Professional Documents
Culture Documents
فينومينولوجيا موريس ميرلوبونتي
فينومينولوجيا موريس ميرلوبونتي
فينومينولوجيا موريس ميرلوبونتي
com/lms/logos-revu/l-3-4/course/merleau-ponty
مقدمة :ان موريس ميرلوبونتي ( )1961-1908هو أهم ممثلي الفينومينولوجيا في فرنسا ،إذ تكمن
أهميت ه في الق راءة الجدي دة ال تي ق دمها للفينومينولوجي ا ،فعلى ال رغم من ت أثره الواض ح بك ل من
هوس رل و هي دغر إال أن ه لم يكن يفك ر مثلهم ا و إنم ا فك ر معهم ا ،حيث وج د أن هن اك ط رحين
مختلفين للفينومينولوجي ا أح دهما يجع ل منه ا بحث ا في املعرف ة و ه و ال ذي يمثل ه هوس رل و ثانيهم ا
يجع ل منه ا مبحث ا في الوج ود و ه و ال ذي يمثل ه هي دغر ..إن ميرلوبون تي ال يتنك ر ألن واع
الفينومينولوجيا الس ابقة و إنما تبين ل ه أن الفينومينولوجيا ليست ص ياغة ج اهزة بل هي إمكانية
مفتوحة ،و هو التصور الذي كان مبررا لقيام ما أسميناه ب"الفينومينولوجيا الجديدة" .وسنحاول
في ه ذه الدراس ة أن نتح دث عن الفينومينولوجي ا عن د ميرلون تي من خالل اإلجاب ة عن الس ؤال
التالي:ما هو مفهوم الفينومينولوجيا لدى ميرلوبونتي؟
- Iمفهوم الفينومينولوجيا عند ميرلوبونتي:
لق د س عت فينومينولوجي ا ميرلوبون تي أوال إلى إيج اد ح ل ملس ألة ال وعي؛ ألن فلس فات ال وعي
خصوصا لدى ديكارت و هوسرل ،ترى أن الوعي يحمل موضوعات هي نتاج له ،ففي الوعي ال يوجد
إال ما تسميه هذه الفلسفات بنوع من الغموض "األنا" الذي تكون له األولوية املطلقة؛ أي أولوية
الوعي على العالم ،أو الذات على املوضوع ،لذلك نجد أن هوسرل جعل من الوعي نقطة االنطالق في
توضيح معالم الفينومينولوجيا ،فما هو معروف عن الفينومينولوجيا الترنسندنتالية عنده هو أنها
تتخ ذ من األن ا املتعالي مقولة أساس ية ،فه و الحقيق ة النهائية التي نص ل إليها بعد ك ل عمليات ال رد
الفينومينول وجي ب دءا بوض ع الع الم بين قوس ين م رورا ب الرد املاهوي وص وال إلى ال رد املتع الي .لكن
الفينومينولوجيا الجديدة عند ميرلوبونتي لها مفهوم جديد للوعي.
إن فينومينولوجي ا هوس رل تهتم بدراس ة ال وعي و الخ برة الكامن ة في ه دون اإلهتم ام بعالق ة
ال وعي باألش ياء و ه ذا ه و النقص ال ذي ح اولت الفينومينولوجي ا الجدي دة عن د ميرلوبون تي تج اوزه
حيث يق ول ه ذا األخ ير" :إنن ا ال نآخ ذ فلس فات ال وعي ،على تحويله ا الع الم إلى نويم ا فق ط ،و إنم ا
ك ذلك على تش ويهها كينون ة "ال ذات املفك رة" بإدراكه ا " كفك رة" ولجعله ا عالق ة ال ذوات بغيره ا من
"الذوات" األخرى غير مفهومة في عالم مشترك بينهما ففلسفة الوعي تنطلق من مبدأ يقول أنه إذا
كان إلدراك ما أن يكون إدراكي ،فعليه أن يكون واحدا من تصوراتي"[ .]1إن ما يرفضه ميرلوبونتي
إذن هو أوال التمييز الهوسرلي بين أفعال التفكير وموضوعات التفكير ألن هذا التمييز يشوه مفهوم
العالم و يحوله من وقائعيته إلى موضوعات تصورية مفكر فيها ،وثانيا يرفض ميرلوبونتي التشويه
الذي لحق بمفهوم الذاتية نتيجة ربطها بالوعي و عزلها عن وجودها الحقيقي الكامن في العالم مع
1
https://labopheno.com/lms/logos-revu/l-3-4/course/merleau-ponty
ذوات أخرى و عليه ال يمكننا إرجاع العالم و اآلخرين إلى الوعي الذي توجهه الذات املفكرة حيث
تكون الفينومينولوجيا هي دراسة ظواهر املاهيات في الوعي ،وإنما تكون التجربة الواقعية املعاشة
بالعالم و اآلخرين هي أساس تفكيرنا ،وهذا ما لم ينتبه إليه هوسرل و كل فلسفات الوعي السابقة.
