Professional Documents
Culture Documents
Reviewing and Presenting Azmi Book Relegion and Sectarianism FullFile
Reviewing and Presenting Azmi Book Relegion and Sectarianism FullFile
سلسلة :ملفات
____________________________
التطبيقية
ّ تماعية
االجتماعية والعلوم االج ّ
ّ بحثية عر ّبية للعلوم
مؤسسة ّ
السياسات ّ بي لألبحاث ودراسة ّالمركز العر ّ
لسياسات ٍ
اهتماما لدراسة ا ّ
ً أبحاث فهو يولي اإلقليمي والقضايا الجيوستراتيجية .واضافة إلى كونه مركز
ّ والتّاريخ
دولية تجاه المنطقة العر ّبية ،وسواء كانت سياسات
ونقدها وتقديم البدائل ،سواء كانت سياسات عر ّبية أو سياسات ّ
مؤسسات وأحزاب وهيئات.
حكومية ،أو سياسات ّ
ّ
يخية ،وبمقاربات
االقتصادية والتار ّ
ّ االجتماعية و
ّ يعالج المركز قضايا المجتمعات والدول العر ّبية بأدوات العلوم
ٍ
سمات بي ،ومن وجود
نساني عر ّ
ّ قومي وا
ّ تكاملية عابرة للتّخصصات .وينطلق من افتراض وجود أمن ّ ومنهجيات
ّ
بي ،ويعمل على صوغ هذه الخطط وتحقيقها ،كما يطرحها كبرامج مكانية تطوير اقتصاد عر ّ
ومصالح مشتركة ،وا ّ
البحثي ومجمل إنتاجه. ٍ
وخطط من خالل عمله
ّ
________________
السياسات
بي لألبحاث ودراسة ّ
المركز العر ّ
شارع رقم - 826 :منطقة 66
الدفنة
ص .ب10277 :
الدوحــة ،قطــر
ّ
هاتف | +974 44199777 :فاكس+974 44831651 :
org.dohainstitute.www
ملف ندوة تقديم ومناقشة كتاب:
الدين والعلامنية يف سياق تاريخي
للدكتور عزمي بشارة
عقدت ندوة في 5شباط /فبراير 2016في فرع المركز العربي لألبحاث ودراسات السياسات بتونس ،ت َّم فيها
تقديم كتاب الدين والعلمانية في سياق تاريخي ومناقشته ،والذي صدر في ثالثة مجلدات (،)2015–2013
وهو من تأليف الدكتور عزمي بشارة.
قدم فيها الدكتور كمال عبد اللطيف اإلطار العام للكتاب ،محاوًال إبراز أهم
ابتدأت الندوة بالورقة الخلفية التي ّ
أطروحاته ونتائجه ،لتنطلق بعد ذلك مداخالت الباحثين .فقد ساهمت مجموعة من الباحثين في إغناء هذه
الندوة ،فقدموا أو ارقًا مهمة ،رأينا أن ننشرها كاملة؛ من أجل إغناء الجدل وتطويره حول الدين والعلمانية ،وهو
التباسا في الفكر المعاصر .وقد حضر الندوة مؤلف الكتاب الدكتور عزمي بشارة ،الذي عقَّب
ً أحد أكثر المفاهيم
في نهايتها على مداخالت الباحثين ومناقشاتهم.
يسرنا أن نقدم هذه المساهمات وننشرها على موقع المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات ،فيما ننتظر
و ّ
مناقشات وتعقيبات أخرى حول الموضوع.
لقد صدر الجزء األول من كتاب الدين والعلمانية في سياق تاريخي في طبعته الثانية المنقحة عام 2013
ثم صدر الجزء الثاني في مجلدين اثنين عام ،2015والعنوان الفرعي تحت عنو ٍ
ان فرعي هو :الدين والتدينّ .
للمجلد األول هو :العلمانية والعلمنة :الصيرورة الفكرية ،أما العنوان الفرعي للمجلد الثاني فهو :العلمانية
ونظرية العلمنة .ويبلغ مجموع صفحات الكتاب 1888صفحة.
ٍ
باقتباسات من مجلدات الكتاب الثالثة في أوراق هذه الندوة ،فسوف وجدير بالذكر أنه عندما يجري االستشهاد
ترد اإلحاالت إليها بين قوسين في متون األوراق من خالل الرموز التالية:
(ج :)1الدين والتدين (الدوحة /بيروت :المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات.)2013 ،
( -ج 2مج :)1العلمانية والعلمنة :الصيرورة الفكرية (الدوحة /بيروت :المركز العربي لألبحاث ودراسة
السياسات.)2015 ،
( -ج 2مج :)2العلمانية ونظريات العلمنة (الدوحة /بيروت :المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات،
.)2015
1 ورقة خلفية عن الندوة
كمال عبد اللطيف
حدود العلامنية :مالحظات عىل كتاب عزمي بشارة "الدين والعلامنية يف سياق
14 تاريخي"
فتحي المسكيني
32 أهل الديـن وأهل الدنيا :مالحظات حول "العلمنة" يف سياق فلسفـي
إنقزو
فتحي ّ
" الدنيوية" و"التحييد" عند عزمي بشارة :قراءة يف مرشوع الدين والعلامنية 64
مصطفى أيت خرواش
بْلور المنجز الفكري األخير للدكتور عزمي بشارة الصادر في ثالثة مجلدات في موضوع :الدين والعلمانية في
أن سؤال العلمانية في
جهدا في النظر الفلسفي والسياسي يستحق المتابعة والعناية ،وبخاصة ّ
سياق تاريخيً ،
وصور الصراع
َّ تحوالته النظرية والتاريخية ،يع ُّد اليوم من بين األسئلة التي تساهم في معاينة جوانب من أنماط
ُّ
السياسي والثقافي وتشخيصها ،والتي تدور رحاها في المجتمع العربي.
بارز ،سواء في أنماط مقاربته المتنوعة والغنية بالمعطيات النظرية واإلضاءات النقدية،
جهدا ًا
يستوعب هذا العمل ً
أو في كيفيات بسطه وبنائه لمباحث فصوله .وقد ال نبالغ عندما نعتبر أنه يؤسس ٍ
لعمل غير مسبو ٍ
ق في الثقافة
حصر لها،العربية المعاصرة؛ عمل يواجه فيه الدكتور عزمي بشارة إشكاالت سياسية وفلسفية وتاريخية ال ْ
التباسا
ً يرتب مالمحها ويركب ما ي ْس ِعفه ُّ
بتعقل أكثر تاريخيةً وأكثر نجاعة لواحد من أكثر الموضوعات السياسية
في الفكر المعاصر.
يستمد عمل الدكتور عزمي بشارة قوته النظرية من نوعية التفكير الموجه لطرائقه في البناء والتركيب ،حيث
يحرص على مواجهة األحكام العامة والمواقف المبسَّطة ،ليعاين تحوالت الموقف العلماني في تمظهراته السياسية
والتاريخية المتعدِّدة.
وما َّ
عزز خيارات الدكتور عزمي في رحلته الشاقة في عملية التأليف ،استناده في مجلدات عمله ،إلى النصوص
ومرور بأعالم ومؤسسي الفلسفة السياسية الحديثة
ًا المؤسسة للمنظور العلماني في التاريخ من ماكيافيلي إلى راولز،
وخاصة هوبز ولوك ،ثم فالسفة األنوار بتنوع مواقفهم وتناقضها من الدين ومن الدولة ومن العالقة بينهما ،إضافة
كاتب وباحث مغربي ،أستاذ الفلسفة السياسية والفكر العربي المعاصر .كلية اآلداب ،جامعة محمد الخامس بالرباط ،المغرب. *
1
أيضا على أهم المصنفات المعاصرة ،التي
إلى مواقف وتصورات ماكس فيبر وهبرماس ،ومن دون إغفال اعتماده ً
اعتنت سواء في البحث االجتماعي أو في العلوم السياسية بموضوع الدين والدولة ،وموضوع العلمانية ونظرياتها
ونماذجها التاريخية المتنوعة.
يترتَّب على هذا النوع من المقاربة في الغالب ،اللجوء إلى االنتقاء أو السقوط في حبال االكتفاء بالعرض المحايِد
أو العرض الجامع ،الذي يكتفي ببسط القضايا من دون التفكير فيها أو مناقشتها .وقد حاول الدكتور عزمي في
عمله تجُّنب المحاذير التي أشرنا إليها ،األمر الذي م َّكنه من بناء عمل يتسم بسمتين بارزتين وغير مسبوقتين
في ما كتِب في موضوع العلمنة .يتعلق األمر بالمنزع التأسيسي الذي اختار فيه الباحث مواجهة إشكاالت
سياسية وتاريخية من موقع توجُّهه ،وتَ ْح ُكم خياراته أسئلة ذات صلة بمعارك الراهن العربي .لقد اشتغل على
مدارات وزوايا عمل غير مسبوقة ،ولهذا وسمنا عمله بالعمل المؤسس .أما سمته الثانية فتبرز في طابعه
الموسوعي ،الذي َيبرز في ُمراه َنة صاحبه على توسيع دوائر المواجهة ،إضافة إلى أنه ال ُي ْغ ِفل محاصرة
األحكام القَ ْبلِيَّة المتداولة في الموضوع ونقدها.
يبحث صاحب العمل في السياقات والترجمات ،والشروط النظرية والنماذج التاريخية ،التي ساهمت في منح
التحوالت ،وهو ال
وتحولها .كما يعمل على كشف المفارقات المرتبطة بالسياقات و ُّ
ُّ العلمانية شروط صيرورتها
التصورات األقرب في نظره
ُّ يجد أي حرٍج في اتخاذ موقف من األحكام الشائعة ،فيبرز عيوبها ويحاول تركيب
إلى السياقات التاريخية ،التي منحت ،وال تزال تمنح ،لمفردة علمانية وعلمنة الدالالت والمعاني التي تقترن بها.
نوجه
لن نهتم في هذا التأطير العام لمنجز الدكتور عزمي بشارة ،بعرض المفاصل الكبرى للمشروع ،وبدل ذلك ّ
نظرنا نحو اإلشارة إلى جوانب من الخيارات المنهجية والفكرية ،التي َّ
تبناها صاحبه سواء المعلن منها أو الذي
تستبطنه مباحث مجلداته .فقد مكنته خياراته السياسية والفلسفية من االنفتاح اليقظ على جبهات متعددة ،وسمحت
2
مطوًال أمام موضوع الدين
له المقاربة التاريخية الموسَّعة والمفتوحة على مجاالت معرفية متنوعة ،بالوقوف َّ
والتديُّن والعلمانية.
يؤمن الدكتور عزمي بأن بحثه ليس بحثًا في العلمنة بحد ذاتها ،بل هو بحث في أنماط التديُّن السائدة في
عصرنا ،األمر الذي يفسر الهدف من اشتغاله على مبحث الدين والتديُّن باعتباره المدخل المناسب في نظره،
إلعادة تأسيس الدين والعلمانية في سياق تاريخي.
يخصص المجلد األول من الجزء الثاني لموضوع العلمانية والعلمنة :الصيرورة الفكرية ،وهو يشكل الحلقة
الرابطة بين مجلده األول والجزء الثاني من المجلد الثاني .وفي هذا الجزء نقف على أهم القضايا الفكرية المرتبطة
بمصطلح العلمانية وعمليات العلمنة كما تش َّكلت في الفكر الحديث ،كما نقف على عالقة العلمنة بالتحديث.
طلِق عليه في مباحث كتابه دنيوة الدين؛
وقد أبرز في هذا الجزء الدور الذي قام به اإلصالح الديني في ما ي ْ
الس ْحر عن عالقة الدين بالعالم.
أي نزع ِّ
عمل الباحث في هذا المجلد على بناء مواقف نظرية قوية ،إذ حاول إبراز السياقات التي سمحت ببناء ما ي ْعتبر
المبادئ الكبرى ،التي منحت اإلصالح الديني دالالته العميقة في مجال إيجاد المسافات المطلوبة بين الدين
معتبر أن اإلسهام
ًا أن منطق الدولة الحديثة نشأ من َر ِحم الالَّهوت،
والدولة .وضمن هذا اإلطار ،أشار إلى ّ
وتطوره ،ومن دون إغفال ربط عمليات االستواء ُّ الهوبزي يع ُّد لحظة قوية في عملية استواء المنظور العلماني
بالتحوالت الفكرية والسياسية التي عرفتها أوروبا في القرن السابع عشر.
ُّ المذكورة،
يرتبط السند المرجعي المعتمد في نمط مقاربة الدكتور عزمي بشارة لموضوعه بالتيارات الفلسفية الكبرى في
األزمنة الحديثة ،وما رسمته من عالمات نظرية وتاريخية في عملية تبلور العلمنة ،ويتعلق األمر بالحداثة
والتنوير والليبرالية.
ينتقل الباحث في الجزء الثاني من المجلد الثاني إلى موضوع نظريات العلمنة ،ليعرض جملة من التجارب
المتنوع والمتعدِّد لنظريات العلمنة في تجاربها األوروبية
ِّ السياسية التي تبَّنت العلمانية ،محاوًال إبراز الطابع
وفي تجربتها في الواليات المتحدة األميركية ،األمر الذي سمح له باستخالص بعض النتائج المهمة ،أبرزها
3
أن العلمنة تقتضي ضرورة التمييز بين المجاالت المعرفية واالجتماعية ،األمر الذي يؤدي إلى نوٍع من التَّمايز
ّ
تتغلَّب فيه أنماط المعرفة العلمية في فهم الظواهر ،ويعلو فيه منطق الدولة على الدين ،من دون أن يعني
فكر
أن العلمانية تعني رسم حدود الدين باعتباره ًا
ذلك اندثار الدين والتديُّن .أما النتيجة الثانية ،فتشير إلى ّ
وظاهرة اجتماعية ،األمر الذي تترتَّب عليه احتماالت يلخصها كما يلي:
يستوعب عمل الدكتور عزمي مجموعة من النتائج المهمة ،وهي مبثوثة في ثنايا فصول مجلداته؛ بعضها مرتَّب
ومعلن في نهايات بعض الفصول في صيغ َّ
مركبة تمهد لعمليات انتقاله من مبحث إلى آخر ،وكثير منها ي ِرد
أن من بين عناصر
بصيغ تعتمد اإليجاز أو اإليحاء الهادف إلى رسم دروب أخرى في النظر ،ونحن نفترض ّ
قوة منجزهَ ،مسعاهُ الهادف إلى إشعار قارئه بضرورة مواصلة التفكير في القضايا التي حاول تركيبها في
أن ندوتنا َّ
تتوخى مواصلة التفكير في هذا العمل؛ مواصلة التفكير عمله .وضمن هذا األفق بالذات ،نتصور ّ
في أسئلته ونتائجه.
أن
ينفتح موضوع هذا الكتاب منذ بدايته إلى نهايته ،على سؤال العلمانية في الفكر والمجتمع العربيين ،ذلك ّ
ضي إلى الحديث عن تمظهرات العلمنة تخصيص المجلد الثاني من الجزء الثاني ،لتقديم نماذج من العلمنة ي ْف ِ
في المجتمعات العربية المعاصرة ،كما ي ْف ِ
ضي إلى مواجهة سؤال العلمنة في فكرنا وفي حياتنا السياسية .وال
شك في أن الحديث الذي َّ
ركب المؤلف في مجلداته موضوع يومنا الدراسي ،ينفتح كما أشرنا آنفًا ،إشارة
وتلميحا على أسئلة ومعارك العلمنة في التاريخ العربي المعاصر ،إالَّ أننا نعتقد أن ولوج هذا الباب ،يتطلَّب
ً
أوًال وقبل كل شيء العناية بالمعطيات التي تستوعبها المجلدات التي حاولنا في هذه الورقة ،الوقوف على جوانب
من أسئلتها وخياراتها.
4
أن العلمنة صيرورة ،وان و ِ
اجهتها في وبعد ،نستخلص من مسعى اإلحاطة الم ْختزلة الذي رتَّْبنا في هذه الورقة ّ
يتحين الفرص للقيام بما يمهد الطريق لعملنة الدولة
مجتمعنا وثقافتنا معارك عديدة ،بعضها قائم ،وبعضها ّ
والمجتمع والثقافة ،وهو ما ننتظره .فنحن نعيش في زمن يتجه لرفع غاللة السحر عن العالم ،سحر األقدمين
وسحر المحدثين ،من أجل المساهمة في بناء عالم من دون أسرار ...لكن هل يروقنا بناء عالم من دون أسرار؟
5
علمنة مفهوم العلامنية
محمد جمال باروت
ويستثمر بشارة في عملية النزع هذه عدة مقاربات منهجية تحليلية أنثروبولوجية وسيميولوجية وسوسيولوجية
معا بطريقة مركبة ،على مستوى التاريخ الطويل المدى لألفكار .ومن
وتاريخية وجمالية وفكرية وفلسفية ،تشتغل ً
شأن هذه المقاربات أن تتيح للمشروع إنزال النموذج من عليائه النظري التمامي الذي اكتسبه في الفهم والتداول،
ومحوًال ّإياه من التمركز إلى التعدد واالختالف،
ّ ثم إعادة اإلنتاج في محددات مبسطة له إلى أرض التاريخ،
ومن ّ
ومن الوثوقية إلى النسبية.
وفي هذا يواصل بشارة على المستوى الفكري العربي الحديث عملية التفكر النقدي في المراحل التطورية األحدث
لهذا الفكر ،في مسألة التمييزات بين العلمانية الصلبة والعلمانية الرخوة ،وبين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة.
مقيما بعض التمايزات واللقاءات في آن واحد ،وممي ًاز محاولته عن المحاوالت التي سبقته
فهو يفتح الحوار معهاً ،
في الغوص في المدى الطويل للعالقة بين التاريخ واألفكار .أي يفهم العلمانية من حيث هي عملية وليس نظرية
معتقدية معيارية قارة في ضوء عملية الغوص تلك ،بما يتيح له تفكيكها وتجاوزها ،واقتراح أنموذج نظري بمعنى
6
ويتضمن هذا النموذج التعميمات األساسية الناتجة عن
ّ النمذجة أو األمثلة في فهم علمنة السياسة والدولة.
عمليات االستقراء والتحليل التي قام بها المشروع للعالقة الطويلة المدى بين العلمانية والتاريخ .وهذه التعميمات
ممتزجة مع فرضيات نظرية يتضمنها النموذج المقترح ،قد تحتمل فهم تطورات أخرى في حاالت أخرى .غير
أن محاولة المشروع بناء محددات هذا النموذج لم تكن ممكنة من دون فعاليته األساسية
أن بيت القصيد هنا ،هو ّ
ّ
في علمنة نظرية العلمانية أو مفهومها.
لقد سبق لناصيف نصار أن ناقش مسألة حدود النظر إلى األيديولوجيات أو االعتقاديات الحديثة على ّأنها
لكن بشارة ال يركن إلى هذا النفي ،كما ال يركن إلى التسليم باالستخدام المرسل لمفهوم األديان
أديان بديلةّ .
مفض ًال استخدام مفهوم بدائل من الديانات على مفهوم ديانات بديلة .وهذه
ّ البديلة كما يطرحه مؤرخو الدين،
بالمقدس ،عبر طقوس وشعائر جماعية في زمن العلمنة.
ّ البدائل تشترك مع األديان ،عبر إعادة إنتاج عالقة
7
المقدس أو التقديس شرط الدين (ج ،2مج ،2ص .)395-394غير
المقدس ،وان كان ّ
لكن الدين ليس هو ّ
ّ
حيانا بوضوح في
أن التواشجات تبقى في خطاب بشارة قوية بين بدائل من الديانات واألديان البديلة ،وتظهر أ ً
ّ
صورة ترادف بين بدائل من األديان وأديان بديلة ،لكن بما يمكننا تسميته ،وفق المضمون الداللي لألديان البديلة
طقوسا علمانية مقلوبة للطقوس
ً تطور
في النص ،بأديان مقلوبة تسم الدولة الشمولية بصفة خاصة .فهذه الدولة ّ
الدينية ،من بدائل مقلوبة عن المعمودية والمناولة وغيرهما (ج ،2مج ،2ص ،)418-417لكن في مخاطبتها
بواسطة المصائر التاريخية ،فشلت في التحول إلى دين بديل لجماهير واسعة ،ليقتصر اإليمان في حالة العقيدة
العلمانية كأنها ديانة بديلة على من يصفهم بشارة بـ "المهاويس" (ج ،1ص .)301وفي تاريخ الثورات الكبرى
التي ساهمت في تغيير التاريخ العالمي ،مرت الثورة الفرنسية بمرحلة عبادة العقل وتحويل الكنائس والكاتدرائيات
إلى معابد للعقل ،واعداة إنتاج المضمون الديني الطقسي للمواكب االحتفالية بطقسية ذات مضمون معاد للدينية،
لكن هذا المضمون يرتد إلى الطبيعة نفسها التي ينفيها ،وهي الطبيعة الدينية .والواقع التاريخي يشير إلى اندراج
ّ
األمة أو العرق مكان اهلل،
ذلك في سياق انتشار عقيدة التقدم التاريخانية التي أحلّت اإلنسان أو الطبقة أو ّ
فجوهر الحداثة هنا هو جعل العالم ذاتي المرجع.
وهو في ذلك ،يقارب مفهوم األديان الروحية على مستويات عدة أنثروبولوجية وسيميولوجية وظواهرية ،محوًال
مفهوم الديني نفسه إلى مفهوم إشكالي ،ليموقع المشتركات بينها من ناحية المقدس والطقسية السيميولوجية
الشعائرية .فهو يميز مفهوم شبه األديان البديلة عن األديان البديلة ،كما في محافل عبادة النجوم في الرياضة
واالستهالك واالحتفاالت الطقسية في الظواهر االجتماعية .ويحدد العالقة بين هذه النشاطات االجتماعية التي
للمقدس .والجوهري هنا هو
ّ تعبر عن روحها والطقوس الدينية بكونها حاالت إشباع
تعيد إنتاج الجماعة أو ّ
بالمقدس .وهي قابلية قائمة في اإلنسان حتى بعد انحسار الدين والوعي الديني .وهذا
ّ التمييز بين الدين والشعور
بالمقدس .فانسحاب الدين بالتدريج من مجاالت
ّ هو شبه الدين البديل ،فهناك التمييز بين الدين ومجرد الشعور
ألن مكان األخير هو النفس اإلنسانية (ج ،2مج ،2ص .)409
المقدسّ ،
المعرفة والممارسة ال يعني انسحاب ّ
وتحديدا في الشعرية الرؤيوية التي تتطلع لتملك العلم األسمى
ً عموما وفي الشعر،
ً وحتى الذين بحثوا في الفن
فإن تحررهم من الديني الروحي التقليدي أعيد إنتاجه في تجربة االقتراب
للعالم عن بديل من الدين في عالمّ ،
8
من المطلق ،وخلق" اهلل" خاص بالرؤيا الشعرية ،تضطلع فيها كلمة الشاعر على مستوى الخلق الشعري بوظيفة
الكلمة اإللهية الخالقة :في البدء كانت الكلمة.
ولعل إشارة المشروع إلى فلسفة التاريخ في مكانها ،والتقاطع القائم هنا بينه وبين النظرية النقدية ،إذ يمثّل النقد
مولدا لألفكار في المقاربة الفكرية لبشارة .ويتخلل هذا النقد
محددا كما ً
ً بعدا
الجذري بمعنى المعرفي للتاريخانية ً
أفكار الكتاب وقضاياه ذات الصلة كلها .فالتاريخانية ميتافيزيقا بالضرورة ،سردية أو حكاية كبرى ،من حيث
األمة أو الطبقة
تصورها للغائية التي تتحكم في سير التاريخ لتحقيقها .وقد تكون قوانينها مركزة على العرق أو ّ
أو الدين أو القائد الكاريزمي ..إلخ.
إن األيديولوجيات الشمولية ،بلغة بشارة ،تمتح معر ًفيا من هذه التاريخانية .وبالنسبة إليه ال يكفي توافر العقيدة
ّ
بديال ،بل ال بد لها من الطقسية .ويعني بها "العبادة والطقوس
عد تلك األيديولوجيات ً
الخالصية البديلة حتى ت ّ
اجتماعيا في السلطة ،كما أشار
ً سياسيا و
ً أن هذا ما يميز التاريخانيات حين تغدو
الجماعية وغيرها ."..والحال ّ
أن صعود األيديولوجيات الشمولية إلى السلطة قد اتضح في ممارسات الدولة الشمولية.
بشارة نفسه ،تحت صيغة ّ
بنيويا مع الطقسية في الديانات
ويمكن تحديد الباراديغم الذي يحكم هذه الممارسات بأنه باراديغم الطقسية المتماثل ً
الروحانية الطقسية .ولعل أكثرها فقاعة بالنسبة إلى التواريخ المفصلية للعالقة بين التنوير والحداثة هو عبادة
العقل في الطور اليعقوبي للثورة الفرنسية ،بابتكار طقسية للعبادة مقلوبة عن الطقسية الكاثوليكية.
ال تتم ممارسات األيديولوجيات الشمولية لنفسها ،في صورة طقسية ،من دون وسيط هو الحزب أو الجماعة أو
األخوية االعتقادية الخاصة المتالحمة ذاتيا حول معتقد تاريخاني .فيترجم الحزب حين يغدو في السلطة الجانب
المعرفي -األيديولوجي في تلك األيديولوجيات إلى طقسيات وبرامج ومناهج وسياسات .وفي عملية التلقي والفهم
كامال للحركات واألحزاب القومية والشيوعية واليسارية واألصولية
ً يخا
فإن تار ً
والتأويل واعادة إنتاج األفكارّ ،
9
اإلسالمية هو جزء من تاريخ الجهاز الحزبي األخوي الوسيط للتاريخانية بين االعتقاد المعرفي والمجتمع ،والذي
يتضح أكثر حين السيطرة على السلطة.
تفضي علمنة مفهوم أو اعتقاد العلمنة ،عبر إنزال العلمانية من االعتقادية إلى التاريخ الطويل المدى المستمر
من حيث هو صيرورة ،إلى تقويض نظرية العلمنة أو اعتقاديتها ألنها تسقط في" تعميمات ،وال يلبث أن ينفي
عنها التفنيد المتكرر لهذه التعميمات صفة النظرية .ومن هنا فإنها ليست نظرية بل "ميتانظرية" تتضمن مجموعة
مبادئ لكن ال يمكن "تطبيقها كنظرية شاملة" (ج ،2مج ،2ص ،)431ليقترح بشارة في حصيلة هذا المشروع
أنموذجا نظرًيا أو أمثلة في فهم علمنة السياسة والدولة .واألمثلة ليست هي الواقع بل نموذجه في حالة
ً الفكري
يفضل بشارة وصفه بالنظرية
التجريد والتعميم المشتقة من عالقة التاريخ الطويل المدى مع األفكار ،أو ما ّ
والتاريخ.
ال يدع بشارة مجا ًال للشك في أنه يصوغ محددات هذا النموذج في إطار نقده الجذري لنظرية العلمانية ،من
حيث هي نموذج فكري اعتقادي ،مع اعترافه لها بجوانب مهمة في فهم الصيرورة التاريخية في التمايز بين
المجاالت .وينطلق نموذجه من مقولة التمايز بين المجاالت بصفتها قاعدة في المجتمع الحديث ،لكنه ال يسلّم
بأن التمييز بين المجال الديني والمجال الدنيوي ٍ
كاف لفهم فعل الدينامية الناجمة عن تمايزهما في المجتمعات، ّ
التدين والفئات االجتماعية وأنواع الدولة ودرجة تطور المجتمعات (ج ،2مج
بل ال بد من التمييز بين أنماط ّ
،2ص .)431
يبلور ما يمكننا استخالصه بثالث ديناميات :األولى" ،التمايز بما هو تنافر والتجاذب بين ما هو متنافر"؛
المقدس إلى الدنيوي" في سياق
ّ والثانية" ،التمايز والفصل بما هما توتّرات وتوق إلى الوحدة"؛ والثالثة" ،عودة
الحيزين الخاص والعام ،بتقديس المجال السياسي أو تسييس الدين ،أو توحيد ما هو منفصل.
