Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 99

‫ملف ندوة "تقديم ومناقشة كتاب الدين والعلمانية في سياق تاريخي"‬

‫سلسلة‪ :‬ملفات‬

‫جميع الحقوق محفوظة للمركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات © ‪2016‬‬

‫____________________________‬

‫التطبيقية‬
‫ّ‬ ‫تماعية‬
‫االجتماعية والعلوم االج ّ‬
‫ّ‬ ‫بحثية عر ّبية للعلوم‬
‫مؤسسة ّ‬
‫السياسات ّ‬ ‫بي لألبحاث ودراسة ّ‬‫المركز العر ّ‬
‫لسياسات‬ ‫ٍ‬
‫اهتماما لدراسة ا ّ‬
‫ً‬ ‫أبحاث فهو يولي‬ ‫اإلقليمي والقضايا الجيوستراتيجية‪ .‬واضافة إلى كونه مركز‬
‫ّ‬ ‫والتّاريخ‬
‫دولية تجاه المنطقة العر ّبية‪ ،‬وسواء كانت سياسات‬
‫ونقدها وتقديم البدائل‪ ،‬سواء كانت سياسات عر ّبية أو سياسات ّ‬
‫مؤسسات وأحزاب وهيئات‪.‬‬
‫حكومية‪ ،‬أو سياسات ّ‬
‫ّ‬

‫يخية‪ ،‬وبمقاربات‬
‫االقتصادية والتار ّ‬
‫ّ‬ ‫االجتماعية و‬
‫ّ‬ ‫يعالج المركز قضايا المجتمعات والدول العر ّبية بأدوات العلوم‬
‫ٍ‬
‫سمات‬ ‫بي‪ ،‬ومن وجود‬
‫نساني عر ّ‬
‫ّ‬ ‫قومي وا‬
‫ّ‬ ‫تكاملية عابرة للتّخصصات‪ .‬وينطلق من افتراض وجود أمن‬ ‫ّ‬ ‫ومنهجيات‬
‫ّ‬
‫بي‪ ،‬ويعمل على صوغ هذه الخطط وتحقيقها‪ ،‬كما يطرحها كبرامج‬ ‫مكانية تطوير اقتصاد عر ّ‬
‫ومصالح مشتركة‪ ،‬وا ّ‬
‫البحثي ومجمل إنتاجه‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫وخطط من خالل عمله‬
‫ّ‬

‫________________‬
‫السياسات‬
‫بي لألبحاث ودراسة ّ‬
‫المركز العر ّ‬
‫شارع رقم‪ - 826 :‬منطقة ‪66‬‬
‫الدفنة‬
‫ص‪ .‬ب‪10277 :‬‬
‫الدوحــة‪ ،‬قطــر‬
‫ّ‬
‫هاتف‪ | +974 44199777 :‬فاكس‪+974 44831651 :‬‬
‫‪org.dohainstitute.www‬‬
‫ملف ندوة تقديم ومناقشة كتاب‪:‬‬
‫الدين والعلامنية يف سياق تاريخي‬
‫للدكتور عزمي بشارة‬

‫عقدت ندوة في ‪ 5‬شباط‪ /‬فبراير ‪ 2016‬في فرع المركز العربي لألبحاث ودراسات السياسات بتونس‪ ،‬ت َّم فيها‬
‫تقديم كتاب الدين والعلمانية في سياق تاريخي ومناقشته‪ ،‬والذي صدر في ثالثة مجلدات (‪،)2015–2013‬‬
‫وهو من تأليف الدكتور عزمي بشارة‪.‬‬

‫قدم فيها الدكتور كمال عبد اللطيف اإلطار العام للكتاب‪ ،‬محاوًال إبراز أهم‬
‫ابتدأت الندوة بالورقة الخلفية التي ّ‬
‫أطروحاته ونتائجه‪ ،‬لتنطلق بعد ذلك مداخالت الباحثين‪ .‬فقد ساهمت مجموعة من الباحثين في إغناء هذه‬
‫الندوة‪ ،‬فقدموا أو ارقًا مهمة‪ ،‬رأينا أن ننشرها كاملة؛ من أجل إغناء الجدل وتطويره حول الدين والعلمانية‪ ،‬وهو‬
‫التباسا في الفكر المعاصر‪ .‬وقد حضر الندوة مؤلف الكتاب الدكتور عزمي بشارة‪ ،‬الذي عقَّب‬
‫ً‬ ‫أحد أكثر المفاهيم‬
‫في نهايتها على مداخالت الباحثين ومناقشاتهم‪.‬‬

‫يسرنا أن نقدم هذه المساهمات وننشرها على موقع المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،‬فيما ننتظر‬
‫و ّ‬
‫مناقشات وتعقيبات أخرى حول الموضوع‪.‬‬

‫لقد صدر الجزء األول من كتاب الدين والعلمانية في سياق تاريخي في طبعته الثانية المنقحة عام ‪2013‬‬
‫ثم صدر الجزء الثاني في مجلدين اثنين عام ‪ ،2015‬والعنوان الفرعي‬ ‫تحت عنو ٍ‬
‫ان فرعي هو‪ :‬الدين والتدين‪ّ .‬‬
‫للمجلد األول هو‪ :‬العلمانية والعلمنة‪ :‬الصيرورة الفكرية‪ ،‬أما العنوان الفرعي للمجلد الثاني فهو‪ :‬العلمانية‬
‫ونظرية العلمنة‪ .‬ويبلغ مجموع صفحات الكتاب ‪ 1888‬صفحة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫باقتباسات من مجلدات الكتاب الثالثة في أوراق هذه الندوة‪ ،‬فسوف‬ ‫وجدير بالذكر أنه عندما يجري االستشهاد‬
‫ترد اإلحاالت إليها بين قوسين في متون األوراق من خالل الرموز التالية‪:‬‬

‫(ج ‪ :)1‬الدين والتدين (الدوحة‪ /‬بيروت‪ :‬المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات‪.)2013 ،‬‬

‫(ج ‪ :)2‬في مجلدين‪:‬‬

‫‪( -‬ج ‪ 2‬مج ‪ :)1‬العلمانية والعلمنة‪ :‬الصيرورة الفكرية (الدوحة‪ /‬بيروت‪ :‬المركز العربي لألبحاث ودراسة‬
‫السياسات‪.)2015 ،‬‬

‫‪( -‬ج ‪ 2‬مج ‪ :)2‬العلمانية ونظريات العلمنة (الدوحة‪ /‬بيروت‪ :‬المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات‪،‬‬
‫‪.)2015‬‬
‫‪1‬‬ ‫‪ ‬ورقة خلفية عن الندوة‬
‫كمال عبد اللطيف‬

‫‪6‬‬ ‫‪ ‬علمنة مفهوم العلامنية‬


‫محمد جمال باروت‬

‫‪ ‬حدود العلامنية‪ :‬مالحظات عىل كتاب عزمي بشارة "الدين والعلامنية يف سياق‬
‫‪14‬‬ ‫تاريخي"‬
‫فتحي المسكيني‬

‫‪32‬‬ ‫‪ ‬أهل الديـن وأهل الدنيا‪ :‬مالحظات حول "العلمنة" يف سياق فلسفـي‬
‫إنقزو‬
‫فتحي ّ‬

‫‪47‬‬ ‫‪ ‬الدين والعلامن ّية يف سياق إسالمي‬


‫محمد بوهالل‬
‫ّ‬

‫‪" ‬الدنيوية" و"التحييد" عند عزمي بشارة‪ :‬قراءة يف مرشوع الدين والعلامنية ‪64‬‬
‫مصطفى أيت خرواش‬

‫‪77‬‬ ‫‪ ‬قراءة يف كتاب "الدين والعلامنية يف سياق تاريخي" لعزمي بشارة‬


‫محمد الطاهر المنصوري‬

‫‪86‬‬ ‫‪ ‬تعقيب الدكتور عزمي بشارة عىل مناقشات الندوة‬


‫ورقة خلفية عن الندوة‬
‫*‬
‫كمال عبد اللطيف‬

‫بْلور المنجز الفكري األخير للدكتور عزمي بشارة الصادر في ثالثة مجلدات في موضوع‪ :‬الدين والعلمانية في‬
‫أن سؤال العلمانية في‬
‫جهدا في النظر الفلسفي والسياسي يستحق المتابعة والعناية‪ ،‬وبخاصة ّ‬
‫سياق تاريخي‪ً ،‬‬
‫وصور الصراع‬
‫َّ‬ ‫تحوالته النظرية والتاريخية‪ ،‬يع ُّد اليوم من بين األسئلة التي تساهم في معاينة جوانب من أنماط‬
‫ُّ‬
‫السياسي والثقافي وتشخيصها‪ ،‬والتي تدور رحاها في المجتمع العربي‪.‬‬

‫بارز‪ ،‬سواء في أنماط مقاربته المتنوعة والغنية بالمعطيات النظرية واإلضاءات النقدية‪،‬‬
‫جهدا ًا‬
‫يستوعب هذا العمل ً‬
‫أو في كيفيات بسطه وبنائه لمباحث فصوله‪ .‬وقد ال نبالغ عندما نعتبر أنه يؤسس ٍ‬
‫لعمل غير مسبو ٍ‬
‫ق في الثقافة‬
‫حصر لها‪،‬‬‫العربية المعاصرة؛ عمل يواجه فيه الدكتور عزمي بشارة إشكاالت سياسية وفلسفية وتاريخية ال ْ‬
‫التباسا‬
‫ً‬ ‫يرتب مالمحها ويركب ما ي ْس ِعفه ُّ‬
‫بتعقل أكثر تاريخيةً وأكثر نجاعة لواحد من أكثر الموضوعات السياسية‬
‫في الفكر المعاصر‪.‬‬

‫يستمد عمل الدكتور عزمي بشارة قوته النظرية من نوعية التفكير الموجه لطرائقه في البناء والتركيب‪ ،‬حيث‬
‫يحرص على مواجهة األحكام العامة والمواقف المبسَّطة‪ ،‬ليعاين تحوالت الموقف العلماني في تمظهراته السياسية‬
‫والتاريخية المتعدِّدة‪.‬‬

‫وما َّ‬
‫عزز خيارات الدكتور عزمي في رحلته الشاقة في عملية التأليف‪ ،‬استناده في مجلدات عمله‪ ،‬إلى النصوص‬
‫ومرور بأعالم ومؤسسي الفلسفة السياسية الحديثة‬
‫ًا‬ ‫المؤسسة للمنظور العلماني في التاريخ من ماكيافيلي إلى راولز‪،‬‬
‫وخاصة هوبز ولوك‪ ،‬ثم فالسفة األنوار بتنوع مواقفهم وتناقضها من الدين ومن الدولة ومن العالقة بينهما‪ ،‬إضافة‬

‫كاتب وباحث مغربي‪ ،‬أستاذ الفلسفة السياسية والفكر العربي المعاصر‪ .‬كلية اآلداب‪ ،‬جامعة محمد الخامس بالرباط‪ ،‬المغرب‪.‬‬ ‫*‬

‫‪1‬‬
‫أيضا على أهم المصنفات المعاصرة‪ ،‬التي‬
‫إلى مواقف وتصورات ماكس فيبر وهبرماس‪ ،‬ومن دون إغفال اعتماده ً‬
‫اعتنت سواء في البحث االجتماعي أو في العلوم السياسية بموضوع الدين والدولة‪ ،‬وموضوع العلمانية ونظرياتها‬
‫ونماذجها التاريخية المتنوعة‪.‬‬

‫يترتَّب على هذا النوع من المقاربة في الغالب‪ ،‬اللجوء إلى االنتقاء أو السقوط في حبال االكتفاء بالعرض المحايِد‬
‫أو العرض الجامع‪ ،‬الذي يكتفي ببسط القضايا من دون التفكير فيها أو مناقشتها‪ .‬وقد حاول الدكتور عزمي في‬
‫عمله تجُّنب المحاذير التي أشرنا إليها‪ ،‬األمر الذي م َّكنه من بناء عمل يتسم بسمتين بارزتين وغير مسبوقتين‬
‫في ما كتِب في موضوع العلمنة‪ .‬يتعلق األمر بالمنزع التأسيسي الذي اختار فيه الباحث مواجهة إشكاالت‬
‫سياسية وتاريخية من موقع توجُّهه‪ ،‬وتَ ْح ُكم خياراته أسئلة ذات صلة بمعارك الراهن العربي‪ .‬لقد اشتغل على‬
‫مدارات وزوايا عمل غير مسبوقة‪ ،‬ولهذا وسمنا عمله بالعمل المؤسس‪ .‬أما سمته الثانية فتبرز في طابعه‬
‫الموسوعي‪ ،‬الذي َيبرز في ُمراه َنة صاحبه على توسيع دوائر المواجهة‪ ،‬إضافة إلى أنه ال ُي ْغ ِفل محاصرة‬
‫األحكام القَ ْبلِيَّة المتداولة في الموضوع ونقدها‪.‬‬

‫يبحث صاحب العمل في السياقات والترجمات‪ ،‬والشروط النظرية والنماذج التاريخية‪ ،‬التي ساهمت في منح‬
‫التحوالت‪ ،‬وهو ال‬
‫وتحولها‪ .‬كما يعمل على كشف المفارقات المرتبطة بالسياقات و ُّ‬
‫ُّ‬ ‫العلمانية شروط صيرورتها‬
‫التصورات األقرب في نظره‬
‫ُّ‬ ‫يجد أي حرٍج في اتخاذ موقف من األحكام الشائعة‪ ،‬فيبرز عيوبها ويحاول تركيب‬
‫إلى السياقات التاريخية‪ ،‬التي منحت‪ ،‬وال تزال تمنح‪ ،‬لمفردة علمانية وعلمنة الدالالت والمعاني التي تقترن بها‪.‬‬

‫التعرف إلى أبرز نتائجه وخالصاته‪ ،‬ومناقشة طرق بنائه للموضوعات‬


‫عقدت هذه الندوة لالقتراب من هذا العمل‪ ،‬و ُّ‬
‫والقضايا التي رّكب في مجلداته الثالثة بكثير من العناية والترتيب‪ .‬وقد ت َّم تكليف الزمالء المشاركين في الندوة‬
‫بتقديم قراءتهم لهذا العمل‪ ،‬الذي يروم َبسط وتركيب صيرورة عمليات العلمنة‪ ،‬محاوًال الكشف عن الصعوبات‬
‫النظرية والتاريخية‪ ،‬التي واكبت وتواكب عمليات العلمنة في التاريخ الحديث والمعاصر‪.‬‬

‫نوجه‬
‫لن نهتم في هذا التأطير العام لمنجز الدكتور عزمي بشارة‪ ،‬بعرض المفاصل الكبرى للمشروع‪ ،‬وبدل ذلك ّ‬
‫نظرنا نحو اإلشارة إلى جوانب من الخيارات المنهجية والفكرية‪ ،‬التي َّ‬
‫تبناها صاحبه سواء المعلن منها أو الذي‬
‫تستبطنه مباحث مجلداته‪ .‬فقد مكنته خياراته السياسية والفلسفية من االنفتاح اليقظ على جبهات متعددة‪ ،‬وسمحت‬

‫‪2‬‬
‫مطوًال أمام موضوع الدين‬
‫له المقاربة التاريخية الموسَّعة والمفتوحة على مجاالت معرفية متنوعة‪ ،‬بالوقوف َّ‬
‫والتديُّن والعلمانية‪.‬‬

‫يؤمن الدكتور عزمي بأن بحثه ليس بحثًا في العلمنة بحد ذاتها‪ ،‬بل هو بحث في أنماط التديُّن السائدة في‬
‫عصرنا‪ ،‬األمر الذي يفسر الهدف من اشتغاله على مبحث الدين والتديُّن باعتباره المدخل المناسب في نظره‪،‬‬
‫إلعادة تأسيس الدين والعلمانية في سياق تاريخي‪.‬‬

‫يخصص المجلد األول من الجزء الثاني لموضوع العلمانية والعلمنة‪ :‬الصيرورة الفكرية‪ ،‬وهو يشكل الحلقة‬
‫الرابطة بين مجلده األول والجزء الثاني من المجلد الثاني‪ .‬وفي هذا الجزء نقف على أهم القضايا الفكرية المرتبطة‬
‫بمصطلح العلمانية وعمليات العلمنة كما تش َّكلت في الفكر الحديث‪ ،‬كما نقف على عالقة العلمنة بالتحديث‪.‬‬
‫طلِق عليه في مباحث كتابه دنيوة الدين؛‬
‫وقد أبرز في هذا الجزء الدور الذي قام به اإلصالح الديني في ما ي ْ‬
‫الس ْحر عن عالقة الدين بالعالم‪.‬‬
‫أي نزع ِّ‬

‫عمل الباحث في هذا المجلد على بناء مواقف نظرية قوية‪ ،‬إذ حاول إبراز السياقات التي سمحت ببناء ما ي ْعتبر‬
‫المبادئ الكبرى‪ ،‬التي منحت اإلصالح الديني دالالته العميقة في مجال إيجاد المسافات المطلوبة بين الدين‬
‫معتبر أن اإلسهام‬
‫ًا‬ ‫أن منطق الدولة الحديثة نشأ من َر ِحم الالَّهوت‪،‬‬
‫والدولة‪ .‬وضمن هذا اإلطار‪ ،‬أشار إلى ّ‬
‫وتطوره‪ ،‬ومن دون إغفال ربط عمليات االستواء‬ ‫ُّ‬ ‫الهوبزي يع ُّد لحظة قوية في عملية استواء المنظور العلماني‬
‫بالتحوالت الفكرية والسياسية التي عرفتها أوروبا في القرن السابع عشر‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫المذكورة‪،‬‬

‫يرتبط السند المرجعي المعتمد في نمط مقاربة الدكتور عزمي بشارة لموضوعه بالتيارات الفلسفية الكبرى في‬
‫األزمنة الحديثة‪ ،‬وما رسمته من عالمات نظرية وتاريخية في عملية تبلور العلمنة‪ ،‬ويتعلق األمر بالحداثة‬
‫والتنوير والليبرالية‪.‬‬

‫ينتقل الباحث في الجزء الثاني من المجلد الثاني إلى موضوع نظريات العلمنة‪ ،‬ليعرض جملة من التجارب‬
‫المتنوع والمتعدِّد لنظريات العلمنة في تجاربها األوروبية‬
‫ِّ‬ ‫السياسية التي تبَّنت العلمانية‪ ،‬محاوًال إبراز الطابع‬
‫وفي تجربتها في الواليات المتحدة األميركية‪ ،‬األمر الذي سمح له باستخالص بعض النتائج المهمة‪ ،‬أبرزها‬

‫‪3‬‬
‫أن العلمنة تقتضي ضرورة التمييز بين المجاالت المعرفية واالجتماعية‪ ،‬األمر الذي يؤدي إلى نوٍع من التَّمايز‬
‫ّ‬
‫تتغلَّب فيه أنماط المعرفة العلمية في فهم الظواهر‪ ،‬ويعلو فيه منطق الدولة على الدين‪ ،‬من دون أن يعني‬
‫فكر‬
‫أن العلمانية تعني رسم حدود الدين باعتباره ًا‬
‫ذلك اندثار الدين والتديُّن‪ .‬أما النتيجة الثانية‪ ،‬فتشير إلى ّ‬
‫وظاهرة اجتماعية‪ ،‬األمر الذي تترتَّب عليه احتماالت يلخصها كما يلي‪:‬‬

‫طويال‪ ،‬وقد يتخذ مسارات‬


‫ً‬ ‫فإن رفضها ال يدوم‬
‫عندما ترفض المؤسسة الدينية الفصل بين السياسة والدين‪ّ ،‬‬
‫متعرجة إلى أن تقبل المؤسسة الدينية الفصل القائم على الخضوع لمنطق الدولة‪ ،‬إذ يأخذ الدين وظائف جديدة‬
‫ٍ‬
‫بأنماط من اإليمان‬ ‫يعبر الدين عن نفسه‬
‫في مجاالت الضمير واألخالق وأعمال الخير االجتماعي‪ .‬كما قد ّ‬
‫الفردي واالنجذاب إلى ديانات "تبدو أكثر روحانية"‪ .‬وقد يبقى الدين في السياسة بعد علمنة هذه األخيرة‪ ،‬إذ تقوم‬
‫الدولة باستخدامه‪ ،‬ويحدث في حاالت أخرى أن يعود الدين إلى المجال العام وذلك بتسييس الدين ضد الدولة‪.‬‬

‫يستوعب عمل الدكتور عزمي مجموعة من النتائج المهمة‪ ،‬وهي مبثوثة في ثنايا فصول مجلداته؛ بعضها مرتَّب‬
‫ومعلن في نهايات بعض الفصول في صيغ َّ‬
‫مركبة تمهد لعمليات انتقاله من مبحث إلى آخر‪ ،‬وكثير منها ي ِرد‬
‫أن من بين عناصر‬
‫بصيغ تعتمد اإليجاز أو اإليحاء الهادف إلى رسم دروب أخرى في النظر‪ ،‬ونحن نفترض ّ‬
‫قوة منجزه‪َ ،‬مسعاهُ الهادف إلى إشعار قارئه بضرورة مواصلة التفكير في القضايا التي حاول تركيبها في‬
‫أن ندوتنا َّ‬
‫تتوخى مواصلة التفكير في هذا العمل؛ مواصلة التفكير‬ ‫عمله‪ .‬وضمن هذا األفق بالذات‪ ،‬نتصور ّ‬
‫في أسئلته ونتائجه‪.‬‬

‫أن‬
‫ينفتح موضوع هذا الكتاب منذ بدايته إلى نهايته‪ ،‬على سؤال العلمانية في الفكر والمجتمع العربيين‪ ،‬ذلك ّ‬
‫ضي إلى الحديث عن تمظهرات العلمنة‬ ‫تخصيص المجلد الثاني من الجزء الثاني‪ ،‬لتقديم نماذج من العلمنة ي ْف ِ‬
‫في المجتمعات العربية المعاصرة‪ ،‬كما ي ْف ِ‬
‫ضي إلى مواجهة سؤال العلمنة في فكرنا وفي حياتنا السياسية‪ .‬وال‬
‫شك في أن الحديث الذي َّ‬
‫ركب المؤلف في مجلداته موضوع يومنا الدراسي‪ ،‬ينفتح كما أشرنا آنفًا‪ ،‬إشارة‬
‫وتلميحا على أسئلة ومعارك العلمنة في التاريخ العربي المعاصر‪ ،‬إالَّ أننا نعتقد أن ولوج هذا الباب‪ ،‬يتطلَّب‬
‫ً‬
‫أوًال وقبل كل شيء العناية بالمعطيات التي تستوعبها المجلدات التي حاولنا في هذه الورقة‪ ،‬الوقوف على جوانب‬
‫من أسئلتها وخياراتها‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫أن العلمنة صيرورة‪ ،‬وان و ِ‬
‫اجهتها في‬ ‫وبعد‪ ،‬نستخلص من مسعى اإلحاطة الم ْختزلة الذي رتَّْبنا في هذه الورقة ّ‬
‫يتحين الفرص للقيام بما يمهد الطريق لعملنة الدولة‬
‫مجتمعنا وثقافتنا معارك عديدة‪ ،‬بعضها قائم‪ ،‬وبعضها ّ‬
‫والمجتمع والثقافة‪ ،‬وهو ما ننتظره‪ .‬فنحن نعيش في زمن يتجه لرفع غاللة السحر عن العالم‪ ،‬سحر األقدمين‬
‫وسحر المحدثين‪ ،‬من أجل المساهمة في بناء عالم من دون أسرار ‪ ...‬لكن هل يروقنا بناء عالم من دون أسرار؟‬

‫‪5‬‬
‫علمنة مفهوم العلامنية‬

‫‪‬‬
‫محمد جمال باروت‬

‫تحليليا‪ ،‬وهو "علمنة نظريات العلمنة"‪ ،‬لما يمثّله هذا المفهوم‬


‫ً‬ ‫مفهوما يستثمره بشارة بصفة منتجة‬
‫ً‬ ‫أود أن أقارب‬
‫ّ‬
‫من أهمية إستراتيجية مفتاحية في المشروع على مستوى إنتاج األفكار‪ ،‬ومساءلة النماذج النظرية للعلمانية‪.‬‬
‫ويقصد بعلمنة نظريات العلمنة تفكيك البنية األيديولوجية أو االعتقادية المنظومية الصلبة لمفهوم العلمانية‪ ،‬ونزع‬
‫التمامية عنها‪ ،‬عبر التمييز بين النظرية والصيرورة التاريخية التي ادعت تلك النظرية نمذجتها نظرًيا‪ ،‬وتحولت‬
‫بالضرورة إلى نمذجة معيارية‪ ،‬أو عبر عملية العلمنة بصفتها صيرورة وما يصفه باأليديولوجيا العلمانية‪ ،‬والتي‬
‫يحتمل مضمونها الداللي األساسي معنى االعتقادية‪.‬‬

‫ويستثمر بشارة في عملية النزع هذه عدة مقاربات منهجية تحليلية أنثروبولوجية وسيميولوجية وسوسيولوجية‬
‫معا بطريقة مركبة‪ ،‬على مستوى التاريخ الطويل المدى لألفكار‪ .‬ومن‬
‫وتاريخية وجمالية وفكرية وفلسفية‪ ،‬تشتغل ً‬
‫شأن هذه المقاربات أن تتيح للمشروع إنزال النموذج من عليائه النظري التمامي الذي اكتسبه في الفهم والتداول‪،‬‬
‫ومحوًال ّإياه من التمركز إلى التعدد واالختالف‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ثم إعادة اإلنتاج في محددات مبسطة له إلى أرض التاريخ‪،‬‬
‫ومن ّ‬
‫ومن الوثوقية إلى النسبية‪.‬‬

‫وفي هذا يواصل بشارة على المستوى الفكري العربي الحديث عملية التفكر النقدي في المراحل التطورية األحدث‬
‫لهذا الفكر‪ ،‬في مسألة التمييزات بين العلمانية الصلبة والعلمانية الرخوة‪ ،‬وبين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة‪.‬‬
‫مقيما بعض التمايزات واللقاءات في آن واحد‪ ،‬وممي ًاز محاولته عن المحاوالت التي سبقته‬
‫فهو يفتح الحوار معها‪ً ،‬‬
‫في الغوص في المدى الطويل للعالقة بين التاريخ واألفكار‪ .‬أي يفهم العلمانية من حيث هي عملية وليس نظرية‬
‫معتقدية معيارية قارة في ضوء عملية الغوص تلك‪ ،‬بما يتيح له تفكيكها وتجاوزها‪ ،‬واقتراح أنموذج نظري بمعنى‬

‫باحث مشارك بالمركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،‬الدوحة‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪6‬‬
‫ويتضمن هذا النموذج التعميمات األساسية الناتجة عن‬
‫ّ‬ ‫النمذجة أو األمثلة في فهم علمنة السياسة والدولة‪.‬‬
‫عمليات االستقراء والتحليل التي قام بها المشروع للعالقة الطويلة المدى بين العلمانية والتاريخ‪ .‬وهذه التعميمات‬
‫ممتزجة مع فرضيات نظرية يتضمنها النموذج المقترح‪ ،‬قد تحتمل فهم تطورات أخرى في حاالت أخرى‪ .‬غير‬
‫أن محاولة المشروع بناء محددات هذا النموذج لم تكن ممكنة من دون فعاليته األساسية‬
‫أن بيت القصيد هنا‪ ،‬هو ّ‬
‫ّ‬
‫في علمنة نظرية العلمانية أو مفهومها‪.‬‬

‫معتقديا من أنواع األيديولوجيات الشمولية‪.‬‬


‫ً‬ ‫نوعا‬
‫تحضر العلمنة في صيغتها األيديولوجية‪ ،‬ولنقل المعتقدية‪ً ،‬‬
‫وي ّنزل بشارة نقده لهذا النوع في سياق نقد جذري لأليديولوجيات الشمولية‪ .‬ويربط بشارة بين هذه األيديولوجيات‬
‫المعتقدية الشمولية والحداثة والتنوير‪ .‬األيديولوجيا الشمولية هنا هي الوجه اآلخر لعملية العلمنة (ج ‪ ،2‬مج ‪،2‬‬
‫نوعا من الردة إلى عصور الظالم‪،‬‬
‫أن هذه األيديولوجيات "امتداد لفكر التنوير‪ ،‬وليست ً‬
‫ص ‪ .)355‬ويرى بشارة ّ‬
‫أن الحداثة جعلت العالم‬
‫وال هي بقايا عصور بربرية مفترضة" (ج ‪ ،2‬مج ‪ ،2‬ص ‪ .)355‬واألساس هنا هو ّ‬
‫حولت سيطرة اإلنسان على طبيعته إلى معتقد بديل‬ ‫لكن األيديولوجيا ّ‬
‫مرجعي الذات‪ ،‬ال يحيل ّإال على نفسه‪ّ ،‬‬
‫المقدسة‬
‫ّ‬ ‫من الدين‪ .‬يستثمر بشارة مقاربة فوجالن ‪ Voegelin‬للتمييز بين الديانات الروحية وال سيما منها‬
‫ؤرخو الدين‬
‫أن الباحث يغوص في تفكيك ما يسميه م ّ‬
‫وقيما دنيوية‪ .‬والحقيقة ّ‬
‫تقدس أشياء ً‬
‫والديانات الدنيوية التي ّ‬
‫بـ "األديان البديلة"‪ ،‬ليكشف الطبقات الثاوية فيها من رواسب األديان الروحية‪ ،‬وال سيما مفهوم الخالص في‬
‫الديانات الشمولية الدنيوية‪ ،‬بل وتغدو في منظوره األيديولوجيات الدينية الشمولية السياسية من نوع الديانات‬
‫البديلة‪ ،‬وان كانت الديانات الروحانية مصدر فكرها‪ .‬بالطبع مفهوم الخالص ركن أساسي في علمنة الديانات‬
‫لكن العقيدة الخالصية الدينية أو البديلة للدين ال تكفي‬
‫الروحية‪ ،‬وتحويل الخالص من السماء إلى األرض‪ّ ،‬‬
‫لقيام دين بديل‪ ،‬بل يجب أن تتوافر مركبات أخرى مثل العبادة والطقوس الجماعية وغيرها‪.‬‬

‫لقد سبق لناصيف نصار أن ناقش مسألة حدود النظر إلى األيديولوجيات أو االعتقاديات الحديثة على ّأنها‬
‫لكن بشارة ال يركن إلى هذا النفي‪ ،‬كما ال يركن إلى التسليم باالستخدام المرسل لمفهوم األديان‬
‫أديان بديلة‪ّ .‬‬
‫مفض ًال استخدام مفهوم بدائل من الديانات على مفهوم ديانات بديلة‪ .‬وهذه‬
‫ّ‬ ‫البديلة كما يطرحه مؤرخو الدين‪،‬‬
‫بالمقدس‪ ،‬عبر طقوس وشعائر جماعية في زمن العلمنة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫البدائل تشترك مع األديان‪ ،‬عبر إعادة إنتاج عالقة‬

‫‪7‬‬
‫المقدس أو التقديس شرط الدين (ج ‪ ،2‬مج ‪ ،2‬ص ‪ .)395-394‬غير‬
‫المقدس‪ ،‬وان كان ّ‬
‫لكن الدين ليس هو ّ‬
‫ّ‬
‫حيانا بوضوح في‬
‫أن التواشجات تبقى في خطاب بشارة قوية بين بدائل من الديانات واألديان البديلة‪ ،‬وتظهر أ ً‬
‫ّ‬
‫صورة ترادف بين بدائل من األديان وأديان بديلة‪ ،‬لكن بما يمكننا تسميته‪ ،‬وفق المضمون الداللي لألديان البديلة‬
‫طقوسا علمانية مقلوبة للطقوس‬
‫ً‬ ‫تطور‬
‫في النص‪ ،‬بأديان مقلوبة تسم الدولة الشمولية بصفة خاصة‪ .‬فهذه الدولة ّ‬
‫الدينية‪ ،‬من بدائل مقلوبة عن المعمودية والمناولة وغيرهما (ج ‪ ،2‬مج ‪ ،2‬ص ‪ ،)418-417‬لكن في مخاطبتها‬
‫بواسطة المصائر التاريخية‪ ،‬فشلت في التحول إلى دين بديل لجماهير واسعة‪ ،‬ليقتصر اإليمان في حالة العقيدة‬
‫العلمانية كأنها ديانة بديلة على من يصفهم بشارة بـ "المهاويس" (ج ‪ ،1‬ص ‪ .)301‬وفي تاريخ الثورات الكبرى‬
‫التي ساهمت في تغيير التاريخ العالمي‪ ،‬مرت الثورة الفرنسية بمرحلة عبادة العقل وتحويل الكنائس والكاتدرائيات‬
‫إلى معابد للعقل‪ ،‬واعداة إنتاج المضمون الديني الطقسي للمواكب االحتفالية بطقسية ذات مضمون معاد للدينية‪،‬‬
‫لكن هذا المضمون يرتد إلى الطبيعة نفسها التي ينفيها‪ ،‬وهي الطبيعة الدينية‪ .‬والواقع التاريخي يشير إلى اندراج‬
‫ّ‬
‫األمة أو العرق مكان اهلل‪،‬‬
‫ذلك في سياق انتشار عقيدة التقدم التاريخانية التي أحلّت اإلنسان أو الطبقة أو ّ‬
‫فجوهر الحداثة هنا هو جعل العالم ذاتي المرجع‪.‬‬

‫وهو في ذلك‪ ،‬يقارب مفهوم األديان الروحية على مستويات عدة أنثروبولوجية وسيميولوجية وظواهرية‪ ،‬محوًال‬
‫مفهوم الديني نفسه إلى مفهوم إشكالي‪ ،‬ليموقع المشتركات بينها من ناحية المقدس والطقسية السيميولوجية‬
‫الشعائرية‪ .‬فهو يميز مفهوم شبه األديان البديلة عن األديان البديلة‪ ،‬كما في محافل عبادة النجوم في الرياضة‬
‫واالستهالك واالحتفاالت الطقسية في الظواهر االجتماعية‪ .‬ويحدد العالقة بين هذه النشاطات االجتماعية التي‬
‫للمقدس‪ .‬والجوهري هنا هو‬
‫ّ‬ ‫تعبر عن روحها والطقوس الدينية بكونها حاالت إشباع‬
‫تعيد إنتاج الجماعة أو ّ‬
‫بالمقدس‪ .‬وهي قابلية قائمة في اإلنسان حتى بعد انحسار الدين والوعي الديني‪ .‬وهذا‬
‫ّ‬ ‫التمييز بين الدين والشعور‬
‫بالمقدس‪ .‬فانسحاب الدين بالتدريج من مجاالت‬
‫ّ‬ ‫هو شبه الدين البديل‪ ،‬فهناك التمييز بين الدين ومجرد الشعور‬
‫ألن مكان األخير هو النفس اإلنسانية (ج ‪ ،2‬مج ‪ ،2‬ص ‪.)409‬‬
‫المقدس‪ّ ،‬‬
‫المعرفة والممارسة ال يعني انسحاب ّ‬
‫وتحديدا في الشعرية الرؤيوية التي تتطلع لتملك العلم األسمى‬
‫ً‬ ‫عموما وفي الشعر‪،‬‬
‫ً‬ ‫وحتى الذين بحثوا في الفن‬
‫فإن تحررهم من الديني الروحي التقليدي أعيد إنتاجه في تجربة االقتراب‬
‫للعالم عن بديل من الدين في عالم‪ّ ،‬‬

‫‪8‬‬
‫من المطلق‪ ،‬وخلق" اهلل" خاص بالرؤيا الشعرية‪ ،‬تضطلع فيها كلمة الشاعر على مستوى الخلق الشعري بوظيفة‬
‫الكلمة اإللهية الخالقة‪ :‬في البدء كانت الكلمة‪.‬‬

‫تركيز على الوظيفة أكثر منه‬


‫ًا‬ ‫لنلحظ هنا في اإلشارة إلى احتمال قيام األيديولوجيا الدنيوية بدور العقيدة الدينية‪،‬‬
‫على الطبيعة في بلورة محددات الديانات الدنيوية البديلة‪ّ .‬إال أنه يشير‪ ،‬الحقًا في سياق تركيبة الفكرة ذاتها‪ ،‬إلى‬
‫غالبا ما‬
‫أن هذه الرؤية ً‬
‫أن نقد الميتافيزيقا أو تقويضها قد أنتج رؤى العالم العلمية بصفتها أيديولوجيات‪ .‬ويلحظ ّ‬
‫ّ‬
‫أيضا‪.‬‬
‫تترافق مع فلسفة التاريخ‪ ،‬ووعود خالصية للفرد أو للشعب أو للبشرية ً‬

‫ولعل إشارة المشروع إلى فلسفة التاريخ في مكانها‪ ،‬والتقاطع القائم هنا بينه وبين النظرية النقدية‪ ،‬إذ يمثّل النقد‬
‫مولدا لألفكار في المقاربة الفكرية لبشارة‪ .‬ويتخلل هذا النقد‬
‫محددا كما ً‬
‫ً‬ ‫بعدا‬
‫الجذري بمعنى المعرفي للتاريخانية ً‬
‫أفكار الكتاب وقضاياه ذات الصلة كلها‪ .‬فالتاريخانية ميتافيزيقا بالضرورة‪ ،‬سردية أو حكاية كبرى‪ ،‬من حيث‬
‫األمة أو الطبقة‬
‫تصورها للغائية التي تتحكم في سير التاريخ لتحقيقها‪ .‬وقد تكون قوانينها مركزة على العرق أو ّ‬
‫أو الدين أو القائد الكاريزمي‪ ..‬إلخ‪.‬‬

‫إن األيديولوجيات الشمولية‪ ،‬بلغة بشارة‪ ،‬تمتح معر ًفيا من هذه التاريخانية‪ .‬وبالنسبة إليه ال يكفي توافر العقيدة‬
‫ّ‬
‫بديال‪ ،‬بل ال بد لها من الطقسية‪ .‬ويعني بها "العبادة والطقوس‬
‫عد تلك األيديولوجيات ً‬
‫الخالصية البديلة حتى ت ّ‬
‫اجتماعيا في السلطة‪ ،‬كما أشار‬
‫ً‬ ‫سياسيا و‬
‫ً‬ ‫أن هذا ما يميز التاريخانيات حين تغدو‬
‫الجماعية وغيرها‪ ."..‬والحال ّ‬
‫أن صعود األيديولوجيات الشمولية إلى السلطة قد اتضح في ممارسات الدولة الشمولية‪.‬‬
‫بشارة نفسه‪ ،‬تحت صيغة ّ‬
‫بنيويا مع الطقسية في الديانات‬
‫ويمكن تحديد الباراديغم الذي يحكم هذه الممارسات بأنه باراديغم الطقسية المتماثل ً‬
‫الروحانية الطقسية‪ .‬ولعل أكثرها فقاعة بالنسبة إلى التواريخ المفصلية للعالقة بين التنوير والحداثة هو عبادة‬
‫العقل في الطور اليعقوبي للثورة الفرنسية‪ ،‬بابتكار طقسية للعبادة مقلوبة عن الطقسية الكاثوليكية‪.‬‬

‫ال تتم ممارسات األيديولوجيات الشمولية لنفسها‪ ،‬في صورة طقسية‪ ،‬من دون وسيط هو الحزب أو الجماعة أو‬
‫األخوية االعتقادية الخاصة المتالحمة ذاتيا حول معتقد تاريخاني‪ .‬فيترجم الحزب حين يغدو في السلطة الجانب‬
‫المعرفي ‪ -‬األيديولوجي في تلك األيديولوجيات إلى طقسيات وبرامج ومناهج وسياسات‪ .‬وفي عملية التلقي والفهم‬
‫كامال للحركات واألحزاب القومية والشيوعية واليسارية واألصولية‬
‫ً‬ ‫يخا‬
‫فإن تار ً‬
‫والتأويل واعادة إنتاج األفكار‪ّ ،‬‬

‫‪9‬‬
‫اإلسالمية هو جزء من تاريخ الجهاز الحزبي األخوي الوسيط للتاريخانية بين االعتقاد المعرفي والمجتمع‪ ،‬والذي‬
‫يتضح أكثر حين السيطرة على السلطة‪.‬‬

‫تفضي علمنة مفهوم أو اعتقاد العلمنة‪ ،‬عبر إنزال العلمانية من االعتقادية إلى التاريخ الطويل المدى المستمر‬
‫من حيث هو صيرورة‪ ،‬إلى تقويض نظرية العلمنة أو اعتقاديتها ألنها تسقط في" تعميمات‪ ،‬وال يلبث أن ينفي‬
‫عنها التفنيد المتكرر لهذه التعميمات صفة النظرية‪ .‬ومن هنا فإنها ليست نظرية بل "ميتانظرية" تتضمن مجموعة‬
‫مبادئ لكن ال يمكن "تطبيقها كنظرية شاملة" (ج ‪ ،2‬مج ‪ ،2‬ص ‪ ،)431‬ليقترح بشارة في حصيلة هذا المشروع‬
‫أنموذجا نظرًيا أو أمثلة في فهم علمنة السياسة والدولة‪ .‬واألمثلة ليست هي الواقع بل نموذجه في حالة‬
‫ً‬ ‫الفكري‬
‫يفضل بشارة وصفه بالنظرية‬
‫التجريد والتعميم المشتقة من عالقة التاريخ الطويل المدى مع األفكار‪ ،‬أو ما ّ‬
‫والتاريخ‪.‬‬

‫ال يدع بشارة مجا ًال للشك في أنه يصوغ محددات هذا النموذج في إطار نقده الجذري لنظرية العلمانية‪ ،‬من‬
‫حيث هي نموذج فكري اعتقادي‪ ،‬مع اعترافه لها بجوانب مهمة في فهم الصيرورة التاريخية في التمايز بين‬
‫المجاالت‪ .‬وينطلق نموذجه من مقولة التمايز بين المجاالت بصفتها قاعدة في المجتمع الحديث‪ ،‬لكنه ال يسلّم‬
‫بأن التمييز بين المجال الديني والمجال الدنيوي ٍ‬
‫كاف لفهم فعل الدينامية الناجمة عن تمايزهما في المجتمعات‪،‬‬ ‫ّ‬
‫التدين والفئات االجتماعية وأنواع الدولة ودرجة تطور المجتمعات (ج ‪ ،2‬مج‬
‫بل ال بد من التمييز بين أنماط ّ‬
‫‪ ،2‬ص ‪.)431‬‬

‫يبلور ما يمكننا استخالصه بثالث ديناميات‪ :‬األولى‪" ،‬التمايز بما هو تنافر والتجاذب بين ما هو متنافر"؛‬
‫المقدس إلى الدنيوي" في سياق‬
‫ّ‬ ‫والثانية‪" ،‬التمايز والفصل بما هما توتّرات وتوق إلى الوحدة"؛ والثالثة‪" ،‬عودة‬
‫الحيزين الخاص والعام‪ ،‬بتقديس المجال السياسي أو تسييس الدين‪ ،‬أو توحيد ما هو منفصل‪.‬‬
‫توتّر الفصل بين ّ‬
‫يدمج النموذج هذه الديناميات‪ ،‬وهكذا يمكن تحديده في ثالثة محددات هي ما يلي‪:‬‬

‫‪ ‬قيام العلمنة على عملية تمايز المجاالت المعرفية واالجتماعية عن الدين‪ ،‬من دون أن يعني ذلك اندثار‬
‫قدس؛‬
‫التدين‪ ،‬أو الم ّ‬
‫الدين و ّ‬

‫‪10‬‬
‫‪ ‬رسم حدود للدين‪ ،‬من حيث هو فكر وظاهرة اجتماعية مميزة بذاتها‪ ،‬ولكن ذات صيرورات محتملة‬
‫متعددة؛‬
‫وتحديدا السياسة والدولة‪ ،‬الستحضار‬
‫ً‬ ‫‪ ‬حدوث تفاعالت وصيرورات في المجاالت العامة المعلمنة‪،‬‬
‫قدس من جديد‪.‬‬
‫الم ّ‬

‫هذه هي المحددات األساسية لعملية بناء النموذج‪ ،‬ولكل منها عناصره وأشكاله المحتملة التي يحددها بشارة‪.‬‬

‫لكن ما يمكن استنتاجه منه وفق العالقة مع علمنة‬


‫لن نتمكن من مناقشة هذا النموذج في إطار هذه المداخلة‪ّ .‬‬
‫نظرية العلمانية هو تجاوز النموذج بمحدداته الثالثة على المستوى التركيبي الكلي‪ ،‬وفي كل محدد على حدة‬
‫المحددات األخرى‪ ،‬للنظرية أو األيديولوجيا العلمانية بصفتها‬
‫ّ‬ ‫اضا أو مؤقتًا عن بقية‬
‫فيما إذا جاز فصله افتر ً‬
‫قدس‬
‫نظرية شاملة في علمنة السياسة والدولة‪ .‬وفي هذه المحددات ال تصلح نظرية العلمانية لفهم العالقة بين الم ّ‬
‫للمقدس والدنيوي‪ ،‬بل تنافرات‬
‫خصوصا‪ .‬فالتمايز واالنفصال ال ينتج استقالليات ّ‬
‫ً‬ ‫بما فيه الديني والسياسة والدولة‬
‫المقدس جزء ال يتج أز من هذه الممارسة‪.‬‬
‫ألن تجربة ّ‬
‫وتجاذبات معقدة في الممارسة اإلنسانية‪ّ ،‬‬

‫المقدس‪ ،‬بتأويل مفهوم المعاد‬


‫ولقد يمكننا أن نوظف هنا في تلك المحددات كلها في أنموذج بشارة مفهوم معاد ّ‬
‫أن‬
‫‪ Retour‬الفرويدي‪ ،‬في التوق إلى الوحدة بين ما هو منفصل ومتمايز‪ ،‬لتشكيل وحدة جديدة‪ .‬وال شك في ّ‬
‫لكن أنموذج بشارة يتخطّى هذا‬
‫للمقدس‪ّ .‬‬
‫المقدس في صورة التقديس السياسي أو تسييس الدين هو معاد ّ‬
‫عودة ّ‬
‫بأن "كل وحدة بعد االنفصال في الفكر كانت أم في الممارسة‪ ،‬ليست عودة إلى األصل الذي‬
‫الحد إلى القول ّ‬
‫المقدس باسم األصول‪.‬‬
‫كان قبل االنفصال" (ج ‪ ،2‬مج ‪ ،)428 ،2‬وان أخذت صورة "استحضار" ّ‬

