Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 226

‫محاضرات في عمم‬

‫الكالم‪.‬‬
‫دروس مقدمة لمسنة الثانية ليسانس فمسفة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫فيرست الموضوعات‪:‬‬

‫المحاضرة األولى‪ :‬في مفيوم عمم الكالم‪.7.....................................................................................‬‬

‫تمييد‪.‬‬

‫أوال‪ -‬في مفيوم عمم الكالم‪:‬‬

‫‪ -1‬تعريق القدامى‪:‬‬

‫‪ -2‬تعريف المحدثين‪:‬‬

‫‪ -3‬تعريف الدرس اإلستشراقي‪:‬‬

‫ثانيا‪ -‬أسباب التسمية‪:‬‬

‫استنتاج‪.‬‬

‫المحاضرة الثانية‪ :‬منيج عمم الكالم‪.27........................................................................................‬‬

‫تمييد‪.‬‬

‫أوال‪ -‬في حقيقة المنيج الكالمي‪:‬‬

‫ثانيا – التميز بين المناىج العقمية والمناىج النقمية‪:‬‬

‫‪ -1‬منياج الكالم العقمية‪:‬‬

‫‪ -2‬مناىج الكالم النقمية‪:‬‬

‫ثالثا‪ -‬مناىج الكالم ومناىج العموم الحكمية‪:‬‬

‫رابعا‪ -‬منيج اإلعجاز العممي المعاصر‪:‬‬

‫خالصة‪.‬‬

‫المحاضرة الثالثة‪ :‬عوامل ظيور عمم الكالم‪.55..............................................................................‬‬

‫مقدمة‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫أوال‪ -‬العوامل الداخمية في ظيور عمم الكالم‪:‬‬

‫‪ -1‬اليوية السياسية لمكالم‪:‬‬

‫‪ -1-1‬فتنة الجمل‪:‬‬

‫‪ -2-1‬فتنة صفين‪:‬‬

‫اليوية القرآنية لمكالم‪:‬‬ ‫‪-2‬‬

‫ثانيا‪ -‬العوامل الخارجية لظيور عمم الكالم‪:‬‬

‫‪ -1‬حضارات الشرق (إيران واليند)‪:‬‬

‫‪ -2‬اإلغريق‪:‬‬

‫‪ -3‬الييودية‪:‬‬

‫‪ -4‬المسيحية‪:‬‬

‫ثالثا‪ -‬مظاىر تجاوز عمم الكالم اإلسالمي الالىوت السابق‪:‬‬

‫استنتاج‪ :‬في تعالق العوامل الداخمية بالعوامل الخارجية‪.‬‬

‫المحاضرة الرابعة‪ :‬جدل عمم الكالم؛ بين االستحسان واإل لجام‪.75..........................................................‬‬

‫مقدمة‪.‬‬

‫أوال‪ -‬استحسان الخوض في عمم الكالم‪:‬‬

‫ثانيا‪ -‬تحريم الكالم واستثقالو‪:‬‬

‫ثالثا‪ -‬إلجام العوام عن عمم الكالم‪ :‬أطروحة الغزالي وابن رشد‪.‬‬

‫خاتمة‪.‬‬

‫المحاضرة الخامسة‪ :‬أصل الفرق الكالمية (‪ )1‬الفرق السياسية‪.22.....................................................‬‬

‫مقدمة‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫أوال‪ -‬الخوارج‪:‬‬

‫‪ -1‬النشأة والتسمية‪:‬‬

‫‪ -2‬المبادئ الكالمية‪( :‬السياسية)‪.‬‬

‫ثانيا‪ -‬الشيعة‪:‬‬

‫‪ -1‬النشأة والتسمية‪:‬‬

‫‪ -2‬المبادئ العقدية‪:‬‬

‫‪ -3‬المبادئ السياسية‪:‬‬

‫خالصة‪.‬‬

‫المحاضرة السادسة‪ :‬أصل الفرق الكالمية‪ )2( .‬الفرق العقائدية (المعتزلة واألشاعرة)‪.113....................................‬‬

‫مقدمة‪.‬‬

‫أوال‪ -‬المعتزلة‪:‬‬

‫‪ -1‬النشأة ومشكمة التسمية‪:‬‬

‫‪ -2‬طبقات االعتزال وفرقيم‪:‬‬

‫‪ -3‬األصول الخمسة‪:‬‬

‫ثانيا‪ -‬األشاعرة‪:‬‬

‫‪ -1‬النشأة والتسمية‪:‬‬

‫‪ -2‬طبقات األشاعرة‪:‬‬

‫‪ -1-2‬مرحمة النشأة‪.‬‬

‫‪ -2-2‬مرحمة اإلكتمال‪ :‬أبو حامد الغزالي‪( .‬توفي ‪ 505‬ه)‪.‬‬

‫‪ -3-2‬مرحمة الكالم الفمسفي‪ :‬فخر الدين الرازي‪ .‬المتوفي ‪ 606‬ه‪.‬‬

‫المنيج واآلراء الكالمية‪:‬‬ ‫‪-3‬‬

‫‪4‬‬
‫خالصة‪ :‬السنة – االعتزال‪ -‬السنة‪.‬‬

‫المحاضرة السابعة‪ :‬أصل الفرق الكالمية‪)3( .‬الفرق العقائدية‪( .‬المرجئة والمجبرة والماتردية)‪.132..............................‬‬

‫تقديم‪.‬‬

‫أوال‪ -‬المرجئة‪:‬‬

‫ثانيا‪ -‬المجبرة‪:‬‬

‫‪ -1‬مشكمة الصفات‪.‬‬

‫‪ -2‬مشكمة أفعل العباد‪.‬‬

‫ثالثا‪ -‬الماتردية‪:‬‬

‫خاتمة‪.‬‬

‫المحاضرة الثامنة‪ :‬مشكمة كالم اهلل (القرآن بين الخمق والقدم)‪.151............................................................‬‬

‫تقديم‪.‬‬

‫أوال‪ -‬حيثيات الطرح‪:‬‬

‫ثانيا‪ -‬نظرية خمق القرآن‪:‬‬

‫ثالثا‪ -‬نظرية قدم القرآن‪:‬‬

‫رابعا‪ -‬المشكمة الكالمية والموقف السياسي‪ :‬أو التاريخ السياسي لنظرية خمق القرآن‪.‬‬

‫استنتاج‪.‬‬

‫المحاضرة التاسعة‪ :‬مشكمة التنزيو (الذات والصفات اإلليية)‪.170......................................................‬‬

‫مقدمة‪.‬‬

‫أوال‪ -‬الفرق التجسيمية‪:‬‬

‫ثانيا‪ -‬الفرق التنزييية‪:‬‬

‫ثالثا‪ -‬الفرق المعتدلة‪:‬‬

‫‪5‬‬
‫خالصة‪.‬‬

‫المحاضرة العاشرة‪ :‬مشكمة أفعال االنسان‪.120.......................................................................‬‬

‫مقدمة‪.‬‬

‫أوال‪ -‬الكالم في قدرة اهلل المطمقة‪:‬‬

‫ثانيا‪ -‬الكالم في قدرة اإلنسان المطمقة‪:‬‬

‫ثالثا‪ -‬مشكمة نظرية الكسب‪:‬‬

‫خالصة‪.‬‬

‫المحاضرة ‪ :11‬اإلستشراق وعمم الكالم اإلسالمي‪.207................................................................‬‬


‫مقدمة‪.‬‬
‫أوال‪ -‬من االستشراق إلى االستغراب‪ :‬قراءة جديدة "الستشراق" إدوارد سعيد‪:‬‬
‫ثانيا‪ -‬نحو تثمين نظرية "مالك بن نبي" حول قيمة االستشراق بالنسبة لموعي اإلسالمي‪ :‬من االرتضاء إلى االنتقاد‪.‬‬
‫ثالثا‪" -‬يوسف فان إيس" والفكر اإلسالمي‪ :‬بداية العالقة‪.‬‬
‫رابعا‪ -‬عالقة عمم الكالم بالمجتمع في القرون اليجرية األولى‪.‬‬
‫خالصة‪ :‬حدود منيجية "فان ايس"‪ ،‬عين عمى االستشراق الغربي عمى الحاضر العربي‪ .‬أوليفيو روا وآخرون‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫المحاضرة األولى‪ :‬في مفيوم عمم الكالم‪.‬‬

‫تمييد‪.‬‬

‫عبر عف حقيقة المجاؿ التداكلي‬


‫يعتقد البعض مف دارسي الفكر اإلسبلمي في األزمنة الكبلسيكية‪ ،‬بأف المبحث الفكرم الذم ٌ‬
‫اإلسبلمي أنذاؿ ىك مبحث عمـ الكبلـ‪ .‬أم أنو العمـ األصيؿ الخالص لحضارة اإلسبلـ‪ .‬طبعا‪ ،‬فيذا المكقؼ لـ يحقؽ اإلجماع‪ ،‬عمى‬
‫أساس أنو يستبطف مكقفا سمبيا يتمثؿ في التأكيد عمى أف العمكـ األخرل دخيمة كليست أصيمة‪ .‬كبأف المسمميف قد انطمقكا مف التراث‬
‫اليكناني عف طريؽ الترجمة كالنقكؿ خاصة في العمكـ الرياضية كالفمسفة كالمنطؽ‪.‬‬

‫إف المكقؼ السابؽ الذم يتبناه البعض مف المستشرقيف مردكد مف عدة أكجو‪ ،‬كىذا الرد ليس مكجيا ضد الدرس اإلستشراقي‬
‫مثمما يفعؿ البعض‪ ،‬بؿ أنو ال يعكس الحقيقية التاريخية بكؿ تجمياتيا‪ .‬فعندما نقكؿ بأف عمـ الكبلـ ىك العمـ األصيؿ في العالـ‬
‫اإلسبلمي‪ ،‬فإننا نتناسى انتقاؿ الكثير مف المسائؿ العقدية مف العصكر السابقة عمى ظيكر الرسالة المحمدية‪ ،‬كما نتجاىؿ تأثر‬
‫العديد مف المتكمميف‪ ،‬بخاصة المعتزلة‪ ،‬ببعض الفمسفات اإلغريقية التي تعتبر مف الكجية العقدية كثنية كجاىمة ككافرة‪.‬‬

‫لذا فالمكقؼ المعتدؿ‪ ،‬في تقديرنا‪ ،‬ىك القائؿ بأف عمـ الكبلـ مبحث كباقي المباحث األخرل‪ ،‬لو مف األصالة بقدر ما لو مف‬
‫النقكؿ‪ .‬إذ ال يجب جعمو عمما متفردا كخاصا مقارنة بما انتجتو الحضارة اإلسبلمية‪ .‬حقيقة أف ىناؾ عمكـ أصيمة بالكامؿ مثؿ عمـ‬
‫الفقو كعمـ األصكؿ كعمـ الحديث كعمكـ القرآف بمختمؼ فركعيا‪ ،‬كىناؾ عمكـ منقكلة بالكمية مثؿ الفمسفة كالميتافيزيقا‬
‫كالرياضيات‪...‬الخ‪ .‬كىذه التفرقة ىي ما سماه الغزالي بالعمكـ األصيمة كالعمكـ الدخيمة‪ .‬لكف انفتاح العالـ اإلسبلمي كالتكسع السياسي‬
‫كمف ثمة الحضارم لئلمبراطكرية اإلسبلمية‪ ،‬جعؿ األصيؿ يستفيد مف الدخيؿ كالدخيؿ يتأصؿ شيئا فشيئا مف خبلؿ فعؿ االندماج‬
‫كالتثاقؼ كالنمك كاألقممة‪...‬الخ‪ .‬سنرل في محاضرات الحقة بأف عمـ الكبلـ لـ يشذ عف ىذه القاعدة‪ ،‬بحيث أنو ىمثؿ تأمؿ العقؿ‬
‫اإلسبلمي في قضايا عقيدتو المخصكصة مف خبلؿ اعماؿ مناىج قد تككف منقكلة مف الغير‪.‬‬

‫ستخصص ىذه المحاضرة االفتتاحية لئلجابة عف سؤاليف أساسييف‪ :‬ما المقصكد بعمـ الكبلـ ؟ كما سبب ىذه التسمية ؟ عمى أف‬
‫نعمؿ عمى مقاربة كمقارنة بيف العشرات مف التعريفات المقدمة قديما كحديثا مف أجؿ القبض عمى الماىية الثابتة ليذا العمـ‪ .‬ثـ‬
‫سنعمؿ عمى مقارنة المنظكر اإلسبلمي لعمـ الكبلـ بالمنظكر اإلستشراقي لو‪ ،‬كىي المقارنة التي نعتقد أنيا ستثمر منظكر أكثر‬
‫نضجا أك اكتماال‪ .‬ألف المألكؼ في التآليؼ الكبلمية ىك التركيز عمى ىذا المنظكر أك ذاؾ حصرا‪ ،‬دكف المحاكلة الجادة لتركيب‬
‫منظكر داخمي كمنظكر خارجي مف أجؿ الخركج بمنظكر مركب يستكعب أكبر قدر مف الخمفيات‪ .‬كسنرل أدناه‪ ،‬أف أم تعريؼ لعمـ‬
‫الكبلـ ينطمؽ مف خمفية ما‪ .‬لذا فإف القبض عمى تعريؼ مكضكعي ببل خمفيات سيككف ىدفا مثاليا سنعمؿ عمى بمكغو قدر‬
‫المستطاع‪ .‬كمف المفيد التنبيو إلى أف أم تعريؼ لحد مف الحدكد المستعممة في أم سياؽ‪ ،‬يستبطف خمفية محددة قد تككف معركفة أك‬
‫مجيكلة لنا‪ .‬حتى تعريؼ القرآف الكريـ‪ ،‬الذم ىك عماد كؿ العمكـ الدينية في السياقات اإلسبلمية‪ ،‬كربما حتى العمكـ غير الدينية‪ ،‬لـ‬
‫يخرج عف خمفيات سابقة في تحديده‪ .‬فبيف التعريؼ التراثي كالتعريؼ الحداثي‪ ،‬كبيف التعريفات التراثية ذاتيا كالتي لـ تتجانس‬

‫‪7‬‬
‫بالمطمؽ‪ ،‬فرؽ يدؿ عمى خصكصيات في الخمفية‪ 1.‬فبمجرد قكلنا أف القرآف كبلـ ا﵀ القديـ‪ ،‬فإننا ىنا أماـ خمفية كبلمية لـ تحقؽ‬
‫اإلجماع في الفكر اإلسبلمي‪ .‬بؿ أف القكؿ بابتداء القرآف بالفاتحة كانتيائو بالناس ىك أيضا مكقؼ يستبطف مكقفا عقديا يدخؿ في‬
‫جدؿ فرع مف فركع عمـ القرآف‪ .‬عمى أساس أف المعاصريف‪ ،‬مثميـ مثؿ القدامى‪ ،‬قد أثاركا مشكبلت ممحة حكؿ طبيعة نشأة‬
‫المصحؼ الذم يسمي اليكـ بالمصحؼ العثماني‪ 2.‬كسنرل الحقا‪ ،‬بأنو قد احتدـ صراع بيف الفرؽ الكبلمية حكؿ طبيعة القرآف‬
‫لدرجة تدخؿ الق اررات السياسية كاراقة الدماء كتشكؿ قضايا الرأم العالـ كاىانة العمماء‪...‬الخ‪.‬‬

‫أوال‪ -‬في مفيوم عمم الكالم‪:‬‬

‫المطمع عمى التعاريؼ المكجكدة في كؿ المدكنات التي اىتمت بعمـ الكبلـ شرحا كتأريخا كتحديدا‪ ،‬يمكف أف يبلحظ أنيا تنقسـ‬
‫إلى ثبلثة أقساـ أساسية‪:‬‬

‫قسـ يضـ التعاريؼ القديمة ليذا العمـ‪ ،‬كىي كثيرة كمختمفة بسبب اختبلفات التخصصات كالمرجعيات‪ ،‬فتعريؼ المتكمـ مثبل‬
‫لعمـ الكبلـ يختمؼ عف تعريؼ المتصكؼ أك الفقيو أك األصكلي‪ ،‬كما أف ىذا االختبلؼ تابع لبلنتماءات المذىبية‪ ،‬إذ أننا نجد تزاكج‬
‫بيف االنتماء الفقيي كالكبلمي مثبل‪ ،‬أك االنتماء الكبلمي كالصكفي‪...‬الخ‪ .‬ففركع العمكـ اإلسبلمية القديمة لـ تكف جز ار مستمقة‪ ،‬بؿ‬
‫ىناؾ تشابؾ أفضى إلى ظيكر مكاقع فكرية مركبة كمعقدة أكثر مما نعتقد‪ .‬كاختبلؼ القدامى في تحديد الكبلـ بسبب انتمائيـ‪ ،‬شبيو‬
‫باختبلؼ الفبلسفة في تعريؼ الفمسفة بسبب تمذىبيـ‪.‬‬

‫قسـ ثاف يضـ التعريفات التي قدميا الفكر العربي الحديث‪ ،‬كميزة ىذه التعريفات أنيا تجاكزت قدر اإلمكاف مشكمة التعريؼ مف‬
‫كراء أحجبة االنتماء الفرقية‪ .‬أم أنيا جاءت تعريفات تكصيفية كمكضكعية قدر اإلمكاف‪ .‬فتعريؼ عمـ الكبلـ مف طرؼ محمد عبدك‪،‬‬
‫كلك أنو متحمس لمفكر اإلعتزالي‪ ،‬إال أنو تعريؼ اتسـ بالكثير مف الرزانة العممية بعيدا عف أم تشنج في التكجو كالتعصب لمفرقة‬

‫‪1‬‬
‫لمتكسع في المسألة يمكف العكدة لػ‪ :‬محمد عابد الجابرم‪ :‬مدخؿ إلى القرآف الكريـ‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬في التعريؼ بالقرآف‪ ،‬مركز‬
‫دراسات الكحدة العربية‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2006 ،‬ص ‪ .18-17‬كأيضا‪:‬‬
‫محمد أرككف‪ :‬الفكر العربي‪ ،‬ترجمة عادؿ العكا‪ ،‬منشكرات عكيدات‪ ،‬بيركت ‪ -‬باريس‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،1985 ،‬ص ‪ .32‬يقكؿ مثبل‬
‫معرفا القرآف ‪ :‬ىك مجمكعة محدكدة كمفتكحة مف نصكص بالمغة العربية يمكف أف نصؿ إلييا في النص المثبت إمبلئيا بعد القرف‬
‫الرابع ىػ ‪/‬العاشر ـ كأف جممة النص المثبت عمى ىذا المنكاؿ نيضت بآف كاحد أثر مكتكب ككبلـ تعبدم‪".‬‬

‫يمكف أيضا االطبلع عمى دراستو األخيرة المطبكعة بعد الكفاة ‪ :posthume‬محمد أرككف‪ :‬قراءات في القرآف‪ ،‬ترجمة ىاشـ صالح‪،‬‬
‫دار الساقي بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2017 ،‬ص ‪ 87‬كما تبلىا‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫ألفريد –لكيس دم بريمار‪ :‬في أصكؿ القرآف‪ -‬مسائؿ األمس كمقاربات اليكـ‪ ،‬ترجمة ناصر بف رجب‪ ،‬منشكرات الجمؿ‪ ،‬بغداد‪-‬‬
‫بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2019 ،‬ص ‪.123-122‬‬

‫‪8‬‬
‫كاالنتماء الضيؽ‪ .‬كما يمكف أف نجد سمسمة مف التعريفات األكاديمية التي عممت قدر اإلمكاف عمى التكصيؼ المكضكعي كالتقسيـ‬
‫المنيجي كالضبط التاريخي‪.‬‬

‫قسـ ثالث كىك التعريفات اإلستشراقية‪ ،‬حيث يجب عمينا أف نعترؼ بأف فضيمة اإلستشراؽ ىي التخصص‪ ،‬حيث أف ىناؾ‬
‫استشراؽ متخصص في عمـ التاريخ (مثؿ ركزنتاؿ)‪ ،‬كآخر في عمـ الكبلـ‪ ،‬كآخر في الفقو (مثؿ شاخت)‪...‬الخ‪ .‬سنركز‪ ،‬كفؽ حدكد‬
‫اطبلعنا‪ ،‬عمى مستشرقيف ميميف ىما "يكسؼ فاف ايس" ك"ىارم أكستريف كلفسكف"‪ .‬كتأتي أىميتيما في ككنيما عمى دراية تامة‬
‫كشاممة بمجمؿ التأليفات الكبلمية‪ ،‬إضافة إلى المكاقؼ المكضكعية قدر اإلمكاف‪.‬‬

‫‪ -4‬تعريق القدامى‪:‬‬

‫مف أقدـ التعريفات المتكفرة لنا نجد تعريؼ الفارابي (تكفي ‪339‬ق‪ 950/‬ـ)‪ ،‬حيث يقكؿ‪ ":‬صناعة الكالم يقتدر بيا اإلنسان‬
‫عمى نصره اآلراء واألفعال المحدودة التي صرح بيا واضع الممة‪ ،‬وتزييف كل ما خالفيا باألقاويل‪ .‬وىذا ينقسم إلى جزئين أيضا‪:‬‬
‫جزء في اآلراء وجزء في األفعال‪ .‬وىي غير الفقو؛ ألن الفقو يأخذ اآلراء واألفعال التي صرح بيا واضع الممة مسممة ويجعميا‬
‫‪1‬‬
‫أصوال‪ ،‬فاستنبط منيا األشياء الالزمة عنيا"‪.‬‬

‫ما يمكف أف نمحظو عمى ىذا التعريؼ ىك أنو مكضكع في فصؿ (مف احصاء العمكـ) يضـ العمـ المدني كعمـ الفقو‪ .‬كمف‬
‫مككنات التعريؼ نممس ارتباط عمـ الكبلـ بعمـ السياسة عمى أساس أف النصرة ىنا محددة بما كافؽ عميو كاضع الممة بالذات‪ ،‬كعمى‬
‫الرغـ مف أف الممة تمثؿ الديف القكيـ‪ ،‬إال أنو ال يقكـ أم ديف دكف سمطة‪ .‬كما أنو يرتبط بعمـ الفقو باعتباره عمـ العمؿ‪ .‬كفعؿ النصرة‬
‫يتـ بتزييؼ المخالؼ مف األقاكيؿ‪ ،‬لذا يتحكؿ عمـ الكبلـ إلى عمـ الدحض مف أجؿ الدفاع عف العقائد‪ .‬لكف العقائد التي رسميا‬
‫كاضع الممة فقط‪ .‬كمع اختبلؼ الممؿ تختمؼ العقائد‪ .‬كلعؿ السؤاؿ الذم يظير لنا ىنا‪ ،‬كىذا مف المكقؼ الكاسع الذم كقفو الفارابي‪،‬‬
‫ىك السؤاؿ القائؿ ىؿ عمـ الكبلـ عمـ اسبلمي مخصكص بالذات ؟ يبدك أف لكؿ ممة عمـ كبلميا‪ ،‬مما يجعؿ عمـ الكبلـ مكقفا دينيا‬
‫بصكرة عامة كليس مكقفا اسبلميا فقط‪ .‬كنحف نجد المقابؿ غير اإلسبلمي لعمـ الكبلـ في التسمية الشائعة كىي الثيكلكجيا أك عمـ‬
‫الربكبية أك البلىكت‪ .‬كحدىا في قامكس الفمسفة ىك‪" :‬عمـ ا﵀ مف حيث محمكالتو كعبلقاتو مع العالـ كمع اإلنساف"‪ 2.‬كفي تقديرنا أف‬
‫تسمية "عمـ الكبلـ" اإلسبلمية أكثر داللة مف تسمية "عمـ ا﵀" ‪ ،science de Dieu‬عمى أساس أننا ال نتممؾ تجربة مباشرة مع ا﵀‬
‫بؿ ال يمكف أف نمتمكيا كفؽ المنطؽ الكضعي‪ ،‬كالطريؽ الكحيد الذم يمكف أف يكصمنا إلى ا﵀ ىك الكبلـ‪ ،‬أك قؿ كبلمو‪ .‬ما الكتب‬
‫المقدسة إال ىذه الكساطة بيف اإلنساني كاإلليي‪ .‬كتجربة "محمد ‪ /‬جبريؿ" في السياقات اإلسبلمية تؤكد سمطة الكممة في معرفة ا﵀‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫أبكا نصر الفارابي‪ :‬إحصاء العمكـ‪ ،‬تقديـ كشرح كتبكيب عمى بكممحـ‪ ،‬دار كمكتبة اليبلؿ لمطباعة كالنشر‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪،‬‬
‫‪ ،1996‬ص ‪ .86‬كمف الكتب التي تستشيد بيذا التعريؼ نجد‪ :‬مصطفى عبد الرازؽ‪ :‬تمييد لتاريخ الفمسفة اإلسبلمية‪ ،‬دار الكتاب‬
‫المصرم كدار الكتاب المبناني‪ ،‬القاىرة‪ -‬بيركت‪ ،2011 ،‬ص ‪ .367‬كعبد الحسيف خسركبناه‪ :‬الكبلـ اإلسبلمي المعاصر‪ ،‬الجزء‬
‫األكؿ‪ ،‬ترجمة محمد حسيف الكاسطي‪ ،‬دار الكفيؿ لمطباعة كالنشر كالتكزيع‪ ،2016 ،‬ص ‪.17‬‬

‫‪2‬‬
‫‪André Lalande: vocabulaire technique et critique de la philosophie, édition P U F- Quadrige, Paris,‬‬
‫‪1ere édition, 2002, p 1125.‬‬
‫‪9‬‬
‫فالكبلـ المقدس ىك المصدر األكحد لممعرفة الدينية لدل كؿ الشعكب‪ 1.‬كحتى تجربة مكسى مع ا﵀ كانت كبلمية أكثر مما كانت‬
‫كف﴾ [البقرة‪ .]55،‬أيضا‬ ‫ً‬ ‫ؾ ىحتَّى ىن ىرل المَّوى ىج ٍي ىرةن فىأ ى‬
‫كسى لى ٍف ين ٍؤ ًم ىف لى ى‬
‫ىخ ىذتٍ يك يـ الصَّاعقىةي ىكأ ٍىنتي ٍـ تىٍنظيير ى‬ ‫﴿كًا ٍذ قيٍمتي ٍـ ىيا يم ى‬
‫حسية كفؽ القرآف ذاتو‪ :‬ى‬
‫يما﴾ [النساء‪ .]164 ،‬كما أف العمكـ‬ ‫ً‬ ‫ؾ ًم ٍف قىٍب يؿ كرس نبل لىـ ىن ٍقصصيـ عمىٍي ى َّ َّ‬
‫كسى تى ٍكم ن‬
‫ؾ ىك ىكم ىـ الموي يم ى‬ ‫ى ي ي ٍ ي ٍ يٍ ى‬ ‫اى ٍـ ىعمىٍي ى‬
‫صىن ي‬‫ص ٍ‬ ‫﴿كير يس نبل قى ٍد قى ى‬
‫قكلو تعالى‪ :‬ى‬
‫الدينية‪ ،‬في سياقاتنا اإلسبلمية‪ ،‬تسمى عمكـ السمع‪ ،‬لمداللة عمى أف التجربة الدينية قائمة عمى تصديؽ السماع‪ ،‬فالقرآف كليد السمع‬
‫ال الرؤية‪ ،‬الرؤية تأتي متأخرة نكعا ما‪ ،‬عمى الرغـ مف حديث سكرة النجـ عف الرؤية‪ 2،‬إال أنيا مرتبطة بالذات اإلليية كىي مشكمة‬
‫ستأخذ حي از في مكضكع التنزيو‪ .‬كأىمية الكبلـ جعمت "دم سكسير" (تكفي ‪ )1913‬كىك المختص في عمكـ المغة‪ ،‬يربط كؿ شيء‬
‫‪3‬‬
‫ما يصنع الفرؽ في عمـ الكبلـ ىك الكبلـ ذاتو‪ .‬فكؿ شيء يمر عبر المغة‪ ،‬ما‬ ‫بالمساف قائبل‪" :‬كؿ شيء في المساف ىك فارؽ"‪.‬‬
‫اإلنساف إال كائف لغكم في القبؿ كالبعد‪ .‬أم أنو نتاج المغة كيؤدم إلى إنتاج المغة‪ .‬اإلنساف نتاج لغة ينتجيا ىك‪.‬‬

‫كفي سياؽ البحث عف تفرد المسمميف بعمـ الكبلـ‪ ،‬نجد مف يشير إلى كجكد عمـ كبلـ غير إسبلمي‪ .‬إذ "يتكمـ يحي بف عدم‬
‫عف المتكمميف المسيحييف‪ .‬كيتحدث ابف رشد عف المتكمميف مف أىؿ ممة النصارل‪ .‬أك عف المتكمميف مف أىؿ الممؿ الثبلث‬
‫المكجكدة اليكـ‪( .‬تفسير ما بعد الطبيعة‪ ،‬ص ‪ ) 1403-1489‬كيتحدث ابف ميمكف عف "المتكمميف األكؿ مف اليكنانييف المتنصريف‬
‫كمف اإلسبلـ‪( .‬داللة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪ 4.")123‬لذا فإف الحديث عف طبيعة األلكىية ككؿ‪ ،‬ىك ما يجعؿ مف ىذا الحديث كبلما‪ ،‬كليس‬
‫فقط في الحالة اإلسبلمية‪ .‬كما نجد ابف حزـ يتكمـ عف متكممي الييكد أمثاؿ سعديا‪ ،‬كالمقمص‪ ،‬كابراىيـ البغدادم‪ ،‬كأبي كثير‬
‫الطبراني‪ 5.‬كلتمييز عمـ الربكبية أك األلكىية (الثيكلكجية) عف عمـ الكبلـ الذم لو خصكصيات إسبلمية‪ ،‬يعمد المستشرقيف إلى‬
‫استعماؿ عبارة الكبلمكلكجيا ‪ Kalamologie‬أك كممة ‪ .kalam‬كىكذا كردت عناكيف مثؿ كتاب ‪:Harry Austryn Wolfson‬‬
‫‪ . 1976 ،the philosophy of the kalam‬كالذم سنعتمده كثي ار نظ ار لمعرفتو بدقائؽ المدكنات الكبلمية‪ ،‬عمى الرغـ مف مغاالتو‬
‫في إظيار تبعية الكبلـ اإلسبلمي لبلىكت المسيحي‪ .‬كنجد أيضا كتاب ىكركفتس ‪ Horovitz‬كىك مؤرخ محدث لعمـ الكبلـ‪Uber :‬‬

‫‪1‬‬
‫شكيب بف بديرة الطبمبي‪ :‬مدخؿ مناىجي إلى عمـ الكبلـ‪ ،‬مطبعة دار المتكسط الجديد‪ ،‬طبمبة‪ ،‬تكنس‪ ،2012 ،‬ص ‪.25‬‬

‫اب قى ٍك ىس ٍي ًف أ ٍىك أ ٍىدىنى (‪ )9‬فىأ ٍىك ىحى ًإلىى ىع ٍب ًد ًه ىما أ ٍىك ىحى (‪)10‬‬
‫اف قى ى‬
‫َّ‬
‫ىعمىى (‪ )7‬ثيَّـ ىدىنا فىتى ىدلى (‪ )8‬فى ىك ى‬ ‫ؽ ٍاأل ٍ‬‫استىكل (‪ )6‬ك يىك بً ٍاأليفي ً‬
‫ى ى‬
‫ًو‬
‫﴿ يذك مَّرة فى ٍ ى‬
‫‪2‬‬

‫يخ ىرل (‪ً )13‬ع ٍن ىد ًس ٍد ىرًة ا ٍل يم ٍنتىيىى (‪ً )14‬ع ٍن ىد ىىا ىجَّنةي ا ٍل ىمأ ىٍكل‬
‫كنوي ىعمىى ىما ىي ىرل (‪ )12‬ىكلىقى ٍد ىرآىهي ىن ٍزلىةن أ ٍ‬ ‫اد ىما ىأرىل (‪ )11‬أىفىتي ىم يار ى‬
‫ب ا ٍلفي ىؤ ي‬
‫ىما ىك ىذ ى‬
‫(‪.﴾)15‬‬

‫‪3‬‬
‫مصطفى صفكاف‪ :‬التحميؿ النفسي عمما عبلجا كقضية‪ ،‬ترجمة مصطفى حجازم‪ ،‬ىيئة البحريف لمثقافة كاآلثار‪ ،‬المنامة‪ ،‬الطبعة‬
‫األكلى‪ ،2016 ،‬ص ‪.198‬‬

‫‪4‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬ترجمة مصطفى لبيب عبد الغاني‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬المركز القكمي لمترجمة‪،‬‬
‫القاىرة‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2005 ،‬ص ‪.147‬‬

‫‪5‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.161‬‬

‫‪11‬‬
‫‪1‬‬
‫كعمى أساس ىذه التسمية يتـ‬ ‫‪.den Einfluss der griechischen phillosphie auf die Entwichlung des Kalam‬‬
‫التمييز بيف خصكصيات الكبلـ اإلسبلمي كبيف الكممة المألكفة في السياقات الغربية خاصة عمـ األلكىية أك الربكبية (الثيكلكجيا) التي‬
‫ترتبط سياقيا بالميتافيزيقا اإلغريقية القديمة‪ .‬ألف المصطمحات العقدية المسيحية تأسست عمى المكركث الميتافزيقي اإلغريقي‪.‬‬

‫الفاربي بيف "عمـ الكبلـ" الذم ىك عنكاف العمـ النظرم الخالص ك"عمـ الفقو" الذم ىك عنكاف العمـ العممي‬
‫كمف الغريب أف يربط ا‬
‫الخالص‪ .‬عمى أساس أف "المعارؼ النظرية ليست مقركنة باستعداد نحك العمؿ إال بالعرض"‪ 2.‬كقد ساد االعتقاد بالتقابؿ بيف العمميف‬
‫حد االنفصاؿ الكمي‪ ،‬إذ أف المتكمـ ال يعمؿ كالفقو ال يتكمـ‪ .‬فعمـ الكبلـ‪ ،‬بحسب طو عبد الرحمف‪ ،‬ىك عمـ المناظرة العقدم‪ ،‬مما‬
‫يجعمو نظر كحسب‪ 3.‬في حيف أف جكىر عمـ الفقو ىك العمؿ‪ ،‬كأم تفكير أك تنظير أك تجريد في الفقو‪ ،‬ييدؼ في النياية إلى القياـ‬
‫بعمؿ ما‪ .‬فجكىر عمـ الفقو‪ ،‬كىك العمـ اإلسبلمي األصيؿ كالخالص مف كؿ تأثير خارجي‪ ،‬ىك العمؿ‪ .‬لذا تقرر لديو‪ ،‬أم طو عبد‬
‫ارحمف‪ ،‬أف ما يخص العالـ اإلسبلمي ىك العمـ العممي كحده‪ ،‬كحتى الفمسفة اإلسبلمية تحتاج إلى تفقيو بمعنى العمؿ عمى صناعة‬
‫فمسفة بدؿ تكظيؼ فمسفة منقكلة‪ 4.‬لكننا نجد الفارابي يربط بيف الكبلـ كالفقو‪ ،‬كيعتقد بإمكانية الجمع بينيما‪ ،‬بحيث يمكف لئلنساف أف‬
‫يككف فقييا كمتكمما‪ .‬بؿ يمكف الحديث عف قدرم (أم معتزلي يقكؿ بقدرة اإلنساف) محدث (يشتغؿ في عمـ الحديث) أك قدرم نحكم‬
‫(متخصص في عمـ النحك)‪ 5.‬كىذا ما تحقؽ تاريخيا في العديد مف المدارس الفقيية التي لـ تيضمر خمفياتيا الكبلمية‪ 6.‬فقد نجد فقيو‬
‫فقيو متكمـ مثمما قد نجد متكمـ فقيو أك متكمـ أصكلي أك متكمـ متصكؼ مثمما نجد عند بعض المعتزلة بعد انتياء محنة أبف حنبؿ‪.‬‬
‫كالدراسة التاريخية لسكسيكلكجية عمـ الكبلـ اإلسبلمي تكشؼ عف ىذا الترابط بيف الكظائؼ الفقيية كاالنتماءات الكبلمية أك‬
‫الممارسات الكبلمية مثؿ "معاذ بف معاذ بف نصر األنبارم" (تكفي ‪ 196‬ىػ)‪ 7.‬الذم دخؿ في الكبلـ حكؿ مسائؿ عقدية خالصة عمى‬
‫عمى الرغـ مف ككنو فقييا مف حيث التككيف كالكظيفة‪ .‬كقد يذكر أف أبك حنيفة النعماف(تكفي ‪ 150‬ىػ)‪ ،‬كىك صاحب مذىب فقيي‬

‫‪1‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.125‬‬
‫‪2‬‬
‫الفارابي‪ :‬كتاب الجمع بيف رأيي الحكيميف متبكع بكتاب البرىاف‪ ،‬مكفو لمنشر‪ ،‬الجزائر‪ ،1993 ،‬ص ‪.130‬‬
‫‪3‬‬
‫طو عبد الرحمف‪ :‬في أصكؿ الحكار كتجديد عمـ الكبلـ‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،2000 ،‬ص ‪-70‬‬
‫‪.71‬‬

‫‪4‬‬
‫طو عبد الرحمف‪ :‬فقو الفمسفة ‪ -1‬الفمسفة كالترجمة‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء – بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،1995 ،‬ص‬
‫‪.29‬‬

‫‪5‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬ترجمة‬
‫محي الديف جماؿ بدر كرضا حامد قطب‪ ،‬مراجعة محسف الدمرداش‪ ،‬منشكرات الجمؿ‪ ،‬بيركت – بغداد‪ ،‬الطبعة األكلى‪،2016 ،‬‬
‫ص ‪.143-140‬‬

‫‪6‬‬
‫أبكا نصر الفارابي‪ :‬إحصاء العمكـ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.87‬‬
‫‪7‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬ص‬
‫‪.564-563‬‬

‫‪11‬‬
‫معتبر‪ ،‬قد جادؿ المتكمميف اإلباضييف كالمعتزلة‪ ،‬كما تكمـ في مسألة "حيزية" ا﵀‪ ،‬كتكمـ أيضا عف خمؽ القرآف في سياؽ مشكمة‬
‫‪2‬‬
‫الحمؼ بو‪ 1.‬عمى أساس أنو تشريؾ مع ا﵀ القديـ‪ .‬كانتيى "فاف ايس " إلى أف أغمب المتكمميف في اإلسبلـ كانكا ذكم تككيف فقيي‪.‬‬
‫كىذا مبرر مف عدة أكجو‪ ،‬إذ أف الفقو ىك العمـ األكثر خصكصية بالنسبة ألم مسمـ كحتى العامة تمقكا تككينا أكليا في الفقو‪ ،‬فما‬
‫بالؾ بالخاصة مف الناس‪ ،‬ثـ أف الفصؿ التاـ بيف النظر كالعمؿ غير كارد في الكاقع‪ .‬فكؿ عمؿ مرتبط بعقيدة ما ككؿ عقيدة تتجسد‬
‫في العمؿ أك الفقو‪ .‬لذا فالتمييز يككف في التسبيؽ كالتأخير فقط‪ ،‬أما كجكد عمؿ خالص أك نظر خالص فيك متعذر‪.‬‬

‫ثـ أنو مف المفيد التنبيو إلى تحديد الفارابي لمفيكـ الفقو مف أجؿ حصكؿ تبرير معقكؿ لربط الكبلـ بالفقو‪ .‬يقكؿ معرفا الفقو‬
‫عمى نفس صيغة تعريؼ الكبلـ‪" :‬صناعة الفقو ىي التي يقتدر اإلنساف أف يستنبط شيء مما لـ يصرح كاضع الشريعة بتحديده عمى‬
‫األشياء التي صرح فييا بالتحديد كالتقدير‪ ،‬كأف يتحرل تصحيح ذلؾ حسب غرض كاضع الشريعة بالعمة التي شرعيا في األمة التي‬
‫ليا شرع"‪ 3.‬كبالتالي فإف مدار الفقو ىك الرأم أكال ألنو تأمؿ كاستخبلص كتبرير‪ ،‬كجزء عمؿ مرتبط باألفعاؿ الكاجب القياـ بيا‪ .‬كبيذا‬
‫كبيذا فإف ماصدؽ الفقو أكسع مف ماصدؽ الكبلـ‪ ،‬عمى أساس أف األكؿ نظرم كعممي في حيف أف الثاني نظرم خالص كال يكجد‬
‫أم عمؿ مف تحتو‪ .‬لكف يمكف أف نرل‪ ،‬أدناه عند الحديث عف المعتزلة‪ ،‬أف ىناؾ جانب عممي في كبلميـ‪ ،‬مثؿ األصؿ الخامس‬
‫مف أصكليـ‪.‬‬

‫كمف الناحية التاريخية‪ ،‬ليس مف السيؿ الفصؿ بيف ظيكر عمـ الحديث كظيكر عمـ الكبلـ‪ ،‬فبعض مؤرخي الفقو يتحدث عف‬
‫تأثر عمـ الحديث بالمسائؿ الكبلمية التي احتدـ النقاش فييا‪ .‬يقكؿ "كائؿ حبلؽ" الميتـ بتاريخ الفقو كاألصكؿ‪" :‬إف ظيكر الحديث قد‬
‫تزامف مع احتداـ الجدؿ الكبلمي حكؿ إرادة ا﵀ كقدرتو كقضائو كقدره (‪ )...‬ثـ إف االعتماد عمى الرأم لـ يعد ينظر إليو حسب أىؿ‬
‫الحديث عمى أساس أنو "رأم اجتيادم" يقكـ في النياية عمى العمـ بؿ ىك عندىـ رفض مقصكد لبلعتراؼ باألكامر اإلليية‪ .‬كفي‬
‫ضكء الجدؿ الكبلمي كاف ينظر "لمرأم" باعتباره يفيد مباشرة "التفكير االجتيادم" الذم يعني جعؿ الشريعة تقكـ عمى أساس بشرم ال‬
‫إليي‪ .‬كبذلؾ فتسمية "أىؿ الرأم" أمست اآلف تفيد" أىؿ العقؿ" أكثر مف إفادتيا "لممفكريف بتبصر"‪ 4.‬ككما ىك ظاىر‪ ،‬فإف الحديث‬
‫كالكبلـ يشتركاف في االجتياد كاالستقبلؿ بالرأم‪ .‬كفي الفقو ذاتو‪ ،‬كعمـ ال يمكف اغفاؿ الرأم كمية‪ ،‬عمى أساس أف ىناؾ مذاىب‬
‫فقيية متعددة‪ ،‬أساس تعددىا ىك قياميا عمى الرأم كاالجتياد‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬ترجمة سالمة صالح‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬منشكرات الجمؿ‪،‬‬
‫بغداد – بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2008 ،‬ص ‪.272‬‬

‫‪2‬‬
‫يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬ترجمة عبد المجيد الصغير‪ ،‬نشر الفنؾ‪ ،‬الدار البيضاء‪،2000 ،‬‬
‫ص ‪.18‬‬

‫‪3‬‬
‫أبكا نصر الفارابي‪ :‬إحصاء العمكـ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.86-85‬‬
‫‪4‬‬
‫كائؿ حبلؽ‪ :‬نشأة الفقو اإلسبلمي كتطكره‪ ،‬ترجمة رياضي الميبلدم‪ ،‬دار المدار اإلسبلمي‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2007 ،‬ص‬
‫‪.119‬‬

‫‪12‬‬
‫بعد تعريؼ الفارابي‪ ،‬نجد تعريؼ أبك حياف التكحيدم (في رسالة ثمرات العمكـ)‪ .‬الذم تكفي ‪400‬ق‪ 1009/‬ـ‪ ،‬كىك األديب‬
‫عرؼ الفقو‪ ،‬كبيذا يككف قد سار مثؿ المعمـ الثاني (أم الفارابي)‪ .‬يقكؿ عف الكبلـ‪ :‬عمم‬
‫الفيمسكؼ ذم التكجو اإلنسي‪ .‬فبعد بعد أف ٌ‬
‫الكالم فإنو باب من االعتبار في أصول الدين يدور النظر فيو عمى محض العقل في التحسين والتقبيح واإلحالة والتصحيح‬
‫واإليجاب والتجويز واالقتدار والتعديل والتجويز والتوحيد والتكفير‪ .‬واالعتبار فيو ينقسم بين دقيق يتفرد العقل بو‪ ،‬وبين جميل يفزع‬
‫إلى كتاب اهلل تعالي فيو"‪ 1.‬كيظير جميا عدـ انتماء التكحيدم إلى أم فرقة أك مذىب في عممية تحديد عمـ الكبلـ‪ ،‬بقدر ما كاف‬
‫ظكاىريا في تكصيفو ليذا العمـ‪ .‬كىذا التعريؼ يحدد المكضكع الذم ىك أصكؿ الديف كليس فركعو‪ ،‬كىذا ما سنجده في تعدد تسمية‬
‫عمـ الكبلـ أدناه‪ .‬كمباحثة ىذه األصكؿ تككف عمى أساس العقؿ الخالص كليس عمى أساس النقؿ أك السمع‪ .‬أما أنكاع الكبلـ فيي‬
‫نكعاف‪ :‬دقيؽ الكبلـ عمى أصكؿ الفكر الفمسفي اإلغريقي‪ ،‬كجميمو عمى أصكؿ القرآف الكريـ‪.‬‬

‫كالقاسـ المشترؾ‪ ،‬بيف عمـ الفقو كعمـ الكبلـ‪ ،‬كفؽ التكحيدم‪ ،‬ىك االستناد عمى العقؿ كاستخدامو بصكرة مكثفة‪ .‬كقد أقررنا‬
‫أعبله بأف أساس االختبلؼ الفقيي ىك درجة استعماؿ العقؿ ذاتو‪ ،‬فبيف أصحاب الرأم كأصحاب الركاية في الحديث مثبل‪ ،‬نجد درجة‬
‫الثقة في تقدير شأف ال عقؿ‪ .‬كحتى الفرؽ الكبلمية قد تفارقت في حدكد مشركعية منح العقؿ السمطة األكلى‪ .‬بؿ يمكف تصنيؼ الفقياء‬
‫كالمحدثيف المتكمميف صنفيف أساسييف‪ :‬صنؼ يعكؿ عمى العقؿ كيثؽ فيو كصنؼ يعقؿ العقؿ كيعتبره محدكدا أماـ مطمقية النقؿ أك‬
‫الشرع‪ .‬لذا نجد فقيا كحديثا ككبلما عقميا مفرط في عقبلنيتو‪ ،‬كما نجد فقيا كحديثا ككبلما معتدؿ في عقبلنيتو‪ .‬بؿ ىناؾ مف يعقؿ‬
‫العقؿ تماما لصالح حرفية نصية تامة‪ .‬كلعؿ تكجو الحنابمة‪ ،‬مما نسميو باإلسبلـ الحنبمي‪ ،‬ليك دليؿ عمى عقبلنية تقزيـ (تعقيؿ)‬
‫العقؿ‪.‬‬

‫كفؽ الترتيب التاريخي‪ ،‬نجد بعد الفارابي كالتكحيدم‪ ،‬اإلسياـ الكبير لمغزالي‪(.‬تكفي ‪505‬ق‪1111/‬ـ)‪ :‬حيث يقكؿ عف الكبلـ‪:‬‬
‫" مقصود عمم الكالم حفظ عقيدة أىل السنة وحراستيا عن تشويش أىل البدعة‪ .‬فقد ألقى اهلل تعالي إلى عباده عمى لسان رسولو‬
‫عقيدة ىي الحق عمى ما فيو صالح دينيم ودنياىم‪ ،‬كما نطق بمعرفة القرآن واألخبار‪ ،‬ثم ألقى الشيطان في وساوس المبتدعة‬
‫أمو ار مخالفة لمسنة‪ ،‬فميجوا بيا وكادوا يشوشون عقيدة الحق عمى أىميا‪ ،‬فأنشأ اهلل تعالى طائفة المتكممين وحرك دواعييم‬
‫لنصرة السنة بكالم مرتب يكشف عن تمبيسات أىل البدعة المحدثة عمى خالف السنة المأثورة (‪ )...‬لكنيم اعتمدوا في ذلك عمى‬
‫مقدمات تسمموىا من خصوميم"‪ 2.‬كالظاىر ىنا‪ ،‬عمى خبلؼ األكائؿ‪ ،‬أف الغزالي لـ يكف مكضكعيا في تعريؼ عمـ الكبلـ‪ ،‬بقدر ما‬
‫عبر عف رؤيتو المذىبية‪ .‬كىذا ما جعمو يضيؽ مف مفيكـ الكبلـ خدمة لمصالح مذىبية محددة‪ .‬كىذا مبرر جدا بكصفو فكر مف‬
‫داخؿ انتماء معمكـ‪ .‬ككما ىك ظ اىر‪ ،‬فيك ينتقد عمـ الكبلـ في المحظة التي يعرفو فييا‪ .‬تضيؽ ماصدؽ عمـ الكبلـ ظاىر في قكلو‬
‫حفظ عقيدة أىؿ السنة‪ .‬كبيذا فإف كؿ عقيدة مخالفة لعقيدة السنة كالجماعة خارجة عف ىذا التحديد‪ ،‬كىذا يدؿ عمى أنو ال يعترؼ‬
‫بعمـ الكبلـ الشيعي مثبل‪ ،‬كبالفعؿ‪ ،‬فإف الكثير مف مياـ الغزالي قد تمثمت في اليجكـ عمى الشيعة كمختمؼ الفرؽ التي مثمتيا‪ .‬كسبب‬
‫ظيكر عمـ الكبلـ حسب اعتقاده ىك انحراؼ بعض المبتدعة لعمة شيطانية‪ ،‬كىنا يظير مدل عجز الغزالي عف تحديد األسباب‬

‫‪1‬‬
‫مصطفى عبد الرازؽ‪ :‬تمييد لتاريخ الفمسفة اإلسبلمية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.375‬‬
‫‪2‬‬
‫أبك حامد الغزالي‪ :‬المنقذ مف الضبلؿ كالمكصؿ إلى ذم العزة كالجبلؿ‪ ،‬تحقيؽ جميؿ صميبا ككامؿ عياد‪ ،‬دار األندلس لمطباعة‬
‫كالنشر كالتكزيع‪ ،‬بيركت‪ ،‬ص ‪.92-91‬‬

‫‪13‬‬
‫المكضكعية لظيكر االنحرافات العقائدية مما يجعمو غافبل عف ما نسميو اليكـ بسكسيكلكجيا المعرفة‪ 1.‬أم العكامؿ االجتماعية‬
‫كالتاريخية التي تحدد كيفية فيمنا لؤلمكر الدنيكية أك الدينية‪ .‬كأخيرا‪ ،‬فإف نقطة ضعؼ الكبلـ‪ ،‬عمى الرغـ مف كؿ أىدافو المقدسة‪،‬‬
‫ىك أ نو يستعمؿ أسمحة المنحرفيف ذاتيـ‪ ،‬سكاء في داخؿ السياقات اإلسبلمية أك غير اإلسبلمية بخاصة الفكر الكافد مف اإلغريؽ‪.‬‬
‫كبالفعؿ‪ ،‬فإننا نجد الكثير مف متكممي االعتزاؿ عمدكا إلى استعماؿ الطرؽ اإلغريقية في البرىنة‪ ،‬مما سماىا أعبله التكحيدم بدقيؽ‬
‫الكبلـ‪.‬‬

‫كفي تكجو مماثؿ لتكجو الغزالي السني األشعرم‪ ،‬نجد تعريؼ ابف خمدكف (تكفي ‪ 806‬ق‪ 1406/‬ـ) الذم كاف يمثؿ ىذا التكجو‬
‫أيضا‪ ،‬الذم يقدـ تعريفا ال يختمؼ عف سابقو‪ .‬يقكؿ في مؤخرة المقدمة‪" :‬عمم الكالم يتضمن الحجاج عن العقائد اإليمانية باألدلة‬
‫‪2‬‬
‫العقمية‪ .‬والرد عمى المب تدعة المنحرفين في االعتقادات عن مذاىب السمف وأىل السنة‪ .‬وسر ىذه العقائد اإليمانية ىو التوحيد"‪.‬‬
‫إنو تعريؼ ينطمؽ مف كجكد عقيدة صحيحة كنقية ىي عقيدة األسبلؼ مف السنة‪ ،‬كبسبب ظيكر مبتدعيف انحرفكا كمية عنيا‪ ،‬أكجب‬
‫استعماؿ األدلة العقمية لذلؾ‪ .‬لكف االنحراؼ ىنا ليس داخؿ المجاؿ العقدم اإلسبلمي فقط‪ ،‬بؿ أيضا خارجو‪ .‬كأساس العقائد اإليمانية‬
‫ىك التكحيد‪ ،‬كبالتالي فكؿ مف انحرؼ عمى ىذا المبدأ‪ ،‬فقد كجب تقكميو عف طريؽ منيج حجاجي‪ .‬كيقدـ لنا مثبل عمى برىاف‬
‫الكحدانية‪ ،‬لكنو في تقديرنا‪ ،‬مثاؿ فاسد عمى أساس أنو أخمط بيف كجكد ا﵀ ككحدانيتو‪.‬‬

‫سنذكر سمسمة مف التعريفات المبثكثة في الكتب التراثية‪ ،‬كفؽ الترتيب التاريخي دكف التعميؽ عمييا أك تحميؿ أبعادىا‬
‫كخصكصياتيا‪ .‬مع مقارنات طفيفة مف أجؿ معرفة استراتيجية التعاريؼ كأصكليا كمآالتيا‪.‬‬

‫عضد الديف اإليجي (تكفي ‪756‬ق‪( :)1355/‬في كتاب المكافقات)‪" :‬الكالم عمم يتقدر معو عمى إثبات العقائد الدينية‬ ‫‪‬‬
‫بإيراد الحجج ودفع الشبو‪ ،‬والمراد بالعقائد ما يقصد فيو نفس االعتقاد دون العمل‪ ،‬وبالدينية المنسوبة إلى دين محمد‬
‫‪3‬‬
‫(ص)‪ .‬فإن الخصم‪ ،‬وان خطأناه‪ ،‬ال نخرجو من عمماء الكالم"‪.‬‬

‫التفتازاني (تكفي ‪792‬ق‪1389/‬ـ)‪( :‬في كتابو المقاصد)‪" :‬الكالم ىو العمم بالعقائد الدينية عن األدلة اليقينية‪ ،‬وموضوعو‬ ‫‪‬‬
‫المعموم من حيث يتعمق بو إثباتيا‪ ،‬ومسائمة القضايا النظرية الشرعية االعتقادية‪ ،‬وغايتو تحمية اإليمان باإليقان‪،‬‬
‫ومنفعتو الفوز بنظام المعاش ونجاة المعاد‪ ،‬فيو أشرف العموم‪ .‬عمى أن موضوعو الموجود بما ىو‪ .‬ويتميز عن اإلليي‬
‫بكون البحث فيو عمى قانون اإلسالم‪ ،‬أي ما عمم قطعا من الدين‪ ،‬كصدور الكثرة عن الواحد‪ ،‬ونزول الممك من المساء‪،‬‬

‫‪1‬‬
‫عبد ا﵀ العركم‪ :‬مفيكـ اإليديكلكجيا‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬الطبعة الخامسة‪ ،1993 ،‬ص ‪.25‬‬

‫‪2‬‬
‫عبد الرحمف بف خمدكف‪ :‬المقدمة‪ ،‬تضبط كشرح محمد اإلسكندراني‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،1998 ،‬ص‬
‫‪.423‬‬

‫‪3‬‬
‫عضد ا﵀ كالديف القاضي عبد الرحمف بف أحمد اإليجي‪ :‬المكاقؼ في عمـ الكبلـ‪ ،‬عالـ الكتب‪ ،‬بيركت‪ ،‬ص ‪ .7‬كأيضا مصطفى‬
‫عبد الرازؽ‪ :‬تمييد لتاريخ الفمسفة اإلسبلمية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.379‬‬

‫‪14‬‬
‫وكون العالم محفوظا بالعدم والفناء‪ ،‬إلى غير ذلك مما نجزم بو الممة دون الفمسفة (‪ )...‬وقيل موضوعو ذات اهلل وحده‬
‫أو مع ذات الممكنات‪ .‬لذا يعرف بالعمم الباحث عن أحوال الصانع مع صفاتو الثبوتية والسمبية‪ ،‬وأفعالو المعمقة بأمور‬
‫‪1‬‬
‫الدنيا واآلخرة"‪.‬‬

‫تعريؼ الجرجاني‪( :‬تكفي ‪ 816‬ق‪ )1413/‬قاؿ‪" :‬الكالم ما تضمن كممتين باإلسناد‪ :‬الكالم عمم يبحث فيو عن ذات اهلل‬ ‫‪‬‬
‫تعالى وصفاتو‪ ،‬وأحوال الممكنات من المبدأ والمعاد عمى قانون اإلسالم (‪ )...‬الكالم باحث في أمور يعمم منيا الميعاد‬
‫وما يتعمق بو من الجنة والنار والصراط والميزان والثواب والعقاب وقيل الكالم ىو العمم بالقواعد الشرعية االعتقادية‬
‫‪2‬‬
‫المكتسبة من األدلة"‪.‬‬

‫طاش كبرل زاده‪962( :‬ق‪1457/‬ـ) في كتابو المشيكر "مفتاح السعادة كمصباح السيادة"‪ ،‬ج ‪ ،52‬ص ‪" :21-20‬الشعبة‬ ‫‪‬‬
‫الخامسة من العموم الشرعية عمم أصول الدين المسمى عمم الكالم وىو عمم يقتدر معو إثبات العقائد الدينية بإيراد‬
‫الحجج ودفع الشبو عنيا‪ ،‬موضوعو ذات اهلل سبحانو وتعالى وصفاتو عند المتقدمين‪ .‬وقيل موضوعو الوجود من حيث‬
‫ىو موجود‪ ،‬وانما يمتاز عن العمم اإلليي الباحث في أحوال الوجود المطمق باعتبار الغاية؛ ألن البحث في الكالم عمى‬
‫قواعد الشرع‪ ،‬في اإلليي عمى مقتضى العقول‪ .‬وعند المتأخرين موضوع عمم الكالم المعموم من حيث يتعمق بو إثبات‬
‫المدعى منو ثم يقام عميو البرىان العقمي‪ .‬وىذا التسميم‬
‫َ‬ ‫العقائد الدينية المنسوبة إلى دين محمد (ص) وذلك بأن يسمم‬
‫ىو معنى التدين الالئق بحال المكمفين (‪ )...‬بالجممة يشترط في الكالم أن يكون القصد فيو تأييد الشرع بالعقل‪ ،‬وأن‬
‫تكون العقيدة مما وردت في الكتاب والسنة؛ ولو فات أحد ىذين الشرطين ال يسمى كالما أصال (‪ )...‬عد بعضيم كالم‬
‫‪3‬‬
‫أىل االعتزال من الكالم‪ ،‬إن لم يوافق الكتاب والسنة"‪.‬‬

‫التيانكم (كشاؼ اصطبلحات الفنكف‪ ،‬صنفو سنة ‪1158‬ق‪ 1745/‬ـ)‪" :‬عمم الكالم يقتدر معو عمى إثبات العقائد الدينية‬ ‫‪‬‬
‫عمى الغير بإيراد الحجج ودفع الشبو (‪ )...‬المقصود بالعقائد ما يقصد بو نفس االعتقاد كقولنا‪ :‬اهلل تعالى عالم قادر‬
‫سميع بصير‪ ،‬ال ما يقصد بو العمل كقولنا‪ :‬الوتر واجب‪ .‬والمراد بالدينية المنسوبة إلى دين محمد (ص) سواء كانت‬
‫‪4‬‬
‫صواب أو خطأ‪ ،‬فال يخرج عمم أىل البدع الذي يقتدر معو عمى اثبات عقائدىم الباطمة من عمم الكالم"‪.‬‬

‫إف مقارنة مجمؿ ىذه التعريفات يكشؼ عف خبلفات متعمقة بمدل مشركعية اطبلؽ عمـ الكبلـ عمى غير المسمميف‪ .‬إذ‬
‫نبلحظ مثبل اف التفتزاني‪ ،‬سار عمى منكاؿ الغزالي في اعتباره الكبلـ خاصية إسبلمية‪ ،‬أم "الكبلـ ىك الكبلـ عمى قانكف‬

‫‪1‬‬
‫عبد الحسيف خسركبناه‪ :‬الكبلـ اإلسبلمي المعاصر‪ ،‬الجزء ألكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ .18‬أيضا‪ :‬مصطفى عبد الرازؽ‪ :‬تمييد‬
‫لتاريخ الفمسفة اإلسبلمية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.381‬‬

‫‪2‬‬
‫الجرجاني‪ :‬كتاب التعريفات‪ ،‬مكتبة لبناف‪ ،‬بيركت‪ ،1985 ،‬ص ‪.194‬‬
‫‪3‬‬
‫مصطفى عبد الرازؽ‪ :‬تمييد لتاريخ الفمسفة اإلسبلمية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.383‬‬

‫‪4‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.380‬‬

‫‪15‬‬
‫اإلسبلـ"‪ .‬كأيضا مدل اندراج كؿ الفكر اإلسبلمي المتعمؽ باأللكىية في عمـ الكبلـ‪ ،‬أم ادخاؿ اك اخراج بعض الفرؽ الكبلمية‬
‫غير السنية مف عمـ الكبلـ‪ .‬أك حتى الفرؽ السنية مثؿ المعتزلة‪ .‬حيث نجد ابف خمدكف مثبل يعتبر المعتزلة فرقة مبتدعة‪ 1.‬كلك‬
‫أنيا دافعت عمى العقائد اإلسبلمية حيث لـ تخرج عف أصكؿ الديف‪ ،‬إذ يسمكف بأىؿ العدؿ كالتكحيد‪ ،‬إال أنيا بالنسبة لسني‬
‫أشعرم مثؿ ابف خمدكف فيـ مف أىؿ البدع‪ .‬في حيف نجد ابف رشد مثبل‪ ،‬يثمف المكاسب الفكرية لممعتزلة‪ .‬لذا‪ ،‬يمكف التأكيد بأف‬
‫االختبلؼ في تعريؼ كتقدير عمـ الكبلـ ال ينفصؿ عف االنتماءات الكبلمية بالذات‪ ،‬أك حتى الفقيية كاألصكلية‪.‬‬

‫يمكف أف نبلحظ اختبلؼ ظاىر في خمفية اإليجي كالغزالي مثبل‪ ،‬عمى أساس أف الغزالي يربط عمـ الكبلـ بالدفاع عف‬
‫العقائد السنية‪ ،‬في حيف أف األكؿ يجعمو أداة لكؿ ذم عقيدة ميما كانت‪ .‬ككأف اإليجي قد تنبو إلى أنو ال يمكف ابطاؿ عقائد‬
‫الغير بمجرد أ نيا مخالفة لعقائدنا‪ .‬فػ "عمـ الكبلـ أداة دفاع لكؿ معتقد عف عقيدتو؛ فدفاع المبتدع عف عقيدتو بالبراىيف العقمية‬
‫كبلـ أيضا"‪ 2.‬لذا فإف المدافع عف عقيدة السنة متكمـ مثمو مثؿ المدافع عف عقيدة الشيعة مثبل‪ .‬كال يمكف بأم حاؿ أف نجعؿ‬
‫الكبلـ األ كؿ أصيبل ككبلـ الثاني منحرفا‪ .‬أم أف االنحراؼ مسألة غير مكضكعية‪ ،‬لكال يمكف كضع قكاعد متعارؼ عمييا‬
‫بالمطمؽ حكؿ السكم كالمنحرؼ أك المرضي‪ .‬كما يصمح عمى المعايير العقدية يصمح أيضا عمى المعايير الصحية‪ ،‬في ىذا‬
‫الشأف يقكؿ الفيمسكؼ الفرنسي "لكككر"‪" :‬إف الػ ‪( Néanderthal‬أم اإلنساف البدائي) الذم كاف "سكيا" في زمانو‪ ،‬سيككف اليكـ‬
‫مريضا كبيرا‪ .‬كالثكابت الفيزيكلكجية إلنساف افريقي‪ ،‬حي‪ ،‬سميـ‪+ ،‬في افريقيا تقدـ انحرافا قد نحكـ عميو بأنو "مرضيا" بالعبلقة‬
‫مع المعيار األكركبي"‪ 3.‬فالسميـ أك ما يسمي باألرثك‪/‬دككسي (العقيدة السكية) لدينا‪ ،‬يعتبر باثكلكجيا عند غيرنا‪ ،‬كبالمقابمة تيفيـ‬
‫األمكر في العمكـ‪ .‬فالكؿ سكم بالنسبة لو كشاذ بالنسبة لغيره‪.‬‬

‫‪ -5‬تعريف المحدثين‪:‬‬

‫ال نقصد بالمحدثيف عمماء الحديث‪ ،‬بؿ نقصد ركاد النيضة الفكرية اإلسبلمية بعد حممة نابميكف عمى مصر كانطبلؽ مكجة‬
‫فكرية حركت ما كاف راكدا بعد انطفاء شمعة الفكر اإلسبلمي الكبلسيكي بخاصة بعد ابف رشد كابف خمدكف في بداية القرف الخامس‬
‫عشر ميبلدم‪ .‬كمف المفيد اإلشارة إلى أف الدرس الحداثي العربي في عمكمو لـ يكف قاطعا مع الماضي كالتراث الفكرم‪ ،‬مثمما نجده‬
‫في الحداثة الغربية التي كانت داعية لبلنفصاؿ عف الماضي القريب‪ ،‬كلك أنيا كانت تعكد كلك بخفة ظاىرة إلى التقميد اإلغريقي‪ .‬كلك‬
‫أسسا حكما انطبلقا مف النمكذج الديكارتي كالنمكذج البككني‪ ،‬لتأكدنا أنيما تفمسفا مف خبلؿ القطيعة مع تاريخ الفكر السباؽ‪ .‬في‬
‫حيف أف الحداثة العربية كانت كصمية كلـ يشعر المحدثيف العرب‪ ،‬عمى العمكـ‪ ،‬بصراع مع ماضييـ‪ ،‬بؿ بصراع مع حاضرىـ الذم‬

‫‪1‬‬
‫مقداد عرفة منسية‪ :‬مبلحظات حكؿ عمـ الكبلـ في المقدمة إلبف خمدكف‪ .‬ضمف كتاب ‪ :‬رشدم راشد (إشراؼ)‪ :‬دراسات في تاريخ‬
‫عمـ الكبلـ كالفمسفة‪ ،‬مركز دراسات الكحدة العربية‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2014 ،‬ص ‪.57‬‬

‫‪2‬‬
‫مصطفى عبد الرازؽ‪ :‬تمييد لتاريخ الفمسفة اإلسبلمية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.381‬‬
‫‪3‬‬
‫دكمينيؾ لكككر‪ :‬فيـ تفيد الفمسفة إذف ؟ مف عمكـ الطبيعة إلى العمكـ السياسية‪ ،‬ترجمة محمد ىشاـ‪ ،‬دار أفريقيا الشرؽ‪ ،‬الدار‬
‫البيضاء‪ ،2011 ،‬ص ‪.143‬‬

‫‪16‬‬
‫مثمتو اليجمة الحضارية األكركبية الشرسة مف خبلؿ الحركات االستعمارية‪ .‬بؿ يمكف التيقف بأف الحداثة العربية ىي نتاج االستعمار‪،‬‬
‫كلك ال ىذا المقاء الصادـ‪ ،‬الستمر الكعي العربي اإلسبلمي في فضاءه التقميدم الخالص‪ .‬بؿ أف الكعي العربي قد تشكؿ بفعؿ‬
‫الصدمة الحديثة‪.‬‬

‫‪ -1-2‬تعريؼ محمد عبده (تكفي ‪ 1323‬ق‪1905/‬ـ)‪ :‬يعتبر كتابو "رسالة التكحيد" اجتياد كبلمي حقيقي‪ ،‬ككنو لـ يكرر القضايا‬
‫الكبلمية التراثية بالمطمؽ‪ ،‬بؿ عمؿ عمى تحييف ىذه المشكبلت كفؽ خصكصيات العصر الذم عاش فيو‪ .‬يقكؿ معرفا عمـ الكبلـ‬
‫الذم ىك ذاتو عمـ التكحيد‪" :‬التوحيد عمم يبحث فيو عن وجود اهلل‪ ،‬وما يجب أن يثبت لو من صفات‪ ،‬وما يجوز أن يوصف بو‪،‬‬
‫وما يجب أن ينفى عنو‪ ،‬وعن الرسل إلثبات رسائميم‪ ،‬وما يجب أن يكنوا عميو‪ ،‬وما يجوز أن ينسب إلييم‪ ،‬وما يمنع أن يمحق‬
‫‪1‬‬
‫بيم"‪.‬‬

‫‪ -2-2‬تعريؼ عبد الحسيف خسركبناه‪ :‬بعد أف يكرد ىذا الكاتب التعاريؼ التارثية‪ ،‬ينشئ لنا تعريفا يعتقد بأنو التعريؼ الشامؿ‬
‫كالمختار مف بيف كؿ التعاريؼ‪ ،‬حيث يقكؿ‪" :‬عمم وفن ينتمي لمدراسات الدينية‪ ،‬تستنبط وتنظم وتبين بو المعارف والمفاىيم‬
‫العقائدية‪ ،‬من خالل االستعانة بالنصوص اإلسالمية‪ ،‬ويستدل بو عمى اثبات تمك المعارف وتبريرىا‪ ،‬باتباع مختمف المناىج‬
‫‪2‬‬
‫والمقاربات الدينية وغير الدينية‪ ،‬ويرد بو عمى شبيات المخالفين مناقشاتيم العقائدية"‪.‬‬

‫‪ -3-2‬تعريؼ الدكتكر أحمد محمد صبحي‪ ،‬الذم قدـ دراسة قيمة عف الفرؽ الكبلمية (المعتزلة‪ ،‬كاألشاعرة‪ ،‬كالزيدية)‪ .‬حيث خمص‬
‫إلى عبارة مختصرة تطكم كؿ المعاني السابقة قائبل‪" :‬عمـ الكبلـ ىك معرفة ما لمنفس كما عمييا مف االعتقادات"‪ 3.‬فمدار ىذا العمـ‬
‫ىك العقائد ال الشعائر أك العبادات أك األعماؿ‪ .‬إذ أف العقائد تمزـ اإلنساف بقيكد معينة‪ ،‬مف أجؿ أف تيسر ليا الحقكؽ القاعدية‪.‬‬
‫كالظاىر أف ىذه التعريؼ مستكحى مف تعريؼ "ابف اليماـ" في كتاب المسايرة‪ ،‬حيث يقكؿ بأف "الكبلـ معرفة النفس ما عمييا مف‬
‫العقائد المنسكبة إلى ديف اإلسبلـ عف األدلة عمما كظنا في البعض منيا"‪ 4.‬كىذا التعريؼ يشير إلى أف بعض العقائد تؤخذ عف دليؿ‬
‫ظني‪ .‬ألف العقيدة في النياية تعمـ قبؿ أف تنضج الممكة الفيمية كالنقدية عند اإلنساف‪ .‬كىذا ما نجده في كؿ األدياف حيث تتـ تنشئة‬
‫األطفاؿ عف الديف دكف نظر أك مناقشة أك معارضة‪ .‬كىذا ما يسميو بعض الفبلسفة الشكاؾ بالتركيض كاالنتقاء في فعؿ الثقافة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫محمد عبده‪ :‬رسالة التكحيد‪ ،‬ديكاف المطبكعات الجامعية‪ ،‬الجزائر‪ ،1988 ،‬ص ‪.7‬‬
‫‪2‬‬
‫عبد الحسيف خسركبناه‪ :‬الكبلـ اإلسبلمي المعاصر‪ ،‬الجزء ألكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.19‬‬
‫‪3‬‬
‫أحمد محمكد صبحي‪ :‬الفمسفة األخبلقية في الفكر اإلسبلمي‪ -‬العقميكف كالذكقيكف أك النظر كالعمؿ‪ ،‬دار المعارؼ بمصر‪ ،‬القاىرة‪،‬‬
‫‪ ،1969‬ص ‪.14‬‬

‫‪4‬‬
‫سعيد عبد المطيؼ فكدة‪ :‬بحكث في عمـ الكبلـ‪ ،‬دار الرازم لمطباعة كالنشر كالتكزيع‪ ،‬عماف‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2004 ،‬ص ‪.12‬‬

‫‪17‬‬
‫‪ -4-2‬تعريؼ مرتضي مطيرم (تمميذ الفيمسكؼ الطبطبائي‪ ،‬ينتمي إلى حكزة قـ‪ ،‬قتؿ سنة ‪" :)1980‬الكبلـ اإلسبلمي عمـ يبحث‬
‫فيو تحكؿ أصكؿ ديف اإلسبلـ عمى نحك يتبيف معو ما ىي المسائؿ التي تندرج في سياؽ أصكؿ الديف‪ ،‬ككيؼ يتـ إثباتيا كبأم أدلة؛‬
‫‪1‬‬
‫كجكاب الشبيات كالشككؾ التي تثار حكليا"‪.‬‬

‫‪ -6‬تعريف الدرس اإلستشراقي‪:‬‬

‫ال يجب أف نستييف بإنجازات الدرس اإلستشراقي فيما يخص عمـ الكبلـ‪ ،‬إذ يمكف التأكيد عمى كجكد مستشرقيف أعمـ بقضايا‬
‫الكبلـ اإلسبلمي مف الباحثيف المسمميف ذاتيـ‪ .‬لكف الذم يميزىـ ىك النظرة التي ينطمقكف منيا‪ ،‬عمى اعتبار أنيـ يعتقدكف بتخمؼ‬
‫العالـ اإلسبلمي الحالي كالقديـ‪ ،‬كما أنيـ يطبقكف المناىج االجتماعية المستجدة بعيدا عف أم انتماء ديني أك شعكر بالمقدس‪ .‬كىذا‬
‫بالضبط ما يج عؿ األكثرية مف المسمميف يتريبكف في دراساتيـ كنتائج بحكثيـ‪ .‬سنركز ىنا عمى مستشرقيف تخصصا في عمـ الكبلـ‪.‬‬

‫‪ -1-3‬ىارم كلفسكف‪:‬‬

‫البيالروسي ‪ Harry Austryn Wolfson‬فيمسكؼ كمؤرخ متخصص في المرحمة األكسطية في ىارفرد‪ ،‬عاش بيف ‪1887‬‬
‫ك‪ ، 1974‬كيعتبر كتابو المخصص لفمسفة المتكمميف في اإلسبلـ (جزئيف) مف آخر ما كتب‪ .‬يقارب مفيكـ عمـ الكبلـ اإلسبلمي‬
‫كامتداد لمسار تاريخي طكيؿ أيف تـ المزاكجة بيف الفمسفة كالدي ف‪ .‬لذا يمكف اعتباره فمسفة دينية أك ديف فمسفي‪ ،‬عمى أساس أف‬
‫المكضكع األساسي لعمـ الكبلـ ىك العقائد الدينية لكف المناىج المستعممة مناىج فمسفية تستند عمى منح الرأم الحر سمطة النظر‪.‬‬
‫كفي السياقات اإلسبلمية‪ ،‬فإف النظرة إلى "الرأم" قد تغيرت كثي ار بيف تاريخ ظيكر الحديث كبعد ذلؾ‪ .‬كقبؿ أف يسبغ "الرأم" بالشحنة‬
‫السمبية في المجاالت الفقيية كالكبلمية‪ ،‬كاف يعني الرأم السديد‪ .‬يقكؿ "حبلؽ"‪" :‬قبؿ ظيكر الحديث الذم يعبر عف تزايد أىمية السنة‬
‫النبكية‪ ،‬كاف ينظر إلى الرأم نظرة إيجابية‪ ،‬فمصطمح "رأم" كاف يستعمؿ لمداللة عمى الرأم السديد"‪ 2.‬مثؿ ما تحممو كممة رأم مف‬
‫شحنات سمبية كثؿ ما تحممو كممة "ىيرزم" ‪( Hérésie‬اليرطقة أك االبتداع) مف شحنات سمبية متأخرة عمى المعنى اإلغريقي‬
‫‪3‬‬
‫ثـ أصبحت مع المسيحية تعني الكفر كالجحكد‬ ‫األصمي الذم يعني الخركج كاالجتياد في الرفض‪ ،‬بؿ كانت تعني االختيار فقط‪.‬‬
‫كالخركج عف الديف القكيـ‪ .‬كبالفعؿ‪ ،‬فإف العديد مف المتكمميف قد كضعكا في خانة استبداد الرأم كاليرطقة‪ .‬كالسبب ظاىر جدا في‬
‫ككف الديف يقتضي القبكؿ كالتبني كالتسقيؼ في حيف أف الفمسفة الدينية تقتضي الشؾ كالنقد كالبحث دكف نياية‪ .‬كمف الجدير التأكيد‬
‫عمى أف التكفير لـ يكف مف جية الفقياء فقط‪ ،‬بؿ أف المتكمميف كانكا يكفركف بعضيـ البعض أيضا‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫شكيب بف بديرة الطبمبي‪ :‬مدخؿ مناىجي إلى عمـ الكبلـ‪ ،‬ص ‪.67‬‬
‫‪2‬‬
‫كائؿ حبلؽ‪ :‬نشأة الفقو اإلسبلمي كتطكره‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.117‬‬

‫‪3‬‬
‫يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬ترجمة عبد المجيد الصغير‪ ،‬نشر الفنؾ‪ ،‬الدار البيضاء‪،2000 ،‬‬
‫ص ‪.11‬‬

‫‪18‬‬
‫يعتقد إذف "كلفسكف" بأف "عمـ الكبلـ ىك حبكة التقاء بيف الكتاب المقدس‪ Scripture‬كالفمسفة"‪ 1.‬كعندما يستخدـ عبارة "عمـ‬
‫الكبلـ" فإنو يقصد عمـ ا لكبلـ اإلسبلمي بالضبط‪ .‬كىذا االعتقاد يندرج ضمف مكقؼ عاـ يعتبر أف عمـ الكبلـ اإلسبلمي كاف‬
‫محصمة دخكؿ الفمسفة اإلغريقية كالبلىكت السرياني لمعالـ اإلسبلمي‪ ،‬لكف يجب أف نقتنع بأف ىذا مجرد مكقؼ قابؿ لمنظر مف‬
‫جديد‪ .‬كما أنو يعتقد بأف ىناؾ استمرار قكم بيف كؿ الكتب المقدسة بداية مف التكراة كاألناجيؿ كالقرآف‪ ،‬لذا يستعمؿ عبارة الكتاب‬
‫المقدس لمداللة عمى ما نسميو بالديانات اإلبراىيمية التي تأسست عمى مبدأ كاحد‪.‬‬

‫يكاصؿ "كلفسكف" في رصد المحطات الكبرل اللتقاء العقائد بالفمسفة كالتي أنتجت عمـ الكبلـ أك البلىكت (في العبارة‬
‫المسيحية)‪ .‬حيث يرسـ المخطط التالي‪ :‬تـ المقاء بيف الفمسفة كالكتاب المقدس ثبلثة مرات‪:‬‬

‫‪ -1‬في االسكندرية برعاية فيمكف‪ :‬معو انبثقت فمسفة جديدة غير مسبكقة‪ :‬فمسفة كتابية ‪Scriptural philosophy‬‬

‫‪ -2‬فمسفة أباء الكنيسة‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫‪ -3‬عمـ الكبلـ (اإلسبلمي)"‪.‬‬

‫ينتيي ىذا المستشرؽ إلى أف عمـ الكبلـ اإلسبلمي حمقة مف سمسمة تمتد إلى أعماؿ فيمكف اإلسكندرم‪ ،‬التي يعتبرىا ميمة جدا‬
‫في تأسيس ما يمكف أف نسميو بالفمسفة الدينية‪ ،‬أيف تـ كضع كؿ العقائد عمى محؾ الفيـ‪ .‬كىذا ما فعمو الفبلسفة اإلغريؽ عمى كجو‬
‫بم سائمة العقائد الدينية الشعبية المتكارثة‪ .‬كعند استعماؿ عبارة "فمسفة الديف"‪ ،‬كعمى الرغـ مف ظيكرىا المتأخر‬
‫الدقة عندما قامكا ي‬
‫مقارنة بظيكر الميتافيزيقا أك البلىكت أك عمـ الكبلـ‪ ،‬إال أنيا‪ ،‬أم فمسفة الديف‪ ،‬تدؿ عمى محاكلة فيـ جكىر الديف كالبحث التأممي‬
‫في ماىية العقائد الدينية الكبرل‪ 3.‬كأف نبحث عف ماىية ا﵀ كماىية الصفات كماىية التصكر كالكجكد‪...‬الخ‪ .‬كأساس كؿ ىذه‬
‫التأمبلت ىك التنقيب عف حقيقة تصكراتنا حكؿ المقدس كالمتعالي أك اإلليي‪ ،‬حيث يجب االنتقاؿ مف التسميـ إلى الفيـ‪ .‬ىذا الفيـ‬
‫ىك بالضبط ما حققو سبينك از عندما كشؼ حقيقة كؿ العقائد اإليمانية‪ .‬لذا يمكف التأكيد بأف عمـ الكبلـ قد ابتدأ مع تفكير المقدس مع‬
‫فيمكف كانتيى مع سبينك از الذم أنتجت فمسفتو كضع ما بعد البلىكت أك ما بعد عمـ الكبلـ حيث أصبح الفكر الفمسفي يستعمؿ عبارة‬
‫"فمسفة الديف"‪ .‬يقكؿ كلفسكف مختص ار الكضعية‪" :‬ينتمي عمـ الكبلـ إلى الفمسفة الكتابية ‪ ،Scriptural philosophy‬تمؾ الفمسفة‬
‫‪4‬‬
‫كربما يحؽ لنا‬ ‫التي‪ ،‬بعد أف أسسيا فيمكف‪ ،‬كاصمت ازدىارىا بأشكؿ مختمفة حتى ؽ ‪ 17‬عندما أجيضت عمى يد إسبينكزا"‪.‬‬
‫التساؤؿ عف سبب التركيز عمى المحظة السبينكزية (تكفي سنة ‪ )1677‬؟ مف المفيد التنبيو إلى أك "كلفسكف" قد كتب مجمديف‬

‫‪1‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬ترجمة مصطفى لبيب عبد الغاني‪ ،‬المركز القكمي لمترجمة‪،‬‬
‫القاىرة‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،2009 ،‬ص ‪.895‬‬

‫‪2‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬الصفحة نفسيا‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫فتحي المسكيني‪ :‬اإليماف الحر أك ما بعد الممة‪ -‬مباحث في فمسفة الديف‪ ،‬مؤمنكف ببل حدكد لمدراسات كاألبحاث‪ ،‬الرباط‪ ،‬الطبعة‬
‫األكلى‪ ،2018 ،‬ص ‪.55-53‬‬
‫‪4‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.915‬‬

‫‪19‬‬
‫ضخميف عف فمسفة سبينك از ‪ The Philosophy of Spinoza‬سنة ‪ ،1934‬كىذا ما أىمو لمقبض عمى أىمية ىذه الفمسفة‪ .‬كيمكف‬
‫اإلقرار أف كتاب سبينك از األساسي ‪( TTP‬رسالة الىكتية – سياسية) قد كشؼ عف تياكم كؿ األسس العقمية لمديانة الييكدية التي‬
‫ىي عماد ما يمكف أف نسميو بالمرحمة الكتابية المقدسة‪.‬‬

‫‪ -2-3‬يكسؼ فاف إيس‪:‬‬

‫يعتبر فاف ايس ‪ Joseph Van Ass‬أحد أكبر العمماء األكاديمييف المتبحريف في بدايات عمـ الكبلـ اإلسبلمي‪ ،‬كقد كاف‬
‫الدكتكر "محمد أرككف" دائـ اإلشارة إلى أىمية دراساتو المكسكعية التي تقع في ستة أجزاء‪ ،‬كما أنو اشتكى أكثر مف مرة مف عدـ‬
‫ترجمة عممو األساسي "عمـ الكبلـ كالمجتمع" إلى المغات اإلسبلمية الكبرل خاصة العربية كالفارسية كالتركية‪ 1.‬كبالفعؿ‪ ،‬فإف ترجمة‬
‫الجزء األكؿ منو لـ تتـ إال في سنة ‪ 2008‬كالجزء الثاني في سنة ‪ .2016‬كال زلت بقية األجزاء األخرل تنتظر الترجمة إلى العربية‪.‬‬
‫كقد قاؿ محمد الشرفي‪ ،‬أحد كبار الحداثييف العرب‪ ،‬كالذيف استطاعكا اعادة فتح بعض المشكبلت الكبلمية التقميدية بركح المناىج‬
‫الجديدة‪ ،‬كىذا باعتراؼ بعض المستشرقيف أنفسيـ أمثاؿ الدكتكر دم بريمار ‪ )2006/1933( de Prémare‬في كتابو الذم ترجـ‬
‫مؤخ ار تحت عنكاف ‪ 2.Aux origines du Coran- Questions d'hier, approches d'aujourd'hui.‬قاؿ الشرفي يمظي ار‬
‫المكانة العممية لو ‪" :‬يكسؼ فاف ايس أكسع المعاصريف – المسمميف كغير المسمميف‪ -‬إلماما بكؿ ما يتعمؽ ببدايات عمـ الكبلـ‪،‬‬
‫‪3‬‬
‫أعبلمو كمشاغميـ كميكليـ كمقاالتيـ‪ ،‬كعبلقة كؿ ذلؾ بظركفيـ الشخصية كالعامة"‪.‬‬

‫يقابؿ "فاف ايس" بيف البلىكت أك الثيكلكجيا في السياقات المسيحية كعمـ الكبلـ في السياقات اإلسبلمية‪ ،‬عمى أساس أف التسمية‬
‫اإلسبلمية ليا خصكصيات عقدية كمكضكعاتية كتاريخية‪ .‬كبالعمكـ فإف عمـ الكبلـ بحث في الذات اإلليية‪ ،‬مما يجعمو ذك طابع‬
‫نظرم خالص‪ .‬لكنو يعتقد بأف التأمؿ المجرد ال ينفصؿ عف الكضعية االجتماعية لممتكمميف‪ ،‬كىنا يكمف جكىر أطركحتو المجسدة في‬
‫الكتاب المكسكعي "ع مـ الكبلـ كالمجتمع"‪ .‬فالكضعية االجتماعية كعبلقة المتكمميف بالسمطة قد حدد العديد مف األطركحات الكبلمية‪.‬‬
‫كىذا ما فصمو في كتاب بدايات الفكر اإلسبلمي‪ .‬كما أ ف الكبلـ ليس حديث عف أمكر الديف فقط‪ ،‬بؿ عف أمكر الديف كالدنيا‪ ،‬مما‬
‫يجعمو في عبلقة مباشرة مع الكاقع ككؿ م ا يحمو مف اضطرابات كصراعات مختمفة‪ .‬كبالفعؿ‪ ،‬فإف العديد مف المسائؿ الكبلمية قد‬
‫نجمت عف أحداث تاريخية فعمية ارتبطت بق اررات فردية أك جمعية‪ ،‬مما يجعؿ التفكير الكبلمي نتيجة حتمية لسيركرة األحداث‬
‫السياسية‪ .‬كىذا بالضبط ما كاف يركمو مف كتابو عمـ الكبلـ كالمجتمع‪ .‬أم أف األبحاث الكبلمية ليست مجرد تفكير في العقائد‬

‫‪1‬‬
‫الساقي‪ ،‬بيركت‪،‬‬
‫األصكلي كاستحالة التأصيؿ – تحك تاريخ آخر لمفكر اإلسبلمي‪ ،‬ترجمة ىاشـ صالح‪ ،‬دار ٌ‬
‫ٌ‬ ‫محمد أرككف‪ :‬الفكر‬
‫ٌ‬
‫الطبعة األكلى‪ ،1999 ،‬ص ‪.34-33‬‬
‫‪2‬‬
‫ألفريد –لكيس دم بريمار‪ :‬في أصكؿ القرآف‪ -‬مسائؿ األمس كمقاربات اليكـ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ .24‬يقكؿ في حقو‪ :‬يبدك أف‬
‫األستاذ الجامعي التكنسي عبد المجيد الشرفي (كلد سنة ‪ )1942‬ىك األكثر منيجية (مف بيف الباحثيف المسمميف الحالييف) في ىذه‬
‫المحاكلة إلعادة تقييـ معمقة في منظكر "تحديث الفكر اإلسبلمي"‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫القكؿ كارد في‪ :‬يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬ترجمة عبد المجيد الصغير‪ ،‬نشر الفنؾ‪ ،‬الدار‬
‫البيضاء‪ ،2000 ،‬ص ‪.5‬‬

‫‪21‬‬
‫بمعزؿ عف المجتمع كما يفرزه مف ظكاىر كمستجدات‪ .‬كارتباط المتكمميف بكظائؼ حككمية يؤثر بالتأكيد عمى اآلراء‪ ،‬عمى خبلؼ‬
‫آراء المتكمميف التجار مثبل‪ ،‬كالذيف ال تربطيـ عقكد كظيفية تؤثر في مكاقفيـ الفكرية‪ 1.‬ىذا جانب‪ ،‬كما أف ارتباط عمـ الكبلـ‬
‫بالمجتمع في أشكالو المتعددة‪ ،‬سكاء السمطكية أك الكظيفية‪ ،‬ىك الذم حرر ىذا العمـ مف صفتو الكينكتية‪ .‬يقكؿ فاف ايس‪" :‬لـ يكف‬
‫عمماء الكبلـ يشكمكف كينكتا؛ فقد كانكا جميعا مف ذكم الميف الدنيكية كالعادية‪ .‬كىك نفس األمر الذم يبلحظ بالنسبة إلى الفقياء‬
‫(‪ )...‬كلف تبدأ تمؾ االزدكاجية القائمة عمى التمييز بيف العمماء كالكبلـ في التبمكر إال بعد زمف المحنة"‪ 2.‬كتفيـ دنيكية الفقياء‬
‫كالمتكمميف في السياقات اإلسبلمية مقارنة بالكضعية التي تجدىا في السياقات المسيحية‪ ،‬حيث أف رجاؿ الديف منفصميف كمية عف ما‬
‫ىك اجتماعي كسياسي‪ ،‬إذ أف كممة ‪ clerici‬البلتينية و‪ Kleroi‬اإلغريقية‪ ،‬كالمتاف تدالف عمى مفيكـ رجاؿ الديف‪ ،‬تعني الذيف‬
‫‪3‬‬
‫اختاركا كميا‪ ،‬أك قؿ كقفكا (مف الكقؼ) مصيرىـ عمى ا﵀‪ ،‬بخبلؼ البقية الذيف ىـ الشعب ‪ Populus‬المنخرطيف في الحياة العادية‪.‬‬
‫لذا فرجؿ الديف في السياقات المسيحية يعيش عمى ىامش الحياة الدنيكية كفي جكىر الحياة الدينية‪ .‬كىذا ما ال نجده في بدايات‬
‫الحضارة اإلسبلمية‪ ،‬حيث لـ ينفصؿ المكقؼ الديني عف معترؾ الحياة بعامة‪ ،‬خاصة الحياة السياسية‪.‬‬

‫ثانيا‪ -‬أسباب التسمية‪:‬‬

‫لطالما طرح سؤاؿ سبب ىذه التسمية التي ال تبدك أنيا شفافة أك مألكفة‪ .‬فكيؼ يككف لمكبلـ عمـ ؟ يبدك لمكىمة األكلى أنو عمـ‬
‫مرتبط بالمغة ألف الكبلـ بما ىك القكؿ الذم يمتمؾ معنى ظاىر كمحدد مبحث مف مباحث عمكـ المساف‪ .‬إذ أف الكبلـ‪ ،‬عمى خبلؼ‬
‫الصكت‪ ،‬يطمؽ عمى أم قكؿ لو معنى‪ 4.‬لكف األكيد‪ ،‬ككفؽ ما تـ تحميمو أعبله‪ ،‬فإف األمر ال يتعمؽ بعمكـ المغة‪ ،‬بؿ بعمـ أعمؽ كأشد‬
‫شمكلية منو‪ .‬عمى الرغـ مف أف لعمـ المغة أكبر األثر في فيـ الكثير مف المشكبلت الكبلمية‪ ،‬بخاصة بعد استقبلؿ عمـ المغة كعمـ لو‬
‫معاييره كقكاعده‪ .‬كلئف كانت كؿ تجربة انسانية خالصة أك انسانية مقدسة‪ ،‬تمر عبر الكسيط المغكم‪ ،‬فإف لعمكـ المغة‪ ،‬سكاء الفقيية‬
‫أك الكضعية‪ ،‬أكبر األىمية في فيـ ىذه التجارب‪ .‬ال نقصد إذف بعمـ الكبلـ ما يمكف أف تتضمنو عمكـ المغة مثؿ النحك أك الصرؼ‬
‫أك الببلغة‪...‬الخ‪ ،‬إنما نتحدث ىنا عف عمـ يرتبط بالعقائد التي ال تنفصؿ عف الكبلـ‪ .‬لكف ليس أم كبلـ‪ .‬إذ أف "عمـ الكبلـ" الذم‬
‫يذكر دكما بالتعريؼ‪ ،‬يدؿ عمى التركيز عمى كبلـ محدد دكف غيره‪ .‬ما ىك ىذا الكبلـ ؟‪ 5‬األكيد أنو الكبلـ المقدس‪ .‬كقد أشرنا سابقا‬
‫إلى أف كبلـ ا﵀ ىك القرآف‪ ،‬لكف يمكف أيضا‪ ،‬حسب البعض‪ ،‬ضمف كبلـ الرسكؿ (ص) إلى الكبلـ المقدس‪ ،‬عمى الرغـ مف أنو‬
‫ليس كبلـ إليي خالص‪ .‬فاألحاديث القدسية تقكـ عمى االعتقاد بأف المعنى إليي كالمفظ بشرم مف عند الرسكؿ‪ .‬ىنا نبلحظ تراتبية‬
‫دقيقة بيف الكبلـ المقدس كىك عاـ‪ ،‬كالقرآف كجزء مف ىذا الكبلـ المقدس‪ ،‬كالحديث النبكم ككبلـ ال ينفصؿ كمية عف القدسي‪.‬‬

‫تقدـ العديد مف الميتميف بالمسألة الكبلمية تأريخا كشرحا كجدال‪ ،‬قديما كحديثا‪ ،‬بالعديد مف الفرضيات التي تفسر سبب التسمية‪.‬‬
‫كمقاربة مشكمة نشأة المصطمح‪ ،‬مثؿ مفيكمو‪ ،‬يمكف أف نتناكليا عند القدامى كالمعاصريف كالمستشرقيف‪ .‬كمف المفيد التذكير‪ ،‬بأف‬

‫‪ 1‬المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.141‬‬


‫‪2‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.140‬‬
‫‪3‬‬
‫دكمينيؾ لكككر‪ :‬فيـ تفيد الفمسفة إذف ؟ مف عمكـ الطبيعة إلى العمكـ السياسية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.233‬‬
‫‪4‬‬
‫شكيب بف بديرة الطبمبي‪ :‬مدخؿ مناىجي إلى عمـ الكبلـ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.23‬‬
‫‪5‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.25‬‬

‫‪21‬‬
‫لعمـ الكبلـ تسم يات أخرل رديفة لو كتؤدم المعنى القريب أك البعيد‪ ،‬الظاىر أك العميؽ‪ ،‬منيا مبلحظة "التيانكم" القائمة بأف عمـ‬
‫الكبلـ يسمى أيضا بػ "أصول الدين‪ ،‬كسماه أبك حنيفة المتكفي ‪ 150‬ق بالفقو األكبر‪ ،‬كيسمى بػ "عمم النظر واالستدالل" أيضا‪،‬‬
‫كيسمى "بعمم التوحيد والصفات"‪ 1.‬كلكؿ ىذه التسميات مبررة مف حيث أف الكبلـ ييتـ بأصكؿ الديف ال فركعو‪ ،‬كبالتالي فإف‬
‫االختبلؼ فيو أعقد كأكثر خط ار مف االختبلؼ في فركع الديف‪ .‬كما أنو يمثؿ الفقو األكبر مقارنة بفقو الفقياء المرتبط بالعمؿ الذم‬
‫يمكف اعتباره فقيا أصغ ار أك قؿ ثانكيا مقارنة بأساسية كمركزية مسألة العقائد‪ .‬كالرسكؿ الكريـ قد بدأ الدعكة بالعقيدة الرئيسية ال‬
‫الشرائع الجزئية أ ك قؿ الثانكية‪ ،‬ألف ال فائدة مف العمؿ الديني إذا لـ تترسخ العقيدة الدينية‪ .‬كمف المنظكر المنيجي‪ ،‬يعتبر عمـ الكبلـ‬
‫نظ ار عقميا كاستدالال منطقيا‪ ،‬ألنو يقكـ عمى رد الشبيات كىذا ال يككف إال بالقاسـ المشترؾ بيف الناس جميعا كىك العقؿ الطبيعي‬
‫السابؽ عمى التمقينات الثقافية‪ .‬كالتسمية األخيرة‪ ،‬أم عمـ التكحيد كالصفات‪ ،‬مبرر مف جية أف مكضكع الكبلـ ىك اثبات كحدانية‬
‫ا﵀‪ ،‬كالمعتزلة ذاتيا تسمى بأىؿ التكحيد‪ .‬كالتكحيد ال يككف إال بمعرفة مشكمة الصفات‪ ،‬كالتمييز بيف صفات الذات كصفات األفعاؿ‪.‬‬
‫بؿ أف الشرؾ ىك نتيجة لمخمط في مسألة صفات ا﵀ تعالى‪ .‬كما أف "التيانكم" يضيؼ تسميات أخرل مثؿ‪" :‬عمـ الشرائع كاألحكاـ"‬
‫ك"عمـ الذات كالصفات"‪ ،‬كسمي أيضا بعمـ العقائد اإلسبلمية"‪ 2.‬كىناؾ مف يستعمؿ لفظة "اإللييات" لمتعبير عف عمـ الكبلـ‪ ،‬عمى‬
‫‪3‬‬
‫أساس أنو يبحث في مكضكع األلكىية سكءا في جانب الكبلـ أك الصفات أك األفعاؿ‪...‬الخ‪.‬‬

‫كمف أىـ األسباب أدت إلى ظيكر كانتشار عبارة "عمـ الكبلـ" نجد ما يمي‪:‬‬

‫ىناؾ تفسير يربط التسمية بعناكيف المسائؿ المطركحة‪ ،‬إذا أف األبحاث الكبلمية‪ ،‬في العمكـ‪ ،‬تبدأ بعبارة "الكبلـ في كذا"‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫‪4‬‬
‫لذا صارت ىذه العناكيف سببا في انتشار تسمية عمـ الكبلـ‪.‬‬

‫سمي عمـ الكبلـ بيذا االسـ ألنو يكرث قدرة الكبلـ كقكتو ضد الخصكـ‪ .‬فالمتكمـ ىك المفكه كصاحب الحجة القكية‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫المسألة التي أثارت الخبلؼ بيف العمماء ىي كبلـ ا﵀ (أم القرآف) لذا اعتبر الكبلـ أىـ مسألة عقدية‪ ،‬كسمى العمـ عمى‬ ‫‪‬‬
‫‪1‬‬
‫ىذا األساس‪ .‬ك"ألف أكؿ خبلؼ كقع في الديف كاف في الكبلـ ا﵀‪ ،‬أمخمكؽ ىك أـ قديـ‪ ،‬فتكمـ الناس فيو"‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫محمد عمي التيانكم‪ :‬مكسكعة كشاؼ اصطبلحات العمكـ كالفنكف‪ ، ،‬ج ‪ ،2‬مكتبة لبناف ناشركف‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪،1996 ،‬‬
‫ص ‪ .1231‬أيضا‪ :‬مصطفى عبد الرازؽ‪ :‬تمييد لتاريخ الفمسفة اإلسبلمية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ .385‬كيقدـ بدكم تحميؿ معمؽ ليذه‬
‫التسميات‪ ،‬يمكف العكدة لػ‪ :‬عبد الرحمف بدكم‪ :‬مذاىب اإلسبلمييف‪ ،‬ج‪( 1‬المعتزلة‪ ،‬األشاعرة‪ ،‬اإلسماعيمية‪ ،‬القرامطة‪ ،‬النصيرية)‪،‬‬
‫دار العمـ لممبلييف‪ ،‬بيركت‪ ،1997 ،‬ص ‪ 10‬كما تبلىا‪.‬‬

‫‪ 2‬محمد صالح محمد السيد‪ :‬أصالة عمـ الكبلـ‪ ،‬دار الثقافة كالنشر كالتكزيع‪ ،‬القاىرة‪ ،1987 ،‬ص ‪.16‬‬
‫‪3‬‬
‫عمي الرباني الكمبايكاني‪ :‬ما ىك عمـ الكبلـ ؟ مؤسسة بكستاف كتاب‪ ،‬قـ‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬ص ‪.17‬‬

‫‪4‬‬
‫أحمد محمكد صبحي‪ :‬في عمـ الكبلـ‪ ،‬الجزء األكؿ‪ :‬المعتزلة‪ ،‬دار النيضة العربية‪ ،‬الطبعة الخامسة‪ ،1985 ،‬ص ‪ .19‬أيضا‪:‬‬
‫عمي الرباني الكمبايكاني‪ :‬ما ىك عمـ الكبلـ ؟ مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ 18‬كما تبلىا‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫سمي بعمـ الكبلـ ألنو ال ينطكم عمى أم عمؿ‪ ،‬أم ىك كبلـ صرؼ‪ ،‬كحسب ابف خمدكف‪ ،‬فإف ىذا العمـ ال يحيؿ إلى أم‬ ‫‪‬‬
‫عمؿ‪ .‬كبيذا فإف المقابمة كاضحة بيف الفقو كالكبلـ‪ .‬لذا فإف ذـ الكبلـ الصرؼ كاعتباره سقطا‪ ،‬يدخؿ في سياؽ مقارنو مع‬
‫الفقو باعتباره عمما نافعا في األعماؿ‪ .‬كما يمكف مقابمتو بالتصكؼ عمى أساس أنو أحكاؿ ال أقكاؿ كما يقكؿ الغزالي‪ .‬ألنو‬
‫‪2‬‬
‫لذا فإف عممية الفقو كالتصكؼ ىي التي تجعميما في‬ ‫أساس التصكؼ ىك العككؼ عمى العبادة كاالنقطاع إلى ا﵀ تعالى‪.‬‬
‫مقابمة الكبلـ المحض‪.‬‬

‫أما التفسير األكثر تفصيبل كعمقا لتسمية عمـ الكبلـ باسمو‪ ،‬فيك ما قالو الشيرستاني في الممؿ كاإليجي في المكاقؼ‪ .‬كىي‬ ‫‪‬‬
‫النظرة القائمة عمى التقارب بيف المنطؽ كالكبلـ عمى أساس أف النطؽ ىك كبلـ كالكبلـ نطؽ‪ .‬أف ىذا المكقؼ مؤسس عمى‬
‫المقابمة بالفبلسفة‪" .‬ربما يقاؿ‪ :‬إف عمماء العقائد إنما سمكا عمميـ باسـ "الكبلـ" لمقابمة الفبلسفة‪ ،‬إذ كانكا يصدركف أبحاثيـ‬
‫الفمسفية بالمسائؿ المنطقية‪ ،‬كالمنطؽ مرداؼ لمكبلـ‪ ،‬فأردا عمماء العقائد أف يستغمكا في أبحاثيـ عف المنطؽ‪ ،‬الذم جاء مف‬
‫اليكناف‪ ،‬مقترنا بكركد الفمسفة إلى العالـ اإلسبلمي‪ ،‬فسمكا عمميـ بالكبلـ لذلؾ‪ .‬يقكؿ الشيرستاني‪ :‬كاما لمقابمتيـ الفبلسفة‪ ،‬في‬
‫‪3‬‬
‫لكف الكمبايكاني كغيره ردكا عمى الشيرستاني الذم ربط‬ ‫تسميتيـ فنا مف فنكف عمميـ بالمنطؽ‪ ،‬المنطؽ كالكبلـ مترادفاف"‪.‬‬
‫ظيكر عمـ الكبلـ بحركة الترجمة‪ ،‬مف خبلؿ اثبات أف مصطمح الكبلـ قد كجد في القرف اليجرم األكؿ‪ .‬عمى عكس قكؿ‬
‫‪4‬‬
‫الشيرستاني بأنو ارتبط بحركة المأمكف الثقافية‪ .‬كما أف المنطؽ ليس مقدمة لمفمسفة فقط بؿ لجميع العمكـ‪.‬‬

‫بالنسبة لمشيخ مصطفى عبد الرازؽ‪ ،‬كاستنادا إلى مصادر تراثية‪ ،‬فإف سبب التسمية تعكد إلى ككف "الكبلـ ضد السككت‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫كالمتكممكف كانكا يقكلكف حيث ينبغي الصمت اقتداء بالصحابة كالتابعيف الذيف سكتكا عف المسائؿ االعتقادية‪ .‬يقاؿ فبلف‬
‫‪5‬‬
‫كلك أننا ال نعتقد بأف الرسكؿ الكريـ‬ ‫قكاؿ ال فعاؿ‪ .‬كالمتكممكف يقكلكف في أمكر ليس تحتيا عمؿ بخبلؼ الفقياء"‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫كالصحابة قد سكتكا عف العقائد اإليمانية‪ ،‬إال أف ما آؿ إليو عمـ الكبلـ الفمسفي‪ ،‬في مراحمو المتأخرة‪ ،‬قد يجعمنا نتقبؿ ىذا‬

‫‪1‬‬
‫محمد صالح محمد السيد‪ :‬أصالة عمـ الكبلـ‪ ،‬ص ‪.17‬‬
‫‪2‬‬
‫ابف خمدكف‪ :‬المقدمة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ .432‬أيضا‪ :‬الغزالي‪ :‬المنقذ مف الضبلؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ .132‬يقكؿ عف التصكؼ‪:‬‬
‫"أخص خكاصيـ ما ال يمكف الكصكؿ إليو بالتعمـ بؿ بالذكؽ كالحاؿ كتبدؿ الصفات"‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫عمي الرباني الكمبايكاني‪ :‬ما ىك عمـ الكبلـ ؟ مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ .18‬أيضا‪ :‬شكيب بف بديرة الطبمبي‪ :‬مدخؿ مناىجي إلى عمـ‬
‫الكبلـ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.28‬‬

‫‪4‬‬
‫يقكؿ "عمي الرباني الكمبايكاني" مستندا عمى نص سابؽ عمى المأمكف بأكثر مف قرف‪ :‬جاء نصراني إلى ىشاـ بف الحكـ (تكفي ‪ 179‬ىػ‬
‫كىك تمميذ اإلماـ الصادؽ في الكبلـ) ليناظره حكؿ اإلسبلـ كالمسيحية‪ ،‬فقاؿ لو‪ :‬ما بقي مف المسمميف أحد ممف يذكر بالعمـ كالكبلـ‬
‫إال كقد ناظرتو في النصرانية‪ ،‬فما عندىـ شيء‪ ،‬كقد جئت أناظرؾ في اإلسبلـ‪ .‬ىذا يدؿ عمى خطأ رأم الشيرستاني الذم يقكؿ‬
‫بظيكره أياـ المأمكف (تكفي ‪ .)218‬مع أف اإلماـ الصادؽ عميو السبلـ استشيد ‪ 148‬ىػ كقد عرفت أف مصطمح الكبلـ كاف‬
‫كمعركفا في عصره‪( .‬النصؼ ‪ 1‬مف القرف ‪ 1‬اليجرم)‪ .‬المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.21‬‬

‫‪5‬‬
‫مصطفى عبد الرازؽ‪ :‬تمييد لتاريخ الفمسفة اإلسبلمية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.390‬‬

‫‪23‬‬
‫التفسير‪ .‬إذ بمغ بعض المتكمميف مرتبة مف الحديث في العقائد يخرج العامة مف اإليماف السميـ كالطبيعي‪ .‬لذا فقد الحظ‬
‫الغزالي في رسالة اإللجاـ بأف السمؼ سكتكا عف الكبلـ‪ 1،‬ليس عجزا‪ ،‬بؿ درء لمفتف كانحراؼ العامة غير المتخصصيف في‬
‫العقائد‪.‬‬

‫قدـ "شكيب بف بديرة الطبمبي" تفسير يعتمد عمى المقاربة الطبيعية أك قؿ العرفية لمصطمح "الكبلـ"‪ .‬فمك "سألت أم إنساف‬ ‫‪‬‬
‫ماذا يعني عمـ الكبلـ ؟ لقاؿ ىك العمـ بما كاف قكيا كصحيحا مف القكؿ (‪ )...‬ىذه النظرة منسجمة مع التعريؼ القرآني لعمـ‬
‫الكبلـ ‪ :‬العمـ اليادؼ إلى تمييز أحسف القكؿ (‪[ )...‬كىذا ما قاؿ بو الفتازاني]‪ :‬ألنو لقكة أدلتو صار كأنو الكبلـ دكف‬
‫سكاه‪ ،‬كما يقاؿ لؤلقكل مف الكبلميف‪ :‬ىذا ىك الكبلـ‪( .‬الكبلـ األقكل‪ /‬االستدالؿ األقكل‪ :‬بالقرآف‪ ،‬بالحديث‪ ،‬بالسيرة‪ ،‬بالعقؿ‬
‫مجردا‪...‬الخ)"‪ 2.‬لذا فمدلكؿ الكبلـ ىك الكبلـ الحقيقي المؤسس عمى أدلة ال ترد‪ ،‬ككأف ىناؾ كبلـ ضعيؼ ككبلـ قكم‪،‬‬
‫كالكبلـ الحقيقي ىك الثاني الذم يؤسس قكتو مف مصادره التي ال ترد‪.‬‬

‫بالنسبة لممنيج اإلستشراقي‪ ،‬ممثبل في يكسؼ فاف ايس‪ ،‬فإنو بحث مدلكؿ الكبلـ مف خبلؿ السؤاؿ األصمي التالي‪" :‬كيؼ نشأت‬
‫تسمية المتكمميف كما المقصكد بيا بالضبط ؟"‪ 3.‬كلك أف الكشؼ عف األصؿ مسألة متعذرة تماما‪ ،‬فإف تعقب الكثائؽ التاريخية يمكف‬
‫أف ي كشؼ عف البدايات التقريبية لظيكره كمدلكؿ استعمالو‪ .‬كقد أشار العديد مف مؤرخي عمـ الكبلـ ‪ ،‬مثمما أشرنا منذ حيف‪ ،‬إلى أف‬
‫الكممة كانت معركفة في النصؼ األكؿ مف القرف اليجرم األكؿ كليس كما اعتقد الشيرستاني عندما ربطيا بالمأمكف في منتصؼ‬
‫القرف الثالث‪ .‬يجيب فاف ايس قائبل‪" :‬حيف أراد أبك مسمـ أف يستقر في مارؼ أرسؿ متكمميف إلى المدينة ليكضحكا لمسكاف بفنيـ‬
‫الديالكتيكي أنو "كاف يتبع السنة كيعمؿ بالحؽ"‪ .‬استنتج يانيس مف ىذا المكضع كانكا يكمذاؾ‪ :‬مؤسسة سياسية كاجتماعية في‬
‫اإلسبلـ" (‪ )...‬يساكم يانيس نفسو بيف المتكمميف كالدعاة"‪ 4.‬كالظاىر أف مدلكؿ المتكمـ كاف مرتبطا باإلقناع عف طريؽ القكة الجدلية‪،‬‬
‫مف أجؿ تحقيؽ مصالح ما‪ .‬لذا‪ ،‬فإف أكثر الناس مناسبة ليذه الميمة ىـ المفكىكف المتمرسكف في الخطابة كالشعر كالببلغة‪ .‬لذا‬
‫فالمتكمـ ىك ذاتو المتحدث كالحكيـ الذم زكد بممكات التأثير كالتقرير‪" .‬المتكمـ ىك في البدء "متحدث" فقط (‪ )...‬المتكمـ بمعنى‬
‫"متحدث لو كظيفة معينة" أك تكمـ بمعنى "ظير كمتحدث‪ .‬يمكف تكثيقو مبكرا‪ .‬المتكمـ ىك المتحدث باسـ كفد أك جماعة (‪ )...‬مف‬
‫المنطقي أف ينتخب ليذا الدكر خطيب أك شاعر‪ ،‬ربما أيضا حكيـ أك قاض"‪ 5.‬كامتبلؾ ىذه القدرات ىك ما يجعؿ الكبلـ فف يكىب‬
‫لمبعض دكف البعض‪ .‬كقد ساد االعتقاد عند البعض بأف الكبلـ ىك ما يقابؿ العمـ‪ ،‬بحيث أف المتكمـ ليس بالضركرة عالما كفقييا‪،‬‬

‫‪1‬‬
‫الغزالي‪ :‬إلجاـ العكاـ عف عمـ الكبلـ‪ ،‬ضمف مجمكعة رسائؿ اإلماـ الغزالي‪ ،‬تنقيح كتصحيح ابراىيـ أميف محمد‪ ،‬المكتبة التكفيقية‪،‬‬
‫القاىرة‪ ،‬د س‪ ،‬ص ‪.350‬‬

‫‪2‬‬
‫شكيب بف بديرة الطبمبي‪ :‬مدخؿ مناىجي إلى عمـ الكبلـ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.40-39‬‬

‫‪3‬‬
‫جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.82‬‬
‫‪4‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬نفس الصفحة‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.84-83‬‬

‫‪24‬‬
‫بقدر ما يمتمؾ قدرة المساف فحسب‪ .‬كىناؾ مف تحدث بيذا المنطؽ في فاتحة السنة اليجرية األكلى‪ ،‬مشي ار إلى كثيرة الكبلـ كقمة‬
‫الفقو‪ .‬كحتى بالنسبة لمجاحظ‪ ،‬فقد فإف الكبلـ مرتبط بالنجاح الببلطي‪ 1.‬كحسب دم بكر‪ ،‬الذم قدـ تاريخا لمفمسفة اإلسبلمية‪ ،‬فإف‬
‫الكبلـ في عيد المأمكف‪ ،‬كاف يعني المناظرة كالمجادلة‪ ،‬كليس ىذا بغريب‪ ،‬حيث أف المناظرة تمثؿ النمكذج األصيؿ لمتفكير كالقرار‬
‫المعرفي في السياقات اإلسبلمية‪ .‬كقد ظير لو أف أحسف عبارة تدؿ بيا عمى عمـ الكبلـ ىي عبارة الجدؿ في المسائؿ العقائدية‬
‫‪ theologische Dialektik‬أك حتى الجدؿ فحسب‪ .‬كبعد تقكية المذاىب الكبلمية السنية ضد المعتزلة التي اعتبركىا منحرفة‪،‬‬
‫‪2‬‬
‫أم أصحاب العقائد المقبكلة سمفا‪ .‬كبالفعؿ‪ ،‬فإف‬ ‫أصبح باإلمكاف‪ ،‬حسب دم بكر دكما‪ ،‬تسميتيـ بالمدرسييف ‪.Scholastiker‬‬
‫مذىب األشاعرة مثبل لـ يكف يعتقد بأنو مبتدع طريؽ جديد‪ ،‬بؿ ىك عكدة لمطريؽ القكيـ‪ ،‬طريؽ أىؿ السنة كالجماعة‪.‬‬

‫استنتاج‪.‬‬

‫مف كؿ ىذه التحميبلت‪ ،‬يمكف أف نصؿ إلى أف ظيكر عمـ الكبلـ كاف مسا ار طبيعيا لنمك كتطكر الحياة العقدية كالفكرية لمعالـ‬
‫اإلسبلمي‪ .‬كالتساؤؿ عف العقائد كالبحث فييا كاف أم ار ضركريا‪ .‬لذا ال يمكف أف نكافؽ مصطفى عبد الرازؽ في تقريره بأف "العرب لـ‬
‫‪3‬‬
‫عمى اعتبار أف الرسكؿ الكريـ بدأ‬ ‫تككف تسأؿ الرسكؿ عف معنى شيء عقدم‪ ،‬كانكا يسألكنو عف أمر الصبلة كالزكاة‪...‬الخ"‪.‬‬
‫الحديث في العقيدة قبؿ الشريعة‪ ،‬بؿ أنو في حياتو بالذات تـ أشكمة العديد مف المسائؿ العقدية‪ .‬لكف صكت االختبلؼ كاف خافتا‬
‫أماـ السمطة الركحية لمرسكؿ‪ ،‬كما أف ح اررة العقيدة الجديدة أسكتت صكت العقؿ البحاث كالنقدم‪.‬‬

‫ينتمي عمـ الكبلـ إلى العمكـ الدينية‪ ،‬كمجمؿ ما طرح فيو لـ ينفصؿ كمية عف ما يسمى بعمكـ القرآف‪ ،‬ألف البحث في أسباب‬
‫النزكؿ كالناسخ كالمنسكخ كترتيب السكر‪...‬الخ ىي مف المكاضيع التي يستند عمييا التأكيؿ الكبلمي‪ .‬كألف عمـ الكبلـ مؤسس عمى‬
‫المجادلة بالبراىيف كاألدلة‪ ،‬لكي يككف كبلما حقيقيا‪ ،‬فإنو قد قارب الفمسفة العقمية أكثر مما يعتمد عمى المصادر الدينية الخالصة‪،‬‬
‫بخاصة بعد حركة الترجمة كاالطبلع عمى المكركث الفمسفي كالمنطقي اإلغريقي‪ .‬كفي بعض مناىج الدراسة في سكريا مثبل‪ ،‬بشيادة‬
‫شكيب بف بديرة الذم اشتغؿ في التدريس ىناؾ‪ ،‬فإف عمـ الكبلـ يطمؽ عميو الفمسفة العربية‪ 4.‬كىذا ما يصبغ ىذا العمـ بالصبغة‬
‫العقبلنية المقركنة بالرأم كالتفكير بمعزؿ عف سمطة السائد أكالقديـ‪.‬‬

‫كالتقسيـ الذم نجده عند التيانكم‪ ،‬بيف عمـ الكبلـ الدكغماطيقي كعمـ الكبلـ العقبلني ‪le Kalam dogmatique ou‬‬
‫‪ 5.rationnelle‬قد يتطابؽ مع التقسيـ الذم قدمو "دم بكر" بيف الكبلـ الحر كالكبلـ السني‪ ،‬عمى أساس أف ىذا األخير كاف رد فعؿ‬

‫‪1‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪ .85‬نجد اشارة الرتباط الكبلـ بالخطابة عند‪:‬‬
‫‪Henri corbin: histoire de la philosophie islamique, édition Gallimard, Paris, 1964, 152.‬‬
‫‪2‬‬
‫دم بكر‪ :‬تاريخ الفمسفة في اإلسبلـ‪ ،‬ترجمة محمد عبد اليادم أبكريدة‪ ،‬دار النيضة العربية‪ ،‬بيركت‪ ،1954 ،‬ص ‪.85‬‬
‫‪ 3‬مصطفى عبد الرازؽ‪ :‬تمييد لتاريخ الفمسفة اإلسبلمية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.397‬‬
‫‪4‬‬
‫شكيب بف بديرة الطبمبي‪ :‬مدخؿ مناىجي إلى عمـ الكبلـ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ص ‪ .28-24‬أيضا‪ :‬محمد عمي التيانكم‪ :‬مكسكعة‬
‫كشاؼ اصطبلحات العمكـ كالفنكف‪ ،‬ج ‪ ،2‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.1231‬‬

‫‪5‬‬
‫محمد عمي التيانكم‪ :‬مكسكعة كشاؼ اصطبلحات العمكـ كالفنكف‪ ،‬ج ‪ ،2‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.1230‬‬

‫‪25‬‬
‫فعؿ لئلفراط في العقبلنية كالفمسفية‪ ،‬كدعكة إلعادة الكبلـ إلى الحقؿ الديني حيث يجب أف يمتزـ بالعقائد كاألصكؿ اإلسبلمية‪ .‬لذا‬
‫نجد فرؽ كاضح‪ ،‬في عمـ الكبلـ‪ ،‬بيف األصكلييف كأصحاب العقكؿ النقدية‪ 1.‬كىك الفرؽ الذم يصنع الفرؽ الكبلمية التي اختمفت‬
‫لدرجة يصعب تكحيدىا‪ .‬لكف المنظكر إلى االختبلؼ ذاتو يختمؼ مف فمسفة إلى أخرل‪ ،‬فينالؾ فمسفات تقكـ بتأثيـ االختبلؼ‬
‫كتقديس الكحدة كفمسفات أخرل تقكـ عمى تطبيع االختبلؼ باعتباره داللة عمى حرية العقؿ البشرم‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.35‬‬

‫‪26‬‬
‫المحاضرة الثانية‪ :‬منيج عمم الكالم‪.‬‬

‫تمييد‪.‬‬

‫تتحدد خصكصيات المنيج بالنظر إلى مكضكع الدراسة‪ ،‬كليس العكس‪ .‬مما يعني أف التحديد الكاعي لمنيج عمـ الكبلـ سيظير‬
‫متأخ ار عف الكبلـ نفسو‪ .‬كلئف انتيينا إلى أف عمـ الكبلـ مف العمكـ الدينية اإلسبلمية حيث يرتبط بعمـ العقائد تقكية كدفاعا‪ .‬فإف‬
‫مشكمة منيجية الدفاع عف العقائد كالرد عمى المخالفيف‪ ،‬سكاء في الداخؿ العقائدم اإلسبلمي أك مع الخارج كمية عف ممة اإلسبلـ‪،‬‬
‫تتحدد بطبيعة المحاكر ذاتو‪ .‬كىذا ما يفترض تنكيع المناىج كتكثيرىا مف أجؿ االستجابة لتنكع المحاكريف كاختبلؼ المشكبلت‬
‫المطركحة مف طرفيـ‪ .‬كما أنو يفترض أف مناىج عمـ الكبلـ لف تبقى ىي ىي عمى مر العصكر‪ ،‬بؿ ستعرؼ تطك ار كنمكا يتبلءـ مع‬
‫ركح األزماف‪ .‬فبل يعقؿ أف يتـ الدفاع عف عقائد اإلسبلـ‪ ،‬في القرف الكاحد كالعشركف‪ ،‬بنفس المناىج التي كاف يستخدميا معتزلة‬
‫القرف الرابع لميجرة مثبل اك حتى األشاعرة‪.‬‬

‫كما يمكف أف نبلحظ أ ف مناىج عمـ الكبلـ ال تنفصؿ عف النمك المنيجي في العمكـ األخرل‪ .‬فيذا العمـ الذم كاف يستعمؿ‬
‫المناىج العقمية البسيطة كطرح الجدؿ كما ىي في القرآف الكريـ‪ ،‬لـ يبؽ عمى ذلؾ بعد حركة الترجمة في بداية القرف الثالث لميجرة‬
‫في عيدة المأمكف مثبل‪ .‬فبعد ترجمة عمكـ المنطؽ كالعمكـ الفمسفية‪ ،‬اغتنت المناج الكبلمية بما حصمتو المغة العربية مف نصكص‬
‫جديدة‪ .‬كسينجز المتكمميف بطرقيـ الخاصة عممية أقممة منيجية تتبلئـ كخصكصيات عمـ الكبلـ‪ .‬كىنا بالضبط يتحكؿ الكبلـ إلى‬
‫عمـ متخصص ال ييضمو العامة مف الناس‪ ،‬نظ ار لعمك مستكل المناىج المستخدمة‪ ،‬كاستعماؿ ألفاظ تقنية ليست في المتناكؿ‪.‬‬
‫كسنرل الحقا‪ ،‬بأف المكقؼ مف عمـ الكبلـ يتحدد مف المكقؼ مف مناىجو باألساس‪.‬‬

‫بالنسبة لمشكبلت المحاضرة التالية تحت عنكاف "مناىج عمـ الكبلـ"‪ ،‬فيي كالتالي‪ ،‬عمى أنو قد تظير مشكبلت في ثنايا التحميؿ‬
‫دكف تخطيط مسبؽ مما يدفعنا إلى طرحيا كمقاربتيا في مكضعيا البلزـ‪:‬‬

‫‪ -‬ىؿ يمكف الحديث عف منيجية عمـ الكبلـ أصيمة كمثبتة في المكرث العربي السابؽ عمى اإلسبلـ ؟ نقكؿ ىذا‪ ،‬ألننا نفترض‬
‫أف ظيكر اإلسبلـ لـ يحدث القطيعة الكمية مع العديد مف العادات الفكرية كالمغة المستعممة كحتى مع بعض الشعائر‬
‫الدينية‪ .‬ىؿ الجدؿ الذم حصؿ بيف الرسكؿ الكريـ كالمشركيف في مكة يمكف أف يككف الجذر األكؿ لعمـ الكبلـ ؟‬

‫‪ -‬كيؼ يمكف لنا أف نستخمص منيج عمـ الكبلـ مف القرآف الكريـ ؟ كىؿ فعبل أف القرآف قدـ مناىج خاصة بيذا العمـ؟ أـ أنو‬
‫تـ استخبلصيا فقط كفؽ االجتياد الذم استعمؿ لتأصؿ ىذا العمـ ؟ نسأؿ ىذا السؤاؿ عمى أساس أف اليجمة الشرسة عمى‬
‫عمـ الكبلـ‪ ،‬كما سنبينو في المحاضرة الرابعة‪ ،‬تطمب البحث في القرآف عما قد يككف اشارة كلك غير صريحة‪ ،‬عمى ضركرة‬
‫التكمـ في المسائؿ العقدية‪ ،‬كعف تكفر مناىج الكبلـ في القرآف ذاتو‪ .‬لذا فإف التأصيؿ المنيجي القرآني لطرؽ عؿ الكبلـ‬
‫يأتي في سياؽ الدفاع عف العمـ ضد منتقديو‪.‬‬

‫ىؿ الفصؿ بيف المناىج النقمية كالمناىج العقمية ال زاؿ مبر ار حتى اليكـ ؟ ىذا‪ ،‬عمى اعتبار أف العديد مف كتب عمـ‬ ‫‪-‬‬
‫انحرؼ دخؿ الممة اإلسبلمية مما قد‬
‫ا‬ ‫الكبلـ‪ ،‬تقسـ منيجية عمـ الكبلـ إلى قسميف‪ ،‬عمى أساس اختبلؼ المنحرفيف‪ .‬فيناؾ‬

‫‪27‬‬
‫يقت ضي استعماؿ حجج نقمية‪ ،‬لكف ىناؾ منحرفيف‪ ،‬كاألصؿ أف نسمييـ مخالفيف في العقائد كمية‪ ،‬مما يستمزـ استعماؿ‬
‫مناىج تتفؽ فييا كؿ العقكؿ‪ .‬نطرح ىذا السؤاؿ عمى أساس أف الدراسات األصكلية الحالية تمغي ىذا التقسيـ التقميدم بيف‬
‫العقؿ كالنق ؿ‪ ،‬ألنو فصؿ يسيئ إلى معقكلية النقؿ كمنقكلية العقؿ‪ .‬إذ نجد تكجو طو عبد الرحمف‪ ،‬كالذم استميمو مف‬
‫النصكص التراثية‪ ،‬منصب عمى تكحيد النقمي مع العقمي في ركح كاحدة‪ .‬كسنرل بأف ىذا المجيكد مكجو لتأكيد أصالة‬
‫المنطؽ الديني مقارنة بالمنطؽ العقمي المختمس‪ .‬يقكؿ طو في ىذا السياؽ‪" :‬المسممة الباطمة أف العقؿ كاإليماف أمراف‬
‫متناقضاف‪ .‬كأف المؤمف ال عقؿ لو كالعقؿ ال ايماف لو (‪ )...‬العقؿ ال يككف إال مؤمنا‪ ،‬بدءا باإليماف بالفعؿ العقمي نفسو‪،‬‬
‫كانتياء بإمكاف االستدالؿ بالحقيقة اإليمانية عمى الحقيقة العقمية (‪ )...‬اإليماف ال يككف إال عاقبل‪ ،‬بدءا بعقؿ الفعؿ‬
‫االيماني نفسو‪ ،‬كانتياء بإمكاف أخذ الحقيقة اإليمانية مف الحقيقة العقمية"‪ 1.‬لذا فالفصؿ بيف المناىج النقمية كالمناىج العقمية‬
‫في عمـ الكبلـ ال يخدـ إطبلقا النقؿ أك الديف‪ ،‬فقد يككف مصدره البل دينييف ذاتيـ‪.‬‬

‫‪ -‬كمف أجؿ تحييف المشكبلت التقميدية بما يجعميا أكثر قربا مف ركح العصر نسأؿ؛ ىؿ يمكف أف نعتبر ما يسمى بػ‬
‫"اإلعجاز العممي لمقرآف الكريـ كالسنة النبكية" مناىجا كبلمية معاصرة ؟‬

‫أوال‪ -‬في حقيقة المنيج الكالمي‪:‬‬

‫ىناؾ بعض تعريفات عمـ الكبلـ‪ ،‬إف لـ نقؿ معظميا‪ ،‬تكحي بخصكصيات المنيج المتبع فيو‪ .‬فعندما يقكؿ التكحيدم مثبل بأف‬
‫" عمم الكالم فإنو باب من االعتبار في أصول الدين يدور النظر فيو عمى محض العقل في التحسين والتقبيح‪ "...‬فمف الظاىر أنو‬
‫يشير إلى المنيج القائـ عمى محض العقؿ‪ .‬كفي ىذا تكجو أك خيار منيجي محدد كمدركس‪ .‬أك عندما يقكؿ الغزالي‪" :‬فأنشأ اهلل‬
‫تعالى طائفة المتكممين وحرك دواعييم لنصرة السنة بكالم مرتب‪ ،"...‬فيذا يدؿ عمى المنيج الكبلمي القائـ عمى المقدمات المنطقية‬
‫المدركسة التي تستمزـ لزكـ النكاتج عف المكاضعات‪ .‬كحتى في تسميات عمـ الكبلـ األخرل‪ ،‬نجد أيضا أنيا تستبطف منيجو‪ .‬كىذا‬
‫ظاىر في تقرير التيانكم عندما ذكر التسمية الشارحة لعمـ الكبلـ كىك أنو عمم النظر واالستدالل‪ .‬فيذا تعريؼ لو مف خبلؿ منيجو‪.‬‬
‫أم أنو عمـ لمنظر كالنظر ىنا يحيؿ إلى التفكير العقمي كالتأمؿ المجرد عمى شاكمة الفبلسفة‪ .‬كتعريؼ ابف رشد لمفمسفة يستعمؿ نفس‬
‫المفظة كىي "النظر" حيث قاؿ‪" :‬إف كاف فعؿ التفمسؼ ليس شيئا أكثر مف النظر في المكجكدات كاعتبارىا مف جية داللتيا عمى‬
‫الصانع‪ 2."...‬كأما االستدالؿ‪ ،‬عمى حسب قكؿ التيانكم‪ ،‬فيي كممة منيجية باألساس كالتي تعني تقرير الدليؿ إلثبات المدلكؿ سكاء‬
‫‪3‬‬
‫كيمكف أف‬ ‫كاف ذلؾ مف األثر إلى المؤثر فيسمى استدالال إنيا‪ ،‬أك بالعكس فيسمى استدالال لميا أك مف أحد ألثريف إلى اآلخر"‪.‬‬
‫نجد العديد مف المصطمحات التي تنتمي إلى نفس عائمة االستدالؿ مثؿ البرىاف أك الحجة أك المحاججة‪ .‬فالبرىاف‬

‫‪1‬‬
‫طو عبد الرحمف‪ :‬ثغكر المرابطة – مقاربة ائتمانية لصراعات األمة الحالية‪ ،‬مركز مغارب لمدراسات في االجتماع اإلنساني‪،‬‬
‫الرباط‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2018 ،‬ص ‪.227‬‬

‫‪2‬‬
‫ابف رشد‪ :‬فصؿ المقاؿ كتقرير ما بيف الشريعة كالحكمة مف اتصاؿ‪ ،‬الشركة الكطنية لمنشر كالتكزيع‪ ،‬الجزائر‪ ،1982 ،‬ص ‪.24‬‬
‫‪3‬‬
‫الجرجاني‪ :‬كتاب التعريفات‪ ،‬مكتبة لبناف‪ ،‬بيركت‪ ،1985 ،‬ص ‪.17‬‬