توتّر الفصل بين ّ
يدمج النموذج هذه الديناميات ،وهكذا يمكن تحديده في ثالثة محددات هي ما يلي:
قيام العلمنة على عملية تمايز المجاالت المعرفية واالجتماعية عن الدين ،من دون أن يعني ذلك اندثار
قدس؛
التدين ،أو الم ّ
الدين و ّ
10
رسم حدود للدين ،من حيث هو فكر وظاهرة اجتماعية مميزة بذاتها ،ولكن ذات صيرورات محتملة
متعددة؛
وتحديدا السياسة والدولة ،الستحضار
ً حدوث تفاعالت وصيرورات في المجاالت العامة المعلمنة،
قدس من جديد.
الم ّ
هذه هي المحددات األساسية لعملية بناء النموذج ،ولكل منها عناصره وأشكاله المحتملة التي يحددها بشارة.
أن األنموذج الذي يقترحه بشارة في فهم علمنة السياسة والدولة أقرب إلى أنموذج نظري في فهم معاد
ويبدو لنا ّ
المقدس ،وتغير أنماط التدين داخل عملية العلمنة بما هي صيرورة تاريخية رافقت المجتمعات البشرية منذ
ّ
نشأتها ،وان لم تتضح ّإال مع األزمنة الحديثة وصوًال إلى أزمنتنا هذه التي يطلق عليها بقوة ما بعد الحديثة ،منه
إلى أنموذج لفهم علمنة السياسة والدولة .وان كان قد استحال على بشارة وضع محددات هذا األنموذج من دون
فهم وتحليل للتاريخ الطويل والمتنوع والمتعدد لعملية العلمنة وتمييزها عن أيديولوجيا العلمانية ،أو علمنتها
بالفصل بين اعتقاديتها وما هو متعلق بالصيرورة التاريخية منها ،ونسف أساسها التاريخاني في إطار محاولة
11
القطع المعرفي مع التاريخانية ،ولجوئه إلى التاريخ الطويل المدى لتقويض المزاعم التاريخانية الميتافيزيقية تلك،
المؤرخ مزاعم ال أكثر ،إذ كما يشير جاك لوغوف فيها قليل من التاريخ.
والتي هي من منظور ّ
المقدس
أن العنوان المفتاحي ألنموذج بشارة يمكن أن يكون تحت صيغة :أنموذج نظري في فهم معاد ّ
ويبدو لنا ّ
وأنماط التدين في عملية العلمنة ،بدالً من "أنموذج نظري في فهم علمنة السياسة والدولة" .إذ يكتسب هذا
المقدس والدين وأنماط الدين في عملية العلمنة ،مع فهم
نعده بقوة أنثروبولوجيا ّ
األنموذج خصائص ما يمكن أن ّ
األنثروبولوجيا هنا في إطار تداخلها الوثيق مع العلوم المجاورة .وهو ما يمكن فهم كل اختصاص في العلوم
اإلنسانية واالجتماعية على هذا األساس .بل ويكتسب التاريخ الطويل للعالقة بين الدين والعلمانية أهمية
أنثروبولوجية في البحث األنثروبولوجي العربي من الناحية النظرية ،وذلك من حيث اعتناء بشارة بالتدين الشعبي
العميق والمديد ،وممارسة الناس دينهم وفق فهمهم ّإياه ،وليس وفق طقوس الشريعة ووكالئها.
12
سيما في المجال المعرفي .وفي هذا يتموضع بشارة في مرحلة من" شفا" بينهما .فهو ،بنقده الجذري أليديولوجيا
العلمنة وتفكيكه لها ونزع السحر االعتقادي والتمامي عنها ،ينقض أيديولوجيا الحداثة جذرًيا واقفًا عند تلك
حتميا من نقد الحداثة إلى ما بعدها ،وفي هذا ما يكفي للفهم.
"الشفا" .لكن ليس المرور ً
وفي النهاية ،أسمح لنفسي بالقول إننا أمام متن رفيع وضخم حقيقة من متون الثقافة العربية الحديثة ،ومن متونها
الفكرية التكوينية الحقيقية ،ويضع أمامنا تحديات مباشرة لمناقشته ،ولع ّل من أبرز أسئلة هذا المتن هي دعوتنا
إلى قراءة بشارة ونقده من جديد.
13
حدود العلامنية :مالحظات عىل كتاب عزمي بشارة
"الدين والعلامنية يف سياق تاريخي"
*
فتحي المسكيني
ولية
تنبيهات أ ّ
الخيط اإلشكايل
أطروحات وأسئلة
أستاذ التعليم العالي في الفلسفة المعاصرة في جامعة تونس ،متخصص في فلسفة مارتن هايدغر. *
14
تنبيهات ّأولية
ع لينا اإلقرار بما يحتوي عليه هذا العمل الضخم من طموح نسقي استثنائي في وقتنا؛ وليس فقط في الحجم -
أيضا في شساعة الميدان المبحوث -من القرون الوسطى إلى
أن األمر يتعلق بقراءة ثالثة مجلدات -بل ً
إذ ّ
ما بعد الحداثة -وخاصة في طبيعة اإلشكالية المعالجة :استعراض تاريخ الدين والعلمانية ونظريات العلمنة من
أجل بلورة أنموذج نظري جديد "في فهم علمنة السياسة والدولة" (ج ،2مج ،2ص .)409
كذلك تجب اإلشارة إلى طريقة كتابة هذا المؤلّف الكبير ،فهو يجمع بين البحث المفهومي والتحليل التاريخي
عدة :دينية ،وأنثروبولوجية ،وفلسفية ،وسوسيولوجية
مدونات ّوالتركيب النظري .وهو ما فرض مراوحة مريرة بين ّ
ثم دينية ،وسياسية ،وابستيمولوجية ،وفلسفية ،وقانونية في مجلّدي الجزء الثاني .وك ّل ذلك "في
األول؛ ّ
في الجزء ّ
يؤمن وحدة الموضوع
سياق تاريخي" .وعلينا أن نمنح هذه العبارة المنهجية ك ّل نفوذها اإلجرائي ،فهي وحدها ما ّ
الحس اإلشكالي ووجهة التفسير.
و ّ
15
أسا إلى العبرة
يتبصر في فهمه ويذهب ر ً
ّ ومد يد العون له حتى
توجيه القارئ وتيسير مدخله إلى غياهب النص ّ
النظرية في كل مرحلة من مراحل اإلنجاز.
في مقابل ذلك نحن نلمس ضرًبا مرب ًكا من التواضع اإلبستيمولوجي طوال منعرجات الكتابّ ،إنه ال يريد أن
بأي بطولة فلسفية .وهو ال يعمل تحت مالمح الفيلسوف /البطل .بل يحرص على أن يكون
يوحي إلى قارئه ّ
منتجا لنماذج تفسير يمكن التعويل عليها.
باحثًا منظًّار أي ً
الخيط اإلشكالي
16
أي خطاب فكري أو مف ّكر حول الدين اليوم .لن يتعلق
يخص ّ
ّ إن هذا هو ّأول طمأنة حاسمة فيمايمكننا القول ّ
األمر منذ اآلن بنقد الدين بما هو كذلك .بل بظاهرة االنتقال من مبحث الدين إلى مبحث العلمانية .والبحث في
طبيعة هذا االنتقال تاريخيا هو أحد أغراض الكتاب األكثر متانة نظرية.
أن الكتاب في جملته يراوح بين خيط إشكالي صريح ،وهو "نقد العلمانية" من أجل بلورة "أنموج نظري
يبدو لنا ّ
مما يمكن أن
عن العلمنة" بعامة ،وخيط إشكالي غير مباشر ضمني أو مسكوت عنه ،وهو توفير جملة مرّكزة ّ
التدين ومشروعيته المعيارية في أفق المؤمن المعاصر سواء
فية حول منزلة ّ
نسميه "تطمينات إبستيمية" أو معر ّ
ّ
لكن خطة الكتاب ال تعمل بصفة صريحة ونسقية إالّ على الخيط اإلشكالي األول أي خيط
فردا أم دولةّ .
أكان ً
أن هذا هو الرهان "الفلسفي"
أما الخيط اآلخر فهو يعمل بكل قوة ولكن بصفة ضمنية .ويبدو لنا ّ
العلمانيةّ .
التدين المعاصر ،يحفظ لها أصالتها
تفسير نظريا أو معرفيا إلمكانية ّ
ًا للكتاب .والسؤال الصامت هو كيف نوفّر
األخالقية بواسطة بحث تاريخي "علمي" ،ينجح في بلورة أنموذج مرن ومالئم عن العلمنة في المجتمع الحديث
بعامة ،والمجتمعات العربية بخاصة؟
أطروحات وأسئلة
ردا في صوغ الفكرة الرئيسة للكتاب من مجلد إلى آخر ،أي من حيث النشر ،ما بين
نحن نالمس تلطّفًا مطّ ً
كانون الثاني /يناير ،2013وكانون الثاني /يناير .2015
17
أشرنا منذ قليل إلى قلق مفهوم الدين في الكتاب هو الحاضر الغائب .هو الحاضر في عناوين الفصول ( 4من
مجموع 5في المجلد األول؛ و 6من مجموع 12في المجلد الثاني؛ و 1من مجموع 6في المجلد الثالث) ،ذلك
لكن هذا الحضور
فصال مخصصة لدراسة العلمانيةّ .
أن نصيب الدين من جملة الفصول هو 11في مقابل ً 12
ّ
إن الدين ال يحضر إالّ بقدر
أساسا ببناء نموذج نظري حول العلمنةّ .
ً ال يعكس أطروحة الكتاب ،فهي متعلقة
ما يخدم هذه األطروحة.
موما؛ فهذا
كتابا نظريا في الدين ع ً
المهم أن نذ ّكر هنا بهذا القول للمؤلّف" :لم يكتب هذا البحث ليكون ً
ّ ومن
ثم كيف نفهم إ ًذا ،حضور
ممكنا برأيي" (ج ،1ص .)8وعلينا أن نسأل لماذا؟ ّ
ً مثمر أو حتى
جهد ما عاد ًا
مفهوم الدين في عنوان الكتاب وفي كثير من فصوله؟
18
تدين من دون إيمان ولكن ال دين من دون
نظرية خاطئة يمكن دحضها" (ج ،1ص .)204-203و ّأنه "يوجد ّ
أفكار مغلوطة شائعة ،واإللحاد ليس نظرية علمية" (ج
أن "الدين ليس خرافات أو ًا
تدين" (ج ،1ص .)223و ّ
ّ
،1ص ... )245إلخ.
مثال:
طبعا علينا أن نطرح بعض التساؤالت هناً ،
ً
تطور خطير في التفكير الحديث من نطاق "فلسفة الدين" في نهاية القرن الثامن عشر ثمة ّفي واقع األمرّ ،
وبداية القرن التاسع عشر (من كانط إلى شاليرماخر وهيغل وشلنغ ،والتي انتهت إلى نقد ملحد للدين من فويرباخ
"المقدس" طوال القرن العشرين (قبل ظهور ثيمة "عودة الديني") .ما
ّ إلى نيتشه) إلى اكتشاف وبلورة لمسألة
التقيد بهذا النوع من االنتقال الفلسفي (الغربي) من مسائل البحث في ماهية الدين
نالحظه لدى المؤلّف هو عدم ّ
للتدين وللتجربة الدينية في
المقدس بعامة ،بل والعمل المقصود على إقامة مناقشة داخلية ّ
إلى السؤال عن معنى ّ
أهمية الدين في ثقافتنا الراهنة هي التي جعلت المؤلف يناقش
أن ّصلة وثيقة مع "مشاعر المقدس" .يبدو لي ّ
تطورها التاريخي في الفكر المعاصر .وفي المقدس الحديثة من دون االنضواء تحت منطق ّ مسائل الدين و ّ
فإن من واصل البحث في داللة الدين بعد انهيار فلسفة الدين األلمانية هو قد نقله من أفق فلسفة الدين
الحقيقة ّ
إلى نطاق علم اجتماع الدين (ديركهايم ،وفيبر) .ولكن ماذا بقي عندئذ من السؤال عن مفهوم "الدين" في داللته
قدس؟ -ربما
ثم ما هي طرافة البحوث األنثروبولوجية واألدبية والوجودية المعاصرة في إشكالية الم ّ
الالهوتية؟ ّ
ال فرق عندئذ ،من حيث الصالحية اإلبستيمولوجية ،بين معاملة مسائل الدين من حيث هي أشياء اجتماعية
والبحث األنثروبولوجي في معاني المقدس ،إالّ على مستوى طبيعة المنهج .وجه الصعوبة إ ًذا ،هو الجمع بين
المقدس في نطاق استشكال واحد :الديني مشكل الهوتي من نوع إبراهيمي؛ والمقدس سؤال
الديني و ّ
أنثروبولوجي /فينومينولوجي من نوع وثني جديد ،يجد نبرته الخاصة في تنشيط نيتشه وهيدغر خاصة للنموذج
19
األول
المكونة للفصل ّ
ّ اليوناني (المتعدد أو الشركي) للعنصر "اإللهي" .والمتصفّح لعناوين العناصر األربعة
ثانيا -األسطورة والمعنى بالحكاية؛ ثالثًا -عن السحر والدين؛ رابعا -الدين
(أوًال -عن التجربة الدينية؛ ً
ّ
حاضر في عنوان الفصل األولَّ " :
المقدس ًا واألخالق) يضطر إلى التساؤل :أين ذهب "المقدس" عندئذ؟ وقد كان
واألسطورة والدين واألخالق" .وال يخلو هذا العنوان من ترتيب تاريخي واضح.
المقدس في تفسير الشعور الديني ال يخلو من صعوبة خطيرة .والتعويل الواسع على
أن إدخال عنصر ّ
يبدو لنا ّ
أن "وكالء الدين
أعمال مارسيا إلياد مثير للمشكالت (ج ،1ص 52وما بعدها) .صحيح ،كما يقول المؤلفّ ،
مبرًار كي
لكن هذا ليس ّ
عموما" يجهدون "إلبقاء تجربة المقدس الشخصية في المجال الديني" (ج ،1ص )26؛ ّ
ً
التدين" (ج
أن "الشعور الديني هو حالة الشعور القصوى ،وليس بالضرورة في الدين أو عبر ّ
ينتهي التحليل إلى ّ
المقدس ،والحال ّأنهما يطرحان في الفكر
المتعمد بين الديني و ّ
َّ ،1ص .)27ما هو مزعج هنا هو اإلدغام
المعاصر مشكلين متباينين.
نصه ،كما
فإن ّ
أن خوض المؤلّف جملة كبيرة من المناقشات السالبة مع الفلسفة بما هي كذلكّ ،
وعلى الرغم من ّ
مهمة ،وا ْن كان يبحث لها عن صيغ خارج
فلسفية ّ
ّ األول ،ال يخلو من خطراتفي الفصل األول من المجلد ّ
أن الحياة اليومية تش ّكل إجابة كافية عنه" (ج ،1ص
مثال" :الوجود أمر رائع ،وال يبدو ّ
أسلوب الفالسفة .يقول ً
أن المؤلف يعمد في
لكن الالفت هنا هو ّ
ثم للفلسفة كما للدينّ .
يشرع لتجارب المعنى ،ومن ّ
طبعا هذا ّ
ً .)34
20
التحدي ما بعد الميتافيزيقي لعمود التفلسف التقليدي أي العقل المحض أو
ّ بعض ردهات التحليل إلى نوع من
أن "العقلنة تواجه تحديات أكبر مما تواجهه
مثال ،إلى ّ
يتردد في التنبيه الحادً ،
النزعة العقالنية بعامة .فهو ال ّ
إما "تحليلية خالية من البعد الديني" أو هي
بأنها ّ
العلمنة" (ج ،1ص )27؛ أو هو يحكم صراحة على الفلسفة ّ
"كونية ...تخرج من اإلنسان نحو الخارج لكنها قد تقع في العدمية ،أي قد ال تجد معنى خارج حياة اإلنسان"
وتحولها
ّ يتم تجميع داللة الفلسفة الكلّية بهذه الطريقة التي تفقّرها
(ج ،1ص .)34وعلينا أن نتساءل :لماذا ّ
إلى جهد عقلي مهذار خارج أفق "التحليل العقالني" الذي غرضه "ليس إهمال هذه االنفعاالت باعتبارها غير
إن
عقالنية ،بل محاولة فهم معناها("...ج ،1ص .)28وفي المقابل ال يتردد المؤلف في مسايرة من يقول ّ
اجا دينيا" (ج ،1ص )33؟
"فلسفة أفالطون تتضمن مز ً
نمر هنا من دون أن نالحظ بعض التصريحات عن مقاصد الفالسفة (خاصة حول
على ك ّل ،ال يمكننا أن ّ
مثال حول معنى "األنطو -ثيولوجيا" (ج ،1ص -155
هيدغر) ،هي تحتاج إلى تدقيق ومراجعة كبيرينً .
أن بعض المفاهيم
أصال .كما ّ
،)156وهو مفهوم صعب جدا ومعقّد في نصوص هيدغر ،وال عالقة له بالدين ً
تم التعويل عليها في طرح المسائل هي مفهومات انسحبت من التفكير المعاصر ،خاصة مفهوم الفلسفية التي ّ
أي دور كبير في الفلسفة منذ المثالية األلمانية .وذلك عالوة على تعريفات للفلسفة تقادمت
يؤد ّ
"المطلق" الذي لم ّ
أخالقيا وسرديا (ج ،1ص ،)44منعت المؤلف من التفاعل مع الكتابات الفلسفية الصرف عن الدين،
ً كثير
ًا
منذ فالسفة االختالف (فوكو ،ودولوز ،وفاتّيمو ،وخاصة دريدا) إلى اليوم (أغمبن ،وباديو ،وجيجيك ...إلخ).
21
أن ما يقترحه المؤلف هو العكس:
الالهوتية -السياسية إلى أفق التجربة الخاصة أو الشخصية لإليمان .والحال ّ
التدين بصفتها مشكلة اجتماعية.
ينبغي الخروج من نطاق النقاش عن اإليمان الخاص إلى طرح قضية ّ
تدين" (ج ،1
تدين من دون إيمان ،لكن ال دين من دون ّ
ومن هنا أتى المؤلف إلى أطروحته الطريفة" :يوجد ّ
متدينون ليسوا مؤمنين؟
و"التدين"؟ هل هناك ّ
ّ ص .)223ما وجه التقابل هنا بين "اإليمان"
في الحقيقة يبدو وجه االبتكار في نوع القلق الذي تثيره طريقة المؤلف في تنزيل مفهوم اإليمان ،فعلى خالف
حركة التنوير األوروبي الذي يذهب من "اإليمان" (الديني ،والكنسي ،وقبل الحديث) إلى "االعتقاد" (النفسي أو
يميز بين "اإليمان المعرفي" (أي Beliefأو االعتقاد) و"اإليمان
الظواهري أو الذاتي الحديث) ،يحاول المؤلف أن ّ
العرفاني" (أي Faithأو اإليمان الديني) ،ولكن ليس بقصد "الفصل" بينهما بل بغرض إعادة توزيع الفروق
"التدين" في أفق المؤمن المعاصر .وفي هذا السياق علينا أن نفهم "استدراك"
ّ بينهما على نحو يخدم تنزيل تجربة
أمر أساسيا
التدين والولوج في تفصيالتها ،قد تنسينا 'اإليمان' باعتباره ًا
"إن دراسة الدين وأنماط ّ
قائالّ :
المؤلف ً
تدين" )ج ،1ص .)196
أي حالة ّ
يميز ّ
ّ
22
له من خالل تنشيط التمييز القرآني بين "اإليمان" و"اإلسالم" (ج ،1ص .)229-228وال تفوتنا المالحظة
"التدين" في التاريخ اإلسالمي إلى القرن الرابع هجري (ج ،1ص .)268
ّ تأخر ظهور استخدام لفظ
الرشيقة إلى ّ
ما يقلق في التمشي الذي اعتمده المؤلف هو التقابل الحاد والتقليدي بين الفلسفة والدين .وهذا هو ما دعاه إلى
التدين بصفته "أسطورة معيشة" (ج ،1ص )275
افتراض تقابل حاد بين الدين من حيث هو ماهية عقلية و ّ
لكن هذا التمشي ال ينجح إالّ عندما نقابل بين الفلسفة التقليدية في الدين
(وهذه عبارة رشيقة تحت قلم المؤلف)ّ .
التدين المعاصر .لكن لو استندنا إلى تجارب المعنى لدى ريكور أو طرحنا المسألة بصفة تفكيكية
وعلم اجتماع ّ
مفهوما غريًبا عن
ً أن "المعيش" ليس
يحا بهذه الصفة ،إذ ّ
ممكنا أو مر ً
ً لما كان ذلك التقابل
كما فعل دريداّ ،
الفلسفة المعاصرة منذ دلتاي.
التدين
لكن البداية النظرية الفعلية للكتاب ّإنما تبدو لي مع عنوان الفصل الخامس" :االنتقال من مبحث الدين و ّ
ّ
عرفه المؤلف
ثم يأتي التدقيق الحقيقي والحاسم لهذا االنتقال ،وقد ّ
إلى مبحث العلمانية" (ج ،1ص ّ .)403
التدين في عصرنا من دون
بنفسه في صيغتين مختلفتين .صيغة تأويلية ترنسندنتالية بقوله "عن عدم إمكان فهم ّ
أن إلحاق الدين بالدولة هو سابق للفصل
ثم صيغة نقدية تاريخيةّ ،
فهم العلمانية والعلمنة" (ج ،1ص ّ .)405
حول االنقسامات الدينية إلى انقسامات سياسية (ج ،1ص .)428
ثم فهو الذي ّبينهما ،ومن ّ
23
ضد
األول ،ويأخذ المؤلف في تكلّم لغة نقدية ّ
النص في مسته ّل الفصل الخامس من المجلد ّ ّ تتحول وتيرة
فجأة ّ
محددة عن العلمانية ،تلك التي يتبناها "الناشطون السياسيون عادة ،وال سيما في الدول العربية
أطروحة ّ
واإلسالمية" ،والتي تتلخص في دعوى "فصل الدين عن الدولة" (ج ،1ص ،)405مع جملة الصيغ المختلفة
التي تأخذها هذه الدعوى.
ثم يحاول أن يعيدتقوم خطّة المؤلف على التلطّف في المصطلحات وفي طرق طرح مسائل العلمانية ومن ّ
يتبنى بسرعة تحديد نيكالس لومان للعلمنة بكونها "السياقات االجتماعية والسياسية
تركيب العالقة مع الدين .فهو ّ
لخصخصة القرار في الشأن الديني" (ج ،1ص .)406ويستصلح بأسلوب رشيق توصيف فرح أنطون للعلمانية
حقيقيا" (ج ،1ص
ً اتحادا
ً األمة...لكي يتحدوا في ما بينهم
بكونها تعني عنده "تحييد الدين من جانب أبناء ّ
.)406
بدال من مصطلح "الفصل" المزعج يتبنى المؤلف مصطلحات أكثر تلطّفًا من قبيل "الخصخصة" و"التحييد".
ً
(مثال بين العلمانية
وهذان المصطلحان هما جزء فقط من معجم بنيوي متواتر طوال الكتاب مثل "التمييز" ً
يخيا)
تطور العلمنة تار ً
والعلمنة) و"التمايز" (داخل الدين نفسه وداخل المجتمع أو الدولة) و"الدرجات" (في ّ
بناء على مفهومات تشكيلية معاضدة من
مثال)....وك ّل ذلك "في سياق تاريخي" ،أي ً
و"الحدود" (حدود التنوير ً
(أن العلمنة صيرورة تاريخية وليست وصفة جاهزة) و"التطور" (الحس األنثروبولوجي لم يفارق
قبيل "الصيرورة" ّ
(مثال تجربة المقدس) ...إلخ.
الكتاب) و"التجربة" ً
أهم قرار لديه هو ضرورة "التمييز بين العلمانية والعلمنة" على نحو مبتكر ،أي بين "أيديولوجيا
أن ّولكن يبدو ّ
األمة ،و"العلمنة باعتبارها صيرورة تاريخية" أو هي "جزء من
القرن التاسع عشر" التي قامت عليها هوية الدولة ّ
يغير من عناصر النقاش حول
صيرورة تاريخية سابقة على الحداثة" (ج ،1ص .)407وهو تمييز يوشك أن ّ
العلمانية في أفق الفكر العربي المعاصر.
تقوم خطّة المؤلف على تفكيك أطروحة العلمانية (أي الفصل بين الدين والدولة بالمعنى العنيف للعبارة) من
تم التعامل معها من حيث
تحولت هنا إلى "أيديولوجيا") والعلمنة (التي ّ
خالل التمييز الرشيق بين العلمانية (التي ّ
هي صيرورة تاريخية تدعونا إلى صوغ نموذج نظري لتفسيرها) .هذا هو الجزء الصريح من الخطة.
24
تهم فهم
تعود أن يفاجئ القارئ بتنبيهات هي تنتمي في تقديرنا إلى طبقة خفية من الكتاب .وهي ّ
لكن المؤلف ّ
ّ
التدين .إذ كيف يجدر بنا أن نق أر هذا االستدراك في قلب
الدين في ضوء ضرب موعود من هرمينوطيقا أنماط ّ
حد ذاتها ،بل بقدر ما نحتاج إليها
"لكن بحثنا هذا ليس بحثًا في العلمنة في ّ
تحليل المعنى السديد للعلمنة .قالّ :
التدين في عصرنا" (ج ،1ص .)407
لفهم أنماط ّ
الكتاب ال هو بحث في العلمنة وال كتاب نظري في الدين ،بل هو بحث في العلمنة بقدر الحاجة إلى فهم أنماط
التدين في عصرنا .هكذا علينا أن نقرأ.
ّ
تحولها إلى جهاز تبرير عقائدي للدولة الحديثة .نعني هي تخرج من نطاق
تبدأ حدود العلمانية في الظهور مع ّ
وتتحول إلى تبرير معياري غير ديني لشرعية ذلك الحكم.
ّ "العلمنة" (أي البناء "الدنيوي" لشرعية الحكم)
25
طلحا نسي
هنا ينبغي لنا أن نفهم التمييز الذي قصده المؤلف بين العلمانية والعلمنة .تبدو العلمانية لديه مص ً
أما العلمنة فهي ظاهرة
وتحول إلى أداة أيديولوجية للدولة الحديثة؛ أي إ ّن العلمانية ظاهرة حديثة؛ ّ
أصله الديني ّ
سمتها الحداثة بهذا االسم إالّ ّأنها "جزء من عملية تطور تاريخية طويلة تعود إلى ما قبل الحداثة" (ج ،1ص
ّ
.)416
للعلمانية إ ًذا حدود أيديولوجية حديثة ال يمكنها أن تتحرر منها ،هي مر ّشحة سلفًا إلى أن تنزلق في نزعة
ثم على المنظّر الحصيف
مرد لها ،ومن ّ
أما العلمنة فهي صيرورة تاريخية ال ّ
مجانية وال مستقبل لهاّ .
ّ "علمانوية"
وثانيا لتفسير أنماط التدين في عصرنا.