‫أن األنموذج الذي يقترحه بشارة في فهم علمنة السياسة والدولة أقرب إلى أنموذج نظري في فهم معاد‬
‫ويبدو لنا ّ‬
‫المقدس‪ ،‬وتغير أنماط التدين داخل عملية العلمنة بما هي صيرورة تاريخية رافقت المجتمعات البشرية منذ‬
‫ّ‬
‫نشأتها‪ ،‬وان لم تتضح ّإال مع األزمنة الحديثة وصوًال إلى أزمنتنا هذه التي يطلق عليها بقوة ما بعد الحديثة‪ ،‬منه‬
‫إلى أنموذج لفهم علمنة السياسة والدولة‪ .‬وان كان قد استحال على بشارة وضع محددات هذا األنموذج من دون‬
‫فهم وتحليل للتاريخ الطويل والمتنوع والمتعدد لعملية العلمنة وتمييزها عن أيديولوجيا العلمانية‪ ،‬أو علمنتها‬
‫بالفصل بين اعتقاديتها وما هو متعلق بالصيرورة التاريخية منها‪ ،‬ونسف أساسها التاريخاني في إطار محاولة‬

‫‪11‬‬
‫القطع المعرفي مع التاريخانية‪ ،‬ولجوئه إلى التاريخ الطويل المدى لتقويض المزاعم التاريخانية الميتافيزيقية تلك‪،‬‬
‫المؤرخ مزاعم ال أكثر‪ ،‬إذ كما يشير جاك لوغوف فيها قليل من التاريخ‪.‬‬
‫والتي هي من منظور ّ‬

‫المقدس‬
‫أن العنوان المفتاحي ألنموذج بشارة يمكن أن يكون تحت صيغة‪ :‬أنموذج نظري في فهم معاد ّ‬
‫ويبدو لنا ّ‬
‫وأنماط التدين في عملية العلمنة‪ ،‬بدالً من "أنموذج نظري في فهم علمنة السياسة والدولة"‪ .‬إذ يكتسب هذا‬
‫المقدس والدين وأنماط الدين في عملية العلمنة‪ ،‬مع فهم‬
‫نعده بقوة أنثروبولوجيا ّ‬
‫األنموذج خصائص ما يمكن أن ّ‬
‫األنثروبولوجيا هنا في إطار تداخلها الوثيق مع العلوم المجاورة‪ .‬وهو ما يمكن فهم كل اختصاص في العلوم‬
‫اإلنسانية واالجتماعية على هذا األساس‪ .‬بل ويكتسب التاريخ الطويل للعالقة بين الدين والعلمانية أهمية‬
‫أنثروبولوجية في البحث األنثروبولوجي العربي من الناحية النظرية‪ ،‬وذلك من حيث اعتناء بشارة بالتدين الشعبي‬
‫العميق والمديد‪ ،‬وممارسة الناس دينهم وفق فهمهم ّإياه‪ ،‬وليس وفق طقوس الشريعة ووكالئها‪.‬‬

‫التدين الشعبي في التاريخ المسيحي‪ ،‬بينما أهمل‬


‫لكن ما يؤخذ على بشارة هو هذا االعتناء الحرفي المعمق بهذا ّ‬
‫ّ‬
‫خصبا له وربما في بعض اللحظات أكثر إثارة وداللة في االجتماع الديني الجماعاتي اإلسالمي‪ ،‬وال‬
‫ً‬ ‫يخا‬
‫تار ً‬
‫سيما في األناضول وشمالي بالد الشام‪.‬‬

‫كبير من االتجاهات ما بعد الحداثية‪ ،‬وان كانت بعض أشكال التدين‬


‫حذر ًا‬
‫لكن من جانب آخر يبدي بشارة ًا‬
‫أثير لهذه االتجاهات‪ ،‬بل وان كان يلتقي معها في نقض التاريخانية‬
‫موضوعا ًا‬
‫ً‬ ‫المقدس وأنماطه الجديدة‬
‫ومعادات ّ‬
‫أن مشروع بشارة وأنموذجه‬
‫عبر نقض "السرديات الكبرى" والتي دفعتها النظرية النقدية من قبل‪ .‬ومفاد ذلك ّ‬
‫جدا القابل وفق تقديري للتوسع‪ ،‬والذي اقترحه في خاتمة مشروعه الكبير‪ ،‬يبقى جوهرًيا في إطار نقد‬
‫المكثف ً‬
‫الحداثة‪ .‬وهو يالمس المشترك بين نقد الحداثة واتجاهات ما بعدها في نقض التاريخانية على المستويات المعرفية‬
‫واألداتية والنظمية‪.‬‬

‫أن عمل بشارة يندرج جوهرًيا في إطار‬


‫مدرسيا‪ ،‬وهو ّ‬
‫ً‬ ‫وبهذا أنهي ‪ -‬معذرة خالفًا للعادة ‪ -‬من حيث يجب أن أبدأ‬
‫تخصيصا‪ .‬ولما أسميه مؤشرات‬
‫ً‬ ‫ما يمكن تسميته بنقد الحداثة في المجال الفكري العربي‪ ،‬ونقد الحداثة العربية‬
‫يمكن أن تكون قياسية‪ ،‬وأتج أر على وصفها باتجاهات الربع األخير من القرن العشرين على وجه التحديد‪ .‬وهذا‬
‫أن نقد الحداثة متقاطع مع نقد ما بعد الحداثة وال‬
‫ما يمكن أن نطلق عليه من دون مجازفة اسم اتجاه‪ ،‬غير ّ‬

‫‪12‬‬
‫سيما في المجال المعرفي‪ .‬وفي هذا يتموضع بشارة في مرحلة من" شفا" بينهما‪ .‬فهو‪ ،‬بنقده الجذري أليديولوجيا‬
‫العلمنة وتفكيكه لها ونزع السحر االعتقادي والتمامي عنها‪ ،‬ينقض أيديولوجيا الحداثة جذرًيا واقفًا عند تلك‬
‫حتميا من نقد الحداثة إلى ما بعدها‪ ،‬وفي هذا ما يكفي للفهم‪.‬‬
‫"الشفا"‪ .‬لكن ليس المرور ً‬

‫وفي النهاية‪ ،‬أسمح لنفسي بالقول إننا أمام متن رفيع وضخم حقيقة من متون الثقافة العربية الحديثة‪ ،‬ومن متونها‬
‫الفكرية التكوينية الحقيقية‪ ،‬ويضع أمامنا تحديات مباشرة لمناقشته‪ ،‬ولع ّل من أبرز أسئلة هذا المتن هي دعوتنا‬
‫إلى قراءة بشارة ونقده من جديد‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫حدود العلامنية‪ :‬مالحظات عىل كتاب عزمي بشارة‬
‫"الدين والعلامنية يف سياق تاريخي"‬

‫*‬
‫فتحي المسكيني‬

‫ولية‬
‫تنبيهات أ ّ‬

‫لغة الكتابة وأسلوب التحرير‬

‫طريقة عرض مواد الكتاب‬

‫الخيط اإلشكايل‬

‫أطروحات وأسئلة‬

‫يف حدود العلامنية‬

‫تأويلية دينية سالبة‬

‫أستاذ التعليم العالي في الفلسفة المعاصرة في جامعة تونس‪ ،‬متخصص في فلسفة مارتن هايدغر‪.‬‬ ‫*‬

‫‪14‬‬
‫تنبيهات ّأولية‬

‫ع لينا اإلقرار بما يحتوي عليه هذا العمل الضخم من طموح نسقي استثنائي في وقتنا؛ وليس فقط في الحجم ‪-‬‬
‫أيضا في شساعة الميدان المبحوث ‪ -‬من القرون الوسطى إلى‬
‫أن األمر يتعلق بقراءة ثالثة مجلدات ‪ -‬بل ً‬
‫إذ ّ‬
‫ما بعد الحداثة ‪ -‬وخاصة في طبيعة اإلشكالية المعالجة‪ :‬استعراض تاريخ الدين والعلمانية ونظريات العلمنة من‬
‫أجل بلورة أنموذج نظري جديد "في فهم علمنة السياسة والدولة" (ج ‪ ،2‬مج ‪ ،2‬ص ‪.)409‬‬

‫كذلك تجب اإلشارة إلى طريقة كتابة هذا المؤلّف الكبير‪ ،‬فهو يجمع بين البحث المفهومي والتحليل التاريخي‬
‫عدة‪ :‬دينية‪ ،‬وأنثروبولوجية‪ ،‬وفلسفية‪ ،‬وسوسيولوجية‬
‫مدونات ّ‬‫والتركيب النظري‪ .‬وهو ما فرض مراوحة مريرة بين ّ‬
‫ثم دينية‪ ،‬وسياسية‪ ،‬وابستيمولوجية‪ ،‬وفلسفية‪ ،‬وقانونية في مجلّدي الجزء الثاني‪ .‬وك ّل ذلك "في‬
‫األول؛ ّ‬
‫في الجزء ّ‬
‫يؤمن وحدة الموضوع‬
‫سياق تاريخي"‪ .‬وعلينا أن نمنح هذه العبارة المنهجية ك ّل نفوذها اإلجرائي‪ ،‬فهي وحدها ما ّ‬
‫الحس اإلشكالي ووجهة التفسير‪.‬‬
‫و ّ‬

‫لغة الكتابة وأسلوب التحرير‬

‫لكنه ال ينزلق في ركاكة التوصيف القانوني‬


‫نحن أمام اصطالح مرن ودقيق‪ ،‬يبتعد عن رطانة النقد األيديولوجي ّ‬
‫اميا يسعى في كل مرة إلى الجمع اللطيف بين اإليحاء البيداغوجي‬
‫للبنود والتوصيات‪ .‬إذ نق أر نصا نسقيا متر ً‬
‫يوسع دائرة المخاطبين والبناء النظري للمسائل بصفتها شبه وقائع تاريخية أنتجتها بنى معرفية‬
‫لألفكار حتى ّ‬
‫ومؤسساتية يمكن التحقق منها بصفة تحليلية‪.‬‬

‫طريقة عرض مواد الكتاب‬

‫ألهم مراحل البحث وأبرز قضاياه وأكبر نتائجه وأخطر رهاناته‪.‬‬


‫جامعا ّ‬
‫ً‬ ‫تلخيصا‬
‫ً‬ ‫نصادف منذ البداية وفي كل مرة‬
‫القراء‬
‫وعلى الرغم من تنبيه المؤلّف إلى ضرورة عدم اكتفاء القارئ الحصيف بالملخصات‪ ،‬ف ّإنه ال أحد من ّ‬
‫سوف يمنع نفسه من االستضاءة بها ولو في ّأول األمر فحسب‪ .‬وعلينا التنويه بهذا الحرص المنهجي على‬

‫‪15‬‬
‫أسا إلى العبرة‬
‫يتبصر في فهمه ويذهب ر ً‬
‫ّ‬ ‫ومد يد العون له حتى‬
‫توجيه القارئ وتيسير مدخله إلى غياهب النص ّ‬
‫النظرية في كل مرحلة من مراحل اإلنجاز‪.‬‬

‫مشكال خاصا وخصوصا بالنسبة إلى متفلسف‪ .‬فالمؤلف ال يخاطب الفالسفة‬


‫ً‬ ‫أهلية مناقشة هذا الكتاب تثير‬
‫ولكن ّ‬
‫ّ‬
‫أو هكذا يبدو‪ .‬وال يتّبع طرائقهم في الكتابة وال ينخرط في تقاليد االستشكال التي يرضونها‪ .‬وليس له رهاناتهم‪.‬‬
‫وهذا األمر يدفع على الحرج‪ ،‬وهو حرج فلسفي نحاول هنا أن ننطلق منه‪.‬‬

‫في مقابل ذلك نحن نلمس ضرًبا مرب ًكا من التواضع اإلبستيمولوجي طوال منعرجات الكتاب‪ّ ،‬إنه ال يريد أن‬
‫بأي بطولة فلسفية‪ .‬وهو ال يعمل تحت مالمح الفيلسوف ‪ /‬البطل‪ .‬بل يحرص على أن يكون‬
‫يوحي إلى قارئه ّ‬
‫منتجا لنماذج تفسير يمكن التعويل عليها‪.‬‬
‫باحثًا منظًّار أي ً‬

‫الخيط اإلشكالي‬

‫أن حضور الدين سواء في العنوان‬


‫ما جلب انتباهنا عند قراءة هذا المؤلّف هو العلمانية وليس الدين‪ .‬ويبدو لنا ّ‬
‫أو في ثنايا الكتاب بمجلداته الثالثة هو حضور إجرائي فقط‪ .‬هو محاور غائب‪ .‬إذ ال نعثر فيه ال على نقد‬
‫للدين وال على أبولوجيا دينية‪ .‬ال فويرباخ هنا وال كيركغارد‪ .‬بل شيء آخر‪.‬‬

‫لكن هو هذا ما قصدناه‪ .‬إذ ما معنى أن ننقد‬


‫طبعا هناك الفصل الثالث من الجزء األول‪" :‬في نقد نقد الدين"‪ّ .‬‬
‫سماه‬
‫من ينقد الدين من الفالسفة من حجم كانط وهيغل وماركس وحتى فيبر؟ يعني أن نضع الدين تحت ما ّ‬
‫هوسرل "إبوخيا"‪ ،‬أن نعلق الحكم في شأنه‪ ،‬أن نضعه خارج المدار؛ وال نعتمد على صالحيته‪.‬‬

‫أي فلسفة أو نظرية في الدين‪،‬‬


‫يؤسسان ّ‬
‫أن الفصلين األول والثاني السابقين ال ّ‬
‫فإن القارئ يكون قد الحظ ّ‬
‫وهكذا ّ‬
‫المقدس؛ وثانيهما بيان ّأنه "ال دين من‬
‫ّ‬ ‫بل فقط رسم مسطّح إذ يمكن تحقيق أمرين‪ .‬أولهما تمييز الديني عن‬
‫التحرك‬
‫ّ‬ ‫تدين"‪ .‬وهكذا خرج الدين بالمعنى (العقدي) الدقيق من أفق اإلشكالية المطروحة وصار من الممكن‬
‫دون ّ‬
‫أمنه الفصل الخامس تحت عنوان إجرائي شديد األهمية‪ ،‬أال وهو "االنتقال‬
‫بحرية تفكير أوسع نطاقًا‪ .‬وهو ما ّ‬
‫ّ‬
‫التدين إلى مبحث العلمانية"‪.‬‬
‫من مبحث الدين و ّ‬

‫‪16‬‬
‫أي خطاب فكري أو مف ّكر حول الدين اليوم‪ .‬لن يتعلق‬
‫يخص ّ‬
‫ّ‬ ‫إن هذا هو ّأول طمأنة حاسمة فيما‬‫يمكننا القول ّ‬
‫األمر منذ اآلن بنقد الدين بما هو كذلك‪ .‬بل بظاهرة االنتقال من مبحث الدين إلى مبحث العلمانية‪ .‬والبحث في‬
‫طبيعة هذا االنتقال تاريخيا هو أحد أغراض الكتاب األكثر متانة نظرية‪.‬‬

‫إن المؤلّف قد بسط أطروحة‬


‫مشكال علينا توضيحه‪ّ .‬‬
‫ً‬ ‫طبعا هذا يطرح‬
‫تغير بال رجعة‪ً .‬‬
‫أن أفق الفهم قد ّ‬
‫القصد هو ّ‬
‫التدين في عصرنا من دون فهم العلمانية والعلمنة" (ج ‪ ،1‬ص ‪ .)405‬ولكن هل‬
‫صريحة تقول‪" :‬عن عدم فهم ّ‬
‫التدين في عصرنا"‬
‫أن "فهم ّ‬
‫هذا هو رهان الفهم الذي سيشتغل عليه المؤلف في الجزء الثاني بمجلديه؟ ال يبدو ّ‬
‫إن المؤلّف سوف ينتهي إلى القبول بصوغ األطروحة المعاكسة‪:‬‬
‫هو المشكل الهرمينوطيقي المطلوب لذاته‪ .‬بل ّ‬
‫بأن "مفردة العلمانية" نفسها قد‬
‫التدين مذ ّك ًار ّ‬
‫ّأنه ال يمكن فهم العلمانية والعلمنة من دون فهم تاريخ الدين وأنماط ّ‬
‫أن "سياقات العلمنة األولى هي سياقات إطار ديني ولغة دينية" (ج‬
‫مصطلحا دينيا" (ج ‪ ،1‬ص ‪ ،)444‬و ّ‬
‫ً‬ ‫"بدأت‬
‫‪ ،1‬ص ‪.)447‬‬

‫أن الكتاب في جملته يراوح بين خيط إشكالي صريح‪ ،‬وهو "نقد العلمانية" من أجل بلورة "أنموج نظري‬
‫يبدو لنا ّ‬
‫مما يمكن أن‬
‫عن العلمنة" بعامة‪ ،‬وخيط إشكالي غير مباشر ضمني أو مسكوت عنه‪ ،‬وهو توفير جملة مرّكزة ّ‬
‫التدين ومشروعيته المعيارية في أفق المؤمن المعاصر سواء‬
‫فية حول منزلة ّ‬
‫نسميه "تطمينات إبستيمية" أو معر ّ‬
‫ّ‬
‫لكن خطة الكتاب ال تعمل بصفة صريحة ونسقية إالّ على الخيط اإلشكالي األول أي خيط‬
‫فردا أم دولة‪ّ .‬‬
‫أكان ً‬
‫أن هذا هو الرهان "الفلسفي"‬
‫أما الخيط اآلخر فهو يعمل بكل قوة ولكن بصفة ضمنية‪ .‬ويبدو لنا ّ‬
‫العلمانية‪ّ .‬‬
‫التدين المعاصر‪ ،‬يحفظ لها أصالتها‬
‫تفسير نظريا أو معرفيا إلمكانية ّ‬
‫ًا‬ ‫للكتاب‪ .‬والسؤال الصامت هو كيف نوفّر‬
‫األخالقية بواسطة بحث تاريخي "علمي"‪ ،‬ينجح في بلورة أنموذج مرن ومالئم عن العلمنة في المجتمع الحديث‬
‫بعامة‪ ،‬والمجتمعات العربية بخاصة؟‬

‫أطروحات وأسئلة‬

‫ردا في صوغ الفكرة الرئيسة للكتاب من مجلد إلى آخر‪ ،‬أي من حيث النشر‪ ،‬ما بين‬
‫نحن نالمس تلطّفًا مطّ ً‬
‫كانون الثاني ‪ /‬يناير ‪ ،2013‬وكانون الثاني ‪ /‬يناير ‪.2015‬‬

‫‪17‬‬
‫أشرنا منذ قليل إلى قلق مفهوم الدين في الكتاب هو الحاضر الغائب‪ .‬هو الحاضر في عناوين الفصول (‪ 4‬من‬
‫مجموع ‪ 5‬في المجلد األول؛ و‪ 6‬من مجموع ‪ 12‬في المجلد الثاني؛ و‪ 1‬من مجموع ‪ 6‬في المجلد الثالث)‪ ،‬ذلك‬
‫لكن هذا الحضور‬
‫فصال مخصصة لدراسة العلمانية‪ّ .‬‬
‫أن نصيب الدين من جملة الفصول هو ‪ 11‬في مقابل ‪ً 12‬‬
‫ّ‬
‫إن الدين ال يحضر إالّ بقدر‬
‫أساسا ببناء نموذج نظري حول العلمنة‪ّ .‬‬
‫ً‬ ‫ال يعكس أطروحة الكتاب‪ ،‬فهي متعلقة‬
‫ما يخدم هذه األطروحة‪.‬‬

‫موما؛ فهذا‬
‫كتابا نظريا في الدين ع ً‬
‫المهم أن نذ ّكر هنا بهذا القول للمؤلّف‪" :‬لم يكتب هذا البحث ليكون ً‬
‫ّ‬ ‫ومن‬
‫ثم كيف نفهم إ ًذا‪ ،‬حضور‬
‫ممكنا برأيي" (ج ‪ ،1‬ص ‪ .)8‬وعلينا أن نسأل لماذا؟ ّ‬
‫ً‬ ‫مثمر أو حتى‬
‫جهد ما عاد ًا‬
‫مفهوم الدين في عنوان الكتاب وفي كثير من فصوله؟‬

‫األول‪ .‬ويمكن قراءة الفصول األربعة األولى من المجلد األول‪ ،‬بصفتها‬


‫طبعا هناك مكاسب بحثية منذ المجلد ّ‬
‫ً‬
‫معين يفترض المؤلّف ّأنه‬
‫في جوهرها تطمينات معرفية أو معالجات صامتة لمشكالت عميقة مقصودة لقارئ ّ‬
‫هوية القارئ أو المخاطب في هذا الكتاب‪.‬‬
‫يعينه‪ .‬وهناك مشكل كبير حول ّ‬
‫يخاطبه‪ ،‬وان كان ال ّ‬

‫أن "ممارسات كثير‬


‫المقدس (ج ‪ ،1‬ص ‪)20‬؛ ّ‬
‫أن الدين ظاهرة اجتماعية ال يمكن اختزالها في الشعور ب ّ‬
‫مثال‪ّ :‬‬
‫ً‬
‫كثير من الديانات هي في‬
‫أن ًا‬‫ثم ّ‬
‫من الديانات وطقوسها" تحتوي على "فنون الرسم والموسيقي والتمثيل"‪ ...‬ومن ّ‬
‫المقدس" ليست هي "علمنة المجتمع أو الفكر أو الدولة"‬
‫أن "علمنة ّ‬ ‫تصالح أصلي مع الفنون (ج‪ ،1‬ص ‪)25‬؛ ّ‬
‫(ج ‪ ،1‬ص ‪)27‬؛ ّأنه "تبقى هناك مجاالت علمانية أو معلمنة كثيرة تزدهر فيها تجربة المقدس" (نفسه)‪ ...‬و ّأنه‬
‫"من الصعب االستخفاف بشأن الدين في حياة البشر مؤمنين كانوا أم غير مؤمنين" (ج ‪ ،1‬ص ‪ .)28‬و ّأنه‬
‫يميز الدين" (ج ‪ ،1‬ص ‪ .)30‬و ّأنه ليس هناك "عالقة بين التفلسف في إثبات وجود‬
‫"ليس اإليمان [هو] الذي ّ‬
‫أن "انشغال الدين والفلسفة بالمسائل نفسها يوصل‬
‫التدين من جهة أخرى" (ج ‪ ،1‬ص ‪ .)31‬و ّ‬
‫اهلل ‪ ...‬من جهة‪ ،‬و ّ‬
‫اجا دينيا" (ج ‪،1‬‬
‫الفلسفة ببداياتها" (ج ‪ ،1‬ص ‪ .)32‬و ّأنه "من الجائز تسمية الميل إلى رؤية العالم كك ّل‪...‬مز ً‬
‫أن "الدين ال يتناقض مع العلم‬
‫مكونات العقيدة" (ج ‪ ،1‬ص ‪ .)57‬و ّ‬
‫مكون من ّ‬‫أن "األسطورة الدينية ّ‬
‫ص ‪ .)33‬و ّ‬
‫أن "الجمل اإليمانية ال تدحض بالعلم"‬
‫بقدر ما يتخلص من عناصر السحر القائمة فيه" (ج ‪ ،1‬ص ‪ .)102‬و ّ‬
‫أن "انتشار العلم ال يعني الحق بالتعامل مع العقيدة اإليمانية ذاتها على أنها خرافة أو‬
‫(ج ‪ ،1‬ص ‪ .)189‬و ّ‬

‫‪18‬‬
‫تدين من دون إيمان ولكن ال دين من دون‬
‫نظرية خاطئة يمكن دحضها" (ج ‪ ،1‬ص ‪ .)204-203‬و ّأنه "يوجد ّ‬
‫أفكار مغلوطة شائعة‪ ،‬واإللحاد ليس نظرية علمية" (ج‬
‫أن "الدين ليس خرافات أو ًا‬
‫تدين" (ج ‪ ،1‬ص ‪ .)223‬و ّ‬
‫ّ‬
‫‪ ،1‬ص ‪ ... )245‬إلخ‪.‬‬

‫مثال‪:‬‬
‫طبعا علينا أن نطرح بعض التساؤالت هنا‪ً ،‬‬
‫ً‬

‫المقدس‪ ،‬إذا كان المقصود هو الرجوع باالستشكال‬


‫األول لمسألة ّ‬
‫ما جدوى تخصيص الفصل األول من المجلد ّ‬
‫إلى البحث في ماهية الدين؟ ما الفائدة من معاكسة حركة التفكير األوروبي في الخروج من نطاق الدين إلى‬
‫أفق المقدس؟ هل األمر يتعلق برغبة في تبيئة النقاش أم هو موقف فلسفي واع بذاته؟ ما الحاجة الفلسفية اليوم‬
‫التدين بما هو كذلك؟‬
‫إلى تمييز الدين عن المقدس والعودة بنا إلى مساءلة ّ‬

‫تطور خطير في التفكير الحديث من نطاق "فلسفة الدين" في نهاية القرن الثامن عشر‬ ‫ثمة ّ‬‫في واقع األمر‪ّ ،‬‬
‫وبداية القرن التاسع عشر (من كانط إلى شاليرماخر وهيغل وشلنغ‪ ،‬والتي انتهت إلى نقد ملحد للدين من فويرباخ‬
‫"المقدس" طوال القرن العشرين (قبل ظهور ثيمة "عودة الديني")‪ .‬ما‬
‫ّ‬ ‫إلى نيتشه) إلى اكتشاف وبلورة لمسألة‬
‫التقيد بهذا النوع من االنتقال الفلسفي (الغربي) من مسائل البحث في ماهية الدين‬
‫نالحظه لدى المؤلّف هو عدم ّ‬
‫للتدين وللتجربة الدينية في‬
‫المقدس بعامة‪ ،‬بل والعمل المقصود على إقامة مناقشة داخلية ّ‬
‫إلى السؤال عن معنى ّ‬
‫أهمية الدين في ثقافتنا الراهنة هي التي جعلت المؤلف يناقش‬
‫أن ّ‬‫صلة وثيقة مع "مشاعر المقدس"‪ .‬يبدو لي ّ‬
‫تطورها التاريخي في الفكر المعاصر‪ .‬وفي‬ ‫المقدس الحديثة من دون االنضواء تحت منطق ّ‬ ‫مسائل الدين و ّ‬
‫فإن من واصل البحث في داللة الدين بعد انهيار فلسفة الدين األلمانية هو قد نقله من أفق فلسفة الدين‬
‫الحقيقة ّ‬
‫إلى نطاق علم اجتماع الدين (ديركهايم‪ ،‬وفيبر)‪ .‬ولكن ماذا بقي عندئذ من السؤال عن مفهوم "الدين" في داللته‬
‫قدس؟ ‪ -‬ربما‬
‫ثم ما هي طرافة البحوث األنثروبولوجية واألدبية والوجودية المعاصرة في إشكالية الم ّ‬
‫الالهوتية؟ ّ‬
‫ال فرق عندئذ‪ ،‬من حيث الصالحية اإلبستيمولوجية‪ ،‬بين معاملة مسائل الدين من حيث هي أشياء اجتماعية‬
‫والبحث األنثروبولوجي في معاني المقدس‪ ،‬إالّ على مستوى طبيعة المنهج‪ .‬وجه الصعوبة إ ًذا‪ ،‬هو الجمع بين‬
‫المقدس في نطاق استشكال واحد‪ :‬الديني مشكل الهوتي من نوع إبراهيمي؛ والمقدس سؤال‬
‫الديني و ّ‬
‫أنثروبولوجي ‪ /‬فينومينولوجي من نوع وثني جديد‪ ،‬يجد نبرته الخاصة في تنشيط نيتشه وهيدغر خاصة للنموذج‬

‫‪19‬‬
‫األول‬
‫المكونة للفصل ّ‬
‫ّ‬ ‫اليوناني (المتعدد أو الشركي) للعنصر "اإللهي"‪ .‬والمتصفّح لعناوين العناصر األربعة‬
‫ثانيا ‪ -‬األسطورة والمعنى بالحكاية؛ ثالثًا ‪ -‬عن السحر والدين؛ رابعا‪ -‬الدين‬
‫(أوًال‪ -‬عن التجربة الدينية؛ ً‬
‫ّ‬
‫حاضر في عنوان الفصل األول‪َّ " :‬‬
‫المقدس‬ ‫ًا‬ ‫واألخالق) يضطر إلى التساؤل‪ :‬أين ذهب "المقدس" عندئذ؟ وقد كان‬
‫واألسطورة والدين واألخالق"‪ .‬وال يخلو هذا العنوان من ترتيب تاريخي واضح‪.‬‬

‫المقدس في تفسير الشعور الديني ال يخلو من صعوبة خطيرة‪ .‬والتعويل الواسع على‬
‫أن إدخال عنصر ّ‬
‫يبدو لنا ّ‬
‫أن "وكالء الدين‬
‫أعمال مارسيا إلياد مثير للمشكالت (ج ‪ ،1‬ص ‪ 52‬وما بعدها)‪ .‬صحيح‪ ،‬كما يقول المؤلف‪ّ ،‬‬
‫مبرًار كي‬
‫لكن هذا ليس ّ‬
‫عموما" يجهدون "إلبقاء تجربة المقدس الشخصية في المجال الديني" (ج ‪ ،1‬ص ‪)26‬؛ ّ‬
‫ً‬
‫التدين" (ج‬
‫أن "الشعور الديني هو حالة الشعور القصوى‪ ،‬وليس بالضرورة في الدين أو عبر ّ‬
‫ينتهي التحليل إلى ّ‬
‫المقدس‪ ،‬والحال ّأنهما يطرحان في الفكر‬
‫المتعمد بين الديني و ّ‬
‫َّ‬ ‫‪ ،1‬ص ‪ .)27‬ما هو مزعج هنا هو اإلدغام‬
‫المعاصر مشكلين متباينين‪.‬‬

‫بدال من االستفادة المباشرة من‬


‫المقدس عابر للمجاالت‪ ،‬للدين ولغير الدين‪ .‬ولكن ً‬
‫أن ّ‬ ‫إن المؤلف على ّبينة من ّ‬
‫ّ‬
‫المقدس هو يعمد ‪ -‬وهذا ربما كان من مالمح االبتكار هنا ‪ -‬إلى‬
‫"الفصل" المنهجي المعاصر بين الديني و ّ‬
‫دوما من زاوية الدين بصفته‬
‫المقدس في األفق المعاصر‪ ،‬ويحرص على التحديق ً‬
‫اإلعراض عن متابعة مغامرة ّ‬
‫جيدة‪.‬‬
‫صحة ّ‬
‫نموذجا تفسيرًيا ال يزال في ّ‬
‫ً‬

‫توسع مجال المقدس‬


‫يقدم صيغة السؤال المعروفة في الغرب‪" :‬هل انحسار مجال المقدس الغيبي لمصلحة ّ‬
‫هو ّ‬
‫قوية‪ ،‬ولكن خاطفة‪،‬‬
‫مشير بحركة ّ‬
‫ًا‬ ‫لكنه سرعان ما يعرض عنها‬
‫الدنيوي هو عملية العلمنة؟" (ج ‪ ،1‬ص ‪)27‬؛ ّ‬
‫أن "علمنة المقدس" ال تعني "علمنة المجتمع أو الفكر أو الدولة" (نفسه)‪ ،‬كما يتبادر إلى ذهن األوروبي‬
‫إلى ّ‬
‫المعاصر‪.‬‬

‫نصه‪ ،‬كما‬
‫فإن ّ‬
‫أن خوض المؤلّف جملة كبيرة من المناقشات السالبة مع الفلسفة بما هي كذلك‪ّ ،‬‬
‫وعلى الرغم من ّ‬
‫مهمة‪ ،‬وا ْن كان يبحث لها عن صيغ خارج‬
‫فلسفية ّ‬
‫ّ‬ ‫األول‪ ،‬ال يخلو من خطرات‬‫في الفصل األول من المجلد ّ‬
‫أن الحياة اليومية تش ّكل إجابة كافية عنه" (ج ‪ ،1‬ص‬
‫مثال‪" :‬الوجود أمر رائع‪ ،‬وال يبدو ّ‬
‫أسلوب الفالسفة‪ .‬يقول ً‬
‫أن المؤلف يعمد في‬
‫لكن الالفت هنا هو ّ‬
‫ثم للفلسفة كما للدين‪ّ .‬‬
‫يشرع لتجارب المعنى‪ ،‬ومن ّ‬
‫طبعا هذا ّ‬
‫‪ً .)34‬‬

‫‪20‬‬
‫التحدي ما بعد الميتافيزيقي لعمود التفلسف التقليدي أي العقل المحض أو‬
‫ّ‬ ‫بعض ردهات التحليل إلى نوع من‬
‫أن "العقلنة تواجه تحديات أكبر مما تواجهه‬
‫مثال‪ ،‬إلى ّ‬
‫يتردد في التنبيه الحاد‪ً ،‬‬
‫النزعة العقالنية بعامة‪ .‬فهو ال ّ‬
‫إما "تحليلية خالية من البعد الديني" أو هي‬
‫بأنها ّ‬
‫العلمنة" (ج ‪ ،1‬ص ‪)27‬؛ أو هو يحكم صراحة على الفلسفة ّ‬
‫"كونية‪ ...‬تخرج من اإلنسان نحو الخارج لكنها قد تقع في العدمية‪ ،‬أي قد ال تجد معنى خارج حياة اإلنسان"‬
‫وتحولها‬
‫ّ‬ ‫يتم تجميع داللة الفلسفة الكلّية بهذه الطريقة التي تفقّرها‬
‫(ج ‪ ،1‬ص ‪ .)34‬وعلينا أن نتساءل‪ :‬لماذا ّ‬
‫إلى جهد عقلي مهذار خارج أفق "التحليل العقالني" الذي غرضه "ليس إهمال هذه االنفعاالت باعتبارها غير‬
‫إن‬
‫عقالنية‪ ،‬بل محاولة فهم معناها‪("...‬ج ‪ ،1‬ص ‪ .)28‬وفي المقابل ال يتردد المؤلف في مسايرة من يقول ّ‬
‫اجا دينيا" (ج‪ ،1‬ص ‪)33‬؟‬
‫"فلسفة أفالطون تتضمن مز ً‬

‫نمر هنا من دون أن نالحظ بعض التصريحات عن مقاصد الفالسفة (خاصة حول‬
‫على ك ّل‪ ،‬ال يمكننا أن ّ‬
‫مثال حول معنى "األنطو ‪ -‬ثيولوجيا" (ج ‪ ،1‬ص ‪-155‬‬
‫هيدغر)‪ ،‬هي تحتاج إلى تدقيق ومراجعة كبيرين‪ً .‬‬
‫أن بعض المفاهيم‬
‫أصال‪ .‬كما ّ‬
‫‪ ،)156‬وهو مفهوم صعب جدا ومعقّد في نصوص هيدغر‪ ،‬وال عالقة له بالدين ً‬
‫تم التعويل عليها في طرح المسائل هي مفهومات انسحبت من التفكير المعاصر‪ ،‬خاصة مفهوم‬ ‫الفلسفية التي ّ‬
‫أي دور كبير في الفلسفة منذ المثالية األلمانية‪ .‬وذلك عالوة على تعريفات للفلسفة تقادمت‬
‫يؤد ّ‬
‫"المطلق" الذي لم ّ‬
‫أخالقيا وسرديا (ج ‪ ،1‬ص ‪ ،)44‬منعت المؤلف من التفاعل مع الكتابات الفلسفية الصرف عن الدين‪،‬‬
‫ً‬ ‫كثير‬
‫ًا‬
‫منذ فالسفة االختالف (فوكو‪ ،‬ودولوز‪ ،‬وفاتّيمو‪ ،‬وخاصة دريدا) إلى اليوم (أغمبن‪ ،‬وباديو‪ ،‬وجيجيك‪ ...‬إلخ)‪.‬‬

‫أن اإليمان ليس هو‬


‫مر بنا تصريحه ّ‬
‫ثمة مشكل آخر يتعلق بالمنزلة التي يمنحها المؤلّف قضية "اإليمان"‪ .‬لقد ّ‬
‫ّ‬
‫المقدس‪ ،‬عمد المؤلّف إلى إخراج اإليمان من مركزّيته الدينية‪ .‬قال‪" :‬ال‬
‫يميز الدين‪ .‬وكما فعل مع مفهوم ّ‬
‫الذي ّ‬
‫تعرفه‬
‫بالمقدس‪ ،‬والتي ّ‬
‫ّ‬ ‫كافيا لتش ّكل الظاهرة الدينية من دون العاطفة الدينية المنفعلة‪ ،‬والمتأثّرة‬
‫نعتبر اإليمان ً‬
‫مقد ًسا بموجب انفعالها‪ ،‬وهذا بالطبع مجال منقطع عن وظائف العقل بما هي عقالنية‪ ،‬وعن الحكمة‪ ،‬لكنه‪ ،‬مع‬
‫ّ‬
‫ذلك‪ ،‬مجال إنساني" (ج ‪ ،1‬ص ‪ .)44-43‬ما يقلق هنا هو العمل خارج ورشة االجتهاد الحديث في الثقافة‬
‫ثم الخروج من الظاهرة‬
‫الغربية‪ :‬الخروج من الدين بواسطة اإليمان المحض من حيث هو مشكل ذاتي‪ .‬ومن ّ‬

‫‪21‬‬
‫أن ما يقترحه المؤلف هو العكس‪:‬‬
‫الالهوتية ‪ -‬السياسية إلى أفق التجربة الخاصة أو الشخصية لإليمان‪ .‬والحال ّ‬
‫التدين بصفتها مشكلة اجتماعية‪.‬‬
‫ينبغي الخروج من نطاق النقاش عن اإليمان الخاص إلى طرح قضية ّ‬

‫ثم "ما بعد حديث"‪ ،‬يريد إعادة الدين إلى عناصره‬


‫في واقع األمر نحن أمام اجتهاد "غير علماني"‪ ،‬ومن ّ‬
‫يتم االستغناء عن النقاش األخالقي أو الشخصاني عن مسائل‬
‫ثم ّ‬‫االجتماعية في معنى نماذج العيش‪ .‬ومن ّ‬
‫مجرد قرار ديني حول أنفسنا‪ .‬ولكن خاصة على إعادة رسم‬
‫المقدس ّ‬‫ّ‬ ‫التجرؤ عندئذ على اعتبار‬
‫اإليمان‪ .‬و ّ‬
‫متمردة على المعادلة الفلسفية الرسمية للحداثة‪ :‬الذات = العقل أو "الكوجيطو" من‬
‫"المجال اإلنساني" بصفة ّ‬
‫ديكارت إلى هوسرل‪.‬‬

‫تدين" (ج ‪،1‬‬
‫تدين من دون إيمان‪ ،‬لكن ال دين من دون ّ‬
‫ومن هنا أتى المؤلف إلى أطروحته الطريفة‪" :‬يوجد ّ‬
‫متدينون ليسوا مؤمنين؟‬
‫و"التدين"؟ هل هناك ّ‬
‫ّ‬ ‫ص ‪ .)223‬ما وجه التقابل هنا بين "اإليمان"‬

‫في الحقيقة يبدو وجه االبتكار في نوع القلق الذي تثيره طريقة المؤلف في تنزيل مفهوم اإليمان‪ ،‬فعلى خالف‬
‫حركة التنوير األوروبي الذي يذهب من "اإليمان" (الديني‪ ،‬والكنسي‪ ،‬وقبل الحديث) إلى "االعتقاد" (النفسي أو‬
‫يميز بين "اإليمان المعرفي" (أي ‪ Belief‬أو االعتقاد) و"اإليمان‬
‫الظواهري أو الذاتي الحديث)‪ ،‬يحاول المؤلف أن ّ‬
‫العرفاني" (أي ‪ Faith‬أو اإليمان الديني)‪ ،‬ولكن ليس بقصد "الفصل" بينهما بل بغرض إعادة توزيع الفروق‬
‫"التدين" في أفق المؤمن المعاصر‪ .‬وفي هذا السياق علينا أن نفهم "استدراك"‬
‫ّ‬ ‫بينهما على نحو يخدم تنزيل تجربة‬
‫أمر أساسيا‬
‫التدين والولوج في تفصيالتها‪ ،‬قد تنسينا 'اإليمان' باعتباره ًا‬
‫"إن دراسة الدين وأنماط ّ‬
‫قائال‪ّ :‬‬
‫المؤلف ً‬
‫تدين" )ج ‪ ،1‬ص ‪.)196‬‬
‫أي حالة ّ‬
‫يميز ّ‬
‫ّ‬

‫التدين من دون مماهاة بينهما‪.‬‬


‫أما وجه الطرافة فيكمن بحسب تقديرنا في محاولة الربط المنهجي بين اإليمان و ّ‬
‫ّ‬
‫التدين مرتبط بما يسميه المؤلف "اإلظهار" (ج ‪ ،1‬ص‬
‫لكن ّ‬ ‫نفيا واثباتًا‪ّ ،‬‬
‫فاإليمان يتعلق بالعالقة مع المقدس ً‬
‫تدين خاص أو شخصي‪.‬‬
‫شخصيا بالمعنى الحديث‪ .‬لكن ليس هناك ّ‬
‫ً‬ ‫"خاصا" أو‬
‫ً‬ ‫مشكال‬
‫ً‬ ‫‪ .)228‬يبقى اإليمان‬
‫تم نقل‬
‫والقصد هو ّأنه من الناحية االجتماعية "ال دين من دون معتنقين لهذا الدين" (ج ‪ ،1‬ص ‪ .)228‬وبذلك ّ‬
‫يؤصل‬
‫التدين‪ .‬وهو ما حاول المؤلف أن ّ‬
‫الدين من نطاق مسألة إيمانية إلى أفق البحث االجتماعي في أنماط ّ‬

‫‪22‬‬
‫له من خالل تنشيط التمييز القرآني بين "اإليمان" و"اإلسالم" (ج ‪ ،1‬ص ‪ .)229-228‬وال تفوتنا المالحظة‬
‫"التدين" في التاريخ اإلسالمي إلى القرن الرابع هجري (ج ‪ ،1‬ص ‪.)268‬‬
‫ّ‬ ‫تأخر ظهور استخدام لفظ‬
‫الرشيقة إلى ّ‬

‫لكنه في الوقت ذاته يفصلها عن‬


‫أن ما يبحث عنه المؤلف هو موقف "يؤ ّكد حقيقة الدين الوجدانية‪ّ ،‬‬
‫ويبدو ّ‬
‫المحاكمات العقلية العلمية" (ج ‪ ،1‬ص ‪ .)268‬يبحث المؤلف عن "تنوير" من نوع آخر‪ ،‬غير عنيف وذي‬
‫مهام "المعنى" (ج‪ ،1‬ص‬
‫"الصحة" (والخطأ أو الوهم) إلى ّ‬
‫ّ‬ ‫مية"‪ :‬تنقل مشكالت الدين من معارك‬
‫طبيعة "تفهّ ّ‬
‫طبعا هذا موقف فلسفي معروف منذ سبينوزا‪ .‬وهو يقوم على االحتفاظ بحقيقة الدين ألسباب تتعلق‬
‫‪ً .)268‬‬
‫يسميه "خطأ الملحدين"‪ ،‬وهو يعني‬
‫لكن ما يعيبه المؤلف على الفالسفة بعامة هو ما ّ‬
‫بوظيفته وليس بحقيقته‪ّ .‬‬
‫بأنه وقع في هذا الخطأ‪.‬‬
‫عنده إخضاع "روايات الدين لمحاكمات العقل" (ج ‪1‬ن ص ‪ .)270‬وهو يتّهم كانط ّ‬
‫ملحدا‪ ،‬بل فقط كانت له نظرة "ترنسندنتالية" للمسألة‪ ،‬أي تعيد الحاجة األصلية في طبيعة‬
‫أن كانط كان ً‬
‫أظن ّ‬
‫وال ّ‬
‫أي قصص وضعية‪.‬‬
‫البشر إلى الدين إلى شروط قبلية في عقولهم البشرية‪ ،‬وليس إلى ّ‬

‫ما يقلق في التمشي الذي اعتمده المؤلف هو التقابل الحاد والتقليدي بين الفلسفة والدين‪ .‬وهذا هو ما دعاه إلى‬
‫التدين بصفته "أسطورة معيشة" (ج ‪ ،1‬ص ‪)275‬‬
‫افتراض تقابل حاد بين الدين من حيث هو ماهية عقلية و ّ‬
‫لكن هذا التمشي ال ينجح إالّ عندما نقابل بين الفلسفة التقليدية في الدين‬
‫(وهذه عبارة رشيقة تحت قلم المؤلف)‪ّ .‬‬
‫التدين المعاصر‪ .‬لكن لو استندنا إلى تجارب المعنى لدى ريكور أو طرحنا المسألة بصفة تفكيكية‬
‫وعلم اجتماع ّ‬
‫مفهوما غريًبا عن‬
‫ً‬ ‫أن "المعيش" ليس‬
‫يحا بهذه الصفة‪ ،‬إذ ّ‬
‫ممكنا أو مر ً‬
‫ً‬ ‫لما كان ذلك التقابل‬
‫كما فعل دريدا‪ّ ،‬‬
‫الفلسفة المعاصرة منذ دلتاي‪.‬‬

‫التدين‬
‫لكن البداية النظرية الفعلية للكتاب ّإنما تبدو لي مع عنوان الفصل الخامس‪" :‬االنتقال من مبحث الدين و ّ‬
‫ّ‬
‫عرفه المؤلف‬
‫ثم يأتي التدقيق الحقيقي والحاسم لهذا االنتقال‪ ،‬وقد ّ‬
‫إلى مبحث العلمانية" (ج ‪ ،1‬ص ‪ّ .)403‬‬
‫التدين في عصرنا من دون‬
‫بنفسه في صيغتين مختلفتين‪ .‬صيغة تأويلية ترنسندنتالية بقوله "عن عدم إمكان فهم ّ‬
‫أن إلحاق الدين بالدولة هو سابق للفصل‬
‫ثم صيغة نقدية تاريخية‪ّ ،‬‬
‫فهم العلمانية والعلمنة" (ج ‪ ،1‬ص ‪ّ .)405‬‬
‫حول االنقسامات الدينية إلى انقسامات سياسية (ج ‪ ،1‬ص ‪.)428‬‬
‫ثم فهو الذي ّ‬‫بينهما‪ ،‬ومن ّ‬

‫‪23‬‬
‫ضد‬
‫األول‪ ،‬ويأخذ المؤلف في تكلّم لغة نقدية ّ‬
‫النص في مسته ّل الفصل الخامس من المجلد ّ‬ ‫ّ‬ ‫تتحول وتيرة‬
‫فجأة ّ‬
‫محددة عن العلمانية‪ ،‬تلك التي يتبناها "الناشطون السياسيون عادة‪ ،‬وال سيما في الدول العربية‬
‫أطروحة ّ‬
‫واإلسالمية"‪ ،‬والتي تتلخص في دعوى "فصل الدين عن الدولة" (ج ‪ ،1‬ص ‪ ،)405‬مع جملة الصيغ المختلفة‬
‫التي تأخذها هذه الدعوى‪.‬‬