‫‪28‬‬
‫‪1‬‬
‫‪ démonstration‬ىك االنطبلؽ مف مقدمة أك مجمكعة مقدمات يمسمـ بصدقيا مف أجؿ بمكغ نتيجة الزمة عنيا لكزما ضركريا‪.‬‬
‫كضركرة المزكـ ىنا تحيؿ بنا إلى حتمية نفسية تيخضع كؿ العقكؿ السميمة ببل استثناء‪ .‬كأما الحجة ‪ ،l'argument‬في لغة المنطؽ‪،‬‬
‫ىي ذلؾ االستدالؿ الذم لو كجو إثباتي ‪ prouver‬كآخر دحضي‪ ،‬أم عممية دحض ‪ .réfuter‬كالحؽ‪ ،‬كفؽ مبلحظة سبينك از‬
‫الشييرة‪ ،‬أف كؿ كضع ىك رفع ككؿ رفع ىك كضع‪ .‬كمف الحجة تـ تشكيؿ لفظة المحاججة ‪ Argumentation‬التي تعني سمسمة‬
‫مف الحجج التي تنتظـ مف أجؿ الخمكص إلى نتيجة كاحدة‪ ،‬كىذا ما يتطمب الترتيب كالتنظيـ كفؽ قكاعد صارمة‪ 2.‬ككفؽ التقسمات‬
‫المنطقية عند أرسطك‪ ،‬فإف كؿ استدالؿ ينتج مف طبيعة المكضكع ذاتو‪ ،‬فإف كاف حسيا تطب ذلؾ االستقراء الذم يتحدد بكصفو‬
‫"الحكـ عمى كمي لكجكده في أكثر جزئياتو"‪ ،‬كاذا كاف المكضكع نظريا مجردا تطمب ذلؾ االستنباط الذم يقتضي "استخراج المعاني‬
‫‪3‬‬
‫مف النصكص بفرط الذىف كقكة القريحة"‪.‬‬

‫كبما أف مكضكع عمـ الكبلـ نظرم خالص كال يرتبط بأم حاؿ مف األحكاؿ بالعمؿ أك التجريب أك الكاقع المحسكس‪ ،‬فإف منيجو‬
‫يتحدد كفؽ ىذه الخصكصية‪ .‬لكف نظرية كتجرد مكضكع عمـ الكبلـ‪ ،‬الذم ىك العقائد‪ ،‬ال يتطابؽ مع تجريدية العمـ الرياضي مثبل‪،‬‬
‫مما يجعؿ تطبيؽ االستنتاج الصكرم أك المنطقي ال يككف تطبيقا آليا أك حرفيا‪ .‬مع األخذ بعيف االعتبار خصكصية النظر اإلسبلمي‬
‫المسمى بالمناظرة‪ .‬كظاىر جدا أف المناظرة لفظة مبنية مف النظر‪ ،‬أم النظر العقمي باألساس‪ .‬كما أف مفيكـ االستنباط كما تحدد‬
‫عند الجرجا ني‪ ،‬نجده يتكافؽ مع خصكصية مكضكع عمـ الكبلـ‪ ،‬فباعتباره "استخراجا لممعاني مف النصكص بفرط الذىف كقكة‬
‫القريحة"‪ ،‬يدؿ عمى أنو يرتبط بالنصكص‪ ،‬كفي عمـ الكبلـ ليس لنا إال النصكص ككاقعة أكلى كأخيرة‪ .‬فبل كبلـ ببل نصكص‪ ،‬سكاء‬
‫نصكص القرآف أك نصكص الحديث‪.‬‬

‫كينبينا ط و عبد الرحمف إلى أف الطابع الصكرم الخالص لمبرىاف‪ ،‬باعتبارىا منطقي الطبيعة‪ ،‬ال يعفيو مف بعض الخصكصيات‬
‫التداكلية‪ .‬بمعنى أف البرىاف ليس بمعزؿ عف المجتمع المخصكص تاريخيا كجغرافيا كثقافيا‪ .‬يقكؿ‪:‬‬

‫"البرىاف‪ ،‬عمى تجريده كصكريتو كدقتو‪ ،‬يستند إلى أصميف تداكلييف‪:‬‬


‫‪ -1‬اجتماعي‪ :‬عمى خبلؼ االعتقاد السائد بأف المنطؽ البرىاني مف صنع ذات عاقمة متجردة كمستمقة (‪ )...‬ال بد أف‬
‫تستند "الصحة البرىانية" إلى تعاقد أفراد مجتمع عمييا‪ ،‬حتى يقع التصديؽ بالحمكؿ المقترحة كالعمؿ بيا‪( .‬المبادئ‬
‫المنطقية = مكاضعات اجتماعية)‪.‬‬
‫‪ -2‬تجريبي‪ :‬مف اآلراء ال سائدة أف المنطؽ البرىاني عمـ صكرم مفارؽ لمعمكـ التجريبية‪ ،‬كحقائؽ كمية تنطبؽ عمى كؿ‬
‫العقكؿ‪ ،‬كأف لغتو تكفينا اختبلؼ األلسف الطبيعية كالتباسيا كتعقدىا‪ .‬كالصكاب لك راقبنا "البرىاني" في إنشاء أنساقو‬

‫‪1‬‬
‫‪André Lalande: vocabulaire technique et critique de la philosophie, édition P U F- Quadrige, Paris,‬‬
‫‪1ere édition, 2002, p 215.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Ibid, p 78-79.‬‬
‫‪ 3‬الجرجاني‪ :‬كتاب التعريفات‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ص ‪.22-18‬‬

‫‪29‬‬
‫لكجدناه ينتيج سبؿ "التجريبي"؛ فيك أيضا يبلحظ كيفترض كيحقؽ (‪ )...‬كال أدؿ عمى ذلؾ مف أنو يصنع نسقو‬
‫‪1‬‬
‫بالرجكع إلى مكاصفات قكمو"‪.‬‬

‫كىذه الممحكظة ميمة مف ناحية التأكيد عمى أف ما يسمى باآللة المنطقية‪ ،‬كالتي يعتقد البعض بأف المتكممكف نقكليا كطبقكىا‬
‫كما ىي‪ ،‬ليست بالبساطة التي نفيميا‪ .‬بؿ أف المنطؽ مؤسس عمى لغة‪ ،‬كلكؿ مجتمع لغتو‪ ،‬مما يعني أف كمية كعالمية المنطؽ‬
‫المنتكج في ظركؼ مخصكصة دينيا كتاريخيا كلسانيا‪ ،‬ليست كذلؾ‪ .‬فيناؾ عبلقة كطيدة بيف المغة الطبيعية أم المتداكلة في‬
‫المجتمع‪ ،‬كبيف الفكر المنطقي‪ ،‬كىذا ىك المكضكع الذم كرس لو طو عبد الرحمف أطركحتو لمدكتكراه في باريس‪ 2.‬كىذا ما يعني أف‬
‫المنطؽ الكبلمي‪ ،‬ال يمكف بأم حاؿ‪ ،‬أف يككف ىك نفسو المنطؽ اإلغريقي‪ ،‬كسنرل الحقا مختمؼ التقاطعات كالتداخبلت بيف العمـ‬
‫المحمي‪ ،‬الذم ىك عمـ الكبلـ‪ ،‬كالعمـ الكافد الذم ىك عمـ المنطؽ‪ .‬ككيؼ تحدث التداخبلت بيف مكاضيع أصيمة كمناىج منقكلة‪.‬‬

‫تجدر اإلشارة أف منيج المنطؽ‪ ،‬الذم ىك ألة كؿ العمكـ‪ ،‬قد ال تككف انتقمت مباشرة إلى عمماء الكبلـ اإلسبلمي‪ .‬فقبؿ عيد‬
‫الترجمة في بداية القرف الثالث لميجرة‪ ،‬كاف المسممكف قد احتككا بالمثقفيف المسيحييف مف رجاؿ الديف‪ ،‬بخاصة في دمشؽ كالبصرة‪.‬‬
‫لذا فإف احتكاؾ المسمميف بالمسيحييف‪ ،‬الذيف تمرسكا في البلىكت العقمي‪ ،‬يككف قد أكسبيـ تمؾ الطريقة العقمية في النظر إلى‬
‫العقائد‪ .‬يقكؿ فاف ايس‪" :‬اختمفت نبرة الحياة الفكرية في البصرة [نتذكر أف البصرة ىي منشأ االعتزاؿ] عف مثيمتيا السائدة في الككفة‪.‬‬
‫إف ييكدىا كانت ليـ مكانة متكاضعة جدا فييا‪ ،‬أما مسيحيكىا فكانكا أقكياء(‪ )...‬كعمى عكس الييكد فقد كاف عند المسيحييف منيج‬
‫عقبلني متطكر في دراسة البلىكت‪ ،‬فنجد مثبل عمار البصرم النسطكرم [مذىب نصراني] قد استعاف بمنيج أبك اليذيؿ الجدلي‪،‬‬
‫كلذا فإف كتاباتو التي كانت بالعربية قريبة في لغتيا كفي منطقية االستدالؿ بكتابات المتكمميف المسمميف‪ .‬كيذكر كليد بف مسمـ‬
‫السكرم بأف البصرييف كاف يستيكييـ عمـ الكبلـ"‪ 3.‬يخبرنا ىذا النص شيئا ميما‪ ،‬كىك أف األسبقية التاريخية لممسيحييف ال يدؿ أف‬
‫ىناؾ تأثير كاحد مف األقدـ إلى األحدث‪ ،‬بؿ إف المتأخر‪ ،‬بعد أف يستكعب المنيج‪ ،‬قد يؤثر في األكؿ مف خبلؿ أجيالو المتأخرة‪.‬‬
‫كسنرل في محاضرة عكامؿ ظيكر عمـ الكبلـ مثؿ ىذه الحاالت‪ .‬كما يخبرنا بأف الرككف إلى منيج العقؿ في عمـ الكبلـ ليس خيا ار‬
‫مف بيف عدة خيارات‪ ،‬بؿ ىك حتمية منيجية أممتيا اختبلفات العقائد كعدـ االعتراؼ المترسخ في كؿ عقيدة تجاه األخرل‪ .‬فبل‬
‫المسيحي يعترؼ برسالة اإلسبلـ كال المسمميف اعترفكا بأصالة الرسالة المسيحية مف أم تحريؼ‪ .‬كلئف كاف عمـ الكبلـ‪ ،‬مف حيث‬
‫الحقيقة‪ ،‬مسرحا لممكاجية العقدية‪ ،‬سكاء العقائد الفرعية داخؿ عقدية كاحدة‪ ،‬أك بيف مؤسستيف عقديتيف‪ ،‬فإف المناظرة ىي المنيج‪.‬‬

‫‪ 1‬طه عبد الرحمن‪ :‬فً أصول الحوار وتجدٌد علم الكالم‪ ،‬المركز الثقافً العربً‪ ،‬الدار البٌضاء‪ ،‬الطبعة الثانٌة‪ ،2111 ،‬ص ‪-63‬‬
‫‪.64‬‬
‫‪ 2‬طو عبد الرحمف‪ :‬سؤاؿ المنيج – في أفؽ التأسيس ألنمكذج فكرم جديد‪ ،‬جمع كتقديـ رضكاف مرحكـ‪ ،‬المؤسسة العربية لمفكر‬
‫كاإلبداع‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،‬بيركت‪ ،2015 ،‬ص ‪.235‬‬

‫‪3‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬ترجمة‬
‫محي الديف جماؿ بدر كرضا حامد قطب‪ ،‬مراجعة محسف الدمرداش‪ ،‬منشكرات الجمؿ‪ ،‬بيركت – بغداد‪ ،‬الطبعة األكلى‪،2016 ،‬‬
‫ص ‪.17-16‬‬

‫‪31‬‬
‫كبالتالي يمكف تعريؼ عمـ الكبلـ بنبرة منيجية مف خبلؿ القكؿ بأنو "ىك عمـ المناظرة العقدم"‪ 1.‬لكف ما المناظرة ؟ ىؿ المناظرة‬
‫منيجية عممية أـ مجرد فف لمنظر كالجدؿ ؟ ظاىر جدا بأف المناظرة ىي نظر مركب‪ ،‬أم نظر مف أكثر مف كجية كاحدة مما يسمح‬
‫بتكسيع الرؤية الفكرية كقمب المكضكع عمى أكثر مف كجو‪ .‬يقكؿ طو بأف "المناظرة مف النظر في جانبيف متنازعيف لمكصكؿ إلى‬
‫الحقيقة (نظر مزدكج)‪ :‬الحقائؽ الفمسفة المحصمة بالمناظرة أبمغ فائدة مف الحقائؽ الفمسفية المحصمة بالنظر‪" :‬ناظر‪ ،‬تجد" (‪)...‬‬
‫"ناظر‪ ،‬تجد نفسؾ كغيرؾ"‪ 2.‬ىذا ىك الككجيتك الكبلمي المتأصؿ في التراث اإلسبلمي‪ .‬كىك يختمؼ عف ككجيتك الفردانية لمحداثة‬
‫الذم اقترحو ديكارت‪ .‬فمف المعمكـ أنو أسس الحداثة عمى "األنا أفكر"‪ 3،‬كليس عمى "النحف نفكر"‪ ،‬كىذا االنتقاؿ مف غمبة الجماعة‬
‫إلى انبثاؽ الفرد عند ديكارت مبرر مف أكجو عدة‪ ،‬بخاصة بالنظر إلى مسار تاريخ الفكر في األزمنة الكسيطية حيث تـ قمع النظر‬
‫الفردم كالخيار الشخصي‪ .‬كمف المعمكـ أف المناظرة ليس منيجا لعمـ الكبلـ حصرا‪ ،‬بؿ أنو منيج يشمؿ جميع دكائر المنيجية‬
‫العربية اإلسبلمية دكف استثناء‪ 4،‬إذ أف كماؿ الحقيقة مف كثرة المشاركيف في تحصيميا‪ .‬كىذا تجسدا لممنظكر القائؿ بأف العمؿ‬
‫الفردم ال يثمر مثمما يثمر العمؿ الجماعي‪ .‬فحتى المسائؿ المنطقية كانت خاضعة لممناظرة مف أجؿ استخبلص القيمة الحقيقية ليذا‬
‫‪5‬‬
‫كمف المعمكـ أف المناظرة تقتضي الحكارية بالضركرة‪ ،‬فالحكار ىك أساس النظر المزدكج أك‬ ‫العمـ في سياقو اإلغريقي كاإلسبلمي‪.‬‬
‫المركب‪ .‬ثـ يأتي السؤاؿ الميـ‪ :‬ىؿ المناظرة عمـ أـ مجرد فف ؟ ال ينفصؿ ىذا السؤاؿ عف سؤاؿ طرحنا سابقا حكؿ ككف الكبلـ عمما‬
‫عمى حسب تسميتو أـ أنو فنا ذاتيا مرتبط باستعدادات الفرد ؟ إننا نفترض أف الحاجة إلى المناظرة في عمـ الكبلـ‪ ،‬يدؿ عمى أنو ىذا‬
‫المنيج يعترؼ بأف لكؿ فرد كجية نظر كيرل المكضكع مف زاكية ال يقدر الغير عمى كشفو‪ ،‬مما يدؿ عمى أف المناظرة مؤسس‬
‫مفيكميا عمى ا ختبلؼ كجيات النظر الناشئ عف التجارب الشخصية كالتنشئة الفردية كالتككيف الفكرم‪ .‬كلك كانت المناظرة عمما‬
‫مكضكعيا يقتدم بجممة مف المراحؿ كالشركط الخارجية‪ ،‬لكانت كجيات النظر عمى األقؿ متقاربة إف لـ نقؿ متطابقة‪ .‬ففي العمكـ‬
‫الطبيعية نجد مجاؿ المناظرة ضيؽ جدا‪ ،‬عمى أساس أف ىناؾ قضايا مكضكعية يتفؽ عمييا المجتمع العممي‪ ،‬كيبقى ىامش صغير‬
‫لبلختبلؼ‪ ،‬كىك اليامش الذم ال يعصؼ بالمكضكعية‪ .‬في حيف أف عمـ الكبلـ عمـ عقائد‪ ،‬كالعقائد ليست شأنا مكضكعيا أك تجريبيا‬
‫أك كاقعيا مكجكد ىناؾ بالنسبة لمجميع‪ .‬كما ظيكر عمـ الكبلـ إال نتيجة ليذه الخاصية لمعقائد‪ .‬كبالنسبة لئليجي كابف خمدكف‪ ،‬فإف‬
‫الكبلـ فف أك عمى األقؿ عمـ كفف‪ ،‬مما يدؿ عمى امتزاج المكضكعي بالذاتي فيو‪ ،‬كمنيج المناظرة نفسو يفترض أف ىناؾ جانب فني‬
‫ذاتي‪ ،‬ألف "الفف ال يخضع لمقكمات مكضكعية قارة ال تقبؿ التغيير كالتبديؿ مف ممارس ألخر"‪ 6.‬لكننا‪ ،‬يمكف أف نفيـ ذاتية المناظرة‬
‫‪1‬‬
‫طو عبد الرحمف‪ :‬سؤاؿ المنيج – في أفؽ التأسيس ألنمكذج فكرم جديد‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.197‬‬

‫‪2‬‬
‫طو عبد الرحمف‪ :‬فقو الفمسفة ‪ -1‬الفمسفة كالترجمة‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء – بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،1995 ،‬ص‬
‫‪.506-505‬‬

‫‪3‬‬
‫‪René Descartes: Discours de la méthode suivi d'extraits da la dioptrique, des météores, de la vie de‬‬
‫‪Descartes par Baillet, du monde, de l'homme et de lettres, édition GF Flammarion, Paris, 1966, p 60.‬‬
‫‪4‬‬
‫طو عبد الرحمف‪ :‬تجديد المنيج في تقكيـ التراث‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬ص ‪.21-20‬‬

‫‪5‬‬
‫أبك حياف التكحيدم‪ :‬اإلمتاع كالمؤانسة‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مكفـ لمنشر‪ ،‬الجزائر‪ ،1989 ،‬الميمة الثامنة‪ ،‬ص ‪ 153‬ك ما تبلىا‪.‬‬
‫‪ 6‬شكيب بف بديرة الطبمبي‪ :‬مدخؿ مناىجي إلى عمـ الكبلـ‪ ،‬مطبعة دار المتكسط الجديد‪ ،‬طبمبة‪ ،‬تكنس‪ ،2012 ،‬ص ‪.51‬‬

‫‪31‬‬
‫فيما ايجابيا‪ ،‬عمى أساس أنو محاكلة لمتغمب عمى الذاتية‪ .‬فالمناظرة بأكسع قدر مف الناظريف‪ ،‬ىك الكسيمة الكحيدة لمتكفيؽ بيف‬
‫كجيات النظر‪ ،‬كانتقاء النظرة األكثر نضجا كمكضكعية كتحقيقا لئلجماع في الرأم‪ .‬بيذا تككف المناظرة طريقا لتحقيؽ المكضكعية‬
‫في أكثر صكرىا الكاضحة كالمقبكلة‪.‬‬

‫ال يستقيـ الحديث عف منيج الكبلـ دكف مقاربتو بمناىج عمكـ قريبة مف حيث البنية كالمكضكع كاليدؼ‪ .‬ما ىدؼ عمـ الكبلـ ؟‬
‫ىك تحصيؿ اقناع المناظر أك المحاكر أك حتى المنحرؼ أك الخصـ‪ .‬كيؼ يحصؿ ذلؾ ؟ عف طريؽ اإلقناع‪ ،‬لكف ما ىي شركطو ؟‬
‫ىنا تأتي المقابمة بيف الفمسفة كالكبلـ عمى أساس مف تقاطع بينيما كىك استعماؿ العقؿ كالمنطؽ كالبرىاف‪ .‬فما الفرؽ بيف المنيجيف ؟‬

‫يبدك أف البرىاف ىك منيج الفمسفة كالمنطؽ الذم ىك كسيمتو‪ .‬كفي نفس السياؽ فإف المتكمـ يعمؿ قدر المستطاع لمبرىنة عمى‬
‫عقائده كفساد عقائد الغير‪ .‬فكؿ اثبات نفي ككؿ نفي اثبات مثمما قاؿ سبينكزا‪ ،‬فيما كجييف لطريقة كاحدة‪ .‬إف البرىاف الفمسفي جذرم‬
‫يعصؼ بكؿ ما لـ يخضع لمنظر‪ ،‬كيسقط العقائد الكاحدة تمكل األخرل حتى يتكقؼ عند قضية كاضحة متميزة بذاتيا ال تحتاج إلى‬
‫تكضيح‪ .‬ىذه ىي الخط كة األكلى التي اقترحيا ديكارت في مقاؿ المنيج الفمسفي‪ ،‬حيث أكد عمى ضركرة تجنب األحكاـ المسبقة أك‬
‫السابقة عمى النظر ‪ la prévention‬كتجنب كؿ ما يمكف أف يككف تيك ار فكريا‪ .‬كما التيكر ‪ la précipitation‬ىنا إال تقبؿ أمكر‬
‫عمى أنيا حؽ بدكف تحقؽ كفحص كتعقؿ‪ 1.‬كلئف تساءلنا ىنا‪ ،‬ما ىي القضايا التي أراد ديكارت فحصيا مف أجؿ التحقؽ منيا ؟‬
‫يبدك أنيا القضايا اإليمانية حصرا‪ ،‬ألنيا مؤسسة عمى التسميـ ال التفكير‪ .‬كاف فكرنا فييا فإنو تفكير غير جذرم كال يدفع بالسؤاؿ إلى‬
‫أقصاه أك إلى العمؽ المطمكب‪ .‬كىك يقكليا صراحة في القاع دة الثالثة مف كتيب القكاعد المكجية لمفكر‪ ،‬إذ أف االعتقاد بالغيبيات‪،‬‬
‫‪2‬‬
‫حسبو طبعا‪ ،‬ليس صاد ار عف فكر ‪ acte de l'intelligence‬بؿ عف ارادة ‪ acte de la volonté‬كقناعة سابقة لكؿ تفكير‪.‬‬
‫كىنا يظير الفرؽ بيف منطؽ الفيمسكؼ كمنطؽ المتكمـ‪ ،‬عمى أساس أف "منطؽ الفبلسفة ىك البرىاف‪ ،‬فبل مسممات يقبمكنيا إال إذا‬
‫‪3‬‬
‫قبميا العقؿ الفمسفي‪ ،‬في حيف أف مسممات المتكمميف كالفقياء كعامة الناس ىي عقائد دينية ايمانية‪ ،‬ال يفحصكنيا بؿ يبنكف عمييا"‪.‬‬
‫كمف ىنا يظير أيضا أف برىانية المتكمـ محدكد بحدكد ال يخترقيا‪ ،‬ألنو يفترض صدؽ عقيدتو كيؤسس البرىاف عمى ذلؾ‪ ،‬أك أنو‬
‫بصكرة معاكسة يفترض خطأ عقيدة المخالؼ كيبدأ في البرىنة عمى ذلؾ‪ .‬ىنا يطرح سؤاؿ قيمة البرىاف الكبلمي ؟ ىؿ ىك برىاف‬
‫حصؿ اليقيف ؟ لكف ما اليقيف في األصؿ ؟ يعرفو الفارابي‪ ،‬في كتاب البرىاف باعتباره الحالة التي "نعتقد في الصادؽ‬
‫كامؿ ؟ ىؿ يي ٌ‬
‫الذم ح صؿ التصديؽ بو أنو ال يمكف أصبل أف يككف كجكد ما نعتقده في ذلؾ األمر بخبلؼ ما نعتقده (‪ )...‬كما ليس بيقيف‪ ،‬فيك‬
‫أف نعتقد في ما حصؿ التصديؽ بو أنو يمكف أك ال يمكف أف يككف في كجكده بخبلؼ ما يعتقد فيو"‪ 4.‬ظاىر جدا أف اليقيف ىنا‪ ،‬ىك‬
‫ىك الذم يستبعد أم احتماؿ‪ ،‬إنو ال يط الب بالصدؽ المطمؽ فقط‪ ،‬بؿ يطالب بنفي حالة البل أدرية كالنسبية‪ .‬كنقصد ىنا بالبل أدرية‬
‫عدـ التأكيد أك النفي التي ىي مرتبة كسطى بيف التكذيب كالتصديؽ‪ .‬ككـ مف الفبلسفة أدينكا بسبب ال أدريتيـ ! كيقدـ لنا الغزالي‬

‫‪1‬‬
‫‪René Descartes: Discours de la méthode, Op.cit, p 47.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪René Descartes: Règles pour da direction de l'esprit, traduction Jacques Brunschwig, édition‬‬
‫‪classique de la philosophie, p 25.‬‬
‫‪3‬‬
‫عمي أكمميؿ‪ :‬أفكار مياجرة‪ ،‬مركز دراسات الكحدة العربية‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2013 ،‬ص ‪.173‬‬

‫‪4‬‬
‫الفارابي‪ :‬كتاب البرىاف‪ ،‬مكفو لمنشر‪ ،‬الجزائر‪ ،1993 ،‬ص ‪.52‬‬

‫‪32‬‬
‫تعريفا لميقيف أك كما يسميو العمـ اليقيني يمثؿ أعمى درجات التصديؽ التي تأخذ باإلنساف إلى مرتبة ممتمئة بالصدؽ المطمؽ‪" :‬ظير‬
‫لي أف العمـ اليقيني ىك الذم ينكشؼ فيو المعمكـ انكشافا ال يبقى معو ريب‪ ،‬كال يقاربو إمكاف الغمط كالكىـ‪ ،‬كال يتسع القمب لتقدير‬
‫ذلؾ‪ ،‬بؿ ألماف مف الخطأ ينبغي أف يككف مقارنا لميقيف مقارنة لك تحدل بإظيار بطبلنو مثبل مف يقمب الحجر ذىبا كالعصا ثعبانا‪،‬‬
‫لـ يكرث ذلؾ شكا كانكارا‪ .‬فإني إذا عممت أف العشرة أكثر مف الثبلثة؛ فمك قاؿ لي قائؿ‪ :‬ال‪ ،‬بؿ الثبلثة أكبر مف العشرة‪ ،‬بدليؿ أني‬
‫أقمب ىذه العصا ثعبانا‪ ،‬كقمبيا‪ ،‬كشاىدت ذلؾ منو‪ ،‬لـ أشؾ بسببو في معرفتي‪ ،‬كلـ يحصؿ لي منو إال التعجب مف كيفية قدرتو عميو‬
‫‪1‬‬
‫يتحكؿ اليقيف ىنا إلى عقيدة ثابتة‪ ،‬كلك تغيرت الكقائع بصكرة مفاجئة كغريبة كمذىمة‪ .‬أم أف الثبات‬ ‫! فأما الشؾ فيما عممتو‪ ،‬فبل"‪.‬‬
‫ىك ميزة المعرفة اليقينية في ظؿ التحكالت التي يشيدىا الكاقع‪ .‬كلك أسقطنا ىذا التعريؼ عمى سياقاتنا الحالية‪ ،‬لكاف العمـ اليقيني ىك‬
‫العمـ الذم يرفض اغراءات التحكالت العممية التي تجعؿ المستحيؿ ممكنا كالمتعذر كاقعا‪ .‬كىنا نممس ضربا مف الركح األفبلطكنية في‬
‫مقابؿ الفمسفة الييراقميطية التي تيطٌبع التغير كتعتبر‪ .‬بؿ أننا اليكـ نعتقد باليقيف الذم ىك في حالة صيركرة دائمة‪ ،‬فأصبح عنكاف‬
‫الثبات ىك التغير ذاتو‪ .‬كمف المعمكـ أف التعريؼ المألكؼ لميقيف أك الحقيقة ىك المطابقة؛ أم "مطابقة العقؿ معقكلو‪ ،‬كسككف الفيـ‬
‫‪2‬‬
‫كبالتالي فاليقيف‪ ،‬مف الناحية النفسية‪" ،‬حالة فكرية أك حتى ركحية إزاء الحكـ‬ ‫مع ثبكت القضية ككضكح حقيقة الشيء في النفس"‪.‬‬
‫الذم يعتبر صحيحا بدكف أم شؾ قد يختمط بو"‪ 3.‬في حيف أف الحقيقة في الفيـ الحالي‪ ،‬خاصة في السياقات التداكلية البراغماطيقية‬
‫األكثر انتشا ار اليكـ‪ ،‬فيي اإلنتاج كاالختراع كالتنمية‪ ،‬بدؿ المطابقة كالمحافظة‪ .‬كبالتالي فالحقيقة ىنا ال تسبؽ الكجكد الفكرم‪ ،‬بؿ ىي‬
‫نتيجة لو‪ ،‬فالفكر ىك مف يكلد الحقيقة كليست الحقيقة ىي مف تكلد الفكر‪ 4.‬كىذا ما يجعؿ التعارض بيف المفيكـ الديني لمحقيقة‬
‫كالمفيكـ العممي المعاصر ظاىر جدا‪ .‬مما يجعؿ مفيكـ اليقيف قابؿ لممراجعة‪ ،‬فيغدك اليقيف سائبل‪ ،‬بما أف الحقيقة تنتج كؿ صباح‪.‬‬
‫ىذا ما ينتج مفيكـ حركي كنشط لميقيف عمى عكس التصكر الثبكتي الذم سيطر عمى تاريخ الفكر القديـ‪.‬‬

‫الحقيقة أف المطالبة بالبرىنة عمى كؿ قضية نستعمميا في المناظرة أك المحاكرة يؤدم إلى تجميد التفكير‪ .‬فإذا طالبنا المحاكر‬
‫بصدؽ الدليؿ ثـ صدؽ دليؿ الدليؿ‪...‬الخ يؤدم إلى حصكؿ تفكير أك برىنة استرجاعية ‪ rétrospective‬حتى ننسى البرىاف‬
‫األصمي الذم نريد تحصيمو‪ .‬لذا كضع عمماء الرياضيات كىـ في النياية عمماء برىاف‪ ،‬البداىة التي تعتبر القضية التي نبرىف بيا‬
‫كال تحتاج إلى برىنة‪ .‬لكف في عمـ الكبلـ‪ ،‬كما في الفمسفة ال نمتمؾ بديييات تحقؽ اإلجماع الفكرم‪ .‬فما ىك بدييي بالنسبة لمفيمسكؼ‬
‫المثالي ىك مجرد مسممة لمفيمسكؼ الكاقعي‪ .‬كما ىك بدييي بالنسبة لممسمـ قد يككف مجرد فرضية بالنسبة لممجكسي‪ .‬لذا فميس ىناؾ‬

‫‪1‬‬
‫أبك حامد الغزالي‪ :‬المنقذ مف الضبلؿ كالمكصؿ إلى ذم العزة كالجبلؿ‪ ،‬تحقيؽ جميؿ صميبا ككامؿ عياد‪ ،‬دار األندلس لمطباعة‬
‫كالنشر كالتكزيع‪ ،‬بيركت‪ ،‬ص ‪.82‬‬
‫‪2‬‬
‫أبك حياف التكحيدم‪ :‬المقابسات‪ ،‬تحقيؽ كتعميؽ حسف السندكبي‪ ،‬دار المعارؼ لمطباعة كالنشر كالتكزيع‪ ،‬سكسة‪ ،‬الطبعة األكلى‪،‬‬
‫‪ ،1991‬ص ‪.204-203‬‬
‫‪3‬‬
‫‪André Lalande: vocabulaire technique et critique de la philosophie, Op.cit, p 134.‬‬
‫‪ 4‬كلياـ جيمس‪ :‬معنى الحقيقة‪ ،‬ترجمة أحمد االنصارم‪ ،‬المشركع القكمي لمترجمة‪ ،‬القاىرة‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2008 ،‬ص ‪.173‬‬

‫‪33‬‬
‫بديييات في الفمسفة‪ 1،‬مثمما ليس ىناؾ بديييات في عمـ الكبلـ‪ .‬لذا فإف كؿ عقيدة ليا قضايا ال يمكف أف تضعيا مكضع تفكير أك‬
‫مسائمة اك تشكيؾ‪ ،‬كاال انيار البنياف العقدم مف أساسو‪ .‬كىنا بالضبط يقع الخبلؼ الكبلمي‪ ،‬بحيث يرفض الخضـ المخالؼ‬
‫االعتراؼ بما نعتبره نحف قضية كاضحة تماـ الكضكح‪ .‬لكف ما ىك مصدر كضكح مسألة الخمكد بالنسبة لنا كمسمميف كعدـ كضكحو‬
‫بالنسبة لممجكس مثبل ؟ ىؿ ىي فطرة ؟ أـ مبادئ العقؿ ؟ أـ األلفة ؟ ما ىك الشيء الذم يجعمنا نؤسس ايمانا عقميا غير مقصكر‬
‫عمى قكة التنشئة االجتماعية كالتاريخية ؟ ىذا ىك المشكؿ الذم كاف يؤرؽ الغزالي عندما كاف يقارف نفسو بالييكد كالنصارل‬
‫كالمجكس‪...‬الخ‪ .‬فالتقميد في االعتقادات ال يكرث أم قكة برىانية‪ .‬ما ىي الفطرة األصمية ؟‪ 2‬األكيد أنيا ليست ما تمقيناه في الصبا‪،‬‬
‫كاال تساكت حجة المسمـ مع حجة النصراني مثبل‪ .‬إذف ال يبقى إال القاسـ المشترؾ بيف جميع الناس‪ ،‬ألـ يقؿ ديكارت أف العقؿ ىك‬
‫أعدؿ األشياء قسمة بيف البشر في فاتحة مقاؿ الطريقة !‪ 3‬كىك يقصد بذلؾ حسف استعماؿ العقؿ‪.‬‬

‫في كؿ العمكـ نؤسس البرىاف عمى مبادئ نتفؽ عمييا‪ ،‬كفي حالة غيابيا يتعذر السير إلى األماـ‪ .‬لكف في العمكـ الدينية مثؿ‬
‫عمـ الكبلـ الذم ىك عمـ العقائد‪ ،‬يتعذر تحقيؽ ىذا التكافؽ‪ .‬كالمطالبة بتعميؿ كؿ شيء يؤدم إلى تيديـ العقائد ببل استثناء‪" :‬المطالبة‬
‫بالتعميؿ كاألساس النيائي لكؿ أطركحة ستقصي كؿ األعماؿ التأممية كالشعرية مف الفمسفة‪ .‬ما أف بدأنا في أخذ مطمب الصرامة‬
‫العممية بجدية حتى تكصمنا إلى إلغاء كؿ الميتافيزيقيا مف الفمسفة‪ ،‬طالما ال يمكف تعميؿ أطركحاتيا عقبلنيا‪ .‬يجب أف يككف إعطاء‬
‫أساس عقمي لكؿ أطركحة عممية أم ار ممكنا"‪ 4.‬ىذا المنطؽ الكضعي‪ ،‬ال يمكف أف يتطابؽ مع المنطؽ الكبلمي‪ ،‬ألننا في الكبلـ‬
‫نؤسس عمى قكاعد ال نبحث في مصداقيتيا‪.‬‬

‫ظاىر جدا أف أساس عدـ اإلتفاؽ في العقائد اإليمانية ىك التنشئة االجتماعية‪ .‬لذا فإف الدليؿ المنطقي‪ ،‬ىك الذم يعمؿ قدر‬
‫المستطاع‪ ،‬لتجاكز ىذه االختبلفات إلى حيز يحقؽ أكبر نسبة مف اجماع العقكؿ‪ .‬كعمى الرغـ مف أف األمر ليس بالييف‪ ،‬إال أنو‬
‫ىناؾ قكاسـ مشتركة بيف العقكؿ البشرية‪ .‬كاال تعذر أم تكاصؿ عممي‪ ،‬لكننا اليكـ‪ ،‬نبلحظ تكافؽ عممي بيف عمماء ينتمكف إلى‬
‫تنشيئات اجتماعية مختمفة كقد تككف متنافرة‪ .‬كىنا تظير ميمة عمـ المنطؽ في أنو يعمؿ عمى أف "يرتب المعنى ترتيبا يؤدم إلى‬
‫الحؽ المعترؼ بو مف غير عادة سابقة"‪ 5.‬ككأف المجتمع العممي أك المنطقي يؤسس لقاعدة مفيكمية جديدة بمعزؿ عف كؿ‬
‫المكتسبات التقميدية التي تفرؽ أكثر مما تكحد‪ .‬لذا فكؿ برىاف ىك منطؽ اصطناعي ال طبيعي‪ .‬لكف ما الفرؽ بيف الحجاج كالبرىاف‬
‫؟‬

‫‪1‬‬
‫ككلينجككد‪ :‬مقاؿ في المنيج الفمسفي‪ ،‬ترجمة فاطمة اسماعيؿ‪ ،‬المشركع القكمي لمترجمة‪ ،‬القاىرة‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2001 ،‬ص‬
‫‪.162‬‬

‫‪2‬‬
‫أبك حامد الغزالي‪ :‬المنقذ مف الضبلؿ كالمكصؿ إلى ذم العزة كالجبلؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.81‬‬
‫‪3‬‬
‫‪René Descartes: Discours de la méthode, Op.cit, p 33.‬‬
‫‪4‬‬
‫ركدكلؼ كارناب‪ :‬البناء المنطقي لمعالـ كالمسائؿ الزائفة في الفمسفة‪ ،‬ترجمة يكسؼ تيبس‪ ،‬المنظمة العربية لمترجمة‪ ،‬بيركت‪،‬‬
‫الطبعة األكلى‪ ،2011 ،‬ص ‪.29‬‬

‫‪5‬‬
‫أبك حياف التكحيدم‪ :‬المقابسات‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.63‬‬

‫‪34‬‬
‫ف ي تعريفات عمـ الكبلـ نبلحظ كركد كممة "الحجاج" عند ابف خمدكف كاإليجي‪ ،‬مما يجعمو لفظ متداكؿ كمحمي‪ .‬كبالفعؿ‪ ،‬فإف‬
‫طو عبد الرحمف يجعمو تابعا لممجاؿ التداكلي‪ ،‬إذ ىك برىاف طبيعي كليس صناعي‪ .‬يقكؿ في سياؽ التمييز بيف البرىاف الطبيعي‬
‫كالبرىاف الصناعي‪:‬‬

‫"الحجاج ىك فعالية تداكلية جدلية‪ ،‬فيك تداكلي ألف طابعو الفكرم مقامي كاجتماعي‪ ،‬إذ يأخذ بعيف االعتبار مقتضيات‬
‫الحاؿ مف معارؼ مشتركة كمطالب إخبارية كتكجييات ظرفية‪ ،‬كييدؼ إلى االشتراؾ جماعيا في انشاء معرفة عممية‪،‬‬
‫إنشاء مكجيا بقدر الحاجة‪ ،‬كىك أيضا جدلي ألف ىدفو اقناعي قائـ بمكغو عمى التزاـ صكر استداللية أكسع كأغنى مف‬
‫‪1‬‬
‫البيانات البرىانية الضيقة"‪.‬‬

‫المحصمة مف فقو طو‪ ،‬أف الخطاب الطبيعي الذم يتشكؿ في المجاؿ التداكلي العامي ىك استدالؿ حجاجي‪ ،‬في حيف أف‬
‫البرىاف لغة غير طبيعية‪ ،‬أم صناعة مف خبلؿ رمكز يبدعيا مجتمعا عمميا معيف‪ ،‬كالعمماء كالمناطقة‪ .‬كعمـ الكبلـ‪ ،‬في المرحمة‬
‫التي لـ تحكؿ فييا إلى عمـ خاص كقبؿ أف ينشأ لغتو المتخصصة‪ ،‬بعد حركة الترجمة خاصة‪ ،‬كاف دفاعا طبيعيا عف العقائد‬
‫باستعماؿ الحجاج كليس البرىاف‪" .‬فحقيقة االستدالؿ في الخطاب الطبيعي أف يككف حجاجيا ال برىانيا صناعيا"‪ 2.‬لكف ما المحصكؿ‬
‫مف ىذا التمييز ؟ أكيد أف الحجاج ىنا ال يصؿ إلى يقيف يمزـ كؿ العقكؿ‪ ،‬بؿ فقط يمزـ العقكؿ التي ليا نفس المجاؿ التداكلي‪ ،‬سكاء‬
‫داخؿ العقيدة الكاحدة أك بيف العقائد المتنافسة‪ .‬أم أف الحجة الكبلمية ىنا ال يمكف أف تككف عالمية‪ ،‬ألنيا تنطمؽ مف مجاؿ تداكلي‬
‫مخصكص كيسمـ بقضايا قد ال يسمـ بيا الجميع‪ .‬يتحكؿ الحجاج ىنا إلى مجرد جدؿ‪ ،‬كقد الحظ ابف رشد‪ ،‬في تمخيص الخطابة‬
‫ألرسطك‪ ،‬بأف الجدؿ الكبلمي‪ ،‬أم الذم يطبقو عمماء الكبلـ في حجاجيـ عف العقائد اإليمانية‪ ،‬ال يكصؿ إلى اليقيف كما حددنا‬
‫خصائصو أعبله‪ ،‬بؿ أقصى ما يمكف أف يبمغو ىك مقاربة اليقيف‪ 3.‬ألف "األمكر النظرية ال يمكف التصديؽ بيا ليـ (أم الجميكر) إال‬
‫بالطرؽ المشيكرة (‪ )...‬أم الخطابة كالشعر"‪ 4.‬كنحف نعمـ أف الشعر كفؽ أرسطك ذاتو ال يحدثنا عما ىك مكجكد‪ ،‬بؿ عما يجب أف‬
‫يككف‪ ،‬فيك مثالي أعمى مف الكاقع‪ .‬أما الخطابة كفؽ التعريؼ ىي القدرة عمى اقناع المستمع أك الخصـ كلك بغير حؽ‪" .‬فيي القدرة‬
‫عمى النظر في كؿ ما يكصؿ إلى اإلقناع في أية مسألة مف المسائؿ"‪ 1.‬كالخطابة ليست بمعزؿ عف الجدؿ‪ ،‬فإما أنيا فرع منو أك أنيا‬
‫أنيا كسيمة لو‪ .‬كعند ابف رشد‪ ،‬الذم لـ ينحرؼ عمى مألكؼ أرسطك‪ ،‬ىناؾ ثبلثة مراتب مف الناس تستمزـ ثبلثة مراتب مف البرىنة‪،‬‬
‫كالتي تتطابؽ مع ثبلثة مراتب مف التأكيؿ‪ .‬يقكؿ‪ :‬الناس في الشريعة عمى ثبلثة أصناؼ‪ :‬صنؼ ليس ىك مف أىؿ التأكيؿ أصبل كىـ‬

‫‪1‬‬
‫طو عبد الرحمف‪ :‬في أصكؿ الحكار كتجديد عمـ الكبلـ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.65‬‬

‫‪2‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬الصفحة نفسيا‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫عمي بف مخمكؼ‪ :‬لماذا نق أر الفبلسفة العرب ؟ ترجمة أنكر مغيث‪ ،‬آفاؽ لمنشر التكزيع‪ ،‬القاىرة‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2018 ،‬ص‬
‫‪.103‬‬

‫‪4‬‬
‫ابف رشد‪ :‬تمخيص كتاب أرسطكطاليس في الجدؿ‪ ،‬تحقيؽ محمد سميـ سالـ‪ ،‬الييئة المصرية العامة لمكتاب‪ ،‬القاىرة‪ ،1980 ،‬ص‬
‫‪.8‬‬

‫‪35‬‬
‫الخطابيكف الذيف ىـ الجميكر الغالب (‪ )...‬كصنؼ مف أىؿ التأكيؿ الجدلي (‪ )...‬كصنؼ ىك مف أىؿ التأكيؿ اليقيني كىؤالء ىـ‬
‫البرىانيكف بالطبع كالصناعة أعني صناعة الحكمة"‪ 2.‬كىذا التقسـ ال ينفصؿ عف المسألة الكبرل في الشرع كىي انقسامو إلى ظاىر‬
‫كباطف‪ ،‬فميس الكؿ يفيـ سر العقائد كخبايا األحكاـ الدينية الكبرل‪.‬‬

‫إف استعماؿ عمـ الكبلـ الحجاج كالجدؿ لمدفاع كالرد كاإلفحاـ‪ ،‬يجعؿ المتكمميف يعممكف قدر اإلمكاف إلثبات عقائدىـ ميما‬
‫كانت طريقة الجدؿ‪ .‬فقدسية الميمة تدفعيـ إلى استعماؿ أم كسيمة برىانية ميما كاف مستكاىا العقمي ضعيفا أك بنيانيا المنطقي‬
‫متيافتا‪ .‬ف الجدؿ مباحث مقصكد بيا إيجاد الحجة عمى الخصـ مف حيث أال يقكل كمف حيث ال يقدر أف يدفع"‪ 3.‬كبما أف مستكل‬
‫المخالفيف في العقائد مختمؼ‪ ،‬فقد يككف مستكل الجدؿ خطابي أك عاطفي تأثيرم أكثر مما ىك منطقي كعقمي بالمطمؽ‪.‬‬

‫كىنا يتدخؿ نص الفارابي الذم يعتبر مف أكثر النصكص اثارة لمجدؿ في مسألة منيج الكبلـ‪ .‬ألنو كشؼ عف الكجو الخفي‬
‫لطريقتيـ‪ .‬فقد أقر أف البعض مف المتكمميف‪ ،‬كحينما يكشفكف بأف حججيـ العقمية قد تأتي النتيجة المرجكة‪ ،‬كىي الدفاع عف العقائد‬
‫التي كضعيا صاحب الممة‪ ،‬ف قد يمجأكف إلى طرؽ غير عقمية تماما‪ .‬يقكؿ‪" :‬آخركف مف عمماء الكبلـ‪ ،‬لما أركا أف األقاكيؿ التي‬
‫يأتكف بيا في نصرة أمثاؿ ىذه األشياء (الممة) ليست كافية في أف تصح بيا تمؾ األشياء صحة تامة حتى يككف سككت خصميـ‬
‫لصحتيا عندىـ ال لعجزه عف مقاكمتيـ فييا بالقكؿ‪ ،‬كاضطركا عند ذلؾ إلى أف يستعممكا معو األشياء التي تمجئو إلى أف يسكت عف‬
‫مقكلتيـ إما خجبل كحص ار أك خكفا مف مكركه ينالو"‪ 4.‬أم يستعممكف التيديد كانزاؿ األذل بالخصـ مف أجؿ دفعو إلى السككت‬
‫كالقبكؿ‪ .‬كالحؽ أف مثؿ ىذه الطرؽ ليست بالغريبة حتى في زمننا ىذا‪ ،‬إذ نجد الكثير مف رجاؿ الديف‪ ،‬كلك أنيـ ال يعتبركف متكمميف‪،‬‬
‫بؿ فقياء أك متصكفيف أك محدثيف‪ ،‬يمجؤكف إلى تيديد كؿ مف يخالؼ العقائد الراسخة‪ ،‬كمثالنا في الجزائر ىي قضية الكتاب‬
‫الصحفي كماؿ داكد الذم أيفتي في حقو طمب اإلعداـ إلسكاتو‪ .‬كالمثاؿ األكثر شيرة ىك قضية سمماف رشدم (كلد سنة ‪،1947‬‬
‫عمره اآلف ‪ 73‬سنة)‪ ،‬الكاتب اليندم اإلنجميزم بعد اصدار نصو "اآليات شيطانية"‪ ،‬في تسعينيات القرف الماضي (‪ ،)1989‬حيث‬
‫أفتى الخميني بإىدار دمو مقابؿ مبمغ معتبر‪ 5.‬كقد أثارت ىذه القضية ردكد أفعاؿ دكلية حادة كمتباينة‪ ،‬كساؿ الكثير مف المداد مف‬

‫‪1‬‬
‫أرسطكطاليس‪ :‬الخطابة‪ ،‬ترجمة ابراىيـ سبلمة‪ ،‬مكتبة األنجمكمصرية‪ ،‬القاىرة‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،1953 ،‬ص ‪.84‬‬
‫‪2‬‬
‫ابف رشد‪ :‬فصؿ المقاؿ كتقرير ما بيف الشريعة كالحكمة مف االتصاؿ‪ ،‬الشركة الكطنية لمنشر كالتكزيع‪ ،‬الجزائر‪ ،1982 ،‬ص ‪.56‬‬
‫‪3‬‬
‫أبك حياف التكحيدم‪ :‬المقابسات‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.202‬‬
‫‪4‬‬
‫أبكا نصر الفارابي‪ :‬إحصاء العمكـ‪ ،‬تقديـ كشرح كتبكيب عمى بكممحـ‪ ،‬دار كمكتبة اليبلؿ لمطباعة كالنشر‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪،‬‬
‫‪ ،1996‬ص ‪.92‬‬

‫‪5‬‬
‫لمتكسع في ىذه المسألة يمكف مراجعة الكتب التالية‪:‬‬
‫‪ -‬طبلؿ أسد‪ :‬جينالكجيا الديف – الضبط كأسباب القكة في المسيحية كاإلسبلـ‪ ،‬ترجمة محمد عصفكر‪ ،‬دار المدار اإلسبلمي‪،‬‬
‫بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2017 ،‬ص ص ‪.374-341 – 299‬‬

‫‪ -‬داريكش شايغاف‪ :‬أكىاـ اليكية‪ ،‬ترجمة محمد عمي مقمد‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،1993 ،‬ص ‪.143‬‬

‫‪ -‬نصر حامد أبك زيد‪ :‬نقد الخطاب الديني‪ ،‬سينا لمنشر‪ ،‬القاىرة‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،1994 ،‬ص ‪.73‬‬

‫‪36‬‬
‫أجميا‪ ،‬بيف مؤيد كم عارض‪ ،‬بيف مف دافع عف حرمة العقائد اإلسبلمية كمف دافع عمى حرية التعبير‪ ،‬بؿ أصبحت قضية كطنية في‬
‫انجمت ار كقتذاؾ‪ .‬ال ييمنا القيمة الفنية لمركاية أك المكاقؼ الكاردة فييا كالمسيئة لقدسية الرسكؿ الكريـ كال مكقؼ انجمت ار أك الجميكرية‬
‫اإليرانية التي أصدرت قرار القتؿ ‪ ،‬بؿ ما ييمنا ىنا أننا أماـ مثاؿ لمدفاع عف الديف بالتيديد كما أظيره الفارابي‪ ،‬كلعؿ معاصرتنا‬
‫لمثؿ ىذه الطرؽ‪ ،‬يجعمنا نصدقو فيما ذكره بعيدا عف كؿ تيمة بالتيكيؿ أك تشكيو عمماء الكبلـ‪ .‬كيكاصؿ الفارابي تفصيؿ منيج‬
‫عمماء الكبلـ‪:‬‬

‫"كآخركف (ىناؾ طرؽ كثيرة في الدفاع عف الممة) لما كانت ممتيـ عند أنفسيـ صحيحة ال يشككف في صحتيا‪ ،‬أركا أف‬
‫ينصركىا عند غيرىـ كيحسنكىا كيزيمكا الشبية منيا‪ ،‬بأف يدفعكا خصكميـ عنيا بأم شيء اتفؽ‪ .‬كلـ يبالكا بأف يستعممكا‬
‫الكذب كالمغالطة كالبيت كالمكابرة‪ ،‬ألنيـ أركا أف مف يخالؼ ممتيـ أحد رجميف‪:‬‬
‫‪ -1‬إما عدك – كالكذب كالمغالطة جائز أف يستعمؿ في دفعو كفي غمبتو‪.‬‬
‫‪ -2‬كاما ليس بعدك – كلكف جيؿ حظ نفسو مف ىذه الممة لضعؼ عقمو كتمييزه‪ .‬كجائز أف يحمؿ اإلنساف عمى حظ نفسو‬
‫‪1‬‬
‫بالكذب كالمغالطة كما فعؿ ذلؾ بالنساء كالصبياف"‪.‬‬

‫كيكشؼ التكحيدم‪ ،‬الذم عاش في القرف العاشر ببغداد‪ ،‬كالذم لـ يكف منتميا بالمعنى المذىبي‪ ،‬سكاء فقييا أك كبلميا بقدر ما‬
‫كاف أديبا كفيمسكفا‪ ،‬أف منيج المتكمـ ىك رد األطركحة باألطركحة‪ ،‬كمقابمة المسألة بالمسألة‪ ،‬كقد يككف ىذا الرد كالمقابمة معقكليف‬
‫تماما‪ ،‬كقد ي ككنا ببل أم مسكغ عقمي‪ .‬كقد ينزؿ المنيج إلى مستكل المغالطة كالتدليس‪ ،‬ألف اسكات الخصـ ىك اليدؼ‪ ،‬أما الكسائؿ‬
‫فأم منيا يحقؽ ذلؾ‪ ،‬فيي مقبكلة‪ .‬يقكؿ‪" :‬قاؿ أبك سميماف (المنطقي)‪ :‬طريقتيـ (أم المتكمميف) مؤسسة عمى مكايؿ المفظ بالمفظ‪،‬‬
‫كمكازنة لشيء بالشيء إما بشيادة مف العقؿ مدخكلة‪ ،‬كاما بغير شيادة منو البتة‪ .‬كاالعتماد عمى الجدؿ‪ ،‬كعمى ما يسبؽ إلى الحس‬
‫أك يحكـ بو العياف‪ ،‬أك عمى ما ينسج بو الخاطر المركب مف الحس كالكىـ كالتخيؿ مع اإللؼ كالعادة كالمنشأ (‪ )...‬ككؿ ذلؾ يتعمؽ‬
‫بالمغالطة كالتدافع كاسكات الخصـ بما اتفؽ‪ ،‬كاتماـ الذم ال محصكؿ فيو كال مرجكع لو‪ ،‬مع بكادر ال تميؽ بالعمـ‪ ،‬كمع سكء أدب‬
‫‪2‬‬
‫كثير؛ نعـ كمع قمة تألو‪ ،‬كسكء ديانة‪ ،‬كفساد دخمة‪ ،‬كرفض الكرع بالجممة"‪.‬‬

‫يبدك أف الفبلسفة قد أظيركا الجانب السمبي لمنيج عمـ الكبلـ‪ ،‬كحتى الغزالي‪ ،‬الذم لـ يكف فيمسكفا بؿ متصكفا‪ ،‬قد أعاب‬
‫م ناىجيـ باعتبارىا مأخكذة رأسا عف الخصكـ‪ ،‬أم اتباع منياج عمـ المنطؽ كىك العمـ الكافد مف اإلغريؽ‪ .‬كقد رأينا أعبله أنو عمـ‬
‫يرتبط بخصكصيات المغة كالفمسفة كحتى العقيدة‪ .‬كعمى الرغـ مف أف الغزالي جعمو محايدا مثؿ العمـ الرياضي‪ ،‬إال أف أم عمـ ميما‬
‫كاف في مرتبة المحا يدة كالعالمية‪ ،‬إال أنو ال ينفصؿ عف الرؤية إلى العالـ التي شكمتو‪ .‬بؿ أف المنطؽ المحايد يشكؿ معضمة كبيرة‬
‫بالنسبة لمعقائد‪ ،‬ألنو يجب أف يدافع عنيا بدؿ المحايدة‪ .‬لكف نحف نعمـ أف المنطؽ قد يستخدـ في تيديـ العقائد‪ ،‬بؿ أنو استخدـ في‬
‫كثير مف الحاالت‪ .‬كسبلح المبلحدة ىك المنطؽ بالذات‪.‬‬

‫ثانيا – التميز بين المناىج العقمية والمناىج النقمية‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫أبكا نصر الفارابي‪ :‬إحصاء العمكـ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.92‬‬
‫‪2‬‬
‫أبك حياف التكحيدم‪ :‬المقابسات‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.115‬‬

‫‪37‬‬
‫ال يمكف لنا التركيز عمى الجانب المظمـ فقط مف مناىج عمـ الكبلـ‪ ،‬بؿ أف ىناؾ ما يعتبر قكة منيجية كبلمية ال يمكف انكارىا‪.‬‬
‫فيناؾ قكاعد أخبلقية كمنطقية لممناظرات الكبلمية‪ 1،‬تدؿ عمى الميارات التي بمغيا المتكممكف‪ .‬كلئف كاف ىناؾ ما ىك مشترؾ بيف‬
‫جميع العقكؿ‪ ،‬ميما اختمفت الثقافات‪ ،‬فإف عمـ الكبلـ ىنا يمجأ إلى عمكـ المنطؽ مف أجؿ إقناع المحاكر‪ ،‬عمى افتراض أف المنطؽ‬
‫يمزـ كؿ العقكؿ ألنو غير مؤسس عمى مسممات ثقافية بؿ عمى مسممات عقمية مثؿ التناقض كالثالث المرفكع‪ .‬رغـ ذلؾ فيمكف لجاحد‬
‫أف يرفض أم حجة بسبب العناد‪ 2.‬لذا يبقى األغمبية مف المتدينيف ممتزمكف بما نشأكا عميو مف عقائد‪ ،‬كالقمة فقط مف يتحكؿ إلى‬
‫عقائد أخرل بسبب قكة الدليؿ المنطقي أك العممي‪ .‬كاف كاف المحاكر مسمما مختمؼ في الفرقة‪ ،‬فيمكف لممتكمميف العكدة إلى القرآف‬
‫الكريـ كاألحاديث النبكية أك حتى اجماع الصحابة‪ ،‬عمى أساس أف ىناؾ قاعدة اتفاؽ بيف جميع المسمميف رغـ اختبلفاتيـ المذىبية‬
‫كالمسانية كالثقافية‪ .‬ىذا الكضع ىك الذم أدل إلى تقسيـ مناىج عمـ الكبلـ إلى مناىج عقمية كمناىج نقمية‪ .‬عمى أف ىناؾ مف يتنكر‬
‫ليذا التمييز‪ ،‬مثمما أشرنا في البداية‪ ،‬عمى أساس أنو تمييز يقمؿ مف شأف المناىج النقمية‪ ،‬ألف ىذا التقسيـ يكحي بأف المناىج النقمية‬
‫ال عقؿ فييا‪ ،‬كبالتالي ال يمكف أف تحدث اإلقناع لغير المؤمنيف بالقرآف كتابا كباإلسبلـ دينا‪ .‬لذا تنبو بعض التراثييف كالمحدثيف إلى‬
‫أف النقؿ معقكؿ كالعقؿ منقكؿ‪ .‬كلك أف الجزء الثاني يتطمب منا بحث اشكالي مستقؿ‪ .‬كقد أشار المستشرؽ ديميترم غكتاس‬
‫‪ D.Gutas‬إلى أف "العقؿ لـ يكف شيئا يتبناه العمماء حص ار مراعاة لمعمكـ اليكنانية في مكاجية لػ "إيماف" المسمميف الغافميف‪ .‬إف ىذا‬
‫‪3‬‬
‫التقسيـ الثنائي ىك تعبير الىكتي غربي ال عبلقة لو بالحقائؽ اإلسبلمية"‪.‬‬

‫‪ -3‬منياج الكالم العقمية‪:‬‬

‫الفتكحات اإلسبلمية كتأسيس الخبلفة بعد ذ لؾ في مدف غير إسبلمية في األصؿ مثؿ دمشؽ كبغداد‪ ،‬أدل إلى تفاعبلت عقائدية‬
‫بيف المسمميف كغيرىـ‪ ،‬أفضت في الغالب إلى اعتناؽ المسيحييف كالمجكس كبعض الييكد اإلسبلـ‪ ،‬كالى بقاء البعض اآلخر عمى‬
‫دينيـ األصمي كمع دفع ضريبة الحماية (الجزية) كفؽ ما تقرر في القرآف الكريـ‪ 4.‬كقد حفظ لنا التراث عدة مناظرات بيف المسمميف‬
‫دكف يكحنا‬
‫قكم‪ .‬كقد ٌ‬
‫كغيرىـ مف الكثنييف خاصة في بغداد أك مف أىؿ الكتاب بخاصة في دمشؽ حيث كاف الحضكر المسيحي ٌ‬
‫الدمشقي‪ ،‬كىك رجؿ ديف كنسي ىناؾ‪ ،‬بعض المناظرات التي دارت بيف مسمميف مسيحييف‪ ،‬قد ككف حقيقة كقد تككف متخيمة‪ ،‬حيث‬
‫تـ اعتماد المنيج العقمي‪ .‬كيقدـ لنا "ىارم كلفسكف" مثبل متعمقا بمشكمة الحرية‪ :‬يسأؿ المسمـ المسيحي‪" :‬ىؿ أنت تتمتع بإرادة حرة‬
‫كىؿ أنت قادر عمى فعؿ ما تشاء ؟ يجيب المسيحي‪ :‬إف ا﵀ قد صكره كجعؿ لو إرادة حرة‪ ،‬كتمؾ اإلرادة الحرة التي يشكؿ بيا تجعمو‬
‫قاد ار عمى فعؿ الخير أك الشر كأنو مستحؽ بسبب حرية إرادتو لمثكاب عمى فعمو لمخير لمعقاب عمى فعمو لمشر كأف اإلنساف يككف‬

‫‪ 1‬طو عبد الرحمف‪ :‬في أصكؿ الحكار كتجديد عمـ الكبلـ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.156‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Antoine Arnauld et Pierre Nicole: la logique ou l'art de penser, édition Flammarion, Paris, 1970, p‬‬
‫‪386-387.‬‬

‫‪ 3‬ديمترم غكتاس‪ :‬الفكر اليكناني كالثقافة العربية‪ -‬حركة الترجمة اليكنانية العربية في بغداد كالمجتمع العباسي المبكر‪ ،‬ترجمة نقكال‬
‫زيادة‪ ،‬المنظمة العربية لمترجمة كمركز دراسات الكحدة العربية‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2003 ،‬ص ‪.262‬‬
‫اب ىحتَّى‬ ‫ً‬ ‫‪﴿ 4‬قىاتًميكا الًَّذيف ىال يؤ ًمينكف بًالمَّ ًو كىال بًا ٍليكًـ ٍاآلى ًخ ًر كىال يحّْرمكف ما حَّرـ المَّو كرسكليو كىال ي ًد يينكف ًديف ا ٍلح ّْ ً ًَّ‬
‫يف أيكتيكا ا ٍلكتى ى‬
‫ؽ م ىف الذ ى‬ ‫ى ي ى ي ى ى ى ى ي ىى ي ي ى ى ى ى ى‬ ‫ىٍ‬ ‫ى‬ ‫ى يٍ ى‬
‫ً‬ ‫و‬
‫كف﴾ [التكبة‪]29 ،‬‬ ‫صاغ ير ى‬ ‫طكا ا ٍل ًج ٍزىيةى ىع ٍف ىيد ىك يى ٍـ ى‬
‫يي ٍع ي‬

‫‪38‬‬
‫بارتكابو الشر كاقعا تحت تأثير الشيطاف (‪ )...‬لكف المسمـ يزعـ أنو "في فعمو لمخير كالشر إنما يصدر عف مشيئة ا﵀‪ .‬أم أف أفعالو‬
‫قدرة ﵀ سمفا‪ .‬كفي نفس المناظرة يقكؿ المسيحي أنو بعد أياـ الخمؽ الستة قاـ ا﵀ بكؿ العمميات الطبيعية مف خبلؿ عمؿ كسيطة‪،‬‬
‫كاإلنساف‪ ،‬بما ىك أحد ىذه العمؿ الكسيطة‪ ،‬يفعؿ ما يفعمو بإرادة حرة‪ .‬كيقكؿ المسمـ‪ ،‬عمى العكس مف ىذا‪ ،‬أنو حتى بعد أياـ الخمؽ‬
‫الستة يخمؽ ا﵀ كؿ ما يحدث في الطبيعة خمقا مباشرا‪ ،‬حتى أف كؿ فعؿ إنساني‪ ،‬ينسبو المسيحي إلى اإلنساف نفسو باعتباره فاعبل‬
‫مختارا‪ ،‬ينسبو المسمـ إلى ا﵀"‪ 1.‬ككما ىك ظاىر‪ ،‬فإف يحي الدمشقي‪ ،‬الذم كتب ىذه المحاكرة‪ ،‬يميؿ إلى تصكير األسس الميبرالية‬
‫لممسيحية في مقابؿ األسس القدرية لئلسبلـ‪ .‬لكف يجب أف نتأكد مف مسألة كاحدة كىي أف ليس كؿ المسمميف مجبريف‪ ،‬كنحف نعمـ‬
‫مدل حرص المعتزلة مثبل عمى اثبات حرية اإلرادة‪ .‬كما نبلحظ أف كبل المتحاكريف لـ يمجأ إلى الحجج الدينية بؿ التزمكا بالمنطؽ‬
‫العقمي فقط‪ .‬كيكاصؿ الدمشقي في ايراد "حجج المسيحي عمى الحرية (حسب محاكرة يكحنا الدمشقي ‪ John of Damascus‬دائما)‪:‬‬

‫لك لـ يكف اإلنساف حرا‪ ،‬فسكؼ يككف ا﵀‪ ،‬إذف‪ ،‬غير عادؿ في عقابو أك في أمره بمعاقبة مف يرتكبكف الشر‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫كالحجة األخرل‪ :‬عدـ االتساؽ بيف افتراض أف يككف ا﵀ أراد لمعاصي مقدما أف يرتكب بعض الخطايا كبيف ككنو ال‬ ‫‪‬‬
‫‪2‬‬
‫يريد لمخاطئ أف يرتكب تمؾ الخطايا‪ ،‬كىك ما تتضمنو النكاىي المكحاة عف ارتكاب تمؾ الخطايا"‪.‬‬

‫كالمبلحظ ىنا‪ ،‬ىك أف مصدر النص‪ ،‬كىك رجؿ ديف مسيحي‪ ،‬يعطي األفضمية العقمية لممحاكر المسيحي‪ ،‬ككأنو يناصر عقيدة‬
‫النصارل عمى حساب عقيدة المسمميف‪ .‬كىذا مبرر‪ ،‬عمى أساس أف التدكينات اإلسبلمية ترتب المحاكرات لصالح صحة العقيدة‬
‫اإلسبلمية‪.‬‬

‫كيذكر لنا التكحيدم الذم أرخ لمجالس بغداد قصة المجكسي مع العامرم‪ ،‬قضية الجداؿ العقائدم حكؿ مسألة خمكد النفس؛‬
‫" قاؿ ماني المجكسي ( ككاف ذا حظ كافر مف الحكمة) ألبي الحسف محمد بف يكسؼ العامرم‪ :‬أييا الشيخ‪ ،‬إني أجد النظر في حاؿ‬
‫النفس بعد المكت مبنيا عمى الظف كالتكىـ‪ ،‬كذلؾ أف اإلنساف كما يستحيؿ منو أف يعمـ حالة قبؿ ككنو ككجكده‪ ،‬كذلؾ يستحيؿ أف‬
‫يعمـ حالو بعد مكتو (‪ )...‬العدـ ال يقتبس مف عمـ شيء بكجو‪ 3."...‬ىذه المناظرة بيف المجكسي كالمسمـ لـ تستند عمى أم نص‬
‫ديني مف كبل الطرفيف‪ ،‬عمى الرغـ مف أف القرآف الكريـ يذكر صراحة خمكد النفس بعد الممات‪ 4.‬إال أنو لجأ إلى الدليؿ العقمي القائـ‬
‫عمى ابطاؿ جدكل التمسؾ بالمحسكس فقط‪ ،‬عمى أساس أف انكار الخمكد ناتج عف مكقؼ حسي خالص‪ " :‬فكؿ محسكس ظؿ مف‬
‫المعقكؿ‪ ،‬كليس في كؿ معقكؿ ظؿ مف الحس‪ ،‬كمتى كجدنا شيئا في الحس فمو أثر عند العقؿ‪ ،‬كبو كقع التشبيو‪ ،‬كاليو كاف التشكيؽ‬

‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬ترجمة مصطفى لبيب عبد الغاني‪ ،‬المركز القكمي لمترجمة‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫القاىرة‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،2009 ،‬ص ‪.766-765‬‬

‫‪2‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.769‬‬

‫‪3‬‬
‫أبك حياف التكحيدم‪ :‬المقابسات‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.57‬‬

‫كف ىع ٍنيىا ًح ىكنال﴾ [الكيؼ‪]108/107 ،‬‬ ‫س ين ينزال ىخ ًال ًد ً‬


‫يف فييىا ىال ىي ٍب يغ ى‬
‫ى‬ ‫ات ا ٍلًف ٍرىد ٍك ً‬
‫ت لىيي ٍـ ىجَّن ي‬ ‫الصالًح ً‬
‫ات ىك ىان ٍ‬ ‫ً‬
‫ىمينكا ىك ىعمميكا َّ ى‬
‫يف آ ى‬
‫ًَّ‬
‫﴿إً َّف الذ ى‬
‫‪4‬‬

‫‪39‬‬
‫(‪ )...‬كاإلنساف متى لـ يخمع آثار الحس خمعا‪ ،‬لـ يتحؿ لبكس العقؿ تحميا‪ ،‬كانما شؽ االقرار بمعرفة حاؿ النفس بعد المكت ألف‬
‫الحس لـ يساعد في تسميـ ذلؾ بشيادة يسكف إلييا (‪ )...‬لكال ىذه الحالة المعشكقة‪ ،‬كاألبكاب المفتكحة‪ ،‬لكاف اليأس يزىؽ األركاح‬
‫كيتمؼ األنفس‪ ،‬كلكاف العالـ بكؿ ما فيو مف العجائب كاآلثار كالشكاىد لشيء ال حقيقة لو‪ ،‬كال حكمة فيو‪ ،‬كأنو شبيو بالعبث كالمعب‪.1‬‬

‫يبدك لنا رد الشيخ ىنا‪ ،‬قكيا مف جية كضعيفا مف جية أخرل‪ ،‬فيك ضعيؼ ألنو لـ يقدـ تبري ار عقميا متسمسبل كاضحا يأخذ بو‬
‫كؿ عقؿ سميـ لو بناء منطقي‪ .‬ب ؿ كؿ ما قدمو ىك صياغات خطابية يثبت محدكدية اإلحساس‪ ،‬ألف أساس كؿ كفر‪ ،‬ميما كاف‬
‫نكعو‪ ،‬ىك المطالبة باالقتناع المباشر عف طريؽ الحس‪ ،‬فكفار مكة كانكا يطالبكف محمد (ص) بدليؿ مباشر عمى صدؽ دعكاه‪ ،‬كانكا‬
‫يمٌحكف عمى التأكيد بأف اإليماف ال يحصؿ إال بالبرىاف كليس بالخطابة‪ ،‬كأقكل برىاف عمى كجكد الشيء ىك مبلحظتو البصرية‬
‫المباشرة‪ 2.‬كىذا متعمؽ بكجكد ا﵀ أك خمكد النفس أك صحة الكعكد المستقبمية‪ .‬أما القبكؿ ببل برىاف‪ ،‬فيك ضرب مف المخاطرة في‬
‫السقكط في أحضاف الشككؾ التي ال تنتيي‪ .‬فمثمما البرىاف يكلد برىاف‪ ،‬فالشؾ يكلد شككؾ أخرل ال تنتيي‪ .‬أما الجانب القكم في رد‬
‫الشيخ الحسف العامرم‪ ،‬فيك إشارتو إلى دليؿ عمى الخمكد سيككف لو مكانة قكية في الفمسفة الحديثة‪ .‬حيث أف معنى األفعاؿ مرتبط‬
‫بخمكد النفس‪ .‬فمك كانت كؿ النفكس مائتة فانية‪ ،‬ألصبحت أم قيمة أخبلقية نعزكىا ألفعالنا ىباء منثكرا‪ .‬لذا فخمكد النفس ىك الذم‬
‫يتقدـ لنا الضمانة األساسية بأف أفعالنا األخبلقية ليا ىدؼ كسكؼ يكافئ عمييا اإلنساف أك يعاقب‪ ،‬كفي حالة افتراض العكس‪ ،‬فإف‬
‫مممكة األخبلؽ تنيار ببل رجعة‪ ،‬كتتحكؿ الغائية المفترضة إلى عبث ببل أم قرار‪ .‬كبالتالي فميست الميتافيزيقا بما ىي عمـ مجرد ىي‬
‫مف يشكؿ أساس اإليماف بكجكد ا﵀‪ ،‬بؿ ىك خمكد النفس كغائية األخبلؽ‪ 3.‬كىذه البرىنة الكانطية ليست بالغريبة عف برىنة العامرم‬
‫سابقة الذكر‪ ،‬بخاصة في المقطع األخير حيث قاؿ‪" :‬لكال ىذه الحالة المعشكقة‪ ،‬كاألبكاب المفتكحة‪ ،‬لكاف اليأس يزىؽ األركاح كيتمؼ‬
‫‪4‬‬
‫األنفس‪ ،‬كلكاف ا لعالـ بكؿ ما فيو مف العجائب كاآلثار كالشكاىد لشيء ال حقيقة لو‪ ،‬كال حكمة فيو‪ ،‬كأنو شبيو بالعبث كالمعب"‪.‬‬
‫كبالنسبة لكانط فإف كجكد ا﵀‪ ،‬مثؿ خمكد النفس‪ ،‬ال ينفصبلف عف المسممة األخبلقية التي تفقد أم معنى في حالة نفييما‪ .‬كىذا ما‬
‫يسميو بالبلىكت األخبلقي‪ .‬ألف غاي ة اإلنساف‪ ،‬بكصفو الكائف األخبلقي الكحيد‪ ،‬مرتبطة بيذه الضمانة الكمية التي ال يمكف انكارىا‬
‫‪5‬‬
‫دكف انييار مممكة الغايات ذاتيا‪.‬‬

‫كفي تقديرنا‪ ،‬فإف الرد المناسب لشككؾ المجكسي عمى خمكد النفس‪ ،‬يمكف أف يتأسس عمى رد قكم‪ ،‬ألنو منسكج مف أدلة عقمية‬
‫ال يختمؼ فييا اثنا ف‪ .‬كىذا الدليؿ نجده‪ ،‬عمى سبيؿ المثاؿ‪ ،‬في محاكرة فيدكف ألفبلطكف‪ ،‬حيث برىف سقراط‪ ،‬في لحظات حياتو‬

‫‪1‬‬
‫أبك حياف التكحيدم‪ :‬المقابسات‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.59‬‬
‫يمكف االطبلع عمى برىاف خمكد النفس عند الغزالي‪:‬‬
‫أبك حامد الغزالي‪ :‬تيافت الفبلسفة‪ ،‬دار كمكتبة اليبلؿ لمطباعة كالنشر‪ ،‬بيركت‪ ،2002 ،‬ص ‪ .223‬باطؿ أف تنعدـ بمكت الجسد‪،‬‬
‫فإف البدف ليس محبل ليا‪ ،‬بؿ ىك آلة تستعمميا النفس بكساطة القكل التي في البدف‪ ،‬كفساد اآللة ال يكجب فساد مستعمؿ اآللة‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫محمد أرككف‪ :‬القرآف مف التفسير المكركث إلى تحميؿ الخطاب الديني‪ ،‬ترجمة ىاشـ صالح‪ ،‬دار الطميعة‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة الثانية‪،‬‬
‫ص ‪.97‬‬
‫‪3‬‬
‫‪Kant: critique de la raison Pure, traduit A. Tremesaygues et B. Pacaud, Félix Alcan, Paris, 1905, p‬‬
‫‪653.‬‬
‫‪ 4‬أبك حياف التكحيدم‪ :‬المقابسات‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.59‬‬
‫‪5‬‬
‫إمانكيؿ كانط‪ :‬نقد ممكة الحكـ‪ ،‬ترجمة غانـ ىنا‪ ،‬المنظمة العربية لمترجمة‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2005 ،‬فقرة ‪ ،84‬ص ‪.399‬‬

‫‪41‬‬
‫األخيرة قبؿ المكت‪ ،‬عمى أف النفس خالدة كفؽ الضركرة العقمية‪ .‬كدليمو ىك التالي‪ :‬إذا افترضنا أف كؿ شيء قائـ عمى األضداد في‬
‫ىذا الكجكد‪ ،‬فالحياة آتية مف المكت كالمكت م ف الحياة‪ ،‬كلك كاف األحياء يخرجكف مف شيء آخر غير المكت‪ ،‬ككاف كؿ حي يمكت‬
‫‪1‬‬
‫بالضركرة‪ ،‬فمف الحتمي أف المكت سيأتي عمى كؿ شيء‪ .‬لذا فإف الحياة بعد المكت كالمكت بعد الحياة ىك ما يضمف االستمرار‪.‬‬
‫إذف فالنفس خالدة بعد مكتيا‪ .‬كقد أشار كانط‪ ،‬إلى ىذه الحجة التي استعمميا الفيمسكؼ منديمسكف ‪ Moses Mendelssohn‬في‬
‫كتاب لو يحمؿ نفس عنكاف أفبلطكف كىك فيدكف أك حكؿ خمكد النفس‪.‬‬

‫كيقدـ لنا ابف خمدكف‪ ،‬مثبل عمى استعماؿ الدليؿ العقمي في الحجاج الكبلمي‪ ،‬فبعد أف عرؼ عمـ الكبلـ بكصفو حججا عف‬
‫العقائد اإليمانية بخاصة التكحيد بالػأدلة العقمية‪ ،‬يقكؿ‪" :‬إف الحكادث في عالـ الكائنات سكاء كانت مف الذكات أك مف األفعاؿ البشرية‬
‫أك الحيكانية فبل بد ليا مف أسباب متقدمة عمييا بيا تقع في مستقر العادة‪ ،‬كعنيا يتـ ككنو‪ ،‬ككؿ كاحد مف ىذه األسباب حادث أيضا‬
‫‪2‬‬
‫فبل بد لو مف أسباب أخر‪ .‬كال تزاؿ تمؾ األسباب مرتقية حتى تنتيي إلى مسبب األسباب كمكجدىا كخالقيا سبحانو ال إلو إال ىك"‪.‬‬
‫لكف النظر الفاحص ليذه الحجة تكشؼ عف عدة عيكب منيا أنو لـ يبرىف عمى كحدانية ا﵀‪ ،‬بؿ برىف عمى كجكد ا﵀ كسبب نيائي‪،‬‬
‫كبيف الكجكد كالكحدانية فرؽ شاسع‪ ،‬عمى أساس أنو قد يككف ﵀ مكجكد مع غيره مف اآللية كما كاف يعتقد الكثنيكف‪ .‬ثـ أف حجة‬
‫تتالي األسباب لمكصكؿ إلى العمة األكلى التي ال سبب ليا‪ ،‬فكرة قديمة عند اإلغريؽ كنخص بالذكر عند أرسطك طاليس‪ .‬حيث أكرد‬
‫ىذا البرىاف في كتاب الميتافيزيقا عند قاؿ باستحالة التسمسؿ غير المنتو لمعمؿ‪ ،‬مما يفرض كجكد عمة أكلى ببل عمة‪ .‬ألنو لك كانت‬
‫العمؿ ببل نياية مف الناحية العددية الستحالت المعرفة مطبلقا‪ ،‬ألف المعرفة في النياية ىي العمـ باألسباب المحدكدة‪ 3.‬كلعؿ الغزالي‬
‫كاف محقا في رفصو لعمـ الكبلـ بدعكل أنو يستعمؿ أسمحة الخصكـ‪ ،‬كىذا ما كقع فيو ابف خمدكف بعد الغزالي بقركف أربعة‪.‬‬

‫كقد أشار الدكتكر "يكسؼ فاف ايس" إلى أحد الحجج العقمية التي عثر عمييا في التراث الشيعي‪ ،‬حيث يرجح أنيا أصؿ لما‬
‫المفحمة‪ ،‬لكنيا تقنع الممحد بضركرة كجكد ا﵀ أك‬‫يسمى الحقا في فرنسا برىاف باسكاؿ أك رىاف باسكاؿ‪ .‬كىي ليست بالحجة ي‬
‫بأفضمية كجكد ا﵀‪ .‬يقكؿ‪ " :‬ىناؾ حجة مفضمة أيضا (عند اإلماـ) تتجنب النقاش العقبلني كتؤكد ببساطة عمى فائدة اإليماف‪ :‬حيف‬
‫يككف المؤمف عمى حؽ كثمة محكمة‪ ،‬فإف الكافر ممعكف؛ أما إذا لـ تكجد‪ ،‬فإف المؤمف لف يككف خاس ار أيضا (‪ )...‬ىذا معركؼ لدينا‬
‫(أم السياؽ الغربي) كػ "مسابقة[ نبلحظ ىنا أف المترجـ لـ يحسف اختيار المصطمح‪ ،‬فبدال مف أف يستعمؿ الرىاف كمرادؼ لػ ‪pari‬‬
‫استعمؿ كممة غير مناسبة كىي المسابقة‪ ،‬إذ أف المسابقة غير الرىاف‪ ،‬كلك أف ىناؾ تقارب ما عمى أساس احتمالية النجاح اك‬
‫الخسارة] باسكاؿ (‪ )Pensées, 233, p 95‬ال تكجد الفكرة في اإلسبلـ لدل الشيعة كحدىـ‪ ،‬ىناؾ في فيـ جعفر الصادؽ‪ ،‬عمي‬
‫رضا‪ ،‬الغزالي (‪ )...‬ال يعرؼ كيؼ كجد الطريؽ إلى باسكاؿ"‪ 4.‬ككأنو يشير إلى أسبقية بعض متكممي الشيعة مقارنة بباسكاؿ الذم‬

‫‪1‬‬
‫‪Platon: Phidon, tarduit E . champry, édition Garnier Flammarion, Paris, 1965, §77b-78d, p 130-131.‬‬
‫‪ 2‬عبد الرحمف بف خمدكف‪ :‬المقدمة‪ ،‬تضبط كشرح محمد اإلسكندراني‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،1998 ،‬ص‬
‫‪.423‬‬

‫‪3‬‬
‫‪Aristote : la métaphysique, traduit par jules Barthélemy saint –hilaire, poket –brodard et taupin,‬‬
‫‪1991, livre a, chapitre 1, § 993 b, p 86. Et 994 b, p 90.‬‬
‫‪ 4‬جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬ترجمة سالمة صالح‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬منشكرات الجمؿ‪،‬‬
‫بغداد – بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2008 ،‬ص ‪.639-638‬‬

‫‪41‬‬
‫عاش بيف (‪ )1662/1623‬كالذم يختصر في القكؿ أف اإليماف ضركرم‪ ،‬فإذا كاف ثمة حقا إلو فنحف ناجحكف‪ ،‬كاف لـ يكف ثمة‬
‫إلو‪ ،‬كنحف مؤمنكف بو‪ ،‬فمف نخسر أم شيء‪ 1.‬كبالتالي فالمؤمف كاسب دكما‪ .‬كفرادة ىذا الرىاف‪ ،‬مقارنة بالرىانات العادية‪ ،‬أنو يكسب‬
‫في كبل الحالتيف‪ ،‬كالطرافة ىنا أف الرىاف الذم يكسب دائما لف يبقى رىانا بؿ يتحكؿ إلى يقيف‪.‬‬

‫‪ -4‬مناىج الكالم النقمية‪:‬‬

‫يمكف االعتماد عمى األدلة النقمية المأخكذة رأسا مف القرآف الكريـ أك مف األحاديث النبكية المكثكقة‪ ،‬عندما تككف المناظرة بيف‬
‫المذاىب اإلسبلمية غير المنحرفة لدرجة المركؽ‪ .‬عمى أساس أف الدفاع عف أم قضية عقدية مرتبط بالمصدر األساسي كىك القرآف‪.‬‬
‫كبالفعؿ‪ ،‬فقد جاد ؿ القرآف الكريـ الكفار كالمشركيف في عدة قضايا عقائدية‪ ،‬لذا تمثؿ حجيتو مصد ار أساسا في الدفاع عف العقائد‪.‬‬
‫كيمكف أف نبلحظ بأف "القرآف قد استخدـ الحجج الديالكتيكية في مناقشة مباشرة مع الخصـ (يكنس‪ ")31 ،‬فالسؤاؿ عف مصدر رزؽ‬
‫‪2‬‬
‫كقد اجتيد البعض في استخراج األدلة القرآنية عمى النحك‬ ‫العباد كاخراج الحي مف الميت كالعكس يحيؿ حتما إلى االعتراؼ با﵀‪.‬‬
‫ىعمى يـ بً ىم ٍف‬
‫َّؾ يى ىك أ ٍ‬ ‫ؾ بًا ٍل ًح ٍك ىم ًة ىكا ٍل ىم ٍك ًعظى ًة ا ٍل ىح ىسىن ًة ىك ىج ًاد ٍليي ٍـ بًالَّتًي ًى ىي أ ٍ‬
‫ىح ىس يف إً َّف ىرب ى‬ ‫﴿ادعي إًلىى سبً ً‬
‫يؿ ىرّْب ى‬ ‫ى‬ ‫المتراتب في اآلية ‪ 125‬مف النحؿ‪ٍ :‬‬
‫ً‬ ‫ض َّؿ ىع ٍف ىسبًيمً ًو ىك يى ىك أ ٍ‬
‫يف﴾ ‪ .‬كما يستخمص منيا أف ىناؾ ثبلثة طرؽ لمدعكة إلى العقيدة اإلسبلمية‪ ،‬التي ىي سبيؿ ا﵀‬ ‫ىعمى يـ بًا ٍل يم ٍيتىد ى‬ ‫ى‬
‫‪3‬‬
‫الحؽ‪ .‬كىي‪:‬‬

‫الحكمة‪ :‬تدؿ عمى إصابة الحؽ بالعمـ كالعقؿ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫المكعظة الحسنة‪ :‬التذكير بالخير فيما يرؽ لو القمب‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫المجادلة الحسنة‪ :‬المفاكضة عمى سبيؿ المنازعة كالمغالبة‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪1‬‬
‫‪Blaise Pascal: Pensées, éditions de la seine, 2005, § 233-418, p 94-95.‬‬
‫‪2‬‬
‫جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬ترجمة سالمة صالح‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬منشكرات الجمؿ‪،‬‬
‫َّم ىع‬ ‫ىم ٍف ىي ٍممً ي‬
‫ؾ الس ٍ‬ ‫اء ك ٍاأل ٍىر ً‬
‫ض أ َّ‬ ‫َّم ى‬
‫بغداد – بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2008 ،‬ص ‪ .80‬يقصد اآلية القائمة‪ ﴿ :‬يق ٍؿ م ٍف يريزقي يكـ ًمف الس ً‬
‫ى‬ ‫ى ىٍ ٍ ى‬
‫َّ‬ ‫ّْت كي ٍخ ًرج ا ٍلمي ى ً‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كف﴾‬ ‫كف الموي فى يق ٍؿ أىفى ىبل تىتَّقي ى‬
‫ّْت م ىف ا ٍل ىح ّْي ىك ىم ٍف يي ىدب يّْر ٍاأل ٍىم ىر فى ىسىيقيكلي ى‬ ‫ص ىار ىك ىم ٍف يي ٍخ ًريج ا ٍل ىح َّي م ىف الٍ ىمي ى ي ي ى‬
‫ىك ٍاأل ٍىب ى‬
‫‪3‬‬
‫عمي الرباني الكمبايكاني‪ :‬ما ىك عمـ الكبلـ ؟ مؤسسة بكستاف كتاب‪ ،‬قـ‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬ص ‪ .51‬أيضا‪ :‬شكيب بف بديرة‬
‫الطبمبي‪ :‬مدخؿ مناىجي إلى عمـ الكبلـ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ص ‪ .91-86‬كيشرح مقامات اآلية ‪ 125‬مف النحؿ كما يمي‪:‬‬

‫البرىاف‪ :‬القطع‪ .‬المقاـ المناىجي لمحكمة‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫المكعظة الحسنة‪ :‬الخطابة‪ ...‬تفييـ المخاطبيف الذيف قد يفتقركف إلى القابميات العقمية الكافية إلدراؾ مغزل األسمكب‬ ‫‪‬‬
‫البرىاني‪( .‬استيداؼ القمكب كالعكاطؼ بدال مف العقؿ)‬

‫الجدؿ‪ :‬اسكات الخصـ المعانديف كقطع دابر الجاجتيـ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪42‬‬
‫ككما ىك ظاىر‪ ،‬فإف التراتب قائـ عمى أسبقية الحكمة عمى المكعظة كعمى المجادلة تكاليا‪ .‬كبالتالي فإف مراتب الكبلـ ىنا تككف‬
‫أكال بالعقؿ المنطقي حيث يتـ البرىنة بما ال يبقى معو أم ابياـ أك شبية كاردة في المكضكع العقائدم المطركؽ‪ .‬ثـ تميو المكعظة‬
‫التي تخاطب اإل حساس كالكجداف لعؿ يتـ القبكؿ كالخضكع السمس كفؽ منطؽ التعاطؼ‪ .‬كفي األخير ىناؾ مرتبة فرض الرأم بعد‬
‫النزاع‪ .‬كلئف كاف ىذا األخير ىك ما يعتبره القرآف جدال حسنا‪ ،‬فاألكيد أف ىناؾ جدؿ غير حسف‪ ،‬جدؿ خشف مثبل‪ .‬كربما ىك ما‬
‫نستشعره في ما ذكره الفارابي في مناىج المتكمميف‪ ،‬كما الحظناه في أمثمة التيديد المعاصر في حالة "كماؿ داكد" ك"سمماف رشدم"‬
‫مف قبمو كالعشرات مف الحاالت األخرل األقؿ شيرة‪ .‬كالتراتب السابؽ ىك الذم دفع ابف رشد‪ ،‬في سياؽ تأكيمو لمنطؽ كشرح‬
‫أرسطك‪ ،‬إلى تقسـ اإلقناع الكبلمي إلى البرىاف كالخطابة كالجدؿ‪ .‬كىذا كفؽ االستعدادات الفردية‪ ،‬فميس الجميع مؤىؿ لفيـ البراىيف‬
‫المنطقية الصارمة‪ ،‬لذا يقتنعكف بالخطابة التي ىي برىاف ما أدنى‪ ،‬أم أقؿ قكة كالزامية مف البرىاف المنطقي‪ ،‬كأخيرػ فإف البعض يمجأ‬
‫إلى الجدؿ الذم قد يككف ضرب مف المنطؽ المغالط مف أجؿ اإلقناع بالعقائد‪ .‬كالمغالطة ىنا قد تككف بالتمكيو كالكذب كتعمد‬
‫الخطأ‪.‬‬

‫يظير جميا أف األدلة الثانية (المكعظة) كاألدلة الثالثة (المجادلة) قد تككناف غير مقنعتيف تماما‪ ،‬فقد نؤثر عمى النفس كنقنعيا‬
‫بعقيدة معينة‪ ،‬لكف بعد زكاؿ األثر تعكد إلى حالتيا الطبيعية أك األصمية‪ .‬لذا فإف منياجي الكبلـ ىاتيف‪ ،‬ليستا في مستكل األدلة‬
‫األكلى كىي الحكمة‪ 1.‬لكف ما الحكمة ؟ إذا فيمت عمى أنيا اليقيف المرتبط بالمنطؽ البرىاني‪ ،‬فينا نككف أماـ الدليؿ العقمي ال الدليؿ‬
‫النقمي‪ ،‬أم أف القرآف يأخذ بنا مرة ثانية إلى العقؿ اإلنساني الخالص مف أجؿ الدعكة إلى العقائد الصحيحة‪ .‬كيمكف أف نبلحظ‬
‫بكضكح اإلقتراف المكجكد في القرآف بيف الكتاب (أم القرآف ذاتو) كبيف الحكمة‪ ،‬مما يدؿ عمى أف منيج الحكمة‪ ،‬لك فيمنيا عمى‬
‫أساس أنيا الحكمة العممية‪ ،‬أك محبة الحكمة‪ ،‬كىي المنيج العقمي الخالص‪ ،‬ال يتعارض مع المنيج القرآني‪ 2.‬كيمكف العكد إلى‬
‫النصكص التالية لتبيف ذلؾ‪( :‬الجمعة‪ ،)2 ،1 ،‬ك (يكنس‪ ،)1 ،‬ك(لقماف‪ ،)2-1 ،‬ك(النساء‪ ،)113 ،‬ك(يس‪ .)2 ،‬فكميا تذكر الحكمة‬
‫كراء القرآف أك الكتاب‪.‬‬

‫كيشرح بعض مصادر الشيعة‪ ،‬بأف الجدؿ الحسف مكجكد في القرآف الكريـ‪ ،‬حيث أف ا﵀ تعالى قد دعا نبيو إلى ضركرة البرىنة‬
‫ب لىىنا ىمثى نبل ىكىن ًس ىي ىخ ٍمقىوي قىا ىؿ ىم ٍف‬
‫ض ىر ى‬‫﴿ك ى‬
‫عمى خمكد الركح مف خبلؿ السياؽ القرآني التالي‪ :‬إذا جاء متشكؾ في خمكد الركح قائبل‪ :‬ى‬
‫ؽ‬ ‫ى ى‬ ‫يـ﴾ [يس‪ ]78 ،‬فإف الجكاب المطمكب كالمقنع ىك‪ ﴿ :‬يق ٍؿ يي ٍحيًييىا الًَّذم أ ٍىن ىشأ ى‬
‫ىىا أ َّىك ىؿ ىمَّروة ك يىك بً يك ّْؿ ىخ ٍم و‬ ‫يي ٍحيًي ا ٍل ًع ى‬
‫ظ ىاـ ىكًى ىي ىرًم ه‬
‫يـ﴾[يس‪ . ]79 ،‬كبالنسبة لمنطؽ ىذا الطرح‪ ،‬فإف الذم ينشأ العظاـ كيخمؽ اإلنساف‪ ،‬لف يعجز اطبلقا عف اعادتيا مف جديد بعد‬ ‫ً‬
‫ىعم ه‬
‫المكت كاإلنحبلؿ‪ .‬لكف ككما ىك ظاىر‪ ،‬فإف ىذه الحجة تحقؽ اإلقناع بالنسبة لمف يؤمف بكجكد ا﵀ فقط‪ .‬أما الممحد المطمؽ في‬
‫ألحاده فبل يمكف أف يقبؿ احياء النفس بيذا التبرير‪ ،‬ألنو ال يؤمف أصبل بأف النفس كالعظاـ مف خمؽ خالؽ‪.‬‬

‫السؤاؿ الذم اشتغؿ عميو الكثير مف المفكريف الحداثييف مرتبط بمدلكؿ العقؿ في القرآف ؟ كفؽ اآليات التي تدعكنا إلى العقؿ‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫كف﴾ [الصافات‪ ]138،‬أك قكلو تعالى‬ ‫﴿كبًالمٍي ًؿ أىفى ىبل تى ٍعقمي ى‬
‫كالمعاقمة كالنظر كالتأمؿ‪ .‬كىي كثيرة في عدة سياقات؛ عمى سبيؿ المثاؿ‪ :‬ى‬
‫ت﴾ [الغاشية‪،‬‬‫ؼ يس ًط ىح ٍ‬ ‫ت كًالىى ٍاأل ٍىر ً‬
‫ض ىك ٍي ى‬ ‫ؼ ينصىب ٍ ى‬
‫اؿ ىك ٍي ى ً‬ ‫ت كًالىى ا ٍل ًجىب ً‬
‫ؼ يرف ىع ٍ ى‬
‫ت كًالىى السَّم ً‬
‫اء ىك ٍي ى ً‬
‫ى‬
‫اإلبً ًؿ ىك ٍي ى ً‬
‫ؼ يخمقى ٍ ى‬
‫كف إًلىى ًٍ‬
‫﴿أىفى ىبل ىي ٍنظي ير ى‬
‫‪1‬‬
‫شكيب بف بديرة الطبمبي‪ :‬مدخؿ مناىجي إلى عمـ الكبلـ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.41‬‬
‫‪2‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.86‬‬

‫‪43‬‬
‫‪. ]20-17‬ىؿ العقؿ الذم يدعك لو القرآف ىنا عقؿ بالمعنى الخالص أـ عقؿ اعتبارم يأخذ بنا إلى اإليماف رأسا ؟ ىنا يتفؽ كبل مف‬
‫"محمد أرككف" ك"طو عبد الرحمف"‪ ،‬عمى الرغـ مف اختبلؼ حداثتييما‪ ،‬في أف العقؿ القرآني اعتبارم كليس عممي‪ 1.‬بمعنى أف دعكة‬
‫القرآف لمنظر في اإلبؿ‪ ،‬ليست مكجية لعبلجيا أك معرفة أسباب أمراضيا كطرؽ تكاثرىا‪...‬الخ بؿ مف أجؿ االعتراؼ بكجكد كعظمة‬
‫ا﵀ الخالؽ‪ .‬لذا فالعقؿ االعتبارم إيماني عمى عكس العقؿ العممي الذم ال ينظر في ما كراء المكضكع الحسي‪ .‬ككأف العقؿ القرآني‬
‫يعني القمب أك الفؤاد‪ ،‬كليس العقؿ الذم يقرر عمميا خصائص المكجكدات‪.‬‬

‫غير أنو ىناؾ مصادر أخرل غير القرآف لمبرىنة عمى صحة العقائد كرد األسئمة المشاغبة لكضكح أسس الديف‪ ،‬كىي "اجماع‬
‫األمة‪ ،‬اجماع الصحابة كسيرتيـ‪ ،‬اجماع السمؼ‪ ،‬الخبر المتكاتر‪ ،‬األخذ بالنص الشرعي مف غير تأكيؿ أم القرآف كالسنة"‪ 2.‬كمف‬
‫المفيد أف نشير إلى أف مؤرخي عمـ الكبلـ الذيف ربطكا ظيكره بحركة الترجمة‪ ،‬يعتقدكف بأف الكبلـ في زمف الرسكؿ (ص) كالصحابة‬
‫لـ يكف مطركحا بالصكرة البلحقة‪ ،‬عمى أساس أنيـ كانكا يقدمكف فصؿ المقاؿ في القضايا الكبلمية‪ ،‬بؿ أف ىناؾ مف نسب بعض‬
‫األقكاؿ اإلليية لمصح ابة األقرباء مف الرسكؿ (ص)‪ .‬كربما ىذا القكؿ الشاذ مستخرج مف المشابية باألحاديث القدسية المنسكبة‬
‫لمرسكؿ حيث المعنى إليي كالمفظ بشرم‪.‬‬

‫سؤاؿ أخير ميـ‪ ،‬في قضية الفصؿ بيف المناىج العقمية كالمناىج النقمية‪ ،‬كىك الفصؿ الذم يندرج ضمف مسألة مصدر مناىج‬
‫عمـ الكبلـ بيف المحمية كاألجنبية (العمكـ الكافدة)‪ ،‬كالتي تطرح عمى الشكؿ التالي‪ :‬مف أيف استمد عمـ الكبلـ مناىجو ؟ ىؿ مف‬
‫الخصكصيات المحمية أـ مف المناىج الكافدة مف خارج السياقات اإلسبلمية ؟ يبدك أف التاريخ كحده ىك الذم يمكف أف يبت في ىذه‬
‫المسألة‪ ،‬عمى أساس أف البدايات المنيجية األكلى كانت محمية‪ ،‬في حيف أف دخكؿ عمكـ المنطؽ كالفمسفة بعد حركة الترجمة‬
‫المأمكنية (نسبة لممأمكف الذم تكفي سنة ‪ 218‬ىػ)‪ ،‬أدل إلى تطعيـ عمـ الكبلـ بمناىج لـ تكف مألكفة‪ ،‬أم عقمية بالمطمؽ‪ .‬كيقدـ‬
‫"ىارم كلفسكف"‪ ،‬الذم يناصر النظرية القائمة بأف عمـ الكبلـ اإلسبلمي تأثر بالمسيحي‪ ،‬المخطط التالي‪:‬‬

‫أ‪ -‬المنيج الكبلمي السابؽ عمى االعتزاؿ كاف منيجا محميا مستمدا مف عمـ الفقو‪ .‬كىك منيج المماثمة القياسية‪ .‬فقد استعمؿ عمماء‬
‫الكبلـ ازاء مشكمة التنزيو كالتشبيو ما كاف مستعمبل في الفقو مف قياس المماثمة‪ ،‬فالخمر حراـ مثؿ النبيذ ألنو يحدث اإلسكار‪ .‬كا﵀‬
‫‪3‬‬
‫أم‬ ‫جسـ ال كاألجساـ‪ ،‬كىذه طريقة األشاعرة عمى العمكـ‪ ،‬حيث يعتبركف ا﵀ سميعا ال كاألسماع كبصير ال كاألبصار‪ ...‬الخ‪.‬‬
‫أف ىناؾ تشبيو ﵀ مع بقية األشياء مف أجؿ اثبات كجكده‪ ،‬لكف مع مخالفتو معيا مف أجؿ اثبات تنزييو‪ .‬كبالفعؿ‪ ،‬فقد أكد الدكتكر‬

‫‪1‬‬
‫طو عبد الرحمف‪ :‬سؤاؿ العمؿ – بحث عف األصكؿ العممية في الفكر كالعمـ‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء – بيركت‪،‬‬
‫الطبعة األكلى‪ ،2012 ،‬ص ‪.106‬‬
‫‪2‬‬
‫عبد اليادم الفضمي‪ :‬خبلصة عمـ الكبلـ‪ ،‬دار المؤرخ العربي‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،1993 ،‬ص ‪.27‬‬

‫‪3‬‬
‫ىارم‪ .‬أ‪ .‬كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬ترجمة مصطفى لبيب عبد الغاني‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬المركز القكمي لمترجمة‪،‬‬
‫القاىرة‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2005 ،‬ص ‪.61‬‬

‫‪44‬‬
‫طو عبد الرحمف لجكء عمماء الكبلـ لمثؿ ىذا المنيج عندما قاؿ‪" :‬اشتير المتكممكف باالستدالؿ القياسي‪ .‬مثاؿ‪ :‬العمـ كالطعاـ ينفع‬
‫‪1‬‬
‫كيضر‪ ،‬فأطمب منو ما ينفع"‪.‬‬

‫ب‪-‬بعد حركة الترجمة‪ ،‬أم بعد قرف مف ظيكر كاصؿ بف عطاء الذم تكفي ‪ 131‬ىػ‪ ،‬تأثرت المعتزلة بالفمسفة اليكنانية كاكتسبت‬
‫طابعا جديد‪[ .‬كىذه ىي مقاربة الشيرستاني الذم ربط الكبلـ بالترجمة مف اإلغريقية] ثـ طالع بعد ذلؾ شيكخ المعتزلة كتب‬
‫الفبلسفة‪ ،‬حيف فسرت أياـ المأمكف‪ ،‬فخمطت مناىجيا بمناىج الكبلـ‪ ،‬كأفردتيا فنا مف العمكـ كسمتيا باسـ الكبلـ‪ 2."...‬لكنيا مقاربة‬
‫تعرضت لنقد مف طرؼ الكثير‪ ،‬عمى أساس أف عمـ الكبلـ كاف متداكال قبؿ المأمكف‪ ،‬حيث كانت الكممة معركفة في منتصؼ القرف‬
‫األكؿ لميجرة‪.‬‬

‫كبالتالي يمكف أف نستنتج بأف ىناؾ مرحمة منيجية محمية‪ ،‬كىي المرحمة السابقة عمى نقؿ أعماؿ اليكناف‪ ،‬كمرحمة منيجية‬
‫فمسفية كمنطقية‪ ،‬كىي م رحمة التأثر بكتب اليكناف المنقكلة‪ ،‬حيث أصبح بعض المتكمميف‪ ،‬مف المعتزلة‪ ،‬يستعممكف مضاميف فمسفية‬
‫خاصة مثؿ نظريات الذرة اإلغريقية‪ ،‬كاستعماؿ منيج القياس المنطقي أك السيمكجيزمكس ‪ sylligism‬كىك االستنتاج الذم يفيـ في‬
‫مقابمة االستقراء‪ ،‬كالمؤسس عمى االنتقاؿ مف الم قدمتيف إلى النتيجة عف طريؽ الحد األكسط‪ .‬كىذا القياس يختمؼ عف القياس‬
‫الفقيي أك األنالكجي ‪ analogy‬السابؽ الشرح‪ 3.‬لذا يمكف التقرير بأف ىناؾ مرحمة المناىج غير الفمسفية كمرحمة المناىج الفمسفية‪.‬‬
‫لكف يبدك الفرؽ بيف تصكر طو كىالفسكف في قيمة القياس الفقيي أك المحمي كالقياس األرسطي الكافد‪ ،‬إذ يبدك أف المستشرؽ يجعؿ‬
‫ىذا األخير أكثر نضجا مف الناحية البرىانية‪ ،‬لكف طو يقكؿ العكس‪ :‬القياس التمثيمي لو فكائد عممية (المنطؽ الشرعي‪ ،‬منطؽ‬
‫األكامر‪ ،‬منطؽ األفعاؿ‪ ،‬كمنطؽ النفع‪...‬الخ) (‪ )...‬كىك أغنى كأعقد مف القياس األرسطي المعتبر برىانا‪ ،‬حيث يتركب مف‬
‫‪4‬‬
‫استدالليف‪ :‬أحدىما مطابؽ لمقياس األرسطي‪ ،‬كاآلخر استدالؿ مماثمة مقيد‪ ،‬ككبلىما صحيح"‪.‬‬

‫ثالثا‪ -‬مناىج الكالم ومناىج العموم الحكمية‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫طو عبد الرحمف‪ :‬في أصكؿ الحكار كتجديد عمـ الكبلـ‪ ،‬المركز الثقافي‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.98‬‬
‫‪2‬‬
‫ىارم‪ .‬أ‪ .‬كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ .65‬أيضا‪ :‬شكيب بف بديرة الطبمبي‪ :‬مدخؿ مناىجي إلى‬
‫عمـ الكبلـ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ .35-34‬يقكؿ‪ :‬خطأ الشيرستاني في تقريره بأف عمـ الكبلـ ظير في العصر العباسي (ثـ طالع بعد‬
‫ذلؾ شيكخ المعتزلة كتب الفبلسفة‪ ،‬حيف نشرت أياـ المأمكف‪ ،‬فخمطت مناىجيا بمناىج الكبلـ‪ ،‬كأفردتيا فنا مف فنكف العمـ‪ ،‬كسمتيا‬
‫باسـ الكبلـ) يرجع إلى المصادر التي اعتمدىا‪ ...‬مع العمـ أف المأمكف تكفي ‪ 218‬ق‪ ...‬أما اإلماـ الصادؽ استشيد عاـ ‪ 148‬ق‬
‫حيث كاف مصطمح الكبلـ معركفا في عصره‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫ىارم‪ .‬أ‪ .‬كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ ‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.66‬‬
‫‪4‬‬
‫طو عبد الرحمف‪ :‬في أصكؿ الحكار كتجديد عمـ الكبلـ‪ ،‬المركز الثقافي‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ .114-113‬كيشرح ثراء العبلقات‬
‫المكجكدة في القياس الفقيي‪:‬‬
‫االشتراؾ في النكع ىك المماثمة‪ ،‬كفي الجنس ىك المجانسة‪ ،‬كفي الكيؼ ىك المشابية‪ ،‬كفي الكـ ىك المساكاة‪ ،‬كفي الشكؿ‬
‫ىك المشاكمة‪ ،‬كفي الكضع ىك المكازرة‪ ،‬أك في األطراؼ كىك المطابقة‪ ،‬اك في النسبة كىك المناسبة‪ .‬ص ‪122‬‬

‫‪45‬‬
‫كث ار ما يقاؿ بأف عمـ الكبلـ ىك ما يجسد الفمسفة اإلسبلمية الحقة‪ ،‬عمى أساس أف بقية المباحث مثؿ السياسة كاألخبلؽ‬
‫كالمنطؽ منقكلة مف عند اإلغريؽ‪ .‬كلك أف المسمميف قد أضافكا اجتيادات‪ ،‬إال أنيـ لـ يخرجكا مف الدائرة المفيكمية األصمية‪ .‬في‬
‫حيف أف عمـ الكبلـ كفؽ المنظكر نفسو‪ ،‬قد أثبت القدرات النظرية في فيـ الديف اإلسبلمي‪ .‬لكف يجب أف نشير إلى أف ىناؾ‬
‫سخر فمسفتو لتككف خادمة لمديف‪ 1،‬في حيف أف الفيمسكؼ المحض‬
‫اختبلؼ بيف ركح الكبلـ كركح الفمسفة‪ .‬عمى أساس أف المتكمـ يي ٌ‬
‫يسخر الديف لخدمة الفمسفة‪ .‬ىذه االستراتيجية الخبلفية بيف المتكمـ كالفيمسكؼ ىي التي ترسـ الحد الفاصؿ‪ ،‬كتجعؿ عمـ الكبلـ عمما‬
‫دينيا كالفمسفة عمما عقميا‪ .‬لكف ىذا الفص ؿ قد يطرح أكثر مف مشكؿ عمى أساس أف أرسطك قد جعؿ الفمسفة األكلى‪ ،‬أم األكثر شرفا‬
‫كاألكثر رفعة‪ ،‬ىي الفمسفة التي تبحث في األلكىية ‪ 2.Théologie‬كىذه الرتبة األكلى متأتية مف مكضكعيا‪ ،‬لذا فكحدة الفمسفة‬
‫كالبلىكت ليست بالشأف المستحدث عند المسمميف‪.‬‬

‫كلعؿ أكبر ال مدافعيف عف االختبلؼ أك الفصؿ بيف عمـ الكبلـ المحمي كالفمسفة المنقكلة ىك ابف خمدكف‪ ،‬عمى أساس أف الفمسفة‬
‫تنظر في الكجكد بإطبلؽ كبمعزؿ عف أم أغراض متعالية‪ ،‬في حيف أف عمـ الكبلـ ال يدرس الكجكد إال مف أجؿ اثبات كجكد كعظمة‬
‫‪3‬‬
‫كحد بيف الحكمة كالشريعة‪ ،‬كاذا اعتبرنا‪ ،‬مثمما خمصنا في‬
‫ككحدانية ا﵀‪ .‬كىذا التقرير مخالؼ كمية لما نجده عند ابف رشد عندما ٌ‬
‫المحاضرة األكلى‪ ،‬بأف عمـ الكبلـ مف العمكـ الدينية كالشرعية عامة‪ ،‬فكجب مقاربتو بالشريعة‪ .‬كابف رشد يعتقد بأف ىدؼ الفمسفة ىك‬
‫النظر في المكجكدات مف حيث دالالتيا عمى الصانع أم الخالؽ‪ 4.‬لكف ىذا ليس كاقعا في كؿ األحكاؿ أم ال يمكف التعميـ‪،‬‬
‫فالفمسفة اإلغريقية الطبيعية مثبل كانت تنظر في المكجكدات بمعزؿ عف التفكير في اآللية اطبلقا‪ .‬كقد قاؿ العالـ الفمكي "دك‬
‫الببلس" بأنو ال يحتاج إلى فرضية اإللو في دراسة الككاكب‪ ،‬ىذا ما يدؿ عمى أف العمـ أك الفمسفة الخالصيف‪ ،‬ال يعتبراف دينياف في‬
‫أىدافيما‪ .‬لذا يمكف القكؿ أف ابف خمدكف‪ ،‬الذم اتكأ عمى العقبلنية الغزالية الصريحة‪ ،‬أكثر كضكحا مف ابف رشد في ىذه المسألة‪.‬‬
‫أم أف الغزالي كابف خمدكف كانا عمى كعي بأف الفمسفة تخدـ نفسيا كنسقيا كال تخدـ الديف إال عرضا‪ ،‬مثمما يعتقد ابف رشد بضرب‬
‫مف السذاجة السطحية‪.‬‬

‫عمى اعتبار أف المنطؽ آلة لمعمكـ‪ ،‬يبدك أنو أمكف أف يتحكؿ إلى أداة في يد المتكمميف مف أجؿ نصرة عقائدىـ كالرد عمى‬
‫المخالفيف‪ .‬ككاف الغزالي يعتقد بأف المنطؽ عمـ محايد مثمو مثؿ الرياضيات‪ ،‬إذ ال يتعمقاف باألمكر الدينية نفيا أك اثباتا‪ ،‬فالمنطؽ‬
‫يبحث في طرؽ األدلة كالمقاييس كربط مقدمات البرىاف ككيفية تركيبيا كشركط الحد الصحيح ككيفية ترتيبو‪ 5.‬كال يمكف أف يشكؿ‬
‫خط ار مثمما تشكمو بقية العمكـ الكافدة مثؿ الطبيعيات كاإللييات حيث أف الدىرييف القائميف بأزلية العالـ ال يربطكف حركة الطبيعة‬

‫‪1‬‬
‫عمي أكمميؿ‪ :‬أفكار مياجرة‪ ،‬مركز دراسات الكحدة العربية‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2013 ،‬ص ‪.173‬‬

‫‪2‬‬
‫‪Aristote : la métaphysique, Op.cit, Livre E, § 1026 a, p 220.‬‬
‫‪3‬‬
‫ابف خمدكف‪ :‬المقدمة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.431‬‬
‫‪4‬‬
‫ابف رشد‪ :‬فصؿ المقاؿ كتقرير ما بيف الشريعة كالحكمة مف اتصاؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.24‬‬
‫‪5‬‬
‫أبك حامد الغزالي‪ :‬المنقذ مف الضبلؿ كالمكصؿ إلى ذم العزة كالجبلؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ص ‪.103-100‬‬

‫‪46‬‬
‫بالتسخير اإلليي‪ ،‬كاإلليييف بدكرىـ ال يعتقدكف بعمـ ا﵀ بالجزئيات مثبل‪ 1.‬لكف‪ ،‬خبلفا العتقاد الغزالي‪ ،‬يمكف لعمـ المنطؽ أف يككف‬
‫أداة لنقض العقائد‪ ،‬كما المناظرات مع غير المسمميف إال مثاؿ عمى ذلؾ‪ ،‬حيث يستطيعكف ابطاؿ أم عقيدة مف خبلؿ المنطؽ‪.‬‬
‫ككأف الم نطؽ ىنا ليس حسنا لذاتو أك سيئا لذاتو‪ ،‬بؿ يعكد إلى المستعمؿ نفسو‪" .‬كربما ينظر في المنطؽ أيضا مف يستحسنو كيراه‬
‫كاضحا‪ ،‬فيظف أف ما ينقؿ عنيـ مف الكفريات مؤيد بمثؿ تمؾ البراىيف‪ ،‬فيستعجؿ بالكفر قبؿ االنتياء الى العمكـ االليية‪ 2".‬لذا فيك‬
‫ذك حديف‪.‬‬

‫كالحؽ أف ا لمنطؽ أك حتى العمـ الرياضي ال ينفصبلف عف ركح الفمسفة اإلغريقية‪ .‬كالفمسفة ذاتيا لـ تنفصؿ عف خصكصيات‬
‫الديف الكثني‪ .‬كمف األمكر المثبتة أف المنطؽ اليكناني منطؽ فمسفي أكثر مما ىك منطؽ عممي خالص‪ .‬كبمجرد ارتباطو بالمغة‬
‫اليكنانية فيذا معناه إرتباطو بمنظكمة معقدة مف االعتقادات كالتصكرات كالتشكبلت الركحية‪ .‬فمنطؽ أرسطك ال ينفصؿ البتة عف‬
‫ميتافيزيقا الفمسفة اليكنانية بما ىي ميتافيزيقا تصكرية خالصة‪ .‬كقد أشرنا أعبله إلى ىذه المسألة‪ .‬فعممية التأصيؿ لممنطؽ األرسطي‬
‫في القرآف‪ ،‬تمثؿ ضرب مف إدخاؿ مقدمات الفمسفة الصكرية في نسؽ العقبلنية اإلسبلمية التي أرادت أف تككف متميزة عف كؿ‬
‫المكركث اإلنساني السابؽ عنو‪ .‬كفي ىذا السياؽ يقكؿ لككازيفيتش‪ ،‬المنطقي ‪ -‬الرياضي المعاصر‪ ،‬مشي ار إلى استحالة الفصؿ بيف‬
‫العممية كالفمسفية في عمـ المنطؽ األرسطي‪ ":‬كاف أرسطك خاضعا لتأثير نظرية المعاني األفبلطكنية حيف صاغ نظريتو المنطقية في‬
‫الحدكد الكمية"‪ 3.‬كمف المعمكـ أف فمسفة أفبلطكف مزيج معقد مف الفمسفة الفيثاغكرية كاإليمية كالييراقميطية‪...‬الخ التي تشكؿ مستكدع‬
‫الركح اإلغريقية ككؿ‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫ىناؾ مف كاشج بيف تاريخ العمـ الرياضي كتاريخ الفمسفة إلى درجة اإلقرار بأف ظيكر الفمسفة قد ارتبط بظيكر الرياضيات‪.‬‬
‫كقد ذكرنا سابقا بأف أفبلطكف قد تكسؿ بالنمكذج الرياضي في فمسفة العديد مف األمكر غير الرياضية‪ ،‬أم الفمسفية كاألخبلقية‬
‫كالبلىكتية‪ .‬ىذا‪ ،‬كيمكف القكؿ بأف العمـ الرياضي ذاتو قد تأثر بالمقكالت الفمسفية كالمنطقية‪ ،‬كلعؿ ىناؾ مف يشير إلى تأثر أكقميدس‬
‫بالمنطؽ األرسطي الذم ىك محصمة ألصكؿ الفمسفة التصكرية التي تعتبر الكمي كالشكمي مقارنة بالجزئي كالمضمكني أكثر أىمية‬
‫كأقرب إلى الحقيقة‪ .‬ما الرياضيات إال منطقا في صيغة أكثر دقة‪ ،‬الرياضيات منطؽ رقمي‪ .‬كقد قاؿ العديد مف الرياضييف بأف‬
‫التحم يؿ الذم ىك المنطؽ ذاتو ىك جكىر العمـ الرياضي‪ ،‬إف التحميؿ ىك الذم يتطابؽ فيو المنطقي كالرياضي معا‪ 5.‬كلـ يكف أرسطك‬
‫أرسطك يسمي عمـ المنطؽ إال بالعمـ التحميمي أك األنالكطيقا‪ .‬ما الرياضيات إال منطؽ شرطي‪ ،‬بمعنى أنو يستنتج بقكة كتماسؾ مما‬

‫‪1‬‬
‫أبك حامد الغزالي‪ :‬تيافت الفبلسفة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ص‪ .155-42‬أيضا أبك حامد الغزالي‪ :‬المنقذ مف الضبلؿ كالمكصؿ إلى‬
‫ذم العزة كالجبلؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ص ‪.106‬‬
‫‪2‬‬
‫أبك حامد الغزالي‪ :‬المنقذ مف الضبلؿ كالمكصؿ إلى ذم العزة كالجبلؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ص ‪.105‬‬
‫‪3‬‬
‫ياف لككاشيفيتش‪ :‬نظرية القياس األرسطية مف كجية نظر المنطؽ الصكرم الحديث‪ ،‬ترجمة عبد الحميد صبرة‪ ،‬نصر المعارؼ‪،‬‬
‫اإلسكندرية‪ ،1961 ،‬ص ‪.285‬‬
‫‪4‬‬
‫ألتكسير‪ :‬تأىيؿ إلى الفمسفة لمذيف ليسكا بفبلسفة‪ ،‬تحرير النص كالتعميؽ عميو ج‪ .‬ـ‪ .‬غكشغارياف‪ ،‬ترجمة إلياس شاكر‪ ،‬دار‬
‫ٌ‬ ‫لكيس‬
‫الفارابي‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2017 ،‬ص ‪.258‬‬

‫‪5‬‬
‫‪Henri Poincaré: la valeur de la science, édition Ernest Flammarion, Paris, 1939, p 29.‬‬

‫‪47‬‬
‫يتـ افتراضو عمى أنو حقيقة نظرية أك حتى كاقعية‪ 1.‬كيمكف استعماؿ عبارة "العمكـ الصكرية" لمتكحيد بيف عمـ المنطؽ كعمـ‬
‫‪2‬‬
‫فيي ال تخبرنا أم شيء ذم باؿ عف العالـ الخارجي‪ ،‬كؿ ما تقكـ‬ ‫الرياضيات‪ ،‬عمى أساس أنيا تيتـ بالعبلقات ال المضاميف‪.‬‬
‫بعممو ىك كصؼ البنى كالييئات الفكرية الخالصة‪ .‬يقكؿ ببلنشيو‪" :‬الرياضيات كالمنطؽ ال تأتينا بمعارؼ حقيقية‪ ،‬بؿ ىي عبارة عف‬
‫قكاعد فحسب نتبعيا في صياغة معارفنا (‪ )...‬الرياضية تمثؿ لغة دقيقة مريحة تعبر عف الكاقع دكف أف تشارؾ في صنعو"‪ 3.‬كقد‬
‫تكفؿ العديد مف عمماء الرياضيات برد العمـ الرياضي إلى أصكؿ منطقية‪ ،‬سكاء راسؿ أك كاتييد أك لكدفيج فيتجنشتيف الذم أقر في‬
‫رسالتو المنطقية الفمسفية بأف "الرياضيات إحدل طرؽ المنطؽ"‪ 4.‬لكف يمكف اإلشارة إلى أف أرسطك ذاتو قد تأثر بالرياضيات في‬
‫صياغة منطقو‪ ،‬كأظير دالة عمى ذلؾ استعمالو كممة "القياس" أك السيمكجيسمكس التي ىي كممة حسابية كىندسية في األساس‪.‬‬

‫كلئف كاف الرياضياتي بيذا المعنى اإلغريقي‪ ،‬فبل يككف مقصك ار عمى فرع معرفي دكف آخر‪ ،‬بؿ يككف شرط قبمي لممعرفة‬
‫اجماال‪ ،‬حتى المعرفة الدينية‪ .‬كنحف نعرؼ أف العصكر الدينية لـ تتنكر لمرياضيات كعمـ كافد مف الكثنية‪ ،‬سكاء في العالـ اإلسبلمي‬
‫كىذا ما أكده الغ ازلي مثبل‪ ،‬أك في العالـ المسيحي كىذا بشيادة أحد المتخصصيف الذم قاؿ‪" :‬مف بيف جميع المجاالت العممية بقيت‬
‫الرياضيات المجاؿ الكحيد الذم لـ تعارض الكنيسة البتة نتائجو‪ .‬فالرياضيات بطابعيا المجرد تبدك أنيا تنتمي إلى مجاؿ العقؿ‬
‫البحت‪ .‬كاذ تعرب عف حقائؽ مطمقة كأزلية فيي تكاد تككف شبو إليية"‪ 5.‬كلعمنا ‪ ،‬بعد كؿ ىذا‪ ،‬نعذر بعض الفبلسفة الذيف يصفكف‬
‫الخالؽ بأكصاؼ رياضية أك يعتبركنو أعظـ الميندسيف ! مف أجؿ تأكيد التقارب بيف الرياضي كالمطمؽ‪ .‬فكؿ رياضياتي يعبر عف‬
‫الثبات كالديمكمة في لجة المتحكالت‪ ،‬ككؿ ميتافيزيقي يسعى إلى بمكغ كينكنة ىادئة تنطبؽ عمى كؿ الحاالت بعيدا عف كؿ قمؽ أك‬
‫شغب‪ .‬كبالفعؿ‪ ،‬فإننا نجد األفبلطكنية بما ىي أكؿ ميتافيزيقا متكاممة‪ ،‬قد جعمت العمـ الرياضي كسيمة "لتدريب النفس عمى السمك‬
‫بنفسيا مف المحسكس إلى المعقكؿ"‪ 6.‬كىذا يثبت كؿ الفرضيات التي كضعناىا في البداية‪ ،‬كالقائمة بأف الرياضيات اإلغريقية لـ يكف‬

‫‪ 1‬ككلينجككد‪ :‬مقاؿ في المنيج الفمسفي‪ ،‬ترجمة فاطمة اسماعيؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.250‬‬

‫‪2‬‬
‫ركبير ببلنشيو‪ :‬نظرية المعرفة العممية (اإلبستمكلكجيا)‪ ،‬ترجمة حسف عبد الحميد‪ ،‬مطبعة دار المعرفة‪ ،‬الككيت‪ ،1986 ،‬ص‬
‫‪.98‬‬

‫‪3‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.118‬‬
‫‪4‬‬
‫لكدفيج فتجنشتيف‪ :‬رسالة منطقية فمسفية‪ ،‬ترجمة عزمي إسبلـ‪ ،‬مراجعة كتقديـ زكي نجيب محمكد‪ ،‬مكتبة األنجمكمصرية‪ ،‬القاىرة‪،‬‬
‫‪ ،1968‬فقرة ‪ ،6,23‬ص ‪ 151‬كفقرة ‪ ،6,234‬ص ‪ .152‬أيضا‪ :‬ركدكلؼ كارناب‪ :‬البناء المنطقي لمعالـ كالمسائؿ الزائفة في‬
‫الفمسفة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.133‬‬

‫‪5‬‬
‫جكرج مينكا‪ :‬الكنيسة كالعمـ‪ -‬تاريخ الصراع بيف العقؿ الديني كالعقؿ العممي‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬ترجمة مكريس جبلؿ‪ ،‬األىالي لمطباعة‬

‫كالنشر كالتكزيع‪ ،‬دمشؽ‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2005 ،‬ص ‪.370‬‬


‫‪6‬‬
‫بيير ىادك‪ :‬الفمسفة طريقة حياة – التدريبات الركحية مف سقراط إلى فككك‪ ،‬ترجمة عادؿ مصطفى‪ ،‬رؤية لمنشر كالتكزيع‪ ،‬القاىرة‪،‬‬
‫الطبعة األكلى‪ ،2019 ،‬ص ‪.63‬‬

‫‪48‬‬
‫عمما خالصا‪ ،‬بؿ أنيا انخرط في أنطكلكجيا شاممة تنمذج الكامؿ كالثابت كالكمي‪ ،‬في مقابؿ تأثيـ الناقص كالمتحرؾ كالجزئي‪ .‬لذا فإف‬
‫نقؿ العمـ كالمنطؽ مف عند اإلغريؽ‪ ،‬ىك نقؿ لمنظكمة معقدة لتصكر العالـ‪ .‬كتريب بعض فبلسفة اإلسبلـ مثؿ الغزالي كابف تيمية‬
‫في نقؿ العمكـ الكافدة كاستعمميا كاف مبر ار مف ىذه الزاكية بالذات‪.‬‬

‫رابعا‪ -‬منيج اإلعجاز العممي المعاصر‪:‬‬

‫ال يمكف أف تبقى مناىج عمـ الكبلـ مثمما كانت عميو في القركف اإلسبلمية األكلى‪ ،‬ألف العمكـ عرفت عدة ثكرات داخمية كبينية‪،‬‬
‫كما أف المن اىج تكالدت بكثرة في كؿ العمكـ بما في ذلؾ العمكـ الدينية التي لـ تكف بمعزؿ عف الثكرات العممية‪ ،‬ألف كؿ ديف يفيـ‬
‫في ضكء المعطيات المعاصرة لو‪ .‬كلئف كانت المناىج الكبلمية الكبلسيكية قد تأسست عمى العقؿ المنطقي المشدكد لممنطؽ التقميدم‬
‫اإلغريقي‪ ،‬فإف ىذا المنطؽ تـ تجاكزه بصكرة كمية بحيث ال يمكف أف يمثؿ إال حي از قميبل مف مجمؿ العبلقات المنطقية المكجكدة‪ .‬كقد‬
‫كشؼ الفبلسفة المعاصريف عف مدل النمك الذم أنجزه المنطؽ المعاصر في مجاؿ العبلقات المنطقية جعمت مثبل "كارنات" يعترؼ‬
‫قائبل‪" :‬تمكنت مف تنفيذ ميمتي بفضؿ المنطؽ المعاصر فقط (منطؽ أرقي مف المنطؽ التقميدم‪ ،‬بخاصة منطؽ العبلقات) الذم تـ‬
‫تطكيره في السنكات العشر األخيرة الماضية خاصة عمى يد فريجو ككايتيد كرسؿ‪ .‬يتضمف ىذا المنطؽ نظرية مفيكمية عامة‬
‫لمعبلقات كخصائصيا البنيكية‪ .‬كأف البنية المفيكمية لمرياضيات برمتيا جزء مف المنطؽ"‪ 1.‬لذا فإننا نفترض بأف عمـ الكبلـ اإلسبلمي‬
‫المعاصر‪ ،‬الذم ال زاؿ يدافع عف العقائد اإليمانية‪ ،‬سيأخذ بالمستجدات المنطقية كالعممية المتاحة‪ ،‬كاال بقى في فضاء فكرم تقميدم‬
‫ال يستجيب لمتطمبات ىذا العصر التي تميزت بالنزعة العممية التي تربط كؿ حقيقة ميما كانت‪ ،‬بقدرتيا عمى التكثيؽ العممي‪ ،‬سكاء‬
‫كاف رياضيا أك تجريبيا أك كبلىما‪ .‬لذا قاؿ طو عبد الرحمف بأنو "إذا تبيف أف العقبلنية الكبلمية تنبني عمى مبدأ "الفعؿ" ك"المفاعمة‪،‬‬
‫فإف عمـ كبلـ" يصبح السبيؿ النافع كالجاد لتقكيـ النزعات الفكرية االختيارات المنيجية المستجدة كلمنظر في التغيرات العميقة التي‬
‫أحدثيا التقدـ العممي كالتقني في مككنات المجتمع المسمـ"‪ 2.‬ىذه المبلحظة تصبح اشكالية عمى أساس أف غالبية المجتمعات‬
‫المسممة ال تنتج معرفة عممية بمعزؿ عف النمكذج الثقافي الغربي‪ ،‬كالذم ىك نمكذج عمماني في األساس‪ ،‬مما يجعؿ ميمة عمـ‬
‫الكبلـ الجديد ميمة انفعالية في الحقيقة‪ .‬كنقصد باالنفعالية ىنا‪ ،‬أنو ينقؿ آخر النظريات العممية الغربية‪ ،‬سكاء في السماكات أك‬
‫األرض أك الفيزياء‪...‬الخ مف أجؿ البحث عما يمكف أف يثبت صحة العقيدة اإلسبلمية كترسيخ فرضيتنا األساسية القائمة بأف القرآف‬
‫ليس كثيقة تاريخية تصمح لزم ف األكائؿ فقط‪ ،‬بؿ ىك قكؿ مطمؽ صالح لكؿ زماف كمكاف‪ .‬كالحؽ أف ىذه الفرضية قد أرىقت الفكر‬
‫الكبلمي لدرجة أنو في بعض المناسبات يتخبط بيف المطمؽ كالنسبي‪ ،‬كيزف العمـ بالديف كيزف الديف بالعمـ‪ ،‬كىذا يؤدم إلى صعكبات‬
‫تقنية ال تحصى‪ .‬إذ أصبحنا اليكـ أماـ تكسع كبير لتخص صات العمكـ‪ ،‬كيظير جميا أنيا دخمت في الميداف الذم كاف حك ار عمى‬
‫الديف‪ ،‬فمثبل مكضكع الخمؽ كالحياة كالمكت‪...‬الخ كانت ضمف دائرة الديف حصرا‪ ،‬لكف العمـ اليكـ‪ ،‬بخاصة البيكلكجيا‪ ،‬أصبح‬

‫‪1‬‬
‫ركدكلؼ كارناب‪ :‬البناء المنطقي لمعالـ كالمسائؿ الزائفة في الفمسفة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.15‬‬

‫‪2‬‬
‫طو عبد الرحمف‪ :‬في أصكؿ الحكار كتجديد عمـ الكبلـ‪ ،‬المركز الثقافي‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.157‬‬

‫‪49‬‬
‫متحكما بدقة مدىشة في ىذه المكاضيع‪ 1.‬إف الحدكد المعرفية متحركة دكما‪ ،‬كما كاف دينيا أصبح فمسفيا‪ ،‬كما كاف فمسفيا أصبح‬
‫عمميا‪ ،‬كال نعرؼ في المستقبؿ البعيد ما ىك النمكذج المعرفي الذم سيسكد العالـ !‬