يتبين لنا أن النتائج التي توصلت إليها الفينومينولوجيا الجديدة عند ميرلوبونتي تختلف عن تلك
ال تي ك انت موج ودة في فلس فات ال وعي الس ابقة و خصوص ا ل دى ديك ارت و هوس رل ،فق د أعطى
ميرلوبون تي مفهوم ا جدي دا للذاتي ة مف اده أن ":الذاتي ة هي حض ور مباش ر في الوج ود ،وهي ك ذلك في
اتصال مع العالم بل هي أقرب ما تكون إلى ذاتها ،ألنه ال شيء يقدر على فصلها عن ذاتها"[ ]2فهي ذات
عارف ة و موج ودة في ال وقت نفس ه وت ؤدي وظيفته ا املعرفي ة دون أن تنس ى وجوده ا .ه ذه الفك رة
سبق لهيدغر أن تحدث عنها
و علي ه ،و مم ا س بق ف إن دخ ول فينومينولوجي ا ميرلوبون تي في ح وار م ع فلس فات ال وعي
السابقة ،أدى إلى ظهور مفهوم جديد للوعي ،و أصبحت له مهام ووظائف جديدة وعالقات متنوعة،
ألن" :كل وعي يولد في العالم ،وكل إدراك هو ميالد جديد للوعي"[ ]3يقول ميرلوبونتي ":في صمت
الوعي األصلي يمكن أن يظهر لنا ليس فقط ما تقوله الكلمات وإنما أيضا ما تقوله األشياء"[ .]4إن
الص مت في فينومينولوجي ا ميرلوبون تي ال يع ني غي اب الكلم ات و إنم ا حض ور األش ياء ،فاملعرف ة
الحقيقي ة ليس ت املعرف ة الخالص ة ال تي تتح دث عنه ا فينومينولوجي ا هوس رل ،ب ل هي املعرف ة ال تي
تطلعن ا على األش ياء ،و الوج ود الحقيقي ليس ه و الوج ود املنس ي املنفص ل عن موج وده كم ا ي رى
هيدغر و إنما هو الوجود الذي يكون في اتصال مع املوجود ،كما أن الخبرة الحقيقية ليست الخبرة
املوجودة الكامنة في الوعي و إنما خبرة اإلدراك الحسي الذي يحمل معه ظواهر األشياء كما توجد في
العالم أو التي يحمل اتجاهها قصدية طبيعية.
يعتبر ميرلوبونتي القصدية كأهم اكتشاف قدمته الفينومينولوجيا ،ولكنه يعترض على مفهوم
القصدية و كيفية توظيفها في الفينومينولوجيا الترنسندنتالية عند هوسرل ،و ألجل ذلك يعود إلى
فلس فة كان ط ،و يؤك د أن ه في نق ده للفلس فات املثالية بين أن ك ل إدراك داخلي ال يمكن أن يتم دون
إدراك خ ارجي ،حيث يك ون الع الم ه و ذل ك االتص ال املوج ود بين مجموع ة من الظ واهر املوج ودة
حتى قبل الوعي بها ،و بالتالي فإن وحدة العالم موجودة قبل معرفته[ ،]5و هذا بالتحديد ما غفلت
عن ه قص دية هوس رل .ينطل ق ميرلوبون تي في نق ده للقص دية الهوس رلية من فك رة الوج ود ال واقعي
للظ واهر قب ل االتص ال به ا ،على عكس قص دية هوس رل ال تي تحي ل الع الم و ظ واهره إلى ال وعي و
تجعل منه وجودا مثاليا فيكون الوعي فعال معرفيا ينجزه األنا املتعالي ،وهذا ما جعل القصدية في
النهاية تأخذ طابعا مثاليا بعيدا تماما عن الواقع ،فأين يكمن الحل هنا؟ وبعبارة أخرى ما البديل
الذي قدمه ميرلوبونتي لتجاوز هذه القصدية ذات الطابع املثالي؟.
