Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 3

‫متواصل فى اإلذاعة المدرسية‪ ،‬ولمَّا كان زمالئى يضايقوننى؛‬ ‫ٍ‬ ‫بشكل‬

‫ٍ‬ ‫كنت أق ِّدم ُخطبًا‬


‫ُ‬ ‫ً‬
‫تلميذا فى مدرسة كفر المياسرة االبتدائية‪،‬‬ ‫ُ‬
‫كنت‬ ‫لما‬
‫ب هذا‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫ألننى أنطق حرف الرَّ اء غينا‪ ،‬على طريقة أهل باريس‪ ،‬حيث ورثت ذلك عن خال أمى‪ ،‬والذى يحمل اسم أحمد أيضًا‪ ،‬قرَّ رت تجن َ‬
‫ُ‬
‫كبرت عامًا‪ ،‬ق َّل الخجلُ‪ ،‬وزادت الشجاعة‬ ‫صا‪ ،‬وكلما‬‫الحرف فى الكالم عمُومًا‪ ،‬وفى ُخطبى سواء أكانت مُرتجلة أم مكتوبة ُخصو ً‬ ‫َ‬
‫ً‬
‫والمواجهة والثقة فى النفس‪ ،‬وصار األمر عندى عاد ّيا‪ ،‬ووقتئذ لم أكن أعرف شي ًئا عن واصل بن عطاء (‪131-83‬هجرية ‪– 700 -‬‬
‫‪ 748‬ميالدية)‪ ،‬ذلك العارف الذى عاش فى العصر األموى‪ ،‬وهو أحد تالمذة الحسن البصرى‪ ،‬وقد أ َّسس بعد ذلك مذهب المُعتزلة‪ ،‬بعدما‬
‫اعتزل شيخه البصرى‪ ،‬الذى قال وقتها‪« :‬اعتزلنا واصل»‪ ،‬وهو صاحب مبدأ أو نظرية «المنزلة بين المنزلتين»‪ ،‬وهو من أهل العقل ال‬
‫كنت أخفَّ منه وطأ ًة فى‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫بالغزال األلثغ‪ ،‬وربما‬ ‫النقل‪ ،‬الفصيح‪ ،‬الفطِ ن‪ ،‬حسن التصرُّ ف‪ ،‬الذى يتحرَّ ج مثلى من نطق حرف الرَّ اء‪ ،‬ولذا ل ِّقب‬
‫ُرتجلة (صارت بعد ذلك من عيون تراث النثر العربى)‪ ،‬ال يذكر فيها عام ًدا قاص ًدا حرف الرَّ اء‪ ،‬إذ استغنى‬ ‫ً‬ ‫النطق‪ ،‬فقرر أن يلقى ُخ ً‬
‫طبة م‬
‫ينزع الرَّ اء من خطبته‪ ،‬واعتبرها غير موجودة أسا ًسا فى األبجدية العربية‬ ‫‪.‬عن هذا الحرف من اللغة‪ ،‬غير باكٍ عليه‪ ،‬وحرص على أن ِ‬

‫مقاالت متعلقة‬

‫زلة العالِم التى ال ُتغتفر‬

‫تهمة اسمُها خدش الحياء العام‬

‫وُ عَّاظ السالطين‬

‫(وجاب الراء لم يشعر بها أحد‪ ،)...‬وبالفعل لم يشعر‬ ‫َ‬ ‫وعلى حد قول الشاعر ب َّشار بن برد «‪ 167-95‬هـجرية ‪784-714 /‬ميالدية»‪:‬‬
‫‪.‬أحد من الذين حضروا الخطبة بأن الحرف العاشر من أبجدية اللغة العربية محذوفٌ منها‪ ،‬من دون تع ُّم ٍد أو تكلُّ ٍ‬
‫ف أو إعدا ٍد مسبق‬

‫كما يذكر الشاعر صفوان األنصارى «توفى فى ‪ 180‬هـجرية ‪ 796 /‬ميالدية»‪ ...( :‬فأبدع قوالً ما له فى الورى ندٌّ‪ ،‬فما نقصته الراء إذ‬
‫‪.‬كان قادرً ا‪ ..‬على تركها واللفظ مطرّ د َسرْ د)‬

‫وقال عنه المبرّ د (‪ 10‬من ذى الحجة ‪ 210‬هـجرية ‪ 825/‬ميالدية‪ 286 ،‬هـجرية ‪ 899/‬ميالدية)‪ ...« :‬كان واصل بن عطاء أحد‬
‫األعاجيب‪ ،‬وذلك أنه كان ألثغ‪ ،‬قبيح اللثغة فى الرَّ اء‪ ،‬فكان يُخلّص كالمه من الراء»‪ ،‬ويذكر الجاحظ (‪ 255- 159‬هـجرية – ‪-٧٧٦‬‬
‫‪ ٨٦٨‬ميالدية)‪« :‬ولما علم واصل أنه ألثغ‪ ،‬فاحش اللثغ‪ ،‬وأن مخرج ذلك منه شنيع‪ ،‬وأنه إذا كان داعية مقالة‪ ،‬ورئيس نِحْ لة‪ ،‬وأنه يريد‬
‫‪».‬االحتجاج على أرباب ال ِّن َحل‪ ،‬وزعماء ال ِملَ ل… رام أبو حذيفة (وهو اسمه) إسقاط الراء من كالمه‪ ،‬وإخراجها من حروف منطقه‬