‫مف النادر اليكـ‪ ،‬أف نصادؼ عالـ كبلـ بالمعنى التقميدم المعركؼ في زمف المعتزلة كاألشاعرة‪....‬الخ‪ .‬كؿ ما يمكف أف نجده‬
‫ىـ الدعاة العارفكف بالتراث كالمطمعكف جزئيا عمى العمكـ الحديثة‪ ،‬بؿ في بعض األحياف نشعر بأف اطبلعيـ سطحي ال يرتقي إلى‬
‫رتبة التخصص الحقيقي‪ .‬لذا نجد الدعاة ممف ليـ تككيف ديني تقميدم‪ ،‬يدافعكف عف العقائد اإلسبلمية مف خبلؿ االستعانة بالنظريات‬
‫العممية الغربية‪ .‬كمف األمثمة األكثر انتشا ار نج د العالـ كالداعية محمد راتب النابمسي‪ ،‬كالذم انخرط في ما يمكف أف نسميو باإلعجاز‬
‫العممي لمقرآف الكريـ أك حتى السنة النبكية إلثبات صدؽ العقيدة كمف ثمة الرد عمى كؿ الممحديف أك غير المسمميف أك حتى‬
‫المسمميف العممانييف كالعقبلنييف الذيف تجاك از منطؽ الصدؽ كالخطأ بالمعنى التقميدم‪ .‬نجد مثبل ىذا العالـ كالداعية يتحدث عف فؾ‬
‫اب كلى ٍف ي ٍخمً ى َّ‬
‫ؼ الموي‬ ‫ؾ بًا ٍل ىع ىذ ً ى ي‬ ‫﴿كىي ٍستى ٍع ًجمي ى‬
‫كن ى‬ ‫لغز آية قرآنية أعجزت العمماء المسمميف منذ القديـ حتى اليكـ‪ ،‬حيث كرد في القرآف الكريـ‪ :‬ى‬
‫ً و ً‬ ‫ىك ٍع ىدهي ىكًا َّف ىي ٍك نما ًع ٍن ىد ىرّْب ى‬
‫كف﴾ [الحج‪ .]47 ،‬كىي آية تعبر عف تساءؿ البعض عف مكعد الحساب كالعقاب‪،‬‬ ‫ؾ ىكأىٍلؼ ىسىنة م َّما تى يع ُّد ى‬
‫كاستفسار يريد البرىنة عمى صدؽ العقيدة اإلسبلمية‪ ،‬ألف اإليماف باليكـ اآلخر مف أركاف اإليماف األساسية‪ ،‬كالتشكيؾ فيو يؤدم إلى‬
‫انييار كؿ المنظكمة العقيدة كاألخبلقية لئلسبلـ‪ .‬ككاف الجكاب مف خبلؿ التمييز بيف الحساب البشرم كالحساب اإلليي‪ ،‬فاليكـ‬
‫اإلليي يعادؿ ألؼ سنة مما نسحب نحف البشر‪ ،‬أم عشرة قركف كاممة‪ .‬كعمؿ النابمسي‪ ،‬مف خبلؿ االستعانة بنظرية أينشتيف‬
‫كتحديده سرعة الضكء كبعض أساسيات عمـ اليندسة كالفمؾ‪ ،‬كأثبت أف حركة القمر تتكافؽ كمية مع األلؼ سنة الكاردة في اآلية‬
‫السابقة‪ .‬ىذا النكع مف البرىنة نعتبره عمـ كبلـ جديد ألنو استثمر آخر النظريات العممية مف أجؿ اثبات صدؽ اآلية القرآنية‪ .‬كىذا‬
‫بالنسبة ألم فرد مسمـ تعزيز لقكة العقيدة‪ ،‬لكف ما ىك رأم العالـ المحايد أك رجؿ ديف مسيحي أك بكذم مثبل ؟ أك حتى متخصص‬
‫في الفيزياء الفمكية ؟ ليس مف السيؿ اقناعيـ بذلؾ‪ ،‬عمى أساس أف راتب النابمسي ليس متخصصا ال في اليندسة كال في الفمؾ كال‬
‫في الفيزياء‪ .‬كما أنو يتحدث عف نظرية النسبية إلينشتيف حديث غير متخصص‪ ،‬ألنو لـ يميز النسبية العامة كالخاصة‪ ،‬كلـ يدرس‬
‫اخفاقات ىذه النظرية‪ ،‬ثـ أنيا نظرية متقادمة تعكد إلى أكثر مف مائة سنة‪ ،‬كنحف نعمـ بأف العمـ يعرؼ ثكرات كتعديبلت ال تنتيي‪.‬‬
‫لقد تعاطي النابمسي مع نظرية النسبية بعقبلنية دينية محضة‪ ،‬عمى الرغـ مف أف العمـ لو خصكصية النسبية كالتعديؿ الذم ال‬
‫ينتيي‪ .‬كطو عبد الرحمف ذاتو يرفض ىذه الممارسات التي تفتقر إلى الدقة العممية عندما قاؿ أف "اإلشارات الككنية الكاردة في‬
‫القرآف‪ ،‬حتى كلك اتفقت مع ما تقتضيو النصكص العممية مف قكانيف كنظريات‪ ،‬فإف سياؽ األكلى غير سياؽ الثانية‪ ،‬فضبل عف أف‬
‫ثبكت ىذا االتفاؽ ىك نتاج تأكيؿ ذاتي‪ ،‬ال نتاج تحقؽ مكضكعي"‪ 2.‬كىذا القكؿ رد كاضح عمى ما حممناه سابقا في كبلمية النابمسي‪،‬‬
‫عمى أساس أف سرعة الضكء المقدرة بػ ثبلثمائة ألؼ كيمكمتر في الثانية‪ ،‬ال عبلقة ليا بالفيـ الديني‪ ،‬فيك عدد مؤسس عمى عقبلنية‬
‫الترييض التي يمكف أف تتغير في كؿ عصر‪ .‬كقد انتيى "حاج حمد"‪ ،‬الذم حمؿ ىـ الصدقية غير المنتيية لمعقيدة اإلسبلمية‬

‫‪1‬‬
‫محمد أبك القاسـ حاج حمد‪ :‬القرآف كالمتغيرات االجتماعية كالتاريخية‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬بيركت‪ -‬لندف‪ ،‬دكف تاريخ‪ ،‬ص ‪.7‬‬

‫‪2‬‬
‫طو عبد الرحمف‪ :‬سؤاؿ العمؿ – بحث عف األصكؿ العممية في الفكر كالعمـ‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء – بيركت‪،‬‬
‫الطبعة األكلى‪ ،2012 ،‬ص ‪.235‬‬

‫‪51‬‬
‫متجسدة في القرآف‪ ،‬إلى أنو مف "السيؿ القكؿ بأف القرآف صالح لكؿ زماف كمكاف‪ ،‬بينما المطمكب ىك اثبات ذلؾ مكضكعيا‪ ،‬كمف‬
‫داخؿ القرآف‪ ،‬كبما يدحض النظرة السككنية إلى آياتو"‪ 1.‬كتبقى المكضكعية‪ ،‬التي تفترض اتفاؽ كؿ العقكؿ حكؿ ىذه الحقيقة أك تمؾ‪،‬‬
‫ىي أىـ ما يكاجو عمـ الكبلـ الجديد القائـ عمى نظرية اإلعجاز العممي‪ ،‬عمى أساس أف غير المسمـ ال يرل أم عبلقة بيف نظرية‬
‫عممية كنص ديني مقدس مثؿ القرآف‪ ،‬ثـ أف النمك المستمر لمعمـ قد يتصادـ مع نجازة كنيائية العقائد اإليمانية‪ .‬كقد لخص طو ىذه‬
‫العقبات فيما يمي‪" :‬المشتغمكف فيما يسمى االعجاز العممي في القرآف‪ ،‬ال يأمنكف في الكقكع في ثبلثة محذكرات‪:‬‬

‫‪ -1‬االيياـ بأف الدليؿ الفيزيائي أقدر مف غيره عمى اثبات نزكؿ القرآف مف عند ا﵀‪ ،‬بؿ عمى اثبات كجكد ا﵀‪.‬‬
‫‪ -2‬تكمؼ التأكيؿ بًمى ٌي أعناؽ اآليات القرآنية يضر الكتاب المنزؿ (تعميؽ المتغير بالثابت)(‪ )...‬اإلساءة لكتاب ا﵀ مف‬
‫‪2‬‬
‫حيث نريد أف نحسف التصرؼ معو"‪.‬‬
‫في تقديرنا‪ ،‬أف العمـ الغربي الحالي‪ ،‬ال يمكف أف يككف بمثابة سند ابستمكلكجي إلثبات العقائد الدينية‪ .‬ألنو انطمؽ مف منظكر‬
‫مادم لمعالـ‪ ،‬كال يمكف أف يتطابؽ ماىكيا مع العقائد‪ ،‬سكاء كانت مسيحية أك اسبلمية‪ .‬بؿ ىك تطابؽ عرضي ال يمبث أف يثبت عدـ‬
‫صدقو أك صدقة الج زئي‪ .‬ألف العمـ األكاديمي الحالي‪ ،‬ليس ىك العمـ الذم كاف يتحدث عنو ابف رشد مثبل كالذم ينظر في‬
‫المكجد‪ ،‬بؿ إنو ينظر في المكجكدات مف أجؿ المنفعة أكال مف خبلؿ السيطرة عمى الطبيعة‪،‬‬
‫المكجكدات مف جية داللتيا عمى ي‬
‫كالكشؼ عف الحقائؽ العقمية المصاغة كفؽ نمكذج رياضي متسمسؿ‪ .‬فنمط التفكير الحديث‪ ،‬الذم انطمؽ مع الديكارتية كالبيككنية‪،‬‬
‫ىك نمط ميكانيكي‪ ،‬يسمب أم حياة أك قيمة عف الطبيعة‪ 3.‬في حيف أف القرآف الكريـ‪ ،‬يجعؿ كؿ ظاىرة طبيعية دالة تدبير إليي‪ .‬كمف‬
‫ثمة فأم محاكلة لبناء كترميـ أك تقكية العقائد عف طريؽ العمـ ىي محاكلة ال تثمر أم حقيقة مكثكقة‪ .‬كعمى الرغـ مف أنو تقاـ‬
‫مؤتمرات عالمية حكؿ اإلعجاز العممي لمقرآف كالسنة أك حتى أقكاؿ الصحابة‪ ،‬إال أف أثرىا يبقى محمي في العالـ اإلسبلمي الذم‬
‫يفيـ العالـ فيما تقميديا‪ .‬فالكفر الغربي الحديث‪ ،‬قاـ عمى أساس كجكد حقيقة مزدكجة ‪vérité double‬؛ حقيقة كبلمية كحقيقة‬
‫عممية‪ 4.‬كىذا يدؿ عمى الفصؿ بيف العمـ كالديف‪ ،‬كبالتالي فأم ربط مف جيتنا‪ ،‬ال يمزـ ال العمـ كال الديف‪ ،‬بؿ مجرد تأكيبلت ذاتية‬
‫تستيدؼ تقكية الشعكر الديني كحماية التيديدات التي تكالت عمى كؿ العقائد‪ ،‬كليس العقيدة اإلسبلمية فقط‪.‬‬

‫كعمى الرغـ مف ككف المفكر مالؾ بف نبي‪ ،‬قد تنبو إلى الفاصؿ النكعي بيف العمـ التقميدم متمثبل في عمـ الكبلـ‪ ،‬كالعمـ‬
‫المعاصر الذم انطمؽ مف الفاصمة الكارتزيانية (الديكارتية)‪ 5،‬إال أنو في كتابتو األكلى قد سار في طريؽ نظرية اإلعجاز العممي‬

‫‪1‬‬
‫محمد أبك القاسـ حاج حمد‪ :‬القرآف كالمتغيرات االجتماعية كالتاريخية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.141‬‬
‫‪2‬‬
‫طو عبد الرحمف‪ :‬سؤاؿ العمؿ – بحث عف األصكؿ العممية في الفكر كالعمـ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.236-235‬‬
‫‪3‬‬
‫كائؿ حبلؽ‪ :‬قصكر االستشراؽ‪ -‬منيج في نقد العمـ الحديث‪ ،‬ترجمة عمرك عثماف‪ ،‬الشبكة العربية لؤلبحاث كالنشر‪ ،‬بيركت‪،‬‬
‫الطبعة األكلى‪ ،2019 ،‬ص ‪.370‬‬

‫‪4‬‬
‫داريكش شايغاف‪ :‬األصناـ الذىنية كالذاكرة األزلية‪ ،‬ترجمة حيدر نجؼ‪ ،‬دار اليادم لمطباعة كالنشر كالتكزيع‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة‬
‫األكلى‪ ،2007 ،‬ص ‪.36‬‬

‫‪5‬‬
‫مالؾ بف نبي‪ :‬مذكرات شاىد لمقرف‪ ،‬دار الفكر المعاصر‪ -‬بيركت كدار الفكر‪ -‬دمشؽ‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،1984 ،‬ص ‪.367-366‬‬

‫‪51‬‬
‫السابقة التي حممناىا‪ .‬فعندما ألؼ الظاىرة القرآنية سنة ‪ ،1947‬عاد إلى ممارسة عمـ الكبلـ عمى الطريقة التقميدية تماما‪ ،‬حيث يفتح‬
‫بف نبي في "الظاىرة القرآنية" ممؼ المجاز القرآني‪ ،‬فتحا شجاعا بالنظر إلى طبيعة الفكر اإلسبلمي الرسمي كالمعيكد‪ .‬لكنو في‬
‫مقياس أرككف‪ ،‬الذم نقده في ىذا السياؽ‪ ،‬ىك فتح أقؿ مما ىك مطمكب‪ ،‬ألنو يستعمؿ مشكمة المجاز مف أجؿ التأكيد‬
‫كالتبجيؿ‪...‬الخ‪ .‬أك مف أجؿ إثبات الفكرة التي سيطرت عمى ذىف بف نبي بفعؿ مقكالت المستعربيف أك المستشرقيف‪ ،‬كىك أف القرآف‬
‫كبلـ ال عبلقة لو بإرادة محمد (ص)‪ ،‬كىذا ما يعارضو أرككف ذاتو‪ .‬يقكؿ بف نبي‪" :‬تحميؿ األسمكب القرآني يجب أف يكشؼ عما‬
‫يربطو بالتربة العربية (‪ )...‬إننا نجد في القرآف صك ار ذىنية كثيرة ال تتصؿ بسماء الجزيرة العربية كال بأرضيا‪ .‬مثاؿ‪ :‬سكرة النكر‬
‫‪﴿ : 40/24‬أك كظممات في بحر لجي يغشاه مكج مف فكقو مكج مف فكقو سحاب‪ ﴾...‬ىذا المجاز يترجـ عف صكرة ال عبلقة ليا‬
‫بالكسط الجغرافي لمقرآف‪ .‬ال عبلقة لو بالمعارؼ البحرية في العصر الجاىمي (‪ )...‬العصر القرآني كاف يجيؿ كمية تراكب األمكاج‪،‬‬
‫كظاىرة امتصاص الضكء كاختفائو عمى عمؽ معيف مف الماء‪ 1".‬ككما ىك كاضح‪ ،‬فإف مالؾ بف نبي يستعمؿ مسألة المجاز القرآني‬
‫إلثبات قضية ال تاريخية كى ي افصاؿ القرآف عف كؿ ما سبقو مف تراث ديني سماكم أك أرضي‪ ،‬أم كثني أك تكحيدم‪ .‬كىذه‬
‫األطركحة بالذات ىي التي تمسؾ بيا أرككف كمسممة تاريخية كأنثركبكلكجية ال يمكف التنازؿ عنيا مف طرؼ البحث العممي المنزه مف‬
‫أم أدلجة‪.‬‬

‫خالصة‪.‬‬

‫استطاع عمـ الكبلـ أف يشؽ طريقو مف خبلؿ االستناد عمى القرآف ذاتو‪ ،‬فقد كاد حجاجيا ضد كؿ مف ال يسمـ بصدقو كصحتو‪.‬‬
‫كما أف الرسكؿ الكريـ قد حاجج الكفار كالمشركيف مف أجؿ اثبات صدؽ العقائد الجديدة‪ ،‬بخاصة عقيدة التكحيد‪ .‬كما أف تفاعؿ‬
‫المسمميف األكائؿ مع الحضا ارت المجاكرة‪ ،‬قد أكسبيـ مقدرة عمى االرتفاع عف المنطؽ الذاتي المحمي إلى منطؽ ممزـ كمكضكعي‪.‬‬
‫لذا يقكؿ "فاف ايس" "كاف المسممكف مييئيف ألسمكب الفكر الديالكتيكي مف خبلؿ المكقؼ المحاجج لنبييـ كمف خبلؿ المحيط الذم‬
‫اصطدمكا بو أيضا أك الذم جاؤكا منو كغرس جديدة"‪ 2.‬لذا فإف مناىج عمـ الكبلـ لـ تكف محمية مطمقا كلـ تكف منقكلة طمقا‪ .‬كما‬
‫أنيا ال تكصؼ بالثبات‪ ،‬فمناىج المعتزلة مثبل تختمؼ مف مرحمة النشأة إلى مرحمة ما بعد المأمكف كبيت الحكمة‪ .‬كما أف مناىج‬
‫الكبلـ الحالية قد تأقممت مع خصكصيات العالـ المعاصر‪ ،‬حيث أصبح العمـ ىك معيار الصدؽ األكثر ىيمنة‪ .‬كبالتالي تحكؿ العديد‬
‫مف المتكمميف الجدد إلى تقكية العقائد بنتائج العمـ األكثر حداثة‪.‬‬

‫لـ يستعمؿ المتكممكف المناىج النقمية محميا فقط‪ ،‬أم بيف الفرؽ المسممة‪ ،‬كلـ يستعممكا المنيج العقمي مع األجانب فحسب‪ ،‬أم‬
‫أصحاب الديانات المختمفة‪ .‬بؿ أنيـ استعممكا المنيج العقمي في الداخؿ كالمنيج النقمي في الخارج‪" .‬لقد كاف المتكممكف عقبلنييف كما‬
‫كانكا دكما شديدم االعتزاز بأنفسيـ‪ ،‬إال أنيـ درجكا عمى أف يرمكا بالكفر حتى مف أبدل مف بيف زمبلئيـ بعض اآلراء الخاصة التي‬
‫تبدك عمييا مسحة الذاتية‪ .‬عمى أف ىذه المكاقؼ ربما ظمت مجرد كبلـ نظرم ال ينتقؿ إلى الممارسة الفعمية؛ لقد كاف قصد ىؤالء أف‬

‫‪1‬‬
‫مالؾ بف نبي‪ :‬الظاىرة القرآنية‪ ،‬ترجمة عبد الصبكر شاىيف‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشؽ‪ ،‬الطبعة الرابعة‪ ،1987 ،‬ص ‪.296 -295‬‬
‫‪2‬‬
‫جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.81‬‬

‫‪52‬‬
‫يؤكد فقط أف "مف كاف معتقدا لمثؿ ىذه األشياء استكجب بالضركرة اليبلؾ كالعذاب"‪ 1.‬فالتكفير الكبلمي يمثؿ بيذا المعنى استراتيجية‬
‫اإلسكات كالتخطيئ أكثر مما يمثؿ فعؿ العنؼ مثبل‪.‬‬

‫العديد مف مشكبلت عمـ الكبلـ ناجمة عف المنيج‪ ،‬ألف استعماؿ المنطؽ في مسألة العقائد قد أدل‪ ،‬في الكثير مف المناسبات‬
‫إلى انحرافات خطيرة‪ ،‬أدت إلى نشكب صراعات بيف الفرؽ‪ ،‬بؿ أنو أصؿ نشأة الفرؽ ذاتيا ىك درجة العقبلنية في الديف‪ .‬كلعؿ تحريـ‬
‫المنطؽ في بعض السياقات قد نجـ عف ىذه االستعماالت غير المناسبة لو‪" .‬فالخكض في أمكر العقيدة بطرؽ لـ يرد األمر بيا‪،‬‬
‫كالنظر في المتشابيات المنيي عنو‪ ،‬أدل إلى تحريـ المنطؽ الذم استعمؿ ككسيمة لعمـ الكبلـ‪ ،‬ففتكل ابف الصبلح القائمة ليس‬
‫االشتغاؿ بتعمـ المنطؽ كتعميمو مما أباحو الشرع كال استب احو أحد الصحابة كالتابعيف كاألئمة المجتيديف‪ .‬كالكبلـ في الذات كالصفات‬
‫أفضى إلى اإلخبلؿ بمبدأ التكحيد التنزييي"‪ 2.‬القريب مف المقدس مقدس كالقريب مف المدنس مدنس‪ .‬لذا فقيمة المنطؽ تابعة لما‬
‫يحققو مف نتائج بالنظر إلى العقيدة‪.‬‬

‫كلئف اقتنعنا أف ما يميز عمـ ا لكبلـ عف بقية فركع العمكـ الدينية ىك استعماؿ العقؿ‪ ،‬فإف معضمتو تتحكؿ إلى معضمة منيجية‪،‬‬
‫عمى أساس أنو يشترؾ مع بقية العمكـ القرآنية في مكضكع العقائد‪ .‬لكف ال يجب أف نتحدث عف العقؿ باعتباره جكى ار ثابتا بؿ ىك‬
‫فعؿ نامي‪ 3،‬فعقمنا اليكـ‪ ،‬كنحف في القرف الكاحد كالعشريف‪ ،‬ليس ىك نفسو عقؿ القرف السابع لمميبلد كما بعده كىك عصر ظيكر‬
‫الرسالة المحمدية‪ ،‬كليس ىك عقؿ القرف الرابع في أثينا حيث عرفت الفمسفة الركاج األكبر‪ .‬بؿ العقؿ فعؿ‪ ،‬أم ينتج معرفة تنتجو مرة‬
‫ثانية‪ .‬كىذه النظرة التركيبية التي تكصؿ إلييا ادغار مكراف‪ ،‬قد تجعمنا نقكؿ بأف العقؿ الكبلمي ىك الذم يجعؿ النص القرآني قابؿ‬
‫لمفيـ دكف نياية‪ .‬ففي كؿ عصر‪ ،‬كالذم يتج عقبلنية مخصكصة‪ ،‬يتـ فيـ القرآف مف جديد‪ ،‬عمى أساس النمكذج المتكفر‪ ،‬كىذا ما‬
‫يجعمو صالحا لكؿ زماف كمكاف‪.‬‬

‫لكف ال يجب أف نربط اإليماف بالعقؿ النظرم فقط‪ ،‬بؿ لو جانب أخبلقي يؤثر في نشأتو كاستم ارره‪ .‬لذا فبل يمكف أف نعكؿ عمى‬
‫المنطؽ مطمقا مف أجؿ تأسيس اإليماف‪ .‬كقد كاف كانط عرؼ اإليماف كفؽ ىذه الثنائية كما يمي‪ :‬اإليماف ىك الطريقة األخبلقية‬
‫لتفكير العقؿ في االعتقاد بصحة ما يتعذر عمى المعرفة النظرية الكصكؿ إليو (‪ )...‬إف اإليماف ىك ثقة بالكصكؿ إلى قصد يككف‬
‫السعي كراء تحقيقو كاجبا‪ ،‬بينما تبقى إمكانية تحقيقو بالنسبة إلينا قابمة ألف تدرؾ"‪4.‬كىذا الجانب األخبلقي ىك بالضبط الذم كنا قد‬
‫سميناه أعبله بالجانب االعتبارم أك العقؿ االعتبارم في القرآف الكريـ‪ .‬إف دعكة القرآف لئليماف با﵀ خالقا كاحدا لمككف كلكؿ ما فيو‪،‬‬

‫‪1‬‬
‫يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬ترجمة عبد المجيد الصغير‪ ،‬نشر الفنؾ‪ ،‬الدار البيضاء‪،2000 ،‬‬
‫ص ‪.25‬‬

‫‪2‬‬
‫طو عبد الرحمف‪ :‬سؤاؿ المنيج – في أفؽ التأسيس ألنمكذج فكرم جديد‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.215‬‬

‫‪3‬‬
‫طو عبد الرحمف‪ :‬المساف كالميزاف أك التككثر العقمي‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء – بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪،1998 ،‬‬
‫ص ص ‪.404-21‬‬

‫‪4‬‬
‫إمانكيؿ كانط‪ :‬نقد ممكة الحكـ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬فقرة ‪ ،91‬ص ‪.445‬‬

‫‪53‬‬
‫ىي الدعكة المرفكقة بااللتزاـ األخبلقي تجاه الكجكد كالخالؽ معا‪ .‬أك قؿ االمتناف مف ىذا الكجكد العظيـ الذم ال يمكف أف يككف ببل‬
‫مكجكد أعظـ منو‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫المحاضرة الثالثة‪ :‬عوامل ظيور عمم الكالم‪.‬‬

‫مقدمة‪.‬‬

‫يمكف الحديث عف ظاىرة المركزية الثقافية كظاىرة أنثركبكلكجية‪ ،‬فالكؿ يعتقد بأنو نقي مف الناحية الحضارية‪ ،‬لـ يأخذ مف عند‬
‫أحد‪ ،‬كاف أخذ فإنو أخذ الشيء الييف كما ككيفا‪ .‬كعندما يتعمؽ األمر بالتاريخ‪ ،‬فإننا نعمؿ عمى اسقاط كضعيتنا الحضارية الحالية‬
‫ايجابا أك سمبا عميو‪ .‬فالعالـ اإلسبلمي اليكـ‪ ،‬كنظ ار لمكانتو المتكاضعة مف الناحية العممية كاالقتصادية‪ ،‬فإنو يعكض ىذا الفشؿ‬
‫كالنقص بعقيدة نجاح كقكة التاريخ اإلسبلمي‪ ،‬في حيف أف الغرب‪ ،‬كنظ ار لجبرتو الحضارم‪ ،‬عمى كؿ األصعدة‪ ،‬فإنو ال يمكف أف‬
‫يعترؼ بإسيامات غيره‪ ،‬خاصة العالـ الش رقي‪ ،‬كيتبدل لبعض مفكريو‪ ،‬المتخصصيف أك غيرىـ‪ ،‬بأف ىذه الحضارة العظيمة ال يمكف‬
‫أف تككف قد أخذت مف غيرىا إال عمى سبيؿ المجاز‪ .‬فميس التاريخ فقط مف يصنع الحاضر‪ ،‬بؿ أف الحاضر أيضا يسيـ في تشكيؿ‬
‫تقكم بتاريخو المفترض أنو قكم‪ ،‬كالقكم يزداد قكة‬
‫تاريخو عمى منكالو‪ ،‬أك عمى األقؿ منسجـ مع خصكصياتو الراىنة‪ .‬فالضعيؼ ي ٌ‬
‫بتاريخو المفترض مف خبلؿ اضعاؼ تاريخ اآلخريف كرسمو باىتا ىامشيا‪ .‬ىذه ىي تاريخية كاجتماعية المعرفة التي تحدد كتشكؿ‬
‫المكاقؼ التي نحمميا‪.‬‬

‫مسألة العكامؿ األساسية في ظيكر عمـ الكبلـ‪ ،‬ال تنفصؿ عف ظاىرة المركزية الثقافية‪ ،‬عمى أساس أف ىذا المكضكع قديـ‪،‬‬
‫كالنصكص الصريحة فيو قميمة إف لـ تكف منعدمة‪ ،‬لذا يأتي ىنا عمؿ المؤرخيف في اعادة تشكيؿ الكضعية‪ .‬كىذه اإلعادة ال تنفصؿ‪،‬‬
‫طبعا‪ ،‬عف كضعية كتككيف كميكؿ المؤرخ ذاتو‪ .‬لذا نجد أنفسنا أماـ نظريتيف مستقطبتيف ال يمكف التكفيؽ بينيما بسيكلة؛ نظرية تؤكد‬
‫أف عمـ الكبلـ ظير نتيجة نمك داخمي كذاتي لمحضارة اإلسبلمية‪ ،‬كنظرية معارضة‪ ،‬ممثمة في العمكـ في التكجو اإلستشراقي‪ ،‬كالذم‬
‫يدرس التاريخ اإلسبلمي في سياؽ أشمؿ مما ندرسو نحف‪ ،‬بحيث يسحب الخيكط إلى الماضي البعيد كالجغرافية القريبة مف أجؿ‬
‫الت أكيد عمى حدكث نقكؿ ميمة‪ .‬كمكقفنا المبدئ ىك أف كبل الطرحيف يحتاج إلى تفحص مف أجؿ اخراجو مف براثيف المركزية‪ ،‬ألنو‬
‫ال ينفع التفكير في مسألة معرفية مف منطمقات عرقية كعنصرية أك ثقافية – مركزية‪ ،‬ما ينفع ىك احقاؽ الحؽ العممي كالتاريخي‪،‬‬
‫كاعتبار كؿ الحضارات مؤىمة لئلبداع عف طريؽ النقؿ كمستعدة لمنقؿ مف أجؿ اإلبداع‪ .‬ثـ أف الفصؿ الحاد بيف النقؿ كاإلبداع فصؿ‬
‫غير مبرر إطبلقا‪ ،‬ألف تأم هؿ بسيط في مفيكـ اإلبداع كالنقؿ معا‪ ،‬يحيؿ بنا إلى التأكيد عمى أف كؿ نقؿ ىك ابداع ككؿ ابداع ىك‬
‫نقؿ‪ .‬أم أف كؿ شيء مكجكد في كؿ شيء‪ .‬فالمفكريف المسمميف‪ ،‬حيف نقمكا النصكص اليكنانية‪ ،‬قامكا بإبداع فيـ انطبلقا مف‬
‫اجتماعية الثقافية التي نشأكا فييا‪ ،‬ككـ مف فيـ اسبلمي منحرؼ عمى األصؿ اليكناني‪ ،‬أبدع تأكيبل جديدا لـ يكف يخطر عمى باؿ‬
‫المؤلؼ اليكناني األصمي‪ .‬ثـ أف أطركحة اإلستشراؽ األساسية‪ ،‬كىي أطركحة سطحية إلى حد بعيد‪ ،‬تعكؿ عمى األسبقية التاريخية‬
‫إلثبات األثر الكبير لمعكامؿ الخارجية في نشأة عمـ الكبلـ‪ .‬يعتقدكف بأف أسبقية اليكناف كبيزنطة عمى المسمميف في مناقشة المسائؿ‬
‫المتعمقة بالبلىكت أك الثيكلكجيا اك الميتافيزيقا‪ ،‬ىك المبرر الذم يثبت تبعية عمـ الكبلـ اإلسبلمي لبلىكت المسيحي أك الميتافيزيقا‬
‫اإلغريقية‪ .‬لكنيا حجة كاىية في أكثر مف مناسبة‪ ،‬عمى أساس أف بعض المسيحييف كبعض الييكد قد تأثركا بالكبلـ اإلسبلمي‪ .‬ألف‬
‫الفكر المسيحي‪ ،‬كلك أنو سبؽ الفكر اإلسبلمي‪ ،‬إال أنو لـ يتكقؼ كلـ يظير كامبل ناجزا‪ ،‬فبعد ظيكر الفكر اإلسبلمي‪ ،‬استمر‬
‫المسيحيكف كالييكد في التفك ير كاإلنتاج تحت لكاء الحضارة اإلسبلمية‪ ،‬كبيذا يككف الفكر المسيحي المتأخر‪ ،‬قد أخذ مف الفكر‬

‫‪55‬‬
‫اإلسبلمي المتقدـ عميو‪ ،‬كما حالة ابف ميمكف مثبل كالقديس تكما اإلككيني إال أمثمة ظاىرة ليذا التأثر بالفكر اإلسبلمي‪ ،‬ىنا يتحكؿ‬
‫المتأخر فاعبل في المتقدـ‪ .‬ربما أف المستشرؽ يتحدث عف البدايات كيقبع فييا‪ ،‬مرك از النظر عمى ش اررة انطبلؽ عمـ الكبلـ‪ ،‬ىنا‬
‫نقكؿ‪ ،‬بأف ىذا ضرب مف األصكلية اإلستشراقية‪ ،‬ألف البقاء في األصكؿ‪ ،‬كالتشبث فييا تشبثا يعصابيا ليس مكقفا عمميا البتة‪ ،‬كىـ‬
‫مف يدعكف العممية كالصرامة كاألحقية المعرفية‪ .‬لكف ال يجب أف نتحامؿ عمى الفكر اإلستشراقي دكف الفكر اإلسبلمي المتمركز عمى‬
‫العقد كالعكاطؼ كاالعتبارات المزاجية كالنفسية‪ .‬ألف ىناؾ مف‬
‫ذاتو‪ ،‬كالتمركز ىك دكما تعبير عف عدـ إرادة التفكير بمعزؿ عف ي‬
‫المفكريف المسمميف مف ال يقؿ تعصبا عف الفكر اإلستشراقي‪ ،‬مف خبلؿ اعتقاده بأف ظيكر اإلسبلـ كاف حدثا عجائبيا ببل أم‬
‫مقدمات حضارية أك تأسيسات إنسانية ككاف المسمميف بشر فكؽ البشر‪ .‬نعتقد بأف ىناؾ تطعيـ حضارم نقؿ خصائص قديمة إلى‬
‫العالـ الجديد‪ ،‬كبأف العالـ اإلسبلمي بقدر ما لو جانب أصيؿ‪ ،‬لو جانب تقميدم مف خبللو تـ تناقؿ مكركث أجياؿ سابقة لثقافات‬
‫متنكعة‪ ،‬كىذا االعتقاد ال يسيئ إلى أصالة الفكر اإلسبلمي‪ ،‬بقدر ما يثبت إنسيتو‪ .‬لذا فبل يجب استعادة نظرية النقاء العرقي‬
‫كالصفاء الثقافي التي نحاربيا في اإلستشراؽ لكي نتبناىا في سياقاتنا اإلسبلمية‪ .‬فالمركزية مرض فكرم معدم‪ ،‬ال ينجك منو إال مف‬
‫حصف نفسو بالفكر النقدم كالفعالية الفكرية المفتكحة عمى كؿ االحتماالت‪.‬‬
‫ٌ‬

‫ابتدأنا بيذه المبلحظات التمييدية‪ ،‬كالتي كاف باإلمكاف تأخيرىا إلى الخاتمة‪ ،‬مف أجؿ كضع الصكرة في سياقيا العاـ‪ ،‬ألف طرح‬
‫مسألة عكامؿ ظيكر عمـ الكبلـ‪ ،‬كاف دائما في إطار ىذه الخمفية الفمسفية كاإليديكلكجية‪ ،‬لذا فإف الكعي بيا‪ ،‬يأخذ بنا إلى فيـ أكضح‬
‫كأعمؽ لحجج كؿ طرؼ كاالستعداد المسبؽ لتفحص كمؿ أطركحة مف خبلؿ معرفة أصكليا الخفية‪.‬‬

‫لذا فمشكمة المحاضرة الثالثة ىي التالية‪ :‬ىؿ ال زاؿ عمينا اليكـ‪ ،‬أف نستمر في تقديـ طركحات األصؿ‪ ،‬أم أصؿ الكبلـ أك‬
‫الفكر اإلسبلمي‪ ،‬مثمما كانت تقدـ في نياية القرف التاسع عشر ؟ عندما كاف الصراع الشرقي – الغربي في أكجو‪ .‬مع العمـ أف‬
‫المستعمر لـ تعد مكجكدة بالصكرة المباشرة‪ .‬ربما تمثؿ ىذه المشكمة‪ ،‬مشكمة‬ ‫ً‬
‫المستعمر ك‬ ‫كضعية ذلؾ الصراع قد تغيرت‪ ،‬ألف صكرة‬
‫ى‬
‫أصالة عمـ الكبلـ اإلسبلمي‪ ،‬أحد مظاىر الصراع الفكرم في الببلد المستعمرة؛ "فاالستعمار يتبع طريقة تطبؽ في بعض األلعاب‬
‫اإل سبانية‪ :‬إنيـ يمكحكف بقطعة قماش أحمر أماـ ثكر ىائج في حمبة صراع‪ ،‬فيزداد ىيجانو بذلؾ‪ .‬فبدال مف أف ييجـ عمى المصارع‬
‫يستمر في اليجكـ عمى المنديؿ األحمر الذم يمكح بو حتى تنيؾ قكاه (‪ )...‬االستعمار بطؿ األلعاب االسبانية في المجاؿ‬
‫السياسي"‪ 1.‬لذا نبينا أعبله عمى خطكرة الردكد الفكرية عند بعض المسمميف‪ ،‬كالتي تطبع في العمكـ بطابع االنفعالية المفمسفة أك‬
‫الفمسفة االنفعالية‪ .‬ألف االنفعاؿ ليس فعؿ بنائي‪ ،‬بقدر ما ىك ىجكـ عاطفي‪ ،‬في حيف أف الدرس العممي كالتاريخي يتطمب منا‬
‫التركيز كالبحث كفتح الكتب مف جديد‪ .‬كالدرس اإلستشراقي في النياية‪ ،‬كلئف اتبع الطريؽ العممي‪ ،‬إال أف األكاديمية في أصميا‬
‫مكقؼ معيف شكؿ المنظكر إلى الكجكد‪ ،‬ال ينفصؿ عف فمسفة السيطرة‪ .‬كقد انتقؿ الغرب مف السيطرة عمى الطبيعة كما كاف ينادم‬
‫بيا ديكارت كبيككف‪ ،‬إلى السيطرة عمى اإلنساف مف خبلؿ شمو فكريا كحضاريا‪ .‬بؿ أنو اليكـ‪ ،‬يمعب المعبتيف معا‪ ،‬السيطرة عمى‬
‫الطبيعة مف خبلؿ اإلنساف كالسيطرة عمى اإلنساف مف خبلؿ الطبيعة‪ .‬كفي ىذا كذاؾ‪ ،‬يستحضر الدرس التاريخي كأداة لذلؾ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫مالؾ بف نبي‪ :‬الصراع الفكرم في الببلد المستعمرة‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشؽ‪ ،1981 ،‬ص ‪.30-29‬‬

‫‪56‬‬
‫كاستراتيجية الدرس اإلستشراقي ىي كما يقكؿ حبلؽ ‪ 1، Wael B. Hallaq‬افراغ القرف اليجرم األكؿ‪ ،‬كالذم يفترض أنو شكؿ‬
‫القاعدة الفكرية األساسية‪ ،‬افراغا كميا مف أجؿ اثبات اطركحة النقكؿ مف الخارج‪.‬‬

‫تتخمؿ ىذه المشكمة األساسية‪ ،‬كالتي تحمؿ طابع مركب كمعقد ال ينفصؿ عمى رؤية ككنية سيادية لمعالـ كعف صراع أشمؿ‬
‫يدخؿ في ظاىرة الييمنة الكمية‪ ،‬مجمكعة مف األسئمة الجزئية كالتي نفرد ليا أجزاء المحاضرة‪ ،‬كىي‪:‬‬

‫‪ -‬ىؿ العكامؿ الداخمية الناتجة عف القدرات الذاتية لمثقافة اإلسبلمية الجديدة‪ ،‬كانت كافية لتشكيؿ عمـ الكبلـ ؟‬

‫‪ -‬لك افترضا أف ظيكر عمـ الكبلـ كاف تحت تأثير عكامؿ داخمية بالكماؿ؛ ىؿ ظيكره كاف نتيجة ألحداث سياسية أـ مكاقؼ‬
‫فكرية مستقمة ؟‬

‫اذا افترضنا أف المسمميف قد نقمكا مسائؿ كمناىج عمـ الكبلـ بفعؿ االحتكاؾ بالعالـ المسيحي في دمشؽ‪ ،‬فما ىي تفاصيؿ‬ ‫‪-‬‬
‫ىذا النقؿ ؟ ىؿ ىك نقؿ سمبي مف خبلؿ أقممة المنقكالت األجنبية أـ أنو نقؿ ايجابي بحيث أثمر مكاقؼ ابتكارية مف ناحية‬
‫اإلستشكاؿ كاإلستدالؿ ؟‬

‫ىؿ نمك عمـ الكبلـ مف الكبلـ المحمي الحجاجي المنبثؽ مف المجاؿ التداكلي اإلسبلمي إلى الكبلـ الصناعي البرىاني‬ ‫‪-‬‬
‫المتأثر بالمجاؿ التداكلي اإلغريقي – المسيحي‪ ،‬يمكف أف يقدـ تكضيحا ما لمشكمة صراع العكامؿ الداخمية كالخارجية في‬
‫ظيكره ؟‬

‫أوال‪ -‬العوامل الداخمية في ظيور عمم الكالم‪:‬‬

‫الفرضية األكثر قكة لتقديـ أثر العكامؿ الداخمية في ظيكر عمـ الكبلـ اإلسبلمي‪ ،‬ىي التي تقر بأف "المنطقة التي انطمؽ منيا‬
‫اإلسبلـ (شبو الجزيرة) كانت أقؿ المناطؽ تعرضا لمتأثيرات األجنبية‪ .‬صحيح أف المنطقة العربية لـ تكف منعزلة تماما عف "العالـ‬
‫القديـ"‪ ،‬كدليؿ عمى ذلؾ ىذه النقكش كالتماثيؿ المكجكدة في قرية الفاك كذلؾ خبلؿ االحتبلؿ الساساني لببلد اليمف"‪ 2.‬كىذا يساعدنا‬
‫في تصكر حركية سياسية كفكري ة داخمية بعيدة عف التدخبلت األجنبية القكية‪ .‬لذا فالمسألة مرتبطة بنسبة األثر الفعاؿ لمقكل‬
‫األجنبية‪ ،‬فالتفاعؿ مع الخارج مكجكد في كؿ األزمنة كاألمكنة‪ ،‬لكف أف تككف في مركز حركة اقتصادية كسياسة يختمؼ عف الحالة‬
‫التي تككف فييا خارج المركز‪ .‬كشبو الجزيرة العربية‪ ،‬ع مى الرغـ مف تفاعميا الخارجي‪ ،‬إال أنيا لـ تكف في بؤرة األحداث الجيكية‬
‫كالقيطرية‪ .‬كىذه الكضعية تجعؿ التأثير الخارجي ىامشي يأتي في النياية كليس جكىرم يككف في البداية‪ .‬لذا كجو العديد مف مؤرخي‬

‫‪1‬‬
‫كائؿ حبلؽ‪ :‬نشأة الفقو اإلسبلمي كتطكره‪ ،‬ترجمة رياضي الميبلدم‪ ،‬دار المدار اإلسبلمي‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2007 ،‬ص‬
‫‪.11‬‬

‫‪2‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬ترجمة‬
‫محي الديف جماؿ بدر كرضا حامد قطب‪ ،‬مراجعة محسف الدمرداش‪ ،‬منشكرات الجمؿ‪ ،‬بيركت – بغداد‪ ،‬الطبعة األكلى‪،2016 ،‬‬
‫ص ‪.951‬‬

‫‪57‬‬
‫عمـ الكبلـ النقد لمشيرستاني الذم ربط ظيكر عمـ الكبلـ بالمرحمة المتأخرة في بداية القرف الثالث لميجرة بعد حركة الترجمة‪ ،‬في‬
‫حيف أف لفظة "الكبلـ" كانت متداكلة قبؿ المأمكف بكثير‪ ،‬بحكالي قرف مف الزماف‪" .‬خطأ الشيرستاني في تقريره بأف عمـ الكبلـ ظير‬
‫في العصر العباسي (ثـ طالع بعد ذلؾ شيكخ المعتزلة كتب الفبلسفة‪ ،‬حيف نشرت أياـ المأمكف‪ ،‬فخمطت مناىجيا بمناىج الكبلـ‪،‬‬
‫كأفردتيا فنا مف فنكف العمـ‪ ،‬كسمتيا باسـ الكبلـ) يرجع إلى المصادر التي اعتمدىا(‪ )...‬مع العمـ أف المأمكف تكفي ‪ 218‬ق (‪)...‬‬
‫أما اإلماـ الصادؽ استشيد عاـ ‪ 148‬ق حيث كاف مصطمح الكبلـ معركفا في عصره"‪ 1.‬كالظاىر أف الكثير مف مشكبلت الفكر‬
‫اإلسبلمي مرتبطة‪ ،‬مثمما أشرنا في المقدمة‪ ،‬إلى ظاىرة فراغ‪ ،‬أك قؿ إفراغ‪ ،‬القرف األكؿ لميجرة مف الكثائؽ البلزمة‪ .‬كقد الحظ العديد‬
‫مف المؤرخيف عدـ كجكد أم مدكنة معتبرة في قرف الحكـ األمكم‪ ،‬عمى خبلؼ ما سنجده في العصر العباسي البلحؽ لو‪ .‬كالحؽ أف‬
‫ىذا االفراغ أك الفراغ يحتمؿ أكثر مف تأكيؿ‪ ،‬أكليا أف العالـ اإلسبلمي الكليد كاف مكتفيا بذاتو كلـ يعرؼ أم تكاصؿ خارجي مع‬
‫الحضارات المجاكرة أك أم تكاصؿ داخمي مع العيد السابؽ كىك الجاىمية حسب التسمية القرآنية‪ .‬لكننا ال نعتقد بأف ىناؾ فصؿ‬
‫بالدرجة التي نتصكرىا‪ ،‬إذ أف القطيعة لـ تكمف كمية كالعبلقات بالحضارات المجاكرة لـ تكف معدكمة‪.‬‬

‫لكف ما ىي العكامؿ الداخمية التي أدت إلى الكبلـ في مكاضيع العقيدة ؟ ىؿ ىناؾ عامؿ كاحد أكثر أىمية مف العكامؿ األخرل‬
‫؟ يمكف أف نبلحظ تفسيريف كبيريف متنافسيف عمى السبب القكم‪ ،‬كنقصد التفسير النصي أك العقيدم‪ ،‬القائؿ بأف طبيعة القرآف الكريـ‬
‫كانت كراء ظيكر عمـ الكبلـ‪ ،‬كالتفسير السياسي الذم يرم أف المشكمة ليست نصية بؿ سمطكية‪.‬‬

‫‪ -2‬اليوية السياسية لمكالم‪:‬‬

‫يتفؽ العديد مف مؤرخي عمـ الكبلـ عمى أف المشكمة السياسية ىي التي أدت إلى ظيكر المسألة الكبلمية‪ .‬كفي ىذا التأكيد‬
‫إشارة إلى أف العامؿ الداخمي كاف حاسما في ظيكره‪ .‬كبحسب بعض التأكيبلت فإف عدـ ظيكر عمـ الكبلـ في زمف الرسكؿ الكريـ‪،‬‬
‫رغـ استمرار نزكؿ كتدكيف القرآف‪ ،‬يدؿ عمى أف القرآف أنذاؾ لـ يكف يطرح مشكبلت عقائدية‪ .‬بؿ أف بداية الكبلـ في العقيدة كاف بعد‬
‫الفتنة‪ .‬أم الحرب األىمية التي عرفيا اإلسبلـ المبكر‪ ،‬كالتي صدمت الكعي اإلسبلمي الذم لـ يكف يتصكر أف الخبلؼ الذم نيا‬
‫عنو القرآف قد تجسد بيذه السرعة كمف طرؼ أقرب الصحابة إلى الرسكؿ (ص)‪ .‬إف الخبلؼ بيف السنة ممثميف في عثماف (ض)‬
‫كالشيعة ممثميف في عمي (ض) كاف خطا فاصبل ف ي التاريخ كالكعي اإلسبلمييف كمف ىنا بالضبط بدأ التاريخ اإلسبلمي في التشكؿ‬
‫كالتمذىب‪ 2.‬فأصبح لمسنة تاريخ كلمشيعة تاريخ مخالؼ‪ .‬كاستثمر ىذا التاريخ في تشكيؿ مكاقؼ كحجج كبلمية متصارعة عف طريؽ‬
‫استثمر النص القرآني‪ .‬كقد كاف عمي (ض) يقكؿ باف القرآف ال يتكمـ‪ ،‬بؿ الرجاؿ ىـ مف يستنطقكنو‪ .‬كمف ىنا بدأت الفرؽ في التفرؽ‬
‫يمشكمةن كتؿ عقائدية تباعدت شيئا فشيئا إلى أف شكمت عقائد داخؿ العقدية الكاحدة‪ .‬إف المكضكع األساسي لعمـ الكبلـ قد ارتبط‬
‫بمعصية اإلنساف النمكذجي‪ ،‬أم القادة الركحييف كرجاؿ الدكلة كالديف األكائؿ‪" .‬فأصحاب الرسكؿ[ىـ] مف تكرط في اإلثـ كالمعصية‬

‫‪1‬‬
‫شكيب بف بديرة الطبمبي‪ :‬مدخؿ مناىجي إلى عمـ الكبلـ‪ ،‬مطبعة دار المتكسط الجديد‪ ،‬طبمبة‪ ،‬تكنس‪ ،2012 ،‬ص ‪.35-34‬‬

‫‪2‬‬
‫يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬ترجمة عبد المجيد الصغير‪ ،‬نشر الفنؾ‪ ،‬الدار البيضاء‪،2000 ،‬‬
‫ص ‪.100‬‬

‫‪58‬‬
‫(الفتنة) كىذا ما كاف مكضكعا لعمـ الكبلـ‪ .‬كلـ ييتـ المتكمميف بالمشكمة السياسية"‪ 1.‬أم لـ ييتمكا بيا لذاتيا‪ ،‬بؿ لككنيا قد كقعت‬
‫فيما نيى عنو القرآف كىك االختبلؼ‪ .‬كيؼ أف صحابة الرسكؿ كقعكا في الممنكع ؟ لقد نيى ا﵀ عز كجؿ عف االختبلؼ في أكثر‬
‫يمةه ي ٍدعكف إًلىى ا ٍل ىخ ٍي ًر كيأٍمركف بًا ٍلمعر ً‬
‫كؼ ىكىي ٍنيى ٍك ىف ىع ًف‬ ‫ً‬
‫ى ى يي ى ى ٍي‬ ‫مف مرة‪ ،‬ضاربا المثاؿ السيئ باختبلؼ الييكد كالنصارل؛﴿ ىكٍلتى يك ٍف م ٍن يك ٍـ أ َّ ى ي ى‬
‫ؾ لىيـ ع ىذ ه ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ؾ يىـ ا ٍلم ٍفمًحكف كىال تى يك ي ًَّ‬‫ً‬
‫يـ﴾ [آؿ عمراف‪-104 ،‬‬ ‫اب ىعظ ه‬ ‫ات ىكأيكلىئ ى ي ٍ ى‬ ‫اء يى يـ ا ٍلىبيىّْن ي‬
‫اختىمىفيكا م ٍف ىب ٍعد ىما ىج ى‬
‫يف تىفىَّرقيكا ىك ٍ‬
‫كنكا ىكالذ ى‬ ‫ا ٍل يم ٍن ىك ًر ىكأيكلىئ ى ي ي ي ى ى‬
‫‪ . ]105‬يجب أف نقكؿ بأف القرآف قد نظر إلى االختبلؼ بنظرة سمبية‪ ،‬أم أنو ال يحب أف يككف‪ ،‬كالكضعية المثمى ىي الكحدة‬
‫ّْؾ لىقي ً‬
‫ت ًم ٍف ىرب ى‬
‫اختىمىفيكا ىكلى ٍكىال ىكمً ىمةه ىسىبقى ٍ‬ ‫يمةن ك ً‬ ‫الن ً َّ‬
‫ض ىي ىب ٍيىنيي ٍـ‬ ‫اح ىدةن فى ٍ‬ ‫اف َّ ي‬
‫اس إال أ َّ ى‬ ‫﴿ك ىما ىك ى‬
‫كالتناغـ كاالتفاؽ‪ .‬يقكؿ ا﵀ عز كجؿ في ىذا السياؽ‪ :‬ى‬
‫كف﴾ [يكنس‪ .]19 ،‬كطالما كاف االختبلؼ مقركف بالتجربة السيئة لمييكد كالنصارل‪ ،‬كدائما ما يربط االختبلؼ‬ ‫ً‬ ‫ًف ً ً‬
‫يما فيو ىي ٍختىمفي ى‬
‫ى‬
‫بالعذاب‪ .‬مما كلد شعكر قكم كقاتؿ بالخطيئة‪ 2،‬كىك شعكر حرؾ العديد مف أطراؼ الصراع السياسي كالكبلمي‪ .‬كالمبلحظ أف "تيار‬
‫المعتزلة لـ يتكممكا عف الحاضر‪ ،‬حديثيـ منصب عمى الفترة الماضية‪ .‬ركزكا عمى مشكمة المعصية‪ .‬لقد تسببت تمؾ المعصية التي‬
‫كقع فييا الصحابة الذيف اشترككا في معركة الجمؿ أك حرب صفيف في اسقاط عدالتيـ"‪ 3.‬ىنا بدأ يظير الفارؽ الكبير بيف اإلسبلـ‬
‫المعيارم كما قدمو القرآف الكريـ‪ ،‬كبيف اإلسبلـ الكاقعي كما تحقؽ بعد الفتنة المزدكجة‪ ،‬حيث نساء النبي كصحابتو دخمكا في صراع‬
‫مميت أدل إلى مكت العديد مف المسمميف مف الطرفيف‪ ،‬فمف ىك الشييد كمف ىك المعتدم‪ .‬ىذا االنكسار السريع كالمفاجئ لممثؿ‬
‫اإلسبلمية الكاممة ىك الذم حرؾ النظر في مسألة العقائد كالسياسة‪ ،‬فيناؾ مف الفرؽ مف يعتبر اإلمامة مسألة عقائدية ال تقؿ أىمية‬
‫عف مسألة كجكد ا﵀ أك كحدانيتو‪ .‬لقد كاف اإلنساف أنذاؾ يؤمف بضركرة رفع اإلسبلـ االجتماعي المتحقؽ إلى اإلسبلمي المعيارم‬
‫المطمكب تحقيقو‪ ،‬كلـ يكف يتصكر أف األحداث تسير إلى العكس‪ 4،‬أم اإلنحدار بالمثاؿ المعيارم الكامؿ إلى كقائع سياسية منقكصة‬
‫أثيمة‪ .‬كالحقيقة أننا اليكـ‪ ،‬كبعد مركر القركف كالقركف عمى تاريخنا ىذا‪ ،‬يمكف أف نطرح السؤاؿ الذم طرح العديد مف المرات‪ ،‬كىك‬
‫عف مدل مثالية الحكـ اإلسبلمي اإلستخبلفي المسمى راشديا‪ .‬كمتى تـ اطبلؽ ىذه الصفة ؟ ىؿ كاف أبك بكر الصديؽ يعمـ أنو‬
‫خميفة راشد ؟ كنفس السؤاؿ عف الخمفاء الثبلث البكاقي؛ عمر كعثماف كعمي رضي ا﵀ عنيـ جميعا‪ .‬نحف نميؿ إلى االعتقاد بأف‬
‫عبارة "الخبلفة الراشدة" تـ اطبلقيا في كقت متأخر‪ ،‬أم بعد الفتنة بالضبط‪ ،‬ككأف المسمميف عاشكا خبلفة غير راشدة بالمرة‪ ،‬كتأكدكا‬
‫مف ذلؾ‪ ،‬فكانكا يستحضركف ماضي خيالي ‪ ،‬أك ما يمكف أف يطمؽ عمى تسميتو باليكتكبيا الماضكية‪ ،‬مف أجؿ تعزيز اإليماف‪،‬‬
‫كالتصبر مف ىذا ا لمصير اإلنحدارم لمتاريخ اإلسبلمي‪ .‬ألنو مف الناحية التاريخية ال يستقيـ الحديث عف خبلفة راشدة انتيت‬
‫بالقتبلت الثبلثة‪ 5،‬أك قؿ القتؿ المثمث عمى مقياس لغة طو‪ .‬حقيقة أف ىناؾ تبرير يقزـ مف ىذه الممحكظة‪ ،‬كىك أف عمر قتؿ مف‬

‫‪1‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬الصفحة نفسيا‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫يكليكس فميكزف‪ :‬أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر اإلسبلـ – الخكارج كالشيعة‪ ،‬ترجمة عبد الرحمف بدكم‪ ،‬مكتبة‬
‫النيضة المصرية‪ ،‬القاىرة‪ ،1958 ،‬ص ‪.196‬‬

‫‪3‬‬
‫يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.103-102‬‬
‫‪4‬‬
‫عمي أكمميؿ‪ :‬اإلصبلحية العربية كالدكلة الكطنية‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬دار التنكير لمطباعة كالنشر‪ ،‬بيركت‪،‬‬
‫الطبعة األكلى‪ ،1985 ،‬ص ‪.14-13‬‬

‫‪5‬‬
‫ليس فقط المستشرقكف مف أثار ىذا السؤاؿ‪ ،‬بؿ ايضا الحداثييف العرب كالمسمميف؛ يمكف التكسع مف خبلؿ مطالعة الكتاب التالية‪:‬‬

‫‪59‬‬
‫طرؼ الكفار‪ ،‬كعمي مف طرؼ الخكارج‪ ،‬لكف مقتؿ عثماف مف طرؼ المسمميف‪ ،‬كالذيف قد يككنكف في صؼ عمي‪ ،‬يجعؿ المسألة‬
‫أكثر تعقيدا‪.‬‬

‫‪ -1-1‬فتنة الجمل‪:‬‬

‫كقعت معركة الجمؿ في ‪ 36‬ىػ في البصرة‪ .‬ككانت التحركات األكلى في المدينة‪ ،‬حيث اجتمعت سمطة عائشة المعنكية‬
‫أما لممؤمنيف مع سمطة صحابييف ليما المكانة المرمكقة كىما طمحة كالزبير‪ ،‬مف أجؿ المطالبة برد مظممة قتؿ عثماف‪.‬‬
‫باعتبارىا ن‬
‫كيككف في ىذه الحالة عمي (ض) الذم تمت مبايعتو بصكرة جزئية‪ ،‬ىك المسؤكؿ عف تنفيذ ذلؾ باعتباره خميفة لممسمميف‪ 1.‬بؿ أف‬
‫ىناؾ مف اعتقد بأف عمي قد تكرط بطريقة أك بأخرل في مقتمو‪ ،‬أك عمى األقؿ أنو استفاد مف مقتمو‪ ،‬عمى اعتبار أنو استخمفو مباشرة‬
‫مما يدؿ عمى سككت مشبكه‪ 2.‬لقد اقتنعت عائشة بأف ىذا القتؿ كاف يمثؿ ظمما كبيرا‪ ،‬كعمى الرغـ مف أخطاءه التسييرية‪ ،‬إال أنو كعد‬
‫المحتجيف بتنفيذ اصبلحات جذرية‪ ،‬كبالتالي فالقتؿ مثؿ عدكانا ساف ار عمى خميفة كصحابي جميؿ‪ .‬كقد قامت عائشة بأكؿ فعؿ تمردم‬
‫في اإلسبلـ‪ ،‬عمى أساس أنيا خرجت عف سمطة الخميفة‪ ،‬كىذه الحرب التي قادتيا امرأة سببت صدمة كبيرة لمكعي اإلسبلمية أنذاؾ‪،‬‬
‫صدـ بحركة عائشة التمردية‬
‫عبرت عف شقاؽ كاضح في السمطة المفترض أف تككف مثالية كنمكذجية‪ .‬كحتى عمي (ض) ي‬
‫بسبب أنيا ٌ‬
‫عندما قاؿ ليا‪" :‬حميراء‪ ...‬أىذا ما أمرؾ بو رسكؿ ا﵀ ؟ ألـ يأمرؾ أف تقرم في بيتؾ ؟"‪ 3.‬فإلى جانب تجازىا الدكر التقميدم لممرأة‪،‬‬
‫فقد قامت بتمرد سياسي كعسكرم أدل إلى اراقة دماء المسمميف‪ .‬لـ يكف آؿ البيت كال الصحابة بمعزؿ عف العكاطؼ البشرية مف‬
‫طمكح ككراىية كانتقاـ‪...‬الخ‪ ،‬كىناؾ مف يفسر عصياف عائشة لعمي برده إلى مشكمة قديمة تعكد إلى حادثة اإلفؾ التي أنزؿ مف‬
‫أجميا بعض القرآف (‪ 17‬آية كاممة)‪ .‬معركة الجمؿ كاقعة دمكية أكدت بحكالي ‪ 15‬ألؼ شخص‪ ،‬ال يمكف أف تككف حادثة بسيطة‪.‬‬
‫كىي األساس في تقسيـ المسمميف الحقا‪ ،‬كحتى اليكـ‪ ،‬إلى سنة ينصركف عائشة كشيعة يناصركف عمي‪ 4.‬كعمى الرغـ مف أف المعركة‬

‫‪ -‬يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.99‬‬

‫طو عبد الرحمف‪ :‬ثغكر المرابطة – مقاربة ائتمانية لصراعات األمة الحالية‪ ،‬مركز مغارب لمدراسات في االجتماع‬ ‫‪-‬‬
‫اإلنساني‪ ،‬الرباط‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2018 ،‬ص ‪.83‬‬

‫‪ -‬جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.30‬‬

‫‪1‬‬
‫ىشاـ جعيط‪ :‬الفتنة – جدلية الديف كالسياسة في اإلسبلـ المبكر‪ ،‬ترجمة خميؿ أحمد خميؿ‪ ،‬دار الطميعة لمنشر كالتكزيع‪ ،‬بيركت‪،‬‬
‫‪.190-161‬‬ ‫الطبعة الثامنة‪( 2015 ،‬الطبعة الفرنسية األكلى ‪ )1989‬ص ص‬
‫‪2‬‬
‫يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.99‬‬

‫‪3‬‬
‫فاطمة المرنيسي‪ :‬السمطانات المنسيات – نساء رئيسات دكلة في اإلسبلـ‪ ،‬ترجمة معمي كعبد اليادم عباس‪ ،‬د ط‪ ،‬دمشؽ‪ ،‬ص‬
‫‪.118-116‬‬

‫‪4‬‬
‫فاطمة المرنيسي‪ :‬الحريـ السياسي –النبي كالنساء‪ ،‬ترجمة عبد اليادم عباس‪ ،‬دار الحصاد‪ ،‬لمنشر كالتكزيع‪ ،‬دمشؽ‪ ،‬ص ‪.17-6‬‬

‫‪61‬‬
‫انتيت بغمبة عمي‪ ،‬إال أنيا لـ تغمؽ أبكاب التمرد كالصراع‪ .‬ثـ أف الكعي اإلسبلمي طرح مسألة ىذا االنتقاؿ السريع مف الكحدة‬
‫المثالية إلى الفتنة المقية‪ .‬كعف أثرىا عمى العقائد ككيؼ يمكف استثمار ىذه العقائد إلقرار جية الحؽ‪.‬‬

‫‪ -2-1‬فتنة صفين‪:‬‬

‫ىي استمرار لكاقعة الجمؿ‪ ،‬حيث بدأت المناكشات بيف المعسكريف سنة ‪ 37‬ق‪ ،‬لكف االعتراض ىنا أتى مف أقرباء عثماف‬
‫كبالضبط مف كالى دمشؽ معاكية بف أبي سفياف كالذم رفض البيعة صراحة بخبلؼ طمحة كالزبير المذيف قدميا البيعة كانقمبا عنيا‪.‬‬
‫كىناؾ مف يقر بأف التاريخ اإلسبلمي ككؿ‪ ،‬يقسـ إلى ما قبؿ التحكيـ كما بعد التحكيـ‪ ،‬كتاريخ اإلسبلـ اليكـ استمرار ليذا الشطر‬
‫الثاني‪ ،‬باعتباره حكـ مصمحي غير صادؽ‪ 1.‬إف معركة صفيف بمثابة تكريس لنظاـ حكـ قائـ عمى الدىاء كالتكريث أك كما يسمى‬
‫الممؾ العضكض‪ .‬معركة صفيف استم رار لؤلحقاد القديمة بيف بف ىاشـ كبني أمية‪ ،‬فقد قتؿ عمي (ض) أخ معاكية كعمو‪ ،‬لذا فإف‬
‫معركة صفيف مناسبة لتصفية حسابات ضيقة مرتبطة بالعصبية العائمية‪ 2.‬كبيذا يتجسد مبدأ سطكة الدنيا عمى اآلخرة‪ ،‬كانقبلب‬
‫المسمميف عمى كممتيـ‪ ،‬كغمبة الدىاء عمى الصدؽ‪...‬الخ‪ .‬كقد لخص "طو" نتائج الحادثة قائبل‪" :‬لقد كانت الغمبة ألىؿ عمـ السمطاف‬
‫عمى أىؿ العمـ بالقرآف حيف خمع أبك مكسى األشعرم عميا كمعاكية معا‪ ،‬لـ يخمع عمرك بف العاص إال عميا‪ ،‬مثبتا معاكية"‪ 3.‬كما أف‬
‫الصراع لـ يتكقؼ عند الخصكمة بيف عمي كمعاكية فقط‪ ،‬بؿ انقمب القراء عمى عمي(ض) كضغطكا عميو لقبكؿ التحكيـ غير‬
‫الصادؽ‪ ،‬كانقمبكا عميو مرة ثانية لقبكلو بالتحكيـ‪ .‬كأصبحت االمكر متشابكة‪ ،‬كصعب تميز الحؽ عف الباطؿ كتكالت الق اررات‬
‫الخاطئة‪.‬‬

‫ىذه الخبلفات السياسة كالفتف العسكرية ساىمت في تجييش كؿ فريؽ ألفكار كبراىيف نصية بغية تقكية مكاقفيـ السياسية‪ .‬كمف‬
‫ىنا أصبح الحديث عف مرتكب الكبيرة كالمعصية مرتبطا بالبحث عف المساند العقائدية المتكفرة في القرآف‪ 4.‬أم أف الفرقاء سياسيا‬
‫أصبحكا يبحثكف عف تق كية مكاقفيـ مف خبلؿ البرىاف العقمية كتأكيؿ النصكص القرآنية لصالح ىذه المكاقؼ أك ذاؾ‪ .‬ككؿ ىذا ساىـ‬
‫في بمكرة مكاقؼ كبلمية مف مرجعيات سياسية خالصة‪ .‬كلعؿ ما فعمو الفريؽ األمكم‪ ،‬الذم استأثر بالحكـ بعد صفيف‪ ،‬مثاؿ عمى‬
‫تأصيؿ االستبداد السياسي مف خبلؿ عقائد مأخكذة مف القرآف الكريـ‪ .‬يقكؿ الجابرم‪:‬‬

‫" عندما يمجأ الحاكـ إلى تبرير اغتصابو لمحكـ بالقكة‪ ،‬بأف ذلؾ كاف قضاء كقدرا‪ ،‬كعندما يعمد إلى تبرير ما يقكـ بو مف‬
‫عسؼ كظمـ بككف ذلؾ كاف في عمـ ا﵀ السابؽ‪ ،‬كأف مشيئة ا﵀ ىي التي تصرفت‪ ،‬فحينئذ تكتسي المسألة بعدا آخر (‪)...‬‬

‫‪1‬‬
‫طو عبد الرحمف‪ :‬ثغكر المرابطة – مقاربة ائتمانية لصراعات األمة الحالية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.81‬‬

‫‪2‬‬
‫ىشاـ جعيط‪ :‬الفتنة – جدلية الديف كالسياسة في اإلسبلـ المبكر‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.207‬‬
‫‪3‬‬
‫طو عبد الرحمف‪ :‬ثغكر المرابطة – مقاربة ائتمانية لصراعات األمة الحالية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.147‬‬

‫‪4‬‬
‫أحمد محمكد صبحي‪ :‬في عمـ الكبلـ‪ -‬دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف‪ ،‬الجزء األكؿ‪ :‬المعتزلة‪ ،‬دار النيضة‬
‫العربية‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة الخامسة‪.33-32 ،1985 ،‬‬

‫‪61‬‬
‫ىؿ يفعؿ ا﵀ الظمـ ؟ ىؿ يفعؿ القبيح ؟ ذلؾ ىك اإلطار الذم طرحت فيو المسألة‪ ،‬أكؿ األمر‪ ،‬في الفكر العربي‬
‫‪1‬‬
‫اإلسبلمي‪( .‬ما قالو معاكية في مكقعة صفيف‪ ،‬كفي مبايعة يزيد‪ ،‬كسار عمالو كخمفائو عمى ىذا المنكاؿ)"‪.‬‬

‫‪ -3‬اليوية القرآنية لمكالم‪:‬‬

‫ؾ ا ٍل ًكتى ً‬ ‫﴿ى ىك الًَّذم أ ٍىن ىز ىؿ ىعمىٍي ى‬


‫اب م ٍنوي‬ ‫ى‬ ‫حددت فاتحة سكرة آؿ عمراف الصكرة الحقيقية لبنية القرآف الكريـ عندما كرد قكؿ ا﵀ تعالى‪ :‬ي‬
‫اء تىأ ًٍكيمً ًو ىك ىما ىي ٍعمى يـ‬ ‫ىما الًَّذيف ًفي قيميكبً ًيـ ىزٍيغه فىيتَّبًعكف ما تى ىشابو ًم ٍنو ٍابتً ىغ ً ً ً‬
‫اء ا ٍلفتٍىنة ىك ٍابت ىغ ى‬
‫ى‬ ‫ىى ي‬ ‫ى ي ى ى‬ ‫ٍ‬ ‫ى‬ ‫يخ ير يمتى ىشابًيى ه‬
‫ات فىأ َّ‬ ‫ات يى َّف أ ُّيـ ا ٍل ًكتى ً‬
‫اب ىكأ ى‬ ‫ات يم ٍح ىك ىم ه‬ ‫آىىي ه‬
‫اب﴾‪ .‬في القرآف إذف آيات محكمة‬ ‫كف آىمَّنا بً ًو يك ّّؿ ًم ٍف ًع ٍن ًد ربىّْنا كما ىي َّذ َّكر إً َّال أيكليك ٍاألىٍلىب ً‬ ‫ًً‬ ‫اس يخ ً‬ ‫الر ً‬
‫تىأ ًٍكيمىوي إً َّال المَّوي ىك َّ‬
‫ي‬ ‫ى ىى‬ ‫كف في الٍع ٍمـ ىيقيكلي ى ى‬ ‫ى‬
‫ككاضحة ال لب س فييا‪ ،‬لكف بالمقابؿ ىناؾ آيات متشابيات قد تثير الحيرة كالخبلؼ كتتطمب التفكير كالمقارنة كالتحميؿ‪...‬الخ‪ .‬لذا فإف‬
‫ىذه البنية العامة لمقرآف الكريـ‪ ،‬قد ساىمت بصكرة كبيرة في تحريض العقؿ اإلسبلمي عمى التفكير في العقائد‪.‬‬

‫َّ ً‬ ‫صيبىنا إً َّال ما ىكتى َّ‬ ‫ً‬


‫كف﴾[التكبة‪]51 ،‬‬ ‫ب الموي لىىنا يى ىك ىم ٍكىالىنا ىك ىعمىى المو ىف ٍمىيتىىك َّك ًؿ ا ٍل يم ٍؤ ًمين ى‬ ‫ى‬ ‫ى‬ ‫ففي القرآف الكريـ آيات تفيد الجبر ﴿ يق ٍؿ لى ٍف يي ى‬
‫ىحاطى بً ًي ٍـ يس ىرًادقييىا ىكًا ٍف ىي ٍستى ًغيثيكا‬ ‫ً َّ ً ً‬ ‫اء ىف ٍمىي ٍكفي ٍر إًَّنا أ ٍ‬ ‫كأخرل تفيد الحرية ﴿كيق ًؿ ا ٍلح ُّ ً‬
‫ار أ ى‬ ‫يف ىن نا‬
‫ىعتى ٍدىنا لمظالم ى‬ ‫اء ىف ٍميي ٍؤ ًم ٍف ىك ىم ٍف ىش ى‬ ‫ؽ م ٍف ىرّْب يك ٍـ فى ىم ٍف ىش ى‬ ‫ى‬ ‫ى‬
‫ض ىج ىع ىؿ لى يك ٍـ‬‫ات ك ٍاأل ٍىر ً‬ ‫اطر الس ً‬ ‫ً‬ ‫اء ىكا ٍلم ٍي ًؿ ىي ٍش ًكم ا ٍلك يجكهى بًٍئ ىس َّ‬ ‫ي ىغاثيكا بًم و‬
‫َّم ىاك ى‬ ‫ى‬ ‫ت يم ٍرتىفىقنا﴾ [الكيؼ‪ .]29 ،‬آيات تفيد التنزيو ﴿فى ي‬ ‫اء ٍ‬ ‫اب ىك ىس ى‬ ‫الش ىر ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ى‬ ‫ي‬
‫َّميع ا ٍلب ً‬ ‫ً‬ ‫ً ًً‬ ‫ًً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ص يير﴾ [الشكرل‪ ]11 ،‬كأخرل تكحي بالتجسيد‬ ‫اجا ىي ٍذ ىريؤ يك ٍـ فيو لىٍي ىس ىكمثٍمو ىش ٍي هء ىك يى ىك الس ي ى‬ ‫اجا ىك ًم ىف ٍاأل ٍىن ىع ًاـ أ ٍىزىك ن‬
‫م ٍف أ ٍىنفيس يك ٍـ أ ٍىزىك ن‬
‫اى ىد عمىٍيو المَّو فىسيؤتً ً‬ ‫ًً‬ ‫ؽ أ ٍىي ًدي ًي ٍـ فى ىم ٍف ىن ىك ى‬‫كف المَّوى ىي يد المَّ ًو فى ٍك ى‬ ‫ًَّ‬
‫يو‬ ‫ث ىعمىى ىن ٍفسو ىك ىم ٍف أ ٍىكفىى بً ىما ىع ى ى ي ى ى ي ٍ‬ ‫ث فىًإَّن ىما ىي ٍن يك ي‬ ‫ؾ إًَّن ىما ييىبايً يع ى‬ ‫يف ييىبايً يع ى‬
‫كن ى‬ ‫﴿إً َّف الذ ى‬
‫يما﴾[الفتح‪ .]10 ،‬ىناؾ العشرات مف المكضكعات التي تشغب عقؿ اإلنساف المؤمف نظ ار لعدـ تبيف المدلكؿ الحقيقي‬ ‫ً‬
‫ىج نار ىعظ ن‬
‫أٍ‬
‫لمضاميف كألغراض اآليات‪ .‬كؿ ىذا يقتضى تأمبل كمراجعة كمناظرة في اآليات العقائدية‪ ،‬كبيذا يككف فيـ القرآف الكريـ أكؿ ما دفع‬
‫إلى الكبلـ‪ .‬كعمى الرغـ مف أف المتكمميف كانكا عمى كعي بحتمية التأكيؿ إال أنيـ لـ يتفقكا حكؿ ماىية اآليات المحكمات‪ ،‬مما كلد‬
‫أخذ كرد فرؽ العقكؿ‪" .‬ألف التأكيؿ عندما يتعمؽ األمر بمتج ادليف ال يحؿ المشكمة‪ :‬فعمى الرغـ مف أف القرآف قرر أف ىناؾ آيات‬
‫محكمات كأخرل متشابيات‪ ،‬كدعا لرد الثانية إلى األكلى‪ ،‬إال أنو لـ يحدد ما ىي المحكمات كما ىي المتشابيات‪ ،‬ىؿ نرد آيات‬
‫الجبر إلى الحرية (كىذا ما فعمو الحسف البصرم)‪ ،‬أـ نرد آيات الحرية إلى الجبر‪ ،‬كىذا ما فعمو خصكمو األمكيكف"‪ 2.‬كىنا نبلحظ‬
‫جيدا كيفية تكظيؼ القرآف لتبرير الخيارات السياسية في العقيدة األمكية الجبرية‪.‬‬

‫نفترض أف تأخر ظيكر عمـ الكبلـ إلى ما بعد الفتنة كالقرف اليجرم األكؿ‪ ،‬ال يعكد فقط إلى المشكمة السياسية‪ .‬بؿ أف التفكير‬
‫النظرم في مسائؿ العقيدة ال تككف إال بعد استتباب األمكر‪ .‬ألف الزمف التأسيسي يتسـ عمى العمكـ بطغياف الشعكر الركحي كنسياف‬
‫كؿ المشكبلت الجزئية التي تثيرىا السياقات الدنيكية‪ .‬لكف بعد استتباب أمكر العقيدة كتأسس الدكلة كرسكخ التشريعات الكبرل‪ .‬يبدأ‬
‫العقؿ‪ ،‬بصكرة طبيعية في تفكير تفا صيؿ العقيدة عبر معيار العقؿ ال العاطفة كما ساد في سنكات الكحي األكلى كالقريبة منيا‪ .‬كىذا‬

‫‪1‬‬
‫محمد عابد الجابرم‪ :‬العقؿ األخبلقي العربي – دراسة تحميمية نقدية في نظـ القيـ في الثقافة العربية‪ ،‬مركز دراسات الكحدة العربية‪،‬‬
‫بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2001 ،‬ص ‪.80‬‬

‫‪2‬‬
‫محمد عابد الجابرم‪ :‬العقؿ األخبلقي العربي – دراسة تحميمية نقدية في نظـ القيـ في الثقافة العربية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.84‬‬

‫‪62‬‬
‫ما عبر عنو القاضي الفرنسي تككفيؿ في مبلحظات االجتماعية كالتاريخية الدقيقة‪ .‬فركح التفكير كالتحميؿ ال يظير في األمـ إال بعد‬
‫بمكغ نضجيا رتبة عالية‪ .‬كبعد ذلؾ يعكد العقؿ لمتفكير في األصكؿ كالنشأة كالتفاصيؿ التي كانت غير كاضحة‪ ،‬بؿ كالتي ال يمكف‬
‫‪1‬‬
‫كالحؽ أف ىذه الممحكظة الفمسفية التاريخية‪ ،‬لتصدؽ عمى حالة الكبلـ اإلسبلمي‪ ،‬ألف العقؿ‬ ‫أف تككف كاضحة في البدايات األكلى‪.‬‬
‫ال يبتدأ في العمؿ كفؽ محدداتو‪ ،‬إال بعد أف يتجاكز مرحمة زمنية معينة‪ .‬فمكقفنا اليكـ مف الكحي‪ ،‬يختمؼ كمية عف مكقؼ الرسكؿ‬
‫(ص) كالصحابى األكائؿ‪ ،‬عمى أف أنيـ عاشكا بكؿ عكاطفيـ الحدث‪ ،‬كنحف اليكـ نفكر فيو أكثر فأكثر‪ .‬لذا فبل يجب أف نعمؿ تأخر‬
‫ظيكر عمـ الكبلـ باالنفتاح عمى المكركث اإلغريقي كالمسيحي فقط‪ ،‬بؿ ىك عائد إلى انتقاؿ المسممكف مف االنبيار بالحدث‬
‫التأسيسي‪ ،‬أم القرآف الكريـ‪ ،‬إلى تفكيره عقميا‪ .‬كىذا ما نجده عند كؿ الشعكب‪ ،‬فمـ ينتقد اإلغريؽ نصكصيـ األسطكرية إال في القرف‬
‫الخامس مع الشاعر المتجكؿ (الرابسكد) اكزينكفاف مف إيميا‪ .‬قبؿ ذلؾ‪ ،‬كاف الكؿ يرتؿ أشعار ىكميركس دكف أدنى تفكير في مدل‬
‫عقبلنية تصيره لآللية‪.‬‬

‫ننيي ىذه العكامؿ الداخمية باإلشارة إلى أف ىناؾ خبلؼ كاضح بيف أنصاره‪ ،‬إذ أف ىناؾ مف يجعؿ القرآف الكريـ ىك المصدر‬
‫الكحيد لمجدؿ الكبلمي بسبب مشكمة تشابو اآليات‪ ،‬في حيف أف ىناؾ مف يجعؿ لمكبلـ ىكية سياسية في الدرجة األكلى‪ .‬كنحف نتفيـ‬
‫ىذا المكقؼ األخير مف خبلؿ رده لمفرؽ الكبلمية السياسية‪ ،‬إذ يعتقدكف أف مشكمة الخبلفة ىي السبب األكؿ كاألخير لكؿ خبلؼ‬
‫عقائدم‪ .‬فمثبل نجد مف يقكؿ بأف استيبلء معاكية السافر عمى الحكـ سنة ‪ 41‬ىػ ىك ما يجعؿ اليكية السياسة كاضحة لجميع‬
‫االنشقاقات العقائدية‪ 2.‬ل كف يجب أف نذكر بأف ىناؾ فرؽ كبلمية لـ تستثمر في مسألة الخبلفة إال ىامشيا‪ .‬ككانت أغمب تحميبلتيا‬
‫في مسائؿ عقدية خالصة مرتبة بالصفات كاألسماء كالخمؽ كالحرية كالعدالة اإلليية‪ .‬لذا سنقسـ الفرؽ في محاضرات "أصؿ الفرؽ‬
‫الكبلمية" إلى "كبلـ سياسي" ك"كبلـ عقائدم"‪.‬‬

‫ثانيا‪ -‬العوامل الخارجية لظيور عمم الكالم‪:‬‬

‫بالنسبة لمدرس اإلستشراقي كالدرس الحداثي العربي‪ ،‬فإف دراسة عمـ الكبلـ ال يستقيـ إال بربطو بالمحيط الكاسع لمثقافة اإلسبلمية‬
‫سكاء ربطا تاريخيا أك ربطا جغرافيا‪ .‬بمعنى أف اإلسبلـ لـ يقطع مطمقا مع المناخ العقمي الجاىمي إذ نجد استمرار لبعض العقائد‬
‫كالتخمي عف األخرل‪ ،‬كما أنو تأثر بالمكضكعات الكبلمية في الحضارات المجاكرة بخاصة اإلغريقية كالبيزنطية‪ .‬إذ أف قياـ الخبلفة‬
‫في دمشؽ كبعدىا في بغداد‪ ،‬سمح بتفاعؿ الثقافات كتناقؿ المكاقؼ‪ .‬ثـ أف التراث الجاىمي بالذات‪ ،‬ليس بمعزؿ عف التراثات‬
‫المحيطة بو‪ ،‬فبل يجب أف نربط تأثر الفكر اإلسبلمي بغيره بالفتكحات اإلسبلمية فقط‪ ،‬بؿ أف استمرار بعض العقائد كالطقكس‬
‫الجاىمية في مرحمة البعثة‪ ،‬يمكف أف يدؿ لنا عمى انتقاؿ تأثير الثقافات الجاىمية غير العربية في اإلسبلـ ذاتو‪ 3.‬فبل يجب أف نفترض‬

‫‪1‬‬
‫‪Tocqueville: de la Démocratie en Amérique, édition Flammarion, Paris, 1981, p 86.‬‬

‫‪2‬‬
‫شكيب بف بديرة الطبمبي‪ :‬مدخؿ مناىجي إلى عمـ الكبلـ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ص ‪.79-67-63‬‬

‫‪3‬‬
‫محمد عابد الجابرم‪ :‬مدخؿ إلى القرآف الكريـ‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬في التعريؼ بالقرآف‪ ،‬مركز دراسات الكحدة العربية‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة‬
‫األكلى‪ ،2006 ،‬ص ‪ .263-78-58-49‬أيضا‪ :‬يكسؼ شمحت‪ :‬نحك نظرية جديدة في عمـ االجتماع الديني (الطكطمية –‬

‫‪63‬‬
‫أف العرب قبؿ اإلسبلـ ببل عبلقات ثقافية أك اقتصادية‪ ،‬كما ال يجب أف نفترض أف القطيعة مطمقة بيف المرحمة السابقة كالبلحقة‬
‫لمرسالة المحمدية‪ .‬فكؿ الثكرات أقؿ ثكرية مما نعتقد‪ ،‬إذ تيغير أجزاء كتحتفظ بأجزاء أخرل‪ .‬يقكؿ "حبلؽ" بكؿ مكضكعية أف "الثقافة‬
‫العربية كفرت مصد ار ألغمب الش رائع التي تبناىا اإلسبلـ (‪ )...‬الثقافة العربية قبؿ اإلسبلـ جزء جكىرم مف الثقافة العامة لمشرؽ‬
‫األدنى"‪ 1.‬كىنا نبلحظ العبلقة المركبة بيف الشرؽ األدنى كالعرب قبؿ اإلسبلـ‪ ،‬كبيف ىذه المرحمة السابقة لمبعثة عمى مجمؿ عقائد‬
‫المرحمة البلحقة ليا‪.‬‬

‫ىذا‪ ،‬كنجد مؤرخي اإلسبلـ ذاتيـ‪ ،‬يعترفكف بالنقكؿ الحادثة لدل المتكمميف‪ ،‬بحيث أف مرحمة الكبلـ بعد المأمكف قد انتقمت إلى‬
‫مستكل أكثر فمسفية كأكثر عقبلنية‪ .‬مما يدؿ عمى تأثرىـ بطرائقيـ كمكضكعاتيـ‪ .‬فالشيرستاني مثبل يقكؿ بأف المعتزلة عمكما كالنظٌاـ‬
‫قد أخذ العديد مف أفكاره مف الفبلسفة القدامى‪ 2،‬كىذا ما يدؿ عمى االحتكاؾ بيف عمـ الكبلـ اإلسبلمي كعمكـ السابقيف‪.‬‬

‫‪ -5‬حضارات الشرق (إيران واليند)‪:‬‬

‫مف الممكف أف نبلحظ بأف الكبلـ اإلسبلمي‪ ،‬كحركة كاضحة المعالـ قد انطمقت في بغداد كليس في دمشؽ‪ .‬كليذا داللة ال‬
‫يمكف تغافميا عند الحديث عف مصادر عمـ الكبلـ اإلسبلمي‪ .‬بالنسبة ليكسؼ فاف إيس‪ ،‬فإف "تقنية الكبلـ في اإلسبلـ‪ ،‬قد كجدت‬
‫في العراؽ قبؿ سكريا بكقت طكيؿ‪ .‬استخدـ عمماء الديف المسيحييف الذيف كتبكا بالعربية ىناؾ أسمكب المحاججة ىذا (النسطكرم‬
‫عمار البصرم‪ ،‬اليعقكبي أبك رائطة)(‪ )...‬تقنية الكبلـ تطكرت بشكؿ خاص في العراؽ‪ ،‬ألف الكبلـ نفسو كجد ىناؾ في العصر‬
‫العباسي تحت حماية الحكاـ الميتميف بو"‪ 3.‬لكف يمكف التحقيؽ أكثر عف سبب ىذا االىتماـ‪ ،‬ىؿ ىك تأثير العقبلنية الفارسية التي‬
‫ليا تقاليد في التفكير النظرم ؟ أـ ىك انتقاؿ كتأثير الفكر الشرقي العريؽ‪ ،‬كالذم كجد المدخؿ مف ببلد فارس ؟ كؿ ىذه االحتماالت‬
‫كاردة كتؤكد تبحر ىذه الحضارات في مشكبلت البلىكت‪ .‬فمف المؤكد أف "ثقافة الجزيرة العربية جزء ال يتج أز تقريبا مف ثقافة الشرؽ‬
‫‪4‬‬
‫األدنى"‪.‬‬

‫كيذكر البيركني‪ ،‬في نص مطكؿ‪ ،‬كيؼ أف الينكد قد تكممكا في مشكمة الطبيعة الحقيقة لئللو‪" :‬قاؿ السائؿ في كتاب "باتنجؿ"‪:‬‬
‫مف ىذا المعبكد الذم يناؿ التكفيؽ بعبادتو ؟ قاؿ المجيب‪ :‬ىك المستغنى بأكليتو ككحدانيتو عف فعؿ لمكافاة عميو براحة تؤمؿ كترتجى‬
‫أك شدة تخاؼ كتتقى‪ ،‬كالبرئ عف األفكار لتعاليو عف األضداد المكركىة كاألنداد المحبكبة (‪ )...‬ثـ يقكؿ السائؿ بعد ذلؾ‪ :‬فيؿ لو‬

‫الييكدية – النصرانية‪ -‬اإلسبلـ)‪ ،‬تحقيؽ كتقديـ خميؿ أحمد خميؿ‪ ،‬المؤسسة الكطنية لبلتصاؿ كالنشر كاإلشيار – الجزائر‪ ،‬كدار‬
‫الفارابي‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2003 ،‬ص ‪.211‬‬

‫‪1‬‬
‫كائؿ حبلؽ‪ :‬نشأة الفقو اإلسبلمي كتطكره‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ .25‬يقكؿ في صفحة ‪:57‬العرب كانكا ديمكغرافيا كدينيا كتجاريا‬
‫كسياسيا كعسكريا جزء ال يتج أز مف الشرؽ األدنى الكبير مف ثقافتو‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫عبد الكريـ الشيرستاني‪ :‬الممؿ كالنحؿ‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬المكتبة العصرية‪ ،‬بيركت‪ ،2003 ،‬ص ‪.46‬‬
‫‪3‬‬
‫جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.90 -89‬‬

‫‪4‬‬
‫كائؿ حبلؽ‪ :‬نشأة الفقو اإلسبلمي كتطكره‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.265‬‬

‫‪64‬‬
‫مف الصفات غير ما ذكرت ؟ كيقكؿ المجيب‪ :‬لو العمك التاـ في القدر ال المكاف فإنو يجؿ عف التمكف‪ ،‬كىك الخير المحض التاـ‬
‫الذم يشتاقو كؿ مكجكد‪ ،‬كىك العمـ الخالص عف دنس السيك الجيؿ؛ قاؿ السائؿ‪ :‬أفتصفو بالكبلـ أـ ال ؟ قاؿ المجيب‪ :‬إذا كاف‬
‫عالما فيك ال محالة متكمـ؛ قاؿ السائؿ‪ :‬فإف كاف متكمما ألجؿ عممو فما الفرؽ بينو كبيف العمماء الحكماء الذيف تكممكا مف أجؿ‬
‫عمكميـ ؟ قاؿ المجيب‪ :‬الفرؽ بينيـ ىك الزماف فإنيـ تعممكا فيو كتكممكا بعد أف لـ يككنكا عالميف ال متكمميف كنقمكا بالكبلـ عمكميـ‬
‫إلى غيرىـ فكبلميـ كافادتيـ في زماف‪ ،‬كاذ ليس لؤلمكر اإلليية بالزماف اتصاؿ فا﵀ سبحانو عالـ متكمـ منذ األزؿ‪ .‬كىك الذم كمـ‬
‫"براىـ" كغيره مف األكائؿ (‪ )...‬قاؿ السائؿ‪ :‬فمف أيف لو ىذا العمـ ؟ قاؿ المجيب‪ :‬عممو عمى حالو في األزؿ (‪ )...‬قاؿ السائؿ‪ :‬كيؼ‬
‫تعبد ما لـ يمحقو االحساس ؟ قاؿ المجيب‪ :‬تسميتو تثبت إنيتو فالخبر ال يككف إال عف شيء كاالسـ ال يككف إال لمسمى‪ ،‬كىك كاف‬
‫غاب عف الحكاس فمـ تدركو فقد عقمتو النفس كأحاطت بصفتو الفكرة"‪ 1.‬ككما ىك ظاىر‪ ،‬فإف ىذا النص يختصر العديد مف مسائؿ‬
‫عمـ الكبلـ المرتبطة بحيزية اإللو أم ككنو في حيز أـ ال‪ ،‬كفي طبيعة العمـ اإلليي‪...‬الخ كؿ ىذا مقارنة بالخصائص البشرية‪ .‬كلـ‬
‫يفعؿ الكبلـ اإلسبلمي أكثر مف تناكؿ ىذه المشكبلت مف منطؽ العقؿ اإلنساني أيضا‪.‬‬

‫كقد افترض بعض رجاؿ اإلستشراؽ إمكانية تأثر بعض عمماء الكبلـ في اإلسبلـ ببعض الفرؽ اليندية مثؿ السمنية‪ .‬يقكؿ‬
‫شمكلدرز ‪" :schmölders‬أنو يقاؿ أف فرقة السمنية انحدرت مف اليند [التي] يمكف ردىا إلى الكارفاكا ‪ charvakas‬اليندية‪ .‬كاف‬
‫النظريات اليندية لـ تكف مجيكلة لمعرب كما نظف‪ ،‬فمدل العديد مف الكتاب‪ ،‬كلدل بعض شيكخ المعتزلة البارزيف‪ ،‬أفكار دقيقة عنيا‬
‫كمعمر بمناظرة السمنية في اليند‪ .‬كقياـ مناظرة‬
‫ٌ‬ ‫إلى حد ما (‪[ )...‬كما] أثبت ىكرتف عاـ ‪ 1910‬ما قرره ابف المرتضي مف قياـ جيـ‬
‫أخرل في اليند بيف سمني كمسمـ‪ .‬حاكؿ ىكرتف أف يمبس كؿ أراء المتكمميف طابعا ىنديا‪ ،‬غير أف ماسينيكف قاؿ أف كؿ ذلؾ يقكـ‬
‫‪2‬‬
‫كما يظير في ىذا النص‪ ،‬فبل شيء مؤكد في ىذا التأثر اإلسبلمي‪ ،‬كقياـ مناظرة ال يدؿ‬ ‫عمى مشابيات كاتفاقات ال رباطة بينيا"‪.‬‬
‫أصبل عمى نقؿ أف تأثر سمبي‪ .‬أما الركاية التي تنسب لياركف الرشيد في بعثو محدثا لمحاكرة أحد رجاالت السمنية‪ ،‬كالتي انتيت‬
‫بسككت المتكمـ‪ ،‬فبل يمكف الجزـ ألنو دالة تأثر عمـ الكبلـ اإلسبلمي بقدر ما تدؿ عمى حتمية عمـ الكبلـ كفائدتو في تحصيف‬
‫العقائد‪ 3.‬كلئف كاف نقؿ المذىب الذرم إلى العالـ اإلسبلمي‪ ،‬بخاصة عند بعض رجاؿ المعتزلة‪ ،‬مف األمكر التي ال يمكف التغطية‬

‫‪1‬‬
‫أبك الريحاف محمد بف أحمد البيركني‪ :‬تحقيؽ ما لميند مف مقكلة مقبكلة في العقؿ أك مرذكلة‪ ،‬مطبعة مجمس دائرة المعارؼ‬
‫العثمانية‪ ،‬اليند‪ ،1958 ،‬ص‪.21 ،20‬‬

‫‪2‬‬
‫ىارم‪ .‬أ‪ .‬كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬ترجمة مصطفى لبيب عبد الغاني‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬المركز القكمي لمترجمة‪،‬‬
‫القاىرة‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2005 ،‬ص ‪.129-128‬‬

‫‪3‬‬
‫تقكؿ القصة أف ممؾ السند أرسؿ سمنيا إلى ىاركف مف أجؿ مناظرة المسمميف عمى شرط أنو مف سكت في المناظرة يتبع ممكو مف‬
‫غمب‪ ،‬فبعث الرشيد محدثا‪ ،‬أم غير متخصص في جدؿ اإللييات‪ ،‬سألو السمني‪ :‬مف ىك معبكدؾ ؟ كىؿ ىك قادر عمى كؿ شيء ؟‬
‫أجاب المحدث‪ :‬ىك ا﵀‪ .‬السمني‪ :‬ىؿ ىك ق ادر عمى خمؽ إلو مثمو ؟ فأجاب المحدث‪ :‬ىذه مسألة كبلمية كنحف ال نتكمـ في البدع‪.‬‬
‫فصرؼ الممؾ المحدث عمى أساس عجزه عف مجاراة المناظرة‪ .‬كلما سمع ىاركف الرشيد بذلؾ غضب غضبا شديدا قائبل أليس ىناؾ‬
‫مف يدافع عف ىذا الديف ؟ فأجاب المستشار‪ :‬لقد نييتيـ عف الجداؿ في أمكر الديف‪ ،‬كىـ اآلف في السجكف‪ .‬فأطمؽ ىاركف سراحيـ‬
‫لمدفاع عف العقائد اإليمانية‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫عنيا‪ ،‬حيث لجأ ىمعمر كالعبلٌؼ لممذىب الذرم مف أجؿ إثبات كجكد ا﵀ (ا﵀ ىك الذم يجمع بيف األبعاض أك الذرات)‪ 1.‬فإف ىناؾ‬
‫مف يقكؿ بأف نقؿ الفمسفة الذرية لـ يكف مف اإلغريؽ بؿ مف اليند‪ .‬يقكؿ مابيك‪" :1895 ،‬المذىب الذرم الكبلمي لـ يأت مف‬
‫المذىب الذرم اليكناني بؿ مف اليندم‪ .‬فالمذىب الذرم الكبلمي فيو الكثير مما ال يكجد في المذىب الذرم اليكناني عمى حيف يكجد‬
‫في المذىب الذرم اليندم أراء سمـ بيا عمماء الكبلـ كىي أف الذرات ليست ممتدة"‪ 2.‬ككما ىك ظاىر‪ ،‬فإف ىذا التكجو يعمؿ عمى رد‬
‫المذىب الذرم اإلغريقي إلى المذىب الذرم اليندم عف طريؽ تأكيد تأثره عمى المسمميف كذلؾ‪ ،‬بدعكل العبلقة التجارية القديمة بيف‬
‫عرب الجاىمية كالينكد‪ ،‬كالتفاعؿ بينيـ بصكرة أكثر قكة بعد الفتكح اإلسبلمية لميند‪.‬‬

‫أما عقائد التناسخ اليندية‪ ،‬كالتي انتقمت إلى بعض اإلغريؽ مثؿ فيثاغكرس كأفبلطكف‪ ،‬فقد تبناىا أيضا بعض فرؽ الشيعة‪ .‬مثؿ‬
‫العصاة إلى العالـ مرة ثانية يككنكف ييكدا كنصارل‪ .‬بؿ ىناؾ مف قاؿ أنيـ‬
‫النصيرية مف الغبلة المجسمة التي تبنت عقيدة عكدة ي‬
‫سينسخكف حيكانات نظير آثاميـ‪ 3.‬كلك أف ىذه العقيدة شاذة كمحدكدة االنتشار‪ ،‬إال أنيا تظير النقؿ مف العقائد اليندية‪.‬‬
‫ي‬

‫أما تأثر الكبلـ اإلسبلمي بالعقائد كالعقبلنية الفارسية فيي مف األمكر األكثر كضكحا‪ ،‬بسبب القرب الجغرافي‪ .‬بخاصة بعد نقؿ‬
‫عاصمة الخبلفة مف دمشؽ إلى بغداد‪ .‬فالبغدادم مثبل في مصنفو (الفرؽ بيف الفرؽ) يقكؿ بأف النظٌاـ المعتزلي قد كقع تحت تأثير‬
‫ممحدة الفبلسفة‪ ،‬كأنو في شبابو قد عاشر قكما مف الثنكية الفارسية‪ 4.‬كقد كلدت ىذه المسألة مشكمة مصدر الشر ؟ التي ناقضيا‬
‫المتكممكف بصكرة مستفيضة‪ .‬كما نجد الكثير مف العبارات المستعممة في الكبلـ مف مصدر فارسي مثؿ الزندقة التي تدؿ عمى التأثر‬
‫بالزند كىك كتاب الفرس المقدس‪.‬‬

‫‪ -6‬اإلغريق‪:‬‬

‫مؤرخي كمناصرم األغرقة يركزكف عمى أف عمـ الكبلـ اإلسبلمي نسخة يمكيفة لبلىكت أك الثيكلكجيا اإلغريقية‪ .‬نظ ار العتقادىـ‬
‫بالتماثؿ الظاىر بيف ما تكمـ فيو المسمميف كالنصكص اإلغريقية السابقة‪ ،‬كنظ ار لؤلثر الظاىر لحركة الترجمة في عيد المأمكف‪ .‬لذا‬

‫قصة منقكلة عف‪:‬‬


‫‪3‬‬
‫أحمد محمكد صبحي‪ :‬في عمـ الكبلـ‪ -‬دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف‪ ،‬الجزء األكؿ‪ :‬المعتزلة‪ ،‬مرجع سابؽ‪،‬‬
‫ص ‪.31‬‬
‫كقد ذكر أحمد بف حنبؿ قصة شبيية بيذه كقعت بيف الجيـ بف صفكاف كالسمنية‪ ،‬أدت إلى تشككؾ الجيـ في حقيقة ا﵀ "فتحير‬
‫الجيـ فمـ يدر مف يعبد أربعيف يكما"‪ .‬يرجى التكسع بالعكدة لػ‪:‬‬
‫أحمد بف حنبؿ‪ :‬الرد عمى الجيمية كالزنادقة فيما شككا فيو مف متشابو القرآف كتأكلكه عمى غير تأكيمو‪ ،‬تحقيؽ صبرم بف سبلمة‬
‫شاىيف‪ ،‬دار الثبات لمنشر كالتكزيع‪ ،‬الرياض‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2003 ،‬ص ‪.94‬‬
‫‪1‬‬
‫يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ص ‪.70-65‬‬
‫‪2‬‬
‫المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.129‬‬ ‫ىارم‪ .‬أ‪ .‬كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪،‬‬
‫‪3‬‬
‫أحمد محمكد صبحي‪ :‬في عمـ الكبلـ‪ -‬د راسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف‪ ،‬الجزء األكؿ‪ :‬المعتزلة‪ ،‬مرجع سابؽ‪،‬‬
‫ص ‪ .80-79‬أيضا‪ :‬عبد الكريـ الشيرستاني‪ :‬الممؿ كالنحؿ‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.152‬‬
‫‪4‬‬
‫ىارم‪ .‬أ‪ .‬كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.127‬‬

‫‪66‬‬
‫فإف منتصؼ القرف الثالث كاف حاسما في ىذا األثر‪ 1.‬بالنسبة "ليكسؼ فاف ايس" فإف "أفكار ركاقية في بعض المسائؿ المبدئية‬
‫تظير عمى السطح لدل ىشاـ بف الحكـ عمى األقؿ‪ .‬كاف النمكذج الذم فسر بو الجدؿ بيف الحتمية اإلليية كالحرية اإلنسانية قد‬
‫أعطانا فرصة اإلشارة إلى ىذا‪ .‬بؿ أف المصطمح المكسع لمجسـ يمكف أف يككف قد نشأ عف نفس الجذر؛ سمى الركاقية "جسما" كؿ‬
‫ما كاف يمارس تأثير أك يمكف لمثؿ ىذا التأثير"‪ 2.‬كلعؿ البعض ممف يرفض تأثر اإلغريؽ عمى عمـ الكبلـ اإلسبلمي‪ ،‬يبرركف ىذا‬
‫الرفض عمى أساس أف ىناؾ دالئؿ عديدة عمى ممارسة عمـ الكبلـ قبؿ حركة الترجمة في منتصؼ القرف الثالث لميجرة مثؿ ىشاـ‬
‫بف الحكـ الذم تكمـ قبؿ كفكد المكركث اإلغريقي بالترجمة‪ .‬لكف ىناؾ ظاىرة جديرة بالمبلحظة‪ ،‬كىي أف التأثير ال يرتبط بترجمة‬
‫النصكص فقط‪ ،‬بؿ أف اآلراء الفكرية كالفمسفية تنتقؿ عف طريؽ المشافية كالركايات المتناقمة‪ .‬مما يبرر إمكانية إطبلع المسمميف‪ ،‬أك‬
‫غيرى ـ‪ ،‬عمى أفكار اإلغريؽ قبؿ الترجمة‪ ،‬ألف األفكار الفمسفية تنتقؿ عبر المجادالت الشفيية التي لـ تتكقؼ خاصة بيف الثقافات‬
‫المجاكرة بفعؿ الرحمة كالتجارة‪ .‬في ىذا السياؽ يقكؿ "فاف ايس" بأف "نظرية تداخؿ الجسـ التي برزت في المقدـ لدل "النظٌاـ" (كىك‬
‫معتزلي) الحقا تذكر بقكة بالخيط الركاقي (‪ )...‬إذا كانت ىذه القرائف تشير فعبل إلى تأثير ركاقي فإف ىذا التأثير لـ ينتقؿ إلى ىشاـ‬
‫بصكرة مباشرة بالتأكيد‪ .‬كانت أعماؿ الركاقييف قد نسيت منذ زمف طكيؿ؛ كىي أيضا لـ تترجـ إلى العربية أبدا‪ .‬بؿ إنيا كصمت مف‬
‫خبلؿ المناظرة اإليرانية عف طريؽ يمعمـ ىشاـ‪ ،‬أبي شاكر الديصاني‪ ،‬تمتد القرابة ىنا حتى التفاصيؿ"‪ 3.‬كالحؽ أف ىذه الظاىرة‬
‫ليست خاصة بعبلقة اإلغريؽ بالعالـ اإلسبلمي فقط‪ ،‬بؿ ىي شائعة في التثاقؼ القديـ‪ ،‬كحتى في يكمنا ىذا نجد انتقاؿ األفكار‬
‫الفمسفية كالعممية قبؿ الترجمة الرسمية‪.‬‬

‫كيذكر المس تشرؽ "كلفسكف" سمسمة مف الدالئؿ التي تربط الكبلـ اإلسبلمي بالفكر اإلغريقي‪ ،‬كعمى الرغـ مف أنو يعتمد عمى‬
‫دراسات مستشرقيف سابقيف عميو‪ ،‬إال أنو يكثؽ طرحو بالكتب التراثية في اإلسبلـ‪ .‬فػ "ىكركفتس ‪ Horovitz‬كىك مؤرخ ألماني محدث‬
‫لعمـ الكبلـ (في كتابو‪)Uber den Einfluss der griechischen phillosphie auf die Entwichlung des Kalam:‬‬
‫معمر كأبك ىاشـ أراء أفبلطكنية (‪ )...‬ككيؼ أف بعض المفاىيـ الكبلمية مثؿ "التكلد"‬
‫[يقكؿ بأف] النظٌاـ تبني أراء ركاقية ‪ ،‬كتبنى ٌ‬
‫ىي انعكاس لمفاىيـ يكنانية بعينيا‪ .‬ككيؼ أف مذىب الشؾ اليكناني قد نفذ إلى عمـ الكبلـ"‪ 4.‬كما أف "ىكرتف في كتابو ‪Die‬‬
‫‪[ philosophischen système der spekulatiren im islam, 1912‬يذكر بأف] مختمؼ أراء شيكخ الكبلـ ليا أصكؿ في‬
‫فمسفة اليكناف‪(.‬اناكساجكراس‪ ،‬أرسطك‪ ،‬الذرييف‪ ،‬كارنيادس‪ ،‬ديمكقريطس‪ ،‬مابادكقميس‪ ،‬جالينكس‪ ،‬ىيراقميطس‪ ،‬األفبلطكنييف‬
‫المحدثيف‪ ،‬أفمكطيف‪ ،‬سقراط‪...‬الخ"‪ 5.‬أما الكتب التراثية التي تشير إلى ىذا التأثير فيي‪" :‬ابف حزـ‪ :‬أقكاؿ المتكمميف في الجكاىر‬
‫ظاـ كافؽ الفبلسفة في نفي الجزء الذم ال يتجرأ‪.‬‬
‫الفردة كالخبلء تعكد إلى الفبلسفة المتقدميف (‪ )...‬كالشيرستاني الذم يقكؿ بأف الن ٌ‬

‫‪1‬‬
‫ىارم‪ .‬أ‪ .‬كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.121‬‬
‫‪2‬‬
‫جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.561‬‬

‫‪3‬‬
‫جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.562‬‬

‫‪4‬‬
‫المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.125‬‬ ‫ىارم‪ .‬أ‪ .‬كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪،‬‬
‫‪5‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.125‬‬

‫‪67‬‬
‫كالبغدادم في مصنفو الفرؽ بيف الفرؽ (‪ )...‬أخذىا عف أناكساغكراس كطاليس"‪ 1.‬يبدك أف ىذا التكجو جزء مف األطركحة المعركفة‬
‫بالقكؿ بأف الفكر اإلسبلمي ككؿ‪ ،‬ىك كتابة عربية لمفكر اإلغريقي‪ ،‬كظاىر جدا غمك ىذا الطرح‪ ،‬عمى اعتبار أنو يمغي أم أصالة أك‬
‫تفرد لمطركحات اإلسبلمية‪ .‬أما "يكسؼ فاف ايس" فقد لخص المكضكعات المنقكلة مف اإلغريؽ فيما يمي‪ :‬الككسمكلكجيا‪ ،‬كظاىرة‬
‫الحركة‪ ،‬كالحتمية كالقدرة عمى الفعؿ‪ 2.‬ككميا مكضكعات كبلمية تـ استثمارىا في براىيف العقائد اإلسبلمية‪ .‬كأما التنزبو‪ ،‬الذم تعرؼ‬
‫بو العقيدة السنية كأغمب الفرؽ‪ ،‬فمو أفكار تعكد إلى اإلغريؽ القدامى‪ ،‬عمى أساس أف حركة ا﵀ تقمؿ مف تنزييو كعمكه عف‬
‫المحسكس‪ 3،‬كىذا ما كظفو المتكممكف إلبعاد فرضية الجسمية‪.‬‬

‫ال يجب أف نسير في نيج إثبات تبعية البلحؽ بمجرد أف نجد تشابو مع السابؽ‪ .‬إذ أف ىناؾ مف يرد بعض الشرائع كالسمككيات‬
‫الدينية اإلسبلمية لئل غريؽ بمجرد ما يكشؼ عف بعض التقارب‪ .‬مثؿ ذلؾ مف يرد حديث منسكب لمنبي عف نيي أكؿ البصؿ يكـ‬
‫الجمعة إلى الثقافة اإلغريقية التي تمنع دخكؿ المعبد لمف أكؿ ثكما‪ 4.‬كالحؽ أف ىذه المبلحظة المذككرة مف عند فيشر في كتابو‬
‫"تعاليـ الطاىرة في الثقافة اليكنانية" ال تختمؼ عف طريقة "مارتف برناؿ" الذم يرد أم كممة اغريقية لمتراث الشرقي أك السامي‪ .‬فما‬
‫المانع مف أف تككف ىذه العادة اإلغريقية مأخكذة مف ثقافات الشرؽ السابؽ عميو‪ .‬إف ىذه الفرضيات المغكية القائمة عمى التشابو ال‬
‫تدؿ عمى أم أسبقية‪ .‬كالتشابو بيف بعض تفاصيؿ الحضارات قد يككف مجرد مصادفة‪ ،‬كال تدؿ بالضركرة أف ىذه الحضارة قد أخذت‬
‫مف تمؾ أك العكس‪.‬‬

‫‪-3‬الييودية‪:‬‬

‫عبلقة العقائد الييكدية باإلسبلـ ميمة جدا‪ ،‬عمى أساس أف القرآف الكريـ لـ يتنكر ليا بالمطمؽ بؿ صدؽ ما في كتبيا‪ .‬بؿ يمكف‬
‫التقرير بأف ىناؾ كحدة جينيالكجية لئلسبلـ كالييكدية‪ ،‬ألف جذعيما المشترؾ كىك اإلبراىيمية يجعؿ بعض العقائد مكحدة في األصكؿ‬
‫ىمَّنا بًالمَّ ًو ىك ىما أ ٍين ًز ىؿ‬
‫كلئف تـ التغيير في الفركع‪ .‬نجد بعض اآليات تدعكنا إلى اإليماف بما أنزؿ عمى مكسى مثؿ قكلو تعالى‪﴿ :‬قيكليكا آ ى‬
‫‪5‬‬

‫ؽ ىب ٍي ىف‬ ‫ُّكف ًم ٍف ىرّْب ًي ٍـ ىال ينفىّْر ي‬


‫النبًي ى‬
‫يسى ىك ىما أيكتًي َّ‬
‫ى‬ ‫كسى ىك ًع ى‬
‫اؽ كيعقيكب ك ٍاأل ً‬
‫ىسىباط ىك ىما أيكتً ىي يم ى‬
‫ً‬ ‫ً ً ً‬ ‫ً‬
‫أ ٍين ًز ىؿ إلىٍيىنا ىك ىما أ ٍين ًز ىؿ إلىى إ ٍب ىراى ى‬
‫يـ ىكًا ٍس ىماعي ىؿ ىكًا ٍس ىح ى ى ى ٍ ى ى ٍ‬
‫﴿كقىالى ًت‬
‫كف﴾ [البقرة‪ ]136 ،‬لكف نجد البعض األخرل تنقض العديد مف العقائد الييكدية مثؿ قكلو تعالى‪ :‬ى‬
‫ً‬ ‫أ و ً‬
‫ىحد م ٍنيي ٍـ ىكىن ٍح يف لىوي يم ٍسم يم ى‬
‫ى‬

‫‪1‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪ .122-121‬أيضا عبد الكريـ الشيرستاني‪ :‬الممؿ كالنحؿ‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.56‬‬
‫‪2‬‬
‫جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬الجزء األكلى‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.144‬‬
‫‪3‬‬
‫يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.57‬‬

‫‪4‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪ .180‬كيذكر أيضا قكؿ جكلدتسيير الذم أعتقد بكجكد عبلقة بيف نظرية األصـ (في أف طالما المسمميف ينتيجكف‬
‫منيجا عادال كطالما أنيـ ال يتظالمكف‪ ،‬فبل حاجة ليـ بحاكـ) كبيف نص يكناني قديـ فيو فكرة الجماعة النمكذجية التي ال تحتاج‬
‫إلى حاكـ كالتي يدكر الح ديث عنيا في رسالة بعث بيا أرسطك إلى اإلسكندر األكبر تتعمؽ بفف الحكـ‪ .‬كيبدك فعبل أف نص ىذه‬
‫الرسالة كاف في متناكؿ األصـ في ذلؾ الزماف‪( .‬عاش األصـ في زمف ىاركف الرشيد)‪ ...‬لكف ال يذكر في الكتاب اليكناني إال اف‬
‫الناس ال يحتاجكف لمحكـ إال في زمف الحرب‪ .‬ىذا ما أدل إلى رفض ىذه النظرية‪ .‬ص ‪.608‬‬
‫‪5‬‬
‫محمد عابد الجابرم‪ :‬مدخؿ إلى القرآف الكريـ‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬في التعريؼ بالقرآف‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.76‬‬

‫‪68‬‬
‫ؾ ًم ٍف ىرّْب ى‬
‫ؾ‬ ‫ير ًم ٍنيي ٍـ ىما أ ٍين ًز ىؿ‬
‫إًلىٍي ى‬ ‫يد َّف ىكثً نا‬
‫اء ىكلىىي ًز ى‬‫ؼ ىي ىش ي‬‫ؽ ىك ٍي ى‬ ‫اف يي ٍنًف ي‬
‫ت أ ٍىي ًدي ًي ٍـ ىكلي ًعينكا بً ىما قىاليكا ىب ٍؿ ىي ىداهي ىم ٍب يسكطىتى ً‬ ‫كد ىي يد المَّ ًو ىم ٍغميكلىةه يغمَّ ٍ‬ ‫ا ٍلىييي ي‬
‫ادا ىكالمَّوي ىال‬
‫ض‬‫ىىا المَّوي كىي ٍس ىع ٍك ىف ًفي ٍاأل ٍىر ً‬
‫فى ىس ن‬ ‫ى‬ ‫ار لً ٍم ىح ٍر ًب أى ٍ‬
‫طفىأ ى‬ ‫ام ًة يكمَّ ىما أ ٍىكقى يدكا ىن نا‬ ‫ً‬ ‫ض ى ً‬
‫اء إلىى ىي ٍكًـ ا ٍلقىي ى‬ ‫طي ٍغىي نانا ىك يك ٍف نار ىكأىٍلقىٍيىنا ىب ٍيىنيي يـ ا ٍل ىع ىد ىاكةى ىكا ٍلىب ٍغ ى‬
‫يف﴾ [المائدة‪ .]64 ،‬ىذا ضرب مف اآليات المتشابية‪ ،‬أثارت مشكبلت كبلمية حكؿ حقيقة العبلقة بيف عقائد اإلسبلـ‬ ‫ًً‬ ‫يي ًح ُّ‬
‫ب ا ٍل يم ٍفسد ى‬
‫كعقائد الييكد‪.‬‬

‫يمكف أف يرتبط تأث ير اإلسرائيميات في عمـ الكبلـ مف خبلؿ التفسير الناتج عف القصص القرآني عمى أساس تفصيؿ الييكد فييا‬
‫عمى خبلؼ القرآف الذم جعؿ القصص عبرة لؤلخبلؽ كاإليماف‪ .‬كنظ ار ليذا التفصيؿ المفرط في تفسير اإلسرئيميات ظير ما يسمى‬
‫بالحشكية كالمجسمة‪ .‬كيرل الكثير أف انتشار ىذه التكجيات بسبب حاجة العامة إلى فيـ يميؽ بمستكاىـ المتكاضع‪ 1.‬فقد كاف عمييـ‬
‫أف يعرفكا أيف ىي الجنة مثبل‪ ،‬كىك ما كفره التراث الييكدم بالقكؿ أنيا في جبؿ صييكف بالقدس‪ 2.‬كبما أف المنحى الييكدم تشبييي‬
‫كفؽ نصكص التكراة ذاتيا‪ ،‬فإف رجاؿ الديف قد انزلقكا إلى تفسيرات حسية بالمطمؽ‪ ،‬فالبعض منيـ اعتقدكا أف ا﵀ في الجنة يأكؿ‬
‫كيشرب مثمنا‪ 3،‬كانتقؿ ىذا إلى المسمميف كعرفكه‪ .‬كىناؾ مف يرم بأف ىشاـ بف الحكـ‪ ،‬مف أكائؿ المتكمميف‪ ،‬قد تأثر باألفكار الكاردة‬
‫مف عند الييكد‪ 4.‬كىك الذم يستشيد بو عمى أنو تكمـ قبؿ كركد الفكر اإلغريقي عمى العالـ اإلسبلمي‪.‬‬

‫كيمخص "كلفسكف" المكضكعات التي انتقمت مف الفكر الييكدم إلى الكبلـ اإلسبلمي في النقاط الثبلثة التالية‪" :‬التشبيو‬
‫والتنزيو ‪ :‬يقكؿ االسفراييني كالشيرستاني أف المشبية مف المسمميف اقتبسكا مف الييكد‪ .‬لكف شراينر يقكؿ عكس ذلؾ‪ :‬الذيف رفضكا‬
‫التشبيو مف المسمميف كانكا ىـ الذيف تأثركا بالييكد‪ .‬القديـ أك المخمكؽ‪ :‬يقتبس شراينر عبارة ابف االثير أف "لبيد بف األعصـ" الييكدم‬
‫كاف أكؿ مف أدخؿ نظرية خمؽ القرآف في االسبلـ‪ .‬كىناؾ مف الييكد مف يعتقد بقدـ التكراة‪ .‬الجبر واالختيار‪ :‬يقكؿ المسعكدم أف‬
‫القرائيف الييكد ىـ مف يذىب الى العدؿ كالتكحيد‪( .‬ىذا ما صرح بو المعتزلة)‪ .‬يقكؿ الشيرستاني العكس‪ :‬الربانيكف منيـ كالمعتزلة‬
‫ٌ‬
‫القراءكف كالمجبرة كالمشبية‪ .‬يبيف شراينر أف قكؿ كاصؿ بف عطاء في القدر ىك في األغمب ترجمة حرفية لقكؿ الرٌبانييف‬
‫فينا ك ٌ‬
‫(الييكد)"‪ 5.‬يبقى االعتماد عمى تشابو األفكار ىك العامؿ األساسي إلثبات التأثر‪ ،‬لكف ليس ىناؾ أم دليؿ مباشر عمى ذلؾ‪.‬‬

‫‪-4‬المسيحية‪:‬‬

‫ما يقاؿ عف العبلقة بيف اإلسبلـ كالييكدية مف الناحية العقائدية‪ ،‬يمكف سحبو عمى المسيحية‪ ،‬عمى أساس أف القرآف الكريـ قد‬
‫اعترؼ بنبكة عيسى كمصداقية األناجيؿ‪ .‬لكف ليس إلى الدرجة أف تصبح في نفس مستكل القرآف مف حيث الصحة العقدية‬
‫كالتشريعية‪ .‬كالمقاء بيف المسيحي ة كاإلسبلـ تـ في دمشؽ حيث استعانت الخبلفة اإلسبلمية الفتية بالخبرة المسيحية في اإلدارة‬
‫أما أثر الكبلـ المسيحي عمى الكبلـ اإلسبلمي‪ ،‬فقد أثبتو المستشرقكف بضرب مف التفصيؿ‪ ،‬بالنظر إلى انتمائيـ‬ ‫كالتشريع‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫أحمد محمكد صبحي‪ :‬في عمـ الكبلـ‪ -‬دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف‪ ،‬الجزء األكؿ‪ :‬المعتزلة‪ ،‬مرجع سابؽ‪،‬‬
‫مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.47‬‬
‫‪2‬‬
‫يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.58‬‬
‫‪3‬‬
‫جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬الجزء األكلى‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.565‬‬
‫‪4‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.569‬‬
‫‪5‬‬
‫ىارم‪ .‬أ‪ .‬كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ص ‪.133-131‬‬

‫‪69‬‬
‫الحضارم أكال‪ ،‬كبالنظر إلى أف النقكؿ الفمسفية تمت مف طرؼ مسيحييف‪ .‬كيعقد "يكسؼ فاف ايس" بأف "يعقكب الرىي (تكفي ‪ 89‬ىػ‬
‫ىك مسيحي) لو أىمية بالنسبة لمكبلمي اإلسبلمي‪ ،‬فقد كتب رسالة تعالج قضية ىامة مف القضايا التي اىتـ بيا القدرية‪ ،‬كىي‬
‫‪1‬‬
‫القضية التي تبحث ىؿ أف ا﵀ يمكف أف يؤخر أجاؿ بني آدـ أـ ال ؟"‪.‬‬

‫أما "دم بكر" في دراستو "تاريخ الفمسفة في اإلسبلـ"‪ ،‬نشر‪ .1901‬فقد أثبت تأثير النصارل في عمـ الكبلـ االعتزالي‪ ،‬كخصص‬
‫بالذكر العبلٌؼ الذم تأثر بمشكمة الصفات كاإلرادة اإلليية‪ 2.‬كيعمؽ "كلفسكف" عمى رأم دم بكر قائبل‪ :‬نحف نجد بيف مذاىب‬
‫المتكمميف األكلى في اإلسبلـ كبيف العقائد النصرانية شبيا قكيا بحيث ال يستطيع أحد أف ينكر كجكد اتصاؿ كثيؽ بينيما‪ .‬كأكؿ‬
‫مسألة كثر حكليا الجدؿ بيف عمماء المسمميف ىي مسألة االختيار؛ ككاف النصارل الشرقيكف يكادكف جميعا يقكلكف باالختيار (‪)...‬‬
‫‪3‬‬
‫بعضا مف المسمميف األكائؿ‪ ،‬الذيف قالكا باالختيار كاف ليـ أساتذة مف النصارل"‪.‬‬

‫كيتـ اختصار المسائؿ التي تـ فييا تأثير الكبلـ المسيحي عمى الكبلـ اإلسبلمي في االختيار كالجبر‪ ،‬كمشكمة الصفات‪ ،‬كمسألة‬
‫قدـ القرآف‪ .‬كيذكر لنا "كلفسكف" العديد مف اآلراء التي تقكؿ بذلؾ منيا‪" :‬في مسألة االختيار يشير كريمر ‪ ،1873‬كبيكر ‪،1912‬‬
‫كجيكـ ‪ ،1924‬كسكيتماف ‪ ،1945‬كجارديو كجكرج قنكاتي ‪ 1948‬أف االعتقاد باالختيار ظير تحت تأثير المسيحية في معارضتيا‬
‫لبلعتقاد اإلسبلمي الساذج‪ .‬مثبل يعقد يحي الدمشقي مناظرة بيف مسيحي كمسمـ حكؿ ىذه المسألة في كتابو "مناظرة بيف مسيحي‬
‫مسمـ"‪ ،‬كفييا يدافع المسيحي عف االختيار كيتمسؾ المسمـ بالجبر‪ .‬عمى العكس يذىب جكلدتسيير ‪ 1910‬كتريتكف ‪ 1947‬ككات‬
‫‪ 1948‬إلى أف مشكمة االختيار قد انبعثت مف بعض آيات القرآف ذاتو‪ ،‬عمى حيف أف جكلدسيير كتريتكف يرياف أف التأثير المسيحي‬
‫عجؿ بنمك كجية النظر االسبلمية ىذه‪ ،‬فإف كات ينكر أم تأثير مسيحي"‪ 4.‬أما في مسألة الصفات‪ ،‬فيقكؿ‪" :‬يرل البعض أف‬
‫قد ٌ‬
‫إلنكار المعتزلة لمصفات أصبل مسيحيا‪ .‬كريمر‪ :‬لفظ التعطيؿ الذم كصفت بو المعتزلة مف خصكميـ مأخكذ مف المسيحية بمعنى‬
‫تفريغ ابف ا﵀ مف صكرة ا﵀‪ .‬يقكؿ تريتكف سنة ‪ :1947‬إف يحي الدمشقي استبؽ المعتزلة في نظريتيـ القائمة إف الصفات ليست غير‬
‫ا﵀‪ .‬كيقكؿ جارديو كقنكاتي متابعيف في ذلؾ بيكر أف مشكمة الصفات في اإلسبلـ نتيجة لممجادالت المسيحية ضد التشبيو"‪ 5.‬كأخير‬
‫في مكضكع قدـ القرآف كخمقو‪ ،‬نجده يستشيد بػ ماكدكنالد الذم يقكؿ سنة ‪ 1903‬فيما يتعمؽ بمشكمة خمؽ القرآف‪" :‬ال يمكف أف تككف‬
‫لدينا صعكبة في التعرؼ عمى أنيا نشأت عف المكجكس (الكممة) المسيحي كفي التعرؼ عمى أف الكنيسة المسيحية‪ ،‬قد لعبت أيضا‬
‫دك ار في تشكيميا‪ ،‬ربما مف خبلؿ يحي الدمشقي‪ .‬ىكذا تطابؽ مع المكجكس السماكم غير المخمكؽ القابع في أحضاف األب كممة ا﵀‬
‫‪6‬‬
‫األزلية غير المخمكقة؛ كتجمي يسكع في األرض يطابؽ القرآف‪ ،‬كممة ا﵀ التي نقرأىا كنتمكىا‪( .‬ذكره جكرج قنكاتي)"‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.654-653‬‬
‫‪ 2‬دم بكر‪ :‬تاريخ الفمسفة في اإلسبلـ‪ ،‬ترجمة محمد عبد اليادم أبكريدة‪ ،‬دار النيضة العربية‪ ،‬بيركت‪ ،1954 ،‬ص ‪.94-93‬‬
‫‪3‬‬
‫ىارم‪ .‬أ‪ .‬كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.116‬‬
‫‪4‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.118-117‬‬
‫‪5‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.119-118‬‬
‫‪6‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.120‬‬

‫‪71‬‬
‫كيخمص "كلفسكف" في تطرفو الذم يرجع كؿ كبلـ إسبلمي إلى أصكؿ مسيحية قائبل‪ :‬المشكبلت الكبلمية الست (عند‬
‫المسمميف‪ :‬الصفات‪ ،‬القرآف‪ ،‬خمؽ العالـ‪ ،‬الذرية‪ ،‬العمية‪ ،‬الحرية اإلنسانية) ىي مشكبلت متصمة بتمؾ المشكبلت التي تناكليا "فيمكف"‬
‫‪1‬‬
‫كآباء الكنيسة مف قبؿ في محاكلتيـ لتأكيؿ الكتاب المقدس تأكيبل فمسفيا كلمراجعة الفمسفة لكي تتكافؽ مع الكتاب المقدس"‪.‬‬

‫يمكف أف نشير‪ ،‬في خبلصة العكامؿ الخارجية‪ ،‬إلى أف ىذا العنكاف الخاص بتأثير الثقافات غير اإلسبلمية عمى نشأة عمـ‬
‫الكبلـ اإلسبلمي‪ ،‬ال يدؿ عمى سمبية الجبية الداخمية كتبعية المتكمميف المسمميف لمعكامؿ الخارجية تبعية سمبية انقيادية‪ .‬بؿ يمكف أف‬
‫تفيـ فيما ايجابيا‪ ،‬كالمتمثؿ في أف اختبلؼ العقائد اإلسبلمية عف بقية العقائد بمختمؼ أطيافيا‪ ،‬حرؾ في نفكس المسمميف‪ ،‬كىـ‬
‫المؤمنكف بقكة كعمؽ بصدؽ العقيدة‪ ،‬الحماسة الفكرية لمدفاع عف بداىة العقائد اإلسبلمية‪ .‬كفي ىذا التحريؾ يكمف أثر العامؿ‬
‫الخارجي‪.‬‬

‫بؿ أف الغربييف كقعكا في جدؿ حكؿ مصدر بعض األفكار عند الجيـ بف صفكاف‪ ،‬حيث نجد مف أرجعيا إلى تأثير‬
‫األفبلطكنية المحدثة كىناؾ مف جعميا تعكد إلى تأثير البكذية في اليند‪ .‬كىذا ما نجده في قكؿ "فاف ايس"‪" :‬ىؿ مف األفضؿ بدال‬
‫مف تفقد األثر األفبلطكني الحديث في أفكار الجيـ‪ ،‬أف نفترض بكجكد تأثيرات ىندية عنده ؟ كىذا التأثير ليس بكذيا‪ ،‬فيمكف القكؿ‬
‫‪2‬‬
‫أيضا بتأثيرات لتعاليـ البراىمية (‪ )...‬أشكر ىنا رينرت ‪ B Reinert‬مف مدينة زكريخ ألنو ىك الذم أكحى لي بمثؿ ىذه الفرضية"‪.‬‬
‫كالحؽ أف مثؿ ىذه المنيجية ال تدؿ إال عمى محاكلة تعرية أصالة الفكر الكبلمي اإلسبلمي كمية‪.‬‬

‫ثالثا‪ -‬مظاىر تجاوز عمم الكالم اإلسالمي الالىوت السابق‪:‬‬

‫مف الظاىر أف االستعراضات السابقة‪ ،‬بخاصة ما ذكره الدرس االستشراقي‪ ،‬بخصكص مصادر الكبلـ اإلسبلمي‪ ،‬ال يمكف أف‬
‫يشكؿ نظرية مقنعة سكاء مف الناحية العممية أك التاريخية‪ .‬ألف األخذ بيا‪ ،‬كما ىي‪ ،‬سينتيي إلى ابطاؿ أم أصالة لمكبلـ اإلسبلمي‪.‬‬
‫كيمكف المبلحظة بأنيا نظرية فرعية مف النظرية األشمؿ التي تقكؿ بأف الفمسفة اإلسبلمية ككؿ فمسفة اغريقية مكتكبة بالمغة العربية‪.‬‬

‫حقيقة أف الثيكلكجية اإلغريقية كفمسفتيا الدينية‪ ،‬كمجمؿ العقائد الييكدية كالنصرانية التي جمعت في العيديف القديـ كالجديد‪،‬‬
‫كالفكر الشرقي القديـ في ببلد فارس كاليند‪ .‬قد أثارت مشكبلت متعمقة بالعقائد‪ .‬لكف ال يمكف أف نعثر عمى أم تطابؽ كمي بيف ىذه‬
‫المكضكعات ال فكرية الدينية‪ .‬فمكؿ حضارة خصكصيات تاريخية كجغرافية كلغكية‪ ،‬انتيت إلى انتاج ضرب مخصكص مف البلىكت‪.‬‬
‫كاستطاع العالـ اإلسبلمي اثارة قضايا كبلمية مكضكعة عمى مقاس المغة العربية كالعقائد اإلسبلمية‪ .‬كباعتراؼ ارنست ريناف‪ ،‬فإف‬
‫األفؽ العقمي لمكبلـ اإلسبلمي قد تجاكز الكبلـ المسيحي‪ 3.‬كككف الييكدية كالمسيحية مثمتا خمفية فكرية كعقدية لمفضاء اإلسبلمي ال‬
‫ينقص مف األمر شيئا‪ .‬فاألصالة ال تدؿ عمى االبتداع المطمؽ‪ ،‬بؿ في خمؽ نسؽ متكامؿ مف العقائد كاألفكار كالممارسات‪ ،‬كفي ىذا‬

‫‪1‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬ص ‪.895‬‬

‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬ ‫‪2‬‬

‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.747-746‬‬


‫‪3‬‬
‫ارنست ريناف‪ :‬ابف رشد كالرشدية‪ ،‬ترجمة عادؿ زعيتر‪ ،‬دار احياء الكتب العربية‪ ،‬القاىرة‪ ،1957 ،‬ص ‪.11‬‬

‫‪71‬‬
‫فقد نجح الفضاء اإلسبلمي في خمؽ ىذا النسؽ‪ .‬ثـ أف اإلسبلـ كديف جديد‪ ،‬لـ يستمد عقائده مف الديانات التكحيدية السابقة عميو‬
‫بصكرة حصرية‪ ،‬إذ ال يمكف انكار أثر البيئة العربية السابقة عمى اإلسبلـ في استمرار عقائد كممارسات كانت مكجكدة‪" .‬فرغـ أىمية‬
‫القرآف كشخصية الرسكؿ‪ ،‬لـ يكف باإلمكاف نسياف قيـ القبائؿ العربية المتعمقة باإلجماع كالسمكؾ النمكذجي أك حتى التقميؿ مف شأنيا‪.‬‬
‫فمـ يكف السمكؾ الحسف الجدير باالحتذاء بو مف امبلءات القرآف فحسب كانما دعت إليو بصكرة أكضح المفاىيـ المضمنة في السنف‪،‬‬
‫أم ما تمثمو األسبلؼ مف قدكة حسنة إف جماعيا أك فرديا"‪ 1.‬كقد تكفؿ الدكتكر محمد عابد الجابرم في اثبات عنصر األخبلؽ‬
‫الجاىمية أك قؿ العربية األصمية في ما سماه بالعقؿ األخبلقي العربي‪ .‬كىك العقؿ الذم جمع الفسيفساء التي تحدثنا عنيا‪ .‬لذا‬
‫فاألصالة ىي القدرة عمى تذكيب مصادر مختمفة في نسؽ جديد متفرد مف خبلؿ ىذا التذكيب بالذات‪ .‬كخصكصية العقؿ األخبلقي‬
‫العربي مثبل قد تجسدت في قدرتو عمى استجماع مصادر أخبلقية عدة مثؿ العربية كالفارسية كالصكفية كاإلغريقية كاإلسبلمية‪ 2.‬ما‬
‫يقاؿ عمى العقؿ العممي‪ ،‬يقاؿ أيضا عمى العقؿ العقدم المتجسد في عمـ الكبلـ‪ .‬يتحكؿ عمـ الكبلـ اإلسبلمي إلى مستكدع جمع عدة‬
‫مصادر في نسؽ جديد اتسـ بميسميف المغة العربية كأداة تفكير ككتابة كالعقيدة اإلسبلمية كمضاميف معرفية‪.‬‬

