوت‪ ،‬وعمليات دباغة الجلود‪.‬‬
‫ونشاط رأس المال اليهودي في صناعات الترفيه والسياحة وهو ما وجد سوقاً رائجة في‬
‫الخرطوم‪ ،‬ذات الطابع األوربي‪ ،‬لجو الغربة والوحدة الذي كان يعيشه عدد كبير من‬
‫الموظفين األجانب في السودان‪ ،‬ونجاح اليهود في افتتاح فرع لبنكهم‪ ،‬البنك األهلي‬
‫المصري‪ ،‬في السودان‪ ،‬وقد ظل هو البنك الوحيد العامل في السودان حتى إنشاء البنك‬
‫اإلنجليزي عام ‪.1916‬‬
‫موضوع النشاط االجتماعي للجالية اليهودية‪ G‬في السودان خالل فترة الحكم الثنائي‬
‫شغل الفصل الثالث من هذا البحث‪ ،‬وفيه أجابت الدراسة على أسئلة‪ :‬أين وكيف كانت الجالية‬
‫اليهودية تؤدي شعائرها الدينية؟‪ G‬وما هي طبيعة الشعائر والمناشط التي كانت تؤدى؟ وهل‬
‫واجهت أي تعصب ديني يمنعها من أداء هذه الشعائر؟ وإ لى أي طائفة تنتمي الجالية اليهودية‪G‬‬
‫في السودان؟ وما هي طبيعة العالقات بين أفراد الجالية اليهودية‪ G‬في السودان؟ وكيف عبرت‬
‫عن نفسها؟ وما هي المناشط االجتماعية التي كانت تقوم بها؟ ومستوى وطبيعة التعليم وسط‬
‫الجالية؟ وعالقة الجالية بالمحيط السوداني؟ وهل كان للجالية اليهودية‪ G‬في السودان أي‬
‫مشاعر بالقومية اليهودية؟ وهل عبرت عن هذه المشاعر في مناشط صهيونية؟ وإ ذا كانت‬
‫اإلجابة بنعم‪ ،‬فما هي هذه المناشط؟‬
‫بحث الفصل الثالث في كل هذه التساؤالت والفرضيات‪ ،‬وخلص إلى أن السودان‬
‫شهد قيام أربعة معابد يهودية‪ G،‬بالتعاقب‪ ،‬كان آخرها هو المعبد‪ G‬اليهودي في الخرطوم‪ ،‬والذي‬
‫أسس بمبلغ مالي كبير جداً شارك في جمعه يهود السودان ويهود مصر ويهود بريطانيا‪ .‬وتم‬
‫بناء المعبد‪ G‬ليحتوي على الوحدات المعمارية األساسية المطلوب إنشاؤها في معابد السفارديم‪.‬‬
‫ومن هذا المعبد‪ G‬مارست الجالية اليهودية شعائرها وتقاليدها اليهودية‪ G‬مثل عهد‬
‫الختان‪ ،‬والذبح على الشريعة اليهودية ‪ ،shehita‬وأداء عقود الزواج‪ ،‬والشعائر الجنازية‪،‬‬
‫واإلشراف على المقابر‪ ،‬وإ قامة االحتفاالت والصلوات اليومية واألسبوعية والموسمية‪.‬‬
‫وكانت الجالية تؤدي هذه الشعائر بحرية كاملة في السودان‪.‬‬
‫وكان أعضاء الجالية اليهودية في السودان يرتبطون فيما بينهم بعالقات وثيقة‬
‫عززتها الصفقات التجارية‪ ،‬وتشابه األوضاع والظروف والمكانة االجتماعية واالقتصادية‪،‬‬

‫‪188‬‬
‫وقد توطدت هذه العالقات بعد تأسيس النادي اليهودي في الخرطوم‪ .‬وقد حظي أبناء الجالية‬
‫اليهودية بنصيب طيب من التعليم‪ .‬وهو ما ساهم في التحام اليهود بالفئات المستنيرة من‬
‫ساسة وكتاب ومفكرين ومؤرخين وزعماء وتجار ووجهاء‪ ،‬وهي عالقات أسفرت في‬
‫معظمها عن نجاحات تجارية‪ ،‬كالشراكات بين السودانيين‪ G‬واليهود‪ ،‬أو اجتماعية‪ ،‬مثل حاالت‬
‫انتماء ووجداناً وتمثلوا‬
‫ً‬ ‫التزاوج بين السودانيين‪ G‬واليهود‪ .‬وقد ارتبط بعض اليهود بالسودان‬
‫وكونوا على هذا األساس روابط‬
‫العادات والتقاليد السودانية‪ G،‬بل وأعتبر بعضهم أنه سوداني َّ‬
‫في المهجر باسم يهود السودان‪.‬‬
‫أما الشعور القومي لدى يهود السودان فقد نما وفقاً لمتالزمة "أن المقدس هو قومي‬
‫والقومي هو مقدس" وبغض النظر عن مدى صحة هذه المتالزمة من الناحية النظرية‬
‫والمفاهيمية فإنها كانت واقعاً عبرت عنه الجالية اليهودية‪ G‬في السودان‪ :‬فكانت تردد أناشيد‬
‫الهاتيكفاه في المعبد‪ ،‬وأطلقت اسم مكابي على النادي‪ ،‬وحشدت الدالالت الدينية‪ G‬والقومية في‬
‫أسماء أفرادها‪.‬‬
‫ولم تكن الجالية اليهودية في السودان بمنأى عن النشاط الصهيوني في العالم‪ ،‬وفي‬
‫المنطقة العربية على وجه الخصوص‪ ،‬فتواصلت معها ولعل السودان أصبح مركزاً للنشاط‬
‫الصهيوني في منطقة القرن األفريقي‪ ،‬وبتسهيالت الجالية اليهودية في السودان‪ ،‬وعبر‬
‫األراضي السودانية‪ G،‬تدفق اليهود الصهاينة إلى فلسطين‪ .‬لقد بدأت حلقة جديدة من النشاط‬
‫الصهيوني لليهود في السودان كان قوامها ُج ّل يهود السودان‪ ،‬حتى ُحق لنا أن نحكم بأن‬
‫الجالية اليهودية في السودان هي في نفس الوقت المنظمة الصهيونية في السودان‪.‬‬
‫وفي الفصل الرابع‪ ،‬نظرنا في أسباب خروج اليهود من السودان فتوصلنا إلى أن ازدهار‬
‫النشاط االقتصادي والتجاري واالجتماعي للجالية اليهودية في السودان كان يحمل في أحشائه‬
‫بذور فنائه‪ ،‬إذ حمل التناقض الجوهري بين نجاح وغنى التجارة اليهودية‪ G‬في السودان وإ فقار‬
‫فئات أخرى من التجار السودانيين والبرجوازية العربية‪ ,‬وتفجر هذا التناقض وعبَّر عن نفسه‬
‫أيديولوجياً عند اندالع الحرب العربية اإلسرائيلية‪ .‬وبمرور الزمن وتعاقب األحداث سادت‬
‫األيديولوجيا العربية التي جعلت من التعاطف مع الحق العربي والعداء لليهود وجهان لعملة‬
‫واحدة‪ ،‬وقد عزز هذه الوجهة اختيار الحركة الصهيونية السم إسرائيل ذي البعد الديني‬

