Professional Documents
Culture Documents
علم الكلام
علم الكلام
الكالم.
دروس مقدمة لمسنة الثانية ليسانس فمسفة.
1
فيرست الموضوعات:
تمييد.
-1تعريق القدامى:
-2تعريف المحدثين:
استنتاج.
تمييد.
خالصة.
مقدمة.
2
أوال -العوامل الداخمية في ظيور عمم الكالم:
-1-1فتنة الجمل:
-2-1فتنة صفين:
-2اإلغريق:
-3الييودية:
-4المسيحية:
مقدمة.
خاتمة.
مقدمة.
3
أوال -الخوارج:
-1النشأة والتسمية:
ثانيا -الشيعة:
-1النشأة والتسمية:
-2المبادئ العقدية:
-3المبادئ السياسية:
خالصة.
المحاضرة السادسة :أصل الفرق الكالمية )2( .الفرق العقائدية (المعتزلة واألشاعرة).113....................................
مقدمة.
أوال -المعتزلة:
-3األصول الخمسة:
ثانيا -األشاعرة:
-1النشأة والتسمية:
-2طبقات األشاعرة:
-1-2مرحمة النشأة.
4
خالصة :السنة – االعتزال -السنة.
المحاضرة السابعة :أصل الفرق الكالمية)3( .الفرق العقائدية( .المرجئة والمجبرة والماتردية).132..............................
تقديم.
أوال -المرجئة:
ثانيا -المجبرة:
-1مشكمة الصفات.
ثالثا -الماتردية:
خاتمة.
تقديم.
رابعا -المشكمة الكالمية والموقف السياسي :أو التاريخ السياسي لنظرية خمق القرآن.
استنتاج.
مقدمة.
5
خالصة.
مقدمة.
خالصة.
6
المحاضرة األولى :في مفيوم عمم الكالم.
تمييد.
إف المكقؼ السابؽ الذم يتبناه البعض مف المستشرقيف مردكد مف عدة أكجو ،كىذا الرد ليس مكجيا ضد الدرس اإلستشراقي
مثمما يفعؿ البعض ،بؿ أنو ال يعكس الحقيقية التاريخية بكؿ تجمياتيا .فعندما نقكؿ بأف عمـ الكبلـ ىك العمـ األصيؿ في العالـ
اإلسبلمي ،فإننا نتناسى انتقاؿ الكثير مف المسائؿ العقدية مف العصكر السابقة عمى ظيكر الرسالة المحمدية ،كما نتجاىؿ تأثر
العديد مف المتكمميف ،بخاصة المعتزلة ،ببعض الفمسفات اإلغريقية التي تعتبر مف الكجية العقدية كثنية كجاىمة ككافرة.
لذا فالمكقؼ المعتدؿ ،في تقديرنا ،ىك القائؿ بأف عمـ الكبلـ مبحث كباقي المباحث األخرل ،لو مف األصالة بقدر ما لو مف
النقكؿ .إذ ال يجب جعمو عمما متفردا كخاصا مقارنة بما انتجتو الحضارة اإلسبلمية .حقيقة أف ىناؾ عمكـ أصيمة بالكامؿ مثؿ عمـ
الفقو كعمـ األصكؿ كعمـ الحديث كعمكـ القرآف بمختمؼ فركعيا ،كىناؾ عمكـ منقكلة بالكمية مثؿ الفمسفة كالميتافيزيقا
كالرياضيات...الخ .كىذه التفرقة ىي ما سماه الغزالي بالعمكـ األصيمة كالعمكـ الدخيمة .لكف انفتاح العالـ اإلسبلمي كالتكسع السياسي
كمف ثمة الحضارم لئلمبراطكرية اإلسبلمية ،جعؿ األصيؿ يستفيد مف الدخيؿ كالدخيؿ يتأصؿ شيئا فشيئا مف خبلؿ فعؿ االندماج
كالتثاقؼ كالنمك كاألقممة...الخ .سنرل في محاضرات الحقة بأف عمـ الكبلـ لـ يشذ عف ىذه القاعدة ،بحيث أنو ىمثؿ تأمؿ العقؿ
اإلسبلمي في قضايا عقيدتو المخصكصة مف خبلؿ اعماؿ مناىج قد تككف منقكلة مف الغير.
ستخصص ىذه المحاضرة االفتتاحية لئلجابة عف سؤاليف أساسييف :ما المقصكد بعمـ الكبلـ ؟ كما سبب ىذه التسمية ؟ عمى أف
نعمؿ عمى مقاربة كمقارنة بيف العشرات مف التعريفات المقدمة قديما كحديثا مف أجؿ القبض عمى الماىية الثابتة ليذا العمـ .ثـ
سنعمؿ عمى مقارنة المنظكر اإلسبلمي لعمـ الكبلـ بالمنظكر اإلستشراقي لو ،كىي المقارنة التي نعتقد أنيا ستثمر منظكر أكثر
نضجا أك اكتماال .ألف المألكؼ في التآليؼ الكبلمية ىك التركيز عمى ىذا المنظكر أك ذاؾ حصرا ،دكف المحاكلة الجادة لتركيب
منظكر داخمي كمنظكر خارجي مف أجؿ الخركج بمنظكر مركب يستكعب أكبر قدر مف الخمفيات .كسنرل أدناه ،أف أم تعريؼ لعمـ
الكبلـ ينطمؽ مف خمفية ما .لذا فإف القبض عمى تعريؼ مكضكعي ببل خمفيات سيككف ىدفا مثاليا سنعمؿ عمى بمكغو قدر
المستطاع .كمف المفيد التنبيو إلى أف أم تعريؼ لحد مف الحدكد المستعممة في أم سياؽ ،يستبطف خمفية محددة قد تككف معركفة أك
مجيكلة لنا .حتى تعريؼ القرآف الكريـ ،الذم ىك عماد كؿ العمكـ الدينية في السياقات اإلسبلمية ،كربما حتى العمكـ غير الدينية ،لـ
يخرج عف خمفيات سابقة في تحديده .فبيف التعريؼ التراثي كالتعريؼ الحداثي ،كبيف التعريفات التراثية ذاتيا كالتي لـ تتجانس
7
بالمطمؽ ،فرؽ يدؿ عمى خصكصيات في الخمفية 1.فبمجرد قكلنا أف القرآف كبلـ ا﵀ القديـ ،فإننا ىنا أماـ خمفية كبلمية لـ تحقؽ
اإلجماع في الفكر اإلسبلمي .بؿ أف القكؿ بابتداء القرآف بالفاتحة كانتيائو بالناس ىك أيضا مكقؼ يستبطف مكقفا عقديا يدخؿ في
جدؿ فرع مف فركع عمـ القرآف .عمى أساس أف المعاصريف ،مثميـ مثؿ القدامى ،قد أثاركا مشكبلت ممحة حكؿ طبيعة نشأة
المصحؼ الذم يسمي اليكـ بالمصحؼ العثماني 2.كسنرل الحقا ،بأنو قد احتدـ صراع بيف الفرؽ الكبلمية حكؿ طبيعة القرآف
لدرجة تدخؿ الق اررات السياسية كاراقة الدماء كتشكؿ قضايا الرأم العالـ كاىانة العمماء...الخ.
المطمع عمى التعاريؼ المكجكدة في كؿ المدكنات التي اىتمت بعمـ الكبلـ شرحا كتأريخا كتحديدا ،يمكف أف يبلحظ أنيا تنقسـ
إلى ثبلثة أقساـ أساسية:
قسـ يضـ التعاريؼ القديمة ليذا العمـ ،كىي كثيرة كمختمفة بسبب اختبلفات التخصصات كالمرجعيات ،فتعريؼ المتكمـ مثبل
لعمـ الكبلـ يختمؼ عف تعريؼ المتصكؼ أك الفقيو أك األصكلي ،كما أف ىذا االختبلؼ تابع لبلنتماءات المذىبية ،إذ أننا نجد تزاكج
بيف االنتماء الفقيي كالكبلمي مثبل ،أك االنتماء الكبلمي كالصكفي...الخ .ففركع العمكـ اإلسبلمية القديمة لـ تكف جز ار مستمقة ،بؿ
ىناؾ تشابؾ أفضى إلى ظيكر مكاقع فكرية مركبة كمعقدة أكثر مما نعتقد .كاختبلؼ القدامى في تحديد الكبلـ بسبب انتمائيـ ،شبيو
باختبلؼ الفبلسفة في تعريؼ الفمسفة بسبب تمذىبيـ.
قسـ ثاف يضـ التعريفات التي قدميا الفكر العربي الحديث ،كميزة ىذه التعريفات أنيا تجاكزت قدر اإلمكاف مشكمة التعريؼ مف
كراء أحجبة االنتماء الفرقية .أم أنيا جاءت تعريفات تكصيفية كمكضكعية قدر اإلمكاف .فتعريؼ عمـ الكبلـ مف طرؼ محمد عبدك،
كلك أنو متحمس لمفكر اإلعتزالي ،إال أنو تعريؼ اتسـ بالكثير مف الرزانة العممية بعيدا عف أم تشنج في التكجو كالتعصب لمفرقة
1
لمتكسع في المسألة يمكف العكدة لػ :محمد عابد الجابرم :مدخؿ إلى القرآف الكريـ ،الجزء األكؿ ،في التعريؼ بالقرآف ،مركز
دراسات الكحدة العربية ،بيركت ،الطبعة األكلى ،2006 ،ص .18-17كأيضا:
محمد أرككف :الفكر العربي ،ترجمة عادؿ العكا ،منشكرات عكيدات ،بيركت -باريس ،الطبعة الثالثة ،1985 ،ص .32يقكؿ مثبل
معرفا القرآف :ىك مجمكعة محدكدة كمفتكحة مف نصكص بالمغة العربية يمكف أف نصؿ إلييا في النص المثبت إمبلئيا بعد القرف
الرابع ىػ /العاشر ـ كأف جممة النص المثبت عمى ىذا المنكاؿ نيضت بآف كاحد أثر مكتكب ككبلـ تعبدم".
يمكف أيضا االطبلع عمى دراستو األخيرة المطبكعة بعد الكفاة :posthumeمحمد أرككف :قراءات في القرآف ،ترجمة ىاشـ صالح،
دار الساقي بيركت ،الطبعة األكلى ،2017 ،ص 87كما تبلىا.
2
ألفريد –لكيس دم بريمار :في أصكؿ القرآف -مسائؿ األمس كمقاربات اليكـ ،ترجمة ناصر بف رجب ،منشكرات الجمؿ ،بغداد-
بيركت ،الطبعة األكلى ،2019 ،ص .123-122
8
كاالنتماء الضيؽ .كما يمكف أف نجد سمسمة مف التعريفات األكاديمية التي عممت قدر اإلمكاف عمى التكصيؼ المكضكعي كالتقسيـ
المنيجي كالضبط التاريخي.
قسـ ثالث كىك التعريفات اإلستشراقية ،حيث يجب عمينا أف نعترؼ بأف فضيمة اإلستشراؽ ىي التخصص ،حيث أف ىناؾ
استشراؽ متخصص في عمـ التاريخ (مثؿ ركزنتاؿ) ،كآخر في عمـ الكبلـ ،كآخر في الفقو (مثؿ شاخت)...الخ .سنركز ،كفؽ حدكد
اطبلعنا ،عمى مستشرقيف ميميف ىما "يكسؼ فاف ايس" ك"ىارم أكستريف كلفسكف" .كتأتي أىميتيما في ككنيما عمى دراية تامة
كشاممة بمجمؿ التأليفات الكبلمية ،إضافة إلى المكاقؼ المكضكعية قدر اإلمكاف.
-4تعريق القدامى:
مف أقدـ التعريفات المتكفرة لنا نجد تعريؼ الفارابي (تكفي 339ق 950/ـ) ،حيث يقكؿ ":صناعة الكالم يقتدر بيا اإلنسان
عمى نصره اآلراء واألفعال المحدودة التي صرح بيا واضع الممة ،وتزييف كل ما خالفيا باألقاويل .وىذا ينقسم إلى جزئين أيضا:
جزء في اآلراء وجزء في األفعال .وىي غير الفقو؛ ألن الفقو يأخذ اآلراء واألفعال التي صرح بيا واضع الممة مسممة ويجعميا
1
أصوال ،فاستنبط منيا األشياء الالزمة عنيا".
ما يمكف أف نمحظو عمى ىذا التعريؼ ىك أنو مكضكع في فصؿ (مف احصاء العمكـ) يضـ العمـ المدني كعمـ الفقو .كمف
مككنات التعريؼ نممس ارتباط عمـ الكبلـ بعمـ السياسة عمى أساس أف النصرة ىنا محددة بما كافؽ عميو كاضع الممة بالذات ،كعمى
الرغـ مف أف الممة تمثؿ الديف القكيـ ،إال أنو ال يقكـ أم ديف دكف سمطة .كما أنو يرتبط بعمـ الفقو باعتباره عمـ العمؿ .كفعؿ النصرة
يتـ بتزييؼ المخالؼ مف األقاكيؿ ،لذا يتحكؿ عمـ الكبلـ إلى عمـ الدحض مف أجؿ الدفاع عف العقائد .لكف العقائد التي رسميا
كاضع الممة فقط .كمع اختبلؼ الممؿ تختمؼ العقائد .كلعؿ السؤاؿ الذم يظير لنا ىنا ،كىذا مف المكقؼ الكاسع الذم كقفو الفارابي،
ىك السؤاؿ القائؿ ىؿ عمـ الكبلـ عمـ اسبلمي مخصكص بالذات ؟ يبدك أف لكؿ ممة عمـ كبلميا ،مما يجعؿ عمـ الكبلـ مكقفا دينيا
بصكرة عامة كليس مكقفا اسبلميا فقط .كنحف نجد المقابؿ غير اإلسبلمي لعمـ الكبلـ في التسمية الشائعة كىي الثيكلكجيا أك عمـ
الربكبية أك البلىكت .كحدىا في قامكس الفمسفة ىك" :عمـ ا﵀ مف حيث محمكالتو كعبلقاتو مع العالـ كمع اإلنساف" 2.كفي تقديرنا أف
تسمية "عمـ الكبلـ" اإلسبلمية أكثر داللة مف تسمية "عمـ ا﵀" ،science de Dieuعمى أساس أننا ال نتممؾ تجربة مباشرة مع ا﵀
بؿ ال يمكف أف نمتمكيا كفؽ المنطؽ الكضعي ،كالطريؽ الكحيد الذم يمكف أف يكصمنا إلى ا﵀ ىك الكبلـ ،أك قؿ كبلمو .ما الكتب
المقدسة إال ىذه الكساطة بيف اإلنساني كاإلليي .كتجربة "محمد /جبريؿ" في السياقات اإلسبلمية تؤكد سمطة الكممة في معرفة ا﵀.
1
أبكا نصر الفارابي :إحصاء العمكـ ،تقديـ كشرح كتبكيب عمى بكممحـ ،دار كمكتبة اليبلؿ لمطباعة كالنشر ،بيركت ،الطبعة األكلى،
،1996ص .86كمف الكتب التي تستشيد بيذا التعريؼ نجد :مصطفى عبد الرازؽ :تمييد لتاريخ الفمسفة اإلسبلمية ،دار الكتاب
المصرم كدار الكتاب المبناني ،القاىرة -بيركت ،2011 ،ص .367كعبد الحسيف خسركبناه :الكبلـ اإلسبلمي المعاصر ،الجزء
األكؿ ،ترجمة محمد حسيف الكاسطي ،دار الكفيؿ لمطباعة كالنشر كالتكزيع ،2016 ،ص .17
2
André Lalande: vocabulaire technique et critique de la philosophie, édition P U F- Quadrige, Paris,
1ere édition, 2002, p 1125.
9
فالكبلـ المقدس ىك المصدر األكحد لممعرفة الدينية لدل كؿ الشعكب 1.كحتى تجربة مكسى مع ا﵀ كانت كبلمية أكثر مما كانت
كف﴾ [البقرة .]55،أيضا ً ؾ ىحتَّى ىن ىرل المَّوى ىج ٍي ىرةن فىأ ى
كسى لى ٍف ين ٍؤ ًم ىف لى ى
ىخ ىذتٍ يك يـ الصَّاعقىةي ىكأ ٍىنتي ٍـ تىٍنظيير ى ﴿كًا ٍذ قيٍمتي ٍـ ىيا يم ى
حسية كفؽ القرآف ذاتو :ى
يما﴾ [النساء .]164 ،كما أف العمكـ ً ؾ ًم ٍف قىٍب يؿ كرس نبل لىـ ىن ٍقصصيـ عمىٍي ى َّ َّ
كسى تى ٍكم ن
ؾ ىك ىكم ىـ الموي يم ى ى ي ي ٍ ي ٍ يٍ ى اى ٍـ ىعمىٍي ى
صىن يص ٍ ﴿كير يس نبل قى ٍد قى ى
قكلو تعالى :ى
الدينية ،في سياقاتنا اإلسبلمية ،تسمى عمكـ السمع ،لمداللة عمى أف التجربة الدينية قائمة عمى تصديؽ السماع ،فالقرآف كليد السمع
ال الرؤية ،الرؤية تأتي متأخرة نكعا ما ،عمى الرغـ مف حديث سكرة النجـ عف الرؤية 2،إال أنيا مرتبطة بالذات اإلليية كىي مشكمة
ستأخذ حي از في مكضكع التنزيو .كأىمية الكبلـ جعمت "دم سكسير" (تكفي )1913كىك المختص في عمكـ المغة ،يربط كؿ شيء
3
ما يصنع الفرؽ في عمـ الكبلـ ىك الكبلـ ذاتو .فكؿ شيء يمر عبر المغة ،ما بالمساف قائبل" :كؿ شيء في المساف ىك فارؽ".
اإلنساف إال كائف لغكم في القبؿ كالبعد .أم أنو نتاج المغة كيؤدم إلى إنتاج المغة .اإلنساف نتاج لغة ينتجيا ىك.
كفي سياؽ البحث عف تفرد المسمميف بعمـ الكبلـ ،نجد مف يشير إلى كجكد عمـ كبلـ غير إسبلمي .إذ "يتكمـ يحي بف عدم
عف المتكمميف المسيحييف .كيتحدث ابف رشد عف المتكمميف مف أىؿ ممة النصارل .أك عف المتكمميف مف أىؿ الممؿ الثبلث
المكجكدة اليكـ( .تفسير ما بعد الطبيعة ،ص ) 1403-1489كيتحدث ابف ميمكف عف "المتكمميف األكؿ مف اليكنانييف المتنصريف
كمف اإلسبلـ( .داللة ،ج ،1ص 4.")123لذا فإف الحديث عف طبيعة األلكىية ككؿ ،ىك ما يجعؿ مف ىذا الحديث كبلما ،كليس
فقط في الحالة اإلسبلمية .كما نجد ابف حزـ يتكمـ عف متكممي الييكد أمثاؿ سعديا ،كالمقمص ،كابراىيـ البغدادم ،كأبي كثير
الطبراني 5.كلتمييز عمـ الربكبية أك األلكىية (الثيكلكجية) عف عمـ الكبلـ الذم لو خصكصيات إسبلمية ،يعمد المستشرقيف إلى
استعماؿ عبارة الكبلمكلكجيا Kalamologieأك كممة .kalamكىكذا كردت عناكيف مثؿ كتاب :Harry Austryn Wolfson
. 1976 ،the philosophy of the kalamكالذم سنعتمده كثي ار نظ ار لمعرفتو بدقائؽ المدكنات الكبلمية ،عمى الرغـ مف مغاالتو
في إظيار تبعية الكبلـ اإلسبلمي لبلىكت المسيحي .كنجد أيضا كتاب ىكركفتس Horovitzكىك مؤرخ محدث لعمـ الكبلـUber :
1
شكيب بف بديرة الطبمبي :مدخؿ مناىجي إلى عمـ الكبلـ ،مطبعة دار المتكسط الجديد ،طبمبة ،تكنس ،2012 ،ص .25
اب قى ٍك ىس ٍي ًف أ ٍىك أ ٍىدىنى ( )9فىأ ٍىك ىحى ًإلىى ىع ٍب ًد ًه ىما أ ٍىك ىحى ()10
اف قى ى
َّ
ىعمىى ( )7ثيَّـ ىدىنا فىتى ىدلى ( )8فى ىك ى ؽ ٍاأل ٍاستىكل ( )6ك يىك بً ٍاأليفي ً
ى ى
ًو
﴿ يذك مَّرة فى ٍ ى
2
يخ ىرل (ً )13ع ٍن ىد ًس ٍد ىرًة ا ٍل يم ٍنتىيىى (ً )14ع ٍن ىد ىىا ىجَّنةي ا ٍل ىمأ ىٍكل
كنوي ىعمىى ىما ىي ىرل ( )12ىكلىقى ٍد ىرآىهي ىن ٍزلىةن أ ٍ اد ىما ىأرىل ( )11أىفىتي ىم يار ى
ب ا ٍلفي ىؤ ي
ىما ىك ىذ ى
(.﴾)15
3
مصطفى صفكاف :التحميؿ النفسي عمما عبلجا كقضية ،ترجمة مصطفى حجازم ،ىيئة البحريف لمثقافة كاآلثار ،المنامة ،الطبعة
األكلى ،2016 ،ص .198
4
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،ترجمة مصطفى لبيب عبد الغاني ،المجمد األكؿ ،المركز القكمي لمترجمة،
القاىرة ،الطبعة األكلى ،2005 ،ص .147
5
المرجع نفسو ،ص .161
11
1
كعمى أساس ىذه التسمية يتـ .den Einfluss der griechischen phillosphie auf die Entwichlung des Kalam
التمييز بيف خصكصيات الكبلـ اإلسبلمي كبيف الكممة المألكفة في السياقات الغربية خاصة عمـ األلكىية أك الربكبية (الثيكلكجيا) التي
ترتبط سياقيا بالميتافيزيقا اإلغريقية القديمة .ألف المصطمحات العقدية المسيحية تأسست عمى المكركث الميتافزيقي اإلغريقي.
الفاربي بيف "عمـ الكبلـ" الذم ىك عنكاف العمـ النظرم الخالص ك"عمـ الفقو" الذم ىك عنكاف العمـ العممي
كمف الغريب أف يربط ا
الخالص .عمى أساس أف "المعارؼ النظرية ليست مقركنة باستعداد نحك العمؿ إال بالعرض" 2.كقد ساد االعتقاد بالتقابؿ بيف العمميف
حد االنفصاؿ الكمي ،إذ أف المتكمـ ال يعمؿ كالفقو ال يتكمـ .فعمـ الكبلـ ،بحسب طو عبد الرحمف ،ىك عمـ المناظرة العقدم ،مما
يجعمو نظر كحسب 3.في حيف أف جكىر عمـ الفقو ىك العمؿ ،كأم تفكير أك تنظير أك تجريد في الفقو ،ييدؼ في النياية إلى القياـ
بعمؿ ما .فجكىر عمـ الفقو ،كىك العمـ اإلسبلمي األصيؿ كالخالص مف كؿ تأثير خارجي ،ىك العمؿ .لذا تقرر لديو ،أم طو عبد
ارحمف ،أف ما يخص العالـ اإلسبلمي ىك العمـ العممي كحده ،كحتى الفمسفة اإلسبلمية تحتاج إلى تفقيو بمعنى العمؿ عمى صناعة
فمسفة بدؿ تكظيؼ فمسفة منقكلة 4.لكننا نجد الفارابي يربط بيف الكبلـ كالفقو ،كيعتقد بإمكانية الجمع بينيما ،بحيث يمكف لئلنساف أف
يككف فقييا كمتكمما .بؿ يمكف الحديث عف قدرم (أم معتزلي يقكؿ بقدرة اإلنساف) محدث (يشتغؿ في عمـ الحديث) أك قدرم نحكم
(متخصص في عمـ النحك) 5.كىذا ما تحقؽ تاريخيا في العديد مف المدارس الفقيية التي لـ تيضمر خمفياتيا الكبلمية 6.فقد نجد فقيو
فقيو متكمـ مثمما قد نجد متكمـ فقيو أك متكمـ أصكلي أك متكمـ متصكؼ مثمما نجد عند بعض المعتزلة بعد انتياء محنة أبف حنبؿ.
كالدراسة التاريخية لسكسيكلكجية عمـ الكبلـ اإلسبلمي تكشؼ عف ىذا الترابط بيف الكظائؼ الفقيية كاالنتماءات الكبلمية أك
الممارسات الكبلمية مثؿ "معاذ بف معاذ بف نصر األنبارم" (تكفي 196ىػ) 7.الذم دخؿ في الكبلـ حكؿ مسائؿ عقدية خالصة عمى
عمى الرغـ مف ككنو فقييا مف حيث التككيف كالكظيفة .كقد يذكر أف أبك حنيفة النعماف(تكفي 150ىػ) ،كىك صاحب مذىب فقيي
1
المرجع نفسو ،ص .125
2
الفارابي :كتاب الجمع بيف رأيي الحكيميف متبكع بكتاب البرىاف ،مكفو لمنشر ،الجزائر ،1993 ،ص .130
3
طو عبد الرحمف :في أصكؿ الحكار كتجديد عمـ الكبلـ ،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء ،الطبعة الثانية ،2000 ،ص -70
.71
4
طو عبد الرحمف :فقو الفمسفة -1الفمسفة كالترجمة ،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء – بيركت ،الطبعة األكلى ،1995 ،ص
.29
5
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،ترجمة
محي الديف جماؿ بدر كرضا حامد قطب ،مراجعة محسف الدمرداش ،منشكرات الجمؿ ،بيركت – بغداد ،الطبعة األكلى،2016 ،
ص .143-140
6
أبكا نصر الفارابي :إحصاء العمكـ ،مرجع سابؽ ،ص .87
7
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،ص
.564-563
11
معتبر ،قد جادؿ المتكمميف اإلباضييف كالمعتزلة ،كما تكمـ في مسألة "حيزية" ا﵀ ،كتكمـ أيضا عف خمؽ القرآف في سياؽ مشكمة
2
الحمؼ بو 1.عمى أساس أنو تشريؾ مع ا﵀ القديـ .كانتيى "فاف ايس " إلى أف أغمب المتكمميف في اإلسبلـ كانكا ذكم تككيف فقيي.
كىذا مبرر مف عدة أكجو ،إذ أف الفقو ىك العمـ األكثر خصكصية بالنسبة ألم مسمـ كحتى العامة تمقكا تككينا أكليا في الفقو ،فما
بالؾ بالخاصة مف الناس ،ثـ أف الفصؿ التاـ بيف النظر كالعمؿ غير كارد في الكاقع .فكؿ عمؿ مرتبط بعقيدة ما ككؿ عقيدة تتجسد
في العمؿ أك الفقو .لذا فالتمييز يككف في التسبيؽ كالتأخير فقط ،أما كجكد عمؿ خالص أك نظر خالص فيك متعذر.
ثـ أنو مف المفيد التنبيو إلى تحديد الفارابي لمفيكـ الفقو مف أجؿ حصكؿ تبرير معقكؿ لربط الكبلـ بالفقو .يقكؿ معرفا الفقو
عمى نفس صيغة تعريؼ الكبلـ" :صناعة الفقو ىي التي يقتدر اإلنساف أف يستنبط شيء مما لـ يصرح كاضع الشريعة بتحديده عمى
األشياء التي صرح فييا بالتحديد كالتقدير ،كأف يتحرل تصحيح ذلؾ حسب غرض كاضع الشريعة بالعمة التي شرعيا في األمة التي
ليا شرع" 3.كبالتالي فإف مدار الفقو ىك الرأم أكال ألنو تأمؿ كاستخبلص كتبرير ،كجزء عمؿ مرتبط باألفعاؿ الكاجب القياـ بيا .كبيذا
كبيذا فإف ماصدؽ الفقو أكسع مف ماصدؽ الكبلـ ،عمى أساس أف األكؿ نظرم كعممي في حيف أف الثاني نظرم خالص كال يكجد
أم عمؿ مف تحتو .لكف يمكف أف نرل ،أدناه عند الحديث عف المعتزلة ،أف ىناؾ جانب عممي في كبلميـ ،مثؿ األصؿ الخامس
مف أصكليـ.
كمف الناحية التاريخية ،ليس مف السيؿ الفصؿ بيف ظيكر عمـ الحديث كظيكر عمـ الكبلـ ،فبعض مؤرخي الفقو يتحدث عف
تأثر عمـ الحديث بالمسائؿ الكبلمية التي احتدـ النقاش فييا .يقكؿ "كائؿ حبلؽ" الميتـ بتاريخ الفقو كاألصكؿ" :إف ظيكر الحديث قد
تزامف مع احتداـ الجدؿ الكبلمي حكؿ إرادة ا﵀ كقدرتو كقضائو كقدره ( )...ثـ إف االعتماد عمى الرأم لـ يعد ينظر إليو حسب أىؿ
الحديث عمى أساس أنو "رأم اجتيادم" يقكـ في النياية عمى العمـ بؿ ىك عندىـ رفض مقصكد لبلعتراؼ باألكامر اإلليية .كفي
ضكء الجدؿ الكبلمي كاف ينظر "لمرأم" باعتباره يفيد مباشرة "التفكير االجتيادم" الذم يعني جعؿ الشريعة تقكـ عمى أساس بشرم ال
إليي .كبذلؾ فتسمية "أىؿ الرأم" أمست اآلف تفيد" أىؿ العقؿ" أكثر مف إفادتيا "لممفكريف بتبصر" 4.ككما ىك ظاىر ،فإف الحديث
كالكبلـ يشتركاف في االجتياد كاالستقبلؿ بالرأم .كفي الفقو ذاتو ،كعمـ ال يمكف اغفاؿ الرأم كمية ،عمى أساس أف ىناؾ مذاىب
فقيية متعددة ،أساس تعددىا ىك قياميا عمى الرأم كاالجتياد.
1
جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،ترجمة سالمة صالح ،الجزء األكؿ ،منشكرات الجمؿ،
بغداد – بيركت ،الطبعة األكلى ،2008 ،ص .272
2
يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،ترجمة عبد المجيد الصغير ،نشر الفنؾ ،الدار البيضاء،2000 ،
ص .18
3
أبكا نصر الفارابي :إحصاء العمكـ ،مرجع سابؽ ،ص .86-85
4
كائؿ حبلؽ :نشأة الفقو اإلسبلمي كتطكره ،ترجمة رياضي الميبلدم ،دار المدار اإلسبلمي ،بيركت ،الطبعة األكلى ،2007 ،ص
.119
12
بعد تعريؼ الفارابي ،نجد تعريؼ أبك حياف التكحيدم (في رسالة ثمرات العمكـ) .الذم تكفي 400ق 1009/ـ ،كىك األديب
عرؼ الفقو ،كبيذا يككف قد سار مثؿ المعمـ الثاني (أم الفارابي) .يقكؿ عف الكبلـ :عمم
الفيمسكؼ ذم التكجو اإلنسي .فبعد بعد أف ٌ
الكالم فإنو باب من االعتبار في أصول الدين يدور النظر فيو عمى محض العقل في التحسين والتقبيح واإلحالة والتصحيح
واإليجاب والتجويز واالقتدار والتعديل والتجويز والتوحيد والتكفير .واالعتبار فيو ينقسم بين دقيق يتفرد العقل بو ،وبين جميل يفزع
إلى كتاب اهلل تعالي فيو" 1.كيظير جميا عدـ انتماء التكحيدم إلى أم فرقة أك مذىب في عممية تحديد عمـ الكبلـ ،بقدر ما كاف
ظكاىريا في تكصيفو ليذا العمـ .كىذا التعريؼ يحدد المكضكع الذم ىك أصكؿ الديف كليس فركعو ،كىذا ما سنجده في تعدد تسمية
عمـ الكبلـ أدناه .كمباحثة ىذه األصكؿ تككف عمى أساس العقؿ الخالص كليس عمى أساس النقؿ أك السمع .أما أنكاع الكبلـ فيي
نكعاف :دقيؽ الكبلـ عمى أصكؿ الفكر الفمسفي اإلغريقي ،كجميمو عمى أصكؿ القرآف الكريـ.
كالقاسـ المشترؾ ،بيف عمـ الفقو كعمـ الكبلـ ،كفؽ التكحيدم ،ىك االستناد عمى العقؿ كاستخدامو بصكرة مكثفة .كقد أقررنا
أعبله بأف أساس االختبلؼ الفقيي ىك درجة استعماؿ العقؿ ذاتو ،فبيف أصحاب الرأم كأصحاب الركاية في الحديث مثبل ،نجد درجة
الثقة في تقدير شأف ال عقؿ .كحتى الفرؽ الكبلمية قد تفارقت في حدكد مشركعية منح العقؿ السمطة األكلى .بؿ يمكف تصنيؼ الفقياء
كالمحدثيف المتكمميف صنفيف أساسييف :صنؼ يعكؿ عمى العقؿ كيثؽ فيو كصنؼ يعقؿ العقؿ كيعتبره محدكدا أماـ مطمقية النقؿ أك
الشرع .لذا نجد فقيا كحديثا ككبلما عقميا مفرط في عقبلنيتو ،كما نجد فقيا كحديثا ككبلما معتدؿ في عقبلنيتو .بؿ ىناؾ مف يعقؿ
العقؿ تماما لصالح حرفية نصية تامة .كلعؿ تكجو الحنابمة ،مما نسميو باإلسبلـ الحنبمي ،ليك دليؿ عمى عقبلنية تقزيـ (تعقيؿ)
العقؿ.
كفؽ الترتيب التاريخي ،نجد بعد الفارابي كالتكحيدم ،اإلسياـ الكبير لمغزالي(.تكفي 505ق1111/ـ) :حيث يقكؿ عف الكبلـ:
" مقصود عمم الكالم حفظ عقيدة أىل السنة وحراستيا عن تشويش أىل البدعة .فقد ألقى اهلل تعالي إلى عباده عمى لسان رسولو
عقيدة ىي الحق عمى ما فيو صالح دينيم ودنياىم ،كما نطق بمعرفة القرآن واألخبار ،ثم ألقى الشيطان في وساوس المبتدعة
أمو ار مخالفة لمسنة ،فميجوا بيا وكادوا يشوشون عقيدة الحق عمى أىميا ،فأنشأ اهلل تعالى طائفة المتكممين وحرك دواعييم
لنصرة السنة بكالم مرتب يكشف عن تمبيسات أىل البدعة المحدثة عمى خالف السنة المأثورة ( )...لكنيم اعتمدوا في ذلك عمى
مقدمات تسمموىا من خصوميم" 2.كالظاىر ىنا ،عمى خبلؼ األكائؿ ،أف الغزالي لـ يكف مكضكعيا في تعريؼ عمـ الكبلـ ،بقدر ما
عبر عف رؤيتو المذىبية .كىذا ما جعمو يضيؽ مف مفيكـ الكبلـ خدمة لمصالح مذىبية محددة .كىذا مبرر جدا بكصفو فكر مف
داخؿ انتماء معمكـ .ككما ىك ظ اىر ،فيك ينتقد عمـ الكبلـ في المحظة التي يعرفو فييا .تضيؽ ماصدؽ عمـ الكبلـ ظاىر في قكلو
حفظ عقيدة أىؿ السنة .كبيذا فإف كؿ عقيدة مخالفة لعقيدة السنة كالجماعة خارجة عف ىذا التحديد ،كىذا يدؿ عمى أنو ال يعترؼ
بعمـ الكبلـ الشيعي مثبل ،كبالفعؿ ،فإف الكثير مف مياـ الغزالي قد تمثمت في اليجكـ عمى الشيعة كمختمؼ الفرؽ التي مثمتيا .كسبب
ظيكر عمـ الكبلـ حسب اعتقاده ىك انحراؼ بعض المبتدعة لعمة شيطانية ،كىنا يظير مدل عجز الغزالي عف تحديد األسباب
1
مصطفى عبد الرازؽ :تمييد لتاريخ الفمسفة اإلسبلمية ،مرجع سابؽ ،ص .375
2
أبك حامد الغزالي :المنقذ مف الضبلؿ كالمكصؿ إلى ذم العزة كالجبلؿ ،تحقيؽ جميؿ صميبا ككامؿ عياد ،دار األندلس لمطباعة
كالنشر كالتكزيع ،بيركت ،ص .92-91
13
المكضكعية لظيكر االنحرافات العقائدية مما يجعمو غافبل عف ما نسميو اليكـ بسكسيكلكجيا المعرفة 1.أم العكامؿ االجتماعية
كالتاريخية التي تحدد كيفية فيمنا لؤلمكر الدنيكية أك الدينية .كأخيرا ،فإف نقطة ضعؼ الكبلـ ،عمى الرغـ مف كؿ أىدافو المقدسة،
ىك أ نو يستعمؿ أسمحة المنحرفيف ذاتيـ ،سكاء في داخؿ السياقات اإلسبلمية أك غير اإلسبلمية بخاصة الفكر الكافد مف اإلغريؽ.
كبالفعؿ ،فإننا نجد الكثير مف متكممي االعتزاؿ عمدكا إلى استعماؿ الطرؽ اإلغريقية في البرىنة ،مما سماىا أعبله التكحيدم بدقيؽ
الكبلـ.
كفي تكجو مماثؿ لتكجو الغزالي السني األشعرم ،نجد تعريؼ ابف خمدكف (تكفي 806ق 1406/ـ) الذم كاف يمثؿ ىذا التكجو
أيضا ،الذم يقدـ تعريفا ال يختمؼ عف سابقو .يقكؿ في مؤخرة المقدمة" :عمم الكالم يتضمن الحجاج عن العقائد اإليمانية باألدلة
2
العقمية .والرد عمى المب تدعة المنحرفين في االعتقادات عن مذاىب السمف وأىل السنة .وسر ىذه العقائد اإليمانية ىو التوحيد".
إنو تعريؼ ينطمؽ مف كجكد عقيدة صحيحة كنقية ىي عقيدة األسبلؼ مف السنة ،كبسبب ظيكر مبتدعيف انحرفكا كمية عنيا ،أكجب
استعماؿ األدلة العقمية لذلؾ .لكف االنحراؼ ىنا ليس داخؿ المجاؿ العقدم اإلسبلمي فقط ،بؿ أيضا خارجو .كأساس العقائد اإليمانية
ىك التكحيد ،كبالتالي فكؿ مف انحرؼ عمى ىذا المبدأ ،فقد كجب تقكميو عف طريؽ منيج حجاجي .كيقدـ لنا مثبل عمى برىاف
الكحدانية ،لكنو في تقديرنا ،مثاؿ فاسد عمى أساس أنو أخمط بيف كجكد ا﵀ ككحدانيتو.
سنذكر سمسمة مف التعريفات المبثكثة في الكتب التراثية ،كفؽ الترتيب التاريخي دكف التعميؽ عمييا أك تحميؿ أبعادىا
كخصكصياتيا .مع مقارنات طفيفة مف أجؿ معرفة استراتيجية التعاريؼ كأصكليا كمآالتيا.
عضد الديف اإليجي (تكفي 756ق( :)1355/في كتاب المكافقات)" :الكالم عمم يتقدر معو عمى إثبات العقائد الدينية
بإيراد الحجج ودفع الشبو ،والمراد بالعقائد ما يقصد فيو نفس االعتقاد دون العمل ،وبالدينية المنسوبة إلى دين محمد
3
(ص) .فإن الخصم ،وان خطأناه ،ال نخرجو من عمماء الكالم".
التفتازاني (تكفي 792ق1389/ـ)( :في كتابو المقاصد)" :الكالم ىو العمم بالعقائد الدينية عن األدلة اليقينية ،وموضوعو
المعموم من حيث يتعمق بو إثباتيا ،ومسائمة القضايا النظرية الشرعية االعتقادية ،وغايتو تحمية اإليمان باإليقان،
ومنفعتو الفوز بنظام المعاش ونجاة المعاد ،فيو أشرف العموم .عمى أن موضوعو الموجود بما ىو .ويتميز عن اإلليي
بكون البحث فيو عمى قانون اإلسالم ،أي ما عمم قطعا من الدين ،كصدور الكثرة عن الواحد ،ونزول الممك من المساء،
1
عبد ا﵀ العركم :مفيكـ اإليديكلكجيا ،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء ،الطبعة الخامسة ،1993 ،ص .25
2
عبد الرحمف بف خمدكف :المقدمة ،تضبط كشرح محمد اإلسكندراني ،دار الكتاب العربي ،بيركت ،الطبعة الثانية ،1998 ،ص
.423
3
عضد ا﵀ كالديف القاضي عبد الرحمف بف أحمد اإليجي :المكاقؼ في عمـ الكبلـ ،عالـ الكتب ،بيركت ،ص .7كأيضا مصطفى
عبد الرازؽ :تمييد لتاريخ الفمسفة اإلسبلمية ،مرجع سابؽ ،ص .379
14
وكون العالم محفوظا بالعدم والفناء ،إلى غير ذلك مما نجزم بو الممة دون الفمسفة ( )...وقيل موضوعو ذات اهلل وحده
أو مع ذات الممكنات .لذا يعرف بالعمم الباحث عن أحوال الصانع مع صفاتو الثبوتية والسمبية ،وأفعالو المعمقة بأمور
1
الدنيا واآلخرة".
تعريؼ الجرجاني( :تكفي 816ق )1413/قاؿ" :الكالم ما تضمن كممتين باإلسناد :الكالم عمم يبحث فيو عن ذات اهلل
تعالى وصفاتو ،وأحوال الممكنات من المبدأ والمعاد عمى قانون اإلسالم ( )...الكالم باحث في أمور يعمم منيا الميعاد
وما يتعمق بو من الجنة والنار والصراط والميزان والثواب والعقاب وقيل الكالم ىو العمم بالقواعد الشرعية االعتقادية
2
المكتسبة من األدلة".
طاش كبرل زاده962( :ق1457/ـ) في كتابو المشيكر "مفتاح السعادة كمصباح السيادة" ،ج ،52ص " :21-20الشعبة
الخامسة من العموم الشرعية عمم أصول الدين المسمى عمم الكالم وىو عمم يقتدر معو إثبات العقائد الدينية بإيراد
الحجج ودفع الشبو عنيا ،موضوعو ذات اهلل سبحانو وتعالى وصفاتو عند المتقدمين .وقيل موضوعو الوجود من حيث
ىو موجود ،وانما يمتاز عن العمم اإلليي الباحث في أحوال الوجود المطمق باعتبار الغاية؛ ألن البحث في الكالم عمى
قواعد الشرع ،في اإلليي عمى مقتضى العقول .وعند المتأخرين موضوع عمم الكالم المعموم من حيث يتعمق بو إثبات
المدعى منو ثم يقام عميو البرىان العقمي .وىذا التسميم
َ العقائد الدينية المنسوبة إلى دين محمد (ص) وذلك بأن يسمم
ىو معنى التدين الالئق بحال المكمفين ( )...بالجممة يشترط في الكالم أن يكون القصد فيو تأييد الشرع بالعقل ،وأن
تكون العقيدة مما وردت في الكتاب والسنة؛ ولو فات أحد ىذين الشرطين ال يسمى كالما أصال ( )...عد بعضيم كالم
3
أىل االعتزال من الكالم ،إن لم يوافق الكتاب والسنة".
التيانكم (كشاؼ اصطبلحات الفنكف ،صنفو سنة 1158ق 1745/ـ)" :عمم الكالم يقتدر معو عمى إثبات العقائد الدينية
عمى الغير بإيراد الحجج ودفع الشبو ( )...المقصود بالعقائد ما يقصد بو نفس االعتقاد كقولنا :اهلل تعالى عالم قادر
سميع بصير ،ال ما يقصد بو العمل كقولنا :الوتر واجب .والمراد بالدينية المنسوبة إلى دين محمد (ص) سواء كانت
4
صواب أو خطأ ،فال يخرج عمم أىل البدع الذي يقتدر معو عمى اثبات عقائدىم الباطمة من عمم الكالم".
إف مقارنة مجمؿ ىذه التعريفات يكشؼ عف خبلفات متعمقة بمدل مشركعية اطبلؽ عمـ الكبلـ عمى غير المسمميف .إذ
نبلحظ مثبل اف التفتزاني ،سار عمى منكاؿ الغزالي في اعتباره الكبلـ خاصية إسبلمية ،أم "الكبلـ ىك الكبلـ عمى قانكف
1
عبد الحسيف خسركبناه :الكبلـ اإلسبلمي المعاصر ،الجزء ألكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .18أيضا :مصطفى عبد الرازؽ :تمييد
لتاريخ الفمسفة اإلسبلمية ،مرجع سابؽ ،ص .381
2
الجرجاني :كتاب التعريفات ،مكتبة لبناف ،بيركت ،1985 ،ص .194
3
مصطفى عبد الرازؽ :تمييد لتاريخ الفمسفة اإلسبلمية ،مرجع سابؽ ،ص .383
4
المرجع نفسو ،ص .380
15
اإلسبلـ" .كأيضا مدل اندراج كؿ الفكر اإلسبلمي المتعمؽ باأللكىية في عمـ الكبلـ ،أم ادخاؿ اك اخراج بعض الفرؽ الكبلمية
غير السنية مف عمـ الكبلـ .أك حتى الفرؽ السنية مثؿ المعتزلة .حيث نجد ابف خمدكف مثبل يعتبر المعتزلة فرقة مبتدعة 1.كلك
أنيا دافعت عمى العقائد اإلسبلمية حيث لـ تخرج عف أصكؿ الديف ،إذ يسمكف بأىؿ العدؿ كالتكحيد ،إال أنيا بالنسبة لسني
أشعرم مثؿ ابف خمدكف فيـ مف أىؿ البدع .في حيف نجد ابف رشد مثبل ،يثمف المكاسب الفكرية لممعتزلة .لذا ،يمكف التأكيد بأف
االختبلؼ في تعريؼ كتقدير عمـ الكبلـ ال ينفصؿ عف االنتماءات الكبلمية بالذات ،أك حتى الفقيية كاألصكلية.
يمكف أف نبلحظ اختبلؼ ظاىر في خمفية اإليجي كالغزالي مثبل ،عمى أساس أف الغزالي يربط عمـ الكبلـ بالدفاع عف
العقائد السنية ،في حيف أف األكؿ يجعمو أداة لكؿ ذم عقيدة ميما كانت .ككأف اإليجي قد تنبو إلى أنو ال يمكف ابطاؿ عقائد
الغير بمجرد أ نيا مخالفة لعقائدنا .فػ "عمـ الكبلـ أداة دفاع لكؿ معتقد عف عقيدتو؛ فدفاع المبتدع عف عقيدتو بالبراىيف العقمية
كبلـ أيضا" 2.لذا فإف المدافع عف عقيدة السنة متكمـ مثمو مثؿ المدافع عف عقيدة الشيعة مثبل .كال يمكف بأم حاؿ أف نجعؿ
الكبلـ األ كؿ أصيبل ككبلـ الثاني منحرفا .أم أف االنحراؼ مسألة غير مكضكعية ،لكال يمكف كضع قكاعد متعارؼ عمييا
بالمطمؽ حكؿ السكم كالمنحرؼ أك المرضي .كما يصمح عمى المعايير العقدية يصمح أيضا عمى المعايير الصحية ،في ىذا
الشأف يقكؿ الفيمسكؼ الفرنسي "لكككر"" :إف الػ ( Néanderthalأم اإلنساف البدائي) الذم كاف "سكيا" في زمانو ،سيككف اليكـ
مريضا كبيرا .كالثكابت الفيزيكلكجية إلنساف افريقي ،حي ،سميـ+ ،في افريقيا تقدـ انحرافا قد نحكـ عميو بأنو "مرضيا" بالعبلقة
مع المعيار األكركبي" 3.فالسميـ أك ما يسمي باألرثك/دككسي (العقيدة السكية) لدينا ،يعتبر باثكلكجيا عند غيرنا ،كبالمقابمة تيفيـ
األمكر في العمكـ .فالكؿ سكم بالنسبة لو كشاذ بالنسبة لغيره.
-5تعريف المحدثين:
ال نقصد بالمحدثيف عمماء الحديث ،بؿ نقصد ركاد النيضة الفكرية اإلسبلمية بعد حممة نابميكف عمى مصر كانطبلؽ مكجة
فكرية حركت ما كاف راكدا بعد انطفاء شمعة الفكر اإلسبلمي الكبلسيكي بخاصة بعد ابف رشد كابف خمدكف في بداية القرف الخامس
عشر ميبلدم .كمف المفيد اإلشارة إلى أف الدرس الحداثي العربي في عمكمو لـ يكف قاطعا مع الماضي كالتراث الفكرم ،مثمما نجده
في الحداثة الغربية التي كانت داعية لبلنفصاؿ عف الماضي القريب ،كلك أنيا كانت تعكد كلك بخفة ظاىرة إلى التقميد اإلغريقي .كلك
أسسا حكما انطبلقا مف النمكذج الديكارتي كالنمكذج البككني ،لتأكدنا أنيما تفمسفا مف خبلؿ القطيعة مع تاريخ الفكر السباؽ .في
حيف أف الحداثة العربية كانت كصمية كلـ يشعر المحدثيف العرب ،عمى العمكـ ،بصراع مع ماضييـ ،بؿ بصراع مع حاضرىـ الذم
1
مقداد عرفة منسية :مبلحظات حكؿ عمـ الكبلـ في المقدمة إلبف خمدكف .ضمف كتاب :رشدم راشد (إشراؼ) :دراسات في تاريخ
عمـ الكبلـ كالفمسفة ،مركز دراسات الكحدة العربية ،بيركت ،الطبعة األكلى ،2014 ،ص .57
2
مصطفى عبد الرازؽ :تمييد لتاريخ الفمسفة اإلسبلمية ،مرجع سابؽ ،ص .381
3
دكمينيؾ لكككر :فيـ تفيد الفمسفة إذف ؟ مف عمكـ الطبيعة إلى العمكـ السياسية ،ترجمة محمد ىشاـ ،دار أفريقيا الشرؽ ،الدار
البيضاء ،2011 ،ص .143
16
مثمتو اليجمة الحضارية األكركبية الشرسة مف خبلؿ الحركات االستعمارية .بؿ يمكف التيقف بأف الحداثة العربية ىي نتاج االستعمار،
كلك ال ىذا المقاء الصادـ ،الستمر الكعي العربي اإلسبلمي في فضاءه التقميدم الخالص .بؿ أف الكعي العربي قد تشكؿ بفعؿ
الصدمة الحديثة.
-1-2تعريؼ محمد عبده (تكفي 1323ق1905/ـ) :يعتبر كتابو "رسالة التكحيد" اجتياد كبلمي حقيقي ،ككنو لـ يكرر القضايا
الكبلمية التراثية بالمطمؽ ،بؿ عمؿ عمى تحييف ىذه المشكبلت كفؽ خصكصيات العصر الذم عاش فيو .يقكؿ معرفا عمـ الكبلـ
الذم ىك ذاتو عمـ التكحيد" :التوحيد عمم يبحث فيو عن وجود اهلل ،وما يجب أن يثبت لو من صفات ،وما يجوز أن يوصف بو،
وما يجب أن ينفى عنو ،وعن الرسل إلثبات رسائميم ،وما يجب أن يكنوا عميو ،وما يجوز أن ينسب إلييم ،وما يمنع أن يمحق
1
بيم".
-2-2تعريؼ عبد الحسيف خسركبناه :بعد أف يكرد ىذا الكاتب التعاريؼ التارثية ،ينشئ لنا تعريفا يعتقد بأنو التعريؼ الشامؿ
كالمختار مف بيف كؿ التعاريؼ ،حيث يقكؿ" :عمم وفن ينتمي لمدراسات الدينية ،تستنبط وتنظم وتبين بو المعارف والمفاىيم
العقائدية ،من خالل االستعانة بالنصوص اإلسالمية ،ويستدل بو عمى اثبات تمك المعارف وتبريرىا ،باتباع مختمف المناىج
2
والمقاربات الدينية وغير الدينية ،ويرد بو عمى شبيات المخالفين مناقشاتيم العقائدية".
-3-2تعريؼ الدكتكر أحمد محمد صبحي ،الذم قدـ دراسة قيمة عف الفرؽ الكبلمية (المعتزلة ،كاألشاعرة ،كالزيدية) .حيث خمص
إلى عبارة مختصرة تطكم كؿ المعاني السابقة قائبل" :عمـ الكبلـ ىك معرفة ما لمنفس كما عمييا مف االعتقادات" 3.فمدار ىذا العمـ
ىك العقائد ال الشعائر أك العبادات أك األعماؿ .إذ أف العقائد تمزـ اإلنساف بقيكد معينة ،مف أجؿ أف تيسر ليا الحقكؽ القاعدية.
كالظاىر أف ىذه التعريؼ مستكحى مف تعريؼ "ابف اليماـ" في كتاب المسايرة ،حيث يقكؿ بأف "الكبلـ معرفة النفس ما عمييا مف
العقائد المنسكبة إلى ديف اإلسبلـ عف األدلة عمما كظنا في البعض منيا" 4.كىذا التعريؼ يشير إلى أف بعض العقائد تؤخذ عف دليؿ
ظني .ألف العقيدة في النياية تعمـ قبؿ أف تنضج الممكة الفيمية كالنقدية عند اإلنساف .كىذا ما نجده في كؿ األدياف حيث تتـ تنشئة
األطفاؿ عف الديف دكف نظر أك مناقشة أك معارضة .كىذا ما يسميو بعض الفبلسفة الشكاؾ بالتركيض كاالنتقاء في فعؿ الثقافة.
1
محمد عبده :رسالة التكحيد ،ديكاف المطبكعات الجامعية ،الجزائر ،1988 ،ص .7
2
عبد الحسيف خسركبناه :الكبلـ اإلسبلمي المعاصر ،الجزء ألكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .19
3
أحمد محمكد صبحي :الفمسفة األخبلقية في الفكر اإلسبلمي -العقميكف كالذكقيكف أك النظر كالعمؿ ،دار المعارؼ بمصر ،القاىرة،
،1969ص .14
4
سعيد عبد المطيؼ فكدة :بحكث في عمـ الكبلـ ،دار الرازم لمطباعة كالنشر كالتكزيع ،عماف ،الطبعة األكلى ،2004 ،ص .12
17
-4-2تعريؼ مرتضي مطيرم (تمميذ الفيمسكؼ الطبطبائي ،ينتمي إلى حكزة قـ ،قتؿ سنة " :)1980الكبلـ اإلسبلمي عمـ يبحث
فيو تحكؿ أصكؿ ديف اإلسبلـ عمى نحك يتبيف معو ما ىي المسائؿ التي تندرج في سياؽ أصكؿ الديف ،ككيؼ يتـ إثباتيا كبأم أدلة؛
1
كجكاب الشبيات كالشككؾ التي تثار حكليا".
ال يجب أف نستييف بإنجازات الدرس اإلستشراقي فيما يخص عمـ الكبلـ ،إذ يمكف التأكيد عمى كجكد مستشرقيف أعمـ بقضايا
الكبلـ اإلسبلمي مف الباحثيف المسمميف ذاتيـ .لكف الذم يميزىـ ىك النظرة التي ينطمقكف منيا ،عمى اعتبار أنيـ يعتقدكف بتخمؼ
العالـ اإلسبلمي الحالي كالقديـ ،كما أنيـ يطبقكف المناىج االجتماعية المستجدة بعيدا عف أم انتماء ديني أك شعكر بالمقدس .كىذا
بالضبط ما يج عؿ األكثرية مف المسمميف يتريبكف في دراساتيـ كنتائج بحكثيـ .سنركز ىنا عمى مستشرقيف تخصصا في عمـ الكبلـ.
-1-3ىارم كلفسكف:
البيالروسي Harry Austryn Wolfsonفيمسكؼ كمؤرخ متخصص في المرحمة األكسطية في ىارفرد ،عاش بيف 1887
ك ، 1974كيعتبر كتابو المخصص لفمسفة المتكمميف في اإلسبلـ (جزئيف) مف آخر ما كتب .يقارب مفيكـ عمـ الكبلـ اإلسبلمي
كامتداد لمسار تاريخي طكيؿ أيف تـ المزاكجة بيف الفمسفة كالدي ف .لذا يمكف اعتباره فمسفة دينية أك ديف فمسفي ،عمى أساس أف
المكضكع األساسي لعمـ الكبلـ ىك العقائد الدينية لكف المناىج المستعممة مناىج فمسفية تستند عمى منح الرأم الحر سمطة النظر.
كفي السياقات اإلسبلمية ،فإف النظرة إلى "الرأم" قد تغيرت كثي ار بيف تاريخ ظيكر الحديث كبعد ذلؾ .كقبؿ أف يسبغ "الرأم" بالشحنة
السمبية في المجاالت الفقيية كالكبلمية ،كاف يعني الرأم السديد .يقكؿ "حبلؽ"" :قبؿ ظيكر الحديث الذم يعبر عف تزايد أىمية السنة
النبكية ،كاف ينظر إلى الرأم نظرة إيجابية ،فمصطمح "رأم" كاف يستعمؿ لمداللة عمى الرأم السديد" 2.مثؿ ما تحممو كممة رأم مف
شحنات سمبية كثؿ ما تحممو كممة "ىيرزم" ( Hérésieاليرطقة أك االبتداع) مف شحنات سمبية متأخرة عمى المعنى اإلغريقي
3
ثـ أصبحت مع المسيحية تعني الكفر كالجحكد األصمي الذم يعني الخركج كاالجتياد في الرفض ،بؿ كانت تعني االختيار فقط.
كالخركج عف الديف القكيـ .كبالفعؿ ،فإف العديد مف المتكمميف قد كضعكا في خانة استبداد الرأم كاليرطقة .كالسبب ظاىر جدا في
ككف الديف يقتضي القبكؿ كالتبني كالتسقيؼ في حيف أف الفمسفة الدينية تقتضي الشؾ كالنقد كالبحث دكف نياية .كمف الجدير التأكيد
عمى أف التكفير لـ يكف مف جية الفقياء فقط ،بؿ أف المتكمميف كانكا يكفركف بعضيـ البعض أيضا.
1
شكيب بف بديرة الطبمبي :مدخؿ مناىجي إلى عمـ الكبلـ ،ص .67
2
كائؿ حبلؽ :نشأة الفقو اإلسبلمي كتطكره ،مرجع سابؽ ،ص .117
3
يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،ترجمة عبد المجيد الصغير ،نشر الفنؾ ،الدار البيضاء،2000 ،
ص .11
18
يعتقد إذف "كلفسكف" بأف "عمـ الكبلـ ىك حبكة التقاء بيف الكتاب المقدس Scriptureكالفمسفة" 1.كعندما يستخدـ عبارة "عمـ
الكبلـ" فإنو يقصد عمـ ا لكبلـ اإلسبلمي بالضبط .كىذا االعتقاد يندرج ضمف مكقؼ عاـ يعتبر أف عمـ الكبلـ اإلسبلمي كاف
محصمة دخكؿ الفمسفة اإلغريقية كالبلىكت السرياني لمعالـ اإلسبلمي ،لكف يجب أف نقتنع بأف ىذا مجرد مكقؼ قابؿ لمنظر مف
جديد .كما أنو يعتقد بأف ىناؾ استمرار قكم بيف كؿ الكتب المقدسة بداية مف التكراة كاألناجيؿ كالقرآف ،لذا يستعمؿ عبارة الكتاب
المقدس لمداللة عمى ما نسميو بالديانات اإلبراىيمية التي تأسست عمى مبدأ كاحد.
يكاصؿ "كلفسكف" في رصد المحطات الكبرل اللتقاء العقائد بالفمسفة كالتي أنتجت عمـ الكبلـ أك البلىكت (في العبارة
المسيحية) .حيث يرسـ المخطط التالي :تـ المقاء بيف الفمسفة كالكتاب المقدس ثبلثة مرات:
-1في االسكندرية برعاية فيمكف :معو انبثقت فمسفة جديدة غير مسبكقة :فمسفة كتابية Scriptural philosophy
2
-3عمـ الكبلـ (اإلسبلمي)".
ينتيي ىذا المستشرؽ إلى أف عمـ الكبلـ اإلسبلمي حمقة مف سمسمة تمتد إلى أعماؿ فيمكف اإلسكندرم ،التي يعتبرىا ميمة جدا
في تأسيس ما يمكف أف نسميو بالفمسفة الدينية ،أيف تـ كضع كؿ العقائد عمى محؾ الفيـ .كىذا ما فعمو الفبلسفة اإلغريؽ عمى كجو
بم سائمة العقائد الدينية الشعبية المتكارثة .كعند استعماؿ عبارة "فمسفة الديف" ،كعمى الرغـ مف ظيكرىا المتأخر
الدقة عندما قامكا ي
مقارنة بظيكر الميتافيزيقا أك البلىكت أك عمـ الكبلـ ،إال أنيا ،أم فمسفة الديف ،تدؿ عمى محاكلة فيـ جكىر الديف كالبحث التأممي
في ماىية العقائد الدينية الكبرل 3.كأف نبحث عف ماىية ا﵀ كماىية الصفات كماىية التصكر كالكجكد...الخ .كأساس كؿ ىذه
التأمبلت ىك التنقيب عف حقيقة تصكراتنا حكؿ المقدس كالمتعالي أك اإلليي ،حيث يجب االنتقاؿ مف التسميـ إلى الفيـ .ىذا الفيـ
ىك بالضبط ما حققو سبينك از عندما كشؼ حقيقة كؿ العقائد اإليمانية .لذا يمكف التأكيد بأف عمـ الكبلـ قد ابتدأ مع تفكير المقدس مع
فيمكف كانتيى مع سبينك از الذم أنتجت فمسفتو كضع ما بعد البلىكت أك ما بعد عمـ الكبلـ حيث أصبح الفكر الفمسفي يستعمؿ عبارة
"فمسفة الديف" .يقكؿ كلفسكف مختص ار الكضعية" :ينتمي عمـ الكبلـ إلى الفمسفة الكتابية ،Scriptural philosophyتمؾ الفمسفة
4
كربما يحؽ لنا التي ،بعد أف أسسيا فيمكف ،كاصمت ازدىارىا بأشكؿ مختمفة حتى ؽ 17عندما أجيضت عمى يد إسبينكزا".
التساؤؿ عف سبب التركيز عمى المحظة السبينكزية (تكفي سنة )1677؟ مف المفيد التنبيو إلى أك "كلفسكف" قد كتب مجمديف
1
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد الثاني ،ترجمة مصطفى لبيب عبد الغاني ،المركز القكمي لمترجمة،
القاىرة ،الطبعة الثانية ،2009 ،ص .895
2
المرجع نفسو ،الصفحة نفسيا.
3
فتحي المسكيني :اإليماف الحر أك ما بعد الممة -مباحث في فمسفة الديف ،مؤمنكف ببل حدكد لمدراسات كاألبحاث ،الرباط ،الطبعة
األكلى ،2018 ،ص .55-53
4
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد الثاني ،مرجع سابؽ ،ص .915
19
ضخميف عف فمسفة سبينك از The Philosophy of Spinozaسنة ،1934كىذا ما أىمو لمقبض عمى أىمية ىذه الفمسفة .كيمكف
اإلقرار أف كتاب سبينك از األساسي ( TTPرسالة الىكتية – سياسية) قد كشؼ عف تياكم كؿ األسس العقمية لمديانة الييكدية التي
ىي عماد ما يمكف أف نسميو بالمرحمة الكتابية المقدسة.
يعتبر فاف ايس Joseph Van Assأحد أكبر العمماء األكاديمييف المتبحريف في بدايات عمـ الكبلـ اإلسبلمي ،كقد كاف
الدكتكر "محمد أرككف" دائـ اإلشارة إلى أىمية دراساتو المكسكعية التي تقع في ستة أجزاء ،كما أنو اشتكى أكثر مف مرة مف عدـ
ترجمة عممو األساسي "عمـ الكبلـ كالمجتمع" إلى المغات اإلسبلمية الكبرل خاصة العربية كالفارسية كالتركية 1.كبالفعؿ ،فإف ترجمة
الجزء األكؿ منو لـ تتـ إال في سنة 2008كالجزء الثاني في سنة .2016كال زلت بقية األجزاء األخرل تنتظر الترجمة إلى العربية.
كقد قاؿ محمد الشرفي ،أحد كبار الحداثييف العرب ،كالذيف استطاعكا اعادة فتح بعض المشكبلت الكبلمية التقميدية بركح المناىج
الجديدة ،كىذا باعتراؼ بعض المستشرقيف أنفسيـ أمثاؿ الدكتكر دم بريمار )2006/1933( de Prémareفي كتابو الذم ترجـ
مؤخ ار تحت عنكاف 2.Aux origines du Coran- Questions d'hier, approches d'aujourd'hui.قاؿ الشرفي يمظي ار
المكانة العممية لو " :يكسؼ فاف ايس أكسع المعاصريف – المسمميف كغير المسمميف -إلماما بكؿ ما يتعمؽ ببدايات عمـ الكبلـ،
3
أعبلمو كمشاغميـ كميكليـ كمقاالتيـ ،كعبلقة كؿ ذلؾ بظركفيـ الشخصية كالعامة".
يقابؿ "فاف ايس" بيف البلىكت أك الثيكلكجيا في السياقات المسيحية كعمـ الكبلـ في السياقات اإلسبلمية ،عمى أساس أف التسمية
اإلسبلمية ليا خصكصيات عقدية كمكضكعاتية كتاريخية .كبالعمكـ فإف عمـ الكبلـ بحث في الذات اإلليية ،مما يجعمو ذك طابع
نظرم خالص .لكنو يعتقد بأف التأمؿ المجرد ال ينفصؿ عف الكضعية االجتماعية لممتكمميف ،كىنا يكمف جكىر أطركحتو المجسدة في
الكتاب المكسكعي "ع مـ الكبلـ كالمجتمع" .فالكضعية االجتماعية كعبلقة المتكمميف بالسمطة قد حدد العديد مف األطركحات الكبلمية.
كىذا ما فصمو في كتاب بدايات الفكر اإلسبلمي .كما أ ف الكبلـ ليس حديث عف أمكر الديف فقط ،بؿ عف أمكر الديف كالدنيا ،مما
يجعمو في عبلقة مباشرة مع الكاقع ككؿ م ا يحمو مف اضطرابات كصراعات مختمفة .كبالفعؿ ،فإف العديد مف المسائؿ الكبلمية قد
نجمت عف أحداث تاريخية فعمية ارتبطت بق اررات فردية أك جمعية ،مما يجعؿ التفكير الكبلمي نتيجة حتمية لسيركرة األحداث
السياسية .كىذا بالضبط ما كاف يركمو مف كتابو عمـ الكبلـ كالمجتمع .أم أف األبحاث الكبلمية ليست مجرد تفكير في العقائد
1
الساقي ،بيركت،
األصكلي كاستحالة التأصيؿ – تحك تاريخ آخر لمفكر اإلسبلمي ،ترجمة ىاشـ صالح ،دار ٌ
ٌ محمد أرككف :الفكر
ٌ
الطبعة األكلى ،1999 ،ص .34-33
2
ألفريد –لكيس دم بريمار :في أصكؿ القرآف -مسائؿ األمس كمقاربات اليكـ ،مرجع سابؽ ،ص .24يقكؿ في حقو :يبدك أف
األستاذ الجامعي التكنسي عبد المجيد الشرفي (كلد سنة )1942ىك األكثر منيجية (مف بيف الباحثيف المسمميف الحالييف) في ىذه
المحاكلة إلعادة تقييـ معمقة في منظكر "تحديث الفكر اإلسبلمي".
3
القكؿ كارد في :يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،ترجمة عبد المجيد الصغير ،نشر الفنؾ ،الدار
البيضاء ،2000 ،ص .5
21
بمعزؿ عف المجتمع كما يفرزه مف ظكاىر كمستجدات .كارتباط المتكمميف بكظائؼ حككمية يؤثر بالتأكيد عمى اآلراء ،عمى خبلؼ
آراء المتكمميف التجار مثبل ،كالذيف ال تربطيـ عقكد كظيفية تؤثر في مكاقفيـ الفكرية 1.ىذا جانب ،كما أف ارتباط عمـ الكبلـ
بالمجتمع في أشكالو المتعددة ،سكاء السمطكية أك الكظيفية ،ىك الذم حرر ىذا العمـ مف صفتو الكينكتية .يقكؿ فاف ايس" :لـ يكف
عمماء الكبلـ يشكمكف كينكتا؛ فقد كانكا جميعا مف ذكم الميف الدنيكية كالعادية .كىك نفس األمر الذم يبلحظ بالنسبة إلى الفقياء
( )...كلف تبدأ تمؾ االزدكاجية القائمة عمى التمييز بيف العمماء كالكبلـ في التبمكر إال بعد زمف المحنة" 2.كتفيـ دنيكية الفقياء
كالمتكمميف في السياقات اإلسبلمية مقارنة بالكضعية التي تجدىا في السياقات المسيحية ،حيث أف رجاؿ الديف منفصميف كمية عف ما
ىك اجتماعي كسياسي ،إذ أف كممة clericiالبلتينية و Kleroiاإلغريقية ،كالمتاف تدالف عمى مفيكـ رجاؿ الديف ،تعني الذيف
3
اختاركا كميا ،أك قؿ كقفكا (مف الكقؼ) مصيرىـ عمى ا﵀ ،بخبلؼ البقية الذيف ىـ الشعب Populusالمنخرطيف في الحياة العادية.
لذا فرجؿ الديف في السياقات المسيحية يعيش عمى ىامش الحياة الدنيكية كفي جكىر الحياة الدينية .كىذا ما ال نجده في بدايات
الحضارة اإلسبلمية ،حيث لـ ينفصؿ المكقؼ الديني عف معترؾ الحياة بعامة ،خاصة الحياة السياسية.
لطالما طرح سؤاؿ سبب ىذه التسمية التي ال تبدك أنيا شفافة أك مألكفة .فكيؼ يككف لمكبلـ عمـ ؟ يبدك لمكىمة األكلى أنو عمـ
مرتبط بالمغة ألف الكبلـ بما ىك القكؿ الذم يمتمؾ معنى ظاىر كمحدد مبحث مف مباحث عمكـ المساف .إذ أف الكبلـ ،عمى خبلؼ
الصكت ،يطمؽ عمى أم قكؿ لو معنى 4.لكف األكيد ،ككفؽ ما تـ تحميمو أعبله ،فإف األمر ال يتعمؽ بعمكـ المغة ،بؿ بعمـ أعمؽ كأشد
شمكلية منو .عمى الرغـ مف أف لعمـ المغة أكبر األثر في فيـ الكثير مف المشكبلت الكبلمية ،بخاصة بعد استقبلؿ عمـ المغة كعمـ لو
معاييره كقكاعده .كلئف كانت كؿ تجربة انسانية خالصة أك انسانية مقدسة ،تمر عبر الكسيط المغكم ،فإف لعمكـ المغة ،سكاء الفقيية
أك الكضعية ،أكبر األىمية في فيـ ىذه التجارب .ال نقصد إذف بعمـ الكبلـ ما يمكف أف تتضمنو عمكـ المغة مثؿ النحك أك الصرؼ
أك الببلغة...الخ ،إنما نتحدث ىنا عف عمـ يرتبط بالعقائد التي ال تنفصؿ عف الكبلـ .لكف ليس أم كبلـ .إذ أف "عمـ الكبلـ" الذم
يذكر دكما بالتعريؼ ،يدؿ عمى التركيز عمى كبلـ محدد دكف غيره .ما ىك ىذا الكبلـ ؟ 5األكيد أنو الكبلـ المقدس .كقد أشرنا سابقا
إلى أف كبلـ ا﵀ ىك القرآف ،لكف يمكف أيضا ،حسب البعض ،ضمف كبلـ الرسكؿ (ص) إلى الكبلـ المقدس ،عمى الرغـ مف أنو
ليس كبلـ إليي خالص .فاألحاديث القدسية تقكـ عمى االعتقاد بأف المعنى إليي كالمفظ بشرم مف عند الرسكؿ .ىنا نبلحظ تراتبية
دقيقة بيف الكبلـ المقدس كىك عاـ ،كالقرآف كجزء مف ىذا الكبلـ المقدس ،كالحديث النبكم ككبلـ ال ينفصؿ كمية عف القدسي.
تقدـ العديد مف الميتميف بالمسألة الكبلمية تأريخا كشرحا كجدال ،قديما كحديثا ،بالعديد مف الفرضيات التي تفسر سبب التسمية.
كمقاربة مشكمة نشأة المصطمح ،مثؿ مفيكمو ،يمكف أف نتناكليا عند القدامى كالمعاصريف كالمستشرقيف .كمف المفيد التذكير ،بأف
21
لعمـ الكبلـ تسم يات أخرل رديفة لو كتؤدم المعنى القريب أك البعيد ،الظاىر أك العميؽ ،منيا مبلحظة "التيانكم" القائمة بأف عمـ
الكبلـ يسمى أيضا بػ "أصول الدين ،كسماه أبك حنيفة المتكفي 150ق بالفقو األكبر ،كيسمى بػ "عمم النظر واالستدالل" أيضا،
كيسمى "بعمم التوحيد والصفات" 1.كلكؿ ىذه التسميات مبررة مف حيث أف الكبلـ ييتـ بأصكؿ الديف ال فركعو ،كبالتالي فإف
االختبلؼ فيو أعقد كأكثر خط ار مف االختبلؼ في فركع الديف .كما أنو يمثؿ الفقو األكبر مقارنة بفقو الفقياء المرتبط بالعمؿ الذم
يمكف اعتباره فقيا أصغ ار أك قؿ ثانكيا مقارنة بأساسية كمركزية مسألة العقائد .كالرسكؿ الكريـ قد بدأ الدعكة بالعقيدة الرئيسية ال
الشرائع الجزئية أ ك قؿ الثانكية ،ألف ال فائدة مف العمؿ الديني إذا لـ تترسخ العقيدة الدينية .كمف المنظكر المنيجي ،يعتبر عمـ الكبلـ
نظ ار عقميا كاستدالال منطقيا ،ألنو يقكـ عمى رد الشبيات كىذا ال يككف إال بالقاسـ المشترؾ بيف الناس جميعا كىك العقؿ الطبيعي
السابؽ عمى التمقينات الثقافية .كالتسمية األخيرة ،أم عمـ التكحيد كالصفات ،مبرر مف جية أف مكضكع الكبلـ ىك اثبات كحدانية
ا﵀ ،كالمعتزلة ذاتيا تسمى بأىؿ التكحيد .كالتكحيد ال يككف إال بمعرفة مشكمة الصفات ،كالتمييز بيف صفات الذات كصفات األفعاؿ.
بؿ أف الشرؾ ىك نتيجة لمخمط في مسألة صفات ا﵀ تعالى .كما أف "التيانكم" يضيؼ تسميات أخرل مثؿ" :عمـ الشرائع كاألحكاـ"
ك"عمـ الذات كالصفات" ،كسمي أيضا بعمـ العقائد اإلسبلمية" 2.كىناؾ مف يستعمؿ لفظة "اإللييات" لمتعبير عف عمـ الكبلـ ،عمى
3
أساس أنو يبحث في مكضكع األلكىية سكءا في جانب الكبلـ أك الصفات أك األفعاؿ...الخ.
كمف أىـ األسباب أدت إلى ظيكر كانتشار عبارة "عمـ الكبلـ" نجد ما يمي:
ىناؾ تفسير يربط التسمية بعناكيف المسائؿ المطركحة ،إذا أف األبحاث الكبلمية ،في العمكـ ،تبدأ بعبارة "الكبلـ في كذا".
4
لذا صارت ىذه العناكيف سببا في انتشار تسمية عمـ الكبلـ.
سمي عمـ الكبلـ بيذا االسـ ألنو يكرث قدرة الكبلـ كقكتو ضد الخصكـ .فالمتكمـ ىك المفكه كصاحب الحجة القكية.
المسألة التي أثارت الخبلؼ بيف العمماء ىي كبلـ ا﵀ (أم القرآف) لذا اعتبر الكبلـ أىـ مسألة عقدية ،كسمى العمـ عمى
1
ىذا األساس .ك"ألف أكؿ خبلؼ كقع في الديف كاف في الكبلـ ا﵀ ،أمخمكؽ ىك أـ قديـ ،فتكمـ الناس فيو".
1
محمد عمي التيانكم :مكسكعة كشاؼ اصطبلحات العمكـ كالفنكف ، ،ج ،2مكتبة لبناف ناشركف ،بيركت ،الطبعة األكلى،1996 ،
ص .1231أيضا :مصطفى عبد الرازؽ :تمييد لتاريخ الفمسفة اإلسبلمية ،مرجع سابؽ ،ص .385كيقدـ بدكم تحميؿ معمؽ ليذه
التسميات ،يمكف العكدة لػ :عبد الرحمف بدكم :مذاىب اإلسبلمييف ،ج( 1المعتزلة ،األشاعرة ،اإلسماعيمية ،القرامطة ،النصيرية)،
دار العمـ لممبلييف ،بيركت ،1997 ،ص 10كما تبلىا.
2محمد صالح محمد السيد :أصالة عمـ الكبلـ ،دار الثقافة كالنشر كالتكزيع ،القاىرة ،1987 ،ص .16
3
عمي الرباني الكمبايكاني :ما ىك عمـ الكبلـ ؟ مؤسسة بكستاف كتاب ،قـ ،الطبعة الثانية ،ص .17
4
أحمد محمكد صبحي :في عمـ الكبلـ ،الجزء األكؿ :المعتزلة ،دار النيضة العربية ،الطبعة الخامسة ،1985 ،ص .19أيضا:
عمي الرباني الكمبايكاني :ما ىك عمـ الكبلـ ؟ مرجع سابؽ ،ص 18كما تبلىا.
22
سمي بعمـ الكبلـ ألنو ال ينطكم عمى أم عمؿ ،أم ىك كبلـ صرؼ ،كحسب ابف خمدكف ،فإف ىذا العمـ ال يحيؿ إلى أم
عمؿ .كبيذا فإف المقابمة كاضحة بيف الفقو كالكبلـ .لذا فإف ذـ الكبلـ الصرؼ كاعتباره سقطا ،يدخؿ في سياؽ مقارنو مع
الفقو باعتباره عمما نافعا في األعماؿ .كما يمكف مقابمتو بالتصكؼ عمى أساس أنو أحكاؿ ال أقكاؿ كما يقكؿ الغزالي .ألنو
2
لذا فإف عممية الفقو كالتصكؼ ىي التي تجعميما في أساس التصكؼ ىك العككؼ عمى العبادة كاالنقطاع إلى ا﵀ تعالى.
مقابمة الكبلـ المحض.
أما التفسير األكثر تفصيبل كعمقا لتسمية عمـ الكبلـ باسمو ،فيك ما قالو الشيرستاني في الممؿ كاإليجي في المكاقؼ .كىي
النظرة القائمة عمى التقارب بيف المنطؽ كالكبلـ عمى أساس أف النطؽ ىك كبلـ كالكبلـ نطؽ .أف ىذا المكقؼ مؤسس عمى
المقابمة بالفبلسفة" .ربما يقاؿ :إف عمماء العقائد إنما سمكا عمميـ باسـ "الكبلـ" لمقابمة الفبلسفة ،إذ كانكا يصدركف أبحاثيـ
الفمسفية بالمسائؿ المنطقية ،كالمنطؽ مرداؼ لمكبلـ ،فأردا عمماء العقائد أف يستغمكا في أبحاثيـ عف المنطؽ ،الذم جاء مف
اليكناف ،مقترنا بكركد الفمسفة إلى العالـ اإلسبلمي ،فسمكا عمميـ بالكبلـ لذلؾ .يقكؿ الشيرستاني :كاما لمقابمتيـ الفبلسفة ،في
3
لكف الكمبايكاني كغيره ردكا عمى الشيرستاني الذم ربط تسميتيـ فنا مف فنكف عمميـ بالمنطؽ ،المنطؽ كالكبلـ مترادفاف".
ظيكر عمـ الكبلـ بحركة الترجمة ،مف خبلؿ اثبات أف مصطمح الكبلـ قد كجد في القرف اليجرم األكؿ .عمى عكس قكؿ
4
الشيرستاني بأنو ارتبط بحركة المأمكف الثقافية .كما أف المنطؽ ليس مقدمة لمفمسفة فقط بؿ لجميع العمكـ.
بالنسبة لمشيخ مصطفى عبد الرازؽ ،كاستنادا إلى مصادر تراثية ،فإف سبب التسمية تعكد إلى ككف "الكبلـ ضد السككت،
كالمتكممكف كانكا يقكلكف حيث ينبغي الصمت اقتداء بالصحابة كالتابعيف الذيف سكتكا عف المسائؿ االعتقادية .يقاؿ فبلف
5
كلك أننا ال نعتقد بأف الرسكؿ الكريـ قكاؿ ال فعاؿ .كالمتكممكف يقكلكف في أمكر ليس تحتيا عمؿ بخبلؼ الفقياء". ٌ
كالصحابة قد سكتكا عف العقائد اإليمانية ،إال أف ما آؿ إليو عمـ الكبلـ الفمسفي ،في مراحمو المتأخرة ،قد يجعمنا نتقبؿ ىذا
1
محمد صالح محمد السيد :أصالة عمـ الكبلـ ،ص .17
2
ابف خمدكف :المقدمة ،مرجع سابؽ ،ص .432أيضا :الغزالي :المنقذ مف الضبلؿ ،مرجع سابؽ ،ص .132يقكؿ عف التصكؼ:
"أخص خكاصيـ ما ال يمكف الكصكؿ إليو بالتعمـ بؿ بالذكؽ كالحاؿ كتبدؿ الصفات".
3
عمي الرباني الكمبايكاني :ما ىك عمـ الكبلـ ؟ مرجع سابؽ ،ص .18أيضا :شكيب بف بديرة الطبمبي :مدخؿ مناىجي إلى عمـ
الكبلـ ،مرجع سابؽ ،ص .28
4
يقكؿ "عمي الرباني الكمبايكاني" مستندا عمى نص سابؽ عمى المأمكف بأكثر مف قرف :جاء نصراني إلى ىشاـ بف الحكـ (تكفي 179ىػ
كىك تمميذ اإلماـ الصادؽ في الكبلـ) ليناظره حكؿ اإلسبلـ كالمسيحية ،فقاؿ لو :ما بقي مف المسمميف أحد ممف يذكر بالعمـ كالكبلـ
إال كقد ناظرتو في النصرانية ،فما عندىـ شيء ،كقد جئت أناظرؾ في اإلسبلـ .ىذا يدؿ عمى خطأ رأم الشيرستاني الذم يقكؿ
بظيكره أياـ المأمكف (تكفي .)218مع أف اإلماـ الصادؽ عميو السبلـ استشيد 148ىػ كقد عرفت أف مصطمح الكبلـ كاف
كمعركفا في عصره( .النصؼ 1مف القرف 1اليجرم) .المرجع نفسو ،ص .21
5
مصطفى عبد الرازؽ :تمييد لتاريخ الفمسفة اإلسبلمية ،مرجع سابؽ ،ص .390
23
التفسير .إذ بمغ بعض المتكمميف مرتبة مف الحديث في العقائد يخرج العامة مف اإليماف السميـ كالطبيعي .لذا فقد الحظ
الغزالي في رسالة اإللجاـ بأف السمؼ سكتكا عف الكبلـ 1،ليس عجزا ،بؿ درء لمفتف كانحراؼ العامة غير المتخصصيف في
العقائد.
قدـ "شكيب بف بديرة الطبمبي" تفسير يعتمد عمى المقاربة الطبيعية أك قؿ العرفية لمصطمح "الكبلـ" .فمك "سألت أم إنساف
ماذا يعني عمـ الكبلـ ؟ لقاؿ ىك العمـ بما كاف قكيا كصحيحا مف القكؿ ( )...ىذه النظرة منسجمة مع التعريؼ القرآني لعمـ
الكبلـ :العمـ اليادؼ إلى تمييز أحسف القكؿ ([ )...كىذا ما قاؿ بو الفتازاني] :ألنو لقكة أدلتو صار كأنو الكبلـ دكف
سكاه ،كما يقاؿ لؤلقكل مف الكبلميف :ىذا ىك الكبلـ( .الكبلـ األقكل /االستدالؿ األقكل :بالقرآف ،بالحديث ،بالسيرة ،بالعقؿ
مجردا...الخ)" 2.لذا فمدلكؿ الكبلـ ىك الكبلـ الحقيقي المؤسس عمى أدلة ال ترد ،ككأف ىناؾ كبلـ ضعيؼ ككبلـ قكم،
كالكبلـ الحقيقي ىك الثاني الذم يؤسس قكتو مف مصادره التي ال ترد.
بالنسبة لممنيج اإلستشراقي ،ممثبل في يكسؼ فاف ايس ،فإنو بحث مدلكؿ الكبلـ مف خبلؿ السؤاؿ األصمي التالي" :كيؼ نشأت
تسمية المتكمميف كما المقصكد بيا بالضبط ؟" 3.كلك أف الكشؼ عف األصؿ مسألة متعذرة تماما ،فإف تعقب الكثائؽ التاريخية يمكف
أف ي كشؼ عف البدايات التقريبية لظيكره كمدلكؿ استعمالو .كقد أشار العديد مف مؤرخي عمـ الكبلـ ،مثمما أشرنا منذ حيف ،إلى أف
الكممة كانت معركفة في النصؼ األكؿ مف القرف اليجرم األكؿ كليس كما اعتقد الشيرستاني عندما ربطيا بالمأمكف في منتصؼ
القرف الثالث .يجيب فاف ايس قائبل" :حيف أراد أبك مسمـ أف يستقر في مارؼ أرسؿ متكمميف إلى المدينة ليكضحكا لمسكاف بفنيـ
الديالكتيكي أنو "كاف يتبع السنة كيعمؿ بالحؽ" .استنتج يانيس مف ىذا المكضع كانكا يكمذاؾ :مؤسسة سياسية كاجتماعية في
اإلسبلـ" ( )...يساكم يانيس نفسو بيف المتكمميف كالدعاة" 4.كالظاىر أف مدلكؿ المتكمـ كاف مرتبطا باإلقناع عف طريؽ القكة الجدلية،
مف أجؿ تحقيؽ مصالح ما .لذا ،فإف أكثر الناس مناسبة ليذه الميمة ىـ المفكىكف المتمرسكف في الخطابة كالشعر كالببلغة .لذا
فالمتكمـ ىك ذاتو المتحدث كالحكيـ الذم زكد بممكات التأثير كالتقرير" .المتكمـ ىك في البدء "متحدث" فقط ( )...المتكمـ بمعنى
"متحدث لو كظيفة معينة" أك تكمـ بمعنى "ظير كمتحدث .يمكف تكثيقو مبكرا .المتكمـ ىك المتحدث باسـ كفد أك جماعة ( )...مف
المنطقي أف ينتخب ليذا الدكر خطيب أك شاعر ،ربما أيضا حكيـ أك قاض" 5.كامتبلؾ ىذه القدرات ىك ما يجعؿ الكبلـ فف يكىب
لمبعض دكف البعض .كقد ساد االعتقاد عند البعض بأف الكبلـ ىك ما يقابؿ العمـ ،بحيث أف المتكمـ ليس بالضركرة عالما كفقييا،
1
الغزالي :إلجاـ العكاـ عف عمـ الكبلـ ،ضمف مجمكعة رسائؿ اإلماـ الغزالي ،تنقيح كتصحيح ابراىيـ أميف محمد ،المكتبة التكفيقية،
القاىرة ،د س ،ص .350
2
شكيب بف بديرة الطبمبي :مدخؿ مناىجي إلى عمـ الكبلـ ،مرجع سابؽ ،ص .40-39
3
جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .82
4
المرجع نفسو ،نفس الصفحة.
5
المرجع نفسو ،ص .84-83
24
بقدر ما يمتمؾ قدرة المساف فحسب .كىناؾ مف تحدث بيذا المنطؽ في فاتحة السنة اليجرية األكلى ،مشي ار إلى كثيرة الكبلـ كقمة
الفقو .كحتى بالنسبة لمجاحظ ،فقد فإف الكبلـ مرتبط بالنجاح الببلطي 1.كحسب دم بكر ،الذم قدـ تاريخا لمفمسفة اإلسبلمية ،فإف
الكبلـ في عيد المأمكف ،كاف يعني المناظرة كالمجادلة ،كليس ىذا بغريب ،حيث أف المناظرة تمثؿ النمكذج األصيؿ لمتفكير كالقرار
المعرفي في السياقات اإلسبلمية .كقد ظير لو أف أحسف عبارة تدؿ بيا عمى عمـ الكبلـ ىي عبارة الجدؿ في المسائؿ العقائدية
theologische Dialektikأك حتى الجدؿ فحسب .كبعد تقكية المذاىب الكبلمية السنية ضد المعتزلة التي اعتبركىا منحرفة،
2
أم أصحاب العقائد المقبكلة سمفا .كبالفعؿ ،فإف أصبح باإلمكاف ،حسب دم بكر دكما ،تسميتيـ بالمدرسييف .Scholastiker
مذىب األشاعرة مثبل لـ يكف يعتقد بأنو مبتدع طريؽ جديد ،بؿ ىك عكدة لمطريؽ القكيـ ،طريؽ أىؿ السنة كالجماعة.
استنتاج.
مف كؿ ىذه التحميبلت ،يمكف أف نصؿ إلى أف ظيكر عمـ الكبلـ كاف مسا ار طبيعيا لنمك كتطكر الحياة العقدية كالفكرية لمعالـ
اإلسبلمي .كالتساؤؿ عف العقائد كالبحث فييا كاف أم ار ضركريا .لذا ال يمكف أف نكافؽ مصطفى عبد الرازؽ في تقريره بأف "العرب لـ
3
عمى اعتبار أف الرسكؿ الكريـ بدأ تككف تسأؿ الرسكؿ عف معنى شيء عقدم ،كانكا يسألكنو عف أمر الصبلة كالزكاة...الخ".
الحديث في العقيدة قبؿ الشريعة ،بؿ أنو في حياتو بالذات تـ أشكمة العديد مف المسائؿ العقدية .لكف صكت االختبلؼ كاف خافتا
أماـ السمطة الركحية لمرسكؿ ،كما أف ح اررة العقيدة الجديدة أسكتت صكت العقؿ البحاث كالنقدم.
ينتمي عمـ الكبلـ إلى العمكـ الدينية ،كمجمؿ ما طرح فيو لـ ينفصؿ كمية عف ما يسمى بعمكـ القرآف ،ألف البحث في أسباب
النزكؿ كالناسخ كالمنسكخ كترتيب السكر...الخ ىي مف المكاضيع التي يستند عمييا التأكيؿ الكبلمي .كألف عمـ الكبلـ مؤسس عمى
المجادلة بالبراىيف كاألدلة ،لكي يككف كبلما حقيقيا ،فإنو قد قارب الفمسفة العقمية أكثر مما يعتمد عمى المصادر الدينية الخالصة،
بخاصة بعد حركة الترجمة كاالطبلع عمى المكركث الفمسفي كالمنطقي اإلغريقي .كفي بعض مناىج الدراسة في سكريا مثبل ،بشيادة
شكيب بف بديرة الذم اشتغؿ في التدريس ىناؾ ،فإف عمـ الكبلـ يطمؽ عميو الفمسفة العربية 4.كىذا ما يصبغ ىذا العمـ بالصبغة
العقبلنية المقركنة بالرأم كالتفكير بمعزؿ عف سمطة السائد أكالقديـ.
كالتقسيـ الذم نجده عند التيانكم ،بيف عمـ الكبلـ الدكغماطيقي كعمـ الكبلـ العقبلني le Kalam dogmatique ou
5.rationnelleقد يتطابؽ مع التقسيـ الذم قدمو "دم بكر" بيف الكبلـ الحر كالكبلـ السني ،عمى أساس أف ىذا األخير كاف رد فعؿ
1
المرجع نفسو ،ص .85نجد اشارة الرتباط الكبلـ بالخطابة عند:
Henri corbin: histoire de la philosophie islamique, édition Gallimard, Paris, 1964, 152.
2
دم بكر :تاريخ الفمسفة في اإلسبلـ ،ترجمة محمد عبد اليادم أبكريدة ،دار النيضة العربية ،بيركت ،1954 ،ص .85
3مصطفى عبد الرازؽ :تمييد لتاريخ الفمسفة اإلسبلمية ،مرجع سابؽ ،ص .397
4
شكيب بف بديرة الطبمبي :مدخؿ مناىجي إلى عمـ الكبلـ ،مرجع سابؽ ،ص ص .28-24أيضا :محمد عمي التيانكم :مكسكعة
كشاؼ اصطبلحات العمكـ كالفنكف ،ج ،2مرجع سابؽ ،ص .1231
5
محمد عمي التيانكم :مكسكعة كشاؼ اصطبلحات العمكـ كالفنكف ،ج ،2مرجع سابؽ ،ص .1230
25
فعؿ لئلفراط في العقبلنية كالفمسفية ،كدعكة إلعادة الكبلـ إلى الحقؿ الديني حيث يجب أف يمتزـ بالعقائد كاألصكؿ اإلسبلمية .لذا
نجد فرؽ كاضح ،في عمـ الكبلـ ،بيف األصكلييف كأصحاب العقكؿ النقدية 1.كىك الفرؽ الذم يصنع الفرؽ الكبلمية التي اختمفت
لدرجة يصعب تكحيدىا .لكف المنظكر إلى االختبلؼ ذاتو يختمؼ مف فمسفة إلى أخرل ،فينالؾ فمسفات تقكـ بتأثيـ االختبلؼ
كتقديس الكحدة كفمسفات أخرل تقكـ عمى تطبيع االختبلؼ باعتباره داللة عمى حرية العقؿ البشرم.
1
جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .35
26
المحاضرة الثانية :منيج عمم الكالم.
تمييد.
تتحدد خصكصيات المنيج بالنظر إلى مكضكع الدراسة ،كليس العكس .مما يعني أف التحديد الكاعي لمنيج عمـ الكبلـ سيظير
متأخ ار عف الكبلـ نفسو .كلئف انتيينا إلى أف عمـ الكبلـ مف العمكـ الدينية اإلسبلمية حيث يرتبط بعمـ العقائد تقكية كدفاعا .فإف
مشكمة منيجية الدفاع عف العقائد كالرد عمى المخالفيف ،سكاء في الداخؿ العقائدم اإلسبلمي أك مع الخارج كمية عف ممة اإلسبلـ،
تتحدد بطبيعة المحاكر ذاتو .كىذا ما يفترض تنكيع المناىج كتكثيرىا مف أجؿ االستجابة لتنكع المحاكريف كاختبلؼ المشكبلت
المطركحة مف طرفيـ .كما أنو يفترض أف مناىج عمـ الكبلـ لف تبقى ىي ىي عمى مر العصكر ،بؿ ستعرؼ تطك ار كنمكا يتبلءـ مع
ركح األزماف .فبل يعقؿ أف يتـ الدفاع عف عقائد اإلسبلـ ،في القرف الكاحد كالعشركف ،بنفس المناىج التي كاف يستخدميا معتزلة
القرف الرابع لميجرة مثبل اك حتى األشاعرة.
كما يمكف أف نبلحظ أ ف مناىج عمـ الكبلـ ال تنفصؿ عف النمك المنيجي في العمكـ األخرل .فيذا العمـ الذم كاف يستعمؿ
المناىج العقمية البسيطة كطرح الجدؿ كما ىي في القرآف الكريـ ،لـ يبؽ عمى ذلؾ بعد حركة الترجمة في بداية القرف الثالث لميجرة
في عيدة المأمكف مثبل .فبعد ترجمة عمكـ المنطؽ كالعمكـ الفمسفية ،اغتنت المناج الكبلمية بما حصمتو المغة العربية مف نصكص
جديدة .كسينجز المتكمميف بطرقيـ الخاصة عممية أقممة منيجية تتبلئـ كخصكصيات عمـ الكبلـ .كىنا بالضبط يتحكؿ الكبلـ إلى
عمـ متخصص ال ييضمو العامة مف الناس ،نظ ار لعمك مستكل المناىج المستخدمة ،كاستعماؿ ألفاظ تقنية ليست في المتناكؿ.
كسنرل الحقا ،بأف المكقؼ مف عمـ الكبلـ يتحدد مف المكقؼ مف مناىجو باألساس.
بالنسبة لمشكبلت المحاضرة التالية تحت عنكاف "مناىج عمـ الكبلـ" ،فيي كالتالي ،عمى أنو قد تظير مشكبلت في ثنايا التحميؿ
دكف تخطيط مسبؽ مما يدفعنا إلى طرحيا كمقاربتيا في مكضعيا البلزـ:
-ىؿ يمكف الحديث عف منيجية عمـ الكبلـ أصيمة كمثبتة في المكرث العربي السابؽ عمى اإلسبلـ ؟ نقكؿ ىذا ،ألننا نفترض
أف ظيكر اإلسبلـ لـ يحدث القطيعة الكمية مع العديد مف العادات الفكرية كالمغة المستعممة كحتى مع بعض الشعائر
الدينية .ىؿ الجدؿ الذم حصؿ بيف الرسكؿ الكريـ كالمشركيف في مكة يمكف أف يككف الجذر األكؿ لعمـ الكبلـ ؟
-كيؼ يمكف لنا أف نستخمص منيج عمـ الكبلـ مف القرآف الكريـ ؟ كىؿ فعبل أف القرآف قدـ مناىج خاصة بيذا العمـ؟ أـ أنو
تـ استخبلصيا فقط كفؽ االجتياد الذم استعمؿ لتأصؿ ىذا العمـ ؟ نسأؿ ىذا السؤاؿ عمى أساس أف اليجمة الشرسة عمى
عمـ الكبلـ ،كما سنبينو في المحاضرة الرابعة ،تطمب البحث في القرآف عما قد يككف اشارة كلك غير صريحة ،عمى ضركرة
التكمـ في المسائؿ العقدية ،كعف تكفر مناىج الكبلـ في القرآف ذاتو .لذا فإف التأصيؿ المنيجي القرآني لطرؽ عؿ الكبلـ
يأتي في سياؽ الدفاع عف العمـ ضد منتقديو.
ىؿ الفصؿ بيف المناىج النقمية كالمناىج العقمية ال زاؿ مبر ار حتى اليكـ ؟ ىذا ،عمى اعتبار أف العديد مف كتب عمـ -
انحرؼ دخؿ الممة اإلسبلمية مما قد
ا الكبلـ ،تقسـ منيجية عمـ الكبلـ إلى قسميف ،عمى أساس اختبلؼ المنحرفيف .فيناؾ
27
يقت ضي استعماؿ حجج نقمية ،لكف ىناؾ منحرفيف ،كاألصؿ أف نسمييـ مخالفيف في العقائد كمية ،مما يستمزـ استعماؿ
مناىج تتفؽ فييا كؿ العقكؿ .نطرح ىذا السؤاؿ عمى أساس أف الدراسات األصكلية الحالية تمغي ىذا التقسيـ التقميدم بيف
العقؿ كالنق ؿ ،ألنو فصؿ يسيئ إلى معقكلية النقؿ كمنقكلية العقؿ .إذ نجد تكجو طو عبد الرحمف ،كالذم استميمو مف
النصكص التراثية ،منصب عمى تكحيد النقمي مع العقمي في ركح كاحدة .كسنرل بأف ىذا المجيكد مكجو لتأكيد أصالة
المنطؽ الديني مقارنة بالمنطؽ العقمي المختمس .يقكؿ طو في ىذا السياؽ" :المسممة الباطمة أف العقؿ كاإليماف أمراف
متناقضاف .كأف المؤمف ال عقؿ لو كالعقؿ ال ايماف لو ( )...العقؿ ال يككف إال مؤمنا ،بدءا باإليماف بالفعؿ العقمي نفسو،
كانتياء بإمكاف االستدالؿ بالحقيقة اإليمانية عمى الحقيقة العقمية ( )...اإليماف ال يككف إال عاقبل ،بدءا بعقؿ الفعؿ
االيماني نفسو ،كانتياء بإمكاف أخذ الحقيقة اإليمانية مف الحقيقة العقمية" 1.لذا فالفصؿ بيف المناىج النقمية كالمناىج العقمية
في عمـ الكبلـ ال يخدـ إطبلقا النقؿ أك الديف ،فقد يككف مصدره البل دينييف ذاتيـ.
-كمف أجؿ تحييف المشكبلت التقميدية بما يجعميا أكثر قربا مف ركح العصر نسأؿ؛ ىؿ يمكف أف نعتبر ما يسمى بػ
"اإلعجاز العممي لمقرآف الكريـ كالسنة النبكية" مناىجا كبلمية معاصرة ؟
ىناؾ بعض تعريفات عمـ الكبلـ ،إف لـ نقؿ معظميا ،تكحي بخصكصيات المنيج المتبع فيو .فعندما يقكؿ التكحيدم مثبل بأف
" عمم الكالم فإنو باب من االعتبار في أصول الدين يدور النظر فيو عمى محض العقل في التحسين والتقبيح "...فمف الظاىر أنو
يشير إلى المنيج القائـ عمى محض العقؿ .كفي ىذا تكجو أك خيار منيجي محدد كمدركس .أك عندما يقكؿ الغزالي" :فأنشأ اهلل
تعالى طائفة المتكممين وحرك دواعييم لنصرة السنة بكالم مرتب ،"...فيذا يدؿ عمى المنيج الكبلمي القائـ عمى المقدمات المنطقية
المدركسة التي تستمزـ لزكـ النكاتج عف المكاضعات .كحتى في تسميات عمـ الكبلـ األخرل ،نجد أيضا أنيا تستبطف منيجو .كىذا
ظاىر في تقرير التيانكم عندما ذكر التسمية الشارحة لعمـ الكبلـ كىك أنو عمم النظر واالستدالل .فيذا تعريؼ لو مف خبلؿ منيجو.
أم أنو عمـ لمنظر كالنظر ىنا يحيؿ إلى التفكير العقمي كالتأمؿ المجرد عمى شاكمة الفبلسفة .كتعريؼ ابف رشد لمفمسفة يستعمؿ نفس
المفظة كىي "النظر" حيث قاؿ" :إف كاف فعؿ التفمسؼ ليس شيئا أكثر مف النظر في المكجكدات كاعتبارىا مف جية داللتيا عمى
الصانع 2."...كأما االستدالؿ ،عمى حسب قكؿ التيانكم ،فيي كممة منيجية باألساس كالتي تعني تقرير الدليؿ إلثبات المدلكؿ سكاء
3
كيمكف أف كاف ذلؾ مف األثر إلى المؤثر فيسمى استدالال إنيا ،أك بالعكس فيسمى استدالال لميا أك مف أحد ألثريف إلى اآلخر".
نجد العديد مف المصطمحات التي تنتمي إلى نفس عائمة االستدالؿ مثؿ البرىاف أك الحجة أك المحاججة .فالبرىاف
1
طو عبد الرحمف :ثغكر المرابطة – مقاربة ائتمانية لصراعات األمة الحالية ،مركز مغارب لمدراسات في االجتماع اإلنساني،
الرباط ،الطبعة األكلى ،2018 ،ص .227
2
ابف رشد :فصؿ المقاؿ كتقرير ما بيف الشريعة كالحكمة مف اتصاؿ ،الشركة الكطنية لمنشر كالتكزيع ،الجزائر ،1982 ،ص .24
3
الجرجاني :كتاب التعريفات ،مكتبة لبناف ،بيركت ،1985 ،ص .17
28
1
démonstrationىك االنطبلؽ مف مقدمة أك مجمكعة مقدمات يمسمـ بصدقيا مف أجؿ بمكغ نتيجة الزمة عنيا لكزما ضركريا.
كضركرة المزكـ ىنا تحيؿ بنا إلى حتمية نفسية تيخضع كؿ العقكؿ السميمة ببل استثناء .كأما الحجة ،l'argumentفي لغة المنطؽ،
ىي ذلؾ االستدالؿ الذم لو كجو إثباتي prouverكآخر دحضي ،أم عممية دحض .réfuterكالحؽ ،كفؽ مبلحظة سبينك از
الشييرة ،أف كؿ كضع ىك رفع ككؿ رفع ىك كضع .كمف الحجة تـ تشكيؿ لفظة المحاججة Argumentationالتي تعني سمسمة
مف الحجج التي تنتظـ مف أجؿ الخمكص إلى نتيجة كاحدة ،كىذا ما يتطمب الترتيب كالتنظيـ كفؽ قكاعد صارمة 2.ككفؽ التقسمات
المنطقية عند أرسطك ،فإف كؿ استدالؿ ينتج مف طبيعة المكضكع ذاتو ،فإف كاف حسيا تطب ذلؾ االستقراء الذم يتحدد بكصفو
"الحكـ عمى كمي لكجكده في أكثر جزئياتو" ،كاذا كاف المكضكع نظريا مجردا تطمب ذلؾ االستنباط الذم يقتضي "استخراج المعاني
3
مف النصكص بفرط الذىف كقكة القريحة".
كبما أف مكضكع عمـ الكبلـ نظرم خالص كال يرتبط بأم حاؿ مف األحكاؿ بالعمؿ أك التجريب أك الكاقع المحسكس ،فإف منيجو
يتحدد كفؽ ىذه الخصكصية .لكف نظرية كتجرد مكضكع عمـ الكبلـ ،الذم ىك العقائد ،ال يتطابؽ مع تجريدية العمـ الرياضي مثبل،
مما يجعؿ تطبيؽ االستنتاج الصكرم أك المنطقي ال يككف تطبيقا آليا أك حرفيا .مع األخذ بعيف االعتبار خصكصية النظر اإلسبلمي
المسمى بالمناظرة .كظاىر جدا أف المناظرة لفظة مبنية مف النظر ،أم النظر العقمي باألساس .كما أف مفيكـ االستنباط كما تحدد
عند الجرجا ني ،نجده يتكافؽ مع خصكصية مكضكع عمـ الكبلـ ،فباعتباره "استخراجا لممعاني مف النصكص بفرط الذىف كقكة
القريحة" ،يدؿ عمى أنو يرتبط بالنصكص ،كفي عمـ الكبلـ ليس لنا إال النصكص ككاقعة أكلى كأخيرة .فبل كبلـ ببل نصكص ،سكاء
نصكص القرآف أك نصكص الحديث.
كينبينا ط و عبد الرحمف إلى أف الطابع الصكرم الخالص لمبرىاف ،باعتبارىا منطقي الطبيعة ،ال يعفيو مف بعض الخصكصيات
التداكلية .بمعنى أف البرىاف ليس بمعزؿ عف المجتمع المخصكص تاريخيا كجغرافيا كثقافيا .يقكؿ:
1
André Lalande: vocabulaire technique et critique de la philosophie, édition P U F- Quadrige, Paris,
1ere édition, 2002, p 215.
2
Ibid, p 78-79.
3الجرجاني :كتاب التعريفات ،مرجع سابؽ ،ص ص .22-18
29
لكجدناه ينتيج سبؿ "التجريبي"؛ فيك أيضا يبلحظ كيفترض كيحقؽ ( )...كال أدؿ عمى ذلؾ مف أنو يصنع نسقو
1
بالرجكع إلى مكاصفات قكمو".
كىذه الممحكظة ميمة مف ناحية التأكيد عمى أف ما يسمى باآللة المنطقية ،كالتي يعتقد البعض بأف المتكممكف نقكليا كطبقكىا
كما ىي ،ليست بالبساطة التي نفيميا .بؿ أف المنطؽ مؤسس عمى لغة ،كلكؿ مجتمع لغتو ،مما يعني أف كمية كعالمية المنطؽ
المنتكج في ظركؼ مخصكصة دينيا كتاريخيا كلسانيا ،ليست كذلؾ .فيناؾ عبلقة كطيدة بيف المغة الطبيعية أم المتداكلة في
المجتمع ،كبيف الفكر المنطقي ،كىذا ىك المكضكع الذم كرس لو طو عبد الرحمف أطركحتو لمدكتكراه في باريس 2.كىذا ما يعني أف
المنطؽ الكبلمي ،ال يمكف بأم حاؿ ،أف يككف ىك نفسو المنطؽ اإلغريقي ،كسنرل الحقا مختمؼ التقاطعات كالتداخبلت بيف العمـ
المحمي ،الذم ىك عمـ الكبلـ ،كالعمـ الكافد الذم ىك عمـ المنطؽ .ككيؼ تحدث التداخبلت بيف مكاضيع أصيمة كمناىج منقكلة.
تجدر اإلشارة أف منيج المنطؽ ،الذم ىك ألة كؿ العمكـ ،قد ال تككف انتقمت مباشرة إلى عمماء الكبلـ اإلسبلمي .فقبؿ عيد
الترجمة في بداية القرف الثالث لميجرة ،كاف المسممكف قد احتككا بالمثقفيف المسيحييف مف رجاؿ الديف ،بخاصة في دمشؽ كالبصرة.
لذا فإف احتكاؾ المسمميف بالمسيحييف ،الذيف تمرسكا في البلىكت العقمي ،يككف قد أكسبيـ تمؾ الطريقة العقمية في النظر إلى
العقائد .يقكؿ فاف ايس" :اختمفت نبرة الحياة الفكرية في البصرة [نتذكر أف البصرة ىي منشأ االعتزاؿ] عف مثيمتيا السائدة في الككفة.
إف ييكدىا كانت ليـ مكانة متكاضعة جدا فييا ،أما مسيحيكىا فكانكا أقكياء( )...كعمى عكس الييكد فقد كاف عند المسيحييف منيج
عقبلني متطكر في دراسة البلىكت ،فنجد مثبل عمار البصرم النسطكرم [مذىب نصراني] قد استعاف بمنيج أبك اليذيؿ الجدلي،
كلذا فإف كتاباتو التي كانت بالعربية قريبة في لغتيا كفي منطقية االستدالؿ بكتابات المتكمميف المسمميف .كيذكر كليد بف مسمـ
السكرم بأف البصرييف كاف يستيكييـ عمـ الكبلـ" 3.يخبرنا ىذا النص شيئا ميما ،كىك أف األسبقية التاريخية لممسيحييف ال يدؿ أف
ىناؾ تأثير كاحد مف األقدـ إلى األحدث ،بؿ إف المتأخر ،بعد أف يستكعب المنيج ،قد يؤثر في األكؿ مف خبلؿ أجيالو المتأخرة.
كسنرل في محاضرة عكامؿ ظيكر عمـ الكبلـ مثؿ ىذه الحاالت .كما يخبرنا بأف الرككف إلى منيج العقؿ في عمـ الكبلـ ليس خيا ار
مف بيف عدة خيارات ،بؿ ىك حتمية منيجية أممتيا اختبلفات العقائد كعدـ االعتراؼ المترسخ في كؿ عقيدة تجاه األخرل .فبل
المسيحي يعترؼ برسالة اإلسبلـ كال المسمميف اعترفكا بأصالة الرسالة المسيحية مف أم تحريؼ .كلئف كاف عمـ الكبلـ ،مف حيث
الحقيقة ،مسرحا لممكاجية العقدية ،سكاء العقائد الفرعية داخؿ عقدية كاحدة ،أك بيف مؤسستيف عقديتيف ،فإف المناظرة ىي المنيج.
1طه عبد الرحمن :فً أصول الحوار وتجدٌد علم الكالم ،المركز الثقافً العربً ،الدار البٌضاء ،الطبعة الثانٌة ،2111 ،ص -63
.64
2طو عبد الرحمف :سؤاؿ المنيج – في أفؽ التأسيس ألنمكذج فكرم جديد ،جمع كتقديـ رضكاف مرحكـ ،المؤسسة العربية لمفكر
كاإلبداع ،الطبعة األكلى ،بيركت ،2015 ،ص .235
3
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،ترجمة
محي الديف جماؿ بدر كرضا حامد قطب ،مراجعة محسف الدمرداش ،منشكرات الجمؿ ،بيركت – بغداد ،الطبعة األكلى،2016 ،
ص .17-16
31
كبالتالي يمكف تعريؼ عمـ الكبلـ بنبرة منيجية مف خبلؿ القكؿ بأنو "ىك عمـ المناظرة العقدم" 1.لكف ما المناظرة ؟ ىؿ المناظرة
منيجية عممية أـ مجرد فف لمنظر كالجدؿ ؟ ظاىر جدا بأف المناظرة ىي نظر مركب ،أم نظر مف أكثر مف كجية كاحدة مما يسمح
بتكسيع الرؤية الفكرية كقمب المكضكع عمى أكثر مف كجو .يقكؿ طو بأف "المناظرة مف النظر في جانبيف متنازعيف لمكصكؿ إلى
الحقيقة (نظر مزدكج) :الحقائؽ الفمسفة المحصمة بالمناظرة أبمغ فائدة مف الحقائؽ الفمسفية المحصمة بالنظر" :ناظر ،تجد" ()...
"ناظر ،تجد نفسؾ كغيرؾ" 2.ىذا ىك الككجيتك الكبلمي المتأصؿ في التراث اإلسبلمي .كىك يختمؼ عف ككجيتك الفردانية لمحداثة
الذم اقترحو ديكارت .فمف المعمكـ أنو أسس الحداثة عمى "األنا أفكر" 3،كليس عمى "النحف نفكر" ،كىذا االنتقاؿ مف غمبة الجماعة
إلى انبثاؽ الفرد عند ديكارت مبرر مف أكجو عدة ،بخاصة بالنظر إلى مسار تاريخ الفكر في األزمنة الكسيطية حيث تـ قمع النظر
الفردم كالخيار الشخصي .كمف المعمكـ أف المناظرة ليس منيجا لعمـ الكبلـ حصرا ،بؿ أنو منيج يشمؿ جميع دكائر المنيجية
العربية اإلسبلمية دكف استثناء 4،إذ أف كماؿ الحقيقة مف كثرة المشاركيف في تحصيميا .كىذا تجسدا لممنظكر القائؿ بأف العمؿ
الفردم ال يثمر مثمما يثمر العمؿ الجماعي .فحتى المسائؿ المنطقية كانت خاضعة لممناظرة مف أجؿ استخبلص القيمة الحقيقية ليذا
5
كمف المعمكـ أف المناظرة تقتضي الحكارية بالضركرة ،فالحكار ىك أساس النظر المزدكج أك العمـ في سياقو اإلغريقي كاإلسبلمي.
المركب .ثـ يأتي السؤاؿ الميـ :ىؿ المناظرة عمـ أـ مجرد فف ؟ ال ينفصؿ ىذا السؤاؿ عف سؤاؿ طرحنا سابقا حكؿ ككف الكبلـ عمما
عمى حسب تسميتو أـ أنو فنا ذاتيا مرتبط باستعدادات الفرد ؟ إننا نفترض أف الحاجة إلى المناظرة في عمـ الكبلـ ،يدؿ عمى أنو ىذا
المنيج يعترؼ بأف لكؿ فرد كجية نظر كيرل المكضكع مف زاكية ال يقدر الغير عمى كشفو ،مما يدؿ عمى أف المناظرة مؤسس
مفيكميا عمى ا ختبلؼ كجيات النظر الناشئ عف التجارب الشخصية كالتنشئة الفردية كالتككيف الفكرم .كلك كانت المناظرة عمما
مكضكعيا يقتدم بجممة مف المراحؿ كالشركط الخارجية ،لكانت كجيات النظر عمى األقؿ متقاربة إف لـ نقؿ متطابقة .ففي العمكـ
الطبيعية نجد مجاؿ المناظرة ضيؽ جدا ،عمى أساس أف ىناؾ قضايا مكضكعية يتفؽ عمييا المجتمع العممي ،كيبقى ىامش صغير
لبلختبلؼ ،كىك اليامش الذم ال يعصؼ بالمكضكعية .في حيف أف عمـ الكبلـ عمـ عقائد ،كالعقائد ليست شأنا مكضكعيا أك تجريبيا
أك كاقعيا مكجكد ىناؾ بالنسبة لمجميع .كما ظيكر عمـ الكبلـ إال نتيجة ليذه الخاصية لمعقائد .كبالنسبة لئليجي كابف خمدكف ،فإف
الكبلـ فف أك عمى األقؿ عمـ كفف ،مما يدؿ عمى امتزاج المكضكعي بالذاتي فيو ،كمنيج المناظرة نفسو يفترض أف ىناؾ جانب فني
ذاتي ،ألف "الفف ال يخضع لمقكمات مكضكعية قارة ال تقبؿ التغيير كالتبديؿ مف ممارس ألخر" 6.لكننا ،يمكف أف نفيـ ذاتية المناظرة
1
طو عبد الرحمف :سؤاؿ المنيج – في أفؽ التأسيس ألنمكذج فكرم جديد ،مرجع سابؽ ،ص .197
2
طو عبد الرحمف :فقو الفمسفة -1الفمسفة كالترجمة ،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء – بيركت ،الطبعة األكلى ،1995 ،ص
.506-505
3
René Descartes: Discours de la méthode suivi d'extraits da la dioptrique, des météores, de la vie de
Descartes par Baillet, du monde, de l'homme et de lettres, édition GF Flammarion, Paris, 1966, p 60.
4
طو عبد الرحمف :تجديد المنيج في تقكيـ التراث ،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء ،الطبعة الثانية ،ص .21-20
5
أبك حياف التكحيدم :اإلمتاع كالمؤانسة ،الجزء األكؿ ،مكفـ لمنشر ،الجزائر ،1989 ،الميمة الثامنة ،ص 153ك ما تبلىا.
6شكيب بف بديرة الطبمبي :مدخؿ مناىجي إلى عمـ الكبلـ ،مطبعة دار المتكسط الجديد ،طبمبة ،تكنس ،2012 ،ص .51
31
فيما ايجابيا ،عمى أساس أنو محاكلة لمتغمب عمى الذاتية .فالمناظرة بأكسع قدر مف الناظريف ،ىك الكسيمة الكحيدة لمتكفيؽ بيف
كجيات النظر ،كانتقاء النظرة األكثر نضجا كمكضكعية كتحقيقا لئلجماع في الرأم .بيذا تككف المناظرة طريقا لتحقيؽ المكضكعية
في أكثر صكرىا الكاضحة كالمقبكلة.
ال يستقيـ الحديث عف منيج الكبلـ دكف مقاربتو بمناىج عمكـ قريبة مف حيث البنية كالمكضكع كاليدؼ .ما ىدؼ عمـ الكبلـ ؟
ىك تحصيؿ اقناع المناظر أك المحاكر أك حتى المنحرؼ أك الخصـ .كيؼ يحصؿ ذلؾ ؟ عف طريؽ اإلقناع ،لكف ما ىي شركطو ؟
ىنا تأتي المقابمة بيف الفمسفة كالكبلـ عمى أساس مف تقاطع بينيما كىك استعماؿ العقؿ كالمنطؽ كالبرىاف .فما الفرؽ بيف المنيجيف ؟
يبدك أف البرىاف ىك منيج الفمسفة كالمنطؽ الذم ىك كسيمتو .كفي نفس السياؽ فإف المتكمـ يعمؿ قدر المستطاع لمبرىنة عمى
عقائده كفساد عقائد الغير .فكؿ اثبات نفي ككؿ نفي اثبات مثمما قاؿ سبينكزا ،فيما كجييف لطريقة كاحدة .إف البرىاف الفمسفي جذرم
يعصؼ بكؿ ما لـ يخضع لمنظر ،كيسقط العقائد الكاحدة تمكل األخرل حتى يتكقؼ عند قضية كاضحة متميزة بذاتيا ال تحتاج إلى
تكضيح .ىذه ىي الخط كة األكلى التي اقترحيا ديكارت في مقاؿ المنيج الفمسفي ،حيث أكد عمى ضركرة تجنب األحكاـ المسبقة أك
السابقة عمى النظر la préventionكتجنب كؿ ما يمكف أف يككف تيك ار فكريا .كما التيكر la précipitationىنا إال تقبؿ أمكر
عمى أنيا حؽ بدكف تحقؽ كفحص كتعقؿ 1.كلئف تساءلنا ىنا ،ما ىي القضايا التي أراد ديكارت فحصيا مف أجؿ التحقؽ منيا ؟
يبدك أنيا القضايا اإليمانية حصرا ،ألنيا مؤسسة عمى التسميـ ال التفكير .كاف فكرنا فييا فإنو تفكير غير جذرم كال يدفع بالسؤاؿ إلى
أقصاه أك إلى العمؽ المطمكب .كىك يقكليا صراحة في القاع دة الثالثة مف كتيب القكاعد المكجية لمفكر ،إذ أف االعتقاد بالغيبيات،
2
حسبو طبعا ،ليس صاد ار عف فكر acte de l'intelligenceبؿ عف ارادة acte de la volontéكقناعة سابقة لكؿ تفكير.
كىنا يظير الفرؽ بيف منطؽ الفيمسكؼ كمنطؽ المتكمـ ،عمى أساس أف "منطؽ الفبلسفة ىك البرىاف ،فبل مسممات يقبمكنيا إال إذا
3
قبميا العقؿ الفمسفي ،في حيف أف مسممات المتكمميف كالفقياء كعامة الناس ىي عقائد دينية ايمانية ،ال يفحصكنيا بؿ يبنكف عمييا".
كمف ىنا يظير أيضا أف برىانية المتكمـ محدكد بحدكد ال يخترقيا ،ألنو يفترض صدؽ عقيدتو كيؤسس البرىاف عمى ذلؾ ،أك أنو
بصكرة معاكسة يفترض خطأ عقيدة المخالؼ كيبدأ في البرىنة عمى ذلؾ .ىنا يطرح سؤاؿ قيمة البرىاف الكبلمي ؟ ىؿ ىك برىاف
حصؿ اليقيف ؟ لكف ما اليقيف في األصؿ ؟ يعرفو الفارابي ،في كتاب البرىاف باعتباره الحالة التي "نعتقد في الصادؽ
كامؿ ؟ ىؿ يي ٌ
الذم ح صؿ التصديؽ بو أنو ال يمكف أصبل أف يككف كجكد ما نعتقده في ذلؾ األمر بخبلؼ ما نعتقده ( )...كما ليس بيقيف ،فيك
أف نعتقد في ما حصؿ التصديؽ بو أنو يمكف أك ال يمكف أف يككف في كجكده بخبلؼ ما يعتقد فيو" 4.ظاىر جدا أف اليقيف ىنا ،ىك
ىك الذم يستبعد أم احتماؿ ،إنو ال يط الب بالصدؽ المطمؽ فقط ،بؿ يطالب بنفي حالة البل أدرية كالنسبية .كنقصد ىنا بالبل أدرية
عدـ التأكيد أك النفي التي ىي مرتبة كسطى بيف التكذيب كالتصديؽ .ككـ مف الفبلسفة أدينكا بسبب ال أدريتيـ ! كيقدـ لنا الغزالي
1
René Descartes: Discours de la méthode, Op.cit, p 47.
2
René Descartes: Règles pour da direction de l'esprit, traduction Jacques Brunschwig, édition
classique de la philosophie, p 25.
3
عمي أكمميؿ :أفكار مياجرة ،مركز دراسات الكحدة العربية ،بيركت ،الطبعة األكلى ،2013 ،ص .173
4
الفارابي :كتاب البرىاف ،مكفو لمنشر ،الجزائر ،1993 ،ص .52
32
تعريفا لميقيف أك كما يسميو العمـ اليقيني يمثؿ أعمى درجات التصديؽ التي تأخذ باإلنساف إلى مرتبة ممتمئة بالصدؽ المطمؽ" :ظير
لي أف العمـ اليقيني ىك الذم ينكشؼ فيو المعمكـ انكشافا ال يبقى معو ريب ،كال يقاربو إمكاف الغمط كالكىـ ،كال يتسع القمب لتقدير
ذلؾ ،بؿ ألماف مف الخطأ ينبغي أف يككف مقارنا لميقيف مقارنة لك تحدل بإظيار بطبلنو مثبل مف يقمب الحجر ذىبا كالعصا ثعبانا،
لـ يكرث ذلؾ شكا كانكارا .فإني إذا عممت أف العشرة أكثر مف الثبلثة؛ فمك قاؿ لي قائؿ :ال ،بؿ الثبلثة أكبر مف العشرة ،بدليؿ أني
أقمب ىذه العصا ثعبانا ،كقمبيا ،كشاىدت ذلؾ منو ،لـ أشؾ بسببو في معرفتي ،كلـ يحصؿ لي منو إال التعجب مف كيفية قدرتو عميو
1
يتحكؿ اليقيف ىنا إلى عقيدة ثابتة ،كلك تغيرت الكقائع بصكرة مفاجئة كغريبة كمذىمة .أم أف الثبات ! فأما الشؾ فيما عممتو ،فبل".
ىك ميزة المعرفة اليقينية في ظؿ التحكالت التي يشيدىا الكاقع .كلك أسقطنا ىذا التعريؼ عمى سياقاتنا الحالية ،لكاف العمـ اليقيني ىك
العمـ الذم يرفض اغراءات التحكالت العممية التي تجعؿ المستحيؿ ممكنا كالمتعذر كاقعا .كىنا نممس ضربا مف الركح األفبلطكنية في
مقابؿ الفمسفة الييراقميطية التي تيطٌبع التغير كتعتبر .بؿ أننا اليكـ نعتقد باليقيف الذم ىك في حالة صيركرة دائمة ،فأصبح عنكاف
الثبات ىك التغير ذاتو .كمف المعمكـ أف التعريؼ المألكؼ لميقيف أك الحقيقة ىك المطابقة؛ أم "مطابقة العقؿ معقكلو ،كسككف الفيـ
2
كبالتالي فاليقيف ،مف الناحية النفسية" ،حالة فكرية أك حتى ركحية إزاء الحكـ مع ثبكت القضية ككضكح حقيقة الشيء في النفس".
الذم يعتبر صحيحا بدكف أم شؾ قد يختمط بو" 3.في حيف أف الحقيقة في الفيـ الحالي ،خاصة في السياقات التداكلية البراغماطيقية
األكثر انتشا ار اليكـ ،فيي اإلنتاج كاالختراع كالتنمية ،بدؿ المطابقة كالمحافظة .كبالتالي فالحقيقة ىنا ال تسبؽ الكجكد الفكرم ،بؿ ىي
نتيجة لو ،فالفكر ىك مف يكلد الحقيقة كليست الحقيقة ىي مف تكلد الفكر 4.كىذا ما يجعؿ التعارض بيف المفيكـ الديني لمحقيقة
كالمفيكـ العممي المعاصر ظاىر جدا .مما يجعؿ مفيكـ اليقيف قابؿ لممراجعة ،فيغدك اليقيف سائبل ،بما أف الحقيقة تنتج كؿ صباح.
ىذا ما ينتج مفيكـ حركي كنشط لميقيف عمى عكس التصكر الثبكتي الذم سيطر عمى تاريخ الفكر القديـ.
الحقيقة أف المطالبة بالبرىنة عمى كؿ قضية نستعمميا في المناظرة أك المحاكرة يؤدم إلى تجميد التفكير .فإذا طالبنا المحاكر
بصدؽ الدليؿ ثـ صدؽ دليؿ الدليؿ...الخ يؤدم إلى حصكؿ تفكير أك برىنة استرجاعية rétrospectiveحتى ننسى البرىاف
األصمي الذم نريد تحصيمو .لذا كضع عمماء الرياضيات كىـ في النياية عمماء برىاف ،البداىة التي تعتبر القضية التي نبرىف بيا
كال تحتاج إلى برىنة .لكف في عمـ الكبلـ ،كما في الفمسفة ال نمتمؾ بديييات تحقؽ اإلجماع الفكرم .فما ىك بدييي بالنسبة لمفيمسكؼ
المثالي ىك مجرد مسممة لمفيمسكؼ الكاقعي .كما ىك بدييي بالنسبة لممسمـ قد يككف مجرد فرضية بالنسبة لممجكسي .لذا فميس ىناؾ
1
أبك حامد الغزالي :المنقذ مف الضبلؿ كالمكصؿ إلى ذم العزة كالجبلؿ ،تحقيؽ جميؿ صميبا ككامؿ عياد ،دار األندلس لمطباعة
كالنشر كالتكزيع ،بيركت ،ص .82
2
أبك حياف التكحيدم :المقابسات ،تحقيؽ كتعميؽ حسف السندكبي ،دار المعارؼ لمطباعة كالنشر كالتكزيع ،سكسة ،الطبعة األكلى،
،1991ص .204-203
3
André Lalande: vocabulaire technique et critique de la philosophie, Op.cit, p 134.
4كلياـ جيمس :معنى الحقيقة ،ترجمة أحمد االنصارم ،المشركع القكمي لمترجمة ،القاىرة ،الطبعة األكلى ،2008 ،ص .173
33
بديييات في الفمسفة 1،مثمما ليس ىناؾ بديييات في عمـ الكبلـ .لذا فإف كؿ عقيدة ليا قضايا ال يمكف أف تضعيا مكضع تفكير أك
مسائمة اك تشكيؾ ،كاال انيار البنياف العقدم مف أساسو .كىنا بالضبط يقع الخبلؼ الكبلمي ،بحيث يرفض الخضـ المخالؼ
االعتراؼ بما نعتبره نحف قضية كاضحة تماـ الكضكح .لكف ما ىك مصدر كضكح مسألة الخمكد بالنسبة لنا كمسمميف كعدـ كضكحو
بالنسبة لممجكس مثبل ؟ ىؿ ىي فطرة ؟ أـ مبادئ العقؿ ؟ أـ األلفة ؟ ما ىك الشيء الذم يجعمنا نؤسس ايمانا عقميا غير مقصكر
عمى قكة التنشئة االجتماعية كالتاريخية ؟ ىذا ىك المشكؿ الذم كاف يؤرؽ الغزالي عندما كاف يقارف نفسو بالييكد كالنصارل
كالمجكس...الخ .فالتقميد في االعتقادات ال يكرث أم قكة برىانية .ما ىي الفطرة األصمية ؟ 2األكيد أنيا ليست ما تمقيناه في الصبا،
كاال تساكت حجة المسمـ مع حجة النصراني مثبل .إذف ال يبقى إال القاسـ المشترؾ بيف جميع الناس ،ألـ يقؿ ديكارت أف العقؿ ىك
أعدؿ األشياء قسمة بيف البشر في فاتحة مقاؿ الطريقة ! 3كىك يقصد بذلؾ حسف استعماؿ العقؿ.
في كؿ العمكـ نؤسس البرىاف عمى مبادئ نتفؽ عمييا ،كفي حالة غيابيا يتعذر السير إلى األماـ .لكف في العمكـ الدينية مثؿ
عمـ الكبلـ الذم ىك عمـ العقائد ،يتعذر تحقيؽ ىذا التكافؽ .كالمطالبة بتعميؿ كؿ شيء يؤدم إلى تيديـ العقائد ببل استثناء" :المطالبة
بالتعميؿ كاألساس النيائي لكؿ أطركحة ستقصي كؿ األعماؿ التأممية كالشعرية مف الفمسفة .ما أف بدأنا في أخذ مطمب الصرامة
العممية بجدية حتى تكصمنا إلى إلغاء كؿ الميتافيزيقيا مف الفمسفة ،طالما ال يمكف تعميؿ أطركحاتيا عقبلنيا .يجب أف يككف إعطاء
أساس عقمي لكؿ أطركحة عممية أم ار ممكنا" 4.ىذا المنطؽ الكضعي ،ال يمكف أف يتطابؽ مع المنطؽ الكبلمي ،ألننا في الكبلـ
نؤسس عمى قكاعد ال نبحث في مصداقيتيا.
ظاىر جدا أف أساس عدـ اإلتفاؽ في العقائد اإليمانية ىك التنشئة االجتماعية .لذا فإف الدليؿ المنطقي ،ىك الذم يعمؿ قدر
المستطاع ،لتجاكز ىذه االختبلفات إلى حيز يحقؽ أكبر نسبة مف اجماع العقكؿ .كعمى الرغـ مف أف األمر ليس بالييف ،إال أنو
ىناؾ قكاسـ مشتركة بيف العقكؿ البشرية .كاال تعذر أم تكاصؿ عممي ،لكننا اليكـ ،نبلحظ تكافؽ عممي بيف عمماء ينتمكف إلى
تنشيئات اجتماعية مختمفة كقد تككف متنافرة .كىنا تظير ميمة عمـ المنطؽ في أنو يعمؿ عمى أف "يرتب المعنى ترتيبا يؤدم إلى
الحؽ المعترؼ بو مف غير عادة سابقة" 5.ككأف المجتمع العممي أك المنطقي يؤسس لقاعدة مفيكمية جديدة بمعزؿ عف كؿ
المكتسبات التقميدية التي تفرؽ أكثر مما تكحد .لذا فكؿ برىاف ىك منطؽ اصطناعي ال طبيعي .لكف ما الفرؽ بيف الحجاج كالبرىاف
؟
1
ككلينجككد :مقاؿ في المنيج الفمسفي ،ترجمة فاطمة اسماعيؿ ،المشركع القكمي لمترجمة ،القاىرة ،الطبعة األكلى ،2001 ،ص
.162
2
أبك حامد الغزالي :المنقذ مف الضبلؿ كالمكصؿ إلى ذم العزة كالجبلؿ ،مرجع سابؽ ،ص .81
3
René Descartes: Discours de la méthode, Op.cit, p 33.
4
ركدكلؼ كارناب :البناء المنطقي لمعالـ كالمسائؿ الزائفة في الفمسفة ،ترجمة يكسؼ تيبس ،المنظمة العربية لمترجمة ،بيركت،
الطبعة األكلى ،2011 ،ص .29
5
أبك حياف التكحيدم :المقابسات ،مرجع سابؽ ،ص .63
34
ف ي تعريفات عمـ الكبلـ نبلحظ كركد كممة "الحجاج" عند ابف خمدكف كاإليجي ،مما يجعمو لفظ متداكؿ كمحمي .كبالفعؿ ،فإف
طو عبد الرحمف يجعمو تابعا لممجاؿ التداكلي ،إذ ىك برىاف طبيعي كليس صناعي .يقكؿ في سياؽ التمييز بيف البرىاف الطبيعي
كالبرىاف الصناعي:
"الحجاج ىك فعالية تداكلية جدلية ،فيك تداكلي ألف طابعو الفكرم مقامي كاجتماعي ،إذ يأخذ بعيف االعتبار مقتضيات
الحاؿ مف معارؼ مشتركة كمطالب إخبارية كتكجييات ظرفية ،كييدؼ إلى االشتراؾ جماعيا في انشاء معرفة عممية،
إنشاء مكجيا بقدر الحاجة ،كىك أيضا جدلي ألف ىدفو اقناعي قائـ بمكغو عمى التزاـ صكر استداللية أكسع كأغنى مف
1
البيانات البرىانية الضيقة".