2
https://labopheno.com/lms/logos-revu/l-3-4/course/merleau-ponty
يقول ميرلوبونتي" :إن كامل التحليل الهوسرلي ،محاصر بطوق من األفعال التي تفرضها عليه
فلسفة الوعي ،لذلك يجب أن نستأنف و نطور القصدية الفاعلة التي هي القصدية داخل الوجود...
حيث ال يجب أن ننطل ق من ال وعي و مج رى ظاهرات ه ،من خيوط ه القص دية املتم يزة ،وإنم ا من
الدوامة التي يرسمها ذلك املجرى الظاهراتي ،أي الدوامة املمكنة(التي هي لحمة و ليست وعيا يقابله
موض وع تفك ري)"[ ، ]6إن ه ذه القص دية الفاعل ة س تكون هي الب ديل للقص دية عن د هوس رل ،ال تي
تفتق د إلى تأص يل عالق ة ال وعي باملوض وعات ،ليس ت املوض وعات التص ورية و املفك ر به ا ،وإنم ا
املوجودة في العالم.
هكذا ،و من خالل هذا املفهوم الجديد للقصدية نصل إلى نتيجتين مهمتين ،أولهما أن القصدية
امليرلوبونتي ة تجعلن ا نتح ول من ذل ك الع الم املث الي التص وري ال ذي تخلق ه القص دية الهوس رلية إلى
الع الم الفعلي وال واقعي ال ذي توج د في ه األش ياء و الظ واهر الحقيقي ة ،وثانيهم ا أن الوج ود -في –
العالم الذي تحيلنا إليه هذه القصدية ،يختلف حتى عن الوجود – في -العالم باملعنى الذي نجده عند
هيدغر ،و هكذا يقدم لنا مفهوما جديدا للفينومينولوجيا حيث يتساءل ميرلوبونتي في أول عبارة من
كتاب ه ال رئيس"فينومنولوجي ا االدراك" ق ائال" :م ا هي الفينومينولوجي ا؟[ ]7و ق د يب دو من الغ ريب
إعادة طرح هذا السؤال بعد نصف قرن من صدور أول مؤلفات مؤسس الفينومينولوجيا ،و التي
ح دد فيه ا مفهومه ا ،لكن يجيبن ا ميرلوبون تي عن س ؤاله ق ائال" :إن الفينومينولوجي ا هي دراس ة
املاهيات ،كماهية اإلدراك وماهية الوعي مثال ،و لكن الفينومينولوجيا هي أيضا فلسفة ترد املاهيات
إلى الواقع"[ .]8إن ما يتضح لنا من هذا التعريف ،هو أن الفينومينولوجيا الجديدة عند ميرلوبونتي
تحاول من جهة أن تبقي على مهمة الفلسفة ،والتي هي كشف و وصف ماهيات الظواهر ولكنها من
ناحية أخرى ال ترد هذه املاهيات إلى الوعي أو األنا املتعالي كما كان مع الفينومينولوجيا املتعالية عند
هوسرل و إنما تردها إلى الواقع ،ألن ميرلوبونتي أدرك أن املاهية مالزمة للواقع ،ألن وجودها الفعلي
هو وجود في العالم والهدف من وراء هذا اإلجراء هو املحافظة على الفرضية الطبيعية للعالم التي
تم إقصاؤها في الفلسفات السابقة.
يحدد ميرلوبونتي موقفه من املاهية ،بعد مناقشته ملنهج الرد الفينومينولوجي عند هوسرل و
الذي يراه هو أنه إذا كانت املاهية هي الهدف الذي تسعى الفينومينوجيا الترنسندنتالية بلوغه فإن
الفينومينوجيا الجديدة تأكد على العكس أن املاهية ليست هدفا وإنما هي وسيلة النخراطنا الفعال
في العالم ...و إن ضرورة املرور باملاهيات ال يعني أن الفلسفة تتخذ منها موضوعا ،ولكن على العكس
من ذلك حيث تكون لحظة معينة كمعبر نحو الوجود الحقيقي للظواهلر الكامنة في العالم[ ]9و عليه
فإن معنى الظاهرة ال يتجلى في التعالي عليها الذي يكشف ماهيتها الخالصة ،و إنما من خالل التحول
من هذه املاهية إلى الواقع الذي يحمل الكثافة الحقيقية للظواهر ووجودها الفعلي .