‫‪189‬‬
‫كعنوان لدولتهم الجديدة في أرض فلسطين‪ .‬ووجدت األيديولوجيا العربية دفعة قوية بعد‬
‫حرب النكسة‪ ،‬وانعقاد مؤتمر القمة العربية بالخرطوم والذي خرج بقرارات صارمة‬
‫بخصوص الموقف العربي من إسرائيل‪ .‬وكانت قرارات حكومة النميري بتأميم ومصادرة‬
‫أموال وأعمال وممتلكات األجانب‪ ،‬وبينهم اليهود‪ ،‬آخر مسمار ُدق في نعش الجالية اليهودية‪G‬‬
‫في السودان‪.‬‬
‫وتجلت كل هذه الحقائق التي ذكرها البحث واستعرضها في الصورة الذهنية‪G‬‬
‫لليهودي في الوجدان السوداني وهي صورة قاتمة جداً‪ ،‬ولعلها محاولة لتبرير التفوق اليهودي‬
‫في المهارات ومجاالت اإلبداع الفردي‪ ،‬وقد تغذت هذه الصورة من التجربة العملية والخبرة‬
‫المباشرة بين السودانيين‪ G‬واليهود‪ ،‬ومن النص القرآني حول اليهود وخيانتهم للعهود‪ .‬ومن‬
‫أجهزة اإلعالم المختلفة مثل الدعاية الدينية‪ ،‬وخطب المنابر والمساجد‪ ،‬والدراما التلفزيونية‬
‫والسينمائية‪ G،‬ومن الصراعات السياسية القائمة في منطقة الشرق األوسط إذ أقام السودانيون‬
‫وصالً وتطابقاً كاملين بين اليهودي واإلسرائيلي‪ ،‬وبين اليهودي والصهيوني‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫ثبت المصادر والمراجع‬

‫‪191‬‬
‫(نصنف المصادر والمراجع في هذه القائمة تصنيفاً نوعياً‪ ،‬ثم نرتبها هجائياً داخل التصنيف‬
‫النوعي الواحد‪ ،‬ونأتي بالمصادر والمراجع اإلنجليزية‪ ،‬مرتبة هجائياً‪ ،‬بعد المصادر‬
‫والمراجع العربية مباشرة دون تمييز لغوي وفقاً للتصنيف النوعي للمصادر)‪.‬‬

‫أوالً‪ :‬المصادر األصلية والموسوعات‪:‬‬


‫القرآن الكريم‬
‫العهد القديم‬
‫العهد الجديد‬
‫القسم العام‪ ،‬أربعة مجلدات‪ ،‬مركز‬ ‫الموسوعة الفلسطينية‪،‬‬
‫الدراسات والبحوث الفلسطينية‪ ،‬دمشق‪،‬‬
‫‪.1984‬‬
‫موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية‪،‬‬ ‫عبد الوهاب المسيري‪،‬‬
‫جزءان‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪.2003 ،‬‬

‫‪Encyclopedia Britannica, Chicago, 1971, Vol. 10‬‬

‫‪E. Royston Pike,‬‬ ‫‪Encyclopedia of Religion and‬‬


‫‪Religions, The World Publishing‬‬
‫‪Company, New York, 4th reprinting,‬‬
‫‪1961.‬‬

‫ثانياً‪ :‬الوثائق‪:‬‬

‫‪192‬‬
‫مجموعة السكرتير اإلداري‪ ،‬دار الوثائق القومية‪ ،‬الخرطوم‬
‫)سبعة أوراق( ‪1. Jewish Community of the Sudan, 10, 1, 6.‬‬
‫‪2. Syrian Community, 10,1,5.‬‬ ‫)أربعة عشر ورقة(‬

‫مجموعة مكتب األمن العام‪ ،‬دار الوثائق القومية‪ ،‬الخرطوم‬


‫)اثنان وسبعون ورقة( ‪Report. No. 6,3,17, Date 16- 12- 1938.‬‬
‫ثالثاً‪ :‬الكتب المصدرية‬
‫تاريخ الرسل والملوك‪ ،‬تحقيق محمد أبو‬ ‫أبي جعفر محمد بن جرير الطبري‪،‬‬
‫الفضل إبراهيم‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬الطبعة‬
‫السادسة‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪،1990 ،‬‬
‫ص ص ‪.119 -118‬‬

‫مخطوطة كاتب الشونة أو تاريخ ملوك سنار‪ ،‬تحقيق يوسف فضل حسن‪،‬‬ ‫أحمد بن الحاج علي‪،‬‬