المحصمة مف فقو طو ،أف الخطاب الطبيعي الذم يتشكؿ في المجاؿ التداكلي العامي ىك استدالؿ حجاجي ،في حيف أف
البرىاف لغة غير طبيعية ،أم صناعة مف خبلؿ رمكز يبدعيا مجتمعا عمميا معيف ،كالعمماء كالمناطقة .كعمـ الكبلـ ،في المرحمة
التي لـ تحكؿ فييا إلى عمـ خاص كقبؿ أف ينشأ لغتو المتخصصة ،بعد حركة الترجمة خاصة ،كاف دفاعا طبيعيا عف العقائد
باستعماؿ الحجاج كليس البرىاف" .فحقيقة االستدالؿ في الخطاب الطبيعي أف يككف حجاجيا ال برىانيا صناعيا" 2.لكف ما المحصكؿ
مف ىذا التمييز ؟ أكيد أف الحجاج ىنا ال يصؿ إلى يقيف يمزـ كؿ العقكؿ ،بؿ فقط يمزـ العقكؿ التي ليا نفس المجاؿ التداكلي ،سكاء
داخؿ العقيدة الكاحدة أك بيف العقائد المتنافسة .أم أف الحجة الكبلمية ىنا ال يمكف أف تككف عالمية ،ألنيا تنطمؽ مف مجاؿ تداكلي
مخصكص كيسمـ بقضايا قد ال يسمـ بيا الجميع .يتحكؿ الحجاج ىنا إلى مجرد جدؿ ،كقد الحظ ابف رشد ،في تمخيص الخطابة
ألرسطك ،بأف الجدؿ الكبلمي ،أم الذم يطبقو عمماء الكبلـ في حجاجيـ عف العقائد اإليمانية ،ال يكصؿ إلى اليقيف كما حددنا
خصائصو أعبله ،بؿ أقصى ما يمكف أف يبمغو ىك مقاربة اليقيف 3.ألف "األمكر النظرية ال يمكف التصديؽ بيا ليـ (أم الجميكر) إال
بالطرؽ المشيكرة ( )...أم الخطابة كالشعر" 4.كنحف نعمـ أف الشعر كفؽ أرسطك ذاتو ال يحدثنا عما ىك مكجكد ،بؿ عما يجب أف
يككف ،فيك مثالي أعمى مف الكاقع .أما الخطابة كفؽ التعريؼ ىي القدرة عمى اقناع المستمع أك الخصـ كلك بغير حؽ" .فيي القدرة
عمى النظر في كؿ ما يكصؿ إلى اإلقناع في أية مسألة مف المسائؿ" 1.كالخطابة ليست بمعزؿ عف الجدؿ ،فإما أنيا فرع منو أك أنيا
أنيا كسيمة لو .كعند ابف رشد ،الذم لـ ينحرؼ عمى مألكؼ أرسطك ،ىناؾ ثبلثة مراتب مف الناس تستمزـ ثبلثة مراتب مف البرىنة،
كالتي تتطابؽ مع ثبلثة مراتب مف التأكيؿ .يقكؿ :الناس في الشريعة عمى ثبلثة أصناؼ :صنؼ ليس ىك مف أىؿ التأكيؿ أصبل كىـ
1
طو عبد الرحمف :في أصكؿ الحكار كتجديد عمـ الكبلـ ،مرجع سابؽ ،ص .65
2
المرجع نفسو ،الصفحة نفسيا.
3
عمي بف مخمكؼ :لماذا نق أر الفبلسفة العرب ؟ ترجمة أنكر مغيث ،آفاؽ لمنشر التكزيع ،القاىرة ،الطبعة األكلى ،2018 ،ص
.103
4
ابف رشد :تمخيص كتاب أرسطكطاليس في الجدؿ ،تحقيؽ محمد سميـ سالـ ،الييئة المصرية العامة لمكتاب ،القاىرة ،1980 ،ص
.8
35
الخطابيكف الذيف ىـ الجميكر الغالب ( )...كصنؼ مف أىؿ التأكيؿ الجدلي ( )...كصنؼ ىك مف أىؿ التأكيؿ اليقيني كىؤالء ىـ
البرىانيكف بالطبع كالصناعة أعني صناعة الحكمة" 2.كىذا التقسـ ال ينفصؿ عف المسألة الكبرل في الشرع كىي انقسامو إلى ظاىر
كباطف ،فميس الكؿ يفيـ سر العقائد كخبايا األحكاـ الدينية الكبرل.
إف استعماؿ عمـ الكبلـ الحجاج كالجدؿ لمدفاع كالرد كاإلفحاـ ،يجعؿ المتكمميف يعممكف قدر اإلمكاف إلثبات عقائدىـ ميما
كانت طريقة الجدؿ .فقدسية الميمة تدفعيـ إلى استعماؿ أم كسيمة برىانية ميما كاف مستكاىا العقمي ضعيفا أك بنيانيا المنطقي
متيافتا .ف الجدؿ مباحث مقصكد بيا إيجاد الحجة عمى الخصـ مف حيث أال يقكل كمف حيث ال يقدر أف يدفع" 3.كبما أف مستكل
المخالفيف في العقائد مختمؼ ،فقد يككف مستكل الجدؿ خطابي أك عاطفي تأثيرم أكثر مما ىك منطقي كعقمي بالمطمؽ.
كىنا يتدخؿ نص الفارابي الذم يعتبر مف أكثر النصكص اثارة لمجدؿ في مسألة منيج الكبلـ .ألنو كشؼ عف الكجو الخفي
لطريقتيـ .فقد أقر أف البعض مف المتكمميف ،كحينما يكشفكف بأف حججيـ العقمية قد تأتي النتيجة المرجكة ،كىي الدفاع عف العقائد
التي كضعيا صاحب الممة ،ف قد يمجأكف إلى طرؽ غير عقمية تماما .يقكؿ" :آخركف مف عمماء الكبلـ ،لما أركا أف األقاكيؿ التي
يأتكف بيا في نصرة أمثاؿ ىذه األشياء (الممة) ليست كافية في أف تصح بيا تمؾ األشياء صحة تامة حتى يككف سككت خصميـ
لصحتيا عندىـ ال لعجزه عف مقاكمتيـ فييا بالقكؿ ،كاضطركا عند ذلؾ إلى أف يستعممكا معو األشياء التي تمجئو إلى أف يسكت عف
مقكلتيـ إما خجبل كحص ار أك خكفا مف مكركه ينالو" 4.أم يستعممكف التيديد كانزاؿ األذل بالخصـ مف أجؿ دفعو إلى السككت
كالقبكؿ .كالحؽ أف مثؿ ىذه الطرؽ ليست بالغريبة حتى في زمننا ىذا ،إذ نجد الكثير مف رجاؿ الديف ،كلك أنيـ ال يعتبركف متكمميف،
بؿ فقياء أك متصكفيف أك محدثيف ،يمجؤكف إلى تيديد كؿ مف يخالؼ العقائد الراسخة ،كمثالنا في الجزائر ىي قضية الكتاب
الصحفي كماؿ داكد الذم أيفتي في حقو طمب اإلعداـ إلسكاتو .كالمثاؿ األكثر شيرة ىك قضية سمماف رشدم (كلد سنة ،1947
عمره اآلف 73سنة) ،الكاتب اليندم اإلنجميزم بعد اصدار نصو "اآليات شيطانية" ،في تسعينيات القرف الماضي ( ،)1989حيث
أفتى الخميني بإىدار دمو مقابؿ مبمغ معتبر 5.كقد أثارت ىذه القضية ردكد أفعاؿ دكلية حادة كمتباينة ،كساؿ الكثير مف المداد مف
1
أرسطكطاليس :الخطابة ،ترجمة ابراىيـ سبلمة ،مكتبة األنجمكمصرية ،القاىرة ،الطبعة الثانية ،1953 ،ص .84
2
ابف رشد :فصؿ المقاؿ كتقرير ما بيف الشريعة كالحكمة مف االتصاؿ ،الشركة الكطنية لمنشر كالتكزيع ،الجزائر ،1982 ،ص .56
3
أبك حياف التكحيدم :المقابسات ،مرجع سابؽ ،ص .202
4
أبكا نصر الفارابي :إحصاء العمكـ ،تقديـ كشرح كتبكيب عمى بكممحـ ،دار كمكتبة اليبلؿ لمطباعة كالنشر ،بيركت ،الطبعة األكلى،
،1996ص .92
5
لمتكسع في ىذه المسألة يمكف مراجعة الكتب التالية:
-طبلؿ أسد :جينالكجيا الديف – الضبط كأسباب القكة في المسيحية كاإلسبلـ ،ترجمة محمد عصفكر ،دار المدار اإلسبلمي،
بيركت ،الطبعة األكلى ،2017 ،ص ص .374-341 – 299
-داريكش شايغاف :أكىاـ اليكية ،ترجمة محمد عمي مقمد ،دار الساقي ،بيركت ،الطبعة األكلى ،1993 ،ص .143
-نصر حامد أبك زيد :نقد الخطاب الديني ،سينا لمنشر ،القاىرة ،الطبعة الثانية ،1994 ،ص .73
36
أجميا ،بيف مؤيد كم عارض ،بيف مف دافع عف حرمة العقائد اإلسبلمية كمف دافع عمى حرية التعبير ،بؿ أصبحت قضية كطنية في
انجمت ار كقتذاؾ .ال ييمنا القيمة الفنية لمركاية أك المكاقؼ الكاردة فييا كالمسيئة لقدسية الرسكؿ الكريـ كال مكقؼ انجمت ار أك الجميكرية
اإليرانية التي أصدرت قرار القتؿ ،بؿ ما ييمنا ىنا أننا أماـ مثاؿ لمدفاع عف الديف بالتيديد كما أظيره الفارابي ،كلعؿ معاصرتنا
لمثؿ ىذه الطرؽ ،يجعمنا نصدقو فيما ذكره بعيدا عف كؿ تيمة بالتيكيؿ أك تشكيو عمماء الكبلـ .كيكاصؿ الفارابي تفصيؿ منيج
عمماء الكبلـ:
"كآخركف (ىناؾ طرؽ كثيرة في الدفاع عف الممة) لما كانت ممتيـ عند أنفسيـ صحيحة ال يشككف في صحتيا ،أركا أف
ينصركىا عند غيرىـ كيحسنكىا كيزيمكا الشبية منيا ،بأف يدفعكا خصكميـ عنيا بأم شيء اتفؽ .كلـ يبالكا بأف يستعممكا
الكذب كالمغالطة كالبيت كالمكابرة ،ألنيـ أركا أف مف يخالؼ ممتيـ أحد رجميف:
-1إما عدك – كالكذب كالمغالطة جائز أف يستعمؿ في دفعو كفي غمبتو.
-2كاما ليس بعدك – كلكف جيؿ حظ نفسو مف ىذه الممة لضعؼ عقمو كتمييزه .كجائز أف يحمؿ اإلنساف عمى حظ نفسو
1
بالكذب كالمغالطة كما فعؿ ذلؾ بالنساء كالصبياف".
كيكشؼ التكحيدم ،الذم عاش في القرف العاشر ببغداد ،كالذم لـ يكف منتميا بالمعنى المذىبي ،سكاء فقييا أك كبلميا بقدر ما
كاف أديبا كفيمسكفا ،أف منيج المتكمـ ىك رد األطركحة باألطركحة ،كمقابمة المسألة بالمسألة ،كقد يككف ىذا الرد كالمقابمة معقكليف
تماما ،كقد ي ككنا ببل أم مسكغ عقمي .كقد ينزؿ المنيج إلى مستكل المغالطة كالتدليس ،ألف اسكات الخصـ ىك اليدؼ ،أما الكسائؿ
فأم منيا يحقؽ ذلؾ ،فيي مقبكلة .يقكؿ" :قاؿ أبك سميماف (المنطقي) :طريقتيـ (أم المتكمميف) مؤسسة عمى مكايؿ المفظ بالمفظ،
كمكازنة لشيء بالشيء إما بشيادة مف العقؿ مدخكلة ،كاما بغير شيادة منو البتة .كاالعتماد عمى الجدؿ ،كعمى ما يسبؽ إلى الحس
أك يحكـ بو العياف ،أك عمى ما ينسج بو الخاطر المركب مف الحس كالكىـ كالتخيؿ مع اإللؼ كالعادة كالمنشأ ( )...ككؿ ذلؾ يتعمؽ
بالمغالطة كالتدافع كاسكات الخصـ بما اتفؽ ،كاتماـ الذم ال محصكؿ فيو كال مرجكع لو ،مع بكادر ال تميؽ بالعمـ ،كمع سكء أدب
2
كثير؛ نعـ كمع قمة تألو ،كسكء ديانة ،كفساد دخمة ،كرفض الكرع بالجممة".
يبدك أف الفبلسفة قد أظيركا الجانب السمبي لمنيج عمـ الكبلـ ،كحتى الغزالي ،الذم لـ يكف فيمسكفا بؿ متصكفا ،قد أعاب
م ناىجيـ باعتبارىا مأخكذة رأسا عف الخصكـ ،أم اتباع منياج عمـ المنطؽ كىك العمـ الكافد مف اإلغريؽ .كقد رأينا أعبله أنو عمـ
يرتبط بخصكصيات المغة كالفمسفة كحتى العقيدة .كعمى الرغـ مف أف الغزالي جعمو محايدا مثؿ العمـ الرياضي ،إال أف أم عمـ ميما
كاف في مرتبة المحا يدة كالعالمية ،إال أنو ال ينفصؿ عف الرؤية إلى العالـ التي شكمتو .بؿ أف المنطؽ المحايد يشكؿ معضمة كبيرة
بالنسبة لمعقائد ،ألنو يجب أف يدافع عنيا بدؿ المحايدة .لكف نحف نعمـ أف المنطؽ قد يستخدـ في تيديـ العقائد ،بؿ أنو استخدـ في
كثير مف الحاالت .كسبلح المبلحدة ىك المنطؽ بالذات.
1
أبكا نصر الفارابي :إحصاء العمكـ ،مرجع سابؽ ،ص .92
2
أبك حياف التكحيدم :المقابسات ،مرجع سابؽ ،ص .115
37
ال يمكف لنا التركيز عمى الجانب المظمـ فقط مف مناىج عمـ الكبلـ ،بؿ أف ىناؾ ما يعتبر قكة منيجية كبلمية ال يمكف انكارىا.
فيناؾ قكاعد أخبلقية كمنطقية لممناظرات الكبلمية 1،تدؿ عمى الميارات التي بمغيا المتكممكف .كلئف كاف ىناؾ ما ىك مشترؾ بيف
جميع العقكؿ ،ميما اختمفت الثقافات ،فإف عمـ الكبلـ ىنا يمجأ إلى عمكـ المنطؽ مف أجؿ إقناع المحاكر ،عمى افتراض أف المنطؽ
يمزـ كؿ العقكؿ ألنو غير مؤسس عمى مسممات ثقافية بؿ عمى مسممات عقمية مثؿ التناقض كالثالث المرفكع .رغـ ذلؾ فيمكف لجاحد
أف يرفض أم حجة بسبب العناد 2.لذا يبقى األغمبية مف المتدينيف ممتزمكف بما نشأكا عميو مف عقائد ،كالقمة فقط مف يتحكؿ إلى
عقائد أخرل بسبب قكة الدليؿ المنطقي أك العممي .كاف كاف المحاكر مسمما مختمؼ في الفرقة ،فيمكف لممتكمميف العكدة إلى القرآف
الكريـ كاألحاديث النبكية أك حتى اجماع الصحابة ،عمى أساس أف ىناؾ قاعدة اتفاؽ بيف جميع المسمميف رغـ اختبلفاتيـ المذىبية
كالمسانية كالثقافية .ىذا الكضع ىك الذم أدل إلى تقسيـ مناىج عمـ الكبلـ إلى مناىج عقمية كمناىج نقمية .عمى أف ىناؾ مف يتنكر
ليذا التمييز ،مثمما أشرنا في البداية ،عمى أساس أنو تمييز يقمؿ مف شأف المناىج النقمية ،ألف ىذا التقسيـ يكحي بأف المناىج النقمية
ال عقؿ فييا ،كبالتالي ال يمكف أف تحدث اإلقناع لغير المؤمنيف بالقرآف كتابا كباإلسبلـ دينا .لذا تنبو بعض التراثييف كالمحدثيف إلى
أف النقؿ معقكؿ كالعقؿ منقكؿ .كلك أف الجزء الثاني يتطمب منا بحث اشكالي مستقؿ .كقد أشار المستشرؽ ديميترم غكتاس
D.Gutasإلى أف "العقؿ لـ يكف شيئا يتبناه العمماء حص ار مراعاة لمعمكـ اليكنانية في مكاجية لػ "إيماف" المسمميف الغافميف .إف ىذا
3
التقسيـ الثنائي ىك تعبير الىكتي غربي ال عبلقة لو بالحقائؽ اإلسبلمية".
الفتكحات اإلسبلمية كتأسيس الخبلفة بعد ذ لؾ في مدف غير إسبلمية في األصؿ مثؿ دمشؽ كبغداد ،أدل إلى تفاعبلت عقائدية
بيف المسمميف كغيرىـ ،أفضت في الغالب إلى اعتناؽ المسيحييف كالمجكس كبعض الييكد اإلسبلـ ،كالى بقاء البعض اآلخر عمى
دينيـ األصمي كمع دفع ضريبة الحماية (الجزية) كفؽ ما تقرر في القرآف الكريـ 4.كقد حفظ لنا التراث عدة مناظرات بيف المسمميف
دكف يكحنا
قكم .كقد ٌ
كغيرىـ مف الكثنييف خاصة في بغداد أك مف أىؿ الكتاب بخاصة في دمشؽ حيث كاف الحضكر المسيحي ٌ
الدمشقي ،كىك رجؿ ديف كنسي ىناؾ ،بعض المناظرات التي دارت بيف مسمميف مسيحييف ،قد ككف حقيقة كقد تككف متخيمة ،حيث
تـ اعتماد المنيج العقمي .كيقدـ لنا "ىارم كلفسكف" مثبل متعمقا بمشكمة الحرية :يسأؿ المسمـ المسيحي" :ىؿ أنت تتمتع بإرادة حرة
كىؿ أنت قادر عمى فعؿ ما تشاء ؟ يجيب المسيحي :إف ا﵀ قد صكره كجعؿ لو إرادة حرة ،كتمؾ اإلرادة الحرة التي يشكؿ بيا تجعمو
قاد ار عمى فعؿ الخير أك الشر كأنو مستحؽ بسبب حرية إرادتو لمثكاب عمى فعمو لمخير لمعقاب عمى فعمو لمشر كأف اإلنساف يككف
1طو عبد الرحمف :في أصكؿ الحكار كتجديد عمـ الكبلـ ،مرجع سابؽ ،ص .156
2
Antoine Arnauld et Pierre Nicole: la logique ou l'art de penser, édition Flammarion, Paris, 1970, p
386-387.
3ديمترم غكتاس :الفكر اليكناني كالثقافة العربية -حركة الترجمة اليكنانية العربية في بغداد كالمجتمع العباسي المبكر ،ترجمة نقكال
زيادة ،المنظمة العربية لمترجمة كمركز دراسات الكحدة العربية ،بيركت ،الطبعة األكلى ،2003 ،ص .262
اب ىحتَّى ً ﴿ 4قىاتًميكا الًَّذيف ىال يؤ ًمينكف بًالمَّ ًو كىال بًا ٍليكًـ ٍاآلى ًخ ًر كىال يحّْرمكف ما حَّرـ المَّو كرسكليو كىال ي ًد يينكف ًديف ا ٍلح ّْ ً ًَّ
يف أيكتيكا ا ٍلكتى ى
ؽ م ىف الذ ى ى ي ى ي ى ى ى ى ي ىى ي ي ى ى ى ى ى ىٍ ى ى يٍ ى
ً و
كف﴾ [التكبة]29 ، صاغ ير ى طكا ا ٍل ًج ٍزىيةى ىع ٍف ىيد ىك يى ٍـ ى
يي ٍع ي
38
بارتكابو الشر كاقعا تحت تأثير الشيطاف ( )...لكف المسمـ يزعـ أنو "في فعمو لمخير كالشر إنما يصدر عف مشيئة ا﵀ .أم أف أفعالو
قدرة ﵀ سمفا .كفي نفس المناظرة يقكؿ المسيحي أنو بعد أياـ الخمؽ الستة قاـ ا﵀ بكؿ العمميات الطبيعية مف خبلؿ عمؿ كسيطة،
كاإلنساف ،بما ىك أحد ىذه العمؿ الكسيطة ،يفعؿ ما يفعمو بإرادة حرة .كيقكؿ المسمـ ،عمى العكس مف ىذا ،أنو حتى بعد أياـ الخمؽ
الستة يخمؽ ا﵀ كؿ ما يحدث في الطبيعة خمقا مباشرا ،حتى أف كؿ فعؿ إنساني ،ينسبو المسيحي إلى اإلنساف نفسو باعتباره فاعبل
مختارا ،ينسبو المسمـ إلى ا﵀" 1.ككما ىك ظاىر ،فإف يحي الدمشقي ،الذم كتب ىذه المحاكرة ،يميؿ إلى تصكير األسس الميبرالية
لممسيحية في مقابؿ األسس القدرية لئلسبلـ .لكف يجب أف نتأكد مف مسألة كاحدة كىي أف ليس كؿ المسمميف مجبريف ،كنحف نعمـ
مدل حرص المعتزلة مثبل عمى اثبات حرية اإلرادة .كما نبلحظ أف كبل المتحاكريف لـ يمجأ إلى الحجج الدينية بؿ التزمكا بالمنطؽ
العقمي فقط .كيكاصؿ الدمشقي في ايراد "حجج المسيحي عمى الحرية (حسب محاكرة يكحنا الدمشقي John of Damascusدائما):
لك لـ يكف اإلنساف حرا ،فسكؼ يككف ا﵀ ،إذف ،غير عادؿ في عقابو أك في أمره بمعاقبة مف يرتكبكف الشر.
كالحجة األخرل :عدـ االتساؽ بيف افتراض أف يككف ا﵀ أراد لمعاصي مقدما أف يرتكب بعض الخطايا كبيف ككنو ال
2
يريد لمخاطئ أف يرتكب تمؾ الخطايا ،كىك ما تتضمنو النكاىي المكحاة عف ارتكاب تمؾ الخطايا".
كالمبلحظ ىنا ،ىك أف مصدر النص ،كىك رجؿ ديف مسيحي ،يعطي األفضمية العقمية لممحاكر المسيحي ،ككأنو يناصر عقيدة
النصارل عمى حساب عقيدة المسمميف .كىذا مبرر ،عمى أساس أف التدكينات اإلسبلمية ترتب المحاكرات لصالح صحة العقيدة
اإلسبلمية.
كيذكر لنا التكحيدم الذم أرخ لمجالس بغداد قصة المجكسي مع العامرم ،قضية الجداؿ العقائدم حكؿ مسألة خمكد النفس؛
" قاؿ ماني المجكسي ( ككاف ذا حظ كافر مف الحكمة) ألبي الحسف محمد بف يكسؼ العامرم :أييا الشيخ ،إني أجد النظر في حاؿ
النفس بعد المكت مبنيا عمى الظف كالتكىـ ،كذلؾ أف اإلنساف كما يستحيؿ منو أف يعمـ حالة قبؿ ككنو ككجكده ،كذلؾ يستحيؿ أف
يعمـ حالو بعد مكتو ( )...العدـ ال يقتبس مف عمـ شيء بكجو 3."...ىذه المناظرة بيف المجكسي كالمسمـ لـ تستند عمى أم نص
ديني مف كبل الطرفيف ،عمى الرغـ مف أف القرآف الكريـ يذكر صراحة خمكد النفس بعد الممات 4.إال أنو لجأ إلى الدليؿ العقمي القائـ
عمى ابطاؿ جدكل التمسؾ بالمحسكس فقط ،عمى أساس أف انكار الخمكد ناتج عف مكقؼ حسي خالص " :فكؿ محسكس ظؿ مف
المعقكؿ ،كليس في كؿ معقكؿ ظؿ مف الحس ،كمتى كجدنا شيئا في الحس فمو أثر عند العقؿ ،كبو كقع التشبيو ،كاليو كاف التشكيؽ
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد الثاني ،ترجمة مصطفى لبيب عبد الغاني ،المركز القكمي لمترجمة، 1
2
المرجع نفسو ،ص .769
3
أبك حياف التكحيدم :المقابسات ،مرجع سابؽ ،ص .57
39
( )...كاإلنساف متى لـ يخمع آثار الحس خمعا ،لـ يتحؿ لبكس العقؿ تحميا ،كانما شؽ االقرار بمعرفة حاؿ النفس بعد المكت ألف
الحس لـ يساعد في تسميـ ذلؾ بشيادة يسكف إلييا ( )...لكال ىذه الحالة المعشكقة ،كاألبكاب المفتكحة ،لكاف اليأس يزىؽ األركاح
كيتمؼ األنفس ،كلكاف العالـ بكؿ ما فيو مف العجائب كاآلثار كالشكاىد لشيء ال حقيقة لو ،كال حكمة فيو ،كأنو شبيو بالعبث كالمعب.1
يبدك لنا رد الشيخ ىنا ،قكيا مف جية كضعيفا مف جية أخرل ،فيك ضعيؼ ألنو لـ يقدـ تبري ار عقميا متسمسبل كاضحا يأخذ بو
كؿ عقؿ سميـ لو بناء منطقي .ب ؿ كؿ ما قدمو ىك صياغات خطابية يثبت محدكدية اإلحساس ،ألف أساس كؿ كفر ،ميما كاف
نكعو ،ىك المطالبة باالقتناع المباشر عف طريؽ الحس ،فكفار مكة كانكا يطالبكف محمد (ص) بدليؿ مباشر عمى صدؽ دعكاه ،كانكا
يمٌحكف عمى التأكيد بأف اإليماف ال يحصؿ إال بالبرىاف كليس بالخطابة ،كأقكل برىاف عمى كجكد الشيء ىك مبلحظتو البصرية
المباشرة 2.كىذا متعمؽ بكجكد ا﵀ أك خمكد النفس أك صحة الكعكد المستقبمية .أما القبكؿ ببل برىاف ،فيك ضرب مف المخاطرة في
السقكط في أحضاف الشككؾ التي ال تنتيي .فمثمما البرىاف يكلد برىاف ،فالشؾ يكلد شككؾ أخرل ال تنتيي .أما الجانب القكم في رد
الشيخ الحسف العامرم ،فيك إشارتو إلى دليؿ عمى الخمكد سيككف لو مكانة قكية في الفمسفة الحديثة .حيث أف معنى األفعاؿ مرتبط
بخمكد النفس .فمك كانت كؿ النفكس مائتة فانية ،ألصبحت أم قيمة أخبلقية نعزكىا ألفعالنا ىباء منثكرا .لذا فخمكد النفس ىك الذم
يتقدـ لنا الضمانة األساسية بأف أفعالنا األخبلقية ليا ىدؼ كسكؼ يكافئ عمييا اإلنساف أك يعاقب ،كفي حالة افتراض العكس ،فإف
مممكة األخبلؽ تنيار ببل رجعة ،كتتحكؿ الغائية المفترضة إلى عبث ببل أم قرار .كبالتالي فميست الميتافيزيقا بما ىي عمـ مجرد ىي
مف يشكؿ أساس اإليماف بكجكد ا﵀ ،بؿ ىك خمكد النفس كغائية األخبلؽ 3.كىذه البرىنة الكانطية ليست بالغريبة عف برىنة العامرم
سابقة الذكر ،بخاصة في المقطع األخير حيث قاؿ" :لكال ىذه الحالة المعشكقة ،كاألبكاب المفتكحة ،لكاف اليأس يزىؽ األركاح كيتمؼ
4
األنفس ،كلكاف ا لعالـ بكؿ ما فيو مف العجائب كاآلثار كالشكاىد لشيء ال حقيقة لو ،كال حكمة فيو ،كأنو شبيو بالعبث كالمعب".
كبالنسبة لكانط فإف كجكد ا﵀ ،مثؿ خمكد النفس ،ال ينفصبلف عف المسممة األخبلقية التي تفقد أم معنى في حالة نفييما .كىذا ما
يسميو بالبلىكت األخبلقي .ألف غاي ة اإلنساف ،بكصفو الكائف األخبلقي الكحيد ،مرتبطة بيذه الضمانة الكمية التي ال يمكف انكارىا
5
دكف انييار مممكة الغايات ذاتيا.
كفي تقديرنا ،فإف الرد المناسب لشككؾ المجكسي عمى خمكد النفس ،يمكف أف يتأسس عمى رد قكم ،ألنو منسكج مف أدلة عقمية
ال يختمؼ فييا اثنا ف .كىذا الدليؿ نجده ،عمى سبيؿ المثاؿ ،في محاكرة فيدكف ألفبلطكف ،حيث برىف سقراط ،في لحظات حياتو
1
أبك حياف التكحيدم :المقابسات ،مرجع سابؽ ،ص .59
يمكف االطبلع عمى برىاف خمكد النفس عند الغزالي:
أبك حامد الغزالي :تيافت الفبلسفة ،دار كمكتبة اليبلؿ لمطباعة كالنشر ،بيركت ،2002 ،ص .223باطؿ أف تنعدـ بمكت الجسد،
فإف البدف ليس محبل ليا ،بؿ ىك آلة تستعمميا النفس بكساطة القكل التي في البدف ،كفساد اآللة ال يكجب فساد مستعمؿ اآللة.
2
محمد أرككف :القرآف مف التفسير المكركث إلى تحميؿ الخطاب الديني ،ترجمة ىاشـ صالح ،دار الطميعة ،بيركت ،الطبعة الثانية،
ص .97
3
Kant: critique de la raison Pure, traduit A. Tremesaygues et B. Pacaud, Félix Alcan, Paris, 1905, p
653.
4أبك حياف التكحيدم :المقابسات ،مرجع سابؽ ،ص .59
5
إمانكيؿ كانط :نقد ممكة الحكـ ،ترجمة غانـ ىنا ،المنظمة العربية لمترجمة ،بيركت ،الطبعة األكلى ،2005 ،فقرة ،84ص .399
41
األخيرة قبؿ المكت ،عمى أف النفس خالدة كفؽ الضركرة العقمية .كدليمو ىك التالي :إذا افترضنا أف كؿ شيء قائـ عمى األضداد في
ىذا الكجكد ،فالحياة آتية مف المكت كالمكت م ف الحياة ،كلك كاف األحياء يخرجكف مف شيء آخر غير المكت ،ككاف كؿ حي يمكت
1
بالضركرة ،فمف الحتمي أف المكت سيأتي عمى كؿ شيء .لذا فإف الحياة بعد المكت كالمكت بعد الحياة ىك ما يضمف االستمرار.
إذف فالنفس خالدة بعد مكتيا .كقد أشار كانط ،إلى ىذه الحجة التي استعمميا الفيمسكؼ منديمسكف Moses Mendelssohnفي
كتاب لو يحمؿ نفس عنكاف أفبلطكف كىك فيدكف أك حكؿ خمكد النفس.
كيقدـ لنا ابف خمدكف ،مثبل عمى استعماؿ الدليؿ العقمي في الحجاج الكبلمي ،فبعد أف عرؼ عمـ الكبلـ بكصفو حججا عف
العقائد اإليمانية بخاصة التكحيد بالػأدلة العقمية ،يقكؿ" :إف الحكادث في عالـ الكائنات سكاء كانت مف الذكات أك مف األفعاؿ البشرية
أك الحيكانية فبل بد ليا مف أسباب متقدمة عمييا بيا تقع في مستقر العادة ،كعنيا يتـ ككنو ،ككؿ كاحد مف ىذه األسباب حادث أيضا
2
فبل بد لو مف أسباب أخر .كال تزاؿ تمؾ األسباب مرتقية حتى تنتيي إلى مسبب األسباب كمكجدىا كخالقيا سبحانو ال إلو إال ىك".
لكف النظر الفاحص ليذه الحجة تكشؼ عف عدة عيكب منيا أنو لـ يبرىف عمى كحدانية ا﵀ ،بؿ برىف عمى كجكد ا﵀ كسبب نيائي،
كبيف الكجكد كالكحدانية فرؽ شاسع ،عمى أساس أنو قد يككف ﵀ مكجكد مع غيره مف اآللية كما كاف يعتقد الكثنيكف .ثـ أف حجة
تتالي األسباب لمكصكؿ إلى العمة األكلى التي ال سبب ليا ،فكرة قديمة عند اإلغريؽ كنخص بالذكر عند أرسطك طاليس .حيث أكرد
ىذا البرىاف في كتاب الميتافيزيقا عند قاؿ باستحالة التسمسؿ غير المنتو لمعمؿ ،مما يفرض كجكد عمة أكلى ببل عمة .ألنو لك كانت
العمؿ ببل نياية مف الناحية العددية الستحالت المعرفة مطبلقا ،ألف المعرفة في النياية ىي العمـ باألسباب المحدكدة 3.كلعؿ الغزالي
كاف محقا في رفصو لعمـ الكبلـ بدعكل أنو يستعمؿ أسمحة الخصكـ ،كىذا ما كقع فيو ابف خمدكف بعد الغزالي بقركف أربعة.
كقد أشار الدكتكر "يكسؼ فاف ايس" إلى أحد الحجج العقمية التي عثر عمييا في التراث الشيعي ،حيث يرجح أنيا أصؿ لما
المفحمة ،لكنيا تقنع الممحد بضركرة كجكد ا﵀ أكيسمى الحقا في فرنسا برىاف باسكاؿ أك رىاف باسكاؿ .كىي ليست بالحجة ي
بأفضمية كجكد ا﵀ .يقكؿ " :ىناؾ حجة مفضمة أيضا (عند اإلماـ) تتجنب النقاش العقبلني كتؤكد ببساطة عمى فائدة اإليماف :حيف
يككف المؤمف عمى حؽ كثمة محكمة ،فإف الكافر ممعكف؛ أما إذا لـ تكجد ،فإف المؤمف لف يككف خاس ار أيضا ( )...ىذا معركؼ لدينا
(أم السياؽ الغربي) كػ "مسابقة[ نبلحظ ىنا أف المترجـ لـ يحسف اختيار المصطمح ،فبدال مف أف يستعمؿ الرىاف كمرادؼ لػ pari
استعمؿ كممة غير مناسبة كىي المسابقة ،إذ أف المسابقة غير الرىاف ،كلك أف ىناؾ تقارب ما عمى أساس احتمالية النجاح اك
الخسارة] باسكاؿ ( )Pensées, 233, p 95ال تكجد الفكرة في اإلسبلـ لدل الشيعة كحدىـ ،ىناؾ في فيـ جعفر الصادؽ ،عمي
رضا ،الغزالي ( )...ال يعرؼ كيؼ كجد الطريؽ إلى باسكاؿ" 4.ككأنو يشير إلى أسبقية بعض متكممي الشيعة مقارنة بباسكاؿ الذم
1
Platon: Phidon, tarduit E . champry, édition Garnier Flammarion, Paris, 1965, §77b-78d, p 130-131.
2عبد الرحمف بف خمدكف :المقدمة ،تضبط كشرح محمد اإلسكندراني ،دار الكتاب العربي ،بيركت ،الطبعة الثانية ،1998 ،ص
.423
3
Aristote : la métaphysique, traduit par jules Barthélemy saint –hilaire, poket –brodard et taupin,
1991, livre a, chapitre 1, § 993 b, p 86. Et 994 b, p 90.
4جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،ترجمة سالمة صالح ،الجزء األكؿ ،منشكرات الجمؿ،
بغداد – بيركت ،الطبعة األكلى ،2008 ،ص .639-638
41
عاش بيف ( )1662/1623كالذم يختصر في القكؿ أف اإليماف ضركرم ،فإذا كاف ثمة حقا إلو فنحف ناجحكف ،كاف لـ يكف ثمة
إلو ،كنحف مؤمنكف بو ،فمف نخسر أم شيء 1.كبالتالي فالمؤمف كاسب دكما .كفرادة ىذا الرىاف ،مقارنة بالرىانات العادية ،أنو يكسب
في كبل الحالتيف ،كالطرافة ىنا أف الرىاف الذم يكسب دائما لف يبقى رىانا بؿ يتحكؿ إلى يقيف.
يمكف االعتماد عمى األدلة النقمية المأخكذة رأسا مف القرآف الكريـ أك مف األحاديث النبكية المكثكقة ،عندما تككف المناظرة بيف
المذاىب اإلسبلمية غير المنحرفة لدرجة المركؽ .عمى أساس أف الدفاع عف أم قضية عقدية مرتبط بالمصدر األساسي كىك القرآف.
كبالفعؿ ،فقد جاد ؿ القرآف الكريـ الكفار كالمشركيف في عدة قضايا عقائدية ،لذا تمثؿ حجيتو مصد ار أساسا في الدفاع عف العقائد.
كيمكف أف نبلحظ بأف "القرآف قد استخدـ الحجج الديالكتيكية في مناقشة مباشرة مع الخصـ (يكنس ")31 ،فالسؤاؿ عف مصدر رزؽ
2
كقد اجتيد البعض في استخراج األدلة القرآنية عمى النحك العباد كاخراج الحي مف الميت كالعكس يحيؿ حتما إلى االعتراؼ با﵀.
ىعمى يـ بً ىم ٍف
َّؾ يى ىك أ ٍ ؾ بًا ٍل ًح ٍك ىم ًة ىكا ٍل ىم ٍك ًعظى ًة ا ٍل ىح ىسىن ًة ىك ىج ًاد ٍليي ٍـ بًالَّتًي ًى ىي أ ٍ
ىح ىس يف إً َّف ىرب ى ﴿ادعي إًلىى سبً ً
يؿ ىرّْب ى ى المتراتب في اآلية 125مف النحؿٍ :
ً ض َّؿ ىع ٍف ىسبًيمً ًو ىك يى ىك أ ٍ
يف﴾ .كما يستخمص منيا أف ىناؾ ثبلثة طرؽ لمدعكة إلى العقيدة اإلسبلمية ،التي ىي سبيؿ ا﵀ ىعمى يـ بًا ٍل يم ٍيتىد ى ى
3
الحؽ .كىي:
1
Blaise Pascal: Pensées, éditions de la seine, 2005, § 233-418, p 94-95.
2
جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،ترجمة سالمة صالح ،الجزء األكؿ ،منشكرات الجمؿ،
َّم ىع ىم ٍف ىي ٍممً ي
ؾ الس ٍ اء ك ٍاأل ٍىر ً
ض أ َّ َّم ى
بغداد – بيركت ،الطبعة األكلى ،2008 ،ص .80يقصد اآلية القائمة ﴿ :يق ٍؿ م ٍف يريزقي يكـ ًمف الس ً
ى ى ىٍ ٍ ى
َّ ّْت كي ٍخ ًرج ا ٍلمي ى ً
ً ً
كف﴾ كف الموي فى يق ٍؿ أىفى ىبل تىتَّقي ى
ّْت م ىف ا ٍل ىح ّْي ىك ىم ٍف يي ىدب يّْر ٍاأل ٍىم ىر فى ىسىيقيكلي ى ص ىار ىك ىم ٍف يي ٍخ ًريج ا ٍل ىح َّي م ىف الٍ ىمي ى ي ي ى
ىك ٍاأل ٍىب ى
3
عمي الرباني الكمبايكاني :ما ىك عمـ الكبلـ ؟ مؤسسة بكستاف كتاب ،قـ ،الطبعة الثانية ،ص .51أيضا :شكيب بف بديرة
الطبمبي :مدخؿ مناىجي إلى عمـ الكبلـ ،مرجع سابؽ ،ص ص .91-86كيشرح مقامات اآلية 125مف النحؿ كما يمي:
المكعظة الحسنة :الخطابة ...تفييـ المخاطبيف الذيف قد يفتقركف إلى القابميات العقمية الكافية إلدراؾ مغزل األسمكب
البرىاني( .استيداؼ القمكب كالعكاطؼ بدال مف العقؿ)
42
ككما ىك ظاىر ،فإف التراتب قائـ عمى أسبقية الحكمة عمى المكعظة كعمى المجادلة تكاليا .كبالتالي فإف مراتب الكبلـ ىنا تككف
أكال بالعقؿ المنطقي حيث يتـ البرىنة بما ال يبقى معو أم ابياـ أك شبية كاردة في المكضكع العقائدم المطركؽ .ثـ تميو المكعظة
التي تخاطب اإل حساس كالكجداف لعؿ يتـ القبكؿ كالخضكع السمس كفؽ منطؽ التعاطؼ .كفي األخير ىناؾ مرتبة فرض الرأم بعد
النزاع .كلئف كاف ىذا األخير ىك ما يعتبره القرآف جدال حسنا ،فاألكيد أف ىناؾ جدؿ غير حسف ،جدؿ خشف مثبل .كربما ىك ما
نستشعره في ما ذكره الفارابي في مناىج المتكمميف ،كما الحظناه في أمثمة التيديد المعاصر في حالة "كماؿ داكد" ك"سمماف رشدم"
مف قبمو كالعشرات مف الحاالت األخرل األقؿ شيرة .كالتراتب السابؽ ىك الذم دفع ابف رشد ،في سياؽ تأكيمو لمنطؽ كشرح
أرسطك ،إلى تقسـ اإلقناع الكبلمي إلى البرىاف كالخطابة كالجدؿ .كىذا كفؽ االستعدادات الفردية ،فميس الجميع مؤىؿ لفيـ البراىيف
المنطقية الصارمة ،لذا يقتنعكف بالخطابة التي ىي برىاف ما أدنى ،أم أقؿ قكة كالزامية مف البرىاف المنطقي ،كأخيرػ فإف البعض يمجأ
إلى الجدؿ الذم قد يككف ضرب مف المنطؽ المغالط مف أجؿ اإلقناع بالعقائد .كالمغالطة ىنا قد تككف بالتمكيو كالكذب كتعمد
الخطأ.
يظير جميا أف األدلة الثانية (المكعظة) كاألدلة الثالثة (المجادلة) قد تككناف غير مقنعتيف تماما ،فقد نؤثر عمى النفس كنقنعيا
بعقيدة معينة ،لكف بعد زكاؿ األثر تعكد إلى حالتيا الطبيعية أك األصمية .لذا فإف منياجي الكبلـ ىاتيف ،ليستا في مستكل األدلة
األكلى كىي الحكمة 1.لكف ما الحكمة ؟ إذا فيمت عمى أنيا اليقيف المرتبط بالمنطؽ البرىاني ،فينا نككف أماـ الدليؿ العقمي ال الدليؿ
النقمي ،أم أف القرآف يأخذ بنا مرة ثانية إلى العقؿ اإلنساني الخالص مف أجؿ الدعكة إلى العقائد الصحيحة .كيمكف أف نبلحظ
بكضكح اإلقتراف المكجكد في القرآف بيف الكتاب (أم القرآف ذاتو) كبيف الحكمة ،مما يدؿ عمى أف منيج الحكمة ،لك فيمنيا عمى
أساس أنيا الحكمة العممية ،أك محبة الحكمة ،كىي المنيج العقمي الخالص ،ال يتعارض مع المنيج القرآني 2.كيمكف العكد إلى
النصكص التالية لتبيف ذلؾ( :الجمعة ،)2 ،1 ،ك (يكنس ،)1 ،ك(لقماف ،)2-1 ،ك(النساء ،)113 ،ك(يس .)2 ،فكميا تذكر الحكمة
كراء القرآف أك الكتاب.
كيشرح بعض مصادر الشيعة ،بأف الجدؿ الحسف مكجكد في القرآف الكريـ ،حيث أف ا﵀ تعالى قد دعا نبيو إلى ضركرة البرىنة
ب لىىنا ىمثى نبل ىكىن ًس ىي ىخ ٍمقىوي قىا ىؿ ىم ٍف
ض ىر ى﴿ك ى
عمى خمكد الركح مف خبلؿ السياؽ القرآني التالي :إذا جاء متشكؾ في خمكد الركح قائبل :ى
ؽ ى ى يـ﴾ [يس ]78 ،فإف الجكاب المطمكب كالمقنع ىك ﴿ :يق ٍؿ يي ٍحيًييىا الًَّذم أ ٍىن ىشأ ى
ىىا أ َّىك ىؿ ىمَّروة ك يىك بً يك ّْؿ ىخ ٍم و يي ٍحيًي ا ٍل ًع ى
ظ ىاـ ىكًى ىي ىرًم ه
يـ﴾[يس . ]79 ،كبالنسبة لمنطؽ ىذا الطرح ،فإف الذم ينشأ العظاـ كيخمؽ اإلنساف ،لف يعجز اطبلقا عف اعادتيا مف جديد بعد ً
ىعم ه
المكت كاإلنحبلؿ .لكف ككما ىك ظاىر ،فإف ىذه الحجة تحقؽ اإلقناع بالنسبة لمف يؤمف بكجكد ا﵀ فقط .أما الممحد المطمؽ في
ألحاده فبل يمكف أف يقبؿ احياء النفس بيذا التبرير ،ألنو ال يؤمف أصبل بأف النفس كالعظاـ مف خمؽ خالؽ.
السؤاؿ الذم اشتغؿ عميو الكثير مف المفكريف الحداثييف مرتبط بمدلكؿ العقؿ في القرآف ؟ كفؽ اآليات التي تدعكنا إلى العقؿ
ً َّ
كف﴾ [الصافات ]138،أك قكلو تعالى ﴿كبًالمٍي ًؿ أىفى ىبل تى ٍعقمي ى
كالمعاقمة كالنظر كالتأمؿ .كىي كثيرة في عدة سياقات؛ عمى سبيؿ المثاؿ :ى
ت﴾ [الغاشية،ؼ يس ًط ىح ٍ ت كًالىى ٍاأل ٍىر ً
ض ىك ٍي ى ؼ ينصىب ٍ ى
اؿ ىك ٍي ى ً ت كًالىى ا ٍل ًجىب ً
ؼ يرف ىع ٍ ى
ت كًالىى السَّم ً
اء ىك ٍي ى ً
ى
اإلبً ًؿ ىك ٍي ى ً
ؼ يخمقى ٍ ى
كف إًلىى ًٍ
﴿أىفى ىبل ىي ٍنظي ير ى
1
شكيب بف بديرة الطبمبي :مدخؿ مناىجي إلى عمـ الكبلـ ،مرجع سابؽ ،ص .41
2
المرجع نفسو ،ص .86
43
. ]20-17ىؿ العقؿ الذم يدعك لو القرآف ىنا عقؿ بالمعنى الخالص أـ عقؿ اعتبارم يأخذ بنا إلى اإليماف رأسا ؟ ىنا يتفؽ كبل مف
"محمد أرككف" ك"طو عبد الرحمف" ،عمى الرغـ مف اختبلؼ حداثتييما ،في أف العقؿ القرآني اعتبارم كليس عممي 1.بمعنى أف دعكة
القرآف لمنظر في اإلبؿ ،ليست مكجية لعبلجيا أك معرفة أسباب أمراضيا كطرؽ تكاثرىا...الخ بؿ مف أجؿ االعتراؼ بكجكد كعظمة
ا﵀ الخالؽ .لذا فالعقؿ االعتبارم إيماني عمى عكس العقؿ العممي الذم ال ينظر في ما كراء المكضكع الحسي .ككأف العقؿ القرآني
يعني القمب أك الفؤاد ،كليس العقؿ الذم يقرر عمميا خصائص المكجكدات.
غير أنو ىناؾ مصادر أخرل غير القرآف لمبرىنة عمى صحة العقائد كرد األسئمة المشاغبة لكضكح أسس الديف ،كىي "اجماع
األمة ،اجماع الصحابة كسيرتيـ ،اجماع السمؼ ،الخبر المتكاتر ،األخذ بالنص الشرعي مف غير تأكيؿ أم القرآف كالسنة" 2.كمف
المفيد أف نشير إلى أف مؤرخي عمـ الكبلـ الذيف ربطكا ظيكره بحركة الترجمة ،يعتقدكف بأف الكبلـ في زمف الرسكؿ (ص) كالصحابة
لـ يكف مطركحا بالصكرة البلحقة ،عمى أساس أنيـ كانكا يقدمكف فصؿ المقاؿ في القضايا الكبلمية ،بؿ أف ىناؾ مف نسب بعض
األقكاؿ اإلليية لمصح ابة األقرباء مف الرسكؿ (ص) .كربما ىذا القكؿ الشاذ مستخرج مف المشابية باألحاديث القدسية المنسكبة
لمرسكؿ حيث المعنى إليي كالمفظ بشرم.
سؤاؿ أخير ميـ ،في قضية الفصؿ بيف المناىج العقمية كالمناىج النقمية ،كىك الفصؿ الذم يندرج ضمف مسألة مصدر مناىج
عمـ الكبلـ بيف المحمية كاألجنبية (العمكـ الكافدة) ،كالتي تطرح عمى الشكؿ التالي :مف أيف استمد عمـ الكبلـ مناىجو ؟ ىؿ مف
الخصكصيات المحمية أـ مف المناىج الكافدة مف خارج السياقات اإلسبلمية ؟ يبدك أف التاريخ كحده ىك الذم يمكف أف يبت في ىذه
المسألة ،عمى أساس أف البدايات المنيجية األكلى كانت محمية ،في حيف أف دخكؿ عمكـ المنطؽ كالفمسفة بعد حركة الترجمة
المأمكنية (نسبة لممأمكف الذم تكفي سنة 218ىػ) ،أدل إلى تطعيـ عمـ الكبلـ بمناىج لـ تكف مألكفة ،أم عقمية بالمطمؽ .كيقدـ
"ىارم كلفسكف" ،الذم يناصر النظرية القائمة بأف عمـ الكبلـ اإلسبلمي تأثر بالمسيحي ،المخطط التالي:
أ -المنيج الكبلمي السابؽ عمى االعتزاؿ كاف منيجا محميا مستمدا مف عمـ الفقو .كىك منيج المماثمة القياسية .فقد استعمؿ عمماء
الكبلـ ازاء مشكمة التنزيو كالتشبيو ما كاف مستعمبل في الفقو مف قياس المماثمة ،فالخمر حراـ مثؿ النبيذ ألنو يحدث اإلسكار .كا﵀
3
أم جسـ ال كاألجساـ ،كىذه طريقة األشاعرة عمى العمكـ ،حيث يعتبركف ا﵀ سميعا ال كاألسماع كبصير ال كاألبصار ...الخ.
أف ىناؾ تشبيو ﵀ مع بقية األشياء مف أجؿ اثبات كجكده ،لكف مع مخالفتو معيا مف أجؿ اثبات تنزييو .كبالفعؿ ،فقد أكد الدكتكر
1
طو عبد الرحمف :سؤاؿ العمؿ – بحث عف األصكؿ العممية في الفكر كالعمـ ،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء – بيركت،
الطبعة األكلى ،2012 ،ص .106
2
عبد اليادم الفضمي :خبلصة عمـ الكبلـ ،دار المؤرخ العربي ،بيركت ،الطبعة الثانية ،1993 ،ص .27
3
ىارم .أ .كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،ترجمة مصطفى لبيب عبد الغاني ،المجمد األكؿ ،المركز القكمي لمترجمة،
القاىرة ،الطبعة األكلى ،2005 ،ص .61
44
طو عبد الرحمف لجكء عمماء الكبلـ لمثؿ ىذا المنيج عندما قاؿ" :اشتير المتكممكف باالستدالؿ القياسي .مثاؿ :العمـ كالطعاـ ينفع
1
كيضر ،فأطمب منو ما ينفع".
ب-بعد حركة الترجمة ،أم بعد قرف مف ظيكر كاصؿ بف عطاء الذم تكفي 131ىػ ،تأثرت المعتزلة بالفمسفة اليكنانية كاكتسبت
طابعا جديد[ .كىذه ىي مقاربة الشيرستاني الذم ربط الكبلـ بالترجمة مف اإلغريقية] ثـ طالع بعد ذلؾ شيكخ المعتزلة كتب
الفبلسفة ،حيف فسرت أياـ المأمكف ،فخمطت مناىجيا بمناىج الكبلـ ،كأفردتيا فنا مف العمكـ كسمتيا باسـ الكبلـ 2."...لكنيا مقاربة
تعرضت لنقد مف طرؼ الكثير ،عمى أساس أف عمـ الكبلـ كاف متداكال قبؿ المأمكف ،حيث كانت الكممة معركفة في منتصؼ القرف
األكؿ لميجرة.
كبالتالي يمكف أف نستنتج بأف ىناؾ مرحمة منيجية محمية ،كىي المرحمة السابقة عمى نقؿ أعماؿ اليكناف ،كمرحمة منيجية
فمسفية كمنطقية ،كىي م رحمة التأثر بكتب اليكناف المنقكلة ،حيث أصبح بعض المتكمميف ،مف المعتزلة ،يستعممكف مضاميف فمسفية
خاصة مثؿ نظريات الذرة اإلغريقية ،كاستعماؿ منيج القياس المنطقي أك السيمكجيزمكس sylligismكىك االستنتاج الذم يفيـ في
مقابمة االستقراء ،كالمؤسس عمى االنتقاؿ مف الم قدمتيف إلى النتيجة عف طريؽ الحد األكسط .كىذا القياس يختمؼ عف القياس
الفقيي أك األنالكجي analogyالسابؽ الشرح 3.لذا يمكف التقرير بأف ىناؾ مرحمة المناىج غير الفمسفية كمرحمة المناىج الفمسفية.
لكف يبدك الفرؽ بيف تصكر طو كىالفسكف في قيمة القياس الفقيي أك المحمي كالقياس األرسطي الكافد ،إذ يبدك أف المستشرؽ يجعؿ
ىذا األخير أكثر نضجا مف الناحية البرىانية ،لكف طو يقكؿ العكس :القياس التمثيمي لو فكائد عممية (المنطؽ الشرعي ،منطؽ
األكامر ،منطؽ األفعاؿ ،كمنطؽ النفع...الخ) ( )...كىك أغنى كأعقد مف القياس األرسطي المعتبر برىانا ،حيث يتركب مف
4
استدالليف :أحدىما مطابؽ لمقياس األرسطي ،كاآلخر استدالؿ مماثمة مقيد ،ككبلىما صحيح".
1
طو عبد الرحمف :في أصكؿ الحكار كتجديد عمـ الكبلـ ،المركز الثقافي ،مرجع سابؽ ،ص .98
2
ىارم .أ .كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،مرجع سابؽ ،ص .65أيضا :شكيب بف بديرة الطبمبي :مدخؿ مناىجي إلى
عمـ الكبلـ ،مرجع سابؽ ،ص .35-34يقكؿ :خطأ الشيرستاني في تقريره بأف عمـ الكبلـ ظير في العصر العباسي (ثـ طالع بعد
ذلؾ شيكخ المعتزلة كتب الفبلسفة ،حيف نشرت أياـ المأمكف ،فخمطت مناىجيا بمناىج الكبلـ ،كأفردتيا فنا مف فنكف العمـ ،كسمتيا
باسـ الكبلـ) يرجع إلى المصادر التي اعتمدىا ...مع العمـ أف المأمكف تكفي 218ق ...أما اإلماـ الصادؽ استشيد عاـ 148ق
حيث كاف مصطمح الكبلـ معركفا في عصره.
3
ىارم .أ .كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المرجع السابق ،ص .66
4
طو عبد الرحمف :في أصكؿ الحكار كتجديد عمـ الكبلـ ،المركز الثقافي ،مرجع سابؽ ،ص .114-113كيشرح ثراء العبلقات
المكجكدة في القياس الفقيي:
االشتراؾ في النكع ىك المماثمة ،كفي الجنس ىك المجانسة ،كفي الكيؼ ىك المشابية ،كفي الكـ ىك المساكاة ،كفي الشكؿ
ىك المشاكمة ،كفي الكضع ىك المكازرة ،أك في األطراؼ كىك المطابقة ،اك في النسبة كىك المناسبة .ص 122
45
كث ار ما يقاؿ بأف عمـ الكبلـ ىك ما يجسد الفمسفة اإلسبلمية الحقة ،عمى أساس أف بقية المباحث مثؿ السياسة كاألخبلؽ
كالمنطؽ منقكلة مف عند اإلغريؽ .كلك أف المسمميف قد أضافكا اجتيادات ،إال أنيـ لـ يخرجكا مف الدائرة المفيكمية األصمية .في
حيف أف عمـ الكبلـ كفؽ المنظكر نفسو ،قد أثبت القدرات النظرية في فيـ الديف اإلسبلمي .لكف يجب أف نشير إلى أف ىناؾ
سخر فمسفتو لتككف خادمة لمديف 1،في حيف أف الفيمسكؼ المحض
اختبلؼ بيف ركح الكبلـ كركح الفمسفة .عمى أساس أف المتكمـ يي ٌ
يسخر الديف لخدمة الفمسفة .ىذه االستراتيجية الخبلفية بيف المتكمـ كالفيمسكؼ ىي التي ترسـ الحد الفاصؿ ،كتجعؿ عمـ الكبلـ عمما
دينيا كالفمسفة عمما عقميا .لكف ىذا الفص ؿ قد يطرح أكثر مف مشكؿ عمى أساس أف أرسطك قد جعؿ الفمسفة األكلى ،أم األكثر شرفا
كاألكثر رفعة ،ىي الفمسفة التي تبحث في األلكىية 2.Théologieكىذه الرتبة األكلى متأتية مف مكضكعيا ،لذا فكحدة الفمسفة
كالبلىكت ليست بالشأف المستحدث عند المسمميف.
كلعؿ أكبر ال مدافعيف عف االختبلؼ أك الفصؿ بيف عمـ الكبلـ المحمي كالفمسفة المنقكلة ىك ابف خمدكف ،عمى أساس أف الفمسفة
تنظر في الكجكد بإطبلؽ كبمعزؿ عف أم أغراض متعالية ،في حيف أف عمـ الكبلـ ال يدرس الكجكد إال مف أجؿ اثبات كجكد كعظمة
3
كحد بيف الحكمة كالشريعة ،كاذا اعتبرنا ،مثمما خمصنا في
ككحدانية ا﵀ .كىذا التقرير مخالؼ كمية لما نجده عند ابف رشد عندما ٌ
المحاضرة األكلى ،بأف عمـ الكبلـ مف العمكـ الدينية كالشرعية عامة ،فكجب مقاربتو بالشريعة .كابف رشد يعتقد بأف ىدؼ الفمسفة ىك
النظر في المكجكدات مف حيث دالالتيا عمى الصانع أم الخالؽ 4.لكف ىذا ليس كاقعا في كؿ األحكاؿ أم ال يمكف التعميـ،
فالفمسفة اإلغريقية الطبيعية مثبل كانت تنظر في المكجكدات بمعزؿ عف التفكير في اآللية اطبلقا .كقد قاؿ العالـ الفمكي "دك
الببلس" بأنو ال يحتاج إلى فرضية اإللو في دراسة الككاكب ،ىذا ما يدؿ عمى أف العمـ أك الفمسفة الخالصيف ،ال يعتبراف دينياف في
أىدافيما .لذا يمكف القكؿ أف ابف خمدكف ،الذم اتكأ عمى العقبلنية الغزالية الصريحة ،أكثر كضكحا مف ابف رشد في ىذه المسألة.
أم أف الغزالي كابف خمدكف كانا عمى كعي بأف الفمسفة تخدـ نفسيا كنسقيا كال تخدـ الديف إال عرضا ،مثمما يعتقد ابف رشد بضرب
مف السذاجة السطحية.
عمى اعتبار أف المنطؽ آلة لمعمكـ ،يبدك أنو أمكف أف يتحكؿ إلى أداة في يد المتكمميف مف أجؿ نصرة عقائدىـ كالرد عمى
المخالفيف .ككاف الغزالي يعتقد بأف المنطؽ عمـ محايد مثمو مثؿ الرياضيات ،إذ ال يتعمقاف باألمكر الدينية نفيا أك اثباتا ،فالمنطؽ
يبحث في طرؽ األدلة كالمقاييس كربط مقدمات البرىاف ككيفية تركيبيا كشركط الحد الصحيح ككيفية ترتيبو 5.كال يمكف أف يشكؿ
خط ار مثمما تشكمو بقية العمكـ الكافدة مثؿ الطبيعيات كاإللييات حيث أف الدىرييف القائميف بأزلية العالـ ال يربطكف حركة الطبيعة
1
عمي أكمميؿ :أفكار مياجرة ،مركز دراسات الكحدة العربية ،بيركت ،الطبعة األكلى ،2013 ،ص .173
2
Aristote : la métaphysique, Op.cit, Livre E, § 1026 a, p 220.
3
ابف خمدكف :المقدمة ،مرجع سابؽ ،ص .431
4
ابف رشد :فصؿ المقاؿ كتقرير ما بيف الشريعة كالحكمة مف اتصاؿ ،مرجع سابؽ ،ص .24
5
أبك حامد الغزالي :المنقذ مف الضبلؿ كالمكصؿ إلى ذم العزة كالجبلؿ ،مرجع سابؽ ،ص ص .103-100
46
بالتسخير اإلليي ،كاإلليييف بدكرىـ ال يعتقدكف بعمـ ا﵀ بالجزئيات مثبل 1.لكف ،خبلفا العتقاد الغزالي ،يمكف لعمـ المنطؽ أف يككف
أداة لنقض العقائد ،كما المناظرات مع غير المسمميف إال مثاؿ عمى ذلؾ ،حيث يستطيعكف ابطاؿ أم عقيدة مف خبلؿ المنطؽ.
ككأف الم نطؽ ىنا ليس حسنا لذاتو أك سيئا لذاتو ،بؿ يعكد إلى المستعمؿ نفسو" .كربما ينظر في المنطؽ أيضا مف يستحسنو كيراه
كاضحا ،فيظف أف ما ينقؿ عنيـ مف الكفريات مؤيد بمثؿ تمؾ البراىيف ،فيستعجؿ بالكفر قبؿ االنتياء الى العمكـ االليية 2".لذا فيك
ذك حديف.
كالحؽ أف ا لمنطؽ أك حتى العمـ الرياضي ال ينفصبلف عف ركح الفمسفة اإلغريقية .كالفمسفة ذاتيا لـ تنفصؿ عف خصكصيات
الديف الكثني .كمف األمكر المثبتة أف المنطؽ اليكناني منطؽ فمسفي أكثر مما ىك منطؽ عممي خالص .كبمجرد ارتباطو بالمغة
اليكنانية فيذا معناه إرتباطو بمنظكمة معقدة مف االعتقادات كالتصكرات كالتشكبلت الركحية .فمنطؽ أرسطك ال ينفصؿ البتة عف
ميتافيزيقا الفمسفة اليكنانية بما ىي ميتافيزيقا تصكرية خالصة .كقد أشرنا أعبله إلى ىذه المسألة .فعممية التأصيؿ لممنطؽ األرسطي
في القرآف ،تمثؿ ضرب مف إدخاؿ مقدمات الفمسفة الصكرية في نسؽ العقبلنية اإلسبلمية التي أرادت أف تككف متميزة عف كؿ
المكركث اإلنساني السابؽ عنو .كفي ىذا السياؽ يقكؿ لككازيفيتش ،المنطقي -الرياضي المعاصر ،مشي ار إلى استحالة الفصؿ بيف
العممية كالفمسفية في عمـ المنطؽ األرسطي ":كاف أرسطك خاضعا لتأثير نظرية المعاني األفبلطكنية حيف صاغ نظريتو المنطقية في
الحدكد الكمية" 3.كمف المعمكـ أف فمسفة أفبلطكف مزيج معقد مف الفمسفة الفيثاغكرية كاإليمية كالييراقميطية...الخ التي تشكؿ مستكدع
الركح اإلغريقية ككؿ.
4
ىناؾ مف كاشج بيف تاريخ العمـ الرياضي كتاريخ الفمسفة إلى درجة اإلقرار بأف ظيكر الفمسفة قد ارتبط بظيكر الرياضيات.
كقد ذكرنا سابقا بأف أفبلطكف قد تكسؿ بالنمكذج الرياضي في فمسفة العديد مف األمكر غير الرياضية ،أم الفمسفية كاألخبلقية
كالبلىكتية .ىذا ،كيمكف القكؿ بأف العمـ الرياضي ذاتو قد تأثر بالمقكالت الفمسفية كالمنطقية ،كلعؿ ىناؾ مف يشير إلى تأثر أكقميدس
بالمنطؽ األرسطي الذم ىك محصمة ألصكؿ الفمسفة التصكرية التي تعتبر الكمي كالشكمي مقارنة بالجزئي كالمضمكني أكثر أىمية
كأقرب إلى الحقيقة .ما الرياضيات إال منطقا في صيغة أكثر دقة ،الرياضيات منطؽ رقمي .كقد قاؿ العديد مف الرياضييف بأف
التحم يؿ الذم ىك المنطؽ ذاتو ىك جكىر العمـ الرياضي ،إف التحميؿ ىك الذم يتطابؽ فيو المنطقي كالرياضي معا 5.كلـ يكف أرسطك
أرسطك يسمي عمـ المنطؽ إال بالعمـ التحميمي أك األنالكطيقا .ما الرياضيات إال منطؽ شرطي ،بمعنى أنو يستنتج بقكة كتماسؾ مما
1
أبك حامد الغزالي :تيافت الفبلسفة ،مرجع سابؽ ،ص ص .155-42أيضا أبك حامد الغزالي :المنقذ مف الضبلؿ كالمكصؿ إلى
ذم العزة كالجبلؿ ،مرجع سابؽ ،ص ص .106
2
أبك حامد الغزالي :المنقذ مف الضبلؿ كالمكصؿ إلى ذم العزة كالجبلؿ ،مرجع سابؽ ،ص ص .105
3
ياف لككاشيفيتش :نظرية القياس األرسطية مف كجية نظر المنطؽ الصكرم الحديث ،ترجمة عبد الحميد صبرة ،نصر المعارؼ،
اإلسكندرية ،1961 ،ص .285
4
ألتكسير :تأىيؿ إلى الفمسفة لمذيف ليسكا بفبلسفة ،تحرير النص كالتعميؽ عميو ج .ـ .غكشغارياف ،ترجمة إلياس شاكر ،دار
ٌ لكيس
الفارابي ،بيركت ،الطبعة األكلى ،2017 ،ص .258
5
Henri Poincaré: la valeur de la science, édition Ernest Flammarion, Paris, 1939, p 29.
47
يتـ افتراضو عمى أنو حقيقة نظرية أك حتى كاقعية 1.كيمكف استعماؿ عبارة "العمكـ الصكرية" لمتكحيد بيف عمـ المنطؽ كعمـ
2
فيي ال تخبرنا أم شيء ذم باؿ عف العالـ الخارجي ،كؿ ما تقكـ الرياضيات ،عمى أساس أنيا تيتـ بالعبلقات ال المضاميف.
بعممو ىك كصؼ البنى كالييئات الفكرية الخالصة .يقكؿ ببلنشيو" :الرياضيات كالمنطؽ ال تأتينا بمعارؼ حقيقية ،بؿ ىي عبارة عف
قكاعد فحسب نتبعيا في صياغة معارفنا ( )...الرياضية تمثؿ لغة دقيقة مريحة تعبر عف الكاقع دكف أف تشارؾ في صنعو" 3.كقد
تكفؿ العديد مف عمماء الرياضيات برد العمـ الرياضي إلى أصكؿ منطقية ،سكاء راسؿ أك كاتييد أك لكدفيج فيتجنشتيف الذم أقر في
رسالتو المنطقية الفمسفية بأف "الرياضيات إحدل طرؽ المنطؽ" 4.لكف يمكف اإلشارة إلى أف أرسطك ذاتو قد تأثر بالرياضيات في
صياغة منطقو ،كأظير دالة عمى ذلؾ استعمالو كممة "القياس" أك السيمكجيسمكس التي ىي كممة حسابية كىندسية في األساس.
كلئف كاف الرياضياتي بيذا المعنى اإلغريقي ،فبل يككف مقصك ار عمى فرع معرفي دكف آخر ،بؿ يككف شرط قبمي لممعرفة
اجماال ،حتى المعرفة الدينية .كنحف نعرؼ أف العصكر الدينية لـ تتنكر لمرياضيات كعمـ كافد مف الكثنية ،سكاء في العالـ اإلسبلمي
كىذا ما أكده الغ ازلي مثبل ،أك في العالـ المسيحي كىذا بشيادة أحد المتخصصيف الذم قاؿ" :مف بيف جميع المجاالت العممية بقيت
الرياضيات المجاؿ الكحيد الذم لـ تعارض الكنيسة البتة نتائجو .فالرياضيات بطابعيا المجرد تبدك أنيا تنتمي إلى مجاؿ العقؿ
البحت .كاذ تعرب عف حقائؽ مطمقة كأزلية فيي تكاد تككف شبو إليية" 5.كلعمنا ،بعد كؿ ىذا ،نعذر بعض الفبلسفة الذيف يصفكف
الخالؽ بأكصاؼ رياضية أك يعتبركنو أعظـ الميندسيف ! مف أجؿ تأكيد التقارب بيف الرياضي كالمطمؽ .فكؿ رياضياتي يعبر عف
الثبات كالديمكمة في لجة المتحكالت ،ككؿ ميتافيزيقي يسعى إلى بمكغ كينكنة ىادئة تنطبؽ عمى كؿ الحاالت بعيدا عف كؿ قمؽ أك
شغب .كبالفعؿ ،فإننا نجد األفبلطكنية بما ىي أكؿ ميتافيزيقا متكاممة ،قد جعمت العمـ الرياضي كسيمة "لتدريب النفس عمى السمك
بنفسيا مف المحسكس إلى المعقكؿ" 6.كىذا يثبت كؿ الفرضيات التي كضعناىا في البداية ،كالقائمة بأف الرياضيات اإلغريقية لـ يكف
1ككلينجككد :مقاؿ في المنيج الفمسفي ،ترجمة فاطمة اسماعيؿ ،مرجع سابؽ ،ص .250
2
ركبير ببلنشيو :نظرية المعرفة العممية (اإلبستمكلكجيا) ،ترجمة حسف عبد الحميد ،مطبعة دار المعرفة ،الككيت ،1986 ،ص
.98
3
المرجع نفسو ،ص .118
4
لكدفيج فتجنشتيف :رسالة منطقية فمسفية ،ترجمة عزمي إسبلـ ،مراجعة كتقديـ زكي نجيب محمكد ،مكتبة األنجمكمصرية ،القاىرة،
،1968فقرة ،6,23ص 151كفقرة ،6,234ص .152أيضا :ركدكلؼ كارناب :البناء المنطقي لمعالـ كالمسائؿ الزائفة في
الفمسفة ،مرجع سابؽ ،ص .133
5
جكرج مينكا :الكنيسة كالعمـ -تاريخ الصراع بيف العقؿ الديني كالعقؿ العممي ،الجزء األكؿ ،ترجمة مكريس جبلؿ ،األىالي لمطباعة
48
عمما خالصا ،بؿ أنيا انخرط في أنطكلكجيا شاممة تنمذج الكامؿ كالثابت كالكمي ،في مقابؿ تأثيـ الناقص كالمتحرؾ كالجزئي .لذا فإف
نقؿ العمـ كالمنطؽ مف عند اإلغريؽ ،ىك نقؿ لمنظكمة معقدة لتصكر العالـ .كتريب بعض فبلسفة اإلسبلـ مثؿ الغزالي كابف تيمية
في نقؿ العمكـ الكافدة كاستعمميا كاف مبر ار مف ىذه الزاكية بالذات.
ال يمكف أف تبقى مناىج عمـ الكبلـ مثمما كانت عميو في القركف اإلسبلمية األكلى ،ألف العمكـ عرفت عدة ثكرات داخمية كبينية،
كما أف المن اىج تكالدت بكثرة في كؿ العمكـ بما في ذلؾ العمكـ الدينية التي لـ تكف بمعزؿ عف الثكرات العممية ،ألف كؿ ديف يفيـ
في ضكء المعطيات المعاصرة لو .كلئف كانت المناىج الكبلمية الكبلسيكية قد تأسست عمى العقؿ المنطقي المشدكد لممنطؽ التقميدم
اإلغريقي ،فإف ىذا المنطؽ تـ تجاكزه بصكرة كمية بحيث ال يمكف أف يمثؿ إال حي از قميبل مف مجمؿ العبلقات المنطقية المكجكدة .كقد
كشؼ الفبلسفة المعاصريف عف مدل النمك الذم أنجزه المنطؽ المعاصر في مجاؿ العبلقات المنطقية جعمت مثبل "كارنات" يعترؼ
قائبل" :تمكنت مف تنفيذ ميمتي بفضؿ المنطؽ المعاصر فقط (منطؽ أرقي مف المنطؽ التقميدم ،بخاصة منطؽ العبلقات) الذم تـ
تطكيره في السنكات العشر األخيرة الماضية خاصة عمى يد فريجو ككايتيد كرسؿ .يتضمف ىذا المنطؽ نظرية مفيكمية عامة
لمعبلقات كخصائصيا البنيكية .كأف البنية المفيكمية لمرياضيات برمتيا جزء مف المنطؽ" 1.لذا فإننا نفترض بأف عمـ الكبلـ اإلسبلمي
المعاصر ،الذم ال زاؿ يدافع عف العقائد اإليمانية ،سيأخذ بالمستجدات المنطقية كالعممية المتاحة ،كاال بقى في فضاء فكرم تقميدم
ال يستجيب لمتطمبات ىذا العصر التي تميزت بالنزعة العممية التي تربط كؿ حقيقة ميما كانت ،بقدرتيا عمى التكثيؽ العممي ،سكاء
كاف رياضيا أك تجريبيا أك كبلىما .لذا قاؿ طو عبد الرحمف بأنو "إذا تبيف أف العقبلنية الكبلمية تنبني عمى مبدأ "الفعؿ" ك"المفاعمة،
فإف عمـ كبلـ" يصبح السبيؿ النافع كالجاد لتقكيـ النزعات الفكرية االختيارات المنيجية المستجدة كلمنظر في التغيرات العميقة التي
أحدثيا التقدـ العممي كالتقني في مككنات المجتمع المسمـ" 2.ىذه المبلحظة تصبح اشكالية عمى أساس أف غالبية المجتمعات
المسممة ال تنتج معرفة عممية بمعزؿ عف النمكذج الثقافي الغربي ،كالذم ىك نمكذج عمماني في األساس ،مما يجعؿ ميمة عمـ
الكبلـ الجديد ميمة انفعالية في الحقيقة .كنقصد باالنفعالية ىنا ،أنو ينقؿ آخر النظريات العممية الغربية ،سكاء في السماكات أك
األرض أك الفيزياء...الخ مف أجؿ البحث عما يمكف أف يثبت صحة العقيدة اإلسبلمية كترسيخ فرضيتنا األساسية القائمة بأف القرآف
ليس كثيقة تاريخية تصمح لزم ف األكائؿ فقط ،بؿ ىك قكؿ مطمؽ صالح لكؿ زماف كمكاف .كالحؽ أف ىذه الفرضية قد أرىقت الفكر
الكبلمي لدرجة أنو في بعض المناسبات يتخبط بيف المطمؽ كالنسبي ،كيزف العمـ بالديف كيزف الديف بالعمـ ،كىذا يؤدم إلى صعكبات
تقنية ال تحصى .إذ أصبحنا اليكـ أماـ تكسع كبير لتخص صات العمكـ ،كيظير جميا أنيا دخمت في الميداف الذم كاف حك ار عمى
الديف ،فمثبل مكضكع الخمؽ كالحياة كالمكت...الخ كانت ضمف دائرة الديف حصرا ،لكف العمـ اليكـ ،بخاصة البيكلكجيا ،أصبح
1
ركدكلؼ كارناب :البناء المنطقي لمعالـ كالمسائؿ الزائفة في الفمسفة ،مرجع سابؽ ،ص .15
2
طو عبد الرحمف :في أصكؿ الحكار كتجديد عمـ الكبلـ ،المركز الثقافي ،مرجع سابؽ ،ص .157
49
متحكما بدقة مدىشة في ىذه المكاضيع 1.إف الحدكد المعرفية متحركة دكما ،كما كاف دينيا أصبح فمسفيا ،كما كاف فمسفيا أصبح
عمميا ،كال نعرؼ في المستقبؿ البعيد ما ىك النمكذج المعرفي الذم سيسكد العالـ !
مف النادر اليكـ ،أف نصادؼ عالـ كبلـ بالمعنى التقميدم المعركؼ في زمف المعتزلة كاألشاعرة....الخ .كؿ ما يمكف أف نجده
ىـ الدعاة العارفكف بالتراث كالمطمعكف جزئيا عمى العمكـ الحديثة ،بؿ في بعض األحياف نشعر بأف اطبلعيـ سطحي ال يرتقي إلى
رتبة التخصص الحقيقي .لذا نجد الدعاة ممف ليـ تككيف ديني تقميدم ،يدافعكف عف العقائد اإلسبلمية مف خبلؿ االستعانة بالنظريات
العممية الغربية .كمف األمثمة األكثر انتشا ار نج د العالـ كالداعية محمد راتب النابمسي ،كالذم انخرط في ما يمكف أف نسميو باإلعجاز
العممي لمقرآف الكريـ أك حتى السنة النبكية إلثبات صدؽ العقيدة كمف ثمة الرد عمى كؿ الممحديف أك غير المسمميف أك حتى
المسمميف العممانييف كالعقبلنييف الذيف تجاك از منطؽ الصدؽ كالخطأ بالمعنى التقميدم .نجد مثبل ىذا العالـ كالداعية يتحدث عف فؾ
اب كلى ٍف ي ٍخمً ى َّ
ؼ الموي ؾ بًا ٍل ىع ىذ ً ى ي ﴿كىي ٍستى ٍع ًجمي ى
كن ى لغز آية قرآنية أعجزت العمماء المسمميف منذ القديـ حتى اليكـ ،حيث كرد في القرآف الكريـ :ى
ً و ً ىك ٍع ىدهي ىكًا َّف ىي ٍك نما ًع ٍن ىد ىرّْب ى
كف﴾ [الحج .]47 ،كىي آية تعبر عف تساءؿ البعض عف مكعد الحساب كالعقاب، ؾ ىكأىٍلؼ ىسىنة م َّما تى يع ُّد ى
كاستفسار يريد البرىنة عمى صدؽ العقيدة اإلسبلمية ،ألف اإليماف باليكـ اآلخر مف أركاف اإليماف األساسية ،كالتشكيؾ فيو يؤدم إلى
انييار كؿ المنظكمة العقيدة كاألخبلقية لئلسبلـ .ككاف الجكاب مف خبلؿ التمييز بيف الحساب البشرم كالحساب اإلليي ،فاليكـ
اإلليي يعادؿ ألؼ سنة مما نسحب نحف البشر ،أم عشرة قركف كاممة .كعمؿ النابمسي ،مف خبلؿ االستعانة بنظرية أينشتيف
كتحديده سرعة الضكء كبعض أساسيات عمـ اليندسة كالفمؾ ،كأثبت أف حركة القمر تتكافؽ كمية مع األلؼ سنة الكاردة في اآلية
السابقة .ىذا النكع مف البرىنة نعتبره عمـ كبلـ جديد ألنو استثمر آخر النظريات العممية مف أجؿ اثبات صدؽ اآلية القرآنية .كىذا
بالنسبة ألم فرد مسمـ تعزيز لقكة العقيدة ،لكف ما ىك رأم العالـ المحايد أك رجؿ ديف مسيحي أك بكذم مثبل ؟ أك حتى متخصص
في الفيزياء الفمكية ؟ ليس مف السيؿ اقناعيـ بذلؾ ،عمى أساس أف راتب النابمسي ليس متخصصا ال في اليندسة كال في الفمؾ كال
في الفيزياء .كما أنو يتحدث عف نظرية النسبية إلينشتيف حديث غير متخصص ،ألنو لـ يميز النسبية العامة كالخاصة ،كلـ يدرس
اخفاقات ىذه النظرية ،ثـ أنيا نظرية متقادمة تعكد إلى أكثر مف مائة سنة ،كنحف نعمـ بأف العمـ يعرؼ ثكرات كتعديبلت ال تنتيي.
لقد تعاطي النابمسي مع نظرية النسبية بعقبلنية دينية محضة ،عمى الرغـ مف أف العمـ لو خصكصية النسبية كالتعديؿ الذم ال
ينتيي .كطو عبد الرحمف ذاتو يرفض ىذه الممارسات التي تفتقر إلى الدقة العممية عندما قاؿ أف "اإلشارات الككنية الكاردة في
القرآف ،حتى كلك اتفقت مع ما تقتضيو النصكص العممية مف قكانيف كنظريات ،فإف سياؽ األكلى غير سياؽ الثانية ،فضبل عف أف
ثبكت ىذا االتفاؽ ىك نتاج تأكيؿ ذاتي ،ال نتاج تحقؽ مكضكعي" 2.كىذا القكؿ رد كاضح عمى ما حممناه سابقا في كبلمية النابمسي،
عمى أساس أف سرعة الضكء المقدرة بػ ثبلثمائة ألؼ كيمكمتر في الثانية ،ال عبلقة ليا بالفيـ الديني ،فيك عدد مؤسس عمى عقبلنية
الترييض التي يمكف أف تتغير في كؿ عصر .كقد انتيى "حاج حمد" ،الذم حمؿ ىـ الصدقية غير المنتيية لمعقيدة اإلسبلمية
1
محمد أبك القاسـ حاج حمد :القرآف كالمتغيرات االجتماعية كالتاريخية ،دار الساقي ،بيركت -لندف ،دكف تاريخ ،ص .7
2
طو عبد الرحمف :سؤاؿ العمؿ – بحث عف األصكؿ العممية في الفكر كالعمـ ،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء – بيركت،
الطبعة األكلى ،2012 ،ص .235
51
متجسدة في القرآف ،إلى أنو مف "السيؿ القكؿ بأف القرآف صالح لكؿ زماف كمكاف ،بينما المطمكب ىك اثبات ذلؾ مكضكعيا ،كمف
داخؿ القرآف ،كبما يدحض النظرة السككنية إلى آياتو" 1.كتبقى المكضكعية ،التي تفترض اتفاؽ كؿ العقكؿ حكؿ ىذه الحقيقة أك تمؾ،
ىي أىـ ما يكاجو عمـ الكبلـ الجديد القائـ عمى نظرية اإلعجاز العممي ،عمى أساس أف غير المسمـ ال يرل أم عبلقة بيف نظرية
عممية كنص ديني مقدس مثؿ القرآف ،ثـ أف النمك المستمر لمعمـ قد يتصادـ مع نجازة كنيائية العقائد اإليمانية .كقد لخص طو ىذه
العقبات فيما يمي" :المشتغمكف فيما يسمى االعجاز العممي في القرآف ،ال يأمنكف في الكقكع في ثبلثة محذكرات:
-1االيياـ بأف الدليؿ الفيزيائي أقدر مف غيره عمى اثبات نزكؿ القرآف مف عند ا﵀ ،بؿ عمى اثبات كجكد ا﵀.
-2تكمؼ التأكيؿ بًمى ٌي أعناؽ اآليات القرآنية يضر الكتاب المنزؿ (تعميؽ المتغير بالثابت)( )...اإلساءة لكتاب ا﵀ مف
2
حيث نريد أف نحسف التصرؼ معو".
في تقديرنا ،أف العمـ الغربي الحالي ،ال يمكف أف يككف بمثابة سند ابستمكلكجي إلثبات العقائد الدينية .ألنو انطمؽ مف منظكر
مادم لمعالـ ،كال يمكف أف يتطابؽ ماىكيا مع العقائد ،سكاء كانت مسيحية أك اسبلمية .بؿ ىك تطابؽ عرضي ال يمبث أف يثبت عدـ
صدقو أك صدقة الج زئي .ألف العمـ األكاديمي الحالي ،ليس ىك العمـ الذم كاف يتحدث عنو ابف رشد مثبل كالذم ينظر في
المكجد ،بؿ إنو ينظر في المكجكدات مف أجؿ المنفعة أكال مف خبلؿ السيطرة عمى الطبيعة،
المكجكدات مف جية داللتيا عمى ي
كالكشؼ عف الحقائؽ العقمية المصاغة كفؽ نمكذج رياضي متسمسؿ .فنمط التفكير الحديث ،الذم انطمؽ مع الديكارتية كالبيككنية،
ىك نمط ميكانيكي ،يسمب أم حياة أك قيمة عف الطبيعة 3.في حيف أف القرآف الكريـ ،يجعؿ كؿ ظاىرة طبيعية دالة تدبير إليي .كمف
ثمة فأم محاكلة لبناء كترميـ أك تقكية العقائد عف طريؽ العمـ ىي محاكلة ال تثمر أم حقيقة مكثكقة .كعمى الرغـ مف أنو تقاـ
مؤتمرات عالمية حكؿ اإلعجاز العممي لمقرآف كالسنة أك حتى أقكاؿ الصحابة ،إال أف أثرىا يبقى محمي في العالـ اإلسبلمي الذم
يفيـ العالـ فيما تقميديا .فالكفر الغربي الحديث ،قاـ عمى أساس كجكد حقيقة مزدكجة vérité double؛ حقيقة كبلمية كحقيقة
عممية 4.كىذا يدؿ عمى الفصؿ بيف العمـ كالديف ،كبالتالي فأم ربط مف جيتنا ،ال يمزـ ال العمـ كال الديف ،بؿ مجرد تأكيبلت ذاتية
تستيدؼ تقكية الشعكر الديني كحماية التيديدات التي تكالت عمى كؿ العقائد ،كليس العقيدة اإلسبلمية فقط.
كعمى الرغـ مف ككف المفكر مالؾ بف نبي ،قد تنبو إلى الفاصؿ النكعي بيف العمـ التقميدم متمثبل في عمـ الكبلـ ،كالعمـ
المعاصر الذم انطمؽ مف الفاصمة الكارتزيانية (الديكارتية) 5،إال أنو في كتابتو األكلى قد سار في طريؽ نظرية اإلعجاز العممي
1
محمد أبك القاسـ حاج حمد :القرآف كالمتغيرات االجتماعية كالتاريخية ،مرجع سابؽ ،ص .141
2
طو عبد الرحمف :سؤاؿ العمؿ – بحث عف األصكؿ العممية في الفكر كالعمـ ،مرجع سابؽ ،ص .236-235
3
كائؿ حبلؽ :قصكر االستشراؽ -منيج في نقد العمـ الحديث ،ترجمة عمرك عثماف ،الشبكة العربية لؤلبحاث كالنشر ،بيركت،
الطبعة األكلى ،2019 ،ص .370
4
داريكش شايغاف :األصناـ الذىنية كالذاكرة األزلية ،ترجمة حيدر نجؼ ،دار اليادم لمطباعة كالنشر كالتكزيع ،بيركت ،الطبعة
األكلى ،2007 ،ص .36
5
مالؾ بف نبي :مذكرات شاىد لمقرف ،دار الفكر المعاصر -بيركت كدار الفكر -دمشؽ ،الطبعة الثانية ،1984 ،ص .367-366
51
السابقة التي حممناىا .فعندما ألؼ الظاىرة القرآنية سنة ،1947عاد إلى ممارسة عمـ الكبلـ عمى الطريقة التقميدية تماما ،حيث يفتح
بف نبي في "الظاىرة القرآنية" ممؼ المجاز القرآني ،فتحا شجاعا بالنظر إلى طبيعة الفكر اإلسبلمي الرسمي كالمعيكد .لكنو في
مقياس أرككف ،الذم نقده في ىذا السياؽ ،ىك فتح أقؿ مما ىك مطمكب ،ألنو يستعمؿ مشكمة المجاز مف أجؿ التأكيد
كالتبجيؿ...الخ .أك مف أجؿ إثبات الفكرة التي سيطرت عمى ذىف بف نبي بفعؿ مقكالت المستعربيف أك المستشرقيف ،كىك أف القرآف
كبلـ ال عبلقة لو بإرادة محمد (ص) ،كىذا ما يعارضو أرككف ذاتو .يقكؿ بف نبي" :تحميؿ األسمكب القرآني يجب أف يكشؼ عما
يربطو بالتربة العربية ( )...إننا نجد في القرآف صك ار ذىنية كثيرة ال تتصؿ بسماء الجزيرة العربية كال بأرضيا .مثاؿ :سكرة النكر
﴿ : 40/24أك كظممات في بحر لجي يغشاه مكج مف فكقو مكج مف فكقو سحاب ﴾...ىذا المجاز يترجـ عف صكرة ال عبلقة ليا
بالكسط الجغرافي لمقرآف .ال عبلقة لو بالمعارؼ البحرية في العصر الجاىمي ( )...العصر القرآني كاف يجيؿ كمية تراكب األمكاج،
كظاىرة امتصاص الضكء كاختفائو عمى عمؽ معيف مف الماء 1".ككما ىك كاضح ،فإف مالؾ بف نبي يستعمؿ مسألة المجاز القرآني
إلثبات قضية ال تاريخية كى ي افصاؿ القرآف عف كؿ ما سبقو مف تراث ديني سماكم أك أرضي ،أم كثني أك تكحيدم .كىذه
األطركحة بالذات ىي التي تمسؾ بيا أرككف كمسممة تاريخية كأنثركبكلكجية ال يمكف التنازؿ عنيا مف طرؼ البحث العممي المنزه مف
أم أدلجة.
خالصة.
استطاع عمـ الكبلـ أف يشؽ طريقو مف خبلؿ االستناد عمى القرآف ذاتو ،فقد كاد حجاجيا ضد كؿ مف ال يسمـ بصدقو كصحتو.
كما أف الرسكؿ الكريـ قد حاجج الكفار كالمشركيف مف أجؿ اثبات صدؽ العقائد الجديدة ،بخاصة عقيدة التكحيد .كما أف تفاعؿ
المسمميف األكائؿ مع الحضا ارت المجاكرة ،قد أكسبيـ مقدرة عمى االرتفاع عف المنطؽ الذاتي المحمي إلى منطؽ ممزـ كمكضكعي.
لذا يقكؿ "فاف ايس" "كاف المسممكف مييئيف ألسمكب الفكر الديالكتيكي مف خبلؿ المكقؼ المحاجج لنبييـ كمف خبلؿ المحيط الذم
اصطدمكا بو أيضا أك الذم جاؤكا منو كغرس جديدة" 2.لذا فإف مناىج عمـ الكبلـ لـ تكف محمية مطمقا كلـ تكف منقكلة طمقا .كما
أنيا ال تكصؼ بالثبات ،فمناىج المعتزلة مثبل تختمؼ مف مرحمة النشأة إلى مرحمة ما بعد المأمكف كبيت الحكمة .كما أف مناىج
الكبلـ الحالية قد تأقممت مع خصكصيات العالـ المعاصر ،حيث أصبح العمـ ىك معيار الصدؽ األكثر ىيمنة .كبالتالي تحكؿ العديد
مف المتكمميف الجدد إلى تقكية العقائد بنتائج العمـ األكثر حداثة.
لـ يستعمؿ المتكممكف المناىج النقمية محميا فقط ،أم بيف الفرؽ المسممة ،كلـ يستعممكا المنيج العقمي مع األجانب فحسب ،أم
أصحاب الديانات المختمفة .بؿ أنيـ استعممكا المنيج العقمي في الداخؿ كالمنيج النقمي في الخارج" .لقد كاف المتكممكف عقبلنييف كما
كانكا دكما شديدم االعتزاز بأنفسيـ ،إال أنيـ درجكا عمى أف يرمكا بالكفر حتى مف أبدل مف بيف زمبلئيـ بعض اآلراء الخاصة التي
تبدك عمييا مسحة الذاتية .عمى أف ىذه المكاقؼ ربما ظمت مجرد كبلـ نظرم ال ينتقؿ إلى الممارسة الفعمية؛ لقد كاف قصد ىؤالء أف
1
مالؾ بف نبي :الظاىرة القرآنية ،ترجمة عبد الصبكر شاىيف ،دار الفكر ،دمشؽ ،الطبعة الرابعة ،1987 ،ص .296 -295
2
جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،مرجع سابؽ ،ص .81
52
يؤكد فقط أف "مف كاف معتقدا لمثؿ ىذه األشياء استكجب بالضركرة اليبلؾ كالعذاب" 1.فالتكفير الكبلمي يمثؿ بيذا المعنى استراتيجية
اإلسكات كالتخطيئ أكثر مما يمثؿ فعؿ العنؼ مثبل.
العديد مف مشكبلت عمـ الكبلـ ناجمة عف المنيج ،ألف استعماؿ المنطؽ في مسألة العقائد قد أدل ،في الكثير مف المناسبات
إلى انحرافات خطيرة ،أدت إلى نشكب صراعات بيف الفرؽ ،بؿ أنو أصؿ نشأة الفرؽ ذاتيا ىك درجة العقبلنية في الديف .كلعؿ تحريـ
المنطؽ في بعض السياقات قد نجـ عف ىذه االستعماالت غير المناسبة لو" .فالخكض في أمكر العقيدة بطرؽ لـ يرد األمر بيا،
كالنظر في المتشابيات المنيي عنو ،أدل إلى تحريـ المنطؽ الذم استعمؿ ككسيمة لعمـ الكبلـ ،ففتكل ابف الصبلح القائمة ليس
االشتغاؿ بتعمـ المنطؽ كتعميمو مما أباحو الشرع كال استب احو أحد الصحابة كالتابعيف كاألئمة المجتيديف .كالكبلـ في الذات كالصفات
أفضى إلى اإلخبلؿ بمبدأ التكحيد التنزييي" 2.القريب مف المقدس مقدس كالقريب مف المدنس مدنس .لذا فقيمة المنطؽ تابعة لما
يحققو مف نتائج بالنظر إلى العقيدة.
كلئف اقتنعنا أف ما يميز عمـ ا لكبلـ عف بقية فركع العمكـ الدينية ىك استعماؿ العقؿ ،فإف معضمتو تتحكؿ إلى معضمة منيجية،
عمى أساس أنو يشترؾ مع بقية العمكـ القرآنية في مكضكع العقائد .لكف ال يجب أف نتحدث عف العقؿ باعتباره جكى ار ثابتا بؿ ىك
فعؿ نامي 3،فعقمنا اليكـ ،كنحف في القرف الكاحد كالعشريف ،ليس ىك نفسو عقؿ القرف السابع لمميبلد كما بعده كىك عصر ظيكر
الرسالة المحمدية ،كليس ىك عقؿ القرف الرابع في أثينا حيث عرفت الفمسفة الركاج األكبر .بؿ العقؿ فعؿ ،أم ينتج معرفة تنتجو مرة
ثانية .كىذه النظرة التركيبية التي تكصؿ إلييا ادغار مكراف ،قد تجعمنا نقكؿ بأف العقؿ الكبلمي ىك الذم يجعؿ النص القرآني قابؿ
لمفيـ دكف نياية .ففي كؿ عصر ،كالذم يتج عقبلنية مخصكصة ،يتـ فيـ القرآف مف جديد ،عمى أساس النمكذج المتكفر ،كىذا ما
يجعمو صالحا لكؿ زماف كمكاف.
لكف ال يجب أف نربط اإليماف بالعقؿ النظرم فقط ،بؿ لو جانب أخبلقي يؤثر في نشأتو كاستم ارره .لذا فبل يمكف أف نعكؿ عمى
المنطؽ مطمقا مف أجؿ تأسيس اإليماف .كقد كاف كانط عرؼ اإليماف كفؽ ىذه الثنائية كما يمي :اإليماف ىك الطريقة األخبلقية
لتفكير العقؿ في االعتقاد بصحة ما يتعذر عمى المعرفة النظرية الكصكؿ إليو ( )...إف اإليماف ىك ثقة بالكصكؿ إلى قصد يككف
السعي كراء تحقيقو كاجبا ،بينما تبقى إمكانية تحقيقو بالنسبة إلينا قابمة ألف تدرؾ"4.كىذا الجانب األخبلقي ىك بالضبط الذم كنا قد
سميناه أعبله بالجانب االعتبارم أك العقؿ االعتبارم في القرآف الكريـ .إف دعكة القرآف لئليماف با﵀ خالقا كاحدا لمككف كلكؿ ما فيو،
1
يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،ترجمة عبد المجيد الصغير ،نشر الفنؾ ،الدار البيضاء،2000 ،
ص .25
2
طو عبد الرحمف :سؤاؿ المنيج – في أفؽ التأسيس ألنمكذج فكرم جديد ،مرجع سابؽ ،ص .215
3
طو عبد الرحمف :المساف كالميزاف أك التككثر العقمي ،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء – بيركت ،الطبعة األكلى،1998 ،
ص ص .404-21
4
إمانكيؿ كانط :نقد ممكة الحكـ ،مرجع سابؽ ،فقرة ،91ص .445
53
ىي الدعكة المرفكقة بااللتزاـ األخبلقي تجاه الكجكد كالخالؽ معا .أك قؿ االمتناف مف ىذا الكجكد العظيـ الذم ال يمكف أف يككف ببل
مكجكد أعظـ منو.
54
المحاضرة الثالثة :عوامل ظيور عمم الكالم.
مقدمة.
يمكف الحديث عف ظاىرة المركزية الثقافية كظاىرة أنثركبكلكجية ،فالكؿ يعتقد بأنو نقي مف الناحية الحضارية ،لـ يأخذ مف عند
أحد ،كاف أخذ فإنو أخذ الشيء الييف كما ككيفا .كعندما يتعمؽ األمر بالتاريخ ،فإننا نعمؿ عمى اسقاط كضعيتنا الحضارية الحالية
ايجابا أك سمبا عميو .فالعالـ اإلسبلمي اليكـ ،كنظ ار لمكانتو المتكاضعة مف الناحية العممية كاالقتصادية ،فإنو يعكض ىذا الفشؿ
كالنقص بعقيدة نجاح كقكة التاريخ اإلسبلمي ،في حيف أف الغرب ،كنظ ار لجبرتو الحضارم ،عمى كؿ األصعدة ،فإنو ال يمكف أف
يعترؼ بإسيامات غيره ،خاصة العالـ الش رقي ،كيتبدل لبعض مفكريو ،المتخصصيف أك غيرىـ ،بأف ىذه الحضارة العظيمة ال يمكف
أف تككف قد أخذت مف غيرىا إال عمى سبيؿ المجاز .فميس التاريخ فقط مف يصنع الحاضر ،بؿ أف الحاضر أيضا يسيـ في تشكيؿ
تقكم بتاريخو المفترض أنو قكم ،كالقكم يزداد قكة
تاريخو عمى منكالو ،أك عمى األقؿ منسجـ مع خصكصياتو الراىنة .فالضعيؼ ي ٌ
بتاريخو المفترض مف خبلؿ اضعاؼ تاريخ اآلخريف كرسمو باىتا ىامشيا .ىذه ىي تاريخية كاجتماعية المعرفة التي تحدد كتشكؿ
المكاقؼ التي نحمميا.
مسألة العكامؿ األساسية في ظيكر عمـ الكبلـ ،ال تنفصؿ عف ظاىرة المركزية الثقافية ،عمى أساس أف ىذا المكضكع قديـ،
كالنصكص الصريحة فيو قميمة إف لـ تكف منعدمة ،لذا يأتي ىنا عمؿ المؤرخيف في اعادة تشكيؿ الكضعية .كىذه اإلعادة ال تنفصؿ،
طبعا ،عف كضعية كتككيف كميكؿ المؤرخ ذاتو .لذا نجد أنفسنا أماـ نظريتيف مستقطبتيف ال يمكف التكفيؽ بينيما بسيكلة؛ نظرية تؤكد
أف عمـ الكبلـ ظير نتيجة نمك داخمي كذاتي لمحضارة اإلسبلمية ،كنظرية معارضة ،ممثمة في العمكـ في التكجو اإلستشراقي ،كالذم
يدرس التاريخ اإلسبلمي في سياؽ أشمؿ مما ندرسو نحف ،بحيث يسحب الخيكط إلى الماضي البعيد كالجغرافية القريبة مف أجؿ
الت أكيد عمى حدكث نقكؿ ميمة .كمكقفنا المبدئ ىك أف كبل الطرحيف يحتاج إلى تفحص مف أجؿ اخراجو مف براثيف المركزية ،ألنو
ال ينفع التفكير في مسألة معرفية مف منطمقات عرقية كعنصرية أك ثقافية – مركزية ،ما ينفع ىك احقاؽ الحؽ العممي كالتاريخي،
كاعتبار كؿ الحضارات مؤىمة لئلبداع عف طريؽ النقؿ كمستعدة لمنقؿ مف أجؿ اإلبداع .ثـ أف الفصؿ الحاد بيف النقؿ كاإلبداع فصؿ
غير مبرر إطبلقا ،ألف تأم هؿ بسيط في مفيكـ اإلبداع كالنقؿ معا ،يحيؿ بنا إلى التأكيد عمى أف كؿ نقؿ ىك ابداع ككؿ ابداع ىك
نقؿ .أم أف كؿ شيء مكجكد في كؿ شيء .فالمفكريف المسمميف ،حيف نقمكا النصكص اليكنانية ،قامكا بإبداع فيـ انطبلقا مف
اجتماعية الثقافية التي نشأكا فييا ،ككـ مف فيـ اسبلمي منحرؼ عمى األصؿ اليكناني ،أبدع تأكيبل جديدا لـ يكف يخطر عمى باؿ
المؤلؼ اليكناني األصمي .ثـ أف أطركحة اإلستشراؽ األساسية ،كىي أطركحة سطحية إلى حد بعيد ،تعكؿ عمى األسبقية التاريخية
إلثبات األثر الكبير لمعكامؿ الخارجية في نشأة عمـ الكبلـ .يعتقدكف بأف أسبقية اليكناف كبيزنطة عمى المسمميف في مناقشة المسائؿ
المتعمقة بالبلىكت أك الثيكلكجيا اك الميتافيزيقا ،ىك المبرر الذم يثبت تبعية عمـ الكبلـ اإلسبلمي لبلىكت المسيحي أك الميتافيزيقا
اإلغريقية .لكنيا حجة كاىية في أكثر مف مناسبة ،عمى أساس أف بعض المسيحييف كبعض الييكد قد تأثركا بالكبلـ اإلسبلمي .ألف
الفكر المسيحي ،كلك أنو سبؽ الفكر اإلسبلمي ،إال أنو لـ يتكقؼ كلـ يظير كامبل ناجزا ،فبعد ظيكر الفكر اإلسبلمي ،استمر
المسيحيكف كالييكد في التفك ير كاإلنتاج تحت لكاء الحضارة اإلسبلمية ،كبيذا يككف الفكر المسيحي المتأخر ،قد أخذ مف الفكر
55
اإلسبلمي المتقدـ عميو ،كما حالة ابف ميمكف مثبل كالقديس تكما اإلككيني إال أمثمة ظاىرة ليذا التأثر بالفكر اإلسبلمي ،ىنا يتحكؿ
المتأخر فاعبل في المتقدـ .ربما أف المستشرؽ يتحدث عف البدايات كيقبع فييا ،مرك از النظر عمى ش اررة انطبلؽ عمـ الكبلـ ،ىنا
نقكؿ ،بأف ىذا ضرب مف األصكلية اإلستشراقية ،ألف البقاء في األصكؿ ،كالتشبث فييا تشبثا يعصابيا ليس مكقفا عمميا البتة ،كىـ
مف يدعكف العممية كالصرامة كاألحقية المعرفية .لكف ال يجب أف نتحامؿ عمى الفكر اإلستشراقي دكف الفكر اإلسبلمي المتمركز عمى
العقد كالعكاطؼ كاالعتبارات المزاجية كالنفسية .ألف ىناؾ مف
ذاتو ،كالتمركز ىك دكما تعبير عف عدـ إرادة التفكير بمعزؿ عف ي
المفكريف المسمميف مف ال يقؿ تعصبا عف الفكر اإلستشراقي ،مف خبلؿ اعتقاده بأف ظيكر اإلسبلـ كاف حدثا عجائبيا ببل أم
مقدمات حضارية أك تأسيسات إنسانية ككاف المسمميف بشر فكؽ البشر .نعتقد بأف ىناؾ تطعيـ حضارم نقؿ خصائص قديمة إلى
العالـ الجديد ،كبأف العالـ اإلسبلمي بقدر ما لو جانب أصيؿ ،لو جانب تقميدم مف خبللو تـ تناقؿ مكركث أجياؿ سابقة لثقافات
متنكعة ،كىذا االعتقاد ال يسيئ إلى أصالة الفكر اإلسبلمي ،بقدر ما يثبت إنسيتو .لذا فبل يجب استعادة نظرية النقاء العرقي
كالصفاء الثقافي التي نحاربيا في اإلستشراؽ لكي نتبناىا في سياقاتنا اإلسبلمية .فالمركزية مرض فكرم معدم ،ال ينجك منو إال مف
حصف نفسو بالفكر النقدم كالفعالية الفكرية المفتكحة عمى كؿ االحتماالت.
ٌ
ابتدأنا بيذه المبلحظات التمييدية ،كالتي كاف باإلمكاف تأخيرىا إلى الخاتمة ،مف أجؿ كضع الصكرة في سياقيا العاـ ،ألف طرح
مسألة عكامؿ ظيكر عمـ الكبلـ ،كاف دائما في إطار ىذه الخمفية الفمسفية كاإليديكلكجية ،لذا فإف الكعي بيا ،يأخذ بنا إلى فيـ أكضح
كأعمؽ لحجج كؿ طرؼ كاالستعداد المسبؽ لتفحص كمؿ أطركحة مف خبلؿ معرفة أصكليا الخفية.
لذا فمشكمة المحاضرة الثالثة ىي التالية :ىؿ ال زاؿ عمينا اليكـ ،أف نستمر في تقديـ طركحات األصؿ ،أم أصؿ الكبلـ أك
الفكر اإلسبلمي ،مثمما كانت تقدـ في نياية القرف التاسع عشر ؟ عندما كاف الصراع الشرقي – الغربي في أكجو .مع العمـ أف
المستعمر لـ تعد مكجكدة بالصكرة المباشرة .ربما تمثؿ ىذه المشكمة ،مشكمة ً
المستعمر ك كضعية ذلؾ الصراع قد تغيرت ،ألف صكرة
ى
أصالة عمـ الكبلـ اإلسبلمي ،أحد مظاىر الصراع الفكرم في الببلد المستعمرة؛ "فاالستعمار يتبع طريقة تطبؽ في بعض األلعاب
اإل سبانية :إنيـ يمكحكف بقطعة قماش أحمر أماـ ثكر ىائج في حمبة صراع ،فيزداد ىيجانو بذلؾ .فبدال مف أف ييجـ عمى المصارع
يستمر في اليجكـ عمى المنديؿ األحمر الذم يمكح بو حتى تنيؾ قكاه ( )...االستعمار بطؿ األلعاب االسبانية في المجاؿ
السياسي" 1.لذا نبينا أعبله عمى خطكرة الردكد الفكرية عند بعض المسمميف ،كالتي تطبع في العمكـ بطابع االنفعالية المفمسفة أك
الفمسفة االنفعالية .ألف االنفعاؿ ليس فعؿ بنائي ،بقدر ما ىك ىجكـ عاطفي ،في حيف أف الدرس العممي كالتاريخي يتطمب منا
التركيز كالبحث كفتح الكتب مف جديد .كالدرس اإلستشراقي في النياية ،كلئف اتبع الطريؽ العممي ،إال أف األكاديمية في أصميا
مكقؼ معيف شكؿ المنظكر إلى الكجكد ،ال ينفصؿ عف فمسفة السيطرة .كقد انتقؿ الغرب مف السيطرة عمى الطبيعة كما كاف ينادم
بيا ديكارت كبيككف ،إلى السيطرة عمى اإلنساف مف خبلؿ شمو فكريا كحضاريا .بؿ أنو اليكـ ،يمعب المعبتيف معا ،السيطرة عمى
الطبيعة مف خبلؿ اإلنساف كالسيطرة عمى اإلنساف مف خبلؿ الطبيعة .كفي ىذا كذاؾ ،يستحضر الدرس التاريخي كأداة لذلؾ.
1
مالؾ بف نبي :الصراع الفكرم في الببلد المستعمرة ،دار الفكر ،دمشؽ ،1981 ،ص .30-29
56
كاستراتيجية الدرس اإلستشراقي ىي كما يقكؿ حبلؽ 1، Wael B. Hallaqافراغ القرف اليجرم األكؿ ،كالذم يفترض أنو شكؿ
القاعدة الفكرية األساسية ،افراغا كميا مف أجؿ اثبات اطركحة النقكؿ مف الخارج.
تتخمؿ ىذه المشكمة األساسية ،كالتي تحمؿ طابع مركب كمعقد ال ينفصؿ عمى رؤية ككنية سيادية لمعالـ كعف صراع أشمؿ
يدخؿ في ظاىرة الييمنة الكمية ،مجمكعة مف األسئمة الجزئية كالتي نفرد ليا أجزاء المحاضرة ،كىي:
-ىؿ العكامؿ الداخمية الناتجة عف القدرات الذاتية لمثقافة اإلسبلمية الجديدة ،كانت كافية لتشكيؿ عمـ الكبلـ ؟
-لك افترضا أف ظيكر عمـ الكبلـ كاف تحت تأثير عكامؿ داخمية بالكماؿ؛ ىؿ ظيكره كاف نتيجة ألحداث سياسية أـ مكاقؼ
فكرية مستقمة ؟
اذا افترضنا أف المسمميف قد نقمكا مسائؿ كمناىج عمـ الكبلـ بفعؿ االحتكاؾ بالعالـ المسيحي في دمشؽ ،فما ىي تفاصيؿ -
ىذا النقؿ ؟ ىؿ ىك نقؿ سمبي مف خبلؿ أقممة المنقكالت األجنبية أـ أنو نقؿ ايجابي بحيث أثمر مكاقؼ ابتكارية مف ناحية
اإلستشكاؿ كاإلستدالؿ ؟
ىؿ نمك عمـ الكبلـ مف الكبلـ المحمي الحجاجي المنبثؽ مف المجاؿ التداكلي اإلسبلمي إلى الكبلـ الصناعي البرىاني -
المتأثر بالمجاؿ التداكلي اإلغريقي – المسيحي ،يمكف أف يقدـ تكضيحا ما لمشكمة صراع العكامؿ الداخمية كالخارجية في
ظيكره ؟
الفرضية األكثر قكة لتقديـ أثر العكامؿ الداخمية في ظيكر عمـ الكبلـ اإلسبلمي ،ىي التي تقر بأف "المنطقة التي انطمؽ منيا
اإلسبلـ (شبو الجزيرة) كانت أقؿ المناطؽ تعرضا لمتأثيرات األجنبية .صحيح أف المنطقة العربية لـ تكف منعزلة تماما عف "العالـ
القديـ" ،كدليؿ عمى ذلؾ ىذه النقكش كالتماثيؿ المكجكدة في قرية الفاك كذلؾ خبلؿ االحتبلؿ الساساني لببلد اليمف" 2.كىذا يساعدنا
في تصكر حركية سياسية كفكري ة داخمية بعيدة عف التدخبلت األجنبية القكية .لذا فالمسألة مرتبطة بنسبة األثر الفعاؿ لمقكل
األجنبية ،فالتفاعؿ مع الخارج مكجكد في كؿ األزمنة كاألمكنة ،لكف أف تككف في مركز حركة اقتصادية كسياسة يختمؼ عف الحالة
التي تككف فييا خارج المركز .كشبو الجزيرة العربية ،ع مى الرغـ مف تفاعميا الخارجي ،إال أنيا لـ تكف في بؤرة األحداث الجيكية
كالقيطرية .كىذه الكضعية تجعؿ التأثير الخارجي ىامشي يأتي في النياية كليس جكىرم يككف في البداية .لذا كجو العديد مف مؤرخي
1
كائؿ حبلؽ :نشأة الفقو اإلسبلمي كتطكره ،ترجمة رياضي الميبلدم ،دار المدار اإلسبلمي ،بيركت ،الطبعة األكلى ،2007 ،ص
.11
2
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،ترجمة
محي الديف جماؿ بدر كرضا حامد قطب ،مراجعة محسف الدمرداش ،منشكرات الجمؿ ،بيركت – بغداد ،الطبعة األكلى،2016 ،
ص .951
57
عمـ الكبلـ النقد لمشيرستاني الذم ربط ظيكر عمـ الكبلـ بالمرحمة المتأخرة في بداية القرف الثالث لميجرة بعد حركة الترجمة ،في
حيف أف لفظة "الكبلـ" كانت متداكلة قبؿ المأمكف بكثير ،بحكالي قرف مف الزماف" .خطأ الشيرستاني في تقريره بأف عمـ الكبلـ ظير
في العصر العباسي (ثـ طالع بعد ذلؾ شيكخ المعتزلة كتب الفبلسفة ،حيف نشرت أياـ المأمكف ،فخمطت مناىجيا بمناىج الكبلـ،
كأفردتيا فنا مف فنكف العمـ ،كسمتيا باسـ الكبلـ) يرجع إلى المصادر التي اعتمدىا( )...مع العمـ أف المأمكف تكفي 218ق ()...
أما اإلماـ الصادؽ استشيد عاـ 148ق حيث كاف مصطمح الكبلـ معركفا في عصره" 1.كالظاىر أف الكثير مف مشكبلت الفكر
اإلسبلمي مرتبطة ،مثمما أشرنا في المقدمة ،إلى ظاىرة فراغ ،أك قؿ إفراغ ،القرف األكؿ لميجرة مف الكثائؽ البلزمة .كقد الحظ العديد
مف المؤرخيف عدـ كجكد أم مدكنة معتبرة في قرف الحكـ األمكم ،عمى خبلؼ ما سنجده في العصر العباسي البلحؽ لو .كالحؽ أف
ىذا االفراغ أك الفراغ يحتمؿ أكثر مف تأكيؿ ،أكليا أف العالـ اإلسبلمي الكليد كاف مكتفيا بذاتو كلـ يعرؼ أم تكاصؿ خارجي مع
الحضارات المجاكرة أك أم تكاصؿ داخمي مع العيد السابؽ كىك الجاىمية حسب التسمية القرآنية .لكننا ال نعتقد بأف ىناؾ فصؿ
بالدرجة التي نتصكرىا ،إذ أف القطيعة لـ تكمف كمية كالعبلقات بالحضارات المجاكرة لـ تكف معدكمة.
لكف ما ىي العكامؿ الداخمية التي أدت إلى الكبلـ في مكاضيع العقيدة ؟ ىؿ ىناؾ عامؿ كاحد أكثر أىمية مف العكامؿ األخرل
؟ يمكف أف نبلحظ تفسيريف كبيريف متنافسيف عمى السبب القكم ،كنقصد التفسير النصي أك العقيدم ،القائؿ بأف طبيعة القرآف الكريـ
كانت كراء ظيكر عمـ الكبلـ ،كالتفسير السياسي الذم يرم أف المشكمة ليست نصية بؿ سمطكية.
يتفؽ العديد مف مؤرخي عمـ الكبلـ عمى أف المشكمة السياسية ىي التي أدت إلى ظيكر المسألة الكبلمية .كفي ىذا التأكيد
إشارة إلى أف العامؿ الداخمي كاف حاسما في ظيكره .كبحسب بعض التأكيبلت فإف عدـ ظيكر عمـ الكبلـ في زمف الرسكؿ الكريـ،
رغـ استمرار نزكؿ كتدكيف القرآف ،يدؿ عمى أف القرآف أنذاؾ لـ يكف يطرح مشكبلت عقائدية .بؿ أف بداية الكبلـ في العقيدة كاف بعد
الفتنة .أم الحرب األىمية التي عرفيا اإلسبلـ المبكر ،كالتي صدمت الكعي اإلسبلمي الذم لـ يكف يتصكر أف الخبلؼ الذم نيا
عنو القرآف قد تجسد بيذه السرعة كمف طرؼ أقرب الصحابة إلى الرسكؿ (ص) .إف الخبلؼ بيف السنة ممثميف في عثماف (ض)
كالشيعة ممثميف في عمي (ض) كاف خطا فاصبل ف ي التاريخ كالكعي اإلسبلمييف كمف ىنا بالضبط بدأ التاريخ اإلسبلمي في التشكؿ
كالتمذىب 2.فأصبح لمسنة تاريخ كلمشيعة تاريخ مخالؼ .كاستثمر ىذا التاريخ في تشكيؿ مكاقؼ كحجج كبلمية متصارعة عف طريؽ
استثمر النص القرآني .كقد كاف عمي (ض) يقكؿ باف القرآف ال يتكمـ ،بؿ الرجاؿ ىـ مف يستنطقكنو .كمف ىنا بدأت الفرؽ في التفرؽ
يمشكمةن كتؿ عقائدية تباعدت شيئا فشيئا إلى أف شكمت عقائد داخؿ العقدية الكاحدة .إف المكضكع األساسي لعمـ الكبلـ قد ارتبط
بمعصية اإلنساف النمكذجي ،أم القادة الركحييف كرجاؿ الدكلة كالديف األكائؿ" .فأصحاب الرسكؿ[ىـ] مف تكرط في اإلثـ كالمعصية
1
شكيب بف بديرة الطبمبي :مدخؿ مناىجي إلى عمـ الكبلـ ،مطبعة دار المتكسط الجديد ،طبمبة ،تكنس ،2012 ،ص .35-34
2
يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،ترجمة عبد المجيد الصغير ،نشر الفنؾ ،الدار البيضاء،2000 ،
ص .100
58
(الفتنة) كىذا ما كاف مكضكعا لعمـ الكبلـ .كلـ ييتـ المتكمميف بالمشكمة السياسية" 1.أم لـ ييتمكا بيا لذاتيا ،بؿ لككنيا قد كقعت
فيما نيى عنو القرآف كىك االختبلؼ .كيؼ أف صحابة الرسكؿ كقعكا في الممنكع ؟ لقد نيى ا﵀ عز كجؿ عف االختبلؼ في أكثر
يمةه ي ٍدعكف إًلىى ا ٍل ىخ ٍي ًر كيأٍمركف بًا ٍلمعر ً
كؼ ىكىي ٍنيى ٍك ىف ىع ًف ً
ى ى يي ى ى ٍي مف مرة ،ضاربا المثاؿ السيئ باختبلؼ الييكد كالنصارل؛﴿ ىكٍلتى يك ٍف م ٍن يك ٍـ أ َّ ى ي ى
ؾ لىيـ ع ىذ ه ً ً ً ً ؾ يىـ ا ٍلم ٍفمًحكف كىال تى يك ي ًًَّ
يـ﴾ [آؿ عمراف-104 ، اب ىعظ ه ات ىكأيكلىئ ى ي ٍ ى اء يى يـ ا ٍلىبيىّْن ي
اختىمىفيكا م ٍف ىب ٍعد ىما ىج ى
يف تىفىَّرقيكا ىك ٍ
كنكا ىكالذ ى ا ٍل يم ٍن ىك ًر ىكأيكلىئ ى ي ي ي ى ى
. ]105يجب أف نقكؿ بأف القرآف قد نظر إلى االختبلؼ بنظرة سمبية ،أم أنو ال يحب أف يككف ،كالكضعية المثمى ىي الكحدة
ّْؾ لىقي ً
ت ًم ٍف ىرب ى
اختىمىفيكا ىكلى ٍكىال ىكمً ىمةه ىسىبقى ٍ يمةن ك ً الن ً َّ
ض ىي ىب ٍيىنيي ٍـ اح ىدةن فى ٍ اف َّ ي
اس إال أ َّ ى ﴿ك ىما ىك ى
كالتناغـ كاالتفاؽ .يقكؿ ا﵀ عز كجؿ في ىذا السياؽ :ى
كف﴾ [يكنس .]19 ،كطالما كاف االختبلؼ مقركف بالتجربة السيئة لمييكد كالنصارل ،كدائما ما يربط االختبلؼ ً ًف ً ً
يما فيو ىي ٍختىمفي ى
ى
بالعذاب .مما كلد شعكر قكم كقاتؿ بالخطيئة 2،كىك شعكر حرؾ العديد مف أطراؼ الصراع السياسي كالكبلمي .كالمبلحظ أف "تيار
المعتزلة لـ يتكممكا عف الحاضر ،حديثيـ منصب عمى الفترة الماضية .ركزكا عمى مشكمة المعصية .لقد تسببت تمؾ المعصية التي
كقع فييا الصحابة الذيف اشترككا في معركة الجمؿ أك حرب صفيف في اسقاط عدالتيـ" 3.ىنا بدأ يظير الفارؽ الكبير بيف اإلسبلـ
المعيارم كما قدمو القرآف الكريـ ،كبيف اإلسبلـ الكاقعي كما تحقؽ بعد الفتنة المزدكجة ،حيث نساء النبي كصحابتو دخمكا في صراع
مميت أدل إلى مكت العديد مف المسمميف مف الطرفيف ،فمف ىك الشييد كمف ىك المعتدم .ىذا االنكسار السريع كالمفاجئ لممثؿ
اإلسبلمية الكاممة ىك الذم حرؾ النظر في مسألة العقائد كالسياسة ،فيناؾ مف الفرؽ مف يعتبر اإلمامة مسألة عقائدية ال تقؿ أىمية
عف مسألة كجكد ا﵀ أك كحدانيتو .لقد كاف اإلنساف أنذاؾ يؤمف بضركرة رفع اإلسبلـ االجتماعي المتحقؽ إلى اإلسبلمي المعيارم
المطمكب تحقيقو ،كلـ يكف يتصكر أف األحداث تسير إلى العكس 4،أم اإلنحدار بالمثاؿ المعيارم الكامؿ إلى كقائع سياسية منقكصة
أثيمة .كالحقيقة أننا اليكـ ،كبعد مركر القركف كالقركف عمى تاريخنا ىذا ،يمكف أف نطرح السؤاؿ الذم طرح العديد مف المرات ،كىك
عف مدل مثالية الحكـ اإلسبلمي اإلستخبلفي المسمى راشديا .كمتى تـ اطبلؽ ىذه الصفة ؟ ىؿ كاف أبك بكر الصديؽ يعمـ أنو
خميفة راشد ؟ كنفس السؤاؿ عف الخمفاء الثبلث البكاقي؛ عمر كعثماف كعمي رضي ا﵀ عنيـ جميعا .نحف نميؿ إلى االعتقاد بأف
عبارة "الخبلفة الراشدة" تـ اطبلقيا في كقت متأخر ،أم بعد الفتنة بالضبط ،ككأف المسمميف عاشكا خبلفة غير راشدة بالمرة ،كتأكدكا
مف ذلؾ ،فكانكا يستحضركف ماضي خيالي ،أك ما يمكف أف يطمؽ عمى تسميتو باليكتكبيا الماضكية ،مف أجؿ تعزيز اإليماف،
كالتصبر مف ىذا ا لمصير اإلنحدارم لمتاريخ اإلسبلمي .ألنو مف الناحية التاريخية ال يستقيـ الحديث عف خبلفة راشدة انتيت
بالقتبلت الثبلثة 5،أك قؿ القتؿ المثمث عمى مقياس لغة طو .حقيقة أف ىناؾ تبرير يقزـ مف ىذه الممحكظة ،كىك أف عمر قتؿ مف
1
المرجع نفسو ،الصفحة نفسيا.
2
يكليكس فميكزف :أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر اإلسبلـ – الخكارج كالشيعة ،ترجمة عبد الرحمف بدكم ،مكتبة
النيضة المصرية ،القاىرة ،1958 ،ص .196
3
يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،مرجع سابؽ ،ص .103-102
4
عمي أكمميؿ :اإلصبلحية العربية كالدكلة الكطنية ،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء ،دار التنكير لمطباعة كالنشر ،بيركت،
الطبعة األكلى ،1985 ،ص .14-13
5
ليس فقط المستشرقكف مف أثار ىذا السؤاؿ ،بؿ ايضا الحداثييف العرب كالمسمميف؛ يمكف التكسع مف خبلؿ مطالعة الكتاب التالية:
59
طرؼ الكفار ،كعمي مف طرؼ الخكارج ،لكف مقتؿ عثماف مف طرؼ المسمميف ،كالذيف قد يككنكف في صؼ عمي ،يجعؿ المسألة
أكثر تعقيدا.
-1-1فتنة الجمل:
كقعت معركة الجمؿ في 36ىػ في البصرة .ككانت التحركات األكلى في المدينة ،حيث اجتمعت سمطة عائشة المعنكية
أما لممؤمنيف مع سمطة صحابييف ليما المكانة المرمكقة كىما طمحة كالزبير ،مف أجؿ المطالبة برد مظممة قتؿ عثماف.
باعتبارىا ن
كيككف في ىذه الحالة عمي (ض) الذم تمت مبايعتو بصكرة جزئية ،ىك المسؤكؿ عف تنفيذ ذلؾ باعتباره خميفة لممسمميف 1.بؿ أف
ىناؾ مف اعتقد بأف عمي قد تكرط بطريقة أك بأخرل في مقتمو ،أك عمى األقؿ أنو استفاد مف مقتمو ،عمى اعتبار أنو استخمفو مباشرة
مما يدؿ عمى سككت مشبكه 2.لقد اقتنعت عائشة بأف ىذا القتؿ كاف يمثؿ ظمما كبيرا ،كعمى الرغـ مف أخطاءه التسييرية ،إال أنو كعد
المحتجيف بتنفيذ اصبلحات جذرية ،كبالتالي فالقتؿ مثؿ عدكانا ساف ار عمى خميفة كصحابي جميؿ .كقد قامت عائشة بأكؿ فعؿ تمردم
في اإلسبلـ ،عمى أساس أنيا خرجت عف سمطة الخميفة ،كىذه الحرب التي قادتيا امرأة سببت صدمة كبيرة لمكعي اإلسبلمية أنذاؾ،
صدـ بحركة عائشة التمردية
عبرت عف شقاؽ كاضح في السمطة المفترض أف تككف مثالية كنمكذجية .كحتى عمي (ض) ي
بسبب أنيا ٌ
عندما قاؿ ليا" :حميراء ...أىذا ما أمرؾ بو رسكؿ ا﵀ ؟ ألـ يأمرؾ أف تقرم في بيتؾ ؟" 3.فإلى جانب تجازىا الدكر التقميدم لممرأة،
فقد قامت بتمرد سياسي كعسكرم أدل إلى اراقة دماء المسمميف .لـ يكف آؿ البيت كال الصحابة بمعزؿ عف العكاطؼ البشرية مف
طمكح ككراىية كانتقاـ...الخ ،كىناؾ مف يفسر عصياف عائشة لعمي برده إلى مشكمة قديمة تعكد إلى حادثة اإلفؾ التي أنزؿ مف
أجميا بعض القرآف ( 17آية كاممة) .معركة الجمؿ كاقعة دمكية أكدت بحكالي 15ألؼ شخص ،ال يمكف أف تككف حادثة بسيطة.
كىي األساس في تقسيـ المسمميف الحقا ،كحتى اليكـ ،إلى سنة ينصركف عائشة كشيعة يناصركف عمي 4.كعمى الرغـ مف أف المعركة
-يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،مرجع سابؽ ،ص .99
طو عبد الرحمف :ثغكر المرابطة – مقاربة ائتمانية لصراعات األمة الحالية ،مركز مغارب لمدراسات في االجتماع -
اإلنساني ،الرباط ،الطبعة األكلى ،2018 ،ص .83
-جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .30
1
ىشاـ جعيط :الفتنة – جدلية الديف كالسياسة في اإلسبلـ المبكر ،ترجمة خميؿ أحمد خميؿ ،دار الطميعة لمنشر كالتكزيع ،بيركت،
.190-161 الطبعة الثامنة( 2015 ،الطبعة الفرنسية األكلى )1989ص ص
2
يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،مرجع سابؽ ،ص .99
3
فاطمة المرنيسي :السمطانات المنسيات – نساء رئيسات دكلة في اإلسبلـ ،ترجمة معمي كعبد اليادم عباس ،د ط ،دمشؽ ،ص
.118-116
4
فاطمة المرنيسي :الحريـ السياسي –النبي كالنساء ،ترجمة عبد اليادم عباس ،دار الحصاد ،لمنشر كالتكزيع ،دمشؽ ،ص .17-6
61
انتيت بغمبة عمي ،إال أنيا لـ تغمؽ أبكاب التمرد كالصراع .ثـ أف الكعي اإلسبلمي طرح مسألة ىذا االنتقاؿ السريع مف الكحدة
المثالية إلى الفتنة المقية .كعف أثرىا عمى العقائد ككيؼ يمكف استثمار ىذه العقائد إلقرار جية الحؽ.
-2-1فتنة صفين:
ىي استمرار لكاقعة الجمؿ ،حيث بدأت المناكشات بيف المعسكريف سنة 37ق ،لكف االعتراض ىنا أتى مف أقرباء عثماف
كبالضبط مف كالى دمشؽ معاكية بف أبي سفياف كالذم رفض البيعة صراحة بخبلؼ طمحة كالزبير المذيف قدميا البيعة كانقمبا عنيا.
كىناؾ مف يقر بأف التاريخ اإلسبلمي ككؿ ،يقسـ إلى ما قبؿ التحكيـ كما بعد التحكيـ ،كتاريخ اإلسبلـ اليكـ استمرار ليذا الشطر
الثاني ،باعتباره حكـ مصمحي غير صادؽ 1.إف معركة صفيف بمثابة تكريس لنظاـ حكـ قائـ عمى الدىاء كالتكريث أك كما يسمى
الممؾ العضكض .معركة صفيف استم رار لؤلحقاد القديمة بيف بف ىاشـ كبني أمية ،فقد قتؿ عمي (ض) أخ معاكية كعمو ،لذا فإف
معركة صفيف مناسبة لتصفية حسابات ضيقة مرتبطة بالعصبية العائمية 2.كبيذا يتجسد مبدأ سطكة الدنيا عمى اآلخرة ،كانقبلب
المسمميف عمى كممتيـ ،كغمبة الدىاء عمى الصدؽ...الخ .كقد لخص "طو" نتائج الحادثة قائبل" :لقد كانت الغمبة ألىؿ عمـ السمطاف
عمى أىؿ العمـ بالقرآف حيف خمع أبك مكسى األشعرم عميا كمعاكية معا ،لـ يخمع عمرك بف العاص إال عميا ،مثبتا معاكية" 3.كما أف
الصراع لـ يتكقؼ عند الخصكمة بيف عمي كمعاكية فقط ،بؿ انقمب القراء عمى عمي(ض) كضغطكا عميو لقبكؿ التحكيـ غير
الصادؽ ،كانقمبكا عميو مرة ثانية لقبكلو بالتحكيـ .كأصبحت االمكر متشابكة ،كصعب تميز الحؽ عف الباطؿ كتكالت الق اررات
الخاطئة.
ىذه الخبلفات السياسة كالفتف العسكرية ساىمت في تجييش كؿ فريؽ ألفكار كبراىيف نصية بغية تقكية مكاقفيـ السياسية .كمف
ىنا أصبح الحديث عف مرتكب الكبيرة كالمعصية مرتبطا بالبحث عف المساند العقائدية المتكفرة في القرآف 4.أم أف الفرقاء سياسيا
أصبحكا يبحثكف عف تق كية مكاقفيـ مف خبلؿ البرىاف العقمية كتأكيؿ النصكص القرآنية لصالح ىذه المكاقؼ أك ذاؾ .ككؿ ىذا ساىـ
في بمكرة مكاقؼ كبلمية مف مرجعيات سياسية خالصة .كلعؿ ما فعمو الفريؽ األمكم ،الذم استأثر بالحكـ بعد صفيف ،مثاؿ عمى
تأصيؿ االستبداد السياسي مف خبلؿ عقائد مأخكذة مف القرآف الكريـ .يقكؿ الجابرم:
" عندما يمجأ الحاكـ إلى تبرير اغتصابو لمحكـ بالقكة ،بأف ذلؾ كاف قضاء كقدرا ،كعندما يعمد إلى تبرير ما يقكـ بو مف
عسؼ كظمـ بككف ذلؾ كاف في عمـ ا﵀ السابؽ ،كأف مشيئة ا﵀ ىي التي تصرفت ،فحينئذ تكتسي المسألة بعدا آخر ()...
1
طو عبد الرحمف :ثغكر المرابطة – مقاربة ائتمانية لصراعات األمة الحالية ،مرجع سابؽ ،ص .81
2
ىشاـ جعيط :الفتنة – جدلية الديف كالسياسة في اإلسبلـ المبكر ،مرجع سابؽ ،ص .207
3
طو عبد الرحمف :ثغكر المرابطة – مقاربة ائتمانية لصراعات األمة الحالية ،مرجع سابؽ ،ص .147
4
أحمد محمكد صبحي :في عمـ الكبلـ -دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف ،الجزء األكؿ :المعتزلة ،دار النيضة
العربية ،بيركت ،الطبعة الخامسة.33-32 ،1985 ،
61
ىؿ يفعؿ ا﵀ الظمـ ؟ ىؿ يفعؿ القبيح ؟ ذلؾ ىك اإلطار الذم طرحت فيو المسألة ،أكؿ األمر ،في الفكر العربي
1
اإلسبلمي( .ما قالو معاكية في مكقعة صفيف ،كفي مبايعة يزيد ،كسار عمالو كخمفائو عمى ىذا المنكاؿ)".
نفترض أف تأخر ظيكر عمـ الكبلـ إلى ما بعد الفتنة كالقرف اليجرم األكؿ ،ال يعكد فقط إلى المشكمة السياسية .بؿ أف التفكير
النظرم في مسائؿ العقيدة ال تككف إال بعد استتباب األمكر .ألف الزمف التأسيسي يتسـ عمى العمكـ بطغياف الشعكر الركحي كنسياف
كؿ المشكبلت الجزئية التي تثيرىا السياقات الدنيكية .لكف بعد استتباب أمكر العقيدة كتأسس الدكلة كرسكخ التشريعات الكبرل .يبدأ
العقؿ ،بصكرة طبيعية في تفكير تفا صيؿ العقيدة عبر معيار العقؿ ال العاطفة كما ساد في سنكات الكحي األكلى كالقريبة منيا .كىذا
1
محمد عابد الجابرم :العقؿ األخبلقي العربي – دراسة تحميمية نقدية في نظـ القيـ في الثقافة العربية ،مركز دراسات الكحدة العربية،
بيركت ،الطبعة األكلى ،2001 ،ص .80
2
محمد عابد الجابرم :العقؿ األخبلقي العربي – دراسة تحميمية نقدية في نظـ القيـ في الثقافة العربية ،مرجع سابؽ ،ص .84
62
ما عبر عنو القاضي الفرنسي تككفيؿ في مبلحظات االجتماعية كالتاريخية الدقيقة .فركح التفكير كالتحميؿ ال يظير في األمـ إال بعد
بمكغ نضجيا رتبة عالية .كبعد ذلؾ يعكد العقؿ لمتفكير في األصكؿ كالنشأة كالتفاصيؿ التي كانت غير كاضحة ،بؿ كالتي ال يمكف
1
كالحؽ أف ىذه الممحكظة الفمسفية التاريخية ،لتصدؽ عمى حالة الكبلـ اإلسبلمي ،ألف العقؿ أف تككف كاضحة في البدايات األكلى.
