Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 182

‫اإلسالم والدبلوماسية‬

‫قراءة في القيم الدبلوماسية في اإلسالم‬

‫إعداد‬

‫د‪.‬محمد حبش‬

‫مستشار مركز الدوحة الدولي لحوار األديان‬

‫‪1‬‬
‫وبا َوقَ َب ِائ َل ِلتَ َع َارفُوا‬
‫ش ُع ً‬ ‫اس إِ َّنا َخلَ ْق َنا ُك ْم ِم ْن َذ َك ٍر َوأُنثَى َو َج َع ْل َنا ُك ْم ُ‬ ‫ُّها َّ‬
‫الن ُ‬ ‫﴿ َيا أَي َ‬
‫ِ َّ ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ير﴾‬‫يم َخ ِب ٌ‬
‫إ َّن أَ ْك َر َم ُك ْم ع ْن َد الله أَتْقَا ُك ْم إ َّن الل َه َعل ٌ‬

‫[الحجرات‪]13:‬‬

‫‪2‬‬
‫مقدمة‬
‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬

‫الدبلوماس ية في اإلس الم عن وان دقي ق‪ ،‬يعكس الحاج ة المتج ددة لفهم القيم الكريم ة ال تي بش ر به ا‬
‫اإلسالم في العالقات الدولية‪ ،‬ويجتهد أن يقدم للمكتبة العلمية مالمح التوجه الحضاري لإلسالم في‬
‫الحياة الدبلوماسية‪.‬‬

‫تنطل ق ه ذه الدراس ة من مس لمة منطقي ة يتف ق عليه ا العق ل والنق ل‪ ،‬وهي أن ه ذه الرس الة الخاتم ة‬
‫ج اءت لخ ير اإلنس انية الع ام‪ ،‬وأنه ا بس طت خط اب المحب ة والس الم في األرض على أس اس من‬
‫مص الح الن اس‪ ،‬وأن األص ل في العالق ات الدولي ة الت وازن واالح ترام والمص الح المتبادل ة‪ ،‬وليس‬
‫الخصام والحروب‪ ،‬وال ش ك أن ذلك ال ينفي حق األمة في مواجهة األخط ار والتح ديات الدولية‪،‬‬
‫وبناء أمنها الوطني والدفاع عنه‪ ،‬وألجل ذلك شرع الجهاد‪ ،‬الذي هو حق لألمة وواجب الراعي‬
‫ٍ‬
‫ماض إلى يوم القيامة ال يبطله عدل عادل وال جور جائر‪.‬‬ ‫والرعية‪ ،‬والجهاد‬

‫ولكن الغاية التي يتشوف إليها اإلسالم هي األمن والسالم العالمي‪ ،‬ونشر اإلخاء والتراحم‪ ،‬بل إننا‬
‫نؤكد هنا أن مصطلح السالم ليس هو الخيار القرآني في العالقات اإلنسانية‪ ،‬فالسالم هو هدنة بين‬
‫متحاربين قد يكون على قلوب تغلي بالضغائن‪ ،‬وتأكيداً على هذه الحقيقة فقد أعلن اإلسالم رسالته‬
‫من أف ق أعلى حين جع ل الرحم ة وليس الس الم غاي ة كفاح ه‪ ،‬فعكس ب ذلك أرقى ه دف تس عى ل ه‬
‫البش رية وه و اإلخ اء اإلنس اني وه و الرحم ة ال تي ع برت عنه ا اآلي ة الكريم ة في س ورة األنبي اء‪:‬‬
‫ِّ ِ‬ ‫﴿وما أَرسْلَنا َ اَّل‬
‫ك ِإ َر ْح َمةً لْل َعالَم َ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫ََ ْ َ‬
‫ومن الم دهش أن ه لم يق ل رحم ة بالمس لمين أو ب المؤمنين أو ب المتقين‪ ،‬وإ نم ا ق ال للع المين‪ ،‬وهي‬
‫صيغة ال يمكن تفسيرها بأقل من األسرة اإلنسانية الواسعة التي تعيش على كوكب األرض‪.‬‬

‫ولكن الوصول إلى هذا الهدف الكبير ال يتم بإلقاء المواعظ ونثر الحكم‪ ،‬بل إنه يتطلب وعي اً حقيقي اً‬
‫بالعالقات الدولية وبناء منظومة عالقات دولية متوازنة على أسس دبلوماسية حكيمة‪ ،‬تحترم فيها‬
‫الخبرة والكفاءة وتجارب األمم‪ ،‬ويعمل فيها المخلصون من أجل الوصول إلى عالم تسوده العدالة‬
‫والمساواة والسالم‪.‬‬

‫وتتع اظم الحاج ة لوض ع ه ذه الحق ائق أم ام كوادرن ا في الس لك الدبلوماس ي ال ذين يحمل ون ص ورة‬
‫ال وطن وقيم اإلس الم إلى ك ل مك ان يرحل ون إلي ه في الع الم‪ ،‬ليق دموا ص ورة طيب ة عن األم ة‬

‫‪3‬‬
‫اإلس المية‪ ،‬وي وفرون س بل اإلحي اء الحض اري‪ ،‬وتوف ير ص لة ماض ي ه ذه األم ة بحاض رها‬
‫ومستقبلها‪.‬‬

‫إن توافر هذه المعارف الدبلوماسية وفق قيم اإلسالم أصبح اليوم أكثر حيوية وضرورة لشرح قيم‬
‫اإلسالم العليا التي تتعرض لقدر غير قليل من التشويه واالتهامات تقوم بها حمالت فوبيا منظمة‬
‫يق وم به ا إعالم يع ادي اإلس الم والع رب‪ ،‬وتحرك ه ماكين ات معروف ة بكراهيته ا لإلس الم وانحيازه ا‬
‫ضد قضايا العرب‪.‬‬

‫ولكن الدور األكبر لنشر االسالموفوبيا في العالم اليوم إنما يقع على عاتق أولئك المتطرفين الذين‬
‫يرس مون صورة قاس ية عن اإلس الم في الع الم‪ ،‬حين يقس مون الع الم إلى فسطاطين اث نين‪ ،‬يتبادالن‬
‫ثقاف ة الكراهي ة‪ ،‬ويتناوب ان النفخ في ك ير الح روب‪ ،‬ويق دمون م وقفهم ه ذا على أن ه الجه اد ال ذي‬
‫فرضته الشريعة‪ ،‬ويتبع ذلك بكل تأكيد رفضهم ألي عالقة ودية بين المسلمين وبين أمم األرض‪،‬‬
‫ويحول ون دون قي ام دبلوماس ية ناجح ة تتأس س على قيم اإلس الم في الرحم ة وت دعو إلى ع الم من‬
‫ُمةً و ِ‬
‫اح َدةً َوال‬ ‫ُّك لَ َج َع َل َّ‬
‫اس أ َّ َ‬
‫الن َ‬ ‫اء َرب َ‬
‫التف اهم والح وار وف ق م ا دع ا إلي ه الق رآن الك ريم‪َ ﴿ :‬ولَ ْو َش َ‬
‫ُّك َوِل َذِل َ‬
‫ك َخلَقَهُ ْم﴾‪.‬‬ ‫ين ‪ِ ،‬إال َم ْن َر ِح َم َرب َ‬ ‫ِِ‬
‫ون ُم ْختَلف َ‬
‫َي َزالُ َ‬
‫إنني متمس ك بم ا كتبت ه من قب ل أن هذه الحض ارة التي نش هدها اليوم هي حض ارة إنس انية بامتياز‬
‫وليست شرقية وال غربية‪ ،‬وإ ن القيم التي أعلن عنها القرن العشرون في الحرية والتسامح والعدالة‬
‫والديمقراطية والعالقات الدولية هي قيم إنسانية كافح اإلنسان طويالً في الشرق والغرب لتحقيقها‪،‬‬
‫واشتركت فيها الحضارات جميع اً من يونانية ورومانية وإ سالمية وأوربية‪ ،‬وإ ن ربط هذا المنجز‬
‫الحضاري بأمريكا أو أوربا أو أي مكان في العالم يتبنى هذه القيم الحضارية ليس موقف اً صحيحاً‪،‬‬
‫وإ ن الن اس من س ائر األمم ش ركاء في ه ذه الحض ارة اإلنس انية‪ ،‬بم ا أنج زه آب اؤهم وأج دادهم من‬
‫كفاح شريف للوصول إلى هذه القيم اإلنسانية المشتركة‪.‬‬

‫ويجب القول إن منطق صدام الحضارات الذي تبناه متطرفون في الغرب ومنطق الفسطاطين الذي‬
‫يتبناه متطرفون في الشرق كالهما مجاف للحقيقة وبعيد عن هدي األنبياء‪ ،‬وإ ن السبيل الوحيد لقي ام‬
‫عالم آمن هو التعاون والتواصل والتكامل‪.‬‬

‫لق د دخلت ه ذه الحق ائق ال وعي الجمعي ل دى المثقفين في الع الم‪ ،‬ويتح د العقالء الي وم في مواجه ة‬
‫ثقافة اإللغاء واإلقصاء‪ ،‬وهي حقيقة جسدتها الدول اإلسالمية في منظمة التعاون اإلسالمي (منظمة‬
‫المؤتمر اإلسالمي سابقاً) حين اتفق زعماء العالم اإلسالمي على رفض منطق صدام الحضارات‪،‬‬

‫‪4‬‬
‫وق امت المنظم ة بتح رك دبلوماس ي مس ؤول وت وجهت باقتراحه ا إلى األمم المتح دة ونجحت في‬
‫تسمية العام التالي عام حوار الحضارات‪ ،‬والذي أسس تالي اً لما بات يعرف بتحالف الحضارات‬
‫وهو ما تشارك فيه اليوم أكثر من مائة دولة في العالم‪ ،‬وتتولى قطر رئاسة الدورة الحالية لتحالف‬
‫الحضارات العالمي‪.‬‬

‫وال يخفي ك اتب ه ذه الس طور رأي ه في ه ذه المس ألة في وج وب تج اوز مص طلح الح وار إلى‬
‫مص طلح الوح دة‪ ،‬فالحض ارة اإلنس انية في الواق ع حض ارة واح دة تع اقبت األمم على بنائه ا خالل‬
‫ت اريخ طوي ل‪ ،‬انتقلت في ه ش علة الحض ارة من الش رق األدنى والش رق األقص ى إلى اليون ان إلى‬
‫فارس إلى الرومان إلى الحضارة اإلسالمية ثم إلى الحضارة األوربية واألمريكية‪ ،‬وهي اليوم نتاج‬
‫كف اح األمم جميع اً‪ ،‬وبإمكان ك أن ت رى في مش افي كليفالن د في أمريك ا أث راً واض حاً لل رازي وابن‬
‫سينا تماماً كما كنا نرى في بيمارستانات بغداد واألندلس أثراً واضحاً ألبقراط وجالينوس‪ ،‬واألمر‬
‫نفسه في سائر العلوم الكونية‪ ،‬وكدلك في السنن االجتماعية من الحرية والعدالة والمساواة واإلخاء‬
‫ال تي ش اركنا فيه ا خالل الت اريخ‪ ،‬وحين يتم إنج از اإلعالن الع المي لحق وق اإلنس ان ويتم اإلعالن‬
‫عنه في نيويورك ف إنني أبص ر بين الرجال ال ذين حققوه عمر بن الخط اب وعمر بن عبد العزيز‬
‫وصالح الدين األيوبي‪ ،‬وكف اح األنبياء من قب ل‪ ،‬فهؤالء جميع اً ش ركاء في ش رعة حقوق اإلنسان‬
‫ال تي م رت ع بر الت اريخ في مواجه ات كث يرة ض د االس تبداد والقه ر‪ ،‬وش ارك حكم اء ه ذه األم ة‬
‫صيحتهم في وجه العالم (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)‪.‬‬

‫إنه ا إذن ش علة واح دة للحض ارة اإلنس انية‪ ،‬فالحض ارات تتكام ل وال تتقات ل‪ ،‬وتتواص ل وال تت دابر‪،‬‬
‫فالص راع ال يك ون بين الحض ارة والحض ارة أو بين النور والنور‪ ،‬وإ نم ا يكون الص راع والص دام‬
‫بين الحض ارة والتخل ف‪ ،‬وبين العلم والجه ل‪ ،‬وبين الظلم ات والن ور‪ ،‬وإ نه ا إذن األس رة اإلنس انية‬
‫الواح دة ال تي ج اءت من نس ل آدم‪ ،‬ومس ؤولية أبنائ ه أن يتع اونوا الس تثمار خ يرات ه ذه األرض‬
‫وضبط مقاطع الحقوق فيها وتوفير العيش الكريم لسائر األمم والشعوب‪.‬‬

‫إن من المدهش أن الخطاب القرآني جاء عالمي اً إنسانياً بامتياز‪ ،‬ونادى الناس بصيغة يا بني آدم‪،‬‬
‫ويا أيها الناس‪ ،‬وهي الصيغة التي أعلنها النبي الكريم في آخر أيام الرسالة في حجة الوداع‪( :‬أيها‬
‫الناس إن ربكم واحد وإ ن أباكم واحد وإ ن دينكم واحد‪ ،‬كلكم آلدم وآدم من تراب)‪.‬‬

‫ين﴾‪ ،‬فلم يقل رب‬ ‫ِ‬ ‫وقد افتتح القرآن الكريم بآية ذات داللة وهي قوله تعالى‪﴿ :‬ٱْل َح ْم ُد للَّ ِه َر ِّ‬
‫ب ٱْل َع الَم َ‬
‫اس ‪.‬‬ ‫اس ‪َ .‬مِل ِك َّ‬
‫الن ِ‬ ‫الن ِ‬
‫ب َّ‬ ‫َع و ُذ بِ َر ِّ‬‫المس لمين وال رب الع رب وال رب المتقين‪ ،‬واختتم بقول ه‪ُ ﴿ :‬ق ْل أ ُ‬

‫‪5‬‬
‫اس﴾‪ ،‬ولم يقل رب المؤمنين أو العرب أو العجم‪ ،‬وما بين الفاتحة والخاتمة جاء بيان القرآن‬ ‫ِإلَ ِه َّ‬
‫الن ِ‬
‫اإلثِْم َواْل ُع ْد َو ِ‬
‫ان﴾‪.‬‬ ‫العظيم‪﴿ :‬وتَ َعاوُنوا َعلَى اْلبِِّر والتَّ ْقوى وال تَ َعاوُنوا َعلَى ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ َ‬
‫وفي س ياق توض يح ه ذه الحق ائق ت أتي ه ذه الدراس ة ال تي أع ددتها للمعه د الدبلوماس ي في وزارة‬
‫الخارجية بدولة قطر‪ ،‬كما أنها تأتي في سياق نجاحات متتالية قامت بها دولة قطر في الدبلوماسية‬
‫الدولي ة‪ ،‬وح وار الحض ارات واألدي ان‪ ،‬وق دمت بم ا يقط ع الش ك ق درة الدبلوماس ية الحكيم ة على‬
‫التأثير إيجابياً في القضايا الدولية‪ ،‬وقدرة الدبلوماسية في فض النزاعات‪ ،‬وقيام المصالحات‪ ،‬وهو‬
‫ال دور ال ذي ق امت ب ه دول ة قط ر دبلوماس ياً إلنه اء الص راع وإ ج راء المص الحات في لبن ان واليمن‬
‫وليبيا وفلسطين ودارفور‪ ،‬وهو دور آمل له النجاح أيضاً في بالدي المعذبة الجريحة سوريا‪.‬‬

‫وإ ذ أكتب ه ذه الس طور ف إنني أرج و أن أض ع بين ي دي زمالئن ا الب احثين‪ ،‬وأبنائن ا الص اعدين في‬
‫السلك الدبلوماسي هذه المعارف الدبلوماس ية ال تي نتقتبسها من ضياء القرآن ونور السنة وتاريخ‬
‫األمة‪ ،‬وهي تلتقي مع كثير من القيم الدبلوماسية العريقة وتغنيها وتثريها وتفيد منها‪.‬‬

‫ولن يفوت ني في ه ذه المقدم ة أن أزجي الش كر لس عادة وزي ر الخارجي ة القط ري ال دكتور خال د بن‬
‫محمد العطي ة ومساعديه س عادة السيد راش د بن خليف ة آل خليفة وس عادة الشيخ أحم د بن محمد بن‬
‫ج بر آل ث اني‪ ،‬الل ذين وف را لي فرص ة التف رغ للبحث العلمي في مرك ز الدوح ة ال دولي لح وار‬
‫األديان‪.‬‬

‫وأخص بالش كر س عادة الس فير ال دكتور حس ن بن إب راهيم المهن دي م دير المعه د الدبلوماس ي ال ذي‬
‫أشرف على إعداد هذا البحث وتقديمه للمكتبة الدبلوماسية العربية‪.‬‬

‫وكلي أمل أن تجد هذه الدراسة مكانها في المكتبة العربية‪ ،‬وأن ينتفع منها أبناؤنا الصاعدون في‬
‫الس لك الدبلوماس ي‪ ،‬وأن ي درك ش بابنا المتق دمون إلى العم ل في الس لك الدبلوماس ي غ نى الحض ارة‬
‫اإلس المية في ه ذا الس بيل‪ ،‬وحكم ة الش ريعة اإلس المية وخصوص يتها‪ ،‬وبالت الي معرف ة بعض‬
‫التحفظات التي تمسك بها الفقهاء في السلوك الدبلوماسي‪ ،‬وأن يدركوا اآلفاق البعيدة التي قدمتها‬
‫الحض ارة اإلس المية في حق ل الدبلوماس ية‪ ،‬وحجم المش ترك اإلنس اني في الحق ل الدبلوماس ي‪،‬‬
‫والمسؤولية الملقاة على عاتقهم لنقل صورة حضارية وحكيمة للدبلوماسية اإلسالمية التي شاركت‬
‫وتشارك بفاعلية ونجاح في تحقيق ازدهار الشعوب‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫المحتويات‬

‫الفصل التمهيدي‪ :‬‬
‫الدبلوماسية‪ ..‬المصطلح واالستخدام‬ ‫‪‬‬
‫تاريخ الدبلوماسية‬ ‫‪‬‬
‫أهم األعمال التي صنفها الفقهاء في الدبلوماسية اإلسالمية‬ ‫‪‬‬

‫الفصل األول‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫الفقه الدبلوماسي‪ ‬في‪ ‬اإلسالم‬

‫التأسيس االعتقادي للعالقات الودية في اإلسالم‬ ‫‪‬‬


‫مصطلح الدبلوماسية في التراث اإلسالمي‬ ‫‪‬‬
‫الدبلوماسية في العهد النبوي‬ ‫‪‬‬
‫الدبلوماسية في التاريخ اإلسالمي‬ ‫‪‬‬
‫التطور اإليجابي والسلبي لعالقة األمة اإلسالمية بالمجتمع الدولي‬ ‫‪‬‬
‫مشروعية التمثيل الدبلوماسي في اإلسالم‬ ‫‪‬‬
‫حكم التمثيل الدبلوماسي الدائم في اإلسالم‬ ‫‪‬‬
‫تعيين السفراء واختيارهم‬ ‫‪‬‬
‫مشاركة المرأة‪ ‬في‪ ‬الحياة الدبلوماسية‬ ‫‪‬‬
‫مسائل تحول بين المرأة والعمل الدبلوماسي‬ ‫‪‬‬
‫سفر المرأة‬ ‫‪‬‬

‫مصافحة النساء‬ ‫‪‬‬

‫النقاب‬ ‫‪‬‬

‫حصانة‪ ‬السفراء‬ ‫‪‬‬
‫الحصانة الشخصية‬ ‫‪‬‬
‫الحصانة القضائية‬ ‫‪‬‬
‫الحصانة الماليـ ــة‬ ‫‪‬‬
‫الحصانة السياسية‬ ‫‪‬‬

‫‪7‬‬
‫الملحقيات‬ ‫‪‬‬

‫الملحقية التجارية‪  ‬‬ ‫‪‬‬


‫الملحقية‪ ‬العسكرية‬ ‫‪‬‬
‫الملحقية الثقافية‬ ‫‪‬‬
‫الملحقيات الثقافية ورسالة الدعوة‬ ‫‪‬‬
‫‪ ‬‬

‫الفصل الثاني‪ :‬القيم‪ ‬الدبلوماسية‪ ‬في‪ ‬اإلسالم‬ ‫‪‬‬


‫آداب السفراء‬ ‫‪‬‬
‫مبدأ المعاملة بالمثل‬ ‫‪‬‬
‫مسؤولية السفير بين وطنه ودار إقامته‬ ‫‪‬‬
‫الدبلوماسية‪ ‬واختالف العقائد‬ ‫‪‬‬

‫‪ ‬‬

‫الفصل الثالث‪ :‬الدبلوماسية‪ ‬في‪ ‬الكتاب والسنة‬ ‫‪‬‬


‫السفارات في القرآن الكريم‪     ‬‬ ‫‪‬‬
‫سفراء الرسول‪ ‬في‪ ‬حال السلم‬ ‫‪‬‬
‫دبلوماسية الرسول في حل النزاعات‬ ‫‪‬‬

‫‪ ‬‬

‫الفصل الرابع‪ :‬المشترك بين‪ ‬اإلسالم‪ ‬والدبلوماسية‪ ‬الحديثة‬ ‫‪‬‬

‫‪        ‬المالحق‪:‬‬
‫نموذج من التعامل الدبلوماسيلرسول اهلل‬ ‫‪‬‬
‫نموذج من الخطاب الدبلوماسي لرسول اهلل‬ ‫‪‬‬

‫النتائج والتوصيات‬

‫المراجع‬

‫‪8‬‬
‫الفصل التمهيدي‪ :‬الدبلوماسية‬
‫المصطلح واالستخدام‬

‫‪9‬‬
‫تمهيد‬

‫مصطلح الدبلوماسية‪:‬‬

‫الدبلوماس‪KK‬ية مص‪KK‬طلح التي‪KK‬ني مش‪KK‬تق من الكلم ة‪ ‬الالتينية ‪ Diploma‬وال تي تع ني وثيق ة رس مية(‪ ،)1‬حيث‬
‫كانت مراس الت الملوك وأوامرهم وبالغ اتهم ومفاوضاتهم تدون في وث ائق محكمة ثم تطوى في س جالت‬
‫خاصة‪ ،‬وقد اكتسبت الكلمة شهرة عالمية للداللة على الكفاءة والجدارة‪ ،‬وال تزال مستخدمة بشكل واسع‬
‫في الحق ل األك اديمي للدالل ة على الوث ائق التأهيلي ة ال تي يحص لها المتخرج ون من الجامع ات في إط ار‬
‫اختصاص معين‪ ،‬وهي تستخدم اليوم بكثرة في الحقل األكاديمي العربي بعنوان دبلوم االختصاص‪.‬‬

‫وﻴﻌﺭﻑ ﺭﺠﺎل ﺍﻟﻘﺎﻨﻭﻥ ﺍﻟﺩﺒﻠﻭﻤﺎﺴﻴﺔ ﺒﺄﻨﻬﺎ‪ :‬ﻓﻥ ﻭﻋﻠﻡ ﺇﺩﺍﺭﺓ ﺍﻟﻌﻼﻗـﺎﺕ ﺍﻟﺩﻭﻟﻴـﺔ(‪ ،)2‬وتك ون ع ادة بين دول تين‪،‬‬
‫وهي تختلف عن العالقات بين األفراد أو األحزاب أو المنظمات أو الهيئات‪.‬‬

‫وقد تناولت الموسوعة العربية تفصيل االستخدامات المتعددة للدبلوماسية على الشكل التالي‪:‬‬

‫‪1‬ـ فمن حيث أط راف العالق ة الدولي ة‪ :‬هن اك الدبلوماس ية الثنائي ة أي الدبلوماس ية بين دول تين‪ ،‬وهن اك‬
‫الدبلوماسية الجماعية‪ ،‬أي الدبلوماسية بين مجموعة من الدول عن طريق المؤتمرات أو المنظمات الدولية‪،‬‬
‫يس مي بعض هم الن وع األخ ير الدبلوماس ية البرلماني ة ‪ parliamentary diplomacy‬وق د ش اع ه ذا الن وع‬
‫الثاني‪ ،‬بتواتر وتصاعد‪ ،‬منذ عصبة األمم وحتى اليوم‪.‬‬

‫‪2‬ـ ومن حيث الش كل الذي تأخ ذه إدارة العالق ات الدولية‪ :‬هنالك الدبلوماس ية الس رية وهي التي تجري بين‬
‫الكواليس وتكتم نتائجها كالً أو بعض اً عن الغير أو حتى عن رعايا الدول المتفاوضة‪ .‬وهناك الدبلوماسية‬
‫العلنية وهي التي تتضح نتائجها فور انتهائها حتى لو جرت المفاوضات بشكل غير علني‪ .‬وقد كان إنشاء‬
‫عصبة األمم بهيئاتها ومجالسها العلنية واشتراط ميثاقها تسجيل المعاهدات المبرمة بين الدول ونشرها تحت‬

‫انظرموسوعة الدبلوماسية‪ ،‬د‪ .‬عبد الوهاب الكيالي‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬ص ‪115‬‬ ‫‪1‬‬

‫الموسوعة العربية‪ ،‬دراسة للدكتور عزيز شكري‪ ،‬العلوم القانونية واالقتصادية‪ ،‬المجلد التاسع‪ ،‬ص‪196‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪10‬‬
‫طائل ة بطالنه ا‪ ،‬ك ان محاول ة من ج انب مؤسس ي العص بة للخالص من عه د الدبلوماس ية الس رية ‪secret‬‬
‫‪ diplomacy‬الذي ساد حتى ذلك التاريخ‪.‬‬

‫‪3‬ـ ومن حيث الوسائل المستخدمة في إدارة العالقات الدولية‪ :‬يمكن القول بوجود دبلوماسية سلم تقوم على‬
‫أس اس المفاوض ة بين ال دول المعني ة وه ذا ه و األص ل‪ ،‬ودبلوماس ية عن ف أو م ا س مي دبلوماس ية الس فن‬
‫الحربي ة ‪ Gun Boat Diplomacy‬تتجلى في تحقي ق الدول ة ألغراض ها عن طري ق اتب اع وس ائل الزج ر‬
‫والعنف بما في ذلك الحرب التي يعدها بعضهم استمراراً للنشاط الدبلوماسي للدولة في ميدان آخر غير‬
‫ميدان المفاوضات(‪.)3‬‬

‫ويطلق تعبير الدبلوماسية اليوم على النشاط السياسي الذي يقوم به مفاوضون رسميون لشرح مواقف الدول‬
‫ومصالحها‪ ،‬والحيلولة دون تحول الخالف إلى نزاع وحرب‪.‬‬

‫ومن الناحية التقنية ُيشار إلى فن التفاوض على أنه الممارسة الرسمية التي تتبعها معظم األمم في إرسال‬
‫ممثلين يعيش ون في بل دان أخ رى‪ .‬وه ؤالء الممثل ون المفاوض ون ُيعرف ون بالدبلوماس يين ويس اعدون على‬
‫استمرارية العالقات اليومية بين بالدهم والبالد التي يخدمون فيها‪ ،‬وهم يعملون من أجل مكاسب سياسية‬
‫أو اقتصادية لبالدهم ويعملون لبناء عالقات دولية جيدة لبالدهم في العالم‪.‬‬

‫‪ 3‬المصدر نفسه ص ‪195‬‬

‫‪11‬‬
‫تاريخ الدبلوماسية‪:‬‬

‫ربما كانت أقدم اتفاقية في التاريخ في اإلطار الدبلوماسي اتفاقية قادش بين الفراعنة والحثيين سنة ‪1279‬‬
‫ق‪.‬م وتعكس هذه االتفاقية رؤية متقدمة في حقل العالقات الدبلوماسية الدولية‪.‬‬

‫وفي عصر الثنائية اإلمبراطورية التي طبعت الشرق األوسط نحو ستة قرون في إطار الصراع الفارسي‬
‫ال رومي‪ ،‬ف إن الدبلوماس ية لم تس جل نجاح اً حقيقي اً‪ ،‬وك ان المبعوث ون الدبلوماس يون بين الط رفين مج رد‬
‫مخ برين وأدوات غ ير فاعل ة ال ت ؤثر في ق رار الح رب ال ذي ك انت اإلمبراطوريت ان الفارس ية والروماني ة‬
‫تتخذان ه وف ق اعتب ارات الق وة والض عف واالس تعداد الح ربي وليس وف ق اعتب ارات الح ق والع رف‬
‫الدبلوماس ي‪ ،‬وق د أس هم غي اب دبلوماس ية حقيقي ة فاعل ة في إنه اك اإلمبراطوري تين‪ ،‬ومن ثم زوال‬
‫اإلمبراطوري ة الفارس ية نهائي اً وانحس ار األخ رى إلى بالد ال روم والج انب األوروبي‪ ،‬وقي ام الحض ارة‬
‫اإلسالمية الصاعدة‪.‬‬

‫وقد مضت هذه العالقات تاريخياً على هيئة اتفاقيات محددة بين دولتين‪ ،‬أو أعراف تحترمها الدول كحماية‬
‫الرس ل وحص انتهم‪ ،‬واس تقبال الوف ود وتب ادل الرس ائل‪ ،‬وق د ازده رت العالق ات الدبلوماس ية إب ان ازده ار‬
‫الدولة اإلسالمية العباسية‪ ،‬وكان هذا االزدهار يترافق عادة مع رغبة الدولة باالنفتاح والتعاون‪ ،‬وتركت‬
‫الدول ة العباس ية كث يراً من التقالي د الدبلوماس ية الناجح ة ال تي أغنت ال تراث البدلوماس ي‪ ،‬كم ا حق ق ص الح‬
‫ال دين األي وبي خالل الح روب الص ليبية سلس لة من النجاح ات الدبلوماس ية في وقت الح رب‪ ،‬منحت ه مكان اً‬
‫محترماً حتى عند محاربيه من الصليبيين‪.‬‬

‫وربما كان من أهم التطورات الدبلوماسية ما أنجزه السلطان العثماني الشهير سليمان القانوني الذي كان‬
‫يؤمن ب دور الدبلوماس ية ويسعى لتحرير أص ولها وقواع دها‪ ،‬وق د نجح في عقد سلس لة اتفاق ات م ع المل وك‬
‫األوربيين لضبط العالقات الدبلوماسية‪ ،‬أشهرها اتفاقية عام ‪ 1535‬مع الملك الفرنسي فرانسوا األول والتي‬
‫نظم بها شكل العالقات الدينية والحج المسيحي إلى األماكن المقدسة في فلسطين‪.‬‬

‫وفي أوروب ا فق د ك انت اإلمبراطوري ة الجرماني ة المقدس ة تف رض تقالي دها الدبلوماس ية‪ ،‬ولكنه ا س رعان م ا‬
‫كانت تتغير بظروف الحروب المستمرة‪ ،‬وشهدت العالقات بين اإلمبراطورية والعالم اإلسالمي سلسلة من‬
‫التجارب الدبلوماسية الهامة‪ ،‬عصفت بها الحروب الصليبية فيما بعد‪ ،‬وخالل التاريخ جدت الحاجة لتنظيم‬
‫ه ذه العالق ات الدبلوماس ية‪ ،‬وك انت في البداي ة تق وم ع بر اتفاق ات ثنائي ة أو إمالءات إمبراطوري ة تل زم من‬
‫يدور في فلكها‪ ،‬وأحيان اً أوامر ملكية تفرض بالغلبة‪ ،‬وبعد سلسلة من الحروب الدينية الطاحنة في أوروبا‬

‫‪12‬‬
‫ج اءت معاه دة وس تفاليا ال تي أرس ت لمب دأ س يادة ال دول ‪ ،1648‬ثم أعقبته ا سلس لة معاه دات واتفاقي ات‪،‬‬
‫أش هرها اتفاقي ة ج نيف ‪ 1815‬ال تي تح ددت فيه ا طبيع ة الدول ة الحديث ة‪ ،‬ثم ت وجت أخ يراً باتفاقي ة فيين ا‬
‫للعالق ات الدبلوماس ية لع ام ‪ 1961‬ثم اتفاقي ة فيين ا للعالق ات القنص لية لع ام ‪ 1963‬ح ددت بموجبهم ا‬
‫ركائزعامة وتراتيب تفصيلية للعالقات الدبلوماسية والقنصلية‪ ،‬وقد تمت االتفاقيتان في إطار األمم المتحدة‬
‫وأصبحتا مرجعاً للعمل الدبلوماسي في العالم‪.‬‬

‫وقد أصبحت الدبلوماسية علماً مستقالً‪ ،‬وتقدم الجامعات الكبرى مناهج دقيقة إلعداد الدبلوماسيين وتأهيلهم‪،‬‬
‫ونش أت م دارس متع ددة للدبلوماس ية الحديث ة‪ ،‬خاص ة م ع تط ور أدوات الدبلوماس ية ووس ائلها في عص ر‬
‫العولمة وتحول العالم إلى قرية صغيرة‪.‬‬

‫والطري ف في المع ارف الدبلوماس ية أنه ا تتج ه دوم اً إلى التوح د وليس إلى التف رق‪ ،‬وأن نجاحه ا يرتب ط‬
‫ارتباط اً ك امالً بم دى ق درتها على تق ديم نس ق اتف اقي بين األمم‪ ،‬وإ ن أي تط ور أح ادي في الدبلوماس ية لن‬
‫ينظ ر إلي ه على أن ه إنج از‪ ،‬ب ل س يكون عقب ة في وج ه قي ام الدبلوماس ية ب دورها الص حيح في بن اء الس الم‬
‫والتعاون الدولي‪.‬‬

‫وظلت الصيغة الغالبة على العمل الدبلوماسي خالل التاريخ أنه نشاط سياسي ليس له لون ديني‪ ،‬فلم تعرف‬
‫التقاليد الدبلوماسية مثالً تسميات دبلوماسية مسيحية أو دبلوماسية يهودية أو دبلوماسية إسالمية‪.‬‬

‫ومن المفي‪KK‬د أن نق‪KK‬ول إنن‪KK‬ا ال نتج‪KK‬ه هن‪KK‬ا إلى أس‪KK‬لمة الدبلوماس‪KK‬ية ومنحه‪KK‬ا عب‪KK‬اءة ديني‪KK‬ة وإ نم‪KK‬ا نتج‪KK‬ه لتأكي‪KK‬د‬
‫المش‪KK‬ترك بين القيم اإلس‪KK‬المية األص‪KK‬يلة وبين المع‪KK‬ارف الدبلوماس‪KK‬ية‪ ،‬وبالت‪KK‬الي نتج‪KK‬ه إلى إغن‪KK‬اء المع‪KK‬ارف‬
‫الدبلوماسية التقليدية وليس إلى إلغائها أو استبدالها‪.‬‬

‫‪  ‬أهم األعمال التي صنفها الفقهاء في الدبلوماسية اإلسالمية‪:‬‬

‫وقد ظل هذا الجانب من المعرفة منثورا‪ ‬في‪ ‬كتب السيرة النبوية وفي‪ ‬أبواب متفرقة‪ ‬في‪ ‬الفقه‪ ‬اإلسالمي في‬
‫ب اب الجه اد خاص ة‪ ،‬وكتب السياس ة الش رعية‪ ،‬وآداب المل وك وس يرها‪ ،‬كم ا ق ام العلم اء خالل الت اريخ‬
‫اإلس المي بتص نيف دراس ات خاص ة في األدب الدبلوماس ي‪ ،‬وك انت تس مى ع ادة آداب المل وك‪ ،‬أو األحك ام‬
‫السلطانية‪ ،‬أو السياسة الشرعية‪ ،‬ومن أهم هذه األعمال‪:‬‬

‫‪13‬‬
‫ﻜﺘﺎﺏ ﺍﻟﺴﻴﺭ ﺍﻟﻜﺒﻴﺭ ﻟﻺﻤﺎﻡ ﻤﺤﻤﺩ ﺒﻥ ﺍﻟﺤﺴﻥ ﺍﻟﺸﻴﺒﺎﻨﻲ ﻭﺸﺭﺤﻪ ﻟﻺﻤﺎﻡ ﺍﻟﺴﺭﺨﺴﻲ‪ ،‬ﻭﻜﺘﺎﺏ ﺍﻟﺨﺭﺍﺝ ﻟﻠﻘﺎﻀﻲ‬
‫ﺃﺒﻲ ﻴﻭﺴﻑ‪ ،‬وكتاب‪ :‬رسل الملوك ومن يصلح للرسالة والسفارة البن الفراء‪ ،‬وكتاب األحكام السلطانية‬
‫للماوردي‪ ،‬وكتاب السياسة الشرعية البن تيمية‪ ،‬وكتاب مآثر األنافة‪ ‬في‪ ‬معالم الخالفة للقلقشندي‪ ،‬وكتاب‬
‫اإلبري ز المس بوك‪ ‬في‪ ‬كيفي ة آداب المل وك للقاض ي ابن األزرق األندلس ي‪ ،‬ول ه أيض اً كت اب تخي ير الرياس ة‬
‫وتحذير السياسة‪ ،‬وكتاب أخالق الملوك للجاحظ‪.‬‬

‫ﻭﺃﻤﺎ ﺍﻟﺩﺭﺍﺴﺎﺕﺍﻟﻤﻌﺎﺼﺭﺓ‪ ،‬ﻓﻘﺩ ظهرت أعمال كثيرة هامة منها‪ :‬‬

‫ﺍﻟﻌﻼﻗﺎﺕ ﺍﻟﺩﻭﻟﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻹﺴﻼﻡ‪ ،‬ﻟﻠﺸﻴﺦ ﻤﺤﻤﺩ ﺃﺒﻭ ﺯﻫﺭﺓ‪ ،‬ﻭﻜﺘﺎﺏ ﺁﺨﺭ ﺒـﺎﻟﻌﻨﻭﺍﻥ ﻨﻔﺴـﻪ ﻟﻠـﺩﻜﺘﻭﺭ ﻭﻫﺒـﺔ ﺍﻟﺯﺤﻴﻠﻲ‪،‬‬
‫ﻭﻤﻥ ﻫﺫﻩ ﺍﻟﺩﺭﺍﺴﺎﺕ ﺃﻴﻀﺎﹰ‪ :‬ﺍﻟﺩﺒﻠﻭﻤﺎﺴﻴﺔ ﺍﻟﺤﺩﻴﺜﺔ‪ ،‬ﻟﻠﺩﻜﺘﻭﺭ ﺴﻤﻭﺤﻲ ﻓـﻭﻕ ﺍﻟﻌـﺎﺩﺓ‪ ،‬ﻭﺍﻟـﻨﻅم ﺍﻟﺩﺒﻠﻭﻤﺎﺴﻴﺔ ﻟﻠﺩﻜﺘﻭﺭ‬
‫ﻋﺯ ﺍﻟﺩﻴﻥ فودة‪ ،‬وكتاب الدبلوماسية‪ ‬بين الفقه‪ ‬اإلسالمي والقانون الدولي ألحمد سالم باعمر‪،‬‬
‫والدبلوماسية‪ ‬في‪ ‬التاريخ‪ ‬اإلسالمي لعباس حلمي‪ ،‬والشرع الدولي‪ ‬في‪ ‬اإلسالم‪ ‬لنجيب األرمنازي‪ ،‬كما كتب‬
‫الدكتور إبراهيم العدوي السفارات‪ ‬اإلسالمية إلى أوروبا‪ ‬في‪ ‬العصور الوسطى‪ ،‬ولعلي بن مقبول اليمني‬
‫كتاب الحصانات‪ ‬الدبلوماسية‪ ‬والقنصلية والمعاهدات‪ ‬في‪ ‬الفقه‪ ‬اإلسالمي والقانون الدولي‪.‬‬

‫وكتب ال دكتور محم د إب راهيم أب و جريب ان بحث اً موثق اً بعن وان األمن الدبلوماس ي في اإلس الم نش رته مجل ة‬
‫جامع ة دمش ق‪ ،‬كم ا كتب ال دكتور إب راهيم أحم د الع دوي‪ :‬الس فارات اإلس المية إلى أوروب ا في العص ور‬
‫الوسطى‪.‬‬

‫وتجدر اإلشارة هنا إلى كتاب بالغ األهمية وهو كتاب التراتيب اإلدارية في الدولة النبوية‪ ،‬للسيد عبد الحي‬
‫الكت اني المت وفى ‪ ،1961‬وق د أش ار الكت اني أن ه اعتم د اعتم اداً كلي اً في كتاب ه على كت اب تخ ريج ال دالالت‬
‫السمعية على ما كان في عهد رسول اهلل من الحرف والصنائع والعماالت الشرعية تأليف أبي الحسن علي‬
‫بن محمد الخزاعي المتوفى ‪1387‬م الملقب بذي الوزارتين وقد كان وزيراً في الدولة المرينية بالمغرب‪.‬‬

‫وقد تضمن الكتاب قراءة واعية لآلداب الدبلوماسية التي ظهرت في الدولة اإلسالمية‪ ،‬ومن العناوين التي‬
‫أفردها بالبحث والتفصيل‪:‬‬

‫باب في الرسول (السفير) وفيه فصول‬ ‫‪‬‬


‫فصل في صفات رسله عليه السالم من وفور العقل وطالقة اللسان وقوة الحجة المقنعة للخصم‬ ‫‪‬‬
‫باب في اختياره عليه السالم لرسله أن يكونوا أحسن الناس وجهاً‬ ‫‪‬‬
‫فصل في الترجمان الذي يترجم كتب أهل الكتاب ويكتب إليهم بخطهم ولسانهم‬ ‫‪‬‬
‫‪14‬‬
‫فصل في كيفية مخاطبة الملوك وغيرهم من المعاصرين له عليه السالم في زمانه‬ ‫‪‬‬
‫باب ذكر ما كان يفتح به كتبه عليه السالم‬ ‫‪‬‬
‫احتياطه عليه السالم في مكاتيبه الرسمية‬ ‫‪‬‬
‫باب ذكر كيفية مخاطبته عليه السالم للمعاصرين له من الملوك‬ ‫‪‬‬
‫باب ذكر عنوان المكاتب التي كانت توجه له عليه السالم‬ ‫‪‬‬
‫باب ذكر عمله عليه السالم إذا لم يحضره الختم‬ ‫‪‬‬
‫باب اتفاق القوم على من يمثلهم تمثيالً رسمياً في محفل ديني رسمي‬ ‫‪‬‬
‫باب ذكر المؤقت‪ ،‬وأهميته في التشريفات النبوية واستقبال الوفود‬ ‫‪‬‬
‫باب في الرسول يبعث بالهدية‬ ‫‪‬‬
‫باب في إنزال الوفود‬ ‫‪‬‬
‫باب جوائزه عليه السالم للوفود‬ ‫‪‬‬
‫باب تجمله عليه السالم للوفود(‪.)4‬‬ ‫‪‬‬

‫وهكذا فقد كتب كل فقيه بلغة عصره‪ ،‬واختلفت المصطلحات والتسميات ولكن ما تؤكده الدراسات جميع اً‬
‫هي أن اآلداب الدبلوماس ية ك انت في الواق ع مح ل اعتب ار في التص رفات النبوي ة‪ ،‬وأنه ا ك انت تنطل ق من‬
‫روح اإلسالم القائمة على حسن الجوار والتعاون اإلنساني‪.‬‬

‫‪ ‬وتتأك د الحاج ة لجم ع ه ذه المع ارف الرائ دة‪ ،‬في‪ ‬كت اب واح د يجم ع آداب العم ل الدبلوماس ي في اإلس الم‬
‫ويك ون مرجع اً للمتخصص ين‪ ‬في ه ذا األم ر‪ ،‬ويق دم ص ورة مش رقة للحض ارة‪ ‬اإلس المية والعربي ة‪ ‬في‪ ‬ه ذا‬
‫السبيل‪ ،‬وتسعى هذه الدراسة لتلخيص ما حرره السلف في األدب الدبلوماسي‪ ،‬ومراجعة ما كتبه الخلف في‬
‫ه ذا الس بيل والمقارن ة م ع النظم الحديث ة واألع راف الدولي ة في الش أن الدبلوماس ي‪ ،‬للوص ول إلى موق ف‬
‫متوازن في القواعد الدبلوماسية التي أسس لها اإلسالم وتم إقرارها في المحافل الدولية‪.‬‬

‫كم ا تتأك د الحاج ة إلى إدخ ال القيم اإلس المية إلى التقالي د الدبلوماس ية في من اهج اإلع داد الدبلوماس ي‪ ،‬وهي‬
‫قيم متينة وواقعية‪ ،‬ولها اعتبار رسمي حقيقي لدى أكثر من ‪ 57‬دولة في العالم اإلسالمي‪ ،‬كما أنها محل‬
‫احترام وتقدير لدى الدول المحبة للسالم من خارج العالم اإلسالمي‪.‬‬

‫انظر كتاب التراتيب اإلدارية في الدولة النبوية‪ ،‬الشيخ عبد الحي الكتاني‪ ،‬المقدمة والفهرس‬ ‫‪4‬‬

‫‪15‬‬
‫الفصل األول‬
‫الفقه الدبلوماسي في اإلسالم‬

‫‪16‬‬
‫التأسيس االعتقادي للعالقات الودية في اإلسالم‪:‬‬

‫جاءت الشريعة الخاتمة بالدعوة إلى الحوار واإلخاء اإلنساني‪ ،‬وعززت ثقافة القرآن الكريم وجوب احترام‬
‫اإلنس ان وبن اء عالق ات ص حيحة بين البش ر‪ ،‬وأك دت طبيع ة ن زوع البش ر إلى االختالف والتن وع‪ ،‬ودع ا‬
‫القرآن الكريم إلى فهم الجانب اإليجابي من االختالف بين الشعوب واألقوام‪ ،‬قال تعالى‪ِ﴿ :‬ل ُك ٍّل َج َعْلَن ا ِم ْن ُك ْم‬
‫ِِ‬ ‫الناس أ َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين﴾‪ ،‬وأوصى القرآن في‬ ‫ون ُم ْختَلف َ‬
‫ُمةً َواح َدةً َوال َي َازلُ َ‬ ‫ُّك لَ َج َع َل َّ َ‬
‫اء َرب َ‬ ‫ش ْر َعةً َو ِم ْنهَ ً‬
‫اجا﴾‪ ،‬وقال‪َ ﴿ :‬ولَ ْو َش َ‬
‫اس ُح ْس ناً﴾‪،‬‬ ‫آي ات كث يرة بوج وب بن اء عالق ات حس نة بين المس لمين وبين الن اس‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬وقُولُ وا ِل َّلن ِ‬
‫َ‬
‫ومثل هذه اآليات كثيرة في القرآن الكريم فهو يأمر بالقول الحسن للناس بغض النظر عن أديانهم وألوانهم‬
‫وقبائلهم‪ ،‬ثم يأمر باإلحسان إلى األرض وهي أمنا جميعاً بغض النظر عن أي انتماء ديني أو مذهبي‪.‬‬

‫وهذه الروح من االنفتاح على العالم وبناء العالقات اإليجابية هي في الواقع روح اإلسالم ورسالته األولى‪،‬‬
‫ولكن يجب القول هنا بأن عدداً من فقهاء السلف لم يقبلوا هذا اللون من العالقات الودية واختاروا تصنيف‬
‫الع الم إلى فسطاطين اث نين دار إس الم ودار كف ر‪ ،‬أو دار إس الم ودار حرب (‪ ،)5‬وه ذا الموقف الفقهي تتبن اه‬
‫الي وم التنظيم ات الجهادي ة ال تي ال ت رى في الع الم إال ع دواً ينبغي قتال ه‪ ،‬وهي ت رفض منط ق العالق ات‬
‫الدبلوماسية بكل أشكاله‪ ،‬وتطالب بمواجهة عسكرية مع العالم حتى يدخل في اإلسالم‪.‬‬

‫وال بد من القول أن ما روي عن كبار الفقهاء من آراء متشددة إنما كان نتيجة ظروف سياسية خاصة إب ان‬
‫الحروب الصليبية على وجه التحديد التي اشترك فيها الغرب في محاربة اإلسالم‪ ،‬وأدت إلى تعاظم الريب‬
‫وانهيار فرص الحوار والدبلوماسية‪.‬‬

‫ويق دم ه ؤالء م وقفهم على أس اس أن ه خي ار الس لف في العالق ات الدولي ة‪ ،‬ويش يرون إلى اختي ار اإلم ام أبي‬
‫حنيفة وكذلك فقهاء كثير من المالكية والحنابلة في تقسيم العالم إلى دار إسالم ودار حرب‪.‬‬

‫وقد ثار الجدل قديماً في طبيعة العالقة بين الدولة اإلسالمية والدول األخرى وهل األصل في هذه العالق ات‬
‫السلم أم الحرب‪ ،‬وقد كتبت دراسات كثيرة لتأصيل هذه المسألة واستعرض أدلة الفريقين‪ ،‬ومنها ما حققته‬

‫‪ 5‬انظر مثالً كتاب المغني البن قدامة المقدسي ج‪ ،9‬ص ‪ 210‬وفيه ان الجهاد قتال الناس إلدخالهم في الدين الحق وأمر بغزو أهل الكتاب‬
‫والمجوس بدون إنذار أو بالغ‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫مجلة الجامعة اإلسالمية بالمدينة المنورة‪ ،‬وحاصل القول انه ﺍﺨﺘﻠﻑ الفقهاء ﻓﻲ ﺃﺼل ﺍﻟﻌﻼﻗﺔ ﺒﻴﻥ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻥ‬
‫ﻭﻏﻴﺭﻫﻡ ﻋﻠﻰ ﺜﻼﺜﺔ ﺃﻗﻭﺍل‪:‬‬

‫"ﺍﻟﻘﻭل‪ K‬ﺍﻷﻭل‪ :‬ﺫﻫﺏ كثير من الفقهاء ﻤﻥ ﺍﻟﺤﻨﻔﻴﺔ ﻭﺍﻟﻤﺎﻟﻜﻴﺔ ﻭﺍﻟﺸﺎﻓﻌﻴﺔ ﻭﺍﻟﺤﻨﺎﺒﻠﺔ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﺍﻷﺼـل ﻓـﻲ ﻋﻼﻗﺔ‬
‫ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻥ ﺒﻐﻴﺭﻫﻡ ﺍﻟﺤﺭﺏ‪ ،‬ﻭﺇﻟﻰ ﻫﺫﺍ ﺍﻟﺭﺃﻱ ﺫﻫﺏ ﻋﺩﺩ ﻤﻥ العلماء ﺍﻟﻤﻌﺎﺼـﺭﻴﻥ ﻤـﻨﻬﻡ ﺴﻴﺩ ﻗﻁﺏ‪ ،‬ﻭﺼﺎﻟﺢ‬
‫ﺍﻟﻠﺤﻴﺩﺍﻥ‪ ،‬ﻭﺃﺒﻭ ﺍﻷﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﻭﺩﻭﺩﻱ‪.‬‬

‫ورأى أصحاب هذا القول أن تشريع الجهاد واألمر بالنفير في سبيل اهلل لمحاربة الكفار‪ ،‬واألمر باالستعداد‬
‫لمواجهة الكفار بالقوة ورباط الخيل يجعل األصل هو الحرب‪ ،‬وأن السلم استثناء يقدر بقدره‪.‬‬

‫ﺍﻟﻘﻭل ﺍﻟﺜﺎﻨﻲ‪ :‬ﺫﻫﺏ ﺒﻌﺽ الفقهاء ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﺃﺼل ﺍﻟﻌﻼﻗﺔ ﺒﻴﻥ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻥ ﻭﻏﻴﺭﻫﻡ ﻫـﻭ ﺍﻟـﺴﻠﻡ‪ ،‬ﻭﺃﻥ ﺍﻟﺤﺭﺏ ﺃﻤﺭ‬
‫ﻁﺎﺭﺉ ﻻ ﻴﻠﺠﺄ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﺇﻻ ﻋﻨﺩ االعتداء ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻥ ﺃﻭ ﻅﻠﻤﻬﻡ ﺃﻭ ﻓﺘﻨﺘﻬﻡ ﻋـﻥ ﺩﻴـﻨﻬﻡ‪ ،‬ﻭﻗﺩ ﺫﻫﺏ ﺇﻟﻰ ﺫﻟﻙ‬
‫ﺍﻟﺜﻭﺭﻱ ﻭﺍﻷﻭﺯﺍﻋﻲ ﻭﺍﻟﻜﻤﺎل ﺒﻥ ﺍﻟﻬﻤﺎﻡ ﻭﺍﺒﻥ ﺘﻴﻤﻴﺔ ﻭﺍﺒﻥ ﺍﻟﻘﻴﻡ‪ ،‬ﻭﻤـﻥ العلماء ﺍﻟﻤﻌﺎﺼﺭﻴﻥ ﺍﻟﺩﻜﺘﻭﺭ ﻭﻫﺒﺔ‬
‫ﺍﻟﺯﺤﻴﻠﻲ‪ ،‬ﻭﺍﻟﺸﻴﺦ ﻤﺤﻤﺩ ﺃﺒﻭ ﺯﻫﺭﺓ ﻭﻋﺒﺩ ﷲ ﻏﻭﺸﺔ ﻭﻤﺤﻤـﻭﺩ ﺸـﻠﺘﻭﺕ ﻭﻋﺒﺩ ﺍﷲ ﺒﻥ ﺯﻴﺩ ﺁل ﻤﺤﻤﻭﺩ ﻭﻏﻴﺭﻫﻡ‪.‬‬

‫ﺍﻟﺜﺎﻟﺙ‪ :‬إن ﻋﻼﻗﺔ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻥ ﺒﻐﻴﺭﻫﻡ ﻤﻥ ﺍﻷﻤﻡ ﻋﻼﻗﺔ ﺩﻋﻭﺓ ﺘﺘﻨﻭﻉ ﺤﺴﺏ ﺍﻟﻅﺭﻭﻑ ﻭﺍﻷﺤﻭﺍل ﺘﺒﻌﺎً‬ ‫ﺍﻟﻘﻭل‪KKKKKKKKK‬‬
‫ﻟﻠﻤﺼﻠﺤﺔ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ﻷﻫل ﺍﻷﺭﺽ ﺠﻤﻴﻌﺎً‪ ،‬ﻓﻘﺩ ﺘﻜﻭﻥ ﻋﻼﻗﺔ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻥ ﺒﻐﻴﺭﻫﻡ ﻋﻼﻗﺔ ﺴـﻠﻡ ﻗﺒـل ﺇﺒﻼﻏﻬﻡ ﺍﻟﺩﻋﻭﺓ‬
‫ﺃﻭ أثناء ﺘﺒﻠﻴﻐﻬﺎ‪ ،‬ﻭﺇﺫﺍ ﺘﺠﺎﻭﺒﺕ ﺍﻷﻤﻡ ﻏﻴﺭ ﺍﻹﺴﻼﻤﻴﺔ ﻤﻊ ﺍﻟﺩﻋﻭﺓ‪ ،‬ﻭﻗﺩ ﺘﻜﻭﻥ ﻋﻼﻗـﺔ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻥ ﺒﻐﻴرهم ﻋﻼﻗﺔ‬
‫ﺤﺭﺏ ﺒﻌﺩ ﺇﺒﻼﻏﻬﻡ ﺍﻟﺩﻋﻭﺓ‪ ،‬ﻭﻋﻨﺩﻤﺎ ﺘﻭﻀﻊ ﺍﻟﻌﻘﺒﺎﺕ ﺃﻤﺎﻡ ﺘﺒﻠﻴﻐﻬﺎ" (‪.)6‬‬

‫وال يخفي ك اتب ه ذه السطور ميل ه إلى الق ول الث اني الذي اخت اره ش يخ اإلس الم ابن تيمي ة واإلم ام الثوري‬
‫واألوزاعي وابن القيم وآخ رون‪ ،‬وه و أن األص ل في عالق ات األم ة اإلس المية بغيره ا من األمم إنم ا هي‬
‫السلم‪ ،‬وقد دلت على ذلك آيات ونصوص كثيرة‪ ،‬في الكتاب والسنة‪ ،‬منها قوله تعالى‪:‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫َّ‬ ‫﴿ َوإِ ْن َجَن ُحوا ِل َّ‬


‫لسْلِم فَ ْ‬
‫اجَن ْح لَهَا َوتََوك ْل َعلَى الله إَّنهُ ُه َو السَّميعُ اْل َعل ُ‬
‫يم﴾(‪.)7‬‬ ‫‪‬‬
‫ان ِإَّنهُ لَ ُك ْم َع ُد ٌّو‬
‫طِ‬ ‫الس ْلِم َكافَّةً واَل تَتَّبِع وا ُخطُ و ِ‬
‫ات َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫آمُن وا ْاد ُخلُ وا ِفي ِّ‬ ‫َِّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ين َ‬‫وقوله تعالى‪َ﴿ :‬ياأَيُّهَ ا الذ َ‬ ‫‪‬‬
‫ين﴾(‪.)8‬‬ ‫ُمبِ ٌ‬

‫‪ 6‬ﻤﺠﻠﺔ ﺍﻟﺠﺎﻤﻌﺔ ﺍﻹﺴﻼﻤﻴﺔ ‪ -‬المدينة المنورة‪ ،‬ﺍﻟﻤﺠﻠﺩ‪ ،19‬ﺍﻟﻌﺩﺩ ﺍﻟﺜﺎﻨﻲ‪ ،‬ﺹ‪ –379‬ﺹ‪ 417‬ﻴﻭﻨﻴﻭ ‪ ،2011‬بحث ﺩ‪ .‬ﻤﺤﻤﺩ ﻋﻠﻲ ﺴﻠﻴﻡ‬
‫ﺍﻟﻬﻭﺍﺭﻱ‬

‫‪ 7‬سورة األنفال ‪61‬‬


‫‪ 8‬سورة البقرة ‪208‬‬

‫‪18‬‬
‫ت ُم ْؤ ِمناً﴾(‪.)9‬‬ ‫ومنها قوله تعالى‪َ ﴿ :‬والَ تَقُولُوا ِل َم ْن أَْلقَى ِإلَْي ُك ْم َّ‬
‫السالَ َم لَ ْس َ‬ ‫‪‬‬
‫آمَّنا بِالَِّذي‬ ‫ِ‬
‫ظلَ ُم وا م ْنهُ ْم َوقُولُ وا َ‬ ‫ين َ‬ ‫اَّل َِّ‬
‫َح َس ُن ِإ الذ َ‬ ‫اب ِإاَّل بِ الَّتِي ِه َي أ ْ‬ ‫َه َل اْل ِكتَ ِ‬ ‫وقول ه تع الى‪﴿ :‬تُ َج ِادلُوا أ ْ‬ ‫‪‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٰ‬ ‫ٰ‬
‫ون﴾(‪.)10‬‬ ‫ُنز َل ِإلَْي ُك ْم َوإِلَهَُنا َوإِلَهُ ُك ْم َواح ٌد َوَن ْحن لهُ ُم ْسل ُم َ‬ ‫ُنز َل ِإلَْيَنا َوأ ِ‬
‫أِ‬
‫اعتََزلُ ْو ُك ْم َفلَ ْم ُيقَاتِلُ ْو ُك ْم َوأَْلقَ ْوا ِإلَْي ُك ُم َّ‬
‫السلَ َم فَ َما َج َع َل اهللُ لَ ُك ْم َعلَْي ِه ْم َسبِْيالً﴾(‪.)11‬‬ ‫وقوله تعالى‪﴿ :‬فَِإ ِن ْ‬ ‫‪‬‬

‫وال أعتق د أن ال ذين ذهب وا إلى الق ول األول أو الث الث يقص دون بالفع ل أن تبقى األم ة في حال ة ح رب م ع‬
‫الناس‪ ،‬وإ نما كانوا يتحدثون عن ظروف خاصة عاشتها الدعوة اإلسالمية في مواجهة أعداء طامعين‪ ،‬كما‬
‫جرى إبان الحروب الصليبية أو المغولية أو االستعمارية‪ ،‬عندما أكلتهم الناس عن قوس واحدة‪ ،‬وهو الحال‬
‫نفسه الذي سبق أن واجهته الرسالة بعد أن تم فتح مكة‪ ،‬واتفق العرب على غزو مكة‪ ،‬وأقبل المشركون‬
‫من ثقي ف وه وازن وغطف ان وحش دوا في وادي ح نين أربعين ألف اً للقض اء على اإلس الم واجتي اح مك ة‪،‬‬
‫وعندها نزلت آية السيف في سورة التوبة وغيرها من اآليات التي تأمر بالقتال وتدعو إلى مواجهة شاملة‬
‫مع قوى الكفر من المحاربين ومن يقف إلى جوارهم من أعداء اإلسالم‪.‬‬

‫والحقيقة أن هذا االختيار المنسوب لإلمام أبي حنيفة بقسمة العالم إلى دار إسالم ودار حرب‪ ،‬له اعتباراته‬
‫وضوابطه‪ ،‬وال يعني أبداً أن أبا حنيفة قصد إلى استعار الحرب بين المسلمين وشعوب األرض‪ ،‬بل كانت‬
‫عنده محض ثنائية توضيحية أراد من خاللها تمييز دار اإلسالم من سواها‪ ،‬بدليل أن فقه الحنفية أفرد في‬
‫فص والً متع ددة للعه د واألم ان والذم ة‪ ،‬وفقه ه رحم ه اهلل ط افح بالتس امح وال تراحم والحكم ة‪ ،‬ولكن ه ذا‬
‫الموق ف التص نيفي يق دم الي وم ت بريراً للفك ر الجه ادي التكف يري ال ذي ي دعو الن اس إلى حم ل الس الح وقت ال‬
‫اآلخر غير المسلم حتى يدخل في الدين الحق‪.‬‬

‫ويرى هؤالء أن األمر على مات عليه الرسول وأن كل ما ورد من نصوص الشريعة في إطار العالقات‬
‫الحسنة مع غير المسلمين والتعاون معهم فإنه منسوخ بآية السيف في سورة التوبة‪ ،‬وربما استدلوا بقول‬
‫السلف أن آية السيف نسخت جميع الموادعات‪ ،‬وفي نص آخر آية السيف نسخت مائة وأربعاً وعشرين آية‬
‫في كتاب اهلل(‪.)12‬‬

‫‪ 9‬سورة النساء ‪94‬‬


‫‪ 10‬سورة العنكبوت ‪46‬‬
‫‪ 11‬سورة النساء ‪90‬‬
‫‪ 12‬نواسخ القرآن البي الفرج بن الجوزي ج‪ 1‬ص ‪ ، 173‬وانظر كذلك الناسخ والمنسوخ لهبة هللا المقري ص ‪99‬‬

‫‪19‬‬
‫َن اللَّهَ َم َع‬ ‫ين َكافَّةً َكما ُيقاتِلُ َ‬
‫ون ُك ْم َكافَّةً َو ْ‬
‫اعلَ ُم وا أ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وآية السيف على المشهور هي قوله تعالى‪َ :‬وقاتلُوا اْل ُم ْش ِرك َ‬
‫ِ‬
‫اْل ُمتَّق َ‬
‫ين(‪.)13‬‬

‫ومن المعل وم أن األخ ذ بموق ف كه ذا يؤس س لع الم ق ائم على ال نزاع والخص ومة والح روب‪ ،‬ويتن افى م ع‬
‫مقاص د اإلس الم في نش ر المحب ة واإلخ اء‪ ،‬وف ق م ا أش ارت إلي ه اآلي ات البين ات‪َ ﴿ :‬و َم ا أ َْر َس ْلَناك ِإاَّل َر ْح َم ة‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫ِ ِ‬
‫لْل َعالَم َ‬

‫وال ينكر هؤالء ما في القرآن الكريم والسنة النبوية من نصوص التسامح والرحمة والتعامل اإليجابي مع‬
‫الناس‪ ،‬ولكنهم يعتبرون ذلك منسوخاً بآخر ما نزل من آيات سورة التوبة‪.‬‬

‫وفي الحقيقة فقد فند العلماء قديماً ما روي من أن آية السيف نسخت سبعين آية أو أكثر من ذلك‪ ،‬وقد حرر‬
‫اإلمام السيوطي ذلك في كتابه اإلتقان في علوم القرآن‪ ،‬مبيناً أن السلف ذكروا النسخ في غير المعنى الذي‬
‫استقر عند علماء الفقه واألصول‪ ،‬وكانوا يقصدون بالنسخ تقييد المطلق أو تخصيص العام‪ ،‬وبشكل أدق‬
‫فإن األمة في أول اإلسالم كانت منهية عن القتال حتى في إطار الدفاع عن النفس‪ ،‬وقد قضى ياسر وسمية‬
‫وغيرهم ا ش هداء على ي د المش ركين ولم ي ؤذن للرس ول وال للص حابة بال دفاع عن المستض عفين بالس يف‬
‫أوغيره من السالح‪ ،‬ونهى رسول اهلل سعداً عن رمي المشركين بالسهام‪ ،‬على الرغم من عدوانهم وأذاهم‪،‬‬
‫اص فَ ْح َعْنهُ ْم َو ُق ْل َس اَل ٌم﴾‪ ،‬وغيرها من نصوص‬
‫اص فَ ْح﴾‪﴿ ،‬فَ ْ‬
‫ف َعْنهُ ْم َو ْ‬
‫اع ُ‬
‫مستدالً بآيات العفو والرحمة‪﴿ :‬فَ ْ‬
‫العف و والرحم ة‪ ،‬ولكن اإلس الم اش تد ع وداً بع د ذل ك‪ ،‬ون زلت اآلي ات المحكم ات في مش روعية الجه اد‪،‬‬
‫وأصبحت داللة هذه اآلية على ترك الدفاع عن النفس ضد الظالمين منسوخة‪ ،‬ونزول آية السيف رفع داللة‬
‫آيات العفو على ترك الجهاد والدفاع عن النفس‪ ،‬وهو ما كان ممنوع اً على أفراد المسلمين وجماعتهم قبل‬
‫أن يصبح لهم دولة وقضاء وجيش وسلطان(‪.)14‬‬

‫ومن ج انب آخ ر فق د أطب ق العلم اء على أن الق ول بالنس خ يتطلب ش روطاً كث يرة أش هرها ثالث ة وهي أن‬
‫يتعذر الجمع بين النصين‪ ،‬وأن يكون الناسخ في قوة المنسوخ أو أقوى‪ ،‬وأن يعلم المتقدم والمتأخر ليصار‬
‫إلى الق ول بنس خ المت أخر( )‪ ،‬وذل ك كل ه غ ير متحق ق في م ا ي ذهبون إلي ه‪ ،‬والس يما أن الجم ع بين ه ذه‬ ‫‪15‬‬

‫النصوص ممكن وميسور‪ ،‬وال نقول بالنسخ إال عندما يتوفر نصان متناقضان ال يمكن قبول أحدهما دون‬
‫رد اآلخر‪.‬‬

‫‪ 13‬سورة التوبة ‪36‬‬


‫‪ 14‬انظر االتقان في علوم القرآن للسيوطي ج ‪ 1‬ص‪256‬‬
‫‪ 15‬المصدر نفسه‬

‫‪20‬‬
‫وهكذا فقد نزلت اآليات الكريمة في القرآن الكريم تنظم عالقة المسلمين بالناس على مستويات كثيرة‬
‫رصدتها في دراسة سابقة بسبع عشرة مستوى‪ ،‬ويمكننا مالحظة ذلك وتتبعه في القرآن الكريم حيث تبدأ‬
‫َّ ِ ‪16‬‬ ‫ِ َِِّ‬ ‫َِِّ‬
‫َّام الله﴾ ‪ ،‬ومثلها قوله تعالى‪﴿ :‬ال ِإ ْك َراهَ‬ ‫ون أَي َ‬ ‫ين ال َي ْر ُج َ‬
‫آمُنوا َي ْغف ُروا للذ َ‬
‫ين َ‬ ‫من مثل قوله تعالى‪ُ ﴿ :‬ق ْل للذ َ‬
‫ون بِأََّنهُ ْم ظُِل ُموا﴾‪ ،19‬ثم قوله‪:‬‬
‫ين ُيقَاتَلُ َ‬
‫ِ َِِّ‬
‫ين﴾ ‪ ،‬ثم قوله‪﴿ :‬أُذ َن للذ َ‬
‫‪18‬‬
‫ين﴾‪ ،17‬وقوله‪﴿ :‬لَ ُك ْم ِد ُين ُك ْم َوِلي ِد ِ‬ ‫ِفي ِّ‬
‫الد ِ‬
‫َ‬
‫ث ثَِق ْفتُ ُم ُ‬ ‫ين ُيقَاتِلُ َ‬
‫وهم﴾‪.21‬‬ ‫وه ْم َح ْي ُ‬ ‫﴿وقَاتِلُوْا ِفي سبِ ِ ِ ِ‬
‫ون ُك ْم﴾ ‪ ،‬ثم قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وا ْقتُلُ ُ‬ ‫يل اللّه الّذ َ‬
‫‪20‬‬
‫َ‬ ‫َ‬

‫وه ذه المس تويات كله ا كالم إلهي حكيم‪ ،‬ولك ل منه ا موقع ه وزمان ه ومكان ه‪ ،‬فم ا ن زل في س اعة المواجه ة‬
‫والجه اد من األم ر بالقت ال ال يلغي م ا ن زل في وقت الس لم‪ ،‬وال يلغي م ا ن زل في ح ق الج وار والعيش‬
‫المشترك مع غير المسلم ممن ال يروم سوءاً باإلسالم أهله‪....‬‬

‫وحتى ال نذهب في بحثنا هذا بعيداً‪ ،‬فإننا نكتفي بالوقوف عند البيان القرآني الصريح في سورة الممتحنة‬
‫الذي يصنف الناس على مستويات متعددة بحسب موقفهم من اإلسالم والمسلمين‪:‬‬

‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ين َولَ ْم ُي ْخ ِر ُجو ُكم ِّمن ِدَي ِار ُك ْم أَن تََب ُّر ُ‬ ‫ين لَ ْم ُيقَاتِلُو ُك ْم ِفي ِّ‬ ‫َِّ‬ ‫َّ‬
‫وه ْم َوتُ ْقسطُوا ِإلَْي ِه ْم ِإ َّن اللهَ‬ ‫الد ِ‬ ‫﴿ ال َي ْنهَا ُك ُم اللهُ َع ِن الذ َ‬
‫اه ُروا َعلَى‬ ‫ظ َ‬ ‫َخ َر ُج و ُكم ِّمن ِدَي ِار ُك ْم َو َ‬ ‫ين َوأ ْ‬ ‫ين قَ اتَلُو ُك ْم ِفي ال ِّد ِ‬ ‫َِّ‬ ‫َّ‬
‫ين‪ِ ،‬إَّن َم ا َي ْنهَ ا ُك ُم اللهُ َع ِن الذ َ‬
‫ِ ِ‬
‫ب اْل ُم ْقس ط َ‬ ‫ُي ِح ُّ‬
‫اد ْيتُم ِّم ْنهُم‬
‫ين َع َ‬ ‫َِّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِإ ْخ َرا ِج ُك ْم أَن تََولَّ ْو ُه ْم َو َمن َيتَ َولَّهُ ْم فَأ ُْولَئِ َ‬
‫ون‪َ ،‬ع َس ى اللهُ أَن َي ْج َع َل َب ْيَن ُك ْم َوَب ْي َن الذ َ‬ ‫ك ُه ُم الظال ُم َ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ِ‬
‫يم﴾(‪.)22‬‬ ‫ور َّرح ٌ‬ ‫َّم َو َّدةً َواللهُ قَد ٌير َواللهُ َغفُ ٌ‬

‫وأمام هذا النص القرآني الواضح فإنه ال مندوحة من القول بأن قسمة العالم إلى فسطاطين اثنين ال ثالث‬
‫لهما هي قسمة غير حكيمة وال مستقيمة‪.‬‬

‫وفي محاول ة لالق تراب من النص الق رآني الك ريم في توجيه ه لألم ة ح ول ش كل العالق ة م ع اآلخ رين‪ ،‬فق د‬
‫اخترت أن أضم هنا تطور الخطاب القرآني على سبع عشرة مرحلة‪ ،‬تدور بين العفو والمعاهدة والقتال‪،‬‬
‫ولكنه ا في النهاي ة تس تجيب للظ روف الموض وعية المحيط ة بتنزله ا فيم ا يتص ل بح ال األم ة ض عفاً وق وة‪،‬‬
‫وحال أعدائها من الموادعة أو المخاصمة أو المحاربة‪.‬‬

‫‪ 16‬سورة الجاثية ‪14‬‬


‫‪ 17‬سورة البقرة ‪256‬‬
‫‪ 18‬سورة الكافرون ‪4‬‬
‫‪ 19‬سورة الحج ‪39‬‬
‫‪ 20‬سورة البقرة ‪190‬‬
‫‪ 21‬سورة البقرة ‪192‬‬
‫‪22‬سورة الممتحنة ‪8‬‬

‫‪21‬‬
‫الزمان‬ ‫البيان‬ ‫اآلية‬ ‫م‬
‫مكية‬ ‫الغفران والتسامح مع غير المؤمنين‬ ‫َّام ٱللَّ ِه﴾‬
‫ون أَي َ‬ ‫ين الَ َي ْر ُج َ‬
‫ِ َِِّ‬
‫آمُنوْا َي ْغف ُروْا للذ َ‬‫ين َ‬
‫َِِّّ‬
‫﴿ ُقل للذ َ‬ ‫‪1‬‬
‫مكية‬ ‫الكف عن إساءاتهم واستهزائهم‬ ‫الم﴾‬
‫اصفَ ْح َع ْنهُ ْم َو ُق ْل َس ٌ‬ ‫﴿فَ ْ‬ ‫‪2‬‬
‫مكية‬ ‫حق أتباع كل دين باختيار ما يؤمنون به‬ ‫﴿لَ ُك ْم ِد ُين ُك ْم َوِلي ِد ِ‬
‫ين﴾‬ ‫‪3‬‬
‫َ‬
‫مكية‬ ‫االمتناع عن مهاجمة آلهتهم حتى نضمن‬ ‫ون اللَّ ِه فََي ُسبُّوا اللَّهَ َع ْد ًوا‬
‫ون ِم ْن ُد ِ‬ ‫َِّ‬
‫﴿ َوال تَ ُسبُّوا الذ َ َ ْ ُ َ‬
‫ع‬ ‫د‬ ‫ي‬ ‫ين‬ ‫‪4‬‬
‫حيادهم‬ ‫بِ َغ ْي ِر ِعْلٍم﴾‬
‫مكية‬ ‫إعالن الحرية الدينية‬ ‫ين﴾‬ ‫الد ِ‬ ‫﴿ال ِإ ْك َراهَ ِفي ِّ‬ ‫‪5‬‬
‫مدنية‬ ‫احترام الخيار االعتقادي والنوايا‬ ‫ت ُم ْؤ ِمناً﴾‬
‫السالَ َم لَ ْس َ‬ ‫﴿ َوالَ تَقُولُوا ِل َم ْن أَْلقَى ِإلَْي ُك ْم َّ‬ ‫‪6‬‬
‫مدنية‬ ‫تقسيم الناس بحسب خياراتهم‪ ،‬وإ قرار دار‬ ‫ين َولَ ْم‬ ‫ين لَ ْم ُيقَاتِلُو ُك ْم ِفي ِّ‬
‫الد ِ‬ ‫َِّ‬ ‫َّ‬
‫﴿ال َي ْنهَا ُك ُم اللهُ َع ِن الذ َ‬ ‫‪7‬‬
‫الحرب ودار العهد‬ ‫وه ْم َوتُ ْق ِسطُوا﴾‬ ‫َن تََب ُّر ُ‬ ‫ُي ْخ ِر ُجو ُك ْم ِم ْن ِدَي ِار ُك ْم أ ْ‬
‫مدنية‬ ‫ال عدوان على الشعوب والدول المسالمة‬ ‫اعتََزلُ ْو ُك ْم َفلَ ْم ُيقَاتِلُ ْو ُك ْم َوأَْلقَ ْوا ِإلَْي ُك ُم َّ‬
‫السلَ َم فَ َما َج َع َل‬ ‫﴿فَِإ ِن ْ‬ ‫‪8‬‬
‫اهللُ لَ ُك ْم َعلَْي ِه ْم َسبِْيالً﴾‬
‫مدنية‬ ‫اإلذن بالقتال ضد المعتدين‬ ‫ون بِأََّنهُ ْم ظُِل ُموا﴾‬ ‫ين ُيقَاتَلُ َ‬
‫ِ َِِّ‬
‫﴿أُذ َن للذ َ‬ ‫‪9‬‬
‫مدنية‬ ‫نقاتل من قاتلنا وال نعتدي‬ ‫ون ُك ْم َوال تَ ْعتَ ُدوا﴾‬ ‫ين ُيقَاتِلُ َ‬ ‫﴿وقَاتِلُوا ِفي سبِ ِ َّ ِ َِّ‬
‫يل الله الذ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫‪1‬‬
‫‪0‬‬
‫مدنية‬ ‫وجوب مقاتلة الجماعات الكتابية التي‬ ‫ون بِاللَّ ِه َواَل بِاْلَي ْوِم اآْل َ ِخ ِر َواَل‬
‫ين اَل ُي ْؤ ِمُن َ‬
‫ِ َِّ‬
‫﴿قَاتلُوا الذ َ‬ ‫‪1‬‬
‫رفضت االنضمام للدولة الناشئة حتى‬ ‫ق ِم َن‬
‫ين اْل َح ِّ‬ ‫يحِّرمون ما ح َّرم اللَّه ورسولُه واَل ي ِد ُين ِ‬
‫ون د َ‬ ‫َُ ُ َ َ َ َ ُ ََ ُ ُ َ َ َ‬ ‫‪1‬‬
‫يدخلوا في طاعة الدولة‬ ‫ٍ‬
‫اب َحتَّى ُي ْعطُوا اْل ِج ْزَيةَ َع ْن َيد َو ُه ْم‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫ين أُوتُوا اْلكتَ َ‬ ‫الذ َ‬
‫ون﴾‬ ‫ِ‬
‫صاغ ُر َ‬ ‫َ‬
‫مدنية‬ ‫نقاتل الكفار من الدول المجاورة إذا‬ ‫ون ُك ْم ِم َن اْل ُكفَّ ِار‬
‫ين َيلُ َ‬ ‫ِ َِّ‬
‫آمُنوا قَاتلُوا الذ َ‬ ‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫﴿َيا أَيُّهَا الذ َ‬ ‫‪1‬‬
‫تواطأوا على قتالنا‬ ‫ظةً﴾‬‫َوْلَي ِج ُدوا ِفي ُك ْم ِغْل َ‬ ‫‪2‬‬
‫مدنية‬ ‫نقاتل المشركين كافة إذا اتفقوا على قتالنا‬ ‫ين َكافَّةً َك َما ُيقَاتِلُ َ‬
‫ون ُك ْم َكافَّةً﴾‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿ َوقَاتلُوا اْل ُم ْش ِرك َ‬ ‫‪1‬‬
‫كافة‬ ‫‪3‬‬
‫مدنية‬ ‫نقاتلهم ولو لم يكونوا في ساحة المعركة‬ ‫ث ثَِق ْفتُ ُم ُ‬
‫وه ْم﴾‬ ‫وه ْم َحْي ُ‬
‫﴿ َوا ْقتُلُ ُ‬ ‫‪1‬‬
‫إذا سبق منهم العدوان والقتل‬ ‫‪4‬‬
‫الرقَ ِ‬ ‫ِ َِّ‬
‫مدنية‬ ‫نقاتلهم في ساحة المعركة دفاعاً عن أنفسنا‬ ‫اب﴾‬ ‫ب ِّ‬
‫ض ْر َ‬ ‫﴿فَِإ َذا لَقيتُ ُم الذ َ‬
‫ين َكفَ ُروا فَ َ‬ ‫‪1‬‬
‫‪5‬‬
‫السلم والموادعة أفضل عند اهلل حين تصح مدنية‬ ‫اجَن ْح لَهَا َوتََو َّك ْل َعلَى اللَّه﴾‬ ‫﴿ َوإِ ْن َجَن ُحوا ِل َّ‬
‫لسْلِم فَ ْ‬ ‫‪1‬‬
‫نواياهم في السلم‬ ‫‪6‬‬
‫مدنية‬ ‫الدعوة للسالم الشامل‬ ‫آمُنوا ْاد ُخلُوا ِفي ِّ‬
‫السْلِم َكافَّةً﴾‬ ‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫﴿َياأَيُّهَا الذ َ‬ ‫‪1‬‬

‫‪22‬‬
‫‪7‬‬

‫تنزل اآليات الكريمة كان وفق األحداث والظروف‬‫ومن خالل قراءة النصوص فإن من الواضح القول بأن ّ‬
‫ال تي تواجهه ا األم ة‪ ،‬وأن األوام ر القرآني ة إنم ا ك انت تختص بظ رف مح دد‪ ،‬وال ب د أن نفهمه ا في س ياق‬
‫سبب النزول الذي وردت به‪ ،‬وأن ندرك أن هذه النصوص جميعاً وإ ن كانت بصيغة العموم ولكنه من ب اب‬
‫العموم الذي أريد به الخصوص‪ ،‬والمطلق الذي أريد به المقيد‪ ،‬وهي قواعد واضحة عند علماء األصول‪،‬‬
‫وال يج وز إطالق التعميم فيم ا س بق ليس فق ط ألن ه كم ا يظن المتش ددون س يلغي العالق ات الودي ة م ع غ ير‬
‫المسلمين ولكن ألنه سيؤدي إلى التناقض وتعارض األدلة‪ ،‬والحق الذي ال شك فيه أن سائر هذه النص وص‬
‫تنزي ل حكيم من اهلل‪ ،‬وال س بب للق ول بنس خ بعض ها ببعض وإ نم ا العم ل به ا جميع اً ك ل في الظ رف ال ذي‬
‫تنزل فيه‪.‬‬

‫وهكذا فإن العالقات الودية مع الدول المسالمة في اإلسالم مؤسسة بنص القرآن الكريم‪ ،‬كما أن الجهاد ضد‬
‫المعتدين هو أيضاً أمر قرآني كريم‪.‬‬

‫وق د س بق اإلم ام الش افعي في تص نيف الع الم إلى قس مة ثالثي ة‪ :‬دار إس الم ودار ح رب ودار عه د‪ ،‬وربم ا‬
‫اس تخدم مص طلح دار أم ان أو دار مص الحة‪ ،‬وبه ذا التص نيف أك د اإلم ام الش افعي على وج ود بالد كث يرة‬
‫ليست من أرض اإلسالم‪ ،‬والناس فيها يحتكمون إلى أديان أخرى‪ ،‬أو ال يدينون بدين ولكن يحكم عالقتهم‬
‫بالمسلمين السلم وفق العهود والمواثيق التي يقبلها الطرفان‪.‬‬

‫وهكذا فقد استقر في الفقه اإلسالمي التحول إلى القسمة الثالثية في إطار العالقات الدولية(‪:)23‬‬

‫دار اإلسالم‬ ‫‪‬‬


‫دار الحرب‬ ‫‪‬‬
‫دار المعاهدة‬ ‫‪‬‬

‫فتكون دار اإلسالم هي األرض التي يعيش عليها المسلمون وتطبق فيها أحكام الشريعة‪ ،‬ودار الحرب هي‬
‫الدول ة ال تي تعلن الح رب على المس لمين وال تح ترم ش عائرهم ودينهم ون بيهم‪ ،‬وم ا تبقى بع د ذل ك فه و دار‬
‫عهد يحكمها طبيعة االتفاق الذي تبرمه الدولة اإلسالمية مع هذه الدولة في إطار العالقات الدولية‪ ،‬وهذه‬