3
https://labopheno.com/lms/logos-revu/l-3-4/course/merleau-ponty
لم ينظ ر ميرلوبون تي إلى املاهي ة في عالقته ا ب الوعي و إنم ا ب الواقع ل ذلك تك ون الظ اهرة وقائعي ة
توج د أم ام ال وعي كم ا أنه ا ماهوي ة له ا مع نى و في ال وعي أيض ا ،و هن ا تتجلى لن ا أهم خاص ية تم يز
الفينومينولوجي ا الجدي دة عن د ميرلوبون تي عن ك ل الفينومينولوجي ات الس ابقة و على وج ه
الخصوص الفينومينولوجيا الترنسندنتالية عند هوسرل أال و هي بعدها الواقعي ،ألن الهدف العام
ال ذي س عى ميرلوبون تي إلى تحقيق ه من خالل مش روعه ه و تحوي ل الفينومينولوجي ا و إنزاله ا عن
تعاليها و مثاليتها نحو الوجود الفعلي و الواقعي ،و كذا تحويل البحث الفينومينولوجي من املاهية إلى
الواقع.
على ذلك فإن ما لم تدركه فينومينولوجيا هوسرل هو التالحم القائم بين املاهية والواقع ،ألن
كال منهما يتطلب وجود اآلخر و يتوقف وجوده عليه ،و بالتالي فإن إزالة فينومينولوجيا ميرلوبونتي
للتعارض القائم بينهما مكنها من تقديم مفهوم جديد للماهية يعبر عن معناها الحقيقي من جهة ،و
يمكنن ا من جهة أخ رى ،من الوص ول إلى املاهيات الحقيق ة للظ واهر ال تي ال ترج ع إلى ال وعي لوحده
كأس اس أول و مطل ق .إنه ا املاهي ة ال تي ت رد الظ اهرة إلى وجوده ا الحقيقي ،وه و وج ود ال يعطي
األولوية املطلقة للواقع على حساب الوعي ،و إنما يكون هناك توازي بين الوعي و الواقع دون أولوية
أو أسبقية ألحد على اآلخر.
-IIاملقوالت الرئيسة في فينومينولوجيا ميرلوبونتي:
-1اإلدراك الحسي :
لقد اختزلت فينومينولوجيا هوسرل اإلدراك في فكر اإلدراك ،حيث يكون فكر اإلدراك كامنا في
محايث ة فع ل اإلدراك ملوض وعه املدرك ،و ه ذا م ا أدى بالت الي إلى إقص اء فرض ية الع الم أو الوج ود
ال واقعي للموض وع ال ذي ه و في الفينومينولوجي ا الجدي دة عن د ميرلوبون تي من أهم أبع اد اإلدراك
الحسي؛ حيث تكون العودة إلى األشياء ذاتها كشعار للفينومينولوجيا هي عودة إلى الوجود الواقعي
ملختل ف الظ واهر املوج ودة في الع الم س واء ك انت أش ياء أو آخ رين ،و يك ون اإلدراك الحس ي ه و
وسيلة تعرفنا عليها كما هي في كثافتها الوجودية دون إحالة وال تمثل .يقول ميرلوبونتي" :إن العودة
إلى األشياء ذاتها ما هي إال عودة إلى هذا العالم املوجود قبل املعرفة حيث تكون وسيلة تعرفنا عليه
هي اإلدراك الحسي ألن اإلدراك هو التقاء مع األشياء الطبيعية وعليه فهو نقطة انطالق بحثنا ملا
هو نموذج أصيل"[ ،]10لذلك فحتى و لو أن هوسرل بحث في موضوع اإلدراك في فلسفته املتأخرة،
إال أنه لم ينتبه إلى أنه من أكثر مستويات الوعي أصالة ،و أنه مكمن خبراتنا الحقيقية بالعالم و إنما
بقيت تحليالت ه حبيس ة الرج وع املتع الي إلى ال وعي ،لكن ميرلوبون تي بتأكي ده على أن ه لن نتمكن من
وضع حد للوضع املتأزم الذي توجد عليه معرفتنا ،إال بالرجوع إلى اإليمان اإلدراكي يكون قد أعطى
أبعادا جديدة ملسألة الوعي و ذلك من ناحية إعادة ربط الوعي بالواقع املدرك و كذلك إعادة جسور
4
https://labopheno.com/lms/logos-revu/l-3-4/course/merleau-ponty
التواص ل بين ال ذات و الع الم ه ذا التواص ل املفق ود في الفلس فات الس ابقة خصوص ا م ع ديك ارت و
هوسرل.