ال يبتدأ في العمؿ كفؽ محدداتو ،إال بعد أف يتجاكز مرحمة زمنية معينة .فمكقفنا اليكـ مف الكحي ،يختمؼ كمية عف مكقؼ الرسكؿ
(ص) كالصحابى األكائؿ ،عمى أف أنيـ عاشكا بكؿ عكاطفيـ الحدث ،كنحف اليكـ نفكر فيو أكثر فأكثر .لذا فبل يجب أف نعمؿ تأخر
ظيكر عمـ الكبلـ باالنفتاح عمى المكركث اإلغريقي كالمسيحي فقط ،بؿ ىك عائد إلى انتقاؿ المسممكف مف االنبيار بالحدث
التأسيسي ،أم القرآف الكريـ ،إلى تفكيره عقميا .كىذا ما نجده عند كؿ الشعكب ،فمـ ينتقد اإلغريؽ نصكصيـ األسطكرية إال في القرف
الخامس مع الشاعر المتجكؿ (الرابسكد) اكزينكفاف مف إيميا .قبؿ ذلؾ ،كاف الكؿ يرتؿ أشعار ىكميركس دكف أدنى تفكير في مدل
عقبلنية تصيره لآللية.
ننيي ىذه العكامؿ الداخمية باإلشارة إلى أف ىناؾ خبلؼ كاضح بيف أنصاره ،إذ أف ىناؾ مف يجعؿ القرآف الكريـ ىك المصدر
الكحيد لمجدؿ الكبلمي بسبب مشكمة تشابو اآليات ،في حيف أف ىناؾ مف يجعؿ لمكبلـ ىكية سياسية في الدرجة األكلى .كنحف نتفيـ
ىذا المكقؼ األخير مف خبلؿ رده لمفرؽ الكبلمية السياسية ،إذ يعتقدكف أف مشكمة الخبلفة ىي السبب األكؿ كاألخير لكؿ خبلؼ
عقائدم .فمثبل نجد مف يقكؿ بأف استيبلء معاكية السافر عمى الحكـ سنة 41ىػ ىك ما يجعؿ اليكية السياسة كاضحة لجميع
االنشقاقات العقائدية 2.ل كف يجب أف نذكر بأف ىناؾ فرؽ كبلمية لـ تستثمر في مسألة الخبلفة إال ىامشيا .ككانت أغمب تحميبلتيا
في مسائؿ عقدية خالصة مرتبة بالصفات كاألسماء كالخمؽ كالحرية كالعدالة اإلليية .لذا سنقسـ الفرؽ في محاضرات "أصؿ الفرؽ
الكبلمية" إلى "كبلـ سياسي" ك"كبلـ عقائدم".
بالنسبة لمدرس اإلستشراقي كالدرس الحداثي العربي ،فإف دراسة عمـ الكبلـ ال يستقيـ إال بربطو بالمحيط الكاسع لمثقافة اإلسبلمية
سكاء ربطا تاريخيا أك ربطا جغرافيا .بمعنى أف اإلسبلـ لـ يقطع مطمقا مع المناخ العقمي الجاىمي إذ نجد استمرار لبعض العقائد
كالتخمي عف األخرل ،كما أنو تأثر بالمكضكعات الكبلمية في الحضارات المجاكرة بخاصة اإلغريقية كالبيزنطية .إذ أف قياـ الخبلفة
في دمشؽ كبعدىا في بغداد ،سمح بتفاعؿ الثقافات كتناقؿ المكاقؼ .ثـ أف التراث الجاىمي بالذات ،ليس بمعزؿ عف التراثات
المحيطة بو ،فبل يجب أف نربط تأثر الفكر اإلسبلمي بغيره بالفتكحات اإلسبلمية فقط ،بؿ أف استمرار بعض العقائد كالطقكس
الجاىمية في مرحمة البعثة ،يمكف أف يدؿ لنا عمى انتقاؿ تأثير الثقافات الجاىمية غير العربية في اإلسبلـ ذاتو 3.فبل يجب أف نفترض
1
Tocqueville: de la Démocratie en Amérique, édition Flammarion, Paris, 1981, p 86.
2
شكيب بف بديرة الطبمبي :مدخؿ مناىجي إلى عمـ الكبلـ ،مرجع سابؽ ،ص ص .79-67-63
3
محمد عابد الجابرم :مدخؿ إلى القرآف الكريـ ،الجزء األكؿ ،في التعريؼ بالقرآف ،مركز دراسات الكحدة العربية ،بيركت ،الطبعة
األكلى ،2006 ،ص .263-78-58-49أيضا :يكسؼ شمحت :نحك نظرية جديدة في عمـ االجتماع الديني (الطكطمية –
63
أف العرب قبؿ اإلسبلـ ببل عبلقات ثقافية أك اقتصادية ،كما ال يجب أف نفترض أف القطيعة مطمقة بيف المرحمة السابقة كالبلحقة
لمرسالة المحمدية .فكؿ الثكرات أقؿ ثكرية مما نعتقد ،إذ تيغير أجزاء كتحتفظ بأجزاء أخرل .يقكؿ "حبلؽ" بكؿ مكضكعية أف "الثقافة
العربية كفرت مصد ار ألغمب الش رائع التي تبناىا اإلسبلـ ( )...الثقافة العربية قبؿ اإلسبلـ جزء جكىرم مف الثقافة العامة لمشرؽ
األدنى" 1.كىنا نبلحظ العبلقة المركبة بيف الشرؽ األدنى كالعرب قبؿ اإلسبلـ ،كبيف ىذه المرحمة السابقة لمبعثة عمى مجمؿ عقائد
المرحمة البلحقة ليا.
ىذا ،كنجد مؤرخي اإلسبلـ ذاتيـ ،يعترفكف بالنقكؿ الحادثة لدل المتكمميف ،بحيث أف مرحمة الكبلـ بعد المأمكف قد انتقمت إلى
مستكل أكثر فمسفية كأكثر عقبلنية .مما يدؿ عمى تأثرىـ بطرائقيـ كمكضكعاتيـ .فالشيرستاني مثبل يقكؿ بأف المعتزلة عمكما كالنظٌاـ
قد أخذ العديد مف أفكاره مف الفبلسفة القدامى 2،كىذا ما يدؿ عمى االحتكاؾ بيف عمـ الكبلـ اإلسبلمي كعمكـ السابقيف.
مف الممكف أف نبلحظ بأف الكبلـ اإلسبلمي ،كحركة كاضحة المعالـ قد انطمقت في بغداد كليس في دمشؽ .كليذا داللة ال
يمكف تغافميا عند الحديث عف مصادر عمـ الكبلـ اإلسبلمي .بالنسبة ليكسؼ فاف إيس ،فإف "تقنية الكبلـ في اإلسبلـ ،قد كجدت
في العراؽ قبؿ سكريا بكقت طكيؿ .استخدـ عمماء الديف المسيحييف الذيف كتبكا بالعربية ىناؾ أسمكب المحاججة ىذا (النسطكرم
عمار البصرم ،اليعقكبي أبك رائطة)( )...تقنية الكبلـ تطكرت بشكؿ خاص في العراؽ ،ألف الكبلـ نفسو كجد ىناؾ في العصر
العباسي تحت حماية الحكاـ الميتميف بو" 3.لكف يمكف التحقيؽ أكثر عف سبب ىذا االىتماـ ،ىؿ ىك تأثير العقبلنية الفارسية التي
ليا تقاليد في التفكير النظرم ؟ أـ ىك انتقاؿ كتأثير الفكر الشرقي العريؽ ،كالذم كجد المدخؿ مف ببلد فارس ؟ كؿ ىذه االحتماالت
كاردة كتؤكد تبحر ىذه الحضارات في مشكبلت البلىكت .فمف المؤكد أف "ثقافة الجزيرة العربية جزء ال يتج أز تقريبا مف ثقافة الشرؽ
4
األدنى".
كيذكر البيركني ،في نص مطكؿ ،كيؼ أف الينكد قد تكممكا في مشكمة الطبيعة الحقيقة لئللو" :قاؿ السائؿ في كتاب "باتنجؿ":
مف ىذا المعبكد الذم يناؿ التكفيؽ بعبادتو ؟ قاؿ المجيب :ىك المستغنى بأكليتو ككحدانيتو عف فعؿ لمكافاة عميو براحة تؤمؿ كترتجى
أك شدة تخاؼ كتتقى ،كالبرئ عف األفكار لتعاليو عف األضداد المكركىة كاألنداد المحبكبة ( )...ثـ يقكؿ السائؿ بعد ذلؾ :فيؿ لو
الييكدية – النصرانية -اإلسبلـ) ،تحقيؽ كتقديـ خميؿ أحمد خميؿ ،المؤسسة الكطنية لبلتصاؿ كالنشر كاإلشيار – الجزائر ،كدار
الفارابي ،بيركت ،الطبعة األكلى ،2003 ،ص .211
1
كائؿ حبلؽ :نشأة الفقو اإلسبلمي كتطكره ،مرجع سابؽ ،ص .25يقكؿ في صفحة :57العرب كانكا ديمكغرافيا كدينيا كتجاريا
كسياسيا كعسكريا جزء ال يتج أز مف الشرؽ األدنى الكبير مف ثقافتو.
2
عبد الكريـ الشيرستاني :الممؿ كالنحؿ ،الجزء األكؿ ،المكتبة العصرية ،بيركت ،2003 ،ص .46
3
جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .90 -89
4
كائؿ حبلؽ :نشأة الفقو اإلسبلمي كتطكره ،مرجع سابؽ ،ص .265
64
مف الصفات غير ما ذكرت ؟ كيقكؿ المجيب :لو العمك التاـ في القدر ال المكاف فإنو يجؿ عف التمكف ،كىك الخير المحض التاـ
الذم يشتاقو كؿ مكجكد ،كىك العمـ الخالص عف دنس السيك الجيؿ؛ قاؿ السائؿ :أفتصفو بالكبلـ أـ ال ؟ قاؿ المجيب :إذا كاف
عالما فيك ال محالة متكمـ؛ قاؿ السائؿ :فإف كاف متكمما ألجؿ عممو فما الفرؽ بينو كبيف العمماء الحكماء الذيف تكممكا مف أجؿ
عمكميـ ؟ قاؿ المجيب :الفرؽ بينيـ ىك الزماف فإنيـ تعممكا فيو كتكممكا بعد أف لـ يككنكا عالميف ال متكمميف كنقمكا بالكبلـ عمكميـ
إلى غيرىـ فكبلميـ كافادتيـ في زماف ،كاذ ليس لؤلمكر اإلليية بالزماف اتصاؿ فا﵀ سبحانو عالـ متكمـ منذ األزؿ .كىك الذم كمـ
"براىـ" كغيره مف األكائؿ ( )...قاؿ السائؿ :فمف أيف لو ىذا العمـ ؟ قاؿ المجيب :عممو عمى حالو في األزؿ ( )...قاؿ السائؿ :كيؼ
تعبد ما لـ يمحقو االحساس ؟ قاؿ المجيب :تسميتو تثبت إنيتو فالخبر ال يككف إال عف شيء كاالسـ ال يككف إال لمسمى ،كىك كاف
غاب عف الحكاس فمـ تدركو فقد عقمتو النفس كأحاطت بصفتو الفكرة" 1.ككما ىك ظاىر ،فإف ىذا النص يختصر العديد مف مسائؿ
عمـ الكبلـ المرتبطة بحيزية اإللو أم ككنو في حيز أـ ال ،كفي طبيعة العمـ اإلليي...الخ كؿ ىذا مقارنة بالخصائص البشرية .كلـ
يفعؿ الكبلـ اإلسبلمي أكثر مف تناكؿ ىذه المشكبلت مف منطؽ العقؿ اإلنساني أيضا.
كقد افترض بعض رجاؿ اإلستشراؽ إمكانية تأثر بعض عمماء الكبلـ في اإلسبلـ ببعض الفرؽ اليندية مثؿ السمنية .يقكؿ
شمكلدرز " :schmöldersأنو يقاؿ أف فرقة السمنية انحدرت مف اليند [التي] يمكف ردىا إلى الكارفاكا charvakasاليندية .كاف
النظريات اليندية لـ تكف مجيكلة لمعرب كما نظف ،فمدل العديد مف الكتاب ،كلدل بعض شيكخ المعتزلة البارزيف ،أفكار دقيقة عنيا
كمعمر بمناظرة السمنية في اليند .كقياـ مناظرة
ٌ إلى حد ما ([ )...كما] أثبت ىكرتف عاـ 1910ما قرره ابف المرتضي مف قياـ جيـ
أخرل في اليند بيف سمني كمسمـ .حاكؿ ىكرتف أف يمبس كؿ أراء المتكمميف طابعا ىنديا ،غير أف ماسينيكف قاؿ أف كؿ ذلؾ يقكـ
2
كما يظير في ىذا النص ،فبل شيء مؤكد في ىذا التأثر اإلسبلمي ،كقياـ مناظرة ال يدؿ عمى مشابيات كاتفاقات ال رباطة بينيا".
أصبل عمى نقؿ أف تأثر سمبي .أما الركاية التي تنسب لياركف الرشيد في بعثو محدثا لمحاكرة أحد رجاالت السمنية ،كالتي انتيت
بسككت المتكمـ ،فبل يمكف الجزـ ألنو دالة تأثر عمـ الكبلـ اإلسبلمي بقدر ما تدؿ عمى حتمية عمـ الكبلـ كفائدتو في تحصيف
العقائد 3.كلئف كاف نقؿ المذىب الذرم إلى العالـ اإلسبلمي ،بخاصة عند بعض رجاؿ المعتزلة ،مف األمكر التي ال يمكف التغطية
1
أبك الريحاف محمد بف أحمد البيركني :تحقيؽ ما لميند مف مقكلة مقبكلة في العقؿ أك مرذكلة ،مطبعة مجمس دائرة المعارؼ
العثمانية ،اليند ،1958 ،ص.21 ،20
2
ىارم .أ .كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،ترجمة مصطفى لبيب عبد الغاني ،المجمد األكؿ ،المركز القكمي لمترجمة،
القاىرة ،الطبعة األكلى ،2005 ،ص .129-128
3
تقكؿ القصة أف ممؾ السند أرسؿ سمنيا إلى ىاركف مف أجؿ مناظرة المسمميف عمى شرط أنو مف سكت في المناظرة يتبع ممكو مف
غمب ،فبعث الرشيد محدثا ،أم غير متخصص في جدؿ اإللييات ،سألو السمني :مف ىك معبكدؾ ؟ كىؿ ىك قادر عمى كؿ شيء ؟
أجاب المحدث :ىك ا﵀ .السمني :ىؿ ىك ق ادر عمى خمؽ إلو مثمو ؟ فأجاب المحدث :ىذه مسألة كبلمية كنحف ال نتكمـ في البدع.
فصرؼ الممؾ المحدث عمى أساس عجزه عف مجاراة المناظرة .كلما سمع ىاركف الرشيد بذلؾ غضب غضبا شديدا قائبل أليس ىناؾ
مف يدافع عف ىذا الديف ؟ فأجاب المستشار :لقد نييتيـ عف الجداؿ في أمكر الديف ،كىـ اآلف في السجكف .فأطمؽ ىاركف سراحيـ
لمدفاع عف العقائد اإليمانية.
65
عنيا ،حيث لجأ ىمعمر كالعبلٌؼ لممذىب الذرم مف أجؿ إثبات كجكد ا﵀ (ا﵀ ىك الذم يجمع بيف األبعاض أك الذرات) 1.فإف ىناؾ
مف يقكؿ بأف نقؿ الفمسفة الذرية لـ يكف مف اإلغريؽ بؿ مف اليند .يقكؿ مابيك" :1895 ،المذىب الذرم الكبلمي لـ يأت مف
المذىب الذرم اليكناني بؿ مف اليندم .فالمذىب الذرم الكبلمي فيو الكثير مما ال يكجد في المذىب الذرم اليكناني عمى حيف يكجد
في المذىب الذرم اليندم أراء سمـ بيا عمماء الكبلـ كىي أف الذرات ليست ممتدة" 2.ككما ىك ظاىر ،فإف ىذا التكجو يعمؿ عمى رد
المذىب الذرم اإلغريقي إلى المذىب الذرم اليندم عف طريؽ تأكيد تأثره عمى المسمميف كذلؾ ،بدعكل العبلقة التجارية القديمة بيف
عرب الجاىمية كالينكد ،كالتفاعؿ بينيـ بصكرة أكثر قكة بعد الفتكح اإلسبلمية لميند.
أما عقائد التناسخ اليندية ،كالتي انتقمت إلى بعض اإلغريؽ مثؿ فيثاغكرس كأفبلطكف ،فقد تبناىا أيضا بعض فرؽ الشيعة .مثؿ
العصاة إلى العالـ مرة ثانية يككنكف ييكدا كنصارل .بؿ ىناؾ مف قاؿ أنيـ
النصيرية مف الغبلة المجسمة التي تبنت عقيدة عكدة ي
سينسخكف حيكانات نظير آثاميـ 3.كلك أف ىذه العقيدة شاذة كمحدكدة االنتشار ،إال أنيا تظير النقؿ مف العقائد اليندية.
ي
أما تأثر الكبلـ اإلسبلمي بالعقائد كالعقبلنية الفارسية فيي مف األمكر األكثر كضكحا ،بسبب القرب الجغرافي .بخاصة بعد نقؿ
عاصمة الخبلفة مف دمشؽ إلى بغداد .فالبغدادم مثبل في مصنفو (الفرؽ بيف الفرؽ) يقكؿ بأف النظٌاـ المعتزلي قد كقع تحت تأثير
ممحدة الفبلسفة ،كأنو في شبابو قد عاشر قكما مف الثنكية الفارسية 4.كقد كلدت ىذه المسألة مشكمة مصدر الشر ؟ التي ناقضيا
المتكممكف بصكرة مستفيضة .كما نجد الكثير مف العبارات المستعممة في الكبلـ مف مصدر فارسي مثؿ الزندقة التي تدؿ عمى التأثر
بالزند كىك كتاب الفرس المقدس.
-6اإلغريق:
مؤرخي كمناصرم األغرقة يركزكف عمى أف عمـ الكبلـ اإلسبلمي نسخة يمكيفة لبلىكت أك الثيكلكجيا اإلغريقية .نظ ار العتقادىـ
بالتماثؿ الظاىر بيف ما تكمـ فيو المسمميف كالنصكص اإلغريقية السابقة ،كنظ ار لؤلثر الظاىر لحركة الترجمة في عيد المأمكف .لذا
66
فإف منتصؼ القرف الثالث كاف حاسما في ىذا األثر 1.بالنسبة "ليكسؼ فاف ايس" فإف "أفكار ركاقية في بعض المسائؿ المبدئية
تظير عمى السطح لدل ىشاـ بف الحكـ عمى األقؿ .كاف النمكذج الذم فسر بو الجدؿ بيف الحتمية اإلليية كالحرية اإلنسانية قد
أعطانا فرصة اإلشارة إلى ىذا .بؿ أف المصطمح المكسع لمجسـ يمكف أف يككف قد نشأ عف نفس الجذر؛ سمى الركاقية "جسما" كؿ
ما كاف يمارس تأثير أك يمكف لمثؿ ىذا التأثير" 2.كلعؿ البعض ممف يرفض تأثر اإلغريؽ عمى عمـ الكبلـ اإلسبلمي ،يبرركف ىذا
الرفض عمى أساس أف ىناؾ دالئؿ عديدة عمى ممارسة عمـ الكبلـ قبؿ حركة الترجمة في منتصؼ القرف الثالث لميجرة مثؿ ىشاـ
بف الحكـ الذم تكمـ قبؿ كفكد المكركث اإلغريقي بالترجمة .لكف ىناؾ ظاىرة جديرة بالمبلحظة ،كىي أف التأثير ال يرتبط بترجمة
النصكص فقط ،بؿ أف اآلراء الفكرية كالفمسفية تنتقؿ عف طريؽ المشافية كالركايات المتناقمة .مما يبرر إمكانية إطبلع المسمميف ،أك
غيرى ـ ،عمى أفكار اإلغريؽ قبؿ الترجمة ،ألف األفكار الفمسفية تنتقؿ عبر المجادالت الشفيية التي لـ تتكقؼ خاصة بيف الثقافات
المجاكرة بفعؿ الرحمة كالتجارة .في ىذا السياؽ يقكؿ "فاف ايس" بأف "نظرية تداخؿ الجسـ التي برزت في المقدـ لدل "النظٌاـ" (كىك
معتزلي) الحقا تذكر بقكة بالخيط الركاقي ( )...إذا كانت ىذه القرائف تشير فعبل إلى تأثير ركاقي فإف ىذا التأثير لـ ينتقؿ إلى ىشاـ
بصكرة مباشرة بالتأكيد .كانت أعماؿ الركاقييف قد نسيت منذ زمف طكيؿ؛ كىي أيضا لـ تترجـ إلى العربية أبدا .بؿ إنيا كصمت مف
خبلؿ المناظرة اإليرانية عف طريؽ يمعمـ ىشاـ ،أبي شاكر الديصاني ،تمتد القرابة ىنا حتى التفاصيؿ" 3.كالحؽ أف ىذه الظاىرة
ليست خاصة بعبلقة اإلغريؽ بالعالـ اإلسبلمي فقط ،بؿ ىي شائعة في التثاقؼ القديـ ،كحتى في يكمنا ىذا نجد انتقاؿ األفكار
الفمسفية كالعممية قبؿ الترجمة الرسمية.
كيذكر المس تشرؽ "كلفسكف" سمسمة مف الدالئؿ التي تربط الكبلـ اإلسبلمي بالفكر اإلغريقي ،كعمى الرغـ مف أنو يعتمد عمى
دراسات مستشرقيف سابقيف عميو ،إال أنو يكثؽ طرحو بالكتب التراثية في اإلسبلـ .فػ "ىكركفتس Horovitzكىك مؤرخ ألماني محدث
لعمـ الكبلـ (في كتابو)Uber den Einfluss der griechischen phillosphie auf die Entwichlung des Kalam:
معمر كأبك ىاشـ أراء أفبلطكنية ( )...ككيؼ أف بعض المفاىيـ الكبلمية مثؿ "التكلد"
[يقكؿ بأف] النظٌاـ تبني أراء ركاقية ،كتبنى ٌ
ىي انعكاس لمفاىيـ يكنانية بعينيا .ككيؼ أف مذىب الشؾ اليكناني قد نفذ إلى عمـ الكبلـ" 4.كما أف "ىكرتف في كتابو Die
[ philosophischen système der spekulatiren im islam, 1912يذكر بأف] مختمؼ أراء شيكخ الكبلـ ليا أصكؿ في
فمسفة اليكناف(.اناكساجكراس ،أرسطك ،الذرييف ،كارنيادس ،ديمكقريطس ،مابادكقميس ،جالينكس ،ىيراقميطس ،األفبلطكنييف
المحدثيف ،أفمكطيف ،سقراط...الخ" 5.أما الكتب التراثية التي تشير إلى ىذا التأثير فيي" :ابف حزـ :أقكاؿ المتكمميف في الجكاىر
ظاـ كافؽ الفبلسفة في نفي الجزء الذم ال يتجرأ.
الفردة كالخبلء تعكد إلى الفبلسفة المتقدميف ( )...كالشيرستاني الذم يقكؿ بأف الن ٌ
1
ىارم .أ .كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .121
2
جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .561
3
جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .562
4
المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .125 ىارم .أ .كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ،
5
المرجع نفسو ،ص .125
67
كالبغدادم في مصنفو الفرؽ بيف الفرؽ ( )...أخذىا عف أناكساغكراس كطاليس" 1.يبدك أف ىذا التكجو جزء مف األطركحة المعركفة
بالقكؿ بأف الفكر اإلسبلمي ككؿ ،ىك كتابة عربية لمفكر اإلغريقي ،كظاىر جدا غمك ىذا الطرح ،عمى اعتبار أنو يمغي أم أصالة أك
تفرد لمطركحات اإلسبلمية .أما "يكسؼ فاف ايس" فقد لخص المكضكعات المنقكلة مف اإلغريؽ فيما يمي :الككسمكلكجيا ،كظاىرة
الحركة ،كالحتمية كالقدرة عمى الفعؿ 2.ككميا مكضكعات كبلمية تـ استثمارىا في براىيف العقائد اإلسبلمية .كأما التنزبو ،الذم تعرؼ
بو العقيدة السنية كأغمب الفرؽ ،فمو أفكار تعكد إلى اإلغريؽ القدامى ،عمى أساس أف حركة ا﵀ تقمؿ مف تنزييو كعمكه عف
المحسكس 3،كىذا ما كظفو المتكممكف إلبعاد فرضية الجسمية.
ال يجب أف نسير في نيج إثبات تبعية البلحؽ بمجرد أف نجد تشابو مع السابؽ .إذ أف ىناؾ مف يرد بعض الشرائع كالسمككيات
الدينية اإلسبلمية لئل غريؽ بمجرد ما يكشؼ عف بعض التقارب .مثؿ ذلؾ مف يرد حديث منسكب لمنبي عف نيي أكؿ البصؿ يكـ
الجمعة إلى الثقافة اإلغريقية التي تمنع دخكؿ المعبد لمف أكؿ ثكما 4.كالحؽ أف ىذه المبلحظة المذككرة مف عند فيشر في كتابو
"تعاليـ الطاىرة في الثقافة اليكنانية" ال تختمؼ عف طريقة "مارتف برناؿ" الذم يرد أم كممة اغريقية لمتراث الشرقي أك السامي .فما
المانع مف أف تككف ىذه العادة اإلغريقية مأخكذة مف ثقافات الشرؽ السابؽ عميو .إف ىذه الفرضيات المغكية القائمة عمى التشابو ال
تدؿ عمى أم أسبقية .كالتشابو بيف بعض تفاصيؿ الحضارات قد يككف مجرد مصادفة ،كال تدؿ بالضركرة أف ىذه الحضارة قد أخذت
مف تمؾ أك العكس.
-3الييودية:
عبلقة العقائد الييكدية باإلسبلـ ميمة جدا ،عمى أساس أف القرآف الكريـ لـ يتنكر ليا بالمطمؽ بؿ صدؽ ما في كتبيا .بؿ يمكف
التقرير بأف ىناؾ كحدة جينيالكجية لئلسبلـ كالييكدية ،ألف جذعيما المشترؾ كىك اإلبراىيمية يجعؿ بعض العقائد مكحدة في األصكؿ
ىمَّنا بًالمَّ ًو ىك ىما أ ٍين ًز ىؿ
كلئف تـ التغيير في الفركع .نجد بعض اآليات تدعكنا إلى اإليماف بما أنزؿ عمى مكسى مثؿ قكلو تعالى﴿ :قيكليكا آ ى
5
1
المرجع نفسو ،ص .122-121أيضا عبد الكريـ الشيرستاني :الممؿ كالنحؿ ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .56
2
جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،الجزء األكلى ،مرجع سابؽ ،ص .144
3
يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،مرجع سابؽ ،ص .57
4
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .180كيذكر أيضا قكؿ جكلدتسيير الذم أعتقد بكجكد عبلقة بيف نظرية األصـ (في أف طالما المسمميف ينتيجكف
منيجا عادال كطالما أنيـ ال يتظالمكف ،فبل حاجة ليـ بحاكـ) كبيف نص يكناني قديـ فيو فكرة الجماعة النمكذجية التي ال تحتاج
إلى حاكـ كالتي يدكر الح ديث عنيا في رسالة بعث بيا أرسطك إلى اإلسكندر األكبر تتعمؽ بفف الحكـ .كيبدك فعبل أف نص ىذه
الرسالة كاف في متناكؿ األصـ في ذلؾ الزماف( .عاش األصـ في زمف ىاركف الرشيد) ...لكف ال يذكر في الكتاب اليكناني إال اف
الناس ال يحتاجكف لمحكـ إال في زمف الحرب .ىذا ما أدل إلى رفض ىذه النظرية .ص .608
5
محمد عابد الجابرم :مدخؿ إلى القرآف الكريـ ،الجزء األكؿ ،في التعريؼ بالقرآف ،مرجع سابؽ ،ص .76
68
ؾ ًم ٍف ىرّْب ى
ؾ ير ًم ٍنيي ٍـ ىما أ ٍين ًز ىؿ
إًلىٍي ى يد َّف ىكثً نا
اء ىكلىىي ًز ىؼ ىي ىش يؽ ىك ٍي ى اف يي ٍنًف ي
ت أ ٍىي ًدي ًي ٍـ ىكلي ًعينكا بً ىما قىاليكا ىب ٍؿ ىي ىداهي ىم ٍب يسكطىتى ً كد ىي يد المَّ ًو ىم ٍغميكلىةه يغمَّ ٍ ا ٍلىييي ي
ادا ىكالمَّوي ىال
ضىىا المَّوي كىي ٍس ىع ٍك ىف ًفي ٍاأل ٍىر ً
فى ىس ن ى ار لً ٍم ىح ٍر ًب أى ٍ
طفىأ ى ام ًة يكمَّ ىما أ ٍىكقى يدكا ىن نا ً ض ى ً
اء إلىى ىي ٍكًـ ا ٍلقىي ى طي ٍغىي نانا ىك يك ٍف نار ىكأىٍلقىٍيىنا ىب ٍيىنيي يـ ا ٍل ىع ىد ىاكةى ىكا ٍلىب ٍغ ى
يف﴾ [المائدة .]64 ،ىذا ضرب مف اآليات المتشابية ،أثارت مشكبلت كبلمية حكؿ حقيقة العبلقة بيف عقائد اإلسبلـ ًً يي ًح ُّ
ب ا ٍل يم ٍفسد ى
كعقائد الييكد.
يمكف أف يرتبط تأث ير اإلسرائيميات في عمـ الكبلـ مف خبلؿ التفسير الناتج عف القصص القرآني عمى أساس تفصيؿ الييكد فييا
عمى خبلؼ القرآف الذم جعؿ القصص عبرة لؤلخبلؽ كاإليماف .كنظ ار ليذا التفصيؿ المفرط في تفسير اإلسرئيميات ظير ما يسمى
بالحشكية كالمجسمة .كيرل الكثير أف انتشار ىذه التكجيات بسبب حاجة العامة إلى فيـ يميؽ بمستكاىـ المتكاضع 1.فقد كاف عمييـ
أف يعرفكا أيف ىي الجنة مثبل ،كىك ما كفره التراث الييكدم بالقكؿ أنيا في جبؿ صييكف بالقدس 2.كبما أف المنحى الييكدم تشبييي
كفؽ نصكص التكراة ذاتيا ،فإف رجاؿ الديف قد انزلقكا إلى تفسيرات حسية بالمطمؽ ،فالبعض منيـ اعتقدكا أف ا﵀ في الجنة يأكؿ
كيشرب مثمنا 3،كانتقؿ ىذا إلى المسمميف كعرفكه .كىناؾ مف يرم بأف ىشاـ بف الحكـ ،مف أكائؿ المتكمميف ،قد تأثر باألفكار الكاردة
مف عند الييكد 4.كىك الذم يستشيد بو عمى أنو تكمـ قبؿ كركد الفكر اإلغريقي عمى العالـ اإلسبلمي.
كيمخص "كلفسكف" المكضكعات التي انتقمت مف الفكر الييكدم إلى الكبلـ اإلسبلمي في النقاط الثبلثة التالية" :التشبيو
والتنزيو :يقكؿ االسفراييني كالشيرستاني أف المشبية مف المسمميف اقتبسكا مف الييكد .لكف شراينر يقكؿ عكس ذلؾ :الذيف رفضكا
التشبيو مف المسمميف كانكا ىـ الذيف تأثركا بالييكد .القديـ أك المخمكؽ :يقتبس شراينر عبارة ابف االثير أف "لبيد بف األعصـ" الييكدم
كاف أكؿ مف أدخؿ نظرية خمؽ القرآف في االسبلـ .كىناؾ مف الييكد مف يعتقد بقدـ التكراة .الجبر واالختيار :يقكؿ المسعكدم أف
القرائيف الييكد ىـ مف يذىب الى العدؿ كالتكحيد( .ىذا ما صرح بو المعتزلة) .يقكؿ الشيرستاني العكس :الربانيكف منيـ كالمعتزلة
ٌ
القراءكف كالمجبرة كالمشبية .يبيف شراينر أف قكؿ كاصؿ بف عطاء في القدر ىك في األغمب ترجمة حرفية لقكؿ الرٌبانييف
فينا ك ٌ
(الييكد)" 5.يبقى االعتماد عمى تشابو األفكار ىك العامؿ األساسي إلثبات التأثر ،لكف ليس ىناؾ أم دليؿ مباشر عمى ذلؾ.
-4المسيحية:
ما يقاؿ عف العبلقة بيف اإلسبلـ كالييكدية مف الناحية العقائدية ،يمكف سحبو عمى المسيحية ،عمى أساس أف القرآف الكريـ قد
اعترؼ بنبكة عيسى كمصداقية األناجيؿ .لكف ليس إلى الدرجة أف تصبح في نفس مستكل القرآف مف حيث الصحة العقدية
كالتشريعية .كالمقاء بيف المسيحي ة كاإلسبلـ تـ في دمشؽ حيث استعانت الخبلفة اإلسبلمية الفتية بالخبرة المسيحية في اإلدارة
أما أثر الكبلـ المسيحي عمى الكبلـ اإلسبلمي ،فقد أثبتو المستشرقكف بضرب مف التفصيؿ ،بالنظر إلى انتمائيـ كالتشريع.
1
أحمد محمكد صبحي :في عمـ الكبلـ -دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف ،الجزء األكؿ :المعتزلة ،مرجع سابؽ،
مرجع سابؽ ،ص .47
2
يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،مرجع سابؽ ،ص .58
3
جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،الجزء األكلى ،مرجع سابؽ ،ص .565
4
المرجع نفسو ،ص .569
5
ىارم .أ .كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص ص .133-131
69
الحضارم أكال ،كبالنظر إلى أف النقكؿ الفمسفية تمت مف طرؼ مسيحييف .كيعقد "يكسؼ فاف ايس" بأف "يعقكب الرىي (تكفي 89ىػ
ىك مسيحي) لو أىمية بالنسبة لمكبلمي اإلسبلمي ،فقد كتب رسالة تعالج قضية ىامة مف القضايا التي اىتـ بيا القدرية ،كىي
1
القضية التي تبحث ىؿ أف ا﵀ يمكف أف يؤخر أجاؿ بني آدـ أـ ال ؟".
أما "دم بكر" في دراستو "تاريخ الفمسفة في اإلسبلـ" ،نشر .1901فقد أثبت تأثير النصارل في عمـ الكبلـ االعتزالي ،كخصص
بالذكر العبلٌؼ الذم تأثر بمشكمة الصفات كاإلرادة اإلليية 2.كيعمؽ "كلفسكف" عمى رأم دم بكر قائبل :نحف نجد بيف مذاىب
المتكمميف األكلى في اإلسبلـ كبيف العقائد النصرانية شبيا قكيا بحيث ال يستطيع أحد أف ينكر كجكد اتصاؿ كثيؽ بينيما .كأكؿ
مسألة كثر حكليا الجدؿ بيف عمماء المسمميف ىي مسألة االختيار؛ ككاف النصارل الشرقيكف يكادكف جميعا يقكلكف باالختيار ()...
3
بعضا مف المسمميف األكائؿ ،الذيف قالكا باالختيار كاف ليـ أساتذة مف النصارل".
كيتـ اختصار المسائؿ التي تـ فييا تأثير الكبلـ المسيحي عمى الكبلـ اإلسبلمي في االختيار كالجبر ،كمشكمة الصفات ،كمسألة
قدـ القرآف .كيذكر لنا "كلفسكف" العديد مف اآلراء التي تقكؿ بذلؾ منيا" :في مسألة االختيار يشير كريمر ،1873كبيكر ،1912
كجيكـ ،1924كسكيتماف ،1945كجارديو كجكرج قنكاتي 1948أف االعتقاد باالختيار ظير تحت تأثير المسيحية في معارضتيا
لبلعتقاد اإلسبلمي الساذج .مثبل يعقد يحي الدمشقي مناظرة بيف مسيحي كمسمـ حكؿ ىذه المسألة في كتابو "مناظرة بيف مسيحي
مسمـ" ،كفييا يدافع المسيحي عف االختيار كيتمسؾ المسمـ بالجبر .عمى العكس يذىب جكلدتسيير 1910كتريتكف 1947ككات
1948إلى أف مشكمة االختيار قد انبعثت مف بعض آيات القرآف ذاتو ،عمى حيف أف جكلدسيير كتريتكف يرياف أف التأثير المسيحي
عجؿ بنمك كجية النظر االسبلمية ىذه ،فإف كات ينكر أم تأثير مسيحي" 4.أما في مسألة الصفات ،فيقكؿ" :يرل البعض أف
قد ٌ
إلنكار المعتزلة لمصفات أصبل مسيحيا .كريمر :لفظ التعطيؿ الذم كصفت بو المعتزلة مف خصكميـ مأخكذ مف المسيحية بمعنى
تفريغ ابف ا﵀ مف صكرة ا﵀ .يقكؿ تريتكف سنة :1947إف يحي الدمشقي استبؽ المعتزلة في نظريتيـ القائمة إف الصفات ليست غير
ا﵀ .كيقكؿ جارديو كقنكاتي متابعيف في ذلؾ بيكر أف مشكمة الصفات في اإلسبلـ نتيجة لممجادالت المسيحية ضد التشبيو" 5.كأخير
في مكضكع قدـ القرآف كخمقو ،نجده يستشيد بػ ماكدكنالد الذم يقكؿ سنة 1903فيما يتعمؽ بمشكمة خمؽ القرآف" :ال يمكف أف تككف
لدينا صعكبة في التعرؼ عمى أنيا نشأت عف المكجكس (الكممة) المسيحي كفي التعرؼ عمى أف الكنيسة المسيحية ،قد لعبت أيضا
دك ار في تشكيميا ،ربما مف خبلؿ يحي الدمشقي .ىكذا تطابؽ مع المكجكس السماكم غير المخمكؽ القابع في أحضاف األب كممة ا﵀
6
األزلية غير المخمكقة؛ كتجمي يسكع في األرض يطابؽ القرآف ،كممة ا﵀ التي نقرأىا كنتمكىا( .ذكره جكرج قنكاتي)".
1
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .654-653
2دم بكر :تاريخ الفمسفة في اإلسبلـ ،ترجمة محمد عبد اليادم أبكريدة ،دار النيضة العربية ،بيركت ،1954 ،ص .94-93
3
ىارم .أ .كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .116
4
المرجع نفسو ،ص .118-117
5
المرجع نفسو ،ص .119-118
6
المرجع نفسو ،ص .120
71
كيخمص "كلفسكف" في تطرفو الذم يرجع كؿ كبلـ إسبلمي إلى أصكؿ مسيحية قائبل :المشكبلت الكبلمية الست (عند
المسمميف :الصفات ،القرآف ،خمؽ العالـ ،الذرية ،العمية ،الحرية اإلنسانية) ىي مشكبلت متصمة بتمؾ المشكبلت التي تناكليا "فيمكف"
1
كآباء الكنيسة مف قبؿ في محاكلتيـ لتأكيؿ الكتاب المقدس تأكيبل فمسفيا كلمراجعة الفمسفة لكي تتكافؽ مع الكتاب المقدس".
يمكف أف نشير ،في خبلصة العكامؿ الخارجية ،إلى أف ىذا العنكاف الخاص بتأثير الثقافات غير اإلسبلمية عمى نشأة عمـ
الكبلـ اإلسبلمي ،ال يدؿ عمى سمبية الجبية الداخمية كتبعية المتكمميف المسمميف لمعكامؿ الخارجية تبعية سمبية انقيادية .بؿ يمكف أف
تفيـ فيما ايجابيا ،كالمتمثؿ في أف اختبلؼ العقائد اإلسبلمية عف بقية العقائد بمختمؼ أطيافيا ،حرؾ في نفكس المسمميف ،كىـ
المؤمنكف بقكة كعمؽ بصدؽ العقيدة ،الحماسة الفكرية لمدفاع عف بداىة العقائد اإلسبلمية .كفي ىذا التحريؾ يكمف أثر العامؿ
الخارجي.
بؿ أف الغربييف كقعكا في جدؿ حكؿ مصدر بعض األفكار عند الجيـ بف صفكاف ،حيث نجد مف أرجعيا إلى تأثير
األفبلطكنية المحدثة كىناؾ مف جعميا تعكد إلى تأثير البكذية في اليند .كىذا ما نجده في قكؿ "فاف ايس"" :ىؿ مف األفضؿ بدال
مف تفقد األثر األفبلطكني الحديث في أفكار الجيـ ،أف نفترض بكجكد تأثيرات ىندية عنده ؟ كىذا التأثير ليس بكذيا ،فيمكف القكؿ
2
أيضا بتأثيرات لتعاليـ البراىمية ( )...أشكر ىنا رينرت B Reinertمف مدينة زكريخ ألنو ىك الذم أكحى لي بمثؿ ىذه الفرضية".
كالحؽ أف مثؿ ىذه المنيجية ال تدؿ إال عمى محاكلة تعرية أصالة الفكر الكبلمي اإلسبلمي كمية.
مف الظاىر أف االستعراضات السابقة ،بخاصة ما ذكره الدرس االستشراقي ،بخصكص مصادر الكبلـ اإلسبلمي ،ال يمكف أف
يشكؿ نظرية مقنعة سكاء مف الناحية العممية أك التاريخية .ألف األخذ بيا ،كما ىي ،سينتيي إلى ابطاؿ أم أصالة لمكبلـ اإلسبلمي.
كيمكف المبلحظة بأنيا نظرية فرعية مف النظرية األشمؿ التي تقكؿ بأف الفمسفة اإلسبلمية ككؿ فمسفة اغريقية مكتكبة بالمغة العربية.
حقيقة أف الثيكلكجية اإلغريقية كفمسفتيا الدينية ،كمجمؿ العقائد الييكدية كالنصرانية التي جمعت في العيديف القديـ كالجديد،
كالفكر الشرقي القديـ في ببلد فارس كاليند .قد أثارت مشكبلت متعمقة بالعقائد .لكف ال يمكف أف نعثر عمى أم تطابؽ كمي بيف ىذه
المكضكعات ال فكرية الدينية .فمكؿ حضارة خصكصيات تاريخية كجغرافية كلغكية ،انتيت إلى انتاج ضرب مخصكص مف البلىكت.
كاستطاع العالـ اإلسبلمي اثارة قضايا كبلمية مكضكعة عمى مقاس المغة العربية كالعقائد اإلسبلمية .كباعتراؼ ارنست ريناف ،فإف
األفؽ العقمي لمكبلـ اإلسبلمي قد تجاكز الكبلـ المسيحي 3.كككف الييكدية كالمسيحية مثمتا خمفية فكرية كعقدية لمفضاء اإلسبلمي ال
ينقص مف األمر شيئا .فاألصالة ال تدؿ عمى االبتداع المطمؽ ،بؿ في خمؽ نسؽ متكامؿ مف العقائد كاألفكار كالممارسات ،كفي ىذا
1
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد الثاني ،ص .895
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع 2
71
فقد نجح الفضاء اإلسبلمي في خمؽ ىذا النسؽ .ثـ أف اإلسبلـ كديف جديد ،لـ يستمد عقائده مف الديانات التكحيدية السابقة عميو
بصكرة حصرية ،إذ ال يمكف انكار أثر البيئة العربية السابقة عمى اإلسبلـ في استمرار عقائد كممارسات كانت مكجكدة" .فرغـ أىمية
القرآف كشخصية الرسكؿ ،لـ يكف باإلمكاف نسياف قيـ القبائؿ العربية المتعمقة باإلجماع كالسمكؾ النمكذجي أك حتى التقميؿ مف شأنيا.
فمـ يكف السمكؾ الحسف الجدير باالحتذاء بو مف امبلءات القرآف فحسب كانما دعت إليو بصكرة أكضح المفاىيـ المضمنة في السنف،
أم ما تمثمو األسبلؼ مف قدكة حسنة إف جماعيا أك فرديا" 1.كقد تكفؿ الدكتكر محمد عابد الجابرم في اثبات عنصر األخبلؽ
الجاىمية أك قؿ العربية األصمية في ما سماه بالعقؿ األخبلقي العربي .كىك العقؿ الذم جمع الفسيفساء التي تحدثنا عنيا .لذا
فاألصالة ىي القدرة عمى تذكيب مصادر مختمفة في نسؽ جديد متفرد مف خبلؿ ىذا التذكيب بالذات .كخصكصية العقؿ األخبلقي
العربي مثبل قد تجسدت في قدرتو عمى استجماع مصادر أخبلقية عدة مثؿ العربية كالفارسية كالصكفية كاإلغريقية كاإلسبلمية 2.ما
يقاؿ عمى العقؿ العممي ،يقاؿ أيضا عمى العقؿ العقدم المتجسد في عمـ الكبلـ .يتحكؿ عمـ الكبلـ اإلسبلمي إلى مستكدع جمع عدة
مصادر في نسؽ جديد اتسـ بميسميف المغة العربية كأداة تفكير ككتابة كالعقيدة اإلسبلمية كمضاميف معرفية.
ثـ أف الظاىرة التي ال يجب اإلغفاؿ عنيا ،ىي ظاىرة تأثير الكبلـ اإلسبلمي في الكبلـ المسيحي كالكبلـ الييكدم معا .فتأخر
عمـ الكبلـ اإلسبلمية تاريخيا ،لـ يمنعو مف التشكؿ القكم ثـ التأثير في الثيكلكجييف غير المسمميف الحقا .فالحضارة أكثر امتدادا مف
األشخاص ،فحتى لك سممنا جدال ،كىذا التسميـ ضرب مف االعتراؼ الحضارم ،بأف بعض الثيكلكجييف المسيحيف قد أثركا في بعض
عمماء الكبلـ المسمميف ،فإف ازدىار الكبلـ اإلسبلمي في األندلس مثبل ،قد عمٌـ الييكد أصكؿ الكبلـ الفمسفي" .ففي الييكدية نشأ عمـ
الديف القائـ عمى الحجج الديالكتيكية بتأثير اإلسبلـ" 3.كىذا مثاؿ عمى قدرة الكبلـ اإلسبلمي عمى تشكيؿ تقاليد فكرية منضبطة
كنكعية تصدر لمعالـ الفكرم غير اإلسبلمي .فالتأثير ال يتعمؽ باألسبقية الزمنية فقط ،بؿ أف التأثير مرتبط أيضا بالنمك المعرفي
كالقدرة عمى تشكيؿ تقاليد فكرية قكية .ككما أف الكبلـ اإلسبلمي ،مثمما أظيرنا ذلؾ سابقا ،قد تشكؿ قبؿ االنفتاح المعركؼ عمى
الحضارات المجاكرة ،مما يعطي لنا إمكانية التأكيد عمى انطبلؽ ش اررة الكبلـ مف عكامؿ ذاتية .فمـ يكف التفكير كالفمسفة كالكبلـ
منعدميف قبؿ بيت الحكمة في بغداد 4.بؿ ىناؾ حركة فكرية ،عمى المقاس اإلسبلمي ال يمكف انكارىا ،كقمة المصادر في القرف
األكؿ ال يدؿ عمى انعداميا .ثـ اننا ،في سياقاتنا الحالية ،نقيس دكما قيمة المنتكج المحمي بالمعايير غير المحمية ،كىذا ما يؤدم
دكما إلى بخص قيمة ىذا الفكر المحمي .فمثمما نقيس جدكل الفمسفة بالمقاييس اليكنانية ،يمكف لنا قياس جدكل الفمسفة اليكنانية
بالمقاييس اإلسبلمية.
1
كائؿ حبلؽ :نشأة الفقو اإلسبلمي كتطكره ،مرجع سابؽ ،ص .267
2
محمد عابد الجابرم :العقؿ األخبلقي العربي – دراسة تحميمية نقدية في نظـ القيـ في الثقافة العربية ،مركز دراسات الكحدة العربية،
بيركت ،الطبعة األكلى ،2001 ،ص .19
3
جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .87
4
المرجع نفسو ،ص .144
72
إف مطالعة كتاب المتكمـ الييكدم إبف ميمكف )124/1135( Moise Maimonideتحت عنكاف "داللة الحائريف" ،يكشؼ لنا
مدل تأثره بالكبلـ اإلسبلمي ككثرة نقكلو عف المسمميف .ففي متنو نجد إشارات إلى اإلسبلـ كالى الفرؽ الكبلمية مثؿ األشعرية
كالمعتزلة كالى المفكريف المسمميف مثؿ الرازم...الخ .كيثبت أف الفرؽ الييكدية أخذت مف الفرؽ اإلسبلمية الكثير مف المكاقؼ
الكبلمية 1.إف الحضارة الفكرية أ قكل مف أم فرد ميما كاف نابغا ،ألنو يجد نفسو في حضف تأليفات فكرية ال يمكف إال أف يستفيد
منيا بالطريقة المناسبة .كعمـ الكبلـ اإلسبلمي ،الذم أخذ منو غيره ،الستطاع أف ينشأ تأليفات مف نكع مخصكص ،أثرت بقكة في
الفكر الييكدم كالمسيحي البلحؽ لمقرف السادس لميجرة عندما اكتممت الكتابات الكبلمية كنضجت .كربما أف الرشدية البلتينية ،التي
لـ تكف إال صدل لمكبلـ اإلسبلمي ،ىي أحسف مثاؿ في السياقات المسيحية .كيفيـ التأثير الرشدم في أكركبا باعتباره حرض العقكؿ
عمى التفكير كالرد عميو مف سياقات مسيحية .ىكذا يجب أف نفيـ تأثير الكبلـ المسيحي كالييكدم كاإلغريقي عمى الكبلـ اإلسبلمي،
أم أنو كاف في مكقؼ الرد كاألقممة كرفض كؿ ما ال يتكافؽ مع عقائد اإلسبلـ الكبرل.
التقطيع فعؿ إنساني ،فعندما نتحدث عف عكامؿ داخمية كعكامؿ خارجية ،كعندما نتحدث عف خصائص العصر السابؽ لئلسبلـ
كالبلحؽ عميو ،فإننا نقكـ بتقطيعات مف منطمؽ معايير ما .كىنا نفيـ سبب تعارض التقسيمات التاريخية كحتى المعرفية .كال يمكف أف
تككف في الكاقع ىذه القطع منفصمة كمبعثرة .لذا فإف التأكيد عمى انفصاؿ العكامؿ الداخمية عف الخارجية في عمـ الكبلـ ىك مكقؼ
تبسيطي ال يمكف أف يصمد أماـ النقد الحقيقي ،إذ أف العكامؿ الداخمية كانت مسبكقة بعكامؿ خارجية كالتي اندمجت في سياؽ داخمي
كىكذا دكاليؾ .فنحف نعتقد أف العكامؿ الداخمية متمثمة في الصراعات السمطكية كبنية القرآف الذم يشكؿ النص المتشابو جزء معتبر
منو ،بمثابة عكامؿ داخمية صرفة .في حيف أف التنازع عمى السمطة ليس مف خاصية المجتمع اإلسبلمي الكليد ،بؿ ىك مف العكامؿ
الخارجية مف الناحية التاريخية ،ألنيا تعكد إلى البنية السيككلكجية لمفرد العربي الذم نشأ عمى الغنيمة كالعصبية كالمنافسة .ثـ أف
المغة العرب ية ،التي شكمت لساف القرآف ،قد ساىمت ببنيتيا كخصكصياتيا ،في ىذا التشكيؿ المجازم كاالستعارم الذم أنتج ما نسميو
بالتشابو .إذف فالعكامؿ المعتبرة داخمية ليست كذلؾ بالمطمؽ .كما أف العكامؿ الخارجية ،قد تككف في بعض أجزائيا داخمية .فعندما
يؤكد مارتف برناؿ كبعض الفي مكلكجييف (فقياء المغة) أف العديد مف أسماء البمداف كاآللية كاألفكار اإلغريقية ذات أصؿ سامي
كشرقي ،فيذا يعني أف المغة العربية قد تككف قد ساىمت في بناء ىذه الحضارة التي تعتبر عامؿ خارجي خالص .فالخارجي يتشكؿ
مف الداخمي كالداخمي يتشكؿ مف الخارجي .كالفصؿ ىك مجرد اجراء منيجي لمتقسيـ كالفيـ.
ثـ أف االىتماـ بسؤاؿ النشأة ،في تقديرنا ،ليس اىتماـ عممي خالص .عمى أساس أف مف يؤكد محمية عمـ الكبلـ ال يريد سكل
الدفاع عف األصالة الفكرية لحضارة اإلسبلـ ،كمف يؤكد الطابع الخارجي لمكبلـ اإلسبلمي ،مدفكع بإرادة اثبات أطركحة أصالة
الغرب أك الشرؽ اآلخر .لذا فالدكافع ىنا تابعة لئلرادة الذاتية التي تتفاعؿ فييا العكاطؼ كاإليديكلكجيات كالمصالح .كحيث حضرت
1
مكسى بف ميمكف :داللة الحائريف ،تحقيؽ حسف آتام ،مكتبة الثقافة الدينية ،العتبة ،دس ،ص .180
يمكف التعمؽ في ىذه المسألة مف خبلؿ العكدة لػ :حسف حسف كامؿ ابراىيـ :اآلراء الكبلمية لمكسى بيف ميمكف األثر اإلسبلمي
فييا ،مركز الدراسات الشرقية ،جامعة القاىرة.2003 ،
73
المصمحة السياسية غابت الحقيقة العممية .لذا فجدؿ أصؿ عمـ الكبلـ ،ال يخمكا مف الطابع األبكلكجي (الدفاعي) كاإليديكلكجي الذم
يتنافى مع الركح العممي .ثـ أف الصراع الحضارم الحالي ،بيف الشرؽ كالغرب ،ىك الذم يسير ىذا النقاش إلى حدكد معينة.
ال مفر مف االعتراؼ بأف الييكدية كالمسيحية قد شكبل خمفية فكرية كدينية لئلسبلـ ،ىذا اإلسبلـ الذم أنتج حركة فكرية أثرت
بدكرىا ،الحقا ،عمى الساحة الفكرية الييكدية كالمسيحية .ىذا ىك التفاعؿ الجدلي الذم ال يمكف بأم حاؿ انكاره .كعقيدة األصؿ
النقي لمفكر مجرد حمـ تعشش في الفكر المثالي لدل كؿ فرقة ككؿ ايديكلكجية.
74
المحاضرة الرابعة :جدل عمم الكالم؛ بين االستحسان واإل لجام.
مقدمة.
مكقؼ المسمميف بكؿ أطيافيـ ،فقياء كمتصكفة كمتكمميف كأدباء كحتى رجاؿ السمطة ،مف عمـ الكبلـ ليس مف المسائؿ
الكاضحة جدا .كال نقصد بذلؾ اختبلفيـ حكؿ ضركرتو مف عدمو ،بؿ أننا نسمع بأف ىناؾ أحاديث منسكبة إلى الرسكؿ الكريـ تنيى
عف الحديث في العقائد ،كىذا ما يجعمنا نتساءؿ كيؼ يتحدد التحريـ قبؿ تجربة الخكض فيو أصبل ؟ ىناؾ احتماليف اثنيف :األكؿ أف
ىذه األحاديث مكضكعة في كقت متأخر مف أجؿ تقكية األطركحات المعارضة لمكبلـ كالتأكيؿ في العقائد ،كىذا مكقؼ الفقياء
النصييف أك الحرفييف الذيف عارضك الرأم باعتباره خطي ار عمى التقاليد .أك أف المكقؼ مف عمـ الكبلـ كاف معركفا عند األمـ السابقة،
مما أكرث المسمميف ،كالرسكؿ (ص) منيـ ،ىذه النظرة المتريبة عف الكبلـ في العقائد.
مسألة ثانية مرتبطة ببنية المجتمع اإلسبلمي ذاتو ،إذ أنو مقسـ ،مثمو مثؿ كؿ المجتمعات القديمة بما في ذلؾ اليكناف
كالركماف ،إلى خاصة الناس كعامتيـ .ىؤالء الخاصة ىـ المتفرغكف لمبحث كالتأمؿ بعيدا عف قمؽ الحاجة .أما العامة ،فيـ التجار
كالعبيد كالعماؿ الذيف لـ يتسف ليـ التعمـ .ىذا ما خمؽ اعتقاد عند الخاصة بأف العامة مف الناس غير مؤىميف لبلطبلع عمى كتب
الكبلـ .لكف الي كـ ،ال نممؾ بصكرة دقيقة صكرة عف مفيكـ العامة في السياقات اإلسبلمية الكبلسيكية؛ ىؿ ىـ األميكف بالمعنى
الحالي ؟ أـ ىـ الفئة المتكسطة التي تعممت لكف بحدكد ؟ ىؿ ىـ النساء البلئي لـ يكف ليـ حقكؽ مدنية في التعميـ كالعمؿ
كالمشاركة السياسية ؟ أسئمة كثيرة تجعمنا بحاجة إلى سكسيكلكجيا تاريخية تستقصي "مفيكـ" ك"ماصدؽ" العامة في اإلسبلـ مف أجؿ
فيـ العديد مف الرسائؿ التي كتبت في سياؽ منع الكبلـ عمى العامة بخبلؼ الخاصة .كقد كاف الفبلسفة ،مثؿ ابف سينا ،يعتقد بأف
الفيمسكؼ ،كألنو مف الخاصة ،ليس ممزما بالتقيد ببعض األكامر الدينية ،كالقرآنية حتى ،ألنيا مكضكعة لمعامة .كفي مسألة عمـ
الكبلـ كاف متريبا منو.
كمكضكع تقسيـ الناس إلى خاصة كعامة ،ال ينفصؿ عف بنية النص القرآني ذاتو ،إذ يتحدث الفقياء كاألصكلييف عف مبدأ
"ظاىر النص كباطنو" ،ككجكد الباطف يستمزـ كجكد نخبة مخصكصة لتكلي فيمو كتبسيطو .يقكؿ ابف رشد" :انقسـ الشرع إلى ظاىر
كباطف ،فإف الظاىر ىك تمؾ األمثاؿ المضركبة لتمؾ المعاني .كالباطف ىك تمؾ المعاني التي ال تنجمي إال ألىؿ البرىاف" 1.كاألكيد
أف كؿ مشكبلت عمـ الكبلـ األساسية ،مثؿ تشبيو الذات اإلليية ،مرتبط بضركرة التمثيؿ لمعامة مف الناس .كقد كاف التقميد
اإلغريقي ،بخاصة عند أفبلطكف ،يقسـ الناس إلى معادف أك مراتب ،فبل يمكف أف تككف النفس العاقمة في نفس مستكل النفس
الغاضبة أك أدناىا .كىذا التراتب ىك الذم يضع الحدكد الثابتة بيف طبقة كأخرل ،كيمنع األدنى مف الرقي نحك األعمى .بؿ كيجعؿ
الطبقة العاقمة أكثر ضركرة لمسير الطبيعي لممجتمع كالدكلة.
1
ابف رشد :فصؿ المقاؿ كتقرير ما بيف الشريعة كالحكمة مف اتصاؿ ،الشركة الكطنية لمنشر كالتكزيع ،الجزائر ،1982 ،ص .38
75
عندما نحاكؿ أف نستجمع مكاقؼ العمماء مف عمـ الكبلـ ،ال نجد مكقفيف عمى طرؼ النقيض فحسب ،بؿ أننا نجد أكثر مف
ذلؾ .ألف الذيف رفضكا الكبلـ قد مارسكه ،بؿ ال يمكف رفضو إال بعد تجربة الخكض فيو .لذا فمف الناحية المبدئية نجد ثبلثة مكاقؼ
أساسية ىي:
مكقؼ االستحساف بحيث ال يرل أم ضرر ،بؿ لو مف الفكائد ما يجعمو ضركرم كمطمكب.
مكقؼ يرفض تماما الكبلـ ،ألنو يؤدم إلى شبيات تمس بصميـ العقيدة.
مكقؼ يرفض الكبلـ رفضا نسبيا ،أم أف أصحاب البرىاف كالتخصص ليـ الكبلـ في العقيدة ببل حرج ،نظ ار لتككنيـ فيو
كمعرفتيـ بدقائؽ الكتاب كقكانيف التأكيؿ .لكف ىناؾ صنؼ مف الناس ال يجب أف يسمعكا أك يخكضكا في مسائؿ العقيدة،
لقمة أفياميـ كمحدكدية معرفتيـ بكتاب ا﵀ الذم يتكفر عمى العقائد الصحيحة.
لذا ،كبالنظر إلى ما سبؽ تحديده ،نطرح إشكالية المحاضرة قائميف :ما ىك المكقؼ الذم يبدكا لنا أنو سميـ مف الناحية البنيكية
كالتاريخية ؟ ىؿ الكبلـ أمر طبيعي في اإلسبلـ أـ أنو نافمة يمكف السككت عنيا كعدـ طمبيا ؟
القضية التي تبدك لنا صحيحة ىي القائمة بأنو لـ يكف بد لممسمميف مف الكبلـ .فمسار نمك الحضارة اإلسبلمية ،كالذم تكسع
عمى أكثر مف جبية كعمى أكثر مف ثقافة أكجب عقمنة العقائد اإلسبلمية كالحديث فييا بمعزؿ عف الحجاج القرآني الذم يفترض
القبكؿ بيا مسبقا .أما األقكاـ التي لـ تكف ليا تجربة في التكحيد ،فبل يمكف أقناعيا إال بالمنطؽ الخالص مف أجؿ اثبات بداىتو .ثـ
أف تفاصيؿ الحياة اليكمية التي تفرز كؿ ما يمكف أف يككف مع أك ضد العقائد اإلسبلمية ،تحتـ العمماء كالفقياء كحتى عامة الناس،
عمى الدفاع عف العقائد كعف المقدسات اإلسبلمية .كقد كاف أكؿ كتاب ألفو ابف تيمية (تكفي 728ق) ىك الدفاع عف الرسكؿ الكريـ
ضد "عساؼ األنصارم كىك مسيحي اتيـ بشتـ الرسكؿ عمى المؤل ،فألؼ ""الصارـ المسمكؿ عمى شتائـ الرسكؿ" 1.كاألكيد أف ىناؾ
اآلالؼ مف الكضعي ات الكاقعية التي تحتـ أم مسمـ الدفاع عف العقيدة الدينية .لكف ليس الكؿ مؤىؿ لذلؾ ،كلقد رأينا أف عمماء
الحديث ،في حادثة ىاركف الرشيد ،قد عجزكا عف اإلجابة عف سؤاؿ السمنية المتشككيف 2.لذا فإف قيمة البراىيف الكبلمية مرتبطة
بمف يستعمميا كطبيعة التككيف العممي كالفقيي كالفمسفي لممتكمـ .فميس كؿ متكمـ يمتكمـ مقتدر ،أم ليس كؿ كبلـ كبلـ ،فقد يؤدم
المتكمـ الناقص في تككينو إلى نتائج عكسية مف كبلمو ،أم اإلساءة حيث كاف يجب الدفاع كالتمجيد.
1
ىنرم الكست :مقدمة كتاب ابف تيمية :السياسة الشرعية في إصبلح الراعي كالرعية ،مكفـ لمنشر ،الطبعة الثانية ،1994 ،ص
.20
2
أحمد محمكد صبحي :في عمـ الكبلـ -دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف ،الجزء األكؿ :المعتزلة ،دار النيضة
العربية ،بيركت ،الطبعة الخامسة.31 ،1985 ،
76
المسألة التي تجعمنا نعتقد بأف الخكض في عمـ الكبلـ محمكد ،ىي الغايات كالفكائد التي يحققيا .كبالفعؿ ،فإف لو العديد مف
اإليجابيات في الداخؿ اإلسبلمي كخارجو .فمف كفكائد عمـ الكبلـ نجد ما يمي:
المعرفة التحقيقية بالعقائد اإليمانية :القرآف يمتدح كثي ار العمماء اإلليييف ،ألف العالـ المتحقؽ مف عقائده أحسف بكثير
مف التابع المقمد .إذ نجد في العديد مف النصكص القرآنية اشادة بالعمـ اإلليي عمى سبيؿ الثقة في العقائد .مثبل:
كف ىخبً هير﴾[المجادلة]11 ، و َّ ً ًَّ ً َّ ًَّ
يف أيكتيكا ا ٍلع ٍم ىـ ىد ىر ىجات ىكالموي بً ىما تى ٍع ىممي ى
ىمينكا م ٍن يك ٍـ ىكالذ ى
يف آ ى
﴿ ىي ٍرفى ًع الموي الذ ى
االرشاد كاليداية :خاصة الزنادقة ،ككـ مف منحرؼ تـ اعادتو لمصكاب بالكبلـ في العقائد ،ككـ مف كافر تـ اقناعو
ببداىة العقيدة اإلسبلمية.
الدفاع عف العقائد الدينية :صيانة الثغكر االعتقادية .إذ أف كؿ عقدية عبارة عف نسؽ ،كيمكف لغير المسمميف الكشؼ،
عف طريؽ العقؿ الخالص ،عف ثغكر نسقية .كلف ينفع في ردىا إال الكبلـ المرتب.
حاجة العمكـ الدينية إلى عمـ الكبلـ :ما لـ يثبت كجكد ا﵀ ،لـ يثبت مكضكع العمكـ مثؿ التفسير كالحديث الفقو .كلئف
قمنا أف الكبلـ ىك الفقو األكبر كعمـ أصكؿ الديف ،فيذا يعني أنو األساس الذم تتفرع عنو كؿ العمكـ األخرل 1.إنيا
عمكـ منقادة لعمـ قائد ىك الكبلـ.
مف المبلحظات السابقة ،يمكف أف نرل مدل ارتباط الكبلـ في العقائد بأفضمية عف السككت .كبالتالي يتحكؿ سبب تسمية عمـ
الكبلـ بأنو الكبلـ حيث كجب السككت إلى تعميؿ مكجو لمقدح فيو .فاألصؿ ليس السككت عف العقائد ،بؿ الحديث فييا كالمجادلة مف
1
عمي الرباني الكمبايكاني :ما ىك عمـ الكبلـ ؟ مؤسسة بكستاف كتاب ،قـ ،الطبعة الثانية ،ص ص .40-37
2
ابف رشد :فصؿ المقاؿ كتقرير ما بيف الشريعة كالحكمة مف اتصاؿ ،مرجع سابؽ ،ص .24
3
يحي ىكيدم :دراسات في عمـ الكبلـ الفمسفة اإلسبلمية ،دار الثقافة لمطباعة كالنشر ،القاىرة ،ص .81-80
77
عالـ كاحد يمكف أف يجر المبلييف إلى الديف مثمما يمكف أف يخرج المبلييف األخرل منو .فسمطة العمـ تفكؽ سمطة السيؼ ،ككتاب
ابف تيمية المعنكف بالصارـ السميؿ مجرد استعارة ألف فكره أقكل مف سيؼ أم سمطاف في مسألة العقيدة.
لقد تيقف الغزالي في المنقذ مف الضبلؿ بأف التقميد ال يفيد العقيدة بأم شيء ،فقد يفيد الفقو ألف تقميد العبادات طريؽ مألكؼ،
لكف العقيدة تحتاج إلى قناعة قكية بدؿ األلفة الضعيفة .ألنو مف الكارد انقبلب التعكد عمى غير الحقيقة .لذا فإف تقكية العقائد ال
يككف إال بالعمـ اليقيف ،كىذا ال يتأتى إال بالبرىاف لمعقائد كالدليؿ عمى القضايا اإليمانية .فما بني عمى الدليؿ كالحجة ال يمكف أف
يتعرض لبلنقبلب بسبب تغير الظركؼ أك األكطاف أك المجتمعات .ككـ مف مؤمف بالتعكد غير عقيدتو بمجرد ما كجد نفسو في
عادات مخالفة .لكف التأسيس المتيف لف يغير العقيدة رغـ تغير الظركؼ .ألـ يقض الرسكؿ الكريـ كؿ سنكات تكاجده في مكة لمدعكة
إلى العق يدة كتأسيسيا عمى أسس قكية .لذا كرد كؿ القرآف المكي عقديا .بؿ أف عمـ الكبلـ يذىب إلى أكثر مف تقكية العقائد
اإلسبلمية مف الداخؿ ،إلى ابطاؿ الشبيات التي قد تنشأ مف التفكير الطبيعي في العقائد مف طرؼ المسمميف أك مف الشبيات التي
ترد عند مقارنة األدياف بعضيا مع ا لبعض .كمف المعمكـ أف المسمميف لطالما قارنكا عقيدتيـ مع العقائد التكحيدية مما يسمى أىؿ
الكتاب أك الكثنية القريبة أك البعيدة 1.يمكف أف نتأكد بأف الخضكع لمعقيدة اإلسبلمية ال يككف إال عف طريؽ القناعة الراسخة التي
اعمى ٍـ أَّىنوي ىال إًلىوى إً َّال المَّوي﴾ [محمد ]19 ،فإنو يقكؿ يجب أف تعمـ عمـ
تكلدىا المعرفة الكبلمية .كعندما يقكؿ ا﵀ سبحانو تعالي﴿ :فى ٍ
اليقيف بيذه العقيدة األساسية كىي عقيدة التكحيد .كال يستقيـ العمـ كالتقميد ،عمى أساس أف التقميد حجة الكفار ذاتيـ ،لذا فالعمـ
العقائدم يدؿ عمى القناعة العقائدية عف طريؽ خبرة كثقة كيقيف.
لئف كاف أكؿ القرآف ىك القرآف المكي ،كىك قرآف عقائدم في األساس ،حيث قضى الرسكؿ الكريـ عشر سنكات في مكة يؤسس
بقكة لمعقيدة .كىذا يعني أف نصؼ تاريخ القرآف قد كرس لمعقيدة ،يعادؿ الفترة التي قضاىا في المدينة كتأسيس لمتشريع 2.فمـ يبدأ
ال قرآف بالتشريع بؿ بالعقائد ،كىذا بناء نسقي كمنطقي ألف ال معنى لمتشريعات إال بعد التأسيس لمعقائد .فيجب أف نفيـ مف ذلؾ أف
العمـ األسبؽ تاريخيا كمنطقيا معا ،ىك عمـ الكبلـ مقارنة ببقية العمكـ الدينية األخرل .كلـ يكؼ الرسكؿ الكريـ كالصحابة عف الدعكة
لمعقيدة الجديدة التي ىي عقيدة التكحيد .لذا حؽ القكؿ بأف "عمـ الكبلـ اإلليي كاف أكؿ العمكـ اإلسبلمية ظيك ار" 3.كما الفقو
كاألصكؿ كالتصكؼ...الخ إال عمكما الحقة لمعقيدة .كاألكلكية ىنا قد ال تككف بالمعنى الزمني المألكؼ ،ألف ىذا العمـ لـ يظير كامبل
دفعة كاحدة ،لكف مف الناحية المنطقية حيث ال فقو كال تشريع ببل عمـ عقائد سابؽ.
كسنرل أدناه ،أف األطركحة التي تحرـ عمـ الكبلـ ،كتكشؼ عف عيكبو الكثيرة ،قد تغافمت عف ذكر محاسف المتكمميف
كانتصارات عمـ الكبلـ في غير ذم مكضع .فمـ يكف عمماء الكبلـ مجرد متكمميف نظرييف ،بؿ أنيـ انخرطكا في أنشطة خيرية مما
يجعميـ أصحاب كبلـ كأصحاب عمؿ .كىذا عكس ما اعتقده الجابرم مف أف عمـ الكبلـ لـ ييتـ إطبلقا باألخبلؽ .كبالتالي فإف
1
عبد اليادم الفضمي :خبلصة عمـ الكبلـ ،دار المؤرخ العربي ،بيركت ،الطبعة الثانية ،1993 ،ص .25-23
2
ثيكدكر نكلدكو :تاريخ القرآف ،ترجمة جكرج تامر كآخركف ،دار نشر جكرج ألمز ،بيركت ،الطبعة األكلى ،2004 ،ص .63-62
3
شكيب بف بديرة الطبمبي :مدخؿ مناىجي إلى عمـ الكبلـ ،مطبعة دار المتكسط الجديد ،طبمبة ،تكنس ،2012 ،ص .93
78
سؤالو القائؿ "لماذا انصرؼ عمـ الكبلـ ،كىك العمـ العقمي في اإلسبلـ عف مجاؿ األخبلؽ ،مجاؿ التشريع لمفعؿ البشرم ؟" 1.يبقى
ببل مدلكؿ حقيقي عندما نعمـ بأف الفرقة التي تعرضت لمعزؿ المجتمعي ،كىي المعتزلة ،قد كانت ليا أنشطة أخبلقية ،كال يجب أف
ننكر أك ننسي األصؿ الخامس مف أصكليا الذم ىك أصؿ أخبلقي بامتياز" .فكؿ ىذه النشاطات ،سكاء االجتماعية أك العسكرية أك
الدعكية (لممعتزلة) ،قد أجمميا المرء كبررىا تحت شعار "األمر بالمعركؼ كالنيي عف المنكر"( )...الذم يعني االىتماـ بالمصمحة
العامة كاالنتصار لممبادئ السيما األ خبلقية منيا .عمى العكس مف ذلؾ كاف ينعت "سمطاف المنافقيف" ،فيؤالء "يأمركف بالمنكر
كينيكف عف المعركؼ" .كاف النبي محمد يدرؾ معرفة العرب بمثؿ ىذا المبدأ ،فيك المبدأ نفسو الذم اعتمد عميو في "حمؼ الفضكؿ"،
ذلؾ الحمؼ الذم عقدتو قبائؿ قريش قبيؿ بعثة النبي كبعد حرب ً
الفجار" 2.كنجد شيادة تعزز أخبلقية كعممية فرقة المعتزلة ،بدؿ
الصكرة المركجة ليا باعتبارىا فرقة كبلـ كسقط فحسب" .يفترض صفكاف األنصارم (تكفي 205ىػ) أف المعتزلة في زمف كاصؿ
كانكا ييتمكف باأليتاـ كبالقبائؿ التي ليا حظ ضئيؿ في المجتمع .فيركم مثبل أف كاصؿ نفسو قد أنفؽ عمى المحتاجيف مف أتباعو
20000درىـ كاف قد كرثيا عف أبيو ،ككاف يطمب مف األغنياء مف بيف أتباعو سمكؾ المسمؾ نفسو .كيؤكد عثماف الطكيؿ عمى أنيـ
في عصر أستاذىـ لـ تكف ليـ أمبلؾ خاصة ( )...كيبدك أف ىذا ناجـ عمى أنيـ (أنصار المعتزلة) يربكا في بيكت المكالي ،كعميو
فقد كانكا يحسكف بالضعؼ االجتماعي في بيئاتيـ الخاصة" 3.كىذا أكبر دليؿ عمى االلتزاـ العممي كاألخبلقي لدل المعتزلة.
عنكنا
كتنسب لؤلشعرم (أبك الحسف 324/260ق) رسالة بعنكاف "رسالة استحساف الخكض في عمـ الكبلـ" ،كعمى أساسيا ٌ
العنصر األكؿ مف المحاضرة .كمف العنكاف يظير المكقؼ الذم ال يرل أم مضرة مف الكبلـ ،عمى أساس ما لو مف فكائد كنا أشرنا
إلييا سابقا .كمضمكف الرسالة ال ينفصؿ عف اإلشكالية التي انطمقنا منيا .إذ ىناؾ مف طعف في البحكث الكبلمية كاعتبرىا ضبللة،
كقالكا زاعميف أف "الكبلـ في الحركة كالسككف الجسـ كالعرض كاأللكاف كاألككاف كالجزء كالطفرة كصفات البارم عز كجؿ بدعة
كضبللة" 4.كمف حججيـ ،أم الطاعنيف في عمـ الكبلـ ،نجد:
أف الرسكؿ الكريـ كصحابتو األقربيف لـ يتكممكا مثؿ ىذا الكبلـ .ككؿ ما كاف ضركريا لمعقيدة فقد حدده القرآف
كالرسكؿ .كالخكض في الكبلـ مف بعده ىك تعبير عف عدـ كفاية القرآف كأحاديث النبي.
1
محمد عابد الجابرم :العقؿ األخبلقي العربي – دراسة تحميمية نقدية في نظـ القيـ في الثقافة العربية ،مركز دراسات الكحدة العربية،
بيركت ،الطبعة األكلى ،2001 ،ص .99
2
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،ترجمة
محي الديف جماؿ بدر كرضا حامد قطب ،مراجعة محسف الدمرداش ،منشكرات الجمؿ ،بيركت – بغداد ،الطبعة األكلى،2016 ،
ص .574
3
المرجع نفسو ،ص .573
4
أبك الحسف األشعرم :رسالة استحساف الخكض في عمـ الكبلـ ،دار المشاريع لمطباعة كالنشر كالتكزيع ،بيركت ،الطبعة األكلى،
،1990ص .38
79
لك كاف ما قالو المتكممكف (بعد الرسكؿ) خي ار لما فات الرسكؿ ،كلك أنيـ عممكا كسكتكا عنو ،لما كاف لبلحقيف الكبلـ
1
فيو .كفي كبل الحالتيف فالكبلـ بدعة.
بعد عرضو ليذه الحجج ،يتقدـ األشعرم لمرد عمييا ردا ال يقؿ كجاىة عنيـ قائبل:
-1أف الذيف يبدعكف المتكمميف كقعكا فيما نيا عنو الرسكؿ ،ألنو لـ يكفر أك يبدع المتكمميف ،فإف تبديعيـ بدعة في ذاتيا .فقد
اتيمكا بالضبللة مف لـ يضمميـ الرسكؿ الكريـ.
-2مكاضيع الكبلـ السابؽ ذكرىا (السككف كالجسـ كاألككاف كالتكحيد...الخ) كاردة في القرآف الكريـ .فقد برىف ا﵀ عمى كحدانيتو
ً اف المَّ ًو ىر ّْ ً َّ َّ عندما قاؿ﴿ :لىك ىك ً
كف﴾ [األنبياء ]22 ،لذا فبل مانع مف ب ا ٍل ىع ٍر ً
ش ىع َّما ىيصفي ى اف في ًي ىما آىليىةه إًال الموي لىفى ىس ىدتىا فى يس ٍب ىح ى
ٍ ى
البرىنة بأدلة أخرل.
2
-3أف استحداث مكاضيع الطفرة كالجزء...الخ ال يعد بدعة ،فمك أف الرسكؿ الكريـ عاش في زمف ما بعد ظيكرىا ألستعمميا.
كنحف نسمع اليكـ أنو إف فرضا أف القرآف قد نزؿ في عصرنا الستعمؿ لغة كطريقة ىذا العصر ،مف أجؿ مركر الخطاب
عند األغمبية.
كبالنسبة لؤلشعرم ،فإف منع الكبلـ ىك ممارسة لو ،ألف المنع يقتضي البرىنة كالعمـ بمكاضيعو كرفض القكؿ مثبل بخمؽ
القرآف...الخ .فاإلماـ أحمد بف حنبؿ ،كعمى الرغـ مف رفضو لمكبلـ ،فقد مارسو عندما دافع ضد المعتزلة عف قدـ القرآف 3.يغدك ىنا
رفض الكبلـ ضربا مف الكبلـ ،مثمما أف رفض الفمسفة يقتضي التفمسؼ ،فقد تنبو الفبلسفة منذ أرسطك إلى أف رفض الفمسفة ميمة
فمسفية بامتياز ،كمف ى أز مف الفمسفة ،فإنو أبدل مكقفا فمسفيا أصيبلse manquer de la philosophie, c'est vraiment :
4.philosopherلذا ،فإف كؿ مف انخرط في رفض الكبلـ ،فقد مارسو عمى أحسف كجو ،كلنا مثاؿ في الغزالي ،كالذم استثقؿ الكبلـ
في المنقذ مف الضبلؿ بسبب مف منيجو ،كلكنو كاف قد مارسو بقكة ال نضير ليا في كتاب تيافت الفبلسفة .أيف تكمـ أحسف مف
كقد كاف ىيجؿ يعتقد بأف "تككيدات خصكـ الفمسفة ال تحتكل عمى شيء سكل ما تحتكيو الفمسفة نفسيا كمبدأ ليا" .قكؿ منقكؿ عف :
فريدريؾ ىيجؿ :محاضرات في فمسفة الديف – الحمقة األكلى :مدخؿ إلى فمسفة الديف ،ترجمة مجاىد عبد المنعـ مجاىد ،مكتبة دار
كممة ،القاىرة ،الطبعة األكلى ،2001 ،ص ص .73 - 67كيقكؿ أيضا الدكتكر حمك النقارم في نتيجة أحد كتبو المنيجية األخيرة
قكال يدؿ عمى المعنى القديـ حكؿ عدـ إمكانية ،أك قؿ استحالة ،رفض الفمسفة" :ال يتصكر مف عاقؿ اعتراضو أك معارضتو لفعؿ
التفمسؼ كاف اعترض كعارض فمسفة مف الفمسفات ".قكؿ كارد في :حمك النقارم :ركح التفمسؼ ،المؤسسة العربية لمفكر كاالبداع،
بيركت ،الطبعة األكلى ،2017 ،ص .105
81
المتكمميف ،ككفرىـ مثمما يكفر عمماء الكبلـ ،كما بدعيـ عمى طريقة المتكمميف .لذا فيك متكمـ بيف المتكمميف كمعارض لو بيف
العارضيف.
تـ ركاية عدة أحاديث منسكبة إلى الصحابة األكائؿ ذكم المكانة المعتبرة في فيـ القرآف كشرحو كحتى تدكينو ،تتضمف النيي،
بؿ المنع التاـ لكؿ استعماؿ لمعقؿ في العقائد .في ىذا السياؽ يذكر الغزالي النص التالي:
" نقؿ عف عمر (ض) أنو سأؿ سائؿ عف آيتيف متشابيتيف فعبله بالدرة ،كما ركل أنو سأؿ سائؿ عف القرآف ىؿ ىك مخمكؽ
أـ ال ،فتعجب عمر مف قكلو فأخذ بيده حتى جاء بو إلى عمي (ض) ،فقاؿ :يا أبا الحسف استمع ما يقكؿ ىذا الرجؿ ()...
فكجـ ليا (ض) كطأطأ رأسو ،ثـ رفع رأسو كقاؿ :سيككف لكبلـ ىذا النبأ في آخر الزماف كلك كليت مف أمرىما كليت
لضربت عنقو" 1.كىك ما يدؿ عمى انكار الكبلـ في عيد الرسكؿ كالصحابى.
كقد ركل مصدر اباضي أف ابف عباس قاؿ" :اتقكا القياس ،فأصحاب القياس أعداء لمسنة" .كعمى نحك ما كاف يقاؿ في الككفة
2
كنحف نعمـ أف القياس الكبلمي ىك المنيج فإف الناس في البصرة أيضا كانكا يعتقدكف أف الشيطاف ىك أكؿ مف عمؿ بالقياس".
األكؿ قبؿ نقؿ القياس المنطقي كتطبيقو في الكبلـ بعد حركة الترجمة .لذا فإف منع القياس ىك منع لتعقؿ العقائد اإليمانية .فاإلسبلـ
ىك اسبلـ الكجو ﵀ عمى الكضعية المكجكدة دكف نظر أك شؾ أك ترتيب عقبلني إنساني .كحتى في زمف الرشيد السابؽ لتطعيـ
الكبلـ بالفمسفة ،فقد كاف ينيى عف الكبلـ في العقائد ،كقد زج بالمتكمميف في السجف نظير كبلميـ في العقائد .كىذا المكقؼ السياسي
ترجمة لمكقؼ نظرم يمنع كمية الكبلـ.
كيمكف لنا استكشاؼ التكجو الذم منع عمـ الكبلـ باعتباره كبلـ فيما ال يجب الكبلـ أصبل ،مف خبلؿ الربط بيف الزندقة النظرية
كعمـ الكبلـ 3.كنحف نعمـ أف المجتمع اإلسبلمي يقبؿ باآلثاـ العممية أكثر مما يقبؿ باآلثاـ الكبلمية المتعمقة بالعقائد .كىذا آت مف
خبلؿ التمييز المشيكر بيف الكبائر كالصغائر ،عمى أساس أف انيتاؾ الكبائر النظرية ييدـ كؿ البنياف الديني في حيف أف الصغائر
ال تيدـ البناء نظ ار إلمكاف الترميـ عف طريؽ اإلصبلح كالتكبة.
1
الغزالي :إلجاـ العكاـ عف عمـ الكبلـ ،ضمف مجمكعة رسائؿ اإلماـ الغزالي ،تنقيح كتصحيح ابراىيـ أميف محمد ،المكتبة التكفيقية،
القاىرة ،د س ،ص .341
2
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،ترجمة
محي الديف جماؿ بدر كرضا حامد قطب ،مراجعة محسف الدمرداش ،منشكرات الجمؿ ،بيركت – بغداد ،الطبعة األكلى،2016 ،
ص .213
3
يكليكس فميكزف :أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر اإلسبلـ – الخكارج كالشيعة ،ترجمة عبد الرحمف بدكم ،مكتبة
النيضة المصرية ،القاىرة ،1958 ،ص .38
81
كلكي نسير سي ار منيجيا نطرح السؤاؿ التالي :ما ىك سبب تحريـ عمـ الكبلـ ؟ ىؿ يمكف تحديد تاريخ تحريمو ؟ ألننا كما
افترضنا في المقدمة ،أنو ال يمكف منع أم سمكؾ ،فكرم أك عممي ،إال بعد مبلحظة آثاره السمبية اليدامة .ال يمكف لنا تحديد تاريخ
دقيؽ لصدكر فتكل بتحريـ الكبلـ ،كمف رسالة األشعرم ،فإنو يشير إلى اإلستشياد بعدـ خكض النبي في الكبلـ مف أجؿ منعو ،مما
يعني أف المنع قرار متأخر عف زمف الرسكؿ .أما األسباب فيي كثيرة يمكف أف نحمؿ أىميا.
انتشار الكبلـ في العقائد ،المتعمقة بصفات ا﵀ ،كالتنزيو ،كالقدر...الخ كتحكيمو إلى الشغؿ الشاغؿ لممؤمنيف ،يؤدم حقيقة إلى
انتشار الحيرة كالتشكؾ في العقيدة .كربما يمكف تعميؿ ظيكر التصكؼ ،مف الناحية التاريخية ،في البصرة ،مسقط رأس الكبلـ
اإلعتزالي ،الذم تطرؼ نكعا ما ،كاف ليذا السبب 1.فانتشار الكبلـ في العقيدة ،يؤدم إلى ال أدرية عقدية ،ألف العقؿ يعجز عف
التحكـ في حركة فكره في العقديات .لذا اعتزؿ البعض ىذا الجك المشحكف بالجدؿ كالشؾ .إف اعتزاؿ االعتزاؿ ىك ما يجعؿ المؤمف
منشغبل بالعبادة بدؿ الكبلـ .لذا يقكؿ الكمبايكاني" :جيات الذـ كالمكـ في عمـ الكبلـ [عديدة ىي] :التفكير في ذات ا﵀ تعالى ،لغاية
الكقكؼ عمى حقيقة ذاتو المتعالية .كىذا مف المستحيؿ .كما قاؿ اإلماـ الصادؽ عميو السبلـ :إياكـ كالكبلـ في ا﵀ ،تكممكا في
عظمتو كال تتكممكا فيو ،فإف الكبلـ في ا﵀ ال يزداد إال تييا" .كمنيا االفراط في المجادلة بحيث يكرد العداكة كالبغضاء بيف
المسمميف( )...كمنيا االشتغاؿ في أمكر غير ميمة في الديف" 2.كالحؽ يقاؿ أف الخصكمات األساسية ليست ناجمة عف جدؿ في
الفقو كالعبادات ،بقدر ما تنبع مف الخبلؼ في العقائد.
كعمى الرغـ مف أنو ال يمكف أف ننكر تكمـ الرسكؿ (ص) كصحابتو في األمكر العقدية ،إال أف طريقتيـ في الكبلـ تختمؼ عف
طريقة البلحقيف .فقد تكممكا عمى أصكؿ قرآنية ،كالعقؿ القرآني ليس ىك نفسو العقؿ الفمسفي أك المنطقي .ال يجب أف نخاؼ مف
التفكير العقائدم في العقائد .في حيف أف التفكير المنطقي في العقيدة ،قد أدل إلى اتياـ مزدكج ،إتياـ الكبلـ كتحريـ المنطؽ معا.
يقكؿ "طو عبد الرحمف" مكضحا ىذا التحريـ المزدكج:
"الخكض في عمـ الكبلـ ىك الخكض في أمكر العقيدة بطرؽ لـ يرد األمر بيا .كأنو يفضي إلى النظر في المتشابيات
المنيي عنو ،كىذا ما أدل إلى تحريـ المنطؽ الذم استعمؿ ككسيمة لعمـ الكبلـ (فتكل ابف الصبلح :ليس االشتغاؿ بتعمـ
المنطؽ كتعميمو مما أباحو الشرع كال استباحو أحد الصحابة كالتابعيف كاألئمة المجتيديف) .الكبلـ في الذات كالصفات
3
أفضى إلى اإلخبلؿ بمبدأ التكحيد التنزييي".
1
محمد عابد الجابرم :العقؿ األخبلقي العربي – دراسة تحميمية نقدية في نظـ القيـ في الثقافة العربية ،مرجع سابؽ ،ص -438
.440
2
عمي الرباني الكمبايكاني :ما ىك عمـ الكبلـ ؟ مؤسسة بكستاف كتاب ،قـ ،الطبعة الثانية ،ص .42-41
3
طو عبد الرحمف :سؤاؿ المنيج – في أفؽ التأسيس ألنمكذج فكرم جديد ،مرجع سابؽ ،ص ،197ص .215-214
82
لـ يتنبو المتكممكف العقميكف ،بأف ىناؾ مناىج ال تصمح لمكاضيع ليا أصكؿ مختمفة عنيا .ليس كؿ طريقة تطبؽ عمى كؿ
مكضكع .فالعقائد إيمانية كالمنطؽ عقمي مف أصكؿ غير أصكؿ العقائد .لذا فإف مزجيما يكلد أخطاء مركبة ،ال تنفع العقيدة كال
تطكر المنطؽ أك تستقبمو في البيئة الجديدة .لذا قاؿ في ىذا السياؽ ،أبك سميماف المنطقي ،عمى ركاية التكحيدم ،بأف "الديف مكضكع
عمى القبكؿ كالتسميـ ،كالمبالغة في التعظيـ ،كليس فيو "لـ" ك"ال" ك"كيؼ" ،إال بقدر ما يؤكد أصمو كيشد أزره ( )...كىذا ال يخص
دينا دكف ديف" 1.كبالفعؿ ،فإف العقمنة ألم ديف تسبب التقميؿ مف قدسيتو ،كربما ما حصؿ لسقراط ،العقبلني المفرط في عقبلنيتو ،أنو
خرج عف األساطير القديمة حيف حاكؿ تفكيرىا بالمنطؽ .كلعؿ اتيامو باليرطقة كاف ليذا السبب .عمى الرغـ مف أف ىناؾ مف يرجح
األسباب السياسية .لكف في كؿ األحكاؿ فإف اتباع المنيج غير المناسب لمكضكع ما يؤدم إلى نتائج عكسية ،فاألسطكرة عقيدة
الكثنييف مثمما أف التكحيد عقيدتنا نحف .كبيذا السبب ،يتحكؿ المدافع إلى خصـ ،كقد اعتبر البعض مف عمماء الكبلـ خصكما لمديف
كطاعنيف في التنزيو...الخ بسبب كبلىـ العقبلني في مسائؿ التسميـ ،كىك الكبلـ الذم يحرؾ اليقينيات نحك التشكؾ 2.كقد انتيى
العديد مف عمماء الكبلـ إلى االنحراؼ التاـ ،كما اعبلف تكبتيـ عف الكبلـ إال دالة عمى ذلؾ .يذكر "فاف ايس" ىذا النص الذم يشير
إلى ظاىرة التكبة مف الكبلـ ككأنو كبيرة مف الكبائر" :ىناؾ ركاية ترد كثي ار في كتاب األغاني ،تثبت أنو كاف في البصرة إباف العصر
األمكم المتأخر ستة أشخاص ييتمكف بالمسائؿ الكبلمية ،كيركل أنيـ كانكا يجتمعكف في بيت أحد األزدييف مف أجؿ مناقشة مثؿ
ىذه المسائؿ .تبنى اثنيف مف ىؤالء الستة فيما بعد مذىب االعتزاؿ ،كنقصد بيما كاصؿ بف عطاء كعمركا بف عبيد ،كىناؾ اثناف
آخراف أعمنا تكبتيما كرجعا عما قاال ،كىما عبد الكريـ بف أبي العكجاء كصالح بف عبد القدكس ،المذاف نظر إلييا في التاريخ عمى
اعتبارىما مف المبلحدة .كقد ظؿ خامس ىؤالء كىك الشاعر بشار بف برد طيمة حياتو متحي ار كمخمطا( ...فمثبل نتساءؿ لماذا أعمف
االثناف مف المبلحدة عف تكبتيما ،ىؿ أف انشغاليما بالمسائؿ الكبلمية كاف بمثابة ذنب ؟) 3.ىذا النص يظير المخياؿ العاـ الذم
تشكؿ حكؿ الكبلـ ،باعتباره طريؽ مشككؾ في مآالتو .إف التكبة عف الكبلـ ليي أكبر دليؿ عمى أنو يسبب الشبيات في العقائد.
كليس ىناؾ أخطر مف ذلؾ ،عمى أساس أف المؤمف مطالب باالبتعاد مف الشبيات في األعماؿ ،فما بالؾ العقائد.
لقد أكرث االنقساـ الكبلمي شقاؽ في الفقو كالعبادات ،كىذا مبرر إلى أبعد الحدكد ،عمى أساس أف الخبلؼ العقدم يؤدم حتما
إلى خبلؼ طقكسي .فقد " أعاب "أبك سميماف الداراني" عمى "أبك نصر عبد الكىاب بف عطاء بف مسمـ الخفاؼ العجمي" تكجيو
القدرم لدرجة أف امتنع عف الصبلة خمفو" 4.بؿ كتشكمت عصبيات فرقية حيث تتكفؿ كؿ فرقة بحماية شكارعيا ،ككأف العصبية
انتقمت مف الدـ إلى االنتماءات الكبلمية ،كىذا نكع جديد مف التشكؿ التعصبي المناؼ لكؿ عقؿ كلكؿ تسامح .ك"يركل مثبل أنو إباف
1
أبك حياف التكحيدم :اإلمتاع كالمؤانسة ،الجزء الثالث ،مكفـ لمنشر ،الجزائر ،1989 ،الميمة ،38ص .221
2
المرجع نفسو.122 ،
3
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .18
4
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .124يرد أيضا في الصفحة :549يركل عف سميماف التميمي أيضا أنو رفض الصبلة خمؼ أحد القدرية ...يزعـ أىؿ
االعتزاؿ أف سميماف أقر بأف مسمى "ا لقدرية" لـ يضعو أصحاب المذىب أنفسيـ؛ بؿ خمع عمييـ كأعانيـ عمى ذلؾ الحكاـ لمناىضة
المدافعيف عف حرية اإلرادة ،كزاد الطيف بمة عندما أصبح المرء ينعتيـ بدال مف ذلؾ بػ "المجبرة".
83
سنكات الفكضى بعد عاـ 126ىػ أم إباف الفتنة الثالثة ،يبدك أف المعتزلة كانكا يقكمكف بحماية الشكارع التي يعيشكف كيتاجركف فييا
مف خبلؿ ميميشيات خاصة بيـ ،كبعد مركر عقكد مف الزماف خمقت ىذه الميميشيات نكعا مف القكة السياسية" 1.ىنا يتطكر االنتماء
العقدم إلى انتماء سياسي كعسكرم ،كقد يتحكؿ إلى انقساـ في المجتمع ،كىنا نبلحظ اآلثار العممية المدمرة لعمـ الكبلـ.
ظاىرة أخرل ال تقؿ خط ار عف االختبلؼ في العبادات ،كىي التكفير المتبادؿ بيف الفرؽ .كلعؿ البعض يعتقد بأف المعتزلة التي
ترفع شعار العقؿ مستثناة مف ذلؾ ،لكف العكس تماما ىك الكاقع .فيـ يكفركف غيرىـ مف الفرؽ المخالفة ببل ىكادة .إذ "يركل عف عبد
الرحمف بف محمد بف اسحؽ بف مندة ( 470/381ىػ) أنو التقى بشخص كاف يركل بأف مف ال يعتنؽ المذىب االعتزالي فيك غير
مسمـ" 2.بؿ أف المعتزلة يكفر بعضيـ البعض ،ألف أراءىـ ليست متجانسة بالكمية .إذ "يرل بشار بف برد أف أتباع كاصؿ غير
متسامحيف ،كيرمكف غيرىـ مف المسمميف بالكفرػ كلكنيـ ليسكا كحدىـ مف يفعؿ ذلؾ ،فيذا األمر معيكد لذل كؿ المتعصبيف ()...
ينكه أيضا لمخكارج ،أكلئؾ الذيف اتيميـ أىؿ االعتزاؿ بالزندقة ،أما الخكارج فكانكا قد اتيمكا عمي بف أبي طالب بالزندقة" 3.ىذا النص
يكشؼ عف اآلثار المدمرة لمكبلـ ،إذ انتيت إلى فتنة نظرية خطيرة جدا .عمى أساس أف التفكير ىك المميد لمعنؼ الفردم .كبالفعؿ،
الكثير مف االغتياالت تمت ألسباب كبلمية خالصة.
كالسبب األكبر كراء رفض الكبلـ كتكفير مف يشتغؿ فيو ىك أنو ،ككفؽ تسميتو ،ال يندرج مف تحتو أم عمؿ .فيك مجرد كبلـ،
يكلد الخبلؼ كالشقاؽ ببل أمؿ في أخبلؽ ما أك عبادة مكثكقة .لذا يرد "عف مصعب بف عبد ا﵀ الزبيرم قاؿ :كاف مالؾ بف أنس
يقكؿ :الكبلـ في الديف أكرىو ،كلـ يزؿ أىؿ بمدنا يكرىكنو كينيكف عنو ،نحك الكبلـ في رأم جيـ كالقدر كما أشبو ذلؾ ،كال أحب
الكبلـ إال فيما تحتو عمؿ" 4.كمف الكاضح أف تكجيو الديف نحك الممارسة مف األمكر األساسية في الديف اإلسبلمي .كقد حفظ قكؿ
آخر لو في نفس السياؽ :إياكـ كالبدع .قيؿ ما البدع ؟ قاؿ :أىؿ البدع الذيف يتكممكف في أسماء ا﵀ كصفاتو ككبلمو كعممو كقدرتو،
كال يسكتكف عما سكت عنو الصحابة التابعكف ليـ بإحساف" 5.يتحكؿ السككت ىنا إلى فضيمة عقائدية ليا مف المنافع أكثر مما
لمكبلـ .لذا كاف األكائؿ يسكتكف عف الكبلـ ،ليس عج از اك جيبلف إنما خكفا مف العكاقب غير المرغكبة.
كالظاىر أف أكؿ مكقؼ رفض الكبلـ في اإلسبلـ ،قد ارتبط بالفرقة الشاذة حد األذل ،كىي الخكارج الذيف مارسكا اإلرىاب عمى
بقية المسمميف ،كبمغ شذكذىـ أنيـ حرمكا التعامؿ مع غير الخارجي ،فبقية المسمميف مختمفيف عنيـ .كبعد ذلؾ ،تـ االحتراز مف
1
المرجع نفسو ،ص .574
2
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .934
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع 3
5
يحي ىكيدم :دراسات في عمـ الكبلـ الفمسفة اإلسبلمية ،دار الثقافة لمطباعة كالنشر ،القاىرة ،ص .80
84
المعتزلة التي صدمت جميكر المسمميف ببعض المكاقؼ كاآلراء الكبلمية الصارمة ،كالمرجئة التي فصمت فصبل شاذا بيف اإليماف
كالعمؿ كبعض فرؽ الحشكية كالمجسمة التي ألغت مبدأ التنزيو بالكمية 1.فكؿ ىذه المكاقؼ التي لـ يألفيا الكعي اإلسبلمي العادم ،قد
شكمت صكرة سيئة لمكبلـ كالفرؽ الكبلمية ،كانتيت بتشكؿ مكقؼ مضاد ليذا العمـ ،كتكجو الناس إلى الفقو كالحديث كالتصكؼ لما
فييا مف منافع فردية كجمعية.
أكبر ما يجعؿ عمـ الكبلـ خطي ار ىك أف االختبلفات فيو كبيرة مف الكبائر .فمف المعمكـ أف المسمميف قد تسامحكا مع
االختبلفات الشكمية في بعض العبادات ،لكف ىؿ يمكف التسامح في االختبلؼ في العقائد ؟ األكيد أف ىذا يؤدم إلى تصدع الديف
ككؿ" .فعمـ الكبلـ ،خبلفا لمفقو ،إنما ينصب اىتمامو عمى تمؾ الحقائؽ األبدية كليس عمى شؤكف الحياة اليكمية .كليذا السبب
سرعاف ما عد الخبلؼ عمى المستكل الكبلمي أم ار مستنك ار" 2.ىذا ما تنبو إليو مفكرم اإلسبلـ مف غير المتكمميف ،بخاصة الفقياء
كاألصكلييف كعمماء الحديث .كىـ معذكريف في ذلؾ ،عمى أساس أف حفظ العقيدة أىـ مف فيميا بالطريقة الكبلمية المتحققة في
التاريخ اإلسبلمي .يغدك السككت ىنا أفضؿ بكثير مف الكبلـ .كازدادت نقمة عامة الناس عمى الكبلـ ،كنخص ىنا بالذكر الكبلـ
اإلعتزالي ،بعدما أصبحكا مفكرم الببلط ،أيف تكحدت العقائد الكبلمية بالسمطة السياسية التي بدأت تفرض بعض العقائد عمى الناس،
كىذا تصرؼ مستجد في الخبلفة اإلسبلمية كالعباسية ككؿ ،ألف أىـ ما يميز التاريخ اإلسبلمي ،في العمكـ ىك عدـ تدخؿ السمطة
في عقائد أك تعميـ الناس .كحدة السمطة العقائدية كالسمطة السياسية تشكؿ مراقبة خطيرة عمى االستقبلؿ الفكرم كالديني .ما حدث في
زمف المأمكف كابف حنبؿ خطير عمى أساس أنو تـ فرض عقيدة ما مف طرؼ السمطة في حيف أف األصؿ ىك أف السمطة ذاتيا
خاضعة لعقيدة فكقية مستقمة عف فيـ أم إنساف ،أم العقيدة اإلليية الخالصة مف التأكيؿ البشرم 3.كلـ تتحقؽ ىذه المراقبة إال في
األزمة الحديثة في أكركبا حتى اليكـ ،أيف سيطرت الدكلة عمى كؿ جكانب الحياة االجتماعية :الصحة ،المدرسة ،كالسياسة .لذا يقكؿ
"فاف ايس" مكضحا ظيكر نكع مف الكينكت الكبلمي في العصر العباسي" :لـ يكف عمماء الكبلـ يشكمكف كينكتا ،فقد كانكا جميعا
مف ذكم الميف الدنيكية العادية ( )...في حيف أف الكضع بعد ذلؾ كاف خبلؼ ذلؾ .تعكد إلى السياسة التي سمكيا البرامكة قبؿ
عصر المأمكف كعمى عيد الخميفة ىاركف الرشيد ،قد اضطركا إلى استقداـ عمماء الكبلـ إلى ببلطيـ" 4.كعندما يتماىى الكبلـ مع
السياسة ،فبل يمكف أف تصفكا الدراسة الكبلمية ألىدافيا النبيمة ،بؿ تغدكا في خدمة سمطة محدكدة .كيمكف إضافة اآلثار الجانبية
لمنحة أحمد بف حنبؿ مع المأمكف ،حيث تعاطؼ العامة مف الناس مع ىذا الشيخ الجميؿ ضد السمطة كالمعتزلة المذاف تحالفا في
1
شكيب بف بديرة الطبمبي :مدخؿ مناىجي إلى عمـ الكبلـ ،ص .73
2
يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،ترجمة عبد المجيد الصغير ،نشر الفنؾ ،الدار البيضاء،2000 ،
ص .19
3
حبلؽ كائؿ :قصكر االستشراؽ -منيج في نقد العمـ الحديث ،ترجمة عمرك عثماف ،الشبكة العربية لؤلبحاث كالنشر ،بيركت،
4
يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،مرجع سابؽ ،ص .141
85
مكقؼ غير مسبكؽ في التاريخ اإلسبلمي عمى تكحيد السمطة بالعقيدة .كبعد المحنة أصبح الطعف في عمـ الكبلـ مف األمكر المألكفة
جدا ،نظ ار لمعقبلنية المفرطة في تتناكؿ مسائؿ تتطمب التسميـ أكال كأخيرا .ثـ أف عقبلنية ىؤالء لـ تكف إال شعا ار نظريا ،فمف الناحية
الكاقعية لـ يتكاف أم مف أصحاب الفرؽ في التكفير كاألذية كاالعتداء 1.ىنا بدأ عممي الفقو كالحديث يتبكآف المكانة األسمى في
المخياؿ اإلسبلمي .لقد تمت أدلجة العقائد لدرجة أصبحت تتصارع بينيا عمى الرغـ مف كحدة النص كالمصدر .كحتى غير
المتكمميف المحترفيف ،أمثاؿ ابف خمدكف األشعرم ،بدأ يتحدث عف بدعة المعتزلة 2.لذا فالتكفير كالتبديع قد عـ ليصبح لغة مألكفة في
النخبة اإلسبلمية ،كعمى الرغـ مف أف التبديع يشير في العمؽ إلى االتياـ بالخطأ كالجيؿ ،إال أنو قد يتحكؿ إلى ممارسة اقصائية
بأكسع معانييا .ألنو ،كما يقاؿ ،فإف الكممة الجارحة ىي التي تتحكؿ إلى السيـ القاتؿ .كليس ىناؾ عنؼ مادم غير مسبكؽ بعنؼ
معنكم مف خبلؿ التصنيؼ كالتحييد كاإلدانة.
يمكف أف نعتبر منع الكبلـ عف غير المتخصصيف مكقفا كسطا بيف المكفقيف السابقيف ،ألف االستحساف كمف ثمة تشجيع الكبلـ
قد ينتيي بمشكمة عرضيا التيار المحرـ أم تسيب العقائد كاالنحراؼ فييا مف كؿ جية ،كالتحريـ مكقؼ غير عممي قد يؤدم إلى
الكبلـ خفية كانتشار التكارم العقدم ،ألف البحث في العقائد تفكي ار كتفسي ار مكقؼ طبيعي لمعقؿ المؤمف .لذا فإف الكبلـ في حدكد
عممية ىك المكقؼ األكثر تكسطا كاألكثر عقبلنية .أك قؿ أف التفكير في "نقد العقؿ الكبلمي" مف خبلؿ ابراز حدكده ىك المكقؼ
األكثر اعتداال كمعقكلية.
عنكاف العنصر الثالث مستكحى مف رسالة لمغزالي تحت عنكاف "إلجاـ العكاـ عف عمـ الكبلـ" .ككما يظير العنكاف ،فإنو لـ يرد
تحريـ مطمؽ لمكبلـ ،بؿ الكارد ىك منع عامة الناس ،مف غير المتخصصيف كغير المسمحيف بالعدة المنيجية كالمفاىيمية الضركرية،
مف الخكض في ىذا العمـ .كىك منع شبيو بمنع غير السباح مف السباحة كغير الطبيب مف الجراحة...الخ ،ألف اإلقداـ عمى ذلؾ
يؤدم إلى الغرؽ كاإل ىبلؾ ،كىي نفس النتيجة لمف تكمـ في الكبلـ مف غير مقدرة ،أم الغرؽ في االنحراؼ كالبطبلف كحتى الكفر
كتحطيـ العقائد دكف عمـ .أما المتخصص ،فبل خكؼ عميو ،مثمما ال خكؼ عمى الطبيب الذم يتسبب في مكقت مريض ،كألنو
متخصص فبل مفر مف أف يجرم العمميات الجراحية ،كأخطاءه أعراض جانبية مف عممو كحكمتو .كالخطأ في تأكيؿ المتكمـ ليس فيو
الضرر العظيـ الذم نجده في خطأ تأكيؿ العامي 3.في ىذه النقطة لـ يختمؼ الغزالي (تكفي 505ق) كابف رشد (تكفي 595ق)[كلد
ابف رشد بعد كفاة الغزاؿ بػ 15سنة فقط] ،عمى الرغـ مف أنيما صنعا مناظرة فكرية مثمرة في تاريخ الكبلـ اإلسبلمي مف خبلؿ الرد بػ
"تيافت التيافت" عمى "تيافت الفبلسفة".
2
عبد الرحمف بف خمدكف :المقدمة ،تضبط كشرح محمد اإلسكندراني ،دار الكتاب العربي ،بيركت ،الطبعة الثانية ،1998 ،ص
.429
3
ابف رشد :فصؿ المقاؿ كتقرير ما بيف الشريعة كالحكمة مف اتصاؿ ،مرجع سابؽ ،ص .58
86
يفتتح الغزالي رسالتو السابقة باإلجابة عف سؤاؿ ألحد محاكريو عف عمـ الكبلـ ،كمف المعمكـ أنو ألؼ أكثر مف كتاب عمى شكؿ
حكارية ،مثؿ كتب القسطاس المستقيـ الذم تحاكر فيو مع أحد أتباع مذىب الباطنية ،كىك المذىب الذم حاربو دكف ىكادة مف خبلؿ
كتاب "فضائح الباطنية" .يقكؿ:
إذف ،فالمشكمة األساسية في الكبلـ متأتية مف النزكع التجسيمي لمعامة ،فيـ عاجزيف عف تصكر ا﵀ بمعزؿ عف المحسكس،
كاألدىى مف ذلؾ أنيـ ال يعتقدكف أنيـ مبتدعة في ذلؾ ،بؿ أنيـ سائركف في طرؽ أىؿ السنة كأىؿ السمؼ .فيؿ ىـ عمى صكاب ؟
ىذا ىك غرض الرسالة األساسي كالذم ينتيي إلى تصنيؼ الكبلـ الكاجب أك المسمكح كالكبلـ الممنكع بأكبر قدر مف المكضكعية مف
خبلؿ الكبلـ بمعزؿ عف االنتماءات المذىبية .كمف أجؿ ذلؾ كجب أكال تحديد مذىب أىؿ السمؼ في مسألة اإلخبار عف الذات
اإلليية .فما ىي الشركط المكجبة في ىذا الشأف ؟ يقكؿ بأف "كؿ مف بمغو حديث مف أحاديث مذىب السمؼ مف عكاـ الخمؽ يجب
عميو فيو سبعة أمكر :التقديس (تنزيو الرب) ،ثـ التصديؽ ،االعتراؼ بالعجز ،ثـ السككت (ال يسأؿ عف معناه كأنو يكشؾ أف يكفر
لك خاض فيو) ،كالكؼ ،كالتسميـ ألىمو" 2.كلك أردنا ضغط ىذه األمكر السبعة ألرجعناىا إلى اثنيف فقط :تصديق التنزيو الذم ىك
مذىب السمؼ ،وعدم السؤال بعد ذلؾ مطمقا .أم السمع كالسككت .ألف أم حركة بعده قد تؤدم إلى الكفر كالتجسيـ ،ككؿ بحث
عف التفصيؿ يكقع الحشكية التي ال يمكف أف تككف مذىبا لمسمؼ .لكف لماذا تنساؽ معظـ العقكؿ إلى التجسيـ ؟ سؤاؿ البد منو عمى
أساس أف أصكؿ التجسيـ كامنة في المغة ،كمف ثمة فإ ف استعادة حالة التقديس تككف عف طريؽ معرفة بنية المغة ،مما يعني أف
المرض في المغة كما العبلج أيضا .فعندما يسمع اإلنساف كممتي "اليد" ك"اإلصبع" الكاردتيف في القرآف الكريـ ،أك عندما يسمع قكؿ
خمر طينة آدـ بيده ،كاف قمب المؤمف بيف إصبعيف مف أصابع الرحمف ،فمف الكاجب التمييز بيف معنييف:
الرسكؿ الكريـ "إف ا﵀ ٌ
المعنى األصمي كىك الحسي كما تعكدنا مشاىدة اليد كاإلصبع كالرجؿ بما فييا مف تفاصيؿ جسيمة مف جمد كعظاـ كمفاصؿ...الخ
كالمعنى الثاني معنى استعارم ،كىي طريقة مألكفة في الكبلـ مثمما يقاؿ :البمدة في يد األمير لمداللة عمى كقكعيا في سمطتو كلك
كاف األمير ببل يد أصبل .لذا فإف النصكص القرآنية أك األحاديث النبكية التي ترد فييا مثؿ ىذه األلفاظ يجب أف تفيـ عمى أنيا
استعارية أك مجازية .إف التجسيـ عند الجميع ،عامة أك خاصة ،ىك عكدة إلى عبادة األصناـ التي قاـ الديف الجديد بانتزاعيا 3.كمف
1
الغزالي :إلجاـ العكاـ عف عمـ الكبلـ ،ضمف مجمكعة رسائؿ اإلماـ الغزالي ،مرجع سابؽ ،ص .319
2
المرجع نفسو ،ص .319
3
المرجع نفسو ،ص .320-319
87
ثمة فكؿ يمجسـ قد انحرؼ عف عقائد أىؿ السمؼ .كالتنبيو إلى أف ىناؾ فرؽ بيف المعنى األصمي المباشر كالمعنى المجازم كىك
الحقيقي ،ال يككف إال بالتأكيؿ .لكف ال يجب عمى العامي ،أك حتى غير العامي ،الخكض في التأكيؿ أصبل ،بؿ التسميـ ىك المكقؼ
االنسب في كؿ الح االت .ليس االعتراؼ بالعجز عجز حقيقي بؿ ىك القدرة الحقيقية كما قاؿ سيد الصديقيف :العجز عف درؾ
اإلدراؾ ادراؾ 1.لكف الغالبية يعتقد بأف العجز كامف في نفسو ،لذا يجب تجاكزه ،لكف الحقيقة أف ىذه المسائؿ تتطمب التسميـ
كالسككت ببل أدنى محاكلة لمتأكيؿ .ألف ىناؾ عدة نصكص تكحي بالجسمية مثؿ ما نسب إلى الرسكؿ الكريـ مف أقكؿ عمى شاكمة:
إف ا﵀ خمؽ أدـ عمى صكرتو ،إني رأيت ربي في أحسف صكرة ،ينزؿ ا﵀ تعالى في كؿ ليمة إلى السماء الدنيا 2.فظاىر كؿ ىذه
األحاديث تجسيمي كحشكم ،لكف باطنيا غير ذلؾ .ىنا يجب االنتقاؿ مف الظاىر إلى الباطؿ عف طريؽ آلية التأكيؿ ،كنحف نعمـ أف
التأكيؿ يعني العكدة إلى األكؿ ،كالباطف ىك األكؿ قبؿ الظاىر ،سكاء مف الناحية المنطقية أك الزمنية .كالتأكيؿ في المفيكـ الغزالي
ىك "بياف المعنى بعد إزالة الظاىر" 3.كىك عند ابف رشد "اخراج داللة المفظ مف الداللة الحقيقية الى الداللة المجازية مف غير أف
يخؿ في ذلؾ بعادة لساف العرب في التجكز مف تسمية الشيء بشبييو أك سببو أك الحقة 4"...كالخبلؼ في فيـ التأكيؿ ظاىر جدا
بينيما ،فالظاىر عند ابف رشد ىك الحقيقي ،في حيف أنو عند الغزالي ما يعتبر خطأ أنو حقيقي .فاليد المغمكلة في القرآف الكريـ تمثؿ
ظاىر لحقيقية باطنية ىي اإلمساؾ عف النفقة كالبخؿ أك الشح .كىنا يظير اقتراب الغزالي مف المعتزلة ،عمى الرغـ مف ككنو أشعرم
العقيدة .كيظير القاسـ المشترؾ بينيما في نفي التصكرات الشعبية ،أك العامية بمغة الغزالي ،عف بعض النصكص المتعمقة بالذات
اإلليية 5.يتفؽ المعتزلة كاألشاعرة عمى حتمية التأكيؿ التنزييي لكؿ آية تكحي بالجسمية.
لئف كاف التأكيؿ ،عند الغزالي ،كشؼ لمحقيقي الباطف المتكارم كراء الظاىر الذم قد يكىـ بما ىك غير حقيقي ،فمف لو الحؽ
في ممارستو ؟ بالنسبة لمعامة مف الناس ،فاألمر محسكـ فيو ،إذ ال يحؽ ليـ التأكيؿ نظ ار لقصكرىـ النظرم ،فيـ غير مؤىميف لفيـ
مثؿ ىذه المسائؿ المعقدة ،مثمما أف مف ال يحسف السباحة سيككف مصيره الغرؽ حتما .لذا فإف التأكيؿ في حقيـ حرام كمية 6.ىنا
يمجأ الغزالي إلى المغة الفقيية في تحريـ التأكيؿ بالنسبة لمعامة .لكف ىؿ يجب سحب ىذا الحكـ عمى العمماء ؟ يجيب" :كالتأكيؿ
العالـ مع العامي ممنوع أيضا ( )...ألنو عرضة لخطر اليبلؾ كأنو ال يقكل عمى حفظو في لجة البحر" 7.ىنا نجد الغزالي يستعمؿ
المنع في حؽ العالـ ا لذم يسرب تأكيبلتو لمعامة مف الناس ،ألنو بذلؾ يغرقيـ مف حيث ال يرغبكف أك ال يدركف .يبقى إذف حالة
1
المرجع نفسو ،ص .324
2
المرجع نفسو ،ص .321
3
المرجع نفسو ،ص .326
4
ابف رشد :فصؿ المقاؿ كتقرير ما بيف الشريعة كالحكمة مف اتصاؿ ،مرجع سابؽ ،ص .34
5
نصر حامد أبك زيد :االتجاه العقمي في التفسير -دراسة في قضية المجاز في القرآف عند المعتزلة ،المركز الثقافي العربي ،الدار
البيضاء ،الطبعة الثالثة ،1996 ،ص .5
6
الغزالي :إلجاـ العكاـ عف عمـ الكبلـ ،مرجع سابؽ ،ص .326
7
المرجع نفسو ،الصفحة نفسيا.
88
كاحدة فقط مسمكحة في التأكيؿ كىي تأويل العارف مع نفسو 1.أم التأكيؿ الذم يمارسو بمعزؿ عف العامة .سكاء لفظا أك كتابة .لذا
نجد ابف رشد ىنا ،يسير في خطى الغزالي ،عندما كتب بأف "التأكيبلت ليس ينبغي أف يصرح بيا لمجميكر كال تثبت في الكتب
الخطابية أك الجدلية ( )...المصرح بيذه التأكيبلت لغير أىميا فكافر لمكاف دعائو لمناس الى الكفر" 2.كالمشكمة ىنا أف ابف رشد يتيـ
لغزالي بأنو سرب التأكيبلت لمجميكر عندما كضعيا في كتب الخطابة كالجدؿ المكجية لمجميكر .أيف إذف تكتب تأكيبلت العمماء
المتخصصيف ؟ حسب ما تبقى لنا ،كفؽ منطؽ ابف رشد ،يجب أف تكدع في كتب البرىاف ألف كاتبيا عمماء كالمؤىميف لمطالتيا ىـ
أيضا عمماء .بالنسبة لمغزالي ،فإف تأكيؿ العالـ مع نفسو ،يتجسد مثبل في معرفة أف لفظ "الفكؽ" ال يدؿ عمى المكانية أك الحيزية ،بؿ
كفؽ التأكيؿ يدؿ عمى "العمك المعنكم" كأف نقكؿ أف السمطاف فكؽ الكزير ،فيذه الفكقية ال ترتبط بالمكاف ،كلئف كاف مقاـ السمطاف
فعبل أعمى مف مقاـ الكزير ،فإف المقصكد ىك عمك الكممة كالقرار 3.كربما العمك المكاني ،في البناء أك المجمس ،ىك ترجمة حسية
لمعمك المعنكم.
مشكمة العامة مف الناس أنيـ قاصركف عف تصكر بعض المفاىيـ المجردة ،فمثبل مشكمة قدـ كخمؽ القرآف ،التي ىي أىـ مسألة
كقع فييا الخبلؼ الكبلمي ،تتحكؿ عندىـ إلى مسألة مستغمقة ال أمؿ في فكيا أك فتحيا .كمف حاكؿ شرح ىذه المسألة يغرقيـ في
أمكر بعيدة جدا عف أفياميـ .كأم حركة لتفييميـ تؤدم إلى عكس المراد 4.بؿ تؤدم إلى تشكيش عقدم ال عبلج لو.
ينتيى الغزالي إلى ضركرة تطبيؽ استراتيجية السككت عف التأكيؿ كاستبداليا بالتقديس ،ألنو بداية السككت ذاتو .كبما أف عمـ
الكبلـ عمـ عقدم عقمي ،كالناس متفاكتكف في االستعدادات العقمية ،فإف الحؿ ىك االلتزاـ بما كرد في القرآف ،ألنو مكضكع لجميع
الناس دكف استثناء .كاالدلة العقدية الكاردة في القرآف ليست مثؿ األدلة المنطقية التي يعجز عف فيميا العامة ،لذا فإف:
"أدلة القرآن مثل الغذاء ينتفع بو كل إنسان ،وأدلة المتكممين مثل الدواء ينتفع بو آحاد الناس وتستضر بو األكثرون
( )...بل أدلة القرآن كالماء الذي ينتفع بو الصبي الرضيع والرجل القوي وسائر األدلة كاألطعمة التي ينتفع بيا األقوياء
5
مرة ويمرضون بيا أخرى وال ينتفع بيا الصبيان أصال".
لمعقؿ حدكد ،حتى بالنسبة لمخاصة مف الناس ،مف ذكم العقؿ البرىاني ،فبل يمكف ليـ القبض عمى الحقيقية المتعمقة بالذات
اإلليية .كحدكد العقؿ الكبلمي ال تنفصؿ عف حدكد العقؿ المجرد .فبل يجب أف نطمع في معرفة حقيقة ا﵀ ،ألف ا﵀ كحده مف يمتمؾ
ذلؾ .كىنا يتحكؿ السككت إلى فضيمة معرفية .كقد كاف اإلغريؽ القدامى ،مثؿ ميميسكس السامكسي (حكالي 450ؽ ـ) يقكؿ بأنو ال
ينبغي عمينا أف نتقكؿ بمقكالت عف اآللية ،نظ ار ألف معرفتيـ غير ممكنة بالنسبة إلينا" 6.كىي فكرة قاؿ بيا أحد سمفو المذىبييف كىك
1
المرجع نفسو ،ص .327
2
ابف رشد :فصؿ المقاؿ كتقرير ما بيف الشريعة كالحكمة مف اتصاؿ ،مرجع سابؽ ،ص .57-56
3
الغزالي :إلجاـ العكاـ عف عمـ الكبلـ ،مرجع سابؽ ،ص .329
4
المرجع نفسو ،ص .347
5
المرجع نفسو ،ص .335
6
ديكجينيس البلئرتي :حياة مشاىر الفبلسفة ،المجمد الثالث ،ترجمة اماـ عبد الفتاح اماـ ،المركز القكمي لمترجمة ،القاىرة ،الطبعة
األكلى ،2014 ،الجزء الثامف ،فقرة ،24ص .123
89
كىك كزينكفاف اإليمي كقاؿ بو أيضا ،مف بعد ،بركتاغكراس السكفسطائي في بداتو كتابو عف اآللية .كحتى في العالـ اإلسبلمي نجد
مف اعتنؽ ىذه الفكرة /مثؿ الرازم ،عمى أساس محدكدية اإلنساف ال يمكف اف تستكعب ال محدكدية ا﵀.
خاتمة.
مف ىـ العامة ؟ ىذا ىك السؤاؿ الذم كنا قد طرحناه في بداية المحاضرة ،عمى أساس أف المجتمعات القديمة قد حددت طبقات
معرفية تحديدا صارما بسبب البنية االجتماعية المتكفرة أنذاؾ .فبل يمكف لمعبيد مثبل أف يترقكا إلى طبقة الخاصة مف الناس ،كلك أف
ليـ القدرات العقم ية المؤىمة .في القديـ ،كانت الطبقة أقكل مف الطبيعة .كاالنغبلؽ الطبقي ،كما تجسد عند البراىمة في اليند ،أك
الديانة اإلغريقية ،كاف ىك القانكف الذم حكـ كؿ العيكد القديمة .كلـ يكف العالـ اإلسبلمي مستثنى منو ،عمى األقؿ مف الناحية
االجتماعية ،حيث كاف نظاـ العبكدي ة معمكؿ بو ،عمى الرغـ مف رفضو مف الناحية المعنكية في القرآف مثبل .في اليند ىناؾ
كالمكالي في أثينا 3.كفي السياقات اإلسبلمية نجد العامة أك 2
الشحاذكف كالعراة كالغكغاء 1،كفي ركما ىناؾ السكقة ، Plebs
الجميكر كما يحب ابف رشد استعماؿ ىذه الكممة .ما خاصية ىؤالء ؟ بالنسبة لمغزالي ،فالمشكمة غير مرتبطة بالناحية االقتصادية
بقدر ما ىي مرتبطة بالناحية العقمية كاالستعداد اإلدراكي .فالعامي يجرل مجرل الصبي في التصكر الحسي 4.أم ليس بقادر عمى
عقمنة األمكر مف خبلؿ التجريد .كنحف نعمـ أف مرحمة الصبيانية تتميز بسيطرة اإلدراؾ الحسي كغمبة التخيؿ المادم .يقكؿ الغزالي
بأف:
" أكثر الناس آمنكا في الصبا ككاف سبب تصديقيـ مجرد التقميد لآلباء كالمعمميف كلحسف ظنيـ بيـ ككثرة ثنائيـ عمى
أنفسيـ ،كثناء غيرىـ عمييـ ( )...لذلؾ ترل أكالد النصارل كالركافض كالمجكس كالمسمميف كميـ ال يبمغكف إال عمى عقائد
5
آبائيـ كاعتقاداتيـ في الباطؿ الحؽ جازمة ( )...كالطباع مجبكلة عمى التشبيو السيما طباع الصبياف كأىؿ الشباب".
ىذه حقيقة ال يمكف التنكر ليا ،كلك أننا نعيش بعد الغزالي بأكثر مف عشرة قركف ،ألنيا طبيعة بشرية ال تتغير .لكف السؤاؿ
المطركح ىنا ،ىؿ التشبيو طباع صبيانية حص ار ؟ ىؿ ىذا يعني أف كؿ الديانات التشبييية أك قؿ الكثنية ،عمى أساس أف الكثف ىك
ذاتو التشبيو ،ىي دي انات صبيانية ؟ أـ أنيا تعبير عف أقصى ما يمكف تصكره بشأف األلكىية ؟ مف الصعب صبينة كؿ الحضارات
التي جسدت آليتيا ،ألف ليا فبلسفة كرجاؿ ديف في غاية الحكمة كالقدرة عمى التصكر كالتجريد كالتنظير .ثـ أف بمكغ اإلنساف مرحمة
1
مايكؿ كاريدرس :لماذا ينفرد اإلنساف بالثقافة ؟ الثقافات البشرية :نشأتيا كتنكعيا ،ترجمة شكقي جبلؿ ،المجمس الكطني لمثقافة
كالفنكف كاآلداب ،سمسمة عالـ المعرفة ،الككيت ،العدد ،1998 ،229ص .164
2
فكستيؿ دم ككالنج :المدينة القديمة – دراسة لعبادة اإلغريؽ كالركماف كشرعيـ كأنظمتيـ ،ترجمة عباس بيكمي بؾ ،المركز القكمي
لمترجمة ،القاىرة ،الطبعة األكلى ،2007 ،ص .325
3
المرجع نفسو ،ص .363
4
الغزالي :إلجاـ العكاـ عف عمـ الكبلـ ،مرجع سابؽ ،ص .330
5
المرجع نفسو ،ص .353
91
النضج ،ال يستمزـ معو االستغناء عف أم حسية كتشبييية .ألنو ال يمكف تصكر غير ما يقع في عالـ الحس ،كما التجريد المفرط إال
مضاعفة في االبتعاد عف المحسكس ،لذا فالمحسكس مكجكد دكما كلك بصكرة مستبطنة .كالغزالي ذاتو قد استشكؿ سبب كركد
النصكص الدينية اإلسبلمية في صيغة تشبييية ؟ ىؿ غابت ىذه المشكبلت التي ستظير عند العامة بشأف الصفات كالذات عف ا﵀
؟ األكيد أنو ال يمكف القكؿ بذلؾ ،ألف ا﵀ تعالي ،كىك مف أنزؿ القرآف ،عارؼ بما كجد كما سيكجد في فكر أم إنساف .إذف يبقى
السؤاؿ مطركح حكؿ بنية المغة القرآنية التي تكحي بالتجسيـ .ربما ىي طريقة تعممية لتقريب التصكر ،لكف عمماء الكبلـ تتبعكا بنية
ىذه المغة تحميبل كتفكيكا كاستنتاجا فتكصمكا إلى التجسيـ كالكفر كالكثنية.
نحف نفترض أف مفيكـ العامة أك الجميكر ناجـ عف النظاـ االجتماعي ،كبالتالي كمما تغير ىذا النظاـ تغير مفيكـ العامة
كالخاصة .ففي عصر األنكار مثبل ،فإف النظرة إلى استعماؿ العقؿ ،قد تبدلت كمية مقارنة بالعصر الديني السابؽ عميو .إذ أصبح
يستعمؿ أماـ كؿ العالـ ،أم أماـ الجميكر الذم يتقف القراءة كالكتابة 1.حتى لفظ الجميكر أصبح لو معنى مغاير لممعنى الذم نجده
عند ابف رشد .أك حتى المنظكر الذم قدمو أفبلطكف في الرسالة السابعة حيث جعؿ الفكر حك ار عمى النفس الناطقة ،كدعا لحجب
بعض الفكر عف العامة مف الناس ،بخاصة مف يمثمكف النفس الشيكية.
الزمف الحالي ،الذم ىك زمف التخصص كتخصص في التخصص ،قد قمب المنظكر القديـ كمية .فالعصر المكسكعي قد كلى،
كالمفكر الجامع كالمحيط قد انتيى .كالتعميـ قد ذاع بحيث أنو قمت األمية إلى أقصى الدرجات .فمف ىـ العامة اليكـ ؟ يمكف أف
نخمف أف الكؿ عا مة بالنظر إلى غير تخصصو .فالطبيب ال يمكف أف يككف بنفس مستكاه العممي في عمكـ الديف ،كالمتكمـ
المتخصص يمثؿ مرتبة العامي في عمكـ الطب...الخ .فحتى عمكـ الديف أصبحت تخصصات منفصمة يتعذر عمى الكاحد اإللماـ بيا
كمية.
ىؿ يمكف أف نطرح اليكـ مشركع دمقرطية عمـ ا لكبلـ ؟ عمى أساس أف التعميـ أصبح متاحا لمجميع ،كتـ فتح الطبقات المغمقة،
بحيث أف قدرات الفرد الذاتية تؤىمو العتبلء أكبر المناصب في العمـ كالسياسة كالديف .يظير لنا أف مكضكع الكبلـ ،الذم ىك
العقائد ،بقى ىك ىك ،كتبدؿ النظـ االجتماعية ،كما ىك اليكـ ،ال يغير مف األمر شيئا .فيناؾ "طبقة العامة" حتى في البمداف التي
حققت نمكا عمميا باىرا .ألف محدكدية القدرات الذىنية يبؽ حتمية مثمما أف العبقرية حتمية .كبالتالي فميس لنا إال أف نكافؽ كؿ مف
الغزالي كابف رشد أف اذاعة بعض المشكبلت الكبلمية يككف لو أثر سمبي عمى البعض .لكف السؤاؿ المطركح ىك :إلى متى كنحف
نخاؼ مف نتائج فيـ العامة ؟ نطرح ىذا السؤاؿ عمى اعتبار أف عقبلنية الكصاية عمى الناس ،في فيميـ كمصيرىـ كأفعاليـ قد كلي.
كالتنكير الذم يعني تجاكز القصكر قد أصبح ظاىر جدا .لذا فالمسألة مرتبطة بتقبؿ نتائج فيـ الناس ،كؿ الناس ،لمديف ،كبعد
انتشار القراءة كدمقرطة التعميـ ،أصبح مف المتعذر التحكـ في أفياـ الناس أك تكجيييا كفؽ ما تريد السمطة العممية أك السياسية.
1
عمي أكمميؿ :أفكار مياجرة ،مركز دراسات الكحدة العربية ،بيركت ،الطبعة األكلى ،2013 ،ص .183-182
91
المحاضرة الخامسة :أصل الفرق الكالمية (.)1
-1الفرق السياسية.
مقدمة.
يعد تقسيـ الفرؽ الكبلمية إلى فرؽ سياسية كفرؽ عقائدية مف التقسيمات الشائعة ،كىك تقسيـ مؤسس عمى مشكمة النشأة
بالضبط .أم أف ىناؾ فرؽ نشأت بسبب مشكمة متعمقة بالمسألة السياسية ،كىي تعكد إلى العامؿ الداخمي الذم سميناه في محاضرة
سابقة باليكية السياسية لمكبلـ .كىناؾ فرؽ نشأت في األساس بسبب الخبلؼ حكؿ مسائؿ متربطة بتأكيؿ كفيـ النصكص القرآنية
المتشابية كالمرتبطة بالمكضكع العقدم ،كىذا ما سميناه باليكية القرآنية لمكبلـ .لذا فيذا التقسيـ مرتبط بالمنشأ ،لكف عند النظر إلى
المآالت التي انتيت إلييا الفرؽ ،فبل يمكف أف نستمر في التمسؾ بالتقسيـ إلى سياسي كعقائدم .فمثبل فرقة الشيعة ،كعمى الرغـ مف
منشأىا السياسي إال أنيا انتيت إلى مكاقؼ عقائدية أصمية .كما أف ىناؾ بعض الفرؽ ،كالتي خرجت لمكجكد مف تداعيات المشكمة
السياسية ،إال أنيا ال تصنؼ ضمف الفرؽ السياسية ،مثؿ المرجئة التي تعتبر فرقة عقائدية عمى الرغـ مف أنيا نشأت في ظركؼ
1
التكفير كالتصنيؼ بعد فتنة صفيف ،لكنيا تتفؽ في بعض المسائؿ الفرعية التي تتعمؽ باإلمامة مع الخكارج.