‫انظر الحاوي في الفقه الشافعي للماوردي ‪ ،‬ج ‪ ،14‬ص ‪267‬‬ ‫‪23‬‬

‫‪23‬‬
‫العالق ات واالتفاقي ات ت دور في فل ك المب اح ال ذي ت رك ل ولي األم ر أن يتص رف في ه من خالل مؤسس ات‬
‫الشورى والحكم التي تتبناها األمة‪.‬‬

‫وقد أفردت موسوعة الفقه اإلسالمي وأدلته تحرير هذا الموقف الفقهي تحت عنوان االعتراف ونتائجه‪:‬‬

‫"إن تنظيم المجتمع الدولي الحاضر تنظيم حديث لم يكن على هذا النحو وقت ظهور اإلسالم وفي عصور‬
‫دوله المتتابعة كم ا هو معروف‪ ،‬ل ذا كان مرج ع تفص يل األحكام الدولي ة إلى الق انون الدولي العام‪ ،‬إال أن‬
‫المبادئ األصلية واألخالق الدولية السائدة مقررة بوضوح في اإلسالم‪.‬‬

‫وبما أن اإلسالم ينشد في الحقيقة الوصول إلى سلم مستقرة في عالقاته مع الشعوب األخرى على أساس‬
‫أح د أم رين‪ :‬إم ا ال دخول في اإلس الم‪ ،‬أو المعاه دة واألم ان‪ ،‬ف إن االع تراف بوج ود الدول ة األخ رى غ ير‬
‫المس لمة (دار الح رب) أم ر ال م انع من ه استص الحاً في مب دأ اإلس الم وفقه ه المتمث ل في تقس يم الع الم إلى‬
‫دارين‪ :‬دار إسالم ودار حرب‪ ،‬ألن دار الحرب تشمل كل الدول غير المسلمة التي كانت في األصل غير‬
‫مسالمة للمسلمين وال متعاهدة معهم‪ ،‬فإذا تمت المعاهدة السلمية بين الدولة اإلسالمية وغيرها من دول دار‬
‫الحرب‪ ،‬أو التزمت هذه الدول كلها ميثاق اً واحداً ينص على احترام السلم واألمن الدوليين‪ ،‬وتحريم التدخل‬
‫في شؤون الدول األخرى كان ذلك اعتراف اً ضمنياً من الدولة اإلسالمية بغيرها‪ ،‬فض الً عن أن االعتراف‬
‫يصدر في الغالب صراحة بإرادة حرة‪.‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫َّ‬ ‫وهذا موافق لقوله تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ ن َجَن ُحوْا ِل َّ‬
‫لسْلِم فَ ْ‬
‫اجَن ْح لَهَا َوتََوك ْل َعلَى اللّه إَّنهُ ُه َو السَّميعُ اْل َعل ُ‬
‫يم﴾(‪.)24‬‬

‫وبن اء علي ه يج وز للدول ة المس لمة االع تراف بدول ة غ ير مس لمة اعتراف اً علني اً أو ض منياً حقوقي اً أو واقعي اً‬
‫بحسب الحال‪.‬‬

‫وكون الدعوة اإلسالمية ذات نزعة عالمية عن طريق الحكمة والموعظة الحسنة‪ ،‬وبالتالي امتداد سلطان‬
‫الدولة اإلسالمية مع انتشارها في المعمورة‪ :‬ال يعني تجاهل ظروف اإلمكان وضرورات الواقع ومصلحة‬
‫السالم التي تجعل من دولة اإلسالم إحدى دول هذا العالم التي تتبادل بينها أمر االعتراف لفض منازعاتها‬
‫على أساس سلمي يتمشى مع منطق اإلسالم ووحي رسالته(‪.)25‬‬

‫‪ 24‬االنفال ‪61‬‬
‫‪ 25‬الفقه اإلسالمي وأدلته‪ ،‬د‪ .‬وهبة الزحيلي ج ‪ ،8‬ص ‪448‬‬

‫‪24‬‬
‫وق ال علي بن أبي ط الب رض ي اهلل عن ه‪" :‬الت دفعن ص لحاً دع اك إلي ه ع دوك وهلل في ه رض ا ‪ ..‬ف إن في‬
‫الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك‪ ،‬وأمن اً لبالدك ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه فان‬
‫العدو ربما قارب ليتغفل"(‪.)26‬‬

‫على أنه يجب القول بأن الدبلوماسية ليست متخصصة بالعالقات الودية‪ ،‬بل تشتد إليها الحاجة حين تكون‬
‫العالق ات مض طربة ومت وترة‪ ،‬ب ل إن ني أج زم أن الغاي ة العلي ا للعم ل الدبلوماس ي هي النج اح في فض‬
‫المنازعات‪ ،‬ومنع وقوع الحرب‪ ،‬وتعزيز فرص السالم‪.‬‬

‫ونستميح القارئ عذراً من هذا التوسع والتفصيل في مسألة القول بالنسخ في آيات العفو والرحمة والسلم‪،‬‬
‫ألن ذلك أمر جوهري في بناء عالقات دولية صحيحة بين المسلمين وبين شعوب العالم‪.‬‬

‫مصطلح الدبلوماسية في التراث اإلسالمي‪:‬‬

‫لم ت رد كلم ة الدبلوماس ية في اآلداب اإلس المية‪ ،‬وك ان الفقه اء يع برون عن المعرف ة الدبلوماس ية بعن وان‬
‫الس ير‪ ،‬ومن أق دم م ا كتب في القض ايا الدبلوماس ية كت اب الس ير الكب ير والص غير وق د وض عهما محم د بن‬
‫الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة والمتوفى عام ‪ 804‬م‪ ،‬وكان مقرب اً من الخليفة هارون الرشيد وال شك‬
‫أنه أفاد من قربه للبالط بتقديم خبرات متقدمة في الحقل الدبلوماسي‪ ،‬وقد شرح السير الكبير شمس األئمة‬
‫السرخس ي الفقي ه الحنفي الش هير المت وفى ع ام ‪1090‬م‪ ،‬وتب ع ذل ك سلس لة كتب تتح دث في آداب المل وك‬
‫وأنظمة الحكم سنأتي بعد قليل على تفصيل القول فيها‪.‬‬

‫ولكن الدبلوماسية في العصر الذهبي لإلسالم وإ ن غابت مصطلحاُ فقد كانت حاضرة ومؤثرة‪ ،‬فقد اعترفت‬
‫األم ة اإلس المية بوج ود ال دول المج اورة ونش أت عالق ات حقيقي ة بين الدول ة اإلس المية الناش ئة في عص ر‬
‫الرس ول وبين ه ذه ال دول‪ ،‬وفي عه د الراش دين والخالف ة التالي ة وتع ززت فك رة التواص ل م ع دول غ ير‬
‫محاربة‪ ،‬وبناء عالقات دبلوماسية حقيقية معها‪.‬‬

‫نهاية األرب‪ ،‬أحمد بن عبد الوهاب النويري ج‪ ،2‬ص ‪168‬‬ ‫‪26‬‬

‫‪25‬‬
‫وبناء على ذلك ﻴﻤﻜﻥ ﻟﻠﺒﺎﺤﺙ ﺘﻌﺭﻴﻑ ﺍﻟﺩﺒﻠﻭﻤﺎﺴﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻹﺴﻼﻡ ﺒﺄﻨﻬﺎ ﻤﺠﻤﻭﻋﺔ ﻤﻥﺍﻟﻘﻭﺍﻋﺩ ﻭﺍﻷﺤﻜﺎﻡ ﺍﻟﺘﻲ ﺘﺘﻔﻕ‬
‫ﻤﻊ اﻟﺸﺭﻴﻌﺔ ﺍﻹﺴﻼﻤﻴﺔ ﻭﺍﻟﺘﻲ ﺘﻌﺒﺭ ﻋﻥ ﺭﻏﺒﺔ ﺍﻟﺩﻭﻟﺔ ﻓﻲ ﺘﻌﺎﻤﻠﻬﺎ ﻤﻊ ﻏﻴﺭﻫﺎ ﻤﻥ ﺍﻟﺩﻭل ﺒﻤـﺎ ﻴﺤﻘﻕ ﻤﺼﻠﺤﺘﻬﺎ‬
‫ﻓﻲ ﺠﻤﻴﻊ ﺍﻷﺤﻭﺍل ﻭﺍﻟﻅﺭﻭﻑ(‪ .)27‬‬

‫وال ش ك أن الدبلوماس ية به ذا المع نى لم تف رد ببحث مس تقل ولكنه ا وردت في تض اعيف بح وث كث يرة‪،‬‬


‫ويمكن التماسها في الفقه االسالمي في أبواب كثيرة‪ ،‬منها باب المعامالت‪ ،‬وأحكام الجهاد‪ ،‬والمعاهدات‪.‬‬

‫وربم ا ك ان أك ثر ب اب ش رح في ه الفقه اء ه ذه المس ألة ه و ب اب الذم ة والعه د‪ ،‬فق د أفاض وا في الق ول ح ول‬
‫شروط منح الذمة للمعاهدين والمستأمنين والفرق بين أهل الحرب وأهل العهد وأهل الذمة‪.‬‬

‫وق د اس تخدم الفقه اء كلم ة الحكم ة مك ان كلم ة الدبلوماس ية كم ا اس تخدموا لف ظ أدب المل وك وآداب الس لوك‬
‫وسير الملوك‪ ،‬وآداب المعاهدين‪ ،‬وشرائط العهد‪ ،‬وغيرها من المصطلحات‪.‬‬

‫وعرفت الحكمة بأنها‪ :‬فعل ما ينبغي على الشكل الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي‪.‬‬

‫كم ا عرفه ا آخ رون بق ولهم‪ :‬هي معرف ة االش ياء على م ا هي علي ه في الواق ع حكم ا وأم راً‪ ،‬ثم العم ل‬
‫بمقتضاها‪.‬‬

‫وال يمكن اعتبار ذلك تعريفا للدبلوماسية‪ ،‬فهي تعريفات عامة ال تتناول مباشرة العمل الدبلوماسي‪ ،‬ولكن‬
‫يمكن اعتبار الدبلوماسية فرعاً من الحكمة‪ ،‬أو هي الحكمة المتصلة بسياسة الناس والعالقات الدولية‪ ،‬وبهذا‬
‫المعنى سنجد فقهاً غنياً يقدم كثيراً من جوانب المعرفة في هذا السياق‪.‬‬

‫الدبلوماسية في العهد النبوي‪:‬‬

‫اس َب ِش يراً َوَن ِذيراً﴾ وأدرك‬


‫اك ِإاَّل َكافَّةً لِّ َّلن ِ‬
‫منذ فجر‪ ‬اإلسالم‪ ‬أعلن القرآن الكريم عالمية الرسالة ﴿ َو َم ا أ َْر َس ْلَن َ‬
‫الناس أن اإلسالم رسالة إخاء إنساني‪ ،‬هدفها إعمار األرض وبناء الحياة على أساس من التعارف والتعاون‬

‫‪ 27‬بحث الدكتور ابراهيم ابو جريبان نشرته مجلة جامعة دمشق للعلوم االقتصادية والسياسية المحكمة‪ ،‬المجلد ‪ ،24‬العدد االول لعام‬
‫‪ ،2008‬ص ‪616‬‬

‫‪26‬‬
‫والتكافل‪ ،‬وتعززت‪ ‬في‪ ‬التوجيه والممارسة إرادة تأسيس‪ ‬بناء عالقات دولية صحيحة‪ ،‬تنظمها قيم العدالة‬
‫والمساواة التي قررتها مبادئ‪ ‬اإلسالم‪ ‬الكبرى‪.‬‬

‫وقد قدم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم خالل حياته الكريمة فقه اً دبلوماسياً غني اً من خالل بناء عالقات‬
‫مسؤولية م ع الملوك حول الجزي رة العربي ة‪ ،‬كم ا عقد أوث ق الص الت بزعم اء القبائ ل في جزي رة الع رب‪،‬‬
‫وحمل معهم مسؤولية التعاون لبناء الدولة على أرض جزيرة العرب بعد أن عاش العرب قرون اً نهب اً لكل‬
‫ط امع‪ ،‬يتن اوب على اس تعمارهم الش رق الفارس ي والغ رب ال رومي‪ ،‬وتمكن ع بر كف اح دبلوماس ي ص احبته‬
‫إرادة حقيقي ة في بن اء الدول ة بك ل الوس ائل المتاح ة من ق درات مالي ة وعس كرية واجتماعي ة‪ ،‬ح تى ص ارت‬
‫الدولة العربية مستعدة لترث الحضارات التاريخية في العالم القديم خالل أقل من عشر سنوات‪.‬‬

‫وكذك فإن السيرة النبوية طافحة في بيان النجاحات التي حققها رسول اهلل سواء في سفارات السلم أو في‬
‫س فارات الح رب‪ ،‬وس واء في عالق ات الوف اق أو عالق ات المواجه ة‪ ،‬وهي تق دم ال دليل المنطقي على أن‬
‫األصل في عالقة الدولة اإلسالمية بالعالم من حولها هو التوازن واالعتدال والمصالح المتبادلة‪ ،‬واحترام‬
‫القيم اإلنسانية وأن النبي الكريم استخدم أرقى فنون الدبلوماسية لحل النزاعات وقطع أسباب الحروب‪.‬‬

‫وعلى الرغم من طبيعة المواجهة الشديدة التي لقيتها الرسالة في أيامها األولى من قبل الوثنية العربية‪ ،‬ثم‬
‫المواجه ة المباش رة م ع اإلمبراطوري ة الفارس ية والبيزنطي ة‪ ،‬وم ا ص احب ذل ك من ح روب ونزاع ات‪ ،‬ف إن‬
‫المسلمين نجحوا في التأسيس لعالقات دبلوماسية متوازنة‪ ،‬تعتمد مبدأ العالقات السلمية بين الدول‪ ،‬وتوفر‬
‫فرص اً مس تمرة لح ل النزاع ات ب الطرق الس لمية‪ ،‬وبن اء عالق ات دولي ة مس ؤولة‪ ،‬وتس هم في حماي ة العيش‬
‫المشترك وحسن الجوار‪.‬‬

‫ومنذ فجر اإلسالم أقام النبي صلى اهلل عليه وسلم عالقات دبلوماسية ناجحة مع النجاشي ملك الحبشة ومع‬
‫المق وقس مل ك مص ر وتب ادل معهم ا اله دايا والوف ود‪ ،‬وأق ام عالق ات متين ة م ع نص ارى نج ران وج يزان‪،‬‬
‫وكذلك مع قبائل وثنية شهيرة كخزاعة والملك أكيدر بن عبد الملك الكندي وعرب الحيرة من المناذرة‪.‬‬

‫ويمكن رصد طبيعة العالقات التي حققها النبي الكريم في الحقل الدبلوماسي في األنواع التالية‪:‬‬

‫معاهدات حسن جوار وصداقة كما في حلفه مع النجاشي‪.‬‬ ‫‪‬‬


‫معاهدات تحالف استراتيجي كما في حلف خزاعة‪ ،‬وحلفه مع األوس والخزرج يوم العقبة‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫ودان والعشيرة ودومة‪.‬‬
‫معاهدات عدم اعتداء كما في ّ‬ ‫‪‬‬

‫‪27‬‬
‫معاهدات هدنة كما في صلح الحديبية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫معاهدات نتج عنها اعتراف دبلوماسي وسياسي كما في صلح الحديبية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫معاهدات سالم كما في معاهدة نصارى نجران‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫الزواج الدبلوماسي وأثره في المصالحات بين القبائل‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫وس نأتي على تفص يل ج وانب مهم ة في الدبلوماس ية النبوي ة الحكيم ة خالل فص ول الكت اب‪ ،‬وبوج ه خ اص‬
‫خالل س فاراته الناجح ة ال تي اخت ار له ا أفض ل الدبلوماس يين وأش رف على أدائهم‪ ،‬ونحي ل هن ا إلى كت اب‬
‫ال تراتيب اإلداري ة للدول ة النبوي ة للعالم ة عب د الحي الكت اني ال ذي أف رد فص والً طويل ة لش رح الج وانب‬
‫الدبلوماسية في سيرة النبي الكريم‪ ،‬واألصول الدبلوماسية التي علمها للناس واستقرت في عرف العالقات‬
‫الدولية من بعده(‪.)28‬‬

‫كما تجدر اإلشارة إلى أن النبي الكريم حقق أيض اً مكاسب دبلوماسية مهمة عبر ما اصطلح على تسميته‬
‫ب الزواج السياس ي‪ ،‬وق د ك ان ه ذا الل ون من ال زواج ش ائعاً في العص ور الوس طى‪ ،‬ويجب الق ول إن الن بي‬
‫الك ريم لم يلج أ إلى ه ذا الل ون من ال زواج أب داً في حي اة خديج ة رض ي اهلل عنه ا وهي أم أوالده وش ريكة‬
‫حياته‪ ،‬ولكن في إطار قيادة الدولة في المدينة‪ ،‬فقد تزوج مرات متعددة‪ ،‬وكان لكثير من هذا الزواج تأثير‬
‫مباشر في الصلح بين القبائل العربية أو تخفيف غلواء األحقاد والكراهية‪ ،‬فمن ذلك زواجه برملة بنت أبي‬
‫سفيان وهو زعيم المشركين في قريش‪ ،‬وكانت رسالة مودة مباشرة لزعماء قريش للتخلي عن حربهم على‬
‫اإلس الم‪ ،‬وك انت خطوبته ا ع بر النجاش ي رس الة أخ رى في بي ان م دى انتش ار الرس الة بين المل وك وحاج ة‬
‫قريش إلى بناء عالقات جيدة مع الرسول والرسالة‪.‬‬

‫وكذلك كان لزواجه بجويرية بنت حيي بن أخطب زعيم اليهود بعد معركة خيبر أثر كبير في منع استرقاق‬
‫اليه ود الخاس رين بع د خي بر‪ ،‬وك ذلك ف إن زواج ه من جويري ة بنت الح ارث المص طلقي بع د حرب ه م ع‬
‫المصطلق كان له أيضاً أثر كبير في إنهاء الحرب مع المصطلق‪ ،‬وبدء مرحلة جديدة من العالقات تأسيس اً‬
‫على هذه المصاهرة الكريمة‪.‬‬

‫وفي عم رة القض اء فيم ا ك ان الن اس ي ؤدون مناس كهم ك ان رس ول اهلل مهتم اً بتحقي ق مفاج أة كب يرة وهي‬
‫زواج ه من ميمون ة بنت الح ارث وإ ص راره من جدي د على مص اهرة بي وت ق ريش الرافض ة لإلس الم‪ ،‬وق د‬
‫كان لهذا الزواج أيضاً تأثير كبير في تسارع القرشيين للدخول في اإلسالم‪.‬‬

‫السيرة النبوية‪ ،‬عبد الملك بن هشام‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪ ،646‬باب زواجه بميمونة‪ ،‬وكذلك باب زواجه برملة وجويرية‬ ‫‪28‬‬

‫‪28‬‬
‫إن التعبير المستخدم في كتب السير هو حكمة الرسول الكريم في زواجه ببنات زعماء العرب‪ ،‬وال بأس‬
‫بأن نقول إن المقصود بالحكمة هنا تحديداً هو هذا الجانب الدبلوماسي الذي عاد بفائدة كبيرة على الناس‬
‫والوفاق بين القبائل‪.‬‬

‫الدبلوماسية في التاريخ اإلسالمي‪:‬‬

‫ك ان على ف ترة الخلفاءالراش دين أن تنج ز االس تحقاق الكب ير المتمث ل في فتح بالد الع رب وتخليص ها من‬
‫المستعمر األجنبي فارسياً أو رومي اً‪ ،‬فقد كانت أرض العرب التاريخية في الشام والعراق تعاني من حكم‬
‫الغ ريب المس تعمر ال روم في الش ام والف رس في الع راق‪ ،‬وك ان تخليص أرض الع رب من ه ذا االس تعمار‬
‫واجب اً ديني اً ووطني اً‪ ،‬تق ره س ائر التش ريعات واألع راف‪ ،‬ول ذلك فق د اكتفى الخلف اء بإرس ال الرس ل إلبالغ‬
‫مواقف محددة ضد هؤالء المستبدين من قادة العجم والروم‪ ،‬وقد اشتهر هؤالء السفراء بالشجاعة والذكاء‬
‫والوض وح‪ ،‬واش تهر من ه ؤالء ربعي بن ع امر والنعم ان بن مق رن‪ ،‬والمغ يرة بن ش عبة‪ ،‬واألش عث بن‬
‫قيس‪ ،‬وفرات بن حبان‪ ،‬وعطارد بن حاجب‪ ،‬وحنظلة بن الربيع‪ ،‬وعمرو بن معد يكرب‪.‬‬

‫وخاللئ ذ لم تنش أ عالق ات دبلوماس ية ب المعنى المع روف م ع ه ذه ال دول ألنه ا ك انت دول احتالل‪ ،‬وك ان‬
‫المطلوب طردها من أرض العرب وليس إقامة العالقات الدبلوماسية معها‪ ،‬وهكذا كان‪.‬‬

‫ومع ذل ك فإنه يمكن رص د عدد من نشاطات الخلفاء الراش دين في الحق ل الدبلوماسي ومنها ما أش ار إليه‬
‫الدكتور بوعباه بقوله‪:‬‬

‫كم ا اهتم عم ر بن الخط اب بالرس ل وانش أ ديوان اً للرس ل‪ ،‬يتض من الرس ائل ال تي تأتي ه بواس طة الرس ل‪،‬‬
‫واعتمد وسيلة القضاء كأفضل وسيلة لتسوية المنازعات‪ ،‬ومثل العهد الذي منحه عمر بن الخطاب إلى أهل‬
‫القدس أفضل وثيقة تاريخية تمثل قواعد القانون الدولي اإلنساني(‪.)29‬‬

‫الدبلوماسية‪ ،‬للدكتور سعيد ابو عباه‪ ،‬ص ‪31‬‬ ‫‪29‬‬

‫‪29‬‬
‫وخص ص عثم ان بن عف ان مب الغ معين ة من بيت الم ال الس تقبال الرس ل األج انب وتغطي ة نفق ات إق امتهم‪.‬‬
‫وعلى الرغم من التطور الذي يشهده القانون الدولي في الوقت الحاضر إال أن الدولة ال تتحمل نفقات إقامة‬
‫البعثات األجنبية في بلدها ‪.‬‬
‫( (‪30‬‬

‫وبع د أن اكتم ل فتح أرض الع رب التاريخي ة‪ ،‬وتم إخ راج المس تعمر ال رومي والفارس ي منه ا‪ ،‬وع اد ال روم‬
‫إلى بالدهم ازده رت من جدي د الدبلوماس ية اإلس المية ونش أت الحاج ة لبن اء عالق ات حس ن ج وار م ع األمم‬
‫المج اورة‪ ،‬الس يما وأن ع دداً من الخلف اء ك انوا ال ي رون ال ذهاب بعي داً في الفتح‪ ،‬فق د اش تهر عن عم ر بن‬
‫الخط اب قول ه‪" :‬حس بنا أله ل الع راق س وادهم واأله واز‪ ،‬وددت ل و أن بينن ا وبين ف ارس جبالً من ن ار ال‬
‫نص ل إليهم وال يص لون إلين ا"(‪ ،)31‬ول وال تك رر اإلعت داء من ف ارس وإ ص رارها على إع ادة احتالل الع راق‬
‫لق امت عالق ات دبلوماسية ناجح ة بين الف رس وبين عم ر ولكن االعت داءات المتك ررة دفعت بجيوش جديدة‬
‫بقيادة األحنف بن قيس إلى بالد فارس‪.‬‬

‫وك ذلك اش تهر موق ف عم ر بن عب د العزي ز ال ذي ك ان يحب ذ انتش ار ال دعوة والهداي ة عن طري ق الحج ة‬
‫والبره ان أك ثر من الغلب ة والس لطان واش تهرت كلمت ه العظيم ة‪" :‬إن اهلل بعث محم داً هادي اً ولم يبعث ه‬
‫جابياً"(‪.)32‬‬

‫واش تهرت العالق ات الدبلوماس ية الناش طة بين الخلف اء األم ويين والبيزنط يين‪ ،‬ومن ه ؤالء عب د المل ك بن‬
‫مروان الذي أرسل القاضي شراحيل الشعبي وهو من مشاهير التابعين إلى اإلمبراطور البيزنطي جستنيان‬
‫الثاني وقد أثنى اإلمبراطور جستنيان على لباقة الشعبي وحكمته وحسن سفارته(‪.)33‬‬

‫كم ا اش تهر ه ارون الرش يد بنجاحات ه الدبلوماس ية ومنه ا معاه دة الس الم ال تي أرس اها م ع اإلم براطورة‬
‫البيزنطية أريني وما تالها من سالم متبادل‪ ،‬ثم غضبه بعد ذلك على خلفها اإلمبراطور نقفور الذي نقض‬
‫المعاهدة فغزاه هارون الرشيد واستولى على مدينة هرقله شرق القسطنطينية من أرض تركيا اليوم‪ ،‬وهي‬
‫ينص ب فيه ا اإلم براطور الروم اني‪ ،‬ثم ألزم ه الجزي ة‪ ،‬وتح ول ه ارون في عالقات ه‬
‫المدين ة ال تي ك ان َّ‬
‫الدبلوماس ية إلى األب اطرة الروم ان الغرب يين (الفرنج ة) ال ذين ب دأوا م ع ش ارلمان في آخن بألماني ا‪ ،‬وأرس ل‬
‫هارون الرشيد وفداً من المبعوثين‪ ،‬معهم الكثير من الهدايا واالبتكارات اإلسالمية العلمية – ومنها الساعة‬

‫‪ 30‬الدبلوماسية‪ ،‬للدكتور سعيد ابو عباه‪ ،‬ص ‪31‬‬


‫‪ 31‬تاريخ األمم والملوك ابن جرير الطبري‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪176‬‬
‫‪ 32‬المواعظ واالعتبار‪ ،‬المقريزي‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪97‬‬
‫‪33‬الوافي بالوفيات‪ ،‬للصفدي‪ ،‬ج ‪ ،5‬ص ‪323‬‬

‫‪30‬‬
‫الميكانيكية الدقاقة‪ -‬ومنها كذلك لعبة الشطرنج‪ ،‬وبدوره أبدى شارلمان وحاشيته إعجابهم بتلك الهدايا القيمة‬
‫وبما وصل إليه المسلمون‪ -‬وقتذاك‪ ،‬من اختراعات وحضارة وتقدم(‪.)34‬‬

‫وقد تطورت هذه العالقات فيما بعد وأصبح لها أصولها وتقاليدها‪ ،‬وبلغت حد التعاون االقتصادي والتعاون‬
‫في فض النزاع ات‪ ،‬كم ا تش ير إلى ذل ك رس الةً وجَّهه ا إم براطور الرومتيوفي ل ‪829‬م إلى الخليف ة العباس ي‬
‫المأمون بشأن تبادل األسرى وإ عادة الحياة االقتصادية بين المسلمين والروم‪ ،‬وجاء في تلك الرسالة‪" :‬وقد‬
‫عنا‪ ،‬ويكون كل واحد لكل‬ ‫كتبت إليك داعياً إلى المسالمة‪ ،‬راغباً في فضيلة المهادنة؛ لنضع أوزار الحرب َّ‬
‫ُ‬
‫واحد ولياًوحزباً‪ ،‬مع اتصال المرافق‪ ،‬والفسح في المتاجر‪ ،‬وفك المستأسر‪ ،‬وأمن َّ‬
‫الطريق"‪.‬‬ ‫ّ‬

‫ورد الخليف ة الم أمون مجيب اً طلب اإلم براطور الب يزنطي؛ ح تى تع ود الحي اة بين الطَّرفين إلى مجراه ا‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫معسكرات اعتقال األسرى؛ ليتأكدوا من ُحسن مع املتهم‪،‬‬ ‫الطبيعي‪ ،‬وكان يسمح لحاملي تلك الرسائل بزيارة‬
‫وليتعرف وا على ك ٍّل منهم‪ ،‬وك ان من أغ راض الدبلوماس ية اإلس المية محاول ةُ معرف ِة ق َّوة ج يرانهم‪ ،‬وم دى‬
‫للصلح‪ ،‬أو للمهادنة‪ ،‬أو تبادل األسرى‪ ،‬كما كان بين المأمون‬ ‫ُّ‬
‫والتأكد من صحة طلب الفريق اآلخر ُّ‬ ‫بأسهم‪،‬‬
‫وبين ملك الروم مراس الت وقد استظهر عليه المأمون فكتب إليه يسأله إنفاد ما يخت ار من الكتب القديمة‬
‫المخزون ة ب الروم فأج اب إلى ذل ك بع د امتن اع ف أخرج الم أمون ل ذلك جماع ة منهم‪ :‬الحج اج بن مط ر وابن‬
‫البطري ق وس لما ص احب بيت الحكم ة فأخ ذوا م ا اخت اروا وحمل وا إلي ه ف أمرهم بنقل ه فنق ل وك ان يوحن ا بن‬
‫مأسويه ممن ينفد إلى الروم وكان محمد وأحمد والحسن بنو شاكر المنجم ممن عني بإخراج الكتب وكان‬
‫قسطا بن لوقا البعلبكي قد حمل معه شيئا فنقل له((‪.35‬‬
‫وكتب الم أمون إلى مل ك ال روم يس أله اإلذن في إنق اذ م ا يخت ار من العل وم القديم ة المخزون ة ببالد ال ّروم‪،‬‬
‫فأجاب إلى ذلك بعد امتناع‪ .‬وأخرج المأمون لذلك جماعةً منهم َّ‬
‫الحجاج بن المطران وابن البطريق وسلمان‬
‫صاحب بيت الحكمة وغيرهم‪ .‬فأخذوا مما وجدوا ما اختاروا‪ ،‬وقيل أن المأمون كان يعطيه من الذهب زنة‬
‫العربية مثالً بمثل(‪.)36‬‬
‫ّ‬ ‫ما ينقله من الكتب إلى‬

‫وك ان من مهم ة الس فراء أن يعلَم وا حال ة الط ُرق واألمكن ة ال تي توج د فيه ا الم روج واألعش اب والحش ائش‬
‫الدفاع والهجوم‪ ،‬وأن يعرفوا كل ما يتعلق بأمور‬‫الع َدد والعتاد وفي ِّ‬
‫ومؤونته في َ‬ ‫قوة الجيش َ‬ ‫للعلف‪ ،‬وكذلك َّ‬
‫البالد األجنبي ة من الن واحي الشخص ية والعام ة‪ ،‬كم ا أن ُّ‬
‫الدبلوماس ية اإلس المية في العه د العباس ي ك انت‬
‫أغراضا علمية‪.‬‬
‫ً‬ ‫تتوخى من سفاراتِها‬
‫َّ‬

‫قصة الحضارة‪ ،‬ول ديورانت‪ ،‬ج ‪ ،22‬ص ‪458‬‬ ‫‪34‬‬

‫أبجد العلوم‪ ،‬صديق حسن خان القنوجي‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪252‬‬ ‫‪35‬‬

‫الوافي بالوفيات‪ ،‬صالح الدين الصفدي ج ‪ ،4‬ص ‪336‬‬ ‫‪36‬‬

‫‪31‬‬
‫وفي هذا السياق أيضاً ما كان يقوم به المأمون من شراء كتب الحكمة من الرومان عبر سفراء ومندوبين‬
‫يمثلون الخليفة‪ ،‬ويرسلون نفائس الكتب إلى بغداد حيث تتم ترجمتها إلى العربية عبر دار الحكمة‪.‬‬

‫أمون علم أن في القس طنطينية أس تاذاً مش هوراً بالرياض يات‪ ،‬فأرس ل إلى‬ ‫ومن أمثل ة ذل ك‪َّ :‬‬
‫أن الخليف ة الم َ‬
‫اإلمبراطور البيزنطيتيوفيل سفارةً خاصة تحمل رسالة شخصية تطلب منه أن يسمح لألستاذ ليو بالحضور‬
‫داد ف ترة قص يرة‪ ،‬وق ال الم أمون في رس الته‪" :‬إن ه يعت بر ذل ك عمالً ودي اً‪ ،‬ويع رض على الدول ة‬
‫إلى بغ َ‬
‫البيزنطي ة ص لحاً دائم اً‪ ،‬وألفَ ْي قطع ة ذهبي ة في مقاب ل ذل ك"‪ ،‬غ ير أن اإلم براطور الب يزنطي رفض ه ذا‬
‫الع رض الس خي؛ ألن بعض أبح اث العلم اء ك انت تعت بر في ذل ك العه د من أس رار الدول ة‪ ،‬وق د ق امت في‬
‫العهد العباسي بين العباسيين وروما ومملكة البلغار والهند والصين‪ ،‬باإلضافة إلى القسطنطينية والفرنجة –‬
‫عالقات دبلوماسية( (‪.37‬‬

‫وع رف العباس يون نظ ام المراس م واس تقبال الرس ل واالحتف اء بهم‪ .‬إذ ك انوا يخص ون الس فير ومرافقي ه‬
‫باس تقبال حاف ل على الح دود ومرافقت ه ح تى دخ ول العاص مة‪ ،‬حيث يج د بانتظ اره شخص ية س امية‪ ،‬وي نزل‬
‫ومرافقه قي قصر الضيافة‪ ،‬وقد جرت العادة على أن يستقبل السفير من قبل وزير مكلف بالمهمة (الوزير‬
‫مرتب ة أدخله ا الف رس للدول ة العباس ية) يح دد مع ه موع د لمقابل ة الخليف ة (أم ير المؤم نين) وعن دما يحظى‬
‫(‪)38‬‬
‫بمقابلة أمير المؤمنين يقدم له كتاب (سيده) رئيس دولته‪ ،‬ومن ثم الهدايا التي يحملها له‪.‬‬

‫ومن نشاطات الدبلوماسية العربية العلميَّة ما قام به الخليفة العباسي الواثق باهلل (‪ ،)847 – 842‬إذ أرسل‬
‫ذكره في القرآن الكريم(‪.)39‬‬
‫وفدا إلى اإلمبراطور البيزنطي دقليديانوس لزيارة الكهف الوارد ُ‬
‫ً‬

‫‪        ‬كم ا أرس ل الخليف ة المتوك ل نص ر بن األزه ر س فيراً إلى إم براطور الروم ميخائي ل الث الث لدراس ة‬
‫موضوع تبادل األسرى وقبول الفداء بين المسلمين ودولة الروم‪ .‬وقد نجح هذا السفير في مهمته وافتدى‬
‫‪ 2300‬أسير من المسلمين كانوا في بالد الروم(‪.)40‬‬

‫واش تهر من الس فراء الس فير يح يى الغ زال ال ذي عم ل لألم ير عب د ال رحمن الث اني األم وي‪ ،‬وق د ق ام بع دة‬
‫سفارات ناجح ة أشهرها م ع اإلم براطور البيزنطي تيوفيلوس وزوجت ه تيودورا‪ ،‬وقد نقل المقري في نفح‬

‫‪ 37‬قصة الحضارة‪ ،‬ول ديورانت‪ ،‬ج ‪ ،23‬ص ‪463‬‬


‫‪ 38‬الدبلوماسية للدكتور سعيد ابو عباه ص‪188‬‬
‫‪ 39‬مق‪H‬ال ال‪H‬دكتور عب‪H‬اس حلمي‪ ،‬مجل‪H‬ة من‪H‬ار اإلس‪H‬الم اإلماراتي‪H‬ة ع‪H‬دد ‪ 4‬لع‪H‬ام ‪ 1979‬ومن المؤك‪H‬د ان الك‪H‬اتب غل‪H‬ط في اس‪H‬م االم‪H‬براطور‬
‫البيزنطي فاإلمبراطور المعاصر للواثق هو االمبراطور مايكل الثالث‪ ،‬أما اإلمبراطور دقل‪HH‬ديانوس فق‪HH‬د ت‪HH‬وفي ع‪HH‬ام ‪ 305‬ميالدي‪HH‬ة أي قب‪HH‬ل‬
‫الواثق بأكثر من خمسة‪ H‬قرون‪ ،‬وال شك أنه التبس عليه بسبب أن دقلديانوس هو من ظهر في زمانه الفتية من أصحاب الكهف‪.‬‬
‫‪ 40‬تطور الدبلوماسية اإلسالمية عبر العصور‪ ،‬للكاتب محمد بوبوش‪ ،‬ص ‪ - 125‬دار الفكر‬

‫‪32‬‬
‫الطيب أن اإلم براطور وزوجت ه أعجب ا بالس فير الش اعر الف ارس‪ ،‬وخ ف على قلب ه‪ ،‬وطلب من ه أن ينادم ه‬
‫فامتنع عن ذلك واعتذر له بتحريم الخمر(‪.)41‬‬

‫ثم قام بسفارة أخرى إلى بالد الدنمارك والتقى فيها نوركايوس ملك النورمان عام ‪ 844‬م وتمكن من عقد‬
‫اتفاقية صلح أنهت فتيل نزاع كان يوشك أن ينفجر بين أوروبا وبين المسلمين في األندلس‪.‬‬

‫واش تهرت بع د ذل ك الس فارات المختلف ة بين الحم دانيين واألخش يديين والس الجقة والزنك يين واأليوب يين‪،‬‬
‫وغيرهم من الدول اإلسالمية التي اجتهدت أن تؤسس عالقات مستقرة مع الدول المجاورة‪.‬‬

‫على أن دراس ة ت اريخ العالق ات الدبلوماس ية وتطوره ا يحت اج إلى بحث مس تقل‪ ،‬وبحس بنا أن نش ير هن ا أن‬
‫هذا اللون من العالقات الدبلوماسية كان حاضراً خالل التاريخ اإلسالمي كله‪ ،‬في أحوال الحرب وأحوال‬
‫السلم‪ ،‬وهو أوضح دلي ل أن المسلمين خالل التاريخ كانوا يسعون لعالقات دبلوماس ية جيدة م ع جيرانهم‪،‬‬
‫ولم يكون وا ي رون في الجه اد إعالن ح رب على الع الم‪ ،‬ب ل ك انوا ي رون الجه اد حرب اً وقائي ة تفرض ها‬
‫الضرورة لحماية األمة من أعدائها‪.‬‬

‫التطور اإليجابي والسلبي لعالقة األمة اإلسالمية بالمجتمع الدولي‪:‬‬

‫وفي اإلط ار الفلس في ف إن الق رآن الك ريم ط رح ع دداً من القيم ال تي تحكم ص لة الدول ة المس لمة بغيره ا من‬
‫وبا َوقََبائِ َل‬ ‫ِ‬
‫اس ِإَّنا َخلَ ْقَن ا ُك ْم م ْن َذ َك ٍر َوأُنثَى َو َج َعْلَن ا ُك ْم ُش ُع ً‬ ‫ال دول انطالق اً من آي ة الحج رات‪َ﴿ :‬ي ا أَيُّهَ ا َّ‬
‫الن ُ‬
‫يم َخبِ ٌير﴾‪.‬‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫لتَ َع َارفُوا ِإ َّن أَ ْك َر َم ُك ْم عْن َد الله أَتْقَا ُك ْم ِإ َّن اللهَ َعل ٌ‬
‫‪42‬‬

‫وواضح من سياق اآلية الكريمة أن التع ارف هو غاي ة هذا التنوع ال ذي يقوم في العالم‪ ،‬ويجب القول إن‬
‫التع ارف ه و أص ل في العالق ات البيض اء بين البش ر في األرض‪ ،‬حين تك ون العالق ة قائم ة على أس اس‬
‫األسرة اإلنسانية‪ ،‬قبل أن تتعرض ألي تطور سلبي أو إيجابي‪.‬‬

‫وأشار القرآن الكريم في آيات كثيرة إلى إقرار االختالف بين الناس‪ ،‬واعتبار ذلك االختالف محموداً إذا‬
‫اج ا َولَ ْو َش اء اللَّهُ لَ َج َعلَ ُك ْم أ َّ‬
‫ُمةً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك ان في إط ار التن وع واالح ترام‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬ل ُك ٍّل َج َعْلَن ا من ُك ْم ش ْر َعةً َو ِم ْنهَ ً‬
‫اح َدةً َولَ ِكن لَِّيْبلَُو ُك ْم ِفي َما آتَا ُكم﴾(‪.)43‬‬
‫و ِ‬
‫َ‬

‫نفح الطيب في غصن األندلس الرطيب‪ ،‬ألحمد بن محمد المقري التلمساني ج‪ ،1‬ص ‪346‬‬ ‫‪41‬‬

‫‪ 42‬سورة الحجرات ‪13‬‬


‫سورة المائدة ‪48‬‬ ‫‪43‬‬

‫‪33‬‬
‫وحين تتطور العالقات بين البشر إيجاب اً وسلباً فإن القرآن الكريم طرح قيم اً أخرى للعالقات بين األفراد‬
‫وال دول‪ ،‬ولم يقب ل من المس لم أن يس تمر في لغ ة الص فح والغف ران في حين أن اآلخ رين يمارسون العدوان‬
‫والقتال‪ ،‬بل طرح خيارات واقعية متعددة تتنوع بحسب واقع األسرة الدولية وتطور العالقات بين الدولة‬
‫اإلسالمية ونظرائها في العالم‪.‬‬

‫ففي الس ياق اإليج ابي لم يكت ف بالتع ارف وإ نم ا ط رح سلس لة من العالق ات اإليجابي ة تب دأ بالتع ارف ثم‬
‫التنافس ثم التعاون ثم اإلخاء ثم التراحم ثم اإليثار‪ ،‬وفي الجانب السلبي فإنها تبدأ أيض اً بالتعارف ولكنها‬
‫تتطور هبوطا إلى التدافع حتى تبلغ في النهاية القتال والمواجهة‪.‬‬

‫ويمكن قراءة هذه الحقيقة في كتاب اهلل من خالل تتبع الوصايا القرآنية الحكيمة في هذا السبيل‪:‬‬

‫التطور اإليجابي‪:‬‬

‫وبا َوقََبائِ َل ِلتَ َع َارفُوا﴾(‪.)44‬‬ ‫التعارف‪َ ﴿:‬و َج َعْلَنا ُك ْم ُش ُع ً‬ ‫‪‬‬


‫ون﴾ (‪.)45‬‬ ‫ِ‬ ‫التنافس‪َ ﴿:‬و ِفي َذِل َ‬
‫ك َفْلَيتََنافَ ِ‬
‫س اْل ُمتََناف ُس َ‬ ‫‪‬‬
‫ان﴾(‪.)46‬‬ ‫اإلثِْم َواْل ُع ْد َو ِ‬
‫التعاون‪﴿:‬وتَ َعاوُنوا َعلَى اْلبِِّر والتَّ ْقوى وال تَ َعاوُنوا َعلَى ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫‪‬‬
‫ِ‬
‫اء َب ْيَنهُ ْم﴾ ‪.‬‬ ‫اء َعلَى اْل ُكفَّ ِار ُر َح َم ُ‬ ‫التراحم‪﴿:‬أَش َّد ُ‬
‫(‪)47‬‬
‫‪‬‬
‫ِ‬
‫اصةٌ﴾(‪.)48‬‬ ‫ص َ‬ ‫ان بِ ِه ْم َخ َ‬ ‫ون َعلَى أ َْنفُس ِه ْم َولَ ْو َك َ‬ ‫اإليثار‪َ ﴿:‬وُي ْؤثِ ُر َ‬ ‫‪‬‬
‫َّ َّ‬ ‫َصِل ُحوا َب ْي َن أ َ‬
‫َخ َو ْي ُك ْم َواتَّقُوا اللهَ لَ َعل ُك ْم تُْر َح ُم َ‬
‫ون﴾(‪.)49‬‬ ‫ون ِإ ْخ َوةٌ فَأ ْ‬ ‫اإلخاء‪ِ﴿:‬إَّن َما اْل ُم ْؤ ِمُن َ‬ ‫‪‬‬

‫ومن الطبيعي أن كل واحدة من هذه القيم مرتبطة بالسلوك المقابل الذي يقوم به اآلخر ويحدد موقعه من‬
‫منظومة القيم في إطار العالقات المتبادلة‪.‬‬

‫التطور السلبي‪:‬‬

‫وبالمقابل فإن هذه القيم تتوجه هبوط اً لمواجهة سلوكيات شائنة يبادل بها اآلخر موقف األمة من التعارف‬
‫والتكامل‪ ،‬فتتجه القيم إذن من‪:‬‬

‫‪ 44‬سورة الحجرات ‪13‬‬


‫‪ 45‬سورة المطففين ‪26‬‬
‫‪ 46‬سورة المائدة ‪3‬‬
‫‪ 47‬سورة الفتح ‪29‬‬
‫‪ 48‬سورة الحشر ‪9‬‬
‫‪ 49‬سورة الحجرات ‪10‬‬

‫‪34‬‬
‫وبا َوقََبائِ َل ِلتَ َع َارفُوا﴾(‪.)50‬‬ ‫التعارف‪َ ﴿ :‬و َج َعْلَنا ُك ْم ُش ُع ً‬ ‫‪‬‬
‫ظلَ ُموا ِم ْنهُ ْم﴾(‪.)51‬‬ ‫ين َ‬ ‫اَّل َِّ‬
‫َح َس ُن ِإ الذ َ‬ ‫اب ِإاَّل بِالَّتِي ِه َي أ ْ‬ ‫َه َل اْل ِكتَ ِ‬
‫الجدال‪َ ﴿ :‬واَل تُ َج ِادلُوا أ ْ‬ ‫‪‬‬
‫اعتَ َدى َعلَْي ُك ْم﴾(‪.)52‬‬ ‫اعتَ ُدوْا َعلَْي ِه بِ ِم ْث ِل َما ْ‬
‫اعتَ َدى َعلَْي ُك ْم فَ ْ‬ ‫المعاملة بالمثل‪﴿ :‬فَ َم ِن ْ‬ ‫‪‬‬
‫انف ُروْا َج ِميعاً﴾(‪.)53‬‬ ‫ات أ َِو ِ‬ ‫انفروْا ثُب ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آمُنوْا ُخ ُذوْا ح ْذ َر ُك ْم فَ ُ َ‬ ‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫الحذر‪َ﴿ :‬يا أَيُّهَا الذ َ‬ ‫‪‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين﴾(‪.)54‬‬ ‫َّصوا فَِإِّني َم َع ُك ْم م َن اْل ُمتََربِّص َ‬ ‫التربص‪ُ ﴿ :‬ق ْل تََرب ُ‬ ‫‪‬‬
‫ون بِ ِه َع ُد َّو اللَّ ِه َو َع ُد َّو ُك ْم﴾(‪.)55‬‬ ‫ِ‬ ‫َع ُّدوا لَهم ما استَ َ ِ‬
‫ط ْعتُ ْم م ْن قَُّو ٍة َو ِم ْن ِرَباط اْل َخْي ِل تُْر ِهُب َ‬ ‫ُْ َ ْ‬
‫االستعداد‪﴿ :‬وأ ِ‬
‫َ‬ ‫‪‬‬
‫ات وم َس ِ‬ ‫ِ‬ ‫التدافع‪َ ﴿ :‬ولَ ْواَل َد ْفعُ اللَّ ِه َّ‬
‫اج ُد﴾ ‪.‬‬ ‫صلَ َو ٌ َ َ‬ ‫ص َوامعُ َوبَِيعٌ َو َ‬ ‫ت َ‬ ‫ض لَهُ ِّد َم ْ‬‫ضهُ ْم بَِب ْع ٍ‬ ‫اس َب ْع َ‬ ‫الن َ‬
‫(‪)56‬‬
‫‪‬‬
‫ين﴾(‪.)57‬‬ ‫ِ‬ ‫ون ُك ْم َوال تَ ْعتَ ُدوا ِإ َّن اللَّهَ ال ُي ِح ُّ‬
‫ين ُيقَاتِلُ َ‬ ‫القتال‪﴿ :‬وقَاتِلُوا ِفي سبِ ِ َّ ِ َِّ‬
‫ب اْل ُم ْعتَد َ‬ ‫يل الله الذ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫‪‬‬

‫وهكذا فإن العالقة الطبيعية في اإلسالم تبدأ بالتعارف ثم تتوجه صعوداً أو هبوط اً بحسب سلوك المتلقي‪،‬‬
‫واألمر يصدق على العالقة بين األفراد وعلى الواقع السياسي بين الدول‪.‬‬

‫‪ 50‬سورة الحجرات ‪13‬‬


‫‪ 51‬سورة العنكبوت ‪46‬‬
‫‪ 52‬سورة البقرة ‪194‬‬
‫‪ 53‬سورة النساء ‪101‬‬
‫‪ 54‬سورة التوبة ‪52‬‬
‫‪ 55‬سورة األنفال ‪60‬‬
‫‪ 56‬سورة الحج ‪40‬‬
‫‪ 57‬سورة البقرة ‪190‬‬

‫‪35‬‬
‫(تصور للعالقات البيضاء بني اجملتمع اإلسالمي واجملتمعات األخرى القائمة على منطق لتعارفوا)‬
‫والتعارف‪ :‬قيمة بيضاء ومشرتكة‪ ،‬ومنها يبدأ تطور العالقات سلباً أو إجياباً‪ ،‬وهي أدىن سلم اإلجياب وأعلى سلم السلب‪.‬‬

‫س‬
‫لف‬
‫االيثار‬
‫اإلخاء‬
‫التعاون‬
‫التراحم‬
‫التفاض‬
‫التعار‬
‫التناف‬

‫‪36‬‬
‫ص‬
‫ادف‬
‫بالمثل‬
‫الجدال‬
‫الحذر‬
‫القتال‬
‫التدافع‬
‫االستعد‬
‫التعار‬
‫الترب‬
‫المعاملة‬

‫وق د ق دمت الش ريعة الخاتم ة س بالً واض حةً لبن اء عالق ة متين ة من قيم التف اهم والتع اون‪ ،‬وفي إط ار العقي دة‬
‫على س بيل المثال فإن العقيدة اإلسالمية تقوم على ستة أرك ان‪ ،‬وهي اإليم ان باهلل ومالئكت ه وكتب ه ورسله‬
‫واليوم اآلخر والقدر‪.‬‬

‫ول دى المالحظ ة البص يرة نج د أن اإليم ان في اإلس الم يرتك ز على رك نين اث نين يتص الن مباش رة بالعالق ة‬
‫الحس نة م ع اآلخ ر‪ ،‬حيث أم ر اإلس الم باإليم ان باألنبي اء جميع اً والكتب الس ماوية‪ ،‬وه ذا اإليم ان ه و أروع‬
‫مدخل لبناء ثقافة الحب والسالم بين المسلم وبين العالم‪ ،‬وبناء حوار إيجابي بناء يخدم الجميع‪.‬‬

‫فمن المعلوم أن اإليمان باألنبياء يقتضي ضرورة احترام هديهم ونورهم واإليمان بالكتب السماوية يقتضي‬
‫حكم اً احترام تعاليمها وهديها‪ ،‬والتعامل إيجابي اً مع الموروث منها‪ ،‬وبناء المقاربات اإليجابية بين المسلم‬
‫وبين أتباع األنبياء جميعاً‪.‬‬

‫وق د حق ق الن بي الك ريم ص لى اهلل علي ه وس لم ه ذه المع اني الرائع ة في بن اء عالق ة ح وار إيج ابي مت وازن‪،‬‬
‫تجلى في دستور المدينة الذي كتب فيه ما يضمن حقوق كل المقيمين في المدينة بغض النظر عن أديانهم‬

‫‪37‬‬
‫وثقافاتهم وأعراقهم‪ ،‬كما أنه صلى اهلل عليه وسلم فتح أبواب المدينة ألبناء األديان الراغبين بالتعرف على‬
‫سماحة اإلسالم وقيام عالقات إيجابية بناءة‪ ،‬وحين جاءه وفد نصارى نجران كرمهم وأنزلهم في مسجده‬
‫الش ريف وأق اموا في ه زمن اً ي أكلون ويش ربون‪ ،‬وم ع أنهم لم يعلن وا ص راحة دخ ولهم في اإلس الم ف إن الن بي‬
‫ص لى اهلل علي ه وس لم اس تمر في ح وارهم وإ ك رامهم ودع ا لهم بالهداي ة‪ ،‬وق د ج اءه كث ير منهم فيم ا بع د‬
‫مسلمين‪.‬‬

‫إن ثقافة التعاون اإليجابي بين الناس تتكرر في كل سورة في القرآن الكريم وقد حققها رسول اهلل صلى اهلل‬
‫علي ه وس لم على أتم وج ه‪ ،‬وال نعلم أن الن بي الك ريم قت ل أح دا لمخالفت ه في ال رأي أو إص راره على كف ره‪،‬‬
‫وإ نم ا قات ل من ق اتلوه وح ارب من ح اربوه وس الم من س الموه وآخى من آخ وه‪ ،‬وأعطى أعظم مث ل لإلخ اء‬
‫والتراحم‪.‬‬

‫مشروعية التمثيل الدبلوماسي في اإلسالم‪:‬‬

‫يتأسس التمثيل الدبلوماسي في اإلسالم فقهي اً على هدايات الكتاب والسنة‪ ،‬كما يتأسس على القواعد الكلية‬
‫للفقهاء في االستحسان والمصلحة المرسلة والعرف‪.‬‬

‫أوالً‪ :‬من القرآن الكريم‪:‬‬

‫‪38‬‬
‫فمن الكت اب العزي ز ورد النص الق رآني الك ريم بج واز منح العه د واألم ان لغ ير المس لم‪ ،‬ول و س بق من ه‬
‫الحرب على اإلسالم‪ ،‬وذلك في قوله تعالى‪:‬‬

‫الم اللَّ ِه ثَُّم أَْبِل ْغهُ َمأ َْمَنهُ﴾(‪.)58‬‬ ‫َّ‬ ‫استَ َجار َ ِ‬
‫ك فَأَج ْرهُ َحتى َي ْس َم َع َك َ‬ ‫ين ْ َ‬
‫ِ‬ ‫﴿وإِ ْن أ ِ‬
‫َح ٌد م َن اْل ُم ْش ِرك َ‬
‫َ‬ ‫َ‬

‫وقد نزلت هذه اآلية الكريمة في يوم الفتح األعظم‪ ،‬وفيها األمر للنبي صلى اهلل عليه وسلم بإعطاء األمان‬
‫للمشركين إذا طلبوه‪ ،‬على الرغم من بقائهم على الكفر‪ ،‬طالما أنهم ال يحاربون المسلمين‪ ،‬ولعل هذا األم ان‬
‫الذي نالوه يمكنهم من فهم أعمق لروح اإلسالم وهدايات الشريعة‪.‬‬

‫ويجب أن نشير هنا أن هذه اآلية الكريمة إنما نزلت في المشركين الذين كانوا يحاربون اإلسالم ووضعوا‬
‫السالح‪ ،‬فاألمر مع من لم يحاربوا اإلسالم أصالً مشروع من باب أولى‪ ،‬وهو حال سائر السفراء اليوم من‬
‫الدول التي ال تحارب المسلمين‪.‬‬

‫ﻗﺎل ﺍﺒﻥ كثير‪ :‬ﻭﺍﻟﻐﺭﺽ ﺃﻥ ﻤﻥ ﻗﺩﻡ ﻤﻥ ﺩﺍﺭ ﺍﻟﺤﺭﺏ ﺇﻟﻰ ﺩﺍﺭ ﺍﻹﺴﻼﻡ في أداء ﺭﺴـﺎﻟﺔ‪ ،‬ﺃﻭﺘﺠـﺎﺭﺓ ﺃﻭ ﻁﻠﺏ‬
‫ﺼﻠﺢ ﺃﻭ ﻤﻬﺎﺩﻨﺔ‪ ،‬ﺃﻭ ﺤﻤل ﺭﺴﺎﻟﺔ ﺃﻭ ﻨﺤﻭ ﺫﻟﻙ ﻤﻥ ﺍﻷﺴﺒﺎﺏ ﻭﻁﻠﺏ ﻤﻥ ﺍﻹﻤﺎﻡ ﺃﻭ ﻨﺎﺌﺒﻪ ﺃﻤﺎﻨاًﻤﺘﺭﺩﺩاً ﻓﻲ ﺩﺍﺭ‬
‫ﺍﻹﺴﻼﻡ ﻭﺤﺘﻰ ﻴﺭﺠﻊ ﺇﻟﻰ ﺩﺍﺭﻩ ﻭﻤﺄﻤﻨﻪ ﻓﻠﻪ ﺫﻟﻙ (‪.)59‬‬

‫وهذا الفهم الذي ذهب إليه شيخ المفسرين ابن كثير هو التطبيق العملي لمفهوم السفارة والعمل الدبلوماسي‬
‫الذي تطور مع األيام‪ ،‬وكما نالحظ هنا فإن ابن كثير يتحدث عن السفير القادم من بالد الحرب‪ ،‬وأنه يحق‬
‫لإلم ام أن يعطي ه عه داً وأمان اً‪ ،‬وال ش ك أن الس فير الق ادم من بالد العه د‪ ،‬وال يمث ل بل داً ع دواً محارب اً فه و‬
‫مشمول من باب أولى‪.‬‬

‫وك ذلك ف إن النص وص العام ة في الق رآن الك ريم ج اءت بحرم ة ال دماء وتج ريم االعت داء على الن اس بغ ير‬
‫اس‬ ‫َحَيا َّ‬
‫اها فَ َكأََّن َما أ ْ‬ ‫ِ‬ ‫س أ َْو فَ َس ٍاد ِفي األ َْر ِ‬
‫ض فَ َكأََّن َما قَتَ َل َّ‬ ‫الحق‪َ ﴿ ،‬م ْن قَتَ َل َن ْف ًسا بِ َغ ْي ِر َن ْف ٍ‬
‫الن َ‬ ‫َحَي َ‬
‫يعا َو َم ْن أ ْ‬
‫اس َجم ً‬
‫الن َ‬
‫يعا﴾(‪.)60‬‬ ‫ِ‬
‫َجم ً‬

‫كما دعت نص وص القرآن الكثيرة إلى الدخول في السلم وتعزي زه‪ ،‬والعم ل على حمايت ه‪ ،‬وتش جيع الص لح‬
‫بين الناس ونزع فتيل الصراعات‪.‬‬

‫‪ 58‬سورة التوبة ‪6‬‬


‫‪ 59‬ﺘﻔﺴﻴﺭ ﺍﻟﻘﺭﺍﻥ ﺍﻟﻌﻅﻴﻡ‪ ،‬ﻋﻤﺎﺩ ﺍﻟﺩﻴﻥ ﺃﺒﻰ ﺍﻟﻔﺩﺍﺀ ﺇﺴﻤﺎﻋﻴل ﺍﺒﻥ ﻜﺜﻴﺭ‪ ،‬ﺝ‪ ،2‬ﺹ ‪337‬‬

‫سورة المائدة ‪32‬‬ ‫‪60‬‬

‫‪39‬‬
‫ان ِإَّنهُ لَ ُك ْم َع ُد ٌّو ُمبِ ٌ‬
‫ين﴾(‪.)61‬‬ ‫طِ‬ ‫الش ْي َ‬ ‫السْلِم َكافَّةً واَل تَتَّبِعوا ُخطُو ِ‬
‫ات َّ‬ ‫آمُنوا ْاد ُخلُوا ِفي ِّ‬ ‫َِّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ين َ‬
‫قال تعالى‪َ﴿ :‬ياأَيُّهَا الذ َ‬

‫اس َو َم ْن َي ْف َع ْل َذِل َ‬
‫ك‬ ‫الن ِ‬
‫الح َب ْي َن َّ‬
‫ص ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ص َدقَة أ َْو َم ْع ُروف أ َْو ِإ ْ‬
‫َم َر بِ َ‬ ‫ير ِم ْن َن ْج و ُ ِ‬
‫اه ْم إال َم ْن أ َ‬ ‫َ‬ ‫وقال‪﴿ :‬ال َخ ْي َر ِفي َكثِ ٍ‬
‫يما﴾(‪.)62‬‬ ‫ِ‬ ‫ف ُنؤتِ ِ‬ ‫ْابتِ َغاء مر ِ َّ ِ‬
‫َج ًرا َعظ ً‬ ‫يه أ ْ‬ ‫ضاة الله فَ َس ْو َ ْ‬ ‫َ َْ َ‬

‫وك ذلك فق د ج اءت النص وص بتك ريم اإلنس ان وحق ه في االنتق ال والس فر والعم ل‪َ ﴿ :‬ولَقَ ْد َك َّر ْمَن ا َبنِي‬
‫ضيالً﴾(‪.)63‬‬ ‫ير ِّم َّم ْن َخلَ ْقَنا تَ ْف ِ‬
‫اه ْم َعلَى َكثِ ٍ‬ ‫اهم ِّم َن الطَّيَِّباتِ َوفَ َّ‬
‫ضْلَن ُ‬ ‫اه ْم ِفي اْلَبِّر َواْلَب ْح ِر َو َر َز ْقَن ُ‬
‫آد َم َو َح َمْلَن ُ‬
‫َ‬

‫وظاهر أن هذا التك ريم والتفضيل ال يختص بدين دون آخر أو ملة دون أخرى بل هو تكريم لسائر بني‬
‫ين ُيقَاتِلُ َ‬
‫ون ُك ْم﴾‪.‬‬ ‫آدم‪ ،‬وإ نما يخرج منه المعتدون‪ ،‬فقد أمرنا بمحاربة المعتدين‪﴿ :‬وقَاتِلُوْا ِفي سبِ ِ ِ ِ‬
‫يل اللّه الّذ َ‬
‫‪64‬‬
‫َ‬ ‫َ‬

‫ثانياً‪ :‬من السنة النبوية‪:‬‬

‫أرسل الرسول الكريم صلى اهلل عليه وسلم السفراء إلى الملوك وزعماء القبائل وأوصاهم بوصاياه وهو ما‬
‫س نعرض ل ه في الفص ول التالي ة‪ ،‬وق د ك ان ل ه س فراء في وقت الس لم وس فراء في وقت الح رب‪ ،‬وق د ك ان‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه يزودهم بخاتمه وكتبه ويوفر لهم حرساً وصحبة في السفر‪.‬‬

‫وق د اش تهرت أخب ار س فرائه ص لى اهلل علي ه وس لم إلى ال روم والف رس والحبش ة وغس ان واليمن وه و م ا‬
‫سنفرد له فصالً خاصاً في هذه الدراسة‪.‬‬

‫كما استقبل النبي صلى اهلل عليه وسلم سفراء الملوك والقبائل الوافدين عليه وأكرم وفادتهم ووفر حمايتهم‪،‬‬
‫فاس تقبل س فير النجاش ي وس فير المق وقس‪ ،‬وك ان الوف د فيهم ا حميمي اً ودوداً‪ ،‬كم ا اس تقبل خرخسره وبابوي ه‬
‫س فيري كس رى الق ادمين من عندوالي ه على اليمن المل ك ب اذان على ال رغم من أن الرس الة ال تي ج اءا به ا‬
‫كانت تنص على أن يحضرا رسول اهلل إلى كسرى ليقتله!!‬

‫ومع ذلك فقد استقبل رسول اهلل السفيرين وتلطف في إبالغهما الرسالة والدعوة‪ ،‬واستمع إلى رسالتهما ولم‬
‫يبطش بهم ا على ال رغم من ل ؤم الرس الة ال تي يحمالنه ا‪ ،‬وذل ك إق راراً لمب دأ حص انة الرس ل‪ ،‬وبع د أن‬

‫‪ 61‬سورة البقرة ‪206‬‬


‫‪ 62‬سورة النساء ‪114‬‬
‫‪ 63‬سورة اإلسراء ‪7‬‬
‫‪64‬‬
‫سورة البقرة ‪207‬‬

‫‪40‬‬
‫استقبلهما أسبوعين في المدينة حملهما رسالة رد لباذان والي فارس على اليمن‪ ،‬ثم أعطى خرخسره منطقة‬
‫فيها ذهب وفضة كان أهداها له بعض الملوك‪ ،‬فخرجا من عنده حتى قدما على باذان(‪.)65‬‬

‫ولعل من أوضح األدلة على حصانة السفراء كذلك استقباله لرسولي مسيلمة الكذاب‪ ،‬ابن النواحة وثمامة‬
‫ابن أث ال‪ ،‬حيث اس تمع إليهم ا وحاورهم ا على ال رغم من أن رس الة مس يلمة ال تي يحمالنه ا ك انت في غاي ة‬
‫االستفزاز والبغي‪ ،‬حيث ادعى مس يلمة النبوة وغلب على نجد وم ا حولها وشق بها عصا الطاع ة وك انت‬
‫أخطر ردة في اإلسالم(‪.)66‬‬

‫ومع أن الرسولين أعلنا صراحة ذلك‪ ،‬ولكن رسول اهلل لم يأذن ألحد أن يمسهما بسوء وأكد أن السفير ناقل‬
‫للرسالة‪ ،‬ويجب أن يحظى باألمن والحماية حتى يؤدي رسالته‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬االستدالل بالقواعد الشرعية الكلية‪:‬‬

‫كما يمكن أن نستدل بالقواعد الشرعية الكلية فإرسال الرسل جائز استحساناً ولو ورد على خالف القياس‪،‬‬
‫حيث رأى بعض الفقه اء أن ه مع ارض للنص الص ريح بوج وب إخ راج المش ركين من جزي رة الع رب‪،‬‬
‫فالقي اس ع دم الج واز لظ اهر النص‪ ،‬ولكن االستحس ان الج واز لم ا في ذل ك من عم وم فائ دة وخ ير‪ ،‬وألن‬
‫النهي محمول على المشركين المحاربين وليس على عموم المشركين‪.‬‬

‫كما يمكن االستدالل بالمصلحة المرسلة‪ ،‬فإن وجود السفراء والسفارات من أعظم حاجات الناس ومن أهم‬
‫الض روريات لت أمين مع اش ك ريم للن اس في وث ائق الس فر وفي التواص ل م ع البل د األم‪ ،‬وفي نش ر ال دعوة‬
‫والرسالة عبر السفارة وغير ذلك من المقاصد المشروعة النبيلة‪ ،‬واألمور بمقاصدها‪ ،‬والعمل الدبلوماسي‬
‫ليس مم ا ورد النص مباش رة علي ه ال منع اً وال إيجاب اً‪ ،‬فيك ون من المص الح المرس لة ال تي يتعين على ولي‬
‫األم ر أن يحققه ا لمص لحة األم ة‪ ،‬وه ذا يجع ل أم ر إرس ال الس فراء ال يتوق ف عن المب اح ب ل يتع داه إلى‬
‫المستحب وربما الواجب الذي تعلقت به مصالح األمة‪.‬‬

‫‪ 65‬السيرة النبوية‪ ،‬البن كثير‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪501‬‬


‫‪ 66‬مسند االمام أحمد‪ ،‬ج‪ ،8‬ص ‪346‬‬

‫‪41‬‬
‫كما يمكن االستدالل باستقرار العرف في العالق ات بين ال دول‪ ،‬والمع روف عرف اً كالمشروط شرطاً‪ ،‬وفي‬
‫قي ام ه ذه الس فارات فوائ د عظيم ة لألم ة وفي إغالق ه ذه الس فارات مض ار كث يرة وتعطي ل لمص الح العب اد‬
‫ومنافع الناس وتفويت لهذا الثغر الجليل من ثغور األمة‪.‬‬

‫ين آَمُنوا أَوفُوا بِاْل ُعقُ ِ‬


‫ود﴾‪ ،‬فقد صارت هذه العالقات الدولية أعراف اً‬ ‫َِّ‬
‫ْ‬ ‫كما يستدل بعموم قوله تعالى‪َ﴿:‬يا أَيُّهَا الذ َ َ‬
‫ملزمة لسائر شعوب األرض‪ ،‬والمسلمون أمة منهم‪ ،‬وقد التزم العمل بهذه االتفاقيات من سبق من الحكام‪،‬‬
‫وال وجه لنقض ما اتفقوا عليه‪ ،‬والعمل باالستصحابفيما ال يخالف صريح الكتاب والسنة‪.‬‬

‫ِ‬ ‫اه َد علَْيه اللَّه فَسيؤتِ ِ‬


‫يما﴾‪.‬‬
‫َج ًرا َعظ ً‬
‫يه أ ْ‬ ‫كما يستدل بالعموم في قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َم ْن أ َْوفَى بِ َما َع َ َ ُ َ َ ُ ْ‬
‫‪67‬‬

‫وال ش ك أن ه ذه األدل ة تتن اول بش كل مباش ر الس فارات المؤقت ة ال تي تنتهي بانته اء المهم ة ال تي كل ف به ا‬
‫المبعوث ون‪ ،‬وه و واق ع س ائر الس فارات ال تي ع رفت في عه د النب وة س واء من س فراء اإلس الم إلى المل وك‬
‫األخرى أو من سفراء الملوك إلى دار اإلسالم‪.‬‬

‫حكم التمثيل‪ K‬الدبلوماسي الدائم في اإلسالم‪:‬‬

‫أما السفارة الدائمة بالمعنى المعروف حالياً فهو أمر محدث كما أشرنا إليه‪ ،‬وقد بدأ مع قيام الدولة الحديثة‬
‫في الق رن الس ابع عش ر الميالدي‪ ،‬ولكن يمكنن ا الق ول إن الن بي ص لى اهلل علي ه وس لم أرس ل بعض الس فراء‬
‫المقيمين‪ ،‬ويمكن أن نشير هنا بشكل خاص إلى ثالثة من سفرائه الكرام‪:‬‬

‫جعفر بن أبي طالب الذي أوفد في سفارة فريدة وهامة إلى النجاشي ملك الحبشة‪ ،‬وقد أمر أن يقيم‬ ‫‪‬‬
‫فيه‪ ،‬وعلى الرغم من دخول المدينة في اإلسالم وهجرة النبي صلى اهلل عليه إليها فقد أمر أن يقيم‬
‫‪67‬‬
‫سورة الفتح ‪10‬‬

‫‪42‬‬
‫بالحبش ة إلى الس نة الس ابعة حيث أتم في س فارته أربع ة عش ر عام اً متص لة ع ادت بأفض ل النت ائج‬
‫على البلدين‪.‬‬
‫مصعب بن عمير الذي أوفد في سفارة دائمة إلى يثرب‪ ،‬واستقر بها نحو عامين اثنين حتى وصل‬ ‫‪‬‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يوم الهجرة‪.‬‬
‫أب و عبي دة بن الج راح ال ذي أوف ده رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم إلى نج ران فك ان يمث ل الدول ة‬ ‫‪‬‬
‫اإلسالمية في نجران ويقوم بجباية الجزية من النصارى وفق العقد الذي تم االتفاق عليه‪.‬‬

‫فهؤالء الثالثة يصدق عليهم وصف سفراء مقيمين ألنهم كلفوا بمهام رسمية مستمرة في بالد غير مسلمة‪.‬‬

‫وهناك صحابة كثر كلفوا بمهام دائمة في البالد التي اختارت اإلسالم كما جرى الحال مع اليمن والبحرين‬
‫وكنده وقبائل العرب األخرى‪ ،‬فهؤالء يعتبرون دعاة وهداة أكثر منهم سفراء‪ ،‬كما إن بعضهم كان والي اً أو‬
‫قاضياً وهذا حقل مختلف عن حقل الدبلوماسية‪.‬‬

‫وقبل أن نتحدث عن موقف الفقهاء في حكم السفارة الدائمة ننوه أنهم قصدوا ببحثهم مدة إقامة السفير غير‬
‫المسلم في أرض اإلسالم‪ ،‬وليس مدة إقامة السفير المسلم في أرض غير المسلمين‪ ،‬فلم يذكروا حداً ألكثر‬
‫ما يقيمه المسلم سفيراً في دار غير المسلمين‪ ،‬وأناطوا ذلك بمصلحة األمة وصحة التفويض من ولي األمر‬
‫على وج ه مس تقيم‪ ،‬ولكنهم ذهبوا إلى تحديد إقام ة الس فير غير المس لم في بالد المس لمين إلى ثالث ة م ذاهب‬
‫في شأن السفارة الدائمة‪:‬‬

‫األول‪ :‬ال يجوز أن تزيد السفارة الطويلة عن أربعة أشهر وهو رأي الشافعية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫الثاني‪ :‬تمتد السفارة إلى سنة وال يجوز فوق ذلك وهو رأي الحنفية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫الث الث‪ :‬ال ح د لم دة الس فارة‪ ،‬وهي تمت د طالم ا ك انت تحق ق مص الح األم ة وحاجاته ا‪ ،‬وه و رأي‬ ‫‪‬‬
‫الحنابلة ووافقهم المالكية‪.‬‬

‫وقد استدل الشافعية لرأيهم بتحديد مدة السفارة الدائمة بأربعة أشهر بقياس ﺍﻷﻤﺎﻥ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻬﺩﻨﺔ‪ ،‬ﻭﻤﺩﺓ ﺍﻟﻬﺩﻨﺔ‬
‫ﻟﻘﻭل ﺍهلل ﺘﻌﺎﻟﻰ‪:‬‬ ‫(‪)68‬‬
‫ﻤﻊ ﺍﻟﻜﻔﺎﺭ ﻻ ﺘﺯﻴﺩ ﻋﻠﻰ ﺃﺭﺒﻌﺔ ﺃﺸﻬﺭ‬

‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ِ‬ ‫يحوا ِفي اأْل َْر ِ‬ ‫ِ‬


‫اعلَ ُموا أََّن ُك ْم َغْي ُر ُم ْع ِج ِزي الله َوأََّناللهَ ُم ْخ ِزي اْل َكاف ِر َ‬
‫ين﴾"(‪.)69‬‬ ‫ض أ َْرَب َعةَ أَ ْشهُ ٍر َو ْ‬ ‫﴿فَس ُ‬

‫ﺹ‪386‬‬ ‫‪ -68‬مغني المحتاج‪ ،‬ﺍﻟﺸﺭﺒﻴﻨﻲ ﺍﻟﺨﻁﻴﺏ‪ ،‬ﺝ‪،4‬ﺹ ‪ ،238‬وانظر مواهب الجليل‪ ،‬ﻤﺤﻤﺩ ﺒﻥ ﻋﺒـﺩ ﺍﻟـﺭﺤﻤﻥ ﺍﻟﺤﻁﺎﺏ ﺝ‪3‬‬
‫‪ 69‬سورة التوبة ‪3‬‬

‫‪43‬‬
‫ﻭﻟﻤﺎ ﻜﺎﻨﺕ ﻤﺩﺓ ﺍﻟﻬﺩﻨﺔ ﻴﻨﺒﻐﻲ ﺃﻥ ﻻ ﺘﺯﻴﺩ ﻋﻠﻰ ﺃﺭﺒﻌﺔ ﺃﺸﻬﺭ‪ ،‬ﻻﺤﺘﻤﺎل ﺤﺩﻭﺙ ﻗﻭﺓ ﺒﺎﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻥ ﻓﻜﺫﻟﻙ ﻤـﺩﺓ‬
‫ﺍﻷﻤﺎﻥ ﺒﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻤﺴﺘﺄﻤﻨﻴﻥ ﻗﻴﺩﻫﺎ ﻫﺅﻻﺀ ﺍﻟﻔﻘﻬﺎﺀ ﺒﻤﺎ ﻻ ﻴﺘﺠﺎﻭﺯ ﺍﻷﺭﺒﻌﺔ ﺃﺸﻬﺭ(‪.)70‬‬

‫ويب دو من خي ار الش افعية أنهم قص دوا الس فارة من ال دول المحارب ة لإلس الم‪ ،‬كم ا يظه ر من كالم فقه ائهم‪،‬‬
‫فلذلك قيدوا ولي األمر بإعطاء أمان أو عهد لممثل الدولة المحاربة بأربعة أشهر كما عند الشافعية والزيدية‬
‫وبسنة كما عند الحنفية‪.‬‬

‫وال ش ك أن من ح ق ال دول المس لمة أن تحت اط ألمنه ا في أي ام الح روب‪ ،‬ب ل إن كث يراً من ال دول تلج أ إلى‬
‫إغالق السفارات بين الدول المتحاربة وطرد السفراء لما يعنيه وجودهم من رمزية خطيرة‪ ،‬وإلمكانية أن‬
‫يقوم عناصر هذه البعثة الدبلوماسية بأعمال تمس أمن الوطن وسالمته‪.‬‬

‫أما الدول التي ليس بينها وبين اإلسالم حرب‪ ،‬وهي التي نسميها دول العهد فال تتحقق فيها تلك المخاطر‪،‬‬
‫ومن حق الدولة أن تقدر مصلحة األمة في مدة بقاء هؤالء السفراء‪ ،‬ولعل هذا هو ما قصده فقهاء الحنابلة‬
‫باختيارهم تفويض اإلمام بمنح ما يراه من أمان وعهد لممثلي الدول غير اإلسالمية‪.‬‬

‫أما الحنفية فقد استدلوا لرأيهم بتحديد أقصى السفارة سنة ﺒﺎﻟﻤﻌﻘﻭل‪ ،‬ﻓﻘﺩ ﻗﺎﻟﻭﺍ‪ :‬ﺇﻥ ﺍﻷﺼل ﺍﻟﻌﺎﻡ ﻓﻲ ﺍﻷﻤﺎﻥ‬
‫ﻫﻭ ﺃﻥ ﺍﻟﺤﺭﺒﻲ ﻻ ﻴﻤﻜﻥ ﻤـﻥ ﺍﻹﻗﺎﻤـﺔ ﺒﻴﻥ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻥ ﺇﻻ ﺒﺎﻻﺴﺘﺭﻗﺎﻕ ﺃﻭ ﺒﺎﻟﺠﺯﻴﺔ‪ ،‬ﻭﻟﻠﻀﺭﻭﺭﺓ ﻴﻤﻜﻥ ﻤﻥ ﺍﻹﻗﺎﻤﺔ‬
‫ﺍﻟﻴﺴﻴﺭﺓ‪ ،‬ﻟﻤﺎ ﻴﺘﺭﺘﺏ ﻋﻠﻰ ﺫﻟـﻙ ﻤﻥ ﺘﻌﺎﻤل ﺘﺠﺎﺭﻱ ﻭﻏﻴﺭﻩ‪ ،‬ﻭﻴﻤﻜﻥ ﺍﻟﻔﺼل ﺒﻴﻥ ﺍﻹﻗﺎﻤﺔ ﺍﻟﺩﺍﺌﻤﺔ ﻭﻏﻴﺭ ﺍﻟﺩﺍﺌﻤﺔ‬
‫ﺒﻤﻘﺩﺍﺭ ﺴﻨﺔ‪ ،‬ﻷﻨﻬﺎ ﻤﺩﺓ ﺘﺠﺏ ﻓﻴﻬﺎ ﺍﻟﺠﺯﻴﺔ(‪.)71‬‬

‫وواضح من التأمل في خيار الحنفية أنهم قصدوا في عقد األمان هذا ما يكون ألغراض خاصة كتجارة أو‬
‫زراع ة أو إقام ة‪ ،‬أم ا اإلقام ة للغ رض الدبلوماس ي ومتابع ة العالق ات بين البل دين فهي مس ألة محدث ة‪ ،‬وهي‬
‫تتطلب اجتهاداً مستقالً‪.‬‬

‫أم ا الحنابل ة والمالكي ة فق د ذهب وا إلى أن تف ويض اإلم ام (الدول ة) بمنح األم ان لمس تأمنين ليس ل ه ح د في‬
‫الشرع‪ ،‬وه و مم ا فوض في ه اإلم ام الم ؤتمن على مص الح الرعي ة‪ ،‬وق الوا‪" :‬ﻴﺠﻭﺯ ﻟﻜل ﺴﻔﻴﺭ ﺃﻥ ﻴﻘﻴﻡ ﻓﻲ‬
‫ﺍﻟﺩﻭﻟﺔ ﺍﻹﺴﻼﻤﻴﺔ ﺤﺘﻰ ﺘﻨﺘﻬﻲ ﻤﻬﺎﻡ ﻋﻤﻠﻪ ﺩﻭﻥ ﺩﻓﻊ ﺍﻟﺠﺯﻴﺔ"(‪.)72‬‬

‫‪ 70‬ﺸﺭﺡ ﻤﻨﺢ ﺍﻟﺠﻠﻴل‪ ،‬ﺍﻟﺸﻴﺦ ﻤﺤﻤﺩ ﻋﻠﻴﺵ‪ ،‬ﺝ‪،1‬ﺹ‪766‬‬


‫‪ 71‬ﺘﺒﻴﻴﻥ ﺍﻟﺤﻘﺎﺌﻕ ﺸﺭﺡ ﻜﻨﺯ ﺍﻟﺩﻗﺎئق‪ ،‬ﻋﺜﻤﺎﻥ ﺒﻥ ﻋﻠﻲ الزيلعي‪ ،‬ﺝ‪،3‬ﺹ‪ ،268‬ﻭﺍنظر البحر الزخار ألحمد بن يحيى ﺒﻥ ﺍﻟﻤﺭﺘﻀﻲ‪ ،‬ﺝ‬
‫‪،6‬ﺹ ‪.454‬‬
‫‪ 72‬المقنع‪ ،‬البن قدامة المقدسي‪ ،‬موفق الدين عبد هللا بن أحمد ﺝ‪ 1‬ﺹ ‪518‬‬

‫‪44‬‬
‫يحوا ِفي اأْل َْر ِ‬
‫ض أ َْرَب َع ةَ‬ ‫ِ‬
‫واع ترض الحنابل ة على دلي ل الش افعية بالتحدي د اس تدالالً بآي ة التوب ة‪﴿ :‬فَس ُ‬
‫َش هُ ٍر﴾بقولهم‪ :‬إن اآلية وردت في الهدنة وﺇﻥ ﻗﻴﺎﺴﻬﻡ ﺍﻷﻤﺎﻥ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻬﺩﻨﺔ ﻗﻴﺎﺱ ﻤﻊ ﺍﻟﻔﺎﺭﻕ‪ ،‬ﻷﻥ ﻋﻘﺩ ﺍﻷﻤﺎﻥ‬ ‫أْ‬
‫ﻤﺒﻨﻲ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺴﺎﻟﻤﺔ ﻭﺍﻟﻤﺴﺎﻤﺤﺔ‪ ،‬ﻭﻟﺫﻟﻙ ﻓﺈﻨﻪ ﻴﺘﻭﺴﻊ ﻓﻲ ﻤﻨﺤـﻪ ﻟﻐﻴﺭ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻥ ﺤﺘﻰ ﺇﻨﻪ ﻴﺘﺼﻭﺭ ﻗﺒﻭﻟﻪ ﻤﻥ‬
‫ﺍﻷﻓﺭﺍﺩ‪ ،‬ﻭﻫﺫﺍ ﺒﺨﻼﻑ ﺍﻟﻬﺩﻨﺔ(‪.)73‬‬