نموذجا نظرًيا ّأوًال لفهمهاً ،
ً أن يبني
أن "من مؤشرات الجدة في حالة العلمنة في الحداثة إذا ّأنها ما عادت
من األفكار المثيرة هنا تنبيه المؤلف إلى ّ
غالبا ،ودينية في بعض الحاالت" (ج ،1ص
تؤسس لديانات جديدة ،بل أليديولوجيات وحركات سياسية علمانية ً
ّ
.)420
إذا كانت "العلمنة في الحداثة" ال جديد معها سوى األيديولوجيات العلمانية ،فأين نعثر إ ًذا على العلمنة المنشودة؟
هل ينوي المؤلف إعادة تنشيط نمط العلمنة السابق على الحداثة بصفته أكثر أصالة نظرية في طرح مسألة
العلمانية؟ وهل يكون ذلك هو نوع اإلجابة عن شروط إمكان فهمنا أنماط التدين في عصرنا؟
26
غير وظيفته (ج ،1 أن الدين لم يندثر أو يلغى بل ّ
تغير وظيفة الدينّ ،
أهم ما في تاريخ مفهوم الدين هنا هو ّ
ّ
فإن الرهان األكثر رشاقة هو بيان "حدود التنوير" من الداخل (ج ،1ص .)13وهذا ما م ّكن
ثم ّص .)12ومن ّ
خصوصا
ً المؤلف من إضاءة تاريخ العلمانية نفسها ليس فقط بقطعها عن "التقاليد اإللحادية القديمة" (نفسه) بل
بدءا من القرن السابع عشر.
بتأسيس العلمانية على "االنقسام بين المعرفة العلمية والمعنى" (ج ،1ص ً ،)12
ألنه قرن شهد ّأول ترسيم لمجال اسمه مفهوم "الدين"
مهم ألمرين متوازيين بصفة إشكالية ،من جهة ّ
وهذا القرن ّ
عملية "سلب للمعنى من المجاالت التي
ألنه قرن صار فيه العلم ّ
من حيث هو مجال غير شخصي؛ ومن جهة ّ
يقتحمها" (نفسه) .بذلك تبدو العلمانية في أصلها عبارة عن تأويلية دينية سالبة.
يصرح قائال" :نحن ال ننفي أن يجد اإلنسان معنى في 'مقدسات' أخالقية أو دنيوية
أن المؤلّف ّ
وعلى الرغم من ّ
أي تأويلية موجبة في الدين بما هو كذلك .ربما في
غير دينية" (ج 1ن ص ،)21فنحن ال نعثر لديه على ّ
الجزء الثالث أو الرابع الموعودين (ج ،2مج ،2ص .)10
27
أو "الفكرة ما بعد العلمانية" لدى هابرماس على ضبط مسألة االستعمال العمومي للدين (ج ،2مج ،2ص
.)36-35
يتعامل الكتاب مع الدين من خالل حركتين منهجيتين :إحداهما صريحة ،هي نقد العلمانية من حيث هي
أيديولوجيا وتحديد شروط إمكان نموذج نظري عن العلمنة؛ واألخرى صامتة ،هي حماية الدين من علمانية
معادية من دون أي شكل من الوعد الروحي أو المضمون المعياري للدين.
ما خال التطمينات المعرفية أو النقدية التي تنزع فتيل معاداة الدين في كل مرة ،وتبعد شبح اإللحاد عن التنويريين
بصفت هم علمانيين ليسوا بالضرورة معادين للدين بما هو كذلك ،تبدو الفصول المخصصة لمناقشة التأويالت
ائية بال مضمون معياري موجب عن
الالهوتية والقانونية والفلسفية الحديثة للدين بمنزلة فصول هرمينوطيقا إجر ّ
التدين.
معنى ّ
28
لكنها ال تدافع عن
"التحدي" اإلبستيمولوجي للتأويالت العلمانية للدينّ .
ّ لنقل هي فصول تقوم على ضرب من
أي
صارما عن اقتراح ّ
ً التدين .نحن نلمس إمسا ًكا فلسفيا صامتًا ولكن
أي تأويل خاص لمعنى الدين أو آلداب ّ
ّ
التدين .وعلينا أن نتساءل لماذا؟
تأويلي تأصيلي لداللة الدين أو ألصالة ّ
ومن جهة أخرى ،االكتفاء بعمل موجب واحد ،هو اقتراح نموذج نظري للعلمنة.
نخير أن نتساءل :ما هي نجاعة "السياق التاريخي" للغرب في طرح أو فهم للمسائل الدينية التي تطرح
لكننا ّ
ّ
"نؤرخ" لقيمة أو مشكلة ما حتى نفهمها؟ لماذا
نفسها في مجتمعات غير حديثة أو "غير غربية"؟ هل يكفي أن ّ
كل هذا التعويل على فهم "تاريخاني" للمسائل؟ أليس هذا عبارة عن سجن مسبق ألفق الفهم وألفق التفسير ينتمي
إلى حقبة سابقة من حقب العقل المعاصر؟
أن المؤلف يخاطب الفالسفة حتى وهو يتحدث عنهم .وال أشعر ّأنه يخاطب المتدينين حتى وهو يدافع
ال أشعر ّ
عنهم .فمن هو قارئه إ ًذا؟
29
ير
حاكما أو دولة .هو يشبه تقر ًا
ً شخصا بل
ً موجها إلى قارئ من نوع آخر ،قارئ ليس
ربما كان هذا الكتاب ّ
تستمر ،وضعية فكرية تخلط بين العلمانية والعداء للدين لها سدنتها من
ّ حازما عن وضعية لم يعد يمكن لها أن
ً
كل جانب .وربما عندئذ يمكننا أن نجني بعض الثمار العالية لهذا الكتابّ ،أنه:
ال يجوز ألحد أن يفرض "فصل الدين عن الدولة" ،ينبغي ّأوال "علمنة الوعي" قبل علمنة الحكم .واالّ فإ ّن
أن الدين مثله مثل السياسة هو جزء من العلمانية لن تخلو من "إرهاب" أي من نوع من "نزع الهوية" والحال ّ
نظام "رمزي وهوياتي" (ج ،2مج ،2ص ،)61ومن دون علمنة الوعي ال فصل بينهما؛ والعبرة هنا هي
صحي من الهوية؛
إفراغ العلمانية من طاقتها "العدائية" وتحويلها إلى وعد ذاتي بنوع ّ
أن "نزع السحر عن العالم ال يؤدي إلى نزعه عن اإلنسان" (ج ،2مج ،2ص )80؛ وهذا تنسيب رشيق
ّ
تورط ميتافيزيقي في
ألطروحة فيبر ،وهو ما يم ّكن الفكر العربي من الدخول إلى النقاش العلماني من دون ّ
فلسفة األنا االنتصارية الحديثة؛
أن فهم العلمانية من حيث هي أيديولوجيا أو موقف ( .1فصل الدين عن الدولة؛ .2خصخصة القرار في
ّ
الشأن الديني؛ .3تحييد الدولة في شؤون الدين) (ج ،2مج ،2ص ،)72هي وضعية تفسيرية ال تساعد
على فهم موجب للضرورة التاريخية لواقعة العلمنة ،أي "تراجع أهمية الدين االجتماعية في حياة البشر اليومية
ذكية عن
في إدارة شؤونهم المعيشية" (ج ،2مج ،2ص )74؛ وهذا فهم هادئ لمعنى العلمنة يفصلها بصفة ّ
التعبوية لجيل كامل؛
ّ نواتها األيديولوجية أو
وخاصةّ ،أنه "لو حصرنا تعريف العلمنة في التمايزات بين المجاالت المختلفة...لدخل كثيرون من المتدينين
في فئة العلمانيين" (ج ،2مج ،2ص )82؛ وهذا يساهم في كسر الجليد الذي يغ ّذي العداء األخالقي أو
سالموية متقابلة ،تعيش داخل فضاء مجتمعي مشترك؛
ّ علمانوية وا
ّ العقائدي بين أطياف
30
أن العلمنة السليمة (أي بصفتها صيرورة تاريخية وليس سياسة "علمانوية") وحدها يمكن أن تساعد "الحاجة
ّ
إلى المقدس" على تعويضها روحيا بالمتع الفنية والجمالية (ج ،2مج ،2ص )64؛ وهكذا يمكن لنوع من
المقدسات بعامة.
أي نزاع أخالقي مع الدين حول قيمة "الجليل" أو مساحة ّ
العلمنة أن يحفظ حرية اإلبداع من ّ
يخيا
أن سيناريو الدولة الليبرالية التي تخلط بين "النقد التنويري للدين" وعلمنة المجتمع بالقوة ليس طريقًا تار ً
ّ
تدخل الدولة في
"دروبا أخرى" تفضي بنا إلى االقتناع "بضرورة عدم ّ
ً ملكيا بل يمكننا أو يجدر بنا أن نقتبس
فرض عقيدة دينية على الناس" (ج ،2مج ،2ص .)413-412والدرس الفلسفي هنا هو ّأنه ال يزال من
الممكن لنا أن ندخل الحداثة السياسية من باب آخر غير "األيديولوجيا العلمانية" التي تفترض "محاربة الدين"،
"تفوق أخالقي" (ج ،2مج ،2ص ،)415تملكه الدولة على هوية المجتمع.
باسم ّ
31
وأهل الدنيا :مالحظات حول "العلمنة"
ُ أهل الديـن
ُ
يف سياق فلسفـي
*
إنقزو
فتحي ّ
"إن األديان هي التي تطور ،من بين كافة األنظمة الثقافية ،أقوى التنظيمات"
ّ
ديلتاي
ٍ
مسألة صارت من شؤون اليوم ومن مشاغل الزمان الذي نحيا، إن هذا العمل الذي نجتمع حوله ويجمعنا حول
ّ
حقيق بالنظر واالعتبار من هذه الجهة ومن جهات أخرى :جهة الحاضر الذي بات ضغطه وتسارعه وأو ازره
الثقيلة التي ينوء بحملها الفرد والجماعة ،وجهة االضطالع بما ورث هذا الحاضر عندنا وعند غيرنا من تقديرات
السبق
الريادة و ّ
يدعي ّ
ويدعيها ،أو ّ
"علمانيةً" تتجاذبها األطراف كلّهاّ ،
ّ العالقة بين الدين والدنيا ،وقد اتّخذت صيغةً
كأنها دنس واثم وكفران.
فيها ك ّل لنفسه ،ويستأثر آخرون بنكرانها والتّشنيع عليها ّ
األهلية
ّ المقومات
مترددة بين ّ
يتعين انتسابنا إلى هذه المسألة أو انتسابها إلينا ،بشروط ّ
من هاتين الجهتين ،إذنّ ،
البرانية اآلتية من ثقافة أو
المقومات ّ
الرمزي ،و ّ
الخاصة ،تلك التي يجدها المرء في مأثورات ثقافته هو ورصيدها ّ
ّ
من ثقافات أخرى لنا بها عبر التاريخ اتصال متفاوت األهمية والمقدار .ولعلها هي الشروط التي تخلّلت هذا
العمل ،ونسجت ،بتشابكها وتأليف عناصرها وترتيب سياقاتها وبنياتها المفهومية واالصطالحية وصوغ
مضامينها ،هذا القدر الكبير من األفكار والحدوس والنصوص والقراءات التي جعلت مسألة "الدين والعلمانية
في سياق تاريخي" خطوةً ،لعلها ليست األخيرة ،وعالمةً فارقةً في طريق طويل ٍة من مخاض الفكر العربي مع
قضية الدين والسياسة ،مع إشكال العلمانية ومفاعيل العلمنة ،ومع تنازع السلطات بين الهيئات الروحية والهيئات
أستاذ الفلسفة بدار المعلمين العليا بتونس ،مهتم بفلسفة إدموند هوسرل. *
32
السياسية ،وتنازع التأويالت بين أهل الدين وأهل الدنيا ،وال سيما بين من يقوم من هؤالء وأولئك مقام
العارفين ...إلخ.
()1
فلسفيا أو
ً أيا كانت جهة النظر إلى هذا الكتاب ،أو "الموشور" الذي تجب مقاربته منه ،سواء كان ذلك
وترددا
ً اجتماعيا ،فإنه يجد إزاء الزخم الهائل من المعطيات الذي تحفل به أجزاؤه ،حيرةً
ً نفسيا أو
أنثروبولوجيا ،أو ً
ً
فعال كما يوحي بذلك عنوانه؟ وما نمط التاريخ
يخي ً
بد من التعبير عنهما في هذا المقام .فهل هو عمل تار ٌّ
ال ّ
أن الكتابة في "الدين والعلمانية في
الذي يشتغل به ،والتاريخية التي يقصد استخراجها أو انتظام معانيها؟ وهل ّ
سياق تاريخي" تسليم بقرار يتعين على القارئ أن يشارك المؤلف اعتماده؛ أي هو قرار تنزيل هذين المفهومين
أو المعنيين – الدين والعلمانية – في أفق التاريخ كمخزن كبير للذاكرة البشرية ،وكمساق تطوري أفضى إلى
اللحظة الراهنة بعد قرون من االعتمال والتنازع والصراع؟ وأين تقع المكاسب النظرية؟ وما محلّها من هذا السياق
التاريخي؟
باعا.
تلك أسئلة أولية يتراءى لنا بمقتضاها انتظام المشروع في هذا الكتاب على جهات ثالث مناسبة ألجزائه ت ً
سماه المؤلف "الدين والتدين" ،وذلك على
فالجهة األولى يجوز لنا أن نسميها "فينومينولوجية"؛ وهي تعنى بما ّ
نحو القراءة األولية التي تطورت منها فكرة المشروع نفسه لتجليات الوعي الديني والظاهرة الدينية وثنائيات الحدث
الديني األساسية كالمقدس والمدنس وغيرها ،وقد سميناها "فينومينولوجيةً" ألنها قراءة في تجليات الوعي وما
يخالطها من المشاعر لدى األفراد والجماعات ،واستنطاق للدالالت والمعاني من رحم األلفاظ والعبارات ،من
القبلية الجاهزة.
دون تسليم ببنية تفسيرية سابقة حاول المؤلف اجتنابها والنأي عن مفترضاتها ْ
أما الجهة الثانية ،فهي تاريخية بالمعنى الدقيق ،وموضعها األوسط يشهد لها بذلك في هذه السلسلة الثالثية؛
ّ
فإن كان بسط الفاصلة التاريخية الكبرى التي تشمل العصر الحديث ،بوصفه المنعطف األكبر في إرساء مبادئ
العلمانية وأصولها الفلسفية ،يتعهد بهذا الدور وينهض له من جهة توفير المادة التاريخية الغائبة عن كثير من
األدبيات التي تطرقت إلى المسألة عينِها التي نحن بسبيلها ،ويجعل لها دور الوسيط الممهد للطور الالحق،
33
فإن العرض التاريخي هو أشبه بجدلية للعقل ال مناص منها إن شاء هذا العقل أن يستظهر إنتاجاته في الزمان
ّ
البشري الفعلي.
بناء عليها عملية العلمنة
أما الجهة الثالثة ،في المقام األخير ،فإننا نجد فيها التجارب النموذجية التي تحققت ً
وّ
في المجتمعات األوروبية أو ذات النمط الحضاري األوروبي بالمعنى األوسع ،حيث تتوفر المعطيات الفعلية
التي ترجمت الرصيد التاريخي المذكور سلفًا ،والمقارنات التي تسمح بتعقل هذا الرصيد واستحضاره في حالتنا
العربية اإلسالمية على أوسع نطاق.
وعلى ك ّل حال ،ال تتمايز هذه الجهات ك ّل التمايز بعضها عن بعض ،وقد تكون في أثناء هذا الكتاب على
درجة عظيمة من التداخل واالشتباك ،ولذلك فالذي يهمنا في هذا التواتر هو درجة تعبيره عن المشروع المعلن
إما بما التزم به المؤلف من المقاالت واألطاريح التي ال تخلو من رؤية فلسفية
عنه ،وكذا متانة بنيانه الفلسفي؛ ّ
تحديدا مقام النظر الذي نراه األنسب
ً واضحة أو مضمرة ،وا ّما بما نتج من التزامه من التبعات الفلسفية .ههنا
مجرد ظواهر ثقافية أو اجتماعية تتغير بتغير
لهذا الكتاب :المقام الفلسفي الذي ال يأخذ الدين وال العلمانية ّ
ق صيرورٍة مستمرة هو حقيقأسبابها الداعية إليها ،وانما هو المقام الذي يضطلع بهما في أفق كلّي؛ أي في أف ِ
مسلما كان أو غير مسلم -إلى الدين والى العلمانية ليست
ً باإلنسان بما هو إنسان .فحاجة العربي اليوم -
حاجته هو ،ينفرد بها إزاء العالمين ،وانما هي حاجة أصيلة ،ال شأن لها باالنفعاالت وأهواء النفس ،وال
بالمخاصمة والمشاغبة والمنازعة ،هي "حاجة العقل" ،كما قال كانط في نص شهير ،ونمط استعماله المخصوص
له ،وشكل "االستهداء" الذي ينبغي له به.
نتقصى دالالت هذا الحضور كما
ّ وبما أنه قد تقرر هذا النظر الفلسفي منو ًاال لجملة الكتاب ،فإنه يحسن أن
قطعا وان
عام ال نلزم به المؤلف ًتتبين في ما سميناه الوجه الفينومينولوجي لتجربة الدين والتدين ،وهو عنوان ّ
ابتداء ،وا ْن
ً اتبعه في كثير من المواضع ،وال نفرضه عسفًا على العمل ،وانما نستقرئ حضوره في تقرير المؤلف
كتابا نظرًيا عن الدين
في منحى سلبي" :على الرغم من الجهد النظري المبذول ،لم يكتب هذا البحث ليكون ً
ممكنا" (ج ،1ص )8؛ أي الكتابة في "فلسفة الدين" أو "في نظرية
ً مثمر أو حتى
عمو ًما ،فهذا الجهد ما عاد ًا
يسوغ المؤلف بموجبه مشروعه الذي هو "بحث عن الدين الدين" ...إلخ .وهب أننا نسلّم بهذا القرار الذي ّ
فإننا ال نسلّم بأهمية االعتبار النظري الفلسفي للدين في بناء
والعلمانية في سياق تاريخي" (ج ،1ص ّ ،)9
34
حي مباشر،
هذا البحث ،وان شغل مقدمة الكتاب الطويلة ،حتى في حال تعلّق األمر بمسائل راهنة أو بتاريخ ّ
أن المستويات التي يقترحها الجزء األول؛ أي الدين والتجربة الدينية ،والتدين ،ونقد محاوالت دحض الدين
ذلك ّ
يعبر ترتيبها على هذا النحو وبهذا التدرج
أخير العلمانية والعلمنة ،إنما هي أطوار تحليلية ّ
ومحاوالت تعريفه ،و ًا
مجرد مجموعة من األباطيل أو النظريات
أن الدين ليس ّ
عن الفرضية التي يسعى المؤلف إلقناع قارئه بهاّ " :
العلمانية ليست عبارةً عن نظرّية علمّية" (ج ،1ص .)15ذلك هو في تقديرنا
ّ أن
الخاطئة في فهم العالم ،و ّ
رأس األمر في هذا المشروع ووجه أصالتهّ :أنه ال شأن لنا بعد اآلن بنقد الدين على معنى التحرر النهائي منه،
حال علميا نهائيا لمشكالت
أن العلمانية الموعودة ليست ً
كما ب ّشرت بذلك نبوءات متتالية لم يصدق أصحابها ،و ّ
حصا
بدال من هذا النقد الذي انقضى بانقضاء أجله ،ومن هذا اإليهام بعلمية مزعومة ،نجد ف ً
اإلنسان .لذلك فإنه ً
للدين في أبعاده المختلفة لعله يفي بنذر هذا الكتاب؛ بوصفه "ظاهرةً اجتماعيةً متغيرةً وقابلةً للدرس"" ،وأنه يرتبط
استدالال
ً اديا ،وليس
فعال إر ً
أن هذه التجربة "تقود إلى اإليمان [بوصفه] ً
على المستوى الفردي بتجربة وجدانية" ،و ّ
أن المؤلف وان كان ال ينطلق صراحةً من
الحق ّ
استنتاجا علميا ضروريا ...إلخ" (ج ،1ص ،)15و ّ
ً عقليا أو
مسلمات فينومينولوجيا الدين؛ كالمسلمات التي نادى بها رودولف أوتو ومارتن هيدغر ومرتشيا إلياده وفان دار
فإن تحليالته ،في هذا المستوى التمهيدي ،تتقاطع مع هذا المنظور من جهة االبتداء بالتجارب
لوي وباول تيليشّ ،
أن الحديث عن التجربة
األساسية التي تتشكل منها مادة التجربة الدينية في أصولها الحدسية القصوى؛ ذلك ّ
الدينية هو حديث عن تجربة المقدس ،عن "حدس المطلق مباشرةً ،أو رؤية الالنهائي في النهائي ،والمطلق في
النسبي ...إلخ" (ج ،1ص ،)20وهو كذلك حديث عن البنية الجماعية االجتماعية للدين التي تتجاوز الكيان
الفردي ،وتدرج المقدس في شعائر وممارسات ومؤسسات وسرديات كبرى تتكفل بإعادة إنتاج الوعي الجمعي
وحفظه وضمان استم ارره في الزمان .ك ّل ذلك من خالل فحص لوجهات نظر ومواقف فلسفية ش ّكلت على تخوم
وتدبرت ما بينهما من التفاعل واالشتراك في اللغة والتصور والمراس اليومي ،وشغلت
التماس بين الدين والدنياّ ،
ّ
بالعالقة بين الفلسفة والالهوت ،أو بين الدين وفلسفة الدين ،أو بين النقل والعقل بلغة فالسفة اإلسالم ومتكلميه.
يخيا،
منطقيا وتار ً
ً أن هذه العالقة ذات األشكال المتباينة التي ال تنتظمها وتيرة واحدة إنما هي محتاجة،
غير ّ
إلى وسائط ضرورية هي التي توفّر الشروط الموضوعية لتجلي التجربة الدينية في مضامين بعينها تكون أشبه
شيء بها وأقرب نسًبا إليها .ههنا ترد التحليالت التفصيلية بخصوص "األسطورة والمعنى بالحكاية" (ج ،1ص
35
أخير "عن الدين واألخالق" (ج ،1ص
ثم حديث "عن السحر والدين" (ج ،1ص ،)116-102و ًا ّ ،)102-57
اير لمنطق
.)170-117واذا كان األمر مع المقطعين األولين ،بخصوص التعبيرات األسطورية والسحرية ،مس ًا
تكويني مألوف في الدراسات الفلسفية واألنثروبولوجية والتاريخية ،ينشأ الدين بمقتضاه من التحالف والتنازع مع
احد ،فإنه مع المقطع األخير يرتقي إلى مستوى المراهنة الفلسفية ِ
الخطرة على بنية القول هذه التعبيرات في آن و ٍ
36
إن ميل المحدثين إلى تشكيل الظواهر الدينية في قوالب عقلية وادراجها تحت عناوين وبنيات معيارية متعالية،
ّ
يخالفه ميل المعاصرين إلى اإلقبال على هذه الظواهر بعينها من باب أخص خصائصها؛ أي "التدين" .لذلك
فعليةً للمشروع من بعد التوطئة
المطول المعقود بهذا العنوان (ج ،1ص )242-173يمثل بدايةً ّ
ّ أن الفصل
نجد ّ
يخية في سوابق التجربة الدينية وحوافها .وهذه البداية هي األنسب في رأينا للفينومينولوجيا
يبية أو تار ّ
ببدايات تجر ّ
التي ينتظرها القارئ؛ أي التجارب األساسية التأسيسية لهذه التجربة في مستوياتها األولية المباشرة :المقدس
والمدنس ،والشعور الديني ،والخوف والرهبة ،واإليمان واالعتقاد ،والدين والتدين ،واالعتناق ...إلخ ،مع ملحوظات
استطرادية حول "النماذج اإلسالمية" (ج ،1ص )223-204وأبعادها في هذا السياق.
أما ما يشهد على هذا المنحى الفينومينولوجي ،بالمعنى األوسع للكلمة ،فنجده في أسماء وأعمال تدور بالجملة
وّ
على التجربة الشعورية ودورها في تكوين التجربة الدينية؛ من بينها وليام جيمس ،ورودولف أوتو ،وفان دار
طويال ،وال سيما في السياق العربي ،لغلبة
ً لوي ...إلخ ،وهي مقاربات غفل عنها الباحثون في مجال األديان
طويال من الزمان .ومن هذه التجربة األصلية تنشأ المفاهيم األساسية التي
ً ردحا
الوضعيات المادية والتاريخية ً
تنتظم اإليمان والعقيدة كالمقدس والمدنس ،والحالل والحرام ،و"مفهوم الـ ( numinousأوتو) الذي يجمع بين
تماما كما في لفظ الرائع والروعة بالعربية ...إلخ" (ج ،1ص ،)178وغير
الرهبة والنفور واالنبهار واالنجذابً ،
أن المؤلف ال يكتفي ههنا بالوصف
ثم في أفق العالم من بعد ذلك .على ّ
ذلك من تجليات القداسة في النفس أوًالّ ،
المباشر لهذه المظاهر األولية للقداسة وأضدادها ،وانما نجده يرجع بجوهر التجربة الدينية نفسها إلى هذا التضاد
سماه "الجدلية الممتعة التي تميز التدين" ،والتي بمقتضاها يتحول الشيء إلى نقيضه؛ إذ "تكمن أهمية
أو ما ّ
التدين في النهاية في العادي اليومي ال في االستثنائي وغير العادي في التجربة الدينية" ،و"لوال هذا التحول
الجدلي من عاصفة التجربة الدينية إلى عادية السكينة الدينية ومنواليتها ،لما قامت للدين قائمة .ليس التدين
أيضا نفيها .ونفيها هذا هو الذي يصنع الدين أي يمأسسه باعتباره
هو التجربة األولية للمقدس ،بل هو ً
ظاهرةً" (ج ،1ص .)187-186
علو القداسة ويوميتها في آ ٍن واحد ،وبين ِ
من هنا جاء االلتباس الدائم بين هذا العنفوان األصلي الذي يسم تجربة ّ
التصوف والحركات الصوفية التي هي أقرب شيء إلى التخريج أو التنميق الفني للدين .فالموسيقى والتراتيل
المحسنات الجمالية التي تعمل على تجاوز الحس اليومي نحو ملكات عليا للنفس.
ّ والشطحات كلّها من هذه
37
وفي هذا السياق جاء تأكيد دور "اإليمان" و"العقيدة" في تكميل هذا الوجه الفني الشعوري للدين حتى يتحول إلى
إن التحليل المعقود لإليمان (ج ،1ص )204-189يتبسط في
دين فعلي يتخذ الشكل المؤسسي الذي يالئمهّ .
طرح هذه الفرضية وتسويغها بما يعرض من التفرقة بين دالالت "اإليمان المعرفي" و"اإليمان العرفاني" ،األول
بوساطة من المعارف المتعلقة باهلل وبوجوده وهو موضوع هذا اإليمان واليقين الناجم عن التصديق بذلك ،والثاني
بسبيل مباشرة ال تتوسل اإلثباتات العقلية .فاإليمان ولو بالحد األدنى يتعين عليه أن يرافق الشعور الديني
ويتحول إلى عقيدة ،ويقام على أساس قصة تأسيسية لنشوء المقدس وحدوثه في الزمان ،أو في زمان ّما قدسي
أو غير قدسي.