تأك د فينومينولوجي ا ميرلوبون تي على ض رورة الع ودة إلى الخ برة اإلدراكي ة من خالل االرتب اط
الق ائم بين اإلدراك و م ا ه و معيش ،حيث تق وم فينومينولوجي ا اإلدراك على العالق ة القائم ة بين
فك رة ال وعي و فك رة الع الم م رورا بفك رة الجس د .وق د س عى ميرلوبون تي من خالل ه ذه األفك ار إلى
تج اوز التفس يرات الكالس يكية لإلدراك خصوص ا عن د النزع تين التجريبي ة و العقالني ة ،فالنزع ة
التجريبية كانت تعتقد أن اإلدراك هو عملية تلقي وتسجيل ملعطيات خارجية ،في حين تأكد النزعة
العقالنية مقبل ذلك على أولوية العقل و دوره في تأويل ما يتلقاه من معطيات ،و بالتالي نكون أمام
تفسيرين مختلفين لإلدراك ،فكيف ستعمل فينومينولوجيا ميرلوبونتي على تجاوز هذا التعارض؟
لقد خصص ميرلوبونتي جزءا كبيرا من كتاب "فينومينولوجيا اإلدراك" للرد على هذين املذهبين،
لكن قبل أن نتحدث على ذلك نود أن نبين كيف حاول ميرلوبونتي أن يوضح مفهوم اإلدراك الحسي
في عالقت ه ببعض املف اهيم القريب ة كاإلحس اس مثال ،فيعتق د علم النفس الكالس يكي أن اإلدراك
يرتبط باإلحساس فيفسره على أنه يحدث كنتيجة لتلقي أعضاء الحس ملعطيات خارجية ،و الخطأ
ال ذي يق ع في ه علم النفس حس ب ميرلوبون تي ه و ع دم وص ف اللحظ ة ال تي يرتب ط فيه ا اإلدراك
باملعطى إضافة إلى أن علم النفس في تفسيراته كان يأخذ أحكاما جاهزة عن بعض العلوم التجريبية[
. ]11أما في رده على النزعة التجريبية ،فيرى ميرلوبونتي أنه أثناء عملية اإلدراك نتلقى معطيات لكن
ليس بطريقة آلية ،ألن املعطى يظهر من خالل عالقته بالوعي[ ،]12و الذي ال يكون وعيا خالصا و
إنما وعيا بالجسد ،ألنه وسيلة اإلدراك أو ما يضمن لنا أن ندرك وسنرى في ما بعد كيف تتم هذه
العملي ة .و إذا ك انت النزع ة التجريبي ة تجع ل من العملي ة اإلدراكي ة عملي ة آلي ة ناقل ة ف إن النزع ة
العقلية ،تضفي أحكاما عليها ،و مع أننا حسب ميرلوبونتي ال ننكر دور العقل في عملية اإلدراك إلى
أننا ال نعتقد أنه العامل الوحيد املتحكم في هذه العملية ،فعندما أدرك مكعبا كما يقول ميرلوبونتي
ذو ستة أوجه فإنني لن أتمكن من إدراك أوجهه الستة إال إذا تحركت ،مع أن حركتي أو دوراني لن
يغيرا من وضع الشيء املدرك.