‫وهكذا فإنه يمكن التفريع على اختيار الفقهاء الكرام بأن األقوال الثالثة محكومة بظروفها‪ ،‬والدولة تختار‬
‫من ه ذه األق وال بحس ب ح ال الس فير ومن يمث ل‪ ،‬ففي حال ة البل د المحارب ة ف الواجب التض ييق‪ ،‬والس ماح‬
‫بسفارات محددة األجل وقد تكون أقل من أربعة أشهر وفق خيار الشافعية‪ ،‬وقد تمتد إلى عام وفق اختيار‬
‫الحنفي ة‪ ،‬في حين أن ال دول المس المة ال تي تش هد عالقاتن ا به ا اس تقراراً ونم واً فال ب أس ب أن تمنح الدول ة‬
‫سفراء هذه الدولة عهداً طويالً بما يحقق مصلحة البلدين‪ ،‬وهذا وفق ما اجتهد فيه الحنابلة والمالكية‪.‬‬

‫واألصل في التمثيل الدبلوماسي هو األعراف المتبعة من قبل الدول والشعوب بحيث تكون هذه األعراف‬
‫متفقة مع سياسة األمة وتوجهاتها‪ ،‬وهذا العرف قائم منذ زمن قديم‪ ،‬لذلك فالتمثيل الدبلوماسي القديم لم يكن‬
‫دائم ا‪ ،‬ب ل ك ان مؤقت اً لتع ارف أهل ه على ذل ك‪ ،‬أم ا اآلن ف إن األع راف الدولي ة قائم ة على بق اء التمثي ل‬
‫الدبلوماسي دائماً‪ ،‬وغير مؤقت بسنة واحدة‪.‬‬

‫وفض ال عن قي ام التمثي ل الدبلوماس ي على األع راف المتبع ة من قب ل ال دول‪ ،‬فه و يق وم ك ذلك على مب ادئ‬
‫وقواعد مكملة‪ ،‬كمبدأ المعاملة بالمثل‪ ،‬ويلزم هذا المبدأ الدول كافة معاملة بعثاتها الدبلوماسية بالمثل‪ ،‬وعلى‬
‫ذلك ينبغي للدولة اإلسالمية‪ ،‬أن تعامل الممثلين الدبلوماسيين للدول األخرى كما تعامل تلك الدول مبعوثي‬
‫الدول ة اإلس المية‪ ،‬ف إذا ك انت تل ك ال دول تس مح لممثلي الدول ة اإلس المية باإلقام ة الدائم ة من أج ل أداء‬
‫مهماتهم‪ ،‬فال يعقل أن تعاملهم ‪ -‬سفراء الدول األخرى ‪ -‬معاملة قد تضر بهم وبدولهم‪ ،‬كأن ال تسمح لهم‬
‫باإلقامة فوق سنة إال بأخذ الجزية منهم(‪.)74‬‬

‫وال ب د من اإلش ارة هن ا إلى أن ه ذه الخي ارات الفقهي ة الكريم ة ص درت عن األئم ة الك رام والفقه اء من‬
‫أتباعهم قبل قيام الدولة الحديثة بالمعنى الذي نعرفه اليوم‪ ،‬وال بد أن يأخذك العجب أن يظهر من الفقهاء‬

‫‪ 73‬الشرح الكبير الﺒﻥ ﻗﺩﺍﻤﺔ ﺍﻟﻤﻘﺩﺴﻲ‪ ،‬ﺸﻤﺱ ﺍﻟﺩﻴﻥ ﺃﺒﻭ ﺍﻟﻔﺭﺝ ﻋﺒﺩ ﺍﻟﺭﺤﻤﻥ بن أبي عمر‪ ،‬ﺝ‪،10‬ﺹ‪563‬‬
‫‪ 74‬األمن الدبلوماسي في اإلسالم‪ ،‬مجلة جامعة دمشق‪ ،‬مجلة العلوم االقتصادية والقانونية المجلد ‪ 24‬سنة ‪ 2008‬بحث الدكتور محمد‬
‫ابراهيم جريبان‪،‬‬

‫‪45‬‬
‫هذا الخيار من الوعي والتسامح في ظروف كانت عالقات الدول تتأسس على الغلبة والقوة والحرب‪ ،‬وال‬
‫أش ك أب داً أنهم ل و ش هدوا عص ر الدول ة الحديث ة واالتفاق ات الدولي ة ال تي تنظم قي ام ال دول وبن اء عالقاته ا‬
‫فس يكون لهم بك ل تأكي د فق ه متكام ل في أص ول العم ل الدبلوماس ي تأسيس اً على قيم اإلس الم الك برى في‬
‫التعارف والتعاون اإلنساني‪ ،‬وبناء األسرة اإلنسانية الواحدة‪.‬‬

‫وقد أشرنا إلى عدد من السفراء الذين قاموا بأدوار إيجابية كبرى في بناء عالقات دولية متوازنة مع األمة‬
‫اإلس المية‪ ،‬ويع د الس فير ع امر بن ش راحيل الش عبي س فير عب د المل ك بن م روان إلى إم براطور ال روم‬
‫جس تنيان الث اني‪ ،‬وك ذلك يح يى الغ زال من أب رز س فراء األم ويين باألن دلس‪ ،‬كم ا يص نف أب و بك ر محم د‬
‫الباقالني ونصر بن األزهر من أفضل من كلفوا بالسفارة في العصر العباسي‪.‬‬

‫تعيين السفراء واختيارهم‪:‬‬


‫ال يختلف مبدأ تعيين السفراء في اإلسالم عن تعيين أي من موظفي الدولة وخبرائها‪ ،‬وهو يعتمد الكفاءة‬
‫واألمان ة‪ ،‬وهي العب ارة ال تي وردت في القرآن الك ريم في سياق اختيار الموظفين على لس ان يوسف علي ه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اج َعْلنِي َعلَى َخ َزائِ ِن اأْل َْر ِ‬
‫ض ِإِّني َحفي ظٌ َعل ٌ‬
‫يم﴾‪ ،75‬وعلى لسان ابنة شعيب‬ ‫ال ْ‬‫السالم إذ قال لملك مصر‪﴿ :‬قَ َ‬
‫ي اأْل َِمين﴾‪.76‬‬
‫ت اْلقَ ِو ُّ‬
‫ْج ْر َ‬ ‫إن َخ ْي َر َم ِن ْ‬
‫استَأ َ‬ ‫إذ قالت عن نبي اهلل موسى‪َّ ﴿ :‬‬

‫ويتطلب اختي ار الس فراء حكم ة ودراس ة‪ ،‬أو بتعب ير الفقه اء رواي ة ودراي ة‪ ،‬والمقص ود بالرواي ة اإلحاط ة‬
‫بنصوص الشريعة ووصاياها‪ ،‬وبالدراية فهم مقاصد هذه النصوص‪ ،‬وتنزيلها على الواقع‪.‬‬

‫‪ 75‬سورة يوسف ‪55‬‬


‫‪ 76‬سورة القصص ‪26‬‬

‫‪46‬‬
‫وفي الح ديث الش ريف‪" :‬من اس تعمل على المس لمين رجالً وه و ي رى أن غ يره خ يراً من ه فق د خ ان اهلل‬
‫ورسوله"(‪.)77‬‬

‫وج اءت النص وص الش ريفة بالتأكي د على الكف اءة والنزاه ة في اختي ار م وظفي الدول ة‪ ،‬بغض النظ ر عن‬
‫أنسابهم ومواقعهم وأمجاد آبائهم‪ ،‬وقال صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬اسمعوا وأطيعوا ولو ولي عليكم عبد حبشي‬
‫كأن رأسه زبيبة"‪.‬‬

‫وكان صلى اهلل عليه وسلم يراقب في موظفي الدولة نزاهتهم وأمانتهم واستقامتهم وكفاءتهم‪ ،‬وقد اشتهر‬
‫حديث ابن اللتبية الذي أرسله رسول اهلل إلى اليمن لجباية الخراج‪ ،‬فعاد بهدايا شخصية كثيرة‪ ،‬فصعد النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم منبره الشريف وقال‪ :‬ما بال العامل نبعثه فيأتي‪ ،‬فيقول‪ :‬هذا لك وهذا أهدي إلي‪ ،‬فهالَّ‬
‫َ‬
‫ُمه‪َ ،‬فينظر ُأي ْه دى له أم ال؟ والذي نفسي بيده‪ ،‬ال يأتي بشيء إالَّ جاء به يوم القيامة‬
‫جلس في بيت أبيه وأ ِّ‬
‫يحمله على رقبته‪ ،‬إن كان بعيراً له ُرغاء‪ ،‬أو بقرة لها ُخوار‪ ،‬أو شاة تَْي َعر(‪.)78‬‬

‫وكان يحدث الناس عن عظيم شأن المسؤولية العامة في الناس وما تحتاجه من ضبط وجد وحزم‪ ،‬وألجل‬
‫ذل ك فق د ص د عن اإلم ارة والس فارة ناس اً من خ يرة الص حابة‪ ،‬فق د أخ رج اإلم ام مس لم بس نده عن أبي ذر‬
‫الغف اري رض ي اهلل عن ه ق ال‪" :‬قلت ي ا رس ول اهلل أال تس تعملني"‪ ،‬أي تولي ني اإلم ارة‪ ،‬فض رب بي ده على‬
‫خزي وندامة إال من أخذها بحقها‬
‫ٌّ‬ ‫منكبي ثم قال‪" :‬يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً وأنها أمانة وإ نها يوم القيامة‬
‫وأدى الذي عليه فيها"(‪.)79‬‬

‫وعن عبد الرحمن بن سمرة رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال لي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬يا عبد الرحمن‬
‫بن سمرة! ال تسأل اإلمارة‪ ،‬فإنك إن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها‪ ،‬وإ ن أعطيتها عن مسألة وكلت‬
‫إليها‪ ،‬وإ ذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير‪ ،‬وكفر عن يمينك"(‪.)80‬‬

‫واألحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً وكلها تشير إلى عظيم المسؤولية التي تلقى على من يلي أمور األمة‬
‫في إمارة أو سفارة أو وزارة أو قضاء أو جباية خراج‪.‬‬

‫‪ 77‬أخرجه البيهقي في سننه‪ ،‬ج‪ ،10‬ص ‪ ،118‬وفي رواية‪ :‬من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى رجال وهو يجد من هو أصلح للمسلمين‬
‫منه فقد خان هللا ورسوله‬
‫‪ 78‬أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عمر وهو عند البخاري‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪ ،428‬وعند مسلم‪ ،‬ج ‪ ،6‬ص ‪11‬‬
‫‪ 79‬صحيح مسلم‪ ،‬ج‪ ،6‬ص ‪7‬‬
‫‪ 80‬صحيح البخاري‪ ،‬ج ‪ 8‬ص ‪127‬‬

‫‪47‬‬
‫لقد كانت حكمة النبي صلى اهلل عليه وسلم بليغة ورائدة في اختيار العاملين لديه‪ ،‬وهذا ظاهر في اختياراته‬
‫لم واهب أص حابه‪ ،‬ففي مث ال واض ح فق د أس لم خال د بن الولي د وأب و هري رة في وقت متق ارب‪ ،‬أم ا خال د بن‬
‫الولي د فقد دفع ه رس ول اهلل إلى قي ادة السرايا والكت ائب وعقد ل ه األلوي ة وأعط اه أعن ة الخي ل‪ ،‬فكتب اهلل ل ه‬
‫الفتح المبين‪ ،‬وأسلم أبو هريرة فدفعه إلى الحفظ والرواية وأمره أن يلزم مجالسه ليروي ما يسمعه فيها‪،‬‬
‫فروى عنه أزيد من خمسة آالف حديث‪ ،‬ولو أنه دفع أعنة الخيل ألبي هريرة وعهد لخالد بن الوليد بحفظ‬
‫الروايات لضاعت الفتوح والرواية جميعها‬

‫مضر كوضع السيف في موضع الندى‪.‬‬ ‫ووضع الندى في موضع السيف بالعال‬

‫وفي مثال آخر أرسل عبد الرحمن بن عوف إلى سوق التجارة فكان يقول‪":‬واهلل لو رفعت حجراً لرأيت‬
‫تحته ذهباً"‪ ،‬وأفاض اهلل عليه في العطاء وكانت ثروة لنفسه ولألمة‪ ،‬وأرسل زيد بن ثابت إلى تعلم اللغات‬
‫وحف ظ الق رآن ول و أرس ل زي داً إلى س وق التج ارة وابن ع وف إلى حف ظ اللغ ات لض اعت اللغ ات والتج ارة‬
‫جميعاً‪.‬‬

‫إنها إذن الحكمة في االختيار‪ ،‬وإ نزال الناس منازلهم‪ ،‬ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب‪ ،‬وكل‬
‫ميسر لما خلق له‪.‬‬

‫وقد أفردنا في هذا الكت اب فص الً خاص اً عن س فراء الن بي الكريم والحكم ة والبالغ ة في اختي ار ك ل منهم‪،‬‬
‫وتجنباً للتكرار نحيل إلى ذلك الفصل‪.‬‬

‫ومن الواقعي أن نقول إنه لم ترد في الكتاب وال في السنة شروط خاصة بالسفراء وأصول تعيينهم‪ ،‬ولكن‬
‫تتبع هدي النبي صلى اهلل عليه وسلم في اختيار موظفي الدولة والعاملين على الشأن العام يكشف عن جملة‬
‫من اآلداب والشروط في اختيار السفراء خاصة‪.‬‬

‫ويمكن هنا أن نلتمس من هدي القرآن الكريم والسنة النبوية عدداً من الشروط فيمن يلي سفارة لألمة‪:‬‬

‫أن يكون مواطن اً متمتع اً بالحقوق الوطني ة في بالده‪ ،‬وأن ال يكون له والء لبلد آخر‪ ،‬ألن السفارة‬ ‫‪‬‬
‫صفة تمثيلية لألمة‪ ،‬فال يصح فيها الوالء المتعدد‪ ،‬وإ ذا كانت دولة اإلسالم بلداناً متعددة كما هو‬
‫الح ال في زمانن ا فإن ه ال ب د أن يك ون والؤه لبل د واح د منه ا‪ ،‬وفي ه ذا الس ياق نس تأنس بق ول اهلل‬

‫‪48‬‬
‫ون َو َر ُجاًل َس لَ ًما ِل َر ُج ل‪َ ٍ،‬ه ْل َي ْس تَِوَي ِ‬
‫ان‬ ‫ِ‬
‫اء ُمتَ َشاك ُس َ‬
‫ِ ِ‬ ‫تع الى‪﴿ :‬ض ر َّ‬
‫ب اللهُ َمثَاًل َر ُجاًل في ه ُش َر َك ُ‬ ‫َ َ َ‬
‫َِّ‬
‫ون﴾ ‪.‬‬ ‫َمثَاًل ‪،‬اْل َح ْم ُدلل ِهَبأْل َ ْكثَُر ُه ْماَل َي ْعلَ ُم َ‬
‫(‪)81‬‬

‫أن يتدرج في سلك وظيفي صحيح‪ ،‬فال تصح العهدة بهذه المناصب لمن لم يختبر في عمل عام‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫ألنها مسؤولية وأمانة‪ ،‬وألنه مؤتمن على مصالح األمة‪ ،‬فال يصح المغامرة فيها‪ ،‬بل يحتاط بما هو‬
‫أتم المعايير وأوثقها‪ ،‬وفي هذا السياق نس تأنس بقول الن بي الك ريم ألبي ذر رض ي اهلل عنه‪ :‬يا أبا‬
‫ذر إنك تسأل اإلمارة‪ ،‬وإ نك امرؤ ضعيف‪ ،‬ال تولين على اثنين وال تحكمن في مال يتيم(‪.)82‬‬
‫َهِلهَ ا َوإِ َذا َح َك ْمتُ ْم َب ْي َن‬ ‫َن تُؤ ُّدوا اأْل َم َان ِ‬
‫ات ِإلَى أ ْ‬ ‫َ‬
‫ِ َّ‬
‫وفي هذا السياق عموم قوله تعالى‪﴿ :‬إ َّن اللهَ َي أ ُ‬
‫ْم ُر ُك ْم أ ْ َ‬
‫َن تَ ْح ُك ُم وا بِاْل َع ْد ِل﴾(‪ .)83‬فق د دلت اآلي ة في عمومه ا على وج وب دف ع األمان ات إلى أهله ا‬ ‫الن ِ‬
‫اس أ ْ‬ ‫َّ‬
‫والمنص ب أمان ة فال يج وز دفع ه لغ ير أهل ه‪ ،‬ومن أم ارات اس تحقاقه ت وفر المرش ح له ذا المنص ب‬
‫على الكفاءة المطلوبة والخبرة الوافية‪.‬‬
‫وفي الحديث‪" :‬كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فاإلمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن‬
‫رعيت ه والم رأة راعي ة في بيت زوجه ا وهي مس ئولة عن رعيته ا والول د راع في م ال أبي ه وه و‬
‫مسئول عن رعيته والعبد راع في مال سيده وهو مسئول عن رعيته أال فكلكم راع وكلكم مسئول‬
‫عن رعيته"(‪.)84‬‬
‫أن يك ون اختي اره عن ش ورى‪ ،‬وليس المقص ود هن ا ش ورى س ائر األم ة‪ ،‬ب ل أه ل الح ل والعق د في‬ ‫‪‬‬
‫ه ذا الش أن‪ ،‬بمع نى أن ال ينف رد في التع يين ش خص بمزاج ه‪ ،‬مهم ا علت رتبت ه‪ ،‬ألن تمثي ل األم ة‬
‫مصلحة عامة لسائر المسلمين‪ ،‬وفي هذا السياق نستأنس بما ورد من شورى النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ألصحابه فيما يتصل بتعيينات األمراء والوزراء والسفراء‪ ،‬ومع مكانته صلى اهلل عليه وسلم‬
‫في النبوة والوحي فإنه كان أكثر الناس مشاورة ألصحابه‪ ،‬وفي سبب نزول سورة الحجرات روى‬
‫البخ اري عن عب د اهلل بن الزبيرأن ه‪ ‬ق دم ركب من‪ ‬ب ني تميم‪ ‬على رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم‬
‫األقرع بن حابس"‪ ،‬فقال‪ ‬أبو بكر‪":‬ما‬
‫َ‬ ‫أمر‪ ‬‬ ‫القعقاع بن معبد"‪ ،‬وقال‪ ‬عمر‪" :‬بل ِّ‬ ‫َ‬ ‫"أمر‪ ‬‬ ‫فقال‪ ‬أبو بكر‪ِّ  :‬‬
‫أردت إال خالفي!!" وقال‪ ‬عمر‪" :‬ما أردت خالفك"‪ ،‬فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما‪ ،‬فنزل في ذلك‬
‫َمُن وا اَل تُقَ ِّد ُموا َب ْي َن َي َد ِي اللَّ ِه َو َر ُس وِل ِه"(‪ ..... )85‬وواض ح من الخ بر أن‬
‫ين آ َ‬
‫َِّ‬
‫قول ه تع الى‪َ﴿:‬ي ا أَيُّهَ ا الذ َ‬
‫الن بي ص لى اهلل علي ه وس لم ك ان على ال رغم من تأيي ده ب الوحي يط رح على كب ار الص حابة أم ر‬

‫‪ 81‬سورة المزمل ‪29‬‬


‫‪ 82‬سورة الزمر ‪29‬‬
‫‪ 83‬رواه البيهقي في السنن‪ ،‬ج‪ ،10‬ص ‪118‬‬
‫‪ 84‬صحيح البخاري‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪304‬‬
‫‪ 85‬صحيح البخاري‪ ،‬ج ‪ ،5‬ص ‪168‬‬

‫‪49‬‬
‫التعيينات الهامة‪ ،‬ويعتمد على رأيهم فيها‪ ،‬وواضح أيضاً أنهم كانوا يجتهدون رأيهم ويدافعون عنه‪،‬‬
‫رجاء اختيار األكثر كفاءة وصالحاً‪.‬‬
‫أن يك ون مش هوداً ل ه بالكف اءة والخ برة‪ ،‬وال ب د في ه ذا الس بيل من تحص يل ب رامج تخصص ية يع د‬ ‫‪‬‬
‫فيها السفراء للقيام بواجباتهم على أكمل وجه‪ ،‬وفي هذا السياق نتذكر قول رسول اهلل‪" :‬من استعمل‬
‫خير منه فقد خان اهلل ورسوله﴾(‪.)86‬‬ ‫غيره ٌ‬‫على المسلمين رجالً وهو يرى أن َ‬
‫والمنصب أمانة وتسليمه لغير أهله خيانة‪ ،‬وقد قال اهلل تعالى‪﴿:‬ي ا أَيُّه ا الَِّذين آمُن وا اَل تَ ُخ ُ َّ‬
‫ون وا اللهَ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ون﴾(‪.)87‬‬ ‫ونوا أ ِ‬
‫َم َانات ُك ْم َوأ َْنتُ ْم تَ ْعلَ ُم َ‬
‫الر ُسو َل َوتَ ُخ ُ َ‬
‫َو َّ‬
‫وقد ورد القرآن الكريم شديداً من يقوم بمن ع أص حاب الكف اءات من تس لم حقوقهم ومنه ا حقهم في‬
‫اء ُه ْم﴾‪ ،‬وس مى ه ذا الل ون من‬
‫َش َي َ‬
‫اس أ ْ‬ ‫ت ولي المناص ب ال تي يس تحقون‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬تَْب َخ ُس وا َّ‬
‫الن َ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫البخس إفساداً في األرض فقال مستأنفاً‪﴿:‬واَل تَعثَوا ِفي اأْل َر ِ ِ ِ‬
‫ض ُم ْفسد َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْْ‬
‫أن يكون حسن السمت واالسم والوجه والهيئة‪ ،‬وهنا نستأنس بما ورد عن الخليفة الراشدي عمر‬ ‫‪‬‬
‫بن الخطاب رضي اهلل عنه حيث حدد شروط الدبلوماسي في النقاط التالية( (‪:88‬‬
‫أن يكون اسمه جميالً‪ .‬فاألشياء تؤخذ من عناوينها‪.‬‬ ‫‪o‬‬
‫أن يكون شكله وسيما جميالً‪.‬‬ ‫‪o‬‬
‫أن تكون لغته سليمة‪.‬‬ ‫‪o‬‬
‫وقد ورد في هذا المعنى من حديث الحضرمي بن الحق أن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬إذا‬
‫أبردتم بريداً‪ ،‬فأبردوه حسن الوجه‪ ،‬حسن االسم"(‪.)89‬‬
‫أن يكون عارفاً بثقافة البالد التي يسافر إليها‪ ،‬وال يجوز إرسال مبتعثين دون أن تكون لهم معرفة‬ ‫‪‬‬
‫كافية بالبالد التي سيخدمون فيها‪ ،‬وفي هذا السياق نستأنس بقول رسول اهلل لزيد بن ثابت‪" :‬تأتيني‬
‫كتب بالسريانية فأحب أن أعرف ما فيها فتتبع لي السريانية فتعلمها‪ ،‬فقال زيد فتتبعتها فأتقنتها في‬
‫سبعة عشر يوماً"(‪.)90‬‬
‫وفي ه ذا الس ياق يتعين على المعاه د الدبلوماس ية المتخصص ة توف ير مزي د من دورات اإلع داد‬
‫للبعث ات الدبلوماس ية لتأهيله ا بثقاف ة البالد ال تي تبتعث إليه ا‪ ،‬فهي أمان ة‪ ،‬ومعرف ة المبتعث ب آداب‬
‫األمم وثقافاته ا وقوانينه ا أدعى لتحص يل نج اح حقيقي لخدم ة األم ة‪ ،‬وذه اب من ال يع رف ثقاف ات‬

‫‪ 86‬أخرجه البيهقي في سننه‪ ،‬ج‪ ،10‬ص ‪ ،118‬وفي رواية‪ :‬من ولي من أمر المسلمين شيئا ً فولى رجالً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين‬
‫منه فقد خان هللا ورسوله‬
‫‪ 87‬سورة األنفال ‪27‬‬
‫‪ 88‬الدبلوماسية‪ ،‬للدكتور بو عباه‪ ،‬ص ‪31‬‬
‫‪ 89‬أورده ابن حجر العسقالني في المطالب العالية‪ ،‬وفي سنده مقال‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪8‬‬
‫‪ 90‬مسند أحمد بن حنبل‪ ،‬تحقيق األرناؤوط ج‪ 1‬ص‪215‬‬

‫‪50‬‬
‫البل دان وتاريخه ا وعاداته ا س يؤدي إلى ض ياع مص الح األم ة‪ ،‬وق د ق ال الن بي الك ريم‪" :‬إذا ض يعت‬
‫األمان ة ف انتظر الس اعة قي ل ي ا رس ول اهلل‪ :‬وم ا إض اعتها؟ ق ال‪" :‬إذا وس د األم ر إلى غ يره أهل ه‬
‫فانتظر الساعة"(‪.)91‬‬
‫يكون من المعروفين بالصالح واالستقامة‪ ،‬ألن السفير صورة األمة‪ ،‬وسلوكه ليس شأناً خاص اً‬
‫َ‬ ‫أن‬ ‫‪‬‬
‫يختار فيه ما يشاء إنه يمثل أمته ومن حق األمة أن تخضعه لحمالت مراقبة ومتابعة تتناسب مع‬
‫حجم المسؤولية التي ستلقى عليه‪.‬‬
‫وفي الحديث قال صلى اهلل عليه وسلم في التحذير من تولي المناصب على غير كفاءة‪" :‬إنها أمانة‬
‫وإ نها يوم القيامة خزي وندامة إال من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها"(‪.)92‬‬
‫وفي القرآن الكريم لم يذكر المنصب إال ذكرت معه الكفاءة واألمانة‪ ،‬قال تعالى على لسان نبي اهلل‬
‫يم﴾‪ ،‬وق ال ل ه مل ك مص ر لم ا التق اه‪ِ﴿ :‬إَّن َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫﴿اج َعْلنِي َعلَى َخ َزائِ ِن اأْل َْر ِ‬
‫ك‬ ‫ض ِإِّني َحفي ظٌ َعل ٌ‬ ‫يوس ف‪ْ :‬‬
‫ت اْلقَ ِو ُّ‬ ‫ين أ ِ‬
‫اْلَي ْو َم لَ َد ْيَنا َم ِك ٌ‬
‫ي‬ ‫ْج ْر َ‬ ‫﴿خ ْي َر َم ِن ْ‬
‫اس تَأ َ‬ ‫ين﴾ ‪ ،‬وق الت ابن ة ش عيب حين رغبت بموس ى‪َ :‬‬ ‫َم ٌ‬
‫(‪)93‬‬

‫اأْل َِمين﴾‪ ،‬وعلى سبيل االستئناس‪ ،‬فقد أشارت اآلية إلى صفة جبريل وهو السفير بين اهلل وأنبيائه‪:‬‬
‫اع ثََّم أ ِ‬
‫َم ٍ‬
‫ين﴾(‪.)94‬‬ ‫ط ٍ‬ ‫ش َم ِك ٍ‬
‫ين‪ُ ،‬م َ‬ ‫ند ِذي اْل َع ْر ِ‬
‫ول َك ِر ٍيم‪ِ ،‬ذي قَُّو ٍة ِع َ‬
‫﴿لَقَو ُل رس ٍ‬
‫ْ َ ُ‬
‫ومن الواضح أن تكرر صفة األمانة في سائر هذه النصوص تأكيد على أنها شرط في كل والية‪،‬‬
‫وقد اعتبر النبي صلى اهلل عليه وسلم تولية الخائن وتخوين األمين من شروط الساعة التي تسبق‬
‫خ راب ال دنيا وأهله ا‪ ،‬وفي الواق ع ف إن انتشارالفس اد في أم ة من األمم ه و اق تراب س اعتها وهالك‬
‫أهلها وسقوط حضارتها وأفول نجمها‪.‬‬

‫وأجد من الضروري هنا أن أتحدث عن مسألة القدوة فهي من المسائل الدقيقة التي تختلف فيها الرؤية بين‬
‫اإلسالم والحضارة الغربية‪ ،‬وتناضل مؤسسات الحرية في الغرب من أجل االعتراف بحق الناس في حياة‬
‫خاصة ال سلطان ألحد عليها‪ ،‬وأن المرء ال يطالب بالتزام القدوة‪ ،‬بل عليه أن يؤدي وظائفه بانضباط‪ ،‬وال‬
‫شأن ألحد بعد ذلك بسلوكه الشخصي‪ ،‬وعادة ما يتم الفصل بين أدائه في العمل وبين الحياة الشخصية التي‬
‫يرغبها مهما كانت مسرفة في المجون أو اإلنحالل‪.‬‬
‫ولكن القيم اإلس المية ال تقب ل ه ذا المب دأ‪ ،‬ف القرآن يط الب الم رء ب التزام س لوك الق دوة‪ ،‬ظ اهراً وباطن اً‪ ،‬وال‬
‫تقبل الشريعة اإلسالمية في المسؤول الحكومي أو الموظف أن يؤدي واجبه ثم ينصرف إلى ملذاته بشكل‬

‫‪ 91‬أخرجه البخاري في الصحيح‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪22‬‬


‫‪ 92‬أخرجه مسلم في الصحيح‪ ،‬ج‪ ،3‬ص ‪1457‬‬
‫‪ 93‬سورة يوسف ‪54‬‬
‫‪ 94‬سورة التكوير‪21‬‬

‫‪51‬‬
‫يسيء إلى مكانه في القدوة‪ ،‬وال تعتبر تبرير ذلك بالشأن الخاص أو بالحياة الخاصة للمسؤول مبرراً كافي اً‬
‫ون‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫ون َم ا ال تَ ْف َعلُ َ‬
‫آمُن وا ل َم تَقُولُ َ‬
‫ين َ‬
‫أومقنعاً‪ ،‬وفي هذا السياق جاءت النصوص القرآنية الكثيرة‪َ﴿ :‬ي ا أَيُّهَ ا الذ َ‬
‫ون﴾(‪.)95‬‬ ‫َكبرم ْقتًا ِع َ َّ ِ‬
‫ند الله أَن تَقُولُوا َما ال تَ ْف َعلُ َ‬ ‫َُ َ‬
‫إن ف رض رقاب ة ص ارمة على حي اة الس فراء وتنظيم المتابع ة والمحاس بة في س لوكهم الشخص ي ه و أم ر‬
‫ضروري ال يمكن تجاوزه‪ ،‬وبشكل خاص السفير الذي يمثل صورة بالده ووطنه وقيادته في ض مير األمم‪،‬‬
‫ومن المؤسف أن الدول المتخلفة تفرض هذه الرقابة بصرامة على ما يتصل بوالء السفير للمسؤولين ال ذين‬
‫أرسلوه‪ ،‬ومتابعة ما قد يعود به من ربح عليهم‪ ،‬ولكنها ال تعطي أي اهتمام لسلوك السفير الشخصي الذي‬
‫قد ينغمس في الملذات والمفاسد بشكل يسيء أبلغ اإلساءة إلى صورة بالده‪.‬‬

‫وتجب اإلشارة هنا ما اشتهر في الفقه اإلسالمي من تفضيل الفاجر الخبير على األمين الضعيف‪ ،‬هو أمر‬
‫ال مساق له هنا وربما كان المقصود في ساعة القتال والحرب‪ ،‬وهو ما اختاره ابن تيمية من تولية الرجل‬
‫الف اجر على الح رب إذا ك ان من أه ل الخ برة وتقديم ه على أه ل الص الح ممن ليس ل ديهم تل ك الخ برة أم ر‬
‫مختلف عن الباب الذي نحن بصدده‪.‬‬
‫ونص كالم ابن تيمية رحمه اهلل‪ :‬كان عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه يقول‪" :‬اللهم أشكوا إليك جلد الفاجر‬
‫وعجز الثقة‪ ،‬فالواجب في كل والية األصلح بحسبها فإذا تعين رجالن أحدهما أعظم أمانة واآلخر أعظم‬
‫قوة قدم أنفعهما لتلك الوالية‪ :‬وأقلهما ضررا فيها فتقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع وإ ن كان‬
‫فيه فجور على الرجل الضعيف العاجز وإ ن كان أميناً"‪ ،‬كما سئل اإلمام أحمد‪ :‬عن الرجلين يكونان أميرين‬
‫في الغ زو وأح دهما ق وي ف اجر واآلخ ر ص الح ض عيف م ع أيهم ا يغ زى؟ فق ال‪ :‬أم ا الف اجر الق وي فقوت ه‬
‫للمسلمين وفجوره على نفسه وأما الصالح الضعيف فصالحه لنفسه وضعفه على المسلمين فيغزىمع القوي‬
‫الفاجر وقد قال النبي صلى اهلل عليه و سلم‪" :‬إن اهلل يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر"(‪ .)96‬‬

‫فهذه جملة من الشروط التي ال بد منها لتتحقق قدرة السفير الناجح على تولي هذه األمانة‪ ،‬ومن نافلة القول‬
‫أن أشير هنا إلى أن هذه الشروط ليست محل إجماع أو اتفاق‪ ،‬وإ نما هي قراءة في الشروط العامة لمن يلي‬
‫شيئاً من أمر هذه األمة‪.‬‬

‫‪ 95‬سورة الصف ‪3‬‬


‫‪ 96‬السياسة‪ H‬الشرعية في إصالح الراعي والرعية‪ ،‬البن تيمية‪ ،‬ص‪9‬‬

‫‪52‬‬
‫مشاركة المرأة في الحياة الدبلوماسية‪K:‬‬

‫لقد قصدت إلى إفراد هذا العنوان بشكل خاص لتأكيد حقيقة المشاركة الفعالة التي يمكن أن تؤديها المرأة‬
‫في الحياة الدبلوماسية ولتوضيح بعض الحقائق حول مشاركة المرأة المسلمة في الحياة الدبلوماسية خالل‬
‫التاريخ اإلسالمي‪.‬‬

‫إن مش اركة الم رأة في العم ل الدبلوماس ي خالل الت اريخ اإلس المي ال تب دو واض حة ل دى أول وهل ة‪ ،‬ولكن‬
‫التأمل في سيرة المرأة في عصر الرسالة يجعلك تدرك أن اإلسالم دفع بالمرأة إلى العمل العام وأطلقها من‬
‫قيود الجاهلية وأعلن حقها الكامل في العمل والعطاء‪ ،‬وقد مارست خالل التاريخ هذا الحق بكفاءة واقتدار‪.‬‬

‫ويمكن أن نلتمس مشاركة المرأة المسلمة في الحياة العامة في األيام األولى للدعوة والرسالة‪ ،‬فقد كان أول‬
‫قلب اطمأن باإلسالم قلب خديجة بنت خويلد وقد شاركت هذه السيدة الطاهرة خالل تاريخ الرسالة بدور‬
‫دبلوماسي بالغ األهمية‪ ،‬فقد كان رسول اهلل يشكو إليها أول األمر ما يجده من أمر الوحي‪ ،‬وكان يعود إلى‬
‫داره يرتجف من الخوف وهو يقول زملوني دثروني‪ ،‬وقد أكرمه اهلل تعالى بهذه المرأة الكريمة التي وقفت‬

‫‪53‬‬
‫إلى جانب ه ب وعي ومس ؤولية‪ ،‬وأعلنت موقفه ا من بداي ة الرس الة بقوله ا‪ :‬كال واهلل ال يخزي ك اهلل أب داً إن ك‬
‫لتحمل الكل وتنصر المظلوم وتعين على نوائب الدهر‪.‬‬

‫وخالل فترة المراجعات وفتور الوحي مضت خديجة إلى ورقة بن نوفل وهو عالم بالكتب األولى وذكرت‬
‫ل ه م ا لقي ه الن بي الك ريم‪ ،‬وم ع أن القص ة معروف ة فيم ا ك ان بين الن بي الك ريم وبين ورق ة ولكن م ا نحت اج‬
‫للتذكير به هنا أن النبي الكريم كان يكن أعظم االحترام لعقل السيدة خديجة ووعيها ورأيها‪ ،‬وكان حواره‬
‫م ع ورق ة يعكس ذل ك بجالء‪ ،‬وق د مض ت خديج ة بع د ذل ك إلى المش اركة في الرس الة وك انت تق وم بش راء‬
‫العبيد والموالي الذي تتوسم فيهم القدرة على مناصرة النبي الكريم في رسالته‪.‬‬

‫وحين فرضت عليه قريش حصارها الخانق في شعب أبي طالب كانت خديجة إلى جانبه‪ ،‬واستمرت في‬
‫رسالتها الواضحة في نصرة النبي الكريم‪.‬‬

‫وهن اك دور ه ام لخديج ة في ف ك الحص ار عن الن بي وأص حابه‪ ،‬وذل ك ع بر التف اوض لف ك الحص ار‪ ،‬أو‬
‫بعب ارة أدق في تحس ين ش روط التف اوض م ع ق ريش وذل ك عن طري ق إقن اع ال رأي الع ام بالوج ه الوحش ي‬
‫للحصار الظالم الذي مارسته السلطة في قريش ضد النبي الكريم‪.‬‬

‫كان الرأي العام في مكة ضد رسالة النبي الكريم على أساس أنه يهدد مكانة مكة الدينية كمركز لآللهة‬
‫ومص در لل رزق لزعم اء ق ريش‪ ،‬وبع د حمل ة من االتهام ات الظالم ة عم دت ق ريش إلى كتاب ة وثيق ة ظالم ة‬
‫باالتف اق بين زعم اء ق ريش تح رم فيه ا أي اتص ال م ع رس ول اهلل وأص حابه‪ ،‬وتمن ع تزوي دهم بالطع ام‬
‫والشراب‪ ،‬وتمنع التزاوج منهم أو األصهار إليهم‪.‬‬

‫كان ذلك الحصار قاسيا للغاية‪ ،‬وكانت له أسبابه الدبلوماسية التي مارسها كفار قريش بدهاء ومكر‪ ،‬عبر‬
‫قواف ل من المبع وثين ال ذين أرس لتهم إلى القبائ ل العربي ة تش رح فيه ا أس باب حربه ا على اإلس الم‪ ،‬ورغم‬
‫م رور ع امين اث نين ف إن الحص ار ك ان يش تد على الرس ول الك ريم‪ ،‬ولم تقب ل ق ريش أي تف اوض بش أن ه ذا‬
‫الحصار أقل من تخلي الرسول عن الرسالة‪.‬‬

‫لقد قادت خديجة حملة دبلوماسية حكيمة ودقيقة إلنهاء هذا الحصار‪ ،‬وذلك عبر عمها حكيم بن حزام الذي‬
‫كان ينفق من مال خديجة‪ ،‬ويمرر للمحاصرين أحمال اإلبل من الزاد‪ ،‬وتعمد أن يفعل ذلك بمحضر من‬
‫س فهاء ق ريش األم ر الذي أث ار أب ا جه ل ح تى هم بض ربه‪ ،‬وتفاع ل األمر وته امس الن اس أن قريش اً فق دت‬
‫صوابها حتى تحصر أبناءها في الشعب بدون زاد وال طعام حتى أوشكوا على الموت‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫وبع د نض ج ه ذه المح اوالت ك انت خديج ة تق وم باتص ال ب الغ األهمي ة م ع زعم اء ق ريش من أه ل الش هامة‬
‫والنخوة والحمية عبر عمها حكيم بن حزام واستجاب له عدد منهم وهم زمعة بن األسود وهشام بن عمرو‬
‫وزه ير بن أبي أمي ة والمطعم بن ع دي وأب و البخ تري بن هش ام‪ ،‬وبع د ح وار طوي ل‪ ،‬ق ام ه ؤالء بتمزي ق‬
‫الص حيفة الظالم ة ونجح ال دور الدبلوماس ي لخديج ة وعمه ا حكيم في رف ع الحص ار ال ذي اس تمر س نتين‬
‫وأربعة أشهر في شعب أبي طالب‪.‬‬

‫بعد خمسة وثالثين يوم اً اشتد المرض بالسيدة خديجة وماتت‪ ،‬بعد الخروج من الحصار وقد كان لفراقها‬
‫أثر مؤلم على النبي الكريم‪ ،‬الذي حزن عليها أشد الحزن وسمى العام كله عام الحزن‪ ،‬وكان ال يترك ذكر‬
‫شمائلها وعقلها ونبلها في كل مجالسه‪.‬‬

‫وفي استطراد ذي داللة فإن النبي الكريم لم ينس لها جهادها وبعد عشر سنوات من وفاتها لم ينس لها ذلك‬
‫العط اء الكب ير وحين أكرم ه اهلل بفتح مك ة ون اداه أش رافها إلى بي وتهم ودورهم ومجالس هم الوث ير ليقيم فيه ا‬
‫ولكنه اختار أن يمضي بناقته إلى مقبرة الحجون وهناك عند حجارة سود أمر أن تنصب خيمة انتصاره‪...‬‬
‫لقد أراد أن يقول إن هذه المرأة كانت شريكة كفاحي وهي اليوم شريكة نجاحي‪ ،‬إنها شريكة الصبر وهي‬
‫اليوم شريكة النصر‪.‬‬

‫ومن السيرة النبوية يمكن أن نتذكر دوم اً السيدة الفاضلة أسماء بنت يزيد بن السكن التي جاءت إلى النبي‬
‫الكريم في وفد من نساء قومها ووقفت بجالء وقالت‪ :‬يا رسول اهلل أنا وافدة النساء إليك‪.‬‬

‫عن أس ماء بنت يزي د األنص ارية من ب ني عب د األش هل‪ :‬أنه ا أتت الن بى ص لى اهلل علي ه وس لم وه و بين‬
‫أصحابه فقالت بأبى أنت وأمى يا رسول اهلل أنا وافدة النساء إليك‪ ،‬وما من امرأة كانت فى شرق وال غرب‬
‫سمعت بمخرجي هذا أو لم تسمع إال وهي على مثل رأيي‪ ،‬أن اهلل بعثك إلى الرجال والنساء كافة فأمنا بك‬
‫وبإله ك ف إذا معش ر النس اء محص ورات قواع د بي وتكم ومفض ى ش هواتكم وح امالت أوالدكم وإ نكم معاش ر‬
‫الرجال فضلتم علينا بالجمع والجماعات وعيادة المرضى وشهود الجنائز والحج بعد الحج وأفضل من ذلك‬
‫الجهاد فى سبيل اهلل وإ ن الرجل منكم إذا خرج حاجاً ومعتمراً أو مرابطاً حفظنا لكم أموالكم وغزلنا أثوابكم‬
‫وربين ا لكم أوالدكم أفم ا نش ارككم فى ه ذا الخ ير ي ا رس ول اهلل؟ ف التفت الن بي إلى أص حابه بوجه ه كل ه ثم‬
‫قال‪":‬هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مسائلتها عن أمر دينها من هذه؟" قالوا‪":‬يا رسول اهلل ما ظننا أن‬
‫امرأة تهتدي إلى مثل هذا"‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫لقد كانت أسماء بنت يزيد بن السكن وافدة النساء‪ ،‬وتحدثت بدبلوماسية عالية‪ ،‬وأكدت على صفتها التمثيلية‬
‫لمن وراءها من النساء‪ ،‬بل أعلنت تمثيلها االفتراضي لكل من يتبنى هذا الموقف من النساء‪ ،‬وكان خطابها‬
‫الشهير بحضرة الرجال وفي حرم المسجد وبمسمع من الصحابة‪ ،‬وقد أثار إعجاب الجميع واحترامهم‪.‬‬

‫ومن الواضح أن النبي الكريم قد أعجب بشجاعة المرأة وحسها المسؤول وشارك أصحابه في إعجابه ذاك‬
‫وقالوا ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى هذا‪.‬‬

‫وكانت رسالة النبي الكريم واضحة ومؤثرة حين أعلن بوضوح أن رسالة المرأة ال ينبغي أن تنصرف إلى‬
‫الح روب والمش اركات العس كرية‪ ،‬وإ نم ا خل ق اهلل له ا فض اء من ص ناعة الجم ال واإلب داع في ه ومنح الحي اة‬
‫رونقها األبيض‪.‬‬

‫ولكن اعتراض ه على مش اركة الم رأة في الح روب والتأكيد على الج انب الع اطفي ال ذي أقامه ا اهلل مسؤولة‬
‫عنه‪ ،‬ال يعني أنها ال تشارك في عمل يليق بمكانتها كامرأة‪ ،‬وقد كانت مشاركة المرأة في الحياة العامة في‬
‫عصر الرسالة واضحة جلية‪.‬‬

‫وفي جوابه لها أشار باحترام إلى صفتها التمثيلية للنساء‪ ،‬كما أشار باحترام إلى الدور اإلنساني النبيل الذي‬
‫تقوم به المرأة في نشر الجمال والحب والخير وقال‪" :‬انصرفي أيتها المرأة‪ ،‬وأعلمي من خلفك من النساء‪،‬‬
‫إن حسن تبعل إحداكن لزوجها تعدل ذلك كله"‪ ،‬قال‪" :‬فأدبرت المرأة وهي تهلل وتكبر استبشارا"‪.‬‬

‫وفي الح ديث أن أم عم ارة األنص ارية ج اءت إلى المس جد‪ ،‬فق الت‪" :‬ي ا رس ول اهلل م ا أرى ك ل ش يء إال‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫ين‬‫ين َواْل ُم ْس ل َمات َواْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫للرج ال‪ ،‬وم ا أرى النس اء ي ذكرن بش يء"‪ ،‬ف نزلت اآلي ة الكريم ة‪ِ﴿:‬إ َّن اْل ُم ْس لم َ‬
‫اش ع ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫الص ِادقَ ِ‬ ‫ات و َّ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ات‬ ‫ين َواْل َخ َ‬ ‫الص ابَِرات َواْل َخاش ع َ‬ ‫ين َو َّ‬ ‫الص ابِ ِر َ‬
‫ات َو َّ‬ ‫ين َو َّ‬
‫الص ادق َ‬ ‫ين َواْلقَانتَ َ‬ ‫َواْل ُم ْؤ ِمَن ات َواْلقَ انت َ‬
‫ين اللَّهَ َكثِ يراً‬ ‫َّ ِ‬
‫ظ ات َوال ذاك ِر َ‬
‫ات واْلح ِاف ِظين فُ روجهم واْلح ِاف َ ِ‬
‫َ ُ َ ُْ َ َ‬
‫الص ائِ ِمين و َّ ِ ِ‬
‫الص ائ َم َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ات َو َّ‬ ‫واْلمتَص ِّد ِقين واْلمتَص ِّدقَ ِ‬
‫َ ُ َ َ َ ُ َ‬
‫يما﴾ ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َع َّد اللَّهُ لَهُم َّم ْغ ِف َرةً َوأ ْ‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫َج ًرا َعظ ً‬ ‫َوالذاك َرات أ َ‬
‫(‪)97‬‬

‫ومن المعل وم أن الن بي الك ريم ك ان إذا خ رج في غ زو أق رع بين نس ائه‪ ،‬فمن خ رجت قرعته ا ص حبته في‬
‫غزوات ه‪ ،‬وال ش ك أن خ روج الم رأة في الغ زو لم يكن لون اً من الس ياحة‪ ،‬ف الخروج ك ان في الغ الب إلى‬
‫حرب‪ ،‬وثمة مسؤوليات تنهض بها النساء في النشاط العسكري إلى جوار الرجال‪.‬‬

‫‪ )( 97‬الجامع ألحكام القرآن‪ ،‬لإلمام محمد بن أحمد القرطبي‪ ،‬ج‪ ،14‬تفسير سورة األحزاب‬

‫‪56‬‬
‫عن أم عطية األنصارية قالت‪ :‬غزوت مع رسول اهلل سبع غزوات أخلفهم في رحالهم فأصنع لهم الطعام‬
‫وأداوي لهم الجرحى وأقوم على المرضى(‪.)98‬‬

‫عن أنس بن مالك قال‪" :‬لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي‪ ،‬قال‪ :‬ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم‬
‫سليم‪ ،‬وإ نهما لمشمرتان‪ ،‬أرى خدم سوقهما تنقزان ـ وفي رواية ـ تنقالن القرب على متونهما‪ ،‬ثم تفرغانه‬
‫في أفواه القوم‪ ،‬ثم ترجعان فتمآلنها ثم تجيئان فتفرغانها في أفواه القوم"(‪.)99‬‬

‫وعن الربيع بنت معوذ قالت‪" :‬كنا مع النبي نسقي ونداوي الجرحى‪ ،‬ونرد القتلى إلى المدينة"(‪.)100‬‬

‫وق د عن ون اإلم ام البخ اري له ذا الح ديث‪ :‬ب اب غ زو النس اء وقت الهن م ع الرج ال‪ ،‬وه و جلي في أن خي ار‬
‫المح دثين ال ذين يعت بر البخ اري عم دتهم ك ان مؤي داً لمش اركة الم رأة في المس ؤوليات العام ة وعلى رأس ها‬
‫الجهاد‪.‬‬

‫ولعل أوضح األمثلة على مشاركة المرأة في الحياة السياسية والدبلوماسية ما نقرؤه في أهم شخصية نسائية‬
‫في التاريخ اإلسالمي وهي عائشة زوجة الرسول الكريم التي شاركت بقوة في صناعة القرار السياسي بعد‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وكان لها في كل حدث عام رأي وموقف‪ ،‬وعندما تطورت األمور وقتل‬
‫عثمان بن عفان خرجت تطالب بدمه في الناس واشتهرت الخطب البليغة المؤثرة التي كانت تشرح فيها‬
‫للن اس وج وب الخ روج انتص اراً ل دم الخليف ة المقت ول‪ ،‬وك ان لفص احتها وق وة تعبيره ا أبل غ األث ر في إقن اع‬
‫الناس بصواب موقفها‪ ،‬حتى قال سعيد بن المسيب ما رأيت الكالم في فم أحد أفخم منه وال أفصح منه في‬
‫فم عائشة‪.‬‬

‫وبغض النظر عن صواب خروجها واآلثار التي ترتبت عليه‪ ،‬فإن ما ال شك فيه أنها كانت بصيرة عارفة‬
‫بالشرع ولكنها رأت واجبها الرسالي يفرض عليها قيادة عمل دبلوماسي وسياسي كبير تطور فيما بعد إلى‬
‫عم ل عس كري‪ ،‬وك ان يه دف بوض وح إلى تحقي ق مس ؤولية المجتم ع في وج وب تط بيق العدال ة على قتل ة‬
‫عثمان ومطاردتهم وهو ما قامت به بوضوح وشجاعة‪ ،‬وأصبح موقفها ُمل ِهما لتوجه المرأة عبر التاريخ‬
‫اإلسالمي‪.‬‬

‫واش تهرت الس يدة أم كلث وم بنت علي بن أبي ط الب‪ ،‬وهي زوج ة عم ر بن الخط اب ب دور ه ام في‬

‫‪ )(98‬أخرجه مسلم في الصحيح ج‪ 5‬ص ‪199‬‬


‫‪ )(99‬أخرجه البخاري في الصحيح ج ‪ 4‬ص ‪. ،33‬‬
‫‪ )( 100‬أخرجه البخاري في الصحيح‪ ،‬وعنون له‪ :‬باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال‪ ،‬ج‪ 4‬ص‪.34‬‬

‫‪57‬‬
‫الدبلوماسية بين العرب والروم‪.‬‬

‫وذلك أن عمر بن الخطاب لم يكن راغباً أن يتوسع بالفتح بعد فتح الشام والعراق‪ ،‬وكان يرى أن هذا الفتح‬
‫كاف الستقرار دولة اإلسالم وكان يقول عن فارس وددت لو أن بيننا وبين فارس جبالً من نار ال يصلون‬
‫إلينا وال نصل إليهم‪ ،‬وكذلك فإنه نهى معاوية أن يركب البحر غازي اً للروم‪ ،‬وحين تسامع ملك الروم بذلك‬
‫ترك الغزو وكاتب عمر بن الخطاب وقاربه‪ ،‬ووصلت رسله إلى المدينة المنورة‪.‬‬

‫واشتهر في هذه السفارات الدبلوماسية دور أم كلثوم زوجة عمر بن الخطاب‪ ،‬وذكر ابن األثير في الكامل‬
‫في الت اريخ أن أم كلث وم بنت علي بن أبي ط الب زوج عم ر بن الخط اب أرس لت إلى ام رأة مل ك ال روم‬
‫بِطيب وشيء يصلح للنساء مع البريد فأبلغه إليها‪ ،‬فأهدت امرأة الملك إليها هدايا منها عقد فاخر‪.‬‬

‫ويبدو أن هذه المراسالت قد فعلت فعلها في العالقات بين البلدين‪ ،‬وتعاظمت الهدايا بين أم كلثوم وامرأة‬
‫ملك الروم قسطنطين الثاني‪.‬‬

‫فلما رجع البريد أخذ عمر ما معها ونادى الصالةُ جامعة فاجتمعوا‪ ،‬وأعلمهم الخبر‪ ،‬فقال قائلون‪" :‬هو لها‬
‫بالذي كان لها‪ ،‬وليست امرأة الملك بذمة فتصانعك به‪ ،‬وال تحت يدك فتتقيك"‪ ،‬وقال آخرون‪" :‬قد كنا نهدي‬
‫والبريد بريدهم"‪ ،‬والمسلمون عظموها في صدرها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫لنستثيب"‪ ،‬فقال عمر‪" :‬لكن الرسول رسول المسلمين‬
‫فأمر بردها إلى بيت المال‪ ،‬وأعطاها بقدر نفقتها(‪.)101‬‬

‫وهكذا فإن مشاركة المرأة في الحياة العامة والدبلوماسية بدأت منذ عصر النبوة واستمرت بعد ذلك خالل‬
‫الت اريخ‪ ،‬وس جلت مش اركات كب يرة للم رأة أي ام العباس يين واأليوب يين والممالي ك‪ ،‬ولكن دورهن انحس ر أي ام‬
‫العثمانيين‪.‬‬

‫وفي الس يرة النبوي ة فق رات هام ة من ممارس ة الم رأة للعم ل الدبلوماس ي والنش اط السياس ي وق د أق ر الن بي‬
‫ص لى اهلل علي ه وس لم بعض ه ذه النش اطات ورد بعض ها‪ ،‬ومن ذل ك قي ام الم رأة بمنح الج وار لع دد من‬
‫المطلوبين للدولة‪.‬‬

‫في غزوة بدر أجارت السيدة زينب بنت الرسول الكريم أبا العاص بن الربيع‪ ،‬وأعلنت هذا الجوار وهو‬
‫موق ف دبلوماس ي ه ام‪ ،‬وق د أق ر الن بي الك ريم ج وار زينب‪ ،‬وأطل ق س راح األس ير واش ترط علي ه أن ي أذن‬
‫لزينب بالهجرة إلى المدينة ووفى أبو العاص بما اشترط عليه‪.‬‬

‫‪ 101‬الكامل في التاريخ‪ ،‬البن األثير الجزري‪ ،‬ج‪ ،13‬ص‪19‬‬

‫‪58‬‬
‫ومن الصحابيات الالتي مارسن دوراً دبلوماسياً مهم اً السيدة أم هانئ بنت أبي طالب فقد كانت واحدة من‬
‫أك ثر نس اء الع رب ذك اء وجم االً‪ ،‬وفي ي وم فتح مك ة ق امت أم ه انئ ب دور ه ام في ت أمين ج وار اث نين من‬
‫زعماء قريش الذي كان يطاردهم فتيان الصحابة نظراً لما سلف منهما من عدوان على اإلسالم‪ ،‬ومع أن‬
‫علي بن أبي ط الب ك ان يت ولى أم ر مط اردة ال رجلين ولكن أم ه انئ أعلنت موقفه ا في منحهم ا الج وار‪،‬‬
‫وفتحت داره ا لل رجلين تؤويهم ا من غض ب ش باب الص حابة‪ ،‬وس رعان ماحض ر علي بن أبي ط الب م ع‬
‫مجموع ة من ش باب ق ريش ال ذي ذاق وا مظ الم ق ريش‪ ،‬ولكن أم ه انئ وقفت في وج ه المجموع ة الغاض بة‬
‫وقالت‪" :‬واهلل ال تقتلهما حتى تبدأ بي"‪ ،‬ثم أغلقت الباب حتى أتت النبي الكريم وذكرت له جوارها للرجلين‬
‫وإ يوائهما في دارها فقال النبي الكريم‪" :‬قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ"‪.‬‬

‫وعن عائشة أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬ذمة المسلمين واحدة فإن أجارت عليهم جارية فال‬
‫تخفروها‪ ،‬فإن لكل غادر لواء يوم القيامة"(‪.)102‬‬

‫وهكذا فإن قيام المرأة يمنح الجوار السياسي للمطلوبين للعدالة يعكس المجال الكبير الذي تمتعت به المرأة‬
‫في الحياة الدبلوماسية والعامة‪.‬‬

‫وقد قام بهذا الدور الدبلوماسي الهام في جوار الفارين من المشركين عدد من الصحابيات أبرزهن‪:‬‬

‫أم حكيم بنت الحارث أجارت زوجها عكرمة بن أبي جهل‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫زينب بنت رسول اهلل أجارت زوجها أبا العاص بن الربيع‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫أم ه انئ بنت أبي ط الب أج ارت من قومه ا عب د اهلل بن أبي ربيع ة والح ارث بن هش ام وزه ير بن‬ ‫‪‬‬
‫أبي أمية وجعدة بن هبيرة وأخاها عقيل بن أبي طالب‪.‬‬
‫أم غيالن الدوسية أجارت ضرار بن الخطاب‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫ونكتفي به ذا القدر الذي أوردناه وندع لكتب الفقه التفصيل في ذلك‪ ،‬وبحسبنا أن نشير هن ا إلى أن المراة‬
‫في الت اريخ اإلس المي لم تمن ع من ممارس ة العم ل الع ام‪ ،‬ب ل ش اركت في ه حيث تس نى له ا وف ق ض وابط‬
‫الشريعة في االستقامة والعفاف‪.‬‬

‫والي وم في الحي اة السياس ية المعاص رة انطلقت الم رأة المس لمة من جدي د وش اركت في الحي اة العام ة‪ ،‬ووص لت‬
‫الم رأة في البالد اإلس المية إلى رئاس ة ال وزراء م رارًا كم ا في ميغ اواتي س وكارنو في إندونيس يا أك بر بل د‬
‫إس المي‪ ،‬وفي بنغالديش الش يخة حس ينة واج د‪ ،‬والش يخة خال دة ض ياء‪ ،‬وفي باكس تان بن ازير بوت و‪ ،‬وباكس تان‬
‫اتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة للحافظ البوصيري‪ ،‬ج ‪ ،5‬ص‪191‬‬ ‫‪102‬‬

‫‪59‬‬
‫وبنغالديش هما ثمرة النضال اإلسالمي في القارة الهندية‪ ،‬وتانسو تشيلر في تركيا‪ ،‬وهذه دول إسالمية‪ ،‬تحتكم‬
‫إلى الشريعة اإلسالمية في معظم قوانينها ونظمها‪ ،‬ويسهر على مراقبة ذلك مجامع فقهية تضم علماء دين كبار‬
‫في هذه البالد حيث يزيد سكانها عن ستمائة مليون نسمة‪ ،‬نحو ‪ %95‬منهم من المسلمين‪.‬‬

‫وإ ن ما أرجو أن يتأكد من خالل هذه األمثلة هو أن مايروج له بعض خصوم الرسالة من اضطهاد المرأة‬
‫في المجتمعات اإلسالمية ليس واقعياً‪ ،‬وإ ن المرأة المضطهدة التي يتحدثون عنها موجودة في إطار ضيق‪،‬‬
‫نتيج ة ت راكم جمل ة من األع راف والتقالي د‪ ،‬ربم ا ك ان له ا مؤي د في الفق ه اإلس المي‪ ،‬ولكن ه بعي د عن روح‬
‫اإلسالم‪.‬‬

‫إنن ا ب الطبع ال نس عى إلى حم ل الم رأة على خوض السياسة والدبلوماسية تقحم ا‪ ،‬لمحض التعب ير عن حقها‬
‫في ذلك‪ ،‬إذ المجاالت الطبيعية للمرأة إنما هي تلك النشاطات التي ال تفقد فيها أنوثتها وهي كثيرة وكافية‪،‬‬
‫وهذا المنط ق هو م ا ت دل ل ه اإلحص اءات االجتماعي ة في الع الم‪ ،‬فم ع أن أك ثر من ( ‪ )175‬دول ة في الع الم‬
‫تمنح المرأة حق التصويت والترشيح من أصل (‪ )192‬دولة‪ ،‬فإن الدول الكبيرة التي وصلت فيها المرأة‬
‫إلى سدة الرئاسة األولى والثانية خالل العشرين سنة األخيرة ال تزيد عن (‪ )20‬دولة‪ ،‬منها (‪ )5‬دول إسالمية‪.‬‬

‫وال تزال مشاركة المرأة في الوزارات والبرلمانات رمزية ومحدودة‪ ،‬وليس ذلك بالضرورة نتيجة التأثير‬
‫الديني‪ ،‬فهذا هو الحال حتى في الدول العلمانية‪ ،‬بل في الدول المعادية للدين‪ ،‬وذلك نتيجة واقعية لطبيعة‬
‫المرأة وحاجاتها الفطرية‪.‬‬

‫وهكذا فإن تجلية هذه المسائل أمر ضروري لبيان أمرين اثنين‪:‬‬

‫آ ‪ -‬إن ما تقوم به بعض البالد اإلسالمية بتأثير من التيارات المتشددة فيها من صد المرأة عن المشاركة في‬
‫الحياة العام ة‪ ،‬والحؤول بينها وبين فرص المشاركة والتفوق هو خي ار واحد من خي ارات أخرى في التاريخ‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وهو مردود ببيانات القرآن والسنة التي قدمناها‪ ،‬وهو معارض لما قامت المرأة بإنجازه في عصر‬
‫المجد اإلسالمي‪ ،‬كما بيناه في كفاح عائشة أم المؤمنين‪.‬‬

‫ب‪ -‬إن المنط ق الع دائي ال ذي يمارس ه خص وم اإلس الم لجه ة اتهام ه بتحيي د الم رأة عن الحي اة ه و منهج‬
‫انتقائي يتخير أسوأ ما في تجارب التاريخ والواقع اإلسالمي‪ ،‬ويغض الطرف عامداً عن الجوانب المتألقة‬
‫لم ا تحق ق من مش اركة حقيقي ة للم رأة س واء في عص ر المج د اإلس المي‪ ،‬أو في المجتمع ات اإلس المية‬
‫المتنورة المعاصرة‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫وفي تصريح جلي حول حق المرأة في المشاركة السياسية فإن اإلمام المجتهد شيخ المفسرين الطبري أجاز‬
‫للمرأة أن تلي اإلمارة والقضاء‪ ،‬وهو رواية عن اإلمام مالك وأبي حنيفة في غير الحدود(‪.)103‬‬

‫مسائل تحول بين المرأة والعمل الدبلوماسي‪:‬‬

‫نناقش في هذا الفصل ثالث مسائل فقهية‪ ،‬تبدو أكثر المسائل حساسية ودقة في مسالة مشاركة المرأة في‬
‫الحياة الدبلوماسية‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫سفر المرأة‪.‬‬ ‫‪‬‬


‫مصافحة المرأة‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫النقاب‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫وسنش ير إلى ه ذه المس ائل على س بيل االطالع‪ ،‬دون أن ن دخل في التفاص يل الفقهي ة له ا‪ ،‬فه ذا مكان ه كتب‬
‫الفق ه اإلس المي المتخصص ة‪ ،‬وس نعتمد في مناقش تنا له ذه المس ائل الدقيق ة على بس ط األدل ة دون ت رجيح‪،‬‬
‫ت اركين للق ارئ الك ريم ولمراج ع الفت وى الك رام التق دم باالختي ار وال ترجيح‪ ،‬وبحس بنا أن نق ول إن له ذه‬
‫اإلشكاالت أجوبة شرعية متينة سبق إليها عدد من األئمة الكرام‪.‬‬

‫‪ )( 103‬تحفة األحوذي‪ ،‬شرح الترمذي لمحمد بن عبد الرحمن المباركفوري الحديث رقم ‪2303‬‬
‫وانظر كذلك المغني‪،‬البن قدامة‪ ،‬كتاب القضاء ج‪ 10‬ص ‪ ، 36‬وفيه أن ابن جرير أجاز للمرأة أن تكون قاضية إذ يجوز أن تكون مفتية‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫وال بد من التذكير كذلك أن الفقه اإلسالمي غني وثري‪ ،‬ومرن ومستوعب‪ ،‬وهو ديوان العقل اإلسالمي في‬
‫فترة صعود حضاري‪ ،‬وال زال اهلل تعالى يكرم هذه األمة بالمفكرين والفقهاء في كل جيل الذين يرفع اهلل‬
‫يد اللَّهُ ِلَي ْج َع َل َعلَْي ُك ْم ِم ْن َح َر ٍج﴾‬
‫بهم الغمة ويرفع الحرج‪ ،‬وفق ما قال اهلل تعالى في القرآن الكريم‪َ ﴿ :‬م ا ُي ِر ُ‬
‫يد اللَّهُ بِ ُك ُم اْلُي ْس َر َوال ُي ِر ُ‬
‫يد بِ ُك ُم اْل ُع ْس َر﴾(‪.)105‬‬ ‫‪ ،‬وكذلك قوله تعالى‪ُ﴿ :‬ي ِر ُ‬
‫(‪)104‬‬

‫سفر المرأة‪:‬‬

‫لعل أكثر ما يحول بين المرأة والعمل في الحقل الدبلوماسي هو الفتوى المشهورة من تحريم سفر المرأة‬
‫بغير محرم‪ ،‬وال شك أن مقتضى ذلك منع النساء من العمل الدبلوماسي الذي يتطلب السفر باستمرار‪ ،‬وقد‬
‫ال يتوفر المحرم في كثير من هذه األسفار‪.‬‬

‫والواقع أن اجتهادات الفقهاء في اإلسالم فيما يتصل بسفر المرأة بدون محرم لم تلزم رأياً واحداً‪ ،‬وقد ذهب‬
‫كث ير من الفقه اء أن ه ذا المن ع معل ل بحال ة فق د األمن والخ وف من الهالك واالنف راد والخل وة‪ ،‬وأن ه ذه‬
‫المسألة من باب أن ما ثبت لعلة زال بزوالها‪ ،‬وأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً‪.‬‬

‫واألصل في منع المرأة من السفر بدون محرم الحديث الشريف‪" :‬ال يحل المرأة تؤمن باهلل واليوم اآلخر‬
‫أن تس افر س فرا ف وق ثالث ة أي ام فص اعداً إال ومعه ا أبوه ا أو أخوه ا أو زوجه ا أو ابنه ا أو ذو مح رم‬
‫منها"(‪.)106‬‬

‫ويقضي ظاهر النص منع المرأة من السفر مطلق اً إال بوجود المحرم‪ ،‬وهو ما ال يتيسر لكل امرأة‪ ،‬ومن‬
‫غير المعقول أن تعطل طاقة اجتماعية كاملة لمجرد تحقيق رفقة طاقة أخرى‪ ،‬فإلى أي مدى مضى الفقه‬
‫اإلسالمي في إعمال هذا الحديث‪ ،‬وهل داللته الظاهرة محل اتفاق بين المسلمين‪ ،‬أم أنه مرتبط بعلة خاصة‬
‫وجوداً وعدماً‪.‬‬

‫لقد ك ان الس فر في عه د النبي ضرباً من المش قة القاس ية‪ ،‬وك ان س فر المرأة ثالث ة أي ام بال محرم يش به أن‬
‫يكون مفسدة مؤكدة‪ ،‬وخطراً حقيقياً على المرأة‪ ،‬ولم تكن قد جدت الحاجة الرتحال المرأة في تحصيل العلم‬

‫‪ 104‬سورة المائدة ‪6‬‬


‫‪ 105‬سورة البقرة ‪186‬‬
‫‪ )( 106‬رواه البخاري في الصحيح‪ ،‬وعنون له‪ :‬باب المرأة تحج بغير محرم‪ ،‬ج‪ 2‬ص‪ 43‬عن أبي سعيد الخدري‪ ،‬ورواه كذلك مسلم‬
‫والترمذي وله لفظ‪ :‬مسيرة يوم وليلة‪ ،‬وفي رواية ألبي داود‪ :‬ال تسافر بريداً‪ ،‬وهو نحو عشرين ميالً‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫والمعرفة في المدن‪.‬‬

‫ولكن الفقه اإلسالمي بدأ يدرك مع األيام الحاجة الملحة النتقال المرأة ويمكن هنا أن نورد طرفا من خيار‬
‫الفقهاء في هذا السبيل‪.‬‬

‫نظر اإلمام الشافعي في مسألة حج المرأة إلى غاية هذا القيد وهو تحقق األمن للمرأة فقال‪" :‬ال يتعين هذا ـ‬
‫أي المحرم ـ بل الواجب هو ما يتحقق به األمن عليها كأن تحج مع نسوة ثقات"(‪.)107‬‬

‫ونص اإلم ام الب اجي من أعالم المالكي ة في الم رأة المتجال ة (الكب يرة)‪" :‬تس افر كي ف ش اءت بال زوج وال‬
‫محرم"(‪ ،)108‬ونقل هذا الرأي عن القاضي عياض(‪.)109‬‬

‫أما اإلمام األوزاعي فقد ذهب إلى تحرير العلة من هذا المنع بخوف الفتنة‪ ،‬وانفراد المرأة في السفر البعيد‬
‫مع جماعة من الرجال‪ ،‬فقال‪ :‬وال شك أن القوافل العظيمة تقوم مقام المحرم في تحقيق األمن للمرأة ولو‬
‫مع فقد المحرم(‪.)110‬‬

‫وبمثل ه نق ل الترم ذي عن مال ك بن أنس والش افعي‪ :‬إذا ك ان الطري ق آمن ا فإنه ا تخ رج م ع الن اس في‬
‫الحج(‪ ،)111‬وهذا القول نفسه نقله النووي في شرح صحيح مسلم عن عطاء وسعيد بن جبير وابن سيرين‬
‫ومالك واألوزاعي والشافعي‪" :‬ال يشترط المحرم بل يشترط األمن على نفسها"(‪.)112‬‬

‫وس ئل اإلم ام مال ك عن الم رأة تري د الحج وليس له ا ولي؟ ق ال‪" :‬تخ رج م ع من تث ق ب ه من الرج ال‬
‫والنساء"(‪.)113‬‬

‫وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري‪ :‬استدل بحديث عائشة‪" :‬أحسن الجهاد وأجمله الحج" على جواز حج‬
‫المرأة مع من تثق به ولو لم يكن زوج اً وال محرم اً‪ ..‬وقد أذن عمر لنساء النبي في الحج من غير محرم‬
‫ولم ينكر عليه(‪.)114‬‬

‫وعلى ه دي خي ارات الفقه اء ف إن من اليس ير الق ول إذن إن ه ذا الحكم معل ل بعل ة فق د األمن‪ ،‬وب ذلك ي دور‬
‫‪ )(107‬مغني المحتاج للخطيب الشربيني‪ ،‬ج‪ 5‬ص‪402‬‬
‫‪ )(108‬حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب ج ‪ 8‬ص‪250‬‬
‫‪ )(109‬كمال المعلم شرح صحيح مسلم للقاضي عياض ج‪ 4‬ص‪232‬‬
‫‪ )(110‬المنتقى شرح الموطأ للباجي المالكي وقد عزاه إلى اإلمام األوزاعي‪ ،‬ج‪ 4‬ص‪434‬‬
‫‪ )( 111‬تحفة األحوذي بشرح سنن الترمذي‪ ،‬للمباركفوري ج‪ 7‬ص‪344‬‬
‫‪ )(112‬شرح صحيح مسلم للنووي‪ ،‬ج ‪ 9‬ص‪104‬‬
‫‪ )( 113‬المدونة الكبرى لإلمام مالك بن أنس برواية عبد الرحمن األصبحي‪ ،‬جـ‪ 1،‬ص‪450‬‬
‫‪ )( 114‬فتح الباري بشرح صحيح البخاري‪ ،‬البن حجر العسقالني جـ‪ ،4‬ص‪446‬‬

‫‪63‬‬
‫الحكم مع علته وجوداً وعدماً‪ ،‬وال شك أن األمن الذي يتوفر اليوم للفتاة المحتشمة تسافر في علم أو عمل‪،‬‬
‫وتقيم في سكن مناسب مع مجموعة من الطالبات‪ ،‬أو تسافر بالطائرة إلى عمرة أو حج أو اللحاق بزوج أو‬
‫والدين‪ ،‬في شركات مأمونة مضمونة‪ ،‬ال شك أن ذلك على اختالف أشكاله أصبح مأمون اً غاية األمن في‬
‫زماننا‪.‬‬

‫وقد وردت آثار كثيرة عن النبي تشير إلى أن األمن سيغلب على األرض وأن المرأة ستسافر من الحيرة‬
‫حتى تطوف بالبيت من غير أن يص حبها أحد‪ ،‬من ذلك ما أخبر به النبي ص لى اهلل عليه وسلم عدي بن‬
‫حاتم بقوله‪" :‬يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تؤم البيت ال جوار معها"(‪.)115‬‬

‫وال ش ك أن بش ارة الن بي به ذا‪ ،‬واستبش اره ب ه قرين ة قوي ة في أن ه ل و انتفى الخ وف ف إن س فر الم رأة ب دون‬
‫محرم وارد وممكن‪ ،‬بل هو من أعظم إنجازات اإلسالم في األرض‪.‬‬

‫وليس مقتض ى ذل ك إعف اء الم رأة من مس ؤوليتها‪ ،‬ب ل إن رعاي ة ه ذه االعتب ارات يجع ل الم رأة مباش رة في‬
‫موق ع المس ؤولية‪ ،‬إذ هي المكلف ة أص الً باجتن اب مواض ع الفتن ة‪ ،‬ورب فتن طاغي ة وفرته ا التكنولوجي ا‬
‫الحديث ة للرج ل والم رأة على الس واء وهم ا في الحض ر‪ ،‬تجع ل مظن ة الفتن ة في ال دار أك بر من المظن ة في‬
‫السفر‪.‬‬

‫مصافحة النساء‪:‬‬

‫يب دو ه ذا الب اب من أك ثر األب واب حرج اً في العم ل الدبلوماس ي‪ ،‬حيث تحكم المص افحات والمج امالت‬
‫أع راف دبلوماس ية كث يرة‪ ،‬وربم ا ترم ز المص افحة أو ع دم المص افحة إلى موق ف سياس ي ال يري د أي من‬
‫الفريقين اإلشارة إليه‪ ،‬األمر الذي يفترض بيان بعض الحقائق في هذا السبيل‪.‬‬

‫إن امتناع المرأة عن المصافحة في الفقه اإلسالمي له نظائر كثيرة في تقاليد األمم‪ ،‬وينص قانون العرش‬
‫البريط اني على مناص ب مح ددة يس مح له ا بمص افحة الملك ة‪ ،‬ويعت بر امتن اع الملك ة عن المص افحة أم راً‬
‫مبرراً في القانون يجب احترامه‪ ،‬كما تنص اآلداب اليابانية والصينية على آداب خاصة تتصل بالمصافحة‬
‫واالنحن اء‪ ،‬وهي تقالي د تحظى ب احترام ل دى تل ك الش عوب ومن ش أن اللياق ة الدبلوماس ية أن تح ترم تل ك‬
‫العادات‪.‬‬

‫‪ )(115‬رواه البخاري في كتاب المناقب‪ H،‬باب عالمات النبوة في اإلسالم‪ ،‬ج‪ 3‬ص ‪1316‬‬

‫‪64‬‬
‫وفي المجتم ع اإلس المي فق د اعتم دت ع دة دول عربي ة وإ س المية مب دأ غي اب الم رأة عن ال بروتوكول‬
‫الدبلوماسي‪ ،‬وهو أمر ال اعتراض عليه دبلوماسياً‪ ،‬ولكنه في الواقع كرس الصورة النمطية عن اإلسالم‬
‫التي يكرسها الخطاب الغربي عموماً وهو أن المرأة المسلمة مغيبة ومنتقصة الحقوق‪.‬‬

‫كما قامت المرأة المسلمة في كثير من البلدان اإلسالمية بالمشاركة في النشاط الدبلوماسي بحجابها دون أن‬
‫تصافح الرجال‪.‬‬

‫وم ع ذل ك ف إن من ض رورة ه ذه الدراس ة أن تبس ط األدل ة لك ل من الف ريقين‪ ،‬دون أن نت دخل ب الترجيح بين‬
‫األدلة‪ ،‬تاركين ذلك للعلماء والفقهاء في كل بلد إسالمي‪.‬‬

‫وجملة القول أن الذين ذهبوا إلى حرمة المصافحة استدلوا بأدلة كثيرة أشهرها اثنان‪:‬‬

‫قوله صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬إني ال أصافح النساء"(‪.)116‬‬ ‫‪‬‬


‫وقول عائشة رضي اهلل عنها‪" :‬ما مست يد رسول اهلل يد امرأة قط"(‪.)117‬‬ ‫‪‬‬

‫أما الذين رأوا جواز المصافحة فقد استدلوا بأدلة كثيرة أشهرها اثنان‪:‬‬

‫حديث مارية التميمية‪ :‬قالت‪":‬صافحت رسول اهلل فلم أر كفاً ألين من كفه"(‪.)118‬‬ ‫‪‬‬
‫ح ديث بيع ة النس اء‪ :‬عن هن د بنت عتب ة أنه ا ق الت‪" :‬ي ا ن بي اهلل! ب ايعني؟ فنظ ر إلى ي دها فق ال‪" :‬ال‬ ‫‪‬‬
‫أبايعك حتى تغيري كفيك كأنهما كفا سبع"‪ ،‬فذهبت فغيرتهما بحناء ثم جاءت فبايعته(‪ .)119‬‬

‫فهذه باختصار األدلة المتقابلة‪ ،‬وال شك أن للعلماء كالم اً في كل واحد منها‪ ،‬وبحسبك االطالع على األمر‬
‫وما ذهب إليه الفريقان واختيار ما هو أنفع لإلسالم والمسلمين‪.‬‬

‫النقاب‪:‬‬

‫رواه االمام مالك‪ ،‬انظر المنتقى‪ ،‬شرح الموطأ‪ ،‬ج‪ ،4‬ص ‪ ،442‬كما رواه النسائي وأحمد‬ ‫‪116‬‬

‫رواه البخاري ومسلم‪ ،‬البخاري ج‪ 7‬ص‪ 49‬ومسلم ج‪ 6‬ص‪29‬‬ ‫‪117‬‬

‫اإلصابة في تمييز الصحابة‪ ،‬ج ‪ ،8‬ص ‪ ،113‬وكذلك االستيعاب في معرفة االصحاب‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪119‬‬ ‫‪118‬‬

‫رواه أبو داود في سننه ج‪ ،2‬ص ‪475‬‬ ‫‪119‬‬

‫‪65‬‬
‫ال شك أن النقاب يعتبر عائقاً حقيقياً بين المرأة وبين العمل الدبلوماسي‪ ،‬ويمكن القول بأن المرأة المنقبة ال‬
‫تستطيع أن تمارس العمل الدبلوماسي‪.‬‬

‫ومن المؤكد أن التزام النقاب لم يكن عام اً في الصحابيات فقد كان منهن من تلتزمه ومنهن من ال تلتزمه‪،‬‬
‫وكان في نساء الصحابة من وصفت بالحميراء والزهراء والبيضاء والسوداء والسفعاء وغير ذلك‪ ،‬وهذه‬
‫األوصاف كلها ال تتأتى بدون كشف الوجه‪.‬‬

‫وقد فهم عدد من الفقهاء وجوب النقاب من آيتين كريمتين في كتاب اهلل‪:‬‬

‫ظهََر ِم ْنهَا َوْلَي ْ‬


‫ض ِر ْب َن بِ ُخ ُم ِر ِه َّن َعلَى ُجُيوبِ ِه َّن﴾(‪.)120‬‬ ‫ين ِز َينتَهُ َّن ِإاَّل َما َ‬ ‫ِ‬
‫األولى آية النور‪َ ﴿:‬وال ُي ْبد َ‬

‫ين َعلَْي ِه َّن ِمن َجالبِيبِ ِه َّن َذِل َ‬


‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الم ْؤ ِمن َ‬
‫ين ُي ْدن َ‬
‫ك وبَناتِ َ ِ ِ‬
‫ك َون َس اء ُ‬ ‫النبِ ُّي ُق ل أل َْز َوا ِج َ َ َ‬
‫والثانية آية األحزاب‪َ﴿ :‬ي ا أَيُّهَ ا َّ‬
‫أ َْدَنى أَن ُي ْع َر ْف َن فَالَ ُي ْؤ َذ ْي َن﴾(‪.)121‬‬

‫وال خالف أن النص الق رآني في المس ألة قطعي الثب وت في التنزي ل ظ ني الدالل ة في التأوي ل‪ ،‬فق د اختل ف‬
‫الفقهاء في تأويله اختالفاً كثيراً‪ ،‬وهو ما دونه علماء التفسير بتفصيل كبير‪.‬‬

‫ظهََر ِم ْنهَ ا﴾ إلى‬


‫ين ِز َينتَهُ َّن ِإاَّل َما َ‬ ‫ِ‬
‫وتعددت أقوال الصحابة والتابعين في تأويل المراد بقوله تعالى‪َ ﴿ :‬وال ُي ْبد َ‬
‫نح و اث ني عش ر ق والً ت تردد بين الق ول بمن ع ظه ور أي ش يء من الم رأة وه و ق ول ابن مس عود إلى الق ول‬
‫بجواز بدو يديها وقدميها ووجهها وهو قول ابن عباس(‪.)122‬‬

‫ولو أراد القطع والحسم لقال‪ :‬وليضربن بخمرهن على وجوههن‪ ،‬ولقال وال يبدين شيئاً من وجوههن بال‬
‫استثناء‪.‬‬

‫َن ُي ْع َر ْف َن فَال ُي ْؤ َذ ْين﴾إلى نحو‬ ‫كم ا تع ددت أقوالهم في الم راد بإدن اء الجلب اب في قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬ذِل َ‬
‫ك أ َْدَنى أ ْ‬
‫ثماني ة أق وال‪ ،‬منه ا أن الم راد أن ت دني الجلب اب ليعرفه ا الن اس فال ينالوه ا ب أذى‪ ،‬ألن الح رة إذا عرفه ا‬
‫السفهاء أعرضوا عنها‪ ،‬وإ نما يتناولون باألذى من ال يعرف لها أهل وال قرابة‪.‬‬

‫ولو أراد القطع لقال‪ :‬ذلك أدنى أن ال يعرفن فال يؤذين‪.‬‬

‫‪ 120‬سورة النور ‪31‬‬


‫‪ 121‬سورة األحزاب ‪59‬‬
‫‪ 122‬تفسير الجامع ألحكام القرآن القرطبي‪ ،‬سورة النور آية ‪31‬‬

‫‪66‬‬
‫وال خالف أن الم رأة نهيت عن النق اب في إحرامه ا ب الحج‪ ،‬واعت بر س فورها إحرام اً الزم اً لص حة نسكها‪،‬‬
‫وفي الح ديث أن الن بي ص لى اهلل علي ه وس لم أردف خلف ه الفض ل بن العب اس وه و مح رم فجاءت ه ام رأة‬
‫خثعمية وضيئة الوجه‪ ،‬فجعلت تسأله والفضل بن العباس ينظر إليها‪ ،‬فحول رسول اهلل وجهه إلى الطرف‬
‫اآلخر فجعل ينظر إليها من الشق اآلخر(‪.)123‬‬