أن ما انتهى إليه الجزء األول من فصلين متعارضين في الظاهر ،أحدهما تاريخي نقدي والثاني تعريفي
يبقى ّ
فيلولوجي ،إنما هو التكملة الضرورية للفينومينولوجيا السابقة المتعلقة بتجربة الدين والتدين في مختلف أشكالها
وتضاريسها .فاألول (أي الفصل الثالث" :في نقد نقد الدين" ،ج ،1ص )302-245هو استجماع لفرضية
كثير
أن اإللحاد ليس نظريةً علميةً ،ولعل ًا
أن الدين ليس من قبيل الخرافة الباطلة ،و ّ
سبق التعبير عنها ،مفادها ّ
إما بفعل تنوير راديكالي متطرف ،وا ّما
من آفات الفكر العربي المعاصر متأتية من الغفلة عن هذا المعنى؛ ّ
أيضا نرى في
بفعل المذاهب المادية التي خلطت عقائدها بمظهر من النظريات العلمية القاطعة اليقين .ولذلك ً
إما على جهة العقل ،أو
االلتجاء إلى الحلّين الكانطي والهيغلي محاولةً للتوسط بين النقائض ذات داللة كبرى؛ ّ
على جهة التاريخ ،واما باستيعاب الدين في األخالق ،أو بتنزيله في السياق الفعلي للنمو الجدلي للروح ،وفي
مبنيا على التسليم عند الفيلسوفين بمرجعية المسيحية (البروتستانتية على ٍ
نحو ك ّل األحوال يكون هذا التوسط ً
نموذجيا ،وهو ما يجد عند ماكس فيبر ترجمته الفعلية مع الترابط الوثيق بين الحداثة
ً دينا
خاص) بوصفها ً
ّ
وعقالنيتها االقتصادية واألخالق المسيحية في شكلها البروتستانتي (ج ،1ص .)302-290على النقيض من
أي وجاهة
ذلك تأتي محاولة ماركس (ج ،1ص )289-280كاستمرار للتقليد المادي الجذري في إبطال ّ
أما الثاني (أي الفصل الرابع" :تعريفات" ،ج ،1ص ،)402-305فهو
عامّ .
أخالقية أو تاريخية للدين بوجه ّ
جهد فيلولوجي لفحص أصول لفظة "الدين" في العربية وفي سائر اللغات ،في النصوص المقدسة ،وفي آثار
المتكلمين والفالسفة والمؤرخين والمعجميين وعلماء النفس واالجتماع واألنثروبولوجيا ،حتى أننا نجد عند بعض
أن القصد من هذه المادة
إحصاء ألكثر من خمسين تعريفًا (ج ،1ص .)341على ّ
ً الباحثين (جوناثان سميث)
38
المعجمية إنما هو التمهيد للقضية المحورية في الكتاب ،وهي الصلة بين الدين والعلمانية أو العلمنة؛ إذ صار
ممكنا في عصرنا من دون الولوج
ً أي بحث عن التعريف" :ما عاد بحث الدين
من المحال فصل األمرين عند ّ
فإن تعريف الدين هو ظاهرة 'علمنة' ( )...وذلك قبل نشوء العلمانية كإيديولوجية
إلى مفهوم العلمانية والعلمنةّ .
بوقت طويل ،وقبل نشوء مفهوم العلمنة كأنموذج سوسيولوجي في فهم هذه الصيرورة" (ج ،1ص .)402-401
أيضا؛ كما يدل على ذلك الفصل األخير الذي يمهّد لالنتقال من مبحث الدين والتدين إلى
والعكس صحيح ً
مبحث العلمانية والعلمنة؛ إذ ال مجال لفهم الظاهرتين األوليين بمعزل عن الظاهرتين الثانيتين .ولعل األهم في
هذا الشأن ،من وراء المجادالت العمومية الشائعة حول فصل الدولة عن الدين ،والمدني عن الروحي ،أنه "ليس
أن العلمانية "نتاج عملية تمايز اجتماعي بنيوي وتغير في
ثمة وصفة أو معادلة للتطبيق المباشر" من أجل ّ
تمر بها المجتمعات كافةً" (ج ،1ص .)405
أنماط الوعي كصيرورة تاريخية ،وهي صيرورة ّ
()2
تقدم ،لع ّل القارئ يدرك إعراض المؤلف عن اختزال هذا الجدل في العالقة بين اإلسالم والديمقراطية
استنادا إلى ما ّ
ً
وتخيره للسياق األرحب
عقيما" بحسب قول بشارة (ج /2مج ،1ص ّ ،)11
كما هو شائع ممجوج ،بوصفه "سؤ ًاال ً
لنظرة تاريخية نقدية لألفكار الحديثة بشأن العالقة بين الدين والسياسة .ولعل التسويغ الذي نجده في مقدمة هذا
المجلد ،بما يحتله من مكانة وسطى في هذا المشروعٍ ،
كاف للتنبيه على ما وقفت دونه المحاوالت السابقة:
النظر في العلمانية بوصفها ظاهرةً تاريخيةً نشأت في سياق النشأة السياسية للحداثة الغربية .وهذا التساوق بين
مهم من جهتين على األقل .فهو من جهة يعيد تنزيل الحداثة في
منابع الحداثة وأطوارها وبين مظاهر العلمانية ّ
مساقها الخاص بوصفها ظاهرةً سياسيةً في المقام األول على ما درج عليه التقليد األنغلوسكسوني ،وتنسيب
الرؤية الكالسيكية القائمة على تفضيل المنطلقات النظرية والعلمية الخالصة (ديكارت ،وغاليلي ...إلخ) الشائعة
يمس جوهر هذه الحداثة السياسية؛ أي مسألة الدين وعالقتها بالسياسة
في التقاليد القارية .وهو من جهة ثانية ّ
والدولة ونظم الحكم وتدبير الشؤون العمومية وغير ذلك ...إلخ ،وهو ما نغفل عنه ،في أغلب األحيان ،في
وكأن الحداثة قد أفلحت دفعةً واحدةً في تصفية الميراث الديني المسيحي،
نظرتنا إلى المتون والنظريات الفلسفية ّ
والحال أنها إعادة إنتاج وتشكيل لهذا الميراث على قواعد من العلمنة جديدة ومستحدثة.
39
ذلك هو ،إذن ،ن ْذر هذا الجزء التاريخي من المشروع ووجه أصالته .فهو ال يأخذ هذا التاريخ الحديث على أنه
خطّي متّصل ،وانما يتناوله على ٍ
نحو "متعرج ،وحتى لولبي حلزوني" (ج /2مج ،1ص )11؛ حيث تتشابك
العالقات بين الدين والسياسة والعلم ،وبين المجال الالهوتي والمجال الدنيوي ،ويتواتر فيه التقدم والتراكم مع
التقهقر والتراجع ،وتختلط فيه األفكار والمكتشفات العلمية بالمصائب والكوارث ...إلخ ،ولعل القارئ يجد ص ْو ًغا
مكثفًا لفرضيات هذا الجزء في فقرة جامعة يجدر بنا إيرادها ،وهي:
غالبا وجهين للصيرورة ذاتها ،وبدأ منطق الدولة يظهر خالل
بينا ،كان اإلصالح الديني واألصولية ً
"مثلما ّ
كثير من األفكار
أن ًاالنهضة واألنسنية الكاثوليكية ،وبعض مبادئ اإلصالح الديني؛ واألهم من هذا وذاك ،وجدنا ّ
عام التي
أن فكرة الدين بشكل ّ
التي تعتبر في أيامنا "علمانيةً" نشأت وتطورت في إطار الثقافة الدينية السائدة ،و ّ
أن التنوير ونقده جريا من دون استخدام
تتميز من الكنيسة والعقيدة المسيحية نشأت بعد تطور فكرة الدولة ،و ّ
قائما في حينه في عالم الدين" (ج /2مج ،1ص .)12مصطلح العلمانية الذي كان ً
إجماال لحركة التفكير في هذا الطور الثاني من حيث إنها تجري على وتيرتين
ً إن المتأمل في هذا الص ْوغ يجد
ّ
متساوقتين :أوالهما وتيرة البسط التاريخي ،بما يقتضيه من انتقاء اللحظات النموذجية في الفكر السياسي الحديث،
وانتظامها ضمن أفق معالجات وحلول وتصورات متفاوتة األهمية لمسألة العلمانية والعلمنة؛ من األنسنية
مرور باإلصالح اللوثري وتحوالت
الكاثوليكية في عصر النهضة إلى هابرماس وجدلية الدين والمجال العموميً ،ا
حد النماذج األكثر جذريةً :نيتشه
العلم الحديث وعصر التنوير الفرنسي وما بعده في السياق األلماني ،إلى ّ
بناء
أما ثانيتهما ،فهي وتيرة إشكالية يقترح فيها المؤلف ضرًبا من إعادة توزيع أوراق اللعبةً ،
وكارل شميتّ .
طي صفحة النقد السطحي للدين ومفترضاته اإليديولوجية. حصل في المجلد األول من مكاسب بفعل ّ على ما ّ
فـ "منطق الدولة" إنما هو صادر من قلب الحركية الدينية ونزعتها األنسنية سواء في شكلها الكاثوليكي (أغسطين،
والنهضة اإليطالية) ،أو في شكلها البروتستانتي (لوثر ،وكالفن ،وتسفينغلي)؛ أي من جدل قائم داخل التراث
"دنيوة" الدين منذ العصر الوسيط المتأخر ،لذلك يصير من
سماه المؤلف ْ
المسيحي بمختلف وجوهه سعى لما ّ
الممكن أن نتصور انقالبات ممكنةً في الحدود التي يتألف منها هذا الوضع المعقد .فكثير من المفاهيم العلمانية
أما فكرة الدين ،فتظهر بعد تطور فكرة الدولة ،بل إ ّن النقد التنويري
ترجع بأصول تكوينها إلى سياقات دينيةّ .
للدين لم يكن ليستعمل مفاهيم علمانيةً كانت سائدةً في السياق الديني نفسه.
40
مطولة تراوحت بين المقدمة النظرية (ج /2مج ،1ص )100-39المعقودة لفحص
ك ّل ذلك احتاج إلى فصول ّ
أصول األلفاظ ذات الصلة بمصطلح العلمانية ومشتقاته في العربية وفي سائر اللغات من جهة ،والتحليالت
التاريخية التفصيلية التي قلّما اجتمعت بين دفتي كتاب واحد وغطت مساحةً زمنيةً كبيرةً تكاد تشمل التاريخ
الذهني والروحي للغرب بمنابعه وروافده كلّها من جهة أخرى .فإذا نظرنا في القسم االصطالحي المفهومي،
جعا إلى مكاسب يمكن حصرها في ما يلي:
وجدنا الحاصل منه ار ً
إن العلمنة هي صيرورة تاريخية واقعية ،وهي نتاج عملية تطور شهدتها المجتمعات األوروبية وغيرها،
ّ
طابع دنيوي في األصل ،وعملية تمايز
ٍ بصفتها عملية "دنيوة" للوعي وللممارسة البشريين ،لكونهما ذوي
عناصرها الدينية وغير الدينية في الوقت عينه ،وتحديدها وتمأسسها؛ بعبارة أخرى "العلمنة كمفهوم هي
عمليا اسم ألنموذج تفسيري لعملية تطور إنسانية عامة على مستوى التاريخ الطويل في ما يتعلق بمعرفة
ً
الظواهر ،وفي ما يتعلق بعالقة السلطة الدينية بالسلطة السياسية ،أو الدين بالدولة" (ج /2مج ،1ص
.)41
تعبير عن التحديث ال يمكن إدراك حقيقتها من دون ربطها بخصوصية العالقة بين
إن العلمنة بوصفها ًا
ّ
أوروبا وبين المسيحية؛ إذ تجلى الطابع المؤسسي للعالقة بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية وما
أحيانا ،وما رافق ذلك من نشوء مفهوم الدولة الحديث في سياق
ً حينا ،ومن التنازع
بينهما من التواطؤ ً
ضد المؤسسة الكنسية وميلها إلى الهيمنة .وتنجم عن ذلك خصوصية الترابط في
الصراع السياسي ّ
العالم الغربي بين العلمانية والمسيحية وهو ما أنتج منذ نهايات العصر الوسيط النمط الحضاري الذي
دأبت فيه المجتمعات الغربية إلى اليوم كما رأى ذلك تايلور (ج /2مج ،1ص .)44
بأي جهد
العلمانية في السياق العربي اإلسالمي بعضها منخرط في صيرورة واقعية تاريخية لم ترتبط ّ
تنظيري؛ فـ "تطور وعي السياسي خارج الديني حدث باستمرار في الثقافة العربية – اإلسالمية
مثال" (ج /2مج ،1ص
الكالسيكية ،حيثما تطور الفرق بين االعتبارات السياسية والدينية عند الحكام ً
،)46وبعضها تش ّكل في هيئة "إيديولوجيا قائمة منذ المرحلة االستعمارية ( )...ولها أصحاب دعوات
أي دين ...إلخ"
لفصل الدين عن السياسة ،ولحرية الفرد في اعتناق الدين الذي يختار ،أو عدم اعتناق ّ
41
(ج /2مج ،1ص ،)49على أننا في ك ّل الحاالت نبقى دون استشكال التطور التاريخي اإلسالمي
بوصفه عملية علمنة قبل أن يتحول المصطلح نفسه إلى مفهوم مستقل نسبيا عن البيئة التي أنشأته.
إن
يكمل هذه الثالثية ،ف ّ
ولئن بقي هذا العنصر األخير مبثوثًا في ثنايا الكتاب ،ولعله محتاج إلى كتاب مستقل ّ
أي ٍ
نظر فلسفي أو غير فلسفي من اللذين ال يستقيم ّ
العنصرين األول والثاني يش ّكالن جوهر المسألة وطرفاها ْ
دون أخذهما في الحسبان :عنصر التاريخية الجذرية التي حكمت صيرورة الوعي بسيرورة العلمنة في حياة
الناس وشؤون دنياهم قبل ك ّل شيء ،وعنصر الخصوصية األوروبية التي تحولت إلى ظاهرة كونية تورطت فيها
ٍ
بنسب متفاوتة -وانتقلت بمشكالتها الدينية المحلية إلى آفاق العالم المسكون، األمم والشعوب والثقافات -
ودخلت البشرية برمتها في طور ال يمكن لها التراجع عنه.
فلينظر المرء إلى المسافة التي قطعت في األثناء بين الوضع الخصوصي الذي نشأ فيه التمييز بين سياقين أو
أن "مصطلح [العلمانية] يعود إلى تمفصالت وتمايزات وظيفية في
عالمين أو حتى بين نمطين من الناس ،ذلك ّ
الكنيسة ذاتها" ،ويد ّل على "صفة الرهبان 'المكرسين لخدمة الرب' من رجال الدين العاملين في الدنيا ...إلخ"
حد تشكيل منظومة العالقات بين الدول
(ج /2مج ،1ص ،)50وبين المجال األوسع لتداول المصطلح إلى ّ
وضبطها بحدود سياسية ،وسيادة وطنية ،وغيرها من المفاهيم التي خلقت النظام الدولي الحديث ،حتى كدنا
فضال عن تحميل المؤسسة الكنسية كامل المسؤولية التاريخية
ننسى أصول المسألة في محضنها الديني الكنسيً ،
دوما ،وال هو
عن شناعات التداخل بينها وبين الدولة والحال أنها طرف في الصراع ليس هو الطرف األقوى ً
أصال.
يقبل بهذا التداخل ً
ربما لمثل ذلك يبقى طور "اإلصالح الديني" (ج /2مج ،1ص )299-233محوريا في هذا السياق :في
التخريج الحقوقي السياسي والعقائدي لمسألة العلمنة من أصولها في التجربة الكهنوتية ومن السياق الكنسي نفسه
بتنوعه وتاريخيته ومطالبه الخاصة ،وكذلك في الص ْوغ النظري لمطالب العلمانية والعلمنة كمطالب نابعة من
أهل الدين أنفسهم أو من رجاله وأصحابه وأتباعه ،حتى يبلغ بنا األمر حدا ال يمكن لنا معه أن نتصور المسألة
من دون جذرها الروحي ،كتجربة وجدانية حدسية المتناهية ،ومن دون انتظامها المؤسسي الفعلي ،بوصفها من
أيضا ،نجد التنظيرات األعمق منتسبةً إلى هذا
اقتضاء الكنيسة ومن دعاواها إزاء المجتمع والدولة .ولذلكً ،
السياق في المجال الجرماني .فأسماء من الرعيل األول من الفالسفة؛ مثل كانط وشاليرماخر وهيغل وشلنغ
42
وفيشته ،ومن تبعهم من األجيال التالية؛ مثل فلهلم ديلتاي وأرنست ترولتش ورودولف أوتو وماكس فيبر وكارل
شميت ،إضافةً إلى المتأخرين؛ مثل هانز بلومنبرغ ويورغن هابرماس ...إلخ ،إنما توحي بهذه النزعة الغالبة
على األدبيات األلمان ية التي تفاخر بما عجزت عنه سائر األمم األوروبية :إصالح الدين بوصفه النهضة
الحقيقية لألمة األلمانية (ديلتاي).
ولئن رأى المؤلف في الحركة اإلصالحية البروتستانتية ضرًبا من الردة ،أو من األصولية السلفية بإلغاء الوساطة
بين المؤمن وبين اهلل (ج /2مج ،1ص ،)237فإنه ال يمكن أن نغفل في الوقت نفسه عن النزعة الدنيوية
قدم ماكس فيبر أفضل التحليالت عنها
الجذرية التي رافقت اإلصالح ،والتي ارتبطت بسيرورة عقلنة شاملة ّ
فضال عن مسايرتها للدولة ودعوتها للطاعة.
ً بوصفها عين المقام التاريخي الذي يختص به العصر الحديث،
باختصار ،افتكت البروتستانتية المبادرة في االستئثار بما أعرضت المدارس والتيارات األخرى عنه :وضع
المسألة الدينية في قلب الحداثة ،واالستعداد لك ّل ما ينجم عن هذا الوضع المثير للجدل.
في هذا السياق ،يتعين أن ندرك المناظرة المزدوجة مع التنوير (ج /2مج ،1ص ،)601-493ومع
ما بعد التنوير (ج /2مج ،1ص ،)678-605وقد تشكلت على حدودها وخاللها المفاصل الحاسمة للحداثة:
نقد الدين وال سيما النقد التنويري الفرنسي المغالي وتأسيس نمط مخصوص من العلمنة لع ّل "الالئكية" هي أنسب
األسماء لها ،ونقد هذا النقد في المجال األلماني بإعادة ترتيب المسألة على أساس أولويات جديدة .وفي الحالتين
تنشأ فلسفتان للتاريخ :فلسفة للتاريخ المقدس (نيوتن ،وبوسيي) تعلو على التاريخ الدنيوي ،وفلسفة للتاريخ الكوني
تستوعب األول في الثاني (فولتير ،وهيغل).
أن فلسفة التاريخ
ولقد صار من المعلوم ،منذ ديلتاي وكارل لوفيت وفالتر بنيامين وحنا آرنت وهانز بلومنبرغّ ،
ٍ
علمنة لتاريخ الخالص في الالهوت المسيحي وص ْوغ عقالني لمقوالته الرئيسة ،بما إن هي إال مسار
الغربية ْ
في ذلك أكثر النظريات غلوا في المادية (فويرباخ ،وماركس) ،أو في التشاؤم والعدمية (شوبنهاور ،ونيتشه)،
فهي في مجملها مناظرة داخلية حول شأن داخلي ال يخرج عن المنبع اليهودي المسيحي للغرب ،كما تش ّكل منذ
عهدة قسطنطين ،وكما بلغ مع اإلصالح اللوثري أعلى درجات وعيه بنفسه؛ لذلك لم يكن بوسع القرن التاسع
عشر وأهله ُّ
تدبر معنى العلمنة والعلمانية في البالد الغربية الكبرى ،ألمانيا وفرنسا وانكلت ار ،من دون استيعاب
إما بمنحى نقدي راديكالي كالسيكي (الماركسية والمذاهب المادية ،الفصل :10
سلبا؛ ّ
الدرس من القرن الماضي ً
43
"العلمانية بوصفها إيديولوجيا في القرن التاسع عشر" ،ج /2مج ،1ص )708-681أو بالمنحى نفسه في
سياقه المعاصر (مدرسة فرنكفورت ،والالهوت السياسي ،والالهوت السلبي الفرنسي ،الفصل " :11نماذج في
يجابا (الفصل " :12نماذج ليبرالية وديمقراطية معاصرة
النقد الحداثي للتنوير" ،ج /2مج ،1ص )751-711وا ً
في حرية الدين والعقيدة" ،ج /2مج ،1ص ،)828-755من خالل التسليم المتنامي بجدارة النظام الليبرالي
بتنظيم شؤون الحياة السياسية والعامة ،وكذلك الدينية ،بحسب المنوال الثوري الخاص بك ّل أمة :منوال الثورة
بأهم منها داللةً وفاعليةً تاريخيةً ،وصوًال إلى
أثر وشهرةً ،وان لم تكن ّ
ثم الفرنسية التي فاقتها ًا
اإلنكليزية أوًالّ ،
التنويعات المتأخرة من الليبرالية :التأسيسية منها وغير التأسيسية (راولز ،ورورتي) ،والخالفات الراهنة حول
الداللة القصوى للسياسي ومصادره التاريخية والرمزية (تايلور ،وهابرماس) ،وما يثيره ذلك من المنازعة المتجددة
ب شأن وضع الدين واإليمان بين دائرة الخصوصية الفردية ودائرة العمومية والتعايش والتضامن بين الناس ،وهو
أمر يقتضي إعادة رسم األدوار وتحديد معنى العلمانية المطلوبة في إدارة الشأن السياسي ،في زمن فقد فيه
موحدة متجوهرة بالسياق قوة اإلدماج والحشد التي كان الدين يصنع بها وحدة األفراد في بنيات وهيئات ّ الناس ّ
االجتماعي ،وفقد فيها الفالسفة امتياز السبق لتقدير أفعال العباد على مقتضى المبادئ والمعايير العقلية الكلّية.
فالديمقراطية ،كما قال رورتي في نص شهيرْ " ،أولى من الفلسفة".
()3
قد يكون من الضروري ،في نهاية المطاف ،إعادة نمذجة األنماط التفسيرية والمذاهب والمواقف بشأن "نظريات
أن ما ورد على جهة
العلمنة" التي تمثّل مساهمة المجلد الثاني من الجزء الثاني واألخير من الكتاب؛ ذلك ّ
ثال تحتذى لتنظيم الشأن السياسي وعالقته
التعاقب التاريخي قد استحال ،بفعل االستقرار والتواتر والتداول ،م ً
بمسائل الدين وشؤونه .ولع ّل صيرورة العلمنة نفسها متساوقة مع بنية سردية للزمن التاريخي يعتمدها ك ّل عصر
سماه ليوتار ،في تقريره الشهير" ،السرديات الكبرى".
أمة وك ّل مجتمع على شاكلة ما ّ
للحديث عن نفسه وك ّل ّ
هل يمكن ع ّد العلمانية من جنس "الميتا -سرديات" التي تضاهي كبرى النظريات واإليديولوجيات والتيارات
التاريخية والفلسفية في العصر الحديث؟ ذلك ما يعمد المؤلف إلى استشكاله لدى التوتر والتقاطع اللذين ي ارفقان
الجمع بين التاريخ المقدس والتاريخ الدنيوي كما أشير إليه من قبل .ولقد جابه المؤرخون الكبار ،من طبقة غيبون
44
وارنست رينان وبوركهارد وميشلي وليكي ،مشكالت متعلقةً بموضوعية العمل التاريخي ومنزلة المؤرخ وطبيعة
المادة التاريخية نفسها وتقاطعها مع األساطير الكبرى والقصص الديني؛ مثلما كان عليهم مواجهة مشكالت
التاريخانية كما بسطها إرنست ترولتش في نهاية القرن التاسع عشر ،ونقدها بشدة في القرن العشرين هوسرل
ومن بعده كارل بوبر في بيان شهير ،وانعكس ذلك كلّه على أعمال مدرسة الحوليات الفرنسية الشهيرة وما
أحدثته من تجديد في الكتابة التاريخية.
تلخيصا كثيفًا لهذا التداخل بين مسارات العلمنة والتاريخ" :مثل
ً نجد في بداية المجلد الثاني من الجزء الثاني
السرديات الكبرى كلّها ،تتضمن العلمنة زاوية نظر تصلح إللقاء الضوء على جوانب من الصيرورة التاريخية
ّ
الفعلية .وتكمن المهمة في فصل النظرية فيها عن الميثولوجيا .وفي األحوال كلّها تعني العلمنة على مستوى
كتابة التاريخ الفصل بين عقائد المؤرخ واتجاهاته المعيارية ،والصيرورة التاريخية .لكننا نجد في المقابل أ ّن هذه
العلمنة في نطاق التدوين التاريخي اخترقت بالمعياريات واألساطير الجديدة التي تظهر كأنها من طبيعة تاريخية،
ال من نوع األساطير الفائقة للتاريخ" (ج /2مج ،2ص .)37فالسردية ليس لها وجود واقعي ،وانما هي بنية
مثالية أو اصطناعية ،ولم تكن ثمة إطالقًا "وحدة كاملة بين الدين والدولة يتبعها فصل بينهما ،إذ لم تكن ثمة
غالبا سيطرة طرف على اآلخر" (ج /2مج ،2ص .)60
تضمن ً
وحدة كاملة في يوم من األيام ،بل ساد تداخل ّ
أيضا على السياق
ك ،على السياق الغربي ،فإنه أحرى أن ينطبق ً
ولئن كان هذا الكالم ينطبق ،من دون ش ّ
العربي اإلسالمي .فالمتحدثون عنه من ك ّل المشارب إنما يكررون هذه البنية المثالية االفتراضية التي ال يشهد
لها الواقع التاريخي حينما يتحدثون عن عالقة الدين بالدولة ،وكأنها من صنع مخيلتهم ،ال من تصاريف الشؤون
البشرية التي تسير بما تقتضيه مصالح الناس في الدنيا ،حيث كانت العلمنة في مفاصل كبرى من تاريخنا
ليال (الحظ اإلشارة
متخلّلة لصيرورة الحياة وتقلبات أشكال الحكم والسيطرة والنفوذ ،ال تأتمر بسلطان العقائد إال ق ً
عما
فضال ّ
ً الالفتة لالنتباه بهذا الخصوص بشأن قرب البروتستانت من المسلمين :ج /2مج ،2ص ،)121
المجرد دون تاريخيته الفعلية والمعقدة من المفاسد؛ إذ تؤخذ العلمانية "كتجربة
ّ يجر إليه التأثّر المباشر بالمفهوم
ّ
'ناجزة ' معطاة ال كتجربة يجري إنجازها وفق الشروط التاريخية للمجتمعات" (ج /2مج ،2ص .)142
أن عرض "نماذج تاريخية" (ج /2مج ،2ص ،)176-75من التاريخ اإلنكليزي والفرنسي واأللماني
ال شك في ّ
واإلسباني والبولندي ،يم ّكن من استخالص المقومات النظرية لألحداث الحاسمة التي تشكلت معها الخريطة
45
السياسية للغرب الحديث وأنماط استعماله للمعطى الديني في عمليات العلمنة المتزايدة؛ وهي مقومات صارت
أن نشوء المفهوم في سياقات تاريخية مرّكبة يتعين أخذه في الحسبان ،ال القفز
تبين ّ
ذات داللة نموذجية بالغة ّ
طويال من الدهر ،وال يزال يغلب على قطاعات
ً حينا
عليه واستخالصه بضرب من التجريد المثالي الذي غلب ً
كبيرة من النخب العربية واإلسالمية .فالجدل بين الدين والدولة ،وهو الذي تقع العلمانية في قلبه ،ويتجاذبها
جدال خطيا على نمط التطور الهيغلي الذي يفضي إلى تأليف كلّي أعلى ،وانما هو مرافق
أطراف الصراع ،ليس ً
شيئا من سردية بديلة
لتعرجات التاريخ ،مثقل بسبق األحداث .ولذلك ،ربما يقترح المؤلف في بعض المواضع ً
لهذا الحراك المعقد مختلفة عن السرديات الكبرى التي تحدثت عنها أدبيات ما بعد الحداثة" :يفترض أن تكون
العلمنة إ ًذا صيرورةً تاريخيةً تتضمن وحدة الدين والسياسة والمجتمع واألخالق والمعرفة ،وتمفصلها وتمايزها
ثم إعادة بناء وحدتها من جديد كوحدة أغنى (أكثر تركيًبا وأكثر
الدائم ،وجدلية العناصر المفصولة وصراعهاّ ،
ثم تمايزها من جديد .هذه ليست رواية تاريخية ،لكنها 'رواية نظرية' تم ّكن من رؤية التاريخ من زاوية
تطورا)ّ ،
ً
أن من الممكن رواية التاريخ االنساني من زاوية النظر هذه بشكل مختلف .وعندما نظر محددة .وال شك في ّ
أبعادا ومعاني جديدةً" (ج /2مج ،2
ً فإن حوادثه ووقائعه تتخذ
يروى التاريخ ويكتب من زوايا فكرية مختلفةّ ،
ص .)221
***
في ك ّل األحوال تبقى اإلنسانية في حاجة إلى سرديات جديدة ،ال سرديات كلّية شمولية طاغية ،وانما سرديات
أما العلمانية،
تجدد نظرتنا إلى التاريخ بوصفه سيرورةً من االغتناء الذاتي واالعتمال والتطور في ك ّل االتجاهاتّ .