‫ثم يحاول أن يعيد‬‫تقوم خطّة المؤلف على التلطّف في المصطلحات وفي طرق طرح مسائل العلمانية ومن ّ‬
‫يتبنى بسرعة تحديد نيكالس لومان للعلمنة بكونها "السياقات االجتماعية والسياسية‬
‫تركيب العالقة مع الدين‪ .‬فهو ّ‬
‫لخصخصة القرار في الشأن الديني" (ج ‪ ،1‬ص ‪ .)406‬ويستصلح بأسلوب رشيق توصيف فرح أنطون للعلمانية‬
‫حقيقيا" (ج ‪ ،1‬ص‬
‫ً‬ ‫اتحادا‬
‫ً‬ ‫األمة‪...‬لكي يتحدوا في ما بينهم‬
‫بكونها تعني عنده "تحييد الدين من جانب أبناء ّ‬
‫‪.)406‬‬

‫بدال من مصطلح "الفصل" المزعج يتبنى المؤلف مصطلحات أكثر تلطّفًا من قبيل "الخصخصة" و"التحييد"‪.‬‬
‫ً‬
‫(مثال بين العلمانية‬
‫وهذان المصطلحان هما جزء فقط من معجم بنيوي متواتر طوال الكتاب مثل "التمييز" ً‬
‫يخيا)‬
‫تطور العلمنة تار ً‬
‫والعلمنة) و"التمايز" (داخل الدين نفسه وداخل المجتمع أو الدولة) و"الدرجات" (في ّ‬
‫بناء على مفهومات تشكيلية معاضدة من‬
‫مثال)‪....‬وك ّل ذلك "في سياق تاريخي"‪ ،‬أي ً‬
‫و"الحدود" (حدود التنوير ً‬
‫(أن العلمنة صيرورة تاريخية وليست وصفة جاهزة) و"التطور" (الحس األنثروبولوجي لم يفارق‬
‫قبيل "الصيرورة" ّ‬
‫(مثال تجربة المقدس)‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫الكتاب) و"التجربة" ً‬

‫أهم قرار لديه هو ضرورة "التمييز بين العلمانية والعلمنة" على نحو مبتكر‪ ،‬أي بين "أيديولوجيا‬
‫أن ّ‬‫ولكن يبدو ّ‬
‫األمة‪ ،‬و"العلمنة باعتبارها صيرورة تاريخية" أو هي "جزء من‬
‫القرن التاسع عشر" التي قامت عليها هوية الدولة ّ‬
‫يغير من عناصر النقاش حول‬
‫صيرورة تاريخية سابقة على الحداثة" (ج ‪ ،1‬ص ‪ .)407‬وهو تمييز يوشك أن ّ‬
‫العلمانية في أفق الفكر العربي المعاصر‪.‬‬

‫تقوم خطّة المؤلف على تفكيك أطروحة العلمانية (أي الفصل بين الدين والدولة بالمعنى العنيف للعبارة) من‬
‫تم التعامل معها من حيث‬
‫تحولت هنا إلى "أيديولوجيا") والعلمنة (التي ّ‬
‫خالل التمييز الرشيق بين العلمانية (التي ّ‬
‫هي صيرورة تاريخية تدعونا إلى صوغ نموذج نظري لتفسيرها)‪ .‬هذا هو الجزء الصريح من الخطة‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫تهم فهم‬
‫تعود أن يفاجئ القارئ بتنبيهات هي تنتمي في تقديرنا إلى طبقة خفية من الكتاب‪ .‬وهي ّ‬
‫لكن المؤلف ّ‬
‫ّ‬
‫التدين‪ .‬إذ كيف يجدر بنا أن نق أر هذا االستدراك في قلب‬
‫الدين في ضوء ضرب موعود من هرمينوطيقا أنماط ّ‬
‫حد ذاتها‪ ،‬بل بقدر ما نحتاج إليها‬
‫"لكن بحثنا هذا ليس بحثًا في العلمنة في ّ‬
‫تحليل المعنى السديد للعلمنة‪ .‬قال‪ّ :‬‬
‫التدين في عصرنا" (ج ‪ ،1‬ص ‪.)407‬‬
‫لفهم أنماط ّ‬

‫عموما؛ فهذا جهد‬


‫ً‬ ‫كتابا نظرًيا عن الدين‬
‫لنذ ّكر هنا بما جاء في الصفحة ‪ ،8‬قال‪" :‬لم يكتب هذا الكتاب ليكون ً‬
‫ممكنا برأيي"‪.‬‬
‫ً‬ ‫مثمر أو حتى‬
‫ما عاد ًا‬

‫الكتاب ال هو بحث في العلمنة وال كتاب نظري في الدين‪ ،‬بل هو بحث في العلمنة بقدر الحاجة إلى فهم أنماط‬
‫التدين في عصرنا‪ .‬هكذا علينا أن نقرأ‪.‬‬
‫ّ‬

‫لكنها حاجة صامتة‪ .‬ويحرص المؤلف على عدم التطرق إليها‬


‫ثمة حاجة تأويلية تكمن وراء كتابة الكتاب‪ّ .‬‬
‫ّ‬
‫"فلسفيا" وانما االكتفاء بالبحث "التاريخي" في شروط إمكان فهمها‪ ،‬وهي توجد بحسب تقديره في ضرورة فهم‬
‫ّ‬
‫العلمنة وتمييزها عن دعوى العلمانية‪.‬‬

‫في حدود العلمانية‬

‫مرجعيتها من حيث هي قيمة ومعنى "مرجعية معيارية‬


‫ّ‬ ‫أن العلمانية تنحو إلى جعل‬
‫يذ ّكر المؤلف بأسلوب رشيق ّ‬
‫بأن هذا األمر "صيرورة تاريخية" أي "نتاج عملية تمايز اجتماعي‬
‫ويقر المؤلف ّ‬
‫غير دينية" (ج ‪ ،1‬ص ‪ّ .)407‬‬
‫لكن الناشطين "العلمانيين" ينزعون إلى تحويل‬
‫وتغير في أنماط الوعي"‪ .‬بهذا التدقيق هي "علمنة"‪ّ .‬‬
‫بنيوي ّ‬
‫العلمانية إلى "أيديولوجي ا" للدولة الحديثة أي إلى وعي سياسي زائف أو مناضل قائم على معاداة الدين بما هو‬
‫كذلك‪.‬‬

‫تحولها إلى جهاز تبرير عقائدي للدولة الحديثة‪ .‬نعني هي تخرج من نطاق‬
‫تبدأ حدود العلمانية في الظهور مع ّ‬
‫وتتحول إلى تبرير معياري غير ديني لشرعية ذلك الحكم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫"العلمنة" (أي البناء "الدنيوي" لشرعية الحكم)‬

‫‪25‬‬
‫طلحا نسي‬
‫هنا ينبغي لنا أن نفهم التمييز الذي قصده المؤلف بين العلمانية والعلمنة‪ .‬تبدو العلمانية لديه مص ً‬
‫أما العلمنة فهي ظاهرة‬
‫وتحول إلى أداة أيديولوجية للدولة الحديثة؛ أي إ ّن العلمانية ظاهرة حديثة؛ ّ‬
‫أصله الديني ّ‬
‫سمتها الحداثة بهذا االسم إالّ ّأنها "جزء من عملية تطور تاريخية طويلة تعود إلى ما قبل الحداثة" (ج ‪ ،1‬ص‬
‫ّ‬
‫‪.)416‬‬

‫للعلمانية إ ًذا حدود أيديولوجية حديثة ال يمكنها أن تتحرر منها‪ ،‬هي مر ّشحة سلفًا إلى أن تنزلق في نزعة‬
‫ثم على المنظّر الحصيف‬
‫مرد لها‪ ،‬ومن ّ‬
‫أما العلمنة فهي صيرورة تاريخية ال ّ‬
‫مجانية وال مستقبل لها‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫"علمانوية"‬
‫وثانيا لتفسير أنماط التدين في عصرنا‪.‬‬
‫نموذجا نظرًيا ّأوًال لفهمها‪ً ،‬‬
‫ً‬ ‫أن يبني‬

‫أن "من مؤشرات الجدة في حالة العلمنة في الحداثة إذا ّأنها ما عادت‬
‫من األفكار المثيرة هنا تنبيه المؤلف إلى ّ‬
‫غالبا‪ ،‬ودينية في بعض الحاالت" (ج ‪ ،1‬ص‬
‫تؤسس لديانات جديدة‪ ،‬بل أليديولوجيات وحركات سياسية علمانية ً‬
‫ّ‬
‫‪.)420‬‬

‫كيف نفهم هذا القول؟‬

‫إذا كانت "العلمنة في الحداثة" ال جديد معها سوى األيديولوجيات العلمانية‪ ،‬فأين نعثر إ ًذا على العلمنة المنشودة؟‬
‫هل ينوي المؤلف إعادة تنشيط نمط العلمنة السابق على الحداثة بصفته أكثر أصالة نظرية في طرح مسألة‬
‫العلمانية؟ وهل يكون ذلك هو نوع اإلجابة عن شروط إمكان فهمنا أنماط التدين في عصرنا؟‬

‫تأويلية دينية سالبة‬

‫(ألنه اصطالحي فقط)‪،‬‬


‫كثير عند الفصل األول ّ‬
‫حين نتصفّح المجلد األول من الجزء الثاني‪ ،‬ومن دون أن نقف ًا‬
‫كثير على تخريج ضرب من‬
‫عول ًا‬‫أن المؤلف قد ّ‬
‫ونقطع المسافة من الفصل الثاني إلى الفصل التاسع‪ ،‬نالحظ ّ‬
‫التأويلية السالبة عن الدين في أفق الثقافة األوروبية‪ ،‬وهي تأويلية ليس لها من وظيفة منهجية سوى توفير ما‬
‫سماه فوكو "القبلي التاريخي" الذي يمكن من خالله الكشف عن شروط إمكان فهم مفهوم الدين في أفق المحدثين‪،‬‬
‫ّ‬
‫وتحوًال‪.‬‬
‫ّ‬ ‫نشأة‬

‫‪26‬‬
‫غير وظيفته (ج ‪،1‬‬ ‫أن الدين لم يندثر أو يلغى بل ّ‬
‫تغير وظيفة الدين‪ّ ،‬‬
‫أهم ما في تاريخ مفهوم الدين هنا هو ّ‬
‫ّ‬
‫فإن الرهان األكثر رشاقة هو بيان "حدود التنوير" من الداخل (ج ‪ ،1‬ص ‪ .)13‬وهذا ما م ّكن‬
‫ثم ّ‬‫ص ‪ .)12‬ومن ّ‬
‫خصوصا‬
‫ً‬ ‫المؤلف من إضاءة تاريخ العلمانية نفسها ليس فقط بقطعها عن "التقاليد اإللحادية القديمة" (نفسه) بل‬
‫بدءا من القرن السابع عشر‪.‬‬
‫بتأسيس العلمانية على "االنقسام بين المعرفة العلمية والمعنى" (ج ‪ ،1‬ص ‪ً ،)12‬‬
‫ألنه قرن شهد ّأول ترسيم لمجال اسمه مفهوم "الدين"‬
‫مهم ألمرين متوازيين بصفة إشكالية‪ ،‬من جهة ّ‬
‫وهذا القرن ّ‬
‫عملية "سلب للمعنى من المجاالت التي‬
‫ألنه قرن صار فيه العلم ّ‬
‫من حيث هو مجال غير شخصي؛ ومن جهة ّ‬
‫يقتحمها" (نفسه)‪ .‬بذلك تبدو العلمانية في أصلها عبارة عن تأويلية دينية سالبة‪.‬‬

‫يصرح قائال‪" :‬نحن ال ننفي أن يجد اإلنسان معنى في 'مقدسات' أخالقية أو دنيوية‬
‫أن المؤلّف ّ‬
‫وعلى الرغم من ّ‬
‫أي تأويلية موجبة في الدين بما هو كذلك‪ .‬ربما في‬
‫غير دينية" (ج ‪1‬ن ص ‪ ،)21‬فنحن ال نعثر لديه على ّ‬
‫الجزء الثالث أو الرابع الموعودين (ج ‪ ،2‬مج ‪ ،2‬ص ‪.)10‬‬

‫بأن العلمانية ليست‬


‫أي فرصة منهجية لطمأنة القارئ المخاطب ّ‬
‫يفوت ّ‬
‫وفي مقابل ذلك‪ ،‬يحرص المؤلف على أالّ ّ‬
‫ضد الخرافات‬
‫ضد الدين بل ّ‬
‫موجهة ّ‬
‫وبأن "دعوة" التنويريين لم تكن ّ‬
‫إلحادا (ج ‪ ،2‬مج ‪ ،2‬ص ‪ّ ،)13-12‬‬
‫ً‬
‫إن أغلبهم "روحانيون" (ج ‪ ،2‬مج ‪ ،2‬ص ‪ .)25-24‬وخاصة ّأنه ال يصبح التنوير عدوا‬
‫وممارسات الكهانة بل ّ‬
‫ذكية لدى "ملحدين‬
‫وقدم المؤلف استثناءات ّ‬‫يتحول إلى أيديولوجيا (ج ‪ ،2‬مج ‪ ،2‬ص ‪ّ .)31‬‬ ‫للدين إالّ عندما ّ‬
‫أن فوكو "كان مستعدا الحترام محاوالت تجاوز هذه العالقات‬
‫ومف ّككين" إزاء الدين‪ ،‬مثل فوكو إذ يؤ ّكد المؤلف ّ‬
‫[عالقات القوة] بوسائط دينية روحانية تتمرد عليها" (ج ‪ ،2‬مج ‪ ،2‬ص ‪)34‬؛ أو لدى ليبراليين كبار من حجم‬
‫بأهمية الدين إلى درجة االقتراب من الديمقراطية‬
‫متمسك ّ‬
‫ّ‬ ‫"نموذجا لموقف ليبرالي‬
‫ً‬ ‫يعده المؤلف‬
‫توكفيل الذي ّ‬
‫األهلية" (ج ‪ ،2‬مج ‪ ،2‬ص ‪.)35‬‬

‫أن "الموقف من الحرية والمساواة" في إطار الشأن الديني هو "موقف ال‬


‫لكن أخطر رأي صاغه المؤلف هنا هو ّ‬
‫ّ‬
‫تدين المجتمعات‬
‫"تدخل الدين في المجال العام" هو "مرتبط بدرجة ّ‬
‫أن ّ‬ ‫نظرية علمية" (ج ‪ ،2‬مج ‪ ،2‬ص ‪ ،)36‬و ّ‬
‫ال بالنقاش النظري في طبيعة العقائد" (نفسه)‪ .‬ويعضد رأيه بشكيك نقدي في قدرة "الليبرالية اإلجرائية" لدى رولز‬

‫‪27‬‬
‫أو "الفكرة ما بعد العلمانية" لدى هابرماس على ضبط مسألة االستعمال العمومي للدين (ج ‪ ،2‬مج ‪ ،2‬ص‬
‫‪.)36-35‬‬

‫ثم هي فصول إجرائية‬


‫بأي مضمون معياري موجب‪ .‬ومن ّ‬
‫أن ك ّل الفصول عن الدين هي ال تعدنا ّ‬
‫ويبدو لنا ّ‬
‫فحسب‪ .‬فهذا الكتاب ال يقترح علينا أي مضمون ديني مهما كان شكله‪ .‬ما يوجد هو عمل "صوري" أو تشكيلي‬
‫رائع على الشروط التاريخية إلمكانية الدين في أفق اإلنسانية الحديثة؛ ولكن ليس هناك وعي ديني أو روحاني‬
‫معين يريد الدفاع عنه‪.‬‬
‫ّ‬

‫أن الدين بما هو كذلك هو محاور غائب‪.‬‬


‫نشعر ّ‬

‫يتعامل الكتاب مع الدين من خالل حركتين منهجيتين‪ :‬إحداهما صريحة‪ ،‬هي نقد العلمانية من حيث هي‬
‫أيديولوجيا وتحديد شروط إمكان نموذج نظري عن العلمنة؛ واألخرى صامتة‪ ،‬هي حماية الدين من علمانية‬
‫معادية من دون أي شكل من الوعد الروحي أو المضمون المعياري للدين‪.‬‬

‫فإنه يخوض معركة‬


‫للتدين‪ّ ،‬‬
‫أي صالحية أخالقية ّ‬
‫يكرس ّ‬
‫أي مضمون معياري للدين وال ّ‬
‫بيد ّأنه لئن ال يدافع عن ّ‬
‫شرسة مع سياسات العلمانية وينجح في بناء أنموذج نظري عن العلمنة بصفتها في جوهرها تماي ًاز داخليا لضرب‬
‫التدين‪.‬‬
‫من أنماط ّ‬

‫المهمتين‪ :‬الصامتة (حول ماهية الدين) والصريحة (حول نقد‬


‫ّ‬ ‫كيف يجدر بنا أن نفهم العالقة "التأويلية" بين‬
‫العلمانية وبناء نموذج نظري عن العلمنة)؟‬

‫ما خال التطمينات المعرفية أو النقدية التي تنزع فتيل معاداة الدين في كل مرة‪ ،‬وتبعد شبح اإللحاد عن التنويريين‬
‫بصفت هم علمانيين ليسوا بالضرورة معادين للدين بما هو كذلك‪ ،‬تبدو الفصول المخصصة لمناقشة التأويالت‬
‫ائية بال مضمون معياري موجب عن‬
‫الالهوتية والقانونية والفلسفية الحديثة للدين بمنزلة فصول هرمينوطيقا إجر ّ‬
‫التدين‪.‬‬
‫معنى ّ‬

‫‪28‬‬
‫لكنها ال تدافع عن‬
‫"التحدي" اإلبستيمولوجي للتأويالت العلمانية للدين‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫لنقل هي فصول تقوم على ضرب من‬
‫أي‬
‫صارما عن اقتراح ّ‬
‫ً‬ ‫التدين‪ .‬نحن نلمس إمسا ًكا فلسفيا صامتًا ولكن‬
‫أي تأويل خاص لمعنى الدين أو آلداب ّ‬
‫ّ‬
‫التدين‪ .‬وعلينا أن نتساءل لماذا؟‬
‫تأويلي تأصيلي لداللة الدين أو ألصالة ّ‬

‫يصر على اإلمساك عن‬


‫التصورات العلمانية للدين‪ .‬والسؤال هو‪ :‬إذا كان المؤلف ّ‬
‫ّ‬ ‫حاد لك ّل‬
‫ثمة نقد ّ‬
‫في المقابل‪ّ ،‬‬
‫التدين‬
‫كل هذا المجهود النسقي لتوفير شروط إمكان فهم ّ‬
‫أي نزعة تأسيسية في مسائل الدين‪ ،‬فلماذا انخرط في ّ‬
‫ّ‬
‫في عصرنا أي توفير النموذج المناسب عن العلمنة؟‬

‫ضد دعاة العلمانية المناضلة‪ ،‬هو ينتهي إلى أمرين‬


‫ردة فعل إبستيمولوجي واجرائي ّ‬
‫ألن الكتاب هو ّ‬
‫رّبما يقال‪ّ ،‬‬
‫إجرائيين‪:‬‬

‫أي تأسيس معياري لمعنى الدين‪.‬‬


‫‪ ‬من جهة‪ ،‬اإلمساك عن ّ‬

‫‪ ‬ومن جهة أخرى‪ ،‬االكتفاء بعمل موجب واحد‪ ،‬هو اقتراح نموذج نظري للعلمنة‪.‬‬

‫نخير أن نتساءل‪ :‬ما هي نجاعة "السياق التاريخي" للغرب في طرح أو فهم للمسائل الدينية التي تطرح‬
‫لكننا ّ‬
‫ّ‬
‫"نؤرخ" لقيمة أو مشكلة ما حتى نفهمها؟ لماذا‬
‫نفسها في مجتمعات غير حديثة أو "غير غربية"؟ هل يكفي أن ّ‬
‫كل هذا التعويل على فهم "تاريخاني" للمسائل؟ أليس هذا عبارة عن سجن مسبق ألفق الفهم وألفق التفسير ينتمي‬
‫إلى حقبة سابقة من حقب العقل المعاصر؟‬

‫موجه نحو "جيل" من المحاورين انسحبوا مع أيديولوجية‬


‫أن الكتاب في ّلبه ّ‬
‫نحن نشعر في بعض األحيان ّ‬
‫الدولة ‪ /‬األمة‪ ،‬أي مع انسحاب األفق العلماني للدولة الحديثة‪ .‬ربما نحن اليوم قد ولجنا إلى وضعية تأويلية أو‬
‫خطابية مختلفة‪.‬‬

‫أن المؤلف يخاطب الفالسفة حتى وهو يتحدث عنهم‪ .‬وال أشعر ّأنه يخاطب المتدينين حتى وهو يدافع‬
‫ال أشعر ّ‬
‫عنهم‪ .‬فمن هو قارئه إ ًذا؟‬

‫‪29‬‬
‫ير‬
‫حاكما أو دولة‪ .‬هو يشبه تقر ًا‬
‫ً‬ ‫شخصا بل‬
‫ً‬ ‫موجها إلى قارئ من نوع آخر‪ ،‬قارئ ليس‬
‫ربما كان هذا الكتاب ّ‬
‫تستمر‪ ،‬وضعية فكرية تخلط بين العلمانية والعداء للدين لها سدنتها من‬
‫ّ‬ ‫حازما عن وضعية لم يعد يمكن لها أن‬
‫ً‬
‫كل جانب‪ .‬وربما عندئذ يمكننا أن نجني بعض الثمار العالية لهذا الكتاب‪ّ ،‬أنه‪:‬‬

‫‪ ‬ال يجوز ألحد أن يفرض "فصل الدين عن الدولة"‪ ،‬ينبغي ّأوال "علمنة الوعي" قبل علمنة الحكم‪ .‬واالّ فإ ّن‬
‫أن الدين مثله مثل السياسة هو جزء من‬ ‫العلمانية لن تخلو من "إرهاب" أي من نوع من "نزع الهوية" والحال ّ‬
‫نظام "رمزي وهوياتي" (ج ‪ ،2‬مج ‪ ،2‬ص ‪ ،)61‬ومن دون علمنة الوعي ال فصل بينهما؛ والعبرة هنا هي‬
‫صحي من الهوية؛‬
‫إفراغ العلمانية من طاقتها "العدائية" وتحويلها إلى وعد ذاتي بنوع ّ‬

‫أن "نزع السحر عن العالم ال يؤدي إلى نزعه عن اإلنسان" (ج ‪ ،2‬مج ‪ ،2‬ص ‪)80‬؛ وهذا تنسيب رشيق‬
‫‪ّ ‬‬
‫تورط ميتافيزيقي في‬
‫ألطروحة فيبر‪ ،‬وهو ما يم ّكن الفكر العربي من الدخول إلى النقاش العلماني من دون ّ‬
‫فلسفة األنا االنتصارية الحديثة؛‬

‫أن فهم العلمانية من حيث هي أيديولوجيا أو موقف (‪ .1‬فصل الدين عن الدولة؛ ‪ .2‬خصخصة القرار في‬
‫‪ّ ‬‬
‫الشأن الديني؛ ‪ .3‬تحييد الدولة في شؤون الدين) (ج ‪ ،2‬مج ‪ ،2‬ص ‪ ،)72‬هي وضعية تفسيرية ال تساعد‬
‫على فهم موجب للضرورة التاريخية لواقعة العلمنة‪ ،‬أي "تراجع أهمية الدين االجتماعية في حياة البشر اليومية‬
‫ذكية عن‬
‫في إدارة شؤونهم المعيشية" (ج ‪ ،2‬مج ‪ ،2‬ص ‪)74‬؛ وهذا فهم هادئ لمعنى العلمنة يفصلها بصفة ّ‬
‫التعبوية لجيل كامل؛‬
‫ّ‬ ‫نواتها األيديولوجية أو‬

‫‪ ‬وخاصة‪ّ ،‬أنه "لو حصرنا تعريف العلمنة في التمايزات بين المجاالت المختلفة‪...‬لدخل كثيرون من المتدينين‬
‫في فئة العلمانيين" (ج ‪ ،2‬مج ‪ ،2‬ص ‪)82‬؛ وهذا يساهم في كسر الجليد الذي يغ ّذي العداء األخالقي أو‬
‫سالموية متقابلة‪ ،‬تعيش داخل فضاء مجتمعي مشترك؛‬
‫ّ‬ ‫علمانوية وا‬
‫ّ‬ ‫العقائدي بين أطياف‬

‫متدين‪ ،‬بل بالذات في المجتمع المتدين" (ج‬


‫أن "تحييد الدولة في الشأن الديني قانونيا ممكن حتى في مجتمع ّ‬
‫‪ّ ‬‬
‫أي مضمون سياسي‬
‫متشنجة إلى فكرة التحييد الصوري المتخلّص من ّ‬
‫‪ ،2‬مج ‪ ،2‬ص ‪)62‬؛ وهي دعوة غير ّ‬
‫دعوي؛‬
‫ّ‬ ‫من نوع‬

‫‪30‬‬
‫أن العلمنة السليمة (أي بصفتها صيرورة تاريخية وليس سياسة "علمانوية") وحدها يمكن أن تساعد "الحاجة‬
‫‪ّ ‬‬
‫إلى المقدس" على تعويضها روحيا بالمتع الفنية والجمالية (ج ‪ ،2‬مج ‪ ،2‬ص ‪)64‬؛ وهكذا يمكن لنوع من‬
‫المقدسات بعامة‪.‬‬
‫أي نزاع أخالقي مع الدين حول قيمة "الجليل" أو مساحة ّ‬
‫العلمنة أن يحفظ حرية اإلبداع من ّ‬

‫يخيا‬
‫أن سيناريو الدولة الليبرالية التي تخلط بين "النقد التنويري للدين" وعلمنة المجتمع بالقوة ليس طريقًا تار ً‬
‫‪ّ ‬‬
‫تدخل الدولة في‬
‫"دروبا أخرى" تفضي بنا إلى االقتناع "بضرورة عدم ّ‬
‫ً‬ ‫ملكيا بل يمكننا أو يجدر بنا أن نقتبس‬
‫فرض عقيدة دينية على الناس" (ج ‪ ،2‬مج ‪ ،2‬ص ‪ .)413-412‬والدرس الفلسفي هنا هو ّأنه ال يزال من‬
‫الممكن لنا أن ندخل الحداثة السياسية من باب آخر غير "األيديولوجيا العلمانية" التي تفترض "محاربة الدين"‪،‬‬
‫"تفوق أخالقي" (ج ‪ ،2‬مج ‪ ،2‬ص ‪ ،)415‬تملكه الدولة على هوية المجتمع‪.‬‬
‫باسم ّ‬

‫‪31‬‬
‫وأهل الدنيا‪ :‬مالحظات حول "العلمنة"‬
‫ُ‬ ‫أهل الديـن‬
‫ُ‬
‫يف سياق فلسفـي‬
‫*‬
‫إنقزو‬
‫فتحي ّ‬

‫"إن األديان هي التي تطور‪ ،‬من بين كافة األنظمة الثقافية‪ ،‬أقوى التنظيمات"‬
‫ّ‬
‫ديلتاي‬

‫ٍ‬
‫مسألة صارت من شؤون اليوم ومن مشاغل الزمان الذي نحيا‪،‬‬ ‫إن هذا العمل الذي نجتمع حوله ويجمعنا حول‬
‫ّ‬
‫حقيق بالنظر واالعتبار من هذه الجهة ومن جهات أخرى‪ :‬جهة الحاضر الذي بات ضغطه وتسارعه وأو ازره‬
‫الثقيلة التي ينوء بحملها الفرد والجماعة‪ ،‬وجهة االضطالع بما ورث هذا الحاضر عندنا وعند غيرنا من تقديرات‬
‫السبق‬
‫الريادة و ّ‬
‫يدعي ّ‬
‫ويدعيها‪ ،‬أو ّ‬
‫"علمانيةً" تتجاذبها األطراف كلّها‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫العالقة بين الدين والدنيا‪ ،‬وقد اتّخذت صيغةً‬
‫كأنها دنس واثم وكفران‪.‬‬
‫فيها ك ّل لنفسه‪ ،‬ويستأثر آخرون بنكرانها والتّشنيع عليها ّ‬
‫األهلية‬
‫ّ‬ ‫المقومات‬
‫مترددة بين ّ‬
‫يتعين انتسابنا إلى هذه المسألة أو انتسابها إلينا‪ ،‬بشروط ّ‬
‫من هاتين الجهتين‪ ،‬إذن‪ّ ،‬‬
‫البرانية اآلتية من ثقافة أو‬
‫المقومات ّ‬
‫الرمزي‪ ،‬و ّ‬
‫الخاصة‪ ،‬تلك التي يجدها المرء في مأثورات ثقافته هو ورصيدها ّ‬
‫ّ‬
‫من ثقافات أخرى لنا بها عبر التاريخ اتصال متفاوت األهمية والمقدار‪ .‬ولعلها هي الشروط التي تخلّلت هذا‬
‫العمل‪ ،‬ونسجت‪ ،‬بتشابكها وتأليف عناصرها وترتيب سياقاتها وبنياتها المفهومية واالصطالحية وصوغ‬
‫مضامينها‪ ،‬هذا القدر الكبير من األفكار والحدوس والنصوص والقراءات التي جعلت مسألة "الدين والعلمانية‬
‫في سياق تاريخي" خطوةً‪ ،‬لعلها ليست األخيرة‪ ،‬وعالمةً فارقةً في طريق طويل ٍة من مخاض الفكر العربي مع‬
‫قضية الدين والسياسة‪ ،‬مع إشكال العلمانية ومفاعيل العلمنة‪ ،‬ومع تنازع السلطات بين الهيئات الروحية والهيئات‬

‫أستاذ الفلسفة بدار المعلمين العليا بتونس‪ ،‬مهتم بفلسفة إدموند هوسرل‪.‬‬ ‫*‬

‫‪32‬‬
‫السياسية‪ ،‬وتنازع التأويالت بين أهل الدين وأهل الدنيا‪ ،‬وال سيما بين من يقوم من هؤالء وأولئك مقام‬
‫العارفين‪ ...‬إلخ‪.‬‬

‫(‪)1‬‬
‫فلسفيا أو‬
‫ً‬ ‫أيا كانت جهة النظر إلى هذا الكتاب‪ ،‬أو "الموشور" الذي تجب مقاربته منه‪ ،‬سواء كان ذلك‬
‫وترددا‬
‫ً‬ ‫اجتماعيا‪ ،‬فإنه يجد إزاء الزخم الهائل من المعطيات الذي تحفل به أجزاؤه‪ ،‬حيرةً‬
‫ً‬ ‫نفسيا أو‬
‫أنثروبولوجيا‪ ،‬أو ً‬
‫ً‬
‫فعال كما يوحي بذلك عنوانه؟ وما نمط التاريخ‬
‫يخي ً‬
‫بد من التعبير عنهما في هذا المقام‪ .‬فهل هو عمل تار ٌّ‬
‫ال ّ‬
‫أن الكتابة في "الدين والعلمانية في‬
‫الذي يشتغل به‪ ،‬والتاريخية التي يقصد استخراجها أو انتظام معانيها؟ وهل ّ‬
‫سياق تاريخي" تسليم بقرار يتعين على القارئ أن يشارك المؤلف اعتماده؛ أي هو قرار تنزيل هذين المفهومين‬
‫أو المعنيين – الدين والعلمانية – في أفق التاريخ كمخزن كبير للذاكرة البشرية‪ ،‬وكمساق تطوري أفضى إلى‬
‫اللحظة الراهنة بعد قرون من االعتمال والتنازع والصراع؟ وأين تقع المكاسب النظرية؟ وما محلّها من هذا السياق‬
‫التاريخي؟‬
‫باعا‪.‬‬
‫تلك أسئلة أولية يتراءى لنا بمقتضاها انتظام المشروع في هذا الكتاب على جهات ثالث مناسبة ألجزائه ت ً‬
‫سماه المؤلف "الدين والتدين"‪ ،‬وذلك على‬
‫فالجهة األولى يجوز لنا أن نسميها "فينومينولوجية"؛ وهي تعنى بما ّ‬
‫نحو القراءة األولية التي تطورت منها فكرة المشروع نفسه لتجليات الوعي الديني والظاهرة الدينية وثنائيات الحدث‬
‫الديني األساسية كالمقدس والمدنس وغيرها‪ ،‬وقد سميناها "فينومينولوجيةً" ألنها قراءة في تجليات الوعي وما‬
‫يخالطها من المشاعر لدى األفراد والجماعات‪ ،‬واستنطاق للدالالت والمعاني من رحم األلفاظ والعبارات‪ ،‬من‬
‫القبلية الجاهزة‪.‬‬
‫دون تسليم ببنية تفسيرية سابقة حاول المؤلف اجتنابها والنأي عن مفترضاتها ْ‬
‫أما الجهة الثانية‪ ،‬فهي تاريخية بالمعنى الدقيق‪ ،‬وموضعها األوسط يشهد لها بذلك في هذه السلسلة الثالثية؛‬
‫ّ‬
‫فإن كان بسط الفاصلة التاريخية الكبرى التي تشمل العصر الحديث‪ ،‬بوصفه المنعطف األكبر في إرساء مبادئ‬
‫العلمانية وأصولها الفلسفية‪ ،‬يتعهد بهذا الدور وينهض له من جهة توفير المادة التاريخية الغائبة عن كثير من‬
‫األدبيات التي تطرقت إلى المسألة عينِها التي نحن بسبيلها‪ ،‬ويجعل لها دور الوسيط الممهد للطور الالحق‪،‬‬

‫‪33‬‬
‫فإن العرض التاريخي هو أشبه بجدلية للعقل ال مناص منها إن شاء هذا العقل أن يستظهر إنتاجاته في الزمان‬
‫ّ‬
‫البشري الفعلي‪.‬‬
‫بناء عليها عملية العلمنة‬
‫أما الجهة الثالثة‪ ،‬في المقام األخير‪ ،‬فإننا نجد فيها التجارب النموذجية التي تحققت ً‬
‫وّ‬
‫في المجتمعات األوروبية أو ذات النمط الحضاري األوروبي بالمعنى األوسع‪ ،‬حيث تتوفر المعطيات الفعلية‬
‫التي ترجمت الرصيد التاريخي المذكور سلفًا‪ ،‬والمقارنات التي تسمح بتعقل هذا الرصيد واستحضاره في حالتنا‬
‫العربية اإلسالمية على أوسع نطاق‪.‬‬
‫وعلى ك ّل حال‪ ،‬ال تتمايز هذه الجهات ك ّل التمايز بعضها عن بعض‪ ،‬وقد تكون في أثناء هذا الكتاب على‬
‫درجة عظيمة من التداخل واالشتباك‪ ،‬ولذلك فالذي يهمنا في هذا التواتر هو درجة تعبيره عن المشروع المعلن‬
‫إما بما التزم به المؤلف من المقاالت واألطاريح التي ال تخلو من رؤية فلسفية‬
‫عنه‪ ،‬وكذا متانة بنيانه الفلسفي؛ ّ‬
‫تحديدا مقام النظر الذي نراه األنسب‬
‫ً‬ ‫واضحة أو مضمرة‪ ،‬وا ّما بما نتج من التزامه من التبعات الفلسفية‪ .‬ههنا‬
‫مجرد ظواهر ثقافية أو اجتماعية تتغير بتغير‬
‫لهذا الكتاب‪ :‬المقام الفلسفي الذي ال يأخذ الدين وال العلمانية ّ‬
‫ق صيرورٍة مستمرة هو حقيق‬‫أسبابها الداعية إليها‪ ،‬وانما هو المقام الذي يضطلع بهما في أفق كلّي؛ أي في أف ِ‬
‫مسلما كان أو غير مسلم ‪ -‬إلى الدين والى العلمانية ليست‬
‫ً‬ ‫باإلنسان بما هو إنسان‪ .‬فحاجة العربي اليوم ‪-‬‬
‫حاجته هو‪ ،‬ينفرد بها إزاء العالمين‪ ،‬وانما هي حاجة أصيلة‪ ،‬ال شأن لها باالنفعاالت وأهواء النفس‪ ،‬وال‬
‫بالمخاصمة والمشاغبة والمنازعة‪ ،‬هي "حاجة العقل"‪ ،‬كما قال كانط في نص شهير‪ ،‬ونمط استعماله المخصوص‬
‫له‪ ،‬وشكل "االستهداء" الذي ينبغي له به‪.‬‬
‫نتقصى دالالت هذا الحضور كما‬
‫ّ‬ ‫وبما أنه قد تقرر هذا النظر الفلسفي منو ًاال لجملة الكتاب‪ ،‬فإنه يحسن أن‬
‫قطعا وان‬
‫عام ال نلزم به المؤلف ً‬‫تتبين في ما سميناه الوجه الفينومينولوجي لتجربة الدين والتدين‪ ،‬وهو عنوان ّ‬
‫ابتداء‪ ،‬وا ْن‬
‫ً‬ ‫اتبعه في كثير من المواضع‪ ،‬وال نفرضه عسفًا على العمل‪ ،‬وانما نستقرئ حضوره في تقرير المؤلف‬
‫كتابا نظرًيا عن الدين‬
‫في منحى سلبي‪" :‬على الرغم من الجهد النظري المبذول‪ ،‬لم يكتب هذا البحث ليكون ً‬
‫ممكنا" (ج ‪ ،1‬ص ‪)8‬؛ أي الكتابة في "فلسفة الدين" أو "في نظرية‬
‫ً‬ ‫مثمر أو حتى‬
‫عمو ًما‪ ،‬فهذا الجهد ما عاد ًا‬
‫يسوغ المؤلف بموجبه مشروعه الذي هو "بحث عن الدين‬ ‫الدين"‪ ...‬إلخ‪ .‬وهب أننا نسلّم بهذا القرار الذي ّ‬
‫فإننا ال نسلّم بأهمية االعتبار النظري الفلسفي للدين في بناء‬
‫والعلمانية في سياق تاريخي" (ج ‪ ،1‬ص ‪ّ ،)9‬‬

‫‪34‬‬
‫حي مباشر‪،‬‬
‫هذا البحث‪ ،‬وان شغل مقدمة الكتاب الطويلة‪ ،‬حتى في حال تعلّق األمر بمسائل راهنة أو بتاريخ ّ‬
‫أن المستويات التي يقترحها الجزء األول؛ أي الدين والتجربة الدينية‪ ،‬والتدين‪ ،‬ونقد محاوالت دحض الدين‬
‫ذلك ّ‬
‫يعبر ترتيبها على هذا النحو وبهذا التدرج‬
‫أخير العلمانية والعلمنة‪ ،‬إنما هي أطوار تحليلية ّ‬
‫ومحاوالت تعريفه‪ ،‬و ًا‬
‫مجرد مجموعة من األباطيل أو النظريات‬
‫أن الدين ليس ّ‬
‫عن الفرضية التي يسعى المؤلف إلقناع قارئه بها‪ّ " :‬‬
‫العلمانية ليست عبارةً عن نظرّية علمّية" (ج ‪ ،1‬ص ‪ .)15‬ذلك هو في تقديرنا‬
‫ّ‬ ‫أن‬
‫الخاطئة في فهم العالم‪ ،‬و ّ‬
‫رأس األمر في هذا المشروع ووجه أصالته‪ّ :‬أنه ال شأن لنا بعد اآلن بنقد الدين على معنى التحرر النهائي منه‪،‬‬
‫حال علميا نهائيا لمشكالت‬
‫أن العلمانية الموعودة ليست ً‬
‫كما ب ّشرت بذلك نبوءات متتالية لم يصدق أصحابها‪ ،‬و ّ‬
‫حصا‬
‫بدال من هذا النقد الذي انقضى بانقضاء أجله‪ ،‬ومن هذا اإليهام بعلمية مزعومة‪ ،‬نجد ف ً‬
‫اإلنسان‪ .‬لذلك فإنه ً‬
‫للدين في أبعاده المختلفة لعله يفي بنذر هذا الكتاب؛ بوصفه "ظاهرةً اجتماعيةً متغيرةً وقابلةً للدرس"‪" ،‬وأنه يرتبط‬
‫استدالال‬
‫ً‬ ‫اديا‪ ،‬وليس‬
‫فعال إر ً‬
‫أن هذه التجربة "تقود إلى اإليمان [بوصفه] ً‬
‫على المستوى الفردي بتجربة وجدانية"‪ ،‬و ّ‬
‫أن المؤلف وان كان ال ينطلق صراحةً من‬
‫الحق ّ‬
‫استنتاجا علميا ضروريا‪ ...‬إلخ" (ج ‪ ،1‬ص ‪ ،)15‬و ّ‬
‫ً‬ ‫عقليا أو‬
‫مسلمات فينومينولوجيا الدين؛ كالمسلمات التي نادى بها رودولف أوتو ومارتن هيدغر ومرتشيا إلياده وفان دار‬
‫فإن تحليالته‪ ،‬في هذا المستوى التمهيدي‪ ،‬تتقاطع مع هذا المنظور من جهة االبتداء بالتجارب‬
‫لوي وباول تيليش‪ّ ،‬‬
‫أن الحديث عن التجربة‬
‫األساسية التي تتشكل منها مادة التجربة الدينية في أصولها الحدسية القصوى؛ ذلك ّ‬
‫الدينية هو حديث عن تجربة المقدس‪ ،‬عن "حدس المطلق مباشرةً‪ ،‬أو رؤية الالنهائي في النهائي‪ ،‬والمطلق في‬
‫النسبي‪ ...‬إلخ" (ج ‪ ،1‬ص ‪ ،)20‬وهو كذلك حديث عن البنية الجماعية االجتماعية للدين التي تتجاوز الكيان‬
‫الفردي‪ ،‬وتدرج المقدس في شعائر وممارسات ومؤسسات وسرديات كبرى تتكفل بإعادة إنتاج الوعي الجمعي‬
‫وحفظه وضمان استم ارره في الزمان‪ .‬ك ّل ذلك من خالل فحص لوجهات نظر ومواقف فلسفية ش ّكلت على تخوم‬
‫وتدبرت ما بينهما من التفاعل واالشتراك في اللغة والتصور والمراس اليومي‪ ،‬وشغلت‬
‫التماس بين الدين والدنيا‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫بالعالقة بين الفلسفة والالهوت‪ ،‬أو بين الدين وفلسفة الدين‪ ،‬أو بين النقل والعقل بلغة فالسفة اإلسالم ومتكلميه‪.‬‬

‫يخيا‪،‬‬
‫منطقيا وتار ً‬
‫ً‬ ‫أن هذه العالقة ذات األشكال المتباينة التي ال تنتظمها وتيرة واحدة إنما هي محتاجة‪،‬‬
‫غير ّ‬
‫إلى وسائط ضرورية هي التي توفّر الشروط الموضوعية لتجلي التجربة الدينية في مضامين بعينها تكون أشبه‬
‫شيء بها وأقرب نسًبا إليها‪ .‬ههنا ترد التحليالت التفصيلية بخصوص "األسطورة والمعنى بالحكاية" (ج ‪ ،1‬ص‬

‫‪35‬‬
‫أخير "عن الدين واألخالق" (ج ‪ ،1‬ص‬
‫ثم حديث "عن السحر والدين" (ج ‪ ،1‬ص ‪ ،)116-102‬و ًا‬ ‫‪ّ ،)102-57‬‬
‫اير لمنطق‬
‫‪ .)170-117‬واذا كان األمر مع المقطعين األولين‪ ،‬بخصوص التعبيرات األسطورية والسحرية‪ ،‬مس ًا‬
‫تكويني مألوف في الدراسات الفلسفية واألنثروبولوجية والتاريخية‪ ،‬ينشأ الدين بمقتضاه من التحالف والتنازع مع‬
‫احد‪ ،‬فإنه مع المقطع األخير يرتقي إلى مستوى المراهنة الفلسفية ِ‬
‫الخطرة على بنية القول‬ ‫هذه التعبيرات في آن و ٍ‬