‫وكان غاية أمره صلى اهلل عليه وسلم أنه أمر الفضل بغض البصر ولم يأمر المرأة بالنقاب‪.‬‬

‫وبالجملة فهذه هي األقوال معزوة إلى مراجعها المعتمدة وليس من شرط هذه الدراسة أن تتولى الترجيح‬
‫والفتوى‪ ،‬بل تبسط األدلة بين يدي العلماء‪ ،‬رجاء إظهار عذر من أخذ بكل دليل‪ ،‬وإ ن أعلم الناس أعلمهم‬
‫باختالف الناس‪ ،‬واختالف الفقه اء توس عة على األمة ورحمة‪ ،‬وق د ق ال عم ر بن عبد العزيز‪":‬م ا أحب أن‬
‫أصحاب رسول اهلل لم يختلفوا‪ ،‬لو لم يختلفوا لم تكن سعة"‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬

‫حصانة السفراء‪:‬‬
‫لم ترد في الفقه اإلسالمي عبارات حصانة السفراء أو حصانة السلك الدبلوماسي‪ ،‬ولكن المعاني المقصودة‬
‫بهذه العناوين واردة بوفرة في كتب الفقه اإلسالمي في باب الجهاد باب المستأمنين وأهل العهد‪ ،‬وهو باب‬
‫ال يخلو منه كتاب فقه إسالمي مرجعي‪.‬‬

‫وسنتناول مسألة الحصانة من زوايا أربعة وفق اً لما قررته اتفاقية فيينا الخاصة بالعالقات الدبلوماسية في‬
‫الدول‪ ،‬ونتناول منها‪:‬‬

‫‪ 123‬صحيح البخاري‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪551‬‬

‫‪67‬‬
‫الحصانة الشخصية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫الحصانة القضائية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫الحصانة المالية‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ )1‬الحصانة الشخصية‪:‬‬

‫نصت اتفاقية فيينا لعام ‪ 1961‬على مبدأ حصانة المبعوثين الدوليين‪ ،‬مما ورد فيها‪" :‬ﺤﺭﻤﺔ االعتداء ﻋﻠﻰ‬
‫ﻤﻥ ﺃﻨﻭﺍﻉ ﺍﻷﺫﻯ"‪.‬‬ ‫(‪)124‬‬
‫ﺸﺨﺹ ﺍﻟﻤﺒﻌﻭﺙ ﺍﻟﺩﺒﻠﻭﻤﺎﺴﻲ ﻭﺫﺍﺘﻪ‪ ،‬ﻓﻼ ﻴﻘﺘل ﻭﻻ ﻴﺅﺫﻯ ﺒﺠﺭﺡ ﺃﻭ ﻀﺭﺏ ﺃﻭ ﻏﻴﺭﻩ‬

‫ﻭﻤﻨﻬﺎ‪ :‬ﻋﺩﻡ ﺘﻌﺭﻴﻀﻪ ﻟﻺﻫﺎﻨﺔ‪ ،‬ﻭﺃﻱ ﻨﻭﻉ ﻤﻥ ﺃﻨﻭﺍﻉ ﺍﻷﺫﻯ ﺍﻟﻨﻔﺴﻲ‪ ،‬ﺒل ﻴﺠﺏ ﻤﻌﺎﻤﻠﺘﻪ ﺒﺎﺤﺘﺭﺍﻡ ﻻﺌـﻕ‪،‬‬
‫وﺨﻼﺼﺔ ﺫﻟﻙ ﺃﻨﹼﻪ ﻴﺤﺭﻡ االعتداء ﻋﻠﻰ ﺸﺨﺼﻪ ﺃﻭ ﺤﺭﻴﺘﻪ ﺃﻭ كرامته‪.‬‬

‫ﻭﻤﻤﺎ ﻴﻨﺩﺭﺝ ﺘﺤﺕ ﻤﺒﺩﺃ ﺍﻟﺤﺼﺎﻨﺔ ﺍﻟﺸﺨﺼﻴﺔ كل ﻤﺎ ﻴﺘﻌﻠﻕ ﺒﺤﻤﺎﻴﺔ ﻤﻨﺯﻟﻪ ﻭﺤﻤﺎﻴﺔ ﺃﻭﺭﺍﻗﻪ ﻭﻤﺭﺍﺴﻼﺘﻪ‪ ،‬ﻭﺍﻟﺴﻤﺎﺡ‬
‫ﻟﻪ ﺒﺤﺭﻴﺔ ﺍﻟﺴﻔﺭ ﻭﺍﻟﺘﻨﻘل ﻓﻲ ﺇﻗﻠﻴﻡ ﺍﻟﺩﻭﻟﺔ‪.‬‬

‫وقد ﻨﺼﺕ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ ‪ 30‬ﻤﻥ ﻫﺫﻩ ﺍﻻﺘﻔﺎﻗﻴﺔ ﻓﻲ ﻓﻘﺭﺘﻬﺎ ﺍﻷﻭﻟﻰ ﻋﻠﻰ ﺤﺭﻤﺔ ﻤﺴﻜﻥ ﺍﻟﻤﺒﻌﻭﺙ‪ ،‬ﻭﻨﺼﺕ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﻘﺭﺓ‬
‫ﺍﻟﺜﺎﻨﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﺤﺭﻤﺔ ﺍﻷﺸﻴﺎﺀ ﺍﻟﻤﺘﻌﻠﻘﺔ ﺒﻪ ﻤﻥ ﺃﻤﻭﺍل ﻭﻤﺴﺘﻨﺩﺍﺕ ﺃﻭ ﻤﺭﺍﺴﻼﺕ‪.‬‬

‫وفي الواقع فإن هذا اللون من الحصانة مقرر في الشريعة لكل إنسان بغض النظر عن جنسيته ودينه ولونه‬
‫وقومه‪ ،‬طالما أنه دخل الدولة اإلسالمية بإذن صحيح‪ ،‬فقد تواترت النصوص القرآنية الكريمة على حرمة‬
‫دم اإلنسان وماله وعرضه‪ ،‬وعدم جواز المساس بها بأي لون من األذى‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬وال تَ ْقتُلُ وا َّ‬
‫الن ْف َس‬
‫طاناً فَال يس ِر ْ ِ‬ ‫ظلُوم اً فَقَ ْد جعْلَن ا ِلوِلي ِ‬
‫ق‪َ ،‬و َم ْن قُتِ َل َم ْ‬
‫الَّتِي َح َّر َم اللَّهُ ِإالّ بِ اْل َح ِّ‬
‫ف في اْلقَ ْت ِل ِإَّنهُ َك َ‬
‫ان‬ ‫ُْ‬ ‫ِّه ُس ْل َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫صوراً﴾‪.125‬‬ ‫َم ْن ُ‬

‫اه ا‬ ‫اس َج ِميع اً َو َم ْن أ ْ‬


‫َحَي َ‬ ‫س أ َْو فَ َس ٍاد ِفي األ َْر ِ‬
‫ض فَ َكأََّن َم ا قَتَ َل َّ‬
‫الن َ‬ ‫وفي الق رآن الك ريم‪َ ﴿ :‬من قَتَ َل َن ْفس اً بِ َغ ْي ِر َن ْف ٍ‬
‫اس َج ِميعاً﴾‪.126‬‬ ‫َحَيا َّ‬
‫الن َ‬ ‫فَ َكأََّن َما أ ْ‬

‫‪ 124‬ﺍﻟﻤﺩﺨل ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻘﺎﻨﻭﻥ ﺍﻟﺩﻭﻟﻲ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﻭﻗﺕ ﺍﻟﺴﻠﻡ‪ ،‬للدكتور عزيز شكري ﺹ‪ ،342‬وعلي صادق أبو هيف‪،‬ﺍﻟﻘﺎﻨﻭﻥ ﺍﻟﺩﻭﻟﻲ ﺍﻟﻌﺎﻡ‪ ،‬ﺹ‪.496‬‬

‫‪ 125‬سورة اإلسراء ‪33‬‬


‫‪ 126‬سورة المائدة ‪32‬‬

‫‪68‬‬
‫ومن المالحظ في اآليتين أن القرآن هنا لم يقل من قتل مؤمن اً أو مسلماً بل من قتل نفس اً‪ ،‬وهو يشمل كل‬
‫إنسان كائناً ما كان دينه‪.‬‬

‫وفي حج ة ال وداع ق ال الن بي الك ريم ص لى اهلل علي ه وس لم‪" :‬أيه ا الن اس إن دم اءكم وأم والكم وأعراض كم‬
‫حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا‪ ...‬أال هل بلغت‪ ..‬اللهم فاشهد"‪.‬‬

‫ومن الجدير ذكره أن خطاب النبي صلى اهلل عليه وسلم للناس يوم الحج األكبر كان بصيغة يا أيها الناس‪،‬‬
‫وهو شامل لك ألحد‪ ،‬فتجب عصمة الدماء ويجب توفير الكرامة لكل إنسان‪.‬‬

‫ومع ذلك فقد خص النبي صلى اهلل عليه وسلم المعاهدين والمستأمنين بنصوص خاصة تفرض احترامهم‬
‫وتحقق أمنهم وتحمي تحركاتهم‪ ،‬وذلك حتى ال تلتبس األمور على الناس‪ ،‬بين المشرك المحارب والمشرك‬
‫المسالم‪ ،‬الذي دخل في أمن األمة وجوارها‪ ،‬قال صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬

‫"من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة‪ ،‬وإ ن ريحها ليوجد من مسيرة اربعين عاماً"(‪.)127‬‬

‫وفي حديث آخر قال صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬أال من قتل نفس اً معاهدة لها ذمة اهلل وذمة رسوله فقد أخفر‬
‫ذمة اهلل وال يرح رائحة الجنة"(‪.)128‬‬

‫ولعل من أوضح صور حماية المعاهد والمستأمن قيامه صلى اهلل عليه وسلم باستقبال وفود الدول المحارب ة‬
‫على ال رغم من س وء بغيهم وح ربهم على اإلس الم‪ ،‬فق د اس تقبل رس ولي كس رى خرخس ره وبابوي ه وأك رم‬
‫وفادتهم ا م ع أن س فارتهما ك انت في غاي ة البغي والل ؤم‪ ،‬وكان ا يحمالن أم راً ينص على ض بط وإ حض ار‬
‫محمد بن عبد اهلل القرشي إلى موالهما كسرى‪.‬‬

‫ك ذلك فإن ه اس تقبل رس ولي مس يلمة الك ذاب ابن أث ال وابن النواح ة‪ ،‬ومعهم ا كت اب مس يلمة إلى رس ول اهلل‬
‫ونصه‪" :‬من مسيلمة رسول اهلل إلى محمد رسول اهلل!!‪ ..‬أما بعد فإني قد أشركت في األمر ‪ ..‬لك نصف‬
‫األرض من قبلك ولنا نصف األرض من قبلنا‪ ،‬ولكن قريشاً قوم يعتدون!!"‬

‫وحين سألهما النبي صلى اهلل عليه وسلم عن موقفهما أفحشا في القول‪ ،‬وحين سألهما ما تقوالن في مسيلمة‬
‫قاال‪":‬نقول إنه رسول اهلل"‪ ،‬وحين سألهما ما تقوالن في قاال‪" :‬ال نعلمك رسوالً هلل!!!"‪.‬‬

‫‪ 127‬صحيح البخاري‪ ،‬ج‪ 4‬ص‪99‬‬


‫‪ 128‬أخرجه اإلمام أحمد في مسنده‪ ،‬ج‪ ،5‬ص ‪36‬‬

‫‪69‬‬
‫وقال رسول اهلل لهما‪" :‬لوال أن الرسل ال تقتل لقتلتكما"‪ ،‬وفي رواية "لو كنت قاتالً رسوالً لقتلتكما"‪ ،‬قال ابن‬
‫مسعود‪" :‬فمضت السنة أن الرسل ال تقتل"(‪.)129‬‬

‫ورغم غضب الصحابة الشديد من رسالة الرسولين وفحش استفزازهما فإن رسول اهلل رفض أن ينالهم أحد‬
‫بسوء‪ ،‬ووفر لهما أمناً وحماية وزاداً حتى خرجا من المدينة‪.‬‬

‫وفي مثال آخر فقد استقبل النبي ص لى اهلل علي ه وس لم عقب عم رة القض اء وف د قريش وفيهم حويطب بن‬
‫عبد العزى‪ ،‬وكان شديد النكاية باإلسالم والمسلمين‪ ،‬وقد جاء يحمل رسالة لئيمة من قريش‪ ،‬تأمره بوجوب‬
‫مغ ادرة مك ة على الف ور ه و وأص حابه‪ ،‬وم ع أن رس ول اهلل اس تأنى بهم وتلط ف‪ ،‬وق ال‪" :‬وم اذا عليكم ل و‬
‫خليتموني يوم اً رابع اً فأعرست بين ظهرانيكم وصنعت لكم طعام اً فدعوتكم إليه"‪ ،‬ولكن حويطب قال‪" :‬ال‬
‫حاجة لنا بك وال بطعامك اخرج عنا‪ "...‬وغضب الصحابة أشد الغضب من لؤم حويطب وصاح سعد بن‬
‫عبادة في وجهه قائالً‪":‬كذبت لعمر اهلل ليست بأرضك وال بأرض أبيك!! ال يخرج منها إال طائع اً راضياً"‪،‬‬
‫فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬يا سعد ال تؤذوا قوماً زاؤونا في رحالنا"(‪.)130‬‬

‫وه ذه كله ا أص ول تع زز مب دأ الحص انة الشخص ية للس فراء‪ ،‬زي ادة على م ا ه و مق رر من ه ذا الل ون من‬
‫الحصانة والحماية لسائر الناس في اإلسالم‪ ،‬وهي تعكس وعي اً دبلوماسياً مبكراً في حاجة الدولة اإلسالمية‬
‫لبناء مصداقية عالية من التعامل الدبلوماسي في إطار العالقات الخارجية والدولية‪ ،‬وهو ما يعود بالخير‬
‫على الدولتين وعلى شعبيهما‪.‬‬

‫وزي ادة في تس هيل مهم ة البعث ات الدبلوماس ية فق د أك د الفقه اء على قب ول ادع اء الممث ل الدبلوماس ي ول و لم‬
‫يكن يحمل تفويضاً من الدولة اإلسالمية بعد‪ ،‬وقرر اإلمام الشوكاني أن أمان الرسل مقرر شرعاً(‪ ،)131‬وأكد‬
‫وج وب توف ير األمن لهم‪ ،‬ب ل إن اإلم ام أب و يوس ف يعق وب بن إب راهيم وه و إم ام الحنفي ة في فق ه الدول ة‬
‫والقض اء والخ راج ذهب إلى أبع د من ذل ك واعت بر أن من ادعى أن ه س فير ق وم وجب تص ديقه ح تى يبل غ‬
‫مأمنه ولو لم يكن معه تفويض من الدولة المسلمة‪ ،‬وذلك تسهيالً لعمل المبعوثين الدبلوماسيين‪ ،‬السيما في‬
‫عص ر لم تكن في ه وس ائل االتص ال متاح ة بالش كل المع روف من اله اتف والبري د االلك تروني وغ ير ذل ك‪،‬‬
‫وك ان من ال وارد أن ي ذهب الس فير بس فارته دون علم البل د التي يس ير إليه ا‪ ،‬ويتعين حمايت ه ورعايت ه ح تى‬
‫يثبت العكس‪ ،‬ونص عب ارة اإلم ام أبي يوس ف‪" :‬ﺇﻥ ﺍﻟﻭﻻﺓ ﺇﺫﺍ ﻤﺎ ﻻﻗﻭﺍ ﺭﺴﻭﻻﹰ‪ ،‬ﻴﺴﺄﻟﻭﻨﻪ ﻋﻥ ﺍﺴﻤﻪﻓﺈﻥ ﻗﺎل‪:‬‬

‫ﺃﺨﺭﺠﻪ ﺍﻹﻤﺎﻡ ﺃﺤﻤﺩ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺴﻨﺩ‪ ،‬ﺝ‪ ،1‬ﺹ‪396‬‬ ‫‪129‬‬

‫سيرة ابن هشام‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬ص ‪373‬‬ ‫‪130‬‬

‫نيل األوطار لإلمام الشوكاني ج‪ 8‬ص ‪30‬‬ ‫‪131‬‬

‫‪70‬‬
‫"ﺃﻨﺎ ﺭﺴﻭل ﺍﻟﻤﻠﻙ ﺒﻌﺜﻨﻲ ﺇﻟﻰ ﻤﻠﻙ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻥ ﻭﻫﺫﺍ ﻜﺘﺎﺏ ﻤﻌﻲ"‪ ،‬ﻓﺈﻨﻪ ﻴﺼﺩﻕ ﻭﻻ ﺴﺒﻴل ﻋﻠﻴﻪ‪ ،‬ﻭﻻ ﻴﺘﻌﺭﺽ‬
‫ﻟﻪ"((‪.132‬‬

‫وقرر اإلمام الرافعي مرجح الفقه الشافعي أنه إذا نبذ المستأمن العهد وجب تبليغه المأمن وال يتعرض لما‬
‫معه بال خالف‪ ..‬ولو خرج المستأمن إلى دار الحرب غير ناقض للعهد بل لرسالة أو تجارة ومات هناك‬
‫فهو كموته في دار اإلسالم‪.....‬والمذهب‪ :‬القطع برده إلى وارثه‪ ،‬النه مات واألمان باق في نفسه‪ ،‬فكذا‬
‫في ماله‪ ......‬بل ويجوز لورثة من نال األمان‪ ،‬وله مال في بالد المسلمين دخول بالد اإلسالم لطلب ذلك‬
‫المال بغير أمان(‪.)133‬‬

‫‪ )2‬الحصانة القضائية‪:‬‬

‫ال تع رف في الفق ه اإلس المي عب ارة الحص انة القض ائية كمص طلح‪ ،‬وح تى بعي دا عن المص طلح ف إن الفق ه‬
‫اإلس المي ش ديد في وج وب ال تزام أحك ام القض اء واس تقالل القض اة ب الحكم وحقهم وواجبهم في اس تدعاء‬
‫الناس وسماع شهاداتهم وأقوالهم‪ ،‬وال يحل ألحد االمتناع عن المثول أمام القضاء إذا دعاه القضاء‪ ،‬وقد‬
‫دلت على ذلك نصوص شرعية كثيرة واضحة‪.‬‬

‫وقد جاء القرآن الكريم شديداً في وجوب الخضوع للقضاء وعدم توفير استثناءات أو امتيازات في القضاء‪،‬‬
‫ولعلنا نكتفي هنا بإيراد نص قرآني طويل في سورة النساء جاء نص اً في المسألة‪ ،‬حيث رفع إلى رسول‬
‫اهلل قضية سرقة اتهم بها صحابي اسمهطعمة بن أبيرق فدفع باتهام مواطن يهودي اسمه زيد بن السمين‪،‬‬
‫وقد هم رسول اهلل بأخذه بالجناية بقرينة أن يده كانت على المال المسروق‪ ،‬مع أن ذلك كان كيداً من طعمة‬
‫بن أبيرق‪ ،‬فنزل القرآن الكريم شديداً في وجوب التحري والتثبت واالحتياط وعدم تمييز الناس في القضاء‬
‫ك اللَّهُ َوالَ‬ ‫اس بِ َم ا أ ََرا َ‬‫الن ِ‬‫ق ِلتَ ْح ُك َم َب ْي َن َّ‬
‫اب بِ اْل َح ِّ‬ ‫َنزْلَن ا ِإلَْي َ ِ‬
‫ك اْلكتَ َ‬ ‫بس بب م واقعهم أو من ازلهم أو م راتبهم‪ِ﴿ :‬إَّنا أ َ‬
‫ون أَنفُ َس هُ ْم ِإ َّن‬ ‫َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِّ ِ ِ‬
‫ين َي ْختَ ُان َ‬ ‫يم ا‪َ ،‬والَ تُ َج اد ْل َع ِن الذ َ‬ ‫ورا َّرح ً‬
‫ان َغفُ ً‬ ‫اس تَ ْغف ِر الله ِإ َّن اللهَ َك َ‬‫يما‪َ ،‬و ْ‬ ‫ين َخص ً‬ ‫تَ ُكن لْل َخ ائن َ‬
‫اس والَ يس تَ ْخفُ ِ َّ ِ‬ ‫ون ِم َن َّ‬ ‫ِ‬ ‫اللَّهَ الَ ُي ِح ُّ‬
‫ون َم ا الَ‬ ‫ون م َن الله َو ُه َو َم َعهُ ْم ِإ ْذ ُيَبيِّتُ َ‬ ‫َ‬ ‫الن ِ َ َ ْ‬ ‫يم ا‪َ ،‬ي ْس تَ ْخفُ َ‬‫ان َخ َّو ًان ا أَث ً‬‫ب َمن َك َ‬
‫ِ َّ‬ ‫ادْلتُ ْم َعْنهُ ْم ِفي اْل َحَي ِاة ُّ‬ ‫ون ُم ِحي ً‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫الد ْنَيا فَ َمن ُي َج اد ُل اللهَ‬ ‫طا‪َ ،‬ه اأَنتُ ْم َه ُؤالء َج َ‬ ‫ان اللهُ بِ َما َي ْع َملُ َ‬ ‫ضى م َن اْلقَ ْو ِل َو َك َ‬ ‫َي ْر َ‬
‫ِ َّ ِ ِ َّ‬ ‫عْنهم يوم اْل ِقيام ِة أَم َّمن ي ُك ون علَْي ِهم و ِكيالً‪ ،‬ومن يعم ْل س وءا أَو ي ِْ‬
‫ورا‬ ‫ظل ْم َن ْف َس هُ ثَُّم َي ْس تَ ْغف ِر اللهَ َيج د اللهَ َغفُ ً‬ ‫َ َ ََْ ُ ً ْ َ‬ ‫َ ُ َ ْ َ‬ ‫َ ُْ َ ْ َ َ َ‬

‫‪ 132‬الخراج‪ ،‬ألبي يوسف يعقوب بن إبراهيم‪ ،‬ص ‪188‬‬


‫‪ 133‬روضة الطالبين‪ ،‬للرافعي‪ ،‬ج‪ ،7‬ص ‪481‬‬

‫‪71‬‬
‫ب َخ ِط َيئ ةً أ َْو ِإثْ ًم ا ثَُّم َي ْرِم‬
‫يم ا‪َ ،‬و َمن َي ْك ِس ْ‬ ‫ِ‬
‫يم ا َحك ً‬
‫َّ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ب ِإثْ ًما فَِإَّن َما َي ْكسُبهُ َعلَى َن ْفسه َو َك َ‬
‫ان اللهُ َعل ً‬ ‫يما‪َ ،‬و َمن َي ْك ِس ْ‬ ‫ِ‬
‫َّرح ً‬
‫بِ ِه َب ِر ًيئا فَقَِد ْ‬
‫احتَ َم َل ُب ْهتَ ًانا َوإِثْ ًما ُّمبِ ًينا﴾(‪.)134‬‬

‫والنص بالغ الشدة في وجوب تنفيذ أحكام القضاء‪ ،‬وعدم جواز التمييز بين الناس لمراتبهم أو منازلهم أو‬
‫درجاتهم‪.‬‬

‫وق د ت واترت النص وص بوج وب االحتك ام إلى القض اء الش رعي للوص ول إلى العدال ة‪ ،‬وت واترت األخب ار‬
‫بخض وع كب ار األئم ة في اإلس الم للقض اء وأحكام ه‪ ،‬حيث ك ان القض اء يس تدعي من يقتض ي من الن اس‬
‫إلحقاق الحق وظهور العدالة‪ ،‬حتى استدعي الخلفاء أنفسهم إلى القضاء‪ ،‬وقد استدعى القاضي شريح أمير‬
‫المؤمنين علي بن أبي طالب إلى مجلس قضاء بخصومة خاصمه فيها يهودي‪ ،‬وأمر القاضي شريح بإثبات‬
‫يد اليهودي على الدرع لعدم كفاية األدلة‪ ،‬وحكم ضد علي وهو خليفة(‪.)135‬‬

‫وبن اء علي ه ف إن من العس ير أن ن ذهب إلى الق ول ب أن الفق ه اإلس المي المتق دم منح الحص انة القض ائية‬
‫للمسؤولين أي اً كانت مواقعهم في الدولة‪ ،‬وذلك التزام اً بدعم القضاء المطلق لتحقيق العدالة واإلسراع في‬
‫اإلدالء ببيناته ا وش روطها‪ ،‬وال نع رف أن الفق ه اإلس المي منح أح داً الحص انة ف وق حكم القض اء أي اً ك ان‬
‫هؤالء وأياً كانت منازلهم ومراتبهم‪.‬‬

‫وفي الحقيق ة ف إن األق رب ل روح اإلس الم ومبادئ ه أن ال يك ون اس تثناء في القض اء‪ ،‬وال ح رج من الق ول‬
‫بوجود هذا الخالف بين الفقه اإلسالمي وبين التوجه الحديث في الحقوق الدبلوماسية‪.‬‬

‫وم ع ذل ك فال يمن ع أن نؤص ل لبعض الوس ائل ال تي يمكن أن تس اعد المس ؤول الدبلوماس ي أو األم ني في‬
‫متابعة القضاء وتحقيق العدالة دون أن يؤثر ذلك مباشرة على دوره الدبلوماسي‪ ،‬فقد نصت اتفاقية جنيف‬
‫على استثناءات متعددة يخضع فيها الدبلوماسي للقضاء المحلي‪ ،‬ومن هذه الحاالت‪:‬‬

‫إذا كان النزاع حول ملكية ﻋﻘﺎﺭﻴﺔ ﻴﻤﺘﻠﻜﻬﺎ ﺒﺼﻔﺔ ﺸﺨﺼﻴﺔ‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫ﺇﺫﺍ كانت ﺍﻟﺩﻋﻭﻯ ﻨﺎﺸﺌﺔ ﻋﻥ ﺃﻋﻤﺎل ﺘﺠﺎﺭﻴﺔ ﻗﺎﻡ ﺒﻬﺎ ﺍﻟﻤﺒﻌﻭﺙ ﺍﻟﺩﺒﻠﻭﻤﺎﺴﻲ ﻟﺤﺴﺎﺒﻪ ﺍﻟﺨﺎﺹ‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫انتﺍﻟﺩﻋﻭﻯ ﻤﺘﻔﺭﻋﺔ ﻋﻥ ﺩﻋﻭﻯ ﺃﺼﻠﻴﺔ ﺘﻘﺩﻡ ﺒﻬﺎ ﺍﻟﻤﺒﻌﻭﺙ ﺍﻟﺩﺒﻠﻭﻤﺎﺴﻲ ﺒﻨﻔﺴﻪ ﺇﻟﻰ ﻗﻀﺎﺀﺍﻟﺩﻭﻟﺔ‬ ‫إﺫﺍ ك‬ ‫‪‬‬
‫ﺒﺎﻋﺘﺒﺎﺭﻩ ﻤﺩﻋﻴاً‪.‬‬
‫ﺇﺫﺍ كانتﺍﻟﺩﻋﻭﻯ ﺘﺘﻌﻠﻕ ﺒﺸﺅﻭﻥ ﺍﻹﺭﺙ‪ ،‬والتركات ﺍﻟﺘﻲ ﻴﺩﺨل ﻓﻴﻬﺎ ﺒﻭﺼﻔﻪ ﻤﻨﻔﺫﺍﹰ ﺃﻭ ﻤﺩﻴﺭﺍﹰ ﺃﻭﻭﺭﻴﺜﺎﹰ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ 134‬سورة النساء ‪112-105‬‬


‫‪ 135‬أخبار القضاة للقاضي وكيع بن الجراح ج‪ 1‬ص‪334‬‬

‫‪72‬‬
‫كم ا ﺃﻥﻫﺫﻩ ﺍﻟﺤﺼﺎﻨﺔ ﻻ ﺘﻌﻨﻲ ‪ -‬ﺃﻴﻀﺎﹰ – ﺃﻥ ﻴﺨﺭﺝ ﺍﻟﻤﺒﻌﻭﺙ ﺍﻟﺩﺒﻠﻭﻤﺎﺴﻲ ﻋﻠﻰ ﻗﻭﺍﻨﻴﻥ ﺍﻟﺩﻭﻟﺔ ﺍﻟﻤﻀـﻴﻔﺔ‬
‫ﻭﺃﻤﻨﻬﺎ‪ ،‬ﻭﺃﻥ ﻴﺭﺘﻜﺏ ﺍﻟﺠﺭﺍﺌﻡ ﻓﻲ ﺃﺭﻀﻬﺎ‪ ،‬ﻓﺈﻥ ﻓﻌل ﺫﻟﻙ أعتبر ﺸﺨﺼﺎﹰ ﻏﻴﺭ ﻤﺭﻏﻭﺏ ﻓﻴﻪ ﻟﺩﻯ ﺘﻠـﻙﺍﻟﺩﻭﻟﺔ‪،‬‬
‫ﻭﻴﺤﻕ ﻟﻬﺎ ﺃﻥ ﺘﻠﻔﺕ ﻨﻅﺭ ﺩﻭﻟﺘﻪ‪ ،‬ﺃﻭ ﺘﻁﺎﻟﺏ ﺒﺴﺤﺒﻪ ﺃﻭ ﻁﺭﺩﻩ‪ ،‬ﻭﺫﻟﻙ ﺒﺤﺴﺏ ﻨﻭﻋﻴﺔ ﻭﻋﻅﻡ ﺍﻟﺠﺭﻡﺍﻟﺫﻱ ﺃﻗﺩﻡ‬
‫ﻋﻠﻴﻪ‪ ،‬ﻟﻜﻨﻬﺎ ﻻ ﺘﻤﻠﻙ – ﻓﻲ ﻨﻅﺭ ﺍﻟﻘﺎﻨﻭﻥ ﺍﻟﺩﻭﻟﻲ – ﺒﺈﺨﻀﺎﻋﻪ ﻟﻘﺎﻨﻭﻨﻬﺎ ﺍﻟﺠﻨﺎﺌﻲ‪ ،‬ﻭﻫﺫﺍ ﺍﻟـﺫﻱ ﺘﻜﻔﻠﺕ ﺒﻪ ﺍﺘﻔﺎﻗﻴﺔ‬
‫فيينا ﻟﺴﻨﺔ ‪ 1961‬ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ ﺍﻟﺤﺎﺩﻴﺔ ﻭﺍﻟﺜﻼﺜﻴﻥ(‪.)136‬‬

‫وبمكن هنا االستعانة بالبحث العلمي الذي قدمه الدكتور بوبوش بعنوان تطور الدبلوماسية عبر العصور‪،‬‬
‫وتحدث فيه عن الحصانة القضائية للدبلوماسيين في اإلسالم بقوله‪:‬‬

‫"الحصانة القضائية والعدلية للفقه اإلسالمي في هذا الصدد موقف مستقل عن غيره‪ ،‬وأساس هذا الموقف‬
‫تحمي ل المعاه د أو المس تأمن‪ ،‬ومثل ه المبع وث الدبلوماس ي ونح وه المس ؤولية المدني ة والمالي ة‪ ،‬والمس ؤولية‬
‫الجنائية الجزائية عما يرتكبه من أعمال في بالد اإلسالم‪ ،‬ألنه ملزم بأحكامها حال إقامته فيها أو وجوده‬
‫على أراضيها اإلقليمية"‪ ،‬وبيان هذا إجماالً على النحو التالي‪:‬‬

‫أ‌‪  -‬اتف ق الفقه اء على وج وب اس تيفاء الحق وق والح دود من المعاه د والمس تأمن والدبلوماس ي ونح وه إذا‬
‫تعلقت ب األفراد‪ .‬ويع بر عن ه ذه الحق وق في الفق ه اإلس المي بحق وق العب اد‪ ،‬كالض رب والش تم والس رقة‪،‬‬
‫والق ذف‪ ،‬والقت ل‪ ،‬وتق وم ه ذه الفك رة على مب دأ فط ري‪ ،‬ه و‪ :‬أن حق وق األف راد قائم ة على المفاتش ة‬
‫والمشاححة‪ ،‬بخالف حقوق اهلل تعالى القائمة على المسامحة‪.‬‬

‫ب‌‪ -‬اختل ف الفقه اء في وج وب اس تيفاء الحق وق والح دود من المعاه د والمس تأمن والدبلوماس ي ونح وه إذا‬
‫تعلقت بالحق العام أو النظام العام‪ ،‬ويعبر عن هذا األمر في الفقه اإلسالمي بحقوق اهلل تعالى‪.‬‬

‫فق ال الجمه ور‪ :‬ال تق ام ح دود الح ق الع ام وال عقوبات ه على ه ؤالء ونح وهم‪ ،‬لئال تخ ل إقامته ا ب إبالغهم‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫َّ‬ ‫اس تَ َجار َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الم الله ثَُّم أَْبل ْغ هُ‬
‫ك فَ أَج ْرهُ َحتى َي ْس َم َع َك َ‬ ‫ين ْ َ‬‫َح ٌد م َن اْل ُم ْش ِرك َ‬
‫م أمنهم الم أمور ب ه في اآلي ة‪َ ﴿ :‬وإِ ْن أ َ‬
‫َمأ َْمَنهُ﴾(‪.)137‬‬

‫وق ال أب و يوس ف القاض ي وبعض الش افعية‪" :‬تق ام ح دود الح ق الع ام وتس توفي عقوبات ه على ه ؤالء إحقاق اً‬
‫للح ق والع دل‪ ،‬وقياس اً على الم واطن ال ذمي في بالد اإلس الم‪ ،‬وألن المعاه د ونح وه مل تزم ض مناً‪ ،‬بمجم ل‬
‫أنظمة الدولة حال مكوثه فيها"‪.‬‬

‫األمن الدبلوماسي في اإلسالم‪ ،‬مجلة جامعة دمشق‪ ،‬عدد ‪ ،24‬عام ‪ 2008‬بحث للدكتور محمد ابراهيم جريبان‪.‬‬ ‫‪136‬‬

‫سورة التوبة‪ ،‬اآلية ‪.6‬‬ ‫‪[137‬‬

‫‪73‬‬
‫والق ول األخ ير ه و المع ترف علي ه والمس تقر التعام ل ب ه بين ال دول هي الجمل ة وذل ك لض مان األمن‬
‫واالستقرار‪ .‬وفرض هيبة القوانين اإلقليمية‪ ،‬علم اً بأن بعضهم يرى أن تبلغ الدولة المضيفة دولة الموفد‬
‫بإجراءات محاكمته في أراضيها‪ ،‬كماأن لها أن تعده شخصا غير مرغوب فيه ‪، Persona non grata‬‬
‫وتطرده من البالد للمحافظة على سيادتها وسالمتها(‪.)138‬‬

‫ومع كل ما قدمناه فإنه يمكن للدولة اإلسالمية أن تؤسس التفاقيات ثنائية بشأن الحصانة القضائية‪ ،‬تعتمد‬
‫مبدأ التعامل بالمثل‪ ،‬وتميز بين القانون المدني والقانون الجنائي في االحتكام إلى القضاء‪.‬‬

‫ومع ذلك فقد ذهب اإلمام أبو حنيفة إلى أن الجرائم نوعان حق اهلل وحق العباد‪ ،‬ورأى أن حقوق العباد ال‬
‫يحل تأجيلها‪ ،‬وال يحل التمييز فيها فالناس سواسية كأسنان المشط‪ ،‬أما حقوق اهلل فإنهم لم يلتزموا أحكام‬
‫اإلسالم وإ نه ال إكراه في الدين‪ ،‬وال يحل إرغامهم عليها وحسابهم إلى اهلل(‪.)139‬‬

‫وقد نسب هذا الرأي إلى اإلمام الشافعي أيضاً ووافقه اإلمام مالك في مسألة الزنا يرتكبه المستأمن(‪.)140‬‬

‫وأشاروا إلى الفرق بين الذمي وبين المستأمن فالذمي مواطن في دولة اإلسالم وعليه التزام القانون العام‬
‫فيها‪ ،‬ولكن المستأمن غير مواطن ومهما طالت سفارته فهو مقيم بصفة مؤقتة‪ ،‬وواجب الدولة اإلسالمية أن‬
‫تبلغه مأمنه حين يريد‪ ،‬وال وجه ألخذه بأحكام اإلسالم وهو ليس مسلماً وال هو مقيم في سلطان المسلمين‪،‬‬
‫ب ل إن ه ينص على والئ ه لبل ده وق د ن ال العه د واألم ان وه و يل تزم ذل ك ويعلن ه‪ ،‬فال ينبغي أن نرغم ه على‬
‫أحكام ديننا‪.‬‬

‫بل إن الفقهاء نصوا أنه لو أن رجالً أتلف خمراً لمسلم أو كسر صليباً لمسلم فإنه ال يضمن لحرمة ذلك‬
‫علي ه‪ ،‬أم ا إن أتل ف خم راً ل ذمي أو قت ل خ نزيراً ل ه أو كس ر ص ليباً ل ه فإن ه يض من ألنه ا أم وال متقوم ة‬
‫محترمة عندهم وإ ن لم تكن لدى المسلمين كذلك‪.‬‬

‫وهذا االستثناء الذي ذكره الفقهاء في باب إتالف مال الذمي أقل خطراً من حمل الدبلوماسي المستأمن على‬
‫التزام أحكام ال يؤمن بها في شريعته‪.‬‬

‫‪ 138‬تطور الدبلوماسية اإلسالمية عبر العصور‪ ،‬للكاتب محمد بوبوش‪ ،‬ص ‪ - 148‬دار الفكر‬
‫‪ 139‬المبسوط‪ ،‬لشمس األئمة السرخسي ‪ ،9‬ص‪55‬‬
‫‪ 140‬انظر ﺍﻟﺸﻴﺭﺍﺯﻱ‪ ،‬ﺃﺒﻭ ﺍﺴﺤﻕ ﺇﺒﺭﺍﻫﻴﻡ‪ ،‬ﺍﻟﻤﻬﺫﺏ ﻓﻲ ﻓﻘﻪ ﺍﻹﻤﺎﻡ ﺍﻟﺸﺎﻓﻌﻲ‪ ،‬ﺝ‪ ،2‬ﺹ‪ ،263‬وكذلك حاشية العدوي على كتاب أبي زيد‬
‫القيرواني‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪256‬‬

‫‪74‬‬
‫وه ذا كل ه في حق وق اهلل‪ ،‬أم ا حق وق الن اس فال أعلم أن فقيه اً من الفقه اء منح المس تأمنين على اختالف‬
‫وظ ائفهم حص انة قض ائية تح ول بينهم وبين اإلنص اف للن اس من أنفس هم‪ ،‬وه ذا ه و األص ل ال ذي دلت ل ه‬
‫الشريعة‪ ،‬وتؤيده عمومات النصوص في الكتاب والسنة‪.‬‬

‫وال بد للدول ة اإلس المية أن تنص قوانينها على عقوبات خاص ة لمن يترافع كيدياً ضد دبلوماس ي‪ ،‬ألن في‬
‫ذل ك إس اءة مزدوج ة للدبلومس ي المس تأمن ولبل ده ال ذي خول ه ه ذا الح ق‪ ،‬فال ب أس أن توض ع قي ود ض امنة‬
‫تقره ا البعث ات الدبلوماس ية وتقب ل به ا تحمي البعث ة الدبلوماس ية من ال دعاوى الكيدي ة ال تي تعي ق عملهم‪،‬‬
‫الس يما إذا م ا ت ذكرنا االحتم ال الكب ير ال وارد أن ه ذه ال دعاوى ق د تك ون ذات خلفي ة سياس ية وت دفع إليه ا‬
‫أحزاب بعينها بدوافع كيدية وسياسية يجب أن نجنب الدبلوماسيين الوقوع فيها‪.‬‬

‫وك ذلك فإن ه رفع اً للح رج ذهب فقه اء الش افعية بوج ه خ اص إلى النص على أن ه يمكن أن يخص ه ؤالء‬
‫المس تأمنون بعق ود خاص ة م ع الدول ة اإلس المية‪ ،‬فال يلزم ون إال بم ا ال تزموه من األحك ام فيه ا ب اإلرادة‬
‫المتبادل ة‪ ،‬وأعتق د أن ه ذا ال ذي ذهب إلي ه الفقه اء الش افعية يمكن أن يؤس س لمخ رج من ه ذا الح رج بحيث‬
‫تق وم الدول ة اإلس المية ب ترتيب اتفاقي ات خاص ة للبعث ات الدبلوماس ية تحق ق مب ادئ الش ريعة في العدال ة‬
‫والمس اواة وتؤس س على قب ولهم لمب دأ االحتك ام إلى التقاض ي المحلي فيم ا يخص حق وق اهلل وحق وق العب اد‬
‫جميعاً‪.‬‬

‫ق ال الش ربيني"ﻭﻓﻲ ﺴﺭﻗﺔ ﻤﻌﺎﻫﺩ ﻭﻤﺴﺘﺄﻤﻥ‪ ،‬ﺇﺫﺍ ﺴﺭﻗﺎ ﺃﻗﻭﺍل‪ :‬ﺃﺤﺴﻨﻬﺎ ﺇﻥ ﺸﺭﻁ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻲ ﻋﻬﺩﻩ ﻗﻁﻌﻪ ﺒﺴﺭﻗﺔ‬
‫ﻗُﻁِـﻊ ﻻﻟﺘﺯﺍﻤﻪ‪ ،‬ﻭﺇﻻ ﻓﻼ ﻴﻘﻁﻊ‪ ،‬ﻟﻌﺩﻡ ﺍﻟﺘﺯﺍﻤﻪ‪ .‬ﻭﺍﻷﻅﻬﺭ ﻋﻨﺩ ﺍﻟﺠﻤﻬﻭﺭ ﻻ ﻗﻁﻊ ﻤﻁﻠﻘﺎﹰ؛ ﻷﻨﻪ ﻟﻡ ﻴﻠﺘـﺯﻡ ﺍﻷﺤﻜـﺎﻡ‬
‫ﻓﺄﺸﺒﻪ ﺍﻟﺤﺭﺒﻲ" (‪.)141‬‬

‫وواض ح من عب ارة الخطيب الشربيني إق رارهم لمب دأ الس يادة في العالق ات الدبلوماس ية المؤسس ة على عق د‬
‫األم ان والعه د‪ ،‬فال يقاض ى إال بم ا ال تزم‪ ،‬وبن اء علي ه يمكن أن تش مل أوراق االعتم اد اتفاقي ة خاص ة‬
‫للحصانة القضائية وحقوق التقاضي وواجباته‪.‬‬

‫‪ )3‬الحصانة المالية‪:‬‬

‫الخطيب الشربيني‪ ،‬مغني المحتاج ج ‪ 4‬ص ‪175‬‬ ‫‪141‬‬

‫‪75‬‬
‫ال شك أن البعثة الدبلوماسية في اإلسالم نالت الحصانة المالية بحكم عقد األمان الذي أعطته الدولة لهذه‬
‫البعثة الدبلوماسية‪ ،‬وفي الواقع فإن األمة بأسرها بهذا المعنى محصنة مالي اً‪ ،‬حيث اعتبر من ألزم واجبات‬
‫الحاكم على األمة أن يوفر األمن للناس في أرواحهم وأموالهم‪ ،‬واعتبر المال أحد الضروريات الخمس في‬
‫الشريعة‪ ،‬واعتبرت الملكية الخاصة من الحقوق التي تحميها الشريعة‪ ،‬وفق ما دلت عليه نصوص الكتاب‬
‫والسنة‪:‬‬

‫اس بِ اإْلِ ثِْم َوأ َْنتُ ْم‬


‫الن ِ‬ ‫اط ِل وتُ ْدلُوا بِه ا ِإلَى اْل ُح َّك ِام ِلتَ ْأ ُكلُوا فَ ِريقً ا ِم ْن أَم و ِ‬
‫ال َّ‬ ‫﴿وال تَ ْأ ُكلُوا أَم والَ ُكم ب ْيَن ُكم بِاْلب ِ‬
‫ْ َ ْ َ ْ َ‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ون﴾ ‪.‬‬
‫(‪)142‬‬
‫تَ ْعلَ ُم َ‬

‫وفي الحديث الشريف‪" :‬ال يحل مال امرئ مسلم إال عن طيب نفس منه"(‪.)143‬‬

‫وبهذا المعنى فاألمة كلها تمتلك الحصانة المالية فيما كسبته من حالل أو أنفقته في حالل‪.‬‬

‫ولكن الحصانة المالية للدبلوماسيين تشتمل على امتيازات خاصة جرى التعارف عليها وإ قرارها بأسباب‬
‫خاص ة‪ ،‬وفي ظ روف خاص ة‪ ،‬وق د نص ت اتفاقي ة فيين ا لع ام ‪ 1961‬على جمل ة امتي ازات تحق ق الحص انة‬
‫المالية للبعثات الدبلوماسية ومنها‪:‬‬

‫إعف اء أعض اء اﻟﺴﻠﻙ ﺍﻟﺩﺒﻠﻭﻤﺎﺴـﻲ ﻤـﻥ ﺠﻤﻴـﻊ ﺍﻟﺭﺴﻭﻡ ﻭﺍﻟﻀﺭﺍﺌﺏ‪ ،‬ﻭﻜﺫﻟﻙ ﺩﺭﺠﺕ ﺍﻟﺩﻭل ﻋﻠﻰ إعف اء ﺩﺍﺭ‬
‫ﺍﻟﺒﻌﺜﺔ ﺍﻟﺩﺒﻠﻭﻤﺎﺴﻴﺔ ﻤﻥ ﻫـﺫﻩ ﺍﻟﻀـﺭﺍﺌﺏ‪ ،‬ﺇﺫﺍ كانت ﻤﻠﻜﺎﹰ ﻟﻠﺩﻭﻟﺔ ﺍﻷﺠﻨﺒﻴﺔ‪ ،‬ﻭﺫﻟﻙ ﺠﺭﻴﺎﹰ ﻋﻠﻰ ﺃﺴﺎﺱ ﻗﺎﻋﺩﺓ‬
‫ﺍﻟﻤﻌﺎﻤﻠﺔ ﺒﺎﻟﻤﺜل‪.‬‬

‫وقد تنبه الفقهاء قديماً لهذا الجانب من الحصانة المالية‪ ،‬وورد عن األئمة اجتهاد دقيق في هذه المسألة ننقل‬
‫منه ما أورده اإلمام يعقوب بن إبراهيم في كتابه الخراج‪:‬‬

‫"ﻻ ﻴﺅﺨﺫ ﻤﻥ ﺍﻟﺭﺴﻭل ﺍﻟﺫﻱ ﺒﻌﺙ ﺒﻪ ﻤﻠﻙ ﺍﻟﺭﻭﻡ ﻭﻻ ﻤﻥ ﺍﻟﺫﻱ ﺃﻋﻁﻰ ﺃﻤﺎﻨﺎً ﻋﺸﺭ"(‪.)144‬‬

‫وهذا األمر ينطبق تمام اً اليوم على البعثات الدبلوماسية‪ ،‬وفي تيسير أمورهم المالية خدمة عامة للمجتمع‪،‬‬
‫ألن وجه الخراج منهم ليس فيما يدفعونه على عقار البعثة من ضرائب وخراج وإ نما فيما ينجزونه لألمة‬

‫‪ 142‬سورة البقرة ‪188‬‬


‫‪ 143‬رواه االمام مالك في الموطأ‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪276‬‬
‫‪ 144‬الخراج‪ ،‬ﺃﺒﻭ ﻴﻭﺴﻑ‪ ،‬ﻴﻌﻘﻭﺏ ﺒﻥ ﺇﺒﺭﺍﻫﻴﻡ‪ ،‬ﺹ‪188‬‬

‫‪76‬‬
‫من اتفاقيات ومبادالت وتحالفات‪ ،‬وهو المقصود األعظم من وجودهم‪ ،‬وليس الربح المتعجل الذي ينتظر‬
‫من السياح والتجار‪.‬‬

‫وألجل ذلك فقد نص الفقهاء على التفريق بين حاجات الدبلوماسي (المستأمن) في خدمة مصالح بلده بين‬
‫حاجاته الخاصة في خدمة نفسه‪ ،‬فاعتبروا مال التجارة الخاصة ليس محل االمتياز‪ ،‬وألزموا المستأمن فيه‬
‫بما ألزموا سائر األمة من الخراج‪.‬‬

‫ﻴﻘﻭل ﺍﺒﻥ ﻗﺩﺍﻤﺔ‪" :‬ﻭﻻ ﻴﺅﺨﺫ ﻤﻨﻬﻡ ﻤﻥ ﻏﻴﺭ ﻤﺎل ﺍﻟﺘﺠﺎﺭﺓ"(‪.)145‬‬

‫ﻭﻴﻘﻭل ﺍﻹﻤﺎﻡ ﺃﺒﻭ ﻴﻭﺴﻑ‪" :‬ﻭﻤﺎ ﻟﻡ ﻴﻜﻥ ﻤﻥ ﻤﺎل ﺍﻟﺘﺠﺎﺭﺓ ﻭﻤﺭﻭﺍ ﺒﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﺎﺸـﺭ ﻓﻠـﻴﺱ ﻴﺅﺨـﺫ ﻤﻨـﻪ ﺸﻲﺀ"(‪.)146‬‬

‫والعاشر هو من يجبي العشر‪ ،‬وهو جابي الخراج كان يأخذ العشور من المزارع واألراضي التي تسقى‬
‫بماء السماء ونصف ذلك من األرض المروية بالناضح‪.‬‬

‫وق د ق ام الفقه اء ب النص على الحص انة المالي ة للس فراء والمس تأمنين تس هيالً للعم ل الدبلوماس ي‪ ،‬واله دف‬
‫تمييزه عن العمل التجاري منعاً الستغالل الحصانة المالية للدبلوماسي في اإلثراء‪.‬‬

‫وبالقيود نفسها التي أوردها الفقهاء في الحصانة الدبلوماسية نصت اتفاقية فيينا لعام ‪ 1961‬في المادة ‪34‬‬
‫أيضاً على أن الحصانة المالية إنما تكون في كل أمر طبيعته الخدمة العامة وال يشمل ذلك بالطبع المنافع‬
‫الخاصة والمصالح الذاتية ألفراد البعثات‪ ،‬وهي كما عددتها المادة‪:34‬‬

‫ﺃ‪-‬ﺍﻟﻀﺭﺍﺌﺏ ﻏﻴﺭ ﺍﻟﻤﺒﺎﺸﺭﺓ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺴﻠﻊ ﻭﺍﻟﺨﺩﻤﺎﺕ‪.‬‬


‫ﺏ‪ -‬ﺍﻟﻀﺭﺍﺌﺏ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﻤﻭﺍل ﺍﻟﻌﻘﺎﺭﻴﺔ ﺍﻟﺨﺎﺼﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺘﻭﺠﺩ ﻓﻲ ﺃﺭﺽ ﺍﻟﺩﻭﻟﺔ ﺍﻟﻤﻀﻴﻔﺔ‪ ،‬ﻤﺎ ﻟﻡ ﻴﻜﻥ‬
‫ﺍﻟﻤﺒﻌﻭﺙ ﻴﺤﻭﺯﻫﺎ ﻟﺤﺴﺎﺏ ﺍﻟﺩﻭﻟﺔ ﺍﻟﻤﻌﺘﻤﺩﺓ ﻷﻏﺭﺍﺽ ﺍﻟﺒﻌﺜﺔ ‪.‬‬
‫ﺝ‪ -‬ﺍﻟﻀﺭﺍﺌﺏ ﺍﻟﺘﻲ ﺘﻔﺭﻀﻬﺎ ﺍﻟﺩﻭﻟﺔ ﺍﻟﻤﻀﻴﻔﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﺭﻜﺎﺕ ‪.‬‬
‫ﺩ‪ -‬ﺍﻟﻀﺭﺍﺌﺏ ﻭﺍﻟﺭﺴﻭﻡ ﺍﻟﻤﻔﺭﻭﻀﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺩﺨل ﺍﻟﺨﺎﺹ ﺍﻟﺘﻲ ﻴﻜﻭﻥ ﻤﺼﺩﺭﻫﺎ ﺍﻟﺩﻭﻟﺔ ﺍﻟﻤﻀﻴﻔﺔ ‪.‬‬
‫ﻫـ‪ -‬ﺍﻟﻀﺭﺍﺌﺏ ﻭﺍﻟﺭﺴﻭﻡ ﺍﻟﺘﻲ ﺘﺤﺼل ﻤﻘﺎﺒل ﺨﺩﻤﺎﺕ ﺨﺎﺼﺔ‪.‬‬
‫ﻭ‪ -‬ﺭﺴﻭﻡ ﺍﻟﺘﺴﺠﻴل ﻭﺍﻟﺘﻭﺜﻴﻕ ﻭﺍﻟﺭﻫﻥ ﺍﻟﺘﻲ ﻻ ﺘﺘﺼل ﺒﻤﻘﺭ ﺍﻟﺒﻌﺜﺔ‪.‬‬

‫‪ 145‬المغني‪ ،‬البن قدامة المقدسي ﺝ ‪ 8‬ﺹ ‪522‬‬


‫‪ 146‬الخراج ‪ ،‬أبو يوسف‪ ،‬يعقوب بن ابراهيم‪ ،‬ص ‪133‬‬

‫‪77‬‬
‫وق د ذهب فقه اء الحنفي ة إلى تأس يس الحص انة المالي ة للدبلوماس يين على مب دأ المعامل ة بالمث ل‪ ،‬ونق ل‬
‫السرخس ي عن أبي حنيف ة قول ه‪ :‬ﻻ ﻴﺄﺨﺫ ﻤﻨهم ﺸﻲﺀ ﺇﻻ ﺃﻥ ﻴﻜﻭﻨﻭﺍ ﻴﺄﺨﺫﻭﻥ ﻤﻨﺎ ﺸﻴﺌﺎ ﻓﻨﺄﺨﺫ ﻤﻨﻬﻡ ﻤﺜﻠﻪ(‪،)147‬‬
‫ك ِم ْن‬
‫﴿م ا َعلَْي َ‬
‫ت﴾‪َ ،‬‬ ‫ت َو َعلَْيهَ ا َم ا ا ْكتَ َس َب ْ‬
‫وقد أسس القرآن الكريم لهذا المبدأ في آيات كثيرة‪﴿ :‬لَهَ ا َم ا َك َس َب ْ‬
‫اعتَ ُدوا َعلَْي ِه بِ ِمثْ ِل َم ا ْ‬
‫اعتَ َدى‬ ‫اعتَ َدى َعلَْي ُك ْم فَ ْ‬‫ك َعلَْي ِهم ِّمن َش ْي ٍء﴾‪﴿ ،‬فَ َم ِن ْ‬
‫ِح َس ابِ ِهم ِّمن َش ْي ٍء َو َم ا ِم ْن ِح َس ابِ َ‬
‫اص﴾‪ ،‬وهي أصول عامة في الشريعة تعزز مبدأ المعاملة بالمثل‪ ،‬وقد صرح به‬ ‫علَْي ُكم﴾‪﴿ ،‬واْلجر ِ‬
‫ص ٌ‬ ‫وح ق َ‬ ‫َ ُُ َ‬ ‫َ ْ‬
‫الخليف ة الراش دي عم ر بن الخط اب في نص واض ح وفي ه ﺃﻥ ﻋﺎﺸﺭﺍً ﻜﺘﺏ ﺇﻟﻴﻪ‪ :‬كم ﻨﺄﺨﺫ ﻤﻥ ﺘﺠﺎﺭ ﺃﻫل‬
‫ﺍﻟﺤﺭﺏ‪ ،‬ﻓﻜﺘﺏ ﺇﻟﻴﻪ ﻋﻤﺭ كم ﻴﺄﺨﺫﻭﻥ ﻤﻨﺎ؟ ﻗﺎل‪ :‬ﻫﻡ ﻴﺄﺨﺫﻭﻥ ﻤﻨﺎ ﺍﻟﻌﺸﺭ‪ ،‬ﻓﻘﺎل ﻋﻤﺭ‪ :‬ﺨﺫ ﻤﻨﻬﻡ ﺍﻟﻌﺸﺭ (‪،)148‬‬
‫ﻭﻓﻲ ﺭﻭﺍﻴﺔ ﺃﺨﺭﻯ ﻋﻥ ﻋﻤﺭ ﺭﻀﻲ ﺍﷲ ﻋﻨﻪ‪ ،‬ﺃﻨﻪ ﻗﺎل ﻟﻌﻤﺎﻟﻪ‪" :‬ﺨﺫﻭﺍ ﻤﻨﻬﻡ ﻤﺜل ﻤﺎ ﻴﺄﺨﺫﻭﻥ ﻤﻨﺎ"‬

‫في حين ذهب الحنابل ة والش افعية والمالكي ة إلى أخ ذ العش ر من المس تأمنين‪ ،‬اس تناداً الجته اد عم ر بن‬
‫الخطاب الذي قدمناه‪.‬‬

‫وقد عرض الدكتور محمد إبراهيم الجريبان ألدلة الفريقين ثم رجح مبدأ المعاملة بالمثل فقال‪:‬‬

‫ﺍﻟﻘﻭل ﺍﻟﺭﺍﺠﺢ ﻫﻨﺎ ﻤﺎ ﺫﻫﺏ ﺇﻟﻴﻪ ﺍﻟﺤﻨﻔﻴﻪ‪ ،‬ﻭﻫﻭ ﺍﻟﻤﻌﺎﻤﻠﺔ ﺒﺎﻟﻤﺜل‪ ،‬ﻷﻥ ﺫﻟﻙ ﺃﺩﻋﻰ ﻟﺘﺤﻘﻴﻕ ﺍﻷﻤـﺎﻥ ﻭﺍﻟﺜﻘـﺔ ﺒﻴﻥ‬
‫ﺍﻟﺩﻭل‪ ،‬ﻭﻷﻥ ﺃﺴﺎﺱ ﺍﻟﻌﻼﻗﺎﺕ ﺍﻟﺩﻭﻟﻴﺔ ﺍﻵﻥ ﺇﻨﻤﺎ ﻴﻘﻭﻡ ﻋﻠﻰ ﻤﺒﺩﺃ ﺍﻟﻤﻌﺎﻤﻠﺔ ﺒﺎﻟﻤﺜل‪ ،‬ﻭﺇﻟﻰ ﻫـﺫﺍ ﺍﻟﻤﺒﺩﺃ ﺘﺭﺠﻊ ﻜﺜﻴﺭ‬
‫ﻤﻥ ﺍﻟﻤﻌﺎﻤﻼﺕ ﺍﻟﻤﺎﻟﻴﺔ ﻭﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻴﺔ ﻓﻲ ﻓﺭﺽ ﺍﻟﺭﺴﻭﻡ ﻭﺍﻟﻀﺭﺍﺌﺏ ﻭﺍﻟﺠﻤﺎﺭﻙ ‪.‬‬

‫ﺃﻤﺎ ﺩﻋﻭﻯ ﺍﻹﺠﻤﺎﻉ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﺸﺭ كما ﺼﺭﺡ ﺒﺫﻟﻙ ﺃﺼﺤﺎﺏ ﺍﻟﻤﺫﻫﺏ ﺍﻟﺜﺎﻨﻲ‪ ،‬ﻓﻴﻤﻜﻥ ﺘﺄﻭﻴﻠﻬﺎ ﺒﺄﻨﻬـﺎ ﺨﺎﺼﺔ ﺒﻤﺎ‬
‫ﻜﺎﻥ ﻴﺄﺨﺫﻩ ﺃﻫل ﺍﻟﺤﺭﺏ ﻤﻥ ﺘﺠﺎﺭ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻥ‪ ،‬ﻓﻐﺎﻟﺒﺎﹰ ﻤﺎ ﻴﺄﺨﺫﻭﻥ ﺍﻟﻌﺸﺭ(‪.)149‬‬

‫وال يخفى أن اجتهاد عمر إنما أطلقه بعد أن سأل العاشر عن قيمة ما يأخذونه منه‪ ،‬فهو حكم بناه على مب دأ‬
‫المعاملة بالمثل‪.‬‬

‫وهكذا فإن ما اجتهد فيه الفقهاء من قبل هو ما أخذت به االتفاقيات الدولية اليوم التي عززت مبدأ المعاملة‬
‫بالمثل في منح الحصانة المالية للسفراء‪.‬‬

‫المبسوط‪ ،‬لشمس األئمة السرخسي‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪199‬‬ ‫‪147‬‬

‫سنن البيهقي‪ ،‬كتاب الجزية‪ ،‬باب ما يؤخذ من الذمي اذا اتجر في غير بلده ج ‪ 9‬ص‪210‬‬ ‫‪148‬‬

‫األمن الدبلوماسي في اإلسالم‪ ،‬مجلة جامعة دمشق مجلد ‪ 24‬عام ‪ 2008‬بحث د‪.‬محمد ابراهيم جريبان‪،‬‬ ‫‪149‬‬

‫‪78‬‬
‫‪ )4‬الحصانة السياسية‪:‬‬

‫والمقص ود بالحص انة السياس ية ه و ح ق الدبلوماس ي أن يع بر بوض وح ال لبس في ه عن مواق ف بالده‬


‫وسياس اتها مهم ا ك انت ه ذه المواق ف متناقض ة ومرفوض ة في بل د االبتع اث‪ ،‬وأن موقف ه يجب أن ين ال‬
‫االحترام بغض النظر عن البرنامج السياسي الذي تمارسه حكومة البلد المضيف‪.‬‬

‫وفي الحقيق ة ف إن ه ذا األم ر الي وم أص بح من حق وق اإلنس ان األساس ية ال تي تش تمل عليه ا ش رعة حق وق‬
‫اإلنس ان العالمي ة‪ ،‬وه و ح ق التعب ير والنش ر‪ ،‬وم ع ذل ك ف إن النص على ه ذا الح ق للدبلوماس يين يعت بر‬
‫ضرورة حيوية‪ ،‬السيما في البلدان التي ال تزال متخلفة في سجل حقوق اإلنسان‪.‬‬

‫وفي القرآن الكريم مبادئ عامة تشير إلى مسؤولية اإلنسان فيما يقول‪ ،‬ووجوب منع البشر من التدخل في‬
‫س بِ َم ا َك َس َبتَْر ِه َينةٌ﴾‪﴿ ،‬لَهَ ا َم ا َك َس َب ْ‬
‫ت َو َعلَْيهَ ا َم ا‬ ‫مواق ف الن اس السياس ية واالجتماعي ة واألخالقي ة‪ُ ﴿ ،‬ك ُّل َن ْف ٍ‬
‫ك َزيََّّنا ِل ُك ِّل أ َّ ٍ‬
‫ت﴾‪َ ﴿ ،‬ك َذِل َ‬
‫ون﴾‪.‬‬ ‫ُمة َع َملَهُ ْم ثَُّم ِإلَى َرِّب ِه ْم َم ْر ِج ُعهُ ْم فَُيَنبُِّئهُ ْم بِ َما َك ُانوا َي ْع َملُ َ‬ ‫ا ْكتَ َسَب ْ‬

‫ولكن النص على الحصانة السياسية للبعثة الدبلوماسية ضروري‪ ،‬ألن كثيراً من هذه الحقوق التي تحدثنا‬
‫عنها تمنع في ظروف الحرب‪ ،‬وتفرض حاالت طوارئ فهل يشمل ذلك البعثة الدبلوماسية؟‬

‫لقد كان النبي الكريم يستقبل الوفود الدبلوماسية في مسجده الشريف‪ ،‬وكان يبالغ في إكرام بعضهم تقديراً‬
‫لسياسات الدول التي أرسلتهم كما كان حال تكريمه لوفد الحبشة الذين أرسلهم النجاشي‪ ،‬فقد قام يخدمهم‬
‫بنفس ه وحين ق ال ل ه أص حابه‪" :‬نحن نكفي ك الخدم ة ي ا رس ول اهلل" ق ال لهم‪" :‬إنهم ك انوا ألص حابي‬
‫مكرمين"(‪.)150‬‬

‫ولكن الوفود الدبلوماسية لم تكن كلها على هذا المستوى من األدب والوفاق‪ ،‬فقد أشرنا في غير موضع إلى‬
‫اس تقباله ص لى اهلل عليه وس لم لوفد مس يلمة الك ذاب وقد ك ان هؤالء يتح دثون بم ا يتن اقض كلي اً م ع العقيدة‬
‫اإلس المية‪ ،‬ويش ككون في نب وة الرس ول‪ ،‬ب ل إن نص الكت اب الذي ج اؤوا ب ه يتض من بش كل ص ريح العم ل‬
‫على تقسيم الدولة وضرب وحدتها وهو أمر بالغ الخطورة ولكن النبي الكريم تعامل مع هذا الواقع بأدب‬
‫الرسولين على الرغم من موقفهما االستفزازي المشين‪.‬‬
‫ّ‬ ‫دبلوماسي جم‪ ،‬ونهى أن يسيء أحد إلى‬

‫رسولي باذان عامل اليمن لكسرى فقد جاءا بأمر اعتقال النبي‬
‫ّ‬ ‫ولكن ما هو أشد خطراً من ذلك كان موقف‬
‫الكريم وتسليمه لكسرى‪ ،‬وهو مطلب ال يمكن تبريره على اإلطالق ومع ذلك فقد استضافهما رسول اهلل في‬

‫‪ 150‬شعب‪ H‬اإليمان‪ ،‬للبيهقي‪ ،‬ج ‪ ،11‬ص ‪381‬‬

‫‪79‬‬
‫المدين ة خمس ة عش ر يوم اً وأحس ن ض يافتهما‪ ،‬ونهى أص حابه عن إي ذاء أي منهم ا‪ ،‬وم ا ع ادا إلى اليمن إال‬
‫وهما مؤمنان‪.‬‬

‫وبعيداً عن الحصانة الدبلوماسية للسفراء والبعثات فقد عرف التاريخ اإلسالمي منح الحصانة السياسية لعدد‬
‫من األف راد بواق ع وظ ائف خاص ة لهم أو مواق ع متم يزة‪ ،‬بحيث رف ع عنهم الس لطة السياس ية ال تي ك انت‬
‫للحاكم المحلي‪ ،‬ومنحهم حق االرتباط بالسلطة المركزية دون الرجوع إلى الحاكم المحلي‪.‬‬

‫وأول م ا روي في ت اريخ الخلف اء في ه ذا المع نى م ا ورد في خ بر عب ادة بن الص امت فق د ك ان عب ادة بن‬
‫الص امت من أك ثر أص حاب الن بي الك ريم وعي اً ومسؤولية واتزان اً‪ ،‬وك ان من أب رز ق ادة الفتح ال ذين وفدوا‬
‫على الشام‪ ،‬ولعل ساحل بالد الشام مما يلي لبنان قد فتح على يديه‪ ،‬وقد استقر فيه بعد الفتح‪ ،‬وأصبحت‬
‫داره مقصد الناس ومحجهم ومقضى حوائجهم‪.‬‬

‫وك ان عب ادة وإ خوان ه مع اذ وأب و ال درداء ق د ص حبوا الن بي ص لى اهلل علي ه وس لم على المحج ة البيض اء‪،‬‬
‫وكانوا يعرفون طهره وزهده وعبادته لربه‪ ،‬وهو ما لم يكن معاوية يلتزمه‪ ،‬فقد ورث معاوية حكم الروم‬
‫وقصورهم وتقاليدهم‪ ،‬وألجل ذلك فقد كان يظهر أبهة الملك وحواشيه وبطانته‪ ،‬وكان ذلك محل اعتراض‬
‫شديد من عبادة بن الصامت وإ خوانه‪ ،‬ومرارا تعاتب الرجالن وتمسك كل بموقفه‪ ،‬ثم صار عبادة بعد ذلك‬
‫إلى فلسطين وكان معاوية خالفه في شيء أنكره عبادة فأغلظ له معاوية في القول فقال عبادة ال أساكنك‬
‫بأرض واحدة أبداً ورحل إلى المدينة‪ ،‬فقال عمر ما أقدمك؟ فأخبره‪ ،‬فقال ارجع إلى مكانك فقبح اهلل أرض اً‬
‫لست فيها أنت وال أمثالك وكتب إلى معاوية ال إمرة لك عليه(‪.)151‬‬

‫ك ان ه ذا في الواق ع أول حص انة سياس ية في اإلس الم‪ ،‬حيث أعلن الخليف ة عم ر بن الخط اب أن عب ادة بن‬
‫الص امت وه و مقيم ب أرض الش ام ال يتب ع ل والي بالد الش ام‪ ،‬وال إم رة ل ه علي ه‪ ،‬وأن بوس عه أن يم ارس‬
‫مسؤولياته الكاملة بدون الرجوع الى معاوية في شيء‪ ،‬وكذلك فإنه يملك حق انتقاد سلوك اإلدارة والحكم‬
‫ولو ك ان ذل ك خالف رغب ات الس لطة التنفيذي ة على ال رغم من الص الحيات الكب يرة التي ك انت بيد معاوي ة‬
‫بوصفه حاكم بالد الشام‪ ،‬وهكذا فقد قرر عمر بموقفه هذا أمرين اثنين‪ :‬األول أنه ال سلطة للحاكم التنفيذي‬
‫على الس لطة القض ائية‪ ،‬وتأكي د مب دأ فص ل الس لطات والث اني أن مب دأ منح بعض الم وظفين في الس لك‬
‫القض ائي أو الدبلوماس ي امتي ازات خاص ة تس هيالً لمه امهم ل ه أص ل في الفق ه اإلس المي وتط بيق الص حابة‬
‫الكرام‪.‬‬

‫أسد الغابة في معرفة الصحابة البن األثير‪ ،‬ج‪ ،3‬ص ‪159‬‬ ‫‪151‬‬

‫‪80‬‬
‫إنني هنا ال أزعم أننا نؤصل لألعراف الدبلوماسية وفق ما استقرت عليه االتفاقيات الدولية الحديثة‪ ،‬إننا‬
‫هن ا نلتمس محض إش ارات ملهم ة‪ ،‬وبإمك ان الفقه اء في ك ل عص ر أن يجته دوا اهت داء ب ذلك للوص ول إلى‬
‫تأمين حصانة مناسبة للعاملين في السلك الدبلوماسي والقضائي بحيث تتيسر مهامهم دون أن يكون لهم حق‬
‫تجاوز القانون أو رفض أحكامه‪.‬‬

‫وتج در اإلش ارة إلى أن الن بي الك ريم والص حابة الك رام من بع ده عم دوا إلى تكلي ف ح اكم وق اض في ك ل‬
‫أرض تم فتحها‪ ،‬ومن البداهة القول بأن القضاة كانوا مستقلين في أحكامهم‪ ،‬وأن تبعيتهم لم تكن أبداً للوالي‬
‫المحلي‪ ،‬ب ل ك انوا في أحك امهم يتص رفون بحري ة وإ طالق دون قي ود‪ ،‬وك انوا يقوم ون ب الواجب المه ني‬
‫واألخالقي‪.‬‬

‫‪ )5‬الملحقيات‪:‬‬

‫لم يرد استخدام مصطلح الملحقيات في الفقه اإلسالمي‪ ،‬ولكن من حيث المضمون فإنه يمكننا أن نرصد في‬
‫الت اريخ اإلس المي ع دداً من الملحقي ات ال تي ك انت تق وم به ذا ال دور‪ ،‬وتحق ق اله دف الدبلوماس ي البتع اث‬
‫الملحقين‪.‬‬

‫وتنتشر اليوم في العالقات الدبلوماسية بين الدول أشكال متعددة من الملحقيات سنتناول منها‪:‬‬

‫الملحقية التجارية‪.‬‬ ‫‪‬‬


‫الملحقية العسكرية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫الملحقية الثقافية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫سفارة الحج‪ ،‬وهي في الواقع مما اختصت به الدبلوماسية اإلسالمية‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫الملحقية التجارية‪:‬‬

‫اشتهرت قافلة قريش قبل اإلسالم في إرساء قواعد التبادل التجاري‪ ،‬وقد خص القرآن الكريم سورة قريش‬
‫للح ديث عن رحل ة الش تاء والص يف ال تي ك ان الع رب يتب ادلون فيه ا التج ارات النافع ة بين الش ام واليمن‬

‫‪81‬‬
‫ط َع َمهُ ْم ِم ْن‬
‫ب َه َذا اْلَب ْي ِت‪ ،‬الَِّذي أَ ْ‬ ‫الص ْي ِ‬
‫ف‪َ ،‬فْلَي ْعُب ُدوا َر َّ‬ ‫الش تَ ِ‬
‫اء َو َّ‬ ‫ش‪ِ ،‬إياَل ِف ِهم ِر ْحلَ ةَ ِّ‬
‫ْ‬ ‫ف قُ َر ْي ٍ‬‫والحج از‪﴿ :‬إِلِ ياَل ِ‬
‫وعوآَمَنهم ِم ْن َخو ٍ‬
‫ف﴾(‪.)152‬‬ ‫ْ‬ ‫ُج ٍ َ َ ُ ْ‬

‫ولم يرد لدى الفقهاء تفصيل خاص قيما يتصل بالملحقيات التجارية‪ ،‬ويمكن متابعة هذا المعنى فيما حرره‬
‫اإلم ام أب و يوس ف يعق وب بن إب راهيم‪ ،‬في كتاب ه الخ راج وق د حررن ا جانب اً من رؤيت ه فيم ا يتص ل بقي ام‬
‫المستأمنين بأعمال التجارة وما يفرض فيه من أموالهم وأرباحهم من العشور‪.‬‬

‫ومن الواقعي أن نقول إن الملحقيات التجارية هي تطور جديد في العمل الدبلوماسي وهو شيء لم يكن في‬
‫عص ر الرس الة وال في عص ر الخلف اء‪ ،‬واألم ر يحت اج إلى اجته اد مس تقل والقاع دة العام ة ال تي تحكم ه ذا‬
‫َمُنوا أ َْوفُوا بِ اْل ُعقُو ِد﴾‪ ،‬وال شك أن التزام الدولة اإلسالمية‬ ‫َِّ‬
‫ين آ َ‬
‫اللون من النشاط هي قوله تعالى‪َ﴿ :‬يا أَيُّهَا الذ َ‬
‫بتأمين الظروف التجارية للمبتعثين وتنفيذ االتفاقات الدولية في هذا الشأن هو مسؤولية شرعية ووطنية ال‬
‫يجوز التفريط فيها‪.‬‬

‫ويمكن تأسيس أحكام هذه الملحقيات أيضاً في باب المباح الذي يملك ولي األمر التصرف فيه إيجاب اً وسلباً‬
‫بما تتحقق فيه مصلحة األمة‪ ،‬وحيثما كانت المصلحة فثم شرع اهلل‪.‬‬

‫وقد أرسل النبي الكريم عدداً من الصحابة بمهام تجارية بحتة‪ ،‬تتصل بتبادل الخبرات والبضائع مع الشام‬
‫واليمن‪ ،‬ومن ه ؤالء أب و ع روة الب ارقي ومنهم عقي ل بن أبي ط الب ال ذي ك ان خب يراً بالتج ارة وال بيع‬
‫والشراء‪ ،‬وقال‪" :‬ما قضي لوكيلي فلي وما قضي على وكيلي فعلي"‪.‬‬

‫وك ذلك ك ان دحي ة بن خليف ة الكل بي يت ولى تج ارة الش ام في زمن رس ول اهلل وفي ه ن زلت اآلي ة‪َ ﴿ :‬وإِ َذا َرأ َْوا‬
‫ك قَائِ ًما﴾‪،‬فقد كان كثير من الصحابة قد استهموا في تجارة دحية وحين‬ ‫تِ َج َارةً أ َْو لَ ْه ًوا انفَضُّوا ِإلَْيهَا َوتََر ُك و َ‬
‫وصلت القافلة عند صالة الجمعة خف الناس ليتسلموا بضائعهم وخال المسجد من المصلين فنزلت اآلية‪.‬‬

‫وقد برع معاوية بن أبي سفيان في تخير وفود دبلوماسية تتولى أمر التجارة وتبادل البضائع مع البلدان‪،‬‬
‫وتؤسس التبادل التجاري مع البلدان بغض النظر عن سياسات تلك الدول والمواقف العسكرية فيما بينها‪.‬‬

‫الملحقية العسكرية‪:‬‬

‫‪ 152‬سورة قريش‬

‫‪82‬‬
‫ال تق وم الملحقي ة العس كرية إال بين دول ص ديقة‪ ،‬حيث يكل ف بعض الدبلوماس يين بالتع اون م ع الدول ة‬
‫المضيفة في الشؤون العسكرية‪ ،‬بتقديم االستشارات والخبرات وتبادل السالح واإلطالععلى كل جديد في‬
‫الحقل العسكري وبالتالي تبادل شراء وبيع األسلحة لصالح الجيش الوطني‪.‬‬

‫وهكذا فإنه ال يتصور قيام ملحقية عسكرية في عصر النبوة والخالفة الراشدة التالي ة‪ ،‬حيث لم تكن عالقات‬
‫الص داقة الدبلوماس ية واردة في تل ك المرحل ة‪ ،‬بع د أن أعلنت ال دول الرئيس ية آن ذاك محارب ة الرس الة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬ومواجهتها بشتى أنواع الوسائل الحربية والعسكرية‪ ،‬ولذلك فإننا لم نتمكن من رصد ظاهرة‬
‫الملحق العسكري في الدولة النبوية ودولة الخالفة الراشدة‪.‬‬

‫وب الطبع ف إن ذل ك ال يع ني ع دم وج ود خ براء عس كريين ي ؤدون خ دمات للدول ة ويتحرك ون ض من دول‬


‫أخ رى‪ ،‬ولكن ذل ك ك ان يتم ب دون أي غط اء دبلوماس ي‪ ،‬وال يمكن اعتباره ا ملحقي ات عس كرية ب المعنى‬
‫الحديث‪.‬‬

‫وما قلناه في شأن الملحقية التجارية نقوله في شأن الملحقية العسكرية فهي تصرف في المباح أوكل الشرع‬
‫أمره لولي األمر‪ ،‬واألصل في األشياء اإلباحة إال ما ورد فيه النص بالتحريم‪.‬‬

‫وهكذا فإن مشروعية قيام ملحقيات عسكرية تتأسس شرعاً على مدخلين اثنين‪:‬‬

‫األول‪ :‬استصحاب اإلباحة األصلية‪ ،‬وفق ما دلت عليه النصوص القرآنية في هذا الباب‪ ،‬ودعت المؤمنين‬
‫إلى انتهاج كل سبيل فيه خير لألمة وتيسير ألمورها‪ ،‬ومنها قوله تعالى‪﴿ :‬وس َّخر لَ ُكم َّما ِفي السَّماو ِ‬
‫ات َو َم ا‬ ‫ََ‬ ‫َ َ َ‬
‫ض َج ِميع اً ِّم ْن هُ﴾(‪ ،)153‬وق د دعان ا للعم ل لم ا في ه خ ير األم ة عموم اً‪ ،‬وه ذا األم ر في ه خ ير عظيم‬ ‫ِفي اأْل َْر ِ‬
‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫استَبِقُوا اْل َخ ْي َرات ِإلَى الله َم ْر ِج ُع ُك ْم َجميعاً فَُيَنبُِّئ ُك ْم بِ َما ُك ْنتُ ْم فيه تَ ْختَلفُ َ‬
‫ون﴾(‪.)154‬‬ ‫لألمة‪ ،‬وقال تعالى‪﴿:‬فَ ْ‬

‫الث اني‪ :‬االس تدالل ب العموم في ال دعوة إلى التع اون على الخ ير والتع ارف فيم ا هي مص لحة لألم ة‪ :‬ومنه ا‬
‫وبا َوقََبائِ َل ِلتَ َع َارفُوا﴾(‪ ،)155‬وقوله تعالى‪:‬‬ ‫ِ‬
‫اس ِإَّنا َخلَ ْقَن ا ُك ْم م ْن َذ َك ٍر َوأُنثَى َو َج َعْلَن ا ُك ْم ُش ُع ً‬ ‫قوله تعالى‪﴿ :‬أَيُّهَ ا َّ‬
‫الن ُ‬
‫اإلثْ ِم َواْل ُع ْد َوان﴾(‪.)156‬‬
‫﴿وتَ َعاوُنوْا َعلَى اْل ِّبر والتَّ ْقوى والَ تَ َعاوُنوْا َعلَى ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ َ‬

‫‪ 153‬سورة الجاثية ‪13‬‬


‫‪ 154‬سورة المائدة ‪48‬‬
‫‪155‬سورة الحجرات ‪13‬‬
‫‪ 156‬سورة المائدة ‪4‬‬

‫‪83‬‬
‫الث الث‪ :‬إن قي ام ه ذه الملحقي ات يك ون ع ادة ب العقود المتبادل ة بين ال دول‪ ،‬وق د أم ر اهلل ع ز وج ل بالوف اء‬
‫ان َب ْع َد تَ ْو ِك ِيد َها َوقَ ْد َج َعْلتُُم اهللَ َعلَْي ُك ْم َك ِفيالً﴾(‪.)157‬‬
‫ضوْا األ َْي َم َ‬
‫بالعقود‪ ،‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬والَ تَنقُ ُ‬

‫وك ذلك يمكن االس تدالل بموق ف الن بي الك ريم حين أرس ل من أص حابه عيون اً على أعدائ ه من المش ركين‬
‫والمنافقين وتتبع أخبارهم‪ ،‬وقد اعترض بعض المنافقين على هذا الدور فنزل في الرد على المعترضين‪:‬‬
‫َِِّّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َِّ‬
‫ين‬ ‫ون ُه َو أُ ُذ ٌن ُق ْل أُ ُذ ُن َخ ْي ٍر ل ُك ْم ُي ْؤ ِم ُن بِاللّ ه َوُي ْؤ ِم ُن لْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين َو َر ْح َم ةٌ للذ َ‬ ‫النبِ َّي َويِقُولُ َ‬
‫ون َّ‬ ‫﴿ َو ِم ْنهُ ُم الذ َ‬
‫ين ُي ْؤ ُذ َ‬
‫آمُن وْا ِمن ُك ْم﴾(‪ .)158‬فأك دت اآلي ة الكريم ة أن األم ور بمقاص دها وأن األم ة يجب أن تبقى عين اً س اهرة على‬ ‫َ‬
‫المصالح العامة وأن ال تتهاون في متابعة شؤون أعدائها‪.‬‬

‫الملحقية الثقافية‪:‬‬

‫ق امت الدبلوماس ية الثقافي ة خالل الت اريخ اإلس المية ب دور كب ير وإ ن لم تتح دد ض من عن وان الملحقي ات‬
‫الثقافية‪ ،‬ولكن كل نشاط قام به المسلمون في حقل التفاعل مع الحضارات األخرى كان محكوماً بقيم القرآن‬
‫الكريم التي تدعو إلى احترام ثقافات األمم‪ ،‬مما ال يتعارض مع قيم اإلسالم الكبرى في التوحيد والفضيلة‬
‫َح َس َن َما َع ِملُوا َوَنتَ َج َاو ُز َعن َسيَِّئاتِ ِه ْم﴾‪.‬‬
‫﴿نتَقََّب ُل َع ْنهُ ْم أ ْ‬
‫والعفاف والسالم‪ ،‬وفق ما قرره القرآن الكريم‪َ :‬‬