‫تحت الطبع‪.‬‬

‫جالل الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي‬

‫تفسير الجاللين مضافاً إليه كتاب لباب العقول في أسباب النزول للسيوطي‪،‬‬
‫وجالل الدين محمد بن أحمد المحلي‪،‬‬
‫دار الحكمة‪ ،‬دمشق‪1402 ،‬هـ‪.‬‬

‫كتاب الطبقات في خصوص األولياء والعلماء والشعراء في السودان‪،‬‬ ‫محمد النور بن ضيف اهلل‪،‬‬

‫تحقيق يوسف فضل حسن‪ ،‬الخرطوم‪.1971 ،‬‬

‫رابعاً‪ :‬كتب المذكرات والسير الشخصية‬


‫الخرطوم أيام زمان‪ :‬ذكريات وخواطر عن الخرطوم‪ ،‬منشورات الخرطوم‬ ‫أحمد عبد الوهاب محمد سعيد‪،‬‬

‫عاصمة للثقافة العربية‪ ،‬الخرطوم‪.2005 ،‬‬

‫مذكرات أحمد محمد يس‪ ،‬مركز محمد عمر بشير‪ ،‬أم درمان‪ ،‬دار عزة‬ ‫أحمد محمد يس‪،‬‬

‫للطباعة والنشر‪ ،‬الطبعة األولى‪2001 ،‬‬

‫‪193‬‬
‫مذكراتي ‪ ،1958 -1914‬مطبعة التمدن‪ ،‬الخرطوم‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬ ‫الدرديري محمد عثمان‪،‬‬

‫‪.1961‬‬
‫لوطني وللتاريخ‪ :‬مذكرات الشهيد الشريف حسن الهندي‪ ،‬مركز عبد‬ ‫الشريف يوسف الهندي‪،‬‬

‫الكريم ميرغني الثقافي‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،2006 ،‬ص ص ‪.143 -71‬‬

‫تاريخ حياتي‪ ،‬أم درمان‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬الجزء األول‪،‬‬ ‫بابكر بدري‪،‬‬

‫‪ ،1959‬الجزء الثاني‪ ،1960 ،‬الجزء الثالث‪،‬‬


‫‪.1961‬‬

‫مذكرات خضر حمد‪ :‬الحركة الوطنية‬ ‫خضر حمد‪،‬‬


‫السودانية‪ ،‬االستقالل وما بعده‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى‪.1980 ،‬‬

‫حكاوي أم درمان‪ ،‬دار الكاتب السوداني‪،‬‬ ‫شوقي بدري‪،‬‬


‫الطبعة األولى‪ ،‬القاهرة‪.1999 ،‬‬

‫مذكرات اإلمام عبد الرحمن المهدي‪ :‬ال شيع وال طوائف وال أحزاب‪ ،‬ديننا‬ ‫‪،‬‬
‫الصادق المهدي (محرر)‬
‫اإلسالم ووطننا السودان‪ ،‬مركز الدراسات السودانية‪ ،‬القاهرة‪.1996 ،‬‬

‫من نافذة القطار‪ ،‬دار جامعة الخرطوم للنشر‪.1980 ،‬‬ ‫عبد اهلل الطيب‪،‬‬

‫بين األصالة والتحديث ‪ ..‬إبراهيم أحمد‪ :‬حياة إنسان‪ ،‬أفروجراف للطباعة‬ ‫‪،‬‬
‫عثمان حسن أحمد‬

‫والتغليف‪ ،‬الخرطوم‪.1994 ،‬‬

‫لمحات من تجارب رجل خدمة عامة من جيل الرواد السودانيين‪ ،‬مركز‬ ‫مأمون بحيري‪،‬‬

‫محمد عمر بشير للدراسات السودانية‪ ،‬الطبعة األولى‪.2001 ،‬‬

‫‪194‬‬
‫قطار العمر‪ :‬في أدب المؤانسة والمجالسة‪ ،‬دار النهار للطباعة‪ ،‬الطبعة‬ ‫محمد خير البدوي‪،‬‬

‫األولى‪ ،‬الخرطوم‪.2008 ،‬‬


‫بابكر كرار‪ :‬سيرته وفكره‪ ،‬مركز البحوث والدراسات اإلفريقية‪ ،‬جامعة‬ ‫نادية يس عبد الرحيم‪،‬‬

‫أفريقيا العالمية‪.2005 ،‬‬

‫مذكرات يوسف ميخائيل‪ :‬التركية والمهدية‬ ‫يوسف ميخائيل‪،‬‬


‫والحكم الثنائي‪ ،‬تحقيق وتقديم أحمد إبراهيم‬
‫أبو شوك‪ ،‬مركز عبد الكريم ميرغني‬
‫الثقافي‪.2004 ،‬‬

‫‪Eli S. Malka,‬‬ ‫‪Jacob`s Children in the Land of‬‬


‫‪the Mahdi: Jews of the Sudan,‬‬
‫‪Syracuse University Press, 6th‬‬
‫‪edition, New York, 2002.‬‬

‫خامساً‪ :‬المقابالت‬
‫‪ .1‬سودانيون تعود جذورهم ليهود السودان‪:‬‬
‫العمر ‪ 35‬سنة‪ ،‬متزوجة وأم‪ ،‬ربة منزل‪ ،‬المكان‬ ‫أسماء محمد عبد الرحيم‪،‬‬
‫منزل اإلخبارية بأم درمان حارة اليهود‪ G،‬التاريخ ‪22‬‬
‫يوليو ‪ ،2008‬الحضور‪ :‬المهندس محمد (زوج‬
‫اإلخبارية)‪ ،‬الدكتورة هويدا (األستاذة بقسم اآلثار‪-‬‬
‫كلية اآلداب‪ -‬جامعة الخرطوم‪ ،‬األستاذة شاهندا‬