‫ثـ أف الظاىرة التي ال يجب اإلغفاؿ عنيا‪ ،‬ىي ظاىرة تأثير الكبلـ اإلسبلمي في الكبلـ المسيحي كالكبلـ الييكدم معا‪ .‬فتأخر‬
‫عمـ الكبلـ اإلسبلمية تاريخيا‪ ،‬لـ يمنعو مف التشكؿ القكم ثـ التأثير في الثيكلكجييف غير المسمميف الحقا‪ .‬فالحضارة أكثر امتدادا مف‬
‫األشخاص‪ ،‬فحتى لك سممنا جدال‪ ،‬كىذا التسميـ ضرب مف االعتراؼ الحضارم‪ ،‬بأف بعض الثيكلكجييف المسيحيف قد أثركا في بعض‬
‫عمماء الكبلـ المسمميف‪ ،‬فإف ازدىار الكبلـ اإلسبلمي في األندلس مثبل‪ ،‬قد عمٌـ الييكد أصكؿ الكبلـ الفمسفي‪" .‬ففي الييكدية نشأ عمـ‬
‫الديف القائـ عمى الحجج الديالكتيكية بتأثير اإلسبلـ"‪ 3.‬كىذا مثاؿ عمى قدرة الكبلـ اإلسبلمي عمى تشكيؿ تقاليد فكرية منضبطة‬
‫كنكعية تصدر لمعالـ الفكرم غير اإلسبلمي‪ .‬فالتأثير ال يتعمؽ باألسبقية الزمنية فقط‪ ،‬بؿ أف التأثير مرتبط أيضا بالنمك المعرفي‬
‫كالقدرة عمى تشكيؿ تقاليد فكرية قكية‪ .‬ككما أف الكبلـ اإلسبلمي‪ ،‬مثمما أظيرنا ذلؾ سابقا‪ ،‬قد تشكؿ قبؿ االنفتاح المعركؼ عمى‬
‫الحضارات المجاكرة‪ ،‬مما يعطي لنا إمكانية التأكيد عمى انطبلؽ ش اررة الكبلـ مف عكامؿ ذاتية‪ .‬فمـ يكف التفكير كالفمسفة كالكبلـ‬
‫منعدميف قبؿ بيت الحكمة في بغداد‪ 4.‬بؿ ىناؾ حركة فكرية‪ ،‬عمى المقاس اإلسبلمي ال يمكف انكارىا‪ ،‬كقمة المصادر في القرف‬
‫األكؿ ال يدؿ عمى انعداميا‪ .‬ثـ اننا‪ ،‬في سياقاتنا الحالية‪ ،‬نقيس دكما قيمة المنتكج المحمي بالمعايير غير المحمية‪ ،‬كىذا ما يؤدم‬
‫دكما إلى بخص قيمة ىذا الفكر المحمي‪ .‬فمثمما نقيس جدكل الفمسفة بالمقاييس اليكنانية ‪ ،‬يمكف لنا قياس جدكل الفمسفة اليكنانية‬
‫بالمقاييس اإلسبلمية‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫كائؿ حبلؽ‪ :‬نشأة الفقو اإلسبلمي كتطكره‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.267‬‬

‫‪2‬‬
‫محمد عابد الجابرم‪ :‬العقؿ األخبلقي العربي – دراسة تحميمية نقدية في نظـ القيـ في الثقافة العربية‪ ،‬مركز دراسات الكحدة العربية‪،‬‬
‫بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2001 ،‬ص ‪.19‬‬

‫‪3‬‬
‫جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.87‬‬
‫‪4‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.144‬‬

‫‪72‬‬
‫إف مطالعة كتاب المتكمـ الييكدم إبف ميمكف ‪ )124/1135( Moise Maimonide‬تحت عنكاف "داللة الحائريف"‪ ،‬يكشؼ لنا‬
‫مدل تأثره بالكبلـ اإلسبلمي ككثرة نقكلو عف المسمميف‪ .‬ففي متنو نجد إشارات إلى اإلسبلـ كالى الفرؽ الكبلمية مثؿ األشعرية‬
‫كالمعتزلة كالى المفكريف المسمميف مثؿ الرازم‪...‬الخ‪ .‬كيثبت أف الفرؽ الييكدية أخذت مف الفرؽ اإلسبلمية الكثير مف المكاقؼ‬
‫الكبلمية‪ 1.‬إف الحضارة الفكرية أ قكل مف أم فرد ميما كاف نابغا‪ ،‬ألنو يجد نفسو في حضف تأليفات فكرية ال يمكف إال أف يستفيد‬
‫منيا بالطريقة المناسبة‪ .‬كعمـ الكبلـ اإلسبلمي‪ ،‬الذم أخذ منو غيره‪ ،‬الستطاع أف ينشأ تأليفات مف نكع مخصكص‪ ،‬أثرت بقكة في‬
‫الفكر الييكدم كالمسيحي البلحؽ لمقرف السادس لميجرة عندما اكتممت الكتابات الكبلمية كنضجت‪ .‬كربما أف الرشدية البلتينية‪ ،‬التي‬
‫لـ تكف إال صدل لمكبلـ اإلسبلمي‪ ،‬ىي أحسف مثاؿ في السياقات المسيحية‪ .‬كيفيـ التأثير الرشدم في أكركبا باعتباره حرض العقكؿ‬
‫عمى التفكير كالرد عميو مف سياقات مسيحية‪ .‬ىكذا يجب أف نفيـ تأثير الكبلـ المسيحي كالييكدم كاإلغريقي عمى الكبلـ اإلسبلمي‪،‬‬
‫أم أنو كاف في مكقؼ الرد كاألقممة كرفض كؿ ما ال يتكافؽ مع عقائد اإلسبلـ الكبرل‪.‬‬

‫استنتاج‪ :‬في تعالق العوامل الداخمية بالعوامل الخارجية‪.‬‬

‫التقطيع فعؿ إنساني‪ ،‬فعندما نتحدث عف عكامؿ داخمية كعكامؿ خارجية‪ ،‬كعندما نتحدث عف خصائص العصر السابؽ لئلسبلـ‬
‫كالبلحؽ عميو‪ ،‬فإننا نقكـ بتقطيعات مف منطمؽ معايير ما‪ .‬كىنا نفيـ سبب تعارض التقسيمات التاريخية كحتى المعرفية‪ .‬كال يمكف أف‬
‫تككف في الكاقع ىذه القطع منفصمة كمبعثرة‪ .‬لذا فإف التأكيد عمى انفصاؿ العكامؿ الداخمية عف الخارجية في عمـ الكبلـ ىك مكقؼ‬
‫تبسيطي ال يمكف أف يصمد أماـ النقد الحقيقي‪ ،‬إذ أف العكامؿ الداخمية كانت مسبكقة بعكامؿ خارجية كالتي اندمجت في سياؽ داخمي‬
‫كىكذا دكاليؾ‪ .‬فنحف نعتقد أف العكامؿ الداخمية متمثمة في الصراعات السمطكية كبنية القرآف الذم يشكؿ النص المتشابو جزء معتبر‬
‫منو‪ ،‬بمثابة عكامؿ داخمية صرفة‪ .‬في حيف أف التنازع عمى السمطة ليس مف خاصية المجتمع اإلسبلمي الكليد‪ ،‬بؿ ىك مف العكامؿ‬
‫الخارجية مف الناحية التاريخية‪ ،‬ألنيا تعكد إلى البنية السيككلكجية لمفرد العربي الذم نشأ عمى الغنيمة كالعصبية كالمنافسة‪ .‬ثـ أف‬
‫المغة العرب ية‪ ،‬التي شكمت لساف القرآف‪ ،‬قد ساىمت ببنيتيا كخصكصياتيا‪ ،‬في ىذا التشكيؿ المجازم كاالستعارم الذم أنتج ما نسميو‬
‫بالتشابو‪ .‬إذف فالعكامؿ المعتبرة داخمية ليست كذلؾ بالمطمؽ‪ .‬كما أف العكامؿ الخارجية‪ ،‬قد تككف في بعض أجزائيا داخمية‪ .‬فعندما‬
‫يؤكد مارتف برناؿ كبعض الفي مكلكجييف (فقياء المغة) أف العديد مف أسماء البمداف كاآللية كاألفكار اإلغريقية ذات أصؿ سامي‬
‫كشرقي‪ ،‬فيذا يعني أف المغة العربية قد تككف قد ساىمت في بناء ىذه الحضارة التي تعتبر عامؿ خارجي خالص‪ .‬فالخارجي يتشكؿ‬
‫مف الداخمي كالداخمي يتشكؿ مف الخارجي‪ .‬كالفصؿ ىك مجرد اجراء منيجي لمتقسيـ كالفيـ‪.‬‬

‫ثـ أف االىتماـ بسؤاؿ النشأة‪ ،‬في تقديرنا‪ ،‬ليس اىتماـ عممي خالص‪ .‬عمى أساس أف مف يؤكد محمية عمـ الكبلـ ال يريد سكل‬
‫الدفاع عف األصالة الفكرية لحضارة اإلسبلـ‪ ،‬كمف يؤكد الطابع الخارجي لمكبلـ اإلسبلمي‪ ،‬مدفكع بإرادة اثبات أطركحة أصالة‬
‫الغرب أك الشرؽ اآلخر‪ .‬لذا فالدكافع ىنا تابعة لئلرادة الذاتية التي تتفاعؿ فييا العكاطؼ كاإليديكلكجيات كالمصالح‪ .‬كحيث حضرت‬

‫‪1‬‬
‫مكسى بف ميمكف‪ :‬داللة الحائريف‪ ،‬تحقيؽ حسف آتام‪ ،‬مكتبة الثقافة الدينية‪ ،‬العتبة‪ ،‬دس‪ ،‬ص ‪.180‬‬
‫يمكف التعمؽ في ىذه المسألة مف خبلؿ العكدة لػ‪ :‬حسف حسف كامؿ ابراىيـ‪ :‬اآلراء الكبلمية لمكسى بيف ميمكف األثر اإلسبلمي‬
‫فييا‪ ،‬مركز الدراسات الشرقية‪ ،‬جامعة القاىرة‪.2003 ،‬‬

‫‪73‬‬
‫المصمحة السياسية غابت الحقيقة العممية‪ .‬لذا فجدؿ أصؿ عمـ الكبلـ‪ ،‬ال يخمكا مف الطابع األبكلكجي (الدفاعي) كاإليديكلكجي الذم‬
‫يتنافى مع الركح العممي‪ .‬ثـ أف الصراع الحضارم الحالي‪ ،‬بيف الشرؽ كالغرب‪ ،‬ىك الذم يسير ىذا النقاش إلى حدكد معينة‪.‬‬

‫ال مفر مف االعتراؼ بأف الييكدية كالمسيحية قد شكبل خمفية فكرية كدينية لئلسبلـ‪ ،‬ىذا اإلسبلـ الذم أنتج حركة فكرية أثرت‬
‫بدكرىا‪ ،‬الحقا‪ ،‬عمى الساحة الفكرية الييكدية كالمسيحية‪ .‬ىذا ىك التفاعؿ الجدلي الذم ال يمكف بأم حاؿ انكاره‪ .‬كعقيدة األصؿ‬
‫النقي لمفكر مجرد حمـ تعشش في الفكر المثالي لدل كؿ فرقة ككؿ ايديكلكجية‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫المحاضرة الرابعة‪ :‬جدل عمم الكالم؛ بين االستحسان واإل لجام‪.‬‬

‫مقدمة‪.‬‬

‫مكقؼ المسمميف بكؿ أطيافيـ‪ ،‬فقياء كمتصكفة كمتكمميف كأدباء كحتى رجاؿ السمطة‪ ،‬مف عمـ الكبلـ ليس مف المسائؿ‬
‫الكاضحة جدا‪ .‬كال نقصد بذلؾ اختبلفيـ حكؿ ضركرتو مف عدمو‪ ،‬بؿ أننا نسمع بأف ىناؾ أحاديث منسكبة إلى الرسكؿ الكريـ تنيى‬
‫عف الحديث في العقائد‪ ،‬كىذا ما يجعمنا نتساءؿ كيؼ يتحدد التحريـ قبؿ تجربة الخكض فيو أصبل ؟ ىناؾ احتماليف اثنيف‪ :‬األكؿ أف‬
‫ىذه األحاديث مكضكعة في كقت متأخر مف أجؿ تقكية األطركحات المعارضة لمكبلـ كالتأكيؿ في العقائد‪ ،‬كىذا مكقؼ الفقياء‬
‫النصييف أك الحرفييف الذيف عارضك الرأم باعتباره خطي ار عمى التقاليد‪ .‬أك أف المكقؼ مف عمـ الكبلـ كاف معركفا عند األمـ السابقة‪،‬‬
‫مما أكرث المسمميف‪ ،‬كالرسكؿ (ص) منيـ‪ ،‬ىذه النظرة المتريبة عف الكبلـ في العقائد‪.‬‬

‫مسألة ثانية مرتبطة ببنية المجتمع اإلسبلمي ذاتو‪ ،‬إذ أنو مقسـ‪ ،‬مثمو مثؿ كؿ المجتمعات القديمة بما في ذلؾ اليكناف‬
‫كالركماف‪ ،‬إلى خاصة الناس كعامتيـ‪ .‬ىؤالء الخاصة ىـ المتفرغكف لمبحث كالتأمؿ بعيدا عف قمؽ الحاجة‪ .‬أما العامة‪ ،‬فيـ التجار‬
‫كالعبيد كالعماؿ الذيف لـ يتسف ليـ التعمـ‪ .‬ىذا ما خمؽ اعتقاد عند الخاصة بأف العامة مف الناس غير مؤىميف لبلطبلع عمى كتب‬
‫الكبلـ‪ .‬لكف الي كـ‪ ،‬ال نممؾ بصكرة دقيقة صكرة عف مفيكـ العامة في السياقات اإلسبلمية الكبلسيكية؛ ىؿ ىـ األميكف بالمعنى‬
‫الحالي ؟ أـ ىـ الفئة المتكسطة التي تعممت لكف بحدكد ؟ ىؿ ىـ النساء البلئي لـ يكف ليـ حقكؽ مدنية في التعميـ كالعمؿ‬
‫كالمشاركة السياسية ؟ أسئمة كثيرة تجعمنا بحاجة إلى سكسيكلكجيا تاريخية تستقصي "مفيكـ" ك"ماصدؽ" العامة في اإلسبلـ مف أجؿ‬
‫فيـ العديد مف الرسائؿ التي كتبت في سياؽ منع الكبلـ عمى العامة بخبلؼ الخاصة‪ .‬كقد كاف الفبلسفة‪ ،‬مثؿ ابف سينا‪ ،‬يعتقد بأف‬
‫الفيمسكؼ‪ ،‬كألنو مف الخاصة‪ ،‬ليس ممزما بالتقيد ببعض األكامر الدينية‪ ،‬كالقرآنية حتى‪ ،‬ألنيا مكضكعة لمعامة‪ .‬كفي مسألة عمـ‬
‫الكبلـ كاف متريبا منو‪.‬‬

‫كمكضكع تقسيـ الناس إلى خاصة كعامة‪ ،‬ال ينفصؿ عف بنية النص القرآني ذاتو‪ ،‬إذ يتحدث الفقياء كاألصكلييف عف مبدأ‬
‫"ظاىر النص كباطنو"‪ ،‬ككجكد الباطف يستمزـ كجكد نخبة مخصكصة لتكلي فيمو كتبسيطو‪ .‬يقكؿ ابف رشد‪" :‬انقسـ الشرع إلى ظاىر‬
‫كباطف‪ ،‬فإف الظاىر ىك تمؾ األمثاؿ المضركبة لتمؾ المعاني‪ .‬كالباطف ىك تمؾ المعاني التي ال تنجمي إال ألىؿ البرىاف"‪ 1.‬كاألكيد‬
‫أف كؿ مشكبلت عمـ الكبلـ األساسية‪ ،‬مثؿ تشبيو الذات اإلليية‪ ،‬مرتبط بضركرة التمثيؿ لمعامة مف الناس‪ .‬كقد كاف التقميد‬
‫اإلغريقي‪ ،‬بخاصة عند أفبلطكف‪ ،‬يقسـ الناس إلى معادف أك مراتب‪ ،‬فبل يمكف أف تككف النفس العاقمة في نفس مستكل النفس‬
‫الغاضبة أك أدناىا‪ .‬كىذا التراتب ىك الذم يضع الحدكد الثابتة بيف طبقة كأخرل‪ ،‬كيمنع األدنى مف الرقي نحك األعمى‪ .‬بؿ كيجعؿ‬
‫الطبقة العاقمة أكثر ضركرة لمسير الطبيعي لممجتمع كالدكلة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫ابف رشد‪ :‬فصؿ المقاؿ كتقرير ما بيف الشريعة كالحكمة مف اتصاؿ‪ ،‬الشركة الكطنية لمنشر كالتكزيع‪ ،‬الجزائر‪ ،1982 ،‬ص ‪.38‬‬

‫‪75‬‬
‫عندما نحاكؿ أف نستجمع مكاقؼ العمماء مف عمـ الكبلـ‪ ،‬ال نجد مكقفيف عمى طرؼ النقيض فحسب‪ ،‬بؿ أننا نجد أكثر مف‬
‫ذلؾ‪ .‬ألف الذيف رفضكا الكبلـ قد مارسكه‪ ،‬بؿ ال يمكف رفضو إال بعد تجربة الخكض فيو‪ .‬لذا فمف الناحية المبدئية نجد ثبلثة مكاقؼ‬
‫أساسية ىي‪:‬‬

‫مكقؼ االستحساف بحيث ال يرل أم ضرر‪ ،‬بؿ لو مف الفكائد ما يجعمو ضركرم كمطمكب‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫مكقؼ يرفض تماما الكبلـ‪ ،‬ألنو يؤدم إلى شبيات تمس بصميـ العقيدة‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫مكقؼ يرفض الكبلـ رفضا نسبيا‪ ،‬أم أف أصحاب البرىاف كالتخصص ليـ الكبلـ في العقيدة ببل حرج‪ ،‬نظ ار لتككنيـ فيو‬ ‫‪‬‬
‫كمعرفتيـ بدقائؽ الكتاب كقكانيف التأكيؿ‪ .‬لكف ىناؾ صنؼ مف الناس ال يجب أف يسمعكا أك يخكضكا في مسائؿ العقيدة‪،‬‬
‫لقمة أفياميـ كمحدكدية معرفتيـ بكتاب ا﵀ الذم يتكفر عمى العقائد الصحيحة‪.‬‬

‫لذا‪ ،‬كبالنظر إلى ما سبؽ تحديده‪ ،‬نطرح إشكالية المحاضرة قائميف‪ :‬ما ىك المكقؼ الذم يبدكا لنا أنو سميـ مف الناحية البنيكية‬
‫كالتاريخية ؟ ىؿ الكبلـ أمر طبيعي في اإلسبلـ أـ أنو نافمة يمكف السككت عنيا كعدـ طمبيا ؟‬

‫أوال‪ -‬استحسان الخوض في عمم الكالم‪:‬‬

‫القضية التي تبدك لنا صحيحة ىي القائمة بأنو لـ يكف بد لممسمميف مف الكبلـ‪ .‬فمسار نمك الحضارة اإلسبلمية‪ ،‬كالذم تكسع‬
‫عمى أكثر مف جبية كعمى أكثر مف ثقافة أكجب عقمنة العقائد اإلسبلمية كالحديث فييا بمعزؿ عف الحجاج القرآني الذم يفترض‬
‫القبكؿ بيا مسبقا‪ .‬أما األقكاـ التي لـ تكف ليا تجربة في التكحيد‪ ،‬فبل يمكف أقناعيا إال بالمنطؽ الخالص مف أجؿ اثبات بداىتو‪ .‬ثـ‬
‫أف تفاصيؿ الحياة اليكمية التي تفرز كؿ ما يمكف أف يككف مع أك ضد العقائد اإلسبلمية‪ ،‬تحتـ العمماء كالفقياء كحتى عامة الناس‪،‬‬
‫عمى الدفاع عف العقائد كعف المقدسات اإلسبلمية‪ .‬كقد كاف أكؿ كتاب ألفو ابف تيمية (تكفي ‪ 728‬ق) ىك الدفاع عف الرسكؿ الكريـ‬
‫ضد "عساؼ األنصارم كىك مسيحي اتيـ بشتـ الرسكؿ عمى المؤل‪ ،‬فألؼ ""الصارـ المسمكؿ عمى شتائـ الرسكؿ"‪ 1.‬كاألكيد أف ىناؾ‬
‫اآلالؼ مف الكضعي ات الكاقعية التي تحتـ أم مسمـ الدفاع عف العقيدة الدينية‪ .‬لكف ليس الكؿ مؤىؿ لذلؾ‪ ،‬كلقد رأينا أف عمماء‬
‫الحديث‪ ،‬في حادثة ىاركف الرشيد‪ ،‬قد عجزكا عف اإلجابة عف سؤاؿ السمنية المتشككيف‪ 2.‬لذا فإف قيمة البراىيف الكبلمية مرتبطة‬
‫بمف يستعمميا كطبيعة التككيف العممي كالفقيي كالفمسفي لممتكمـ‪ .‬فميس كؿ متكمـ يمتكمـ مقتدر‪ ،‬أم ليس كؿ كبلـ كبلـ‪ ،‬فقد يؤدم‬
‫المتكمـ الناقص في تككينو إلى نتائج عكسية مف كبلمو‪ ،‬أم اإلساءة حيث كاف يجب الدفاع كالتمجيد‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫ىنرم الكست‪ :‬مقدمة كتاب ابف تيمية‪ :‬السياسة الشرعية في إصبلح الراعي كالرعية‪ ،‬مكفـ لمنشر‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،1994 ،‬ص‬
‫‪.20‬‬

‫‪2‬‬
‫أحمد محمكد صبحي‪ :‬في عمـ الكبلـ‪ -‬دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف‪ ،‬الجزء األكؿ‪ :‬المعتزلة‪ ،‬دار النيضة‬
‫العربية‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة الخامسة‪.31 ،1985 ،‬‬

‫‪76‬‬
‫المسألة التي تجعمنا نعتقد بأف الخكض في عمـ الكبلـ محمكد‪ ،‬ىي الغايات كالفكائد التي يحققيا‪ .‬كبالفعؿ‪ ،‬فإف لو العديد مف‬
‫اإليجابيات في الداخؿ اإلسبلمي كخارجو‪ .‬فمف كفكائد عمـ الكبلـ نجد ما يمي‪:‬‬

‫المعرفة التحقيقية بالعقائد اإليمانية‪ :‬القرآف يمتدح كثي ار العمماء اإلليييف‪ ،‬ألف العالـ المتحقؽ مف عقائده أحسف بكثير‬ ‫‪‬‬
‫مف التابع المقمد‪ .‬إذ نجد في العديد مف النصكص القرآنية اشادة بالعمـ اإلليي عمى سبيؿ الثقة في العقائد‪ .‬مثبل‪:‬‬

‫كف ىخبً هير﴾[المجادلة‪]11 ،‬‬ ‫و َّ‬ ‫ً‬ ‫ًَّ‬ ‫ً‬ ‫َّ ًَّ‬
‫يف أيكتيكا ا ٍلع ٍم ىـ ىد ىر ىجات ىكالموي بً ىما تى ٍع ىممي ى‬
‫ىمينكا م ٍن يك ٍـ ىكالذ ى‬
‫يف آ ى‬
‫﴿ ىي ٍرفى ًع الموي الذ ى‬

‫كف إًَّنما ىيتى ىذ َّكر أيكليك ٍاألىٍلىب ً‬ ‫ًَّ‬ ‫ًَّ‬


‫اب﴾[الزمر‪]9 ،‬‬ ‫ي‬ ‫يف ىال ىي ٍعمى يم ى ى‬
‫كف ىكالذ ى‬ ‫﴿ يق ٍؿ ىى ٍؿ ىي ٍستىًكم الذ ى‬
‫يف ىي ٍعمى يم ى‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫صيروة أىىنا كم ًف اتَّبعنًي كس ٍبح َّ ً‬


‫ً‬ ‫َّ ً‬ ‫ًً ً‬
‫اف المو ىك ىما أىىنا م ىف ا ٍل يم ٍش ًرك ى‬
‫يف﴾[يكسؼ‪.]108 ،‬‬ ‫ىى ىى ى ي ى ى‬ ‫﴿ يق ٍؿ ىىذه ىسبًيمي أ ٍىد يعك إًلىى المو ىعمىى ىب ى‬

‫االرشاد كاليداية‪ :‬خاصة الزنادقة‪ ،‬ككـ مف منحرؼ تـ اعادتو لمصكاب بالكبلـ في العقائد‪ ،‬ككـ مف كافر تـ اقناعو‬ ‫‪‬‬
‫ببداىة العقيدة اإلسبلمية‪.‬‬

‫الدفاع عف العقائد الدينية‪ :‬صيانة الثغكر االعتقادية‪ .‬إذ أف كؿ عقدية عبارة عف نسؽ‪ ،‬كيمكف لغير المسمميف الكشؼ‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫عف طريؽ العقؿ الخالص‪ ،‬عف ثغكر نسقية‪ .‬كلف ينفع في ردىا إال الكبلـ المرتب‪.‬‬

‫حاجة العمكـ الدينية إلى عمـ الكبلـ‪ :‬ما لـ يثبت كجكد ا﵀‪ ،‬لـ يثبت مكضكع العمكـ مثؿ التفسير كالحديث الفقو‪ .‬كلئف‬ ‫‪‬‬
‫قمنا أف الكبلـ ىك الفقو األكبر كعمـ أصكؿ الديف‪ ،‬فيذا يعني أنو األساس الذم تتفرع عنو كؿ العمكـ األخرل‪ 1.‬إنيا‬
‫عمكـ منقادة لعمـ قائد ىك الكبلـ‪.‬‬

‫مف المبلحظات السابقة‪ ،‬يمكف أف نرل مدل ارتباط الكبلـ في العقائد بأفضمية عف السككت‪ .‬كبالتالي يتحكؿ سبب تسمية عمـ‬
‫الكبلـ بأنو الكبلـ حيث كجب السككت إلى تعميؿ مكجو لمقدح فيو‪ .‬فاألصؿ ليس السككت عف العقائد‪ ،‬بؿ الحديث فييا كالمجادلة مف‬

‫﴿ك ىج ًاد ٍليي ٍـ بًالَّتًي ًى ىي أ ٍ‬


‫ىح ىس يف﴾ [النحؿ‪ .]125،‬ثـ أف القرآف لـ يمنع التأمؿ‬ ‫أجؿ اإلقناع‪ .‬فالقرآف ذاتو يدعكنا إلى المجادلة الحسنى‪ .‬ى‬
‫كالنظر كالبحث ع ف أسباب المكجكدات لبلعتبار‪ .‬كقد كاف ابف رشد مرك از عمى ىذه المسألة في ككف الشريعة ال ترفض العقؿ‪ ،‬عمى‬
‫أساس أف كؿ تأمؿ عقمي يخدـ كيقكم العقيدة‪ ،‬كلك كانت المناىج فمسفية مأخكذة مف سياقات مخالفة لنا‪ 2.‬أما إذا كاف العقؿ محمي‬
‫فيذا ال يحتاج إلى أم تشكؾ في مدل صبلحي تو في تقكية العقائد‪ .‬كمف السيؿ جدا‪ ،‬مثمما أظيرنا أعبله أف نرل التكريـ المطمؽ‬
‫الذم أظيره القرآف الكريـ لمعمـ كالعمماء‪ 3.‬فكؿ الخشية تأتي مف العمماء الذيف يمكف أف يككنكا في نصرة العقائد أك التنكر ليا‪ .‬ألف‬

‫‪1‬‬
‫عمي الرباني الكمبايكاني‪ :‬ما ىك عمـ الكبلـ ؟ مؤسسة بكستاف كتاب‪ ،‬قـ‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬ص ص ‪.40-37‬‬

‫‪2‬‬
‫ابف رشد‪ :‬فصؿ المقاؿ كتقرير ما بيف الشريعة كالحكمة مف اتصاؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.24‬‬
‫‪3‬‬
‫يحي ىكيدم‪ :‬دراسات في عمـ الكبلـ الفمسفة اإلسبلمية‪ ،‬دار الثقافة لمطباعة كالنشر‪ ،‬القاىرة‪ ،‬ص ‪.81-80‬‬

‫‪77‬‬
‫عالـ كاحد يمكف أف يجر المبلييف إلى الديف مثمما يمكف أف يخرج المبلييف األخرل منو‪ .‬فسمطة العمـ تفكؽ سمطة السيؼ‪ ،‬ككتاب‬
‫ابف تيمية المعنكف بالصارـ السميؿ مجرد استعارة ألف فكره أقكل مف سيؼ أم سمطاف في مسألة العقيدة‪.‬‬

‫لقد تيقف الغزالي في المنقذ مف الضبلؿ بأف التقميد ال يفيد العقيدة بأم شيء‪ ،‬فقد يفيد الفقو ألف تقميد العبادات طريؽ مألكؼ‪،‬‬
‫لكف العقيدة تحتاج إلى قناعة قكية بدؿ األلفة الضعيفة‪ .‬ألنو مف الكارد انقبلب التعكد عمى غير الحقيقة‪ .‬لذا فإف تقكية العقائد ال‬
‫يككف إال بالعمـ اليقيف‪ ،‬كىذا ال يتأتى إال بالبرىاف لمعقائد كالدليؿ عمى القضايا اإليمانية‪ .‬فما بني عمى الدليؿ كالحجة ال يمكف أف‬
‫يتعرض لبلنقبلب بسبب تغير الظركؼ أك األكطاف أك المجتمعات‪ .‬ككـ مف مؤمف بالتعكد غير عقيدتو بمجرد ما كجد نفسو في‬
‫عادات مخالفة‪ .‬لكف التأسيس المتيف لف يغير العقيدة رغـ تغير الظركؼ‪ .‬ألـ يقض الرسكؿ الكريـ كؿ سنكات تكاجده في مكة لمدعكة‬
‫إلى العق يدة كتأسيسيا عمى أسس قكية‪ .‬لذا كرد كؿ القرآف المكي عقديا‪ .‬بؿ أف عمـ الكبلـ يذىب إلى أكثر مف تقكية العقائد‬
‫اإلسبلمية مف الداخؿ‪ ،‬إلى ابطاؿ الشبيات التي قد تنشأ مف التفكير الطبيعي في العقائد مف طرؼ المسمميف أك مف الشبيات التي‬
‫ترد عند مقارنة األدياف بعضيا مع ا لبعض‪ .‬كمف المعمكـ أف المسمميف لطالما قارنكا عقيدتيـ مع العقائد التكحيدية مما يسمى أىؿ‬
‫الكتاب أك الكثنية القريبة أك البعيدة‪ 1.‬يمكف أف نتأكد بأف الخضكع لمعقيدة اإلسبلمية ال يككف إال عف طريؽ القناعة الراسخة التي‬
‫اعمى ٍـ أَّىنوي ىال إًلىوى إً َّال المَّوي﴾ [محمد‪ ]19 ،‬فإنو يقكؿ يجب أف تعمـ عمـ‬
‫تكلدىا المعرفة الكبلمية‪ .‬كعندما يقكؿ ا﵀ سبحانو تعالي‪﴿ :‬فى ٍ‬
‫اليقيف بيذه العقيدة األساسية كىي عقيدة التكحيد‪ .‬كال يستقيـ العمـ كالتقميد‪ ،‬عمى أساس أف التقميد حجة الكفار ذاتيـ‪ ،‬لذا فالعمـ‬
‫العقائدم يدؿ عمى القناعة العقائدية عف طريؽ خبرة كثقة كيقيف‪.‬‬

‫لئف كاف أكؿ القرآف ىك القرآف المكي‪ ،‬كىك قرآف عقائدم في األساس‪ ،‬حيث قضى الرسكؿ الكريـ عشر سنكات في مكة يؤسس‬
‫بقكة لمعقيدة‪ .‬كىذا يعني أف نصؼ تاريخ القرآف قد كرس لمعقيدة‪ ،‬يعادؿ الفترة التي قضاىا في المدينة كتأسيس لمتشريع‪ 2.‬فمـ يبدأ‬
‫ال قرآف بالتشريع بؿ بالعقائد‪ ،‬كىذا بناء نسقي كمنطقي ألف ال معنى لمتشريعات إال بعد التأسيس لمعقائد‪ .‬فيجب أف نفيـ مف ذلؾ أف‬
‫العمـ األسبؽ تاريخيا كمنطقيا معا‪ ،‬ىك عمـ الكبلـ مقارنة ببقية العمكـ الدينية األخرل‪ .‬كلـ يكؼ الرسكؿ الكريـ كالصحابة عف الدعكة‬
‫لمعقيدة الجديدة التي ىي عقيدة التكحيد‪ .‬لذا حؽ القكؿ بأف "عمـ الكبلـ اإلليي كاف أكؿ العمكـ اإلسبلمية ظيك ار"‪ 3.‬كما الفقو‬
‫كاألصكؿ كالتصكؼ‪...‬الخ إال عمكما الحقة لمعقيدة‪ .‬كاألكلكية ىنا قد ال تككف بالمعنى الزمني المألكؼ‪ ،‬ألف ىذا العمـ لـ يظير كامبل‬
‫دفعة كاحدة‪ ،‬لكف مف الناحية المنطقية حيث ال فقو كال تشريع ببل عمـ عقائد سابؽ‪.‬‬

‫كسنرل أدناه‪ ،‬أف األطركحة التي تحرـ عمـ الكبلـ‪ ،‬كتكشؼ عف عيكبو الكثيرة‪ ،‬قد تغافمت عف ذكر محاسف المتكمميف‬
‫كانتصارات عمـ الكبلـ في غير ذم مكضع‪ .‬فمـ يكف عمماء الكبلـ مجرد متكمميف نظرييف‪ ،‬بؿ أنيـ انخرطكا في أنشطة خيرية مما‬
‫يجعميـ أصحاب كبلـ كأصحاب عمؿ‪ .‬كىذا عكس ما اعتقده الجابرم مف أف عمـ الكبلـ لـ ييتـ إطبلقا باألخبلؽ‪ .‬كبالتالي فإف‬

‫‪1‬‬
‫عبد اليادم الفضمي‪ :‬خبلصة عمـ الكبلـ‪ ،‬دار المؤرخ العربي‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،1993 ،‬ص ‪.25-23‬‬

‫‪2‬‬
‫ثيكدكر نكلدكو‪ :‬تاريخ القرآف‪ ،‬ترجمة جكرج تامر كآخركف‪ ،‬دار نشر جكرج ألمز‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2004 ،‬ص ‪.63-62‬‬
‫‪3‬‬
‫شكيب بف بديرة الطبمبي‪ :‬مدخؿ مناىجي إلى عمـ الكبلـ‪ ،‬مطبعة دار المتكسط الجديد‪ ،‬طبمبة‪ ،‬تكنس‪ ،2012 ،‬ص ‪.93‬‬

‫‪78‬‬
‫سؤالو القائؿ "لماذا انصرؼ عمـ الكبلـ‪ ،‬كىك العمـ العقمي في اإلسبلـ عف مجاؿ األخبلؽ‪ ،‬مجاؿ التشريع لمفعؿ البشرم ؟"‪ 1.‬يبقى‬
‫ببل مدلكؿ حقيقي عندما نعمـ بأف الفرقة التي تعرضت لمعزؿ المجتمعي‪ ،‬كىي المعتزلة‪ ،‬قد كانت ليا أنشطة أخبلقية‪ ،‬كال يجب أف‬
‫ننكر أك ننسي األصؿ الخامس مف أصكليا الذم ىك أصؿ أخبلقي بامتياز‪" .‬فكؿ ىذه النشاطات‪ ،‬سكاء االجتماعية أك العسكرية أك‬
‫الدعكية (لممعتزلة)‪ ،‬قد أجمميا المرء كبررىا تحت شعار "األمر بالمعركؼ كالنيي عف المنكر"(‪ )...‬الذم يعني االىتماـ بالمصمحة‬
‫العامة كاالنتصار لممبادئ السيما األ خبلقية منيا‪ .‬عمى العكس مف ذلؾ كاف ينعت "سمطاف المنافقيف"‪ ،‬فيؤالء "يأمركف بالمنكر‬
‫كينيكف عف المعركؼ"‪ .‬كاف النبي محمد يدرؾ معرفة العرب بمثؿ ىذا المبدأ‪ ،‬فيك المبدأ نفسو الذم اعتمد عميو في "حمؼ الفضكؿ"‪،‬‬
‫ذلؾ الحمؼ الذم عقدتو قبائؿ قريش قبيؿ بعثة النبي كبعد حرب ً‬
‫الفجار"‪ 2.‬كنجد شيادة تعزز أخبلقية كعممية فرقة المعتزلة‪ ،‬بدؿ‬
‫الصكرة المركجة ليا باعتبارىا فرقة كبلـ كسقط فحسب‪" .‬يفترض صفكاف األنصارم (تكفي ‪ 205‬ىػ) أف المعتزلة في زمف كاصؿ‬
‫كانكا ييتمكف باأليتاـ كبالقبائؿ التي ليا حظ ضئيؿ في المجتمع‪ .‬فيركم مثبل أف كاصؿ نفسو قد أنفؽ عمى المحتاجيف مف أتباعو‬
‫‪ 20000‬درىـ كاف قد كرثيا عف أبيو‪ ،‬ككاف يطمب مف األغنياء مف بيف أتباعو سمكؾ المسمؾ نفسو‪ .‬كيؤكد عثماف الطكيؿ عمى أنيـ‬
‫في عصر أستاذىـ لـ تكف ليـ أمبلؾ خاصة (‪ )...‬كيبدك أف ىذا ناجـ عمى أنيـ (أنصار المعتزلة) يربكا في بيكت المكالي‪ ،‬كعميو‬
‫فقد كانكا يحسكف بالضعؼ االجتماعي في بيئاتيـ الخاصة"‪ 3.‬كىذا أكبر دليؿ عمى االلتزاـ العممي كاألخبلقي لدل المعتزلة‪.‬‬

‫عنكنا‬
‫كتنسب لؤلشعرم (أبك الحسف ‪ 324/260‬ق) رسالة بعنكاف "رسالة استحساف الخكض في عمـ الكبلـ"‪ ،‬كعمى أساسيا ٌ‬
‫العنصر األكؿ مف المحاضرة‪ .‬كمف العنكاف يظير المكقؼ الذم ال يرل أم مضرة مف الكبلـ‪ ،‬عمى أساس ما لو مف فكائد كنا أشرنا‬
‫إلييا سابقا‪ .‬كمضمكف الرسالة ال ينفصؿ عف اإلشكالية التي انطمقنا منيا‪ .‬إذ ىناؾ مف طعف في البحكث الكبلمية كاعتبرىا ضبللة‪،‬‬
‫كقالكا زاعميف أف "الكبلـ في الحركة كالسككف الجسـ كالعرض كاأللكاف كاألككاف كالجزء كالطفرة كصفات البارم عز كجؿ بدعة‬
‫كضبللة"‪ 4.‬كمف حججيـ‪ ،‬أم الطاعنيف في عمـ الكبلـ‪ ،‬نجد‪:‬‬

‫أف الرسكؿ الكريـ كصحابتو األقربيف لـ يتكممكا مثؿ ىذا الكبلـ‪ .‬ككؿ ما كاف ضركريا لمعقيدة فقد حدده القرآف‬ ‫‪‬‬
‫كالرسكؿ‪ .‬كالخكض في الكبلـ مف بعده ىك تعبير عف عدـ كفاية القرآف كأحاديث النبي‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫محمد عابد الجابرم‪ :‬العقؿ األخبلقي العربي – دراسة تحميمية نقدية في نظـ القيـ في الثقافة العربية‪ ،‬مركز دراسات الكحدة العربية‪،‬‬
‫بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2001 ،‬ص ‪.99‬‬

‫‪2‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬ترجمة‬
‫محي الديف جماؿ بدر كرضا حامد قطب‪ ،‬مراجعة محسف الدمرداش‪ ،‬منشكرات الجمؿ‪ ،‬بيركت – بغداد‪ ،‬الطبعة األكلى‪،2016 ،‬‬
‫ص ‪.574‬‬

‫‪3‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.573‬‬
‫‪4‬‬
‫أبك الحسف األشعرم‪ :‬رسالة استحساف الخكض في عمـ الكبلـ‪ ،‬دار المشاريع لمطباعة كالنشر كالتكزيع‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪،‬‬
‫‪ ،1990‬ص ‪.38‬‬

‫‪79‬‬
‫لك كاف ما قالو المتكممكف (بعد الرسكؿ) خي ار لما فات الرسكؿ‪ ،‬كلك أنيـ عممكا كسكتكا عنو‪ ،‬لما كاف لبلحقيف الكبلـ‬ ‫‪‬‬
‫‪1‬‬
‫فيو‪ .‬كفي كبل الحالتيف فالكبلـ بدعة‪.‬‬

‫بعد عرضو ليذه الحجج‪ ،‬يتقدـ األشعرم لمرد عمييا ردا ال يقؿ كجاىة عنيـ قائبل‪:‬‬

‫‪ -1‬أف الذيف يبدعكف المتكمميف كقعكا فيما نيا عنو الرسكؿ‪ ،‬ألنو لـ يكفر أك يبدع المتكمميف‪ ،‬فإف تبديعيـ بدعة في ذاتيا‪ .‬فقد‬
‫اتيمكا بالضبللة مف لـ يضمميـ الرسكؿ الكريـ‪.‬‬

‫‪ -2‬مكاضيع الكبلـ السابؽ ذكرىا (السككف كالجسـ كاألككاف كالتكحيد‪...‬الخ) كاردة في القرآف الكريـ‪ .‬فقد برىف ا﵀ عمى كحدانيتو‬
‫ً‬ ‫اف المَّ ًو ىر ّْ‬ ‫ً َّ َّ‬ ‫عندما قاؿ‪﴿ :‬لىك ىك ً‬
‫كف﴾ [األنبياء‪ ]22 ،‬لذا فبل مانع مف‬ ‫ب ا ٍل ىع ٍر ً‬
‫ش ىع َّما ىيصفي ى‬ ‫اف في ًي ىما آىليىةه إًال الموي لىفى ىس ىدتىا فى يس ٍب ىح ى‬
‫ٍ ى‬
‫البرىنة بأدلة أخرل‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫‪ -3‬أف استحداث مكاضيع الطفرة كالجزء‪...‬الخ ال يعد بدعة‪ ،‬فمك أف الرسكؿ الكريـ عاش في زمف ما بعد ظيكرىا ألستعمميا‪.‬‬
‫كنحف نسمع اليكـ أنو إف فرضا أف القرآف قد نزؿ في عصرنا الستعمؿ لغة كطريقة ىذا العصر‪ ،‬مف أجؿ مركر الخطاب‬
‫عند األغمبية‪.‬‬

‫كبالنسبة لؤلشعرم‪ ،‬فإف منع الكبلـ ىك ممارسة لو‪ ،‬ألف المنع يقتضي البرىنة كالعمـ بمكاضيعو كرفض القكؿ مثبل بخمؽ‬
‫القرآف‪...‬الخ‪ .‬فاإلماـ أحمد بف حنبؿ‪ ،‬كعمى الرغـ مف رفضو لمكبلـ‪ ،‬فقد مارسو عندما دافع ضد المعتزلة عف قدـ القرآف‪ 3.‬يغدك ىنا‬
‫رفض الكبلـ ضربا مف الكبلـ‪ ،‬مثمما أف رفض الفمسفة يقتضي التفمسؼ‪ ،‬فقد تنبو الفبلسفة منذ أرسطك إلى أف رفض الفمسفة ميمة‬
‫فمسفية بامتياز‪ ،‬كمف ى أز مف الفمسفة ‪ ،‬فإنو أبدل مكقفا فمسفيا أصيبل‪se manquer de la philosophie, c'est vraiment :‬‬
‫‪ 4.philosopher‬لذا‪ ،‬فإف كؿ مف انخرط في رفض الكبلـ‪ ،‬فقد مارسو عمى أحسف كجو‪ ،‬كلنا مثاؿ في الغزالي‪ ،‬كالذم استثقؿ الكبلـ‬
‫في المنقذ مف الضبلؿ بسبب مف منيجو‪ ،‬كلكنو كاف قد مارسو بقكة ال نضير ليا في كتاب تيافت الفبلسفة‪ .‬أيف تكمـ أحسف مف‬

‫‪ 1‬المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.39-38‬‬


‫‪2‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ص ‪.48-39‬‬
‫‪3‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.50‬‬
‫‪4‬‬
‫‪Blaise Pascal: Pensées, éditions de la seine, 2005,§ 4-513, p 11.‬‬

‫كقد كاف ىيجؿ يعتقد بأف "تككيدات خصكـ الفمسفة ال تحتكل عمى شيء سكل ما تحتكيو الفمسفة نفسيا كمبدأ ليا"‪ .‬قكؿ منقكؿ عف ‪:‬‬
‫فريدريؾ ىيجؿ‪ :‬محاضرات في فمسفة الديف – الحمقة األكلى‪ :‬مدخؿ إلى فمسفة الديف‪ ،‬ترجمة مجاىد عبد المنعـ مجاىد‪ ،‬مكتبة دار‬
‫كممة‪ ،‬القاىرة‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2001 ،‬ص ص ‪ .73 - 67‬كيقكؿ أيضا الدكتكر حمك النقارم في نتيجة أحد كتبو المنيجية األخيرة‬
‫قكال يدؿ عمى المعنى القديـ حكؿ عدـ إمكانية‪ ،‬أك قؿ استحالة‪ ،‬رفض الفمسفة‪" :‬ال يتصكر مف عاقؿ اعتراضو أك معارضتو لفعؿ‬
‫التفمسؼ كاف اعترض كعارض فمسفة مف الفمسفات‪ ".‬قكؿ كارد في‪ :‬حمك النقارم‪ :‬ركح التفمسؼ‪ ،‬المؤسسة العربية لمفكر كاالبداع‪،‬‬
‫بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2017 ،‬ص ‪.105‬‬

‫‪81‬‬
‫المتكمميف‪ ،‬ككفرىـ مثمما يكفر عمماء الكبلـ‪ ،‬كما بدعيـ عمى طريقة المتكمميف‪ .‬لذا فيك متكمـ بيف المتكمميف كمعارض لو بيف‬
‫العارضيف‪.‬‬

‫ثانيا‪ -‬تحريم الكالم واستثقالو‪:‬‬

‫تـ ركاية عدة أحاديث منسكبة إلى الصحابة األكائؿ ذكم المكانة المعتبرة في فيـ القرآف كشرحو كحتى تدكينو‪ ،‬تتضمف النيي‪،‬‬
‫بؿ المنع التاـ لكؿ استعماؿ لمعقؿ في العقائد‪ .‬في ىذا السياؽ يذكر الغزالي النص التالي‪:‬‬

‫" نقؿ عف عمر (ض) أنو سأؿ سائؿ عف آيتيف متشابيتيف فعبله بالدرة‪ ،‬كما ركل أنو سأؿ سائؿ عف القرآف ىؿ ىك مخمكؽ‬
‫أـ ال‪ ،‬فتعجب عمر مف قكلو فأخذ بيده حتى جاء بو إلى عمي (ض)‪ ،‬فقاؿ‪ :‬يا أبا الحسف استمع ما يقكؿ ىذا الرجؿ (‪)...‬‬
‫فكجـ ليا (ض) كطأطأ رأسو‪ ،‬ثـ رفع رأسو كقاؿ‪ :‬سيككف لكبلـ ىذا النبأ في آخر الزماف كلك كليت مف أمرىما كليت‬
‫لضربت عنقو"‪ 1.‬كىك ما يدؿ عمى انكار الكبلـ في عيد الرسكؿ كالصحابى‪.‬‬

‫كقد ركل مصدر اباضي أف ابف عباس قاؿ‪" :‬اتقكا القياس‪ ،‬فأصحاب القياس أعداء لمسنة"‪ .‬كعمى نحك ما كاف يقاؿ في الككفة‬
‫‪2‬‬
‫كنحف نعمـ أف القياس الكبلمي ىك المنيج‬ ‫فإف الناس في البصرة أيضا كانكا يعتقدكف أف الشيطاف ىك أكؿ مف عمؿ بالقياس"‪.‬‬
‫األكؿ قبؿ نقؿ القياس المنطقي كتطبيقو في الكبلـ بعد حركة الترجمة‪ .‬لذا فإف منع القياس ىك منع لتعقؿ العقائد اإليمانية‪ .‬فاإلسبلـ‬
‫ىك اسبلـ الكجو ﵀ عمى الكضعية المكجكدة دكف نظر أك شؾ أك ترتيب عقبلني إنساني‪ .‬كحتى في زمف الرشيد السابؽ لتطعيـ‬
‫الكبلـ بالفمسفة‪ ،‬فقد كاف ينيى عف الكبلـ في العقائد‪ ،‬كقد زج بالمتكمميف في السجف نظير كبلميـ في العقائد‪ .‬كىذا المكقؼ السياسي‬
‫ترجمة لمكقؼ نظرم يمنع كمية الكبلـ‪.‬‬

‫كيمكف لنا استكشاؼ التكجو الذم منع عمـ الكبلـ باعتباره كبلـ فيما ال يجب الكبلـ أصبل‪ ،‬مف خبلؿ الربط بيف الزندقة النظرية‬
‫كعمـ الكبلـ‪ 3.‬كنحف نعمـ أف المجتمع اإلسبلمي يقبؿ باآلثاـ العممية أكثر مما يقبؿ باآلثاـ الكبلمية المتعمقة بالعقائد‪ .‬كىذا آت مف‬
‫خبلؿ التمييز المشيكر بيف الكبائر كالصغائر‪ ،‬عمى أساس أف انيتاؾ الكبائر النظرية ييدـ كؿ البنياف الديني في حيف أف الصغائر‬
‫ال تيدـ البناء نظ ار إلمكاف الترميـ عف طريؽ اإلصبلح كالتكبة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫الغزالي‪ :‬إلجاـ العكاـ عف عمـ الكبلـ‪ ،‬ضمف مجمكعة رسائؿ اإلماـ الغزالي‪ ،‬تنقيح كتصحيح ابراىيـ أميف محمد‪ ،‬المكتبة التكفيقية‪،‬‬
‫القاىرة‪ ،‬د س‪ ،‬ص ‪.341‬‬
‫‪2‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬ترجمة‬
‫محي الديف جماؿ بدر كرضا حامد قطب‪ ،‬مراجعة محسف الدمرداش‪ ،‬منشكرات الجمؿ‪ ،‬بيركت – بغداد‪ ،‬الطبعة األكلى‪،2016 ،‬‬
‫ص ‪.213‬‬

‫‪3‬‬
‫يكليكس فميكزف‪ :‬أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر اإلسبلـ – الخكارج كالشيعة‪ ،‬ترجمة عبد الرحمف بدكم‪ ،‬مكتبة‬
‫النيضة المصرية‪ ،‬القاىرة‪ ،1958 ،‬ص ‪.38‬‬

‫‪81‬‬
‫كلكي نسير سي ار منيجيا نطرح السؤاؿ التالي‪ :‬ما ىك سبب تحريـ عمـ الكبلـ ؟ ىؿ يمكف تحديد تاريخ تحريمو ؟ ألننا كما‬
‫افترضنا في المقدمة‪ ،‬أنو ال يمكف منع أم سمكؾ‪ ،‬فكرم أك عممي‪ ،‬إال بعد مبلحظة آثاره السمبية اليدامة‪ .‬ال يمكف لنا تحديد تاريخ‬
‫دقيؽ لصدكر فتكل بتحريـ الكبلـ‪ ،‬كمف رسالة األشعرم‪ ،‬فإنو يشير إلى اإلستشياد بعدـ خكض النبي في الكبلـ مف أجؿ منعو‪ ،‬مما‬
‫يعني أف المنع قرار متأخر عف زمف الرسكؿ‪ .‬أما األسباب فيي كثيرة يمكف أف نحمؿ أىميا‪.‬‬

‫انتشار الكبلـ في العقائد‪ ،‬المتعمقة بصفات ا﵀‪ ،‬كالتنزيو‪ ،‬كالقدر‪...‬الخ كتحكيمو إلى الشغؿ الشاغؿ لممؤمنيف‪ ،‬يؤدم حقيقة إلى‬
‫انتشار الحيرة كالتشكؾ في العقيدة‪ .‬كربما يمكف تعميؿ ظيكر التصكؼ‪ ،‬مف الناحية التاريخية‪ ،‬في البصرة‪ ،‬مسقط رأس الكبلـ‬
‫اإلعتزالي‪ ،‬الذم تطرؼ نكعا ما‪ ،‬كاف ليذا السبب‪ 1.‬فانتشار الكبلـ في العقيدة‪ ،‬يؤدم إلى ال أدرية عقدية‪ ،‬ألف العقؿ يعجز عف‬
‫التحكـ في حركة فكره في العقديات‪ .‬لذا اعتزؿ البعض ىذا الجك المشحكف بالجدؿ كالشؾ‪ .‬إف اعتزاؿ االعتزاؿ ىك ما يجعؿ المؤمف‬
‫منشغبل بالعبادة بدؿ الكبلـ‪ .‬لذا يقكؿ الكمبايكاني‪" :‬جيات الذـ كالمكـ في عمـ الكبلـ [عديدة ىي]‪ :‬التفكير في ذات ا﵀ تعالى‪ ،‬لغاية‬
‫الكقكؼ عمى حقيقة ذاتو المتعالية‪ .‬كىذا مف المستحيؿ‪ .‬كما قاؿ اإلماـ الصادؽ عميو السبلـ‪ :‬إياكـ كالكبلـ في ا﵀‪ ،‬تكممكا في‬
‫عظمتو كال تتكممكا فيو‪ ،‬فإف الكبلـ في ا﵀ ال يزداد إال تييا"‪ .‬كمنيا االفراط في المجادلة بحيث يكرد العداكة كالبغضاء بيف‬
‫المسمميف(‪ )...‬كمنيا االشتغاؿ في أمكر غير ميمة في الديف"‪ 2.‬كالحؽ يقاؿ أف الخصكمات األساسية ليست ناجمة عف جدؿ في‬
‫الفقو كالعبادات‪ ،‬بقدر ما تنبع مف الخبلؼ في العقائد‪.‬‬

‫كعمى الرغـ مف أنو ال يمكف أف ننكر تكمـ الرسكؿ (ص) كصحابتو في األمكر العقدية‪ ،‬إال أف طريقتيـ في الكبلـ تختمؼ عف‬
‫طريقة البلحقيف‪ .‬فقد تكممكا عمى أصكؿ قرآنية‪ ،‬كالعقؿ القرآني ليس ىك نفسو العقؿ الفمسفي أك المنطقي‪ .‬ال يجب أف نخاؼ مف‬
‫التفكير العقائدم في العقائد‪ .‬في حيف أف التفكير المنطقي في العقيدة‪ ،‬قد أدل إلى اتياـ مزدكج‪ ،‬إتياـ الكبلـ كتحريـ المنطؽ معا‪.‬‬
‫يقكؿ "طو عبد الرحمف" مكضحا ىذا التحريـ المزدكج‪:‬‬

‫"الخكض في عمـ الكبلـ ىك الخكض في أمكر العقيدة بطرؽ لـ يرد األمر بيا‪ .‬كأنو يفضي إلى النظر في المتشابيات‬
‫المنيي عنو‪ ،‬كىذا ما أدل إلى تحريـ المنطؽ الذم استعمؿ ككسيمة لعمـ الكبلـ (فتكل ابف الصبلح‪ :‬ليس االشتغاؿ بتعمـ‬
‫المنطؽ كتعميمو مما أباحو الشرع كال استباحو أحد الصحابة كالتابعيف كاألئمة المجتيديف)‪ .‬الكبلـ في الذات كالصفات‬
‫‪3‬‬
‫أفضى إلى اإلخبلؿ بمبدأ التكحيد التنزييي"‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫محمد عابد الجابرم‪ :‬العقؿ األخبلقي العربي – دراسة تحميمية نقدية في نظـ القيـ في الثقافة العربية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪-438‬‬
‫‪.440‬‬

‫‪2‬‬
‫عمي الرباني الكمبايكاني‪ :‬ما ىك عمـ الكبلـ ؟ مؤسسة بكستاف كتاب‪ ،‬قـ‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬ص ‪.42-41‬‬

‫‪3‬‬
‫طو عبد الرحمف‪ :‬سؤاؿ المنيج – في أفؽ التأسيس ألنمكذج فكرم جديد‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ ،197‬ص ‪.215-214‬‬

‫‪82‬‬
‫لـ يتنبو المتكممكف العقميكف‪ ،‬بأف ىناؾ مناىج ال تصمح لمكاضيع ليا أصكؿ مختمفة عنيا‪ .‬ليس كؿ طريقة تطبؽ عمى كؿ‬
‫مكضكع‪ .‬فالعقائد إيمانية كالمنطؽ عقمي مف أصكؿ غير أصكؿ العقائد‪ .‬لذا فإف مزجيما يكلد أخطاء مركبة‪ ،‬ال تنفع العقيدة كال‬
‫تطكر المنطؽ أك تستقبمو في البيئة الجديدة‪ .‬لذا قاؿ في ىذا السياؽ‪ ،‬أبك سميماف المنطقي‪ ،‬عمى ركاية التكحيدم‪ ،‬بأف "الديف مكضكع‬
‫عمى القبكؿ كالتسميـ‪ ،‬كالمبالغة في التعظيـ‪ ،‬كليس فيو "لـ" ك"ال" ك"كيؼ"‪ ،‬إال بقدر ما يؤكد أصمو كيشد أزره (‪ )...‬كىذا ال يخص‬
‫دينا دكف ديف"‪ 1.‬كبالفعؿ‪ ،‬فإف العقمنة ألم ديف تسبب التقميؿ مف قدسيتو‪ ،‬كربما ما حصؿ لسقراط‪ ،‬العقبلني المفرط في عقبلنيتو‪ ،‬أنو‬
‫خرج عف األساطير القديمة حيف حاكؿ تفكيرىا بالمنطؽ‪ .‬كلعؿ اتيامو باليرطقة كاف ليذا السبب‪ .‬عمى الرغـ مف أف ىناؾ مف يرجح‬
‫األسباب السياسية‪ .‬لكف في كؿ األحكاؿ فإف اتباع المنيج غير المناسب لمكضكع ما يؤدم إلى نتائج عكسية‪ ،‬فاألسطكرة عقيدة‬
‫الكثنييف مثمما أف التكحيد عقيدتنا نحف‪ .‬كبيذا السبب‪ ،‬يتحكؿ المدافع إلى خصـ‪ ،‬كقد اعتبر البعض مف عمماء الكبلـ خصكما لمديف‬
‫كطاعنيف في التنزيو‪...‬الخ بسبب كبلىـ العقبلني في مسائؿ التسميـ‪ ،‬كىك الكبلـ الذم يحرؾ اليقينيات نحك التشكؾ‪ 2.‬كقد انتيى‬
‫العديد مف عمماء الكبلـ إلى االنحراؼ التاـ‪ ،‬كما اعبلف تكبتيـ عف الكبلـ إال دالة عمى ذلؾ‪ .‬يذكر "فاف ايس" ىذا النص الذم يشير‬
‫إلى ظاىرة التكبة مف الكبلـ ككأنو كبيرة مف الكبائر‪" :‬ىناؾ ركاية ترد كثي ار في كتاب األغاني‪ ،‬تثبت أنو كاف في البصرة إباف العصر‬
‫األمكم المتأخر ستة أشخاص ييتمكف بالمسائؿ الكبلمية‪ ،‬كيركل أنيـ كانكا يجتمعكف في بيت أحد األزدييف مف أجؿ مناقشة مثؿ‬
‫ىذه المسائؿ‪ .‬تبنى اثنيف مف ىؤالء الستة فيما بعد مذىب االعتزاؿ‪ ،‬كنقصد بيما كاصؿ بف عطاء كعمركا بف عبيد‪ ،‬كىناؾ اثناف‬
‫آخراف أعمنا تكبتيما كرجعا عما قاال‪ ،‬كىما عبد الكريـ بف أبي العكجاء كصالح بف عبد القدكس‪ ،‬المذاف نظر إلييا في التاريخ عمى‬
‫اعتبارىما مف المبلحدة‪ .‬كقد ظؿ خامس ىؤالء كىك الشاعر بشار بف برد طيمة حياتو متحي ار كمخمطا‪( ...‬فمثبل نتساءؿ لماذا أعمف‬
‫االثناف مف المبلحدة عف تكبتيما‪ ،‬ىؿ أف انشغاليما بالمسائؿ الكبلمية كاف بمثابة ذنب ؟)‪ 3.‬ىذا النص يظير المخياؿ العاـ الذم‬
‫تشكؿ حكؿ الكبلـ‪ ،‬باعتباره طريؽ مشككؾ في مآالتو‪ .‬إف التكبة عف الكبلـ ليي أكبر دليؿ عمى أنو يسبب الشبيات في العقائد‪.‬‬
‫كليس ىناؾ أخطر مف ذلؾ‪ ،‬عمى أساس أف المؤمف مطالب باالبتعاد مف الشبيات في األعماؿ‪ ،‬فما بالؾ العقائد‪.‬‬

‫لقد أكرث االنقساـ الكبلمي شقاؽ في الفقو كالعبادات‪ ،‬كىذا مبرر إلى أبعد الحدكد‪ ،‬عمى أساس أف الخبلؼ العقدم يؤدم حتما‬
‫إلى خبلؼ طقكسي‪ .‬فقد " أعاب "أبك سميماف الداراني" عمى "أبك نصر عبد الكىاب بف عطاء بف مسمـ الخفاؼ العجمي" تكجيو‬
‫القدرم لدرجة أف امتنع عف الصبلة خمفو"‪ 4.‬بؿ كتشكمت عصبيات فرقية حيث تتكفؿ كؿ فرقة بحماية شكارعيا‪ ،‬ككأف العصبية‬
‫انتقمت مف الدـ إلى االنتماءات الكبلمية‪ ،‬كىذا نكع جديد مف التشكؿ التعصبي المناؼ لكؿ عقؿ كلكؿ تسامح‪ .‬ك"يركل مثبل أنو إباف‬

‫‪1‬‬
‫أبك حياف التكحيدم‪ :‬اإلمتاع كالمؤانسة‪ ،‬الجزء الثالث‪ ،‬مكفـ لمنشر‪ ،‬الجزائر‪ ،1989 ،‬الميمة ‪ ،38‬ص ‪.221‬‬
‫‪2‬‬
‫المرجع نفسو‪.122 ،‬‬
‫‪3‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.18‬‬
‫‪4‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪ .124‬يرد أيضا في الصفحة ‪ :549‬يركل عف سميماف التميمي أيضا أنو رفض الصبلة خمؼ أحد القدرية‪ ...‬يزعـ أىؿ‬
‫االعتزاؿ أف سميماف أقر بأف مسمى "ا لقدرية" لـ يضعو أصحاب المذىب أنفسيـ؛ بؿ خمع عمييـ كأعانيـ عمى ذلؾ الحكاـ لمناىضة‬
‫المدافعيف عف حرية اإلرادة‪ ،‬كزاد الطيف بمة عندما أصبح المرء ينعتيـ بدال مف ذلؾ بػ "المجبرة"‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫سنكات الفكضى بعد عاـ ‪ 126‬ىػ أم إباف الفتنة الثالثة‪ ،‬يبدك أف المعتزلة كانكا يقكمكف بحماية الشكارع التي يعيشكف كيتاجركف فييا‬
‫مف خبلؿ ميميشيات خاصة بيـ‪ ،‬كبعد مركر عقكد مف الزماف خمقت ىذه الميميشيات نكعا مف القكة السياسية"‪ 1.‬ىنا يتطكر االنتماء‬
‫العقدم إلى انتماء سياسي كعسكرم‪ ،‬كقد يتحكؿ إلى انقساـ في المجتمع‪ ،‬كىنا نبلحظ اآلثار العممية المدمرة لعمـ الكبلـ‪.‬‬

‫ظاىرة أخرل ال تقؿ خط ار عف االختبلؼ في العبادات‪ ،‬كىي التكفير المتبادؿ بيف الفرؽ‪ .‬كلعؿ البعض يعتقد بأف المعتزلة التي‬
‫ترفع شعار العقؿ مستثناة مف ذلؾ‪ ،‬لكف العكس تماما ىك الكاقع‪ .‬فيـ يكفركف غيرىـ مف الفرؽ المخالفة ببل ىكادة‪ .‬إذ "يركل عف عبد‬
‫الرحمف بف محمد بف اسحؽ بف مندة (‪ 470/381‬ىػ) أنو التقى بشخص كاف يركل بأف مف ال يعتنؽ المذىب االعتزالي فيك غير‬
‫مسمـ"‪ 2.‬بؿ أف المعتزلة يكفر بعضيـ البعض‪ ،‬ألف أراءىـ ليست متجانسة بالكمية‪ .‬إذ "يرل بشار بف برد أف أتباع كاصؿ غير‬
‫متسامحيف‪ ،‬كيرمكف غيرىـ مف المسمميف بالكفرػ كلكنيـ ليسكا كحدىـ مف يفعؿ ذلؾ‪ ،‬فيذا األمر معيكد لذل كؿ المتعصبيف (‪)...‬‬
‫ينكه أيضا لمخكارج‪ ،‬أكلئؾ الذيف اتيميـ أىؿ االعتزاؿ بالزندقة‪ ،‬أما الخكارج فكانكا قد اتيمكا عمي بف أبي طالب بالزندقة"‪ 3.‬ىذا النص‬
‫يكشؼ عف اآلثار المدمرة لمكبلـ‪ ،‬إذ انتيت إلى فتنة نظرية خطيرة جدا‪ .‬عمى أساس أف التفكير ىك المميد لمعنؼ الفردم‪ .‬كبالفعؿ‪،‬‬
‫الكثير مف االغتياالت تمت ألسباب كبلمية خالصة‪.‬‬

‫كالسبب األكبر كراء رفض الكبلـ كتكفير مف يشتغؿ فيو ىك أنو‪ ،‬ككفؽ تسميتو‪ ،‬ال يندرج مف تحتو أم عمؿ‪ .‬فيك مجرد كبلـ‪،‬‬
‫يكلد الخبلؼ كالشقاؽ ببل أمؿ في أخبلؽ ما أك عبادة مكثكقة‪ .‬لذا يرد "عف مصعب بف عبد ا﵀ الزبيرم قاؿ‪ :‬كاف مالؾ بف أنس‬
‫يقكؿ‪ :‬الكبلـ في الديف أكرىو‪ ،‬كلـ يزؿ أىؿ بمدنا يكرىكنو كينيكف عنو‪ ،‬نحك الكبلـ في رأم جيـ كالقدر كما أشبو ذلؾ‪ ،‬كال أحب‬
‫الكبلـ إال فيما تحتو عمؿ"‪ 4.‬كمف الكاضح أف تكجيو الديف نحك الممارسة مف األمكر األساسية في الديف اإلسبلمي‪ .‬كقد حفظ قكؿ‬
‫آخر لو في نفس السياؽ‪ :‬إياكـ كالبدع‪ .‬قيؿ ما البدع ؟ قاؿ‪ :‬أىؿ البدع الذيف يتكممكف في أسماء ا﵀ كصفاتو ككبلمو كعممو كقدرتو‪،‬‬
‫كال يسكتكف عما سكت عنو الصحابة التابعكف ليـ بإحساف"‪ 5.‬يتحكؿ السككت ىنا إلى فضيمة عقائدية ليا مف المنافع أكثر مما‬
‫لمكبلـ‪ .‬لذا كاف األكائؿ يسكتكف عف الكبلـ‪ ،‬ليس عج از اك جيبلف إنما خكفا مف العكاقب غير المرغكبة‪.‬‬

‫كالظاىر أف أكؿ مكقؼ رفض الكبلـ في اإلسبلـ‪ ،‬قد ارتبط بالفرقة الشاذة حد األذل‪ ،‬كىي الخكارج الذيف مارسكا اإلرىاب عمى‬
‫بقية المسمميف‪ ،‬كبمغ شذكذىـ أنيـ حرمكا التعامؿ مع غير الخارجي‪ ،‬فبقية المسمميف مختمفيف عنيـ‪ .‬كبعد ذلؾ‪ ،‬تـ االحتراز مف‬

‫‪1‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.574‬‬
‫‪2‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.934‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬ ‫‪3‬‬

‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.26‬‬


‫‪4‬‬
‫مصطفى عبد الرازؽ‪ :‬تمييد لتاريخ الفمسفة اإلسبلمية‪ ،‬دار الكتاب المصرم كدار الكتاب المبناني‪ ،‬القاىرة‪ -‬بيركت‪ ،2011 ،‬ص‬
‫‪.389‬‬

‫‪5‬‬
‫يحي ىكيدم‪ :‬دراسات في عمـ الكبلـ الفمسفة اإلسبلمية‪ ،‬دار الثقافة لمطباعة كالنشر‪ ،‬القاىرة‪ ،‬ص ‪.80‬‬

‫‪84‬‬
‫المعتزلة التي صدمت جميكر المسمميف ببعض المكاقؼ كاآلراء الكبلمية الصارمة‪ ،‬كالمرجئة التي فصمت فصبل شاذا بيف اإليماف‬
‫كالعمؿ كبعض فرؽ الحشكية كالمجسمة التي ألغت مبدأ التنزيو بالكمية‪ 1.‬فكؿ ىذه المكاقؼ التي لـ يألفيا الكعي اإلسبلمي العادم‪ ،‬قد‬
‫شكمت صكرة سيئة لمكبلـ كالفرؽ الكبلمية‪ ،‬كانتيت بتشكؿ مكقؼ مضاد ليذا العمـ‪ ،‬كتكجو الناس إلى الفقو كالحديث كالتصكؼ لما‬
‫فييا مف منافع فردية كجمعية‪.‬‬

‫أكبر ما يجعؿ عمـ الكبلـ خطي ار ىك أف االختبلفات فيو كبيرة مف الكبائر‪ .‬فمف المعمكـ أف المسمميف قد تسامحكا مع‬
‫االختبلفات الشكمية في بعض العبادات‪ ،‬لكف ىؿ يمكف التسامح في االختبلؼ في العقائد ؟ األكيد أف ىذا يؤدم إلى تصدع الديف‬
‫ككؿ‪" .‬فعمـ الكبلـ‪ ،‬خبلفا لمفقو‪ ،‬إنما ينصب اىتمامو عمى تمؾ الحقائؽ األبدية كليس عمى شؤكف الحياة اليكمية‪ .‬كليذا السبب‬
‫سرعاف ما عد الخبلؼ عمى المستكل الكبلمي أم ار مستنك ار"‪ 2.‬ىذا ما تنبو إليو مفكرم اإلسبلـ مف غير المتكمميف‪ ،‬بخاصة الفقياء‬
‫كاألصكلييف كعمماء الحديث‪ .‬كىـ معذكريف في ذلؾ‪ ،‬عمى أساس أف حفظ العقيدة أىـ مف فيميا بالطريقة الكبلمية المتحققة في‬
‫التاريخ اإلسبلمي‪ .‬يغدك السككت ىنا أفضؿ بكثير مف الكبلـ‪ .‬كازدادت نقمة عامة الناس عمى الكبلـ‪ ،‬كنخص ىنا بالذكر الكبلـ‬
‫اإلعتزالي‪ ،‬بعدما أصبحكا مفكرم الببلط‪ ،‬أيف تكحدت العقائد الكبلمية بالسمطة السياسية التي بدأت تفرض بعض العقائد عمى الناس‪،‬‬
‫كىذا تصرؼ مستجد في الخبلفة اإلسبلمية كالعباسية ككؿ‪ ،‬ألف أىـ ما يميز التاريخ اإلسبلمي‪ ،‬في العمكـ ىك عدـ تدخؿ السمطة‬
‫في عقائد أك تعميـ الناس‪ .‬كحدة السمطة العقائدية كالسمطة السياسية تشكؿ مراقبة خطيرة عمى االستقبلؿ الفكرم كالديني‪ .‬ما حدث في‬
‫زمف المأمكف كابف حنبؿ خطير عمى أساس أنو تـ فرض عقيدة ما مف طرؼ السمطة في حيف أف األصؿ ىك أف السمطة ذاتيا‬
‫خاضعة لعقيدة فكقية مستقمة عف فيـ أم إنساف‪ ،‬أم العقيدة اإلليية الخالصة مف التأكيؿ البشرم‪ 3.‬كلـ تتحقؽ ىذه المراقبة إال في‬
‫األزمة الحديثة في أكركبا حتى اليكـ‪ ،‬أيف سيطرت الدكلة عمى كؿ جكانب الحياة االجتماعية‪ :‬الصحة‪ ،‬المدرسة‪ ،‬كالسياسة‪ .‬لذا يقكؿ‬
‫"فاف ايس" مكضحا ظيكر نكع مف الكينكت الكبلمي في العصر العباسي‪" :‬لـ يكف عمماء الكبلـ يشكمكف كينكتا‪ ،‬فقد كانكا جميعا‬
‫مف ذكم الميف الدنيكية العادية (‪ )...‬في حيف أف الكضع بعد ذلؾ كاف خبلؼ ذلؾ‪ .‬تعكد إلى السياسة التي سمكيا البرامكة قبؿ‬
‫عصر المأمكف كعمى عيد الخميفة ىاركف الرشيد‪ ،‬قد اضطركا إلى استقداـ عمماء الكبلـ إلى ببلطيـ"‪ 4.‬كعندما يتماىى الكبلـ مع‬
‫السياسة‪ ،‬فبل يمكف أف تصفكا الدراسة الكبلمية ألىدافيا النبيمة‪ ،‬بؿ تغدكا في خدمة سمطة محدكدة‪ .‬كيمكف إضافة اآلثار الجانبية‬
‫لمنحة أحمد بف حنبؿ مع المأمكف‪ ،‬حيث تعاطؼ العامة مف الناس مع ىذا الشيخ الجميؿ ضد السمطة كالمعتزلة المذاف تحالفا في‬

‫‪1‬‬
‫شكيب بف بديرة الطبمبي‪ :‬مدخؿ مناىجي إلى عمـ الكبلـ‪ ،‬ص ‪.73‬‬
‫‪2‬‬
‫يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬ترجمة عبد المجيد الصغير‪ ،‬نشر الفنؾ‪ ،‬الدار البيضاء‪،2000 ،‬‬
‫ص ‪.19‬‬

‫‪3‬‬
‫حبلؽ كائؿ‪ :‬قصكر االستشراؽ‪ -‬منيج في نقد العمـ الحديث‪ ،‬ترجمة عمرك عثماف‪ ،‬الشبكة العربية لؤلبحاث كالنشر‪ ،‬بيركت‪،‬‬

‫الطبعة األكلى‪ ،2019 ،‬ص ‪.314‬‬

‫‪4‬‬
‫يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.141‬‬

‫‪85‬‬
‫مكقؼ غير مسبكؽ في التاريخ اإلسبلمي عمى تكحيد السمطة بالعقيدة‪ .‬كبعد المحنة أصبح الطعف في عمـ الكبلـ مف األمكر المألكفة‬
‫جدا‪ ،‬نظ ار لمعقبلنية المفرطة في تتناكؿ مسائؿ تتطمب التسميـ أكال كأخيرا‪ .‬ثـ أف عقبلنية ىؤالء لـ تكف إال شعا ار نظريا‪ ،‬فمف الناحية‬
‫الكاقعية لـ يتكاف أم مف أصحاب الفرؽ في التكفير كاألذية كاالعتداء‪ 1.‬ىنا بدأ عممي الفقو كالحديث يتبكآف المكانة األسمى في‬
‫المخياؿ اإلسبلمي‪ .‬لقد تمت أدلجة العقائد لدرجة أصبحت تتصارع بينيا عمى الرغـ مف كحدة النص كالمصدر‪ .‬كحتى غير‬
‫المتكمميف المحترفيف‪ ،‬أمثاؿ ابف خمدكف األشعرم‪ ،‬بدأ يتحدث عف بدعة المعتزلة‪ 2.‬لذا فالتكفير كالتبديع قد عـ ليصبح لغة مألكفة في‬
‫النخبة اإلسبلمية‪ ،‬كعمى الرغـ مف أف التبديع يشير في العمؽ إلى االتياـ بالخطأ كالجيؿ‪ ،‬إال أنو قد يتحكؿ إلى ممارسة اقصائية‬
‫بأكسع معانييا‪ .‬ألنو‪ ،‬كما يقاؿ‪ ،‬فإف الكممة الجارحة ىي التي تتحكؿ إلى السيـ القاتؿ‪ .‬كليس ىناؾ عنؼ مادم غير مسبكؽ بعنؼ‬
‫معنكم مف خبلؿ التصنيؼ كالتحييد كاإلدانة‪.‬‬

‫ثالثا‪ -‬إلجام العوام عن عمم الكالم‪ :‬أطروحة الغزالي وابن رشد‪.‬‬

‫يمكف أف نعتبر منع الكبلـ عف غير المتخصصيف مكقفا كسطا بيف المكفقيف السابقيف‪ ،‬ألف االستحساف كمف ثمة تشجيع الكبلـ‬
‫قد ينتيي بمشكمة عرضيا التيار المحرـ أم تسيب العقائد كاالنحراؼ فييا مف كؿ جية‪ ،‬كالتحريـ مكقؼ غير عممي قد يؤدم إلى‬
‫الكبلـ خفية كانتشار التكارم العقدم‪ ،‬ألف البحث في العقائد تفكي ار كتفسي ار مكقؼ طبيعي لمعقؿ المؤمف‪ .‬لذا فإف الكبلـ في حدكد‬
‫عممية ىك المكقؼ األكثر تكسطا كاألكثر عقبلنية‪ .‬أك قؿ أف التفكير في "نقد العقؿ الكبلمي" مف خبلؿ ابراز حدكده ىك المكقؼ‬
‫األكثر اعتداال كمعقكلية‪.‬‬

‫عنكاف العنصر الثالث مستكحى مف رسالة لمغزالي تحت عنكاف "إلجاـ العكاـ عف عمـ الكبلـ"‪ .‬ككما يظير العنكاف‪ ،‬فإنو لـ يرد‬
‫تحريـ مطمؽ لمكبلـ‪ ،‬بؿ الكارد ىك منع عامة الناس‪ ،‬مف غير المتخصصيف كغير المسمحيف بالعدة المنيجية كالمفاىيمية الضركرية‪،‬‬
‫مف الخكض في ىذا العمـ‪ .‬كىك منع شبيو بمنع غير السباح مف السباحة كغير الطبيب مف الجراحة‪...‬الخ‪ ،‬ألف اإلقداـ عمى ذلؾ‬
‫يؤدم إلى الغرؽ كاإل ىبلؾ‪ ،‬كىي نفس النتيجة لمف تكمـ في الكبلـ مف غير مقدرة‪ ،‬أم الغرؽ في االنحراؼ كالبطبلف كحتى الكفر‬
‫كتحطيـ العقائد دكف عمـ‪ .‬أما المتخصص‪ ،‬فبل خكؼ عميو‪ ،‬مثمما ال خكؼ عمى الطبيب الذم يتسبب في مكقت مريض‪ ،‬كألنو‬
‫متخصص فبل مفر مف أف يجرم العمميات الجراحية‪ ،‬كأخطاءه أعراض جانبية مف عممو كحكمتو‪ .‬كالخطأ في تأكيؿ المتكمـ ليس فيو‬
‫الضرر العظيـ الذم نجده في خطأ تأكيؿ العامي‪ 3.‬في ىذه النقطة لـ يختمؼ الغزالي (تكفي ‪505‬ق) كابف رشد (تكفي ‪595‬ق)[كلد‬
‫ابف رشد بعد كفاة الغزاؿ بػ‪ 15‬سنة فقط]‪ ،‬عمى الرغـ مف أنيما صنعا مناظرة فكرية مثمرة في تاريخ الكبلـ اإلسبلمي مف خبلؿ الرد بػ‬
‫"تيافت التيافت" عمى "تيافت الفبلسفة"‪.‬‬

‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.29‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫عبد الرحمف بف خمدكف‪ :‬المقدمة‪ ،‬تضبط كشرح محمد اإلسكندراني‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،1998 ،‬ص‬
‫‪.429‬‬

‫‪3‬‬
‫ابف رشد‪ :‬فصؿ المقاؿ كتقرير ما بيف الشريعة كالحكمة مف اتصاؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.58‬‬

‫‪86‬‬
‫يفتتح الغزالي رسالتو السابقة باإلجابة عف سؤاؿ ألحد محاكريو عف عمـ الكبلـ‪ ،‬كمف المعمكـ أنو ألؼ أكثر مف كتاب عمى شكؿ‬
‫حكارية‪ ،‬مثؿ كتب القسطاس المستقيـ الذم تحاكر فيو مع أحد أتباع مذىب الباطنية‪ ،‬كىك المذىب الذم حاربو دكف ىكادة مف خبلؿ‬
‫كتاب "فضائح الباطنية"‪ .‬يقكؿ‪:‬‬

‫المجسمة) الضبلؿ حيث‬


‫" فقد سألتني أرشدؾ ا﵀ عف األخبار المكىمة لمتشبيو عند الرعاع كالجياؿ مف الحشكية (أم ي‬
‫اعتقدكا في ا﵀ صفاتو ما يتعالى كيتقدس عنو مف الصكرة كاليد كالقدـ كالنزكؿ كاالنتقاؿ كالجمكس عمى العرش كاالستقرار‪،‬‬
‫كما جرل مجراه مما أخذكه مف ظكاىر األخبار كصكرىا‪ ،‬كأنيـ زعمكا أف معتقداتيـ فيو معتقد السمؼ‪ ،‬كأردت أف أشرح لؾ‬
‫اعتقاد أىؿ السمؼ (‪ )...‬كأميز ما يجب البحث عنو عما يجب اإلمساؾ كالكؼ عف الخكض فيو (‪ )...‬بإظيار الحؽ‬
‫الصريح مف غير مداىنة كمراقبة جانب كمحافظة عمى تعصب لمذىب دكف مذىب‪ ،‬فالحؽ أكلى بالمراقبة‪ ،‬كالصدؽ‬
‫‪1‬‬
‫كاإلنصاؼ أكلى بالمحافظة عميو"‪.‬‬

‫إذف‪ ،‬فالمشكمة األساسية في الكبلـ متأتية مف النزكع التجسيمي لمعامة‪ ،‬فيـ عاجزيف عف تصكر ا﵀ بمعزؿ عف المحسكس‪،‬‬
‫كاألدىى مف ذلؾ أنيـ ال يعتقدكف أنيـ مبتدعة في ذلؾ‪ ،‬بؿ أنيـ سائركف في طرؽ أىؿ السنة كأىؿ السمؼ‪ .‬فيؿ ىـ عمى صكاب ؟‬
‫ىذا ىك غرض الرسالة األساسي كالذم ينتيي إلى تصنيؼ الكبلـ الكاجب أك المسمكح كالكبلـ الممنكع بأكبر قدر مف المكضكعية مف‬
‫خبلؿ الكبلـ بمعزؿ عف االنتماءات المذىبية‪ .‬كمف أجؿ ذلؾ كجب أكال تحديد مذىب أىؿ السمؼ في مسألة اإلخبار عف الذات‬
‫اإلليية‪ .‬فما ىي الشركط المكجبة في ىذا الشأف ؟ يقكؿ بأف "كؿ مف بمغو حديث مف أحاديث مذىب السمؼ مف عكاـ الخمؽ يجب‬
‫عميو فيو سبعة أمكر‪ :‬التقديس (تنزيو الرب) ‪ ،‬ثـ التصديؽ‪ ،‬االعتراؼ بالعجز‪ ،‬ثـ السككت (ال يسأؿ عف معناه كأنو يكشؾ أف يكفر‬
‫لك خاض فيو)‪ ،‬كالكؼ‪ ،‬كالتسميـ ألىمو"‪ 2.‬كلك أردنا ضغط ىذه األمكر السبعة ألرجعناىا إلى اثنيف فقط‪ :‬تصديق التنزيو الذم ىك‬
‫مذىب السمؼ‪ ،‬وعدم السؤال بعد ذلؾ مطمقا‪ .‬أم السمع كالسككت‪ .‬ألف أم حركة بعده قد تؤدم إلى الكفر كالتجسيـ‪ ،‬ككؿ بحث‬
‫عف التفصيؿ يكقع الحشكية التي ال يمكف أف تككف مذىبا لمسمؼ‪ .‬لكف لماذا تنساؽ معظـ العقكؿ إلى التجسيـ ؟ سؤاؿ البد منو عمى‬
‫أساس أف أصكؿ التجسيـ كامنة في المغة‪ ،‬كمف ثمة فإ ف استعادة حالة التقديس تككف عف طريؽ معرفة بنية المغة‪ ،‬مما يعني أف‬
‫المرض في المغة كما العبلج أيضا‪ .‬فعندما يسمع اإلنساف كممتي "اليد" ك"اإلصبع" الكاردتيف في القرآف الكريـ‪ ،‬أك عندما يسمع قكؿ‬
‫خمر طينة آدـ بيده‪ ،‬كاف قمب المؤمف بيف إصبعيف مف أصابع الرحمف‪ ،‬فمف الكاجب التمييز بيف معنييف‪:‬‬
‫الرسكؿ الكريـ "إف ا﵀ ٌ‬
‫المعنى األصمي كىك الحسي كما تعكدنا مشاىدة اليد كاإلصبع كالرجؿ بما فييا مف تفاصيؿ جسيمة مف جمد كعظاـ كمفاصؿ‪...‬الخ‬
‫كالمعنى الثاني معنى استعارم‪ ،‬كىي طريقة مألكفة في الكبلـ مثمما يقاؿ‪ :‬البمدة في يد األمير لمداللة عمى كقكعيا في سمطتو كلك‬
‫كاف األمير ببل يد أصبل‪ .‬لذا فإف النصكص القرآنية أك األحاديث النبكية التي ترد فييا مثؿ ىذه األلفاظ يجب أف تفيـ عمى أنيا‬
‫استعارية أك مجازية‪ .‬إف التجسيـ عند الجميع‪ ،‬عامة أك خاصة‪ ،‬ىك عكدة إلى عبادة األصناـ التي قاـ الديف الجديد بانتزاعيا‪ 3.‬كمف‬

‫‪1‬‬
‫الغزالي‪ :‬إلجاـ العكاـ عف عمـ الكبلـ‪ ،‬ضمف مجمكعة رسائؿ اإلماـ الغزالي‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.319‬‬

‫‪2‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.319‬‬
‫‪3‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.320-319‬‬

‫‪87‬‬
‫ثمة فكؿ يمجسـ قد انحرؼ عف عقائد أىؿ السمؼ‪ .‬كالتنبيو إلى أف ىناؾ فرؽ بيف المعنى األصمي المباشر كالمعنى المجازم كىك‬
‫الحقيقي‪ ،‬ال يككف إال بالتأكيؿ‪ .‬لكف ال يجب عمى العامي‪ ،‬أك حتى غير العامي‪ ،‬الخكض في التأكيؿ أصبل‪ ،‬بؿ التسميـ ىك المكقؼ‬
‫االنسب في كؿ الح االت‪ .‬ليس االعتراؼ بالعجز عجز حقيقي بؿ ىك القدرة الحقيقية كما قاؿ سيد الصديقيف‪ :‬العجز عف درؾ‬
‫اإلدراؾ ادراؾ‪ 1.‬لكف الغالبية يعتقد بأف العجز كامف في نفسو‪ ،‬لذا يجب تجاكزه‪ ،‬لكف الحقيقة أف ىذه المسائؿ تتطمب التسميـ‬
‫كالسككت ببل أدنى محاكلة لمتأكيؿ‪ .‬ألف ىناؾ عدة نصكص تكحي بالجسمية مثؿ ما نسب إلى الرسكؿ الكريـ مف أقكؿ عمى شاكمة‪:‬‬
‫إف ا﵀ خمؽ أدـ عمى صكرتو‪ ،‬إني رأيت ربي في أحسف صكرة‪ ،‬ينزؿ ا﵀ تعالى في كؿ ليمة إلى السماء الدنيا‪ 2.‬فظاىر كؿ ىذه‬
‫األحاديث تجسيمي كحشكم‪ ،‬لكف باطنيا غير ذلؾ‪ .‬ىنا يجب االنتقاؿ مف الظاىر إلى الباطؿ عف طريؽ آلية التأكيؿ‪ ،‬كنحف نعمـ أف‬
‫التأكيؿ يعني العكدة إلى األكؿ‪ ،‬كالباطف ىك األكؿ قبؿ الظاىر‪ ،‬سكاء مف الناحية المنطقية أك الزمنية‪ .‬كالتأكيؿ في المفيكـ الغزالي‬
‫ىك "بياف المعنى بعد إزالة الظاىر"‪ 3.‬كىك عند ابف رشد "اخراج داللة المفظ مف الداللة الحقيقية الى الداللة المجازية مف غير أف‬
‫يخؿ في ذلؾ بعادة لساف العرب في التجكز مف تسمية الشيء بشبييو أك سببو أك الحقة‪ 4"...‬كالخبلؼ في فيـ التأكيؿ ظاىر جدا‬
‫بينيما‪ ،‬فالظاىر عند ابف رشد ىك الحقيقي‪ ،‬في حيف أنو عند الغزالي ما يعتبر خطأ أنو حقيقي‪ .‬فاليد المغمكلة في القرآف الكريـ تمثؿ‬
‫ظاىر لحقيقية باطنية ىي اإلمساؾ عف النفقة كالبخؿ أك الشح‪ .‬كىنا يظير اقتراب الغزالي مف المعتزلة‪ ،‬عمى الرغـ مف ككنو أشعرم‬
‫العقيدة‪ .‬كيظير القاسـ المشترؾ بينيما في نفي التصكرات الشعبية‪ ،‬أك العامية بمغة الغزالي‪ ،‬عف بعض النصكص المتعمقة بالذات‬
‫اإلليية‪ 5.‬يتفؽ المعتزلة كاألشاعرة عمى حتمية التأكيؿ التنزييي لكؿ آية تكحي بالجسمية‪.‬‬

‫لئف كاف التأكيؿ‪ ،‬عند الغزالي‪ ،‬كشؼ لمحقيقي الباطف المتكارم كراء الظاىر الذم قد يكىـ بما ىك غير حقيقي‪ ،‬فمف لو الحؽ‬
‫في ممارستو ؟ بالنسبة لمعامة مف الناس‪ ،‬فاألمر محسكـ فيو‪ ،‬إذ ال يحؽ ليـ التأكيؿ نظ ار لقصكرىـ النظرم‪ ،‬فيـ غير مؤىميف لفيـ‬
‫مثؿ ىذه المسائؿ المعقدة‪ ،‬مثمما أف مف ال يحسف السباحة سيككف مصيره الغرؽ حتما‪ .‬لذا فإف التأكيؿ في حقيـ حرام كمية‪ 6.‬ىنا‬
‫يمجأ الغزالي إلى المغة الفقيية في تحريـ التأكيؿ بالنسبة لمعامة‪ .‬لكف ىؿ يجب سحب ىذا الحكـ عمى العمماء ؟ يجيب‪" :‬كالتأكيؿ‬
‫العالـ مع العامي ممنوع أيضا (‪ )...‬ألنو عرضة لخطر اليبلؾ كأنو ال يقكل عمى حفظو في لجة البحر"‪ 7.‬ىنا نجد الغزالي يستعمؿ‬
‫المنع في حؽ العالـ ا لذم يسرب تأكيبلتو لمعامة مف الناس‪ ،‬ألنو بذلؾ يغرقيـ مف حيث ال يرغبكف أك ال يدركف‪ .‬يبقى إذف حالة‬

‫‪1‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.324‬‬
‫‪2‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.321‬‬
‫‪3‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.326‬‬
‫‪4‬‬
‫ابف رشد‪ :‬فصؿ المقاؿ كتقرير ما بيف الشريعة كالحكمة مف اتصاؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.34‬‬
‫‪5‬‬
‫نصر حامد أبك زيد‪ :‬االتجاه العقمي في التفسير‪ -‬دراسة في قضية المجاز في القرآف عند المعتزلة‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار‬
‫البيضاء‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،1996 ،‬ص ‪.5‬‬

‫‪6‬‬
‫الغزالي‪ :‬إلجاـ العكاـ عف عمـ الكبلـ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.326‬‬
‫‪7‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬الصفحة نفسيا‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫كاحدة فقط مسمكحة في التأكيؿ كىي تأويل العارف مع نفسو‪ 1.‬أم التأكيؿ الذم يمارسو بمعزؿ عف العامة‪ .‬سكاء لفظا أك كتابة‪ .‬لذا‬
‫نجد ابف رشد ىنا‪ ،‬يسير في خطى الغزالي‪ ،‬عندما كتب بأف "التأكيبلت ليس ينبغي أف يصرح بيا لمجميكر كال تثبت في الكتب‬
‫الخطابية أك الجدلية (‪ )...‬المصرح بيذه التأكيبلت لغير أىميا فكافر لمكاف دعائو لمناس الى الكفر"‪ 2.‬كالمشكمة ىنا أف ابف رشد يتيـ‬
‫لغزالي بأنو سرب التأكيبلت لمجميكر عندما كضعيا في كتب الخطابة كالجدؿ المكجية لمجميكر‪ .‬أيف إذف تكتب تأكيبلت العمماء‬
‫المتخصصيف ؟ حسب ما تبقى لنا‪ ،‬كفؽ منطؽ ابف رشد‪ ،‬يجب أف تكدع في كتب البرىاف ألف كاتبيا عمماء كالمؤىميف لمطالتيا ىـ‬
‫أيضا عمماء‪ .‬بالنسبة لمغزالي‪ ،‬فإف تأكيؿ العالـ مع نفسو‪ ،‬يتجسد مثبل في معرفة أف لفظ "الفكؽ" ال يدؿ عمى المكانية أك الحيزية‪ ،‬بؿ‬
‫كفؽ التأكيؿ يدؿ عمى "العمك المعنكم" كأف نقكؿ أف السمطاف فكؽ الكزير‪ ،‬فيذه الفكقية ال ترتبط بالمكاف‪ ،‬كلئف كاف مقاـ السمطاف‬
‫فعبل أعمى مف مقاـ الكزير‪ ،‬فإف المقصكد ىك عمك الكممة كالقرار‪ 3.‬كربما العمك المكاني‪ ،‬في البناء أك المجمس‪ ،‬ىك ترجمة حسية‬
‫لمعمك المعنكم‪.‬‬

‫مشكمة العامة مف الناس أنيـ قاصركف عف تصكر بعض المفاىيـ المجردة‪ ،‬فمثبل مشكمة قدـ كخمؽ القرآف‪ ،‬التي ىي أىـ مسألة‬
‫كقع فييا الخبلؼ الكبلمي‪ ،‬تتحكؿ عندىـ إلى مسألة مستغمقة ال أمؿ في فكيا أك فتحيا‪ .‬كمف حاكؿ شرح ىذه المسألة يغرقيـ في‬
‫أمكر بعيدة جدا عف أفياميـ‪ .‬كأم حركة لتفييميـ تؤدم إلى عكس المراد‪ 4.‬بؿ تؤدم إلى تشكيش عقدم ال عبلج لو‪.‬‬

‫ينتيى الغزالي إلى ضركرة تطبيؽ استراتيجية السككت عف التأكيؿ كاستبداليا بالتقديس‪ ،‬ألنو بداية السككت ذاتو‪ .‬كبما أف عمـ‬
‫الكبلـ عمـ عقدم عقمي‪ ،‬كالناس متفاكتكف في االستعدادات العقمية‪ ،‬فإف الحؿ ىك االلتزاـ بما كرد في القرآف‪ ،‬ألنو مكضكع لجميع‬
‫الناس دكف استثناء‪ .‬كاالدلة العقدية الكاردة في القرآف ليست مثؿ األدلة المنطقية التي يعجز عف فيميا العامة‪ ،‬لذا فإف‪:‬‬

‫"أدلة القرآن مثل الغذاء ينتفع بو كل إنسان‪ ،‬وأدلة المتكممين مثل الدواء ينتفع بو آحاد الناس وتستضر بو األكثرون‬
‫(‪ )...‬بل أدلة القرآن كالماء الذي ينتفع بو الصبي الرضيع والرجل القوي وسائر األدلة كاألطعمة التي ينتفع بيا األقوياء‬
‫‪5‬‬
‫مرة ويمرضون بيا أخرى وال ينتفع بيا الصبيان أصال"‪.‬‬

‫لمعقؿ حدكد‪ ،‬حتى بالنسبة لمخاصة مف الناس‪ ،‬مف ذكم العقؿ البرىاني‪ ،‬فبل يمكف ليـ القبض عمى الحقيقية المتعمقة بالذات‬
‫اإلليية‪ .‬كحدكد العقؿ الكبلمي ال تنفصؿ عف حدكد العقؿ المجرد‪ .‬فبل يجب أف نطمع في معرفة حقيقة ا﵀‪ ،‬ألف ا﵀ كحده مف يمتمؾ‬
‫ذلؾ‪ .‬كىنا يتحكؿ السككت إلى فضيمة معرفية‪ .‬كقد كاف اإلغريؽ القدامى‪ ،‬مثؿ ميميسكس السامكسي (حكالي‪ 450‬ؽ ـ) يقكؿ بأنو ال‬
‫ينبغي عمينا أف نتقكؿ بمقكالت عف اآللية‪ ،‬نظ ار ألف معرفتيـ غير ممكنة بالنسبة إلينا"‪ 6.‬كىي فكرة قاؿ بيا أحد سمفو المذىبييف كىك‬

‫‪1‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.327‬‬
‫‪2‬‬
‫ابف رشد‪ :‬فصؿ المقاؿ كتقرير ما بيف الشريعة كالحكمة مف اتصاؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.57-56‬‬
‫‪3‬‬
‫الغزالي‪ :‬إلجاـ العكاـ عف عمـ الكبلـ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.329‬‬
‫‪4‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.347‬‬
‫‪5‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.335‬‬
‫‪6‬‬
‫ديكجينيس البلئرتي‪ :‬حياة مشاىر الفبلسفة‪ ،‬المجمد الثالث‪ ،‬ترجمة اماـ عبد الفتاح اماـ‪ ،‬المركز القكمي لمترجمة‪ ،‬القاىرة‪ ،‬الطبعة‬
‫األكلى‪ ،2014 ،‬الجزء الثامف‪ ،‬فقرة ‪ ،24‬ص ‪.123‬‬

‫‪89‬‬
‫كىك كزينكفاف اإليمي كقاؿ بو أيضا‪ ،‬مف بعد‪ ،‬بركتاغكراس السكفسطائي في بداتو كتابو عف اآللية‪ .‬كحتى في العالـ اإلسبلمي نجد‬
‫مف اعتنؽ ىذه الفكرة‪ /‬مثؿ الرازم‪ ،‬عمى أساس محدكدية اإلنساف ال يمكف اف تستكعب ال محدكدية ا﵀‪.‬‬

‫خاتمة‪.‬‬

‫مف ىـ العامة ؟ ىذا ىك السؤاؿ الذم كنا قد طرحناه في بداية المحاضرة‪ ،‬عمى أساس أف المجتمعات القديمة قد حددت طبقات‬
‫معرفية تحديدا صارما بسبب البنية االجتماعية المتكفرة أنذاؾ‪ .‬فبل يمكف لمعبيد مثبل أف يترقكا إلى طبقة الخاصة مف الناس‪ ،‬كلك أف‬
‫ليـ القدرات العقم ية المؤىمة‪ .‬في القديـ‪ ،‬كانت الطبقة أقكل مف الطبيعة‪ .‬كاالنغبلؽ الطبقي‪ ،‬كما تجسد عند البراىمة في اليند‪ ،‬أك‬
‫الديانة اإلغريقية‪ ،‬كاف ىك القانكف الذم حكـ كؿ العيكد القديمة‪ .‬كلـ يكف العالـ اإلسبلمي مستثنى منو‪ ،‬عمى األقؿ مف الناحية‬
‫االجتماعية‪ ،‬حيث كاف نظاـ العبكدي ة معمكؿ بو‪ ،‬عمى الرغـ مف رفضو مف الناحية المعنكية في القرآف مثبل‪ .‬في اليند ىناؾ‬
‫كالمكالي في أثينا‪ 3.‬كفي السياقات اإلسبلمية نجد العامة أك‬ ‫‪2‬‬
‫الشحاذكف كالعراة كالغكغاء‪ 1،‬كفي ركما ىناؾ السكقة ‪، Plebs‬‬
‫الجميكر كما يحب ابف رشد استعماؿ ىذه الكممة‪ .‬ما خاصية ىؤالء ؟ بالنسبة لمغزالي‪ ،‬فالمشكمة غير مرتبطة بالناحية االقتصادية‬
‫بقدر ما ىي مرتبطة بالناحية العقمية كاالستعداد اإلدراكي‪ .‬فالعامي يجرل مجرل الصبي في التصكر الحسي‪ 4.‬أم ليس بقادر عمى‬
‫عقمنة األمكر مف خبلؿ التجريد‪ .‬كنحف نعمـ أف مرحمة الصبيانية تتميز بسيطرة اإلدراؾ الحسي كغمبة التخيؿ المادم‪ .‬يقكؿ الغزالي‬
‫بأف‪:‬‬

‫" أكثر الناس آمنكا في الصبا ككاف سبب تصديقيـ مجرد التقميد لآلباء كالمعمميف كلحسف ظنيـ بيـ ككثرة ثنائيـ عمى‬
‫أنفسيـ‪ ،‬كثناء غيرىـ عمييـ (‪ )...‬لذلؾ ترل أكالد النصارل كالركافض كالمجكس كالمسمميف كميـ ال يبمغكف إال عمى عقائد‬
‫‪5‬‬
‫آبائيـ كاعتقاداتيـ في الباطؿ الحؽ جازمة (‪ )...‬كالطباع مجبكلة عمى التشبيو السيما طباع الصبياف كأىؿ الشباب"‪.‬‬

‫ىذه حقيقة ال يمكف التنكر ليا‪ ،‬كلك أننا نعيش بعد الغزالي بأكثر مف عشرة قركف‪ ،‬ألنيا طبيعة بشرية ال تتغير‪ .‬لكف السؤاؿ‬
‫المطركح ىنا‪ ،‬ىؿ التشبيو طباع صبيانية حص ار ؟ ىؿ ىذا يعني أف كؿ الديانات التشبييية أك قؿ الكثنية‪ ،‬عمى أساس أف الكثف ىك‬
‫ذاتو التشبيو‪ ،‬ىي دي انات صبيانية ؟ أـ أنيا تعبير عف أقصى ما يمكف تصكره بشأف األلكىية ؟ مف الصعب صبينة كؿ الحضارات‬
‫التي جسدت آليتيا‪ ،‬ألف ليا فبلسفة كرجاؿ ديف في غاية الحكمة كالقدرة عمى التصكر كالتجريد كالتنظير‪ .‬ثـ أف بمكغ اإلنساف مرحمة‬

‫‪1‬‬
‫مايكؿ كاريدرس‪ :‬لماذا ينفرد اإلنساف بالثقافة ؟ الثقافات البشرية‪ :‬نشأتيا كتنكعيا‪ ،‬ترجمة شكقي جبلؿ‪ ،‬المجمس الكطني لمثقافة‬
‫كالفنكف كاآلداب‪ ،‬سمسمة عالـ المعرفة‪ ،‬الككيت‪ ،‬العدد ‪ ،1998 ،229‬ص ‪.164‬‬

‫‪2‬‬
‫فكستيؿ دم ككالنج‪ :‬المدينة القديمة – دراسة لعبادة اإلغريؽ كالركماف كشرعيـ كأنظمتيـ‪ ،‬ترجمة عباس بيكمي بؾ‪ ،‬المركز القكمي‬
‫لمترجمة‪ ،‬القاىرة‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2007 ،‬ص ‪.325‬‬

‫‪3‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.363‬‬
‫‪4‬‬
‫الغزالي‪ :‬إلجاـ العكاـ عف عمـ الكبلـ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.330‬‬
‫‪5‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.353‬‬

‫‪91‬‬
‫النضج‪ ،‬ال يستمزـ معو االستغناء عف أم حسية كتشبييية‪ .‬ألنو ال يمكف تصكر غير ما يقع في عالـ الحس‪ ،‬كما التجريد المفرط إال‬
‫مضاعفة في االبتعاد عف المحسكس‪ ،‬لذا فالمحسكس مكجكد دكما كلك بصكرة مستبطنة‪ .‬كالغزالي ذاتو قد استشكؿ سبب كركد‬
‫النصكص الدينية اإلسبلمية في صيغة تشبييية ؟ ىؿ غابت ىذه المشكبلت التي ستظير عند العامة بشأف الصفات كالذات عف ا﵀‬
‫؟ األكيد أنو ال يمكف القكؿ بذلؾ‪ ،‬ألف ا﵀ تعالي‪ ،‬كىك مف أنزؿ القرآف‪ ،‬عارؼ بما كجد كما سيكجد في فكر أم إنساف‪ .‬إذف يبقى‬
‫السؤاؿ مطركح حكؿ بنية المغة القرآنية التي تكحي بالتجسيـ‪ .‬ربما ىي طريقة تعممية لتقريب التصكر‪ ،‬لكف عمماء الكبلـ تتبعكا بنية‬
‫ىذه المغة تحميبل كتفكيكا كاستنتاجا فتكصمكا إلى التجسيـ كالكفر كالكثنية‪.‬‬

‫نحف نفترض أف مفيكـ العامة أك الجميكر ناجـ عف النظاـ االجتماعي‪ ،‬كبالتالي كمما تغير ىذا النظاـ تغير مفيكـ العامة‬
‫كالخاصة‪ .‬ففي عصر األنكار مثبل‪ ،‬فإف النظرة إلى استعماؿ العقؿ‪ ،‬قد تبدلت كمية مقارنة بالعصر الديني السابؽ عميو‪ .‬إذ أصبح‬
‫يستعمؿ أماـ كؿ العالـ‪ ،‬أم أماـ الجميكر الذم يتقف القراءة كالكتابة‪ 1.‬حتى لفظ الجميكر أصبح لو معنى مغاير لممعنى الذم نجده‬
‫عند ابف رشد‪ .‬أك حتى المنظكر الذم قدمو أفبلطكف في الرسالة السابعة حيث جعؿ الفكر حك ار عمى النفس الناطقة‪ ،‬كدعا لحجب‬
‫بعض الفكر عف العامة مف الناس‪ ،‬بخاصة مف يمثمكف النفس الشيكية‪.‬‬

‫الزمف الحالي‪ ،‬الذم ىك زمف التخصص كتخصص في التخصص‪ ،‬قد قمب المنظكر القديـ كمية‪ .‬فالعصر المكسكعي قد كلى‪،‬‬
‫كالمفكر الجامع كالمحيط قد انتيى‪ .‬كالتعميـ قد ذاع بحيث أنو قمت األمية إلى أقصى الدرجات‪ .‬فمف ىـ العامة اليكـ ؟ يمكف أف‬
‫نخمف أف الكؿ عا مة بالنظر إلى غير تخصصو‪ .‬فالطبيب ال يمكف أف يككف بنفس مستكاه العممي في عمكـ الديف‪ ،‬كالمتكمـ‬
‫المتخصص يمثؿ مرتبة العامي في عمكـ الطب‪...‬الخ‪ .‬فحتى عمكـ الديف أصبحت تخصصات منفصمة يتعذر عمى الكاحد اإللماـ بيا‬
‫كمية‪.‬‬

‫ىؿ يمكف أف نطرح اليكـ مشركع دمقرطية عمـ ا لكبلـ ؟ عمى أساس أف التعميـ أصبح متاحا لمجميع‪ ،‬كتـ فتح الطبقات المغمقة‪،‬‬
‫بحيث أف قدرات الفرد الذاتية تؤىمو العتبلء أكبر المناصب في العمـ كالسياسة كالديف‪ .‬يظير لنا أف مكضكع الكبلـ‪ ،‬الذم ىك‬
‫العقائد‪ ،‬بقى ىك ىك‪ ،‬كتبدؿ النظـ االجتماعية‪ ،‬كما ىك اليكـ‪ ،‬ال يغير مف األمر شيئا‪ .‬فيناؾ "طبقة العامة" حتى في البمداف التي‬
‫حققت نمكا عمميا باىرا‪ .‬ألف محدكدية القدرات الذىنية يبؽ حتمية مثمما أف العبقرية حتمية‪ .‬كبالتالي فميس لنا إال أف نكافؽ كؿ مف‬
‫الغزالي كابف رشد أف اذاعة بعض المشكبلت الكبلمية يككف لو أثر سمبي عمى البعض‪ .‬لكف السؤاؿ المطركح ىك‪ :‬إلى متى كنحف‬
‫نخاؼ مف نتائج فيـ العامة ؟ نطرح ىذا السؤاؿ عمى اعتبار أف عقبلنية الكصاية عمى الناس‪ ،‬في فيميـ كمصيرىـ كأفعاليـ قد كلي‪.‬‬
‫كالتنكير الذم يعني تجاكز القصكر قد أصبح ظاىر جدا‪ .‬لذا فالمسألة مرتبطة بتقبؿ نتائج فيـ الناس‪ ،‬كؿ الناس‪ ،‬لمديف‪ ،‬كبعد‬
‫انتشار القراءة كدمقرطة التعميـ‪ ،‬أصبح مف المتعذر التحكـ في أفياـ الناس أك تكجيييا كفؽ ما تريد السمطة العممية أك السياسية‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫عمي أكمميؿ‪ :‬أفكار مياجرة‪ ،‬مركز دراسات الكحدة العربية‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2013 ،‬ص ‪.183-182‬‬

‫‪91‬‬
‫المحاضرة الخامسة‪ :‬أصل الفرق الكالمية (‪.)1‬‬

‫‪-1‬الفرق السياسية‪.‬‬

‫مقدمة‪.‬‬

‫يعد تقسيـ الفرؽ الكبلمية إلى فرؽ سياسية كفرؽ عقائدية مف التقسيمات الشائعة‪ ،‬كىك تقسيـ مؤسس عمى مشكمة النشأة‬
‫بالضبط‪ .‬أم أف ىناؾ فرؽ نشأت بسبب مشكمة متعمقة بالمسألة السياسية‪ ،‬كىي تعكد إلى العامؿ الداخمي الذم سميناه في محاضرة‬
‫سابقة باليكية السياسية لمكبلـ‪ .‬كىناؾ فرؽ نشأت في األساس بسبب الخبلؼ حكؿ مسائؿ متربطة بتأكيؿ كفيـ النصكص القرآنية‬
‫المتشابية كالمرتبطة بالمكضكع العقدم‪ ،‬كىذا ما سميناه باليكية القرآنية لمكبلـ‪ .‬لذا فيذا التقسيـ مرتبط بالمنشأ‪ ،‬لكف عند النظر إلى‬
‫المآالت التي انتيت إلييا الفرؽ‪ ،‬فبل يمكف أف نستمر في التمسؾ بالتقسيـ إلى سياسي كعقائدم‪ .‬فمثبل فرقة الشيعة‪ ،‬كعمى الرغـ مف‬
‫منشأىا السياسي إال أنيا انتيت إلى مكاقؼ عقائدية أصمية‪ .‬كما أف ىناؾ بعض الفرؽ‪ ،‬كالتي خرجت لمكجكد مف تداعيات المشكمة‬
‫السياسية‪ ،‬إال أنيا ال تصنؼ ضمف الفرؽ السياسية‪ ،‬مثؿ المرجئة التي تعتبر فرقة عقائدية عمى الرغـ مف أنيا نشأت في ظركؼ‬
‫‪1‬‬
‫التكفير كالتصنيؼ بعد فتنة صفيف‪ ،‬لكنيا تتفؽ في بعض المسائؿ الفرعية التي تتعمؽ باإلمامة مع الخكارج‪.‬‬

‫بالنسبة لمفرؽ السياسية التي سنخصص ليا ىذه المحاضرة‪ ،‬فيي فرؽ انبثقت بعد الخبلؼ الكبير الذم انجر عف مقتؿ عثماف‬
‫كالبيعة الجزئية لعمي (ض)‪ .‬كبعد التشكؿ‪ ،‬ستأخذ ىذه الفرؽ في تبرير مكاقفيا النظرية مف القرآف الكريـ‪ ،‬كالدفاع عف خياراتيا مف‬
‫خبلؿ تأكيؿ معيف لآليات‪ .‬فرغـ أف ىناؾ كتاب كاحد‪ ،‬إال أف فيمو كتأكيمو انتج فرؽ مختمفة حد التصارع‪.‬‬

‫مشكبلت المحاضرة ىي‪ :‬كيؼ تشك مت الفرؽ الكبلمية السياسية ؟ ككيؼ أحكمت العبلقة بيف مشكمة الخبلفة كالمسائؿ العقائدية‬
‫الكبرل في اإلسبلـ ؟ ما عبلقة الفرؽ السياسية بالتكجو اإلسبلمي العاـ المسمى بأىؿ السنة كالجماعة ؟ ىؿ خبلؼ الفرقتيف اقتصر‬
‫عمى جميكر المسمميف أـ أنو ىناؾ خبلؼ بيف الشيعة كالخكارج معا ؟ ما ىك مآؿ ىذه الفرؽ في الحاضر ؟‬

‫أوال‪ -‬الخوارج‪:‬‬

‫‪ -3‬النشأة والتسمية‪:‬‬

‫قبؿ أف يتحكؿ بعض أنصار عمي (ض) إلى خكارج كانكا مف القراء الحافظيف لمقرآف كالمتمسكيف بو كالممتزميف بظاىره كركحو‪،‬‬
‫كالذيف بايعكه كاعتبرىـ أىؿ لئلمامة‪ ،‬بؿ كحاربكا معو في مكقعة الجمؿ ضد حمؼ عائشة كطمحة كالزبير‪ .‬ككانكا مف الذيف طالبكا‬
‫عمي (ض) بالتحكيـ استجابة لنصكص قرآنية معركفة‪ ،‬لكف لما ظيرت نتائجو‪ ،‬أم التحكيـ‪ ،‬عكس ما كانكا ينتظركف‪ ،‬أم تثبيت‬
‫معاكية بدؿ عمي‪ ،‬انقمبكا ضده كرفضكا التحكيـ كمية كقالكا ال حكـ إال ﵀‪ .‬كخرجكا عميو كرفضكا العكدة معو إلى الككفة كتكجكا إلى‬
‫حركراء‪ ،‬بالقرب منيا‪ ،‬لذا سميك الحركرية بسبب ذلؾ‪ .‬فقد "انفصؿ عف عمي ‪ 12‬ألؼ رجؿ أبكا العكدة معو إلى الككفة‪ ،‬كساركا إلى‬

‫‪1‬‬
‫عبد الكريـ الشيرستاني‪ :‬الممؿ كالنحؿ‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬المكتبة العصرية‪ ،‬بيركت‪ ،2003 ،‬ص ‪.91‬‬

‫‪92‬‬
‫قرية حركراء‪ ،‬تحت لكاء التحكيـ‪ :‬ال حكـ إال ﵀‪ .‬كمف ىنا سمكا باسـ المحكمة كالحركرية‪ .‬كالخركج يدؿ عمى الخركج عف الجماعة‪،‬‬
‫بغية القتاؿ"‪ 1.‬مف أجؿ تجسدم كممة ا﵀ العادلة‪ ،‬البد مف الخركج كلك اقتضى األمر القتاؿ‪.‬‬

‫تعتبر تسمية الخكارج اتياما ليـ مف طرفخصكميـ‪ ،‬كالخركج ىنا يحمؿ معنى حقيقي كىك الخركج عف عمي (ض) كمجازم كىك‬
‫الخركج عف الديف‪ ،‬مثمما يخرج السيـ مف الرمية لذا سمكا بالمارقة‪ 2،‬لما كرد في أحد األحاديث النبكية بأنو سيكجد مارقة في الديف‬
‫كما يمرؽ السيـ مف الرمية‪ 3.‬كمف أسمائيـ األخرل نجد‪ :‬المحكمة ألنكارىـ الحكميف عمرك بف العاص كأبك مكسى األشعرم‪ ،‬كقالكا‬
‫بحكـ ا﵀‪ .‬كسيمكف أيضا بالشراة‪ ،‬ألنيـ قالكا شرينا أنفسنا في طاعة ا﵀ أم بعناىا بالجنة‪ .‬إلى جانب اسـ الحركرية كالخكارج‪ ،‬كىـ ال‬
‫يرضكف بيذا االسـ األخير ألنو قدحي‪ ،‬عمى أساس أنو اطمؽ مف مخالفييـ في فيـ العقيدة‪" .‬ىـ ال يعدكف أنسفيـ خارجكف عف‬
‫الديف‪ ،‬بؿ خارجكف مف أجؿ الديف كمف أجؿ اقامة شرع ا﵀‪ ،‬مجاىركف بدعكتيـ‪ ،‬يطبقكف مبدأ األمر بالمعركؼ كالنيي عف المنكر‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫رامكا اقامة دكلة اسبلمية تقكـ عمى الديف كاحكامو"‪.‬‬

‫كعمى الرغـ مف ككف الخكارج قبؿ أف يخرجكا عف عمي (ض) بمثابة حربتو القكية‪ ،‬إذ قاتمكا معو في الجمؿ كفي صفيف‪ ،‬إال أف‬
‫تشكشييـ عميو انتيي بأف حاربيـ حتى اإلبادة في النيركاف‪ .‬كاضطر البقية الناجية لميرب إلى اليمف كسجستاف كاألماكف المنعزلة‪.‬‬
‫كبذلؾ تتكرر الفتنة بيف المسمميف‪ ،‬عمى أساس أف عمي (ض) مف الصحابة الكبار كخميفة لممسمميف بكيع مف األغمبية‪ ،‬كما أف‬
‫الخكارج مف القراء‪ ،‬كىـ جماعة مف الناس ممتزميف كمية بالديف‪ .‬إذف ىناؾ شيعة لعمي كشيعة لمعاكية بف أبي سفياف دخمكا في قتاؿ‬
‫كفتنة‪ ،‬لكف ىناؾ أيضا انشقاؽ حدث في صؼ عمي ذاتو‪ ،‬حيث انقسـ بيف األكفياء الحقيقييف كالخكارج‪ 5.‬كىذا االنشقاؽ المزدكج أثر‬

‫‪1‬‬
‫يكليكس فميكزف‪ :‬أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر اإلسبلـ – الخكارج كالشيعة‪ ،‬ترجمة عبد الرحمف بدكم‪ ،‬مكتبة‬
‫النيضة المصرية‪ ،‬القاىرة‪ ،1958 ،‬ص ‪ .6‬أيضا‪ :‬عبد القاىر البغدادم‪ :‬الفرؽ بيف الفرؽ كبياف الفرقة الناجية‪ ،‬مكتبة ابف سينا‪،‬‬
‫القاىرة‪ ،1988 ،‬ص ‪.74‬‬

‫‪2‬‬
‫ىشاـ جعيط‪ :‬الفتنة – جدلية الديف كالسياسة في اإلسبلـ المبكر‪ ،‬ترجمة خميؿ أحمد خميؿ‪ ،‬دار الطميعة لمنشر كالتكزيع‪ ،‬بيركت‪،‬‬
‫الطبعة الثامنة‪( 2015 ،‬الطبعة الفرنسية األكلى ‪ )1989‬ص ‪.257‬‬
‫‪3‬‬
‫الحديث‪:‬‬
‫قاؿ الرسكؿ لرجؿ مف بني تميـ يقاؿ لو ذك الخكيصرة بعد أف اتيمو بعدـ العدؿ في تقسيـ غنائـ يكـ حنيف‪ :‬دعكه فإنو‬
‫سيككف لو شيعة يتعمقكف في الديف حتى يخرجكا منو كما يخرج السيـ مف الرمية‪ .‬لذا فالخركج ىنا يدؿ عمى نفاذ السيـ‬
‫كالخركج مف الطرؼ اآلخر‪ .‬ككما ىك ظاىر فإف القرائكف الذيف انشقكا عف عمي (ض) متعمقكف في الديف‪ .‬كىنا حدث‬
‫تطابؽ بيف قكؿ النبي كما حدث فعبل في صفيف‪.‬‬
‫نقبل عف‪ :‬يكليكس فميكزف‪ :‬أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر اإلسبلـ – الخكارج كالشيعة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص‬
‫‪.35‬‬

‫‪4‬‬
‫عبد الفتاح المغربي‪ :‬الفرؽ الكبلمية اإلسبلمية‪ ،‬مكتبة كىبة‪ ،‬القاىرة‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،1995 ،‬ص ‪.169‬‬

‫‪5‬‬
‫يكليكس فميكزف‪ :‬أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر اإلسبلـ – الخكارج كالشيعة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.14-13‬‬

‫‪93‬‬
‫كيذكر بأف عمي (ض) قد حاكر الخكارج في‬‫عميقا في الضمير اإلسبلمي الذم تصادـ بيف اسبلـ معيارم كامؿ كاسبلـ كاقعي مقمؽ‪ .‬ي‬
‫ير﴾[غافر‪ .]12 ،‬لكف عمي (ض) كاف يعتقد بأف‬‫استعماليـ الحجج مف القرآف‪ ،‬بخاصة قكليـ ال حكـ إال ﵀‪﴿ .‬فىا ٍل يح ٍك يـ لًمَّ ًو ا ٍل ىعمً ّْي ا ٍل ىكبً ً‬
‫القرآف يستعمؿ في سبيؿ اثبات أم أطركحة يتبناىا المسمـ‪" .‬قاؿ عمي بف أبي طالب في رده عمى الخكارج‪" :‬القرآف بيف دفتي‬
‫المصحؼ ال ينطؽ إنما يتكمـ بو الرجاؿ"‪ .‬معنى ىذا القكؿ الميـ كالخطير كالمغيب ىك أف عقؿ الرجاؿ كمستكل معرفتيـ كفيميـ ىك‬
‫‪1‬‬
‫الذم يحدد الداللة يصكغ المعنى"‪.‬‬

‫ىناؾ اختبلؼ بيف المؤرخيف حكؿ ىكية الخارجيف عف عمي (ض)‪ ،‬ىؿ ىـ القراؤكف أـ بعض أىؿ البدك الذيف لـ يألفكا السياسة‬
‫كما تقتضيو مف استراتيجية كفطنة كتنازالت‪ .‬فكممة األعراب أك البدك غير المتحضريف‪ ،‬كفؽ ما ذكره القرآف ذاتو‪ ،‬تحمؿ معنى الكفر‬
‫كد ىما أ ٍىن ىز ىؿ المَّوي ىعمىى ىر يسكلً ًو‬
‫ىج ىد ير أ َّىال ىي ٍعمى يمكا يح يد ى‬
‫اب أى ىش ُّد يك ٍف نار ىكنًفىاقنا ىكأ ٍ‬
‫ىع ىر ي‬
‫﴿األ ٍ‬
‫كالنفاؽ كعدـ االلت ازـ كالعصبية‪ .‬كرد في محكـ التنزيؿ‪ٍ :‬‬
‫ً‬ ‫َّ ً‬ ‫ً ً‬ ‫ؽ م ٍغرما كيتىربَّص بً يكـ َّ ً‬ ‫ً‬ ‫َّ ً‬ ‫كالمَّوي ىعمًيـ ىح ًكيـ (‪ )97‬ك ًم ىف ٍاأل ٍ ً‬
‫يـ﴾ [التكبة‪،‬‬ ‫َّكًء ىكالموي ىسميعه ىعم ه‬ ‫الد ىكائ ىر ىعمىٍيي ٍـ ىدائ ىرةي الس ٍ‬ ‫ىع ىراب ىم ٍف ىيتخ يذ ىما يي ٍنف ي ى ى ن ى ى ى ي ي‬ ‫ى‬ ‫ه‬ ‫ه‬ ‫ى‬
‫‪ . ]98-97‬ك"ىناؾ مف يفسر ثكرة الخكارج كالركافض كالقرامطة ممف رفضكا الخضكع لمقكانيف االصطبلحية كاألكامر السمطانية‬
‫برسكخيـ في البداكة التي ترمز إلى الحياة الطمقة"‪ 2.‬كىذا تفسير ابف خمدكف الكاقعي‪ ،‬عمى أساس أف ىناؾ تعارض بيف قانكف‬
‫العشيرة في النظاـ البدكم كقانكف الدكلة في النظاـ الجديد‪ .‬لكف القرآف ال يعمـ ىذه الخاصية عمى البدك‪ ،‬فيناؾ المؤمنكف‪ ،‬كال يمكف‬
‫الرس ً‬ ‫ً‬ ‫و ً َّ ً‬ ‫اب ىم ٍف يي ٍؤ ًم يف بًالمَّ ًو ىكا ٍلىي ٍكًـ ٍاآلى ًخ ًر ىكىيتَّ ًخ يذ ىما يي ٍنًف ي‬
‫ىعر ً‬
‫كؿ أ ىىال‬ ‫صمى ىكات َّ ي‬
‫ؽ قييرىبات ع ٍن ىد المو ىك ى‬ ‫﴿ك ًم ىف ٍاأل ٍ ى‬
‫كصفيـ بالكفر المطمؽ‪ .‬قاؿ تعالى‪ :‬ى‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ًً‬ ‫َّ ً‬ ‫ً‬
‫يـ﴾ [التكبة‪ .]99 ،‬فبل يمكف تحقير البدك لمجرد أنيـ كذلؾ‪ ،‬يبقى المنظكر‬ ‫كر ىرح ه‬ ‫إًَّنيىا قي ٍرىبةه لىيي ٍـ ىسيي ٍدخمييي يـ الموي في ىر ٍح ىمتو إً َّف الموى ىغفي ه‬
‫ا لكاقعي أكثر مقبكلية ألنو يقدـ التفسير العممي‪ .‬ألف تجميع قائؿ ألفت االستقبلؿ في نظاـ دكلة ممزـ أمر صعب البمكغ في زمف‬
‫قصير‪ .‬فالسياسة تربية قبؿ أف تككف قرار فكقي‪.‬‬

‫كحسب الشيرستاني‪ ،‬فإف تسمية الخكارج ليست مرتبطة بالخارجيف األكائؿ فقط‪ ،‬أم األشعث بف قيس الكندم كمسعر بف فدكي‬
‫التميمي كزيد بف حصيف الطائي‪ ،‬كىـ أكؿ مف خرج عف عمي (ض)‪ ،‬بؿ كؿ مف خرج عف اإلماـ الذم اتفقت حكلو الجماعة يعتبر‬
‫خارجي‪ 3،‬في أم زماف كأم مكاف‪ .‬كبالتالي‪ ،‬فإف الخركج عف سمطة الحكاـ يعتبر خركجا في كؿ األحكاؿ‪ .‬كبالتالي‪ ،‬فإف مفيكـ‬
‫الخكارج مستمر حتى يكـ الناس ىذا‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫نصر حامد أبك زيد‪ :‬اإلماـ الشافعي كتأسيس اإليديكلكجية الكسطية‪ ،‬مكتبة مدبكلي‪ ،‬القاىرة‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،1996 ،‬ص ‪،16‬‬
‫‪ .20‬أيضا‪ :‬نصر حامد أبك زيد‪ :‬االتجاه العقمي في التفسير‪ -‬دراسة في قضية المجاز في القرآف عند المعتزلة‪ ،‬المركز الثقافي‬
‫العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،1996 ،‬ص ‪ .96‬نيي عمي بف أبي طالب ابف عباس عف مجادلة الخكارج بالقرآف ألنو ذك‬
‫أكجو‪ ،‬كلكف خاصميـ بالسنة‪ ...‬ىذا ىك اإلحساس المبكر بتعدد الكجكه في التعبير القرآني‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫عبد ا﵀ العركم‪ :‬مفيكـ الحرية‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬الطبعة الخامسة‪ ،1993 ،‬ص ‪.18‬‬

‫‪3‬‬
‫عبد الكريـ الشيرستاني‪ :‬الممؿ كالنحؿ‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مجرع سابؽ‪ ،‬ص ‪.91‬‬

‫‪94‬‬
‫أىـ ميزة لمخكارج ىي التكفير‪ ،‬كاألدىى أنيا ال تفكر المختمفيف عنيا فقط‪ ،‬بؿ أنيا تفكر بعضيا البعض‪ .‬إذ أنيـ يكفركف الفرؽ‬
‫األقؿ حدية منيا‪ .‬فنجد الخكارج تكفر اإلباضية رغـ أنيا فرقة مف الخكارج‪ .‬كالسبب أنيا أقؿ تعصبا كأكثر لكينة في مبادئيا‪ .‬فقد‬
‫"تشكمت بينيـ نكاة "اإلباضية" التي تعد في التصنيفات المكضكعة لميراطقة ضمف جماعات الخكارج بمثابة جماعات مسالمة‬
‫كمرنة"‪ 1.‬كتظير ليكنة اإلباضية في أنيـ ال يعتبركف الكفر بمثابة خركج عف الديف‪ ،‬بؿ ىك كفر بنعمة اإلسبلـ فقط‪ .‬مما يجعمكىـ‬
‫‪2‬‬
‫أكثر تسامحا مع بقية المسمميف‪.‬‬

‫كقد عرفت الخكارج بعقائد كأخبلقيات غريبة كشاذه عف المألكؼ‪ .‬إذ يذكر البغدادم كالمستشرؽ فميكزف ‪Julius Wellhausen‬‬
‫(‪ ،)1918/1844‬عمى حسب تقرير "فاف ايس" بأف "شبيب بف يزيد الشيباني (مف الخكارج التي سكنت شبو الجزيرة ما بيف النيريف‬
‫عاش حكالي ‪ 70‬ىػ حارب جيكش الحجاج) كمؼ امرأة بإمامة الصبلة في الككفة التي لـ يعرؼ فيما بعد ىؿ أنيا كانت أمو أـ‬
‫زكجتو‪ .‬مسألة سماحو لزكجتو الظيكر في المسجد عمى المؤل ىذا ما قد أثار استياء بعض أتباعو‪( .‬البغدادم‪ :‬الفرؽ بف‬
‫الفرؽ‪/‬الطبرم‪ /2 ،‬فيمياكسف)"‪ 3.‬كالبعض مف الخكارج‪ ،‬بخاصة فرقة األ ازرقة‪ ،‬استباحكا قتؿ نساء مخالفييـ كحتى أطفاليـ‪ ،‬كأفتكا‬
‫‪4‬‬
‫كحسب الضحاؾ‪ ،‬كىك كاحد مف الخكارج‪( ،‬كفؽ ما ذكره‬ ‫قطعا بأف أطفاؿ مخالفييـ في العقيدة خالدكف في النار ألنيـ مشرككف‪.‬‬
‫الشيرستاني) فقد أظير عدـ معارضتو لمنكاح مع المسمميف مف غير الخكارج‪ ،‬طالما أف ىذه الزيجات تتـ خارج نطاؽ مناطؽ سيطرة‬
‫الخكارج‪ ،‬التي يطمقكف عمييا مفيكـ "دار التقية"‪ ،‬إذ أف مناطؽ سيادتيـ يطمقكف عمييا "دار اليجرة"‪ .‬بؿ أف بعض الخكارج كانكا‬

‫‪1‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬ترجمة‬
‫محي الديف جماؿ بدر كرضا حامد قطب‪ ،‬مراجعة محسف الدمرداش‪ ،‬منشكرات الجمؿ‪ ،‬بيركت – بغداد‪ ،‬الطبعة األكلى‪،2016 ،‬‬
‫ص ‪.15‬‬

‫‪2‬‬
‫عبد الكريـ الشيرستاني‪ :‬الممؿ كالنحؿ‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مجرع سابؽ‪ ،‬ص ‪ .108‬أيضا‪ :‬جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في‬
‫القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.347‬الكفر عند اإلباضية لـ يكف‬
‫معناه "الخركج مف العقيدة"‪ ،‬بؿ "كفر النعمة"‪ .‬كفي ص ‪ 397‬كرد‪ :‬الزيدية كاإلباضية‪ :‬مرتكبي الكبيرة كفار نعمة‪ ،‬كليسكا مشركيف كال‬
‫مؤمنيف‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.685‬‬
‫‪4‬‬
‫أيضا‪:‬‬ ‫عبد القاىر البغدادم‪ :‬الفرؽ بيف الفرؽ كبياف الفرقة الناجية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.79‬‬
‫جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬ترجمة سالمة صالح‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬منشكرات الجمؿ‪ ،‬بغداد‬
‫– بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2008 ،‬ص ‪ .45‬بدأ الخكارج يتنازعكف حكؿ ما إذا جاز لممرء في حممة حربية إلى جانب "غير‬
‫المؤمنيف" (أرادكا بذلؾ المسمميف مف المذاىب األخرل) أف يقتؿ أطفاليـ أيضا‪ .‬االكثر راديكالية بينيـ‪ ،‬األزارقة‪ ،‬أصركا عمى التصكر‬
‫القديـ عف الذنب الجمعي‪ :‬يحمؿ األطفاؿ ميسـ جماعتيـ‪ ،‬حتى قبؿ أف يككنكا قادريف عمى اتخاذ قرار بأنفسيـ‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫يمتنعكف عف أداء صبلة الجنازة عمى المرأة المتزكجة مف الخكارج كلـ تعتنؽ عقيدتيـ‪ 1.‬كىنا يظير تميزىـ القصكد عمى البقية مف‬
‫المسمميف‪.‬‬