‫وقد جاء القرآن الكريم صريحاً في احترام ما أنجزه األنبي اء من قب ل‪ ،‬وتوض حت رسالة النبي صلى اهلل‬
‫عليه وسلم بأنها رسالة تصديق لهدي االنبياء وليست إلغاء وإ بطاالً لهم‪ ،‬وتكرر في القرأن الكريم في أربعة‬
‫ص ِّدقًا ِل َما َب ْي َن َي َد ْي ِه﴾‪.‬‬
‫﴿م َ‬
‫عشر موضعاً‪ُ :‬‬

‫وخالل الت اريخ اإلس المي ع رفت بعض الملحقي ات الثقافي ة ال تي حظيت بغط اء دبلوماس ي ومن أش هر ه ذه‬
‫الملحقي ات م ا ق ام ب ه الخليف ة الم أمون ل دى تأس يس بيت الحكم ة حيث أرس ل س فراءه إلى ال روم والهن د‬
‫واإلف رنج لجم ع المخطوط ات العلمي ة الهام ة وبالت الي لترجمته ا إلى اللغ ة العربي ة‪ ،‬وق د ك انت ه ذه الكتب‬
‫تش تمل على كث ير من المخالف ات في العقي دة اإلس المية ولكنه ا م ع ذل ك حظيت بعناي ة علمي ة فري دة وتمت‬
‫ترجمتها إلى العربية بإشراف مباشر من دار الخالفة‪.‬‬

‫‪ 157‬سورة النحل ‪91‬‬


‫‪ 158‬سورة التوبة ‪61‬‬

‫‪84‬‬
‫وك ذلك م ا ق ام ب ه الخليف ة العباس ي الواث ق باهلل (‪)847– 842‬؛ إذ أرس ل وف داً إلى اإلم براطور الب يزنطي‬
‫ذكره في القرآن الكريم(‪.)159‬‬
‫مايكل الثالث لزيارة الكهف الوارد ُ‬

‫الملحقيات الثقافية ورسالة الدعوة‪:‬‬

‫اشتهرت البعثات الثقافية في اإلسالم باسم الدعاة إلى اهلل‪ ،‬وهم الفريق الثقافي الذي كان يتحرك في إطار‬
‫ال دعوة إلى اهلل بالحكم ة والموعظ ة الحس نة‪ ،‬وق د ك ان ه ؤالء يرافق ون ع ادة جيش الفتح ثم يس تقرون في‬
‫البلدان المفتوحة‪.‬‬

‫وك ان ه ؤالء يقوم ون ب دورهم في ال دعوة واإلرش اد ونش ر العلم دون أن يك ون لهم ق رار أو دور سياس ي‬
‫محدد‪ ،‬ومن أشهر هؤالء‪:‬‬

‫مصعب بن عمير‪ :‬أرسله النبي صلى اهلل عليه وسلم إلى المدينة المنورة ليرشد أهلها إلى اإلسالم ويعلمهم‬
‫أحك ام ال دين‪ ،‬وق د أرس ل مص عب بن اء على اتف اق بين الرس ول الك ريم وزعم اء األوس والخ زرج ال ذين‬
‫التقاهم رسول اهلل عند شجرة العقبة في منى بعد أداء مناسك الحج‪.‬‬

‫وق د ق ام مص عب بمهت ه خ ير قي ام‪ ،‬ولم تتن اول س فارته أي ج انب سياس ي‪ ،‬واخت ار الن بي الك ريم أن يك ون‬
‫التف اوض السياس ي بين ه وبين أه ل المدين ة ع بر رج ال من األوس والخ زرج وبش كل خ اص س عد بن مع اذ‬
‫وسعد بن عبادة‪.‬‬

‫أبو موسى األشعري‪ :‬ابتعثه الرسول الكريم إلى اليمن‪ ،‬ظهيراً وعوناً لعلي بن أبي طالب وحدد له الرسول‬
‫الكريم مهمته بتعليم الناس أحكام اإلسالم وتالوة القرآن وحوارهم فيما يتصل بالدين الجديد‪.‬‬

‫وه ذا الج دول يض م أهم البعث ات الثقافي ة (الدعوي ة) ال تي أرس لها الن بي ص لى اهلل علي ه وس لم إلى القبائ ل‬
‫والبالد ال تي قبلت ال دعوة‪ ،‬وق د عرف وا في كتب الس يرة باس م المص دقين‪ ،‬وأغلبهم أرس ل في المح رم س نة‬
‫‪9‬هـ(‪:)160‬‬

‫‪ 159‬الدبلوماسية في التاريخ اإلسالمي‪ ،‬مجلة منار اإلسالم اإلماراتية عدد‪ 7‬ص ‪ 49‬بحث للدكتور عباس حلمي وقد ذكر عباس أن الواثق‬
‫ارسل رسوله إلى دقلديانوس وهو خطأ ظاهر إذ عاش دقلديانوس في المائة الثالثة للمسيح أي قبل اإلسالم بنحو أربعمائة عام‪ ،‬وربما‬
‫التبس عليه ألن دقلديانوس هو من عاش في زمانه أصحاب الكهف‪ ،‬وقد سبقت اإلشارة لذلك في الفصل الخاص بتاريخ الدبلوماسية في‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫‪ 160‬سيرة رسول هللا‪ ،‬د‪.‬محمد حبش‪ ،‬طبع دار أفنان‪ ،‬دمشق‪1994 ،‬‬

‫‪85‬‬
‫إلى بني تميم‬ ‫‪1‬ـ عيينة بن حصين‬
‫إلى أسلم وغفار‬ ‫‪2‬ـ يزيد بن الحصين‬
‫إلى سليم ومزينة‬ ‫‪3‬ـ عباد بن بشير األشهلي‬
‫إلى جهينة‬ ‫‪4‬ـ رافع بن مكيث‬
‫إلى بني فزارة‬ ‫‪5‬ـ عمرو بن العاص‬
‫إلى بني كالب‬ ‫‪6‬ـ الضحاك بن سفيان‬
‫إلى بني كعب‬ ‫‪7‬ـ بشير بن سفيان‬
‫إلى بني ذبيان‬ ‫‪8‬ـ ابن اللتبية األزدي‬
‫إلى صنعاء (وخرج عليه األسود العنسي وهو بها)‬ ‫‪9‬ـ المهاجر بن أبي أمية‬
‫إلى حضرموت‬ ‫‪10‬ـ زياد بن لبيـد‬
‫إلى طيء وبني أسد‬ ‫‪11‬ـ عدي بن حاتم‬
‫إلى بني حنظلة‬ ‫‪12‬ـ مالك بن نويرة‬
‫إلى بني سعد (إلى قسم منهم)‬ ‫‪13‬ـ الزبرقان بن بدر‬
‫إلى بني سعد (إلى قسم آخر منهم)‬ ‫‪14‬ـ قيس بن عاصم‬
‫إلى البحرين‬ ‫‪15‬ـ العالء بن الحضرمي‬
‫‪16‬ـ علي بن أبي طالب إلى نجران (لجمع الصدقة والجزية)‬

‫وقد كان لهؤالء المبتعثين أبلغ األثر في انتشار اإلسالم في جزيرة العرب وما حولها‪ ،‬وكذلك بنشر ثقافة‬
‫الح وار واإلخ اء‪ ،‬والحج ة والبره ان ب دالً من ثقاف ة الح رب والعن ف ال تي ك انت تف رض س طوتها في الحي اة‬
‫العربية‪.‬‬

‫وقد تكرر هذا النموذج في العصر الراشدي حيث كان جيش الفتح يتقدم قوافل الدعاة الذين كانوا يقومون‬
‫بواجبات هامة غير سياسية في البالد المفتوحة‪ ،‬وكان من عادة الخلفاء أن يرسلوا إلى األمصار المفتوحة‬
‫ع دداً من العلم اء المش هود لهم بالحج ة والبره ان فيكون ون في كن ف الدول ة الجدي دة يتول ون مه ام ثقافي ة‬
‫وعلمية غير سياسية‪.‬‬

‫وخالل الت اريخ اإلس المي فق د ك انت قواف ل ال دعاة إلى اهلل تق وم ب واجب كب ير في ش رح ه دايات اإلس الم‬
‫وتب ادل الثقاف ات في البل دان ال تي ينتق ل فيه ا المس لمون‪ ،‬وفي الواق ع ف إن وج ود ه ذه الخالي ا من ال دعاة هي‬
‫التي تفسر التحوالت الكبرى إلى اإلسالم عبر التاريخ‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫ونش ير هن ا بش كل خ اص إلى تح ول أندنوس يا وأرخبي ل المالي و وقس م كب ير من الق ارة الهندي ة إلى اإلس الم‬
‫وهي بالد يزيد فيها عدد المسلمين عن نصف مليار إنسان تحولوا إلى اإلسالم بدون حروب وال دماء‪.‬‬

‫وفي هذا السياق فإنني أختار مثالً واحداً لما يمكن أن تقوم به هذه القوافل اإلرشادية (الملحقيات الثقافية)‬
‫وهو ما دونه الشاعر اإلسالمي الكبير محمد إقبال في رائعته الشهيرة شكوى وجواب شكوى‪ ،‬ففيها يذكر‬
‫إقبال غزو المغول والتتار الذين اكتسحوا العالم اإلسالمي في القرن السابع الهجري وحطموا حضارات‬
‫اإلس الم بش كل مري ع من خ وارزم إلى ال ري فنيس ابور وأص فهان وش يراز ح تى وص لوا بغ داد وحطم وا‬
‫الخالفة اإلسالمية فيها‪ ،‬فقد كان المشهد مريعاً عام ‪656‬هـ حين سقطت بغداد بيد المغول وعاثوا فيها فساداً‬
‫وإ جرام اً‪ ،‬وق ام هوالك و بوض ع الخليف ة المستعص م في كيس وأم ر الخي ل أن تم ر فوق ه ح تى تمت تس ويته‬
‫باألرض‪ ،‬وتحطمت الجيوش اإلسالمية أمام المد المغولي الكاسح‪.‬‬

‫ولكن هذه الصورة المدمرة سرعان ما تغيرت خالل سنوات قليلة‪ ،‬حيث بدأ المغول يتحولون تدريجياً إلى‬
‫اإلسالم الذي حاربوه بكل ضراوة‪ ،‬وأخذ ملوكهم يعتنقون اإلسالم الواحد بعد اآلخر‪،‬وبدأ العالم يتحدث عن‬
‫دول إس المية مغولي ة‪ ،‬كالدول ة الس بكتكينية المغولي ة والدول ة القبجاقي ة المغولي ة والدول ة الهمايوني ة المغولي ة‬
‫وهي دول حكمها المغول ولكن في ظالل اإلسالم‪.‬‬

‫ال يملك المؤرخون تفسيراً لهذه الظاهرة العجيبة التي غيرت شكل العالم في القرن السابع الهجري‪ ،‬حيث‬
‫ال يوجد نصر عسكري ماحق تحول به المغول إلى اإلسالم‪ ،‬ولكنها نشاطات الدعاة الذين كانوا يعملون‬
‫كملحقيات ثقافية بغطاء دبلوماسي حين اً وبدون غطاء حين اً آخر‪ ،‬حتى تمكن هؤالء من إقناع عدد من قادة‬
‫المغول بالقيم اإلسالمية العظيمة‪ ،‬وقد رأينا تحوالت هامة في الزعماء المغول إلى اإلسالم‪ ،‬واليوم فإنأعظم‬
‫المس اجد والم دارس والمش افي والح دائق في ش مال الص ين والهن د وآس يا الوس طى هي ال تي بناه ا المغ ول‬
‫المسلمون بيد كريمة طافحة بالفن والثراء الثقافي والروحي‪.‬‬

‫وفي هذا المعنى يقول إقبال‪:‬‬

‫من اإليم ــان عاقبة األماني‬ ‫بغت أمم التت ـ ــار فأدركتها‬
‫حماة البيت والركن اليماني‬ ‫وأصبح عابدو األصنام قدما‬

‫‪87‬‬
‫وك ذلك ف إن ه ذا النش اط الثق افي تح رك أيض اً داخ ل المجتم ع اإلس المي‪ ،‬وأنج ز المس لمون خالل الت اريخ‬
‫تواص الً ثقافي اً عجيب اً‪ ،‬ربط أمصار اإلسالم بعيدها وقريبها بأوثق رباط على الرغم من عدم توفر وسائل‬
‫االتصال والمواصالت بين الغرب والشرق في تلك القرون‪.‬‬

‫ومن الشواهد على هذا المعنى أن اإلمام ابن عساكر صنف كتابه الكبير تاريخ دمشق‪ ،‬وأرخ فيه لكل من‬
‫كتب عن دمش ق أو تعلم أو علم فيه ا‪ ،‬أو أق ام به ا زمن اً‪ ،‬ول دى متابع ة رج ال العلم خالل الت اريخ ال ذين‬
‫تف اعلوا في بل د كدمش ق مثالً فس تقف على مئ ات ال رازيين والبص ريين والبغ داديين والنيس ابوريين‬
‫واألصفهانيين واألرضروميين واألنطاكيين والشيرازيين والبخاريين والجرجانيين الذين وفدوا من عواصم‬
‫مختلفة في العالم اإلسالمي ونزلوا بالشام وعلموا فيها‪ ،‬وتركوا أثراً من العلم والمعرفة فيها‪.‬‬

‫واألم ر نفس ه في ش أن من ت رجم لبغ داد ونيس ابور وال ري وش يراز وأص فهان والبص رة والكوف ة والق اهرة‬
‫ومكة والمدينة وغيرها من حواضر اإلسالم الكبرى التي سعدت بنور اإلسالم‪.‬‬

‫إنني ال أزعم أن ذلك تم في إطار ملحقيات ثقافية بالمعنى الدبلوماسي الحديث ولكن التقاليد واآلداب التي‬
‫ك انت تغلب في الع الم اإلس المي في قي ام ال والة والس الطين باس تقبال العلم اء وتك ريمهم وبي ان من ازلهم‬
‫وتقديمهم للناس ونشر علمهم‪ ،‬هي التي أسهمت بأن تتم تلك التحوالت الكبرى في إطار مجتمعات عظيمة‬
‫اعتنقت اإلسالم‪ ،‬فلم يكن مسموحاً على اإلطالق للفاتحين أن يتدخلوا في عقائد الناس وكانت تحكمهم اآلية‬
‫الكريم ة‪﴿ :‬ال ِإ ْك َراهَ ِفي ال ِّد ِ‬
‫ين﴾‪ ،‬ولكن ه ذا ال دور البن اء نهض ت في ه الملحقي ات الثقافي ة المتطوع ة أحيان اً‬
‫والمكلفة من الدولة أحيان اً أخرى‪ ،‬بغطاء دبلوماسي أو بدون غطاء‪ ،‬حيث كان وصول العالم إلى عاصمة‬
‫إسالمياً حدثاً كبيرا ينشغل به الرأي العام وتقام في إطاره ندوات ومحاضرات ولقاءات وإ جازات‪ .‬كل ذلك‬
‫ك ان يحق ق تمام اً أه داف الملحقي ات الثقافي ة في الع الم الح ديث من دون أن تك ون ه ذه النش اطات تحت‬
‫اسمالملحقيات الثقافية‪.‬‬

‫سفارة الحج‪:‬‬

‫اشتهرت سفارة الحج تاريخي اً‪ ،‬وقد اهتم بها الخلفاء خالل التاريخ اهتمام اً بالغ اً‪ ،‬وكان لكل دولة إسالمية‬
‫س فيرها ووف دها إلى الحج‪ ،‬وك انت مه ام س فير الحج سياس ية ودبلوماس ية في المق ام األول‪ ،‬حيث يت ولى‬
‫التنسيق مع الوفود األخرى والقيادات المحلية في الحج‪ ،‬ويعتبر ممثالً للخليفة أو للسلطان أو األمير الذي‬
‫ابتعثه‪ ،‬ومن مهامه االعتناء بالحجاج وتوفير األمن لهم عبر إجراء التحالفات الدبلوماسية مع الدول والق وى‬
‫التي كانت تحكم طريق الحج‪ ،‬ومع زعماء مكة المحليين‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫وال نقص د بس فير الحج هن ا فقي ه المناس ك‪ ،‬فق د ك ان في وف د الحج دوم ا مرش دون وفقه اء ووع اظ‪ ،‬وك ذلك‬
‫أطباء ورجال أمن‪ ،‬ولكن مهامهم كانت ال تمس الشأن الدبلوماسي الذي كان يتواله عادة أمير الحج المكلف‬
‫دون سواه‪.‬‬

‫وقد اهتمت الدول اإلسالمية المتعاقبة بمحمل الحج‪ ،‬وطقوسه وتقاليده‪ ،‬ففي دمشق مثالً كان الخليفة األموي‬
‫يتولى بنفسه اإلشراف على هدايا الحرم الشريف‪ ،‬حيث كانت كسوة الكعبة يتم إعدادها في بلدة الكسوة في‬
‫أطراف دمشق‪ ،‬وكان زيت الحرمين والمسجد األقصى يتم اصطفاؤه من نقي الزيت وطاهره‪ ،‬وتخصص‬
‫له مراكب خاصة‪ ،‬وكان محمل الحج يتحرك في موكب مهيب في أجواء احتفالية حيث يصل المحتفلون‬
‫إلى ثنيات الوداع الشامية‪ ،‬عند الكسوة حي يعقد الخليفة نفسه أمير الحج‪ ،‬ويتفقد مراكب الزيت والكسوة‪،‬‬
‫ويودع المحمل في غاية من األبهة والفخامة والطقوسية‪.‬‬

‫وقد حافظ حكام بالد الشام والعراق ومصر على هذه التقاليد وطوروها‪ ،‬وإ نك تجد في أدبيات هذه الدول‬
‫ب الغ االهتم ام بمحم ل الحج ودالالت ه السياس ية واالجتماعي ة والديني ة‪ ،‬ولربم ا األخب ار نفس ها فيم ا يخص‬
‫إرسال الكسوة والهدايا والزيت للبيت الحرام ومسجد المدينة والقدس‪.‬‬

‫وكان أمير الحج مكلف اً بإجراء صفقات سياسية ودبلوماسية كبيرة‪ ،‬ومراراً كانت سفارة الحج تتولى عقد‬
‫تحالفات جديدة مع الحك ام المحل يين أو م ع أم راء الحج الق ادمين من بلدانهم بصالحيات واسعة‪ ،‬وكان يتم‬
‫توقيع اتفاقات كهذه في جوار الكعبة المشرفة لإلفادة من ظاللها الروحية وتأثيراتها الرمزية‪.‬‬

‫وم ع أن مهم ة أم ير الحج مرتبط ة تمام اً بالمناس ك ال تي ج اء به ا الن بي الك ريم‪ ،‬ف إن علين ا الق ول أن ه ذه‬
‫الس فارة ك انت موج ودة قب ل اإلس الم‪ ،‬وك انت أس واق عك اظ والمج از ومجن ة مناس بة موس مية س نوية لعق د‬
‫التحالفات السياسية والدبلوماسية وكان العرب يعتبرون أن حلف البيت الحرام أوثق وأحكم وأحزم‪.‬‬

‫وقد قام النبي الكريم بإقرار هذه الحقيقة وترويجها واالستفادة منها تماما‪ ،‬فقد كان ينتظر المواسم ليلتقي‬
‫أمراء الحج الوافدين في قوافل أقوامهم‪ ،‬وقد اشتهر نشاطه في الموسم‪ ،‬ولقاءاته بأمراء الحج الوافدين‪ ،‬من‬
‫تميم وه ذيل وكن دة واليمن والش ام والع راق‪ ،‬واش تهر بش كل خ اص ح واره م ع وف د الحج الق ادم من الح يرة‬
‫وفي ه زعم اء المن اذرة المف روق بن عم رو وه انئ بن قبيص ة والمث نى بن حارث ة‪ ،‬وك ذلك وف د كن دة ووف د‬
‫الط ائف‪ ،‬وأخ يراً وف د ي ثرب من األوس والخ زرج ال ذي عق د اتفاقي ة بالغ ة األهمي ة م ع الرس ول الك ريم في‬
‫العقبة بمنى‪ ،‬وهي اتفاقية قدر لها أن تغير وجه التاريخ‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫وك ان أول أم ير للحج في زمن النب وة عت اب بن أس يد ال ذي ولي ه ذه المهم ة في الس نة الثامن ة بع د أن تم‬
‫الفتح‪ ،‬ثم أرسل النبي الكريم في السنة التالية أبا بكر الصديق أميراً على الحج في سفارة هامة وتاريخية‪،‬‬
‫ثم أتبع ه بعلي بن أبي ط الب في مهم ة خاص ة لتالوة س ورة ب راءة‪ ،‬وإ نه اء البالغ ات الس ابقة فيم ا يخص‬
‫التحالفات مع القبائل العربية وبناء عقود جديدة مع العرب الذين رفضوا الدخول في اإلسالم‪.‬‬

‫كما أن سفارة الحج تعاظمت أهميتها في عهد الدولة األيوبية والنورية والمماليك‪ ،‬وأضيفت إلى مهام أمير‬
‫الحج مس ؤوليات متع ددة منه ا اإلش راف على أوق اف البل د الح رام‪ ،‬وتطويره ا‪ ،‬وق د ك ان من دأب المل وك‬
‫واألمراء أن يقوموا بتطوير هذه المناسك والمرافق وترك بصمة ترتبط تاريخياً بالخليفة المذكور‪.‬‬

‫أما الدولة العثمانية فقد اهتمت اهتماماً بالغاً بسفارة الحج‪ ،‬وكان منصب أمير الحج ال يناله إال كبار رجال‬
‫الدولة بعد خدمات جليلة مشهورة‪ ،‬وكان على األغلب قائداً عسكرياً شهيراً‪ ،‬ألن الحملة مسؤولة عن أمن‬
‫الطريق إلى الحج‪ ،‬كما كان من مهمته إقامة الخانات والنزل على الطرق وتأمين حمايتها وخدماتها‪ ،‬كما‬
‫كان يحمل عادة إلى أهل الحجاز مراسيم سلطانية باإلعفاء من الضرائب والرسوم لكل أهل الحجاز‪ ،‬ويقوم‬
‫بتوزيع الصرة الهمايونية على أهل المدينة من األشراف والمقدمين وهي هدايا سلطانية متميزة تخصص‬
‫لألشراف وأهل البيت وزعماء الحجاز في مكة والمدينة‪.‬‬

‫كما كان موكب الحج يودع في احتفاالت مهيبة على أطراف المدن التي يتحرك منها الحجاج عند ثنيات‬
‫الوداع منها‪ ،‬وكان فيها المحمل وهو مجسم للكعبة المشرفة على مخمل أسود يوضع على ظهر بعير يتقدم‬
‫القافل ة‪ ،‬والس نجق وه و علم رس ول اهلل يوض ع على ناق ة خاص ة‪ ،‬وك ان الم وكب يش تمل ع ادة على ال زيت‬
‫والشموع التي تهدى للحرم الشريف‪.‬‬

‫كم ا رس م العثم انيون بتع يين س ردار الحج وه و نقيب الحج اج ومق دمهم‪ ،‬ومف تي الحج وفقي ه المحم ل‪،‬‬
‫واختص وا الحج الش امي بمنص ب أم ير ال ركب ال ذي ك ان ع ادة أح د الباش وات الكب ار‪ ،‬وك ان الحج يب دأ من‬
‫إس طانبول من األس تانة برعاي ة الس لطان العثم اني نفس ه ويض م حج اج إس طانبول وبالد القوق از والبلق ان‬
‫وينض م إليهم على الطري ق حج اج األناض ول واألنطاكي ة وحلب وحم اه وحمص ولبن ان ويكتم ل اجتم اع‬
‫الموكب في الشام الشريف عند مزاراتها‪ ،‬ثم يتم وداعهم إلى مدينة الكسوة جنوب دمشق على ثنيات الوداع‬
‫في الش ام حيث يتم تحمي ل كس وة الكعب ة المش رفة منه ا‪ ،‬وك ان ك ل وال عثم اني مكلف اً بت أمين أمن الطري ق‬
‫للقافلة إلى حدود الوالي الذي يليه‪ ،‬وك ان لك ل محم ل من محامل الحج منازله ومراتع ه في الحرمين وفي‬

‫‪90‬‬
‫أماكن المناسك‪ ،‬وكان أمراء الحج يعاملون كدبلوماسيين رفيعي المستوى لدى كل البالد التي يمرون بها‪،‬‬
‫وبشكل خاص لدى أمير مكة‪.‬‬

‫"ص َّره آاليي"‪ ،‬وهي القوات التي كانت تقوم باإلعداد لالحتفال لخروج الصرة والمحمل‬ ‫‪ ‬كما تم استحداث ُ‬
‫وم وكب الحج من أم ام القص ر الس لطاني‪ ،‬ثم ين اط به ا الحف اظ على الص رة والمحم ل وقافل ة الحج‪ ،‬ح تى‬
‫تصل وتعود في أمن وسالم‪ .‬‬

‫وك ان أمين الص رة الهمايوني ة ُيخت ار في معظم األحي ان من بين كب ار العس كريين المش هود لهم ب التميز‬
‫العس كري والت دين وحس ن الس ير والس لوك والتقى ال ورع وطه ارة الي د والع دل‪ ،‬ح تى يش رف بنفس ه على‬
‫القوات المرافقة للمحمل‪ ،‬وقافلة الحج‪ .‬كما يقوم بتسليم الفرمان الخاص بتوزيع أموال الصرة الهمايونية‬
‫على الح رمين الش ريفين وأوج ه التص رف والص رف منه ا إلى ش ريف مك ة ومش ايخ الح رمين الش ريفين‪،‬‬
‫بحضور رجاالت الدولة العلماء وقادة القوات الموجودة في كل من مكة والمدينة وجدة والطائف‪ ،‬وأمراء‬
‫قوافل الحج‪ .‬وكان يشرف بنفسه باعتباره ممثال للسلطان العثماني على أداء المناسك وحفظ األمن واألمان‬
‫خالل موس م الحج كل ه‪ ،‬إلى أن تغ ادر القواف ل كله ا الم دينتين المب اركتين عائ دة إلى بالده ا‪ ،‬فيع ود أمين‬
‫الص رة بع د أن يك ون ق د أش رف أيض ا على توزي ع األوق اف والمخصص ات على أه الي الح رمين‪ ،‬فيق دم‬
‫اإلسالم في ِ‬
‫اآلستانة‪ ،‬وبعدها يمثل بين يدي السلطان ليقدم تقريره‬ ‫تقريرا مفصال إلى الصدر األعظم وشيخ ِ‬
‫‪161‬‬
‫عما أنجزه في موسم الحج ومرئياته ومقترحاته للموسم القادم‪.‬‬

‫وكما هو ظاهر فإن أمير الحج كانت له صفة دبلوماسية متميزة‪ ،‬وكان يمثل السلطان العثماني في كل ما‬
‫يتصل بشؤون الحرمين ومنطقة الحجاز وطريق الحج‪.‬‬

‫ومن الناحي ة الدبلوماس ية تعت بر س فارة الحج نوع اً ممت ازاً من التمثي ل الدبلوماس ي ف وق الع ادة‪ ،‬كم ا أن‬
‫المناصب المرافقة ألمارة الحج كأمين الصرة وأمين المحمل هي أيض اً مناصب دبلوماسية‪ ،‬وربما تتمكن‬
‫الدول اإلسالمية ومراكز أبحاث الحج من توصيف شكل دبلوماسي مناسب لهذه المناصب يحقق المصالح‬
‫المشتركة للدول اإلسالمية في أكثر من جانب‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫مجلة حراء – استامبول ‪ -‬العدد ‪ 2‬شهر يناير ‪ 2006‬مقال للدكتور الصفصافي أحمد القطوري جامعة عين شمس‬

‫‪91‬‬
‫القيم‪ ‬الدبلوماسية‪ ‬في‪ ‬اإلسالم‬ ‫الفصل الثاني‪:‬‬
‫‪92‬‬
‫‪       o‬آداب السفراء‬

‫‪       o‬مبدأ المعاملة بالمثل‬

‫‪       o‬مسؤولية السفير بين وطنه ودار إقامته‬

‫‪       o‬الدبلوماسية‪ ‬واختالف العقائد‬

‫‪ ‬‬

‫آداب السفراء‪:‬‬

‫أشار القرآن الكريم إلى جملة من الوصايا لمن ينوب عن األمة في خدمة مصالحها‪ ،‬وكذلك جاءت السنة‬
‫المشرفة بعدد من هذه الوصايا الحكيمة‪ ،‬وهي آداب ال تختلف كثيراً عما اعتمده المجتمع الدولي في إطار‬
‫العالقات الدبلوماسية واإلنسانية بين األمم والشعوب‪.‬‬

‫وم ع أن ه لم يتم تحري ر ه ذا الب اب مس تقالً في الفق ه اإلس المي من قب ل ولكنن ا س نحاول االق تراب من ه ذه‬
‫الغاية‪ ،‬وفق َهدي الكتاب ونور السنة المشرفة‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫ومن أقدم النصوص في أدب السفراء ماجاء في كتاب (أخالق الملوك) للجاحظ المتوفى عام ‪ 255‬هجرية‬
‫تحت عنوان "آداب السفير" مانصه‪:‬‬

‫بصيرا بمخارج الكالم‬ ‫الفطرة والمزاج‪ ،‬ذا ٍ‬


‫بيان وعبارة‪،‬‬ ‫الحق على الملك أن يكون رسولُه صحيح ِ‬ ‫ِّ‬ ‫"ومن‬
‫ً‬
‫حمل‪ ،‬وعلى‬‫ظ ا ِلما ِّ‬
‫طب ع‪ ،‬حاف ً‬
‫طم ٍع أو ْ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫وأجوبتِه‪ِّ ،‬‬
‫مؤدياً أللفاظ المل ك ومعانيها‪ ،‬صادق اللهجة‪ ،‬ال يميل إلى َ‬
‫يمتحن رسولَه محنةً طويلة قبل أن يجعلَه رسوالً(‪.)162‬‬
‫َ‬ ‫الملك أن‬

‫وقد امتألت كتب األدب بالوصايا الكثيرة التي كان يزود بها السفراء لدى ابتعاثهم في مصالح األمة‪ ،‬وفيما‬
‫يلي طائفة من اآلداب التي ينبغي أن يتحلى بها السفير وفق ما أرشد إليه فقهاء اإلسالم ودلت عليه مبادئ‬
‫الشريعة‪.‬‬

‫األمانة والدقة فيما يوكل إليه من مهام‪:‬‬

‫إن الص فة التمثيلي ة للس فير تحتم علي ه الدق ة فيم ا يتخ ذ من موق ف وفيم ا يق دم من رأي‪ ،‬ف أنت هن ا ال تمث ل‬
‫نفسك وإ نما تمثل من أوفدوك‪ ،‬وحق األمة هنا مؤكد في محاسبته في كل ما يقول ويفعل‪.‬‬

‫وه ذه النزاه ة الدبلوماس ية ح ق وواجب‪ ،‬وعلى الدول ة أن ت وفر ظ رف النزاه ة للرس ول المبتعث منه ا‬
‫وللرس ول الواف د عليه ا‪ ،‬وإ ن أي ض غط على الس فير لتق ديم خالف م ا كل ف ب ه يعت بر خيان ة للنزاه ة‬
‫الدبلوماسية التي ينبغي أن تتوفر في سلوك السفير‪.‬‬

‫أخالق الملوك‪ ،‬للجاحظ‪ ،‬ص ‪25 - 1‬‬ ‫‪162‬‬

‫‪94‬‬
‫َهِلهَ ا َوإِ َذا‬ ‫ؤدوْا األَم َان ِ‬
‫ات ِإلَى أ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْم ُر ُك ْم أَن تُ ُّ‬ ‫ِ‬
‫وق د دل على ذل ك عم وم المع نى في النص الق رآني‪﴿ :‬إ َّن اللّ هَ َي أ ُ‬
‫اس أَن تَ ْح ُك ُم وْا بِاْل َع ْد ِل﴾‪ ،‬والس فارة وكل م ا خولتك األم ة من واجب فيه ا أمان ة يتعين أداؤها‬ ‫الن ِ‬
‫َح َك ْمتُم َب ْي َن َّ‬
‫لألمة على وجه صحيح من األداء‪.‬‬

‫وفي القرآن الكريم كثير من الوصايا التي تأمر اإلنسان بمراقبة اهلل في قوله وفعله‪ ،‬فإن اهلل بصير رقيب‪،‬‬
‫وما يلفظ من قول إال لديه رقيب عتيد‪.‬‬

‫ومن المواق ف الدقيق ة في ه ذا الج انب أن رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم اس تقبل أب ا راف ع رس والً من‬
‫ق ريش‪ ،‬فاس تمع إلي ه‪ ،‬ولكن ه ذا الرس ول س رعان م ا ت أثر ب النبي الك ريم ص لى اهلل علي ه وس لم‪ ،‬ورغب في‬
‫اإلس الم‪ ،‬ولكن رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم لم يقب ل من ه اإلس الم وه و في مهمت ه الدبلوماس ية احترام اً‬
‫وتثديراً لصفته التمثيلية‪ ،‬ووفاء بالعهد الذي التزمه من قبل‪ ،‬وما يترتب عليه من نقل الحقيقة للقوم‪ ،‬وفق‬
‫األصول الدبلوماسية‪.‬‬

‫وفي عبارة بالغة الوعي باآلداب الدبلوماسية الرفيعة‪ ،‬قال له رسول اهلل‪" :‬إني ال أخيس بالعهد‪ ،‬وال أحبس‬
‫فارجع إلينا"(‪.)163‬‬
‫ْ‬ ‫البرد‪ ،‬ولكن ارجع إليهم‪ ،‬فإن كان في قلبِك الذي فيه اآلن‪،‬‬

‫وفي هذا الموقف النبوي الحكيم داللة عظيمة من وجهين‪ ،‬فهي احترام ألمانة الرسالة التي كلف بها رسول‬
‫قريش من جانب‪ ،‬وهي من جانب آخر دعوة للتأمل والدراسة واالستبصار في اختيار العقيدة‪ ،‬فقد يكون‬
‫الرجل قد تأثر بالجو المحيط به‪ ،‬فأراد رسول اهلل له أن يدخل اإلسالم عن قناعة ويقين‪.‬‬

‫وبالفعل فقد عاد أبو رافع إلى قريش وأدى رسالته تمام اً كما كلفوه‪ ،‬ثم أقام أيام اً ولحق بالنبي صلى اهلل‬
‫عليه وسلم في المدينة‪.‬‬

‫وقد تكرر هذا األمر في كثير من المفاوضين ومنهم أبو العاص بن الربيع وعروة بن مسعود الثقفي وبديل‬
‫بن ورقاء الخزاعي والحليس بن علقمة وآخرون كانت تنشرح صدورهم لإليمان ولكن رسول اهلل ال يقبل‬
‫منهم نقض عهدهم لمن أرسلهم بل يأمرهم أن يراجعوا أنفسهم بعد أداء مهمتهم الدبلوماسية والتفاوضية‪.‬‬

‫‪ 163‬رواه اإلمام أحمد في مسنده‪ ،‬ج ‪ ،6‬ص ‪ 8‬كما رواه الترمذي والنسائي‪ ،‬والمعنى ال أحبس البرد أي ال أحبس البريد‪ ،‬بل يجب أن‬
‫أيسره ليصل إلى غايته‪،‬‬

‫‪95‬‬
‫التزام مبادئ القدوة في السلوك الشخصي‪:‬‬

‫الس فير ليس ح راً في اختي ار س لوكه‪ ،‬ب ل إن واجب ه المه ني يف رض علي ه التخلي عن كث ير من رغائب ه‪،‬‬
‫ويتوجب عليه اجتناب كثير من الشبهات حتى ال يقع في المحظور‪.‬‬

‫ون﴾‪ ،‬وفيه‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬


‫ون َم ا اَل تَ ْف َعلُ َ‬
‫آمُن وا ل َم تَقُولُ َ‬
‫ين َ‬
‫وفي القرآن الكريم وصايا واضحة في هذا المعنى‪َ﴿ :‬ي ا أَيُّهَ ا الذ َ‬
‫ُخ ِالفَ ُك ْم ِإلَى َما أ َْنهَا ُك ْم َع ْنهُ﴾‪.‬‬
‫َن أ َ‬ ‫قوله تعالى‪َ ﴿:‬و َما أ ُِر ُ‬
‫يد أ ْ‬

‫وفي ه ذا الس ياق ف إن من ح ق الدول ة وض ع آلي ة مراقب ة لس لوك الس فراء‪ ،‬وال تزامهم بمع ايير االس تقامة‬
‫والعف اف في ك ل أح والهم‪ ،‬م ع التأكي د أن ه ليس ثم ة من س بيل يمكن أن تحق ق الرقاب ة التام ة على س لوك‬
‫اإلنسان إال ضميره وخوفه من اهلل‪.‬‬

‫وق د ذكرن ا طرف اً من ه ذه المس ؤولية في ب اب تع يين الس فراء‪ ،‬وفي ه ذه النقط ة بال ذات تختل ف النظ رة‬
‫اإلس المية عن النظ رة المادي ة‪ ،‬ففي حين يؤك د اإلس الم على ال تزام الق دوة الص الحة لمن يلي ش يئاً من أم ر‬
‫األمة فإن النظرة التقليدية في الغرب ال تعير أهمية لمبدأ القدوة الصالحة‪ ،‬وتعتبر ذلك من شأن الحريات‬
‫الشخصية‪ ،‬وتلتزم الثقافة الغربية عموماً مبدأ حرية اإلنسان الشخصية‪ ،‬وتعتبر سلوكه خارج أوقات الدوام‬
‫الرسمي شأناً شخصياً ال صلة ألحد به في حين أن اإلسالم يأمر باالستقامة في كل حال‪.‬‬

‫أن يترك الفحشاء والمنكر‬ ‫حق على من يصعد المنبر‬


‫ويحسن السر الذي أضمر‬ ‫ويحسن القول الذي قالـــه‬

‫ويجب الق ول إن م ا ذكرن اه عن اإلف راط في منح الموظ ف الحك ومي الحري ة الشخص ية خ ارج وقت دوام ه‬
‫ليست شأناً مطرداً في الغرب‪،‬بل إن الوعي العام ومؤسسات النزاهة والعدالة واألسرة ال تزال تناضل من‬
‫أجل حق الناس في مراقبة سلوك المسؤول الحكومي ومحاسبته في سائر شؤونه‪.‬‬

‫االعتناء بالمظهر وإ ظهار الهيبة في غير مخيلة وال إسراف‪:‬‬

‫‪96‬‬
‫السفير يمثل الدولة والشعب‪ ،‬وعليه أن يحافظ على هذه الصورة في عيون الناس‪ ،‬وليس التواضع محموداً‬
‫في كل حال‪ ،‬بل المطلوب هنا تمثيل البالد بما يليق بكرامة أهلها وحسن شمائلهم‪.‬‬

‫وقد يكون من طبع السفير البساطة والتواضع‪ ،‬ولكن ما ينبغي أن يظهره في منزله ومكتبه ودعواته إنما‬
‫هو سمعة بالده ومكانتها وليس شمائله الشخصية‪.‬‬

‫وكان من شمائل النبي صلى اهلل عليه وسلم أن يلبس أحسن اللباس ليستقبل الوفد‪ ،‬وكان له دلو ماء يكور‬
‫عمامته عليه ليطل على الناس بما يتناسب من إناقة وحسن مظهر‪ ،‬وعن ُع روة‪" :‬أن ثوب رسول اهلل الذي‬
‫ك ان َيخ رج في ه إلى الوف د رداء حض رمي وإ زاره من نس ج ُعم ان ك ان يلبس هما ي وم الجمع ة والعي دين ثم‬
‫ُيطويان"(‪ ،)164‬وعن جابر‪" :‬كان رسول اهلل َيلبس ُب ْر َده األحمر في العيدين والجمعة"‪.‬‬
‫وال يوجد كتاب في الفقه اإلسالمي إال وفيه باب اللباس‪ ،‬وبيان ما يحسن وما يقبح من اللباس‪ ،‬وهو ما بين ه‬

‫اس التَّ ْق َو َ‬
‫ى‬ ‫اس ا ُي َو ِاري َس ْو َءاتِ ُك ْم َو ِر ً‬
‫يش ا َوِلَب ُ‬
‫ِ‬
‫َنزْلَن ا َعلَْي ُك ْم لَب ً‬ ‫الق رآن الك ريم بق ول اهلل تع الى‪َ﴿ :‬ي ا َبنِي َ‬
‫آد َم قَ ْد أ َ‬
‫ك َخ ْيٌر﴾‪.165‬وقد أوصت الشريعة بنظافة البدن والثوب والمكان‪ ،‬وعند رسول اهلل من خصال الفطرة تقليم‬ ‫َذِل َ‬
‫األظافر واألخذ من الشارب والطيب‪.‬‬
‫وك ان رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم يق ول‪" :‬حبب إلي من دني اكم الطيب والنس اء وجعلت ق رة عي ني في‬
‫الص الة"‪ ،‬وك ان ال يخ رج إلى الن اس إال مطيب اً‪ ،‬وك ان يعجب ه المس ك والزعف ران‪ ،‬وق د رويت هذه الش مائل‬
‫كلها في أبواب السنن النبوية فكانت دليالً واضحاً على وجوب العناية بالمظهر الحسن في اإلسالم(‪.)166‬‬

‫وعن ابن مسعود أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬ال يدخل الجنة منكان في قلبه مثقال ذرة من‬
‫كبر"‪ ،‬قال رجل‪":‬إن الرجل يحب ان أن يكون ثوبهحسنا ونعله حسنة‪ ،‬فهل ذلك من الكبر؟" فقال صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪" :‬أن اهلل جميل يحب الجمال‪ ،‬الكبر بطر الحق وغمطالناس(‪.)167‬‬
‫ومع أن رسول اهلل كان أعظم الناس تواضعاً وأشدهم بساطة‪ ،‬ولكنه كان أيض اً كما وصفه اهلل‪" :‬أعزة على‬
‫الكافرين أذلة على المؤمنين‪ ،‬رحماء بينهم"‪ ،‬وال تناقض بين البساطة الشخصية وبين إظهار منزلة الدولة‬
‫في الهيبة والمقدرات والكفاية والوفرة‪.‬‬

‫المختصر الكبير في سيرة الرسول‪ ،‬عز الدين بن جماعة الكتاني‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪82‬‬ ‫‪164‬‬

‫‪ 165‬سورة األعراف ‪26‬‬


‫‪166‬قال العراقي في ألفيته في شمائل النبي الكريم‪:‬‬
‫الريح ال َكري َه ُكلَّ ُه‬
‫َ‬ ‫الطيبُ والن َسا ُء ُح ِّب َبا لَ ُه * و َي َ‬
‫كرهُ‬ ‫ِّ‬
‫ك‬‫كذاك ال ُّس ُّ‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫وحدَ‬ ‫ك‬‫ُ‬ ‫ِس‬‫م‬‫وال‬ ‫*‬ ‫ك‬‫ُ‬ ‫ِسْ‬
‫م‬ ‫و‬ ‫ٌ‬
‫ة‬ ‫ي‬
‫َِ‬ ‫ل‬ ‫َا‬
‫غ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ب‬
‫ُ‬ ‫ي‬ ‫وطِ‬
‫وعي ُن ُه َي ْك ُحلُ َها باإلث ِم ِد‬
‫َب ُخو ُرهُ الكافو ُر والعُو ُد ال َّندي * َ‬
‫الفية العراقي‪ ،‬ص ‪20‬‬
‫‪ 167‬صحيح مسلم‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪66‬‬

‫‪97‬‬
‫ولعل مما يشكل هنا الموقف المشهور لعمر بن الخطاب الذي شرحه حافظ إبراهيم بقوله‪:‬‬

‫بين الرعية عطال وهو راعيها‬ ‫وراع صاحب كسرى أن رأى ُعمراً‬
‫سورا من الجند واألحراس يحميها‬ ‫وعهده بملوك الفرس أن لها‬
‫فيه الجاللة في أسمى معانيها‬ ‫رآه مستغرقا في نومه فرأى‬
‫ببردة كاد طول العهد يبليها‬ ‫فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتمالً ‪ ‬‬
‫من األكاسر والدنيا بأيديها‬ ‫فهان في عينه ما كان يكبره‬
‫وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها‬ ‫وقال قولة حق أصبحت مثال‬
‫فنمت فيهم قرير العين هانيها‬ ‫أمنت لما أقمت العدل بينهم‬
‫إن الشياطين تخشى بأس مخزيها‬ ‫وفر شيطانها لما رأى عمراً‬

‫والواقع أن هذا الموقف ألمير المؤمنين عمر يعكس البساطة التي كان يعيشها الناس في المدينة‪ ،‬واألمن‬
‫الذي حققه اإلسالم‪ ،‬وال أشك أيض اً أنها كانت رسالة دبلوماسية مباشرة أراد عمر بن الخطاب أن يرسلها‬
‫إلى كسرى المشهور باألبهة والبذخ والترف‪ ،‬أن المسلمين ليسوا بأصحاب مطامع دنيوية‪ ،‬إنما لهم رسالة‬
‫هدى ونور‪ ،‬وأن قصور الدنيا ليست في أعينهم وال مطامعهم‪ ،‬وإ نما مرادهم أن يكسروا سلطان المستبدين‬
‫عن الناس‪ ،‬ويمنحوهم الحرية التي قال عنها عمر في خطابه‪" :‬يا عمرو‪ ..‬متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم‬
‫أمهاتهم أحراراً"‪.‬‬
‫ومع محافظة عمر على هذا اللون من البساطة‪ ،‬ولكنه أقر معاوية في الشام حينما أظهر ابهة الملك‪ ،‬وحين‬
‫اعترض أبو ذر على اتخاذه قصر الخضراء وما وضع فيه من مظاهر الملك واألبهة والنفائس‪ ،‬وقد كتب‬
‫عمر لمعاوية في ذلك فقال‪" :‬يا أمير المؤمنين إن أهل الشام أهل ملك‪ ،‬فأخاف إن صرفت عنهم ذلك أن‬
‫نه ون في أعينهم‪ ،‬وإ ن ه ال يص لح لهم إال ه ذا‪ "...‬فرض ي عم ر من ه ذل ك‪ ،‬وأق ر مب دأ اختالف األح وال‬
‫باختالف البلدان‪.‬‬

‫احترام التقاليد الدبلوماسية‪ K‬ما لم تتعارض مع قيم اإلسالم‪:‬‬

‫‪98‬‬
‫إن قيام السفراء بالتزام معايير التقاليد الدبلوماسية في اإلتيكيت والتواصل والمجاملة هي أمور محمودة‪،‬‬
‫ان‬
‫ضوا اأْل َْي َم َ‬ ‫تنفيذاً للعقود التي تعاقد عليها هؤالء السفراء‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬وأ َْوفُوا بِ َع ْه ِد اللَّ ِه ِإ َذا َع َ‬
‫اه ْدتُ ْم َواَل تَْنقُ ُ‬
‫َب ْع َد تَ ْو ِك ِيد َها﴾(‪.)168‬‬
‫ولكن ذلك يجب أن ال يتناقض مع قيم اإلسالم الكبرى‪ ،‬ويجب القول إن اإلسالم لم يفصل كل حالل وإ نما‬
‫ص َل لَ ُك ْم َما َح َّر َم َعلَْي ُك ْم﴾‪ ،169‬ولم يقل وقد فصل لكم ما‬ ‫﴿وقَ ْد فَ َّ‬
‫اكتفى بتفصيل الحرام‪ ،‬وقد قال اهلل تعالى‪َ :‬‬
‫أحل لكم‪ ،‬فالحالل أصل والحرام طارئ‪ ،‬وفي باب الطعام والشراب فإن الحرام الذي ال لبس فيه هو ما‬
‫ط ِ‬ ‫َج ُد ِفي ما أ ِ‬
‫ون َم ْيتَةً أ َْو َد ًما‬ ‫ط َع ُمهُِإاَّل أ ْ‬
‫َن َي ُك َ‬ ‫اعٍم َي ْ‬ ‫ُوح َي ِإلَ َّي ُم َح َّر ًما َعلَى َ‬ ‫َ‬
‫جاءت به اآلية الكريمة‪ُ ﴿ :‬ق ْل اَل أ ِ‬
‫ُه َّل ِل َغ ْي ِر اللَّ ِه بِ ِه﴾‪ ،170‬ثم نزل تحريم الخمر في آية صريحة‪:‬‬ ‫يرفَِإَّنه ِر ْجس أَو ِفسقًا أ ِ‬
‫ٌ ْ ْ‬
‫ِ‬
‫وحا أ َْو لَ ْح َم خ ْن ِز ٍ ُ‬
‫َم ْسفُ ً‬
‫اجتَنُِبوهُ لَ َعلَّ ُك ْم‬ ‫طِ‬
‫ان فَ ْ‬ ‫اب واأْل َْزاَل م ِر ْج ٌس ِم ْن َعم ِل َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ص ُ َ‬
‫ِ‬
‫آمُنوا ِإَّن َما اْل َخ ْم ُر َواْل َم ْيس ُر َواأْل َْن َ‬
‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫﴿يا أَيُّهَا الذ َ‬
‫َ‬
‫ون"‪.‬‬ ‫ِ‬
‫تُْفل ُح َ‬
‫‪171‬‬

‫ويستطيع السفراء أن يتجنبوا هذه المحرمات الخمسة‪ ،‬ويكون كل ما وراءها على األصل الذي أحله اهلل‪،‬‬
‫وال يحرم إال ما ثبت ضرره بدليل صحي بين‪ ،‬وهذا قدر يشترك فيه كل العقالء‪.‬‬
‫إن مجاراة العرف الدبلوماسي في أكل لحم الخنزير وشرب الخمر يتناقض مع القيم اإلسالمية التي جاءت‬
‫صارمة في تحريم هذين اللونين من المطاعم‪.‬‬
‫ويجب القول إن الدبلوماسية العالمية ناضجة وواعية ومرنة‪ ،‬ويدرك الدبلوماسيون الخبراء من كل األمم‬
‫خصائص هذه الشريعة‪ ،‬ويحترمونها‪ ،‬وهذا اللون من االحترام هو أبسط قواعد الدبلوماسية‪ ،‬والتزامه‬
‫يعكس وعياً دبلوماسياً لدى الفريقين‪.‬‬
‫واألمر نفسه يتعين في السفير الذي يخدم في بالد يلتزم أهلها طعاماً نباتياً اتباعاً ألديانهم فال يصح أن يقدم‬
‫لهم أطباق مما يعتقدون حرمته‪ ،‬وكذلك ينبغي االنتباه إلى الموائد التي تقدم للمسيحيين خالل الصوم الكبير‬
‫قبل الفصح في الدول التي تتبنى التقاليد المسيحية فال ينبغي ان يقدم لهم اللحم خاللئذ‪ ،‬وإ نما شأن‬
‫الدبلوماسية أن تجامل ضيوفها تقديراً لمذاهب الناس وقناعاتهم‪.‬‬

‫ومن التقاليد التي ال تجوز المجاملة فيها السجود للحاكم أو الملك‪ ،‬فهذه قيم تتناقض مع روح اإلسالم وال‬
‫يؤذن للسفير بأن يجامل فيها‪ ،‬وقد سبق إلى إنكارها طالئع السفراء الذين أرسلهم النبي الكريم في اآلفاق‬
‫ورفضوا السجود لغير اهلل‪.‬‬

‫‪ 168‬سورة النحل ‪91‬‬


‫‪ 169‬سورة األنعام ‪119‬‬
‫‪ 170‬سورة األنعام ‪145‬‬
‫‪ 171‬سورة المائدة ‪90‬‬

‫‪99‬‬
‫اح ٌد﴾(‪.)172‬‬ ‫﴿ ُق ْل ِإَّنما أََنا ب َشر ِّم ْثلُ ُكم يوحى ِإلَ َّي أََّنما ِإلَه ُكم ِإلَهٌ و ِ‬
‫َ‬ ‫َ ُ ْ‬ ‫ْ ُ َ‬ ‫َ ٌ‬ ‫َ‬
‫اس ُج ُدوا ِللَّ ِه الَِّذي َخلَقَهُ َّن ِإ ْن‬ ‫ِ‬ ‫الشم ُس واْلقَمر ال تَ ْس ُج ُدوا ِل َّ‬
‫لش ْم ِ‬
‫س َوال لْلقَ َم ِر َو ْ‬ ‫َّ‬
‫النهَ ُار َو ْ َ َ ُ‬ ‫وقال‪َ ﴿ :‬و ِم ْن َآياتِ ِه اللَّْي ُل َو َّ‬
‫ون﴾(‪.)173‬‬ ‫ُك ْنتُ ْم ِإيَّاهُ تَ ْعُب ُد َ‬

‫معرفة ثقافة البلد التي يرحل إليها‪:‬‬

‫إن معرفة السفير بثقافة البلد التي يعمل فيها ضروري لتحقيق نجاحه‪ ،‬وقد رأينا في سفراء النبوة حسن‬
‫االختيار الذي قام به النبي الكريم حيث كان يختار الرجل المناسب في المكان المناسب‪.‬‬

‫وقد وردت اإلشارة مراراً في وصايا النبي الكريم للسفراء باإلطالع على ثقافة البلد التي يعملون‬
‫فيها‪ ،‬وفي وصيته لمعاذ بن جبل قال له‪:‬‬

‫"إنك تقدم على قوم أهل كتاب‪ ،‬فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة اهلل‪ ،‬فإذا عرفوا اهلل فأخبرهم أن اهلل‬
‫فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم‪ ،‬فإذا فعلوا فأخبرهم أن اهلل قد فرض عليهم زكاة تؤخذ‬
‫َّ‬
‫وتوق كرائم أموالهم"(‪.)174‬‬ ‫من أغنيائهم فترد على فقرائهم‪ ،‬فإذا أطاعوا بها فخذ منهم‬

‫وفي ه ذه الوص ية النبوي ة الكريم ة توجي ه دقي ق بوج وب اإلطالع على ثقاف ة البل د ال تي يعم ل فيه ا الس فير‪،‬‬
‫وأولها تذكيره بما لدى القوم من علم بالكتاب القديم‪ ،‬وأن عليه أن يكون على دراية ومعرفة بثقافة القوم‪.‬‬

‫وتجدر اإلشارة هنا إلى أن اليمن كانت تاريخياً تتبع مكة في أمر حجها ونسكها وعبادتها‪ ،‬وبعد انتشار أمر‬
‫اإلسالم دخلت قبائل اليمن في اإلسالم وجاءت الوفود إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم من اليمن‪ ،‬وقد أرسل‬
‫رس ول اهلل إلى اليمن ع دداً من الص حابة الك رام في مه ام دبلوماس ية وقض ائية مختلف ة‪ ،‬منهم مع اذ بن جب ل‬
‫وأبو موسى األشعري وعلي بن أبي طالب‪.‬‬

‫وكان موقع دبلوماسي النبوة في اليمن أشبه ما يسمى اليوم بالمفوض السامي‪ ،‬وهي رتبة دبلوماسية تتجاوز‬
‫رتب ة ال وزير المف وض كم ا تتج اوز رتب ة الس فير‪ ،‬وهي س فارة خاص ة بالدول ة الك برى ال تي تق ود رواب ط‬

‫‪ 172‬سورة األنبياء ‪108‬‬


‫‪ 173‬سورة فصلت ‪37‬‬
‫‪ 174‬رواه الترمذي في سننه‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪ ،5‬كما رواه ابو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد‬

‫‪100‬‬
‫سياس ية تاريخي ة ك الكومنولث البريط اني ال ذي يمنح س فراء بريطاني ا ص فة المف وض الس امي في دول‬
‫الكومنولث التي ال تزال تحت العلم البريطاني‪ ،‬وفي هذه الحالة فالسفير هنا ال يتقدم بأوراق اعتماده للدولة‬
‫المضيفة ولديه استثناءات كثيرة وهي عادة محل ترحيب الدولة العضو في هذه الرابطة ألن المنفعة متبادلة‬
‫بين الفريقين‪.‬‬

‫وكما هو واضح من خطاب الرسول الكريم فقد كلفه بالتزامات مباشرة في جمع الزكاة وجباية الخراج‪،‬‬
‫ولكن كما هو واضح فقد اعتبر ذلك موقوفاً على موافقة القيادات المحلية في اليمن‪ ،‬قال‪" :‬فإن هم أطاعوك‬
‫ف أخبرهم"‪ ،‬وفي الوص ية النبوي ة أن الزك اة تؤخ ذ من أغني ائهم وت دفع إلى فق رائهم‪ ،‬وه ذا إق رار بل ون من‬
‫االستقالل االقتصادي لشعب اليمن‪ ،‬ولكن ذلك كله كان مقيداً بطاعتهم ودخولهم في اإلسالم هو الذي منحه‬
‫صفة السفير السامي‪ ،‬ولوال ذلك فإنه ليس له عليهم سلطان‪.‬‬

‫احترام القوانين المحلية وااللتزام بعادات الناس وتقاليدهم‪:‬‬

‫من ش أن الس فير أن يل تزم بم ا تعارف ه الن اس في البل د ال تي يعم ل فيه ا‪ ،‬وفي الوص ية الس الفة ال تي قرأناه ا‬
‫نالح ظ أن الن بي الك ريم أم ر مع اذاً أن يت وقى ك رائم أم وال الق وم‪ ،‬وفي ذل ك إش ارة واض حة إلى اح ترام‬
‫عاداتهم وتقاليدهم‪ ،‬واعتبار خصوصياتهم في االدخار والتنمية‪.‬‬

‫وكما هو واض ح فإن األوامر التي تلقاه ا معاذ ك انت بص فته س فيراً وليس بص فته حاكم اً‪ ،‬وكان عمله في‬
‫القض اء مختص اً بمن يقبل ون االحتك ام إلى الش ريعة‪ ،‬ولم يكن على س بيل الحتم واإلجب ار‪ ،‬ولم تكن لدي ه أي‬
‫قوة عسكرية تلزم طاعته‪.‬‬

‫ولعل من أنجح السفارات في تاريخ النبوة سفارة الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب التي وفد فيها على‬
‫النجاشي‪ ،‬وقد بلغ من تقدير النجاشي ومحبته لجعفر أنه حين رزق النجاشي بمولود وكان جعفر قد رزق‬
‫بمولود أيض اً‪ ،‬فس اله النجاش ي‪ :‬م ا س ميت ابنك ي ا جعف ر فق ال عب د اهلل‪ ،‬فاخت ار النجاشي هذا االسم لول ده‪،‬‬
‫وسماه عبد اهلل بن النجاشي مع أن هذا االسم غير موجود في الثقافة الحبشية وال معنى له في لغتهم‪ ،‬ولكنه‬
‫أث ر واض ح لنج اح جعف ر في الت أثير على النجاش ي‪ ،‬وكس ب وده واحترام ه وتق ديره‪ ،‬وك انت أس ماء بنت‬
‫‪175‬‬
‫عميس زوجة جعفر وثيقة الصلة أيضاً ببالط النجاشي وقد أرضعت ابنه عبد اهلل مع ابنها عبد اهلل‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫إزالة الغواشي في أخبار النجاشي ‪ ،‬للشيخ ابراهيم المختار مفتي ارتيريا نشرته مجلة الوحدة ‪/8‬مايو ‪ 1965/‬وقد نقلناه من موقعه الرسمي‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫وفي ه ذا الس ياق نش ير هن ا إلى أدب عظيم علم ه رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم للن اس‪ ،‬حين وف د على‬
‫المدينة‪،‬فأقر كثيراً من عاداتها وتقاليدها‪ ،‬إال ما صادم العقيدة‪،‬وفي الحديث أن أبا بكر الصديق دخل على‬
‫النبي صلى اهلل عليه وسلم وعنده جارتان تغنيان بغناء بعاث‪ ،‬فنهرهما‪ ،‬وفي رواية غضب فقال‪" :‬أمزمارة‬
‫الشيطان في بيت رسول اهلل؟"‪.‬‬

‫لقد كان ما فعله أبو بكر استنكاراً لهذا السلوك الذي ال يتناسب مع ما عرفه من أمرالنبي الكريم من اهتمام‬
‫باألمور العظيمة واإلعراض عن السفاسف‪ ،‬والرسول األكرم معلم ومرشد وإ مام ال يجد وقت اً لهذه الفنون‪،‬‬
‫وقد كان انصرافه عنها بواقع انشغاله المستمر في الدعوة والهداية‪ ،‬وكذلك فإنه نهى عن المجون والتبرج‪.‬‬

‫ولكنه مع ذلك لم يشأ أن يفرض على أهل المدينة ترك عاداتهم وطباعهم وشكل حياتهم‪ ،‬وقال ألبي بكر‪:‬‬
‫"دعهما يا أبا بكر ‪ ...‬فإن لكل قوم عيداً وهذا عيد األنصار"(‪.)176‬‬

‫وفي رواي ة أخ رى أن الن بي ص لى اهلل علي ه وس لم ق ال لعائش ة ي وم زف اف بري رة‪" :‬ه ل أخ ذتم معكم له واً؟"‬
‫قالت‪" :‬ال"‪ ،‬قال‪":‬فإن األنصار يعجبهم اللهو‪ ،‬فهال بعثتم معها بجارية تضرب بالدف وتغني‪ :‬أتيناكم أتيناكم‬
‫فحيونا نحييكم ولوال الذهب األحمر لما حلت بواديكم ولوال الحبة السوداء ما سرت عذاريكم"(‪.)177‬‬

‫وهذا إقرار منه صلى اهلل عليه وسلم على احترام عادات الناس مما ال يخالف الشرع الحنيف‪ ،‬واحترام‬
‫االختالف‪ ،‬وال شك أن هذا التوجيه النبوي أصل في تأسيس العرف الدبلوماسي في احترام العادات المحلي ة‬
‫والتقاليد التي تتبعها الشعوب وفق ما أرشد إليه القرآن الكريم‪ِ﴿ :‬ل ُك ٍّل َج َعْلَنا ِم ْن ُك ْم ِش ْر َعةً َو ِم ْنهَاجاً﴾‪.178‬‬

‫عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول‪:‬‬

‫‪176‬رواه البخاري‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ ،323‬كما رواه مسلم والموطأ والنسائي وأحمد‬
‫‪ 177‬رواه الطبراني من طريق شريك بن عبد هللا عن عروة عن عائشة‪ ،‬وفي سنده مقال‪ ،‬ولكن يقويه ما أوردناه قبله في الصحيح بهذا‬
‫المعنى‪ ،‬انظر الطبراني في األوسط‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪ ،167‬وانظر الهيتمي في مجمع الزوائد‪ ،‬ج‪ ،4‬ص ‪289‬‬
‫‪178‬‬
‫سورة المائدة ‪48‬‬

‫‪102‬‬
‫تب دو ه ذه القاع دة غ ير مقبول ة في الدبلوماس ية اإلس المية ال تي ج اءت لتخ دم حقيق ة مؤداه ا أن اهلل أرس ل‬
‫رس وله باله دى ودين الح ق ليظه ره على ال دين كل ه ول و ك ره الك افرون‪ ،‬وأن هداي ة الن اس وحملهم على‬
‫اإلس الم في ص لب مقاص د الرس الة والرس ول‪ ،‬وق د م ارس الرس ول الك ريم ه دم أص نام الكف ار وتمزي ق‬
‫شعائرهم الجاهلية من األنصاب واألزالم وغير ذلك‪.‬‬

‫ولكن هذه الصورة التي نقرؤها من جانب واحد تختلف عما نحن بصدده‪ ،‬فهناك فارق كبير بين مسؤوليات‬
‫الدولة اإلسالمية على أرضها وفي رعاياها وبين مسؤولية األمة اإلسالمية في أراضي الغير‪ ،‬وفي بلدانهم‪.‬‬

‫فق د ثبت بالفع ل أن رس ول اهلل ص لى اهلل عي ه وس لم حطم أص نام المش ركين ولم ي أذن ببق اء ص نم منه ا‪،‬‬
‫وطمس بي ده الكريم ة ع دداً من ه ذه التص اوير وح ذر منه ا في أح اديث كث يرة‪ ،‬ولكن ذل ك كل ه إنم ا بع د أن‬
‫صار له على العرب سلطان في إطار حكمه ودولته الكريمة‪.‬‬

‫أما في دولة اآلخرين فقد أقام النبي صلى اهلل عيه وسلم ثالثة عشر عام اً بين ظهراني المشركين ولم يكن‬
‫له عليهم سلطان‪ ،‬وكان يقدم الموعظة والنصيحة ما وجد لذلك قبوالً‪ ،‬بل إن القرآن الكريم أرشده إلى ما‬
‫ون اللّ ِه فََي ُسبُّوْا اللّهَ َع ْد ًوا بِ َغ ْي ِر ِعْلٍم﴾‪.‬‬
‫ون ِمن ُد ِ‬
‫ين َي ْد ُع َ‬
‫َِّ‬
‫هو أبلغ من ذلك فقال‪َ ﴿ :‬والَ تَ ُسبُّوْا الذ َ‬

‫وخالل تلك الفترة لم يقم رسول اهلل بكسر أي من أصنامهم رغم موقفه الصريح في رفض الوثنية‪ ،‬ورغم‬
‫قدرت ه األكي دة على تحطيم ه ذه األص نام أو بعض ها بمس اعدة الص حابة الك رام‪ ،‬كم ا أن ه لم يقم ب ذلك بع د‬
‫الهجرة رغم وجود عدد من الصحابة الكرام في مكة وقدرتهم على فعل ما يغيظ المشركين‪.‬‬

‫ويحس ن هن ا أن نق ارن بين موق ف اث نين من األنبي اء كالهم ا من أولي الع زم من الرس ل‪ ،‬إب راهيم خلي ل‬
‫الرحمن والمصطفى صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقد قام إبراهيم بكسر األصنام جميع اً من اليوم األول‪ ،‬ولم يكن‬
‫له على قومه سلطان‪ ،‬ولم يكن يحكم بالد أور‪ ،‬وكانت النتيجة أن قومه أوقدوا له ناراً عظيمة وألقوه فيها‪،‬‬
‫وع ادوا لص ناعة األص نام من جدي د وعبادته ا دون أن يتغ ير في س لوكهم ش يء‪ ،‬وعلى ال رغم من المعج زة‬
‫الساطعة التي أكرم اهلل بها خليل الرحمن‪ ،‬يا نار كوني برداً وسالماً على إبراهيم‪ ،‬فإن قومه عدوا ذلك لوناً‬
‫من السحر‪ ،‬واشتروا أصناما جديدة‪ ،‬واستمروا في عبادة األصنام‪.‬‬

‫أما موقف النبي صلى اهلل عليه وسلم فقد كان يتجلى في هدم الوثنية قبل الوثن‪ ،‬فقد هدم الوثنية في قلوب‬
‫المش ركين وأس عدهم باإلس الم‪ ،‬وعن دما مكن عقي دة التوحي د في قل وبهم أرس لهم ليه دموا بأنفس هم م ا ك انوا‬

‫‪103‬‬
‫يعبدونه من ضالل مبين‪ ،‬وحين هدمت هذه األصنام بيد عابديها السابقين لم تقم لها بعد ذلك قائمة‪ ،‬وقال‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪":‬إن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب"‪.‬‬

‫ولكنه بدأ بتحطيم األصنام عندما أصبح من الناحية القانونية والواقعية حاكما فعلي اً لمكة المكرمة وللدولة‬
‫اإلسالمية الناشئة وبعد أن ألغيت دولة المشركين بكل تفاصيلها‪.‬‬

‫وم ع ذل ك فمن الم دهش أن الن بي الك ريم لم يرس ل له دم األص نام أص حابه الباس لين من الس ابقين األولين‬
‫والمهاجرين األبرار كأبي بكر وعمر وطلحة والزبير‪ ،‬بل اختار لهذه السرايا التي كلفت بهدم األصنام قادة‬
‫من المشركين الذين أسلمو حديثاً‪ ،‬وذلك تجنب اً الستفزاز السكان المحليين ممن عاشوا وآباؤهم يعبدون هذه‬
‫األص نام ويقول ون م ا نعب دهم إال ليقربون ا إلى اهلل زلفى‪ ،‬وه ذه قائم ة بق ادة الس رايا ال تي ه دمت األص نام‬
‫ونالحظ أن ليس فيهم عمر بن الخطاب وال علي بن أبي طالب وال الزبير بن العوام وغيرهم من الفرسان‬
‫األبرار الذين سبقوا إلى اإلسالم‪ ،‬ويمكن قراءة هذه القائمة‪:‬‬

‫صنم الالت التي كانت تعبدها ثقيف هدمتها سرية كان يرأسها أبو سفيان والمغيرة بن شعبة‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫صنم العزى التي كانت تعبده قريش بأرض نخلة هدمته سرية كان يرأسها خالد بن الوليد‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫صنم سواع وهو صنم هذيل في أرض رهاط قرب من مكة‪ ،‬هدمته كتيبة عمرو بن العاص‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫صنم مناة هدمته سرية سعيد بن زيد األشهلي‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫فهؤالء القادة الذين قاموا بهدم هذه األصنام كانوا في الواقع إلى عهد قريب يعبدون هذه األصنام‪ ،‬وحين‬
‫هدم النبي الكريم الوثنية في قلوبهم انقلبوا صقوراً حازمة تهدم بفأس الحق أوهام الجاهلية الوثنية األولى‪،‬‬
‫فهدمت األصنام ولم تقم لها بعد ذلك قائمة‪.‬‬

‫عملهم ثَُّم إلى ربهم َم ْر ِج ُعهُ ْم ِّ‬


‫فينب ُـئـهُـم‬ ‫ْ‬ ‫ُم ٍة‬ ‫وفي توضيح بالغ األهمية تستأنف اآلية الكريمة‪﴿ :‬كذلك َّ‬
‫زي ّـنا لكل أ ّ‬
‫بما كانوا يعملون﴾(‪.)179‬‬

‫ك َعلَْي ِهم ِّمن َش ْي ٍء﴾(‪.)180‬‬


‫ك ِم ْن ِح َسابِ ِهم ِّمن َش ْي ٍء َو َما ِم ْن ِح َسابِ َ‬
‫والمعنى نفسه أكدته آية األنعام‪َ ﴿ :‬ما َعلَْي َ‬

‫اهتَ َد ْيتُ ْم ِإلَى اللّ ِه‬


‫ض َّل ِإ َذا ْ‬
‫ض ُّر ُكم َّمن َ‬
‫آمُن وْا َعلَْي ُك ْم أَنفُ َس ُك ْم الَ َي ُ‬
‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫وفي المعنى نفسه قال اهلل تعالى‪َ﴿:‬يا أَيُّهَا الذ َ‬
‫ِ‬
‫ون﴾(‪.)181‬‬‫َم ْر ِج ُع ُك ْم َجميعاً فَُيَنبُِّئ ُكم بِ َما ُكنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬

‫‪ 179‬سورة المائدة ‪48‬‬


‫‪ 180‬سورة األنعام ‪52‬‬
‫‪ 181‬سورة المائدة ‪105‬‬

‫‪104‬‬
‫والموقف نفسه التزمه الصحابة الكرام الذين هاجروا إلى الحبشة التزام اً بهدي النبي الكريم فقد أقاموا في‬
‫الحبش ة في ظه راني ق وم لهم بط ارقتهم وص لبانهم وعقائ دهم وال نعلم أن أح داً من الص حابة ال ذين ك انوا‬
‫يشكلون سفراء اإلسالم قد أساء ألي من معتقدات القوم أو نال منها‪ ،‬فقد التزموا موقف اً مسؤوالً من عدم‬
‫الت دخل في الش ؤون الداخلي ة للدول ة المض يفة‪ ،‬وبن وا أوث ق الص الت م ع الق وم ال ذين ه اجروا إليهم م ع‬
‫محافظتهم على عقائدهم ودينهم وتوحيدهم‪.‬‬

‫بناء جسورمن المحبة واالحترام مع الدول المضيفة‪:‬‬

‫إن الس فارة الناجح ة هي تل ك ال تي ت ترك أث راً باقي اً بع د رحي ل أفراده ا‪ ،‬وتؤس س لعالق ات واعي ة ونافع ة‬
‫لص الح البل دين‪ ،‬والس فير الن اجح ه و ذل ك ال ذي يب ني أوث ق الص الت م ع الشخص يات االجتماعي ة والوطني ة‬
‫والدينية في البلد المضيف‪.‬‬

‫وينطل ق الم ؤمن في بن اء جس ور االح ترام من حق ائق ديني ة راس خة‪ ،‬ذل ك أن الحكم ة ض الة الم ؤمن أينم ا‬
‫وجدها فهو أولى بها كما قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وقد سجل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫احترام ه للمعرف ة من أي مص در ج اءت‪ ،‬وفي ي وم ب در ف ك األس ارى بتعليمهم عش رة أطف ال من المس لمين‬
‫القراءة والكتابة فاعتبر هذا اللون من التبادل المعرفي مشروعاً مع عدو محارب فكيف بسفير معاهد(‪.)182‬‬

‫وخالل الت اريخ اإلس المي ع رف ب اب الرحل ة في طلب العلم ال ذي ك ان يس ابق إلي ه مش اهير العلم اء في‬
‫العصر الذهبي لإلسالم‪ ،‬وكانوا يقولون اطلب العلم ولو في الصين‪ ،‬وكان هؤالء كلما حلوا بأرض نفع اهلل‬
‫بهم علماءه ا وعامته ا‪ ،‬وك ان ه ؤالء العلم اء يق دمون وف اء للبالد ال تي ي نزلون فيه ا على ش كل بح وث‬
‫ودراس ات وكتب تص نف في التعريف به ذه البالد التي ن زل به ا العلم اء‪ ،‬ومن ه ذه الكتب‪:‬كت اب تحقي ق ما‬
‫للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة ألبي الريحان البيروني‪ ،‬وقد صحب البيروني السلطان محمود‬
‫الغزن وي ثالث عش رة م رة إلى الهن د وك ان ي دون قراءات ه ومش اهداته ثم أص درها في كت اب واح د وص فه‬
‫بروكلمان بأنه أهم ما أنتجه علماء اإلسالم في معرفة عقائد األمم‪.‬‬

‫‪ 182‬السيرة النبوية‪ ،‬البي شهبة‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪164‬‬

‫‪105‬‬
‫ومن الس فرء الن اجحين ال ذين دون وا مش اهداتهم وانتف ع به ا الن اس أيض اً الش ريف اإلدريس ي ع الم الجغرافي ا‬
‫الش هير ال ذي ق ام بس فارات ناجح ة لروج ر الص قلي‪ ،‬وهي ن وع فري د من الس فارات فق د ك ان روج ر ملك اً‬
‫مسيحياً من النورم ان‪ ،‬وقد حكم صقلية بعد خ روج األغالبة منها‪ ،‬وكان حس ن السيرة م ع المسلمين‪ ،‬وقد‬
‫قرب عدداً منهم أشهرهم اإلدريسي‪ ،‬الذي أقام لديه نحو عشرين عام اً‪ ،‬وأوفده في سفارة خاصة إلى بالد‬
‫الشام‪ ،‬وقد كتب في أعقاب سفارته كتابه الشهير‪ :‬نزهة المشتاق في اختراق اآلفاق‪.‬‬

‫والمتأم ل في كت اب اإلدريسي ال ذي أع ده عام ‪ 1154‬يالحظ لدى اإلدريسي براع ة دبلوماس ية فري دة‪ ،‬فقد‬
‫كتب بتفصيل عن الحريات الدينية في القدس‪ ،‬وتحدث عن كنيسة القيامة والحياة اآلمنة للمسيحيين في بالد‬
‫الشام‪ ،‬وال أشك أن هذا الكتاب كان له أكبر األثر في موقف صقلية تجاه الحروب الصليبية على الرغم من‬
‫الضغط الكبير عليها من قبل البابا لإلنخراط في الحروب الصليبية‪ ،‬ولكن سفارة اإلدريسي الناجحة حالت‬
‫دون ذلك‪.‬‬

‫ومن السفراء الناجحين كذلك ابن جبير األندلسي المتوفى عام‪1220‬م‪،‬الذي كتب كتابه تذكرة باألخبار عن‬
‫اتفاقات األسفار‪ ،‬وشرح فيه بالتفصيل مشاهداته خالل سفاراته في بالد الشام‪ ،‬ويمكن في هذا السبيل أيض اً‬
‫أن نش ير إلى الرحال ة ابن بطوط ة المت وفى ‪1348‬م‪،‬وكتاب ه الش هير تحف ة النظ ار في غ رائب األمص ار‬
‫وعجائب األسفار‪ ،‬مع اإلشارة إلى أن ابن بطوطة ال يعتبر سفيراً بالمعنى التقليدي للكلمة‪ ،‬ولكنه على ذلك‬
‫ك ان أفض ل س فير رب ط بين المش رق والمغ رب‪ ،‬وق د تم التعام ل مع ه في البل دان اإلس المية‪ ،‬والس يما بالد‬
‫الشرق باحترام كبير‪ ،‬وقد عمل في جزر المالديف قاضياً للقضاة لعام ونصف وتزوج من تلك البالد‪.‬‬

‫وأس مح لنفس ي هن ا باالس تطراد قليالً لإلش ارة إلى أن رحل ة ابن بطوط ة ال تي امت دت من طنج ة ب المغرب‬
‫الع ربي فش ملت ك ل الش مال األف ريقي الجزائ ر وت ونس وليبي ا ومص ر والنوب ة ثم اليمن والحج از والش ام‬
‫والعراق ثم بالد العجم والهن د وانتهى مطاف ه فيه ا في جزر المال ديف‪ ،‬ك ان ينتق ل فيه ا ب دون جواز س فر!!‬
‫ولم يكن يستخدم إال لغة واحدة!! هي لغة العالم آنذاك وهي اللغة العربية‪ ،‬وكانت كل هذه الشعوب تحتكم‬
‫إلى شريعة واحدة هي اإلسالم‪ ،‬وألجل ذلك فقد عمل قاضياً فيها ألنه خبير بقانونها الذي ال يختلف عن‬
‫ق انون المغ رب في ش يء وه و نفس ه ك ان ق انون البالد ال تي تمت د من األن دلس إلى ج زر المال ديف‪ ،‬وه و‬
‫الشريعة اإلسالمية‪.‬‬

‫االلتزام بالتواصل مع الدولة والعمل في سياق مؤسساتها‪:‬‬

‫‪106‬‬
‫إن البعثة الدبلوماسية هي امتداد لألمة في بالد المغترب‪ ،‬ومن واجب البعثةالدبلوماسية أن تكون عيناً لألمة‬
‫وأن تعتمد عليها األمة في معرفة دقيقة بمصالحها وحاجاتها المستمرة‪.‬‬

‫وال ش ك أن قي ام الس فراء به ذه المهم ات ال يقل ل من ش أنهم وال يح ولهم إلى مخ برين فالص لة هن ا باألم ة‬
‫وليس ت بالنظ ام‪ ،‬والدبلوماس يون يخ دمون قض ايا أوط انهم وش عوبهم‪ ،‬وال ينبغي أن ينص رفوا إلى القض ايا‬
‫العائلية التي تخص أسر الحاكمين‪.‬‬

‫وعلى الحاكم أيض اً أن يتجنب إقحام الدبلوماسي في قض ايا خاص ة‪ ،‬وأن يفرق بوضوح بين حاج ة الوطن‬
‫والمصالح الشخصية للحاكمين‪ ،‬فهناك استحقاقات معروفة تنص عليها القوانين فيما يتعين على الدبلوماسي‬
‫فعله لتيسير أمور المسؤولين السياس يين على اختالف درجاتهم‪ ،‬ولكن ترك هذه المسائل بدون قانون‪ ،‬أو‬
‫تج اوز م ا نص علي ه الق انون العتب ارات شخص ية وفردي ة س يجعل من البعث ة الدبلوماس ية مج رد من دوبين‬
‫لمصالح الحاكمين والمتنفذين وهذا خطأ كبير‪.‬‬

‫وفي هذا السياق نسترشد بما قاله أويس القرني‪ ،‬خير التابعين‪ ،‬فقد اشتهر هذا الصحابي اشتهاراً كبيراً النه‬
‫الوحيد الذي وصفه رسول اهلل باالسم والوصف دون أن يكون له شرف الصحبة أو زيارة رسول اهلل‪ ،‬وقد‬
‫قال رسول اهلل لعمر بن الخطاب‪" :‬إذا لقيت أويس القرني فاسأله الدعاء"‪ ،‬فكان عمر يترقب الوفد من اليمن‬
‫رج اء أن يلق اه ويس أله ال دعاء‪ ،‬وعن دما حج أويس ف رح ب ه عمر بن الخط اب وأكرم ه إكرام اً عالي اً‪ ،‬وحين‬
‫أنهى نس كه أراد ال ذهاب إلى البص رة‪ ،‬فق ال ل ه عم ر بن الخط اب‪" :‬أال أكتب لعامله ا؟ ليق وم بش أن أويس‬
‫ويكرمه‪ ،‬ولكن أويساً قال بوضوح‪" :‬ال يا أمير المؤمنين‪ ...‬أن أكون في غبراء الناس أحب إلي"(‪.)183‬‬

‫وفي هذا الس ياق اشتهرت سياس ة عم ر بن الخط اب الذي كان يستدعي الدبلوماس يين والحكام من أعمالهم‬
‫بع د ف ترة يمض ونها‪ ،‬ولم يق َّر ع امالً على عم ل يط ول فق د غ ير تقريب اً معظم ال والة في عص ره‪ ،‬وك ان‬
‫يقول‪":‬واهلل ما عزلتهم عن ريبة‪ ،‬ولكن أردت أن يعلم الناس أن األمر ال يكون لمكان فالن أو فالن‪ ،‬ولكنه‬
‫‪184‬‬
‫أمر اهلل يمضه بمن شاء من عباده"‪.‬‬

‫وجوب التواصل مع الوطن وعدم جواز االنقطاع عنه لفترات تطول‪:‬‬

‫صحيح مسلم‪ ،‬ج‪ ،4‬ص ‪189‬‬ ‫‪183‬‬

‫‪184‬‬
‫البداية والنهاية البن كثير ج‪ 7‬ص‪62‬‬

‫‪107‬‬
‫كتب ابن الوزير في كتابه السياسة‪:‬‬

‫وعلي ه ِإ ْحس ان مج اورة ِجيران ه ِفي الممال ك التِي ِتلي مملكت ه‪ ،‬فحال ه معهم كح ال اْل ِ‬
‫واح د من الس وقة م ع‬ ‫ْ‬
‫علي ِه من رس لهم وأن‬
‫دنيا من اْلحاج ة ِإلى التعاض د‪ ،‬وأن ُيب الغ ِفي ب ر ال واردين ْ‬
‫علي ِه ال ْ‬
‫ِجيران ه لم ا أسس ت ْ‬
‫ظهار جماله وزينته ومظاهرة بره لهُم وتكرمته‪.‬‬ ‫مجِلسه وإِ ْ‬‫يتصنع لهُم بتفخيم ْ‬

‫ففي ِ‬
‫ذلك من اْلفساد ما يطول شرحه(‪.)185‬‬ ‫واهلل اهلل أن ي ِطيل حبسهم ِع ْنده ِ‬
‫ُ‬