ٍ
إنسانية فقدت ضمانات األديان الكبرى ويقينيات اإليمان ،وارتدت فلعلها هي المضمون األخير لهذه السردية لدى
طوعا أو كرًها إلى اإليمان بها ،هي الدين والدنيا م ًعا ،أو
إلى نفسها ،كأنها ديانة بال أتباع وال مؤمنين ،نضطر ً
بالمدنس ،وح ّل الواحد مكان اآلخر
ّ المقدس الدين وقد صار دنيا ،وتخلل األيام واألعمال ،واختلط ِ
الح ّل بالحرم ،و ّ
واستأثر بامتيازاته :أليست الحداثة بعد ك ّل هذا ،وما نحن إليه سائرون -شئنا أم أبينا -هي الوثنية الجديدة
بعينها؟
46
الدين والعلامن ّية يف سياق إسالمي
*
محمد بوهالل
ّ
47
العلمانية في سياق تاريخي" مشروع مفتوح
ّ "الدين و
درس عزمي بشارة في هذا الكتاب مسار العلمانية في تش ّكلها التاريخي والنظري .ووقف على المنعرجات الخفيّة
تتبع تاريخي دقيق ومساءلة وتفكير متواصلين استحضر خاللهما بصورة تحليلية
والبارزة في هذا المسار ،بفضل ّ
المتنوعة للمؤسسة الدينية المسيحية في مختلف مراحلها
ّ عددا ال يكاد يحصى من النصوص واإلسهامات
نقدية ً
ّ
التحوالت العلمية
وحركات اإلصالح الديني وفالسفة العقل والتنوير والفلسفات النقدية والمادية والوضعية و ّ
والمنهجية النوعية التي قادت إليها والحركات االجتماعية والسياسية ونزعات ما بعد الحداثة وما بعد العلمانية.
48
بنمو المعرفة العلمية واستقالل العقل والدولة والهيئات االجتماعية عن المؤسسة الدينيةّ .إال ّأنه فعل ذلك في
ّ
مشروعا
ً مكتفيا بإشارات موضعية إلى السياق اإلسالمي ،وهو ما يجعل جهد بشارة ً سياق أوروبي مسيحي،
مفتوحا يتطلّب التفاعل والمراجعة واالستكمال.
ً
إن كتاب بشارة بمجلّداته الثالثة يذ ّكرنا بالمشاريع الفكرية العر ّبية الكبرى التي كتبها مف ّكرون عرب مرموقون،
ّ
يتميز عن مشاريعهمأن كتابه ّ
ومحمد عابد الجابريّ ،إال ّ
ّ الطيب تيزيني
مروة ومحمود إسماعيل و ّ
أمثال حسين ّ
تصور نسقي مغلق؛ فبعض الباحثين وضع ثقته بالمنهج ،وبعضهم وضعها باأليديولوجيا.
بعدم سجن نفسه في ّ
أما بشارة فوضع ثقته في التحليل التاريخي والفلسفي القائم على الحفر والتفكيك والتأويل والربط بين العناصر
ّ
عامة نجدها مبثوثة في أقسام الكتاب المختلفة ،نذكر
المتجانسة والمتنافرة ،وهو ما م ّكنه من الوصول إلى نتائج ّ
من بينها:
-كان نشوء النظريات والرؤى السياسية الغربية المتصلة بالدين والدولة والعلمانية والديمقراطية والعقد االجتماعي
مكونات المجتمع ومؤسساته ونخبه ،وتفاعلها مع قضايا الواقع المعيش بصعوباته
وغيرها ثمرة جدل وصراع بين ّ
مكانا وزمنا،
ومعضالته .ولئن تأثّرت تلك النظريات ببعض الموارد الفكرية والثقافية الوافد بعضها من أفق بعيد ً
فإنها لم تكن قطّ استعارة جاهزة ،بل كانت ثمرة تفاعل مباشر مع األحداث والمطالب والحروب والكوارث
ّ
والعذابات والدماء وانسداد أفق المنظومات القائمة التي عاش عليها المجتمع األوروبي الوسيط طوال قرون
وانفتاح آفاق جديدة مغرية في وجه المنظومات الحديثة.
لكن
تحديداّ ،
ً ضديدا للدين؛ فقد نشأت إرهاصاتها األولى في سياق مسيحي كنسي
ً -ليست العلمانية بالضرورة
يخيا على حساب سلطة الدين وامتداد نفوذه إلى مجاالت الحياة المختلفة .وهي من الناحية
توسعها تحقّق تار ً
ّ
المقدس والغاءه ،بل تعني انتقاله من المجال الديني والميتافيزيقي إلى المجال الدنيوي
اإلجرائية ال تعني زحزحة ّ
من خالل المشاعر الوطنية وشعارات الدولة وبروتوكوالت الحياة السياسية والعالقات الدولية وغيرها ،مع االحتفاظ
التدين واالعتقادات وفقًا لما ترتضيه ضمائرهم.
بحق ّ لألفراد ّ
التحوالت المعرفية
قوتان تتمثّل األولى ب ّ -العلمانية مسار تاريخي تراكمي طويل ومعقّد أسهمت فيه باألساس ّ
الجذرية التي قادت إلى سيادة المعرفة العلمية وتغلغلها في مجمل مفاصل الحياة ،وتتمثّل الثانية بالدولة التي
49
ثم عند التم ّكن النهائي إلى ِ
استؤمنت على قيمة الحرية وظلّت بحكم هذا الدور تنحو إلى االستقالل عن الكنيسةّ ،
ضد الدين وال تحتاج
التعسف ّ
تتضمن العلمانية معنى القسر واإلكراه و ّ
ّ وبناء عليه ،ال
ً التفرد بالسلطة الزمنية دونها.
ّ
الحد
وقويا ويقتضي فيها منطق الدولة إلجام الدين و ّ
التدين عاما ّ
أصال إالّ في الحاالت التي يكون فيها ّ
إلى ذلك ً
من تأثيره في الشأن العام .وهذا يفترض الفصل بين العلمانية والديمقراطية ،وعدم افتراض تالزم حتمي بينهما.
أساسا نظريا
ً مهم بالنسبة إلينا من جهة كونه يق ّدم
إن هذا العمل التحليلي والبنائي الرائد الذي أنجزه عزمي بشارة ّ
ّ
تقدم جديد في معالجتها .وهو يفتح على
ومقار ًنيا لفهم إشكالية الدين والعلمنة في السياق اإلسالمي ،واحراز ّ
اإلسالمية نحو الحداثة والديمقراطية ونضج
ّ مشروع بحث مستقبلي أوسع يعنى بدراسة مسار المجتمعات العربية و
العقل والتموقع اإليجابي في العالم .ولع ّل طرح مسألة العلمانية في العالم اإلسالمي خارج هذه السياقات ال ينير
تشوهات سياسية وثقافية واجتماعية.
الرؤية بقدر ما يقود إلى ّ
هل عرف التاريخ اإلسالمي ضرًبا من ضروب العلمانية في الفكر والثقافة والمعرفة وفي أنظمة الدولة والمجتمع؟
وهل يجوز أن نسم بعض تيارات الفكر اإلسالمي ومدارسه بالعلمانية؟ وهل كانت منظومات الفقه واألحكام في
أقسامها الدنيوية ذات طابع علماني على الرغم من مزاعمها الدينية؟ أم كانت منظومات دينية الهوتية؟ وهل
نعد الدولة األموية والدولة العباسية والسلطنات العسكرية بما في ذلك السلطنة العثمانية دوًال دينية؟ أم دنيوية
ّ
50
أن الدولة العر ّبية الحديثة بدساتيرها وقوانينها ومؤسساتها دولة علمانية؟ وفي
ك في ّ
علمانية؟ وهل هناك من ش ّ
اإلسالمية" ،وتم ُّكن بعضها من ذلك في
ّ هذه الحالة ماذا يعني ظهور تنظيمات تهدف إلى إقامة "دولة الخالفة
عما يذهب إليه ٍ
معينة؟ هل للدين معنى موضوعي قابل للضبط النهائي بقطع النظر ّ
حدود مكانية وزمانية ّ
يتمدد ويتقلّص بحسب اعتبارات الثقافة والمجتمع؟
متحرك ّ
المؤمنون في فهمه؟ وهل معناه واحد ثابت؟ أم له معنى ّ
51
أن االنفصال بين الدين والمجال العمومي لم يبدأ في الظهور إال في العصر الحديث تحت
ترى هذه المقاربة ّ
"إن مسيرة التاريخ الكوني
تأثير المسار الغربي الذي هو مسار حتمي ال مهرب لنا منه .يقول عزيز العظمةّ :
آيلة إلى العلمانية ،وا ّن مسيرة التاريخ االجتماعي والثقافي العربي محكومة بهذا المسار على الرغم من الصراعات
الطبيعية التي تستثيرها هذه المسيرة مع القوى المحافظة التي أضحى الدين علما عليها ،وعلى الرغم من إعادة
االعتبار إلى مؤسسات دينية خالية والى عقل ديني ٍ
بال في مجال الصراعات السياسية".2
العلمانية بالنسبة إلى هذه المقاربة من تحصيل الحاصل ،وليس يطلب من المؤمنين إالّ اإلقرار بها وتقنينها
ّ تبدو
تضخم مؤسسات الدين في المجتمع
ّ عد
تدخل الدين خارج مجاله األصلي وهو ضمير الفرد .وي ّ
واعالن انتهاء ّ
مظهر من مظاهر االنحراف التأويلي واالبتعاد عن جوهر الرسالة
ًا الخاص
ّ واضطالعها بوظائف تتجاوز مجالها
النص والتجربة
ّ المعبرة عن جوهر الدين التي ظلّت حبيسة
ّ ضدية بين الرسالة
النبوية .يقيم هذا الرأي مقابلة ّ
(خصوصا في م ّكة) من جهة ،والتاريخ اإلسالمي بما هو انحراف عن الرسالة وتشويه لها من جهة
ً النبوية
ثانية.
المسيحية الغرب ،ط( 3دار الساقي للطباعة والنشر)1996 ،؛ عبد المجيد الشرفي ،اإلسالم والحداثة (تونس :دار الجنوب)1998 ،؛ عبد
المجيد الشرفي ،اإلسالم بين الرسالة والتاريخ (بيروت :دار الطليعة.)2001 ،
52
معب ار عن هذه اإلمكانية في التأويل" :بهذا االستخدام نكون
التجربتين المسيحية واإلسالمية .يقول عزمي بشارة ّ
إشكاليا حقا في الثقافات كلّها ،وال سيما في الثقافة العربية الحديثة ،وأصبح يثير
ً مصطلحا
ً قد أخذنا من الغرب
عدة .واذا سعينا إلى استخدامه في فهم صيرورة تاريخية أبعد من الحداثة الغربية ،فلن يكون ذلك من
تداعيات ّ
إن
لكنه يأتي من خارجها تطبيقًا عليها .فما المانع من ذلك؟ ّ
دون أصل في الثقافة العر ّبية والتاريخ العربيّ ،
الدينامية التي تحكم ذلك معروفة في تاريخ األفكار ،وهي دينامية انتقال األفكار من مجال إلى مجال آخر.
نوعا من إعادة تفسيرها وتأويلها ،وحتّى تغييرها"(ج ،2مج ،1ص .)49
ضمن بالضرورة ً
وهي تت ّ
في هذا اإلطار من الفهم والتأويل يمكن أن نرى في األفكار الداعية إلى حصر الدين بمجال أو مجاالت
أهم األفكار المالئمة لهذا
مخصوصة في الثقافة اإلسالمية نقطة انطالق مالئمة للمقاربة الثالثة .ولع ّل من ّ
التأويل بعض ما نطق به المعتزلة والظاهرية والصوفية من ٍ
أفكار دينية وسيكولوجية واجتماعية ،وما ذهب إليه
المعري
ّ الوراق وأبو العالء
عبر عنه ابن الراوندي وأبو عيسى ّ
ابن رشد من آراء في صلة الفلسفة بالشريعة ،وما ّ
من نزعات ريبية ،وما بناه الجاحظ والتوحيدي ومسكويه وابن خلدون من آراء ونظريات في األدب واألخالق
والتاريخ والمجتمع .كما يمكن أن ندرج في هذا الباب حركة الزنج ومظاهر الحياة الفنية واالجتماعية المزدهرة
المتحررة في مدن سورية والعراق ومصر واألندلس ،ونظم الحكم التي انتهجتها السلطنات والحكومات الزمنية
و ّ
متعددة من العالم اإلسالمي بداية من القرن الرابع الهجري /الحادي عشر الميالدي.
التي حكمت مناطق ّ
53
رب العالمين
بأنهم عن ّ
إن ّادعاءات الجميع ّ
-المفهوم المبهم للدين والعلمانية في السياق اإلسالمي القديم :هل ّ
يستمدون تجعل أقوالهم وأفعالهم د ًينا أو جزًءا
ّ يوقّعون أو بإرادته يحكمون أو لشرعه يمتثلون أو من وحيه
إن هذه المقاربات تشكو التباس مفهوم الدين ،وهل له سمات
من الدين؟ هل ك ّل ما هو بشري علماني؟ ّ
وتصورات المؤمنين عن الدين الصحيح ،أم ال معنى للدين
ّ التدين
ومقومات موضوعية ال تتأثّر بأشكال ّ
ّ
للمتدينين.
ّ التصورات الدينية
التدين و ّ
خارج نطاق ّ
أن رغبة البعض تتمثّل بإبراز الطابع الهيمني الثقيل للدين
-الطابع األيديولوجي لهذه المقاربات ،إذ يبدو ّ
موجودا في ك ّل شيء ،بينما مال البعض اآلخر
ً القوي حتّى صارت تراه
ّ والتعبير عن ضيقها من حضوره
معب ًار عن ابتهاجه بهيمنة البشري والدنيوي على حساب الروحي
ضيقّ ،
إلى تجاهله وعدم رؤيته إالّ في نطاق ّ
والالزمني.
اعا بين مؤسسة دينية تحتكر السلطة الزمنية أو
أن المجتمع اإلسالمي القديم لم يشهد صر ً
-عدم االنتباه إلى ّ
التحرر من سلطة الدين في الفضاء العمومي .فلئن
ّ جزًءا منها وقوى سياسية واجتماعية دنيوية تطمح إلى
سمي بالخالفة
بدءا بما ّ
وجدت معارضات سياسية لك ّل الحكومات التي عرفها المجتمع اإلسالمي القديم ً
العباسي والدول السلطانية وصوًال إلى الخالفة العثمانية وحكومات أمراء الطوائف
الراشدة فالحكم األموي و ّ
المتعددة ،لم تعترض هذه المعارضات على الطابع الديني للحكم ،بل بهذا الطابع
ّ والمماليك ودول المغرب
بالذات كانت تطالب ،متّهمة الحكم القائم باالنحراف عن االعتقاد الصحيح أو بالعزوف عن تطبيق الشريعة
أو بكليهما.
أن المسلمين لم يتبلور لديهم فهم نظري
-وفي السياق نفسه ،ولكن في المستويين الفكري واالجتماعي ،نالحظ ّ
قائما ،أو لو تولّد عن
أسا إلى العلمانية .كان يمكن أن يتبلور هذا الفهم لو بقي االعتزال ً
لإلسالم يقود ر ً
أن
جسده الفارابي وابن رشد مذهب ديني يفهم الدين في حدود العقلّ .إال ّ
الفكر الفلسفي اإلسالمي كما ّ
ٍ
بانفصال الفارابي ظ ّل فيلسوفًا ولم يلهم علماء الدين كثيرا ،واعتنق ابن رشد المذهب الفقهي المالكي كما هو
ائية ولم يستخلص عمليا الدرس الذي استخلصه نظرّيا في كتابه فصل المقال.
تام عن فلسفته الم ّش ّ
ّ
التصوف بحكم انصبابه على األمر الديني في عمقه وجوهريته،
ّ -وفي المستوى الديني الصرف كان بإمكان
مؤس ًسا لموقف علماني من داخل الفضاء الديني وغير
أن يحقّق االنفصال بين الروحي والدنيوي ويكون ّ
54
تحديدا ،وتأقلمه من
ً متضارب معه ،يؤ ّكد إمكانية ذلك موقفه السلبي بشكل مطلق من الدنيا ومن السلطة
منطلق براغماتي وزهدي في متاع الدنيا مع مختلف األوضاع السياسية واالجتماعية بما فيها سيطرة
ألنه يتحول إلى ٍ
بان لموقف علماني متماسك ّ المستعمر غير المسلم على بالد المسلمينّ ،إال ّأنه مع ذلك لم ّ
بانيا لنظام اجتماعي.
عدة مذاهب وأوساط دينية واجتماعية ،ولم يكن ً
كان حالة مبثوثة في ّ
وتحدد مآالتها:
ّ توجهها
تبدو لنا جدلية الدين والدولة في السياق اإلسالمي المعاصر محكومة بثالث ديناميات ّ
الدينامية الفكرية ،والدينامية السياسية واالجتماعية ،والدينامية الدولية.
التحوالت التاريخية
ّ تبنى عزيز العظمة تعريفًا للعلمانية يؤ ّكد هذا المعنى التنابذي :فالعلمانية عنده "جملة من
ّ
فيا يتمثّل في نفي األسباب
عدة وجوه" :وجها معر ّالسياسية واالجتماعية والثقافية والفكرية واأليديولوجية" ،ولها ّ
مؤسسيا يتمثّل في
تحول التاريخ دون كلل ،ووجها ّ
الخارجة على الظواهر الطبيعية أو التاريخية وفي تأكيد ّ
55
خاصة كاألندية والمحافل ،ووجها سياسيا يتمثّل في عزل الدين عن السياسة،
ّ اعتبار المؤسسة الدينية مؤسسة
أخالقيا وقيميا يربط األخالق بالتاريخ والوازع بالضمير بدل اإللزام والترهيب بعقاب اآلخرة".4
ّ ووجها
محمد الشرفي ،اإلسالم والحرية االلتباس التاريخي (تونس :دار الجنوب للنشر ،)2002 ،ص .24
ّ
5
56
فباإلمكان أن يذهب فيها مذاهب تعصف بالخيار العلماني وحتّى بالخيار الديمقراطي .وان تكلّم فيها العلماني
يقدم أنصار الموقف العلماني
منشغال بالشأن الديني من الداخل وفقد حياده العلماني .وهذا مأزق ال ّ
ً صار
حال له.
وخصومه ً
57
من غير الصواب أن نقول ّإنها جدل فوقي؛ فقد أثبت جميع الحاالت التي جال فيها الربيع العربي وجميع
التفرد وكذا جميع الحاالت التي وصلت
الحاالت التي وصل فيها اإلسالميون إلى الحكم على وجه االشتراك أو ّ
أن الصراع األيديولوجي المحتدم الذي تشهده هذه البلدان ينعكس
فيها األحزاب اليسارية والقومية إلى الحكمّ ،
مباشرة على نمط الحكم وعلى عالقة السياسي بالديني وعلى وضع الدين نفسه في المجتمع؛ فحركة التاريخ
ٍ
بمعزل عن حركة الفكر واأليديولوجيا. والمجتمع ليست
ونفسيا في موضوع الدين والعلمنة إذا لم نتفهّم الحرج الديني أو اإليماني وفي
ً نتقدم فكرًيا
من الصعب حقا أن ّ
الحاسة
ّ الوقت نفسه الحرج العلماني والدنيوي ،ولم نحلّهما .نعم نستطيع التغلّب على أحد الحرجين بإضعاف
يجرهم إلى كثير من الصدامات والى خيار غير ديمقراطي.
يفضله البعض وهو ما ّ
الدينية أو الدنيوية ،وهذا ما ّ
ونستطيع التغلّب على الحرج باإلنصات واالستماع والتفكير المشترك.
اجبا
لكنه ليس و ً
حق ال يستطيع أحد حرمان المؤمنين منهّ .
فالدين اعتراف بالمتعالي وبناء عالقة معه .وهذا ّ
مفروضا على أحد من الناس .يمكن أن ينعكس هذا االعتراف على نظرة اإلنسان إلى تفاصيل الحياة وعلى
محددة
مثال من أن يكون لديه ميل شعوري إلى أشياء ّ
بأي منطق أن نمنع المؤمن ً
اختياراته فيها .ال نستطيع ّ
امية،
يتجسد هذا الميل في بنية قانونية وسياسية إلز ّ
ّ في الحياة ونفور شعوري من أشياء أخرى .والسؤال هو :هل
تحددها الهيئة االجتماعية وفقًا
يسمى بالدولة الدينية؟ أم تكون البنى القانونية والسياسية مستقلّة ّ
فنحصل على ما ّ
طبعا ال يمنع تلك البنى من االستجابة لتلك الميول الدينية إن شاءت ،ولكن
الخاصة ،وهذا ً
ّ لتوازناتها التاريخية
بآليات البنى السياسية وفي إطار مبادئها وقواعدها ولغتها.
ّ
العام
ّ نعيش في وضعنا العربي الراهن مشكلة تداخل المجاالت واختالطها :العائلة والدولة ،الدين والمعرفة،
القارات...
الخاص ،الدولة القطرّية القائمة والدولة التي نؤمن بها وهي إقليمية أو قومية أو إسالمية عابرة للحدود و ّ
ّ و
نحدد بدقّة مجال الدين والمجاالت األخرى ال يمكننا أن نضع حدا بينه وبين غيره ،وأن نم ّكنه من استقالليته
ما لم ّ
وتحدد وجهته.
ّ الخاصة التي تنظّمه وتسوسه
ّ ومن بناء سلطته
58
تعدد الخطابات وانعدام اللغة المشتركة .فبالنسبة إلى الغرب والمجتمعات المهيكلة بصورة
أيضا مشكلة ّ
نعيش ً
تنوع الخطابات فيها وحدتها؛ إذ للفيلسوف األوروبي خطابه ،ولرجل الدين والكنيسة خطابه ،ولرجل
قوية ال ينفي ّ
ّ
أما بالنسبة إلينا فال يزال خطاب إمام الجمعة في و ٍاد،
الدولة خطابه ،دون أن يوجد تعارض ثقافي بينهمّ .
وخطاب السياسي في و ٍاد ثان ،وخطاب الجامعي في و ٍاد ثالث وخطاب المواطن العادي في و ٍاد رابع .ال نعرف
فلسفة توحدنا ،وال توجد ثقافة وال أهداف عامة نعيش على وقعها .قد نتوحد في ٍ
وقت وجيز أمام خط ٍر داهم، ّ ّ ّ
وتتحول إلى حرب أهلية دامية نخوضها على قاعدة الدين
ّ لكن تناقضاتنا يمكنها أن تطفو على السطح بسرعة ّ
أو الطائفة أو األيديولوجيا أو االرتباطات الدولية .وقد تتفاعل جملة هذه العوامل في خليط واحد ،فتكون فاعليتها
تدميرا.
ً أكثر
أن سكون الدولة الوطنية القائم على خلطة يلتقي فيها الحكم الفردي أو العائلي أو الحزبي برومنسية ثورة
يبدو ّ
قابال
نهائيا وليس ً
ً التحرير والتأسيس الوطني الجديد وباحترام مبادئ الدين ورعاية تعاليمه السمحة ،قد تزعزع
قمتها السياسية المدنية بمشاركة شعبية
التحركات واالحتجاجات التي عرفت ّ
لالستمرار منذ ظهور االنتفاضات و ّ
واسعة في ما صار يعرف بالربيع العربي.
محمد الشرفي هذا الوضع المستحيل الذي سبق الربيع العربي على النحو التالي" :كتب أوليفيي كاريه
شخص ّ
ّ
تدبر الواقع
أن إشكال العالم اإلسالمي ال يتمثّل في إنتاج الالئكية ،فهي موجودة ،بل في ّ
(ّ )Olivier Carré
أن البلدان التي أبقت في مراسها االجتماعي وفي تشريعاتها على مؤسسات
الذي يرفضه ،وهو رأي متفائل ،ذلك ّ
مجرد رضا األب ،ال يمكن أن تعتبر
تعدد الزوجات والطالق وتزويج البنات القاصرات على أساس ّ
من قبيل ّ
برمته باستثناء تركيا وتونس".6
الئكية وتلك هي حال العالم اإلسالمي ّ
ّ بلدانا
وتحوالت
ّ ومنذ بضعة عقود ،صار الوضع السياسي واالجتماعي في العالمين العربي واإلسالمي يعرف أحداثًا
مثيال منذ قرون؛ فمن جهة أولى هناك دينامية العنفوأزمات وكوارث وانتفاضات شعبية وعنفًا لم يشهد له ً
أي شكل من أشكال المراجعة واالختالف
الدموي باسم الدين من أجل إقامة حكم إكراهي استبدادي ال يقبل ّ
59
أهم أسبابه .فهما
بالتصدي لهذا العنف الدموي الذي هو أحد ّ
ّ يبرر نفسه
تالزميا دينامية االستبداد الذي ّ
ً تساوقها
ديناميتا ن متكاملتان متشارطتان تخدم إحداهما األخرى ،تقابلهما دينامية االحتجاجات الشعبية (ما يحدث في
مدبر وال
تونس ،والعراق ،ومصر ،ولبنان )...التي تطالب بالعدالة والكرامة والشغل والنظافة ،وليس لها رأس ّ
معبر حقيقي عنها
تتحول إلى ّ
فكر متبلور وال برنامج عملي ناجح ،وتسعى قوى سياسية ديمقراطية إلى أن ّ
ومستجيب لمطالبها دون أن تنجح في ذلك ودون أن تبلغ النضج واالقتدار المطلوبين .وهذا يجعل الوضع
مفتوحا على التقلّبات السياسية واالرتدادات وعودة االحتجاجات.
ً السياسي واالجتماعي
في هذا السياق ،ال يزال الفكر الديني الديمقراطي ضعيفًا ومحدودا في مستوى بناء األساس النظري والقيمي
جادة في هذا االتجاه ،ولذلك ال يزال صوت هذا
للدينامية الديمقراطية والمساواتية على الرغم من وجود محاوالت ّ
صح األمر نفسه على المشروع السياسي العلماني
خاصة النخب بالقدر الكافي .وي ّ
الفكر ال تسمعه الجماهير وب ّ
الحداثي الديمقراطي الذي تنقصه البلورة النظرية واالقتراب السياسي واالجتماعي من الفاعلين السياسيين
واالقتصاديين واالجتماعيين وكسب ثقة األوساط الشعبية.
ينتج من انخرام التوازن في الديناميات السياسية واالجتماعية ارتفاع وتيرة الصراع والعنف واإلقصاء وتسارع
حركة التفتّت واالنقسام؛ إذ يشهد بعض البلدان حكومتين وحتّى دولتين ،في بعضها انقسم البلد إلى مناطق
بعضها يخضع لسيطرة السلطة وبعضها اآلخر يخضع لسيطرة المعارضات ،وفي بعض البلدان نشهد انتفاضة
للجهات المحرومة على الدولة ،وفي بعضها ثورة للجياع ...ال يخدم هذا الوضع الدين وال العلمنة ،بل يخدم
التوحش السابق للدين وقبل العلمنة.