‫كبسبب أراءىـ السياسية المتطرفة‪ ،‬فقد عاش الخكارج في مناطؽ معزكلة كبعيدة عف مراكز الخبلفة كالحكـ‪ .‬إما احتياطا‬
‫عسكريا‪ ،‬أك معتزلة مف السمطة الفاسدة كالمجتمع الكافر‪ .‬إف تطرؼ الخكارج دفيـ إلى تفكير المجتمع ككؿ المسمميف المخالفيف ليـ‪.‬‬
‫ألنيـ متمسككف بتحقيؽ ال عدالة كلك تـ افناء كؿ الكجكد‪ .‬كمف ىنا تطرفيـ‪ ،‬ألف العدالة المطمقة مستحيمة البمكغ في ىذا المجتمع‬
‫الدنيكم‪ 2.‬كيقكؿ "فاف ايس" عمى استراتيجيتيـ العمرانية‪" :‬تبنى الخكارج نظرية العدالة كالمساكاة‪ .‬كانكا يعيشكف في أرياؼ ببلد فارس‬
‫(كليس في المدف) بسبب الشتات الكاسع الذم كقع ليـ جراء الغزكات التي تشنيا عمييـ السمطات في الخبلفة األمكية"‪ 3.‬كبالفعؿ‪،‬‬
‫فإف اباضية الجزائر‪ ،‬قد اتخذت مكانا ليا بمعزؿ عف المناطؽ التي تتمركز فييا الخبلفة الرسمية‪ ،‬حيث تمكقعكا في غرداية الكاقعة‬
‫في الجنكب الكبير‪ .‬بؿ أنيـ تميزكا عف البقية حتى في طريقة العيش كالمباس‪" :‬الخكارج أكثر انتشا ار خارج نطاؽ مراكز االدارة (‪)...‬‬
‫كانت ككرنؾ مأىكلة بالخكارج عف بكرة أبييا‪ ،‬ككاف جميعيـ يشتغؿ بحرفة النسيج (‪ )...‬يرتدكف زم خاص بيـ"‪ 4.‬كىناؾ مف الحظ‬
‫أف بعض الخكارج ال يصمكف مع بقية المسمميف‪ ،‬نقؿ "فاف ايس" أيضا بأف "أبك محمد اسماعيؿ بف سميع الحنفي (ؽ ‪ 2‬ق)‪ :‬اتيمو‬
‫فضؿ بف دكيف بأنو قد سكف ‪ 40‬سنة قريبا مف المسجد كلـ يذىب لصبلة الجمعة؛ لـ يشأ كخارجي أف يخالط اآلخريف"‪ 5.‬كىذا ما‬
‫يعكس خركجيـ الحقيقي عف المجتمع اإلسبلمي‪.‬‬

‫‪ -4‬المبادئ الكالمية‪( :‬السياسية)‪.‬‬

‫عمى الرغـ مف أف الخكارج تتفرع‪ ،‬حسب البغدادم الذم تكفي سنة ‪ 429‬ىػ‪ ،‬إلى حكالي عشركف فرقة منيا‪ :‬المحكمة األكلى‪،‬‬
‫كاألزارقة‪ ،‬كالنجدات‪ ،‬كالصفيرية‪ ،‬كالبييصية‪ ،‬كالجعاردة التي ليا فرؽ مختمفة‪ ،‬كأخي ار اإلباضية التي بدكرىا انقسمت إلى الحفصية‬
‫كالحارثية كاليزيدية‪ 6،‬إال أنيـ يتفقكف عمى المبادئ الكبرل التي تشكؿ إيديكلكجية الخكارج‪ ،‬كعندما نستعمؿ كممة ايديكلكجية فبالمعنى‬
‫الداؿ عمى ثبات مبادئيـ بصكرة صمبة‪ .‬كىي‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫الشيرستاني‪ :‬الممؿ كالنحؿ‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ .109‬أيضا‪ :‬جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني‬
‫كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.692‬‬
‫‪2‬‬
‫يكليكس فميكزف‪ :‬أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر اإلسبلـ – الخكارج كالشيعة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.36‬‬
‫‪3‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.725‬‬
‫‪4‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.850-849‬‬
‫‪5‬‬
‫جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬ترجمة سالمة صالح‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬منشكرات الجمؿ‪،‬‬
‫بغداد – بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2008 ،‬ص ‪.570‬‬

‫‪6‬‬
‫عبد القاىر البغدادم‪ :‬الفرؽ بيف الفرؽ كبياف الفرقة الناجية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.72‬‬

‫‪96‬‬
‫كجكب اإلمامة‪ :‬جميع الفرؽ الخارجية أقرت بضركرة كجكد الخبلفة‪ ،‬ما عدا فرقة النجدات التي ترل أنو ال يمزـ الناس‬ ‫‪‬‬
‫فرض اإلمامة‪ ،‬إنما عمييـ أف يتعاطكا الحؽ فيما بينيـ‪ 1.‬أما البقية فأقرت بأنو ال يمكف أف يؤسس اإلسبلـ ببل سمطة‬
‫سياسية شرعية‪" .‬فغالبية الفقياء (ما عدا بعض الخكارج كالمعتزلة)‪ :‬ال يتصكر قياـ الشريعة اإلسبلمية مف غير سمطة‬
‫سياسية‪ .‬كأف األصؿ في اإلسبلـ ىك اجتماع السمطتيف السياسية كالعممية‪ ،‬كىذا ما حدث في عيد الرسكؿ كخمفائو األربعة‪،‬‬
‫ثـ افترقت السمطتاف بانتياء "الخبلفة الراشدة"‪ 2.‬إف عبارة الخبلفة الراشدة تدؿ عمى كفاءة الجمع بيف سمطة الحكمة كسمطة‬
‫السياسية‪ ،‬كىذا مبمغ الكماؿ الشرعي‪.‬‬

‫ىف تيؤُّدكا ٍاألىم ىان ً‬ ‫ً َّ‬


‫ات‬ ‫ى‬ ‫ٍم يريك ٍـ أ ٍ ى‬ ‫الخبلفة لكؿ المسمميف‪" :‬فميس مف شركط اإلمامة القرشية‪ .‬بؿ الشرط ىك العدؿ فقط‪﴿( .‬إ َّف الموى ىيأ ي‬ ‫‪‬‬
‫يف‬ ‫ًَّ‬ ‫ىف تى ٍح يكمكا بًا ٍلع ٍد ًؿ إً َّف المَّو نً ًع َّما ي ًعظي يكـ بً ًو إً َّف المَّو ىكاف س ًميعا ب ً‬ ‫ىىمًيىا ىكًا ىذا ىح ىك ٍمتي ٍـ ىب ٍي ىف َّ‬
‫الن ً‬ ‫إًلىى أ ٍ‬
‫ير (‪ )58‬ىيا أىيُّيىا الذ ى‬ ‫ص نا‬ ‫ى ى ى ن ى‬ ‫ى ٍ‬ ‫ى‬ ‫ى‬ ‫ي‬ ‫اس أ ٍ‬
‫كف بًالمَّ ًو‬ ‫الرس ً‬
‫كؿ ًإ ٍف يك ٍنتي ٍـ تي ٍؤ ًمين ى‬
‫َّ ً‬ ‫و‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الر يسك ىؿ ىكأيكلًي ٍاأل ٍىم ًر م ٍن يك ٍـ فىًإ ٍف تىىن ىاز ٍعتي ٍـ في ىش ٍيء فى يرُّدكهي إًلىى المو ىك َّ ي‬‫يعكا َّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫يعكا الموى ىكأىط ي‬
‫ً‬
‫ىمينكا أىط ي‬ ‫آى‬
‫يبل﴾ [النساء‪ .)]59-58 ،‬ىذا ضد حديث أبك بكر يكـ بيعة السقيفة المنسكب لمرسكؿ ‪:‬‬ ‫ىح ىس يف تىأ ًٍك ن‬
‫ؾ ىخ ٍيهر ىكأ ٍ‬ ‫ىكا ٍلىي ٍكًـ ٍاآلى ًخ ًر ىذلً ى‬
‫األئمة مف قريش (قكؿ آخر‪ :‬قدمكا قريشا كال تتقدمكىا)‪ .‬كخالفكا الشيعة الذيف قالكا اإلماـ ىك عمي (كىك مف قريش‬
‫أيضا)"‪ 3.‬كىذا المكقؼ يدؿ عمى ارادة تأسيس دكلة إسبلمية ال دكلة عرقية أك عصبية ضيقة‪ ،‬كربما ىذا لككنيـ مف أىؿ‬
‫البدك‪ .‬كىك التأسيس الذم ييدؼ إلى بناء دكلة عدالة كمساكاة مف ركح قرآني خالص‪ .‬لكف سنبلحظ أف الخكارج قد تشكككا‬
‫في قكؿ أبك بكر‪ ،‬لكف لـ يبمغ بيـ األمر حد تكفيره‪ ،‬كسنبلحظ أداناه أنيـ اعتبركا حكمو نمكذجي كقرآني‪ .‬كقد اعجب‬
‫الكثير مف المستشرقيف بيذا المبدأ‪ ،‬أم مبدأ الخبلفة لمكؿ‪ ،‬مثؿ ‪ ، Henri Laoust‬كاعتبركا "مذىب الخكارج ديمقراطي‬
‫النزعة كداعي إلى المساكاة‪ ،‬كال يقبؿ أف تككف السمطة العميا كقفا عمى أسرة كاحدة‪ ،‬أم القرشية‪ .‬فكؿ مسمـ قادر عمى تكلي‬

‫بالنسبة لفرقة العجاردة‪ ،‬نسبة إلى عبد الكريـ بف عجرد‪ ،‬فقد بمغ بيـ األمر إلى الطعف في بعض القرآف‪ ،‬حيث يعتقدكف باف سكرة‬
‫يكسؼ‪ ،‬ليست مف القرآف‪ ،‬ألنيا قصة عشؽ‪ ،‬كال يجكز اف يتضمف القرآف مثؿ ىذه المكضكعات‪ .‬لبلطبلع عمى التفاصيؿ يمكف‬
‫الرجكع لػ‪:‬‬
‫محمد عابد الجابرم‪ :‬العقؿ األخبلقي العربي – دراسة تحميمية نقدية في نظـ القيـ في الثقافة العربية‪ ،‬مركز دراسات الكحدة العربية‪،‬‬
‫بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2001 ،‬ص ‪ .222‬أيضا‪:‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪ .853‬يبدك أف أتباع ابف عجرد كانكا في غاية التظاىر بالحشمة‪ ،‬ذال نراىـ ال يريدكف قراءة قصص الحب المكجكد في‬
‫القرآف كتمؾ الكاردة في سكرة يكسؼ‪ .‬كىا ىك األشعرم يبدم عدـ قدرتو عمى تصكر أف ىؤالء كانكا عمى ىذا القدر مف التشدد‪ ،‬إال‬
‫أنو صرح أنو لـ يتحقؽ مف صحة ىذه الركاية‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫عبد الفتاح المغربي‪ :‬الفرؽ الكبلمية اإلسبلمية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.172‬‬
‫‪2‬‬
‫عمي أكمميؿ‪ :‬في التراث كالتجاكر‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،1990 ،‬ص ‪.90‬‬

‫‪3‬‬
‫عبد الفتاح المغربي‪ :‬الفرؽ الكبلمية اإلسبلمية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.173‬‬

‫‪97‬‬
‫الخبلفة ميما يكف أصمو العرقي كالشرط ىك الجدارة"‪ 1.‬لكف في تقديرنا‪ ،‬ال يمكف لنا الحديث عف ديمقراطية الخكارج مف‬
‫عدة أكجو‪ ،‬عمى أساس أف الديمقراطية ىي قبكؿ االختبلؼ كىـ رفضكا أم اختبلؼ عنيـ‪ ،‬كما أف الديمقراطية تمثؿ حكـ‬
‫الذكاء اإلنساني‪ ،‬كىذا ما ال يتكافؽ مع الحاكمية اإلليية‪ .‬ثـ كذلؾ نبلحظ بأف الديمقراطية ال تقكـ عمى التمييز الجنسي‪،‬‬
‫في حيف أف مف بيف شركط اإلمامة حسبيـ‪ ،‬أم الخكارج‪ ،‬ىك الذككرية (إلى جانب شركط أخرل ىي‪ :‬البمكغ‪ ،‬كالعقؿ‪،‬‬
‫كسبلمية األعضاء‪ ،‬كاإلسبلـ كالحرية‪ ،‬كالخبرة الحربية‪ ،‬كالتفقو في أمكر الديف)‪.‬‬

‫تكفير كؿ مف عمي (ض) ألنو رضي بالتحكيـ‪ ،‬كتكفير عثماف‪ ،‬كالحكميف أبك مكسى األشعرم عمرك بف العاص‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫كأصحاب الجمؿ الذيف ثاركا ضد عمي‪ ،‬ككؿ مسمـ رضي بنتائج التحكيـ أيضا اعتبركه كافرا‪ 2.‬لكف الخطأ األكبر ىك ما‬
‫فعمو عمي (ض)‪ ،‬عمى أساس "عقد ميثاقا مع الشيطاف (معاكية) كلـ يشأ نقض ىذا الميثاؽ‪ .‬لقد تخمى عف الحؽ اإلليي‪،‬‬
‫حؽ الجياد ضد عثماف كمعاكية"‪ 3.‬كلـ يعترؼ الخكارج إال بخبلفة أبك بكر كعمر‪ ،‬عمى أساس أنيا خبلفة قامت عمى ركح‬
‫القرآف‪ 4.‬كبداية مف حكـ عثماف‪ ،‬تـ انتياؾ الكتاب‪ .‬لذا فقد خططكا بقتؿ كؿ مف انحرؼ عمى الخبلفة األكلى‪ :‬قتؿ عثماف‪،‬‬
‫قتؿ عمي‪ ،‬قتؿ معاكية‪ ،‬كعمرك بف العاص‪ ،‬لكف معاكية قد جرح فقط‪ ،‬مما أتاح لنسمو باستمرار الحكـ كتكريثو‪ 5.‬بؿ بمغ بيـ‬
‫األمر إلى تفكير كؿ المسمميف ما عدا مف اعتنؽ عقيدتيـ‪" ،‬فالخبلؼ بيف الخكارج (العجاردة كالبييسييف) ىك‪ :‬ىؿ يحؿ بيع‬
‫اإلماء لمكفار ؟ يقصد بالكفار ىنا غير الخكارج‪( .‬القتؿ كالمعف الجماعي)"‪ 6.‬كربما نبلحظ ىنا أف الخكارج كانت ليـ نية‬
‫الخركج عف المسمميف قبؿ مكقعة صفيف كحادثة التحكيـ‪ ،‬عمى أساس أنيـ قتمكا عثماف قبؿ الخركج عف عمي ذاتو‪.‬‬

‫كاجب الرعية في تقكيـ اإلماـ المعكج‪ .‬كلك بالسيؼ حسب األشعرم‪ .‬بحيث يمكف الحديث عف دكلة الخكارج النيـ كانكا‬ ‫‪‬‬
‫يعتقدكف بإمكانية تأسيس مجتمع سياسي عادؿ بصكرة مطمقة‪ 7.‬كلك أف ىناؾ تفاكت بيف فرؽ الخكارج‪ ،‬بيف اإلباضية مثبل‬
‫كاأل ازرقة‪ ،‬إال أنيـ يعتقدكف بضركرة االنعزاؿ عف حكـ الباطؿ‪" .‬الفرؽ بيف اإلباضية كاألزارقة أف اإلباضية ما عادكا‬
‫يحاربكف أفراد مف أصحاب الفكر المختمؼ أك يستعرضكنيـ (أم تعقبيـ كاستحبلؿ دمائيـ) كلـ يتخؿ اإلباضية‪ -‬كأريد‬
‫القكؿ غير اإلباضية – عف المطالبة بالبعد عف كؿ سمطة غير عادلة كلك عمى األقؿ نظريا‪ .‬ككاف معسكر الخميفة كأعكانو‬
‫(عسكر السمطاف) يعتبر لدييـ "دار بغي"‪ ،‬كربما أيضا دار كفر‪ ،‬حيث كاف ىناؾ ضرر يمحؽ بأداء الكاجبات الدينية‬

‫‪1‬‬
‫ىنرم الكست‪ :‬مقدمة كتاب ابف تيمية‪ :‬السياسة الشرعية في إصبلح الراعي كالرعية‪ ،‬مكفـ لمنشر‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،1994 ،‬ص‬
‫‪.27‬‬

‫‪2‬‬
‫عبد القاىر البغدادم‪ :‬الفرؽ بيف الفرؽ كبياف الفرقة الناجية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.72‬‬
‫‪3‬‬
‫يكليكس فميكزف‪ :‬أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر اإلسبلـ – الخكارج كالشيعة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.28‬‬
‫‪4‬‬
‫ىشاـ جعيط‪ :‬الفتنة – جدلية الديف كالسياسة في اإلسبلـ المبكر‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.258‬‬
‫‪5‬‬
‫فاطمة المرنيسي‪ :‬الحريـ السياسي –النبي كالنساء‪ ،‬ترجمة عبد اليادم عباس‪ ،‬دار الحصاد‪ ،‬لمنشر كالتكزيع‪ ،‬دمشؽ‪ ،‬ص ‪.56‬‬

‫‪6‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.853-850‬‬
‫‪7‬‬
‫عبد ا﵀ العركم‪ :‬مفيكـ الدكلة‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬الطبعة الثامنة‪ ،2006 ،‬ص ‪.89‬‬

‫‪98‬‬
‫كتحت ظركؼ معينة بالصبلة‪ .‬أما بقية المسمميف فيمثمكف "دار التكحيد"‪ ،‬أم دار كاف االعتراؼ بكحدانية ا﵀ سمتيا"‪ 1.‬كقد‬
‫الحظ "فاف ايس" بكجكد تقارب بيف المعتزلة كالخكارج عمى النحك اآلتي‪" :‬لقد كاف االبتعاد عف السمطة بمثابة األمر الذم‬
‫قرب بيف المعتزلة كالخكارج‪ ،‬فمثبل كانت تعني كممة "اعتزاؿ" عند بعض أتباع االباضية فيما بعد "عدـ الكالء لمحاكـ"‪ ،‬أما‬
‫ٌ‬
‫في األصؿ فكانت تعني "عاش كحيدا‪ ،‬في عزلة عف اآلخريف"‪ .‬فمنذ زمف مضى كاف يفيـ منيا أيضا عدـ المشاركة في‬
‫المطالبة بالقصاص‪ ،‬ثـ كاف معناىا فيما بعد عدـ الذىاب إلى المساجد كعدـ المشاركة في أداء صبلة الجمعة‪ .‬عمى ىذا‬
‫يبدك أف كاصؿ (بف عطاء) تمكف مف نسخ نمكذج اإلباضية فيما يعرؼ بػ "حممة العمـ"‪ ،‬ىذا ما تفسره محاكالت بعض‬
‫‪2‬‬
‫معاصريو كضعو مع الخكارج في رداء كاحد‪ .‬غير أف دعاة كاصؿ لـ يككنكا أبدا يمجدكف التمرد"‪.‬‬

‫عمى الرغـ مف أف اآلراء السابقة سياسية‪ ،‬إال أف لمخكارج أراء كبلمية في العقائد‪ ،‬لكنيا ثانكية مقارنة بمشكمة الخبلقة‪ .‬ففي‬ ‫‪‬‬
‫مكقفيـ مف التكحيد قالكا بالتنزيو‪ ،‬كىك متطابؽ مع قكؿ المعتزلة الذم سيظير الحقا كينتشر بكثرة‪ .‬كأما رأييـ في مسألة‬
‫خمؽ أك قدـ القرآف‪ ،‬فيك مثؿ المعتزلة أيضا‪ ،‬كفي مسألة أفعاؿ العباد‪ ،‬فقد تفرقكا بيف تأكيدىا مثؿ المعتزلة أك تأكيد القدر‬
‫‪3‬‬
‫أما قكليـ في الكعد كالكعيد‪ ،‬فيك التأكيد بأف ا﵀ لف يخمؼ كعيده‪ ،‬كأف الكافر في النار‪ .‬في العمكـ‪ ،‬فإف‬ ‫مثؿ أىؿ السنة‪.‬‬
‫فإف مكاقفيـ العقائدية ال تختمؼ كمية عف أطركحات المعتزلة التي سنحمميا الحقا‪.‬‬

‫كيؼ نقيـ أداء الخكارج اليكـ ؟ بالنسبة لمجابرم فإف "الجماعة األكلى التي سخرت المطمؽ لمنسبي ىي الخكارج‪ :‬نجحكا في‬
‫اغتياؿ عمي (ض) كفشمكا في اغتياؿ كمعاكية (‪ )...‬لقد كضع الخكارج القيمة المحكرية األكلى في الديف كىي اإليماف‪ ،‬في أزمة‪،‬‬
‫فكضعكا الضمير الديني كمو في مأزؽ (‪ )...‬كاف مكقفيـ مف اإليماف سياسيا كليس الىكتيا أك فمسفيا (‪ )...‬كاف اإليماف عندىـ يضع‬
‫‪4‬‬
‫صاحبو في مكقؼ إما بقتاؿ األمكييف كاما بالقتاؿ معيـ‪( .‬سؤاؿ إرىابي‪ :‬إما كاما‪ :‬إيديكلكجيا التكفير‪ :‬ما تقكؿ في معاكية كعمي)‪.‬‬
‫كبالفعؿ‪ ،‬فيمكننا اليكـ الحديث عف خكارج القرف الكاحد كالعشريف‪ ،‬عمى أساس أنيـ خرجكا عف األنظمة القائمة‪ ،‬كأسسكا دكلة في‬
‫دكلة‪ .‬حقيقة أف األنظمة اإلسبلمية اليكـ ليست كاممة‪ ،‬كأخفقت في العديد مف المستكيات‪ ،‬إف لـ نقؿ كميا‪ ،‬لكف ال يمكف اعتبار‬
‫الخركج المسمح حبل‪ .‬بؿ الحؿ يكمف في العمؿ الجدم اليادئ كاليكمي‪ ،‬بدؿ الخركج الثكرم الذم ال يمكف أف يككف طريقا لمبناء‪ .‬ثـ‬
‫أف ترؾ الدكلة لتعميـ الديف في أيدم غير المتخصصيف كغير المتككنيف أكاديميا يمعب دك ار ىاما في نشكء جيكب الخكارج كما ىك‬
‫اليكـ في بعض المناطؽ اإلسبلمية‪.‬‬
‫إف ال حركب كالفتف في العيد اإلسبلمي المبكر‪ ،‬عند الصحابة كأبنائيـ‪ ،‬قد سبب في أزمة قيـ حادة‪ ،‬تكالت حتى اليكـ‪ .‬كلربما‬
‫اعتزاؿ المسمـ الشأف السياسي لو عبلقة بيذه الصراعات المبكرة‪ .‬فنحف نعيش ضربا مف الزىد السياسي‪ ،‬ألنو لـ يكف يمرك از عمى‬

‫‪1‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.345‬‬
‫‪2‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.504-503‬‬
‫‪3‬‬
‫أبي الحسف األشعرم‪ :‬مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف‪ ،‬الجزاء األكؿ‪ ،‬المكتبة الصرية‪ ،‬بيركت‪ ،2009 ،‬ص ‪.109-108‬‬
‫‪4‬‬
‫محمد عابد الجابرم‪ :‬العقؿ األخبلقي العربي – دراسة تحميمية نقدية في نظـ القيـ في الثقافة العربية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ص ‪-72‬‬
‫‪.125-77-73‬‬

‫‪99‬‬
‫الحكار كالنظر كاإلثراء‪ ،‬بقدر ما كاف مركز عمى الفتنة كالقتؿ كالتشريد‪ .‬لذا فتجربة الخركج لـ تكف إال بداية ألزمة أخبلقية كاعتزاؿ‬
‫سياسي طكيؿ األمد‪ " .‬انتشار الزىد (في العالـ العربي اإلسبلمي) لـ يكف ليحدث لكال كجكد كضعية تقبمو ك"ترحب" بو‪ .‬كىنا البد مف‬
‫التذكير بأزمة القيـ‪ :‬الحرب األىمية الطكيم ة كالمأساكية منذ الثكرة عمى عثماف‪ :‬حرب الجمؿ‪ ،‬حرب صفيف‪ ،‬حرب الخكارج‪ ،‬فػ حركب‬
‫األبناء‪ ،‬أبناء الصحابة بعد كفاة معاكية‪ ،‬أعماؿ ىزت الضمير الديني كالخمقي‪ :‬كضرب الكعبة‪ ،‬كقتؿ الحسيف [في كرببلء]‪...‬الخ‪.‬‬
‫أدت إلى اعتزاؿ الفتنة كالحياد كاالنقطاع إلى الزىد كالعبادة كشجب الترؼ"‪ 1.‬كالمشاركة السياسية الفعالة‪.‬‬

‫يمكف أف نبلحظ الصكرة السيئة في لمخكارج في التاريخ اإلسبلمي‪ ،‬كالسبب األكؿ كاألخير‪ ،‬ىك اعتزاليـ الحياة العامة‪ ،‬إضافة‬
‫إلى أنيـ أكؿ مف كفر المسمميف بصكرة مباشرة‪ .‬كتكعدكىـ بالنار مثؿ الكفار تماما‪ 2.‬كىذا صدـ عنيؼ لمشعكر اإلسبلمي‪ .‬كمف بيف‬
‫كؿ الفرؽ التي ذكرناىا أعبله‪ ،‬يمكف استثناء اإلباضية‪ ،‬كالتي تعتبر الطائفة "األليف عريكة‪ ،‬فمـ يكف ىدفيـ‪ -‬مع طيارتيـ كشدة‬
‫تمسكيـ بالديف‪ -‬أف ينتصركا عمى جماعة المسمميف بالقكة‪ ،‬بؿ أف يكسبكىـ إلى مذىبيـ"‪ 3.‬كنجد األشعرم يتحدث عف الراجعة كىـ‬
‫الذيف خرجكا عف الخكارج‪ ،‬كرجعكا إلى اإلسبلـ‪ 4.‬كبيف الخكارج كالركاجع‪ ،‬تاريخ ممئي بالفيـ كسكء الفيـ كالعنؼ كالتقتيؿ كالتشتت‬
‫كاستعماؿ القرآف مف أجؿ تبرير الممارسات الشاذة‪ .‬كقد كاف اإلماـ أحمد بف حنبؿ يدعك جميكر المسمميف إلى المقاطعة التجارية‬
‫لمخكارج‪ 5،‬نظ ار لما ألحقكه مف أذل بالعقائد اإلسبلمية الصحيحة كبالمسمميف أيضا‪ .‬كبمغ شذكذىـ أف ألزمكا طقكس اإلسبلـ عمى‬
‫األطفاؿ مثؿ التعميد في المسيحية‪" :‬فالدخكؿ إلى اإلسبلـ معناه االنضماـ إلى الخكارج عف كعي مما يجعمو مؤمنا (‪ )...‬لذا‬
‫فاألطفاؿ ال يندرجكف ضمف المؤمنيف‪ ،‬بؿ يدعى األطفاؿ لمدخكؿ إلى اإلسبلـ عندما يبمغكف‪ ،‬كينبغي تعرفيـ عميو"‪ 6.‬كبيذا فقد‬
‫تجاىمكا مفيكـ الفطرة اإلسبلمية عند أىؿ السنة‪ .‬لقد خمقكا جماعة إسبلمية مغمقة تماما عمى نفسيا‪ ،‬أم خمقت اسبلـ داخؿ إسبلـ‪.‬‬

‫ثانيا‪ -‬الشيعة‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫محمد عابد الجابرم‪ :‬العقؿ األخبلقي العربي – دراسة تحميمية نقدية في نظـ القيـ في الثقافة العربية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪-436‬‬
‫‪.437‬‬
‫‪2‬‬
‫يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬ترجمة عبد المجيد الصغير‪ ،‬نشر الفنؾ‪ ،‬الدار البيضاء‪،2000 ،‬‬
‫ص ‪.27-26‬‬

‫‪3‬‬
‫يكليكس فميكزف‪ :‬أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر اإلسبلـ – الخكارج كالشيعة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.145‬‬
‫‪4‬‬
‫األشعرم‪ :‬مقاالت اإلسبلمييف كاختبلؼ المصميف‪ ،‬جزء ‪ ،1‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.107‬‬
‫‪5‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.850‬‬
‫‪6‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪ .855 ،854‬أطفاؿ المشركيف سيدخمكف النار مع آبائيـ‪ ،‬يمكف استنتاج أف أطفاؿ الخكارج سيدخمكف الجنة مع‬
‫مع ذكييـ(‪ )...‬افتراض أف األطفاؿ لـ يصيركا مسمميف أبدا يعني فقييا أنو ال يجكز أداء صبلة الجنازة عمييـ‪ ،‬كال يحؿ كذلؾ‬
‫تزكيجيـ قبؿ مرحمة البمكغ‪ ،‬أك بمعنى أحرل قبؿ إقرارىـ بمبادئ الجماعة‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫مف أىـ الفرؽ السياسية التي ال زالت عقائدىا ثابتة كفاعمة حتى اليكـ‪ ،‬في حيف أف الفرؽ بعض األخرل بادت ببل رجعة‪ ،‬كىذا‬
‫يدؿ عمى خصكصية في الشيعة غير متكفرة في بقية الفرؽ الكبلمية‪ .‬كلعؿ تماىييا مع النظاـ السياسي ىك سر استمرارىا إذ أف‬
‫نظاـ كالية الفقيو ىك الذم حفظ الشيعة كالتي حفظتو‪ ،‬في حيف أف فرقة مثؿ المعتزلة مثبل‪ ،‬كالتي تعمقت ببعض خمفاء بني العباس‪،‬‬
‫قد انيارت بسبب ىذا التعمؽ بالذات‪ ،‬حيث بمجرد ما تخؿ عنيا الخمفاء المتأخركف تشتت كلـ يبؽ ليا أثر‪.‬‬

‫‪ -4‬النشأة والتسمية‪:‬‬

‫نشأة الشيعة في تسميتيا كتسميتيا في نشأتيا‪ ،‬كحسب األشعرم‪ ،‬فإف تسمية الشيعة يعكد إلى مشايعتيـ‪ ،‬أم نصرتيـ لعمي بف‬
‫أبي طالب (ض)‪ 1،‬إذ يقدمكنو عمى جميع صحابة الرسكؿ الكريـ مف حيث المنزلة كالمكانة كاألىمية كالجدارة‪ .‬كالنسبة لمؤرخي‬
‫الشيعة مف الشيعة ذاتيا‪ ،‬فيذه الفرقة لـ تظير ككأنيا حدث جديد‪ ،‬بؿ ىي حدث طبيعي في مسار الدعكة المحمدية‪ .‬كنظ ار لجدارة‬
‫عمي‪ ،‬قالكا بإمامتو كخبلفتو الضركرية‪ :‬نصا ككصية؛ إما جميا كاما خفيا‪ .‬كاعتقدكا بأف اإلمامة ال تخرج مف أكالده؛ كاف خرجت فبظمـ‬
‫يككف مف غيره‪ ،‬أك بتقية مف عنده‪ .‬كقالكا‪ :‬ليست اإلمامة قضية مصمحية تناط باختيار العامة كيتنصب اإلماـ بنصبيـ؛ بؿ ىي‬
‫قضية أصكلية‪ ،‬كىي ركف الديف؛ ال يجكز لمرسؿ عمييـ السبلـ إغفالو كاىمالو‪ ،‬كال تفكيضو إلى العامة كارسالو‪ 2.‬كىذه القعيدة‬
‫األساسية‪ ،‬ىي التي جعمت مف الشيعة فرقة سياسية في ماىيتيا‪ .‬عمى الرغـ مف أنو ليا عقائد أخرل غير إمامية تميزىا عف البقية‬
‫مف الفرؽ‪.‬‬

‫في الداللة المغكية‪ ،‬فإف التشيع يعني التحزب‪ ،‬كقد ركد في القرآف ىذا االستعماؿ فيناؾ مف يناصر ا﵀ كىناؾ مف يناصر‬
‫ً‬ ‫ًح ٍز َّ ً‬ ‫ًَّ‬ ‫َّ‬
‫اف‬ ‫﴿استى ٍحكىذ ىعمىٍي ًيـ َّ‬
‫الش ٍيطى ي‬ ‫ي‬ ‫كف﴾ [المائدة‪ ]56 ،‬كقمو تعالى ٍ ى‬
‫ب المو يى يـ ا ٍل ىغاليب ى‬‫ى‬ ‫ىمينكا فىًإ َّف‬ ‫﴿ك ىم ٍف ىيتى ىك َّؿ الموى ىكىر يسكلىوي ىكالذ ى‬
‫يف آ ى‬ ‫الشيطاف‪ :‬ى‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ب َّ‬ ‫اىـ ًذ ٍكر المَّ ًو أيكلىئً ى ً‬
‫كف﴾ [المجادلة‪ .[19 ،‬لذا فقد اكتسبت الشخصيات الثقيمة‬ ‫اف يى يـ ا ٍل ىخاس ير ى‬ ‫طً‬
‫الش ٍي ى‬ ‫ب‬‫اف أ ىىال إً َّف ح ٍز ى‬
‫طً‬ ‫الش ٍي ى‬ ‫ؾ ح ٍز ي‬ ‫فىأ ٍىن ىس ي ٍ ى‬
‫مف الصحابة أتباع كأشياع‪ ،‬فمعمي (ض) شيعة كما لمعاكية بف أبي سفياف شيعة أيضا‪ ،‬أم أكلئؾ الذيف ينتمكف إلى حزبو بكصفو‬
‫حزب الخير‪ .‬لكف التحزب لمف فقد السمطة فقط‪ ،‬أم بعدما تكلى معاكية الخبلفة لـ يبؽ لو أشياع ألنو الخميفة فالكؿ في حزبو‪ ،‬لـ‬
‫يبؽ معاكية رئيس حزب بأتباع‪ ،‬بؿ أصبح خميفة لممسمميف كافة‪ .‬في حيف أف مناصرم عمي (ض) بقكا شيعة أنداؾ يناصركف‬
‫‪3‬‬
‫الحزب الذم يعتقدكف أنو مظمكـ‪.‬‬

‫السؤاؿ األىـ ىنا‪ ،‬لماذا تككنت الشيعة حكؿ شخص عمي دكف غيره مف الصحابة ؟ كىذا السؤاؿ قريب لمسؤاؿ الذم طرحو‬
‫األستاذ محمكد صبحي في كتابو عف الزيدية قائبل في بدايتو‪" :‬لماذا أضفيت القداسة عمى اإلماـ عمي بف أبي طالب دكف سائر‬
‫الصحابة ؟‪ 4‬ىؿ المسألة عائمية عمى اعتبار أف عمي (ض) قد جسد القرابة المزدكجة مف الرسكؿ الكريـ‪ ،‬فيك ابف عمو مف بني‬
‫ىاشـ مف قريش‪ ،‬كىك زكج بنت الرسكؿ‪ ،‬كىك أب احفاده الحسف كالحسيف سبطي الرسكؿ ؟ كالذم لـ يكف لو أحفاد إال مف فاطمة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫أبي الحسف األشعرم‪ :‬مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.25‬‬
‫‪2‬‬
‫الشيرستاني‪ :‬الممؿ كالنحؿ‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.117‬‬
‫‪3‬‬
‫يكليكس فميكزف‪ :‬أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر اإلسبلـ – الخكارج كالشيعة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.146‬‬
‫‪4‬‬
‫أحمد محمكد صبحي‪ :‬في عمـ الكبلـ‪ ،‬الجزء الثالث‪ :‬الزيدية‪ ،‬دار النيضة العربية‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،1991 ،‬ص ‪.17‬‬

‫‪111‬‬
‫كبما أف النبي لـ يخمؼ ذكك ار أحياء فإنيـ بمثابة أبناءه الحقيقييف‪ 1.‬أـ أف تقديس عمي (ض) مرتبطة بالمكانة الركحية لو بكصفو مف‬
‫أكائؿ الذيف أسممكا كبسيرتو الركحية الطاىرة كقدراتو الشخصية في العمـ كالقيادة كالكرع ؟‪ 2‬يمكف القكؿ بأف كبل السببيف ساىـ في‬
‫تشكيؿ األتباع‪ ،‬لكف الشيعة الحقيقية‪ ،‬كعقدية صمبة‪ ،‬لـ تتشكؿ إال بعد مكتو كتقتيؿ ابنو الحسيف في كرببلء‪ .‬كىنا تشكمت عقدة‬
‫معاقبة الذات‪ ،‬عند أىؿ الككفة‪ ،‬بسبب التفريط في مناصرة الحسيف كعدـ الجياد في سبيؿ الحؽ كالعدؿ‪ 3.‬كتشكمت أيضا العقيدة‬
‫المستقطبة كالتي ترل أف الشيعة ىـ حزب ا﵀‪ ،‬كغيرىـ ىـ حزب الشيطاف‪ ،‬فكؿ مف عارض عمي (ض) فيـ نكرة ال يمكف مسالمتيـ‬
‫أك تصديقيـ‪ 4.‬كفي الجدؿ الذم كقع بيف الشيعة كالعباسييف‪ ،‬أحرجيـ بني العباس عمى أساس أف صمتيـ بالرسكؿ مف جية ابف‬
‫عباس عمو‪ ،‬أم قرابة رجكلية‪ ،‬في حيف أف صمة الشيعة بالرسكؿ مف جية زكجة عمي فقط‪ ،‬أم فاطمة‪ ،‬كبالتالي فالخيط القرابي‬
‫نسكل‪ ،‬لذا نجد اىتماـ غير مسبكؽ بالمرأة‪ ،‬في الحقكؽ كالميراث‪ 5،‬عند الشيعة مف أجؿ تقكية ىذا الخيط األصالي‪.‬‬

‫كيذكر لنا الغدادم كالشيرستاني‪ ،‬بأف الشيعة تنقسـ إلى ثبلثة فرؽ كبرل‪ ،‬كىي بدكرىا تقسمت إلى تفرعات جزئية تختمؼ في‬
‫بعض التفاصيؿ‪:‬‬

‫الزيدية‪ 3 :‬فرق‪ .‬أتباع زيد بف عمي بف الحسيف بف عمي بف أبي طالب‪ .‬كىي فرقة متأثرة باالعتزاؿ كمعتدلة العقائد‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫كمف فرقيا نجد‪:‬‬

‫‪ -‬الجاركدية‪ :‬أتباع أبي الجاركد‪ .‬يقكؿ أف الرسكؿ نص عمى امامة عمي باألكصاؼ ال باالسـ‪ .‬كالصحابة كفركا‬
‫ألنيـ ترككا بيعة عمي‪.‬‬

‫السميمانية‪ :‬أتباع سميماف بف جرير الزيدم‪ .‬يقكؿ أف عمي (ض) أصمح لمبيعة مف أبك بكر كعمر‪ .‬لكف ىذا ال‬ ‫‪-‬‬
‫يكجب التكفير عمى عكس عثماف الذم أفسد في حكمو‪.‬‬

‫‪ -‬البترية‪ :‬لـ يقكمكا بمدح عثماف أك ذمو‪ 6.‬مما يجعميـ بمنأل عف خصكمة السنة‪.‬‬

‫‪ 1‬عبد الفتاح المغربي‪ :‬الفرؽ الكبلمية اإلسبلمية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.139‬‬
‫‪2‬‬
‫برنار لكيس‪ :‬الحشاشكف‪ -‬فرقة ثكرية في تاريخ اإلسبلـ‪ ،‬ترجمة محمد العزب مكسى‪ ،‬مكتبة مدبكلي‪ ،‬القاىرة‪ ،‬الطبعة الثانية‪،‬‬
‫‪ ،2006‬ص ‪.41‬‬
‫‪3‬‬
‫طبلؿ أسد‪ :‬تشكبلت العمماني في المسيحية كالحداثة كاإلسبلـ‪ ،‬ترجمة محمد العربي‪ ،‬جداكؿ لمنشر كالترجمة كالتكزيع‪ ،‬بيركت‪،‬‬
‫الطبعة األكلى‪ ،2017 ،‬ص ‪.137‬‬

‫‪4‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.578‬‬
‫‪5‬‬
‫يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.115-114‬‬
‫‪6‬‬
‫عبد القاىر البغدادم‪ :‬الفرؽ بيف الفرؽ كبياف الفرقة الناجية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.44-41‬‬

‫‪112‬‬
‫الكيسانية‪ :‬ليا فرقتين‪ .‬نسبة إلى كيساف كىك أحد مكالى أمير المؤمنيف عمي بف أبي طالب‪ ،‬كقيؿ أنو تمميذ محمد بف‬ ‫‪‬‬
‫الحنفية‪ .‬كمف مبادئيـ أف الديف يتمحكر حكؿ طاعة الرجؿ‪ .‬كمف ال يطيع رجؿ فبل ديف لو‪ 1.‬كمف ىذا المبدأ يمكف لنا‬
‫تفسير التكجو الشيعي البلحؽ بما ىك تمركز حكؿ إماـ أك شخص معيف‪ .‬كسيطرح سؤاؿ الحقا حكؿ مصدر ىذه‬
‫العقيدة‪ ،‬عقيدة تقديس الرجؿ‪ ،‬ىؿ ىي عربية أـ فارسية ؟‬

‫اإلمامية‪ :‬ىناؾ مف يذكر أف ليا ‪ 15‬فرقة منيا الباقرية كاإلسماعمية كاإلثناعشرية المشيكرة‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫كىـ القائمكف بإمامة عمي (ض) بعد النبي مباشرة كىذا بنص صريح كظاىر‪ .‬كمف فرقيـ المتطرفة مف تكفر كؿ الصحابة ألنيـ‬
‫ترككا بيعة عمي‪ ،‬بؿ ككفرت عمي ألنو لـ يقاتميـ مثمما قاتؿ معاكية‪ ،‬كىي فرقة الكاممية التي ينتمي إلييا الشاعر األعمى بشار بف‬
‫‪2‬‬
‫برد‪.‬‬

‫أثير جدؿ كبير حكؿ منشأ التشيع األصمي‪ ،‬ىؿ ىك عربي أـ فارسي ؟ عمى اعتبار أننا اليكـ نجد تمركز قكم لمشيعة في إيراف‬
‫حيث عقديتيـ السياسية شيعية خالصة‪ .‬إذ أف ىناؾ مف يرل في تقديس األشخاص ميزة فارسية ألنيـ نشؤ في نظاـ سياسي‬
‫‪3‬‬
‫إمبراطكرم حيث أف ممؾ الفرس المسمى كسرل مقدس كمعبكد كإلو‪ .‬يذكر فمياكزف الميتـ بالمشكمة السياسية اإلسبلمية‪:‬‬

‫" قاؿ دكزم‪ :‬كانت الشيعة في حقيقتيا فرقة فارسية‪ ،‬كفييا يظير أجمى ما يظير ذلؾ الفارؽ بيف الجنس العربي‪ ،‬الذم يحب‬
‫الحرية‪ ،‬كبيف الجنس الفارسي الذم اعتاد الخضكع كالعبيد‪ .‬لقد كاف مبدأ انتخاب خميفة لمنبي أم ار غير معيكد كال مفيكـ‪،‬‬
‫ألنيـ لـ يعرفكا غير مبدأ الكراثة في الحكـ‪ ،‬ليذا اعتقدكا أنو ما داـ محمد لـ يترؾ كلدا يرثو‪ ،‬فإف عميا ىك الذم كاف يجب‬
‫أف يخمفو كأف الخبلفة يجب أف تككف كراثية في آؿ عمي‪ .‬كمف ىنا فإف جميع الخمفاء – ما عدا عميا – كانكا في نظرىـ‬
‫مغتصبيف لمحكـ ال تجب ليـ الطاعة (‪ )...‬اعتادكا أف يركا في ممككيـ أحفادا منحدريف مف أصبلب اآللية الدنيا‪ ،‬فنقمكا‬
‫ىذا التكقير الكثني إلى عمي كذريتو‪ .‬فالطاعة المطمقة "لئلماـ الذم مف نسؿ عمي كانت في نظرىـ الكاجب األعمى (‪)...‬‬
‫لقد كاف اإلماـ عندىـ ىك كؿ شيء‪ ،‬إنو ا﵀ قد صار بش ار (‪ )...‬يضيؼ أ‪ .‬مكلر أف الفرس كانكا تحت تأثير األفكار‬
‫اليندية قبؿ االسبلـ بعيد طكيؿ يميمكف إلى القكؿ بأف الشاىنشاه ىك تجسيد لركح ا﵀ التي تنتقؿ في أصبلب الممكؾ مف‬
‫اآلباء إلى األبناء"‪ .‬ما يكشفو ىذا النص ىك أف الفتكحات اإلسبلمية سمحت كلكج عقائد عمى إسبلمية األصؿ‪ ،‬كتشكمت‬
‫كتعالقت مع بعض العقائد اإلسبلمية في نسؽ انتج عقيدة مثؿ التشيع‪.‬‬

‫لكف‪ ،‬الشيعة اإليرانية لـ تتشكؿ إال في كقت متأخر‪ ،‬إذ أف أكؿ مف ناصر عمي (ض) ىـ العرب مف قريش‪ ،‬كبعد لذؾ المكالي‪.‬‬
‫كىناؾ مف يرل أف تقديس الشيداء ميزة عربية‪ ،‬حيث قضى الشيعة في كرببلء أياما عند قبر الحسيف يعترفكف بخطأىـ في التقاعس‬
‫عف نصرتو‪ ،‬بخاصة أىؿ الككفة‪ .‬كقيؿ أف الزحاـ عمى قبر الحسيف‪ ،‬في كرببلء‪ ،‬كاف أشد منو عمى الحجر األسكد في مكة‬

‫‪1‬‬
‫الشيرستاني‪ :‬اممؿ كالنحؿ‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.118‬‬
‫‪2‬‬
‫عبد القاىر البغدادم‪ :‬الفرؽ بيف الفرؽ كبياف الفرقة الناجية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص‪.56‬‬
‫‪ 3‬يكليكس فميكزف‪ :‬أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر اإلسبلـ – الخكارج كالشيعة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.241-240‬‬

‫‪113‬‬
‫المكرمة‪ 1.‬كنبلحظ اليكـ مدل أىمية الم ازرات الشيعية في العراؽ ككرببلء بالضبط‪ .‬يمكف أف نفترض أف مناصرة عمي انطمقت مف‬
‫العرب كتقدسيو لدرجة متطرفة تشكؿ في العقائد الفارسية‪ ،‬حيث كجدكا انسجاـ بيف مكركثيـ القديـ كالعقيدة الجديدة‪.‬‬

‫أما خصكـ الشيعة فيسمكف الشيعة بالسبئية‪ 2،‬لمتدليؿ عمى أثر الييكد في تشكيؿ عقائدىـ‪ .‬إذ أف عبد ا﵀ بف سبأ الييكدم‬
‫المتأسمـ قد ألو عمي عندما قاؿ لو "أنت أنت"‪ 3.‬كىذه كجية أخرل في تأكيد أثر العكامؿ الخارجية في تشكيؿ ىذه الفرقة التي قالت‬
‫كؿ ما يمكف اعتباره شذا عف العقائد اإلسبلمية المعقكلة‪ .‬في حيف أف محمد باقر الصدر مثبل‪ ،‬كىك مفكر كمؤرخ شيعي‪ ،‬يعتبر مثمما‬
‫قمنا أعبله‪ ،‬أف الشيعة مكقؼ طبيعي ناجـ عف سيركرة األحداث اإلسبلمية‪ 4،‬كليست حدثا جديدا أك شاذا أك قؿ طارئا بالنظر إلى‬
‫تاريخ اإلسبلـ ككؿ‪.‬‬

‫‪ -5‬المبادئ العقدية‪:‬‬

‫عمى الرغـ مف أف الشيعة تصنؼ ضمف الفرؽ السياسية‪ ،‬إال أف ليا مبادئ عقدية مثؿ بقية الفرؽ االعتقادية‪ ،‬عمى الرغـ مف‬
‫أىـ أغمبية عقائدىا متقاطعة مع فرؽ اخرل معركفة‪ ،‬كمف أىـ أراءىـ نجد‪:‬‬

‫مكضكع التنزيو كالتجسيـ‪ :‬تقكؿ فرقة ال ويشامية‪ ،‬نسبة إلى ىشاـ بف الحكـ‪ ،‬كىي مف اإلمامية‪ ،‬بأف المعبكد جسـ مثؿ‬ ‫‪‬‬
‫بقية األجساـ‪ ،‬لذا صنفت ضمف التشبييية‪ .‬كقد ناظرىـ أبي اليذيؿ العبلؼ المعتزلي في ىذه المسألة نظ ار لمخبلؼ‬
‫الحاد بينيما‪ .‬يقكؿ ىشاـ بف الحكـ كأتباعو بأف "المعبكد جسـ‪ ،‬لو نياية كحد‪ ،‬طكيؿ عريض كعميؽ (‪ )...‬ىك نكر‬
‫ساطع"‪ 5.‬كنجد عند بعض الشيعة اآلخركف قكليـ أف ا﵀ شيء ال كاألشياء‪ ،‬كىذه لغة أشعرية كاضحة‪ ،‬كما أف ىناؾ‬
‫مف اعتبر النبي محمد كائف ضكئي‪ 6.‬كما نجد فرؽ تجسـ صكرة عمي بف أبي طالب‪ ،‬في أجمؿ حمة‪ .‬في حيف أف‬
‫السنة مثبل ال يجسدكف صكرة الرسكؿ الكريـ‪.‬‬

‫العمـ اإلليي‪ :‬حسب ازراة بف أعيف بف سنسف (شيعي تكفي حكالي ‪ 150‬ىػ) "فإنو ال يمكف ﵀ أف يككف قد "أراد عدـ‬ ‫‪‬‬
‫ايماف الييكد كالنصارل‪ ،‬أك عمى األقؿ لـ يكف قد أراده سمفا‪ ،‬ألنو ال يعرؼ عنو مطمقا‪ ،‬فعممو ال ينشأ إال في المحظة‬

‫‪1‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.194‬‬
‫‪2‬‬
‫جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬ترجمة سالمة صالح‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص‬
‫‪.405‬‬
‫‪3‬‬
‫الشيرستاني‪ :‬اممؿ كالنحؿ‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.140‬‬
‫‪4‬‬
‫محمد باقر الصدر‪ :‬التشيع كاإلسبلـ‪ ،‬دار الغدير لمطباعة كالنشر كالتكزيع‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة الرابعة‪ ،1973 ،‬ص ‪.11‬‬
‫‪5‬‬
‫أبي الحسف األشعرم‪ :‬مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ .44‬أيضا‪ :‬الشيرستاني‪ :‬الممؿ كالنحؿ‪ ،‬الجزء‬
‫األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.149‬‬
‫‪6‬‬
‫جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬ترجمة سالمة صالح‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص‬
‫‪.429‬‬

‫‪114‬‬
‫التي يدخؿ فييا مكضكع ىذا العمـ الكجكد"‪ 1.‬كىذه المشكمة ال تنفصؿ عف العدالة‪ ،‬ألف قدرة ا﵀ عمى تكفير أك تظميؿ‬
‫أقكاـ تطرح الحقا عدالتو طرحا ممحا‪.‬‬

‫مشكمة العدالة اإلليية‪" :‬أجاب الشيعة بمؤلفاتيـ في عمؿ الشرائع‪ ،‬تـ حيف استحضر المرء رسالة النبي إلى الميداف‬ ‫‪‬‬
‫طرح السؤاؿ‪ ،‬لماذا لـ يأت ا﵀ نفسو إلى العالـ بدال مف أف يبعث رسكال‪ .‬النظاـ الذم يتحقؽ مف خبلؿ القانكف ىك في‬
‫كؿ األحكاؿ ليس مثاليا‪ :‬لماذا ىـ األغنياء أغنياء كالفقراء فقراء ؟ لماذا يجب عمى األطفاؿ أف يتألمكا ؟ لماذا تكجد‬
‫حشرات ضارة كأفاع ؟ نككف ىنا في مشكمة العدالة اإلليية قريبيف جدا مف بداية المناظرة"‪ 2.‬كظاىر جدا افراط الشيعة‬
‫في تفكير العقيدة بالمنطؽ مثمما فعؿ بعض المعتزلة‪.‬‬

‫مشكمة قدـ كخمؽ القرآف‪ :‬حسب األشعرم‪ ،‬ليس ىناؾ اجماع بيف فرؽ الركافض حكؿ ىذه المسألة‪ .‬فقد قاؿ ىشاـ بف‬ ‫‪‬‬
‫الحكـ أف القرآف ال ىك قديـ كال ىك مخمكؽ‪ ،‬كبعبارتو "ال خالؽ كال مخمكؽ"‪ .‬لكف ىناؾ فرقة أخرل قالت قكؿ المعتزلة‬
‫‪3‬‬
‫كالخكارج‪ ،‬أم أف القرآف لـ يكجد ثـ كجد مما يعني أنو محدث كمخمكؽ‪.‬‬

‫مشكمة زيادة كنقصاف القرآف‪ :‬ىناؾ فرقة تعتقد بأف القرآف قد ينقص منو‪ ،‬كذىب الكثير منو كاإلماـ يعمـ ذلؾ‪ .‬لكف‬ ‫‪‬‬
‫‪4‬‬
‫كلعؿ طرح ىذه‬ ‫ىناؾ فرؽ ذىب مذىب االعتزاؿ‪ ،‬ترل أف القرآف لـ ينقص‪ ،‬إنما ىك كما أنزلو ا﵀ سبحانو كتعالى‪.‬‬
‫المشكمة مرتبطة بما قاـ بو عثماف بف عفاف عندما جمع القرآف في نسخة مكحدة‪ ،‬كألغي بقية النسخ التي كانت عند‬
‫الصحابة كأزكاج النبي‪ 5.‬كنحف نعمـ ما بيف الشيعة كعثماف مف خبلؼ‪ .‬بؿ أف ىناؾ مف يقكؿ بأف عمي كاألئمة‬
‫كحدىـ يممككف النص الكامؿ لمقرآف‪ ،‬لكف ليس لنا اليكـ أم نسخة قد تثبت ذلؾ‪ 6.‬ما عدا النسخة العثمانية الرسمية‪.‬‬

‫‪ -6‬المبادئ السياسية‪:‬‬

‫مثمما حدد الشيرستاني سابقا‪ ،‬فإف اإلمامة مسألة أصكلية ال فرعية في الديف‪ ،‬لذا فبل يجب أف تترؾ بيد العامة‪ .‬بالتالي فقد‬
‫عارض الشيعة كؿ الطرؽ التي تمت بيا المبايعة قبؿ عمي (ض)‪ .‬بؿ أنيـ يعتقدكف بأف خبلفة عمي قرار إليي سابؽ عمى كؿ‬

‫‪1‬‬
‫جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬ترجمة سالمة صالح‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص‬
‫‪.465‬‬
‫‪2‬‬
‫جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬ترجمة سالمة صالح‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص‬
‫‪.637-636‬‬
‫‪3‬‬
‫أبي الحسف األشعرم‪ :‬مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.50‬‬
‫‪4‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.55‬‬
‫‪5‬‬
‫ألفريد –لكيس دم بريمار‪ :‬في أصكؿ القرآف‪ -‬مسائؿ األمس كمقاربات اليكـ‪ ،‬ترجمة ناصر بف رجب‪ ،‬منشكرات الجمؿ‪ ،‬بغداد‪-‬‬
‫بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2019 ،‬ص ‪.15‬‬

‫‪6‬‬
‫جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬ترجمة سالمة صالح‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص‬
‫‪.399‬‬

‫‪115‬‬
‫اختيار بشرم‪ .‬فقد اختاره ا﵀ منذ األزؿ لتكلي الخبلفة‪ ،‬فيك الكارث عف طريؽ بنت الرسكؿ فاطمة‪ 1.‬كبالتالي فقد طعنكا في طريقة‬
‫مبايعة أبك بكر التي تمت باليتاؼ كالشعبكية‪ ،‬أما تعييف عمر فقد كاف بكصية مف أبي بكر‪ .‬أما عثماف فقد عينو مجمس شكرل‬
‫‪2‬‬
‫كعمى الرغـ مف أف مبايعة عمي لـ تحقؽ اإلجماع‪ ،‬إال أف زعماء الصحابة كالكبار‬ ‫يتككف مف بعض األشخاص ال يتعدل الستة‪.‬‬
‫مف األمة قد بايعكه كىذا كاؼ‪ .‬كمف ىنا ظير ما يسمى بالركافض(في الككفة) الذيف "يرفضكف مف األساس خبلفة أبي بكر كعمر‬
‫كعثم اف كيعتبركنيـ مغتصبيف‪ .‬كالصاحبة تكرطكا في تمؾ المؤامرة التي دبرىا كؿ مف أبي بكر كعمر‪ ،‬كىما ليس مف العترة النبكية؛‬
‫كاستأثركا جميعا بالسمطة دكف عمي بف أبي طالب ( لذا كجب الطعف في مفيكـ اإلجماع الذم أخذ بو أىؿ السنة)"‪ 3.‬كيستعمؿ‬
‫الشيعة بعض األحاديث المنسكبة لم رسكؿ مف أجؿ تبرير أحقية عمي (ض) عمى كؿ الخمفاء الذيف سبقكه‪ ،‬إذ يذكر الحديث أف النبي‬
‫قاؿ بأف عمي بالنسبة لو مثؿ ىاركف بالنسبة لمكسى‪ 4.‬أم أقرب األقربيف‪ .‬كقكلو أيضا‪ :‬مف كنت مكاله فيذا عمي مكاله‪ 5.‬كقاؿ أيضا‪،‬‬
‫أيضا‪ ،‬حسب ركاية أخرل‪ ،‬أف عمي ىك يعسكب (ذكر النحؿ) المؤمنيف كمف المعمكـ أف ىناؾ سكرة بأكمميا في القرآف باسـ النحؿ‪.‬‬
‫كأيضا أف "لحـ عمي مف لحمي"‪ 6.‬كيعتقد بأف ىذا الحديث منقكؿ عف العيد القديـ‪ ،‬لذا يدرج ضمف تسرب اإلسرائيميات عمكما‪ .‬كقد‬
‫اعتقد كؿ يكتاب الشيعة البلحقيف بأف الرسكؿ الكريـ كاف يعد عمي اعدادا ركحيا الستبلـ الرسالة كمكاصمة الميمة‪ 7.‬كاستبعاده مرة‬
‫تمك مرة ىك الظمـ عينو‪.‬‬

‫كالمسألة األساسية التي تجمع الشيعة‪ ،‬كفؽ المبدأ األكؿ القائؿ بأف اإلمامة أصؿ كليس فرع‪ ،‬ىك القكؿ بكجكب تعييف الخميفة‬
‫كالتنصيص عميو‪ ،‬بعيدا عف كؿ اختيار أك مبايعة‪ .‬كاإلماـ معصكـ مف كؿ الخطايا سكاء كبيرة أك صغيرة‪ 8.‬كبما أف اإلمامة ركحية‬
‫كزمنية‪ ،‬فبل يجب أف تككف في مستكل اختيار المسمميف‪ ،‬بؿ يجب أف تككف منصكصة كمتكارثة‪ ،‬أنيا ليست بالمسألة اليينة‪ ،‬ليست‬
‫فرعا لمتبلعب بيا‪ .‬كىنا يدخؿ الشيعة في خبلؼ مع المعتزلة كالخكارج كأىؿ السنة كالجماعة‪ ،‬فيؤالء يقركف بأف الخبلفة شأف سياسي‬

‫‪1‬‬
‫يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.107‬‬
‫‪2‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.106‬‬
‫‪3‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.109-108‬‬
‫‪4‬‬
‫جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬ترجمة سالمة صالح‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص‬
‫‪.351‬‬
‫‪5‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪ .352‬أيضا‪ :‬طو عبد الرحمف‪ :‬ثغكر المرابطة – مقاربة ائتمانية لصراعات األمة الحالية‪ ،‬مركز مغارب‬
‫لمدراسات في االجتماع اإلنساني‪ ،‬الرباط‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2018 ،‬ص ص ‪ .157-143-87‬يستند المتظممة (أم الشيعة) لحديث‬
‫خـ" الذم اعتبره كصية باإلمامة لمف بعده؛ إذ يركم أف الرسكؿ(ص) لما قفؿ راجعا مف حجة الكداع‪ ،‬نزؿ بيذا الغدير‪ ،‬كأخذ‬
‫"غدير ٌ‬
‫بيد عمي‪ ،‬فقاؿ‪ :‬مف كنت مكاله‪ ،‬فعمي مكاله‪ ،‬الميـ كاؿ مف كااله‪ ،‬عاد مف عاداه !( كتزكيجو فاطمة لعمي) الرسكؿ (ص) استكدع‬
‫عمي‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.943‬‬
‫‪7‬‬
‫محمد باقر الصدر‪ :‬التشيع كاإلسبلـ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.40‬‬
‫‪8‬‬
‫الشيرستاني‪ :‬الممؿ كالنحؿ‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.117‬‬

‫‪116‬‬
‫يبت فيو المسممكف عامة‪ 1.‬كبالنسبة لمخكارج‪ ،‬فإف الخبلفة ليست مقصكرة عمى القرشييف أك الياشمييف‪ ،‬بؿ لكؿ مسمـ تتكفر فيو‬
‫الشركط السابقة الذكر‪ .‬كىنا نرل درجة تضييؽ اإلمامة عند الشيعة مقارنة ببقية الفرؽ‪ ،‬مف خبلؿ جعميا شأف خاص‪.‬‬

‫لذا فقد آمف الشيعة بأف منصب اإلمامة‪ ،‬الذم ىك منصب ركحي كزمني‪ ،‬كقؼ عمى سبللة آؿ البيت‪ .‬مما يعني أنو ليس‬
‫منصب لمعمكـ اإلسبلمي‪ .‬كىي في ىذا المبدأ ال تخالؼ الخكارج فقط‪ ،‬كما أشرنا‪ ،‬بؿ تخالؼ أىؿ السنة‪ ،‬عمى أساس أنيا ضيقت‬
‫‪2‬‬
‫كلـ يتبؽ‬ ‫دائرة األىمية لئلمامة إلى آؿ البيت فقط‪ ،‬بدؿ قريش كما كاف يقكؿ التقميد السني‪ ،‬كما نجده مثبل في مدرسة أبك حنيفة‪.‬‬
‫مف آؿ البيت إال أحفاد الرسكؿ كأحفاد األحفاد‪.‬‬

‫الشيعة الميدكية عقدية قكية في مدينة قـ‪ ،‬تعتقد بأف ىناؾ تطابؽ بيف اسـ النبي كاسـ أحد حفدة عمي كىك "محمد بف عبد‬
‫ا﵀"‪ 3.‬م ما يجعمو ميديا منتظ ار لنشر الخير في العالـ‪ .‬كىذه العقيدة تكقيـ في تاريخ مغمؽ ال ينفذ منو الجديد‪ ،‬بقدر ما ينتظر ميبلد‬
‫القديـ‪ .‬يقكؿ شايغاف عف ىذه الفكرة‪" :‬أما الشيعة اإليرانيكف فميست نياية التاريخ عندىـ إال رجعة اإلماـ المنتظر(‪ )...‬الزمف الذم‬
‫نحياه اآلف زمف االنتظار"‪ 4.‬كىذا في ذاتو ينتج نمط كينكني مخصكص مختمؼ عف كؿ األنماط اإلسبلمية األخرل‪ .‬إف مف ينتظر‬
‫يعتقد بنجازة التاريخ ككفايتو‪ ،‬عكس مف يفعؿ معتقدا بصناعة التاريخ كانجازه‪ .‬كقد تنبو بعض مصمحي الشيعة المعاصريف‪ ،‬إلى مدل‬
‫سمبية عقيدة االنتظار‪ ،‬لذا طرحكا بدائؿ ايجابية‪.‬‬

‫يتحدث الشيعة عف الخبلفة كاإلمامة مف خبلؿ التفرقة بينيما‪ ،‬فالخبلفة سنية كىي ما تحقؽ تاريخيا‪ ،‬أما اإلمامة فيي المسار‬
‫السياسي لمشيعة‪ .‬فاإلماـ صاحب السمطة الركحية كالعممية كالسياسية كاألخبلقية‪ ،‬عكس الخميفة‪ ،‬معصكـ مف الخطأ‪ ،‬بؿ تفكؽ‬
‫عصمتو عصمة األنبياء‪ 5.‬كقد رأل البعض أف عمي (ض) يمتمؾ عمـ آدـ‪ ،‬كيمكف مقارنة اإلماـ بالنبي‪ ،‬لكف فقط ال يأتيو الكحي‬
‫كانما تأتيو كممات المبلؾ في النكـ‪ 6.‬كفي بعض األقاكيؿ الشيعية نممس ركح خارجية‪ ،‬نظ ار إلعتقادىـ أف عمى المرء ضركرة معرفة‬

‫‪1‬‬
‫عبد الفتاح المغربي‪ :‬الفرؽ الكبلمية اإلسبلمية‪ ،‬مكتبة كىبة‪ ،‬القاىرة‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،1995 ،‬ص ‪.137‬‬
‫‪2‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.263‬‬
‫‪3‬‬
‫جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬ترجمة سالمة صالح‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص‬
‫‪ .330-329‬جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء‬
‫الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ .937‬أىـ معاقؿ الشيعة إلى يكمنا ىذا (‪ )...‬يكجد في مدينة قـ أرض خصبة لفكرة انتظار مجيئ الميدم‬
‫المنتظر مف سبللة عمي بف أبي طالب‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫داريكش شايغاف‪ :‬أكىاـ اليكية‪ ،‬ترجمة محمد عمي مقمد‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،1993 ،‬ص ‪.16‬‬

‫‪5‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.561‬‬
‫‪6‬‬
‫جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬ترجمة سالمة صالح‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص‬
‫‪.394‬‬

‫‪117‬‬
‫إمامو‪ ،‬كمف مات جاىبل اإلماـ فقد مات ميتة جاىمية‪ .‬إف الشيعة إخكة في حيف أف المسممكف اآلخركف أناس فقط‪ ،‬أم ليس ىناؾ‬
‫أخكة حقيقية بيف الشيعة كبقية المسمميف‪ .‬كىذا التمييز كاضح كال يختمؼ عف تميز الخكارج نفسيـ عف بقية المسمميف‪ .‬بؿ أف خطاب‬
‫الشيعة يذىب إلى حد القكؿ بأف مف كره بقية المسمميف‪ ،‬غير الشيعة‪ ،‬ككرىيـ لكجو ا﵀‪ ،‬فسيجزيو ا﵀ خير جزاء‪ .‬كبأف أطفاؿ الشيعة‬
‫الذيف يمكتكف قبؿ البمكغ‪ ،‬ستربييـ فاطمة في الجنة‪ 1.‬مثؿ ىذه العقائد غريبة كشاذة عف معتقد عمكـ المسمميف‪.‬‬

‫مف الشيعة المعتدلة إلى الشيعة المغالية أك الغبلة‪ ،‬يمكف أف نبلحظ نمحى تكجو إلى أسطرة شخصية عمي (ض) كأخبلفو في‬
‫الدـ كالكراثة‪ .‬كىك ما يسميو ىشاـ جعيط بػ الميتا تاريخ النبكم‪ .‬حيث عمد الشيعة إلى تضخيـ مفرط في شأف عمي‪ ،‬كىذا ما جعميـ‬
‫في صراع جذرم مع السنة الذيف أخذك المسألة عمى كاقعيا بعيدا عف الماكجبيات‪ .‬صراع الشيعة كالسنة مرتبط بتفاصيؿ فييا‬
‫تأكيبلت‪ .‬فمث بل بالنسبة لمسنة‪ ،‬فإف عمي ال يمثؿ أكؿ مسمـ‪ ،‬بؿ أكؿ فتي أسمـ‪ ،‬في حيف أف الشيعة‪ ،‬كلكي يبرركا تقديسيـ لعمي‪،‬‬
‫نجدىـ يتحدثكف عف عاقمية كرشد عمي (ض) في سف العاشرة لكي يتأخذ شرؼ األكؿ في اإلسبلـ‪ 2.‬ككؿ ىذه التبريرات جعمتيـ‬
‫يختمقكف االحاديث كيزعمكف بامتبلؾ عمؾ حصرم‪...‬الخ‪ .‬فتبرير العقائد السياسية الكبرل متمثمة في اإلمامة‪ ،‬جعمتيـ يبتدعكف‬
‫اآلالؼ مف األقاكيؿ األس اررية التي ال يممف اف تقبؿ مف كرؼ العقؿ السني المعتدؿ‪.‬‬

‫خالصة‪.‬‬

‫ال زالت الخكارج مكجكدة حتى اليكـ‪ ،‬كما الشيعة بالضبط‪ .‬فالجماعات اإلسبلمية التي تطالب بإقامة خبلفة إسبلمية مف خبلؿ‬
‫الجياد المسمح‪ ،‬ليست إال صكرة معاصرة لخكارج بائدة‪ .‬ألف القاسـ المشترؾ بيف خكارج األمس كخكارج اليكـ ىك االلتجاء إلى العنؼ‪،‬‬
‫في حيف أف العنؼ كالجياد ضداف‪ ،‬مف أجؿ التغيير كالحقد عمى الحكاـ شيكة االنتقاـ البلمحدكدة‪ 3.‬كألنيـ لـ يمتزمكا بما يمكف أف‬
‫كؿ‬
‫الر يس ى‬
‫يعكا َّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ًَّ‬
‫يعكا الموى ىكأىط ي‬ ‫ىمينكا أىط ي‬‫يف آ ى‬‫﴿يا أىيُّيىا الذ ى‬ ‫نسميو بمبدأ الطاعة اإلسبلمي المنصكص عنو في عدة آيات مثؿ قكلو تعالى‪ :‬ى‬
‫يبل﴾ [النساء‪،‬‬‫ىح ىس يف تىأ ًٍك ن‬ ‫كف بًالمَّ ًو ىكا ٍلىي ٍكًـ ٍاآلى ًخ ًر ىذلً ى‬
‫ؾ ىخ ٍيهر ىكأ ٍ‬ ‫الرس ً‬
‫كؿ إً ٍف يك ٍنتي ٍـ تي ٍؤ ًمين ى‬
‫َّ ً‬ ‫و‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ىكأيكلًي ٍاأل ٍىم ًر م ٍن يك ٍـ فىًإ ٍف تىىن ىاز ٍعتي ٍـ في ىش ٍيء فى يرُّدكهي إًلىى المو ىك َّ ي‬
‫‪ . ]59‬فبل يمكف ليـ إال أف يككنكا خارج السياؽ السياسي العاـ‪ .‬كحجة الخكارج في تجاكز مبدأ الطاعة ىك ما ينسب إلى مأثكر‬
‫الرسكؿ الكريـ القائؿ ال طاعة لمخمكؽ في معصية الخالؽ‪ .‬فيـ الثكريكف المضادكف ألم نزعة استسبلمية أك قدرية مثؿ النزعة التي‬
‫ركجت ليا السمطة األمكية‪ .‬كبما أف عقيدة الخكارج قائمة عمى تكفير كؿ مف لـ يفيـ الديف عمى أصكليـ‪ ،‬فإف كؿ مف يكفر المجتمع‬
‫اإلسبلمي الحالي‪ ،‬بدعكل أنو تنازؿ عف تطبيؽ الشريعة‪ ،‬كبأنو ساكت عمى الظمـ السياسي الكائف‪ ،‬فيك خارجي معاصر‪ ،‬أك مف‬
‫الخكارج المستحدثيف‪ .‬كيمكف أف يفيـ عمى أنو كسيمة لبلستحكاذ عمى السمطة السياسية‪ 4،‬باستعماؿ مرجعيات تاريخية كانت مكجكدة‬
‫فعبل‪ .‬كالقاسـ المشترؾ بيف الخكارج كالشيعة ىك ضركرة الثكرة مف أجؿ تحصيؿ الحؽ الشرعي‪ ،‬كما الثكرة اإليرانية سنة ‪ 1979‬إال‬

‫‪1‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.393-391‬‬
‫‪2‬‬
‫ىشاـ جعيط‪ :‬الفتنة – جدلية الديف كالسياسة في اإلسبلـ المبكر‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.345‬‬
‫‪3‬‬
‫طو عبدالرحمف‪ :‬سؤاؿ العنؼ‪ -‬بيف االئتمانية كالحكارية‪ ،‬المؤسسة العربية لمفكر كاإلبداع‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2017 ،‬ص‬
‫‪ 85‬كما تبلىا‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫برنار لكيس‪ :‬لغة السياسة في اإلسبلـ‪ ،‬ترجمة ابراىيـ شتا‪ ،‬دار قرطبة لمنشر كالتكثيؽ كاألبحاث‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،1993 ،‬ص‬
‫‪.172‬‬

‫‪118‬‬
‫مثاؿ عمى استعادة الكضع الحقي كالشرعي المفقكد‪ .‬إف ىذه الثكرة استرجاعية كليست فتحية أك مستقبمية‪ .‬كنجد مف اإلخكاف المسمميف‬
‫مف كفر مجتمعو بالكامؿ‪ ،‬كىذا ضرب مف العنؼ الذم يؤدم إلى استبداؿ المجتمع بدؿ استبداؿ فيـ الديـ ذاتو‪ .‬نجد السيد قطب‬
‫مثبل يعتبر المجتمع المصرم الحديث‪ 1،‬مجتمع جاىمي بالمطمؽ‪ .‬كىذا ضرب مف الخركج عف المجتمع‪ ،‬ألنو رفض لحقيقة كاقعة‬
‫كلمنطؽ جديد مختمؼ عف منطؽ التتريث األعمى‪.‬‬

‫يعتقد بعض الدارسيف لمتاريخ السياسي اإلسبلمي‪ ،‬بأف سبب انفجار معسكر عمي بف أبي طالب عائد أساسا إلى البنية القبمية‬
‫لممجتمع العربي أنذاؾ‪ 2.‬بمعنى أف القكة كالغمبة كانت البنية التقميدية أماـ تعاليـ الديف الجديد الداعي إلى الكحدة الركحية‪ .‬كأف العامؿ‬
‫الديني ل ـ يكف ىك الغالب كالمسيطر عمى ق اررات قادة القبائؿ كالجيكش‪ ،‬بؿ لمغنيمة كالحسابات السمطكية بيف القائؿ دكر ميـ في‬
‫ذلؾ‪ .‬كقد كصؼ عمي (ض) ىؤالء الخكارج "بأعاريب بكر كتميـ"‪ ،‬كىذا دالة عمى فعالية القكل القبمية في ق ارراتيـ‪ 3.‬كعدـ بمكغ‬
‫المطمكب اإلسبلمي الجديد الداعي إلى االنتقاؿ مف الجامعة القبمية الضيقة إلى الجامعة الدينية الكاسعة‪.‬‬

‫ال يمكف اعتبار فرقة الشيعة متجانسة‪ ،‬فيناؾ الغبلة الذيف خرجكا عف اإلجماع كالعقائد اإليمانية الكسطية كىناؾ المعتدلكف مثؿ‬
‫السنة‪ .‬كيفسر العديد مف مؤرخي الفرؽ ىذا الغمك بالتأثر بالعقائد غير اإلسبلمية‪ .‬فمثبل "أبك سميماف داكد بف كثير الرقي الككفي مف‬
‫أعمدة الشيعة كمف غبلتيـ‪ ،‬كاف قكـ بإلقاء الدركس في جامع الرقة (تكفي قبؿ بداية ؽ ‪ 3‬ىػ بقميؿ)‪ .‬اعتبر مف نقاؿ تعاليـ الباطنية‪.‬‬
‫ذلؾ ألنو لـ يكف يياب القياـ بتفاسير مجازية لمقرآف‪ .‬كيفسر بعض أركاف اإلسبلـ الكاردة في القرآف‪ ،‬مثؿ الصبلة كالزكاة‪ ،‬برجكع‬
‫خفي إلى األئمة‪( .‬جعفر الصادؽ مثبل)‪ .‬يعتمد داكد عمى جعفر الصادؽ كذلؾ في ادعائو أف أركاح األئمة تجتمع مع أركاح األنبياء‬
‫تحت عرش ا﵀ في كؿ ليمة مف ليالي الجمعة"‪ 4.‬بؿ أف ىناؾ مف الغبلة مف تشكؾ في نبكة الرسكؿ الكريـ كأف محمد اغتصب مكانة‬
‫عمي‪ 5،‬كمف ثمة ظير مف بيف "المسمميف مف طرح السؤاؿ ىؿ أف النصؼ األكؿ مف الشيادة دكف اإلقرار بنبكة محمد يمكف أف‬
‫يجعؿ المرء مسمما أـ ال ؟"‪ 6.‬كىذا تكجو شيعي متطرؼ ال يمكف قبكلو عمى أساس أنو يتعارض مع القرآف ذاتو‪ .‬إنيا محاكلة اجتياد‬
‫فاشمة ألنيا تيدـ األسس كمية‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫طبلؿ أسد‪ :‬جينالكجيا الديف – الضبط كأسباب القكة في المسيحية كاإلسبلـ‪ ،‬ترجمة محمد عصفكر‪ ،‬دار المدار اإلسبلمي‪ ،‬بيركت‪،‬‬
‫الطبعة األكلى‪ ،2017 ،‬ص ‪.268‬‬

‫‪2‬‬
‫محمد عابد الجابرم‪ :‬العقؿ السياسي العربي‪ -‬محدداتو كتجمياتو‪ ،‬مركز دراسات الكحدة العربية‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة الرابعة‪،2000 ،‬‬
‫ص ‪.163‬‬
‫‪3‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.239‬‬
‫‪4‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.722-751‬‬
‫‪5‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.1067‬‬
‫‪6‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.914‬‬

‫‪119‬‬
‫لكف ىناؾ بعض الفرؽ الشيعية العقبلنية كالكسطية‪ ،‬بخاصة الزيدية‪ .‬مع العمـ بأف اإلماـ زيد قد تتممذ لكاصؿ بف عطاء في‬
‫الكبلـ كألبي حنيفة في الفقو‪ ،‬مما جعمو شيعي معتدؿ ذاتيا‪ ،‬أم مع بقية الفرؽ الشيعية‪ ،‬كمع الفرؽ األخرل‪ .‬بؿ أنو أكثر عقبلنية‬
‫في تعريؼ الصحبة مثبل مقارنة ببعض السنة‪ .‬فميس صحبة معاكية مثؿ صحة أبك بكر‪ 1.‬كقد استمرت اجتيادات كعقبلنية الشيعة‬
‫إلى العصر الحالي‪ ،‬حيث استطاع أحمد الخميني التجديد في نظرية كالية الفقيو بما يجعميا نظرية معاصرة تستجيب لمتطمبات‬
‫المرحمة الجديدة‪ .‬يقكؿ طو عبد الرحمف محددا معالـ ىذا االجتياد السياسي‪" :‬أحدث أحمد الخميني في الفكر السياسي اإلمامي‬
‫االثني عشرم منعطفا فاصبل بنظريتو في "كالية الفقيو المطمقة" متجاك از عقبيتف‪:‬‬

‫‪-1‬تجاكز عقبة الكصية‪ :‬أقر الخميني بدال مف مبدأ االستحبلؼ (كؿ خميفة يستخمؼ آخر مثمما أف الرسكؿ استخمؼ عميا)‬
‫مبدأ االنتخاب كسيمة لمف أراد التصدم لمكالية‪( .‬التقاء مع جميكر السنة في البيعة)‪.‬‬

‫‪-2‬تجاكز عقبة العصمة‪ :‬ييعتقد أف اإلماـ الذم ييستخمؼ ال يعرض لو خطأ في أقكالو كال في أفعالو‪ ،‬حتى أشبو النبي‬
‫المرسؿ‪ .‬كأقاـ الخميني مقاـ مبدأ العصمة شرطيف‪ :‬العمـ باألحكاـ كالتحمي بالعدالة‪.‬‬

‫‪-3‬تجاكز عقبة الغيبة‪ :‬ييعتقد أف اإلماـ الثاني عشر قد اختفى دكف أف يستخمؼ‪ ،‬فيتكجب انتظار عكدتو ليقكـ بكاجبو في‬
‫تعييف خمفو‪ ،‬فأدل ىذا االعتقاد إلى تعطيؿ العمؿ باألحكاـ‪ .‬كرأل الخميني في ىذا المكقؼ السمبي مخالفة لمبدأ األمر‬
‫بالمعركؼ كال نيي عف المنكر‪ .‬لذا يتعيف عمى الفقياء كىـ كرثة األنبياء قيادة المجتمع‪ .‬فإذا كانت العبادات المقررة ال تترؾ‬
‫انتظا ار لظيكر اإلماـ الميدم‪ ،‬فباألحرل أف ال تترؾ إقامة الحككمة‪ ،‬ألنيا تتقدـ‪ ،‬بحسب الخميني‪ ،‬عمى إقامة العبادات‪.‬‬

‫‪-4‬تجاكز عقبة ضيؽ الفقو التقميدم‪ :‬كاف مدلكؿ محصك ار في نطاؽ المعرفة بأحكاـ الشريعة‪ ،‬فجعمو الخميني داال عمى‬
‫‪2‬‬
‫العمـ بمعناه األكسع‪( .‬ثقافية‪ ،‬اقتصادية‪ ،‬سياسية)"‪.‬‬

‫كبيذا‪ ،‬فقد استطاع الفكر السياسي الشيعي الحالي تجاكز الجمكد السني ممثبل في النظرية الكىابية التي لـ تقدـ الشيء الكثير‬
‫في ىذا المجاؿ‪ .‬مف خبلؿ التأقمـ مع ركح العصر الديمقراطي‪ ،‬في حيف أف الكىابية جمدت عمى الكراثة العضكضة‪.‬‬

‫ظيكر الشيعة كالخكارج كاف ظيك ار متعالقا كمترابطا‪ ،‬بؿ أف الخكارج كانكا شيعة قبؿ أف يتحكلكا إلى خكارج‪ .‬كمف المنطقي أف‬
‫يحصؿ عداء بينيما‪ ،‬ألف عمي (ض) حارب الخكارج بالشيع ة‪ .‬كبالتالي‪ ،‬فإف العقيدة الشيعية ضد الخكارج مف حيث بنيتيا كىيكميا‬
‫الفكرم‪ 3.‬كحتى اليكـ‪ ،‬فإف بنية نظاـ الحكـ الشيعي بنية قائمة عمى استثقاؿ المعارضة كقمع الخركج عف الكالية‪ .‬كقد حاكؿ الدكتكر‬
‫أحمد محمكد صبحي أف يكازف بيف الشيعة كالخكارج بأف اعتبر الفرقة األكلى فرقة ثيكقراطية تقكـ عمى مبدأ التعييف اإلليي لمكالي أك‬

‫‪1‬‬
‫أحمد محمكد صبحي‪ :‬في عمـ الكبلـ‪ ،‬الجزء الثالث‪ :‬الزيدية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ .455‬أيضا‪ :‬جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ‬
‫كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.714‬‬
‫‪2‬‬
‫طو عبد الرحمف‪ :‬ثغكر المرابطة – مقاربة ائتمانية لصراعات األمة الحالية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.71-70‬‬
‫‪3‬‬
‫أحمد محمكد صبحي‪ :‬في عمـ الكبلـ‪ ،‬الجزء الثالث‪ :‬الزيدية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.24‬‬

‫‪111‬‬
‫‪1‬‬
‫اإلماـ‪ ،‬في حيف أف العقيدة الخارجية عقيدة ديمقراطية عمى أساس أنيا أجازت الترشح لمخبلفة لكؿ مسمـ تتكفر فيو الشركط الدنيا‪.‬‬
‫لكننا نعتقد بأنيا مقاربة غير دقيقة‪ ،‬كتـ اسقاط خمفية عممانية عمى مضمكف ديني عندما نصفيا بالديمقراطية‪ .‬نظ ار ألف كبل الفرقتيف‬
‫مؤسستاف عمى الثيكقراطية كأكلكية الحكـ الديني‪ ،‬كىذا مبرر ألنيا فرؽ كبلمية ذات خمفية دينية كاضحة‪ .‬كقد أكضحنا سابقا عكائؽ‬
‫تكصيؼ الخكارج بالديمقراطية كما اعتقد المستشرؽ ىنرم الكست‪ .‬كقياـ عقيدة التشيع عمى ربط اإلمامة بذرية النبي‪ ،‬ال يجعميا‬
‫ثيكلكجية بالمطمؽ‪ ،‬عمى أنيا استطاعت دمج آليات ديمقراطية في الكالية مثمما أظيرناىا عند الخميني‪ .‬كنحف نعمـ بأف النمكذج‬
‫اإليراني الحالي قد بمغ نضجا ديمقراطيا ‪ ،‬عمى األقؿ مف الناحية التنظيمية كالشكمية‪ ،‬فاؽ كؿ الممارسات اإلسبلمية األخرل‪ .‬حيث تـ‬
‫التخمي عف مبدأ التكريث الذم كاف أصبل مف أصكؿ نظرية اإلمامة عند الشيعة التقميدية‪ .‬لذا فيجب أخذ بعيف االعتبار التجديد‬
‫الشيعي الذم تجسد في االجتياد في مختمؼ أبعاده‪ ،‬مما جعؿ عقيدتو قابمة لممكاصمة في عالـ متغير‪.‬‬

‫كالخبلؼ الذم اختمقتو الشيعة لـ يكف مع الخكارج فقط‪ ،‬بؿ مع أىؿ السنة كالجماعة‪ ،‬كىذا يظير مدل التمزؽ الذم حدث في‬
‫مجمكعة عمي (ض) حيث فتح جبيتيف لمقتاؿ‪ :‬الجبية الخارجية كالجبية العثمانية ممثمة في معاكية بف أبي سفياف مف جية كحمؼ‬
‫الجمؿ مف جية ثانية‪ .‬كلئف كاف الصراع مع الخكارج قد باد‪ ،‬فإف الصراع ضد السنة لـ يزؿ قائما‪ ،‬إذ لو أصكؿ قديمة كلـ تغفكا كلك‬
‫لحظة كاحدة‪ .‬حيث تـ استعماؿ كؿ طرؽ الصراع الممكنة‪ ،‬عسكرية كتعميمية‪ ،‬حيث تحكؿ الصراع إلى عممية ممنيجة جندت لو‬
‫األفكار قبؿ السبلح‪ .‬فكما "بنى الفاطميكف جامع األزىر‪ ،‬بالقاىرة‪ ،‬في أكاسط ؽ ‪ 4‬ق لتأييد مذىب الشيعة‪ ،‬بنى نظاـ الممؾ‬
‫مدارسو في أكاسط القرف ‪ 5‬ق لتأييد مذىب أىؿ السنة‪ 2.‬كىنا نبلحظ ظاىرة إنشاء المدارس لتثبيت الممك‪ ،‬كىك مظير مف مظاىر‬
‫الصراع العقدم األصمي‪ .‬مما يجعؿ البعد السياسي أس اسي في كؿ عقائد المسمميف‪ ،‬كيظير أيضا مدل ثقؿ اليكية السياسية لمكبلـ‪.‬‬
‫كيعد كتاب الدكتكر طو عبد الرحمف األخير‪ ،‬في نياية ‪ ،2018‬بعنكاف ثغكر المرابطة‪ ،‬تحميؿ معمؽ‪ ،‬كفؽ منيجية مستجدة‪ ،‬لمصراع‬
‫اإلسبلمي اإلسبلمي‪ ،‬متجسدا في السنة كالشيعة‪ ،‬كاعتقد أف ىذا الصراع ليس قاعدم عند عامة المسمميف بقدر ما ىك صراع نخبة‬
‫مف كؿ طائفة‪ " :‬ليس الصراع السني كالشيعي نزاع بيف مجمكع أىؿ السنة كبيف مجمكع الشيعة‪ ،‬كانما ىك نزاع بيف فئة مخصكصة‬
‫‪3‬‬
‫مف الشيعة (المتظممة) كفئة مخصكصة مف أىؿ السنة (المحكمة)"‪.‬‬

‫إف التأمؿ في منظكر السنة لمتاريخ اإلسبلمي مقارنة بمنظكر الشيعة‪ ،‬يكشؼ عف كجكد منظكريف مزدكجيف يصعب جمعيما‬
‫معا‪ .‬لقد طكر الفكر الشيعي المعاصر ىذا التقسيـ‪ ،‬إذ نجد مثبل فمسفة عمي شريعتي (‪ ،)1977/1933‬الذم ينتمي إلى الشيعة‬

‫‪1‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.30‬‬
‫‪2‬‬
‫زكي مبارؾ‪ :‬األخبلؽ عند الغزالي‪ ،‬دار الشعب لمصحافة كالطباعة كالنشر‪ ،‬القاىرة‪ ،‬ص ‪.28‬‬
‫كتشير عالمة االجتماع فاطمة المرنيسي‪ ،‬إف صدقنا ىذه الحادثة‪ ،‬إلى صراع "صبياني" بيف السنة كالشيعة‪ ،‬إذ قالت أنو‪" :‬حرـ‬
‫الحاكـ المصرم (الشيعي) الممكخية عمى كؿ الناس ألف معاكية كعائشة (السنييف أعداء الشيعة) يحبانيا‪ .‬يرجى العودة لـ‪ :‬فاطمة‬
‫المرنيسي‪ :‬السمطانات المنسيات – نساء رئيسات دكلة في اإلسبلـ‪ ،‬ترجمة معمي كعبد اليادم عباس‪ ،‬د ط‪ ،‬دمشؽ‪ ،‬ص ‪.284‬‬

‫‪3‬‬
‫طو عبد الرحمف‪ :‬ثغكر المرابطة – مقاربة ائتمانية لصراعات األمة الحالية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.13‬‬

‫‪111‬‬
‫اإلثنى عشرية‪ ،‬يقدـ ىذا المنظكر الشيعي السني‪ ،‬لصالح األكؿ طبعا عمى الصكرة التالية‪" :‬التاريخ لـ يسر كفؽ تكقعات الرسكؿ‪.‬‬
‫فبعد اجتماع السقيفة (ابعاد اإلماـ األكؿ عمي بف أبي طالب لمصمحة أبي بكر)اتخذ التاريخ اتجاىيف متباعديف‪:‬‬
‫المذىب السني‪ :‬ديف الحكاـ كخداـ السمطة (‪ )...‬اسبلـ الخبلفة كاالضطياد كاالستغبلؿ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪1‬‬
‫التشيع‪ :‬ديف المحككميف كالمضطيديف كالمستضعفيف (‪ )...‬اسبلـ العدالة كالحرية الممتزمة"‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫كىكذا‪ ،‬تستثمر الشيعة آخر النظريات الماركسية مف أجؿ اعادة تجديد نفسيا مف أجؿ مكاكبة العصر‪ .‬كىذه اليكتكبية كانت‬
‫مكجكدة في العصكر األكلى لمشيعة‪ ،‬حيث كاف يعتقد أف جميع الشيعة المؤمنكف سيشيدكف تمؾ السعادة كالعدالة التي لـ تكف مف‬
‫نصيبيـ عمى األرض‪ 2.‬كىذه النظرة التراجيدية لمكجكد كالتاريخ ىي ما جعمت طو يسمييـ بالمتظممة‪ ،‬أم شعكرىـ بأنيـ ظممكا في‬
‫التاريخ مف طرؼ السنة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫داريكش شايغاف‪ :‬ما الثكرة الدينية ؟ الحضارات التقميدية في مكاجية الحداثة‪ ،‬ترجمة محمد الرحمكني‪ ،‬المؤسسة العربية لمتحديث‬
‫الفكرم كدار الساقي‪ ،‬جنيؼ كبيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2004 ،‬ص ‪.265‬‬

‫‪2‬‬
‫جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬ترجمة سالمة صالح‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.435‬‬

‫‪112‬‬
‫المحاضرة السادسة‪ :‬أصل الفرق الكالمية‪)2( .‬‬

‫‪ -1-2‬الفرق العقائدية (المعتزلة واألشاعرة)‪.‬‬

‫مقدمة‪.‬‬

‫التمييز بيف فرؽ كبلمية سياسية كفرؽ كبلمية عقدية مرتبط بالمنشأ فقط‪ ،‬ألف الفرؽ السياسية ليا مكاقؼ كبلمية عقدية مثمما‬
‫لمفرؽ الكبلمية مكاقؼ سياسية‪ .‬لكف الفرؽ األكلى نشأت بسبب خبلؼ ارتبط باإلمامة‪ ،‬في حيف أف النكع الثاني قد ارتبط بقضايا‬
‫عقدية باألساس‪ .‬كلعؿ جميع الفرؽ ما عدا الخكارج كالشيعة‪ ،‬يمكف تصنيفيا ضمف الفرؽ العقائدية‪ ،‬ألنيا اىتمت كناقشت كتناظرت‬
‫في مسائؿ اإليماف كالصفات ككبلـ ا﵀ كالحرية كالمعجزات‪...‬الخ‪ .‬لذا سنخصص ىذه المحاضرة كالمحاضرة التالية (السابعة)‬
‫إلستجماع أىـ الفرؽ العقائدية‪ .‬بالنسبة لممعتزلة كاألشاعرة سنخصص ليما ىذا الحيز‪ ،‬عمى أساس أىميتيما في عمـ الكبلـ‬
‫اإلسبلمي أكال‪ ،‬كنظ ار لمترابط التاريخي كالمكضكعاتي بينيما‪ .‬كسنخصص المحاضرة البلحقة لدراسة بقية الفرؽ األقؿ أىمية في‬
‫االنتشار كالتأليؼ‪ ،‬كنقصد فرقة المرجئة كالمجبرة كالماتردية‪ .‬كفي ىذا التقسيـ لـ نعتمد مبدأ األسبقية الزمنية‪ ،‬كاال ابتدأنا بالمرجئة‬
‫كالمجبرة‪ ،‬بؿ اعتمدنا مبدأ قكة الطرح كسعة التمثيؿ في تاريخ عمـ الكبلـ‪.‬‬

‫تترابط األشعرية كالمعتزلة ترابطا قكيا‪ ،‬عمى أساس أف مؤسس األشعرية قد نشأ في ركح االعتزاؿ قبؿ أف ينشؽ كيعتزليـ‪ ،‬لذا‬
‫فإف األشعرية اعت زاؿ لبلعتزاؿ كعكدة بالكبلـ إلى مرحمة ما قبؿ االعتزاؿ‪ .‬ىي تصحيح النحرافات العقؿ اإلعتزالي الذم عرؾ العقيدة‬
‫بالعقؿ الخالص لدرجة أنو أفرغيا مف أسرارىا الركحية كقمؿ مف قكة كقعيا عمى الركح‪ .‬لذا أتت ثكرة األشعرية ارجاعا كاستعادة لمنقاء‬
‫األكؿ لعقيدة اإلسبلـ‪ .‬ىذه ىي الصكرة المنتشرة عند العامة مف المثقفيف كالعمماء غير المتخصصيف في الكبلـ‪ ،‬أك قؿ ىي الصكرة‬
‫النمطية التي ترتبط األشعرية بالمعتزلة‪ .‬لكف ىؿ فعبل أف األمكر عمى ىذه الصكرة الذائعة ؟ ىؿ فعبل أف المعتزلة كبلـ عقؿ خالص‬
‫؟ ىؿ أف ميمة األشعرية قد تمخصت في التقميؿ مف جرعة المعقكلية في العقائد اإليمانية ؟ ىذه ىي المشكمة الكبرل ليذه المحاضرة‪،‬‬
‫التي تستيدؼ معرفة حقيقة العبلقة بيف فرقتيف مف أىـ كأكبر الفرؽ التي طبعت التاريخ الكبلمي اإلسبلمي‪ .‬كىذا عف طريؽ محاكلة‬
‫االشتغاؿ عمى سؤاؿ ذك مدلكؿ فمسفي أعـ مف المشكبلت الجزئية لمكبلـ كىك‪ :‬ما مدلكؿ دعكة األشاعرة إلى العكدة إلى طريؽ أىؿ‬
‫السنة كالجماعة ؟ أليس ىذا في ذاتو مكقؼ العقؿ اإلسبلمي مف العقؿ ككؿ ؟ ىؿ يمكف اعتباره تجسدا لمكقؼ اإلسبلـ مف اإلنساف‬
‫؟ لكف مكقؼ اإلسبلـ ال ينفصؿ عف تأكيبلت معينة كمخصكصة‪ ،‬فالقرآف كما يقكؿ عمي بف أبي طالب ال يتحدث كال يجادؿ‪ ،‬بؿ‬
‫اإلنساف ىك مف يجعمو يتحدث كيستنطقو مف أجؿ تقكية مكاقفو‪ .‬لذا نجد أف كؿ الفرؽ تعكد إلى القرآف مستدلة كمقكية أطركحاتيا‬
‫الخاصة‪" :‬القرآف حماؿ أكجو‪ ،‬كىك خط مسطكر بيف دفتيف ال ينطؽ‪ ،‬إنما يتكمـ بو الرجاؿ"‪ 1.‬القرآف ىنا كالتاريخ‪ ،‬مصدر لكؿ‬
‫األ طركحات التي تبحث عف شرعيتيا‪ .‬يظير أف استتبات األشعرية بعد انحسار تمثيبلت المعتزلة في العالـ اإلسبلمي‪ ،‬بمثابة‬
‫المكقؼ النيائي لمعقؿ اإلسبلمي مف العقؿ الكبلمي‪ ،‬كىذا ما يجعمنا نفترض بأف الصكرة النيائية لمعبلقة بيف اإلعتزاؿ كاألشاعرة ىي‬

‫‪1‬‬
‫طو عبد الرحمف‪ :‬ثغكر المرابطة – مقاربة ائتمانية لصراعات األمة الحالية‪ ،‬مركز مغارب لمدراسات في االجتماع اإلنساني‪،‬‬
‫الرباط‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2018 ،‬ص ‪.149‬‬

‫‪113‬‬
‫بمثابة الحمقة األخيرة ال تي رسمت المكقؼ النيائي لمركح اإلسبلمية ممثمة في الفقياء كاألصكلييف كالمتكمميف مف مكانة كقدرة كحدكد‬
‫العقؿ كما تجسد عند متكممي االعتزاؿ‪ .‬كال زاؿ المكقؼ األشعرم يفعؿ فعمتو حتى اليكـ مف خبلؿ التضييؽ عمى أم محاكلة لفيـ‬
‫القرآف فيما حداثيا مف خبلؿ تكظيؼ أحدث المناىج العقمية التي أنتجيا العقؿ اإلنساني بخاصة العقؿ الغربي‪ .‬لكف يجب االعتراؼ‬
‫بأف استتباب األمكر لمعقؿ األشعرم ليمثؿ العقؿ اإلسبلمي بكؿ شرعية كأريحية‪ ،‬لـ يمنع ظيكر اعتزاؿ جديد‪ ،‬متقكيا بالحداثة كما‬
‫جمبتو مف اعادة اعتبار لمعقؿ‪ ،‬كمحاكال اعادة طرح األسئمة التي كانت تطرح قديما حكؿ مسألة الحرية كبنية القرآف كحدكد التأكيؿ‬
‫كمكانة العقؿ‪...‬الخ‪ .‬ىؿ يمكف أف نعتبر الحداثييف العرب‪ ،‬أمثاؿ محمد أرككف‪ ،‬كنصر حامد أبك زيد‪ ،‬كىاشـ صالح‪ ،‬كعبد المجيد‬
‫الشرفي‪ ،‬كسعيد ناشيد‪ ،‬كيكسؼ الصديؽ‪ ،‬كمحمد الحداد ‪...‬الخ بمثابة استفاقة اعتزالية مستحدثة ؟ إذ افترضنا ذلؾ‪ ،‬فيمكف القكؿ بأف‬
‫فصكؿ اإلعتزاؿ لـ تنتيي بعد‪ ،‬كبأف طبقة جديدة مف االعتزاؿ قد تشكمت كبدأت تشتغؿ بمناىج جديدة عمى عقائد قديمة‪ .‬إذ صحت‬
‫ىذه المنظكرية‪ ،‬فإف عمـ الكبلـ الجديد‪ ،‬قد استأنؼ ما كنا نعتقده نا ار خامدة‪ .‬يبدك أف تاريخ الكبلـ اإلسبلمي لـ ينتو كلـ تسحـ‬
‫األمكر بعد‪ ،‬كبؿ نحف نصنع التاريخ دكف أف ندرل‪ .‬كبالتالي فنظرية غمؽ أبكاب االجتياد‪ ،‬ككؿ كفي كؿ المياديف بما في ذلؾ‬
‫الفقيية كالكبلمية‪ ،‬مجرد تكصيؼ يخالؼ الكاقع كالتاريخ‪ .‬لربما كضعت ىذه المقكلة ألغراض غير عممية أصبل‪ .‬بالنسبة لكائؿ حبلؽ‬
‫‪ ، Wael B. Hallaq‬فإنيا مجرد "أسطكرة اإلستشراقية"‪ ،‬ألف القكؿ بأف "الشريعة اإلسبلمية قد تكقفت عف النمك كالعمؿ بعد القرف‬
‫الثاني أك الثالث ق‪ .‬كأف باب اإلجتياد قد أغمؽ إلى أبد األبديف كأف بعد الشافعي كاف االنحدار كالجمكد‪ .‬كأف مجيء الحضارة‬
‫األكركبية أنقذ العالـ اإلسبلمي كحضارتو مف الفساد كالجمكد كاالنحدار"‪ 1.‬كميا أقكاؿ كضعت ألغراض تعطيؿ العقؿ اإلسبلمي‪ ،‬لذا‬
‫فيي حرب نفسية لشؿ العقؿ عف العمؿ كالنظر‪ .‬كنظرية اغبلؽ باب االجتياد الفقيي ال تختمؼ عف نظرية غمؽ باب االجتياد‬
‫الكبلمي‪ .‬كما االجتياد إال دحض مستمر لنظرية صد أبكاب االجتياد‪ 2.‬كظاىرة استمرار عمـ الكبلـ عمى الرغـ مف نجازة العقائد‬
‫كانتشار الفيـ النيائي‪ ،‬يدؿ عمى قكة حضكر العقؿ البشرم في فيـ النصكص اإلليية‪ .‬ما عمـ الكبلـ إال احتجاج العقؿ البشرم عمى‬
‫مشركعية فيمو كمشركعية االختبلؼ كالتجديد الذم ال يمكف انياؤه بأم حاؿ‪ .‬كحتى الكبلـ األشعرم‪ ،‬قديمة كجديده‪ ،‬ال يخرج مف‬
‫ككنو فيـ بشرم لعقائد إليية‪ ،‬لذا فإف منطؽ األشعرية ليس ىك بالمنطؽ اإلليي المتعالي‪ ،‬بقدر ما ىك نمط بشرم لفيـ العقائد‬
‫اإلليية‪ .‬لذا فأم كبلـ ىك اجتياد لجعؿ الشرع بشرم الفيـ‪ 3،‬بؿ ال فيـ إال ما فيمو العقؿ البشرم‪ .‬كالحديث عف مقصكد إليي بمعزؿ‬
‫عف البشر ليس إال تعبير عف عقؿ بشرم مقنع بالقداسة المتعالية‪ .‬ككؿ فيـ ىك فيـ كفؽ أليات منيجية كمقكالت عقمية يقدميا‬
‫النمكذج الثقافي السائد‪ ،‬لذا‪ ،‬فإف كبلـ المعتزلة‪ ،‬مثؿ كبلـ األشعرية‪ ،‬ليس كبلما شفافا كتكاصؿ مباشر مع العقائد كالنصكص‪ ،‬بؿ ىك‬
‫كبلـ مف كراء أحجبة النمكذج الثقافي السائد في زمنيـ‪ ،‬خاصة النمكذج المغكم‪ .‬لذا فإف تغير النماذج الثقافية اليكـ‪ ،‬ىك الذم يتيح‬
‫لنا الحديث عف اعتزاؿ جديد كأشعرية جديدة‪ .‬ال يمكف لمكبلـ أف ينتيي مثمما ال يمكف لمعمـ أف ينضب‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫كائؿ حبلؽ‪ :‬تاريخ النظريات الفقيية في اإلسبلـ‪ -‬مقدمة في أصكؿ الفقو السني‪ ،‬ترجمة أحمد مكصممي‪ ،‬دار المدار اإلسبلمي‪،‬‬
‫بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2007 ،‬ص ‪.8‬‬

‫‪2‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.214‬‬
‫‪3‬‬
‫كائؿ حبلؽ‪ :‬نشأة الفقو اإلسبلمي كتطكره‪ ،‬ترجمة رياضي الميبلدم‪ ،‬دار المدار اإلسبلمي‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2007 ،‬ص‬
‫‪.119‬‬

‫‪114‬‬
‫أوال‪ -‬المعتزلة‪:‬‬

‫يجب أف نعترؼ أف فيـ "ظاىرة اإلعتزاؿ" قد شكؿ مكضكعا مثم ار لمعقؿ العربي الحديث‪ ،‬عمى أساس أنو لـ يتـ االتفاؽ حكؿ‬
‫خصكصية الميمة اإلعتزالية‪ .‬كبالتالي فنحف مدعككف اليكـ إلعادة قراءة ىذا المكركث الضخـ مف أجؿ اإلجابة عف السؤاؿ األكبر‪:‬‬
‫ماذا فعؿ الفكر اإلعتزالي بالضبط ؟ ما نكع مساىمتو في فيـ العقيدة اإلسبلمية ؟ مف الكاضح أف اإلجابة ىنا‪ ،‬تختمؼ مف تكجو إلى‬
‫آخر؛ فبالنسبة لمحداثييف فإنيـ يفيمكف اإلسياـ اإلعتزالي باعتباره دعكة لدراسة العقائد مثمما تدرس بقية المكضكعات‪ .‬يقكؿ أرككف‬
‫المفتكف بيـ كبطرقيـ‪ :‬أقصد بالتمييز بيف "القرآف الكريـ" كالظاىرة القرآنية الفرؽ بيف تغذية الركح اإلسبلمية بكبلـ ا﵀ تعالى كدراسة‬
‫النصكص القرآنية كما ندرس الظاىرة الفيزيقية أك البيكلكجية أك االجتماعية أك األدبية‪ .‬كمف المعمكـ أف القائميف بخمؽ القرآف مف‬
‫المعتزلة قد قصدكا ىذا التمييز لكيبل تفرض المعتقدات االعتقادية عمى البحث العممي"‪ 1.‬لكف بالنسبة لمحداثييف اإلسبلمييف‪ ،‬فإف‬
‫نمكذجية ككسطية األشاعرة أكبر مف أف تناقش‪ ،‬مقارنة بتطرؼ المعتزلة التي أرادت تأسيس ديانة العقؿ أك "الشريعة العقمية" بحسب‬
‫عبارة الشيرستاني األشعرم كتأسيس أخبلؽ سابقة عف الديف‪...‬الخ‪ 2.‬ككأنيا بتقديس العقؿ‪ ،‬تممح إلى إمكانية تأخير ثقؿ النصكص‬
‫أماـ العقؿ‪ .‬لذا فقيمة المعتزلة تابعة لممكقؼ الفكرم لممقيـ‪ ،‬فيي بالنسبة لمحداثي فرقة رائدة في الفكر اإلسبلمي‪ ،‬عمى أساس أنيـ‬
‫انطمقكا مف عقؿ اإلنساف لفيـ الديف‪ ،‬في حيف أنيا لمفكر النصي‪ ،‬تمثؿ نمكذج لمعقؿ المغتر بمقدرتو كالذم أراد التفكير بمعزؿ عف‬
‫السمع‪ ،‬كاألجدر ىك أف ننطمؽ مف الديف لفيـ اإلنساف‪ .‬ىذه ىي الثنائية التي استقطبت الفكر اإلسبلمي حتى يكـ الناس ىذا‪ ،‬إمكانية‬
‫استقبلؿ العقؿ في بحثو عف سمطة السمع ؟ ىي المسألة التي لـ يحصؿ حكليا اإلجماع‪ .‬ىؿ فعبل أف المحرؾ الخفي لمشركع‬
‫المعتزلة ىك استقبلؿ العقؿ عف النص ؟ أـ أنو مجرد تأكيمنا نحف في زمف متأخر عف زمنيـ ؟‬

‫‪ -4‬النشأة ومشكمة التسمية‪:‬‬

‫ترتبط نشأة المعتزلة بحمقات اإلماـ الحسف بف يسار البصرم الذم تكفي سنة ‪ 110‬ىػ‪ .‬كىك مف عمماء المدينة‪ ،‬كلد في السنة‬
‫الكاحدة كالعشريف مف اليجرة‪ ،‬نشأ في بيت النبكة حيث كانت أمو مكالية ألـ سممة زكجة الرسكؿ الكريـ‪ ،‬كعاصر خبلفة عمر كعثماف‬
‫كفتنة صفيف‪ ،‬لكنو اعتزؿ ىذه األحداث المسمحة‪ .‬انتقؿ إلى البصرة في سف الشباب لمعمـ‪ ،‬كانتيى بأف أصبح عالما كمفتيا فييا عمى‬
‫طريقة أىؿ السنة كالجماعة‪ ،‬كشكؿ مرجعا ميما لؤلشاعرة مثؿ الغزالي كغيره‪ .‬كمف بيف مريديو كاصؿ بف عطاء الذم عاش بيف ‪80‬‬
‫ق‪ 131/‬ق‪ ،‬كيقاؿ أنو تتممذ لمحمد بف عمي بف أبي طالب بف الحنفية‪ ،‬كقد حدث خبلؼ بينو كبيف الحسف البصرم حكؿ سؤاؿ‬
‫أحدىـ عف حكـ مرتكب الكبيرة ؟ فبينما كاف الحسف البصرم في حمقة عممية في المسجد‪ ،‬طيرح عميو ىذا السؤاؿ‪ ،‬فبادر كاصؿ بأف‬
‫قاؿ بأنو ليس بمؤمف كليس بكافر‪ ،‬بؿ ىك في منزلة بيف المنزلتيف‪ ،‬كمف ثمة بدأ يبرىف عمى أطركحتو ىذه في حمقة منعزلة عف حمقة‬

‫‪1‬‬
‫محمد أرككف‪ :‬الفكر العربي‪ ،‬ترجمة عادؿ العكا‪ ،‬منشكرات عكيدات‪ ،‬بيركت ‪ -‬باريس‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،1985 ،‬ص ‪.19‬‬

‫‪2‬‬
‫عمي فيمي خشيـ‪ :‬النزعة العقمية في تفكير المعتزلة‪ ،‬الشركة العامة لمنشر كالتكزيع كاإلعبلف‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،1976 ،‬ص ‪-77‬‬
‫‪.78‬‬

‫‪115‬‬
‫‪1‬‬
‫لك صدقنا ىذه القصة عف النشأة‪ ،‬كالتي تسمى اآلف‬ ‫شيخو‪ ،‬فقاؿ الحسف البصرم معمقا عمى الحادثة "لقد اعتزؿ عنا كاصؿ"‪.‬‬
‫أسطكرة النشأة‪ ،‬ألمكف لنا مبلحظة المنظكر الذم صدرت عنو‪ ،‬عمى أساس أف طريقة سردىا تكحي بمدل التجاكز العممي كاألخبلقي‬
‫لكاصؿ بيف عطاء ازاء السمطة الركحية التي يمثميا الحسف البصرم بما ىك عالـ كصحابي مف الدرجة الثانية‪ .‬لذا فإف االنشقاؽ عف‬
‫مثؿ ىذا العالـ الصحابي‪ ،‬لو رمزي ة االنشقاؽ عف الجماعة كالسنة ذاتيا‪ .‬يبدك أف نسيج القصة مستكحى مف المنظكر السني‪ ،‬الذم‬
‫ينظر إلى االعتزاؿ باعتباره انشقاؽ‪ ،‬غير مبرر‪ ،‬عف العمـ السني الذم كاف يمثمو الشيح الحسف البصرم المديني األصكؿ‪ .‬كىناؾ‬
‫مف يذكر أف الذم انعزؿ عف البصرم ىك عمرك بف عبيد‪ ،‬كلو عبلقة قرابة بكاصؿ حيث زكجو أختو‪ ،‬في عبلقتيما‪ ،‬أم كاصؿ‬
‫كعمرك بف عبيد‪ ،‬يقكؿ "فاف ايس" أف عبلقتيما كعبلقة ماركس بإنجمز‪ 2.‬أم ليما نفس الثقؿ في ظيكر المعتزلة‪ .‬كقد كقع جدؿ‬
‫حقيقي حكؿ المؤسس الحقيقي لمحركة‪ ،‬لذلؾ نجد مف يذكر كاصؿ بف عطاء كمف يذكر عمرك بف عبيد‪.‬‬

‫بحث الدرس اإلستشراقي في أصؿ تسمية المعتزلة‪ ،‬إذ قدـ المستعرب اإليطالي كارلك ألفكنسك نيمنك (‪carlo )1938/1872‬‬
‫‪ Alfonso Naillno‬بحثا ميما في ىذا المكضكع‪ .‬فبعد أف عرض الركاية المشيكر عف انشقاؽ كاصؿ بف عطاء أك عمرك بف‬
‫عبيد‪ ،‬كالخمفية السنية كراء ىذه التسمية كالتي تفيد التيمة كالمكـ عف فعؿ االنعزاؿ أك االنشقاؽ كاالنفصاؿ عف السمطة السنية‪ .‬انتقؿ‬
‫إلى عرض تفسير ديتريش القائؿ بأف "اعتزاؿ كاصؿ الجماعة‪ ،‬ىك ثكرة عمى المذىب المنكر لحرية اإلرادة"‪ 3.‬عمى أساس أف أىـ‬
‫مسألة في مذىب االعتزاؿ ىك الحرية اإلنسانية‪ ،‬كسنرل أدناه أف اسـ القدرية ىك األنسب ليـ بالنظر إلى عقيدتيـ األساسية‪ .‬كلك أف‬
‫"لفظ المعتزلة بمعناه الحرفي يدؿ عمى اعتزاؿ كاصؿ الرأم المقبكؿ مف جماعة المسمميف حكؿ مسألة كضع مرتكبي الكبائر في‬
‫اإلسبلـ"‪ 4،‬إال أف المستشرؽ جكلدتسيير ‪ ، Goldziher‬في بحكثو التي تعكد إلى ‪ ،1910‬قدـ تفسي ار ال يمت بصمة إلى التفسير‬
‫المألكؼ‪ .‬إذ نجده يقكؿ بأف ميكؿ كاصؿ بف عطاء كعمرك بف عبيد الصكفية كزىدىـ كبعدىـ عف زخرؼ الدنيا كشيكاتيا‪ ،‬جعميـ في‬

‫‪1‬‬
‫أحمد محمكد صبحي‪ :‬في عمـ الكبلـ‪ -‬دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف‪ ،‬الجزء األكؿ‪ :‬المعتزلة‪ ،‬دار النيضة‬
‫‪ .106‬ىذه الركاية مذككرة في الكتب التراثية‪ ،‬مثؿ الفرؽ بيف الفرؽ لمبغدادم‪،‬‬ ‫العربية‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة الخامسة‪،1985 ،‬‬
‫كالشيرستاني‪ ،‬كابف خمكاف كالمسعكدم في مركج الذىب كغيرىـ‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬ترجمة‬
‫محي الديف جماؿ بدر كرضا حامد قطب‪ ،‬مراجعة محسف الدمرداش‪ ،‬منشكرات الجمؿ‪ ،‬بيركت – بغداد‪ ،‬الطبعة األكلى‪،2016 ،‬‬
‫ص ‪.356‬‬

‫‪3‬‬
‫كارلك ألفكنسك نيمنك ‪ :‬بحكث في المعتزلة‪ ،‬ترجمة عبد الرحمف بدكم‪ ،‬ضمف كتاب‪ :‬التراث اليكناني في الحضارة اإلسبلمية‪-‬‬
‫دراسات لكبار المستشرقيف‪ ،‬مكتبة النيضة المصرية‪ ،‬القاىرة‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،1946 ،‬ص ‪.177‬‬
‫‪4‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬ترجمة مصطفى لبيب عبد الغاني‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬المركز القكمي لمترجمة‪،‬‬
‫القاىرة‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2005 ،‬ص ‪.64‬‬

‫‪116‬‬
‫منزلة المعتزليف‪ ،‬أم الزاىديف المتعبديف‪ .‬كبالتالي فتسمية االعتزاؿ ال ترتبط بالمكقؼ مف مرتكب الكبيرة‪ ،‬بؿ بالتقكل كالتعبد‪ 1.‬لكف‬
‫نيمنك يرفض بشدة ىذا التأكيؿ مثمو مثؿ مارجميكث‪ ،‬عمى اعتبار أف الزىد كاف في زمانيـ مكقفا منتش ار كمألكفا‪ ،‬لذا فبل مبرر‬
‫باعتبارىا اعتزالييف بسبب زىدىـ‪ ،‬ثـ ألـ يكف الشيخ الحسف البصرم زاىدا مثميـ أك أكثر منيـ ! كبالتالي فيذه الفرضية ضعيفة ال‬
‫يمكف األخذ بيا‪.‬‬

‫األغمبية مف الدراسات تبدأ بذكر اإلعتزاؿ في نياية القرف اليجرم األكؿ‪ ،‬بربطيا بحادثة الحسف البصرم ككاصؿ بف عطاء‪.‬‬
‫ك"المعتزلة" ( بفتح الزام‪ ،‬كاسـ فاعؿ) كانت مألكفة كمستعممة‪ .‬فقد كرد‬
‫ى‬ ‫عمى الرغـ مف أف المصطمح "اعتزاؿ" ك"معتزؿ" ك"اعتزلكف"‬
‫كف﴾ [الدخاف ‪ ،]21‬بمعنى مف لـ يؤمف بالرسالة‪ ،‬فبل يككف معو كال‬ ‫﴿كًا ٍف لى ٍـ تي ٍؤ ًمينكا لًي فى ٍ‬
‫اعتى ًزلي ً‬ ‫في القرآف قكؿ مكسى عميو السبلـ ى‬
‫ي ككف ضده‪ ،‬أم يككف محايدا بيف المكقفيف‪ .‬أك قؿ رفض االنتماء ألم طرؼ‪ .‬كىذا ما نجده تجسد في فتنة صفيف‪ ،‬مما يجعمنا‬
‫نفترض أف لبلعتزاؿ ككممة أصؿ سياسي‪ ،‬كيمكف الحديث بالتالي عف المعتزلة السياسييف‪ ،‬التي تعني االمتناع عف المشاركة في‬
‫الحرب األىمية كالمنازعات الداخمية التي أفضت في النياية إلى طرح مسألة الكبائر‪ .‬كقد تمت اإلشارة إلى حديث نبكم يتضمف كممة‬
‫المعتزلة كىك‪" :‬ستفترؽ أمتي عمى بضع كسبعيف فرقة‪ ،‬أبرىا كأتقاىا الفئة المعتزلة"‪ 2،‬أم التي اعتزلت الصراعات كالفتف‪ .‬يمكف أف‬
‫نبلحظ إذف‪ ،‬أف كممة اإلعتزاؿ كانت مستعممة قبؿ حادثة "الحسف البصرم‪ -‬كاصؿ بف عطاء"‪ ،‬ككانت تفيد عدـ االنحياز في‬
‫الصراع الذم حدث بيف عمي (ض) كمعاكية بف أبي سفياف‪ .‬لذا نجد أبكا الفدا‪ ،‬يتحدث عف الرجاؿ الذيف اعتزلكا بيعة عمي في ‪35‬‬
‫ق‪.‬‬

‫بالنسبة لمكضكع المباحثة التي أفرزت نشكء االعتزاؿ‪ ،‬كىك حكـ مرتكب الكبيرة‪ ،‬أك الذنب الكبير‪ ،‬فمف الكاضح أنو مستخرج‬
‫مف الفتنة التي ألمت بالمسمميف‪ ،‬فالقتاؿ بينيـ ىك كبيرة عمى أساس أف القتؿ كالمقتكؿ كبلىما مسمـ العقيدة‪ .‬فقد كاف الخكارج‬
‫يعتبركف مرتكب الكبيرة كاف ار بصكرة كاضحة‪ ،‬في حيف أف المرجئة المتساىمة قد اعتبرتو مؤمنا‪ ،‬أما الحسف البصرم فقد استعمؿ‬
‫عبارة المنافؽ لكصفو‪ ،‬كانفصاؿ كاصؿ عف شيخو كاف في التسمية حيف استعماؿ لفظة "فاسؽ"‪ ،‬أم أف مرتكب الكبيرة ال ىك بمؤمف‬
‫كال ىك بكافر‪ .‬كقد قيؿ بأف كاصؿ ألؼ كتابا يحمؿ عنكاف "المنزلة بيف المنزلتيف" كىك ما كاف يعنيو بالفاسؽ‪ 3.‬كىناؾ مف افترض‪،‬‬

‫‪1‬‬
‫كارلك ألفكنسك نيمنك ‪ :‬بحكث في المعتزلة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ .179‬أيضا‪ :‬جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف‬
‫الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ .505 ،504‬يقكؿ "جكلدتسيير‬
‫‪ : Goldziher‬المعتزلة ما ىـ إال زىاد‪ .‬أما ماسينيكف رأل بأف االعتزاؿ ىك اعتزاؿ القمب كصفائو‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪ .190‬أيضا‪ :‬جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في‬
‫اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ .502‬يقكؿ حكؿ إسياـ ىذا المستشرؽ اإليطالي‪ ":‬كاف نممينك ‪ Nallino‬ىك أكؿ مف قاـ‬
‫مف قاـ بتجميع الشكاىد التي تدكر حكؿ أكلئؾ الذيف كانكا يتصرفكف بشكؿ محايد‪ ،‬فاعتزلكا كؿ اخكانيـ في العقيدة ممف رفعكا‬
‫السيكؼ عمى بعضيـ بعضا‪ .‬كىؤالء ىـ المقصكدكف بالمعتزلة في الحديث النبكم المذككر‪ ،‬فمـ يككنكا في ذلؾ الكقت بمثابة الفرقة‬
‫أك المدرسة الفكرية التي يعرفت فيما بعد؛ بؿ كانكا مجرد صيغة الجمع "معتزلكف" مف المفرد "معتزؿ" بالمعنى غير االصطبلحي‬
‫لمكممة؛ غير أف ىؤالء كانكا بمثابة مرجعية لكاصؿ كأتباعو فيما بعد"‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.391-390‬‬

‫‪117‬‬
‫كربما ىك افتراض متأخر‪ ،‬كبالنظر إلى تسميو الحسف البصرم‪ ،‬أف الفاسؽ في منزلة بيف ثبلثة منازؿ سابقة تمت تسميتيا؛ أم ىك‬
‫في منزلة بيف الكفر كاإليماف كالنفاؽ‪ .‬كالمقصكد بالمنزلة ىنا‪ ،‬ىك الجنة كالنار‪ ،‬ألنيما المنازؿ التي ينزؿ فييا الكافر كالمؤمف‪ 1.‬لكف‬
‫ىؿ يمكف اثبات كجكد ىذا المكاف الذم ليس ىك بالنار كال بالنعيـ ؟ ىؿ يمكف اثبات منزلة النفاؽ ؟ ما طبيعتيا ؟ ىذه األسئمة ىي‬
‫التي جعمت الطركحات المعتزلية تسبب مشكبلت في ذىف اإلنساف الذم ألؼ منزلتيف فقط‪ ،‬مثمما أف المنطؽ التقميدم لو قيمتيف فقط‪:‬‬
‫الصدؽ كالكذب‪ .‬كبالفعؿ‪ ،‬فإف المنطؽ المعاصر قد أكجد مبدأ الرابع كالخامس المرفكع‪ ،‬مما يفترض أف ىناؾ قيـ نسبية بيف‬
‫المتناقضيف‪ ،‬كىي قيـ ربما ال يمكف احصاءىا بسبب كثرتيا‪ .‬ىكذا يشعر المرء بأف الطرح اإلعتزالي قد فجر عقائد التثنية المألكفة‬
‫بيف الجنة كالنار‪ ،‬بيف الخير كالشر‪ .‬كىي عقائد كثنية في األساس نجدىا في الديانات الفارسية‪ .‬لكف ربما أف التجديد ىنا ال نعزكه‬
‫لكاصؿ‪ ،‬بقدر ما ننسبو لمحسف البصرم‪ ،‬عمى أساس أنو كاف يعتقد بكجكد مرتبة النفاؽ‪ ،‬كالتي ليست بمرتبة اإليماف كليست بمرتبة‬
‫الكفر‪ .‬ككعادتيـ يقكـ المستشرقكف بالبحث في مصدر ىذه العقبلنية النسبية التي تجعؿ ىناؾ مرتبة بيف المتناقضتيف‪ ،‬فقد أشار إ‪.‬‬
‫جريؼ ‪ " E. Gräf‬في مكضكع المنزلة بيف المنزلتيف إلى فكرة مكازنة في أسمكب التكبة المسيحي قائبل‪ :‬كذلؾ الذم رفضت مشاركتو‬
‫في العشاء األخير لـ يكف يعتبر مسيحيا كال غير مسيحي"‪ 2.‬لكننا ال نعتقد بأف كؿ فكرة كبلمية اسبلمية ليا أصكؿ غير اسبلمية‪،‬‬
‫كلئف كنا نقبؿ بكجكد تثقاقؼ كبلمي أثبتناه في محاضرة سابقة‪ ،‬إال أنو ال يمكف تصحير الكبلـ اإلسبلمي بجعمو عقيـ لـ ينتج أم‬
‫مفيكـ أصيؿ‪.‬‬

‫كبعيدا عف المعنى السمبي لئلعتزاؿ الذم قد يفيد االنفصاؿ كاالنشقاؽ‪" ،‬يجد القاضي عبد الجبار في كتاب المصابيح إلبف يزداد‬
‫تعريفا أعجبو عمى نحك أفضؿ‪ ،‬يقكؿ ىذا التعريؼ بأف المعتزلة ىك الذيف اعتزلكا أم نكع مف االفراط أك التفريط‪ ،‬فيـ أمة الكسط‪.‬‬
‫بؿ إف ابف يزداد يبرىف عمى أف لفظ "اعتزاؿ" يرد في القرآف عمى نحك ايجابي؛ حيث فيو معنى "اعتزاؿ الشر"‪( .‬مريـ‪:48 ،‬‬
‫كى ٍـ‬ ‫﴿كًا ًذ ٍ‬
‫اعتىىزٍلتي يم ي‬ ‫ً‬ ‫كف المَّ ًو كأ ٍىدعك ربّْي عسى أ َّىال أى يك ً ً‬
‫كف ب يد ىعاء ىربّْي ىشقيِّا﴾[مريـ‪ .]48 ،‬أيضا قكلو تعالى‪ :‬ى‬ ‫ى‬ ‫ىى‬ ‫ى ي ى‬ ‫كف ًم ٍف يد ً‬ ‫ىعتى ًزلي يك ٍـ ىك ىما تى ٍد يع ى‬
‫﴿كأ ٍ‬
‫ى‬
‫ّْئ لى يك ٍـ ًم ٍف أى ٍم ًريك ٍـ ًمرفىقنا﴾ [الكيؼ‪ ."]16 ،‬فاعتزاؿ الشر المتمثؿ‬
‫‪3‬‬ ‫ًً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كما يعب يد َّ َّ‬
‫كف إًال الموى فىأ يٍككا إًلىى ا ٍل ىك ٍيؼ ىي ٍن يش ٍر لى يك ٍـ ىرُّب يك ٍـ م ٍف ىر ٍح ىمتو ىكيييىي ٍ‬ ‫ى ى ى ٍي ى‬
‫في المخاصمات كالفتف الفكرية يفيد التأسيس لمسار معرفي جديد‪ ،‬مما يجعمو مفيكما ايجابيا مثمرا‪.‬‬

‫مف بيف التسميات األخرل لفرقة المعتزلة‪ ،‬نجد اسـ "القدرية"‪ ،‬كربما أف ىذه التسمية ىي األكثر داللة عمى مضمكف المذىب مف‬
‫التسمية الشائعة كىي المعتزلة‪ .‬لذا نجد القدامى‪ ،‬مثؿ ابف قتيبة (تكفي ‪ 276‬ق) يستعمؿ اسـ القدرية ال المعتزلة عمى الرغـ مف‬
‫معرفتو بيذا االسـ األخير‪ 4.‬كىذا الخيار يدؿ عمى التركيز عمى مضمكف المذىب ال عمى سبب التسمية المألكؼ كىي حادثة‬
‫االنفصاؿ‪ .‬كالمبلحظ أف ترتيب مبدأ المنزلة بيف المنزلتيف‪ ،‬كىك المفترض أنو سببا لنشكء االعتزاؿ‪ ،‬في أصكؿ المعتزلة ىك المرتبة‬
‫الرابعة كليس األكلى‪ .‬لذا مف حقنا االفتراض أنو لك كاف سبب ظيكر اإلعتزاؿ ىك ىذا المبدأ‪ ،‬أم مفيكـ منزلة الفسؽ‪ ،‬لكاف مرتبا في‬
‫المرتبة األكلى‪ .‬لكف نحف نعمـ أف األصؿ األكؿ ىك التكحيد‪ ،‬كالثاني ىك العدؿ‪ .‬كمشكمة العدؿ ذات صمة قكية بالحرية كالقدر‪ .‬لذا‬

‫‪1‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.396‬‬
‫‪2‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.399 ،398‬‬
‫‪3‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.499‬‬
‫‪4‬‬
‫كارلك ألفكنسك نيمنك ‪ :‬بحكث في المعتزلة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.176‬‬

‫‪118‬‬
‫فتسمية القدري ة أكثر داللة عمى مضمكف عقيدة االعتزاؿ منيا عمى تسمية اإلعتزاؿ بالضبط‪" .‬فالمعتزلة ظمكا في العمؽ ميمكميف‬
‫بمشكمة العبلقة بيف ا﵀ كاإلنساف كما حدد إطارىا في القرآف أم مشكمة المسؤكلية كالتكميؼ"‪ 1.‬كحدكد قدرة اإلنساف في أفعالو مف‬
‫أجؿ تفادم التصادـ مع فرضية الظمـ اإلليي التي ال تستساغ في العقيدة اإلسبلمية‪.‬‬

‫إلى جانب اسـ القدرية كما يذكرىا البغدادم أيضا حيث استعمؿ عبارة "القدرية المعتزلة"‪ 2،‬نجد تسمية العدلية أك التكحيدية‪ ،‬أم‬
‫‪3‬‬
‫أىؿ العدؿ كالتكحيد‪ ،‬كىي مستخمصة مف أصكليـ األساسية إذ يمكف ردىا إلى األصؿ األكؿ كىك التكحيد كالثاني كىك العدؿ‪،‬‬
‫كنجد أيضا تسمية الجيمية التي أطمقيا اإلماـ أحمد بف حنبؿ‪ ،‬حيث الحظ التكافؽ بيف المعتزلة كالجيمية في عدة مسائؿ مثؿ انكار‬
‫رؤية ا﵀ تعالي‪ ،‬كمسألة نفي الصفات عنو‪ ،‬كأيضا قضية التأكيد عمى خمؽ القرآف‪ ،‬كىي القضية التي دخؿ فييا ابف حنبؿ في صراع‬
‫مرير مع المعتزلة كالسمطة المعتزلية‪ .‬إذ نجده يصنؼ عمرك بف عبيد البصرم ضمف الجيمية‪ 4.‬كما نجد أيضا اسـ المعطمة ألنيـ‬
‫يعطمكف الصفات الخبرية عف ا﵀ تعالى‪ .‬حيث قالكا "ليس ﵀ عز كجؿ عمـ‪ ،‬كال قدرة‪ ،‬كال حياة‪ ،‬كال سمع‪ ،‬كال بصر‪ ،‬كال صفة أزلية‪،‬‬
‫كقالكا أف ا﵀ تعالى لـ يكف لو في األزؿ اسـ كال صفة"‪ 5.‬ليذا ينعتكنيـ بالمعطمة ألنيـ عطمكا كؿ شيء في الذات اإلليية‪ .‬ألف نفي‬
‫الصفات الخبرية يجعمنا نعتقده ببل صفات كببل كيفيات‪ ،‬أم معطبل عف كؿ شيء‪ .‬لكف المعتزلة ال يقبمكف ككنيـ معطمة‪ ،‬ألنيـ‬
‫يثبتكف صفات الذات‪.‬‬

‫‪ -5‬طبقات االعتزال وفرقيم‪:‬‬

‫الغريب أننا نجد كتابات المعتزلة تؤصؿ لفرقتيـ إلى الخمفاء الراشدكف‪ ،‬كتتكضح ىذه الحركة االسترجاعية عندما نعمـ أنيـ‬
‫يريدكف البرىنة بأنيـ ليسكا أصحاب فكر جديد كمنعزؿ عف مسار نشأة الديف اإلسبلمي‪ .‬كسنجد ىذه الطريقة عند الفرؽ البلحقة‪،‬‬
‫بخاصة المعتزلة كالماتردية‪ ،‬حيث ال تدعي التجديد كاإلبداع نظ ار النتشار حديث البدعة الذم يجعؿ أم ابتداع في النار‪ .‬كبيذا نجد‬
‫رجاؿ المعتزلة المتأخريف يضعكف لنا ‪ 12‬طبقة تمثؿ أصكليـ كمآالتيـ الحقا‪:‬‬