‫وتعكس هذه الوثيقة المتقدمة من القرن الرابع الوعي الذي حققه فقهاء الدبلوماسية في اإلسالم‪ ،‬فقد أشارت‬
‫إلى وجوب تحس ين الس فارات وتجميله ا ألنه ا ص ورة المجتم ع‪ ،‬والس فارات لم تبن الس تجداء عط ف األمم‪،‬‬
‫وإ نما لنيل احترامها‪ ،‬والعالم قد يحسن إلى الفقير والضعيف‪ ،‬ولكنه ال يحترم إال القوي القادر‪.‬‬

‫كم ا أك دت الرس الة على وج وب انته اء المهم ات الدبلوماس ية في آجاله ا وع دم الس ماح بتطوي ل ه ذه الم دد‬
‫والتحذير من التهاون في استكمالها وإ نجازها‪.‬‬

‫ومن ج انب آخ ر فق د ج رى الع رف الدبلوماس ي على أن الس فير يجب أن ال يط ول مكث ه في البل د المبتعث‬
‫إليه‪ ،‬واستقر العرف على وجوب استقراره في وطنه األم عدة سنوات ومن ثم ابتعاثه لبلد آخر‪ ،‬وذلك حتى‬
‫يدوم والؤه لوطنه‪ ،‬وحتى ال تنشأ له في البالد التي يخدم فيها عالقة انتماء ومنة على حساب انتمائه لبلده‬
‫ووطنه‪.‬‬

‫وفي ه ذا الس ياق ورد نهي عم ر بن الخط اب عن خ روج الن اس للجه اد أك ثر من أربع ة أش هر‪ ،‬وأل زمهم‬
‫بالعودة إلى منازلهم ورعاية أسرهم خالل أربعة أشهر‪ ،‬وفي الوقت نفسه فإنه أراد أن ال يطول بهم العهد‬
‫فتتصرم حبالهم مع دولتهم وقيادتهم‪.‬‬

‫الشفافية والمكاشفة مع مرجعيته الوطنية‪:‬‬

‫كتاب السياسة‪ ،‬للحسين بن علي الوزير الملقب بابن الوزير‪ ،‬طبع مؤسسة شباب الجامعة‪ ،‬االسكندرية‬ ‫‪185‬‬

‫‪108‬‬
‫يتعين على الدول ة أن تض ع للمبتع ثين الدبلوماس يين نظم اً وقواع د لض بط اإلث راء المش روع واإلث راء غ ير‬
‫المش روع‪ ،‬فكثير من كس ب الدبلوماس يين هو حق للوطن وليس لش خص الس فير‪ ،‬ومن هن ا ق ال رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬هدايا العمال غلول"(‪ ،)186‬وقد زاد رسول اهلل األمر توضيحاً في خطابه البن اللتبية‬
‫األذري لما استعمله رسول اهلل في أمر األمة فعاد موقراً بالهدايا واألحمال‪ ،‬وقال هذا لكم وهذا أهدي إلي‪،‬‬
‫فصعد رسول اهلل المنبر وقال‪" :‬ما بال العامل َنبعثه فيأتي‪ ،‬فيقول‪" :‬هذا لك وهذا أهدي إلي"‪ ،‬فهالَّ جلَس في‬
‫ُمه‪َ ،‬فينظر ُأي ْهدى له أم ال؟ والذي نفسي بيده‪ ،‬ال يأتي بشيء إالَّ جاء به يوم القيامة يحمله على‬
‫بيت أبيه وأ ِّ‬
‫بعيرا له ُرغاء‪ ،‬أو بقرة لها ُخوار‪ ،‬أو شاة تَْي َعر"(‪.)187‬‬
‫رقبته‪ ،‬إن كان ً‬

‫وال ش ك أن الل وائح الداخلي ة ل وزارات الخارجي ة تنظم ه ذا الل ون من الكس ب‪ ،‬وتح دد م ا ه و ح ق للس فير‬
‫وللبعثة الدبلوماسية من األوسمة والهدايا‪ ،‬وما هو حق للسفارة‪ ،‬وما هو حق للدولة‪ ،‬وليس للفقه اإلسالمي‬
‫تفص يل في ه ذه المس ائل خالل النص وص العام ة‪ ،‬وم دار الحكم في ه ذه األش ياء على القاع دة العام ة‪:‬‬
‫﴿وأ َْوفُ وْا بِ َع ْه ِد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آمُن وا أ َْوفُ وا ب اْل ُعقُود﴾‪ ،‬وقوله‪َ :‬‬
‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫المسلمون عند شروطهم‪ ،‬وكذلك قوله تعالى‪َ﴿ :‬ي ا أَيُّهَ ا الذ َ‬
‫اهدتُّ ْم﴾‪ ،‬وعليه فيكون كل تفصيل في هذه المسائل مما أقره ولي األمر من المعروف الذي تجب‬ ‫ِ‬
‫اهلل ِإ َذا َع َ‬
‫الطاعة فيه ويحرم عصيانه‪.‬‬

‫ثقافة الخدمة‪:‬‬

‫إن السفارة منصب يس عى إلي ه المرء لخدم ة الوطن وخدمة الن اس‪ ،‬فال ينبغي أن ينص ب بين ه وبين الناس‬
‫حواجز تحول دون اتصالهم به وتواصلهم معه‪ ،‬والسيما أبناء الوطن في الغربة الذين تكثر حوائجهم إلى‬
‫البل د‪ ،‬ومط البهم تتك رر ك ل ي وم‪ ،‬وح اجتهم عن د الس فير‪ ،‬وأعض اء البعث ة فال يج وز أن يك ون منهم الت أفف‬
‫والض جر‪ ،‬والتفري ط بح وائج الن اس‪ ،‬ف إن ص احب الحاج ة أرعن‪ ،‬وق د ال يق در المس ائل ق درها‪ ،‬ولكن‬
‫الدبلوماسي يجب أن يكون رحب الصدر واسع األفق‪ ،‬يحسن المعاذير لذوي الحوائج‪ ،‬وقد قال صلى اهلل‬
‫علي ه وس لم‪" :‬أبلغ وني حاج ة من ال يس تطيع إبالغه ا فإن ه من أبل غ ذا س لطان حاج ة من ال يس تطيع إبالغه ا‬
‫ثبت اهلل قدميه على الصراط يوم تزل األقدام"(‪.)188‬‬

‫وفد دعبل الخزاعي على غسان بن عباد فاحتجب عنه فهجاه في قصيدة طويلة‪:‬‬

‫‪ 186‬رواه االمام احمد في مسنده‪ ،‬ج‪ ،5‬ص‪424‬‬


‫‪ 187‬صجيج البخاري‪ ،‬ج‪ 9‬ص‪28‬‬
‫‪ 188‬مجمع الزوائد ومنبع الفوائد‪ ،‬للهيتمي‪ ،‬ج‪ ،11‬ص ‪429‬‬

‫‪109‬‬
‫رفعنا الرقاع له بالقصب‬ ‫إذا ما أتيناه في حاجة‬
‫وحاجب حاجبه محتجب‬ ‫له حاجب دونه حاجب‬

‫فال يعرف الناس اليوم من هو غسان بن عباد إال هذا الهجاء‪.‬‬

‫وكان من أدب السلف أن يقوم المسؤول بخدمة الناس وال يضجر وال يتبرم‪ ،‬وكان زين العابدين إذا دفع‬
‫صدقته إلى سائل يقبل يده ويقول‪" :‬أهالً بمن يحمل زادي إلى اآلخرة"‪ ،‬وكان يقول‪" :‬من أمكنني ان أجعل‬
‫معروفي عنده كانت يده علي أمن من يدي عليه"‪.‬‬

‫ومن روائع األدب الدبلوماسي ما روي عن علي رضي اهلل عنه أنه قال لواليه على مكة قثم بن العباس‪:‬‬
‫"وال يكن لك إلى الناس سفير إال لسانك‪ ،‬وال حاجب إال وجهك‪ ،‬وال تحجبن ذا حاجة عن لقائك بها"‪.‬‬

‫وك ان علي بن أبي ط الب يق ول‪" :‬إذا س ألتمونا ح وائجكم فاكتبوه ا لن ا في الرق اع فإنن ا نري د أن نص ون‬
‫وجوهكم عن المسألة"‪.‬‬

‫وه ذه ليس ت محض مواع ظ ديني ة‪ ،‬إنه ا الي وم ج زء من أدب العم ل في المجتمع ات المتقدم ة‪ ،‬وعلى س بيل‬
‫المث ال ال زالتمن التقالي د الياباني ة إلى الي وم‪ ،‬أن كب ار الم وظفين يقوم ون في مواس م معين ة بغس ل أرج ل‬
‫الموظفين الجدد احتفاء بهم وتشجيعاً لهم على الخدمة بإخالص وتفاني‪.‬‬

‫وبالجملة فعلى الدبلوماس ي أن يوائم بين مكانت ه االجتماعي ة والسياس ية المطلوب ة‪ ،‬من الهيبة والوقار‪ ،‬وبين‬
‫خدمة شعبه وذوي الحاجات منهم بالتواضع والمسؤولية والحس الوطني‪ ،‬وما ذلك بعزيز‪ ،‬وإ نه ليسير على‬
‫من يسره اهلل عليه‪.‬‬

‫ترقية أحوال الجالية واالعتناء بها‪:‬‬

‫‪110‬‬
‫ومن المهام الرئيسية للمبتعثين أن يتواصلوا مع الجالية في بلد االغتراب‪ ،‬وأن يدنوا أهل النجاح والتوفيق‬
‫والكف اءة منهم‪ ،‬ويش دوا رب اطهم بأوط انهم ويبعثوا في نفوس هم محب ة ترابهم والوف اء ل ه وص لة الرحم التي‬
‫أمر اهلل أن توصل‪.‬‬

‫وعلي ه أن يتفق د كاف ة المواط نين في مناس بات معين ة‪ ،‬وأن يهتم بأدن اهم وأقص اهم‪ ،‬وأن ي دني الب ارزين‬
‫والناجحين والوجهاء منهم‪ ،‬وأن يوفر لهم رباطهم ووصالهم ببلدهم األم‪ ،‬وان ال تعدو عيناه عنهم في عناية‬
‫ورعاية ومحبة ووداد‪ ،‬فال يند عن رعايته وعنايته قاصد وال يبتغي عن أربه ووصاله راغب‪.‬‬

‫وفي هذا الس بيل أوصى علي كرم اهلل وجه ه والي ه على مص ر فق ال‪" :‬ألص ق بذوي الم روءات واألحس اب‬
‫وأهل البيوت ات الصالحة والسوابق الحس نة ثم أه ل النجدة والشجاعة والس خاء والسماحة‪ ،‬ف إنهم جماع من‬
‫الك رم وش عب من الع رف‪ ،‬ثم اع رف لك ل ام رئ منهم م ا أبلى‪ ،‬وال تض َّمن بالء أم رئ إلى غ يره‪ ،‬وال‬
‫تقصرن به دون غاية بالئه‪ ،‬وال يدعونك شرف امرء إلى أن تعظم من بالئه ما كان صغيراً‪ ،‬وال ضعة‬
‫أمرء إلى أن تستصغر من بالئه ما كان عظيماً"‪.‬‬

‫تمثيل الدولة وليس تمثيل األحزاب‪:‬‬

‫إن الس فير يمث ل الدول ة ال تي أوفدت ه‪ ،‬والدول ة في التعري ف الحق وقي هي حص يلة ثالث ة أش ياء‪ :‬الش عب‬
‫واألرض والحكوم ة‪ ،‬وبه ذا المع نى ف إن واجب ه الدس توري يقتض ي أن يتم التعام ل م ع س ائر القض ايا من‬
‫زاوية وطنية شاملة وليس من رؤية السلك الحكومي وحده‪.‬‬

‫وق د دأبت األح زاب السياس ية على ف رض محاصص ات سياس ية في الس لك الدبلوماس ي‪ ،‬وال زال ال والء‬
‫للحزب الذي أنجز هذه المحاصصة يتغلب على الوالء للمهمة الوطنية التي أرسل إليها السفير‪ ،‬مما يعود‬
‫بأثر سيء على مهمة االبتعاث وغاياته‪.‬‬

‫إن ثقافة المؤسسات ال زالت تحتاج في الوعي العربي إلى تفصيل دقيق‪ ،‬وال زال الموظف العربي يفتقر‬
‫إلى ثقاف ة العم ل للمؤسس ة واح ترام قوانينه ا‪ ،‬وال زالت هن اك حاج ة لتجري د العم ل الع ام من الشخص انية‬
‫والقبلية والعائلية‪ ،‬باتجاه العمل الوطني‪ ،‬واحترام القوانين‪ ،‬وبناء المؤسسات‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫ومع كثرة ما كتب في إحياء ثقافة المؤسسات والعمل في إطارها بعيداً عن الشخصانية والفردية فإن أروع‬
‫م ا كتب في ه ذا الس بيل ه و م ا قال ه الخليف ة الراش دي أب و بك ر الص ديق رض ي اهلل عن ه ي وم رحي ل الن بي‬
‫الكريم صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬

‫"أيها الناس ‪ ...‬من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات‪ ،‬ومن كان يعبد اهلل فإن اهلل حي ال يموت"‪.‬‬

‫لقد كان وعياً كبيراً بثقافة المؤسسات ودوامها‪ ،‬وعدم ارتهانها ألشخاص على الرغم من أهميتهم وقدراتهم‬
‫ودورهم القي ادي الت اريخي‪ ،‬وب ذلك فق د ق رر أب و بك ر أن اس تمرار رس الة اإلس الم إنم ا ه و اس تمرار‬
‫المؤسسات العظيمة التي أطلقها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وعلى رأسها دولة الخالفة‪.‬‬

‫مبدأ المعاملة بالمثل‪:‬‬

‫استقر مبدأ المعاملة بالمثل في الحياة السياسية عامة واألدب الدبلوماسي بوجه خاص‪ ،‬وذل ك انطالق اً من‬
‫طبيعة العالقات الدولية‪.‬‬

‫واإلسالم رسالة واقعية فهو لم ينظر إلى العالم على أنه جمعية خيرية‪ ،‬وال على أنه غاب ذئاب‪ ،‬إنه العالم‬
‫بكل ما فيه من خير وشر وجمال وقبح‪ ،‬وقد رفض منطق التسامح الساذج الذي تضيع فيه الحقوق‪ ،‬ويمنح‬
‫في ه الغف ران ممن ال يمل ك لمن ال يس تحق‪ ،‬ب ل إن ه ع الج العالق ات الدولي ة في إط ار مت وازن من المعامل ة‬
‫بالمثل‪.‬‬

‫اء َسيَِّئ ٍة َسيَِّئةٌ‬


‫ووفق هذه المقاصد جاءت نصوص كثيرة في الشريعة تعزز هذه الحقائق‪ ،‬فقال تعالى‪َ ﴿ :‬و َج َز ُ‬
‫اعتَ ُدوا َعلَْي ِه‬ ‫َج ُرهُ َعلَى اللَّ ِه﴾‪ ،‬وفي آية أخرى قال عز وجل‪﴿ :‬فَ َم ِن ْ‬
‫اعتَ َدى َعلَْي ُك ْم فَ ْ‬ ‫َصلَ َح فَأ ْ‬ ‫ِ‬
‫م ْثلُهَا فَ َم ْن َعفَا َوأ ْ‬
‫بِ ِمثْ ِل َما ْ‬
‫اعتَ َدى َعلَْي ُك ْم﴾‪.‬‬

‫ين ُيقَ اتِلُ َ‬


‫ون ُك ْم َوال تَ ْعتَ ُدوا ِإ َّن‬ ‫والمعاملة بالمثل هي جوهر الجهاد نفسه‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬وقَ اتِلُوا ِفي س بِ ِ َّ ِ َِّ‬
‫يل الله الذ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ين﴾(‪.)189‬‬ ‫ِ‬ ‫اللَّهَ ال ُي ِح ُّ‬
‫ب اْل ُم ْعتَد َ‬

‫‪ 189‬سورة البقرة ‪190‬‬

‫‪112‬‬
‫وفي الحقل الدبلوماسي فإننا نالحظ مبدأ المعاملة بالمثل في سائر أيامه الكريمة صلى اهلل عليه وسلم في‬
‫التفاوض الدبلوماسي وتبادل الوفود والمندوبين‪ ،‬وهو ما تقره اليوم الدبلوماسية الدولية في مبدأ المعاملة‬
‫بالمثل‪.‬‬

‫على أن ما يجب أن نشير إليه أن مبدأ المعاملة بالمثل ليس ناتج جمع رياضي أصم بقدر ما هو حصيلة‬
‫معطيات متقابلة يتأسس عليها موقف المماثلة على أساس العدل وليس بالضرورة على أساس المساواة‪.‬‬

‫ومن الصور الواضحة في العالقات الدبلوماسية ما شرحته اآلية الكريمة في قوله تعالى‪َّ ﴿ :‬‬
‫الش ْه ُر اْل َح َر ُام‬
‫اعتَ ُدوا َعلَْي ِه بِ ِم ْث ِل َما ْ‬
‫اعتَ َدى َعلَْي ُك ْم﴾(‪.)190‬‬ ‫اص‪ ،‬فَ َم ِن ْ‬
‫اعتَ َدى َعلَْي ُك ْم فَ ْ‬ ‫ص ٌ‬
‫الشه ِر اْلحر ِام واْلحرم ُ ِ‬
‫ات ق َ‬ ‫ب ْ ََ َ ُُ َ‬
‫ِ َّ‬

‫فق د ك ان من ش أن الع رب أن تس بغ ص فة القداس ة واالح ترام على األش هر الح رم‪ ،‬فال يح ل فيه ا قت ال وال‬
‫جهاد‪ ،‬ولكن هذه الحرمة إنما تكون حين يحفظها الفريقان‪ ،‬وال معنى لها حين تبقى حرمة من جانب واح د‪،‬‬
‫فقد عمد المشركون إلى االستخفاف بحرمة األشهر الحرم‪ ،‬وقاموا باالعتداء على الصحابة اآلمنين فيها‪،‬‬
‫وحين أرسل النبي الكريم رجاله للدفاع عن الصحابة أنكرت عليهم قريش قتالهم في الشهر الحرام‪ ،‬ولكن‬
‫اآلية الكريمة بينت أن المعاملة بالمثل مبدأ طافح بالعدالة‪ ،‬وحين يحترم المشركون حرمة األشهر الحرم‬
‫فإن المسلمين سيكونون أكثر حرمة لها‪ ،‬ولكن إذا هتك المشركون حرمة الشهر الحرام ومارسوا االعتداء‬
‫في ه على المس لمين فيجب أن ال ينتظ روا من المس لمين أن يتوقف وا عن د حرم ة الش هر الح رام ويس كتوا عن‬
‫حقوقهم المضاعة‪.‬‬

‫وهم ِم ْن َح ْي ُ‬
‫ث‬ ‫َخ ِر ُج ُ‬ ‫اص َحَي اةٌ َي ْا أُوِلي األَْلَب ِ‬
‫اب﴾‪َ ﴿ ،‬وأ ْ‬ ‫ْ‬
‫ص ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫واآلي ات في ه ذا المع نى كث يرة‪َ ﴿ :‬ولَ ُك ْم في اْلق َ‬
‫َخ َر ُجو ُكم﴾‪َ ﴿ ،‬وإِ ْن َعاقَْبتُ ْم فَ َع ِاقُبوا بِ ِم ْث ِل َما ُعو ِق ْبتُ ْمبِ ِه﴾‪.‬‬
‫أْ‬

‫واستناداً إلى هذه القواعد الشرعية العامة والنصوص الظاهرة من الكتاب والسنة فإن من شأن الدولة أن‬
‫تحتكم إلى مب دأ المعامل ة بالمث ل في الحق ل الدبلوماس ي‪ ،‬وأن تتعام ل م ع ال دول األخ رى به ذا المنط ق في‬
‫التمثيل الدبلوماسي والتبادل التجاري والتأشيرات القنصلية والتبادل الثقافي‪.‬‬

‫وفي هذا الجانب ال يملك السلطان المسلم التنازل عن هذا المبدأ ألنه حق لألمة وهو عنها وكيل‪ ،‬ويجب أن‬
‫ينهض بتحص يل ح ق األم ة وال دفاع عن كرامته ا أم ام نظائره ا من األمم‪ ،‬إال أن يك ون ل ه في ذل ك تأوي ل‬
‫ظاهر يعود بالفائدة والنفع على األمة‪ ،‬ويقره أهل الحل والعقد من مجالس شورى األمة‪.‬‬

‫‪ 190‬سورة البقرة ‪194‬‬

‫‪113‬‬
‫ويستدل على ذلك بموقف النبي الكريم حين عفا عن المشركين يوم الفتح األعظم‪ ،‬وقال للمشركين‪":‬اذهبوا‬
‫فأنتم الطلقاء"‪ ،‬خالفاً لقاعدة القصاص والمعاملة بالمثل في الحقوق‪.‬‬

‫ومع أن الصحابة رضوا من نبيهم ما اختار تسليماً وطاعة ومحبة‪ ،‬ولكن المتأمل في دقائق السيرة يدرك‬
‫أن موقف النبي الكريم في التخلي عن مبدأ المعاملة بالمثل في هذه الحالة كان يتضمن جوانب ثالثة‪ :‬جانب‬
‫أخالقي وج انب سياس ي وج انب حق وقي‪ ،‬فه و في الج انب األول أخالق محمدي ة مطه رة زاكي ة‪ ،‬ولكن ه في‬
‫الجانب اآلخر دهاء سياسي ضروري‪ ،‬فقد علم رسول اهلل أن إراقة دمائهم ستثير غضب كثير من رجالهم‬
‫وت دخل مك ة في م وارد الث أر ال تي ال تنتهي‪ ،‬وهي من ج انب آخ ر وعي حق وقي‪ ،‬فق د قات ل ه ؤالء على‬
‫أص نامهم وآلهتهم وك ان كث ير منهم يعتق د م ا يص نع‪ ،‬وليس من العدال ة أن تأخ ذهم ب ذنب لم يكون وا يق رون‬
‫بجرمه حال ارتكابهم له‪ ،‬وشأن العقوبات أن ال يكون لها أثر رجعي‪ ،‬واالحتمال في القانون يفسر لمص لحة‬
‫المتهم‪ ،‬وهي قواع د حقوقي ة ض رورية يتف ق عليه ا العقالء‪ ،‬وبموقف ه العظيم ص لى اهلل علي ه وس لم دف ع عن‬
‫العرب فتنة كانت كافية أن تعيد الحرب جذعة مضمخة بالدماء‪.‬‬

‫وال يخفى أن هذا المبدأ العادل في العالقات الدولية ال ينطبق ضرورة على العالقات اإلنسانية‪ ،‬وما يكون‬
‫بين الدول ة وأع دائها ال يق اس علي ه م ا يك ون بين الدول ة ورعاياه ا‪ ،‬وم ا يك ون بين المؤم نين والك افرين ال‬
‫ينطب ق على م ا يك ون بين المؤم نين أنفس هم من اإلخ اء والم ودة‪ ،‬وم ا ينبغي أن يحكم ب ه القض اء ليس‬
‫بالض رورة م ا ينبغي أن يف تي ب ه المرش د والواع ظ‪ ،‬وفي ه ذا الس ياق ي رد م ا أم ر ب ه الق رآن الك ريم من‬
‫َِِّ‬ ‫َّ ِ‬ ‫العف ووالغفران والتس امح‪﴿،‬وأَن تَعفُ وْا أَ ْق ر ِ‬
‫ين‬
‫َج ُرهُ َعلَى الله﴾‪ُ ﴿ ،‬ق ْل للذ َ‬ ‫ب للتَّ ْق َوى﴾‪﴿ ،‬فَ َم ْن َعفَ ا َوأ ْ‬
‫َص لَ َح فَ أ ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫َّام اللَّ ِه﴾‪ ،‬وغير ذلك من اآليات الكثيرة‪.‬‬ ‫ون أَي َ‬
‫ين ال َي ْر ُج َ‬
‫ِ َِِّ‬
‫آمُنوا َي ْغف ُروا للذ َ‬
‫َ‬

‫وفي الس ياق اإلنس اني ج اء رج ل إلى النبي ص لى اهلل علي ه وسيلم وق ال‪" :‬ي ا رس ول اهلل إن لي قراب ة أص لهم‬
‫ويقطعون ني وأعطيهم ويحرمون ني وأحس ن إليهم ويس يئون إلي‪ ،‬أفأك افئهم؟" فق ال ل ه الن بي ص لى اهلل علي ه‬
‫وسلم‪":‬فمه؟"(أي ما الفرق إذن بينك وبينهم)‪ ،‬ولكن أعط من حرمك وصل من قطعك وأحسن إلى من أساء‬
‫إليك وال يزال لك من اهلل عليهم ظهير"(‪.)191‬‬

‫مسؤولية السفير بين وطنه ودار إقامته‪:‬‬

‫صحيح مسلم‪ ،‬ج‪ ،8‬ص‪ ،8‬ورواه كذلك االمام احمد بن حنبل في مسنده‬ ‫‪191‬‬

‫‪114‬‬
‫ومن الجوانب البالغة األهمية في الشأن الدبلوماسي أن يكون السفير على وعي برباط مواطنيه بالبالد التي‬
‫يقيم ون فيه ا‪ ،‬فهن اك كث ير من أبن اء ال وطن يس تقرون في بل دان أخ رى وين الون جنس يتها‪ ،‬وهم مط البون‬
‫بالوفاء إلى تلك األوطان مقيمين أو مواطنين‪ ،‬فال ينبغي في الحديث عن أوطانهم أن يبخس شأن األوطان‬
‫ال تي يقيم ون فيه ا‪ ،‬أو أن يقص روا في الوف اء لألرض ال تي احتض تنهم وآوتهم‪ ،‬وعلي ه أن يتح دث ب وعي‬
‫وبصيرة موازناً بين حقوق البلدين وواجباتهما تجاه كل منهما‪.‬‬

‫وتختصر هذه الحقيقة بعبارة‪ :‬الوفاء ألرض الوطن واإلخالص لدار اإلقامة‪.‬‬

‫وربم ا ك ان أوض ح مث ال لعالق ة المس لم ببل د إقامت ه ودار مه اجره م ا رأين اه في س لوك الرعي ل األول من‬
‫أصحاب النبي الكريم الذين هاجروا إلى الحبشة‪ ،‬فقد ظلوا أوفياء ألوطانهم ونبيهم ودينهم‪ ،‬ولكنهم أظهروا‬
‫أيض اً حب اً ووف اء كب يرين لألرض ال تي احتض نتهم وال يع رف أنهم اتهم وا باإلس اءة إلى ش يء في أرض‬
‫الهجرة‪ ،‬وحين عرض للنجاشي بعض خصومه وحاولوا أن ينتزعوا منه ملكه فقد اصطف الصحابة إلى‬
‫جوار النجاشي وقاتلوا معه‪ ،‬وكان الزبير بن العوام يسبح في الليل بالنيل حتى يبيت مع القوم ويدرك ما‬
‫يبيتون ويعدو في الصباح بأخبارهم‪ ،‬وكان للصحابة أثر ظاهر في تأمين استقرار الحبشة بعد هذه الفتنة‬
‫المريرة‪.‬‬

‫وق د اظه ر ه ؤالء المه اجرون في الحبش ة فقه اً عميق اً بأص ول التعام ل الدبلوماس ي حيث اخت اروا ممثلهم‬
‫جعف ر بن أبي ط الب فك ان يف اوض باس مهم ويرف ع مط البهم‪ ،‬وق د حظي بمنزل ة كب يرة ل دى النجاش ي فك ان‬
‫يشاوره في خاصة شأنه‪ ،‬كما أنه تمكن من عقد صالت بالغة القوة والموثوقية مع النبي الكريم وأهله‪ ،‬حتى‬
‫إن الن بي الك ريم حين رغب ب زواج رمل ة بنت أبي س فيان وهي إح دى المه اجرات في الحبش ة خطبه ا من‬
‫النجاشي الذي قام بدوره بإعداد زفافها إلى الرسول صلى اهلل عليه وسلم على مراكب الملوك في إشارة‬
‫جداً واضحة لتوثق مستوى العالقات بينهما إلى أعلى المنازل‪.‬‬

‫وال أدل على ذل ك من أن الص حابة الك رام اس تمروا في الوف اء ألرض هج رتهم واإلحس ان إليه ا‪ ،‬وم ع أن‬
‫دواعي الهجرة قد بدخول الرسول الكريم إلى المدينة ولكن عدداً من الصحابة وبأمر من رسول اهلل صلى‬
‫اهلل علي ه وس لم اس تمروا في الحبش ة لرعاي ة ه ذا الج انب الك ريم ال ذي أسس وا ل ه من عالق ات متوازن ة‬
‫مسؤولة‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫الدبلوماسية واختالف العقائد‪:‬‬

‫تقوم العالقات الدبلوماسية بين األمم لتحقيق مصالح هذه الشعوب والعمل على تطويرها وانطالقها بما ينفع‬
‫األمة ويحقق الخير للجميع‪.‬‬

‫وقد مضى كثير من الكاتبين إلى الخلط بين مبادئ الدعوة إلى اهلل ومسائل الحكم والعالقات الدولية‪ ،‬وكذلك‬
‫إلى الخلط بين حس اب اهلل وحس اب الن اس‪ ،‬وب ذلك فقد حمل كثيراً من الشباب المتحمس على فتح منص ات‬
‫الحس اب قب ل يوم الحس اب‪ ،‬وتفويض الن اس ب الحكم على الن اس م ع أن اهلل يحكم بين عب اده فيم ا ك انوا في ه‬
‫يختلفون‪.‬‬

‫وق د نش أت على ه امش ه ذه الحق ائق أحك ام ش رعية دونت في بعض كتب الفق ه اإلس المي ش ديدة القس وة‬
‫ون ِفتَْنةٌ‬ ‫﴿وقَاتِلُ ُ‬
‫وه ْم َحتّ َى الَ تَ ُك َ‬ ‫والوطأة‪ ،‬فاعتبر الجهاد واجباً إلدخال الناس في الدين الحق‪ ،‬وفق ظاهر اآلية َ‬
‫ين ُكلّ هُ هلل﴾‪ ،‬ولم يؤذن بوقف الحرب إال مع أهل الكتاب إذا دفعوا الجزية‪ ،‬ثم اختلف القول في‬ ‫الد ُ‬
‫ون ّ‬‫َوَي ُك َ‬
‫شأن العربي من أهل الكتاب فنص كثير منهم أنه ال يحل له دفع الجزية ويخير بين اإلسالم والسيف(‪.)192‬‬

‫ثم مض ى ه ؤالء إلى الحكم بوج وب قت ال أه ل األدي ان الباطل ة من ب وذيين وهن دوس وأرواح يين ووثن يين‪،‬‬
‫وه ؤالء يبل غ ع ددهم الي وم ثالث ة ملي ارات وهم نص ف أه ل األرض‪ ،‬وال ش ك أن تط بيق ه ذه الفت اوى على‬
‫واق ع الي وم س يؤدي إلى ك وارث مرعب ة‪ ،‬وس يؤدي ذل ك بش كل ط بيعي إلى قت ال البش رية كله ا وه ذا عكس‬
‫مقاصد اإلسالم العظيمة من نشر الحب والخير والرحمة‪.‬‬

‫والواقع الذي يدل له هدي النبي صلى اهلل عليه وسلم أن الدبلوماسية اإلسالمية تنشأ بين عقائد مختلفة‪ ،‬وال‬
‫يشترط التوافق بين الدولتين أو بين الحكومتين حتى تقوم عالقات صحيحة‪ ،‬وقد أقام النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم عالقات مع عدد من الملوك وهم على أديانهم‪.‬‬

‫ومن أدق المواقف في هذا السبيل ما روي في شأن النجاشي‪ ،‬فقد كان الرجل على ملة النصارى‪ ،‬وكان له‬
‫قساوسته وبطارقته ورهبانه وقداديسه وكهنته‪ ،‬ومع ذلك فقد عاش الصحابة في كنفه سنين طويلة‪ ،‬ولم يرد‬
‫عنهم أنهم حقروا شيئاً مما كان يعبده أو تعرضوا لبطارقته أو رهبانه أو قساوسته‪.‬‬

‫بل إن القرآن الكريم جاء واضحاً جلياً في أمر الثناء على النجاشي وعلى أصحابه وفي القرآن الكريم‪:‬‬

‫‪ 192‬انظر مثالً كتاب كفاية األخيار في الفقه الشافعي‪ H‬ج‪ 2‬ص‪218‬‬

‫‪116‬‬
‫ك بِ أ َّ ِ ِ ِ‬ ‫ص َارى َذِل َ‬ ‫َِّ‬ ‫َِِّّ‬
‫ين َو ُر ْهَب ًان ا َوأََّنهُ ْم الَ‬‫َن م ْنهُ ْم قسِّيس َ‬ ‫ين قَ الُوْا ِإَّنا َن َ‬
‫آمُن وْا الذ َ‬
‫ين َ‬‫﴿ َولَتَ ِج َد َّن أَ ْق َرَبهُ ْم َّم َو َّدةً للذ َ‬
‫ون﴾‪،‬‬ ‫تَ ْكبِ ُر َ‬ ‫َي ْس‬
‫آمَّنا‬
‫ون َربََّن ا َ‬ ‫ق َيقُولُ َ‬ ‫يض ِم َن ال َّد ْم ِع ِم َّما َع َرفُ وْا ِم َن اْل َح ِّ‬ ‫ِ‬
‫َعُيَنهُ ْم تَف ُ‬ ‫ول تَ َرى أ ْ‬‫الرس ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿ َوإِ َذا َس م ُعوْا َم ا أُن ِز َل ِإلَى َّ ُ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫فَا ْكتُْبَنا مع َّ ِ ِ‬
‫الشاهد َ‬
‫‪193‬‬
‫ََ‬

‫والثناء على القساوسة والرهبان بتواضعهم وزهدهم جاء واضحاً في اآليات الكريمة‪ ،‬وهي صريحة بأنهم‬
‫يستحقون الثناء وهم ال زالوا بطارقة ورهباناً وقساوسة‪.‬‬

‫وق د تع ززت عالق ة الن بي بالنجاش ي وأص حابه وحين ج اؤوا إلى المدين ة المن ورة ق ام رس ول اهلل يخ دمهم‬
‫بنفسه‪ ،‬فقاهلل أصحابه‪":‬يا رسول اهلل نكفيك الخدمة"‪ ،‬قال‪":‬كال إنهم كانوا ألصحابي مكرمين"(‪.)194‬‬

‫وق د تك رر من رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم ه ذا التك ريم للنجاش ي وه و على مل ة قوم ه‪ ،‬وحين م ات‬
‫النجاشي قال رسول اهلل‪" :‬مات الليلة أخوكم أصحمة بن أبحر النجاشي قوموا بنا نصلي عليه"‪ ،‬فقال بعض‬
‫اب‬‫َه ِل اْل ِكتَ ِ‬ ‫الصحابة‪":‬نصلي على علج من علوج الروم لم يسجد هلل سجدة!؟" فأنزل اهلل تعالى ‪َ ﴿ :‬وإِ َّن ِم ْن أ ْ‬
‫ات اللّ ِه ثَ َمن اً َقِليالً أ ُْولَـئِ َ‬
‫ك لَهُ ْم‬ ‫اش ِعين ِللّ ِه الَ ي ْش تَرون بِآي ِ‬
‫َ ُ َ َ‬ ‫َ‬
‫لَمن ي ؤ ِمن بِاللّ ِه وم ا أُن ِز َل ِإلَْي ُكم وم ا أُن ِز َل ِإلَْي ِهم َخ ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ ََ‬ ‫ََ‬ ‫َ ُْ ُ‬
‫اب﴾ ‪.‬‬ ‫ند رِّب ِهم ِإ َّن اللّهَ َس ِريع اْل ِح َس ِ‬ ‫ِ‬
‫َج ُر ُه ْم ع َ َ ْ‬
‫أْ‬
‫‪195‬‬
‫ُ‬

‫وعندما عاد بعض الصحابة لالعتراض وقالوا‪" :‬يا رسول اهلل كيف نصلي عليه ولم يكن يصلي إلى قبلتنا؟‬
‫ب فَأ َْيَن َم ا تَُولُّوا فَثََّم َو ْج هُ اللَّ ِه‬ ‫لقد كانت صالته لبيت المقدس"‪ ،‬فأنزل اهلل قرآن اً يتلى ‪َ ﴿ :‬وِللَّ ِه اْل َم ْش ِر ُ‬
‫ق َواْل َم ْغ ِر ُ‬
‫َّ ِ ِ‬
‫ِإ َّن اللهَ َواسعٌ َعل ٌ‬
‫يم﴾(‪.)196‬‬

‫وبالجمل ة فق د ك ان الن بي الك ريم يؤس س عالقات ه الدبلوماس ية م ع المل وك وزعم اء القبائ ل على أس اس من‬
‫المصلحة المتبادلة‪ ،‬وفائدة األمتين ولم يكن يؤسس لهذه العالقات على أساس الموقف الديني‪ ،‬بحيث يؤدي‬
‫للمؤمنين وال يؤدي للمشركين‪ ،‬ويفي بعهود المسلمين وال يفي بعهود المشركين‪.‬‬

‫ومن المالحظ إقراره صلى اهلل عليه وسلم للصفة التي منحتها األمم والشعوب لقادتها ومخاطبتهم بها دون‬
‫تحقير أو ازدراء‪ ،‬احتراماً لمكانة شعوبهم‪ ،‬فقد خاطب هرقل بقوله‪" :‬من محمد رسول اهلل إلى هرقل عظيم‬
‫الروم"‪ ،‬وخاطب كسرى بقوله‪" :‬من محمد بن عبد اهلل إلى كسرى عظيم الفرس"‪ ،‬وإ لى النجاشي بقوله‪" :‬من‬

‫‪193‬‬
‫سورة المائدة ‪82‬‬
‫دالئل النبوة‪ ،‬للبيهقي‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪83‬‬ ‫‪194‬‬

‫‪195‬‬
‫سورة آل عمران ‪199‬‬
‫أحكام القرآن‪ ،‬البن العربي‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪60‬‬ ‫‪196‬‬

‫‪117‬‬
‫محم د رس ول اهلل إلى النجاش ي مل ك الحبش ة"‪ ،‬وإ لى المق وقس بقول ه‪" :‬من محم د بن عب د اهلل إلى المق وقس‬
‫عظيم القبط"‪.‬‬

‫وفي األثر أن رجالً من الوثنيين طلب من النبي الكريم صدقة فسأله أن يسلم فأبى‪ ،‬فلم يعطه شيئاً فأنزل‬
‫ون ِإالَّ ْابتِ َغ اء‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫اء َو َما تُنفقُوْا م ْن َخ ْي ٍر فَألنفُس ُك ْم َو َما تُنفقُ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اه ْم َولَـك َّن اللّهَ َي ْهدي َمن َي َش ُ‬ ‫ك ُه َد ُ‬ ‫اهلل تعالى‪﴿ :‬لَّْي َس َعلَْي َ‬
‫ون﴾‪.197‬‬ ‫ف ِإلَْي ُك ْم َوأَنتُ ْم الَ تُ ْ‬
‫ظلَ ُم َ‬ ‫و ْج ِه اللّ ِه و َما تُ ِنفقُوْا ِم ْن َخ ْي ٍر ُيو َّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫وفي القرآن الكريم بيان واضح لطبيعة العالقات بين األمة اإلسالمية وجيرانها من األمم‪ ،‬دل عليه عموم‬
‫اهتَ َد ْيتُ ْم ِإلَى اللّ ِه َم ْر ِج ُع ُك ْم َج ِميع اً‬
‫ض َّل ِإ َذا ْ‬
‫ض ُّر ُكم َّمن َ‬
‫آمُن وْا َعلَْي ُك ْم أَنفُ َس ُك ْم الَ َي ُ‬
‫ين َ‬
‫َِّ‬
‫النص القرآني‪َ﴿ :‬يا أَيُّهَ ا الذ َ‬
‫ون﴾‪.198‬‬ ‫فَُيَنبُِّئ ُكم بِ َما ُكنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬

‫ك ِفي َم ا‬
‫َنت تَ ْح ُك ُم َب ْي َن ِعَب ِاد َ‬
‫اد ِة أ َ‬ ‫ض َع ِالم اْل َغ ْي ِب و َّ‬
‫الش هَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ات واأْل َْر ِ‬
‫الس َم َاو َ‬
‫وكذلك قوله تعالى‪ُ ﴿ :‬ق ِل اللَّه َّم فَ ِ‬
‫اط َر َّ‬ ‫ُ‬
‫ون﴾‪.199‬‬ ‫ِِ ِ‬
‫َك ُانوا فيه َي ْختَلفُ َ‬

‫وبن اء علي ه فال ش أن للفري ق الدبلوماس ي بع ادات األمم وأديانه ا وتقالي دها وال ض ير في اختالف أدي انهم‬
‫ض ُكلُّهُ ْم‬
‫ُّك آَل َم َن َم ْن ِفي اأْل َْر ِ‬
‫اء َرب َ‬
‫وتقالي دهم عن قيم اإلس الم‪ ،‬فاله دى ه دى اهلل‪ ،‬ق ال ع ز وج ل‪َ ﴿ :‬ولَ ْو َش َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ونوا ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫اس َحتَّى ي ُك ُ‬ ‫يعا أَفَأ َْنت ت ْك ِرهُ َّ‬
‫الن َ‬ ‫َجم ً‬
‫‪200‬‬

‫بل إن المؤمن مأمور بأن يحترم عقائد الناس وال يسيء إليها‪ ،‬السيما إذا ترتب على هذه اإلساءة مضرة‬
‫َّ‬ ‫بمص الح األم ة‪ ،‬وفي ه ذا المع نى ورد ق ول اهلل تع الى‪﴿ :‬والَ تَس بُّوْا ٱلَِّذين ي ْدعون ِمن ُد ِ َّ ِ‬
‫ون ٱلله فََي ُس بُّوْا ٱللهَ‬ ‫َ َ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ك َزيََّّنا ِل ُك ِّل أ َّ ٍ‬
‫َع ْدواً بِ َغ ْي ِر ِعْلٍم َك َذِل َ‬
‫ون﴾ ‪.‬‬ ‫ُمة َع َملَهُ ْم ثَُّم ِإلَ ٰى َرِّب ِه ْم َّم ْر ِج ُعهُ ْم فَُيَنبُِّئهُ ْم بِ َما َك ُانوْا َي ْع َملُ َ‬
‫‪201‬‬

‫ومن الوارد تماماً أن يقوم الفريق الدبلوماسي بالمطالبة بالمعاملة بالمثل فيما يتصل باحترام المقدس الديني‪،‬‬
‫والرموز الدينية‪ ،‬وهذا مبدأ عام في العالقات الدبلوماسية‪.‬‬

‫‪ 197‬سورة البقرة ‪272‬‬


‫‪ 198‬سورة المائدة ‪105‬‬
‫‪ 199‬سورة الزمر ‪46‬‬
‫‪ 200‬سورة يونس ‪99‬‬
‫‪201‬سورة األنعام ‪108‬‬

‫‪118‬‬
‫العالقات الدبلوماسية مع الدول اإلسالمية‪:‬‬
‫وأج د من الض روري هن ا أن نش ير في فص ل خ اص إلى العالق ات الدبلوماس ية م ع ال دول اإلس المية‬
‫وخصوصية هذه العالقات والتجارب الدبلوماسية التي قامت بين هذه الدول‪ ،‬حيث يتعين على الدبلوماسي‬
‫أن يدرك طبيعة الروابط الخاصة بين بالده وبين البلدان اإلسالمية من روابط تاريخية ودينية وسياسية‪.‬‬

‫وال ب د أن ن درك أن مب دأ تش كل الع الم في كت ل دولي ة وأحالف إقليمي ة حقيق ة تاريخي ة وواقعي ة وق د حكمت‬
‫هذه التحالفات التاريخ اإلنساني لقرون طويلة‪ ،‬وفي العصر الحديث قامت سلسلة من األحالف أهمها حلف‬
‫األطلسي وحلف وارسو‪ ،‬ومؤتمر عدم االنحياز‪ ،‬ومع أن حلف األطلسي قام لمواجهة حلف وارسو‪ ،‬ولكنه‬
‫لم يرحل عند رحيله‪ ،‬وحينما انهار حلف وارسو تساءلت الحكومات الغربية الكبرى‪ :‬لماذا يجب أن يبقى‬
‫حلف األطلسي وقد انهار حلف وارسو‪ ،‬وكان الجواب ولماذا يجب أن ينهار؟وبالفعل فمع مرور أكثر من‬
‫عشرين سنة على انهيار حلف وارسو فإن حلف األطلسي ال زال يقوم بدور رئيسي في السياسة الدولية‬
‫ويحكم جزءاً غير قليل من مصائر العالم‪.‬‬

‫وكذلك فإن قمة عدم االنحياز استمرت على الرغم من انتهاء عصر القطبين المتنافسين‪ ،‬وقد أدركت دول‬
‫ع دم االنحي از حاجته ا له ذا التع اون ال دولي لمحاول ة رس م سياس ة مش تركة مح ددة في مواجه ة الظ روف‬
‫العالمية الجديدة‪.‬‬

‫كما تقوم في العالم كتل الكومنولث والفرانكوفونية وآسيان وغيرها من األحالف الدولية التي تتناوب في‬
‫خدمة شعوبها وحلفائها‪.‬‬

‫وق د أدرك المس لمون في العالم الحاج ة إلى ه ذا الل ون من التع اون من ذ ن ادى الكواك بي واألفغاني بالجامع ة‬
‫اإلسالمة وعاصمتها أم القرى‪ ،‬وتأكدت هذه الحاجة بعد انهيار الخالفة ودخول عصر الدولة الحديثة‪.‬‬

‫ومع أن هذه الصيحات لم تستطع تأمين حلف إسالمي دولي حقيقي ولكنها نجحت في تأمين شكل واضح‬
‫من التعاون بين الدول اإلسالمية وقد بدأ ذلك على يد الملك عبد العزيز حين أطلق مؤتمر العالم اإلسالمي‬
‫في مكة المكرمة‪ ،‬عام ‪ 1926‬وتولى الملك عبد العزيز نفسه رئاسة المنظمة‪ ،‬ثم تعاقب عليها زعماء العالم‬
‫‪202‬‬
‫اإلسالمي‪.‬‬
‫‪202‬‬
‫وقد تعاقب على رئاسة منطمة المؤتمر اإلسالمي كل من‪:‬‬
‫عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود ‪ -‬مؤسس المملكة العربية السعودية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫فيصل بن عبد العزيز آل سعود ‪ -‬الملك السعودي الثالث‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪119‬‬
‫وفي ع ام ‪ 1969‬وعقب حري ق األقص ى تن ادى زعم اء الع الم اإلس المي إلى اجتم اع قم ة في المغ رب ‪-‬‬
‫الرباط‪ ،‬انبثقت عنه منظمة المؤتمر اإلسالمي‪ ،‬التي تحولت فيما بعد إلى منظمة التعاون اإلسالمي والتي‬
‫أصبحت تضم اليوم ‪ 57‬دولة إسالمية بصفة عضو كامل وخمس دول تضم جاليات إسالمية كبيرة بصفة‬
‫دول ة م راقب ومن أهم ه ذه ال دول روس يا وتايالن د كم ا رفض طلب الهن د والفل بين في االنض مامللمنظمة‬
‫بصفة عضو كامل‪.‬‬

‫إن منظمة التعاون اإلسالمي تعتبر الغطاء الدبلوماسي األهم للدول اإلسالمية‪ ،‬ومع مرور نحو ‪ 45‬عام اً‬
‫على تأسيسها فهي تعكس حاجة حقيقية لهذا اللون من التعاون والتواصل بين أبناءاألمة اإلسالمية‪.‬‬

‫لق د ق امت بعض ال دول العربي ة واإلس المية ذات التوج ه الق ومي والعلم اني بالتملم ل من قي ام ه ذه المنظم ة‬
‫ورأى هؤالء أن تكريس التحالف السياسي على أساس ديني ليس واقعي اً‪ ،‬وأن االتجاه العام في الدبلوماسية‬
‫الدولية هو فصل الدين عن السياسة‪.‬‬

‫ولكن الواق ع أثبت خالف ذل ك‪ ،‬وخالل ه ذه الف ترة ثبت أن الراب ط ال ديني ق ادر على أن يق دم ش كالً أق وى‬
‫للعالقات بين الدول‪ ،‬وأن يحقق مصالح عملية متينة للدول المتعاونة على أساس ديني‪.‬‬

‫وعلى ك ل ح ال فليس من ش أن ه ذه الدراس ة مناقش ة المنطلق ات النظري ة لعالق ات ال دين والسياس ة‪ ،‬ولكنن ا‬
‫مع نيون بالتأكي د على أن الفري ق الدبلوماس ي في ال دول اإلس المية يجب أن تك ون لدي ه الق درة على التع اون‬
‫بش كل أك بر في العالق ات البيني ة‪ ،‬وبالت الي ف إن قض ايا مش تركة كث يرة تص در عنه ا مواق ف متش ابهة بش كل‬
‫طبيعي وذلك انعكاساً لما تشعر به شعوب هذه البلدان من الحقائق المشتركة تاريخياً وواقعياً‪.‬‬

‫ومن أوض ح األمثل ة على ذل ك رفض التط بيع م ع الكي ان الص هيوني ووج وب التع اون في نص رة الش عب‬
‫الفلسطيني والشعب السوري‪ ،‬والمصلحة المشتركة التي يمكن أن يحققها هذا التعاون‪.‬‬

‫إدريس السنوسي ‪ -‬ملك المملكـة الليبيـة سابقاً‪.‬‬ ‫‪‬‬


‫محمد علي جناح ‪ -‬مؤسس دولة باكستان‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫شكري القوتلي ‪ -‬الرئيس السوري األسبـق‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫عدن عبد اهلل عصمان دار ‪ -‬رئيس جمهورية الصومال األسبق‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫أمين الحسيني‪ -‬المفتي األكبر لدولة فلسطين سابقاً‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫معروف الدواليبي‪ -‬رئيس وزراء سوريا األسبق‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫عبد اهلل بن عمر نصيف‪ -‬نائب رئيس مجلس الشورى السعودي سابقاً‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪120‬‬
‫وترتب هذه الحقائق على الدبلوماسيين مسؤولية خاصة‪ ،‬فهناك أنواع كثيرة من العالقات الدبلوماسية تحتاج‬
‫لمهارات خاصة في التعامل معها‪ ،‬وتقتضي االنتباه في العالقات الدبلوماسية المختلفة‪.‬‬

‫ومم ا تج در اإلش ارة إلي ه أن الكتل ة اإلس المية وإ ن ك انت الثاني ة ع ددياً من حيث ال ترتيب فإنه ا أك بر كتل ة‬
‫دولية فاعلة في الهيئة العامة لألمم المتحدة‪ ،‬ومع أن دول عدم االنحياز تشكل كتلة أكبر ولكنها غير متحدة‬
‫في القضايا السياسية إال على مسألة رفض الهيمنة‪ ،‬ومن الصعب أن يتوحد أعضاء هذه الكتلة على خيار‬
‫سياس ي‪ ،‬في حين أن الكتل ة اإلس المية متوح دة ع ادة في القض ايا السياس ية الك برى‪ ،‬وهي تحت اج لبعض‬
‫التنسيق لتظهر متحدة في المحفل الدولي‪.‬‬

‫وقد تطور األداء الدبلوماسي بين الدول األعضاء وقامت اتحادات وهيئات دولية إسالمية انبثقت عن جسم‬
‫المنظمة وحققت أشكاالً طيبة من التعاون والتكامل‪ ،‬نعد منها(‪:)203‬‬

‫لجان دائمة‬

‫لجنة القدس‪ ،‬ويرأسها ملك المملكة المغربية‪ .‬مقرها الرباط‪ ،‬المملكة المغربية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫اللجنة الدائمة لإلعالم والشؤون الثقافية (كومياك)‪ ،‬ويرأسها رئيس جمهورية السنغال‪ ،‬ومقرها في‬ ‫‪‬‬
‫داكار‪ ،‬السنغال‪.‬‬
‫اللجن ة الدائم ة للتع اون االقتص ادي والتج اري (كومس يك)‪ ،‬ويرأس ها رئيس الجمهوري ة التركي ة‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫ومقرها أنقرة‪ ،‬تركيا‪.‬‬
‫اللجن ة الدائم ة للتع اون العلمي والتق ني (كومس تيك)‪ ،‬ويرأسها رئيس جمهوري ة باكس تان اإلس المية‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫ومقرها إسالم أباد‪.‬‬

‫كما أن هناك عدداً من األجهزة المتفرعة عن المنظمة‪ ،‬منها‪:‬‬

‫مركز البحوث اإلحصائية واالقتصاديـة واالجتماعية والتدريب للدول اإلسالمية‪ ،‬أنقرة‪ ،‬تركيا‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫مركز البحوث للتاريخ والفنون والثقافة اإلسالمية‪ ،‬إسطنبول‪ ،‬تركيا‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫الجامعة اإلسالمية للتقنية‪ ،‬دكا‪ ،‬بنغالديش‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫المركز اإلسالمي لتنمية التجارة‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬المملكة المغربية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫مجمع الفقه اإلسالمي الدولي‪ ،‬جدة‪ ،‬المملكة العربية السعودية‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪/http://www.oic-oci.org‬‬ ‫الموقع الرسمي لمنظمة التعاون اإلسالمي على شبكة االنترنت‬ ‫‪203‬‬

‫‪121‬‬
‫صندوق التضامن اإلسالمي ووقفه‪ ،‬جدة‪ ،‬المملكة العربية السعودية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫الجامعة اإلسالمية في النيجر‪ ،‬ساي‪ ،‬النيجر‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫الجامعة اإلسالمية في أوغندا‪ ،‬مبالي‪ ،‬أوغندا‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫مؤسسات وأجهزة متخصصة‬

‫هي المؤسس ات واألجه زة المنش أة في إط ار منظم ة التع اون اإلس المي بم وجب ق رار من م ؤتمر القم ة أو‬
‫التعاون اإلسالمي لوزراء الخارجية‪ ،‬وتكون عضويتها مفتوحة بصورة اختيارية أمام الدول األعضاء في‬
‫منظمة التعاون اإلسالمي‪ ،‬وتتميز بأن ميزانياتها مستقلة عن ميزانية األمانة العامة أو ميزانيات األجهزة‬
‫الفرعيـة‪ ،‬وتعتمد ميزانيات هذه األجهزة النصوص والتشريعات في أنظمتها األساسية‪.‬‬

‫البنك اإلسالمي للتنمية‪ ،‬جدة‪ ،‬المملكة العربية السعودية‪.‬‬ ‫‪‬‬


‫المنظمة اإلسالمية للتربية والعلوم والثقافة‪ ،‬الرباط‪ ،‬المملكة المغربية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫وكالة األنباء اإلسالمية الدولية (إينا)‪ ،‬جدة‪ ،‬المملكة العربية السعودية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫منظمة إذاعات الدول اإلسالمية (إسبو)‪ ،‬جدة‪ ،‬المملكة العربية السعودية‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫مؤسسات المنظمة‬

‫يحق للمؤسسات واألجهزة التابعة للدول األعضاء في منظمة التعاون اإلسالمي أن تنضم بصفة اختيارية‬
‫إلى عض ويتة ه ذه المؤسس ات‪ .‬وميزانياته ا مس تقلة عن ميزاني ات األمان ة العام ة واألجه زة المتفرع ة‬
‫والمتخصص ة‪ .‬ولق د أنش ئت برعاي ة م ؤتمرات القم ة اإلس المية والم ؤتمر اإلس المي ل وزراء الخارجي ة‪.‬‬
‫ويجوز منح المؤسسات المنتمية صفة مراقب بموجب قرار يصدره المؤتمر اإلسالمي لوزراء الخارجية‪،‬‬
‫كما يجوز لها تلقي مساعدات طوعية من األجهزة المتفرعة والمتخصصة وكذلك من الدول األعضاء‪.‬‬

‫الغرفة اإلسالمية للتجارة والصناعة‪ ،‬كراتشي‪ ،‬باكستان‪.‬‬ ‫‪‬‬


‫منظمة العواصم والمدن اإلسالمية‪ ،‬مكة المكرمة‪ ،‬السعودية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫االتحاد الرياضي أللعاب التضامن اإلسالمي‪ ،‬الرياض‪ ،‬المملكة العربية السعودية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫اللجنة اإلسالمية للهالل الدولي‪ ،‬بنغازي‪ ،‬ليبيا‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫االتحاد اإلسالمي لمالكي البواخر‪ ،‬جدة‪ ،‬المملكة العربية السعودية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫االتحاد العالمى للمدارس العربية اإلسالمية الدولية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪122‬‬
‫منتدى شباب التعاون اإلسالمي للحوار والتعاون‪ ،‬إسطنبول‪ ،‬تركيا‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫االتحاد الدولي للكشاف المسلم‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫األكاديمية اإلسالمية العالمية للعلوم‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫اتحاد المستشارين في البلدان اإلسالمية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫المجلس العام للمصارف اإلسالمية والمؤسسات المالية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫اتحاد المقاولين في البلدان اإلسالمية‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫وال ش ك أن ه ذا المس توى من التع اون بين البل دان اإلس المية وإ ن ك ان كب يراً في الطم وح ولكن ه ال زال‬
‫متواض عاً في الواق ع‪ ،‬ولكن من المؤك د أن تعزي ز ه ذا الل ون من العالق ات يع ود بالفائ دة على الش عوب‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وهو التطور الطبيعي لحركة التاريخ‪.‬‬

‫ويجب الق ول إن العالق ات في إط ار منظم ة التع اون اإلس المي ليس اإلط ار الوحي د للعالق ات الدبلوماس ية‪،‬‬
‫ولكنه أحد أبرز مظاهرها‪ ،‬وعلى الدبلوماسية الوطنية االنتباه لكافة عوامل التقارب والتواصل مع البلدان‬
‫اإلسالمية وكذلك مع الجاليات اإلسالمية في بلدان العالم التي تشكل بشكل أو بآخر رصيداً إيجابي اً للعالقات‬
‫الدولية بين الدولةاإلسالمية وبلدان العالم‪.‬‬

‫ومن الج وانب ال تي تختص به ا الدبلوماس ية في ال دول اإلس المية‪ ،‬ويتعين على الفري ق الدبلوماس ي إظه ار‬
‫قدر أكبر من التفاعل معها‪:‬‬

‫سفارات الحج والتزاماته‪.‬‬ ‫‪‬‬


‫ثقافة رمضان وتقاليده‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫ارتباط نسك الصالة بكثير من النشاطات الدبلوماسية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫تقديم اهتمام أكبر بالوفود الدينية من علماء وفقهاء ومفتين‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫تنظيم زيارات للمرجعيات الدينية في البلد التي يبتعث إليها‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫تنظيم زيارات للمؤسسات اإلسالمية العاملة في بلد اإليفاد‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫االهتمام بالقيم اإلسالمية في المظهر والعادات واستقبال الضيوف‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫فهم طبيعة العالقات اإلسالمية التاريخية بين البلدين وإ حياء تراث هذه العالقات ورموزها‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫دراسة المذاهب اإلسالمية السائدة في هذا البلد‪ ،‬والتركيز على المسائل المتباينة وفهم أسباب ذلك‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪123‬‬
‫وهذه االهتمامات محض أمثلة‪ ،‬ويمكن إضافة جوانب أخرى كثيرة‪ ،‬وخالصة األمر أن تطوير العالقات‬
‫الدبلوماس ية والش عبية بين ال دول اإلس المية أم ر حي وي‪ ،‬ويحق ق مص الح ال وطن‪ ،‬وبش كل خ اص القض ية‬
‫الفلسطينية التي تتبنى فيها الدول اإلسالمية مواقف متقاربة‪ ،‬ترفض االحتالل اإلسرائيلي وتطالب بالحقوق‬
‫المشروعة للشعب الفلسطيني‪ ،‬وحماية األقصى الشريف‪ ،‬بل إن حماية األقصى كانت هي السبب المباشر‬
‫في قيام هذه المنظمة الدولية الكبرى كما أسلفنا‪.‬‬

‫إن إيالء اهتم ام أك بر للعالق ات اإلس المية ه و في الواق ع وعي دبلوماس ي ص حيح‪ ،‬وإ دراك لحق ائق الت اريخ‬
‫والجغرافيا التي طبعت سلوك هذه الشعوب وحاجاتها خالل التاريخ‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫الفصل الثالث‪:‬‬
‫الدبلوماسية في الكتاب والسنة‪:‬‬

‫‪125‬‬
‫وفي إض افة أدبي ة لم ا قررن اه في ه ذه الدراس ة من دور الدبلوماس ية الناجح ة في خدم ة ال وطن والم واطن‪،‬‬
‫وخدمة قضايا األمة فإننا نطوف في هذا الفصل رحاب القرآن الكريم والسنة المشرفة‪ ،‬رجاء التماس ما‬
‫تحمله النصوص الكريمة من هدى ونور تغني القيم الدبلوماسية وتعزز رسالتها اإليجابية ودورها البناء‪.‬‬

‫ويلزم أن نشير في صدر هذا الفصل أن ما نلتمسه هنا ليس بالضرورة حكم اً فقهي اً مؤص الً ومدلالً باألدلة‪،‬‬
‫وال ه و موق ف قطعي الدالل ة في التفس ير‪ ،‬وإ نم ا ه و إش ارات وبش ارات‪ ،‬ولط ائف وتنبيه ات‪ ،‬وهي حق ائق‬
‫نس تأنس به ا وال نحتكم إليه ا‪ ،‬وهي تحم ل دالالت عميق ة‪ ،‬وتض يء للدبلوماس ي درب ه ومعرفت ه من خالل‬
‫حقائق القرآن الحكيم والسنة الكريمة‪.‬‬

‫السفارات في القرآن الكريم‪:‬‬

‫ي ذكر الق رآن الك ريم أنبي اء اهلل على أنهم س فراء بين العب اد وبين اهلل‪ ،‬وس فارتهم ه ذه هي ال تي ك انت تش كل‬
‫الجانب األعظم من رسالتهم ومواقفهم الكبيرة البناءة‪.‬‬

‫وقد قدم النبي صلى اهلل عليه وسلم نفسه رسوالً بين العباد وبين اهلل تعالى‪ ،‬ونص القرآن على سفارته تلك‬
‫في مواطن كثيرة‪:‬‬

‫يد اْلقَُوى﴾(‪.)204‬‬‫وحى‪َ ،‬علَّ َمهُ َش ِد ُ‬ ‫ي ُي َ‬ ‫ِاَّل‬


‫﴿إ ْن ُه َو إ َو ْح ٌ‬
‫ِ‬ ‫‪‬‬
‫وحى ِإلَ َّي﴾(‪.)205‬‬ ‫ِ‬
‫﴿ ُق ْل ِإَّن َما أََنا َب َشٌر مثْلُ ُك ْم ُي َ‬ ‫‪‬‬
‫َن أَُب ِّدلَ هُ ِمن تِْلقَ اء‬
‫ون ِلي أ ْ‬ ‫اءن ا ا ْئ ِت بِقُ ْر ٍ‬
‫آن َغْي ِر َه َذا أ َْو َب ِّدْل هُ ُق ْل َم ا َي ُك ُ‬ ‫ون ِلقَ َ‬‫ين الَ َي ْر ُج َ‬
‫َِّ‬
‫﴿قَ ا َل الذ َ‬ ‫‪‬‬
‫اب َي ْوٍم َع ِظ ٍيم﴾ (‪.)206‬‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ت َربِّي َع َذ َ‬ ‫اف ِإ ْن َع َ‬
‫ص ْي ُ‬ ‫َخ ُ‬‫وحى ِإلَ َّي ِإِّني أ َ‬ ‫َن ْفسي‪ِ،‬إ ْن أَتَّبِعُ ِإال َما ُي َ‬

‫ومنذ بداية الرسالة أعلن نفسه سفيراً بين اهلل وبين الناس فقال‪" :‬إن الرائد ال يكذب أهله‪."....‬‬

‫‪ 204‬سورة النجم ‪4‬‬


‫‪ 205‬سورة الكهف ‪109‬‬
‫‪ 206‬سورة يونس ‪15‬‬

‫‪126‬‬
‫وق ال ابن تيمي ة في كتاب ه درء تع ارض العق ل والنق ل‪" :‬عرفوه بوحدانيت ه وأق روا ل ه بمعرف ة ربوبيت ه وإ نما‬
‫ين َحتَّى َن ْب َع َ‬ ‫ِّ‬
‫ث‬ ‫جحدوا معرفة التوحيد الذي تعبدهم به على ألسنة السفراء وهو قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َم ا ُكَّنا ُم َع ذبِ َ‬
‫َر ُسوالً﴾)‪.)207‬‬

‫وهكذا فقد اشتهر لدى السلف وصف األنبياء بأنهم السفراء بين اهلل وعباده‪.‬‬

‫ومع أن المقاربة بعيدة بين سفارة األنبياء بين اهلل وعباده وسفارة اإلنسان لإلنسان‪ ،‬ولكن يمكن القول بأن‬
‫إش ارات في غاي ة األهمي ة وردت في آداب ه ذه الس فارات‪ ،‬ونش ير هن ا إلى طائف ة من ه ذه اإلش ارات‬
‫الحكيمة‪.‬‬

‫وال ب د من الت ذكير أن م ا ن ورده هن ا إنم ا ه و محض اس تئناس‪ ،‬وه و ليس على وف ق قواع د االس تدالل‬
‫واالستنباط في الشريعة‪ ،‬وإ نما نتخذه إرشاداً واهتداء بما أودع اهلل في كتابه العزيز من عجائب المعارف‪.‬‬

‫ِِ‬ ‫ول ِإالَّ بِِل َس ِ‬


‫ان قَ ْو ِمه لُيَبي َ‬
‫ِّن لَهُ ْم﴾‪:208‬‬ ‫﴿وما أَرسْلَنا ِمن َّرس ٍ‬
‫ُ‬ ‫ََ ْ َ‬

‫ففي هذه اآلية إشارة أن يكون السفير مطلعا على لغة القوم الذين أرسل إليهم‪ ،‬ويعزز هذا التوجيه ضرورة‬
‫وجود دورات تأهيل خاصة للس فراء وأعض اء السلك الدبوماسي في لغة البلد ال تي يكلفون فيها بالسفارة‪،‬‬
‫ويفرض ذلك على جهاز االختيار في المؤسسة الدبلوماسية أن يكون واعيا لهذا الجانب‪ ،‬وأن يقوم بإعداد‬
‫المبتعثين ثقافياً ولغوياً بما يضمن منهم أحسن األداء‪.‬‬

‫اع بِِإ ْذ ِن اللَّ ِه﴾‪:209‬‬


‫ط َ‬‫ول ِإاَّل ِلُي َ‬
‫﴿وما أَرسْلَنا ِمن َّرس ٍ‬
‫ُ‬ ‫ََ ْ َ‬

‫وفي اآلية تنبيه أن السفير لن يستطيع أن يبلغ رسالته إال إذا حظي بمصداقية وقبول توفر له طاعة الناس‬
‫واح ترام م ا يؤدي ه فيهم من س فارة‪ ،‬فق د أي د اهلل أنبيائ ه ب المعجزات‪ ،‬ال تي تض من اح ترام الن اس لرس االتهم‪،‬‬
‫واألم ر نفس ه يتعين فيمن يوف د بس فارة األم ة في الن اس فال يص ح أن يتوج ه ب دون وث ائق مص دقة‪ ،‬وأوراق‬
‫اعتماد صحيحة حتى يتحقق تأثيره في الناس‪ ،‬ويتمكن من أداء رسالته‪.‬‬

‫درء تعارض العقل والنقل‪ ،‬البن تيمية‪ ،‬ج ‪ ،5‬ص ‪203‬‬ ‫‪207‬‬

‫‪ 208‬سورة ابراهيم ‪14‬‬


‫‪ 209‬سورة النساء ‪64‬‬

‫‪127‬‬
‫ُم ٍة ِإاَّل َخاَل ِفيهَا َن ِذ ٌير﴾‪:210‬‬
‫﴿ َوإِ ْن ِم ْن أ َّ‬

‫وفي اآلية بيان أن السفارات يجب أن تبلغ األمم جميع اً‪ ،‬وأن ال تقتصر على البلدان ذات المصلحة القريبة‬
‫والمتعجلة‪ ،‬فالسفارة تأسيس لعالقات دولية دائمة‪ ،‬والعالم ماض إلى مزيد من التواصل والتكامل‪ ،‬والدولة‬
‫الناجحة تصل بثقافتها ورسالتها إلى أطراف األرض‪.‬‬

‫وليس المطل وب ب الطبع بن اء س فارات في ك ل بل د فه ذا مم ا ال ت دعو الحاج ة إلي ه وق د يق وم الس فير الواح د‬
‫بحاج ات بل دان متع ددة متج اورة وه و مع روف في الع رف الدبلوماس ي‪ ،‬ولكن المطل وب أن ترس م سياس ة‬
‫استيعابية مناسبة بحيث تتوفر مصالح البالد في كل صقع في العالم‪.‬‬

‫اجا َو ُذِّرَّيةً﴾‪:211‬‬ ‫﴿ َولَقَ ْد أ َْر َسْلَنا ُر ُساًل ِّمن قَْبِل َ‬


‫ك َو َج َعْلَنا لَهُ ْم أ َْز َو ً‬

‫وفي اآلية إشارة دقيقة لوجوب أن يكون الرسول قريب اً من الناس‪ ،‬يلتزم عاداتهم وأعرافهم وطبائعهم‪ ،‬وال‬
‫ينفرد في طبعه أو يعتزل في خصائصه‪.‬‬

‫فالسفير ينبغي أن يكون قريباً من القلوب‪ ،‬ومن شرطه أن يكون ناجح اً في بناء أسرة صحيحة‪ ،‬وأن يسعى‬
‫ليكون له زوجة وذرية‪ ،‬فإن الغربة مظنة افتتان‪ ،‬وغياب األسرة ال بد أن ينعكس ضعفاً في أداء السفير‪،‬‬
‫والخالصة المطلوب من السفير أن يكون طبيعياً في عالقاته وحياته االجتماعية‪.‬‬

‫ك ِمن اْلمرس ِل اَّل‬


‫ين ِإ ِإَّنهُ ْم لََي ْأ ُكلُ َ‬
‫ون‬ ‫ولتعزي ز ه ذا المع نى ج اءت اآلي ة في س ورة األنبي اء‪َ ﴿ :‬و َم ا أ َْر َس ْلَنا قَْبلَ َ َ ُ ْ َ َ‬
‫كب ِ‬ ‫ق‪ ،‬وجعْلَنا بعض ُكم ِلبع ٍ ِ‬ ‫الطَّعام ويم ُش ِ‬
‫ص ًيرا﴾‬ ‫ان َرُّب َ َ‬ ‫صبِ ُر َ‬
‫ون‪َ ،‬و َك َ‬ ‫ض فتَْنةً أَتَ ْ‬ ‫َس َوا ِ َ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ‬
‫ون في اأْل ْ‬
‫(‪)212‬‬
‫َ َ ََْ َ‬

‫طمئِِّنين لََن َّزْلَنا علَْي ِهم ِّمن السَّم ِ‬


‫اء َملَ ًكا َّر ُسواًل ﴾‪:213‬‬ ‫ِ‬ ‫ان ِفي اأْل َْر ِ‬ ‫َّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ون ُم ْ َ َ‬
‫ض َماَل ئ َكةٌ َي ْم ُش َ‬ ‫﴿ ُقل ل ْو َك َ‬

‫وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تؤكد على بشرية الرسول‪ ،‬قل إنما أنا بشر مثلكم‪ ،‬وتولى القرآن غير‬
‫مرة بيان الجانب البشري في حياة الرسول الكريم‪ ،‬ودعا بوضوح إلى عدم الغلو في وصفه ومدحه‪ ،‬وأكد‬
‫كذلك على أنه محل قدوة وأنه بشر كالبشر‪ ،‬ولو كان ملكاً لكان تكليف الناس باتباعه أمراً في غاية البعد‪.‬‬

‫‪ 210‬سورة فاطر ‪24‬‬


‫‪ 211‬سورة الرعد ‪38‬‬
‫‪ 212‬سورة الفرقان ‪20‬‬
‫‪ 213‬سورة اإلسراء ‪95‬‬

‫‪128‬‬
‫وفي اآلي ة تأكي د على المع نى الس ابق وه و أن يك ون الس فير قريب اً من الن اس‪ ،‬وأن تتع زز ص الته بس ائر‬
‫األطراف المعنية برسالته‪ ،‬في إطار الحكومتين المرسلة والمستقبلة‪ ،‬وفي إطار الشعبين‪ ،‬وأن ال يتصنع ما‬
‫يميزه من الناس‪ ،‬فإنه إن ابتعد عنهم سيفقد تأثيره فيهم‪ ،‬وربما يسيء إلى سفارته‪.‬‬

‫ك َعلَْي ِه ْم َو ِكياًل ﴾‪:214‬‬


‫﴿ َو َما أ َْر َسْلَنا َ‬

‫أك دت ه ذه اآلي ة ونظيراته ا وهي كث يرة في الق رآن الك ريم على أن س لطة الرس ول ال تتع دى البالغ‪ ،‬وأن‬
‫الحس اب على اهلل تع الى‪ ،‬وأن من ش رط الس فارة الناجح ة أن تنص رف إلى م ا عق دت ألجل ه‪ ،‬وه و البالغ‬
‫المبين‪.‬‬

‫ص ْي ِط ٍر﴾‪.215‬‬ ‫ت ُم َذ ِّكٌر‪ ،‬لَ ْس َ‬


‫ت َعلَْي ِه ْم بِ ُم َ‬ ‫ومثل هذه اآلية العظيمة قوله تعالى‪﴿ :‬فَ َذ ِّك ْر ِإَّن َما أ َْن َ‬

‫ويستأنس من ذلك لالستدالل بأن السفارة الصحيحة ال تحتاج لسلطان من السالح والجند والحرس‪ ،‬وإ نما‬
‫هي مهم ة بالغ‪ ،‬وآلته ا البره ان والبي ان‪ ،‬وليس الس فير وكيالً على الن اس بمع نى الس لطة التنفيذي ة أو‬
‫القضائية‪ ،‬بل إن سلطته ال تتعدى إبالغ الرسالة التي أوفد فيها‪ ،‬وقد تعززت هذه الحقيقة في آيات كثيرة‬
‫اك َعلَْي ِه ْم َح ِفي ً‬
‫ظا‪ِ،‬إ ْن َعلَْي َكِإاَّل اْلَباَل غُ﴾‪.216‬‬ ‫ضوا فَ َما أ َْر َسْلَن َ‬ ‫منها‪﴿:‬فَِإ ْن أ ْ‬
‫َع َر ُ‬

‫الرس ِ اَّل‬
‫ول ِإ اْلَباَل غُ اْل ُمبِ ُ‬
‫ين﴾‪:‬‬ ‫﴿و َما َعلَى َّ ُ‬
‫َ‬

‫وتؤكد هذه اآلية ما سبق بيانه‪ ،‬وهو أن مهمة المرسلين هي البالغ‪ ،‬وهذا البالغ شرطه أن يكون مبين اً‪ ،‬فال‬
‫معنى للبالغ بدون بيان‪ ،‬والبالغ المبين هو البالغ المؤيد بالحجة والبرهان‪.‬‬

‫واآلية تلهم القيادات السياسية واالجتماعية أن ينهضوا بإعداد سفراء األمة بحيث يكون بالغهم مبين اً‪ ،‬وهذا‬
‫يتطلب ش روطاً خاص ة في الس لك الدبلوماس ي من المه ارة الخطابي ة والمعرف ة البرهاني ة والحجج المنطقي ة‬
‫والثقافة الواسعة‪.‬‬

‫وتج در اإلش ارة في ه ذه المالحظ ة وس ابقتها أنه ا ك انت وص ايا قرآني ة للرس ول بوص فه مبلغ اً عن اهلل ع ز‬
‫وجل‪ ،‬ولكن بعد أن قامت الدولة وأصبح له فيها سلطان وأمر الناس باالحتكام إليه فقد أصبحت هذه اآليات‬
‫العظيمة من باب تقييد المطلق وتخصيص العام‪ ،‬وصار من مسؤوليته صلى اهلل عليه وسلم الحكم والقضاء‬
‫والفصل بين الناس‪ ،‬وهو أمر يختص بالحاكم وال يختص بالسفير‪.‬‬
‫‪ 214‬سورة اإلسراء ‪54‬‬
‫‪ 215‬سورة الغاشية ‪22‬‬
‫‪ 216‬سورة الشورى ‪48‬‬

‫‪129‬‬
‫وه َما فَ َع َّز ْزَنا بِثَ ِال ٍث﴾‪:217‬‬
‫﴿أ َْر َسْلَنا ِإلَْي ِه ُم اثَْن ْي ِن فَ َك َّذُب ُ‬

‫وفي اآلي ة بي ان أن الجه ة ال تي توف د الس فراء مكلف ة بتق دير حاج ات ال دول والمجتمع ات ال تي يرس ل إليه ا‬
‫المرس لون وأن تتص ف بالمرون ة والواقعي ة في ت أمين الوف ادات المناس بة وفي األوق ات المناس بة فال ينف ع‬
‫التأخير كما أنه ال يفيد التبكير‪ ،‬بل يتعين أن يؤتى الشيء في وقته وزمنه‪.‬‬

‫اس بِاْل ِق ْس ِط﴾‪:218‬‬ ‫وم َّ‬


‫الن ُ‬
‫ات وأ َْن َزْلَنا معهم اْل ِكتَاب واْل ِم َيز ِ‬
‫ان لَيقُ َ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ ُُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿لَقَ ْد أ َْر َسْلَنا ُر ُسلََنا باْلَبيَِّن َ‬

‫وفي اآلية بيان واضح أن السفير مكلف بالعمل على وفق نظام من البينات واألصول‪ ،‬وأنهينبغي أن يزود‬
‫بالبين ات والكت اب والم يزان‪ ،‬وه ذا توجي ه لمن يلي أم ر س فارة المس لمين أن ي زود ب اللوائح والوث ائق‬
‫واإلمكانيات التي توجهه لما يلزم اتباعه في كل شأن‪ ،‬وأن تقدم له خبرات السابقين بحيث يفيد منها ويلتزم‬
‫سبيلها‪.‬‬

‫وم ع الف راق في التمثي ل والتش بيه ولكن التأكي د في الق رآن الك ريم على البين ات يرس م معلم اً هادي اً لوج وب‬
‫تدوين هذه األصول والبينات والتزامها بدقة ألن الدبلوماسي مؤتمن والمرء يغتفر له في وطنه ما ال يغتفر‬
‫له في سفارته‪.‬‬

‫ص ِّدقًا ِل َما َب ْي َن َي َد ْي ِه﴾‪:‬‬


‫﴿ ُم َ‬

‫إن س فارة الن بي ص لى اهلل علي ه وس لم ج اءت مص دقة لم ا بين يدي ه من الت وراة واإلنجي ل وهي الكتب ال تي‬
‫كانت متبوعة قبل المبعث‪.‬‬

‫لقد تكرر هذا النص القرآني الكريم أربع عشرة مرة‪ ،‬وهو يحمل داللة بالغة األهمية أن الرسل كلهم يأتون‬
‫من مرسل واحد‪ ،‬وأن المطلوب هو استمرار ما أنجزه السابقون والبناء عليه وليس هدمه ونقضه‪ ،‬فلم يقل‬
‫هادماً لما بين يديه أو مبطالً لما بين يديه أو ملغياً لما بين يديه‪ ،‬وإ نما قال مصدقاً لما بين يديه‪ ،‬وفي تعبير‬
‫آخر شرح النبي صلى اهلل عليم وسلم رسالته لقوله‪" :‬إنما بعثت ألتمم مكارم األخالق"‪.‬‬

‫وه ذه اإلش ارة ملهم ة وهادي ة ب أن الس فير ينبغي أن يك ون محيط اً بم ا تواف ق علي ه أس الفه من األع راف‬
‫والتقاليد اإليجابية‪ ،‬وأن المستقر في العرف الدبلوماسي هو حصيلة تجارب كثيرة يتعين احترامها‪ ،‬وأن ما‬

‫‪ 217‬سورة يس ‪14‬‬
‫‪218‬سورة الحديد ‪25‬‬

‫‪130‬‬
‫استقر من األعراف له قوة القانون ما لم ينص القانون على خالفه‪ ،‬وأن شأن السفارة الناجحة أن تحترم‬
‫تجارب األولين وتثريها وتغنيها وتفيد منها‪.‬‬

‫لق د أوردت ه ذه األمثل ة لمحض االس تئناس واالسترش اد‪ ،‬وليس للفص ل في مق اطع األحك ام‪ ،‬وهن اك أمثل ة‬
‫كث يرة أخ رى‪ ،‬ويجب التأكي د م رة أخ رى أن القي اس هن ا غ ير مطل وب ألن ه قي اس م ع الف ارق‪ ،‬وهلل المث ل‬
‫األعلى‪ ،‬وإ ن في ذلك آليات ألولي األلباب‪.‬‬

‫سفارة موسى لدى فرعون‪K:‬‬

‫وبعيدا عن سفارات األنبياء فيما بين العباد وبين اهلل‪ ،‬وداللتها الرمزية وهلل المثل األعلى‪ ،‬فقد ذكر القرآن‬
‫الكريم عدداً من السفارات البشرية الناجحة التي ال بد من اإلشارة إليها‪ ،‬ولعل أبرزها سفارة موسى لقومه‬
‫لدى فرعون‪.‬‬

‫وق د أورد الق رآن الك ريم ذك ر اس م موس ى وس فارته لب ني إس رائيل في مواجه ة فرع ون في أك ثر من ‪129‬‬
‫موضعاً‪ ،‬وقد وردت في اآليات الكريمة إشارات بالغة األهمية ألدب السفراء‪ ،‬ووصايا نحسبها ضرورية‬
‫جداً للعاملين في السلك الدبلوماسي‪ ،‬نختار منها‪:‬‬

‫﴿فَقُواَل لَهُ قَ ْواًل لَيًِّنا لَ َعلَّهُ َيتَ َذ َّك ُر أ َْو َي ْخ َشى﴾‪:219‬‬

‫فقد حم ل ه ذا النص الكريم إشارة هام ة لوجوب اعتم اد اللباق ة الدبلوماس ية في الخطاب‪ ،‬ومع أن فرعون‬
‫ك ان يعكس غاي ة االس تكبار واالس تعالء واالس تبداد الت اريخي ولكن موس ى كس فير لب ني إس رائيل أم ر ب أن‬
‫يخاطبه الخطاب اللين الحكيم‪.‬‬

‫ويعت بر أدب الخط اب أهم خص ائص الس فير الن اجح‪ ،‬ويعت بر تخ ير األلف اظ والعب ارات من مقوم ات الس فارة‬
‫الناجحة‪ ،‬وفي الخبر أن رجالً دخل على المأمون فوعظه وقسا عليه‪ ،‬فقال له المأمون‪":‬هون عليك يا هذا‪،‬‬
‫فإن اهلل قد أرسل من هو خير منك إلى من هو شر مني فقال له‪ :‬فقوال له قوال لينا لعله يتذكر أو يخشى"‪.‬‬