‫سماه المؤلف في عبارة طريفة "'الدوامة'‬


‫الديني ومتانته‪ ،‬بالنظر إلى الظاهرة األخالقية في جملتها أو ما ّ‬
‫األخالقية" (ج ‪ ،1‬ص ‪ :)153‬بين الحاجات الخاصة بفردية اإليمان وخصوصيته والمقتضيات الكلّية للفعل‬
‫جميعا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ولصالحيته للناس‬
‫أيا كانت التفسيرات الفلسفية التي نستنجد بها لتدبير العالقة بين الدين واألخالق‪ ،‬من سبينو از وهوبز إلى كانط‬
‫وميل وبرغسون‪ ،‬وأيا كانت الشهادات المتوفرة عن هذه العالقة في النصوص المقدسة لمختلف الديانات التاريخية‪،‬‬
‫فإننا في ك ّل األحوال إزاء عالقة معقدة ال يتيسر فيها تسليط النص وأسبقيته المتعالية على األفعال األخالقية‪،‬‬
‫بوصفه سلطةً معياريةً مطلقةً‪ ،‬وال إخضاع الدين لمعيارية صورية متقدمة عليه هي العقل البشري بمصادره‬
‫الذاتية وحدوده‪ .‬من أجل ذلك بقيت الحداثة في هذا الطور بالذات‪ ،‬وهو طور شديد األهمية في مسار العلمنة‬
‫تردد مستمر بين السلطة األخالقية للمؤسسة الدينية القائمة كجزء من النظام‬
‫الذي يسعى المؤلف لطرحه‪ ،‬على ّ‬
‫السياسي واالجتماعي‪ ،‬وان اقتضى األمر تطهيرها وتجديدها‪ ،‬وبين السلطة المعيارية للعقل‪ ،‬وهي التي ال تلغي‬
‫أي مع‬‫بأي وجه؛ ْ‬
‫العام ال يتعارض مع الحياة الخاصة ّ‬
‫الدين وال تدعي ذلك‪ ،‬وانما تجعله جزًءا من المجال ّ‬
‫تحديدا)‬
‫ً‬ ‫أن التنبيه الذي أشار إليه المؤلف باقتضاب‪ ،‬على ما بين الموقف العقالني (الكانطي‬
‫الحرية‪ .‬على ّ‬
‫الغلو الصوفي من التباين؛ من جهة إقرار الفصل بين العلم واإليمان‪ ،‬شديد األهمية في تقديرنا (ج ‪ ،1‬ص‬
‫و ّ‬
‫‪ .)155-154‬فهذا الفصل ال يترك المؤمن على غير هدى من أمره يتخلّى عن االعتماد على عقله في شؤون‬
‫الدين‪ ،‬وال يدعه فريسةً للنزعات المغالية التي تتخطفه وتغريه فيميل إليها ك ّل الميل؛ وانما وقفنا على هذا المعنى‬
‫تحديدا ال تخلو من المجادلة بين الموقفين‪ ،‬العقالني والباطني‪ ،‬ولعلها‬
‫ً‬ ‫أن الحداثة في المسألة الدينية‬
‫العتقادنا ّ‬
‫حسم األمر لفائدة األولى على نحو قاط ٍع ونهائي مثلما أثبتت ذلك تحوالت األفكار واألحداث‬
‫لم تقدر على ْ‬
‫الالحقة‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫إن ميل المحدثين إلى تشكيل الظواهر الدينية في قوالب عقلية وادراجها تحت عناوين وبنيات معيارية متعالية‪،‬‬
‫ّ‬
‫يخالفه ميل المعاصرين إلى اإلقبال على هذه الظواهر بعينها من باب أخص خصائصها؛ أي "التدين"‪ .‬لذلك‬
‫فعليةً للمشروع من بعد التوطئة‬
‫المطول المعقود بهذا العنوان (ج ‪ ،1‬ص ‪ )242-173‬يمثل بدايةً ّ‬
‫ّ‬ ‫أن الفصل‬
‫نجد ّ‬
‫يخية في سوابق التجربة الدينية وحوافها‪ .‬وهذه البداية هي األنسب في رأينا للفينومينولوجيا‬
‫يبية أو تار ّ‬
‫ببدايات تجر ّ‬
‫التي ينتظرها القارئ؛ أي التجارب األساسية التأسيسية لهذه التجربة في مستوياتها األولية المباشرة‪ :‬المقدس‬
‫والمدنس‪ ،‬والشعور الديني‪ ،‬والخوف والرهبة‪ ،‬واإليمان واالعتقاد‪ ،‬والدين والتدين‪ ،‬واالعتناق‪ ...‬إلخ‪ ،‬مع ملحوظات‬
‫استطرادية حول "النماذج اإلسالمية" (ج ‪ ،1‬ص ‪ )223-204‬وأبعادها في هذا السياق‪.‬‬
‫أما ما يشهد على هذا المنحى الفينومينولوجي‪ ،‬بالمعنى األوسع للكلمة‪ ،‬فنجده في أسماء وأعمال تدور بالجملة‬
‫وّ‬
‫على التجربة الشعورية ودورها في تكوين التجربة الدينية؛ من بينها وليام جيمس‪ ،‬ورودولف أوتو‪ ،‬وفان دار‬
‫طويال‪ ،‬وال سيما في السياق العربي‪ ،‬لغلبة‬
‫ً‬ ‫لوي‪ ...‬إلخ‪ ،‬وهي مقاربات غفل عنها الباحثون في مجال األديان‬
‫طويال من الزمان‪ .‬ومن هذه التجربة األصلية تنشأ المفاهيم األساسية التي‬
‫ً‬ ‫ردحا‬
‫الوضعيات المادية والتاريخية ً‬
‫تنتظم اإليمان والعقيدة كالمقدس والمدنس‪ ،‬والحالل والحرام‪ ،‬و"مفهوم الـ ‪( numinous‬أوتو) الذي يجمع بين‬
‫تماما كما في لفظ الرائع والروعة بالعربية‪ ...‬إلخ" (ج ‪ ،1‬ص ‪ ،)178‬وغير‬
‫الرهبة والنفور واالنبهار واالنجذاب‪ً ،‬‬
‫أن المؤلف ال يكتفي ههنا بالوصف‬
‫ثم في أفق العالم من بعد ذلك‪ .‬على ّ‬
‫ذلك من تجليات القداسة في النفس أوًال‪ّ ،‬‬
‫المباشر لهذه المظاهر األولية للقداسة وأضدادها‪ ،‬وانما نجده يرجع بجوهر التجربة الدينية نفسها إلى هذا التضاد‬
‫سماه "الجدلية الممتعة التي تميز التدين"‪ ،‬والتي بمقتضاها يتحول الشيء إلى نقيضه؛ إذ "تكمن أهمية‬
‫أو ما ّ‬
‫التدين في النهاية في العادي اليومي ال في االستثنائي وغير العادي في التجربة الدينية"‪ ،‬و"لوال هذا التحول‬
‫الجدلي من عاصفة التجربة الدينية إلى عادية السكينة الدينية ومنواليتها‪ ،‬لما قامت للدين قائمة‪ .‬ليس التدين‬
‫أيضا نفيها‪ .‬ونفيها هذا هو الذي يصنع الدين أي يمأسسه باعتباره‬
‫هو التجربة األولية للمقدس‪ ،‬بل هو ً‬
‫ظاهرةً" (ج ‪ ،1‬ص ‪.)187-186‬‬
‫علو القداسة ويوميتها في آ ٍن واحد‪ ،‬وبين‬ ‫ِ‬
‫من هنا جاء االلتباس الدائم بين هذا العنفوان األصلي الذي يسم تجربة ّ‬
‫التصوف والحركات الصوفية التي هي أقرب شيء إلى التخريج أو التنميق الفني للدين‪ .‬فالموسيقى والتراتيل‬
‫المحسنات الجمالية التي تعمل على تجاوز الحس اليومي نحو ملكات عليا للنفس‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والشطحات كلّها من هذه‬

‫‪37‬‬
‫وفي هذا السياق جاء تأكيد دور "اإليمان" و"العقيدة" في تكميل هذا الوجه الفني الشعوري للدين حتى يتحول إلى‬
‫إن التحليل المعقود لإليمان (ج ‪ ،1‬ص ‪ )204-189‬يتبسط في‬
‫دين فعلي يتخذ الشكل المؤسسي الذي يالئمه‪ّ .‬‬
‫طرح هذه الفرضية وتسويغها بما يعرض من التفرقة بين دالالت "اإليمان المعرفي" و"اإليمان العرفاني"‪ ،‬األول‬
‫بوساطة من المعارف المتعلقة باهلل وبوجوده وهو موضوع هذا اإليمان واليقين الناجم عن التصديق بذلك‪ ،‬والثاني‬
‫بسبيل مباشرة ال تتوسل اإلثباتات العقلية‪ .‬فاإليمان ولو بالحد األدنى يتعين عليه أن يرافق الشعور الديني‬
‫ويتحول إلى عقيدة‪ ،‬ويقام على أساس قصة تأسيسية لنشوء المقدس وحدوثه في الزمان‪ ،‬أو في زمان ّما قدسي‬
‫أو غير قدسي‪.‬‬
‫أن ما انتهى إليه الجزء األول من فصلين متعارضين في الظاهر‪ ،‬أحدهما تاريخي نقدي والثاني تعريفي‬
‫يبقى ّ‬
‫فيلولوجي‪ ،‬إنما هو التكملة الضرورية للفينومينولوجيا السابقة المتعلقة بتجربة الدين والتدين في مختلف أشكالها‬
‫وتضاريسها‪ .‬فاألول (أي الفصل الثالث‪" :‬في نقد نقد الدين"‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪ )302-245‬هو استجماع لفرضية‬
‫كثير‬
‫أن اإللحاد ليس نظريةً علميةً‪ ،‬ولعل ًا‬
‫أن الدين ليس من قبيل الخرافة الباطلة‪ ،‬و ّ‬
‫سبق التعبير عنها‪ ،‬مفادها ّ‬
‫إما بفعل تنوير راديكالي متطرف‪ ،‬وا ّما‬
‫من آفات الفكر العربي المعاصر متأتية من الغفلة عن هذا المعنى؛ ّ‬
‫أيضا نرى في‬
‫بفعل المذاهب المادية التي خلطت عقائدها بمظهر من النظريات العلمية القاطعة اليقين‪ .‬ولذلك ً‬
‫إما على جهة العقل‪ ،‬أو‬
‫االلتجاء إلى الحلّين الكانطي والهيغلي محاولةً للتوسط بين النقائض ذات داللة كبرى؛ ّ‬
‫على جهة التاريخ‪ ،‬واما باستيعاب الدين في األخالق‪ ،‬أو بتنزيله في السياق الفعلي للنمو الجدلي للروح‪ ،‬وفي‬
‫مبنيا على التسليم عند الفيلسوفين بمرجعية المسيحية (البروتستانتية على ٍ‬
‫نحو‬ ‫ك ّل األحوال يكون هذا التوسط ً‬
‫نموذجيا‪ ،‬وهو ما يجد عند ماكس فيبر ترجمته الفعلية مع الترابط الوثيق بين الحداثة‬
‫ً‬ ‫دينا‬
‫خاص) بوصفها ً‬
‫ّ‬
‫وعقالنيتها االقتصادية واألخالق المسيحية في شكلها البروتستانتي (ج ‪ ،1‬ص ‪ .)302-290‬على النقيض من‬
‫أي وجاهة‬
‫ذلك تأتي محاولة ماركس (ج ‪ ،1‬ص ‪ )289-280‬كاستمرار للتقليد المادي الجذري في إبطال ّ‬
‫أما الثاني (أي الفصل الرابع‪" :‬تعريفات"‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪ ،)402-305‬فهو‬
‫عام‪ّ .‬‬
‫أخالقية أو تاريخية للدين بوجه ّ‬
‫جهد فيلولوجي لفحص أصول لفظة "الدين" في العربية وفي سائر اللغات‪ ،‬في النصوص المقدسة‪ ،‬وفي آثار‬
‫المتكلمين والفالسفة والمؤرخين والمعجميين وعلماء النفس واالجتماع واألنثروبولوجيا‪ ،‬حتى أننا نجد عند بعض‬
‫أن القصد من هذه المادة‬
‫إحصاء ألكثر من خمسين تعريفًا (ج ‪ ،1‬ص ‪ .)341‬على ّ‬
‫ً‬ ‫الباحثين (جوناثان سميث)‬

‫‪38‬‬
‫المعجمية إنما هو التمهيد للقضية المحورية في الكتاب‪ ،‬وهي الصلة بين الدين والعلمانية أو العلمنة؛ إذ صار‬
‫ممكنا في عصرنا من دون الولوج‬
‫ً‬ ‫أي بحث عن التعريف‪" :‬ما عاد بحث الدين‬
‫من المحال فصل األمرين عند ّ‬
‫فإن تعريف الدين هو ظاهرة 'علمنة' (‪ )...‬وذلك قبل نشوء العلمانية كإيديولوجية‬
‫إلى مفهوم العلمانية والعلمنة‪ّ .‬‬
‫بوقت طويل‪ ،‬وقبل نشوء مفهوم العلمنة كأنموذج سوسيولوجي في فهم هذه الصيرورة" (ج ‪ ،1‬ص ‪.)402-401‬‬
‫أيضا؛ كما يدل على ذلك الفصل األخير الذي يمهّد لالنتقال من مبحث الدين والتدين إلى‬
‫والعكس صحيح ً‬
‫مبحث العلمانية والعلمنة؛ إذ ال مجال لفهم الظاهرتين األوليين بمعزل عن الظاهرتين الثانيتين‪ .‬ولعل األهم في‬
‫هذا الشأن‪ ،‬من وراء المجادالت العمومية الشائعة حول فصل الدولة عن الدين‪ ،‬والمدني عن الروحي‪ ،‬أنه "ليس‬
‫أن العلمانية "نتاج عملية تمايز اجتماعي بنيوي وتغير في‬
‫ثمة وصفة أو معادلة للتطبيق المباشر" من أجل ّ‬
‫تمر بها المجتمعات كافةً" (ج ‪ ،1‬ص ‪.)405‬‬
‫أنماط الوعي كصيرورة تاريخية‪ ،‬وهي صيرورة ّ‬

‫(‪)2‬‬
‫تقدم‪ ،‬لع ّل القارئ يدرك إعراض المؤلف عن اختزال هذا الجدل في العالقة بين اإلسالم والديمقراطية‬
‫استنادا إلى ما ّ‬
‫ً‬
‫وتخيره للسياق األرحب‬
‫عقيما" بحسب قول بشارة (ج ‪ /2‬مج ‪ ،1‬ص ‪ّ ،)11‬‬
‫كما هو شائع ممجوج‪ ،‬بوصفه "سؤ ًاال ً‬
‫لنظرة تاريخية نقدية لألفكار الحديثة بشأن العالقة بين الدين والسياسة‪ .‬ولعل التسويغ الذي نجده في مقدمة هذا‬
‫المجلد‪ ،‬بما يحتله من مكانة وسطى في هذا المشروع‪ٍ ،‬‬
‫كاف للتنبيه على ما وقفت دونه المحاوالت السابقة‪:‬‬
‫النظر في العلمانية بوصفها ظاهرةً تاريخيةً نشأت في سياق النشأة السياسية للحداثة الغربية‪ .‬وهذا التساوق بين‬
‫مهم من جهتين على األقل‪ .‬فهو من جهة يعيد تنزيل الحداثة في‬
‫منابع الحداثة وأطوارها وبين مظاهر العلمانية ّ‬
‫مساقها الخاص بوصفها ظاهرةً سياسيةً في المقام األول على ما درج عليه التقليد األنغلوسكسوني‪ ،‬وتنسيب‬
‫الرؤية الكالسيكية القائمة على تفضيل المنطلقات النظرية والعلمية الخالصة (ديكارت‪ ،‬وغاليلي‪ ...‬إلخ) الشائعة‬
‫يمس جوهر هذه الحداثة السياسية؛ أي مسألة الدين وعالقتها بالسياسة‬
‫في التقاليد القارية‪ .‬وهو من جهة ثانية ّ‬
‫والدولة ونظم الحكم وتدبير الشؤون العمومية وغير ذلك‪ ...‬إلخ‪ ،‬وهو ما نغفل عنه‪ ،‬في أغلب األحيان‪ ،‬في‬
‫وكأن الحداثة قد أفلحت دفعةً واحدةً في تصفية الميراث الديني المسيحي‪،‬‬
‫نظرتنا إلى المتون والنظريات الفلسفية ّ‬
‫والحال أنها إعادة إنتاج وتشكيل لهذا الميراث على قواعد من العلمنة جديدة ومستحدثة‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫ذلك هو‪ ،‬إذن‪ ،‬ن ْذر هذا الجزء التاريخي من المشروع ووجه أصالته‪ .‬فهو ال يأخذ هذا التاريخ الحديث على أنه‬
‫خطّي متّصل‪ ،‬وانما يتناوله على ٍ‬
‫نحو "متعرج‪ ،‬وحتى لولبي حلزوني" (ج ‪ /2‬مج ‪ ،1‬ص ‪)11‬؛ حيث تتشابك‬
‫العالقات بين الدين والسياسة والعلم‪ ،‬وبين المجال الالهوتي والمجال الدنيوي‪ ،‬ويتواتر فيه التقدم والتراكم مع‬
‫التقهقر والتراجع‪ ،‬وتختلط فيه األفكار والمكتشفات العلمية بالمصائب والكوارث‪ ...‬إلخ‪ ،‬ولعل القارئ يجد ص ْو ًغا‬
‫مكثفًا لفرضيات هذا الجزء في فقرة جامعة يجدر بنا إيرادها‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫غالبا وجهين للصيرورة ذاتها‪ ،‬وبدأ منطق الدولة يظهر خالل‬
‫بينا‪ ،‬كان اإلصالح الديني واألصولية ً‬
‫"مثلما ّ‬
‫كثير من األفكار‬
‫أن ًا‬‫النهضة واألنسنية الكاثوليكية‪ ،‬وبعض مبادئ اإلصالح الديني؛ واألهم من هذا وذاك‪ ،‬وجدنا ّ‬
‫عام التي‬
‫أن فكرة الدين بشكل ّ‬
‫التي تعتبر في أيامنا "علمانيةً" نشأت وتطورت في إطار الثقافة الدينية السائدة‪ ،‬و ّ‬
‫أن التنوير ونقده جريا من دون استخدام‬
‫تتميز من الكنيسة والعقيدة المسيحية نشأت بعد تطور فكرة الدولة‪ ،‬و ّ‬
‫قائما في حينه في عالم الدين" (ج ‪ /2‬مج ‪ ،1‬ص ‪.)12‬‬‫مصطلح العلمانية الذي كان ً‬
‫إجماال لحركة التفكير في هذا الطور الثاني من حيث إنها تجري على وتيرتين‬
‫ً‬ ‫إن المتأمل في هذا الص ْوغ يجد‬
‫ّ‬
‫متساوقتين‪ :‬أوالهما وتيرة البسط التاريخي‪ ،‬بما يقتضيه من انتقاء اللحظات النموذجية في الفكر السياسي الحديث‪،‬‬
‫وانتظامها ضمن أفق معالجات وحلول وتصورات متفاوتة األهمية لمسألة العلمانية والعلمنة؛ من األنسنية‬
‫مرور باإلصالح اللوثري وتحوالت‬
‫الكاثوليكية في عصر النهضة إلى هابرماس وجدلية الدين والمجال العمومي‪ً ،‬ا‬
‫حد النماذج األكثر جذريةً‪ :‬نيتشه‬
‫العلم الحديث وعصر التنوير الفرنسي وما بعده في السياق األلماني‪ ،‬إلى ّ‬
‫بناء‬
‫أما ثانيتهما‪ ،‬فهي وتيرة إشكالية يقترح فيها المؤلف ضرًبا من إعادة توزيع أوراق اللعبة‪ً ،‬‬
‫وكارل شميت‪ّ .‬‬
‫طي صفحة النقد السطحي للدين ومفترضاته اإليديولوجية‪.‬‬ ‫حصل في المجلد األول من مكاسب بفعل ّ‬ ‫على ما ّ‬
‫فـ "منطق الدولة" إنما هو صادر من قلب الحركية الدينية ونزعتها األنسنية سواء في شكلها الكاثوليكي (أغسطين‪،‬‬
‫والنهضة اإليطالية)‪ ،‬أو في شكلها البروتستانتي (لوثر‪ ،‬وكالفن‪ ،‬وتسفينغلي)؛ أي من جدل قائم داخل التراث‬
‫"دنيوة" الدين منذ العصر الوسيط المتأخر‪ ،‬لذلك يصير من‬
‫سماه المؤلف ْ‬
‫المسيحي بمختلف وجوهه سعى لما ّ‬
‫الممكن أن نتصور انقالبات ممكنةً في الحدود التي يتألف منها هذا الوضع المعقد‪ .‬فكثير من المفاهيم العلمانية‬
‫أما فكرة الدين‪ ،‬فتظهر بعد تطور فكرة الدولة‪ ،‬بل إ ّن النقد التنويري‬
‫ترجع بأصول تكوينها إلى سياقات دينية‪ّ .‬‬
‫للدين لم يكن ليستعمل مفاهيم علمانيةً كانت سائدةً في السياق الديني نفسه‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫مطولة تراوحت بين المقدمة النظرية (ج ‪ /2‬مج ‪ ،1‬ص ‪ )100-39‬المعقودة لفحص‬
‫ك ّل ذلك احتاج إلى فصول ّ‬
‫أصول األلفاظ ذات الصلة بمصطلح العلمانية ومشتقاته في العربية وفي سائر اللغات من جهة‪ ،‬والتحليالت‬
‫التاريخية التفصيلية التي قلّما اجتمعت بين دفتي كتاب واحد وغطت مساحةً زمنيةً كبيرةً تكاد تشمل التاريخ‬
‫الذهني والروحي للغرب بمنابعه وروافده كلّها من جهة أخرى‪ .‬فإذا نظرنا في القسم االصطالحي المفهومي‪،‬‬
‫جعا إلى مكاسب يمكن حصرها في ما يلي‪:‬‬
‫وجدنا الحاصل منه ار ً‬

‫إن العلمنة هي صيرورة تاريخية واقعية‪ ،‬وهي نتاج عملية تطور شهدتها المجتمعات األوروبية وغيرها‪،‬‬
‫‪ّ ‬‬
‫طابع دنيوي في األصل‪ ،‬وعملية تمايز‬
‫ٍ‬ ‫بصفتها عملية "دنيوة" للوعي وللممارسة البشريين‪ ،‬لكونهما ذوي‬
‫عناصرها الدينية وغير الدينية في الوقت عينه‪ ،‬وتحديدها وتمأسسها؛ بعبارة أخرى "العلمنة كمفهوم هي‬
‫عمليا اسم ألنموذج تفسيري لعملية تطور إنسانية عامة على مستوى التاريخ الطويل في ما يتعلق بمعرفة‬
‫ً‬
‫الظواهر‪ ،‬وفي ما يتعلق بعالقة السلطة الدينية بالسلطة السياسية‪ ،‬أو الدين بالدولة" (ج ‪ /2‬مج ‪ ،1‬ص‬
‫‪.)41‬‬
‫تعبير عن التحديث ال يمكن إدراك حقيقتها من دون ربطها بخصوصية العالقة بين‬
‫إن العلمنة بوصفها ًا‬
‫‪ّ ‬‬
‫أوروبا وبين المسيحية؛ إذ تجلى الطابع المؤسسي للعالقة بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية وما‬
‫أحيانا‪ ،‬وما رافق ذلك من نشوء مفهوم الدولة الحديث في سياق‬
‫ً‬ ‫حينا‪ ،‬ومن التنازع‬
‫بينهما من التواطؤ ً‬
‫ضد المؤسسة الكنسية وميلها إلى الهيمنة‪ .‬وتنجم عن ذلك خصوصية الترابط في‬
‫الصراع السياسي ّ‬
‫العالم الغربي بين العلمانية والمسيحية وهو ما أنتج منذ نهايات العصر الوسيط النمط الحضاري الذي‬
‫دأبت فيه المجتمعات الغربية إلى اليوم كما رأى ذلك تايلور (ج ‪ /2‬مج ‪ ،1‬ص ‪.)44‬‬
‫بأي جهد‬
‫‪ ‬العلمانية في السياق العربي اإلسالمي بعضها منخرط في صيرورة واقعية تاريخية لم ترتبط ّ‬
‫تنظيري؛ فـ "تطور وعي السياسي خارج الديني حدث باستمرار في الثقافة العربية – اإلسالمية‬
‫مثال" (ج ‪ /2‬مج ‪ ،1‬ص‬
‫الكالسيكية‪ ،‬حيثما تطور الفرق بين االعتبارات السياسية والدينية عند الحكام ً‬
‫‪ ،)46‬وبعضها تش ّكل في هيئة "إيديولوجيا قائمة منذ المرحلة االستعمارية (‪ )...‬ولها أصحاب دعوات‬
‫أي دين‪ ...‬إلخ"‬
‫لفصل الدين عن السياسة‪ ،‬ولحرية الفرد في اعتناق الدين الذي يختار‪ ،‬أو عدم اعتناق ّ‬

‫‪41‬‬
‫(ج ‪ /2‬مج ‪ ،1‬ص ‪ ،)49‬على أننا في ك ّل الحاالت نبقى دون استشكال التطور التاريخي اإلسالمي‬
‫بوصفه عملية علمنة قبل أن يتحول المصطلح نفسه إلى مفهوم مستقل نسبيا عن البيئة التي أنشأته‪.‬‬

‫إن‬
‫يكمل هذه الثالثية‪ ،‬ف ّ‬
‫ولئن بقي هذا العنصر األخير مبثوثًا في ثنايا الكتاب‪ ،‬ولعله محتاج إلى كتاب مستقل ّ‬
‫أي ٍ‬
‫نظر فلسفي أو غير فلسفي من‬ ‫اللذين ال يستقيم ّ‬
‫العنصرين األول والثاني يش ّكالن جوهر المسألة وطرفاها ْ‬
‫دون أخذهما في الحسبان‪ :‬عنصر التاريخية الجذرية التي حكمت صيرورة الوعي بسيرورة العلمنة في حياة‬
‫الناس وشؤون دنياهم قبل ك ّل شيء‪ ،‬وعنصر الخصوصية األوروبية التي تحولت إلى ظاهرة كونية تورطت فيها‬
‫ٍ‬
‫بنسب متفاوتة ‪ -‬وانتقلت بمشكالتها الدينية المحلية إلى آفاق العالم المسكون‪،‬‬ ‫األمم والشعوب والثقافات ‪-‬‬
‫ودخلت البشرية برمتها في طور ال يمكن لها التراجع عنه‪.‬‬
‫فلينظر المرء إلى المسافة التي قطعت في األثناء بين الوضع الخصوصي الذي نشأ فيه التمييز بين سياقين أو‬
‫أن "مصطلح [العلمانية] يعود إلى تمفصالت وتمايزات وظيفية في‬
‫عالمين أو حتى بين نمطين من الناس‪ ،‬ذلك ّ‬
‫الكنيسة ذاتها"‪ ،‬ويد ّل على "صفة الرهبان 'المكرسين لخدمة الرب' من رجال الدين العاملين في الدنيا‪ ...‬إلخ"‬
‫حد تشكيل منظومة العالقات بين الدول‬
‫(ج ‪ /2‬مج ‪ ،1‬ص ‪ ،)50‬وبين المجال األوسع لتداول المصطلح إلى ّ‬
‫وضبطها بحدود سياسية‪ ،‬وسيادة وطنية‪ ،‬وغيرها من المفاهيم التي خلقت النظام الدولي الحديث‪ ،‬حتى كدنا‬
‫فضال عن تحميل المؤسسة الكنسية كامل المسؤولية التاريخية‬
‫ننسى أصول المسألة في محضنها الديني الكنسي‪ً ،‬‬
‫دوما‪ ،‬وال هو‬
‫عن شناعات التداخل بينها وبين الدولة والحال أنها طرف في الصراع ليس هو الطرف األقوى ً‬
‫أصال‪.‬‬
‫يقبل بهذا التداخل ً‬
‫ربما لمثل ذلك يبقى طور "اإلصالح الديني" (ج ‪ /2‬مج ‪ ،1‬ص ‪ )299-233‬محوريا في هذا السياق‪ :‬في‬
‫التخريج الحقوقي السياسي والعقائدي لمسألة العلمنة من أصولها في التجربة الكهنوتية ومن السياق الكنسي نفسه‬
‫بتنوعه وتاريخيته ومطالبه الخاصة‪ ،‬وكذلك في الص ْوغ النظري لمطالب العلمانية والعلمنة كمطالب نابعة من‬
‫أهل الدين أنفسهم أو من رجاله وأصحابه وأتباعه‪ ،‬حتى يبلغ بنا األمر حدا ال يمكن لنا معه أن نتصور المسألة‬
‫من دون جذرها الروحي‪ ،‬كتجربة وجدانية حدسية المتناهية‪ ،‬ومن دون انتظامها المؤسسي الفعلي‪ ،‬بوصفها من‬
‫أيضا‪ ،‬نجد التنظيرات األعمق منتسبةً إلى هذا‬
‫اقتضاء الكنيسة ومن دعاواها إزاء المجتمع والدولة‪ .‬ولذلك‪ً ،‬‬
‫السياق في المجال الجرماني‪ .‬فأسماء من الرعيل األول من الفالسفة؛ مثل كانط وشاليرماخر وهيغل وشلنغ‬

‫‪42‬‬
‫وفيشته‪ ،‬ومن تبعهم من األجيال التالية؛ مثل فلهلم ديلتاي وأرنست ترولتش ورودولف أوتو وماكس فيبر وكارل‬
‫شميت‪ ،‬إضافةً إلى المتأخرين؛ مثل هانز بلومنبرغ ويورغن هابرماس‪ ...‬إلخ‪ ،‬إنما توحي بهذه النزعة الغالبة‬
‫على األدبيات األلمان ية التي تفاخر بما عجزت عنه سائر األمم األوروبية‪ :‬إصالح الدين بوصفه النهضة‬
‫الحقيقية لألمة األلمانية (ديلتاي)‪.‬‬
‫ولئن رأى المؤلف في الحركة اإلصالحية البروتستانتية ضرًبا من الردة‪ ،‬أو من األصولية السلفية بإلغاء الوساطة‬
‫بين المؤمن وبين اهلل (ج ‪ /2‬مج ‪ ،1‬ص ‪ ،)237‬فإنه ال يمكن أن نغفل في الوقت نفسه عن النزعة الدنيوية‬
‫قدم ماكس فيبر أفضل التحليالت عنها‬
‫الجذرية التي رافقت اإلصالح‪ ،‬والتي ارتبطت بسيرورة عقلنة شاملة ّ‬
‫فضال عن مسايرتها للدولة ودعوتها للطاعة‪.‬‬
‫ً‬ ‫بوصفها عين المقام التاريخي الذي يختص به العصر الحديث‪،‬‬
‫باختصار‪ ،‬افتكت البروتستانتية المبادرة في االستئثار بما أعرضت المدارس والتيارات األخرى عنه‪ :‬وضع‬
‫المسألة الدينية في قلب الحداثة‪ ،‬واالستعداد لك ّل ما ينجم عن هذا الوضع المثير للجدل‪.‬‬
‫في هذا السياق‪ ،‬يتعين أن ندرك المناظرة المزدوجة مع التنوير (ج ‪ /2‬مج ‪ ،1‬ص ‪ ،)601-493‬ومع‬
‫ما بعد التنوير (ج ‪ /2‬مج ‪ ،1‬ص ‪ ،)678-605‬وقد تشكلت على حدودها وخاللها المفاصل الحاسمة للحداثة‪:‬‬
‫نقد الدين وال سيما النقد التنويري الفرنسي المغالي وتأسيس نمط مخصوص من العلمنة لع ّل "الالئكية" هي أنسب‬
‫األسماء لها‪ ،‬ونقد هذا النقد في المجال األلماني بإعادة ترتيب المسألة على أساس أولويات جديدة‪ .‬وفي الحالتين‬
‫تنشأ فلسفتان للتاريخ‪ :‬فلسفة للتاريخ المقدس (نيوتن‪ ،‬وبوسيي) تعلو على التاريخ الدنيوي‪ ،‬وفلسفة للتاريخ الكوني‬
‫تستوعب األول في الثاني (فولتير‪ ،‬وهيغل)‪.‬‬
‫أن فلسفة التاريخ‬
‫ولقد صار من المعلوم‪ ،‬منذ ديلتاي وكارل لوفيت وفالتر بنيامين وحنا آرنت وهانز بلومنبرغ‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫علمنة لتاريخ الخالص في الالهوت المسيحي وص ْوغ عقالني لمقوالته الرئيسة‪ ،‬بما‬ ‫إن هي إال مسار‬
‫الغربية ْ‬
‫في ذلك أكثر النظريات غلوا في المادية (فويرباخ‪ ،‬وماركس)‪ ،‬أو في التشاؤم والعدمية (شوبنهاور‪ ،‬ونيتشه)‪،‬‬
‫فهي في مجملها مناظرة داخلية حول شأن داخلي ال يخرج عن المنبع اليهودي المسيحي للغرب‪ ،‬كما تش ّكل منذ‬
‫عهدة قسطنطين‪ ،‬وكما بلغ مع اإلصالح اللوثري أعلى درجات وعيه بنفسه؛ لذلك لم يكن بوسع القرن التاسع‬
‫عشر وأهله ُّ‬
‫تدبر معنى العلمنة والعلمانية في البالد الغربية الكبرى‪ ،‬ألمانيا وفرنسا وانكلت ار‪ ،‬من دون استيعاب‬
‫إما بمنحى نقدي راديكالي كالسيكي (الماركسية والمذاهب المادية‪ ،‬الفصل ‪:10‬‬
‫سلبا؛ ّ‬
‫الدرس من القرن الماضي ً‬

‫‪43‬‬
‫"العلمانية بوصفها إيديولوجيا في القرن التاسع عشر"‪ ،‬ج ‪ /2‬مج ‪ ،1‬ص ‪ )708-681‬أو بالمنحى نفسه في‬
‫سياقه المعاصر (مدرسة فرنكفورت‪ ،‬والالهوت السياسي‪ ،‬والالهوت السلبي الفرنسي‪ ،‬الفصل ‪" :11‬نماذج في‬
‫يجابا (الفصل ‪" :12‬نماذج ليبرالية وديمقراطية معاصرة‬
‫النقد الحداثي للتنوير"‪ ،‬ج ‪ /2‬مج ‪ ،1‬ص ‪ )751-711‬وا ً‬
‫في حرية الدين والعقيدة"‪ ،‬ج ‪ /2‬مج ‪ ،1‬ص ‪ ،)828-755‬من خالل التسليم المتنامي بجدارة النظام الليبرالي‬
‫بتنظيم شؤون الحياة السياسية والعامة‪ ،‬وكذلك الدينية‪ ،‬بحسب المنوال الثوري الخاص بك ّل أمة‪ :‬منوال الثورة‬
‫بأهم منها داللةً وفاعليةً تاريخيةً‪ ،‬وصوًال إلى‬
‫أثر وشهرةً‪ ،‬وان لم تكن ّ‬
‫ثم الفرنسية التي فاقتها ًا‬
‫اإلنكليزية أوًال‪ّ ،‬‬
‫التنويعات المتأخرة من الليبرالية‪ :‬التأسيسية منها وغير التأسيسية (راولز‪ ،‬ورورتي)‪ ،‬والخالفات الراهنة حول‬
‫الداللة القصوى للسياسي ومصادره التاريخية والرمزية (تايلور‪ ،‬وهابرماس)‪ ،‬وما يثيره ذلك من المنازعة المتجددة‬
‫ب شأن وضع الدين واإليمان بين دائرة الخصوصية الفردية ودائرة العمومية والتعايش والتضامن بين الناس‪ ،‬وهو‬
‫أمر يقتضي إعادة رسم األدوار وتحديد معنى العلمانية المطلوبة في إدارة الشأن السياسي‪ ،‬في زمن فقد فيه‬
‫موحدة متجوهرة بالسياق‬ ‫قوة اإلدماج والحشد التي كان الدين يصنع بها وحدة األفراد في بنيات وهيئات ّ‬ ‫الناس ّ‬
‫االجتماعي‪ ،‬وفقد فيها الفالسفة امتياز السبق لتقدير أفعال العباد على مقتضى المبادئ والمعايير العقلية الكلّية‪.‬‬
‫فالديمقراطية‪ ،‬كما قال رورتي في نص شهير‪ْ " ،‬أولى من الفلسفة"‪.‬‬

‫(‪)3‬‬
‫قد يكون من الضروري‪ ،‬في نهاية المطاف‪ ،‬إعادة نمذجة األنماط التفسيرية والمذاهب والمواقف بشأن "نظريات‬
‫أن ما ورد على جهة‬
‫العلمنة" التي تمثّل مساهمة المجلد الثاني من الجزء الثاني واألخير من الكتاب؛ ذلك ّ‬
‫ثال تحتذى لتنظيم الشأن السياسي وعالقته‬
‫التعاقب التاريخي قد استحال‪ ،‬بفعل االستقرار والتواتر والتداول‪ ،‬م ً‬
‫بمسائل الدين وشؤونه‪ .‬ولع ّل صيرورة العلمنة نفسها متساوقة مع بنية سردية للزمن التاريخي يعتمدها ك ّل عصر‬
‫سماه ليوتار‪ ،‬في تقريره الشهير‪" ،‬السرديات الكبرى"‪.‬‬
‫أمة وك ّل مجتمع على شاكلة ما ّ‬
‫للحديث عن نفسه وك ّل ّ‬
‫هل يمكن ع ّد العلمانية من جنس "الميتا ‪ -‬سرديات" التي تضاهي كبرى النظريات واإليديولوجيات والتيارات‬
‫التاريخية والفلسفية في العصر الحديث؟ ذلك ما يعمد المؤلف إلى استشكاله لدى التوتر والتقاطع اللذين ي ارفقان‬
‫الجمع بين التاريخ المقدس والتاريخ الدنيوي كما أشير إليه من قبل‪ .‬ولقد جابه المؤرخون الكبار‪ ،‬من طبقة غيبون‬

‫‪44‬‬
‫وارنست رينان وبوركهارد وميشلي وليكي‪ ،‬مشكالت متعلقةً بموضوعية العمل التاريخي ومنزلة المؤرخ وطبيعة‬
‫المادة التاريخية نفسها وتقاطعها مع األساطير الكبرى والقصص الديني؛ مثلما كان عليهم مواجهة مشكالت‬
‫التاريخانية كما بسطها إرنست ترولتش في نهاية القرن التاسع عشر‪ ،‬ونقدها بشدة في القرن العشرين هوسرل‬
‫ومن بعده كارل بوبر في بيان شهير‪ ،‬وانعكس ذلك كلّه على أعمال مدرسة الحوليات الفرنسية الشهيرة وما‬
‫أحدثته من تجديد في الكتابة التاريخية‪.‬‬
‫تلخيصا كثيفًا لهذا التداخل بين مسارات العلمنة والتاريخ‪" :‬مثل‬
‫ً‬ ‫نجد في بداية المجلد الثاني من الجزء الثاني‬
‫السرديات الكبرى كلّها‪ ،‬تتضمن العلمنة زاوية نظر تصلح إللقاء الضوء على جوانب من الصيرورة التاريخية‬
‫ّ‬
‫الفعلية‪ .‬وتكمن المهمة في فصل النظرية فيها عن الميثولوجيا‪ .‬وفي األحوال كلّها تعني العلمنة على مستوى‬
‫كتابة التاريخ الفصل بين عقائد المؤرخ واتجاهاته المعيارية‪ ،‬والصيرورة التاريخية‪ .‬لكننا نجد في المقابل أ ّن هذه‬
‫العلمنة في نطاق التدوين التاريخي اخترقت بالمعياريات واألساطير الجديدة التي تظهر كأنها من طبيعة تاريخية‪،‬‬
‫ال من نوع األساطير الفائقة للتاريخ" (ج ‪ /2‬مج ‪ ،2‬ص ‪ .)37‬فالسردية ليس لها وجود واقعي‪ ،‬وانما هي بنية‬
‫مثالية أو اصطناعية‪ ،‬ولم تكن ثمة إطالقًا "وحدة كاملة بين الدين والدولة يتبعها فصل بينهما‪ ،‬إذ لم تكن ثمة‬
‫غالبا سيطرة طرف على اآلخر" (ج ‪ /2‬مج ‪ ،2‬ص ‪.)60‬‬
‫تضمن ً‬
‫وحدة كاملة في يوم من األيام‪ ،‬بل ساد تداخل ّ‬
‫أيضا على السياق‬
‫ك‪ ،‬على السياق الغربي‪ ،‬فإنه أحرى أن ينطبق ً‬
‫ولئن كان هذا الكالم ينطبق‪ ،‬من دون ش ّ‬
‫العربي اإلسالمي‪ .‬فالمتحدثون عنه من ك ّل المشارب إنما يكررون هذه البنية المثالية االفتراضية التي ال يشهد‬
‫لها الواقع التاريخي حينما يتحدثون عن عالقة الدين بالدولة‪ ،‬وكأنها من صنع مخيلتهم‪ ،‬ال من تصاريف الشؤون‬
‫البشرية التي تسير بما تقتضيه مصالح الناس في الدنيا‪ ،‬حيث كانت العلمنة في مفاصل كبرى من تاريخنا‬
‫ليال (الحظ اإلشارة‬
‫متخلّلة لصيرورة الحياة وتقلبات أشكال الحكم والسيطرة والنفوذ‪ ،‬ال تأتمر بسلطان العقائد إال ق ً‬
‫عما‬
‫فضال ّ‬
‫ً‬ ‫الالفتة لالنتباه بهذا الخصوص بشأن قرب البروتستانت من المسلمين‪ :‬ج ‪ /2‬مج ‪ ،2‬ص ‪،)121‬‬
‫المجرد دون تاريخيته الفعلية والمعقدة من المفاسد؛ إذ تؤخذ العلمانية "كتجربة‬
‫ّ‬ ‫يجر إليه التأثّر المباشر بالمفهوم‬
‫ّ‬
‫'ناجزة ' معطاة ال كتجربة يجري إنجازها وفق الشروط التاريخية للمجتمعات" (ج ‪ /2‬مج ‪ ،2‬ص ‪.)142‬‬
‫أن عرض "نماذج تاريخية" (ج ‪ /2‬مج ‪ ،2‬ص ‪ ،)176-75‬من التاريخ اإلنكليزي والفرنسي واأللماني‬
‫ال شك في ّ‬
‫واإلسباني والبولندي‪ ،‬يم ّكن من استخالص المقومات النظرية لألحداث الحاسمة التي تشكلت معها الخريطة‬

‫‪45‬‬
‫السياسية للغرب الحديث وأنماط استعماله للمعطى الديني في عمليات العلمنة المتزايدة؛ وهي مقومات صارت‬
‫أن نشوء المفهوم في سياقات تاريخية مرّكبة يتعين أخذه في الحسبان‪ ،‬ال القفز‬
‫تبين ّ‬
‫ذات داللة نموذجية بالغة ّ‬
‫طويال من الدهر‪ ،‬وال يزال يغلب على قطاعات‬
‫ً‬ ‫حينا‬
‫عليه واستخالصه بضرب من التجريد المثالي الذي غلب ً‬
‫كبيرة من النخب العربية واإلسالمية‪ .‬فالجدل بين الدين والدولة‪ ،‬وهو الذي تقع العلمانية في قلبه‪ ،‬ويتجاذبها‬
‫جدال خطيا على نمط التطور الهيغلي الذي يفضي إلى تأليف كلّي أعلى‪ ،‬وانما هو مرافق‬
‫أطراف الصراع‪ ،‬ليس ً‬
‫شيئا من سردية بديلة‬
‫لتعرجات التاريخ‪ ،‬مثقل بسبق األحداث‪ .‬ولذلك‪ ،‬ربما يقترح المؤلف في بعض المواضع ً‬
‫لهذا الحراك المعقد مختلفة عن السرديات الكبرى التي تحدثت عنها أدبيات ما بعد الحداثة‪" :‬يفترض أن تكون‬
‫العلمنة إ ًذا صيرورةً تاريخيةً تتضمن وحدة الدين والسياسة والمجتمع واألخالق والمعرفة‪ ،‬وتمفصلها وتمايزها‬
‫ثم إعادة بناء وحدتها من جديد كوحدة أغنى (أكثر تركيًبا وأكثر‬
‫الدائم‪ ،‬وجدلية العناصر المفصولة وصراعها‪ّ ،‬‬
‫ثم تمايزها من جديد‪ .‬هذه ليست رواية تاريخية‪ ،‬لكنها 'رواية نظرية' تم ّكن من رؤية التاريخ من زاوية‬
‫تطورا)‪ّ ،‬‬
‫ً‬
‫أن من الممكن رواية التاريخ االنساني من زاوية النظر هذه بشكل مختلف‪ .‬وعندما‬ ‫نظر محددة‪ .‬وال شك في ّ‬
‫أبعادا ومعاني جديدةً" (ج ‪ /2‬مج ‪،2‬‬
‫ً‬ ‫فإن حوادثه ووقائعه تتخذ‬
‫يروى التاريخ ويكتب من زوايا فكرية مختلفة‪ّ ،‬‬
‫ص ‪.)221‬‬

‫***‬
‫في ك ّل األحوال تبقى اإلنسانية في حاجة إلى سرديات جديدة‪ ،‬ال سرديات كلّية شمولية طاغية‪ ،‬وانما سرديات‬
‫أما العلمانية‪،‬‬
‫تجدد نظرتنا إلى التاريخ بوصفه سيرورةً من االغتناء الذاتي واالعتمال والتطور في ك ّل االتجاهات‪ّ .‬‬
‫ٍ‬
‫إنسانية فقدت ضمانات األديان الكبرى ويقينيات اإليمان‪ ،‬وارتدت‬ ‫فلعلها هي المضمون األخير لهذه السردية لدى‬
‫طوعا أو كرًها إلى اإليمان بها‪ ،‬هي الدين والدنيا م ًعا‪ ،‬أو‬
‫إلى نفسها‪ ،‬كأنها ديانة بال أتباع وال مؤمنين‪ ،‬نضطر ً‬
‫بالمدنس‪ ،‬وح ّل الواحد مكان اآلخر‬
‫ّ‬ ‫المقدس‬ ‫الدين وقد صار دنيا‪ ،‬وتخلل األيام واألعمال‪ ،‬واختلط ِ‬
‫الح ّل بالحرم‪ ،‬و ّ‬
‫واستأثر بامتيازاته‪ :‬أليست الحداثة بعد ك ّل هذا‪ ،‬وما نحن إليه سائرون ‪ -‬شئنا أم أبينا ‪ -‬هي الوثنية الجديدة‬
‫بعينها؟‬

‫‪46‬‬
‫الدين والعلامن ّية يف سياق إسالمي‬
‫*‬
‫محمد بوهالل‬
‫ّ‬

‫"الدين والعلامنيّة يف سياق تاريخي" مرشوع مفتوح‬

‫جدلية الدين والدولة يف السياق اإلسالمي‬

‫جدل ّية الدين والدولة يف السياق اإلسالمي القديم‬ ‫‪.1‬‬

‫أ‪ .‬املقاربة األوىل‬


‫ب‪ .‬املقاربة الثانية‬
‫ج‪ .‬املقاربة الثالثة‬
‫د‪ .‬نقد املقاربات الثالث‬
‫‪ .2‬جدلية الدين والدولة يف السياق اإلسالمي املعارص‬

‫أ‪ .‬الدينامية الفكرية‬


‫ب‪ .‬الدينامية السياسية واالجتامعية‬
‫ج‪ .‬الدينامية الدولية‬
‫الخامتة‬

‫أستاذ التعليم العالي في الحضارة اإلسالمية في جامعة سوسة‪ ،‬تونس‪.‬‬ ‫*‬

‫‪47‬‬
‫العلمانية في سياق تاريخي" مشروع مفتوح‬
‫ّ‬ ‫"الدين و‬

‫ومادته الغزيرة التي‬


‫العلمانية في سياق تاريخي"‪ ،‬بمجلّداته الثالثة الضخمة ّ‬
‫ّ‬ ‫يمثّل كتاب عزمي بشارة "الدين و‬
‫المفصلية في المسار األوروبي للعلمنة‬
‫ّ‬ ‫جمعت بين التعريف بآراء مئات المف ّكرين ِ‬
‫وذكر الحوادث التاريخية‬
‫وتحليل المفاهيم والنصوص واآلراء ذات الصلة ونقدها وبناء رؤى فلسفية وتحليلية شخصية مبتكرة تضع المسألة‬
‫أهم دراسة مكتوبة باللغة العر ّبية في موضوع العلمانية من حيث هي حصيلة مسار‬
‫في أفق جدلي تفهّمي‪ّ ،‬‬
‫متعدد األطراف واالتجاهات‪.‬‬
‫تاريخي معقّد ّ‬

‫درس عزمي بشارة في هذا الكتاب مسار العلمانية في تش ّكلها التاريخي والنظري‪ .‬ووقف على المنعرجات الخفيّة‬
‫تتبع تاريخي دقيق ومساءلة وتفكير متواصلين استحضر خاللهما بصورة تحليلية‬
‫والبارزة في هذا المسار‪ ،‬بفضل ّ‬
‫المتنوعة للمؤسسة الدينية المسيحية في مختلف مراحلها‬
‫ّ‬ ‫عددا ال يكاد يحصى من النصوص واإلسهامات‬
‫نقدية ً‬
‫ّ‬
‫التحوالت العلمية‬
‫وحركات اإلصالح الديني وفالسفة العقل والتنوير والفلسفات النقدية والمادية والوضعية و ّ‬
‫والمنهجية النوعية التي قادت إليها والحركات االجتماعية والسياسية ونزعات ما بعد الحداثة وما بعد العلمانية‪.‬‬