بالنسبة لمفرؽ السياسية التي سنخصص ليا ىذه المحاضرة ،فيي فرؽ انبثقت بعد الخبلؼ الكبير الذم انجر عف مقتؿ عثماف
كالبيعة الجزئية لعمي (ض) .كبعد التشكؿ ،ستأخذ ىذه الفرؽ في تبرير مكاقفيا النظرية مف القرآف الكريـ ،كالدفاع عف خياراتيا مف
خبلؿ تأكيؿ معيف لآليات .فرغـ أف ىناؾ كتاب كاحد ،إال أف فيمو كتأكيمو انتج فرؽ مختمفة حد التصارع.
مشكبلت المحاضرة ىي :كيؼ تشك مت الفرؽ الكبلمية السياسية ؟ ككيؼ أحكمت العبلقة بيف مشكمة الخبلفة كالمسائؿ العقائدية
الكبرل في اإلسبلـ ؟ ما عبلقة الفرؽ السياسية بالتكجو اإلسبلمي العاـ المسمى بأىؿ السنة كالجماعة ؟ ىؿ خبلؼ الفرقتيف اقتصر
عمى جميكر المسمميف أـ أنو ىناؾ خبلؼ بيف الشيعة كالخكارج معا ؟ ما ىك مآؿ ىذه الفرؽ في الحاضر ؟
أوال -الخوارج:
-3النشأة والتسمية:
قبؿ أف يتحكؿ بعض أنصار عمي (ض) إلى خكارج كانكا مف القراء الحافظيف لمقرآف كالمتمسكيف بو كالممتزميف بظاىره كركحو،
كالذيف بايعكه كاعتبرىـ أىؿ لئلمامة ،بؿ كحاربكا معو في مكقعة الجمؿ ضد حمؼ عائشة كطمحة كالزبير .ككانكا مف الذيف طالبكا
عمي (ض) بالتحكيـ استجابة لنصكص قرآنية معركفة ،لكف لما ظيرت نتائجو ،أم التحكيـ ،عكس ما كانكا ينتظركف ،أم تثبيت
معاكية بدؿ عمي ،انقمبكا ضده كرفضكا التحكيـ كمية كقالكا ال حكـ إال ﵀ .كخرجكا عميو كرفضكا العكدة معو إلى الككفة كتكجكا إلى
حركراء ،بالقرب منيا ،لذا سميك الحركرية بسبب ذلؾ .فقد "انفصؿ عف عمي 12ألؼ رجؿ أبكا العكدة معو إلى الككفة ،كساركا إلى
1
عبد الكريـ الشيرستاني :الممؿ كالنحؿ ،الجزء األكؿ ،المكتبة العصرية ،بيركت ،2003 ،ص .91
92
قرية حركراء ،تحت لكاء التحكيـ :ال حكـ إال ﵀ .كمف ىنا سمكا باسـ المحكمة كالحركرية .كالخركج يدؿ عمى الخركج عف الجماعة،
بغية القتاؿ" 1.مف أجؿ تجسدم كممة ا﵀ العادلة ،البد مف الخركج كلك اقتضى األمر القتاؿ.
تعتبر تسمية الخكارج اتياما ليـ مف طرفخصكميـ ،كالخركج ىنا يحمؿ معنى حقيقي كىك الخركج عف عمي (ض) كمجازم كىك
الخركج عف الديف ،مثمما يخرج السيـ مف الرمية لذا سمكا بالمارقة 2،لما كرد في أحد األحاديث النبكية بأنو سيكجد مارقة في الديف
كما يمرؽ السيـ مف الرمية 3.كمف أسمائيـ األخرل نجد :المحكمة ألنكارىـ الحكميف عمرك بف العاص كأبك مكسى األشعرم ،كقالكا
بحكـ ا﵀ .كسيمكف أيضا بالشراة ،ألنيـ قالكا شرينا أنفسنا في طاعة ا﵀ أم بعناىا بالجنة .إلى جانب اسـ الحركرية كالخكارج ،كىـ ال
يرضكف بيذا االسـ األخير ألنو قدحي ،عمى أساس أنو اطمؽ مف مخالفييـ في فيـ العقيدة" .ىـ ال يعدكف أنسفيـ خارجكف عف
الديف ،بؿ خارجكف مف أجؿ الديف كمف أجؿ اقامة شرع ا﵀ ،مجاىركف بدعكتيـ ،يطبقكف مبدأ األمر بالمعركؼ كالنيي عف المنكر.
4
رامكا اقامة دكلة اسبلمية تقكـ عمى الديف كاحكامو".
كعمى الرغـ مف ككف الخكارج قبؿ أف يخرجكا عف عمي (ض) بمثابة حربتو القكية ،إذ قاتمكا معو في الجمؿ كفي صفيف ،إال أف
تشكشييـ عميو انتيي بأف حاربيـ حتى اإلبادة في النيركاف .كاضطر البقية الناجية لميرب إلى اليمف كسجستاف كاألماكف المنعزلة.
كبذلؾ تتكرر الفتنة بيف المسمميف ،عمى أساس أف عمي (ض) مف الصحابة الكبار كخميفة لممسمميف بكيع مف األغمبية ،كما أف
الخكارج مف القراء ،كىـ جماعة مف الناس ممتزميف كمية بالديف .إذف ىناؾ شيعة لعمي كشيعة لمعاكية بف أبي سفياف دخمكا في قتاؿ
كفتنة ،لكف ىناؾ أيضا انشقاؽ حدث في صؼ عمي ذاتو ،حيث انقسـ بيف األكفياء الحقيقييف كالخكارج 5.كىذا االنشقاؽ المزدكج أثر
1
يكليكس فميكزف :أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر اإلسبلـ – الخكارج كالشيعة ،ترجمة عبد الرحمف بدكم ،مكتبة
النيضة المصرية ،القاىرة ،1958 ،ص .6أيضا :عبد القاىر البغدادم :الفرؽ بيف الفرؽ كبياف الفرقة الناجية ،مكتبة ابف سينا،
القاىرة ،1988 ،ص .74
2
ىشاـ جعيط :الفتنة – جدلية الديف كالسياسة في اإلسبلـ المبكر ،ترجمة خميؿ أحمد خميؿ ،دار الطميعة لمنشر كالتكزيع ،بيركت،
الطبعة الثامنة( 2015 ،الطبعة الفرنسية األكلى )1989ص .257
3
الحديث:
قاؿ الرسكؿ لرجؿ مف بني تميـ يقاؿ لو ذك الخكيصرة بعد أف اتيمو بعدـ العدؿ في تقسيـ غنائـ يكـ حنيف :دعكه فإنو
سيككف لو شيعة يتعمقكف في الديف حتى يخرجكا منو كما يخرج السيـ مف الرمية .لذا فالخركج ىنا يدؿ عمى نفاذ السيـ
كالخركج مف الطرؼ اآلخر .ككما ىك ظاىر فإف القرائكف الذيف انشقكا عف عمي (ض) متعمقكف في الديف .كىنا حدث
تطابؽ بيف قكؿ النبي كما حدث فعبل في صفيف.
نقبل عف :يكليكس فميكزف :أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر اإلسبلـ – الخكارج كالشيعة ،مرجع سابؽ ،ص
.35
4
عبد الفتاح المغربي :الفرؽ الكبلمية اإلسبلمية ،مكتبة كىبة ،القاىرة ،الطبعة الثانية ،1995 ،ص .169
5
يكليكس فميكزف :أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر اإلسبلـ – الخكارج كالشيعة ،مرجع سابؽ ،ص .14-13
93
كيذكر بأف عمي (ض) قد حاكر الخكارج فيعميقا في الضمير اإلسبلمي الذم تصادـ بيف اسبلـ معيارم كامؿ كاسبلـ كاقعي مقمؽ .ي
ير﴾[غافر .]12 ،لكف عمي (ض) كاف يعتقد بأفاستعماليـ الحجج مف القرآف ،بخاصة قكليـ ال حكـ إال ﵀﴿ .فىا ٍل يح ٍك يـ لًمَّ ًو ا ٍل ىعمً ّْي ا ٍل ىكبً ً
القرآف يستعمؿ في سبيؿ اثبات أم أطركحة يتبناىا المسمـ" .قاؿ عمي بف أبي طالب في رده عمى الخكارج" :القرآف بيف دفتي
المصحؼ ال ينطؽ إنما يتكمـ بو الرجاؿ" .معنى ىذا القكؿ الميـ كالخطير كالمغيب ىك أف عقؿ الرجاؿ كمستكل معرفتيـ كفيميـ ىك
1
الذم يحدد الداللة يصكغ المعنى".
ىناؾ اختبلؼ بيف المؤرخيف حكؿ ىكية الخارجيف عف عمي (ض) ،ىؿ ىـ القراؤكف أـ بعض أىؿ البدك الذيف لـ يألفكا السياسة
كما تقتضيو مف استراتيجية كفطنة كتنازالت .فكممة األعراب أك البدك غير المتحضريف ،كفؽ ما ذكره القرآف ذاتو ،تحمؿ معنى الكفر
كد ىما أ ٍىن ىز ىؿ المَّوي ىعمىى ىر يسكلً ًو
ىج ىد ير أ َّىال ىي ٍعمى يمكا يح يد ى
اب أى ىش ُّد يك ٍف نار ىكنًفىاقنا ىكأ ٍ
ىع ىر ي
﴿األ ٍ
كالنفاؽ كعدـ االلت ازـ كالعصبية .كرد في محكـ التنزيؿٍ :
ً َّ ً ً ً ؽ م ٍغرما كيتىربَّص بً يكـ َّ ً ً َّ ً كالمَّوي ىعمًيـ ىح ًكيـ ( )97ك ًم ىف ٍاأل ٍ ً
يـ﴾ [التكبة، َّكًء ىكالموي ىسميعه ىعم ه الد ىكائ ىر ىعمىٍيي ٍـ ىدائ ىرةي الس ٍ ىع ىراب ىم ٍف ىيتخ يذ ىما يي ٍنف ي ى ى ن ى ى ى ي ي ى ه ه ى
. ]98-97ك"ىناؾ مف يفسر ثكرة الخكارج كالركافض كالقرامطة ممف رفضكا الخضكع لمقكانيف االصطبلحية كاألكامر السمطانية
برسكخيـ في البداكة التي ترمز إلى الحياة الطمقة" 2.كىذا تفسير ابف خمدكف الكاقعي ،عمى أساس أف ىناؾ تعارض بيف قانكف
العشيرة في النظاـ البدكم كقانكف الدكلة في النظاـ الجديد .لكف القرآف ال يعمـ ىذه الخاصية عمى البدك ،فيناؾ المؤمنكف ،كال يمكف
الرس ً ً و ً َّ ً اب ىم ٍف يي ٍؤ ًم يف بًالمَّ ًو ىكا ٍلىي ٍكًـ ٍاآلى ًخ ًر ىكىيتَّ ًخ يذ ىما يي ٍنًف ي
ىعر ً
كؿ أ ىىال صمى ىكات َّ ي
ؽ قييرىبات ع ٍن ىد المو ىك ى ﴿ك ًم ىف ٍاأل ٍ ى
كصفيـ بالكفر المطمؽ .قاؿ تعالى :ى
ً َّ ًً َّ ً ً
يـ﴾ [التكبة .]99 ،فبل يمكف تحقير البدك لمجرد أنيـ كذلؾ ،يبقى المنظكر كر ىرح ه إًَّنيىا قي ٍرىبةه لىيي ٍـ ىسيي ٍدخمييي يـ الموي في ىر ٍح ىمتو إً َّف الموى ىغفي ه
ا لكاقعي أكثر مقبكلية ألنو يقدـ التفسير العممي .ألف تجميع قائؿ ألفت االستقبلؿ في نظاـ دكلة ممزـ أمر صعب البمكغ في زمف
قصير .فالسياسة تربية قبؿ أف تككف قرار فكقي.
كحسب الشيرستاني ،فإف تسمية الخكارج ليست مرتبطة بالخارجيف األكائؿ فقط ،أم األشعث بف قيس الكندم كمسعر بف فدكي
التميمي كزيد بف حصيف الطائي ،كىـ أكؿ مف خرج عف عمي (ض) ،بؿ كؿ مف خرج عف اإلماـ الذم اتفقت حكلو الجماعة يعتبر
خارجي 3،في أم زماف كأم مكاف .كبالتالي ،فإف الخركج عف سمطة الحكاـ يعتبر خركجا في كؿ األحكاؿ .كبالتالي ،فإف مفيكـ
الخكارج مستمر حتى يكـ الناس ىذا.
1
نصر حامد أبك زيد :اإلماـ الشافعي كتأسيس اإليديكلكجية الكسطية ،مكتبة مدبكلي ،القاىرة ،الطبعة الثانية ،1996 ،ص ،16
.20أيضا :نصر حامد أبك زيد :االتجاه العقمي في التفسير -دراسة في قضية المجاز في القرآف عند المعتزلة ،المركز الثقافي
العربي ،الدار البيضاء ،الطبعة الثالثة ،1996 ،ص .96نيي عمي بف أبي طالب ابف عباس عف مجادلة الخكارج بالقرآف ألنو ذك
أكجو ،كلكف خاصميـ بالسنة ...ىذا ىك اإلحساس المبكر بتعدد الكجكه في التعبير القرآني.
2
عبد ا﵀ العركم :مفيكـ الحرية ،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء ،الطبعة الخامسة ،1993 ،ص .18
3
عبد الكريـ الشيرستاني :الممؿ كالنحؿ ،الجزء األكؿ ،مجرع سابؽ ،ص .91
94
أىـ ميزة لمخكارج ىي التكفير ،كاألدىى أنيا ال تفكر المختمفيف عنيا فقط ،بؿ أنيا تفكر بعضيا البعض .إذ أنيـ يكفركف الفرؽ
األقؿ حدية منيا .فنجد الخكارج تكفر اإلباضية رغـ أنيا فرقة مف الخكارج .كالسبب أنيا أقؿ تعصبا كأكثر لكينة في مبادئيا .فقد
"تشكمت بينيـ نكاة "اإلباضية" التي تعد في التصنيفات المكضكعة لميراطقة ضمف جماعات الخكارج بمثابة جماعات مسالمة
كمرنة" 1.كتظير ليكنة اإلباضية في أنيـ ال يعتبركف الكفر بمثابة خركج عف الديف ،بؿ ىك كفر بنعمة اإلسبلـ فقط .مما يجعمكىـ
2
أكثر تسامحا مع بقية المسمميف.
كقد عرفت الخكارج بعقائد كأخبلقيات غريبة كشاذه عف المألكؼ .إذ يذكر البغدادم كالمستشرؽ فميكزف Julius Wellhausen
( ،)1918/1844عمى حسب تقرير "فاف ايس" بأف "شبيب بف يزيد الشيباني (مف الخكارج التي سكنت شبو الجزيرة ما بيف النيريف
عاش حكالي 70ىػ حارب جيكش الحجاج) كمؼ امرأة بإمامة الصبلة في الككفة التي لـ يعرؼ فيما بعد ىؿ أنيا كانت أمو أـ
زكجتو .مسألة سماحو لزكجتو الظيكر في المسجد عمى المؤل ىذا ما قد أثار استياء بعض أتباعو( .البغدادم :الفرؽ بف
الفرؽ/الطبرم /2 ،فيمياكسف)" 3.كالبعض مف الخكارج ،بخاصة فرقة األ ازرقة ،استباحكا قتؿ نساء مخالفييـ كحتى أطفاليـ ،كأفتكا
4
كحسب الضحاؾ ،كىك كاحد مف الخكارج( ،كفؽ ما ذكره قطعا بأف أطفاؿ مخالفييـ في العقيدة خالدكف في النار ألنيـ مشرككف.
الشيرستاني) فقد أظير عدـ معارضتو لمنكاح مع المسمميف مف غير الخكارج ،طالما أف ىذه الزيجات تتـ خارج نطاؽ مناطؽ سيطرة
الخكارج ،التي يطمقكف عمييا مفيكـ "دار التقية" ،إذ أف مناطؽ سيادتيـ يطمقكف عمييا "دار اليجرة" .بؿ أف بعض الخكارج كانكا
1
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،ترجمة
محي الديف جماؿ بدر كرضا حامد قطب ،مراجعة محسف الدمرداش ،منشكرات الجمؿ ،بيركت – بغداد ،الطبعة األكلى،2016 ،
ص .15
2
عبد الكريـ الشيرستاني :الممؿ كالنحؿ ،الجزء األكؿ ،مجرع سابؽ ،ص .108أيضا :جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في
القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع سابؽ ،ص .347الكفر عند اإلباضية لـ يكف
معناه "الخركج مف العقيدة" ،بؿ "كفر النعمة" .كفي ص 397كرد :الزيدية كاإلباضية :مرتكبي الكبيرة كفار نعمة ،كليسكا مشركيف كال
مؤمنيف.
3
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .685
4
أيضا: عبد القاىر البغدادم :الفرؽ بيف الفرؽ كبياف الفرقة الناجية ،مرجع سابؽ ،ص .79
جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،ترجمة سالمة صالح ،الجزء األكؿ ،منشكرات الجمؿ ،بغداد
– بيركت ،الطبعة األكلى ،2008 ،ص .45بدأ الخكارج يتنازعكف حكؿ ما إذا جاز لممرء في حممة حربية إلى جانب "غير
المؤمنيف" (أرادكا بذلؾ المسمميف مف المذاىب األخرل) أف يقتؿ أطفاليـ أيضا .االكثر راديكالية بينيـ ،األزارقة ،أصركا عمى التصكر
القديـ عف الذنب الجمعي :يحمؿ األطفاؿ ميسـ جماعتيـ ،حتى قبؿ أف يككنكا قادريف عمى اتخاذ قرار بأنفسيـ.
95
يمتنعكف عف أداء صبلة الجنازة عمى المرأة المتزكجة مف الخكارج كلـ تعتنؽ عقيدتيـ 1.كىنا يظير تميزىـ القصكد عمى البقية مف
المسمميف.
كبسبب أراءىـ السياسية المتطرفة ،فقد عاش الخكارج في مناطؽ معزكلة كبعيدة عف مراكز الخبلفة كالحكـ .إما احتياطا
عسكريا ،أك معتزلة مف السمطة الفاسدة كالمجتمع الكافر .إف تطرؼ الخكارج دفيـ إلى تفكير المجتمع ككؿ المسمميف المخالفيف ليـ.
ألنيـ متمسككف بتحقيؽ ال عدالة كلك تـ افناء كؿ الكجكد .كمف ىنا تطرفيـ ،ألف العدالة المطمقة مستحيمة البمكغ في ىذا المجتمع
الدنيكم 2.كيقكؿ "فاف ايس" عمى استراتيجيتيـ العمرانية" :تبنى الخكارج نظرية العدالة كالمساكاة .كانكا يعيشكف في أرياؼ ببلد فارس
(كليس في المدف) بسبب الشتات الكاسع الذم كقع ليـ جراء الغزكات التي تشنيا عمييـ السمطات في الخبلفة األمكية" 3.كبالفعؿ،
فإف اباضية الجزائر ،قد اتخذت مكانا ليا بمعزؿ عف المناطؽ التي تتمركز فييا الخبلفة الرسمية ،حيث تمكقعكا في غرداية الكاقعة
في الجنكب الكبير .بؿ أنيـ تميزكا عف البقية حتى في طريقة العيش كالمباس" :الخكارج أكثر انتشا ار خارج نطاؽ مراكز االدارة ()...
كانت ككرنؾ مأىكلة بالخكارج عف بكرة أبييا ،ككاف جميعيـ يشتغؿ بحرفة النسيج ( )...يرتدكف زم خاص بيـ" 4.كىناؾ مف الحظ
أف بعض الخكارج ال يصمكف مع بقية المسمميف ،نقؿ "فاف ايس" أيضا بأف "أبك محمد اسماعيؿ بف سميع الحنفي (ؽ 2ق) :اتيمو
فضؿ بف دكيف بأنو قد سكف 40سنة قريبا مف المسجد كلـ يذىب لصبلة الجمعة؛ لـ يشأ كخارجي أف يخالط اآلخريف" 5.كىذا ما
يعكس خركجيـ الحقيقي عف المجتمع اإلسبلمي.
عمى الرغـ مف أف الخكارج تتفرع ،حسب البغدادم الذم تكفي سنة 429ىػ ،إلى حكالي عشركف فرقة منيا :المحكمة األكلى،
كاألزارقة ،كالنجدات ،كالصفيرية ،كالبييصية ،كالجعاردة التي ليا فرؽ مختمفة ،كأخي ار اإلباضية التي بدكرىا انقسمت إلى الحفصية
كالحارثية كاليزيدية 6،إال أنيـ يتفقكف عمى المبادئ الكبرل التي تشكؿ إيديكلكجية الخكارج ،كعندما نستعمؿ كممة ايديكلكجية فبالمعنى
الداؿ عمى ثبات مبادئيـ بصكرة صمبة .كىي:
1
الشيرستاني :الممؿ كالنحؿ ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .109أيضا :جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني
كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع سابؽ ،ص .692
2
يكليكس فميكزف :أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر اإلسبلـ – الخكارج كالشيعة ،مرجع سابؽ ،ص .36
3
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .725
4
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .850-849
5
جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،ترجمة سالمة صالح ،الجزء األكؿ ،منشكرات الجمؿ،
بغداد – بيركت ،الطبعة األكلى ،2008 ،ص .570
6
عبد القاىر البغدادم :الفرؽ بيف الفرؽ كبياف الفرقة الناجية ،مرجع سابؽ ،ص .72
96
كجكب اإلمامة :جميع الفرؽ الخارجية أقرت بضركرة كجكد الخبلفة ،ما عدا فرقة النجدات التي ترل أنو ال يمزـ الناس
فرض اإلمامة ،إنما عمييـ أف يتعاطكا الحؽ فيما بينيـ 1.أما البقية فأقرت بأنو ال يمكف أف يؤسس اإلسبلـ ببل سمطة
سياسية شرعية" .فغالبية الفقياء (ما عدا بعض الخكارج كالمعتزلة) :ال يتصكر قياـ الشريعة اإلسبلمية مف غير سمطة
سياسية .كأف األصؿ في اإلسبلـ ىك اجتماع السمطتيف السياسية كالعممية ،كىذا ما حدث في عيد الرسكؿ كخمفائو األربعة،
ثـ افترقت السمطتاف بانتياء "الخبلفة الراشدة" 2.إف عبارة الخبلفة الراشدة تدؿ عمى كفاءة الجمع بيف سمطة الحكمة كسمطة
السياسية ،كىذا مبمغ الكماؿ الشرعي.
بالنسبة لفرقة العجاردة ،نسبة إلى عبد الكريـ بف عجرد ،فقد بمغ بيـ األمر إلى الطعف في بعض القرآف ،حيث يعتقدكف باف سكرة
يكسؼ ،ليست مف القرآف ،ألنيا قصة عشؽ ،كال يجكز اف يتضمف القرآف مثؿ ىذه المكضكعات .لبلطبلع عمى التفاصيؿ يمكف
الرجكع لػ:
محمد عابد الجابرم :العقؿ األخبلقي العربي – دراسة تحميمية نقدية في نظـ القيـ في الثقافة العربية ،مركز دراسات الكحدة العربية،
بيركت ،الطبعة األكلى ،2001 ،ص .222أيضا:
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .853يبدك أف أتباع ابف عجرد كانكا في غاية التظاىر بالحشمة ،ذال نراىـ ال يريدكف قراءة قصص الحب المكجكد في
القرآف كتمؾ الكاردة في سكرة يكسؼ .كىا ىك األشعرم يبدم عدـ قدرتو عمى تصكر أف ىؤالء كانكا عمى ىذا القدر مف التشدد ،إال
أنو صرح أنو لـ يتحقؽ مف صحة ىذه الركاية.
1
عبد الفتاح المغربي :الفرؽ الكبلمية اإلسبلمية ،مرجع سابؽ ،ص .172
2
عمي أكمميؿ :في التراث كالتجاكر ،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء ،الطبعة األكلى ،1990 ،ص .90
3
عبد الفتاح المغربي :الفرؽ الكبلمية اإلسبلمية ،مرجع سابؽ ،ص .173
97
الخبلفة ميما يكف أصمو العرقي كالشرط ىك الجدارة" 1.لكف في تقديرنا ،ال يمكف لنا الحديث عف ديمقراطية الخكارج مف
عدة أكجو ،عمى أساس أف الديمقراطية ىي قبكؿ االختبلؼ كىـ رفضكا أم اختبلؼ عنيـ ،كما أف الديمقراطية تمثؿ حكـ
الذكاء اإلنساني ،كىذا ما ال يتكافؽ مع الحاكمية اإلليية .ثـ كذلؾ نبلحظ بأف الديمقراطية ال تقكـ عمى التمييز الجنسي،
في حيف أف مف بيف شركط اإلمامة حسبيـ ،أم الخكارج ،ىك الذككرية (إلى جانب شركط أخرل ىي :البمكغ ،كالعقؿ،
كسبلمية األعضاء ،كاإلسبلـ كالحرية ،كالخبرة الحربية ،كالتفقو في أمكر الديف).
تكفير كؿ مف عمي (ض) ألنو رضي بالتحكيـ ،كتكفير عثماف ،كالحكميف أبك مكسى األشعرم عمرك بف العاص،
كأصحاب الجمؿ الذيف ثاركا ضد عمي ،ككؿ مسمـ رضي بنتائج التحكيـ أيضا اعتبركه كافرا 2.لكف الخطأ األكبر ىك ما
فعمو عمي (ض) ،عمى أساس "عقد ميثاقا مع الشيطاف (معاكية) كلـ يشأ نقض ىذا الميثاؽ .لقد تخمى عف الحؽ اإلليي،
حؽ الجياد ضد عثماف كمعاكية" 3.كلـ يعترؼ الخكارج إال بخبلفة أبك بكر كعمر ،عمى أساس أنيا خبلفة قامت عمى ركح
القرآف 4.كبداية مف حكـ عثماف ،تـ انتياؾ الكتاب .لذا فقد خططكا بقتؿ كؿ مف انحرؼ عمى الخبلفة األكلى :قتؿ عثماف،
قتؿ عمي ،قتؿ معاكية ،كعمرك بف العاص ،لكف معاكية قد جرح فقط ،مما أتاح لنسمو باستمرار الحكـ كتكريثو 5.بؿ بمغ بيـ
األمر إلى تفكير كؿ المسمميف ما عدا مف اعتنؽ عقيدتيـ" ،فالخبلؼ بيف الخكارج (العجاردة كالبييسييف) ىك :ىؿ يحؿ بيع
اإلماء لمكفار ؟ يقصد بالكفار ىنا غير الخكارج( .القتؿ كالمعف الجماعي)" 6.كربما نبلحظ ىنا أف الخكارج كانت ليـ نية
الخركج عف المسمميف قبؿ مكقعة صفيف كحادثة التحكيـ ،عمى أساس أنيـ قتمكا عثماف قبؿ الخركج عف عمي ذاتو.
كاجب الرعية في تقكيـ اإلماـ المعكج .كلك بالسيؼ حسب األشعرم .بحيث يمكف الحديث عف دكلة الخكارج النيـ كانكا
يعتقدكف بإمكانية تأسيس مجتمع سياسي عادؿ بصكرة مطمقة 7.كلك أف ىناؾ تفاكت بيف فرؽ الخكارج ،بيف اإلباضية مثبل
كاأل ازرقة ،إال أنيـ يعتقدكف بضركرة االنعزاؿ عف حكـ الباطؿ" .الفرؽ بيف اإلباضية كاألزارقة أف اإلباضية ما عادكا
يحاربكف أفراد مف أصحاب الفكر المختمؼ أك يستعرضكنيـ (أم تعقبيـ كاستحبلؿ دمائيـ) كلـ يتخؿ اإلباضية -كأريد
القكؿ غير اإلباضية – عف المطالبة بالبعد عف كؿ سمطة غير عادلة كلك عمى األقؿ نظريا .ككاف معسكر الخميفة كأعكانو
(عسكر السمطاف) يعتبر لدييـ "دار بغي" ،كربما أيضا دار كفر ،حيث كاف ىناؾ ضرر يمحؽ بأداء الكاجبات الدينية
1
ىنرم الكست :مقدمة كتاب ابف تيمية :السياسة الشرعية في إصبلح الراعي كالرعية ،مكفـ لمنشر ،الطبعة الثانية ،1994 ،ص
.27
2
عبد القاىر البغدادم :الفرؽ بيف الفرؽ كبياف الفرقة الناجية ،مرجع سابؽ ،ص .72
3
يكليكس فميكزف :أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر اإلسبلـ – الخكارج كالشيعة ،مرجع سابؽ ،ص .28
4
ىشاـ جعيط :الفتنة – جدلية الديف كالسياسة في اإلسبلـ المبكر ،مرجع سابؽ ،ص .258
5
فاطمة المرنيسي :الحريـ السياسي –النبي كالنساء ،ترجمة عبد اليادم عباس ،دار الحصاد ،لمنشر كالتكزيع ،دمشؽ ،ص .56
6
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .853-850
7
عبد ا﵀ العركم :مفيكـ الدكلة ،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء ،الطبعة الثامنة ،2006 ،ص .89
98
كتحت ظركؼ معينة بالصبلة .أما بقية المسمميف فيمثمكف "دار التكحيد" ،أم دار كاف االعتراؼ بكحدانية ا﵀ سمتيا" 1.كقد
الحظ "فاف ايس" بكجكد تقارب بيف المعتزلة كالخكارج عمى النحك اآلتي" :لقد كاف االبتعاد عف السمطة بمثابة األمر الذم
قرب بيف المعتزلة كالخكارج ،فمثبل كانت تعني كممة "اعتزاؿ" عند بعض أتباع االباضية فيما بعد "عدـ الكالء لمحاكـ" ،أما
ٌ
في األصؿ فكانت تعني "عاش كحيدا ،في عزلة عف اآلخريف" .فمنذ زمف مضى كاف يفيـ منيا أيضا عدـ المشاركة في
المطالبة بالقصاص ،ثـ كاف معناىا فيما بعد عدـ الذىاب إلى المساجد كعدـ المشاركة في أداء صبلة الجمعة .عمى ىذا
يبدك أف كاصؿ (بف عطاء) تمكف مف نسخ نمكذج اإلباضية فيما يعرؼ بػ "حممة العمـ" ،ىذا ما تفسره محاكالت بعض
2
معاصريو كضعو مع الخكارج في رداء كاحد .غير أف دعاة كاصؿ لـ يككنكا أبدا يمجدكف التمرد".
عمى الرغـ مف أف اآلراء السابقة سياسية ،إال أف لمخكارج أراء كبلمية في العقائد ،لكنيا ثانكية مقارنة بمشكمة الخبلقة .ففي
مكقفيـ مف التكحيد قالكا بالتنزيو ،كىك متطابؽ مع قكؿ المعتزلة الذم سيظير الحقا كينتشر بكثرة .كأما رأييـ في مسألة
خمؽ أك قدـ القرآف ،فيك مثؿ المعتزلة أيضا ،كفي مسألة أفعاؿ العباد ،فقد تفرقكا بيف تأكيدىا مثؿ المعتزلة أك تأكيد القدر
3
أما قكليـ في الكعد كالكعيد ،فيك التأكيد بأف ا﵀ لف يخمؼ كعيده ،كأف الكافر في النار .في العمكـ ،فإف مثؿ أىؿ السنة.
فإف مكاقفيـ العقائدية ال تختمؼ كمية عف أطركحات المعتزلة التي سنحمميا الحقا.
كيؼ نقيـ أداء الخكارج اليكـ ؟ بالنسبة لمجابرم فإف "الجماعة األكلى التي سخرت المطمؽ لمنسبي ىي الخكارج :نجحكا في
اغتياؿ عمي (ض) كفشمكا في اغتياؿ كمعاكية ( )...لقد كضع الخكارج القيمة المحكرية األكلى في الديف كىي اإليماف ،في أزمة،
فكضعكا الضمير الديني كمو في مأزؽ ( )...كاف مكقفيـ مف اإليماف سياسيا كليس الىكتيا أك فمسفيا ( )...كاف اإليماف عندىـ يضع
4
صاحبو في مكقؼ إما بقتاؿ األمكييف كاما بالقتاؿ معيـ( .سؤاؿ إرىابي :إما كاما :إيديكلكجيا التكفير :ما تقكؿ في معاكية كعمي).
كبالفعؿ ،فيمكننا اليكـ الحديث عف خكارج القرف الكاحد كالعشريف ،عمى أساس أنيـ خرجكا عف األنظمة القائمة ،كأسسكا دكلة في
دكلة .حقيقة أف األنظمة اإلسبلمية اليكـ ليست كاممة ،كأخفقت في العديد مف المستكيات ،إف لـ نقؿ كميا ،لكف ال يمكف اعتبار
الخركج المسمح حبل .بؿ الحؿ يكمف في العمؿ الجدم اليادئ كاليكمي ،بدؿ الخركج الثكرم الذم ال يمكف أف يككف طريقا لمبناء .ثـ
أف ترؾ الدكلة لتعميـ الديف في أيدم غير المتخصصيف كغير المتككنيف أكاديميا يمعب دك ار ىاما في نشكء جيكب الخكارج كما ىك
اليكـ في بعض المناطؽ اإلسبلمية.
إف ال حركب كالفتف في العيد اإلسبلمي المبكر ،عند الصحابة كأبنائيـ ،قد سبب في أزمة قيـ حادة ،تكالت حتى اليكـ .كلربما
اعتزاؿ المسمـ الشأف السياسي لو عبلقة بيذه الصراعات المبكرة .فنحف نعيش ضربا مف الزىد السياسي ،ألنو لـ يكف يمرك از عمى
1
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .345
2
المرجع نفسو ،ص .504-503
3
أبي الحسف األشعرم :مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف ،الجزاء األكؿ ،المكتبة الصرية ،بيركت ،2009 ،ص .109-108
4
محمد عابد الجابرم :العقؿ األخبلقي العربي – دراسة تحميمية نقدية في نظـ القيـ في الثقافة العربية ،مرجع سابؽ ،ص ص -72
.125-77-73
99
الحكار كالنظر كاإلثراء ،بقدر ما كاف مركز عمى الفتنة كالقتؿ كالتشريد .لذا فتجربة الخركج لـ تكف إال بداية ألزمة أخبلقية كاعتزاؿ
سياسي طكيؿ األمد " .انتشار الزىد (في العالـ العربي اإلسبلمي) لـ يكف ليحدث لكال كجكد كضعية تقبمو ك"ترحب" بو .كىنا البد مف
التذكير بأزمة القيـ :الحرب األىمية الطكيم ة كالمأساكية منذ الثكرة عمى عثماف :حرب الجمؿ ،حرب صفيف ،حرب الخكارج ،فػ حركب
األبناء ،أبناء الصحابة بعد كفاة معاكية ،أعماؿ ىزت الضمير الديني كالخمقي :كضرب الكعبة ،كقتؿ الحسيف [في كرببلء]...الخ.
أدت إلى اعتزاؿ الفتنة كالحياد كاالنقطاع إلى الزىد كالعبادة كشجب الترؼ" 1.كالمشاركة السياسية الفعالة.
يمكف أف نبلحظ الصكرة السيئة في لمخكارج في التاريخ اإلسبلمي ،كالسبب األكؿ كاألخير ،ىك اعتزاليـ الحياة العامة ،إضافة
إلى أنيـ أكؿ مف كفر المسمميف بصكرة مباشرة .كتكعدكىـ بالنار مثؿ الكفار تماما 2.كىذا صدـ عنيؼ لمشعكر اإلسبلمي .كمف بيف
كؿ الفرؽ التي ذكرناىا أعبله ،يمكف استثناء اإلباضية ،كالتي تعتبر الطائفة "األليف عريكة ،فمـ يكف ىدفيـ -مع طيارتيـ كشدة
تمسكيـ بالديف -أف ينتصركا عمى جماعة المسمميف بالقكة ،بؿ أف يكسبكىـ إلى مذىبيـ" 3.كنجد األشعرم يتحدث عف الراجعة كىـ
الذيف خرجكا عف الخكارج ،كرجعكا إلى اإلسبلـ 4.كبيف الخكارج كالركاجع ،تاريخ ممئي بالفيـ كسكء الفيـ كالعنؼ كالتقتيؿ كالتشتت
كاستعماؿ القرآف مف أجؿ تبرير الممارسات الشاذة .كقد كاف اإلماـ أحمد بف حنبؿ يدعك جميكر المسمميف إلى المقاطعة التجارية
لمخكارج 5،نظ ار لما ألحقكه مف أذل بالعقائد اإلسبلمية الصحيحة كبالمسمميف أيضا .كبمغ شذكذىـ أف ألزمكا طقكس اإلسبلـ عمى
األطفاؿ مثؿ التعميد في المسيحية" :فالدخكؿ إلى اإلسبلـ معناه االنضماـ إلى الخكارج عف كعي مما يجعمو مؤمنا ( )...لذا
فاألطفاؿ ال يندرجكف ضمف المؤمنيف ،بؿ يدعى األطفاؿ لمدخكؿ إلى اإلسبلـ عندما يبمغكف ،كينبغي تعرفيـ عميو" 6.كبيذا فقد
تجاىمكا مفيكـ الفطرة اإلسبلمية عند أىؿ السنة .لقد خمقكا جماعة إسبلمية مغمقة تماما عمى نفسيا ،أم خمقت اسبلـ داخؿ إسبلـ.
ثانيا -الشيعة:
1
محمد عابد الجابرم :العقؿ األخبلقي العربي – دراسة تحميمية نقدية في نظـ القيـ في الثقافة العربية ،مرجع سابؽ ،ص -436
.437
2
يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،ترجمة عبد المجيد الصغير ،نشر الفنؾ ،الدار البيضاء،2000 ،
ص .27-26
3
يكليكس فميكزف :أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر اإلسبلـ – الخكارج كالشيعة ،مرجع سابؽ ،ص .145
4
األشعرم :مقاالت اإلسبلمييف كاختبلؼ المصميف ،جزء ،1مرجع سابؽ ،ص .107
5
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .850
6
المرجع نفسو ،ص .855 ،854أطفاؿ المشركيف سيدخمكف النار مع آبائيـ ،يمكف استنتاج أف أطفاؿ الخكارج سيدخمكف الجنة مع
مع ذكييـ( )...افتراض أف األطفاؿ لـ يصيركا مسمميف أبدا يعني فقييا أنو ال يجكز أداء صبلة الجنازة عمييـ ،كال يحؿ كذلؾ
تزكيجيـ قبؿ مرحمة البمكغ ،أك بمعنى أحرل قبؿ إقرارىـ بمبادئ الجماعة.
111
مف أىـ الفرؽ السياسية التي ال زالت عقائدىا ثابتة كفاعمة حتى اليكـ ،في حيف أف الفرؽ بعض األخرل بادت ببل رجعة ،كىذا
يدؿ عمى خصكصية في الشيعة غير متكفرة في بقية الفرؽ الكبلمية .كلعؿ تماىييا مع النظاـ السياسي ىك سر استمرارىا إذ أف
نظاـ كالية الفقيو ىك الذم حفظ الشيعة كالتي حفظتو ،في حيف أف فرقة مثؿ المعتزلة مثبل ،كالتي تعمقت ببعض خمفاء بني العباس،
قد انيارت بسبب ىذا التعمؽ بالذات ،حيث بمجرد ما تخؿ عنيا الخمفاء المتأخركف تشتت كلـ يبؽ ليا أثر.
-4النشأة والتسمية:
نشأة الشيعة في تسميتيا كتسميتيا في نشأتيا ،كحسب األشعرم ،فإف تسمية الشيعة يعكد إلى مشايعتيـ ،أم نصرتيـ لعمي بف
أبي طالب (ض) 1،إذ يقدمكنو عمى جميع صحابة الرسكؿ الكريـ مف حيث المنزلة كالمكانة كاألىمية كالجدارة .كالنسبة لمؤرخي
الشيعة مف الشيعة ذاتيا ،فيذه الفرقة لـ تظير ككأنيا حدث جديد ،بؿ ىي حدث طبيعي في مسار الدعكة المحمدية .كنظ ار لجدارة
عمي ،قالكا بإمامتو كخبلفتو الضركرية :نصا ككصية؛ إما جميا كاما خفيا .كاعتقدكا بأف اإلمامة ال تخرج مف أكالده؛ كاف خرجت فبظمـ
يككف مف غيره ،أك بتقية مف عنده .كقالكا :ليست اإلمامة قضية مصمحية تناط باختيار العامة كيتنصب اإلماـ بنصبيـ؛ بؿ ىي
قضية أصكلية ،كىي ركف الديف؛ ال يجكز لمرسؿ عمييـ السبلـ إغفالو كاىمالو ،كال تفكيضو إلى العامة كارسالو 2.كىذه القعيدة
األساسية ،ىي التي جعمت مف الشيعة فرقة سياسية في ماىيتيا .عمى الرغـ مف أنو ليا عقائد أخرل غير إمامية تميزىا عف البقية
مف الفرؽ.
في الداللة المغكية ،فإف التشيع يعني التحزب ،كقد ركد في القرآف ىذا االستعماؿ فيناؾ مف يناصر ا﵀ كىناؾ مف يناصر
ً ًح ٍز َّ ً ًَّ َّ
اف ﴿استى ٍحكىذ ىعمىٍي ًيـ َّ
الش ٍيطى ي ي كف﴾ [المائدة ]56 ،كقمو تعالى ٍ ى
ب المو يى يـ ا ٍل ىغاليب ىى ىمينكا فىًإ َّف ﴿ك ىم ٍف ىيتى ىك َّؿ الموى ىكىر يسكلىوي ىكالذ ى
يف آ ى الشيطاف :ى
ً َّ ً ب َّ اىـ ًذ ٍكر المَّ ًو أيكلىئً ى ً
كف﴾ [المجادلة .[19 ،لذا فقد اكتسبت الشخصيات الثقيمة اف يى يـ ا ٍل ىخاس ير ى طً
الش ٍي ى باف أ ىىال إً َّف ح ٍز ى
طً الش ٍي ى ؾ ح ٍز ي فىأ ٍىن ىس ي ٍ ى
مف الصحابة أتباع كأشياع ،فمعمي (ض) شيعة كما لمعاكية بف أبي سفياف شيعة أيضا ،أم أكلئؾ الذيف ينتمكف إلى حزبو بكصفو
حزب الخير .لكف التحزب لمف فقد السمطة فقط ،أم بعدما تكلى معاكية الخبلفة لـ يبؽ لو أشياع ألنو الخميفة فالكؿ في حزبو ،لـ
يبؽ معاكية رئيس حزب بأتباع ،بؿ أصبح خميفة لممسمميف كافة .في حيف أف مناصرم عمي (ض) بقكا شيعة أنداؾ يناصركف
3
الحزب الذم يعتقدكف أنو مظمكـ.
السؤاؿ األىـ ىنا ،لماذا تككنت الشيعة حكؿ شخص عمي دكف غيره مف الصحابة ؟ كىذا السؤاؿ قريب لمسؤاؿ الذم طرحو
األستاذ محمكد صبحي في كتابو عف الزيدية قائبل في بدايتو" :لماذا أضفيت القداسة عمى اإلماـ عمي بف أبي طالب دكف سائر
الصحابة ؟ 4ىؿ المسألة عائمية عمى اعتبار أف عمي (ض) قد جسد القرابة المزدكجة مف الرسكؿ الكريـ ،فيك ابف عمو مف بني
ىاشـ مف قريش ،كىك زكج بنت الرسكؿ ،كىك أب احفاده الحسف كالحسيف سبطي الرسكؿ ؟ كالذم لـ يكف لو أحفاد إال مف فاطمة.
1
أبي الحسف األشعرم :مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف ،مرجع سابؽ ،ص .25
2
الشيرستاني :الممؿ كالنحؿ ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .117
3
يكليكس فميكزف :أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر اإلسبلـ – الخكارج كالشيعة ،مرجع سابؽ ،ص .146
4
أحمد محمكد صبحي :في عمـ الكبلـ ،الجزء الثالث :الزيدية ،دار النيضة العربية ،الطبعة الثالثة ،1991 ،ص .17
111
كبما أف النبي لـ يخمؼ ذكك ار أحياء فإنيـ بمثابة أبناءه الحقيقييف 1.أـ أف تقديس عمي (ض) مرتبطة بالمكانة الركحية لو بكصفو مف
أكائؿ الذيف أسممكا كبسيرتو الركحية الطاىرة كقدراتو الشخصية في العمـ كالقيادة كالكرع ؟ 2يمكف القكؿ بأف كبل السببيف ساىـ في
تشكيؿ األتباع ،لكف الشيعة الحقيقية ،كعقدية صمبة ،لـ تتشكؿ إال بعد مكتو كتقتيؿ ابنو الحسيف في كرببلء .كىنا تشكمت عقدة
معاقبة الذات ،عند أىؿ الككفة ،بسبب التفريط في مناصرة الحسيف كعدـ الجياد في سبيؿ الحؽ كالعدؿ 3.كتشكمت أيضا العقيدة
المستقطبة كالتي ترل أف الشيعة ىـ حزب ا﵀ ،كغيرىـ ىـ حزب الشيطاف ،فكؿ مف عارض عمي (ض) فيـ نكرة ال يمكف مسالمتيـ
أك تصديقيـ 4.كفي الجدؿ الذم كقع بيف الشيعة كالعباسييف ،أحرجيـ بني العباس عمى أساس أف صمتيـ بالرسكؿ مف جية ابف
عباس عمو ،أم قرابة رجكلية ،في حيف أف صمة الشيعة بالرسكؿ مف جية زكجة عمي فقط ،أم فاطمة ،كبالتالي فالخيط القرابي
نسكل ،لذا نجد اىتماـ غير مسبكؽ بالمرأة ،في الحقكؽ كالميراث 5،عند الشيعة مف أجؿ تقكية ىذا الخيط األصالي.
كيذكر لنا الغدادم كالشيرستاني ،بأف الشيعة تنقسـ إلى ثبلثة فرؽ كبرل ،كىي بدكرىا تقسمت إلى تفرعات جزئية تختمؼ في
بعض التفاصيؿ:
الزيدية 3 :فرق .أتباع زيد بف عمي بف الحسيف بف عمي بف أبي طالب .كىي فرقة متأثرة باالعتزاؿ كمعتدلة العقائد.
كمف فرقيا نجد:
-الجاركدية :أتباع أبي الجاركد .يقكؿ أف الرسكؿ نص عمى امامة عمي باألكصاؼ ال باالسـ .كالصحابة كفركا
ألنيـ ترككا بيعة عمي.
السميمانية :أتباع سميماف بف جرير الزيدم .يقكؿ أف عمي (ض) أصمح لمبيعة مف أبك بكر كعمر .لكف ىذا ال -
يكجب التكفير عمى عكس عثماف الذم أفسد في حكمو.
-البترية :لـ يقكمكا بمدح عثماف أك ذمو 6.مما يجعميـ بمنأل عف خصكمة السنة.
1عبد الفتاح المغربي :الفرؽ الكبلمية اإلسبلمية ،مرجع سابؽ ،ص .139
2
برنار لكيس :الحشاشكف -فرقة ثكرية في تاريخ اإلسبلـ ،ترجمة محمد العزب مكسى ،مكتبة مدبكلي ،القاىرة ،الطبعة الثانية،
،2006ص .41
3
طبلؿ أسد :تشكبلت العمماني في المسيحية كالحداثة كاإلسبلـ ،ترجمة محمد العربي ،جداكؿ لمنشر كالترجمة كالتكزيع ،بيركت،
الطبعة األكلى ،2017 ،ص .137
4
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .578
5
يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،مرجع سابؽ ،ص .115-114
6
عبد القاىر البغدادم :الفرؽ بيف الفرؽ كبياف الفرقة الناجية ،مرجع سابؽ ،ص .44-41
112
الكيسانية :ليا فرقتين .نسبة إلى كيساف كىك أحد مكالى أمير المؤمنيف عمي بف أبي طالب ،كقيؿ أنو تمميذ محمد بف
الحنفية .كمف مبادئيـ أف الديف يتمحكر حكؿ طاعة الرجؿ .كمف ال يطيع رجؿ فبل ديف لو 1.كمف ىذا المبدأ يمكف لنا
تفسير التكجو الشيعي البلحؽ بما ىك تمركز حكؿ إماـ أك شخص معيف .كسيطرح سؤاؿ الحقا حكؿ مصدر ىذه
العقيدة ،عقيدة تقديس الرجؿ ،ىؿ ىي عربية أـ فارسية ؟
اإلمامية :ىناؾ مف يذكر أف ليا 15فرقة منيا الباقرية كاإلسماعمية كاإلثناعشرية المشيكرة.
كىـ القائمكف بإمامة عمي (ض) بعد النبي مباشرة كىذا بنص صريح كظاىر .كمف فرقيـ المتطرفة مف تكفر كؿ الصحابة ألنيـ
ترككا بيعة عمي ،بؿ ككفرت عمي ألنو لـ يقاتميـ مثمما قاتؿ معاكية ،كىي فرقة الكاممية التي ينتمي إلييا الشاعر األعمى بشار بف
2
برد.
أثير جدؿ كبير حكؿ منشأ التشيع األصمي ،ىؿ ىك عربي أـ فارسي ؟ عمى اعتبار أننا اليكـ نجد تمركز قكم لمشيعة في إيراف
حيث عقديتيـ السياسية شيعية خالصة .إذ أف ىناؾ مف يرل في تقديس األشخاص ميزة فارسية ألنيـ نشؤ في نظاـ سياسي
3
إمبراطكرم حيث أف ممؾ الفرس المسمى كسرل مقدس كمعبكد كإلو .يذكر فمياكزف الميتـ بالمشكمة السياسية اإلسبلمية:
" قاؿ دكزم :كانت الشيعة في حقيقتيا فرقة فارسية ،كفييا يظير أجمى ما يظير ذلؾ الفارؽ بيف الجنس العربي ،الذم يحب
الحرية ،كبيف الجنس الفارسي الذم اعتاد الخضكع كالعبيد .لقد كاف مبدأ انتخاب خميفة لمنبي أم ار غير معيكد كال مفيكـ،
ألنيـ لـ يعرفكا غير مبدأ الكراثة في الحكـ ،ليذا اعتقدكا أنو ما داـ محمد لـ يترؾ كلدا يرثو ،فإف عميا ىك الذم كاف يجب
أف يخمفو كأف الخبلفة يجب أف تككف كراثية في آؿ عمي .كمف ىنا فإف جميع الخمفاء – ما عدا عميا – كانكا في نظرىـ
مغتصبيف لمحكـ ال تجب ليـ الطاعة ( )...اعتادكا أف يركا في ممككيـ أحفادا منحدريف مف أصبلب اآللية الدنيا ،فنقمكا
ىذا التكقير الكثني إلى عمي كذريتو .فالطاعة المطمقة "لئلماـ الذم مف نسؿ عمي كانت في نظرىـ الكاجب األعمى ()...
لقد كاف اإلماـ عندىـ ىك كؿ شيء ،إنو ا﵀ قد صار بش ار ( )...يضيؼ أ .مكلر أف الفرس كانكا تحت تأثير األفكار
اليندية قبؿ االسبلـ بعيد طكيؿ يميمكف إلى القكؿ بأف الشاىنشاه ىك تجسيد لركح ا﵀ التي تنتقؿ في أصبلب الممكؾ مف
اآلباء إلى األبناء" .ما يكشفو ىذا النص ىك أف الفتكحات اإلسبلمية سمحت كلكج عقائد عمى إسبلمية األصؿ ،كتشكمت
كتعالقت مع بعض العقائد اإلسبلمية في نسؽ انتج عقيدة مثؿ التشيع.
لكف ،الشيعة اإليرانية لـ تتشكؿ إال في كقت متأخر ،إذ أف أكؿ مف ناصر عمي (ض) ىـ العرب مف قريش ،كبعد لذؾ المكالي.
كىناؾ مف يرل أف تقديس الشيداء ميزة عربية ،حيث قضى الشيعة في كرببلء أياما عند قبر الحسيف يعترفكف بخطأىـ في التقاعس
عف نصرتو ،بخاصة أىؿ الككفة .كقيؿ أف الزحاـ عمى قبر الحسيف ،في كرببلء ،كاف أشد منو عمى الحجر األسكد في مكة
1
الشيرستاني :اممؿ كالنحؿ ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .118
2
عبد القاىر البغدادم :الفرؽ بيف الفرؽ كبياف الفرقة الناجية ،مرجع سابؽ ،ص.56
3يكليكس فميكزف :أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر اإلسبلـ – الخكارج كالشيعة ،مرجع سابؽ ،ص .241-240
113
المكرمة 1.كنبلحظ اليكـ مدل أىمية الم ازرات الشيعية في العراؽ ككرببلء بالضبط .يمكف أف نفترض أف مناصرة عمي انطمقت مف
العرب كتقدسيو لدرجة متطرفة تشكؿ في العقائد الفارسية ،حيث كجدكا انسجاـ بيف مكركثيـ القديـ كالعقيدة الجديدة.
أما خصكـ الشيعة فيسمكف الشيعة بالسبئية 2،لمتدليؿ عمى أثر الييكد في تشكيؿ عقائدىـ .إذ أف عبد ا﵀ بف سبأ الييكدم
المتأسمـ قد ألو عمي عندما قاؿ لو "أنت أنت" 3.كىذه كجية أخرل في تأكيد أثر العكامؿ الخارجية في تشكيؿ ىذه الفرقة التي قالت
كؿ ما يمكف اعتباره شذا عف العقائد اإلسبلمية المعقكلة .في حيف أف محمد باقر الصدر مثبل ،كىك مفكر كمؤرخ شيعي ،يعتبر مثمما
قمنا أعبله ،أف الشيعة مكقؼ طبيعي ناجـ عف سيركرة األحداث اإلسبلمية 4،كليست حدثا جديدا أك شاذا أك قؿ طارئا بالنظر إلى
تاريخ اإلسبلـ ككؿ.
-5المبادئ العقدية:
عمى الرغـ مف أف الشيعة تصنؼ ضمف الفرؽ السياسية ،إال أف ليا مبادئ عقدية مثؿ بقية الفرؽ االعتقادية ،عمى الرغـ مف
أىـ أغمبية عقائدىا متقاطعة مع فرؽ اخرل معركفة ،كمف أىـ أراءىـ نجد:
مكضكع التنزيو كالتجسيـ :تقكؿ فرقة ال ويشامية ،نسبة إلى ىشاـ بف الحكـ ،كىي مف اإلمامية ،بأف المعبكد جسـ مثؿ
بقية األجساـ ،لذا صنفت ضمف التشبييية .كقد ناظرىـ أبي اليذيؿ العبلؼ المعتزلي في ىذه المسألة نظ ار لمخبلؼ
الحاد بينيما .يقكؿ ىشاـ بف الحكـ كأتباعو بأف "المعبكد جسـ ،لو نياية كحد ،طكيؿ عريض كعميؽ ( )...ىك نكر
ساطع" 5.كنجد عند بعض الشيعة اآلخركف قكليـ أف ا﵀ شيء ال كاألشياء ،كىذه لغة أشعرية كاضحة ،كما أف ىناؾ
مف اعتبر النبي محمد كائف ضكئي 6.كما نجد فرؽ تجسـ صكرة عمي بف أبي طالب ،في أجمؿ حمة .في حيف أف
السنة مثبل ال يجسدكف صكرة الرسكؿ الكريـ.
العمـ اإلليي :حسب ازراة بف أعيف بف سنسف (شيعي تكفي حكالي 150ىػ) "فإنو ال يمكف ﵀ أف يككف قد "أراد عدـ
ايماف الييكد كالنصارل ،أك عمى األقؿ لـ يكف قد أراده سمفا ،ألنو ال يعرؼ عنو مطمقا ،فعممو ال ينشأ إال في المحظة
1
المرجع نفسو ،ص .194
2
جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،ترجمة سالمة صالح ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص
.405
3
الشيرستاني :اممؿ كالنحؿ ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .140
4
محمد باقر الصدر :التشيع كاإلسبلـ ،دار الغدير لمطباعة كالنشر كالتكزيع ،بيركت ،الطبعة الرابعة ،1973 ،ص .11
5
أبي الحسف األشعرم :مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف ،مرجع سابؽ ،ص .44أيضا :الشيرستاني :الممؿ كالنحؿ ،الجزء
األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .149
6
جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،ترجمة سالمة صالح ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص
.429
114
التي يدخؿ فييا مكضكع ىذا العمـ الكجكد" 1.كىذه المشكمة ال تنفصؿ عف العدالة ،ألف قدرة ا﵀ عمى تكفير أك تظميؿ
أقكاـ تطرح الحقا عدالتو طرحا ممحا.
مشكمة العدالة اإلليية" :أجاب الشيعة بمؤلفاتيـ في عمؿ الشرائع ،تـ حيف استحضر المرء رسالة النبي إلى الميداف
طرح السؤاؿ ،لماذا لـ يأت ا﵀ نفسو إلى العالـ بدال مف أف يبعث رسكال .النظاـ الذم يتحقؽ مف خبلؿ القانكف ىك في
كؿ األحكاؿ ليس مثاليا :لماذا ىـ األغنياء أغنياء كالفقراء فقراء ؟ لماذا يجب عمى األطفاؿ أف يتألمكا ؟ لماذا تكجد
حشرات ضارة كأفاع ؟ نككف ىنا في مشكمة العدالة اإلليية قريبيف جدا مف بداية المناظرة" 2.كظاىر جدا افراط الشيعة
في تفكير العقيدة بالمنطؽ مثمما فعؿ بعض المعتزلة.
مشكمة قدـ كخمؽ القرآف :حسب األشعرم ،ليس ىناؾ اجماع بيف فرؽ الركافض حكؿ ىذه المسألة .فقد قاؿ ىشاـ بف
الحكـ أف القرآف ال ىك قديـ كال ىك مخمكؽ ،كبعبارتو "ال خالؽ كال مخمكؽ" .لكف ىناؾ فرقة أخرل قالت قكؿ المعتزلة
3
كالخكارج ،أم أف القرآف لـ يكجد ثـ كجد مما يعني أنو محدث كمخمكؽ.
مشكمة زيادة كنقصاف القرآف :ىناؾ فرقة تعتقد بأف القرآف قد ينقص منو ،كذىب الكثير منو كاإلماـ يعمـ ذلؾ .لكف
4
كلعؿ طرح ىذه ىناؾ فرؽ ذىب مذىب االعتزاؿ ،ترل أف القرآف لـ ينقص ،إنما ىك كما أنزلو ا﵀ سبحانو كتعالى.
المشكمة مرتبطة بما قاـ بو عثماف بف عفاف عندما جمع القرآف في نسخة مكحدة ،كألغي بقية النسخ التي كانت عند
الصحابة كأزكاج النبي 5.كنحف نعمـ ما بيف الشيعة كعثماف مف خبلؼ .بؿ أف ىناؾ مف يقكؿ بأف عمي كاألئمة
كحدىـ يممككف النص الكامؿ لمقرآف ،لكف ليس لنا اليكـ أم نسخة قد تثبت ذلؾ 6.ما عدا النسخة العثمانية الرسمية.
-6المبادئ السياسية:
مثمما حدد الشيرستاني سابقا ،فإف اإلمامة مسألة أصكلية ال فرعية في الديف ،لذا فبل يجب أف تترؾ بيد العامة .بالتالي فقد
عارض الشيعة كؿ الطرؽ التي تمت بيا المبايعة قبؿ عمي (ض) .بؿ أنيـ يعتقدكف بأف خبلفة عمي قرار إليي سابؽ عمى كؿ
1
جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،ترجمة سالمة صالح ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص
.465
2
جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،ترجمة سالمة صالح ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص
.637-636
3
أبي الحسف األشعرم :مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف ،مرجع سابؽ ،ص .50
4
المرجع نفسو ،ص .55
5
ألفريد –لكيس دم بريمار :في أصكؿ القرآف -مسائؿ األمس كمقاربات اليكـ ،ترجمة ناصر بف رجب ،منشكرات الجمؿ ،بغداد-
بيركت ،الطبعة األكلى ،2019 ،ص .15
6
جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،ترجمة سالمة صالح ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص
.399
115
اختيار بشرم .فقد اختاره ا﵀ منذ األزؿ لتكلي الخبلفة ،فيك الكارث عف طريؽ بنت الرسكؿ فاطمة 1.كبالتالي فقد طعنكا في طريقة
مبايعة أبك بكر التي تمت باليتاؼ كالشعبكية ،أما تعييف عمر فقد كاف بكصية مف أبي بكر .أما عثماف فقد عينو مجمس شكرل
2
كعمى الرغـ مف أف مبايعة عمي لـ تحقؽ اإلجماع ،إال أف زعماء الصحابة كالكبار يتككف مف بعض األشخاص ال يتعدل الستة.
مف األمة قد بايعكه كىذا كاؼ .كمف ىنا ظير ما يسمى بالركافض(في الككفة) الذيف "يرفضكف مف األساس خبلفة أبي بكر كعمر
كعثم اف كيعتبركنيـ مغتصبيف .كالصاحبة تكرطكا في تمؾ المؤامرة التي دبرىا كؿ مف أبي بكر كعمر ،كىما ليس مف العترة النبكية؛
كاستأثركا جميعا بالسمطة دكف عمي بف أبي طالب ( لذا كجب الطعف في مفيكـ اإلجماع الذم أخذ بو أىؿ السنة)" 3.كيستعمؿ
الشيعة بعض األحاديث المنسكبة لم رسكؿ مف أجؿ تبرير أحقية عمي (ض) عمى كؿ الخمفاء الذيف سبقكه ،إذ يذكر الحديث أف النبي
قاؿ بأف عمي بالنسبة لو مثؿ ىاركف بالنسبة لمكسى 4.أم أقرب األقربيف .كقكلو أيضا :مف كنت مكاله فيذا عمي مكاله 5.كقاؿ أيضا،
أيضا ،حسب ركاية أخرل ،أف عمي ىك يعسكب (ذكر النحؿ) المؤمنيف كمف المعمكـ أف ىناؾ سكرة بأكمميا في القرآف باسـ النحؿ.
كأيضا أف "لحـ عمي مف لحمي" 6.كيعتقد بأف ىذا الحديث منقكؿ عف العيد القديـ ،لذا يدرج ضمف تسرب اإلسرائيميات عمكما .كقد
اعتقد كؿ يكتاب الشيعة البلحقيف بأف الرسكؿ الكريـ كاف يعد عمي اعدادا ركحيا الستبلـ الرسالة كمكاصمة الميمة 7.كاستبعاده مرة
تمك مرة ىك الظمـ عينو.
كالمسألة األساسية التي تجمع الشيعة ،كفؽ المبدأ األكؿ القائؿ بأف اإلمامة أصؿ كليس فرع ،ىك القكؿ بكجكب تعييف الخميفة
كالتنصيص عميو ،بعيدا عف كؿ اختيار أك مبايعة .كاإلماـ معصكـ مف كؿ الخطايا سكاء كبيرة أك صغيرة 8.كبما أف اإلمامة ركحية
كزمنية ،فبل يجب أف تككف في مستكل اختيار المسمميف ،بؿ يجب أف تككف منصكصة كمتكارثة ،أنيا ليست بالمسألة اليينة ،ليست
فرعا لمتبلعب بيا .كىنا يدخؿ الشيعة في خبلؼ مع المعتزلة كالخكارج كأىؿ السنة كالجماعة ،فيؤالء يقركف بأف الخبلفة شأف سياسي
1
يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،مرجع سابؽ ،ص .107
2
المرجع نفسو ،ص .106
3
المرجع نفسو ،ص .109-108
4
جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،ترجمة سالمة صالح ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص
.351
5
المرجع نفسو ،ص .352أيضا :طو عبد الرحمف :ثغكر المرابطة – مقاربة ائتمانية لصراعات األمة الحالية ،مركز مغارب
لمدراسات في االجتماع اإلنساني ،الرباط ،الطبعة األكلى ،2018 ،ص ص .157-143-87يستند المتظممة (أم الشيعة) لحديث
خـ" الذم اعتبره كصية باإلمامة لمف بعده؛ إذ يركم أف الرسكؿ(ص) لما قفؿ راجعا مف حجة الكداع ،نزؿ بيذا الغدير ،كأخذ
"غدير ٌ
بيد عمي ،فقاؿ :مف كنت مكاله ،فعمي مكاله ،الميـ كاؿ مف كااله ،عاد مف عاداه !( كتزكيجو فاطمة لعمي) الرسكؿ (ص) استكدع
عمي.
6
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .943
7
محمد باقر الصدر :التشيع كاإلسبلـ ،مرجع سابؽ ،ص .40
8
الشيرستاني :الممؿ كالنحؿ ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .117
116
يبت فيو المسممكف عامة 1.كبالنسبة لمخكارج ،فإف الخبلفة ليست مقصكرة عمى القرشييف أك الياشمييف ،بؿ لكؿ مسمـ تتكفر فيو
الشركط السابقة الذكر .كىنا نرل درجة تضييؽ اإلمامة عند الشيعة مقارنة ببقية الفرؽ ،مف خبلؿ جعميا شأف خاص.
لذا فقد آمف الشيعة بأف منصب اإلمامة ،الذم ىك منصب ركحي كزمني ،كقؼ عمى سبللة آؿ البيت .مما يعني أنو ليس
منصب لمعمكـ اإلسبلمي .كىي في ىذا المبدأ ال تخالؼ الخكارج فقط ،كما أشرنا ،بؿ تخالؼ أىؿ السنة ،عمى أساس أنيا ضيقت
2
كلـ يتبؽ دائرة األىمية لئلمامة إلى آؿ البيت فقط ،بدؿ قريش كما كاف يقكؿ التقميد السني ،كما نجده مثبل في مدرسة أبك حنيفة.
مف آؿ البيت إال أحفاد الرسكؿ كأحفاد األحفاد.
الشيعة الميدكية عقدية قكية في مدينة قـ ،تعتقد بأف ىناؾ تطابؽ بيف اسـ النبي كاسـ أحد حفدة عمي كىك "محمد بف عبد
ا﵀" 3.م ما يجعمو ميديا منتظ ار لنشر الخير في العالـ .كىذه العقيدة تكقيـ في تاريخ مغمؽ ال ينفذ منو الجديد ،بقدر ما ينتظر ميبلد
القديـ .يقكؿ شايغاف عف ىذه الفكرة" :أما الشيعة اإليرانيكف فميست نياية التاريخ عندىـ إال رجعة اإلماـ المنتظر( )...الزمف الذم
نحياه اآلف زمف االنتظار" 4.كىذا في ذاتو ينتج نمط كينكني مخصكص مختمؼ عف كؿ األنماط اإلسبلمية األخرل .إف مف ينتظر
يعتقد بنجازة التاريخ ككفايتو ،عكس مف يفعؿ معتقدا بصناعة التاريخ كانجازه .كقد تنبو بعض مصمحي الشيعة المعاصريف ،إلى مدل
سمبية عقيدة االنتظار ،لذا طرحكا بدائؿ ايجابية.
يتحدث الشيعة عف الخبلفة كاإلمامة مف خبلؿ التفرقة بينيما ،فالخبلفة سنية كىي ما تحقؽ تاريخيا ،أما اإلمامة فيي المسار
السياسي لمشيعة .فاإلماـ صاحب السمطة الركحية كالعممية كالسياسية كاألخبلقية ،عكس الخميفة ،معصكـ مف الخطأ ،بؿ تفكؽ
عصمتو عصمة األنبياء 5.كقد رأل البعض أف عمي (ض) يمتمؾ عمـ آدـ ،كيمكف مقارنة اإلماـ بالنبي ،لكف فقط ال يأتيو الكحي
كانما تأتيو كممات المبلؾ في النكـ 6.كفي بعض األقاكيؿ الشيعية نممس ركح خارجية ،نظ ار إلعتقادىـ أف عمى المرء ضركرة معرفة
1
عبد الفتاح المغربي :الفرؽ الكبلمية اإلسبلمية ،مكتبة كىبة ،القاىرة ،الطبعة الثانية ،1995 ،ص .137
2
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .263
3
جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،ترجمة سالمة صالح ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص
.330-329جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء
الثاني ،مرجع سابؽ ،ص .937أىـ معاقؿ الشيعة إلى يكمنا ىذا ( )...يكجد في مدينة قـ أرض خصبة لفكرة انتظار مجيئ الميدم
المنتظر مف سبللة عمي بف أبي طالب.
4
داريكش شايغاف :أكىاـ اليكية ،ترجمة محمد عمي مقمد ،دار الساقي ،بيركت ،الطبعة األكلى ،1993 ،ص .16
5
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .561
6
جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،ترجمة سالمة صالح ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص
.394
117
إمامو ،كمف مات جاىبل اإلماـ فقد مات ميتة جاىمية .إف الشيعة إخكة في حيف أف المسممكف اآلخركف أناس فقط ،أم ليس ىناؾ
أخكة حقيقية بيف الشيعة كبقية المسمميف .كىذا التمييز كاضح كال يختمؼ عف تميز الخكارج نفسيـ عف بقية المسمميف .بؿ أف خطاب
الشيعة يذىب إلى حد القكؿ بأف مف كره بقية المسمميف ،غير الشيعة ،ككرىيـ لكجو ا﵀ ،فسيجزيو ا﵀ خير جزاء .كبأف أطفاؿ الشيعة
الذيف يمكتكف قبؿ البمكغ ،ستربييـ فاطمة في الجنة 1.مثؿ ىذه العقائد غريبة كشاذة عف معتقد عمكـ المسمميف.
مف الشيعة المعتدلة إلى الشيعة المغالية أك الغبلة ،يمكف أف نبلحظ نمحى تكجو إلى أسطرة شخصية عمي (ض) كأخبلفو في
الدـ كالكراثة .كىك ما يسميو ىشاـ جعيط بػ الميتا تاريخ النبكم .حيث عمد الشيعة إلى تضخيـ مفرط في شأف عمي ،كىذا ما جعميـ
في صراع جذرم مع السنة الذيف أخذك المسألة عمى كاقعيا بعيدا عف الماكجبيات .صراع الشيعة كالسنة مرتبط بتفاصيؿ فييا
تأكيبلت .فمث بل بالنسبة لمسنة ،فإف عمي ال يمثؿ أكؿ مسمـ ،بؿ أكؿ فتي أسمـ ،في حيف أف الشيعة ،كلكي يبرركا تقديسيـ لعمي،
نجدىـ يتحدثكف عف عاقمية كرشد عمي (ض) في سف العاشرة لكي يتأخذ شرؼ األكؿ في اإلسبلـ 2.ككؿ ىذه التبريرات جعمتيـ
يختمقكف االحاديث كيزعمكف بامتبلؾ عمؾ حصرم...الخ .فتبرير العقائد السياسية الكبرل متمثمة في اإلمامة ،جعمتيـ يبتدعكف
اآلالؼ مف األقاكيؿ األس اررية التي ال يممف اف تقبؿ مف كرؼ العقؿ السني المعتدؿ.
خالصة.
ال زالت الخكارج مكجكدة حتى اليكـ ،كما الشيعة بالضبط .فالجماعات اإلسبلمية التي تطالب بإقامة خبلفة إسبلمية مف خبلؿ
الجياد المسمح ،ليست إال صكرة معاصرة لخكارج بائدة .ألف القاسـ المشترؾ بيف خكارج األمس كخكارج اليكـ ىك االلتجاء إلى العنؼ،
في حيف أف العنؼ كالجياد ضداف ،مف أجؿ التغيير كالحقد عمى الحكاـ شيكة االنتقاـ البلمحدكدة 3.كألنيـ لـ يمتزمكا بما يمكف أف
كؿ
الر يس ى
يعكا َّ ً َّ ً ًَّ
يعكا الموى ىكأىط ي ىمينكا أىط ييف آ ى﴿يا أىيُّيىا الذ ى نسميو بمبدأ الطاعة اإلسبلمي المنصكص عنو في عدة آيات مثؿ قكلو تعالى :ى
يبل﴾ [النساء،ىح ىس يف تىأ ًٍك ن كف بًالمَّ ًو ىكا ٍلىي ٍكًـ ٍاآلى ًخ ًر ىذلً ى
ؾ ىخ ٍيهر ىكأ ٍ الرس ً
كؿ إً ٍف يك ٍنتي ٍـ تي ٍؤ ًمين ى
َّ ً و ً ً
ىكأيكلًي ٍاأل ٍىم ًر م ٍن يك ٍـ فىًإ ٍف تىىن ىاز ٍعتي ٍـ في ىش ٍيء فى يرُّدكهي إًلىى المو ىك َّ ي
. ]59فبل يمكف ليـ إال أف يككنكا خارج السياؽ السياسي العاـ .كحجة الخكارج في تجاكز مبدأ الطاعة ىك ما ينسب إلى مأثكر
الرسكؿ الكريـ القائؿ ال طاعة لمخمكؽ في معصية الخالؽ .فيـ الثكريكف المضادكف ألم نزعة استسبلمية أك قدرية مثؿ النزعة التي
ركجت ليا السمطة األمكية .كبما أف عقيدة الخكارج قائمة عمى تكفير كؿ مف لـ يفيـ الديف عمى أصكليـ ،فإف كؿ مف يكفر المجتمع
اإلسبلمي الحالي ،بدعكل أنو تنازؿ عف تطبيؽ الشريعة ،كبأنو ساكت عمى الظمـ السياسي الكائف ،فيك خارجي معاصر ،أك مف
الخكارج المستحدثيف .كيمكف أف يفيـ عمى أنو كسيمة لبلستحكاذ عمى السمطة السياسية 4،باستعماؿ مرجعيات تاريخية كانت مكجكدة
فعبل .كالقاسـ المشترؾ بيف الخكارج كالشيعة ىك ضركرة الثكرة مف أجؿ تحصيؿ الحؽ الشرعي ،كما الثكرة اإليرانية سنة 1979إال
1
المرجع نفسو ،ص .393-391
2
ىشاـ جعيط :الفتنة – جدلية الديف كالسياسة في اإلسبلـ المبكر ،مرجع سابؽ ،ص .345
3
طو عبدالرحمف :سؤاؿ العنؼ -بيف االئتمانية كالحكارية ،المؤسسة العربية لمفكر كاإلبداع ،بيركت ،الطبعة األكلى ،2017 ،ص
85كما تبلىا.
4
برنار لكيس :لغة السياسة في اإلسبلـ ،ترجمة ابراىيـ شتا ،دار قرطبة لمنشر كالتكثيؽ كاألبحاث ،الطبعة األكلى ،1993 ،ص
.172
118
مثاؿ عمى استعادة الكضع الحقي كالشرعي المفقكد .إف ىذه الثكرة استرجاعية كليست فتحية أك مستقبمية .كنجد مف اإلخكاف المسمميف
مف كفر مجتمعو بالكامؿ ،كىذا ضرب مف العنؼ الذم يؤدم إلى استبداؿ المجتمع بدؿ استبداؿ فيـ الديـ ذاتو .نجد السيد قطب
مثبل يعتبر المجتمع المصرم الحديث 1،مجتمع جاىمي بالمطمؽ .كىذا ضرب مف الخركج عف المجتمع ،ألنو رفض لحقيقة كاقعة
كلمنطؽ جديد مختمؼ عف منطؽ التتريث األعمى.
يعتقد بعض الدارسيف لمتاريخ السياسي اإلسبلمي ،بأف سبب انفجار معسكر عمي بف أبي طالب عائد أساسا إلى البنية القبمية
لممجتمع العربي أنذاؾ 2.بمعنى أف القكة كالغمبة كانت البنية التقميدية أماـ تعاليـ الديف الجديد الداعي إلى الكحدة الركحية .كأف العامؿ
الديني ل ـ يكف ىك الغالب كالمسيطر عمى ق اررات قادة القبائؿ كالجيكش ،بؿ لمغنيمة كالحسابات السمطكية بيف القائؿ دكر ميـ في
ذلؾ .كقد كصؼ عمي (ض) ىؤالء الخكارج "بأعاريب بكر كتميـ" ،كىذا دالة عمى فعالية القكل القبمية في ق ارراتيـ 3.كعدـ بمكغ
المطمكب اإلسبلمي الجديد الداعي إلى االنتقاؿ مف الجامعة القبمية الضيقة إلى الجامعة الدينية الكاسعة.
ال يمكف اعتبار فرقة الشيعة متجانسة ،فيناؾ الغبلة الذيف خرجكا عف اإلجماع كالعقائد اإليمانية الكسطية كىناؾ المعتدلكف مثؿ
السنة .كيفسر العديد مف مؤرخي الفرؽ ىذا الغمك بالتأثر بالعقائد غير اإلسبلمية .فمثبل "أبك سميماف داكد بف كثير الرقي الككفي مف
أعمدة الشيعة كمف غبلتيـ ،كاف قكـ بإلقاء الدركس في جامع الرقة (تكفي قبؿ بداية ؽ 3ىػ بقميؿ) .اعتبر مف نقاؿ تعاليـ الباطنية.
ذلؾ ألنو لـ يكف يياب القياـ بتفاسير مجازية لمقرآف .كيفسر بعض أركاف اإلسبلـ الكاردة في القرآف ،مثؿ الصبلة كالزكاة ،برجكع
خفي إلى األئمة( .جعفر الصادؽ مثبل) .يعتمد داكد عمى جعفر الصادؽ كذلؾ في ادعائو أف أركاح األئمة تجتمع مع أركاح األنبياء
تحت عرش ا﵀ في كؿ ليمة مف ليالي الجمعة" 4.بؿ أف ىناؾ مف الغبلة مف تشكؾ في نبكة الرسكؿ الكريـ كأف محمد اغتصب مكانة
عمي 5،كمف ثمة ظير مف بيف "المسمميف مف طرح السؤاؿ ىؿ أف النصؼ األكؿ مف الشيادة دكف اإلقرار بنبكة محمد يمكف أف
يجعؿ المرء مسمما أـ ال ؟" 6.كىذا تكجو شيعي متطرؼ ال يمكف قبكلو عمى أساس أنو يتعارض مع القرآف ذاتو .إنيا محاكلة اجتياد
فاشمة ألنيا تيدـ األسس كمية.
1
طبلؿ أسد :جينالكجيا الديف – الضبط كأسباب القكة في المسيحية كاإلسبلـ ،ترجمة محمد عصفكر ،دار المدار اإلسبلمي ،بيركت،
الطبعة األكلى ،2017 ،ص .268
2
محمد عابد الجابرم :العقؿ السياسي العربي -محدداتو كتجمياتو ،مركز دراسات الكحدة العربية ،بيركت ،الطبعة الرابعة،2000 ،
ص .163
3
المرجع نفسو ،ص .239
4
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .722-751
5
المرجع نفسو ،ص .1067
6
المرجع نفسو ،ص .914
119
لكف ىناؾ بعض الفرؽ الشيعية العقبلنية كالكسطية ،بخاصة الزيدية .مع العمـ بأف اإلماـ زيد قد تتممذ لكاصؿ بف عطاء في
الكبلـ كألبي حنيفة في الفقو ،مما جعمو شيعي معتدؿ ذاتيا ،أم مع بقية الفرؽ الشيعية ،كمع الفرؽ األخرل .بؿ أنو أكثر عقبلنية
في تعريؼ الصحبة مثبل مقارنة ببعض السنة .فميس صحبة معاكية مثؿ صحة أبك بكر 1.كقد استمرت اجتيادات كعقبلنية الشيعة
إلى العصر الحالي ،حيث استطاع أحمد الخميني التجديد في نظرية كالية الفقيو بما يجعميا نظرية معاصرة تستجيب لمتطمبات
المرحمة الجديدة .يقكؿ طو عبد الرحمف محددا معالـ ىذا االجتياد السياسي" :أحدث أحمد الخميني في الفكر السياسي اإلمامي
االثني عشرم منعطفا فاصبل بنظريتو في "كالية الفقيو المطمقة" متجاك از عقبيتف:
-1تجاكز عقبة الكصية :أقر الخميني بدال مف مبدأ االستحبلؼ (كؿ خميفة يستخمؼ آخر مثمما أف الرسكؿ استخمؼ عميا)
مبدأ االنتخاب كسيمة لمف أراد التصدم لمكالية( .التقاء مع جميكر السنة في البيعة).
-2تجاكز عقبة العصمة :ييعتقد أف اإلماـ الذم ييستخمؼ ال يعرض لو خطأ في أقكالو كال في أفعالو ،حتى أشبو النبي
المرسؿ .كأقاـ الخميني مقاـ مبدأ العصمة شرطيف :العمـ باألحكاـ كالتحمي بالعدالة.
-3تجاكز عقبة الغيبة :ييعتقد أف اإلماـ الثاني عشر قد اختفى دكف أف يستخمؼ ،فيتكجب انتظار عكدتو ليقكـ بكاجبو في
تعييف خمفو ،فأدل ىذا االعتقاد إلى تعطيؿ العمؿ باألحكاـ .كرأل الخميني في ىذا المكقؼ السمبي مخالفة لمبدأ األمر
بالمعركؼ كال نيي عف المنكر .لذا يتعيف عمى الفقياء كىـ كرثة األنبياء قيادة المجتمع .فإذا كانت العبادات المقررة ال تترؾ
انتظا ار لظيكر اإلماـ الميدم ،فباألحرل أف ال تترؾ إقامة الحككمة ،ألنيا تتقدـ ،بحسب الخميني ،عمى إقامة العبادات.
-4تجاكز عقبة ضيؽ الفقو التقميدم :كاف مدلكؿ محصك ار في نطاؽ المعرفة بأحكاـ الشريعة ،فجعمو الخميني داال عمى
2
العمـ بمعناه األكسع( .ثقافية ،اقتصادية ،سياسية)".
كبيذا ،فقد استطاع الفكر السياسي الشيعي الحالي تجاكز الجمكد السني ممثبل في النظرية الكىابية التي لـ تقدـ الشيء الكثير
في ىذا المجاؿ .مف خبلؿ التأقمـ مع ركح العصر الديمقراطي ،في حيف أف الكىابية جمدت عمى الكراثة العضكضة.
ظيكر الشيعة كالخكارج كاف ظيك ار متعالقا كمترابطا ،بؿ أف الخكارج كانكا شيعة قبؿ أف يتحكلكا إلى خكارج .كمف المنطقي أف
يحصؿ عداء بينيما ،ألف عمي (ض) حارب الخكارج بالشيع ة .كبالتالي ،فإف العقيدة الشيعية ضد الخكارج مف حيث بنيتيا كىيكميا
الفكرم 3.كحتى اليكـ ،فإف بنية نظاـ الحكـ الشيعي بنية قائمة عمى استثقاؿ المعارضة كقمع الخركج عف الكالية .كقد حاكؿ الدكتكر
أحمد محمكد صبحي أف يكازف بيف الشيعة كالخكارج بأف اعتبر الفرقة األكلى فرقة ثيكقراطية تقكـ عمى مبدأ التعييف اإلليي لمكالي أك
1
أحمد محمكد صبحي :في عمـ الكبلـ ،الجزء الثالث :الزيدية ،مرجع سابؽ ،ص .455أيضا :جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ
كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع سابؽ ،ص .714
2
طو عبد الرحمف :ثغكر المرابطة – مقاربة ائتمانية لصراعات األمة الحالية ،مرجع سابؽ ،ص .71-70
3
أحمد محمكد صبحي :في عمـ الكبلـ ،الجزء الثالث :الزيدية ،مرجع سابؽ ،ص .24
111
1
اإلماـ ،في حيف أف العقيدة الخارجية عقيدة ديمقراطية عمى أساس أنيا أجازت الترشح لمخبلفة لكؿ مسمـ تتكفر فيو الشركط الدنيا.
لكننا نعتقد بأنيا مقاربة غير دقيقة ،كتـ اسقاط خمفية عممانية عمى مضمكف ديني عندما نصفيا بالديمقراطية .نظ ار ألف كبل الفرقتيف
مؤسستاف عمى الثيكقراطية كأكلكية الحكـ الديني ،كىذا مبرر ألنيا فرؽ كبلمية ذات خمفية دينية كاضحة .كقد أكضحنا سابقا عكائؽ
تكصيؼ الخكارج بالديمقراطية كما اعتقد المستشرؽ ىنرم الكست .كقياـ عقيدة التشيع عمى ربط اإلمامة بذرية النبي ،ال يجعميا
ثيكلكجية بالمطمؽ ،عمى أنيا استطاعت دمج آليات ديمقراطية في الكالية مثمما أظيرناىا عند الخميني .كنحف نعمـ بأف النمكذج
اإليراني الحالي قد بمغ نضجا ديمقراطيا ،عمى األقؿ مف الناحية التنظيمية كالشكمية ،فاؽ كؿ الممارسات اإلسبلمية األخرل .حيث تـ
التخمي عف مبدأ التكريث الذم كاف أصبل مف أصكؿ نظرية اإلمامة عند الشيعة التقميدية .لذا فيجب أخذ بعيف االعتبار التجديد
الشيعي الذم تجسد في االجتياد في مختمؼ أبعاده ،مما جعؿ عقيدتو قابمة لممكاصمة في عالـ متغير.
كالخبلؼ الذم اختمقتو الشيعة لـ يكف مع الخكارج فقط ،بؿ مع أىؿ السنة كالجماعة ،كىذا يظير مدل التمزؽ الذم حدث في
مجمكعة عمي (ض) حيث فتح جبيتيف لمقتاؿ :الجبية الخارجية كالجبية العثمانية ممثمة في معاكية بف أبي سفياف مف جية كحمؼ
الجمؿ مف جية ثانية .كلئف كاف الصراع مع الخكارج قد باد ،فإف الصراع ضد السنة لـ يزؿ قائما ،إذ لو أصكؿ قديمة كلـ تغفكا كلك
لحظة كاحدة .حيث تـ استعماؿ كؿ طرؽ الصراع الممكنة ،عسكرية كتعميمية ،حيث تحكؿ الصراع إلى عممية ممنيجة جندت لو
األفكار قبؿ السبلح .فكما "بنى الفاطميكف جامع األزىر ،بالقاىرة ،في أكاسط ؽ 4ق لتأييد مذىب الشيعة ،بنى نظاـ الممؾ
مدارسو في أكاسط القرف 5ق لتأييد مذىب أىؿ السنة 2.كىنا نبلحظ ظاىرة إنشاء المدارس لتثبيت الممك ،كىك مظير مف مظاىر
الصراع العقدم األصمي .مما يجعؿ البعد السياسي أس اسي في كؿ عقائد المسمميف ،كيظير أيضا مدل ثقؿ اليكية السياسية لمكبلـ.
كيعد كتاب الدكتكر طو عبد الرحمف األخير ،في نياية ،2018بعنكاف ثغكر المرابطة ،تحميؿ معمؽ ،كفؽ منيجية مستجدة ،لمصراع
اإلسبلمي اإلسبلمي ،متجسدا في السنة كالشيعة ،كاعتقد أف ىذا الصراع ليس قاعدم عند عامة المسمميف بقدر ما ىك صراع نخبة
مف كؿ طائفة " :ليس الصراع السني كالشيعي نزاع بيف مجمكع أىؿ السنة كبيف مجمكع الشيعة ،كانما ىك نزاع بيف فئة مخصكصة
3
مف الشيعة (المتظممة) كفئة مخصكصة مف أىؿ السنة (المحكمة)".
إف التأمؿ في منظكر السنة لمتاريخ اإلسبلمي مقارنة بمنظكر الشيعة ،يكشؼ عف كجكد منظكريف مزدكجيف يصعب جمعيما
معا .لقد طكر الفكر الشيعي المعاصر ىذا التقسيـ ،إذ نجد مثبل فمسفة عمي شريعتي ( ،)1977/1933الذم ينتمي إلى الشيعة
1
المرجع نفسو ،ص .30
2
زكي مبارؾ :األخبلؽ عند الغزالي ،دار الشعب لمصحافة كالطباعة كالنشر ،القاىرة ،ص .28
كتشير عالمة االجتماع فاطمة المرنيسي ،إف صدقنا ىذه الحادثة ،إلى صراع "صبياني" بيف السنة كالشيعة ،إذ قالت أنو" :حرـ
الحاكـ المصرم (الشيعي) الممكخية عمى كؿ الناس ألف معاكية كعائشة (السنييف أعداء الشيعة) يحبانيا .يرجى العودة لـ :فاطمة
المرنيسي :السمطانات المنسيات – نساء رئيسات دكلة في اإلسبلـ ،ترجمة معمي كعبد اليادم عباس ،د ط ،دمشؽ ،ص .284
3
طو عبد الرحمف :ثغكر المرابطة – مقاربة ائتمانية لصراعات األمة الحالية ،مرجع سابؽ ،ص .13
111
اإلثنى عشرية ،يقدـ ىذا المنظكر الشيعي السني ،لصالح األكؿ طبعا عمى الصكرة التالية" :التاريخ لـ يسر كفؽ تكقعات الرسكؿ.
فبعد اجتماع السقيفة (ابعاد اإلماـ األكؿ عمي بف أبي طالب لمصمحة أبي بكر)اتخذ التاريخ اتجاىيف متباعديف:
المذىب السني :ديف الحكاـ كخداـ السمطة ( )...اسبلـ الخبلفة كاالضطياد كاالستغبلؿ.
1
التشيع :ديف المحككميف كالمضطيديف كالمستضعفيف ( )...اسبلـ العدالة كالحرية الممتزمة".
كىكذا ،تستثمر الشيعة آخر النظريات الماركسية مف أجؿ اعادة تجديد نفسيا مف أجؿ مكاكبة العصر .كىذه اليكتكبية كانت
مكجكدة في العصكر األكلى لمشيعة ،حيث كاف يعتقد أف جميع الشيعة المؤمنكف سيشيدكف تمؾ السعادة كالعدالة التي لـ تكف مف
نصيبيـ عمى األرض 2.كىذه النظرة التراجيدية لمكجكد كالتاريخ ىي ما جعمت طو يسمييـ بالمتظممة ،أم شعكرىـ بأنيـ ظممكا في
التاريخ مف طرؼ السنة.
1
داريكش شايغاف :ما الثكرة الدينية ؟ الحضارات التقميدية في مكاجية الحداثة ،ترجمة محمد الرحمكني ،المؤسسة العربية لمتحديث
الفكرم كدار الساقي ،جنيؼ كبيركت ،الطبعة األكلى ،2004 ،ص .265
2
جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،ترجمة سالمة صالح ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،مرجع
سابؽ ،ص .435
112
المحاضرة السادسة :أصل الفرق الكالمية)2( .
مقدمة.
التمييز بيف فرؽ كبلمية سياسية كفرؽ كبلمية عقدية مرتبط بالمنشأ فقط ،ألف الفرؽ السياسية ليا مكاقؼ كبلمية عقدية مثمما
لمفرؽ الكبلمية مكاقؼ سياسية .لكف الفرؽ األكلى نشأت بسبب خبلؼ ارتبط باإلمامة ،في حيف أف النكع الثاني قد ارتبط بقضايا
عقدية باألساس .كلعؿ جميع الفرؽ ما عدا الخكارج كالشيعة ،يمكف تصنيفيا ضمف الفرؽ العقائدية ،ألنيا اىتمت كناقشت كتناظرت
في مسائؿ اإليماف كالصفات ككبلـ ا﵀ كالحرية كالمعجزات...الخ .لذا سنخصص ىذه المحاضرة كالمحاضرة التالية (السابعة)
إلستجماع أىـ الفرؽ العقائدية .بالنسبة لممعتزلة كاألشاعرة سنخصص ليما ىذا الحيز ،عمى أساس أىميتيما في عمـ الكبلـ
اإلسبلمي أكال ،كنظ ار لمترابط التاريخي كالمكضكعاتي بينيما .كسنخصص المحاضرة البلحقة لدراسة بقية الفرؽ األقؿ أىمية في
االنتشار كالتأليؼ ،كنقصد فرقة المرجئة كالمجبرة كالماتردية .كفي ىذا التقسيـ لـ نعتمد مبدأ األسبقية الزمنية ،كاال ابتدأنا بالمرجئة
كالمجبرة ،بؿ اعتمدنا مبدأ قكة الطرح كسعة التمثيؿ في تاريخ عمـ الكبلـ.
تترابط األشعرية كالمعتزلة ترابطا قكيا ،عمى أساس أف مؤسس األشعرية قد نشأ في ركح االعتزاؿ قبؿ أف ينشؽ كيعتزليـ ،لذا
فإف األشعرية اعت زاؿ لبلعتزاؿ كعكدة بالكبلـ إلى مرحمة ما قبؿ االعتزاؿ .ىي تصحيح النحرافات العقؿ اإلعتزالي الذم عرؾ العقيدة
بالعقؿ الخالص لدرجة أنو أفرغيا مف أسرارىا الركحية كقمؿ مف قكة كقعيا عمى الركح .لذا أتت ثكرة األشعرية ارجاعا كاستعادة لمنقاء
األكؿ لعقيدة اإلسبلـ .ىذه ىي الصكرة المنتشرة عند العامة مف المثقفيف كالعمماء غير المتخصصيف في الكبلـ ،أك قؿ ىي الصكرة
النمطية التي ترتبط األشعرية بالمعتزلة .لكف ىؿ فعبل أف األمكر عمى ىذه الصكرة الذائعة ؟ ىؿ فعبل أف المعتزلة كبلـ عقؿ خالص
؟ ىؿ أف ميمة األشعرية قد تمخصت في التقميؿ مف جرعة المعقكلية في العقائد اإليمانية ؟ ىذه ىي المشكمة الكبرل ليذه المحاضرة،
التي تستيدؼ معرفة حقيقة العبلقة بيف فرقتيف مف أىـ كأكبر الفرؽ التي طبعت التاريخ الكبلمي اإلسبلمي .كىذا عف طريؽ محاكلة
االشتغاؿ عمى سؤاؿ ذك مدلكؿ فمسفي أعـ مف المشكبلت الجزئية لمكبلـ كىك :ما مدلكؿ دعكة األشاعرة إلى العكدة إلى طريؽ أىؿ
السنة كالجماعة ؟ أليس ىذا في ذاتو مكقؼ العقؿ اإلسبلمي مف العقؿ ككؿ ؟ ىؿ يمكف اعتباره تجسدا لمكقؼ اإلسبلـ مف اإلنساف
؟ لكف مكقؼ اإلسبلـ ال ينفصؿ عف تأكيبلت معينة كمخصكصة ،فالقرآف كما يقكؿ عمي بف أبي طالب ال يتحدث كال يجادؿ ،بؿ
اإلنساف ىك مف يجعمو يتحدث كيستنطقو مف أجؿ تقكية مكاقفو .لذا نجد أف كؿ الفرؽ تعكد إلى القرآف مستدلة كمقكية أطركحاتيا
الخاصة" :القرآف حماؿ أكجو ،كىك خط مسطكر بيف دفتيف ال ينطؽ ،إنما يتكمـ بو الرجاؿ" 1.القرآف ىنا كالتاريخ ،مصدر لكؿ
األ طركحات التي تبحث عف شرعيتيا .يظير أف استتبات األشعرية بعد انحسار تمثيبلت المعتزلة في العالـ اإلسبلمي ،بمثابة
المكقؼ النيائي لمعقؿ اإلسبلمي مف العقؿ الكبلمي ،كىذا ما يجعمنا نفترض بأف الصكرة النيائية لمعبلقة بيف اإلعتزاؿ كاألشاعرة ىي
1
طو عبد الرحمف :ثغكر المرابطة – مقاربة ائتمانية لصراعات األمة الحالية ،مركز مغارب لمدراسات في االجتماع اإلنساني،
الرباط ،الطبعة األكلى ،2018 ،ص .149
113
بمثابة الحمقة األخيرة ال تي رسمت المكقؼ النيائي لمركح اإلسبلمية ممثمة في الفقياء كاألصكلييف كالمتكمميف مف مكانة كقدرة كحدكد
العقؿ كما تجسد عند متكممي االعتزاؿ .كال زاؿ المكقؼ األشعرم يفعؿ فعمتو حتى اليكـ مف خبلؿ التضييؽ عمى أم محاكلة لفيـ
القرآف فيما حداثيا مف خبلؿ تكظيؼ أحدث المناىج العقمية التي أنتجيا العقؿ اإلنساني بخاصة العقؿ الغربي .لكف يجب االعتراؼ
بأف استتباب األمكر لمعقؿ األشعرم ليمثؿ العقؿ اإلسبلمي بكؿ شرعية كأريحية ،لـ يمنع ظيكر اعتزاؿ جديد ،متقكيا بالحداثة كما
جمبتو مف اعادة اعتبار لمعقؿ ،كمحاكال اعادة طرح األسئمة التي كانت تطرح قديما حكؿ مسألة الحرية كبنية القرآف كحدكد التأكيؿ
كمكانة العقؿ...الخ .ىؿ يمكف أف نعتبر الحداثييف العرب ،أمثاؿ محمد أرككف ،كنصر حامد أبك زيد ،كىاشـ صالح ،كعبد المجيد
الشرفي ،كسعيد ناشيد ،كيكسؼ الصديؽ ،كمحمد الحداد ...الخ بمثابة استفاقة اعتزالية مستحدثة ؟ إذ افترضنا ذلؾ ،فيمكف القكؿ بأف
فصكؿ اإلعتزاؿ لـ تنتيي بعد ،كبأف طبقة جديدة مف االعتزاؿ قد تشكمت كبدأت تشتغؿ بمناىج جديدة عمى عقائد قديمة .إذ صحت
ىذه المنظكرية ،فإف عمـ الكبلـ الجديد ،قد استأنؼ ما كنا نعتقده نا ار خامدة .يبدك أف تاريخ الكبلـ اإلسبلمي لـ ينتو كلـ تسحـ
األمكر بعد ،كبؿ نحف نصنع التاريخ دكف أف ندرل .كبالتالي فنظرية غمؽ أبكاب االجتياد ،ككؿ كفي كؿ المياديف بما في ذلؾ
الفقيية كالكبلمية ،مجرد تكصيؼ يخالؼ الكاقع كالتاريخ .لربما كضعت ىذه المقكلة ألغراض غير عممية أصبل .بالنسبة لكائؿ حبلؽ
، Wael B. Hallaqفإنيا مجرد "أسطكرة اإلستشراقية" ،ألف القكؿ بأف "الشريعة اإلسبلمية قد تكقفت عف النمك كالعمؿ بعد القرف
الثاني أك الثالث ق .كأف باب اإلجتياد قد أغمؽ إلى أبد األبديف كأف بعد الشافعي كاف االنحدار كالجمكد .كأف مجيء الحضارة
األكركبية أنقذ العالـ اإلسبلمي كحضارتو مف الفساد كالجمكد كاالنحدار" 1.كميا أقكاؿ كضعت ألغراض تعطيؿ العقؿ اإلسبلمي ،لذا
فيي حرب نفسية لشؿ العقؿ عف العمؿ كالنظر .كنظرية اغبلؽ باب االجتياد الفقيي ال تختمؼ عف نظرية غمؽ باب االجتياد
الكبلمي .كما االجتياد إال دحض مستمر لنظرية صد أبكاب االجتياد 2.كظاىرة استمرار عمـ الكبلـ عمى الرغـ مف نجازة العقائد
كانتشار الفيـ النيائي ،يدؿ عمى قكة حضكر العقؿ البشرم في فيـ النصكص اإلليية .ما عمـ الكبلـ إال احتجاج العقؿ البشرم عمى
مشركعية فيمو كمشركعية االختبلؼ كالتجديد الذم ال يمكف انياؤه بأم حاؿ .كحتى الكبلـ األشعرم ،قديمة كجديده ،ال يخرج مف
ككنو فيـ بشرم لعقائد إليية ،لذا فإف منطؽ األشعرية ليس ىك بالمنطؽ اإلليي المتعالي ،بقدر ما ىك نمط بشرم لفيـ العقائد
اإلليية .لذا فأم كبلـ ىك اجتياد لجعؿ الشرع بشرم الفيـ 3،بؿ ال فيـ إال ما فيمو العقؿ البشرم .كالحديث عف مقصكد إليي بمعزؿ
عف البشر ليس إال تعبير عف عقؿ بشرم مقنع بالقداسة المتعالية .ككؿ فيـ ىك فيـ كفؽ أليات منيجية كمقكالت عقمية يقدميا
النمكذج الثقافي السائد ،لذا ،فإف كبلـ المعتزلة ،مثؿ كبلـ األشعرية ،ليس كبلما شفافا كتكاصؿ مباشر مع العقائد كالنصكص ،بؿ ىك
كبلـ مف كراء أحجبة النمكذج الثقافي السائد في زمنيـ ،خاصة النمكذج المغكم .لذا فإف تغير النماذج الثقافية اليكـ ،ىك الذم يتيح
لنا الحديث عف اعتزاؿ جديد كأشعرية جديدة .ال يمكف لمكبلـ أف ينتيي مثمما ال يمكف لمعمـ أف ينضب.
1
كائؿ حبلؽ :تاريخ النظريات الفقيية في اإلسبلـ -مقدمة في أصكؿ الفقو السني ،ترجمة أحمد مكصممي ،دار المدار اإلسبلمي،
بيركت ،الطبعة األكلى ،2007 ،ص .8
2
المرجع نفسو ،ص .214
3
كائؿ حبلؽ :نشأة الفقو اإلسبلمي كتطكره ،ترجمة رياضي الميبلدم ،دار المدار اإلسبلمي ،بيركت ،الطبعة األكلى ،2007 ،ص
.119
114
أوال -المعتزلة:
يجب أف نعترؼ أف فيـ "ظاىرة اإلعتزاؿ" قد شكؿ مكضكعا مثم ار لمعقؿ العربي الحديث ،عمى أساس أنو لـ يتـ االتفاؽ حكؿ
خصكصية الميمة اإلعتزالية .كبالتالي فنحف مدعككف اليكـ إلعادة قراءة ىذا المكركث الضخـ مف أجؿ اإلجابة عف السؤاؿ األكبر:
ماذا فعؿ الفكر اإلعتزالي بالضبط ؟ ما نكع مساىمتو في فيـ العقيدة اإلسبلمية ؟ مف الكاضح أف اإلجابة ىنا ،تختمؼ مف تكجو إلى
آخر؛ فبالنسبة لمحداثييف فإنيـ يفيمكف اإلسياـ اإلعتزالي باعتباره دعكة لدراسة العقائد مثمما تدرس بقية المكضكعات .يقكؿ أرككف
المفتكف بيـ كبطرقيـ :أقصد بالتمييز بيف "القرآف الكريـ" كالظاىرة القرآنية الفرؽ بيف تغذية الركح اإلسبلمية بكبلـ ا﵀ تعالى كدراسة
النصكص القرآنية كما ندرس الظاىرة الفيزيقية أك البيكلكجية أك االجتماعية أك األدبية .كمف المعمكـ أف القائميف بخمؽ القرآف مف
المعتزلة قد قصدكا ىذا التمييز لكيبل تفرض المعتقدات االعتقادية عمى البحث العممي" 1.لكف بالنسبة لمحداثييف اإلسبلمييف ،فإف
نمكذجية ككسطية األشاعرة أكبر مف أف تناقش ،مقارنة بتطرؼ المعتزلة التي أرادت تأسيس ديانة العقؿ أك "الشريعة العقمية" بحسب
عبارة الشيرستاني األشعرم كتأسيس أخبلؽ سابقة عف الديف...الخ 2.ككأنيا بتقديس العقؿ ،تممح إلى إمكانية تأخير ثقؿ النصكص
أماـ العقؿ .لذا فقيمة المعتزلة تابعة لممكقؼ الفكرم لممقيـ ،فيي بالنسبة لمحداثي فرقة رائدة في الفكر اإلسبلمي ،عمى أساس أنيـ
انطمقكا مف عقؿ اإلنساف لفيـ الديف ،في حيف أنيا لمفكر النصي ،تمثؿ نمكذج لمعقؿ المغتر بمقدرتو كالذم أراد التفكير بمعزؿ عف
السمع ،كاألجدر ىك أف ننطمؽ مف الديف لفيـ اإلنساف .ىذه ىي الثنائية التي استقطبت الفكر اإلسبلمي حتى يكـ الناس ىذا ،إمكانية
استقبلؿ العقؿ في بحثو عف سمطة السمع ؟ ىي المسألة التي لـ يحصؿ حكليا اإلجماع .ىؿ فعبل أف المحرؾ الخفي لمشركع
المعتزلة ىك استقبلؿ العقؿ عف النص ؟ أـ أنو مجرد تأكيمنا نحف في زمف متأخر عف زمنيـ ؟
ترتبط نشأة المعتزلة بحمقات اإلماـ الحسف بف يسار البصرم الذم تكفي سنة 110ىػ .كىك مف عمماء المدينة ،كلد في السنة
الكاحدة كالعشريف مف اليجرة ،نشأ في بيت النبكة حيث كانت أمو مكالية ألـ سممة زكجة الرسكؿ الكريـ ،كعاصر خبلفة عمر كعثماف
كفتنة صفيف ،لكنو اعتزؿ ىذه األحداث المسمحة .انتقؿ إلى البصرة في سف الشباب لمعمـ ،كانتيى بأف أصبح عالما كمفتيا فييا عمى
طريقة أىؿ السنة كالجماعة ،كشكؿ مرجعا ميما لؤلشاعرة مثؿ الغزالي كغيره .كمف بيف مريديو كاصؿ بف عطاء الذم عاش بيف 80
ق 131/ق ،كيقاؿ أنو تتممذ لمحمد بف عمي بف أبي طالب بف الحنفية ،كقد حدث خبلؼ بينو كبيف الحسف البصرم حكؿ سؤاؿ
أحدىـ عف حكـ مرتكب الكبيرة ؟ فبينما كاف الحسف البصرم في حمقة عممية في المسجد ،طيرح عميو ىذا السؤاؿ ،فبادر كاصؿ بأف
قاؿ بأنو ليس بمؤمف كليس بكافر ،بؿ ىك في منزلة بيف المنزلتيف ،كمف ثمة بدأ يبرىف عمى أطركحتو ىذه في حمقة منعزلة عف حمقة
1
محمد أرككف :الفكر العربي ،ترجمة عادؿ العكا ،منشكرات عكيدات ،بيركت -باريس ،الطبعة الثالثة ،1985 ،ص .19
2
عمي فيمي خشيـ :النزعة العقمية في تفكير المعتزلة ،الشركة العامة لمنشر كالتكزيع كاإلعبلف ،الطبعة الثانية ،1976 ،ص -77
.78
115
1
لك صدقنا ىذه القصة عف النشأة ،كالتي تسمى اآلف شيخو ،فقاؿ الحسف البصرم معمقا عمى الحادثة "لقد اعتزؿ عنا كاصؿ".
أسطكرة النشأة ،ألمكف لنا مبلحظة المنظكر الذم صدرت عنو ،عمى أساس أف طريقة سردىا تكحي بمدل التجاكز العممي كاألخبلقي
لكاصؿ بيف عطاء ازاء السمطة الركحية التي يمثميا الحسف البصرم بما ىك عالـ كصحابي مف الدرجة الثانية .لذا فإف االنشقاؽ عف
مثؿ ىذا العالـ الصحابي ،لو رمزي ة االنشقاؽ عف الجماعة كالسنة ذاتيا .يبدك أف نسيج القصة مستكحى مف المنظكر السني ،الذم
ينظر إلى االعتزاؿ باعتباره انشقاؽ ،غير مبرر ،عف العمـ السني الذم كاف يمثمو الشيح الحسف البصرم المديني األصكؿ .كىناؾ
مف يذكر أف الذم انعزؿ عف البصرم ىك عمرك بف عبيد ،كلو عبلقة قرابة بكاصؿ حيث زكجو أختو ،في عبلقتيما ،أم كاصؿ
كعمرك بف عبيد ،يقكؿ "فاف ايس" أف عبلقتيما كعبلقة ماركس بإنجمز 2.أم ليما نفس الثقؿ في ظيكر المعتزلة .كقد كقع جدؿ
حقيقي حكؿ المؤسس الحقيقي لمحركة ،لذلؾ نجد مف يذكر كاصؿ بف عطاء كمف يذكر عمرك بف عبيد.
بحث الدرس اإلستشراقي في أصؿ تسمية المعتزلة ،إذ قدـ المستعرب اإليطالي كارلك ألفكنسك نيمنك (carlo )1938/1872
Alfonso Naillnoبحثا ميما في ىذا المكضكع .فبعد أف عرض الركاية المشيكر عف انشقاؽ كاصؿ بف عطاء أك عمرك بف
عبيد ،كالخمفية السنية كراء ىذه التسمية كالتي تفيد التيمة كالمكـ عف فعؿ االنعزاؿ أك االنشقاؽ كاالنفصاؿ عف السمطة السنية .انتقؿ
إلى عرض تفسير ديتريش القائؿ بأف "اعتزاؿ كاصؿ الجماعة ،ىك ثكرة عمى المذىب المنكر لحرية اإلرادة" 3.عمى أساس أف أىـ
مسألة في مذىب االعتزاؿ ىك الحرية اإلنسانية ،كسنرل أدناه أف اسـ القدرية ىك األنسب ليـ بالنظر إلى عقيدتيـ األساسية .كلك أف
"لفظ المعتزلة بمعناه الحرفي يدؿ عمى اعتزاؿ كاصؿ الرأم المقبكؿ مف جماعة المسمميف حكؿ مسألة كضع مرتكبي الكبائر في
اإلسبلـ" 4،إال أف المستشرؽ جكلدتسيير ، Goldziherفي بحكثو التي تعكد إلى ،1910قدـ تفسي ار ال يمت بصمة إلى التفسير
المألكؼ .إذ نجده يقكؿ بأف ميكؿ كاصؿ بف عطاء كعمرك بف عبيد الصكفية كزىدىـ كبعدىـ عف زخرؼ الدنيا كشيكاتيا ،جعميـ في
1
أحمد محمكد صبحي :في عمـ الكبلـ -دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف ،الجزء األكؿ :المعتزلة ،دار النيضة
.106ىذه الركاية مذككرة في الكتب التراثية ،مثؿ الفرؽ بيف الفرؽ لمبغدادم، العربية ،بيركت ،الطبعة الخامسة،1985 ،
كالشيرستاني ،كابف خمكاف كالمسعكدم في مركج الذىب كغيرىـ.
2
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،ترجمة
محي الديف جماؿ بدر كرضا حامد قطب ،مراجعة محسف الدمرداش ،منشكرات الجمؿ ،بيركت – بغداد ،الطبعة األكلى،2016 ،
ص .356
3
كارلك ألفكنسك نيمنك :بحكث في المعتزلة ،ترجمة عبد الرحمف بدكم ،ضمف كتاب :التراث اليكناني في الحضارة اإلسبلمية-
دراسات لكبار المستشرقيف ،مكتبة النيضة المصرية ،القاىرة ،الطبعة الثانية ،1946 ،ص .177
4
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،ترجمة مصطفى لبيب عبد الغاني ،المجمد األكؿ ،المركز القكمي لمترجمة،
القاىرة ،الطبعة األكلى ،2005 ،ص .64
116
منزلة المعتزليف ،أم الزاىديف المتعبديف .كبالتالي فتسمية االعتزاؿ ال ترتبط بالمكقؼ مف مرتكب الكبيرة ،بؿ بالتقكل كالتعبد 1.لكف
نيمنك يرفض بشدة ىذا التأكيؿ مثمو مثؿ مارجميكث ،عمى اعتبار أف الزىد كاف في زمانيـ مكقفا منتش ار كمألكفا ،لذا فبل مبرر
باعتبارىا اعتزالييف بسبب زىدىـ ،ثـ ألـ يكف الشيخ الحسف البصرم زاىدا مثميـ أك أكثر منيـ ! كبالتالي فيذه الفرضية ضعيفة ال
يمكف األخذ بيا.
األغمبية مف الدراسات تبدأ بذكر اإلعتزاؿ في نياية القرف اليجرم األكؿ ،بربطيا بحادثة الحسف البصرم ككاصؿ بف عطاء.
ك"المعتزلة" ( بفتح الزام ،كاسـ فاعؿ) كانت مألكفة كمستعممة .فقد كرد
ى عمى الرغـ مف أف المصطمح "اعتزاؿ" ك"معتزؿ" ك"اعتزلكف"
كف﴾ [الدخاف ،]21بمعنى مف لـ يؤمف بالرسالة ،فبل يككف معو كال ﴿كًا ٍف لى ٍـ تي ٍؤ ًمينكا لًي فى ٍ
اعتى ًزلي ً في القرآف قكؿ مكسى عميو السبلـ ى
ي ككف ضده ،أم يككف محايدا بيف المكقفيف .أك قؿ رفض االنتماء ألم طرؼ .كىذا ما نجده تجسد في فتنة صفيف ،مما يجعمنا
نفترض أف لبلعتزاؿ ككممة أصؿ سياسي ،كيمكف الحديث بالتالي عف المعتزلة السياسييف ،التي تعني االمتناع عف المشاركة في
الحرب األىمية كالمنازعات الداخمية التي أفضت في النياية إلى طرح مسألة الكبائر .كقد تمت اإلشارة إلى حديث نبكم يتضمف كممة
المعتزلة كىك" :ستفترؽ أمتي عمى بضع كسبعيف فرقة ،أبرىا كأتقاىا الفئة المعتزلة" 2،أم التي اعتزلت الصراعات كالفتف .يمكف أف
نبلحظ إذف ،أف كممة اإلعتزاؿ كانت مستعممة قبؿ حادثة "الحسف البصرم -كاصؿ بف عطاء" ،ككانت تفيد عدـ االنحياز في
الصراع الذم حدث بيف عمي (ض) كمعاكية بف أبي سفياف .لذا نجد أبكا الفدا ،يتحدث عف الرجاؿ الذيف اعتزلكا بيعة عمي في 35
ق.
بالنسبة لمكضكع المباحثة التي أفرزت نشكء االعتزاؿ ،كىك حكـ مرتكب الكبيرة ،أك الذنب الكبير ،فمف الكاضح أنو مستخرج
مف الفتنة التي ألمت بالمسمميف ،فالقتاؿ بينيـ ىك كبيرة عمى أساس أف القتؿ كالمقتكؿ كبلىما مسمـ العقيدة .فقد كاف الخكارج
يعتبركف مرتكب الكبيرة كاف ار بصكرة كاضحة ،في حيف أف المرجئة المتساىمة قد اعتبرتو مؤمنا ،أما الحسف البصرم فقد استعمؿ
عبارة المنافؽ لكصفو ،كانفصاؿ كاصؿ عف شيخو كاف في التسمية حيف استعماؿ لفظة "فاسؽ" ،أم أف مرتكب الكبيرة ال ىك بمؤمف
كال ىك بكافر .كقد قيؿ بأف كاصؿ ألؼ كتابا يحمؿ عنكاف "المنزلة بيف المنزلتيف" كىك ما كاف يعنيو بالفاسؽ 3.كىناؾ مف افترض،
1
كارلك ألفكنسك نيمنك :بحكث في المعتزلة ،مرجع سابؽ ،ص .179أيضا :جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف
الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع سابؽ ،ص .505 ،504يقكؿ "جكلدتسيير
: Goldziherالمعتزلة ما ىـ إال زىاد .أما ماسينيكف رأل بأف االعتزاؿ ىك اعتزاؿ القمب كصفائو.
2
المرجع نفسو ،ص .190أيضا :جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في
اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع سابؽ ،ص .502يقكؿ حكؿ إسياـ ىذا المستشرؽ اإليطالي ":كاف نممينك Nallinoىك أكؿ مف قاـ
مف قاـ بتجميع الشكاىد التي تدكر حكؿ أكلئؾ الذيف كانكا يتصرفكف بشكؿ محايد ،فاعتزلكا كؿ اخكانيـ في العقيدة ممف رفعكا
السيكؼ عمى بعضيـ بعضا .كىؤالء ىـ المقصكدكف بالمعتزلة في الحديث النبكم المذككر ،فمـ يككنكا في ذلؾ الكقت بمثابة الفرقة
أك المدرسة الفكرية التي يعرفت فيما بعد؛ بؿ كانكا مجرد صيغة الجمع "معتزلكف" مف المفرد "معتزؿ" بالمعنى غير االصطبلحي
لمكممة؛ غير أف ىؤالء كانكا بمثابة مرجعية لكاصؿ كأتباعو فيما بعد".
3
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .391-390
117
كربما ىك افتراض متأخر ،كبالنظر إلى تسميو الحسف البصرم ،أف الفاسؽ في منزلة بيف ثبلثة منازؿ سابقة تمت تسميتيا؛ أم ىك
في منزلة بيف الكفر كاإليماف كالنفاؽ .كالمقصكد بالمنزلة ىنا ،ىك الجنة كالنار ،ألنيما المنازؿ التي ينزؿ فييا الكافر كالمؤمف 1.لكف
ىؿ يمكف اثبات كجكد ىذا المكاف الذم ليس ىك بالنار كال بالنعيـ ؟ ىؿ يمكف اثبات منزلة النفاؽ ؟ ما طبيعتيا ؟ ىذه األسئمة ىي
التي جعمت الطركحات المعتزلية تسبب مشكبلت في ذىف اإلنساف الذم ألؼ منزلتيف فقط ،مثمما أف المنطؽ التقميدم لو قيمتيف فقط:
الصدؽ كالكذب .كبالفعؿ ،فإف المنطؽ المعاصر قد أكجد مبدأ الرابع كالخامس المرفكع ،مما يفترض أف ىناؾ قيـ نسبية بيف
المتناقضيف ،كىي قيـ ربما ال يمكف احصاءىا بسبب كثرتيا .ىكذا يشعر المرء بأف الطرح اإلعتزالي قد فجر عقائد التثنية المألكفة
بيف الجنة كالنار ،بيف الخير كالشر .كىي عقائد كثنية في األساس نجدىا في الديانات الفارسية .لكف ربما أف التجديد ىنا ال نعزكه
لكاصؿ ،بقدر ما ننسبو لمحسف البصرم ،عمى أساس أنو كاف يعتقد بكجكد مرتبة النفاؽ ،كالتي ليست بمرتبة اإليماف كليست بمرتبة
الكفر .ككعادتيـ يقكـ المستشرقكف بالبحث في مصدر ىذه العقبلنية النسبية التي تجعؿ ىناؾ مرتبة بيف المتناقضتيف ،فقد أشار إ.
جريؼ " E. Gräfفي مكضكع المنزلة بيف المنزلتيف إلى فكرة مكازنة في أسمكب التكبة المسيحي قائبل :كذلؾ الذم رفضت مشاركتو
في العشاء األخير لـ يكف يعتبر مسيحيا كال غير مسيحي" 2.لكننا ال نعتقد بأف كؿ فكرة كبلمية اسبلمية ليا أصكؿ غير اسبلمية،
كلئف كنا نقبؿ بكجكد تثقاقؼ كبلمي أثبتناه في محاضرة سابقة ،إال أنو ال يمكف تصحير الكبلـ اإلسبلمي بجعمو عقيـ لـ ينتج أم
مفيكـ أصيؿ.
كبعيدا عف المعنى السمبي لئلعتزاؿ الذم قد يفيد االنفصاؿ كاالنشقاؽ" ،يجد القاضي عبد الجبار في كتاب المصابيح إلبف يزداد
تعريفا أعجبو عمى نحك أفضؿ ،يقكؿ ىذا التعريؼ بأف المعتزلة ىك الذيف اعتزلكا أم نكع مف االفراط أك التفريط ،فيـ أمة الكسط.
بؿ إف ابف يزداد يبرىف عمى أف لفظ "اعتزاؿ" يرد في القرآف عمى نحك ايجابي؛ حيث فيو معنى "اعتزاؿ الشر"( .مريـ:48 ،
كى ٍـ ﴿كًا ًذ ٍ
اعتىىزٍلتي يم ي ً كف المَّ ًو كأ ٍىدعك ربّْي عسى أ َّىال أى يك ً ً
كف ب يد ىعاء ىربّْي ىشقيِّا﴾[مريـ .]48 ،أيضا قكلو تعالى :ى ى ىى ى ي ى كف ًم ٍف يد ً ىعتى ًزلي يك ٍـ ىك ىما تى ٍد يع ى
﴿كأ ٍ
ى
ّْئ لى يك ٍـ ًم ٍف أى ٍم ًريك ٍـ ًمرفىقنا﴾ [الكيؼ ."]16 ،فاعتزاؿ الشر المتمثؿ
3 ًً ً ً كما يعب يد َّ َّ
كف إًال الموى فىأ يٍككا إًلىى ا ٍل ىك ٍيؼ ىي ٍن يش ٍر لى يك ٍـ ىرُّب يك ٍـ م ٍف ىر ٍح ىمتو ىكيييىي ٍ ى ى ى ٍي ى
في المخاصمات كالفتف الفكرية يفيد التأسيس لمسار معرفي جديد ،مما يجعمو مفيكما ايجابيا مثمرا.
مف بيف التسميات األخرل لفرقة المعتزلة ،نجد اسـ "القدرية" ،كربما أف ىذه التسمية ىي األكثر داللة عمى مضمكف المذىب مف
التسمية الشائعة كىي المعتزلة .لذا نجد القدامى ،مثؿ ابف قتيبة (تكفي 276ق) يستعمؿ اسـ القدرية ال المعتزلة عمى الرغـ مف
معرفتو بيذا االسـ األخير 4.كىذا الخيار يدؿ عمى التركيز عمى مضمكف المذىب ال عمى سبب التسمية المألكؼ كىي حادثة
االنفصاؿ .كالمبلحظ أف ترتيب مبدأ المنزلة بيف المنزلتيف ،كىك المفترض أنو سببا لنشكء االعتزاؿ ،في أصكؿ المعتزلة ىك المرتبة
الرابعة كليس األكلى .لذا مف حقنا االفتراض أنو لك كاف سبب ظيكر اإلعتزاؿ ىك ىذا المبدأ ،أم مفيكـ منزلة الفسؽ ،لكاف مرتبا في
المرتبة األكلى .لكف نحف نعمـ أف األصؿ األكؿ ىك التكحيد ،كالثاني ىك العدؿ .كمشكمة العدؿ ذات صمة قكية بالحرية كالقدر .لذا
1
المرجع نفسو ،ص .396
2
المرجع نفسو ،ص .399 ،398
3
المرجع نفسو ،ص .499
4
كارلك ألفكنسك نيمنك :بحكث في المعتزلة ،مرجع سابؽ ،ص .176
118
فتسمية القدري ة أكثر داللة عمى مضمكف عقيدة االعتزاؿ منيا عمى تسمية اإلعتزاؿ بالضبط" .فالمعتزلة ظمكا في العمؽ ميمكميف
بمشكمة العبلقة بيف ا﵀ كاإلنساف كما حدد إطارىا في القرآف أم مشكمة المسؤكلية كالتكميؼ" 1.كحدكد قدرة اإلنساف في أفعالو مف
أجؿ تفادم التصادـ مع فرضية الظمـ اإلليي التي ال تستساغ في العقيدة اإلسبلمية.
إلى جانب اسـ القدرية كما يذكرىا البغدادم أيضا حيث استعمؿ عبارة "القدرية المعتزلة" 2،نجد تسمية العدلية أك التكحيدية ،أم
3
أىؿ العدؿ كالتكحيد ،كىي مستخمصة مف أصكليـ األساسية إذ يمكف ردىا إلى األصؿ األكؿ كىك التكحيد كالثاني كىك العدؿ،
كنجد أيضا تسمية الجيمية التي أطمقيا اإلماـ أحمد بف حنبؿ ،حيث الحظ التكافؽ بيف المعتزلة كالجيمية في عدة مسائؿ مثؿ انكار
رؤية ا﵀ تعالي ،كمسألة نفي الصفات عنو ،كأيضا قضية التأكيد عمى خمؽ القرآف ،كىي القضية التي دخؿ فييا ابف حنبؿ في صراع
مرير مع المعتزلة كالسمطة المعتزلية .إذ نجده يصنؼ عمرك بف عبيد البصرم ضمف الجيمية 4.كما نجد أيضا اسـ المعطمة ألنيـ
يعطمكف الصفات الخبرية عف ا﵀ تعالى .حيث قالكا "ليس ﵀ عز كجؿ عمـ ،كال قدرة ،كال حياة ،كال سمع ،كال بصر ،كال صفة أزلية،
كقالكا أف ا﵀ تعالى لـ يكف لو في األزؿ اسـ كال صفة" 5.ليذا ينعتكنيـ بالمعطمة ألنيـ عطمكا كؿ شيء في الذات اإلليية .ألف نفي
الصفات الخبرية يجعمنا نعتقده ببل صفات كببل كيفيات ،أم معطبل عف كؿ شيء .لكف المعتزلة ال يقبمكف ككنيـ معطمة ،ألنيـ
يثبتكف صفات الذات.
الغريب أننا نجد كتابات المعتزلة تؤصؿ لفرقتيـ إلى الخمفاء الراشدكف ،كتتكضح ىذه الحركة االسترجاعية عندما نعمـ أنيـ
يريدكف البرىنة بأنيـ ليسكا أصحاب فكر جديد كمنعزؿ عف مسار نشأة الديف اإلسبلمي .كسنجد ىذه الطريقة عند الفرؽ البلحقة،
بخاصة المعتزلة كالماتردية ،حيث ال تدعي التجديد كاإلبداع نظ ار النتشار حديث البدعة الذم يجعؿ أم ابتداع في النار .كبيذا نجد
رجاؿ المعتزلة المتأخريف يضعكف لنا 12طبقة تمثؿ أصكليـ كمآالتيـ الحقا:
الطبقة األكلى :طبقة الخمفاء الراشديف؛ عمي بف أبي طالب ،أبكبكر الصديؽ ،عمر بف الخطاب ،كعثماف بف عفاف .كىذا
لممرتب حيث تـ تسبيؽ عمي عمى أبي بكر .ثـ يتـ ذكر ابف عباس كابف مسعكد بكصفيما
الترتيب يعكس االنتماء الشيعي ي
صحابة عمماء.
1
يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،ترجمة عبد المجيد الصغير ،نشر الفنؾ ،الدار البيضاء،2000 ،
ص .151
2
عبد القاىر البغدادم :الفرؽ بيف الفرؽ كبياف الفرقة الناجية ،مكتبة ابف سينا ،القاىرة ،1988 ،ص .104
3
عبد الكريـ الشيرستاني :الممؿ كالنحؿ ،الجزء األكؿ ،المكتبة العصرية ،بيركت ،2003 ،ص .39
4
أحمد بف حنبؿ :الرد عمى الجيمية كالزنادقة فيما شككا فيو مف متشابو القرآف كتأكلكه عمى غير تأكيمو ،تحقيؽ صبرم بف سبلمة
شاىيف ،دار الثبات لمنشر كالتكزيع ،الرياض ،الطبعة األكلى ،2003 ،ص .98
5
عبد القاىر البغدادم :الفرؽ بيف الفرؽ كبياف الفرقة الناجية ،مرجع سابؽ ،ص .104
119
الطبقة الثانية :الحسف كالحسيف سبطي النبي ،ثـ محمد بف الحنفية.
الطبقة الثالثة :أحفاد عمي التابعيف مثؿ النفس الزكية كزيد بف عمي .كىنا نبلحظ استمرار النسؿ العمكم في الطبقات الثبلثة
األكلى .مما يؤكد فرضية امتزاج المعتزلة بالشيعة.
الطبقة الرابعة :غيبلف الدمشقي ككاصؿ بف عطاء كعمرك بف عبيد ،كمكحكؿ ...كىؤالء ىـ أكائؿ المعتزلة كمؤسسي الفرقة.
1
الطبقة الخامسة :مبعكثي كاصؿ بف عطاء إلى األمصار لنشر عقيدة اإلعتزاؿ ،كيسمكف الكاصمية.
الطبقة السادسة :أبك اليذيؿ العبلؼ ،ابراىيـ بف سيار النظاـ ،بشر بف المعتمر (معتزلة بغداد) ككيساف ...كىـ قمة الفكر
اإلعتزالي مف حيث تحديد المنيج كالتحكـ في المنطؽ.
الطبقة السابعة :تشمؿ األشرس كالجاحظ كالمردار ،كأحمد بف أبي داؤد (الذم استجكب اإلماـ أحمد بف حنبؿ كىك قاض
في زمف المأمكف ،لكف بدكم يذكره في الطبقة الثامنة).
الطبقة التاسعة :في القرف الرابع ق أبك ىاشـ الجبائي (ابف أبي عمي الجيائب) ،الباىمي ...ىنا امتزجت اآلراء اإلعتزالية
مع الشيعية( .تتممذ األشعرم عمى الجبائييف /األب كاالبف).
الطبقة العاشرة :السرافي (أبك القاسـ كأبك العمراف)...أخت أبي ىاشـ الجبائي .كىنا نبلحظ ادخاؿ النساء في الفرقة ،كىك
االمر الذم ال نجده في بقية الفرؽ األخرل.
1
يذكر فاف ايس:
"مبعكث كاصؿ إلى الجزيرة العربية ىك أيكب بف األكثر ،أما مبعكثو إلى اليمف فيك القاسـ بف الصعدم ،أما مبعكثو إلى المغرب فيك
عبد ا﵀ بف الحارث ،أما مبعكثو إلى خرساف فيك حفص بف سالـ ،كمبعكثو إلى أرمينيا ىك أبك عمرك عثماف بف أبي خالد الطكيؿ
(كاف تاجر أقمشة = بزاز بالتركية أم لو نفس مينة كاصؿ) حيث عمؿ مفتيا مدة عاميف في أرمينيا .كابتعث كاصؿ إلى الككفة أبك
معاذ سميماف بف أرقـ البصرم .كالرجؿ الثاني الذم بعثو إلى الككفة ىك (أبك سممة) الحسف بف ذككاف البصرم )...( .اىتمامات
كاصؿ تكجيت نحك الدعكة خارج البصرة ،ككاف يكفيو لذلؾ بضعة رجاؿ مثقفيف متحمسيف .ككاف المرء دائما يحمؿ ىذا البعثات
الدعكية انطبلقا مف شخصية كاصؿ فحسب ،لذلؾ فإف األتباع الذيف انضمكا إليو في المغرب كاف يطمؽ عمييـ "الكاصمية" ،كليس
"المعتزلية" .المرجع:
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص ص .506-461
121
الطبقة :11القاضي عبد الجبار المعتزلي صاحب المغنى كشرح األصكؿ الخمسة .كىك مف القبلئؿ المعتزلييف الذيف
كصمت إلينا كتبيـ.
1
الطبقة :12الشريؼ المرتضي...
كالى جانب ىذا الترتيب التاريخي ،يمكف العثكر عمى تصنيؼ قائـ عمى الشخصيات المركزية في الفرقة .فنجد مثبل:
الكاصمية :نسبة لكاصؿ بف عطاء ،كالتي قالت بنفي الصفات عمى ا﵀ كالقكؿ بالقدر مثؿ معبد الجيني .كالقكؿ بالمنزلة
2
الكسطى كىي سبب ظيكر االعتزاؿ كما أظيرنا سابقا ،كما تكمـ حكؿ فتنة صفيف.
النظامية :نسبة إلى ابراىيـ بف سيار النظاـ ،الذم خمط الكبلـ بالفمسفة.
كيعد الشيرستاني فركع أخرل مف المعتزلة ،ككأف لكؿ عضك بارز أتباعو ،مثؿ الخطابية ،كالبشرية ،كالمعمرية ،كالمردارية،
كالتمامية ،كالياشمية ،كالجاحظية ،كالخياطية ،كالجبائية .كمف المفيد التأكيد بأف ىناؾ فركؽ جزئية بيف الفرؽ المعتزلية ،لكنيا لـ
تخرج عف اإلطار العاـ كركح الفرقة التي جعمت العقؿ أساسا في تناكؿ النصكص الشرعية .حيث اعتقدت بأنو يجب تأكيؿ
النصكص ،القرآف أك الحديث ،التي ال تتكافؽ مع منطؽ العقؿ لتنسجـ معيف كليس العكس.
-6األصول الخمسة:
االنتساب إلى المعتزلة يتطمب االلتزاـ باألصكؿ الخمسة دكف انتقاص أك استزادة .كعمى الرغـ مف أنيا خمسة أصكؿ إال أف
ىناؾ مف يختزليا إلى أصميف كبيريف ىما التكحيد كالعدؿ ،كالبقية الثبلثة تندرج ضمف ىذا األصؿ األخير .إذ "يمكف تمخيص مبادئ
المعتزلة في أف ا﵀ كاحد كأنو مف العدؿ في قضائو الرحيـ بخمقو .المبادئ الخمسة ترد في النياية إلى ىذيف المبدأيف .مبدأ الكعد
كالكعيد ،كالمنزلة بيف المنزلتيف كاألمر بالمعركؼ داخمة في مبدأ العدؿ" 3.كىنا نفيـ جيدا عنكاف المكسكعة اإلعتزالية لمقاضي عبد
الجبار المدرج في الطبقة الحادية عشر تحت عنكاف "المغنى في أبكاب التكحيد كالعدؿ" .فيكية المعتزلة ىي نفي الصفات كىذا ما
يدخؿ في باب التكحيد ،كتأكيد اإلرادة كىذا ما يدخؿ في باب العدؿ 4.كلئف كانت ىذه األصكؿ تبدك بدييية ألم مسمـ ،إال أف ما
1
عبد الرحمف بدكم :مذاىب اإلسبلمييف ،الجزء األكؿ ،دار العمـ لممبلييف ،بيركت ،1970 ،ص .42 -40أيضا :أحمد محمكد
صبحي :في عمـ الكبلـ -دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف ،الجزء األكؿ :المعتزلة ،مرجع سابؽ ،ص ص -114
.116
2
عبد الكريـ الشيرستاني :الممؿ كالنحؿ ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .43-40
3
نصر حامد أبك زيد :االتجاه العقمي في التفسير -دراسة في قضية المجاز في القرآف عند المعتزلة ،المركز الثقافي العربي ،الدار
البيضاء ،الطبعة الثالثة ،1996 ،ص ص .157-11
4
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .64
121
يندرج تحتيا مف تفاصيؿ تجعؿ اإلعتزاؿ فرقة شاذة مقارنة بعقائد أىؿ السنة كالجماعة ،كما دخكليـ في صراع مع اإلماـ أحمد ،كىك
فقيو نصي بالكامؿ ،إال مظير مف مظاىر مخالفة طركحات أىؿ السنة.