‫الطبقة األكلى‪ :‬طبقة الخمفاء الراشديف؛ عمي بف أبي طالب‪ ،‬أبكبكر الصديؽ‪ ،‬عمر بف الخطاب‪ ،‬كعثماف بف عفاف‪ .‬كىذا‬ ‫‪‬‬
‫لممرتب حيث تـ تسبيؽ عمي عمى أبي بكر‪ .‬ثـ يتـ ذكر ابف عباس كابف مسعكد بكصفيما‬
‫الترتيب يعكس االنتماء الشيعي ي‬
‫صحابة عمماء‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬ترجمة عبد المجيد الصغير‪ ،‬نشر الفنؾ‪ ،‬الدار البيضاء‪،2000 ،‬‬
‫ص ‪.151‬‬

‫‪2‬‬
‫عبد القاىر البغدادم‪ :‬الفرؽ بيف الفرؽ كبياف الفرقة الناجية‪ ،‬مكتبة ابف سينا‪ ،‬القاىرة‪ ،1988 ،‬ص ‪.104‬‬

‫‪3‬‬
‫عبد الكريـ الشيرستاني‪ :‬الممؿ كالنحؿ‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬المكتبة العصرية‪ ،‬بيركت‪ ،2003 ،‬ص ‪.39‬‬
‫‪4‬‬
‫أحمد بف حنبؿ‪ :‬الرد عمى الجيمية كالزنادقة فيما شككا فيو مف متشابو القرآف كتأكلكه عمى غير تأكيمو‪ ،‬تحقيؽ صبرم بف سبلمة‬
‫شاىيف‪ ،‬دار الثبات لمنشر كالتكزيع‪ ،‬الرياض‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2003 ،‬ص ‪.98‬‬

‫‪5‬‬
‫عبد القاىر البغدادم‪ :‬الفرؽ بيف الفرؽ كبياف الفرقة الناجية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.104‬‬

‫‪119‬‬
‫الطبقة الثانية‪ :‬الحسف كالحسيف سبطي النبي‪ ،‬ثـ محمد بف الحنفية‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫الطبقة الثالثة‪ :‬أحفاد عمي التابعيف مثؿ النفس الزكية كزيد بف عمي‪ .‬كىنا نبلحظ استمرار النسؿ العمكم في الطبقات الثبلثة‬ ‫‪‬‬
‫األكلى‪ .‬مما يؤكد فرضية امتزاج المعتزلة بالشيعة‪.‬‬

‫الطبقة الرابعة‪ :‬غيبلف الدمشقي ككاصؿ بف عطاء كعمرك بف عبيد‪ ،‬كمكحكؿ‪ ...‬كىؤالء ىـ أكائؿ المعتزلة كمؤسسي الفرقة‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪1‬‬
‫الطبقة الخامسة‪ :‬مبعكثي كاصؿ بف عطاء إلى األمصار لنشر عقيدة اإلعتزاؿ‪ ،‬كيسمكف الكاصمية‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫الطبقة السادسة‪ :‬أبك اليذيؿ العبلؼ‪ ،‬ابراىيـ بف سيار النظاـ‪ ،‬بشر بف المعتمر (معتزلة بغداد) ككيساف‪ ...‬كىـ قمة الفكر‬ ‫‪‬‬
‫اإلعتزالي مف حيث تحديد المنيج كالتحكـ في المنطؽ‪.‬‬

‫الطبقة السابعة‪ :‬تشمؿ األشرس كالجاحظ كالمردار‪ ،‬كأحمد بف أبي داؤد (الذم استجكب اإلماـ أحمد بف حنبؿ كىك قاض‬ ‫‪‬‬
‫في زمف المأمكف‪ ،‬لكف بدكم يذكره في الطبقة الثامنة)‪.‬‬

‫الطبقة الثامنة‪ :‬أبك عمي الجبائي‪ ،‬كالخياط‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫الطبقة التاسعة‪ :‬في القرف الرابع ق أبك ىاشـ الجبائي (ابف أبي عمي الجيائب)‪ ،‬الباىمي‪ ...‬ىنا امتزجت اآلراء اإلعتزالية‬ ‫‪‬‬
‫مع الشيعية‪( .‬تتممذ األشعرم عمى الجبائييف‪ /‬األب كاالبف)‪.‬‬

‫الطبقة العاشرة‪ :‬السرافي (أبك القاسـ كأبك العمراف)‪...‬أخت أبي ىاشـ الجبائي‪ .‬كىنا نبلحظ ادخاؿ النساء في الفرقة‪ ،‬كىك‬ ‫‪‬‬
‫االمر الذم ال نجده في بقية الفرؽ األخرل‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫يذكر فاف ايس‪:‬‬
‫"مبعكث كاصؿ إلى الجزيرة العربية ىك أيكب بف األكثر‪ ،‬أما مبعكثو إلى اليمف فيك القاسـ بف الصعدم‪ ،‬أما مبعكثو إلى المغرب فيك‬
‫عبد ا﵀ بف الحارث‪ ،‬أما مبعكثو إلى خرساف فيك حفص بف سالـ‪ ،‬كمبعكثو إلى أرمينيا ىك أبك عمرك عثماف بف أبي خالد الطكيؿ‬
‫(كاف تاجر أقمشة = بزاز بالتركية أم لو نفس مينة كاصؿ) حيث عمؿ مفتيا مدة عاميف في أرمينيا‪ .‬كابتعث كاصؿ إلى الككفة أبك‬
‫معاذ سميماف بف أرقـ البصرم‪ .‬كالرجؿ الثاني الذم بعثو إلى الككفة ىك (أبك سممة) الحسف بف ذككاف البصرم‪ )...( .‬اىتمامات‬
‫كاصؿ تكجيت نحك الدعكة خارج البصرة‪ ،‬ككاف يكفيو لذلؾ بضعة رجاؿ مثقفيف متحمسيف‪ .‬ككاف المرء دائما يحمؿ ىذا البعثات‬
‫الدعكية انطبلقا مف شخصية كاصؿ فحسب‪ ،‬لذلؾ فإف األتباع الذيف انضمكا إليو في المغرب كاف يطمؽ عمييـ "الكاصمية"‪ ،‬كليس‬
‫"المعتزلية"‪ .‬المرجع‪:‬‬

‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ص ‪.506-461‬‬

‫‪121‬‬
‫الطبقة ‪ :11‬القاضي عبد الجبار المعتزلي صاحب المغنى كشرح األصكؿ الخمسة‪ .‬كىك مف القبلئؿ المعتزلييف الذيف‬ ‫‪‬‬
‫كصمت إلينا كتبيـ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫الطبقة ‪ :12‬الشريؼ المرتضي‪...‬‬ ‫‪‬‬

‫كالى جانب ىذا الترتيب التاريخي‪ ،‬يمكف العثكر عمى تصنيؼ قائـ عمى الشخصيات المركزية في الفرقة‪ .‬فنجد مثبل‪:‬‬

‫الكاصمية‪ :‬نسبة لكاصؿ بف عطاء‪ ،‬كالتي قالت بنفي الصفات عمى ا﵀ كالقكؿ بالقدر مثؿ معبد الجيني‪ .‬كالقكؿ بالمنزلة‬ ‫‪‬‬
‫‪2‬‬
‫الكسطى كىي سبب ظيكر االعتزاؿ كما أظيرنا سابقا‪ ،‬كما تكمـ حكؿ فتنة صفيف‪.‬‬

‫اليذيمية‪ :‬أتباع أبي اليذيؿ العبلؼ الذم تأثر بالفبلسفة‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫النظامية‪ :‬نسبة إلى ابراىيـ بف سيار النظاـ‪ ،‬الذم خمط الكبلـ بالفمسفة‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫كيعد الشيرستاني فركع أخرل مف المعتزلة‪ ،‬ككأف لكؿ عضك بارز أتباعو‪ ،‬مثؿ الخطابية‪ ،‬كالبشرية‪ ،‬كالمعمرية‪ ،‬كالمردارية‪،‬‬
‫كالتمامية‪ ،‬كالياشمية‪ ،‬كالجاحظية‪ ،‬كالخياطية‪ ،‬كالجبائية‪ .‬كمف المفيد التأكيد بأف ىناؾ فركؽ جزئية بيف الفرؽ المعتزلية‪ ،‬لكنيا لـ‬
‫تخرج عف اإلطار العاـ كركح الفرقة التي جعمت العقؿ أساسا في تناكؿ النصكص الشرعية‪ .‬حيث اعتقدت بأنو يجب تأكيؿ‬
‫النصكص‪ ،‬القرآف أك الحديث‪ ،‬التي ال تتكافؽ مع منطؽ العقؿ لتنسجـ معيف كليس العكس‪.‬‬

‫‪ -6‬األصول الخمسة‪:‬‬

‫االنتساب إلى المعتزلة يتطمب االلتزاـ باألصكؿ الخمسة دكف انتقاص أك استزادة‪ .‬كعمى الرغـ مف أنيا خمسة أصكؿ إال أف‬
‫ىناؾ مف يختزليا إلى أصميف كبيريف ىما التكحيد كالعدؿ‪ ،‬كالبقية الثبلثة تندرج ضمف ىذا األصؿ األخير‪ .‬إذ "يمكف تمخيص مبادئ‬
‫المعتزلة في أف ا﵀ كاحد كأنو مف العدؿ في قضائو الرحيـ بخمقو‪ .‬المبادئ الخمسة ترد في النياية إلى ىذيف المبدأيف‪ .‬مبدأ الكعد‬
‫كالكعيد‪ ،‬كالمنزلة بيف المنزلتيف كاألمر بالمعركؼ داخمة في مبدأ العدؿ"‪ 3.‬كىنا نفيـ جيدا عنكاف المكسكعة اإلعتزالية لمقاضي عبد‬
‫الجبار المدرج في الطبقة الحادية عشر تحت عنكاف "المغنى في أبكاب التكحيد كالعدؿ"‪ .‬فيكية المعتزلة ىي نفي الصفات كىذا ما‬
‫يدخؿ في باب التكحيد‪ ،‬كتأكيد اإلرادة كىذا ما يدخؿ في باب العدؿ‪ 4.‬كلئف كانت ىذه األصكؿ تبدك بدييية ألم مسمـ‪ ،‬إال أف ما‬

‫‪1‬‬
‫عبد الرحمف بدكم‪ :‬مذاىب اإلسبلمييف‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬دار العمـ لممبلييف‪ ،‬بيركت‪ ،1970 ،‬ص‪ .42 -40‬أيضا‪ :‬أحمد محمكد‬
‫صبحي‪ :‬في عمـ الكبلـ‪ -‬دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف‪ ،‬الجزء األكؿ‪ :‬المعتزلة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ص ‪-114‬‬
‫‪.116‬‬
‫‪2‬‬
‫عبد الكريـ الشيرستاني‪ :‬الممؿ كالنحؿ‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.43-40‬‬
‫‪3‬‬
‫نصر حامد أبك زيد‪ :‬االتجاه العقمي في التفسير‪ -‬دراسة في قضية المجاز في القرآف عند المعتزلة‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار‬
‫البيضاء‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،1996 ،‬ص ص ‪.157-11‬‬

‫‪4‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.64‬‬

‫‪121‬‬
‫يندرج تحتيا مف تفاصيؿ تجعؿ اإلعتزاؿ فرقة شاذة مقارنة بعقائد أىؿ السنة كالجماعة‪ ،‬كما دخكليـ في صراع مع اإلماـ أحمد‪ ،‬كىك‬
‫فقيو نصي بالكامؿ‪ ،‬إال مظير مف مظاىر مخالفة طركحات أىؿ السنة‪.‬‬

‫كمف الجدير اإلشارة إلى أف ىذه األصكؿ لـ تكتمؿ في الطبقة الرابعة مف طبقات المعتزلة حيث ظير المؤسسكف األكائؿ مثؿ‬
‫عمرك بف عبيد ككاصؿ بف عطاء‪ ،‬بؿ اكتممت في الطبقة السادسة كىي طبقة أبك اليذيؿ العبلؼ‪ .‬كلما سئؿ القاضي عبد الجبار‪،‬‬
‫كىك في الطبقات المتأخرة‪ ،‬عف سبب اقتصاد األصكؿ في العدد خمسة بالضبط‪ ،‬أجاب أف الفرؽ األخرل قالت بأصؿ مف ىذه‬
‫األصكؿ‪ ،‬لكنيا عجزت عف استجماعيا كميا‪ .‬قاؿ‪ :‬ال خبلؼ أف المخالفيف لنا‪ ،‬ال يعدكف أحد ىذه األصكؿ‪ .‬أال ترل أف خبلؼ‬
‫الممحدة كالمعطمة كالدىرية كالمشبية قد دخؿ في التكحيد‪ .‬كأف خبلؼ المجبرة بأسرىـ داخؿ في باب العدؿ‪ ،‬كخبلؼ المرجئة داخؿ‬
‫في باب الكعد كالكعيد‪ ،‬كخبلؼ الخكارج داخؿ تحت المنزلة بيف المنزلتيف‪ ،‬كخبلؼ األمامية داخؿ في األمر بالمعركؼ كالنيي عف‬
‫المنكر"‪ 1.‬يفيـ أف األصكؿ الخمسة ىي محصمة كؿ المسائؿ الكبلمية التي أثارت اختبلؼ الفرؽ اإلسبلمية‪ ،‬مما يدؿ عمى المنظكر‬
‫الكمي لممعتزلة في شؤكف عمـ الكبلـ‪ .‬كحيث اقتصرت الفرؽ األخرل عمى مشكمة دكف االخرل‪ ،‬قامت المعتزلة عمى جمع كؿ‬
‫المشكبلت المطركحة في أكصؿ خمسة‪ .‬مما يعني أف اكؿ فرقة تمنيج كتييكؿ مكضكعاتيا بنكع مف الترتيب كالتيذيب‪.‬‬

‫األصل األول‪ -‬التوحيد‪:‬‬

‫التكحيد أىـ صفة إليية‪ ،‬كىي ما يضاد الثنكية مف جية كما ال يقبؿ القسمة مف الجية األخرل‪ .‬كالتكحيد يقتضي عدـ مشاركة‬
‫الصفات اإلليية ألم كاف‪ .‬كأىـ صفة إليية أصمية ىي القدرة‪ .‬ألنيا الصفة الكحيدة التي ال تحتاج إلى كساطة مقارنة ببقية الصفات‬
‫األخرل‪ 2.‬كتكحيد ا﵀ عز كجؿ يتطمب منا ما يمي‪:‬‬

‫التنزيو‪ :‬أف ا﵀ سبحانو كتعالى ال يشبو شيئا مف مخمكقاتو‪ ،‬كال يمكف ﵀ أف يتصؼ بصفات األشياء التي أكجدىا بنفسو‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫كتبدك ىذه العقيدة صحيحة كسميمة‪ ،‬لدرجة أف األشاعرة كافقكا المعتزلة في ىذه المسألة‪ 3.‬فميس ا﵀ بجسـ كال جكىر كال‬
‫عرض كلي س في مكاف كال في زماف كال قابؿ لؤلعراض كال محؿ لمحكادث الطارئة‪ .‬كىذا تصديقا لقكلو تعالي‪﴿ :‬لىٍي ىس ىك ًمثٍمً ًو‬
‫ىش ٍي هء﴾ [الشكرل‪ ]11 ،‬ىذه ىي اآلية المحكمة األساسية‪ ،‬ككؿ اآليات التي تفيد التجسيـ متشابية تؤكؿ عمى أساس التنزيو‬
‫الخالص‪ .‬ألف إثبات صفات ﵀ تشترؾ مع المخمكقات مثؿ السمع أك الرؤية‪...‬الخ يؤدم إلى الكقكع فيما كقعت فيو الييكد‬
‫كالمجسمة كالمشبية‪...‬الخ‪ .‬كىذا البلىكت السمبي‪ ،‬أم عدـ اثبات صفات إليية‪ ،‬يثبت أف اإلنساف ال يعرؼ حقيقة الذات‬

‫‪ 1‬عبد الرحمف بدكم‪ :‬مذاىب اإلسبلمييف‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.56‬‬
‫‪2‬‬
‫عبد الجبار المعتزلي‪ :‬شرح األصكؿ الخمسة‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مكفـ لمنشر‪ ،‬الجزائر‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،1990 ،‬ص ‪.93‬‬
‫‪3‬‬
‫الشيرستاني‪ :‬نياية اإلقداـ في عمـ الكبلـ‪ ،‬تحرير كتصحيح ألفريد جيكـ‪ ،‬مكتبة الثقافة الدينية‪ ،‬القاىرة‪ ،‬الطبعة االكلى‪،2009 ،‬‬
‫ص ‪.97‬‬

‫‪122‬‬
‫اإلليية‪ 1،‬إال بما أخبرنا بو السمع‪ .‬لكف السمع يخبرنا بصفات متعارضة‪ ،‬البعض منيا يفيد التشبيو كالبعض األخر يفيد‬
‫النزيو‪ ،‬لذا كجب تأكيؿ آيات التشبيو لتتكافؽ مع آيات التنزيو التي ىي االصؿ‪.‬‬

‫صفات اهلل عين ذاتو ‪ :‬يعتقد المعتزلة بأف اثبات صفات قديمة مستقمة عف الذات اإلليية يؤدم إلى التثنية‪ ،‬أم اثبات‬ ‫‪‬‬
‫كجكد إلييف قديميف‪ :‬الذات اإلليية كصفاتو القديمة الكاممة‪ .‬كىذا خركج عف التكحيد‪ .‬كعندما يتحدث المسيحي عف الكحدة‬
‫الجكىرية ﵀ كتكثره األقانيمي (الكجكد‪ ،‬العمـ‪ ،‬الحياة) فإنو يشكش عقيدة التكحيد‪ 2.‬كعمد المعتزلة إلى تقسيـ الصفات إلى‬
‫نكعيف‪ :‬صفات الذات كالتي تتمثؿ في العمـ كالقدرة كالحياة كالقدـ حيث ال يمكف أف يكصؼ ا﵀ بعكسيا كأف يقاؿ جاىؿ أك‬
‫عاجز أك فاف أك حادث (تعالى ا﵀ عف ىذه النقائص)‪ ،‬كصفات األفعاؿ مثؿ الكبلـ‪...‬الخ‪ 3.‬لكف السؤاؿ عف أفعاؿ ا﵀‬
‫شيء مختمؼ عف ذاتو ؟ يجيب طو عبد الرحمف كاصفا الكضعية‪" :‬تقرر عند المتقدميف التفريؽ بيف أسماء الذات‪ ،‬كأسماء‬
‫الصفات‪ ،‬كأسماء األفعاؿ‪ .‬لكف ال يمكف تصكر صفة إال قائمة في الذات‪ .‬كالذات ببل صفة كبل ذات (‪ )...‬كالصفة تتجمى‬
‫في األفعاؿ‪( .‬ال ذات ببل صفة‪ ،‬كال صفة بغير فعؿ)"‪ 4.‬ىذا يعني أنو ال يحدث لنا الفصؿ بيف الذات كالصفة كاألفعاؿ‪،‬‬
‫كاال تقسمت الذات اإلليية كانتفت عنو الكاحدي ة‪ .‬كفي سياؽ قريب‪ ،‬تقع الشبية في السؤاؿ عف حقيقة العبلقة بيف الصفات‬
‫اإلليية كالصفات اإلنسانية ؟ ىؿ صفات ا﵀ مجرد اطبلؽ لمحدكدية صفات اإلنساف ؟ ألف معظـ الصفات اإلليية مكجكدة‬
‫عند اإلنساف لكف بحدكد مثؿ العمـ كالبصر كالسمع أك غير مكجكد أصبل مثؿ القدـ كغيرىا مف صفات الذات‪ .‬التنزيو يمزـ‬
‫اإلنساف باالعتقاد بأف "صفات ا﵀ ليست صفات منتزعة مف اإلنساف" كاال أصبح ا﵀ مف تخيؿ اإلنساف كىذا محاؿ‪ 5.‬إف‬
‫تعالي ا﵀ يكمف في استقبللو الكمي عف الصفات اإلنسية‪ .‬باإلجماؿ‪ ،‬يمكف القكؿ بأف ما يتحرج منو الفكر اإلعتزالي‪ ،‬ىك‬
‫االعتقاد ب أف الذات اإلليية تتركب مف جكىره كمف صفاتو‪ ،‬كىذا بالضبط ما يخدش عقيدة التكحيد النقية الصافية‪ 6.‬يبقى‬
‫السؤاؿ الميـ ىؿ يمكف أف نفكر في الذات اإلليية بطريقة تنزييية مطمقة ؟ أم ىؿ يمكف أف نعرؼ ا﵀ ببل تشبيو ؟ إف‬
‫التشبيو طريقة مف طريؽ البرىنة أك التكضيح‪ ،‬كيميز الدكتكر طو بعد الرحمف بيف التشبيو االضطرارم كالتشبيو االختيارم‪.‬‬
‫يقكؿ مكضحا‪" :‬التشبيو االضطرارم‪ :‬ىك الذم ال طاقة لئلنساف عمى صرفو مع دائـ سعيو إلى صرؼ ما سكاه‪ .‬كالتشبيو‬

‫‪1‬‬
‫أحمد محمكد صبحي‪ :‬في عمـ الكبلـ‪ -‬دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف‪ ،‬الجزء األكؿ‪ :‬المعتزلة‪ ،‬مرجع سابؽ‪،‬‬
‫ص ‪.122‬‬
‫‪2‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.124-123‬‬
‫‪3‬‬
‫نصر حامد أبك زيد‪ :‬االتجاه العقمي في التفسير‪ -‬دراسة في قضية المجاز في القرآف عند المعتزلة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.167‬‬
‫‪4‬‬
‫طو عبد الرحمف‪ :‬ديف الحياء – مف الفقو اإلئتمارم إلى الفقو اإلئتماني‪ ،‬الجزء األكؿ‪ :‬أصكؿ النظرم اإلئتماني‪ ،‬المؤسسة العربية‬
‫لمفكر كاإلبداع‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2017 ،‬ص ص ‪.64-63‬‬

‫‪5‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.69-68‬‬
‫‪6‬‬
‫نصر حامد أبك زيد‪ :‬االتجاه العقمي في التفسير‪ -‬دراسة في قضية المجاز في القرآف عند المعتزلة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.88‬‬

‫‪123‬‬
‫االختيارم‪ :‬اجتياد اإلنساف باختياره في التشبو بصفات الخالؽ"‪ 1.‬كما اختمؼ فيو النظار المسممكف األكائؿ (المعطمة‪،‬‬
‫المشبية كالمتأكلة)ىك التشبيو االضطرارم‪ .‬إذ ال يمكف تصكر ا﵀ ببل صفات‪ ،‬كاال كقعنا في تعديـ مطمؽ‪.‬‬

‫تأكيؿ الصفات الخبرية‪ :‬بما أف ا﵀ كصؼ ذاتو بجممة مف الصفات‪ ،‬فبل يمكف لنا أف ننفييا‪ ،‬فا﵀ عالـ كسميع‬ ‫‪‬‬
‫كقادر‪...‬ا لخ‪ .‬كبما أف ىناؾ العديد مف الصفات كاألسماء التي حممت عمى الذات اإلليية‪ ،‬فاألجدر أف نتفادل التشبيو‬
‫المطمؽ‪ ،‬كتأكيؿ كؿ اآليات التي تكحي بالجسمية‪ ،‬مثؿ آيات اليد كالكجو كالعيف‪...‬الخ‪ .‬أك آيات الحيزية مثؿ االستكاء‬
‫كالفكقية كالتحتية كالحركة كالنزكؿ‪...‬الخ‪ 2.‬كبالتالي كجب تأكيؿ كؿ ىذه اآليات عمى كفؽ آية التنزيو األساسية (ليس كمثمو‬
‫شيء) ألنيا اآلية المحكمة كالتي تتفي أم تجسيد اأك تشبيو محتمؿ‪.‬‬

‫نفي رؤية ا﵀ يكـ القيامة‪ :‬تطرح مسألة رؤية ا﵀ يكـ القيامة مشكمة تتعمؽ بالتجسيـ‪ ،‬عمى اعتبار أف لمرؤية شركطيا‬ ‫‪‬‬
‫الحسية مثؿ كجكد الجسـ كالضكء كالكقكع في حيز‪...‬الخ‪ .‬ككؿ ىذا يجعمنا نتعقد بالجسمية كىذا محاؿ‪ .‬لذا كجب تأكيؿ‬
‫اآليات التي تكحي بالرؤية مثؿ قكلو تعالى‪﴿ :‬إًلىى ربّْيا ىن ً‬
‫اظ ىرةه ﴾ [القيامة‪ ]23 ،‬باعتبارىا تدؿ عمى العمـ ال البصر‪ 3.‬أم‬ ‫ى ى‬
‫رؤية ا﵀ معنكيا كالذم يفيد العمـ بكجكده كسمطتو‪ ،‬كليس ابصاره مثمما نبصر األشياء أك الضكء‪.‬‬

‫القرآف مخمكؽ‪ :‬يعتد المعتزلة بأف القرآف مخمكؽ كليس قديـ كىذا ألسباب عديدة منيا أف القكؿ بأف القرآف قديـ يفضي إلى‬ ‫‪‬‬
‫مشاركتو ا﵀ في القدـ كمف ثمة مشاركتو في األلكىية‪ ،‬كىذا ما يخمخؿ عقيدة التكحيد التي ىي األساس لكؿ العقائد األخرل‪.‬‬
‫فبل يمكف لمقرآف أف يككف قديـ مع ا﵀‪ 4.‬كما أف تضمف القرآف لجممة مف التعميمات التي تمثؿ األكامر كالنكاىي عمى شكؿ‬
‫كعد ككعيد كحكادث‪...‬الخ يفترض منطقيا كجكد بشر يأتمركف بيا‪ ،‬فبل يعقؿ أف يصدر أمر اقامة الصبلة مثبل‪ ،‬دكف كجكد‬
‫متمقى ليا‪ ،‬ألف قدـ الق رآف يفترض عدـ كجكد اإلنساف بعد‪ .‬كبما أف القرآف آخر الرساالت‪ ،‬المسبكقة بكتب تحدث عنيا‬
‫القرآف ذاتو‪ ،‬صحؼ ابراىيـ كمكسى‪ ،‬فيذا كاؼ لمداللة عمى أنو مخمكؽ في زماف متأخر عنيا كليس بقديـ‪ ،‬كما أف ظاىرة‬
‫النسخ القرآني تدؿ عمى حدكثو‪ ،‬ألف القرآف المتأخر ينسخ القرآف المتقدـ عميو‪ 5.‬كىكذا‪ ،‬فبل يعقؿ أف يككف ىناؾ نسخ في‬

‫‪1‬‬
‫طو عبد الرحمف‪ :‬ديف الحياء – مف الفقو اإلئتمارم إلى الفقو اإلئتماني‪ ،‬الجزء األكؿ‪ :‬أصكؿ النظرم اإلئتماني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص‬
‫‪.70‬‬
‫ىعيينًىنا ىكىك ٍحيًىنا﴾ [ىكد‪،‬‬
‫ؾ بًأ ٍ‬
‫اصىن ًع ا ٍل يف ٍم ى‬ ‫ؾ يذك ا ٍل ىج ىبل ًؿ ك ًٍ ً‬
‫اإل ٍك ىراـ﴾ [الرحمف‪ ﴿ ]27 ،‬ىك ٍ‬ ‫ى‬ ‫ؽ أ ٍىي ًدي ًي ٍـ﴾ [الفتح‪ ﴿ ]10 ،‬ىكىي ٍبقىى ىك ٍجوي ىرّْب ى‬
‫﴿ىي يد المَّ ًو فى ٍك ى‬
‫‪2‬‬

‫الر ٍح ىم يف﴾ [الفرقاف‪ .]59،‬لمتكسع في مسألة الجسمية يمكف الرجكع لػ‪ :‬عبد الجبار المعتزلي‪ :‬شرح‬ ‫ش َّ‬‫استىكل ىعمىى ا ٍل ىع ٍر ً‬
‫‪﴿ ]37‬ثيَّـ ٍ ى‬
‫األصكؿ الخمسة‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.149‬‬

‫‪3‬‬
‫أحمد محمكد صبحي‪ :‬في عمـ الكبلـ‪ -‬دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف‪ ،‬الجزء األكؿ‪ :‬المعتزلة‪ ،‬مرجع سابؽ‪،‬‬
‫ص ‪.130-129‬‬
‫‪4‬‬
‫عبد الجبار اآلسدآبادم‪ :‬المغنى في أبكاب التكحيد كالعدؿ‪ -‬كتاب خمؽ القرآف‪ ،‬ص ‪.218‬‬
‫‪5‬‬
‫أحمد محمكد صبحي‪ :‬في عمـ الكبلـ‪ -‬دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف‪ ،‬الجزء األكؿ‪ :‬المعتزلة‪ ،‬مرجع سابؽ‪،‬‬
‫ص ‪ 130‬كما تبلىا‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫ضؿ تصكر القدـ‪ .‬كبما أف ىناؾ قرآف أكؿ كقرآف أكسط ك قرآف أخير‪ ،‬فيذا يعني أف ىناؾ فاصؿ زمني يجعمنا نعتقد بخمقو‬
‫في تاريخ ما‪.‬‬

‫كمف الضركرم‪ ،‬اإلشارة إلى محنة الحنابمة‪ ،‬بصدد مشكمة خمؽ القرآف‪ .‬إذ تـ أدلجة عقيدة اإلعتزاؿ‪ ،‬كتبنتيا السمطة العباسية‬
‫كعقيدة الدكلة التي يجب أف تفرض عمى الجميكر‪ .‬لكف اإلماـ أحمد بف حنبؿ رفض ىذه العقيدة ألنو يعتقد بأف القرآف لـ يصؼ ذاتو‬
‫بأنو حادث أك مخمكؽ‪ ،‬كبما أننا ال نجد أم آية في القرآف تذكر خمؽ القرآف كال أم حديث نبكم يشير إلى أف القرآف مخمكؽ‪ ،‬فيذا ال‬
‫‪1‬‬
‫ثـ أف العامة مف الناس قد يختمط عمييـ القكؿ بػ خمؽ القرآف كاختبلؽ القرآف‪ ،‬كقد يذىب البعض منيـ‬ ‫يسمح ألم مسمـ بتقكؿ ذلؾ‪.‬‬
‫إلى االعتقاد بكذبو‪ ،‬ألف االختبلؽ يفيد الكذب عند العامة‪ .‬كما أف القكؿ بالخمؽ يستجمب المكت كالفناء‪ ،‬ألف كؿ مخمكؽ فاف‪ ،‬فيؿ‬
‫ً‬ ‫ّْ‬
‫يستمزـ ذلؾ فناء القرآف‪ .‬طبعا ال‪ ،‬فالقرآف ذاتو يقر بمحفكظية القرآف‪﴿ :‬إًَّنا ىن ٍح يف ىنَّزٍلىنا الذ ٍك ىر ىكًاَّنا لىوي لى ىحافظي ى‬
‫كف﴾ [الحجر‪ .]9 ،‬كأخيرا‪،‬‬
‫فإف معارضة ابف حنبؿ مرتبطة برفضو ارساء تقميد غير مألكؼ تماما‪ ،‬كىك فرض السمطة السياسية ق ار ار عمى سمطة عممية (أم‬
‫الفقياء)‪ .‬كبالفعؿ‪ ،‬فإف المجتمع اإلسبلمي لـ يكف يسير كفؽ مبدأ ىيمنة الدكلة الذم سنجده في الحداثة األكركبية البلحقة‪ .‬فمـ يكف‬
‫لمدكلة اإلسبلمية حؽ األمر العقائدم أك الديني‪ 2.‬فبل سمطة إال لكبلـ ا﵀ المتعاؿ الذم ال يمكف ألم سمطة أف تفرضو بطريقتيا‬
‫الخاصة‪ .‬فالفيـ اإلعتزالي لمديف يبقى اجتياد مجمكعة مخصكصة ال يمكف أف يتحكؿ إلى عقيدة سمطة سياسية تفرض عمى الجميع‪.‬‬
‫فالحكـ اإلسبلمي الذم تجسد في الخبلفة ال يتدخؿ في مجاؿ التعميـ كتشكيؿ الذىنيات كفؽ مقياس مكضكع مسبقا‪ .‬ثـ أف الديف‬
‫أعمى مف الحاكـ كمف المحككـ‪ ،‬مما يجعمو مستقبل عف أم تأميـ‪.‬‬

‫كعمى الرغـ مف أف العامة مف الناس قد كقفكا مع ابف حنبؿ في ادانتو كتعذيبو‪ ،‬إال أف ىناؾ مف المؤرخيف مف اعتبر أف المحنة‬
‫مصطنعة مف طرفو مف أجؿ استعطاؼ الناس كمف أجؿ احرج السمطة‪ .‬يقكؿ فاف ايس‪" :‬تكرط االعتزاؿ في االضطياد الديني أك‬
‫المحنة (مع الخميفة)‪ .‬أم أف عمماء الكبلـ كقفكا ضد بجانب السمطة المضطيدة‪ .‬حقا‪ ،‬لـ يحدث أثناء تمؾ المتابعات كاالضطيادات‬
‫أف كقعت حالة اعداـ كاحدة‪ ،‬كحتى الظركؼ التي نفذت فييا عقكبة الجمد عمى أشير ضحايا المحنة (أحمد ابف حنبؿ) ىي ظركؼ‬

‫‪1‬‬
‫أحمد بف حنبؿ‪ :‬الرد عمى الجيمية كالزنادقة فيما شككا فيو مف متشابو القرآف كتأكلكه عمى غير تأكيمو‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ 101‬كما‬
‫تبلىا‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫كائؿ ب حبلؽ‪ :‬الدكلة المستحيمة – اإلسبلـ كالسياسة كمأزؽ الحداثة األخبلقي‪ ،‬ترجمة عمرك عثماف‪ ،‬المركز العربي لؤلبحاث‬
‫كدراسة السياسات‪ ،‬الدكحة‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2014 ،‬ص ‪ .208‬أيضا‪ :‬كائؿ حبلؽ‪ :‬تاريخ النظريات الفقيية في اإلسبلـ‪ -‬مقدمة في‬
‫أصكؿ الفقو السني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ .270‬مف المعركؼ أف المينة الشرعية في اإلسبلـ التقميدم كاسبلـ القركف الكسطى مستقمة‬
‫عمى كافة المستكيات عف أم مراقبة كطنية‪ .‬فالدكؿ كالحككمات المسممة عمى مر القركف ـ تتدخؿ في تدريب المجتيديف المفتيف‬
‫كتأىيميـ‪ ،‬عمما انيـ يضطمعكف بميمة سف القكانيف‪.‬‬

‫أيضا‪ :‬كائؿ حبلؽ‪ :‬قصكر االستشراؽ‪ -‬منيج في نقد العمـ الحديث‪ ،‬ترجمة عمرك عثماف‪ ،‬الشبكة العربية لؤلبحاث كالنشر‪ ،‬بيركت‪،‬‬
‫الطبعة األكلى‪ .208 ،2019 ،‬يقكؿ‪ :‬لـ يخضع السممكف أنفسيـ لنظاـ تعميمي (ييدؼ إلى اعادة تشكيميـ ليصبحكا ذكاتا جديدة‪ ،‬أم‬
‫مكاطنيف بالمعنى الحديث) إذ كاف التعميـ دينيا كمستقبل عف الدكلة‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫منكرة‪ .‬إال أف الثابت أف الخميفة قد حاكؿ بالفعؿ أف يصيب بالشمؿ مذىب ىؤالء المخالفيف عف طريؽ منع فقيائيـ مف ممارسة‬
‫مينتيـ (حرمانيـ مف حؽ اإلفتاء التي يمجأ إلييـ فييا جيكر المسمميف) ىذا ما جعؿ ذلؾ اإلجراء الخميفي يقع في الحرج‪ ،‬مف حيث‬
‫أف ىؤالء الفقياء (قضاة أك شيكد) ىـ العمكد الفقرم لمحياة اليكمية (عقكد شرعية‪...‬الخ) مف ثـ اختار جميكر الناس جانب ىؤالء‬
‫الضحايا‪ ،‬معتب ار اضطيادىـ امتحانا ك"محنة"‪ .‬كؿ ىذا ترتب عميو فقداف متكممي الببلط (كىك المعتزلة) منزلتيـ بيف الجميكر‬
‫كانقطاع صمتيـ بو"‪ 1.‬كيمكف تفسير ىذه الحادثة باعتبارىا السبب في النفكر مف المعتزلة كمف ثمة تبلشي مذىبيـ بعد ذلؾ شيئا‬
‫فشيئا‪ ،‬نظير فقداف قاعدتو الشعبية‪ .‬كعمى ىامش المحنة‪ ،‬نجد تكرط المعتزلة في قضايا أخرل تشبو قضايا اليكـ؛ "فأثناء محنة‬
‫"خمؽ القرآف" نجد الفقيو السني ابف مالج‪ ،‬بسبب رفضو ليذه النظرية المعتزلية‪ ،‬يرغـ عمى تطميؽ زكجتو مف قبؿ ىيئة محكمة شبيية‬
‫بتمؾ التي قضت في الكقت الحاضر بتطميؽ زكجة نصر حامد أبك زيد في مصر"‪ 2.‬عندما يتسمط عمماء الكبلـ كتتكمـ السمطة‪ ،‬فيذا‬
‫عبلمة غير صحية في المجتمع اإلسبلمي الذم تميز بالخصائص السابقة كالتي حمميا كائؿ حبلؽ بصكرة مستفيضة‪ ،‬كىي االنفصاؿ‬
‫بيف ركح الديف كالق اررات السياسية الفردية‪.‬‬

‫لكف جميكر المسمميف اعتمدكا عمى مركية ابف حنبؿ حكؿ المحنة‪ ،‬أما المؤرخ الذم اعتمد عمى محاضر رجاؿ الشرطة‪ ،‬فإنو‬
‫شكؿ مكقؼ مخالؼ‪ .‬فالطبرم مثبل كاف يعمـ أف استشياد ابف حنبؿ ال يستحؽ التمجيد‪ .‬ألنو اعتمد عمى محاضر رجاؿ الشرطة‬
‫‪3‬‬
‫يقكؿ فاف ايس مقيما الكضعية بصكرة مكضكعية‪" :‬اعتبرت محنة ابف‬ ‫كليس مركيات ابف حنبؿ أك ابف أخيو (حنبؿ بف اسحاؽ)‪.‬‬
‫حنبؿ بحؽ حادثا أساسيا بؿ حادثا نمكذجيا عكس فشؿ نكع مف السياسة الدينية بسبب ما تميزت بو مف غطرسة كمناكرات‪ .‬إال أف‬
‫االعتراؼ بيذا األمر ال يستمزـ مطمقا خمؽ الحكايات كاألساطير‪ .‬ألف الناس‪ ،‬منذ ابف الجكزم‪ ،‬قد درجكا عمى أف ينظركا إلى صراع‬
‫ابف حنبؿ مع الخميفة المأمكف كخاصة مع الخميفة المعتصـ‪ ،‬عمى أنو صراع فرد أعزؿ ضد دكلة ظالمة كعمى أنو صكرة لرجؿ شييد‬
‫تقي ضحى في سبيؿ قضيتو العادلة‪ .‬كىذا صحيح إذا ما راعينا أف ابف حنبؿ كاف فعبل منعزال‪ .‬ذلؾ أف كؿ اإلنتمجنسيا في عصره‪،‬‬
‫سكاء منيـ المعتزلة كالجيمية أك غيرىـ خضعكا جميعا إلرادة الخميفة حتى أف رجبل مف مثؿ ابف سعد اضطر أف يكقع عمى الكثيقة‬
‫التي تتضمف القكؿ بخمؽ ا﵀‪ .‬كرغـ كؿ ىذا فإف ابف حنبؿ لـ يكف بطبل‪ .‬ذلؾ أف المقاء الشيير الذم جمعو بالمعتصـ كبعمماء ببلطو‬
‫لـ يكف لقاء مف أجؿ المحاكمة‪ ،‬كلكنو كاف ييدؼ اجراء مناظرة يبدك أف ابف حنبؿ لـ يفمح في أف يقدـ فييا عف نفسو صكرة طيبة‬
‫(‪ )...‬تـ عقد مناظرة لعدة أياـ‪ .‬حينما طالت كبعد أف أصاب الخميفة الضجر بسبب ما أبداه ابف حنبؿ مف عناد كتصمب في الرأس‪،‬‬
‫عندئذ فحسب أمر الخميفة بجمد ابف حنبؿ كيكاد يككف محقا أف ابف حنبؿ قد تراجع عف مكاقفو‪ ،‬كىك عمى كؿ حاؿ رد فعؿ إنساني‬
‫‪4‬‬
‫طبيعي"‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬ترجمة عبد المجيد الصغير‪ ،‬نشر الفنؾ‪ ،‬الدار البيضاء‪،2000 ،‬‬
‫ص ص ‪.119-28-27‬‬

‫‪2‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.9‬‬
‫‪3‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.154‬‬
‫‪4‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.153-152‬‬

‫‪126‬‬
‫ىناؾ مف يقكؿ بأف أصؿ المحنة مرتبط بحركة الترجمة التي أطمقيا المأمكف‪ ،‬فقد تحسس الفقياء كالمحدثيف مف دخكؿ العمكـ‬
‫األجنبية كالخطر الذم تشكمو عمى الكعي اإلسبلمي كعمى مكانة العمكـ المحمية‪ .‬لكف المستشرؽ ديمترم غكتاس‪ ،‬كالذم تتبع‬
‫تفاصيؿ حركة الترجمة في العصر العباسي‪ ،‬أكد بأنو لـ تكف لحركة الترجمة أية صمة بالمحنة‪ ،‬كلـ تكف معارضة ابف حنبؿ ضد‬
‫العمكـ المترجمة أك األجنبية‪ ،‬بؿ كانت بسبب ا لنظرة الدينية التي فرضيا االعتزاؿ كالقائمة عمى المضاميف الفمسفية في القعائد‬
‫اإليمانية كأسمكبيـ في المناظرة الجدلية‪ 1.‬كلك عممنا أف "زعيـ السمؼ زمف المحنة ىك ابف حنبؿ (‪ 855+‬ـ) كيصفو الشيرستاني بأنو‬
‫تابع رأم مالؾ بف أنس (‪ )795+‬الذم قاؿ‪ :‬االستكاء معمكـ كالكيفية مجيكلة‪ ،‬اإليماف بو كاجب كالسؤاؿ عنو بدعة"‪ 2.‬الكتشفنا‬
‫األسباب الدينية كراء معارضتو لعقبلنية المعتزلة المفرطة‪.‬‬

‫األصل الثاني‪ -‬العدل‪:‬‬

‫ال يقؿ األصؿ الثاني أىمية كعقبلنية عف األصؿ األكؿ‪ ،‬فقد كاف المعتزلة يسمكف بالعدلية‪ .‬أم أف خاصية الذات اإلليية ىي‬
‫العدؿ المطمؽ كال يمكف أف يكصؼ بعكس ذلؾ‪ ،‬كما أف العدؿ مف أسماء ﵀ الحسنى كما أنو يأمر بالعدؿ بيف البشر‪ .‬لذا فإف‬
‫استقامة ىذه الدعكة مرىكنة بالعدؿ اإلليي المطمؽ‪ .‬كمشكمة العدؿ ال تخص الذات اإلليية‪ ،‬بؿ ترتبط باإلنساف‪ ،‬لذا فيذه الصفة تؤثر‬
‫بصكرة مباشرة عمى البشر بما يمكف ادرجيا‪ ،‬عمى حد تعبير كانط‪ ،‬في ميتافيزيقا األخبلؽ‪ ،‬عمى اعتبار أف العدؿ مسألة سياسية‬
‫كأخبلقية معا كترتبط باأللكىية كمكضكع ميتافيزي قي‪ .‬فمف حيث المبدأ‪ ،‬فإف ا﵀ عادؿ بصكرة مطمقة ككؿ أفعالو كتقديراتو منزلو مطمقا‬
‫مف أم ظمـ أك جكر‪ .‬لكف ماذا ينجر عمى العدلية المطمقة ﵀ ؟ يجب المعتزلة أف‪:‬‬

‫الرد عمى الثنكية ال يكمف فقط في تأكيد التكحيد‪ ،‬بؿ في نفي كجكد إلو لمشر‪ .‬لذا فبل يمكف صدكر الشر عف ا﵀‪ ،‬كما‬ ‫‪‬‬
‫نعتبره ش ار طبيعيا أك أخبلقيا‪ ،‬ىك في النياية ببلء كامتحاف لنا‪ .‬كيستعيض المعتزلة عف قيمتي الخير كالشر بالحسف كالقبح‪،‬‬
‫فقد يبدك المرض ش ار لكنو ليس قبيحا‪ .‬ثـ أف ليس كؿ ضرر قبح‪ ،‬كالمؤلـ قد يككف حسف‪ .‬كبالتالي كجب شكر ا﵀ كمدحو‬
‫‪3‬‬
‫عمى كؿ أفعالو سكاء كانت حسف أك قبح‪ ،‬أك ضرر كنفع‪.‬‬

‫المطؼ اإلليي‪ :‬كؿ ما فعمو ا﵀ مف أجؿ األخذ باإلنساف إلى الخير‪ ،‬فخمقو الشيكة بغية التكميؼ كالعقؿ بغية التميز كارساؿ‬ ‫‪‬‬
‫الرسؿ بغية التعرؼ عمى الديف‪...‬الخ كحتى ما يحدث مف أفعاؿ شريرة كقبيحة فمف أجؿ المكعظة كتجنب اليبلؾ مستقببل‪.‬‬
‫"ا﵀ لـ يدخر عف عباده مف األلطاؼ التي بيا يعدلكف عف طريؽ البغي شيئا مف غير الجاء كاال الرتفع التكميؼ كلما كاف‬

‫‪1‬‬
‫ديمترم غكتاس‪ :‬الفكر اليكناني كالثقافة العربية‪ -‬حركة الترجمة اليكنانية العربية في بغداد كالمجتمع العباسي المبكر‪ ،‬ترجمة نقكال‬
‫زيادة‪ ،‬المنظمة العربية لمترجمة كمركز دراسات الكحدة العربية‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2003 ،‬ص ‪.266‬‬
‫‪2‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬ترجمة مصطفى لبيب عبد الغاني‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬المركز القكمي لمترجمة‪،‬‬
‫القاىرة‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2005 ،‬ص ‪.82‬‬

‫‪3‬‬
‫عبد الجبار اآلسدآبادم‪ :‬المغنى في أبكاب التكحيد كالعدؿ‪ ،‬الجزء السادس‪ -‬كتاب التعديؿ كالتجكير‪ ،‬ص ‪.15‬‬

‫‪127‬‬
‫ىناؾ مبرر لحساب"‪ 1.‬كما يعتقد اإلنساف بأنو ليس خي ار لو‪ ،‬ىك في النياية مف أجؿ تعظيـ جزاؤه‪ ،‬فاآلفات التي تنزؿ عمى‬
‫‪2‬‬
‫الشخص ليس مف أجؿ الذنكب التي ارتكبيا بؿ مف أجؿ األخذ بو نحك النجاة‪.‬‬

‫كجكدب فعؿ األصمح‪ :‬يعتقد المعتزلة أف عمى ا﵀ أف يفعؿ األصمح لئلنساف‪ ،‬كىذا دليؿ لطفو كعنايتو‪ .‬يقكؿ الشيرستاني‬ ‫‪‬‬
‫شارحا‪" :‬تقكؿ المعتزلة الحكيـ ال يفعؿ فعبل إال لحكمة أك غرض‪ ،‬كالفعؿ مف غير غرض سفو كعبث‪ ،‬كا﵀ يفعؿ ال لينتفع‬
‫ىك بؿ لينتفع غيره‪ ،‬فبل تخمكا أفعالو مف صبلح‪ ..‬كاألصمح الذم ال نياية لو"‪ 3.‬لكف المعارضكف لممعتزلة استشكمكا قكليـ‬
‫بأف عمى ا﵀ أف يفعؿ األصمح ! فيؿ نمزـ نحف البشر شيئا عمى ا﵀ فعمو ؟ يبدك ىذا تناقضا‪ ،‬فا﵀ يسأؿ كال يسئؿ حسب‬
‫كف﴾ [األنبياء‪]23 ،‬‬
‫﴿ال يي ٍسأى يؿ ىع َّما ىي ٍف ىع يؿ ىك يى ٍـ يي ٍسأىلي ى‬
‫ما كر في القرآف‪ ،‬حيث يقكؿ ا﵀ عز كجؿ‪ :‬ى‬

‫أفعاؿ اإلنساف‪ :‬قضية المعتزلة األساسية ىي أف العدالة اإلليية تستمزـ الحرية اإلنسانية‪ .‬كلك كاف اإلنساف مسمكب اإلرادة‬ ‫‪‬‬
‫لسقط التكميؼ‪ .‬كليذا السبب اعتبركا قدرية‪ ،‬إذ يثبتكف قدرة اإلنساف عمى خمؽ أفعالو‪ .‬أم أف ا﵀ تعالي غير خالؽ ألكساب‬
‫العباد‪ 4.‬كمف أكائؿ مف تكمـ في القدر ىك غيبلف الدمشقي كمعبد الجيني لذا صنفكا في الطبقة الرابعة مف كاصؿ بف عطاء‬
‫باعتبارىـ مؤسسيف أكائؿ لبلعتزاؿ‪ .‬كمسألة قدرة اإلنساف عمى خمؽ أفعالو‪ ،‬ىي المسألة التي حقؽ فييا كؿ المعتزليف‬
‫اإلجماع‪ ،‬مما يدؿ عمى أنيا العقيدة األساسية ليذه الفرقة‪ 5.‬فككف األفعاؿ اإلنسانية مخمكقة مف ا﵀‪ ،‬يقكض مف األساس‬
‫مبدأ العدالة اإلليية في الحساب كالعقاب‪" .‬فالنظٌاـ كالكعبي كالجاحظ كالنجار قالكا بأف البارم تعالى غير مكصكؼ باإلرادة‬
‫عمى الحقيقة‪ ،‬كاف كرد الشرع بذلؾ‪ ،‬فالمراد بككنو تعالى مريدا ألفعالو أنو خالقيا كمنشئيا‪ ،‬كاف كصؼ بككنو مريدا ألفعاؿ‬
‫العباد فالمراد بذلؾ أنو أمر بيا‪ ،‬كاف كصؼ بككنو مريدا في األزؿ فالمراد بذلؾ أنو عالـ فقط"‪ 6.‬كبيذا فإف خصكـ المعتزلة‬
‫ىـ المجبرة الذيف ينسبكف أفعاؿ العباد إلى ا﵀ تعالى‪ .‬فالجيـ يقكؿ أف األفعاؿ كالظركؼ ال تتعمؽ بنا‪ 7.‬كىذا ما يفسد‬
‫عقيدة العدالة اإلليية‪.‬‬

‫عقبلنية الحسف كالقبح‪ :‬رد حسف أك قبح الفعؿ إلى الفعؿ ذاتو‪ ،‬كليس لمجرد أف ا﵀ أمر بو أك نيا عنو‪ ،‬فقيمة الفعؿ تعكد‬ ‫‪‬‬
‫إلى الصفات الذاتية لو كليس إلى القيمة التي أضفاىا السمع عمييا‪ .‬كالعقؿ ىك الكاشؼ عف كجكد الحسف كالقبح في كؿ‬

‫‪1‬‬
‫أحمد محمكد صبحي‪ :‬في عمـ الكبلـ‪ -‬دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف‪ ،‬الجزء األكؿ‪ :‬المعتزلة‪ ،‬مرجع سابؽ‪،‬‬
‫ص ‪.137‬‬
‫‪2‬‬
‫مكسى بف ميمكف‪ :‬داللة الحائريف‪ ،‬تحقيؽ حسف آتام‪ ،‬مكتبة الثقافة الدينية‪ ،‬العتبة‪ ،‬دس‪ ،‬ص ‪.527‬‬
‫‪3‬‬
‫الشيرستاني‪ :‬نياية اإلقداـ في عمـ الكبلـ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.390‬‬
‫‪4‬‬
‫جماؿ الديف القاسمي الدمشقي‪ :‬تاريخ الجيمية كالمعتزلة‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،1979 ،‬ص ‪.72-71‬‬
‫‪5‬‬
‫محمد عمارة‪ :‬المعتزلة كمشكمة الحرية اإلنسانية‪ ،‬دار الشركؽ‪ ،‬القاىرة‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،1988 ،‬ص ‪.70‬‬
‫‪6‬‬
‫الشيرستاني‪ :‬نياية اإلقداـ في عمـ الكبلـ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.227‬‬
‫‪7‬‬
‫عبد الجبار المعتزلي‪ :‬شرح األصكؿ الخمسة‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مكفـ لمنشر‪ ،‬الجزائر‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،1990 ،‬ص ‪.54‬‬

‫‪128‬‬
‫فعؿ بعينو بالبداية أك بالبرىاف‪ 1.‬كلكال قدرة العقؿ عمى معرفة الحسف كالقبح قبؿ كركد الشرع‪ ،‬لما استطاع الشرع اقناع‬
‫المتمقي بذلؾ‪ .‬كىذا ما كاف يقكلو سقراط في محاكرة اكطيفركف‪" :‬الفعؿ ال يككف تقكل ألف اآللية تحبو‪ ،‬بؿ إنيا تحبو ألنو‬
‫‪2‬‬
‫تقكل"‪ .‬أم أف النظر ينبغي أف يتركز عمى دراسة الفعؿ ذاتو (بالعقؿ)‪.‬‬

‫األصل الثالث‪ -‬الوعد والوعيد‪:‬‬

‫الكعيد لؤلخيار كالكعيد لؤلشرار‪ ،‬كىذا تجسيد لمعدالة اإلليية المتعمقة بالمستقبؿ‪ ،‬فبل يجب أف يخمؼ ا﵀ كعده كما كعيده‪ .‬كىذا‬
‫يعني أف الشفاعة ال تنفع في حالة الكعيد‪ ،‬كىنا يظير المكقؼ المكضكعي الصارـ لممعتزلة‪ ،‬مما ينفر عامة الناس اآلمميف في‬
‫الشفاعة باالستغفار كالتكبة كالدعاء كالصدقات‪...‬الخ‪ .‬فا﵀ ال يخالؼ كبلمو‪ ،‬ألف الخمؼ كذب كالكذب قبح كا﵀ ال يفعؿ القبح‪ 3.‬كقد‬
‫م ىك ىما أىىنا بًظى َّبلوـ لً ٍم ىع ًب ً‬
‫يد﴾ [ؽ‪ ]29 ،‬كىنا يظير الترابط بيف ىذا األصؿ الثالث باألصؿ الثاني‪ ،‬أم‬ ‫﴿ما ييىب َّد يؿ ا ٍلقى ٍك يؿ لى ىد َّ‬
‫كرد قكلو تعالى‪ :‬ى‬
‫العدالة كاستحالة الظمـ اإلليي‪ .‬كأضاؼ المعتزلة مسألة تعذيب أبناء الكفار كالتي طرحت في السياقات الخارجية (نسبة لمخكارج)‬
‫حيث يعتقدكف بأف ا﵀ سيعذب أطفاؿ الكفار مف أجؿ اغاضة آبائيـ عمى كفرىـ‪ .‬في حيف أنو "يعتبر الشخص المسؤكؿ عند كاصؿ‬
‫ىك الشخص الذم يرتكب الكبيرة في سف البمكغ‪ .‬فاألطفاؿ ال يحاسبيـ ا﵀ كسيدخميـ الجنة‪ .‬كىذا األمر يبدك مكثكقا بو"‪ 4.‬كلـ يقبؿ‬
‫المعتزلة الشفاعة‪ ،‬في خبلؼ مع المرجئة‪ ،‬إال مف المؤمف التائب عمى كجو الفعؿ حقا‪ 5.‬بمعنى ضركرة رد كؿ المظالـ كااللتزاـ‬
‫الحقيقي بعدـ تكرار الكبائر كالذنكب‪ .‬كمشركطية التكبة داخمة في الصرامة كالمكضكعية التي تصكر فييا المعتزلة الكعيد اإلليي‪.‬‬

‫األصل الرابع‪ -‬المنزلة بين المنزلتين‪:‬‬

‫منطمؽ المعتزلة ىك مفيكـ الفسؽ الذم يقاؿ في حؽ مرتكب الكبيرة الذم يمكف تحديده بأنو شبيو بالمؤمف في عقيدتو ال في‬
‫أعمالو‪ ،‬كشبيو الكافر بأعمالو ال عقيدتو‪ .‬لذا فيك غير مؤمف بالكماؿ كغير كافر بالمطمؽ‪ ،‬كاستحؽ أف يككف في مكضع كسط بيف‬
‫المكضعيف‪ ،‬أم ىك بيف الجنة كالنار‪ ،‬ألنو ليس بمؤمف كال كافر‪ 6.‬لكف مشكبلت عديدة تنجر عف ىذه الكضعية الثالثة‪ ،‬منيا ما‬
‫طبيعتيا‪ ،‬ىؿ الخمكد في النار كارد ؟ ىؿ الفاسؽ ينتقؿ بيف الجنة كالنار عمى حسب ذنكبو ؟‬

‫‪1‬‬
‫أحمد محمكد صبحي‪ :‬في عمـ الكبلـ‪ -‬دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف‪ ،‬الجزء األكؿ‪ :‬المعتزلة‪ ،‬مرجع سابؽ‪،‬‬
‫ص ‪.156 -153‬‬
‫‪2‬‬
‫الطيب بكعزة‪ :‬السفسطائي سقراط كصغاره‪ ،‬مركز نماء لمدراسات كالبحكث‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2017 ،‬ص‪.209‬‬

‫‪3‬‬
‫عبد الرحمف بدكم‪ :‬مذاىب اإلسبلمييف‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.63‬‬
‫‪4‬‬
‫جوزف فان أس‪ :‬علم الكالم والمجتمع فً القرنٌن الثانً والثالث للهجرة – تارٌخ الفكر الدٌنً فً اإلسالم‪ ،‬الجزء الثانً‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.400‬‬

‫‪5‬‬
‫عبد الجبار المعتزلي‪ :‬شرح األصكؿ الخمسة‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.239‬‬
‫أحمد محمكد صبحي‪ :‬في عمـ الكبلـ‪ -‬دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف‪ ،‬الجزء األكؿ‪ :‬المعتزلة‪ ،‬مرجع سابؽ‪،‬‬ ‫‪6‬‬

‫ص ‪ 162‬كما تبلىا‪ .‬أيضا‪ :‬عبد الجبار المعتزلي‪ :‬شرح األصكؿ الخمسة‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.353‬‬

‫‪129‬‬
‫األصل الخامس‪ -‬األمر بالمعروف والنيي عن المنكر‪:‬‬

‫ً‬ ‫﴿يا يبىن َّي أ ًىقًـ الص ى‬


‫ٍم ٍر بًا ٍل ىم ٍع يركؼ ىك ٍانوى‬
‫َّبلةى ىكأ ي‬ ‫ىذا األصؿ مأخكذ رأسا مف القرآف الكريـ‪ ،‬حيث كرد قكلو تعالى في شأف كصية لقماف‪ :‬ى‬
‫كر﴾ [لقماف‪ .]17 ،‬كيقاؿ أف "أبي اليذيؿ"‪ ،‬مف الطبقة السادسة‪ ،‬ىك مف‬ ‫ؾ ًم ٍف ىع ٍزًـ ٍاأل ييم ً‬
‫ؾ إً َّف ىذلً ى‬ ‫اصبً ٍر ىعمىى ىما أ ى‬
‫ىص ىاب ى‬ ‫ىع ًف ا ٍل يم ٍن ىك ًر ىك ٍ‬
‫‪1‬‬
‫أعمف األمر بالمعركؼ كالنيي عف المنكر ضمف مبادئ المعتزلة الخمسة‪ .‬كىك نفسو قاـ بحصر القياـ بيذا األمر عمى كلي األمر"‪.‬‬
‫كقد الحظ مؤرخي عمـ الكبلـ أف ىذا األصؿ ىك األصؿ العممي الكحيد مف بيف األصكؿ األربعة السابقة التي كانت نظرية بصكرة‬
‫مطمقة‪ ،‬ككأف ىذا األصؿ األخي ر ال ينسجـ مع كبلمية عمـ الكبلـ‪ ،‬بسبب ارتباطو بالممارسة‪ .‬كقد ذكرنا في فكائد عؿ الكبلـ‪ ،‬في‬
‫المحاضرة الثالثة‪ ،‬كيؼ أف رجاؿ المعتزلة دخمكا في أعماؿ خيرية تفيد المعركؼ‪ .‬كما أنو ثبت لدييـ جياد الزنادقة كالنيي عف‬
‫المنكر بالساف كالعمؿ كالسيؼ‪ .‬كيرل األشعرم أف مبدأ األمر بالمعركؼ كالنيي عف المنكر يعني لدم المعتزلة "بالمساف كاليد‬
‫كالسؼ‪ ،‬عمى قدر استطاعتو"‪ 2.‬كيعتقد بأف لممعتزلة عبلقة بقتؿ أحد الخمفاء األمكييف‪ ،‬كىك الكليد بف يزيد‪ ،‬الذم أظير الفسؽ كاىانة‬
‫المصحؼ الشريؼ عمى المؤل‪ 3.‬كلك أف كؿ المعتزلة قد اتفقكا عمى ضركرة ىذا األصؿ‪ ،‬إال أنيـ اختمفكا في مصدر األمر كالنيي؛‬
‫ىؿ ىك مصدر عقمي خالص أـ نقمي ؟ فقد قاؿ أبك عمي الجبائي بأف ذلؾ يعرؼ عقبل‪ ،‬في حيف أف أبك ىشاـ حصر ىذا العمـ‬
‫‪4‬‬
‫كىك اإلحساس بالغـ مف الظمـ‪ ،‬أما بقية المكاقؼ فيجب العكدة إلى الشرع‪.‬‬ ‫العقمي في مكضع محدد‪،‬‬

‫يمكف أ ف نبلحظ أف األصكؿ الخمسة تكشؼ عف مدل المعقكلية الصارمة في الفيـ التي اعتمدىا المعتزلة‪ .‬كجعمت النقؿ‬
‫خاضعا لمعقؿ‪ ،‬عمى اعتبار أف كؿ الفرؽ تتحجج بالنقؿ‪ ،‬كلئف كانت الفرؽ متبلعنة فيما بينيما‪ ،‬كالكؿ يكظؼ النقكؿ في ذلؾ‪ ،‬فبل بد‬
‫مف اخضاعيا لمعقؿ كحده‪ ،‬باعتبارىا المعيار في كؿ شيء‪ .‬فبل يمكف أف تقبؿ شيادة المتبلعنيف (الخكارج كالشيعة كاألمكييف)‬
‫ككاضح أف مما يدخؿ في الشيادة ركاية الحديث‪ :‬كمف ىنا كاف كاصؿ بف عطاء كغيره مف المعتزلة ال يعتمدكف الحديث أساسا‬
‫‪5‬‬
‫فتغميب سمطة النقؿ يجعؿ الكؿ يستشيد بما يخدـ عقيدتو الخاصة‪ .‬لكف ىؿ ىذا يعني أف‬ ‫كيقكلكف بأسبقية العقؿ عف النقؿ"‪.‬‬
‫المعتزلة تقمؿ مف دكر النقؿ ؟ ال يمكف التقرير بذلؾ‪ ،‬عمى أساس أف عمـ الكبلـ ىك الدفاع العقمي عف العقائد‪ ،‬مما يعني أف العقؿ‬
‫تابع لمنقؿ ال العكس‪ .‬فبل يمكف اعتبار المعتزلة فبلسفة بالمعنى الصريح لمكممة‪ ،‬بؿ ىـ متكمميف ينطمقكف مف العقائد أكال كأخيرا‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫جوزف فان أس‪ :‬علم الكالم والمجتمع فً القرنٌن الثانً والثالث للهجرة – تارٌخ الفكر الدٌنً فً اإلسالم‪ ،‬الجزء الثانً‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.578‬‬

‫‪2‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬الصفحة نفسيا‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫أحمد محمكد صبحي‪ :‬في عمـ الكبلـ‪ -‬دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف‪ ،‬الجزء األكؿ‪ :‬المعتزلة‪ ،‬مرجع سابؽ‪،‬‬
‫ص ‪ 62‬كما تبلىا‬
‫‪4‬‬
‫عبد الجبار المعتزلي‪ :‬شرح األصكؿ الخمسة‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.374‬‬
‫‪5‬‬
‫محمد عابد الجابرم‪ :‬العقؿ األخبلقي العربي – دراسة تحميمية نقدية في نظـ القيـ في الثقافة العربية‪ ،‬مركز دراسات الكحدة العربية‪،‬‬
‫العربية‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2001 ،‬ص ‪.77‬‬

‫‪131‬‬
‫أفكؿ المعتزلة لـ يختمؼ عف بزكغيا‪ ،‬فعندما اعتنؽ الخمفاء المأمكف كالمعتصـ عقيدة االعتزاؿ تقكت ىذه الفرقة كانتشرت‬
‫كذاعت‪ ،‬لكف عندما نفر المتككؿ (‪ 237‬ق) مف الكبلـ في العقائد‪ ،‬انيارت ىذه الفرقة كتشتت‪ ،‬حيث أمر بػ "التسميـ كالتقميد كأمر‬
‫الشيكخ المحدثيف بإظيار السنة" كأرسؿ أمريات إلى كالتو بترؾ عقائد المعتزلة كالعكدة إلى عقائد السنة كالجماعة ‪ 1.‬فقد نفر منيا‬
‫العامة كالخاصة مف الفقياء كالمحدثيف ككسمت بالكفر بسبب ادخاؿ الفمسفة في أمكر العقيدة‪ 2.‬كالشعار العقمي لممعتزلة لـ يمنعيـ‬
‫مف تكفير بعضيـ البعض كالفرؽ األخرل‪" .‬فالمعتزلة كانكا أشير مف غيرىـ في رفع سبلح "التكفير" ىذا كلعف مخالفييـ في المذىب‪.‬‬
‫(شيادة التكحيدم في كتابو البصائر كالذخائر‪ ،‬ج‪ ،7‬ص ‪ )249‬المعتزلة كانكا يكفركف بعضيـ بعض كغيرىـ مف الحشكية كالعكاـ‬
‫‪3‬‬
‫كالحؽ أف التكفير ىك ما ال يتكافؽ كمية مع التفكير العقمي‪ .‬كفي القرف الرابع لميجرة أفمت فرقة المعتزلة لتبرز فرقة أخرل‬ ‫كالسذج"‪.‬‬
‫ىي األشاعرة‪.‬‬

‫ثانيا‪ -‬األشاعرة‪:‬‬

‫ىي الفرقة الغريمة لممعتزلة‪ ،‬نشأت كمكقؼ احتجاجي لما آلت إليو طريقتيـ في معالجة العقائد اإلسبلمية‪ .‬كقد كانت ثكرتيا‬
‫تدعي التجديد‪ .‬كىذا المكقؼ ىك ما سمح ليا‬
‫رجعية كليست تقدمية‪ ،‬أم أنيا رجعت بالكبلـ إلى أىؿ السنة كالجماعة‪ ،‬كبالتالي لـ ٌ‬
‫باالنتشار في كؿ العا لـ اإلسبلمي‪ ،‬حتي أصبح‪ ،‬حسب ادعاء األشاعرة ذاتيـ‪ ،‬أكثر العمماء المسمميف أشاعرة كأكثر المسمميف ذاتيـ‬
‫ذكم عقائد أشعرية‪ 4.‬نظر العتداؿ مكاقفيا مقارنة بالمعتزلة كالتزاميا بالمقكؿ السني المنبثؽ مف الجماعة اإليمانية األكلى‪ .‬كخاصة‬
‫أىؿ السنة كالجماعة‪ ،‬بخبلؼ المتكمميف األكائؿ كاألكاخر مثؿ الخكارج كالركافض مف الشيعة كالقدرية مف المعتزلة‪ ،‬ىك عدـ تفكيرىـ‬
‫بعضيـ بعض‪ ،‬لذا فيـ أىؿ الحؽ‪ ،‬ألف الحؽ ال يختمؼ فيو أك حكلو‪ 5.‬كىنا نبلحظ انتشار ذىنية العصر المثالي كالجيؿ األكؿ‬
‫الذىبي‪ ،‬كىي الذىنية التي كانت مكجكدة عند اإلغريؽ مثبل‪ .‬مع العمـ أف أىؿ السنة كالجماعة لـ يككنكا عمى كفاؽ مطمؽ‪ ،‬مما‬
‫يجعؿ التمسؾ بيذه الفكرة ضرب مف اليكتكبيا التي تنشئيا كؿ الشعكب حكؿ ماضييا المثالي‪.‬‬

‫كقد قاـ الدكتكر صبحي‪ ،‬بالبحث عف مدل مصداقية قكؿ األشاعرة بأنيـ أخبلؼ أىؿ السنة كالجماعة‪ ،‬فقارف مقاالتيـ بمكقؼ‬
‫اإلماـ أبك حنيفة النعماف (ؽ ‪ 2‬ىػ) الذم لـ يتعمؽ في مسائؿ القدرة اإلنسانية كالقرآف بيف الخمؽ كالقدـ‪ ،‬كمكقؼ اإلماـ مالؾ بف أنس‬
‫كبدع كؿ مف بحث في كيفية استكاء ا﵀ (االستكاء معمكـ كالكيؼ مجيكؿ كالسؤاؿ عف ىذا‬
‫الذم رفض أم كبلـ ال ينطكم عمى عمؿ ٌ‬
‫بدعة كاإليماف باالستكاء كاجب)‪ .‬كأراء الشافعي الذم استيجف الكبلـ عندما قاؿ عنو اإلصابة فيو ببل أجر كالخطأ في كفر‪ ،‬مما‬
‫يجعؿ الرىاف عميو خاسر في كؿ األحكؿ‪ .‬ككبلـ ابف حنبؿ الذم تب أر مف المعتزلة كطريقتيـ في الكبلـ عف خمؽ القرآف‪ ،‬كالذم‬

‫‪1‬‬
‫عبد الستار غز الديف الراكم‪ :‬ثكرة العقؿ‪ -‬مدرسة بغداد اإلعتزالية‪ ،‬دار الخمكد لمتراث‪ ،‬القاىرة‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2006 ،‬ص‬
‫‪.237‬‬
‫‪ 2‬زىدم جبار ا﵀‪ :‬المعتزلة‪ ،‬األىمية لمنشر كالتكزيع‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة االكلى‪ ،1974 ،‬ص ‪.189‬‬
‫‪3‬‬
‫يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬ص ‪.10‬‬

‫‪4‬‬
‫محمد بمخير الراجحي الشيرم‪ :‬المدارس األشعرية‪ -‬دراسة مقارنة‪ ،‬دار اليدل النبكم كدار الفضيمة‪ ،‬القاىرةػ الطبعة األكلى‪،‬‬
‫‪ ،2015‬ص ‪.15‬‬
‫‪5‬‬
‫عبد القاىر البغدادم‪ :‬الفرؽ بيف الفرؽ كبياف الفرقة الناجية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.312‬‬

‫‪131‬‬
‫استشيد بو األشعرم بكثرة‪ .‬كتكصؿ صبحي إلى أف ليس ىناؾ رابطة قكية بيف أصحاب المذاىب الفقيية كبيف آراء األشاعرة‪ ،‬مما‬
‫يدؿ عمى أف األئمة األربعة ليسكا أسبلؼ األشاعرة في شيء‪ 1.‬ثـ أنيـ فقياء ال متكمميف ما عدا الحنابمة الذيف خاضكا في الكبلـ‬
‫مكرىيف مف أجؿ رد أطركحات المعتزلة التي شكشت عقدية العامة‪.‬‬

‫ربما أف نشأة األشعرم في البيت اإلعتزالي‪ ،‬سكاء في المستكل العائمي أك المذىبي‪ ،‬ىك الذم يجعمو مختفا كفؽ منطؽ الضركرة‬
‫عف المذاىب الفقيية المشيكرة‪ .‬فبل يمكف أف يككف فكره معتدال كنمكذجا بالنسبة ألىؿ السنة كالجماعة‪ ،‬كىك الذم رضع االعتزاؿ‬
‫مبكرا‪ .‬كنحف نعمـ بأف تأثير السنكات الفكرية األكلي ليس باألمر الييف‪ ،‬فبل يمكف أف ننقمب كمية عمى القعائد التي تشكمت فينا قبؿ‬
‫الحمـ كالرشد‪ 2.‬لذا فإف ثكرة األشعرم تبقي نصؼ ثكرة ألنو لـ يتخمص كمية مف آثار االعتزاؿ‪ .‬فالغزالي عندما نشأ عمى التصكؼ في‬
‫بداية حياتو أنتيى إليو بالضركرة‪ .‬كتبدك العبلقة بيف األشعرم كالمعتزلة كالعبلقة بيف سقراط كالسكفسطائية‪ ،‬فبل يمكف أف تحارب‬
‫السفسطائية إال إذا كنت منيـ ! كما ال يمكف أف تقكض اإلعتزاؿ إال إذا تسمحت بطرقيـ‪.‬‬

‫‪ -3‬النشأة والتسمية‪:‬‬

‫ارتبط نشأة مذىب األشاعرة بحركة انفصالية كتصحيحية مثيرة في تاريخ عمـ الكبلـ اإلسبلمي‪ ،‬حيث كاف أبك الحسف األشعرم‬
‫تمميذا ألحد كبار المعتزلة ممف ينتمي إلى الطبقة الثامنة كىي الطبقة التي عرفت اكتماؿ كنضج آراء ىذه الفرقة‪ .‬كلـ يكف تتممذ‬
‫األشعرم عمى المعتزلة تتممذ خارجيا أك سطحينا بؿ كاف الجبائي‪ ،‬معممو كعمو كزكج أمو بعد كفاة أبكه‪ ،‬مما يعني أنو نشأ نشأة‬
‫اعتزالية خالصة‪ ،‬في البيت كالمدرسة‪ .‬كيبدأ التأريخ لبلنفصاؿ المذىبي بالمناظرة الشييرة بيف الجبائي كتمميذه األشعرم حكؿ "تعميمية‬
‫األفعاؿ اإلليية" أم ىؿ ا﵀ تعالي يبرر أفعالو أماـ عباده ؟ كىي المناظرة التي ذكرتيا كؿ كتب التاريخ اإلسبلمي بداية بالفيرست‬
‫إلبف النديـ‪...‬الخ حيث تبدأ بسؤاؿ األشعرم‪ :‬ما حكـ الذم مات مؤمنا كالذم مات كاف ار كالذم مات صبيا ؟ فأجب الجبائي‪ :‬األكؿ‬
‫مف أىؿ الدرجات كالثاني مف أىؿ الدركات كالثالث مف أىؿ النجاة‪ .‬ثـ سأؿ األشعرم ىؿ يمكف ألىؿ النجاة أف يرتقي إلى الدرجات‬
‫؟ أجا ب الجبائي بالنفي‪ ،‬فرد األشعرم‪ :‬ماذا لك أف الطفؿ قاؿ لربو لك أحييتني لعممت كؿ الطاعات فالتقصير ليس مني ! الجبائي‪:‬‬
‫كنت أعمـ لك أنني أحييتؾ الرتكبت المعاصي ككنت مف أىؿ الدركات‪ .‬يسأؿ األشعرم مرة أخرل‪ :‬ماذا لك قاؿ الكافر لماذا تركتني‬
‫ألعيش كأرتكب الكبائر ألككف مف أىؿ الدركات ؟ لماذا لـ تراعي مصمحتي مثؿ الصبي الذم أمتتو صغي ار لكي يككف مف أىؿ‬
‫النجاة ؟‪ 3‬فعجز الجبائي عف اإلجابة‪ ،‬ككانت نقطة اإلنفصاؿ كالتخمي عف منطؽ المعتزلة في التفكير‪ .‬كليذا السبب كلحمـ رآه‬
‫األشعرم رفقة رسكؿ ا﵀ يأمره بالعكدة إلى السنة‪ ،‬قرر في النياية قطع صمتو بالمعتزلة كأعمف ذلؾ في خطبة الجمعة بمسجد البصرة‪.‬‬

‫اذف‪ ،‬فاسـ األشعرية نسبة لممؤسس األكؿ أبك الحسف األشعرم المكلكد سنة ‪ 260‬ق كالمتكفي ‪ 324‬ق‪ ،‬كالذم يقاؿ بأف نسبو‬
‫يعكد إلى الصحابي أبك مكسى األشعرم الذم لعب دك ار ميما في تحكيـ صفيف‪ ،‬بسبب الميزة التي تفرد بيا كىي االعتداؿ كالحياد‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫أحمد محمكد صبحي‪ :‬في عمـ الكبلـ‪ -‬دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف‪ ،‬الجزء الثاني‪ :‬األشاعرة‪ ،‬دار النيضة‬
‫العربية‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة الخامسة‪.25-21 ،1985 ،‬‬
‫‪2‬‬
‫محمد بمخير الراجحي الشيرم‪ :‬المدارس األشعرية‪ -‬دراسة مقارنة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.26‬‬
‫‪3‬‬
‫عبد الرحمف بدكم‪ :‬مذاىب اإلسبلمييف‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.498‬‬

‫‪132‬‬
‫كىناؾ مف يبلحظ كجكد عبلقة رمزية بيف األشعرييف‪ ،‬عمى أساس مبدأ االعتداؿ كالكسطية‪ ،‬فاألكؿ تكسط بيف المخاصميف كالثاني‬
‫تكسط بيف المذاىب المستقطبة أك بيف النقمييف كالعقمييف‪ .‬كيسمى األشاعرة أيضا بالصفاتية‪ ،‬ألنيـ يثبتكف الصفات اإلليية كما ىي‬
‫في القرآف الكريـ كاألحاديث النبكية‪ .‬سكاء تعمؽ األمر بالصفات الذاتية كاألزلية مثؿ الحياة كالقدرة أك بالصفات الخبرية مثؿ الكجو أك‬
‫اليديف‪ 1.‬لذا فيـ في مقابمة كاضحة مع ما يسمى بالببلكفية أم الفرقة التي تقكؿ بأف ا﵀ ببل كيفيات حسية أك مع فرقة المعطمة التي‬
‫تنفي كجكد أم صفات كتعطؿ الذات اإلليية‪.‬‬

‫‪ -4‬طبقات األشاعرة‪:‬‬

‫لؤلشاعرة عدة مراحؿ تمتد مف بداية القرف الرابع لميجرة إلى غاية نياية القرف السادس‪ ،‬مما يعني أنيا استمرت دكف انقطاع لمدة‬
‫تصؿ إلى ثبلثة قركف‪ .‬تبدأ بالنشكء ثـ مرحمة االكتماؿ كأخي ار مرحمة األشعرية الفمسفية كلضعؼ أخيرا‪ .‬ألنو مف الصعب القكؿ‬
‫بتبلشي ىذه الفرقة كمية مثؿ الخكارج أك المرجئة أك الجيمية‪ ،‬بؿ ىي العقيدة الكبلمية لمكثير مف الفقياء كالعمماء اليكـ‪.‬‬

‫‪ -1-2‬مرحمة النشأة‪:‬‬

‫أبك الحسف األشعرم‪ .‬يقاؿ أنو ألؼ قرابة المائة كتاب‪ ،‬مخصصة لمرد عمى المعتزلة‪ ،‬كالرد عمى فبلسفة اليكناف القائميف‬ ‫‪‬‬
‫بقدـ العالـ‪ ،‬كالرد أيضا عمى النيتشرييف (الطبعييف) كالدىرييف‪ ،‬كالرد عمى باقي الممؿ كالنحؿ‪ ،‬كجادؿ الشيعة‪...‬الخ كمف‬
‫أىـ كتبة المتبقية حتى اليكـ نجد‪ :‬اإلبانة عف أصكؿ الديانة‪ ،‬كالممع في الرد عمى أىؿ الزيغ كالبدع‪ ،‬ككتاب مقاالت‬
‫اإلسبلمييف‪ 2،‬كرسالة استحساف الخكض في عمـ الكبلـ‪ ،‬كىي الرسالة التي قدمنا ممخص ليا في المحاضرة الرابعة‬
‫المخصصة لجدؿ عمـ الكبلـ بيف االستحساف كاالستثقاؿ‪ .‬قدـ األشعرم أدلة عمى كجكد ا﵀ قائمة عمى ضعؼ اإلنساف‬
‫‪3‬‬
‫الييكمي كليس الزمني إذ إنتقالو مف مرحمة إلى أخرل يتطمب ناقؿ كىك ا﵀ تعالى‪.‬‬

‫أبك بكر الباقبلني المتكفي ‪ 403‬ق‪ :‬تميز بالمنيج المنطقي كالجدلي‪ ،‬كما أنو أدخؿ المكاضيع الطبيعية في عمـ الكبلـ‬ ‫‪‬‬
‫عمى طريقة بعض المعتزلة‪ ،‬كبذلؾ يككف قد تكمـ في جميؿ الكبلـ كدقيقو‪ .‬كمف أىـ مؤلفاتو "إعجاز القرآف" ك"التمييد في‬
‫الرد عمى الممحدة كالرافضة"‪ .‬قاؿ بعدـ التبلزـ بيف العمة كالمعمكـ كىي الفكرة التي سيطكرىا الغزالي الحقا‪ .‬كما تبنى نظرية‬
‫الكسب التي تربط التقدير اإلليي كالفعؿ اإلنساني‪ .‬كاستثمر نظرية الطبيعة مف أجؿ اثبات قدـ ا﵀‪ 4.‬أم أف حدكث الطبيعة‬
‫يدؿ عمى قدـ ا﵀‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫أحمد محمكد صبحي‪ :‬في عمـ الكبلـ‪ -‬دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.27‬‬
‫‪2‬‬
‫أحمد محمكد صبحي‪ :‬في عمـ الكبلـ‪ -‬دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.56‬‬
‫‪3‬‬
‫عبد الرحمف بدكم‪ :‬مذاىب اإلسبلمييف‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.535‬‬
‫‪4‬‬
‫أحمد محمكد صبحي‪ :‬في عمـ الكبلـ‪ -‬دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ص‬
‫‪.114-98‬‬

‫‪133‬‬
‫عبد القاىر البغدادم‪ :‬صاحب كتاب الفرؽ بيف الفرؽ المتكفي سنة ‪ 429‬ق‪ .‬تميز بمكقفو المتصمب مف المعتزلة‪ ،‬حيث‬ ‫‪‬‬
‫ختـ المقالة المخصصة لمقدرية المعتزلة قائبل‪ :‬كالحمد ﵀ الذم انقذنا مف ضبلالتيـ المؤدية إلى مناقضاتيـ‪ 1.‬بؿ أنو كفرىـ‬
‫كاعتبرىـ‪ ،‬كفؽ الحديث المنسكب إلى الرسكؿ الكريـ‪ ،‬بأنيـ مجكس األمة‪.‬‬

‫أبك المعالي الجكيني‪ :‬الممقب بإماـ الحرميف كىك معمـ الغزالي‪ ،‬تكفي ‪ 478‬ق‪ .‬تخصص في الفقو كأصكلو كالكبلـ‪ .‬كمف‬ ‫‪‬‬
‫نقده الفبلسفة تكجو نحك التصكؼ‪ .‬تكمـ عف خمؽ أفعاؿ العباد بما يتكافؽ مع نظرية الكسب األشعرية‪ ،‬حيث أف األفعاؿ‬
‫مقدكرة بالقدرة اإلليية القديمة كمقدكرة بالقدرة الحادثة لمعبد‪ 2.‬كىذه القدرة الحادثة ال تنفصؿ عف القدرة القديمة‪ ،‬كبيذا تجاكز‬
‫معضمة اإلعتزاؿ التي فصمت قدرة اإلنساف عف قدر ا﵀‪.‬‬

‫‪ -2-2‬مرحمة اإلكتمال‪ :‬أبو حامد الغزالي‪( .‬توفي ‪ 505‬ه)‪.‬‬

‫يعتبر الغزالي بحؽ أكبر فيمسكؼ في العالـ اإلسبلمي‪ ،‬كتجربتو الشكية التي عرضيا في كتابو األخير المنقذ مف الظبلؿ‬
‫فريدة كصادقة‪ ،‬حيث انتقاؿ مف الكبلـ إلى التصكؼ‪ .‬كبيذا االنتفاؿ يمرر رسالة ىامة كىي أف الكبلـ مرتبة أدنى في البحث‬
‫عف اليقيف‪ ،‬كاإليماف ليس كبلـ خالص بقدر ما عمؿ‪ .‬ككما ظير لنا سابقا‪ ،‬فإف عيب الكبلـ ىك استعماؿ منيج الفبلسفة غير‬
‫المسمميف‪ ،‬مع العمـ أف الغزالي قد عاش بعد مرحمة المأمكف الترجمية‪ .‬كبكشفو عف تيافت الفبلسفة يككف قد كشؼ عف‬
‫األخطاء التي كقعكا فييا‪ ،‬حيث لزـ تكفيرىـ في المسائؿ الثبلثة المتعمقة بقدـ العالـ كعمـ ا﵀ بالجزئيات كانكار البعث‪ .‬سنجد في‬
‫كتاب الغزالي انكار لمبدأ العمية مف أجؿ تبرير المعجزات‪ 3.‬ككؿ ىذا تأكيد عمى حدكد العقؿ البشرم في المسائؿ اإليمانية‪ ،‬مما‬
‫يجعمو في قمب العقيدة األشعرية‪ ،‬ألنو يدعكا إلى العكدة لمسنة كالجماعة‪ .‬كقد تماىي المذىب األشعرم‪ ،‬مف خبلؿ الغزالي‪ ،‬مع‬
‫نظاـ الممؾ السمجكقي‪ ،‬ضد مذاىب عقدية مخالفة ليا‪ .‬كىنا نتذكر تماىي الفرؽ مع السمطة كما حدث مع المعتزلة كالمأمكف‪.‬‬
‫كفي ىذا داللة كاضحة في أف الفكر اإلسبلمي قد عرؼ تقاطعات بيف السمطة كالكبلـ أكثر مف مرة‪ .‬كتجربة ابف تكمرت‬
‫العقائدية كالسياسية مثاؿ آخر ليذه الكحدة‪ .‬حيث شكمت عقيدة السمطاف جزء مف مذاىب الكبلـ‪ .‬مما يعني تبيعة الرعية لعقيدة‬
‫الراعي‪ .‬كىذا يجعمنا نراجع نقديا أطركحة كائؿ حبلؽ في االنفصاؿ بيف العقائد كالسياسية في التاريخ اإلسبلمي السابؽ‪.‬‬

‫‪ -3-2‬مرحمة الكالم الفمسفي‪ :‬فخر الدين الرازي‪ .‬المتوفي ‪ 606‬ه‪.‬‬

‫تميز الرازم‪ ،‬بسبب تخصصو كتككينو العممي‪ ،‬باستخداـ العبارة الفمسفية كالطبيعية كمصطمحات الميتافيزيقا القديمة (كاجب‬
‫الكجكد‪ ،‬ممكف الكجكد‪ ...‬الخ)‪ .‬كعمى الرغـ مف نقده لؤلشعرم كالباقبلني‪ ،‬إال أنو اعتبر النقؿ أكثر مكثكقية مف العقؿ في الكبلـ‪.‬‬
‫كقد اكتممت مرحمة النمك بعضد الديف اإليجي المتكفي سنة ‪ 756‬ق‪ .‬كبدأت مرحمة التدىكر التي امتدت مف القرف التاسع إلى القرف‬

‫‪1‬‬
‫عبد القاىر البغدادم‪ :‬الفرؽ بيف الفرؽ كبياف الفرقة الناجية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.188‬‬
‫‪2‬‬
‫أحمد محمكد صبحي‪ :‬في عمـ الكبلـ‪ -‬دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص‬
‫‪.160‬‬
‫‪3‬‬
‫دار كمكتبة اليبلؿ‪ ،‬بيركت‪ ،2002 ،‬ص ‪ 189‬كما تبلىا‪.‬‬ ‫الغزالي‪ :‬تيافت الفبلسفة‪،‬‬

‫‪134‬‬
‫الثالث عشر‪ ،‬حيث ساد التقميد ببل أم تجديد أك أصالة في الطرح كالعبارة‪ 1.‬ليذا فإف أشعرية اليكـ تمثؿ ضرب مف التبعية ببل أدنى‬
‫نظر أك اجتياد‪ ،‬كعندما يكتمؿ المذىب كيخبكا التجديد‪ ،‬فبل يمكف الحديث عف مذاىب كبلمية عمى كجو الحقيقة‪ ،‬بقدر ما نتحدث‬
‫عف تطبيؽ المذاىب فقط‪ .‬فااللتزاـ ال يشكؿ فك ار كبلميا‪ ،‬بؿ ما يشكمو ىك التجديد كالرفض كالنقد ببل نياية‪.‬‬

‫‪ -5‬المنيج واآلراء الكالمية‪:‬‬

‫يمكف التأكيد عمى أف منيج المعتزلة كسطي أك قؿ تكفيقي‪ ،‬أم التكسط بيف النقؿ الكمي لدل أىؿ السمؼ كالعقؿ المطمؽ لدل‬
‫المعتزلة‪ .‬لكف ىذا ال يجعميـ منفصميف كمية عف المعتزلة‪ ،‬بؿ أنيـ في الكثير مف المكاضيع قد كانكا تابعيف ليـ‪ ،‬فقط أضافكا عمى‬
‫مناىج السمؼ التي تعتمد كمية عمى السمع كاألثر‪ .‬لذا يمكف التقرير بأف منيج األشعرية ىك النقؿ الذم يتأسس عمى الكتاب كالسنة‪.‬‬
‫مما يعني أف التقميد أىـ بكثير مف التفكير‪ .‬يقكؿ األشعرم مكضحا أصكؿ نظرتو كطرائقو‪" :‬قكلنا الذم نقكؿ بو كعقيدتنا التي نديف‬
‫بيا‪ ،‬التمسؾ بكتاب ا﵀ كسنة نبيو كما ركم عف الصحابة كالتابعيف كأئمة الحديث كنحف بذلؾ معتصمكف كبما كاف عميو أحمد بف‬
‫نضر ا﵀ كجو (‪ )...‬قائمكف‪ ،‬لمف خالؼ قكلو مجانبكف‪ .‬كالمعتزلة مف الزائغيف عف الحؽ كتأكلكا القرآف عمى آرائيـ تأكيبل‬
‫حنبؿ ٌ‬
‫‪2‬‬
‫كنحف نعمـ ما ىي الداللة الرمزية‬ ‫كخالفكا ركايات الصحابة كأنكركا شفاعة الرسكؿ كدانكا بخمؽ القرآف كقنطكا الناس مف رحمة ا﵀‪.‬‬
‫لتأصيؿ المرجع الحنبمي‪ .‬لكف عقبلنية األشاعرة مف األمكر المثبتة أيضا‪ .‬كيظير ذلؾ مثبل في كؿ المقاالت التي ألفكىا في الكبلـ‪.‬‬
‫الحؽ أنو ال يمكف ممارسة الكبلـ دكف االعتماد عمى العقؿ المنطقي‪ .‬فالبرىاف الطبيعي الذم عرضناه سابقا عند األشعرم داللة عمى‬
‫اعتماد منيج عقمي في البرىاف ع مى كجكد ا﵀‪ ،‬كتجاكز األدلة النقمية الكاردة في القرآف‪ ،‬ألف الكبلـ يقتضي تطبيؽ مبدأ العقؿ‬
‫أم كاف‪ .‬ثـ أف تكظيؼ األشاعرة لؤلدلة الغائية‪ ،‬كىي‬
‫المنطقي الذم ينتقؿ مف قضية إلى أخرل كفؽ رباط ال يمكف التنكر لو مف ٌ‬
‫‪3‬‬
‫التي سنجدىا عند ابف خمدكف األشعرم‪ ،‬دالة عمى اعتماد منطؽ البرىاف الفمسفي‪.‬‬

‫في مسألة الصفات‪ ،‬يتفؽ معظـ األشاعرة عمى أنيا مثبة عمى الذات اإلليية‪ ،‬كال يمكف بأم حاؿ إنكار أم صفة مثمما فعؿ‬
‫المعتزلة مف خبلؿ التأكيؿ‪ .‬كلئف كصؼ ا﵀ ذاتو بالصفات‪ ،‬مثؿ العمـ كالقدرة كالحياة كاإلرادة كالسمع كالبصر كالكبلـ‪ ،‬فبل يمكف لنا‪،‬‬
‫نحف المتكمميف أف ننقص منيا كما فعؿ االعتزاؿ حيف أثبت ثبلثة صفات فقط (السمع كالبصر كالكبلـ)‪ .‬أما الصفات الخبرية‪،‬‬
‫المرتبطة بالكيفيات الحسية‪ ،‬فقد سار األشاعرة في نيج السمؼ بخاصة ما عرؼ عف اإلماـ مالؾ بف أنس‪ .‬فكمما أثبتنا صفة خبرية‪،‬‬
‫مثؿ الكجو أك اليد‪ ...‬الخ يجب أف نعتبرىا صفة ببل كيفية حسية‪ ،‬فالسؤاؿ عف كيفية االستكاء بدعة‪ .‬في مسألة رؤية ا﵀ فقد أثبت‬

‫‪1‬‬
‫أحمد محمكد صبحي‪ :‬في عمـ الكبلـ‪ -‬دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص‬
‫‪.375‬‬
‫‪2‬‬
‫أبي الحسف األشعرم‪ :‬اإلبانة عف أصكؿ الديانة‪ ،‬الجزء‪ ،1‬تحقيؽ فكقية حسيف محمكد‪ ،‬دار االنصار‪ ،‬القاىرة‪ ،‬الطبعة األكلى‪،‬‬
‫‪ ،1977‬ص ‪.14‬‬
‫‪3‬‬
‫ابراىيـ مذككر‪ :‬في الفمسفة اإلسبلمية‪ -‬منيج كتطبيقو‪ ،‬الكتاب الثاني‪ ،‬دار الكتاب المصرم‪ ،‬القاىرة‪ ،2015 ،‬ص ‪.82‬‬

‫‪135‬‬
‫األشاعرة مف خبلؿ األشعرم كغيره‪ ،‬إمكانية الرؤية ألف القرآف أثبت ذلؾ‪( .‬القيامة‪ )22 ،‬كمف الناحية العقمية‪ ،‬فإف إنكار رؤية ا﵀‬
‫يكـ القيامة يدؿ عمى عدـ كجكده كىذا محاؿ‪ 1.‬لذا فصفاتية األشعرية مف سمفيتيا‪.‬‬

‫تدؿ نظرية الكسب‪ ،‬كىي النظرية األشعرية األصيمة‪ ،‬كالتي تبناىا ابف رشد عمى الرغـ مف ميكلو المعتزلية‪ ،‬عمى التفكير العقمي‬
‫الدقيؽ مع عدـ اىدار النصكص القرآنية المحكمة‪ .‬ففكرة الكسب معارضة صريحة لمكقؼ المعتزلة الذم أظيرناه‪ ،‬لكف لـ يتـ‬
‫معارضة نظرية المجبرة في المقابؿ‪ ،‬ألف اثبات الجبر كالقدر الكمي ال يتنافي في أم شيء مع النصكص الصريحة‪ .‬لكف األشاعرة ال‬
‫ييدركف أيضا منطؽ االختيار اإلنساني‪ ،‬كمفيكـ الكسب ذاتو انقاذ لحرية اإلنساف‪ .‬فيناؾ القدر اإلليي األكؿ كاألسبؽ‪ ،‬كما الكسب‬
‫ال بشرم إال قدرة بيف ما قدره ا﵀ في األصؿ‪ ،‬فاالستطاعة البشرية ليست أصمية كأزلية‪ ،‬بؿ ىي مصاحبة لمفعؿ الذم قدره ا﵀ مسبقا‪.‬‬
‫كقد فصؿ الباقبلني مفيكـ القضاء لكي يستطيع تثبيت نظرية الكسب بأدلة عقمية دقيقة‪ .‬فيك يعتقد بأف القضاء اإلليي يدؿ عمى‬
‫األقؿ عمى أربعة معاف‪ -1 :‬الخمؽ‪ -2 ،‬اإلخبار كاإلعبلـ‪ -3 ،‬اإللزاـ كالحكـ‪ .‬كا﵀ قد قضى في المعاصي كقدرىا عمى النحك ‪ 3‬ك‬
‫‪ .4‬مما يعني أف "ما يقبح صدركه منا ال يقبح إف صدره عنو أك أمر بو سبحانو"‪ 2.‬كىذا الجمع‪ ،‬كالذم يفيد الكسطية مف أجؿ الحفاظ‬
‫عمى أكلكية النص مف جية كعمى تكميؼ اإلنسا ف مف جية أخرل‪ ،‬ىك الخيار األشعرم الذم يقكؿ بأف الفعؿ يتأثر بقدرة ا﵀ بكاسطة‬
‫قدره العبد‪ 3.‬بدال مف القكؿ العكسي الذم قاؿ بو المعتزلة‪ ،‬إذ تجعؿ الفعؿ يتأثر بقدرة العبد بكاسطة قدرة ا﵀‪.‬‬

‫خالصة‪ :‬السنة – االعتزال‪ -‬السنة‪.‬‬

‫ما حقيقة العبلقة بيف االعتزاؿ كالسنة ؟ يبدك أف المشيد الكاضح ىك أف المعتزلة مثمت حمقة كسطى بيف سيادة الفيـ السني‬
‫لؤلكائؿ كسيادتو الفيـ السنى لؤلكاخر‪ .‬مما يعني أف مسار العقائد اإلسبلمية قد انطمؽ مف الفيـ المعتدؿ المتكسط القائـ عمى التسميـ‬
‫بالنقؿ إلى مرحمة الفيـ العقبلني الممزكج بالفمسفة كالمنطؽ ثـ عاد إلى الحالة األكلى مف حيث أنو أنقص جرعة العقبلنية في الديف‪.‬‬
‫كبعد األشاعرة استتب األمر عمى حالة إلى اليكـ‪ ،‬حيث كؼ الفكر اإلعتزالي عف إنتاج مزيد مف النصكص‪ .‬كيفسر العقبلنييف العرب‬
‫ىذه االنتكاسة بنبذ العامة لمك بلـ اإلعتزالي كاألثر اليائؿ لمغزالي األشعرم مف خبلؿ كتبو العامة (اإلحياء) كالخاصة (التيافت) عمى‬
‫تشكيؿ الكعي العقدم كاألخبلقي اإلسبلمي‪.‬‬

‫عمى الرغـ مف الصراع الكبير بيف منطؽ المعتزلة كمنطؽ األشاعرة‪ ،‬إال أنيما انطمقا مف نفس االستراتيجية التأصيمية‪ ،‬إذ أف‬
‫أصؿ أطركحاتو في أىؿ السنة كالجماعة‪ .‬فالطبقة األكلى كالثانية لممعتزلة‪ ،‬حسب تصنيفيـ‪ ،‬تعكد إلى الصحابة‬
‫كبل الفرقتيف قد ٌ‬
‫األكائؿ‪ ،‬في حيف أف األشاعرة كما أظيرنا‪ ،‬يدعكف بأنيـ أخبلؼ األئمة كالفقياء الكبار‪ .‬كىنا نمحظ مدل حذر الفرؽ مف االستقبلؿ‬
‫الفكرم‪ ،‬ألف أم تجديد في عمـ العقائد أك الفقو أك األصكؿ‪ ،‬يعرض لمكقكع في االبتداع الذم نيا عنو الرسكؿ الكريـ في الحديث‬
‫المشيكر؛ حديث البدعة كالضبللة كالنار‪ .‬كىذه العقبة في التي جعمت عمماء الكبلـ يفكركف تحت نمكذج التبديع كالتفكير‪ ،‬مما يدؿ‬
‫عمى انعداـ الحرية الخالصة في الفكر‪ .‬كىذا المكقؼ طبيعي جدا‪ ،‬في سياؽ التفكير العقائدم‪ ،‬فبل يمكف أف نستعمؿ العقؿ الخالص‬

‫‪1‬‬
‫أحمد محمكد صبحي‪ :‬في عمـ الكبلـ‪ -‬دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.68‬‬
‫‪ 2‬المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.104‬‬
‫‪3‬‬
‫جبلؿ الديف الدكاني‪ :‬رسالة في أفعاؿ العباد‪ ،‬مركز العبلمة ابف عرفة لمتككيف في العمكـ اإلنسانية‪ ،‬ص ‪.5‬‬

‫‪136‬‬
‫في أمكر الديف‪ ،‬يتحكؿ ىنا العقؿ لكسيمة لمحفاظ عمى العقائد ككؿ كسيمة يجب أف تككف تحت األىداؼ ال فكقيا‪ .‬ثـ أف التقاطعات‬
‫بيف الفرقتيف قد حدث في أكثر مف شخصية اعتزالية‪ ،‬فحسب ابف تيمية‪ ،‬كالذم انتقد األشعرية رغـ كسطيتيا‪ ،‬فيناؾ معتزلة األشاعرة‬
‫كأتباعو‪ ،‬كمتفمسفة األشاعرة مثؿ الغزالي كالرازم كاألمدل‪ 1.‬مما يعني أف تطكر األشعرية قد جعميا تخرج مف األصكؿ الكبرل التي‬
‫تؤسس عمى العكدة لمنيج األثر عند السنة كالجماعة‪ .‬إذ أف الغزالي‪ ،‬الذم كاف مع الفبلسفة فيمسكؼ كمع المتكمميف متكمـ كمع‬
‫الصكفييف صكفي‪ ،‬قد نجح في ربط األشعرية بالفمسفة كالمنطؽ عندما جعؿ المقدمات األصكلية منطقية‪ .‬فبل يجب أف نسير في‬
‫أطركحة الحداثييف الذيف اتيمكه بقتؿ الفمسفة اإلسبلمية‪ ،‬بؿ أف الغزالي تفمسؼ عمى مقتضى اإلسبلـ‪ ،‬كرفضو التفمسؼ عمى مقتضى‬
‫العمكـ الكافدة مبرر مف عدة أكجو‪ .‬كمنو فإف الغزالي قد ساىـ في انشاء فمسفة اسبلمية مخصكصة بخصائص اإلسبلـ‪ ،‬ككبلمو كاف‬
‫كفؽ األصكؿ العقدية ال كفؽ المنطؽ الكافد‪ .‬كقد أثبتا في محاضرات سابقة ارتباط المنطؽ بالعقائد كالنظرة الكمية لمكجكد‪.‬‬

‫تقسـ الفكر الدي ني اإلسبلمي المعاصر بيف ركحيف‪ :‬ركح اإلعتزاؿ ممثبل في كؿ الحداثييف اإلسبلمييف مثؿ أرككف كعبد المجيد‬
‫الشرفي كيكسؼ الصديؽ‪...‬الخ كركح األشعرية مثؿ جماؿ الديف األفغاني كمحمد عبده أك محمد اقباؿ الذم يعتقد بأف األشعرية ىي‬
‫الفرقة السميمة مف بيف كؿ الفرؽ‪ 2.‬كلك أف ا لقراءات الحداثة لمقرآف قد قكبمت بالرفض مف طرؼ العامة‪ ،‬فإف ىناؾ محاكالت حثيثة‬
‫مف أجؿ األخذ بالناس إلى فيـ القرآف عمى أصكؿ العقبلنية المنطقية كالخالصة مف أم خمفيات مذىبية‪ .‬فيما يتعمؽ بمحمد عبده‪ ،‬فقد‬
‫ماؿ إلى األشعرية عمى أساس أنو حدد المسائؿ الكبلمية الكبرل‪ ،‬مف منطمؽ النقؿ حيف أظير حدكد العقؿ في مسائؿ العقائد‪ ،‬إذ‬
‫يقكؿ‪" :‬كمف الصفات ما جاء ذكره عمى لساف الشرع‪ ،‬كلكف ال ييتدم إليو النظر كحده‪ ،‬كيجب االعتماد بأنو ج ٌؿ شأنو متصؼ بيا‬
‫‪3‬‬
‫كأشعرية عبده مبررة مف حيث أنو نشأ في األزىر حيث المناىج محافظة‪ ،‬كما أف‬ ‫اتباعا لما قرره الشرع‪ ،‬كتصديقا لما أخبره بو"‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫رسالة التكحيد‪ ،‬التي تعتبر أىـ كتاب عقائدم ألفو‪ ،‬قد كتبيا قبؿ أف يحتمؾ بالفكر األكركبي بكثير‪.‬‬

‫ال يمكف اعتبار المعتزلة فرقة عقمية خالصة‪ ،‬فبمجرد أنيا فرقة كبلمية‪ ،‬فيذا يعني أف ليا مسممات عقدية ال تتجاكزىا ميما‬
‫كمؼ األمر‪ .‬فمشكمة خمؽ القرآف كالتي تكحي بأف القرآف قد ظير ألسباب مخصكصة كفي زمف مخصكص‪ ،‬ال يتيح لممعتزلة في‬
‫التشكيؾ في المصدر اإلليي لمقرآ ف‪ ،‬كدفاعيا عف حرية اإلنساف لـ يكف بمعزؿ عف ركح العقائد القرآنية التي تؤسس لمقضاء كالقدر‪.‬‬
‫لذا فإف المعتزلة بعيدكف عف الفمسفة الخالصة‪ .‬إف الكبلـ اإلعتزالي كاألشعرم قد تجاكز الفيـ العقدم المباشر‪ ،‬ألنو كلج إلى درجة‬
‫الفيـ الفمسفي كالعقمي كالذم يسقط العديد مف المسممات اإليمانية العامة‪ .‬كىي مرحمة طبيعية في أم ديف‪ ،‬ألف اإليماف المباشر‬

‫‪1‬‬
‫محمد بمخير الراجحي الشيرم‪ :‬المدارس األشعرية‪ -‬دراسة مقارنة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.20‬‬

‫‪2‬‬
‫محمد اقباؿ‪ :‬تجديد التفكير الديني في االسبلـ‪ ،‬ترجمة عباس محمكد‪ ،‬دار اليداية لمطباعة كالنشر كالتكزيع‪ ،‬الطبعة الثانية‪،‬‬
‫‪ ،2000‬ص ‪ .83‬األشاعرة ىك المذىب األسمـ في عمـ الكبلـ عند المسمميف‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫محمد عبده‪ :‬رسالة التكحيد‪ ،‬دار الشركؽ‪ ،‬القاىرة‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،1994 ،‬ص ‪.48‬‬
‫‪4‬‬
‫لكيس غارديو كجكرج قنكاتي‪ :‬فمسفة الفكر الديني بيف اإلسبلـ كالمسيحية‪ ،‬ترجمة صبحي الصالح كفريد جبر‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬دار‬
‫العمـ لممبلييف‪ ،‬بيركت‪ .316 ،‬أيضا‪ :‬ابراىيـ مذككر‪ :‬في الفمسفة اإلسبلمية‪ -‬منيج كتطبيقو‪ ،‬الكتاب الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.94‬‬

‫‪137‬‬
‫كالعاطفي سيتقدـ كفؽ نمك الحضارة إلى اإليماف العقمي الذم يقدـ في لغة اصطناعية كبرىانية‪ .‬يقكؿ "فاف ايس" مستشيدا بأرككف‪:‬‬
‫"اشتيرت فرقة المعتزلة بأنيا تكلي لمعقؿ أىمية خاصة‪ .‬إال أنيا‪ ،‬عمى ما يبدك‪ ،‬لـ تضع إال قميبل مف األطر النظرية فيما يخص‬
‫ذلؾ؛ حيث استطاعت االعتماد عمى إجماع كاسع‪ .‬ىذا االجماع الذم اتسعت رقعتو خاصة في البصرة‪ ،‬سكاء في أكساط القدرية أك‬
‫في أكساط الزىاد‪ .‬لـ يينظر لمعقؿ في ىذه المرحمة عمى اعتباره قاسـ عاـ‪ ،‬كلـ ينظر إليو – مف باب أكلى‪ -‬عمى أنو يمد اإلنساف‬
‫برؤل فكرية خاصة‪ ،‬كانما اعتبر بمثابة كسيمة تعيف عمى الحياة كتحجيب عف السؤاؿ عف إرادة ا﵀ في مكاقؼ معينة‪ .‬مف أجؿ ىذا‬
‫لـ تشيد ىذه المرحمة إمكانية فصؿ العقؿ عف العمـ المكجكد في القرآف أك السنة‪ ،‬ألنو بمثابة مصدر الثقة‪ ،‬كال يمكف تأكيؿ األمكر إال‬
‫انطبلقا منو‪ .‬لكف العقؿ كحده ال يتسنى لو إيجاد األسس في ذلؾ‪( .‬ىذا ما يؤكد عميو محد أرككف ضمف ‪Annuaire "de‬‬
‫‪1‬‬
‫)‪.l'Afrique du Nord, 1979‬‬

‫النقطة الفارقة بيف المعتزلة كاألشاعرة مرتبطة بمسألة قبكؿ التقميد األجنبي الكافد عمى اإلسبلـ‪ ،‬ألف استعماؿ العقؿ بدكف لجاـ‬
‫تقديسي ينتيي إلى ضرب مف التعاطؼ مع العقؿ الكثني الذم لـ يكف يضع حدكدا بيف اإلنساني كاإلليي‪ 2.‬كبالتالي فإف التيافت ىك‬
‫مصير كؿ مف اس تعماؿ العقؿ عمى المنكاؿ اإلغريقي‪ .‬كىنا يككف الغزالي األشعرم قد أدرؾ مصدر الخمؿ في الكبلـ اإلسبلمي‪،‬‬
‫كحركة الترجمة لعبت الدكر األكبر في تطعيـ الفكر األصيؿ بكسائؿ دخيمة لـ تنبت مف صميـ المناخ اإلسبلمي‪ ،‬كفي ىذا تشكيش‬
‫حقيقي عمى العقائد اإليمانية‪ .‬يمكف القكؿ في ىذا السياؽ‪ ،‬بأف األشاعرة كانكا أكثر نضجا مف المعتزلة الذيف أخذكا في مزج األفكار‬
‫دكف مراعاة لمصدرىا كمآالتيا‪ 3.‬حقيقية أف ىذا المزج قد كلد نكافذ رؤية جديدة قد تثير حماسة المفكر‪ ،‬لكنو ينتيي إلى خمؽ فكضي‬
‫حقيقية في العقائد‪ .‬فالعقيدة نسؽ متبلحـ مف المسممات كالنكاتج المترتبة عنيا‪ ،‬كاذا تـ استعماؿ كسائؿ دخيمة أك مسممات أخرل‬
‫أجنبية المنشأ‪ ،‬فإف المآؿ ىك البمبمة العقدية‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.190‬‬

‫‪2‬‬
‫عمي بف مخمكؼ‪ :‬لماذا نق أر الفبلسفة العرب ؟ ترجمة أنكر مغيث‪ ،‬آفاؽ لمنشر التكزيع‪ ،‬القاىرة‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2018 ،‬ص ‪.32‬‬

‫‪3‬‬
‫يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.145‬‬

‫‪138‬‬
‫المحاضرة السابعة‪ :‬أصل الفرق الكالمية‪)3( .‬‬

‫‪-2-2‬الفرق العقائدية‪( .‬المرجئة والمجبرة والماتردية)‬

‫تقديم‪.‬‬

‫اعتبرنا الفرؽ الثبلثة اعتقادية‪ ،‬ألنيا تناكلت مسائؿ مرتبطة بعقائد اإلسبلـ‪ ،‬كاستجمعنيا في محاضرة كاحدة‪ ،‬ألنيا لـ تبمغ مرتبة‬
‫الفرؽ الكبرل‪ ،‬بخاصة المعتزلة كاألشعرية‪ .‬كاعتبارىا فرؽ كبرل مرتبط باألسماء الثقيمة التي مثمتيا كبامتدادىا التاريخي الطكيؿ‬
‫كبقدرتيا عمى تشكيؿ فرؽ كاممة األركاف‪ ،‬بحيث تناكلت كؿ المسائؿ التي شكمت عمـ الكبلـ مثؿ الذات اإلليية كصفاتو‪ ،‬الحرية‬
‫اإلنسانية اإلرادة‪ ،‬التأكيؿ‪ ،‬المجاز في القرآف‪ ،‬الغيبيات‪...‬الخ‪ .‬ما نمحظو عمى فرقتي المرجئة كالمجبرة ىي أنيا فرؽ جزئية تناكلت‬
‫مسألة خاصة ال ترتقي لتشكؿ مذىب كبلمي كامؿ ألركاف‪.‬‬

‫أوال‪ -‬المرجئة‪:‬‬

‫أفرزت الفتنة في صفيف فرقتيف متصارعتيف ىما الخكارج كالشيعة‪ ،‬كطرحت بحدة مسألة مصير مرتكب الكبيرة‪ ،‬ألف القتاؿ‬
‫داخمي بيف المسمميف‪ ،‬كاستباحة النفس المؤمنة‪ ،‬كبيرة مف الكبائر‪ ،‬عمى خبلؼ قتؿ الكفار‪ .‬لذا كاف دائما يثار جدؿ حكؿ مصير‬
‫القاتؿ كالمقتكؿ معا‪ ،‬عمى اعتبارىما مسمميف في العقائد كاألفعاؿ‪ .‬كاحتدـ الجدؿ ببل نتيجة كاضحة‪ ،‬ككؿ فرقة تستدؿ مف القرآف‬
‫كالسنة بخاصة الحديث‪ .‬في ىذه السياقات ظيرت فرقة عممت عمى تخفيؼ حدة الجدؿ مف خبلؿ افتراض أف حكـ فاعؿ الكبيرة‬
‫مؤجؿ إلى ا﵀‪ .‬كمف ىنا تـ تكظيؼ الكممة القرآنية "ارجاء" لتكصيؼ ىذه الكضعية‪ .‬لذا يمكف القكؿ بأف "اإلرجاء نشأ في األصؿ‬
‫بخصكص مكاقؼ عمي كعثماف؛ حيث تردد أننا ال ندرم أييما قد كقع في "اإلثـ"‪ .‬كىذا مكقؼ سياسي يتسـ باالعتداؿ‪ .‬ثـ تحكؿ‬
‫مكقفيـ السياسي إلى مذىب كبلمي‪ :‬مفاده أنو ال يحؽ ألم كاف القدح في ايماف أخيو المسمـ‪ .‬مكقؼ تبمكر في الربع األخير مف ؽ‬
‫‪ 1‬ق)"‪ 1.‬كىذا يدؿ عمى المنشأ السياسي لممرجئة قبؿ أف تتحكؿ إلى كبلـ عقائدم أسس لنظريات مرتبطة بمشكمة اإليماف خاصة‪.‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً ً‬ ‫يدؿ لفظ اإلرجاء عمى التأجيؿ كالتأخير‪ .‬كقد كرد في القرآف الكريـ ما يمي‪﴿ :‬قىاليكا أ ٍىرًج ٍو ىكأ ى‬
‫ىخاهي ىكأ ٍىرس ٍؿ في ا ٍل ىم ىدائ ًف ىحاش ًر ى‬
‫يف﴾‬
‫َّ ً‬
‫كف يم ٍرىج ٍك ىف ًأل ٍىم ًر المو إً َّما يي ىع ّْذيبيي ٍـ ىكًا َّما ىيتي ي‬
‫‪2‬‬
‫كب‬ ‫ىخ ير ى‬‫﴿كآ ى‬
‫[األعراؼ‪ ]111 ،‬بمعنى التمييؿ كالتأخير‪ .‬ككما كرد أيضا في قكلو الكريـ‪ :‬ى‬
‫ً‬ ‫َّ ً‬
‫يـ﴾ [التكبة‪ ]106 ،‬كىذه اآلية الثانية تدؿ عمى اعطاء األمؿ كالرجاء لفرقة ما مف الناس لينظر ا﵀ في أعماليـ‪.‬‬ ‫ىعمىٍي ًي ٍـ ىكالموي ىعم ه‬
‫يـ ىحك ه‬
‫كىذا ما قد يجعميـ يعتقدكف أف ىناؾ فاصؿ بيف اإليماف كالعمؿ‪ .‬أم أف ترؾ األعماؿ المطمكبة شرعا ال يمغي اإليماف بصكرة كاممة‪.‬‬
‫كمصدر ىذا المكقؼ مرتبط بمشكمة "زيادة ونقصان اإليمان"‪ .‬حيث يذكركف حديث منسكب إلى الرسكؿ الكريـ فيو يقكؿ‪﴿ :‬مف زعـ‬
‫أف اإليماف يزيد كينقص‪ ،‬فزيادتو نفاؽ كنقصانو كفر‪ ،‬فإف تابكا كاال فاضربكا أعناقيـ بالسيؼ‪ ،‬أكلئؾ أعداء الرحمف‪ ،‬فارقكا ديف ا﵀‪،‬‬

‫‪1‬‬
‫يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬ترجمة عبد المجيد الصغير‪ ،‬نشر الفنؾ‪ ،‬الدار البيضاء‪،2000 ،‬‬
‫ص ‪.102‬‬

‫‪2‬‬
‫عبد الكريـ الشيرستاني‪ :‬الممؿ كالنحؿ‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬المكتبة العصرية‪ ،‬بيركت‪ ،2003 ،‬ص ‪.111‬‬

‫‪139‬‬
‫كانتحمكا الكفر‪ ،‬كخاضكا في ا﵀‪ ،‬طير ا﵀ األرض منيـ ‪ ...‬ىـ براء مف رسكؿ ا﵀﴾‪ 1.‬كما أنيـ يستشيدكف بأحاديث الصحابة‬
‫الكبار‪ ،‬حيث "ركل أبك عبد الحميد بف أبي ركاد‪( :‬ىك مرجئ تكفي ‪ 206‬ىػ) عف ابف عباس‪" :‬القدرية كفر كالشيعة ىمكة‪ ،‬كالحركرية‬
‫بدعة‪ ،‬كما يعمـ الحؽ إال في المرجئة"‪ .‬يقكؿ كيعرؼ اإلرجاء بأسمكب سمفي‪" :‬اإلرجاء ىك مكقؼ أكلئؾ الذيف يككمكف ﵀ بقضاء‬
‫األمر فيما عمي عمييـ"‪ .‬كنبلحظ ىنا أف األرجاء كالجبرية يجتمعاف في إناء كاحد‪ ،‬ذلؾ ألف "مف يزعـ أف مع ا﵀ قاضيا أك قاد ار أك‬
‫رازقا أك يممؾ لنفسو خي ار أك نفعا أك مكتا أك حياة أك نشك ار لعنو ا﵀ كأخرس لسانو كأعمى بصره ك جعؿ صبلتو كصيامو منثك ار‬
‫‪2‬‬
‫كقطع بو األسباب ككبو عمى كجيو في النار"‪.‬‬

‫يككف اإلرجاء ىبة لؤلمؿ‪ ،‬في الحالة التي ال نقطع فييا بمصير الفاسؽ‪ .‬إذ أف إرجاء حكمو إلى ا﵀‪ ،‬يعجمو آمبل ما ىك أرحـ‬
‫كأحسف‪ .‬ىنا يقابؿ اإلرجاء التيئيس الذم قد نحممو عمى مرتكب الكبائر‪ .‬كعندما نترؾ "القطع بكعيد الفساؽ" نككف إزاء المكقؼ‬
‫اإلرجائي‪ 3.‬ككما ىك ظاىر‪ ،‬فإف ىذه النظرة ال تأخذ المبدأ اإلعتزالي الذم سيظير الحقا‪ ،‬تحت مسمى الكعد كالكعيد‪ ،‬حيث يعتقد‬
‫البعض بأف ا﵀ حدد لممحسف كعكد كلممسيء كعيد كال يمكف أف يغير شيئا منيا‪ .‬ىذه الصرامة المنطقية ىي التي تخمؽ يئسا في‬
‫نفس اإلنساف المعرض لمكبائر أك الذم كقع فييا‪ ،‬صراحة أك ضمنا‪.‬‬

‫يبدك أف ىناؾ مدلكؿ ايجابي كمحمكد لئلرجاء‪ ،‬كىك تأجيؿ النقاش البشرم حكؿ مصير الفاسؽ إلى حكـ ا﵀‪ ،‬كاإلنساف ميما‬
‫أكتي مف عمـ فبل يمكف أف يحسـ القرار النيائي حكؿ مصيره اك مصير غيره‪ .‬كقد طرح الحقا مع المعتزلة مشكمة الشفاعة‪ ،‬كقد رأينا‬
‫أف نفكر عامة المسمميف مف منطؽ المعتزلة غير المتسامح كاف بسبب نكرانيـ إلمكانية الشفاعة لمفاسؽ‪ .‬أما الجانب المذمكـ لمفيكـ‬
‫اإلرجاء فيك الذم أتى في مبدأىـ المشيكر القائؿ‪" :‬ال يضر مع اإليماف معصية كال ينفع مع الكفر طاعة"‪ .‬حيث يستدؿ المرجئة‬
‫عمى قكليـ مف خبلؿ تأكيدىـ بأف ا﵀ فرؽ بيف اإليماف كاألعماؿ في كتابو الحكيـ‪ .‬عمى اعتبار أف اإليماف ىك تصديؽ القمب كقكؿ‬
‫المساف‪ .‬لكف نحف نعمـ أف اإليماف ال ينفصؿ عف العمؿ تصديقا لقكؿ الرسكؿ الكريـ‪ :‬اإليماف بضع كستكف شعبة‪ ،‬أفضميا قكؿ ال‬
‫إلو إال ا﵀‪ ،‬كأدناىا إماطة األذل عف الطريؽ‪ 4.‬كالظاىر أف المشكبلت التي تثيرىا مسممة الفصؿ بيف اإليماف كالمعصية كالفصؿ بيف‬
‫الكفر كالطاعة ىك اسقاط المعنى الحقيقي آليات الكعيد خاصة المتعقمة بالكفر‪ .‬لكف لك تأممنا الجزء الثاني مف مبدأ اإلرجاء‪ ،‬كىك‬
‫القكؿ "ال ينفع مع الكفر طاعة" لكجدناه صحيحا مقبكال‪ ،‬عمى أساس أف الطاعات ال معنى ليا ببل إيماف حقيقي كصادؽ‪ .‬أما الجزء‬
‫االكؿ القائؿ "ال يضر مع اإليماف معصية"‪ ،‬فيك ظاىر الفساد ألف ىناؾ عبلقة عضكية بيف المعاصي كصبلبة اإليماف‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫محمد غالب بركات‪ :‬الفرؽ كالمذاىب في الرساالت الثبلث‪ ،‬دار اآلفاؽ العربية‪ ،‬القاىرة‪ ،‬الطبعة االكلى‪ ،2011 ،‬ص ‪-185‬‬
‫‪.186‬‬
‫‪2‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬ترجمة‬
‫محي الديف جماؿ بدر كرضا حامد قطب‪ ،‬مراجعة محسف الدمرداش‪ ،‬منشكرات الجمؿ‪ ،‬بيركت – بغداد‪ ،‬الطبعة األكلى‪،2016 ،‬‬
‫ص ‪.985‬‬

‫‪3‬‬
‫فضؿ ا﵀ الزنجاني‪ :‬تاريخ عمـ الكبلـ في اإلسبلـ‪ ،‬مجمع البحكث اإلسبلمية‪ ،‬مشيد‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،1997 ،‬ص ‪.85‬‬
‫‪4‬‬
‫محمد بف عبد العزيز السند‪ :‬آراء المرجئة في مصنفات شيخ اإلسبلـ ابف تيمية‪ -‬عرض نقد‪ ،‬دار التكحيد لمنشر‪ ،‬الرياض‪ ،‬الطبعة‬
‫االكلى‪ ،2007 ،‬ص ‪.266‬‬

‫‪141‬‬
‫يؤرخ "فاف ايس" ظيكر اإلرجاء بما قيؿ عف "رفيؽ (أك قؿ صحابي) النبي بريدة بف الحصيب األسممي الذم شارؾ في أكاخر‬
‫حياتو في حممة الفتكحات في خرساف كمات في مارؼ في عيد الخميفة يزيد األكؿ‪ .‬حيف سئؿ في سجستاف عف رأيو في الحرب‬
‫األىمية التفت بأيد مرفكعة باتجاه القبمة كقاؿ‪ :‬يا إليي‪ ،‬أغفر لعثماف كاغفر لعمي بف أبي طالب‪ ،‬أغفر لطمحة بف عبد ا﵀ كاغفر‬
‫لمزبير بف العكاـ ىؤالء قكـ سبقت ليـ مف ا﵀ سكابؽ‪ .‬فإف يشأ يغفر ليـ بما سبؽ ليـ فعؿ كاف يشأ يعذبيـ بما أحدثكا فعؿ حسابيـ‬
‫عمى ا﵀"‪ 1.‬كفي ىذا القكؿ يمكف أف نبلحظ كيؼ تجمت الركح التي نشأ منيا المرجئة‪ ،‬عمى أساس أف ىناؾ أمؿ ما في أف يعدؿ ا﵀‬
‫رأيو فيمف ارتكب الكبائر‪ .‬فالفتنة التي انطمقت مع مكت عثماف سمسمة متتالية مف الكبائر التي لـ تتكقؼ حتى يكـ الناس ىذا‪.‬‬
‫كمشكمة ارتكاب الصحابة لكبائر ىي ما أقمؽ الضمير المسمـ كأسيـ في ظيكر العديد مف اآلراء الكبلمية‪ ،‬بما في ذلؾ المرجئة‪.‬‬
‫فعندما نفترض ارتكاب أحد الصحابى لكبيرة مثؿ قتؿ النفس المؤمنة‪ ،‬فيناؾ نسأؿ عف عبلقة ايمانو الذم ال يشؾ فيو كأعمالو التي‬
‫أفرزت معاصي مركبة‪ .‬ألف الفتنة أشد مف الكفر كمف القتؿ‪ ،‬كقد كقع الصحابة في فتف عديدة منيا فتنة الجمؿ‪ ،‬كفتنة صفيف التي‬
‫أكدت بأالؼ مف أركاح المسمميف‪.‬‬

‫كعند عد فرؽ المرجئة‪ ،‬نبلحظ افتراقيا عمى مقاس الفرؽ األخرل‪ .‬حيث نجد الشيرستاني يتحدث عف أربعة أنكاع مف المرجئة‪:‬‬
‫مرجئة الخكارج‪ ،‬كمرجئة القدرية أم المعتزلة‪ ،‬كمرجئة الجبرية كمرجئة خالصة‪ 2.‬في حيف نجد األشعرم اآلخر‪ ،‬كىك البغدادم‪ ،‬يقدـ‬
‫لنا ثبلثة أصناؼ مف المرجئة‪:‬‬

‫مرجئة المعتزلة (غيبلف الدمشقي)‪ :‬اإلرجاء في اإليماف كالقدر‪.‬‬

‫مرجئة المجبرة(جيـ بف صفكاف)‪ :‬الجبر في األعماؿ كالرجاء باإليماف‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫مرجئة ال جبرية كال قدرية‪ :‬قالكا بإخراج العمؿ عف اإليماف‪.‬‬

‫لكننا نجد مف يتحدث عف ارجاء شيعي‪ ،‬حيث تتحدث عقائد فاطمية عف أمؿ المغفرة مف السيئات لكؿ مسمـ‪ .‬فمف مرجئة الككفة‬
‫"نجد عبد ا﵀ بف ازرة المرىي الحمداني كالذم نقؿ كالده حديثا مفاده أف فاطمة ستحمي مف خبلؿ عفتيا ذريتيا مف الجحيـ‪ .‬كاف‬
‫‪4‬‬
‫مرجئيا ألنو كاف مؤمنا باختيار كؿ المسمميف‪ :‬الحمد ﵀‪ ،‬الذم جعمنا مف أمة تغفر ليـ السيئات كال تقبؿ مف غيرىـ الحسنات"‪.‬‬
‫كظيكر اإلرجاء الشيعي في الككفة مبرر جدا‪ ،‬عمى أساس أنيا المدينة الحاضنة لشيعة عمي (ض)‪ .‬لكف في الككفة بالذات لـ تكف‬

‫‪1‬‬
‫جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬ترجمة سالمة صالح‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬منشكرات الجمؿ‪،‬‬
‫بغداد – بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2008 ،‬ص ‪.218‬‬

‫‪2‬‬
‫عبد الكريـ الشيرستاني‪ :‬الممؿ كالنحؿ‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.111‬‬
‫‪3‬‬
‫عبد القاىر البغدادم‪ :‬الفرؽ بيف الفرؽ كبياف الفرقة الناجية‪ ،‬مكتبة ابف سينا‪ ،‬القاىرة‪ ،1988 ،‬ص ‪.178‬‬
‫‪4‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪ .897‬أيضا‪ :‬جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬ترجمة سالمة صالح‪ ،‬الجزء‬
‫األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.222‬‬

‫‪141‬‬
‫الكضعية جيدة بيف الشيعة كالمرجئة‪ ،‬بؿ كانكا يعتبركنيـ ألد األعداء‪ 1،‬عمى أساس أنو لـ يتـ البت في مصير الظالميف مف بني‬
‫أمية‪.‬‬

‫ما يثير انزعاج عامة المسمميف مف المرجئة‪ ،‬ىك أنيا تساىمت كثي ار في مسائؿ ال يجب التساىؿ فييا‪ .‬ألف اإلرجاء المطمؽ‬
‫يخمؽ حالة تساكم المراتب اإليمانية بسبب الفصؿ بيف األعماؿ‪ .‬بؿ يمكف الحديث عف تأكيؿ مرجئي لمقرآف يخالؼ التأكيبلت السنية‪.‬‬
‫أبنا لكـ مقدمات يختمؼ إنتاجيا‪ ،‬كذكر استدالؿ الخارجي كالمرجئ بقكؿ ا﵀ عز‬
‫كىذا ما يذكره ابف حزـ‪" :‬فإف شغب مشغب فقاؿ قد ٌ‬
‫كجؿ‪﴿ :‬ال يصميا إال األشقى‪ ،‬الذم كذب كتكلى﴾ [اليؿ ‪ ]16-15‬فإف الخارجي [نسبة لمخكارج] قاؿ ‪ :‬قد صحت آثار كآيات بأف‬
‫القاتؿ يصبلىا كال يصبلىا إال األشقى الذم كذب كتكلى‪ ،‬فالقاتؿ ىك األشقى الذم كذب كتكلى‪ .‬كقاؿ المرجئ [نسبة لممرجئة]‪ :‬قد‬
‫صحت آثار كآيات بأف المقر بالتكحيد كااليماف يدخؿ الجنة‪ ،‬كالنار ال يصبلىا إال األشقى الذم كذب كتكلى‪ ،‬فالزاني لـ يكذب كال‬
‫تكلى فبل يصبلىا‪ .‬فاعمـ أنو ىذا مف البرىاف الذم نبيتؾ عميو فتذكر عميو"‪ 2.‬ىنا نبلحظ كيؼ أف العقيدة اإلرجائية تساىـ في فيـ‬
‫معيف لمنصكص القرآنية بمعنى أف تشكؿ أحجبة فكؽ اآليات‪ ،‬ىك الفيـ الذم ال يقبمو عامة المسمميف‪ ،‬أك الفرؽ المختمفة عنيا‪.‬‬

‫مف الصعب تحديد القيمة الحقيقة لئلرجاء‪ ،‬ففي حيف اعتبره البعض‪ ،‬مثؿ الجابرم‪ ،‬بمثابة استقالة مطمقة لمعقؿ مف خبلؿ‬
‫الرككف إلى التفكيض اإلليي‪ 3.‬فإف ىناؾ مف رأل في اإلرجاء تكحيد لؤلمة بعد الشقاؽ كالخبلؼ الحاد الذم كقعت فيو‪" .‬إذ استبعد‬
‫المرء الحكـ عمى عثماف كعمي‪ ،‬فإنو فعؿ ذلؾ مف أجؿ أف يحافظ عمى ىذه الكحدة‪ .‬فقد انقسمت األمة في الحكـ عمييما‪ ،‬كالخبلؼ‬
‫في الرأم يمتد حتى اإلىانات الشخصية‪ .‬كلكف ال ينبغي لممرء أف يستسمـ لئلثارة الستبعادىما مف األمة اإلسبلمية بأف يسمي أحدىما‬
‫أك اآلخر بأنو غير مؤمف؛ فمصيرىما في اآلخرة غير معركؼ لنا‪ .‬ما فعبله حدث أماـ عيف ا﵀ كسيسأالف عنو حيف يمثؿ كؿ منيما‬
‫أمامو كحيدا يكـ القيامة (‪ )...‬يمارس المرء اإلرجاء‪ ،‬حيف يككف ثمة ما ىك خفي أك مشككؾ فيو بشأف الناس الذيف لـ يرىـ أبدا أك‬
‫أنيـ أمكات منذ كقت طكيؿ كال يكجد في القرآف آية تشير إلى خبلصيـ في اآلخرة"‪ 4.‬يتحكؿ اإلرجاء كفؽ نص "فاف ايس" إلى مكقؼ‬
‫لمنجاة مف الحكـ عمى اآلخريف‪ ،‬لذا فن حف اليكـ‪ ،‬كألننا أكثر بعدا عف الحكادث األصمية‪ ،‬ال يمكف لنا مف منطؽ العقؿ الحيادم‪ ،‬أف‬
‫نحكـ عمى مصير أم مف الصحابة الكراـ‪ .‬ال نممؾ إال ركايات نابعة مف منظكر معيف ال يخمكا مف مصمحة أك مفسدة‪ .‬ككؿ ركاية‬
‫تاريخية تختمؼ عف التاريخ الخاـ‪ ،‬ألنيا منظكرية كمكجية‪ .‬بؿ يمكف تكسيع ىذا المكقؼ ليشمؿ كؿ المسمميف‪ ،‬ألف أساس اإليماف‬