‫كثير من النوافذ المتعلّقة بها‪ ،‬عبر المساءلة‬


‫لقد فتح بشارة في كتابه ورشة الدين والعلمانية على مصراعيها‪ ،‬وفتح ًا‬
‫إن‬
‫التتبع التاريخي والتحليل الفلسفي والنظر المجهري‪ .‬وعلى الرغم من ضخامة المنجز يمكن القول ّ‬
‫المفهومية و ّ‬
‫المؤلف لم يتناول الموضوع ليغلقه‪ ،‬بل تناوله ليفتح من خالله عشرات المسالك والمباحث المتّصلة بالعلمنة‬
‫التطور التاريخي السياسي والتش ّكل الديني والتفاعل االجتماعي‪ ،‬ومستقبل الدين والعلمنة‪ ،‬واستمرار الحاجة إلى‬
‫و ّ‬
‫الرمز والمعنى‪ ،‬وغيرها من المسائل التي تشغل اإلنسان المعاصر‪.‬‬

‫التقدم بالموضوع سواء في اتّجاه تكريس العلمنة‬


‫تجنب المؤلف المقاربة األيديولوجية للعلمانية التي لم يعد بوسعها ّ‬
‫ّ‬
‫أن هذه المقاربة ال تقود ّإال إلى الصدام بين ّتيارين عريضين في‬
‫الحد منها‪ .‬وقد ّبينت األحداث ّ‬
‫أو في اتّجاه ّ‬
‫مفهوما‬
‫ً‬ ‫تجنب بشارة هذه المقاربة ببناء قراءة تاريخية تحليلية وتفكيكية للدين‬
‫التيار الدنيوي‪ّ .‬‬
‫التيار الديني و ّ‬
‫العالم‪ّ :‬‬
‫وتتبع‬
‫الخاصة‪ ،‬وتنويع المداخل والمقاربات وزوايا النظر‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫العامة و‬
‫ونظاما‪ ،‬في الحياتين ّ‬
‫ً‬ ‫وتجربة وظاهرة وسلوكا‬
‫العام‪ ،‬ووقف على وجوه ارتباطها‬
‫ميزت اشتغال الدين في المجال ّ‬ ‫المد والجزر والتنوير واإلصالح التي ّ‬
‫حركة ّ‬

‫‪48‬‬
‫بنمو المعرفة العلمية واستقالل العقل والدولة والهيئات االجتماعية عن المؤسسة الدينية‪ّ .‬إال ّأنه فعل ذلك في‬
‫ّ‬
‫مشروعا‬
‫ً‬ ‫مكتفيا بإشارات موضعية إلى السياق اإلسالمي‪ ،‬وهو ما يجعل جهد بشارة‬ ‫ً‬ ‫سياق أوروبي مسيحي‪،‬‬
‫مفتوحا يتطلّب التفاعل والمراجعة واالستكمال‪.‬‬
‫ً‬

‫إن كتاب بشارة بمجلّداته الثالثة يذ ّكرنا بالمشاريع الفكرية العر ّبية الكبرى التي كتبها مف ّكرون عرب مرموقون‪،‬‬
‫ّ‬
‫يتميز عن مشاريعهم‬‫أن كتابه ّ‬
‫ومحمد عابد الجابري‪ّ ،‬إال ّ‬
‫ّ‬ ‫الطيب تيزيني‬
‫مروة ومحمود إسماعيل و ّ‬
‫أمثال حسين ّ‬
‫تصور نسقي مغلق؛ فبعض الباحثين وضع ثقته بالمنهج‪ ،‬وبعضهم وضعها باأليديولوجيا‪.‬‬
‫بعدم سجن نفسه في ّ‬
‫أما بشارة فوضع ثقته في التحليل التاريخي والفلسفي القائم على الحفر والتفكيك والتأويل والربط بين العناصر‬
‫ّ‬
‫عامة نجدها مبثوثة في أقسام الكتاب المختلفة‪ ،‬نذكر‬
‫المتجانسة والمتنافرة‪ ،‬وهو ما م ّكنه من الوصول إلى نتائج ّ‬
‫من بينها‪:‬‬

‫‪ -‬كان نشوء النظريات والرؤى السياسية الغربية المتصلة بالدين والدولة والعلمانية والديمقراطية والعقد االجتماعي‬
‫مكونات المجتمع ومؤسساته ونخبه‪ ،‬وتفاعلها مع قضايا الواقع المعيش بصعوباته‬
‫وغيرها ثمرة جدل وصراع بين ّ‬
‫مكانا وزمنا‪،‬‬
‫ومعضالته‪ .‬ولئن تأثّرت تلك النظريات ببعض الموارد الفكرية والثقافية الوافد بعضها من أفق بعيد ً‬
‫فإنها لم تكن قطّ استعارة جاهزة‪ ،‬بل كانت ثمرة تفاعل مباشر مع األحداث والمطالب والحروب والكوارث‬
‫ّ‬
‫والعذابات والدماء وانسداد أفق المنظومات القائمة التي عاش عليها المجتمع األوروبي الوسيط طوال قرون‬
‫وانفتاح آفاق جديدة مغرية في وجه المنظومات الحديثة‪.‬‬

‫لكن‬
‫تحديدا‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫ضديدا للدين؛ فقد نشأت إرهاصاتها األولى في سياق مسيحي كنسي‬
‫ً‬ ‫‪ -‬ليست العلمانية بالضرورة‬
‫يخيا على حساب سلطة الدين وامتداد نفوذه إلى مجاالت الحياة المختلفة‪ .‬وهي من الناحية‬
‫توسعها تحقّق تار ً‬
‫ّ‬
‫المقدس والغاءه‪ ،‬بل تعني انتقاله من المجال الديني والميتافيزيقي إلى المجال الدنيوي‬
‫اإلجرائية ال تعني زحزحة ّ‬
‫من خالل المشاعر الوطنية وشعارات الدولة وبروتوكوالت الحياة السياسية والعالقات الدولية وغيرها‪ ،‬مع االحتفاظ‬
‫التدين واالعتقادات وفقًا لما ترتضيه ضمائرهم‪.‬‬
‫بحق ّ‬ ‫لألفراد ّ‬

‫التحوالت المعرفية‬
‫قوتان تتمثّل األولى ب ّ‬ ‫‪ -‬العلمانية مسار تاريخي تراكمي طويل ومعقّد أسهمت فيه باألساس ّ‬
‫الجذرية التي قادت إلى سيادة المعرفة العلمية وتغلغلها في مجمل مفاصل الحياة‪ ،‬وتتمثّل الثانية بالدولة التي‬

‫‪49‬‬
‫ثم عند التم ّكن النهائي إلى‬ ‫ِ‬
‫استؤمنت على قيمة الحرية وظلّت بحكم هذا الدور تنحو إلى االستقالل عن الكنيسة‪ّ ،‬‬
‫ضد الدين وال تحتاج‬
‫التعسف ّ‬
‫تتضمن العلمانية معنى القسر واإلكراه و ّ‬
‫ّ‬ ‫وبناء عليه‪ ،‬ال‬
‫ً‬ ‫التفرد بالسلطة الزمنية دونها‪.‬‬
‫ّ‬
‫الحد‬
‫وقويا ويقتضي فيها منطق الدولة إلجام الدين و ّ‬
‫التدين عاما ّ‬
‫أصال إالّ في الحاالت التي يكون فيها ّ‬
‫إلى ذلك ً‬
‫من تأثيره في الشأن العام‪ .‬وهذا يفترض الفصل بين العلمانية والديمقراطية‪ ،‬وعدم افتراض تالزم حتمي بينهما‪.‬‬

‫التوصل إلى إظهار الترابط‬


‫ّ‬ ‫‪ -‬عبر النظر في موضوع الدين والعلمانية بطريقة تاريخية تحليلية دقيقة‪ ،‬يجري‬
‫اإلشكالي بين هذين المفهومين المعقّدين ومفاهيم محورية أخرى ال يمكن فهم المجتمعات المعاصرة دون‬
‫يخيا‬
‫التقدم والسيادة‪ ،‬والمعنى‪ .‬فكلّها مفاهيم متواشجة تار ً‬
‫استحضارها‪ ،‬مثل الديمقراطية والحرية والقيم واألخالق و ّ‬
‫بعضا ويسهم في تشكيله وانضاجه‪.‬‬
‫فلسفيا يغني بعضها ً‬
‫ً‬ ‫متعالقة‬

‫أساسا نظريا‬
‫ً‬ ‫مهم بالنسبة إلينا من جهة كونه يق ّدم‬
‫إن هذا العمل التحليلي والبنائي الرائد الذي أنجزه عزمي بشارة ّ‬
‫ّ‬
‫تقدم جديد في معالجتها‪ .‬وهو يفتح على‬
‫ومقار ًنيا لفهم إشكالية الدين والعلمنة في السياق اإلسالمي‪ ،‬واحراز ّ‬
‫اإلسالمية نحو الحداثة والديمقراطية ونضج‬
‫ّ‬ ‫مشروع بحث مستقبلي أوسع يعنى بدراسة مسار المجتمعات العربية و‬
‫العقل والتموقع اإليجابي في العالم‪ .‬ولع ّل طرح مسألة العلمانية في العالم اإلسالمي خارج هذه السياقات ال ينير‬
‫تشوهات سياسية وثقافية واجتماعية‪.‬‬
‫الرؤية بقدر ما يقود إلى ّ‬

‫جدلية الدين والدولة في السياق اإلسالمي‬

‫ثالثيته ليشمل المجال اإلسالمي‪،‬‬


‫مد نطاق النظر في ما ابتدأه عزمي بشارة في ّ‬
‫تواجه الباحث الساعي إلى ّ‬
‫أهمها‪:‬‬
‫جملة من األسئلة الشائكة‪ ،‬لع ّل ّ‬

‫هل عرف التاريخ اإلسالمي ضرًبا من ضروب العلمانية في الفكر والثقافة والمعرفة وفي أنظمة الدولة والمجتمع؟‬
‫وهل يجوز أن نسم بعض تيارات الفكر اإلسالمي ومدارسه بالعلمانية؟ وهل كانت منظومات الفقه واألحكام في‬
‫أقسامها الدنيوية ذات طابع علماني على الرغم من مزاعمها الدينية؟ أم كانت منظومات دينية الهوتية؟ وهل‬
‫نعد الدولة األموية والدولة العباسية والسلطنات العسكرية بما في ذلك السلطنة العثمانية دوًال دينية؟ أم دنيوية‬
‫ّ‬

‫‪50‬‬
‫أن الدولة العر ّبية الحديثة بدساتيرها وقوانينها ومؤسساتها دولة علمانية؟ وفي‬
‫ك في ّ‬
‫علمانية؟ وهل هناك من ش ّ‬
‫اإلسالمية"‪ ،‬وتم ُّكن بعضها من ذلك في‬
‫ّ‬ ‫هذه الحالة ماذا يعني ظهور تنظيمات تهدف إلى إقامة "دولة الخالفة‬
‫عما يذهب إليه‬ ‫ٍ‬
‫معينة؟ هل للدين معنى موضوعي قابل للضبط النهائي بقطع النظر ّ‬
‫حدود مكانية وزمانية ّ‬
‫يتمدد ويتقلّص بحسب اعتبارات الثقافة والمجتمع؟‬
‫متحرك ّ‬
‫المؤمنون في فهمه؟ وهل معناه واحد ثابت؟ أم له معنى ّ‬

‫لننبه إلى ضخامة ما ينتظر‬


‫الضيق‪ ،‬بل طرحناها ّ‬
‫ّ‬ ‫الحيز الزماني‬
‫لم نطرح هذه األسئلة لنجيب عنها في هذا ّ‬
‫نعرف‬
‫الباحثين إنجازه إن راموا مواصلة جهد بشارة في السياق اإلسالمي‪ .‬وك ّل ما يسعنا القيام به هنا هو أن ّ‬
‫أن طبيعة المجال اإلسالمي تقتضي في هذا‬
‫بالسبل النظرية المتاحة في معالجة هذا الموضوع الشائك‪ ،‬ونرى ّ‬
‫الشأن التمييز بين سياقين مختلفين‪ :‬السياق القديم‪ ،‬والسياق الحديث‪.‬‬

‫جدلية الدين والدولة في السياق اإلسالمي القديم‬


‫ّ‬ ‫‪.1‬‬
‫ومصطلحا لم تظهر ابتداء في السياق العربي اإلسالمي‪ ،‬بل كان ظهورها ّأوًال‬
‫ً‬ ‫أن العلمانية نظريةً‬
‫من المعلوم ّ‬
‫في السياق األوروبي المسيحي‪ ،‬ومنه انتقل إلى السياق العربي اإلسالمي (ج ‪ ،2‬مج ‪ ،1‬ص ‪.)49 ،41- 40‬‬
‫وتطورها‪ .‬ويطرح‬
‫ّ‬ ‫فال نملك في التاريخ اإلسالمي أسماء ومحطّات ونظريات واضحة تحيل على انبثاق العلمانية‬
‫بديهيا‪ :‬هل وجدت علمانية في التاريخ اإلسالمي القديم من جهة الفكرة والمحتوى؟‬
‫ً‬ ‫هذا سؤ ًاال‬

‫توجد ثالث مقاربات مختلفة لهذا السؤال‪:‬‬

‫أ‪ .‬المقاربة األولى‬


‫‪1‬‬
‫أن التاريخ اإلسالمي إلى حدود العصر الحديث‬
‫يقول بها علي عبد الرازق وعزيز العظمة ‪ ،‬وترى هذه المقاربة ّ‬
‫أن النموذج السياسي الوحيد أو الغالب هو‬
‫هو تاريخ هيمنة للدين والمؤسسة الدينية على الدولة والمجتمع‪ ،‬و ّ‬
‫نموذج الدولة الدينية‪ ،‬بقطع النظر عن صدق إخالص القائمين عليها للدين أو استخدامهم له ذريعة وأداة‪.‬‬

‫العلمانية من منظور مختلف (بيروت‪:‬‬


‫ّ‬ ‫‪ 1‬علي عبد الرازق‪ ،‬اإلسالم وأصول الحكم (بيروت‪ :‬منشورات دار مكتبة الحياة‪) ،‬؛ عزيز العظمة‪،‬‬
‫مركز دراسات الوحدة العربية‪.)1992 ،‬‬

‫‪51‬‬
‫أن االنفصال بين الدين والمجال العمومي لم يبدأ في الظهور إال في العصر الحديث تحت‬
‫ترى هذه المقاربة ّ‬
‫"إن مسيرة التاريخ الكوني‬
‫تأثير المسار الغربي الذي هو مسار حتمي ال مهرب لنا منه‪ .‬يقول عزيز العظمة‪ّ :‬‬
‫آيلة إلى العلمانية‪ ،‬وا ّن مسيرة التاريخ االجتماعي والثقافي العربي محكومة بهذا المسار على الرغم من الصراعات‬
‫الطبيعية التي تستثيرها هذه المسيرة مع القوى المحافظة التي أضحى الدين علما عليها‪ ،‬وعلى الرغم من إعادة‬
‫االعتبار إلى مؤسسات دينية خالية والى عقل ديني ٍ‬
‫بال في مجال الصراعات السياسية"‪.2‬‬

‫ب‪ .‬المقاربة الثانية‬


‫‪3‬‬
‫أن التاريخ اإلسالمي هو في حقيقته‬
‫ومحمد أركون وعبد المجيد الشرفي ‪ ،‬وترى ّ‬
‫ّ‬ ‫يذهب إليها محمود محمد طه‬
‫تاريخ دنيوي علماني‪ ،‬والصفة الدينية اإلسالمية التي تسم ظواهره المختلفة ليست سوى تمويه ثقافي وقشر‬
‫خارجي استدعي للتبرير‪.‬‬

‫العلمانية بالنسبة إلى هذه المقاربة من تحصيل الحاصل‪ ،‬وليس يطلب من المؤمنين إالّ اإلقرار بها وتقنينها‬
‫ّ‬ ‫تبدو‬
‫تضخم مؤسسات الدين في المجتمع‬
‫ّ‬ ‫عد‬
‫تدخل الدين خارج مجاله األصلي وهو ضمير الفرد‪ .‬وي ّ‬
‫واعالن انتهاء ّ‬
‫مظهر من مظاهر االنحراف التأويلي واالبتعاد عن جوهر الرسالة‬
‫ًا‬ ‫الخاص‬
‫ّ‬ ‫واضطالعها بوظائف تتجاوز مجالها‬
‫النص والتجربة‬
‫ّ‬ ‫المعبرة عن جوهر الدين التي ظلّت حبيسة‬
‫ّ‬ ‫ضدية بين الرسالة‬
‫النبوية‪ .‬يقيم هذا الرأي مقابلة ّ‬
‫(خصوصا في م ّكة) من جهة‪ ،‬والتاريخ اإلسالمي بما هو انحراف عن الرسالة وتشويه لها من جهة‬
‫ً‬ ‫النبوية‬
‫ثانية‪.‬‬

‫ج‪ .‬المقاربة الثالثة‬


‫أن التاريخ اإلسالمي عرف من النزعات والممارسات واألفكار ما يمكن فهمه باستخدام مفهوم العلمانية‬
‫ترى ّ‬
‫عدة بين‬
‫المأخوذ من التجربة الغربية وادراجه في هذا اإلطار على الرغم من االختالف الواسع في حقول ّ‬

‫العظمة‪ ،‬ص ‪.197‬‬ ‫‪2‬‬

‫محمد أركون‪ ،‬العلمنة والدين اإلسالم‬


‫محمد طه‪ ،‬نحو مشروع مستقبلي لإلسالم‪ ،‬ط‪( 2‬بيروت‪ :‬المركز الثقافي العربي‪)2007 ،‬؛ ّ‬
‫محمود ّ‬
‫‪3‬‬

‫المسيحية الغرب‪ ،‬ط‪( 3‬دار الساقي للطباعة والنشر‪)1996 ،‬؛ عبد المجيد الشرفي‪ ،‬اإلسالم والحداثة (تونس‪ :‬دار الجنوب‪)1998 ،‬؛ عبد‬
‫المجيد الشرفي‪ ،‬اإلسالم بين الرسالة والتاريخ (بيروت‪ :‬دار الطليعة‪.)2001 ،‬‬

‫‪52‬‬
‫معب ار عن هذه اإلمكانية في التأويل‪" :‬بهذا االستخدام نكون‬
‫التجربتين المسيحية واإلسالمية‪ .‬يقول عزمي بشارة ّ‬
‫إشكاليا حقا في الثقافات كلّها‪ ،‬وال سيما في الثقافة العربية الحديثة‪ ،‬وأصبح يثير‬
‫ً‬ ‫مصطلحا‬
‫ً‬ ‫قد أخذنا من الغرب‬
‫عدة‪ .‬واذا سعينا إلى استخدامه في فهم صيرورة تاريخية أبعد من الحداثة الغربية‪ ،‬فلن يكون ذلك من‬
‫تداعيات ّ‬
‫إن‬
‫لكنه يأتي من خارجها تطبيقًا عليها‪ .‬فما المانع من ذلك؟ ّ‬
‫دون أصل في الثقافة العر ّبية والتاريخ العربي‪ّ ،‬‬
‫الدينامية التي تحكم ذلك معروفة في تاريخ األفكار‪ ،‬وهي دينامية انتقال األفكار من مجال إلى مجال آخر‪.‬‬
‫نوعا من إعادة تفسيرها وتأويلها‪ ،‬وحتّى تغييرها"(ج ‪ ،2‬مج ‪ ،1‬ص ‪.)49‬‬
‫ضمن بالضرورة ً‬
‫وهي تت ّ‬

‫في هذا اإلطار من الفهم والتأويل يمكن أن نرى في األفكار الداعية إلى حصر الدين بمجال أو مجاالت‬
‫أهم األفكار المالئمة لهذا‬
‫مخصوصة في الثقافة اإلسالمية نقطة انطالق مالئمة للمقاربة الثالثة‪ .‬ولع ّل من ّ‬
‫التأويل بعض ما نطق به المعتزلة والظاهرية والصوفية من ٍ‬
‫أفكار دينية وسيكولوجية واجتماعية‪ ،‬وما ذهب إليه‬
‫المعري‬
‫ّ‬ ‫الوراق وأبو العالء‬
‫عبر عنه ابن الراوندي وأبو عيسى ّ‬
‫ابن رشد من آراء في صلة الفلسفة بالشريعة‪ ،‬وما ّ‬
‫من نزعات ريبية‪ ،‬وما بناه الجاحظ والتوحيدي ومسكويه وابن خلدون من آراء ونظريات في األدب واألخالق‬
‫والتاريخ والمجتمع‪ .‬كما يمكن أن ندرج في هذا الباب حركة الزنج ومظاهر الحياة الفنية واالجتماعية المزدهرة‬
‫المتحررة في مدن سورية والعراق ومصر واألندلس‪ ،‬ونظم الحكم التي انتهجتها السلطنات والحكومات الزمنية‬
‫و ّ‬
‫متعددة من العالم اإلسالمي بداية من القرن الرابع الهجري‪ /‬الحادي عشر الميالدي‪.‬‬
‫التي حكمت مناطق ّ‬

‫طبقه جنكيز خان على المناطق اإلسالمية‬


‫شد انتباه الدارس القانون المغولي الذي ّ‬
‫في المجال السياسي الصرف ي ّ‬
‫المسمى بـ "الياسق" أو "الياسا" أو "كتاب القواعد الكبير"‪ .‬وهو مزيج من األعراف‬
‫التي خضعت لسلطانه‪ ،‬و ّ‬
‫بشدة‪،‬‬
‫تيمية ّ‬
‫تقي الدين بن ّ‬‫اإلسالمية وغيرها‪ .‬وقد انتقده ّ‬
‫ّ‬ ‫المسيحية و‬
‫ّ‬ ‫اليهودية و‬
‫ّ‬ ‫المغولية والشرائع الدينية‬
‫ّ‬ ‫والتقاليد‬
‫مهمة منه‪ ،‬وأشار إليه ابن كثير في‬
‫وأصدر فتوى تكفّر العمل به‪ ،‬وذكره المقريزي في خططه ونقل مقتطفات ّ‬
‫تفسيره‪.‬‬

‫د‪ .‬نقد المقاربات الثالث‬

‫تبدو لنا المقاربات الثالث قابلة للنقد من الجهات التالية‪:‬‬

‫‪53‬‬
‫رب العالمين‬
‫بأنهم عن ّ‬
‫إن ّادعاءات الجميع ّ‬
‫‪ -‬المفهوم المبهم للدين والعلمانية في السياق اإلسالمي القديم‪ :‬هل ّ‬
‫يستمدون تجعل أقوالهم وأفعالهم د ًينا أو جزًءا‬
‫ّ‬ ‫يوقّعون أو بإرادته يحكمون أو لشرعه يمتثلون أو من وحيه‬
‫إن هذه المقاربات تشكو التباس مفهوم الدين‪ ،‬وهل له سمات‬
‫من الدين؟ هل ك ّل ما هو بشري علماني؟ ّ‬
‫وتصورات المؤمنين عن الدين الصحيح‪ ،‬أم ال معنى للدين‬
‫ّ‬ ‫التدين‬
‫ومقومات موضوعية ال تتأثّر بأشكال ّ‬
‫ّ‬
‫للمتدينين‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التصورات الدينية‬
‫التدين و ّ‬
‫خارج نطاق ّ‬
‫أن رغبة البعض تتمثّل بإبراز الطابع الهيمني الثقيل للدين‬
‫‪ -‬الطابع األيديولوجي لهذه المقاربات‪ ،‬إذ يبدو ّ‬
‫موجودا في ك ّل شيء‪ ،‬بينما مال البعض اآلخر‬
‫ً‬ ‫القوي حتّى صارت تراه‬
‫ّ‬ ‫والتعبير عن ضيقها من حضوره‬
‫معب ًار عن ابتهاجه بهيمنة البشري والدنيوي على حساب الروحي‬
‫ضيق‪ّ ،‬‬
‫إلى تجاهله وعدم رؤيته إالّ في نطاق ّ‬
‫والالزمني‪.‬‬
‫اعا بين مؤسسة دينية تحتكر السلطة الزمنية أو‬
‫أن المجتمع اإلسالمي القديم لم يشهد صر ً‬
‫‪ -‬عدم االنتباه إلى ّ‬
‫التحرر من سلطة الدين في الفضاء العمومي‪ .‬فلئن‬
‫ّ‬ ‫جزًءا منها وقوى سياسية واجتماعية دنيوية تطمح إلى‬
‫سمي بالخالفة‬
‫بدءا بما ّ‬
‫وجدت معارضات سياسية لك ّل الحكومات التي عرفها المجتمع اإلسالمي القديم ً‬
‫العباسي والدول السلطانية وصوًال إلى الخالفة العثمانية وحكومات أمراء الطوائف‬
‫الراشدة فالحكم األموي و ّ‬
‫المتعددة‪ ،‬لم تعترض هذه المعارضات على الطابع الديني للحكم‪ ،‬بل بهذا الطابع‬
‫ّ‬ ‫والمماليك ودول المغرب‬
‫بالذات كانت تطالب‪ ،‬متّهمة الحكم القائم باالنحراف عن االعتقاد الصحيح أو بالعزوف عن تطبيق الشريعة‬
‫أو بكليهما‪.‬‬
‫أن المسلمين لم يتبلور لديهم فهم نظري‬
‫‪ -‬وفي السياق نفسه‪ ،‬ولكن في المستويين الفكري واالجتماعي‪ ،‬نالحظ ّ‬
‫قائما‪ ،‬أو لو تولّد عن‬
‫أسا إلى العلمانية‪ .‬كان يمكن أن يتبلور هذا الفهم لو بقي االعتزال ً‬
‫لإلسالم يقود ر ً‬
‫أن‬
‫جسده الفارابي وابن رشد مذهب ديني يفهم الدين في حدود العقل‪ّ .‬إال ّ‬
‫الفكر الفلسفي اإلسالمي كما ّ‬
‫ٍ‬
‫بانفصال‬ ‫الفارابي ظ ّل فيلسوفًا ولم يلهم علماء الدين كثيرا‪ ،‬واعتنق ابن رشد المذهب الفقهي المالكي كما هو‬
‫ائية ولم يستخلص عمليا الدرس الذي استخلصه نظرّيا في كتابه فصل المقال‪.‬‬
‫تام عن فلسفته الم ّش ّ‬
‫ّ‬
‫التصوف بحكم انصبابه على األمر الديني في عمقه وجوهريته‪،‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬وفي المستوى الديني الصرف كان بإمكان‬
‫مؤس ًسا لموقف علماني من داخل الفضاء الديني وغير‬
‫أن يحقّق االنفصال بين الروحي والدنيوي ويكون ّ‬

‫‪54‬‬
‫تحديدا‪ ،‬وتأقلمه من‬
‫ً‬ ‫متضارب معه‪ ،‬يؤ ّكد إمكانية ذلك موقفه السلبي بشكل مطلق من الدنيا ومن السلطة‬
‫منطلق براغماتي وزهدي في متاع الدنيا مع مختلف األوضاع السياسية واالجتماعية بما فيها سيطرة‬
‫ألنه‬ ‫يتحول إلى ٍ‬
‫بان لموقف علماني متماسك ّ‬ ‫المستعمر غير المسلم على بالد المسلمين‪ّ ،‬إال ّأنه مع ذلك لم ّ‬
‫بانيا لنظام اجتماعي‪.‬‬
‫عدة مذاهب وأوساط دينية واجتماعية‪ ،‬ولم يكن ً‬
‫كان حالة مبثوثة في ّ‬

‫‪ .2‬جدلية الدين والدولة في السياق اإلسالمي المعاصر‬

‫وتحدد مآالتها‪:‬‬
‫ّ‬ ‫توجهها‬
‫تبدو لنا جدلية الدين والدولة في السياق اإلسالمي المعاصر محكومة بثالث ديناميات ّ‬
‫الدينامية الفكرية‪ ،‬والدينامية السياسية واالجتماعية‪ ،‬والدينامية الدولية‪.‬‬

‫أ‪ .‬الدينامية الفكرية‬

‫يتحرك هذا الصراع في‬


‫نعني بها الصراع الفكري واأليديولوجي القائم في المجتمع حول مسألة الدين والعلمانية‪ّ .‬‬
‫ك ّل الدول العربية واإلسالمية في خطّين متباينين؛ أحدهما خطّ التنافي واآلخر خط التركيب‪.‬‬

‫أن اإلسالم والعلمانية ‪ -‬وباعتماد التوسعة نضيف الديمقراطية والحداثة ‪ -‬يقفان‬


‫خطّ التنافي‪ :‬يؤ ّكد هذا الخطّ ّ‬
‫أن اإلسالم يرفض العلمانية ومعها الحداثة والديمقراطية‬
‫مجسدي هذا الخطّ من يرى ّ‬
‫ّ‬ ‫على طرفي نقيض‪ .‬من‬
‫بأي حضور‬
‫أن العلمانية تتخطّى الدين وال تقبل ّ‬
‫(التيار السلفي)‪ .‬ومنهم من يرى ّ‬
‫وينفيها وال يقبل بالتعايش معها ّ‬
‫قررت‬‫ألنه الفضاء الذي ّ‬
‫الخاص ّ‬
‫ّ‬ ‫العام‪ ،‬والفضاء الوحيد الذي تسمح له بالوجود فيه هو الفضاء‬‫له في المجال ّ‬
‫العامة المعلمنة‪،‬‬
‫التدين والحياة ّ‬
‫الدولة الحديثة تركه لإلرادة الفردية‪ .‬ال يعترف هذا الخطّ بالمساحات المشتركة بين ّ‬
‫وال يبرز غير نقاط التباين والتناقض بينهما‪.‬‬

‫التحوالت التاريخية‬
‫ّ‬ ‫تبنى عزيز العظمة تعريفًا للعلمانية يؤ ّكد هذا المعنى التنابذي‪ :‬فالعلمانية عنده "جملة من‬
‫ّ‬
‫فيا يتمثّل في نفي األسباب‬
‫عدة وجوه‪" :‬وجها معر ّ‬‫السياسية واالجتماعية والثقافية والفكرية واأليديولوجية"‪ ،‬ولها ّ‬
‫مؤسسيا يتمثّل في‬
‫تحول التاريخ دون كلل‪ ،‬ووجها ّ‬
‫الخارجة على الظواهر الطبيعية أو التاريخية وفي تأكيد ّ‬

‫‪55‬‬
‫خاصة كاألندية والمحافل‪ ،‬ووجها سياسيا يتمثّل في عزل الدين عن السياسة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫اعتبار المؤسسة الدينية مؤسسة‬
‫أخالقيا وقيميا يربط األخالق بالتاريخ والوازع بالضمير بدل اإللزام والترهيب بعقاب اآلخرة"‪.4‬‬
‫ّ‬ ‫ووجها‬

‫أن الثورة اإليرانية جلبت‬ ‫ٍ‬


‫محمد الشرفي عن موقف مماثل لما ذهب إليه العظمة حين كتب‪" :‬ونحن نتذ ّكر ّ‬
‫وعبر ّ‬
‫ّ‬
‫أن تلك الثورة‬
‫أن القوم قد نسوا ّ‬
‫في البداية ك ّل اإلعجاب لشعب أعزل استطاع أن يطيح بدكتاتورية دموية‪ .‬غير ّ‬
‫أن التاريخ كلّه قد أبان بما فيه الكفاية استحالة أن تكون الحكومة الدينية‬
‫كأنهم تجاهلوا ّ‬ ‫ِ‬
‫أنجزت باسم الدين‪ ،‬بل ّ‬
‫فإن أشنعها الدكتاتورية الدينية‪ ،‬إذ هي ال تكتفي بالتح ّكم في‬
‫كل الدكتاتوريات شنيعة ّ‬
‫ديمقراطية و ّأنه إذا كانت ّ‬
‫السلوكات‪ ،‬بل أيضا في الضمائر وما تخفي الصدور"‪.5‬‬

‫"أما العلمانية في السياق العربي فهي أيديولوجيا‬


‫ويقول عزمي بشارة في ما يمكن أن نع ّده وصفًا لهذا الخطّ‪ّ :‬‬
‫بتطور العلوم في الغرب‬
‫ّ‬ ‫قائمة منذ المرحلة االستعمارية‪ ،‬ولها ممثّلون يمكن فحص منشئهم الفكري المتأثّر‬
‫علميا‪ ،‬ولها أصحاب دعوات لفصل الدين عن السياسة‪ ،‬ولحرية‬
‫ً‬ ‫وضرورة فهم الظواهر الطبيعية واالجتماعية‬
‫لكنها تختلط في الوعي‬
‫أي دين‪ ،‬وغيرها من الدعوات‪ّ .‬‬
‫الفرد في اعتناق الدين الذي يختار‪ ،‬أو عدم اعتناق ّ‬
‫أما في الوعي الشعبي للعلمانيين أنفسهم فتختلط بمواقف مثل عدم ارتداء الحجاب‪،‬‬
‫الشعبي بالعداء للدين‪ّ .‬‬
‫معينة في األدب والدراما التلفزيونية‪ ،‬والتعليم المختلط للبنين والبنات‪ ،‬واالختالط‬
‫والتساهل مع تعبيرات ّ‬
‫االجتماعي بين الجنسين‪ ،‬وظهور المرأة في العمل في المجال العمومي وغيرها من الظواهر المتعلّقة بنمط‬
‫الحياة‪ ،‬التي قد تنسجم مع الثقافة الشعبية أو تتنافر معها في حالة اقتصارها على نخبة محدثة فشلت في عملية‬
‫التحديث المجتمعي عموما" (ج ‪ ،2‬مج ‪ ،1‬ص ‪.)49‬‬

‫المتدين صوتًا يجب‬


‫ّ‬ ‫أن العلماني حين يتكلّم عن الدين وعالقته بالشأن العمومي ال يع ّد‬
‫يظهر من هذه الشواهد ّ‬
‫تتعداها‪.‬‬
‫التدين في دائرتك الفردية وال ّ‬
‫المتدين‪ :‬تلتزم ّ‬
‫ّ‬ ‫أن يسمع له؛ فهو يريد أن يفرض رؤية جاهزة قد ال يقبلها‬
‫جانبا‬
‫العمومية؟ وكيف يترك ً‬
‫ّ‬ ‫الفردية إلى الدائرة‬
‫ّ‬ ‫المتدين بالقيم الدينية العابرة للدائرة‬
‫ّ‬ ‫ال يتساءل‪ :‬كيف يصنع‬
‫العامة؟ إن تركت هذه المسائل للمؤمن بوصفها من قناعاته الشخصية‪،‬‬
‫القيم والقواعد التي يراها سارية إلى الحياة ّ‬

‫العلمانية من منظور مختلف‪ ،‬ص‪.37‬‬ ‫ّ‬ ‫العظمة‪،‬‬ ‫‪4‬‬

‫محمد الشرفي‪ ،‬اإلسالم والحرية االلتباس التاريخي (تونس‪ :‬دار الجنوب للنشر‪ ،)2002 ،‬ص ‪.24‬‬
‫ّ‬
‫‪5‬‬

‫‪56‬‬
‫فباإلمكان أن يذهب فيها مذاهب تعصف بالخيار العلماني وحتّى بالخيار الديمقراطي‪ .‬وان تكلّم فيها العلماني‬
‫يقدم أنصار الموقف العلماني‬
‫منشغال بالشأن الديني من الداخل وفقد حياده العلماني‪ .‬وهذا مأزق ال ّ‬
‫ً‬ ‫صار‬
‫حال له‪.‬‬
‫وخصومه ً‬

‫المتدين والموقف العلماني يقبالن‬


‫ّ‬ ‫أن الموقف‬
‫خطّ التركيب‪ :‬الخطّ الثاني هو خطّ التركيب‪ .‬ويرى أصحابه ّ‬
‫أن هذه القيم يمكنها أن تلتقي‬
‫إما دينية أو فلسفية‪ ،‬و ّ‬
‫قيما ّ‬
‫كال منهما يحمل ً‬‫أن ً‬ ‫بالتعايش والتعاون والتشارك بما ّ‬
‫إنسانيا‪ .‬ضمن هذا الخطّ يتّخذ الموقف الديني‬
‫ً‬ ‫وطنيا أم‬
‫ً‬ ‫المرجوة سواء أكان سقفها‬
‫ّ‬ ‫في مستوى األهداف والنتائج‬
‫تقعيديا‪ ،‬وينحاز الموقف العلماني إلى النظام الديمقراطي ويضعه‬
‫ً‬ ‫فقهيا‬
‫روحيا ال ً‬
‫ً‬ ‫قيميا‬
‫طابعا ً‬
‫ً‬ ‫العام‬
‫في الفضاء ّ‬
‫مكوناتها‪.‬‬
‫فوق المصالح الحزبية واأليديولوجية ويحترم الثقافة الوطنية بجميع ّ‬

‫مانعا من االشتراك في حياة سياسية واحدة‪ ،‬ويرى القبول‬


‫يقر باالختالف الفكري والسياسي‪ ،‬وال يراه ً‬
‫إن هذا الخطّ ّ‬
‫ّ‬
‫األول لقيام عقد اجتماعي واقعي وأخالقي بينهم‪ .‬من أبرز ممثّلي هذا الخطّ‬ ‫ِ‬
‫المتبادل بين المختلفين هو الشرط ّ‬
‫الي وم‪ :‬القائلون بانسجام اإلسالم مع الديمقراطية والقائلون باإلسالم الديمقراطي وبالديمقراطية الدينية وباإلسالم‬
‫ومحمد مجتهد شبستري‪ ،‬ومحسن كديفر‪ ،‬وراشد‬
‫ّ‬ ‫الحضاري المقابل لإلسالم الفقهي‪ ،‬مثل عبد الكريم سروش‪،‬‬
‫الغنوشي‪.‬‬
‫ّ‬

‫يوما بعد يوم‪ .‬في بعض البلدان‬


‫وضوحا في الساحة الفكرية العربية واإلسالمية ً‬
‫ً‬ ‫يزداد هذان الخطّان المتقابالن‬
‫أن غلبة أحدهما على اآلخر‬
‫ك في ّ‬‫األول‪ ،‬وفي البعض اآلخر ترجح كفّة الخطّ الثاني‪ .‬وال ش ّ‬
‫ت ْرجح كفّة الخطّ ّ‬
‫المعني‪ ،‬وفي‬
‫ّ‬ ‫بصورة نهائية أو طويلة األمد تؤثّر جوهرًيا في االختيارات السياسية واالجتماعية والثقافية في البلد‬
‫نوع حضور الدين في الشأن العمومي وحجمه‪.‬‬

‫الحد منها ورّبما‬


‫هل لهذه الدينامية الفكرية تأثير فعلي في الواقع وفي التشجيع على العلمانية وترسيخها أو في ّ‬
‫تعبر‬
‫يهم النخب وال يتجاوز الكتب والمطبوعات والنصوص التي ّ‬
‫منعها؟ أم هي تعبير عن جدل فكري فوقي ّ‬
‫عنه؟‬

‫‪57‬‬
‫من غير الصواب أن نقول ّإنها جدل فوقي؛ فقد أثبت جميع الحاالت التي جال فيها الربيع العربي وجميع‬
‫التفرد وكذا جميع الحاالت التي وصلت‬
‫الحاالت التي وصل فيها اإلسالميون إلى الحكم على وجه االشتراك أو ّ‬
‫أن الصراع األيديولوجي المحتدم الذي تشهده هذه البلدان ينعكس‬
‫فيها األحزاب اليسارية والقومية إلى الحكم‪ّ ،‬‬
‫مباشرة على نمط الحكم وعلى عالقة السياسي بالديني وعلى وضع الدين نفسه في المجتمع؛ فحركة التاريخ‬
‫ٍ‬
‫بمعزل عن حركة الفكر واأليديولوجيا‪.‬‬ ‫والمجتمع ليست‬

‫ونفسيا في موضوع الدين والعلمنة إذا لم نتفهّم الحرج الديني أو اإليماني وفي‬
‫ً‬ ‫نتقدم فكرًيا‬
‫من الصعب حقا أن ّ‬
‫الحاسة‬
‫ّ‬ ‫الوقت نفسه الحرج العلماني والدنيوي‪ ،‬ولم نحلّهما‪ .‬نعم نستطيع التغلّب على أحد الحرجين بإضعاف‬
‫يجرهم إلى كثير من الصدامات والى خيار غير ديمقراطي‪.‬‬
‫يفضله البعض وهو ما ّ‬
‫الدينية أو الدنيوية‪ ،‬وهذا ما ّ‬
‫ونستطيع التغلّب على الحرج باإلنصات واالستماع والتفكير المشترك‪.‬‬

‫اجبا‬
‫لكنه ليس و ً‬
‫حق ال يستطيع أحد حرمان المؤمنين منه‪ّ .‬‬
‫فالدين اعتراف بالمتعالي وبناء عالقة معه‪ .‬وهذا ّ‬
‫مفروضا على أحد من الناس‪ .‬يمكن أن ينعكس هذا االعتراف على نظرة اإلنسان إلى تفاصيل الحياة وعلى‬
‫محددة‬
‫مثال من أن يكون لديه ميل شعوري إلى أشياء ّ‬
‫بأي منطق أن نمنع المؤمن ً‬
‫اختياراته فيها‪ .‬ال نستطيع ّ‬
‫امية‪،‬‬
‫يتجسد هذا الميل في بنية قانونية وسياسية إلز ّ‬
‫ّ‬ ‫في الحياة ونفور شعوري من أشياء أخرى‪ .‬والسؤال هو‪ :‬هل‬
‫تحددها الهيئة االجتماعية وفقًا‬
‫يسمى بالدولة الدينية؟ أم تكون البنى القانونية والسياسية مستقلّة ّ‬
‫فنحصل على ما ّ‬
‫طبعا ال يمنع تلك البنى من االستجابة لتلك الميول الدينية إن شاءت‪ ،‬ولكن‬
‫الخاصة‪ ،‬وهذا ً‬
‫ّ‬ ‫لتوازناتها التاريخية‬
‫بآليات البنى السياسية وفي إطار مبادئها وقواعدها ولغتها‪.‬‬
‫ّ‬

‫ب‪ .‬الدينامية السياسية واالجتماعية‬

‫العام‬
‫ّ‬ ‫نعيش في وضعنا العربي الراهن مشكلة تداخل المجاالت واختالطها‪ :‬العائلة والدولة‪ ،‬الدين والمعرفة‪،‬‬
‫القارات‪...‬‬
‫الخاص‪ ،‬الدولة القطرّية القائمة والدولة التي نؤمن بها وهي إقليمية أو قومية أو إسالمية عابرة للحدود و ّ‬
‫ّ‬ ‫و‬
‫نحدد بدقّة مجال الدين والمجاالت األخرى ال يمكننا أن نضع حدا بينه وبين غيره‪ ،‬وأن نم ّكنه من استقالليته‬
‫ما لم ّ‬
‫وتحدد وجهته‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الخاصة التي تنظّمه وتسوسه‬
‫ّ‬ ‫ومن بناء سلطته‬

‫‪58‬‬
‫تعدد الخطابات وانعدام اللغة المشتركة‪ .‬فبالنسبة إلى الغرب والمجتمعات المهيكلة بصورة‬
‫أيضا مشكلة ّ‬
‫نعيش ً‬
‫تنوع الخطابات فيها وحدتها؛ إذ للفيلسوف األوروبي خطابه‪ ،‬ولرجل الدين والكنيسة خطابه‪ ،‬ولرجل‬
‫قوية ال ينفي ّ‬
‫ّ‬
‫أما بالنسبة إلينا فال يزال خطاب إمام الجمعة في و ٍاد‪،‬‬
‫الدولة خطابه‪ ،‬دون أن يوجد تعارض ثقافي بينهم‪ّ .‬‬
‫وخطاب السياسي في و ٍاد ثان‪ ،‬وخطاب الجامعي في و ٍاد ثالث وخطاب المواطن العادي في و ٍاد رابع‪ .‬ال نعرف‬
‫فلسفة توحدنا‪ ،‬وال توجد ثقافة وال أهداف عامة نعيش على وقعها‪ .‬قد نتوحد في ٍ‬
‫وقت وجيز أمام خط ٍر داهم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وتتحول إلى حرب أهلية دامية نخوضها على قاعدة الدين‬
‫ّ‬ ‫لكن تناقضاتنا يمكنها أن تطفو على السطح بسرعة‬ ‫ّ‬
‫أو الطائفة أو األيديولوجيا أو االرتباطات الدولية‪ .‬وقد تتفاعل جملة هذه العوامل في خليط واحد‪ ،‬فتكون فاعليتها‬
‫تدميرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫أكثر‬

‫أن سكون الدولة الوطنية القائم على خلطة يلتقي فيها الحكم الفردي أو العائلي أو الحزبي برومنسية ثورة‬
‫يبدو ّ‬
‫قابال‬
‫نهائيا وليس ً‬
‫ً‬ ‫التحرير والتأسيس الوطني الجديد وباحترام مبادئ الدين ورعاية تعاليمه السمحة‪ ،‬قد تزعزع‬
‫قمتها السياسية المدنية بمشاركة شعبية‬
‫التحركات واالحتجاجات التي عرفت ّ‬
‫لالستمرار منذ ظهور االنتفاضات و ّ‬
‫واسعة في ما صار يعرف بالربيع العربي‪.‬‬

‫محمد الشرفي هذا الوضع المستحيل الذي سبق الربيع العربي على النحو التالي‪" :‬كتب أوليفيي كاريه‬
‫شخص ّ‬
‫ّ‬
‫تدبر الواقع‬
‫أن إشكال العالم اإلسالمي ال يتمثّل في إنتاج الالئكية‪ ،‬فهي موجودة‪ ،‬بل في ّ‬
‫(‪ّ )Olivier Carré‬‬
‫أن البلدان التي أبقت في مراسها االجتماعي وفي تشريعاتها على مؤسسات‬
‫الذي يرفضه‪ ،‬وهو رأي متفائل‪ ،‬ذلك ّ‬
‫مجرد رضا األب‪ ،‬ال يمكن أن تعتبر‬
‫تعدد الزوجات والطالق وتزويج البنات القاصرات على أساس ّ‬
‫من قبيل ّ‬
‫برمته باستثناء تركيا وتونس"‪.6‬‬
‫الئكية وتلك هي حال العالم اإلسالمي ّ‬
‫ّ‬ ‫بلدانا‬

‫وتحوالت‬
‫ّ‬ ‫ومنذ بضعة عقود‪ ،‬صار الوضع السياسي واالجتماعي في العالمين العربي واإلسالمي يعرف أحداثًا‬
‫مثيال منذ قرون؛ فمن جهة أولى هناك دينامية العنف‬‫وأزمات وكوارث وانتفاضات شعبية وعنفًا لم يشهد له ً‬
‫أي شكل من أشكال المراجعة واالختالف‬
‫الدموي باسم الدين من أجل إقامة حكم إكراهي استبدادي ال يقبل ّ‬