‫وكان من حوله يطلبون منه – قصد إحراجه ‪ -‬قراءة هذه اآلية من سورة التوبة‪َ « :‬ب َرا َءةٌ م َِّن هَّللا ِ َو َرسُولِ ِه إِلَى الَّذ َ‬
‫ِين َعا َهد ُّتم م َِّن ْال ُم ْش ِرك َ‬
‫ِين‪،‬‬
‫ض أَرْ َب َع َة أَ ْشه ٍُر»‪ ،‬لكنه كان يقرأ عليهم‪« :‬عه ٌد من هللا ونبيه إلى الذين عاهدتهم من الفاسقين فسيحوا فى البسيطة هاللين‬ ‫َفسِ يحُوا فِى اأْل َرْ ِ‬
‫‪».‬هاللين‬
‫ٌ‬
‫رقعة مضمونها‪« :‬أمر أمير األمراء الكرام أن ُتحفر بئ ٌر على قارعة الطريق‬ ‫ويذكر ابن العماد الحنبلى أنه دُفعت إلى واصل بن عطاء‬
‫فيشرب منها الصادر والوارد»‪ .‬فقرأ على الفور‪« :‬حكم حاكم الحكام الفخام‪ ،‬أن ينبش جب على جادة الممشى فيستقى منه الصادى‬
‫‪».‬والغازى‬

‫وقال البغدادى – وهو من مُخالفيه ‪« :-‬وأما لثغه فى الراء فمن مثالبه؛ ألنها تمنع من كونه مؤذ ًنا‪ ،‬وإمامًا للقارئين؛ لعجزه؛ لقوله‪ :‬أشهد أن‬
‫محمد رسول هللا‪ ،‬وأن يقول‪ :‬هللا أكبر‪ ،‬وكان ال يصح منه قراءة آية فيها الرَّ اء‪ ،‬وكفى المعتزلة خزيا أن يكون زعيمها من ال يصح‬
‫‪».‬صالتهم خلفه‪ ،‬وأما خطبته التى ال راء فيها‪ ،‬فعساه كان فى تحبيرها أياما‬

‫ومما يُقال عن واصل بن عطاء أنه ظل أربع سنوات من خمس قضاها فى البصرة متعلِّمًا ال يتكلم أب ًدا‪ ،‬ملتزمًا صمته‪ ،‬حتى ظن من حوله‬
‫‪.‬أنه أخرس‪ ،‬فسألوا عنه الحسن البصرى‪ ،‬فأجابهم‪« :‬إما أن يكون أجهل الناس أو أعلم الناس»‪ ،‬وهو بالفعل عندى من أعلم الناس‬

‫ًـ‬
‫مهمة من‬ ‫ً‬
‫وثيقة‬ ‫وأثبت لكم – هنا – نص الخطبة‪ ،‬الذى يد ُّل على فطنة وذكاء واقتدار وثقافة ومعرفة بأسرار اللغة‪ ،‬كما أن النصَّ يُع ُّد‬
‫‪.‬وثائق القرن الثانى للهجرة‬