كمف الجدير اإلشارة إلى أف ىذه األصكؿ لـ تكتمؿ في الطبقة الرابعة مف طبقات المعتزلة حيث ظير المؤسسكف األكائؿ مثؿ
عمرك بف عبيد ككاصؿ بف عطاء ،بؿ اكتممت في الطبقة السادسة كىي طبقة أبك اليذيؿ العبلؼ .كلما سئؿ القاضي عبد الجبار،
كىك في الطبقات المتأخرة ،عف سبب اقتصاد األصكؿ في العدد خمسة بالضبط ،أجاب أف الفرؽ األخرل قالت بأصؿ مف ىذه
األصكؿ ،لكنيا عجزت عف استجماعيا كميا .قاؿ :ال خبلؼ أف المخالفيف لنا ،ال يعدكف أحد ىذه األصكؿ .أال ترل أف خبلؼ
الممحدة كالمعطمة كالدىرية كالمشبية قد دخؿ في التكحيد .كأف خبلؼ المجبرة بأسرىـ داخؿ في باب العدؿ ،كخبلؼ المرجئة داخؿ
في باب الكعد كالكعيد ،كخبلؼ الخكارج داخؿ تحت المنزلة بيف المنزلتيف ،كخبلؼ األمامية داخؿ في األمر بالمعركؼ كالنيي عف
المنكر" 1.يفيـ أف األصكؿ الخمسة ىي محصمة كؿ المسائؿ الكبلمية التي أثارت اختبلؼ الفرؽ اإلسبلمية ،مما يدؿ عمى المنظكر
الكمي لممعتزلة في شؤكف عمـ الكبلـ .كحيث اقتصرت الفرؽ األخرل عمى مشكمة دكف االخرل ،قامت المعتزلة عمى جمع كؿ
المشكبلت المطركحة في أكصؿ خمسة .مما يعني أف اكؿ فرقة تمنيج كتييكؿ مكضكعاتيا بنكع مف الترتيب كالتيذيب.
التكحيد أىـ صفة إليية ،كىي ما يضاد الثنكية مف جية كما ال يقبؿ القسمة مف الجية األخرل .كالتكحيد يقتضي عدـ مشاركة
الصفات اإلليية ألم كاف .كأىـ صفة إليية أصمية ىي القدرة .ألنيا الصفة الكحيدة التي ال تحتاج إلى كساطة مقارنة ببقية الصفات
األخرل 2.كتكحيد ا﵀ عز كجؿ يتطمب منا ما يمي:
التنزيو :أف ا﵀ سبحانو كتعالى ال يشبو شيئا مف مخمكقاتو ،كال يمكف ﵀ أف يتصؼ بصفات األشياء التي أكجدىا بنفسو.
كتبدك ىذه العقيدة صحيحة كسميمة ،لدرجة أف األشاعرة كافقكا المعتزلة في ىذه المسألة 3.فميس ا﵀ بجسـ كال جكىر كال
عرض كلي س في مكاف كال في زماف كال قابؿ لؤلعراض كال محؿ لمحكادث الطارئة .كىذا تصديقا لقكلو تعالي﴿ :لىٍي ىس ىك ًمثٍمً ًو
ىش ٍي هء﴾ [الشكرل ]11 ،ىذه ىي اآلية المحكمة األساسية ،ككؿ اآليات التي تفيد التجسيـ متشابية تؤكؿ عمى أساس التنزيو
الخالص .ألف إثبات صفات ﵀ تشترؾ مع المخمكقات مثؿ السمع أك الرؤية...الخ يؤدم إلى الكقكع فيما كقعت فيو الييكد
كالمجسمة كالمشبية...الخ .كىذا البلىكت السمبي ،أم عدـ اثبات صفات إليية ،يثبت أف اإلنساف ال يعرؼ حقيقة الذات
1عبد الرحمف بدكم :مذاىب اإلسبلمييف ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .56
2
عبد الجبار المعتزلي :شرح األصكؿ الخمسة ،الجزء األكؿ ،مكفـ لمنشر ،الجزائر ،الطبعة األكلى ،1990 ،ص .93
3
الشيرستاني :نياية اإلقداـ في عمـ الكبلـ ،تحرير كتصحيح ألفريد جيكـ ،مكتبة الثقافة الدينية ،القاىرة ،الطبعة االكلى،2009 ،
ص .97
122
اإلليية 1،إال بما أخبرنا بو السمع .لكف السمع يخبرنا بصفات متعارضة ،البعض منيا يفيد التشبيو كالبعض األخر يفيد
النزيو ،لذا كجب تأكيؿ آيات التشبيو لتتكافؽ مع آيات التنزيو التي ىي االصؿ.
صفات اهلل عين ذاتو :يعتقد المعتزلة بأف اثبات صفات قديمة مستقمة عف الذات اإلليية يؤدم إلى التثنية ،أم اثبات
كجكد إلييف قديميف :الذات اإلليية كصفاتو القديمة الكاممة .كىذا خركج عف التكحيد .كعندما يتحدث المسيحي عف الكحدة
الجكىرية ﵀ كتكثره األقانيمي (الكجكد ،العمـ ،الحياة) فإنو يشكش عقيدة التكحيد 2.كعمد المعتزلة إلى تقسيـ الصفات إلى
نكعيف :صفات الذات كالتي تتمثؿ في العمـ كالقدرة كالحياة كالقدـ حيث ال يمكف أف يكصؼ ا﵀ بعكسيا كأف يقاؿ جاىؿ أك
عاجز أك فاف أك حادث (تعالى ا﵀ عف ىذه النقائص) ،كصفات األفعاؿ مثؿ الكبلـ...الخ 3.لكف السؤاؿ عف أفعاؿ ا﵀
شيء مختمؼ عف ذاتو ؟ يجيب طو عبد الرحمف كاصفا الكضعية" :تقرر عند المتقدميف التفريؽ بيف أسماء الذات ،كأسماء
الصفات ،كأسماء األفعاؿ .لكف ال يمكف تصكر صفة إال قائمة في الذات .كالذات ببل صفة كبل ذات ( )...كالصفة تتجمى
في األفعاؿ( .ال ذات ببل صفة ،كال صفة بغير فعؿ)" 4.ىذا يعني أنو ال يحدث لنا الفصؿ بيف الذات كالصفة كاألفعاؿ،
كاال تقسمت الذات اإلليية كانتفت عنو الكاحدي ة .كفي سياؽ قريب ،تقع الشبية في السؤاؿ عف حقيقة العبلقة بيف الصفات
اإلليية كالصفات اإلنسانية ؟ ىؿ صفات ا﵀ مجرد اطبلؽ لمحدكدية صفات اإلنساف ؟ ألف معظـ الصفات اإلليية مكجكدة
عند اإلنساف لكف بحدكد مثؿ العمـ كالبصر كالسمع أك غير مكجكد أصبل مثؿ القدـ كغيرىا مف صفات الذات .التنزيو يمزـ
اإلنساف باالعتقاد بأف "صفات ا﵀ ليست صفات منتزعة مف اإلنساف" كاال أصبح ا﵀ مف تخيؿ اإلنساف كىذا محاؿ 5.إف
تعالي ا﵀ يكمف في استقبللو الكمي عف الصفات اإلنسية .باإلجماؿ ،يمكف القكؿ بأف ما يتحرج منو الفكر اإلعتزالي ،ىك
االعتقاد ب أف الذات اإلليية تتركب مف جكىره كمف صفاتو ،كىذا بالضبط ما يخدش عقيدة التكحيد النقية الصافية 6.يبقى
السؤاؿ الميـ ىؿ يمكف أف نفكر في الذات اإلليية بطريقة تنزييية مطمقة ؟ أم ىؿ يمكف أف نعرؼ ا﵀ ببل تشبيو ؟ إف
التشبيو طريقة مف طريؽ البرىنة أك التكضيح ،كيميز الدكتكر طو بعد الرحمف بيف التشبيو االضطرارم كالتشبيو االختيارم.
يقكؿ مكضحا" :التشبيو االضطرارم :ىك الذم ال طاقة لئلنساف عمى صرفو مع دائـ سعيو إلى صرؼ ما سكاه .كالتشبيو
1
أحمد محمكد صبحي :في عمـ الكبلـ -دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف ،الجزء األكؿ :المعتزلة ،مرجع سابؽ،
ص .122
2
المرجع نفسو ،ص .124-123
3
نصر حامد أبك زيد :االتجاه العقمي في التفسير -دراسة في قضية المجاز في القرآف عند المعتزلة ،مرجع سابؽ ،ص .167
4
طو عبد الرحمف :ديف الحياء – مف الفقو اإلئتمارم إلى الفقو اإلئتماني ،الجزء األكؿ :أصكؿ النظرم اإلئتماني ،المؤسسة العربية
لمفكر كاإلبداع ،بيركت ،الطبعة األكلى ،2017 ،ص ص .64-63
5
المرجع نفسو ،ص .69-68
6
نصر حامد أبك زيد :االتجاه العقمي في التفسير -دراسة في قضية المجاز في القرآف عند المعتزلة ،مرجع سابؽ ،ص .88
123
االختيارم :اجتياد اإلنساف باختياره في التشبو بصفات الخالؽ" 1.كما اختمؼ فيو النظار المسممكف األكائؿ (المعطمة،
المشبية كالمتأكلة)ىك التشبيو االضطرارم .إذ ال يمكف تصكر ا﵀ ببل صفات ،كاال كقعنا في تعديـ مطمؽ.
تأكيؿ الصفات الخبرية :بما أف ا﵀ كصؼ ذاتو بجممة مف الصفات ،فبل يمكف لنا أف ننفييا ،فا﵀ عالـ كسميع
كقادر...ا لخ .كبما أف ىناؾ العديد مف الصفات كاألسماء التي حممت عمى الذات اإلليية ،فاألجدر أف نتفادل التشبيو
المطمؽ ،كتأكيؿ كؿ اآليات التي تكحي بالجسمية ،مثؿ آيات اليد كالكجو كالعيف...الخ .أك آيات الحيزية مثؿ االستكاء
كالفكقية كالتحتية كالحركة كالنزكؿ...الخ 2.كبالتالي كجب تأكيؿ كؿ ىذه اآليات عمى كفؽ آية التنزيو األساسية (ليس كمثمو
شيء) ألنيا اآلية المحكمة كالتي تتفي أم تجسيد اأك تشبيو محتمؿ.
نفي رؤية ا﵀ يكـ القيامة :تطرح مسألة رؤية ا﵀ يكـ القيامة مشكمة تتعمؽ بالتجسيـ ،عمى اعتبار أف لمرؤية شركطيا
الحسية مثؿ كجكد الجسـ كالضكء كالكقكع في حيز...الخ .ككؿ ىذا يجعمنا نتعقد بالجسمية كىذا محاؿ .لذا كجب تأكيؿ
اآليات التي تكحي بالرؤية مثؿ قكلو تعالى﴿ :إًلىى ربّْيا ىن ً
اظ ىرةه ﴾ [القيامة ]23 ،باعتبارىا تدؿ عمى العمـ ال البصر 3.أم ى ى
رؤية ا﵀ معنكيا كالذم يفيد العمـ بكجكده كسمطتو ،كليس ابصاره مثمما نبصر األشياء أك الضكء.
القرآف مخمكؽ :يعتد المعتزلة بأف القرآف مخمكؽ كليس قديـ كىذا ألسباب عديدة منيا أف القكؿ بأف القرآف قديـ يفضي إلى
مشاركتو ا﵀ في القدـ كمف ثمة مشاركتو في األلكىية ،كىذا ما يخمخؿ عقيدة التكحيد التي ىي األساس لكؿ العقائد األخرل.
فبل يمكف لمقرآف أف يككف قديـ مع ا﵀ 4.كما أف تضمف القرآف لجممة مف التعميمات التي تمثؿ األكامر كالنكاىي عمى شكؿ
كعد ككعيد كحكادث...الخ يفترض منطقيا كجكد بشر يأتمركف بيا ،فبل يعقؿ أف يصدر أمر اقامة الصبلة مثبل ،دكف كجكد
متمقى ليا ،ألف قدـ الق رآف يفترض عدـ كجكد اإلنساف بعد .كبما أف القرآف آخر الرساالت ،المسبكقة بكتب تحدث عنيا
القرآف ذاتو ،صحؼ ابراىيـ كمكسى ،فيذا كاؼ لمداللة عمى أنو مخمكؽ في زماف متأخر عنيا كليس بقديـ ،كما أف ظاىرة
النسخ القرآني تدؿ عمى حدكثو ،ألف القرآف المتأخر ينسخ القرآف المتقدـ عميو 5.كىكذا ،فبل يعقؿ أف يككف ىناؾ نسخ في
1
طو عبد الرحمف :ديف الحياء – مف الفقو اإلئتمارم إلى الفقو اإلئتماني ،الجزء األكؿ :أصكؿ النظرم اإلئتماني ،مرجع سابؽ ،ص
.70
ىعيينًىنا ىكىك ٍحيًىنا﴾ [ىكد،
ؾ بًأ ٍ
اصىن ًع ا ٍل يف ٍم ى ؾ يذك ا ٍل ىج ىبل ًؿ ك ًٍ ً
اإل ٍك ىراـ﴾ [الرحمف ﴿ ]27 ،ىك ٍ ى ؽ أ ٍىي ًدي ًي ٍـ﴾ [الفتح ﴿ ]10 ،ىكىي ٍبقىى ىك ٍجوي ىرّْب ى
﴿ىي يد المَّ ًو فى ٍك ى
2
الر ٍح ىم يف﴾ [الفرقاف .]59،لمتكسع في مسألة الجسمية يمكف الرجكع لػ :عبد الجبار المعتزلي :شرح ش َّاستىكل ىعمىى ا ٍل ىع ٍر ً
﴿ ]37ثيَّـ ٍ ى
األصكؿ الخمسة ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .149
3
أحمد محمكد صبحي :في عمـ الكبلـ -دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف ،الجزء األكؿ :المعتزلة ،مرجع سابؽ،
ص .130-129
4
عبد الجبار اآلسدآبادم :المغنى في أبكاب التكحيد كالعدؿ -كتاب خمؽ القرآف ،ص .218
5
أحمد محمكد صبحي :في عمـ الكبلـ -دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف ،الجزء األكؿ :المعتزلة ،مرجع سابؽ،
ص 130كما تبلىا.
124
ضؿ تصكر القدـ .كبما أف ىناؾ قرآف أكؿ كقرآف أكسط ك قرآف أخير ،فيذا يعني أف ىناؾ فاصؿ زمني يجعمنا نعتقد بخمقو
في تاريخ ما.
كمف الضركرم ،اإلشارة إلى محنة الحنابمة ،بصدد مشكمة خمؽ القرآف .إذ تـ أدلجة عقيدة اإلعتزاؿ ،كتبنتيا السمطة العباسية
كعقيدة الدكلة التي يجب أف تفرض عمى الجميكر .لكف اإلماـ أحمد بف حنبؿ رفض ىذه العقيدة ألنو يعتقد بأف القرآف لـ يصؼ ذاتو
بأنو حادث أك مخمكؽ ،كبما أننا ال نجد أم آية في القرآف تذكر خمؽ القرآف كال أم حديث نبكم يشير إلى أف القرآف مخمكؽ ،فيذا ال
1
ثـ أف العامة مف الناس قد يختمط عمييـ القكؿ بػ خمؽ القرآف كاختبلؽ القرآف ،كقد يذىب البعض منيـ يسمح ألم مسمـ بتقكؿ ذلؾ.
إلى االعتقاد بكذبو ،ألف االختبلؽ يفيد الكذب عند العامة .كما أف القكؿ بالخمؽ يستجمب المكت كالفناء ،ألف كؿ مخمكؽ فاف ،فيؿ
ً ّْ
يستمزـ ذلؾ فناء القرآف .طبعا ال ،فالقرآف ذاتو يقر بمحفكظية القرآف﴿ :إًَّنا ىن ٍح يف ىنَّزٍلىنا الذ ٍك ىر ىكًاَّنا لىوي لى ىحافظي ى
كف﴾ [الحجر .]9 ،كأخيرا،
فإف معارضة ابف حنبؿ مرتبطة برفضو ارساء تقميد غير مألكؼ تماما ،كىك فرض السمطة السياسية ق ار ار عمى سمطة عممية (أم
الفقياء) .كبالفعؿ ،فإف المجتمع اإلسبلمي لـ يكف يسير كفؽ مبدأ ىيمنة الدكلة الذم سنجده في الحداثة األكركبية البلحقة .فمـ يكف
لمدكلة اإلسبلمية حؽ األمر العقائدم أك الديني 2.فبل سمطة إال لكبلـ ا﵀ المتعاؿ الذم ال يمكف ألم سمطة أف تفرضو بطريقتيا
الخاصة .فالفيـ اإلعتزالي لمديف يبقى اجتياد مجمكعة مخصكصة ال يمكف أف يتحكؿ إلى عقيدة سمطة سياسية تفرض عمى الجميع.
فالحكـ اإلسبلمي الذم تجسد في الخبلفة ال يتدخؿ في مجاؿ التعميـ كتشكيؿ الذىنيات كفؽ مقياس مكضكع مسبقا .ثـ أف الديف
أعمى مف الحاكـ كمف المحككـ ،مما يجعمو مستقبل عف أم تأميـ.
كعمى الرغـ مف أف العامة مف الناس قد كقفكا مع ابف حنبؿ في ادانتو كتعذيبو ،إال أف ىناؾ مف المؤرخيف مف اعتبر أف المحنة
مصطنعة مف طرفو مف أجؿ استعطاؼ الناس كمف أجؿ احرج السمطة .يقكؿ فاف ايس" :تكرط االعتزاؿ في االضطياد الديني أك
المحنة (مع الخميفة) .أم أف عمماء الكبلـ كقفكا ضد بجانب السمطة المضطيدة .حقا ،لـ يحدث أثناء تمؾ المتابعات كاالضطيادات
أف كقعت حالة اعداـ كاحدة ،كحتى الظركؼ التي نفذت فييا عقكبة الجمد عمى أشير ضحايا المحنة (أحمد ابف حنبؿ) ىي ظركؼ
1
أحمد بف حنبؿ :الرد عمى الجيمية كالزنادقة فيما شككا فيو مف متشابو القرآف كتأكلكه عمى غير تأكيمو ،مرجع سابؽ ،ص 101كما
تبلىا.
2
كائؿ ب حبلؽ :الدكلة المستحيمة – اإلسبلـ كالسياسة كمأزؽ الحداثة األخبلقي ،ترجمة عمرك عثماف ،المركز العربي لؤلبحاث
كدراسة السياسات ،الدكحة ،الطبعة األكلى ،2014 ،ص .208أيضا :كائؿ حبلؽ :تاريخ النظريات الفقيية في اإلسبلـ -مقدمة في
أصكؿ الفقو السني ،مرجع سابؽ ،ص .270مف المعركؼ أف المينة الشرعية في اإلسبلـ التقميدم كاسبلـ القركف الكسطى مستقمة
عمى كافة المستكيات عف أم مراقبة كطنية .فالدكؿ كالحككمات المسممة عمى مر القركف ـ تتدخؿ في تدريب المجتيديف المفتيف
كتأىيميـ ،عمما انيـ يضطمعكف بميمة سف القكانيف.
أيضا :كائؿ حبلؽ :قصكر االستشراؽ -منيج في نقد العمـ الحديث ،ترجمة عمرك عثماف ،الشبكة العربية لؤلبحاث كالنشر ،بيركت،
الطبعة األكلى .208 ،2019 ،يقكؿ :لـ يخضع السممكف أنفسيـ لنظاـ تعميمي (ييدؼ إلى اعادة تشكيميـ ليصبحكا ذكاتا جديدة ،أم
مكاطنيف بالمعنى الحديث) إذ كاف التعميـ دينيا كمستقبل عف الدكلة.
125
منكرة .إال أف الثابت أف الخميفة قد حاكؿ بالفعؿ أف يصيب بالشمؿ مذىب ىؤالء المخالفيف عف طريؽ منع فقيائيـ مف ممارسة
مينتيـ (حرمانيـ مف حؽ اإلفتاء التي يمجأ إلييـ فييا جيكر المسمميف) ىذا ما جعؿ ذلؾ اإلجراء الخميفي يقع في الحرج ،مف حيث
أف ىؤالء الفقياء (قضاة أك شيكد) ىـ العمكد الفقرم لمحياة اليكمية (عقكد شرعية...الخ) مف ثـ اختار جميكر الناس جانب ىؤالء
الضحايا ،معتب ار اضطيادىـ امتحانا ك"محنة" .كؿ ىذا ترتب عميو فقداف متكممي الببلط (كىك المعتزلة) منزلتيـ بيف الجميكر
كانقطاع صمتيـ بو" 1.كيمكف تفسير ىذه الحادثة باعتبارىا السبب في النفكر مف المعتزلة كمف ثمة تبلشي مذىبيـ بعد ذلؾ شيئا
فشيئا ،نظير فقداف قاعدتو الشعبية .كعمى ىامش المحنة ،نجد تكرط المعتزلة في قضايا أخرل تشبو قضايا اليكـ؛ "فأثناء محنة
"خمؽ القرآف" نجد الفقيو السني ابف مالج ،بسبب رفضو ليذه النظرية المعتزلية ،يرغـ عمى تطميؽ زكجتو مف قبؿ ىيئة محكمة شبيية
بتمؾ التي قضت في الكقت الحاضر بتطميؽ زكجة نصر حامد أبك زيد في مصر" 2.عندما يتسمط عمماء الكبلـ كتتكمـ السمطة ،فيذا
عبلمة غير صحية في المجتمع اإلسبلمي الذم تميز بالخصائص السابقة كالتي حمميا كائؿ حبلؽ بصكرة مستفيضة ،كىي االنفصاؿ
بيف ركح الديف كالق اررات السياسية الفردية.
لكف جميكر المسمميف اعتمدكا عمى مركية ابف حنبؿ حكؿ المحنة ،أما المؤرخ الذم اعتمد عمى محاضر رجاؿ الشرطة ،فإنو
شكؿ مكقؼ مخالؼ .فالطبرم مثبل كاف يعمـ أف استشياد ابف حنبؿ ال يستحؽ التمجيد .ألنو اعتمد عمى محاضر رجاؿ الشرطة
3
يقكؿ فاف ايس مقيما الكضعية بصكرة مكضكعية" :اعتبرت محنة ابف كليس مركيات ابف حنبؿ أك ابف أخيو (حنبؿ بف اسحاؽ).
حنبؿ بحؽ حادثا أساسيا بؿ حادثا نمكذجيا عكس فشؿ نكع مف السياسة الدينية بسبب ما تميزت بو مف غطرسة كمناكرات .إال أف
االعتراؼ بيذا األمر ال يستمزـ مطمقا خمؽ الحكايات كاألساطير .ألف الناس ،منذ ابف الجكزم ،قد درجكا عمى أف ينظركا إلى صراع
ابف حنبؿ مع الخميفة المأمكف كخاصة مع الخميفة المعتصـ ،عمى أنو صراع فرد أعزؿ ضد دكلة ظالمة كعمى أنو صكرة لرجؿ شييد
تقي ضحى في سبيؿ قضيتو العادلة .كىذا صحيح إذا ما راعينا أف ابف حنبؿ كاف فعبل منعزال .ذلؾ أف كؿ اإلنتمجنسيا في عصره،
سكاء منيـ المعتزلة كالجيمية أك غيرىـ خضعكا جميعا إلرادة الخميفة حتى أف رجبل مف مثؿ ابف سعد اضطر أف يكقع عمى الكثيقة
التي تتضمف القكؿ بخمؽ ا﵀ .كرغـ كؿ ىذا فإف ابف حنبؿ لـ يكف بطبل .ذلؾ أف المقاء الشيير الذم جمعو بالمعتصـ كبعمماء ببلطو
لـ يكف لقاء مف أجؿ المحاكمة ،كلكنو كاف ييدؼ اجراء مناظرة يبدك أف ابف حنبؿ لـ يفمح في أف يقدـ فييا عف نفسو صكرة طيبة
( )...تـ عقد مناظرة لعدة أياـ .حينما طالت كبعد أف أصاب الخميفة الضجر بسبب ما أبداه ابف حنبؿ مف عناد كتصمب في الرأس،
عندئذ فحسب أمر الخميفة بجمد ابف حنبؿ كيكاد يككف محقا أف ابف حنبؿ قد تراجع عف مكاقفو ،كىك عمى كؿ حاؿ رد فعؿ إنساني
4
طبيعي".
1
يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،ترجمة عبد المجيد الصغير ،نشر الفنؾ ،الدار البيضاء،2000 ،
ص ص .119-28-27
2
المرجع نفسو ،ص .9
3
المرجع نفسو ،ص .154
4
المرجع نفسو ،ص .153-152
126
ىناؾ مف يقكؿ بأف أصؿ المحنة مرتبط بحركة الترجمة التي أطمقيا المأمكف ،فقد تحسس الفقياء كالمحدثيف مف دخكؿ العمكـ
األجنبية كالخطر الذم تشكمو عمى الكعي اإلسبلمي كعمى مكانة العمكـ المحمية .لكف المستشرؽ ديمترم غكتاس ،كالذم تتبع
تفاصيؿ حركة الترجمة في العصر العباسي ،أكد بأنو لـ تكف لحركة الترجمة أية صمة بالمحنة ،كلـ تكف معارضة ابف حنبؿ ضد
العمكـ المترجمة أك األجنبية ،بؿ كانت بسبب ا لنظرة الدينية التي فرضيا االعتزاؿ كالقائمة عمى المضاميف الفمسفية في القعائد
اإليمانية كأسمكبيـ في المناظرة الجدلية 1.كلك عممنا أف "زعيـ السمؼ زمف المحنة ىك ابف حنبؿ ( 855+ـ) كيصفو الشيرستاني بأنو
تابع رأم مالؾ بف أنس ( )795+الذم قاؿ :االستكاء معمكـ كالكيفية مجيكلة ،اإليماف بو كاجب كالسؤاؿ عنو بدعة" 2.الكتشفنا
األسباب الدينية كراء معارضتو لعقبلنية المعتزلة المفرطة.
ال يقؿ األصؿ الثاني أىمية كعقبلنية عف األصؿ األكؿ ،فقد كاف المعتزلة يسمكف بالعدلية .أم أف خاصية الذات اإلليية ىي
العدؿ المطمؽ كال يمكف أف يكصؼ بعكس ذلؾ ،كما أف العدؿ مف أسماء ﵀ الحسنى كما أنو يأمر بالعدؿ بيف البشر .لذا فإف
استقامة ىذه الدعكة مرىكنة بالعدؿ اإلليي المطمؽ .كمشكمة العدؿ ال تخص الذات اإلليية ،بؿ ترتبط باإلنساف ،لذا فيذه الصفة تؤثر
بصكرة مباشرة عمى البشر بما يمكف ادرجيا ،عمى حد تعبير كانط ،في ميتافيزيقا األخبلؽ ،عمى اعتبار أف العدؿ مسألة سياسية
كأخبلقية معا كترتبط باأللكىية كمكضكع ميتافيزي قي .فمف حيث المبدأ ،فإف ا﵀ عادؿ بصكرة مطمقة ككؿ أفعالو كتقديراتو منزلو مطمقا
مف أم ظمـ أك جكر .لكف ماذا ينجر عمى العدلية المطمقة ﵀ ؟ يجب المعتزلة أف:
الرد عمى الثنكية ال يكمف فقط في تأكيد التكحيد ،بؿ في نفي كجكد إلو لمشر .لذا فبل يمكف صدكر الشر عف ا﵀ ،كما
نعتبره ش ار طبيعيا أك أخبلقيا ،ىك في النياية ببلء كامتحاف لنا .كيستعيض المعتزلة عف قيمتي الخير كالشر بالحسف كالقبح،
فقد يبدك المرض ش ار لكنو ليس قبيحا .ثـ أف ليس كؿ ضرر قبح ،كالمؤلـ قد يككف حسف .كبالتالي كجب شكر ا﵀ كمدحو
3
عمى كؿ أفعالو سكاء كانت حسف أك قبح ،أك ضرر كنفع.
المطؼ اإلليي :كؿ ما فعمو ا﵀ مف أجؿ األخذ باإلنساف إلى الخير ،فخمقو الشيكة بغية التكميؼ كالعقؿ بغية التميز كارساؿ
الرسؿ بغية التعرؼ عمى الديف...الخ كحتى ما يحدث مف أفعاؿ شريرة كقبيحة فمف أجؿ المكعظة كتجنب اليبلؾ مستقببل.
"ا﵀ لـ يدخر عف عباده مف األلطاؼ التي بيا يعدلكف عف طريؽ البغي شيئا مف غير الجاء كاال الرتفع التكميؼ كلما كاف
1
ديمترم غكتاس :الفكر اليكناني كالثقافة العربية -حركة الترجمة اليكنانية العربية في بغداد كالمجتمع العباسي المبكر ،ترجمة نقكال
زيادة ،المنظمة العربية لمترجمة كمركز دراسات الكحدة العربية ،بيركت ،الطبعة األكلى ،2003 ،ص .266
2
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،ترجمة مصطفى لبيب عبد الغاني ،المجمد األكؿ ،المركز القكمي لمترجمة،
القاىرة ،الطبعة األكلى ،2005 ،ص .82
3
عبد الجبار اآلسدآبادم :المغنى في أبكاب التكحيد كالعدؿ ،الجزء السادس -كتاب التعديؿ كالتجكير ،ص .15
127
ىناؾ مبرر لحساب" 1.كما يعتقد اإلنساف بأنو ليس خي ار لو ،ىك في النياية مف أجؿ تعظيـ جزاؤه ،فاآلفات التي تنزؿ عمى
2
الشخص ليس مف أجؿ الذنكب التي ارتكبيا بؿ مف أجؿ األخذ بو نحك النجاة.
كجكدب فعؿ األصمح :يعتقد المعتزلة أف عمى ا﵀ أف يفعؿ األصمح لئلنساف ،كىذا دليؿ لطفو كعنايتو .يقكؿ الشيرستاني
شارحا" :تقكؿ المعتزلة الحكيـ ال يفعؿ فعبل إال لحكمة أك غرض ،كالفعؿ مف غير غرض سفو كعبث ،كا﵀ يفعؿ ال لينتفع
ىك بؿ لينتفع غيره ،فبل تخمكا أفعالو مف صبلح ..كاألصمح الذم ال نياية لو" 3.لكف المعارضكف لممعتزلة استشكمكا قكليـ
بأف عمى ا﵀ أف يفعؿ األصمح ! فيؿ نمزـ نحف البشر شيئا عمى ا﵀ فعمو ؟ يبدك ىذا تناقضا ،فا﵀ يسأؿ كال يسئؿ حسب
كف﴾ [األنبياء]23 ،
﴿ال يي ٍسأى يؿ ىع َّما ىي ٍف ىع يؿ ىك يى ٍـ يي ٍسأىلي ى
ما كر في القرآف ،حيث يقكؿ ا﵀ عز كجؿ :ى
أفعاؿ اإلنساف :قضية المعتزلة األساسية ىي أف العدالة اإلليية تستمزـ الحرية اإلنسانية .كلك كاف اإلنساف مسمكب اإلرادة
لسقط التكميؼ .كليذا السبب اعتبركا قدرية ،إذ يثبتكف قدرة اإلنساف عمى خمؽ أفعالو .أم أف ا﵀ تعالي غير خالؽ ألكساب
العباد 4.كمف أكائؿ مف تكمـ في القدر ىك غيبلف الدمشقي كمعبد الجيني لذا صنفكا في الطبقة الرابعة مف كاصؿ بف عطاء
باعتبارىـ مؤسسيف أكائؿ لبلعتزاؿ .كمسألة قدرة اإلنساف عمى خمؽ أفعالو ،ىي المسألة التي حقؽ فييا كؿ المعتزليف
اإلجماع ،مما يدؿ عمى أنيا العقيدة األساسية ليذه الفرقة 5.فككف األفعاؿ اإلنسانية مخمكقة مف ا﵀ ،يقكض مف األساس
مبدأ العدالة اإلليية في الحساب كالعقاب" .فالنظٌاـ كالكعبي كالجاحظ كالنجار قالكا بأف البارم تعالى غير مكصكؼ باإلرادة
عمى الحقيقة ،كاف كرد الشرع بذلؾ ،فالمراد بككنو تعالى مريدا ألفعالو أنو خالقيا كمنشئيا ،كاف كصؼ بككنو مريدا ألفعاؿ
العباد فالمراد بذلؾ أنو أمر بيا ،كاف كصؼ بككنو مريدا في األزؿ فالمراد بذلؾ أنو عالـ فقط" 6.كبيذا فإف خصكـ المعتزلة
ىـ المجبرة الذيف ينسبكف أفعاؿ العباد إلى ا﵀ تعالى .فالجيـ يقكؿ أف األفعاؿ كالظركؼ ال تتعمؽ بنا 7.كىذا ما يفسد
عقيدة العدالة اإلليية.
عقبلنية الحسف كالقبح :رد حسف أك قبح الفعؿ إلى الفعؿ ذاتو ،كليس لمجرد أف ا﵀ أمر بو أك نيا عنو ،فقيمة الفعؿ تعكد
إلى الصفات الذاتية لو كليس إلى القيمة التي أضفاىا السمع عمييا .كالعقؿ ىك الكاشؼ عف كجكد الحسف كالقبح في كؿ
1
أحمد محمكد صبحي :في عمـ الكبلـ -دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف ،الجزء األكؿ :المعتزلة ،مرجع سابؽ،
ص .137
2
مكسى بف ميمكف :داللة الحائريف ،تحقيؽ حسف آتام ،مكتبة الثقافة الدينية ،العتبة ،دس ،ص .527
3
الشيرستاني :نياية اإلقداـ في عمـ الكبلـ ،مرجع سابؽ ،ص .390
4
جماؿ الديف القاسمي الدمشقي :تاريخ الجيمية كالمعتزلة ،مؤسسة الرسالة ،بيركت ،الطبعة األكلى ،1979 ،ص .72-71
5
محمد عمارة :المعتزلة كمشكمة الحرية اإلنسانية ،دار الشركؽ ،القاىرة ،الطبعة الثانية ،1988 ،ص .70
6
الشيرستاني :نياية اإلقداـ في عمـ الكبلـ ،مرجع سابؽ ،ص .227
7
عبد الجبار المعتزلي :شرح األصكؿ الخمسة ،الجزء الثاني ،مكفـ لمنشر ،الجزائر ،الطبعة األكلى ،1990 ،ص .54
128
فعؿ بعينو بالبداية أك بالبرىاف 1.كلكال قدرة العقؿ عمى معرفة الحسف كالقبح قبؿ كركد الشرع ،لما استطاع الشرع اقناع
المتمقي بذلؾ .كىذا ما كاف يقكلو سقراط في محاكرة اكطيفركف" :الفعؿ ال يككف تقكل ألف اآللية تحبو ،بؿ إنيا تحبو ألنو
2
تقكل" .أم أف النظر ينبغي أف يتركز عمى دراسة الفعؿ ذاتو (بالعقؿ).
الكعيد لؤلخيار كالكعيد لؤلشرار ،كىذا تجسيد لمعدالة اإلليية المتعمقة بالمستقبؿ ،فبل يجب أف يخمؼ ا﵀ كعده كما كعيده .كىذا
يعني أف الشفاعة ال تنفع في حالة الكعيد ،كىنا يظير المكقؼ المكضكعي الصارـ لممعتزلة ،مما ينفر عامة الناس اآلمميف في
الشفاعة باالستغفار كالتكبة كالدعاء كالصدقات...الخ .فا﵀ ال يخالؼ كبلمو ،ألف الخمؼ كذب كالكذب قبح كا﵀ ال يفعؿ القبح 3.كقد
م ىك ىما أىىنا بًظى َّبلوـ لً ٍم ىع ًب ً
يد﴾ [ؽ ]29 ،كىنا يظير الترابط بيف ىذا األصؿ الثالث باألصؿ الثاني ،أم ﴿ما ييىب َّد يؿ ا ٍلقى ٍك يؿ لى ىد َّ
كرد قكلو تعالى :ى
العدالة كاستحالة الظمـ اإلليي .كأضاؼ المعتزلة مسألة تعذيب أبناء الكفار كالتي طرحت في السياقات الخارجية (نسبة لمخكارج)
حيث يعتقدكف بأف ا﵀ سيعذب أطفاؿ الكفار مف أجؿ اغاضة آبائيـ عمى كفرىـ .في حيف أنو "يعتبر الشخص المسؤكؿ عند كاصؿ
ىك الشخص الذم يرتكب الكبيرة في سف البمكغ .فاألطفاؿ ال يحاسبيـ ا﵀ كسيدخميـ الجنة .كىذا األمر يبدك مكثكقا بو" 4.كلـ يقبؿ
المعتزلة الشفاعة ،في خبلؼ مع المرجئة ،إال مف المؤمف التائب عمى كجو الفعؿ حقا 5.بمعنى ضركرة رد كؿ المظالـ كااللتزاـ
الحقيقي بعدـ تكرار الكبائر كالذنكب .كمشركطية التكبة داخمة في الصرامة كالمكضكعية التي تصكر فييا المعتزلة الكعيد اإلليي.
منطمؽ المعتزلة ىك مفيكـ الفسؽ الذم يقاؿ في حؽ مرتكب الكبيرة الذم يمكف تحديده بأنو شبيو بالمؤمف في عقيدتو ال في
أعمالو ،كشبيو الكافر بأعمالو ال عقيدتو .لذا فيك غير مؤمف بالكماؿ كغير كافر بالمطمؽ ،كاستحؽ أف يككف في مكضع كسط بيف
المكضعيف ،أم ىك بيف الجنة كالنار ،ألنو ليس بمؤمف كال كافر 6.لكف مشكبلت عديدة تنجر عف ىذه الكضعية الثالثة ،منيا ما
طبيعتيا ،ىؿ الخمكد في النار كارد ؟ ىؿ الفاسؽ ينتقؿ بيف الجنة كالنار عمى حسب ذنكبو ؟
1
أحمد محمكد صبحي :في عمـ الكبلـ -دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف ،الجزء األكؿ :المعتزلة ،مرجع سابؽ،
ص .156 -153
2
الطيب بكعزة :السفسطائي سقراط كصغاره ،مركز نماء لمدراسات كالبحكث ،بيركت ،الطبعة األكلى ،2017 ،ص.209
3
عبد الرحمف بدكم :مذاىب اإلسبلمييف ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .63
4
جوزف فان أس :علم الكالم والمجتمع فً القرنٌن الثانً والثالث للهجرة – تارٌخ الفكر الدٌنً فً اإلسالم ،الجزء الثانً ،مرجع
سابؽ ،ص .400
5
عبد الجبار المعتزلي :شرح األصكؿ الخمسة ،الجزء الثاني ،مرجع سابؽ ،ص .239
أحمد محمكد صبحي :في عمـ الكبلـ -دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف ،الجزء األكؿ :المعتزلة ،مرجع سابؽ، 6
ص 162كما تبلىا .أيضا :عبد الجبار المعتزلي :شرح األصكؿ الخمسة ،الجزء الثاني ،مرجع سابؽ ،ص .353
129
األصل الخامس -األمر بالمعروف والنيي عن المنكر:
يمكف أ ف نبلحظ أف األصكؿ الخمسة تكشؼ عف مدل المعقكلية الصارمة في الفيـ التي اعتمدىا المعتزلة .كجعمت النقؿ
خاضعا لمعقؿ ،عمى اعتبار أف كؿ الفرؽ تتحجج بالنقؿ ،كلئف كانت الفرؽ متبلعنة فيما بينيما ،كالكؿ يكظؼ النقكؿ في ذلؾ ،فبل بد
مف اخضاعيا لمعقؿ كحده ،باعتبارىا المعيار في كؿ شيء .فبل يمكف أف تقبؿ شيادة المتبلعنيف (الخكارج كالشيعة كاألمكييف)
ككاضح أف مما يدخؿ في الشيادة ركاية الحديث :كمف ىنا كاف كاصؿ بف عطاء كغيره مف المعتزلة ال يعتمدكف الحديث أساسا
5
فتغميب سمطة النقؿ يجعؿ الكؿ يستشيد بما يخدـ عقيدتو الخاصة .لكف ىؿ ىذا يعني أف كيقكلكف بأسبقية العقؿ عف النقؿ".
المعتزلة تقمؿ مف دكر النقؿ ؟ ال يمكف التقرير بذلؾ ،عمى أساس أف عمـ الكبلـ ىك الدفاع العقمي عف العقائد ،مما يعني أف العقؿ
تابع لمنقؿ ال العكس .فبل يمكف اعتبار المعتزلة فبلسفة بالمعنى الصريح لمكممة ،بؿ ىـ متكمميف ينطمقكف مف العقائد أكال كأخيرا.
1
جوزف فان أس :علم الكالم والمجتمع فً القرنٌن الثانً والثالث للهجرة – تارٌخ الفكر الدٌنً فً اإلسالم ،الجزء الثانً ،مرجع
سابؽ ،ص .578
2
المرجع نفسو ،الصفحة نفسيا.
3
أحمد محمكد صبحي :في عمـ الكبلـ -دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف ،الجزء األكؿ :المعتزلة ،مرجع سابؽ،
ص 62كما تبلىا
4
عبد الجبار المعتزلي :شرح األصكؿ الخمسة ،الجزء الثاني ،مرجع سابؽ ،ص .374
5
محمد عابد الجابرم :العقؿ األخبلقي العربي – دراسة تحميمية نقدية في نظـ القيـ في الثقافة العربية ،مركز دراسات الكحدة العربية،
العربية ،بيركت ،الطبعة األكلى ،2001 ،ص .77
131
أفكؿ المعتزلة لـ يختمؼ عف بزكغيا ،فعندما اعتنؽ الخمفاء المأمكف كالمعتصـ عقيدة االعتزاؿ تقكت ىذه الفرقة كانتشرت
كذاعت ،لكف عندما نفر المتككؿ ( 237ق) مف الكبلـ في العقائد ،انيارت ىذه الفرقة كتشتت ،حيث أمر بػ "التسميـ كالتقميد كأمر
الشيكخ المحدثيف بإظيار السنة" كأرسؿ أمريات إلى كالتو بترؾ عقائد المعتزلة كالعكدة إلى عقائد السنة كالجماعة 1.فقد نفر منيا
العامة كالخاصة مف الفقياء كالمحدثيف ككسمت بالكفر بسبب ادخاؿ الفمسفة في أمكر العقيدة 2.كالشعار العقمي لممعتزلة لـ يمنعيـ
مف تكفير بعضيـ البعض كالفرؽ األخرل" .فالمعتزلة كانكا أشير مف غيرىـ في رفع سبلح "التكفير" ىذا كلعف مخالفييـ في المذىب.
(شيادة التكحيدم في كتابو البصائر كالذخائر ،ج ،7ص )249المعتزلة كانكا يكفركف بعضيـ بعض كغيرىـ مف الحشكية كالعكاـ
3
كالحؽ أف التكفير ىك ما ال يتكافؽ كمية مع التفكير العقمي .كفي القرف الرابع لميجرة أفمت فرقة المعتزلة لتبرز فرقة أخرل كالسذج".
ىي األشاعرة.
ثانيا -األشاعرة:
ىي الفرقة الغريمة لممعتزلة ،نشأت كمكقؼ احتجاجي لما آلت إليو طريقتيـ في معالجة العقائد اإلسبلمية .كقد كانت ثكرتيا
تدعي التجديد .كىذا المكقؼ ىك ما سمح ليا
رجعية كليست تقدمية ،أم أنيا رجعت بالكبلـ إلى أىؿ السنة كالجماعة ،كبالتالي لـ ٌ
باالنتشار في كؿ العا لـ اإلسبلمي ،حتي أصبح ،حسب ادعاء األشاعرة ذاتيـ ،أكثر العمماء المسمميف أشاعرة كأكثر المسمميف ذاتيـ
ذكم عقائد أشعرية 4.نظر العتداؿ مكاقفيا مقارنة بالمعتزلة كالتزاميا بالمقكؿ السني المنبثؽ مف الجماعة اإليمانية األكلى .كخاصة
أىؿ السنة كالجماعة ،بخبلؼ المتكمميف األكائؿ كاألكاخر مثؿ الخكارج كالركافض مف الشيعة كالقدرية مف المعتزلة ،ىك عدـ تفكيرىـ
بعضيـ بعض ،لذا فيـ أىؿ الحؽ ،ألف الحؽ ال يختمؼ فيو أك حكلو 5.كىنا نبلحظ انتشار ذىنية العصر المثالي كالجيؿ األكؿ
الذىبي ،كىي الذىنية التي كانت مكجكدة عند اإلغريؽ مثبل .مع العمـ أف أىؿ السنة كالجماعة لـ يككنكا عمى كفاؽ مطمؽ ،مما
يجعؿ التمسؾ بيذه الفكرة ضرب مف اليكتكبيا التي تنشئيا كؿ الشعكب حكؿ ماضييا المثالي.
كقد قاـ الدكتكر صبحي ،بالبحث عف مدل مصداقية قكؿ األشاعرة بأنيـ أخبلؼ أىؿ السنة كالجماعة ،فقارف مقاالتيـ بمكقؼ
اإلماـ أبك حنيفة النعماف (ؽ 2ىػ) الذم لـ يتعمؽ في مسائؿ القدرة اإلنسانية كالقرآف بيف الخمؽ كالقدـ ،كمكقؼ اإلماـ مالؾ بف أنس
كبدع كؿ مف بحث في كيفية استكاء ا﵀ (االستكاء معمكـ كالكيؼ مجيكؿ كالسؤاؿ عف ىذا
الذم رفض أم كبلـ ال ينطكم عمى عمؿ ٌ
بدعة كاإليماف باالستكاء كاجب) .كأراء الشافعي الذم استيجف الكبلـ عندما قاؿ عنو اإلصابة فيو ببل أجر كالخطأ في كفر ،مما
يجعؿ الرىاف عميو خاسر في كؿ األحكؿ .ككبلـ ابف حنبؿ الذم تب أر مف المعتزلة كطريقتيـ في الكبلـ عف خمؽ القرآف ،كالذم
1
عبد الستار غز الديف الراكم :ثكرة العقؿ -مدرسة بغداد اإلعتزالية ،دار الخمكد لمتراث ،القاىرة ،الطبعة األكلى ،2006 ،ص
.237
2زىدم جبار ا﵀ :المعتزلة ،األىمية لمنشر كالتكزيع ،بيركت ،الطبعة االكلى ،1974 ،ص .189
3
يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،ص .10
4
محمد بمخير الراجحي الشيرم :المدارس األشعرية -دراسة مقارنة ،دار اليدل النبكم كدار الفضيمة ،القاىرةػ الطبعة األكلى،
،2015ص .15
5
عبد القاىر البغدادم :الفرؽ بيف الفرؽ كبياف الفرقة الناجية ،مرجع سابؽ ،ص .312
131
استشيد بو األشعرم بكثرة .كتكصؿ صبحي إلى أف ليس ىناؾ رابطة قكية بيف أصحاب المذاىب الفقيية كبيف آراء األشاعرة ،مما
يدؿ عمى أف األئمة األربعة ليسكا أسبلؼ األشاعرة في شيء 1.ثـ أنيـ فقياء ال متكمميف ما عدا الحنابمة الذيف خاضكا في الكبلـ
مكرىيف مف أجؿ رد أطركحات المعتزلة التي شكشت عقدية العامة.
ربما أف نشأة األشعرم في البيت اإلعتزالي ،سكاء في المستكل العائمي أك المذىبي ،ىك الذم يجعمو مختفا كفؽ منطؽ الضركرة
عف المذاىب الفقيية المشيكرة .فبل يمكف أف يككف فكره معتدال كنمكذجا بالنسبة ألىؿ السنة كالجماعة ،كىك الذم رضع االعتزاؿ
مبكرا .كنحف نعمـ بأف تأثير السنكات الفكرية األكلي ليس باألمر الييف ،فبل يمكف أف ننقمب كمية عمى القعائد التي تشكمت فينا قبؿ
الحمـ كالرشد 2.لذا فإف ثكرة األشعرم تبقي نصؼ ثكرة ألنو لـ يتخمص كمية مف آثار االعتزاؿ .فالغزالي عندما نشأ عمى التصكؼ في
بداية حياتو أنتيى إليو بالضركرة .كتبدك العبلقة بيف األشعرم كالمعتزلة كالعبلقة بيف سقراط كالسكفسطائية ،فبل يمكف أف تحارب
السفسطائية إال إذا كنت منيـ ! كما ال يمكف أف تقكض اإلعتزاؿ إال إذا تسمحت بطرقيـ.
-3النشأة والتسمية:
ارتبط نشأة مذىب األشاعرة بحركة انفصالية كتصحيحية مثيرة في تاريخ عمـ الكبلـ اإلسبلمي ،حيث كاف أبك الحسف األشعرم
تمميذا ألحد كبار المعتزلة ممف ينتمي إلى الطبقة الثامنة كىي الطبقة التي عرفت اكتماؿ كنضج آراء ىذه الفرقة .كلـ يكف تتممذ
األشعرم عمى المعتزلة تتممذ خارجيا أك سطحينا بؿ كاف الجبائي ،معممو كعمو كزكج أمو بعد كفاة أبكه ،مما يعني أنو نشأ نشأة
اعتزالية خالصة ،في البيت كالمدرسة .كيبدأ التأريخ لبلنفصاؿ المذىبي بالمناظرة الشييرة بيف الجبائي كتمميذه األشعرم حكؿ "تعميمية
األفعاؿ اإلليية" أم ىؿ ا﵀ تعالي يبرر أفعالو أماـ عباده ؟ كىي المناظرة التي ذكرتيا كؿ كتب التاريخ اإلسبلمي بداية بالفيرست
إلبف النديـ...الخ حيث تبدأ بسؤاؿ األشعرم :ما حكـ الذم مات مؤمنا كالذم مات كاف ار كالذم مات صبيا ؟ فأجب الجبائي :األكؿ
مف أىؿ الدرجات كالثاني مف أىؿ الدركات كالثالث مف أىؿ النجاة .ثـ سأؿ األشعرم ىؿ يمكف ألىؿ النجاة أف يرتقي إلى الدرجات
؟ أجا ب الجبائي بالنفي ،فرد األشعرم :ماذا لك أف الطفؿ قاؿ لربو لك أحييتني لعممت كؿ الطاعات فالتقصير ليس مني ! الجبائي:
كنت أعمـ لك أنني أحييتؾ الرتكبت المعاصي ككنت مف أىؿ الدركات .يسأؿ األشعرم مرة أخرل :ماذا لك قاؿ الكافر لماذا تركتني
ألعيش كأرتكب الكبائر ألككف مف أىؿ الدركات ؟ لماذا لـ تراعي مصمحتي مثؿ الصبي الذم أمتتو صغي ار لكي يككف مف أىؿ
النجاة ؟ 3فعجز الجبائي عف اإلجابة ،ككانت نقطة اإلنفصاؿ كالتخمي عف منطؽ المعتزلة في التفكير .كليذا السبب كلحمـ رآه
األشعرم رفقة رسكؿ ا﵀ يأمره بالعكدة إلى السنة ،قرر في النياية قطع صمتو بالمعتزلة كأعمف ذلؾ في خطبة الجمعة بمسجد البصرة.
اذف ،فاسـ األشعرية نسبة لممؤسس األكؿ أبك الحسف األشعرم المكلكد سنة 260ق كالمتكفي 324ق ،كالذم يقاؿ بأف نسبو
يعكد إلى الصحابي أبك مكسى األشعرم الذم لعب دك ار ميما في تحكيـ صفيف ،بسبب الميزة التي تفرد بيا كىي االعتداؿ كالحياد.
1
أحمد محمكد صبحي :في عمـ الكبلـ -دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف ،الجزء الثاني :األشاعرة ،دار النيضة
العربية ،بيركت ،الطبعة الخامسة.25-21 ،1985 ،
2
محمد بمخير الراجحي الشيرم :المدارس األشعرية -دراسة مقارنة ،مرجع سابؽ ،ص .26
3
عبد الرحمف بدكم :مذاىب اإلسبلمييف ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .498
132
كىناؾ مف يبلحظ كجكد عبلقة رمزية بيف األشعرييف ،عمى أساس مبدأ االعتداؿ كالكسطية ،فاألكؿ تكسط بيف المخاصميف كالثاني
تكسط بيف المذاىب المستقطبة أك بيف النقمييف كالعقمييف .كيسمى األشاعرة أيضا بالصفاتية ،ألنيـ يثبتكف الصفات اإلليية كما ىي
في القرآف الكريـ كاألحاديث النبكية .سكاء تعمؽ األمر بالصفات الذاتية كاألزلية مثؿ الحياة كالقدرة أك بالصفات الخبرية مثؿ الكجو أك
اليديف 1.لذا فيـ في مقابمة كاضحة مع ما يسمى بالببلكفية أم الفرقة التي تقكؿ بأف ا﵀ ببل كيفيات حسية أك مع فرقة المعطمة التي
تنفي كجكد أم صفات كتعطؿ الذات اإلليية.
-4طبقات األشاعرة:
لؤلشاعرة عدة مراحؿ تمتد مف بداية القرف الرابع لميجرة إلى غاية نياية القرف السادس ،مما يعني أنيا استمرت دكف انقطاع لمدة
تصؿ إلى ثبلثة قركف .تبدأ بالنشكء ثـ مرحمة االكتماؿ كأخي ار مرحمة األشعرية الفمسفية كلضعؼ أخيرا .ألنو مف الصعب القكؿ
بتبلشي ىذه الفرقة كمية مثؿ الخكارج أك المرجئة أك الجيمية ،بؿ ىي العقيدة الكبلمية لمكثير مف الفقياء كالعمماء اليكـ.
-1-2مرحمة النشأة:
أبك الحسف األشعرم .يقاؿ أنو ألؼ قرابة المائة كتاب ،مخصصة لمرد عمى المعتزلة ،كالرد عمى فبلسفة اليكناف القائميف
بقدـ العالـ ،كالرد أيضا عمى النيتشرييف (الطبعييف) كالدىرييف ،كالرد عمى باقي الممؿ كالنحؿ ،كجادؿ الشيعة...الخ كمف
أىـ كتبة المتبقية حتى اليكـ نجد :اإلبانة عف أصكؿ الديانة ،كالممع في الرد عمى أىؿ الزيغ كالبدع ،ككتاب مقاالت
اإلسبلمييف 2،كرسالة استحساف الخكض في عمـ الكبلـ ،كىي الرسالة التي قدمنا ممخص ليا في المحاضرة الرابعة
المخصصة لجدؿ عمـ الكبلـ بيف االستحساف كاالستثقاؿ .قدـ األشعرم أدلة عمى كجكد ا﵀ قائمة عمى ضعؼ اإلنساف
3
الييكمي كليس الزمني إذ إنتقالو مف مرحمة إلى أخرل يتطمب ناقؿ كىك ا﵀ تعالى.
أبك بكر الباقبلني المتكفي 403ق :تميز بالمنيج المنطقي كالجدلي ،كما أنو أدخؿ المكاضيع الطبيعية في عمـ الكبلـ
عمى طريقة بعض المعتزلة ،كبذلؾ يككف قد تكمـ في جميؿ الكبلـ كدقيقو .كمف أىـ مؤلفاتو "إعجاز القرآف" ك"التمييد في
الرد عمى الممحدة كالرافضة" .قاؿ بعدـ التبلزـ بيف العمة كالمعمكـ كىي الفكرة التي سيطكرىا الغزالي الحقا .كما تبنى نظرية
الكسب التي تربط التقدير اإلليي كالفعؿ اإلنساني .كاستثمر نظرية الطبيعة مف أجؿ اثبات قدـ ا﵀ 4.أم أف حدكث الطبيعة
يدؿ عمى قدـ ا﵀.
1
أحمد محمكد صبحي :في عمـ الكبلـ -دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف ،الجزء الثاني ،مرجع سابؽ ،ص .27
2
أحمد محمكد صبحي :في عمـ الكبلـ -دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف ،الجزء الثاني ،مرجع سابؽ ،ص .56
3
عبد الرحمف بدكم :مذاىب اإلسبلمييف ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .535
4
أحمد محمكد صبحي :في عمـ الكبلـ -دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف ،الجزء الثاني ،مرجع سابؽ ،ص ص
.114-98
133
عبد القاىر البغدادم :صاحب كتاب الفرؽ بيف الفرؽ المتكفي سنة 429ق .تميز بمكقفو المتصمب مف المعتزلة ،حيث
ختـ المقالة المخصصة لمقدرية المعتزلة قائبل :كالحمد ﵀ الذم انقذنا مف ضبلالتيـ المؤدية إلى مناقضاتيـ 1.بؿ أنو كفرىـ
كاعتبرىـ ،كفؽ الحديث المنسكب إلى الرسكؿ الكريـ ،بأنيـ مجكس األمة.
أبك المعالي الجكيني :الممقب بإماـ الحرميف كىك معمـ الغزالي ،تكفي 478ق .تخصص في الفقو كأصكلو كالكبلـ .كمف
نقده الفبلسفة تكجو نحك التصكؼ .تكمـ عف خمؽ أفعاؿ العباد بما يتكافؽ مع نظرية الكسب األشعرية ،حيث أف األفعاؿ
مقدكرة بالقدرة اإلليية القديمة كمقدكرة بالقدرة الحادثة لمعبد 2.كىذه القدرة الحادثة ال تنفصؿ عف القدرة القديمة ،كبيذا تجاكز
معضمة اإلعتزاؿ التي فصمت قدرة اإلنساف عف قدر ا﵀.
يعتبر الغزالي بحؽ أكبر فيمسكؼ في العالـ اإلسبلمي ،كتجربتو الشكية التي عرضيا في كتابو األخير المنقذ مف الظبلؿ
فريدة كصادقة ،حيث انتقاؿ مف الكبلـ إلى التصكؼ .كبيذا االنتفاؿ يمرر رسالة ىامة كىي أف الكبلـ مرتبة أدنى في البحث
عف اليقيف ،كاإليماف ليس كبلـ خالص بقدر ما عمؿ .ككما ظير لنا سابقا ،فإف عيب الكبلـ ىك استعماؿ منيج الفبلسفة غير
المسمميف ،مع العمـ أف الغزالي قد عاش بعد مرحمة المأمكف الترجمية .كبكشفو عف تيافت الفبلسفة يككف قد كشؼ عف
األخطاء التي كقعكا فييا ،حيث لزـ تكفيرىـ في المسائؿ الثبلثة المتعمقة بقدـ العالـ كعمـ ا﵀ بالجزئيات كانكار البعث .سنجد في
كتاب الغزالي انكار لمبدأ العمية مف أجؿ تبرير المعجزات 3.ككؿ ىذا تأكيد عمى حدكد العقؿ البشرم في المسائؿ اإليمانية ،مما
يجعمو في قمب العقيدة األشعرية ،ألنو يدعكا إلى العكدة لمسنة كالجماعة .كقد تماىي المذىب األشعرم ،مف خبلؿ الغزالي ،مع
نظاـ الممؾ السمجكقي ،ضد مذاىب عقدية مخالفة ليا .كىنا نتذكر تماىي الفرؽ مع السمطة كما حدث مع المعتزلة كالمأمكف.
كفي ىذا داللة كاضحة في أف الفكر اإلسبلمي قد عرؼ تقاطعات بيف السمطة كالكبلـ أكثر مف مرة .كتجربة ابف تكمرت
العقائدية كالسياسية مثاؿ آخر ليذه الكحدة .حيث شكمت عقيدة السمطاف جزء مف مذاىب الكبلـ .مما يعني تبيعة الرعية لعقيدة
الراعي .كىذا يجعمنا نراجع نقديا أطركحة كائؿ حبلؽ في االنفصاؿ بيف العقائد كالسياسية في التاريخ اإلسبلمي السابؽ.
تميز الرازم ،بسبب تخصصو كتككينو العممي ،باستخداـ العبارة الفمسفية كالطبيعية كمصطمحات الميتافيزيقا القديمة (كاجب
الكجكد ،ممكف الكجكد ...الخ) .كعمى الرغـ مف نقده لؤلشعرم كالباقبلني ،إال أنو اعتبر النقؿ أكثر مكثكقية مف العقؿ في الكبلـ.
كقد اكتممت مرحمة النمك بعضد الديف اإليجي المتكفي سنة 756ق .كبدأت مرحمة التدىكر التي امتدت مف القرف التاسع إلى القرف
1
عبد القاىر البغدادم :الفرؽ بيف الفرؽ كبياف الفرقة الناجية ،مرجع سابؽ ،ص .188
2
أحمد محمكد صبحي :في عمـ الكبلـ -دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف ،الجزء الثاني ،مرجع سابؽ ،ص
.160
3
دار كمكتبة اليبلؿ ،بيركت ،2002 ،ص 189كما تبلىا. الغزالي :تيافت الفبلسفة،
134
الثالث عشر ،حيث ساد التقميد ببل أم تجديد أك أصالة في الطرح كالعبارة 1.ليذا فإف أشعرية اليكـ تمثؿ ضرب مف التبعية ببل أدنى
نظر أك اجتياد ،كعندما يكتمؿ المذىب كيخبكا التجديد ،فبل يمكف الحديث عف مذاىب كبلمية عمى كجو الحقيقة ،بقدر ما نتحدث
عف تطبيؽ المذاىب فقط .فااللتزاـ ال يشكؿ فك ار كبلميا ،بؿ ما يشكمو ىك التجديد كالرفض كالنقد ببل نياية.
يمكف التأكيد عمى أف منيج المعتزلة كسطي أك قؿ تكفيقي ،أم التكسط بيف النقؿ الكمي لدل أىؿ السمؼ كالعقؿ المطمؽ لدل
المعتزلة .لكف ىذا ال يجعميـ منفصميف كمية عف المعتزلة ،بؿ أنيـ في الكثير مف المكاضيع قد كانكا تابعيف ليـ ،فقط أضافكا عمى
مناىج السمؼ التي تعتمد كمية عمى السمع كاألثر .لذا يمكف التقرير بأف منيج األشعرية ىك النقؿ الذم يتأسس عمى الكتاب كالسنة.
مما يعني أف التقميد أىـ بكثير مف التفكير .يقكؿ األشعرم مكضحا أصكؿ نظرتو كطرائقو" :قكلنا الذم نقكؿ بو كعقيدتنا التي نديف
بيا ،التمسؾ بكتاب ا﵀ كسنة نبيو كما ركم عف الصحابة كالتابعيف كأئمة الحديث كنحف بذلؾ معتصمكف كبما كاف عميو أحمد بف
نضر ا﵀ كجو ( )...قائمكف ،لمف خالؼ قكلو مجانبكف .كالمعتزلة مف الزائغيف عف الحؽ كتأكلكا القرآف عمى آرائيـ تأكيبل
حنبؿ ٌ
2
كنحف نعمـ ما ىي الداللة الرمزية كخالفكا ركايات الصحابة كأنكركا شفاعة الرسكؿ كدانكا بخمؽ القرآف كقنطكا الناس مف رحمة ا﵀.
لتأصيؿ المرجع الحنبمي .لكف عقبلنية األشاعرة مف األمكر المثبتة أيضا .كيظير ذلؾ مثبل في كؿ المقاالت التي ألفكىا في الكبلـ.
الحؽ أنو ال يمكف ممارسة الكبلـ دكف االعتماد عمى العقؿ المنطقي .فالبرىاف الطبيعي الذم عرضناه سابقا عند األشعرم داللة عمى
اعتماد منيج عقمي في البرىاف ع مى كجكد ا﵀ ،كتجاكز األدلة النقمية الكاردة في القرآف ،ألف الكبلـ يقتضي تطبيؽ مبدأ العقؿ
أم كاف .ثـ أف تكظيؼ األشاعرة لؤلدلة الغائية ،كىي
المنطقي الذم ينتقؿ مف قضية إلى أخرل كفؽ رباط ال يمكف التنكر لو مف ٌ
3
التي سنجدىا عند ابف خمدكف األشعرم ،دالة عمى اعتماد منطؽ البرىاف الفمسفي.
في مسألة الصفات ،يتفؽ معظـ األشاعرة عمى أنيا مثبة عمى الذات اإلليية ،كال يمكف بأم حاؿ إنكار أم صفة مثمما فعؿ
المعتزلة مف خبلؿ التأكيؿ .كلئف كصؼ ا﵀ ذاتو بالصفات ،مثؿ العمـ كالقدرة كالحياة كاإلرادة كالسمع كالبصر كالكبلـ ،فبل يمكف لنا،
نحف المتكمميف أف ننقص منيا كما فعؿ االعتزاؿ حيف أثبت ثبلثة صفات فقط (السمع كالبصر كالكبلـ) .أما الصفات الخبرية،
المرتبطة بالكيفيات الحسية ،فقد سار األشاعرة في نيج السمؼ بخاصة ما عرؼ عف اإلماـ مالؾ بف أنس .فكمما أثبتنا صفة خبرية،
مثؿ الكجو أك اليد ...الخ يجب أف نعتبرىا صفة ببل كيفية حسية ،فالسؤاؿ عف كيفية االستكاء بدعة .في مسألة رؤية ا﵀ فقد أثبت
1
أحمد محمكد صبحي :في عمـ الكبلـ -دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف ،الجزء الثاني ،مرجع سابؽ ،ص
.375
2
أبي الحسف األشعرم :اإلبانة عف أصكؿ الديانة ،الجزء ،1تحقيؽ فكقية حسيف محمكد ،دار االنصار ،القاىرة ،الطبعة األكلى،
،1977ص .14
3
ابراىيـ مذككر :في الفمسفة اإلسبلمية -منيج كتطبيقو ،الكتاب الثاني ،دار الكتاب المصرم ،القاىرة ،2015 ،ص .82
135
األشاعرة مف خبلؿ األشعرم كغيره ،إمكانية الرؤية ألف القرآف أثبت ذلؾ( .القيامة )22 ،كمف الناحية العقمية ،فإف إنكار رؤية ا﵀
يكـ القيامة يدؿ عمى عدـ كجكده كىذا محاؿ 1.لذا فصفاتية األشعرية مف سمفيتيا.
تدؿ نظرية الكسب ،كىي النظرية األشعرية األصيمة ،كالتي تبناىا ابف رشد عمى الرغـ مف ميكلو المعتزلية ،عمى التفكير العقمي
الدقيؽ مع عدـ اىدار النصكص القرآنية المحكمة .ففكرة الكسب معارضة صريحة لمكقؼ المعتزلة الذم أظيرناه ،لكف لـ يتـ
معارضة نظرية المجبرة في المقابؿ ،ألف اثبات الجبر كالقدر الكمي ال يتنافي في أم شيء مع النصكص الصريحة .لكف األشاعرة ال
ييدركف أيضا منطؽ االختيار اإلنساني ،كمفيكـ الكسب ذاتو انقاذ لحرية اإلنساف .فيناؾ القدر اإلليي األكؿ كاألسبؽ ،كما الكسب
ال بشرم إال قدرة بيف ما قدره ا﵀ في األصؿ ،فاالستطاعة البشرية ليست أصمية كأزلية ،بؿ ىي مصاحبة لمفعؿ الذم قدره ا﵀ مسبقا.
كقد فصؿ الباقبلني مفيكـ القضاء لكي يستطيع تثبيت نظرية الكسب بأدلة عقمية دقيقة .فيك يعتقد بأف القضاء اإلليي يدؿ عمى
األقؿ عمى أربعة معاف -1 :الخمؽ -2 ،اإلخبار كاإلعبلـ -3 ،اإللزاـ كالحكـ .كا﵀ قد قضى في المعاصي كقدرىا عمى النحك 3ك
.4مما يعني أف "ما يقبح صدركه منا ال يقبح إف صدره عنو أك أمر بو سبحانو" 2.كىذا الجمع ،كالذم يفيد الكسطية مف أجؿ الحفاظ
عمى أكلكية النص مف جية كعمى تكميؼ اإلنسا ف مف جية أخرل ،ىك الخيار األشعرم الذم يقكؿ بأف الفعؿ يتأثر بقدرة ا﵀ بكاسطة
قدره العبد 3.بدال مف القكؿ العكسي الذم قاؿ بو المعتزلة ،إذ تجعؿ الفعؿ يتأثر بقدرة العبد بكاسطة قدرة ا﵀.
ما حقيقة العبلقة بيف االعتزاؿ كالسنة ؟ يبدك أف المشيد الكاضح ىك أف المعتزلة مثمت حمقة كسطى بيف سيادة الفيـ السني
لؤلكائؿ كسيادتو الفيـ السنى لؤلكاخر .مما يعني أف مسار العقائد اإلسبلمية قد انطمؽ مف الفيـ المعتدؿ المتكسط القائـ عمى التسميـ
بالنقؿ إلى مرحمة الفيـ العقبلني الممزكج بالفمسفة كالمنطؽ ثـ عاد إلى الحالة األكلى مف حيث أنو أنقص جرعة العقبلنية في الديف.
كبعد األشاعرة استتب األمر عمى حالة إلى اليكـ ،حيث كؼ الفكر اإلعتزالي عف إنتاج مزيد مف النصكص .كيفسر العقبلنييف العرب
ىذه االنتكاسة بنبذ العامة لمك بلـ اإلعتزالي كاألثر اليائؿ لمغزالي األشعرم مف خبلؿ كتبو العامة (اإلحياء) كالخاصة (التيافت) عمى
تشكيؿ الكعي العقدم كاألخبلقي اإلسبلمي.
عمى الرغـ مف الصراع الكبير بيف منطؽ المعتزلة كمنطؽ األشاعرة ،إال أنيما انطمقا مف نفس االستراتيجية التأصيمية ،إذ أف
أصؿ أطركحاتو في أىؿ السنة كالجماعة .فالطبقة األكلى كالثانية لممعتزلة ،حسب تصنيفيـ ،تعكد إلى الصحابة
كبل الفرقتيف قد ٌ
األكائؿ ،في حيف أف األشاعرة كما أظيرنا ،يدعكف بأنيـ أخبلؼ األئمة كالفقياء الكبار .كىنا نمحظ مدل حذر الفرؽ مف االستقبلؿ
الفكرم ،ألف أم تجديد في عمـ العقائد أك الفقو أك األصكؿ ،يعرض لمكقكع في االبتداع الذم نيا عنو الرسكؿ الكريـ في الحديث
المشيكر؛ حديث البدعة كالضبللة كالنار .كىذه العقبة في التي جعمت عمماء الكبلـ يفكركف تحت نمكذج التبديع كالتفكير ،مما يدؿ
عمى انعداـ الحرية الخالصة في الفكر .كىذا المكقؼ طبيعي جدا ،في سياؽ التفكير العقائدم ،فبل يمكف أف نستعمؿ العقؿ الخالص
1
أحمد محمكد صبحي :في عمـ الكبلـ -دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف ،الجزء الثاني ،مرجع سابؽ ،ص .68
2المرجع نفسو ،ص .104
3
جبلؿ الديف الدكاني :رسالة في أفعاؿ العباد ،مركز العبلمة ابف عرفة لمتككيف في العمكـ اإلنسانية ،ص .5
136
في أمكر الديف ،يتحكؿ ىنا العقؿ لكسيمة لمحفاظ عمى العقائد ككؿ كسيمة يجب أف تككف تحت األىداؼ ال فكقيا .ثـ أف التقاطعات
بيف الفرقتيف قد حدث في أكثر مف شخصية اعتزالية ،فحسب ابف تيمية ،كالذم انتقد األشعرية رغـ كسطيتيا ،فيناؾ معتزلة األشاعرة
كأتباعو ،كمتفمسفة األشاعرة مثؿ الغزالي كالرازم كاألمدل 1.مما يعني أف تطكر األشعرية قد جعميا تخرج مف األصكؿ الكبرل التي
تؤسس عمى العكدة لمنيج األثر عند السنة كالجماعة .إذ أف الغزالي ،الذم كاف مع الفبلسفة فيمسكؼ كمع المتكمميف متكمـ كمع
الصكفييف صكفي ،قد نجح في ربط األشعرية بالفمسفة كالمنطؽ عندما جعؿ المقدمات األصكلية منطقية .فبل يجب أف نسير في
أطركحة الحداثييف الذيف اتيمكه بقتؿ الفمسفة اإلسبلمية ،بؿ أف الغزالي تفمسؼ عمى مقتضى اإلسبلـ ،كرفضو التفمسؼ عمى مقتضى
العمكـ الكافدة مبرر مف عدة أكجو .كمنو فإف الغزالي قد ساىـ في انشاء فمسفة اسبلمية مخصكصة بخصائص اإلسبلـ ،ككبلمو كاف
كفؽ األصكؿ العقدية ال كفؽ المنطؽ الكافد .كقد أثبتا في محاضرات سابقة ارتباط المنطؽ بالعقائد كالنظرة الكمية لمكجكد.
تقسـ الفكر الدي ني اإلسبلمي المعاصر بيف ركحيف :ركح اإلعتزاؿ ممثبل في كؿ الحداثييف اإلسبلمييف مثؿ أرككف كعبد المجيد
الشرفي كيكسؼ الصديؽ...الخ كركح األشعرية مثؿ جماؿ الديف األفغاني كمحمد عبده أك محمد اقباؿ الذم يعتقد بأف األشعرية ىي
الفرقة السميمة مف بيف كؿ الفرؽ 2.كلك أف ا لقراءات الحداثة لمقرآف قد قكبمت بالرفض مف طرؼ العامة ،فإف ىناؾ محاكالت حثيثة
مف أجؿ األخذ بالناس إلى فيـ القرآف عمى أصكؿ العقبلنية المنطقية كالخالصة مف أم خمفيات مذىبية .فيما يتعمؽ بمحمد عبده ،فقد
ماؿ إلى األشعرية عمى أساس أنو حدد المسائؿ الكبلمية الكبرل ،مف منطمؽ النقؿ حيف أظير حدكد العقؿ في مسائؿ العقائد ،إذ
يقكؿ" :كمف الصفات ما جاء ذكره عمى لساف الشرع ،كلكف ال ييتدم إليو النظر كحده ،كيجب االعتماد بأنو ج ٌؿ شأنو متصؼ بيا
3
كأشعرية عبده مبررة مف حيث أنو نشأ في األزىر حيث المناىج محافظة ،كما أف اتباعا لما قرره الشرع ،كتصديقا لما أخبره بو".
4
رسالة التكحيد ،التي تعتبر أىـ كتاب عقائدم ألفو ،قد كتبيا قبؿ أف يحتمؾ بالفكر األكركبي بكثير.
ال يمكف اعتبار المعتزلة فرقة عقمية خالصة ،فبمجرد أنيا فرقة كبلمية ،فيذا يعني أف ليا مسممات عقدية ال تتجاكزىا ميما
كمؼ األمر .فمشكمة خمؽ القرآف كالتي تكحي بأف القرآف قد ظير ألسباب مخصكصة كفي زمف مخصكص ،ال يتيح لممعتزلة في
التشكيؾ في المصدر اإلليي لمقرآ ف ،كدفاعيا عف حرية اإلنساف لـ يكف بمعزؿ عف ركح العقائد القرآنية التي تؤسس لمقضاء كالقدر.
لذا فإف المعتزلة بعيدكف عف الفمسفة الخالصة .إف الكبلـ اإلعتزالي كاألشعرم قد تجاكز الفيـ العقدم المباشر ،ألنو كلج إلى درجة
الفيـ الفمسفي كالعقمي كالذم يسقط العديد مف المسممات اإليمانية العامة .كىي مرحمة طبيعية في أم ديف ،ألف اإليماف المباشر
1
محمد بمخير الراجحي الشيرم :المدارس األشعرية -دراسة مقارنة ،مرجع سابؽ ،ص .20
2
محمد اقباؿ :تجديد التفكير الديني في االسبلـ ،ترجمة عباس محمكد ،دار اليداية لمطباعة كالنشر كالتكزيع ،الطبعة الثانية،
،2000ص .83األشاعرة ىك المذىب األسمـ في عمـ الكبلـ عند المسمميف.
3
محمد عبده :رسالة التكحيد ،دار الشركؽ ،القاىرة ،الطبعة األكلى ،1994 ،ص .48
4
لكيس غارديو كجكرج قنكاتي :فمسفة الفكر الديني بيف اإلسبلـ كالمسيحية ،ترجمة صبحي الصالح كفريد جبر ،الجزء األكؿ ،دار
العمـ لممبلييف ،بيركت .316 ،أيضا :ابراىيـ مذككر :في الفمسفة اإلسبلمية -منيج كتطبيقو ،الكتاب الثاني ،مرجع سابؽ ،ص .94
137
كالعاطفي سيتقدـ كفؽ نمك الحضارة إلى اإليماف العقمي الذم يقدـ في لغة اصطناعية كبرىانية .يقكؿ "فاف ايس" مستشيدا بأرككف:
"اشتيرت فرقة المعتزلة بأنيا تكلي لمعقؿ أىمية خاصة .إال أنيا ،عمى ما يبدك ،لـ تضع إال قميبل مف األطر النظرية فيما يخص
ذلؾ؛ حيث استطاعت االعتماد عمى إجماع كاسع .ىذا االجماع الذم اتسعت رقعتو خاصة في البصرة ،سكاء في أكساط القدرية أك
في أكساط الزىاد .لـ يينظر لمعقؿ في ىذه المرحمة عمى اعتباره قاسـ عاـ ،كلـ ينظر إليو – مف باب أكلى -عمى أنو يمد اإلنساف
برؤل فكرية خاصة ،كانما اعتبر بمثابة كسيمة تعيف عمى الحياة كتحجيب عف السؤاؿ عف إرادة ا﵀ في مكاقؼ معينة .مف أجؿ ىذا
لـ تشيد ىذه المرحمة إمكانية فصؿ العقؿ عف العمـ المكجكد في القرآف أك السنة ،ألنو بمثابة مصدر الثقة ،كال يمكف تأكيؿ األمكر إال
انطبلقا منو .لكف العقؿ كحده ال يتسنى لو إيجاد األسس في ذلؾ( .ىذا ما يؤكد عميو محد أرككف ضمف Annuaire "de
1
).l'Afrique du Nord, 1979
النقطة الفارقة بيف المعتزلة كاألشاعرة مرتبطة بمسألة قبكؿ التقميد األجنبي الكافد عمى اإلسبلـ ،ألف استعماؿ العقؿ بدكف لجاـ
تقديسي ينتيي إلى ضرب مف التعاطؼ مع العقؿ الكثني الذم لـ يكف يضع حدكدا بيف اإلنساني كاإلليي 2.كبالتالي فإف التيافت ىك
مصير كؿ مف اس تعماؿ العقؿ عمى المنكاؿ اإلغريقي .كىنا يككف الغزالي األشعرم قد أدرؾ مصدر الخمؿ في الكبلـ اإلسبلمي،
كحركة الترجمة لعبت الدكر األكبر في تطعيـ الفكر األصيؿ بكسائؿ دخيمة لـ تنبت مف صميـ المناخ اإلسبلمي ،كفي ىذا تشكيش
حقيقي عمى العقائد اإليمانية .يمكف القكؿ في ىذا السياؽ ،بأف األشاعرة كانكا أكثر نضجا مف المعتزلة الذيف أخذكا في مزج األفكار
دكف مراعاة لمصدرىا كمآالتيا 3.حقيقية أف ىذا المزج قد كلد نكافذ رؤية جديدة قد تثير حماسة المفكر ،لكنو ينتيي إلى خمؽ فكضي
حقيقية في العقائد .فالعقيدة نسؽ متبلحـ مف المسممات كالنكاتج المترتبة عنيا ،كاذا تـ استعماؿ كسائؿ دخيمة أك مسممات أخرل
أجنبية المنشأ ،فإف المآؿ ىك البمبمة العقدية.
1
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .190
2
عمي بف مخمكؼ :لماذا نق أر الفبلسفة العرب ؟ ترجمة أنكر مغيث ،آفاؽ لمنشر التكزيع ،القاىرة ،الطبعة األكلى ،2018 ،ص .32
3
يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،مرجع سابؽ ،ص .145
138
المحاضرة السابعة :أصل الفرق الكالمية)3( .
تقديم.
اعتبرنا الفرؽ الثبلثة اعتقادية ،ألنيا تناكلت مسائؿ مرتبطة بعقائد اإلسبلـ ،كاستجمعنيا في محاضرة كاحدة ،ألنيا لـ تبمغ مرتبة
الفرؽ الكبرل ،بخاصة المعتزلة كاألشعرية .كاعتبارىا فرؽ كبرل مرتبط باألسماء الثقيمة التي مثمتيا كبامتدادىا التاريخي الطكيؿ
كبقدرتيا عمى تشكيؿ فرؽ كاممة األركاف ،بحيث تناكلت كؿ المسائؿ التي شكمت عمـ الكبلـ مثؿ الذات اإلليية كصفاتو ،الحرية
اإلنسانية اإلرادة ،التأكيؿ ،المجاز في القرآف ،الغيبيات...الخ .ما نمحظو عمى فرقتي المرجئة كالمجبرة ىي أنيا فرؽ جزئية تناكلت
مسألة خاصة ال ترتقي لتشكؿ مذىب كبلمي كامؿ ألركاف.
أوال -المرجئة:
أفرزت الفتنة في صفيف فرقتيف متصارعتيف ىما الخكارج كالشيعة ،كطرحت بحدة مسألة مصير مرتكب الكبيرة ،ألف القتاؿ
داخمي بيف المسمميف ،كاستباحة النفس المؤمنة ،كبيرة مف الكبائر ،عمى خبلؼ قتؿ الكفار .لذا كاف دائما يثار جدؿ حكؿ مصير
القاتؿ كالمقتكؿ معا ،عمى اعتبارىما مسمميف في العقائد كاألفعاؿ .كاحتدـ الجدؿ ببل نتيجة كاضحة ،ككؿ فرقة تستدؿ مف القرآف
كالسنة بخاصة الحديث .في ىذه السياقات ظيرت فرقة عممت عمى تخفيؼ حدة الجدؿ مف خبلؿ افتراض أف حكـ فاعؿ الكبيرة
مؤجؿ إلى ا﵀ .كمف ىنا تـ تكظيؼ الكممة القرآنية "ارجاء" لتكصيؼ ىذه الكضعية .لذا يمكف القكؿ بأف "اإلرجاء نشأ في األصؿ
بخصكص مكاقؼ عمي كعثماف؛ حيث تردد أننا ال ندرم أييما قد كقع في "اإلثـ" .كىذا مكقؼ سياسي يتسـ باالعتداؿ .ثـ تحكؿ
مكقفيـ السياسي إلى مذىب كبلمي :مفاده أنو ال يحؽ ألم كاف القدح في ايماف أخيو المسمـ .مكقؼ تبمكر في الربع األخير مف ؽ
1ق)" 1.كىذا يدؿ عمى المنشأ السياسي لممرجئة قبؿ أف تتحكؿ إلى كبلـ عقائدم أسس لنظريات مرتبطة بمشكمة اإليماف خاصة.
ً ً ً ً يدؿ لفظ اإلرجاء عمى التأجيؿ كالتأخير .كقد كرد في القرآف الكريـ ما يمي﴿ :قىاليكا أ ٍىرًج ٍو ىكأ ى
ىخاهي ىكأ ٍىرس ٍؿ في ا ٍل ىم ىدائ ًف ىحاش ًر ى
يف﴾
َّ ً
كف يم ٍرىج ٍك ىف ًأل ٍىم ًر المو إً َّما يي ىع ّْذيبيي ٍـ ىكًا َّما ىيتي ي
2
كب ىخ ير ى﴿كآ ى
[األعراؼ ]111 ،بمعنى التمييؿ كالتأخير .ككما كرد أيضا في قكلو الكريـ :ى
ً َّ ً
يـ﴾ [التكبة ]106 ،كىذه اآلية الثانية تدؿ عمى اعطاء األمؿ كالرجاء لفرقة ما مف الناس لينظر ا﵀ في أعماليـ. ىعمىٍي ًي ٍـ ىكالموي ىعم ه
يـ ىحك ه
كىذا ما قد يجعميـ يعتقدكف أف ىناؾ فاصؿ بيف اإليماف كالعمؿ .أم أف ترؾ األعماؿ المطمكبة شرعا ال يمغي اإليماف بصكرة كاممة.
كمصدر ىذا المكقؼ مرتبط بمشكمة "زيادة ونقصان اإليمان" .حيث يذكركف حديث منسكب إلى الرسكؿ الكريـ فيو يقكؿ﴿ :مف زعـ
أف اإليماف يزيد كينقص ،فزيادتو نفاؽ كنقصانو كفر ،فإف تابكا كاال فاضربكا أعناقيـ بالسيؼ ،أكلئؾ أعداء الرحمف ،فارقكا ديف ا﵀،
1
يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،ترجمة عبد المجيد الصغير ،نشر الفنؾ ،الدار البيضاء،2000 ،
ص .102
2
عبد الكريـ الشيرستاني :الممؿ كالنحؿ ،الجزء األكؿ ،المكتبة العصرية ،بيركت ،2003 ،ص .111
139
كانتحمكا الكفر ،كخاضكا في ا﵀ ،طير ا﵀ األرض منيـ ...ىـ براء مف رسكؿ ا﵀﴾ 1.كما أنيـ يستشيدكف بأحاديث الصحابة
الكبار ،حيث "ركل أبك عبد الحميد بف أبي ركاد( :ىك مرجئ تكفي 206ىػ) عف ابف عباس" :القدرية كفر كالشيعة ىمكة ،كالحركرية
بدعة ،كما يعمـ الحؽ إال في المرجئة" .يقكؿ كيعرؼ اإلرجاء بأسمكب سمفي" :اإلرجاء ىك مكقؼ أكلئؾ الذيف يككمكف ﵀ بقضاء
األمر فيما عمي عمييـ" .كنبلحظ ىنا أف األرجاء كالجبرية يجتمعاف في إناء كاحد ،ذلؾ ألف "مف يزعـ أف مع ا﵀ قاضيا أك قاد ار أك
رازقا أك يممؾ لنفسو خي ار أك نفعا أك مكتا أك حياة أك نشك ار لعنو ا﵀ كأخرس لسانو كأعمى بصره ك جعؿ صبلتو كصيامو منثك ار
2
كقطع بو األسباب ككبو عمى كجيو في النار".
يككف اإلرجاء ىبة لؤلمؿ ،في الحالة التي ال نقطع فييا بمصير الفاسؽ .إذ أف إرجاء حكمو إلى ا﵀ ،يعجمو آمبل ما ىك أرحـ
كأحسف .ىنا يقابؿ اإلرجاء التيئيس الذم قد نحممو عمى مرتكب الكبائر .كعندما نترؾ "القطع بكعيد الفساؽ" نككف إزاء المكقؼ
اإلرجائي 3.ككما ىك ظاىر ،فإف ىذه النظرة ال تأخذ المبدأ اإلعتزالي الذم سيظير الحقا ،تحت مسمى الكعد كالكعيد ،حيث يعتقد
البعض بأف ا﵀ حدد لممحسف كعكد كلممسيء كعيد كال يمكف أف يغير شيئا منيا .ىذه الصرامة المنطقية ىي التي تخمؽ يئسا في
نفس اإلنساف المعرض لمكبائر أك الذم كقع فييا ،صراحة أك ضمنا.
يبدك أف ىناؾ مدلكؿ ايجابي كمحمكد لئلرجاء ،كىك تأجيؿ النقاش البشرم حكؿ مصير الفاسؽ إلى حكـ ا﵀ ،كاإلنساف ميما
أكتي مف عمـ فبل يمكف أف يحسـ القرار النيائي حكؿ مصيره اك مصير غيره .كقد طرح الحقا مع المعتزلة مشكمة الشفاعة ،كقد رأينا
أف نفكر عامة المسمميف مف منطؽ المعتزلة غير المتسامح كاف بسبب نكرانيـ إلمكانية الشفاعة لمفاسؽ .أما الجانب المذمكـ لمفيكـ
اإلرجاء فيك الذم أتى في مبدأىـ المشيكر القائؿ" :ال يضر مع اإليماف معصية كال ينفع مع الكفر طاعة" .حيث يستدؿ المرجئة
عمى قكليـ مف خبلؿ تأكيدىـ بأف ا﵀ فرؽ بيف اإليماف كاألعماؿ في كتابو الحكيـ .عمى اعتبار أف اإليماف ىك تصديؽ القمب كقكؿ
المساف .لكف نحف نعمـ أف اإليماف ال ينفصؿ عف العمؿ تصديقا لقكؿ الرسكؿ الكريـ :اإليماف بضع كستكف شعبة ،أفضميا قكؿ ال
إلو إال ا﵀ ،كأدناىا إماطة األذل عف الطريؽ 4.كالظاىر أف المشكبلت التي تثيرىا مسممة الفصؿ بيف اإليماف كالمعصية كالفصؿ بيف
الكفر كالطاعة ىك اسقاط المعنى الحقيقي آليات الكعيد خاصة المتعقمة بالكفر .لكف لك تأممنا الجزء الثاني مف مبدأ اإلرجاء ،كىك
القكؿ "ال ينفع مع الكفر طاعة" لكجدناه صحيحا مقبكال ،عمى أساس أف الطاعات ال معنى ليا ببل إيماف حقيقي كصادؽ .أما الجزء
االكؿ القائؿ "ال يضر مع اإليماف معصية" ،فيك ظاىر الفساد ألف ىناؾ عبلقة عضكية بيف المعاصي كصبلبة اإليماف.
1
محمد غالب بركات :الفرؽ كالمذاىب في الرساالت الثبلث ،دار اآلفاؽ العربية ،القاىرة ،الطبعة االكلى ،2011 ،ص -185
.186
2
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،ترجمة
محي الديف جماؿ بدر كرضا حامد قطب ،مراجعة محسف الدمرداش ،منشكرات الجمؿ ،بيركت – بغداد ،الطبعة األكلى،2016 ،
ص .985
3
فضؿ ا﵀ الزنجاني :تاريخ عمـ الكبلـ في اإلسبلـ ،مجمع البحكث اإلسبلمية ،مشيد ،الطبعة األكلى ،1997 ،ص .85
4
محمد بف عبد العزيز السند :آراء المرجئة في مصنفات شيخ اإلسبلـ ابف تيمية -عرض نقد ،دار التكحيد لمنشر ،الرياض ،الطبعة
االكلى ،2007 ،ص .266
141
يؤرخ "فاف ايس" ظيكر اإلرجاء بما قيؿ عف "رفيؽ (أك قؿ صحابي) النبي بريدة بف الحصيب األسممي الذم شارؾ في أكاخر
حياتو في حممة الفتكحات في خرساف كمات في مارؼ في عيد الخميفة يزيد األكؿ .حيف سئؿ في سجستاف عف رأيو في الحرب
األىمية التفت بأيد مرفكعة باتجاه القبمة كقاؿ :يا إليي ،أغفر لعثماف كاغفر لعمي بف أبي طالب ،أغفر لطمحة بف عبد ا﵀ كاغفر
لمزبير بف العكاـ ىؤالء قكـ سبقت ليـ مف ا﵀ سكابؽ .فإف يشأ يغفر ليـ بما سبؽ ليـ فعؿ كاف يشأ يعذبيـ بما أحدثكا فعؿ حسابيـ
عمى ا﵀" 1.كفي ىذا القكؿ يمكف أف نبلحظ كيؼ تجمت الركح التي نشأ منيا المرجئة ،عمى أساس أف ىناؾ أمؿ ما في أف يعدؿ ا﵀
رأيو فيمف ارتكب الكبائر .فالفتنة التي انطمقت مع مكت عثماف سمسمة متتالية مف الكبائر التي لـ تتكقؼ حتى يكـ الناس ىذا.
كمشكمة ارتكاب الصحابة لكبائر ىي ما أقمؽ الضمير المسمـ كأسيـ في ظيكر العديد مف اآلراء الكبلمية ،بما في ذلؾ المرجئة.
فعندما نفترض ارتكاب أحد الصحابى لكبيرة مثؿ قتؿ النفس المؤمنة ،فيناؾ نسأؿ عف عبلقة ايمانو الذم ال يشؾ فيو كأعمالو التي
أفرزت معاصي مركبة .ألف الفتنة أشد مف الكفر كمف القتؿ ،كقد كقع الصحابة في فتف عديدة منيا فتنة الجمؿ ،كفتنة صفيف التي
أكدت بأالؼ مف أركاح المسمميف.
كعند عد فرؽ المرجئة ،نبلحظ افتراقيا عمى مقاس الفرؽ األخرل .حيث نجد الشيرستاني يتحدث عف أربعة أنكاع مف المرجئة:
مرجئة الخكارج ،كمرجئة القدرية أم المعتزلة ،كمرجئة الجبرية كمرجئة خالصة 2.في حيف نجد األشعرم اآلخر ،كىك البغدادم ،يقدـ
لنا ثبلثة أصناؼ مف المرجئة:
3
مرجئة ال جبرية كال قدرية :قالكا بإخراج العمؿ عف اإليماف.
لكننا نجد مف يتحدث عف ارجاء شيعي ،حيث تتحدث عقائد فاطمية عف أمؿ المغفرة مف السيئات لكؿ مسمـ .فمف مرجئة الككفة
"نجد عبد ا﵀ بف ازرة المرىي الحمداني كالذم نقؿ كالده حديثا مفاده أف فاطمة ستحمي مف خبلؿ عفتيا ذريتيا مف الجحيـ .كاف
4
مرجئيا ألنو كاف مؤمنا باختيار كؿ المسمميف :الحمد ﵀ ،الذم جعمنا مف أمة تغفر ليـ السيئات كال تقبؿ مف غيرىـ الحسنات".
كظيكر اإلرجاء الشيعي في الككفة مبرر جدا ،عمى أساس أنيا المدينة الحاضنة لشيعة عمي (ض) .لكف في الككفة بالذات لـ تكف
1
جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،ترجمة سالمة صالح ،الجزء األكؿ ،منشكرات الجمؿ،
بغداد – بيركت ،الطبعة األكلى ،2008 ،ص .218
2
عبد الكريـ الشيرستاني :الممؿ كالنحؿ ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .111
3
عبد القاىر البغدادم :الفرؽ بيف الفرؽ كبياف الفرقة الناجية ،مكتبة ابف سينا ،القاىرة ،1988 ،ص .178
4
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .897أيضا :جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،ترجمة سالمة صالح ،الجزء
األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .222
141
الكضعية جيدة بيف الشيعة كالمرجئة ،بؿ كانكا يعتبركنيـ ألد األعداء 1،عمى أساس أنو لـ يتـ البت في مصير الظالميف مف بني
أمية.
ما يثير انزعاج عامة المسمميف مف المرجئة ،ىك أنيا تساىمت كثي ار في مسائؿ ال يجب التساىؿ فييا .ألف اإلرجاء المطمؽ
يخمؽ حالة تساكم المراتب اإليمانية بسبب الفصؿ بيف األعماؿ .بؿ يمكف الحديث عف تأكيؿ مرجئي لمقرآف يخالؼ التأكيبلت السنية.
أبنا لكـ مقدمات يختمؼ إنتاجيا ،كذكر استدالؿ الخارجي كالمرجئ بقكؿ ا﵀ عز
كىذا ما يذكره ابف حزـ" :فإف شغب مشغب فقاؿ قد ٌ
كجؿ﴿ :ال يصميا إال األشقى ،الذم كذب كتكلى﴾ [اليؿ ]16-15فإف الخارجي [نسبة لمخكارج] قاؿ :قد صحت آثار كآيات بأف
القاتؿ يصبلىا كال يصبلىا إال األشقى الذم كذب كتكلى ،فالقاتؿ ىك األشقى الذم كذب كتكلى .كقاؿ المرجئ [نسبة لممرجئة] :قد
صحت آثار كآيات بأف المقر بالتكحيد كااليماف يدخؿ الجنة ،كالنار ال يصبلىا إال األشقى الذم كذب كتكلى ،فالزاني لـ يكذب كال
تكلى فبل يصبلىا .فاعمـ أنو ىذا مف البرىاف الذم نبيتؾ عميو فتذكر عميو" 2.ىنا نبلحظ كيؼ أف العقيدة اإلرجائية تساىـ في فيـ
معيف لمنصكص القرآنية بمعنى أف تشكؿ أحجبة فكؽ اآليات ،ىك الفيـ الذم ال يقبمو عامة المسمميف ،أك الفرؽ المختمفة عنيا.
مف الصعب تحديد القيمة الحقيقة لئلرجاء ،ففي حيف اعتبره البعض ،مثؿ الجابرم ،بمثابة استقالة مطمقة لمعقؿ مف خبلؿ
الرككف إلى التفكيض اإلليي 3.فإف ىناؾ مف رأل في اإلرجاء تكحيد لؤلمة بعد الشقاؽ كالخبلؼ الحاد الذم كقعت فيو" .إذ استبعد
المرء الحكـ عمى عثماف كعمي ،فإنو فعؿ ذلؾ مف أجؿ أف يحافظ عمى ىذه الكحدة .فقد انقسمت األمة في الحكـ عمييما ،كالخبلؼ
في الرأم يمتد حتى اإلىانات الشخصية .كلكف ال ينبغي لممرء أف يستسمـ لئلثارة الستبعادىما مف األمة اإلسبلمية بأف يسمي أحدىما
أك اآلخر بأنو غير مؤمف؛ فمصيرىما في اآلخرة غير معركؼ لنا .ما فعبله حدث أماـ عيف ا﵀ كسيسأالف عنو حيف يمثؿ كؿ منيما
أمامو كحيدا يكـ القيامة ( )...يمارس المرء اإلرجاء ،حيف يككف ثمة ما ىك خفي أك مشككؾ فيو بشأف الناس الذيف لـ يرىـ أبدا أك
أنيـ أمكات منذ كقت طكيؿ كال يكجد في القرآف آية تشير إلى خبلصيـ في اآلخرة" 4.يتحكؿ اإلرجاء كفؽ نص "فاف ايس" إلى مكقؼ
لمنجاة مف الحكـ عمى اآلخريف ،لذا فن حف اليكـ ،كألننا أكثر بعدا عف الحكادث األصمية ،ال يمكف لنا مف منطؽ العقؿ الحيادم ،أف
نحكـ عمى مصير أم مف الصحابة الكراـ .ال نممؾ إال ركايات نابعة مف منظكر معيف ال يخمكا مف مصمحة أك مفسدة .ككؿ ركاية
تاريخية تختمؼ عف التاريخ الخاـ ،ألنيا منظكرية كمكجية .بؿ يمكف تكسيع ىذا المكقؼ ليشمؿ كؿ المسمميف ،ألف أساس اإليماف
1
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .259
2
ابف حزـ األندلسي :التقرب لحد المنطؽ كالمدخؿ إليو باأللفاظ العامية كاألمثمة الفقيية ،تحقيؽ أحمد فريد المزيدم ،دار الكتب
العممية ،بيركت ،ص .135-134
3
محمد عابد الجابرم :العقؿ األخبلقي العربي – دراسة تحميمية نقدية في نظـ القيـ في الثقافة العربية ،مركز دراسات الكحدة العربية،
بيركت ،الطبعة األكلى ،2001 ،ص .73
4
جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،ترجمة سالمة صالح ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص
.242-241
142
ىك الشيادة ،كمف ثمة فإف األعماؿ متأخرة عف الشرط األكؿ .كيتحدد اإلرجاء بأف يؤجؿ اإلنساف الحكـ عمى أفعاؿ المسمميف
1
كالتكفير كما نعمـ ىك التعميؿ النصي اآلخريف ،كأكبر مشكمة عناىا المسمميف قديما كحديثا ،ىي الحكـ بالتكفير عمى الغير.
لممارسة العنؼ عمى الغير .لذا يتحكؿ اإلرجاء ،بمعنى تأجيؿ الحكـ إلى كسيمة إليقاؼ العنؼ المعنكم كالعنؼ الفعمي عمى األغيار
مف المسمميف أك غير المسمميف .إنو اعترؼ بمحدكدية الحكـ البشرم ،إزاء القدرة المطمقة لئللو .كنحف ال نممؾ اف نسأؿ ا﵀ عف
خيراتو أك ق ارراتو أك نسكخو .يقكؿ الماتريدم محددا قطبي اإلرجاء" :معنى اإلرجاء نكعاف؛ أحدىما محمكد كىك ارجاء أصحاب
الكبائر ليحكـ ا﵀ تعالى فييـ بما شاء ( )...كاإلرجاء المذمكـ ىك الجبر ،كىك اف يرجئ األفعاؿ إلى ا﵀ ال يجعؿ لمعبد فيو فعبل كال
2
تدبير شيء مف ذلؾ .كعمى ذلؾ المركم فقاؿ :صنفاف مف أمتى ال يناليـ شفاعتي؛ القدرية كالمرجئة".
تبقى فرقة المرجئة محدكدة التأثير ،بالنظر إلى جزئية مساىمتيا الكبلمية ،فيي لـ تتناكؿ كؿ القضايا الكبلمية مثمما كجدناه عند
المعتزلة كاألشعرية .ربما ىذا يعكد إلى ككنيا فرقة فجرية في عمـ الكبلـ ،أم ظيرت في البدايات األكلى مع الخكارج كالشيعة ،ففي
حيف نمت ا لشيعة لتتكسع كعقيدة كبلمية شاممة ،تكقفت المرجئة عند ما جادت بو قريحة األكليف ،كتكقفت دكف أف تستكمؿ بقية
ثـ أف مبدأ الفصؿ بيف العمؿ كالعقيدة جعميا غير معقكلة ،بالنظر إلى المجاالت المشكبلت الكبلمية مثؿ الحرية كالصفات...الخ.
الفقيية كالعممية التي تتطمب تجسي د اإليماف في أفعاؿ محسكسة كقابمة لممشاىدة .إف ربط اإليماف بالكبلـ فحسب ،ليي الفكرة التي ال
يقبميا حتى العكاـ مف الناس.
ثانيا -المجبرة:
يقاؿ أف الجبرية أكؿ فرقة كبلمية في العالـ اإلسبلمي تأسست عمى التأكيؿ ،كقد ظيرت في العيد األمكم .كقد تـ مبلحظة
العبل قة الكطيدة بيف ايديكلكجية بني أمية كالمبادئ االعتقادية ليذه الفرقة .بؿ ربما ىما ايديكلكجية كاحدة ليا شؽ سياسي كآخر
عقدم .بؿ ىنا نبلحظ التكظيؼ اإليديكلكجي غير النزيو لنصكص قرآنية صريحة.
كالجبر في المغة يدؿ عمى نفي حقيقة األفعاؿ عف اإلنساف كنسبتيا إلى ا﵀ .كيفيـ في مقابمتو بالقدرية أم اثبات القدرة لئلنساف.
كقد قسميـ الشيرستاني إلى جبرية خالصة ال تثبت لمعبد فعبل كال قدرة بأم صفة مف الصفات ،كىناؾ جبرية متكسطة كالتي تثبت
قدرة غير مؤثرة 3.أم أف حرية اإلنساف ارادة شكمية ال تشكؿ أصكؿ األفعاؿ الحقيقة التي يقدرىا ا﵀ تعالى.
كمف أشير فرؽ المجبرة فرقة الجيـ بف صفكاف التي سميت بالجيمية ،كىك مف ترمذ ،كقد انتيت حياتو بأف قتؿ في نياية
العصر األمكم حكالي 126ق .كمف بيف أرائو الكبلمية ما يتعمؽ بالصفات كما يتعمؽ بأفعاؿ العباد .كىذا يكشؼ أيضا محدكدية
أراء ىذه الفرقة كعجزىا عف تقديـ نسؽ كبلمية متكامؿ.
1
المرجع نفسو ،ص .260
2
أبك منصكر الماتريدم :تأكيبلت القرآف ،الجزء األكؿ ،تحقيؽ أحمد كائمي أكغمي كبكر طكباؿ أكغمي ،دار الميزاف ،استانبكؿ،
،2005ص .82-81
3
عبد الكريـ الشيرستاني :الممؿ كالنحؿ ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .67
143
-1مشكمة الصفات :نفت الجيمية الصفات ،كقالت بأف ليس ىناؾ صفات غير ا﵀ سبحانو كتعالى .كيشرح اآلمدم مذىبيـ
ىنا بأنيـ قالكا ،مثؿ المعتزلة تماما عمى حد قكؿ العبلؼ أف عمـ ا﵀ ىك ا﵀ 1،بأنو ال يجكز كصؼ ا﵀ تعالى بما يمكف أف
يكصؼ بو غيره مف الخمؽ .ألف ىذا يسقطنا في التشبيو ،مثؿ حديثنا عف صفات العمـ كالحياة...الخ 2.كمف ثـ فإف رؤية
ا﵀ يكـ القيامة متعذرة ،ألف ىذه الرؤية تستدعي الجسمية .بالمقابؿ يمكف اثبات الصفات التي ال تنسب لغيره مثؿ الخمؽ
كالفعؿ كالقدرة .ففي اعتقادىـ أف القدرة كالخمؽ ىما أىـ ما يتفرد بو ا﵀ تعالى 3.كقد قيؿ بأف الجيمية أنكرت أف يككف ا﵀
يما﴾ [النساء .]164 ،كيبدك أف السببً َّ َّ 4
كسى تى ٍكم ن
﴿ك ىكم ىـ الموي يم ى
قد تحدث مع سيدنا مكسى ،عمى الرغـ مما نجده في القرآف ى
ىك مشكمة الصفات التي تكحي بالجسمية ،عمى أساس أف الكبلـ يتطمب شركطا فيزيكلكجية تكحي بأف لو أعضاء ظاىرة
كباطنة مف أجؿ الكبلـ كالسماع ،كىذا محاؿ في حؽ الذات اإلليية .كما أف "اإلنساف ال يستطيع رؤية ا﵀ ألف ا﵀ ال
يتصؼ بأنو شيء ،ككذلؾ بسبب أنو ليس ىناؾ مسافة تفصؿ بينيما ،فاإلنساف ال يستطيع أف يرل إال األشياء التي يفصؿ
بينو كبينيا مسافة معينة .ىذه النقطة تكضح التطابؽ الشديد بيف الجيمية كبيف المعتزلة .ففي حيف أف المعتزلة يركف أف
استحالة رؤية ا﵀ سببيا يرجع إلى أف ا﵀ ال يدرؾ بالحكاس ،فإف الجيمية كانكا أشد تطرفا؛ إذا قالكا بأف أيضا العقؿ يأبى
ذلؾ .فمعرفة ا﵀ تتأتى فقط عف طريؽ التخميف" 5.بؿ أنيـ ذىبكا إلى أبعد مف ذلؾ عندما قالكا" :أف مف قاؿ بأنو رأم ا﵀
في المناـ ،فيك كاىـ .كال يعتبر النبي نفسو استثناء .فيـ ينكركف أيضا كقكع رحمة اإلسراء إلى بيت المقدس ،كالمعراج إلى
السماء .كيسأؿ الجيمية عف فائدة االعتقاد بذلؾ .فا﵀ ليس في السماء كانما في كؿ مكاف ،كفي نفس الكقت فيك ليس في
أم مكاف .كذلؾ فافتراض أف النبي قد رأل الجنة كجينـ في رحمة المعراج ،يقتضي أنيما كانا مخمكقيف بالفعؿ في زمف
6
النبي؛ غير أف كثير مف الجيمية يقكؿ عمى نحك ما قاؿ بو المعتزلي ضرار بف عمرك بأف الجنة كالنار لـ يخمقا بعد".
ىنا نبلحظ مدل تفرد الجيمية بآراء مخالفة لمعتدات السنة كالجماعة األكلى
1
أبي الحسف األشعرم :اإلبانة عف أصكؿ الديانة ،الجزء ،1تحقيؽ فكقية حسيف محمكد ،دار االنصار ،القاىرة ،الطبعة األكلى،
،1977ص .144
فضؿ ا﵀ الزنجاني :تاريخ عمـ الكبلـ في اإلسبلـ ،مرجع سابؽ ،ص .58أيضا ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في 2
اإلسبلـ ،ترجمة مصطفى لبيب عبد الغاني ،المجمد األكؿ ،المركز القكمي لمترجمة ،القاىرة ،الطبعة األكلى ،2005 ،ص .208
3عبد الكريـ الشيرستاني :الممؿ كالنحؿ ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .68
4
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .750
5
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .744-743
6
المرجع نفسو ،ص .747
144
كربما أف نفي الصفات يؤدم إلى التعطيؿ ،كقد سميت المعتزلة كالمجبرة معا باسـ المعطمة .ألنيـ أسرفكا نفي الصفات التي
تكحي بالتجسيـ .حتى أف اإلماـ أبك حنيفة قاؿ :أفرط الجيـ في نفي التشبيو حتى قاؿ أنو تعالى ليس بشيء 1.في مقابؿ المجسمة،
خاصة مقاتؿ بف سميماف ،التي أثبتت أنو مثؿ خمقو .فكؿ الصفات منفية عنو ما عدا القدرة ،كىذا ينسجـ مع العقيدة الثانية كىي:
-2مشكمة أفعل العباد :اتفاؽ الجيمية مع المعتزلة في مشكمة نفي الصفات ،أفضى إلى تناقض مطمؽ بينيما في مسألة أفعاؿ
العباد .كقد نقؿ الشيرستاني مقكؿ الجيـ حكؿ القدرة الحادثة قائبل" :إف اإلنساف ال يقدر عمى شيء ،كال يكصؼ
باالستطاعة؛ كانما ىك مجبكر في أفعالو :ال قدرة لو ،كال إرادة ،كال اختيار ،كانما يخمؽ ا﵀ تعالى األفعاؿ فيو عمى حسب
ما يخمؽ في سائر الجمادات ،كتنسب إليو األفعاؿ مجازا ،كما تنسب إلى الجامدات؛ كما يقاؿ :أثمرت الشجرة ،كجرل
الماء ،كتحرؾ الحجر ،كطمعت الشمس كغربت ،كتغيمت السماء كأمطرت ،كاىتزت األرض كأنبتت ...الخ .كالثكاب كالعقاب
جبر ،كما أف األفعاؿ كميا جبر؛ قاؿ :كاذا ثبت الجبر ،فالتكميؼ أيضا كاف جبرا" 2.كىنا نبلحظ عدـ قيامو ،أم الجيـ بف
صفكاف ،بأم تبرير عقمي عمى نفي القدرة مثمما برر نفي الصفات عقميا .فكيؼ يعقؿ أف يككف التكميؼ جبر ،في حيف أنو
يتطمب القدرة عمى اختيار األسكأ مثبل لتبرير دخكؿ النار ؟
أىـ مسألة تقدـ بيا الجيـ ىي مسألة المجازية ،كىك مكضكع ميـ جدا في الدراسات القرآنية .كنبلحظ في تبرير الجبر استعماؿ
المجاز أيضا " :ا﵀ كحده ىك الذم يقدر كؿ األحداث .كعمى الرغـ مف أف ا﵀ قد يكىـ اإلنساف بأنو يقكـ بفعؿ ىذه األشياء بنفسو؛ إال
أف ذلؾ ما ىك إال عبارة عف أف ا﵀ ين شئ نكع مف اإلرادة في قمب اإلنساف ،بمعنى أنو يمنحو قدرة لحظية عمى الفعؿ ،ثـ يشعر بعد
ذلؾ بنكع مف الرضا .غير أف ىذا ال يعدك أف يككف فعؿ بالمعنى المجازم ،ففي حقيقة األمر يتساكل فعؿ اإلنساف ىنا مع ما يقع لو
مف نمك في الجسـ كاكتساب لكف البشرة ،كىي األمكر التي ليس لو دخؿ فييا .كالمبس الذم يحدث في األمر سببو المغة ،فنحف نقكؿ
3
مثبل "غربت الشمس" ،مع أف ا﵀ ىك في الحقيقة الذم جعميا تغرب( .ابف قتيبة :تأكيؿ مشكؿ القرآف – الجرجاني :أسرار الببلغة)".
نحف ىنا أماـ جبرية ككنية ال انفبلت منيا .كما اإلنساف مثمما الحظ ذلؾ الجاحظ ،بما ىك معتزلي ،إال مكميات ينفذ الحركات
اإلليية ببل أدنى ارادة.
كقد اعتقد البغدادم أف الجيمية قد كافقت األشعرية في التأكيد عمى أف ا﵀ قد خمؽ أكساب العباد .كفي ىذا يخالفكف المعتزلة
(القدرية) كمية .كأف االستطاعة تككف مع الفعؿ ،كأنو ال يحدث في العالـ إال ما يريده ا﵀ 4.لكف يبدك لنا أف مكقؼ األشعرية أكثر
عقبلنية ،عمى أساس أنيا خصصت نصيبا الستطاعة اإلنساف ،كلك أنو نصيب شكمي كسطحي كمتأخر ،في حيف أف الجيمية
جعمت كؿ شيء جبر حتى العقاب كالحساب .ال يبقى اإلنساف حتى مكمياء كاف يكما ما حية ،إنو جماد بأتـ معنى الكممة.
1
جماؿ الديف القاسمي الدمشقي :تاريخ الجيمية كالمعتزلة ،مؤسسة الرسالة ،بيركت ،الطبعة األكلى ،1979 ،ص .11
2
عبد الكريـ الشيرستاني :الممؿ كالنحؿ ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .68
3
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .736
4
عبد القاىر البغدادم :الفرؽ بيف الفرؽ كبياف الفرقة الناجية ،مرجع سابؽ ،ص .183
145
في مسألة المجاز ،نحا الجيـ منحى ميـ في تاريخ التأكيؿ اإلسبلمي ،عمى أساس أنو قاؿ بأف "حركة أىؿ الخمديف تنقطع،
كالجنة كالنار تفنياف بعد دخكؿ أىميما فييما كتمذذ الجنة بنعيميا كتألـ أىؿ النار بحميميا ،إذ ال تتصكر حركات ال تتناىى آخرا ،كما
يف ًفييىا﴾ عمى المبالغة كالتأكيد ،دكف الحقيقة في التخميد؛ كما يقاؿ :خمد ال تتصكر حركات ال تتناىى أكال؛ كحمؿ قكلو تعالى ى ً ً
﴿خالد ى
َّؾ فىعَّا هؿ ًل ىما
ؾ ًإ َّف ىرب ى ات ك ٍاألىر ي َّ
ض إًال ىما ىش ى
اء ىرُّب ى َّم ىك ي ى ٍ
﴿خالً ًديف ًفييا ما ىد ً
امت الس ى
ا﵀ يممؾ فبلف ،كاستشيد عمى االنقطاع بقكؿ تعالى ى ى ى ى ى
يد﴾ [ىكد ]107 ،فاآلية اشتممت عمى شرطية كاستثناء ،كالخمكد كالتأبيد ال شرط فيو كال استثناء" 1.كيشرح "فاف ايس" ىذا المكقؼ
يي ًر ي
الذم ينافي المعتقد العاـ قائبل" :كاف الجيـ يرل أف الجنة كالنار مخمكقاف مثؿ أم شيء آخر في حيز الزماف ( )...لذا سكؼ تعكداف
إلى الفناء .ىذا يعني أ ف الناس لف يخمدكا في الجنة ،لذلؾ فإف جيـ يفسر "خالديف فييا" (آؿ عمراف )15 ،عمى أنو تعبير ببلغي
فيو مبالغة ،ال يعني أكثر مف أنيـ سكؼ يظمكف في الجنة مدة طكيمة .كىذا يعني أف جيـ نظر إلى التعبير القرآني نظرة لغكية ،كىك
محؽ في ذلؾ ،فمعنى المفظ ال يدؿ عمى أكثر مف ذلؾ ،كيؤكد عمى ذلؾ التعبير المماثؿ في آية 23مف النبأ (البثيف فييا أحقابا)؛
فأحقابا ال تعني أكثر مف "مدة طكيمة" ( )...الخمكد يعني أنو ال يكجد مع ا﵀ أحد (قبؿ كؿ شيء كبعد كؿ شيء)؛ كقد دلؿ جيـ
عمى ذلؾ مف القرآف مف خبلؿ اآلية 3مف الحديد( :ىك األكؿ كاآلخر .)...يبدك أف أبك حنيفة كاف لو الرأم نفسو كالسبكي اعترض
عمى ذلؾ مف خبلؿ عممو "كتاب االعتبار في بقاء الجنة كالنار" 2.ادخاؿ عامؿ الببلغة في فيـ القرآف ،سيسقط عف العامة الفيـ
المألكؼ ،كيكشؼ الفرؽ بيف الحقيقية كالمجاز في الكبلـ ،كالغالبية مف الناس يفيمكف كؿ القرآف بما ىك كبلـ حقيقي ببل أم مجاز،
في حيف أف الحقيقة عكس ذلؾ تماما .كادخاؿ فرضية المجاز ،سيغير الكثير مف المسممات المتداكلة .كقد كاف األستاذ محمد أرككف
يعتبر دراسة المجاز في القرآف الكريـ مشركع حياتو الذم لـ يقدر عمى انجازه ،نظ ار ألىميتو في تشكيؿ العقائد عند غابية المسمميف.
ككما ىك ظاىر ،فإف ىناؾ تفاكت في درجة عقبلنية المجبرة مثممة في الجيمية ،ففي حيف نجد إعماؿ عقمي ممحكظ في قضية
الصفات كفي قضية المجاز القرآني ،إال أف ىناؾ اغفاؿ مطمؽ في مسألة تبرير الجبر السمككي كالتكميفي .كربما أف ىذا مرتبط
بعبلقتيا باإليديكلكجية األمكية .يقكؿ الجابرم" :األمكييف ىـ مف نشر ايديكلكجية الجبرية ضد المعارضيف لحكميـ ( )...مما أدل إلى
قياـ إيديكلكجيا مضادة نشرتيا حركة تنكيرية حقيقية (يقصد المعتزلة طبعا) كانت الدكلة األمكية تبرر حكميا كجكرىا كعسفيا بػ
القضاء كالقدر ،مكرسة بذلؾ ايديكلكجيا الجبر ،ككجد ىؤالء المسمميف الجدد (في البصرة) في فكرة الجبر ىذه ما يبرركف السمكؾ
اإلباحي الذم كانكا يمارسكنو ،باعتباره أنو بدكره قضاء كقدر" 3.لكف ،كعمى الرغـ مف تقارب عقائد الدكلة األمكية مف الناحية
السياسية كعقائد الجيمية مف الناحية الكبلمية ،إال أنو لـ يثبت تقارب بينيما مف الناحية التاريخية.
قكبمت الجيمية برفض شديد ،بخاصة مف طرؼ أىؿ الحديث ،حيث خصص اإلماـ أحمد بف حنبؿ رسالة تحت عنكاف الرد
عمى الجيمية ،كناقش أطركحتيـ القائمة بأف ا﵀ ىك األكؿ كاآلخر ،عمى أساس أف كؿ شيء يفني بما في ذلؾ الجنة كالنار ،عمى
أساس أف ا﵀ ىك اآلخر في كؿ كجكد .كرد عمييـ بالقرآف ذاتو ،كالذم أثبت بقاء الجنة كالنار كخمكد أصحابيا في الدرجات
1
عبد الكريـ الشيرستاني :الممؿ كالنحؿ ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .69 -68
2
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .748
3محمد عابد الجابرم :العقؿ األخبلقي العربي – دراسة تحميمية نقدية في نظـ القيـ في الثقافة العربية ،مرجع سابؽ ،ص .69-67
146
يـ﴾ [التكبة 1.]21 ،بؿ ىناؾ ات لىيـ ًفييا ىن ًع ً
اف كجَّن و ﴿يىب ّْش يريى ٍـ ىربُّيي ٍـ بً ىر ٍح ىم وة ًم ٍنوي ىكًر ٍ
يـ يمق ه
ه يٍ ى ض ىك و ى ى كالدركات .فقد أتى في الذكر الحكيـ بأف ي
العشرات مف اآليات القرآنية ما يثبت الخمكد في الجنة كالنار معا ،مما يدؿ عمى أنيا ال تفنى بفناء الكجكد .مما يجعؿ عقيدة جيـ
كشيعتو ،حسب أحمد ،ديف الشيطاف بعينو.
ثالثا -الماتردية:
نسبة إلى أبك منصكر الماتريدم ( 333ق) كالذم تعكد أصكلو إلى الصحابي أبك أيكب األنصارم .كىك مف التيار السني
المتكسط ،حنفي الفقو ،ظير في أعماؿ سمرقند ،في أكائؿ القرف الرابع لميجرة كبذلؾ فالماتريدية معاصرة لؤلشعرية ،كامتد انتشارىا
حتى القرف الثالث عشر لميجرة .ظيكرى ا ارتبط بالغمك الكبلمي المنتشر ،بخاصة التزمت النقمي كالنصي عند الحنابمة كاإلفراط العقمي
عند المعتزلة .لذا فإنيا تقاطع مع ىذه أك مع تمؾ في عدة مسائؿ اتفاقا كاختبلفا.
كقد أقر مؤرخي الكبلـ اإلسبلمي كالمتخصصيف في عقيدة الماتريدم ،أنو أقرب إلى األشعرية منو إلى المعتزلة في المنيج.
كعمى الرغـ مف الماتريدية تقر بسمطاف العقؿ في المعرفة الدينية كالعقدية ،إال أنيا ال تستنتج نفس نتائج المعتزلة .كىناؾ مف ذىب
2
كلك أف الماتريدية ترل أف مصدر التمقي في إلى أف األشعرية أكثر اعتزاال مف الماتريدية نظ ار لمتككيف المعتزلي لشيخ األشاعرة.
اإللييات كالنبكات ىك العقؿ كضركرة معرفة الديف بالدليؿ 3،فيذا لـ يجعؿ منيا معتزلية المنيج .كبما أف النتائج كالعقائد دالة المنيج
المستعمؿ ،فإف عرض مكاقفيا يكشؼ عف حقيقة منيجيا .كربما المسألة التي جعمت العديد يشيد بعقبلنية الماتريدية ىك مبدئيا
المشيكر بػ "معرفة اهلل واجبة بالعقل قبل ورود الشرع" 4.كىذا المبدأ يذكرنا بمقياس المعتزلة في التمييز بيف الحسف كالقبح .لكنيـ لـ
يجعمكا التميز العقمي مطمؽ ،كىذا ما يخالفيـ عف المعتزلة ،فيناؾ بعض األفعاؿ ندرؾ قمتيا األخبلقية قبؿ كركد الشرع ،لكف
البعض اآلخر يتطمب الشرع .كىذه األمكر معمكمة ككاضحة دكف تمثيؿ.
في مسألة الصفات ،يتقارب الماتردم باألشعرم ،حيث يثبت الصفات اإلليية كما تـ اثباتيا في القرآف الكريـ ،لكنو ال يثبت
التشبيو إطبلقا ،لذا نجده يقكؿ بأف ا﵀ عالـ بعمـ لكف ليس ككؿ العمكـ ،كقادر بقدرة ال كالقدرة ...إلخ أم صفاتو ال كالصفات التي
نتخيميا في البشر 5.يقكؿ في ىذا السي اؽ" :القكؿ في الجسـ يخرج عمى جيتيف :أحدىما في مائية الجسـ في الشاىد أنو اسـ ذم
1
أحمد بف حنبؿ :الرد عمى الجيمية كالزنادقة فيما شككا فيو مف متشابو القرآف كتأكلكه عمى غير تأكيمو ،تحقيؽ صبرم بف سبلمة
شاىيف ،دار الثبات لمنشر كالتكزيع ،الرياض ،الطبعة األكلى ،2003 ،ص .168
2
أحمد بف عكض ا﵀ بف داخؿ المييبي الحربي :الماتردية – دراسة كتقكينا ،دار العاصمة لمنشر كالتكزيع ،الطبعة األكلى،1413 ،
ص .135
3
تحقيؽ بكر طكباؿ أكغمي كمحمد آركشي ،دار صادر كمكتبة اإلرشاد ،بيركت كأستانبكؿ ،ص .65 أبك منصكر الماتريدم :كتاب التكحيد،
4
أحمد بف عكض ا﵀ بف داخؿ المييبي الحربي :الماتردية – دراسة كتقكينا ،مرجع سابؽ ،ص .147
5
ابراىيـ مذككر :في الفمسفة اإلسبلمية -منيج كتطبيقو ،الكتاب الثاني ،دار الكتاب المصرم ،القاىرة ،2015 ،ص .98
147
الجيات ،اك اسـ محتمؿ النيايات ،أك اسـ ذم األبعاد الثبلثة .فغير جائز القكؿ بو في ا﵀ سبحانو عمى تحقيؽ ذلؾ ،لما ىي أدلة
خمؽ كأمارة الحدث" 1.ألف الجسـ مخمكؽ ،فبل يمكف اعتبار ا﵀ جسما.
أما مسألة كبلـ ا﵀ بيف القدـ كالخمؽ ،فقد ميز الماتريدية بيف الكبلـ النفسي كالكبلـ المادم ،عمى أساس أف الحركؼ المادية
التي نطمؽ بيا القرآف ىي حركؼ محدثة كمخمكقة .في حيف أف المعنى النفسي قديـ .كىي تفرقة معرفة في الكبلـ األشعرم حؽ
معرفة .لكف بالنسبة ألنصار الماتردية ،بخاصة األتراؾ ،فإف أسبقية الماتريدم معمكمة كمؤكدة مقارنة باألشعرم.
في مسألة رؤية ا﵀ ،التي فرقت الفرؽ ،فإف الماتردم يعتقد بإمكانية الرؤية عمى أساس أف القرآف تحدث عف الرؤية لكف ىي
رؤية ال كالرؤية كال تتطمب الجسمية أك النكر...الخ .ألف كؿ ىذه الشركط مادية تجسيمية .إنيا رؤية ببل كيفيات ،مثؿ اإلستكاء تماما
فيك معمكـ ببل كيؼ محسكس .يقكؿ :القكؿ في ركية الرب عز كجؿ عندنا الزـ كحؽ مف غير إدراؾ كال تفسير .أما الدليؿ عمى
ص ىار﴾ [األنعاـ ]103 ،كلك كاف ال يرل لـ يكف لنفي اإلدراؾ حكمة ،إذ ال ص يار ىك يى ىك يي ٍد ًر ي
ؾ ٍاألىٍب ى ﴿ال تي ٍد ًريكوي ٍاأل ٍىب ى
الرؤية فيك قكلو تعالى ى
يدرؾ غيره ببل رؤية" 2.إلى جانب العديد مف اآليات التي تثبت الرؤية .كانتيى إلى أف كصؼ ا﵀ ال يدؿ عمى التشبيو بالضركرة،
كليذه عبلقة بصفات ا﵀ أعبله.
اىتماـ الماتردية بالمجاز المغكم ،في االحاديث النبكية كالقرآف الكريـ ،لو داللة قكية في منيجيا العقمي .حيث أف اثبات المجاز
القرآني يأخذ بنا إلى التخمص مف الحرفية التي نشأت عمييا الحنبمية كبعض الفرؽ النصية التي ال ترضي أم نظر عقمي .فمثبل
حمؿ النصكص عمى معانيا المفظي يؤدم إلى عقبات التجسيـ كالتشبيو ،في حيف أف التأكيؿ ىك الطريؽ الكحيد لترميـ القداسة مف
الجسمية .كقد ميز الماتريدم في بداية كتاب التأكيبلت بيف التفسير الذم لمصحابي كالتأكيؿ الذم لمفقياء ،ألف لمتفسير منحى كاحد
كلمتأكيؿ عدة مناحي 3.فعندما يقكؿ ا﵀ تعالى في القرآف ﴿المَّوي ىي ٍستى ٍي ًزئي﴾ [البقرة ،]15 ،فبل يجب أف نأخذ الكممة عمى حقيقتيا ،بؿ
كجب التأكيؿ عمى أنو جزاء مف صنؼ مشابو الذم يستيزئ باآلخريف ،فا﵀ متعالي عف االستيزاء 4.إف التأكيؿ كسيمة ضركرية مف
أجؿ تفادم التشبيو كالحفاظ عمى التقديس.
خاتمة.
ىناؾ تقاطعات عجيبة بيف الفرؽ الكبلمية ،نقكؿ عجيبة ألننا نجد فرقة تتفؽ مع أخرل في مسألة ما لكنيا تناقضيا في مسألة
أخرل .فالجيمية مثبل تكافؽ المعتزلة في التنزيو المطمؽ كتأكيؿ كؿ آيات الصفات ،لكنيا في نفس السياؽ ،تتكافؽ مع األشعرية في
نفي حرية اإلنساف .كنحف نعمـ أف ىناؾ تناقض كمي بيف المعتزلة كاألشعرية في مسألة حقيقة أفعاؿ العباد .كىنا تتشكؿ مكاقؼ
متعالقة كمتناقضة معا.
1
مرجع سابؽ ،ص .102 أبك منصكر الماتريدم :كتاب التكحيد،
2
المرجع نفسو ،ص .141
3
الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .3 أبك منصكر الماتريدم :تأكيبلت القرآف،
4
أحمد بف عكض ا﵀ بف داخؿ المييبي الحربي :الماتردية – دراسة كتقكينا ،مرجع سابؽ ،ص .156
148
ككما ىك ظاىر ،فإف أكبر مشكمة أثارت العقؿ الكبلمي ،سكاء عند الجيمية أك الماتردية أك ىي مشكمة الصفات الخبرية ،فمف
المنفر عقميا كذكقيا أف نصؼ ا﵀ بالصفات البشرية .فقد قاؿ الجيـ" :ال أقكؿ إف ا﵀ سبحانو شيء ،ألف ذلؾ تشبيو لو باألشياء
( )...امتنع الجيـ مف كصؼ ا﵀ تعالي بأنو شيء أك حي أك عالـ أك مريد ،كقاؿ ال أصفو بكصؼ يجكز إطبلقو عمى غيره ،كشيء
مكجكد كحي عالـ كمريد كنحك ذلؾ ( )...زاد الجيـ عمى المعتزلة قكلو ال يجكز أف يكصؼ ا﵀ تعالى بصفة يكصؼ بيا خمقو ألف
1
ذلؾ يقتضي تشبييا .فنفى ككنو حيا عالما كأثبت ككنو قاد ار فاعبل خالقا أنو ال يكصؼ شيء مف خمقو بػ القدرة كالفعؿ كالخمؽ".
لكف نجد المعتزلة كالماتريدية ترفض كمية منطؽ الجبر الذم قاؿ بو الجيـ .حيث قاؿ الماتريدم في كتاب التكحيد بأف تحقيؽ الفعؿ
الزـ بالسمع كالعقؿ معا 2.أما المعتزلة فظاىر تناقضيا مع الجيمية.
ىذا كنجد انيماـ المرجئة قد انصب عمى تجاكز مشكمة الحكـ عمى الناس في الدنيا كىك الحكـ الذم تسبب في الكثير مف
الفتف ،كاعتقدكا أف الحكـ ا لنيائي يجب أف يؤجؿ إلى ا﵀ .كعمى الرغـ مف أف النصكص القرآنية قد قررت مصائر الناس كفؽ
أعماليـ ،فبل يمكف أف نقطع األمؿ في الرحمة اإلليية .إف المرجئة في ىذه الكضعية أكثر تسامحا مف المعتزلة ،كالتي ألزمت
األحكاـ اإلليية مف خبلؿ اإلقرار بثبات الكعكد كالكعيد .ككأف ا﵀ لف يغير كال يمكف أف يغير معاييره كأحكامو .لكف بالنسبة لعامة
الناس ،فإف الرجاء كاألمؿ في المغفرة أكثر قبكلية مف صرامة الكعد كالكعيد ،ثـ كيؼ لنا نحف البشر أف نمنع ا﵀ مف تغير ق ارراتو
لصالح عباده ؟ ليس الديف إال ىذا األمؿ في مغفرة كلك كانت غير مستحقة.
كما يمكف أف نبلحظ أف عمـ الكبلـ قد نما نمكيا ظاىر نحك العقمنة أكثر فأكثر ،ففي حيف أف الكبلـ األكؿ ،أم قبؿ تأسس
المدارس الكبيرة ،قد قبؿ التشبيو في الصفات كفؽ ما كرد في القرآف كأنكر القدر في األفعاؿ ،نجد الفرؽ المتأخرة قد رفضت كمية
التشبيو لصالح تأكيؿ كؿ ما يكحي بذلؾ إلى التنزيو المطمؽ ،ألف العقؿ المعتدؿ ال يرضى الشبو بيف اإلنساف كخالقو ،فيذا تصكر
مفارؽ لمعقؿ ،كما أنو انتزع شيئا مف حرية اإلنساف كلكال المقدرة إلنيار التكميؼ كلتـ التشكيؾ في العدالة اإلليية أيضا .لذا فإف
"تفضيؿ أكائؿ المسمميف آيات التنزيو anti –anthropomorphic versesعمى آيات التشبيو" ليس مثبتا في كؿ الحاالت كما
اعتقد كلفسكف 3.فكيؼ نفسر مثبل " تفضيؿ آيات القدر عمى آيات الحرية مثمما نجده عند الجيـ ؟ فحتى األشعرية كالماتريدية التي
عادت إلى السنف األكلى ألىؿ الجماعة ،لـ تستطع إثبات التشبيو كلك كما كرد في النص بحرفيتو.
ليس ىناؾ حدكد فارقة بيف الفرؽ بصكرة مطمقة ،إذ نجد بعض المتكمميف مزدكجي االنتماء ،كأف يككف شيعيا معتزليا ،كقد رأينا
في طبقات المعتزلة أف المصنؼ ليا قد فضؿ عمي (ض) كأحفاده مف األئمة عمى بقية الصحابة األكثر مركزية .كما أننا قد نجد
الشيعة المرجئة أك المرجئة الشيعة ،أخبارىـ مكجكدة في أكثر مف مرجع كبلمي ،حيث يتـ اخبارنا مثبل عف الجمع بيف تعاطؼ
1
أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .320-319
2
مرجع سابؽ ،ص .305 أبك منصكر الماتريدم :كتاب التكحيد،
3
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد الثاني ،ترجمة مصطفى لبيب عبد الغاني ،المركز القكمي لمترجمة،
القاىرة ،الطبعة الثانية ،2009 ،ص .774
149
الشيعي اإلرجائي في شخص سعيد بف سالـ بف أبي الييفاء القداح 1.فنمك المذاىب كتراكـ الكاحد عمى األخرل ،قد خمؽ تقاطعات قد
تبدك لنا غريبة كمنتفية ،لكنيا تأقممت بصكرة معقكلة لتذيب الخبلفات الكبرل كتنتج مكاقؼ متبدعة جدا .ثـ أننا نبلحظ التقاطع بيف
الفرؽ الكبلمية كالمذاىب الفقيية ،كىك الذم ينتج خيارات تجعؿ تطابؽ الفرؽ أمر متعذر ،كىك ما رأيناه مثبل في حالة الماتريدية
كاألشعرية ،فعمى الرغـ مف التقارب بيف ركح المذىبيف ،إال أف المرجعية الحنفية لمماتريدية في مقابؿ المرجعية الشافعية لؤلشعرية قد
أثر في تقكية الفركؽ بينيما .عمى اعتبار أف أبك حنيفية أكثر كبلما مف اإلماـ إدريس الشافعي الذم جعؿ الكبلـ ببل أم أجر
محتمؿ.
1
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص ص .986 -897
151
المحاضرة الثامنة :مشكمة كالم اهلل (القرآن بين الخمق والقدم).
تقديم.