و عليه استطاع ميرلوبونتي تقديم حل ملشكلة املعرفة بحل مشكلة اإلدراك و تجاوز التفسيرات
الكالس يكية م ع املذهب التجري بي و املذهب العقلي ،فأص بح اإلدراك أك ثر ارتباط ا بال ذات املدرك ة و
املوضوع املدرك معا دون أن تكون هناك أولوية ألحد الطرفين على اآلخر ،و هكذا يكون اإلدراك
الحس ي لل ذات الواعي ة املتجس دة ه و من يخبرن ا عن األش ياء واآلخ رين و الع الم .لكن إذا ك ان
اإلدراك هو تعبير عن قصدية الجسد نحو العالم فكيف يكون كذلك وجودا أصيال؟
يؤكد لنا ميرلوبونتي على ضرورة" :أن نبحث في اإلدراك الحسي عن معنى وظيفته الوجودية"[
]13ألنه يرتبط بمشكلة الوعي كما يرتبط بمسألة الوجود ،و هذا ما توضحه لنا مقولة الوجود-في-
5
https://labopheno.com/lms/logos-revu/l-3-4/course/merleau-ponty
العالم ،التي تبين أن اإلدراك الحسي هو انخراط في العالم من خالل الجسد ،فالخبرة اإلدراكية بما
هي خبرة حسية هي مقابلة تماما ملفهوم الخبرة املجردة عند هوسرل ،ومن بين مهامها أنها" :تعلمنا
كيف نرى الشيء جيدا"[ ،]14ألن اإلدراك هو رؤيتنا أو اطالعنا على الوجود أو الكينونة سواء و
ج ود اآلخ رين أو األش ياء و بالت الي وجودن ا ألن هن اك وح دة في الوج ود ،و هي وح دة ظلت مغيب ة و
خاطئة في كل التفسيرات ألنه تم تفسيرها تفسيرا ميتافيزيقيا أحيانا وتفسيرا سببيا أحيانا أخرى.
-2الجسد املوضوعي/الجسد الخاص:
ت رفض الفينومينولوجي ا الجدي دة عن د ميرلوبون تي تل ك الفك رة ال تي ك انت س ائدة في الدراس ات
املعاص رة خصوص ا في مي دان الفيزيولوجي ا ،وهي الفك رة ال تي تنظ ر إلى الجس د على أن ه ش يء أو
موضوع مثل بقية املوضوعات املادية ،وهي نظرة تضعها فينومينولوجيا ميرلوبونتي موضع مساءلة:
فهل فعال أن الجسد هو موضوع فيزيقي ال يختلف عن غيره من املوضوعات األخرى أم أنه يحمل
معنى آخر و خصائص ومميزات أخرى تجعله مختلفا تماما عنها ؟
إن ميرلوبون تي يق ترح علين ا أن نتح ول من ذل ك املوق ف ال ذي يعت بر الجس د بمثاب ة موض وع ال
يختل ف عن املوض وعات األخ رى و التوج ه إلى خبرتن ا بأجس ادنا من أج ل أن نتع رف على املفه وم
الحقيقي للجسد" :وسنجد أن الطريقة التي تلمس بها يدي الشيء ...تمكنني من فهم وظيفة الجسد
الحي بعد أن أكمله بنفسي ،حيث أكون جسدا يتجه نحو العالم"[ ،]15ألن هناك قصدية أصلية من
الجسد نحو األشياء و العالم وهذا ما تعبر عنه تلك الخاصية األساسية التي يختص بها الجسد والتي
تجعله في الوقت نفسه متميزا عن املوضوعات األخرى أال وهي خبرة الجسد و التي تدل على وعينا
به ،ولكي يوضح لنا ميرلوبونتي طبيعة هذه الخبرة يناقش التفسيرات التي تقدمها بعض النظريات
العلمي ة املعاص رة ح ول الجس د -وال تي س نتحدث عنه ا الحق ا -و يح اول أن يق دم تفس يرا جدي دا
يتناسب مع توجهه الفلسفي .
إن وجود الجسد في العالم ومعرفته باملوضوعات يبين لنا أن له عالقات متنوعة معها وهذه
العالقات تظهر أن الجسد هو موجود ذو مظهرين ،فهو من جهة شيء من األشياء ،ومن جهة أخرى
ي رى ويلمس[ ]16واملظه ر األول م رئي بينما املظه ر الثاني ال م رئي ،يسمي ميرلوبونتي الجسد األول
بالجسد املوضوعي Le corps Objectifوالجسد الثاني بالجسد الفينومينولوجي phénoménologique
. Le corpsيتبين لنا أن موقف ميرلوبونتي من الجسد رافقه تحول في النظرة إلى الجسد ،فبعد أن
كان في فلسفات الحداثة مقولة ثانوية ومهمشة ،أصبح الجسد مركز اهتمامات الفيلسوف ،با أصبح
الجسد مركز الوجود.