ّ
60
ج .الدينامية الدولية
ك أحد في حقيقة التأثير المباشر واألساسي للسياق الدولي في مجريات األمور في العالمين العربي
ال يش ّ
خصوصا في المستويات السياسية واالقتصادية والثقافية .فهذه حقيقة قائمة ومعلومة منذ مرحلة
ً واإلسالمي،
االستعمار المباشر التي عرفها بعض الدول العربية واإلسالمية منذ وقت مب ّكر جدا (حملة نابليون بونابرت على
مستمر ومتفاقم في العقود
ّ مصر كانت سنة 1798م ،واحتالل فرنسا الجزائر كان سنة 1830م) ،وهي واقع
تعوض تلك
األخيرة ينبئ بتقسيم جغراسياسي جديد للمناطق العربية واإلسالمية على أسس وقواعد وحدود جديدة ّ
التي اعتمدت في اتّفاقيات سايكس بيكو.
61
االنتقائية تجاه حضور الديني في المجال السياسي؟ هل تعني تأرج ًحا؟ أم
ّ ماذا تعني هذه السياسة الدولية
ك فيه على الديمقراطية في العالمين العربي واإلسالمي؟
حرصا ال ش ّ
ً ازدواجية؟ هل تعني قبوًال بشروط؟ هل تعني
تفضل النموذج العلماني في العالمين العربي واإلسالمي وتدعمه بأشكال مختلفة على
ال تزال السياسة الدولية ّ
حساب النموذج الديني ،وهو ما يساعد على تغذية االستقطاب الثنائي وتكريس الصراع األيديولوجي الراديكالي
ضد استمرار االستبداد السياسي في العالمين العربي
أن السياسة الدولية تقف سدا منيعا ّ
في مجتمعاتنا .وال يظهر ّ
واإلسالمي؛ فالمسألة الديمقراطية ليست أولوية وال هي مبدئية في السياسة الدولية خارج النطاق الغربي .وبإمكان
تردد كبير دعم االستبداد على حساب الديمقراطية في بعض البلدان العربية
هذه السياسة أن تختار دون ّ
واإلسالمية إذا كان ذلك يحول دون تهديد المصالح الدولية الحيوية.
الخاتمة
موضوعا
ً قوية وكافية للحديث عن العلمانية بوصفها
مبررات ّ
يبدو ّأنه ال توجد في السياق اإلسالمي المعاصر ّ
ومنفصال ،ويكاد يتناولها المف ّكرون والمثقّفون والسياسيون واإلعالميون والمواطنون إ ّال بصورة إشكاليّة
ً مستقال
ّ
التقدم ،والكرامة
وفي تعالق مع جملة من القضايا الكبرى المترابطة :التحديث ،والتنوير ،والحرية ،والديمقراطية ،و ّ
الوطنية.
وتبين األحداث األخيرة الحاصلة في عالمنا انهيار نموذج "التحديث من دون ديمقراطية" على الرغم من محاوالت
ّ
بعض القوى السياسية واأليديولوجية المحلية واألجنبية فرضه واعادة الحياة إليه من جديد .ويترك هذا االنهيار
لوضع أسوأ ،هو وضع الفوضى والحرب األهلية .فهل تسود الفوضى؟ أم
ٍ حد اآلن في أكثر من بالد
مكانه إلى ّ
62
تقد ًما يرفع التناقض بين التحديث والديمقراطية والدين؟ هل تشتغل الديناميات
يتبلور من بين األنقاض نموذج أكثر ّ
االجتماعية المختلفة في اتّجاه إنتاج اجتماع تغلّب وقهر؟ أم تشتغل في اتّجاه إنشاء اجتماع تعاقدي تضامني؟
63
"الدنيوية" و"التحييد" عند عزمي بشارة :قراءة يف
مرشوع الدين والعلامنية
*
مصطفى أيت خرواش
توطئة نظرية
64
توطئة نظرية
بغض النظر عن ماهيته ونوعه ،في استيفائه العديد من المحددات والقواعد تكمن ِج ّدة ّ
أي مشروع فكري وأهميتهّ ،
ثم
المعرفية التي تجعله يكتسي صبغة "المشروع" أو "النظرية" أو "الفلسفة" ،وفي قدرته التفسيرية أو التحليليةّ ،
في استخراجه لنتائج معرفية تختلف ِجدتها واثارها باختالف إضافاتها النوعية .انطلقنا في قراءتنا لمشروع المفكر
الفلسطيني عزمي بشارة ،وهو مشروع موسوم بـ "الدين والعلمانية في سياق تاريخي" من هذه المسلّمة النظرية،
منهجيا لهذا العمل ،محاولين الربط بين نظم المشروع ومداخله وأقسامه ،كي نصل في الحصيلة
ً فجعلناها موجهًا
إلى مساءلة المشروع في عالقته بأسئلته ومنهجه واجاباته المعرفية .ويأتي على رأس هذه المحددات سؤال ِ
الج ّدة
ثم في النتائج والمخرجات المعرفية
وتميزه في الطرح والتناولّ ،
تميزه المنهجي ّ
والممايزة .فلقد شغلنا داخل المشروع ّ
التي تحصَّل عليها ،كما طرحنا سؤال اإلضافة التي سيقدمها في مجال البحث في العلوم اإلنسانية وللباحثين
عموما ،وسؤال المقارنة باألبحاث والمشاريع الفكرية المنجزة في
ً العرب والمشهد المعرفي العربي /اإلسالمي
المبحث نفسه ،كما طرحنا البحث في القدرة على التجاوز من عدمها ،وسؤال المباحث المعرفية الجديدة التي قد
ثم سؤال اآلثار الفلسفية والسياسية
يفتحها المشروع للباحثين من أجل تطويرها إلى مشاريع مختصة ومستقبليةّ ،
خصوصا في محاولة صوغه لمنظور جديد في فهم العلمنة والعلمانية داخل الفضاءً واالجتماعية للمشروع،
الفكري العربي ،وبين النخب والمؤسسات والمجتمعات العربية اإلسالمية.
65
التدين وأنواعه ومدى هيمنة الثقافة الدينية في مجتمع من المجتمعات .ويمكن ع ّد هذه األطروحة التي اعتمدها
برمته ،لكن ونحن نقوم بهذه القراءة المعرفية في المشروع ،طرحنا أربع فرضيات
عامةً للمشروع ّ
بشارة ،فرضيةً ّ
أساسية سنرى كيف أثبتها بشارة أو نفاها؛ وذلك من خالل كتابه "الدين والعلمانية في سياق تاريخي".
الفرضية األولى :ربما كانت العلمانية موقفًا من الدين ،ولذلك فهي تؤدي إلى فصله عن الدولة أو دحره
تماما.
عام أو القضاء عليه ً
من المجال ال ّ
تتعدد بتعدد أنماط التدين التي
الفرضية الثانية :ربما كانت العلمانية ،في الحقيقة ،علمانيات متباينةًّ ،
أيضا.
أفرزتها وبحسب التجربة السياسية للدولة وبحسب أنماط السلط السياسية ً
الفرضية الثالثة :ربما كانت العلمنة صيرورةً تاريخيةً من تمايز المجاالت المعرفية ،وتمايز الدين عن
الخاص.
ّ العام إلى
ظواهره المختلفة ،حيث تنتهي بخصخصة الدين وتراجعه من الجال ّ
الفرضية الرابعة :ربما يختفي الدين أمام صيرورة العلمنة وحيث تؤدي العلمانية األيديولوجية في نفيه
صور و ٍ
أشكال جديدة يحتل فيها وظائف حديثةً. ٍ واندثاره ،وقد يعود في
افتتح عزمي بشارة مشروع "الدين والعلمانية في سياق تاريخي" ،بدارسة الظاهرة الدينية في الكتاب األول ،وهو
مدخال ضرورًيا قبل دراسة صيرورة العلمنة والعلمانية .وقد انتهج بشارة منهجيةً علميةً رصينةً،
ً الكتاب الذي ش ّكل
وهو يتعامل مع هذا المشروع؛ فهو يشدد على دراسة الظاهرة الدينية قبل االنتقال لدراسة ظاهرة العلمانية والعلمنة
في سياق تاريخي يراكم مختلف المداخل المعرفية ،والمحددات الفلسفية ،والرؤى السياسية ،واألفكار الدينية ،لكي
َّ
يتسنى له التوصُّل إلى فهم عميق ورصين لمختلف هذه الظواهر .لذلك يلتجئ بشارة إلى منهجية التفكيك
المعرفية لمختلف هذه الموضوعات ،ويقوم باستخراج مختلف التداخالت المعرفية المؤطرة لها؛ إذ ف َّكك الظاهرة
الدينية من زوايا معرفية مختلفة ،وتتبَّع نشوء الدين والتدين مرحلةً إثر مرحلة ،وقام باستخراج مختلف الظواهر
عرج على المدارس
المرتبطة بها؛ ومنها األسطورة والسحر والالهوت وفلسفة الدين والمقدس واألخالق .كما َّ
66
ثم علىالفكرية والفلسفية والدينية والكالمية واللغوية التي تطرقت إلى الظاهرة الدينية ،من قريب أو من بعيدّ ،
قدم لنا
تعاريف ومميزات وتمظهرات للعلمانية والعلمنة في بيئات مختلفة ،وفي إطارات معرفية متعددة ،لكي ي ّ
متكامال حول ظاهرة الدين والتدين وعالقتهما بالعلمانية والعلمنة.
ً منهجيا ومعر ًفيا
ً بناء
ً
ٍ
عرض لتاريخ نافيا أن يكون بصدد
عرض بشارة في المجلد األول من الجزء الثاني ،عصارة الفكر األوروبيً ،
يتم عرضه في كتاب ،أو حتى في موسوعة .وتتبَّع في الحقيقة ،مسار نقد األفكار ،أل ّن األمر أكبر من أن ّ
وميزه من مجاالت احتلَّها على التوالي العلم والفلسفة ،وهما يتطوران ُّ
بتطور إنجازات العقل البشري .لقد الدين ّ
مستنجدا بالدولة ومتحالفًا معها تارةً،
ً تعرض الدين لخسائر واخفاقات تلو األخرى ،وهو يتصارع مع العلم
َّ
ومستنجدا بالفلسفة تارةً أخرى ،محاوًال التأسيس لالهوت في مواجهة العلم التجريبي والمنطق العقلي .وساهمت
ً
االكتشافات العلمية ومنجزات العقل ،من جهة ،في حصر الدين وخصخصته ،وترسيم حدوده ،وهذه هي عملية
تعرض لها ،في حين ساهمت القراءات األيديولوجية لالكتشافات العلمية ،من جهة أخرى ،في نشوء
العلمنة التي ّ
ضد الدين ،كمقدمة لظهور العلمانيات األيديولوجية .وبموازاة هذا الصراع وما ترتَّب عليه ،ت ّ
عرض الفكر العداء ّ
أيضا للعلمنة ،وذلك بفرز عناصر الخرافة والغرائبية فيه ،وبداية تشبُّعه بقيم العلم والعقالنية والموضوعية في
ً
لعام من العقائد
أيضا للعلمنة ،بنزع السحر عنه ،وبتحرير الفضاء ا ّ عرض المجتمع ًفهم العقائد واإليمان .كما ت َّ
وتمت علمنة الدولة بتحريرها من قبضة المؤسسة الدينية والهوتِها وقيمها
الدينية ،وبنشوء المجتمع المدني الحرَّ ،
وتحييدها عن الدين .حدثت هذه الصيغ من العلمنة ،نتيجة صيرورة ضخمة في تاريخ العلم والمعرفة والدولة
اعا متباينةً ومتعددةً من العلمانيات؛ منها الرخوة (أي تقبلها للدين في مجال
الحديثة ،وأفرزت على التوالي أنو ً
محدد من دون نفيه أو معاداته) ،ومنها الصلبة أو الراديكالية (وهي التي تنفي الدين وتعاديه وتتصارع معه)،
ّ
وسط بين العلمانيتين ،لكن بالتأسيس لها على ٍ
نحو علمي أو كفلسفة علمية. ومنها العلمية التي تسعى لحل ٍ
انطلق الباحث في تتبُّعه لمسار العلمنة المتعدد من العصر الوسيط ،وقارب إرهاصات نشوء الدولة الوطنية،
تمت بها مأسسة الدين ،والصراع الديني ،وصراع الدولة والمؤسسة الدينية ،كما تابع مراحل
والكيفية التي َّ
اإلصالح الديني واالنشقاقات الكبرى داخل الجسم الكنسي ،والحروب الدينية ،وانبثاق الالهوت المسيحي،
وعرج على مرحلة النهضة األنسنية ،والكاثوليكية ،بما هي مرحلة
وحروب الردة ،واالنشقاقات األصولية وغيرهاَّ .
67
نشوء التفكير األنسني واألدبي؛ وذلك بالرجوع إلى اإلرث اليوناني والروماني واحياء اللغات المحلية ونشوء الدولة
الوطنية وازدهار الفنون وانتعاش العلوم اإلنسانية وبداية أنسنة الدين.
أهم
منعرجا ملحوظًا في تاريخ العلم ونقد الدين ،وقد توقف بشارة عند ّ
ً ش ّكلت مرحلة االكتشافات العلمية
معا ،ونتائج ذلك في نشوء منطق الحداثة ،وانتقل إلى مرحلة
االكتشافات العلمية وتأثيرها في الدين والعلمنة ً
تطور العقل المعرفي من دون أن يقاربها كحقبة تاريخية ،بل كصيرورة فكرية متواصلة
التنوير ،كأحد مراحل ُّ
ثم مراحل نشوء
معاّ ،
ومتجددة .كما درس ،في كثير من التفصيل ،مراحل ما بعد التنوير ونقد الدين والتنوير ً
عام ،ليتوقَّف في الفصل األخير عند
نحو ّالعلمانية كأيديولوجيا ،والنقد ما بعد الحداثة للعقل والتنوير على ٍ
ك خيوط
خصوصا في موقفها من الدين والعلمانية .وبذلك وصل عزمي بشارة إلى ف ّ
ً موضوع الليبرالية ونقدها،
العلمنة؛ بما هي صيرورة متباينة ومتعددة من مقاربة الدين ودوره وحدوده عبر التاريخ الفكري ،والعلمانية؛ بما
جدا.
منتقدا نظرية الفصل المختزلة ً
ً هي تحييد للدين عن الدولة،
واصل بشارة عرض نماذج العلمانية ونظريات العلمنة في المجلد الثاني من الجزء الثاني .وقد بدأها بعرض
نظرية التأريخ بما هي علمنة للتاريخ ،وعمل التاريخ كآلية علمانية ،بما أنها تقدم لنا رؤيةً أخرى عن العالم غير
تقدمها لنا المنظومة الدينية .وانتقد األنموذج النظري للعلمانية األوروبية ،بما هي حالة استثنائية
تلك الرؤية التي ّ
أن جميع المجتمعات
في نشوء الفكر العلمي ،ون ْقد الدين ،ونشوء الفكر النهضوي والحداثي في ما بعد ،ورأى ّ
أن العلمانية علمانيات
أيضا ،بعضها عن اآلخر ،و ّ
أن العلمانية األوروبية مختلفةً ،
تمر بتجارب علمنة مختلفة ،و ّ
ّ
خصوصا في الفضاء األوروبي ،وكذا
ً متباينة .وعرض في مرحلة أخرى ،نماذج تاريخية من التجارب العلمانية،
تحولها إلى أيديولوجيا علمانية .كما قارن بين واقع العلمنة في التجربة
مختلف النظريات المعرفية للعلمنة وكيفية ُّ
وبين كيف تؤثّر أنماط التجارب الدينية وكذا أنماط الوعي الديني في خلق أنماط من
األوروبية واألميركيةّ ،
سماها بشارة "أشباه الديانات البديلة".
العلمانيات المتباينة ،وفي كيفية نشوء الديانات السياسية أو المدنية أو ما ّ
قدم في األخير ،أنموذجه النظري في العلمنة والعلمانية ،وهو أنموذج تركيبي يشمل مختلف المساهمات
لكي ي ّ
المهمة لنظرية العلمنة وكذلك التعميمات واالستقراءات التي انتقدها كتحصيل حاصل.
ّ المعرفية
68
َّنيوة (العلمنة)
سؤال الد َ
69
ٍ
وتسيير؛ أي مجال معرفي واجتماعي من منطلق القوانين أو المصالح األرضية أو بمعنى أنها عملية ٍ
فهم
الدنيوية.
إ ّن دراسة صيرورة العلمنة ،بما هي صيرورة تاريخية مستمرة لعملية "دنيوة" الدين ،وعقلنة مجاالت المعرفة،
ثم بروز منطق الدولة واحتواؤه للمؤسسة
ونشوء التمايزات المعرفية بين مجاالت سياسية واجتماعية ودينيةّ ،
الدينية ـوتجاوزه ّإياها ،نتج منها ُّ
تشكل العلمانية في صيغ سياسية وتاريخية متعددة؛ إذ يصبح من المجحف
ض النظر عن
النظر إلى العلمانية كفلسفة أو موقف سياسي يفصل الدولة عن الدين ،في اختزالية فاضحة ،بغ ّ
دراسة السياقات التاريخية لنشوئها ،واختالفها من بلد إلى اخر ،ومن ثقافة دينية إلى أخرى ،ومن نظام سياسي
إلى اخر .وقد أدى هذا االختزال إلى نشوء أيديولوجيات علمانية تتخذ موقفًا من الدين تنتج منه مواقف مضادةً
وعام ،من دون
تماما كما حدث في تجارب عربية امنت بالعلمانية كأنموذج مكتمل ّ
أو نماذج دينية راديكاليةً ،
استحضار غياب عملية العلمنة وصيروراتها التاريخية .من هنا انطلق بشارة لكي يصحح خطأً معرفًيا ،وموقفًا
ٍ
تكامل مع علم التاريخ ،وهي المهمة التركيبية مؤدلجا ،ونظريةً خاطئةً ،وقد استعان بفلسفة علم االجتماع في
ً
التي سنحت له تقديم أنموذج نظري متكامل حول العلمنة والعلمانية تتوافر فيه الشروط التفسيرية لهذه المفاهيم
في سياقاتها التاريخية المتعددة.
ترتكز صيرورة العلمنة على نظرية "التمايز" التي أخذ بها عزمي بشارة من سوسيولوجيا ماكس فيبر من خالل
فطورها إلى أنموذج نظري يقارب العلمانية كتحييد
دراسته الموسومة بـ "أشكال الرفض الديني للعالم واتجاهاته"ّ ،
عدة مراحل؛ إذ تبدأ بمرحلة أفول
للمجال الديني عن المجال الدنيوي .وترتكز نظرية التمايز عند فيبر على ّ
ي فصل.
الدين ،فالحصر في المجال الخاص ،وتنتهي بمرحلة التمايز بين المجاالت من دون أن يكون هنالك أ ّ
لقد توقّف نقاد العلمنة على مرحلة األفول ،وساهمت هذه الرؤيا المبتورة لصيرورة العلمنة في نشوء أيديولوجيات
اضر في شتى
أن الدين يبقى ح ًا لكن تجارب علمانيةً مختلفةً ّبينت ّ
العامّ ،
في العلمانية نافيةً الدين من المجال ّ
أنواع العلمانيات ،وأنه يظهر بتمظهرات جديدة ويحت ّل مجاالت ووظائف مختلفةً .ففي التجربة اإلنكليزية ،لم نجد
70
أثر للعلمنة بالمعنى المتداول؛ أي فصل الدين عن الدولة ،بل كانت دعوةً دينيةً من جهة مذاهب مختلفة من
ًا
تدخل الدولة في المجال الديني ،وفرضها عقيدةً محددةً قد تكون محكومة بمنطق االلتزام
أجل وضع مسافة بين ّ
بمذهب واحد ،أو بمنطق االستيالء على المؤسسة الدينية ،أو التوافق معها ألهداف الحكم الموحد.
صلبا من العلمانية؛ ذلك أنها بدأت باستقواء الملكية المطلقة على الكنيسة،
أنموذجا ً
ً أما النموذج الفرنسي ،فش ّكل
ّ
عمال بمبدأ الملك الواحد والقانون الواحد والدين الواحد .وكانت هذه بداية ت ُّ
شكل العقيدة الوطنية الشمولية التي ً
أن بداية إصالح عالقة الكنيسة بالدولة (بدأت مع لويس السادس
أي انشقاق عن هذا الثالوث المقدس .إال ّ
تنفي ّ
عشر واستمرت مع الثورة الفرنسية) كانت مع نابليون بونابارت الذي قاد في الوقت نفسه التسوية مع الكنيسة
وتأسيس أجهزة الدولة البيروقراطية ،من نظام التعليم وجهاز المعلمين والخدمة العسكرية اإلجبارية ،بمعنى بداية
علمنة الدولة والتأسيس لعلمانية فرنسا الخاصة .وفي المقابل ،نمت في أميركا منذ إعالن االستقالل وتأسيس
طالحيا
ً المؤسس ،لكن بحضورها اص
َّ الجمهورية علمانية صلبة من دون أن تدرج اسم العلمانية في الدستور
ار
العام ،بل تقوم بتحييده عن الدولة وتجعله قرًا
سلبيا من الدين أو تنفيه من الحيز ّ
عندما ال تتخذ الدولة موقفًا ً
فرديا وتعمل على حمايته فقط.
ً
أن االختالف بين
ّأدت التجارب العلمانية األوروبية إلى استنتاج بشارة وجود علمانية صلبة وأخرى رخوة ،و ّ
أن الطريق المثالية
النموذجين مرتبط بتاريخ السلطة السياسية وعالقتها بالمؤسسة الدينية وبطبيعة نظام الحكم ،و ّ
لتحييد الدولة في الشأن الديني يتمثّل بوجود مسار تاريخي يتفاعل فيه العلمانيون مع المتدينين من أجل تحرير
سلبيا من الدين ،وتنفيه من
الدين من قبضة الدولة وتأكيد الحرية الدينية وتعددها .وتتخذ العلمانية الصلبة موقفًا ً
العام ،في حين تدعو العلمانية الرخوة إلى تحييد الدولة والدين؛ وذلك باحترام حرية الدين وتعددية المعتقد
الحيز ّ
بدال من أن تكون موقفًا تجاه الدين.
واإليمان بالتسامح الديني ،إذ تصبح العلمانية موقفًا من الدولة ً
توصل بشارة إلى إثبات فرضيته التي بدأ بها بحثه حول عالقة أنماط التدين وتأثيرها في أنماط العلمنة .ففي
لقد ّ
النموذج البروتستانتي حيث نمط التدين يميل إلى الفردانية في التعامل مع المقدس ونفي الوساطة مع اهلل،
َّ
تشكلت علمانية محايدة تفرض على الدولة التزام الحياد وعدم التدخل في الشأن الديني .في حين أ ّن نمط التدين
الكاثوليكي حيث الثيولوجيا الكاثوليكية تفرض الوساطة وتمأسس الدين ،استحال إلى علمانية متشددة تتخذ موقفًا
العام.
سلبيا من نشاط الدين في المجال ّ
ً
71
تطور معر ًفيا في فهم الدين والدولة بما يحمله هذا الموقف من تمويه
ينفي عزمي بشارة أن تكون صيرورة العلمنة ًا
أيديولوجي ،فالعلمانية لم تتطور في شكل منحى تصاعدي من فكر التنوير إلى الحداثة ،ولذلك استعان بمفهوم
التمايز الذي يحمل دقةً وصفيةً لمسار العلمنة الذي يبدأ باالنفصال والتمايز ،وينتهي بالوحدة في ظل التمايز،
ومن هنا يرتكز تحليله على ع ّد العلمنة مولّدةً لنقيضها؛ عندما يؤدي التحييد والخصخصة والفردنة والعقلنة إلى
العام بطرائق جديدة وبوظائف حديثة .لقدبروز ديانات سياسية وأخرى مدنية ودنيوية ،فيعود الدين إلى الحيز ّ
تعايش الدين ،إذن ،مع استمرار صيرورة العلمنة من دون أن يتعرض للنفي ،خالفًا لموقف األيدولوجية العلمانية،
بل أخد مواقع جديدة وتمركز في مواقعه األصلية وساهم موقف التحييد في استمرار الدين على أداء وظائفه
أن أنماط التدين
أن الدين ظاهرة اجتماعية ،و ّ
تعرض لها المجتمع ،بالنظر إلى ّ
الجديدة بحسب درجة العلمنة التي ّ
تؤثّر في أنماط العلمنة .وفي الحصيلةَّ ،أدت العلمنة ْ
(الدنيوة) ،بما هي عملية دحر للمقدس والمتجاوز وعملية
ألي مجال معرفي واجتماعي من منطلق القوانين األرضية والدنيوية ،إلى بلورة العلمانية (التحييد
فهم وتسيير ّ
ْ
عند بشارة) بما هي نتاج علمنة الفكر والمجتمع والدولة بتراجع األهمية االجتماعية للدين.
72
بإعالء دور الدولة على الدين في المجتمع الحديث الذي ال يغيب فيه الدين بل يتخذ وظائف جديدةً؛ إذ تؤدي
صيرورة العلمنة إلى انحسار البعد المعرفي للدين ،أو إلى إعادة طرحه بقوة من جهة الفئات االجتماعية وظهور
العام .وتؤدي هذه الصيرورة ،وما رافقها من ظهورالحيز ّصحوات دينية وبداية احتالل مواقع جديدة للدين في ّ
العام ،إلى ظهور العلمانية الدينية بدعوتها إلى تحييد
األيديولوجيا العلمانية التي تصارع الدين وتنفيه من المجال ّ
الدولة في مجال الدين ،وهي دعوة حل ٍ
وسط بين التيارين المتصارعين تجاه مكانة الدين ووظيفته.
73
المحددات المعرفية لألنموذج
ش ّك لت فكرة "التمايز" األداة األساسية التي اعتمدها بشارة في تركيب أنموذجه النظري .فلقد تتبَّع تمايز
وتطور العلوم الحديثة ،وكيفية مساهمة ذلك في تحديد مجاالت الدين
ُّ الدين وباقي مجاالت الحياة،
تطور الفكر السياسي المرتبط بنشوء الدولة الحديثة ،والكيفية التي أ ّد ى بها هذا النشوء
الجديدة ،كما تابع ُّ
أيض ا بين التمايز في الفكر وباقي
ً إلى تجاوز االنتماء الديني وتبن ي االنتماء الوطني المدني ،وميَّز
مجاالت الحياة ،وكيفية نشأة األيدولوجي ات العلمانية التي تبنَّ ت مواقف معيارية من الدين والدولة والمجتمع،
أن الدين إنما تتراجع أهميته االجتماعية في
وميَّز بين أطروحة انسحاب الدين وانسحاب المقدس ،وبين ّ
أن الدين ينسحب من مجاالت أصبحت مل ًك ا للعلم لكن من دون أن ينسحب المقدس،
صيرورة العلمنة ،و ّ
كما ميّ ز بين نماذج تاريخية من العلمنة في أوروبا أو في أميركا ،وانتقد السرديات التي تنشأ عنها ،وميّز
أن العلمانية ت برز
بين العلمانية بوصفها موقفًا من الدين والعلمانية بوصفها موقفًا من الدولة ،وكيف ّ
كمواقف فكرية وأخالقية مرتبطة بعالقة الدولة بالدين في مرحلة تعاظمها في الحداثة ،كما ميّ ز بين الدولة
منع ا لإلكراه الديني والستغالل السلطة
الدينية والدولة المدنية وضرورة تحييد الدولة في شؤون الدينً ،
السياسية للدين أو العكس ،لكي يصل في األخير ،إلى تركيب فكرة التمايز والتم فص ل مع فكرة الوحدة في
التطور ،من دون النظر إلى فكرة التطور كخطّ مستقيم تصاعدي بدأ مع فكر التنوير وصوًال إلى
ُّ إطار
الحداثة.