‫‪195‬‬
‫(طالبة دراسات عليا‪ -‬قسم اآلثار‪ -‬كلية اآلداب‪،‬‬
‫جامعة الخرطوم)‪.‬‬

‫العمر ‪ 59‬سنة‪ ،‬متزوج‪ ،‬عقيد طيار معاش‪ ،‬المكان‬ ‫مصطفى إسحق داؤد‪،‬‬
‫منزل اإلخباري بحارة اليهود‪ ،‬التاريخ ‪26 -22‬‬
‫يوليو ‪( 2008‬أربع مقابالت) الحضور‪ :‬ثريا أحمد‬
‫محمد علي (زوجة اإلخباري)‪ ،‬محمد‪ -‬أحمد‪-‬‬
‫أبوبكر‪ -‬زينب (أبناء اإلخباري)‪.‬‬
‫العمر ‪ 51‬سنة‪ ،‬متزوج‪ ،‬دكتور صيدلي‪ ،‬المكان‬ ‫منصور إسحق إسرائيل‪،‬‬
‫صيدلية اإلخباري (األزمنة الحديثة) بشارع‬
‫العرضة‪ ،‬التاريخ ‪ 26‬يوليو ‪.2008‬‬
‫العمر ‪ 35‬سنة‪ ،‬محامية‪ ،‬المكان مكتب اإلخبارية‬ ‫هالة صالح الدين إسحق خضر‪،‬‬
‫بعمارة سعودي حسن ثابت بسوق أم درمان‪ ،‬الزمان‬
‫‪ 24‬يوليو ‪ ،2008‬الحضور‪ :‬األستاذ علي الحاج‬
‫علي (طالب دراسات عليا بمعهد الدراسات اإلفريقية‬
‫واآلسيوية‪ -‬جامعة الخرطوم)‪.‬‬

‫العمر حوالي ‪ 60‬عاماً‪ ،‬الدكتور في علم االجتماع‪،‬‬ ‫هيربرت وييز‪،‬‬


‫خبير في الكونغو‪ ،‬لقاء الكتروني باإلنترنت عبر تقنية‬
‫الماسنجر‪.‬‬

‫العمر ‪ 70‬سنة‪ ،‬متزوج وأب‪ ،‬أعمال حرة ومقاوالت‪،‬‬ ‫يعقوب داؤد سليمان العيني‪،‬‬
‫المكان منزل اإلخباري مصطفى إسحق‪ ،‬التاريخ ‪24‬‬
‫يوليو ‪ ،2008‬الحضور‪ :‬مصطفى إسحق (صديق‬
‫اإلخباري)‪ ،‬ثريا أحمد محمد علي (زوجة صديق‬
‫الراوي)‪ ،‬األستاذ علي الحاج علي (طالب دراسات‬

‫‪196‬‬
‫عليا‪ ،‬معهد‪ G‬الدراسات اإلفريقية واآلسيوية جامعة‬
‫الخرطوم)‪.‬‬

‫‪ .2‬مقابالت مع سودانيين جاوروا يهود السودان وعاشوا معهم‬


‫العمر ‪ 77‬عاماً‪ ،‬متزوج وأب‪ ،‬وزير المالية األسبق‬ ‫إبراهيم منعم منصور‪،‬‬
‫(‪ ،)1984 -1981 ،1975 -1971‬المكان منزل‬
‫اإلخباري بالطائف (امتداد‪ G‬الجريف غرب)‪ ،‬الزمان‬
‫‪ 19‬يوليو ‪ ،2008‬الحضور‪ :‬محمد المنصور (ابن‬
‫اإلخباري)‪ ،‬األستاذ علي الحاج علي (طالب دراسات‬
‫عليا‪ ،‬معهد‪ G‬الدراسات اإلفريقية واآلسيوية‪ -‬جامعة‬
‫الخرطوم)‪.‬‬

‫العمر ‪ 65‬سنة‪ ،‬متزوج وأب‪ ،‬موظف بالمعاش‪،‬‬ ‫عوض عبيد اهلل‬


‫المكان منزل اإلخباري بالبركل تحت‪ ،‬بمدينة‪ G‬كريمة‪،‬‬
‫الزمان‪ 11 :‬أبريل ‪ ،2008‬الحضور‪ :‬السيد إبراهيم‬
‫بابكر (صديق اإلخباري)‪.‬‬

‫العمر ‪ 84‬سنة‪ ،‬متزوج أب‪ ،‬تاجر بسوق مروي‪،‬‬ ‫محمد عبد القادر الحسن‪،‬‬
‫المكان متجر اإلخباري بسوق مروي‪ ،‬الزمان ‪20‬‬
‫مارس‪.2008 ،‬‬

‫‪ .3‬مقابالت مع أكاديميين لديهم خبرة جيدة بتاريخ اليهود في السودان‪:‬‬


‫(الدكتور)‪ G،‬متزوج وأب‪ ،‬أستاذ االجتماع بجامعة‬ ‫إدريس سالم الحسن‬
‫الخرطوم‪ ،‬المكان مكتب الدكتور بكلية الدراسات‬
‫التقنية والتنموية بجامعة الخرطوم‪ ،‬الزمان ‪ 21‬يونيو‬
‫‪.2008‬‬

‫‪197‬‬
‫(الدكتور)‪ ،‬العمر ‪ 50‬سنة‪ ،‬متزوج وأب‪ ،‬أستاذ‬ ‫قيصر موسى الزين‬
‫التاريخ بجامعة الخرطوم‪ ،‬المكان نادي األساتذة‬
‫جامعة الخرطوم‪ ،‬الزمان ‪ 3‬مارس حتى ‪ 16‬يوليو‬
‫‪( 2008‬عدد من المقبالت)‪ ،‬الحضور أماني ؟؟‬
‫(طالبة دراسات عليا‪ ،‬قسم اآلثار‪ -‬كلية اآلداب‪-‬‬
‫جامعة الخرطوم)‪ ،‬األستاذ علي الحاج علي (طالب‬
‫دراسات عليا‪ ،‬معهد‪ G‬الدراسات اإلفريقية واآلسيوية‪-‬‬
‫جامعة الخرطوم)‪.‬‬