‫الحرّية االلتباس التاريخي‪ ،‬ص ‪.17‬‬


‫محمد الشرفي‪ ،‬اإلسالم و ّ‬
‫ّ‬
‫‪6‬‬

‫‪59‬‬
‫أهم أسبابه‪ .‬فهما‬
‫بالتصدي لهذا العنف الدموي الذي هو أحد ّ‬
‫ّ‬ ‫يبرر نفسه‬
‫تالزميا دينامية االستبداد الذي ّ‬
‫ً‬ ‫تساوقها‬
‫ديناميتا ن متكاملتان متشارطتان تخدم إحداهما األخرى‪ ،‬تقابلهما دينامية االحتجاجات الشعبية (ما يحدث في‬
‫مدبر وال‬
‫تونس‪ ،‬والعراق‪ ،‬ومصر‪ ،‬ولبنان‪ )...‬التي تطالب بالعدالة والكرامة والشغل والنظافة‪ ،‬وليس لها رأس ّ‬
‫معبر حقيقي عنها‬
‫تتحول إلى ّ‬
‫فكر متبلور وال برنامج عملي ناجح‪ ،‬وتسعى قوى سياسية ديمقراطية إلى أن ّ‬
‫ومستجيب لمطالبها دون أن تنجح في ذلك ودون أن تبلغ النضج واالقتدار المطلوبين‪ .‬وهذا يجعل الوضع‬
‫مفتوحا على التقلّبات السياسية واالرتدادات وعودة االحتجاجات‪.‬‬
‫ً‬ ‫السياسي واالجتماعي‬

‫ليقدما للديناميتين األوليين قاعدة متينة للتناقض‬


‫يتدخل الدين واأليديولوجيا العلمانية في هذا السياق قد ًما بقدم ّ‬
‫ّ‬
‫أن الدولة الدينية مازالت‬
‫المضاد وحتّى االستعمار‪ .‬ويعني ذلك ّ‬
‫ّ‬ ‫واإلقصاء األيديولوجي والمذهبي وتبرير العنف‬
‫يتجسد في نموذج دولة داعش ونموذج الدولة اإليرانية وغيرهما من الدول الدينية‪ ،‬ونموذج‬
‫ّ‬ ‫مشروعا مطروحا‬
‫ً‬
‫أيضا وله أنصار أقوياء في الداخل والخارج يظهره االصطفاف السياسي‬
‫قائما ً‬
‫الدولة الدنيوية الدكتاتورية ال يزال ً‬
‫واأليديولوجي ألعداد ال يستهان بها من النخب السياسية والثقافية لفائدة أنظمة االستبداد في العالمين العربي‬
‫واإلسالمي‪.‬‬

‫في هذا السياق‪ ،‬ال يزال الفكر الديني الديمقراطي ضعيفًا ومحدودا في مستوى بناء األساس النظري والقيمي‬
‫جادة في هذا االتجاه‪ ،‬ولذلك ال يزال صوت هذا‬
‫للدينامية الديمقراطية والمساواتية على الرغم من وجود محاوالت ّ‬
‫صح األمر نفسه على المشروع السياسي العلماني‬
‫خاصة النخب بالقدر الكافي‪ .‬وي ّ‬
‫الفكر ال تسمعه الجماهير وب ّ‬
‫الحداثي الديمقراطي الذي تنقصه البلورة النظرية واالقتراب السياسي واالجتماعي من الفاعلين السياسيين‬
‫واالقتصاديين واالجتماعيين وكسب ثقة األوساط الشعبية‪.‬‬

‫ينتج من انخرام التوازن في الديناميات السياسية واالجتماعية ارتفاع وتيرة الصراع والعنف واإلقصاء وتسارع‬
‫حركة التفتّت واالنقسام؛ إذ يشهد بعض البلدان حكومتين وحتّى دولتين‪ ،‬في بعضها انقسم البلد إلى مناطق‬
‫بعضها يخضع لسيطرة السلطة وبعضها اآلخر يخضع لسيطرة المعارضات‪ ،‬وفي بعض البلدان نشهد انتفاضة‬
‫للجهات المحرومة على الدولة‪ ،‬وفي بعضها ثورة للجياع‪ ...‬ال يخدم هذا الوضع الدين وال العلمنة‪ ،‬بل يخدم‬
‫التوحش السابق للدين وقبل العلمنة‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪60‬‬
‫ج‪ .‬الدينامية الدولية‬
‫ك أحد في حقيقة التأثير المباشر واألساسي للسياق الدولي في مجريات األمور في العالمين العربي‬
‫ال يش ّ‬
‫خصوصا في المستويات السياسية واالقتصادية والثقافية‪ .‬فهذه حقيقة قائمة ومعلومة منذ مرحلة‬
‫ً‬ ‫واإلسالمي‪،‬‬
‫االستعمار المباشر التي عرفها بعض الدول العربية واإلسالمية منذ وقت مب ّكر جدا (حملة نابليون بونابرت على‬
‫مستمر ومتفاقم في العقود‬
‫ّ‬ ‫مصر كانت سنة ‪1798‬م‪ ،‬واحتالل فرنسا الجزائر كان سنة ‪1830‬م)‪ ،‬وهي واقع‬
‫تعوض تلك‬
‫األخيرة ينبئ بتقسيم جغراسياسي جديد للمناطق العربية واإلسالمية على أسس وقواعد وحدود جديدة ّ‬
‫التي اعتمدت في اتّفاقيات سايكس بيكو‪.‬‬

‫متعدد األطراف ومتضارب االتجاهات (الدول‬


‫أن تأثير العالم الخارجي في العالم اإلسالمي ّ‬
‫وعلى الرغم من ّ‬
‫فإنه ينعكس بصورة تكاد تكون‬
‫المتوسطة‪ ،‬والمنظمات األممية‪ ،‬والبنوك والصناديق والشركات الدولية)‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫العظمى و‬
‫نهائيا‬
‫موحدة ومنسجمة على المسألتين الدينية والسياسية؛ إذ يضغط هذا العامل في اتّجاه إخراج الدين (اإلسالم) ً‬
‫ّ‬
‫ك وتساؤل‪:‬‬
‫دينا موضع ش ّ‬
‫أحيانا اإلسالم نفسه بوصفه ً‬
‫ً‬ ‫من دائرة التأثير السياسي والقانوني والثقافي‪ .‬يوضع‬
‫التوحش‪ ،‬ويطرح سؤال‪ :‬هل نعترف بمشروعية وجوده في العصر الحديث؟ أم ال نعترف؟‬
‫بوصفه رديف البربرية و ّ‬
‫المدنية كما تالءمت معها المسيحية؟ أم ال يتالءم؟‬
‫وهل يتالءم مع القيم الديمقراطية و ّ‬

‫العام تجاه التنظيمات والقوى الموسومة من جميع‬


‫لتدخل الدين في الشأن ّ‬
‫المضاد ّ‬
‫ّ‬ ‫يتأ ّكد هذا الموقف الدولي‬
‫بالتطرف‪ :‬القاعدة‪ ،‬وداعش‪ ،‬وأنصار الشريعة‪ ،‬وجبهة النصرة‪ ...‬ويتّخذ شكل مواجهة دبلوماسية‬
‫ّ‬ ‫األطراف تقر ًيبا‬
‫أمر متع ّذ ار‬
‫وعسكرية مباشرة‪ ،‬ويجعل القبول بوجود طبيعي لدولة دينية شمولية مثل دولة طالبان أو داعش ًا‬
‫تماما‪.‬‬

‫تدخل الدين في الشأن‬


‫متعددة من ّ‬
‫لكن هذا الرفض المبدئي والعملي في آن يقابله موقف براغماتي تجاه نماذج ّ‬
‫ّ‬
‫السياسي لم يمتنع الغرب عن التعامل معهما بصورة إيجابية‪ :‬نموذج الدولة الدينية غير الديمقراطية لكن المندمجة‬
‫التدين‪ :‬السعودية وايران؛‬
‫المتميزة بمجتمع عالي ّ‬
‫كلًّيا في النظام الدولي وذات الثقل االقتصادي والسياسي الكبير و ّ‬
‫يسمى باإلسالم الديمقراطي القابل للعمل المشترك مع القوى العلمانية‬
‫ونموذج الدولة المدنية المحتضنة لما ّ‬
‫الديمقراطية‪ :‬تونس‪ ،‬وتركيا‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫االنتقائية تجاه حضور الديني في المجال السياسي؟ هل تعني تأرج ًحا؟ أم‬
‫ّ‬ ‫ماذا تعني هذه السياسة الدولية‬
‫ك فيه على الديمقراطية في العالمين العربي واإلسالمي؟‬
‫حرصا ال ش ّ‬
‫ً‬ ‫ازدواجية؟ هل تعني قبوًال بشروط؟ هل تعني‬

‫تفضل النموذج العلماني في العالمين العربي واإلسالمي وتدعمه بأشكال مختلفة على‬
‫ال تزال السياسة الدولية ّ‬
‫حساب النموذج الديني‪ ،‬وهو ما يساعد على تغذية االستقطاب الثنائي وتكريس الصراع األيديولوجي الراديكالي‬
‫ضد استمرار االستبداد السياسي في العالمين العربي‬
‫أن السياسة الدولية تقف سدا منيعا ّ‬
‫في مجتمعاتنا‪ .‬وال يظهر ّ‬
‫واإلسالمي؛ فالمسألة الديمقراطية ليست أولوية وال هي مبدئية في السياسة الدولية خارج النطاق الغربي‪ .‬وبإمكان‬
‫تردد كبير دعم االستبداد على حساب الديمقراطية في بعض البلدان العربية‬
‫هذه السياسة أن تختار دون ّ‬
‫واإلسالمية إذا كان ذلك يحول دون تهديد المصالح الدولية الحيوية‪.‬‬

‫وتتغير؛ فالمنزع اإلنسانوي ال‬


‫ّ‬ ‫تتحرك‬
‫أن الموقف الدولي ليس موقفًا جامدا ال يقبل التغيير‪ ،‬بل هو دينامية ّ‬
‫غير ّ‬
‫أي اتّجاه كان‪ .‬فهناك قواعد حقوقية‬
‫يزال قويا في أوساط النخب والشعوب‪ ،‬وهو إذ يقبل التغيير ال يقبله في ّ‬
‫المتطرفة ال مكان لها في‬
‫ّ‬ ‫وأخالقية ال يقبل أحد بتخطّيها في المستوى المبدئي‪ ،‬وهذا ما يجعل النزعات الدينية‬
‫النظام الدولي وليس لها مستقبل سياسي على المدى البعيد‪.‬‬

‫الخاتمة‬

‫موضوعا‬
‫ً‬ ‫قوية وكافية للحديث عن العلمانية بوصفها‬
‫مبررات ّ‬
‫يبدو ّأنه ال توجد في السياق اإلسالمي المعاصر ّ‬
‫ومنفصال‪ ،‬ويكاد يتناولها المف ّكرون والمثقّفون والسياسيون واإلعالميون والمواطنون إ ّال بصورة إشكاليّة‬
‫ً‬ ‫مستقال‬
‫ّ‬
‫التقدم‪ ،‬والكرامة‬
‫وفي تعالق مع جملة من القضايا الكبرى المترابطة‪ :‬التحديث‪ ،‬والتنوير‪ ،‬والحرية‪ ،‬والديمقراطية‪ ،‬و ّ‬
‫الوطنية‪.‬‬

‫وتبين األحداث األخيرة الحاصلة في عالمنا انهيار نموذج "التحديث من دون ديمقراطية" على الرغم من محاوالت‬
‫ّ‬
‫بعض القوى السياسية واأليديولوجية المحلية واألجنبية فرضه واعادة الحياة إليه من جديد‪ .‬ويترك هذا االنهيار‬
‫لوضع أسوأ‪ ،‬هو وضع الفوضى والحرب األهلية‪ .‬فهل تسود الفوضى؟ أم‬
‫ٍ‬ ‫حد اآلن في أكثر من بالد‬
‫مكانه إلى ّ‬

‫‪62‬‬
‫تقد ًما يرفع التناقض بين التحديث والديمقراطية والدين؟ هل تشتغل الديناميات‬
‫يتبلور من بين األنقاض نموذج أكثر ّ‬
‫االجتماعية المختلفة في اتّجاه إنتاج اجتماع تغلّب وقهر؟ أم تشتغل في اتّجاه إنشاء اجتماع تعاقدي تضامني؟‬

‫‪63‬‬
‫"الدنيوية" و"التحييد" عند عزمي بشارة‪ :‬قراءة يف‬
‫مرشوع الدين والعلامنية‬

‫*‬
‫مصطفى أيت خرواش‬

‫توطئة نظرية‬

‫حبكة املرشوع ومتنه األسايس‬

‫سؤال ال َّدنيَوة (العلمنة)‬

‫سؤال "التحييد" (العلامنية)‬

‫األمنوذج النظري للعلمنة‬

‫املحددات املعرفية لألمنوذج‬

‫باحث مغربي‪ ،‬مهتم بقضايا الفكر اإلسالمي المعاصر‪.‬‬ ‫*‬

‫‪64‬‬
‫توطئة نظرية‬

‫بغض النظر عن ماهيته ونوعه‪ ،‬في استيفائه العديد من المحددات والقواعد‬ ‫تكمن ِج ّدة ّ‬
‫أي مشروع فكري وأهميته‪ّ ،‬‬
‫ثم‬
‫المعرفية التي تجعله يكتسي صبغة "المشروع" أو "النظرية" أو "الفلسفة"‪ ،‬وفي قدرته التفسيرية أو التحليلية‪ّ ،‬‬
‫في استخراجه لنتائج معرفية تختلف ِجدتها واثارها باختالف إضافاتها النوعية‪ .‬انطلقنا في قراءتنا لمشروع المفكر‬
‫الفلسطيني عزمي بشارة‪ ،‬وهو مشروع موسوم بـ "الدين والعلمانية في سياق تاريخي" من هذه المسلّمة النظرية‪،‬‬
‫منهجيا لهذا العمل‪ ،‬محاولين الربط بين نظم المشروع ومداخله وأقسامه‪ ،‬كي نصل في الحصيلة‬
‫ً‬ ‫فجعلناها موجهًا‬
‫إلى مساءلة المشروع في عالقته بأسئلته ومنهجه واجاباته المعرفية‪ .‬ويأتي على رأس هذه المحددات سؤال ِ‬
‫الج ّدة‬
‫ثم في النتائج والمخرجات المعرفية‬
‫وتميزه في الطرح والتناول‪ّ ،‬‬
‫تميزه المنهجي ّ‬
‫والممايزة‪ .‬فلقد شغلنا داخل المشروع ّ‬
‫التي تحصَّل عليها‪ ،‬كما طرحنا سؤال اإلضافة التي سيقدمها في مجال البحث في العلوم اإلنسانية وللباحثين‬
‫عموما‪ ،‬وسؤال المقارنة باألبحاث والمشاريع الفكرية المنجزة في‬
‫ً‬ ‫العرب والمشهد المعرفي العربي‪ /‬اإلسالمي‬
‫المبحث نفسه‪ ،‬كما طرحنا البحث في القدرة على التجاوز من عدمها‪ ،‬وسؤال المباحث المعرفية الجديدة التي قد‬
‫ثم سؤال اآلثار الفلسفية والسياسية‬
‫يفتحها المشروع للباحثين من أجل تطويرها إلى مشاريع مختصة ومستقبلية‪ّ ،‬‬
‫خصوصا في محاولة صوغه لمنظور جديد في فهم العلمنة والعلمانية داخل الفضاء‬‫ً‬ ‫واالجتماعية للمشروع‪،‬‬
‫الفكري العربي‪ ،‬وبين النخب والمؤسسات والمجتمعات العربية اإلسالمية‪.‬‬

‫حاليا‪ ،‬موضوع العلمنة والعلمانية على ٍ‬


‫نحو أساسي؛ إذ ترتكز‬ ‫يدرس عزمي بشارة‪ ،‬في المؤلفات الثالثة المنشورة ً‬
‫أساسا‪ ،‬على تتبُّع العلمنة ودراستها بما هي صيرورة تاريخية من تمايز المجاالت المعرفية‪ ،‬مفرزة‬
‫ً‬ ‫أطروحته‪،‬‬
‫نماذج من العلمانيات المتعددة بحسب طبيعة صيرورة العلمنة‪ ،‬وبحسب أنماط التجارب الدينية التي تؤثر فيها‪،‬‬
‫وبحسب أشكال التجارب السياسية للسلطة وحيثيات تجربة ُّ‬
‫تشكل الدولة‪ .‬وينطلق بشارة في تتبُّع هذه األطروحة‬
‫من مسلّمة ع ّدها منطلقًا معر ًفيا ونتيجةً استباقيةً وفرضيةً قويةً؛ ذلك أنه توصَّل في أبحاثه السابقة المتعلّقة‬
‫أن أنماط التدين في المجتمعات العربية الحالية غير‬
‫بمواضيع اإلسالم وعالقته بالديمقراطية‪ ،‬إلى نتيجة مفادها ّ‬
‫أن الفرق بين أنماط التدين في دول ومجتمعات معينة يتحدد بنسبة‬
‫ممكنة من دون دراسة السياقات التاريخية‪ ،‬و ّ‬
‫أن أنماط العلمنة في الحصيلة يتحدد فعلها بدرجات‬
‫تمت والتي يتعرض لها المجتمع‪ ،‬و ّ‬
‫كبيرة بأنماط العلمنة التي َّ‬

‫‪65‬‬
‫التدين وأنواعه ومدى هيمنة الثقافة الدينية في مجتمع من المجتمعات‪ .‬ويمكن ع ّد هذه األطروحة التي اعتمدها‬
‫برمته‪ ،‬لكن ونحن نقوم بهذه القراءة المعرفية في المشروع‪ ،‬طرحنا أربع فرضيات‬
‫عامةً للمشروع ّ‬
‫بشارة‪ ،‬فرضيةً ّ‬
‫أساسية سنرى كيف أثبتها بشارة أو نفاها؛ وذلك من خالل كتابه "الدين والعلمانية في سياق تاريخي"‪.‬‬

‫‪ ‬الفرضية األولى‪ :‬ربما كانت العلمانية موقفًا من الدين‪ ،‬ولذلك فهي تؤدي إلى فصله عن الدولة أو دحره‬
‫تماما‪.‬‬
‫عام أو القضاء عليه ً‬
‫من المجال ال ّ‬
‫تتعدد بتعدد أنماط التدين التي‬
‫‪ ‬الفرضية الثانية‪ :‬ربما كانت العلمانية‪ ،‬في الحقيقة‪ ،‬علمانيات متباينةً‪ّ ،‬‬
‫أيضا‪.‬‬
‫أفرزتها وبحسب التجربة السياسية للدولة وبحسب أنماط السلط السياسية ً‬
‫‪ ‬الفرضية الثالثة‪ :‬ربما كانت العلمنة صيرورةً تاريخيةً من تمايز المجاالت المعرفية‪ ،‬وتمايز الدين عن‬
‫الخاص‪.‬‬
‫ّ‬ ‫العام إلى‬
‫ظواهره المختلفة‪ ،‬حيث تنتهي بخصخصة الدين وتراجعه من الجال ّ‬
‫‪ ‬الفرضية الرابعة ‪ :‬ربما يختفي الدين أمام صيرورة العلمنة وحيث تؤدي العلمانية األيديولوجية في نفيه‬
‫صور و ٍ‬
‫أشكال جديدة يحتل فيها وظائف حديثةً‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫واندثاره‪ ،‬وقد يعود في‬

‫حبكة المشروع ومتنه األساسي‬

‫افتتح عزمي بشارة مشروع "الدين والعلمانية في سياق تاريخي"‪ ،‬بدارسة الظاهرة الدينية في الكتاب األول‪ ،‬وهو‬
‫مدخال ضرورًيا قبل دراسة صيرورة العلمنة والعلمانية‪ .‬وقد انتهج بشارة منهجيةً علميةً رصينةً‪،‬‬
‫ً‬ ‫الكتاب الذي ش ّكل‬
‫وهو يتعامل مع هذا المشروع؛ فهو يشدد على دراسة الظاهرة الدينية قبل االنتقال لدراسة ظاهرة العلمانية والعلمنة‬
‫في سياق تاريخي يراكم مختلف المداخل المعرفية‪ ،‬والمحددات الفلسفية‪ ،‬والرؤى السياسية‪ ،‬واألفكار الدينية‪ ،‬لكي‬
‫َّ‬
‫يتسنى له التوصُّل إلى فهم عميق ورصين لمختلف هذه الظواهر‪ .‬لذلك يلتجئ بشارة إلى منهجية التفكيك‬
‫المعرفية لمختلف هذه الموضوعات‪ ،‬ويقوم باستخراج مختلف التداخالت المعرفية المؤطرة لها؛ إذ ف َّكك الظاهرة‬
‫الدينية من زوايا معرفية مختلفة‪ ،‬وتتبَّع نشوء الدين والتدين مرحلةً إثر مرحلة‪ ،‬وقام باستخراج مختلف الظواهر‬
‫عرج على المدارس‬
‫المرتبطة بها؛ ومنها األسطورة والسحر والالهوت وفلسفة الدين والمقدس واألخالق‪ .‬كما َّ‬

‫‪66‬‬
‫ثم على‬‫الفكرية والفلسفية والدينية والكالمية واللغوية التي تطرقت إلى الظاهرة الدينية‪ ،‬من قريب أو من بعيد‪ّ ،‬‬
‫قدم لنا‬
‫تعاريف ومميزات وتمظهرات للعلمانية والعلمنة في بيئات مختلفة‪ ،‬وفي إطارات معرفية متعددة‪ ،‬لكي ي ّ‬
‫متكامال حول ظاهرة الدين والتدين وعالقتهما بالعلمانية والعلمنة‪.‬‬
‫ً‬ ‫منهجيا ومعر ًفيا‬
‫ً‬ ‫بناء‬
‫ً‬
‫ٍ‬
‫عرض لتاريخ‬ ‫نافيا أن يكون بصدد‬
‫عرض بشارة في المجلد األول من الجزء الثاني‪ ،‬عصارة الفكر األوروبي‪ً ،‬‬
‫يتم عرضه في كتاب‪ ،‬أو حتى في موسوعة‪ .‬وتتبَّع في الحقيقة‪ ،‬مسار نقد‬ ‫األفكار‪ ،‬أل ّن األمر أكبر من أن ّ‬
‫وميزه من مجاالت احتلَّها على التوالي العلم والفلسفة‪ ،‬وهما يتطوران ُّ‬
‫بتطور إنجازات العقل البشري‪ .‬لقد‬ ‫الدين ّ‬
‫مستنجدا بالدولة ومتحالفًا معها تارةً‪،‬‬
‫ً‬ ‫تعرض الدين لخسائر واخفاقات تلو األخرى‪ ،‬وهو يتصارع مع العلم‬
‫َّ‬
‫ومستنجدا بالفلسفة تارةً أخرى‪ ،‬محاوًال التأسيس لالهوت في مواجهة العلم التجريبي والمنطق العقلي‪ .‬وساهمت‬
‫ً‬
‫االكتشافات العلمية ومنجزات العقل‪ ،‬من جهة‪ ،‬في حصر الدين وخصخصته‪ ،‬وترسيم حدوده‪ ،‬وهذه هي عملية‬
‫تعرض لها‪ ،‬في حين ساهمت القراءات األيديولوجية لالكتشافات العلمية‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬في نشوء‬
‫العلمنة التي ّ‬
‫ضد الدين‪ ،‬كمقدمة لظهور العلمانيات األيديولوجية‪ .‬وبموازاة هذا الصراع وما ترتَّب عليه‪ ،‬ت ّ‬
‫عرض الفكر‬ ‫العداء ّ‬
‫أيضا للعلمنة‪ ،‬وذلك بفرز عناصر الخرافة والغرائبية فيه‪ ،‬وبداية تشبُّعه بقيم العلم والعقالنية والموضوعية في‬
‫ً‬
‫لعام من العقائد‬
‫أيضا للعلمنة‪ ،‬بنزع السحر عنه‪ ،‬وبتحرير الفضاء ا ّ‬ ‫عرض المجتمع ً‬‫فهم العقائد واإليمان‪ .‬كما ت َّ‬
‫وتمت علمنة الدولة بتحريرها من قبضة المؤسسة الدينية والهوتِها وقيمها‬
‫الدينية‪ ،‬وبنشوء المجتمع المدني الحر‪َّ ،‬‬
‫وتحييدها عن الدين‪ .‬حدثت هذه الصيغ من العلمنة‪ ،‬نتيجة صيرورة ضخمة في تاريخ العلم والمعرفة والدولة‬
‫اعا متباينةً ومتعددةً من العلمانيات؛ منها الرخوة (أي تقبلها للدين في مجال‬
‫الحديثة‪ ،‬وأفرزت على التوالي أنو ً‬
‫محدد من دون نفيه أو معاداته)‪ ،‬ومنها الصلبة أو الراديكالية (وهي التي تنفي الدين وتعاديه وتتصارع معه)‪،‬‬
‫ّ‬
‫وسط بين العلمانيتين‪ ،‬لكن بالتأسيس لها على ٍ‬
‫نحو علمي أو كفلسفة علمية‪.‬‬ ‫ومنها العلمية التي تسعى لحل ٍ‬

‫انطلق الباحث في تتبُّعه لمسار العلمنة المتعدد من العصر الوسيط‪ ،‬وقارب إرهاصات نشوء الدولة الوطنية‪،‬‬
‫تمت بها مأسسة الدين‪ ،‬والصراع الديني‪ ،‬وصراع الدولة والمؤسسة الدينية‪ ،‬كما تابع مراحل‬
‫والكيفية التي َّ‬
‫اإلصالح الديني واالنشقاقات الكبرى داخل الجسم الكنسي‪ ،‬والحروب الدينية‪ ،‬وانبثاق الالهوت المسيحي‪،‬‬
‫وعرج على مرحلة النهضة األنسنية‪ ،‬والكاثوليكية‪ ،‬بما هي مرحلة‬
‫وحروب الردة‪ ،‬واالنشقاقات األصولية وغيرها‪َّ .‬‬

‫‪67‬‬
‫نشوء التفكير األنسني واألدبي؛ وذلك بالرجوع إلى اإلرث اليوناني والروماني واحياء اللغات المحلية ونشوء الدولة‬
‫الوطنية وازدهار الفنون وانتعاش العلوم اإلنسانية وبداية أنسنة الدين‪.‬‬
‫أهم‬
‫منعرجا ملحوظًا في تاريخ العلم ونقد الدين‪ ،‬وقد توقف بشارة عند ّ‬
‫ً‬ ‫ش ّكلت مرحلة االكتشافات العلمية‬
‫معا‪ ،‬ونتائج ذلك في نشوء منطق الحداثة‪ ،‬وانتقل إلى مرحلة‬
‫االكتشافات العلمية وتأثيرها في الدين والعلمنة ً‬
‫تطور العقل المعرفي من دون أن يقاربها كحقبة تاريخية‪ ،‬بل كصيرورة فكرية متواصلة‬
‫التنوير‪ ،‬كأحد مراحل ُّ‬
‫ثم مراحل نشوء‬
‫معا‪ّ ،‬‬
‫ومتجددة‪ .‬كما درس‪ ،‬في كثير من التفصيل‪ ،‬مراحل ما بعد التنوير ونقد الدين والتنوير ً‬
‫عام‪ ،‬ليتوقَّف في الفصل األخير عند‬
‫نحو ّ‬‫العلمانية كأيديولوجيا‪ ،‬والنقد ما بعد الحداثة للعقل والتنوير على ٍ‬
‫ك خيوط‬
‫خصوصا في موقفها من الدين والعلمانية‪ .‬وبذلك وصل عزمي بشارة إلى ف ّ‬
‫ً‬ ‫موضوع الليبرالية ونقدها‪،‬‬
‫العلمنة؛ بما هي صيرورة متباينة ومتعددة من مقاربة الدين ودوره وحدوده عبر التاريخ الفكري‪ ،‬والعلمانية؛ بما‬
‫جدا‪.‬‬
‫منتقدا نظرية الفصل المختزلة ً‬
‫ً‬ ‫هي تحييد للدين عن الدولة‪،‬‬
‫واصل بشارة عرض نماذج العلمانية ونظريات العلمنة في المجلد الثاني من الجزء الثاني‪ .‬وقد بدأها بعرض‬
‫نظرية التأريخ بما هي علمنة للتاريخ‪ ،‬وعمل التاريخ كآلية علمانية‪ ،‬بما أنها تقدم لنا رؤيةً أخرى عن العالم غير‬
‫تقدمها لنا المنظومة الدينية‪ .‬وانتقد األنموذج النظري للعلمانية األوروبية‪ ،‬بما هي حالة استثنائية‬
‫تلك الرؤية التي ّ‬
‫أن جميع المجتمعات‬
‫في نشوء الفكر العلمي‪ ،‬ون ْقد الدين‪ ،‬ونشوء الفكر النهضوي والحداثي في ما بعد‪ ،‬ورأى ّ‬
‫أن العلمانية علمانيات‬
‫أيضا‪ ،‬بعضها عن اآلخر‪ ،‬و ّ‬
‫أن العلمانية األوروبية مختلفة‪ً ،‬‬
‫تمر بتجارب علمنة مختلفة‪ ،‬و ّ‬
‫ّ‬
‫خصوصا في الفضاء األوروبي‪ ،‬وكذا‬
‫ً‬ ‫متباينة‪ .‬وعرض في مرحلة أخرى‪ ،‬نماذج تاريخية من التجارب العلمانية‪،‬‬
‫تحولها إلى أيديولوجيا علمانية‪ .‬كما قارن بين واقع العلمنة في التجربة‬
‫مختلف النظريات المعرفية للعلمنة وكيفية ُّ‬
‫وبين كيف تؤثّر أنماط التجارب الدينية وكذا أنماط الوعي الديني في خلق أنماط من‬
‫األوروبية واألميركية‪ّ ،‬‬
‫سماها بشارة "أشباه الديانات البديلة"‪.‬‬
‫العلمانيات المتباينة‪ ،‬وفي كيفية نشوء الديانات السياسية أو المدنية أو ما ّ‬
‫قدم في األخير‪ ،‬أنموذجه النظري في العلمنة والعلمانية‪ ،‬وهو أنموذج تركيبي يشمل مختلف المساهمات‬
‫لكي ي ّ‬
‫المهمة لنظرية العلمنة وكذلك التعميمات واالستقراءات التي انتقدها كتحصيل حاصل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫المعرفية‬

‫‪68‬‬
‫َّنيوة (العلمنة)‬
‫سؤال الد َ‬

‫معتمدا على منهجية ترتيب‬


‫ً‬ ‫منهج عزمي بشارة نظرية العلمنة بما هي "دنيوة" للدين‪ ،‬بطريقة مرّكبة ومنظمة‬
‫ميز من خاللها بين "المفردة"‬
‫تقوي مشروعه الفكري؛ إذ بدأ بوضع قاعدة لغوية اشتقاقية ّ‬
‫النواظم المعرفية التي ّ‬
‫ثم إلى مفاهيم ذات حموالت‬ ‫وتتطور إلى مصطلحات‪ّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫أن المفردات تنتقل‬‫ثم "المفهوم"؛ ذلك ّ‬
‫و"المصطلح"‪ّ ،‬‬
‫تتغير بتغيُّر الصيرورات التاريخية‪ .‬فعند دراسة العلمانية يجب الفصل بين منشأ المفردة؛ أي استخدامها األصلي‪،‬‬
‫تمر عبر صيرورة‬ ‫ثم إلى مفهوم‪ .‬فعملية إنتاج الظواهر نظريا – كما يقول بشارة ‪ّ -‬‬
‫وتطورها إلى مصطلح‪ّ ،‬‬
‫المجرد إلى المفهوم العيني‬
‫ّ‬ ‫ثم من المصطلح‬
‫االنتقال من المفردة إلى المصطلح من خالل التجريد من الجزئيات‪ّ ،‬‬
‫من خالل إعادة إنتاج الظاهرة نظرًيا‪ ،‬اخدين في الحسبان السياقات التاريخية وتطورها‪ ،‬لكن من دون محاكاتها‬
‫تمر‬
‫نظرًيا‪ ،‬وهذه هي الية النمذجة النظرية في العلوم االجتماعية‪ .‬فعملية تفسير الظواهر واألفكار‪ ،‬إذن‪ّ ،‬‬
‫مجردة إلى مصطلحات قابلة لألقلمة‬
‫تطورت من مفاهيم ّ‬
‫بالضرورة عبر استيعاب القدرة التفسيرية للمفاهيم التي َّ‬
‫مع المتغيرات التاريخية التي تكسبها األفهمة التي يتحدث عنها الباحث‪.‬‬
‫تطورت الى مصطلح الحقًا في أوروبا‪ ،‬لتشمل‬
‫لقد بدأت كلمة "العلمانية" في سياق نشوئها األوروبي الديني و َّ‬
‫ثم إلى موقف من الدين بل والعالم بأسره؛ إذ ثبتت هذه الرؤيا‬
‫هذه الرؤيا العالقة بين الدين والمجتمع والدولة‪ّ ،‬‬
‫عبر عملية العلمنة كصيرورة تاريخية واقعية شهدتها المجتمعات األوروبية وغير األوروبية‪ ،‬بصفتها عملية‬
‫"دنيوة" – بحسب قول بشارة ‪ -‬للوعي والممارسة البشرية‪ ،‬وعملية تمايز عناصرها الدينية وغير الدينية وتحديدها‬
‫وتمأسسها‪ .‬وقد انطلقت هذه الصيرورة في سياق نشوء العلوم الحديثة التي تفسر الظواهر بقوانينها‪ ،‬وفي سياق‬
‫صراع ك ّل من الكنيسة والدولة‪ ،‬وفي سياق نشوء المفهوم الحديث لإلنسان الحر والمستقل والعاقل‪ .‬أ ّما العلمنة‬
‫كمفهوم‪ ،‬فهي اسم ألنموذج تفسيري لعملية تطور إنسانية عامة على مستوى التاريخ الطويل في ما يتعلق بمعرفة‬
‫الظواهر‪ ،‬وفي ما يتعلق بعالقة السلطة الدينية بالسلطة السياسية أو عالقة الدين بالدولة‪.‬‬
‫اكتسبت مفردة "العلمانية" داللة "الزمني" أو "الالديني" أو "الدنيوي" و"الالروحي" عبر عملية التحول إلى مصطلح‬
‫يخيا واف ارزاتها المختلفة على مستوى الفكر‬
‫ثم إلى مفهوم‪ ،‬واستنتج بشارة من خالل دراسة صيرورة العلمنة تار ً‬
‫ّ‬
‫أن العلمانية ليست فلسفةً‪ ،‬بل هي مقاربة للدنيا والدين بوصفه جزًءا من الدنيا فحسب‪ .‬إنها‬
‫والمجتمع والدولة ّ‬
‫عملية دحر للمقدس والمتجاوز من قطاع بعد اخر من قطاعات النشاط االجتماعي والفكري والفني والسياسي‪،‬‬

‫‪69‬‬
‫ٍ‬
‫وتسيير؛ أي مجال معرفي واجتماعي من منطلق القوانين أو المصالح األرضية أو‬ ‫بمعنى أنها عملية ٍ‬
‫فهم‬
‫الدنيوية‪.‬‬

‫سؤال "التحييد" (العلمانية)‬

‫إ ّن دراسة صيرورة العلمنة‪ ،‬بما هي صيرورة تاريخية مستمرة لعملية "دنيوة" الدين‪ ،‬وعقلنة مجاالت المعرفة‪،‬‬
‫ثم بروز منطق الدولة واحتواؤه للمؤسسة‬
‫ونشوء التمايزات المعرفية بين مجاالت سياسية واجتماعية ودينية‪ّ ،‬‬
‫الدينية ـوتجاوزه ّإياها‪ ،‬نتج منها ُّ‬
‫تشكل العلمانية في صيغ سياسية وتاريخية متعددة؛ إذ يصبح من المجحف‬
‫ض النظر عن‬
‫النظر إلى العلمانية كفلسفة أو موقف سياسي يفصل الدولة عن الدين‪ ،‬في اختزالية فاضحة‪ ،‬بغ ّ‬
‫دراسة السياقات التاريخية لنشوئها‪ ،‬واختالفها من بلد إلى اخر‪ ،‬ومن ثقافة دينية إلى أخرى‪ ،‬ومن نظام سياسي‬

‫إلى اخر‪ .‬وقد أدى هذا االختزال إلى نشوء أيديولوجيات علمانية تتخذ موقفًا من الدين تنتج منه مواقف مضادةً‬
‫وعام‪ ،‬من دون‬
‫تماما كما حدث في تجارب عربية امنت بالعلمانية كأنموذج مكتمل ّ‬
‫أو نماذج دينية راديكالية‪ً ،‬‬
‫استحضار غياب عملية العلمنة وصيروراتها التاريخية‪ .‬من هنا انطلق بشارة لكي يصحح خطأً معرفًيا‪ ،‬وموقفًا‬
‫ٍ‬
‫تكامل مع علم التاريخ‪ ،‬وهي المهمة التركيبية‬ ‫مؤدلجا‪ ،‬ونظريةً خاطئةً‪ ،‬وقد استعان بفلسفة علم االجتماع في‬
‫ً‬
‫التي سنحت له تقديم أنموذج نظري متكامل حول العلمنة والعلمانية تتوافر فيه الشروط التفسيرية لهذه المفاهيم‬
‫في سياقاتها التاريخية المتعددة‪.‬‬
‫ترتكز صيرورة العلمنة على نظرية "التمايز" التي أخذ بها عزمي بشارة من سوسيولوجيا ماكس فيبر من خالل‬
‫فطورها إلى أنموذج نظري يقارب العلمانية كتحييد‬
‫دراسته الموسومة بـ "أشكال الرفض الديني للعالم واتجاهاته"‪ّ ،‬‬
‫عدة مراحل؛ إذ تبدأ بمرحلة أفول‬
‫للمجال الديني عن المجال الدنيوي‪ .‬وترتكز نظرية التمايز عند فيبر على ّ‬
‫ي فصل‪.‬‬
‫الدين‪ ،‬فالحصر في المجال الخاص‪ ،‬وتنتهي بمرحلة التمايز بين المجاالت من دون أن يكون هنالك أ ّ‬
‫لقد توقّف نقاد العلمنة على مرحلة األفول‪ ،‬وساهمت هذه الرؤيا المبتورة لصيرورة العلمنة في نشوء أيديولوجيات‬
‫اضر في شتى‬
‫أن الدين يبقى ح ًا‬ ‫لكن تجارب علمانيةً مختلفةً ّبينت ّ‬
‫العام‪ّ ،‬‬
‫في العلمانية نافيةً الدين من المجال ّ‬
‫أنواع العلمانيات‪ ،‬وأنه يظهر بتمظهرات جديدة ويحت ّل مجاالت ووظائف مختلفةً‪ .‬ففي التجربة اإلنكليزية‪ ،‬لم نجد‬

‫‪70‬‬
‫أثر للعلمنة بالمعنى المتداول؛ أي فصل الدين عن الدولة‪ ،‬بل كانت دعوةً دينيةً من جهة مذاهب مختلفة من‬
‫ًا‬
‫تدخل الدولة في المجال الديني‪ ،‬وفرضها عقيدةً محددةً قد تكون محكومة بمنطق االلتزام‬
‫أجل وضع مسافة بين ّ‬
‫بمذهب واحد‪ ،‬أو بمنطق االستيالء على المؤسسة الدينية‪ ،‬أو التوافق معها ألهداف الحكم الموحد‪.‬‬
‫صلبا من العلمانية؛ ذلك أنها بدأت باستقواء الملكية المطلقة على الكنيسة‪،‬‬
‫أنموذجا ً‬
‫ً‬ ‫أما النموذج الفرنسي‪ ،‬فش ّكل‬
‫ّ‬
‫عمال بمبدأ الملك الواحد والقانون الواحد والدين الواحد‪ .‬وكانت هذه بداية ت ُّ‬
‫شكل العقيدة الوطنية الشمولية التي‬ ‫ً‬
‫أن بداية إصالح عالقة الكنيسة بالدولة (بدأت مع لويس السادس‬
‫أي انشقاق عن هذا الثالوث المقدس‪ .‬إال ّ‬
‫تنفي ّ‬
‫عشر واستمرت مع الثورة الفرنسية) كانت مع نابليون بونابارت الذي قاد في الوقت نفسه التسوية مع الكنيسة‬
‫وتأسيس أجهزة الدولة البيروقراطية‪ ،‬من نظام التعليم وجهاز المعلمين والخدمة العسكرية اإلجبارية‪ ،‬بمعنى بداية‬
‫علمنة الدولة والتأسيس لعلمانية فرنسا الخاصة‪ .‬وفي المقابل‪ ،‬نمت في أميركا منذ إعالن االستقالل وتأسيس‬
‫طالحيا‬
‫ً‬ ‫المؤسس‪ ،‬لكن بحضورها اص‬
‫َّ‬ ‫الجمهورية علمانية صلبة من دون أن تدرج اسم العلمانية في الدستور‬
‫ار‬
‫العام‪ ،‬بل تقوم بتحييده عن الدولة وتجعله قرًا‬
‫سلبيا من الدين أو تنفيه من الحيز ّ‬
‫عندما ال تتخذ الدولة موقفًا ً‬
‫فرديا وتعمل على حمايته فقط‪.‬‬
‫ً‬
‫أن االختالف بين‬
‫ّأدت التجارب العلمانية األوروبية إلى استنتاج بشارة وجود علمانية صلبة وأخرى رخوة‪ ،‬و ّ‬
‫أن الطريق المثالية‬
‫النموذجين مرتبط بتاريخ السلطة السياسية وعالقتها بالمؤسسة الدينية وبطبيعة نظام الحكم‪ ،‬و ّ‬
‫لتحييد الدولة في الشأن الديني يتمثّل بوجود مسار تاريخي يتفاعل فيه العلمانيون مع المتدينين من أجل تحرير‬
‫سلبيا من الدين‪ ،‬وتنفيه من‬
‫الدين من قبضة الدولة وتأكيد الحرية الدينية وتعددها‪ .‬وتتخذ العلمانية الصلبة موقفًا ً‬
‫العام‪ ،‬في حين تدعو العلمانية الرخوة إلى تحييد الدولة والدين؛ وذلك باحترام حرية الدين وتعددية المعتقد‬
‫الحيز ّ‬
‫بدال من أن تكون موقفًا تجاه الدين‪.‬‬
‫واإليمان بالتسامح الديني‪ ،‬إذ تصبح العلمانية موقفًا من الدولة ً‬
‫توصل بشارة إلى إثبات فرضيته التي بدأ بها بحثه حول عالقة أنماط التدين وتأثيرها في أنماط العلمنة‪ .‬ففي‬
‫لقد ّ‬
‫النموذج البروتستانتي حيث نمط التدين يميل إلى الفردانية في التعامل مع المقدس ونفي الوساطة مع اهلل‪،‬‬
‫َّ‬
‫تشكلت علمانية محايدة تفرض على الدولة التزام الحياد وعدم التدخل في الشأن الديني‪ .‬في حين أ ّن نمط التدين‬
‫الكاثوليكي حيث الثيولوجيا الكاثوليكية تفرض الوساطة وتمأسس الدين‪ ،‬استحال إلى علمانية متشددة تتخذ موقفًا‬
‫العام‪.‬‬
‫سلبيا من نشاط الدين في المجال ّ‬
‫ً‬

‫‪71‬‬
‫تطور معر ًفيا في فهم الدين والدولة بما يحمله هذا الموقف من تمويه‬
‫ينفي عزمي بشارة أن تكون صيرورة العلمنة ًا‬
‫أيديولوجي‪ ،‬فالعلمانية لم تتطور في شكل منحى تصاعدي من فكر التنوير إلى الحداثة‪ ،‬ولذلك استعان بمفهوم‬
‫التمايز الذي يحمل دقةً وصفيةً لمسار العلمنة الذي يبدأ باالنفصال والتمايز‪ ،‬وينتهي بالوحدة في ظل التمايز‪،‬‬
‫ومن هنا يرتكز تحليله على ع ّد العلمنة مولّدةً لنقيضها؛ عندما يؤدي التحييد والخصخصة والفردنة والعقلنة إلى‬
‫العام بطرائق جديدة وبوظائف حديثة‪ .‬لقد‬‫بروز ديانات سياسية وأخرى مدنية ودنيوية‪ ،‬فيعود الدين إلى الحيز ّ‬
‫تعايش الدين‪ ،‬إذن‪ ،‬مع استمرار صيرورة العلمنة من دون أن يتعرض للنفي‪ ،‬خالفًا لموقف األيدولوجية العلمانية‪،‬‬
‫بل أخد مواقع جديدة وتمركز في مواقعه األصلية وساهم موقف التحييد في استمرار الدين على أداء وظائفه‬
‫أن أنماط التدين‬
‫أن الدين ظاهرة اجتماعية‪ ،‬و ّ‬
‫تعرض لها المجتمع‪ ،‬بالنظر إلى ّ‬
‫الجديدة بحسب درجة العلمنة التي ّ‬
‫تؤثّر في أنماط العلمنة‪ .‬وفي الحصيلة‪َّ ،‬أدت العلمنة ْ‬
‫(الدنيوة)‪ ،‬بما هي عملية دحر للمقدس والمتجاوز وعملية‬
‫ألي مجال معرفي واجتماعي من منطلق القوانين األرضية والدنيوية‪ ،‬إلى بلورة العلمانية (التحييد‬
‫فهم وتسيير ّ‬
‫ْ‬
‫عند بشارة) بما هي نتاج علمنة الفكر والمجتمع والدولة بتراجع األهمية االجتماعية للدين‪.‬‬

‫األنموذج النظري للعلمنة‬

‫بديال يقوم على إعادة استقراء التاريخ (وللدقة‬


‫أنموذجا نظرًيا ً‬
‫ً‬ ‫الجاد‬
‫ّ‬ ‫يعرض بشارة في اخر هذا الجهد النظري‬
‫منتقدا مجموع االستدالالت والتعميمات المستقرأة‪،‬‬
‫ً‬ ‫معتمدا على مناهج علم االجتماع والتاريخ‪،‬‬
‫ً‬ ‫تاريخ األفكار)‪،‬‬
‫وتركيبا يعتمد على قدرته‬
‫ً‬ ‫ومقاربات نقديةً لنظريات العلمنة‪ ،‬لكي يتمكن في األخير من طرح أنموذج أكثر دقةً‬
‫التفسيرية؛ بمعنى تفسير الظواهر والتجارب التاريخية بمسبباتها الخاصة وسياقاتها المختلفة وشروطها‬
‫بدال من المواقف األيديولوجية التي تتخذها تيارات سياسية‪،‬‬
‫ثم تقديم استقراءات موضوعية ً‬
‫الموضوعية‪ ،‬ومن ّ‬
‫وتعتمدها أنظمة ح ٍ‬
‫كم‪ ،‬كنتائج مبتورة عن سياقاتها الموضوعية‪ .‬ويمكن تقديم الخطوط العريضة لهذا األنموذج‬
‫على النحو التالي‪:‬‬
‫أوًال‪ :‬ليست العلمنة حالة فصل بين الدين والدولة وبين المجاالت المختلفة‪ ،‬بل هي جدلية من التمايز في إطار‬
‫ثم تنتهي‬
‫الوحدة‪ ،‬حيث تتمايز المجاالت المعرفية واالجتماعية بتغليب دور المعرفة العلمية في فهم الظواهر‪ّ ،‬‬