‫‪1‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.259‬‬
‫‪2‬‬
‫ابف حزـ األندلسي‪ :‬التقرب لحد المنطؽ كالمدخؿ إليو باأللفاظ العامية كاألمثمة الفقيية‪ ،‬تحقيؽ أحمد فريد المزيدم‪ ،‬دار الكتب‬
‫العممية‪ ،‬بيركت‪ ،‬ص ‪.135-134‬‬

‫‪3‬‬
‫محمد عابد الجابرم‪ :‬العقؿ األخبلقي العربي – دراسة تحميمية نقدية في نظـ القيـ في الثقافة العربية‪ ،‬مركز دراسات الكحدة العربية‪،‬‬
‫بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2001 ،‬ص ‪.73‬‬

‫‪4‬‬
‫جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬ترجمة سالمة صالح‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص‬
‫‪.242-241‬‬

‫‪142‬‬
‫ىك الشيادة‪ ،‬كمف ثمة فإف األعماؿ متأخرة عف الشرط األكؿ‪ .‬كيتحدد اإلرجاء بأف يؤجؿ اإلنساف الحكـ عمى أفعاؿ المسمميف‬
‫‪1‬‬
‫كالتكفير كما نعمـ ىك التعميؿ النصي‬ ‫اآلخريف‪ ،‬كأكبر مشكمة عناىا المسمميف قديما كحديثا‪ ،‬ىي الحكـ بالتكفير عمى الغير‪.‬‬
‫لممارسة العنؼ عمى الغير‪ .‬لذا يتحكؿ اإلرجاء‪ ،‬بمعنى تأجيؿ الحكـ إلى كسيمة إليقاؼ العنؼ المعنكم كالعنؼ الفعمي عمى األغيار‬
‫مف المسمميف أك غير المسمميف‪ .‬إنو اعترؼ بمحدكدية الحكـ البشرم‪ ،‬إزاء القدرة المطمقة لئللو‪ .‬كنحف ال نممؾ اف نسأؿ ا﵀ عف‬
‫خيراتو أك ق ارراتو أك نسكخو‪ .‬يقكؿ الماتريدم محددا قطبي اإلرجاء‪" :‬معنى اإلرجاء نكعاف؛ أحدىما محمكد كىك ارجاء أصحاب‬
‫الكبائر ليحكـ ا﵀ تعالى فييـ بما شاء (‪ )...‬كاإلرجاء المذمكـ ىك الجبر‪ ،‬كىك اف يرجئ األفعاؿ إلى ا﵀ ال يجعؿ لمعبد فيو فعبل كال‬
‫‪2‬‬
‫تدبير شيء مف ذلؾ‪ .‬كعمى ذلؾ المركم فقاؿ‪ :‬صنفاف مف أمتى ال يناليـ شفاعتي؛ القدرية كالمرجئة"‪.‬‬

‫تبقى فرقة المرجئة محدكدة التأثير‪ ،‬بالنظر إلى جزئية مساىمتيا الكبلمية‪ ،‬فيي لـ تتناكؿ كؿ القضايا الكبلمية مثمما كجدناه عند‬
‫المعتزلة كاألشعرية‪ .‬ربما ىذا يعكد إلى ككنيا فرقة فجرية في عمـ الكبلـ‪ ،‬أم ظيرت في البدايات األكلى مع الخكارج كالشيعة‪ ،‬ففي‬
‫حيف نمت ا لشيعة لتتكسع كعقيدة كبلمية شاممة‪ ،‬تكقفت المرجئة عند ما جادت بو قريحة األكليف‪ ،‬كتكقفت دكف أف تستكمؿ بقية‬
‫ثـ أف مبدأ الفصؿ بيف العمؿ كالعقيدة جعميا غير معقكلة‪ ،‬بالنظر إلى المجاالت‬ ‫المشكبلت الكبلمية مثؿ الحرية كالصفات‪...‬الخ‪.‬‬
‫الفقيية كالعممية التي تتطمب تجسي د اإليماف في أفعاؿ محسكسة كقابمة لممشاىدة‪ .‬إف ربط اإليماف بالكبلـ فحسب‪ ،‬ليي الفكرة التي ال‬
‫يقبميا حتى العكاـ مف الناس‪.‬‬

‫ثانيا‪ -‬المجبرة‪:‬‬

‫يقاؿ أف الجبرية أكؿ فرقة كبلمية في العالـ اإلسبلمي تأسست عمى التأكيؿ‪ ،‬كقد ظيرت في العيد األمكم‪ .‬كقد تـ مبلحظة‬
‫العبل قة الكطيدة بيف ايديكلكجية بني أمية كالمبادئ االعتقادية ليذه الفرقة‪ .‬بؿ ربما ىما ايديكلكجية كاحدة ليا شؽ سياسي كآخر‬
‫عقدم‪ .‬بؿ ىنا نبلحظ التكظيؼ اإليديكلكجي غير النزيو لنصكص قرآنية صريحة‪.‬‬

‫كالجبر في المغة يدؿ عمى نفي حقيقة األفعاؿ عف اإلنساف كنسبتيا إلى ا﵀‪ .‬كيفيـ في مقابمتو بالقدرية أم اثبات القدرة لئلنساف‪.‬‬
‫كقد قسميـ الشيرستاني إلى جبرية خالصة ال تثبت لمعبد فعبل كال قدرة بأم صفة مف الصفات‪ ،‬كىناؾ جبرية متكسطة كالتي تثبت‬
‫قدرة غير مؤثرة‪ 3.‬أم أف حرية اإلنساف ارادة شكمية ال تشكؿ أصكؿ األفعاؿ الحقيقة التي يقدرىا ا﵀ تعالى‪.‬‬

‫كمف أشير فرؽ المجبرة فرقة الجيـ بف صفكاف التي سميت بالجيمية‪ ،‬كىك مف ترمذ‪ ،‬كقد انتيت حياتو بأف قتؿ في نياية‬
‫العصر األمكم حكالي ‪ 126‬ق‪ .‬كمف بيف أرائو الكبلمية ما يتعمؽ بالصفات كما يتعمؽ بأفعاؿ العباد‪ .‬كىذا يكشؼ أيضا محدكدية‬
‫أراء ىذه الفرقة كعجزىا عف تقديـ نسؽ كبلمية متكامؿ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.260‬‬
‫‪2‬‬
‫أبك منصكر الماتريدم‪ :‬تأكيبلت القرآف‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬تحقيؽ أحمد كائمي أكغمي كبكر طكباؿ أكغمي‪ ،‬دار الميزاف‪ ،‬استانبكؿ‪،‬‬
‫‪ ،2005‬ص ‪.82-81‬‬

‫‪3‬‬
‫عبد الكريـ الشيرستاني‪ :‬الممؿ كالنحؿ‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.67‬‬

‫‪143‬‬
‫‪ -1‬مشكمة الصفات ‪ :‬نفت الجيمية الصفات‪ ،‬كقالت بأف ليس ىناؾ صفات غير ا﵀ سبحانو كتعالى‪ .‬كيشرح اآلمدم مذىبيـ‬
‫ىنا بأنيـ قالكا‪ ،‬مثؿ المعتزلة تماما عمى حد قكؿ العبلؼ أف عمـ ا﵀ ىك ا﵀‪ 1،‬بأنو ال يجكز كصؼ ا﵀ تعالى بما يمكف أف‬
‫يكصؼ بو غيره مف الخمؽ‪ .‬ألف ىذا يسقطنا في التشبيو‪ ،‬مثؿ حديثنا عف صفات العمـ كالحياة‪...‬الخ‪ 2.‬كمف ثـ فإف رؤية‬
‫ا﵀ يكـ القيامة متعذرة‪ ،‬ألف ىذه الرؤية تستدعي الجسمية‪ .‬بالمقابؿ يمكف اثبات الصفات التي ال تنسب لغيره مثؿ الخمؽ‬
‫كالفعؿ كالقدرة‪ .‬ففي اعتقادىـ أف القدرة كالخمؽ ىما أىـ ما يتفرد بو ا﵀ تعالى‪ 3.‬كقد قيؿ بأف الجيمية أنكرت أف يككف ا﵀‬
‫يما﴾ [النساء‪ .]164 ،‬كيبدك أف السبب‬‫ً‬ ‫َّ َّ‬ ‫‪4‬‬
‫كسى تى ٍكم ن‬
‫﴿ك ىكم ىـ الموي يم ى‬
‫قد تحدث مع سيدنا مكسى‪ ،‬عمى الرغـ مما نجده في القرآف ى‬
‫ىك مشكمة الصفات التي تكحي بالجسمية‪ ،‬عمى أساس أف الكبلـ يتطمب شركطا فيزيكلكجية تكحي بأف لو أعضاء ظاىرة‬
‫كباطنة مف أجؿ الكبلـ كالسماع‪ ،‬كىذا محاؿ في حؽ الذات اإلليية‪ .‬كما أف "اإلنساف ال يستطيع رؤية ا﵀ ألف ا﵀ ال‬
‫يتصؼ بأنو شيء ‪ ،‬ككذلؾ بسبب أنو ليس ىناؾ مسافة تفصؿ بينيما‪ ،‬فاإلنساف ال يستطيع أف يرل إال األشياء التي يفصؿ‬
‫بينو كبينيا مسافة معينة‪ .‬ىذه النقطة تكضح التطابؽ الشديد بيف الجيمية كبيف المعتزلة‪ .‬ففي حيف أف المعتزلة يركف أف‬
‫استحالة رؤية ا﵀ سببيا يرجع إلى أف ا﵀ ال يدرؾ بالحكاس‪ ،‬فإف الجيمية كانكا أشد تطرفا؛ إذا قالكا بأف أيضا العقؿ يأبى‬
‫ذلؾ‪ .‬فمعرفة ا﵀ تتأتى فقط عف طريؽ التخميف"‪ 5.‬بؿ أنيـ ذىبكا إلى أبعد مف ذلؾ عندما قالكا‪" :‬أف مف قاؿ بأنو رأم ا﵀‬
‫في المناـ‪ ،‬فيك كاىـ‪ .‬كال يعتبر النبي نفسو استثناء‪ .‬فيـ ينكركف أيضا كقكع رحمة اإلسراء إلى بيت المقدس‪ ،‬كالمعراج إلى‬
‫السماء‪ .‬كيسأؿ الجيمية عف فائدة االعتقاد بذلؾ‪ .‬فا﵀ ليس في السماء كانما في كؿ مكاف‪ ،‬كفي نفس الكقت فيك ليس في‬
‫أم مكاف‪ .‬كذلؾ فافتراض أف النبي قد رأل الجنة كجينـ في رحمة المعراج‪ ،‬يقتضي أنيما كانا مخمكقيف بالفعؿ في زمف‬
‫‪6‬‬
‫النبي؛ غير أف كثير مف الجيمية يقكؿ عمى نحك ما قاؿ بو المعتزلي ضرار بف عمرك بأف الجنة كالنار لـ يخمقا بعد"‪.‬‬
‫ىنا نبلحظ مدل تفرد الجيمية بآراء مخالفة لمعتدات السنة كالجماعة األكلى‬

‫‪1‬‬
‫أبي الحسف األشعرم‪ :‬اإلبانة عف أصكؿ الديانة‪ ،‬الجزء‪ ،1‬تحقيؽ فكقية حسيف محمكد‪ ،‬دار االنصار‪ ،‬القاىرة‪ ،‬الطبعة األكلى‪،‬‬
‫‪ ،1977‬ص ‪.144‬‬
‫فضؿ ا﵀ الزنجاني‪ :‬تاريخ عمـ الكبلـ في اإلسبلـ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ .58‬أيضا ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في‬ ‫‪2‬‬

‫اإلسبلـ‪ ،‬ترجمة مصطفى لبيب عبد الغاني‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬المركز القكمي لمترجمة‪ ،‬القاىرة‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2005 ،‬ص ‪.208‬‬

‫‪ 3‬عبد الكريـ الشيرستاني‪ :‬الممؿ كالنحؿ‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.68‬‬
‫‪4‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.750‬‬
‫‪5‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.744-743‬‬
‫‪6‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.747‬‬

‫‪144‬‬
‫كربما أف نفي الصفات يؤدم إلى التعطيؿ‪ ،‬كقد سميت المعتزلة كالمجبرة معا باسـ المعطمة‪ .‬ألنيـ أسرفكا نفي الصفات التي‬
‫تكحي بالتجسيـ‪ .‬حتى أف اإلماـ أبك حنيفة قاؿ‪ :‬أفرط الجيـ في نفي التشبيو حتى قاؿ أنو تعالى ليس بشيء‪ 1.‬في مقابؿ المجسمة‪،‬‬
‫خاصة مقاتؿ بف سميماف‪ ،‬التي أثبتت أنو مثؿ خمقو‪ .‬فكؿ الصفات منفية عنو ما عدا القدرة‪ ،‬كىذا ينسجـ مع العقيدة الثانية كىي‪:‬‬

‫‪ -2‬مشكمة أفعل العباد‪ :‬اتفاؽ الجيمية مع المعتزلة في مشكمة نفي الصفات‪ ،‬أفضى إلى تناقض مطمؽ بينيما في مسألة أفعاؿ‬
‫العباد‪ .‬كقد نقؿ الشيرستاني مقكؿ الجيـ حكؿ القدرة الحادثة قائبل‪" :‬إف اإلنساف ال يقدر عمى شيء‪ ،‬كال يكصؼ‬
‫باالستطاعة؛ كانما ىك مجبكر في أفعالو‪ :‬ال قدرة لو‪ ،‬كال إرادة‪ ،‬كال اختيار‪ ،‬كانما يخمؽ ا﵀ تعالى األفعاؿ فيو عمى حسب‬
‫ما يخمؽ في سائر الجمادات‪ ،‬كتنسب إليو األفعاؿ مجازا‪ ،‬كما تنسب إلى الجامدات؛ كما يقاؿ‪ :‬أثمرت الشجرة‪ ،‬كجرل‬
‫الماء‪ ،‬كتحرؾ الحجر‪ ،‬كطمعت الشمس كغربت‪ ،‬كتغيمت السماء كأمطرت‪ ،‬كاىتزت األرض كأنبتت ‪...‬الخ‪ .‬كالثكاب كالعقاب‬
‫جبر‪ ،‬كما أف األفعاؿ كميا جبر؛ قاؿ‪ :‬كاذا ثبت الجبر‪ ،‬فالتكميؼ أيضا كاف جبرا"‪ 2.‬كىنا نبلحظ عدـ قيامو‪ ،‬أم الجيـ بف‬
‫صفكاف‪ ،‬بأم تبرير عقمي عمى نفي القدرة مثمما برر نفي الصفات عقميا‪ .‬فكيؼ يعقؿ أف يككف التكميؼ جبر‪ ،‬في حيف أنو‬
‫يتطمب القدرة عمى اختيار األسكأ مثبل لتبرير دخكؿ النار ؟‬

‫أىـ مسألة تقدـ بيا الجيـ ىي مسألة المجازية‪ ،‬كىك مكضكع ميـ جدا في الدراسات القرآنية‪ .‬كنبلحظ في تبرير الجبر استعماؿ‬
‫المجاز أيضا‪ " :‬ا﵀ كحده ىك الذم يقدر كؿ األحداث‪ .‬كعمى الرغـ مف أف ا﵀ قد يكىـ اإلنساف بأنو يقكـ بفعؿ ىذه األشياء بنفسو؛ إال‬
‫أف ذلؾ ما ىك إال عبارة عف أف ا﵀ ين شئ نكع مف اإلرادة في قمب اإلنساف‪ ،‬بمعنى أنو يمنحو قدرة لحظية عمى الفعؿ‪ ،‬ثـ يشعر بعد‬
‫ذلؾ بنكع مف الرضا‪ .‬غير أف ىذا ال يعدك أف يككف فعؿ بالمعنى المجازم‪ ،‬ففي حقيقة األمر يتساكل فعؿ اإلنساف ىنا مع ما يقع لو‬
‫مف نمك في الجسـ كاكتساب لكف البشرة‪ ،‬كىي األمكر التي ليس لو دخؿ فييا‪ .‬كالمبس الذم يحدث في األمر سببو المغة‪ ،‬فنحف نقكؿ‬
‫‪3‬‬
‫مثبل "غربت الشمس"‪ ،‬مع أف ا﵀ ىك في الحقيقة الذم جعميا تغرب‪( .‬ابف قتيبة‪ :‬تأكيؿ مشكؿ القرآف – الجرجاني‪ :‬أسرار الببلغة)"‪.‬‬
‫نحف ىنا أماـ جبرية ككنية ال انفبلت منيا‪ .‬كما اإلنساف مثمما الحظ ذلؾ الجاحظ‪ ،‬بما ىك معتزلي‪ ،‬إال مكميات ينفذ الحركات‬
‫اإلليية ببل أدنى ارادة‪.‬‬

‫كقد اعتقد البغدادم أف الجيمية قد كافقت األشعرية في التأكيد عمى أف ا﵀ قد خمؽ أكساب العباد‪ .‬كفي ىذا يخالفكف المعتزلة‬
‫(القدرية) كمية‪ .‬كأف االستطاعة تككف مع الفعؿ‪ ،‬كأنو ال يحدث في العالـ إال ما يريده ا﵀‪ 4.‬لكف يبدك لنا أف مكقؼ األشعرية أكثر‬
‫عقبلنية‪ ،‬عمى أساس أنيا خصصت نصيبا الستطاعة اإلنساف‪ ،‬كلك أنو نصيب شكمي كسطحي كمتأخر‪ ،‬في حيف أف الجيمية‬
‫جعمت كؿ شيء جبر حتى العقاب كالحساب‪ .‬ال يبقى اإلنساف حتى مكمياء كاف يكما ما حية‪ ،‬إنو جماد بأتـ معنى الكممة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫جماؿ الديف القاسمي الدمشقي‪ :‬تاريخ الجيمية كالمعتزلة‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،1979 ،‬ص ‪.11‬‬

‫‪2‬‬
‫عبد الكريـ الشيرستاني‪ :‬الممؿ كالنحؿ‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.68‬‬
‫‪3‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.736‬‬
‫‪4‬‬
‫عبد القاىر البغدادم‪ :‬الفرؽ بيف الفرؽ كبياف الفرقة الناجية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.183‬‬

‫‪145‬‬
‫في مسألة المجاز‪ ،‬نحا الجيـ منحى ميـ في تاريخ التأكيؿ اإلسبلمي‪ ،‬عمى أساس أنو قاؿ بأف "حركة أىؿ الخمديف تنقطع‪،‬‬
‫كالجنة كالنار تفنياف بعد دخكؿ أىميما فييما كتمذذ الجنة بنعيميا كتألـ أىؿ النار بحميميا‪ ،‬إذ ال تتصكر حركات ال تتناىى آخرا‪ ،‬كما‬
‫يف ًفييىا﴾ عمى المبالغة كالتأكيد‪ ،‬دكف الحقيقة في التخميد؛ كما يقاؿ‪ :‬خمد‬ ‫ال تتصكر حركات ال تتناىى أكال؛ كحمؿ قكلو تعالى ى ً ً‬
‫﴿خالد ى‬
‫َّؾ فىعَّا هؿ ًل ىما‬
‫ؾ ًإ َّف ىرب ى‬ ‫ات ك ٍاألىر ي َّ‬
‫ض إًال ىما ىش ى‬
‫اء ىرُّب ى‬ ‫َّم ىك ي ى ٍ‬
‫﴿خالً ًديف ًفييا ما ىد ً‬
‫امت الس ى‬
‫ا﵀ يممؾ فبلف‪ ،‬كاستشيد عمى االنقطاع بقكؿ تعالى ى ى ى ى ى‬
‫يد﴾ [ىكد‪ ]107 ،‬فاآلية اشتممت عمى شرطية كاستثناء‪ ،‬كالخمكد كالتأبيد ال شرط فيو كال استثناء"‪ 1.‬كيشرح "فاف ايس" ىذا المكقؼ‬
‫يي ًر ي‬
‫الذم ينافي المعتقد العاـ قائبل‪" :‬كاف الجيـ يرل أف الجنة كالنار مخمكقاف مثؿ أم شيء آخر في حيز الزماف (‪ )...‬لذا سكؼ تعكداف‬
‫إلى الفناء‪ .‬ىذا يعني أ ف الناس لف يخمدكا في الجنة ‪ ،‬لذلؾ فإف جيـ يفسر "خالديف فييا" (آؿ عمراف‪ )15 ،‬عمى أنو تعبير ببلغي‬
‫فيو مبالغة‪ ،‬ال يعني أكثر مف أنيـ سكؼ يظمكف في الجنة مدة طكيمة‪ .‬كىذا يعني أف جيـ نظر إلى التعبير القرآني نظرة لغكية‪ ،‬كىك‬
‫محؽ في ذلؾ‪ ،‬فمعنى المفظ ال يدؿ عمى أكثر مف ذلؾ‪ ،‬كيؤكد عمى ذلؾ التعبير المماثؿ في آية ‪ 23‬مف النبأ (البثيف فييا أحقابا)؛‬
‫فأحقابا ال تعني أكثر مف "مدة طكيمة" (‪ )...‬الخمكد يعني أنو ال يكجد مع ا﵀ أحد (قبؿ كؿ شيء كبعد كؿ شيء)؛ كقد دلؿ جيـ‬
‫عمى ذلؾ مف القرآف مف خبلؿ اآلية ‪ 3‬مف الحديد‪( :‬ىك األكؿ كاآلخر‪ .)...‬يبدك أف أبك حنيفة كاف لو الرأم نفسو كالسبكي اعترض‬
‫عمى ذلؾ مف خبلؿ عممو "كتاب االعتبار في بقاء الجنة كالنار"‪ 2.‬ادخاؿ عامؿ الببلغة في فيـ القرآف‪ ،‬سيسقط عف العامة الفيـ‬
‫المألكؼ‪ ،‬كيكشؼ الفرؽ بيف الحقيقية كالمجاز في الكبلـ‪ ،‬كالغالبية مف الناس يفيمكف كؿ القرآف بما ىك كبلـ حقيقي ببل أم مجاز‪،‬‬
‫في حيف أف الحقيقة عكس ذلؾ تماما‪ .‬كادخاؿ فرضية المجاز‪ ،‬سيغير الكثير مف المسممات المتداكلة‪ .‬كقد كاف األستاذ محمد أرككف‬
‫يعتبر دراسة المجاز في القرآف الكريـ مشركع حياتو الذم لـ يقدر عمى انجازه‪ ،‬نظ ار ألىميتو في تشكيؿ العقائد عند غابية المسمميف‪.‬‬

‫ككما ىك ظاىر‪ ،‬فإف ىناؾ تفاكت في درجة عقبلنية المجبرة مثممة في الجيمية‪ ،‬ففي حيف نجد إعماؿ عقمي ممحكظ في قضية‬
‫الصفات كفي قضية المجاز القرآني‪ ،‬إال أف ىناؾ اغفاؿ مطمؽ في مسألة تبرير الجبر السمككي كالتكميفي‪ .‬كربما أف ىذا مرتبط‬
‫بعبلقتيا باإليديكلكجية األمكية‪ .‬يقكؿ الجابرم‪" :‬األمكييف ىـ مف نشر ايديكلكجية الجبرية ضد المعارضيف لحكميـ (‪ )...‬مما أدل إلى‬
‫قياـ إيديكلكجيا مضادة نشرتيا حركة تنكيرية حقيقية (يقصد المعتزلة طبعا) كانت الدكلة األمكية تبرر حكميا كجكرىا كعسفيا بػ‬
‫القضاء كالقدر‪ ،‬مكرسة بذلؾ ايديكلكجيا الجبر‪ ،‬ككجد ىؤالء المسمميف الجدد (في البصرة) في فكرة الجبر ىذه ما يبرركف السمكؾ‬
‫اإلباحي الذم كانكا يمارسكنو‪ ،‬باعتباره أنو بدكره قضاء كقدر"‪ 3.‬لكف‪ ،‬كعمى الرغـ مف تقارب عقائد الدكلة األمكية مف الناحية‬
‫السياسية كعقائد الجيمية مف الناحية الكبلمية‪ ،‬إال أنو لـ يثبت تقارب بينيما مف الناحية التاريخية‪.‬‬

‫قكبمت الجيمية برفض شديد‪ ،‬بخاصة مف طرؼ أىؿ الحديث‪ ،‬حيث خصص اإلماـ أحمد بف حنبؿ رسالة تحت عنكاف الرد‬
‫عمى الجيمية‪ ،‬كناقش أطركحتيـ القائمة بأف ا﵀ ىك األكؿ كاآلخر‪ ،‬عمى أساس أف كؿ شيء يفني بما في ذلؾ الجنة كالنار‪ ،‬عمى‬
‫أساس أف ا﵀ ىك اآلخر في كؿ كجكد‪ .‬كرد عمييـ بالقرآف ذاتو‪ ،‬كالذم أثبت بقاء الجنة كالنار كخمكد أصحابيا في الدرجات‬

‫‪1‬‬
‫عبد الكريـ الشيرستاني‪ :‬الممؿ كالنحؿ‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.69 -68‬‬
‫‪2‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.748‬‬
‫‪ 3‬محمد عابد الجابرم‪ :‬العقؿ األخبلقي العربي – دراسة تحميمية نقدية في نظـ القيـ في الثقافة العربية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.69-67‬‬

‫‪146‬‬
‫يـ﴾ [التكبة‪ 1.]21 ،‬بؿ ىناؾ‬ ‫ات لىيـ ًفييا ىن ًع ً‬
‫اف كجَّن و‬ ‫﴿يىب ّْش يريى ٍـ ىربُّيي ٍـ بً ىر ٍح ىم وة ًم ٍنوي ىكًر ٍ‬
‫يـ يمق ه‬
‫ه‬ ‫يٍ ى‬ ‫ض ىك و ى ى‬ ‫كالدركات‪ .‬فقد أتى في الذكر الحكيـ بأف ي‬
‫العشرات مف اآليات القرآنية ما يثبت الخمكد في الجنة كالنار معا‪ ،‬مما يدؿ عمى أنيا ال تفنى بفناء الكجكد‪ .‬مما يجعؿ عقيدة جيـ‬
‫كشيعتو‪ ،‬حسب أحمد‪ ،‬ديف الشيطاف بعينو‪.‬‬

‫ثالثا‪ -‬الماتردية‪:‬‬

‫نسبة إلى أبك منصكر الماتريدم (‪ 333‬ق) كالذم تعكد أصكلو إلى الصحابي أبك أيكب األنصارم‪ .‬كىك مف التيار السني‬
‫المتكسط‪ ،‬حنفي الفقو‪ ،‬ظير في أعماؿ سمرقند‪ ،‬في أكائؿ القرف الرابع لميجرة كبذلؾ فالماتريدية معاصرة لؤلشعرية‪ ،‬كامتد انتشارىا‬
‫حتى القرف الثالث عشر لميجرة‪ .‬ظيكرى ا ارتبط بالغمك الكبلمي المنتشر‪ ،‬بخاصة التزمت النقمي كالنصي عند الحنابمة كاإلفراط العقمي‬
‫عند المعتزلة‪ .‬لذا فإنيا تقاطع مع ىذه أك مع تمؾ في عدة مسائؿ اتفاقا كاختبلفا‪.‬‬

‫كقد أقر مؤرخي الكبلـ اإلسبلمي كالمتخصصيف في عقيدة الماتريدم‪ ،‬أنو أقرب إلى األشعرية منو إلى المعتزلة في المنيج‪.‬‬
‫كعمى الرغـ مف الماتريدية تقر بسمطاف العقؿ في المعرفة الدينية كالعقدية‪ ،‬إال أنيا ال تستنتج نفس نتائج المعتزلة‪ .‬كىناؾ مف ذىب‬
‫‪2‬‬
‫كلك أف الماتريدية ترل أف مصدر التمقي في‬ ‫إلى أف األشعرية أكثر اعتزاال مف الماتريدية نظ ار لمتككيف المعتزلي لشيخ األشاعرة‪.‬‬
‫اإللييات كالنبكات ىك العقؿ كضركرة معرفة الديف بالدليؿ‪ 3،‬فيذا لـ يجعؿ منيا معتزلية المنيج‪ .‬كبما أف النتائج كالعقائد دالة المنيج‬
‫المستعمؿ‪ ،‬فإف عرض مكاقفيا يكشؼ عف حقيقة منيجيا‪ .‬كربما المسألة التي جعمت العديد يشيد بعقبلنية الماتريدية ىك مبدئيا‬
‫المشيكر بػ "معرفة اهلل واجبة بالعقل قبل ورود الشرع"‪ 4.‬كىذا المبدأ يذكرنا بمقياس المعتزلة في التمييز بيف الحسف كالقبح‪ .‬لكنيـ لـ‬
‫يجعمكا التميز العقمي مطمؽ‪ ،‬كىذا ما يخالفيـ عف المعتزلة‪ ،‬فيناؾ بعض األفعاؿ ندرؾ قمتيا األخبلقية قبؿ كركد الشرع‪ ،‬لكف‬
‫البعض اآلخر يتطمب الشرع‪ .‬كىذه األمكر معمكمة ككاضحة دكف تمثيؿ‪.‬‬

‫في مسألة الصفات‪ ،‬يتقارب الماتردم باألشعرم‪ ،‬حيث يثبت الصفات اإلليية كما تـ اثباتيا في القرآف الكريـ‪ ،‬لكنو ال يثبت‬
‫التشبيو إطبلقا‪ ،‬لذا نجده يقكؿ بأف ا﵀ عالـ بعمـ لكف ليس ككؿ العمكـ‪ ،‬كقادر بقدرة ال كالقدرة‪ ...‬إلخ أم صفاتو ال كالصفات التي‬
‫نتخيميا في البشر‪ 5.‬يقكؿ في ىذا السي اؽ‪" :‬القكؿ في الجسـ يخرج عمى جيتيف‪ :‬أحدىما في مائية الجسـ في الشاىد أنو اسـ ذم‬

‫‪1‬‬
‫أحمد بف حنبؿ‪ :‬الرد عمى الجيمية كالزنادقة فيما شككا فيو مف متشابو القرآف كتأكلكه عمى غير تأكيمو‪ ،‬تحقيؽ صبرم بف سبلمة‬
‫شاىيف‪ ،‬دار الثبات لمنشر كالتكزيع‪ ،‬الرياض‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2003 ،‬ص ‪.168‬‬

‫‪2‬‬
‫أحمد بف عكض ا﵀ بف داخؿ المييبي الحربي‪ :‬الماتردية – دراسة كتقكينا‪ ،‬دار العاصمة لمنشر كالتكزيع‪ ،‬الطبعة األكلى‪،1413 ،‬‬
‫ص ‪.135‬‬
‫‪3‬‬
‫تحقيؽ بكر طكباؿ أكغمي كمحمد آركشي‪ ،‬دار صادر كمكتبة اإلرشاد‪ ،‬بيركت كأستانبكؿ‪ ،‬ص ‪.65‬‬ ‫أبك منصكر الماتريدم‪ :‬كتاب التكحيد‪،‬‬
‫‪4‬‬
‫أحمد بف عكض ا﵀ بف داخؿ المييبي الحربي‪ :‬الماتردية – دراسة كتقكينا‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.147‬‬
‫‪5‬‬
‫ابراىيـ مذككر‪ :‬في الفمسفة اإلسبلمية‪ -‬منيج كتطبيقو‪ ،‬الكتاب الثاني‪ ،‬دار الكتاب المصرم‪ ،‬القاىرة‪ ،2015 ،‬ص ‪.98‬‬

‫‪147‬‬
‫الجيات‪ ،‬اك اسـ محتمؿ النيايات‪ ،‬أك اسـ ذم األبعاد الثبلثة‪ .‬فغير جائز القكؿ بو في ا﵀ سبحانو عمى تحقيؽ ذلؾ‪ ،‬لما ىي أدلة‬
‫خمؽ كأمارة الحدث"‪ 1.‬ألف الجسـ مخمكؽ‪ ،‬فبل يمكف اعتبار ا﵀ جسما‪.‬‬

‫أما مسألة كبلـ ا﵀ بيف القدـ كالخمؽ‪ ،‬فقد ميز الماتريدية بيف الكبلـ النفسي كالكبلـ المادم‪ ،‬عمى أساس أف الحركؼ المادية‬
‫التي نطمؽ بيا القرآف ىي حركؼ محدثة كمخمكقة‪ .‬في حيف أف المعنى النفسي قديـ‪ .‬كىي تفرقة معرفة في الكبلـ األشعرم حؽ‬
‫معرفة‪ .‬لكف بالنسبة ألنصار الماتردية‪ ،‬بخاصة األتراؾ‪ ،‬فإف أسبقية الماتريدم معمكمة كمؤكدة مقارنة باألشعرم‪.‬‬

‫في مسألة رؤية ا﵀‪ ،‬التي فرقت الفرؽ‪ ،‬فإف الماتردم يعتقد بإمكانية الرؤية عمى أساس أف القرآف تحدث عف الرؤية لكف ىي‬
‫رؤية ال كالرؤية كال تتطمب الجسمية أك النكر‪...‬الخ‪ .‬ألف كؿ ىذه الشركط مادية تجسيمية‪ .‬إنيا رؤية ببل كيفيات‪ ،‬مثؿ اإلستكاء تماما‬
‫فيك معمكـ ببل كيؼ محسكس‪ .‬يقكؿ‪ :‬القكؿ في ركية الرب عز كجؿ عندنا الزـ كحؽ مف غير إدراؾ كال تفسير‪ .‬أما الدليؿ عمى‬
‫ص ىار﴾ [األنعاـ‪ ]103 ،‬كلك كاف ال يرل لـ يكف لنفي اإلدراؾ حكمة‪ ،‬إذ ال‬ ‫ص يار ىك يى ىك يي ٍد ًر ي‬
‫ؾ ٍاألىٍب ى‬ ‫﴿ال تي ٍد ًريكوي ٍاأل ٍىب ى‬
‫الرؤية فيك قكلو تعالى ى‬
‫يدرؾ غيره ببل رؤية"‪ 2.‬إلى جانب العديد مف اآليات التي تثبت الرؤية‪ .‬كانتيى إلى أف كصؼ ا﵀ ال يدؿ عمى التشبيو بالضركرة‪،‬‬
‫كليذه عبلقة بصفات ا﵀ أعبله‪.‬‬

‫اىتماـ الماتردية بالمجاز المغكم‪ ،‬في االحاديث النبكية كالقرآف الكريـ‪ ،‬لو داللة قكية في منيجيا العقمي‪ .‬حيث أف اثبات المجاز‬
‫القرآني يأخذ بنا إلى التخمص مف الحرفية التي نشأت عمييا الحنبمية كبعض الفرؽ النصية التي ال ترضي أم نظر عقمي‪ .‬فمثبل‬
‫حمؿ النصكص عمى معانيا المفظي يؤدم إلى عقبات التجسيـ كالتشبيو‪ ،‬في حيف أف التأكيؿ ىك الطريؽ الكحيد لترميـ القداسة مف‬
‫الجسمية‪ .‬كقد ميز الماتريدم في بداية كتاب التأكيبلت بيف التفسير الذم لمصحابي كالتأكيؿ الذم لمفقياء‪ ،‬ألف لمتفسير منحى كاحد‬
‫كلمتأكيؿ عدة مناحي‪ 3.‬فعندما يقكؿ ا﵀ تعالى في القرآف ﴿المَّوي ىي ٍستى ٍي ًزئي﴾ [البقرة‪ ،]15 ،‬فبل يجب أف نأخذ الكممة عمى حقيقتيا‪ ،‬بؿ‬
‫كجب التأكيؿ عمى أنو جزاء مف صنؼ مشابو الذم يستيزئ باآلخريف‪ ،‬فا﵀ متعالي عف االستيزاء‪ 4.‬إف التأكيؿ كسيمة ضركرية مف‬
‫أجؿ تفادم التشبيو كالحفاظ عمى التقديس‪.‬‬

‫خاتمة‪.‬‬

‫ىناؾ تقاطعات عجيبة بيف الفرؽ الكبلمية‪ ،‬نقكؿ عجيبة ألننا نجد فرقة تتفؽ مع أخرل في مسألة ما لكنيا تناقضيا في مسألة‬
‫أخرل‪ .‬فالجيمية مثبل تكافؽ المعتزلة في التنزيو المطمؽ كتأكيؿ كؿ آيات الصفات‪ ،‬لكنيا في نفس السياؽ‪ ،‬تتكافؽ مع األشعرية في‬
‫نفي حرية اإلنساف‪ .‬كنحف نعمـ أف ىناؾ تناقض كمي بيف المعتزلة كاألشعرية في مسألة حقيقة أفعاؿ العباد‪ .‬كىنا تتشكؿ مكاقؼ‬
‫متعالقة كمتناقضة معا‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.102‬‬ ‫أبك منصكر الماتريدم‪ :‬كتاب التكحيد‪،‬‬
‫‪2‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.141‬‬
‫‪3‬‬
‫الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.3‬‬ ‫أبك منصكر الماتريدم‪ :‬تأكيبلت القرآف‪،‬‬
‫‪4‬‬
‫أحمد بف عكض ا﵀ بف داخؿ المييبي الحربي‪ :‬الماتردية – دراسة كتقكينا‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.156‬‬

‫‪148‬‬
‫ككما ىك ظاىر‪ ،‬فإف أكبر مشكمة أثارت العقؿ الكبلمي‪ ،‬سكاء عند الجيمية أك الماتردية أك ىي مشكمة الصفات الخبرية‪ ،‬فمف‬
‫المنفر عقميا كذكقيا أف نصؼ ا﵀ بالصفات البشرية‪ .‬فقد قاؿ الجيـ‪" :‬ال أقكؿ إف ا﵀ سبحانو شيء‪ ،‬ألف ذلؾ تشبيو لو باألشياء‬
‫(‪ )...‬امتنع الجيـ مف كصؼ ا﵀ تعالي بأنو شيء أك حي أك عالـ أك مريد‪ ،‬كقاؿ ال أصفو بكصؼ يجكز إطبلقو عمى غيره‪ ،‬كشيء‬
‫مكجكد كحي عالـ كمريد كنحك ذلؾ (‪ )...‬زاد الجيـ عمى المعتزلة قكلو ال يجكز أف يكصؼ ا﵀ تعالى بصفة يكصؼ بيا خمقو ألف‬
‫‪1‬‬
‫ذلؾ يقتضي تشبييا‪ .‬فنفى ككنو حيا عالما كأثبت ككنو قاد ار فاعبل خالقا أنو ال يكصؼ شيء مف خمقو بػ القدرة كالفعؿ كالخمؽ"‪.‬‬
‫لكف نجد المعتزلة كالماتريدية ترفض كمية منطؽ الجبر الذم قاؿ بو الجيـ‪ .‬حيث قاؿ الماتريدم في كتاب التكحيد بأف تحقيؽ الفعؿ‬
‫الزـ بالسمع كالعقؿ معا‪ 2.‬أما المعتزلة فظاىر تناقضيا مع الجيمية‪.‬‬

‫ىذا كنجد انيماـ المرجئة قد انصب عمى تجاكز مشكمة الحكـ عمى الناس في الدنيا كىك الحكـ الذم تسبب في الكثير مف‬
‫الفتف‪ ،‬كاعتقدكا أف الحكـ ا لنيائي يجب أف يؤجؿ إلى ا﵀‪ .‬كعمى الرغـ مف أف النصكص القرآنية قد قررت مصائر الناس كفؽ‬
‫أعماليـ‪ ،‬فبل يمكف أف نقطع األمؿ في الرحمة اإلليية‪ .‬إف المرجئة في ىذه الكضعية أكثر تسامحا مف المعتزلة‪ ،‬كالتي ألزمت‬
‫األحكاـ اإلليية مف خبلؿ اإلقرار بثبات الكعكد كالكعيد‪ .‬ككأف ا﵀ لف يغير كال يمكف أف يغير معاييره كأحكامو‪ .‬لكف بالنسبة لعامة‬
‫الناس‪ ،‬فإف الرجاء كاألمؿ في المغفرة أكثر قبكلية مف صرامة الكعد كالكعيد‪ ،‬ثـ كيؼ لنا نحف البشر أف نمنع ا﵀ مف تغير ق ارراتو‬
‫لصالح عباده ؟ ليس الديف إال ىذا األمؿ في مغفرة كلك كانت غير مستحقة‪.‬‬

‫كما يمكف أف نبلحظ أف عمـ الكبلـ قد نما نمكيا ظاىر نحك العقمنة أكثر فأكثر‪ ،‬ففي حيف أف الكبلـ األكؿ‪ ،‬أم قبؿ تأسس‬
‫المدارس الكبيرة‪ ،‬قد قبؿ التشبيو في الصفات كفؽ ما كرد في القرآف كأنكر القدر في األفعاؿ‪ ،‬نجد الفرؽ المتأخرة قد رفضت كمية‬
‫التشبيو لصالح تأكيؿ كؿ ما يكحي بذلؾ إلى التنزيو المطمؽ‪ ،‬ألف العقؿ المعتدؿ ال يرضى الشبو بيف اإلنساف كخالقو‪ ،‬فيذا تصكر‬
‫مفارؽ لمعقؿ‪ ،‬كما أنو انتزع شيئا مف حرية اإلنساف كلكال المقدرة إلنيار التكميؼ كلتـ التشكيؾ في العدالة اإلليية أيضا‪ .‬لذا فإف‬
‫"تفضيؿ أكائؿ المسمميف آيات التنزيو ‪ anti –anthropomorphic verses‬عمى آيات التشبيو" ليس مثبتا في كؿ الحاالت كما‬
‫اعتقد كلفسكف‪ 3.‬فكيؼ نفسر مثبل " تفضيؿ آيات القدر عمى آيات الحرية مثمما نجده عند الجيـ ؟ فحتى األشعرية كالماتريدية التي‬
‫عادت إلى السنف األكلى ألىؿ الجماعة‪ ،‬لـ تستطع إثبات التشبيو كلك كما كرد في النص بحرفيتو‪.‬‬

‫ليس ىناؾ حدكد فارقة بيف الفرؽ بصكرة مطمقة‪ ،‬إذ نجد بعض المتكمميف مزدكجي االنتماء‪ ،‬كأف يككف شيعيا معتزليا‪ ،‬كقد رأينا‬
‫في طبقات المعتزلة أف المصنؼ ليا قد فضؿ عمي (ض) كأحفاده مف األئمة عمى بقية الصحابة األكثر مركزية‪ .‬كما أننا قد نجد‬
‫الشيعة المرجئة أك المرجئة الشيعة‪ ،‬أخبارىـ مكجكدة في أكثر مف مرجع كبلمي‪ ،‬حيث يتـ اخبارنا مثبل عف الجمع بيف تعاطؼ‬

‫‪1‬‬
‫أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.320-319‬‬
‫‪2‬‬
‫مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.305‬‬ ‫أبك منصكر الماتريدم‪ :‬كتاب التكحيد‪،‬‬
‫‪3‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬ترجمة مصطفى لبيب عبد الغاني‪ ،‬المركز القكمي لمترجمة‪،‬‬
‫القاىرة‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،2009 ،‬ص ‪.774‬‬

‫‪149‬‬
‫الشيعي اإلرجائي في شخص سعيد بف سالـ بف أبي الييفاء القداح‪ 1.‬فنمك المذاىب كتراكـ الكاحد عمى األخرل‪ ،‬قد خمؽ تقاطعات قد‬
‫تبدك لنا غريبة كمنتفية‪ ،‬لكنيا تأقممت بصكرة معقكلة لتذيب الخبلفات الكبرل كتنتج مكاقؼ متبدعة جدا‪ .‬ثـ أننا نبلحظ التقاطع بيف‬
‫الفرؽ الكبلمية كالمذاىب الفقيية‪ ،‬كىك الذم ينتج خيارات تجعؿ تطابؽ الفرؽ أمر متعذر‪ ،‬كىك ما رأيناه مثبل في حالة الماتريدية‬
‫كاألشعرية‪ ،‬فعمى الرغـ مف التقارب بيف ركح المذىبيف‪ ،‬إال أف المرجعية الحنفية لمماتريدية في مقابؿ المرجعية الشافعية لؤلشعرية قد‬
‫أثر في تقكية الفركؽ بينيما‪ .‬عمى اعتبار أف أبك حنيفية أكثر كبلما مف اإلماـ إدريس الشافعي الذم جعؿ الكبلـ ببل أم أجر‬
‫محتمؿ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ص ‪.986 -897‬‬

‫‪151‬‬
‫المحاضرة الثامنة‪ :‬مشكمة كالم اهلل (القرآن بين الخمق والقدم)‪.‬‬

‫تقديم‪.‬‬

‫في المحاضرات األربعة التالية‪ ،‬سنستعرض بالتفصيؿ المطمكب‪ ،‬أكبر المشكبلت التي طرحت عمى النظر الكبلمي القديـ‪،‬‬
‫كسنكتشؼ االختبلفات كالتقاطعات كالتطابقات بيف مكاقؼ الفرؽ الكبلمية التي أحصيناىا في الدركس السابقة‪ .‬كالظاىر أف كبريات‬
‫المشكبلت الكبلمية ىي‪:‬‬

‫مشكمة كبلـ ا﵀ بيف القدـ كالخمؽ‪ .‬كفييا أكبر خبلؼ كبلمي انتقؿ إلى ايديكلكجيات سياسية كق اررات سمطكية‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫مشكمة الصفات اإلليية بيف التنزيو كالتجسيـ‪ .‬كىي المشكمة األصمية التي تفرعت عنيا العديد مف المكضكعات بما في ذلؾ‬ ‫‪‬‬
‫مشكمة القرآف ذاتو‪ ،‬عمى أساس أف الكبلـ صفة إليية تمثؿ في الرساالت المعركفة‪.‬‬

‫مشكمة أفعاؿ اإلنساف بيف القدر كاالستطاعة كالكسب‪ .‬كفييا ظيرت فكرة كنقيض كتركيب‪ ،‬شكؿ جدؿ الحرية الميتافزيقي‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫مشكمة العمؿ الطبيعية كالقدرة اإلليية أك ما يعرؼ بالمعجزات‪ .‬كالمبلحظ أف مسألة القدر اإلليي يتعمؽ أكال بظكاىر‬ ‫‪‬‬
‫الطبيعية كثانيا بأفعاؿ اإلنساف‪ .‬كأىمية ىذا المكضكع مرتبط بككف القدرة مف أىـ صفات ا﵀‪ ،‬كقد استشكؿ المحاكر السمني‬
‫(اليندم) حدكد القدرة اإلليية مثمما رأينا في مسألة مكقؼ ىاركف الرشيد مف عمماء الكبلـ‪ .‬كىذه المشكمة تتعمؽ أساسا بما‬
‫يجب أف نعتقده تجاه الطبيعة؛ ىؿ ليا قكانيف منضكدة ال تخؿ فييا أـ أنيا تابعة لئلرادة اإلليية التي تغير فييا كما تشاء ؟‬

‫أما بقية المكاضيع األخرل‪ ،‬كالتي قد نجدىا متناكلة عند المتكمميف القدماء‪ ،‬مثؿ اإليماف بيف الزيادة كالنقصاف‪ ،‬كالمحكـ‬
‫كالمتشابو مف القرآف‪ ،‬كمسائؿ الكفر كاإليماف كالمعصية كالطاعة‪ ،‬كدقيؽ الكبلـ المرتبط بنظرية الجكىر الفرد كحدكث العالـ‪...‬الخ‬
‫كميا تدخؿ بطريقة أك أخرل في المسائؿ األربعة التي حددناىا سابقا‪.‬‬

‫ابتدأنا بدراسة مشكمة كبلـ ا﵀ ألنيا المكضكع الذم كقع فيو الخبلؼ بصكرة فكرية كاجتماعية كسياسية‪ ،‬كتحكلت ىذه القضية‬
‫طيمة حكـ ثبلثة أك أربعة مف خمفاء بني العباس إلى رأم عاـ حقيقي في بغداد‪ .‬حيث حدث ىناؾ أخذ كرد بيف الشعب بما فييـ‬
‫الفقياء الذم يمثؿ السمطة العممية كالمعنكية كمؤسسة الخبلفة التي مثمت السمطة القانكنية كاإلدارية‪ .‬ككما أشرنا في المحاضرة‬
‫األكلى‪ ،‬فإف السبب األكثر رجحانا لتسمية عمـ الكبلـ بيذا االسـ ىك أنو متعمؽ بالكبلـ في "كبلـ ا﵀" أم القرآف الكريـ‪ .‬لذا فيي‬
‫المشكمة التي يمكف اعتبارىا مركزية في الكبلـ‪ ،‬عمى أساس أنو تـ التفكير بعمؽ عقمي منقطع النظير‪ ،‬كأفرزت أطركحات كأطركحات‬
‫مضادة أنعشت الفكر الكبلمي لفترة تمتد ألكثر مف قرف مف الزماف‪ .‬كما أف أغمب الفرؽ الكبلمية الكبرل قد حددت مكقفيا مف ىذه‬
‫المشكمة بداية باإلماـ أحمد بف حنبؿ الذم تكمـ رغما عنو‪ ،‬باعتباره محدثا ال متكمما مف حيث تخصصو‪ .‬إلى الفرؽ الصغرل مثؿ‬
‫المرجئة كالجيمية‪ ،‬إلى الفرؽ الكبرل مثؿ المعتزلة كاألشعرية كالشيعية‪.‬‬

‫مشكمة المحاضرة ترتبط بالسؤاؿ األكبر‪ :‬ىؿ القرآف قديـ قبؿ خمؽ العالميف كالككف كقبؿ بداية نزكع الكحي عمى الرسكؿ الكريـ‬
‫أك حتى عمى جميع الرسكؿ كأصحاب النبكءات ؟ أـ أنو حدث كبلمي جديد كمحدث ارتبط بظركؼ مخصكصة مف كضع البشر‬

‫‪151‬‬
‫كفاعميف اجتماعييف أك دينييف أك سياسييف ؟ ال ترتبط المشكمة فقط بيذا الجدؿ المستقطب‪ ،‬بؿ أنيا ارتبطت بالكممات الكاجب‬
‫الحدث كالمحؿ (ككف القرآف في محؿ) ؟ ىؿ عبارة "غير مخمكؽ"‬
‫استعمميا لتكصيؼ ذلؾ مثؿ الخمؽ كالقديـ كالحادث كالمحدث ك ى‬
‫تناقض كمية عبارة "مخمكؽ" ؟ كيؼ تـ استثمار التمييز القرآني المعركؼ بيف المكح المحفكظ كالكتاب في تناكؿ مسألة الخمؽ‬
‫كالحدكث ؟ ما ىي الفرؽ الكبلمية التي انخرطت بقكة في مثؿ ىذا النقاش الحاد ؟ ىؿ ىناؾ عبلقة بيف ىذه الطركحات كالمشكمة‬
‫السياسية ؟ ىؿ ارتبطت ىذه المشكمة المطركحة في السياقات اإلسبلمية بمشكبلت قريبة في السياقات الفكرية المجاكرة كبخاصة‬
‫التكحيدية ؟ عمى أساس أنيا ديانات تمتمؾ كتب مقدسة ارتبطت بكحي اك تكصيؼ لمكحي‪ .‬ىؿ ترتبط ىذه المشكمة بمسألة حقيقة ا﵀‬
‫كالعالـ ؟ عمى أساس أف العقيدة األساسية تقر بأف ا﵀ القديـ عمى اإلطبلؽ قد خمؽ العالـ‪ ،‬كنحف نبلحظ أف مشكمة القرآف قد صيغت‬
‫عمى طريقة ككنو مخمكقا مثؿ العالـ أـ سابؽ عمى العالـ؟ كىنا نبلحظ اندراج مسألة خمؽ القرآف كقدمو في مكضكع أشمؿ منو كىك‬
‫عقيدة التكحيد‪ .‬حيث أف التكحيد يجعمنا نرفض أم مكجكد قديـ لو كينكنة تساكم ا﵀ في قدمو‪.‬‬

‫يمكف أف نبلحظ بأف أصكؿ المشكمة‪ ،‬مشكمة خمؽ كقدـ القرآف‪ ،‬ترتبط ببعض اإلشارات القرآنية ذاتيا‪ .‬فتمييز القرآف الكريـ بيف‬
‫"المكح المحفكظ" كالكتاب المنزؿ عمى الرسكؿ الكريـ‪ ،‬يعتبر طرؽ أكلى إلثارة المشكمة‪ ،‬عمى أساس أف الكتاب المنزؿ حالة‬
‫مخصكصة مف حالة أعـ سابقة عميو في الكينكنة كالمحتكل‪ .‬كىذا ما يجعمنا نفترض أف األسباب األساسية لظيكر المشكمة تكمف في‬
‫ما أكرده القرآف مف تمييزات كتقسيمات‪ .‬كىذه اإلشارة تندرج في مسألة أصالة الطرح اإلسبلمي لمشكمة قدـ كخمؽ القرآف‪ ،‬بالنظر إلى‬
‫أف الطرح اإلستشراقي يؤكد عمى أف الكبلـ اإلسبلمي لـ ينفصؿ عف الكبلـ المسيحي الذم أثار مسألة عيسى بكصفو كممة ا﵀‪،‬‬
‫كالمكغكس اإلغريقي الذم يتحدد بكصفو قانكف كمي لمكجكد‪ ،‬كنحف نعمـ بأف مف معاني المكغكس ىي الكممة أك الكبلـ‪ .‬بؿ ىناؾ مف‬
‫الحظ عبلقة ايتمكلكجية (اشتقاقية) بيف كممة لكغكس ‪ Logos‬اإلغريقية ككممة لغة العربية‪ ،‬كنحف نعمـ أف المغة ىي الكبلـ بأخص‬
‫مدلكالتو‪.‬‬

‫أوال‪ -‬حيثيات الطرح‪:‬‬

‫ىؿ يمكف لنا العثكر عمى نقطة انطبلؽ سؤاؿ قدـ أك خمؽ القرآف ؟ ىؿ كانت المسألة مطركحة لمتفكير في عيد الرسكؿ (ص)‪.‬‬
‫يبدك أف الكعاء الذم مثؿ المتمقي األكلى لـ يسأؿ ىذا السؤاؿ‪ ،‬عمى أساس أنيا طركحات مستحدثة الحقاػ إذ لـ ييذكر أف الرسكؿ‬
‫الكريـ أك الصحابة األكائؿ قد فكركا في مسألة قدـ القرآف أك حدكثو‪ .‬كتبديع بعض الفقياء الحديث في مسألة الخمؽ كالقدـ‪ ،‬راجع‬
‫لككنيا غير م طركقة اطبلقا مف طرؼ الرسكؿ الكريـ كالصحابة األكائؿ‪ .‬كبالنسبة لؤلشعرم يظير أنيا مسألة غير مطركحة عندما‬
‫يقكؿ مفترضا انخراط النبي في مثؿ ىذه المسألة لك كانت مطركحة‪" :‬فمك حدث في أياـ النبي (ص) الكبلـ في خمؽ القرآف كفي‬
‫‪1‬‬
‫منطمؽ ىذا النص ىك‬ ‫الجزء كالطفرة بيذه األلفاظ لتكمـ فيو كبينو كما بيف سائر ما حدث في أيامو مف تعييف المسائؿ تكمـ فييا"‪.‬‬
‫عدـ طرح ىذا المكضكع لمتفكير في زمف النبي‪ ،‬كلك طرح النخرط الرسكؿ في مناقشتو‪ ،‬كعدـ مناقشة الرسكؿ لو ال يدؿ عمى أنو‬
‫بدعة‪ .‬طبعا‪ ،‬مكقؼ األشعرم ىنا يأتي في سياؽ رفض تبديع مف تحدث فيما لـ يتحدث فيو الرسكؿ الكريـ‪ .‬لكننا يمكف أف نفيـ‬

‫‪1‬‬
‫أبك الحسف األشعرم‪ :‬رسالة استحساف الخكض في عمـ الكبلـ‪ ،‬دار المشاريع لمطباعة كالنشر التكزيع‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪،‬‬
‫‪ ،1990‬ص ‪.48‬‬

‫‪152‬‬
‫بطريقة غير مباشرة أف الرسكؿ الكريـ لـ يناقش ىذا المكضكع‪ ،‬كلـ ينسب لو أم حديث في ىذا الشأف‪ .‬لذا فمشكمة خمؽ القرآف‬
‫كقدمو ظيرت في كقت متأخر عف زمف النبكة‪.‬‬

‫ترتبط مشكمة كبلـ ا﵀ بالتصكر التقميدم‪ ،‬كىك تصكر اعتزالي‪ ،‬كالذم يقسـ العالـ إلى قسميف منفصميف‪ :‬قسـ الكينكنة األزلية‬
‫المحدثة كالتي تشمؿ كؿ الخمؽ ما عداه‪ 1.‬كبالتالي فإف محاكلة تصنؼ القرآف في أحد‬
‫القديمة التي تشمؿ ا﵀ كحده كقسـ الكينكنة ي‬
‫القسميف يسبب مشكمة حقيقية‪ .‬فكضعو ضمف الكينكنة األزلية يؤدم‪ ،‬كفؽ منطؽ عقمي بسيط إلى كجكد كائنيف قديميف ىما ا﵀‬
‫كالقرآف‪ ،‬ككضعو في القسـ الثاني الذم يشمؿ المخمكقات يجعمنا نعتقد بأنو فاف مثميا‪ ،‬عمى الرغـ مف أف القرآف كفؽ التصكر‬
‫المتكسط عند الجميع ال يمكف أف يفنى بالنظر إلى الحفظ اإلليي المعمكـ في القرآف‪.‬‬

‫ثـ أف ىناؾ عبلقة كثيقة بيف مشكمة خمؽ كقدـ القرآف كمشكمة الصفات اإلليية‪ .‬ألف الكبلـ في القرآف الكريـ صفة مف صفات‬
‫ات لًقى ٍكوـ‬
‫ت قيميكبيـ قى ٍد بيََّّنا ٍاآلىي ً‬
‫ى‬
‫ً ً‬ ‫ؾ قىا ىؿ الًَّذ ً‬
‫يف م ٍف قىٍبم ًي ٍـ مثٍ ىؿ قى ٍكلً ًي ٍـ تى ىش ىابيى ٍ ي ي ٍ ى‬
‫ى‬ ‫كف لى ٍكىال يي ىكمّْ يمىنا المَّوي أ ٍىك تىأٍتً ىينا آىىيةه ىك ىذلً ى‬
‫يف ىال ىي ٍعمى يم ى‬
‫ا﵀‪﴿ .‬كقى ى ًَّ‬
‫اؿ الذ ى‬ ‫ى‬
‫كف﴾ [البقرة‪ .]18 ،‬كما الكحي عمكما كالقرآف خصكصا إال كبلما إلييا صريحا‪ .‬كبالتالي فإف انقساـ الفرؽ بيف مثبت لمصفات‬ ‫ييكًقين ى‬
‫الخبرية كمنكر ليا‪ ،‬ال ينفصؿ عف المكقؼ مف قدـ كخمؽ القرآف‪ .‬فإف لـ يكف الكبلـ صفة ذاتية ﵀‪ ،‬فبل يمكف أف يككف القرآف قديـ‪،‬‬
‫بالعكس إذا كانت صفة الكبلـ صفة ذاتية ﵀‪ ،‬فإف القرآف يككف قديـ قدـ ا﵀ ذاتو‪ 2.‬لذا يمكف القكؿ بأف مشكمة طبيعة القرآف متعالقة‬
‫بمسألة الصفات التي تناقش عمكما في أبكاب التكحيد عند المعتزلة‪ .‬كما أنيا ترتبط بطبيعة الكبلـ اإلليي الذم يجب أف يككف‬
‫نفسانيا عند األشاعرة‪.‬‬

‫لعمو قبؿ البحث عف تاريخ ظيكر المشكمة‪ ،‬كجب عمينا البحث عف األطركحة األسبؽ منطقيا؛ ىؿ أف السبؽ كاف لنظرية خمؽ‬
‫القرآف كمف ثمة كاف الرد بنظرية القدـ‪ ،‬أـ العكس‪ ،‬ظيرت نظرية قدـ القرآف أكال ثـ تـ الرد بنظرية الخمؽ ؟ حسب أحمد أميف‪ ،‬الذم‬
‫أرخ لئلسبلـ‪ ،‬فإف ظيكر نظرية خمؽ القرآف كاف في نياية العصر األمكم‪ ،‬حيث قاؿ ناقبل عف كتاب "سرح العيكف" أف الجعد بف‬
‫درىـ يمعمـ مركاف بف محمد آخر خمفاء بنى أمية ىك أكؿ مف تكمـ بخمؽ القرآف مف أمة محمد‪ ،‬بدمشؽ‪ ،‬ثـ طيمب فيرب‪ ،‬ثـ نزؿ‬
‫الككفة فتعمـ منو الجيـ بف صفكاف القكؿ الذم نسب إليو الجيمية‪ .‬كقيؿ أف الجعد أخذ ذلؾ مف أباف بف سمعاف‪ ،‬كأخذه أباف مف‬
‫‪3‬‬
‫لذا فإف المعتزلة ليست أكؿ مف قاؿ بالخمؽ‪ ،‬بؿ سبقيـ الجعد بف ردىـ الذم اتيـ بالكفر كقتؿ كالجيـ‬ ‫طالكت بف أعصـ الييكدم"‪.‬‬
‫بف صفكاف مف المجبرة كالذم قتؿ بدكره‪ .‬كلئف كانت ىذه الركاية تؤصؿ مصدر المشكمة عند الييكد‪ ،‬فإف ىناؾ مف يقكؿ أف التقاليد‬
‫الكبلمية المسيحية ىي التي أكحت لممسمميف بالكبلـ في ذلؾ المكضكع‪ ،‬عمى أساس أف دمشؽ كانت تستكطف الثقافة كالديانة‬
‫المسيحية‪ ،‬كقد كاف الكاىف يكحنا الدمشقي يمثؿ الثقافة المسيحية العالمة في مكاجية الديف اإلسبلمي الجديد‪ .‬ككتب حكارات متعددة‬
‫في مشكبلت الكبلـ‪ .‬لكف تأثير المسيحية ىنا ليس مف خبلؿ القكؿ بخمؽ القرآف‪ ،‬بؿ باألطركحة النقيضة‪ ،‬أم القكؿ بقدمو‪ ،‬كىذا ما‬
‫يعني أف الفكرة كانت مطركحة قبؿ األشاعرة‪ .‬ففي العقيدة المسيحية يمثؿ العنصر الثاني مف التثميث (األب‪ ،‬االبف‪ ،‬الركح القدس)‪،‬‬

‫‪1‬‬
‫عبد الحكيـ أجير‪ :‬التشكبلت المبكرة لمفكر اإلسبلمي‪ -‬دراسة في األسس األنطكلكجية لعمـ الكبلـ اإلسبلمي‪ ،‬المركز الثقافي‬
‫العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬الطبعة األكلى‪ 2005 ،‬ص ‪.48‬‬
‫‪2‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.49‬‬
‫‪3‬‬
‫أحمد أميف‪ :‬ضحى اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثالث‪ ،‬مكتبة النيضة المصرية‪ ،‬القاىرة‪ ،‬الطبعة السادسة‪ ،‬ص ‪.162-161‬‬

‫‪153‬‬
‫كىك عيسى‪ ،‬كممة ‪ Logos‬ا﵀‪ .‬كبما أنو كذلؾ‪ ،‬فيك قديـ ليس بمحدث‪ 1.‬كبما أف القرآف ذاتو‪ ،‬يقر بيذه الحقيقة‪ ،‬مف خبلؿ العديد‬
‫مف اآليات‪ 2،‬فإف الفكر اإلسبلمي يأخذ بيا ببل حرج‪ .‬عمى أساس أف عيسى الذم يمثؿ كممة ا﵀ في المسيحية يقابؿ القرآف الذم ىك‬
‫كبلـ ا﵀ في اإلسبلـ‪ ،‬كاذا تـ اعتبار عيسى ككممة ﵀ قديمة‪ ،‬فإف الفكر اإلسبلمي الذم تأثر بذلؾ يقكؿ بقدـ القرآف باعتباره كبلما‬
‫إلييا‪ .‬كقد تـ حفظ أحد رسائؿ المأمكف‪ ،‬الذم تبنى عقيدة خمؽ القرآف‪ ،‬التي يقكؿ فييا‪" :‬فضاىكا بو قكؿ النصارل في اعدائيـ في‬
‫عيسى بف مريـ أنو ليس بمخمكؽ إذ كاف كممة ﵀"‪ 3.‬كىذا سياؽ نقد المأمكف لعمماء الحديث الذيف تمسككا بقدـ القرآف‪ ،‬عمى أنيـ‬
‫مقمديف لمفكرة المسيحية‪ ،‬كليسكا متمسكيف بعيدة إسبلمية أصيمة‪.‬‬

‫نبلحظ في كبل التفسيريف‪ ،‬أف أصؿ المكضكع يعكد إلى عكامؿ خارجية‪ ،‬سكاء الييكدية مثمما اعتقد ابف األثير مثبل‪ 4،‬أك‬
‫المسيحية مثمما اعتقد المأمكف أك غيره مف المستشرقيف المعاصريف‪ .‬لكف أال يمكف أف تككف النصكص القرآنية ذاتيا محرضا لمتفكير‬
‫في ىذه المسألة ؟ حقيقة أنو يمكف أف نجد بعض اآليات التي تكحي بقدـ القرآف عندما تتحدث عف المكح المحفكظ كالكتاب المكنكف‪،‬‬
‫كىي حجة يستعم ميا طرؼ ضد اآلخر‪ ،‬لكف المشكمة أف المستشرقيف يعممكف عمى تأكيد تأثر القرآف بالفكر السابؽ لو‪ .‬مما يعني أف‬
‫المكضكع يؤكؿ في كؿ األحكاؿ إلى ثقافة دينية سابقة‪ .‬كبما أف عمـ الكبلـ قد تأثر بالتراث التكحيدم السابؽ عميو‪ ،‬فمف الممكف أف‬
‫يعكد لمقرآف مف أجؿ تقكية مكاقؼ كؿ فرقة‪ .‬فيذه المشكمة بطرحيا الكبلمي السابؽ‪ ،‬أم ىؿ القرآف قديـ اك محدث ؟ غير متكفرة‬
‫بصكرة مباشرة في القرآف الكريـ‪ ،‬بؿ أنو أصبح مصد ار لتقكية الطركحات المختمفة‪ ،‬سكاء القائمة بالخمؽ أك بالقدـ‪ .‬مف ىذه الناحية‬
‫نقكؿ بأف القرآف قد ساىـ في ميبلد ىذه المشكمة في السياقات اإلسبلمية‪ ،‬عمى الرغـ مف أنو ال يطرحيا‪ .‬كككف ىناؾ آيات‬
‫متشابيات كىي عديدة‪ ،‬فيذا طريؽ لتكظفيا عند كؿ فرقة كبلمية لتقكية عقيدتيا‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬ترجمة مصطفى لبيب عبد الغاني‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬المركز القكمي لمترجمة‪،‬‬
‫القاىرة‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2005 ،‬ص ‪.338‬‬

‫ً‬ ‫يسى ٍاب يف ىم ٍرىيـ ك ًجيينا ًفي ُّ‬ ‫‪﴿ 2‬إً ٍذ قىالى ًت ا ٍلم ىبلئً ىكةي يا مريـ إً َّف المَّو يب ّْشرًؾ بً ىكمًم وة ًم ٍنو اسمو ا ٍلم ًس ً‬
‫يف﴾ [آؿ‬ ‫الد ٍنىيا ىك ٍاآلىخ ىرًة ىك ًم ىف ا ٍل يمقىَّربً ى‬ ‫ى ى‬ ‫يح ع ى‬ ‫ي ٍي ي ى ي‬ ‫ى‬ ‫ى يى ي‬ ‫ى ى ٍ ىي‬ ‫ى‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ىى ىؿ ا ٍلكتى ً‬
‫يسى ٍاب يف ىم ٍرىي ىـ ىر يسك يؿ المو ىك ىكم ىمتيوي‬ ‫يح ع ى‬ ‫ؽ إًَّن ىما ا ٍل ىمس ي‬
‫اب ىال تى ٍغميكا في دين يك ٍـ كىال تىقيكليكا ىعمىى المو إًال ا ٍل ىح َّ‬
‫ى‬ ‫عمراف‪ ]45 ،‬أيضا‪﴿:‬ىيا أ ٍ‬
‫كف لىوي ىكلى هد لىوي ىما ًفي‬ ‫ىف ىي يك ى‬
‫اىا إًلىى مريـ كركهح ًم ٍنو فىآ ًىمينكا بًالمَّ ًو كرسمً ًو كىال تىقيكليكا ثى ىبلثىةه ٍانتىيكا ىخ ٍي ار لى يكـ إًَّنما المَّو إًلىوه ك ً‬
‫اح هد يس ٍب ىح ىانوي أ ٍ‬ ‫ى‬ ‫ي‬ ‫ن ٍ ى‬ ‫ي‬ ‫ىي ي ى‬ ‫ي‬ ‫ى ٍ ىى ى ي‬ ‫أىٍلقى ى‬
‫يبل ﴾ [النساء‪]171 ،‬‬ ‫ض ىك ىكفىى بًالمَّ ًو ىك ًك ن‬ ‫ات ك ىما ًفي ٍاأل ٍىر ً‬‫الس ً‬
‫َّم ىاك ى‬
‫ى‬
‫‪3‬‬
‫أحمد أميف‪ :‬ضحى اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثالث‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ .163‬أيضا‪ :‬ىارم أكستريف كلفسػكف‪ :‬فمسػفة المتكممػيف فػي اإلسػبلـ‪،‬‬
‫المجمػد األكؿ‪ ،‬مرجػػع سػػابؽ‪ ،‬ص ‪ .345‬يقػػكؿ‪ :‬كمػػا احػػتج منكػػرك الصػفات بػػأف االعتقػػاد بالصػػفات ال يختمػػؼ عػػف االعتقػػاد المسػػيحي‬
‫بالتثميػث‪ ،‬يحػتج الخميفػة المػأمكف أيضػا‪ ،‬أثنػاء حممتػو المناىضػة لبلعتقػاد بقػػدـ القػرآف‪ ،‬فػي رسػالتو الثالثػة إلػى حػاكـ بغػداد‪ ،‬بػاف أكلئػػؾ‬
‫الذيف يعتقدكف بقدـ القرآف‪" ،‬ضاىكا قكؿ النصارل في عيسى ابف مريـ إنو ليس بمخمكؽ إذ كاف كممة ا﵀"‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص‪ .377‬ابف األثير‪ :‬يتتبع تاريخ نظرية خمؽ‬
‫القرآف قبؿ ظيكر المعتزلة يقكؿ بأف جيـ بف صفكاف أخذىا عف جعد بف درىـ الذم أخذىا عف أباف بف سمعاف الذم أخذىا عف‬
‫طالكت الذم اخذىا عف لبيد بف األعصـ الييكدم الذم سحر النبي‪ .‬ككاف "لبيد" ىك الذم أذاع عقيدة خمؽ التكراة‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫بما أنو ال يمكف لنا التيقف مف مسألة أم النظريات أسبؽ تاريخيا مف األخرل‪ ،‬ىؿ ىي نظرية خمؽ القرآف أـ قدمو‪ ،‬كعمى الرغـ‬
‫مف ا عتقاد كلفسكف أف الفكرة السائدة عند المسمميف ىي القائمة بأف القرآف قديـ كسابؽ في كجكده لزمف الكحي كحتى لزمف خمؽ‬
‫العالـ‪ 1،‬فإف النظرية الكبلمية التي تدافع عف القدـ بصكرة منطقية كمنظمة لـ تظير إال بعد شيكع نظرية خمؽ القرآف عند المعتزلة‪.‬‬
‫إذ يذكر مؤرخي األفكار كالشخصيات مثؿ ابف النديـ العديد مف الكتب التي يعنكنت بػ "خمؽ القرآف" مثؿ‪ 2:‬كتاب الخمؽ ألبي عمي‬
‫الجبائي‪ ،‬خمؽ القرآف إلبف الركاندم الذم سينفصؿ عف المعتزلة كيتيـ باإللحاد كمية‪ ،‬خمؽ القرآف ألبي بكر األصـ‪ ،‬خمؽ القرآف‬
‫ليشاـ الفكطي‪ ،‬خمؽ القرآف لعيسى المردار‪ ،‬الرد عمى مف أنكر خمؽ القرآف ألبي جعفر اإلسكافي‪ ،‬كخمؽ القرآف لمجاحظ كىك رسالة‬
‫صغيرة منسكبة إليو‪.‬‬

‫قمنا بما أنو ال يمكف تحديد األسبقية الزمنية‪ ،‬فإننا نبدأ بعرض نظرية خمؽ القرآف‪ ،‬عمى اعتبار أف مكقؼ األشاعرة كأصحاب‬
‫الحديث كاف ردا عمييا أكثر مما ىك تأسيس لنظرية مستقمة تقكؿ بقدـ القرآف‪ .‬أم أننا ال يمكف فيـ مكقؼ ابف حنبؿ كمكقؼ‬
‫األشاعرة إال بعد عرض مكقؼ النظرية القائمة بخمؽ القرآف كىي نظرية المعتزلة عمى الخصكص‪.‬‬

‫ثانيا‪ -‬نظرية خمق القرآن‪:‬‬

‫ليست المعتزلة الفرقة الكحيدة التي تبنت نظرية القرآف المخمكؽ‪ ،‬بؿ نجد معيا عدة فرؽ أخرل كنخص بالذكر المجبرة بخاصة‬
‫الجيمية منيا كبعض فرؽ الشيعة مثؿ الرافضة مف اإلثناعشرية كبعض فرؽ الخكارج كالمرجئة‪ .‬كلك أف نظرية الخمؽ تنسب بقكة‬
‫لممعتزلة ألنيا جعمتيا أساسا لمتكحيد‪ ،‬كألفت فييا الكتب‪ ،‬كنخص بالذكر كتاب عبد الجبار المعتزلي الذم خصص جزءا كامبل مف‬
‫المغنى بعنكاف "خمؽ القرآف"‪ .‬إال أف الفرؽ األخرل تحدث في المسألة‪ .‬لذا سنعرض مكقؼ ىذه الفرؽ التي لـ تجعؿ نظرية خمؽ‬
‫ي‬
‫القرآف مرك از لعقيدتو الكبلمية‪.‬‬

‫أحصى األشعرم الفرؽ التي تكممت في مسألة خمؽ القرآف عمى الشكؿ التالي‪ " :‬قكؿ الرافضة (الشيعة اإلثناعشرية) في القرآف‪:‬‬
‫ىـ فرقتاف‪:‬‬

‫‪ -1‬ىشاـ بف الحكـ‪ :‬القرآف ال خالؽ كال مخمكؽ (‪ )...‬غير مخمكؽ ألنو صفة كالصفة ال تكصؼ‪ .‬يقكؿ زرقاف عف ىشاـ بف‬
‫الحكـ أنو قاؿ‪ :‬القرآف عمى ضربيف‪ :‬إف كنت تريد المسمكع فقد خمؽ عز كجؿ الصكت كالمقطع كىك رسـ القرآف‪ ،‬فأما‬
‫القرآف فيك فعؿ ا﵀ مثؿ العمـ كالحركة‪ ،‬ال ىك ىك كال غيره‪.‬‬

‫‪ -2‬فرقة ثانية يزعمكف أنو مخمكؽ محدث‪ ،‬لـ يكف ثـ كاف‪ ،‬كما تزعـ المعتزلة كالخكارج"‪ 3.‬كنحف نعمـ بأف المحدث يدؿ‪ ،‬حسب‬
‫ابف كثير مثبل‪ ،‬عمى الذم أينزؿ جديدا أك الجديد إنزالو‪ ،‬كىك ما يقابؿ القديـ الذم كجد قبؿ الكؿ كببل مكجد‪ .‬كلكف القكؿ‬

‫‪1‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.340‬‬
‫‪2‬‬
‫رشيد الخيكف‪ :‬جدؿ التنزيؿ مع كتاب خمؽ القرآف لمجاحظ‪ ،‬منشكرات الجمؿ‪ ،‬ككلكنيا‪ ،2000 ،‬ص ‪.169‬‬
‫‪3‬‬
‫أبي الحسف األشعرم‪ :‬مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬المكتبة الصرية‪ ،‬بيركت‪ ،2009 ،‬ص ص ‪-50‬‬
‫‪.420‬‬

‫‪155‬‬
‫بقدـ القرآف يفترض أنو مخمكؽ‪ .‬فالفرؽ بيف قدـ ا﵀ كبيف قدـ القرآف ىك أف ىذا األخير مخمكؽ مف ا﵀‪ ،‬في حيف ا﵀ غير‬
‫مخمكؽ‪.‬‬

‫يظير أف مكقؼ الركافض ليسا كاضحا بالمطمؽ‪ ،‬عمى أساس أف ىشاـ بف الحكـ عمؽ الحكـ‪ .‬لكف في ىذا التعميؽ ذاتو إنكار‬
‫لككنو خالقا أم قديما‪ .‬ثـ أف تقسيـ مدلكالت القرآف ذاتو‪ ،‬بيف المدلكؿ المادم كالمدلكؿ النفسي‪ ،‬يكحي بإمكانية أف يككف مخمكقا‪ .‬كمف‬
‫األدلة العقمية عمى الخمؽ نجد قكليـ‪" :‬سكاء قمنا بأنو عبارة عف الحركؼ كاألصكات‪ ،‬أك قمنا أنو معنى قائـ في النفس‪ ،‬فإنو يمتنع أف‬
‫يككف قديما‪ .‬كذلؾ ألنو ما كاف في األزؿ مف مأمكر كال منييا‪ ،‬فمك خص األمر كالنيي مف غير حضكر المأمكر كالمنيي‪ ،‬كاف ىذا‬
‫سفيا كجنكنا (‪ )...‬كيؼ يحس ف في العقؿ أف يقكؿ (يا مكسى إني أنا ربؾ فاخمع نعميؾ) مع أنو لـ يكف ىناؾ مكسى"‪ 1.‬فبمجرد أف‬
‫افترض ىشاـ بف الحكـ الطابع المادم لمقرآف‪ ،‬فيذا يدؿ عمى خركجو مف العدـ إلى الكينكنة‪ ،‬أم كفؽ عبارتيـ "لـ يكف ثـ كاف"‪.‬‬

‫يكاصؿ األشعرم في تحديد الفرؽ القائمة بالخمؽ‪" :‬قكؿ الخكارج في القرآف؛ جميعا يقكلكف بخمؽ القرآف‪ .‬كاإلباضية تقكؿ‪ :‬ا﵀‬
‫سبحانو لـ يزؿ مريدا لمعمكماتو التي تككف أف تككف كلمعمكماتو التي ال تككف أال تككف"‪ 2.‬كتقدـ اإلرادة عمى الكينكنة دالة ظاىرة‬
‫عمى الخمؽ كالفعؿ المتأخر عف القرار‪ .‬أما المرجئة‪ ،‬حسب األشعرم‪ ،‬فإف مقاالتيا انقسمت إلى ثبلثة أقساـ‪:‬‬

‫‪ -1‬مف قاؿ أنو مخمكؽ‪.‬‬

‫‪ -2‬مف قاؿ أنو غير مخمكؽ‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫‪ -3‬مف قاؿ بالكقؼ‪ :‬ال نقكؿ أنو مخمكؽ كال غير مخمكؽ"‪.‬‬

‫ىنا نبلحظ اتفاؽ كؿ مف الرافضة كالمرجئة في تعميؽ الحكـ‪ ،‬أم أف المسألة مكقفة عمى ا﵀‪ ،‬كال يمكف لنا العمـ أك التقرير‪ .‬كفي‬
‫الح قيقة‪ ،‬أف تحميؿ ىذا المكقؼ البل أدرم‪ ،‬مثمما قمنا بشأف ىشاـ بف الحكـ‪ ،‬يدؿ عمى عدـ الكثكؽ في قدمو‪ .‬فبمجرد الشؾ‪ ،‬يككف‬
‫مكقفيـ منحاز إلى الخمؽ كالحدكث‪ .‬كىذا المكقؼ يشبو مكقؼ أبك معاذ التكمني الذم قاؿ‪" :‬القرآف كبلـ ا﵀ كىك حدث ليس‬
‫بمحدث‪ ،‬كفعؿ كليس بمفعكؿ‪ ،‬كامتنع أف يزعـ أنو خمؽ‪ ،‬كيقكؿ‪ :‬ليس بخمؽ كال مخمكؽ كانو قائـ با﵀‪ ،‬كمحاؿ أف يتكمـ ا﵀ سبحانو‬
‫بكبلـ قائـ بغيره‪ ،‬كما يستحيؿ أف يتحرؾ بحركة قائمة بغيره"‪ 4.‬كيظير جميا ىناؾ صعكبة في استعماؿ المصطمح‪ ،‬فبل يمكف لنا‬
‫التحكـ في مدلكؿ "حدث" كمدلكؿ "محدث" أك "حادث"‪ .‬كىي مصطمحات كردت في القرآف‪ ،‬أثارت مشكمة مرتبطة بػ "ما إذا كاف‬

‫‪1‬‬
‫فخر الديف الرازم‪ :‬خمؽ القرآف بيف المعتزلة كأىؿ السنة‪ ،‬تحقيؽ أحمد حجازم السقا‪ ،‬دار الجيؿ‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪،1992 ،‬‬
‫ص ‪.67‬‬
‫‪2‬‬
‫أبي الحسف األشعرم‪ :‬مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.109-108‬‬
‫‪3‬‬
‫نفس المرجع‪ ،‬ص ‪.128‬‬
‫‪4‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.421‬‬

‫‪156‬‬
‫القرآف السماكم المكجكد في المكح المحفكظ قبؿ الكحي غير مخمكؽ أـ مخمكقا"‪ 1.‬فقد يككف القرآف الذم بيف أيدنا اليكـ مخمكقا‪ ،‬لكف‬
‫ىؿ لنا الحؽ في تقرير خمؽ المكح المحفكظ ؟ لذا فكممة مخمكؽ كحادث ليا كقع مختمؼ في الفيـ‪.‬‬

‫أما مكقؼ المعتزلة‪ ،‬فيك األكثر رسكخا مف بيف مكاقؼ كؿ الفرؽ األخرل‪ .‬كعمى الرغـ مف ذلؾ‪ ،‬فميس ىناؾ تطابؽ بيف أراء‬
‫شيكخ االعتزاؿ‪ .‬كما أف مشكمة كبلـ ا﵀ قد تفرعت إلى عدة مكضكعات مثؿ الخمؽ كالقدـ‪ ،‬كالكينكنة في محؿ‪ ،‬كالكبلـ النفسي‬
‫كالمادم‪ ،‬الداللة الحقيقة لممستقبؿ‪...‬الخ‪.‬‬

‫تنطمؽ المعتزلة مف التمييز بيف الكجكد القديـ كما عداه‪ .‬كمف مستمزمات إثبات كحدانية ا﵀‪ ،‬كالتي ىي عماد كؿ العقائد حسبيـ‪،‬‬
‫ىي التأكيد عمى عدـ مشاركة ا﵀ في القدمية مف أم كاف‪ .‬أم أف ا﵀ ىك المكجكد األكؿ كالقديـ دكف سكاه‪ .‬كىذا يعني أف كؿ ما عدا‬
‫ا﵀ ليس بقديـ‪ .‬فمئف كاف ا﵀ قديـ غير حادث في زماف‪ ،‬فإف العالـ كاإلنساف كالمكجكدات األخرل كميا كاقعة في زماف ما‪ .‬كالفرؽ‬
‫بيف القدـ كالخمؽ يكمف في الزمانية‪ .‬فكؿ مخمكؽ حدث في زماف ما‪ ،‬في حيف أف القديـ سابؽ عمى أم زمانية‪ .‬كالقكؿ بقدـ القرآف‬
‫يؤدم بنا إلى القكؿ بأنو إلو‪ ،‬ألف ىذه الصفة مقصكرة عمى ا﵀ دكف سكاه‪ .‬كىذا خدش صريح لعقيدة التكحيد‪ .‬كيمخص القاضي عبد‬
‫الجبار رأم المعتزلة بقكلو‪ :‬قاؿ شيكخنا رحميـ ا﵀ إف كبلمو تعالى لك كاف قديما لكجب ككنو إليا‪ .‬كالدليؿ الذم يثبت حدكثو ىك‪:‬‬
‫"الكبلـ ال يككف إال حركفا منظكمة كأصكات مقطكعة‪ ،‬كىذا محدث لجكاز العدـ عميو ىذا ما يثبت استحالة قدمو"‪ 2.‬ا﵀ قادر عمى‬
‫اعداـ بعض مف كبلمو عمى سبيؿ النسخ‪ ،‬كىذه المسألة معركفة بكضكح في القرآف ذاتو‪.‬‬

‫كيذكر الرازم‪ ،‬باعتباره أشعرم‪ ،‬لذا نجده يستعمؿ لفظة شبو بدؿ حجة‪ ،‬بأف المعتزلة لـ يستعممكا الدليؿ العقمي فقط إلثبات خمؽ‬
‫القرآف‪ ،‬بؿ أنيـ استعانكا باألدلة النقمية المأخكذة مف القرآف ذاتو‪ .‬يقكؿ‪ :‬احتج القائمكف بحدكث كبلـ ا﵀ تعالى بالمنقكؿ كالمعقكؿ‪:‬‬

‫الشبو األكلى‪ :‬إف القرآف ًذكر‪ ،‬ككؿ ًذكر يمحدث‪ ،‬فالقرآف يمحدث‪ .‬كانما قمنا إف القرآف ذكر‪ ،‬لقكلو تعالى‪﴿ :‬ص ىكا ٍلقيٍآر ً‬
‫ىف‬ ‫‪‬‬
‫ًذم ّْ‬
‫الذ ٍك ًر﴾ [ص‪.]1 ،‬‬
‫كف ﴾ [النحؿ‪ .]40 ،‬كجو‬ ‫الشبية الثانية‪ :‬تمسككا بقكلو تعالى‪﴿ :‬إًَّن ىما قى ٍكليىنا لً ىش ٍي وء إً ىذا أ ىىرٍدىناهي أ ٍ‬
‫ىف ىنقيك ىؿ لىوي يك ٍف فىىي يك ي‬ ‫‪‬‬
‫االستدالؿ فيو‪:‬‬
‫‪ -1‬اآلية مركبة مف شرط كجزاء‪ :‬إذا أردنا (شرط) كف (جزاء) كالجزاء البد أف يككف كتأخر عف الشرط‪ .‬أم قكؿ ا﵀‬
‫متأخر عف إرادتو‪.‬‬
‫‪ -2‬لمفاء في قكلو "فيككف" فاء تعقيب‪ .‬كىذا يقتضي أف يككف حاصؿ عقيب قكلو مف غير فصؿ كتراخ‪ ،‬فيمزـ أف‬
‫يككف قكلو "كف" متقدما ما عمى المككف مف غير فصؿ‪ .‬كالمقدـ عمى المحدث بزماف كاحد‪ ،‬يجب أف يككف‬
‫‪3‬‬
‫محدثا"‪.‬‬
‫بالنسبة لممعتزلة‪ ،‬فإف كصؼ القرآف بأنو كبلـ محدث‪ ،‬ليس بدعة كبلمية مف عندىـ‪ ،‬بؿ عمى العكس تماما‪ ،‬فالقرآف ذاتو‬
‫و َّ‬ ‫ً ً ً ً‬
‫كف﴾ [األنبياء‪،‬‬ ‫﴿ما ىيأٍتي ًي ٍـ م ٍف ذ ٍك ور م ٍف ىرّْب ًي ٍـ يم ٍح ىدث ًإال ٍ‬
‫استى ىم يعكهي ىك يى ٍـ ىي ٍم ىعيب ى‬ ‫يستعمؿ لفظة محدث‪ .‬إذ كرد في محكـ التنزيؿ قكلو تعالى‪ :‬ى‬

‫‪1‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.408‬‬
‫‪2‬‬
‫عبد الجبار اآلسدآبادم‪ :‬المغنى في أبكاب التكحيد كالعدؿ‪ -‬كتاب خمؽ القرآف‪ ،‬ص ‪.84‬‬
‫‪3‬‬
‫فخر الديف الرازم‪ :‬خمؽ القرآف بيف المعتزلة كأىؿ السنة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.65-64‬‬

‫‪157‬‬
‫‪ ]2‬كالذكر ىنا ىك القرآف‪ ،‬كظاىر جدا كصفو بالمحدث الذم يعني المكجكد في زمف معمكـ‪ 1.‬كما أف كصؼ القرآف نفسو بأنو منزؿ‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً ًً ً‬
‫مثمما ىك كراد في اآلية العاشرة مف السكرة السابقة ﴿لىقى ٍد أ ٍىن ىزٍلىنا إًلىٍي يك ٍـ كتى نابا فيو ذ ٍك يريك ٍـ أىفى ىبل تى ٍعقمي ى‬
‫كف﴾‪ ،‬يدؿ عمى أنو فعؿ إليي كقع في‬
‫تاريخ معيف‪ ،‬كليست كينكنتو بمعزؿ عف الزمف‪ .‬ككؿ ما أحدثو ا﵀ في زمف كرتبو مف أجزاء‪ ،‬فيك محدث كمخمكؽ لو‪ .‬لذا صح القكؿ‬
‫بأف القرآف مخمكؽ مثمو م ثؿ األشياء األخرل‪ .‬كالمقصكد ىنا بأنو مخمكؽ أنو لـ يكجد ثـ كجد‪ ،‬أك لـ يكف ثـ كاف‪ .‬كىذا قكؿ المعتزلة‬
‫كالزيدية (مف الشيعة) كالمرجئة ككثير مف الرافضة‪ 2،‬كبالتالي فيك حادث في زمف‪.‬‬

‫المسألة التي تمنع قدـ القرآف‪ ،‬حسب البعض‪ ،‬ىي أننا بالقكؿ بقدمو‪ ،‬نككف قد اعتقدنا بأنو ا﵀ قد تكقؼ نيائيا عف الكبلـ‪ .‬في‬
‫حيف أنو‪ ،‬حسب بعض المتفيقو مثؿ داكد اإلصبياني‪ ،‬كىي المفظة التي استعمميا األشعرم لمتقميؿ مف منطقيـ؛ "إف ا﵀ لـ يزؿ‬
‫متكمما‪ ،‬أم لـ يزؿ قادر عمى الكبلـ‪ .‬إف كبلـ ا﵀ محدث غير مخمكؽ"‪ 3.‬مما يدؿ عمى أف ا﵀ قادر عمى احداث الكبلـ في كؿ‬
‫كقت‪ ،‬كبالتالي خمقو دكف تكقؼ‪ .‬حقيقة أف القرآف ىك آخر كبلـ ا﵀ لمبشر‪ ،‬لكف ال يمكف أف نتيقف بأف ا﵀ ال يمكف أف يخمؽ كبلما‬
‫جديدا غيره‪ .‬كلك أف غالبية عمماء اإلسبلـ ال يفكركف في ىذا المفترض الجديد‪ ،‬إال أنو قدرة ا﵀ المطمقة تتيح لو خمؽ ما يشاء‪ .‬فبل‬
‫يمكف أف نمزـ ا﵀ بما لـ يمزـ ىك ذاتو الجميمة‪.‬‬

‫كمف األدلة العقمية التي يستند عمييا رجاؿ المعتزلة إلثبات خمؽ القرآف ىي أف القرآف يذكر حكادث ال يمكف أف تقع منذ األزؿ‪،‬‬
‫بؿ ىي محصمة ق اررات بشرية كاقعية‪ .‬فقد اتفؽ ىشاـ بف األكقص مع عمرك بف عبيد‪ ،‬كىك الرجؿ الثاني لممعتزلة‪" ،‬في رفض أف‬
‫‪4‬‬
‫تككف اآليات القرآنية التي تنبئ عف مصير بعض األشخاص – مثؿ أبك ليب‪ -‬مكتكبة في المكح المحفكظ‪ .‬إف ىذا حكـ مسبؽ"‪.‬‬
‫ىنا يككف قدـ القرآف متعارض مع العدالة اإلليية‪ ،‬فمك أف رفض أبا جيؿ الدعكة المحمدية مقدر منذ القدـ فبل يمكف أف يككف‬
‫مستطيع كبالتالي ينيار التكميؼ الذم ىك شرط مشركعية العقاب‪ .‬كما أف قدـ األحداث المكجكد في القرآف القديـ‪ ،‬يطرح مسألة حقيقة‬
‫المستقبؿ ذاتو‪ ،‬فمك كاف القرآف قديـ‪ ،‬لتحكلت كؿ األحداث إلى مجرد تحقؽ لماض قديـ عمى أساس أنو مستقبؿ كما ىك بالمستقبؿ‪.‬‬
‫كقد "كتب األصـ حكؿ مكضكع خمؽ القرآف‪ .‬كتـ اعتبار كجية نظره ‪ ،‬فيما عدا لدل البصرييف‪ ،‬بمثابة ذنب جؿ عف الغفراف‪.‬‬
‫كيحتمؿ أنو كجد في القرآف مجرد كتاب أرضي‪ .‬فالقرآف بكصفو نمكذج سماكم‪ ،‬كتب ا﵀ في طياتو كؿ األحداث المستقبمية‪ ،‬أمر‬
‫يمكف أف يجعمو غير كارد الكجكد‪ ،‬ألف ا﵀ ال يعمـ المستقبؿ قبؿ كقكعو مطمقا‪ .‬فالعمـ ىك مجرد "شيء"؛ لكف المطمؽ ليس "شيء"‪،‬‬
‫حيث "الشيء" ليس إال جسـ"‪ 5.‬كقد تحدث فبلسفة الكجكدية المعاصرة عف ىذه النظرة الدينية التي تجعؿ المضارع أك المستقبؿ مجرد‬

‫‪1‬‬
‫عبد الجبار اآلسدآبادم‪ :‬المغنى في أبكاب التكحيد كالعدؿ‪ -‬كتاب خمؽ القرآف‪ ،‬ص ‪ .87‬أيضا‪ :‬عبد الحكيـ أجير‪ :‬التشكبلت‬
‫المبكرة لمفكر اإلسبلمي‪ -‬دراسة في األسس األنطكلكجية لعمـ الكبلـ اإلسبلمي‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.50‬‬
‫‪2‬‬
‫أبي الحسف األشعرم‪ :‬مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.420‬‬
‫‪3‬‬
‫أبي الحسف األشعرم‪ :‬مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.421‬‬
‫‪4‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬ترجمة‬
‫محي الديف جماؿ بدر كرضا حامد قطب‪ ،‬مراجعة محسف الدمرداش‪ ،‬منشكرات الجمؿ‪ ،‬بيركت – بغداد‪ ،‬الطبعة األكلى‪،2016 ،‬‬
‫ص ‪.173‬‬

‫‪5‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.593‬‬

‫‪158‬‬
‫شكمية في الكبلـ كالعمـ اإلليييف‪ .‬ككأف ماىية األفراد سابقة لكجكدىـ التاريخي‪ ،‬عمى أساس التحديد القديـ ليا مف طرؼ القدرة‬
‫اإلليية‪ ،‬كىنا بالضبط تكمف إلحادية بعض الكجكدييف‪ .‬في ىذا السياؽ يقكؿ سارتر‪" :‬إذا آمف اإلنساف بأف المستقبؿ في يد ا﵀‪ ،‬كأنو‬
‫مكتكب عمى اإلنساف‪ ،‬كأف ا﵀ كحده مف يعرفو (‪ )...‬فبل يعكد المستقبؿ مستقببل"‪ 1.‬لربما االحتجاج الذم عبر عنو بعض المسمميف‬
‫عف نظرية عدـ قدـ القرآف‪ ،‬تفيـ في ىذا السياؽ الذم كشفو الفبلسفة الكجكدييف الممحديف‪ .‬ككأف ىناؾ إلحاد مضمر في أطركحة‬
‫المعتزلة المتعمقة بحرية اإلنساف كخمؽ القرآف‪ .‬لذا نجد مف كفرىـ بقكليـ عف القرآف بأنو مخمكؽ كليس قديـ‪ ،‬ككأنو يصؼ األحداث‬
‫بعد كقكعيا كليس قبؿ‪ ،‬مف أجؿ انقاذ مستقبمية المضارع‪.‬‬

‫خاض رجاؿ المعتزلة كغيرىـ في مسألة فرعية مف مشكمة طبيعة كبلـ ا﵀ بيف القدـ كالخمؽ‪ ،‬كىي قضية إمكانية كجكد القرآف‬
‫في محؿ أك في مكاف‪ .‬كالسؤاؿ يطرح عمى ىذه الصيغة‪ :‬ىؿ كبلـ ا﵀ جسـ ؟ ىؿ ىك عرض ؟ ىؿ ىك قابؿ لمحركة ؟ كفي ىذا‬
‫خصص القاضي عبد الجبار المعتزلي الذم تكفي سنة ‪ 415‬ق فصبل بعنكاف استفيامي‪ :‬ىؿ يحتاج الكبلـ كالصكت في كجكدىما‬
‫في محؿ إلى حركة كبنية كصبلبة ؟‪ 2‬كيذكر مباشرة مكقؼ أبك عمي الجبائي الذم يقكؿ بأف القرآف بحاجة في كجكده في المحؿ إلى‬
‫بنية مخصكصة كالى حركة‪ .‬بالنسبة إلى النظاـ فإنو "محاؿ أف يككف كبلـ ا﵀ في أماكف كثيرة أك في مكانيف في نفس الكقت‪ ،‬كأنو‬
‫في المكاف الذم خمقو ا﵀ فيو"‪ .‬ىنا نتذكر مبدأ عدـ التناقض الذم يقر بأنو ال يمكف أف يككف الشيء كال يككف في نفس المكاف أك‬
‫المكضع‪ .‬أما "فرقة أخرل مف المعتزلة (أبك اليذيؿ أك اليذيمية) فيك يقكؿ "القرآف مخمكؽ ﵀‪ ،‬كىك عرض‪ ،‬كليس جسما‪ .‬كيككف في‬
‫أمكاف كثيرة في كقت كاحد‪ 3.‬فيك يكجد في األماكف بالتبلكة كالحفظ كالكتابة كال يجكز عميو االنتقاؿ كالزكاؿ"‪ 4.‬كىناؾ طائفة تقكؿ بأف‬
‫القرآف مثمو كمثؿ األجساـ لو خاصية التحيز‪ ،‬لكنو قائـ با﵀ في غير مكاف‪ .‬كطائفة تقكؿ بأف القرآف جسـ خمقو ا﵀ في المكح‬
‫المحفكظ‪ ،‬كىي بذلؾ تجيب عف سؤاؿ قدـ المكح المحفكظ في مقابؿ خمؽ القرآف‪ ،‬ثـ ىك بعد ذلؾ مع تبلكة كؿ تاؿ يتمكه‪ ،‬كمع خط‬
‫كؿ مف يكتبو‪ ،‬كمع حفظ كؿ مف يحفظو‪ .‬كما نجد طائفة تقكؿ بأف القرآف يخمقو ا﵀ مع تبلكة كؿ تاؿ‪ .‬كطائفة تقر بأف القرآف عرض‬
‫في المكح المحفكظ‪ ،‬محاؿ زكالو عف المكح‪ .‬كلكنو كمما قرأه القارئ أك كتبو الكاتب أك حفظو الحافظ فإف ا﵀ يخمقو‪ .‬كأخرل ىمثميا‬
‫زرقاف تقكؿ القرآف مف ا﵀ خمقا كمني قراءة كفعبل‪ .‬أم أنا فاعؿ كا﵀ خالؽ‪ 5.‬كالظاىر أف القائؿ بخمؽ المكح المحفكظ‪ ،‬كالذم يعتبر‬
‫‪6‬‬
‫القرآف جزءا منو‪ ،‬مؤسس عمى "حديث يرجع إلى النبي‪ ،‬حيث يقكؿ فيو إف ا﵀ تعالي خمؽ المكح كالقمـ قبؿ خمؽ السمكات كاألرض"‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫جاف بكؿ سارتر‪ :‬الكجكدية مذىب إنساني‪ ،‬ترجمة عبد المنعـ حنفي‪ ،‬مطبكعات الدار المصرية‪ ،‬القاىرة‪ ،‬الطبعة األكلى‪،1964 ،‬‬
‫ص ‪.26‬‬
‫عبد الجبار اآلسدآبادم‪ :‬المغنى في أبكاب التكحيد كالعدؿ‪ -‬كتاب خمؽ القرآف‪ ،‬ص ‪.31‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪3‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ .384-383‬أبك اليذيؿ‪ :‬كبلـ ا﵀ أك‬
‫القرآف السابؽ عمى الخمؽ خمقو ا﵀‪ ،‬قبؿ الكحي بو‪ ،‬بما ىك ىع ىرض في المكح المحفكظ‪ .‬القرآف يكجد في أماكف كثيرة في كقت كاحد‪:‬‬
‫إذا تبله تاؿ فيك يكجد مع تبلكتو ككذلؾ إال كتبو كاتب كجد مع كتابتو ككذا إذا حفظو حافظ كجد مع حفظو (‪ )...‬كال يجكز عميو‬
‫االنتقاؿ مف المكح المحفكظ كالزكاؿ عنو‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫أبي الحسف األشعرم‪ :‬مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.154-153‬‬
‫‪5‬‬
‫أبي الحسف األشعرم‪ :‬مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.127-124‬‬

‫‪159‬‬
‫كاألرض"‪ 1.‬لربما استعمؿ ىذا القكؿ لمداللة عمى قدـ المكح‪ ،‬لكنو في النياية مخمكؽ بعد ا﵀‪ ،‬مما يجعمو غير قديـ بالمطمؽ‪ ،‬يككف‬
‫قديـ فقط بالنسبة لمعالـ كاإلنساف كالقرآف‪ .‬كيشرح التفتازاني ما يعنيو المعتزلة بعبارة خمؽ القرآف‪ ،‬فيقكؿ أنيـ يعنكف بو شيئيف؛ إما‪:‬‬

‫*خمؽ كبلـ ا﵀ "في محؿ" أم خارج المكح المحفكظ‪( .‬رأم النظاـ كمعمر)‬

‫‪2‬‬
‫*خمقو في المكح المحفكظ‪( .‬رأم الجعفريف كأبي اليذيؿ)‪.‬‬

‫مما سبؽ‪ ،‬يمكف لنا أف نبلحظ في نظرية خمؽ القرآف مكقفيف كبيريف‪:‬‬

‫* "اعتراؼ بكجكد كبلـ ﵀ سابؽ عمى الكحي‪ .‬مخمكؽ في المكح المحفكظ‪ .‬مما يجعمنا نفترض أف المكح المحفكظ أكثر قدما مف‬
‫القرآف‪ ،‬لكنو مخمكؽ في النياية‪ ،‬فقدامتو نسبية كليست مطمقة‪.‬‬

‫* رأم ينكر كجكد كبلـ ا﵀ سابؽ عمى الكحي‪ ،‬حتى لك كاف ىذا الكبلـ مخمكقا‪ .‬فكبلـ ا﵀ خمؽ في زمف الكحي بالقرآف"‪ 3.‬مما يدؿ‬
‫عمى أف الكحي كليد األحداث كليس محدد سمفا‪ .‬كىناؾ مف ذىب‪ ،‬مثمما "افترض عمرك بف عبيد ا﵀ ( كىك معتزلي) كجكد فرؽ‬
‫مبا شر بيف القرآف في "المكح المحفكظ"‪ ،‬كبيف النص الفعمي المكحى بو‪ ،‬كما تريد بعض الركايات الغريبة عنو أف تقكؿ"‪ 4.‬كىذا مف‬
‫منطمؽ أف األحداث البشرية تؤثر في النص المكحى بو‪ .‬كمف ىذا المدخؿ حاكؿ البعض الربط بيف نظرية خمؽ القرآف كبيف ما يعرؼ‬
‫بالناسخ كالمنسكخ‪ .‬كيستثمر الشيعة ىذا المفيكـ القرآني المتعمؽ بالنسخ‪ ،‬مف أجؿ اثبات خمؽ القرآف مف جديد‪ ،‬كمف أجؿ تبرير‬
‫نسياف بعض اآليات المتعمقة بعمي (ض)‪" .‬كقد فيمت مشكمة النسخ في القرآف عمى نحكيف‪:‬‬

‫رأل السنة أف ا﵀ يستطيع نسخ اآليات مف نكع معيف ليس فقط بطريقة محسكبة كانما أف يغير رأيو في أم كقت‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫(﴿ما ىن ٍن ىس ٍخ ًم ٍف آىىي وة أ ٍىك ين ٍن ًسيىا‬


‫رأم الشيعة‪ :‬جعؿ ا﵀ محمد أك ناسخي القرآف ينسكف آية الرجـ مف غير إلغاء الرجـ ى‬ ‫‪‬‬
‫ىف المَّوى ىعمىى يك ّْؿ ىش ٍي وء قىًد هير﴾ [ البقرة‪ )]106 ،‬لماذا إذف ال تككف اآليات التي تتعمؽ‬
‫ٍت بً ىخ ٍي ور ًم ٍنيىا أ ٍىك ًمثٍمًيىا أىلى ٍـ تى ٍعمى ٍـ أ َّ‬
‫ىنأ ً‬
‫‪5‬‬
‫بعمي قد نسيت أيضا ؟"‪.‬‬

‫يمكف اعتبار النسخ‪ ،‬كظاىر اعترؼ بيا القرآف‪ ،‬دالة عمى أنو مخمكؽ‪ ،‬بحيث يتغير كفؽ اإلرادة اإلليية‪ .‬أك حتى كفؽ‬
‫المتغيرات البشرية‪ .‬أم تككف الظركؼ البشرية المستجدة سببا في أف ينسخ ا﵀ آية ما كيأتي بغيرىا لكي تتبلءـ مع الكاقع الجديد‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.342‬‬
‫‪2‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.405‬‬
‫‪3‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.395-394‬‬
‫‪4‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.444‬‬
‫‪5‬‬
‫جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬ترجمة سالمة صالح‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬منشكرات الجمؿ‪،‬‬
‫بغداد – بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2008 ،‬ص ‪.66-65‬‬

‫‪161‬‬
‫نستخمص بأف مكقؼ المعتزلة القائؿ بأف القرآف مخمكؽ مرتبط بمعارضة "كجكد قرآف أزلي غير مخمكؽ‪ ،‬كما احتجكا كىـ‬
‫يعارضكف كجكد صفات إليية قديمة عمى الحقيقة‪ ،‬بأف ىذا االعتقاد مناقض لتصكر الكحدانية"‪ 1.‬كقكليـ ىذا ال يستيدؼ التنقيص‬
‫مف أصالة القرآف أك قدسيتو أك صبلحيتو المطمقة‪ ،‬بؿ فقد كاستنتاج مف فيـ صارـ لمكحدانية‪ .‬فبل يمكف أف يككف ىناؾ قديـ غير‬
‫ا﵀‪ ،‬بؿ أننا نجد مف قاؿ بأف أسماء ا﵀ ذاتيا‪ ،‬ليس قديمة بؿ مخمكقة‪ 2،‬عمى أساس كركدىا في القرآف المخمكؽ‪ .‬كالقكؿ بأف القرآف‬
‫‪3‬‬
‫مخمكؽ يدؿ أيضا عمى أف لفظ القرآف مخمكؽ‪.‬‬

‫ثالثا‪ -‬نظرية قدم القرآن‪:‬‬

‫ىي النظرية التي تشكمت ضد النظرية التي تقكؿ بأف القرآف لـ يكف ثـ كاف‪ .‬كبأنو غير محدث كال حدث كال حادث‪ ،‬ألف ىذه‬
‫التسميات تؤؿ كميا إلى القكؿ بمخمكقيتو‪ ،‬كىك القكؿ الذم ينكر قدـ القرآف‪ .‬فمفظي خمؽ ‪ creation‬كاحداث ‪ origination‬يدالف‬
‫عمى اخراج المعدكـ مف العدـ إلى الكجكد"‪ 4.‬كالحؽ أف ىذا التصكر الذم يجعؿ القرآف أك أم شيء آخر يخرج مف العدـ إلى‬
‫الكجكد‪ ،‬يغكص في النقيضة التي كشؼ عنيا بارمنيدس اإليمي‪ ،‬عندما قاؿ بأف العدـ الذم نتحدث عنو في كممات كنصفو‬
‫بأكصاؼ‪ ،‬ال يغدك عدما عمى اإلطبلؽ‪ ،‬بؿ يصبح كجكد ما ألننا كصفناه‪ .‬كبالتالي فالخمؽ مف عدـ تصكر غير سميـ مف الناحية‬
‫المفيكمية‪.‬‬

‫ينطمؽ النسؽ األشعرم‪ ،‬الذم ىك رد فعؿ عمى المعتزلة بصكرة أساسية كعمى فرؽ أخرل تتقاطع معيا‪ ،‬ينطمؽ مف إثبات صفة‬
‫الكبلـ‪ ،‬كبيذا فيك يعارض مف ينكرىا ممف يكصفكف بالركافض‪ .‬كاثبات الكبلـ ىك اثبات إلخبار ا﵀ لنا بشيء ما كىذه ىي الرساالت‬
‫عمى كجو التحديد‪ .‬كيحدد الشيرستاني المنطمؽ عمى النحك اآلتي‪" :‬دليؿ أف ا﵀ يتكمـ ‪ ،‬كلك لـ يكف متكمما لكاف متصفا بضده كىك‬
‫الخرس كالعي كالحصر ىي نقائص يتعالى عنيا"‪ 5.‬كدليؿ أبك اسحاؽ اإلسفرايني عمى الكبلـ ىك أف ا﵀ عالـ‪ ،‬كيستحيؿ أف يككف‬
‫عالـ بشيء دكف أف يخبر بو‪ ،‬فكجب أف يككف لو كبلـ"‪ 6.‬الذم ىك القرآف كتجسيد لصفة العمـ اإلليي‪ .‬كبما أف ا﵀ متكمـ‪ ،‬فيناؾ‬
‫فرضيف أساسييف إزاء ىذا الكبلـ؛ فقد يككف كبلما قديما أك يككف كبلما حادثا‪ .‬كاذا افترضنا أف كبلـ ا﵀ حادث‪ ،‬فإما أف يحدث في‬
‫ذاتو أك في محؿ أك ال في محؿ‪ ،‬ككؿ ىذه االفتراضات منتفية مف الناحية العقمية‪ ،‬يبقى لنا الفرض الكحيد المقبكؿ ىك القكؿ بأف ا﵀‬
‫متكمـ بكبلـ أزلي يختص بو قياما ككصفا‪ 7.‬لكف ما طبيعة الكبلـ اإلليي ؟ أم مقاربة تككف أنثربكمكرفية تشبييية عمى أساس أف‬
‫الكبلـ اإلنساني نعرفو كما نمارسو دكما‪ .‬فكبلمنا متجدد كمنقسـ كحادث في كؿ ظرؼ كفي كؿ كقت‪ .‬يقكؿ عبد ا﵀ بف يكبلب محددا‬

‫‪1‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.375‬‬
‫‪2‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.1061‬‬
‫‪3‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.650‬‬
‫‪4‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.410-409‬‬
‫‪5‬‬
‫الشيرستاني‪ :‬نياية اإلقداـ في عمـ الكبلـ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.256‬‬
‫‪6‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.257‬‬
‫‪7‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬الصفحة نفسيا‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫خاصية الكبلـ اإلليي‪" :‬كبلـ ا﵀ قائـ بو كما أف العمـ قائـ بو كالقدرة قائمة بو‪ ،‬كىك قديـ بعممو كقدرتو‪ .‬كاف الكبلـ ليس بحرؼ كال‬
‫صكت كال ينقسـ ال يتجزأ‪ ،‬إنو معنى كاحد با﵀‪ ،‬كاف الرسـ ىك الحركؼ المتغايرة‪ ،‬كىك قراءة القرآف‪ .‬كقاؿ‪ :‬إف ا﵀ ال يخمؽ شيئا إال‬
‫قاؿ لو‪ :‬كف‪ ،‬كيستحيؿ أف يككف قكلو‪ :‬كف‪ ،‬مخمكقا"‪ 1.‬كاال تراجعنا في سمسمة ال متناىية بحثا عف خالؽ الخالؽ‪ .‬كيبرىف الشيرستاني‬
‫عف كجكد ضربيف مف الكبلـ قائبل‪" :‬لك قدر لمبارم تعالى كبلـ فمـ يخؿ مف أحد األمريف؛ إما أف كاف مف جنس كبلـ البشر أك لـ‬
‫يكف‪ ،‬فإف كاف لـ يخؿ أيضا مف أحد األمريف إما أف يككف مف جنس الكبلـ المساني‪ ،‬أك مف جنس الكبلـ النفساني‪ ،‬كيستحيؿ أف‬
‫يككف كبلمو مثؿ كبلـ المساف‪ ،‬فإف ىذا مركب مف حركؼ منظكمة‪ ،‬كالحركؼ تقطيع أصكات‪ ،‬كاألصكات اصطكاؾ أجراـ‪ ،‬كالبارم‬
‫سبحانو تعالى عف أف يككف جرما أك مركبا مف جرـ"‪ 2.‬فالتنزيو يقتضي نفي الكبلـ المادم عف ا﵀ ألنو يتطمب أعضاء كنفس‬
‫كلساف‪...‬الخ‪ ،‬كبالتالي إثبات الكبلـ النفسي حصرا‪ .‬ككؿ األشاعرة يعتقدكف الكبلـ قائـ في ذات النفس كليس عمى شكؿ حركؼ‬
‫كأصكات أك رسكـ‪ .‬كمعمكـ أف البارم سبحانو كتعالى مكصكؼ بكبلـ النفس‪ 3.‬مف أجؿ التنزيو كتفادم الكقكع في الجسمية‪.‬‬

‫يبدأ األشاعرة‪ ،‬كمعيـ الحنابمة الذيف عاصركا مشكمة خمؽ القرآف‪ ،‬بتفنيد نظرية الخمؽ كالحدكث‪ .‬فحسب ابف حنبؿ‪ ،‬فإف القكؿ‬
‫بالخمؽ يقتضي كفؽ الحتمية كالمألكؼ الطبيعي القكؿ بالفناء‪ .‬كالخطأ الكامف بالقكؿ بخمؽ القرآف ىك االعتقاد بفناءه كمكتو‬
‫كانعدامو‪ 4.‬كىذا ما ال يستسيغو أم مسمـ ميما بالغ في الثقة بمنطقو‪ .‬يقكؿ أحمد بف حنبؿ الذم أخمط بيف الجيمية كالمعتزلة في ىذه‬
‫ىذه المسألة‪" :‬ثـ إف الجيـ ادعى أم ار آخر‪ ،‬فقاؿ‪ :‬أنا أجد آية في كتاب ا﵀ تبارؾ كتعالى تدؿ عمى أف القرآف مخمكؽ‪ .‬فقمنا في أم‬
‫﴿ما ىيأٍتًي ًي ٍـ ًم ٍف ًذ ٍك ور ًم ٍف ىرّْب ًي ٍـ يم ٍح ىد وث﴾ [األنبياء‪ .]2 ،‬فزعـ أف ا﵀ قاؿ القرآف محدث‪ ،‬ككؿ محدث مخمكؽ‪ .‬فمعمرم‪ ،‬لقد‬
‫آية ؟ فقاؿ‪ :‬ى‬
‫شبو عمى الناس بيذا"‪ 5.‬كفي تقدير أحمد أف الجيـ أساء فيـ اآلية القرآنية‪ ،‬ألف المقصكد بالمحدث ليس القرآف بؿ عمـ النبي بو‪،‬‬
‫فالنبي كاف ال يعمـ فعممو ا﵀‪ ،‬فمما عممو ا﵀ كاف ذلؾ محدثا إلى النبي (ص)‪ .‬ثـ يكاصؿ أحمد ذكر الحجج النقمية التي استعمميا‬

‫يسى ٍاب يف ىم ٍرىي ىـ ىر يسك يؿ المَّ ًو ىك ىكمً ىمتيوي أىٍلقى ى‬


‫اىا﴾‬ ‫الجيـ قائبل‪ :‬إنا كجدنا آية في كتاب ا﵀ تدؿ عمى أف القرآف مخمكؽ ﴿إًَّنما ا ٍلم ًس ً‬
‫يح ع ى‬
‫ى ى ي‬
‫[النساء‪ . ]171 ،‬كبما أف عيسى مخمكؽ‪ ،‬كىك كممة ا﵀ التي ألقاىا عمى مريـ‪ ،‬فإف كبلـ ا﵀ مخمكؽ‪ .‬يرد أحمد‪" :‬فقمنا إف ا﵀ منعؾ‬
‫مف الفيـ في القرآف‪ ،‬عيس ى تجرم عميو ألفاظ ال تجرم عمى القرآف (‪ )...‬ال يحؿ لنا أف نقكؿ في القرآف ما نقكؿ في عيسى (‪)...‬‬
‫فالكممة التي ألقاىا حيف قاؿ لو "كف" فكاف عيسى "بكف" كليس عيسى ىك الكف‪ ،‬كلكف بالكف كاف‪ ،‬فالكف مف ا﵀‪ ،‬كلكف الكف‬
‫مخمكقا"‪ 6.‬كىذه ىي العبارة التي استعمميا األشعرم سابقا‪ .‬مجمؿ ما أعابو أحمد بف حنبؿ في القائميف بالخمؽ‪ ،‬ىك سكء فيميـ‬
‫لآليات القرآنية‪ ،‬كتأكيميـ المغمكط‪ ،‬ككقكعيـ في الشبيات‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫أبي الحسف األشعرم‪ :‬مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف‪ ،‬الجزاء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.422-421‬‬
‫‪2‬‬
‫الشيرستاني‪ :‬نياية اإلقداـ في عمـ الكبلـ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.260-259‬‬
‫‪3‬‬
‫فخر الديف الرازم‪ :‬خمؽ القرآف بيف المعتزلة كأىؿ السنة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.60‬‬
‫‪4‬‬
‫أبي الحسف األشعرم‪ :‬مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف‪ ،‬الجزاء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.424‬‬
‫‪5‬‬
‫أحمد بف حنبؿ‪ :‬الرد عمى الجيمية كالزنادقة فيما شككا فيو مف متشابو القرآف كتأكلكه عمى غير تأكيمو‪ ،‬تحقيؽ صبرم بف سبلمة‬
‫شاىيف‪ ،‬دار الثبات لمنشر كالتكزيع‪ ،‬الرياض‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2003 ،‬ص ‪.121-120‬‬
‫‪6‬‬
‫المرجع نفسو‪.126-125 ،‬‬

‫‪162‬‬
‫لكف كيؼ تعامؿ ابف حنبؿ مع حجة حدكث القرآف عند قراءتو ؟ فكمما قي أر القرآف يككف كبلمو جديد كمحدث‪ .‬عمى الرغـ مف أف‬
‫ابف حنبؿ يقكؿ "إف كبلـ ا﵀ تعالى ىك عممو لـ يزؿ كىك غير مخمكؽ (‪ )...‬ما بيف الدفتيف كبلـ ا﵀ كما نقرأه كنسمعو كنكتبو عيف‬
‫كبلـ ا﵀ فيجب أف تككف "الكممات" ك"الحركؼ" ىي بعينيا كبلـ ا﵀‪ .‬كلما تقرر االتفاؽ أف كبلـ ا﵀ غير مخمكؽ فيجب أف تككف‬
‫الكممات أزلية غير مخمكقة (‪ )...‬قالت السمؼ ال يظف الظاف أنا نثبت القدـ لمحركؼ كاألصكات التي قامت بألسنتنا"‪ 1.‬إال أنو في‬
‫النياية‪ ،‬ككفؽ الجممة األخير مف قكلو‪ ،‬يميز بيف القرآف غير المخمكؽ الذم ىك كبلـ ا﵀ كبيف القرآف المخمكؽ الذم يكجد عندما يق أر‬
‫قارئ أك يسمعو سامع‪ .‬كىك التمييز الذم نجده عند ابف هكبلب البصرم كالذم انخرط في الرد عمى المعتزلة كالجيمية‪ .‬إذ يعتقد بأف‬
‫ىناؾ فرؽ بيف كبلـ ا﵀ كصفة لو قائـ بو باعتباره ذاتا قديمة‪ ،‬مما يعني أنو لـ يتشكؿ بعد كحركؼ كال كأصكات متمايزة كمنقسمة‪،‬‬
‫كبيف القرآف بعد نزكلو عمى اإلنساف عمى شكؿ حركؼ مسمكعة‪ 2.‬كىك التمييز الذم سنجده الحقا تحت اسـ الكبلـ النفسي أك‬
‫الذىني كالكبلـ المادم المسككب في قكالب مسمكعة كمرئية‪ .‬لكف الفرؽ بيف مكقؼ ابف حنبؿ كابف يكبلب يتمخص في "اصرار األكؿ‬
‫عمى أف القرآف غير مخمكؽ‪ ،‬يعترؼ بأف لفظ القرآف مخمكؽ‪( .‬الرسـ أك العبارة مثؿ ابف يكبلب)‪ .‬لكنو خبلفا البف يكبلب‪ ،‬يزعـ أف‬
‫كبلـ ا﵀ غير المخمكؽ ال نجده في القرآف المقركء‪ ،‬يذىب ابف حنبؿ إلى أف كبلـ ا﵀ غير المخمكؽ يكجد في لفظ القرآف‪ .‬كىكذا ففي‬
‫ؾ فىأى ًج ٍرهي ىحتَّى ىي ٍس ىم ىع ىك ىبل ىـ المَّ ًو﴾[التكبة‪ .]6 ،‬يأخذ التعبير القرآني "حتى يسمع كبلـ ا﵀ "مأخذا‬
‫استى ىج ىار ى‬
‫يف ٍ‬
‫ً‬ ‫اآلية ﴿كًا ٍف أ ً‬
‫ىح هد م ىف ا ٍل يم ٍش ًرك ى‬
‫ى‬ ‫ى‬
‫‪3‬‬
‫حرفيا‪ ،‬في معارضة مباشرة إلبف كبلب الذم يؤكلو تأكيبل مجازيا"‪ .‬كيبدك أف نظرية ابف يكبلب قكية لحد أنيا انتقمت الحقا إلى‬
‫األشعرم‪ .‬فيك يقكؿ بأف أزلية الكبلـ اإلليي ال تتعارض البتة مع كحدانية ا﵀‪ ،‬كىي الحجة التي انطمؽ منيا المعتزلة لمخكؼ مف‬
‫القكؿ بقدـ القرآف‪ .‬فقدـ كبلـ ا﵀ كىك القرآف ال يستتبع ضركرة مشاركتو صفة القدـ مع ا﵀‪ .‬فأزلية الصفات تابعة ألزلية ا﵀ كليس‬
‫ليا كجكد ينافس القدـ‪ 4.‬كمف ىنا انطمقت النظرية التي تقر بقدـ القرآف دكف االصطداـ مع مبدأ التكحيد كما اعتقد المعتزلة‪.‬‬

‫كفي تأكيد الستحالة أف يأمر ا﵀ قكلو الذم ىك القرآف بأف يككف كيحدث مثؿ بقية المكجكدات‪ ،‬يقكؿ األشعرم بأف المقصكد‬
‫‪5‬‬
‫ألف ىذا يتطمب قكال ثانيا الذم يتطمب قكال ثالثا‬ ‫بكف فيككف ليس القرآف‪ ،‬ألنو بو يخاطب‪ ،‬ك"يستحيؿ أف يككف قكلو مقكؿ لو"‪.‬‬
‫كىك ذا ببل قرار‪ .‬إف قدـ اإلرادة اإلليية ليك أكبر دليؿ عمى قدـ كبلمو‪ ،‬عمى اعتبار أف الكبلـ ىك تجسيد ليذه اإلرادة القديمة‪.‬‬

‫مما سبؽ‪ ،‬يمكف أف نبلحظ أف بداية التشكؾ في أطركحة خمؽ القرآف مف خبلؿ المكاقؼ الكسطية التي لـ تقر كمية بأنو حادث‪،‬‬
‫فنجد مثبل ابف الماجشكف يقكؿ بأف "بعض القرآف مخمكؽ كبعضو غير مخمكؽ‪ ،‬فما كاف منو مخمكقا فمثؿ صفات المخمكقيف كغير‬
‫ذلؾ مف أسمائيـ كاإلخبار عف أفعاليـ"‪ .‬أما ما عدا ذلؾ فيك قديـ ال يمكف أف يرتبط بالمستجدات‪ .‬كما أف "أصحاب الحديث يقكلكف‬

‫‪ 1‬ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.357‬‬
‫‪2‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.356-354‬‬
‫‪3‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.359‬‬
‫‪4‬‬
‫عبد الحكيـ أجير‪ :‬التشكبلت المبكرة لمفكر اإلسبلمي‪ -‬دراسة في األسس األنطكلكجية لعمـ الكبلـ اإلسبلميػ مرجع سابؽ‪ ،‬ص‬
‫‪.57‬‬
‫‪5‬‬
‫أبي الحسف األشعرم‪ :‬كتاب الممع في الرد عمى أىؿ الزيغ كالبدع‪ ،‬مطبعة مصر‪ ،‬القاىرة‪ ،1955 ،‬ص ‪.33‬‬

‫‪163‬‬
‫"ما كاف عمما مف عمـ ا﵀ في القرآف فبل نقكؿ مخمكؽ كال نقكؿ غير ا﵀ ‪ .‬كما كاف فيو أمر كنيي فيك مخمكؽ"‪ 1.‬يبدك أف النظر في‬
‫المحتكيات التاريخية الكاردة في القرآف‪ ،‬مثؿ العديد مف الحكادث كالفتف كالغزكات كالق اررات‪...‬الخ يعتبر قرآنا مخمكقا عمى اعتبار أف‬
‫الفاعمييف االجتماعييف ىـ مف قامكا باألحداث التي كصفيا أك حكـ عمييا القرآف‪ ،‬كألف تمؾ األحداث‪ ،‬مثؿ اإلفؾ كغيرىا‪ ،‬ليست‬
‫أزلية‪ ،‬فإف قكليا في القرآف حادث كجديد‪ .‬كعمـ أسباب النزكؿ ‪ circonstances de la révélation‬أك ‪causes occasionnelles‬‬
‫جديد كفقيا‪ .‬أما العمـ اإلليي الكمي فبل يمكف أف‬
‫ه‬ ‫‪ de la descente‬يجعؿ العديد يقر بارتباط القرآف بظركؼ مستجدة مما يجعمو‬
‫يككف كذلؾ‪ ،‬ألنو يتعمؽ بما ىك مبدئي بمعزؿ عف الزماف مثؿ اإليماف كالككف كيكـ الحساب‪...‬الخ‪ .‬فكميا مبادئ ال تاريخية كلف‬
‫تغير منيا األحداث شيئا في كجكدىا أك قيمتيا‪.‬‬

‫يذكر لنا المستشرؽ ىارم كلفسكف أف االعتقاد بقدـ القرآف مرتبط أكال بالمضمكف القرآني الذم يصؼ نفسو كفؽ ما يجعمنا نعتقد‬
‫بأنو قديـ كليس جديد أك مستجد‪ .‬كىناؾ عمى األقؿ ثبلثة آيات تكحي بذلؾ‪:‬‬

‫ىف ىك ًريـ ًفي ًكتى و‬


‫اب ىم ٍكين و‬
‫كف﴾ [الكاقعة‪ .]78-77 ،‬كلفظة المكنكف تفيـ بما ىي دالة عمى‬ ‫*يصؼ القرآف نفسو عمى أساس‪﴿ :‬إًَّنوي لىقي ٍآر ه‬
‫ه‬
‫الحفظ كالكجكد بالقكة كالستر كالكمكف‪ .‬ككؿ ىذه المعاني تدؿ عمى القدـ ال االستحداث‪.‬‬

‫كظ﴾ [البركج‪ ]22-21 ،‬كالمكح المحفكظ كفؽ تفسير ابف كثير "مكجكد‬ ‫يد ًفي لىك وح م ٍحفي و‬
‫ىف ىم ًج ه‬
‫ٍ ى‬ ‫﴿ب ٍؿ يى ىك قي ٍرآ ه‬
‫* كذلؾ يصؼ القرآف نفسو‪ :‬ى‬
‫في المؤل األعمى مما يجعمو غير معرض لمزيادة كالنقص كالتحريؼ كالتبديؿ"‪ 2.‬كىذا ما يكحي بنجازتو قبؿ األحداث كال يحتمؿ أم‬
‫تعديؿ بعدىا‪.‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬


‫يـ﴾ [الزخرؼ‪،‬‬ ‫*يصؼ القرآف نفسو بأنو عربي كأـ الكتاب‪﴿ :‬إًَّنا ىج ىع ٍمىناهي قي ٍرآنىنا ىع ىربًيِّا لى ىعم يك ٍـ تى ٍعقمي ى‬
‫كف ىكًاَّنوي في أ ّْيـ ا ٍلكتىاب لى ىد ٍيىنا لى ىعم ّّي ىحك ه‬
‫‪ 3.]4-3‬ككفؽ تفسير القرآف الكريـ‪ ،‬فإف أـ الكتاب يعني المكح المحفكظ ذاتو‪ 4.‬لكف في تقديرنا فإف مفيكـ حافظية القرآف الكريـ مف‬
‫أم تحريؼ أك تعديؿ ال يتطابؽ كمية مع مشكمة القدـ كالخمؽ‪ .‬ككأف اآليات السابقة ال تستجيب لممشكمة التي أثارىا المعتزلة‬
‫كالجيمية‪ .‬كالتفسير الذم يبدك لنا مقبكال ىك أف القرآف لـ يناقش إطبلقا مشكمة ككنو قديـ قدـ ا﵀ أـ أنو محدث كفؽ متطمبات‬
‫الظركؼ‪ .‬ككؿ ما يتـ االستشياد بو سكاء مف أنصار الخمؽ أك مف أنصار القدـ ىك تأكيؿ لمنصكص لكي تثبت أطركحاتيـ كليس‬
‫العكس‪ .‬كىذا ما ينسجـ مع مبلحظة عمى بف أبي طالب (ض) الذم قاؿ بأف القرآف حماؿ أكجو‪ ،‬كالكؿ يستنطقو بما يخدـ عقيدتو أك‬
‫لي لمعنى بعض اآليات مف أجؿ جعميا تنساؽ لطرح الحؽ ليا‪.‬‬
‫أطركحتو التي يدافع عنيا‪ .‬كمحاكلة انتزاع المكاقؼ الكبلمية ىك ّّ‬

‫بالنسبة لؤلشعرم‪ ،‬الممثؿ الحقيقي لنظرية قدـ القرآف بعد ابف حنبؿ‪ ،‬فإنو يستدؿ مف القرآف الكريـ أكال‪ .‬حيث كرد في الذكر‬
‫ات ىربّْي ىكلى ٍك ًج ٍئىنا بً ًمثٍمً ًو ىم ىد ندا﴾ [الكيؼ‪ ]109 ،‬كمف ىنا‬
‫ىف تىٍنفى ىد ىكمً ىم ي‬
‫ات ىربّْي لىىنًف ىد ا ٍلىب ٍح ير قىٍب ىؿ أ ٍ‬
‫الحكيـ ﴿ يق ٍؿ لىك ىكاف ا ٍلب ٍحر ًم ىد نادا لً ىكمًم ً‬
‫ى‬ ‫ٍ ى ى ي‬

‫‪1‬‬
‫أبي الحسف األشعرم‪ :‬مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف‪ ،‬الجزاء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.422‬‬
‫‪2‬‬
‫ابف كثير‪ :‬تفسير القرآف العظيـ‪ ،‬تحقيؽ أنس محمد الشامي كمحمد سعيد محمد‪ ،‬المجمد الرابع‪ ،‬دار الكعي‪ ،‬الجزائر‪ ،2006 ،‬ص‬
‫‪.636‬‬
‫‪3‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.340‬‬
‫‪4‬‬
‫ابف كثير‪ :‬تفسير القرآف العظيـ‪ ،‬المجمد الرابع‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.155‬‬

‫‪164‬‬
‫يستنتج مف النيائية الكبلـ اإلليي قدمو‪ 1.‬كيعمد األشعرم إلى التميز المعركؼ بيف ضربيف مف الكبلـ‪ :‬الكبلـ النفسي كالكبلـ‬
‫المادم‪ .‬كالكبلـ النفسي قائـ في الذات اإلليية بصكرة قديمة كأزلية‪ .‬كبالتالي يتحكؿ القرآف المسمكع لدينا إلى محؿ لمكبلـ األزلي‪ .‬لذا‬
‫فيجب التمييز بيف القرآف األصمي غير المخمكؽ كالقرآف الذم نتمكه في كؿ مرة كىك مادم مرتبط بزماف كمكاف كتبلكتو متعينة‪.‬‬