-3فينومينولوجيا الوجود-في-العالم:
6
https://labopheno.com/lms/logos-revu/l-3-4/course/merleau-ponty
إن من أهم رواسب الفلسفات السابقة سواء الحديثة أو املعاصرة هو مشكلة الوجود-في-العالم
،L’être-au-mondeوهي املش كلة ال تي ح اولت فينومينولوجي ا ميرلوبون تي حله ا ،وس تكون نقط ة
االنطالق في حل هذه املشكلة لديه هي إزالة ذلك الخط الفاصل الذي وضعه ديكارت بين الوعي و
الع الم من خالل رفض ه األخ ذ بم ا ه و محس وس أو م ا ل ه عالق ة بالجس د ،و إن ه ذا التمي يز يعطي
األولوية للوعي على الوجود ،وهذه األولوية ترفضها الفينومينولوجيا الجديدة عند ميرلوبونتي ،التي
أرادت أن تح دث توازن ا بين ال وعي والوج ود من خالل فك رة الجس د ،وهن ا يع بر ميرلوبون تي عن
تص وره للحض ور املتجس د في الع الم بقول ه" :لم يب ق أم ام فلس فتنا س وى إع ادة البحث في الع الم
الفعلي ،حيث نك ون تأليف ا بين النفس والجس د...فال يك ون الجس د مج رد وس يلة للرؤي ة أو اللمس
ولكنه هو دعمها وعوض أن تكون أعضاؤنا أدوات على العكس من ذلك ،فإن أدواتنا هي التي تكون
أعضاء مكملة"[ ،]17أي مكملة النتماء الجسد إلى العالم ،وهي دعوة صريحة من الفينومينولوجيا
الجديدة من أجل العودة إلى العالم املعاش الذي نحن حاضرين فيه بأجسادنا وليس العالم املفكر
فيه ،و الذي هو عالم الوعي .وهذا األمر يظهر التصور الجديد لعالقة الوعي بالعالم فنحن" :لسنا
وعيا يقابله العالم ،ولكن وعي متجسد ،و وجود في العالم"[ ]18وال يمكن فهم هذا الوجود املتجسد
إال من خالل فهم موقف ميرلوبونتي من فكرة الجسد.
لقد عملت فكرة الجسد عند ميرلوبونتي على الخروج من الذاتية إلى الواقعية؛ ألن الهدف هنا
ه و إع ادة جس ور التواص ل بين ال ذات و املوض وع ،وه و اله دف ال ذي عج زت الفينومينولوجي ا
املتعالي ة عن د هوس رل عن تحقيق ه ،ألن فك رة القص دية عن ده بقيت مرتبط ة ب الوعي الخ الص ،أم ا
عن د ميرلوبون تي فهي كامن ة في الجس د ،وه ذا م ا يفهم من قول ه ":أن ا لس ت أم ام جس دي ،أن ا داخ ل
جسدي ،أو باألحرى أنا عين جسدي"[ ،]19وهكذا نحصل على طريقة جديدة للوجود في العالم ،أال
وهي الوج ود املتجس د .ه ذه الفك رة تق دم لن ا حل وال لبعض املش كالت الفلس فية ،خصوص ا مش كلة
عالق ة ال ذات باملوض وع كمش كلة معرفي ة ،فال تع ود هن اك أس بقية ألح د الط رفين على اآلخ ر ألن
الجس د ه و ذات وموض وع في ال وقت ذات ه ،ك ذلك يح ل الوج ود املتجس د مش كلة عالق ة النفس
بالجسد التي بقيت عالقة ملدة زمنية طويلة وهذا ما يتمثل في قول ميرلوبونتي" :إن وحدانية العالم
املرئي والذي هو باألساس ال مرئي ،يعوض ذاته من خالل إعادة اكتشاف "الوجود العمودي" L’être
verticalالذي هو حل ملشكلة عالقة النفس بالجسد"[ ،]20وهذا الذي يسميه ميرلوبونتي بالوجود
العمودي هو الوجود املتجسد الذي هو بدوره تعبير عن وحدة النفس بالجسد دون أن تكون هناك
أولوي ة ألح دهما على اآلخ ر أي ال للج انب ال روحي و ال للج انب املادي وفي ه ذا تج اوز للكث ير من
املذاهب خصوصا املذهبين الروحي و املادي وهكذا يصبح اإلنسان ال هو روح وال هو مادة ،بل هو
مجموعهما معا.