‫‪72‬‬
‫بإعالء دور الدولة على الدين في المجتمع الحديث الذي ال يغيب فيه الدين بل يتخذ وظائف جديدةً؛ إذ تؤدي‬
‫صيرورة العلمنة إلى انحسار البعد المعرفي للدين‪ ،‬أو إلى إعادة طرحه بقوة من جهة الفئات االجتماعية وظهور‬
‫العام‪ .‬وتؤدي هذه الصيرورة‪ ،‬وما رافقها من ظهور‬‫الحيز ّ‬‫صحوات دينية وبداية احتالل مواقع جديدة للدين في ّ‬
‫العام‪ ،‬إلى ظهور العلمانية الدينية بدعوتها إلى تحييد‬
‫األيديولوجيا العلمانية التي تصارع الدين وتنفيه من المجال ّ‬
‫الدولة في مجال الدين‪ ،‬وهي دعوة حل ٍ‬
‫وسط بين التيارين المتصارعين تجاه مكانة الدين ووظيفته‪.‬‬

‫كفكر وظاه ٍرة اجتماعية ّ‬


‫مميزة بذاتها‪ ،‬وتختلف هذه الترسيمة‬ ‫ثانيا‪ :‬من منظور الدين‪ ،‬ترسم العلمنة للدين حدوده ٍ‬
‫وتمر هذه العملية بصيرورات متباينة‪ .‬فالمؤسسة الدينية ترفض‬
‫تبعا لدرجة علمنة أنماط الوعي داخل المجتمع‪ّ .‬‬
‫ً‬
‫ثم تنتهي بالقبول لمنطق الحصر بين المجالين على أن تقبل الخضوع لمنطق‬ ‫فصل الدين عن الدولة بدايةً‪ّ ،‬‬
‫العام بعد‬
‫ار جديدةً‪ ،‬وقد تعود إلى المجال ّ‬
‫لكن المؤسسة الدينية تعود لتؤدي أدو ًا‬
‫الدولة واستبدادها تجاه الدين‪ّ .‬‬
‫ضد الدولة من جهة جماعات دينية جديدة‪ ،‬وقد‬
‫أن تستفيد من علمنة الدولة‪ ،‬وربما تعود بعد تسييس الدين ّ‬
‫ينتشر التدين الفردي بعد عملية العلمنة كبديل يبحث عن جوهر الدين الروحاني األصيل‪.‬‬
‫تعرضت للعلمنة‪،‬‬
‫يتم استحضار المقدس من جديد عبر صيرورات مختلفة في المجاالت العامة التي َّ‬
‫ثالثا‪ :‬قد ّ‬
‫أشكاال متباينةً‪ .‬فقد تضفي الدولة قداسةً على قيمها؛‬
‫ً‬ ‫خصوصا علمنة السياسة والدولة‪ ،‬وهي صيرورات تتخذ‬
‫ً‬
‫مثل السيادة الوطنية والقومية وتتحول في هذه الحال إلى أسطورة‪ ،‬وقد تضفي السياسة قداسةً على قيمها التي‬
‫يتم تقديس الجماعة والطائفة الدينية والهوياتية‬
‫تعرضت للعلمنة بتغليب الوطنية والحكم الرشيد على قيم الدين‪ ،‬وقد ّ‬
‫في وجه الوطنية والقومية من منطلق الدعوة الحقوقية السترجاع الحقوق المهدورة‪ ،‬كما قد يحدث تقديس للقيم‬
‫الدنيوية الجديدة في وجه قيم المقدس التقليدية في عملية إنشاء لدين مدني أو سياسي جديد‪.‬‬
‫تبعا ألنواع أنماط‬
‫يمكن استقراء هذا األنموذج من استخالص أنواع التجارب العلمانية وصيرورات العلمنة‪ً ،‬‬
‫التدين والوعي الذي أفرزته العلمنة‪ .‬وفي الحصيلة‪ ،‬تكون عملية تطبيق نظرية العلمنة غير ممكنة من دون‬
‫استحضار وتو ٍ‬
‫افر للبعد النظري في عالقة الدين وتعريفاته المختلفة وتمييزاته المتباينة‪ ،‬إلى جانب فحص صيرورة‬ ‫ٍ‬
‫انحسار الدين وتراجعه في ك ّل مجتمع‪ ،‬وكيفية نشوء الدولة‪ ،‬وتاريخها السياسي في عالقتها بالمؤسسة الدينية‪،‬‬
‫ثم في األخير استحضار أوضاع نشوء أنماط التدين المختلفة‪ ،‬عبر طرائق تلقّي فئات المجتمع لها وانعكاسات‬
‫ّ‬
‫هذا التلقي على أنماط العلمنة‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫المحددات المعرفية لألنموذج‬

‫ش ّك لت فكرة "التمايز" األداة األساسية التي اعتمدها بشارة في تركيب أنموذجه النظري‪ .‬فلقد تتبَّع تمايز‬
‫وتطور العلوم الحديثة ‪ ،‬وكيفية مساهمة ذلك في تحديد مجاالت الدين‬
‫ُّ‬ ‫الدين وباقي مجاالت الحياة‪،‬‬
‫تطور الفكر السياسي المرتبط بنشوء الدولة الحديثة‪ ،‬والكيفية التي أ ّد ى بها هذا النشوء‬
‫الجديدة‪ ،‬كما تابع ُّ‬
‫أيض ا بين التمايز في الفكر وباقي‬
‫ً‬ ‫إلى تجاوز االنتماء الديني وتبن ي االنتماء الوطني المدني‪ ،‬وميَّز‬
‫مجاالت الحياة‪ ،‬وكيفية نشأة األيدولوجي ات العلمانية التي تبنَّ ت مواقف معيارية من الدين والدولة والمجتمع‪،‬‬
‫أن الدين إنما تتراجع أهميته االجتماعية في‬
‫وميَّز بين أطروحة انسحاب الدين وانسحاب المقدس‪ ،‬وبين ّ‬
‫أن الدين ينسحب من مجاالت أصبحت مل ًك ا للعلم لكن من دون أن ينسحب المقدس‪،‬‬
‫صيرورة العلمنة‪ ،‬و ّ‬
‫كما ميّ ز بين نماذج تاريخية من العلمنة في أوروبا أو في أميركا‪ ،‬وانتقد السرديات التي تنشأ عنها‪ ،‬وميّز‬
‫أن العلمانية ت برز‬
‫بين العلمانية بوصفها موقفًا من الدين والعلمانية بوصفها موقفًا من الدولة‪ ،‬وكيف ّ‬
‫كمواقف فكرية وأخالقية مرتبطة بعالقة الدولة بالدين في مرحلة تعاظمها في الحداثة‪ ،‬كما ميّ ز بين الدولة‬
‫منع ا لإلكراه الديني والستغالل السلطة‬
‫الدينية والدولة المدنية وضرورة تحييد الدولة في شؤون الدين‪ً ،‬‬
‫السياسية للدين أو العكس‪ ،‬لكي يصل في األخير‪ ،‬إلى تركيب فكرة التمايز والتم فص ل مع فكرة الوحدة في‬
‫التطور‪ ،‬من دون النظر إلى فكرة التطور كخطّ مستقيم تصاعدي بدأ مع فكر التنوير وصوًال إلى‬
‫ُّ‬ ‫إطار‬
‫الحداثة‪.‬‬
‫أيض ا على فكرة "الصيرورة التاريخية" عند دراسته للعلمنة‪ .‬فلقد نظر إلى العلمنة بوصفها‬
‫اعتمد بشارة ً‬
‫صيرورةً تاريخيةً‪ ،‬من عقلنة مجاالت المعرفة المختلفة وفهمها بقوانينها الحديثة‪ ،‬في تجاوز تام للرؤية‬
‫الغيبية والميتافيزيقية التي هيمنت تاريخيً ا على العقل اإلنساني‪ .‬وتميَّزت هذه الصيرورة التاريخ ية بتمايز‬

‫معرفي ة مركبةً‬
‫ً‬ ‫أشكاال‬
‫ً‬ ‫هذه المجاالت المعرفية في ما بينها‪ ،‬وبينها وبين مجاالت المعرفة الدينية‪ ،‬منتجةً‬
‫جديدةً؛ إذ تنتج من هذه الصيرورة انسحاب الدين‪ ،‬مرةً عندما يحدث التمايز بينه وبين المجاالت المختلفة‪،‬‬
‫روجت لذلك األيديولوجيات‬
‫ومرةً عندما يبرز منطق الدولة الحديثة‪ ،‬لكن من دون أن يندثر الدين مطلقًا كما َّ‬
‫العلمانية‪ ،‬بل ينسحب في مراحل‪ ،‬ويعود في أخرى بأشكال جديدة ووظائف حديثة‪ .‬ويبرز في حصيلة هذه‬
‫تحولت الشرعية من المؤسسة الدينية (سواء‬
‫الصيرورة منطق الدولة على حساب منطق الدين‪ .‬فلقد ّ‬

‫‪74‬‬
‫السياسية أو المجتمعية‪ ،‬بل حتى الدينية) إلى مؤسسة الدولة بموجب القانون المدني الحديث‪ ،‬وسلطة‬
‫وتطورت هذه الصيرورة حتى ظهرت الديانات البديلة أو‬
‫ّ‬ ‫الدولة الحديثة وتنامي الوطنيات والقوميات‪،‬‬
‫المدنية في شكل أيديولوجيات شمولية ت ضفي قي ًم ا دينيةً على قيمها الدنيوية‪ ،‬بهدف الخالص الغنوصي‪،‬‬
‫سم اها بشارة "أشباه الديانات البديلة"‪ ،‬لغياب المقدس والعبادات والشعائر في تشكيلتها الجديدة‪.‬‬
‫وهي التي ّ‬
‫أشكاال متباينةً؛ منها تحييد الدول ة في الشأن الديني بهدف حماية الحرية الدينية‪ ،‬أو‬
‫ً‬ ‫ويتخذ منطق الدولة‬
‫العام من جهة الدولة‪ ،‬وت نتج‬
‫ّ‬ ‫سيطرة الدولة على الدين‪ ،‬أو تقليص دور الدين والمؤسسة الدينية في المجال‬
‫من هذه األشكال انعكاسات اجتماعية وسياسية وصراعات وحروب مختلفة‪.‬‬
‫في الحصيلة‪ ،‬ال تعبّر أطروحة الفصل بين المجال ا لديني والدنيوي عن حقيقة التمايز بين المجا الت‬
‫ثم فإنه من الضروري التمييز بين أنماط التدين والفئات‬
‫المعرفية المختلفة وصيروراتها المتباينة‪ ،‬ومن ّ‬
‫االجتماعية‪ ،‬وأنواع الدولة وتاريخها ودرجة تطور المجتمعات‪ ،‬ودرجة علمنة الوعي فيها‪ ،‬وا ال تسق ط نظرية‬
‫إن نظرية العلمنة‪ ،‬إذن‪ ،‬هي "ميتا ‪ -‬نظرية" أو "سردية كبرى"‬
‫العلمنة في تعميما ت واستقراءات خاطئة‪ّ .‬‬
‫–بتعبير بشارة ‪ -‬يحصل فيها تمايز المجاالت المعرفية‪ ،‬وتنحسر فيها أهمية الديانات الروحية في حياة‬
‫األفراد والمجتمعات‪ ،‬حيث يتطور العلم والمعرفة العلمية وتتغير وسائل إنتاج الناس لحياتهم المادية‬
‫والمعنوية‪ ،‬وهذه التمايزات المتضمنة في نظرية العلمنة هي نتيجة استقراء تطور صيرورة العلمنة في‬
‫موح دة قابلة للتطبيق في جميع السياقات‪.‬‬
‫المجتمعات األوروبية‪ ،‬وا ْن لم تتطور إلى نظرية شاملة ّ‬
‫متكامال بشأن نظرية العلمنة والعلمانية في سياق صيروراتها‬
‫ً‬ ‫نظري ا قويً ا‬
‫ً‬ ‫مشروع ا‬
‫ً‬ ‫قد م عزمي بشارة‬
‫لقد ّ‬
‫وتمايزاتها التاريخية والمعرفية المتعددة‪ ،‬كما تم ّك ن من إعادة استقراء التاريخ وتصحيح مجموع التعميمات‬
‫النظرية واأليديولوجية التي اختزلت نظرية العلمنة في ٍ‬
‫بثر فاض ٍح لسياقات إفراز النظرية‪ ،‬وفي إهمال‬
‫لقدراتها التفسيرية المتعددة‪ .‬وا ّن النتائج المعرفية لمشروع بشارة ستمكن من إعادة قراءة التاريخ اإلسالمي‬
‫ودراسة صيرورة نشوء الدولة وا خفاقاتها األيديولوجية المتعددة‪ ،‬كما ستمكن من النظر في تطور الدين‬
‫وتمايزه وفي إمكانية نشوء علمانيات في سياقات عربية وا سالمية بديلة‪ .‬سيرجع عزمي بشارة ‪ -‬ال محالة ‪-‬‬
‫إلى استقراء العلمنة والعلمانية في السياقات اإلسالمية‪ ،‬وسيدرس عمل نظرية العلمنة باألنموذج المعرفي‬

‫‪75‬‬
‫صرح بذلك هو السياقات‬
‫ألن أصل البحث كما ّ‬
‫قد مه كحالة تكاملية لصيرورة عمل العلمنة والعلمانية‪ّ ،‬‬
‫الذي ّ‬
‫العربية اإلسالمية‪.‬‬
‫الجاد والرصين سيم ّك ن الباحثين والدارسين لعمل الدين في المجتمع العربي‬
‫ّ‬ ‫إن هذا المسار البحثي‬
‫ّ‬
‫واإلسالمي‪ ،‬ولعمل العلمنة في ظ ّل ثورة وسائط المعرفة ووسائلها والمعلومة الحديثة‪ ،‬من الوعي بمسار‬
‫ثم اإلجابة عن أسباب تخلّف المجتمعات اإلسالمية‬ ‫تطور الدين وعمله في المجتمعات اإلسالمية أوًال ‪ّ ،‬‬
‫ُّ‬
‫التي يرجعها كثير من الباحثين إلى قداسة الدين‪ ،‬وع قم أسئلته‪ ،‬وا ف ارزه للتطرفات األيديولوجية المختلفة‪،‬‬
‫ثم إلى تقليدانية قيم المجتمعات العربية التي لم تتعرض للعلمنة‪.‬‬
‫وزواج الدين بالدولة‪ّ ،‬‬

‫‪76‬‬
‫قراءة يف كتاب "الدين والعلامنية يف سياق‬
‫تاريخي" لعزمي بشارة‬

‫*‬
‫محمد الطاهر المنصوري‬

‫تقديم‬

‫إ ّن التجربة الدينية بجانبها الحسي وجانبها العقلي بوصفها تجربة للمقدس هي في بعدها الفردي تجربة‬
‫مكونة لإلنسان‪ ،‬تلك هي رؤية عزمي بشارة للمسألة الدينية‪.‬‬
‫عاطفية وجدانية ّ‬
‫انطالقًا من المقدمة‪ ،‬بسط عزمي بشارة جملةً من اإل شكاليات في عالقة بين الدين والتجربة الدينية‪ ،‬وبين‬
‫بالتعرض إليها كلّها؛‬
‫ّ‬ ‫األ خالق والدين‪ .‬هذا‪ ،‬إلى جانب عدد من القضايا األخرى التي ال يسمح الفضاء‬
‫إذ سيقتصر حديثنا على التجربة الغربية في مجال اإل صالح الديني منذ العصر الوسيط حتى انبالج الفترة‬
‫الحديثة‪ ،‬وما رافقها من تغيرات مهمة شملت العالقة ب ين الديني والسياسي‪ ،‬وبين الروحي والزمني‪.‬‬

‫لقد طرح المؤلف جملةً من المفاهيم المعقدة بطريقة سلسة مع إ ٍ‬


‫طناب في الشرح وضرب األمثلة وسعي‬
‫لتقديم هذه المفاهيم التي ليست بالضرورة وليدة الحضارة العربية‪ ،‬والتي ليست بالضرورة مألوفة لدى‬
‫سعي ا لرفع السديم الذي يمنع القراء سواء أكانوا أ كاديميين أم عاديين‪ ،‬من رؤيتها‪.‬‬
‫القارئ العربي؛ ً‬

‫وقد اعتمد بشارة على جملة من اآل ليات والمقاربات لتوضيح الرؤية في هذا المجال المعقد والخالفي في‬
‫الحين ذاته ‪ :‬من الفلسفة اليونانية القديمة إلى الديكارتية والهيغلية الحديثتين ‪ ،‬وعلم االجتماع والتاريخ وك ّل‬
‫ما أمكن استعماله لسبر غور المفاهيم وا يضاح ما أمكن منها‪.‬‬

‫أستاذ التاريخ في معهد الدوحة للدراسات العليا‪ ،‬متخصص في التاريخ البيزنطي والعالقات المتوسطية في العصر الوسيط‪.‬‬ ‫*‬

‫‪77‬‬
‫احدا وان حاول أن يتموقع في موقع علم االجتماع‪ ،‬مع اعتماد شتى العلوم المساعدة‬‫علما و ً‬
‫لم يعتمد المؤلف ً‬
‫أن الدين يتيح للفرد كما للمجتمع‪ ،‬فرصة للتنظّم‬
‫للبرهنة على أهمية الدين في حياة األفراد والجماعات؛ فرأى ّ‬
‫وتعميق اإليمان‪ ،‬عالوةً على الجانب المقدس والروحي‪.‬‬

‫يقول المؤلف "إن االنفعال بتجربة المقدس والتأثر بها أساس العاطفة الدينية لكن هذه العاطفة ال تتحول إلى‬
‫دين بمجرد االنفعال بتلك التجربة بل حين تؤمن النفس بالمقدس وبوجوده الحي والعاقل وبأن من الواجب‬
‫عبادته" (ج‪ ،1‬ص ‪ .)23‬ويضيف هناك "فرق بين الشعور بالمقدس واإليمان به"‪.‬‬

‫اع‪ ،‬ولكن في الحقيقة يمكن النظر إلى مسألة اإليمان‬


‫أن اإليمان عقالني ومعقلن وو ٍ‬
‫بهذه الصورة‪ ،‬يرى المؤلف ّ‬
‫ألنه رأى ضرورة اإليمان لما في ذلك من عبر وحماية وآمال معلّقة على اليوم‬
‫من زوايا مختلفة؛ فهناك من آمن ّ‬
‫ألنه ربما مرغم أو موعود‬
‫اع وعاقل وانما ّ‬
‫ألنه و ٍ‬
‫اآلخر في مختلف الديانات السماوية‪ .‬ولكن‪ ،‬هناك من آمن ليس ّ‬
‫البربرية أو الجرمانية‪ ،‬أو تعميد الهنود الحمر وأسلمة‬
‫بشيء ما في الدنيا وفي اآلخرة (الفتوحات‪ ،‬وتعميد الشعوب ا‬
‫جزء كبير من شعوب القارة األفريقية وتعميده)‪.‬‬

‫أن االستدالل العقلي‬ ‫ٍ‬


‫وعقل وشعور بالوجوب؟ كما يرى الباحث ّ‬ ‫ناتجا من وعي‬
‫فهل كان اإليمان في ك ّل ذلك ً‬
‫حتما إلى اإليمان‬
‫على وجود قوى روحية ال يحسم مسألة اإليمان (ص ‪)23‬؛ فإثبات وجود قوة خفية ال يؤدي ً‬
‫بها وهو أمر منطقي‪ ،‬فالبرهنة على وجود الشيء ال تفيد االنحياز له‪.‬‬

‫مهما‪ ،‬وهو‪ :‬هل لدى األطفال دين؟ (ج‪ ،1‬ص‬


‫وفي أثناء الحديث عن المسألة الدينية‪ ،‬طرح المؤلف سؤ ًاال ً‬
‫‪.)23‬‬

‫مباشرا في الحديث النبوي حيث ورد أنّ ه ما " من مولود إال يولد على ال فطرة‪،‬‬
‫ً‬ ‫مهم قد نجد له جوابً ا‬
‫سؤال ّ‬
‫أن اإل نسان يولد بال لغة وال دين‪ ،‬وا نما‬
‫يمج سانه"‪ .‬وهو دليل قاطع على ّ‬
‫ينص رانه أو ّ‬
‫يهودانه أو ّ‬
‫فأبواه ّ‬
‫البيئة والمجتمع ممثّ ًال في النواة األ ولى وهي العائلة‪ ،‬هما اللذان يم ّك نان ه من هذه اآلليات األساسية التي‬
‫تؤدي إلى االنصهار في المجتمع والتماهي مع ما له من تقاليد ومعتقدات وقيم‪ ،‬حتى إ ّن المؤلف ارتأى‬
‫"أن المسأ لة الدينية والتفاعل مع المقدس تبدو لو أنّ ها مسأ لة دورية فالديانات السماوية تلغي ما‬
‫سبقها من المعتقدات فتستغل بعض ما هو فيها لتوظيفه لفائدة مقدس آخر ولكن يحدث أن تصطدم‬
‫الديانات نفسها بمنافس آخر قد يستوعب بعضها ليحل محلها‪ .‬وهذه التحوالت ال تتم بسهولة وقد ال‬

‫‪78‬‬
‫دفاع ا عن المقدس وهو ما يؤدي إ لى صراع الوالءات والمعتقدات‬
‫ً‬ ‫تتم أ صال نظرا لوقوف وكالء الدين ‪-‬‬
‫ولم ال أ يضا صراع الهويات من خالل المقدس ضد المقدس أل ن كل فكرة سواء كانت سماوية أو غير‬
‫سماوية تكون محل تقديس من أ صحابها ومهما كانت هذه الفكرة فإنها تجد لها وكالء يذبون عنها‪.‬‬
‫وهذا هو جوهر الصراع الذي قد يتمظهر في أشكال ال عالقة لها بالمقدس وا نما تنخرط ببساطة في‬
‫مجال المعيش اليومي للناس وتتبطن بما ال عالقة له بالمقدس وهي من صلبه نابعة (ص ‪.)16‬‬

‫لع ّل السؤال المفتاح الذي طرحه المؤلف في الجزء األول‪ ،‬هو‪ :‬هل انحسار مجال المقدس الغيبي لمصلحة‬
‫توسع مجال المقدس الدنيوي هو عملية العلمنة؟ (ص ‪.)27‬‬

‫تطرح عدة مصطلحات ومفاهيم نفسها في هذا العمل؛ مثل المقدس الغيبي‪ ،‬والمقدس الدنيوي‪ ،‬والعلمنة‪ّ .‬إنها‬
‫الكلمات المفاتيح‪ .‬بل هي جزء كبير من اإلشكالية الرئيسة للبحث‪ .‬مسألة العلمنة والعقلنة‪ .‬ويرى الباحث أ ّن‬
‫العقلنة تواجه تحديات أكبر من العلمنة‪ .‬وهو رأي فيه كثير من السداد؛ أل ّن العلمنة لم تفهم على حقيقتها‪ ،‬ولم‬
‫أن العقلنة هي اعتناق األفكار وربما حتى الديانات‪،‬‬ ‫أن العلمنة هي ك ّل ما هو دنيوي‪ ،‬في حين ّ‬‫يدرك الناس ّ‬
‫بعادا غيبية سماوية‪ .‬فالعقلنة‬
‫يحف بها ويعطيها أ ً‬
‫بالعقل‪ .‬وهو ما ينزع عن كثير من المسائل طابع القداسة الذي ّ‬
‫تسمح بالتفكير وبالنقد‪ ،‬وبالرفض والقبول لألفكار والمعتقدات بعد وضعها على محك العقل‪ ،‬في الحين ذاته‪،‬‬
‫العلمنة هي صيرورة ال تتنافى والدين وال تتعارض مع المسلّمات والعقائد‪.‬‬

‫صال‪ .‬بل هي في األصل من الدين نشأت وترعرعت‪.‬‬


‫ومن المفيد القول بأ ّن العلمنة ال تقصي الدين أ ً‬

‫التدرج للحديث عن اإل صالح الديني‪ 7‬الذي شمل المسيحية الغربية‪ .‬ولكن للحديث عن‬
‫ّ‬ ‫ومن هنا‪ ،‬يمكن‬
‫موضوع العلمانية واإلصالح الديني‪ ،‬ال بد أوًال من طرح الفارق بين المسيحيتين الكبيرتين في العصر‬
‫الوسيط؛ هما الديانة المسيحية المنضوية تحت سلطة البابا‪ ،‬والديانة المسيحية المنضوية تحت سلطة‬
‫اإل مبراطور البيزنطي‪ .‬وهذا راجع إ لى التطور التاريخي المختلف لكال الديانتين من خالل التطورات‬
‫التاريخية التي عرفتها اإلمبراطوريتان الرومانيتان الشرقية والغربية‪ ،‬انطالقًا من القرن ال اربع للميالد‪ .‬وما‬
‫المتأخ رة‪ ،‬هو في الواقع فترة‬
‫ّ‬ ‫مؤرخي العصور القديمة‪ ،‬فترة اإلمبراطورية الرومانية‬
‫عد في نظر ّ‬
‫ي ّ‬

‫ال يمكن الحديث عن إصالح ديني في الحضارة اإلسالمية‪ ،‬إذ ال يوجد مركز ديني يمكنه أن يقرر اإلصالح وال يمكن لمن يرغب في‬ ‫‪7‬‬

‫نظر لتعدد الفرق والمذاهب واعتماد ٍ‬


‫كل منها على مرجعيات وقراءات خاصة للنصوص الدينية اإلسالمية‪.‬‬ ‫اإلصالح أن يطالب بذلك‪ً ،‬ا‬

‫‪79‬‬
‫إن بيزنطة في هذه الفترة ليست في عهدها القديم وال عصرها الوسيط؛‬
‫اإل مبراطورية البيزنطية المتقدمة؛ إذ ّ‬
‫فهي تتأرجح بين العصر القديم المتال شي والعصر الوسيط المنبلج‪.‬‬

‫موحدة‪ ،‬يحكمها إمبراطور مقيم في القسطنطينية‬


‫وفي ك ّل الحاالت‪ ،‬ال تزال اإلمبراطورية الرومانية إمبراطورية ّ‬
‫عام نحو التقسيم الجغرافي والسياسي والثقافي‪ .‬ففي سنة ‪ ،395‬وعندما توفّي‬ ‫ٍ‬
‫توجه ّ‬ ‫على الرغم من وجود ّ‬
‫اإلمبراطور تيودوز األول‪ ،‬ترك كتلتين سياسيتين منفصلتين في الواقع‪ ،‬وهما اإلمبراطورية الرومانية الغربية‬
‫ويحكمها هنوريوس [‪ ]Honorius‬وهي إمبراطورية تمتد على أوروبا الغربية وايطاليا وبعض أجزاء من بالد‬
‫وتتكون اإلمبراطورية الرومانية الشرقية التي يحكمها أركاديوس‬
‫ّ‬ ‫البلقان وما بقي رومانيا من أفريقيا الشمالية‪.‬‬
‫[‪ ،]Arcadius‬من مصر والشام وآسيا الصغرى‪ ،‬والّيريا وتراقيا وبالد البلقان جنوب نهر الدانوب‪.‬‬

‫التطور المختلف‬
‫ّ‬ ‫مهم‪ ،‬فقد ساهم في‬‫طبيعيا في عصر يضطلع فيه اإلرث بدور ّ‬ ‫ً‬ ‫ولئن كان هذا التقسيم‬
‫لإلمبراطوريتين‪ ،‬وفي الحين ذاته الديانتين؛ فقد سقط الجزء الغربي تحت سيطرة الشعوب الجرمانية التي استطاعت‬
‫اقتحام روما وتخريبها سنة ‪410‬م‪ .‬في حين صمدت اإلمبراطورية الشرقية‪ ،‬بحسب الظروف واإلمكانيات‪ ،‬أمام‬
‫الشعوب الجرمانية نفسها‪ ،‬بل عملت على توجيهها نحو الجزء الغربي من دون تفكير في النتائج والعواقب‪.‬‬

‫التطور التاريخي المختلف‪ ،‬هو الذي سيساهم في خلق الخصوصيات الجهوية على المستويات‬ ‫ّ‬ ‫ولع ّل هذا‬
‫عموما‪.8‬‬
‫ً‬ ‫ستميز القرون الالحقة من تاريخ المسيحية‬
‫السياسية والفكرية‪ ،‬وبخاصة منها العقائدية التي ّ‬

‫وستكون هذه الوضعية مبعثًا لوعي الشرق الروماني‪ /‬المسيحي بخصوصيته وتميّز شخصيته وربّما "نقاوة"‬
‫تعرض له الجزء الغربي من سيطرة الشعوب‬‫يتعرض لمثل ما ّ‬
‫تاريخه‪ .‬فلم تقتحمه الشعوب الجرمانية ولم ّ‬
‫روماني ا أو على األقل ظ ّل الشرق يشعر بذلك‪ ،‬وهو ما‬
‫ً‬ ‫"البربرية" [ ‪ .]les peuples Barbare‬فقد بقي‬ ‫ا‬
‫مجس مة في عاصمة‬
‫ّ‬ ‫جعل الرومان الشرقيين‪ /‬البيزنطيين يع ّد ون أنفسهم الورثاء الشرعيين لروما القديمة‬
‫بيزنطة‪ ،‬القسطنطينية وهي روما الجديدة‪ .‬وقد كانت الجهتان تنظران لعالقة الدين بالدولة نظرةً معكوسة‪.‬‬
‫فقد كان الباباوات يدعون إ لى سلطة القديس فوق سلطة الملك‪ ،‬فهو صاحب الحل والعقد [ ‪lier et‬‬
‫‪]délier‬؛ أي بإمكانه أ ن يطلب من المؤمنين الذين يخض عون لسلطانه الروحي أ ن يخضعوا للملك أو‬
‫خاضع ا لسلطة البابا كما‬
‫ً‬ ‫تتوج ه الكنيسة أ ي بمعنى الملك أ و اإلمبراطور الذي يكون‬
‫ّ‬ ‫اإلمبراطور الذي‬
‫مثال السبب‬
‫بإمكان البابا أن يح ّل الناس من طاعة الملك إذا كان "مارقا" عن السلطة البابوية (هذا كان ً‬

‫انظر‪ :‬محمد الطاهر المنصوري‪ ،‬الحياة الدينية في بيزنطة من االنبعاث إلى القطيعة مع روما (تونس‪ /‬صفاقس‪ :‬دار أمل‪.)2003 ،‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪80‬‬
‫الرئيس لعقد مجمع كالرمون فران [ ‪ ]Clermont Ferrand‬سنة ‪ 1095‬وهو لمعاقبة ملك فرنسا أو‬
‫إخضاعه لسلطة الكنيسة)‪ .‬في حين كان البيزنطيون يمارسون سلو ًك ا مختلفًا‪ ،‬وهو سيطرة اإلمبراطور على‬
‫السلطتين الدينية والسياسية‪ ،‬فهو القيصر البابا [ ‪ ] Césaroppisme‬فقد جمع السلطتين الروحية والدنيوية‬
‫تقد مه النصوص ا لقانونية في‬
‫يعرف بأنّ ه ظل اهلل على األ رض حتى إ ّن التعريف الذي ّ‬
‫بين يديه‪ .‬وأصبح ّ‬
‫يعد ه بمنزلة اإلله على سطح األرض‪" :‬فهو ال يثب وال يعاقب بانحياز وا نما يوزع‬‫نهاية القرن التاسع ّ‬
‫الجزاءات بكل عدل"‪.9‬‬

‫انطالقًا من هذه االختالفات الجوهرية‪ ،‬كان التم ّشي السياسي الديني مختلفًا‪ .‬فبقدر ما كان تأثير رجال الدين‬
‫قويا في الغرب المسيحي كانت السلطة السياسية هي المتمكنة من دواليب المجتمع في الشرق المسيحي‪ .‬وهو‬ ‫ً‬
‫تصور عملية اإلصالح والفصل بين الديني والسياسي عملية مختلفة بين المسيحيتين‪.‬‬
‫ما يجعل ّ‬
‫اضحا في الغرب المسيحي سواء في فترة اشتداد قبضة‬
‫ولئن كان التباين بين المجتمع الديني والمجتمع المدني و ً‬
‫مستحيال في العالم اإلسالمي؛ فترى ك ّل الذين‬
‫ً‬ ‫صعبا إن لم نقل‬
‫ً‬ ‫الكنيسة أو في فترات تراجعها‪ ،‬فإ ّن األمر يبدو‬
‫لهم قدرة على الكالم ّإال وأصبحوا علماء حين كان لهم اإلفتاء واصدار األحكام‪ ،‬والتكفير‪ ،‬والمباركة‪.....‬‬

‫وقد أ ّدت هذه الوضعية إلى نوٍع من االنكماش لدى المثقفين‪ ،‬فانطووا على ذواتهم في كثير من األحيان خوفًا‬
‫تطرف الطرفين الموجودين؛ فقد قال بشارة في ختام محاضرة هشام جعيط في الدوحة في شهر كانون‬ ‫من ّ‬
‫جدا وتهاجمك‬ ‫األول‪ /‬ديسمبر ‪" 2015‬فإذا كنت تعيش في بلد مثل تونس قد تهاجمك سلفية دينية متشددة ً‬
‫جدا‪ .‬وعلينا أن نصارع في هذه المرحلة سلفيات عديدة كما يبدو"‪ .‬ولع ّل هذا‬
‫أيضا سلفية الئكية متشددة ً‬
‫ً‬
‫يصح على أوضاع مختلفة في بلدان عديدة من العالم اإلسالمي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الكالم قد ال يقتصر على تونس بل يمكن أن‬
‫حيث يسهل التكفير والرجم واإلخراج من الملّة كما يقال‪.‬‬

‫تصدى عزمي بشارة إلى مسأ ٍ‬


‫لة معقدة في الغرب وحاول تقريبها من ذهن القارئ العربي‪،‬‬ ‫وربما في هذا اإلطار ّ‬
‫بل لنقل من ذهن المواطن العربي‪ ،‬وهي مسألة العلمانية واإلصالح الديني في أوروبا‪ .‬وقد تناول الموضوع في‬
‫ٍ‬
‫مسار تاريخي‪ .‬وهذا الموضع هو موضوع الجزء الثاني من الكتاب بمجلّديه‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫‪Alexander P. Kazhdan, Oxford Dictionary of Byzantium (New York - Oxford: Oxford university Press,‬‬
‫‪1991).‬‬

‫‪81‬‬
‫لقد طرح المؤلف قضايا متشعبة منها مسألة اإلصالح الديني في أوروبا ما بين العصر الوسيط والفترة الحديثة‪.‬‬
‫نتحدث فيه‪.‬‬
‫وهو الجانب الذي سنحاول أن ّ‬

‫طرح المؤلف مسألة ال ِعلمانية بالكسر أو العلمانية بالفتح‪ ،‬وان اختلف سياق الكلمتين فإ ّن المقصد هو العلمانية بالفتح‪.‬‬
‫كثير ما ينطقها الناس علمانية والواقع هي أن تنطق بالعين المفتوحة والالم المجزومة وليس العين المجرورة‬
‫ولكن ًا‬
‫تعرب بدنيوي‪ .‬وكلمة الئكي هي مشتقة من‬ ‫والالم المجزومة‪ .‬وهي تعريب لعبارة الئكي الالتينية‪ ،‬وكان األفضل أن ّ‬
‫عبارة الييك [‪ ]laïc‬الالتينية وهي تعني ما هو عادي ودنيوي في حياة الناس‪ .‬وتطلق في الديانة المسيحية على ك ّل‬
‫من لم تكن له وظيفة دينية‪ .‬وبهذه الصورة انقسم المجتمع األوروبي في العصر الوسيط إلى مجموعتين؛ مجموعة‬
‫تمتهن السدانة والكهانة‪ ،‬ومجموعة تمارس الحياة الدنيوية‪ .‬حتى إّنه يمكن استعمال عبارة دنيوي مقابل ديني بمعنى‬
‫ولكنه في نهاية األمر مسيحي كغيره‪ ،‬وهو يؤدي فرائضه‬
‫أن الدنيوي هو الذي ينصرف للحياة الدنيوية ويعمل وينتج ّ‬ ‫ّ‬
‫ولكنه ال يشغل وظيفة دينية مهما كان نوعها‪ .‬وقد استعملت الكنيسة عبارة قريبة من الئكي لتعني الرهبان الذين‬
‫الدينية ّ‬
‫انخرطوا في خدمة الكنيسة بالعمل اليدوي في الحقول والبناء‪ ،‬وك ّل ما له صلة باإلنتاج‪ ،‬وهي فئة من الرهبان الذين‬
‫تفرق الكنيسة بينهم وبين بقية المسيحيين تطلق‬
‫ليست لهم ثقافة دينية وانما وهبوا أبدانهم للعمل لفائدة الكنيسة‪ .‬ولكي ّ‬
‫كرسوا حياتهم للعمل الرّباني [‪ .]Opus Dei‬وبهذه‬
‫عليهم عبارة [‪ .]frère lais‬وهم مختلفون عن بقية الرهبان الذين ّ‬
‫مقس ًما إلى مجموعتين؛ مجموعة اإلكليروس [‪ ]clergé‬أو رجال‬
‫الصورة نجد المجتمع األوروبي في العصر الوسيط ّ‬
‫دينيا ويهتم بشؤون الحياة الدنيوية‪ .‬ومن هنا استعملت عبارة الئكي التي‬
‫منتظما ً‬
‫ً‬ ‫الدين على اختالفهم وك ّل من لم يكن‬
‫كانت في البداية تنحصر في اإلخوة الالئكيين لتشمل ك ّل من لم تكن له وظيفة دينية‪.‬‬

‫محكوما بسلطة الكنيسة وبقوانينها إلى أن بدأت الشعوب تتحرك ضد هيمنة رجال‬ ‫ً‬ ‫وهكذا ظل المجتمع الغربي‬
‫الدين وليس ضد المعتقد المسيحي‪ .‬و ّأدى ذلك في منتصف القرن الحادي عشر إلى صراع بين منظومتين‪:‬‬
‫المنظومة الدينية بقيادة البابا‪ ،‬والمنظومة الالئكية بقيادة الملوك واألباطرة من أجل تسمية رجال الدين‪ .‬وقد انتهى‬
‫الصراع بفرض الكنيسة سلطتها على المجتمع واختصت بشؤون الدولة والمجتمع‪ .‬وأصبح الناس يعيشون بحسب‬
‫ت ٍ‬
‫قسيم وظيفي للمجتمع‪ ،‬كما يلي‪:‬‬

‫حرب وغيرها‬ ‫ولكنهم منشغلون بالحياة الدنيا‪ ،‬من ٍ‬


‫عمل و ٍ‬ ‫‪ -‬مجتمع الالئكيين الذين يؤدون طقوسهم الدينية ّ‬
‫من األمور المرتبطة بالعالم الدنيوي [‪ .]Mondain‬وهم الذين تطلق عليهم عبارة الالئكيين‪.‬‬
‫‪ -‬ورجال الدين الذين اعتنوا بحياة الدين منهمكون في العبادات والفقه وغيرها من شؤون الدين‪ .‬وهما‬
‫معين وفي عزلة عن الحياة الدنيوية‪ ،‬وهم‬ ‫مجموعتان‪ :‬مجموعة رجال الدين الذين يعيشون بحسب ٍ‬
‫نظام ّ‬

‫‪82‬‬
‫ويسمون بالنظاميين [‪ ]régulier clergé‬ورجال الدين العلمانيين أو الزمنيين؛ أي‬
‫ّ‬ ‫الرهبان بأصنافهم‬
‫ويسمون‬
‫ّ‬ ‫الذين يشرفون على طقوس الكنيسة ويختلطون بالناس وليست لهم قطيعة مع أهل الدنيا‬
‫بالزمنيين [‪]séculier clergé‬؛ فهم يختلطون بالناس ويتقبلون اعترافاتهم ويغفرون ذنوبهم ويسهّلون‬
‫ألنهم يعيشون زمنهم‬
‫سموا بالزمنيين ّ‬
‫عبورهم إلى العالم اآلخر ويباركون مواليدهم وزيجاتهم‪ ،‬ولذلك ّ‬
‫وليسوا في قطيعة معه‪.‬‬
‫والمتابع ألصل علمانيين (بفتح العين) يالحظ ّأنهم من المسيحيين الذين يؤدون طقوسهم ويعيشون حياتهم من‬
‫ألنهم هم المؤمنون‬
‫أي صفة تكفيرية ّ‬
‫دون االنخراط في العمل الديني الوظيفي‪ .‬ولم تطلق الكنيسة على هؤالء ّ‬
‫الذين وجدت الكنيسة بحسب ما هو مذكور أعاله لفائدتهم‪.‬‬

‫تحول مجتمعي سعى إلى مالءمة تشريعاته مع واقعه؛ فقد بدأت هذه‬ ‫ومع تطور المجتمعات الغربية‪ ،‬بدا هناك ّ‬
‫منفصال عن الكنيسة‪ ،‬وآلت في نهاية األمر‬
‫ً‬ ‫التغييرات منذ القرن الثالث عشر مع انتشار التعليم الذي لم يكن‬
‫إلى فصل الدين عن تسيير الحياة االجتماعية واالقتصادية‪ .‬ولم يكن في هذا الفصل دعوة إلى رفض الكنيسة‬
‫أو التخلّي عن المسيحية أو الكفر بعيسى‪ .‬بل ظلّت الشعوب المسيحية مسيحية والكنيسة في موقعها الروحي‬
‫بالنسبة إلى المتعبدين‪ .‬ولم يكن ذلك عالمة من عالمات كفر المسيحيين بدينهم‪.‬‬

‫وبالتوازي مع ذلك‪ ،‬ظهر في العالم اإلسالمي أصوات تنادي بضرورة فصل الدين عن تسيير الشأن العام وع ّده‬
‫يمس جوهر الدين‪،‬‬
‫خاصا؛ فالعلمانية (بفتح العين) في العالم المسيحي أو في العالم اإلسالمي ليس فيها ما ّ‬
‫ً‬ ‫شأًنا‬
‫ٍ‬
‫عبادات ومعامالت بين الناس‪ ،‬وانما هي دعوة إلى المدنية والى مالءمة القوانين والتشريعات مع حياة الناس‬ ‫من‬
‫دوما‪ .‬وهو ما يعطي حيادية للدولة وللمؤسسات العمومية في التعامل مع منظوريها‬ ‫من دون اللجوء إلى القياس ً‬
‫شخصيا ال دخل للدولة فيه‪ ،‬وهو المفهوم الحقيقي للدولة المدنية‪.‬‬
‫ً‬ ‫أمر‬
‫بوصف المعتقد ًا‬

‫تعرض لها عزمي بشارة بإسهاب وببيداغوجية بالغة‪ ،‬حتى إ ّن القارئ يمكنه أن يفهم هذه‬
‫وهي من المسائل التي ّ‬
‫المصطلحات مهما كان مستوى تكوينه‪.‬‬

‫تطرق المؤلف في القسم األول من الجزء الثاني إلى موضوع الكنيسة في العصر الوسيط‪ .‬ولع ّل هذا العصر هو‬
‫ّ‬
‫ي شكل من األشكال للفكر المعاصر وربما حتى البنية الشخصية لإلنسان المعاصر؛ففي العصر‬
‫المهد المولّد بأ ّ‬
‫الوسيط انهارت المؤسسة الرومانية في الغرب األوروبي‪ ،‬ولم يجد المجتمع والسلطة مال ًذا إ ّال في الكنيسة‪ .‬فقد‬
‫أصبحت بالتدرج المؤسسة الرئيسة في تأطير المجتمع واحتواء أفراده على اختالف أوضاعهم من خالل ٍ‬
‫جملة من‬

‫‪83‬‬
‫اقتناعا أو نفاقًا‪ .‬لقد جعل‬
‫ً‬ ‫اآلليات القانونية والنفسية التي جعلت الفرد ينصاع ألوامر السلطة الدينية‪ ،‬خوفًا أو‬
‫موقف الكنيسة عزمي بشارة يقول (ج‪ ،2‬مج ‪ ،1‬ص ‪" :)103‬إن العصر الوسيط ال ينظر إلى المستقبل بل إلى‬
‫إن المجتمعات المتدينة تف ّكر في الخالص أكثر من تفكيرها في الحياة‬
‫فعال‪ّ ،‬‬
‫الخالص وفي توقع نهاية العالم"‪ً .‬‬
‫اليومية؛ فاإلنسان ال يصلّي ويتعبد ويتهجد ويتزهد بحثًا عن حياة دنيوية أفضل إّنما سعيا إلى ٍ‬
‫حياة في اآلخرة‬ ‫ً‬
‫مقرها الجنة وما تحمله من صور في المتخيل اإلنساني‪ .‬لئن كانت اإلصالحات الدينية في العصر الوسيط‬
‫يكون ّ‬
‫فعال في أرواح الناس‪.‬‬
‫تهدف إلى تمكين الكنيسة من السيطرة على المجتمع فإّنها أصبحت تتح ّكم ً‬

‫لقد بدأت حركة اإلصالح الديني في العصر الوسيط منذ منتصف القرن الحادي عشر؛ فبرزت الكنيسة في‬
‫سن جملة من التشريعات تتعلق بتنظيم الحياة‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫موقع الحامي للمجتمع من خالل ّ‬

‫‪ -‬السلم الربانية‪ :‬وهي عملية تسعى إلى تقليص الحروب السيادية التي كانت متفشية في النظام‬
‫الفيودالي‪.‬‬

‫‪ -‬حماية األرملة واليتيم والمسافر والتاجر‪.‬‬

‫الرب‪.‬‬
‫‪ -‬توظيف القوة العسكرية لألسياد لحماية الكنيسة وخدمة ّ‬

‫عوضتها في جملة‬‫ألنها ّ‬
‫ّإنها من األمور التي أذعن الناس لها‪ ،‬وبذلك أصبحت الكنيسة فوق السلطة السياسية ّ‬
‫من المهام األساسية؛ مثل فرض نوع من السلم االجتماعية وتقديم الحماية لمن ال حماية له‪ .‬ومن هذا المنطلق‪،‬‬
‫يجيا‪ .‬ثم أصبحت بعد ذلك تتح ّكم في دواليب السياسة‪ .‬ومن هنا جاءت‬
‫أصبحت الكنيسة تتح ّكم في المجتمع تدر ً‬
‫سلطتها في الح ّل والعقد [‪ .]lier et de délier pouvoir de‬يع ّد القرن الحادي عشر القرن المفصلي في‬
‫تمر عبر‬
‫امحت فكرة "ما هلل هلل وما لقيصر لقيصر"‪ ،‬وأصبحت السلطة ّ‬ ‫سيطرة الكنيسة على حياة الناس‪ .‬فقد ّ‬
‫تسلسل عمودي‪ :‬الرب – البابا ‪ -‬رجال الكنيسة ‪ -‬المؤمنون بشقّيهم العلماني والديني‪.‬‬