‫(البروفسير)‪ ،‬المدير األسبق لجامعة الخرطوم‬ ‫يوسف فضل حسن‬


‫‪ ،)1990 -1985 ،1985 -1984‬المكان مكتب‬
‫البروفسير بمعهد الدراسات اإلفريقية واآلسيوية‪-‬‬
‫جامعة الخرطوم) (عدد‪ G‬من المقابالت)‪ ،‬الزمان ‪1‬‬
‫يناير حتى ‪ 16‬يوليو ‪( 2008‬عدد من المقبالت)‪.‬‬
‫خامساً‪ :‬المراجع والدوريات‬
‫تاريخ مدينة الخرطوم تحت الحكم المصري‬ ‫أحمد أحمد سيد أحمد‪،‬‬
‫‪ ،1885 -1820‬الهيئة المصرية العامة‬
‫للكتاب‪ ،‬القاهرة‪.2000 ،‬‬

‫"فكرة الترحيل في المذهب الصهيوني"‪ ،‬ص‬ ‫إسرائيل شاحاك‪،‬‬


‫‪ ،9‬في‪ :‬الترانسفير في الفكر الصهيوني‪،‬‬
‫منظمة التحرير الفلسطينية‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫‪ ،1989‬دار العرب‪ ،‬تونس‪ ،‬ص ص ‪-9‬‬
‫‪.60‬‬

‫‪198‬‬
‫تاريخ اليهود وديانتهم‪ :‬عبء ثالثة آالف‬ ‫‪،...................‬‬
‫عام‪ ،‬ترجمة ناصرة السعدون‪ ،‬دار كنعان‬
‫للنشر‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬دمشق‪.2008 ،‬‬

‫"رحلة من شكسبير وكريستوفر مارلو إلى‬ ‫أسامة القفاش‪،‬‬


‫وودي آالن ومل بروكس‪ :‬كيف تغيرت‬
‫صورة اليهودي في الدراما الغربية"؟ مقال‬
‫منشور على الشبكة العنكبوتية‪ .‬أبحث عبر‬
‫محرك البحث ‪.Google‬‬

‫الملل المعاصرة في الدين اليهودي‪ ،‬معهد‬ ‫إسماعيل راجي الفاروقي‪،‬‬


‫الدراسات والبحوث العربية‪( ،‬د‪.‬ط)‪G،‬‬
‫‪.1968‬‬

‫المعابد اليهودية ودورها في حياة اليهود‬ ‫النبوي جبر سراج‪،‬‬


‫بمصر‪ :‬آثاراً‪ ،‬تاريخاً‪ ،‬عمارة‪ ،‬زخرفة‪،‬‬
‫وأهمية وثائق الجينزاة‪ ،‬شركة اإلسالم‬
‫مصر للطباعة‪ ،‬القاهرة‪( ،‬د‪.‬ط)‪( ،‬د‪ .‬ت)‪.‬‬
‫صحيفة الرأي العام‪ 16 ،‬ديسمبر ‪.1946‬‬ ‫بدون مؤلف‪،‬‬

‫مجلة الفجر‪ 16 ،‬يونيو ‪ ،1947‬المجلد‬ ‫بدون مؤلف‪،‬‬


‫الثاني‪.‬‬

‫باب "كلمة ونصف‪ ،‬صحيفة الرأي العام‪،‬‬ ‫بدون مؤلف‪،‬‬


‫بتاريخ االثنين ‪ 16‬ديسمبر ‪.1946‬‬

‫‪199‬‬
‫لمحات من تاريخ سلطنة الفونج‬ ‫تاج السر عثمان الحاج‪،‬‬
‫االجتماعي ‪ ،1823 -1504‬مركز محمد‬
‫عمر بشير للدراسات السودانية‪ ،‬دار عزة‬
‫للطباعة للنشر والتوزيع‪ ،‬الخرطوم‪،‬‬
‫‪ ،2004‬ص ‪.98‬‬

‫السياسة المصرية تجاه السودان ‪-1936‬‬ ‫تمام همام تمام‪،‬‬


‫‪ ،1953‬سلسلة تاريخ المصريين‪ ،‬الهيئة‬
‫المصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪( ،‬د‪ .‬ط)‪،‬‬
‫‪.1999‬‬
‫"دروس التجارب التاريخية"‪ ،‬في‪ :‬العرب‬ ‫جورج حبور‪،‬‬
‫في مواجهة إسرائيل‪ :‬احتماالت المستقبل‪،‬‬
‫مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.37 -36‬‬

‫"الذاتية السودانية بين القومية واإلثنية‬ ‫خالد الكد‪" ،‬‬


‫والعنصرية"‪ ،‬في‪ :‬حيدر إبراهيم علي‬
‫(تحرير)‪ ،‬التنوع الثقافي وبناء الدولة‬
‫الوطنية في السودان‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬مركز‬
‫الدراسات السودانية‪ ،‬القاهرة‪.2001 ،‬‬

‫النشاط الصهيوني في الشرق العربي‬ ‫خيرية قاسمية‪،‬‬


‫وصداه ‪ ،1918 -1908‬منظمة التحرير‬
‫الفلسطينية‪ ،‬مركز األبحاث‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪( ،1973‬د‪ .‬ط)‪.‬‬

‫‪200‬‬
‫"اآلخر‪ :‬المفارقة الضرورية"‪ ،‬صورة‬ ‫دالل البزري‪،‬‬
‫اآلخر‪ :‬العربي ناظراً ومنظوراً إليه‪ ،‬مركز‬
‫دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى‪.1999 ،‬‬