‫‪ 219‬سورة طه ‪44‬‬

‫‪131‬‬
‫وجه طليق ولسان لين‬ ‫أبني إن البر شيء هين‬

‫َهِلي‪َ ،‬هارون أ ِ‬
‫َخي﴾‪:220‬‬ ‫اج َع ْل ِلي َو ِزيراً ِم ْن أ ْ‬
‫﴿ َو ْ‬
‫ُ َ‬

‫وفي اآلي ة بي ان أن الح وار والتف اوض الدبلوماس ي عم ل جم اعي‪ ،‬يجب أن يتمت ع ب روح الفري ق‪ ،‬وحين‬
‫يض رب الق رآن الك ريم ه ذه الحقيق ة في ش خص كليم اهلل موس ى بن عم ران فه و يعطي أوض ح ص ورة لم ا‬
‫ينبغي أن تكون عليه عالقات السفراء والمبعوثين من العمل الجماعي‪ ،‬فمع أن موسى نبي كريم من أولي‬
‫العزم من الرسل ولكنه لم يشأ أن يقوم بالمهمة وحيداً وإ نما أدرك أهمية العمل الجماعي بروح الفريق‪.‬‬

‫َن ُي َك ِّذُب ِ‬
‫ون﴾‪:221‬‬ ‫اف أ ْ‬ ‫ص ِّدقُنِي ِإِّني أ َ‬
‫َخ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ص ُح مِّني ل َس ًانا فَأ َْرسْلهُ َمع َي ِر ْد ًءا ُي َ‬
‫ون ُه َو أَ ْف َ‬
‫ِ‬
‫﴿ َوأَخي َه ُار ُ‬

‫وفي اآلي ة بي ان أن العم ل الدبلوماس ي التفاوض ي يحت اج إلى مه ارات خاص ة‪ ،‬فم ع أن موس ى ه و الرس ول‬
‫المكلف بالبالغ وهو كليم اهلل وصاحب التوراة ولكن اآليات الكريمة جاءت واضحة في البحث عن األكثر‬
‫كفاءة في فصل الخطاب‪ ،‬وهذا يؤكد أن التأهيل المعرفي واللغوي والبالغي ضروري للعاملين في السلك‬
‫الدبلوماس ي‪ ،‬وق د ت دفع األي ام زعيم اً م ا للقي ادة ولكن ه يحت اج باس تمرار إلى اختي ار الكف اءات المناس بة في‬
‫مواض عها‪ ،‬وأهم ه ذه الكف اءات الفري ق الدبلوماس ي المف اوض والمح اور ال ذي ينبغي أن يتحلى بالفص احة‬
‫وقوة البيان وحسن المظهر‪ ،‬وهو ما وجده موسى في شخص هارون عليهما السالم‪.‬‬

‫اف أَن َي ْقتُلُ ِ‬


‫ون﴾‪:222‬‬ ‫َخ ُ‬
‫نب فَأ َ‬
‫﴿ َولَهُ ْم َعلَ َّي َذ ٌ‬

‫وفي اآلية اعتذار موسى من اهلل تعالى عن السفارة لفرعون لسبب إجرائي واضح‪ ،‬وهو أن هناك أحكام اً‬
‫قضائية صدرت بحق موسى من قبل في مملكة الفرعون‪ ،‬وهي الجهة المبتعث إليها‪ ،‬ومع أنه قضاء بغير‬
‫حق‪ ،‬ولكنه سيحد من قدرته على التأثير في فرعون وقومه‪ ،‬وسيحول دون وصول رسالته إلى المقصودين‬
‫بها‪.‬‬

‫وكان موسى قد تسبب عن غير قصد بقتل المصري الذي كان يستنصر به‪ ،‬وقد رفع يديه إلى اهلل تعالى‬
‫مستغفراً وقال رب إني قتلت نفساً فاغفر لي فغفر له‪ ،‬ولكن السجل العدلي لموسى في دولة الفرعون كان‬
‫مثار اتهام‪ ،‬وقد أصدر الفرعون قراره االتهامي ضد موسى قبل ذلك بسنين بتهمة قتل المصري‪ ،‬وألجل‬
‫‪ 220‬سورة طه ‪29‬‬
‫‪ 221‬سورة القصص ‪34‬‬
‫‪ 222‬سورة القصص ‪33‬‬

‫‪132‬‬
‫ذلك فقد لجأ موسى لمدين حيث عمل عشر سنوات أمينا ألعمال شعيب الرجل الصالح فيها‪ ،‬وكان يستعيذ‬
‫ب ِإِّني قَتَْل ُ‬
‫ت‬ ‫﴿ر ِّ‬
‫باهلل من فرعون وزبانيته‪ ،‬ولذلك لما أمره اهلل أن يكون سفيراً إلى فرعون قال بوضوح‪َ :‬‬
‫ون﴾‪ ،‬ومقتض ى ذل ك أن هن اك س جالً جنائي اً في القض اء المص ري وه ذا أم ر ال‬ ‫َن َي ْقتُلُ ِ‬
‫اف أ ْ‬ ‫ِم ْنهُ ْم َن ْف ًس ا فَأ َ‬
‫َخ ُ‬
‫يمكنه من السفارة الناجحة‪ ،‬وبالطبع نحن ال نناقش هنا عدالة القضاء المصري أيام فرعون‪ ،‬ولكننا نناقش‬
‫ضرورة أن يكون السفير سليم السجل العدلي‪ ،‬والسيما في البلد التي يبتعث إليها‪.‬‬

‫ت َبنِي ِإ ْس َرائِ َ‬
‫يل﴾‪:223‬‬ ‫ك نِ ْع َمةٌ تَ ُمُّنهَا َعلَ َّي أ ْ‬
‫َن َعب َّْد َ‬ ‫﴿ َوتِْل َ‬

‫ين﴾‪،‬‬ ‫ت ِف َين ا ِم ْن عم ِر َ ِ ِ‬ ‫ك ِف َين ا َوِل ً‬


‫يدا َولَبِثْ َ‬ ‫حين لقي موسى فرعون قال له فرعون مستكبراً‪﴿ :‬قَا َل أَلَ ْم ُن َرِّب َ‬
‫ك سن َ‬ ‫ُُ‬
‫وقصد فرعون بذلك اإلشارة إلى فضله عليه حيث كان التقطه من اليم واتخذته امرأة فرعون قرة عين لها‬
‫وكان فرعون يطعمه ويرعاه عندما كان صغيراً وأنه نشأ في حجر فرعون‪ ،‬وكان يحاول أن يظهر فضله‬
‫ت َبنِي ِإ ْس َرائِ َ‬
‫يل﴾‪،‬‬ ‫ك نِ ْع َم ةٌ تَ ُمُّنهَ ا َعلَ َّي أ ْ‬
‫َن َعب َّْد َ‬ ‫علي ه‪ ،‬ف اعترض موس ى على ذل ك وق ال مس تهجناً‪َ ﴿ :‬وتِْل َ‬
‫مستنكراً منه موقفه في ذكر إطعامه لموسى وتناسيه إذالله لبني إسرائيل وقتل أبنائهم واستحياء نسائهم‪،‬‬
‫وغير ذلك من المظالم التي ذاقها بنو إسرائيل من فرعون‪.‬‬

‫وفي هذه اإلشارة تمنحنا اآلية فرصة التأمل في معنى العالقة الندية بين الرسول والمرسل إليه‪ ،‬فمع أن‬
‫موس ى ك ان مج رد م واطن في مملك ة فرع ون‪ ،‬ولكن مهتم ه الدبلوماس ية وس فارته لص الح قوم ه ألزمت ه أن‬
‫يخ اطب فرع ون بخط اب ن دي‪ ،‬على مب دأ التعام ل بالمث ل‪ ،‬ول ذلك فإن ه لم يقب ل من فرع ون أن َّ‬
‫يمن علي ه‬
‫بتربيت ه ص غيرا وإ طعام ه وإ رض اعه‪ ،‬إن مث ل ه ذه المس ائل ق د تغتف ر في العالق ات الشخص ية والتجاري ة‪،‬‬
‫ولكنه ا ال يمكن أن تغتف ر في العالق ات الدبلوماس ية‪ ،‬فق وة الس فير من ق وة من يمثل ه‪ ،‬والس فير يمث ل الدول ة‬
‫ال تي أرس لته وال يقب ل من ه خط اب اس تعطاف أو توس ل أو تزل ف‪ ،‬ب ل يجب أن يتحلى بالندي ة في الح وار‬
‫والقوة في البرهان‪.‬‬

‫إنها بعض إشارات هادية وفي القرآن منها كثير‪ ،‬ولكننا أوردنا هنا ما يتسع له المقام‪ ،‬والمراد أن ندرك‬
‫أي أثر حكيم كان لهذه التوجيهات التي خصت بها سفارة موسى لدى فرعون‪ ،‬وأن نقارن النتائج اإليجابية‬
‫التي ظهرت في سياق توجيهات القرآن الكريم لمن أرسل في سفارة تتحقق فيها مصالح األمة‪.‬‬

‫‪ 223‬سورة الشعراء ‪22‬‬

‫‪133‬‬
‫سفراء الرسول في حال السلم‪:‬‬

‫م ع أن عص ر النب وة ك ان ف ترة ص راع وعن اء‪ ،‬غلبت علي ه طبيع ة المواجه ة م ع الجاهلي ة‪ ،‬وفرض ت على‬
‫الجماعة المسلمة أكثر من ‪ 59‬مواجهة مع فصائل الجاهلية‪ ،‬وقع في عدد منها اشتباك حربي‪ ،‬ولكن النبي‬
‫الكريم استطاع أن يقدم تجربة فريدة في الشأن الدبلوماسي يمكن أن ندرك منها جوانب بالغة األهمية‪.‬‬

‫ونشير ان سائر ما نقتبسه في هذا الفصل من أخبار النبي صلى اهلل عليه وسلم فهو مقتبس من سيرة ابن‬
‫هشام‪ ،‬وكذلك من ابن كثير في كتابه السيرة النبوية‪ ،‬ويمكن التماس تفاصيلها من موقع الحدث في السيرة‬
‫الكريمة‪.‬‬

‫وبالطبع فإن متابع ة حياة الرس ول الكريم في الشأن الدبلوماسي والتأم ل في طبيعة الس فارات التي أوفدها‬
‫الرسول الكريم‪ ،‬ستكشف عن أسرار النجاحات التي تحققت لهذه السفارات الفريدة‪.‬‬

‫إن مهمت ه في المق ام األول هي الرس الة والنبوة‪ ،‬وهي س فارة إلهي ة على االرض يقوم فيها الرسول الكريم‬
‫بنقل رسائل السماء إلى األرض‪ ،‬ويقدم عبر السنة النبوية الشريفة تفسيرات ضافية ووافية لهذا الخطاب‬
‫اإللهي الكبير‪.‬‬

‫والس فارة اإللهي ة على األرض ك انت نبوة خاتم ة‪ ،‬ومع نى ذل ك أنه ا ج اءت لتؤس س نهاي ة لعص ر الخ وارق‬
‫وبداية لعصر السنن‪ ،‬ونهاية لعصر الغيب وب دءاً لعصر الشهود‪ ،‬ونهاية عصر المعجزات وبداي ة عصر‬
‫اإلنسان‪ ،‬وكانت مهمته في المقام األول – وفق مالك بن نبي‪ -‬الخروج باإلنسانية من ضباب الخوارق إلى‬
‫ضياء السنن‪.‬‬

‫وهذه قائمة بأهم السفراء في عهد النبوة‪:‬‬

‫نتائج السفارة‬ ‫الجهة التي أرسل إليها‬ ‫اسم الرسول‬ ‫م‬


‫قام الحارث بقتل السفير‬ ‫شمر بن الحارث الغساني‬ ‫شجاع بن وهب األسدي‬ ‫‪1‬‬
‫نجحت السفارة وتم تبادل الهدايا والرسائل‬ ‫المقوقس ملك مصر‬ ‫حاطب بن أبي بلتعة‬ ‫‪2‬‬
‫نحجت السفارة وتم الحصول على وعد بالسماح‬ ‫جيفر وعباد األسديين في‬ ‫عمرو بن العاص‬ ‫‪3‬‬

‫‪134‬‬
‫للمؤمنين بالهجرة‬ ‫عمان‬
‫نجحت السفارة وبلغت الرسالة ولكن هرقل‬ ‫هرقل ملك الروم‬ ‫دحية الكلبي‬ ‫‪4‬‬
‫تردد ثم اختلف مع فريقه الحاكم‬
‫نجحت السفارة نجاحاً باهراً‪ ،‬وأصبح النجاشي‬ ‫النجاشي ملك الحبشة‬ ‫عمرو بن أمية الضمري‬ ‫‪5‬‬
‫أكبر حليف لإلسالم‪.‬‬
‫نجحت السفارة وأسلم المنذر بن ساوى وأقره‬ ‫المنذر بن ساوى ملك‬ ‫العالء بن الحضرمي‬ ‫‪6‬‬
‫رسول اهلل على ملكه‪.‬‬ ‫البحرين‬
‫تأخر المهاجر ووقعت فتنة األسود العنسي‪،‬‬ ‫الحارث بن عبد كالل ‪-‬‬ ‫المهاجر بن أبي أمية‬ ‫‪7‬‬
‫ودخلها بعد موت األسود‬ ‫اليمن‬ ‫المخزومي‬
‫رفض كسرى الرسالة وغضب وأرسل إلى‬ ‫كسرى ملك الفرس‬ ‫عبد اهلل بن حذافة السهمي‬ ‫‪8‬‬
‫عامله في اليمن باذان يأمره أن يعتقل النبي‬
‫ويحضره إليه‬
‫نجحت السفارة واستقرت نجران على أرضها‬ ‫نجران‬ ‫أبو عبيدة بن الجراح‬ ‫‪9‬‬
‫وبلدها إلى آخر عهد عمر‬
‫نجحت السفارة ودخل أهل مأرب في اإلسالم‬ ‫مأرب‬ ‫‪ 10‬أبو موسى األشعري‬
‫قاضياً عاماً في اليمن‬ ‫اليمن‬ ‫‪ 11‬معاذ بن جبل‬
‫رسوالً عاماً في اليمن‬ ‫اليمن‬ ‫‪ 12‬علي بن أبي طالب‬
‫خلف أبا عبيدة ونجحت سفارته‪ ،‬ويعتبر كتاب‬ ‫نجران‬ ‫‪ 13‬عمرو بن حزم‬
‫تكليفه من أهم وثائق البدلوماسية النبوية‬
‫كان سفيراً بصنعاء ومات رسول اهلل وهو فيها‬ ‫زبيد باليمن‬ ‫‪ 14‬خالد بن سعيد بن العاص‬
‫كان سفيراً ناجحاً وبنى صداقات متينة مع‬ ‫همدان باليمن‬ ‫‪ 15‬عامر بن شهر الهمداني‬
‫النجاشي بالحبشة‬
‫ابن باذان والي فارس على اليمن‪ ،‬قتله األسود‬ ‫صنعاء‬ ‫‪ 16‬شهر بن باذان‬
‫العنسي‬
‫كان ربيب النبي من خديجة‪ ،‬عمل ضمن فريق‬ ‫عك باليمن‬ ‫‪ 17‬الطاهر بن أبي هالة‬
‫خماسي إلدارة اليمن‬
‫اشتهر ببرامجه الزراعية في اليمن‬ ‫الجند باليمن‬ ‫‪ 18‬يعلى بن أمية‬
‫اشتهر بجماله وحكمته‬ ‫السكاسك باليمن‬ ‫‪ 19‬عكاشة بن ثور‬
‫كان أجمل العرب وقال عنه عمر‪ :‬إنه يوسف‬ ‫يهود اليمن‬ ‫‪ 20‬جرير بن عبد اهلل البجلي‬
‫هذه األمة‬
‫فشلت السفارة ورفض أهل اليمامة الرسول‬ ‫هوذة بن علي وثمامة بن‬ ‫‪ 21‬سليط بن عمرو‬
‫وحاربوا المسلمين‬ ‫أثال – نصارى اليمامة‬

‫‪135‬‬
‫وسنقتصر في هذا الفصل على دراسة عدد من السفارات النبوية الحكيمة التي حققت نجاح اً ظاهراً في أداء‬
‫رسالتها الدبلوماسية‪.‬‬

‫ويمكن تقسيم تجارب الدبلوماسية النبوية إلى نوعين‪ :‬دبلوماسية السلم ودبلوماسية الحرب‪.‬‬

‫‪ )1‬دبلوماسية السلم‪:‬‬

‫جعفر بن أبي طالب‪:‬‬

‫كان أول سفراء النبي الكريم‪ ،‬تخيره رئيسا لكوكبة المهاجرين األولى التي توجهت إلى الحبشة‪ ،‬ويجب أن‬
‫نالحظ هن ا أن اختي ار جعفر ك ان إرادة حكيم ة من الن بي الكريم‪ ،‬وك ان من هدف هذا االختي ار بن اء أوثق‬
‫ص لة م ع المل ك الع ادل النجاش ي ال ذي ال يظلم عن ده أح د‪ ،‬وأن ه أعلن وقوف ه إلىجانبالمستض عفين ون ادى‬
‫بالمساواة والعدالة فيجب منطقياًأن يكون أقرب صديق للدولة االسالمية الناشئة‪ ،‬حيث بنى اإلسالم رسالته‬
‫على األخ وة اإلنس انية‪ ،‬والتع اون على ال بر والتق وى‪ ،‬واجتم اع الش رفاء في األرض على اختالف أدي انهم‬
‫ومللهم وقومياتهم على نصرة المستضعفين وحماية المظلومين‪ ،‬وبناء العدالة في األرض‪.‬‬

‫ونالح ظ أن جعف ر بن أبي ط الب لم يكن من الض عفاء في مك ة‪ ،‬ف أبوه أب و ط الب وه و الح امي الرئيس ي‬
‫للنب وة‪ ،‬وك انت حمايت ه البن أخي ه محم د علني ة وص ريحة‪ ،‬وبالبداه ة فه و على حماي ة ابن ه أق در من ه على‬
‫حماية ابن أخيه‪ ،‬السيما أن ابن أخيه كان صاحب الرسالة فيما كان ابنه جعفر أحد األتباع‪ ،‬واعتقد أن هذا‬
‫االختيار كان حكيم اً تمام اً‪ ،‬وبذلك تحول المفاوض في الحبشة من مستضعف يتسول الرحمة إلى مفاوض‬
‫دبلوماسي يلتمس التحالف والتناصر وبناء عالقات متكافئة بين الحبشة والدولة اإلسالمية الناشئة‪.‬‬

‫بالتأكيد لو كان رئيس القوم من الموالي المعذبين على يد قريش لكان مستوى العالقة يقتصر عند حدود‬
‫العط ف وتق ديم الطع ام والش راب للن ازحين‪ ،‬وربم ا بعض المج امالت الع ابرة‪ ،‬ولكن دور جعف ر الهاش مي‬
‫القرش ي المطل بي ابن ش يخ ق ريش وزعيمه ا الروحي أبي ط الب ك ان في بن اء عالق ة ندي ة قائم ة على الثق ة‬
‫واالحترام والتأسيس على المشترك بين الديانتين السماويتين‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫وعلى الرغم من وجود عثمان بن عفان صهر النبي الكريم وزوجته رقية بنت رسول اهلل بين المهاجرين‬
‫ولكن الرسول اختار جعفراً ليتحدث باسم القوم‪ ،‬وذلك لما عرف عنه من فصاحة وحجة وبيان وهو ما لم‬
‫يشتهر به عثمان رضي اهلل عنهما‪ ،‬إضافة إلى رغبة النبي الكريم في أن يرسم صورة الدولة الناشئة على‬
‫أنها دولة مؤسسات وكفاءات وليست مجرد عائلة متمردة على تقاليد القبيلة‪.‬‬

‫وهناك في رأيي سبب آخر وهو دور أسماء بنت عميس زوجة جعفر بن أبي طالب فقد كانت هذه السيدة‬
‫الحكيم ة أك ثر نس اء ق ريش ذك اء وحض وراً ووعي اً‪ ،‬ويكفي لإلش ارة إلى مكانته ا ومنزلته ا أنه ا عاش ت في‬
‫كن ف جعف ر وبع د موت ه خطبه ا أب وبكر وتزوجه ا‪ ،‬وبع د وفاتهخطبه ا علي بن ط الب وتزوجه ا‪ ،‬ثم خطبه ا‬
‫معاوي ة ولم تقب ل ب ه زوج اً‪ ،‬وك انت أمه ا هن د بنت ع وف تع رف في الع رب بأنه ا أك رم األمه ات أص هاراً‬
‫وأظآراً‪ ،‬فقد زوجت بناتها للرسول الكريم ولحمزة وجعفر والعباس والوليد بن المغيرة‪ ،‬فكانت أخت أسماء‬
‫سلمى زوجة حمزة بن عبد المطلب وأخواتها ألمها زينب بنت خزيمة زوجة للرسول الكريم‪ ،‬وبعد وفاتها‬
‫تزوج رسول اهلل أختها ألمها ميمونة بنت الحارث‪ ،‬وكانت أختها أم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب‬
‫وأختها لبابة الصغرى أم خالد بن الوليد‪ ،‬وباختصار كانت أسماء مطلب الملوك‪ ،‬وكانت أخواتها أهم النساء‬
‫في بالط قريش‪ ،‬وكذلك في عصر الرسالة‪ ،‬وكانت تحمل كل صفات السيدة األولى‪ ،‬واستطاعت ببراعة‬
‫أن تبني شبكة عالقات نسائية داخل بالط النجاشي‪ ،‬حتى إنها أرضعت عبد اهلل بن النجاشي‪ ،‬وأسهمت في‬
‫بناء ثقة متينة بين الدولة اإلسالمية الناشئة وبين النجاشي‪.‬‬

‫وال يحت اج الق ارئ الك ريم أن ن ذكره هن ا ببراع ة ه ذا الس فير في إقن اع النجاش ي بعدال ة القض ية اإلس المية‬
‫ومواجهة داهية العرب وصديق النجاشي عمرو بن العاص الذي أرسلته قريش السترداد المهاجرين من‬
‫الحبشة‪ ،‬وكيف تمكن السفير جعفر بن أبي طالب من شرح عدالة قضية المهاجرين‪ ،‬ووضع النجاشي أمام‬
‫مسؤولياته في نصرة العدالة وحماية المستضعفين‪.‬‬

‫خط اب جعف ر ال ذي وع اه الت اريخ أم ام النجاش ي لم يكن يتح دث في ه عن أرك ان االس الم من ص الة وص يام‬
‫وزك اة وحج‪ ،‬ولم يش ر في ه إلى تم ايز عقي دة التوحي د عن عقي دة التثليث‪ ،‬ووج وب ال دعوة الى الوحداني ة‪،‬‬
‫وتفاصيل توحيد األلوهية وتوحيد الربوبية‪ ،‬وإ نما كان بياناً واضحاً في مظلومية شعب تائق إلى الحرية في‬
‫مواجه ة إرادة بطش ظالم ة ديكتاتوري ة عنص رية متغطرس ة‪ ،‬وه ذا بالض بط م ا اقن ع النجاش ي بعدال ة ه ذه‬
‫القضية ونباللموق ف ال ذي اتخ ذه في حماي ة هؤالء المه اجرين ورفض دع وى داهي ة الع رب ب أنهم م ارقون‬
‫على السلطان راغبون بالفوضى‪ ،‬ضالون في العقيدة‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫ومن نص خطاب جعفر الذي روته أم سلمة‪:‬‬

‫"أيه ا المل ك‪ .....‬كن ا قوم ا أه ل جاهلي ة نعب د األص نام‪ ،‬ونأك ل الميت ة‪ ،‬ون أتي الف واحش‪ ،‬ونقط ع األرح ام‪،‬‬
‫ونس يء الج وار‪ ،‬يأك ل الق وي من ا الض عيف‪ ،‬فكن ا على ذل ك ح تى بعث اهلل إلين ا رس والً من ا‪ ،‬نع رف نس به‬
‫وصدقه وأمانته وعفافه‪ ،‬فدعانا إلى اهلل لنوحده ونعبده‪ .... ،‬وأمرنا بصدق الحديث‪ ،‬وأداء األمانة‪ ،‬وصلة‬
‫الرحم‪ ،‬وحسن الجوار‪ ،‬والكف عن المحارم والدماء‪ ،‬ونهانا عن الفواحش‪ ،‬وقول الزور‪ ،‬وأكل مال اليتيم‬
‫وقذف المحصنة‪.....‬‬

‫فصدقناه‪ ،‬وآمنا به واتبعناه على ما جاء به ‪ ....‬فعدا علينا قومنا‪ ،‬فعذبونا وفتنونا عن ديننا‪ ،‬ليردونا إلى‬
‫عبادة األوثان من عبادة اهلل عز وجل‪ ،‬وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث‪ ،‬فلما قهرونا وظلمونا وشقوا‬
‫علينا‪ ،‬وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك‪ ،‬واخترناك على من سواك‪ ،‬ورغبنا في جوارك‪ ،‬ورجونا‬
‫أن ال نظلم عندك أيها الملك"‪ 224.‬‬

‫ك ان له ذا الموق ف ال واعي أك بر األث ر في نفس النجاش ي وس ر وجه ه واس تنار لم ا س مع من جعف ر‪ ،‬وأم ر‬
‫بإكرامه وأصحابه وحسن رعايتهم‪.‬‬

‫وفي اليوم التالي عمد عمرو بن العاص إلى اللعب بالورقة الدينية‪ ،‬وقال أمام الملك‪ :‬إن هؤالء تركوا دين‬
‫ق ومهم ولم ي دخلوا في دين ك وال في دين أح د من المل وك‪ ،‬ووق ع ه ذا الكالم موقع اً ص ادماً ل دى النجاش ي‬
‫واستدعاهم من جديد ليفهم موقفهم من المسيح وأمه‪.‬‬

‫وهن ا تب دو براع ة جعف ر بن أبي ط الب ووعي ه الدبلوماس ي‪ ،‬ويمكن اف تراض أن ل و ك ان مف اوض آخ ر أق ل‬
‫حكم ة فمن ال وارد هن ا أن ي تزلف إلى النجاش ي على حس اب العقي دة وف ق قاع دة إال من أك ره وقلب ه مطمئن‬
‫باإليمان‪ ،‬وكان باإلمكان هنا أن يرضي هذا الزعيم المسيحي ببضع كلمات في العقيدة حتى يضمن سالمة‬
‫المهاجرين وعدم تسليمهم لقريش‪ ،‬ولكن جعفر أظهر شجاعة وثقة وحكمة‪ ،‬واكتفى بتالوة نصوص القرآن‬
‫الك ريم في بي ان منزل ة الس يد المس يح وعبوديت ه هلل تع الى‪ ،‬واس تطاع أن يق دم ص ورة واض حة لرس الة‬
‫اإلسالمفي احترامه للسيد المسيح دون أن يذهب إلى التزلف للنجاشي وما يعتقده في أمر المسيح‪.‬‬

‫وك انت المفاج أة أن النجاش ي ب دا مختلف اً ح تى عن حاش يته وبطارقت ه ال ذين ك انوا ي دينون ب األقنوم اإللهي‬
‫للمس يح‪ ،‬وق ال النجاش ي بوض وح‪" :‬إن ه ذا وال ذي ج اء ب ه عيس ى بن م ريم ليخ رج من مش كاة‬
‫واح دة!!"فتن اخرت بطارقت ه حول ه حين ق ال م ا ق ال‪ ،‬فق ال‪" :‬وإ ن نخ رتم‪ ،‬وإ ن نخ رتم واهلل"‪ ،‬ثم ق ال لجعف ر‬
‫‪ 224‬سيرة ابن هشام ج‪ 1‬ص ‪165‬‬

‫‪138‬‬
‫وأصحابه‪" :‬اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي ‪ -‬والسيوم‪ :‬اآلمنون ‪ -‬من سبكم غرم من سبكم غرم‪ ،‬ما أحب أن‬
‫لي جبالً من ذهب وأني آذيت رجالً منكم!!"‪.‬‬

‫ولكن نجاح السفير جعفر كانت له جوانب أخرى بالغة األهمية ال بد من تسليط الضوء عليها‪ ،‬فقد كانت‬
‫الهجرة إلى الحبشة قبل الهجرة بسبع سنوات‪ ،‬ومن المعروف أن الدولة اإلسالمية قامت بالفعل في المدينة‬
‫عن د الهج رة‪ ،‬بقي ادة الرس ول الك ريم‪ ،‬وب الطبع فق د ع اد معظم المه اجرين إلى الحبش ة والتحق وا بالدول ة‬
‫االسالمية في المدين ة‪ ،‬ولكن جعفر ظ ل في الحبشة وكلف بمهام دبلوماس ية أخرى‪ ،‬ولم يعد دوره إذن في‬
‫توفير ملجأ للهاربين من ظلم قريش‪ ،‬بل كان المطلوب منه مواصلة الدور الدبلوماسي الناجح الذي قام به‬
‫هو وزوجته أسماء في بالط النجاشي‪ ،‬وبالفعل فقد روى لنا جعفر بن أبي طالب كثيراً من المواقف التي‬
‫كان يمارس فيها دور سفارة اإلسالم في الحبشة‪ ،‬ولو كان يتسع لبيان ذلك ألطلنا فيه القول وقد أشرنا من‬
‫قبل أن النجاشي حين رزق بولد يكون ولياً لعهده في الحبشة اختار اسم عبد اهلل‪ ،‬اتباعاً لما فعله جعفر حين‬
‫سمى ابنه المولود في الجبشة عبد اهلل! وهو اسم غير شائع في الحبشة‪ ،‬وهي داللة قوة الرباط العائلي الذي‬
‫كان يجمع بين أسرتي جعفر وأسرة النجاشي‪.‬‬

‫أقام جعفر في الحبشة سبع سنوات أخرى بعد عودة المهاجرين إلى المدينة المنورة‪ ،‬وتمكن من تنظيم عدة‬
‫وفود من قادة الحبشة وبطارقتها قامت بزيارات متعاقبة لمكة المكرمة ونصرة المسلمين إبان الحصار في‬
‫شعب أبي طالب‪ ،‬وكذلك إلى المدينة المنورة ولقاء النبي صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫وع اد جعف ر إلى المدين ة إب ان فتح خي بر في الس نة الس ابعة‪ ،‬ويومه ا ق ال الرس ول الك ريم‪ :‬واهلل م ا أدري‬
‫بايهما أسر‪ ،‬بفتح خيبر أم بعودة جعفر‪.‬‬

‫حاطب بن أبي بلتعة‪:‬‬

‫اخت ار الن بي الك ريم س فيره إلى مص ر ح اطب بن أبي بلتع ة‪ ،‬وه و رج ل لم يكن في الس ابقين األولين وال‬
‫فيالعشرة المبشرين‪ ،‬ولم يكن كثير صالة وال صوم‪ ،‬ولكنه كان الرجل المناسب تمام اً للحوار في مصر‪،‬‬
‫فمصر بلد حضاري له تاريخ طويل‪ ،‬وهناك شراكة بين الكنيسة والعرش‪ ،‬وقد أسس القبط كنيسة وطنية‪،‬‬
‫وفي هذه الحالة ال بد للسفير من معرفة وافية بعقيدة القوم وتفكيرهم الديني‪ ،‬وقد كان حاطب هو الرجل‬
‫المناسب لسفارة كهذه‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫في خطاب ه م ع المق وقس أظه ر ح اطب معرف ة فري دة بالعقي دة المس يحية‪ ،‬واعتم د النص الق رآني م دخالً‬
‫للخطاب الدبلوماسي مع حاكم ال يستطيع أن ينزع عنه عباءة الكنيسة وسطوتها‪ ،‬وفي حواره معه قال له‬
‫المقوقس‪":‬ه ل ك ان صاحبكم نبي اً مؤيداً من عن د اهلل"‪ ،‬أج اب ح اطب بالطبع باإليج اب‪ ،‬ق ال المقوقس‪" :‬فما‬
‫منعه إذ كذبه قومه أال يكون قد دعا اهلل عليهم فأهلكهم"‪.‬‬

‫قال حاطب‪" :‬أيها الملك‪ ..‬فما منع عيسى ابن مريم إذ كذبه قومه أال يكون قد دعا اهلل عليهم فيهلكهم وينجو‬
‫من ظالمتهم"‪.‬‬

‫‪225‬‬
‫قال له المقوقس‪" :‬أنت حكيم ‪ ..‬جئت من عند حكيم"‪.‬‬

‫وم ع أن اللق اء لم يس فرعن تح ول في دين المق وقس‪ ،‬ولكن ح اطب اس تطاع أن ينص ب جس ور م ودة ووئ ام‬
‫بين مصر وبين الدولة اإلسالمية الناشئة وعاد من مصر محمالً بالهدايا من المقوقس وفيها طبيب وجارية‬
‫وغالم‪ ،‬وصارت الجارية فيما بعد زوجة كريمة للرسول الكريم صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫وكم ا ك ان بارع اً في نص ب حب ال الم ودة من الج انب المص ري فق د ط ار إلى مص ر م رة أخ رى بكلم ة‬


‫الرسول الكريم‪" :‬استوصوا بالقبط خيراً فإن لهم فيكم ذمة وصهراً"‪.‬‬

‫وهكذا تعتبر سفارة حاطب من أنجح السفارات في اإلسالم وقد أثمرت بناء عالقات حسن جوار‪ ،‬وتجنيب‬
‫مص ر من ممارس ة دور مق اوم للفتح اإلس المي في س وريا وفلس طين‪ ،‬كم ا ك ان له ذه ال روح الودي ة ال تي‬
‫أش اعتها س فارة ح اطب أن يس رت الس بيل فيم ا بع د أم ام عم رو بن الع اص ل دخول مص ر ع بر فتح س ريع‬
‫جنب الفاتحين والشعب المصري أهوال حرب طاحنة‪.‬‬

‫دحية بن خليفة الكلبي‪:‬‬

‫كان دحية بن خليفة الكلبي أميراً عربي اً من بني كلب وقد اشتهر بجماله وحسن طلعته‪ ،‬حتى قيل إنه كان‬
‫إذا مر بالمدين ة لم تبق معصر إال خرجت تنظر إلي ه لفرط جمال ه‪ ،‬وأخبر النبي ص لى اهلل عليه وس لم أن‬
‫جبريل كان يأتيه على صورة دحية‪ ،‬في إشارة لجماله وحسن طلعته حتى سمي نظير المالئكة‪ ،‬وبالفعل فقد‬
‫اختاره الرسول الكريم سفيرا له إلى الشام‪.‬‬

‫‪225‬‬
‫معرفة الصحابة ألبي نعيم ج‪ 2‬ص ‪26‬‬

‫‪140‬‬
‫وكان دحية واسع الثراء‪ ،‬وكان أعظم الخزرج تجارة مع الشام‪ ،‬وهو صاحب القافلة العظيمة التي وصلت‬
‫المدين ة عن د ص الة الجمع ة تض رب الطب ول وتع زف الب وق ح تى انص رف الن اس إليه ا عن ص الة الجمع ة‬
‫وك قَائِ ًما﴾‪.‬‬
‫وفيها نزلت اآلية‪َ ﴿ :‬وإِ َذا َرأ َْوا تِ َج َارةً أ َْو لَ ْه ًوا انفَضُّوا ِإلَْيهَا َوتََر ُك َ‬

‫وب دون ش ك فق د ك ان ه ذا االختي ار حكم ة بص يرة من الرس ول الك ريم‪ ،‬فق د ك ان دحي ة واس ع الص الت‬
‫والروابط بتج ار الش ام وبالط قيص ر فيه ا‪ ،‬وك انت قوافل ه المستمرة رس الة واض حة لق ادة الش ام أنهم ب الفتح‬
‫اإلسالمي يكسبون سوقا كبيرة في جزيرة العرب‪ ،‬وكانت سفارة رجل األعمال الناجح دحية أوضح دليل‬
‫على ذلك‪.‬‬

‫ومن ج انب آخ ر‪ ،‬ف إن الش ام بل د حض ارات وت اريخ‪ ،‬وك ان الروم ان بش عورهم الش قراء وعي ونهم الزرق اء‬
‫يوح ون إلى أه ل الش ام األص لين‪ ،‬والس يما أه ل الس احل في س وريا ولبنانوفلس طين ب أنهم أق رب إليهم من‬
‫عرب الصحراء الذين تغلب عليم الدكنة والسمرة‪ ،‬وأن سوريا أشبه بأوروبا منها بجزيرة العرب!! وهكذا‬
‫كانت سفارة دحية رسالة واضحة للسوريين بأن رباطهم بالجزيرة العربية هو رباط بالجذور‪ ،‬وأن رجال‬
‫اإلس الم من ع رب المدين ة هم من يمأل أس واق الش ام بخ ير الص حراء‪ ،‬وهم من يص نعون رحل ة الش تاء‬
‫والصيف التي يعيش عليها االقتصاد السوري‪ ،‬وأن اإلسالم هو دين الكافة وهو الرحمة للعالمين‪.‬‬

‫عمرو بن أمية الضمري‪:‬‬

‫وهنا نصل إلى سفير فريد وغامض في تاريخ الرسالة‪ ،‬فقد كانت الحبشة أكثرالبالد قرب اً من مكة‪ ،‬وكان‬
‫ملكها أكثر الملوك قرب اً للنبي الكريم‪ ،‬وأكثرهم وداداً لإلسالم‪ ،‬وفي هذه الحالة فالمفروض أن يكون سفير‬
‫االس الم إلى الحبش ة واح داً من العش رة الكب ار‪ ،‬ك أبي بك ر أو عم ر‪ ،‬فللرج ل س ابقة وم ودة تس تحق غاي ة‬
‫االحترام والتقدير‪ ،‬وجرت العادة أن يكون التمثيل الدبلوماسي متسقاً مع الموقف الوطني للبالد التي نتبادل‬
‫التمثيل الدبلوماسي معها‪ ،‬ولكن رسول اهلل اختار لهذه السفارة رجالً مغموراً ال يعرف بسابقة في إسالمه‬
‫وال في علمه وال في فروسيته‪ ،‬وهو عمرو بن أمية الضمري‪ ،‬وقد شهد بدراً وأحداً يقاتل مع المشركين!!‬
‫وفي وصفه قال‪" :‬بأنه كان قصير القامة شديد الدكنة منفوخ الشفتين!! فما الذي خول هذا الفتى الضمري‬
‫ليكون أهم سفراء اإلسالم في عصر الرسالة؟؟‬

‫‪141‬‬
‫في الواق ع أث ارني ه ذا االختي ار ط ويالً وبحثت عن حكم ة ذل ك واعتق د أن ني وقفت على ج انب م دهش من‬
‫حكمة الرسول في االختيار وأرجو أن يوافقني القارئ الكريم في فهم هذه الحقيقة‪.‬‬

‫ومن يتأمل كالم عمرو بن أمية الضمري سيشهد بال ريب ما هو مدهش ومثير من خطابه للملك النجاشي‪،‬‬
‫فبينم ا ك انت الس فراء تخ اطب المل وك بم ا تع ارف علي ه الن اس من األلق اب ف إن س فير اإلس الم إلى الحبش ة‬
‫تجاوز ذلك كله‪ ،‬وخاطبه بلغة االأصدقاء واألقارب قائال‪:‬‬

‫"يا أصحمة‪ .......‬إن علي القول وعليك االستماع!!‪....‬‬

‫إنك كأنك في الرقة علينا منا‪ ،‬وكأنا في الثقة بك منك‪ ،‬ألنا لم نظن بك خيراً قط إال نلناه‪ ،‬ولم نخفك على‬
‫شيء قط إال أمناه‪ ،‬وقد أخذنا الحجة عليك من فيك‪ ،‬اإلنجيل بيننا وبينك شاهد ال يرد‪ ،‬وقاض ال يجور‪،‬‬
‫وفي ذلك موقع الحز وإ صابة الفصل‪ ،‬وإ ال فأنت في هذا النبي األمي‪ ‬كاليهود في‪ ‬عيسى بن مريم‪ ،‬وقد فرق‬
‫النبي صلى اهلل عليه وسلم رسله إلى الناس فرجاك لما لم يرجهم‪ ،‬وأمنك على ما خافهم عليه‪ ،‬لخير سالف‬
‫وأجر منتظر" ‪.226‬‬

‫ول دى أدنى تأم ل في ص يغة ه ذا الل ون من الخط اب ستش عر بال ذهول! فكي ف تس نى له ذا الف تى أن يخاطب ه‬
‫باسمه أصحمة بن أبحر؟ وأن ال يناديه بألقاب الملك المعهودة؟ ثم أي جرأة هذه التي يقول له فيها إن علي‬
‫القول وعليك االستماع!!!‬

‫لقد حيرني أمر هذا الخطاب‪ ،‬السيما أن الروايات تشير إلى أن النجاشي استجاب لدعوة الرسول الكريم‬
‫وأكرم وفادة رسوله وشهد شهادة الحق!! فكيف أمكن لخطاب ٍ‬
‫قاس كهذا أن يأتي بنتائح إيجابية طيبة؟‬

‫شخص ياً أعتق د أن تفس ير ذل ك يمكن أن يك ون في ثناي ا ه ذه الرواي ة الكريم ة ال تي أخرجه ا الطوس ي في‬
‫أمالي ه‪ :‬وفيه ا أن النجاش ي أرس ل يوم اًإلى جعف ر بن أبي ط الب وأص حابه‪ ،‬ف دخلوا علي ه وه و في بيت ل ه‬
‫جالس على التراب‪ ،‬وعليه خلقان الثياب! فقال جعفر‪" :‬أعز اهلل الملك! فما أجلسك على الرماد وعليك هذه‬
‫الخلقان بغير هيئة الملك التي نعرفها؟"‪.‬‬

‫فقال‪" :‬إنه جاءني‪ -‬الساعة من نحو أرضكم عين من عيوني هناك‪ ،‬وأخبرني أن اهلل قد نصر نبيه محمداً‬
‫على قريش بواد يقال له بدر‪ ..‬وإ نا نجد فيما أنزل اهلل على عيسى أن اهلل يحب إذا أحدث نعمة لعبده أن‬
‫يحدث عندها تواضعاً!"‪.‬‬

‫‪226‬‬
‫زاد المعاد ج‪ 3‬ص‪600‬‬

‫‪142‬‬
‫قال جعفر‪" :‬وهل تعرف بدراً أيها الملك؟"‪.‬‬

‫قال‪" :‬نعم‪ ..‬كأني أنظر إليه!‪ ..‬إنه لما سلبتني الحبشة الملك وأنا صغير ركبت البحر حتى أتيت ماء بدر‬
‫‪227‬‬
‫فأقمت ثمة‪ ،‬وكنت أرعى الغنم لسيدي هناك وهو رجل من بني ضمرة!‪."..‬‬

‫إن عم رو بن أمي ة الض مري إذن ه و ابن تل ك القبيل ة العربي ة ال تي احتض نت النجاش ي مظلوم اً مقه وراً‪،‬‬
‫وع اش في خيامه ا س نين ع دداً‪ ،‬يلعب م ع أطف ال ب ني ض مرة ويش اركونه حزن ه وأس اه ويش اركهم حي اتهم‬
‫وأيامهم‪.‬‬

‫وهكذا فقد كان فتى ضمرة ابن هذه القبيلة الهامة‪ ،‬ومن يدري فلعله كان شخصياً رفيق طفولته‪ ،‬واستطاع‬
‫أن يكون بالغ التأثير على النجاشي بخطابه المباشر هذا الخالي من األلقاب‪.‬‬

‫ومن الداللة على طبيعة هذا االختيار ما أورده كتاب السير من أن النبي صلى اهلل عليه وسلم عهد إليه أن‬
‫يطلب من النجاشي تزويجه برملة بنت أبي سفيان! وكانت رملة قد هاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبيد‬
‫اهلل بن جحش ولكن األخير تركها وتنصر‪ ،‬فبقيت على عهد اإلسالم صابرة محتسبة‪ ،‬حتى خطبها رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وهنا ال بد من التساؤل‪ :‬ما معنى أن يخطبها النجاشي للرسول؟ وليس بينهما أي‬
‫صلة قرابة أو نسب؟ والرسول أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟‬

‫والج واب أن رس ول اهلل أراد أن يكرمه ا أوال بزف اف تق وم ب ه المل وك‪ ،‬في رس الة وف اء لص برها‪ ،‬ورس الة‬
‫نص ح ألبيه ا أبي س فيان لي درك أن ه باإلس الم س يكون أك ثر ع زاً ونص راً‪ ،‬وبالفع ل فق د اس تجاب النجاش ي‬
‫وخطبه ا بنفس ه للن بي الك ريم وأص دقها ه دايا المل وك وزفه ا على س فينيتين ملكي تين هي وس ائر من بقي من‬
‫المه اجرين‪ ،‬وتس امع العرب بمج د ه ذه العروس وم ا زفت به على م راكب الملوك‪ ،‬وبل غ ذل ك أب ا س فيان‪،‬‬
‫فقال يصف النبي في زهو وفخر‪" :‬هو الفحل ال يجدع أنفه!!" على الرغم من أنه كان آنذاك كافراً يقود‬
‫قريشاً لحرب اإلسالم‪ ،‬ولعل هذا الزواج كان أول إشارة لنهاية الحرب بين مكة والمدينة‪ ،‬وهو ما حصل‬
‫بالفعل‪.‬‬

‫وبعد أن تم ذلك الزواج الحكيم‪ ،‬نشير هنا إلى دور آخر لعمرو بن أمية الضمري في نزع فتيل العداء بين‬
‫زعيم مكة أبي سفيان وبين الرسول صلى اهلل عليه وسلم فقد أورد بن حجر في ترجمة علقمة أن رسول‬
‫اهلل أرسل عمرو بن أمية مع علقمة بن الفغواء في صرر مال أمره يعطيها ألبي سفيان يفرقها في فقراء‬

‫‪227‬‬
‫إزالة الغواشي عن أخبار النجاشي ‪ ،‬ابراهيم المختار مفتي أرتريا‪ ،‬وقد نقلناه من موقعه الرسمي‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫ق ريش‪ ،‬وق ال أب و س فيان يومه ا‪" :‬م ا رأيت أب ر من محم د نحارب ه ونقاتل ه وه و يرس ل لن ا م اال نفرق ه في‬
‫ضعفائنا!!"‪.‬‬

‫وهنا يتأكد معنى ما أشرنا إليه من حكمة الرسول الكريم في اختيار عمرو بن أمية الضمري لهذه السفارة‪،‬‬
‫وال شك أن هذا الدور العائلي من الزفاف والفرح واإلكرام ال يمكن أن يرتبه دبلوماسي عادي‪ ،‬وال بد أنه‬
‫كان ثمة عالقات من الود والصداقة في مضارب بني ضمرة توفر الجو لهذا الوداد‪.‬‬

‫إنه ا محض مطالع ات في حكم ة الرس ول األك رم ص لى اهلل علي ه وس لم في حس ن تخ ير س فرائه‪ ،‬ومراقب ة‬
‫أدائهم‪ ،‬وهو رسول الكتاب والحكمة التي هي فعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الشكل الذي ينبغي‪.‬‬

‫ومع أنه ال يمكن القول بأن هذه السفارات تكفي لضبط األداء الدبلوماسي الذي يقوم على تراكم من خبرات‬
‫األمم وتجاربها‪ ،‬ويتأسس على منطق التبادل الدبلوماسي‪ ،‬وأصبحت له اليوم مؤسسات دولية تقوم بترشيده‬
‫وتنظيم عالقاته‪ ،‬ولكنها على كل حال توجيهات مل ِهمة اقتبس منها فقهاء اإلسالم كثيراً من أصول الوعي‬
‫الدبلوماسي‪ ،‬وتوجيهه لخدمة األمة‪ ،‬وبناء عالقات دولية رشيدة‪.‬‬

‫لق د ك انت ه ذه الق راءة جول ة في س فارات الن بي ص لى اهلل علي ه وس لم في الس لم‪ ،‬واآلن لنق ترب أك ثر من‬
‫تجربته الثانية ومتابعة سفاراته في الحرب‪.‬‬

‫‪ )2‬سفارة الحرب‬

‫دبلوماسية الرسول في حل النزاعات‪:‬‬

‫كما تجلت العبقرية النبوية في سفراء السلم فقد تجلت أيضاً في سفراء الحرب‪ ،‬فقد قدم اإلسالم فقه اً واقعي اً‬
‫للحياة‪ ،‬فلم يرسم الدنيا على أنها مزرعة خضراء تعم بالمباهج‪ ،‬وإ نما قدمها على ما هي عليه في الواقع‬
‫سراء وضراء‪ ،‬وعسر ويسر‪ ،‬وسلم وحرب‪ ،‬وألجل ذلك فقد جاءت الشريعة طافحة بأخبار السلم وأخبار‬
‫الحرب‪ ،‬وقوانين السلم وقوانين الحرب‪ ،‬وخالل ذلك يمكننا أن نلتمس كثيراً من هديه صلى اهلل عليه وسلم‬
‫في الجانب الدبلوماسي حال الحرب‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫وألن هذه الدراسة ليست مخصصة لبحث الدبلوماسية في السيرة النبوية فسنكتفي هنا بإيراد مثال واحد لما‬
‫‪228‬‬
‫أنجزه الرسول الكريم في سفارات الحرب‪ ،‬من خالل استعراض غزوة الحديبية‪.‬‬

‫ومن حس ن ح ظ الت اريخ أن وق ائع معاه دة الحديبي ة ق د دونت بتفص يل كب ير وتناوله ا الش راح والكت اب‬
‫والع ارفون بتفاص يل واس عة‪ ،‬وهي ترس م مالمح العبقري ة التفاوض ية الدبلوماس ية ال تي ظه رت في س لوك‬
‫النبي الكريم خالل هذه المعاهدة‪.‬‬

‫كانت قريش قد حاربت اإلسالم منذ فجر الرسالة‪ ،‬وحين هاجر الرسولصلى اهلل عليه وسلم وصحبه الكرام‬
‫لم تكف عن إرسال الجيش تلو الجيش لحربه وهو في المدينة‪ ،‬وخاضت معه ثالثة أيام فاصلة بدر وأحد‬
‫والخندق‪ ،‬وبعد الخندق أراد رسول اهلل أن تعلم قريش أن الرسالة ماضية ولن تتكسر أمام حمالت العدوان‬
‫المستمرة‪ ،‬فأمر أصحابه أن يتجهزوا ودعاهم للمشاركة في رحلة كريمة إلى العمرة النبوية المباركة‪.‬‬

‫لدى أول تحرك له خارج المدينة تسامعت قريش بأمر الخروج وعلى الفور استنفرت مجموعة من خيالتهم‬
‫وفرس انهم وخرج وا ص وب المدين ة وتعاه دوا فيم ا بينهم أن يلق وا محم داً ورجال ه‪ ،‬وق د لبس وا جل ود النم ور‬
‫ومعهم العوذ المطافيل يقسمون باهلل ال يدخلها عليهم أبداً‪.‬‬

‫كانت الظروف التي وضعهتا قريش كافية لتأجيج نار حرب حقيقية‪ ،‬ولكن الرسول الكريم كان في مراده‬
‫شيء آخر‪ ،‬لقد كان يتطلع بالفعل إلى إقامة حوار جدي وعالقة ندية مع قريش‪ ،‬ولم يكن خروجه من مكة‬
‫به دف المواجه ة الحربي ة‪ ،‬على أن قريش اً لم ت وفر س بباً الن دالع الح رب بينه ا وبين الن بي إال وفعلت ه‪ ،‬فق د‬
‫مارس ت ض ده الح رب النفس ية والجس دية والتح الف م ع أعدائ ه واالتص ال بيه ود المدين ة وإ غ رائهم بنقض‬
‫العهود مع الرسول الكريم‪ ،‬ولكن رسول اهلل ظل يبحث عن سبيل لحقن الدماء‪ ،‬وحين تسامع بخروجهم قال‬
‫لمن حوله من الصحابة‪" :‬والذي نفس محمد بيده ال تسألني قريش خطة رشد إال أجبتهم إليها"‪.‬‬

‫كان خروج النبي الكريم يوم الحديبية إعالن اً لتغير جديد طرأ على المشهد السياسي في جزيرة العرب فقد‬
‫كانت الحال في السنوات السابقة على الحديبية أن قريش اً هي التي تغزو المدينة وقد عانى المسلمون أشد‬
‫العناء من حرب قريش ضد النبي الكريم‪ ،‬وقد هدد المشركون المدينة ثالث مرات في بدر وأحد والخندق‪،‬‬
‫وبع د أن فش ل حص ارهم األخ ير ي وم الخن دق نظ ر رس ول اهلل إلى األف ق البعي د وق ال‪":‬اآلن نغ زوهم وال‬
‫يغزوننا"‪ ،‬وكان ال بدمن تغيير المعادلة التي فرضتها قريش طول هذه المدة‪.‬‬

‫‪ 228‬والمصدر الذي نعتمده‪ H‬فيما نرويه من السير هو سيرة ابن هشام‪ ،‬في فصل الحديبية‪ ،‬وكذلك السيرة النبوية البن كثير‪ ،‬وال يخرج الخبر في كل ما‬
‫تقرؤه في هذا الفصل عن هاتين السيرتين‪..‬‬

‫‪145‬‬
‫لم يكن من الواضح أن هذا الخروج سينجلي عن نصر عظيم‪ ،‬فقريش حشدت باألمس يوم الخندق عشرة‬
‫آالف مقات ل على ح دود المدين ة‪ ،‬وك ان ذل ك قب ل س نة واح دة‪ ،‬وهي تق در على حش د ض عف ذل ك إذا ك ان‬
‫الهدف هو الدفاع عن مكة‪ ،‬وهو ما أدرك ه الن بي الكريم تمام اً‪ ،‬ول ذلك ف إن ك ل خط اه يوم الحديبي ة كانت‬
‫بهدف المكسب الدبلوماسي وليس المغنم الحربي والعسكري‪،‬مع أن الصحابة كانوا في أتم الحماس لدخول‬
‫مكة‪ ،‬وقد بايعوا تحت شجرة الرضوان على الموت وكانوا يومذاك ألف اً وأربعمائة صحابي ولكن الرسول‬
‫الك ريم لم يكن راغب اً بخ وض ح رب دامي ة غ ير محس وبة النت ائج‪ ،‬بق در م ا ك ان حريص اً أن يحق ق نص راً‬
‫دبلوماسياً هاماً وهذا ما عمل عليه وأنجزه خالل أيام الحديبية‪.‬‬

‫وم ع أن ه ذه الدراس ة ليس ت دراس ة في الس يرة النبوي ة ولكن يمكنن ا أن ن دنو من ه ذه الحق ائق ال تي أك دها‬
‫س ياق األح داث خالل مفاوض ات الحديبي ة‪ ،‬ل نراقب كي ف نجح الن بي الك ريم في تحوي ل موق ف ق ريش من‬
‫الرس الة‪ ،‬من موق ف رافض لالع تراف بش رعيتها إلى االع تراف به ا كيان اً سياس ياً واجتماعي اً جدي داً في‬
‫جزيرة العرب‪.‬‬

‫كان رسول اهلل قد أعلن أنه ماض ألداء العمرة وزيارة البيت الحرام في مكة المكرمة بعد أن صده كفار‬
‫قريش نحو عشرين عام اً من قبل‪ ،‬وهكذا بدأ خروجه‪ ،‬وصحبه في خروجه هذا ألف وأربعمائة صحابي‬
‫كريم‪ ،‬كلهم يرجو زيارة البيت الحرام وأداء العمرة الشريفة وصحبة رسول اهلل‪.‬‬

‫وص ل رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم إلى الحديبي ة وهي على مس افة نح و عش رين كيلوم ترا من مك ة‪،‬‬
‫وب دأت طب ول الح رب تق رع في مك ة‪ ،‬وب دأ ن داء الش هادة يتع الى في معس كر الن بي الك ريم‪ ،‬الس يما بع د أن‬
‫أصرت قريش على منع الصحابة من الدخول واحتجزت السفير المفاوض عثمان بن عفان رضي اهلل عنه‪،‬‬
‫وشاع بين الناس أن عثمان قد قتل‪.‬‬

‫أم ا رس ول اهلل فق د ك ان ينظ ر في أف ق آخ ر‪ ،‬وك ان ل ه م راد واح د من خروج ه وه و إرغ ام ق ريش على‬
‫الجلوس إلى مائدة المفاوضات من أجل ترتيب المنطقة لمستقبل جديد‪.‬‬

‫لم يكن مشروعه القتال ولو أراد القتال ألعد له عدة‪ ،‬ولكنه كان في الواقع يتطلع إلى إنجاز دبلوماسي يتم‬
‫من خالله إعالن قيام الدولة المسلمة وتحقيق اعتراف أكبر قوة في جزيرة العرب‪ ،‬وهي قوة قريش آنذاك‪،‬‬
‫وكانت قريش واعية تمام اً لما يريده النبي الكريم‪ ،‬وعزمت أن ال تمنح الرسول هذه الفرصة‪ ،‬ولكنها في‬
‫الوقت نفسه باتت مضطرة للتعامل مع ألف وأربعمائة صحابي جاؤوا مع رسول اهلل وكلهم يشتاق للشهادة‬
‫في سبيل اهلل‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫ونالحظ أن قريشاً أرسلت للنبي الكريم عددا من المفاوضين‪ ،‬وهم‪:‬‬

‫بديل بن ورقاء الخزاعي‬ ‫‪‬‬


‫مكرز بن حفص العامري‬ ‫‪‬‬
‫عروة بن مسعود الثقفي‬ ‫‪‬‬
‫الحليس بن علقمة سيد األحابيش‬ ‫‪‬‬

‫وبتأمل بسيط ندرك أن الوفود التي أرسلتها قريش ليس فيها قرشي واحد‪ ،‬فبديل من خزاعة وعروة من‬
‫ثقيف بالطائف والحليس من األحابيش‪ ،‬وهناك كالم عن مكرز بن حفص بن األخيف الذي كان عامري اً من‬
‫قريش ولكنه من فتاكها وصعاليكها‪ ،‬وسفارته لن تلزم قريشاً بشيء‪ ،‬وهذا بكل تأكيد موقف دبلوماسي مهم‬
‫من ق ادة ق ريش ال ذين ي دركون أن مج رد التف اوض م ع الن بي الك ريم يع ني اعتراف اً ب الواقع السياس ي ال ذي‬
‫فرض ته الرس الة الناش ئة في حين أن قريش اً ك انت راغب ة ب أن تس تمر في موقفه ا في تجاه ل وج ود الن بي‬
‫وأص حابه بالكلي ة‪ ،‬والتأكي د على أنهم مج رد عص ابة م ارقون‪ ،‬ولكن أدرك وا أيض اً حتمي ة التف اوض‬
‫وض رورته‪ ،‬فالرس ول ق د بل غ الحديبي ة وه و على مس افة عش رة أمي ال من مك ة‪ ،‬وق د ع بر أك ثر من مئ تين‬
‫وخمسين ميالً‪ ،‬ودخوله إلى الحرم أصبح شبه حتم‪ ،‬ولن تستطيع قريش دفعه إال بحمام دم‪ ،‬ربما لن يكون‬
‫مع ذلك في صالحها‪.‬‬

‫وبع د ط ول ت ردد تنبهت ق ريش إلى فك رة المف اوض غ ير المباش ر‪ ،‬وهك ذا أرس لت أوالً ب ديل بن ورق اء‬
‫الخزاعي‪ ،‬وهو رجل من خزاعة‪ ،‬وقد التقاه النبي الكريم وتمكن من التاثير عليه تأثيراً بالغاً‪ ،‬فقد كان بديل‬
‫صاحب عقل ورأي‪ ،‬ولكنه لم يكن من قريش وإ نما من خزاعة‪ ،‬وخزاعة قبيلة حليفة لقريش‪ ،‬وأغلب أهل‬
‫الس ير يقول ون إن ب ديل بن ورق اء دخ ل في اإلس الم بع د لقائ ه الن بي الك ريم‪ ،‬ولكن ه أخفى ذل ك‪ ،‬وه ذا م ا‬
‫نرجحه‪ ،‬وقد كان له فيما بعد موقفان بالغا األهمية في األحداث‪ ،‬األول‪ :‬إقناعه لقبيلته خزاعة بالتحالف مع‬
‫رسول اهلل بدالً من التحالف مع قريش عقب الحديبية‪ ،‬وكذلك كان له موقف هام جداً في ‪:‬تسليم أبي سفيان‬
‫إلى خيمة النبي الكريم قبل الفتح األعظم‪.‬‬

‫وعاد ب ديل إلى قريش ومع ه رسالة دبلوماس ية واض حة مفادها أنه قد وص ل إلى مكة وال شيء يثني ه عن‬
‫دخول البيت ومعه ألف وأربعمائة صحابي كلهم مستعد للموت في سبيل دخول البيت الحرام‪ ،‬وأنه يتعين‬
‫على ق ريش وج وب الس ماح لمحم د ب دخول ال بيت تجنب اً لمواجه ة عس كرية لن تك ون في ص الحهم‪ ،‬ولكن‬
‫قريشاً مضت في رفض الحوار إلى الغاية وأصرت على التعنت والعتو‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫كررت قريش أسلوب المفاوض غير المباشر مرة أخرى وأرسلت عروة بن مسعود الثقفي وهو من زعماء‬
‫الط ائف من ب ني ثقي ف‪ ،‬وق د ق ام رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم بتوجي ه سلس لة رس ائل تفاوض ية حكيم ة‬
‫لعروة بن مسعود كان لها أبلغ األثر على تغيير موقفه في رفض دخول الرسول لمكة‪.‬‬

‫وبخالف عادته صلى اهلل عليه وسلم في التواضع والبساطة فقد نظم استقباالً مهيب اً للرجل وأظهر الصحابة‬
‫مش هداً من التعظيم للرس ول لم يكن مألوف اً‪ ،‬ح تى ق ال ع روة بع د ذل ك لق ريش‪" :‬واهلل لق د زرت كس رى في‬
‫ملكه وزرت قيص ر في ملك ه وم ا رأيت أح داً يعظم أح داً كحب أص حاب محم د لمحم د‪ ،‬واهلل م ا إن توض أ‬
‫وضوءاً إال قام أصحابه يبتدرونه يلتمسون فيه البركة‪ ،‬وإ ني أرى أنه ال يرد هؤالء عن مبتغاهم شيء"‪.‬‬

‫واخت ار الن بي الك ريم في الوف د المف اوض ع دداً من الرج ال ال ذين ك ان لهم ت أثير مباش ر على ع روة بن‬
‫مسعود‪ ،‬فقد جاء عروة متحمس اً لمطلب قريش وهو عودة رسول اهلل من حيث جاء تجنب اً للحرب‪ ،‬وكان‬
‫يحمل الفكرة القرشية نفسهاأن هؤالء عصابات إرهابية التحقوا بمتمرد مغامر‪ ،‬فقال له‪" :‬يا محمد أجمعت‬
‫أوش اب الن اس وجئت بهم إلى قوم ك تفض بيض تهم!! واهلل م ا أرى من حول ك إال أوش اباً ل و ق امت الح رب‬
‫لتفرقوا عنك في كل وجه!!!!"‪.‬‬

‫على الفور خاطبه أبو بكر الصديق بكلمة بالغة التأثير وقال له‪" :‬ويلك أنحن نفر عنه وندعه"‪ ،‬ثم قال له‬
‫كلمة فاحشة بالغة يرد على دعواه!! كان ذلك أمراً صادماً في الدبلوماسية فالمفروض أن يحظى الرسول‬
‫المفاوض باحترام في أداء مهمته‪ ،‬ولكن مع ذلك فإن عروة لم يستطع الرد وقال لوال يد كانت لك عندي‬
‫لرددتها عليك‪.‬‬

‫وفي إشارة ذات مغزى اختار النبي الكريم أن يكون بين المفاوضين المغيرة بن شعبة الثقفي‪ ،‬وهو فارس‬
‫داهية فاتك من ثقيف‪ ،‬قوم عروة‪ ،‬وكان يمثل طموح شباب الطائف‪ ،‬وحين رآه عروة بدأ عروة باإلساءة‬
‫إلى النبي الكريم ومد يده إلى لحيته كأنه يهون من شأنه صرخ في وجهه المغيرة‪ " :‬ويلك‪ ..‬اسحب يدك‬
‫قبل أن ال تعود إليك!!"‪.‬‬

‫أدرك عروة أن الفتى الذي يمثل مستقبل قومه وأملهم قد أصبح جندياً في قافلة الرسالة‪ ،‬وهكذا وجد عروة‬
‫نفس ه يس ير عكس الت اريخ‪ ،‬ونجحت الدبلوماس ية النبوي ة في ف رض واق ع جدي د على ع روة بن مس عود‪،‬‬
‫ويمكن القول إنه بدأ منذ تلك اللحظة في إعداد قومه ثقيف في الطائف للدخول في اإلسالم‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫وظلت قريش تصر على رفض التفاوض المباشر مع الرسول الكريم‪ ،‬ولكنها في الوقت نفسه بدأت تدرك‬
‫أنها بأس لوب التف اوض غير المباشر تمنح الرسول فرص اً حقيقي ة لكس ب األنص ار من ه ذه القبائ ل العربي ة‬
‫المؤثرة فبعد نجاح المفاوضات مع بديل بن ورقاء الخزاعي في كسب خزاعة ليصبحوا حلفاء للرسول‪ ،‬فقد‬
‫حصل الشيء نفسه مع الوفد المفاوض الثاني عروة بن مسعود الثقفي‪ ،‬فقد عاد الرجل وهو مقتنع بأن أمر‬
‫رسول اهلل ماض إلى نجاحات حقيقية وجديدة‪ ،‬وأن دخول ثقيف في اإلسالم هو مسألة وقت ليس إال‪.‬‬

‫ثم أرس لت ق ريش مك رز بن حفص بن األخي ف‪ ،‬وفي ه ذه الم رة ف إن الرس ول الك ريم اتخ ذ موقف اً تفاوض ياً‬
‫مختلفاً إذ رفض التفاوض مع الرجل وقال ألصحابه‪" :‬هذا رجل غادر‪ ،‬فاحذروه"‪ ،‬ولم يقبل اللقاء به‪ ،‬وكان‬
‫امتناعه عن مفاوضته رسالة واضحة أنه قد أصبح في موقف من يملي شروطه وأن أحداً ال يستطيع أن‬
‫يقوده إلى تفاوض عبثي ال معنى له‪.‬‬

‫وك ذلك ف إن التف اوض الدبلوماس ي يتطلب مس اواة في الرتب ة أو في الص الحية بين المتفاوض ين‪ ،‬ولم يكن‬
‫لمكرز شيء من هذا‪ ،‬فقد كان عروة زعيماً في ثقيف وبديل زعيماً في خزاعة‪ ،‬أما مكرزفلم يكن له شيء‬
‫وهو أشبه بمخبر منه بمفاوض‪.‬‬

‫وك ان من الواض ح أن قريش اً لن تع ترف بنت ائج س فارة مك رز ألن ه ك ان من الفت اك‪ ،‬أي الص عاليك ال ذين‬
‫تنب ذهم القبائ ل لسوء س لوكهم واعت دائهم على أهلهم‪ ،‬وكلم ة الفت اك‪ ،‬جم ع تكس ير للفاتك وهو الملطخ بدماء‬
‫قومه‪ ،‬وهو تعبير كانت العرب تقصد به ما نعبر عنه اليوم بأنه مطعون السجل المدني‪ ،‬وينظر إليه على‬
‫أنه صعلوك مارق‪ ،‬ولن تلزم سفارته قريشاً في شيء‪.‬‬

‫ولكن عبقرية الرسول الكريم ظهرت مع المفاوض األخير وهو الحليس بن علقمة‪ ،‬فقد كان الحليس سيد‬
‫األحابيش وهؤالء كانوا قوماً من الحبشة يأتون لمجاورة البيت الحرام ويعظمونه ويقدسونه‪ ،‬وفاء إلبراهيم‬
‫عليه السالم‪ ،‬وكانوا قد أبلوا بالء شديداً في أحد إلى جانب قريش في حربها ضد اإلسالم‪ ،‬وكان عددهم‬
‫يق در في مك ة بثالث ة آالف معظمهم من الش باب المح ارب‪ ،‬وكلهم يحمل ون مش اعر التعظيم للبيت الحرام‪،‬‬
‫وك انت ق ريش ق د نفثت في روعهم أن محم داً ق ادم ليه دم األص نام والكعب ة‪ ،‬وأن ه ال يع رف حرم ة للش هر‬
‫الح رام وال للبلد الح رام‪ ،‬وبالفع ل فق د ذهب الحليس غاضباً في رج ال من أص حابه ليبلغوا الرس ول الكريم‬
‫قرار قريش برفض دخوله‪.‬‬

‫حين رآه رسول اهلل من بعيد قال ألصحابه‪" :‬هذا الحليس بن علقمة‪ ،‬هذا من قوم يتألهون‪ ،‬فأظهروا التلبية‬
‫والتكبير وابعثوا في وجهه الهدي من الغنم واإلبل‪.".....‬‬

‫‪149‬‬
‫وخالل س اعة امتأل ال وادي ب التكبير والتهلي ل والص حابة في ثي اب اإلح رام‪ ،‬وس ال ال وادي باألغن ام واإلب ل‬
‫التي أحضرها الصحابة لتكون هدياً كريماً للبيت الحرام‪..‬‬

‫كانت الرسالة التفاوضية واضحة تماماً ولم يحتج الحليس ألكثر من هذا فقد أدرك أن القوم جاؤوا معظمين‬
‫للبيت الحرام‪ ،‬وأنهم يهللون ويكبرون‪ ،‬وقد ساقوا معهم الهدي الكثير‪ ،‬ومحله أن ينحر في مكة ويأكل منه‬
‫الفقراء‪ ،‬تعظيماً للبيت الحرام‪.‬‬

‫أدرك الحليس وصحبه أن من يسوق معه الغنم والبعير ليس محارباً وال راغباً في الحرب‪ ،‬وليس الغنم أداة‬
‫الحرب بل الخيل‪ ،‬وثياب الحرب ال يمكن أن تكون تلك المناشف البيضاء التي يرتديها الصحابة ويهللون‬
‫بها ويكبرون!!‪.‬‬

‫لم يكمل الحليس مشواره إلى الرسول الكريم بل قفل عائداً إلى قريش يملؤه الغضب!! لقد تمكنت قريش‬
‫من خداعه يوم أحد فحارب إلى جانبها دفاع اً عن البيت الحرام‪ ،‬ولكن آن له اآلن أن يدرك الحقيقة‪ ،‬لماذا‬
‫ي راد من ه أن يمن ع ه ؤالء عن زي ارة ال بيت الح رام‪ ،‬لق د ت رك وقوم ه ال دنياكلها من أج ل خدم ة الحج اج‬
‫والمعتمرين‪ ،‬فلماذا يطيع قريش اً في حقدها وجنونها‪ ،‬ويخالف مبادئه التي كرس لها حياته في الدفاع عن‬
‫البيت الحرام؟ وعلى الفور عاد إلى قريش وقال غاضباً‪" :‬واهلل ما على هذا عاهدناكم يا معشر قريش!!!‬
‫أيصد عن البيت الحرام من جاء معظم اً له‪،‬عارف اً لمكانته وفضله‪ ،‬وقد ساق الهدي للحرم الشريف‪ ،‬وقد‬
‫أحرم وأصحابه تعظيم اً للبيت الحرام وإ جالالً؟؟ واهلل لتأذنن لمحمد أو ألنفرن باألحابيش نفرة رجل واحد‬
‫حتى ال يصد عن البيت الحرام حاج وال معتمر!!"‪.‬‬

‫لقد اتبع النبي الكريم أسلوب التفاوضية الصامتة‪ ،‬واستخدم وسائل تعبير أشد بالغة وأثراً‪ ،‬وأمكنه أن يقدم‬
‫أدلته بكامل اإلقناع والتأثير عبر ماكينة إعالمية وتأثيرية‪.‬‬

‫وعقب ه ذه الرس ائل المتتالي ة رأى الن بي الك ريم أن يرس ل مفاوض اً من أص حابه إلى مك ة‪ ،‬ودع ا عم ر بن‬
‫الخط اب ليقوم بهذه المهم ة ولكن عمر ق ال‪":‬ي ا رسول اهلل‪ ...‬لق د علمت ق ريش أنه ما أحد أشد م ني على‬
‫كفرها وعنادها وآلهتها‪ ...‬فإن كنت تريد حرب اً فأرسلني يا رسول اهلل‪ ،‬وإ ن كنت تريد سلماً فارسل عثمان‬
‫بن عفان‪ ،‬فإنه من بني أمية وله في القوم منعة ومكانة"‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫وبالفع ل ك ان رأي عم ر حكيم اً‪ ،‬وق د قبل ه الن بي الك ريم وارس ل على الف ور عثم ان بن عف ان‪ ،‬وبالفع ل فق د‬
‫استقبل عثمان من بني عمه بني أمية‪ ،‬ولم يتعرض ألذى‪ ،‬وأبلغ قريشاً رسالة النبي الكريم‪ ،‬وأدركت قريش‬
‫أنها لن تستطيع المضي في عنادها إلى الغاية‪.‬‬

‫ومرت ثالثة أيام وقريش تؤجل ردها على رسالة عثمان‪ ،‬وشاع في الناس أن عثمان قد قتل‪ ،‬ودعا النبي‬
‫الك ريم أص حابه على الف ور لبيع ة الرض وان ال تي ك انت بيع ة على الم وت‪ ،‬وك انت ه ذه البيع ة رس الة‬
‫ضرورية للضغط على قريش لتقر مبدأ التفاوض والحل السلمي للصراع‪.‬‬

‫فشلت كل محاوالت قريش لتجنب التفاوض مع الرسول الكريم وأيقنت في النهاية أنه ال بد من التفاوض‪،‬‬
‫واختارت ألجل ذلك سهيل بن عمرو‪ ،‬وهو أحد زعماء قريش من رجال الفصاحة والبالغة‪ ،‬وكان موتوراً‬
‫من الرسول والرسالة‪ ،‬فقد التحق باإلسالم ابنه أبو جندل‪ ،‬وقد واجهه بشراسة حتى حبسه في الدار موثق اً‬
‫بالحديد لئال يهاجر إلى المدينة‪.‬‬

‫حين رأى رس ول اهلل س هيل بن عم رو ق ال ألص حابه‪" :‬لق د س هل أم ركم"‪ ،‬ولم يكن ذل ك اش تقاقاً لفظي اً كم ا‬
‫يتبادر إلى الذهن‪ ،‬بل كان في الحقيقة فهما دبلوماسياً عميق اً وهو أن جلوس قريش للمفاوضات المباشرة‬
‫يعني االعتراف الدبلوماسي الذي كان رسول اهلل يتطلع إليه‪.‬‬

‫وعبر جوالت متتالية من التفاوض مارس فيها سهيل استفزازاً كبيراً‪ ،‬ضد الرسول والرسالة‪ ،‬اتبع رسول‬
‫اهلل أس لوب التف اوض اله ادئ‪ ،‬وت رك ال رد على اس تفزازات س هيل لمن ش اء من الص حابة ولكن ظ ل يتب ع‬
‫سياسة النفس الطويل حتى وقع مع قريش صلح الحديبية‪.‬‬

‫ك ان الص لح في ظ اهره ينظوي على مخ اطر كب يرة واجهت اعتراض اً شديداً من الص حابة حيث نص على‬
‫العودة إلى المدينة دون حج‪ ،‬ونص على أن من هاجر دون إذن والديه فالنبي مأمور أن يسلمه إليهم وأما‬
‫من ارتد من المسلمين فليس للنبي أن يمنعه‪ ،‬في سبعة شروط كانت تمثل استعالء قريش واستكبارها على‬
‫الرسول وأصحابه‪.‬‬

‫ولكن اله دف التفاوض ي األك بر ال ذي ك ان رس ول اهلل يس عى إلي ه ه و اع تراف ق ريش بالدول ة اإلس المية‬
‫الولي دة‪ ،‬وه و مكس ب سياس ي كب ير لم ي درك كث ير من الص حابة أهميت ه وال ت أثيره‪ ،‬ولكن رس ول اهلل أص ر‬
‫على ذل ك وبالفع ل تحق ق ل ه ذل ك‪ ،‬وع اد إلى المدين ة مغتبط اً بالنص ر الدبلوماس ي الكب ير ال ذي أنج زه على‬
‫صعيد االعتراف بدولته الناشئة من القوة العربية الرئيسية آنذاك في جزيرة العرب‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫لم يكن اعتراف قريش بالدولة الجديدة إيماناً‪ ،‬وال تصديقاً بالرسول والرسالة‪ ،‬ولكنه كان تتويج اً لدبلوماسية‬
‫ناجحة خاضها رسول اهلل بكل أدوات الدبلوماسية الواعية من الضغط والتأثير والرغب والرهب وإ دراك‬
‫مكامن التأثير في نفوس الناس‪.‬‬

‫ويمكن رصد عدد من النجاحات الدبلوماسية التي حققها الرسول الكريم في مفاوضات الحديبية على الشكل‬
‫التالي‪:‬‬

‫فرض االعتراف الدبلوماسي بالطرق السياسية السلمية‪.‬‬ ‫‪‬‬


‫تحقيق مكاسب هامة عبر التفاوض الجانبي غير المقصود‪ :‬في خزاعة وثقيف واألحابيش‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫اختيار الفريق المفاوض بما يحقق أهداف الرسالة ومصلحة األمة‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫سياسة التفاوض الصامت الموجه‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫أثر النشاط اإلعالني والدعائي في العملية التفاوضية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫حق رفض التفاوض عند اختالل الرتبة أو الممارسات االستفزازية للفريق المفاوض‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫ضرورة تقديم تنازالت سياسية في سبيل الحصول على اعتراف دبلوماسي صحيح‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫كانت هذه نج احات كبيرة تحققت خالل صلح الحديبية‪ ،‬وعقب إنجاز الصلح نزل قول اهلل تعالى‪ِ﴿ :‬إَّنا فَتَ ْحَن ا‬
‫لَ َك فَتْ ًحا ُّمبِ ًينا﴾‪.‬‬

‫قال عبد اهلل بن مسعود‪" :‬ما كان في اإلسالم فتح أعظم من يوم الحديبية‪ ،‬لقد دخل في اإلسالم عامذاك مثل‬
‫‪229‬‬
‫من دخل في اإلسالم من بداية الدعوة إلى الحديبية"‪.‬‬

‫‪229‬‬
‫تفسير المراغي ج ‪ 9‬سورة الفتح اآلية ‪1‬‬

‫‪152‬‬
‫الفصل الرابع‪:‬‬
‫المشترك بين اإلسالم والدبلوماسية الحديثة‬

‫‪153‬‬
‫دأب كثير من الكاتبين على إظهار عظمة اإلسالم وفرادته من خالل التأكيد على اختالفه في المبادئ والقيم‬
‫عن الكف اح الع المي وع دم االع تراف بالمش ترك اإلنس اني‪ ،‬وخالل ذل ك يتم تبخيس المنج زات ال تي حققه ا‬
‫اإلنسان خالل تاريخه الطويل أو التعامل معها على أساس أنها كانت نضاالً ضد الدين الحق‪ ،‬ونفوراً منه‪.‬‬

‫وفي ه ذا الس بيل يتم تص وير الع الم على أن ه يعيش جاهلي ة منكوس ة وظلم ات مطموس ة‪ ،‬وأن ال س بيل‬
‫لخالص هذا العالم إال أن يتبرأ من كل ما هو فيه ويتبع الرسالة الخاتمة‪.‬‬

‫ويمكن ق راءة مث ال واض ح له ذا التفك ير ع بر كت اب جاهلي ة الق رن العش رين لمحم د قطب‪ ،‬وم ا س اد في‬
‫الخمس ينات من الق رن الماض ي من أفك ار متطرف ة عنيف ة‪ ،‬كرس ت تقس يم الع الم إلى ثنائي ة الفس طاطين‪،‬‬
‫وفرضت على المسلم الكفاح من أجل هدم المنجز الحضاري اإلنساني على أساس أنه منجز كافر ال ب د من‬
‫هدمه حتى يقوم اإلسالم على أنقاضه‪.‬‬

‫وحتى ال نذهب بعيداً في التحليل بما يخرج الكتاب عن هدفه وخصائصه فإن علينا أن نقول إن نصوص‬
‫اإلس الم الظ اهرة ال تواف ق على ه ذه النظ رة االزدرائي ة للمنج ز الحض اري الع المي‪ ،‬وإ ن اله دي الق رآني‬

‫‪154‬‬
‫يتعامل بإيجابية مع كل ما أنجزه اإلنسان خالل تاريخه الطويل من كفاح لبناء العدالة والمساواة والحريات‬
‫في االرض‪.‬‬

‫وح تى نك ون دقيقين ف إن ه ذا المفه وم من وج وب الص دام بين الحض ارات هو تي ار في التفك ير موجود في‬
‫الشرق وموجود في الغرب‪ ،‬وقد اشتهر المصطلح في العقد الماضي عندما عمد الكاتب األمريكي صمويل‬
‫هنتنغتون إلى إصدار كتابه‪ :‬صدام الحضارات الذي صار عنوان اً على اتجاه في التفكير يفترض التناقض‬
‫المطلق بين سعي اإلنسان الحضاري وبين القيم الدينية التي بشر بها األنبياء‪ ،‬وهكذا فإن مصطلح صدام‬
‫الحضارات ‪ CLASH OF CIVILIZATIONS‬ليس مصطلحاً إسالمياً بالمرة بل هو مصطلح أمريكي‬
‫بامتياز‪ ،‬ويجب القول إن الدبلوماسية اإلسالمية قد قامت بدور بالغ األهمية في اإلطار الثقافي حين اعتمدت‬
‫القمة اإلسالمية عنوان حوار الحضارات‪ ،‬واقترحته على األمم المتحدة التي أقرت تسمية عام ‪ 2001‬على‬
‫أن ه ع ام ح وار الحض ارات‪ ،‬ومن ثم فق د انطل ق برن امج تح الف الحض ارات ال ذي ص ار الش كل الحض اري‬
‫األمثل للتعامل مع االختالف في القيم الحضارية بين الشرق والغرب‪.‬‬

‫وهنا نذكر بما قلناه في مطلع هذه الدراسة أن مصطلح حوار الحضارات نفسه ليس كافي اً للتعبير عن روح‬
‫اإلسالم في التالقي مع اآلخر‪ ،‬بل يجب الحديث عن وحدة الحضارة اإلنسانية؛ ال توجد حضارة تبدأ من‬
‫الصفر كل حضارة تؤسس على من سبقها‪ ،‬وبدورنا عندما كنا نقوم بريادة الحضارة كنا نؤسس على من‬
‫س بقنا من رواد الحض ارات الس ابقة‪ ،‬وه ذه هي حرك ة الحي اة الدائب ة ال تي يؤس س بعض ها على بعض‬
‫ويرتشف بعضها من معين بعض‪.‬‬

‫واألمر نفسه في إطار السنن االجتماعية‪ ،‬فما تحقق للبشرية في إطار العدالة والديمقراطية والحرية وحقوق‬
‫اإلنسان ليس منجزاً أمريكياً يجب أن نطالب بالكفر به والتنصل منه‪ ،‬وإ نما هو نضال إنساني عظيم يشترك‬
‫فيه كل بني آدم بالكفاح والعناء والعطاء‪.‬‬