في المحاضرات األربعة التالية ،سنستعرض بالتفصيؿ المطمكب ،أكبر المشكبلت التي طرحت عمى النظر الكبلمي القديـ،
كسنكتشؼ االختبلفات كالتقاطعات كالتطابقات بيف مكاقؼ الفرؽ الكبلمية التي أحصيناىا في الدركس السابقة .كالظاىر أف كبريات
المشكبلت الكبلمية ىي:
مشكمة كبلـ ا﵀ بيف القدـ كالخمؽ .كفييا أكبر خبلؼ كبلمي انتقؿ إلى ايديكلكجيات سياسية كق اررات سمطكية.
مشكمة الصفات اإلليية بيف التنزيو كالتجسيـ .كىي المشكمة األصمية التي تفرعت عنيا العديد مف المكضكعات بما في ذلؾ
مشكمة القرآف ذاتو ،عمى أساس أف الكبلـ صفة إليية تمثؿ في الرساالت المعركفة.
مشكمة أفعاؿ اإلنساف بيف القدر كاالستطاعة كالكسب .كفييا ظيرت فكرة كنقيض كتركيب ،شكؿ جدؿ الحرية الميتافزيقي.
مشكمة العمؿ الطبيعية كالقدرة اإلليية أك ما يعرؼ بالمعجزات .كالمبلحظ أف مسألة القدر اإلليي يتعمؽ أكال بظكاىر
الطبيعية كثانيا بأفعاؿ اإلنساف .كأىمية ىذا المكضكع مرتبط بككف القدرة مف أىـ صفات ا﵀ ،كقد استشكؿ المحاكر السمني
(اليندم) حدكد القدرة اإلليية مثمما رأينا في مسألة مكقؼ ىاركف الرشيد مف عمماء الكبلـ .كىذه المشكمة تتعمؽ أساسا بما
يجب أف نعتقده تجاه الطبيعة؛ ىؿ ليا قكانيف منضكدة ال تخؿ فييا أـ أنيا تابعة لئلرادة اإلليية التي تغير فييا كما تشاء ؟
أما بقية المكاضيع األخرل ،كالتي قد نجدىا متناكلة عند المتكمميف القدماء ،مثؿ اإليماف بيف الزيادة كالنقصاف ،كالمحكـ
كالمتشابو مف القرآف ،كمسائؿ الكفر كاإليماف كالمعصية كالطاعة ،كدقيؽ الكبلـ المرتبط بنظرية الجكىر الفرد كحدكث العالـ...الخ
كميا تدخؿ بطريقة أك أخرل في المسائؿ األربعة التي حددناىا سابقا.
ابتدأنا بدراسة مشكمة كبلـ ا﵀ ألنيا المكضكع الذم كقع فيو الخبلؼ بصكرة فكرية كاجتماعية كسياسية ،كتحكلت ىذه القضية
طيمة حكـ ثبلثة أك أربعة مف خمفاء بني العباس إلى رأم عاـ حقيقي في بغداد .حيث حدث ىناؾ أخذ كرد بيف الشعب بما فييـ
الفقياء الذم يمثؿ السمطة العممية كالمعنكية كمؤسسة الخبلفة التي مثمت السمطة القانكنية كاإلدارية .ككما أشرنا في المحاضرة
األكلى ،فإف السبب األكثر رجحانا لتسمية عمـ الكبلـ بيذا االسـ ىك أنو متعمؽ بالكبلـ في "كبلـ ا﵀" أم القرآف الكريـ .لذا فيي
المشكمة التي يمكف اعتبارىا مركزية في الكبلـ ،عمى أساس أنو تـ التفكير بعمؽ عقمي منقطع النظير ،كأفرزت أطركحات كأطركحات
مضادة أنعشت الفكر الكبلمي لفترة تمتد ألكثر مف قرف مف الزماف .كما أف أغمب الفرؽ الكبلمية الكبرل قد حددت مكقفيا مف ىذه
المشكمة بداية باإلماـ أحمد بف حنبؿ الذم تكمـ رغما عنو ،باعتباره محدثا ال متكمما مف حيث تخصصو .إلى الفرؽ الصغرل مثؿ
المرجئة كالجيمية ،إلى الفرؽ الكبرل مثؿ المعتزلة كاألشعرية كالشيعية.
مشكمة المحاضرة ترتبط بالسؤاؿ األكبر :ىؿ القرآف قديـ قبؿ خمؽ العالميف كالككف كقبؿ بداية نزكع الكحي عمى الرسكؿ الكريـ
أك حتى عمى جميع الرسكؿ كأصحاب النبكءات ؟ أـ أنو حدث كبلمي جديد كمحدث ارتبط بظركؼ مخصكصة مف كضع البشر
151
كفاعميف اجتماعييف أك دينييف أك سياسييف ؟ ال ترتبط المشكمة فقط بيذا الجدؿ المستقطب ،بؿ أنيا ارتبطت بالكممات الكاجب
الحدث كالمحؿ (ككف القرآف في محؿ) ؟ ىؿ عبارة "غير مخمكؽ"
استعمميا لتكصيؼ ذلؾ مثؿ الخمؽ كالقديـ كالحادث كالمحدث ك ى
تناقض كمية عبارة "مخمكؽ" ؟ كيؼ تـ استثمار التمييز القرآني المعركؼ بيف المكح المحفكظ كالكتاب في تناكؿ مسألة الخمؽ
كالحدكث ؟ ما ىي الفرؽ الكبلمية التي انخرطت بقكة في مثؿ ىذا النقاش الحاد ؟ ىؿ ىناؾ عبلقة بيف ىذه الطركحات كالمشكمة
السياسية ؟ ىؿ ارتبطت ىذه المشكمة المطركحة في السياقات اإلسبلمية بمشكبلت قريبة في السياقات الفكرية المجاكرة كبخاصة
التكحيدية ؟ عمى أساس أنيا ديانات تمتمؾ كتب مقدسة ارتبطت بكحي اك تكصيؼ لمكحي .ىؿ ترتبط ىذه المشكمة بمسألة حقيقة ا﵀
كالعالـ ؟ عمى أساس أف العقيدة األساسية تقر بأف ا﵀ القديـ عمى اإلطبلؽ قد خمؽ العالـ ،كنحف نبلحظ أف مشكمة القرآف قد صيغت
عمى طريقة ككنو مخمكقا مثؿ العالـ أـ سابؽ عمى العالـ؟ كىنا نبلحظ اندراج مسألة خمؽ القرآف كقدمو في مكضكع أشمؿ منو كىك
عقيدة التكحيد .حيث أف التكحيد يجعمنا نرفض أم مكجكد قديـ لو كينكنة تساكم ا﵀ في قدمو.
يمكف أف نبلحظ بأف أصكؿ المشكمة ،مشكمة خمؽ كقدـ القرآف ،ترتبط ببعض اإلشارات القرآنية ذاتيا .فتمييز القرآف الكريـ بيف
"المكح المحفكظ" كالكتاب المنزؿ عمى الرسكؿ الكريـ ،يعتبر طرؽ أكلى إلثارة المشكمة ،عمى أساس أف الكتاب المنزؿ حالة
مخصكصة مف حالة أعـ سابقة عميو في الكينكنة كالمحتكل .كىذا ما يجعمنا نفترض أف األسباب األساسية لظيكر المشكمة تكمف في
ما أكرده القرآف مف تمييزات كتقسيمات .كىذه اإلشارة تندرج في مسألة أصالة الطرح اإلسبلمي لمشكمة قدـ كخمؽ القرآف ،بالنظر إلى
أف الطرح اإلستشراقي يؤكد عمى أف الكبلـ اإلسبلمي لـ ينفصؿ عف الكبلـ المسيحي الذم أثار مسألة عيسى بكصفو كممة ا﵀،
كالمكغكس اإلغريقي الذم يتحدد بكصفو قانكف كمي لمكجكد ،كنحف نعمـ بأف مف معاني المكغكس ىي الكممة أك الكبلـ .بؿ ىناؾ مف
الحظ عبلقة ايتمكلكجية (اشتقاقية) بيف كممة لكغكس Logosاإلغريقية ككممة لغة العربية ،كنحف نعمـ أف المغة ىي الكبلـ بأخص
مدلكالتو.
ىؿ يمكف لنا العثكر عمى نقطة انطبلؽ سؤاؿ قدـ أك خمؽ القرآف ؟ ىؿ كانت المسألة مطركحة لمتفكير في عيد الرسكؿ (ص).
يبدك أف الكعاء الذم مثؿ المتمقي األكلى لـ يسأؿ ىذا السؤاؿ ،عمى أساس أنيا طركحات مستحدثة الحقاػ إذ لـ ييذكر أف الرسكؿ
الكريـ أك الصحابة األكائؿ قد فكركا في مسألة قدـ القرآف أك حدكثو .كتبديع بعض الفقياء الحديث في مسألة الخمؽ كالقدـ ،راجع
لككنيا غير م طركقة اطبلقا مف طرؼ الرسكؿ الكريـ كالصحابة األكائؿ .كبالنسبة لؤلشعرم يظير أنيا مسألة غير مطركحة عندما
يقكؿ مفترضا انخراط النبي في مثؿ ىذه المسألة لك كانت مطركحة" :فمك حدث في أياـ النبي (ص) الكبلـ في خمؽ القرآف كفي
1
منطمؽ ىذا النص ىك الجزء كالطفرة بيذه األلفاظ لتكمـ فيو كبينو كما بيف سائر ما حدث في أيامو مف تعييف المسائؿ تكمـ فييا".
عدـ طرح ىذا المكضكع لمتفكير في زمف النبي ،كلك طرح النخرط الرسكؿ في مناقشتو ،كعدـ مناقشة الرسكؿ لو ال يدؿ عمى أنو
بدعة .طبعا ،مكقؼ األشعرم ىنا يأتي في سياؽ رفض تبديع مف تحدث فيما لـ يتحدث فيو الرسكؿ الكريـ .لكننا يمكف أف نفيـ
1
أبك الحسف األشعرم :رسالة استحساف الخكض في عمـ الكبلـ ،دار المشاريع لمطباعة كالنشر التكزيع ،بيركت ،الطبعة األكلى،
،1990ص .48
152
بطريقة غير مباشرة أف الرسكؿ الكريـ لـ يناقش ىذا المكضكع ،كلـ ينسب لو أم حديث في ىذا الشأف .لذا فمشكمة خمؽ القرآف
كقدمو ظيرت في كقت متأخر عف زمف النبكة.
ترتبط مشكمة كبلـ ا﵀ بالتصكر التقميدم ،كىك تصكر اعتزالي ،كالذم يقسـ العالـ إلى قسميف منفصميف :قسـ الكينكنة األزلية
المحدثة كالتي تشمؿ كؿ الخمؽ ما عداه 1.كبالتالي فإف محاكلة تصنؼ القرآف في أحد
القديمة التي تشمؿ ا﵀ كحده كقسـ الكينكنة ي
القسميف يسبب مشكمة حقيقية .فكضعو ضمف الكينكنة األزلية يؤدم ،كفؽ منطؽ عقمي بسيط إلى كجكد كائنيف قديميف ىما ا﵀
كالقرآف ،ككضعو في القسـ الثاني الذم يشمؿ المخمكقات يجعمنا نعتقد بأنو فاف مثميا ،عمى الرغـ مف أف القرآف كفؽ التصكر
المتكسط عند الجميع ال يمكف أف يفنى بالنظر إلى الحفظ اإلليي المعمكـ في القرآف.
ثـ أف ىناؾ عبلقة كثيقة بيف مشكمة خمؽ كقدـ القرآف كمشكمة الصفات اإلليية .ألف الكبلـ في القرآف الكريـ صفة مف صفات
ات لًقى ٍكوـ
ت قيميكبيـ قى ٍد بيََّّنا ٍاآلىي ً
ى
ً ً ؾ قىا ىؿ الًَّذ ً
يف م ٍف قىٍبم ًي ٍـ مثٍ ىؿ قى ٍكلً ًي ٍـ تى ىش ىابيى ٍ ي ي ٍ ى
ى كف لى ٍكىال يي ىكمّْ يمىنا المَّوي أ ٍىك تىأٍتً ىينا آىىيةه ىك ىذلً ى
يف ىال ىي ٍعمى يم ى
ا﵀﴿ .كقى ى ًَّ
اؿ الذ ى ى
كف﴾ [البقرة .]18 ،كما الكحي عمكما كالقرآف خصكصا إال كبلما إلييا صريحا .كبالتالي فإف انقساـ الفرؽ بيف مثبت لمصفات ييكًقين ى
الخبرية كمنكر ليا ،ال ينفصؿ عف المكقؼ مف قدـ كخمؽ القرآف .فإف لـ يكف الكبلـ صفة ذاتية ﵀ ،فبل يمكف أف يككف القرآف قديـ،
بالعكس إذا كانت صفة الكبلـ صفة ذاتية ﵀ ،فإف القرآف يككف قديـ قدـ ا﵀ ذاتو 2.لذا يمكف القكؿ بأف مشكمة طبيعة القرآف متعالقة
بمسألة الصفات التي تناقش عمكما في أبكاب التكحيد عند المعتزلة .كما أنيا ترتبط بطبيعة الكبلـ اإلليي الذم يجب أف يككف
نفسانيا عند األشاعرة.
لعمو قبؿ البحث عف تاريخ ظيكر المشكمة ،كجب عمينا البحث عف األطركحة األسبؽ منطقيا؛ ىؿ أف السبؽ كاف لنظرية خمؽ
القرآف كمف ثمة كاف الرد بنظرية القدـ ،أـ العكس ،ظيرت نظرية قدـ القرآف أكال ثـ تـ الرد بنظرية الخمؽ ؟ حسب أحمد أميف ،الذم
أرخ لئلسبلـ ،فإف ظيكر نظرية خمؽ القرآف كاف في نياية العصر األمكم ،حيث قاؿ ناقبل عف كتاب "سرح العيكف" أف الجعد بف
درىـ يمعمـ مركاف بف محمد آخر خمفاء بنى أمية ىك أكؿ مف تكمـ بخمؽ القرآف مف أمة محمد ،بدمشؽ ،ثـ طيمب فيرب ،ثـ نزؿ
الككفة فتعمـ منو الجيـ بف صفكاف القكؿ الذم نسب إليو الجيمية .كقيؿ أف الجعد أخذ ذلؾ مف أباف بف سمعاف ،كأخذه أباف مف
3
لذا فإف المعتزلة ليست أكؿ مف قاؿ بالخمؽ ،بؿ سبقيـ الجعد بف ردىـ الذم اتيـ بالكفر كقتؿ كالجيـ طالكت بف أعصـ الييكدم".
بف صفكاف مف المجبرة كالذم قتؿ بدكره .كلئف كانت ىذه الركاية تؤصؿ مصدر المشكمة عند الييكد ،فإف ىناؾ مف يقكؿ أف التقاليد
الكبلمية المسيحية ىي التي أكحت لممسمميف بالكبلـ في ذلؾ المكضكع ،عمى أساس أف دمشؽ كانت تستكطف الثقافة كالديانة
المسيحية ،كقد كاف الكاىف يكحنا الدمشقي يمثؿ الثقافة المسيحية العالمة في مكاجية الديف اإلسبلمي الجديد .ككتب حكارات متعددة
في مشكبلت الكبلـ .لكف تأثير المسيحية ىنا ليس مف خبلؿ القكؿ بخمؽ القرآف ،بؿ باألطركحة النقيضة ،أم القكؿ بقدمو ،كىذا ما
يعني أف الفكرة كانت مطركحة قبؿ األشاعرة .ففي العقيدة المسيحية يمثؿ العنصر الثاني مف التثميث (األب ،االبف ،الركح القدس)،
1
عبد الحكيـ أجير :التشكبلت المبكرة لمفكر اإلسبلمي -دراسة في األسس األنطكلكجية لعمـ الكبلـ اإلسبلمي ،المركز الثقافي
العربي ،الدار البيضاء ،الطبعة األكلى 2005 ،ص .48
2
المرجع نفسو ،ص .49
3
أحمد أميف :ضحى اإلسبلـ ،الجزء الثالث ،مكتبة النيضة المصرية ،القاىرة ،الطبعة السادسة ،ص .162-161
153
كىك عيسى ،كممة Logosا﵀ .كبما أنو كذلؾ ،فيك قديـ ليس بمحدث 1.كبما أف القرآف ذاتو ،يقر بيذه الحقيقة ،مف خبلؿ العديد
مف اآليات 2،فإف الفكر اإلسبلمي يأخذ بيا ببل حرج .عمى أساس أف عيسى الذم يمثؿ كممة ا﵀ في المسيحية يقابؿ القرآف الذم ىك
كبلـ ا﵀ في اإلسبلـ ،كاذا تـ اعتبار عيسى ككممة ﵀ قديمة ،فإف الفكر اإلسبلمي الذم تأثر بذلؾ يقكؿ بقدـ القرآف باعتباره كبلما
إلييا .كقد تـ حفظ أحد رسائؿ المأمكف ،الذم تبنى عقيدة خمؽ القرآف ،التي يقكؿ فييا" :فضاىكا بو قكؿ النصارل في اعدائيـ في
عيسى بف مريـ أنو ليس بمخمكؽ إذ كاف كممة ﵀" 3.كىذا سياؽ نقد المأمكف لعمماء الحديث الذيف تمسككا بقدـ القرآف ،عمى أنيـ
مقمديف لمفكرة المسيحية ،كليسكا متمسكيف بعيدة إسبلمية أصيمة.
نبلحظ في كبل التفسيريف ،أف أصؿ المكضكع يعكد إلى عكامؿ خارجية ،سكاء الييكدية مثمما اعتقد ابف األثير مثبل 4،أك
المسيحية مثمما اعتقد المأمكف أك غيره مف المستشرقيف المعاصريف .لكف أال يمكف أف تككف النصكص القرآنية ذاتيا محرضا لمتفكير
في ىذه المسألة ؟ حقيقة أنو يمكف أف نجد بعض اآليات التي تكحي بقدـ القرآف عندما تتحدث عف المكح المحفكظ كالكتاب المكنكف،
كىي حجة يستعم ميا طرؼ ضد اآلخر ،لكف المشكمة أف المستشرقيف يعممكف عمى تأكيد تأثر القرآف بالفكر السابؽ لو .مما يعني أف
المكضكع يؤكؿ في كؿ األحكاؿ إلى ثقافة دينية سابقة .كبما أف عمـ الكبلـ قد تأثر بالتراث التكحيدم السابؽ عميو ،فمف الممكف أف
يعكد لمقرآف مف أجؿ تقكية مكاقؼ كؿ فرقة .فيذه المشكمة بطرحيا الكبلمي السابؽ ،أم ىؿ القرآف قديـ اك محدث ؟ غير متكفرة
بصكرة مباشرة في القرآف الكريـ ،بؿ أنو أصبح مصد ار لتقكية الطركحات المختمفة ،سكاء القائمة بالخمؽ أك بالقدـ .مف ىذه الناحية
نقكؿ بأف القرآف قد ساىـ في ميبلد ىذه المشكمة في السياقات اإلسبلمية ،عمى الرغـ مف أنو ال يطرحيا .كككف ىناؾ آيات
متشابيات كىي عديدة ،فيذا طريؽ لتكظفيا عند كؿ فرقة كبلمية لتقكية عقيدتيا.
1
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،ترجمة مصطفى لبيب عبد الغاني ،المجمد األكؿ ،المركز القكمي لمترجمة،
القاىرة ،الطبعة األكلى ،2005 ،ص .338
ً يسى ٍاب يف ىم ٍرىيـ ك ًجيينا ًفي ُّ ﴿ 2إً ٍذ قىالى ًت ا ٍلم ىبلئً ىكةي يا مريـ إً َّف المَّو يب ّْشرًؾ بً ىكمًم وة ًم ٍنو اسمو ا ٍلم ًس ً
يف﴾ [آؿ الد ٍنىيا ىك ٍاآلىخ ىرًة ىك ًم ىف ا ٍل يمقىَّربً ى ى ى يح ع ى ي ٍي ي ى ي ى ى يى ي ى ى ٍ ىي ى
ً ً َّ ً ً َّ ً َّ ً ً ً ً
ىى ىؿ ا ٍلكتى ً
يسى ٍاب يف ىم ٍرىي ىـ ىر يسك يؿ المو ىك ىكم ىمتيوي يح ع ى ؽ إًَّن ىما ا ٍل ىمس ي
اب ىال تى ٍغميكا في دين يك ٍـ كىال تىقيكليكا ىعمىى المو إًال ا ٍل ىح َّ
ى عمراف ]45 ،أيضا﴿:ىيا أ ٍ
كف لىوي ىكلى هد لىوي ىما ًفي ىف ىي يك ى
اىا إًلىى مريـ كركهح ًم ٍنو فىآ ًىمينكا بًالمَّ ًو كرسمً ًو كىال تىقيكليكا ثى ىبلثىةه ٍانتىيكا ىخ ٍي ار لى يكـ إًَّنما المَّو إًلىوه ك ً
اح هد يس ٍب ىح ىانوي أ ٍ ى ي ن ٍ ى ي ىي ي ى ي ى ٍ ىى ى ي أىٍلقى ى
يبل ﴾ [النساء]171 ، ض ىك ىكفىى بًالمَّ ًو ىك ًك ن ات ك ىما ًفي ٍاأل ٍىر ًالس ً
َّم ىاك ى
ى
3
أحمد أميف :ضحى اإلسبلـ ،الجزء الثالث ،مرجع سابؽ ،ص .163أيضا :ىارم أكستريف كلفسػكف :فمسػفة المتكممػيف فػي اإلسػبلـ،
المجمػد األكؿ ،مرجػػع سػػابؽ ،ص .345يقػػكؿ :كمػػا احػػتج منكػػرك الصػفات بػػأف االعتقػػاد بالصػػفات ال يختمػػؼ عػػف االعتقػػاد المسػػيحي
بالتثميػث ،يحػتج الخميفػة المػأمكف أيضػا ،أثنػاء حممتػو المناىضػة لبلعتقػاد بقػػدـ القػرآف ،فػي رسػالتو الثالثػة إلػى حػاكـ بغػداد ،بػاف أكلئػػؾ
الذيف يعتقدكف بقدـ القرآف" ،ضاىكا قكؿ النصارل في عيسى ابف مريـ إنو ليس بمخمكؽ إذ كاف كممة ا﵀".
4
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .377ابف األثير :يتتبع تاريخ نظرية خمؽ
القرآف قبؿ ظيكر المعتزلة يقكؿ بأف جيـ بف صفكاف أخذىا عف جعد بف درىـ الذم أخذىا عف أباف بف سمعاف الذم أخذىا عف
طالكت الذم اخذىا عف لبيد بف األعصـ الييكدم الذم سحر النبي .ككاف "لبيد" ىك الذم أذاع عقيدة خمؽ التكراة.
154
بما أنو ال يمكف لنا التيقف مف مسألة أم النظريات أسبؽ تاريخيا مف األخرل ،ىؿ ىي نظرية خمؽ القرآف أـ قدمو ،كعمى الرغـ
مف ا عتقاد كلفسكف أف الفكرة السائدة عند المسمميف ىي القائمة بأف القرآف قديـ كسابؽ في كجكده لزمف الكحي كحتى لزمف خمؽ
العالـ 1،فإف النظرية الكبلمية التي تدافع عف القدـ بصكرة منطقية كمنظمة لـ تظير إال بعد شيكع نظرية خمؽ القرآف عند المعتزلة.
إذ يذكر مؤرخي األفكار كالشخصيات مثؿ ابف النديـ العديد مف الكتب التي يعنكنت بػ "خمؽ القرآف" مثؿ 2:كتاب الخمؽ ألبي عمي
الجبائي ،خمؽ القرآف إلبف الركاندم الذم سينفصؿ عف المعتزلة كيتيـ باإللحاد كمية ،خمؽ القرآف ألبي بكر األصـ ،خمؽ القرآف
ليشاـ الفكطي ،خمؽ القرآف لعيسى المردار ،الرد عمى مف أنكر خمؽ القرآف ألبي جعفر اإلسكافي ،كخمؽ القرآف لمجاحظ كىك رسالة
صغيرة منسكبة إليو.
قمنا بما أنو ال يمكف تحديد األسبقية الزمنية ،فإننا نبدأ بعرض نظرية خمؽ القرآف ،عمى اعتبار أف مكقؼ األشاعرة كأصحاب
الحديث كاف ردا عمييا أكثر مما ىك تأسيس لنظرية مستقمة تقكؿ بقدـ القرآف .أم أننا ال يمكف فيـ مكقؼ ابف حنبؿ كمكقؼ
األشاعرة إال بعد عرض مكقؼ النظرية القائمة بخمؽ القرآف كىي نظرية المعتزلة عمى الخصكص.
ليست المعتزلة الفرقة الكحيدة التي تبنت نظرية القرآف المخمكؽ ،بؿ نجد معيا عدة فرؽ أخرل كنخص بالذكر المجبرة بخاصة
الجيمية منيا كبعض فرؽ الشيعة مثؿ الرافضة مف اإلثناعشرية كبعض فرؽ الخكارج كالمرجئة .كلك أف نظرية الخمؽ تنسب بقكة
لممعتزلة ألنيا جعمتيا أساسا لمتكحيد ،كألفت فييا الكتب ،كنخص بالذكر كتاب عبد الجبار المعتزلي الذم خصص جزءا كامبل مف
المغنى بعنكاف "خمؽ القرآف" .إال أف الفرؽ األخرل تحدث في المسألة .لذا سنعرض مكقؼ ىذه الفرؽ التي لـ تجعؿ نظرية خمؽ
ي
القرآف مرك از لعقيدتو الكبلمية.
أحصى األشعرم الفرؽ التي تكممت في مسألة خمؽ القرآف عمى الشكؿ التالي " :قكؿ الرافضة (الشيعة اإلثناعشرية) في القرآف:
ىـ فرقتاف:
-1ىشاـ بف الحكـ :القرآف ال خالؽ كال مخمكؽ ( )...غير مخمكؽ ألنو صفة كالصفة ال تكصؼ .يقكؿ زرقاف عف ىشاـ بف
الحكـ أنو قاؿ :القرآف عمى ضربيف :إف كنت تريد المسمكع فقد خمؽ عز كجؿ الصكت كالمقطع كىك رسـ القرآف ،فأما
القرآف فيك فعؿ ا﵀ مثؿ العمـ كالحركة ،ال ىك ىك كال غيره.
-2فرقة ثانية يزعمكف أنو مخمكؽ محدث ،لـ يكف ثـ كاف ،كما تزعـ المعتزلة كالخكارج" 3.كنحف نعمـ بأف المحدث يدؿ ،حسب
ابف كثير مثبل ،عمى الذم أينزؿ جديدا أك الجديد إنزالو ،كىك ما يقابؿ القديـ الذم كجد قبؿ الكؿ كببل مكجد .كلكف القكؿ
1
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .340
2
رشيد الخيكف :جدؿ التنزيؿ مع كتاب خمؽ القرآف لمجاحظ ،منشكرات الجمؿ ،ككلكنيا ،2000 ،ص .169
3
أبي الحسف األشعرم :مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف ،الجزء األكؿ ،المكتبة الصرية ،بيركت ،2009 ،ص ص -50
.420
155
بقدـ القرآف يفترض أنو مخمكؽ .فالفرؽ بيف قدـ ا﵀ كبيف قدـ القرآف ىك أف ىذا األخير مخمكؽ مف ا﵀ ،في حيف ا﵀ غير
مخمكؽ.
يظير أف مكقؼ الركافض ليسا كاضحا بالمطمؽ ،عمى أساس أف ىشاـ بف الحكـ عمؽ الحكـ .لكف في ىذا التعميؽ ذاتو إنكار
لككنو خالقا أم قديما .ثـ أف تقسيـ مدلكالت القرآف ذاتو ،بيف المدلكؿ المادم كالمدلكؿ النفسي ،يكحي بإمكانية أف يككف مخمكقا .كمف
األدلة العقمية عمى الخمؽ نجد قكليـ" :سكاء قمنا بأنو عبارة عف الحركؼ كاألصكات ،أك قمنا أنو معنى قائـ في النفس ،فإنو يمتنع أف
يككف قديما .كذلؾ ألنو ما كاف في األزؿ مف مأمكر كال منييا ،فمك خص األمر كالنيي مف غير حضكر المأمكر كالمنيي ،كاف ىذا
سفيا كجنكنا ( )...كيؼ يحس ف في العقؿ أف يقكؿ (يا مكسى إني أنا ربؾ فاخمع نعميؾ) مع أنو لـ يكف ىناؾ مكسى" 1.فبمجرد أف
افترض ىشاـ بف الحكـ الطابع المادم لمقرآف ،فيذا يدؿ عمى خركجو مف العدـ إلى الكينكنة ،أم كفؽ عبارتيـ "لـ يكف ثـ كاف".
يكاصؿ األشعرم في تحديد الفرؽ القائمة بالخمؽ" :قكؿ الخكارج في القرآف؛ جميعا يقكلكف بخمؽ القرآف .كاإلباضية تقكؿ :ا﵀
سبحانو لـ يزؿ مريدا لمعمكماتو التي تككف أف تككف كلمعمكماتو التي ال تككف أال تككف" 2.كتقدـ اإلرادة عمى الكينكنة دالة ظاىرة
عمى الخمؽ كالفعؿ المتأخر عف القرار .أما المرجئة ،حسب األشعرم ،فإف مقاالتيا انقسمت إلى ثبلثة أقساـ:
3
-3مف قاؿ بالكقؼ :ال نقكؿ أنو مخمكؽ كال غير مخمكؽ".
ىنا نبلحظ اتفاؽ كؿ مف الرافضة كالمرجئة في تعميؽ الحكـ ،أم أف المسألة مكقفة عمى ا﵀ ،كال يمكف لنا العمـ أك التقرير .كفي
الح قيقة ،أف تحميؿ ىذا المكقؼ البل أدرم ،مثمما قمنا بشأف ىشاـ بف الحكـ ،يدؿ عمى عدـ الكثكؽ في قدمو .فبمجرد الشؾ ،يككف
مكقفيـ منحاز إلى الخمؽ كالحدكث .كىذا المكقؼ يشبو مكقؼ أبك معاذ التكمني الذم قاؿ" :القرآف كبلـ ا﵀ كىك حدث ليس
بمحدث ،كفعؿ كليس بمفعكؿ ،كامتنع أف يزعـ أنو خمؽ ،كيقكؿ :ليس بخمؽ كال مخمكؽ كانو قائـ با﵀ ،كمحاؿ أف يتكمـ ا﵀ سبحانو
بكبلـ قائـ بغيره ،كما يستحيؿ أف يتحرؾ بحركة قائمة بغيره" 4.كيظير جميا ىناؾ صعكبة في استعماؿ المصطمح ،فبل يمكف لنا
التحكـ في مدلكؿ "حدث" كمدلكؿ "محدث" أك "حادث" .كىي مصطمحات كردت في القرآف ،أثارت مشكمة مرتبطة بػ "ما إذا كاف
1
فخر الديف الرازم :خمؽ القرآف بيف المعتزلة كأىؿ السنة ،تحقيؽ أحمد حجازم السقا ،دار الجيؿ ،بيركت ،الطبعة األكلى،1992 ،
ص .67
2
أبي الحسف األشعرم :مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .109-108
3
نفس المرجع ،ص .128
4
المرجع نفسو ،ص .421
156
القرآف السماكم المكجكد في المكح المحفكظ قبؿ الكحي غير مخمكؽ أـ مخمكقا" 1.فقد يككف القرآف الذم بيف أيدنا اليكـ مخمكقا ،لكف
ىؿ لنا الحؽ في تقرير خمؽ المكح المحفكظ ؟ لذا فكممة مخمكؽ كحادث ليا كقع مختمؼ في الفيـ.
أما مكقؼ المعتزلة ،فيك األكثر رسكخا مف بيف مكاقؼ كؿ الفرؽ األخرل .كعمى الرغـ مف ذلؾ ،فميس ىناؾ تطابؽ بيف أراء
شيكخ االعتزاؿ .كما أف مشكمة كبلـ ا﵀ قد تفرعت إلى عدة مكضكعات مثؿ الخمؽ كالقدـ ،كالكينكنة في محؿ ،كالكبلـ النفسي
كالمادم ،الداللة الحقيقة لممستقبؿ...الخ.
تنطمؽ المعتزلة مف التمييز بيف الكجكد القديـ كما عداه .كمف مستمزمات إثبات كحدانية ا﵀ ،كالتي ىي عماد كؿ العقائد حسبيـ،
ىي التأكيد عمى عدـ مشاركة ا﵀ في القدمية مف أم كاف .أم أف ا﵀ ىك المكجكد األكؿ كالقديـ دكف سكاه .كىذا يعني أف كؿ ما عدا
ا﵀ ليس بقديـ .فمئف كاف ا﵀ قديـ غير حادث في زماف ،فإف العالـ كاإلنساف كالمكجكدات األخرل كميا كاقعة في زماف ما .كالفرؽ
بيف القدـ كالخمؽ يكمف في الزمانية .فكؿ مخمكؽ حدث في زماف ما ،في حيف أف القديـ سابؽ عمى أم زمانية .كالقكؿ بقدـ القرآف
يؤدم بنا إلى القكؿ بأنو إلو ،ألف ىذه الصفة مقصكرة عمى ا﵀ دكف سكاه .كىذا خدش صريح لعقيدة التكحيد .كيمخص القاضي عبد
الجبار رأم المعتزلة بقكلو :قاؿ شيكخنا رحميـ ا﵀ إف كبلمو تعالى لك كاف قديما لكجب ككنو إليا .كالدليؿ الذم يثبت حدكثو ىك:
"الكبلـ ال يككف إال حركفا منظكمة كأصكات مقطكعة ،كىذا محدث لجكاز العدـ عميو ىذا ما يثبت استحالة قدمو" 2.ا﵀ قادر عمى
اعداـ بعض مف كبلمو عمى سبيؿ النسخ ،كىذه المسألة معركفة بكضكح في القرآف ذاتو.
كيذكر الرازم ،باعتباره أشعرم ،لذا نجده يستعمؿ لفظة شبو بدؿ حجة ،بأف المعتزلة لـ يستعممكا الدليؿ العقمي فقط إلثبات خمؽ
القرآف ،بؿ أنيـ استعانكا باألدلة النقمية المأخكذة مف القرآف ذاتو .يقكؿ :احتج القائمكف بحدكث كبلـ ا﵀ تعالى بالمنقكؿ كالمعقكؿ:
الشبو األكلى :إف القرآف ًذكر ،ككؿ ًذكر يمحدث ،فالقرآف يمحدث .كانما قمنا إف القرآف ذكر ،لقكلو تعالى﴿ :ص ىكا ٍلقيٍآر ً
ىف
ًذم ّْ
الذ ٍك ًر﴾ [ص.]1 ،
كف ﴾ [النحؿ .]40 ،كجو الشبية الثانية :تمسككا بقكلو تعالى﴿ :إًَّن ىما قى ٍكليىنا لً ىش ٍي وء إً ىذا أ ىىرٍدىناهي أ ٍ
ىف ىنقيك ىؿ لىوي يك ٍف فىىي يك ي
االستدالؿ فيو:
-1اآلية مركبة مف شرط كجزاء :إذا أردنا (شرط) كف (جزاء) كالجزاء البد أف يككف كتأخر عف الشرط .أم قكؿ ا﵀
متأخر عف إرادتو.
-2لمفاء في قكلو "فيككف" فاء تعقيب .كىذا يقتضي أف يككف حاصؿ عقيب قكلو مف غير فصؿ كتراخ ،فيمزـ أف
يككف قكلو "كف" متقدما ما عمى المككف مف غير فصؿ .كالمقدـ عمى المحدث بزماف كاحد ،يجب أف يككف
3
محدثا".
بالنسبة لممعتزلة ،فإف كصؼ القرآف بأنو كبلـ محدث ،ليس بدعة كبلمية مف عندىـ ،بؿ عمى العكس تماما ،فالقرآف ذاتو
و َّ ً ً ً ً
كف﴾ [األنبياء، ﴿ما ىيأٍتي ًي ٍـ م ٍف ذ ٍك ور م ٍف ىرّْب ًي ٍـ يم ٍح ىدث ًإال ٍ
استى ىم يعكهي ىك يى ٍـ ىي ٍم ىعيب ى يستعمؿ لفظة محدث .إذ كرد في محكـ التنزيؿ قكلو تعالى :ى
1
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .408
2
عبد الجبار اآلسدآبادم :المغنى في أبكاب التكحيد كالعدؿ -كتاب خمؽ القرآف ،ص .84
3
فخر الديف الرازم :خمؽ القرآف بيف المعتزلة كأىؿ السنة ،مرجع سابؽ ،ص .65-64
157
]2كالذكر ىنا ىك القرآف ،كظاىر جدا كصفو بالمحدث الذم يعني المكجكد في زمف معمكـ 1.كما أف كصؼ القرآف نفسو بأنو منزؿ،
ً ً ًً ً
مثمما ىك كراد في اآلية العاشرة مف السكرة السابقة ﴿لىقى ٍد أ ٍىن ىزٍلىنا إًلىٍي يك ٍـ كتى نابا فيو ذ ٍك يريك ٍـ أىفى ىبل تى ٍعقمي ى
كف﴾ ،يدؿ عمى أنو فعؿ إليي كقع في
تاريخ معيف ،كليست كينكنتو بمعزؿ عف الزمف .ككؿ ما أحدثو ا﵀ في زمف كرتبو مف أجزاء ،فيك محدث كمخمكؽ لو .لذا صح القكؿ
بأف القرآف مخمكؽ مثمو م ثؿ األشياء األخرل .كالمقصكد ىنا بأنو مخمكؽ أنو لـ يكجد ثـ كجد ،أك لـ يكف ثـ كاف .كىذا قكؿ المعتزلة
كالزيدية (مف الشيعة) كالمرجئة ككثير مف الرافضة 2،كبالتالي فيك حادث في زمف.
المسألة التي تمنع قدـ القرآف ،حسب البعض ،ىي أننا بالقكؿ بقدمو ،نككف قد اعتقدنا بأنو ا﵀ قد تكقؼ نيائيا عف الكبلـ .في
حيف أنو ،حسب بعض المتفيقو مثؿ داكد اإلصبياني ،كىي المفظة التي استعمميا األشعرم لمتقميؿ مف منطقيـ؛ "إف ا﵀ لـ يزؿ
متكمما ،أم لـ يزؿ قادر عمى الكبلـ .إف كبلـ ا﵀ محدث غير مخمكؽ" 3.مما يدؿ عمى أف ا﵀ قادر عمى احداث الكبلـ في كؿ
كقت ،كبالتالي خمقو دكف تكقؼ .حقيقة أف القرآف ىك آخر كبلـ ا﵀ لمبشر ،لكف ال يمكف أف نتيقف بأف ا﵀ ال يمكف أف يخمؽ كبلما
جديدا غيره .كلك أف غالبية عمماء اإلسبلـ ال يفكركف في ىذا المفترض الجديد ،إال أنو قدرة ا﵀ المطمقة تتيح لو خمؽ ما يشاء .فبل
يمكف أف نمزـ ا﵀ بما لـ يمزـ ىك ذاتو الجميمة.
كمف األدلة العقمية التي يستند عمييا رجاؿ المعتزلة إلثبات خمؽ القرآف ىي أف القرآف يذكر حكادث ال يمكف أف تقع منذ األزؿ،
بؿ ىي محصمة ق اررات بشرية كاقعية .فقد اتفؽ ىشاـ بف األكقص مع عمرك بف عبيد ،كىك الرجؿ الثاني لممعتزلة" ،في رفض أف
4
تككف اآليات القرآنية التي تنبئ عف مصير بعض األشخاص – مثؿ أبك ليب -مكتكبة في المكح المحفكظ .إف ىذا حكـ مسبؽ".
ىنا يككف قدـ القرآف متعارض مع العدالة اإلليية ،فمك أف رفض أبا جيؿ الدعكة المحمدية مقدر منذ القدـ فبل يمكف أف يككف
مستطيع كبالتالي ينيار التكميؼ الذم ىك شرط مشركعية العقاب .كما أف قدـ األحداث المكجكد في القرآف القديـ ،يطرح مسألة حقيقة
المستقبؿ ذاتو ،فمك كاف القرآف قديـ ،لتحكلت كؿ األحداث إلى مجرد تحقؽ لماض قديـ عمى أساس أنو مستقبؿ كما ىك بالمستقبؿ.
كقد "كتب األصـ حكؿ مكضكع خمؽ القرآف .كتـ اعتبار كجية نظره ،فيما عدا لدل البصرييف ،بمثابة ذنب جؿ عف الغفراف.
كيحتمؿ أنو كجد في القرآف مجرد كتاب أرضي .فالقرآف بكصفو نمكذج سماكم ،كتب ا﵀ في طياتو كؿ األحداث المستقبمية ،أمر
يمكف أف يجعمو غير كارد الكجكد ،ألف ا﵀ ال يعمـ المستقبؿ قبؿ كقكعو مطمقا .فالعمـ ىك مجرد "شيء"؛ لكف المطمؽ ليس "شيء"،
حيث "الشيء" ليس إال جسـ" 5.كقد تحدث فبلسفة الكجكدية المعاصرة عف ىذه النظرة الدينية التي تجعؿ المضارع أك المستقبؿ مجرد
1
عبد الجبار اآلسدآبادم :المغنى في أبكاب التكحيد كالعدؿ -كتاب خمؽ القرآف ،ص .87أيضا :عبد الحكيـ أجير :التشكبلت
المبكرة لمفكر اإلسبلمي -دراسة في األسس األنطكلكجية لعمـ الكبلـ اإلسبلمي ،مرجع سابؽ ،ص .50
2
أبي الحسف األشعرم :مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .420
3
أبي الحسف األشعرم :مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .421
4
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،ترجمة
محي الديف جماؿ بدر كرضا حامد قطب ،مراجعة محسف الدمرداش ،منشكرات الجمؿ ،بيركت – بغداد ،الطبعة األكلى،2016 ،
ص .173
5
المرجع نفسو ،ص .593
158
شكمية في الكبلـ كالعمـ اإلليييف .ككأف ماىية األفراد سابقة لكجكدىـ التاريخي ،عمى أساس التحديد القديـ ليا مف طرؼ القدرة
اإلليية ،كىنا بالضبط تكمف إلحادية بعض الكجكدييف .في ىذا السياؽ يقكؿ سارتر" :إذا آمف اإلنساف بأف المستقبؿ في يد ا﵀ ،كأنو
مكتكب عمى اإلنساف ،كأف ا﵀ كحده مف يعرفو ( )...فبل يعكد المستقبؿ مستقببل" 1.لربما االحتجاج الذم عبر عنو بعض المسمميف
عف نظرية عدـ قدـ القرآف ،تفيـ في ىذا السياؽ الذم كشفو الفبلسفة الكجكدييف الممحديف .ككأف ىناؾ إلحاد مضمر في أطركحة
المعتزلة المتعمقة بحرية اإلنساف كخمؽ القرآف .لذا نجد مف كفرىـ بقكليـ عف القرآف بأنو مخمكؽ كليس قديـ ،ككأنو يصؼ األحداث
بعد كقكعيا كليس قبؿ ،مف أجؿ انقاذ مستقبمية المضارع.
خاض رجاؿ المعتزلة كغيرىـ في مسألة فرعية مف مشكمة طبيعة كبلـ ا﵀ بيف القدـ كالخمؽ ،كىي قضية إمكانية كجكد القرآف
في محؿ أك في مكاف .كالسؤاؿ يطرح عمى ىذه الصيغة :ىؿ كبلـ ا﵀ جسـ ؟ ىؿ ىك عرض ؟ ىؿ ىك قابؿ لمحركة ؟ كفي ىذا
خصص القاضي عبد الجبار المعتزلي الذم تكفي سنة 415ق فصبل بعنكاف استفيامي :ىؿ يحتاج الكبلـ كالصكت في كجكدىما
في محؿ إلى حركة كبنية كصبلبة ؟ 2كيذكر مباشرة مكقؼ أبك عمي الجبائي الذم يقكؿ بأف القرآف بحاجة في كجكده في المحؿ إلى
بنية مخصكصة كالى حركة .بالنسبة إلى النظاـ فإنو "محاؿ أف يككف كبلـ ا﵀ في أماكف كثيرة أك في مكانيف في نفس الكقت ،كأنو
في المكاف الذم خمقو ا﵀ فيو" .ىنا نتذكر مبدأ عدـ التناقض الذم يقر بأنو ال يمكف أف يككف الشيء كال يككف في نفس المكاف أك
المكضع .أما "فرقة أخرل مف المعتزلة (أبك اليذيؿ أك اليذيمية) فيك يقكؿ "القرآف مخمكؽ ﵀ ،كىك عرض ،كليس جسما .كيككف في
أمكاف كثيرة في كقت كاحد 3.فيك يكجد في األماكف بالتبلكة كالحفظ كالكتابة كال يجكز عميو االنتقاؿ كالزكاؿ" 4.كىناؾ طائفة تقكؿ بأف
القرآف مثمو كمثؿ األجساـ لو خاصية التحيز ،لكنو قائـ با﵀ في غير مكاف .كطائفة تقكؿ بأف القرآف جسـ خمقو ا﵀ في المكح
المحفكظ ،كىي بذلؾ تجيب عف سؤاؿ قدـ المكح المحفكظ في مقابؿ خمؽ القرآف ،ثـ ىك بعد ذلؾ مع تبلكة كؿ تاؿ يتمكه ،كمع خط
كؿ مف يكتبو ،كمع حفظ كؿ مف يحفظو .كما نجد طائفة تقكؿ بأف القرآف يخمقو ا﵀ مع تبلكة كؿ تاؿ .كطائفة تقر بأف القرآف عرض
في المكح المحفكظ ،محاؿ زكالو عف المكح .كلكنو كمما قرأه القارئ أك كتبو الكاتب أك حفظو الحافظ فإف ا﵀ يخمقو .كأخرل ىمثميا
زرقاف تقكؿ القرآف مف ا﵀ خمقا كمني قراءة كفعبل .أم أنا فاعؿ كا﵀ خالؽ 5.كالظاىر أف القائؿ بخمؽ المكح المحفكظ ،كالذم يعتبر
6
القرآف جزءا منو ،مؤسس عمى "حديث يرجع إلى النبي ،حيث يقكؿ فيو إف ا﵀ تعالي خمؽ المكح كالقمـ قبؿ خمؽ السمكات كاألرض".
1
جاف بكؿ سارتر :الكجكدية مذىب إنساني ،ترجمة عبد المنعـ حنفي ،مطبكعات الدار المصرية ،القاىرة ،الطبعة األكلى،1964 ،
ص .26
عبد الجبار اآلسدآبادم :المغنى في أبكاب التكحيد كالعدؿ -كتاب خمؽ القرآف ،ص .31 2
3
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .384-383أبك اليذيؿ :كبلـ ا﵀ أك
القرآف السابؽ عمى الخمؽ خمقو ا﵀ ،قبؿ الكحي بو ،بما ىك ىع ىرض في المكح المحفكظ .القرآف يكجد في أماكف كثيرة في كقت كاحد:
إذا تبله تاؿ فيك يكجد مع تبلكتو ككذلؾ إال كتبو كاتب كجد مع كتابتو ككذا إذا حفظو حافظ كجد مع حفظو ( )...كال يجكز عميو
االنتقاؿ مف المكح المحفكظ كالزكاؿ عنو.
4
أبي الحسف األشعرم :مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .154-153
5
أبي الحسف األشعرم :مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .127-124
159
كاألرض" 1.لربما استعمؿ ىذا القكؿ لمداللة عمى قدـ المكح ،لكنو في النياية مخمكؽ بعد ا﵀ ،مما يجعمو غير قديـ بالمطمؽ ،يككف
قديـ فقط بالنسبة لمعالـ كاإلنساف كالقرآف .كيشرح التفتازاني ما يعنيو المعتزلة بعبارة خمؽ القرآف ،فيقكؿ أنيـ يعنكف بو شيئيف؛ إما:
*خمؽ كبلـ ا﵀ "في محؿ" أم خارج المكح المحفكظ( .رأم النظاـ كمعمر)
2
*خمقو في المكح المحفكظ( .رأم الجعفريف كأبي اليذيؿ).
مما سبؽ ،يمكف لنا أف نبلحظ في نظرية خمؽ القرآف مكقفيف كبيريف:
* "اعتراؼ بكجكد كبلـ ﵀ سابؽ عمى الكحي .مخمكؽ في المكح المحفكظ .مما يجعمنا نفترض أف المكح المحفكظ أكثر قدما مف
القرآف ،لكنو مخمكؽ في النياية ،فقدامتو نسبية كليست مطمقة.
* رأم ينكر كجكد كبلـ ا﵀ سابؽ عمى الكحي ،حتى لك كاف ىذا الكبلـ مخمكقا .فكبلـ ا﵀ خمؽ في زمف الكحي بالقرآف" 3.مما يدؿ
عمى أف الكحي كليد األحداث كليس محدد سمفا .كىناؾ مف ذىب ،مثمما "افترض عمرك بف عبيد ا﵀ ( كىك معتزلي) كجكد فرؽ
مبا شر بيف القرآف في "المكح المحفكظ" ،كبيف النص الفعمي المكحى بو ،كما تريد بعض الركايات الغريبة عنو أف تقكؿ" 4.كىذا مف
منطمؽ أف األحداث البشرية تؤثر في النص المكحى بو .كمف ىذا المدخؿ حاكؿ البعض الربط بيف نظرية خمؽ القرآف كبيف ما يعرؼ
بالناسخ كالمنسكخ .كيستثمر الشيعة ىذا المفيكـ القرآني المتعمؽ بالنسخ ،مف أجؿ اثبات خمؽ القرآف مف جديد ،كمف أجؿ تبرير
نسياف بعض اآليات المتعمقة بعمي (ض)" .كقد فيمت مشكمة النسخ في القرآف عمى نحكيف:
رأل السنة أف ا﵀ يستطيع نسخ اآليات مف نكع معيف ليس فقط بطريقة محسكبة كانما أف يغير رأيو في أم كقت.
يمكف اعتبار النسخ ،كظاىر اعترؼ بيا القرآف ،دالة عمى أنو مخمكؽ ،بحيث يتغير كفؽ اإلرادة اإلليية .أك حتى كفؽ
المتغيرات البشرية .أم تككف الظركؼ البشرية المستجدة سببا في أف ينسخ ا﵀ آية ما كيأتي بغيرىا لكي تتبلءـ مع الكاقع الجديد.
1
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .342
2
المرجع نفسو ،ص .405
3
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .395-394
4
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .444
5
جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،ترجمة سالمة صالح ،الجزء األكؿ ،منشكرات الجمؿ،
بغداد – بيركت ،الطبعة األكلى ،2008 ،ص .66-65
161
نستخمص بأف مكقؼ المعتزلة القائؿ بأف القرآف مخمكؽ مرتبط بمعارضة "كجكد قرآف أزلي غير مخمكؽ ،كما احتجكا كىـ
يعارضكف كجكد صفات إليية قديمة عمى الحقيقة ،بأف ىذا االعتقاد مناقض لتصكر الكحدانية" 1.كقكليـ ىذا ال يستيدؼ التنقيص
مف أصالة القرآف أك قدسيتو أك صبلحيتو المطمقة ،بؿ فقد كاستنتاج مف فيـ صارـ لمكحدانية .فبل يمكف أف يككف ىناؾ قديـ غير
ا﵀ ،بؿ أننا نجد مف قاؿ بأف أسماء ا﵀ ذاتيا ،ليس قديمة بؿ مخمكقة 2،عمى أساس كركدىا في القرآف المخمكؽ .كالقكؿ بأف القرآف
3
مخمكؽ يدؿ أيضا عمى أف لفظ القرآف مخمكؽ.
ىي النظرية التي تشكمت ضد النظرية التي تقكؿ بأف القرآف لـ يكف ثـ كاف .كبأنو غير محدث كال حدث كال حادث ،ألف ىذه
التسميات تؤؿ كميا إلى القكؿ بمخمكقيتو ،كىك القكؿ الذم ينكر قدـ القرآف .فمفظي خمؽ creationكاحداث originationيدالف
عمى اخراج المعدكـ مف العدـ إلى الكجكد" 4.كالحؽ أف ىذا التصكر الذم يجعؿ القرآف أك أم شيء آخر يخرج مف العدـ إلى
الكجكد ،يغكص في النقيضة التي كشؼ عنيا بارمنيدس اإليمي ،عندما قاؿ بأف العدـ الذم نتحدث عنو في كممات كنصفو
بأكصاؼ ،ال يغدك عدما عمى اإلطبلؽ ،بؿ يصبح كجكد ما ألننا كصفناه .كبالتالي فالخمؽ مف عدـ تصكر غير سميـ مف الناحية
المفيكمية.
ينطمؽ النسؽ األشعرم ،الذم ىك رد فعؿ عمى المعتزلة بصكرة أساسية كعمى فرؽ أخرل تتقاطع معيا ،ينطمؽ مف إثبات صفة
الكبلـ ،كبيذا فيك يعارض مف ينكرىا ممف يكصفكف بالركافض .كاثبات الكبلـ ىك اثبات إلخبار ا﵀ لنا بشيء ما كىذه ىي الرساالت
عمى كجو التحديد .كيحدد الشيرستاني المنطمؽ عمى النحك اآلتي" :دليؿ أف ا﵀ يتكمـ ،كلك لـ يكف متكمما لكاف متصفا بضده كىك
الخرس كالعي كالحصر ىي نقائص يتعالى عنيا" 5.كدليؿ أبك اسحاؽ اإلسفرايني عمى الكبلـ ىك أف ا﵀ عالـ ،كيستحيؿ أف يككف
عالـ بشيء دكف أف يخبر بو ،فكجب أف يككف لو كبلـ" 6.الذم ىك القرآف كتجسيد لصفة العمـ اإلليي .كبما أف ا﵀ متكمـ ،فيناؾ
فرضيف أساسييف إزاء ىذا الكبلـ؛ فقد يككف كبلما قديما أك يككف كبلما حادثا .كاذا افترضنا أف كبلـ ا﵀ حادث ،فإما أف يحدث في
ذاتو أك في محؿ أك ال في محؿ ،ككؿ ىذه االفتراضات منتفية مف الناحية العقمية ،يبقى لنا الفرض الكحيد المقبكؿ ىك القكؿ بأف ا﵀
متكمـ بكبلـ أزلي يختص بو قياما ككصفا 7.لكف ما طبيعة الكبلـ اإلليي ؟ أم مقاربة تككف أنثربكمكرفية تشبييية عمى أساس أف
الكبلـ اإلنساني نعرفو كما نمارسو دكما .فكبلمنا متجدد كمنقسـ كحادث في كؿ ظرؼ كفي كؿ كقت .يقكؿ عبد ا﵀ بف يكبلب محددا
1
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .375
2
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .1061
3
المرجع نفسو ،ص .650
4
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .410-409
5
الشيرستاني :نياية اإلقداـ في عمـ الكبلـ ،مرجع سابؽ ،ص .256
6
المرجع نفسو ،ص .257
7
المرجع نفسو ،الصفحة نفسيا.
161
خاصية الكبلـ اإلليي" :كبلـ ا﵀ قائـ بو كما أف العمـ قائـ بو كالقدرة قائمة بو ،كىك قديـ بعممو كقدرتو .كاف الكبلـ ليس بحرؼ كال
صكت كال ينقسـ ال يتجزأ ،إنو معنى كاحد با﵀ ،كاف الرسـ ىك الحركؼ المتغايرة ،كىك قراءة القرآف .كقاؿ :إف ا﵀ ال يخمؽ شيئا إال
قاؿ لو :كف ،كيستحيؿ أف يككف قكلو :كف ،مخمكقا" 1.كاال تراجعنا في سمسمة ال متناىية بحثا عف خالؽ الخالؽ .كيبرىف الشيرستاني
عف كجكد ضربيف مف الكبلـ قائبل" :لك قدر لمبارم تعالى كبلـ فمـ يخؿ مف أحد األمريف؛ إما أف كاف مف جنس كبلـ البشر أك لـ
يكف ،فإف كاف لـ يخؿ أيضا مف أحد األمريف إما أف يككف مف جنس الكبلـ المساني ،أك مف جنس الكبلـ النفساني ،كيستحيؿ أف
يككف كبلمو مثؿ كبلـ المساف ،فإف ىذا مركب مف حركؼ منظكمة ،كالحركؼ تقطيع أصكات ،كاألصكات اصطكاؾ أجراـ ،كالبارم
سبحانو تعالى عف أف يككف جرما أك مركبا مف جرـ" 2.فالتنزيو يقتضي نفي الكبلـ المادم عف ا﵀ ألنو يتطمب أعضاء كنفس
كلساف...الخ ،كبالتالي إثبات الكبلـ النفسي حصرا .ككؿ األشاعرة يعتقدكف الكبلـ قائـ في ذات النفس كليس عمى شكؿ حركؼ
كأصكات أك رسكـ .كمعمكـ أف البارم سبحانو كتعالى مكصكؼ بكبلـ النفس 3.مف أجؿ التنزيو كتفادم الكقكع في الجسمية.
يبدأ األشاعرة ،كمعيـ الحنابمة الذيف عاصركا مشكمة خمؽ القرآف ،بتفنيد نظرية الخمؽ كالحدكث .فحسب ابف حنبؿ ،فإف القكؿ
بالخمؽ يقتضي كفؽ الحتمية كالمألكؼ الطبيعي القكؿ بالفناء .كالخطأ الكامف بالقكؿ بخمؽ القرآف ىك االعتقاد بفناءه كمكتو
كانعدامو 4.كىذا ما ال يستسيغو أم مسمـ ميما بالغ في الثقة بمنطقو .يقكؿ أحمد بف حنبؿ الذم أخمط بيف الجيمية كالمعتزلة في ىذه
ىذه المسألة" :ثـ إف الجيـ ادعى أم ار آخر ،فقاؿ :أنا أجد آية في كتاب ا﵀ تبارؾ كتعالى تدؿ عمى أف القرآف مخمكؽ .فقمنا في أم
﴿ما ىيأٍتًي ًي ٍـ ًم ٍف ًذ ٍك ور ًم ٍف ىرّْب ًي ٍـ يم ٍح ىد وث﴾ [األنبياء .]2 ،فزعـ أف ا﵀ قاؿ القرآف محدث ،ككؿ محدث مخمكؽ .فمعمرم ،لقد
آية ؟ فقاؿ :ى
شبو عمى الناس بيذا" 5.كفي تقدير أحمد أف الجيـ أساء فيـ اآلية القرآنية ،ألف المقصكد بالمحدث ليس القرآف بؿ عمـ النبي بو،
فالنبي كاف ال يعمـ فعممو ا﵀ ،فمما عممو ا﵀ كاف ذلؾ محدثا إلى النبي (ص) .ثـ يكاصؿ أحمد ذكر الحجج النقمية التي استعمميا
1
أبي الحسف األشعرم :مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف ،الجزاء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .422-421
2
الشيرستاني :نياية اإلقداـ في عمـ الكبلـ ،مرجع سابؽ ،ص .260-259
3
فخر الديف الرازم :خمؽ القرآف بيف المعتزلة كأىؿ السنة ،مرجع سابؽ ،ص .60
4
أبي الحسف األشعرم :مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف ،الجزاء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .424
5
أحمد بف حنبؿ :الرد عمى الجيمية كالزنادقة فيما شككا فيو مف متشابو القرآف كتأكلكه عمى غير تأكيمو ،تحقيؽ صبرم بف سبلمة
شاىيف ،دار الثبات لمنشر كالتكزيع ،الرياض ،الطبعة األكلى ،2003 ،ص .121-120
6
المرجع نفسو.126-125 ،
162
لكف كيؼ تعامؿ ابف حنبؿ مع حجة حدكث القرآف عند قراءتو ؟ فكمما قي أر القرآف يككف كبلمو جديد كمحدث .عمى الرغـ مف أف
ابف حنبؿ يقكؿ "إف كبلـ ا﵀ تعالى ىك عممو لـ يزؿ كىك غير مخمكؽ ( )...ما بيف الدفتيف كبلـ ا﵀ كما نقرأه كنسمعو كنكتبو عيف
كبلـ ا﵀ فيجب أف تككف "الكممات" ك"الحركؼ" ىي بعينيا كبلـ ا﵀ .كلما تقرر االتفاؽ أف كبلـ ا﵀ غير مخمكؽ فيجب أف تككف
الكممات أزلية غير مخمكقة ( )...قالت السمؼ ال يظف الظاف أنا نثبت القدـ لمحركؼ كاألصكات التي قامت بألسنتنا" 1.إال أنو في
النياية ،ككفؽ الجممة األخير مف قكلو ،يميز بيف القرآف غير المخمكؽ الذم ىك كبلـ ا﵀ كبيف القرآف المخمكؽ الذم يكجد عندما يق أر
قارئ أك يسمعو سامع .كىك التمييز الذم نجده عند ابف هكبلب البصرم كالذم انخرط في الرد عمى المعتزلة كالجيمية .إذ يعتقد بأف
ىناؾ فرؽ بيف كبلـ ا﵀ كصفة لو قائـ بو باعتباره ذاتا قديمة ،مما يعني أنو لـ يتشكؿ بعد كحركؼ كال كأصكات متمايزة كمنقسمة،
كبيف القرآف بعد نزكلو عمى اإلنساف عمى شكؿ حركؼ مسمكعة 2.كىك التمييز الذم سنجده الحقا تحت اسـ الكبلـ النفسي أك
الذىني كالكبلـ المادم المسككب في قكالب مسمكعة كمرئية .لكف الفرؽ بيف مكقؼ ابف حنبؿ كابف يكبلب يتمخص في "اصرار األكؿ
عمى أف القرآف غير مخمكؽ ،يعترؼ بأف لفظ القرآف مخمكؽ( .الرسـ أك العبارة مثؿ ابف يكبلب) .لكنو خبلفا البف يكبلب ،يزعـ أف
كبلـ ا﵀ غير المخمكؽ ال نجده في القرآف المقركء ،يذىب ابف حنبؿ إلى أف كبلـ ا﵀ غير المخمكؽ يكجد في لفظ القرآف .كىكذا ففي
ؾ فىأى ًج ٍرهي ىحتَّى ىي ٍس ىم ىع ىك ىبل ىـ المَّ ًو﴾[التكبة .]6 ،يأخذ التعبير القرآني "حتى يسمع كبلـ ا﵀ "مأخذا
استى ىج ىار ى
يف ٍ
ً اآلية ﴿كًا ٍف أ ً
ىح هد م ىف ا ٍل يم ٍش ًرك ى
ى ى
3
حرفيا ،في معارضة مباشرة إلبف كبلب الذم يؤكلو تأكيبل مجازيا" .كيبدك أف نظرية ابف يكبلب قكية لحد أنيا انتقمت الحقا إلى
األشعرم .فيك يقكؿ بأف أزلية الكبلـ اإلليي ال تتعارض البتة مع كحدانية ا﵀ ،كىي الحجة التي انطمؽ منيا المعتزلة لمخكؼ مف
القكؿ بقدـ القرآف .فقدـ كبلـ ا﵀ كىك القرآف ال يستتبع ضركرة مشاركتو صفة القدـ مع ا﵀ .فأزلية الصفات تابعة ألزلية ا﵀ كليس
ليا كجكد ينافس القدـ 4.كمف ىنا انطمقت النظرية التي تقر بقدـ القرآف دكف االصطداـ مع مبدأ التكحيد كما اعتقد المعتزلة.
كفي تأكيد الستحالة أف يأمر ا﵀ قكلو الذم ىك القرآف بأف يككف كيحدث مثؿ بقية المكجكدات ،يقكؿ األشعرم بأف المقصكد
5
ألف ىذا يتطمب قكال ثانيا الذم يتطمب قكال ثالثا بكف فيككف ليس القرآف ،ألنو بو يخاطب ،ك"يستحيؿ أف يككف قكلو مقكؿ لو".
كىك ذا ببل قرار .إف قدـ اإلرادة اإلليية ليك أكبر دليؿ عمى قدـ كبلمو ،عمى اعتبار أف الكبلـ ىك تجسيد ليذه اإلرادة القديمة.
مما سبؽ ،يمكف أف نبلحظ أف بداية التشكؾ في أطركحة خمؽ القرآف مف خبلؿ المكاقؼ الكسطية التي لـ تقر كمية بأنو حادث،
فنجد مثبل ابف الماجشكف يقكؿ بأف "بعض القرآف مخمكؽ كبعضو غير مخمكؽ ،فما كاف منو مخمكقا فمثؿ صفات المخمكقيف كغير
ذلؾ مف أسمائيـ كاإلخبار عف أفعاليـ" .أما ما عدا ذلؾ فيك قديـ ال يمكف أف يرتبط بالمستجدات .كما أف "أصحاب الحديث يقكلكف
1ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .357
2
المرجع نفسو ،ص .356-354
3
المرجع نفسو ،ص .359
4
عبد الحكيـ أجير :التشكبلت المبكرة لمفكر اإلسبلمي -دراسة في األسس األنطكلكجية لعمـ الكبلـ اإلسبلميػ مرجع سابؽ ،ص
.57
5
أبي الحسف األشعرم :كتاب الممع في الرد عمى أىؿ الزيغ كالبدع ،مطبعة مصر ،القاىرة ،1955 ،ص .33
163
"ما كاف عمما مف عمـ ا﵀ في القرآف فبل نقكؿ مخمكؽ كال نقكؿ غير ا﵀ .كما كاف فيو أمر كنيي فيك مخمكؽ" 1.يبدك أف النظر في
المحتكيات التاريخية الكاردة في القرآف ،مثؿ العديد مف الحكادث كالفتف كالغزكات كالق اررات...الخ يعتبر قرآنا مخمكقا عمى اعتبار أف
الفاعمييف االجتماعييف ىـ مف قامكا باألحداث التي كصفيا أك حكـ عمييا القرآف ،كألف تمؾ األحداث ،مثؿ اإلفؾ كغيرىا ،ليست
أزلية ،فإف قكليا في القرآف حادث كجديد .كعمـ أسباب النزكؿ circonstances de la révélationأك causes occasionnelles
جديد كفقيا .أما العمـ اإلليي الكمي فبل يمكف أف
ه de la descenteيجعؿ العديد يقر بارتباط القرآف بظركؼ مستجدة مما يجعمو
يككف كذلؾ ،ألنو يتعمؽ بما ىك مبدئي بمعزؿ عف الزماف مثؿ اإليماف كالككف كيكـ الحساب...الخ .فكميا مبادئ ال تاريخية كلف
تغير منيا األحداث شيئا في كجكدىا أك قيمتيا.
يذكر لنا المستشرؽ ىارم كلفسكف أف االعتقاد بقدـ القرآف مرتبط أكال بالمضمكف القرآني الذم يصؼ نفسو كفؽ ما يجعمنا نعتقد
بأنو قديـ كليس جديد أك مستجد .كىناؾ عمى األقؿ ثبلثة آيات تكحي بذلؾ:
كظ﴾ [البركج ]22-21 ،كالمكح المحفكظ كفؽ تفسير ابف كثير "مكجكد يد ًفي لىك وح م ٍحفي و
ىف ىم ًج ه
ٍ ى ﴿ب ٍؿ يى ىك قي ٍرآ ه
* كذلؾ يصؼ القرآف نفسو :ى
في المؤل األعمى مما يجعمو غير معرض لمزيادة كالنقص كالتحريؼ كالتبديؿ" 2.كىذا ما يكحي بنجازتو قبؿ األحداث كال يحتمؿ أم
تعديؿ بعدىا.
بالنسبة لؤلشعرم ،الممثؿ الحقيقي لنظرية قدـ القرآف بعد ابف حنبؿ ،فإنو يستدؿ مف القرآف الكريـ أكال .حيث كرد في الذكر
ات ىربّْي ىكلى ٍك ًج ٍئىنا بً ًمثٍمً ًو ىم ىد ندا﴾ [الكيؼ ]109 ،كمف ىنا
ىف تىٍنفى ىد ىكمً ىم ي
ات ىربّْي لىىنًف ىد ا ٍلىب ٍح ير قىٍب ىؿ أ ٍ
الحكيـ ﴿ يق ٍؿ لىك ىكاف ا ٍلب ٍحر ًم ىد نادا لً ىكمًم ً
ى ٍ ى ى ي
1
أبي الحسف األشعرم :مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف ،الجزاء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .422
2
ابف كثير :تفسير القرآف العظيـ ،تحقيؽ أنس محمد الشامي كمحمد سعيد محمد ،المجمد الرابع ،دار الكعي ،الجزائر ،2006 ،ص
.636
3
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .340
4
ابف كثير :تفسير القرآف العظيـ ،المجمد الرابع ،مرجع سابؽ ،ص .155
164
يستنتج مف النيائية الكبلـ اإلليي قدمو 1.كيعمد األشعرم إلى التميز المعركؼ بيف ضربيف مف الكبلـ :الكبلـ النفسي كالكبلـ
المادم .كالكبلـ النفسي قائـ في الذات اإلليية بصكرة قديمة كأزلية .كبالتالي يتحكؿ القرآف المسمكع لدينا إلى محؿ لمكبلـ األزلي .لذا
فيجب التمييز بيف القرآف األصمي غير المخمكؽ كالقرآف الذم نتمكه في كؿ مرة كىك مادم مرتبط بزماف كمكاف كتبلكتو متعينة.
يتدرج ابف حزـ كيكسع مفيكـ القرآف ،مف أجؿ اثبات أف ىناؾ قرآف أزلي غير مخمكؽ في حيف أف ىناؾ ما يمكف أف نعتبره
قراءنا مخمكقا أك محدثا كفؽ المستجدات البشرية .لذا يقدـ لنا ىذه المراتب الخمسة لما يمكف أف نسميو القرآف:
2
* كبلـ ا﵀ الذم ىك عممو( .ىك فقط غير المخمكؽ ،بينما األربعة مخمكقة).
بالتالي فبل تناقض في القكؿ بأف القرآف مخمكؽ كقديـ معا .فيك مخمكؽ بالنظر إلى المعاني األربعة التي ترتبط باإلنساف
كالمضاميف المعمكمة ،كىك قديـ بالنظر إلى العمـ اإلليي الذم ال يمكف أف يككف مخمكقا .كىكذا فإف المؤمنيف بعقيدة قديـ القرآف قد
أقركا "بكجكد كبلـ قديـ ﵀ قائـ بالذات اإلليية بما ىك صفة مف صفاتو .كالقرآف البلحؽ عمى زماف الكحي عندما يق أر أك يسمع أك
3
كىي نفس النتيجة التي انتيى إلييا صاحب المذىب الفقيي أبك حنيفة النعماف عندما يحفظ أك يكتب إنما يشكؿ قرأنا مخمكقا".
أكصى بأف " نقر بأف القرآف ،كبلـ ا﵀ تعالى غير مخمكؽ ،ككحيو كتنزيمو ال ىك كال غيره بؿ صفتو عمى التحقيؽ ( )...القرآف مثؿ
كبلـ ا﵀ غير مخمكؽ :إنو مكتكب في المصاحؼ ،مقركء باأللسف ،محفكظ في الصدكر ،كغير حاؿ فييا .كالحبر كالكاغد كالكتابة
مخمكؽ ،ألنيا أفعاؿ العباد" 4.كنفس التكجو نجده عند مؤسس مذىب فقيي آخر ىك الشافعي الذم كفٌر أحد األفراد المسمى حفص
قائبل" :القرآف ىك كممة ا﵀ غير المخمكقة ،أما حفص (الفرد) فكافر" 5.كسنرل أف ىذه المسألة قد انتقمت مف التفكير إلى التكفير
كخاصة بعد دخكؿ المكاقؼ السياسية إلى الحمبة.
1
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .361
2
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .370
3
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .394
4
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .396-395
5
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .1092
165
بالنسبة لمرازم (تكفي 606ق) ،كالذم يمثؿ مرحمة األشعرية الفمسفية ،فقد جيش جممة مف األدلة في مضادة شبيات المعتزلة
كغيرىا مف الفرؽ التي قالت بالخمؽ .منيا قكلو لك كاف القرآف قديما ،كىك ما يجب أف نقكلو ،لكف بقاءه مضمكنا أبدا ،كال يمكف أف
يتبادر إلى العامة امكانية فنائو بسبب ارتباطو بالخمؽ .كىي فكرة نجدىا عند األشعرم أيضا في المقاالت كالممع ،ثـ أف االعتراؼ
بالقدـ يقمؿ مف تيكيؿ مسألة الناسخ كالمنسكخ .كذلؾ لماذا نعارض قدـ القرآف في حيف نقبؿ قدـ القدرة ؟ 1عمى الرغـ مف أنو ال فارؽ
بيف االثنيف.
كقد انتيت عقيدة قدـ القرآف ،كعمى الرغـ مف االعتراؼ بكجكد ما نسميو القرآف المخمكؽ .إلى نكع مف التصمب بحيث رفضت
كؿ مف ينكر حدكث القرآف كخمقو ،كظير حكـ تكفير القائؿ بخمقو .فقد كاف معاذ بف معاذ بف نصر األنبارم يرمي بالزندقة كؿ مف
يقكؿ بخمؽ القرآف 2.بؿ انتقؿ المكقؼ مف الكبلـ كالتكفير النظرم ،إلى الق اررات السياسية بحيث أكعز الخميفة ،في مدينة الرم ،عمى
تشديد العقكبة عمى مف يقكؿ بخمؽ القرآف 3.كىك المكقؼ الذم سنجده ،كلك بصكرة معاكسة فيما يعرؼ بمحنة الحنابمة .لذا سنتطرؽ
إلى المشكمة الكبلمية المتعمقة بقدـ القرآف أك بخمقة كالمكقؼ السياسي منيا.
رابعا -المشكمة الكالمية والموقف السياسي :أو التاريخ السياسي لنظرية خمق القرآن.
لـ تبؽ مشكمة طبيعة القرآف محصكرة في الكتب الكبلمية ،بؿ انتقمت إلى الجدؿ الذم تحكؿ إلى مسألة سياسية كقضية رأم عاـ
عندما تبنى الكزير كالقاضي إبف دؤاد المسألة في مكاجية الحنابمة النصييف .كفرض ثبلثة خمفاء مف بني العباس ليذه النظرية كعقيدة
كتغرـ مف خالفيا .فقد قاـ المأمكف كالمعتصـ كالكاثؽ بتبني ىذه العقيدة الكبلمية باعتبارىا عقيدة السمطة الحاكمة،
لمدكلة تمزـ الجميع ٌ
في حيف تبنى الخميفة البلحؽ ليـ العقيدة الحنبمية كاألشعرية كعاقب كؿ مف قاؿ بذلؾ 4.ىنا تتحكؿ المسألة الفكرية إلى مسألة
سياسية ال تحتمؿ التفكير بقدر ما تخضع لق اررات سمطكية ال تناقش.
كقد تـ تسجيؿ محاضر تتضمف المحاكرات التي كقعت بيف اإلماـ أحمد بف حنبؿ كالمعتصـ كالقاضي ابف أبي دؤاد .دارت في
مجمميا عمى مسألة اعتراض ابف حنبؿ عمى القكؿ بالخمؽ .ففي حيف أظيرت كثائؽ الشرطة كالسمطة العباسية عدـ احتراـ ابف حنبؿ
ألصكؿ المناظرة كتعمده المطاكلة كعدـ االعتراؼ بالمنطؽ السميـ ،تقدـ كثائؽ ابف حنبؿ كالمتعاطفيف معو مثؿ ابف أخيو منظكر
مخالؼ يركج الضطياد ا لسمطة السياسية لرجاؿ الفكر كالحديث .فمثبل نجد الجاحظ ،كىك المحسكب عمى العقبلنية اإلعتزالية ،يذكر
في كتابو خمؽ القرآف حكار بيف القاضي كالمحدث" :قاؿ أحمد بف أبي دؤاد :أليس ال شيء إال قديـ أك حديث ؟ قاؿ :نعـ .قاؿ:
1
فخر الديف الرازم :خمؽ القرآف بيف المعتزلة كأىؿ السنة ،مرجع سابؽ ،ص .71-70
2
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .565
3
المرجع نفسو ،ص .945
4
محمد عابد الجابرم :مدخؿ إلى القرآف الكريـ ،الجزء األكؿ ،في التعريؼ بالقرآف ،مركز دراسات الكحدة العربية ،بيركت ،الطبعة
األكلى ،2006 ،ص .19
166
أكليس القرآف شيء ؟ قاؿ :نعـ .قاؿ :أكليس قديـ إال ا﵀ ؟ قاؿ :نعـ .قاؿ :فالقرآف إذف حديث .قاؿ :ليس أنا متكمـ" 1.كىذه الشيادة
تدؿ عمى تعنت ابف حنبؿ في الحكار كرفضو مسايرة المنطؽ السميـ .في حيف أننا نجد شيادات مخالفة لمنطؽ السمطة تثبت العكس.
فمف بيف النصكص المنقكلة حكؿ حكار ابف حنبؿ كابف أبي دؤاد:
"ابف حنبؿ :حكـ كبلـ ا﵀ كحكـ عممو ،فكما ال يجكز أف يككف عممو محدثا كمخمكقا فكذلؾ ال يجكز أف يككف كبلمو مخمكقا كمحدثا.
(سيأخذ األشعرم كالرازم بيذه الحجة كما أظيرنا أعبله)
ابف أبي دؤاد :أليس قد كاف ا﵀ يقدر عمى أف يبدؿ آية كينسخ آية بآية كأف يذىب بيذا القرآف كيأتي بغيره ككؿ ذلؾ في الكتاب
المسطكر.
ابف أبي دؤاد :فيؿ كاف يجكز ىذا في العمـ ؟ كىؿ كاف جائ از أف يبدؿ عممو كيذىب بو كيأتي بغيره.
2
ابف حنبؿ :ال".
ربما يحؽ لنا التساؤؿ عف األسباب الداعية إلى تبني المأمكف لعقيدة خمؽ القرآف ؟ كلئف أثرنا في محاضرة سابقة سبب ظيكر
المحنة في زمف المأمكف ،كلئف رأينا اختبلؼ اآلراء حكؿ فرضية الترجمة .إذ ىناؾ مف افترض معارضة اإلماـ أحمد بف حنبؿ
لمسمطة عائد إلى منافسة العم كـ الدخيمة لمعمكـ المحمية بعد الحركة التي أطمقيا الخميفة لترجمة العمـ اإلغريقي .عمى الرغـ مف أف
المستشرقيف المتخصصيف في الترجمة في العيد العباسي قد فصمكا بيف ىذه كتمؾ ،مثؿ رأم ديمترم غكتاس ( /1945؟) .بالنسبة
ألحمد أميف ،فإف المستكل العقمي كالثقافي لممأمكف ،كككنو مكلعا بالحكمة العقمية ،ىك ما يتطابؽ كمية مع عقبلنية المعتزلة .لذا فإف
تبنيو لعقيدة خمؽ القرآف مرتبط بقناعتو العممية 3.فالنظر العقمي الخالص مف أم خمفية عقائدية أك نصية يصؿ إلى أحقية نظرية
خمؽ القرآف .مما يعني أف القناعة المعرفية ىي التي دفعت المأمكف كالخمفاء البلحقيف إلى تبني ىذه النظرية كمحاكلة جعميا عقيدة
لمدكلة .كعمى الرغـ مف كجكد مستشاريف لممأمكف قد عارضكا اعتناقو عقيدة مذىب كبلمي دكف آخر تحقيقا لكسيطة الدكلة مثؿ ما
رآه يحي بف األكثـ ،لكف يبدك أف أثر القاضي كالفقيو ابف أبي داؤد عمى المأمكف كاف أقكل.
ال تتمثؿ المشكمة في تبني خميفة ما عقائد كبلمية معينة ،بؿ في العمؿ عمى فرضيا بحد السيؼ كطغياف القانكف عمى البقية.
كبالفعؿ ،فإف تحكؿ مسألة كبلمية كعممية خالصة إلى محنة ليا داللة ىامة عند العامة .فقد "انطمقت المحنة سنة 218ىػ 833 /ـ
مع نياية خبلفة المأمكف كانتيت 234ىػ 848/ـ أم بعد حكالي 15سنة .ككاف طابعيا األساسي يتمثؿ في رغبة الخميفة في
فرض عقيدة المعتزلة عمى عمماء الديف كمكظفي الدكلة كىي عقيدة تقكؿ بخمؽ القرآف ال بقدمو .فتعرض الكثير مف أىؿ الفقو
1
الجاحظ :خمؽ القرآف ،منشكرات الجمؿ ،ككلكنيا ،2000 ،ص .181
2
أحمد محمكد صبحي :في عمـ الكبلـ -دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف ،الجزء األكؿ :المعتزلة ،دار النيضة
العربية ،بيركت ،الطبعة الخامسة.138 ،1985 ،
3
أحمد أميف :ضحى اإلسبلـ ،الجزء الثالث ،مرجع سابؽ ،ص .163
167
كالقضاء كاالفتاء كغيرىـ إلى السجف بؿ إلى التعذيب .فضبل عف أف كؿ مف رفض القكؿ بخمؽ القرآف ،عد غير أىؿ لمشيادة في
المجمس ككاف القاضي ابف أبي دؤا د ىك مف نفذ رغبة الخميفة .كيعتبر كجكد عدد مف عمماء الفقو يساندكف عقيدة خمؽ القرآف
كآخركف يعارضكنيا دليبل عمى أف خمفاء المحنة لـ تراكدىـ رغبة في تحدم السمطة الفقيية لعمماء الديف .حاؿ نيضت نياية المحنة
السريعة نسبيا شاىدا عمى طبيعتيا غير العادية كاالستثنائية كما أكدت عجز أصحاب النفكذ عف التحكـ في المؤسسة الدينية
كطبيعتيا التقميدية فعاد تيار أىؿ الحديث بقكة أكبر" 1.ككأف مكقؼ خمفاء بني العباس زمف المحنة كاف شاذا بالنظر إلى تقاليد
اإلسبلـ السباقة التي ال تربط العممي أك الفقيي بالسياسي.
تشكؿ حزباف في بغداد ،حزب العامة متكجا بعمماء الحديث كالفقو كحزب السمطة مدعكما ببعض المعتزلة كالفقياء كرجاؿ
القانكف ممف ليـ سمطة ا لقرار كالتنفيذ .كسرعاف ما أصبح العامة مقتنعكف أنيـ أماـ سمطة جائرة تفرض العقائد بحد السيؼ ،عمى
الرغـ مف أف التقاليد اإلسبلمية لـ تعرؼ ىذا التقييد العممي إطبلقا .إذ كاف الفقو كالحديث كاألصكؿ يتشكمكف ببل أم قرار سياسي،
كاألمكر العممية كانت مربكطة بالتقدير الحر لمعمماء .كالحؽ أف كممة "المحنة" التي انتشرت في كتب تاريخ الفقو كالكبلـ ،كالتي
تبناىا العامة ،تدؿ عند األكثرية عمى ما عناه اإلماـ أحمد بف حنبؿ مف السمطة ،لكنيا مف الناحية المكضكعية ،تدؿ المحنة عمى
اإلمتحاف كاإلختبار الذم تعرض لو .لعؿ العامة كاألقربيف ،قد ماثمكا بيف ما مر بو األنبياء كالرسؿ مف محف كما مر بو اإلماـ أحمد.
كقد رأينا أف بعض المؤرخيف لـ يعتبركا ابف حنبؿ مظمكما بالكمية ،بقدر ما تعصب كاستطاؿ الحكار كالنظر أماـ الخمفاء بضرب مف
التعصب كالمراكغة .فقد مثؿ العديد مف الفقياء غير أحمد أماـ المأمكف ،كما كاف ليـ إال أف يعترفكا بعقيدة خمؽ القرآف كخمي سبيميـ
دكف أم مضايقة 2.لذا فإف المحنة ىي نتيجة تعنت ابف حنبؿ كصبلبة مكاقفو أماـ المعتصـ الذم ناظره شخصيا في مسألة خمؽ
القرآف.
بعد عقكد قميمة مف فرض عقيدة خمؽ القرآف ،تشكؿ مكقؼ عممي كعامي ضد السمطة باعتبارىا تتدخؿ فيما ال يجب التدخؿ
فيو .كبعد خبلفة المعتصـ كالكاثؽ الذم اعتبر مأمكنا أصغ ار اذ اعتقد بخمؽ القرآف ،كصمت خبلفة المتككؿ 232ق الذم لـ يكف
متحمسا ليذه العقيدة ،فأبطؿ االمتحانات التي كانت تجرل لمعمماء كالفقياء كالمحدثيف المعارضيف لعقيدة الخمؽ ،فقرر اعادة عقيدة
أىؿ السنة كالسمؼ ،كألغى كؿ المراسبلت كالق اررات المعمكؿ بيا طيمة خبلفة الخمفاء الثبلثة السابقيف عميو .كتـ اضعاؼ الرأم
كتغميب أىؿ الحديث كالمأثكر .كفي منتصؼ القرف الثالث انتصر أىؿ الحديث عمى أىؿ الرأم أم الكبلـ اإلعتزالي .ك"مثمت اليزيمة
النيائية ألىؿ الرأم نياية المحنة (خمؽ القرآف أـ قدمو ؟ بيف 234/218ق 848/833 -ـ) كظيكر ضحاياىا بمظير األبطاؿ كفي
مقدمتيـ أحمد بف حنبؿ .كمع ىذه اليزيمة ساد اعتراؼ ضمني بأف التفكير البشرم ال يمكف أف يقكـ بذاتو طريقة مركزية ال حصرية
في التأكيؿ -فما بالؾ أف يككف طريقة حصرية مستقمة .فكاف في النياية خاضعا لمكحي .ككذا قادت المحنة الصراع إلى ذركتو بيف
حركتيف متعارضتيف "أىؿ الحديث" الذم اعتبركا ابف حنبؿ بطبل في قضيتو مف ناحية كأىؿ الرأم بقيادة الخمفاء كالمعتزلة كمف
1
كائؿ حبلؽ :نشأة الفقو اإلسبلمي كتطكره ،ترجمة رياضي الميبلدم ،دار المدار اإلسبلمي ،بيركت ،الطبعة األكلى ،2007 ،ص
.263
2
أحمد أميف :ضحى اإلسبلـ ،الجزء الثالث ،مرجع سابؽ ،ص .170
168
1
كمف ىذا التاريخ بدأت عقائد االعتزاؿ في اإلنكماش .كقد صدؽ الدكتكر محمد أرككف بينيـ الكثير مف الحنفية مف ناحية ثانية".
عندما ربط صعكد االعتزاؿ كنزكليـ بق اررات سمطكية .إلى جانب عجز العامة عف مسايرة عقائدىـ العقمية التي تتنافى مع العقائد
الكسطية األقؿ عقبلنية كاألقؿ صرامة .ألف الديف في النياية رجاء كأمؿ كليس عمـ خالص يقيد الركح كالفكر.
استنتاج.
ترتبط مسألة قدـ كخمؽ القرآف بمسائؿ كبلمية أخرل ،منيا مسألة التكحيد حيث أف اعتقاد رجاؿ االعتزاؿ بأف القكؿ بقدـ القرآف
ال يتبلءـ مع عقدة التكحيد التي تقر بأف ال قديـ مع ﵀ .كما أنيا ترتبط بمسألة حرية اإلنساف ،ألف اثبات قدـ القرآف يعني أف أفعاؿ
اإلنساف محددة سمفا كبأف التاريخ قد قيدر قبؿ خمؽ العالـ كىذا ييسقط التكميؼ كتنيار العدالة اإلليية معو .بؿ نجد في تاريخ الكبلـ
اإلسبلمي مف يتحدث عف مسألة جانبية لمسألة قدـ كخمؽ القرآف ،كىي سألة قدـ كخمؽ كبلـ اإلنساف ذاتو .ففي السياؽ الجيمي نجد
أنو يربط كؿ ما يقكـ بو اإلنساف مف حركات كسكنات ،كاألجدر أنيا التفكير كالكبلـ النفسي مثبل ،تعكد إلى ا﵀ ،كبالتالي يككف كبلـ
اإلنساف قديـ .في حيف اف المعتزلة تقر بحريتو في خمؽ األفعاؿ كالكبلـ.
1
كائؿ حبلؽ :نشأة الفقو اإلسبلمي كتطكره ،مرجع سابؽ ،ص .179
2
أبك الحسف األشعرم :رسالة استحساف الخكض في عمـ الكبلـ ،دار المشاريع لمطباعة كالنشر كالتكزيع ،بيركت ،الطبعة األكلى،
،1990ص .50 -49
169
المحاضرة التاسعة :مشكمة التنزيو (الذات والصفات اإلليية).
مقدمة.
يكصؼ البلىكت عمكما بأنو عمـ سالب ،أم يقدـ الصفات اإلليية تقديما سمبيا نظ ار لعجزه عف إدراؾ حقيقة الذات اإلليية ،لذا
نجده يقدميا عمى أساس أنيا ال تشبو أم شيء ،كليست مادية ،كال يمكف أف تككف مثمنا ،كال يمكف معرفتيا عمى كجو الدقة...الخ.
كىذه الطريقة السمبي ة في معرفة ا﵀ تكشؼ عف عدـ انسجاـ كمي بيف بنية العقؿ البشرم المحدكدة كالذات اإلليية غير المحدكدة.
كفي عممية التنزيو التي نسمكيا مف أجؿ معرفة ا﵀ ،نقع في ما أسماه عمماء األدياف بالبلىكت السالب 1،ألننا نعمد إلى تقديـ حقيقية
الذات اإلليية تقديما خاؿ مف أم تحديد كضعي أك ايجابي .كالحؽ أف الفمسفة الكضعية ،التي تعني حرفيا اإليجابية أك
اإليجابكية ، positivismeقد تسمت بيذا االسـ في مقابؿ الفمسفة السمبية التي تحدد المعرفة بالسمكب كالنفي أم ىي فمسفة البل.
لكف ىؿ ىذا يعني أف الديانات التجسيمية تمثؿ البلىكت المكجب ؟ يبدك أف تجسيد المقدس في صكرة محددة كأشكاؿ معينة يدؿ
عمى سيككلكجية االقتناع بالمحدد .فاإلنساف ،مياؿ إلى قبكؿ المحدد الناقص كالتشكؾ في البلمحدكد الكامؿ ،عمى اعتبار أنو عاجز
عف تحديد البلمحدد بالذات.
إلى أيف نصنؼ الديف اإلسبلمي بالنظر إلى خاصية البلىكت السالب كالبلىكت المكجب ؟ سؤاؿ البد منو عمى أساس أف
إثبات الصفات يكقع في المحدكدية كالتجسيمية ،كنفييا يؤدم إلى الكقكع في تصكر عدمي ﵀ .كفي كبل النيجيف تتأزـ قضية حقيقية
األلكىية بالنسبة لئلنساف .كقد يذكر بأف رجبل استمع إلى حديث شخصيف عف صفات ﵀ ،فقاؿ لمكاحد أنت تعبد صنما كلآلخر أنت
تعبد كثنا 2.كىذه ىي مآالت البلىكت المكجب الذم يذكر الصفات مما يكحي بالصنمية كالبلىكت السالب الذم ينفي الصفات فيقع
في العدمية .كلـ تشذ الفرؽ الكبلمية عف ىذيف الخياريف ،ألف المتكمميف بشر مثؿ الجميع ليـ خبرات سابقة عف العممية الخالصة
تتسرب إلييـ دكف شعكر ،كألف النصكص القرآنية ذاتيا مبنية عمى أساس اثبات صفات ذاتية ﵀ تتطابؽ مع ما نعرفو عف صفات
الفرؽ التجسيمية ك ً
الفرؽ التنزييية ،طرح بعض فبلسفة اإلسبلـ سؤاؿ إمكانية القبض عمى اليكية اإلليية في حقيقتيا، البشر .كبيف ً
عمى أساس العقؿ البشرم مزكد بأطر محددة ال يمكف أف يتجاكزىا كال يمكف أف يعرؼ بمعزليا أم شيء ،ثـ أف حدكد العقؿ الخالص
مرتبطة بمقكالت الزماف كالمكاف ،إذ ال يمكف أف يعرؼ إال ما ىك كاقع فييما باعتبارىما أطر قبمية بمغة كانط ( ،)1804/1724مما
ينتج استحالة دخكؿ الكجكد اإلليي في الخبرة ا لبشرية ،نظ ار لخركجو عف التزمف كالتمكف .ما عدا ما يمكف اعتبارىا مصد ار سمعيا
مقدسا مثؿ النصكص الدينية اإلخبارية .كقد كشؼ فخر الديف الرازم (تكفي 606ق) بأف محدكدية الفيـ البشرم تقؼ عائقا أماـ
1
داريكش شايغاف :ما الثكرة الدينية ؟ الحضارات التقميدية في مكاجية الحداثة ،ترجمة محمد الرحمكني ،المؤسسة العربية لمتحديث
الفكرم كدار الساقي ،جنيؼ كبيركت ،الطبعة األكلى ،2004 ،ص .57
2
أيك حياف التكحيدم :اإلمتاع كالمؤانسة ،الجزء الثالث ،مكفـ لمنشر ،الجزائر ،1989 ،الميمة ،38ص .229تناظر رجبلف في
كصؼ البارم سبحانو ،كاشتد بينيما الجداؿ .فتراضيا بأكؿ مف يطمع عمييما كيحكـ بينيما .فطمع أعرابي ( )...ككصفا لو مذىبييما:
فقاؿ األعرابي :أما انت فتصب صنما ،كقاؿ لمثاني كأما أنت فتصؼ عدما.
171
معرفة حقيقة األلكىية البلمحدكدة 1.فبل يمكف لمعقؿ البشرم أف يحيط بمككنات الذات اإلليية إال ما أخبره ا﵀ عز كجؿ ،كحتى في
ىذا اإلخبار تتعمؽ الكممات ،في ذىف اإلنساف ،بخبرة حسية شخصية ال يمكف أف تحقؽ اإلجماع المطمكب بيف الجميع .كحتى في
السياقات المسيحية ،فقد اعتقد "نيقكالس الككزم بأف ا﵀ ال يمكف أف ييدرؾ بالذىف" 2.فقدراتنا المحدكدة كالمبنية كفؽ أطر مشركطة ال
يمكف ليا القبض عمى تصكر ببل شركط كببل حدكد .بؿ أف استشكاؿ مسألة قدرة البشر عمى تمثؿ المقدس كانت مطركحة منذ
القدامة اإلغريقية ،حيث كشؼ الشاعر المتجكؿ اإليمياتي كزينكفاف (ؽ 5ؽ ـ) ،كالذم يعتبر أب التنزيو الثيكلكجي بحؽ ،بأف معرفة
األلكىية متعذرة بالنسبة لمبشر ،نظ ار لعدـ تطابؽ أم تصكر ﵀ مع التصكر اآلخر ،فالكؿ يعتقد أنو يمتمؾ الصكرة األصمية كالحقيقة
لئللو .في حيف أف ا﵀ شيء آخر كمية كمختمؼ جذريا عف تمثبلت البشر ،لذا فبل يمكف لمفاف أف يدرؾ الخالد ادراكا صافيا مف كؿ
إنسية كحسية كمحدكدية 3.كبعد قرنيف مف كزينكفاف قاؿ الفيمسكؼ بركتاغكراس (ؽ 4ؽ ـ) بأف مكضكع األلكىية صعب جدا عمى
قدرات البشر بسبب عدـ كضكح المكضكع كقصر حياة اإلنساف ! كيظير ذلؾ مف خبلؿ الشذرة المخمفة لو" :أما فيما يتعمؽ باآللية،
فبل أستطيع أف أعرؼ إف كانت مكجكدة أك غي ر مكجكدة ،أك طبيعة شكميا؛ فكثيرة ىي العكائؽ التي تحكؿ دكف ىذا العمـ ،غمكض
المكضكع مف جية كقصر حياة اإلنساف مف الجية الثانية" 4.لكننا ،في عمـ الكبلـ ،ال يجب مقاربة مسألة حقيقة الصفات اإلليية
مثمما قاربيا الفبلسفة بخاصة الكثنييف أك الممحديف ،إذ أظيرنا أف منيج المتكمـ ليس كمنيج الفيمسكؼ ،ثـ أف اإلغريؽ القدامى لـ
يكف ليـ كتابا مقدسا يخبرىـ عف حقيقة األلكىية في التفاصيؿ ،بقدر ما امتمككا قصائد شعرية تصكر اآللية في أبشع الصكر ،كىذا
بالذات السبب الذم دفع كزنكفاف إلى نقد الصكر الحسية كالبلأخبلقية التي اعتقدىا اليكناف جراء نصكص ىكميركس .في عمـ الكبلـ
اإلسبلمي نجد نص تأسيسي أساسي يخبرنا عف صفات ا﵀ كخصالو كأسمائو كذاتو .لكنو اإلخبار الذم سيؤدم إلى مشكبلت تتعمؽ
بما أسميناه في البداية بالبلىكت السالب كالبلىكت المكجب.
كقد كشؼ ابف خمدكف ،في تأريخيو لمشكبلت الكبلمية ،أف آيات القرآف المتعمقة بالذات اإلليية كصفاتو قد أدت إلى انقساـ فيكـ
عمماء الكبلـ إلى األقساـ التالية:
"أكال -رأم السمؼ :غمٌبكا أدلة التنزيو .بسبب كثرة آيات التنزيو كقمة آيات التشبيو ،كأيضا لكضكح داللة آيات التنزيو ،كىي آيات
تغرؽ القارئ في تأكيؿ أك تأكيؿ مضاد.
سمكب (ليس كمثمو شيء /كلـ يكف لو كفؤا أحد) كميا كصريحة في بابيا ،كال ٌ
ثانيا كثالثا -قمة مف المبتدعة كىـ فرقتاف( :منيا المعتزلة ،كىنا نبلحظ المكقؼ العدائي إلبف خمدكف تجاه اإلعتزاؿ بسبب انتمائو
األشعرم)
1
فخر الديف الرازم ،األربعيف في أصكؿ الديف ،الجزء الثاني ،دار الجيؿ ،بيركت ،الطبعة األكلى ،2004 ،ص .149
2داريكش شايغاف :ما الثكرة الدينية ؟ الحضارات التقميدية في مكاجية الحداثة ،مرجع سابؽ ،ص .59
3
John Burnet: l'aurore de la philosophie grecque, traduit par Aug. Reymond, édition PAYOT, Paris,
1919, p 133-135.
4
Gilbert Romeyer Dherbey: les Sophistes, Presses universitaires de France, 4eme édition, Paris,
1995, p 9. "Au sujet des dieux, je n'ai aucun savoir, ni qu'ils sont, ni qu'ils ne sont pas, ni quelle est
leur manifestation. Nombreux sont en effet les empêchements à le savoir: leur caractère secret et le
fait que la vie de l'homme est courte".
171
فرقة تكغمت في التشبيو الصريح مخالفة بذلؾ آم التنزيو المطمؽ( .غبلة المشبية خاصة)
فرقة حاكلت التكفيؽ بيف آيات التشبيو كآيات التنزيو كذلؾ بتأكيؿ آيات التشبيو .فالبعض تعاممكا مع اآليات التي
تنسب إلى ا﵀ أبعض الجسـ اإلنساني (اليد كالقدـ كالكجو) بأف أكلكىا بقكليـ :جسـ ال كاألجساـ؛ كآخركف أكلكا اآليات
التي تصؼ ا﵀ بأكصاؼ تتضمف امتبلكو لجسـ إنساني مثؿ "الجية كاالستكاء كالنزكؿ كالصكت السمع" لتعني صكت
ال كاألصكات ،كجية ال كالجيات ،كتزكال ال كالنزكؿ" 1.كىنا يقصد األشعرية التي تكصؼ عمكما باالعتداؿ بالنسبة
لو كبالنسبة لكؿ األزماف ككؿ التيارات)
يظير أف ابف خمدكف لـ يقـ بتكصيؼ الكضعية تكصيفا مكضكعيا أك ظكاىريا ،بقدر ما انحاز إلى فرقة بعينيا .كبالنسبة لنا
فيذا مبرر جدا عمى اعتبار انتمائو إلى عقيدة األشاعرة كاستحسانو منطؽ الغزالي الذم يكازف بيف السمع كالعقؿ .كقد تك ٌشؼ لنا في
المحاضرة األكلى بأف تعريؼ عمـ الكبلـ كاف دائما مف منطمقات كبلمية كانتماءات فرقية مما شكؿ تعريفات مختمفة كمتضاربة
أحيانا .كبالتالي فإف تصنيؼ الفرؽ تصنيفا عمميا ال يتأتى لمف لو انتماء .فقط الدراسات الكبلمية المعاصرة ،عند البعض ،تمكنت
مف رؤية ال مشيد عمى حقيقتو بسبب عدـ االنتماء المذىبي بالمعنى التقميدم .كما استعانتنا بالدراسات اإلستشراقية في عمـ الكبلـ
مثؿ دراسة كلفسكف أك فاف ايس ،إال مف ىذا الجانب ،أم أنيـ منعدمي االنتماء ،عمى الرغـ مف تحيز البعض لعمـ الكبلـ المسيحي
مثؿ كلفسكف .إال أنيـ في الغالب قدمكا دراسات اكاديمية تصؼ المشيد بمعزؿ عف القناعات الشخصية .كىذا األخير ،أم كلفسكف،
ٌقيـ تقسـ ابف خمدكف كفؽ القكؿ التالي" :يجب القكؿ إف ىذا التفسير ال يتطابؽ إال تطابقا جزئيا مع نجده في القرآف بالفعؿ(.أم قمة
آيات التشبيو مقارنة بآيات التنزيو) حقا ،أف القرآف يشتمؿ آيات تنزيو .لكف ليست بأكثر مف تمؾ اآليات التي تتضمف التشبيو .آيات
تتضمف التشبيو الغميظ أم باعتقاد اليد كالقدـ كالكجو .يقكؿ ابف خمدكف أف السمؼ سممكا بآيات التشبيو ،فمـ يتعرضكا لمعناىا بتأكيؿ،
ألنيـ عممكا استحالة التشبيو كقضكا بأف اآليات مف كبلـ ا﵀ فآمنكا بيا كلـ يتعرضكا لمعناىا ببحث كال تأكيؿ .كيرفض ابف خمدكف
ىذا المنيج (منيج القكؿ بأف ا﵀ شيء ال كاألشياء) محتجا بأف صيغة مف قبيؿ جسـ ال كاألجساـ ىي خرؽ لمبدأ عدـ التناقض :أم
ا﵀ مثؿ غيره مف األشياء كليس مثميا كذلؾ" 2.فالمنطؽ السميـ ال يقبؿ أف يككف ا﵀ جسـ لكف ال كاألجساـ ،عمى أساس أننا نمتمؾ
خبرة محددة ككاحدة حكؿ جسمية الجسـ أك شيئية الشيء .كبالتالي فإف ككف ا﵀ جسـ ال يمكف أف يككف ال كاألجساـ.
مما سبؽ يمكف لنا تحديد مشكبلت المحاضرة المخصصة لمكضكع حقيقية الذات اإلليية بيف التشبيو كالتنزيو .كفي تقديرنا أف
المشكمة متأتية مف مصدريف أساسييف:
1
عبد الرحمف بف خمدكف :المقدمة ،تضبط كشرح محمد اإلسكندراني ،دار الكتاب العربي ،بيركت ،الطبعة الثانية ،1998 ،ص
.429-428
2
ىارم .أ .كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،ترجمة مصطفى لبيب عبد الغاني ،المجمد األكؿ ،المركز القكمي لمترجمة،
القاىرة ،الطبعة األكلى ،2005 ،ص .52-51
172
أكال -الخبرة الدينية الكثنية :نفترض أف القرآف الكريـ قد خاطب "الكعاء المتمقي األكؿ" ،كنقصد بو الرسكؿ الكريـ ككؿ مجتمع مكة،
بما يتكافؽ مع خبرتيـ الدينية .كىي الخبرة الكثنية التي تجسـ المقدس .فمـ يكف المجتمع الجاىمي ليفيـ المقدس إال مف خبلؿ الخبرة
الحسية .كبالتالي فيناؾ تكاصؿ بيف التصكر القديـ كالتصكر الجديد عمى أساس كجكد صفات محددة بيا يتـ فيـ المقدس الجديد .أم
أنو لك قدـ القرآف خطاب تنزييي بالمطمؽ لظير لممتمقيف األصمييف بأنو خطاب غير مفيكـ كال يمكف استيعابو .فالجديد دائما ما
يتعمؽ بجزئيات مف النظاـ القديـ لكي يككف مدلكؿ يحتمؿ االقتناع.
ثانيا -بنية الخطاب القرآني :مثمما الحظ ابف خمدكف ،فإف القرآف يحتكم عمى آيات تكحي بصفات محددة كمحسكسة كآيات سالبة
ألم تشبيو حسي .كعندما سأؿ الغزالي في رسالة اإللجاـ عف سبب عدـ كركد كؿ آم القرآف منزىة قاؿ" :لماذا لـ يذكر بألفاظ ناصة
عمييا بحيث ال يكىـ ظاىرىا جيبل كال في حؽ العامي كالصبي ؟" أجاب" :قمنا ألنو إنما كمـ الناس بمغة العرب ،كليس في لغة
العرب ألفاظ ناصة عمى تمؾ المعاني ،فكيؼ يككف في المغة نصكص ككاضع المغة لـ يفيـ تمؾ المعاني ؟" 1كىذا ما أشرنا إليو
بمسمى خبرة الكثنية .فالقرآف الكريـ يؤسس خطابو عمى حسب االستعداد الذىني كالنفسي لممتمقي ،كاال أصبح الخطاب عاؿ جدا
عمى الفيـ مما يجعمو صعبا أك غير مفيكما .فالقرآف في النياية ليس كتاب الخاصة مف الناس ،بؿ مكجو لمعالميف دكف تحديد.
مف المصدريف السابقيف ،يمكف لنا اإلستشكاؿ عمى النحك التالي :ىؿ استطاع عمـ الكبلـ اإلسبلمي حؿ مشكمة الذات كالصفات
مف غير الخركج عف حدكد التصديؽ الديني ؟ ىؿ يمكف لمعقؿ المنطقي الخالص التفكير في مسألة الذات كالصفات مف دكف الكقكع
في تشكيش عقدم ؟ ما ىي محصمة التفكير في الصفات كالذات ؟ ىؿ حصؿ اجماع تأكيمي ؟ كما مصير ً
الفرؽ التي لـ تمتزـ
بمعقكلية أىؿ السنة كالجماعة ؟ ىؿ االلتزاـ بالنص يفؾ عقدة الفيـ الحقيقي كالصائب لميكية اإلليية ؟
أما كلفسكف ،فإف يعتقد بأف ىناؾ عدة جكانب لمشكمة الصفات ،كىي:
" الجانب األنطكلكجي :ىؿ األلفاظ التي تطمؽ عمى ا﵀ في القرآف (حي ،عالـ ،قادر) تتضمف كجكد الحياة كالعمـ كالقدرة في ذاتو بما
ىي مكجكدات حقيقية ال جسمانية ،كالتي تككف ،برغـ مبلزمتيا لذات ا﵀ ،مستقمو عنيا .كمف ىذا الفيـ بالذات انطمقت اآللة التأكيمية
المعتزلية لصناعة مكقؼ مخصكص ليا دكف غيرىا.
الجانب السيمانطيقي (الداللي) :كيؼ يمكف لممرء أف يتناكؿ األلفاظ القرآنية التي تصؼ ا﵀ كصفا يجعمو شبييا بالمخمكقات .أساس
ىذه الصكرة لممشكمة ىك التعميـ القرآني بأف ا﵀ ال يشبو غيره مف الخمؽ كىك ما عبرت عنو اآلية القرآنية (ليس كمثمو شيء)
2
(الشكرل )11 ،ك (كلـ يكف لو كفؤ أحد) (اإلخبلص.")4 ،
ال يمكف الجزـ أم الفرؽ الكبلمية اتخذت المكقؼ األكؿ مف مشكمة الذات كالصفات ،لكف المسح الشامؿ لمجمؿ الفرؽ التي
خاضت في المشكمة العقدية المتعمقة بحقيقة اليكية اإلليية ،يجعمنا نبلحظ ثبلثة أصناؼ كبرل :الفرؽ النصية ،الفرؽ التأكيمية ،الفرؽ
1
الغزالي :إلجاـ العكاـ عف عمـ الكبلـ ،ضمف مجمكعة رسائؿ اإلماـ الغزالي ،تنقيح كتصحيح ابراىيـ أميف محمد ،المكتبة التكفيقية،
القاىرة ،د س ،ص .345
2
ىارم .أ .كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .304-303
173
التأكيمية المعتدلة .لذا سنقكـ بعرضيا كفؽ ىذا الترتيب المنطقي كليس الترتيب التاريخي ،عمى أنو يظير أف ىناؾ كركنكلكجيا
مطابقة ليذا الترتيب المكضكعي.
قد يككف االلتزاـ بالنص عمى صكرتو ا لظاىرة فضيمة ايمانية في المسائؿ المتعمقة بالشريعة كالمعامبلت كالعبادات...الخ لكف في
مسألة الذات كالصفات ،فإف التقيد الحرفي يكلد صعكبات أكثر مما ينتج حمكال .ألف التمسؾ بالنصكص القرآنية التي تذكر الصفات
الحسية يؤدم إلى الكقكع في عقيدة التجسيـ .كالحؽ أف النظرية الحسية في العقيدة تتمثؿ في المطالبة باألدلة المباشرة عمى كينكنة
المقدس .كفي الديانات الكثنية كاف يعتقد بأف كجكد اإللو ال ينفصؿ عمى صكرتو المجسدة في المنحكتات كغيرىا .كيذكر أف بعض
الفرؽ اليندية المسماة السمنة ،كالتي تثاقفت مع بعض عمماء الحديث في عصر ىاركف الرشيد ،اعتقدت بأف الدليؿ عمى الكجكد ىك
اإلدراؾ الحسي ،كلك تعمؽ األمر باإلليي المقدس 1.لكف ،الينكد ذاتيـ ،لـ يسيركا جميعا في طريؽ التجسيـ ،إذ نجد منيـ مف يرفض
تمثيؿ ا﵀ حيث يذكر البيركني أف "بعض خكاصيـ يسمى ا﵀ تعالي "نقطة" ليبرئو بيا عف صفات األجساـ ،ثـ يطالع ذلؾ عامييـ
فيظف أنو عظمو بالتصغير" 2.لكف النقطة ذاتيا جسـ ما عمى الرغـ مف انعداـ األبعاد.
مف الكاضح بأف القرآف الكريـ يحتكم عمى آيات عديدة فييا يتـ ذكر الصفات الحسية المنسكبة ﵀ .كىك ما يسمى بآيات
ؽ ىكا ٍل ىم ٍغ ًر ي
ب اإل ٍك ىرًاـ﴾ [الرحمف ﴿ .]27 ،ىكلًمَّ ًو ا ٍل ىم ٍش ًر ي ؾ يذك ا ٍل ىج ىبل ًؿ ك ًٍ
ى ﴿كىي ٍبقىى ىك ٍجوي ىرّْب ى
التجسيـ .كمنيا ما يمكف أف نسمييا آيات الكجو :ى
ًًَّ يؿ ىذلً ى
السبً ً ً ً ً َّ ً ً َّ ً ُّ
كف ىك ٍجوى يد ى يف يي ًر ي
ؾ ىخ ٍيهر لمذ ى يف ىك ٍاب ىف َّيـ﴾[البقرة﴿]115 ،فىآىت ىذا ا ٍلقي ٍرىبى ىحقَّوي ىكا ٍلم ٍسك ى فىأ ٍىيىن ىما تيىكلكا فىثىَّـ ىك ٍجوي المو إً َّف الموى ىكاسعه ىعم ه
ط ًعم يكـ لًك ٍج ًو المَّ ًو ىال ين ًر ي ً ً ً المَّ ًو ىكأيكلىئً ى
كرا﴾[اإلنساف .]9،كىي اآليات التي تكحي اء ىكىال يش يك ن
يد م ٍن يك ٍـ ىج ىز ن كف﴾ [الركـ﴿ ]38 ،إَّن ىما ين ٍ ي ٍ ى ؾ يى يـ ا ٍل يم ٍفم يح ى
لمقارئ بأف ﵀ كجو مثؿ كجو اإلنساف ،عمى أساس أننا ال يمكف تخيؿ كجو مغاير لمخبرة التي نمتمكيا ،فكجو اإلنساف حص ار ىك
﴿كىال تي ٍؤ ًمينكا إً َّال لً ىم ٍف تىبً ىع ًد ىين يك ٍـ يق ٍؿ إً َّف
النمكذج المثالي لمكجيية عند اإلنساف .كمنيا ما يمكف أف نسمييا بآيات اليد مثؿ قكلو تعالى :ى
ً َّ ً ً ً َّ ً ىح هد ًمثٍ ىؿ ىما أيكتًيتي ٍـ أ ٍىك يي ىحاجُّك يك ٍـ ًع ٍن ىد ىرّْب يك ٍـ قي ٍؿ إً َّف ا ٍلفى ٍ
يـ﴾ [آؿ اء ىكالموي ىكاسعه ىعم ه ض ىؿ بًىيد المو يي ٍؤتًيو ىم ٍف ىي ىش ي ىف يي ٍؤتىى أ ى ا ٍليي ىدل يى ىدل المَّ ًو أ ٍ
اء﴾ [المائدة﴿ .]64 ،إً َّف ؼ ىي ىش ي ؽ ىك ٍي ى اف يي ٍنًف ي ت أ ٍىي ًدي ًي ٍـ ىكلي ًعينكا بً ىما قىاليكا ىب ٍؿ ىي ىداهي ىم ٍب يسك ى
طتى ً كد ىي يد المَّ ًو ىم ٍغميكلىةه يغمَّ ٍ
﴿كقىالى ًت ا ٍلىييي ي
عمراف .]73 ،ى
اى ىد عمىٍيو المَّو فىسيؤتً ً ًً ؽ أ ٍىي ًدي ًي ٍـ فى ىم ٍف ىن ىك ى
كف المَّوى ىي يد المَّ ًو فى ٍك ى ًَّ
ىج نار
يو أ ٍ ىعمىى ىن ٍفسو ىك ىم ٍف أ ٍىكفىى بً ىما ىع ى ى ي ى ى ي ٍ
ث فىًإَّن ىما ىي ٍن يك ي
ث ؾ إًَّن ىما ييىبايً يع ى يف ييىبايً يع ى
كن ى الذ ى
اء ىكالمَّوي يذك ً ً َّ ً
ض ىؿ بًىيد المو يي ٍؤتًيو ىم ٍف ىي ىش ي ض ًؿ المَّ ًو ىكأ َّ
كف ىعمىى ىش ٍي وء ًم ٍف
ىف ا ٍلفى ٍ فى ٍ ىى يؿ ا ٍل ًكتى ً َّ ً
اب أىال ىي ٍقد ير ى يما﴾ [الفتح﴿ .]10 ،لًىئ َّبل ىي ٍعمى ىـ أ ٍ ً
ىعظ ن
ض ًؿ ا ٍل ىع ًظ ًيـ﴾ [الحديد .]29 ،ىذه اآليات تجعمنا نعتقد بأف ﵀ يد شبيية بيد اإلنساف ،كلك أف ىناؾ مف يؤكليا لتدؿ عمى القدرة، ا ٍلفى ٍ
1
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،ترجمة
محي الديف جماؿ بدر كرضا حامد قطب ،مراجعة محسف الدمرداش ،منشكرات الجمؿ ،بيركت – بغداد ،الطبعة األكلى،2016 ،
ص .45
2
أبك الريحاف محمد بف أ حمد البيركني :تحقيؽ ما لميند مف مقكلة مقبكلة في العقؿ أك مرذكلة ،مطبعة مجمس دائرة المعارؼ
العثمانية ،حيدر آباد ،اليند ،1958 ،ص .23
174
مثمما سنجده أدناه عند أنصار التنزيو ،إال أف آية المائدة تتحدث عف يديف ،أم يد يمنى كأخرل يسرل ،كىناؾ مف يقكؿ بأف يديو
ُّج ً
كد فى ىبل ؽ ىكيي ٍد ىع ٍك ىف إًلىى الس ي
ؼ ىع ٍف ىسا و
﴿ي ٍكىـ يي ٍك ىش ي يمنيتيف معا كىذا ما يستبد تأكيؿ القدرة لصالح التجسيـ .كىناؾ آيات ً
الرجؿ كالساؽ :ى
كف﴾ [القمـ ]42 ،كالتي ال يمكف تأكيميا بمعنى مجازم ،فالساؽ ال يحتمؿ إال المدلكؿ المحسكس ،بعيدا عف القدرة ً
يع ى
ىي ٍستىط ي
كالسيطرة...الخ مف المعاني غير المباشرة التي تربط باألعضاء الحسية مثؿ قدرة اليد كحدة البصر كسعة الصدر.
كمف المفيد أف نشير أف النصكص الدينية التي تفيد التجسيـ ،ليست مقتصرة عمى القرآف ،بؿ نجد أحاديث عديدة منسكبة
لمرسكؿ الكريـ تفيد الحسية عند الحديث عف الذات اإلليية .إذ نجد "األحاديث التي تذكر النفس ﵀ :عف أبي ىريرة أنو قاؿ الرسكؿ
(ص)( :يقكؿ ا﵀ تعالى أنا مع عبدل حيف يذكرني ،فإف ذكرني في نفسو ذكرتو في نفسي كاف ذكرني في مؤل ذكرتو في مؤل خير
منو) .كأحاديث تذكر الكجو :قكؿ الرسكؿ (ص)( :أعكذ بكجيؾ الكريـ ...كاف يدعك :أسألؾ لذة النظر إلى كجيؾ) .كأحاديث
ىف تي ىؤُّدكا ً َّ
تشخص مككنات الكجو اإلليي مثؿ حديث ذكر العيف كاألذف :عف أبي ىريرة عندما ق أر قكلو تعالى (إ َّف الموى ىيأ ي
ٍم يريك ٍـ أ ٍ
ىىمًيىا) حتى كصؿ إلى قكلو (سميعا بصيرا) فكضع ابيامو عمى أذنو كالتي تمييا عمى عينو كقاؿ ىكذا سمعت رسكؿ ٍاألىم ىان ً
ات ًإلىى أ ٍ ى
ا﵀ يق أر كيضع اصبعو" 1.كلك كاف ما نقؿ عف الرسكؿ الكريـ صحيح ،فيذا داللة صريحة عمى الفيـ الحسي لمصفات اإلليية .لكننا
ؽ أ ٍىي ًدي ًي ٍـ﴾ .لربما أف ىؤالء
﴿ي يد المَّ ًو فى ٍك ى
نجد ركايات الحقة تنقؿ أف بعض الفقياء أجازكا قطع يد مف رفع يده مشي ار بيا عند قراءة آية ى
الفقياء مف ذكم التكجو التنزييي الخالص ،فاالنتماء الفقيي الكبلمي كىذا منتشر كثيرا ،مثؿ الحنبمية اإلشعرية ،ىك الذم ينتج مثؿ
ىذه االعتقادات التي تربط بيف الفيـ كالتنفيذ.
يمكف القكؿ بأف الفرؽ التجسيمية ،تنتمي بطريقة مباشرة إلى ما يمكف أف نسميو بالبلىكت المكجب .إذ أنيا ال تتحرج في ربط
صفات ا﵀ سبحانو كتعالى بصفات مخمكقاتو .فكؿ ما يقكلو عمـ البلىكت المكجب بخصكص ا﵀ إنما يجد أساس برىانو في
جر ا﵀ إلى مجاؿ الحقائؽ المتناىية" 2.لكف ال نجد ىؤالء يستشعركف الخطر فما ىك السبب ؟ مف
المخمكقات ،كمف ىنا يبرز خطر ٌ
الناحية المبد ئية ال يمكف تصكر ا﵀ بمعزؿ عف الكينكنة ،كأم كينكنة تتطمب حضكر ما ،كالحضكر الكحيد الذم يقنع إنساف متكسط
الفيـ ىك الحضكر المتشيئ ،إذ ال يمكف أف نتحدث عف حضكر ال شيء .ثـ أنو "ال يكجد في القرآف لفظ يفيد كصؼ ا﵀ بأنو "ال
جسـ" 3.ىذا ،كبالنسبة لمعامة مف الناس ،بمو حتى الخاصة ،فإف فيـ ماىية ا﵀ ال تتـ إال في إطار بنية العقؿ الخالص الذم يتصكر
الكينكنة مرىكنة بالشيئية .فالمكجكدية مرىكنة بالجسمية التي تستمزـ األبعاد ككؿ المقتضيات األخرل مف حيز ككيكؼ
كخصائص...الخ 4فالذيف يقكلكف بأف ﵀ كينكنة ليست ككينكنتنا ،ككأنيـ لـ يقكلكا شيئا ،بؿ ىناؾ تناقض في ىذا القكؿ عمى اعتبار
أننا نتحدث عف كجكد شيء ال يمكف تحديده عندما نقكؿ أف ا﵀ يفعؿ بطريقة ال اسـ ليا عندنا أك يتصؼ بصفة ليست معمكمة
بالنسبة لنا .لكؿ كاحد منا الحؽ في االستفسار عمى طريقة التكحيدم الذم قاؿ" :إذا كاف البارم ال يفعؿ ما يفعؿ ضركرة كال اختيارا،
فعمى أم نحك يككف فعمو ؟ ( )...قاؿ أبك سميماف :قد قاؿ كبار األكائؿ :إنو يفعؿ بنكع أشرؼ مف االختيار ،كذلؾ النكع ال اسـ لو
1
محمد صالح محمد السيد :أصالة عمـ الكبلـ ،دار الثقافة كالنشر كالتكزيع ،القاىرة ،1987 ،ص ص .100-98
2
داريكش شايغاف :ما الثكرة الدينية ؟ الحضارات التقميدية في مكاجية الحداثة ،مرجع سابؽ ،ص .60
3
ىارم .أ .كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .55
4
أبي الحسف األشعرم :مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف ،الجزاء األكؿ ،المكتبة الصرية ،بيركت ،2009 ،ص .64
175
عندنا" 1.ىنا نحف نقر بكجكد شيء ال يمكف تعقمو إطبلقا مما يعني أنو غير مكجكد .كىذه الصعكبة تشبو صعكبة كانط الذم افترض
الشيء في ذاتو الذم ال نعرفو لكننا عرفناىا بمجرد ما تحدثنا عنو ! كىك التناقض الذم تحدث عنو الفيمسكؼ اإللياتي بارمنيدس
عندما نتحدث عف عدمية الشيء مما يجعمو خارج العدـ الحقيقي.
لف نخكض في مصادر االعتقاد بالجسمية في الفكر اإلسبلمي ،فيناؾ مف يتحدث عف األصكؿ الييكدية عمى اعتبار أف التكراة
تصؼ الرب بكؿ ما يمكف أف يربطو بالمكجكدات اإلنسانية كحتى الحيكانية (زأر الرب يكىكا مثؿ األسد) .كىناؾ مف يرجعيا إلى
أصكؿ مسيحية في التثميث عمى أساس أف األقنكـ الثاني كىك االبف متجسد في شخص مادم .لكف ما ييمنا ىك بداية الفرؽ
التجسيمية في اإلسبلـ .في ىذا الشأف يتفؽ كؿ مؤرخي الكبلـ بأف الفرؽ الشيعية ىي مف تبنت ىذه العقيدة ألكؿ مرة .فحسب
اإلسفرائيني ىـ أصؿ التشبيو في اإلسبلـ 2.فقد نقؿ عف اليشامية (نسبة إلى ىشاـ بف الحكـ ،حكالي 190ق) كالعديد مف فرؽ
الرافضة مف الشيعة أ نيا قالت بأف الخالؽ شبيو بالخمؽ أم ذك صكرة مثؿ صكر اإلنساف .كقامت المشبية الصفاتية بتشبيو المخمكؽ
بالخالؽ مف خبلؿ االستناد إلى القكؿ المنسكب إلى الرسكؿ (ص) :خمؽ ا﵀ آدـ عمى صكرة الرحمف .كاستنتجكا بأف كؿ أنباء آدـ
ليـ صمة تشابو با﵀ الذم خمقيـ 3.كيقكؿ األشعرم عنيـ" :يزعمكف أف معبكدىـ جسـ لو نياية كحد كطكيؿ عريض ،طكلو مثؿ
عرضو كعرضو مثؿ عمقو ال يكفي بعضو عمى بعضو .كلـ يعينكا لو طكال غير الطكؿ .كانما قالكا طكلو مثؿ عرضو عمى المجاز
دكف التحقيؽ ،كزعمكا أنو نكر ساطع ،لو قدرة مف األقدار في مكاف دكف مكاف .كالسبيكة الصافية كالمؤلؤة المستديرة مف جميع
جكانبيا .ذك لكف كطعـ كرائحة" 4.لذا فقد انتيى اليشامية بتشبيو معبكد اإلنساف باإلنساف ،بؿ أنو كصؼ مقدار الذات اإلليية بأف
قاؿ بسبعة أشبار بشبر نفسو 5.كىذا التحديد يدؿ عمى معقدات تجسيمية كدقيقة دقة تفاصؿ الخصكصيات البشرية .بؿ نجد مف
الشيعة مف يتحدث عمى عمر معيف ﵀ تعالى عف كؿ ىذه الشبيات.
ترتبط مسألة التجسيـ بمسألة رؤية ا﵀ ،ألف الرؤية تقتضي الجسمية بأكسع معانييا ،كلئف اعتبر البعض أف ا﵀ نكر ،مثمما كرد
ض مثى يؿ ين ً ً و ً ً في سكرة النكر ﴿المَّو ينكر الس ً
اح﴾[النكر ]35،فإف النكر جسـ حسي يمكف رؤيتو .كنجد كرًه ىكم ٍش ىكاة فييىا م ٍ
صىب ه َّم ىاكات ىك ٍاأل ٍىر ً ى
ى ي ي
"ركاية اإلباضي أبك عمار عبد الكافي أف أصحاب عبد الكاحد كانكا مقتنعيف بأف رؤية ا﵀ غير ممكنة في اآلخرة فحسب ،كانما يمكف
1
أبك حياف التكحيدم :المقابسات ،تحقيؽ كتعميؽ حسف السندكبي ،دار المعارؼ لمطباعة كالنشر كالتكزيع ،سكسة ،الطبعة األكلى،
،1991ص .42
2
صييب السقار :التجسيـ في الفكر اإلسبلمي ،آفاؽ لمنشر ،الككيت ،الطبعة األكلى ،2015 ،ص .77
3
الشيرستاني :نياية اإلقداـ في عمـ الكبلـ ،تحرير كتصحيح ألفريد جيكـ ،مكتبة الثقافة الدينية ،القاىرة ،الطبعة االكلى،2009 ،
ص .97أيضا :جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء
الثاني ،مرجع سابؽ ،ص " .1015محمد ابف عجبلف :كاف يركل ال يتكرع في ركاية الحديث النبكم الذم يذكر بأف آدـ خمؽ عمى
صكرة ا﵀ ،لذلؾ نجد مالؾ بف أنس يمكمو عمى ذلؾ".
عبد القاىر البغدادم :الفرؽ بيف الفرؽ كبياف الفرقة الناجية ،مكتبة ابف سينا ،القاىرة ،1988 ،ص .199أيضا :صييب السقار: 4
5
أبي الحسف األشعرم :مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف ،الجزاء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .166
176
ليذا أف يحدث في الدنيا أيضا .ربما يعتمدكف في رأييـ ىذا عمى ما كرد في اآلية السادسة كما بعدىا مف سكرة النجـ ﴿ يذك ًمَّروة
اب قى ٍك ىس ٍي ًف أ ٍىك أ ٍىدىنى﴾ [النجـ ]9-6 ،التي تتحدث عف رؤية النبي محمد ﵀" 1.كلـ َّ استىكل ك يىك بً ٍاأليفي ً
اف قى ى
ىعمىى ثيَّـ ىدىنا فىتى ىدلى فى ىك ى
ؽ ٍاأل ٍ فى ٍ ى ى ى
يكف يزيد بف ىاركف صاحب م كاقؼ بعيدة جدا عف عقيدة التجسيـ (التشبيو) .لقد ركل الحديث النبكم الذم يذكر بأف الناس سكؼ
يركف ا﵀ في الجنة عمى نحك ما يركف القمر ليمة البدر؛ بؿ يركل أنو أكد عمى صحة ىذا الحديث صراحة 2.كىنا نبلحظ استثمار
القرآف كالحديث مف أجؿ تقكية عقيدة التجسيـ.
كقد نقؿ عف أصحاب مقاتؿ بف سميماف "بأف ا﵀ جسـ كأف لو جمة (شعر الرأس الساقط عمى المنكبيف) كأنو عمى صكرة
اإلنساف لحـ كدـ كشعر كعظـ لو جكارح كأعضاء مف يد كرجؿ كرأس كعينيف مصمت ،كمع ىذا ال يشبو غيره كال يشبيو" 3.كفي
سياؽ تصكر أعضاء ﵀ يذكر الشيرستاني أف أحمد بف عطاء اليجيمي كاف يقر بأف ا﵀ قد يصافح أكلياءه في الدنيا ،كأنيـ
يستطيعكف معانقتو 4.كركم عف "بكر ابف أخت عبد الكاحد بف زيد (النصؼ الثاني لمقرف الثاني ىػ ) أنو كاف يعتقد أف ا﵀ سكؼ يرل
في اآلخرة عمى ىيئة بشر .كيركف أف ىذا أمر ضركرم ،ألف ا﵀ سكؼ يتحدث إلى الناس يكـ الحساب .كاال كيؼ سيدكر ىذا
الحديث ؟ لكنو يرل أف تمثؿ ا﵀ في ىيئة بشر سيأتي في ىذه المحظة فحسب ،كا﵀ ىك الذم خمؽ ىذه الييئة لنفسو ،كىي بالتأكيد
بمثابة قناع ( )...حركة السالمية كانت في بداية ؽ 4ىػ تتبنى الرأم القائؿ بأف ا﵀ سكؼ يظير في صكرة محمد ،كالتي ىي في
نفس الكقت صكرة آدـ" 5.ىذه المعتقدات مؤسسة عمى عبلقة قرابة قدسية ،عمى أساس أف ا﵀ خمؽ أكؿ إنساف كىك آدـ ،كمكانة آدـ
قريبة لمكانة محمد (ص) مما جعميـ يفترضكف التشابو.
كقد انتشرت عقائد شعبية عف التشبيو ،تقترب مف الغكغائية نظ ار لتأثرىا بالعقائد غير اإلسبلمية فقد "كانت جماىير البصرة تجد
سعادة في أف تسمع ألحاديث أبك سعيد الحسف بف دينار التميمي (الذم ركل عف الحسف البصرم) تركم أف المبلئكة حكؿ العرش
1
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .162أيضا :يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،ترجمة عبد المجيد الصغير ،نشر الفنؾ،
الدار البيضاء ،2000 ،ص .45العادة أف مف أف محمد أف يسمع ،ال أف يرل ،إذ القرآف كليد السمع ال الرؤية .لكف سكرة النجـ
اب قى ٍك ىس ٍي ًف أ ٍىك أ ٍىدىنى ( )9فىأ ٍىك ىحى إًلىى ىع ٍب ًد ًه ىما أ ٍىك ىحى ( )10ىما
اف قى ى
َّ
ىعمىى ( )7ثيَّـ ىدىنا فىتى ىدلى ( )8فى ىك ى
ؽ ٍاأل ٍاستىكل ( )6ك يىك بً ٍاأليفي ً
ى ى
ًو
﴿ يذك مَّرة فى ٍ ى
يخ ىرل (ً )13ع ٍن ىد ًس ٍد ىرًة ا ٍل يم ٍنتىيىى (ً )14ع ٍن ىد ىىا ىجَّنةي ا ٍل ىمأ ىٍكل
كنوي ىعمىى ىما ىي ىرل ( )12ىكلىقى ٍد ىرآىهي ىن ٍزلىةن أ ٍ اد ىما ىأرىل ( )11أىفىتي ىم يار ى
ب ا ٍلفي ىؤ ي
ىك ىذ ى
( .﴾)15تتحدث عف الرؤية" .أيضا :أبي الحسف األشعرم :مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف ،الجزاء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص
.128
2
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .640
3
صييب السقار :التجسيـ في الفكر اإلسبلمي ،مرجع سابؽ ،ص .83
4
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .162
5
المرجع نفسو ،ص .177
177
يتكممكف بالفارسية ،بؿ إف ا﵀ نفسو في حاالت الرضا يتكمـ بالفارسية ،كانو ال يتكمـ العربية إال في حاؿ الغضب" 1.بؿ أف البعض
خاض في مسائؿ تفصيمية جعمتيـ يعتقدكف باألعضاء كبالجية مما يحرج المسمـ المعتدؿ عنف التفكير فييا .ففي اشارتنا أعبله
"يدم ا﵀" تـ التطرؽ إلى "التصكر القائؿ بأف ا﵀ ال يمكف أف تككف لو يد يسرل (ينسب إلى داكد بف راشد).
آليات اليد ،ككجكد لفظة ٌ
حيث قيؿ أنو تصكر ا﵀ (أجكؼ مف فيو إلى صدره كمصمت ما سكل ذلؾ ،كيعتقدكف أف ىذا ىك معنى كممة صمد) أما فيما يتعمؽ
بييئة ا﵀ فيقكؿ داكد" :أعفكني مف الفرج كالمحية كاسألكني عما كراء ذلؾ فإف في األخبار ما يثبت ذلؾ" .أك بمعنى آخر أف عمى
َّ 2
﴿ك ىما قى ىد يركا الموى
كؿ شيء فيما عدا ذلؾ يكجد دليؿ في القرآف كالسنة" .كلئف ىناؾ آيات تذكر يميف ا﵀ مثمما نجد في قكلو تعالى :ى
ط ًكي ه ِ ِ ِ ؽ قى ٍد ًرًه ك ٍاألىرض ج ًميعا ىق ٍبضتيو يكـ ا ٍلًقي ً
كف﴾ [الزمر ]67 ،فقد يكحي ىذا َّات ِب َيمينو يس ٍب ىح ىانوي ىكتى ىعالىى ىع َّما يي ٍش ًريك ى ات ىم ٍ
َّماك ي
امة ىكالس ى
ى ي ىٍ ى ى ى ى ٍ ي ى ن ىح َّ
عند البعض بأنو ﵀ يسار ،أم يد يسرل .كنحف نعمـ بأف اليسار في األنثركبكلكجيا ،كحتى في المخياؿ الديني ،رمز لعدـ االستقامة
كاالنحراؼ كالشأـ...الخ (نبلحظ قرابة بيف اسـ الشاـ كاسـ الشأـ ،كطو حسيف يسميو الشأـ مباشرة ،الذم ىك ً
الشماؿ أم اليسار ،ألف
سكريا تقع عمى يسار الكعبة في حيف أف اليمف تقع عمى يمينيا) ففي القرآف يككف أصفياء ا﵀ عمى يمينو لمداللة عمى الخيرية كيككف
المعذبكف عف شمالو لمداللة عمى البؤس 3.كتأكيد كجكد اليسارية في الذات اإلليية ىك ما ال يمكف أف تتصؼ بو الذات اإلليية
الك اممة الخالية مف أم مدلكؿ مذمكـ أك سمبي .فكحدانية ا﵀ تقتضي تجاكز كؿ التثنيات التي نعرفيا ،كىذا ىك معنى التعالي اإلليي
بالضبط.