‫نقوش الخطى على رمال السودان‪ ،‬ترجمة‬ ‫دونالد هولي‪،‬‬


‫موسى عبد اهلل حامد‪( ،‬د‪ .‬د)‪( ،‬د‪ .‬ط)‪،‬‬
‫الخرطوم‪.‬‬

‫(مترجم من اإليطالية إلى اإلنجليزية)‪ ،‬و‬ ‫ريتشارد ِه ّل‬


‫معه عبد العظيم محمد أحمد‪ ،‬على تخوم‬
‫العالم اإلسالمي‪ :‬حقبة من تاريخ السودان‬
‫‪ ،1841 -1822‬المطبوعات العربية‬
‫للتأليف والترجمة‪ ،‬الطبعة األولى‪.1987 ،‬‬

‫الشخصية اليهودية اإلسرائيلية والروح‬ ‫رشاد عبد اهلل الشامي‪،‬‬


‫العدوانية‪ ،‬ص ص ‪.142 -103‬‬
‫اليسار المصري والقضية الفلسطينية‪:‬‬ ‫رفعت السعيد‪،‬‬
‫كراسة وثائق‪ ،‬دار الفارابي‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪.1974‬‬

‫"اليهود والعرب‪ :‬صورة اآلخر وآثار‬ ‫ريجين عزريَّه‪،‬‬


‫المرآة"‪ ،‬صورة اآلخر‪ :‬العربي ناظراً‬
‫ومنظوراً إليه‪ ،‬مركز دراسات الوحدة‬
‫العربية‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى‪.1999 ،‬‬

‫‪201‬‬
‫دراسات في التاريخ اإلسالمي والنظم‬ ‫س‪ .‬د‪ .‬قواتياين‪،‬‬
‫اإلسالمية‪ ،‬تعريب وتحقيق عطيه القوصي‪،‬‬
‫وكالة المطبوعات‪ ،‬الكويت‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫‪.1980‬‬

‫اليهود األثيوبيون "الفالشا" وترحيلهم إلى‬ ‫سفيان أحمد برزق‪،‬‬


‫إسرائيل‪ ،‬بحث مقدم لنيل درجة الماجستير‬
‫في الدراسات اإلفريقية واآلسيوية‪ ،‬جامعة‬
‫الخرطوم‪ ،1989 ،‬ص ص ‪.20 -18‬‬

‫الهوية اليهودية وأسماء األعالم العبرية‪:‬‬ ‫سناء عبد اللطيف‪،‬‬


‫دراسة في األصول والدالالت والبعد‬
‫األيديولوجي الصهيوني‪ ،‬مكتبة مدبولي‪،‬‬
‫الطبعة األولى‪ ،‬القاهرة‪.2008 ،‬‬

‫اليهود المصريون ين المصرية‬ ‫سهام نصار‪،‬‬


‫والصهيونية‪ ،‬دار الوحدة‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫بيروت‪.1980 ،‬‬

‫باب "في الصميم"‪ ،‬صحيفة صوت األمة‪،‬‬ ‫صالح محمد عبد القادر‬
‫بتاريخ االثنين ‪ 15‬أغسطس ‪.1955‬‬

‫دراسات سودانية في اآلثار والفولكلور‬ ‫صالح عمر الصادق‪،‬‬


‫والتاريخ‪ ،‬دار عزة للطباعة والنشر‬
‫والتوزيع‪ ،‬الخرطوم‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫‪ ،2006‬ص ص ‪.309 -306‬‬

‫‪202‬‬
‫الجالية اليهودية في السودان‪ :‬النشأة‪،‬‬ ‫صالح محمد أحمد‪،‬‬
‫الحياة‪ ،‬الهجرة‪ ،‬مركز الراصد للدراسات‪،‬‬
‫الطبعة األولى‪ ،‬الخرطوم‪ ،2004 ،‬ص‬
‫‪.46‬‬

‫موضوع عن اليهود في السودان‪ ،‬بحث‬ ‫صالح محمد أحمد‪،‬‬


‫تكميلي لنيل درجة الدبلوم العالي في‬
‫الدراسات اإلفريقية واآلسيوية‪ ،‬معهد‪G‬‬
‫الدراسات اإلفريقية واآلسيوية‪ ،‬جامعة‬
‫الخرطوم‪.1977 ،‬‬

‫الدور السوداني في تحرير أثيوبيا وإ رجاع‬ ‫صالح محمد علي عمر‪،‬‬


‫اإلمبراطور هيالسالسي إلى عرشه‬
‫‪ ،1941 -1935‬مركز البحوث‬
‫والدراسات اإلفريقية‪ ،‬الخرطوم‪.2005 ،‬‬

‫اليهود في البلدان اإلسالمية ‪-1580‬‬ ‫صمويل أتينجر‪،‬‬


‫‪ ،1950‬ترجمة أحمد جمال الرفاعي‪،‬‬
‫سلسلة عالم المعرفة‪ ،‬المجلس الوطني‬
‫للثقافة والفنون واآلداب‪ ،‬الكويت‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى‪.1995 ،‬‬

‫"يهود السودان من زمان حتى اآلن" سلسلة‬ ‫عادل سيد أحمد‪،‬‬


‫مقاالت صحفية‪ ،‬صحيفة الوطن‪ ،‬ابتداء من‬
‫تاريخ ‪ 29‬يونيو حتى ‪ 26‬يوليو ‪.2008‬‬

‫"صورة اإلسرائيلي لدى المصري بين ثقافة‬ ‫عبد الباسط عبد المعطي‪،‬‬
‫الهامش والدراما التلفزيونية"‪ ،‬ص ص‬
‫‪ ،33 -28‬في‪ :‬الطاهر لبيب (تحرير)‪،‬‬

‫‪203‬‬
‫صورة اآلخر‪ :‬العربي ناظراً ومنظوراً‬
‫إليه‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬الطبعة األولى‪.1999 ،‬‬