‫ربم ا ك ان من أوض ح األمثل ة على ذل ك أن الق رآن الك ريم تح دث عن رس الة الن بي الك ريم في أربع ة عش ر‬
‫موضعاً بصيغة مصدقاً لما بين يديه‪ ،‬ولم يقل أبداً مبطالً أو ملغي اً لما بين يديه أو ناسفاً لما بين يديه‪ ،‬بل‬
‫إنه عبر بأوضح عبارة بقوله‪" :‬مثلي ومثل النبيين من قبلي كمثل رجل بنى داراً فأحسنها وأكملها وأجملها‬
‫إال موضع لبنة فكان الناس إذا مروا بتلك اللبنة يقولون ما أجمل هذه الدار لوال موضع للبنة فكنت أن ا تلك‬
‫إنه لم يقل أنا البناء كله وإ نما قال أنا لبنة في البناء الكبير‪.‬‬ ‫‪230‬‬
‫اللبنة وأنا خاتم النبيين"‪،‬‬

‫‪230‬‬
‫صحيح مسلم ج‪ 7‬ص‪64‬‬

‫‪155‬‬
‫إن اح ترام إنج از اآلخ رين والبن اء علي ه ه و ه دي األنبي اء وه و في الواق ع مرتك ز الموق ف اإلس المي في‬
‫حواره مع أهل الكتاب‪ ،‬أصحاب الحضارة الدينية السابقة على اإلسالم‪ ،‬وهو موقف احترام كان من أقرب‬
‫مظ اهره أن المس لمين ظل وا يص لون نح و نص ف عم ر الرس الة ص وب بيت المق دس قبل ة أه ل الكت اب في‬
‫إشارة واضحة للتكامل بين رساالت األنبياء وإ خائهم‪.‬‬

‫إن الغ رب أص بح م ع التط ور الحض اري أك ثر وعي اً باس تحقاق الس الم ال دولي‪ ،‬وه و يوظ ف ه ذه العالق ة‬
‫بكفاءة في عالقاته مع اآلخرين‪ ،‬لقد تعلم الغرب من قانون الحضارة؛ في الماضي عندما قال هتلر‪( :‬ألمانيا‬
‫ف وق الجمي ع) أش عل حرب اً عالمي ة ولكن عن دما غ يرت ألماني ا منطقه ا ه ذا‪ ،‬وأعلنت (ألماني ا مث ل الجمي ع)‬
‫قامت الوحدة األوروبية‪ ،‬وتحقق أعظم إنجاز وحدوي في العالم في مطلع القرن الحادي والعشرين‪.‬‬

‫ومع أن هذه الحقيقة واضحة في كتاب اهلل وهدي األنبياء‪ ،‬ولكنها لم تكن واضحة للعيان في أي مرحلة من‬
‫مراحل التاريخ كما هي اليوم‪ ،‬بعد ثورة المعلومات واالتصاالت التي عززت فكرة القرية الكونية‪ ،‬وأكدت‬
‫إخ اء اإلنس ان لإلنس ان على ال رغم من إرادة الح رب الباطش ة ال تي تتن اوب على إش عالها في األرض ق وى‬
‫متقابلة في الشر من الشرق والغرب والشمال والجنوب‪ ،‬ولكن أدنى قدر من الثقافة صار يدعو اإلنسان إلى‬
‫معرفة أخيه اإلنسان شريكاً ال بد منه لبناء األرض وتسخير خيراتها في منافع العباد والبالد‪.‬‬

‫اس ِإَّنا َخلَ ْقَن ا ُك ْم ِم ْن َذ َك ٍر َوأُنثَى‬ ‫إننا جيران على كوكب واحد‪ ،‬وهذه حقيقة أكدها القرآن الكريم‪َ﴿ :‬ي ا أَيُّهَ ا َّ‬
‫الن ُ‬
‫يم َخبِ ٌير ﴾‪ ،‬وش رحها الس يد المس يح‬ ‫َّ ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫وبا َوقََبائ َل لتَ َع َارفُوا ِإ َّن أَ ْك َر َم ُك ْم ع ْن َد الله أَتْقَ ا ُك ْم ِإ َّن اللهَ َعل ٌ‬
‫َو َج َعْلَن ا ُك ْم ُش ُع ً‬
‫بقول ه‪﴿ :‬اإلنس ان أخو اإلنس ان أحب أم كره﴾‪ ،‬ودلت له ا حق ائق العلم الح ديث التي درس ت طب ائع اإلنس ان‬
‫ط َرةَ اللَّ ِه الَّتِي فَ َ‬
‫ط َر‬ ‫وحاجات ه ومقاص ده وأك دت األص ل الق رآني الكب ير ال ذي دلت ل ه عش رات اآلي ات‪ِ﴿ :‬ف ْ‬
‫ق اللَّ ِه﴾‪ ،‬و"كل مولود يولد على الفطرة"‪.‬‬
‫اس َعلَْيهَا ال تَْب ِدي َل ِل َخْل ِ‬ ‫َّ‬
‫الن َ‬

‫الن اس وف اقيون وفروقي ون‪ ،‬منهم من يبحث عن المش ترك ومنهم من يبحث عن المختل ف‪ ،‬ومن عج ائب‬
‫القدر أن كالً من الفريقين يجد بغيته وشواهده في العقل والنقل‪ ،‬وال يخفي كاتب هذه السطور انحيازه إلى‬
‫تي ار الوف اقيين ال ذين يؤمن ون باإلخ اء اإلنس اني في األرض‪ ،‬ويؤمن ون ب أن اهلل خل ق الع الم من أج ل نهاي ة‬
‫سعيدة‪ ،‬ويؤمنون بكلمة إقبال‪:‬‬

‫كمحب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة اإلنسان لإلنسان‬ ‫لم ألق في هذا الوجود سعادة‬


‫أحتج إلى تلك التي في الحان‬ ‫لما سكرت بخمرها القدسي لم‬

‫‪156‬‬
‫إن فكرة الجوار اإلنساني على الكوكب ليست فكرة بلهاء تعفينا من التزام الحقوق‪ ،‬وتحولنا إلى مجرد‬
‫دراويش على طرف الكوكب‪ ،‬بل هو تشارك ومسؤولية‪ ،‬وكفاح وجراح‪ ،‬ودمعة وابتسامة‪ ،‬وحين نتخلى‬
‫عن مسؤوليتنا في القرية الكونية فنحن إذن من يخرق وثيقة الجوار‪ ،‬وربما كان أوضح شرح لمسؤولية‬
‫الجوار ما عبر عنه الرسول الكريم‪" :‬مثل القائم في حدود اهلل والراتع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة‬
‫فأصاب بعضهم أعالها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم‪ ،‬فقالوا‬
‫لو أننا خرقنا في نصيبنا خرقاً فلم نؤذ من فوقنا‪ ،‬فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعاً وإ ن أخذوا‬
‫على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً"‪.‬‬

‫وهكذا فإن المنجز اإلنساني الذي تحقق في المجال الدبلوماسي عاد بأعظم الفوائد على العالقات الدولية‪،‬‬
‫وأسهم في جعل العالم أكثر تقارباً وتفاهماً وتعارفاً وهذه كلها قيم إسالمية أصيلة‪ ،‬ينبغي استثمارها في خير‬
‫األمة وبالتالي اإلسهام في تطويرها وتفاعلها المستمر‪.‬‬

‫وإ ن القاع دة اإلس المية ال تي تحكم ه ذا الل ون من التع اون والتكام ل هي ق ول الرس ول الك ريم‪" :‬الخل ق كلهم‬
‫‪231‬‬
‫عيال اهلل وأحب الخلق إلى اهلل أنفعهم لعياله"‪.‬‬

‫وهكذا فإن اعتماد نص االتفاقية الدولية للعالقات الدبلوماسية التي تم توقيعها في فيينا يوم ‪،18/4/1961‬‬
‫ه و من حيث المب دأ أم ر مش روع ومطل وب فقه اً ودين اً‪ ،‬ألن ه من ب اب تواف ق األم ة م ع جيرانه ا على أم ر‬
‫مباح‪ ،‬وثاني اً ألنه وفاء بالعقود التي أمر اهلل أن نوفي بها‪ ،‬وثالث اً ألنه مصلحة حقيقية لألمة‪ ،‬تعود بالخير‬
‫على سائر الناس‪.‬‬

‫وتتألف االتفاقية من ‪ 52‬مادة‪ ،‬تتناول بمجموعها طبيعة العالقات الدبلوماس ية واألصول المتفق عليها في‬
‫إط ار تب ادل الس فراء والمبع وثين الدبلوماس يين‪ ،‬وال يوج د س بب لتك ريس أي موق ف س لبي ض د ه ذه الم واد‬
‫اإلجرائية‪ ،‬وغاية األمر أن مسؤولية الدولة اإلسالمية في تنفيذ مضمون هذه االتفاقيات تتأكد من اللحظة‬
‫ِ‬
‫ال تي يتم توقيعه ا بوج ه ص حيح ألنه ا ال تزام بالعه د وق د ق ال اهلل تع الى‪َ ﴿:‬وأ َْوفُ وْا بِاْل َع ْه د ِإ َّن اْل َع ْه َد َك َ‬
‫ان‬
‫َم ْس ُؤوالً﴾‪.232‬‬

‫ومع ذلك فإن من المفيد هنا أن نذكر ديباجة االتفاقية‪ ،‬ونقارب بينها وبين المقاصد اإلسالمية الكبرى في‬
‫الوفاق والتعاون اإلنساني‪.‬‬

‫‪ 231‬رواه الطبراني عن أنس وأبي هريرة ‪ ،‬وأورده األلباني في السلسلة الضعيفة ‪ 4/372‬رقم ‪1900‬‬
‫‪ 232‬سورة اإلسراء ‪34‬‬

‫‪157‬‬
‫الدول األطراف في هذه االتفاقية‪:‬‬

‫إذ تذكر أنه منذ زمن بعيد وشعوب كل البلدان تعترف بنظام الممثلين الدبلوماسيين وتعرف أهداف ومبادئ‬
‫ميثاق هيئة األمم لمتحدة الخاصة بالمساواة في حق سيادة كل الدول – وفي المحافظة على السالم واألمن‬
‫الدوليين‪ ,‬وفي تنمية عالقات الصداقة بين األمم‪.‬‬

‫وهى مقتنع ة ب أن اتفاقي ة دولي ة عن العالق ات واالمتي ازات والحص انات الدبلوماس ية ستس اعد على تحس ين‬
‫عالقات الصداقة بين البلدان مهما تباينت نظمها الدستورية واالجتماعية ‪.‬‬

‫وهي على يقين بأن الغرض من هذه المزايا والحصانات‪ ,‬ليس هو تمييز أفراد‪ ,‬بل هو تأمين أداء البعثات‬
‫الدبلوماسية ألعمالها على أفضل وجه كممثلة لدولها‪.‬‬

‫وتؤكد أنه يجب أن يستمر تطبيق قواعد القانون الدولي التقليدي في المسائل التي لم تفصل فيها نصوص‬
‫هذه االتفاقية صراحة ‪.‬‬

‫واتفقت على ما يأتي‪:‬‬

‫ثم ترد مواد االتفاقية االثنتان والخمسون‪ ،‬وهي مواد إجرائية وعملية لتكريس هذا التعاون‪.‬‬

‫ويمكن الق ول إن ديباج ة ه ذه االتفاقي ة ال تي تح دد أه دافها منس جمة تمام اً م ع القيم اإلس المية في بن اء ع الم‬
‫السلم والتعاون الدولي‪ ،‬وفق ما دلت له اآليات الكريمة‪:‬‬

‫اجَن ْح لَهَا َوتََو َّك ْل َعلَى اللَّ ِه﴾‪.233‬‬ ‫لسْلِم فَ ْ‬ ‫قوله تعالى‪َ ﴿:‬وإِ ْن َجَن ُحوا ِل َّ‬ ‫‪‬‬
‫ان َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َح ِس ًيبا﴾‪.234‬‬ ‫وها ِإ َّن اللّهَ َك َ‬ ‫َح َس َن ِم ْنهَا أ َْو ُر ُّد َ‬ ‫َّة فَ َحيُّوْا بِأ ْ‬‫وقوله‪﴿ :‬وإِ َذا حي ِّْيتُم بِتَ ِحي ٍ‬
‫َ ُ‬ ‫‪‬‬
‫‪235‬‬
‫وبا َوقََبائِ َل ِلتَ َع َارفُوا﴾‪.‬‬ ‫وقوله‪َ ﴿ :‬و َج َعْلَنا ُك ْم ُش ُع ً‬ ‫‪‬‬
‫ِ‬ ‫يموْا لَهُ ْم ِإ َّن اللّهَ ُي ِح ُّ‬ ‫وقوله‪﴿ :‬فما استَقَاموْا لَ ُكم فَ ِ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫ب اْل ُمتَّق َ‬ ‫استَق ُ‬
‫‪236‬‬
‫ْ ْ‬ ‫َ ْ ُ‬ ‫‪‬‬
‫‪237‬‬
‫السلَ َم فَ َما َج َع َل اللَّهُ لَ ُك ْم َعلَْي ِه ْم َسبِياًل ﴾‪.‬‬
‫اعتََزلُو ُك ْم َفلَ ْم ُيقَاتِلُو ُك ْم َوأَْلقَ ْوا ِإلَْي ُك ُم َّ‬‫وقوله‪﴿ :‬فَِإ ِن ْ‬ ‫‪‬‬

‫‪ 233‬سورة األنفال ‪61‬‬


‫‪ 234‬سورة النساء ‪86‬‬
‫‪ 235‬سورة الحجرات ‪13‬‬
‫‪ 236‬سورة التوبة ‪7‬‬
‫‪ 237‬سورة النساء ‪90‬‬

‫‪158‬‬
‫ان ِإَّنهُ لَ ُك ْم َع ُد ٌّو‬
‫طِ‬ ‫الس ْلِم َكافَّةً والَ تَتَّبِع وا ُخطُ و ِ‬
‫ات َّ‬
‫الش ْي َ‬ ‫آمُن وا ْاد ُخلُ وا ِفى ِّ‬ ‫َِّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ين َ‬
‫وقول ه‪َ﴿ :‬ي ا أَيُّهَ ا الذ َ‬ ‫‪‬‬
‫ُّمبِ ٌ‬
‫ين﴾‪.‬‬
‫‪238‬‬

‫واآلي ات به ذا المع نى كث يرة‪ ،‬وك ذلك م ا ورد في الس نة النبوي ة الكريم ة من قيم التع اون ال دولي واإلخ اء‬
‫والتسامح‪ ،‬وكلها تحمل النتيجة إياها من وجوب الدخول في السلم والتعاون اإلنساني‪ ،‬ووجوب تنفيذ العقود‬
‫والعهود على وجه يستقيم أخالقياً وحقوقياً‪.‬‬

‫وهك ذا ف إن المش ترك بين اإلس الم والقيم الدبلوماس ية كث ير‪ ،‬وقي ام التع اون ال دولي على أس اس من الس لم‬
‫والمصالح المتبادلة هو مقصد إسالمي حقيقي‪ ،‬وتوافق إنساني وعالمي ناجح‪.‬‬

‫وفي نهاية هذه الدراسة يمكن القول إن تطوير المعارف الدبلوماسية وبناء مزيد من ظروف السلم لتأمين‬
‫عالقات دولية ناجحة هو مقصد إسالمي نبيل أكدته نصوص الكتاب والسنة‪ ،‬وهو مصلحة حقيقية لألمة‪،‬‬
‫وحيثما كانت المصلحة العامة فثم شرع اهلل‪.‬‬

‫﴿ي ِري ُد اللَّهُ بِ ُكم اْلُي ْس َر وال ُي ِري ُد بِ ُكم اْل ُع ْس َر﴾‪ ﴿ ،‬وتَ َع اوُنوْا َعلَى اْل ِّبر والتَّ ْق وى والَ تَ َع اوُنوْا َعلَى ِ‬
‫اإلثِْم‬ ‫ُ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ان﴾‪.‬‬ ‫َواْل ُع ْد َو ِ‬

‫المالحق‬
‫‪ 238‬سورة البقرة ‪208‬‬

‫‪159‬‬
‫نموذج من التعامل الدبلوماسي لرسول اهلل‬

‫نموذج من الخطاب الدبلوماسي لرسول اهلل‬

‫نموذج من التعامل الدبلوماسي لرسول اهلل‬

‫نج ران إقليم كب ير بين اليمن والحج از‪ ،‬دخلت إلي ه النص رانية من ذ الق رن الراب ع للميالد وك ان يعت بر أهم‬
‫كرس ي لألرثوذكس ية الش رقية في جزي رة الع رب‪ ،‬ثم تع رض أه ل نج ران لغ زو ذو ن واس اليه ودي ال ذي‬
‫أحرق المؤمنين من المسيحيين بالنار‪ ،‬وفيهم نزلت سورة البروج وفيها قصة أصحاب األخدود‪ ،‬وقد بلغ‬
‫ع دد الش هداء منهم نح و أح د عش ر ألف اً‪ ،‬وك ان ذل ك ع ام ‪ 524‬أي قب ل والدة الرس ول الك ريم بنح و نص ف‬
‫قرن‪.‬‬

‫وقد أولى النبي الكريم اهتماماً بالغ اً ألهل نجران‪ ،‬وقد استقبل النبي الكريم في السنة السابعة وفد نصارى‬
‫نجران وكانوا نحو خمسين شخص اً على رأسهم السيد العاقب‪ ،‬وأقام الوفد في مسجد النبي الكريم خمسة‬
‫عشر يوماً يأكلون من ثمارها ويشربون من مائها وينتجعون أرضها‪ ،‬ومع أن القوم لم يدخلوا في اإلسالم‬

‫‪160‬‬
‫ولم يقروا بنبوة رسول اهلل‪ ،‬ولكن النبي الكريم أكرمهم واستمع إليهم وأبلغهم رسالته‪ ،‬ثم كتب لهم كتاب اً بالغ‬
‫األهمية صار فيما بعد أحد أهم الوثائق التاريخية في الحريات الدينية وتعزيز المشترك وحسن الجوار‪.‬‬

‫وفي نهاية مقامهم بالمدينة طلبوا من النبي أن يرسل فيهم رجالً أمين اً‪ ،‬فقال ألرسلن معكم رجالً أمين اً حق‬
‫أمين‪ ،‬فاستشرف لها الناس واختار رسول اهلل أبا عبيدة بن الجراح سفيراً مقيم اً فيهم‪ ،‬وقال هذا أمين هذه‬
‫األمة‪.‬‬

‫ومن طريف ما روي في أمر وفد نصارى نجران‪ ،‬ما أورده ابن كثير في تفسيره‪" :‬ما رأينا بعدهم وفداً‬
‫مثلهم‪ ،‬وق د ح انت ص التهم‪ ،‬فق اموا في مس جد رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم يص لّون‪ ،‬فق ال رس ول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه‪ ‬وسلم‪ :‬دعوهم‪ ،‬فصلّوا إلى المشرق"(‪.)239‬‬

‫فك انت ص التهم في مس جد رس ول اهلل إش ارة بالغ ة األهمي ة للحري ات الديني ة ال تي منحه ا اإلس الم للن اس‪،‬‬
‫ويمكن الق ول إن ه تأس يس لمب دأ تمكين الس فراء من إقام ة ش عائر دينهم على م ا اعت ادوه‪ ،‬وحين هم بعض‬
‫الص حابة بمنعهم‪ ،‬رفض رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم ذل ك وأرش د الق وم إلى الش رق حيث ي ؤدي‬
‫النصارى عبادتهم ومناسكهم‪.‬‬

‫وهذا ما نطالعه في نص العهد الذي كتبه لهم رسول اهلل كما أورده البيهقي بنصه في دالئل النبوة‪:‬‬

‫« بسم اهلل الرحمن الرحيم ‪....‬‬

‫هذا ما كتب محمد النبي رسول اهلل‪ ..‬لنجرانوحاشيتها‪ ،‬وألهل ملتها‪ ،‬جوار اهلل وذمة محمد النبى رسول‬
‫اهلل‪ ،‬على أموالهم وأنفسهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم‪ ،‬وعشيرتهم‪ ،‬وبَِيعهم‪ ،‬وكل ما تحت أيديهم من قلي ل أو‬
‫كثير‪.‬‬

‫ال ُيغيَّر أس قف من أس قفيته‪ ،‬وال راهب من رهبانيت ه‪ ،‬وأن أح رس دينهم وملتهم أين ك انوا‪ ..‬بم ا أحف ظ ب ه‬
‫كره أه ل البنت‬‫حمل ون من النكاح ش ططا ال يريدون ه‪ ،‬وال ُي َ‬
‫نفسى وخاص تى وأه ل اإلس الم من مل تي‪،‬وال ُي َّ‬

‫‪239‬‬

‫تفسير القرآن العظيم‪ ،‬البن كثير‪ ،‬تفسير سورة آل عمران‪ ،‬آية المباهلة ‪ ،61‬ودالئل النبوة‪ ،‬للبيهقي‪ ،‬ج‪ ،5‬ص ‪482‬‬

‫‪161‬‬
‫تزويج ا؛ ألن ذل ك ال يك ون إال بطيب ة‬
‫ً‬ ‫وأب ْوا‬
‫خاطب ا َ‬
‫ً‬ ‫على ت زويج المس لمين‪ ،‬وال ُيض ّار فى ذل ك إن منع وا‬
‫قلوبهم‪ ،‬ومسامحة أهوائهم‪ ،‬إن أحبوه ورضوا به‪.‬‬

‫مرمة بَِيعهم وص وامعهم أو أى ش ىء من مص الح أم ورهم ودينهم إلى ِر ْف د من‬ ‫ولهم إن احت اجوا فى َّ‬
‫عاونوا‪ ،‬وال يكون ذلك َد ًين ا عليهم‪ ،‬بل تقوية لهم‬
‫وي َ‬‫مرمتها‪ ،‬أن ُي ْرفدوا على ذلك ُ‬
‫المسلمين وتقوية لهم على َّ‬
‫ووفاء بعهد رسول اهلل‪ ،‬وموهبة لهم‪َّ ،‬‬
‫ومنة هلل ورسوله عليهم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫على مصلحة دينهم‪،‬‬

‫وإ ض افة إلى ج انب الس ماحة والمرحم ة ال تي ظه رت في الكت اب ف إن في العه د أيض اً واجب ات دبلوماس ية‬
‫متبادل ة بين الرس ول وأه ل نج ران‪ ،‬وتض من كت اب الرس ول الك ريم فص الً متق دماً من التب ادل الدبلوماس ي‪،‬‬
‫حيث نص على وج وب وف ادة المبع وثين من قب ل رس ول اهلل‪ ،‬وتم تحدي د ه ذه الوف ادة بعش رين ليل ة‪ ،‬كم ا‬
‫اشتمل الكتاب على إلزامهم بعدد من الواجبات تجاه ظروف الطوارئ التي قد يتعرض لها المبعوثون في‬
‫مناطق نجران‪ ،‬وتم تحديد مسؤولية نجران بالتفصيل‪:‬‬

‫"وعلى نجران مؤنة رسلي ومتعتهم ما بين عشرين يوما فدونه‪ ،‬وال تحبس رسلي فوق شهر"‪.‬‬

‫ويعتبر ذلك يمثابة اتفاق ملحقية عسكرية بين البلدين‪ ،‬تلتزم بموجبه كل دولة بحماية الطرف اآلخر على‬
‫أراض يها‪ ،‬وينص االتف اق أيض ا على أن ه ذه المعون ة تعت بر بمثاب ة ال دين المل زم‪ ،‬وهي ذم ة مض مونة ل دى‬
‫الدولة المسلمة‪.‬‬

‫ونصت االتفاقية أن‪....‬‬

‫"عليهم عارية ثالثين درع اً وثالثين فرس اً وثالثين بعيراً إذا كان كيد ومعرة‪ ،‬وما هلك مما أعاروا رسلي‬
‫من دروع أو خيل أو ركاب فهو ضمان على رسلي حتى يؤدوه إليهم"‪.‬‬

‫ومع إقرار هذه االتفاقية الدبلوماسية واعتراف الدولتين بحقوق كل منهما فإن النبي الكريم نص بوضوح‬
‫على اح ترام االختي ار ال ديني لنص ارى نج ران‪ ،‬وك ذلك التراتبي ة الديني ة والترقي ات الكنس ية ال تي اعتادوه ا‪،‬‬
‫وك ان البي ان النب وي حريص اً على اس تخدام مص طلح أه ل نج ران في التس ميات الكهنوتي ة‪ ،‬على ال رغم من‬
‫غربته عن اللسان القرشي وتناقضه التام مع القيم اإلسالمية‪:‬‬

‫‪162‬‬
‫ولنجران وحاشيتها جوار اهلل وذمة محمد النبي على أنفسهم وملتهم وأرضيهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم‬
‫وعشيرتهم وبيعهم وأن ال يغيروا مما كانوا عليه وال يغيروا حقً ا من حقوقهم وال ملتهم‪ ،‬وال يغيروا أسقفًا‬
‫راهبا من رهبانيته‪ ،‬وال واقها من وقيهاه‪ ،‬وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير‪.‬‬
‫عن أسقفيته وال ً‬

‫وليس عليهم دني ة وال دم جاهلي ة وال يحش رون وال يعش رون وال يط أ أرض هم جيش‪ ،‬ومن س أل فيهم حقً ا‬
‫‪240‬‬
‫فبينهم النصف غير ظالمين وال مظلومين‪.‬‬

‫وبتأمل دقيق ندرك أن النبي الكريم نجح في تحقيق مكاسب دبلوماسية بالغة األهمية‪ ،‬من خالل هذا االتفاق‬
‫نعد منها‪:‬‬

‫اتفاقية اعتراف دبلوماسي متبادل مع دولة عريقة لديها كرسي كنسي عريق‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫اتفاقية عدم اعتداء بين الدولتين‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫إقرار بالحقوق الدينية الكاملة لكل من الجانبين‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫منح الحصانة الشخصية والمالية للمبعوثين المتبادلين (ال يحشرون وال يعشرون)‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫تعاون لوجستي لتأمين السفراء والمندوبين من الطرفين غير المقيمين‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫إعالن ما يمكن تسميته أول ملحقية عسكرية دبلوماسية في أرض العرب‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫تعيين سفير مقيم وهو أبو عبيدة بن الجراح‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫لق د ك انت ه ذه انج ازات بالغ ة األهمي ة في إط ار ت أمين الح دود الجنوبي ة للدول ة اإلس المية‪ ،‬وبن اء عالق ات‬
‫حس ن ج وار‪ ،‬م ع أن الح وار في العقي دة لم يفض إلى نتيج ة مرض ية‪ ،‬حيث تمس ك وف د نج ران بم وقفهم‬
‫االعتقادي‪ ،‬ورفضوا الدخول في اإلسالم‪.‬‬

‫كم ا ترس م االتفاقي ة مالمح الحري ات الديني ة ال تي أعطاه ا اإلس الم للن اس‪ ،‬والتأكي د على المش ترك اإلنس اني‬
‫على ال رغم من االختالف الفك ري‪ ،‬كم ا تعكس اهتماماًخاص اً برعاي ة أه ل الكت اب ال ذين خص تهم الش ريعة‬
‫بأحكام خاصة قائمة على االعتراف المتبادل واالحترام‪.‬‬

‫دالئل النبوة‪ ،‬للبيهقي‪ ،‬ج ‪ ،5‬ص ‪485‬‬ ‫‪240‬‬

‫‪163‬‬
‫نموذج من الخطاب الدبلوماسي لرسول اهلل‬

‫المناذرة عرب من قحطان غادروا اليمن عقب انهيار حضارة مأرب بعد انهيار السد بالسيل العرم‪ ،‬نحو‬
‫أل ف ع ام قب ل الميالد‪ ،‬واش تهرت هج رتهم بهج رة تن وخ أو لخم وق د نزل وا ب أرض الع راق‪ ،‬وأسس وا أك بر‬
‫تجمع عربي حتى تاريخه‪ ،‬كانت عاصمتهم الحيرة وأطلقوا على أنفسهم لقب ملوك العرب‪ ،‬وكانت مدنهم‬
‫تمت د من األنب ار إلى البح رين إلى عم ان‪ ،‬ويمكن الق ول إنهم ك انوا يس يطرون على ج انب كب ير من العراق‬

‫‪164‬‬
‫س احل الخليج الممت د إلى حض رموت‪ ،‬وق د ك انوا يش كلون قلق اً لإلمبراطوري ة الفارس ية وفي ع ام ‪609‬‬
‫استدرج ملك الفرس خسرو الثاني ملك المناذرة النعمان بن المنذر وقتله تحت أقدام الفيلة‪ ،‬وقد ثار لذلك‬
‫الع رب وان دلعت بينهم ح رب ذي ق ار‪ ،‬وأظه روا فيه ا بس الة فري دة‪ ،‬وفيه ا ق ال رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه‬
‫وسلم‪" :‬هذا يوم انتصف فيه العرب من العجم"‪ ،‬وبعد سلسلة مواجهات تمكنوا من فرض شروط معقولة في‬
‫عالق اتهم م ع ف ارس‪ ،‬يض منون فيه ا ألنفس هم ق دراً كب يراً من الحكم ال ذاتي ولكنهم ال يخرج ون عن س لطان‬
‫اإلمبراطورية‪.‬‬

‫أما عقائدهم فكانت على ملة إبراهيم وقد أصابها ما أصاب قريش اً من الشرك والوثنية‪ ،‬كما انتشرت في‬
‫بالدهم كنيسة المشرق‪ ،‬وكانوا يأتون في الموسم إلى الحرم الشريف‪ ،‬وكان رسول اهلل يرجو أن يجد لديهم‬
‫وعياً لرسالته وأن يقوموا بحمايته ونصرته من قريش‪.‬‬

‫وفي السنة العاشرة للمبعث وهي السنة التي تم فيها فك الحصار في شعب أبي طالب انطلق رس ول اهلل إلى‬
‫القبائل في الموسم يدعوهم إلى اهلل ويسألهم أن ينصروه ويحموه‪.‬‬

‫وكان رسول اهلل يرجو أن يجد لدى المناذرة حصناً وأمن اً فهم أكبر قبائل العرب‪ ،‬ولديهم تاريخ حضاري‪،‬‬
‫وتنتش ر فيهم كنيس ة المش رق المس يحية وهي على خالف م ع األرثوذكس ية البيزنطي ة‪ ،‬وتش به أن تك ون‬
‫مسيحية عربية خالصة‪ ،‬ولديهم مراكز حضارية بالغة األهمية منها الحيرة والنجف‪.‬‬

‫كما ظهر فيها أكبر شعراء الجاهلية‪ :‬المثقب العابديوعبيد بن األبرص والنابغة الذبيانيوطرفة بن العبدولقيط‬
‫بن يعمر األياديوعدي بن زيد العباديوعمرو بن كلثوم وعمرو بن قميئةوأعشى قيس والمرقش األكبرولبيد بن‬
‫ربيعة‪.‬‬

‫وبترتيب من أبي بكر الصديق وهو أكثر رجال قريش علم اً بالنسب ومعرفة بالقبائل‪ ،‬وعلي بن أبي طالب‬
‫وهو الذي اختار فيما بعد منازل المناذرة في الكوفة والنجف عاصمة لخالفته تم إعداد هذا اللقاء الفريد‬
‫الذي تتجلى فيه دبلوماسية رائعة في الخطاب والمعاملة‪ ،‬ومن حسن حظ التاريخ أنه دون هذا اللقاء الفريد‪،‬‬
‫وهو وثيقة هامة في الدبلوماسية المتقدمة التي كانت تعرفها العرب على الرغم من حياة البداوة التي كانت‬
‫غالبة فيهم‪.‬‬

‫ومن الرواي ات المتع ددة له ذا اللق اء‪ ،‬وهي رواي ات متقارب ة عموم اً أخت ار ل ك ه ذا النص من دالئ ل النب وة‬
‫للبيهقي‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫عن علي بن أبي طالب قال‪" :‬لما أمر اهلل رسوله صلى اهلل عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب‪،‬‬
‫خرج وأنا معه‪ ،‬وأبو بكر رضي اهلل عنه‪ ،‬فدفعنا إلى مجلس من مجالس العرب‪ ،‬فتقدم أبو بكر رضي اهلل‬
‫عن ه وك ان مق دما في ك ل خ ير‪ ،‬وك ان رجال نس ابة فس لم ‪ .....‬فق ال‪" :‬ممن الق وم؟" ق الوا‪" :‬من ش يبان بن‬
‫ثعلبة"‪ ،‬فالتفت أبو بكر رضي اهلل عنه إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال‪" :‬بأبي أنت وأمي هؤالء‬
‫غرر الناس‪ ،‬وفيهم مفروق بن عمرو‪ ،‬وهانئ بن قبيصة‪ ،‬والمثنى بن حارثة‪ ،‬والنعمان بن شريك‪ ،‬وكان‬
‫مفروق قد غلبهم جماالً ولساناً‪ ،‬وكانت له غديرتان تسقطان على تريبته وكان أدنى القوم مجلس اً"‪ ،‬فقال أبو‬
‫بكر رضي اهلل عنه‪" :‬كيف العدد فيكم؟" فقال مفروق‪" :‬إنا لنزيد على ألف‪ ،‬ولن تغلب ألف من قلة"‪ .‬فقال‬
‫أبو بكر‪" :‬وكيف المنعة فيكم؟" فقال المفروق‪" :‬علينا الجهد ولكل قوم جهد"‪ .‬فقال أبو بكر رضي اهلل عنه‪:‬‬
‫"كيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟" فقال مفروق‪" :‬إنا ألشد ما نكون غضباً حين نلقى‪ ،‬وإ نا ألشد ما نكون‬
‫لق اء حين نغض ب‪ ،‬وإ ن ا لنؤثر الجي اد على األوالد‪ ،‬والس الح على اللق اح‪ ،‬والنص ر من عن د اهلل‪ ،‬يديلنا مرة‬
‫ويديل علينا أخرى‪ ،‬لعلك أخا قريش؟"‪ ،‬فقال أبو بكر رضي اهلل عنه‪":‬قد بلغكم أنه رسول اهلل أال هو ذا"‪،‬‬
‫فقال مفروق‪":‬بلغنا أنه يذكر ذلك‪ ،‬فإالم تدعو يا أخا قريش؟"‪ ،‬فتقدم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فجلس‬
‫وقام أبو بكر رضي اهلل عنه يظله بثوبه‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬أدعوكم إلى شهادة أن ال‬
‫إل ه إال اهلل وح ده ال ش ريك ل ه‪ ،‬وأن محم داً عب ده ورس وله‪ ،‬وإ لى أن ت ؤووني وتنص روني‪ ،‬ف إن قريش اً ق د‬
‫ظاهرت على أمر اهلل‪ ،‬وكذبت رسله‪ ،‬واستغنت بالباطل عن الحق‪ ،‬واهلل هو الغني الحميد»‪ ،‬فقال مفروق‬
‫بن عم رو‪":‬وإ الم ت دعونا ي ا أخ ا ق ريش‪ ،‬فواهلل م ا س معت كالم اً أحس ن من ه ذا"‪ ،‬فتال رس ول اهلل ص لى اهلل‬
‫علي ه وس لم‪ " :‬ق ل تع الوا أت ل م ا ح رم ربكم عليكم" ‪ .....‬إلى "فتف رق بكم عن س بيله ذلكم وص اكم ب ه لعلكم‬
‫تتق ون"‪ .‬فق ال مف روق‪":‬وإ الم ت دعونا ي ا أخ ا ق ريش ‪ ..‬فواهلل م ا ه ذا من كالم أه ل األرض‪ ،‬ثم رجعن ا إلى‬
‫روايتنا‪ ،‬قال‪":‬فتال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم "إن اهلل يأمر بالعدل واإلحسان وإ يتاء ذي القربى وينهى‬
‫عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون"‪ ،‬فقال مفروق بن عمرو‪":‬دعوت واهلل يا أخا قريش إلى‬
‫مكارم األخالق ومحاسن األعمال‪ ،‬ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك"‪.‬‬

‫وكأنه أحب أن يشركه في الكالم هانئ بن قبيصة‪ ،‬فقال‪" :‬وهذا هانئ شيخنا وصاحب ديننا"‪ ،‬فقال هانئ‪":‬قد‬
‫س معت مقالت ك يا أخ ا ق ريش إني أرى أن تركن ا دينن ا واتباعن ا على دين ك لمجلس جلس ته إلين ا ليس ل ه أول‬
‫وال آخر أنه زلل في الرأي‪ ،‬وقلة نظر في العاقبة‪ ،‬وإ نما تكون الزلة مع العجلة‪ ،‬ومن ورائنا قوم نكره أن‬
‫يعقد عليهم عقد‪ ،‬ولكن نرجع وترجع وننظر وتنظر"‪ .‬وكأنه أحب أن يشركه المثنى بن حارثة‪ ،‬فقال‪":‬وهذا‬
‫المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا"‪ ،‬فقال المثنى بن حارثة‪" :‬سمعت مقالتك يا أخا قريش‪ ،‬والجواب‬
‫في ه ج واب ه انئ بن قبيص ة في تركن ا دينن ا ومتابعت ك على دين ك‪ ،‬وإ ن ا إنم ا نزلن ا بين ص ريين اليمام ة‪،‬‬

‫‪166‬‬
‫والسمامة"‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ما هذان الصريان؟» فقال‪" :‬أنهار كسرى ومياه العرب‪،‬‬
‫فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور وعذره غير مقبول‪ ،‬وأما ما كان مما يلي مياه‬
‫الع رب ف ذنب ص احبه مغف ور وع ذره مقب ول‪ ،‬وإ ن ا إنم ا نزلن ا على عه د أخ ذه علين ا أن ال نح دث ح دثاً وال‬
‫نؤوي محدثاً وإ ني أرى أن هذا األمر الذي تدعونا إليه يا قرشي مما يكره الملوك‪ ،‬فإن أحببت أن نؤويك‬
‫وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا"‪ .‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪":‬ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم‬
‫بالصدق‪ ،‬وإ ن دين اهلل لن ينصره إال من حاطه من جميع جوانبه‪ ،‬أرأيتم إن لم تلبثوا إال قليالً حتى يورثكم‬
‫اهلل أرضهم وديارهم وأموالهم ويفرشكم نساءهم أتسبحون اهلل وتقدسونه؟"‪،‬فقال النعمان بن شريك‪":‬اللهم فلك‬
‫اعًي ا ِإلَى اللَّ ِه بِِإ ْذنِ ِه‬
‫اه ًدا ومب ِّش را وَن ِذيرا‪ ،‬و َد ِ‬
‫َ َُ ً َ ً َ‬
‫اك َش ِ‬
‫ذلك"‪ ،‬قال‪":‬فتال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم "ِإَّنا أ َْر َس ْلَن َ‬
‫اجا ُّمنِ ًيرا"‪ ،‬ثم نهض رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قابض اً على يدي أبي بكر وهو يقول‪":‬يا أبا بكر‬ ‫ِ‬
‫َوس َر ً‬
‫أية أخالق في الجاهلية !! ما أشرفها بها يدفع اهلل عز وجل بأس بعضهم عن بعض‪ ،‬وبها يتحاجزون فيما‬
‫بينهم"(‪.)241‬‬

‫وفي قراءة دبلوماسية لهذا الحوار الفريد يمكننا إبراز الجوانب اآلتية‪:‬‬

‫أهمية األرشفة ومعرفة تاريخ الفريق المحاور ومنازله ومكانته وطبائعه‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫المستوى البالغي والخطابي الذي تميز به فريقا الحوار‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫الموقع الدبلوماسي الذي كان يشغله كل عضو في هذا الوفد وحسن إدراك كل سفير الختصاصاته‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫مستوى الشفافية والوضوح الفريد الذي كان يطبع هذه اللقاءات والحوارات‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫التأكيد على عدم التعجل في الموقف الدبلوماسي ووجوب عبور القرار عبر األقنية المتخصصة‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫ض رورة التأكي د على االلتزام ات الدبلوماس ية الس ابقة‪ ،‬ووج وب مراعاته ا وع دم نقض بعض ها‬ ‫‪‬‬
‫ببعض‪.‬‬
‫التأكد من دستورية االتفاقية الدبلوماسية قبل التوقيع عليها‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫احترام المواقف السيادية للدول‪ ،‬ولو أخفق الطرفان في التوقيع على المعاهدة المطلوبة‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫اإلقرار بالمشترك اإلنساني واحترامه‪ ،‬على الرغم من التناقض األيديولوجي‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫وال شك أن متابع ة هذا الموقف النبوي المس ؤول في الحوار الدبلوماس ي مع عرب المناذرة فإنن ا سندرك‬
‫المستوى الدبلوماسي الرفيع الذي جرى من خالله التفاوض‪ ،‬السيما إذا تذكرنا أن الفريق المشارك في وفد‬

‫‪ 241‬دالئل النبوة للبيهقي‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪297‬‬

‫‪167‬‬
‫الحيرة كان يشكل أكبر كيان عربي في ذلك التاريخ وكان المناذرة يحكمون معظم العراق والخليج الشرقي‬
‫لجزيرة العرب من الكويت إلى عمان‪ ،‬وكانت لهم مناطق نفوذ تصل إلى قلب األردن ودومة الجندل‪.‬‬

‫وم ع أن الح وار لم يفض إلى تح ول الق وم عن دينهم ولكن المتابع ة الدبلوماس ية فيم ا ي أتي من األي ام‬
‫اس تمرت‪ ،‬وعلين ا أن نت ذكر كي ف أص بح المث نى بن حارث ة وإ خوان ه من زعم اء المن اذرة ق ادة الجيش‬
‫اإلسالمي الذي افتتح بالد فارس وخاض معركة القادسية‪ ،‬وهذا الموقف يعكس نجاحاً كبيراً في الدبلوماسية‬
‫النبوية التي استمرت مع القوم حتى شرح اهلل صدورهم لإلسالم وأدركوا أن دولة اإلسالم الصاعدة هي‬
‫المصلحة الحقيقية لهم ولقومهم من المناذرة من العراق إلى عمان‪.‬‬

‫‪168‬‬
‫النتائج والتوصيات‬
‫نتائج الدراسة‬

‫فيما يلي تلخيص موجز ألهم النتائج التي قادنا إليها الدراسة‪:‬‬

‫في الفصل التمهيدي‪:‬‬

‫إن الكتاب ة في الدبلوماس ية اإلس المية ليس ت أم راً ح ديثاً ب ل س بق إلى ذل ك ع دد كب ير من الفقه اء‬ ‫‪‬‬
‫والعلماء في عصور مختلفة‪.‬‬
‫إن عدم استخدام مصطلح الدبلوماسية ال يعني أن السلف لم يهتم بأمر الدبلوماسية في اإلسالم‪ ،‬بل‬ ‫‪‬‬
‫كان يعبر عنها بلفظ السير أو الحكمة أو آداب الملوك أو غير ذلك من المصطلحات المرادفة‪.‬‬

‫في الفصل األول‪ :‬الفقه الدبلوماسي في اإلسالم‪:‬‬

‫أقر اإلسالم مبدأ العالقات الودية بين الدول‪ ،‬واالعتراف المتبادل‪ ،‬وقد قدمت الدراسة األدلة على‬ ‫‪‬‬
‫ذلك من الكتاب والسنة وعمل األمة‪.‬‬
‫إن فك رة تقس يم الع الم إلى فس طاطين دار إس الم ودار ح رب هي فك رة غ ير واقعي ة وتتن اقض م ع‬ ‫‪‬‬
‫تأسيس النبي الكريم لعالقات ودية مع كثير من الملوك‪ ،‬وهم على أديانهم‪ ،‬وال بد من مناقشة هذه‬
‫الفك رة والتأكي د على أن م ا نق ل عن الس لف من ه ذا المع نى ال ي دل على قط ع العالق ات م ع ال دول‬
‫غير المسلمة‪.‬‬
‫تأكيد القسمة الثالثية للعالم على أساس دار إسالم ودار حرب ودار معاهدة‪ ،‬أو دار صلح وعهد‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫وهي قسمة واقعية ومرنة وتستجيب لبناء عالقات إيجابية بناءة‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫التأكي د على أن أص ل عالق ة األم ة اإلس المية بغيره ا من األمم إنم ا ه و الس لم وليس الح رب‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫ومناقشة اآلراء التي ذهبت إلى خالف ذلك‪.‬‬
‫اإلش ارة إلى مظ ان تفص يل القض ايا الدبلوماس ية في كتب الفق ه اإلس المي‪ ،‬وت وزع ذل ك في أب واب‬ ‫‪‬‬
‫الجهاد والعهد والذمة والصلح في كتب الفقه‪.‬‬
‫التأكيد على نجاحات الرسول الكريم في الجانب الدبلوماسي‪ ،‬ووجوب اتباعه في كل ما علمه من‬ ‫‪‬‬
‫حكمة وخير‪.‬‬
‫اإلش ارة إلى ال زواج الدبلوماس ي ال ذي ق ام ب ه رس ول اهلل وأثم ر في حقن ال دماء وقط ع أس باب‬ ‫‪‬‬
‫الحروب‪.‬‬
‫اإلش ارة إلى تط ور ال وعي والممارس ة بالمس ائل الدبلوماس ية ع بر ت اريخ الخالف ة الراش دة واألمي ة‬ ‫‪‬‬
‫والعباسية والدول المتتابعة بعد ذلك‪.‬‬
‫بيان التطور اإليجابي والسلبي في عالقات المسلمين باألسرة الدولية‪ ،‬والتأكيد على المرونة التي‬ ‫‪‬‬
‫تمنحه ا النص وص الش رعية في الحكم على ال دول المختلف ة بحس ب مواقفه ا من األم ة في الع دل‬
‫وحسن الجوار‪.‬‬
‫بي ان مش روعية التمثي ل الدبلوماس ي الم ؤقت في اإلس الم‪ ،‬وتأيي د ذل ك من الكت اب والس نة وعم ل‬ ‫‪‬‬
‫األمة‪.‬‬
‫بي ان حكم التمثي ل الدبلوماس ي ال دائم في اإلس الم‪ ،‬ووج ه االس تدالل على ذل ك من الكت اب والس نة‬ ‫‪‬‬
‫وعمل األمة‪ ،‬واإلشارة إلى أهم السفراء الدائمين في الدولة المحمدية‪.‬‬
‫اس تنباط ش روط تع يين الس فراء على وف ق ه دي الكت اب والس نة‪ ،‬ومحاول ة تأص يل قواع د ش رعية‬ ‫‪‬‬
‫الختيار السفراء اهتداء بسيرة النبي صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫بحث موضوع مش اركة المرأة في الحياة الدبلوماس ية‪ ،‬ورفع القيود التي تح ول دون ذلك والتأكيد‬ ‫‪‬‬
‫على أن الم رأة المس لمة ش اركت في العم ل الع ام‪ ،‬وأن مش اركتها في العم ل الدبلوماس ي ممكن ة‪،‬‬
‫ض من آداب اإلس الم وقيم ه‪ ،‬وتق ديم نم اذج من مش اركة الم رأة الفاعل ة في العم ل الع ام في عص ر‬
‫الصحابة‪.‬‬
‫بحث حص انة الس فراء‪ ،‬من الن واحي الشخص ية والسياس ية والمالي ة والقض ائية‪ ،‬وإ ظه ار موق ف‬ ‫‪‬‬
‫الش ريعة اإلس المية في ك ل منه ا‪ ،‬ووج وب الموازن ة بين قيم العدال ة والمس اواة في اإلس الم وبين‬
‫حاجات الدبلوماسيين لتسيير أعمالهم وأداء مهامهم‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫دراسة موضوع الملحقيات الثقافية والعسكرية والتجارية الحديثة‪ ،‬والبحث عن نظائرها في التاريخ‬ ‫‪‬‬
‫اإلسالمي‪ ،‬والتماس سبل تعزيز مشروعيتها بما تقدم من خدمة لألمة في جوانب مختلفة‪.‬‬
‫اإلش ارة إلى س فارة الحج وهي مم ا اختص ت ب ه الحض ارة اإلس المية وبي ان أهميته ا من الناحي ة‬ ‫‪‬‬
‫الدبلوماسية في بناء عالقات متوازنة وعادلة‪.‬‬

‫في الفصل الثاني‪ :‬القيم الدبلوماسية في اإلسالم‪:‬‬

‫تفص يل آداب الس فراء في الفق ه اإلس المي‪ ،‬وف ق دالالت الكت اب والس نة وعم ل األم ة‪ ،‬ومحاول ة‬ ‫‪‬‬
‫جمعها في إطار منهجي وموضوعي‪ ،‬ومن أبرز هذه اآلداب‪:‬‬
‫األمانة والدقة فيما يوكل إليه من مهام‪.‬‬ ‫‪o‬‬
‫التزام مبادئ القدوة في السلوك الشخصي‪.‬‬ ‫‪o‬‬
‫االعتناء بالمظهر وإ ظهار الهيبة في غير مخيلة وال إسراف‪.‬‬ ‫‪o‬‬
‫احترام التقاليد الدبلوماسية ما لم تتعارض مع قيم اإلسالم‪.‬‬ ‫‪o‬‬
‫معرفة ثقافة البلد التي يرحل إليها‪.‬‬ ‫‪o‬‬
‫احترام القوانين المحلية وااللتزام بعادات الناس وتقاليدهم‪.‬‬ ‫‪o‬‬
‫عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول‪.‬‬ ‫‪o‬‬
‫بناء جسورمن المحبة واالحترام مع الدول المضيفة‪.‬‬ ‫‪o‬‬
‫االلتزام بالتواصل مع الدولة والعمل في سياق مؤسساتها‪.‬‬ ‫‪o‬‬
‫وجوب التواصل مع الوطن وعدم جواز االنقطاع عنه لفترات تطول‪.‬‬ ‫‪o‬‬
‫الشفافية والمكاشفة مع مرجعيته الوطنية‪.‬‬ ‫‪o‬‬
‫تعزيز ثقافة الخدمة في أداء السفارات‪.‬‬ ‫‪o‬‬
‫ترقية أحوال الجالية واالعتناء بها‪.‬‬ ‫‪o‬‬
‫تمثيل الدولة وليس تمثيل األحزاب‪.‬‬ ‫‪o‬‬
‫إن مب دأ المعامل ة بالمث ل تق ره الش ريعة اإلس المية وتحتكم إلي ه الي وم األع راف الدبلوماس ية‪ ،‬واألم ة‬ ‫‪‬‬
‫م أمورة أن تلتزم ه في عالقاته ا الدبلوماس ية‪ ،‬وال يح ق التخلي عن ه إال في إط ار مص لحة حقيقي ة‬
‫لألمة‪.‬‬
‫الس فير م أمور بالوف اء لوطن ه واإلخالص ألرض إقامت ه‪ ،‬وال يج وز أن تتن اقض ه ذه المص الح في‬ ‫‪‬‬
‫العالقات الودية‪ ،‬بل هي تتكامل وتتواصل‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫إن اختالف العقائ د ال ينبغي أن يح ول دون قي ام عالق ات ص حيحة‪ ،‬فالتعام ل الدبلوماس ي ه و ش أن‬ ‫‪‬‬
‫أرض ي يق وم على أس اس الظ اهر‪ ،‬أم ا الغيب فه و ش أن س ماوي وال يعلم ه إال اهلل‪ ،‬وأم ر حس اب‬
‫الناس موكول إلى اهلل سبحانه‪.‬‬
‫إن التعاون والتكامل مع دول العالم اإلسالمي هو مصلحة حقيقية لكل بلد إسالمي‪ ،‬وعلى السلك‬ ‫‪‬‬
‫الدبلوماس ي أن يعم ل على بن اء ش بكة عالق ات متين ة م ع الع الم اإلس المي تحقيق اً لمص الح وطن ه‪،‬‬
‫واعتماداً على الحقائق الدينية والتاريخية والجغرافية التي تعزز هذا التواصل‪.‬‬

‫في الفصل الثالث‪ :‬الدبلوماسية في هدي القرآن والسنة‪K‬‬

‫محاولة استنباط بعض الدروس القيادية التي قدمها األنبياء الكرام في القرآن الكريم بوصفهم سفراء‬ ‫‪‬‬
‫بين اهلل وبين عباده‪.‬‬
‫بسط القول في سفارة موسى لدى فرعون نموذج اً للسفارة الناجحة التي شرحها القرآن الكريم بين‬ ‫‪‬‬
‫دولتين‪ ،‬واستنباط اإلشارات والتوجيهات منها‪.‬‬
‫دراسة عبقرية الرسول الكريم في اختيار سفراءه وقت السلم‪ ،‬وبراعة هؤالء السفراء والنجاحات‬ ‫‪‬‬
‫التي تمكنوا من تحقيقها‪.‬‬
‫دراس ة عبقري ة الرس ول الك ريم في دبلوماس ية فض المنازع ات وتجنب الح روب ب الطرق‬ ‫‪‬‬
‫الدبلوماسية‪.‬‬
‫دراس ة نم وذج من األداء الدبلوماس ي العظيم لرس ول اهلل من خالل تعامل ه م ع دول ة مس يحية في‬ ‫‪‬‬
‫جزيرة العرب وهي إقليم نجران‪.‬‬
‫دراس ة نم وذج آخ ر من الخط اب الدبلوماس ي ال ذي قدم ه رس ول اهلل من خالل تعامل ه م ع وف د‬ ‫‪‬‬
‫المناذرة من بني شيبان‪.‬‬

‫الفصل الرابع‪ :‬المشترك بين اإلسالم والدبلوماسية الحديثة‬

‫إن المنجز الدبلوماسي الذي تحقق للبشرية وأسهم في تنظيم العالقات بين الدول وقطع أسباب الحروب‬ ‫‪‬‬
‫هو منجز إنساني وليس منجزاً غربياً‪ ،‬وإ ن اإلسالم شريك في هذا المنجز الحضاري‪.‬‬

‫‪172‬‬
‫إن اإلسالم ال يؤيد مبدأ الصراع بين الحضارات وإ نما يسعى للحوار بينها والتحالف والتكامل‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫إن صدام الحضارات مشروع أمريكي متطرف ونظيره من الثقافة الشرقية قسمة العالم إلى فسطاطين‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫ومن مسؤولية الدبلوماسية اإلسالمية تصحيح صورة اإلسالم في التعاون البناء مع كل أمم األرض‪.‬‬
‫إن عالق ة األم ة اإلس المية بغيره ا من األمم يجب أن تتأس س على الت وازن واالعت دال والمماثل ة وليس‬ ‫‪‬‬
‫على التعالي وال على التبعية واالتكال‪.‬‬
‫األمة اإلسالمية وشعوب األرض جيران على كوكب واحد‪ ،‬واألصل في العالقة هو السلم والتعاون‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫وهذا ال يلغي حق األمة في الدفاع عن نفسها إذا تعرضت لألخطار من الخارج‪.‬‬
‫تأكي د االتف اق في المب ادئ واأله داف بين الفق ه اإلس المي المس تنير وم ا ورد في ديباج ة اتفاقي ة فيين ا‬ ‫‪‬‬
‫‪ 1961‬للعالق ات الدبلوماس ية بين ال دول‪ ،‬ووج وب التعام ل بإيجابي ة م ع التفاص يل اإلجرائي ة له ذه‬
‫االتفاقات الدولية‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫التوصيات‬

‫توصي هذه الدراسة باألمور التالية‪:‬‬


‫دع وة المعاه د الدبلوماس ية ومؤسس ات إع داد الدبلوماس يين إلى إظه ار اهتم ام أك بر ب القيم‬ ‫‪‬‬
‫اإلسالمية في الدبلوماسية‪.‬‬
‫إدخ ال م ادة الدبلوماس ية اإلس المية في من اهج العل وم السياس ية والدبلوماس ية في الجامع ات‬ ‫‪‬‬
‫والمعاهد العربية‪.‬‬
‫ض رورة قي ام دورات تأهيلي ة خاص ة للس فراء والملحقين الدبلوماس يين لت أهيلهم وإ ع دادهم‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫وتزويدهم بالمعرفة اإلسالمية في الجانب الدبلوماسي‪.‬‬
‫ض رورة تعري ف الس لك الدبلوماس ي عموم اً بالحق ائق اإلنس انية واالجتماعي ة واالقتص ادية‬ ‫‪‬‬
‫التي تربط بين دول العالم اإلسالمي والعمل على تعزيز هذه العالقات‪.‬‬
‫تخص يص ب رامج خاص ة إلع داد الدبلوماس يين المبتع ثين إلى دول إس المية‪ ،‬تش تمل على‬ ‫‪‬‬
‫معرفة مذاهب هذه البلدان‪ ،‬وتاريخها اإلسالمي وروابطها التاريخية بالبلد الموفد‪.‬‬
‫التأكيد على دور البعثات الدبلوماسية في تحقيق الترابط والتواصل مع الجاليات اإلسالمية‬ ‫‪‬‬
‫في البالد التي يوفدون إليها سواء كانت الحكومات إسالمية أم ال‪.‬‬
‫دعوة السفراء والسلك الدبلوماسي إلى تحقيق إنتاج ثقافي يتصل بالعالقات بين بلد اإليفاد‬ ‫‪‬‬
‫وبلد االستقبال واعتبار ذلك شرطاً للترقيات والتكريم‪.‬‬
‫تعزي ز دور الم رأة في العم ل الدبلوماس ي‪ ،‬وتوف ير الظ روف المالئم ة لمش اركتها وإ يج اد‬ ‫‪‬‬
‫الفرص الالئقة بها‪ ،‬واالهتمام بالدبلوماسيات المتميزات‪.‬‬
‫‪174‬‬
‫إحي اء ال دور الدبلوماس ي لس فارة الحج‪ ،‬ومنح قائ د بعث ات الحج الحكومي ة الص فة‬ ‫‪‬‬
‫الدبلوماس ية‪ ،‬وتوف ير الش روط القانوني ة والمادي ة لقيام ه بال دور الدبلوماس ي الت اريخي ال ذي‬
‫كانت تعنيه سفارة الحج‪.‬‬
‫تعزي ز دور الملح ق الثق افي‪ ،‬إلى ج انب مس ؤولياته الثقافي ة التقليدي ة‪ ،‬وتوف ير الوس ائل‬ ‫‪‬‬
‫واإلمكان ات الالزم ة ليق وم بمس ؤوليته في ال دفاع الدبلوماس ي عن س معة األم ة اإلس المية‬
‫ومواجهة ظاهرة اإلسالموفوبيا التي تنتشر اليوم في العالم الغربي ضد اإلسالم‪ ،‬دون أن‬
‫تتحول مهمته إلى رسالة تبشيرية‪.‬‬
‫دعوة الهيئات االجتماعية إلى تكريم البعثات الدبلوماسية التي تقوم بتحقيق خدمات حقيقية‬ ‫‪‬‬
‫للجالية‪ ،‬إضافة إلى التكريم الدبلوماسي الذي تناله البعثات من السلك السياسي‪.‬‬
‫ضرورة االعتذار صراحة عن الصنفين المحرمين‪ :‬وهي تداول الخمرة ولحم الخنزير في‬ ‫‪‬‬
‫الموائد الدبلوماسية‪ ،‬واعتبار ذلك من خصائص هذه األمة‪ ،‬وعدم السماح بالمجامالت في‬
‫هذا‪ ،‬والتأكيد أن المحرم محصور في هذا االستثناء‪.‬‬
‫ال دعوة إلص دار وثيق ة عالمي ة الح ترام المق دس ال ديني في الش أن الدبلوماس ي‪ ،‬ومن ع إهان ة‬ ‫‪‬‬
‫الرموز الدينية المحترمة في أي دين‪.‬‬
‫ت دعو ه ذه الدراس ة المعاه د والكلي ات الدبلوماس ية في الع الم اإلس المي إلع داد وثيق ة‬ ‫‪‬‬
‫الدبلوماس ية اإلس المية العالمي ة وإ قراره ا في منظم ة التع اون اإلس المي‪ ،‬ومن ثم اعتماده ا‬
‫في سائر المنظمات ذات الشأن‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫المصادر والمراجع‬
‫فيما يلي بيان المراجع التي تم اعتمادها في الكتاب وبيان الطبعة التي تمت اإلشارة إلى الصفحات منها‪،‬‬
‫وتاريخ الطبع (إن ذكره الناشر) ومكانه والدار الناشرة‪.‬‬

‫وقمنا بااللتزام بذكر الكتاب أوالً ثم المؤلف اسمه أوالً ثم نسبه‪ ،‬ثم تاريخ وفاته‪ ،‬واكتفينا في المعاصرين‬
‫باإلشارة إلى أنه معاصر‪ ،‬ولو أنه توفي قبل سنين‪.‬‬

‫وق د اكتفين ا في حواشي الكت اب بالمعلوم ات الخمس ة الض رورية عن ك ل إحال ة وهي‪ :‬الكت اب واسم الك اتب‬
‫وش هرته‪ ،‬والج زء والص فحة‪ ،‬ثم توس عنا في الج دول ب ذكر الوف اة وبقي ة األلق اب وذك ر الناش ر والمطبع ة‬
‫وتاريخ النشر‪.‬‬

‫ولم نقم ب التمييز بين المص ادر والمراج ع‪ ،‬لقناعتن ا أن معظم ه ذه الكتب يمكن تص نيفها ت ارة بأنه ا مص در‬
‫وتارة بأنها مرجع‪ ،‬حيث تشتمل على األصالة والمباشرة في بعض نصوصها فتكون مصادر‪ ،‬كما تشتمل‬
‫على النق ل واإلحال ة في نص وص أخ رى فتك ون مراج ع‪ ،‬وس يكون التمي يز في ه ذه الحال ة تشويش اً على‬
‫الباحث‪.‬‬

‫وقد صدرنا القرآن الكريم والكتب التسعة ألئمة الرواية في السنة‪ ،‬نظراً لكثرة الرجوع إليهم خالل البحث‪،‬‬
‫ثم تم تصنيف الباقي بحسب وروده في الكتاب‪.‬‬

‫وقد تت اإلش ارة إلى الكتب المطبوع ة وزم ان الطي ع إن أش ارت النس خة المطبوع ة إلى ذل ك‪ ،‬وفي موض ع‬
‫واح د قمن ا باإلحال ة إلى موق ع الك تروني وه و مق ال‪ :‬إزال ة الغواش ي عن أخب ار النجاش ي‪ ،‬للش يخ اب راهيم‬
‫المخت ار مف تي أرتري ا‪ ،‬فق د اكتفين ا ب العزو إلي ه اس تناداً إلى موقع ه الرس مي ولم نج د نس خة ورقي ة مطبوع ة‬
‫تؤيد ذلك‪ ،‬وقد اكتفينا به لضرورته وفرادته‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫تاريخ‬ ‫الدار الناشرة‬ ‫المؤلف‬ ‫اسم المرجع‬ ‫م‬
‫النشر‬
‫القرآن الكريم‬ ‫‪1‬‬
‫‪1981‬‬ ‫دار الفكر ‪ -‬بيروت‬ ‫محمد بن اسماعيل البخاري ‪194‬ه‬ ‫الجامع الصحيح‬ ‫‪2‬‬
‫‪2006‬‬ ‫دار طيبة ‪ -‬الرياض‬ ‫مسلم بن الحجاج القشيري ‪ 261‬ه‬ ‫الجامع الصحيح‬ ‫‪3‬‬
‫‪1988‬‬ ‫دار الكتب العلمية ‪ -‬بيروت‬ ‫محمد بن عيسى الترمذي‪279‬ه‬ ‫سنن الترمذي‬ ‫‪4‬‬
‫‪1991‬‬ ‫دار الكتب العلمية ‪ 0‬بيروت‬ ‫أحمد بن شعيب النسائي ‪303‬ه‬ ‫سنن النسائي‬ ‫‪5‬‬
‫‪1988‬‬ ‫المكتبة العصرية ‪ -‬صيدا‬ ‫سليمان بن األشعث السجستاني ‪ 275‬ه‬ ‫سنن أبي داود‬ ‫‪6‬‬
‫‪1977‬‬ ‫دار إحياء الكتب العربية‪ -‬القاهرة‬ ‫محمد بن يزيد القزويني ابن ماجه ‪ 273‬ه‬ ‫سنن ابن ماجه‬ ‫‪7‬‬
‫‪1985‬‬ ‫دار إحياء الكتب العربية‪ -‬القاهرة‬ ‫مالك بن أنس األصبحي ‪179‬ه‬ ‫موطأ اإلمام مالك‬ ‫‪8‬‬
‫‪2001‬‬ ‫طبع دار الرسالة – بيروت‬ ‫أحمد بن عبد اهلل بن حنبل ‪ 224‬ه‬ ‫مسند أحمد بن حنبل‬ ‫‪9‬‬
‫‪2000‬‬ ‫دار المغني‬ ‫محمد عبد اهلل بن بهرام الدارمي ‪ 255‬ه‬ ‫مسند الدارمي‬ ‫‪1‬‬
‫‪0‬‬
‫تاريخ‬ ‫الدار الناشرة‬ ‫المؤلف‬ ‫اسم المرجع‬ ‫م‬
‫النشر‬
‫‪2006‬‬ ‫دار الشروق ‪ -‬دبي‬ ‫د‪.‬نبيل فتح الباب ‪ -‬معاصر‬ ‫موسوعة الدبلوماسية‬ ‫‪1‬‬
‫‪1‬‬
‫تأسست‬ ‫رئاسة الجمهورية العربية السورية‬ ‫هيئة الموسوعة العربية الكبرى‬ ‫الموسوعة العربية الكبرى‬ ‫‪1‬‬
‫‪1981‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪1988‬‬ ‫دار البشائر االسالمية – بيروت‬ ‫عبد الحي الكتاني ‪1380‬ه‬ ‫التراتيب اإلدارية في نظام‬ ‫‪1‬‬
‫الحكومة النبوية‬ ‫‪3‬‬
‫‪1985‬‬ ‫دار الفكر – بيروت‬ ‫موفق الدين عبد اهلل بن أحمد بن قدامة‬ ‫المغني في فقه االمام احمد‬ ‫‪1‬‬
‫المقدسي ‪ 620‬ه‬ ‫‪4‬‬
‫‪1988‬‬ ‫الجامعة االسالمية في المدينة المنورة‬ ‫أبو الفرج ابن الجوزي ‪ 597‬ه‬ ‫نواسخ القرآن‬ ‫‪1‬‬
‫‪5‬‬
‫‪1984‬‬ ‫المكتب االسالمي ‪ -‬بيروت‬ ‫هبة اهلل المقري ‪ 410‬ه‬ ‫الناسخ والمنسوخ‬ ‫‪1‬‬
‫‪6‬‬
‫‪2005‬‬ ‫مجمع الملك فهد لطباعة المصحف‬ ‫جالل الدين السيوطي ‪ 911‬ه‬ ‫اإلتقان في علوم القرآن‬ ‫‪1‬‬
‫بالمدينة‬ ‫‪7‬‬
‫‪1994‬‬ ‫دار الكتب العلمية ‪ -‬بيروت‬ ‫أبو الحسن الماوردي ‪ 450‬ه‬ ‫الحاوي في الفقه الشافعي‬ ‫‪1‬‬
‫‪8‬‬
‫‪1994‬‬ ‫دار الفكر – دمشق‬ ‫د‪.‬وهبة الزحيلي ‪ -‬معاصر‬ ‫الفقه اإلسالمي وأدلته‬ ‫‪1‬‬

‫‪177‬‬
‫‪9‬‬
‫‪2004‬‬ ‫دار الكتب العلمية – بيروت‬ ‫النويري أحمد بن عبد الوهاب ‪ 733‬ه‬ ‫نهاية األرب في فنون األدب‬ ‫‪2‬‬
‫‪0‬‬
‫‪1990‬‬ ‫دار الكتاب العربي ‪ -‬بيروت‬ ‫عبد الملك بن هشام ‪ 218 -‬ه‬ ‫السيرة النبوية ‪ -‬سيرة ابن‬ ‫‪2‬‬
‫هشام‬ ‫‪1‬‬
‫‪2000‬‬ ‫دار إحياء التراث العربي‬ ‫خليل بن أيبك الصفدي – ‪ 764‬ه‬ ‫الوافي بالوفيات‬ ‫‪2‬‬
‫‪2‬‬
‫‪2009‬‬ ‫دار الشيماء – فلسطين‬ ‫د‪ .‬سعيد بو عباه ‪ -‬معاصر‬ ‫الدبلوماسية تاريخها‬ ‫‪2‬‬
‫ومؤسساتها‬ ‫‪3‬‬
‫‪2011‬‬ ‫المدينة المنورة‬ ‫المجلد ‪19‬‬ ‫مجلة الجامعة اإلسالمية‬ ‫‪2‬‬
‫‪4‬‬
‫‪2008‬‬ ‫دمشق‬ ‫جامعة دمشق‬ ‫مجلة العلوم االقتصادية‬ ‫‪2‬‬
‫واالجتماعية‬ ‫‪5‬‬
‫‪1987‬‬ ‫دار الكتب العلمية – بيروت‬ ‫ابن جرير الطبري ‪ 310‬ه‬ ‫تاريخ األمم والملوك‬ ‫‪2‬‬
‫‪6‬‬
‫‪1998‬‬ ‫دار الكتب العلمية – بيروت‬ ‫أحمد بن علي المقريزي ‪ 845‬ه‬ ‫المواعظ واالعتبار‬ ‫‪2‬‬
‫‪7‬‬
‫‪1988‬‬ ‫مؤسسة الرسالة – بيروت‬ ‫ول ديورانت ت ‪ 1981‬ميالدية‬ ‫قصة الحضارة‬ ‫‪2‬‬
‫‪8‬‬
‫‪1988‬‬ ‫دار ابن حزم – بيروت‬ ‫صديق حسن خان القنوجي ‪ 1307‬ه‬ ‫أبجد العلوم‬ ‫‪2‬‬
‫‪9‬‬
‫‪2012‬‬ ‫مقال في مجلة منار اإلسالم‬ ‫عباس حلمي ‪ -‬معاصر‬ ‫الدبلوماسية في التاريخ‬ ‫‪3‬‬
‫اإلماراتية ‪ -‬العدد ‪ 2‬لعام ‪1979‬‬ ‫اإلسالمي‬ ‫‪0‬‬
‫‪2010‬‬ ‫دار الفكر ‪ -‬دمشق‬ ‫محمد بوبوش‪ ،‬جامعة محمد الخامس ‪-‬‬ ‫تطور الدبلوماسية اإلسالمية‬ ‫‪3‬‬
‫معاصر‬ ‫عبر العصور‬ ‫‪1‬‬
‫‪1997‬‬ ‫دار صادر – بيروت‬ ‫أحمد بن محمد المقري التلمساني ‪ 758 -‬ه‬ ‫نفح الطيب في غصن‬ ‫‪3‬‬
‫األندلس الرطيب‬ ‫‪2‬‬
‫‪1992‬‬ ‫دار المعرفة – بيروت‬ ‫اسماعيل بن عمر بن كثير ‪774‬ه‬ ‫تفسبر القرآن العظيم‬ ‫‪3‬‬
‫‪3‬‬
‫‪1976‬‬ ‫دار المعرفة ‪ -‬بيروت‬ ‫اسماعيل بن عمر بن كثير ‪774‬ه‬ ‫السيرة النبوية البن كثير‬ ‫‪3‬‬
‫‪4‬‬
‫‪1994‬‬ ‫دار الكتب العلمية ‪ -‬بيروت‬ ‫محمد بن أحمد الشربيني الخطيب ‪ 977‬ه‬ ‫مغني المحتاج‬ ‫‪3‬‬
‫‪5‬‬
‫‪2003‬‬ ‫دار عالم الكتب – بيروت‬ ‫شمس الدين محمد بن محمد الرعيني المغربي‬ ‫مواهب الجليل لشرح‬ ‫‪3‬‬
‫‪ 954‬ه‬ ‫مختصر خليل‬ ‫‪6‬‬
‫‪1989‬‬ ‫دار الفكر –بيروت‬ ‫محمد عليش ‪ 1299‬ه‬ ‫شرح منح الجليل‬ ‫‪3‬‬
‫‪7‬‬
‫‪1898‬‬ ‫المطبعة الكبرى األميرية بوالق ‪-‬‬ ‫عثمان بن علي الزيلعي ‪ 743‬ه‬ ‫تبيين الحقائق شرح كنز‬ ‫‪3‬‬

‫‪178‬‬
‫القاهرة‬ ‫الدقائق‬ ‫‪8‬‬
‫دار الكتب العلمية ‪ -‬بيروت‬ ‫أبو بكر بن العتكي البزار ‪ 292‬ه‬ ‫البحر الزخار – مسند البزار‬ ‫‪3‬‬
‫‪9‬‬
‫‪1993‬‬ ‫طبع على نفقة خادم الحرمين‬ ‫موفق الدين عبد اهلل بن أحمد بن قدامة‬ ‫المقنع‬ ‫‪4‬‬
‫المقدسي ‪ 620‬ه‬ ‫‪0‬‬
‫‪1993‬‬ ‫طبع على نفقة خادم الحرمين‬ ‫شمس الدين عبد الرحمن بن محمد بن قدامة‬ ‫الشرح الكبير‬ ‫‪4‬‬
‫المقدسي ‪ 682‬ه ويسمى أيضاً الشافي في‬ ‫‪1‬‬
‫شرح المقنع‬
‫‪2003‬‬ ‫دار الكتب العلمية ‪ -‬بيروت‬ ‫أحمد بن الحسين البيهقي ‪ 458‬ه‬ ‫السنن الكبرى للبيهقي‬ ‫‪4‬‬
‫‪2‬‬
‫‪1998‬‬ ‫دار الغيث ‪ -‬السعودية‬ ‫ابن حجر العسقالني ‪ 773‬ه‬ ‫المطالب العالية بزوائد‬ ‫‪4‬‬
‫المسانيد الثمانية‬ ‫‪3‬‬
‫دار المعرفة ‪ -‬بيروت‬ ‫أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ‪ 728‬ه‬ ‫السياسة الشرعية‬ ‫‪4‬‬
‫‪4‬‬
‫‪2006‬‬ ‫دار الرسالة ‪ -‬بيروت‬ ‫محمد بن أحمد القرطبي ‪ 671‬ه‬ ‫الجامع ألحكام القرآن‬ ‫‪4‬‬
‫‪5‬‬
‫نسخة على المكتبة الشاملة من موقع‬ ‫أحمد بن أبي بكر البوصيري ‪ 839‬ه‬ ‫اتحاف المهرة الخيرة بزوائد‬ ‫‪4‬‬
‫المشكاة‬ ‫المسانيد العشرة‬ ‫‪6‬‬
‫دار الكتب العلمية ‪ -‬بيروت‬ ‫محمد عبد الرحمن المباركفوري ‪ 1353‬ه‬ ‫تحفة األحوذي بشرح‬ ‫‪4‬‬
‫الترمذي‬ ‫‪7‬‬
‫‪2005‬‬ ‫دار البشائر اإلسالمية ‪ -‬بيروت‬ ‫محمد بن إسماعيل الشاقعي ‪ 204‬ه‬ ‫مسند اإلمام الشافعي ‪-‬‬ ‫‪4‬‬
‫ترتيب سنجر الناصري‬ ‫‪8‬‬
‫‪1995‬‬ ‫دار الكتب العلمية – بيروت‬ ‫محمد شمس الحق العظيم آبادي ‪ 1329‬ه‬ ‫عون المعبود في شرح سنن‬ ‫‪4‬‬
‫أبي داود‬ ‫‪9‬‬
‫‪1999‬‬ ‫دار الكتب العلمية ‪ -‬بيروت‬ ‫سليمان بن خلف الباجي األندلسي ‪ 474‬ه‬ ‫المنتقى شرح الباجي‬ ‫‪5‬‬
‫‪0‬‬
‫‪1988‬‬ ‫دار المالح – دمشق‬ ‫ابن رجب الحنبلي ‪ 795‬ه‬ ‫شرح العلل للترمذي‬ ‫‪5‬‬
‫‪1‬‬
‫‪1988‬‬ ‫دار الفكر – بيروت‬ ‫أحمد بن علي بن حجر العسقالني ‪ 773‬ه‬ ‫فتح الباري في شرح البخاري‬ ‫‪5‬‬
‫‪2‬‬
‫دار الكتب العلمية ‪ -‬بيروت‬ ‫اإلمام مالك بن أنس ‪ 179‬ه‬ ‫المدونة الكبرى‬ ‫‪5‬‬
‫تحقيق زكريا عميرات‬ ‫‪3‬‬
‫دار الكتب العلمية ‪ -‬بيروت‬ ‫أحمد بن علي بن حجر العسقالني ‪ 733‬ه‬ ‫اإلصابة في تمييز الصحابة‬ ‫‪5‬‬
‫‪4‬‬
‫‪1992‬‬ ‫دار الجيل ‪ -‬بيروت‬ ‫يوسف بن عبد البر القرطبي ‪ 463‬ه‬ ‫االستيعاب في معرفة‬ ‫‪5‬‬
‫األصحاب‬ ‫‪5‬‬
‫‪1983‬‬ ‫دار الفكر –دمشق‬ ‫د‪.‬محمد عزيز شكري – معاصر‬ ‫المدخل إلى القانون الدولي‬ ‫‪5‬‬
‫العام وقت السلم‬ ‫‪6‬‬

‫‪179‬‬
‫‪1995‬‬ ‫منشأة المعارف –اإلسكندرية‬ ‫علي صادق أبو هيف – معاصر‬ ‫القانون الدولي العام‬ ‫‪5‬‬
‫‪7‬‬
‫مكتبة الدعوة اإلسالمية –مصر‬ ‫محمد بن علي الشوكاني ‪ 1255‬ه‬ ‫نيل األوطار شرح منتقى‬ ‫‪5‬‬
‫األخبار‬ ‫‪8‬‬
‫‪1964‬‬ ‫المكتبة السلفية ‪ -‬القاهرة‬ ‫يعقوب بن ابراهيم أبو يوسف ‪ 182‬ه‬ ‫الخراج‬ ‫‪5‬‬
‫‪9‬‬
‫دار الكتب العلمية ‪ -‬بيروت‬ ‫يحيى بن شرف النووي ‪ 676‬ه‬ ‫روضة الطالبين‬ ‫‪6‬‬
‫‪0‬‬
‫‪1947‬‬ ‫دار المكتبة التجارية الكبرى ‪-‬‬ ‫محمد بن خلف الضبي الملقب وكيع ‪ 197‬ه‬ ‫أخبار القضاة‬ ‫‪6‬‬
‫القاهرة‬ ‫‪1‬‬
‫دار المعرفة ‪ -‬بيروت‬ ‫شمس األئمة السرخسي ‪ 286‬ه‬ ‫المبسوط‬ ‫‪6‬‬
‫‪2‬‬
‫دار الكتب العلمية ‪ -‬بيروت‬ ‫إبراهيم بن علي الشيرازي ‪ 476‬ه‬ ‫المهذب‬ ‫‪6‬‬
‫‪3‬‬
‫‪1992‬‬ ‫دار الفكر –بيروت‬ ‫علي الصعيدي العدوي ‪ 1189‬ه‬ ‫حاشية العدوي‬ ‫‪6‬‬
‫‪4‬‬
‫‪1990‬‬ ‫دار الكتب العلمية بيروت‬ ‫أحمد بن الحسين البيهقي ‪ 458‬ه‬ ‫شعب اإليمان‬ ‫‪6‬‬
‫‪5‬‬
‫‪1996‬‬ ‫دار إحياء التراث العربي – بيروت‬ ‫علي بن محمد الجزري بن األثير ‪ 637‬ه‬ ‫أسد الغابة‬ ‫‪6‬‬
‫‪6‬‬
‫‪1992‬‬ ‫دار أفنان‬ ‫محمد حبش – معاصر‬ ‫سيرة رسول اهلل‬ ‫‪6‬‬
‫‪7‬‬
‫‪1914‬‬ ‫المطبعة األميرية ‪ -‬القاهرة‬ ‫عمرو بن بحر الجاحظ ‪ 255‬ه‬ ‫أخالق الملوك‬ ‫‪6‬‬
‫تحقيق أحمد زكي باشا‬ ‫‪8‬‬
‫‪1993‬‬ ‫دار البشير – األردن‬ ‫عبد العزيز بن محمد الكناني ‪ 767‬ه‬ ‫المختصر الكبير في سيرة‬ ‫‪6‬‬
‫الرسول‬ ‫‪9‬‬
‫عن ملتقى أهل الحديث‬ ‫عبد الرحيم بن الحسين العراقي ‪ 806‬ه‬ ‫ألفية العراقي في الحديث‬ ‫‪7‬‬
‫‪0‬‬
‫‪1983‬‬ ‫مكتبة العلوم والحكم – الموصل‬ ‫سليمان بن أحمد الطبراني ‪ 360‬ه‬ ‫معجم الطبراني‬ ‫‪7‬‬
‫‪1‬‬
‫‪1992‬‬ ‫دار الفكر –بيروت‬ ‫علي بن أبي بكر الهيتمي ‪ 973‬ه‬ ‫مجمع الزوائد‬ ‫‪7‬‬
‫‪2‬‬
‫‪1988‬‬ ‫دار القلم ‪ -‬دمشق‬ ‫محمد بن محمد بن شهبة ‪ -‬معاصر‬ ‫السيرة النبوية‬ ‫‪7‬‬
‫‪3‬‬
‫طبع مؤسسة شباب الجامعة –‬ ‫الحسين بن علي الوزير ‪ 840‬ه‬ ‫السياسة‬ ‫‪7‬‬
‫اإلسكندرية‬ ‫‪4‬‬
‫‪1988‬‬ ‫دار الكتب العلمية ‪ -‬بيروت‬ ‫تقي الدين الحصني ‪ 829‬ه‬ ‫كفاية األخيار في حل غاية‬ ‫‪7‬‬
‫االختصار‬ ‫‪5‬‬

‫‪180‬‬
‫‪1988‬‬ ‫دار الكتب العلمية – بيروت‬ ‫أحمد بن الحسين البيهقي ‪ 458‬ه‬ ‫دالئل النبوة‬ ‫‪7‬‬
‫‪6‬‬
‫‪2003‬‬ ‫دار الكتب العلمية – بيروت‬ ‫القاضي ابن العربي ‪ 543‬ه‬ ‫أحكام القرآن‬ ‫‪7‬‬
‫‪7‬‬
‫‪1973‬‬ ‫دار الكنوز األدبية الرياض‬ ‫ابن تيمية أحمد بن عبد الحليم ‪ 728‬ه‬ ‫درء تعارض العقل والنقل‬ ‫‪7‬‬
‫‪8‬‬

‫وإ ذ نضع القلم فإننا نأمل أن نكون قد قدمنا مفيداً وجديداً للمكتبة العربية وألبنائنا من الصاعدين في السلك‬
‫الدبلوماسي‪ ،‬نرجو اهلل أن يكتب لهم التوفيق في سعيهم‪ ،‬في تأمين دبلوماسية ناجحة وحكيمة‪ ،‬تكون رص يداً‬
‫للوطن وأبنائه‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫وآخر دعوانا أن الحمد هلل رب العالمين‬

‫‪182‬‬

You might also like