7
https://labopheno.com/lms/logos-revu/l-3-4/course/merleau-ponty
من الفينومينولوجي ا الترنس ندتنالية إلى الفينومينولوجي ا الجدي دة يظه ر ذل ك التح ول في ط رح
مسائل الفينومينولوجيا أي من الذات العارفة إلى الجسد العارف .و يترتب على هذا التحول ظهور
نت ائج جدي دة ترتب ط بعالق ة ال ذات ب ذاتها و بغيره ا من ال ذوات ،وبالت الي بالع الم فال ذات تص بح
متجس دة م ع أجس اد أخ رى والفينومينولوجي ا تتح ول من وص ف ظ واهر ال وعي إلى وص ف ظ واهر
الع الم ال واقعي من خالل التوج ه إلى الوج ود في الع الم ال ذي ه و وج ود متجس د ،ليص بح الجس د
موض وع ت أمالت الفينومينول وجي بع د أن بقي مهمش ا ملدة زمني ة طويل ة من ذ أفالط ون م رورا بعه د
الكنيسة وديكارت وصوال إلى هوسرل.
ومما سبق نصل إلى أنه إذا كانت الفينومينولوجيا املتعالية لدى هوسرل تصف ماهيات الظواهر
الخالصة الكامنة في الوعي من أجل حل مشكالت مبحث املعرفة ،وإذا كانت فينومينولوجيا هيدغر
تصف ظهور الوجود من أجل حل مشكالت مبحث الوجود فإن ما تصفه الفينومينولوجيا الجديدة
عن د ميرلوبون تي ه و الوج ود ال واعي املتجس د في الع الم ألنه ا فينومينولوجي ا تن درج في إط ار مبح ثي
املعرفة و الوجود على حد السواء فهدفها ليس هو بلوغ املعرفة الكامنة في الوعي وال هو السعي إلى
إظهار تحجب الوجود و إنما هو كما يصرح بذلك ميرلوبونتي" :وصف تجربتنا التي هي أقدم من أي
رأي وال تي هي تجرب ة س كن الع الم بأجس ادنا"[ ،]21وإن ه ذه التجرب ة هي ال تي تع بر عنه ا فلس فة
ميرلوبون تي املت أخرة من خالل مقول ة "اللحم ة" La chaireال تي تع بر عن كيفي ة الوج ود والتالحم
القائم بين الوعي و الجسد و العالم ،وهي مقولة ال نجد لها أي معنى في كل الفلسفات السابقة ألنها
تعبر عن نوع خاص من الوجود هو ":الوجود الصامت الذي يريد أن يظهر معناه الخاص"[.]22
وعليه نستنتج أن ما يميز فكرة الوجود املتجسد هو أنها تقدم حال للكثير من املشكالت املترتبة
على الفلس فات الس ابقة س واء املعرفي ة منه ا أو الوجودي ة ،و خصوص ا منه ا مش كلة عالق ة ال ذات
باملوضوع ،ومشكلة عالقة النفس بالجسد ،و مسألة الوجود في العالم ،فقد تجاوز ميرلوبونتي الكثير
من الفلس فات الس ابقة س واء الحديث ة منه ا أو املعاص رة ألن ه أدرك أن" :التفلس ف ه و البحث و
افتراض أن هناك أشياء يجب رؤيتها و التحدث عنها ،لكننا اليوم لم نعد نبحث ألننا نرجع إلى أحد
التقاليد أو آخر ثم ندافع عنه"[ .]23إن فينومينولوجيا ميرلوبونتي هي إذن دعوة لتجاوز املوروث و
العمل على أن نبحث عن أشياء جديدة نعبر عنها أو باألحرى نتركها تعبر عن نفسها.
[1] Merleau-Ponty : Le Visible et L’invisible, éditions Gallimard, Paris, 1964,
p 67.
[2] Merleau-Ponty : Le Visible et L’invisible, éditions Gallimard, Paris, 1964,
p 253.
[3] Merleau-Ponty : La phénoménologie de la perception, Op.cit, p 13.
[4] Ibid. p X.
8
https://labopheno.com/lms/logos-revu/l-3-4/course/merleau-ponty
المؤلف:
محمد بن سباع