‫صورة اليهودي في مصر‪ ،‬دار مصر‬ ‫‪.................................‬‬


‫المحروسة‪ ،‬القاهرة‪.2007 ،‬‬

‫الوسادة‪ :‬تاريخ مملكة تقلي اإلسالمية‪،‬‬ ‫عبد القادر محمد عبد القادر دوره‪،‬‬
‫دار سولو للطباعة والنشر‪ ،‬الخرطوم‪،‬‬
‫الطبعة األولى‪ ،2003 ،‬ص ‪.205‬‬
‫نهاية التاريخ‪ :‬مقدمة لدراسة بنية الفكر‬ ‫عبد الوهاب المسيري‪،‬‬
‫الصهيوني‪ ،‬مركز الدراسات السياسية‬
‫واالستراتيجية‪ ،‬القاهرة‪( ،1973 ،‬د‪ .‬ط)‪،‬‬
‫ص ‪.23‬‬

‫األيديولوجية الصهيونية‪ :‬دراسة حالة في‬ ‫‪،.............................‬‬


‫علم اجتماع المعرفة‪ ،‬الجزء األول‪،‬‬
‫المجلس الوطني للثقافة واآلداب والفنون‪،‬‬
‫الكويت‪.1982 ،‬‬

‫األيديولوجية الصهيونية‪ :‬دراسة حالة في‬ ‫‪،.............................‬‬


‫علم اجتماع المعرفة‪ ،‬الجز الثاني‪ ،‬المجلس‬
‫الوطني للثقافة واآلداب والفنون‪ ،‬الكويت‪،‬‬
‫‪.1982‬‬

‫اليهود في عقل هؤالء‪ ،‬سلسلة إقرأ‪ ،‬دار‬ ‫‪،................................‬‬


‫المعارف‪ ،‬القاهرة‪.1998 ،‬‬

‫‪204‬‬
‫"اإلمكانات األيديولوجية والصهيونية"‪ ،‬في‪:‬‬ ‫‪،................................‬‬
‫العرب ومواجهة إسرائيل‪ :‬احتماالت‬
‫المستقبل‪ ،‬الجزء األول (الدراسات‬
‫األساسية)‪ ،‬بحوث ومناقشات الندوة الفكرية‬
‫التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية‪،‬‬
‫الطبعة األولى‪ ،‬بيروت‪.2000 ،‬‬

‫الجماعات الوظيفية اليهودية‪ :‬نموذج‬ ‫‪،...............................‬‬


‫تفسيري جديد‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫الطبعة الثانية‪.2002 ،‬‬

‫موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية‪،‬‬ ‫‪،...............................‬‬


‫المجلد األول‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪.2003‬‬

‫موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية‪،‬‬ ‫‪،...............................‬‬


‫المجلد الثاني‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪.2003‬‬

‫اليد الخفية‪ :‬دراسة في الحركات اليهودية‬ ‫‪،...............................‬‬


‫الهدامة والسرية‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫الطبعة الثالثة‪.2005 ،‬‬

‫في الخطاب والمصطلح الصهيوني‪ :‬دراسة‬ ‫‪،...............................‬‬


‫نظرية وتطبيقية‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫الطبعة الثانية‪2005 ،‬‬

‫‪205‬‬
‫العرب واليهود في العصور القديمة‬ ‫علي حسني الخربوطلي‪،‬‬
‫واإلسالمية‪ ،‬معهد‪ G‬البحوث‬
‫والدراسات العربية‪ ،‬جامعة الدول‬
‫العربية‪ ،‬المطبعة الفنية الحديثة‪( ،‬د‪.‬‬
‫ط)‪.1969 ،‬‬

‫السودان والقضية الفلسطينية‪ ،‬بحث مقدم‬ ‫عمر محمد أحمد صديق‪،‬‬


‫لنيل درجة الدبلوم العالي في الدراسات‬
‫اإلفريقية واآلسيوية‪ ،‬جامعة الخرطوم‪،‬‬
‫‪.1980‬‬

‫مروي المظهر والجوهر‪ ،‬دار عزة للطباعة‬ ‫فاطمة أحمد علي‪،‬‬


‫والنشر والتوزيع‪ ،‬الخرطوم‪.2003 ،‬‬

‫تاريخ المسيحية في الممالك النوبية‬ ‫فانتيني‪ ،‬ج‪.‬‬


‫القديمة والسودان الحديث‪ ،‬الخرطوم‪،‬‬
‫‪.1978‬‬

‫الحركة التاريخية‪ :‬المدينة والدين في‬ ‫قيصر موسى الزين‪،‬‬


‫أفريقيا الشرقية‪ ،‬أطروحة مقدمة لنيل‬
‫درجة الدكتوراة في التاريخ‪ ،‬كلية اآلداب‪،‬‬
‫جامعة الخرطوم‪.1991 ،‬‬

‫جالل الملوك‪ :‬نصوص حبشية قديمة‪،‬‬ ‫مجدي عبد الرازق سليمان (مترجم)‪،‬‬
‫المجلس العلى للثقافة‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫القاهرة‪.2003 ،‬‬

‫‪206‬‬
‫"في تاريخ قبيلة الزغاوة"‪ ،‬في‪ :‬حيدر‬ ‫محمد آدم فاشر‪،‬‬
‫إبراهيم علي (تحرير)‪ ،‬التنوع الثقافي‬
‫وبناء الدولة الوطنية في السودان‪ ،‬الطبعة‬
‫الثانية‪ ،‬مركز الدراسات السودانية‪ G،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪.2001‬‬

‫تاريخ السودان الحديث ‪،1955 -1821‬‬ ‫محمد سعيد القدال‪،‬‬


‫مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي‪ ،‬الطبعة‬
‫الثانية‪.2002 ،‬‬