بؿ أف البعض مف المسمميف ،بمغ بيـ التفكير في الذات اإلليية مف حيػث خصكصػيتيا كشػكميا كنكعيػا ،بػأف طرحػكا مسػألة
الجنسية أم جنسية ا﵀ تعالي .فنحف نعمـ بأف ا﵀ يتحدث عف ذاتو بكصفيا مذكرة .لذا يذكر التكحيدم ىػذه المناقشػة :لػك قػاؿ لػؾ
رجؿ :لـ خبرت عف ا﵀ بالتػذكير دكف التأنيػث ؟ ( )...ألف التػذكير كالتأنيػث معنيػاف مكجػكداف فينػا ،كبيمػا أشػبينا سػائر الحيػكاف،
كىما منفياف عف ا﵀ تعالى مف كؿ كجو ككؿ كىـ" 4.لذا ،فمػك تتبعنػا التجسػيـ النتيينػا إلػى التشػبيو المطمػؽ ،كىػذا يتنػافى مػع سػكرة
َّػم يد ( )2لى ٍػـ ىيمً ٍػد ىكلى ٍػـ ييكلى ٍػد ( )3ىكلى ٍػـ َّ
ىح هػد ( )1المػوي الص ى
َّ
اإلخبلص التػي تخمػص الػذات اإللييػة مػف أم تجسػيـ ممكػف ﴿ :قي ٍػؿ يى ىػك المػوي أ ى
ىح هد ( . ﴾)4كفي نظػر المعتزلػة فػإف ىػذه اآليػة ىػي قاعػدة كػؿ تأكيػؿ متعمػؽ بالػذات كالصػفات .أم ىػي المركػز الػذم ىي يك ٍف لىوي يكفي نكا أ ى
تػػدكر عميػػو كػػؿ اآليػػات المتشػػابية .أمػػا مسػػألة تػػذكير ا﵀ ،فيػػي تػػدؿ عنػػد الػػبعض ،مػػف ذكم التيػػار النسػػكم ،عمػػى الطػػابع األبػػكم
لممجتمع في شبو الجزيرة العربية السابؽ لئلسبلـ .كىذا في مقابؿ بعض التصكرات المجتمعية التػي تؤنػث المقػدس .كفػي الجاىميػة
1
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .101
2
المرجع نفسو ،ص .641
3
يكسؼ شمحد :بنى المقدس عند العرب قبؿ اإلسبلـ كبعده ،ترجمة خميؿ أحمد خميؿ ،دار الطميعة لمطباعة كالنشر ،بيركت ،الطبعة
األكلى ،1996 ،ص .144-143كجكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني
في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع سابؽ ،ص .784أيضا :دافيد لكبركتكف :سكسيكلكجيا الجسد ،ترجمة عياد أببلؿ كادريس
المحمدم ،ركافد لمنشر كالتكزيع ،القاىرة ،2014 ،ص " .39اليد اليسرل يقتضي العي كالتمبؾ كاالنحراؼ كالخداع كالقبح ()...
كالتيديد كالرجس".
4
أبك حياف التكحيدم :المقابسات ،مرجع سابؽ ،ص .42
178
نجد البعض مف اآللية المؤنثة كىذا ما يدحض نظرية البطرركية .لػذا تبقػى المسػألة لمبحػث المتخصػص كالمعمػؽ ،ممػا ال تحتممػو
ىذه المحاضرة.
يبدك أف الفرؽ التجسيمية ،كنظ ار لتمسكيا الكمي بالنص ،قد انتيت إلى تصكر مشكه لمذات اإلليية .لذا فإف إعماؿ العقؿ،
كالتمييز بيف الخطاب الحقيقي كالخطاب المجازم في القرآف الكريـ أمر ضركرم في مسألة الذات كالصفات ،كاال سقطت العقيدة
التكحيدية كالتنزييية في كثنية مف نكع جديد .مع العمـ أف القرآف مكجية لمخركج منيا .لذا فإف فرقا كبلمية أكثر حرصا عمى تقدير
الذات اإلليية حؽ قدرىا قد غيرت منيج قراءة النصكص القرآنية مف أجؿ تفادم التجسيـ الكثني المعيب .كسنرل أف فمسفة التنزيو،
كرغـ استراتيجيتيا النبيمة قد تقع في صعكبات مف نكع آخر .عمى اعتبار أف نفي الصفات الحسية عف الذات اإلليية ىك ما يؤسس
البلىكت السالب أك الصفات السمبية .فالنفي المطمؽ لمصفات ىك في ذاتو عقيدة سمبية 1.ال تقدـ أم معرفة ايجابية يمكف أف تككف
في متناكؿ العقؿ الطبيعي لئلنساف ،كنقصد بيذا العقؿ الطبيعي الفيـ القائـ عمى خبرات مكثكؽ فييا.
بالنسبة لممعتزلة ،كىـ أبطاؿ التنزيو المطمؽ في عمـ الكبلـ اإلسبلمي ،فقد اتيمكا المجسمة بكؿ فركعيا بأنيـ تأثركا بعقائد
مسيحية قائمة بالتثميث ،ألنيا تجسد اإللو في اإلنساف (عيسى إلو أك ابف إلو) 2.كبالتالي فيي فرؽ اسبلمية بخمفيات مسيحية .كىذا
في ذاتو كفر كخرؽ ألقكل مبدأ عقدم في اإلسبلـ كىك التكحيد .إف التكحيد حسب اإلعتزاؿ مؤسس بالكمية عمى نفي الصفات كتأكيؿ
اآليات التي تفيد التجسيـ .كلئف كاف المستشرقيف الذيف يؤصمكف الكبلـ اإلسبلمي في البلىكت المسيحي ،مثؿ كلفسكف ،يثمنكف تأثر
الفرؽ اإلسبلمية بالمسيحية ،فإف المعتزلة تعتبر ذلؾ عيبا كسقطة ال يجب االستمرار فييا .لذا فعندما تعارض المعتزلة حقيقة
الصفات المنسكبة لمذات اإلليية مثؿ الحياة كالحكمة كالعمـ كالقدرة 3،فيي أكال تعارض انتقاؿ المنظكر المسيحي إلى العالـ اإلسبلمي.
قبؿ أف تنتقؿ إلى قمؽ التشبيو اإلليي.
ىذا ىك الكجو السمبي لرفض المعتزلة فكرة التجسيـ كاثبات الصفات الخبرية .أما الكجو اإليجابي ،فيكمف في متابعة نسؽ
االعتقاد في القرآف الكريـ ذاتو .فالمعمكـ أف مبدأ المعتزلة يكمف في تثميف دكر العقؿ في فيـ النقؿ .كلعؿ ىذا ما دفعيـ إلى تعميؽ
التمييز بيف القرآف المحكـ كالقرآف المتشابو ،كأساس التفرقة عقمية خالصة ،فالمحكـ ىك كؿ اآليات التنزييية كالمتشابو ىي اآليات
التشبييية كالتجسيمية 4.كعمى ىذا األساس يتـ تأكيؿ كؿ آيات التشبيو ،كالتي استعرضنيا أعبله ،لتتبلءـ مع آيات التنزيو التي ال
يمكف انكار كجكدىا في القرآف.
1
داريكش شايغاف :ما الثكرة الدينية ؟ الحضارات التقميدية في مكاجية الحداثة ،مرجع سابؽ ،ص .58
2
عضد ا﵀ كالديف القاضي عبد الرحمف بف أحمد اإليجي :المكاقؼ في عمـ الكبلـ ،عالـ الكتب ،بيركت ،ص .280أيضا :ىارم.
.190 أ .كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص
3ىارم .أ .كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .207
4
نصر حامد أبك زيد :االتجاه العقمي في التفسير -دراسة في قضية المجاز في القرآف عند المعتزلة ،المركز الثقافي العربي ،الدار
البيضاء ،الطبعة الثالثة ،1996 ،ص .57
179
عمى أف المعتزلة لست أكؿ مف سار في اتجاه نفي الجسمية كالصفات الخبرية ،بؿ يمكف أف نبلحظ تأكيبلت مف بعض
الصحابة كشفت عف تجنبيـ التشبيو الظاىر .كلربما أف المعتزلة كالجيمية قد قامكا بتأصيؿ منظكرىـ التنزييي مف ىؤالء .ثـ أف
القرآف الكريـ ذاتو قد نيى عف التشبيو في أكثر مف آية .لذا يعتقد الجيـ بف صفكاف بأنو ال يجكز كصؼ البارم تعالى بصفات
ييكصؼ بيا خمقة .ألف ذلؾ يقتضي تشبييا .لذا فيجب نفي ككف ا﵀ حي ألف الكثير مف المخمكقات حية ،كنفي كصؼ ا﵀ بالعمـ ألف
اإلنساف عالـ ،كلـ يثبت الجيـ إال صفة القدرة عمى اعتبار أف اإلنساف غير قادر بالمطمؽ 1.لذا فالصفات التي يمكف أف نصؼ بيا
ا﵀ ىي القدرة كالفعؿ كالخمؽ فقط ،ألف ال كاحد مف المكجكدات يتصؼ بيا .كمعمكـ جدا مكقفيا مف الحرية الذم سنفصمو في
المحاضرة القادمة.
بالنسبة لمكقؼ بعض الصحابة المنزىيف ،يمكف أف ييبلحظ في تفسير ابف عباس ما يفيد التنزيو الكمي .ففي سياؽ تفسيره آلية
يـ﴾[البقرة ،)255( ]255 ،كمف ً ً ات ك ٍاألىرض كىال ييئ ي ً
الكرسي حيث كرد قكلو تعالى﴿ :ك ًسع يكرًسيُّو الس ً
كدهي ح ٍفظييي ىما ىك يى ىك ا ٍل ىعم ُّي ا ٍل ىعظ ي َّم ىاك ى ٍ ى ى ى ى ى ٍ ي ى
أجؿ تجاكز المعنى الحرفي الذم يفيد الكرسي المحسكس .تأكلو ليدؿ عمى العمـ ،أم كسع عممو السمكات كاألرض .ىذا بعد أف
"تساءؿ أصحاب الرسكؿ (ص) :ىذا الكرسي كسع السمكات كاألرض ،فكيؼ العرش ؟" 2.كالمبلحظ أف ىذا التأكيؿ يميد الستراتيجية
التأكيؿ اإلعتزالي الذم يستيدؼ تجاكز معضمة تشبيو ما ىك إليي بما ىك بشرم ،عمى أساس أف أم إنساف قد يتصكر أف ﵀ كرسي
يشبو كرسي اإلنساف أك أف لو عرشا يشبو عرش الممكؾ.
عمى الرغـ مف اتفاؽ الجيمية مع المعتزلة في نفي التشبيو عف الذات اإلليية ،فإف المعتزلة تختمؼ عنيا في مسألة الصفات
التي يجب نفييا .كنحف نعمـ أف المشكمة األساسية التي تفرؽ الفرقتيف ىي مسألة القدرة بيف ا﵀ كاإلنساف .كمثمما رأينا أف الجيمية
تثبت فقط صفة القدرة كالخمؽ ﵀ ،عمى أساس أف اإلنساف ال يقدر كال يخمؽ .إال أف المعتزلة ترل العكس؛ أم أنيا تنفي القدرة عمى
ا﵀ بما أف اإلنساف ىك مف يقدر عمى خمؽ أفعالو لكحدة .لذا فمف أجؿ تنزيو ا﵀ ،بحسب المعتزلة ،كجب نفي كؿ الصفات األزلية،
بؿ أف ا﵀ في األزؿ كاف ببل أسماء كببل صفات .كبالتالي فإنو مف الضركرم نفي صفات العمـ كالقدرة كالحياة كالسمع كالبصر عف
الذات اإلليية كاال انتفت الكحدانية 3.كلك تـ اثبات صفات أزلية تشارؾ ا﵀ في قدمو ،فإف ىذا ىك عيف الشرؾ .يمخص الغزالي مكقؼ
المعتزلة الذم امتزج بالفمسفة" :اتفقت الفبلسفة عمى استحالة إثبات العمـ كالقدرة كاإلرادة ،لممبدأ األكؿ ،كما اتفقت عميو المعتزلة،
عبد الكريـ الشيرستاني :الممؿ كالنحؿ ،الجزء األكؿ ،المكتبة العصرية ،بيركت ،2003 ،ص .68أيضا :ىارم .أ .كلفسكف: 1
فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .208أيضا :نصر حامد أبك زيد :االتجاه العقمي في التفسير -دراسة
في قضية المجاز في القرآف عند المعتزلة ،مرجع سابؽ ،ص .22يقكؿ عف مكقؼ الجيمية:
جيـ بف صفكاف :نفي مشابية ا﵀ لؤلشياء ..كامتنع كصؼ ا﵀ تعالى بأنو شيء أك حي أك عالـ أك مريد( )...كقاؿ ال
أصفو بكصؼ يجكز إطبلقو عمى غيره .ككصفو بأنو قادر كمكجد كفاعؿ كخالؽ كحيي كمميت ألف ىذه األكصاؼ مختصة
بو كحده ( )...كصؼ الو بصفات نفى أف تطمؽ عمى االنساف كمنيا الكصؼ بأنو قادر كنفى القدرة عمى اإلنساف ()...
القكؿ بالجبر إذف ىك محاكلة لتأكيد التكحيد.
2
نصر حامد أبك زيد :االتجاه العقمي في التفسير -دراسة في قضية المجاز في القرآف عند المعتزلة ،مرجع سابؽ ،ص .96
3
عبد القاىر البغدادم :الفرؽ بيف الفرؽ كبياف الفرقة الناجية ،مرجع سابؽ ،ص .104
181
كزعمكا أف ىذه األسامي كردت شرعا ،كال يجكز اطبلقيا لغة( )...كال يجكز اطبلؽ صفات زائدة عمى ذاتو ،كزعمكا أف ذلؾ يكجب
كثرة" 1.ككؿ كثرة تمغي الكحدة التي ىي أخص صفات ا﵀ تعالى.
بالنسبة لئلعتزاؿ ،فإف تأكيؿ النصكص القرآنية الدالة عمى التشبيو أمر ال مفر منو .عمى اعتبار أف اآليات المحكمة ىي التي
تكافؽ منطؽ العقؿ .ككؿ آية ال تسير في سياقو فإف ىذا يدؿ عمى أنيا متشابية .كمنطؽ التأكيؿ عند المعتزلة ال يختمؼ عف منطقو
عند ابف رشد الذم يستحسنيا مقارنة باألشعرية .إذ عرؼ التأكيؿ بقكلو" :ىك اخراج داللة المفظ مف الداللة الحقيقية إلى الداللة
المجازية مف غير أف يخؿ في ذلؾ بعادة لساف العرب" 2.كبالفعؿ ،فإف آية (اليد المغمكلة) سابقة الذكر تعبير حسي عف اإلمساؾ
3
عف النفقة .كبالتالي ييفيـ منيا أف خير ا﵀ ممسؾ عنيـ ،كال تفيـ بالمدلكؿ الظاىر ككأف ﵀ يد تـ غميا أك غميا كقيدىا عف قصد.
كبالعمكـ فاليد في عادة لساف العرب داللة عمى الفعؿ كالقدرة .ىنا يغدك التأكيؿ عند المعتزلة استراتجية لنفي الصفات
Antiattributistsمف خبلؿ تأكيؿ الصفات المشتركة بيف ا﵀ كاإلنساف ،أم عدـ أخذىا مأخذا حرفيا ككميا .كىذا ىك بالذات
المفيكـ النيائي لمتأكيؿ 4.فكؿ اآليات القرآنية التي قد تفيد الجسمية كالتشبيو باإلنساف مثؿ الكجو كاليد كالساؽ كالجنب كالعجب كالفرح
كالشركر كاألسؼ كالغضب كالمكرة كالكيد...الخ كميا عبلمات نقص ،بؿ تمثؿ عيكب أخبلقية ال يمكف أف تسند عمى كجو الحقيقة
إلى الذات اإللي ية .فالكماؿ اإلليي ال يحتمؿ ذلؾ ،لذا فإف استعماليا كاف ألغراض لغكية كسياقية في الخطاب الذم ييدؼ اإلقناع
ال غير 5.كال يمكف أف تدؿ عمى حقيقة معناىا المتداكؿ .كقد كاف الشيخ أبك حامد الغزالي (تكفي 505ق) قد طرح مشكمة استعماؿ
القرآف األلفاظ التي قد تفيد التشبي و ،كالتي تسحب الفيـ البشرم نحك تجسيـ الذات اإلليية أك أنسنتيا ،عمى الرغـ مف أف ا﵀ يعمـ
مسبقا ،بكصفو كمي العمـ ،ما ستنتج مثؿ ىذه المغة .بالنسبة لمدكتكر نصر حامد أبكزيد ( ،)2010/1943فإف "جكىر المشكمة التي
كاجيت المعتزلة تكمف في أف الكحي قد اختار المغة العربية كنظاـ اشارم بيف ا﵀ كاإلنساف كىي لغة بطبيعتيا بشرية كمحدكدة ،ال
تتسع إال لمدارؾ البشر كمعارفيـ" 6.بمعنى أنيا عاجزة عف كصؼ الذات اإلليية عمى حقيقتيا .كبالنسبة لنا فإف استعماؿ القرآف لمغة
التشبييية ،كاف مف أجؿ حصكؿ تمقى ناجح مع كعاء التمقي األصمي .فمك استعماؿ القرآف لغة تنزييية خالصة في التنزيو ،لكاف
اإلبياـ كالنفكر مصير المتمقي ،فمف أجؿ كركد القرآف بصكرة مقبكلة يجب االستناد عمى المجاؿ التداكلي المغكم كالعقدم السابؽ ،كلك
أنو كثني كجاىمي ،فميس ىناؾ طريقة أخرل أنجع في تكصيؿ الرسالة الجديدة.
1
أبك حامد الغزالي :تيافت الفبلسفة ،تحقيؽ عمي بكممحـ ،دار ككتبة اليبلؿ لمطباعة كالنشر ،بيركت ،2002 ،المسألة السادسة،
ص .117أيضا :ىارم .أ .كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .209
2
ابف رشد :فصؿ المقاؿ كتقرير ما بيف الشريعة كالحكمة مف اتصاؿ ،الشركة الكطنية لمنشر كالتكزيع ،الجزائر ،1982 ،ص .34
3
نصر حامد أبك زيد :االتجاه العقمي في التفسير -دراسة في قضية المجاز في القرآف عند المعتزلة ،مرجع سابؽ ،ص ص -149
.155
4
ىارم .أ .كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .303
5
نصر حامد أبك زيد :االتجاه العقمي في التفسير -دراسة في قضية المجاز في القرآف عند المعتزلة ،مرجع سابؽ ،ص .158
6
نصر حامد أبك زيد :االتجاه العقمي في التفسير -دراسة في قضية المجاز في القرآف عند المعتزلة ،مرجع سابؽ ،ص .158
181
إف نفي ال صفات ،سكاء عند المعتزلة أك غيرىـ ،مكجو إلى مسألة أساسية كىي نفي الشيئية عنو .فبل يمكف القكؿ أف ا﵀ شيء.
فقد كاف أبك زكريا الصيمرم يصر عمى أنو ال يجب عمينا أف نقكؿ إف البارم شيء 1.ألنو ال يمكف فيـ الشيئية إال مف خبلؿ
العكارض المادية كمختمؼ الصفات المحمكلة .بؿ أف أبا سميماف المنطقي قد قاؿ" :ال ينبغي أف يطمؽ عمى البارم مكجكد .ألف
المكجكد مقتض لمكاجد ال محالة ( )...كا﵀ تعالى يجؿ عف ىذه التربة ألنو ال كاجد لو ،كلك كاف لو كاجد لكانت مرتبة الكاجد فكؽ
مرتبة المكجكد .قمنا لو :قد قيؿ :معبكد كمحمكد كمكجكد ،كما ضارع ذلؾ ؟ فقاؿ إف أطمؽ المكجكد عمى اسـ فقط جاز" 2.تطرح
المشكمة ىنا ،عمى أساس أف مكجكدية المكجكد داخمة في الكجكد الذم ىك أشمؿ التصكرات التي ال يمكف تصكر فكرة أشمؿ منيا.
لذا يقاؿ في المغة الفقيية بأف ا﵀ مكجكد قبؿ كؿ مكجكد ،بؿ ىك شرط المكجكدية عمى اإلطبلؽ.
كقد بمغ ببعض الكتاب العقبلنييف ،في السياقات اإلسبلمية الكبلسيكية ،مثؿ ابف المقفع الذم نسب إليو نص فيو ينتقد تصكر
القرآف ﵀ " :إنيا صكرة تشبييية ال تدؿ عمى الدالة اإلليية .ىا ىك ا﵀ يستكم عمى عرشو ،ثـ ينزؿ مف عمى عرشو ( سكرة النجـ،
)9-8حتى يصبح بينو كبيف نبيو قاب قكسيف أك أدنى .كيشعر كذلؾ باليـ كالحزف كالغضب .كما يظير قميؿ الحيمة؛ حيث يعجز
أماـ الشر ،كاألسكأ مف ذلؾ نجده عاجز أماـ خمقو الذيف خمقيـ بيديو ( )...يمقى عمييـ الشيب ( )...كمف صفات ا﵀ التي تشبو
صفات البشر نجدىا في افتخاره دكما بأنو خمؽ السمكات األرض ،دكف ابداء السبب .كما يستطيع أعداؤه قتؿ أنبيائو الذيف أرسميـ
إلى الناس ،كنجده ال يثأر لذلؾ كانما يرجئ العقكبة إلى يكـ الديف ( )...كأحيانا ينبع الشر منو مباشرة ،كىذا كاضح في ابتبلئو لمناس
بالمرض ،فيك بذلؾ ييمؾ خمقو الذم خمقو بيديو" 3.كالحؽ أف ىذا النص صادـ جدا لمكعي اإلسبلمي القديـ كالحالي ،عمى أساس أنو
ال ينتمي إلى عمـ الكبلـ إطبلقا ،بؿ ىك نص فمسفي نابع مف مصادر عير اسبلمية .ألنو ال يستشكؿ مسألة التشبيو كالتنزيو مف
زاكية أنطكلكجية أك داللية بقدر ما ينتقد صكرة ا﵀ في القرآف عمى أنيا ال تتطابؽ كمفيكـ األلكىية المثالي .لكف يبدك أف كاتب النص
ال يعمـ بالمفاىيـ اإلسبلمية حكؿ االبتبلء كالحرية كاإلرجاء .بؿ أف ميمة عمماء الكبلـ بالضبط ىك التصدم لمثؿ ىذه النصكص
التي تقدح في القرآف ،كىنا يظير دكر الدفاع عف العقائد اإليمانية باألدلة التفصيمية.
نجد منظكر أكثر اعتداال في الفيـ المعنكم لبعض مصطمحات القرآف التي تكحي بالحسية .مثؿ مسألة الميزاف اإلليي ،فربما أف
العامة مف الناس تفيمو فيما حسيا متجسد في كفتيف كقضيب عمكدم .كىذا ما نجده عند أبك "سممة عثماف بف مقسـ البرم الكندم"
(تكفي 173ىػ) كالذم لـ يكف قدريا فحسب (أم معتزليا) ،بؿ تميز أنو كاف يفسر معنى الميزاف الذم ستكزف بو األعماؿ يكـ
اف﴾ [الرحمف ،]7 ،بأف المقصكد منو العدؿ اإلليي ،ككاف يسخر مف أم ً
ض ىع ا ٍلم ىيز ى
اء ىرفى ىعيىا ىكىك ى
َّم ى
﴿كالس ى
الحساب ،مثؿ قكلو تعالى ى
تفسير حرفي لو .كبقكلو ىذا يككف ابف مس قـ قد اقترب مف االعتزاؿ ،لذلؾ فيك يحسب عمييـ .يبدك أنو كانت لو في سنيف شبابو
عبلقة بكاصؿ بف عطاء ،كيبدك أنو تعمـ عمى يد عمرك بف عبيد قكلو بأف أبا ليب لـ يكف لو ذكر في أكؿ ما انزؿ مف القرآف،
1
أبك حياف التكحيدم :المقابسات ،مرجع سابؽ ،ص .78
2
أبك حياف التكحيدم :المقابسات ،مرجع سابؽ ،ص .80-79
3
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .57
182
فافتراض ىذا الذكر يعني أنو كاف ممعكنا في األزؿ" 1.كىنا نبلحظ تكافؽ نظرية اإلعتزاؿ في حرفية بعض الكممات القرآنية كبيف
مكقفيـ مف مسألة خمؽ القرآف التي ناقشناىا في المحاضرة السابقة .كما يقاؿ عمى الميزاف يقاؿ عمى الجمكس عمى العرش الذم ال
يمكف أف يفيـ فيما حرفيا ،كىنا يتمقى المعتزلة مع المذىب الفقيي عند الشافعي الذم رفض التحدث عف كيفية االستكاء عمى
العرش .بالنسبة لمبعض فإف الجمكس عمى العرش أك حتى االستكاء مسألة استعارية خالصة 2.كحتى رؤية ا﵀ يكـ القيامة ليا مدلكؿ
الرحمة أكثر مما ليا مدلكؿ اإلبصار الحسي ،ككجب تأكيؿ آيات النظر تأكيبل يفيد طمب الرحمة اإلليية" .فاإلنساف ال يستطيع رؤية
ا﵀ ألف ا﵀ ال يتصؼ بأنو شيء ،ككذلؾ بسبب أنو ليس ىناؾ مسافة تفصؿ بينيما ،فاإلنساف ال يستطيع أف يرل إال األشياء التي
يفصؿ بينو كبينيا مسافة معينة .ىذه النقطة تكضح التطابؽ الشديد بيف الجيمية كبيف المعتزلة .ففي حيف أف المعتزلة يركف أف
استحالة رؤية ا﵀ سببيا يرجع إلى أف ا﵀ ال يدرؾ بالحكاس ،فإف الجيمية كانكا أشد تطرفا؛ إذا قالكا بأف أيضا العقؿ يأبى ذلؾ.
3
فمعرفة ا﵀ تتأتى فقط عف طريؽ التخميف".
كالحؽ أف قدرة العقؿ البشرم عمى ادراؾ حقيقة األلكىية قد طرحت في كؿ الثقافات البشرية كفي كؿ العصكر .كىذا سبينك از
(تكفي ) 1677الذم فكر نقديا الديانة الييكدية المعركفة بالتجسيـ ،قد انتيى إلى أف الفيـ الحرفي ال يمكف أف يككف المنيج المبلئـ
(خمؽ اإلنساف عمى صكرة ا﵀) بشكؿ حرفي .إنيا مجرد استعارة .ىؿ
لمقاربة النصكص الدينية .ففبل يمكف أف نفيـ ىذه الكممات ي
تؤمف حقا بأننا نحف البشرػ بعضنا أصـ أك مقكس الظير أك مصاب باإلمساؾ أك مكتئب ،خمقنا عمى صكرة ا﵀ ( )...الجشعيف
كالقتمة ىؿ خمقكا ىـ أيضا عمى صكرة ا﵀ ؟" 4إف النقص الفطرم في البشر ال يمكف أف ينحدر مف أصكؿ إليية أك ينتسب إلييا.
كفي ىذا نقد قكم لمعقيدة الييكدية المجسمة.
لقد انتيى التنزيو اإلعتزالي إلى ضرب مف المكاقؼ المتطرفة ،كىذا ما نجده مثبل عند "ىشاـ بف عمرك الفكطي (مف معتزلي
البصرة تنسب إليو فرقة اليشامية كىي مخالفة لفرقة اليشامية الشيعية) [كالذم]منع كصؼ ا﵀ تعالى حتى ببعض األلفاظ المكجكدة
في القرآف كالحديث" 5.كىذا يكشؼ االحتكاـ الكمي لمعقؿ ،كاعتقادىـ بأف السمع يجب أف يتقيد بمنطؽ العقؿ البشرم ،أم جكاز نفي
أصكؿ قرآنية أك حديثية إف كانت ال تتكافؽ مع منطؽ العمـ السميـ .كعمى ىذا المنطؽ بالذات ثار األشعرية .إذ أف التصكير التنزييي
المطمؽ لمذات اإلليية ،عمى حسب ما تصكرتو كاستيدفتو المعتزلة ،يظير بأنو أمر بعيد كمحاؿ ،كىذا يعكد إلى ارتباط الفيـ البشرم
1
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .119 -118
2
المرجع نفسو ،ص ص .285-158-149
3
المرجع نفسو ،ص .744-743أيضا :يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،مرجع سابؽ ،ص ص -46
.53-47
4
إرفيف .د .يالكـ :مشكمة سبينك از (ركاية) ،ترجمة خالد الجبيمي ،منشكرات الجمؿ ،بيركت -بغداد ،الطبعة األكلى ،2019 ،ص
.103
5
ىارم .أ .كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .215
183
بالمحسكس ميما كاف تخيميا كصكريا 1.فبل يمكف لمغة دينية مكجية لمعامة مف الناس أف تككف ببل خبرة حسية كمستقمة بالمطمؽ عف
التجارب المكجكدة كالمعيكش اليكمي لئلنساف .لذا قاؿ كانط ممخصا التجربة الدينية في ادراؾ المقدس المتعالي" :إف التشبيو der
anthropomorphismالذم ال يكاد البشر يتفادكنو في نطاؽ التمثؿ النظرم ﵀ كلماىيتو ،كالذم ىك عمى كؿ حاؿ غير مضر إلى
حد ما ،ىك مع ذلؾ ،بالنظر إلى عبلقتنا العممية بإرادتو كبالنسبة إلى خمقيتنا Moralitätذاتيا ،أمر خطير كأشد ما يككف؛ كذلؾ
أننا عندئذ نصنع ألنفسنا إليا" 2.إف التجسيـ يشتت الذات اإلليية كفؽ اختبلؼ البشر البلمتناىي.
بالمعطمة نظير نفييا الصفات عمى ا﵀ ،ككأنيـ يصكرف ا﵀ عدما عمى حد قكؿ ذلؾ األعرابي الذم استمع
كصفت المعتزلة ي
لممناظرة حكؿ الصفات .كبالنسبة البف خمدكف فإنيـ مبتدعة بالمعنى السمبي ) (hyrsieأم ىرطقة كاختيار سيئ .حيث قاؿ" :كألؼ
المتكممكف في التنزيو حدثت بدعة المعتزلة في تعميـ ىذا التنزيو في آم السمكب فقضكا بنفي صفات المعاني مف العمـ كالقدرة
كاإلرادة كالحياة زائدة عمى أحكاميا لما يمزـ عمى ذلؾ مف تعدد القديـ بزعميـ" 3،كىذا الحكـ مبرر عمى اعتبار ميكلو األشعرية
المنزىة حد النفي المطمؽ ،يتقدـ األشعرم بكصفو معتدؿ
المشبية حد التجسيـ المعيب أك ي
كالغزالية الظاىرة .كفي مقابؿ تطرؼ الفرؽ ي
كمتكسط" :كقاـ بذلؾ الشيخ أبك الحسف األشعرم إماـ المتكمميف فتكسط بيف الطرؽ كنفي التشبيو ،كأثبت الصفات المعنكية كقصر
التنزيو عمى ما قصره عميو السمؼ" 4.ىنا يتجسد طريؽ األشعرية باعتباره عكد كليس ابتداع .كعندما يتحدث ابف خمدكف عمى الحنابمة
كاألشاعرة ،الذيف استعممكا عبارة "جسـ ال كاألجساـ" في كصؼ ا﵀ تعالى ،فإنو ال يعتبرىـ مبتدعة بالمعنى السمبي الذم يككف
5
مصيره النار ،إنما بمدلكؿ ابتداع شيء جديد مف أجؿ احداث تكازف.
يقكؿ األشعرم في معرض رده عمى مسألة العبلقة الشبيية بيف الخالؽ كالمخمكؽ :فإف قاؿ :لما زعمتـ أف البارم سبحانو ال
يشبو المخمكقات ؟ قيؿ لو :ألنو لك أشبييا لكاف حكمو في الحدث حكميا ( )...كيستحيؿ أف يككف المحدث لـ يزؿ قديما .كقد قاؿ
ىح هد﴾[اإلخبلص 6.]4،فيذه اآليات كفيمة بتأكيد تفرد ا﵀ بالمقابمة مع ً ًً
]﴿كلى ٍـ ىي يك ٍف لىوي يكفي نكا أ ى
ا﵀ تعالى ﴿لىٍي ىس ىكمثٍمو ىش ٍي هء﴾[الشكرل 11 ،ى
بقية مخمكقاتو ،فميس ىناؾ مشابية كال مساكاة بينو كبينيـ .ككفؽ ىذه اآليات ،اتفؽ أغمبية المفسريف عمى أف ا﵀ ال يشبو أم مف
1
نصر حامد أبك زيد :االتجاه العقمي في التفسير -دراسة في قضية المجاز في القرآف عند المعتزلة ،مرجع سابؽ ،ص .159
2
كانط :الديف في حدكد مجرد العقؿ ،ترجمة فتحي المسكيني ،جداكؿ لمنشر كالتكزيع ،بيركت ،الطبعة األكلى ،2012 ،فقرة -VI
،168ص .167
3
عبد الرحمف بف خمدكف :المقدمة ،مرجع سابؽ ،ص .429
4
المرجع نفسو ،ص .430-429
5
ىارم .أ .كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .53
6
أبي الحسف األشعرم :كتاب الممع في الرد عمى أىؿ الزيغ كالبدع ،مطبعة مصر ،القاىرة ،1955 ،ص .20-19
184
المكجكدات ،كبالتالي فإف اعماؿ المخيمة لتصكر ا﵀ يؤكؿ إلى الفشؿ 1،نظ ار ألف مخيمتنا مؤسسة عمى صكر الكجكد ال غير ،فبل
يمكف تخيؿ إال ما ىك مكجكد مؤسس عمى خبرة ما.
كعف سؤاؿ الجسمية يقكؿ :فإف قاؿ قائؿ :لـ أنكرتـ أف يككف ا﵀ جسما ؟ قيؿ لو :أنكرنا ذلؾ ألنو ال يخمك أف يككف القائؿ
لذلؾ أراد ما أنكرتـ أف يككف طكيبل عريضا مجتمعا ،أك أف يككف أراد تسميتو جسما كاف لـ يكف طكيبل عريضا مجتمعا عميقا .فإذا
كاف أراد ما أنكرتـ أف يككف طكيبل عريضا مجتمعا كما يقاؿ ذلؾ لؤلجساـ فيما يمينا فيذا ال يجكز ،ألف المجتمع ال يككف شيئا
كاحدا؛ ألف أقؿ قميؿ االجتماع ال يككف إال مف شيئيف؛ ألف الشيء الكاحد ال يككف لنفسو مجماعا .كقد بينا آنفا أف ا﵀ عز كجؿ
شيء كاحد .فبطؿ ذلؾ أف يككف مجتمعا .كاف أراد لـ ال تسمكنو جسما كاف لـ يكف طكيبل عريضا مجتمعا ؟ فاألسماء ليست إلينا،
كال يجكز أف نسمي ا﵀ تعالى باسـ لـ يسـ بو نفسو ،كال سماه بو رسكلو ،كال أجمع المسممكف عميو كال عمى معناه" 2.ىذه ىي
استراتيجية األشاعرة في كصؼ ا﵀ ،أم التقيد بما كصؼ ا﵀ ذاتو المتعالية ،كمف بعد ذلؾ التقيد بممفكظات السنة النبكية عمكما
كاألحاديث خصكصا ،كبعد ذلؾ أىؿ السنة كالجماعة مما اتفؽ عميو المسممكف .كقد ذكر األشعرم ،في المقاالت ،بأف أبك اليذيؿ
العبلؼ شيخ المعتزلة المشيكر ،قد حكى عمى ىشاـ بف الحكـ صاحب فرقة اليشامية مف الركافض ،كىك كما أظيرنا مف المجسمة
الغميظة ،أنو قاؿ ا﵀ جسـ ال كاألجساـ ،كمعنى ذلؾ أنو شيء مكجكد 3.كقد اشتغؿ الغزالي ،في المسألة التاسعة مف التيافت ،عمى
اثبات عجز الفبلسفة كالمتكمميف المتفمسفة عف إقامة الدليؿ عمى أف األكؿ ،أم ا﵀ سبحانو كتعالى ،ليس بجسـ 4.كبما أنو "ال يكجد
في القرآف لفظ يفيد كصؼ ا﵀ بأنو "ال جسـ"؛ كانما يكصؼ بأنو مكجكد ال يشبو أيا مف خمقو ،كىذا ىك المعنى األكؿ لمتنزيو ،أم
تنزيو ا﵀ عف أم شبو بالمخمكقات" 5،فإف ىذا االستعماؿ ال يحرج أىؿ السنة كالجماعة .كبالتالي فإف رفض التشبيو الكمي بيف ا﵀
كالمكجكدات ،كاف مكجكدا حتى قبؿ المعتزلة كقبؿ األشاعرة .كالقكؿ أف ا﵀ شيء ال كاألشياء ،أك جسـ ال كاألجساـ ،قكؿ مكجو
إلثبات كجكده كليس مف أجؿ حمؿ ىيئة ما عميو 6.أك تجسيمو مثؿ بقية األجساـ الحسية .فالتشبيو ،كفؽ عقيدة اإلماـ أحمد بف
حنبؿ ،ىك كفر بالقرآف ،عمى أساس أنو قاؿ ليس كمثمو شيء .لذا فبل يجب أخذ بعض القرآف كاغفاؿ البعض اآلخر .فبل يمكف
نكراف االستكاء ،ل كف ال يجب البت في كيفيتو ألف القرآف لـ يفعؿ .كمف العمكـ بأف األشعرية تميؿ إلى الحنبمية المتكممة أكثر مف أم
7
فرقة كبلمية أخرل.
1
الزمخشرم :الكشاؼ عف حقائؽ التنزيؿ كعيكف األقاكيؿ في كجكه التأكيؿ ،الجزء الرابع ،مكتبة مصر ،القاىرة ، ،الطبعة الػأكلى،
،2010ص.190
2
أبي الحسف األشعرم :كتاب الممع في الرد عمى أىؿ الزيغ كالبدع ،مرجع سابؽ ،ص .24-23
3
أبي الحسف األشعرم :مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف ،الجزاء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .165
4
أبك حامد الغزالي :تيافت الفبلسفة ،مرجع سابؽ ،ص ص .142-139
5
ىارم .أ .كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .55
6
جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،ترجمة سالمة صالح ،الجزء األكؿ ،منشكرات الجمؿ،
بغداد – بيركت ،الطبعة األكلى ،2008 ،ص .508
7
أبي حامد بف مرزكؽ :براءة األشعرييف مف عقائد المخالفيف ،الجزء األكؿ ،مطبعة العمـ ،دمشؽ ،1967 ،ص .12
185
ميزة الفيـ األشعرم لمذات كالصفات ،أنيا جامعة تأخذ بكؿ القرآف كليس ببعضو مثمما يفعؿ الباقي مف الفرؽ .فيك ال ينكر
الجسمية مثمما ال يقع فييا كقكعا فجا .فإزاء قكلو تعالى ﴿لً ىما ىخمى ٍق ي
ت بًىي ىدمَّ﴾ [ص ]75 ،ال يمكف لنا بالمطمؽ التأكيؿ كفؽ مدلكؿ
إثبات النعمة أك القدرة ،كلك أف ىذا صحيح ،إال أنو ال يمكف انكار جرياف المفظ عمى ظاىرة .لكف ىؿ ىذا يدؿ أيضا عمى مدلكؿ
اليديف ىك المدلكؿ الحسي المرتبط بالجكارح ،ألف ىذا تجسيـ كتشبيو صريح يتنافى مع نصكص معمكمة كمحكمة .لذا فإف المكقؼ
السميـ ىك اثبات اليديف لكف ليس كبقية األيدم .أم أف ﵀ يداف ببل كيؼ 1.كىذا ما يمكف أف يفيـ في عبارة "جسـ ال كاألجساـ".
ككؿ مف أنكر الصفات ،عمى طريقة الجيمية ،فقد كقع في تقميد النصارل .فالقرآف أثبت السمع كالعمـ كالكجو كاليديف كالعيف كمف ثمة
2
كبالتالي ،فإف مسألة رؤية ا﵀ يكـ القيامة ،معمكمة بصكرة بدييية في نسؽ كمنيج األشاعرة .يقكؿ في كتاب الممع: الرؤية...الخ.
"إف قاؿ قائؿ :لـ قمتـ إف رؤية ا﵀ تعالى باألبصار جائزة مف باب القياس ؟ (أم أف األدلة النقمية عف الرؤية ال تناقش مطمقا عند
األشعرم) قيؿ لو :قمنا ذلؾ ألف ما ال يجكز أف يكصؼ بو البارم تعالى كيستحيؿ عميو فإنما ال يجكز ألف في تجكيزه إلثبات حدثو،
أك اثبات حدث معنى فيو ،أك تشبييو ،أك تجنيسو ،أك قمبو عف حقيقتو ،أك تجكيزه ،أك تظميمو ،أك تكذيبو .كليس في جكاز الرؤية
3
إثبات حدث ،ألف المرئي لـ يكف مرئيا ألنو محدث ،كلك كاف مرئيا لذلؾ لمزميـ أف يرل كؿ محدث ،كذلؾ باطؿ عنده".
خالصة.
نحف ازاء جدؿ حقيقي كخطير حكؿ حقيقة ا﵀ ،ىك جدؿ فمسفي كاف معركفا في سياقات قديمة ،لكف خصكصية عمـ الكبلـ
اإلسبلمي أنو امتمؾ كثيقة أصمية كىي القرآف تخبرنا عف صفات إليية محددة .لذا فإف كؿ نقاش كبلمي ال يجب أف يخرج عف القرآف
الكريـ كنص تأسيسي كقاعدم ال يمكف الجدؿ بمعزؿ عنو .في حيف أف الفبلسفة كاألدباء ،مثمما نجده عند التكحيدم مثبل ،مف
منطمؽ فكرم خمص ،قد تناقشكا عف السبب الذم أكجب أف نسمي ا﵀ بالحكيـ كال نسميو بالعاقؿ ،عمى الرغـ مف أف مدلكؿ الكممتيف
/حكـ) 4.السبب ىك أف القرآف سمح باستعماؿ صفة الحكمة دكف صفة العقؿ.
(عقؿ ى
كاحد مف الناحية المغكية كىك التقييد ى
لمعقؿ حدكد ال يمكف تجاكزىا ،كبحسب كانط فإف كؿ ما ال يتزمف كال يتحيز ،ال يمكف أف يككف مكضكع لمعرفة ميما كانت.
ألف عقمنا ع اجز عف استيعاب المطمؽ مف الزماف كالمكاف .لكف في حالة عمـ الكبلـ ،فإف المنطمؽ ىك القرآف الكريـ .كالذم بدكره
يطرح مشكبلت نظرية ىي التي أذكت النقاش حكؿ حقيقة الصفات كالذات اإلليية .عمى اعتبار بنية القرآف مف نصكص محكمة
كنصكص متشابية .ككؿ المكاقؼ المؤسسة لتصكر ا﵀ قد انطمؽ مف ىذا الجزء أك ذاؾ مف القرآف .لكف المكقؼ األكثر نضجا ىك
الذم يمتمس "ركح القرآف" متجنبا الحرفية التي قد تكقع في نظرة حسية ال يقبميا مؤمف عاقؿ ،كمتجنبا التصرؼ العقمي في آم القرآف
دكف اعتبار لمظاىر حيث تخبرنا النصكص عف صفات معمكمة كمتخيمة .يبدك أف مكقؼ األشعرية أكثر تريثا لذا اعتبرناىا مكقفا
1
أحمد محمكد صبحي :في عمـ الكبلـ -دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف ،الجزء الثاني :األشاعرة ،دار النيضة
العربية ،بيركت ،الطبعة الخامسة ،1985 ،ص .66-65
2
أبي الحسف األشعرم :اإلبانة عف أصكؿ الديانة ،الجزء ،1تحقيؽ فكقية حسيف محمكد ،دار االنصار ،القاىرة ،الطبعة األكلى،
،1977ص .122-121
3
أبي الحسف األشعرم :كتاب الممع في الرد عمى أىؿ الزيغ كالبدع ،مرجع سابؽ ،ص .61
4
أبك حياف التكحيدم :المقابسات ،مرجع سابؽ ،ص .263
186
معتدال ،ليس ألنو مكقؼ السنة كالجماعة فحسب ،بؿ ألنو تعامؿ مع المكضكع بضرب مف المسؤكلية العممية العالية ،ألنو لـ يض ًح
بالنصكص الصريحة التي تثبت السمع كالبصر كالرؤية كاالستكاء كالنزكؿ...الخ كما أنو لـ يض ًح بالعاقمية التي تنفر مف المشابية
كالمطابقة بيف الصفات اإلليية كالصفات البشرية .لذا فإف القكؿ أف ﵀ جسـ ال كاألجساـ ىك استجابة متكسطة لشرط النص كلشرط
العقؿ .لكف ىؿ استجابة ناجحة عمى جميع األصعدة ؟ نحف نشؾ في ذلؾ ،عمى اعتبار أف القكؿ بأف "﵀ يد ال كاأليدم" ليس حبل
بقدر ما ىك بداية لمشكمة جديدة كحادة :ما طبيعة اليد اإلليية ؟ يطرح ىذا السؤاؿ عمى أساس أف األشعرية لـ تستطع التضحية كمية
بحرفية النصكص الدينية .السؤاؿ الضركرم بعد قاعدتيـ :ما طبيعة ىذا الجسـ الذم ليس كالجسـ ؟ الجكاب الضركرم ىك أنو ليس
جسما ألننا عاجزكف ،في ظؿ خبرتنا المعطاة ،تصكر جسـ ليس كاألجساـ .لذا فإف نياية تصكر األشعرية ىك اعتناؽ ال أدرية
بخصكص الجسمية .كبالفعؿ ،فإننا نجد بعض األشاعرة يعمنكف صراحة استحالة ادراؾ حقيقة الذات اإلليية ألنيا مخالفة جذريا
لخبرتنا البشرية .فيذا الغزالي ،الذم سقؼ عقيدة األشاعرة مف كؿ الجكانب يقكؿ" :ال يعرؼ ا﵀ إال ا﵀" 1.كلئف معارفنا محدكدة
كمشركطة ،كلئف ا﵀ مطمؽ ال ييحد كال يرتبط بأم حد ،فإف الذات اإلليية محجكبة عنيا بصكرة كاممة ،كىذا الحجب ال يعكد إلى
قصكر تاريخي في عقمنا ،بؿ إلى طبيعة الذات اإلليية كطبيعة العقؿ البشرم معا .فنحف مثبل عندما نقكؿ "ا﵀ أكبر" فإننا في
المستكل الداللي ،نعتبره كذلؾ بالنسبة ألشياء كبيرة عندنا 2،لذا فيك أكبر منيا بكثير .كنفس المكقؼ استظيره أبف قيـ الجكزم ،في
كتاب تمبيس ابميس ،عندما قاؿ أف ماىية ا﵀ ال يعرفيا إال ا﵀ 3،عمى أساس أف بنية عقؿ اإلنساف ال تعقؿ إال المحدد كالمكجكد في
أطر زمانية مكانية.
ممارسة التأكيؿ في فيـ آيات القرآف التي تتحدث عف الذات كالصفات اإلليية ليس نافمة تفسيرية ،بؿ ىك خطكة منيجية ال
يمكف االشتغاؿ بدكنيا .كقد رأينا كيؼ حد ابف رشد التأكيؿ ،مف أجؿ تحصيؿ فيـ مؤسس عمى عادة لساف العرب .كالقرآف في نزكلو
لـ ييمؿ ىذه الخاصية مف أجؿ حصكؿ تمقى ناجح كمثمر .كبالنسبة لمغزالي ،فإف التأكيؿ حتمية منيجية 4،باعتباره بياف لممعنى بعد
1
الغزالي :المضنكف بو عمى غير أىمو ،ضمف مجمكعة رسائؿ اإلماـ الغزالي ،تنقيح كتصحيح ابراىيـ أميف محمد ،المكتبة التكفيقية،
القاىرة ،د س ،ص .362
2
الغزالي :مشكاة األنكار ،ضمف مجمكعة رسائؿ اإلماـ الغزالي ،تنقيح كتصحيح ابراىيـ أميف محمد ،المكتبة التكفيقية ،القاىرة ،د
س ،ص .294
3
ابف الجكزم البغدادم :تمبيس ابميس ،دار الفكر لمطباعة كالنشر كالتكزيع ،بيركت ،الطبعة األكلى .2001 ،كجكزيؼ فاف أس :عمـ
الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .512
4
الغزالي :قانكف التأكيؿ ،ضمف مجمكعة رسائؿ اإلماـ الغزالي ،تنقيح كتصحيح ابراىيـ أميف محمد ،المكتبة التكفيقية ،القاىرة ،د س،
ص .627
187
ازالة الظاىر 1.كىذا القكؿ مكجو أساسا ضد اليشامية كبعض فرؽ الرافضة التي تأخذ النص عمى ظاىرة .كحتى الحنابمة كقعكا في
2
حرفية مقمقة ،حسب ابف رشد ،فيما يتعمؽ بآية االستكاء كحديث النزكؿ (قكؿ الرسكؿ الكريـ :ينزؿ ربنا كؿ ليمة الى سماء الدنيا)،
ككاف مكقؼ األشاعرة أكثر معقكلية ألنيـ مارسكا التأكيؿ لتفادم التجسيـ الذم يذكرنا بالعقبلنية الكثنية ،فالنزكؿ ال يدؿ إال عمى
القرب ،كليس فعؿ النزكؿ كالحركة كالتنقؿ ككؿ ما يستمزمو مف جسمية كتحيزية.
يمكف أف نحدد استراتيجية األشعرية أنيا الىكت سالب في النياية ،مكجو لمخركج مف اعتقاد عبادة معبكد محدد ،ألف القكؿ بأف
ا﵀ مكجكد ال كالمكجكدات ىك ما ينقذنا ،نحف المسممكف ،مف االعتقاد الخاطئ بمحدكدية ا﵀ ،كىك غير المحدكد فعبل .كحتى عقيدة
محدكدية األسماء الحسني قابمة لممراجعة ،عمى أساس أنيا ال تسجـ مع عظمة ا﵀ الذم ال يمكف أف يتحدد في خصاؿ بعينيا أك
أسماء معدكدة 3.كىنا تتجمي مفارقة العقؿ الديني الذم يحدد البل محدد كباعترافو ببل محدكديتو يككف قد حدده مف جية أخرل .في
ىذا الشأف يقكؿ الفكر الحداثي داريكش شايغاف Daryush Shayeganفي كتابو الذم عرؼ انتشا ار معتب ار بعنكافQu'est -ça :
" :qu'une révolution religieuseمف دكف النفي كاف يمكف أف يعبد ا﵀ عمى أنو المخمكؽ كالمتناىي ،ال عمى أنو البلمتناىي.
كمف خبلؿ ىذا النفي نشؾ في معارفنا عف الكجكد ،المتأتية مف كاقع األشياء المتناىية .كيمحي عند ىذا المستكل الثالكث أيضا ،فبل
مكاف في عمـ البلىكت السالب ألب كاالبف كالركح القدس ،كال كجكد إال لبلمتناىي اإلليي نفسو .كىكذا ،يبدك ا﵀ ،ال شيء ،عدما
( )...ىك ليس كائنا كال ليس كائنا ،كليس كائنا ال كائنا في الكقت نفسو( .نيكقبلكس الككزم كاإلكبانيشاد :المقدس ال يتجمى إال عبر
4
المفارقات)".
كقد أشار ابف خمدكف ،بأف القكؿ "بأف ا﵀ جسـ ال كاألجساـ" ليست مف كضع األشاعرة ،بؿ كانت معركفة قبؿ المعتزلة بزمف.
كىذا داللة عمى انتقاؿ األفكار الفمسفية القديمة لتشكؿ مكاقؼ كبلمية .فقد قاؿ األكلكف بأف "صكت ا﵀ ال كاألصكات" ،كجية ال
كالجيات ك نزؿ ال كالنزكؿ 5.كلئف كاف المستشرقكف مثؿ كلفسكف يرجعيا إلى عقائد بعض آباء الكنيسة مثؿ تركتكلياف
220/165( Terttullianـ) ،فإف ابف خمدكف يرجعيا إلى أىؿ السمؼ كالجماعة اإلسبلمية األكلى .كىذه العبارات دالة عمى مأزؽ
اإلنساف ازاء المقدس ،ألنو يستمد كمية مداركو مف التجربة الطبيعية ،في حيف أف كينكنة المقدس شيء مخالؼ كمية لما نتصكر
كندرؾ .كبالتالي فإف جدؿ حقيقة الذات اإلليية ،كعمى الرغـ مف أننا نمتكؾ نص محدد كىك القرآف الكريـ ،إال أنو جدؿ يدؿ عمى
1
الغزالي :إلجاـ العكاـ عف عمـ الكبلـ ،ضمف مجمكعة رسائؿ اإلماـ الغزالي ،تنقيح كتصحيح ابراىيـ أميف محمد ،المكتبة التكفيقية،
القاىرة ،د س ،ص .326
2
ابف رشد :فصؿ المقاؿ كتقرير ما بيف الشريعة كالحكمة مف اتصاؿ ،مرجع سابؽ ،ص .36-35
3
طه عبد الرحمن :دٌن الحٌاء – من الفقه اإلئتماري إلى الفقه اإلئتمانً ،الجزء األول :أصول النظري اإلئتمانً ،المؤسسة العربٌة
للفكر واإلبداع ،بٌروت ،الطبعة األولى ،2117 ،ص .61-59
4
داريكش شايغاف :ما الثكرة الدينية ؟ الحضارات التقميدية في مكاجية الحداثة ،مرجع سابؽ ،ص .62
5
اإلسبلـ ،المجمد األكؿ، عبد الرحمف بف خمدكف :المقدمة ،مرجع سابؽ ،ص .429أيضا :ىارم .أ .كلفسكف :فمسفة المتكمميف في
مرجع سابؽ ،ص .54
188
" عجز االنساف عف االعراب عف المغاير مطمقا :إف الكبلـ يضطر إلى استخداـ حدكد مستمدة مف التجربة الطبيعية لئلنساف عندما
1
كاألكيد أف كينكنة ا﵀ الحقيقة تتجاكز كؿ تجربة بشرية .ىذا ،كقد أدرؾ العقؿ يكد اإليحاء بكؿ ما يجاكز ىذه التجربة بالذات".
الفمسفي اإلسبلمي ىذا المأزؽ المعرفي ،عندما عبر الفارابي في (آراء أىؿ المدينة الفاضمة ،ص )55قائبل :األسماء التي ينبغي أف
يسمى بيا األكؿ ىي األسماء التي تدؿ في المكجكدات التي لدينا ثـ في أفضميا عندنا ( )...مف غير أف يدؿ شيء مف تمؾ األسماء
عمى الكماؿ كالفضيمة التي جرت العادة أف تدؿ عمييا تمؾ األسماء في المكجكدات التي لدينا .كقاؿ في (كتاب السياسة المدنية
2
الممقب بمبادئ المكجكدات ،ص :)47ال نسبة إلدراكنا نحف الى ادراكو ،كال لمعمكماتنا الى معمكمو".
القصكر عف ادرؾ حقيقة الذات اإلليية ليس خصيصة اسبلمية ،بؿ طبيعة أنثربكلكجية بعامة .كما كرد في القرآف مف مشكبلت
متعمقة بحقيقة الذات كما ييحمؿ عمييا مف صفات ،ىي مشكبلت داللية باألساس ،ألف الكممة الكاحدة تحمؿ مف المعاني الحسية
كالمعنكية ما يجعميا مدار تأكيؿ .يقكؿ "كلياـ جيمس" الذم درس المشكمة الدينية مف كجية نفسية" :إف معرفة الفاني لغير المحدكد ال
بد أف تبقى قاصرة" 3.كىذا ما عبر عنو الغزالي كابف الجكزم ...الخ مف مفكرم اإلسبلـ .أما المنظكر الكبلمي فقد انطمؽ كانتيى إلى
حتمية معرفة ا﵀ بما أخبرنا بو في القرآف الكريـ .لذا فتفكر صفاتو كذاتو ال يتـ بمعزؿ عف كبلـ ا﵀ ذاتو.
1
مرسيا إلياد :المقدس كالعادم ،ترجمة عادؿ العكا ،دار التنكير لمطباعة كالنشر كالتكزيع ،بيركت ،الطبعة األكلى ،2009 ،ص
2
عمي أكمميؿ :أفكار مياجرة ،مركز دراسات الكحدة العربية ،بيركت ،الطبعة األكلى ،2013 ،ص .172
3
كلياـ جيمس :العقؿ كالديف (الجزء الثاني مف ارادة االعتقاد) ،ترجمة الدكتكر محمكد حب ا﵀ ،دار احياء الكتب العربية ،القاىرة،
،1949ص .164
189
المحاضرة العاشرة :مشكمة أفعال االنسان.
مقدمة.
يقاؿ عف حؽ بأف مكضكع الحرية ىك قفؿ الميتافيزيقا الذم عبله الصدأ مف كؿ جانب .كىك قكؿ يفيد قدـ ىذه المشكمة أكال
كارتباطيا بمكضكع الما كراء ثانيا ،كبصكرة خاصة مكضكع التنافس بيف القدرة البشرية كالقدرة اإلليية .كفي السياقات اإلغريقية ،اعتقد
أفبلطكف أف ىناؾ غمكض ما في مسألة مف يحدد حياة اإلنساف عمى الحقيقية ،ىؿ ىي دكاليب القضاء كالقدر التي تدكر ببل تكقؼ
كببل كقكؼ في حركة أزلية قاىرة ؟ أـ أف لخيارات اإلنساف أثر ما في تحديد الكضعيات التي يعيشيا ؟ كلـ تختؼ ىذه المشكمة في
السياقات الدينية المسيحية أك اإلسبلمية .حيث كاصؿ الفكر الديني مناقشة المسألة مف خبلؿ ربطيا بالنصكص المقدسة التي قدمت
نظرة كمية لمكجكد مؤسسة عمى تبعية األرضي لمسماكم ،كالبشرم لئلليي ،لكف ىؿ فعبل تـ اغفاؿ قدرة اإلنساف بصكرة كاممة في
األزمنة الكسيطية ؟ بالنسبة لمفكر العمماني كالعقبلني ،كالذم ثار عمى البنى التقميدية التي شكميا الفكر الديني السابؽ عميو ،فإف
خاصية أم ديانة ىي التخفيؼ مف فعالية اإلنساف في رسـ صكرة الكجكد .لكف ال يجب اإلسترساؿ في ىذه النظرة ،عمى أساس أننا
نعثر عمى نزعة إنسانية أصيمة ،تمركز قدرة اإلنساف كال تضعيا في مكاجية القدرة اإلليية .كىذه النزعة اإلنسية نجدىا في الفكر
المسيحي مثمما نجدىا في الفكر اإلسبلمي أيضا .تبناىا أدباء فبلسفة كعمماء كبلـ عقبلنييف .لكف ال يجب ،مف زاكية مختمفة ،التنكر
لممكاقؼ الكبلمية التي لـ تكف في صؼ قدرة اإلنساف في صنع أفعالو بمفرده ،إذ نجد مكاقؼ تسحب منو ىذه اإلمكانية تماما مما
يسمى بالمجبرة المطمقة ،كما نجد فرؽ مشيكرة ككاسعة االنتشار تحؿ المشكمة حبل كسطيا مف خبلؿ منح ما لئلنساف مف قدرة دكف
التنازؿ عف المسممة الدينية األساسية القائمة بسمطة القرار اإلليي المطمؽ عمى الكجكد بما في ذلؾ الطبيعة كاإلنساف معا .لذا ،فإف
العصكر الكسطي ،سكاء كانت مسيحية أك إسبلمية ،قد أنتجت كؿ النظريات التي فكرت مشكمة أفعاؿ اإلنساف في كجكد ذك طبيعة
إليية أصيمة .كتبني أغمبية الناس لمنظرية التي تسمـ كؿ شيء ﵀ ،ال يدؿ عمى شذكذ النظرية التي تقكؿ بالحرية كالقدرة اإلنسانية.
مما سبؽ ،ترتسـ الصكرة بكضكح بحيث يمكف أف نرل المشيد الكبلمي بكضكح تاـ؛ إذ أف ىناؾ مف يقؼ في صؼ ا﵀ كىناؾ
مف يقؼ في صؼ اإلنساف كىناؾ مف يقؼ في الكسط بحيث يثبت حرية لئلنساف في نفس المحظة التي يجعمكف القرار األكؿ
كاألخير ﵀ دكف سكاه .كنحف بدكرنا نستشكؿ ىذا المشيد عمى النحك التالي :كيؼ تشكمت ىذه المكاقؼ في التفاصيؿ ؟ ما ىك
مصدر مشكمة الحرية اإلنسانية؛ ىؿ المصدر كاف محميا مف خبلؿ ما تكافر لممسمميف مف نصكص دينية (قرآف كريـ كسنة نبكية
مشرفة) أـ أف ىناؾ تأثير لمعكامؿ الخارجية الناجمة عف االحتكاؾ بالفكر المسيحي في دمشؽ خاصة كبعد حركة الترجمة التي
فتحت كتب الحكمة الغربية (اإلغريقية) عمى العالـ اإلسبلمي ؟ كىنا نبلحظ أف العامؿ الخارجي ،عمى افتراض تأثيره في مشكمة
الحرية في الكبلـ اإلسبلمي ،يضـ التراثيف الفمسفي (اإلغريقي) كالديني (المسيحي) ،بؿ ىناؾ مف يفترض التأثر بالييكدية .ثـ أف
ىن اؾ مسألة أخرل ،كلك أننا ذكرناىا في محاضرات سابقة ،إال أننا لـ نفحصيا بالعمؽ المطمكب ،كىك السؤاؿ عف عبلقة مشكمة
الخبلقة ،أك قؿ الكضعية السياسية ،عمى تشكيؿ المكاقؼ الكبلمية مف مسألة حرية اإلنساف .كلئف كاف مسار الخبلفة قد تحكؿ
الممؾ مبرر جدا ،أما غير المبرر في منطقنا ىك
بسرعة عمى يد األمكييف إلى يممؾ عضكض ،فإف تطابؽ عقيدة الجبر مع سمطة ي
ظركؼ انتشار عقائد كبلمية تثبت قدرة اإلنساف الكمية في ظؿ أنظمة حكـ ممكية أيضا .ألف انتشار األطركحة اإلعتزالية حكؿ حرية
191
اإلرادة ال تنسجـ كمية مع حكـ األسرة العباسية التي لـ تختمؼ عف األسرة األمكية في مسألة التكريث .ربما أف الفرضية القكية التي
يمكف أف تفسر ىذا االنشقاؽ بيف النظر الفكرم كالكاقع السياسي ىي القائمة بأف الطرح كاف عقائديا خالصا ال يدخؿ في الحسباف
الحرية بمعناه السياسي .أم أف دفاع المعتزلة عف قدرة اإلنساف كاف في مقابمتيا بالعدالة اإلليية كليس بالسمطة السياسية المرتبطة
بمؤسسة الخبلفة .كما يمكف لنا اقتراح فرضية ثانية كىي االنفصاؿ بيف الدكلة كاالجتيادات الفكرية في العالـ اإلسبلمي ،بحيث ال
تتدخؿ السمطة في تكجو مسار الفكر إطبلقا .كمف المعركؼ أف الدكتكر "كائؿ حبلؽ" مف المدافعيف بقكة عمى ىذه األطركحة عندما
اعتبر الدكلة اإلسبلمية نمط حكـ مختمؼ كمية عف نمط حكـ الدكلة الحديثة بحيث ال تساىـ في تنميط الفرد كال تكجيو الفكر الكجية
المطمكبة 1.كقد كانت ىذه النظرة معركفة جيدا أيضا عند "عبد ا﵀ العركم" الذم قاؿ في مفيكـ الحرية أف "الدكلة اإلسبلمية ،عكس
طكؼ مف كؿ الجكانب حياة الفرد اإلسبلمي ،كعند
الدكلة الميبرالية الحديثة ،لـ تتغمغؿ في جميع مككنات المجتمع اإلسبلمي كلـ تي ٌ
تحقؽ ىذه الشركط يصبح استنتاج المستشرقيف تافيا سطحيا (بخصكص عدـ حرية الفرد)" 2.لكف ،عمى افتراض أننا سممنا بصدؽ
ىذا التفسير ،فإننا ال يمكف أف نعممو عمى كؿ الفترات السياسية في التاريخ اإلسبلمي بخاصة إذا عرفنا أف الخبلفة االمكية قد
دعمت بعض النظريات الكبلمية التي تقكؿ بالجبر الميتافزيقي الكمي مف أجؿ تكجيو الناس عف مسائمة الحكاـ في تصرفاتيـ .كىذا
المثاؿ كفيؿ بإبطاؿ صحة نظرية كائؿ حبلؽ الصحة الكمية المطمكبة.
يبدك أف منشأة مشكمة الحرية اإلنسانية لـ ينفصؿ عف بنية القرآف الذم يثبت كينفي نفس المسألة .ففي حيف نجد آيات عديدة
الر ٍج ىس ىعمىى ىف تي ٍؤ ًم ىف إً َّال بًًإ ٍذ ًف المَّ ًو ىكىي ٍج ىع يؿ ّْ اف لًىن ٍف و
س أٍ ﴿ك ىما ىك ى
تجعؿ كؿ شيء في الككف مرتبط بقضاء ا﵀ كمشيئتو مثؿ قكلو تعالى :ى
ئلس ىبلًـ كم ٍف ي ًرٍد أ ٍ ً َّ ً الًَّذيف ىال يعًقميكف﴾ [يكنس . ]100،كقكلو أيضا ﴿فىم ٍف ي ًرًد المَّو أ ٍ ً
ضيّْقنا ص ٍد ىرهي ى
ىف ييضموي ىي ٍج ىع ٍؿ ى ص ٍد ىرهي ل ٍ ً ٍ ى ى ي ىف ىييدىيوي ىي ٍش ىرٍح ى ي ى ي ى ىٍ ى
﴿ختى ىـ المَّوي ىعمىى يقميكبً ًي ٍـ
كف﴾ [األنعاـ .]125 ،كقكلو كذلؾ :ى يف ىال يي ٍؤ ًمين ى
ًَّ
الر ٍج ىس ىعمىى الذ ىؾ ىي ٍج ىع يؿ المَّوي ّْ
اء ىك ىذلً ى
السم ً حرجا ىكأَّىنما يصَّع ي ً
َّد في َّ ى ى ى ىى ن
َّ كعمىى سم ًع ًيـ كعمىى أ ٍىبص ًارًىـ ًغ ىشاكةه كلىيـ ع ىذ ه ً
﴿كلى ٍف يي ىؤ ّْخ ىر الموي
يـ﴾ [البقرة ]7 ،كحتى أعمار البشر مرتبطة بأجؿ يحدده ا﵀ :ى اب ىعظ ه ى ى يٍ ى ى ٍ ىٍ ٍ ى ى ىى
ىن ٍفسا إً ىذا جاء أىجمييا كالمَّو ىخبًير بًما تىعمميكف﴾ [المنافقكف .]11 ،كآية التكبة األكثر شيرة بيف الناس كالتي تقكؿ﴿ :قي ٍؿ لى ٍف ي ً
ص ىيبىنا إً َّال ي ى ى ى ى ى ي ه ى ٍى ى ن
1
كائؿ حبلؽ :قصكر االستشراؽ -منيج في نقد العمـ الحديث ،ترجمة عمرك عثماف ،الشبكة العربية لؤلبحاث كالنشر ،بيركت،
الطبعة األكلى ،2019 ،ص .186-185يقكؿ :قدمت في الدكلة المستحيمة طرحا مفاده أف الشرؽ -كالسيما الجزء اإلسبلمي منو-
لـ يعرؼ أم شيء يشبو الدكلة الحديثة .أقكؿ ىنا بصكرة أكثر دقة إف العالـ اإلسبلمي قد طكر شكبل مف الحكـ لـ يعرؼ مفيكـ
السيادة السياسية الحداثي قبؿ المكاجية مع الككلكنيالية األكربية الحديثة .فالسياسة لـ تكف ىي حافز التنظيـ السياسي كالترتيبات
الدستكرية ،إذ أنيا -كما الدكلة -لـ تكجد بالمعنى المعيارم الذم نعرفو بيا اليكـ ،بؿ كانت شريعة اإلسبلـ -تمؾ الظاىرة الزمانية
المكانية -ىي التي حددت معنى السيادة ( )...لقد كاف القانكف األخبلقي الذم ىك ظاىرة عقائدية كقانكنية اجتماعية ممتدة زمانيا
كمكانيا -خارج سيطرة السياسة ( )...لقد كاف تحقؽ ىذا الكضع ممكنا ألف الشريعة (القانكف) كانت نتاج عمؿ مجمكعة مف الفقياء
الذيف خرجكا مف المجتمع نفسو كالتحقكا بدراسة الشريعة بناء عمى استعدادىـ العممي كتقكاىـ .بيد أنو لـ يستطع أم فقيو -كال حتى
يدعي احتكار الشريعة.
أحد مؤسسي المذاىب الفقيية – أف ٌ
2
عبد ا﵀ العركم :مفيكـ الحرية ،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء ،الطبعة الخامسة ،1993 ،ص .24
191
َّ ً َّ
كف﴾ [ .]51قمنا ففي حيف يثبت ا﵀ سيطرتو كتخطيطو الكامؿ لمككف في ب الموي لىىنا يى ىك ىم ٍكىالىنا ىك ىعمىى المو ىف ٍمىيتى ىك َّك ًؿ ا ٍل يم ٍؤ ًمين ى
ىما ىكتى ى
اء ىف ٍميي ٍؤ ًم ٍف ىك ىم ٍف تفاصيمو ،نجد آيات أخرل تثبت خيرات اإلنساف في كؿ ما يتعمؽ بدينو كأفعالو كق ارراتو﴿ .كقي ًؿ ا ٍلح ُّ ً
ؽ م ٍف ىرّْب يك ٍـ فى ىم ٍف ىش ى ى ى
اىتى ىدل﴾ [طو﴿]82 ،إً َّف ىى ًذ ًه تى ٍذ ًكرةه فىم ٍف ىشاء اتَّ ىخ ىذ إًلىى رب ً صالً نحا ثيَّـ ٍ ً ً
ّْو ى ى ى ى ىم ىف ىك ىعم ىؿ ى
اب ىكآ ى ]﴿كًاّْني لى ىغفَّ هار ل ىم ٍف تى ى
اء ىف ٍمىي ٍكفي ٍر﴾ [الكيؼ 29 ،ى ىش ى
ىسبً ن
يبل﴾ [اإلنساف .]29 ،كىناؾ آيات ،بحسب مبلحظة كلفسكف 1،تقر بأف حرية اإلنساف أسبؽ مف اليداية كالختـ اإلليي عمى القمكب
يـ﴾ [النحؿ ]104 ،فعدـ اإليماف ات المَّ ًو ىال يي ًدي ًيـ المَّو كلىيـ ع ىذ ه ً كالسمع كاألبصار .مثؿ قكلو تعالى﴿ :إً َّف الًَّذيف ىال يؤ ًمينكف بًآىي ً
اب أىل ه ى ٍ ي ي ى يٍ ى ى يٍ ى ى
ض ًرب مثى نبل ما بعكضةن فىما فىكقىيا فىأ َّ ًَّ
يفىما الذ ى ىف ىي ٍ ى ى ى ى ي ى ى ٍ ى ىنا قرار شخصي كليس مرتبط بقدر إليي .كذلؾ قكلو تعالى﴿ :إً َّف المَّوى ىال ىي ٍستى ٍحيًي أ ٍ
ض ُّؿ بً ًو ًإ َّال ير كما ي ً ض ُّؿ بً ًو ىكثً ا ً ً ً
ير ىكىي ٍيدم بًو ىكث نا ى ى ي ن
ىما الًَّذيف ىكفىركا فىيقيكليكف ما ىذا أىر ىاد المَّو بًي ىذا مثى نبل ي ً
ي ى ى ي ى ي ى ى ى ى ؽ ًم ٍف ىرّْب ًي ٍـ ىكأ َّ
كف أَّىنوي ا ٍل ىح ُّ
ىمينكا فىىي ٍعمى يم ى
آى
اى ٍـ ىكيب ىر ىم ٍقتنا ًع ٍن ىد المَّ ًو ىك ًع ٍن ىد ات المَّ ًو بً ىغ ٍي ًر يس ٍمطى و
اف أىتى ي اسًقيف﴾ [البقرة .]26 ،أك قكلو في سكرة غافر﴿ :35 ،الًَّذيف يج ًادليكف ًفي آىي ً
ى ى يى ى
ً
ا ٍلفى ى
َّار﴾ .كفي النياية ،نبلحظ أف تأخر قرار ا﵀ عمى حرية اإلنساف ،يندرج في سياؽ طىبعي المَّوي ىعمىى يك ّْؿ ىق ٍم ًب يمتى ىكب و
ّْر ىجب و ؾ ىي ٍ ىمينكا ىك ىذلً ى
يف آ ى
ًَّ
الذ ى
اثبات استقبلؿ اإلنساف كقدرتو عمى خمؽ أفعالو كتكجيو ارادتو .لذا فحرية اإلنساف في القرآف مثبتة مف جيتيف ىما حرية اإلنساف
بالمطمؽ ،كتأسيس القرار اإلليي عمى ىذه الحرية .كفي النياية ،ككما الحظ ابف رشد ،فإف نصكص السمع ليست مكحدة في ىذه
المسألة ،بؿ متعارضة سكاء في القرآف أك الحديث 2.كما العديد مف المسائؿ األخرل مثؿ التشبيو كالتنزيو .كاختبلؼ القرآف في ذلؾ،
ذريعة الختبلؼ العقكؿ ذاتيا ،لذا فتعدد آراء المتكمميف في المسألة ىك امتداد الختبلؼ آم القرآف فييا ،كال يمكف اعتباره في أم حاؿ
مذمة أك سقط ببل طائؿ.
كيؼ يتصرؼ اإلنساف أماـ تعدد النصكص القرآنية في تحديد حرية اإلنساف مف عدميا ؟ لنا عمى األقؿ ثبلثة مكاقؼ محددة:
آيات الجبر المطمؽ ،آيات االختيار المطمؽ ،آيات القرار اإلليي بعد االختيار البشرم كىي مصنفة ضمف آيات الحرية .ثـ عمى أم
أساس تتخذ الفرؽ الكبلمية لنفسيا مكقفا ذك مرجعية قرآنية ،عمى الرغـ مف أف كؿ المكاقؼ ليا نفس المرجعية ؟ يبدك أف الحقيقية ال
تخرج عف تحديد عمي (ض) الذم قاؿ بأف القرآف حماؿ أكجو ،بحيث نحف مف يتكمـ بو ،أم أف الميكؿ البشرية ىي مف تستثمر
القرآف لتقكية خياراتيا المحددة مسبقا .كليس القرآف ىك الذم يحدد ىذه الخيارات في األصؿ .ألنو لك كاف ىك مف يحددىا التفقت كؿ
ات يى َّف أ ُّيـ
ات يم ٍح ىك ىم ه اب ًم ٍنوي آىىي ه (ىك الًَّذم أ ٍىن ىز ىؿ عمىٍي ى ً
ؾ ا ٍلكتى ى ى الفرؽ عمى مكقؼ كاحد مف فعؿ اإلنساف" .في اآلية 7مف آؿ عمراف ي ى
َّ ًً ً ً ً ً ً ىما الًَّذ ً ا ٍل ًكتى ً
اء تىأ ًٍكيمو ىك ىما ىي ٍعمى يـ تىأ ًٍكيمىوي إً َّال الموي
اء ا ٍلفتٍىنة ىك ٍابت ىغ ى
كف ىما تى ىش ىابوى م ٍنوي ٍابت ىغ ى يف في قيميكبً ًي ٍـ ىزٍيغه فىىيتَّبً يع ى ى يخ ير يمتى ىشابًيى ه
ات فىأ َّ اب ىكأ ى
اب) .مسألة التفرقة بيف المحكمات كالمتشابيات ،لـ يكف كف آىمَّنا بً ًو يك ّّؿ ًم ٍف ًع ٍن ًد ربىّْنا كما ىي َّذ َّكر إً َّال أيكليك ٍاألىٍلىب ً اس يخ ً ً ً الر ً
ي ى ىى كف في ا ٍلع ٍمـ ىيقيكلي ى ى ى ىك َّ
األصـ يؤمف بكجكد األسرار :كاف يؤمف بأف حتى تمؾ المكاضع متعددة المعاني في "الكحي" يمكف في نياية األمر تكضيحيا عقميا،
فاألمر يحتاج فقط إلى المزيد مف التمعف .المتشابو يشتمؿ عمى أقكاؿ خاصة بأمكر المستقبؿ :يكـ القيامة ،كيكـ الحساب ،إلى جانب
العبارات غير الكاضحة تركيبيا؛ مثؿ المنسكخات كالمنسيات .ذلؾ ألف ىذه العبارات ستجعؿ الكثنييف -بحد أدنى -أكلئؾ الذيف ليس
1
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد الثاني ،ترجمة مصطفى لبيب عبد الغاني ،المركز القكمي لمترجمة،
القاىرة ،الطبعة الثانية ،2009 ،ص .764-763
2
ابف رشد :مناىج األدلة في عقائد الممة ،تحقيؽ محمكد قاسـ ،مكتبة االنجمك المصرية ،القاىرة ،1964 ،ص .223
192
ليـ كتاب سماكم ،مثمما كرد في القرآف ،يزيغكف عف الحقيقة" 1.إف كجو الخبلؼ بيف الفرؽ الكبلمية مرتبط بعدـ االتفاؽ عمى ما ىك
النص المحكـ كما ىك النص المتشابو .كمف ىنا اختمؼ استراتيجية التأكيؿ كمف ثمة البنية النيائية لممكاقؼ مف مشكمة القضاء
كالقدر.
في مشكمة التنزيو ،أشرنا إلى أف ىناؾ فرؽ كبلمية استشكمت الصفات عمى أساس أنو مف المتعذر نسبة صفة إنسانية إلى ا﵀
أك العكس .مما يعني أف اثبات قدرة ا﵀ ،كىذه مسألة مثبتة كال خبلؼ حكليا ،يستمزـ نفي القدرة عمى اإلنساف .كقد تحدث القرآف
الكريـ أكثر مف مرة عمى صفة القدرة اإلليية التي تييمف عمى الكؿ .كنقصد ىنا الكؿ؛ ما تعمؽ بالطبيعة إذ كرد في اآلية الثانية مف
يت ىك يى ىك ىعمىى يك ّْؿ ىش ٍي وء قىًد هير﴾ كىذا ما يثبت نفكذ قدره ا﵀ في قكانيف الطبيعة مما
ض يي ٍحيًي ىكيي ًم ي ؾ الس ً
ات ك ٍاأل ٍىر ً
َّم ىاك ى
سكرة الحديد ﴿لىوي يم ٍم ي ى
ناقشو عمماء الكبلـ في باب المعجزات كسير الطبيعة في نظاـ معيكد .كبما أف قدرة ا﵀ غير متناىية كال محدكدة ،فإنيا ال تتحكـ في
ّْح بً ىح ٍم ًد ًه ىكلى ًك ٍف ىال و ً ً
ض ىك ىم ٍف في ًي َّف ىكًا ٍف م ٍف ىش ٍيء إً َّال يي ىسب ي
ات الس ٍَّبعي ىك ٍاأل ٍىر ي
َّم ىك ي
ّْح لىوي الس ى
الطبيعة الجامدة فحسب كالتي بدكرىا تسبح لو ﴿تي ىسب ي
ً
كرا﴾ [اإلسرار ،]44 ،بؿ تتحكـ أيضا في أفعاؿ كأقدار العباد .إذ نجد العديد مف اآليات التي تربط يما ىغفي ن يحيي ٍـ إًَّنوي ىك ى
اف ىحم ن كف تى ٍسبً ى
تى ٍفقىيي ى
مصير اإلنساف بالخيارات اإلليية كق ارراتو النيائية.
بحسب كلفسكف ،فإف "أكلى المحاكالت لصياغة نظرية عف الفعؿ اإلنساني عمى تمؾ اآليات التي تؤكد سبؽ التقدير اإلليي.
كليذه النظرية مصادر ثبلث ترجع إلى منتصؼ ؽ ( 8أم الثالث لميجرة):
مجمكعة مف األحاديث النبكية التي نقميا بعض األفراد عف محمد (ص)(.قاؿ الرسكؿ :احتج آدـ كمكسى فقاؿ مكسى
يآدـ أنت أبكنا خيبتنا كأخرجتنا مف الجنة فقاؿ لو آدـ أنت مكسى اصطفاؾ ا﵀ بكبلمو كخط لؾ بيده ،أتمكمني عمى
أمر قدره ا﵀ عمى قبؿ أف يخمقني بأربعيف سنة)" 2.كىذا الحديث الذم ركاه األشعرم أيضا يدؿ عمى أف كؿ شيء
قدر ،كحتى المعصية كالنزكؿ مف الجنة .كىما أساس التاريخ البشرم البلحؽ.
"عبارة لػ جيـ بف صفكاف ،كالذم قتؿ سنة 128ق ،عف نظرية سبؽ التقدير اإلليي .يقكؿ الجيـ :ال يكجد فرؽ بيف ما
يحدث لمناس كبيف أفعاؿ الناس .ككميا مخمكقة ﵀ خمقا مباش ار في اإلنساف كما يخمقيا في سائر الجمادات كما يقاؿ
أثمرت الشجرة كجرل الماء كتحرؾ الحجر كطمعت الشمس ( )...كذلؾ الثكاب كالعقاب جبر ( )...التكميؼ أيضا
1
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،ترجمة
محي الديف جماؿ بدر كرضا حامد قطب ،مراجعة محسف الدمرداش ،منشكرات الجمؿ ،بيركت – بغداد ،الطبعة األكلى،2016 ،
ص .602-601
2ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد الثاني ،مرجع سابؽ ،ص ص .767 -765
193
جبر" 1.كليس الجيـ فقط مف قاؿ بسطكة القدرة اإلليية ،بؿ نجد بعض الفرؽ الشيعية ،مثؿ الزيدية ،تقكؿ أف "أفعاؿ
2
العباد مخمكقة ﵀ ،خمقيا كأبدعيا كاخترعيا بعد أف لـ تكف ،فيي محدثة لو مخترعة".
"مناضرة متخيمة لػ يحي الدمشقي بيف مسيحي كمسمـ .يسأؿ المسمـ المسيحي :ىؿ أنت تتمتع بإرادة حرة كىؿ أنت
قادر عمى فعؿ ما تشاء ؟ يجيب المسيحي :إف ا﵀ قد صكره جعؿ لو إرادة حرة ،كتمؾ اإلرادة الحرة التي يشكؿ بيا
تجعمو قاد ار عمى فعؿ الخير أك الشر كأنو مستحؽ بسبب حرية إرادتو لمثكاب عمى فعمو لمخير لمعقاب عمى فعمو لمشر
كأف اإلنساف يككف بارتكابو الشر كاقعا تحت تأثير الشيطاف ( )...لكف المسمـ يزعـ أنو "في فعمو لمخير كالشر إنما
يصدر عف مشيئة ا﵀ .أم أف أفعالو قدرة ﵀ سمفا .كفي نفس المناظرة يقكؿ المسيحي أنو بعد أياـ الخمؽ الستة قاـ ا﵀
بكؿ العمميات الطبيعية مف خبلؿ عمؿ كسيطة ،كاإلنساف ،بما ىك أحد ىذه العمؿ الكسيطة ،يفعؿ ما يفعمو بإرادة حرة.
كيقكؿ المسمـ ،عمى العكس مف ىذا ،أنو حتى بعد أياـ الخمؽ الستة يخمؽ ا﵀ كؿ ما يحدث في الطبيعة خمقا مباشرا،
حتى أف كؿ فعؿ إنساني ،ينسبو المسيحي إلى اإلنساف نفسو باعتباره فاعبل مختارا ،ينسبو المسمـ إلى ا﵀" 3.لكف،
كبما أف راكم المناظرة مسيحي ،فإنو قد عمؿ عمى كصؼ كؿ المسمميف بأنيـ تحت عقيدة الجبر ،كنحف نعمـ ،أف
المعتزلة كحتى بعض الفرؽ األخرل مثؿ الزيدية تقكؿ أف أفعاؿ اإلنساف "غير مخمكقة ﵀ ،كال محدثة لو كال مخترعة،
4
كانما ىي كسب لمعباد أحدثكىا كاخترعكىا أبدعكىا كفعمكىا".
نحف نرل أف مثار المشكمة ال ينفصؿ عف مكضكع الصفات ،فمف المعمكـ أف اإلرادة صفة مف صفات ا﵀ .بحيث أنيا ال
5
تنفصؿ عف ذاتو كعممو .كلك أف ىناؾ مف يعتبرىا صفات لمفعؿ ،إال أف اإلرادة شرط لمفعؿ ذاتو ،مما يجعميا صفة ذات أكلية.
فخمؽ العالـ كاف نتيجة إل رادة الخمؽ ،كىذا ال ينفصؿ عف القدرة ،بؿ أف الخمؽ مظي ار مف مظاىرة القدرة اإلليية .كمف أسماء ا﵀
الحسنى نجد القادر .كمسألة القدرة اإلليية بدييية في السياقات اإلسبلمية ،فبل أحد يمكف أف يراجع القكؿ فييا .كأكلية القدرة ىي التي
جعمت الغالبية مف المسمميف األكائ ؿ يقركف بأف كؿ شيء في الكجكد مخمكؽ بقدرتو كمسير بإرادتو .كىذا ىك التفسير الذم يقدمو
كلفسكف لما يعتقده سببا لمصكرة التي نجدىا في حكارية يحي الدمشقي 6.كقد الحظ العديد مف المستشرقيف ،أك غير المسمميف
بالعمكـ ،بأف ىناؾ تكجو عاـ لدل الجميكر اإلسبلمي نحك تسبيؽ قدرة ا﵀ عمى حرية اإلنساف أك قؿ طغياف عقيدة القضاء كالقدر
باعتبارىا سمب لحرية ككرامة اإلنساف 7.كحاكؿ كؿ كاحد منيـ تفسير ىذه الظاىرة ،في مقابؿ ظاىرة ميؿ الكعي المسيحي العاـ إلى
اثبات حرية اإلنساف .فبالنسبة لشراينر (حكالي )1900فإف مرد ذلؾ انتشار عقيدة الجبر في عرب الجاىمية مما استمزـ تكاصؿ نفس
1
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد الثاني ،مرجع سابؽ ،ص ص .768 -765أيضا :عضد ا﵀
كالديف القاضي عبد الرحمف بف أحمد اإليجي :المكاقؼ في عمـ الكبلـ ،عالـ الكتب ،بيركت ،ص .428
2
أبي الحسف األشعرم :مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف ،الجزء األكؿ ،المكتبة الصرية ،بيركت ،2009 ،ص .74
3
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد الثاني ،مرجع سابؽ ،ص ص .766 -765
4
أبي الحسف األشعرم :مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .74
5
سعيد عبد المطيؼ فكدة :بحكث في عمـ الكبلـ ،دار الرازم لمطباعة كالنشر ،عماف ،الطبعة األكلى ،2004 ،ص .113
6
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد الثاني ،مرجع سابؽ ،ص ص .772
7
جماؿ الديف األفغاني :القضاء كالقدر كأصكؿ العقائد اإلسبلمية كأميات المسائؿ التكحيدية ،المطبعة المحمكدية التجارية ،القاىرة ،د
س ،ص .6
194
العقيدة بعد الرسالة المحمدية ،كبالنسبة لمكنتيغمرم كاط ،فإف السبب يعكد إلى سيطرة ركح الحديث النبكم الذم يعتبر القضاء كالقدرة
اإلليييف أعمى مف أم عاقمية بشرية .أما ابف ميمكف فإنو يعتقد بأف "النظر العقمي البسيط كالحماس الزائد لتصكر القدرة اإلليية
المطمقة ىك سبب نشأة مذىب القدر في اإلسبلـ" 1.كيتحدث كلفسكف عف ظاىرة منتشرة كىي ميؿ المسمميف لتفضيؿ آيات الجبر
عمى آيات الحرية ،كتفسيره الذم ال يمكف قبكلو ببداىة ىك ارجاعو لممماثمة مع آيات التنزيو كآيات التجسيـ ،إذ أف الغالبية مف
ا لمسمميف يميؿ إلى آيات التنزيو عمى أساس أف ا﵀ ليس كمثمو شيء بنفس درجة ميميـ إلى آيات القدرة اإلليية المطمقة عمى أفعاؿ
العباد .لكف غاب عميو أف األقمية التي تثبت الحرية في العالـ اإلسبلمي ،كىي فرقة االعتزاؿ ،كانت ميالة إلى التنزيو أكثر مف عامة
المسمميف .ثـ أف المسمميف األكائؿ لـ يأخذكا عقيدة القدر مأخذا سطحيا أك حماسيا كما اعتقد البعض ،بؿ ميزكا بيف ما يمكف أف
يككف كذلؾ كما يمكف أف يككف فعبل انسانيا خالصا .كقد ركم "أف رجبل قاؿ إلبف عمر (ض) :ظير في زماننا رجاؿ يزنكف
كيسرفكف كيشربكف الخمر كيقتمكف النفس التي حرـ ا﵀ ثـ يحتجكف عمينا يقكلكف كاف ذلؾ في عمـ ا﵀ .فغضب ابف عمر كقاؿ:
سبحاف ا﵀ ،كاف ذلؾ في عمـ ا﵀ كلـ يكف عممو ليحمميـ عمى المعاصي" 2.بؿ قد ركم عف عمر ذاتو (ض) أنو نير شباب مف
المسجد يتعممكف بقضاء ا﵀ كقدره دكف أف يبذلكا أم جيد في طمب الرزؽ كاالجتياد في تحصيؿ المكاسب الدنيكية.
لربما أف مكقؼ األشعرم مف سطكة عقيدة الجبر عند المسمميف ،ليك المكقؼ الذم يمكف بحثو .إذ يرجع الظاىرة إلى التأثر
بالفرس .كمعمكـ أف ىذه الحضارة كانت قائمة عمى الجبرية الخالصة ،سكاء في المجاؿ الديني أك المجاؿ السياسي ،كفي النياية ىما
مجاالف مكحداف فالممؾ إلو كاإللو ممؾ .كىنا يظير أثر العامؿ السياسي في تقكية عقيدة الجبر .فكمما كاف النظاـ كراثيا استبداديا تـ
تعزيز عقائد الجبر مف أجؿ ترضية النفكس بكاقعيا المكجكد .كنفس الكضعية نجدىا في السياقات اإلسبلمية ،إذ أف استبلـ األمكييف
لمخبلفة كتحكلو إلى سمطاف عضكض ،جعميـ يبحثكف عف تبرير ليذا المآؿ ،كلعؿ أحسف ما كجدكه ىك استغبلؿ المصادر القرآنية
التي تقكؿ بالقدر مف أجؿ تعميب العقكؿ التي قد تفكر في الثكرة أك التمرد .كبالفعؿ ،فإف المسألة بالنسبة لمجابرم محسكمة عمى
أساس أف نشر عقيدة الجبر كاف مف طرؼ األمكييف 3.لكنو لـ يفسر عبلقة فكرة التنكير المعتزلية ،حسب عبارتو ،باالستبداد العباسي
العباسي الذم لـ يختمؼ عف االستبداد األمكم .افترضنا في المقدمة أف كبلـ االعتزاؿ عف الحرية لـ يكف سياسي إطبلقا ،بؿ مجرد
كبلـ ميتافيزيقي الىكتي ال عبلقة لو باألكضاع االجتماعية مثؿ الطبقية أك العبكدية أك المشاركة السياسية .ىذا المكضكع بالنسبة
لممعتزلة مف "المستحيؿ التفكير" فيو حسب عبارة أرككف ،ألنيا لـ تكف مطركحة إطبلقا في تمؾ العصكر .فالحرية السياسية لـ تكف
مف مكاضيع التفكير ،إذ لـ يتـ مثبل التفكير في إزالة نظاـ العبكدية ازالة نيائية .لكننا اليكـ يمكف أف نبلحظ ،مثؿ الجابرم ،كجكد
خيط رابط بيف تشكيؿ عقبلنية الطاعة التي تتجو نحك ا﵀ كنحك الحاكـ معا .لذا نجده يتحدث عف أخبلؽ الطاعة ذات المصدر
1
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد الثاني ،مرجع سابؽ ،ص.773
2
عرفاف عبد الحميد :دراسات في الفرؽ كالعقائد اإلسبلمية ،مطبعة اإلرشاد ،بغداد ،1967 ،ص .250-249
3
محمد عابد الجابرم :العقؿ األخبلقي العربي – دراسة تحميمية نقدية في نظـ القيـ في الثقافة العربية ،مركز دراسات الكحدة العربية،
العربية ،بيركت ،الطبعة األكلى ،2001 ،ص .69
195
الفارسي 1.لكف حتى الديف اإلسبلمي ،بؿ أم ديف ،قائـ عمى عقبلنية الطاعة .كىذا ىيكمي في أم تديف إنساني ،ألف سيككلكجية
الطاعة ىي التي تضمف العبادات.
إف جبرية الجيـ بف صفكاف ليست متعمقة فقط باألفعاؿ ،بؿ حتى اإليماف عنده ،ليس مرتبط بأفعاؿ العباد إنما ىك مف خمؽ ا﵀
أيضا" .ف ميس ىناؾ دليؿ كاحد عمى أف الجيـ بف صفكاف كاف يكلي الشريعة مكانة كبيرة ،فقد كانت صكرة ا﵀ تشكؿ مركز الفكر
عنده ،فالمرء ال يصبح مؤمنا عندما يتعرؼ عمى الشريعة ،فاإليماف يخمقو ا﵀ في اإلنساف .ىذا ىك أيضا سبب في عدـ ككف العمـ
با﵀ مف الفطرة ( )...ا﵀ كحده ىك الذم يقدر كؿ األحداث .كعمى الرغـ مف أف ا﵀ قد يكىـ اإلنساف بأنو يقكـ بفعؿ ىذه األشياء
بنفسو؛ إال أف ذلؾ ما ىك إال عبارة عف أف ا﵀ ينشئ نكع مف اإلرادة في قمب اإلنساف ،بمعنى أنو يمنحو قدرة لحظية عمى الفعؿ ،ثـ
يشعر بعد ذلؾ بنكع مف الرضا .غير أف ىذا ال يعدك أف يككف فعؿ بالمعنى المجازم ،ففي حقيقة األمر يتساكل فعؿ اإلنساف ىنا مع
ما ي قع لو مف نمك في الجسـ كاكتساب لمكف البشرة ،كىي األمكر التي ليس لو دخؿ فييا .كالمبس الذم يحدث في األمر سببو المغة،
فنحف نقكؿ مثبل "غربت الشمس" ،مع أف ا﵀ ىك في الحقيقة الذم جعميا تغرب" 2.كىذا ينتج جبرية ككنية ال مفر منيا عمى أساس
أف اإلنساف في أفعالو ال يخ تمؼ عف ظكاىر الطبيعة الخارجية كالداخمية .كقد نتج عف مثؿ ىذه االعتقادات ضرب مف المكاقؼ
االنفعالية التي تنكر أم نزكع إيجابي أك يمبادءة لمنشاط أك الفعؿ .كبرزت عقيدة التكاكؿ التي اختمطت بمكاقؼ تصكفية ظاىرة .كلعؿ
مكاقؼ لغزالي ،كعمى الرغـ مف أنو ليس إال أشعريا معتدال ،تصب في اتجاه فمسفة التكاكؿ المطمقة .حيث اعتبر أف الخركج لطمب
الكسب أدنى درجات أخبلؽ التكاكؿ الفاضمة 3.كتذكر سيرة "ألبك عمي شقيؽ البمخي الذم تكفي في إحدل الغزكات سنة 194ىػ في
الترؾ .حيث التزاـ لباس الصكؼ أزرؽ المكف .يتكمـ شقيؽ عف المنازؿ التي يمكف لممؤمف أف يترقب مف خبلليا ا﵀ ( )...يرد الزىد
في سياؽ ىذا الكبلـ في آخر األمكر ،حيث يتككف مف خبلؿ أدكات التجكيع المنتظـ ،كيرتبط أيضا بالخكؼ مف ا﵀ كمف النار ()...
كفي النياية يبمغ المؤمف مرحمة نشكة القمب التي تنشأ عف سبلـ ا﵀ كرحمتو ( )...يذكر أنو استنتج مف اآلية 159مف آؿ عمراف
"إف ا﵀ يحب المتككميف" أف مف ال يتككؿ عمى ا﵀ فيك خارج عف حظيرة اإليماف .استنبط شقيؽ ىذا القكؿ مف فيمو الجديد لمتكحيد؛
حيث أصبح عنده معنى قكؿ "ال إلو إال ا﵀" أنو ال ضار كال نافع إال ا﵀ .ثـ كاف الرزؽ ىك أكؿ أمر تطبؽ عميو ىذه النتيجة،
فالرزؽ مقدر ،ا﵀ متكفؿ بو .لـ يتحدث أحد قبؿ ذلؾ عف مثؿ ىذا الترابط الكثيؽ بيف التككؿ كالرزؽ .لذلؾ يحكى عف شقيؽ أنو كاف
يناـ في أحمؾ أكقات المعارؾ ،ذلؾ ألف مف يتككؿ عمى ا﵀ فبل يبالي باألخطار( .ربما ىذه الحكاية مجرد أسطكرة) ( )...اعتبر أف
كؿ عمؿ دنيكم بمثابة الذنب ،فالقياـ بمثؿ ىذه األعماؿ (التجارة ،الحرؼ اليدكية) يدؿ عمى عدـ اليقيف في كفاية ا﵀ لمرزؽ ()...
1
المرجع نفسو ،ص .133-132
2
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .737-736
3
زكي مبارؾ :األخبلؽ عند الغزالي ،دار الشعب لمصحافة كالطباعة كالنشر ،القاىرة ،دس ،ص .186
196
كبلميتو كانت بمثابة تبرير لرىبانية التسكؿ" 1.كيمكف أف نبلحظ أف الجبرية المطمقة تختمط مع فمسفة التصكؼ السمبية بصكرة كبيرة.
فكؿ متصكؼ جبرم ككؿ جبرم متككؿ.
حقيقة ،يمكف أف نبلحظ ميؿ عامة المسمميف لتأكيد أف كؿ ما يحث لنا مف تقدير إليي ،كأف معظـ األمكر التي تحدث لنا مقدرة
سمفا .كقد انتشرت نكتة تقكؿ "بأف سبلـ بف سميماف الطكيؿ القارم (تكفي 171ىػ) كاف يطؿ مف إحدل المنارات ليشاىد أحد خدمو
يزني بأمة لو ،كأنو عفا عف ىذا العبد عندما أقر بأف الزنى مقدكر منذ األزؿ" 2.كىكذا ،فإف عقيدة الجبر تسقط عمى اإلنساف أم
مسؤكلية أخبلقية أك دينية .كما نجد ركاية أخرل مدكنة حكؿ عبلقة اإلرادة اإلليية بالفعؿ اإلنساني عمى الشكؿ التالي" :يذكر أف
شعيب الج برم كاف مدينا بماؿ لميمكف ،كعندما طالبو ميمكف بو ،رد عميو قائبل إنو سكؼ يرده لو "إف شاء ا﵀" .اعتبر ميمكف أف
ىذا نكع مف المماطمة ،فنبيو إلى أف ا﵀ ال يريد إال ما أمر بو ،كعميو يفيـ أف عمى شعيب أف يسدد دينو؛ إذ أف ا﵀ أمر بتسديد
الديف .كنظ ار ألف االثنيف لـ يتكصبل إلى حؿ ،دعيا ابف عجرد ليككف حكما بينيما( .لكنو كاف في السجف) .القصة كقعت حكالي
120ىػ ..رد ابف عجرد في رسالة" :إنا نقكؿ ما شاء ا﵀ كاف ،كما لـ يشأ لـ يكف ،كال نمحؽ با﵀ سكءا" .عمى ذلؾ فإف كبل
3
المتخاصميف رأم تأيدا لو في الرسالة".
ينتيي ال مكقؼ الجبرم إلى نكع مف التسكية بيف لحظات الزماف بحيث ال يتـ التفرقة بيف الحاضر كالمستقبؿ ،بالنظر إلى أف كؿ
شيء معمكـ في العقؿ اإلليي .كيخمص كلياـ جيمس مفيكـ الجبر في محاضرة ألقاىا عمى طمبة كمية ىارفارد الدينية قائبل" :ما الذم
يعنيو الجبر ؟ إنو يعترؼ بأف ىذه األجزاء مف الككف التي كجدت بالفعؿ تقرر تقري ار مطمقا الكيفية التي ستككف عمييا األجزاء األخرل
كتعينيا ،كبأنو ال تكجد في جكؼ المستقبؿ احتماالت غامضة مبيمة ،كبأف ما نسميو الحاضر ال ينسجـ إال مع كؿ كاحد فحسب،
ككؿ مستقبؿ خبلؼ ذلؾ الذم قرر مف األزؿ فيك محاؿ" 4.كالظاىر أف ىذا الفيـ عاـ عمى كؿ الفكر الديني دكف تخصيص .كعقيدة
بعض المسمميف في الجبر ال تخرج عف التحديد السابؽ.
مف المعمكـ ،أف االعتزاؿ ىك مف تبنى نظرية القدرة اإلنسانية المطمقة ،لحد أنيا سميت بفرقة القدرية التي تثبت قدرة اإلنساف.
لكف مف الممكف أف نمحظ بعض الفرؽ األخرل مف الشيعة مف تبنى نظرية حرية اإلنساف في جك القضاء اإلليي المطمؽ .فالزيدية،
1
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .810-808
2
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .563
3
المرجع نفسو ،ص .860-859
4
كلياـ جيمس :العقؿ كالديف (الجزء الثاني مف ارادة االعتقاد) ،ترجمة الدكتكر محمكد حب ا﵀ ،دار احياء الكتب العربية ،القاىرة،
،1949ص .115
197
عمى حد مبلحظة األشعرم ،قد تفرعت منيا فرقة تؤكد حرية االختيار كقدرة اإلنساف 1.كبالنسبة إلى "النظاـ" فإف البارم تعالى غير
مكصكؼ باإلرادة عمى كجو الحقيقة ،كىنا نبلحظ حديث عمى منكاؿ حديث الجبرية القائؿ بأف اإلنساف ال يفعؿ عمى كجية الحقيقة.
كنفي اإلرادة كالرغبة عف ا﵀ نابع مف أف كؿ ارادة متأتية مف النقص كطمب الحاجة ،كا﵀ يتعالى عف ذلؾ .كاف كرد الشرع ذلؾ أم
حقيقة اإلرادة اإلليية ،فالمراد بككنو تعالى مريدا ألفعالو أنو خالقيا كمنشئيا ،كاف كصؼ بككنو مريدا ألفعاؿ العباد فالمراد بذلؾ أنو
2
أمر بيا ،كاف كاف كصؼ ككنو مريدا في األزؿ فالمراد بذلؾ أنو عالـ فقط.
كقد الحظ ىارم كلفسكف بأف نظرية الحرية اإلنسانية كانت معركفة في السياقات المسيحية ،كىذا ما يمكف لنا كشفو مف خبلؿ
المحاكرة المتخيمة بيف يكحنا الدمشقي كمحاكره المسمـ .كلك أننا نبلحظ بكضكح تحيز يكحنا إلى كصـ المسمميف بعقيدة الجبرية
كالمسيحييف بتبني عقيدة الحرية ،إال أننا نبلحظ البكادر األكلى لفكرة المعتزلة التي تربط الحرية اإلنسانية كالعدؿ اإلليي .إذ نجد
"حجج المسيحي عمى الحرية (حسب محاكرة يكحنا الدمشقي )John of Damascusكما يمي:
لك لـ يكف اإلنساف حرا ،فسكؼ يككف ا﵀ ،إذف ،غير عادؿ في عقابو أك في أمره بمعاقبة مف يرتكبكف الشر.
كالحجة األخرل :عدـ االتساؽ بيف افتراض أف يككف ا﵀ أراد لمعاصي مقدما أف يرتكب بعض الخطايا كبيف ككنو ال
3
يريد لمخاطئ أف يرتكب تمؾ الخطايا ،كىك ما تتضمنو النكاىي المكحاة عف ارتكاب تمؾ الخطايا".
عمى أف كلفسكف ،المستشرؽ المكلع بإرجاع كؿ كبلـ إسبلمي إلى أصكؿ مسيحية أك إغريقية ،لـ ينكر بأف في زمف تأليؼ
المحاكرة ليحي الدمشقي ،ىناؾ مكاقؼ إسبلمية تقر بمبدأ الحرية البشرية .إذ أف "معبد الجيني (تكفي 699ـ) كاف أكؿ مف بدأ
النقاش حكؿ قدرة اإلنساف .كىك تمميذه الحسف البصرم .كبدءا مف غيبلف الدمشقي ( )730تكثر الركايات عف آراء أكلئؾ الذيف
1أبي الحسف األشعرم :مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف ،الجزء األكؿ ،مرجع سابؽ ،ص .74
2
الشيرستاني :نياية اإلقداـ في عمـ الكبلـ ،تحرير كتصحيح ألفريد جيكـ ،مكتبة الثقافة الدينية ،القاىرة ،الطبعة االكلى،2009 ،
ص .227
3
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد الثاني ،مرجع سابؽ ،ص.769
4
الشيرستاني :نياية اإلقداـ في عمـ الكبلـ ،مرجع سابؽ ،ص .247
5
ابف رشد ،مناىج األدلة .113 ،أيضا :ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد الثاني ،مرجع سابؽ،
ص.775
198
سممكا بحرية اإلرادة اإلنسانية" 1.مما يدؿ عمى أف فكرة الحرية كانت معركفة في السياقات اإلسبلمية كمألكفة لدرجة أنيا تتناقؿ بيف
األلسف بصكرة جارية .كيسمى كؿ مف معبد لجيني كغيبلف الدمشقي بأصحاب القدرية الخالصة ،ألنيما أنك ار كؿ ما كاف يقاؿ عف
سطكة القدر اإلليي في الكجكد كفي تدبير شؤكف السياسة" .كيركل أف معبد الجيني كعطاء بف سيار أتيا الحسف البصرم كقاال لو :يا
أبا سعيد ىؤالء الممكؾ ي سفككف دماء المسمميف كيأخذكف أمكاليـ كيقكلكف "إنما تجرل أعمالنا عمى قدر ا﵀ تعالى .فقاؿ الحسف في
2
كلما كاف أصحاب مذىب القدرية القائؿ بحرية اإلنساف أتباع لمشيخ الحسف البصرم ،فقد نجد مف يعتبره جكابيما "كذب أعداء ا﵀".
قدريا ضد المجبرة .كقد كردت ركايات تقكؿ بأنو ق أر كممة "أشاء" (األعراؼ )156بػ "أساء" ،كعمى ذلؾ فإنو ينتفي أف يقكؿ ا﵀ عمى
ً ً الد ٍنىيا ىح ىسىنةن ىكًفي ٍاآلى ًخ ىرًة إًَّنا يى ٍدىنا إًلىٍي ى
ب لىىنا ًفي ىى ًذ ًه ُّ
يب بًو ىم ٍف أى ىش ي
اء﴾ ،فيصبح مف المفترض أنو قاؿ ؾ قىا ىؿ ىع ىذابًي أيص ي نفسو ﴿ ىكا ٍكتي ٍ
"عذابي أصيب بو مف أساء" .غير أنو ال يمكف االستبعاد بالكمية أف كؿ ىذه القراءات قد حدثت في كقت متأخر بعد مكت الحسف
البصرم ،كأف عمرك بف عبيد ،كىك قريب كاصؿ بف عطاء ،نسبيا إلى الحسف البصرم 3.ىنا نبلحظ مدل ممارسة التعقؿ الحاد
لمسمع ،إذ أف المنطؽ يقكؿ بأف ا﵀ يعاقب مف ارتكب السيئات كليس مف شاء دكف كجو حؽ .كسنجد نظرية الحقة عند المعتزلة
تتحدث عف ضركرة فعؿ الصبلح ،أم أف ا﵀ ال يمكف أف يفعؿ ما يفسد لئلنساف .كىذا المكقؼ مف الحسف البصرم ،ما جعؿ
الب عض مف رجاالت اإلستشراؽ يعتبركنو المؤسس األكؿ لئلعتزاؿ ،اذ أف قراءة اآلية القرآنية مف األعراؼ قراءة عقمية تجعمنا نقكؿ
بأف الصحيح ىك "مف أساء" ،لكف المنقكؿ عمى الخطاطيف ىك "مف أشاء" .كىي مبلحظة تستشكؿ في النياية العدؿ اإلليي ،ألف
"معاقبة مف أساء" عدؿ مطمؽ ،في حيف أـ "معاقبة مف أشاء" فيك يفترض ممارسة ا﵀ إلرادة غير مبررة .كىك متعاؿ عف ذلؾ ،كليس
مف مستمزمات العدؿ التصرؼ كفؽ ىذا المنطؽ اإلرادم الخالص .لكف ىؿ يمكف تحديد إرادة ا﵀ ؟ ىؿ ارادة ا﵀ مقيدة كمشركطو ؟
الحؽ أف مطمقية ا﵀ تستبعد كؿ مشركطية كقد تقييد ميما كاف .كحتى خمؽ الشيطاف ،عند البعض مف القدرييف ،يجعؿ اإلنساف
يستشكؿ العدؿ .فقد تـ الحديث عف "شخص قدرم اسمو أحمد كاف يرل أف العدؿ اإلليي يتطمب أف اإلنساف كحده ىك الذم يقرر
أفعالو ،كال نعرؼ شيئا كذلؾ عف ىؤالء القدرييف الذيف كانكا يدعكف أف ا﵀ ال يمكف أف يككف ىك الذم قد خمؽ الشيطاف" 4.كألنو
مصدر كؿ شر ككؿ ظمـ ،فبل يمكف أف يككف مف مصدره إليي .لكف ىذه الفكرة قد تككف ذات أصكؿ ثنكية تعتقد بتعادؿ إلييي
الخير كالشر ،كبالتالي ال تتكافؽ كمية مع عقائد اإلسبلـ التكحيدية.
1
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد الثاني ،مرجع سابؽ ،ص.776
2
عرفاف عبد الحميد :دراسات في الفرؽ كالعقائد اإلسبلمية ،مرجع سابؽ ،ص .258-257أيضا جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ
كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع سابؽ ،ص .93أبو معاذ عطاء
بن أبي ميمونة منيع البصري ىك تمميذ الحسف البصرم ،تكفي 131ىػ ...يقاؿ أنو رمى الحسف البصرم القدرية زك ار كبيتاف.
يدعكف أف ما يمحقكنو مف أذل بالمسمميف
يركل أنو كاف يبحث عف الحسف البصرم كعف معبد الجيني كشكي ليما بأف األمكييف ٌ
ىك مف قبيؿ القضاء كالقدر .كيرل أف الحسف البصرم رد عمى ذلؾ بقكلو" :أعداء ا﵀ يكذبكف".
أيضا :ابف المرتضي :طبقات المعتزلة ،تحقيؽ سكسنة ديفمد -فمزر ،جمعية المستشرقيف األلمانية ،بيركت ،الطبعة األكلى،1961 ،
ص .121
3
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .84-83
4
المرجع نفسو ،ص .88
199
المبلحظ بأف القدرية ،بمختمؼ فركعيا ،قد أق رت بقدرة ا﵀ المطمقة عمى الظكاىر الطبيعية كنظاـ الككف ،إذ يمكف ﵀ أف يغير
مسارات الطبيعة كفؽ ارادتو الخاصة .لكف الفعؿ اإلنساني مختمؼ مف حيث نكعو عف بقية الظكاىر الطبيعية ،مما يجعمو تابع
لمشيئة العبد كليس لتقدير ا﵀ 1.كىذا ليس انتقاصا مف قدرة ا﵀ ،كالمبلحظ بأف القدر مرتبط بالقدرة ،مما جعؿ البعض يعتقد بأف نفي
القدر يستمزـ نفي القدرة .في حيف أف ىذا ليس بالضركرة الكمية ،إذ أف قدرة ا﵀ ال تتضمف الفعؿ البشرم .كالمسألة التي جعمتيـ
يقركف بقدرة اإلنساف عمى خمؽ أفعالو ىك العدؿ اإلليي .كيذكر بأف حجة القدرم غيبلف الدمشقي في شكؿ عدد مف األسئمة كجييا
إلى الخميفة "عمر بف عبد العزيز" :فيؿ كجدت ،يا عمر ،حكيما يعيب ما يصنع أك يصنع ما يعيب ،أك ّْ
يعذب عمى ما قضى ،أك
يقضي عمى ما ّْ
يعذب عميو ؟ أـ ىؿ كجدت رشيدا يدعك إلى اليدل ثـ يضؿ عنو ؟ أـ ىؿ كجدت رحيما يكمؼ العباد فكؽ الطاقة أك
يعذبيـ عمى الطاعة ؟ أـ ىؿ كجدت عدال يحمؿ الناس عمى الكذب أك التكاذب بينيـ ؟ كفى ببياف ىذا البياف كبالعمى عنو عمى" .
(ابف المرتضي ،الممؿ كالنحؿ – المعتزلة )16 ،ىذا ما سكؼ يكرره المعتزلة فيما بعد" 2.كقد نقؿ عف مكسى بف سيار أف الحسف
البصرم كاف ال يصنؼ القتؿ ضمف القضاء كالقدر .كاالٌ تحرر اإلنساف مف كؿ تبعيات أفعالو الشريرة .ثـ أنو ال يمكف ارجاع القتؿ
إلى ا﵀ ألف ىذا مناؼ لخيريتو كعدالتو المطمقتيف 3.بؿ أف اثبات القضاء كالقدر ينتيي إلى ابطاؿ األكامر كالنكاىي كالتكميؼ الثكاب
العقاب ،لذا فإف قكؿ العامة بالقض اء كالقدر ىك مف قبيؿ العبارات التي لـ تدرس في معناىا الحقيقي ،أم أف مكقؼ العامة في اثبات
ؾ أ َّىال تى ٍعيب يدكا إً َّال إًيَّاهي ىكبًا ٍل ىكالً ىد ٍي ًف
ضى ىرُّب ى
﴿كقى ى
القضاء كالقدر المطمقيف ،ال يميؽ بمرتبة ا﵀ ،ألنو يسقط ما سمؼ ذكره .كقكلو تعالى ى
ًإ ٍح ىس نانا﴾ [اإلسراء ]23 ،فيك قضاء يصح فقط في الطاعات الكاجبة ،لكف ال يمكف اطبلقو عمى بقية المعاصي كالمباحات .فيي مف
خمؽ اإلنساف ذاتو 4.بؿ أف مشيئة اإلنساف في الكفر كالمعصية أنفذ مف مشيئة ا﵀ ،عمى أساس أف العدالة اإلليية تتطمب عدـ دفع
اإلنساف إلييما ثـ العقاب الحقا .إف مش يئة ا﵀ مرتبطة بفعؿ اإليماف كالطاعة .كىذا ىك بالضبط مربط مسألة العدالة اإلليية .كقد
ركم عف عمر بف الخطاب أنو شبو عمـ ا﵀ بكفر العبد المستقبمي ال يفترض منو العقاب أصبل ،أم ال يؤثر في استحقاؽ العقاب
بكفره 5.كلقد عرضنا مناظرة األشعرم مع الجبائي في ىذه المسألة .كقد استشكؿ البعض ،قبؿ الفيمسكؼ الدينماركي سكريف
كيركجادر ( ،)1855/1813مسألة أمر ا﵀ ابراىيـ بنحر ابنو .عمى أساس أنيا دعكة صريحة لممعصية" .فقد ذكر عف عمرك بف
فائد األسكارم التميمي األنصارم الذم يركل أنو ظؿ 36عاما يفسر القرآف .يرل أف ا﵀ أمر ابراىيـ قتؿ ابنو ،غير أنو لـ يرد ذلؾ
في الحقيقة .كادعى أف ما حدث إلبراىيـ كاف مجرد رؤية رآىا في نكمو" 6.بالنسبة لكيركجارد فإف القصة اإلبراىيمية تتضمف قمؽ
بيف مدرجيف أحدىما إيماني كاآلخر أخبلقي .فتمبية األمر اإلليي الذم يقتضيو اإليماف ،ال يمكف أف ينسجـ مع األخبلؽ التي
1
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد الثاني ،مرجع سابؽ ،ص.777 -776
2
المرجع نفسو.779 ،
3
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .132
4
أبك القاسـ البمخي كالقاضي عبد الجبار كالحاكـ الجشمي :فضؿ اإلعتزاؿ كطبقات المعتزلة ،تحقيؽ فؤاد سيد ،المعيد األلماني
لؤلبحاث الشرقية في بيركت ،دار الفارابي ،بيركت ،الطبعة األكلى ،2017 ،ص .126
5
المرجع نفسو ،ص .128
6
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .136-134
211
تقتضي المحافظة عمى األبناء كرعايتيـ .كعف أبك خالد يكسؼ السمتي الميثي (تكفي 189ىػ) أنو صدـ القدرية بعقيدتو التي تقكؿ
"إف الكافر الذم يعمـ ا﵀ أنو لف يؤمف أبدا ،يقدر (أيضا) عمى أف يتصرؼ -إذا تسنى لو ذلؾ -عمى خبلؼ قضاء ا﵀ كقدره" .عمى
ىذا فإف السمتي يعت بر أف معرفة ا﵀ في األزؿ تتضمف معنى القدر .كقد أدار القدرية لو الرمح ،فكاف عمى السمتي أف يقر بأف
اإليماف الزـ عمى اإلنساف ،كعميو يككف الكافر ممزما بفعؿ شيء ليس في مقدرتو ،كىذا يتعارض مع مبدأ "ال إلزاـ بمستحيؿ"[القانكف
1
الركماني . ]ultra posse nemo obligatur :كربما أف ىذه المسألة كاف يتبناىا أبك حنيفة نفسو".
يقكؿ كاصؿ بف عطاء ،كىك الذم تبني مكقؼ القدرية األصمي ،إف البارم تعالى حكيـ عادؿ ال يجكز أف يضاؼ إليو شر كظمـ
ال يجكز أف يريد مف العباد خبلؼ ما يأمر كيحكـ عمييـ شيئا ثـ يجازييـ عميو؛ فالعبد ىك الفاعؿ لمخير كالشر كاإليماف كالفكر
كالطاعة كالمعصية كىك الم جازل عمى فعمو كالرب تعاؿ بأقدر عمى ذلؾ كمو( .الشيرستاني ،الممؿ كالنحؿ 2.)32 ،إف بعثة األنبياء
كمجمؿ الرساالت تفترض أف العبد قادر عمى االختيار بيف القبكؿ كالرفض .مما يدؿ عمى أف فعالية الق اررات البشرية ال تقؿ أىمية
عف فاعمية القدر اإلليي 3.حجة أخرل لكاصؿ ليا ما يناظرىا في الفمسفة القديمة ،فييا يقكؿ :إف اإلنساف يحس مف نفسو االقتدار
كالفعؿ ،كمف أنكره فقد أنكر الضركرة (أم ما ىك معمكـ بالضركرة) .ىذه الحجة ذكرىا الشيرستاني (نياية االقداـ .)79 ،كالحجة كما
صاغيا اإلسكندر األفركديسي :مف المحاؿ حقا كالمضاد لكؿ دليؿ القكؿ بأف الضركرة تمتد لتشمؿ حتى "الحركات التي يقكـ بيا
الناس ،ألننا نرل طكاؿ الكقت أنو ليست كؿ األشياء مقيدة بعمؿ مثؿ ىذه .إنو عمى حيف أف النار غير قادرة ،مثبل ،عمى أف تستقبؿ
البارد ،فمف الممكف لئلنساف الجالس أف يقؼ ،لئلنساف المتحرؾ أف يسكف ،لئلنساف المتكمـ أف يبقى صامتا 4.لذا فإف التركيز عمى
الخبلؼ بيف أفعاؿ اإلنساف كظكاىر الطبيعة أمر ضركرم مف أجؿ فيـ طبيعة الحرية البشرية.
رفع عمرك بف عبيد ،كىك الرجؿ الثاني في االعتزاؿ ،عدـ التطابؽ في نظرية الحسف البصرم الخاصة "بحرية اإلرادة" ،حيث
قاؿ عمرك بأف ا﵀ ليس فقط ال يقدر الشر ،كانما ال يقدر الخير أيضا 5.أم كؿ شيء مف عند اإلنساف .كليس كما فيـ البعض مف
1
المرجع نفسو.241 ،
2
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد الثاني ،مرجع سابؽ ،ص.779
3
عرفاف عبد الحميد :دراسات في الفرؽ كالعقائد اإلسبلمية ،مرجع سابؽ ،ص .262
4
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد الثاني ،مرجع سابؽ ،ص.781
5
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .458
6
أبك القاسـ البمخي كالقاضي عبد الجبار كالحاكـ الجشمي :فضؿ اإلعتزاؿ كطبقات المعتزلة ،مرجع سابؽ ،ص .133
211
الطاعة مف ا﵀ كخاطر المعصية مف الشيطاف ".فإف آخريف قد رفضكا النظرية برمتيا .يعتقد المعتزلة مثؿ النظاـ أنو ،في حالة
1
األفعاؿ الدينية ،يكجد لممعصية أيضا مثير خارجي ،كذلؾ ىك الشيطاف المذككر في القرآف.
" نيج الشيعة الككفييف الذيف يركف بأف اإلرادة اإلليية تبدأ في نفس كقت كقكع الحدث .كىذا يعني أف ا﵀ ال يريد فعؿ أم شيء
في األزؿ ،كال حتى الخير ،كلكف األم ر يصبح مختمفا عند لحظة كقكع الحدث ،ففي حالة أف يقكـ اإلنساف بفعؿ الخير ،حينئذ يقاؿ
بأف ا﵀ أراد ذلؾ ،أما إذا فعؿ الشر فيقاؿ بأف ا﵀ لـ يرد ذلؾ" 2.كبالتالي فإف نسبة المعاصي ﵀ غير معقكلة كال تستقيـ مع كمالو
كخيريتو ،في حيف أف نسبة الطاعات إليو ال تسبب أم حرج .لكف بالنسبة لممعتزلة ،فإف نفي الطاعات كالمعاصي عمى ا﵀ كاجب في
كبل الحالتيف .فا﵀ ال يخمؽ كال يصنع كال يحدث سكاء المعاصي أك الطاعات ،ككؿ شيء مف العبد .كاضافة الطاعات ﵀ ليس إال
تجك از مف باب األدب في الحديث3.كمف الكاضح جدا ،ميؿ المعتزلة إلى التمييز بيف الخطاب الحقيقي كالخطاب المجازم ،كىذا ما
أظيرناه في محاضرة الصفات كالتنزيو .كقد نقؿ عف النحكم أبك زيد األنصارم ،ىك مف القدرية ،إذ يقاؿ أنو كاف يستقبح صيغة
معينة في الدعاء ،تمؾ التي تقكؿ "أليـ اعصمني" ،نظ ار ألنيا تتضمف تحديدا لمسؤكلية اإلنساف عف نفسو 4.فيك دعاء يسقط حقيقة
ككف اإلنساف ىك مف يحدد خيره ىك مف يحدد شره أيضا ،كطمب العصمة ىنا تنتيي إلى تبعية اإلنساف في سمككياتو إلى ا﵀ تبعية
تسقط عنو المسؤكلية في ميزاف الخاتمة.
ككف األشعرية مذىب كبلمي ذك منحي رجكعي مف خبلؿ تأكيده استراتيجية العكدة إلى أىؿ السنة كالجماعة ،فإنيا لف تكافؽ
المعتزلة في نظرية خمؽ أفعاؿ العبادة بمعزؿ عف قدرة ا﵀ كقدره .لكف ىذا ال يدؿ عمى أنيـ اعتنقكا نظرية المجبرة التي ألغت أم
فعالية لئلنساف .كبال نظر إلى احتكاء القرآف عمى آم الجبر كعمى آم اإلختيار معا ،فبل يمكف ممارسة االنتقاء مف خبلؿ اىماؿ ىذه
أك تمؾ ،كال يمكف التنكر لمحرية مثمما ال يمكف التنكر لمقضاء اإلليي العاـ .بالنسبة البف قتيبة في مسائمو الكبلمية فإف "القرآف ال
يفصؿ في مسألة ىؿ اإلنساف ىك ا لمتحكـ في أفعالو أـ ىك مجبر عمييا عف طريؽ إرادة ا﵀ .كبل االحتماليف ثابتاف في القرآف،
كعميو فكبل الفريقيف – الجبرية كالقدرية -عمى صكاب ،كال يبقى بعد ذلؾ إال افتراض أف االختبلؼ بينيما متعمؽ بكجو نظر أف
أحدىما يريد إبراز جبلؿ ا﵀ ،كيريد الفريؽ اآلخر أف يبع د عف الذات العمية (أية مسؤكلية عف كقكع الشر) في العالـ .عمى ىذا النحك
ينطبؽ األمر كذلؾ عمى "اآلراء المختمفة" فيما يخص كضع مرتكبي الكبائر ،فالقرآف يدعـ االعتزالييف كالمرجئة ككؿ الفرؽ األخرل
1
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد الثاني ،مرجع سابؽ ،ص.800-798
2
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .267
3
أبك القاسـ البمخي كالقاضي عبد الجبار كالحاكـ الجشمي :فضؿ اإلعتزاؿ كطبقات المعتزلة ،مرجع سابؽ ،ص .132
4
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .474
212
بأدلة تساند آرائيـ .ال يعني ىذا أف القرآف متناقض في ذاتو؛ فالمشكمة تتعمؽ بتفسير ىذه المكاضيع ،فاآلية الكاحدة يمكف تأكيميا عمى
1
أكثر مف جية ،كليس ىناؾ منيج مكحد يمكف مف خبللو الكصكؿ إلى استنتاج كاضح عند تفسير مكضع معيف".
يمكف لنظرية الحرية اإلنسانية التي تبنتيا فرقة المعتزلة كبعض الشيعة أف تطرح أكثر مف مشكمة عمى شكؿ معضبلت ال يمكف
فكميا .المعضمة األكلى تصاغ عمى النحك التالي" :كيؼ سيفسركف تمؾ اآليات القرآنية التي تنسب إلى ا﵀ مباشرة ىيمنة عمى الفعؿ
اإلنساني ؟ كالمعضمة الثانية :كيؼ سيكفقكف بيف كصؼ ا﵀ في القرآف بأنو العميـ بإطبلؽ كالقادر بإطبلؽ كبيف تصكرىـ لئلرادة
اإلنسانية ؟" 2كال يمكف االنفبلت مف احراج ىذه األسئمة إال مف خبلؿ افتراض قكة الطرح القرآني الذم يجعؿ ا﵀ عالـ كقادر عمى كؿ
شيء بما في ذلؾ خمؽ أفعاؿ العباد .إذ ال يختمؼ اإلنساف عمى بقية ظكاىر الككف في خضكعيا لئلرادة اإلليية.
ناقش األشعرم آراء المعتزلة مف خبلؿ قكلو بأف تقريرىـ القدرم القائؿ بأف ا﵀ ال يعمـ الشيء حتى يككف تقرير ال يمكف قبكلو.
﴿ك ىما تى ٍسقيطي ًم ٍف
ألف ا﵀ تعالى إذ كتب ذلؾ كأمر أف يكتب فبل يكتب شيء ال يعممو ج ٌؿ عف ذلؾ كتقدس .كفي ذلؾ يقكؿ تعالى :ى
يف﴾ [اإلنعاـ 3 .]59،كيبلحظ األشعرم بأف "المعتزلة اب يمبً وس إً َّال ًفي ًكتى وط وب كىال ىيابً و ً ً و ً و ً َّ
ىكىرقىة إال ىي ٍعمى يميىا ىكىال ىحبَّة في ظيمي ىمات ٍاأل ٍىرض ىكىال ىر ٍ ى
كف﴾ [األنعاـ .]2 ،كىـ ً ﴿ى ىك الًَّذم ىخمىقى يك ٍـ ًم ٍف ًط و
ىج هؿ يم ىس ِّمى ع ٍن ىدهي ثيَّـ أ ٍىنتي ٍـ تى ٍمتىير ى
ىج نبل ىكأ ى
ضى أ ى يف ثيَّـ قى ى قد قبمكا ما يقكلو القرآف عف اآلجاؿ ( ي
يقكلكف بحرية اإلرادة ،لذا يظير االحراج التالي :إذا كاف اإلنساف يعتقد باألجؿ المحتكـ ،فمف الضركرم لفعؿ القتؿ إذف أف يككف قد
حدث في األجؿ ،طالما أنو ليس فعبل حرا؛ إذا كاف المرء يعتقد باإلرادة الحرة ،فيمكف لفعؿ القتؿ إذف أف يحدث في أم كقت يريده
4
القاتؿ ،طالما أف األجؿ غير محتكـ".
كعمى السؤاؿ الكبلمي المخصكص لمسألة الخمؽ بيف ا﵀ كالعبد ،طرح األشعرم المسألة التالية :ىؿ يقدر ا﵀ عمى جنس ما
أقدر عميو عباده ؟ كقدـ رأم المعتزلة الذم لـ يكف متجانسا .فقاؿ معتزلي بغداد أف ا﵀ ال يكصؼ بالقدرة عمى فعؿ عباده كال عمى
شيء ىك مف جنس ما أقدرىـ عميو .أم أف أفعاؿ العباد مخصكصة ليـ دكف غيره بما في ذلؾ ا﵀ تعالى .فبل يخمؽ مثبل ايماف بو
يككف العباد مؤمنكف ،كما ال يكصؼ بالقدرة عمى خمؽ كفر بو يكفركف ،أك كسبا بو يككنكف مكتسبيف .كقاؿ أبك اليذيؿ العبلؼ بأف
أفعاؿ اإلنساف ال تشبو اطبلقا أفعاؿ البارم تعالى .أما الجبائي فقد رأم بأف ا﵀ قادر عمى ما ىك مف جنس ما أقدر عميو عباده مثؿ
الحركات كالسكنات ،لكنو لـ يكف يعتقد بأف ا﵀ يخمؽ ايماف بو يككف عباده مؤمنكف أك كفر بو يككنكف كافريف 5.كقدـ األشعرم في
مقاالت اإلسبلمييف "حؿ المعتزلة ليذا االحراج حكؿ مسألة :ماذا سيحدث لممقتكؿ لك أف القاتؿ ،الذم يمارس فعؿ القتؿ بإرادتو
الحرة ،لـ يقتمو في الكقت الذم يفترض أنو أجمو .كىذه اآلراء حسب األشعرم ىي:
1
جكزؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ ،الجزء الثاني ،مرجع
سابؽ ،ص .254
2
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد الثاني ،مرجع سابؽ ،ص .821
3
أبي الحسف األشعرم :اإلبانة عف أصكؿ الديانة ،الجزء ،1تحقيؽ فكقية حسيف محمكد ،دار االنصار ،القاىرة ،الطبعة األكلى،
،1977ص .227
4
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد الثاني ،مرجع سابؽ ،ص .823
5
أبي الحسف األشعرم :مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف ،الجزء الثاني ،المكتبة الصرية ،بيركت ،2009 ،ص .401
213
رأم قكـ مف جياليـ :أف الكقت الذم في معمكـ ا﵀ سبحانو أف اإلنساف لك لـ يقتؿ لبقى إليو ىك أجمو دكف الكقت
الذم قتؿ فيو.
رأم أبك اليذيؿ :إف الرجؿ لك لـ ييقتؿ مات في ذلؾ الكقت.
1
أحاؿ منيـ (أم المعتزلة) محيمكف ىذا القكؿ( .أم انكار عمـ ا﵀ السابؽ بالكقت الذم سكؼ يقتؿ القاتؿ فيو بحريتو".