أيض ا على فكرة "الصيرورة التاريخية" عند دراسته للعلمنة .فلقد نظر إلى العلمنة بوصفها
اعتمد بشارة ً
صيرورةً تاريخيةً ،من عقلنة مجاالت المعرفة المختلفة وفهمها بقوانينها الحديثة ،في تجاوز تام للرؤية
الغيبية والميتافيزيقية التي هيمنت تاريخيً ا على العقل اإلنساني .وتميَّزت هذه الصيرورة التاريخ ية بتمايز
معرفي ة مركبةً
ً أشكاال
ً هذه المجاالت المعرفية في ما بينها ،وبينها وبين مجاالت المعرفة الدينية ،منتجةً
جديدةً؛ إذ تنتج من هذه الصيرورة انسحاب الدين ،مرةً عندما يحدث التمايز بينه وبين المجاالت المختلفة،
روجت لذلك األيديولوجيات
ومرةً عندما يبرز منطق الدولة الحديثة ،لكن من دون أن يندثر الدين مطلقًا كما َّ
العلمانية ،بل ينسحب في مراحل ،ويعود في أخرى بأشكال جديدة ووظائف حديثة .ويبرز في حصيلة هذه
تحولت الشرعية من المؤسسة الدينية (سواء
الصيرورة منطق الدولة على حساب منطق الدين .فلقد ّ
74
السياسية أو المجتمعية ،بل حتى الدينية) إلى مؤسسة الدولة بموجب القانون المدني الحديث ،وسلطة
وتطورت هذه الصيرورة حتى ظهرت الديانات البديلة أو
ّ الدولة الحديثة وتنامي الوطنيات والقوميات،
المدنية في شكل أيديولوجيات شمولية ت ضفي قي ًم ا دينيةً على قيمها الدنيوية ،بهدف الخالص الغنوصي،
سم اها بشارة "أشباه الديانات البديلة" ،لغياب المقدس والعبادات والشعائر في تشكيلتها الجديدة.
وهي التي ّ
أشكاال متباينةً؛ منها تحييد الدول ة في الشأن الديني بهدف حماية الحرية الدينية ،أو
ً ويتخذ منطق الدولة
العام من جهة الدولة ،وت نتج
ّ سيطرة الدولة على الدين ،أو تقليص دور الدين والمؤسسة الدينية في المجال
من هذه األشكال انعكاسات اجتماعية وسياسية وصراعات وحروب مختلفة.
في الحصيلة ،ال تعبّر أطروحة الفصل بين المجال ا لديني والدنيوي عن حقيقة التمايز بين المجا الت
ثم فإنه من الضروري التمييز بين أنماط التدين والفئات
المعرفية المختلفة وصيروراتها المتباينة ،ومن ّ
االجتماعية ،وأنواع الدولة وتاريخها ودرجة تطور المجتمعات ،ودرجة علمنة الوعي فيها ،وا ال تسق ط نظرية
إن نظرية العلمنة ،إذن ،هي "ميتا -نظرية" أو "سردية كبرى"
العلمنة في تعميما ت واستقراءات خاطئةّ .
–بتعبير بشارة -يحصل فيها تمايز المجاالت المعرفية ،وتنحسر فيها أهمية الديانات الروحية في حياة
األفراد والمجتمعات ،حيث يتطور العلم والمعرفة العلمية وتتغير وسائل إنتاج الناس لحياتهم المادية
والمعنوية ،وهذه التمايزات المتضمنة في نظرية العلمنة هي نتيجة استقراء تطور صيرورة العلمنة في
موح دة قابلة للتطبيق في جميع السياقات.
المجتمعات األوروبية ،وا ْن لم تتطور إلى نظرية شاملة ّ
متكامال بشأن نظرية العلمنة والعلمانية في سياق صيروراتها
ً نظري ا قويً ا
ً مشروع ا
ً قد م عزمي بشارة
لقد ّ
وتمايزاتها التاريخية والمعرفية المتعددة ،كما تم ّك ن من إعادة استقراء التاريخ وتصحيح مجموع التعميمات
النظرية واأليديولوجية التي اختزلت نظرية العلمنة في ٍ
بثر فاض ٍح لسياقات إفراز النظرية ،وفي إهمال
لقدراتها التفسيرية المتعددة .وا ّن النتائج المعرفية لمشروع بشارة ستمكن من إعادة قراءة التاريخ اإلسالمي
ودراسة صيرورة نشوء الدولة وا خفاقاتها األيديولوجية المتعددة ،كما ستمكن من النظر في تطور الدين
وتمايزه وفي إمكانية نشوء علمانيات في سياقات عربية وا سالمية بديلة .سيرجع عزمي بشارة -ال محالة -
إلى استقراء العلمنة والعلمانية في السياقات اإلسالمية ،وسيدرس عمل نظرية العلمنة باألنموذج المعرفي
75
صرح بذلك هو السياقات
ألن أصل البحث كما ّ
قد مه كحالة تكاملية لصيرورة عمل العلمنة والعلمانيةّ ،
الذي ّ
العربية اإلسالمية.
الجاد والرصين سيم ّك ن الباحثين والدارسين لعمل الدين في المجتمع العربي
ّ إن هذا المسار البحثي
ّ
واإلسالمي ،ولعمل العلمنة في ظ ّل ثورة وسائط المعرفة ووسائلها والمعلومة الحديثة ،من الوعي بمسار
ثم اإلجابة عن أسباب تخلّف المجتمعات اإلسالمية تطور الدين وعمله في المجتمعات اإلسالمية أوًال ّ ،
ُّ
التي يرجعها كثير من الباحثين إلى قداسة الدين ،وع قم أسئلته ،وا ف ارزه للتطرفات األيديولوجية المختلفة،
ثم إلى تقليدانية قيم المجتمعات العربية التي لم تتعرض للعلمنة.
وزواج الدين بالدولةّ ،
76
قراءة يف كتاب "الدين والعلامنية يف سياق
تاريخي" لعزمي بشارة
*
محمد الطاهر المنصوري
تقديم
إ ّن التجربة الدينية بجانبها الحسي وجانبها العقلي بوصفها تجربة للمقدس هي في بعدها الفردي تجربة
مكونة لإلنسان ،تلك هي رؤية عزمي بشارة للمسألة الدينية.
عاطفية وجدانية ّ
انطالقًا من المقدمة ،بسط عزمي بشارة جملةً من اإل شكاليات في عالقة بين الدين والتجربة الدينية ،وبين
بالتعرض إليها كلّها؛
ّ األ خالق والدين .هذا ،إلى جانب عدد من القضايا األخرى التي ال يسمح الفضاء
إذ سيقتصر حديثنا على التجربة الغربية في مجال اإل صالح الديني منذ العصر الوسيط حتى انبالج الفترة
الحديثة ،وما رافقها من تغيرات مهمة شملت العالقة ب ين الديني والسياسي ،وبين الروحي والزمني.
وقد اعتمد بشارة على جملة من اآل ليات والمقاربات لتوضيح الرؤية في هذا المجال المعقد والخالفي في
الحين ذاته :من الفلسفة اليونانية القديمة إلى الديكارتية والهيغلية الحديثتين ،وعلم االجتماع والتاريخ وك ّل
ما أمكن استعماله لسبر غور المفاهيم وا يضاح ما أمكن منها.
أستاذ التاريخ في معهد الدوحة للدراسات العليا ،متخصص في التاريخ البيزنطي والعالقات المتوسطية في العصر الوسيط. *
77
احدا وان حاول أن يتموقع في موقع علم االجتماع ،مع اعتماد شتى العلوم المساعدةعلما و ً
لم يعتمد المؤلف ً
أن الدين يتيح للفرد كما للمجتمع ،فرصة للتنظّم
للبرهنة على أهمية الدين في حياة األفراد والجماعات؛ فرأى ّ
وتعميق اإليمان ،عالوةً على الجانب المقدس والروحي.
يقول المؤلف "إن االنفعال بتجربة المقدس والتأثر بها أساس العاطفة الدينية لكن هذه العاطفة ال تتحول إلى
دين بمجرد االنفعال بتلك التجربة بل حين تؤمن النفس بالمقدس وبوجوده الحي والعاقل وبأن من الواجب
عبادته" (ج ،1ص .)23ويضيف هناك "فرق بين الشعور بالمقدس واإليمان به".
مباشرا في الحديث النبوي حيث ورد أنّ ه ما " من مولود إال يولد على ال فطرة،
ً مهم قد نجد له جوابً ا
سؤال ّ
أن اإل نسان يولد بال لغة وال دين ،وا نما
يمج سانه" .وهو دليل قاطع على ّ
ينص رانه أو ّ
يهودانه أو ّ
فأبواه ّ
البيئة والمجتمع ممثّ ًال في النواة األ ولى وهي العائلة ،هما اللذان يم ّك نان ه من هذه اآلليات األساسية التي
تؤدي إلى االنصهار في المجتمع والتماهي مع ما له من تقاليد ومعتقدات وقيم ،حتى إ ّن المؤلف ارتأى
"أن المسأ لة الدينية والتفاعل مع المقدس تبدو لو أنّ ها مسأ لة دورية فالديانات السماوية تلغي ما
سبقها من المعتقدات فتستغل بعض ما هو فيها لتوظيفه لفائدة مقدس آخر ولكن يحدث أن تصطدم
الديانات نفسها بمنافس آخر قد يستوعب بعضها ليحل محلها .وهذه التحوالت ال تتم بسهولة وقد ال
78
دفاع ا عن المقدس وهو ما يؤدي إ لى صراع الوالءات والمعتقدات
ً تتم أ صال نظرا لوقوف وكالء الدين -
ولم ال أ يضا صراع الهويات من خالل المقدس ضد المقدس أل ن كل فكرة سواء كانت سماوية أو غير
سماوية تكون محل تقديس من أ صحابها ومهما كانت هذه الفكرة فإنها تجد لها وكالء يذبون عنها.
وهذا هو جوهر الصراع الذي قد يتمظهر في أشكال ال عالقة لها بالمقدس وا نما تنخرط ببساطة في
مجال المعيش اليومي للناس وتتبطن بما ال عالقة له بالمقدس وهي من صلبه نابعة (ص .)16
لع ّل السؤال المفتاح الذي طرحه المؤلف في الجزء األول ،هو :هل انحسار مجال المقدس الغيبي لمصلحة
توسع مجال المقدس الدنيوي هو عملية العلمنة؟ (ص .)27
تطرح عدة مصطلحات ومفاهيم نفسها في هذا العمل؛ مثل المقدس الغيبي ،والمقدس الدنيوي ،والعلمنةّ .إنها
الكلمات المفاتيح .بل هي جزء كبير من اإلشكالية الرئيسة للبحث .مسألة العلمنة والعقلنة .ويرى الباحث أ ّن
العقلنة تواجه تحديات أكبر من العلمنة .وهو رأي فيه كثير من السداد؛ أل ّن العلمنة لم تفهم على حقيقتها ،ولم
أن العقلنة هي اعتناق األفكار وربما حتى الديانات، أن العلمنة هي ك ّل ما هو دنيوي ،في حين ّيدرك الناس ّ
بعادا غيبية سماوية .فالعقلنة
يحف بها ويعطيها أ ً
بالعقل .وهو ما ينزع عن كثير من المسائل طابع القداسة الذي ّ
تسمح بالتفكير وبالنقد ،وبالرفض والقبول لألفكار والمعتقدات بعد وضعها على محك العقل ،في الحين ذاته،
العلمنة هي صيرورة ال تتنافى والدين وال تتعارض مع المسلّمات والعقائد.
التدرج للحديث عن اإل صالح الديني 7الذي شمل المسيحية الغربية .ولكن للحديث عن
ّ ومن هنا ،يمكن
موضوع العلمانية واإلصالح الديني ،ال بد أوًال من طرح الفارق بين المسيحيتين الكبيرتين في العصر
الوسيط؛ هما الديانة المسيحية المنضوية تحت سلطة البابا ،والديانة المسيحية المنضوية تحت سلطة
اإل مبراطور البيزنطي .وهذا راجع إ لى التطور التاريخي المختلف لكال الديانتين من خالل التطورات
التاريخية التي عرفتها اإلمبراطوريتان الرومانيتان الشرقية والغربية ،انطالقًا من القرن ال اربع للميالد .وما
المتأخ رة ،هو في الواقع فترة
ّ مؤرخي العصور القديمة ،فترة اإلمبراطورية الرومانية
عد في نظر ّ
ي ّ
ال يمكن الحديث عن إصالح ديني في الحضارة اإلسالمية ،إذ ال يوجد مركز ديني يمكنه أن يقرر اإلصالح وال يمكن لمن يرغب في 7
79
إن بيزنطة في هذه الفترة ليست في عهدها القديم وال عصرها الوسيط؛
اإل مبراطورية البيزنطية المتقدمة؛ إذ ّ
فهي تتأرجح بين العصر القديم المتال شي والعصر الوسيط المنبلج.
التطور المختلف
ّ مهم ،فقد ساهم فيطبيعيا في عصر يضطلع فيه اإلرث بدور ّ ً ولئن كان هذا التقسيم
لإلمبراطوريتين ،وفي الحين ذاته الديانتين؛ فقد سقط الجزء الغربي تحت سيطرة الشعوب الجرمانية التي استطاعت
اقتحام روما وتخريبها سنة 410م .في حين صمدت اإلمبراطورية الشرقية ،بحسب الظروف واإلمكانيات ،أمام
الشعوب الجرمانية نفسها ،بل عملت على توجيهها نحو الجزء الغربي من دون تفكير في النتائج والعواقب.
التطور التاريخي المختلف ،هو الذي سيساهم في خلق الخصوصيات الجهوية على المستويات ّ ولع ّل هذا
عموما.8
ً ستميز القرون الالحقة من تاريخ المسيحية
السياسية والفكرية ،وبخاصة منها العقائدية التي ّ
وستكون هذه الوضعية مبعثًا لوعي الشرق الروماني /المسيحي بخصوصيته وتميّز شخصيته وربّما "نقاوة"
تعرض له الجزء الغربي من سيطرة الشعوبيتعرض لمثل ما ّ
تاريخه .فلم تقتحمه الشعوب الجرمانية ولم ّ
روماني ا أو على األقل ظ ّل الشرق يشعر بذلك ،وهو ما
ً "البربرية" [ .]les peuples Barbareفقد بقي ا
مجس مة في عاصمة
ّ جعل الرومان الشرقيين /البيزنطيين يع ّد ون أنفسهم الورثاء الشرعيين لروما القديمة
بيزنطة ،القسطنطينية وهي روما الجديدة .وقد كانت الجهتان تنظران لعالقة الدين بالدولة نظرةً معكوسة.
فقد كان الباباوات يدعون إ لى سلطة القديس فوق سلطة الملك ،فهو صاحب الحل والعقد [ lier et
]délier؛ أي بإمكانه أ ن يطلب من المؤمنين الذين يخض عون لسلطانه الروحي أ ن يخضعوا للملك أو
خاضع ا لسلطة البابا كما
ً تتوج ه الكنيسة أ ي بمعنى الملك أ و اإلمبراطور الذي يكون
ّ اإلمبراطور الذي
مثال السبب
بإمكان البابا أن يح ّل الناس من طاعة الملك إذا كان "مارقا" عن السلطة البابوية (هذا كان ً
انظر :محمد الطاهر المنصوري ،الحياة الدينية في بيزنطة من االنبعاث إلى القطيعة مع روما (تونس /صفاقس :دار أمل.)2003 ، 8
80
الرئيس لعقد مجمع كالرمون فران [ ]Clermont Ferrandسنة 1095وهو لمعاقبة ملك فرنسا أو
إخضاعه لسلطة الكنيسة) .في حين كان البيزنطيون يمارسون سلو ًك ا مختلفًا ،وهو سيطرة اإلمبراطور على
السلطتين الدينية والسياسية ،فهو القيصر البابا [ ] Césaroppismeفقد جمع السلطتين الروحية والدنيوية
تقد مه النصوص ا لقانونية في
يعرف بأنّ ه ظل اهلل على األ رض حتى إ ّن التعريف الذي ّ
بين يديه .وأصبح ّ
يعد ه بمنزلة اإلله على سطح األرض" :فهو ال يثب وال يعاقب بانحياز وا نما يوزعنهاية القرن التاسع ّ
الجزاءات بكل عدل".9
انطالقًا من هذه االختالفات الجوهرية ،كان التم ّشي السياسي الديني مختلفًا .فبقدر ما كان تأثير رجال الدين
قويا في الغرب المسيحي كانت السلطة السياسية هي المتمكنة من دواليب المجتمع في الشرق المسيحي .وهو ً
تصور عملية اإلصالح والفصل بين الديني والسياسي عملية مختلفة بين المسيحيتين.
ما يجعل ّ
اضحا في الغرب المسيحي سواء في فترة اشتداد قبضة
ولئن كان التباين بين المجتمع الديني والمجتمع المدني و ً
مستحيال في العالم اإلسالمي؛ فترى ك ّل الذين
ً صعبا إن لم نقل
ً الكنيسة أو في فترات تراجعها ،فإ ّن األمر يبدو
لهم قدرة على الكالم ّإال وأصبحوا علماء حين كان لهم اإلفتاء واصدار األحكام ،والتكفير ،والمباركة.....
وقد أ ّدت هذه الوضعية إلى نوٍع من االنكماش لدى المثقفين ،فانطووا على ذواتهم في كثير من األحيان خوفًا
تطرف الطرفين الموجودين؛ فقد قال بشارة في ختام محاضرة هشام جعيط في الدوحة في شهر كانون من ّ
جدا وتهاجمك األول /ديسمبر " 2015فإذا كنت تعيش في بلد مثل تونس قد تهاجمك سلفية دينية متشددة ً
جدا .وعلينا أن نصارع في هذه المرحلة سلفيات عديدة كما يبدو" .ولع ّل هذا
أيضا سلفية الئكية متشددة ً
ً
يصح على أوضاع مختلفة في بلدان عديدة من العالم اإلسالمي،
ّ الكالم قد ال يقتصر على تونس بل يمكن أن
حيث يسهل التكفير والرجم واإلخراج من الملّة كما يقال.
9
Alexander P. Kazhdan, Oxford Dictionary of Byzantium (New York - Oxford: Oxford university Press,
1991).
81
لقد طرح المؤلف قضايا متشعبة منها مسألة اإلصالح الديني في أوروبا ما بين العصر الوسيط والفترة الحديثة.
نتحدث فيه.
وهو الجانب الذي سنحاول أن ّ
طرح المؤلف مسألة ال ِعلمانية بالكسر أو العلمانية بالفتح ،وان اختلف سياق الكلمتين فإ ّن المقصد هو العلمانية بالفتح.
كثير ما ينطقها الناس علمانية والواقع هي أن تنطق بالعين المفتوحة والالم المجزومة وليس العين المجرورة
ولكن ًا
تعرب بدنيوي .وكلمة الئكي هي مشتقة من والالم المجزومة .وهي تعريب لعبارة الئكي الالتينية ،وكان األفضل أن ّ
عبارة الييك [ ]laïcالالتينية وهي تعني ما هو عادي ودنيوي في حياة الناس .وتطلق في الديانة المسيحية على ك ّل
من لم تكن له وظيفة دينية .وبهذه الصورة انقسم المجتمع األوروبي في العصر الوسيط إلى مجموعتين؛ مجموعة
تمتهن السدانة والكهانة ،ومجموعة تمارس الحياة الدنيوية .حتى إّنه يمكن استعمال عبارة دنيوي مقابل ديني بمعنى
ولكنه في نهاية األمر مسيحي كغيره ،وهو يؤدي فرائضه
أن الدنيوي هو الذي ينصرف للحياة الدنيوية ويعمل وينتج ّ ّ
ولكنه ال يشغل وظيفة دينية مهما كان نوعها .وقد استعملت الكنيسة عبارة قريبة من الئكي لتعني الرهبان الذين
الدينية ّ
انخرطوا في خدمة الكنيسة بالعمل اليدوي في الحقول والبناء ،وك ّل ما له صلة باإلنتاج ،وهي فئة من الرهبان الذين
تفرق الكنيسة بينهم وبين بقية المسيحيين تطلق
ليست لهم ثقافة دينية وانما وهبوا أبدانهم للعمل لفائدة الكنيسة .ولكي ّ
كرسوا حياتهم للعمل الرّباني [ .]Opus Deiوبهذه
عليهم عبارة [ .]frère laisوهم مختلفون عن بقية الرهبان الذين ّ
مقس ًما إلى مجموعتين؛ مجموعة اإلكليروس [ ]clergéأو رجال
الصورة نجد المجتمع األوروبي في العصر الوسيط ّ
دينيا ويهتم بشؤون الحياة الدنيوية .ومن هنا استعملت عبارة الئكي التي
منتظما ً
ً الدين على اختالفهم وك ّل من لم يكن
كانت في البداية تنحصر في اإلخوة الالئكيين لتشمل ك ّل من لم تكن له وظيفة دينية.
محكوما بسلطة الكنيسة وبقوانينها إلى أن بدأت الشعوب تتحرك ضد هيمنة رجال ً وهكذا ظل المجتمع الغربي
الدين وليس ضد المعتقد المسيحي .و ّأدى ذلك في منتصف القرن الحادي عشر إلى صراع بين منظومتين:
المنظومة الدينية بقيادة البابا ،والمنظومة الالئكية بقيادة الملوك واألباطرة من أجل تسمية رجال الدين .وقد انتهى
الصراع بفرض الكنيسة سلطتها على المجتمع واختصت بشؤون الدولة والمجتمع .وأصبح الناس يعيشون بحسب
ت ٍ
قسيم وظيفي للمجتمع ،كما يلي:
82
ويسمون بالنظاميين [ ]régulier clergéورجال الدين العلمانيين أو الزمنيين؛ أي
ّ الرهبان بأصنافهم
ويسمون
ّ الذين يشرفون على طقوس الكنيسة ويختلطون بالناس وليست لهم قطيعة مع أهل الدنيا
بالزمنيين []séculier clergé؛ فهم يختلطون بالناس ويتقبلون اعترافاتهم ويغفرون ذنوبهم ويسهّلون
ألنهم يعيشون زمنهم
سموا بالزمنيين ّ
عبورهم إلى العالم اآلخر ويباركون مواليدهم وزيجاتهم ،ولذلك ّ
وليسوا في قطيعة معه.
والمتابع ألصل علمانيين (بفتح العين) يالحظ ّأنهم من المسيحيين الذين يؤدون طقوسهم ويعيشون حياتهم من
ألنهم هم المؤمنون
أي صفة تكفيرية ّ
دون االنخراط في العمل الديني الوظيفي .ولم تطلق الكنيسة على هؤالء ّ
الذين وجدت الكنيسة بحسب ما هو مذكور أعاله لفائدتهم.
تحول مجتمعي سعى إلى مالءمة تشريعاته مع واقعه؛ فقد بدأت هذه ومع تطور المجتمعات الغربية ،بدا هناك ّ
منفصال عن الكنيسة ،وآلت في نهاية األمر
ً التغييرات منذ القرن الثالث عشر مع انتشار التعليم الذي لم يكن
إلى فصل الدين عن تسيير الحياة االجتماعية واالقتصادية .ولم يكن في هذا الفصل دعوة إلى رفض الكنيسة
أو التخلّي عن المسيحية أو الكفر بعيسى .بل ظلّت الشعوب المسيحية مسيحية والكنيسة في موقعها الروحي
بالنسبة إلى المتعبدين .ولم يكن ذلك عالمة من عالمات كفر المسيحيين بدينهم.
وبالتوازي مع ذلك ،ظهر في العالم اإلسالمي أصوات تنادي بضرورة فصل الدين عن تسيير الشأن العام وع ّده
يمس جوهر الدين،
خاصا؛ فالعلمانية (بفتح العين) في العالم المسيحي أو في العالم اإلسالمي ليس فيها ما ّ
ً شأًنا
ٍ
عبادات ومعامالت بين الناس ،وانما هي دعوة إلى المدنية والى مالءمة القوانين والتشريعات مع حياة الناس من
دوما .وهو ما يعطي حيادية للدولة وللمؤسسات العمومية في التعامل مع منظوريها من دون اللجوء إلى القياس ً
شخصيا ال دخل للدولة فيه ،وهو المفهوم الحقيقي للدولة المدنية.
ً أمر
بوصف المعتقد ًا
تعرض لها عزمي بشارة بإسهاب وببيداغوجية بالغة ،حتى إ ّن القارئ يمكنه أن يفهم هذه
وهي من المسائل التي ّ
المصطلحات مهما كان مستوى تكوينه.
تطرق المؤلف في القسم األول من الجزء الثاني إلى موضوع الكنيسة في العصر الوسيط .ولع ّل هذا العصر هو
ّ
ي شكل من األشكال للفكر المعاصر وربما حتى البنية الشخصية لإلنسان المعاصر؛ففي العصر
المهد المولّد بأ ّ
الوسيط انهارت المؤسسة الرومانية في الغرب األوروبي ،ولم يجد المجتمع والسلطة مال ًذا إ ّال في الكنيسة .فقد
أصبحت بالتدرج المؤسسة الرئيسة في تأطير المجتمع واحتواء أفراده على اختالف أوضاعهم من خالل ٍ
جملة من
83
اقتناعا أو نفاقًا .لقد جعل
ً اآلليات القانونية والنفسية التي جعلت الفرد ينصاع ألوامر السلطة الدينية ،خوفًا أو
موقف الكنيسة عزمي بشارة يقول (ج ،2مج ،1ص " :)103إن العصر الوسيط ال ينظر إلى المستقبل بل إلى
إن المجتمعات المتدينة تف ّكر في الخالص أكثر من تفكيرها في الحياة
فعالّ ،
الخالص وفي توقع نهاية العالم"ً .
اليومية؛ فاإلنسان ال يصلّي ويتعبد ويتهجد ويتزهد بحثًا عن حياة دنيوية أفضل إّنما سعيا إلى ٍ
حياة في اآلخرة ً
مقرها الجنة وما تحمله من صور في المتخيل اإلنساني .لئن كانت اإلصالحات الدينية في العصر الوسيط
يكون ّ
فعال في أرواح الناس.
تهدف إلى تمكين الكنيسة من السيطرة على المجتمع فإّنها أصبحت تتح ّكم ً
لقد بدأت حركة اإلصالح الديني في العصر الوسيط منذ منتصف القرن الحادي عشر؛ فبرزت الكنيسة في
سن جملة من التشريعات تتعلق بتنظيم الحياة ،مثل:
موقع الحامي للمجتمع من خالل ّ
-السلم الربانية :وهي عملية تسعى إلى تقليص الحروب السيادية التي كانت متفشية في النظام
الفيودالي.
الرب.
-توظيف القوة العسكرية لألسياد لحماية الكنيسة وخدمة ّ
عوضتها في جملةألنها ّ
ّإنها من األمور التي أذعن الناس لها ،وبذلك أصبحت الكنيسة فوق السلطة السياسية ّ
من المهام األساسية؛ مثل فرض نوع من السلم االجتماعية وتقديم الحماية لمن ال حماية له .ومن هذا المنطلق،
يجيا .ثم أصبحت بعد ذلك تتح ّكم في دواليب السياسة .ومن هنا جاءت
أصبحت الكنيسة تتح ّكم في المجتمع تدر ً
سلطتها في الح ّل والعقد [ .]lier et de délier pouvoir deيع ّد القرن الحادي عشر القرن المفصلي في
تمر عبر
امحت فكرة "ما هلل هلل وما لقيصر لقيصر" ،وأصبحت السلطة ّ سيطرة الكنيسة على حياة الناس .فقد ّ
تسلسل عمودي :الرب – البابا -رجال الكنيسة -المؤمنون بشقّيهم العلماني والديني.