‫الفقر في مصر‪ ،‬وقائع الندوة السنوية‬ ‫محمود الكردي (تحرير)‪،‬‬


‫السادسة لقسم االجتماع بكلية اآلداب‪،‬‬
‫جامعة القاهرة‪ ،1999 ،‬ص ص ‪-67‬‬
‫‪.74‬‬

‫مشكلة الشرق األوسط‪ :‬تحليل سياسي‪،‬‬ ‫محمود محمد طه‪،‬‬


‫استقراء تاريخي‪ ،‬حل علمي‪ ،‬أمدرمان‪( ،‬د‪.‬‬
‫ط)‪.1967 ،‬‬

‫يهود الدونمة‪ ،‬ترجمة كمال خوجة‪ ،‬دار‬ ‫مصطفى طوران‪،‬‬


‫‪.1977‬‬ ‫السالم‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬

‫اليهود في السودان‪ :‬قراءة في كتاب‬ ‫مكي أبو قرجة‪،‬‬


‫إلياهو سولومون ملكا أطفال يعقوب في‬
‫بقعة المهدي‪ ،‬مركز عبد الكريم ميرغني‪،‬‬
‫الطبعة الثانية‪ ،‬الخرطوم‪.2007 ،‬‬

‫‪207‬‬
‫مالحظات أساسية حول تاريخ المسألة‬ ‫نصر شمالي‪،‬‬
‫اليهودية‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬دمشق‪.1984 ،‬‬

‫تاريخ السودان القديم والحديث‬ ‫نعوم شقير‪،‬‬


‫وجغرافيته‪ ،‬ثالثة أجزاء‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫القاهرة‪1903 ،‬‬

‫أوربا والتخلف في أفريقيا‪ ،‬ترجمة أحمد‬ ‫والتر رودني‪،‬‬


‫القصير‪ ،‬المجلس الوطني للثقافة والفنون‬
‫واآلداب‪ ،‬الكويت‪.1988 ،‬‬

‫المستعمرات االستيطانية اإلسرائيلية في‬ ‫وليد الجعفري (إعداد وتحقيق)‪،‬‬


‫األراضي المحتلة ‪،1980 -1967‬‬
‫مؤسسة الدراسات الفلسطينية‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫الطبعة األولى‪ ،1981 ،‬صفحات التقديم‪.‬‬

‫الهجرة إلى فلسطين‪ ،‬الهيئة المصرية‬ ‫وليم فهمي‪،‬‬


‫العامة للكتاب‪( ،‬د‪ .‬ط)‪ ،1974 ،‬ص ‪.9‬‬

‫مقدمة في تاريخ الممالك اإلسالمية في‬ ‫يوسف فضل حسن‪،‬‬


‫السودان الشرقي ‪،1821 -1450‬‬
‫الطبعة الرابعة‪ ،‬سوداتك المحدودة‪،2002 ،‬‬
‫ص ‪.54‬‬

‫حواش على متون علماء ومفكرين‬ ‫‪،.....................‬‬


‫ومؤرخين في تاريخ السودان وأفريقيا‬
‫وبالد العرب‪ ،‬سوداتك المحدودة‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى‪ ،‬الخرطوم‪ ،2006 ،‬ص ‪.123‬‬

‫‪208‬‬
‫دراسات في تاريخ السودان وأفريقيا وبالد‬ ،.....................
،‫ سوداتك المحدودة‬،‫ الجزء الثالث‬،‫العرب‬
.177 ‫ ص‬،2008 ،‫الطبعة األولى‬

Farwell Byron, Prisoners of the Mahdi, Harber


and Row, New York, 1967.

C. E. J. Walkley, M. B. E., "The Story of Khartoum", Sudan


Notes and Records., Vol. 19
(part one), 1930.

El- Waleed Mohamed Taha, "From Dependent Currency to


Central Banking in the Sudan: A
Survey", Sudan Notes and
Records, Vol. 51, 1970.

Fredrick Schweitzer, A History of the Jews Since the


First Century
AD, MacMillan, New York,
1971.

F. Rehcisch, "An Unrecorded Population


Count of Omdurman", Sudan
Notes and Records, 46, 1965.
G. Ayoub Balamoan, Peoples and Economic in the
Sudan 1884- 1956, Harvard
University Center for Population
Studies, Cambridge,
Massachusettes, 1976.
H. C. Jackson, The Fighting Sudanese, London,
Mac,illan & Co. LTD., New
York, ST. Martin’s Press, 1954.

209
Louis Ginzberg, The Legends of the Jews, The
Jews Population Society of
Amirca, Philadelphia, 1968.

Michael Parker, "Guardians of the Ark: A


Sudanese Pilgrimage of Faith",
Presented at The Church in
Sudan: Its Impact Past, Present
and Future, A Seminar held in
Nairobi, February 16- 22, 1997.
Sayed El- Bushra, Towns in Sudan in the
Eighteenth and Early Ninteenth
Centuries, Sudan Notes and
Records, Vol. 52, 1971.

S.D. Goitein, A Mediterranean Society: The


Jewish Communities of the Arab
World As Portrayed in the
Documents of Cairo Geniza,
Vol. I, Economic Foundations,
University of California Press,
London, 10th reprint, 1999.
S. Hillson, "David Reubeni: An Early
Visitor to Sennar", Sudan Notes
and Records, Vol. 16, 1933.

R.H.B. Condie, "Egypt Trade with the Sudan",


Sudan Notes and Records, Vol.
36, 1955.

Richard Hill, Bibliography of the Anglo –


Egyptian Sudan, from Earliest
Times to 1937, 2ed edition,
Frank Cass & Co., LTD.,
London, 1967. p78

210
Roth Cecil, A History of the Jews From
Earliest Times Through the Six-
Day War, New York, 1970.

Without author, “Jewish children from Ethiopia:


Training in Sudan”, Observer,
Sunday Dec. 11. 1938.

211

You might also like