‫‪:‬نصُّ ال ُخطبة‬

‫الحمد هلل القديم بال غاية‪ ،‬والباقى بال نهاية‪ ،‬الذى عال فى دنوه‪ ،‬ودنا فى علوه‪ ،‬فال يحويه زمان‪ ،‬وال يحيط به مكان‪ ،‬واليؤوده حفظ ما«‬
‫خلق‪ ،‬ولم يخلقه على مثال سبق‪ ،‬بل أنشأه ابتداعا‪ ،‬وعد له اصطناعا‪ ،‬فأحسن كل شىء خلقه وتمم مشيئته‪ ،‬وأوضح حكمته‪ ،‬فدل على‬
‫ألوهيته‪ ،‬فسبحانه ال معقب لحكمه‪ ،‬وال دافع لقضائه‪ ،‬تواضع كل شىء لعظمته‪ ،‬وذل كل شىء لسلطانه‪ ،‬ووسع كل شىء فضله‪ ،‬ال يعزب‬
‫عنه مثقال حبة وهو السميع العليم‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال وحده ال مثيل له‪ ،‬إلها ً تقدست أسماؤه وعظمت آالؤه‪ ،‬عال عن صفات كل مخلوق‪،‬‬
‫وتنزه عن شبه كل مصنوع‪ ،‬فال تبلغه األوهام‪ ،‬وال تحيط به العقول وال األفهام‪ ،‬يُعطى فيحلم‪ ،‬ويدعى فيسمع‪ ،‬ويقبل التوبة عن عباده‪،‬‬
‫ويعفو عن السيئات ويعلم ما يفعلون‪ .‬وأشهد شهادة حق‪ ،‬وقول صدق‪ ،‬بإخالص نية‪ ،‬وصدق طوية‪ ،‬أن محمد بن عبد هللا عبده ونبيه‪،‬‬
‫وخاصته وصفيه‪ ،‬ابتعثه إلى خلقه بالبينات والهدى ودين الحق‪ ،‬فبلغ مألكته‪ ،‬ونصح ألمته‪ ،‬وجاهد فى سبيله‪ ،‬ال تأخذه فى هللا لومة الئم‪،‬‬
‫وال يصده عنه زعم زاعم‪ ،‬ماضيا ً على سنته‪ ،‬موفيا على قصده‪ ،‬حتى أتاه اليقين‪ .‬فصلى هللا على محمد وعلى آل محمد أفضل وأزكى‪،‬‬
‫‪.‬وأتم وأنمى‪ ،‬وأجل وأعلى صالة صالها على صفوة أنبيائه‪ ،‬وخالصة مالئكته‪ ،‬وأضعاف ذلك‪ ،‬إنه حميد مجيد‬

‫أوصيكم عباد هللا مع نفسى بتقوى هللا والعمل بطاعته‪ ،‬والمجانبة لمعصيته‪ ،‬فأحضكمـ على ما يدنيكم منه‪ ،‬ويزلفكم لديه‪ ،‬فإن تقوى هللا‬
‫أفضل زاد‪ ،‬وأحسن عاقبة فى معاد‪ .‬وال تلهينكم الحياة الدنيا بزينتها وخدعها‪ ،‬وفوائن لذاتها‪ ،‬وشهوات آمالها‪ ،‬فإنها متاع قليل‪ ،‬ومدة إلى‬
‫حين‪ ،‬وكل شىء منها يزول‪ ،‬فكم عاينتم من أعاجيبها‪ ،‬وكم نصبت لكم من حبائلها‪ ،‬وأهلكت ممن جنح إليها واعتمد عليها‪ ،‬أذاقتهم حلوا‪،‬‬
‫ومزجت لهم سما‪ .‬أين الملوك الذين بنوا المدائن‪ ،‬وشيدوا المصانع‪ ،‬وأوثقوا األبواب‪ ،‬وكاثفوا الحجاب‪ ،‬وأعدوا الجياد‪ ،‬وملكوا البالد‪،‬‬
‫واستخدموا التالد‪ ،‬قبضتهم بمخلبها‪ ،‬وطحنتهم بكلكلها‪ ،‬وعضتهم بأنيابها‪ ،‬وعاضتهم من السعة ضيقا‪ ،‬ومن العز ذالً‪ ،‬ومن الحيلة فناء‪،‬‬
‫‪.‬فسكنوا اللحود‪ ،‬وأكلهم الدود‪ ،‬وأصبحوا ال تعاينُ إال مساكنهم‪،‬ـ وال تجد إال معالمهم‪،‬ـ وال تحسس منهم أحد وال تسمع لهم َنبسا‬
‫فتزودوا عافاكم هللا فإن أفضل الزاد التقوى‪ ،‬واتقوا هللا يا أولى األلباب لعلكم تفلحون‪ .‬جعلنا هللا وإياكم ممن ينتفع بمواعظه‪ ،‬ويعمل لحظه‬
‫وسعادته‪ ،‬وممن يستمع القول فيتبع أحسنه‪ ،‬أولئك الذين هداهم هللا وأولئك هم أولوا األلباب‪ .‬إن أحسن قصص المؤمنين‪ ،‬وأبلغ مواعظ‬
‫‪.‬المتقين كتاب هللا‪ ،‬الزكية آياته‪ ،‬الواضحة بيناته‪ ،‬فإذا تلى عليكم فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم تهتدون‬

‫أعوذ باهلل القوى‪ ،‬من الشيطان الغوى‪ ،‬إن هللا هو السميع العليم‪ .‬بسم هللا الفتاح المنان‪ .‬قل هو هللا أحد‪ ،‬هللا الصمد‪ ،‬لم يلد ولم يولد‪ ،‬ولم يكن‬
‫‪.‬له كفواً أحد‬

‫نفعنا هللا وإياكم بالكتاب الحكيم‪ ،‬وباآليات والوحى المبين‪ ،‬وأعاذنا وإياكم من العذاب األليم‪ .‬وأدخلنا جنات النعيم‪ .‬وأقول ما به أعظكم‪،‬‬
‫»وأستعتبُ هللا لى ولكم‬

You might also like