84
بايزياي [ ]Béziersفي جنوب فرنسا سنة " 1209اقتلوهم جميعا فإ ّن الرب سيعرف مؤمنيه «Tuez-les tous,
» .Dieu reconnaîtra les siensولع ّل الضغط الذي مارسته الكنيسة هو الذي سيؤدي إلى حركة إصالح جديدة
ال تهدف هذه المرة إلى تمكين الكنيسة من النفوذ الزائد وانما تهدف إلى تقليص نفوذها أو حتى التخلّص منه .ولكن،
مكنا أن يحدث ذلك خارج المنظومة الدينية نفسها أل ّن المجتمعات المتدينة ال يمكنها أن تقبل ش ًيئا من خارج
لم يكن م ً
المنظومة الدينية .لذلك قاد اإلصالح الجديد في فترة النهضة رجال من رجال الدين :مثل مارتان لوثر [ Martin
وعد اإلنجيل المصدر الوحيد للتشريع ،وكان يقول إ ّن الرحمة
) ]Luther (1483-1546الذي وقف في وجه البابوية ّ
تقوض سلطة الكنيسة وتقلّص
توسط الكنيسة .وهي من المسائل التي ّ
تأتي من الرب لألفراد بصورة اختيارية من دون ّ
مجاالت نفوذها وتحرمها من موقع الوسيط بين اإلنسان ورّبه .لذا فاإلصالح من داخل المؤسسة الدينية وليس من
ولكنه فكر ديني يسعى إلى
فكر مخالف لما هو سائد في المجتمع الغربي ّ خارجها؛ إذ ساهمت أفكار لوثر في نشر ٍ
علمانيا وانما ساهم في فتح الطريق أمام
ً أن لوثر لم يكن
ومما ال شك فيه ّ
فك قبضة الكنيسة التقليدية عن المجتمعّ . ّ
يسميها الباحث األنسنية.
فكرة فصل الدين عن الدولة .لقد انتشرت أفكار عديدة ضمن تيار األنسنة أو اإلنسانوية التي ّ
فقد بدأت منذ القرن الثالث عشر تبرز بعض األفكار من داخل الكنيسة ترى أ ّن اهلل خلق الكون من أجل اإلنسان وأ ّن
االنسان هو محور الكون .وهذه األفكار أو "النزعة األنسنية هي التي أ ّدت بالفنانين إلى تمجيد اإلنسان ...هي نزعة
الحد بل اخترقت الكنيسة ذاتها حيث أصبحت تزّين المعالم الدينية بلوحات يبدو فيها اإلنسان مرسوًما
لم تتوقف عند هذا ّ
في تجليات مختلفة (ج ،2مج ،1ص .)193وربما يؤدي هذا التصور الجديد لإلنسان إلى اعتبارات عديدة منها أ ّن
الحد من سطوة اإلنسان هو محور الكون ،وهو في صورة اهلل ،إلى غير ذلك .وهي من المسائل التي تساهم في ّ
مجتمع مختلف عن مجتمع العصر الوسيط ،مجتمع يكون فيه "ما هلل هلل وما لقيصر لقيصر" .تلك
ٍ الكنيسة ،وتؤسس ل
هي روح العلمانية.
خالصة
لع ّل كتاب عزمي بشارة يجيب عن عدد من األسئلة التي تتعلق بالعالقة بين الدين والعلمانية انطالقًا من التجربة
يسد ثغرة كبيرة في الفكر العربي المعاصر المنفتح
المسيحية .وليس من باب المبالغة لو قلنا إ ّن هذا الكتاب ّ
على الحضارات األخرى؛ فقد أوضح المؤلف جملة التطورات التي عرفها الفكر الديني المسيحي الغربي وارتباط
صال.
إن العلمنة ال تقصي الدين أ ً
الديني بالدنيوي .وانتهى بالقول ّ
85
تعقيب الدكتور عزمي بشارة عىل مناقشات الندوة
بعد الشكر الجميل المسدى إلى األساتذة فتحي نقزو وفتحي المسكيني ومحمد أبو هالل ومصطفى آيت خرواش،
وكذلك إلى األستاذين كمال عبد اللطيف وجمال باروت ،الذين تجشموا عناء قراءة كتاب من نحو ألفي صفحة،
القيمة والمفيدة ،أشير إلى أنني لم يسبق لي أن كتبت مقالةً أو رسالةً عن ٍ
كتاب والتقدير الواجب لمالحظاتهم ّ
أصدرته.
حد االستحالة ،وقد يكون لهذا تفسير لن وأعترف أنني أجد مشقةً كبيرةً في العودة إلى قراءة ٍ
كتاب ألفته تصل ّ
وعموما ،أستغرب من سلوك المؤلف الذين ينشغل قدما. ٍ
ً ولكني ،على أي حال ،أفضل المضي ً أخوض فيهّ ،
كتاب ألفه .لقد تلخص موقفي بشأن أي ٍ
كتاب صدر لي في أنني قلت طوال حياته باألخذ والرد والمساجلة حول ٍ
عاما في جمهورّية
ما لدي حول الموضوع في الكتاب ،الذي يصعب التحكم بالنقاش حوله ،فقد أصبح مل ًكا ً
ٍ
تساؤل حول أي كتاب يستحق هذه التسمية يبدأ بقراءة الكتاب .فهذا أبسط الحروف .والجواب الشافي عن أي
ما نتوقعه من المتحاورين حوله.
تبدأ قصة هذا الكتاب ،التي لم تنته بعد ،والتي آمل أن تسمح لي ظروف العمل إلنهائها في السنوات القادمة،
كباحث قبل سنو ٍ
ات ليست قليلة المساهمة في النقاش الدائر حول اإلسالم والديمقراطية ،وما سمي في ٍ بمحاولتي
حينه باالستثناء اإلسالمي أو العربي.
86
اطية
في تلك الفترة كتب عديد الباحثين الغربيين والعرب صفحات ال تكاد تحصى عن مدى توافق اإلسالم والديمقر ّ
وتناقضهما .وأعتبر انجراري اللحظي في تلك المرحلة إلى هذا الموضوع ضعفًا أمام تقليعة أكاديمية ،وما أكثر
هذه التقليعات ،التي ال يتوقف األمر على إنتاجها في المؤسسات الغربية ،بل يضغط مجتمع الباحثين لالمتثال
أن واو العطف بين كلمتي "اإلسالم"
أن الموضوع عقيم ،و ّ
لها .وقد استدركت ذلك بسهولة حين كتبت ّ
ٍ
باحث على بحث العالقة بين الدين ،أي دين، صر أي
و"الديمقراطية" ال تنشئ عالقة بينهما .و ّأنه إذا أ ّ
كالمي
ٍ جسر فوقها سوف ال تبني سوى ج ٍ
سر هوة مفهومية عميقة ،ومحاولة اصطناع ٍ اطية فسوف يجد ّ
والديمقر ّ
أن غيره يحللها من منطل ٍ
ق آخر ليستنتج نصوص سرعان ما سوف يجد ٍّ معلّ ٍ
ق في الهواء ،وذلك عبر تحليل
ٍ
استنتاجات مناقضة حول هذه العالقة المزعومة .فأسئلة مثل :عن أي إسالم نتكلّم؟ ومتى وأين؟ وفي أي ظرف
تاريخي اجتماعي؟ ال بد من أن تفرض نفسها وتطغى على البحث ،فال يبقى للمصر على واو العطف سوى
قدما في جهد له أول وليس له آخر في تحليل النصوص بحثًا عن قرائن تناقض ثقافة الديمقراطية أو المضي ً
متسرعة عن "اإلسالم" مستقاة من وقائع تاريخية.
ّ تتوافق معها في أفضل الحاالت ،أو القيام بتعميمات
أما استدراكي الثاني فكان حول وجاهة البحث في إمكانية تعيين عالقة بين أنماط
األولّ .
كان هذا استدراكي ّ
اجتماعية لفهم النصوص من جهة،
ّ محددة
اجتماعية يمكن دراستها ،وتعبيرات ّ
ّ التدين المختلفة بصفتها ممارسات
ّ
والثقافة المساندة للديمقراطية من جهة أخرى (الثقافة المساندة للديمقراطية ،وليس الديمقراطية ذاتها) .وقد توصلت
أجلت نشر أغلبية أبحاثي في هذا الشأن. ٍ
إلى استنتاجات ال مجال لطرحها اآلن ،وقد ّ
87
وتداخال في ما
ً تطلبت اإلحاطة بمجال هذا البحث ،وتحليل الظواهر ،تعددية فعلية في المناهج المستخدمة
فعال ال قوًال .فثمة عمل فلسفي مباشر متعلّق بالبحث في مواقف تيارات فلسفية بعينها من الدين ،وكذلك
بينهاً ،
في تاريخ الفلسفة ،وعمل فكري فلسفي منهجي في تبيين حدود المفاهيم وتطويرها .وال يمكن السير في هذا العمل
من دون مناهج سوسيولوجية وأنثروبولوجية وتاريخية في فهم صيرورات العلمنة والتدين في المجتمعات قيد
الدرس والمقارنة .ويتالءم هذا النوع من المواضيع المتعلق بتحليل ظواهر اجتماعية كبرى مع وجهة النظر التي
تصر على تكامل العلوم االجتماعية واإلنسانية .ولهذا من الصعب تصنيف مؤلفاتي
أتفق معها منذ زمن ،والتي ّ
مرجعا "ألهل االختصاص"،
ً المعد ليكون
ّ هل هي فلسفة أم علم اجتماع أم علوم سياسية أم تاريخ؟ وفي هذا الكتاب
معينا؛ الفالسفة أو علماء االجتماع ،أو مؤرخي األديان أو غيرهم ،بل أقوم بتحليل
متخصصا ً
ً جمهور
ًا ال أخاطب
مستعينا بالمناهج هذه جميعها .نحن
ً ثم مفهومها،
ظاهرة من حيث تاريخها ،منشؤها ،ديناميكيتها ،مستنبطًا من ّ
معمق حول ظاهرة اجتماعية ثقافية سياسية ٍ
وندرسها ،ولكن حين نقوم ببحث ّندرس العلوم االجتماعية واإلنسانية ّ
أن نتعلم تجاوز حدود التخصص في المناهج.
تاريخية ،فسيكون علينا ّ
يخيةً لنظريات العلمنة ،ومراجعة أخرى لموجات نقدها المتتالية .كما تطلّب تدقيق
تطلّبت هذه المهمة مراجعةً تار ّ
تطور الفكر الحديث من منشئه في العصر الوسيط ،وانفصال العلم عن الدين ،والفلسفة هذه النظريات مراجعة ّ
عن الدين ،ونشوء العلوم وتأثيرها في الفكر الديني ،وعملية هيمنة العلوم في معرفة اإلنسان لبيئته وتأثيرها في
وعيه وعالمه ،وتراجع الدين من مجاالت مختلفة من النشاط اإلنساني ،ونشوء الفكر السياسي وتحدي ًدا الدولة
الحديثة من المدن اإليطالية في نهاية العصر الوسيط.
يسمى العصر الوسيط؛ أي خروج طويال عند علمنة الدين المسيحي والكنيسة ومأسستها في بداية ما ّ
ً لقد توقفت
الدين من حالة العزوف ِ
الفرقي عن الدنيا وانتظار الخالص ونهاية العالم ،إلى االهتمام بشؤون الدنيا والتفاعل
أيضا عند النهضة واإلصالح الديني ،وبحثت في جذور
مع السلطة السياسية باعتبارها سيف الكنيسة ،وتوقفت ً
اإلصالح الديني في األنسنية الكاثوليكية ذاتها مع تبيين الفرق بينهما والكامن في أصولية اإلصالح الديني
يميز بدايات أي إصالح .كما بحثت جدلية العالقة بين الكنيسة والدولة من محاولة إخضاع
وسلفيته .وهو ما ّ
الدولة للكنيسة إلى خضوع الكنيسة للدولة ،وقيام الكنائس الوطنية وسيطرة الملكية المطلقة على الكنيسة .وتناولت
88
استخدام مصطلح العلمنة ألول مرة من زاوية الدنيا (كعملية نزع قدسية) في وصف مصادرة أمالك الكنيسة
واألديرة بعد اإلصالح الديني ،واخضاع الكنيسة للدولة ،بعد أن كانت العلمانية تصف الزمن األرضي ،ورجال
الدين العاملين في الدنيا خالفًا للمكرسين لخدمة الرب في األديرة ،وعامة المؤمنين مقارنة برجال الدين .والشكل
وتحول الدولة إلى
ّ لمقدس،
األول للعلمنة باالنتقال من وساطة الكنيسة مع اهلل ،إلى وساطة الدولة مع اهلل وا ّ
لمقدس مع نشوء الدولة الوطنية والقومية.
حاكمة بالحق اإللهي وبعدها صيرورة مصادرة الدولة ل ّ
اآلسيوية.
ّ فضال عن الفوارق بينها وبين البلدان
األوروبية نفسهاً ،
ّ عملية مع ظروف مختلفة في الدول
تتفاعل هذه ال ّ
قرونا من الزمن ،وبين أن تجري في لمحة
يجية في علمنة الثقافة والفكر تمتد ً
عملية تدر ّ
ثمة فرق بين أن تجري ّ
جدا من يخية ال تتجاوز العقود وبفعل ٍ
تأثير أجنبي وفي ظل هيمنة استعمارية ،أو بفعل نخبة ضيقة ً بصر تار ّ
ثمة فرق بين نشوء
المتعلمين في مؤسسات أوروبية مع بقاء الشعب لفترة طويلة خارج هذه الصيرورة .كما ّأنه ّ
األهلية كرد ٍ
فعل على الحروب ملكية مطلقة ،أو ّ
قطاعية إلى ّ الملكية اإل تطور
ّ ّ ّ الدولة من داخل المجتمعات بفعل ّ
آخرا ،ثمة فرق واضح في مجريات عملية العلمنة الدينية ،وبين نشوء الدولة عن إدارٍة استعمارّية؛ و ًا
أخير وليس ً ّ
وتعددت فيها الكنائس ،وبين تلك التي ظلّت فيها
ومساراتها بين البلدان التي مرت بعملية اإلصالح الديني ّ
الكنيسة الكاثوليكية تحتكر الدين في المجتمع في عالقة مع الملكية المطلقة.
قائم بذاته ،ألنه يضيء جوانب مهمة من الحداثة ،كما أنه يساعدنا في ٍ
هدف ٍ تحول فهم أنماط العلمنة هذا إلى
ّ
التدين وأنماط
دين الحقًا .وسيتبين ذلك في المجلد الثاني من الجزء الثاني في العالقة بين أنماط ّ
فهم أنماط الت ّ
العلمنة في كل من فرنسا وبريطانيا والواليات المتحدة .وخالل متابعة تفاصيل الحداثة ،يبدو أ ّن نسبة التدين
تزداد في البداية؛ إذ يتفوق التدين في الحداثة المبكرة بانتشاره وعمقه على تدين المجتمعات الفالحية في العصور
تدينا في العصر الحديث مما كانت عليه
الوسطى ،وهذا هو الحال في المجتمعات العربية التي أعتقد أنها أكثر ً
في العصر الوسيط .ولهذا عالقة بانتشار القراءة والكتابة ووسائل االتصال ومعرفة الدين .وهكذا نجد أ ّن بداية
قضية أخرى تتعلق بالفهم
ّ يضا بعملية نشر العقيدة "الصحيحة" وتديين السكان .وتنشأ هنا
الحداثة تميزت أ ً
كعملية التقدم ،وتصور العلمنة بموجبها
احد على نمط مفهوم ّ باتجاه و ٍ
ٍ تصاعدية يخية
ّ ّ المبسط للعلمنة كسيرورة تار ّ
ّ
تهمش الدين .لم يكن مسار
انتقال من دول ومجتمعات متدينة وخاضعة للدين إلى دول ومجتمعات غير مؤمنة ّ
89
أن العلمنة أسطورة .ثمة تطور حقيقي في
إن كون العملية ليست بهذه البساطة ،ال يعني ّ
التاريخ بهذه البساطةّ .
أمور أخرى أهمها:
التاريخ يمكن تسميته بالعلمنة ،ولكنه ال يعني انعدام التدين ،أو زوال الدين ،بل يعني ًا
.1هيمنة العلم والفكر العقالني على مجاالت أوسع من مجاالت النشاط اإلنسانية وانحسار الدين من مجاالت
متزايدة باستمرار .2 .تحييد الدولة في المجال الديني ،وتحول القرار اإليماني إلى قرار خاص بالفرد .3 .تراجع
التدين نفسه ،أو قد
أهمية الدين في حياة الناس ،سواء أكانوا متدينين أم غير متدينين .وقد يعني هذا تراجع ّ
أن الدين لم يعد مرجعية أغلبية الناس الرئيسة في شؤون حياتهم في هذه الدنيا.
يعني ّ
أيضا
ولكن نفي العلمنة بدحض نظرياتها التبسيطية وعدم دقتها هو ً
التبسيطية في العلمنةّ .
ّ ما ينتقد هو النظرّية
أيضا في انحساره
فثمة علمنة جارية ليس بمعنى تمايز المجاالت وتحديد حدود الديني فحسب ،بل ً
غير صحيح؛ ّ
وتغيير وظائفه وتراجع أهميته في حياة المجتمعات ،مثلما يصح أنه جرى تحديثه على الرغم من القصورات
الفادحة لنظرية التحديث كسردية كبرى .ولكن ما يلزم هو إعادة تعريف نظرّية العلمنة وتدقيقها بحيث ال تعني
لتدخل العلمنة زوال الدين ،وال حتى زواله من المجال العام .فهو ظاهرة اجتماعية ،وقد تنتشر أنماط ٍ
تدين تدعو ّ
ٍ
أفعال تدرك حدوث انفصال .ولكن ال شك في الدين في المجال العام كرد ٍ
فعل على العلمنة ذاتها ،وهي ردود
الجسدية ،ومع الظواهر الطبيعية ،وتحييد الدولة في الشأن الديني الذي ال يتم دفعةً واحدةً
ّ مع بيئتهم وصحتهم
بعملية انتقال القداسة إلى مجاالت دنيوية ،واحتكار الدولة لجزٍء ٍ
كبير من ّ بل يمر بإخضاع الدين للدولة ،ويمر
القداسة .وال شك في توق المجتمعات الحديثة إلى تحييد الدولة في الشأن الديني.
90
أن من كتبوا عن الدين كانوا ٍ
أن هذا النوع من الكتابة عن الدين غير مألوف عربيا ،بمعنى ّ
وقد يرى بعضهم ّ
أحيانا عقيدي معين ،وكتب اآلخرون في
عموما إما متدينين أو معادين للدين .فكتب األوائل من منطلق ديني ،و ً
ً
التقدم على األقل .أما مقدمة هذا الكتاب
تفكيك أساطير الدين ونقده كأحد أهم مصادر التخلّف ،أو معوقات ّ
األول من الكتاب بعنوان الدين والتدين ،فقد بحثت في الدين كظاهرة في
كامال ،هو الجزء ّ
مجلدا ً
ً التي أصبحت
أي ٍ
بحث ٍ
محاولة لتطوير مفهوم الدين وخصوصيته بالنسبة إلى غيره من الظواهر ،وهذا يعني تحديد الظاهرة .و ُّ
مثل هذا ،هو جهد علماني كما هو مفهوم بداهة .وقد بِذل هذا الجهد لتبيين ضرورة االنتقال من بحث المجال
العلمانية لفهم القضايا االجتماعية الكبرى التي نريد أن نفهمها مثل تعثّر الديمقراطية وغيرها .لكنه
ّ الديني إلى
بحث نظري فلسفي وسوسيولوجي في الدين .وهذا في رأيي هو المفهوم الصحيح للنقد علميا ،وهو تحول إلى ٍ
المفهومية.
ّ أي ظاهرٍة علميا يعني وضع حدودها التار ّ
يخية والنظرّية أو الفرق بينه وبين الصراع األيديولوجي .فنقد ّ
سيما التي تتداخل معها .وهنا تكمن
فالمفهوم يساهم في تحديد الظاهرة وتمييزها من غيرها من الظواهر ،وال ّ
أهمية المفهوم نظريا.
ّ
هميتها وقدسيتها،
دينية معينة وشرح أصولها وأ ّ
إما تأكيد عقيدة ّ
القراء العرب يتوقعون من كتاب حول الدين ّ
بعض ّ
دينية .وفي رأيي ،استنزف هذا النوع من النقد ،وقيل فيه كل
أو تفنيد الخرافات واألساطير القائمة في كل عقيدة ّ
ما يخطر على بال .وسبق أن أ ّكدت في هذا الجزء من الكتاب أنه حتى في القرن التاسع عشر قال كارل
لدينية، ِ
مهمة استنفدت وانتهت .ولكن كما يبدو يطرب بعضهم من تفكيك األساطير والخرافات ا ّ
ماركس إ ّن هذه ّ
91
طرب الملحدين ،وال أن يطمئِن المتدينين ،بل شرح
لكن هذه ليست مهمة الكتاب .لم تكن مهمة هذا الكتاب أن ي ِ
خصوصية الظاهرة الدينية ،وفهم العلمانية والعلمنة وأنماطهما.
األول من الكتاب ببحث التداخل بين الدين واألسطورة ،والتمايز بينهما؛ وكذلك العالقة
ولذلك قمت في الجزء ّ
الدينية حتى بين هذه الظواهر
ّ خصوصية الظاهرة
ّ بين الدين وظواهر أخرى مثل األخالق وغيرها ،باحثًا عن
مبينا الفرق بينهما .وهذا ليس تمر ًينا
فصال لمسألة العالقة بين الدين واألخالق ً
ً التي تتشابك معها .وقد أفردت
ثمة أخالق من دون دين ،و ّأنه ث ّمة ديانات وثنية
نظريا ،فالقول إ ّنه ثمة فرق بين الدين واألخالق يعني ّأنه نظرًيا ّ
مثال) ،وأخرى ترفع التدين لها
أخالقيا (كما في حالة عالقات اآللهة اليونانية ببعضها وبالبشر ً
ً ال تتضمن نسقًا
أن هذا قد يصح
فوق األخالق (ما يبرر التصرف غير األخالقي إذا كان في خدمة العقيدة والتعصب لها) ،و ّ
يخيا .في الواقع ،تتداخل الظواهر ،ومهمتنا أن نفهم الظواهر ونفسرها كظواهر
قائما تار ً
نظريا ويحتمل أن يكون ً
أسس علم األخالق فيمختلفة على الرغم من ّأنها تتداخل في الواقع .يصعب ،من دون هذا ،أن نفهم كيف ّ
ٍ
مصدر إلهي ،وكيف أعيد ٍ
اشتقاقات لألخالق من اإلنسان والمجتمع من دون الحاجة إلى الحضارة الهيلينية
األول من الجزء الثاني .ويعود النقاش
اكتشاف ذلك خالل التنوير األوروبي .وأتناول جوانب منه في المجلّد ّ
باستمرار في الفلسفة الحديثة هل يمكن أن تسود األخالق من دون مطلق خارج اإلنسان ،ومن دون خير أعظم
تشتق منع معايير األخالق؟
وخصصت مبحثًا لبحث العالقة بين الدين والسحر ،والدين والعلم ،وانتقدت المناهج التلفيقية التي توفق بين العلم
ّ
ومميز بين اإليمان
ًا اقضا ،م ّبيًنا معنى الفصل بين األحكام العلمية والمقوالت اإليمانية،
والدين ،أو ترى بينهما تن ً
وتعرض األول لتفنيد العلم وتراجعه أمامه.
المعرفي والعرفانيّ .
يخية،
األول من الكتاب هو ليس فقط تطوير مفهوم الدين من الصيرورة التار ّ
التحدي الكبير الذي يقف أمام الجزء ّ
أيضا في أمرين :أوًال،
وفي االستدالل على جوهره ومضمونه في العالقة مع ذاته ومع الظواهر األخرى ،وانما ً
محاولة تطوير مفهوم كوني للدين؛ بمعنى ليس للدين اإلسالمي أو المسيحي وال غيرهما ،بل للدين كدين ،وهذا
التدين ،وكيف يمكن أن
ثانيا ،في شرح الفرق بين الدين و ّ
جهد فلسفي وليس سوسيولوجي وتاريخي فحسبً .
92
التدين يمكن أن يصبح هدفًا بذاته إلى درجة قطع الصلة مع األخالق ،وحتى مع الدين
أن ّ أصل إلى نتيجة ّ
التدين للعقيدة ،وهكذا.
للتدين وليس ّ
ذاته ،بحيث تخضع العقيدة ّ
تحول إلى مجلدين ،كما الحظ القارئ ،وكان يمكنني أن أسميهما المجلّد الثّاني
أما الجزء الثّاني من الكتاب فقد ّ
احدا،
وعا و ً احدا يتناول موض ً
والمجلّد الثالث بدل الجزء الثاني بمجلدين .ولكنني أعتبر الجزء الثاني جزًءا و ً
األول منه في فهم التاريخ الثقافي والفكري ،وحتى الروحي ،إن شئتم ،لنشوء العلمانية؛ بمعنى
يتخصص المجلّد ّ
ّ
العلمانية بذاتها في مرحلة متأخرة (نهاية
ّ ثم كيف نشأت األيديولوجية
كيف تعلمن الفكر والثقافة في الغربّ ،
يخية؟ ومن هم العلمانيون األوائل؟ وهل نشأ
ونتاج من صيرورة التار ّ
ٍ كنتاج من هذه العلمنة
ٍ القرن التاسع عشر)
مرت كل فلسفة التنوير من دون استخدام كلمة العلمانية؟
التسامح مع العلمانية أم من داخل الفكر الديني؟ وكيف ّ
لقد تطلّب ذلك مراجعة مكثّفة للفكر الغربي الحديث حقيقةً ،وأعتقد ّأنه ثمة مساهمة جوهرّية في هذا المجال
عملية تطوره من داخل الفكر الديني في المدن اإليطالية في العصر
ّ سيما في تطور فكر الدولة وشرح
وال ّ
الوسيط ،والحقًا في األنسنية األوروبية الشمالية وصوًال إلى نظريات العقد االجتماعي.
الدينية وفي
ّ علماني" بدايةً في الطقوس
ّ ميزت بين استخدام اللفظ الالتيني "
العلمانيةّ ،
ّ التوصل إلى مفهوم
ّ وفي
علمانية عندما جرى
مرة صيرورةً تقترب من الدالالت الحاضرة لل ّ ألول ّ
الدينية نفسها ،ثم كمصطلح يصف ّّ العقائد
التدين من جهة
تتميز من اإللحاد من جهة ،و ّ العلمانية كظاهرة فكرّية ّ
ّ ثم
الحديث عن علمنة أمالك الكنيسةّ .
الدينية وعالم الغيب ،ومن ث ّم إعفاء ٍ
موقف الأدري من المسائل ِ
بالموقف من الدولة على أساس أخرى ،وتختص
ّ
البت فيها وتركها كموضوٍع إيماني لألفراد .لقد أجريت مراجعة للتفاعل بين الفكر الديني والتحديات
الدولة من ّ
االجتماعية السياسية الفكرية في العصور المختلفة في أوروبا ،بما في ذلك نشوء تيارات تدعو لتحييد الدولة في
الشأن الديني من داخل الدين نفسه ،وال سيما عبر فكرة التسامح.
كما تناول الكتاب بالتفصيل الجانب الديني اآلخروي الخالصي في فلسفات التاريخ العلمانية وجذورها منذ نهاية
أيضا جذور الفكر الحديث مجرًيا مراجعة
العصر الوسيط ،وحتى الحداثة وتأثيرها في نظرية الدولة .وتناول ً
مجددة لكانط وبعده نيتشه وهيغل وماركس ،والذين عولجوا من زاوية الموقف من الدين في الجزء األول ثم
أن مصطلحات علم السياسة هي
عولجوا من زاوية العلمنة في هذا الجزء .كما تناول معنى مقولة كارل شميت ّ
93
تطرق هذا المجلد إلى مواقف فلسفية معاصرة
مصطلحات الهوتية جرت علمنتها .وخالل مراجعة الفكر الحديثّ ،
ومنها ليبرالية (جون رولز) ومحافظة (كارل شميت) وما بعد حداثية (رورتي وغيره) .ومن ضمن األخيرة نظريات
أن عملية العلمنة ال تنطبق على العالم اإلسالمي
تشكك بالعلمنة بشكل عام .وخاض المؤلف نقا ًشا مع من يرون ّ
ومنهم طالل أسد.
94