أما رأم األشعرية ،كىك أىؿ الحؽ كاإلثبات ،في مسألة قدرة ا﵀ عمى خمؽ أفعاؿ البشر أك أفعاؿ مثؿ البشر ،فيك القائؿ بأف
البارم قادر عمى خمؽ ايمانا يككف عباده بو مؤمنيف ككف ار يككنكا بو كافريف ككسبا يككنكف بو مكتسبيف ،كطاعة يككنكف بيا مطيعيف،
كمعصية يككنكف بيا عاصييف" 2.إذ ال يمكف كصؼ ا﵀ تعالى بأنو غير قادر ،فيذا انتقاص ال يجكز في حؽ ذاتو تعالى ،كما أف
ا﵀ يصؼ نفسو بالقدرة مما يتعذر عمى أم متكمـ أف يستعمؿ عبارة "غير قادر" .فاألصؿ ىك أف ا﵀ خالؽ أفعاؿ اإلنساف االختيارية،
كىذا ما نسميو بالكسب ،أم أف الفعؿ القاعدم مف ا﵀ كاالختيار مف العبد .بمعنى أف "قدره ا﵀ تتعمؽ بأصؿ الفعؿ ،كقدره العبد
بككنو طاعة أك معصية ،كما في لطـ اليتيـ تأديبا أك ايذاء" 3.كبيذا الحؿ ،ال يبقى المسمـ في حيرة مف أمر أفعالو في مقابمة قدرة ا﵀
ال كمية .فا﵀ يخمؽ لو األفعاؿ التي يقكـ ىك باختيار ما يريد ،لكف اختياره ىنا يبقى في حدكد ما خمقو ا﵀ لو .لذا يمكف تحديد مفيكـ
الكسب كالتالي" :ىك كصؼ ألفعاؿ اإلنساف المعتبرة كميا أفعاال حرة ناتجة عف القدرة عمى الفعؿ التي منحيا ا﵀ لئلنساف ،أم القدرة
التي اكتسبيا مف ا﵀" 4.كلعؿ أف استعماؿ األشاعرة لمصطمح الكسب ،كاف مقصكدا بو التأكيد عمى المفظ القرآني ،إذ نجد ا﵀ تعالى
كف﴾ [األنعاـ]3 ، ً ً ات كًفي ٍاأل ٍىر ًًفي الس ً َّ
ض ىي ٍعمى يـ سَّريك ٍـ ىك ىج ٍي ىريك ٍـ ىكىي ٍعمى يـ ىما تى ٍكسيب ى َّم ىاك ى
ى ﴿ك يى ىك الموي
يستعمؿ لفظ الكسب في مثؿ قكلو :ى
ً ًَّ ً ً
اىر ًٍ ً
اإلثٍ ىـ ىسيي ٍج ىزٍك ىف بً ىما ىك يانكا ىي ٍقتى ًرفي ى
كف﴾ كف ًٍيف ىي ٍكسيب ى اإلثٍـ ىكىباطىنوي إً َّف الذ ى ﴿كىذ يركا ظى ى
ى كالكسب قد يككف لمخير أك لئلثـ مثمما كرد في
[األنعاـ .]120 ،كفي ىذا االستعماؿ لمكسب تأكيد عمى ربط االصطبلح الكبلمي باالصطبلح القرآني .كيشرح الغزالي ،الذم ىمثؿ
اكتماؿ عقيدة األشاعرة الكبلمية ،مفيكـ االكتساب مف خبلؿ تأصيمو في القرآف ،قائبل أف ا﵀ ىك خالؽ أك صانع األفعاؿ كما
اإلنساف مجرد مكتسب ليا 5.كقد أشار كلفسكف إلى أف لمكسب مفيكـ تجارم ،مف خبلؿ التكظيؼ القرآني ذاتو ،فعندما يشترم الرجؿ
الرجؿ جرة مف فخار أك غيرىا ،تصبح بعد الشراء كسبا لو كمممككو لو مف الناحية الشرعية عمى الرغـ مف أنيا كانت في األصؿ
مممككة لصانعيا ،فيك الفاعؿ الحقيقي ليا 6.كبمغة أرسطية ،يككف ا﵀ ىك الفاعؿ الحقيقي أ كالعمة الفاعمة كاإلنساف يكتسب األفعاؿ
بعد ذلؾ لتصبح لو كتابعة لشخصو .ككأف ا﵀ ىك الفاعؿ األصمي كيأتي اإلنساف ليتممكيا بعد ذلؾ.
1
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد الثاني ،مرجع سابؽ ،ص ص .826-823
2أبي الحسف األشعرم :مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف ،الجزء الثاني ،مرجع سابؽ ،ص .401
3
عضد ا﵀ كالديف القاضي عبد الرحمف بف أحمد اإليجي :المكاقؼ في عمـ الكبلـ ،عالـ الكتب ،بيركت ،ص .312
4
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد الثاني ،مرجع سابؽ ،ص ص .833
5أبك حامد الغزالي :إحياء عمكـ الديف ،الجزء الرابع ،ص .312نقبل عف كلفسكف ،ص .838
6
ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد الثاني ،مرجع سابؽ ،ص ص .839
214
يقدـ الغزالي ترسانة مف الحجج عمى أسبقية القضاء اإلليي عمى التدبر اإلنساني ،مف أجؿ مجابية منطؽ اإلعتزاؿ.
بما أف قدرة ا﵀ تامة ال قصكر فييا .فبل يمكف إال أف تككف أفعاؿ العبد مخمكقة ﵀.
بما أف أفعاؿ العبد متعمقة بحركة أبداف العباد كالحركات متماثمة كتتعمؽ القدرة بيا لذاتيا ،فميس ىنالؾ مكجب لمتفرقة
مف ىذا الجانب بيف بعض الحركات ،التي تسمى أفعاال ،دكف البعض مف الحركات األخرل.
الكسب عند الغزالي ليس مناقضا لمجبر كال لبلختيار ،بؿ ىك جامع بينيما عند مف فيمو( .اإلحياء ،مجمد .)4ككف ا﵀ تعالي
فاعبل أنو المخترع المكجد كمعنى ككف العبد فاعبل أنو المحؿ الذم خمؽ ا﵀ فيو القدرة بعد أف خمؽ فيو اإلرادة بعد أف خمؽ فيو
العمـ .لذا ينتيي الغزالي إلى أف ا﵀ ىك الخالؽ المباشر لكؿ شرط في سمسمة الشركط ،كما أنو الخالؽ لفعؿ اإلنساف.فالفعؿ اإلنساني
عنده برغـ ككنو مخمكقا ﵀ مباشرة ،يشتمؿ عمى عنصر االختيار ألنو يرل أف قدرة اإلنساف ،مع أنيا مخمكقة ﵀ في اإلنساف
باعتبارىا الشرط conditionالمباشر لفعمو ،فإف "محميا" ىك اإلنساف 1.فمعنى التكحيد الحقيقي ىك اإليماف بأف ا﵀ ىك الفاعؿ
الكحيد كالحقيقي ،إذ ال يمكف أف يككف الفعؿ ﵀ كالعبد معا.
كيسير الماتريدم في طريؽ شبيو بطريؽ األشاعرة مف خبلؿ اثباتو لمكسب بدؿ الحرية في خمؽ األفعاؿ .يقكؿ (في كتابو
التكحيد) :إف كؿ أحد يعمـ مف نفسو أنو فاعؿ مختار ،أنو فاعؿ كاسب .اإلنساف الكاسب :ىك إنساف فاعؿ لكف ليس فاعبل عمى
الحقيقة .يقكؿ الماتريدم (في كتاب التكحيد) :يكصؼ ا﵀ بالقدرة عمى كؿ شيء بما في ذلؾ القدرة عمى أفعاؿ الناس "خمؽ العباد".
كاإلنساف ليس قاد ار عمى أف يخمؽ بنفسو شيئا ما لـ ييبو ا﵀ مف قبؿ القدرة كاالستطاعة" عمى الفعؿ .أم لئلنساف قدرة خمقيا ا﵀ فيو
عمى اكتساب الفعؿ الحر الذم يختاره بنفسو .لذا يقرر الماتريدم بأف ا﵀ ىك خالؽ الفعؿ الذم كاف اإلنساف قد اختاره كاكتسبو
بنفسو 2.مما يزيؿ التعارض بيف قدر ا﵀ كحرية اإلنساف.
خالصة.
ىؿ ىناؾ فرؽ بيف االعتقاد بالقضاء كالقدر كاالعتقاد بالجبر عمى مذىب الجبرية قبؿ القرف الرابع لميجرة ؟ ىكذا كاف ينظر
جماؿ الديف األفغاني إلى المسألة ممي از تميي از صارما بيف القكليف .ففي حيف يمكف رفض مذىب الجبر الخالص الذم يمغى أم ارادة
حقيقية لئلنساف ،فبل يمكف لنا كمسمميف ،التشكؾ في قضاء ا﵀ كقدره 3.كمف المعمكـ بأف اإليماف بالقضاء كالقدر مسألة عقدية أم
أصؿ مف أصكؿ الديف.
1
أبك حامد الغزالي :إحياء عمكـ الديف ،الجزء الرابع ،مؤسسة المختار لمنشر كالتكزيع ،القاىرة ،الطبعة األكلى ،2004 ،ص .338
2أبك منصكر الماتريدم :كتاب التكحيد ،تحقيؽ بكر طكباؿ أكغمي كمحمد آركشي ،دار صادر كمكتبة اإلرشاد ،بيركت كأستانبكؿ،
ص ص .320-278-275أيضا :ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد الثاني ،مرجع سابؽ ،ص ص
.886-884
3
جماؿ الديف األفغاني ،القضاء كالقدرة ،مرجع سابؽ ،ص .9أيضا :ىارم أكستريف كلفسكف :فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ،المجمد
الثاني ،مرجع سابؽ ،ص ص .882-870
215
مجمؿ تأكيبلت عمماء الكبلـ المتعمقة بحرية اإلنساف مستندة عمى النصكص الدينية سكاء كاف ما كراء في القرآف الكريـ أك ما
كرد في األحاديث النبكية الشريفة .كمف المفيد أف نبلحظ أنيا مسألة نصية باألساس ،كلـ يتـ التفكير في الحرية بالمفيكـ الكاقعي.
كىذا مبرر عمى أساس أف عمـ الكبلـ نظرم خالص كال ييتـ بالكقائع أك الشرائع إال اىتماما ىامشيا .كأكبر مسألة جعمت مف األفعاؿ
اإلنسانية كاألفعاؿ اإلليية مثار استشكاؿ ،ىك االعتقاد بعدـ مش ركعية الحديث عف قدرة إنسانية في ظؿ قدرة إليية تشمؿ كؿ ما في
الكجكد .كترتبط المشكمة بمسألة التكحيد ،إذ أف اثبات قدرة اإلنساف عمى افعالو ىك اشراؾ بقدرة ا﵀ ،كىك ما يقمؽ مبدأ التكحيد.
كبالنسبة لممعتزلة ،فإف مشكمة األفعاؿ ترتبط بمسألة العدالة اإلليية ،إذ أف نفي الحرية يشغب كيشكش عمى عدالة ا﵀ المطمقة.
كالرأم األكثر رسكخا في التراث اإلسبلمي حتى اليكـ ىك نظرية الكسب األشعرية كالماتردية عمى أساس أنيا تيكفؽ بيف مبدأ القدرة
اإلليية القاعدية كبيف ىامش اختيار الفرد مف أجؿ انقاض مبدأ التكميؼ كتسكيغ الحساب .لكف بالنسبة لرجاؿ المعتزلة المتأخريف
تبقي نظرية الكسب فارغة مف أم مدلكؿ كاضح .عمى أساس أنو تكفيؽ شكمي يجمع بيف متناقضيف ال يمكف الجمع بينيما.
216
المحاضرة :11اإلستشراق وعمم الكالم اإلسالمي.
مقدمة.
م
لمداللة عمى االستقطاب الدكر ٌ
اإلسبلمي" عمى منكاؿ "نقائض العقؿ الخالص"ٌ ،
ٌ سنسمح ألنفسنا باستخداـ عبارة "نقائض العقؿ
قسمت الدرس االستشراقي ؟ أنأخذه مأخ ىذ ّْ
الجد ؟ ىذه ىي األسئمة الٌتي ٌ الٌذم كقع فيو ،حكؿ مسألة االستشراؽ :ىؿ ينبغي أف نثؽ في ٌ
ٌ
تبيف إجابتو عف األسئمة السابقة .العقؿ
تكجو المف ٌكر مف خبلؿ ٌ
حؽ المعرفةٌ ،
عقمنا قسميف متنافريف ببل حكار .بؿ يمكف أف نعرؼٌ ،
عمميتو .كبيف ىذا كذاؾ ،نزفت
الحداثي يؤ ٌكد ٌ
ٌ اإلسبلمي
ٌ اقي محايدا ،في حيف العقؿ
يثي يرفض أف يككف العقؿ االستشر ٌ
اإلسبلمي التتر ٌ
ٌ
كضعيا.
ٌ يقدـ بديبل
قدرات ىذا العقؿ دكف أف ٌ
ألف االستشراؽ
الرفضٌ . اإليديكلكجي ،ليك الكبلـ الفصؿ ٌإزاء جدؿ القبكؿ ك ٌ
ٌ العممي ،كاالستشراؽ
ٌ إف التمييز بيف االستشراؽ
ٌ
العممي ،دكف مراعاة ،مصالح أك ما شابوٌ .إنو
ٌ ركسية...الخ ممتزـ بالمكقؼ
ٌ ألمانية أك إنجميزٌية ،أك
ٌ جنسيتو،
ٌ األكاديمي ميما كانت
ٌ
كرس نفسو لفيـ النصكص المكجكدة ،ككشؼ النصكص المجيكلة ،كانجاز تأكيبلت...الخ .كىذا ىك الفرؽ بيف العقؿ العقؿ الٌذم ٌ
اإليديكلكجي المغمؽ ،سكاء عند المستشرقيف أك عند المسمميف ،كىك الٌذم
ٌ المفيكمية ،كالعقؿ
ٌ العممي المفتكح الٌذم ال يعترؼ بالناجزة
ٌ
اإلسبلمي قد أينجزت ككفى االجتياد.
ٌ تأكيمية التراث
ٌ بأف
يعتقد ٌ
المتخصص
ٌ المتبحر
ٌ الدكتكر "فاف ايس" كتقرظ منيجو ،فبل يعقؿ أف يدافع العبد الضعيؼ عف العالـ
لف نسعى المتداح ٌ
الحيز المكاني الكافي لتكسيعيا ،إلى بياف منطؽ اجتياد مستشرؽ معاصر،
المكسكعي .بؿ ىسعت ىذه الدراسة فقط ،الٌتي لـ يتح ليا ٌ
ٌ
شح الترجمة ،إلى المٌغة العربية .كتكمف أىمية ىذا المستشرؽ ،في ٌأنو طرح مف جديد مكضكع تأريخ عمـ الكبلـ
غير معركؼ بسبب ٌ
سكسيكلكجية المعرفة الٌذم يكشؼ عف
ٌ مطبة قكؿ المقكؿ ،كشرح الشركح ،بؿ عمد إلى نيج كدرب لكنو لـ يقع في ٌ اإلسبلميٌ .
ٌ
إف السؤاؿ:
الكبلمية المستغمقةٌ .
ٌ مما يساعدنا في االقتراب أكثر مف تفسير الكثير مف المكاقؼ
العقميةٌ .
ٌ االجتماعية لممعرفة
ٌ األصكؿ
تبنى متكمٌـ ما مكقفا ما؟ ىك ما يسعى ىذا المنيج الجديد إلى قكلو ككشفو.
كيؼ حدث أف ٌ
الحرة ،القادحة كالمادحة ،المغرضة
الدراسات االستشراقية المكثٌفة ،األكاديمية ك ٌ
مضي أكثر مف قرنيف عمى ظيكر ٌ
ٌ ليس لنا ،بعد
اتية كنكاياه
اتيجية االستشراؽ المخابر ٌ
حد الميكعة ،عف استر ٌ نستمر في إطبلؽ األحكاـ المتداكلة ،أك قؿ الشائعة ٌ
ٌ النزيية ،أف
كٌ
بجرة
المكضكعي ٌ
ٌ ككأنو ال يجب أف يككف ىناؾ استشراؽ أصبل .فبل التاريخ يعكد إلى الكراء ،كال لمفكر أف يمغي الفكر
االستعمارٌيةٌ .
المؤرخ ىشاـ جعيط الٌذم قاؿ" :ال معنى النتقاد االستشراؽ ما داـ العرب ،كالمسممكف لـ يقكمكا
ٌ فإننا نكافؽ ممحكظة
قمـ بسيطة .لذا ٌ
مبرر،
أف االستشراؽ ٌ النقدية ٌ
ٌ عالميا ".كيمكف أف نستخمص مف ىذه المٌفتة
ٌ باستكشاؼ ماضييـ بأنفسيـ باتٌخاذ المناىج المعترؼ بيا
األكركبي يراجع نفسو دكف تكقٌؼ ،بؿ قؿ ٌإنو ىيجمًد
ٌ أف الفكر
مبررات كجكده ،عمى اعتبار ٌ
في حيف ٌأنو عمى االستغراب أف يبحث عف ٌ
نفسو دكف ىكادة.
اإلسباني...،الخ
ٌ اإليطالي ،ك
ٌ نسي ،ك
م ،كالفر ٌ
خصكصيات االستشراؽ األلماني ،مقارنة باالستشراؽ االنجميز ٌ
ٌ يتحدث عف
ىناؾ مف ٌ
األلماني المعاصر .كلئف اعتقد
ٌ اإلسبلمية في الفكر
ٌ خمفية الييمنة السياسية ،كالعسكرٌية لـ تؤثٌر في نشكء الدراسات
أف ٌ عمى اعتبار ٌ
فإف
األلماني لـ ينخرط في االيديكلكجيا االستعمارٌيةٌ ،
ٌ أف االستشراؽ
كؿ مف ادكارد سعيد ،كأنكر عبد المالؾ ،كعبد الغفٌار مكاكم ٌ
ٌ
تكرط بعض المستشرقيف إمكانية ٌ
ٌ مما يد ٌؿ عمى
يتـ بال ٌشرؽ في خدمة الشأف السياسيٌ .
األلماني الم ٌ
ٌ تكرط الفكر
ىناؾ مف يثبت ٌ
بالجمعية المصرٌية
ٌ بالسياسي ،كىك ما فعمو ،بأدلٌة كافية ،مثبل عبد الحميد صبحي ناصيؼ ،العضك
ٌ في
األلماف في تعميؽ المعر ٌ
217
الحؽ ييقاؿ ٌأنو ال يمكف إطبلقا تأثيـ ىذا االرتباط ،أم التعالؽ بيف المعرفي كالبكليطيقي ،فبل يمكف تص ٌكر
يخية .ك ٌ
لمدراسات التار ٌ
ألية دكلة .فالمجتمع بنية متكاممة كمتعالقة كال يمكف
الثقافية ٌ
ٌ م ،كك ٌؿ مجاالت الحياة
السياسي ،كالعسكر ٌ
ٌ اإلبستمكلكجي منعزال عف
ٌ
تفكيؾ البنية بالبساطة الٌتي نعتقدىا ،فما يقاؿ عمينا يقاؿ عف غيرنا ،كالعكس صحيح ،كال استثناء ،بيف ىذا كذاؾ ،في ىذه المسألة،
بعامة.
إنسية ٌ
ألنيا ٌ
ٌ
متعددة حكؿ الفكر
(كلد سنة )1943بدراسات ٌ
الدكتكر يكسؼ فاف ايس Josef Van Assي
ألماني معاصر ،ىك ٌ
ٌ تفرد مستشرؽ
ٌ
كنا نعمـ
تخصص ،في دراسة عمـ الكبلـ .Kalâmelogie/ Théologieكلئف ٌ
ٌ تخصص ،أكثر ما
ٌ بأنو
اإلسبلمي .كيمكف القكؿ ٌ
فإف الفارؽ الٌذم صنعو "فاف ايس"،
اقيٌ ،
بالمستجد ،بالنسبة لنا نحف المسممكف ،أك بالنسبة لمدرس االستشر ٌ
ٌ الكبلمي ليس
ٌ بأف الدرس
ٌ
كعقدية ...الخ كعمـ الكبلـ.
ٌ كدينية،
ٌ كتنظيمية،
ٌ اقتصادية،
ٌ سياسية ،ك
ٌ ىك بحثو في العبلقة بيف المجتمع بك ٌؿ ما يحممو مف تعقيدات
تكلد
المتفردة .كىنا أيضا ٌ
ٌ المعرفية
ٌ الكبلمية ،كىنا تكمف فضيمتو
ٌ سكسيكلكجية المعرفة
ٌ كبيذا فقد فتح فتحا معر ٌفيا جديدا نحك درس
تضمنتو ستٌة مجمٌدات تحت عنكاف "عمـ
ٌ تيتـ بمنتكج ىذا المستشرؽ .كىك المنتكج الٌذم
ال ٌشعكر بضركرة إفراد دراسة ،بؿ دراساتٌ ،
الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة" Théologie und Gesellschaft im 2und 3 jahrhundert hidschra,
1990.
إف قراءة نصكص "فاف ايس"ٌ ،أدت بنا إلى التأ ٌكد مف صدؽ قكلة الفيمسكؼ الفرنسي ىنرم بيرجسكف (Henri )1941/1859
ٌ
تامة.
عدكه بصكرة ٌ
فإنو ال يمكف البتٌة أف يككف ٌ
بأف الٌذم يعرؼ بإتقاف كعمؽ لغة شعب ما كأدبوٌ ،
luis Bergsonالٌذم أ ٌكد ٌ
الركح
األكاديمية ،ك ٌ
ٌ عممية ،بؿ التزـ بأقصى الحدكد باألخبلؽ
ٌ األلماني ٌأية عداكة أك مماحكة غير
ٌ كبالفعؿ ،فمـ يظير المستشرؽ
أكاديميتو ،فيك غير منتـ
ٌ عممية في ميداف دراسة عمـ الكبلـ .كالى جانب
ٌ أم أغراض غير
مما يجعمنا نسقط عميو ٌالعممية العاليةٌ .
ٌ
معينة.
المكجو لسمطة ٌ
ٌ المتحررة مف ضغط االنتماء أك مف التفكير
ٌ الحرة،
مما سمح لو بالدراسة ٌ
ألية فرقة ميما كانتٌ ،
ٌ
المتكررة ،كالتقريظات غير المنتيية في
ٌ حرضنا فعبلن إلى خكض غمار قراءة المكسكعة الٌتي ألٌفيا "فاف ايس" ،ىك اإلشادات
ما ٌ
كجييا إليو أرككفٌ ،إال ٌأنو لـ يتكقٌؼ عف التنبيو إلى ضركرة ترجمة
الرغـ مف بعض االنتقادات المٌطيفة الٌتي ٌ
الرجؿ .فعمى ٌ
حؽ ىذا ٌ
ٌ
1
الدكتكر عبد
أف ٌالنقؿ .كما ٌ
لمنفع الكبير الٌذم سيأتيو ىذا ٌ
الفارسية) ،نظ ار ٌ
ٌ التركية،
ٌ اإلسبلمية الكبرل (العر ٌبية،
ٌ أعمالو إلى المٌغات
اإلسبلمي ،سكاء مف بيف المسمميف أك غير المسمميف.
ٌ بأف "فاف ايس" مف أكبر العالميف األحياء بعمـ الكبلـ
المجيد الشرفي ،قد أ ٌكد ٌ
المخصصة لدراسة عبلقة عمـ الكبلـ بالمجتمع
ٌ الدراسة عف نتائج المكسكعةكؿ ىذا ،كغيره كثير لـ نذكره ،قد دفعنا إلى إنجاز ىذه ٌ
ٌ
حدد "يكسؼ فاف ايس" العبلقة بيف عمـ الكبلـ
في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة .كالمشكمة الٌتي تمثٌؿ نقطة االنطبلؽ ىي :كيؼ ٌ
1
محمد أرككف :التش ٌكؿ البشرم لئلسبلـ – مقاببلت مع رشيد بف زيف كجاف لكم شميجؿ ،ترجمة ىاشـ صالح ،المركز الثقافي
ٌ
األصكلي كاستحالة التأصيؿ – تحك تاريخ
ٌ محمد أرككف :الفكر
الدار البيضاء ،الطبعة األكلى ،2013 ،ص .235كأيضاٌ :
العربيٌ ،
محمد أرككف:
الساقي ،بيركت ،الطبعة األكلى ،1999 ،ص .34-33كأيضاٌ : آخر لمفكر اإلسبلمي ،ترجمة ىاشـ صالح ،دار ٌ
الدار البيضاء كمركز اإلنماء القكمي ،بيركت ،الطبعة
يخية الفكر العربي اإلسبلمي ،ترجمة ىاشـ صالح ،المركز الثقافي العربيٌ ،
تار ٌ
الثانية ،1996 ،ص ص .111-92كذلؾ :محمد أرككف :اإلسبلـ ،أكركبا ،العرب – رىانات المعنى كارادات الييمنة ،ترجمة ىاشـ
218
مادم البحت ؟ كما قيمة ىذا التحديد في فيمنا لتاريخ عمـ الكبلـ
اإلسبلمي في كاقعو ال ٌ
ٌ م خالص ،كالمجتمعكمنتكج فكر ٌ اإلسبلمي
ٌ
النكعية الٌتي أضافتيا مكسكعة "فاف
الكمية ك ٌ
ٌ سكسيكلكجية[عمـ اجتماع] المعرفة ؟ كأخي ار ماىي اإلضافة
ٌ في ظ ٌؿ منظكر اإلسبلمي
ٌ
اإلسبلمية ؟
ٌ الكبلمية إلى المكتبة
ٌ ايس"
أوال -من االستشراق إلى االستغراب :قراءة جديدة "الستشراق" إدوارد سعيد:
اإلسبلمي مف االستشراؽ .كعندما
ٌ سيككلكجية المكقؼ
ٌ التحميمية الكافية ،إليراد ك ٌؿ ما يمزـ لمشكمة
ٌ المفيكمية ك
ٌ تنقصنا المساحة
الذاتية المفرطة .إذ نجد الكثير مف
ٌ فإننا نقصد المكقؼ البلٌ – عممي أك قؿ المصبكغ بمكف "سيككلكجية المكقؼ"ٌ ،
ٌ نستعمؿ عبارة
اإلسبلمي ،ما ىي إالٌ رسمة غير بريئة لريشة
ٌ أف صكرة ال ٌشرؽ
العممي ،عمى أساس ٌ
ٌ المكاقؼ المح ٌذرة مف االستشراؽ ،التٌحذير غير
بي لم ٌشرؽ ، Western conception of the orientيذ ٌكرنا تحديدا بالدراسة
المفاىيمي الغر ٌ
ٌ بي .كالحديث عف التصكير الفناف الغر ٌ
ٌ
مر عمييا إلى غاية اليكـ ،كنحف في ،2016قرابة الدراسة الٌتي ٌ
الممتازة كال ٌذائعة لؤلديب كالمف ٌكر "إدكارد سعيد" .كرغـ تقادـ ىذه ٌ
أف ما حممو مف مكاقؼ أمينة كصادقة ،جعمتو يحتفظ بًر ٌ
اىنيتو .كعمى طبعة األكلى منو سنة ،1978إالٌ ٌاألربعيف سنة ،إذ صدرت ال ٌ
الخمفية الفكرٌية،
ٌ بأف "سعيد" قد كشؼ عف عكرة االستشراؽ كمثالبو عندما استطاع تبياف
المتأنية القائمة ٌ
ٌ الرغـ مف انتشار القراءة غير
ٌ
اقية عنده لـ
الدراسات االستشر ٌ
أف حقيقة المكقؼ مف ٌ
متأنية أكثرٌ ،
اقي ،إالٌ ٌأننا نعتقد ،كبعد قراءة ٌ
السياسية لمعقؿ االستشر ٌ
ٌ يخية ك
كالتار ٌ
تكاسي أيضا ،الٌذم
لكنو االر ٌ
كمف كذلؾ المشركع الجرمءٌ ،
تدرؾ اإلدراؾ الكافي .كبالتٌالي اتٌخاذ المكقؼ السميـ ،مف "إدكارد سعيد" ٌ
ظر لو المف ٌكر المصرم المعاصر "حسف حنفي" تحت عنكاف "عمـ االستغراب".
نٌ
تدؿ
المتحمسة الٌتي قي ٌدمت لكتاب "االستشراؽ" إلدكارد سعيد في الكثير مف المناسبات ،تنتقي الفقرات الٌتي ٌ
ٌ المتسرعة ك
ٌ إف القراءة
ٌ
الشرقية مف خبلؿ
ٌ يكي عمى الحضاراتاألكركبي ،كاألمر ٌ
ٌ عدة صكر أخرل ،لسيطرة الغربعمى اعتبار ىذا المبحث صكرة ،مف ٌ
اىية كارادة الييمنة
أف صميـ االستشراؽ قائـ عمى الكر ٌ
صناعة أك اخت ارع صكرة لتمؾ الثقافات ،صكرة ما أنزؿ ا﵀ بيا مف سمطاف .ك ٌ
العالمية العنيفة المتمثٌمة في "األينتي-
ٌ بأف االستشراؽ ال يختمؼ عف النزعة
المبررة عمى شعكب مغمكبة ،لذا يمكف القكؿ ٌ
ٌ غير
لمسامية 1.حقيقةن ،يمكف اقتباس ً
العالمية المضادة ٌ
ٌ لمنزعة
محمية ٌ
ٌ إسبلمية
ٌ ككأنو نسخة
لمساميةٌ ،
سيميت" antisémiteأك العداء ٌ
الدالة عمى ىذا المنحى مف الفيـ كالتأكيؿ .لكف ،ال يجب إغفاؿ النصكص
العشرات مف النصكص ،مف كتاب "االستشراؽ" لسعيدٌ ،
التكجو الثٌنكم في تقرير قيمة ،أك قؿ حقيقة االستشراؽ عند "ادكارد
ٌ الدالة عمى "تبرير" االستشراؽ ،أك قؿ تطبيعو .كىذا
األخرلٌ ،
لمدراسات
أساسية في فيمنا الصحيح ٌ
قضية كاحدة ك ٌ
ٌ المنطقي .بؿ يد ٌؿ فقط ،عمى
ٌ م أك الخمط
يدؿ عمى التناقض الفكر ٌ
سعيد" ،ال ٌ
سعيد عيكب االستشراؽ
ه القيمي ليذه الظاىرة الثقافية كالعممية الكبرل حقٌا .ما معنى أف يكشؼ
ٌ الشرقية ،كىي حقيقة االستقطاب
ٌ
المتحيزة ،طرحو
ٌ االنتقائية أك االختيارٌية أك
ٌ حتميتو في نفس المقاـ ؟ ىذا ىك السؤاؿ الٌذم لـ يستطع ،أصحاب القراءات
ٌ كيظير
ي
كنا نعتقد
الشرقية -كلئف ٌ
ٌ الصريح .ىذا االستقطاب يد ٌؿ ،في تقديرنا ،عمى ٌأنو ال يمكف أف نحاكـ ،نحف أصحاب الحضارات
طرح ٌ
ال ٌ
أف
أف تكصيؼ المسمميف بالشر ٌقية أمر فيو نظر كثير عمى اعتبار ٌأننا لسنا ال ٌشرؽ الكامؿ ،بؿ نحف كسط بيف ال ٌشرؽ كالغرب ،كما ٌ
ٌ
بي .كك ٌؿ ىذه المفاىيـ الٌتي
أكركبي ،أك غر ٌ
ٌ نتحدث عف إسبلـ
ٌ اإلسبلـ اآلف أصبح ظاىرة بارزة في حضارة الغرب ،لذا تجدنا
1
إدكارد سعيد :االستشراؽ – المفاىيـ الغربية لمشرؽ ،ترجمة محمد عناني ،رؤية لمنشر كالتكزيع ،القاىرة ،الطبعة األكلى،2006 ،
ص .314-79-50-42
219
مرة ،الحذر في استعماؿ األلفاظ العتيقة ،كفؽ منطؽ األلفة التصكرٌية كالعادة الفكرٌية
منا ،في ك ٌؿ ٌ
تزحزحت ،كال زالت تتزحزح ،تتطمٌب ٌ
أف منبع ظاىرة االستشراؽ ،ليس مف الغرب ،بؿ مف الشرؽ ذاتو،
المتسرعة .عمى اعتبار ٌ
ٌ – في مبحث االستشراؽ كالمحاكمة الذاتية
فقد "حضر العمماء ،أك الباحثكف ،أك المب ٌشركف ،أك التٌجار ،أك الجنكد إلى الشرؽ ،أك ف ٌكركا في أمر الشرؽ ،ألنيـ كانوا يستطيعون
1
أف الفتة "فسح المجاؿ" الٌتي
الحضور إلى الشرؽ ،أك التفكير في ال ٌشرؽ ،دكف مقاكمة تذكر مف جانب ال ٌشرؽ ".كىذا يد ٌؿ عمى ٌ
الشرقية كحضكره فييا
ٌ بي إلى الساحة
كتنظيميا ،دخكؿ العقؿ الغر ٌ
ٌ قانكنيا
ٌ بكابتو ،ىي الٌتي سمحت،
أعمنيا ال ٌشرؽ كعمٌقيا عمى ٌ
بي ،لـ
بالنسبة لمعقؿ الغر ٌ
إف "إرادة الحضكر" ٌفإنو بالتحديد الٌذم فتح المجاؿٌ .
القكم كالمييمف .كاف كاف ىناؾ مف ييبلـٌ ،
ٌ الحضكر
القكة الٌتي ىي
حد كبير ،مظي ار مف مظاىر إرادة ٌ
فإف ىذه اإلرادة ،قد مثٌمت إلى ٌ
تكف ممكنة لكال استشعار قدرتو كاستطاعتو ،لذا ٌ
طبيعة أك قؿ غريزة ال يمكف اقتبلعيا مف اإلنساف دكف أف نقتمع حياتو بال ٌذات ،أكليست إرادة القكة ،أك قؿ االستقكاء أحسف ،ىي
الشر ،فيما كراء القيمة
إف ىذه اإلرادة تقع فيما كراء الخير ك ٌ
الحقيقة األكلى كاألخيرة لك ٌؿ المكجكدات بما في ذلؾ اإلنساف ذاتو ؟ ٌ
2
نبرر استقكاءنا
كنمك القكل .فيؿ ٌ
ألنيا طبيعة طابعة في اإلنساف ،كك ٌؿ أفكار كأفعاؿ البشر ال تخرج عف طمب االستقكاء ٌ
كالثقافة ٌ
المساءلة الصارمة
لكنيا في الحقيقة تمثٌؿ ي
بيٌ ،
الدفاع عف العقؿ الغر ٌ
كنتن ٌكر الستقكاء الغرب .قد تبدك ىذه المبلحظات ضربا مف ٌ
اس بًا ٍلبًّْر ىكتىٍن ىس ٍك ىف أ ٍىنفي ىس يك ٍـ كف َّ
الن ى ٍم ير ى
جدا؛﴿أىتىأ ي
الميـ ٌ
ٌ لم ٌذات أك قؿ االنتصار عمى ال ٌذات ،كالقرآف الكريـ دائـ اإلشارة إلى ىذا المفيكـ
م ً ً
نبي" مف مسألة المدح كالقدح الحضار ٌ كف﴾[البقرة .]44 ،كسنشير أدناه إلى مكقؼ المف ٌكر "مالؾ بف ٌ اب أىفى ىبل تى ٍعقمي ى
كف ا ٍلكتى ى
ىكأ ٍىنتي ٍـ تى ٍتمي ى
اإلسبلمي ،المسايرة الكاممة ،قد تكقعنا في مجاؿ مبلحظة المٌكرد كريمر
ٌ ألف مسايرة العقؿ الشرقي ،أك قؿ
كعبلقتيا باستنياض اليمـٌ .
بأف "العرب مكلعكف باإلفراط في المدح كالممؽ" 3.كالمسألة األخرل الٌتي ٌنبو إلييا إدكارد سيعد ،ىي عبلقة
الٌذم كتب في مذكراتو ٌ
الصارـ
النمط مف التفكير ٌ
بأف العمـ ىك ذلؾ ٌ نتصكر ،كفؽ منظكر يبدك ساذجا نكعا ماٌ ،
ٌ بالسياسي في ثقافة ما .فنحف
ٌ العممي
ٌ
أف الثقافة بما ىي ذلؾ الك ٌؿ المرٌكب الٌذم يشمؿ ك ٌؿ المجاالت
كمية عف المجاؿ السياسي .لكف الحقيقة ٌ
كالمحايد المنفصؿ ٌ
النسؽ
اجتماعيا .فالثٌقافة نسؽ ،ك ٌ
ٌ الكمي ،كالتٌاـ ،أمر غير متحقٌؽ
ٌ أف الفصؿ بيف منتجات ثقافة ما ،الفصؿ
االجتماعية ،يد ٌؿ عمى ٌ
ٌ
يشير إلى تخادـ كتعالؽ بيف حمقات الك ٌؿ ،كىذا شأف الثقافة البشرٌية الٌتي "تشمؿ جميع مظاىر حياة المجتمع كال تقتصر عمى تمؾ
1
إدكارد سعيد :االستشراؽ – المفاىيـ الغربية لمشرؽ ،ص ص .142 – 51كقد عثرنا في سياؽ اعادة قراءة كتاب ادكارد سعيد
عمى مكقؼ قريب مف مكقفنا في نصكص السكسيكلكجية المغربية فاطمة المرنيسي ،حيث كتبت" :اصدر ادكارد سعيد عاـ 1978
كتا ب االستشراؽ يحمؿ فيو تحميبل دقيقا كعمميا الكميشييات الغربية عف الشرؽ .كغالبا ما قدمت ىذه الدراسة التحميمية لمعرب الحجج
إلضعاؼ "االنتقادات" ،كأعطتيـ الفرصة لمتبمد في رضى ذاتي ال يخمك مف التساىؿ ،كيتسـ بالغركر السيما كأنو يستند إلى تعميـ
جاىؿ لمكاقع العربي ".نقبل مف:
فاطمة المرنيسي :ىؿ أنتـ محصَّنكف ضد الحريـ ؟ (نص اختبار لمرجاؿ الذيف يعشقكف النساء) ،ترجمة نيمة بيضكف ،المركز الثقافي
العربي ،الدار البيضاء ،ص.55
2
Friedrich Nietzsche: la volonté de puissance, traduit Geneviève Bianquis, tome 1, édition
Gallimard, Paris, 1995, livre 2, § 19, p 224.
3إدكارد سعيد :االستشراؽ – المفاىيـ الغربية لمشرؽ ،مرجع سابؽ ،ص .94
211
1
م الٌذم ننبذه في حضارة الغرب ،يمثٌؿ حمقة مف حضارتو،
إف المجاؿ السياسي ،كالعسكر ٌ
المظاىر الٌتي ىي مكضع تقدير فقط" ،بؿ ٌ
كمفيكميا .لذا كلئف بدا ضربا مف االختبلؼ في نمط
ٌ يخيا
فبل يمكف أف نأخذ حمقة ،كنشتـ بقية الحمقات الٌتي ال تنفصؿ عنيا تار ٌ
متعجبا" :ىؿ المعرفة
ٌ سياسية ،كالسياسة معرفة أيضا ،لذا يتساءؿ "إدكارد سعيد"
ٌ أف المعرفة
العممية ،إالٌ ٌ
السياسية ،ك ٌ
ٌ المعرفتيف
2
أف ىذا
حقيقية" ؟" األكيد ٌ
ٌ السياسية السافرة معرفة "غير
ٌ أف المعرفة
"الحقيقية " معرفة غير سياسية في جكىرىا ،أك ىؿ يمكف القكؿ ٌ
ٌ
أف تكجيو السؤاؿ كجية شر ٌقية يفضي إلى المطمكب :ىؿ الحضارات الشر ٌقية تفصؿ بيف
الدليؿ ٌ
الفصؿ ال يي ٌبرر ،ميما حاكلنا التبرير .ك ٌ
تتعضى فيو قدراتو الذىنية،
ٌ إف اإلنساف ليك الكائف الٌذم
عقميا العممي كعقميا السياسي ؟ ىنا فقط ندرؾ مدل أنثركبكلكجية المسألةٌ ،
أف الفصؿ بيف
كالنفسية كحتى الجسمية دكف تمييز كامؿ .كقد أشار ميشاؿ فككك ( )Michel Foucaultفي "تاريخ الجنسانية" إلى ٌ
ألف المجتمع يمثٌؿ جيا از كبي ار إلنتاج الحقيقة ،كال يمكف
كمتجاكز تماماٌ ،
المعرفة كالسمطة تخطيب mis-en descoursغير شفٌاؼ ي
السمطة ،عمى
بأف "الحقيقة ال تنتمي إلى نظاـ ٌ
الكؿ؛ كالقكؿ ٌ
الكؿ مف أجؿ خدمة ىذا ٌ
الحديث عف الجياز إالٌ في ظ ٌؿ تكامؿ أجزاء ٌ
اعتبار ٌأنيا أقرب إلى الحرية منو إلى االنضباط؛ قكؿ ينتمي إلى الثٌيمات التقميدية في الفمسفة ،لكف يمكف لمتاريخ السياسي لمحقيقة
مقيد أيضا ،كلكف إنتاج الحقيقة مخترؽ مف طرؼ جميع ركابط
كبأف الخطأ ليس ٌ
حرة مف حيث طبيعتياٌ ،
بأف الحقيقة ليست ٌ
أف ييظير ٌ
3
السمطتيف ،سمطة الحقيقة كسمطة
أف إرادة الفصؿ بيف ٌ
أف السمطة ذاتيا تنتج الحقيقة ،كاألكيد ٌ
السمطة ".فالحقيقة تينتج السمطة ،مثمما ٌ
العممية ،كالحقيقة
ٌ إف الثقافة ىي المجاؿ الكاسع الٌذم تذكب فيو الحقيقة
يخي مكجكد قديما كحالياٌ .
السياسة ،ال يستقيـ مع كاقع تار ٌ
ثـ
األكركبيٌ ،
ٌ أف االىتماـ
أف "الفكرة الٌتي أطرحيا ىي ٌ
السياسية ،كىذا بالتحديد ما أدركو إدكارد سعيد بك ٌؿ حذؽ كرطانة عندما قاؿ ٌ
ٌ
يخية كلكف الثقافة ىي التي أكجدت ذلؾ االىتماـ ()...
الركايات التار ٌ
سياسيا كفؽ بعض ٌ
ٌ يكي ،بال ٌشرؽ كاف اىتماما
االىتماـ األمر ٌ
المؤسسات ( )...كاالستشراؽ ليس تمثٌبل
ٌ العممي ،أك
ٌ سمبية في الثقافة ،أك البحث
سياسي يتجمٌى بصكرة ٌ
ٌ فميس االستشراؽ مجرد مجاؿ
يالية غر ٌبية دنيئة تيدؼ إلى إخضاع العالـ الشرقي" 4.كحتى بف نبي ،الذم سنأخذ بضرب مف التفصيؿ
كتعبير عف مؤامرة إمبر ٌ
ا
نظريتو حكؿ االستشراؽ ،لـ يستطع الخركج مف إطار تبعية العممي لمسياسي االستعمارم بصدد حديثو عف المستشرؽ الفرنسي الكبير
المتخصص .المشكمة
ٌ قي
اقي ،مف المسائؿ الٌتي ال يمكف إنكارىا بالنسبة لمشر ٌ
لمدرس االستشر ٌ
العممي ٌ
ٌ "لكيس ماسينيكف" 5.إذ الجانب
إما مبلكا ،أك شيطانا ،ىك ليس بيذا كال ذاؾ .فقصكر ىذا الدرس ،مف األمكر عقمية الكاحدية الٌتي ترل في االستشراؽ ٌ
دائما ىي ٌ
الظاىرة ،سكاء بالنظر إلى المستشرقيف الٌذيف انخرطكا في تنظيمات أق ٌؿ عممية مف العمـ ذاتو ،أك بالنظر إلى المكقع الحضارم
أف
يدؿ عمى ٌ
مما ٌ
أىمية عف اإلخفاقاتٌ ،
لمحضارة الغربية كك ٌؿ .لكف النزاىة العممية ،تفرض عمينا النظر إلى اإلنجازات الٌتي ال تق ٌؿ ٌ
1
رالؼ لينتكف :األصكؿ الحضارية لمشخصية ،ترجمة عبد الرحمف المباف ،دار اليقظة العربية باالشتراؾ مع مؤسسة فرانكميف
لمطباعة كالنشر ،بيركت – نيكيكرؾ ،1964 ،ص ص .58 -42
2
إدكارد سعيد :االستشراؽ – المفاىيـ الغربية لمشرؽ ،مرجع سابؽ ،ص .55
3
Michel Foucault: Histoire de l' sexualité – la volonté de savoir, édition Gallimard, 1976, p 80-81.
4إدكارد سعيد :االستشراؽ – المفاىيـ الغربية لمشرؽ ،مرجع سابؽ ،ص ص .320-319 ،58-57
5مالؾ بف نبي :العفف (مذكرات) – الجزء األكؿ ،1940-1932 :ترجمة نكر الديف خندكدم ،دار األمة لمطباعة كالنشر كالتكزيع،
برج الكيفاف ،الطبعة األكلى ،2007 ،ص .109
211
1
التكجو نحك الغرب
ٌ قي ،ىي
الطبيعية لكؿ باحث شر ٌ
ٌ أف الحركة
عممي بالمعنى الخالص كالمحض لمكممة .لذا نجد ٌ ٌ ىناؾ استشراؽ
اقية مف طرؼ كبار
بالدراسات االستشر ٌ
لمحصكؿ عمى معرفتو بال ٌشرؽ ذاتو ،كفي ىذا المكقؼ الٌذم يد ٌؿ عمى ما يد ٌؿ مف اعتراؼ ٌ
قكة االستشراؽ الذاتية" .فبل يممؾ باحث
بالتمسؾ بفرضية ٌ
ٌ الشرقييف المسمميف كالعرب ،يسمح لنا ،يقكؿ إدكارد سعيد،
ٌ األكاديمييف
ٌ
العممية كال ما يحدث في المعاىد كالجامعات في الك .ـ .أ ،كأكركبا ،كالعكس
ٌ سبلمي أف يتجاىؿ ما ينشر في الدكرٌيات
ٌ بي ،أك إ
عر ٌ
2
تحيز أك
أم ٌمكضكعية شفٌافة دكف ٌ
ٌ عممية
فإنو الكاقع الٌذم نستند عميو لتأسيس أحكاـ ٌ
مما ييؤسؼ لوٌ ،
ليس صحيحا ".كاف كاف ىذا ٌ
الثقافية الغر ٌبية 3.مف خبلؿ
ٌ قي ىك الٌذم ساىـ ،كالزاؿ يساىـ ،في استضافة كقبكؿ الييمنة
بأف الشر ٌ
مفر مف اإلقرار ٌ
تعصب .لذا فبل ٌ
ٌ
صح" ،حسب بيرجر ،أ ٌف المستشرؽ كحده ىك الٌذم يستطيع العممي المطمكب ،ليذا أيضا ٌ
ٌ الدرس
رفضو لفيـ كنقد كدرس حضارتو ٌ
نبي ،إالٌ صكرة
"القابمية لبلستعمار" عند مالؾ بف ٌ
ٌ متأصبل عف تفسير ذاتو" .4كما مفيكـ
ٌ تفسير ال ٌشرؽ ،ما داـ ال ٌشرؽ يعجز عج از
"القابمية لبلستشراؽ" .كالحقيقة أف العقؿ اإلسبلمي الناقد لئلستشراؽ ،قد تعامؿ مع عبلقة العممي
ٌ نسميو
مما يمكف أف ٌ شاممة ٌ
بالسياسي مف زاكية كاحدة فقط ،كىذا ى ك عيف القصكر .عمى اعتبار أننا فكرنا في إمكانية تأثير العقؿ السياسي عمى العقؿ العممي
فقط ،عمى الرغـ مف أف ظاىرة "إضفاء العممي عمى السياسي" 5،مف الظكاىر المكجكدة كالمدركسة أيضا ،حيث أنو يمكف الحديث
عف أثر الدراسات االستشراقية األكاديمية عمى العقمية السياسية الغربية .فيي تساىـ بقسط معمكـ في تشكيؿ العقؿ السياسي ،كىذا ما
ال يمكف تغافمو ككجو معككس لعبلقة العممي باإليديكلكجي.
تبقى مسألة تبرير عمـ االستغراب؛ الٌذم أصبح حاليا مشركعا يتمكضع في سياؽ مجابية االستشراؽ ،كالٌتي أشرنا إلييا في
الدكتكر حسف حنفي في أحد محاضراتو في جامعة لمنظر كالمباحثة .كقد قاؿ ٌ
األكؿ مف ىذا البحث ،مفتكحة ٌ
عنكاف العنصر ٌ
لمدة قركف .لذا فمـ
لمدراسة ،بعدما كاف ذاتا فاعمة ٌ
جسية أف يككف مكضكعا ٌ
أف الغرب رفض بك ٌؿ نر ٌ
قسنطينة ،الجزائر ،سنة ٌ ،2008
ردا عمى ظاىرة التغريب الٌتي انبثقت مف المركزية
بي ٌ
"مقدمة في عمـ االستغ ارب" ،كمكقؼ مف التراث الغر ٌ
تستقبؿ دراستو المكسكمة بػ ٌ
6
بي .فيؿ ىذا التبرير مقبكؿ لرفض كتابو ،كمشركعو الٌذم يبدك األكركبية ،قمنا لـ تيستقبؿ االستقباؿ المنتظر مف طرؼ العقؿ الغر ٌ
أف المسألة ليست مرتبطة برفض الغرب أف ييدرس بعدما كاف
مما يبدك ،عمى اعتبار ٌ
منطقية ٌ
ٌ بأف ىذا التبرير أق ٌؿ
كاعدا ؟ ٌإننا نعتقد ٌ
العممي المحض.
ٌ الدرس
التقدـ المطمكب في دراسة حضارتو ٌ
كلحد اليكـ ،لـ يتقدـ ٌ
ٌ قي،
أف الكعي الشر ٌ
الدارس ،بقدر ما يد ٌؿ عمى ٌ
ىك ٌ
إف انتقاؿ الغرب مف الحداثة
بي ،لـ يتكقٌؼ كلك لحظة في دراسة حدكد تاريخو ،كحضارتو ،كمجاؿ إخفاقاتوٌ .
أف الكعي الغر ٌ
في حيف ٌ
يخية الٌتي تيظير
إلى األنكار إلى ما بعد الحداثة كالى "ما بعد" "ما بعد" الحداثة ،ليك المممح الظاىر عمى ذلؾ ،ىك المٌكحة التار ٌ
إف مكقؼ "سعيد" ليبدك في اتٌجاه معاكس تماما مف مكقؼ
كنظموٌ .
الدؤكب عمى نقد فكره ،كتاريخو ،كحضارتو ،ي
بي ٌاالشتغاؿ الغر ٌ
1إدكارد سعيد :االستشراؽ – المفاىيـ الغربية لمشرؽ ،مرجع سابؽ ،ص .259
2
المرجع نفسو ،ص .490
3المرجع نفسو ،ص .491
4المرجع نفسو ،ص .442
5
يكرغف ىابرماس :العمـ كالتقنية كػ "ايديكلكجيا" ،ترجمة حسف صقر ،منشكرات الجمؿ ،ككلكنيا ،الطبعة األكلى ،2003 ،ص
.128
6
الدار الفنية لمنشر كالتكزيع ،القاىرة ،1991 ،ص .19 ،15
مقدمة في عمـ االستغرابٌ ،
حسف حنفيٌ :
212
يتصكر أحد كجكد
ٌ حسف حنفي ،عمى اعتبار ٌأنو رفض ىذا االنفعاؿ أك االرتكاس في التفكير .لذا نجده يقكؿ" :ليس مف المحتمؿ أف
الرد عمى االستشراؽ ليس ىك
متقدـ مف كتابوٌ " :
ٌ يسمى "االستغراب" 1.كيكاصؿ التأكيد في مكضع مجاؿ مناظر لبلستش ارؽ ٌ
شرقيا ىك نفسو فمف المحتمؿ ،بؿ مف األرجح ،أف
ٌ بأنو ما داـ
االستغراب ،كلف يجد مف كاف "شر ٌقيا" يكما ما ٌأية تسكية في القكؿ ٌ
2
أف
الدكتكر حنفي ،ىك ٌابي الٌذم اقترحو ٌ
قكة المشركع االستغر ٌ
يبرر ،عدـ ٌ
الخاص" .كما ٌ
ٌ يدرس" ،شر ٌقييف جدد" أك "غر ٌبييف" مف ابتكاره
لمزكاؿ في ٌأية لحظة ،أم لحظة زكاؿ الفعؿ ذاتو الٌذم أكجدىا .لذا
معرضة ٌ
كرد فعؿ ،ىي مشاريع ٌتكاسية ،الٌتي تقكـ ٌ
المشاريع اإلر ٌ
إف حضارة
م لتبرير االستغرابٌ .لي كضركر ٌفاألىـ مف عمـ االستغراب ،ىك االنتقاؿ مف حضارة االنفعاؿ إلى حضارة الفعؿ كشرط ٌأك ٌ
ٌ
طبيعة تنفر مف الفراغ كتأبى الخبلء.
يتجر عمينا ،فال ٌ
بي ٌأفعاليف لما يكجد عقؿ غر ٌ
كنا ٌ
الفعؿ ،تمغي إمكانية االستشراؽ ذاتو ،لك ٌ
ثانيا -نحو تثمين نظرية "مالك بن نبي" حول قيمة االستشراق بالنسبة لموعي اإلسالمي :من االرتضاء إلى االنتقاد.
اإلسبلمي .سكاء في ميداف
ٌ نبي ،كالٌذم كاف بدكره ميمكما بمشكمة العالـ
يتممٌكنا حنيف دائـ نحك استذكار منظكر مالؾ بف ٌ
النادر كالتحميؿ الكاضح كالمعقكؿ الٌذم نجده في كتابو
"الصدؽ" ٌ
كلعؿ ىذا الحنيف متكلٌد مف ٌ
األفكار ،أك االقتصاد ،أك الحضارة كك ٌؿٌ .
قدمو
المتسرع الٌذم ٌ
السطحي ،ك ٌ
ٌ الرغـ مف التعريؼ
اإلسبلمي الحديث " .كعمى ٌ
ٌ المكسكـ بػ" إنتاج المستشرقيف كأثره عمى الفكر
اإلسبلمية" 3.عمى
ٌ اإلسبلمي ،كعف الحضارة
ٌ "إننا نعني بالمستشرقيف ال يكتٌاب الغر ٌبييف الٌذيف يكتبكف عف الفكر
لبلستشراؽ عندما قاؿٌ :
الثقافي ،بؿ
ٌ افي ،ك
أف المسمميف ال يمثٌمكف ال ٌشرؽ بالمعنى الجغر ٌ
أف االستشراؽ أكسع مف ذلؾ ،كعمى اعتبار ثاف كىك ٌاعتبار ٌأكؿ ىك ٌ
الثقافية كالتجارية بيف االغريؽ ،ككريت مف
ٌ أف العبلقات
بي في أكثر مف بعد ،كنحف نعمـ ٌ
الثقافي الغر ٌ
ٌ ىـ ال ينفصمكف عف المناخ
إسبلميا الحقا قد
ٌ أف العالـ الٌذم سيصبح
المؤرخ ليا بك ٌؿ دقٌة كعناية ،كما ٌ
ٌ جية ،كمصر ،كشماؿ إفريقيا مف جية ثانية مف األمكر
أقؿ غر ٌبية ،سكاء في العالـ القديـ بعد حممة ذك
أف ال ٌشرؽ أق ٌؿ شر ٌقية ،كالغرب ٌ
المسيحية بعد ذلؾ .الحقيقة ٌ
ٌ تأثٌر بحمبلت اإلسكندر ك
الصارـ لم ٌشرؽ كالغرب 4،يمكف
الثقافية .كالسير في طريؽ التحديد ٌ
ٌ تمزقت السماكات كالتغت الحدكد
القرنيف أك العالـ الجديد حيث ٌ
1إدكارد سعيد :االستشراؽ – المفاىيـ الغربية لمشرؽ ،مرجع سابؽ ،ص .110
2المرجع نفسو ،ص .497
3
الرشاد لمطباعة كالنشر كالتكزيع ،بيركت ،الطبعة
نبي :إنتاج المستشرقيف كأثره عمى الفكر اإلسبلمي الحديث ،دار ٌ
مالؾ بف ٌ
األكلى ،1969 ،ص . 5كنكد أف نقدـ نظرة أكثر سعة كأكثر تخصص لمفيكـ االستشراؽ عند بدكم مثبل مف خبلؿ النص
التالي":مؤتمر المستشرقيف مؤتمر دكلي يعقد كؿ ثبلثة أعكاـ ،كيحضره الباحثكف في عمكـ الشرؽ األدنى كاألكسط كاألقصى .كينقسـ
في العادة إلى أقساـ ىي :الدراسات العربية اإلسبلمية ،الحضارة المصرية ،الحضارة اليندية ،الحضارة الصينية ،الدراسات البيزنطية،
الدراسات العبرية ،الدراسات األرمنية ،آسيا الكسطى ،الدراسات التركية ،حضارة أشكر كبابؿ ".لمتكسع يرجى العكدة لػ :عبد الرحمف
بدكم :سيرة حياتي ،الجزء األكؿ ،المؤسسة العربية لمدراسات كالنشر ،بيركت ،الطبعة األكلى ،2000 ،ص .363-362كأيضا:
عبد الرحمف بدكم :سيرة حياتي ،الجزء الثاني ،المؤسسة العربية لمدراسات كالنشر ،بيركت ،الطبعة األكلى ،2000 ،ص .255
كنحف نعمـ أف بدكل ىك الكحيد الذم قدـ عمؿ مكسكعي يجمع أعماؿ كسيرة المستشرقيف ،كما أنو عرؼ الكثير منيـ كحضر العديد
مف المؤتمرات الدكلية لبلستشراؽ مثؿ مؤتمرات فرنسا كانجمت ار كاليند.
4
فإننا مف أجؿ التأكيد
الفناف ،دار القمـ ،القاىرة ،ص .4-3كلئف كنا نشير إلى ىذا الكتاب الجميؿٌ ،
زكي نجيب محمكد :الشرؽ ٌ
الفف ليس ظاىرة مقصكرة عمى الشرؽ ،فالفف الغربي مف المكاضيع الكاسعةأف ٌ عمى ضركرة مراجعة التقسـ الذم قدمو ،عمى اعتبار ٌ
اإلسبلمي الحالي ،كالٌتي استطاعت
ٌ أف نظرٌيتو حكؿ ال ٌشرؽ األكسط ،الٌذم يقصد بو العالـ العربي
التي يعسر اإلحاطة بيا .كما ٌ
213
بي
النقدم حكؿ "بف ن ٌ الدرس ٌ
خاصة بعد حممة اإلسكندر الكبيرة ،لكف المقاـ ال يسمح ،لذا سنكاصؿ ٌ ٌ عدة أكجو،
نقضو مف ٌ
اقي
تفرد بالمكقؼ مف ظاىرة العمـ االستشر ٌ
التقنية الٌتي يثيرىا تحديد مفيكـ االستشراؽ عنده ،إالٌ ٌأنو ٌ
ٌ كاالستشراؽ" .قمنا رغـ المشكبلت
بخاصة.
ٌ بي
اإلسبلمي ،كالعر ٌ
ٌ الٌذم أصبح يفرض نفسو يكما بعد يكـ عمى العالـ
السبات أك التٌسبيت ،أك التٌنكيـ المقصكد كالمدركس .يقكؿ:
ككأنيا صفعة مكقظة مف ٌيحكي لنا مالؾ حادثة ذات مغزل كبيرٌ ،
تقرر مف لدف المشرفيف عمى
العماؿ الجزائرٌييف بأكركبا ،كبيذه المناسبة ٌ
ينيات القرف الماضي] بباريس مؤتمر ٌ
"انعقد أخي ار [في ستٌ ٌ
األلمانية [ يقصد طبعا زغريد
ٌ السيدة
تكجو إلى تمؾ ٌ
الدعكة ٌ
كتيب لصاحب ىذا العرض ( )...كاذا بنا نرل ٌ
المؤتمر تكزيع ٌ
المقربة الٌتي كضعت أك يكضع اسميا عمى ذلؾ الكتاب ذم العنكاف الج ٌذاب (شمس ا﵀ تشرؽ عمى الغرب،
ىكن يكو ٌ ]Sigrid Hunke
كقدمت كتابيا إلى
السيدةٌ ،
اإلسبلمية .كتق ٌدمت ٌ
ٌ صدرت طبعتو العر ٌبية األكلى سنة ،)1964كفيو ما فيو مف مدح كتمجيد لمحضارة
الحادة القائمة ،إلى أبية كأمجاد الماضي الخبلٌب ! ( )...كفي األخير قامت
ٌ المؤتمر ،فانتقؿ عمى الفكر بركحو مف مجاؿ المشكبلت
نبي يمكف أف نمحظ الكثير مف المسائؿ العالقة ،منيا:
قدميا مالؾ بف ٌ القصة الٌتي ٌ
ٌ السيدة !" 1كمف ىذه
لتحيي ٌ
القاعة كمٌيا ٌ
اإلسبلمي ،كالعربي بخاصة ،ال يخمك مف مشكبلت مرتبطة
ٌ أف ىذا الكتاب ،كتاب زغريد ىكن يكو ،الٌذم انتشر كثي ار في العالـ
ٌ-
يستمد أسسو إالٌ مف
ٌ تتكخى العمـ الخالص أك المحض ،أم العمـ الٌذم ال
ألم دراسة ٌ
العممي ٌ
ٌ اتيجية ،رٌبما تنحرؼ عف المسار
باستر ٌ
2
ألف
أف ترجمة عنكاف ىذا الكتاب ،فييا أكثر مف سؤاؿ ٌ عمميةن .كالحقيقة ٌ
جية تؤثٌر فيو التأثير الٌذم يجعمو أق ٌؿ ٌ
ذاتو ،دكف عكامؿ خار ٌ
أف الترجمة العر ٌبية قد استبدلت (ا﵀) بػ (العرب) 3.كلئف كاف ىناؾ األصمي ىك :شمس ا﵀ تسطع عمى الغرب ،في حيف ٌ
ٌ العنكاف
اإلليي ،كالمٌغة العربية،
ٌ تبرير ليذا االستبداؿ ،فيك يطرح صعكبات عمى أكثر مف صعيد .فعمى الرغـ مف التٌطابؽ البدئي بيف الكبلـ
اليكية المٌغكية ،في بعض األحياف،
ٌ أف
إنساني .ثـ ٌ
ٌ أم لساف
يتقيد فقط بالمٌغة العر ٌبية ،بؿ يستكعب ٌ
عالمي ال ٌ
ٌ أف اإلسبلـ كديف
إالٌ ٌ
اإلسبلمية الشاممة ،كىذه الترجمة قد ال
ٌ بأف اليكية العربية ،جزء مف اليكية
يكية العممية كالعقدية .كيجب أف نعترؼ ٌ
تتأخر عمى ال ٌ
ٌ
اليكية العربية ،فبيف التتريؾ كالتعريب ألؼ كألؼ خبلؼ .ىذا
ٌ ترضي األتراؾ مثبل ،الٌذيف خاضكا صراعا طكيبل ،كال يزاؿ قائما ،مع
األصمي كىك (شمس ا﵀Allahs sonne uber dem : ٌ األلماني
ٌ تـ الحفاظ عمى العنكاف
مف جية كمف جية أخرل ،كاف ٌ
ألف العمـ ىك ذلؾ الٌذم
مما ىك مطمكبٌ ،
عممية كأكاديمية ٌ
بأف العنكاف أق ٌؿ ٌ
فإننا نعتقد ٌ
ٌ ،)abendland – unser arabishes erbe
العممي المدركس ،كتصفٌح
ٌ التخصص ،لذا فالعنكاف الجدير ،يجب أف يرتبط بالحقؿ
ٌ الدقيؽ ،مف أجؿ التح ٌكـ ك
يقتطع ،لنفسو المجاؿ ٌ
الجمع بيف فضائؿ ال ٌشرؽ األقصى كالغرب ،حيث استجمعت العمـ كالٌديف معا ،ىي نظرية تحتاج إلى أدلٌة أكثر .كىك أصبل قد شعر
أف نظرة الغرب إلى الكجكد كانت
الفناف ،عمى حيف ٌ
أف نظرة الشرؽ إلى الكجكد كانت نظرة ٌ"إني ألزعـ ٌ
بصعكبة التعميـ عندما قاؿٌ :
أعمـ تعميما ال يخمك مف مجازفة خطيرة في الحكـ ،".ص .13
نظرة عالـ ( )...ذلؾ إف جاز لي أف ٌ
1
نبي :القضايا الكبرل ،دار الفكر ،الجزائر – دمشؽ ،الطبعة األكلى ،1991 ،ص .176-175
مالؾ بف ٌ
2مارتف ىايدغر :السؤاؿ عف الشيء :حكؿ نظرية المبادئ الترنسندنتالية عند كنت ،ترجمة إسماعيؿ المصدؽ ،مراجعة مكسى
كىبة ،المنظمة العربية لمترجمة ،بيركت ،الطبعة األكلى ،2012 ،ص .154 -152 -101
3
زيغريد ىكن يكو :شمس العرب تسطع عمى الغرب – أثر الحضارة العربية في أكركبة ،ترجمة عف األلمانية فاركؽ بيكض ككماؿ
دسكقي ،دار الجيؿ كدار األفاؽ الجديدة ،بيركت ،الطبعة الثامنة.1993 ،
214
العممية في الحضارة العر ٌبية
ٌ عممية مسح شاممة لممنتكجات
تمت ٌالتخصص في عمـ كاحد بمفرده ،بؿ ٌ
ٌ الفيرست ،يشير إلى ٌأنو لـ يتـ
1
المتخصصة.
ٌ ممية
اإلسبلمية ،كىذا بال ٌذات عبلمة عمى الطابع الشامؿ الٌذم يتنافى مع الع ٌ
ٌ
الثقافي ظاىرة
ٌ أف التفاعؿ
بذىنية مؤدلجة كمغمقة .عمى اعتبار ٌ
ٌ أف مشكمة التفاعؿ بيف الحضارات أك قؿ التٌثاقؼ ،تيدرس دكما ٌ-
م المقصكد ،بؿ ىكالتكجو الفكر ٌ
ٌ مكجيا
ألف ىذا التفاعؿ لـ يكف ٌ
عالمية كقديمة أيضا ،كال يمكف البتٌة استغبلليا لتبرير فكرة مسبقةٌ .
ٌ
فإنو استفاد أيضا مف
أف الغرب قد استفاد مف العربٌ ،
يخية .فك ٌؿ حضارة تأخذ مف األخرل ،كمثمما ٌ
الحتمية التار ٌ
ٌ ظاىرة تطمٌبتيا
إف ىكذا
عكنية...الخٌ .
انييف الييكد .كالعرب ذاتيـ أخذكا ما أخذكه مف اإلغريؽ ،الٌذيف بدكرىـ أخذكا العمـ مف اليند كمصر الفر ٌ
العبر ٌ
شخصية .لذا فبل يجب أف تسأؿ ماذا أخذت مف غيرؾ ،بقدر ما
ٌ تامة ،كك ٌؿ تكجيو لو ،ىك خدمة ألغراض
طبيعي بصكرة ٌ
ٌ تفاعؿ أمر
القكمية في النياية ال يمكف أف تتعالى عف الحضارة
ٌ ألف
اإلنسانيةٌ .
ٌ عما فعمتو بيذا المأخكذ ،ىؿ استثمرتو لخدمة
يجب أف تسأؿ ٌ
أف الغرب جحد مجيكد العرب.
خاصة مف طرؼ بعض مف ٌكرم الحضارة العربية ،ىك ٌ
ٌ البشرٌية .كاالعتراض المألكؼ ليذه المشكمة،
قكة الحضارة العربية
لمدفاع عف ٌانفعاليا ٌ
ٌ بي ،ال يجعمنا نرتكس
العممي العر ٌ
ٌ بأف بعض المستشرقيف ،الٌذيف أنكركا التجديد
لكننا نقكؿ ٌ
ٌ
كرد فعؿ مؤقٌت يزكؿ بزكاؿ الفعؿ.
الكبلسيكية ،كقد أشرنا أعبله ،في العنصر األكؿ ،إلى مخاطر عمـ االستغراب ٌ
اىية .فما إف يكجد ىناؾ مف
الحب ىك الكجو اآلخر لمكر ٌ
ٌ أف
اىية .كفي تقديرنا ٌ
الحب ،أك الكر ٌ
ٌ العممية ،ال تنطمؽ مف
ٌ العقمية
ٌ إف
ٌ-
يحب العرب كالمسمميف ،فيجب ،ككفؽ الحتمية السيككلكجية ،أف يككف ىناؾ مف يكرىنا .لذا ،فبل ينبغي االنطبلؽ
ٌ المستشرقيف مف
"الرحالة
بأف ٌ
األلمانية ٌ
ٌ العممي .كعندما يقكؿ أحد المترجميف عف
ٌ لمدرس
عممية ،أك قابمة ٌ
مف "نكايا" المستشرقيف .كالنكايا ليست مسألة ٌ
حبا بيا ،كدفاعا عف حقكقيا ،كانما كضعكا أكثرىا ،كالسيما في الفترة األكلى ،لتككف دليبل لمف
األلماف لـ يضعكا كتبيـ عف الجزائر ٌ
األجنبي كحماية حككمتو !
ٌ أراد مف مكاطنييـ اليجرة إلى الجزائر إلنشاء المستعمرات كاإلقامة بيا إقامة دائمة تحت ظؿ االحتبلؿ
الدكلة الجزائرية السابقة كيرغبكف رغبة كبيرة في االنتقاـ ،تحت
( )...كانكا في األغمب يشارككف المحتمٌيف في عكاطؼ الحقد عمى ٌ
2
الرحاليف األلماف ما ال يحتمؿ ،فبل أحد يخدـ مصالح غيره ،كال حتٌى العرب
فإنو يطمب مف ٌ
ٌ األكركبي."...
ٌ الديف كالتضامف
ستار ٌ
طبيعي يتجاكز حكـ القيمة.
ٌ ذاتيـ قد خدمكا مصالح دكؿ أخرل ،فالك ٌؿ يسعى لمصالحو كسعادتو ،كىذا أمر
اقي .يكاصؿ
نبي مف االستشراؽ ،لكي ال نسترسؿ في التحميؿ المرتبط بالمطمكب مف العقؿ االستشر ٌنعكد إلى مكقؼ مالؾ بف ٌ
بأنو يمكف تصنيؼ
لقصة ندكة تكريـ كتاب "شمس ا﵀ [أك العرب] تسطع عمى الغرب" ،قائبل ٌ
اإلسبلمية ،بعد عرضو ٌ
ٌ مف ٌكر النيضة
كماديا ،ييحتفى
ٌ معنكيا
ٌ يكرـ
إنتاج المستشرقيف إلى صنفيف كبيريف ىما :االستشراؽ المادح ،كىك األكثر ركاجا كقبكال عند المسمميفٌ ،
ألنو يعمؿ ،كلك بصكرة غير مباشرة،
مما نعتقدٌ ،
اإلسبلمي أكثر ٌ
ٌ تأمؿ .رغـ ذلؾ فمو مف األخطار عمى الكاقع
بو دكف حدكد كدكف ٌ
النكع اآلخر
كنمكذجي .ك ٌ
ٌ كبطكلي ،ككامؿ،
ٌ قدـ عمى ٌأنو يمشرؽ،
الم ٌ
عمى تحكيؿ اىتماـ المسمميف مف حاضرىـ المأزكـ إلى ماضييـ ي
العممية الٌتي
ٌ المكضكعية
ٌ الصارـ لدرجة ٌأنو انتقؿ مف
ىك االستشراؽ القادح ،الٌذم تعامؿ مع تاريخ الحضارة اإلسبلمية التٌعامؿ ٌ
الدكنية ،أم شعكر
ٌ اقية القادحة ىك "عقدة التٌقميؿ" أك
الدراسات االستشر ٌ
ذاتي صرؼ .كالمشكؿ الذم خمقتو ىذه ٌيدعييا إلى مكقؼ ٌ ٌ
شر
أف إنتاج المستشرقيف ،بنكعيو ،المادح كالقادح؛ كاف ٌا نبي إلى ٌ
بتفكؽ الحضارة الغر ٌبية .كيخمص بف ٌ
بدكنية حضارتو مقارنة ٌ
ٌ المسمـ
1زيغريد ىكن يكو :شمس العرب تسطع عمى الغرب – أثر الحضارة العربية في أكركبا ،مرجع سابؽ ،ص .588-585
2
الرحاليف األلماف ،1855-1830المؤسسة الكطنية لمكتاب ،الجزائر ،1989 ،ص .8-7
أبك العيد دكدك :الجزائر في مؤلٌفات ٌ
215
1
أف العقؿ
أف المفيكـ منو ٌ
الدرجات ،إالٌ ٌ
يتضمف تقري ار مقبكال إلى أبعد ٌ
ٌ كلئف بدا لنا ،أف ىذا المكقؼ اإلسبلمي.
ٌ عمى المجتمع
تسبب في تعطيب الكعي لدل المسمـ
اإلسبلمي ،فيك قد ٌ
ٌ م
ضد اإلسياـ الحضار ٌاقي ،في ك ٌؿ الحاالت ،سكاء كاف مع أك ٌ
االستشر ٌ
بأنو كاف
سبب إساءة لمتاريخ اإلسبلم ٌي .لكف ما يمكف أف نفيـ أيضا ؟ يمكف أف نقكؿ ٌ
مما ٌ
سبب أعطابا راىنة أكثر ٌ
المعاصر ،بؿ ٌ
نبي .إف كاف إنتاج المستشرقيف ،بنكعيو،
األجدر أف ال يككف ىناؾ أصبل مبحث استشراقي ،كىذه ىي الحمقة األضعؼ في نظرية بف ٌ
بي
فكأننا ،نقكؿ بصريح العبارة ٌأنو ال يجب أف يككف ىناؾ استش ارؽ ،كىذا محاؿ بالنسبة لمعقؿ الغر ٌ
شر عمى المجتمع اإلسبلميٌ ،
ٌا
بالصحة الكافرة ،ال يمكف أف يتكقٌؼ عف التفكيرٌ ،إنو
ٌ يتميز
أف العقؿ الٌذم ٌ
يقرر ٌ
الصحة .كىك المبدأ الٌذم ٌ
ٌ الٌذم كاف متمظي ار بمبدأ
مرة
بي ،الٌذم تقاطع ،ألكثر مف ٌ
إف العقؿ الغر ٌ
ثـ ٌالعقؿ الٌذم يتجاكز نفسو مف خبلؿ التفكير المستداـ ،تفكير ال ٌذات ،كتفكير الغيرٌ .
بأف حكـ مالؾ بف
اإلسبلمي .لذا نعتقد ٌ
ٌ مع التاريخ اإلسبلمي ،بحكـ التجاكز الجغرافي ،ال يمكف أف يف ٌكر ذاتو بمعزؿ عف التاريخ
إف االستشراؽ حقيقة تاريخية ،ال يمكف إلغاءىا ،كال يمكف
مٌ . مما ىك حكـ تقرير ٌ
نبي كاف حكما تقديرٌيا مفرطا في تقديرٌيتو ،أكثر ٌ
ٌ
عممية عالية ،أم
نتقبمو بركح ٌ
اقي عمى ٌأنو كاقع ٌ
إيقافيا حاليا .لذا فالمطمكب مف العقؿ اإلسبلمي اآلف ،ىك تقديـ إنتاج العقؿ االستشر ٌ
قدحية ،أك
ألنو ف ٌكر تاريخنا كثقافتنا كعمكمنا ،دكف النظر إلى ما انتيى إليو مف نتائج ٌ
خير ٌ
اعتباره خي ار بالنسبة لممجتمع اإلسبلمي ،ه
فإننا نممسو في القادحيف" 2.كفي تقديرينا
إيجابي ،ألعماؿ المستشرقيفٌ ،
ٌ بأنو "إف كاف ىناؾ كجو
نبي ،مستدركاٌ ،
مدحية .كيكاصؿ بف ٌٌ
أف
سبلمي ،في حيف ٌ
ٌ ألف القادح ينعش الفكر اإل
اإليجابي لنظرٌيتو حكؿ "االستشراؽ :ما لو كما عميو"ٌ .
ٌ أف ىذا التقرير ،ىك الكجو
ٌ
اإلسبلمي ،ىك التالي :إلى ماذا نحتاج اليكـ؛ إلى التخدير أـ إلى
ٌ كضعية العالـ
ٌ السؤاؿ المطركح ،بالنظر إلى
يخدره .ك ٌ
المادح ٌ
يركج
أف ك ٌؿ مف ٌ
العممية postopératoire؟ الحقيقة ٌ
ٌ العممية préopératoireأـ حالة ما بعد
ٌ اإلنعاش ؟ ىؿ نطمب حالة قبؿ
الرغـ مف ٌأننا ،نحف المسممكف،
لبلستشراؽ المادح ،ليك الٌذم يريد أف ييدخؿ العالـ اإلسبلمي في حالة تخدير طكيمة األمد ،عمى ٌ
إسبلمية محتممة، ٌ فكؿ تشريع لنيضة اإلسبلمي كاف معطٌبل لقركف عديدة سابقة .لذاٌ ، ٌ أف العقؿ
متٌفقكف عمى مسألة كاحدة فقط ،كىي ٌ
ب ىعمىٍي يك يـ ا ٍلًقتىا يؿ ىك يى ىك يك ٍرهه لى يك ٍـ ىك ىع ىسى أ ٍ
ىف تى ٍك ىريىكا ً
التفنيدم .فػ ﴿ يكت ى
ٌ الجد منطؽ االستشراؽ القادح أك االستشراؽ
يجب أف يأخذ مأخذ ٌ
َّ ىش ٍينئا ك يىك ىخ ٍير لى يكـ كعسى أ ٍ ً
محبة االستشراؽ المادح ىكأف ٌ ىف تيحُّبكا ىش ٍينئا ىك يى ىك ىشّّر لى يك ٍـ ىكالموي ىي ٍعمى يـ ىكأ ٍىنتي ٍـ ىال تى ٍعمى يم ى
كف﴾[البقرة ]216 ،إذ ٌ ى ى ه ٍ ىىى
الداخؿ ،ليك ما يدعكنا إليو االستش ارؽ
بأف ترميـ العقؿ اإلسبلمي مف ٌ أف كره االستشراؽ المادح ىك خير لنا ،فمنعمـ ٌ شر لنا ،في حيف ٌ ٌ
الصريح .تبقى مشكمة االعتراؼ ،كىك مف أىـ
القادح ،كاف كانت دعكة غير صريحة ،كفيـ المضمكر أكثر ينببل مف فيـ المقكؿ ٌ
"الحساسية
ٌ أم كقت سابؽ ،إلى االنتقاؿ مف
مدعككف ،أكثر مف ٌ
ٌ تسير العقؿ اإلسبلمي الحالي .لذا فنحف
المكاضيع الراىنة ،ىي الٌتي ٌ
حساسية"
ٌ "عاطفية أك
ٌ الرزيف ،بدؿ تككيف ردكد أفعاؿ
اإلسبلمية" ،حيث نأخذ األمكر مأخذ العقؿ المسؤكؿ ك ٌ
ٌ "العقبلنية
ٌ اإلسبلمية" إلى
حكؿ مكقؼ األغيار مف تاريخنا السابؽ ،كما ال يجب أف ننسى مشكمة االستشراؽ الٌذم يدرس كاقع اإلسبلـ الحالي ،كىك درس آخر،
تكجيو.
ماضكيا في ٌ
ٌ الكبلسيكي الٌذم كاف
ٌ اإلسبلمي ،في مقابؿ االستشراؽ
ٌ الراىف
الضكء عمى ٌ
ألنو يسمٌط ٌيتطمٌب مقاما آخرٌ .
ثالثا" -يوسف فان إيس" والفكر اإلسالمي :بداية العالقة.
1
اإلسبلمي الحديث ،مرجع سابؽ ،ص .25كأيضا :مالؾ بف نبي :القضايا
ٌ نبي :إنتاج المستشرقيف كأثره عمى الفكر
مالؾ بف ٌ
الكبرل ،مرجع سابؽ ،ص .181
2
نبي :إنتاج المستشرقيف كأثره عمى الفكر اإلسبلمي
نبي :القضايا الكبرل ،مرجع سابؽ ،ص .182كأيضا :مالؾ بف ٌ
مالؾ بف ٌ
الحديث ،مرجع سابؽ ،ص .25
216
الدار البيضاء المغر ٌبية ،سنة ،1998كىي
نسية ،في مدينة ٌ
الدكتكر "يكسؼ فاف اس" مجمكعة مف المحاضرات ،بالمٌغة الفر ٌ
ألقى ٌ
قدمو في المحاضرات الٌتي ألقاىا في بػ "الككليج دم فرانس" في باريس سنة
مما سبؽ لو أف ٌ
" دركس يستعيد فييا المحاضر بعضا ٌ
1978عف "قراءة االعتزاؿ بداية مف اآلخر" .كيستعيد فييا بالخصكص زبدة مؤلٌفو الجميؿ عف "الثقافة كالمجتمع في القرنيف 2ك3
1
يسيؽ األستاذ عبد المجيد الشرفي الكتاب الٌذم سنشتغؿ عميو اآلف ،تحميبل كنقدا ،كىك كتاب "بدايات الفكر
لميجرة" .ىكذا ٌ
2
اإلسبلمية
ٌ لكيفية دراستو لمحضارة
ٌ مؤرخ أدياف في األساس،
اإلسبلمي :األنساؽ كاألبعاد" .كفي ىذا الكتاب ،أشار المؤلٌؼ ،كىك ٌ
قدمنا العنكاف أعبله :بداية
بي .لذا ٌ
الشرقي كالعقؿ الغر ٌ
ٌ الكبلسيكي كقضايا أخرل مرتبطة بالعقؿ
ٌ بي
النص العر ٌ
ٌ كلقاءاتو األكلى مع
الصغير ىي:
العبلقة .كالمسائؿ الٌتي احتكاىا ىذا الكتاب ٌ
النص القرآني [ىكد،
ٌ تعرض لتجربة االختبلؼ المريرة عند المسمميف مف خبلؿ مقابمة
-االنقساـ كالبدعة في اإلسبلـ .كفيو ٌ
]189-188كاألخبار التاريخية كالكاقع التاريخي.
التكحيدية الكبرل ،مف حيث االختبلؼ كالتقاطع،
ٌ النصكص
الرسكؿ كبدايات عمـ الكبلـ .كىي مسألة تتعمٌؽ بمقارنة ٌ
-معراج ٌ
في نمكذج اإلسراء ،أك التكاصؿ البشرم – اإلليي ،الٌتي كردت في الثقافات الشر ٌقية القديمة كاألناجيؿ كالقرآف الكريـ.
لي .فيو يستشكؿ مسألة لجكء المتكمٌميف المسمميف إلى
الىكتية لمكبلـ المعتز ٌ
ٌ م قاعدة
الطبيعي :المذىب الذر ٌ
ٌ -الكبلـ كالعمـ
م
الغائية كالمذىب الذر ٌ
الديف اإلسبلمي القائـ عمى الخمؽ كالعناية ك ٌ
يقي ،عمى الرغـ مف تعارض ركح ٌ م اإلغر ٌالمذىب الذر ٌ
3
الصدفة كالييمؿ كاآللية.
يقي القائـ عمى ٌ
الطبيعي اإلغر ٌ
ٌ
تطرؽ "فاف ايس" إلى مشكمة التاريخ
السياسية .كفي ىذا الفصؿ ٌ
ٌ تصكرات التاريخ كاألفكار
ٌ -عمـ الكبلـ كالكاقع اإلنساني:
النص كالفعؿ .مع
ٌ النص ،أك بيف
يخية .كأخذ نمكذج الخمفاء بيف التاريخ ك ٌ
الطكباكية التار ٌ
ٌ اقعية ك
يخية الك ٌ
اإلسبلمي بيف التار ٌ
العمـ ٌأنو مف كاقع اال ختبلؼ السياسي في زمف الخمفاء نشأ عمـ الكبلـ ذاتو ليشمؿ بعد ذلؾ مشكمة آثاـ ارتكبيا أقرب الناس
4
العقدية.
ٌ السياسية -
ٌ الرسكؿ (صمٌى ا﵀ عميو كسمٌـ) ،كحتٌى الفقياء انخرطكا في تدارس ىذه المشكمة
إلى ٌ
منيجيتو في
ٌ حدد فيو "فاف ايس"
األكركبية :دراسة حكؿ خطاب في المنيج .كىك الفصؿ الٌذم ٌ
ٌ -اإلسبلـ كاإلسبلمكلكجيا
أساسي في المشكمة
ٌ ألنو
خاصة .كسنفصؿ ىذا المكضكع أدناهٌ ،
ٌ عامة ،كتاريخ عمـ الكبلـ
دراسة تاريخ الفكر اإلسبلمي ٌ
الٌتي طرحناىا أعبله.
فإف الكتاب ال يش ٌكؿ خطٌة متكاممة لدراسة مكضكع كاحد ،بؿ ىك مجمكعة مف المحاضرات الٌتي ترتبط
ككما ىك ظاىرٌ ،
التخصص ،فحتٌى ىذه
ٌ أف ك ٌؿ الفصكؿ ترتبط برباط ما إلى ىذا
اإلسبلمييف مع التركيز عمى عمـ الكبلـ ،إذ ٌ
ٌ بالفمسفة كالفكر
مخصصة لئلجابة عف أسئمة حكؿ سبب اختيار عمـ الكبلـ كمنيج دراستو .لذا سيككف عممنا اآلف مرٌك از عمى
ٌ المحاضرة األخيرة
1
عبد المجيد الشرفي :تقديـ لكتاب يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،ترجمة عبد المجيد الصغير ،نشر
الفنؾ ،الدار البيضاء ،2000 ،ص .8
2
يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،ترجمة عبد المجيد الصغير ،نشر الفنؾ ،الدار البيضاء،2000 ،
ص ص .139 -50
3يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،مرجع سابؽ ،ص .67
4نفس المرجع ،ص ص .115 – 100
217
المنيجية الٌتي أثارىا ،كالنتائج التٌي
ٌ المؤرخ بالفكر اإلسبلمي ،مف خبلؿ دراسة عمـ الكبلـ ،كمختمؼ القضايا
ٌ استقصاء عبلقة ىذا
تكصؿ إلييا.
ٌ
التكحيدية المجاكرة ،نقصد
ٌ الديف اإلسبلمي ،مقارنة باألدياف
اإلسبلمي ،ىي مسألة إسياـ ٌ
ٌ مف المسائؿ الثابتة في تناكؿ الفكر
مدكنا في المصحؼ المعركؼ بالقرآف .لـ ينفصؿ ،في تأسس عمى الكحي ،كالٌذم أصبح الحقا ٌ
المسيحية .فاإلسبلـ الٌذم ٌ
ٌ الييكدية ،ك
ٌ
ركحو كسياقو كمضمكنو منيجو ،عف الكتب السابقة ،كىذا ليس باألمر الجمؿ ،فالقرآف ذاتو كثير اإلشارة إلى ذلؾ .كقد تناكؿ "يكسؼ
التكحيدية السابقة،
ٌ فاف إيس" ،ىذه المسألة الٌتي عرفت تأكيبلت مختمفة ،كأغراض متباينة .فالقكؿ بكجكد عبلقة بيف القرآف كالكتب
آنية فقط،
كتفرده ،لكف المشكمة الٌتي تيثار ترتبط بالميزة القر ٌ
يؤدم إلى االنتقاص مف أصالتو ٌ
ليس بالقكؿ الجديد ،كال القكؿ الٌذم ٌ
النكعي ،أم ماذا يفصؿ القرآف عف بقية الكتب كالتي تدخؿ جميعا في نكع كاحد
ٌ باحتماؿ ككنو استجماع فقط لما سبؽ ،أك بالفاصؿ
بأف "اإلسبلـ ،مف حيث المبدأ ،لـ يختمؽ مضاميف جديدة،
التكحيدية كالقائمة عمى الكحي .يقكؿ "فاف ايس" ٌ
ٌ مف المعرفة ،كىك المعرفة
1
ىى ىؿأف القرآف ذاتو قد أ ٌكد الكتب السابقة﴿ :قي ٍؿ ىيا أ ٍ فالقرآف لـ يؤ ٌكد سكل الكتب السابقة" .لكف ماذا يمكف أف نفيـ مف ذلؾ ؟ حقيقة ٌ
ؾ ًم ٍف ىرب ى
ّْؾ طي ٍغىي نانا ىك يك ٍف نار ير ًم ٍنيي ٍـ ىما أيٍن ًز ىؿ ًإلىٍي ى
يد َّف ىكثً نا
اإل ٍن ًجي ىؿ ىك ىما أ ٍين ًز ىؿ إًلىٍي يك ٍـ ًم ٍف ىرّْب يك ٍـ ىكلىىي ًز ى
اب لى ٍستي ٍـ ىعمىى ىشي وء ىحتَّى تيًقيمكا التَّكىراةى ك ًٍ
ٍ ى ي ٍ
ا ٍل ًكتى ً
ً
أف القرآف ليس إالٌ نسخة يف﴾[ المائدة ]68 ،كنصكص كثيرة ال يمكف ذكرىا جميعا .فيؿ ىذا يد ٌؿ عمى ٌ ٍس ىعمىى ا ٍلقى ٍكًـ ا ٍل ىكاف ًر ى
فى ىبل تىأ ى
أف الكثير مف المستشرقيف كغير المستشرقيف قد طعنكا في القرآف مف ىذا المدخؿ بال ٌذات.
عر ٌبية مف اإلنجيؿ كالتكراة ؟ الحقيقة ٌ
التكحيدية السابقة ،كلـ يتخمٌص أيضا مف تأثير البيئة العر ٌبية السابقة عمى
ٌ كمية مف الكتاب
أف القرآف لـ يتخمٌص ٌ
فيناؾ مف يشير إلى ٌ
2
الكثني
ٌ التاـ بيف
أف ىذه النظرة تدخؿ في نظرٌية أكسع قالت بعدـ االنفصاؿ ٌ بالجاىمية .كالحقيقة ٌ
ٌ سماىا القرآف ذاتو
اإلسبلـ كالٌتي ٌ
التنزه 3،ثـ عدـ
التجسد ك ٌ
ٌ التعدد كالتكحيد ،أك بيف
ٌ التكحيدم ،حيث نميؿ نحف -المؤمنيف الحرفييف -إلى االعتقاد بالقطيعة بيف
ٌ ك
4
اإلسبلمي
ٌ متعمؽ لمفكر
ألنو دارس ٌ
أف "يكسؼ فاف ايس" ذاتو ،ك ٌاتبيا .كالحقيقة ٌ
التكحيدية الثبلثة تر ٌ
ٌ الكمي بيف النسخ
التاـ ك ٌ
االنفصاؿ ٌ
متخصص ،فمثبل مف الناحية
ٌ السماكية الثبلثة ،تفرز فركقات ال ينكرىا عاقؿ
ٌ أف المقارنة بيف الكتبفإنو قد أدرؾ ٌ
آنيةٌ ،
كأصكلو القر ٌ
األخبلقية أكثر كضكحا" 5.كىذا يد ٌؿ عمى
ٌ بأف "القرآف ،مقارنة مع العيد الجديد ،يبدك في مجاؿ األكامر كالقكاعد
يعية ،نجد ٌ
التشر ٌ
3
الكثنية لممسيحية ،ترجمة سميرة عزمي الزيف ،منشكرات المعيد الدكلي
ٌ أندريو نايتكف كادغار كيند ككارؿ غكستاؼ يكنغ :األصكؿ
لمدراسات االنسانية ،دكف مكاف ،دكف طبعة ،دكف سنة ،ص .143 ،124 ،56 ،40 ،23 ،20
4
الفف القصصي في القرآف الكريـ ،سينا لمنشر – االنتشار العربي ،لندف – بيركت – القاىرة ،الطبعة
محمد أحمد خمؼ ا﵀ٌ :
ٌ
الرابعة ،1999 ،ص .69كأيضا :محمد أرككف :الفكر العربي ،ترجمة عادؿ العكا ،منشكرات عكيدات ،بيركت -باريس ،الطبعة
الثالثة ،1985 ،ص .92كمحمد عابد الجابرم :مدخؿ إلى القرآف الكريـ ،الجزء األكؿ ،في التعريؼ بالقرآف ،مركز دراسات الكحدة
العربية ،بيركت ،الطبعة األكلى ،2006 ،ص .423
5يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،مرجع سابؽ ،ص .14
218
العيسكية الٌتي
ٌ الدعكة
كؿ كتاب عمى حدل .ىذا الكضكح يد ٌؿ أيضا عمى خطكة جديدة خطاىا القرآف ،مقارنة بركح ٌ
االختبلؼ في بنية ٌ
العقمية األس اررٌية الٌتي غمٌفت
ٌ خبلقية يد ٌؿ عمى تكارم
تميزىا بالتشريع التفصيمي .كالكضكح في القكاعد األ ٌ
تميزت بالتبشير أكثر مف ٌ
ٌ
يميز اإلسبلـ ،رسكال ككتابا ،ىك
بأف" :ما ٌ
محمد عابد الجابرم عندما أ ٌكد ٌ
تكصؿ إلييا ٌ
األدياف السابقة ،كىذا يتكافؽ مع الخبلصة الٌتي ٌ
أف اإلسبلـ قد عرؼ تيارات
بالديف تقع خارج تناكؿ العقؿ ( )...كاألكيد ٌ
خمكه مف "ثقؿ اإلسرار" Mystèresالٌتي تجعؿ المعرفة ٌ
ٌ
لمديف (ديف األسرار كالكسائط) 1.رغـ ذلؾ ،فبل أحد يمكف أف يفصؿ بيف ركح
التصكر ٌ
ٌ النكع مف
تمتقي بصكرة أك بأخرل مع ىذا ٌ
أف كبلٌ مف العقديتيف قريبتاف بعضيما مف بعض في
النبكية ،عمى اعتبار ٌ
ٌ السنة
المسيحية ،كركح اإلسبلـ ممثٌبل في القرآف الكريـ ك ٌ
ٌ
2
مما
مسألة "معانقة الحياة األبدية" ،فيذا اليدؼ كالمبتغى ىك القاسـ الٌذم يشرؾ اإلسبلـ كالمسيحية عمى كجو الخصكص ،أكثر ٌ
الييكدية .كلكي نخرج مف ىذا المكضكع ،مكضكع العبلقة بيف الكتب السماكية ،التي تندرج
ٌ المسيحية ك
ٌ الييكدية ،أك
ٌ يشرؾ اإلسبلـ ك
قرر "الفاصؿ النكعي"
في البلىكت[ كىك ما يقابؿ عندنا عمـ الكبلـ] العقمي المقارف ،يمكف أف ىنممح مكقفا معتدال ليكسؼ فاف إيس إذ ٌ
الٌذم يد ٌؿ عمى اندراج القرآف ضمف األفؽ الرسكلي التكحيدم كانفصالو بجممة مف الخصائص المحمية ،كيظير اعتداؿ فكر "فاف
المتسرعة كالٌتي ال تخرج عف احتماليف مثٌمتيما العقمية اإلسبلمية األصكلية الٌتي ترفض
ٌ ايس" في عدـ انزالقو في األطركحات المألكفة
التفكير ،كالعقمية اإلستشراقية الٌتي ترفض التفيٌـ:
الجدة ،ال تربطيا صمة بما سبؽ مف عقائد ،سكاء تكحيدية ،أك كثنية ،أك ما نسميو جاىمية.
-اعتبار القرآف رسالة جديدة ك ٌؿ ٌ
كىك ما تمثمو العقمية األصكلية اإلسبلمية التي تأبى النظر المكضكعي.
مكررة لنسخ سابقة ىي األناجيؿ كالتكراة .كىك ما يمثمو بعض المستشرقيف المتسرعيف غير
-اعتبار القرآف نسخة عربية ٌ
المتفيميف.
ننتقؿ اآلف إلى مسألة أخرل ،ترتبط بعبلقة "فاف ايس" بالفكر اإلسبلمي .كقد افتتح ىذه المحاضرة األخيرة ،الٌتي تحمؿ عنكاف
المحدد؛ قائبل" :إ ٌف مجاؿ
ٌ "اإلسبلـ كاإلسبلمكلكجيا األكركبية :دراسة حكؿ خطاب المنيج" بتقرير أساسي ،يضع مشركعو في إطاره
خاصة في مرحمتو األكلى ،فمقد أكقفت دراساتي عمى القرنيف الثاني كالثالث مف اليجرة.
ٌ اىتمامي ينحصر في عمـ الكبلـ في اإلسبلـ،
التعرؼ عميو اآلف [ théologie und Gesellschaftأم البلٌىكت كالمجتمع] 3".لكف دراسة عمـ
ٌ تكدكف
كذلؾ في كتابي الٌذم ٌ
فإف األسئمة الرئيسية الٌتي تطرح عمى "فاف ايس" ىي:
عامة ،لذا ٌ
اإلسبلمي تندرج في مجاؿ أكسع كىك دراسة الفكر اإلسبلمي ٌ
ٌ الكبلـ
4
بالدراسة كالبحث أيضا.
-1لماذا دراسة الفكر اإلسبلمي فقط ضمف ك ٌؿ التراثات الشرقية الكثيرة ؟ كالٌتي تغرم ٌ
1كمحمد عابد الجابرم :مدخؿ إلى القرآف الكريـ ،الجزء األكؿ ،في التعريؼ بالقرآف ،مرجع سابؽ ،ص .433-429
2
يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،مرجع سابؽ ،ص .41 -39كقد عمد "فاف ايس" ،ىنا ،إلى ذكر
ميمة "عيسى" مع ميمة "محمد "(ص) مف حيث تمامية الرسالة كتمجيد السمطة اإلليٌية الكثير مف النصكص التي تدؿ عمى تطابؽ ٌ
الدالة عمى ذلؾ مثؿ﴿ :ىيا أىيُّيىا ا ٍل يم َّدثّْير ،قي ٍـ فىأ ٍىن ًذ ٍر ،ىكىرَّب ى
ؾ فى ىكب ٍّْر﴾ المقدس ،مف خبلؿ تكظيفو العديد مف النصكص القرآنية ٌ ٌ كالقرب مف
كدا﴾[ اإلسراء .]79 ،ىذا ،كال يمكف التغافؿ عف اما ىم ٍح يم ن ؾ ىرُّب ى
ؾ ىمقى ن ىف ىي ٍب ىعثى ى [المدثر ،]3 - 1 ،ك﴿ ىك ًم ىف المٍَّي ًؿ فىتىيى َّج ٍد بً ًو ىن ًافمىةن لى ى
ؾ ىع ىسى أ ٍ
أف "محمدان" صمٌى ا﵀ عميو كسمٌـ ليس إالٌ بشرا ،عمى عكس
تمح عمى الفصؿ بيف البشرم كاإلليي في القرآف حيث ٌ
النصكص الٌتي ٌ
المسيحية التي تمجأ إلى فرضية الىكتية المسيح.
3يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،مرجع سابؽ ،ص .129
4المرجع نفسو ،ص .135
219
1
بخاصة الدرس الفقيي كالفمسفي، -2لماذا دراسة عمـ الكبلـ بالحصر كالتحديد ،ضمف فركع الفكر اإلسبلمي الكثيرة أيضا ؟
أك حتى األخبلقي.
-3لماذا إنجاز دراسة ضخمة (ستة أجزاء كاممة) حكؿ مرحمة نشأة عمـ الكبلـ ،أم القرف الثاني كالثالث 2،كاىماؿ مرحمة
النضح كاالكتماؿ في القرف الرابع كالخامس ؟
ٌ
لؤلكركبي ،درجة أكثؽ
ٌ عامة ،ىذه "الحضارة الٌتي تمثٌؿ ،بالنسبة
ٌأكال -الفكر اإلسبلمي الٌذم يندرج ضمف الحضارة اإلسبلمية ٌ
لمصيف أك لميند ،إذف ىي تتغ ٌذل مف نفسالخصكصية الٌتي ىي ٌ
ٌ تميزىا عف تمؾ
لخصكصية ٌ
ٌ مف العبلقات مف حيث امتبلكيا
3
فإف االىتماـ بالفكر اإلسبلمي ،القريب مف الفكر األكركبي،
المصادر الٌتي تتغ ٌذل منيا أكركباٌ ،إنيا تنطمؽ مف نفس المسمٌمات ".لذا ٌ
األـ بالنسبة "لفاف إيس" ،مف خبلؿ مقارنتو بالفكر الجار ،أك الفكر
ال ينفصؿ عف إرادة فيـ الفكر األكربي ذاتو ،الٌذم ىك الفكر ٌ
استمد ىذه
ٌ أف "فاف ايس" قد
القريب كىك الفكر اإلسبلمي كليس الفكر الشرقي البعيد مف حيث بنيتو عف الحضارة األكربية .كالحقيقة ٌ
المسيحي ،مف مبلحظات مستشرقيف ألماف سابقيف أمثاؿ" ٌ المنيجية ،الٌتي تنطمؽ مف االشتراؾ بيف العالـ اإلسبلمي ك
ٌ الممحكظة
بيكر"( ،)Carl Heinrich Becherكمف مف ٌكريف عرب أمثاؿ "طو حسيف" الٌذم أ ٌكد يقينا ،معاكسا لما ىك ذائع في الفكر اإلسبلمي
فكؿ شيء يد ٌؿ عمى ٌأنو ليس ىناؾ
األكركبييف فرؽ في الجكىر (ٌ )...
ٌ بأف "ليس بيننا كبيف
نصٌ ،1938
المعاصر عندما قاؿ في ٌ
أف بيف العقؿ
فإننا نجد ما يحممنا عمى أف نقبؿ ٌ
أكركبي يمتاز عف ىذا العقؿ الشرقي ( )...فميما نبحث كميما نستقص ٌ
ٌ عقؿ
4
تحدثنا عف ضركرة مراجعة مفيكـ ال ٌشرؽ كالغرب
م فرقا جكىرٌيا" .كىذا ما أشرنا إليو أعبله ،عندما ٌ
األكركبي ،كالعقؿ المصر ٌ
ٌ
عممية ال تخمك مف
ٌ تكجو اإلنساف كجية
عقمية محضة ،بقدر ما ٌ
أف دراسة اآلخر ،ليست متعة ٌ
كالتقاطعات الكائنة بينيما .كالحقيقة ٌ
تدبر الغرض مف دراسة اآلخر ،اليدؼ الحقيقي كالعممي
يحدد ،التحديد الٌذم يساعدنا ،نحف المسممكف ،في ٌ
فائدة ،لذا نجد "فاف ايس" ٌ
السنكات عف بداية اىتمامو بالفكر اإلسبلمي ،يقكؿ في
مف اىتمامو بالفكر اإلسبلمي ،كىك ىدؼ لف يتقادـ رغـ مركر العشرات مف ٌ
ىذا الشأف ما يمكف أف نعتبره درسا في التسامح كالتسامع أيضا" :بقدر دراستنا لآلخر نتعمٌـ الكثير عف ذاتنا نحف ،كنتعمٌـ التسامح؛
تـ اتٌخاذىا داخؿ المجتمع الٌذم ننتمي إليو ،أك داخؿ التاريخ الٌذم كرثناه ،لـ تكف في
أف العديد مف الق اررات الٌتي ٌ
كما ٌأننا نكتشؼ ٌ
مفر منيا ( )...نجعؿ التفاىـ يح ٌؿ مح ٌؿ الجداؿ كالتكفير 5".كىذا التقرير يخالؼ الكثير مف التقريرات الٌتي
حتمية ال ٌ
ٌ الحقيقة ق اررات
اإلسبلمي أك غيرىما ،الٌذم يخمص ،بعد قراءة اآلخر ،إلى ضركرة تكفيره،
ٌ المسيحي ،أك
ٌ المتطرؼ ،سكاء
ٌ نسمعيا مف أصحاب الفكر
قدميا المف ٌكر
نثمف المبلحظة المذككرة في فاتحة ىذه الدراسة ،الٌتي ٌ
أك تبديعو ،أك إدانتو...الخ .بسبب عسر تفيٌـ الغير .لذا ،فنحف ٌ
الدراسة؛ فعندما نعرؼ بإتقاف كعمؽ لغة شعب ما
نسي "بيرجسكف" ،كالمرتبطة بالمٌغة كالتسامح كالٌتي أشرنا إلييا أعبله في بداية ٌ
الفر ٌ
1يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،مرجع سابؽ ،ص .139
2المرجع نفسو ،ص 147كما تبلىا.
3المرجع نفسو ،ص .130
4
طو حسيف :مستقبؿ الثقافة في مصر ،دار المعارؼ ،القاىرة ،الطبعة الثانية ،ص .30كأيضا :يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر
اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،مرجع سابؽ ،ص .131
5يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،مرجع سابؽ ،ص .132
221
1
كجمالية الحضارة ،الٌتي ىي
ٌ ركحانية الثٌقافة
ٌ تتسرب
غكيةٌ ،
ألف في ىذه المعرفة المٌ ٌ
كأدبو أيضا ،فبل يمكف البتٌة أف نككف أعداء لوٌ ،
في النياية حضارة اإلنساف .كقد كاف المستشرؽ ياككب إيرىارت [ Jacob Ehrharthعاش في منتصؼ القرف الثامف عشر] يقكؿ
(في كتاب ايضاحات حكؿ األخطاء األساسية الغامضة في تاريخ محمد) أف الجيؿ بالمغة العربية يؤدم إلى ارتكاب أخطاء بحؽ
محمد 2.كىك نفس رأم "أدرياف ركالند" [ Adriani Relandiمستشرؽ مف القرف الثامف عشر لو كتاب بعنكاف الديف المحمدم] الذم
غكم ،في فيـ كدراسة
المنيجي المٌ ٌ
ٌ ربط األخطاء في فيـ ركح المحمدييف بجيؿ المغة العربية .ليذا نجد "فاف ايس" يدخؿ ،المدخؿ
األرضية
ٌ ثـ
المؤسسات ٌ
ٌ االجتماعية كفي
ٌ الفكر اإلسبلمي :فػ" الكقائع المممكسة تقبع دائما كراء المٌغة :البيئة المتمثٌمة في األطر
3
إنسانية
ٌ مما تمتمكو ٌأية ظاىرة
يخية ".فالمٌغة تمتمؾ مف المفاتيح أكثر ٌ
الصكر كالنماذج التار ٌ
السنة كفي ٌ
العقائدية المتمثٌمة في القرآف ك ٌ
المكجو كالمنتقى باإلرادة.
ألنيا تقكؿ ما ال يقكلو الخطاب المقصكد ك ٌ
أخرلٌ ،
الزمف المعاصر بال ٌذات ،مف بيف دركس الفكر اإلسبلمي
التفرد بدرس عمـ الكبلـ ،في ىذا ٌ
السؤاؿ الثاني ،سؤاؿ ٌ
أما عف ٌ
ٌ
الدرس الفقيي .لذا نجده يقكؿ" :عمـ الكبلـ
الكبلمي عند المسمميف ذاتيـ لصالح ٌ
ٌ الدرس
فإف "فاف ايس" ،يعزكه إلى إىماؿ ٌ
األخرلٌ .
العقمية أك في مخياؿ المسمميف؛ فػ"الكبلـ" في المممكة العربية السعكدية يعتبر
ٌ أم دكر في الحياة
بمعناه الخاص ال يكاد اليكـ يمعب ٌ
الفقيية 4.كالحقيقة ٌأننا ال نكافؽ ،أك لـ
ٌ الدراسات
منصب عمى ٌ
ٌ أف االىتماـ
يتـ تدريسو في الجامعة .في حيف ٌ
مف البدع المضمٌة ،كال ٌ
بي
عدة اعتبارات ،كمنياٌ :أنو أخذ بنمكذج كاحد ،في العالـ العر ٌ
قدمو "فاف ايس" ،عمى ٌ
نقتنع أحسف االقتناع ،مف ىذا التبرير الٌذم ٌ
اإلسبلمية ،ال تدرس عمـ
ٌ الدكؿ
فإننا نجد الكثير مف ٌتقرر كفؽ ىذا السياؽٌ ،
عامة ،كلئف كاف االختيار السعكدم ،قد ٌاإلسبلمي ٌ
ٌ ك
الكبلـ أك الفمسفة في الجامعات فقط ،بؿ كأكثر مف ذلؾ في الثانكيات .بؿ أف بعض الجامعات اإلسبلمية تدرس مقياس اإللحاد ذاتو.
فإف التعميؿ كالتٌعميـ ىنا ليس في محمٌو .كاف شككنا مف عدـ تدريس عمـ الكبلـ في الجامعات السعكدية ،كالٌذم يؤثٌر فعبلن ،كمف
لذا ٌ
الدكؿ الٌتي ال تدرس الفمسفة ذاتيا كفؽ
فإنو مف الممكف أيضا التعميؿ بالكثير مف ٌ
الناحية السمبية ،في إثراء كتنمية المعرفة اإلسبلميةٌ ،
5
أف عمـ الفقو ،يعتبر مف العمكـ العممية الٌتي
الديف مف عمـ الكبلـ .كالتعميؿ الثاني ىك ٌ
تقرير اليكنيسكك ،كىي معرفة أكثر خط ار عمى ٌ
1
Henri Bergson: les Deux Sources de la Morale et de la Religion, Librairie Félix Alcan, Paris,
11eme édition, 1932, p 309.
2عبد الرحمف بدكم :دفاع عف القرآف ضد منتقديو ،ترجمة كماؿ جاد ا﵀ ،الدار العالمية لمكتب كالنشر ،د ـ ،دف ،دط ،ص - 166
.167
3يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،مرجع سابؽ ،ص .11
4يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،مرجع سابؽ ،ص .139
5
مفيدة قكشة (تنسيؽ) :الفمسفة مدرسة الحرية – تعميـ الفمسفة كتعمـ التفمسؼ :كصؼ الحالة الراىنة كاستشراؼ المستقبؿ ،ترجمة
فؤاد الصفا كعبد الرحيـ زركيؿ ،تحت اشراؼ عمي بنمخمكؼ ،منشكرات اليكنيسكك ،باريس ،الطبعة األكلى ،2009 ،ص -72 -50
. 192-79حيث تـ اإلشارة في ىذه الصفحة األخيرة إلى قمة حضكر الدكؿ العربية في الييئات الدكلية لمفمسفة ،لكنيا ليست الغائب
الكحيد .فحتى بعض الدكؿ المتقدمة لـ تدرج الفمسفة في منظكماتيا التربكية الحككمية.
221
أف عمـ الكبلـ ،مف العمكـ التي ال يطٌمع عمييا
العاـ ،في حيف ٌ
المختص أك ٌ
ٌ بعامة ،سكاء العالـ أك الجاىؿ،
تيـ اإلنساف المؤمف ٌ
الٌتي ٌ
1
كؿ بمنظاره كتفسيره.
المتخصصكف ،كىذه المسألة قد تناكليا الغزالي كابف رشدٌ ،
ٌ إال الخكاص مف الناس أك
الدرس عمى العصكر األكلى لظيكر عمـ الكبلـ ،في مقابؿ السككت عف مرحمة االكتماؿ
أما السؤاؿ الثالث ،المتعمٌؽ بتركيز ٌ
ٌ
الدخكؿ في العنصر الرابع ،كالٌذم
كالنضج الٌتي تعاصر الغزالي خاصة كما تبله مف عمماء ،فسكؼ نرجأ اإلجابة عنو إلى غاية ٌ
المعبر عنيا بتسمية عمـ الكبلـ -بالمجتمع.
ٌ تناكؿ مشكمة عبلقة الثيكلكجيا اإلسبلمية -
رابعا -عالقة عمم الكالم بالمجتمع في القرون اليجرية األولى.
أف مسألة مصدر األفكار كحقيقة
أىـ مسألة طرحت في نياية القرف العشريف ،عمى اعتبار ٌ
إف مشكمة سكسيكلكجية المعرفة ليي ٌ
ٌ
قدمو الفيمسكؼ األلماني "كارؿ مانيايـ"
الميـ الٌذم ٌ
ٌ الدرس
الدقيؽ .كلسنا بحاجة إلى استحضار ٌ
العممي ٌ
ٌ الدرس
التمذىب لـ تدرس ٌ
كيفية أداء الفكر كظيفتو
ضيؽ كال يحتمؿ التكسيع أكثر .كىك الٌذم اشتغؿ عمى ٌ
ألف المقاـ ٌ
(ٌ ،)3891/3981 Karl Mannheim
تحكؿ الفكر "كأداة اجتماعية" 2.كىذا المنيج يسمح ،أحسف بكثير مف
االقتصادية ،أم ظركؼ ٌ
ٌ بعامة ،سكاء السياسية أك
االجتماعية ٌ
الكبلمية المعركفة كالمتداكلة في تاريخ الفكر اإلسبلمي .كىذا ما يتيح تحقيؽ "فيـ
ٌ المناىج األخرل في الكشؼ عف حقيقة األفكار
االجتماعي ،كالفكر 3".كىذا ما يدؿ عميو فرع "عمـ اجتماع المعرفة".
ٌ منيجي كمنتظـ لمعبلقة بيف الكجكد
ٌ
بي المعاصر ،فيناؾ أساتذة
أف دراسة تاريخ عمـ الكبلـ ليس مف األمكر الٌتي غفؿ عنيا الفكر العر ٌ كما تجدر اإلشارة إلى ٌ
الميمة
ٌ أىـ فرقو .لكف
اإلسبلمي ،كمختمؼ مراحمو ،ك ٌ
ٌ تبحركا في التأريخ كالتفسير كالمقارنة كالمقاربة لمفيكـ عمـ الكبلـ
أكاديميكف ٌ
ٌ ك
الٌتي لـ تنجز ،اإلنجاز المطمكب ،ىي ربط ظيكر النظرٌيات الكبلمية بالمجتمع في جكانبو االقتصادية ،كالسياسية ،كالعرقية...الخ.
سكسيكلكجية المعرفة
ٌ أف ىذا المنظكر مف كتابة التاريخ الكبلمي ،ال ينفصؿ عف نظرٌية
كىذا بالضبط ما قصده "فاف ايس" .كاألكيد ٌ
الٌتي أشرنا إلييا منذ برىة ،أعبله.
الدكتكر "فاف ايس" ،عمى السؤاؿ السابؽ حكؿ سبب اختيار فترة القرف الثاني كالثالث فقط ،كالٌتي تمثٌؿ مرحمة نشأة عمـ
يجيب ٌ
األكؿ ٌأكال كالقركف األخيرة التالية لمقرف الثالث ،بإجابة تحتكل عمى شقٌيف:
الكبلـ ،كبالتٌالي إغفاؿ ،أك قؿ عدـ التركيز عمى ،القرف ٌ
اإلسبلمية عف القرف
ٌ فإف – يقكؿ فاف ايس – " ك ٌؿ ما نعرفو مف النصكص األكؿ لميجرة ،لذا ٌ
تتيسر المراجع الكافية في القرف ٌ
-لـ ٌ
قكة المصادر عمى اإلببلغ
أم كقت مضى بشأف ٌ األكركبية ىنا أكثر اختبلفا مف ٌ
ٌ الشؾ باإلسقاط؛ كالبحكث
ٌ األكؿ يقع تحت طائمة
ٌ
1أبك حامد الغزالي :إلجاـ العكاـ عف عمـ الكبلـ ،ضمف مجمكع رسائؿ اإلماـ الغزالي ،تحقيؽ ابراىيـ أميف محمد ،المكتبة التكفيقية،
القاىرة ،ص 319كما تبلىا .كأيضا :ابف رشد :فصؿ المقاؿ كتقرير ما بيف الشريعة كالحكمة مف االتصاؿ ،الشركة الكطنية لمنشر
كالتكزيع ،الجزائر ،1982 ،ص .51
2
كارؿ مانيايـ :االيديكلكجيا كاليكتكبيا – مقدمة في سكسيكلكجيا المعرفة ،ترجمة محمد رجا الديريني ،شركة المكتبات الككيتية ،
الطبعة األكلى ،1980 ،ص .84-83
3
المرجع نفسو ،ص .246
222
1
أف الدرس التاريخي المكثكؽ بالنسبة لمباحث الٌذم يشتغؿ عمى النصكص ،يبدأ مع عصر التدكيف ،في
كطريقة تفسيرىا ".كالحقيقة ٌ
2
حدده الجابرم في دراساتو لمعقؿ العربي.
منتصؼ القرف الثاني لميجرة ،كىذا ما ٌ
بعدة
لمدرس كالتحقيؽ التاريخي كالتأكيمي ،تمتاز حسب قكلو ٌ
-في القرنيف الثاني كالثالث ،كىي الفترة التي اقتطعيا "فاف ايس" ٌ
خصائص منيا:
تميزت بذلؾ التكاجد لمعديد مف االختيارات الٌتي ظمٌت مفتكحة
"أف مرحمة البداية كالٌنشأة [ الٌتي تمثٌؿ األجياؿ األكلى لئلسبلـ] ٌ
ٌ -1
و
غطاء مف اإلجماع العقائدم أك التكافؽ االجتماعي .تمؾ األجياؿ األكلى لـ تكف تعرؼ بعد ذلؾ يتـ إلغاؤىا تحتكمتاحة قبؿ أف ٌ
فإف الحركات المخالفة ،أك الشاذة لـ تكف تعتبر إذ ذاؾ بدعا ،بؿ كانت تعتبر – رغـ
التسنف كالتقنيف "األكرثكدككسي" ٌ ،
ٌ النكع مف
3
التعدد ،ىك
الحرية ،كالقبكؿ باالختبلؼ ك ٌ
انتيائيا إلى الفشؿ -محاكالت تمثٌؿ ىي أيضا إحدل طاقات تجميات اإلسبلـ" .كىذه ٌ
يحية كفيما كراء اإلخفاء كالمكاربة.
بكؿ أر ٌ
عبر عف نفسيا ٌ
بالتحديد ما يجعؿ النصكص تي ٌ
-2الفائدة األخرل مف تخصيص مرحمة البدايات ،أم بدايات عمـ الكبلـ في القرف 2ك 3ق ،عمى الرغـ مف قمٌة النصكص األصمية
4
الركايات األسطكرية التي لحقت الكثير مف األحداث التاريخية المتعمقة بمشكمة عمـ الكبلـ ،كرٌبما أحسف
فييا ،ىي االنفبلت مف ٌ
إيديكلكجية
ٌ الميمة المعركفة بمحنة الحنابمة ،في سياقات
ٌ تـ تكظيؼ ىذه الحادثة
مثاؿ عمى ذلؾ حادثة اإلماـ "أحمد بف حنبؿ" .حيث ٌ
العامة أك المعتزلة كسمطة المأمكف 218/198:ق) 5.كنحف نعمـ ٌأنو أينما
غير نزيية ،سكاء مف ىؤالء أك ىؤالء (أم الحنابمة ك ٌ
فإنو مف الصعب ،إف لـ نقؿ مف المحاؿ ،العثكر عمى الحقيقة التاريخية.
حضرت األسطكرة كاأليديكلكجياٌ ،
األكركبية :دراسة حكؿ خطاب في المنيج"
ٌ لذا ىيخمص" ،فاف ايس" ،في آخر فقرة مف محاضرتو حكؿ "اإلسبلـ كاإلسبلمكلكجيا
خاصة إباف مرحمة النشأة ،تكازم في قيمتيا قيمة "إعادة فتح باب االجتياد" 6.إذ ليس باإلمكاف إبقاء باب
ٌ أف "دراسة عمـ الكبلـ،
إلى ٌ
أف ىذا المشركع الطمكح ليذا المستشرؽ ،يجعمنا ننساؽ ك ارء
نقدية ".كالحقيقة ٌ
بكيفية ٌ
الماضي مفتكحا ،إالٌ بفضؿ إعادة أجزاء التاريخ ٌ
إف ارتباط عمـ الكبلـ،
اإلسبلمي ؟ ٌ
ٌ المطمب التساؤلي التالي :إلى ماذا انتيى بعد ىذه الدراسة المكسكعية -النقدية لبداية عمـ الكبلـ
1
جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،ترجمة سالمة صالح ،الجزء األكؿ ،منشكرات الجمؿ،
بغداد – بيركت ،الطبعة األكلى ،2008 ،ص .8
2
محمد عابد الجابرم :العقؿ األخبلقي العربي – دراسة تحميمية نقدية في نظـ القيـ في الثقافة العربية ،مركز دراسات الكحدة
العربية ،بيركت ،الطبعة األكلى ،2001 ،ص .58-57
الدككسا=رأم ،أكرثا= المستقيـ ،كأف نقكؿ األرثكبراكسي أم الفعؿ المستقيـ أك نقكؿ األكرثكغرافيا أم
تد ٌؿ عمى "الرأم المستقيـ"ٌ :
ثكدككسية عمى أساس ٌأنيا تنصير لممضمكف
ٌ فإننا ،نحف المسممكف ننزعج عندما نصؼ عقيدة إسبلمية ما باألر
الكتابة المستقيمة .لذا ٌ
"محمد أرككف" ذاتو عندما استعمؿ بكثرة ىذه الكممة لتكصيفات إسبلمية خالصة .يمكف العكدة تقريبا إلى كؿ
ٌ اإلسبلمي .كقد ىكجـ
كتبو لمعثكر عمى ىذا االستعماؿ المتكرر.
3
يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،مرجع سابؽ ،ص .148-147
4جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،مرجع سابؽ ،ص .9
5
يكسؼ فاف إيس :بدايات الفكر اإلسبلمي -األنساؽ كاألبعاد ،مرجع سابؽ ،ص 152كما تبلىا.
6المرجع نفسو ،ص .155
223
كسياسية ،يد ٌؿ عمى أمكر كثيرة ،حسب "فاف ايس" ،يمكف
ٌ اقتصادية،
ٌ م ،بالمجتمع كما يحممو مف مظاىر إدارٌية ،ك
كنمط فكر ٌ
اختصارىا فيما يمي:
كف ىك ىم ٍف ًً ً
جاىميةن﴿ :أىفى يح ٍك ىـ ا ٍل ىجاىميَّة ىي ٍب يغ ى
ٌ سمى في القرآف الم ٌ بي السابؽ عمى اإلسبلـ ي تامة بيف النسؽ الثقافي العر ٌ -عدـ حدكث قطيعة ٌ
الزىكاةىيف َّ ً َّة ٍاأليكلىى ىكأ ًىق ٍم ىف الص ى
اىمًي ً
ىحسف ًمف المَّ ًو ح ٍكما لًقىكوـ يكًقينكف﴾[ المائدة ]50 ،أك ﴿كقىرف ًفي بيكتً يك َّف كىال تىبَّر ٍجف تىبُّرج ا ٍلج ً
َّبلةى ىكآىت ى ى ى ى ى ى ى يي ى ٍى ي ن ٍ ي ى أٍ ىي ى
ط ًي نيرا﴾ [األحزاب .]33كالنسؽ اإلسبلمي الجديد .كمف ىى ىؿ ا ٍلىب ٍي ًت ىكييطىيّْ ىريك ٍـ تى ٍ
الر ٍج ىس أ ٍ
ب ىع ٍن يك يـ ّْ ىطعف المَّو كرسكلىو إًَّنما ي ًر ي َّ ً ً
يد الموي ليي ٍذى ى ىكأ ٍ ى ى ى ى ي ي ى ي
ً
العقمية ،كحتٌى
العقدية ،ك ٌ
ٌ تصكر تكاصؿ في الحياة
تامة بيف النسقيف ،لدرجة ٌأنو ال يمكف ٌ
اإلسبلمية ،تضع قطيعة ٌ
ٌ األدبيات
ٌ أف
المعمكـ ٌ
مما نعتقد؛
جدة ٌأف الجديد أق ٌؿ ٌالتغير االجتماعي مسألة معقٌدة ،كتسير كفؽ آليات مرٌكبة ،بما يعني ٌ
أف ٌ االجتماعية .لكف كبما ٌ
ٌ
1
الجماعية في الفرد .فالمذىب
ٌ يدؿ ،فيما يد ٌؿ ،عمى استم اررٌية
فإف ارتباط الكبلـ بالمجتمع ٌ
"فالجديد ال حقيؽ لو تماما إالٌ بقدر يسير"ٌ .
تأسس عمى أفكار عر ٌبية سابقة عمى اإلسبلـ ،كما حدث ىك ضرب مف إعادة
مؤسسيو ،قد ٌ
بأف "معاكية" كاف أحد ٌ
القدرم الٌذم يقاؿ ٌ
2
بلنييف العرب ذاتيـ ،قد رٌكزكا عمى ضركرة إعادة درس تفاصيؿ
أف العديد مف المستشرقيف ،كحتٌى العق ٌ
الصياغة فقط .كالحقيقة ٌ
الجاىمية كعصر اإلسبلـ.
ٌ التكاصؿ كالتفاصؿ بيف عصر
اإليمانية الٌتي كفٌرتيا الرسالة الجديدة .بؿ ٌأنو "طالما نظر المرء إلى مح ٌمد
ٌ أف الدخكؿ إلى اإلسبلـ لـ يتـ فقط تحت تأثير الحقيقة
ٌ-
كنبي لمعرب ،فمـ يكف لمرسالة خارج المنطقة العر ٌبية معنى .مف تى ىح ٌكؿ [ مف غير العرب] عف دينو إلى
ٌ "صمٌى المٌو عميو كسمٌـ"
غض المسممكف النظر عف ديانة األفراد ذكم المعارؼ اإلدارٌية، ٌ اقتصادية 3"...كقد
ٌ اجتماعية ك
ٌ اإلسبلـ ٌإنما فعؿ ذلؾ ألسباب
الكضعية العددية لمعرب المسمميف ،مقارنة بالمسمميف غير
ٌ أف
اإلسبلمية الجديدة .كما ٌ
ٌ لمدكلة
العممية ،نظ ار لخدماتيـ الضركرٌية ٌ
ك ٌ
أف كسر امتياز
العرب ،جعميـ متعمٌقيف بالمسمميف الجدد كفؽ منطؽ الحاجة .ىؤالء ،الداخميف الجدد في اإلسبلـ ،الٌذيف تفطٌنكا إلى ٌ
اإلسبلمية حدثت ،حسب "فاف ايس" كفؽ
ٌ فإف الفتكحات
العقدم ،كالمٌساني .لذا ٌ
ٌ افي ،ك
العرب ،يقتضي منيـ التنازؿ عف انتمائيـ الثق ٌ
العقدية الخالصة.
ٌ االجتماعية ،كاإلدارٌية مع العكامؿ
ٌ مما نعتقد ،بحيث تشابكت العكامؿ
آليات معقٌدة أكثر ٌ
الكبلمية" .فقد كاف أبرز الفقياء في العصر
ٌ الفقيية ك
ٌ الكظيفية لئلنساف تمعب دك ار مؤثٌ ار في تحديد مكاقفو
ٌ االجتماعية ك
ٌ أف المكانة
ٌ-
الدكلة ( )...ككاف الجاحظ[ في
األمكم" :غيبلف الدمشقي"" ،جعد بف درىـ"" ،جيـ بف صفكاف"" ،الحسف البصرم" ،مكظٌفيف لدل ٌ
ظفيف 4".كفي ىذه اإلشارة نفيـ حقيقة المكاقؼ الكبلمية الٌتي ال تنفصؿ
تبعية مف المك ٌ
أف التٌجار أق ٌؿ ٌ
الرسائؿ] قد أ ٌكد مف قبؿ ٌ
كتابو ٌ
1
الركح ،ترجمة ناجي العكنمي ،المنظمة العربية لمترجمة ،الطبعة األكلى ،2006 ،استيبلؿ ،ص .125-124
ىيجؿ :فنكمينكلكجيا ٌ
2جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،مرجع سابؽ ،ص ص .62-52
3
جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،مرجع سابؽ ،ص .73 ،68يقكؿ في ىذه الصفحة
األخيرة [أف كاردات الضرائب كانت أىـ بالنسبة "لمحاكميف" مف القيـ المثالية ].مما يدؿ عمى أثر العقمية المالية عمى العقمية الدينية.
أك قؿ سطكة اإلنساف االقتصادم عمى اإلنساف الديني .كفي المسألة العصبية يمكف التأكد مف ىذا المنحى في مقدمة ابف خمدكف
حكؿ استمرار عصبية الجاىمية في الخبلفة اإلسبلمية .لمتكسع يرجى العكدة إلى :محمد عابد الجابرم :فكر ابف خمدكف – العصبية
كالدكلة – معالـ نظرية خمدكنية في التاريخ اإلسبلمي ،مركز د ارسات الكحدة العربية ،بيركت ،الطبعة السادسة ،1994 ،ص .258
224
السياسية،
ٌ بالكظيفية
ٌ التحدد الكبير،
ٌ يتحدد،
ٌ االجتماعية لممتكمٌـ أك الفقيو .لذا فالمكقؼ الكبلمي – الفقيي،
ٌ الكضعية
ٌ عف الكظيفة ك
االجتماعية لمفرد.
ٌ ك
أف "فاف ايس" قد تأثٌر بالعبارة االبستمكلكجية (نقد المعرفة العممية) الٌتي راجت بعد أزمة اليقيف في الفيزياء ،في النصؼ الثاني
-يبدك ٌ
الكبلمية دكف معرفة الكاقع
ٌ مف القرف العشريف .كنقميا إلى مجاؿ التأريخ لمفكر اإلسبلمي الكبلمي .فبل يمكف أف نعرؼ حقيقة النظرية
عنا المذىب الكبلمي .ىذا ىك مبدأ البلٌيقيف ،كالبلٌ تحديد .يقكؿ":لدينا
يتحجب ٌ
ٌ االجتماعي ألصحابيا ،كاذا عرفنا الكاقع االجتماعي،
أسماء أشخاص كصؼ مذىبيـ دكف أف نعرؼ عف مكقعيـ االجتماعي شيئا ،كمف ناحية أخرل نعرؼ عف عدد كبير مف "المثقٌفيف"
1
لكننا ال نعرؼ عف
حد ماٌ ،
[كىناؾ مف يعتبر المتكمٌميف بمثابة مثقٌفيف كأبطاؿ المٌساف ] المينة كالكسط الٌذم عاشكا فيو بكضكح إلى ٌ
2
الكبلمية أمر غير كارد بالنسبة لمف يربط الفكر بالمجتمع .كىذا
ٌ فإف الجزـ كالتحقٌؽ مف المذاىب
كجيات نظرىـ بدقٌة إالٌ القميؿ ".لذا ٌ
مؤسس عمـ اجتماع المعرفة ،أم "كارؿ مانيايـ" ،يصؼ مذىبو
نسبية دكما ،كقد أشار ٌ
ىك الٌذم يجعؿ معرفتنا بتاريخ عمـ الكبلـ ٌ
العبلئقية 3.relationnismeكىذا ما يجعؿ اليقيف ،أق ٌؿ يقينا ،أم مفتكحا دكما عمى امكانات محتممة.
ٌ بالنسبية ،أك المنظكرٌية ،ك
ٌ
خالصة :حدود منيجية "فان ايس" ،عين عمى االستشراق الغربي عمى الحاضر العربي .أوليفيو روا وآخرون.
يقدـ لنا ،حقيقة مشركعو الٌذم يركـ تفسير عمـ الكبلـ مف خبلؿ المجتمع كما يحممو مف
الدكتكر "يكسؼ فاف ايس" لـ ٌ
أف ٌاألكيد ٌ
يتضمناف
ٌ األكؿ مف مكسكعتو الٌتي تحتكل عمى ستٌة أجزاء (المجمٌداف األخيراف
ظكاىر معقٌدة ال ترتبط فقط بالعقيدة ،في ىذا الجزء ٌ
4
القكة ال
القكة الدافعة ليا ".كىذه ٌ
الفقيية تتكقٌؼ عمى معرفة ٌ
ٌ أف "معرفة النظـ
فرضيتو مف خبلؿ مبدأ ٌ
ٌ حدد
ترجمة نصكص فقط) .فقد ٌ
بحثي طكيؿ .لـ يكتمؿ بعد.
ٌ مقدمة لمسار
مجرد ٌ
األكؿ ٌتنفصؿ عف ظركؼ المجتمع المادية كالسياسية .لذا نعتبر ىذا الجزء ٌ
أف ىذا الفكر قد رٌكز
نريد في ىذه الخاتمة العاجمة ،اإلشارة إلى ظاىرة فارقة في مكقؼ الفكر اإلسبلمي مف االستشراؽ .فاألكيد ٌ
المحمدية إلى غاية
ٌ الكبلسيكي ،أم منذ ظيكر الرسالة
ٌ اإلسبلمي
ٌ المتخصصة في الفكر
ٌ اقية
كؿ طاقاتو نحك فحص الدراسات االستشر ٌ
ٌ
كفعاؿ .كىك
ميـ كنشط ٌ أف لبلستشراؽ فرع آخر ٌ أفكؿ الفكر اإلسبلمي مع الشعاع األخير في األندلس كالمغرب .لكف تناسينا ٌ
القكم أك
ٌ اإلسبلمية كنتائج التثاقؼ
ٌ التحكالت الٌتي طرأت عمى الظاىرة
ٌ االستشراؽ الٌذم يدرس الفكر اإلسبلمي الحالي .كمختمؼ
القاصي الٌذم حصؿ مع عصر العكلمة الفائقة .كنكاد نندىش لمسار الفكر اإلسبلمي األكركبي كاألمريكي كغير العربي عمكما،
بأنو قد حاف الكقت لتحقيؽ تكازف بيف
فإننا نعتقدٌ ،
متجددا لدرجة ٌأنو يختمؼ في أسسو عف المبادئ المعيكدة لدينا .لذاٌ ،
ٌ الٌذم أصبح
ألف إىماؿ دراسة مآالت الفكر
الكبلسيكي كاالستشراؽ الٌذم يدرس اإلسبلـ المعاصرٌ .
ٌ استيعاب االستشراؽ الٌذم يدرس الفكر
حتمي ،إلى
ٌ مما يفضي ،كفؽ منطؽ
اإلسبلمية ،ىك السير في خطأ إىماؿ دراسة الفكر اإلسبلمي الكبلسيكي ٌ
ٌ اإلسبلمي ،بؿ الظاىرة
ٌ
طغياف العقؿ االستشراقي عمى العقؿ اإلسبلمي في معرفتو لخبايا التاريخ الفكرم اإلسبلمي ذاتو.
ٌإنو لمف األمكر الصعبة عمى العقؿ االسبلمي ،أف يساير العقؿ االستشراقي .الٌذم ال يتكقٌؼ عف تفكير الظاىرات الجديدة .في
اإليمانية الجديدة ،كتيكيؿ القديمة
ٌ يتحرؾ بمنطؽ تيكيف الظكاىر
نسبياٌ ،
أف العقؿ اإلسبلمي ،في مسائؿ العقيدة كالكبلـ ،كالفقو ٌ
حيف ٌ
1جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،مرجع سابؽ ،ص .85-82
2المرجع نفسو ،ص .615
3كارؿ مانيايـ :االيديكلكجيا كاليكتكبيا – مقدمة في سكسيكلكجيا المعرفة ،ص .324
4
جكزيؼ فاف أس :عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة ،مرجع سابؽ ،ص .9
225
1
فإننا نميؿ إلى
يتحدث ،اليكـ مثبل ،عف كجكد "مسمـ ممحد"[ Olivier Royمثبل]ٌ ،
أساسية .كعندما نجد مستشرقا ٌ
ٌ منيا ،أم اعتبارىا
بالنسبة لنا .فيبلٌ انفتح عقمنا
التديف ،غير المعيكد ٌ
اعتبارىا فكاىة ،لكف انتقاؿ اإلسبلـ إلى أكركبا كغيرىا ،قد أفرز فعبل ،ضربا مف ٌ
اقي يجكؿ كيصكؿ فييا كيفما شاء.
الساحة الفكرٌية فارغة لمعقؿ االستشر ٌ
اإلسبلمية الجديدة ! لكي ال نترؾ ٌ
ٌ عمى الظكاىر
1أكليفيو ركا :الجيؿ المقدس – زمف ديف ببل ثقافة ،ترجمة صالح األشقر ،دار الساقي ،بيركت ،الطبعة األكلى ،2012 ،ص .29
226