‫تدعمت سلطة الكنيسة من خالل محاكم التفتيش التي انتصبت‬


‫وسياسيا؛ إذ ّ‬
‫ً‬ ‫اجتماعيا‬
‫ً‬ ‫كابوسا‬
‫ً‬ ‫أصبحت هذه الوضعية‬
‫التخوف من الكنيسة‬
‫أي لحظة‪ .‬ولع ّل من أبرز مظاهر ذلك ّ‬
‫مهددا باالتهام في دينه في ّ‬
‫كل مكان وأصبح اإلنسان ً‬
‫في ّ‬
‫هو ما يقوم به رجاالتها ضد التيارات المناوئة لسلطة الكنيسة أو على األقل المعارضة لفهمها للدين؛ مثل حركة‬
‫مما تطلق عليه الكنيسة الهرطقات [‪.]les hérésies‬‬
‫الكتاريين [‪ ]les Cathares‬والفوديين [‪ ]les Vaudois‬وغيرهما ّ‬
‫صرح بها أثناء محاصرة مدينة‬
‫فقد اشتهرت عن أحد رجال الدين وهو المشرف على دير سيتو القولة المشهورة التي ّ‬

‫‪84‬‬
‫بايزياي [‪ ]Béziers‬في جنوب فرنسا سنة ‪" 1209‬اقتلوهم جميعا فإ ّن الرب سيعرف مؤمنيه ‪«Tuez-les tous,‬‬
‫»‪ .Dieu reconnaîtra les siens‬ولع ّل الضغط الذي مارسته الكنيسة هو الذي سيؤدي إلى حركة إصالح جديدة‬
‫ال تهدف هذه المرة إلى تمكين الكنيسة من النفوذ الزائد وانما تهدف إلى تقليص نفوذها أو حتى التخلّص منه‪ .‬ولكن‪،‬‬
‫مكنا أن يحدث ذلك خارج المنظومة الدينية نفسها أل ّن المجتمعات المتدينة ال يمكنها أن تقبل ش ًيئا من خارج‬
‫لم يكن م ً‬
‫المنظومة الدينية‪ .‬لذلك قاد اإلصالح الجديد في فترة النهضة رجال من رجال الدين‪ :‬مثل مارتان لوثر [ ‪Martin‬‬
‫وعد اإلنجيل المصدر الوحيد للتشريع‪ ،‬وكان يقول إ ّن الرحمة‬
‫)‪ ]Luther (1483-1546‬الذي وقف في وجه البابوية ّ‬
‫تقوض سلطة الكنيسة وتقلّص‬
‫توسط الكنيسة‪ .‬وهي من المسائل التي ّ‬
‫تأتي من الرب لألفراد بصورة اختيارية من دون ّ‬
‫مجاالت نفوذها وتحرمها من موقع الوسيط بين اإلنسان ورّبه‪ .‬لذا فاإلصالح من داخل المؤسسة الدينية وليس من‬
‫ولكنه فكر ديني يسعى إلى‬
‫فكر مخالف لما هو سائد في المجتمع الغربي ّ‬ ‫خارجها؛ إذ ساهمت أفكار لوثر في نشر ٍ‬
‫علمانيا وانما ساهم في فتح الطريق أمام‬
‫ً‬ ‫أن لوثر لم يكن‬
‫ومما ال شك فيه ّ‬
‫فك قبضة الكنيسة التقليدية عن المجتمع‪ّ .‬‬ ‫ّ‬
‫يسميها الباحث األنسنية‪.‬‬
‫فكرة فصل الدين عن الدولة‪ .‬لقد انتشرت أفكار عديدة ضمن تيار األنسنة أو اإلنسانوية التي ّ‬
‫فقد بدأت منذ القرن الثالث عشر تبرز بعض األفكار من داخل الكنيسة ترى أ ّن اهلل خلق الكون من أجل اإلنسان وأ ّن‬
‫االنسان هو محور الكون‪ .‬وهذه األفكار أو "النزعة األنسنية هي التي أ ّدت بالفنانين إلى تمجيد اإلنسان‪ ...‬هي نزعة‬
‫الحد بل اخترقت الكنيسة ذاتها حيث أصبحت تزّين المعالم الدينية بلوحات يبدو فيها اإلنسان مرسوًما‬
‫لم تتوقف عند هذا ّ‬
‫في تجليات مختلفة (ج‪ ،2‬مج‪ ،1‬ص ‪ .)193‬وربما يؤدي هذا التصور الجديد لإلنسان إلى اعتبارات عديدة منها أ ّن‬
‫الحد من سطوة‬ ‫اإلنسان هو محور الكون‪ ،‬وهو في صورة اهلل‪ ،‬إلى غير ذلك‪ .‬وهي من المسائل التي تساهم في ّ‬
‫مجتمع مختلف عن مجتمع العصر الوسيط‪ ،‬مجتمع يكون فيه "ما هلل هلل وما لقيصر لقيصر"‪ .‬تلك‬
‫ٍ‬ ‫الكنيسة‪ ،‬وتؤسس ل‬
‫هي روح العلمانية‪.‬‬

‫خالصة‬

‫لع ّل كتاب عزمي بشارة يجيب عن عدد من األسئلة التي تتعلق بالعالقة بين الدين والعلمانية انطالقًا من التجربة‬
‫يسد ثغرة كبيرة في الفكر العربي المعاصر المنفتح‬
‫المسيحية‪ .‬وليس من باب المبالغة لو قلنا إ ّن هذا الكتاب ّ‬
‫على الحضارات األخرى؛ فقد أوضح المؤلف جملة التطورات التي عرفها الفكر الديني المسيحي الغربي وارتباط‬
‫صال‪.‬‬
‫إن العلمنة ال تقصي الدين أ ً‬
‫الديني بالدنيوي‪ .‬وانتهى بالقول ّ‬

‫‪85‬‬
‫تعقيب الدكتور عزمي بشارة عىل مناقشات الندوة‬

‫بعد الشكر الجميل المسدى إلى األساتذة فتحي نقزو وفتحي المسكيني ومحمد أبو هالل ومصطفى آيت خرواش‪،‬‬
‫وكذلك إلى األستاذين كمال عبد اللطيف وجمال باروت‪ ،‬الذين تجشموا عناء قراءة كتاب من نحو ألفي صفحة‪،‬‬
‫القيمة والمفيدة‪ ،‬أشير إلى أنني لم يسبق لي أن كتبت مقالةً أو رسالةً عن ٍ‬
‫كتاب‬ ‫والتقدير الواجب لمالحظاتهم ّ‬
‫أصدرته‪.‬‬

‫حد االستحالة‪ ،‬وقد يكون لهذا تفسير لن‬ ‫وأعترف أنني أجد مشقةً كبيرةً في العودة إلى قراءة ٍ‬
‫كتاب ألفته تصل ّ‬
‫وعموما‪ ،‬أستغرب من سلوك المؤلف الذين ينشغل‬ ‫قدما‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ً‬ ‫ولكني‪ ،‬على أي حال‪ ،‬أفضل المضي ً‬ ‫أخوض فيه‪ّ ،‬‬
‫كتاب ألفه‪ .‬لقد تلخص موقفي بشأن أي ٍ‬
‫كتاب صدر لي في أنني قلت‬ ‫طوال حياته باألخذ والرد والمساجلة حول ٍ‬

‫عاما في جمهورّية‬
‫ما لدي حول الموضوع في الكتاب‪ ،‬الذي يصعب التحكم بالنقاش حوله‪ ،‬فقد أصبح مل ًكا ً‬
‫ٍ‬
‫تساؤل حول أي كتاب يستحق هذه التسمية يبدأ بقراءة الكتاب‪ .‬فهذا أبسط‬ ‫الحروف‪ .‬والجواب الشافي عن أي‬
‫ما نتوقعه من المتحاورين حوله‪.‬‬

‫قدمها زمالء وأصدقاء في ندوة شيقة جمعتنا‬


‫لقد طلبت مني المساهمة في هذه الندوة بالتعقيب على أوراق مفيدة ّ‬
‫في تونس‪ .‬وال أرى أن دوري هو طرح ردود مباشرة على ما ورد في هذه األوراق التي استمتعت بقراءتها‪ ،‬وذلك‬
‫التطرق إلى مسألة هنا ومسألة هناك من المسائل المطروحة‪ ،‬بل سوف أستغل الفرصة المتاحة لقول ما لم‬
‫ّ‬ ‫عبر‬
‫أعرج بالضرورة على بعض‬
‫القصة سوف ّ‬
‫ّ‬ ‫قصة هذا البحث‪ .‬وخالل رواية‬
‫أكتبه في الكتاب بهذا اإليجاز؛ وهو ّ‬
‫المالحظات التي أدلى بها الزمالء واألعزاء‪.‬‬

‫تبدأ قصة هذا الكتاب‪ ،‬التي لم تنته بعد‪ ،‬والتي آمل أن تسمح لي ظروف العمل إلنهائها في السنوات القادمة‪،‬‬
‫كباحث قبل سنو ٍ‬
‫ات ليست قليلة المساهمة في النقاش الدائر حول اإلسالم والديمقراطية‪ ،‬وما سمي في‬ ‫ٍ‬ ‫بمحاولتي‬
‫حينه باالستثناء اإلسالمي أو العربي‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫اطية‬
‫في تلك الفترة كتب عديد الباحثين الغربيين والعرب صفحات ال تكاد تحصى عن مدى توافق اإلسالم والديمقر ّ‬
‫وتناقضهما‪ .‬وأعتبر انجراري اللحظي في تلك المرحلة إلى هذا الموضوع ضعفًا أمام تقليعة أكاديمية‪ ،‬وما أكثر‬
‫هذه التقليعات‪ ،‬التي ال يتوقف األمر على إنتاجها في المؤسسات الغربية‪ ،‬بل يضغط مجتمع الباحثين لالمتثال‬
‫أن واو العطف بين كلمتي "اإلسالم"‬
‫أن الموضوع عقيم‪ ،‬و ّ‬
‫لها‪ .‬وقد استدركت ذلك بسهولة حين كتبت ّ‬
‫ٍ‬
‫باحث على بحث العالقة بين الدين‪ ،‬أي دين‪،‬‬ ‫صر أي‬
‫و"الديمقراطية" ال تنشئ عالقة بينهما‪ .‬و ّأنه إذا أ ّ‬
‫كالمي‬
‫ٍ‬ ‫جسر فوقها سوف ال تبني سوى ج ٍ‬
‫سر‬ ‫هوة مفهومية عميقة‪ ،‬ومحاولة اصطناع ٍ‬ ‫اطية فسوف يجد ّ‬
‫والديمقر ّ‬
‫أن غيره يحللها من منطل ٍ‬
‫ق آخر ليستنتج‬ ‫نصوص سرعان ما سوف يجد ّ‬‫ٍ‬ ‫معلّ ٍ‬
‫ق في الهواء‪ ،‬وذلك عبر تحليل‬
‫ٍ‬
‫استنتاجات مناقضة حول هذه العالقة المزعومة‪ .‬فأسئلة مثل‪ :‬عن أي إسالم نتكلّم؟ ومتى وأين؟ وفي أي ظرف‬
‫تاريخي اجتماعي؟ ال بد من أن تفرض نفسها وتطغى على البحث‪ ،‬فال يبقى للمصر على واو العطف سوى‬
‫قدما في جهد له أول وليس له آخر في تحليل النصوص بحثًا عن قرائن تناقض ثقافة الديمقراطية أو‬ ‫المضي ً‬
‫متسرعة عن "اإلسالم" مستقاة من وقائع تاريخية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تتوافق معها في أفضل الحاالت‪ ،‬أو القيام بتعميمات‬

‫أما استدراكي الثاني فكان حول وجاهة البحث في إمكانية تعيين عالقة بين أنماط‬
‫األول‪ّ .‬‬
‫كان هذا استدراكي ّ‬
‫اجتماعية لفهم النصوص من جهة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫محددة‬
‫اجتماعية يمكن دراستها‪ ،‬وتعبيرات ّ‬
‫ّ‬ ‫التدين المختلفة بصفتها ممارسات‬
‫ّ‬
‫والثقافة المساندة للديمقراطية من جهة أخرى (الثقافة المساندة للديمقراطية‪ ،‬وليس الديمقراطية ذاتها)‪ .‬وقد توصلت‬
‫أجلت نشر أغلبية أبحاثي في هذا الشأن‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫إلى استنتاجات ال مجال لطرحها اآلن‪ ،‬وقد ّ‬

‫التدين السائدة في مجتم ٍع من المجتمعات في‬


‫في نهاية هذا الجهد‪ ،‬أدركت ّأنه من الصعب أن نفهم أنماط ّ‬
‫مر بها هذا المجتمع‪ .‬وفي هذه الفرضية تسليم بوجود صيرورة اسمها‬ ‫عصرنا من دون فهم أنماط "العلمنة" التي ّ‬
‫ٍ‬
‫خالف ّبين مع من ينكرون وقوع صيرورة تاريخية من هذا النوع تفسرها نظرية ما في العلمنة‪،‬‬ ‫العلمنة‪ ،‬وذلك في‬
‫أن‬ ‫ٍ‬
‫أن الفرضية تشتمل على تأكيد أنه ثمة أنماط من العلمنة تشترك في سمات وتختلف في غيرها‪ .‬بقي ّ‬ ‫كما ّ‬
‫عملية‬
‫أن نفهم كيف يمر مجتمع من المجتمعات ب ّ‬
‫تماما ما هي العلمنة‪ ،‬بمعنى السمات المشتركة هذه‪ ،‬و ّ‬
‫نحدد ً‬
‫ّ‬
‫تفسر جميع هذه الصيرورات؟‬
‫العلمنة‪ ،‬بمعنى االختالفات‪ ،‬وهل ثمة نظرية واحدة في العلمنة ّ‬

‫‪87‬‬
‫وتداخال في ما‬
‫ً‬ ‫تطلبت اإلحاطة بمجال هذا البحث‪ ،‬وتحليل الظواهر‪ ،‬تعددية فعلية في المناهج المستخدمة‬
‫فعال ال قوًال‪ .‬فثمة عمل فلسفي مباشر متعلّق بالبحث في مواقف تيارات فلسفية بعينها من الدين‪ ،‬وكذلك‬
‫بينها‪ً ،‬‬
‫في تاريخ الفلسفة‪ ،‬وعمل فكري فلسفي منهجي في تبيين حدود المفاهيم وتطويرها‪ .‬وال يمكن السير في هذا العمل‬
‫من دون مناهج سوسيولوجية وأنثروبولوجية وتاريخية في فهم صيرورات العلمنة والتدين في المجتمعات قيد‬
‫الدرس والمقارنة‪ .‬ويتالءم هذا النوع من المواضيع المتعلق بتحليل ظواهر اجتماعية كبرى مع وجهة النظر التي‬
‫تصر على تكامل العلوم االجتماعية واإلنسانية‪ .‬ولهذا من الصعب تصنيف مؤلفاتي‬
‫أتفق معها منذ زمن‪ ،‬والتي ّ‬
‫مرجعا "ألهل االختصاص"‪،‬‬
‫ً‬ ‫المعد ليكون‬
‫ّ‬ ‫هل هي فلسفة أم علم اجتماع أم علوم سياسية أم تاريخ؟ وفي هذا الكتاب‬
‫معينا؛ الفالسفة أو علماء االجتماع‪ ،‬أو مؤرخي األديان أو غيرهم‪ ،‬بل أقوم بتحليل‬
‫متخصصا ً‬
‫ً‬ ‫جمهور‬
‫ًا‬ ‫ال أخاطب‬
‫مستعينا بالمناهج هذه جميعها‪ .‬نحن‬
‫ً‬ ‫ثم مفهومها‪،‬‬
‫ظاهرة من حيث تاريخها‪ ،‬منشؤها‪ ،‬ديناميكيتها‪ ،‬مستنبطًا من ّ‬
‫معمق حول ظاهرة اجتماعية ثقافية سياسية‬ ‫ٍ‬
‫وندرسها‪ ،‬ولكن حين نقوم ببحث ّ‬‫ندرس العلوم االجتماعية واإلنسانية ّ‬
‫أن نتعلم تجاوز حدود التخصص في المناهج‪.‬‬
‫تاريخية‪ ،‬فسيكون علينا ّ‬

‫يخيةً لنظريات العلمنة‪ ،‬ومراجعة أخرى لموجات نقدها المتتالية‪ .‬كما تطلّب تدقيق‬
‫تطلّبت هذه المهمة مراجعةً تار ّ‬
‫تطور الفكر الحديث من منشئه في العصر الوسيط‪ ،‬وانفصال العلم عن الدين‪ ،‬والفلسفة‬ ‫هذه النظريات مراجعة ّ‬
‫عن الدين‪ ،‬ونشوء العلوم وتأثيرها في الفكر الديني‪ ،‬وعملية هيمنة العلوم في معرفة اإلنسان لبيئته وتأثيرها في‬
‫وعيه وعالمه‪ ،‬وتراجع الدين من مجاالت مختلفة من النشاط اإلنساني‪ ،‬ونشوء الفكر السياسي وتحدي ًدا الدولة‬
‫الحديثة من المدن اإليطالية في نهاية العصر الوسيط‪.‬‬

‫يسمى العصر الوسيط؛ أي خروج‬ ‫طويال عند علمنة الدين المسيحي والكنيسة ومأسستها في بداية ما ّ‬
‫ً‬ ‫لقد توقفت‬
‫الدين من حالة العزوف ِ‬
‫الفرقي عن الدنيا وانتظار الخالص ونهاية العالم‪ ،‬إلى االهتمام بشؤون الدنيا والتفاعل‬
‫أيضا عند النهضة واإلصالح الديني‪ ،‬وبحثت في جذور‬
‫مع السلطة السياسية باعتبارها سيف الكنيسة‪ ،‬وتوقفت ً‬
‫اإلصالح الديني في األنسنية الكاثوليكية ذاتها مع تبيين الفرق بينهما والكامن في أصولية اإلصالح الديني‬
‫يميز بدايات أي إصالح‪ .‬كما بحثت جدلية العالقة بين الكنيسة والدولة من محاولة إخضاع‬
‫وسلفيته‪ .‬وهو ما ّ‬
‫الدولة للكنيسة إلى خضوع الكنيسة للدولة‪ ،‬وقيام الكنائس الوطنية وسيطرة الملكية المطلقة على الكنيسة‪ .‬وتناولت‬

‫‪88‬‬
‫استخدام مصطلح العلمنة ألول مرة من زاوية الدنيا (كعملية نزع قدسية) في وصف مصادرة أمالك الكنيسة‬
‫واألديرة بعد اإلصالح الديني‪ ،‬واخضاع الكنيسة للدولة‪ ،‬بعد أن كانت العلمانية تصف الزمن األرضي‪ ،‬ورجال‬
‫الدين العاملين في الدنيا خالفًا للمكرسين لخدمة الرب في األديرة‪ ،‬وعامة المؤمنين مقارنة برجال الدين‪ .‬والشكل‬
‫وتحول الدولة إلى‬
‫ّ‬ ‫لمقدس‪،‬‬
‫األول للعلمنة باالنتقال من وساطة الكنيسة مع اهلل‪ ،‬إلى وساطة الدولة مع اهلل وا ّ‬
‫لمقدس مع نشوء الدولة الوطنية والقومية‪.‬‬
‫حاكمة بالحق اإللهي وبعدها صيرورة مصادرة الدولة ل ّ‬

‫اآلسيوية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فضال عن الفوارق بينها وبين البلدان‬
‫األوروبية نفسها‪ً ،‬‬
‫ّ‬ ‫عملية مع ظروف مختلفة في الدول‬
‫تتفاعل هذه ال ّ‬
‫قرونا من الزمن‪ ،‬وبين أن تجري في لمحة‬
‫يجية في علمنة الثقافة والفكر تمتد ً‬
‫عملية تدر ّ‬
‫ثمة فرق بين أن تجري ّ‬
‫جدا من‬ ‫يخية ال تتجاوز العقود وبفعل ٍ‬
‫تأثير أجنبي وفي ظل هيمنة استعمارية‪ ،‬أو بفعل نخبة ضيقة ً‬ ‫بصر تار ّ‬
‫ثمة فرق بين نشوء‬
‫المتعلمين في مؤسسات أوروبية مع بقاء الشعب لفترة طويلة خارج هذه الصيرورة‪ .‬كما ّأنه ّ‬
‫األهلية‬ ‫كرد ٍ‬
‫فعل على الحروب‬ ‫ملكية مطلقة‪ ،‬أو ّ‬
‫قطاعية إلى ّ‬ ‫الملكية اإل‬ ‫تطور‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الدولة من داخل المجتمعات بفعل ّ‬
‫آخرا‪ ،‬ثمة فرق واضح في مجريات عملية العلمنة‬ ‫الدينية‪ ،‬وبين نشوء الدولة عن إدارٍة استعمارّية؛ و ًا‬
‫أخير وليس ً‬ ‫ّ‬
‫وتعددت فيها الكنائس‪ ،‬وبين تلك التي ظلّت فيها‬
‫ومساراتها بين البلدان التي مرت بعملية اإلصالح الديني ّ‬
‫الكنيسة الكاثوليكية تحتكر الدين في المجتمع في عالقة مع الملكية المطلقة‪.‬‬

‫قائم بذاته‪ ،‬ألنه يضيء جوانب مهمة من الحداثة‪ ،‬كما أنه يساعدنا في‬ ‫ٍ‬
‫هدف ٍ‬ ‫تحول فهم أنماط العلمنة هذا إلى‬
‫ّ‬
‫التدين وأنماط‬
‫دين الحقًا‪ .‬وسيتبين ذلك في المجلد الثاني من الجزء الثاني في العالقة بين أنماط ّ‬
‫فهم أنماط الت ّ‬
‫العلمنة في كل من فرنسا وبريطانيا والواليات المتحدة‪ .‬وخالل متابعة تفاصيل الحداثة‪ ،‬يبدو أ ّن نسبة التدين‬
‫تزداد في البداية؛ إذ يتفوق التدين في الحداثة المبكرة بانتشاره وعمقه على تدين المجتمعات الفالحية في العصور‬
‫تدينا في العصر الحديث مما كانت عليه‬
‫الوسطى‪ ،‬وهذا هو الحال في المجتمعات العربية التي أعتقد أنها أكثر ً‬
‫في العصر الوسيط‪ .‬ولهذا عالقة بانتشار القراءة والكتابة ووسائل االتصال ومعرفة الدين‪ .‬وهكذا نجد أ ّن بداية‬
‫قضية أخرى تتعلق بالفهم‬
‫ّ‬ ‫يضا بعملية نشر العقيدة "الصحيحة" وتديين السكان‪ .‬وتنشأ هنا‬
‫الحداثة تميزت أ ً‬
‫كعملية‬ ‫التقدم‪ ،‬وتصور العلمنة بموجبها‬
‫احد على نمط مفهوم ّ‬ ‫باتجاه و ٍ‬
‫ٍ‬ ‫تصاعدية‬ ‫يخية‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المبسط للعلمنة كسيرورة تار ّ‬
‫ّ‬
‫تهمش الدين‪ .‬لم يكن مسار‬
‫انتقال من دول ومجتمعات متدينة وخاضعة للدين إلى دول ومجتمعات غير مؤمنة ّ‬

‫‪89‬‬
‫أن العلمنة أسطورة‪ .‬ثمة تطور حقيقي في‬
‫إن كون العملية ليست بهذه البساطة‪ ،‬ال يعني ّ‬
‫التاريخ بهذه البساطة‪ّ .‬‬
‫أمور أخرى أهمها‪:‬‬
‫التاريخ يمكن تسميته بالعلمنة‪ ،‬ولكنه ال يعني انعدام التدين‪ ،‬أو زوال الدين‪ ،‬بل يعني ًا‬
‫‪ .1‬هيمنة العلم والفكر العقالني على مجاالت أوسع من مجاالت النشاط اإلنسانية وانحسار الدين من مجاالت‬
‫متزايدة باستمرار‪ .2 .‬تحييد الدولة في المجال الديني‪ ،‬وتحول القرار اإليماني إلى قرار خاص بالفرد‪ .3 .‬تراجع‬
‫التدين نفسه‪ ،‬أو قد‬
‫أهمية الدين في حياة الناس‪ ،‬سواء أكانوا متدينين أم غير متدينين‪ .‬وقد يعني هذا تراجع ّ‬
‫أن الدين لم يعد مرجعية أغلبية الناس الرئيسة في شؤون حياتهم في هذه الدنيا‪.‬‬
‫يعني ّ‬

‫المتعددة المسارات والمتداخلة توترات تتجلى في تقديس مجاالت دنيوية‪ ،‬وتسييس‬


‫ّ‬ ‫وتنشأ عن هذه الصيرورة‬
‫مجاالت دينية بعد انفصالها‪ ،‬ونشوء تدين فردي من نوع جديد غير معني بالدنيا‪ ،‬ولكنه غير رهباني‪ ،‬وغير ذلك‬
‫من أنماط التدين‪.‬‬

‫أيضا‬
‫ولكن نفي العلمنة بدحض نظرياتها التبسيطية وعدم دقتها هو ً‬
‫التبسيطية في العلمنة‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫ما ينتقد هو النظرّية‬
‫أيضا في انحساره‬
‫فثمة علمنة جارية ليس بمعنى تمايز المجاالت وتحديد حدود الديني فحسب‪ ،‬بل ً‬
‫غير صحيح؛ ّ‬
‫وتغيير وظائفه وتراجع أهميته في حياة المجتمعات‪ ،‬مثلما يصح أنه جرى تحديثه على الرغم من القصورات‬
‫الفادحة لنظرية التحديث كسردية كبرى‪ .‬ولكن ما يلزم هو إعادة تعريف نظرّية العلمنة وتدقيقها بحيث ال تعني‬
‫لتدخل‬ ‫العلمنة زوال الدين‪ ،‬وال حتى زواله من المجال العام‪ .‬فهو ظاهرة اجتماعية‪ ،‬وقد تنتشر أنماط ٍ‬
‫تدين تدعو ّ‬
‫ٍ‬
‫أفعال تدرك حدوث انفصال‪ .‬ولكن ال شك في‬ ‫الدين في المجال العام كرد ٍ‬
‫فعل على العلمنة ذاتها‪ ،‬وهي ردود‬

‫تراجع وزن الدين النوعي في حياة الناس‪ ،‬وذلك على وجوٍه ّ‬


‫عدة أه ّمها‪ :‬تراجع الدين في مجاالت تعامل الناس‬

‫الجسدية‪ ،‬ومع الظواهر الطبيعية‪ ،‬وتحييد الدولة في الشأن الديني الذي ال يتم دفعةً واحدةً‬
‫ّ‬ ‫مع بيئتهم وصحتهم‬
‫بعملية انتقال القداسة إلى مجاالت دنيوية‪ ،‬واحتكار الدولة لجزٍء ٍ‬
‫كبير من‬ ‫ّ‬ ‫بل يمر بإخضاع الدين للدولة‪ ،‬ويمر‬
‫القداسة‪ .‬وال شك في توق المجتمعات الحديثة إلى تحييد الدولة في الشأن الديني‪.‬‬

‫التدين والفرق بينهما لكي يفهم ماذا‬


‫مقدمة حول الدين و ّ‬ ‫قبل الدخول في هذا الموضوع‪ ،‬كنت قد بدأت بكتابة ّ‬
‫فعال مساهمة نظرية في‬ ‫تضمن ً‬ ‫ٍ‬
‫كامل آمل أنه‬ ‫ٍ‬
‫كتاب‬ ‫التدين‪ .‬وقد تحولت هذه المقدمة إلى‬
‫أقصد بأنماط ّ‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫مفهوم للدين‪.‬‬ ‫سوسيولوجيا الدين وفي فلسفة الدين‪ ،‬وفي تطوير‬

‫‪90‬‬
‫أن من كتبوا عن الدين كانوا‬ ‫ٍ‬
‫أن هذا النوع من الكتابة عن الدين غير مألوف عربيا‪ ،‬بمعنى ّ‬
‫وقد يرى بعضهم ّ‬
‫أحيانا عقيدي معين‪ ،‬وكتب اآلخرون في‬
‫عموما إما متدينين أو معادين للدين‪ .‬فكتب األوائل من منطلق ديني‪ ،‬و ً‬
‫ً‬
‫التقدم على األقل‪ .‬أما مقدمة هذا الكتاب‬
‫تفكيك أساطير الدين ونقده كأحد أهم مصادر التخلّف‪ ،‬أو معوقات ّ‬
‫األول من الكتاب بعنوان الدين والتدين‪ ،‬فقد بحثت في الدين كظاهرة في‬
‫كامال‪ ،‬هو الجزء ّ‬
‫مجلدا ً‬
‫ً‬ ‫التي أصبحت‬
‫أي ٍ‬
‫بحث‬ ‫ٍ‬
‫محاولة لتطوير مفهوم الدين وخصوصيته بالنسبة إلى غيره من الظواهر‪ ،‬وهذا يعني تحديد الظاهرة‪ .‬و ُّ‬
‫مثل هذا‪ ،‬هو جهد علماني كما هو مفهوم بداهة‪ .‬وقد بِذل هذا الجهد لتبيين ضرورة االنتقال من بحث المجال‬
‫العلمانية لفهم القضايا االجتماعية الكبرى التي نريد أن نفهمها مثل تعثّر الديمقراطية وغيرها‪ .‬لكنه‬
‫ّ‬ ‫الديني إلى‬
‫بحث نظري فلسفي وسوسيولوجي في الدين‪ .‬وهذا في رأيي هو المفهوم الصحيح للنقد علميا‪ ،‬وهو‬ ‫تحول إلى ٍ‬

‫المفهومية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أي ظاهرٍة علميا يعني وضع حدودها التار ّ‬
‫يخية والنظرّية أو‬ ‫الفرق بينه وبين الصراع األيديولوجي‪ .‬فنقد ّ‬
‫سيما التي تتداخل معها‪ .‬وهنا تكمن‬
‫فالمفهوم يساهم في تحديد الظاهرة وتمييزها من غيرها من الظواهر‪ ،‬وال ّ‬
‫أهمية المفهوم نظريا‪.‬‬
‫ّ‬

‫يتميز المفهوم من المصطلح‬


‫وقد خصصت مساحةً لهذا الموضوع المنهجي (الفلسفي إن شئتم) ألشرح كيف ّ‬
‫الذي يعين الظاهرة‪ ،‬بأنه يفترض أن يتطور المفهوم خالل البحث كأداة في تحديد الظاهرة وتمييزها من غيرها‬
‫نوعا من‬
‫عملية بلورة المفهوم لكي يصبح ً‬
‫عملية تحديد الظاهرة هي ّ‬
‫إن ّ‬ ‫من الظواهر عبر تطوير خصوصيتها‪ّ .‬‬
‫تكثيف لنظرّية هذه الظاهرة‪ .‬وهذا هو الفرق بين كلمة الدين ومفرداتها‪ ،‬ومصطلحها‪ ،‬وبين مفهوم الدين بعد أن‬
‫األول‪.‬‬
‫يتطور في مثل هذا النوع من الدراسات الذي قمت به في الجزء ّ‬

‫يخيا؛ أي نقدها بشرح منشئها واالنتقال من منشئها التاريخي إلى‬


‫أما الوجه الثاني للنقد فهو تحديد الظاهرة تار ً‬
‫االجتماعية‪ .‬هذا هو النقد العلمي‪ ،‬والمفهوم العلمي لنقد األسطورة‪ ،‬خالفًا للمساجلة األيديولوجية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فهم وظائفها‬

‫هميتها وقدسيتها‪،‬‬
‫دينية معينة وشرح أصولها وأ ّ‬
‫إما تأكيد عقيدة ّ‬
‫القراء العرب يتوقعون من كتاب حول الدين ّ‬
‫بعض ّ‬
‫دينية‪ .‬وفي رأيي‪ ،‬استنزف هذا النوع من النقد‪ ،‬وقيل فيه كل‬
‫أو تفنيد الخرافات واألساطير القائمة في كل عقيدة ّ‬
‫ما يخطر على بال‪ .‬وسبق أن أ ّكدت في هذا الجزء من الكتاب أنه حتى في القرن التاسع عشر قال كارل‬
‫لدينية‪،‬‬ ‫ِ‬
‫مهمة استنفدت وانتهت‪ .‬ولكن كما يبدو يطرب بعضهم من تفكيك األساطير والخرافات ا ّ‬
‫ماركس إ ّن هذه ّ‬

‫‪91‬‬
‫طرب الملحدين‪ ،‬وال أن يطمئِن المتدينين‪ ،‬بل شرح‬
‫لكن هذه ليست مهمة الكتاب‪ .‬لم تكن مهمة هذا الكتاب أن ي ِ‬
‫خصوصية الظاهرة الدينية‪ ،‬وفهم العلمانية والعلمنة وأنماطهما‪.‬‬

‫األول من الكتاب ببحث التداخل بين الدين واألسطورة‪ ،‬والتمايز بينهما؛ وكذلك العالقة‬
‫ولذلك قمت في الجزء ّ‬
‫الدينية حتى بين هذه الظواهر‬
‫ّ‬ ‫خصوصية الظاهرة‬
‫ّ‬ ‫بين الدين وظواهر أخرى مثل األخالق وغيرها‪ ،‬باحثًا عن‬
‫مبينا الفرق بينهما‪ .‬وهذا ليس تمر ًينا‬
‫فصال لمسألة العالقة بين الدين واألخالق ً‬
‫ً‬ ‫التي تتشابك معها‪ .‬وقد أفردت‬
‫ثمة أخالق من دون دين‪ ،‬و ّأنه ث ّمة ديانات وثنية‬
‫نظريا‪ ،‬فالقول إ ّنه ثمة فرق بين الدين واألخالق يعني ّأنه نظرًيا ّ‬
‫مثال)‪ ،‬وأخرى ترفع التدين لها‬
‫أخالقيا (كما في حالة عالقات اآللهة اليونانية ببعضها وبالبشر ً‬
‫ً‬ ‫ال تتضمن نسقًا‬
‫أن هذا قد يصح‬
‫فوق األخالق (ما يبرر التصرف غير األخالقي إذا كان في خدمة العقيدة والتعصب لها)‪ ،‬و ّ‬
‫يخيا‪ .‬في الواقع‪ ،‬تتداخل الظواهر‪ ،‬ومهمتنا أن نفهم الظواهر ونفسرها كظواهر‬
‫قائما تار ً‬
‫نظريا ويحتمل أن يكون ً‬
‫أسس علم األخالق في‬‫مختلفة على الرغم من ّأنها تتداخل في الواقع‪ .‬يصعب‪ ،‬من دون هذا‪ ،‬أن نفهم كيف ّ‬
‫ٍ‬
‫مصدر إلهي‪ ،‬وكيف أعيد‬ ‫ٍ‬
‫اشتقاقات لألخالق من اإلنسان والمجتمع من دون الحاجة إلى‬ ‫الحضارة الهيلينية‬
‫األول من الجزء الثاني‪ .‬ويعود النقاش‬
‫اكتشاف ذلك خالل التنوير األوروبي‪ .‬وأتناول جوانب منه في المجلّد ّ‬
‫باستمرار في الفلسفة الحديثة هل يمكن أن تسود األخالق من دون مطلق خارج اإلنسان‪ ،‬ومن دون خير أعظم‬
‫تشتق منع معايير األخالق؟‬

‫وخصصت مبحثًا لبحث العالقة بين الدين والسحر‪ ،‬والدين والعلم‪ ،‬وانتقدت المناهج التلفيقية التي توفق بين العلم‬
‫ّ‬
‫ومميز بين اإليمان‬
‫ًا‬ ‫اقضا‪ ،‬م ّبيًنا معنى الفصل بين األحكام العلمية والمقوالت اإليمانية‪،‬‬
‫والدين‪ ،‬أو ترى بينهما تن ً‬
‫وتعرض األول لتفنيد العلم وتراجعه أمامه‪.‬‬
‫المعرفي والعرفاني‪ّ .‬‬

‫يخية‪،‬‬
‫األول من الكتاب هو ليس فقط تطوير مفهوم الدين من الصيرورة التار ّ‬
‫التحدي الكبير الذي يقف أمام الجزء ّ‬
‫أيضا في أمرين‪ :‬أوًال‪،‬‬
‫وفي االستدالل على جوهره ومضمونه في العالقة مع ذاته ومع الظواهر األخرى‪ ،‬وانما ً‬
‫محاولة تطوير مفهوم كوني للدين؛ بمعنى ليس للدين اإلسالمي أو المسيحي وال غيرهما‪ ،‬بل للدين كدين‪ ،‬وهذا‬
‫التدين‪ ،‬وكيف يمكن أن‬
‫ثانيا‪ ،‬في شرح الفرق بين الدين و ّ‬
‫جهد فلسفي وليس سوسيولوجي وتاريخي فحسب‪ً .‬‬

‫‪92‬‬
‫التدين يمكن أن يصبح هدفًا بذاته إلى درجة قطع الصلة مع األخالق‪ ،‬وحتى مع الدين‬
‫أن ّ‬ ‫أصل إلى نتيجة ّ‬
‫التدين للعقيدة‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫للتدين وليس ّ‬
‫ذاته‪ ،‬بحيث تخضع العقيدة ّ‬

‫تحول إلى مجلدين‪ ،‬كما الحظ القارئ‪ ،‬وكان يمكنني أن أسميهما المجلّد الثّاني‬
‫أما الجزء الثّاني من الكتاب فقد ّ‬
‫احدا‪،‬‬
‫وعا و ً‬ ‫احدا يتناول موض ً‬
‫والمجلّد الثالث بدل الجزء الثاني بمجلدين‪ .‬ولكنني أعتبر الجزء الثاني جزًءا و ً‬
‫األول منه في فهم التاريخ الثقافي والفكري‪ ،‬وحتى الروحي‪ ،‬إن شئتم‪ ،‬لنشوء العلمانية؛ بمعنى‬
‫يتخصص المجلّد ّ‬
‫ّ‬
‫العلمانية بذاتها في مرحلة متأخرة (نهاية‬
‫ّ‬ ‫ثم كيف نشأت األيديولوجية‬
‫كيف تعلمن الفكر والثقافة في الغرب‪ّ ،‬‬
‫يخية؟ ومن هم العلمانيون األوائل؟ وهل نشأ‬
‫ونتاج من صيرورة التار ّ‬
‫ٍ‬ ‫كنتاج من هذه العلمنة‬
‫ٍ‬ ‫القرن التاسع عشر)‬
‫مرت كل فلسفة التنوير من دون استخدام كلمة العلمانية؟‬
‫التسامح مع العلمانية أم من داخل الفكر الديني؟ وكيف ّ‬
‫لقد تطلّب ذلك مراجعة مكثّفة للفكر الغربي الحديث حقيقةً‪ ،‬وأعتقد ّأنه ثمة مساهمة جوهرّية في هذا المجال‬
‫عملية تطوره من داخل الفكر الديني في المدن اإليطالية في العصر‬
‫ّ‬ ‫سيما في تطور فكر الدولة وشرح‬
‫وال ّ‬
‫الوسيط‪ ،‬والحقًا في األنسنية األوروبية الشمالية وصوًال إلى نظريات العقد االجتماعي‪.‬‬

‫الدينية وفي‬
‫ّ‬ ‫علماني" بدايةً في الطقوس‬
‫ّ‬ ‫ميزت بين استخدام اللفظ الالتيني "‬
‫العلمانية‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫التوصل إلى مفهوم‬
‫ّ‬ ‫وفي‬
‫علمانية عندما جرى‬
‫مرة صيرورةً تقترب من الدالالت الحاضرة لل ّ‬ ‫ألول ّ‬
‫الدينية نفسها‪ ،‬ثم كمصطلح يصف ّ‬‫ّ‬ ‫العقائد‬
‫التدين من جهة‬
‫تتميز من اإللحاد من جهة‪ ،‬و ّ‬ ‫العلمانية كظاهرة فكرّية ّ‬
‫ّ‬ ‫ثم‬
‫الحديث عن علمنة أمالك الكنيسة‪ّ .‬‬
‫الدينية وعالم الغيب‪ ،‬ومن ث ّم إعفاء‬ ‫ٍ‬
‫موقف الأدري من المسائل‬ ‫ِ‬
‫بالموقف من الدولة على أساس‬ ‫أخرى‪ ،‬وتختص‬
‫ّ‬
‫البت فيها وتركها كموضوٍع إيماني لألفراد‪ .‬لقد أجريت مراجعة للتفاعل بين الفكر الديني والتحديات‬
‫الدولة من ّ‬
‫االجتماعية السياسية الفكرية في العصور المختلفة في أوروبا‪ ،‬بما في ذلك نشوء تيارات تدعو لتحييد الدولة في‬
‫الشأن الديني من داخل الدين نفسه‪ ،‬وال سيما عبر فكرة التسامح‪.‬‬

‫كما تناول الكتاب بالتفصيل الجانب الديني اآلخروي الخالصي في فلسفات التاريخ العلمانية وجذورها منذ نهاية‬
‫أيضا جذور الفكر الحديث مجرًيا مراجعة‬
‫العصر الوسيط‪ ،‬وحتى الحداثة وتأثيرها في نظرية الدولة‪ .‬وتناول ً‬
‫مجددة لكانط وبعده نيتشه وهيغل وماركس‪ ،‬والذين عولجوا من زاوية الموقف من الدين في الجزء األول ثم‬
‫أن مصطلحات علم السياسة هي‬
‫عولجوا من زاوية العلمنة في هذا الجزء‪ .‬كما تناول معنى مقولة كارل شميت ّ‬

‫‪93‬‬
‫تطرق هذا المجلد إلى مواقف فلسفية معاصرة‬
‫مصطلحات الهوتية جرت علمنتها‪ .‬وخالل مراجعة الفكر الحديث‪ّ ،‬‬
‫ومنها ليبرالية (جون رولز) ومحافظة (كارل شميت) وما بعد حداثية (رورتي وغيره)‪ .‬ومن ضمن األخيرة نظريات‬
‫أن عملية العلمنة ال تنطبق على العالم اإلسالمي‬
‫تشكك بالعلمنة بشكل عام‪ .‬وخاض المؤلف نقا ًشا مع من يرون ّ‬
‫ومنهم طالل أسد‪.‬‬

‫عملية تحديد موقف الدولة من الدين‪،‬‬


‫أما في المجلد الثّاني من الجزء الثّاني فتعاملت مع التطور التاريخي ذاته؛ أي ّ‬
‫ّ‬
‫مثل سيطرتها على الدين‪ ،‬أو تحييدها دينيا‪ ،‬أو دفعها التخاذ موقف سلبي من الدين‪ .‬في هذا الجزء‪ ،‬قمت باستعراض‬
‫يخية‪ ،‬بما في ذلك المقارنة بينها كسردية تاريخية كبرى‬
‫نظريات العلمنة بصفتها نظريات في فهم الصيرورة التار ّ‬
‫واكتشافات المؤرخين الجدد‪ .‬ليس صدفةً ّأنني وضعت نظريات العلمنة في هذا القسم من الجزء الثاني‪ ،‬وليس في‬
‫سردية‬
‫سردية في فهم التاريخ األوروبي الحديث‪ .‬وهي ّ‬
‫ألن نظرّية العلمنة هي ّ‬
‫القسم المتعلق بالتاريخ الفكري والثقافي؛ ّ‬
‫سردية تكشف جوانب من‬
‫كسردية اعتبارها خاطئة بالضرورة؛ فأي ّ‬
‫ّ‬ ‫سردية‪ .‬وال يعني نقدها‬
‫أن نظرّية التحديث ّ‬
‫مثلما ّ‬
‫أهمية‬
‫يخية وتساعدنا في فهمها‪ ،‬ولكنها من ناحية أخرى تحجب رؤيتنا عن ظواهر أخرى‪ .‬ومن هنا‪ ،‬تكمن ّ‬
‫العملية التار ّ‬
‫ّ‬
‫السردية ليس بالمعنى ما بعد الحداثي لتفكيك السرديات‪ ،‬وانما نقد النظرية بنقد حدودها التاريخية والعناصر‬
‫ّ‬ ‫نقد‬
‫علمية وليست أساطير؛‬
‫األيديولوجية التي تتضمنها‪ ،‬وتطويرها وتعديلها باستمرار‪ ،‬إذا كانت هذه السرديات نظريات ّ‬
‫ٍ‬
‫وتعديل على ضوء عمل‬ ‫أو عبر تغيير البراديغم كله‪ .‬إن نظرية العلمنة ليست أسطورة‪ ،‬بل سردية تحتاج إلى ٍ‬
‫نقد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫ألمور في الماضي لم يدركها السوسيولوجيون‪ ،‬وكذلك عبر التطور التاريخي نفسه‪ ،‬بما في ذلك‬ ‫المؤرخين واكتشافاتهم‬
‫الحياة المعاصرة‪ .‬وهذا ما قمت به في المجلد الثّالث بتقديم األنماط التاريخية المختلفة للعلمنة والنماذج المختلفة من‬
‫أن التعديل الذي أجريته على نظرّية العلمنة هو تعديل‬
‫العلمانية التي أنتجتها‪ ،‬وال سيما في عالقة الدولة بالدين‪ .‬وأعتقد ّ‬
‫أن المساهمة في‬ ‫قياسا باللغات األجنبية‪ .‬وال بأس أن نؤكد هنا على فكرة ّ‬
‫أيضا ً‬ ‫جديد ليس فقط باللغة العر ّبية وانما ً‬
‫وفلسفيا باللغة العربية‪ .‬واذا‬ ‫علميا‬ ‫ٍ‬ ‫الحوار العالمي في هذه المواضيع ممكنة بالعربية‪ ،‬وأنه من الممكن قول ٍ‬
‫ً‬ ‫أمر جديد ً‬
‫نصر على أن يكون البحث العلمي واإلنتاج الفكري والتجديد فيه بلغتِنا‪ ،‬فلن تكون ثمة نهضة عربية‪ .‬ال يمكن أن‬‫لم ّ‬
‫ولكن الشعوب تنهض‬
‫تنهض مجتمعاتنا من دون التفاعل مع آخر المنجزات العلمية والثقافية والحضارية في عالمنا‪ّ ،‬‬
‫بلغتها وليس بأي لغة أخرى‪ .‬لقد كتب تنويريو ك ّل أمة بلغتها‪ ،‬واذا لم نفعل ذلك‪ ،‬فستصبح اللغة العلمية لغةً مقدسةً‬
‫وبعيدةً عن الناس في الوقت ذاته‪ ،‬كالالتينية‪ .‬وهذا آخر ما يريده العلم‪.‬‬

‫‪94‬‬

You might also like