‫يتدرج ابف حزـ كيكسع مفيكـ القرآف‪ ،‬مف أجؿ اثبات أف ىناؾ قرآف أزلي غير مخمكؽ في حيف أف ىناؾ ما يمكف أف نعتبره‬
‫قراءنا مخمكقا أك محدثا كفؽ المستجدات البشرية‪ .‬لذا يقدـ لنا ىذه المراتب الخمسة لما يمكف أف نسميو القرآف‪:‬‬

‫* الصكت الطبيعي الممفكظ كالمسمكع عندما يق أر القرآف‪.‬‬

‫* الفركض العممية المأمكر بيا‪ :‬زكاة‪ ،‬صبلة‪ ،‬حج‪...‬الخ‪.‬‬

‫* النسخة المكتكبة مف القرآف‪.‬‬

‫* القرآف المحفكظ في الصدكر‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫* كبلـ ا﵀ الذم ىك عممو‪( .‬ىك فقط غير المخمكؽ‪ ،‬بينما األربعة مخمكقة)‪.‬‬

‫بالتالي فبل تناقض في القكؿ بأف القرآف مخمكؽ كقديـ معا‪ .‬فيك مخمكؽ بالنظر إلى المعاني األربعة التي ترتبط باإلنساف‬
‫كالمضاميف المعمكمة‪ ،‬كىك قديـ بالنظر إلى العمـ اإلليي الذم ال يمكف أف يككف مخمكقا‪ .‬كىكذا فإف المؤمنيف بعقيدة قديـ القرآف قد‬
‫أقركا "بكجكد كبلـ قديـ ﵀ قائـ بالذات اإلليية بما ىك صفة مف صفاتو‪ .‬كالقرآف البلحؽ عمى زماف الكحي عندما يق أر أك يسمع أك‬
‫‪3‬‬
‫كىي نفس النتيجة التي انتيى إلييا صاحب المذىب الفقيي أبك حنيفة النعماف عندما‬ ‫يحفظ أك يكتب إنما يشكؿ قرأنا مخمكقا"‪.‬‬
‫أكصى بأف " نقر بأف القرآف‪ ،‬كبلـ ا﵀ تعالى غير مخمكؽ‪ ،‬ككحيو كتنزيمو ال ىك كال غيره بؿ صفتو عمى التحقيؽ (‪ )...‬القرآف مثؿ‬
‫كبلـ ا﵀ غير مخمكؽ‪ :‬إنو مكتكب في المصاحؼ‪ ،‬مقركء باأللسف‪ ،‬محفكظ في الصدكر‪ ،‬كغير حاؿ فييا‪ .‬كالحبر كالكاغد كالكتابة‬
‫مخمكؽ‪ ،‬ألنيا أفعاؿ العباد"‪ 4.‬كنفس التكجو نجده عند مؤسس مذىب فقيي آخر ىك الشافعي الذم كفٌر أحد األفراد المسمى حفص‬
‫قائبل‪" :‬القرآف ىك كممة ا﵀ غير المخمكقة‪ ،‬أما حفص (الفرد) فكافر"‪ 5.‬كسنرل أف ىذه المسألة قد انتقمت مف التفكير إلى التكفير‬
‫كخاصة بعد دخكؿ المكاقؼ السياسية إلى الحمبة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.361‬‬
‫‪2‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.370‬‬
‫‪3‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.394‬‬
‫‪4‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.396-395‬‬
‫‪5‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.1092‬‬

‫‪165‬‬
‫بالنسبة لمرازم (تكفي ‪ 606‬ق)‪ ،‬كالذم يمثؿ مرحمة األشعرية الفمسفية‪ ،‬فقد جيش جممة مف األدلة في مضادة شبيات المعتزلة‬
‫كغيرىا مف الفرؽ التي قالت بالخمؽ‪ .‬منيا قكلو لك كاف القرآف قديما‪ ،‬كىك ما يجب أف نقكلو‪ ،‬لكف بقاءه مضمكنا أبدا‪ ،‬كال يمكف أف‬
‫يتبادر إلى العامة امكانية فنائو بسبب ارتباطو بالخمؽ‪ .‬كىي فكرة نجدىا عند األشعرم أيضا في المقاالت كالممع‪ ،‬ثـ أف االعتراؼ‬
‫بالقدـ يقمؿ مف تيكيؿ مسألة الناسخ كالمنسكخ‪ .‬كذلؾ لماذا نعارض قدـ القرآف في حيف نقبؿ قدـ القدرة ؟‪ 1‬عمى الرغـ مف أنو ال فارؽ‬
‫بيف االثنيف‪.‬‬

‫كقد انتيت عقيدة قدـ القرآف‪ ،‬كعمى الرغـ مف االعتراؼ بكجكد ما نسميو القرآف المخمكؽ‪ .‬إلى نكع مف التصمب بحيث رفضت‬
‫كؿ مف ينكر حدكث القرآف كخمقو‪ ،‬كظير حكـ تكفير القائؿ بخمقو‪ .‬فقد كاف معاذ بف معاذ بف نصر األنبارم يرمي بالزندقة كؿ مف‬
‫يقكؿ بخمؽ القرآف‪ 2.‬بؿ انتقؿ المكقؼ مف الكبلـ كالتكفير النظرم‪ ،‬إلى الق اررات السياسية بحيث أكعز الخميفة‪ ،‬في مدينة الرم‪ ،‬عمى‬
‫تشديد العقكبة عمى مف يقكؿ بخمؽ القرآف‪ 3.‬كىك المكقؼ الذم سنجده‪ ،‬كلك بصكرة معاكسة فيما يعرؼ بمحنة الحنابمة‪ .‬لذا سنتطرؽ‬
‫إلى المشكمة الكبلمية المتعمقة بقدـ القرآف أك بخمقة كالمكقؼ السياسي منيا‪.‬‬

‫رابعا‪ -‬المشكمة الكالمية والموقف السياسي‪ :‬أو التاريخ السياسي لنظرية خمق القرآن‪.‬‬

‫لـ تبؽ مشكمة طبيعة القرآف محصكرة في الكتب الكبلمية‪ ،‬بؿ انتقمت إلى الجدؿ الذم تحكؿ إلى مسألة سياسية كقضية رأم عاـ‬
‫عندما تبنى الكزير كالقاضي إبف دؤاد المسألة في مكاجية الحنابمة النصييف‪ .‬كفرض ثبلثة خمفاء مف بني العباس ليذه النظرية كعقيدة‬
‫كتغرـ مف خالفيا‪ .‬فقد قاـ المأمكف كالمعتصـ كالكاثؽ بتبني ىذه العقيدة الكبلمية باعتبارىا عقيدة السمطة الحاكمة‪،‬‬
‫لمدكلة تمزـ الجميع ٌ‬
‫في حيف تبنى الخميفة البلحؽ ليـ العقيدة الحنبمية كاألشعرية كعاقب كؿ مف قاؿ بذلؾ‪ 4.‬ىنا تتحكؿ المسألة الفكرية إلى مسألة‬
‫سياسية ال تحتمؿ التفكير بقدر ما تخضع لق اررات سمطكية ال تناقش‪.‬‬

‫كقد تـ تسجيؿ محاضر تتضمف المحاكرات التي كقعت بيف اإلماـ أحمد بف حنبؿ كالمعتصـ كالقاضي ابف أبي دؤاد‪ .‬دارت في‬
‫مجمميا عمى مسألة اعتراض ابف حنبؿ عمى القكؿ بالخمؽ‪ .‬ففي حيف أظيرت كثائؽ الشرطة كالسمطة العباسية عدـ احتراـ ابف حنبؿ‬
‫ألصكؿ المناظرة كتعمده المطاكلة كعدـ االعتراؼ بالمنطؽ السميـ‪ ،‬تقدـ كثائؽ ابف حنبؿ كالمتعاطفيف معو مثؿ ابف أخيو منظكر‬
‫مخالؼ يركج الضطياد ا لسمطة السياسية لرجاؿ الفكر كالحديث‪ .‬فمثبل نجد الجاحظ‪ ،‬كىك المحسكب عمى العقبلنية اإلعتزالية‪ ،‬يذكر‬
‫في كتابو خمؽ القرآف حكار بيف القاضي كالمحدث‪" :‬قاؿ أحمد بف أبي دؤاد‪ :‬أليس ال شيء إال قديـ أك حديث ؟ قاؿ‪ :‬نعـ‪ .‬قاؿ‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫فخر الديف الرازم‪ :‬خمؽ القرآف بيف المعتزلة كأىؿ السنة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.71-70‬‬
‫‪2‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.565‬‬

‫‪3‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.945‬‬
‫‪4‬‬
‫محمد عابد الجابرم‪ :‬مدخؿ إلى القرآف الكريـ‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬في التعريؼ بالقرآف‪ ،‬مركز دراسات الكحدة العربية‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة‬
‫األكلى‪ ،2006 ،‬ص ‪.19‬‬

‫‪166‬‬
‫أكليس القرآف شيء ؟ قاؿ‪ :‬نعـ‪ .‬قاؿ‪ :‬أكليس قديـ إال ا﵀ ؟ قاؿ‪ :‬نعـ‪ .‬قاؿ‪ :‬فالقرآف إذف حديث‪ .‬قاؿ‪ :‬ليس أنا متكمـ"‪ 1.‬كىذه الشيادة‬
‫تدؿ عمى تعنت ابف حنبؿ في الحكار كرفضو مسايرة المنطؽ السميـ‪ .‬في حيف أننا نجد شيادات مخالفة لمنطؽ السمطة تثبت العكس‪.‬‬
‫فمف بيف النصكص المنقكلة حكؿ حكار ابف حنبؿ كابف أبي دؤاد‪:‬‬

‫"ابف حنبؿ‪ :‬حكـ كبلـ ا﵀ كحكـ عممو‪ ،‬فكما ال يجكز أف يككف عممو محدثا كمخمكقا فكذلؾ ال يجكز أف يككف كبلمو مخمكقا كمحدثا‪.‬‬
‫(سيأخذ األشعرم كالرازم بيذه الحجة كما أظيرنا أعبله)‬

‫ابف أبي دؤاد‪ :‬أليس قد كاف ا﵀ يقدر عمى أف يبدؿ آية كينسخ آية بآية كأف يذىب بيذا القرآف كيأتي بغيره ككؿ ذلؾ في الكتاب‬
‫المسطكر‪.‬‬

‫ابف حنبؿ‪ :‬نعـ‪.‬‬

‫ابف أبي دؤاد‪ :‬فيؿ كاف يجكز ىذا في العمـ ؟ كىؿ كاف جائ از أف يبدؿ عممو كيذىب بو كيأتي بغيره‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫ابف حنبؿ‪ :‬ال"‪.‬‬

‫ربما يحؽ لنا التساؤؿ عف األسباب الداعية إلى تبني المأمكف لعقيدة خمؽ القرآف ؟ كلئف أثرنا في محاضرة سابقة سبب ظيكر‬
‫المحنة في زمف المأمكف‪ ،‬كلئف رأينا اختبلؼ اآلراء حكؿ فرضية الترجمة‪ .‬إذ ىناؾ مف افترض معارضة اإلماـ أحمد بف حنبؿ‬
‫لمسمطة عائد إلى منافسة العم كـ الدخيمة لمعمكـ المحمية بعد الحركة التي أطمقيا الخميفة لترجمة العمـ اإلغريقي‪ .‬عمى الرغـ مف أف‬
‫المستشرقيف المتخصصيف في الترجمة في العيد العباسي قد فصمكا بيف ىذه كتمؾ‪ ،‬مثؿ رأم ديمترم غكتاس (‪ /1945‬؟)‪ .‬بالنسبة‬
‫ألحمد أميف‪ ،‬فإف المستكل العقمي كالثقافي لممأمكف‪ ،‬كككنو مكلعا بالحكمة العقمية‪ ،‬ىك ما يتطابؽ كمية مع عقبلنية المعتزلة‪ .‬لذا فإف‬
‫تبنيو لعقيدة خمؽ القرآف مرتبط بقناعتو العممية‪ 3.‬فالنظر العقمي الخالص مف أم خمفية عقائدية أك نصية يصؿ إلى أحقية نظرية‬
‫خمؽ القرآف‪ .‬مما يعني أف القناعة المعرفية ىي التي دفعت المأمكف كالخمفاء البلحقيف إلى تبني ىذه النظرية كمحاكلة جعميا عقيدة‬
‫لمدكلة‪ .‬كعمى الرغـ مف كجكد مستشاريف لممأمكف قد عارضكا اعتناقو عقيدة مذىب كبلمي دكف آخر تحقيقا لكسيطة الدكلة مثؿ ما‬
‫رآه يحي بف األكثـ‪ ،‬لكف يبدك أف أثر القاضي كالفقيو ابف أبي داؤد عمى المأمكف كاف أقكل‪.‬‬

‫ال تتمثؿ المشكمة في تبني خميفة ما عقائد كبلمية معينة‪ ،‬بؿ في العمؿ عمى فرضيا بحد السيؼ كطغياف القانكف عمى البقية‪.‬‬
‫كبالفعؿ‪ ،‬فإف تحكؿ مسألة كبلمية كعممية خالصة إلى محنة ليا داللة ىامة عند العامة‪ .‬فقد "انطمقت المحنة سنة ‪ 218‬ىػ ‪ 833 /‬ـ‬
‫مع نياية خبلفة المأمكف كانتيت ‪ 234‬ىػ ‪ 848/‬ـ أم بعد حكالي ‪ 15‬سنة‪ .‬ككاف طابعيا األساسي يتمثؿ في رغبة الخميفة في‬
‫فرض عقيدة المعتزلة عمى عمماء الديف كمكظفي الدكلة كىي عقيدة تقكؿ بخمؽ القرآف ال بقدمو‪ .‬فتعرض الكثير مف أىؿ الفقو‬

‫‪1‬‬
‫الجاحظ‪ :‬خمؽ القرآف‪ ،‬منشكرات الجمؿ‪ ،‬ككلكنيا‪ ،2000 ،‬ص ‪.181‬‬
‫‪2‬‬
‫أحمد محمكد صبحي‪ :‬في عمـ الكبلـ‪ -‬دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف‪ ،‬الجزء األكؿ‪ :‬المعتزلة‪ ،‬دار النيضة‬
‫العربية‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة الخامسة‪.138 ،1985 ،‬‬
‫‪3‬‬
‫أحمد أميف‪ :‬ضحى اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثالث‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.163‬‬

‫‪167‬‬
‫كالقضاء كاالفتاء كغيرىـ إلى السجف بؿ إلى التعذيب‪ .‬فضبل عف أف كؿ مف رفض القكؿ بخمؽ القرآف‪ ،‬عد غير أىؿ لمشيادة في‬
‫المجمس ككاف القاضي ابف أبي دؤا د ىك مف نفذ رغبة الخميفة‪ .‬كيعتبر كجكد عدد مف عمماء الفقو يساندكف عقيدة خمؽ القرآف‬
‫كآخركف يعارضكنيا دليبل عمى أف خمفاء المحنة لـ تراكدىـ رغبة في تحدم السمطة الفقيية لعمماء الديف‪ .‬حاؿ نيضت نياية المحنة‬
‫السريعة نسبيا شاىدا عمى طبيعتيا غير العادية كاالستثنائية كما أكدت عجز أصحاب النفكذ عف التحكـ في المؤسسة الدينية‬
‫كطبيعتيا التقميدية فعاد تيار أىؿ الحديث بقكة أكبر"‪ 1.‬ككأف مكقؼ خمفاء بني العباس زمف المحنة كاف شاذا بالنظر إلى تقاليد‬
‫اإلسبلـ السباقة التي ال تربط العممي أك الفقيي بالسياسي‪.‬‬

‫تشكؿ حزباف في بغداد‪ ،‬حزب العامة متكجا بعمماء الحديث كالفقو كحزب السمطة مدعكما ببعض المعتزلة كالفقياء كرجاؿ‬
‫القانكف ممف ليـ سمطة ا لقرار كالتنفيذ‪ .‬كسرعاف ما أصبح العامة مقتنعكف أنيـ أماـ سمطة جائرة تفرض العقائد بحد السيؼ‪ ،‬عمى‬
‫الرغـ مف أف التقاليد اإلسبلمية لـ تعرؼ ىذا التقييد العممي إطبلقا‪ .‬إذ كاف الفقو كالحديث كاألصكؿ يتشكمكف ببل أم قرار سياسي‪،‬‬
‫كاألمكر العممية كانت مربكطة بالتقدير الحر لمعمماء‪ .‬كالحؽ أف كممة "المحنة" التي انتشرت في كتب تاريخ الفقو كالكبلـ‪ ،‬كالتي‬
‫تبناىا العامة‪ ،‬تدؿ عند األكثرية عمى ما عناه اإلماـ أحمد بف حنبؿ مف السمطة‪ ،‬لكنيا مف الناحية المكضكعية‪ ،‬تدؿ المحنة عمى‬
‫اإلمتحاف كاإلختبار الذم تعرض لو‪ .‬لعؿ العامة كاألقربيف‪ ،‬قد ماثمكا بيف ما مر بو األنبياء كالرسؿ مف محف كما مر بو اإلماـ أحمد‪.‬‬
‫كقد رأينا أف بعض المؤرخيف لـ يعتبركا ابف حنبؿ مظمكما بالكمية‪ ،‬بقدر ما تعصب كاستطاؿ الحكار كالنظر أماـ الخمفاء بضرب مف‬
‫التعصب كالمراكغة‪ .‬فقد مثؿ العديد مف الفقياء غير أحمد أماـ المأمكف‪ ،‬كما كاف ليـ إال أف يعترفكا بعقيدة خمؽ القرآف كخمي سبيميـ‬
‫دكف أم مضايقة‪ 2.‬لذا فإف المحنة ىي نتيجة تعنت ابف حنبؿ كصبلبة مكاقفو أماـ المعتصـ الذم ناظره شخصيا في مسألة خمؽ‬
‫القرآف‪.‬‬

‫بعد عقكد قميمة مف فرض عقيدة خمؽ القرآف‪ ،‬تشكؿ مكقؼ عممي كعامي ضد السمطة باعتبارىا تتدخؿ فيما ال يجب التدخؿ‬
‫فيو‪ .‬كبعد خبلفة المعتصـ كالكاثؽ الذم اعتبر مأمكنا أصغ ار اذ اعتقد بخمؽ القرآف‪ ،‬كصمت خبلفة المتككؿ ‪ 232‬ق الذم لـ يكف‬
‫متحمسا ليذه العقيدة‪ ،‬فأبطؿ االمتحانات التي كانت تجرل لمعمماء كالفقياء كالمحدثيف المعارضيف لعقيدة الخمؽ‪ ،‬فقرر اعادة عقيدة‬
‫أىؿ السنة كالسمؼ‪ ،‬كألغى كؿ المراسبلت كالق اررات المعمكؿ بيا طيمة خبلفة الخمفاء الثبلثة السابقيف عميو‪ .‬كتـ اضعاؼ الرأم‬
‫كتغميب أىؿ الحديث كالمأثكر‪ .‬كفي منتصؼ القرف الثالث انتصر أىؿ الحديث عمى أىؿ الرأم أم الكبلـ اإلعتزالي‪ .‬ك"مثمت اليزيمة‬
‫النيائية ألىؿ الرأم نياية المحنة (خمؽ القرآف أـ قدمو ؟ بيف ‪ 234/218‬ق‪ 848/833 -‬ـ) كظيكر ضحاياىا بمظير األبطاؿ كفي‬
‫مقدمتيـ أحمد بف حنبؿ‪ .‬كمع ىذه اليزيمة ساد اعتراؼ ضمني بأف التفكير البشرم ال يمكف أف يقكـ بذاتو طريقة مركزية ال حصرية‬
‫في التأكيؿ‪ -‬فما بالؾ أف يككف طريقة حصرية مستقمة‪ .‬فكاف في النياية خاضعا لمكحي‪ .‬ككذا قادت المحنة الصراع إلى ذركتو بيف‬
‫حركتيف متعارضتيف "أىؿ الحديث" الذم اعتبركا ابف حنبؿ بطبل في قضيتو مف ناحية كأىؿ الرأم بقيادة الخمفاء كالمعتزلة كمف‬

‫‪1‬‬
‫كائؿ حبلؽ‪ :‬نشأة الفقو اإلسبلمي كتطكره‪ ،‬ترجمة رياضي الميبلدم‪ ،‬دار المدار اإلسبلمي‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2007 ،‬ص‬
‫‪.263‬‬

‫‪2‬‬
‫أحمد أميف‪ :‬ضحى اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثالث‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.170‬‬

‫‪168‬‬
‫‪1‬‬
‫كمف ىذا التاريخ بدأت عقائد االعتزاؿ في اإلنكماش‪ .‬كقد صدؽ الدكتكر محمد أرككف‬ ‫بينيـ الكثير مف الحنفية مف ناحية ثانية"‪.‬‬
‫عندما ربط صعكد االعتزاؿ كنزكليـ بق اررات سمطكية‪ .‬إلى جانب عجز العامة عف مسايرة عقائدىـ العقمية التي تتنافى مع العقائد‬
‫الكسطية األقؿ عقبلنية كاألقؿ صرامة‪ .‬ألف الديف في النياية رجاء كأمؿ كليس عمـ خالص يقيد الركح كالفكر‪.‬‬

‫استنتاج‪.‬‬

‫ترتبط مسألة قدـ كخمؽ القرآف بمسائؿ كبلمية أخرل‪ ،‬منيا مسألة التكحيد حيث أف اعتقاد رجاؿ االعتزاؿ بأف القكؿ بقدـ القرآف‬
‫ال يتبلءـ مع عقدة التكحيد التي تقر بأف ال قديـ مع ﵀‪ .‬كما أنيا ترتبط بمسألة حرية اإلنساف‪ ،‬ألف اثبات قدـ القرآف يعني أف أفعاؿ‬
‫اإلنساف محددة سمفا كبأف التاريخ قد قيدر قبؿ خمؽ العالـ كىذا ييسقط التكميؼ كتنيار العدالة اإلليية معو‪ .‬بؿ نجد في تاريخ الكبلـ‬
‫اإلسبلمي مف يتحدث عف مسألة جانبية لمسألة قدـ كخمؽ القرآف‪ ،‬كىي سألة قدـ كخمؽ كبلـ اإلنساف ذاتو‪ .‬ففي السياؽ الجيمي نجد‬
‫أنو يربط كؿ ما يقكـ بو اإلنساف مف حركات كسكنات‪ ،‬كاألجدر أنيا التفكير كالكبلـ النفسي مثبل‪ ،‬تعكد إلى ا﵀‪ ،‬كبالتالي يككف كبلـ‬
‫اإلنساف قديـ‪ .‬في حيف اف المعتزلة تقر بحريتو في خمؽ األفعاؿ كالكبلـ‪.‬‬

‫مرنت العقؿ اإلسبلمي كجعمتو يبحث كيؤكؿ‬


‫نعتبر النقاش الذم دار حكؿ مسألة خمؽ أك قدـ القرآف مثمر مف عدة كجكه‪ ،‬فقد ٌ‬
‫كيبني الفرضيات‪...‬الخ‪ .‬كلكال تخمؿ ىذا النقاش بعض المكاقؼ الحدية التي تكفر كتمعف‪ ،‬سكاء مف ىذا الطرؼ أك مف ذاؾ‪ .‬لكنت‬
‫تجربة فكرية ايجابية بالكامؿ‪ .‬كالغريب أف األشعرم‪ ،‬في كتابو المنسكب لو بعنكاف استحساف الخكض في عمـ الكبلـ‪ ،‬قد رفض تكفير‬
‫"لـ لـ تسكتكا عمف قاؿ بخمؽ القرآف كلً ىـ كفرتمكه كلـ يرد‬
‫مف قاؿ بالخمؽ‪ ،‬عمى الرغـ مف أنو أكبر مف رفض ىذه النظرية‪ .‬يقكؿ‪ :‬ى‬
‫عف النبي (ص) حديث صحيح في نفي خمقو كتكفير مف قاؿ بخمقو‪ .‬فإف قالكا‪ :‬ألف أحمد بف حنبؿ (ض) قاؿ بنفي خمقو كتكفير‬
‫مف قاؿ بخمقو‪ ،‬قيؿ ليـ‪ :‬كلـ لـ يسكت أحمد عف ذلؾ بؿ تكمـ فيو ؟ فإف قالكا ‪ :‬ألف العباس العنبرم كككيعا كعبد الرحمف بف ميدم‬
‫كفبلنا فبلنا قالكا إنو غير مخمكؽ‪ ،‬كمف قاؿ إنو مخمكؽ فيك كافر‪ .‬قيؿ ليـ‪ :‬كلـ لـ يسكت أكلئؾ عما سكت (ص) فإف قالكا‪ :‬ألف‬
‫عمرك بف دينا ر كسفياف بف عييبة كجعفر بف محمد (ض) كفبلنا كفبلنا قالك‪ :‬ليس بخالؽ كال مخمكؽ‪ .‬قيؿ ليـ‪ :‬كلـ لـ يسكت أكلئؾ‬
‫عف ىذه المقالة‪ ،‬كلـ يقميا رسكؿ ا﵀ (ص) ؟"‪ 2‬نعتقد بأف ىذا المنطؽ سميـ عمى أساس أف مف يكفر فقد كقع في البدعة التي كقع‬
‫فييا مف كفركىـ‪ ،‬ألف الرسكؿ لـ يكفر أحدا‪ .‬لذا فإف التفكير ال يمكف أف ينمك في عقبلنية التكفير‪ .‬أما اإلجراءات التي عمؿ بيا‬
‫المأمكف كالمعتصـ كالمتككؿ‪ ،‬فإنيا تنافي كمية مع عممانية الدكلة كتكفير جك الحرية الفكرية‪ .‬كالحؽ أف المناخ الفكرم في القرف‬
‫الثالث لميجرة‪ ،‬المكافؽ لمقرف العاشر لمميبلد‪ ،‬لـ يكف يعرؼ بعد ىذه الحرية‪ ،‬إنيا الفكرة المستحيؿ التفكير فييا أنذاؾ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫كائؿ حبلؽ‪ :‬نشأة الفقو اإلسبلمي كتطكره‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.179‬‬
‫‪2‬‬
‫أبك الحسف األشعرم‪ :‬رسالة استحساف الخكض في عمـ الكبلـ‪ ،‬دار المشاريع لمطباعة كالنشر كالتكزيع‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪،‬‬
‫‪ ،1990‬ص ‪.50 -49‬‬

‫‪169‬‬
‫المحاضرة التاسعة‪ :‬مشكمة التنزيو (الذات والصفات اإلليية)‪.‬‬

‫مقدمة‪.‬‬

‫يكصؼ البلىكت عمكما بأنو عمـ سالب‪ ،‬أم يقدـ الصفات اإلليية تقديما سمبيا نظ ار لعجزه عف إدراؾ حقيقة الذات اإلليية‪ ،‬لذا‬
‫نجده يقدميا عمى أساس أنيا ال تشبو أم شيء‪ ،‬كليست مادية‪ ،‬كال يمكف أف تككف مثمنا‪ ،‬كال يمكف معرفتيا عمى كجو الدقة‪...‬الخ‪.‬‬
‫كىذه الطريقة السمبي ة في معرفة ا﵀ تكشؼ عف عدـ انسجاـ كمي بيف بنية العقؿ البشرم المحدكدة كالذات اإلليية غير المحدكدة‪.‬‬
‫كفي عممية التنزيو التي نسمكيا مف أجؿ معرفة ا﵀‪ ،‬نقع في ما أسماه عمماء األدياف بالبلىكت السالب‪ 1،‬ألننا نعمد إلى تقديـ حقيقية‬
‫الذات اإلليية تقديما خاؿ مف أم تحديد كضعي أك ايجابي‪ .‬كالحؽ أف الفمسفة الكضعية‪ ،‬التي تعني حرفيا اإليجابية أك‬
‫اإليجابكية ‪ ، positivisme‬قد تسمت بيذا االسـ في مقابؿ الفمسفة السمبية التي تحدد المعرفة بالسمكب كالنفي أم ىي فمسفة البل‪.‬‬
‫لكف ىؿ ىذا يعني أف الديانات التجسيمية تمثؿ البلىكت المكجب ؟ يبدك أف تجسيد المقدس في صكرة محددة كأشكاؿ معينة يدؿ‬
‫عمى سيككلكجية االقتناع بالمحدد‪ .‬فاإلنساف‪ ،‬مياؿ إلى قبكؿ المحدد الناقص كالتشكؾ في البلمحدكد الكامؿ‪ ،‬عمى اعتبار أنو عاجز‬
‫عف تحديد البلمحدد بالذات‪.‬‬

‫إلى أيف نصنؼ الديف اإلسبلمي بالنظر إلى خاصية البلىكت السالب كالبلىكت المكجب ؟ سؤاؿ البد منو عمى أساس أف‬
‫إثبات الصفات يكقع في المحدكدية كالتجسيمية‪ ،‬كنفييا يؤدم إلى الكقكع في تصكر عدمي ﵀‪ .‬كفي كبل النيجيف تتأزـ قضية حقيقية‬
‫األلكىية بالنسبة لئلنساف‪ .‬كقد يذكر بأف رجبل استمع إلى حديث شخصيف عف صفات ﵀‪ ،‬فقاؿ لمكاحد أنت تعبد صنما كلآلخر أنت‬
‫تعبد كثنا‪ 2.‬كىذه ىي مآالت البلىكت المكجب الذم يذكر الصفات مما يكحي بالصنمية كالبلىكت السالب الذم ينفي الصفات فيقع‬
‫في العدمية‪ .‬كلـ تشذ الفرؽ الكبلمية عف ىذيف الخياريف‪ ،‬ألف المتكمميف بشر مثؿ الجميع ليـ خبرات سابقة عف العممية الخالصة‬
‫تتسرب إلييـ دكف شعكر‪ ،‬كألف النصكص القرآنية ذاتيا مبنية عمى أساس اثبات صفات ذاتية ﵀ تتطابؽ مع ما نعرفو عف صفات‬
‫الفرؽ التجسيمية ك ً‬
‫الفرؽ التنزييية‪ ،‬طرح بعض فبلسفة اإلسبلـ سؤاؿ إمكانية القبض عمى اليكية اإلليية في حقيقتيا‪،‬‬ ‫البشر‪ .‬كبيف ً‬

‫عمى أساس العقؿ البشرم مزكد بأطر محددة ال يمكف أف يتجاكزىا كال يمكف أف يعرؼ بمعزليا أم شيء‪ ،‬ثـ أف حدكد العقؿ الخالص‬
‫مرتبطة بمقكالت الزماف كالمكاف‪ ،‬إذ ال يمكف أف يعرؼ إال ما ىك كاقع فييما باعتبارىما أطر قبمية بمغة كانط (‪ ،)1804/1724‬مما‬
‫ينتج استحالة دخكؿ الكجكد اإلليي في الخبرة ا لبشرية‪ ،‬نظ ار لخركجو عف التزمف كالتمكف‪ .‬ما عدا ما يمكف اعتبارىا مصد ار سمعيا‬
‫مقدسا مثؿ النصكص الدينية اإلخبارية‪ .‬كقد كشؼ فخر الديف الرازم (تكفي ‪ 606‬ق) بأف محدكدية الفيـ البشرم تقؼ عائقا أماـ‬

‫‪1‬‬
‫داريكش شايغاف‪ :‬ما الثكرة الدينية ؟ الحضارات التقميدية في مكاجية الحداثة‪ ،‬ترجمة محمد الرحمكني‪ ،‬المؤسسة العربية لمتحديث‬
‫الفكرم كدار الساقي‪ ،‬جنيؼ كبيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2004 ،‬ص ‪.57‬‬

‫‪2‬‬
‫أيك حياف التكحيدم‪ :‬اإلمتاع كالمؤانسة‪ ،‬الجزء الثالث‪ ،‬مكفـ لمنشر‪ ،‬الجزائر‪ ،1989 ،‬الميمة ‪ ،38‬ص ‪ .229‬تناظر رجبلف في‬
‫كصؼ البارم سبحانو‪ ،‬كاشتد بينيما الجداؿ‪ .‬فتراضيا بأكؿ مف يطمع عمييما كيحكـ بينيما‪ .‬فطمع أعرابي (‪ )...‬ككصفا لو مذىبييما‪:‬‬
‫فقاؿ األعرابي‪ :‬أما انت فتصب صنما‪ ،‬كقاؿ لمثاني كأما أنت فتصؼ عدما‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫معرفة حقيقة األلكىية البلمحدكدة‪ 1.‬فبل يمكف لمعقؿ البشرم أف يحيط بمككنات الذات اإلليية إال ما أخبره ا﵀ عز كجؿ‪ ،‬كحتى في‬
‫ىذا اإلخبار تتعمؽ الكممات‪ ،‬في ذىف اإلنساف‪ ،‬بخبرة حسية شخصية ال يمكف أف تحقؽ اإلجماع المطمكب بيف الجميع‪ .‬كحتى في‬
‫السياقات المسيحية‪ ،‬فقد اعتقد "نيقكالس الككزم بأف ا﵀ ال يمكف أف ييدرؾ بالذىف"‪ 2.‬فقدراتنا المحدكدة كالمبنية كفؽ أطر مشركطة ال‬
‫يمكف ليا القبض عمى تصكر ببل شركط كببل حدكد‪ .‬بؿ أف استشكاؿ مسألة قدرة البشر عمى تمثؿ المقدس كانت مطركحة منذ‬
‫القدامة اإلغريقية‪ ،‬حيث كشؼ الشاعر المتجكؿ اإليمياتي كزينكفاف (ؽ ‪ 5‬ؽ ـ)‪ ،‬كالذم يعتبر أب التنزيو الثيكلكجي بحؽ‪ ،‬بأف معرفة‬
‫األلكىية متعذرة بالنسبة لمبشر‪ ،‬نظ ار لعدـ تطابؽ أم تصكر ﵀ مع التصكر اآلخر‪ ،‬فالكؿ يعتقد أنو يمتمؾ الصكرة األصمية كالحقيقة‬
‫لئللو‪ .‬في حيف أف ا﵀ شيء آخر كمية كمختمؼ جذريا عف تمثبلت البشر‪ ،‬لذا فبل يمكف لمفاف أف يدرؾ الخالد ادراكا صافيا مف كؿ‬
‫إنسية كحسية كمحدكدية‪ 3.‬كبعد قرنيف مف كزينكفاف قاؿ الفيمسكؼ بركتاغكراس (ؽ ‪ 4‬ؽ ـ) بأف مكضكع األلكىية صعب جدا عمى‬
‫قدرات البشر بسبب عدـ كضكح المكضكع كقصر حياة اإلنساف ! كيظير ذلؾ مف خبلؿ الشذرة المخمفة لو‪" :‬أما فيما يتعمؽ باآللية‪،‬‬
‫فبل أستطيع أف أعرؼ إف كانت مكجكدة أك غي ر مكجكدة‪ ،‬أك طبيعة شكميا؛ فكثيرة ىي العكائؽ التي تحكؿ دكف ىذا العمـ‪ ،‬غمكض‬
‫المكضكع مف جية كقصر حياة اإلنساف مف الجية الثانية"‪ 4.‬لكننا‪ ،‬في عمـ الكبلـ‪ ،‬ال يجب مقاربة مسألة حقيقة الصفات اإلليية‬
‫مثمما قاربيا الفبلسفة بخاصة الكثنييف أك الممحديف‪ ،‬إذ أظيرنا أف منيج المتكمـ ليس كمنيج الفيمسكؼ‪ ،‬ثـ أف اإلغريؽ القدامى لـ‬
‫يكف ليـ كتابا مقدسا يخبرىـ عف حقيقة األلكىية في التفاصيؿ‪ ،‬بقدر ما امتمككا قصائد شعرية تصكر اآللية في أبشع الصكر‪ ،‬كىذا‬
‫بالذات السبب الذم دفع كزنكفاف إلى نقد الصكر الحسية كالبلأخبلقية التي اعتقدىا اليكناف جراء نصكص ىكميركس‪ .‬في عمـ الكبلـ‬
‫اإلسبلمي نجد نص تأسيسي أساسي يخبرنا عف صفات ا﵀ كخصالو كأسمائو كذاتو‪ .‬لكنو اإلخبار الذم سيؤدم إلى مشكبلت تتعمؽ‬
‫بما أسميناه في البداية بالبلىكت السالب كالبلىكت المكجب‪.‬‬

‫كقد كشؼ ابف خمدكف‪ ،‬في تأريخيو لمشكبلت الكبلمية‪ ،‬أف آيات القرآف المتعمقة بالذات اإلليية كصفاتو قد أدت إلى انقساـ فيكـ‬
‫عمماء الكبلـ إلى األقساـ التالية‪:‬‬

‫"أكال‪ -‬رأم السمؼ‪ :‬غمٌبكا أدلة التنزيو‪ .‬بسبب كثرة آيات التنزيو كقمة آيات التشبيو‪ ،‬كأيضا لكضكح داللة آيات التنزيو‪ ،‬كىي آيات‬
‫تغرؽ القارئ في تأكيؿ أك تأكيؿ مضاد‪.‬‬
‫سمكب (ليس كمثمو شيء‪ /‬كلـ يكف لو كفؤا أحد) كميا كصريحة في بابيا‪ ،‬كال ٌ‬

‫ثانيا كثالثا‪ -‬قمة مف المبتدعة كىـ فرقتاف‪( :‬منيا المعتزلة‪ ،‬كىنا نبلحظ المكقؼ العدائي إلبف خمدكف تجاه اإلعتزاؿ بسبب انتمائو‬
‫األشعرم)‬

‫‪1‬‬
‫فخر الديف الرازم‪ ،‬األربعيف في أصكؿ الديف‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬دار الجيؿ‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2004 ،‬ص ‪.149‬‬
‫‪ 2‬داريكش شايغاف‪ :‬ما الثكرة الدينية ؟ الحضارات التقميدية في مكاجية الحداثة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.59‬‬
‫‪3‬‬
‫‪John Burnet: l'aurore de la philosophie grecque, traduit par Aug. Reymond, édition PAYOT, Paris,‬‬
‫‪1919, p 133-135.‬‬
‫‪4‬‬
‫‪Gilbert Romeyer Dherbey: les Sophistes, Presses universitaires de France, 4eme édition, Paris,‬‬
‫‪1995, p 9. "Au sujet des dieux, je n'ai aucun savoir, ni qu'ils sont, ni qu'ils ne sont pas, ni quelle est‬‬
‫‪leur manifestation. Nombreux sont en effet les empêchements à le savoir: leur caractère secret et le‬‬
‫‪fait que la vie de l'homme est courte".‬‬
‫‪171‬‬
‫فرقة تكغمت في التشبيو الصريح مخالفة بذلؾ آم التنزيو المطمؽ‪( .‬غبلة المشبية خاصة)‬ ‫‪‬‬

‫فرقة حاكلت التكفيؽ بيف آيات التشبيو كآيات التنزيو كذلؾ بتأكيؿ آيات التشبيو‪ .‬فالبعض تعاممكا مع اآليات التي‬ ‫‪‬‬
‫تنسب إلى ا﵀ أبعض الجسـ اإلنساني (اليد كالقدـ كالكجو) بأف أكلكىا بقكليـ‪ :‬جسـ ال كاألجساـ؛ كآخركف أكلكا اآليات‬
‫التي تصؼ ا﵀ بأكصاؼ تتضمف امتبلكو لجسـ إنساني مثؿ "الجية كاالستكاء كالنزكؿ كالصكت السمع" لتعني صكت‬
‫ال كاألصكات‪ ،‬كجية ال كالجيات‪ ،‬كتزكال ال كالنزكؿ"‪ 1.‬كىنا يقصد األشعرية التي تكصؼ عمكما باالعتداؿ بالنسبة‬
‫لو كبالنسبة لكؿ األزماف ككؿ التيارات)‬

‫يظير أف ابف خمدكف لـ يقـ بتكصيؼ الكضعية تكصيفا مكضكعيا أك ظكاىريا‪ ،‬بقدر ما انحاز إلى فرقة بعينيا‪ .‬كبالنسبة لنا‬
‫فيذا مبرر جدا عمى اعتبار انتمائو إلى عقيدة األشاعرة كاستحسانو منطؽ الغزالي الذم يكازف بيف السمع كالعقؿ‪ .‬كقد تك ٌشؼ لنا في‬
‫المحاضرة األكلى بأف تعريؼ عمـ الكبلـ كاف دائما مف منطمقات كبلمية كانتماءات فرقية مما شكؿ تعريفات مختمفة كمتضاربة‬
‫أحيانا‪ .‬كبالتالي فإف تصنيؼ الفرؽ تصنيفا عمميا ال يتأتى لمف لو انتماء‪ .‬فقط الدراسات الكبلمية المعاصرة‪ ،‬عند البعض‪ ،‬تمكنت‬
‫مف رؤية ال مشيد عمى حقيقتو بسبب عدـ االنتماء المذىبي بالمعنى التقميدم‪ .‬كما استعانتنا بالدراسات اإلستشراقية في عمـ الكبلـ‬
‫مثؿ دراسة كلفسكف أك فاف ايس‪ ،‬إال مف ىذا الجانب‪ ،‬أم أنيـ منعدمي االنتماء‪ ،‬عمى الرغـ مف تحيز البعض لعمـ الكبلـ المسيحي‬
‫مثؿ كلفسكف‪ .‬إال أنيـ في الغالب قدمكا دراسات اكاديمية تصؼ المشيد بمعزؿ عف القناعات الشخصية‪ .‬كىذا األخير‪ ،‬أم كلفسكف‪،‬‬
‫ٌقيـ تقسـ ابف خمدكف كفؽ القكؿ التالي‪" :‬يجب القكؿ إف ىذا التفسير ال يتطابؽ إال تطابقا جزئيا مع نجده في القرآف بالفعؿ‪(.‬أم قمة‬
‫آيات التشبيو مقارنة بآيات التنزيو) حقا‪ ،‬أف القرآف يشتمؿ آيات تنزيو‪ .‬لكف ليست بأكثر مف تمؾ اآليات التي تتضمف التشبيو‪ .‬آيات‬
‫تتضمف التشبيو الغميظ أم باعتقاد اليد كالقدـ كالكجو‪ .‬يقكؿ ابف خمدكف أف السمؼ سممكا بآيات التشبيو‪ ،‬فمـ يتعرضكا لمعناىا بتأكيؿ‪،‬‬
‫ألنيـ عممكا استحالة التشبيو كقضكا بأف اآليات مف كبلـ ا﵀ فآمنكا بيا كلـ يتعرضكا لمعناىا ببحث كال تأكيؿ‪ .‬كيرفض ابف خمدكف‬
‫ىذا المنيج (منيج القكؿ بأف ا﵀ شيء ال كاألشياء) محتجا بأف صيغة مف قبيؿ جسـ ال كاألجساـ ىي خرؽ لمبدأ عدـ التناقض‪ :‬أم‬
‫ا﵀ مثؿ غيره مف األشياء كليس مثميا كذلؾ"‪ 2.‬فالمنطؽ السميـ ال يقبؿ أف يككف ا﵀ جسـ لكف ال كاألجساـ‪ ،‬عمى أساس أننا نمتمؾ‬
‫خبرة محددة ككاحدة حكؿ جسمية الجسـ أك شيئية الشيء‪ .‬كبالتالي فإف ككف ا﵀ جسـ ال يمكف أف يككف ال كاألجساـ‪.‬‬

‫مما سبؽ يمكف لنا تحديد مشكبلت المحاضرة المخصصة لمكضكع حقيقية الذات اإلليية بيف التشبيو كالتنزيو‪ .‬كفي تقديرنا أف‬
‫المشكمة متأتية مف مصدريف أساسييف‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫عبد الرحمف بف خمدكف‪ :‬المقدمة‪ ،‬تضبط كشرح محمد اإلسكندراني‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،1998 ،‬ص‬
‫‪.429-428‬‬

‫‪2‬‬
‫ىارم‪ .‬أ‪ .‬كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬ترجمة مصطفى لبيب عبد الغاني‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬المركز القكمي لمترجمة‪،‬‬
‫القاىرة‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2005 ،‬ص ‪.52-51‬‬

‫‪172‬‬
‫أكال‪ -‬الخبرة الدينية الكثنية‪ :‬نفترض أف القرآف الكريـ قد خاطب "الكعاء المتمقي األكؿ"‪ ،‬كنقصد بو الرسكؿ الكريـ ككؿ مجتمع مكة‪،‬‬
‫بما يتكافؽ مع خبرتيـ الدينية‪ .‬كىي الخبرة الكثنية التي تجسـ المقدس‪ .‬فمـ يكف المجتمع الجاىمي ليفيـ المقدس إال مف خبلؿ الخبرة‬
‫الحسية‪ .‬كبالتالي فيناؾ تكاصؿ بيف التصكر القديـ كالتصكر الجديد عمى أساس كجكد صفات محددة بيا يتـ فيـ المقدس الجديد‪ .‬أم‬
‫أنو لك قدـ القرآف خطاب تنزييي بالمطمؽ لظير لممتمقيف األصمييف بأنو خطاب غير مفيكـ كال يمكف استيعابو‪ .‬فالجديد دائما ما‬
‫يتعمؽ بجزئيات مف النظاـ القديـ لكي يككف مدلكؿ يحتمؿ االقتناع‪.‬‬

‫ثانيا‪ -‬بنية الخطاب القرآني‪ :‬مثمما الحظ ابف خمدكف‪ ،‬فإف القرآف يحتكم عمى آيات تكحي بصفات محددة كمحسكسة كآيات سالبة‬
‫ألم تشبيو حسي‪ .‬كعندما سأؿ الغزالي في رسالة اإللجاـ عف سبب عدـ كركد كؿ آم القرآف منزىة قاؿ‪" :‬لماذا لـ يذكر بألفاظ ناصة‬
‫عمييا بحيث ال يكىـ ظاىرىا جيبل كال في حؽ العامي كالصبي ؟" أجاب‪" :‬قمنا ألنو إنما كمـ الناس بمغة العرب‪ ،‬كليس في لغة‬
‫العرب ألفاظ ناصة عمى تمؾ المعاني‪ ،‬فكيؼ يككف في المغة نصكص ككاضع المغة لـ يفيـ تمؾ المعاني ؟"‪ 1‬كىذا ما أشرنا إليو‬
‫بمسمى خبرة الكثنية‪ .‬فالقرآف الكريـ يؤسس خطابو عمى حسب االستعداد الذىني كالنفسي لممتمقي‪ ،‬كاال أصبح الخطاب عاؿ جدا‬
‫عمى الفيـ مما يجعمو صعبا أك غير مفيكما‪ .‬فالقرآف في النياية ليس كتاب الخاصة مف الناس‪ ،‬بؿ مكجو لمعالميف دكف تحديد‪.‬‬

‫مف المصدريف السابقيف‪ ،‬يمكف لنا اإلستشكاؿ عمى النحك التالي‪ :‬ىؿ استطاع عمـ الكبلـ اإلسبلمي حؿ مشكمة الذات كالصفات‬
‫مف غير الخركج عف حدكد التصديؽ الديني ؟ ىؿ يمكف لمعقؿ المنطقي الخالص التفكير في مسألة الذات كالصفات مف دكف الكقكع‬
‫في تشكيش عقدم ؟ ما ىي محصمة التفكير في الصفات كالذات ؟ ىؿ حصؿ اجماع تأكيمي ؟ كما مصير ً‬
‫الفرؽ التي لـ تمتزـ‬
‫بمعقكلية أىؿ السنة كالجماعة ؟ ىؿ االلتزاـ بالنص يفؾ عقدة الفيـ الحقيقي كالصائب لميكية اإلليية ؟‬

‫أما كلفسكف‪ ،‬فإف يعتقد بأف ىناؾ عدة جكانب لمشكمة الصفات‪ ،‬كىي‪:‬‬

‫" الجانب األنطكلكجي‪ :‬ىؿ األلفاظ التي تطمؽ عمى ا﵀ في القرآف (حي‪ ،‬عالـ‪ ،‬قادر) تتضمف كجكد الحياة كالعمـ كالقدرة في ذاتو بما‬
‫ىي مكجكدات حقيقية ال جسمانية‪ ،‬كالتي تككف‪ ،‬برغـ مبلزمتيا لذات ا﵀‪ ،‬مستقمو عنيا‪ .‬كمف ىذا الفيـ بالذات انطمقت اآللة التأكيمية‬
‫المعتزلية لصناعة مكقؼ مخصكص ليا دكف غيرىا‪.‬‬

‫الجانب السيمانطيقي (الداللي)‪ :‬كيؼ يمكف لممرء أف يتناكؿ األلفاظ القرآنية التي تصؼ ا﵀ كصفا يجعمو شبييا بالمخمكقات‪ .‬أساس‬
‫ىذه الصكرة لممشكمة ىك التعميـ القرآني بأف ا﵀ ال يشبو غيره مف الخمؽ كىك ما عبرت عنو اآلية القرآنية (ليس كمثمو شيء)‬
‫‪2‬‬
‫(الشكرل‪ )11 ،‬ك (كلـ يكف لو كفؤ أحد) (اإلخبلص‪.")4 ،‬‬

‫ال يمكف الجزـ أم الفرؽ الكبلمية اتخذت المكقؼ األكؿ مف مشكمة الذات كالصفات‪ ،‬لكف المسح الشامؿ لمجمؿ الفرؽ التي‬
‫خاضت في المشكمة العقدية المتعمقة بحقيقة اليكية اإلليية‪ ،‬يجعمنا نبلحظ ثبلثة أصناؼ كبرل‪ :‬الفرؽ النصية‪ ،‬الفرؽ التأكيمية‪ ،‬الفرؽ‬

‫‪1‬‬
‫الغزالي‪ :‬إلجاـ العكاـ عف عمـ الكبلـ‪ ،‬ضمف مجمكعة رسائؿ اإلماـ الغزالي‪ ،‬تنقيح كتصحيح ابراىيـ أميف محمد‪ ،‬المكتبة التكفيقية‪،‬‬
‫القاىرة‪ ،‬د س‪ ،‬ص ‪.345‬‬

‫‪2‬‬
‫ىارم‪ .‬أ‪ .‬كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.304-303‬‬

‫‪173‬‬
‫التأكيمية المعتدلة‪ .‬لذا سنقكـ بعرضيا كفؽ ىذا الترتيب المنطقي كليس الترتيب التاريخي‪ ،‬عمى أنو يظير أف ىناؾ كركنكلكجيا‬
‫مطابقة ليذا الترتيب المكضكعي‪.‬‬

‫أوال‪ -‬الفرق التجسيمية‪:‬‬

‫قد يككف االلتزاـ بالنص عمى صكرتو ا لظاىرة فضيمة ايمانية في المسائؿ المتعمقة بالشريعة كالمعامبلت كالعبادات‪...‬الخ لكف في‬
‫مسألة الذات كالصفات‪ ،‬فإف التقيد الحرفي يكلد صعكبات أكثر مما ينتج حمكال‪ .‬ألف التمسؾ بالنصكص القرآنية التي تذكر الصفات‬
‫الحسية يؤدم إلى الكقكع في عقيدة التجسيـ‪ .‬كالحؽ أف النظرية الحسية في العقيدة تتمثؿ في المطالبة باألدلة المباشرة عمى كينكنة‬
‫المقدس‪ .‬كفي الديانات الكثنية كاف يعتقد بأف كجكد اإللو ال ينفصؿ عمى صكرتو المجسدة في المنحكتات كغيرىا‪ .‬كيذكر أف بعض‬
‫الفرؽ اليندية المسماة السمنة‪ ،‬كالتي تثاقفت مع بعض عمماء الحديث في عصر ىاركف الرشيد‪ ،‬اعتقدت بأف الدليؿ عمى الكجكد ىك‬
‫اإلدراؾ الحسي‪ ،‬كلك تعمؽ األمر باإلليي المقدس‪ 1.‬لكف‪ ،‬الينكد ذاتيـ‪ ،‬لـ يسيركا جميعا في طريؽ التجسيـ‪ ،‬إذ نجد منيـ مف يرفض‬
‫تمثيؿ ا﵀ حيث يذكر البيركني أف "بعض خكاصيـ يسمى ا﵀ تعالي "نقطة" ليبرئو بيا عف صفات األجساـ‪ ،‬ثـ يطالع ذلؾ عامييـ‬
‫فيظف أنو عظمو بالتصغير"‪ 2.‬لكف النقطة ذاتيا جسـ ما عمى الرغـ مف انعداـ األبعاد‪.‬‬

‫مف الكاضح بأف القرآف الكريـ يحتكم عمى آيات عديدة فييا يتـ ذكر الصفات الحسية المنسكبة ﵀‪ .‬كىك ما يسمى بآيات‬

‫ؽ ىكا ٍل ىم ٍغ ًر ي‬
‫ب‬ ‫اإل ٍك ىرًاـ﴾ [الرحمف‪ ﴿ .]27 ،‬ىكلًمَّ ًو ا ٍل ىم ٍش ًر ي‬ ‫ؾ يذك ا ٍل ىج ىبل ًؿ ك ًٍ‬
‫ى‬ ‫﴿كىي ٍبقىى ىك ٍجوي ىرّْب ى‬
‫التجسيـ‪ .‬كمنيا ما يمكف أف نسمييا آيات الكجو‪ :‬ى‬
‫ًًَّ‬ ‫يؿ ىذلً ى‬
‫السبً ً‬ ‫ً ً‬ ‫ً‬ ‫َّ ً ً‬ ‫َّ ً‬ ‫ُّ‬
‫كف ىك ٍجوى‬ ‫يد ى‬ ‫يف يي ًر ي‬
‫ؾ ىخ ٍيهر لمذ ى‬ ‫يف ىك ٍاب ىف َّ‬‫يـ﴾[البقرة‪﴿]115 ،‬فىآىت ىذا ا ٍلقي ٍرىبى ىحقَّوي ىكا ٍلم ٍسك ى‬ ‫فىأ ٍىيىن ىما تيىكلكا فىثىَّـ ىك ٍجوي المو إً َّف الموى ىكاسعه ىعم ه‬
‫ط ًعم يكـ لًك ٍج ًو المَّ ًو ىال ين ًر ي ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫المَّ ًو ىكأيكلىئً ى‬
‫كرا﴾[اإلنساف‪ .]9،‬كىي اآليات التي تكحي‬ ‫اء ىكىال يش يك ن‬
‫يد م ٍن يك ٍـ ىج ىز ن‬ ‫كف﴾ [الركـ‪﴿ ]38 ،‬إَّن ىما ين ٍ ي ٍ ى‬ ‫ؾ يى يـ ا ٍل يم ٍفم يح ى‬
‫لمقارئ بأف ﵀ كجو مثؿ كجو اإلنساف‪ ،‬عمى أساس أننا ال يمكف تخيؿ كجو مغاير لمخبرة التي نمتمكيا‪ ،‬فكجو اإلنساف حص ار ىك‬
‫﴿كىال تي ٍؤ ًمينكا إً َّال لً ىم ٍف تىبً ىع ًد ىين يك ٍـ يق ٍؿ إً َّف‬
‫النمكذج المثالي لمكجيية عند اإلنساف‪ .‬كمنيا ما يمكف أف نسمييا بآيات اليد مثؿ قكلو تعالى‪ :‬ى‬
‫ً‬ ‫َّ ً‬ ‫ً‬ ‫ً َّ ً‬ ‫ىح هد ًمثٍ ىؿ ىما أيكتًيتي ٍـ أ ٍىك يي ىحاجُّك يك ٍـ ًع ٍن ىد ىرّْب يك ٍـ قي ٍؿ إً َّف ا ٍلفى ٍ‬
‫يـ﴾ [آؿ‬ ‫اء ىكالموي ىكاسعه ىعم ه‬ ‫ض ىؿ بًىيد المو يي ٍؤتًيو ىم ٍف ىي ىش ي‬ ‫ىف يي ٍؤتىى أ ى‬ ‫ا ٍليي ىدل يى ىدل المَّ ًو أ ٍ‬
‫اء﴾ [المائدة‪﴿ .]64 ،‬إً َّف‬ ‫ؼ ىي ىش ي‬ ‫ؽ ىك ٍي ى‬ ‫اف يي ٍنًف ي‬ ‫ت أ ٍىي ًدي ًي ٍـ ىكلي ًعينكا بً ىما قىاليكا ىب ٍؿ ىي ىداهي ىم ٍب يسك ى‬
‫طتى ً‬ ‫كد ىي يد المَّ ًو ىم ٍغميكلىةه يغمَّ ٍ‬
‫﴿كقىالى ًت ا ٍلىييي ي‬
‫عمراف‪ .]73 ،‬ى‬
‫اى ىد عمىٍيو المَّو فىسيؤتً ً‬ ‫ًً‬ ‫ؽ أ ٍىي ًدي ًي ٍـ فى ىم ٍف ىن ىك ى‬
‫كف المَّوى ىي يد المَّ ًو فى ٍك ى‬ ‫ًَّ‬
‫ىج نار‬
‫يو أ ٍ‬ ‫ىعمىى ىن ٍفسو ىك ىم ٍف أ ٍىكفىى بً ىما ىع ى ى ي ى ى ي ٍ‬
‫ث فىًإَّن ىما ىي ٍن يك ي‬
‫ث‬ ‫ؾ إًَّن ىما ييىبايً يع ى‬ ‫يف ييىبايً يع ى‬
‫كن ى‬ ‫الذ ى‬
‫اء ىكالمَّوي يذك‬ ‫ً‬ ‫ً َّ ً‬
‫ض ىؿ بًىيد المو يي ٍؤتًيو ىم ٍف ىي ىش ي‬ ‫ض ًؿ المَّ ًو ىكأ َّ‬
‫كف ىعمىى ىش ٍي وء ًم ٍف‬
‫ىف ا ٍلفى ٍ‬ ‫فى ٍ‬ ‫ىى يؿ ا ٍل ًكتى ً َّ ً‬
‫اب أىال ىي ٍقد ير ى‬ ‫يما﴾ [الفتح‪﴿ .]10 ،‬لًىئ َّبل ىي ٍعمى ىـ أ ٍ‬ ‫ً‬
‫ىعظ ن‬
‫ض ًؿ ا ٍل ىع ًظ ًيـ﴾ [الحديد‪ .]29 ،‬ىذه اآليات تجعمنا نعتقد بأف ﵀ يد شبيية بيد اإلنساف‪ ،‬كلك أف ىناؾ مف يؤكليا لتدؿ عمى القدرة‪،‬‬ ‫ا ٍلفى ٍ‬

‫‪1‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬ترجمة‬
‫محي الديف جماؿ بدر كرضا حامد قطب‪ ،‬مراجعة محسف الدمرداش‪ ،‬منشكرات الجمؿ‪ ،‬بيركت – بغداد‪ ،‬الطبعة األكلى‪،2016 ،‬‬
‫ص ‪.45‬‬

‫‪2‬‬
‫أبك الريحاف محمد بف أ حمد البيركني‪ :‬تحقيؽ ما لميند مف مقكلة مقبكلة في العقؿ أك مرذكلة‪ ،‬مطبعة مجمس دائرة المعارؼ‬
‫العثمانية‪ ،‬حيدر آباد‪ ،‬اليند‪ ،1958 ،‬ص ‪.23‬‬

‫‪174‬‬
‫مثمما سنجده أدناه عند أنصار التنزيو‪ ،‬إال أف آية المائدة تتحدث عف يديف‪ ،‬أم يد يمنى كأخرل يسرل‪ ،‬كىناؾ مف يقكؿ بأف يديو‬
‫ُّج ً‬
‫كد فى ىبل‬ ‫ؽ ىكيي ٍد ىع ٍك ىف إًلىى الس ي‬
‫ؼ ىع ٍف ىسا و‬
‫﴿ي ٍكىـ يي ٍك ىش ي‬ ‫يمنيتيف معا كىذا ما يستبد تأكيؿ القدرة لصالح التجسيـ‪ .‬كىناؾ آيات ً‬
‫الرجؿ كالساؽ‪ :‬ى‬
‫كف﴾ [القمـ‪ ]42 ،‬كالتي ال يمكف تأكيميا بمعنى مجازم‪ ،‬فالساؽ ال يحتمؿ إال المدلكؿ المحسكس‪ ،‬بعيدا عف القدرة‬ ‫ً‬
‫يع ى‬
‫ىي ٍستىط ي‬
‫كالسيطرة‪...‬الخ مف المعاني غير المباشرة التي تربط باألعضاء الحسية مثؿ قدرة اليد كحدة البصر كسعة الصدر‪.‬‬

‫كمف المفيد أف نشير أف النصكص الدينية التي تفيد التجسيـ‪ ،‬ليست مقتصرة عمى القرآف‪ ،‬بؿ نجد أحاديث عديدة منسكبة‬
‫لمرسكؿ الكريـ تفيد الحسية عند الحديث عف الذات اإلليية‪ .‬إذ نجد "األحاديث التي تذكر النفس ﵀‪ :‬عف أبي ىريرة أنو قاؿ الرسكؿ‬
‫(ص)‪( :‬يقكؿ ا﵀ تعالى أنا مع عبدل حيف يذكرني‪ ،‬فإف ذكرني في نفسو ذكرتو في نفسي كاف ذكرني في مؤل ذكرتو في مؤل خير‬
‫منو)‪ .‬كأحاديث تذكر الكجو‪ :‬قكؿ الرسكؿ (ص)‪( :‬أعكذ بكجيؾ الكريـ‪ ...‬كاف يدعك‪ :‬أسألؾ لذة النظر إلى كجيؾ)‪ .‬كأحاديث‬
‫ىف تي ىؤُّدكا‬ ‫ً َّ‬
‫تشخص مككنات الكجو اإلليي مثؿ حديث ذكر العيف كاألذف‪ :‬عف أبي ىريرة عندما ق أر قكلو تعالى (إ َّف الموى ىيأ ي‬
‫ٍم يريك ٍـ أ ٍ‬
‫ىىمًيىا) حتى كصؿ إلى قكلو (سميعا بصيرا) فكضع ابيامو عمى أذنو كالتي تمييا عمى عينو كقاؿ ىكذا سمعت رسكؿ‬ ‫ٍاألىم ىان ً‬
‫ات ًإلىى أ ٍ‬ ‫ى‬
‫ا﵀ يق أر كيضع اصبعو"‪ 1.‬كلك كاف ما نقؿ عف الرسكؿ الكريـ صحيح‪ ،‬فيذا داللة صريحة عمى الفيـ الحسي لمصفات اإلليية‪ .‬لكننا‬
‫ؽ أ ٍىي ًدي ًي ٍـ﴾‪ .‬لربما أف ىؤالء‬
‫﴿ي يد المَّ ًو فى ٍك ى‬
‫نجد ركايات الحقة تنقؿ أف بعض الفقياء أجازكا قطع يد مف رفع يده مشي ار بيا عند قراءة آية ى‬
‫الفقياء مف ذكم التكجو التنزييي الخالص‪ ،‬فاالنتماء الفقيي الكبلمي كىذا منتشر كثيرا‪ ،‬مثؿ الحنبمية اإلشعرية‪ ،‬ىك الذم ينتج مثؿ‬
‫ىذه االعتقادات التي تربط بيف الفيـ كالتنفيذ‪.‬‬

‫يمكف القكؿ بأف الفرؽ التجسيمية‪ ،‬تنتمي بطريقة مباشرة إلى ما يمكف أف نسميو بالبلىكت المكجب‪ .‬إذ أنيا ال تتحرج في ربط‬
‫صفات ا﵀ سبحانو كتعالى بصفات مخمكقاتو‪ .‬فكؿ ما يقكلو عمـ البلىكت المكجب بخصكص ا﵀ إنما يجد أساس برىانو في‬
‫جر ا﵀ إلى مجاؿ الحقائؽ المتناىية"‪ 2.‬لكف ال نجد ىؤالء يستشعركف الخطر فما ىك السبب ؟ مف‬
‫المخمكقات‪ ،‬كمف ىنا يبرز خطر ٌ‬
‫الناحية المبد ئية ال يمكف تصكر ا﵀ بمعزؿ عف الكينكنة‪ ،‬كأم كينكنة تتطمب حضكر ما‪ ،‬كالحضكر الكحيد الذم يقنع إنساف متكسط‬
‫الفيـ ىك الحضكر المتشيئ‪ ،‬إذ ال يمكف أف نتحدث عف حضكر ال شيء‪ .‬ثـ أنو "ال يكجد في القرآف لفظ يفيد كصؼ ا﵀ بأنو "ال‬
‫جسـ"‪ 3.‬ىذا‪ ،‬كبالنسبة لمعامة مف الناس‪ ،‬بمو حتى الخاصة‪ ،‬فإف فيـ ماىية ا﵀ ال تتـ إال في إطار بنية العقؿ الخالص الذم يتصكر‬
‫الكينكنة مرىكنة بالشيئية‪ .‬فالمكجكدية مرىكنة بالجسمية التي تستمزـ األبعاد ككؿ المقتضيات األخرل مف حيز ككيكؼ‬
‫كخصائص‪...‬الخ‪ 4‬فالذيف يقكلكف بأف ﵀ كينكنة ليست ككينكنتنا‪ ،‬ككأنيـ لـ يقكلكا شيئا‪ ،‬بؿ ىناؾ تناقض في ىذا القكؿ عمى اعتبار‬
‫أننا نتحدث عف كجكد شيء ال يمكف تحديده عندما نقكؿ أف ا﵀ يفعؿ بطريقة ال اسـ ليا عندنا أك يتصؼ بصفة ليست معمكمة‬
‫بالنسبة لنا‪ .‬لكؿ كاحد منا الحؽ في االستفسار عمى طريقة التكحيدم الذم قاؿ‪" :‬إذا كاف البارم ال يفعؿ ما يفعؿ ضركرة كال اختيارا‪،‬‬
‫فعمى أم نحك يككف فعمو ؟ (‪ )...‬قاؿ أبك سميماف‪ :‬قد قاؿ كبار األكائؿ‪ :‬إنو يفعؿ بنكع أشرؼ مف االختيار‪ ،‬كذلؾ النكع ال اسـ لو‬

‫‪1‬‬
‫محمد صالح محمد السيد‪ :‬أصالة عمـ الكبلـ‪ ،‬دار الثقافة كالنشر كالتكزيع‪ ،‬القاىرة‪ ،1987 ،‬ص ص ‪.100-98‬‬
‫‪2‬‬
‫داريكش شايغاف‪ :‬ما الثكرة الدينية ؟ الحضارات التقميدية في مكاجية الحداثة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.60‬‬
‫‪3‬‬
‫ىارم‪ .‬أ‪ .‬كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.55‬‬
‫‪4‬‬
‫أبي الحسف األشعرم‪ :‬مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف‪ ،‬الجزاء األكؿ‪ ،‬المكتبة الصرية‪ ،‬بيركت‪ ،2009 ،‬ص ‪.64‬‬

‫‪175‬‬
‫عندنا"‪ 1.‬ىنا نحف نقر بكجكد شيء ال يمكف تعقمو إطبلقا مما يعني أنو غير مكجكد‪ .‬كىذه الصعكبة تشبو صعكبة كانط الذم افترض‬
‫الشيء في ذاتو الذم ال نعرفو لكننا عرفناىا بمجرد ما تحدثنا عنو ! كىك التناقض الذم تحدث عنو الفيمسكؼ اإللياتي بارمنيدس‬
‫عندما نتحدث عف عدمية الشيء مما يجعمو خارج العدـ الحقيقي‪.‬‬

‫لف نخكض في مصادر االعتقاد بالجسمية في الفكر اإلسبلمي‪ ،‬فيناؾ مف يتحدث عف األصكؿ الييكدية عمى اعتبار أف التكراة‬
‫تصؼ الرب بكؿ ما يمكف أف يربطو بالمكجكدات اإلنسانية كحتى الحيكانية (زأر الرب يكىكا مثؿ األسد)‪ .‬كىناؾ مف يرجعيا إلى‬
‫أصكؿ مسيحية في التثميث عمى أساس أف األقنكـ الثاني كىك االبف متجسد في شخص مادم‪ .‬لكف ما ييمنا ىك بداية الفرؽ‬
‫التجسيمية في اإلسبلـ‪ .‬في ىذا الشأف يتفؽ كؿ مؤرخي الكبلـ بأف الفرؽ الشيعية ىي مف تبنت ىذه العقيدة ألكؿ مرة‪ .‬فحسب‬
‫اإلسفرائيني ىـ أصؿ التشبيو في اإلسبلـ‪ 2.‬فقد نقؿ عف اليشامية (نسبة إلى ىشاـ بف الحكـ‪ ،‬حكالي ‪ 190‬ق) كالعديد مف فرؽ‬
‫الرافضة مف الشيعة أ نيا قالت بأف الخالؽ شبيو بالخمؽ أم ذك صكرة مثؿ صكر اإلنساف‪ .‬كقامت المشبية الصفاتية بتشبيو المخمكؽ‬
‫بالخالؽ مف خبلؿ االستناد إلى القكؿ المنسكب إلى الرسكؿ (ص)‪ :‬خمؽ ا﵀ آدـ عمى صكرة الرحمف‪ .‬كاستنتجكا بأف كؿ أنباء آدـ‬
‫ليـ صمة تشابو با﵀ الذم خمقيـ‪ 3.‬كيقكؿ األشعرم عنيـ‪" :‬يزعمكف أف معبكدىـ جسـ لو نياية كحد كطكيؿ عريض‪ ،‬طكلو مثؿ‬
‫عرضو كعرضو مثؿ عمقو ال يكفي بعضو عمى بعضو‪ .‬كلـ يعينكا لو طكال غير الطكؿ‪ .‬كانما قالكا طكلو مثؿ عرضو عمى المجاز‬
‫دكف التحقيؽ‪ ،‬كزعمكا أنو نكر ساطع‪ ،‬لو قدرة مف األقدار في مكاف دكف مكاف‪ .‬كالسبيكة الصافية كالمؤلؤة المستديرة مف جميع‬
‫جكانبيا‪ .‬ذك لكف كطعـ كرائحة"‪ 4.‬لذا فقد انتيى اليشامية بتشبيو معبكد اإلنساف باإلنساف‪ ،‬بؿ أنو كصؼ مقدار الذات اإلليية بأف‬
‫قاؿ بسبعة أشبار بشبر نفسو‪ 5.‬كىذا التحديد يدؿ عمى معقدات تجسيمية كدقيقة دقة تفاصؿ الخصكصيات البشرية‪ .‬بؿ نجد مف‬
‫الشيعة مف يتحدث عمى عمر معيف ﵀ تعالى عف كؿ ىذه الشبيات‪.‬‬

‫ترتبط مسألة التجسيـ بمسألة رؤية ا﵀‪ ،‬ألف الرؤية تقتضي الجسمية بأكسع معانييا‪ ،‬كلئف اعتبر البعض أف ا﵀ نكر‪ ،‬مثمما كرد‬
‫ض مثى يؿ ين ً ً و ً ً‬ ‫في سكرة النكر ﴿المَّو ينكر الس ً‬
‫اح﴾[النكر‪ ]35،‬فإف النكر جسـ حسي يمكف رؤيتو‪ .‬كنجد‬ ‫كرًه ىكم ٍش ىكاة فييىا م ٍ‬
‫صىب ه‬ ‫َّم ىاكات ىك ٍاأل ٍىر ً ى‬
‫ى‬ ‫ي ي‬
‫"ركاية اإلباضي أبك عمار عبد الكافي أف أصحاب عبد الكاحد كانكا مقتنعيف بأف رؤية ا﵀ غير ممكنة في اآلخرة فحسب‪ ،‬كانما يمكف‬

‫‪1‬‬
‫أبك حياف التكحيدم‪ :‬المقابسات‪ ،‬تحقيؽ كتعميؽ حسف السندكبي‪ ،‬دار المعارؼ لمطباعة كالنشر كالتكزيع‪ ،‬سكسة‪ ،‬الطبعة األكلى‪،‬‬
‫‪ ،1991‬ص ‪.42‬‬

‫‪2‬‬
‫صييب السقار‪ :‬التجسيـ في الفكر اإلسبلمي‪ ،‬آفاؽ لمنشر‪ ،‬الككيت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2015 ،‬ص ‪.77‬‬
‫‪3‬‬
‫الشيرستاني‪ :‬نياية اإلقداـ في عمـ الكبلـ‪ ،‬تحرير كتصحيح ألفريد جيكـ‪ ،‬مكتبة الثقافة الدينية‪ ،‬القاىرة‪ ،‬الطبعة االكلى‪،2009 ،‬‬
‫ص ‪ .97‬أيضا‪ :‬جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء‬
‫الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪" .1015‬محمد ابف عجبلف‪ :‬كاف يركل ال يتكرع في ركاية الحديث النبكم الذم يذكر بأف آدـ خمؽ عمى‬
‫صكرة ا﵀‪ ،‬لذلؾ نجد مالؾ بف أنس يمكمو عمى ذلؾ"‪.‬‬
‫عبد القاىر البغدادم‪ :‬الفرؽ بيف الفرؽ كبياف الفرقة الناجية‪ ،‬مكتبة ابف سينا‪ ،‬القاىرة‪ ،1988 ،‬ص ‪ .199‬أيضا‪ :‬صييب السقار‪:‬‬ ‫‪4‬‬

‫التجسيـ في الفكر اإلسبلمي‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.78‬‬

‫‪5‬‬
‫أبي الحسف األشعرم‪ :‬مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف‪ ،‬الجزاء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.166‬‬

‫‪176‬‬
‫ليذا أف يحدث في الدنيا أيضا‪ .‬ربما يعتمدكف في رأييـ ىذا عمى ما كرد في اآلية السادسة كما بعدىا مف سكرة النجـ ﴿ يذك ًمَّروة‬
‫اب قى ٍك ىس ٍي ًف أ ٍىك أ ٍىدىنى﴾ [النجـ‪ ]9-6 ،‬التي تتحدث عف رؤية النبي محمد ﵀"‪ 1.‬كلـ‬ ‫َّ‬ ‫استىكل ك يىك بً ٍاأليفي ً‬
‫اف قى ى‬
‫ىعمىى ثيَّـ ىدىنا فىتى ىدلى فى ىك ى‬
‫ؽ ٍاأل ٍ‬ ‫فى ٍ ى ى ى‬
‫يكف يزيد بف ىاركف صاحب م كاقؼ بعيدة جدا عف عقيدة التجسيـ (التشبيو)‪ .‬لقد ركل الحديث النبكم الذم يذكر بأف الناس سكؼ‬
‫يركف ا﵀ في الجنة عمى نحك ما يركف القمر ليمة البدر؛ بؿ يركل أنو أكد عمى صحة ىذا الحديث صراحة‪ 2.‬كىنا نبلحظ استثمار‬
‫القرآف كالحديث مف أجؿ تقكية عقيدة التجسيـ‪.‬‬

‫كقد نقؿ عف أصحاب مقاتؿ بف سميماف "بأف ا﵀ جسـ كأف لو جمة (شعر الرأس الساقط عمى المنكبيف) كأنو عمى صكرة‬
‫اإلنساف لحـ كدـ كشعر كعظـ لو جكارح كأعضاء مف يد كرجؿ كرأس كعينيف مصمت‪ ،‬كمع ىذا ال يشبو غيره كال يشبيو"‪ 3.‬كفي‬
‫سياؽ تصكر أعضاء ﵀ يذكر الشيرستاني أف أحمد بف عطاء اليجيمي كاف يقر بأف ا﵀ قد يصافح أكلياءه في الدنيا‪ ،‬كأنيـ‬
‫يستطيعكف معانقتو‪ 4.‬كركم عف "بكر ابف أخت عبد الكاحد بف زيد (النصؼ الثاني لمقرف الثاني ىػ ) أنو كاف يعتقد أف ا﵀ سكؼ يرل‬
‫في اآلخرة عمى ىيئة بشر‪ .‬كيركف أف ىذا أمر ضركرم‪ ،‬ألف ا﵀ سكؼ يتحدث إلى الناس يكـ الحساب‪ .‬كاال كيؼ سيدكر ىذا‬
‫الحديث ؟ لكنو يرل أف تمثؿ ا﵀ في ىيئة بشر سيأتي في ىذه المحظة فحسب‪ ،‬كا﵀ ىك الذم خمؽ ىذه الييئة لنفسو‪ ،‬كىي بالتأكيد‬
‫بمثابة قناع (‪ )...‬حركة السالمية كانت في بداية ؽ ‪ 4‬ىػ تتبنى الرأم القائؿ بأف ا﵀ سكؼ يظير في صكرة محمد‪ ،‬كالتي ىي في‬
‫نفس الكقت صكرة آدـ"‪ 5.‬ىذه المعتقدات مؤسسة عمى عبلقة قرابة قدسية‪ ،‬عمى أساس أف ا﵀ خمؽ أكؿ إنساف كىك آدـ‪ ،‬كمكانة آدـ‬
‫قريبة لمكانة محمد (ص) مما جعميـ يفترضكف التشابو‪.‬‬

‫كقد انتشرت عقائد شعبية عف التشبيو‪ ،‬تقترب مف الغكغائية نظ ار لتأثرىا بالعقائد غير اإلسبلمية فقد "كانت جماىير البصرة تجد‬
‫سعادة في أف تسمع ألحاديث أبك سعيد الحسف بف دينار التميمي (الذم ركل عف الحسف البصرم) تركم أف المبلئكة حكؿ العرش‬

‫‪1‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪ .162‬أيضا‪ :‬يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬ترجمة عبد المجيد الصغير‪ ،‬نشر الفنؾ‪،‬‬
‫الدار البيضاء‪ ،2000 ،‬ص ‪ .45‬العادة أف مف أف محمد أف يسمع‪ ،‬ال أف يرل‪ ،‬إذ القرآف كليد السمع ال الرؤية‪ .‬لكف سكرة النجـ‬
‫اب قى ٍك ىس ٍي ًف أ ٍىك أ ٍىدىنى (‪ )9‬فىأ ٍىك ىحى إًلىى ىع ٍب ًد ًه ىما أ ٍىك ىحى (‪ )10‬ىما‬
‫اف قى ى‬
‫َّ‬
‫ىعمىى (‪ )7‬ثيَّـ ىدىنا فىتى ىدلى (‪ )8‬فى ىك ى‬
‫ؽ ٍاأل ٍ‬‫استىكل (‪ )6‬ك يىك بً ٍاأليفي ً‬
‫ى ى‬
‫ًو‬
‫﴿ يذك مَّرة فى ٍ ى‬
‫يخ ىرل (‪ً )13‬ع ٍن ىد ًس ٍد ىرًة ا ٍل يم ٍنتىيىى (‪ً )14‬ع ٍن ىد ىىا ىجَّنةي ا ٍل ىمأ ىٍكل‬
‫كنوي ىعمىى ىما ىي ىرل (‪ )12‬ىكلىقى ٍد ىرآىهي ىن ٍزلىةن أ ٍ‬ ‫اد ىما ىأرىل (‪ )11‬أىفىتي ىم يار ى‬
‫ب ا ٍلفي ىؤ ي‬
‫ىك ىذ ى‬
‫(‪ .﴾)15‬تتحدث عف الرؤية"‪ .‬أيضا‪ :‬أبي الحسف األشعرم‪ :‬مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف‪ ،‬الجزاء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص‬
‫‪.128‬‬
‫‪2‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.640‬‬
‫‪3‬‬
‫صييب السقار‪ :‬التجسيـ في الفكر اإلسبلمي‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.83‬‬
‫‪4‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.162‬‬
‫‪5‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.177‬‬

‫‪177‬‬
‫يتكممكف بالفارسية‪ ،‬بؿ إف ا﵀ نفسو في حاالت الرضا يتكمـ بالفارسية‪ ،‬كانو ال يتكمـ العربية إال في حاؿ الغضب"‪ 1.‬بؿ أف البعض‬
‫خاض في مسائؿ تفصيمية جعمتيـ يعتقدكف باألعضاء كبالجية مما يحرج المسمـ المعتدؿ عنف التفكير فييا‪ .‬ففي اشارتنا أعبله‬
‫"يدم ا﵀" تـ التطرؽ إلى "التصكر القائؿ بأف ا﵀ ال يمكف أف تككف لو يد يسرل (ينسب إلى داكد بف راشد)‪.‬‬
‫آليات اليد‪ ،‬ككجكد لفظة ٌ‬
‫حيث قيؿ أنو تصكر ا﵀ (أجكؼ مف فيو إلى صدره كمصمت ما سكل ذلؾ‪ ،‬كيعتقدكف أف ىذا ىك معنى كممة صمد) أما فيما يتعمؽ‬
‫بييئة ا﵀ فيقكؿ داكد‪" :‬أعفكني مف الفرج كالمحية كاسألكني عما كراء ذلؾ فإف في األخبار ما يثبت ذلؾ"‪ .‬أك بمعنى آخر أف عمى‬
‫َّ‬ ‫‪2‬‬
‫﴿ك ىما قى ىد يركا الموى‬
‫كؿ شيء فيما عدا ذلؾ يكجد دليؿ في القرآف كالسنة"‪ .‬كلئف ىناؾ آيات تذكر يميف ا﵀ مثمما نجد في قكلو تعالى‪ :‬ى‬
‫ط ًكي ه ِ ِ ِ‬ ‫ؽ قى ٍد ًرًه ك ٍاألىرض ج ًميعا ىق ٍبضتيو يكـ ا ٍلًقي ً‬
‫كف﴾ [الزمر‪ ]67 ،‬فقد يكحي ىذا‬ ‫َّات ِب َيمينو يس ٍب ىح ىانوي ىكتى ىعالىى ىع َّما يي ٍش ًريك ى‬ ‫ات ىم ٍ‬
‫َّماك ي‬
‫امة ىكالس ى‬
‫ى ي ىٍ ى ى ى‬ ‫ى ٍ ي ى ن‬ ‫ىح َّ‬
‫عند البعض بأنو ﵀ يسار‪ ،‬أم يد يسرل‪ .‬كنحف نعمـ بأف اليسار في األنثركبكلكجيا‪ ،‬كحتى في المخياؿ الديني‪ ،‬رمز لعدـ االستقامة‬
‫كاالنحراؼ كالشأـ‪...‬الخ (نبلحظ قرابة بيف اسـ الشاـ كاسـ الشأـ‪ ،‬كطو حسيف يسميو الشأـ مباشرة‪ ،‬الذم ىك ً‬
‫الشماؿ أم اليسار‪ ،‬ألف‬
‫سكريا تقع عمى يسار الكعبة في حيف أف اليمف تقع عمى يمينيا) ففي القرآف يككف أصفياء ا﵀ عمى يمينو لمداللة عمى الخيرية كيككف‬
‫المعذبكف عف شمالو لمداللة عمى البؤس‪ 3.‬كتأكيد كجكد اليسارية في الذات اإلليية ىك ما ال يمكف أف تتصؼ بو الذات اإلليية‬
‫الك اممة الخالية مف أم مدلكؿ مذمكـ أك سمبي‪ .‬فكحدانية ا﵀ تقتضي تجاكز كؿ التثنيات التي نعرفيا‪ ،‬كىذا ىك معنى التعالي اإلليي‬
‫بالضبط‪.‬‬

‫بؿ أف البعض مف المسمميف‪ ،‬بمغ بيـ التفكير في الذات اإلليية مف حيػث خصكصػيتيا كشػكميا كنكعيػا‪ ،‬بػأف طرحػكا مسػألة‬
‫الجنسية أم جنسية ا﵀ تعالي‪ .‬فنحف نعمـ بأف ا﵀ يتحدث عف ذاتو بكصفيا مذكرة‪ .‬لذا يذكر التكحيدم ىػذه المناقشػة‪ :‬لػك قػاؿ لػؾ‬
‫رجؿ‪ :‬لـ خبرت عف ا﵀ بالتػذكير دكف التأنيػث ؟ (‪ )...‬ألف التػذكير كالتأنيػث معنيػاف مكجػكداف فينػا‪ ،‬كبيمػا أشػبينا سػائر الحيػكاف‪،‬‬
‫كىما منفياف عف ا﵀ تعالى مف كؿ كجو ككؿ كىـ"‪ 4.‬لذا‪ ،‬فمػك تتبعنػا التجسػيـ النتيينػا إلػى التشػبيو المطمػؽ‪ ،‬كىػذا يتنػافى مػع سػكرة‬
‫َّػم يد (‪ )2‬لى ٍػـ ىيمً ٍػد ىكلى ٍػـ ييكلى ٍػد (‪ )3‬ىكلى ٍػـ‬ ‫َّ‬
‫ىح هػد (‪ )1‬المػوي الص ى‬
‫َّ‬
‫اإلخبلص التػي تخمػص الػذات اإللييػة مػف أم تجسػيـ ممكػف‪ ﴿ :‬قي ٍػؿ يى ىػك المػوي أ ى‬
‫ىح هد (‪ . ﴾)4‬كفي نظػر المعتزلػة فػإف ىػذه اآليػة ىػي قاعػدة كػؿ تأكيػؿ متعمػؽ بالػذات كالصػفات‪ .‬أم ىػي المركػز الػذم‬ ‫ىي يك ٍف لىوي يكفي نكا أ ى‬
‫تػػدكر عميػػو كػػؿ اآليػػات المتشػػابية‪ .‬أمػػا مسػػألة تػػذكير ا﵀‪ ،‬فيػػي تػػدؿ عنػػد الػػبعض‪ ،‬مػػف ذكم التيػػار النسػػكم‪ ،‬عمػػى الطػػابع األبػػكم‬
‫لممجتمع في شبو الجزيرة العربية السابؽ لئلسبلـ‪ .‬كىذا في مقابؿ بعض التصكرات المجتمعية التػي تؤنػث المقػدس‪ .‬كفػي الجاىميػة‬

‫‪1‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.101‬‬
‫‪2‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.641‬‬
‫‪3‬‬
‫يكسؼ شمحد‪ :‬بنى المقدس عند العرب قبؿ اإلسبلـ كبعده‪ ،‬ترجمة خميؿ أحمد خميؿ‪ ،‬دار الطميعة لمطباعة كالنشر‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة‬
‫األكلى‪ ،1996 ،‬ص ‪ .144-143‬كجكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني‬
‫في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ .784‬أيضا‪ :‬دافيد لكبركتكف‪ :‬سكسيكلكجيا الجسد‪ ،‬ترجمة عياد أببلؿ كادريس‬
‫المحمدم‪ ،‬ركافد لمنشر كالتكزيع‪ ،‬القاىرة‪ ،2014 ،‬ص ‪" .39‬اليد اليسرل يقتضي العي كالتمبؾ كاالنحراؼ كالخداع كالقبح (‪)...‬‬
‫كالتيديد كالرجس"‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫أبك حياف التكحيدم‪ :‬المقابسات‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.42‬‬

‫‪178‬‬
‫نجد البعض مف اآللية المؤنثة كىذا ما يدحض نظرية البطرركية‪ .‬لػذا تبقػى المسػألة لمبحػث المتخصػص كالمعمػؽ‪ ،‬ممػا ال تحتممػو‬
‫ىذه المحاضرة‪.‬‬

‫ثانيا‪ -‬الفرق التنزييية‪:‬‬

‫يبدك أف الفرؽ التجسيمية‪ ،‬كنظ ار لتمسكيا الكمي بالنص‪ ،‬قد انتيت إلى تصكر مشكه لمذات اإلليية‪ .‬لذا فإف إعماؿ العقؿ‪،‬‬
‫كالتمييز بيف الخطاب الحقيقي كالخطاب المجازم في القرآف الكريـ أمر ضركرم في مسألة الذات كالصفات‪ ،‬كاال سقطت العقيدة‬
‫التكحيدية كالتنزييية في كثنية مف نكع جديد‪ .‬مع العمـ أف القرآف مكجية لمخركج منيا‪ .‬لذا فإف فرقا كبلمية أكثر حرصا عمى تقدير‬
‫الذات اإلليية حؽ قدرىا قد غيرت منيج قراءة النصكص القرآنية مف أجؿ تفادم التجسيـ الكثني المعيب‪ .‬كسنرل أف فمسفة التنزيو‪،‬‬
‫كرغـ استراتيجيتيا النبيمة قد تقع في صعكبات مف نكع آخر‪ .‬عمى اعتبار أف نفي الصفات الحسية عف الذات اإلليية ىك ما يؤسس‬
‫البلىكت السالب أك الصفات السمبية‪ .‬فالنفي المطمؽ لمصفات ىك في ذاتو عقيدة سمبية‪ 1.‬ال تقدـ أم معرفة ايجابية يمكف أف تككف‬
‫في متناكؿ العقؿ الطبيعي لئلنساف‪ ،‬كنقصد بيذا العقؿ الطبيعي الفيـ القائـ عمى خبرات مكثكؽ فييا‪.‬‬

‫بالنسبة لممعتزلة‪ ،‬كىـ أبطاؿ التنزيو المطمؽ في عمـ الكبلـ اإلسبلمي‪ ،‬فقد اتيمكا المجسمة بكؿ فركعيا بأنيـ تأثركا بعقائد‬
‫مسيحية قائمة بالتثميث‪ ،‬ألنيا تجسد اإللو في اإلنساف (عيسى إلو أك ابف إلو)‪ 2.‬كبالتالي فيي فرؽ اسبلمية بخمفيات مسيحية‪ .‬كىذا‬
‫في ذاتو كفر كخرؽ ألقكل مبدأ عقدم في اإلسبلـ كىك التكحيد‪ .‬إف التكحيد حسب اإلعتزاؿ مؤسس بالكمية عمى نفي الصفات كتأكيؿ‬
‫اآليات التي تفيد التجسيـ‪ .‬كلئف كاف المستشرقيف الذيف يؤصمكف الكبلـ اإلسبلمي في البلىكت المسيحي‪ ،‬مثؿ كلفسكف‪ ،‬يثمنكف تأثر‬
‫الفرؽ اإلسبلمية بالمسيحية‪ ،‬فإف المعتزلة تعتبر ذلؾ عيبا كسقطة ال يجب االستمرار فييا‪ .‬لذا فعندما تعارض المعتزلة حقيقة‬
‫الصفات المنسكبة لمذات اإلليية مثؿ الحياة كالحكمة كالعمـ كالقدرة‪ 3،‬فيي أكال تعارض انتقاؿ المنظكر المسيحي إلى العالـ اإلسبلمي‪.‬‬
‫قبؿ أف تنتقؿ إلى قمؽ التشبيو اإلليي‪.‬‬

‫ىذا ىك الكجو السمبي لرفض المعتزلة فكرة التجسيـ كاثبات الصفات الخبرية‪ .‬أما الكجو اإليجابي‪ ،‬فيكمف في متابعة نسؽ‬
‫االعتقاد في القرآف الكريـ ذاتو‪ .‬فالمعمكـ أف مبدأ المعتزلة يكمف في تثميف دكر العقؿ في فيـ النقؿ‪ .‬كلعؿ ىذا ما دفعيـ إلى تعميؽ‬
‫التمييز بيف القرآف المحكـ كالقرآف المتشابو‪ ،‬كأساس التفرقة عقمية خالصة‪ ،‬فالمحكـ ىك كؿ اآليات التنزييية كالمتشابو ىي اآليات‬
‫التشبييية كالتجسيمية‪ 4.‬كعمى ىذا األساس يتـ تأكيؿ كؿ آيات التشبيو‪ ،‬كالتي استعرضنيا أعبله‪ ،‬لتتبلءـ مع آيات التنزيو التي ال‬
‫يمكف انكار كجكدىا في القرآف‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫داريكش شايغاف‪ :‬ما الثكرة الدينية ؟ الحضارات التقميدية في مكاجية الحداثة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.58‬‬
‫‪2‬‬
‫عضد ا﵀ كالديف القاضي عبد الرحمف بف أحمد اإليجي‪ :‬المكاقؼ في عمـ الكبلـ‪ ،‬عالـ الكتب‪ ،‬بيركت‪ ،‬ص ‪ .280‬أيضا‪ :‬ىارم‪.‬‬
‫‪.190‬‬ ‫أ‪ .‬كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص‬
‫‪ 3‬ىارم‪ .‬أ‪ .‬كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.207‬‬
‫‪4‬‬
‫نصر حامد أبك زيد‪ :‬االتجاه العقمي في التفسير‪ -‬دراسة في قضية المجاز في القرآف عند المعتزلة‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار‬
‫البيضاء‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،1996 ،‬ص ‪.57‬‬

‫‪179‬‬
‫عمى أف المعتزلة لست أكؿ مف سار في اتجاه نفي الجسمية كالصفات الخبرية‪ ،‬بؿ يمكف أف نبلحظ تأكيبلت مف بعض‬
‫الصحابة كشفت عف تجنبيـ التشبيو الظاىر‪ .‬كلربما أف المعتزلة كالجيمية قد قامكا بتأصيؿ منظكرىـ التنزييي مف ىؤالء‪ .‬ثـ أف‬
‫القرآف الكريـ ذاتو قد نيى عف التشبيو في أكثر مف آية‪ .‬لذا يعتقد الجيـ بف صفكاف بأنو ال يجكز كصؼ البارم تعالى بصفات‬
‫ييكصؼ بيا خمقة‪ .‬ألف ذلؾ يقتضي تشبييا‪ .‬لذا فيجب نفي ككف ا﵀ حي ألف الكثير مف المخمكقات حية‪ ،‬كنفي كصؼ ا﵀ بالعمـ ألف‬
‫اإلنساف عالـ‪ ،‬كلـ يثبت الجيـ إال صفة القدرة عمى اعتبار أف اإلنساف غير قادر بالمطمؽ‪ 1.‬لذا فالصفات التي يمكف أف نصؼ بيا‬
‫ا﵀ ىي القدرة كالفعؿ كالخمؽ فقط‪ ،‬ألف ال كاحد مف المكجكدات يتصؼ بيا‪ .‬كمعمكـ جدا مكقفيا مف الحرية الذم سنفصمو في‬
‫المحاضرة القادمة‪.‬‬

‫بالنسبة لمكقؼ بعض الصحابة المنزىيف‪ ،‬يمكف أف ييبلحظ في تفسير ابف عباس ما يفيد التنزيو الكمي‪ .‬ففي سياؽ تفسيره آلية‬
‫يـ﴾[البقرة‪ ،)255( ]255 ،‬كمف‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ات ك ٍاألىرض كىال ييئ ي ً‬
‫الكرسي حيث كرد قكلو تعالى‪﴿ :‬ك ًسع يكرًسيُّو الس ً‬
‫كدهي ح ٍفظييي ىما ىك يى ىك ا ٍل ىعم ُّي ا ٍل ىعظ ي‬ ‫َّم ىاك ى ٍ ى ى ى‬ ‫ى ى ٍ ي ى‬
‫أجؿ تجاكز المعنى الحرفي الذم يفيد الكرسي المحسكس‪ .‬تأكلو ليدؿ عمى العمـ‪ ،‬أم كسع عممو السمكات كاألرض‪ .‬ىذا بعد أف‬
‫"تساءؿ أصحاب الرسكؿ (ص)‪ :‬ىذا الكرسي كسع السمكات كاألرض‪ ،‬فكيؼ العرش ؟"‪ 2.‬كالمبلحظ أف ىذا التأكيؿ يميد الستراتيجية‬
‫التأكيؿ اإلعتزالي الذم يستيدؼ تجاكز معضمة تشبيو ما ىك إليي بما ىك بشرم‪ ،‬عمى أساس أف أم إنساف قد يتصكر أف ﵀ كرسي‬
‫يشبو كرسي اإلنساف أك أف لو عرشا يشبو عرش الممكؾ‪.‬‬

‫عمى الرغـ مف اتفاؽ الجيمية مع المعتزلة في نفي التشبيو عف الذات اإلليية‪ ،‬فإف المعتزلة تختمؼ عنيا في مسألة الصفات‬
‫التي يجب نفييا‪ .‬كنحف نعمـ أف المشكمة األساسية التي تفرؽ الفرقتيف ىي مسألة القدرة بيف ا﵀ كاإلنساف‪ .‬كمثمما رأينا أف الجيمية‬
‫تثبت فقط صفة القدرة كالخمؽ ﵀‪ ،‬عمى أساس أف اإلنساف ال يقدر كال يخمؽ‪ .‬إال أف المعتزلة ترل العكس؛ أم أنيا تنفي القدرة عمى‬
‫ا﵀ بما أف اإلنساف ىك مف يقدر عمى خمؽ أفعالو لكحدة‪ .‬لذا فمف أجؿ تنزيو ا﵀‪ ،‬بحسب المعتزلة‪ ،‬كجب نفي كؿ الصفات األزلية‪،‬‬
‫بؿ أف ا﵀ في األزؿ كاف ببل أسماء كببل صفات‪ .‬كبالتالي فإنو مف الضركرم نفي صفات العمـ كالقدرة كالحياة كالسمع كالبصر عف‬
‫الذات اإلليية كاال انتفت الكحدانية‪ 3.‬كلك تـ اثبات صفات أزلية تشارؾ ا﵀ في قدمو‪ ،‬فإف ىذا ىك عيف الشرؾ‪ .‬يمخص الغزالي مكقؼ‬
‫المعتزلة الذم امتزج بالفمسفة‪" :‬اتفقت الفبلسفة عمى استحالة إثبات العمـ كالقدرة كاإلرادة‪ ،‬لممبدأ األكؿ‪ ،‬كما اتفقت عميو المعتزلة‪،‬‬

‫عبد الكريـ الشيرستاني‪ :‬الممؿ كالنحؿ‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬المكتبة العصرية‪ ،‬بيركت‪ ،2003 ،‬ص ‪ .68‬أيضا‪ :‬ىارم‪ .‬أ‪ .‬كلفسكف‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ .208‬أيضا‪ :‬نصر حامد أبك زيد‪ :‬االتجاه العقمي في التفسير‪ -‬دراسة‬
‫في قضية المجاز في القرآف عند المعتزلة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ .22‬يقكؿ عف مكقؼ الجيمية‪:‬‬
‫جيـ بف صفكاف‪ :‬نفي مشابية ا﵀ لؤلشياء‪ ..‬كامتنع كصؼ ا﵀ تعالى بأنو شيء أك حي أك عالـ أك مريد(‪ )...‬كقاؿ ال‬
‫أصفو بكصؼ يجكز إطبلقو عمى غيره‪ .‬ككصفو بأنو قادر كمكجد كفاعؿ كخالؽ كحيي كمميت ألف ىذه األكصاؼ مختصة‬
‫بو كحده (‪ )...‬كصؼ الو بصفات نفى أف تطمؽ عمى االنساف كمنيا الكصؼ بأنو قادر كنفى القدرة عمى اإلنساف (‪)...‬‬
‫القكؿ بالجبر إذف ىك محاكلة لتأكيد التكحيد‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫نصر حامد أبك زيد‪ :‬االتجاه العقمي في التفسير‪ -‬دراسة في قضية المجاز في القرآف عند المعتزلة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.96‬‬
‫‪3‬‬
‫عبد القاىر البغدادم‪ :‬الفرؽ بيف الفرؽ كبياف الفرقة الناجية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.104‬‬

‫‪181‬‬
‫كزعمكا أف ىذه األسامي كردت شرعا‪ ،‬كال يجكز اطبلقيا لغة(‪ )...‬كال يجكز اطبلؽ صفات زائدة عمى ذاتو‪ ،‬كزعمكا أف ذلؾ يكجب‬
‫كثرة"‪ 1.‬ككؿ كثرة تمغي الكحدة التي ىي أخص صفات ا﵀ تعالى‪.‬‬

‫بالنسبة لئلعتزاؿ‪ ،‬فإف تأكيؿ النصكص القرآنية الدالة عمى التشبيو أمر ال مفر منو‪ .‬عمى اعتبار أف اآليات المحكمة ىي التي‬
‫تكافؽ منطؽ العقؿ‪ .‬ككؿ آية ال تسير في سياقو فإف ىذا يدؿ عمى أنيا متشابية‪ .‬كمنطؽ التأكيؿ عند المعتزلة ال يختمؼ عف منطقو‬
‫عند ابف رشد الذم يستحسنيا مقارنة باألشعرية‪ .‬إذ عرؼ التأكيؿ بقكلو‪" :‬ىك اخراج داللة المفظ مف الداللة الحقيقية إلى الداللة‬
‫المجازية مف غير أف يخؿ في ذلؾ بعادة لساف العرب"‪ 2.‬كبالفعؿ‪ ،‬فإف آية (اليد المغمكلة) سابقة الذكر تعبير حسي عف اإلمساؾ‬
‫‪3‬‬
‫عف النفقة‪ .‬كبالتالي ييفيـ منيا أف خير ا﵀ ممسؾ عنيـ‪ ،‬كال تفيـ بالمدلكؿ الظاىر ككأف ﵀ يد تـ غميا أك غميا كقيدىا عف قصد‪.‬‬
‫كبالعمكـ فاليد في عادة لساف العرب داللة عمى الفعؿ كالقدرة‪ .‬ىنا يغدك التأكيؿ عند المعتزلة استراتجية لنفي الصفات‬
‫‪ Antiattributists‬مف خبلؿ تأكيؿ الصفات المشتركة بيف ا﵀ كاإلنساف‪ ،‬أم عدـ أخذىا مأخذا حرفيا ككميا‪ .‬كىذا ىك بالذات‬
‫المفيكـ النيائي لمتأكيؿ‪ 4.‬فكؿ اآليات القرآنية التي قد تفيد الجسمية كالتشبيو باإلنساف مثؿ الكجو كاليد كالساؽ كالجنب كالعجب كالفرح‬
‫كالشركر كاألسؼ كالغضب كالمكرة كالكيد‪...‬الخ كميا عبلمات نقص‪ ،‬بؿ تمثؿ عيكب أخبلقية ال يمكف أف تسند عمى كجو الحقيقة‬
‫إلى الذات اإللي ية‪ .‬فالكماؿ اإلليي ال يحتمؿ ذلؾ‪ ،‬لذا فإف استعماليا كاف ألغراض لغكية كسياقية في الخطاب الذم ييدؼ اإلقناع‬
‫ال غير‪ 5.‬كال يمكف أف تدؿ عمى حقيقة معناىا المتداكؿ‪ .‬كقد كاف الشيخ أبك حامد الغزالي (تكفي ‪ 505‬ق) قد طرح مشكمة استعماؿ‬
‫القرآف األلفاظ التي قد تفيد التشبي و‪ ،‬كالتي تسحب الفيـ البشرم نحك تجسيـ الذات اإلليية أك أنسنتيا‪ ،‬عمى الرغـ مف أف ا﵀ يعمـ‬
‫مسبقا‪ ،‬بكصفو كمي العمـ‪ ،‬ما ستنتج مثؿ ىذه المغة‪ .‬بالنسبة لمدكتكر نصر حامد أبكزيد (‪ ،)2010/1943‬فإف "جكىر المشكمة التي‬
‫كاجيت المعتزلة تكمف في أف الكحي قد اختار المغة العربية كنظاـ اشارم بيف ا﵀ كاإلنساف كىي لغة بطبيعتيا بشرية كمحدكدة‪ ،‬ال‬
‫تتسع إال لمدارؾ البشر كمعارفيـ"‪ 6.‬بمعنى أنيا عاجزة عف كصؼ الذات اإلليية عمى حقيقتيا‪ .‬كبالنسبة لنا فإف استعماؿ القرآف لمغة‬
‫التشبييية‪ ،‬كاف مف أجؿ حصكؿ تمقى ناجح مع كعاء التمقي األصمي‪ .‬فمك استعماؿ القرآف لغة تنزييية خالصة في التنزيو‪ ،‬لكاف‬
‫اإلبياـ كالنفكر مصير المتمقي‪ ،‬فمف أجؿ كركد القرآف بصكرة مقبكلة يجب االستناد عمى المجاؿ التداكلي المغكم كالعقدم السابؽ‪ ،‬كلك‬
‫أنو كثني كجاىمي‪ ،‬فميس ىناؾ طريقة أخرل أنجع في تكصيؿ الرسالة الجديدة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫أبك حامد الغزالي‪ :‬تيافت الفبلسفة‪ ،‬تحقيؽ عمي بكممحـ‪ ،‬دار ككتبة اليبلؿ لمطباعة كالنشر‪ ،‬بيركت‪ ،2002 ،‬المسألة السادسة‪،‬‬
‫ص ‪ .117‬أيضا‪ :‬ىارم‪ .‬أ‪ .‬كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.209‬‬
‫‪2‬‬
‫ابف رشد‪ :‬فصؿ المقاؿ كتقرير ما بيف الشريعة كالحكمة مف اتصاؿ‪ ،‬الشركة الكطنية لمنشر كالتكزيع‪ ،‬الجزائر‪ ،1982 ،‬ص ‪.34‬‬
‫‪3‬‬
‫نصر حامد أبك زيد‪ :‬االتجاه العقمي في التفسير‪ -‬دراسة في قضية المجاز في القرآف عند المعتزلة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ص ‪-149‬‬
‫‪.155‬‬
‫‪4‬‬
‫ىارم‪ .‬أ‪ .‬كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.303‬‬
‫‪5‬‬
‫نصر حامد أبك زيد‪ :‬االتجاه العقمي في التفسير‪ -‬دراسة في قضية المجاز في القرآف عند المعتزلة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.158‬‬
‫‪6‬‬
‫نصر حامد أبك زيد‪ :‬االتجاه العقمي في التفسير‪ -‬دراسة في قضية المجاز في القرآف عند المعتزلة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.158‬‬

‫‪181‬‬
‫إف نفي ال صفات‪ ،‬سكاء عند المعتزلة أك غيرىـ‪ ،‬مكجو إلى مسألة أساسية كىي نفي الشيئية عنو‪ .‬فبل يمكف القكؿ أف ا﵀ شيء‪.‬‬
‫فقد كاف أبك زكريا الصيمرم يصر عمى أنو ال يجب عمينا أف نقكؿ إف البارم شيء‪ 1.‬ألنو ال يمكف فيـ الشيئية إال مف خبلؿ‬
‫العكارض المادية كمختمؼ الصفات المحمكلة‪ .‬بؿ أف أبا سميماف المنطقي قد قاؿ‪" :‬ال ينبغي أف يطمؽ عمى البارم مكجكد‪ .‬ألف‬
‫المكجكد مقتض لمكاجد ال محالة (‪ )...‬كا﵀ تعالى يجؿ عف ىذه التربة ألنو ال كاجد لو‪ ،‬كلك كاف لو كاجد لكانت مرتبة الكاجد فكؽ‬
‫مرتبة المكجكد‪ .‬قمنا لو‪ :‬قد قيؿ‪ :‬معبكد كمحمكد كمكجكد‪ ،‬كما ضارع ذلؾ ؟ فقاؿ إف أطمؽ المكجكد عمى اسـ فقط جاز"‪ 2.‬تطرح‬
‫المشكمة ىنا‪ ،‬عمى أساس أف مكجكدية المكجكد داخمة في الكجكد الذم ىك أشمؿ التصكرات التي ال يمكف تصكر فكرة أشمؿ منيا‪.‬‬
‫لذا يقاؿ في المغة الفقيية بأف ا﵀ مكجكد قبؿ كؿ مكجكد‪ ،‬بؿ ىك شرط المكجكدية عمى اإلطبلؽ‪.‬‬

‫كقد بمغ ببعض الكتاب العقبلنييف‪ ،‬في السياقات اإلسبلمية الكبلسيكية‪ ،‬مثؿ ابف المقفع الذم نسب إليو نص فيو ينتقد تصكر‬
‫القرآف ﵀‪ " :‬إنيا صكرة تشبييية ال تدؿ عمى الدالة اإلليية‪ .‬ىا ىك ا﵀ يستكم عمى عرشو‪ ،‬ثـ ينزؿ مف عمى عرشو ( سكرة النجـ‪،‬‬
‫‪ )9-8‬حتى يصبح بينو كبيف نبيو قاب قكسيف أك أدنى‪ .‬كيشعر كذلؾ باليـ كالحزف كالغضب‪ .‬كما يظير قميؿ الحيمة؛ حيث يعجز‬
‫أماـ الشر‪ ،‬كاألسكأ مف ذلؾ نجده عاجز أماـ خمقو الذيف خمقيـ بيديو (‪ )...‬يمقى عمييـ الشيب (‪ )...‬كمف صفات ا﵀ التي تشبو‬
‫صفات البشر نجدىا في افتخاره دكما بأنو خمؽ السمكات األرض‪ ،‬دكف ابداء السبب‪ .‬كما يستطيع أعداؤه قتؿ أنبيائو الذيف أرسميـ‬
‫إلى الناس‪ ،‬كنجده ال يثأر لذلؾ كانما يرجئ العقكبة إلى يكـ الديف (‪ )...‬كأحيانا ينبع الشر منو مباشرة‪ ،‬كىذا كاضح في ابتبلئو لمناس‬
‫بالمرض‪ ،‬فيك بذلؾ ييمؾ خمقو الذم خمقو بيديو"‪ 3.‬كالحؽ أف ىذا النص صادـ جدا لمكعي اإلسبلمي القديـ كالحالي‪ ،‬عمى أساس أنو‬
‫ال ينتمي إلى عمـ الكبلـ إطبلقا‪ ،‬بؿ ىك نص فمسفي نابع مف مصادر عير اسبلمية‪ .‬ألنو ال يستشكؿ مسألة التشبيو كالتنزيو مف‬
‫زاكية أنطكلكجية أك داللية بقدر ما ينتقد صكرة ا﵀ في القرآف عمى أنيا ال تتطابؽ كمفيكـ األلكىية المثالي‪ .‬لكف يبدك أف كاتب النص‬
‫ال يعمـ بالمفاىيـ اإلسبلمية حكؿ االبتبلء كالحرية كاإلرجاء‪ .‬بؿ أف ميمة عمماء الكبلـ بالضبط ىك التصدم لمثؿ ىذه النصكص‬
‫التي تقدح في القرآف‪ ،‬كىنا يظير دكر الدفاع عف العقائد اإليمانية باألدلة التفصيمية‪.‬‬

‫نجد منظكر أكثر اعتداال في الفيـ المعنكم لبعض مصطمحات القرآف التي تكحي بالحسية‪ .‬مثؿ مسألة الميزاف اإلليي‪ ،‬فربما أف‬
‫العامة مف الناس تفيمو فيما حسيا متجسد في كفتيف كقضيب عمكدم‪ .‬كىذا ما نجده عند أبك "سممة عثماف بف مقسـ البرم الكندم"‬
‫(تكفي ‪ 173‬ىػ) كالذم لـ يكف قدريا فحسب (أم معتزليا)‪ ،‬بؿ تميز أنو كاف يفسر معنى الميزاف الذم ستكزف بو األعماؿ يكـ‬
‫اف﴾ [الرحمف‪ ،]7 ،‬بأف المقصكد منو العدؿ اإلليي‪ ،‬ككاف يسخر مف أم‬ ‫ً‬
‫ض ىع ا ٍلم ىيز ى‬
‫اء ىرفى ىعيىا ىكىك ى‬
‫َّم ى‬
‫﴿كالس ى‬
‫الحساب‪ ،‬مثؿ قكلو تعالى ى‬
‫تفسير حرفي لو‪ .‬كبقكلو ىذا يككف ابف مس قـ قد اقترب مف االعتزاؿ‪ ،‬لذلؾ فيك يحسب عمييـ‪ .‬يبدك أنو كانت لو في سنيف شبابو‬
‫عبلقة بكاصؿ بف عطاء‪ ،‬كيبدك أنو تعمـ عمى يد عمرك بف عبيد قكلو بأف أبا ليب لـ يكف لو ذكر في أكؿ ما انزؿ مف القرآف‪،‬‬

‫‪1‬‬
‫أبك حياف التكحيدم‪ :‬المقابسات‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.78‬‬

‫‪2‬‬
‫أبك حياف التكحيدم‪ :‬المقابسات‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.80-79‬‬
‫‪3‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.57‬‬

‫‪182‬‬
‫فافتراض ىذا الذكر يعني أنو كاف ممعكنا في األزؿ"‪ 1.‬كىنا نبلحظ تكافؽ نظرية اإلعتزاؿ في حرفية بعض الكممات القرآنية كبيف‬
‫مكقفيـ مف مسألة خمؽ القرآف التي ناقشناىا في المحاضرة السابقة‪ .‬كما يقاؿ عمى الميزاف يقاؿ عمى الجمكس عمى العرش الذم ال‬
‫يمكف أف يفيـ فيما حرفيا‪ ،‬كىنا يتمقى المعتزلة مع المذىب الفقيي عند الشافعي الذم رفض التحدث عف كيفية االستكاء عمى‬
‫العرش‪ .‬بالنسبة لمبعض فإف الجمكس عمى العرش أك حتى االستكاء مسألة استعارية خالصة‪ 2.‬كحتى رؤية ا﵀ يكـ القيامة ليا مدلكؿ‬
‫الرحمة أكثر مما ليا مدلكؿ اإلبصار الحسي‪ ،‬ككجب تأكيؿ آيات النظر تأكيبل يفيد طمب الرحمة اإلليية‪" .‬فاإلنساف ال يستطيع رؤية‬
‫ا﵀ ألف ا﵀ ال يتصؼ بأنو شيء ‪ ،‬ككذلؾ بسبب أنو ليس ىناؾ مسافة تفصؿ بينيما‪ ،‬فاإلنساف ال يستطيع أف يرل إال األشياء التي‬
‫يفصؿ بينو كبينيا مسافة معينة‪ .‬ىذه النقطة تكضح التطابؽ الشديد بيف الجيمية كبيف المعتزلة‪ .‬ففي حيف أف المعتزلة يركف أف‬
‫استحالة رؤية ا﵀ سببيا يرجع إلى أف ا﵀ ال يدرؾ بالحكاس‪ ،‬فإف الجيمية كانكا أشد تطرفا؛ إذا قالكا بأف أيضا العقؿ يأبى ذلؾ‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫فمعرفة ا﵀ تتأتى فقط عف طريؽ التخميف"‪.‬‬

‫كالحؽ أف قدرة العقؿ البشرم عمى ادراؾ حقيقة األلكىية قد طرحت في كؿ الثقافات البشرية كفي كؿ العصكر‪ .‬كىذا سبينك از‬
‫(تكفي ‪ ) 1677‬الذم فكر نقديا الديانة الييكدية المعركفة بالتجسيـ‪ ،‬قد انتيى إلى أف الفيـ الحرفي ال يمكف أف يككف المنيج المبلئـ‬
‫(خمؽ اإلنساف عمى صكرة ا﵀) بشكؿ حرفي‪ .‬إنيا مجرد استعارة‪ .‬ىؿ‬
‫لمقاربة النصكص الدينية‪ .‬ففبل يمكف أف نفيـ ىذه الكممات ي‬
‫تؤمف حقا بأننا نحف البشرػ بعضنا أصـ أك مقكس الظير أك مصاب باإلمساؾ أك مكتئب‪ ،‬خمقنا عمى صكرة ا﵀ (‪ )...‬الجشعيف‬
‫كالقتمة ىؿ خمقكا ىـ أيضا عمى صكرة ا﵀ ؟"‪ 4‬إف النقص الفطرم في البشر ال يمكف أف ينحدر مف أصكؿ إليية أك ينتسب إلييا‪.‬‬
‫كفي ىذا نقد قكم لمعقيدة الييكدية المجسمة‪.‬‬

‫لقد انتيى التنزيو اإلعتزالي إلى ضرب مف المكاقؼ المتطرفة‪ ،‬كىذا ما نجده مثبل عند "ىشاـ بف عمرك الفكطي (مف معتزلي‬
‫البصرة تنسب إليو فرقة اليشامية كىي مخالفة لفرقة اليشامية الشيعية) [كالذم]منع كصؼ ا﵀ تعالى حتى ببعض األلفاظ المكجكدة‬
‫في القرآف كالحديث"‪ 5.‬كىذا يكشؼ االحتكاـ الكمي لمعقؿ‪ ،‬كاعتقادىـ بأف السمع يجب أف يتقيد بمنطؽ العقؿ البشرم‪ ،‬أم جكاز نفي‬
‫أصكؿ قرآنية أك حديثية إف كانت ال تتكافؽ مع منطؽ العمـ السميـ‪ .‬كعمى ىذا المنطؽ بالذات ثار األشعرية‪ .‬إذ أف التصكير التنزييي‬
‫المطمؽ لمذات اإلليية‪ ،‬عمى حسب ما تصكرتو كاستيدفتو المعتزلة‪ ،‬يظير بأنو أمر بعيد كمحاؿ‪ ،‬كىذا يعكد إلى ارتباط الفيـ البشرم‬

‫‪1‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.119 -118‬‬
‫‪2‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ص ‪.285-158-149‬‬
‫‪3‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪ .744-743‬أيضا‪ :‬يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ص ‪-46‬‬
‫‪.53-47‬‬
‫‪4‬‬
‫إرفيف‪ .‬د‪ .‬يالكـ‪ :‬مشكمة سبينك از (ركاية)‪ ،‬ترجمة خالد الجبيمي‪ ،‬منشكرات الجمؿ‪ ،‬بيركت‪ -‬بغداد‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2019 ،‬ص‬
‫‪.103‬‬

‫‪5‬‬
‫ىارم‪ .‬أ‪ .‬كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.215‬‬

‫‪183‬‬
‫بالمحسكس ميما كاف تخيميا كصكريا‪ 1.‬فبل يمكف لمغة دينية مكجية لمعامة مف الناس أف تككف ببل خبرة حسية كمستقمة بالمطمؽ عف‬
‫التجارب المكجكدة كالمعيكش اليكمي لئلنساف‪ .‬لذا قاؿ كانط ممخصا التجربة الدينية في ادراؾ المقدس المتعالي‪" :‬إف التشبيو ‪der‬‬
‫‪ anthropomorphism‬الذم ال يكاد البشر يتفادكنو في نطاؽ التمثؿ النظرم ﵀ كلماىيتو‪ ،‬كالذم ىك عمى كؿ حاؿ غير مضر إلى‬
‫حد ما‪ ،‬ىك مع ذلؾ‪ ،‬بالنظر إلى عبلقتنا العممية بإرادتو كبالنسبة إلى خمقيتنا ‪ Moralität‬ذاتيا‪ ،‬أمر خطير كأشد ما يككف؛ كذلؾ‬
‫أننا عندئذ نصنع ألنفسنا إليا"‪ 2.‬إف التجسيـ يشتت الذات اإلليية كفؽ اختبلؼ البشر البلمتناىي‪.‬‬

‫ثالثا‪ -‬الفرق المعتدلة‪:‬‬

‫بالمعطمة نظير نفييا الصفات عمى ا﵀‪ ،‬ككأنيـ يصكرف ا﵀ عدما عمى حد قكؿ ذلؾ األعرابي الذم استمع‬
‫كصفت المعتزلة ي‬
‫لممناظرة حكؿ الصفات‪ .‬كبالنسبة البف خمدكف فإنيـ مبتدعة بالمعنى السمبي )‪ (hyrsie‬أم ىرطقة كاختيار سيئ‪ .‬حيث قاؿ‪" :‬كألؼ‬
‫المتكممكف في التنزيو حدثت بدعة المعتزلة في تعميـ ىذا التنزيو في آم السمكب فقضكا بنفي صفات المعاني مف العمـ كالقدرة‬
‫كاإلرادة كالحياة زائدة عمى أحكاميا لما يمزـ عمى ذلؾ مف تعدد القديـ بزعميـ"‪ 3،‬كىذا الحكـ مبرر عمى اعتبار ميكلو األشعرية‬
‫المنزىة حد النفي المطمؽ‪ ،‬يتقدـ األشعرم بكصفو معتدؿ‬
‫المشبية حد التجسيـ المعيب أك ي‬
‫كالغزالية الظاىرة‪ .‬كفي مقابؿ تطرؼ الفرؽ ي‬
‫كمتكسط‪" :‬كقاـ بذلؾ الشيخ أبك الحسف األشعرم إماـ المتكمميف فتكسط بيف الطرؽ كنفي التشبيو‪ ،‬كأثبت الصفات المعنكية كقصر‬
‫التنزيو عمى ما قصره عميو السمؼ"‪ 4.‬ىنا يتجسد طريؽ األشعرية باعتباره عكد كليس ابتداع‪ .‬كعندما يتحدث ابف خمدكف عمى الحنابمة‬
‫كاألشاعرة‪ ،‬الذيف استعممكا عبارة "جسـ ال كاألجساـ" في كصؼ ا﵀ تعالى‪ ،‬فإنو ال يعتبرىـ مبتدعة بالمعنى السمبي الذم يككف‬
‫‪5‬‬
‫مصيره النار‪ ،‬إنما بمدلكؿ ابتداع شيء جديد مف أجؿ احداث تكازف‪.‬‬

‫يقكؿ األشعرم في معرض رده عمى مسألة العبلقة الشبيية بيف الخالؽ كالمخمكؽ‪ :‬فإف قاؿ‪ :‬لما زعمتـ أف البارم سبحانو ال‬
‫يشبو المخمكقات ؟ قيؿ لو‪ :‬ألنو لك أشبييا لكاف حكمو في الحدث حكميا (‪ )...‬كيستحيؿ أف يككف المحدث لـ يزؿ قديما‪ .‬كقد قاؿ‬
‫ىح هد﴾[اإلخبلص‪ 6.]4،‬فيذه اآليات كفيمة بتأكيد تفرد ا﵀ بالمقابمة مع‬ ‫ً ًً‬
‫]﴿كلى ٍـ ىي يك ٍف لىوي يكفي نكا أ ى‬
‫ا﵀ تعالى ﴿لىٍي ىس ىكمثٍمو ىش ٍي هء﴾[الشكرل‪ 11 ،‬ى‬
‫بقية مخمكقاتو‪ ،‬فميس ىناؾ مشابية كال مساكاة بينو كبينيـ‪ .‬ككفؽ ىذه اآليات‪ ،‬اتفؽ أغمبية المفسريف عمى أف ا﵀ ال يشبو أم مف‬

‫‪1‬‬
‫نصر حامد أبك زيد‪ :‬االتجاه العقمي في التفسير‪ -‬دراسة في قضية المجاز في القرآف عند المعتزلة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.159‬‬
‫‪2‬‬
‫كانط‪ :‬الديف في حدكد مجرد العقؿ‪ ،‬ترجمة فتحي المسكيني‪ ،‬جداكؿ لمنشر كالتكزيع‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2012 ،‬فقرة ‪-VI‬‬
‫‪ ،168‬ص ‪.167‬‬

‫‪3‬‬
‫عبد الرحمف بف خمدكف‪ :‬المقدمة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.429‬‬
‫‪4‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.430-429‬‬
‫‪5‬‬
‫ىارم‪ .‬أ‪ .‬كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.53‬‬
‫‪6‬‬
‫أبي الحسف األشعرم‪ :‬كتاب الممع في الرد عمى أىؿ الزيغ كالبدع‪ ،‬مطبعة مصر‪ ،‬القاىرة‪ ،1955 ،‬ص ‪.20-19‬‬

‫‪184‬‬
‫المكجكدات‪ ،‬كبالتالي فإف اعماؿ المخيمة لتصكر ا﵀ يؤكؿ إلى الفشؿ‪ 1،‬نظ ار ألف مخيمتنا مؤسسة عمى صكر الكجكد ال غير‪ ،‬فبل‬
‫يمكف تخيؿ إال ما ىك مكجكد مؤسس عمى خبرة ما‪.‬‬

‫كعف سؤاؿ الجسمية يقكؿ‪ :‬فإف قاؿ قائؿ‪ :‬لـ أنكرتـ أف يككف ا﵀ جسما ؟ قيؿ لو‪ :‬أنكرنا ذلؾ ألنو ال يخمك أف يككف القائؿ‬
‫لذلؾ أراد ما أنكرتـ أف يككف طكيبل عريضا مجتمعا‪ ،‬أك أف يككف أراد تسميتو جسما كاف لـ يكف طكيبل عريضا مجتمعا عميقا‪ .‬فإذا‬
‫كاف أراد ما أنكرتـ أف يككف طكيبل عريضا مجتمعا كما يقاؿ ذلؾ لؤلجساـ فيما يمينا فيذا ال يجكز‪ ،‬ألف المجتمع ال يككف شيئا‬
‫كاحدا؛ ألف أقؿ قميؿ االجتماع ال يككف إال مف شيئيف؛ ألف الشيء الكاحد ال يككف لنفسو مجماعا‪ .‬كقد بينا آنفا أف ا﵀ عز كجؿ‬
‫شيء كاحد‪ .‬فبطؿ ذلؾ أف يككف مجتمعا‪ .‬كاف أراد لـ ال تسمكنو جسما كاف لـ يكف طكيبل عريضا مجتمعا ؟ فاألسماء ليست إلينا‪،‬‬
‫كال يجكز أف نسمي ا﵀ تعالى باسـ لـ يسـ بو نفسو‪ ،‬كال سماه بو رسكلو‪ ،‬كال أجمع المسممكف عميو كال عمى معناه"‪ 2.‬ىذه ىي‬
‫استراتيجية األشاعرة في كصؼ ا﵀‪ ،‬أم التقيد بما كصؼ ا﵀ ذاتو المتعالية‪ ،‬كمف بعد ذلؾ التقيد بممفكظات السنة النبكية عمكما‬
‫كاألحاديث خصكصا‪ ،‬كبعد ذلؾ أىؿ السنة كالجماعة مما اتفؽ عميو المسممكف‪ .‬كقد ذكر األشعرم‪ ،‬في المقاالت‪ ،‬بأف أبك اليذيؿ‬
‫العبلؼ شيخ المعتزلة المشيكر‪ ،‬قد حكى عمى ىشاـ بف الحكـ صاحب فرقة اليشامية مف الركافض‪ ،‬كىك كما أظيرنا مف المجسمة‬
‫الغميظة‪ ،‬أنو قاؿ ا﵀ جسـ ال كاألجساـ‪ ،‬كمعنى ذلؾ أنو شيء مكجكد‪ 3.‬كقد اشتغؿ الغزالي‪ ،‬في المسألة التاسعة مف التيافت‪ ،‬عمى‬
‫اثبات عجز الفبلسفة كالمتكمميف المتفمسفة عف إقامة الدليؿ عمى أف األكؿ‪ ،‬أم ا﵀ سبحانو كتعالى‪ ،‬ليس بجسـ‪ 4.‬كبما أنو "ال يكجد‬
‫في القرآف لفظ يفيد كصؼ ا﵀ بأنو "ال جسـ"؛ كانما يكصؼ بأنو مكجكد ال يشبو أيا مف خمقو‪ ،‬كىذا ىك المعنى األكؿ لمتنزيو‪ ،‬أم‬
‫تنزيو ا﵀ عف أم شبو بالمخمكقات"‪ 5،‬فإف ىذا االستعماؿ ال يحرج أىؿ السنة كالجماعة‪ .‬كبالتالي فإف رفض التشبيو الكمي بيف ا﵀‬
‫كالمكجكدات‪ ،‬كاف مكجكدا حتى قبؿ المعتزلة كقبؿ األشاعرة‪ .‬كالقكؿ أف ا﵀ شيء ال كاألشياء‪ ،‬أك جسـ ال كاألجساـ‪ ،‬قكؿ مكجو‬
‫إلثبات كجكده كليس مف أجؿ حمؿ ىيئة ما عميو‪ 6.‬أك تجسيمو مثؿ بقية األجساـ الحسية‪ .‬فالتشبيو‪ ،‬كفؽ عقيدة اإلماـ أحمد بف‬
‫حنبؿ‪ ،‬ىك كفر بالقرآف‪ ،‬عمى أساس أنو قاؿ ليس كمثمو شيء‪ .‬لذا فبل يجب أخذ بعض القرآف كاغفاؿ البعض اآلخر‪ .‬فبل يمكف‬
‫نكراف االستكاء‪ ،‬ل كف ال يجب البت في كيفيتو ألف القرآف لـ يفعؿ‪ .‬كمف العمكـ بأف األشعرية تميؿ إلى الحنبمية المتكممة أكثر مف أم‬
‫‪7‬‬
‫فرقة كبلمية أخرل‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫الزمخشرم‪ :‬الكشاؼ عف حقائؽ التنزيؿ كعيكف األقاكيؿ في كجكه التأكيؿ‪ ،‬الجزء الرابع‪ ،‬مكتبة مصر‪ ،‬القاىرة‪ ، ،‬الطبعة الػأكلى‪،‬‬
‫‪ ،2010‬ص‪.190‬‬
‫‪2‬‬
‫أبي الحسف األشعرم‪ :‬كتاب الممع في الرد عمى أىؿ الزيغ كالبدع‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.24-23‬‬
‫‪3‬‬
‫أبي الحسف األشعرم‪ :‬مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف‪ ،‬الجزاء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.165‬‬
‫‪4‬‬
‫أبك حامد الغزالي‪ :‬تيافت الفبلسفة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ص ‪.142-139‬‬
‫‪5‬‬
‫ىارم‪ .‬أ‪ .‬كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.55‬‬
‫‪6‬‬
‫جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬ترجمة سالمة صالح‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬منشكرات الجمؿ‪،‬‬
‫بغداد – بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2008 ،‬ص ‪.508‬‬

‫‪7‬‬
‫أبي حامد بف مرزكؽ‪ :‬براءة األشعرييف مف عقائد المخالفيف‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مطبعة العمـ‪ ،‬دمشؽ‪ ،1967 ،‬ص ‪.12‬‬

‫‪185‬‬
‫ميزة الفيـ األشعرم لمذات كالصفات‪ ،‬أنيا جامعة تأخذ بكؿ القرآف كليس ببعضو مثمما يفعؿ الباقي مف الفرؽ‪ .‬فيك ال ينكر‬

‫الجسمية مثمما ال يقع فييا كقكعا فجا‪ .‬فإزاء قكلو تعالى ﴿لً ىما ىخمى ٍق ي‬
‫ت بًىي ىدمَّ﴾ [ص‪ ]75 ،‬ال يمكف لنا بالمطمؽ التأكيؿ كفؽ مدلكؿ‬
‫إثبات النعمة أك القدرة‪ ،‬كلك أف ىذا صحيح‪ ،‬إال أنو ال يمكف انكار جرياف المفظ عمى ظاىرة‪ .‬لكف ىؿ ىذا يدؿ أيضا عمى مدلكؿ‬
‫اليديف ىك المدلكؿ الحسي المرتبط بالجكارح‪ ،‬ألف ىذا تجسيـ كتشبيو صريح يتنافى مع نصكص معمكمة كمحكمة‪ .‬لذا فإف المكقؼ‬
‫السميـ ىك اثبات اليديف لكف ليس كبقية األيدم‪ .‬أم أف ﵀ يداف ببل كيؼ‪ 1.‬كىذا ما يمكف أف يفيـ في عبارة "جسـ ال كاألجساـ"‪.‬‬
‫ككؿ مف أنكر الصفات‪ ،‬عمى طريقة الجيمية‪ ،‬فقد كقع في تقميد النصارل‪ .‬فالقرآف أثبت السمع كالعمـ كالكجو كاليديف كالعيف كمف ثمة‬
‫‪2‬‬
‫كبالتالي‪ ،‬فإف مسألة رؤية ا﵀ يكـ القيامة‪ ،‬معمكمة بصكرة بدييية في نسؽ كمنيج األشاعرة‪ .‬يقكؿ في كتاب الممع‪:‬‬ ‫الرؤية‪...‬الخ‪.‬‬
‫"إف قاؿ قائؿ‪ :‬لـ قمتـ إف رؤية ا﵀ تعالى باألبصار جائزة مف باب القياس ؟ (أم أف األدلة النقمية عف الرؤية ال تناقش مطمقا عند‬
‫األشعرم) قيؿ لو ‪ :‬قمنا ذلؾ ألف ما ال يجكز أف يكصؼ بو البارم تعالى كيستحيؿ عميو فإنما ال يجكز ألف في تجكيزه إلثبات حدثو‪،‬‬
‫أك اثبات حدث معنى فيو‪ ،‬أك تشبييو‪ ،‬أك تجنيسو‪ ،‬أك قمبو عف حقيقتو‪ ،‬أك تجكيزه‪ ،‬أك تظميمو‪ ،‬أك تكذيبو‪ .‬كليس في جكاز الرؤية‬
‫‪3‬‬
‫إثبات حدث‪ ،‬ألف المرئي لـ يكف مرئيا ألنو محدث‪ ،‬كلك كاف مرئيا لذلؾ لمزميـ أف يرل كؿ محدث‪ ،‬كذلؾ باطؿ عنده"‪.‬‬

‫خالصة‪.‬‬

‫نحف ازاء جدؿ حقيقي كخطير حكؿ حقيقة ا﵀‪ ،‬ىك جدؿ فمسفي كاف معركفا في سياقات قديمة‪ ،‬لكف خصكصية عمـ الكبلـ‬
‫اإلسبلمي أنو امتمؾ كثيقة أصمية كىي القرآف تخبرنا عف صفات إليية محددة‪ .‬لذا فإف كؿ نقاش كبلمي ال يجب أف يخرج عف القرآف‬
‫الكريـ كنص تأسيسي كقاعدم ال يمكف الجدؿ بمعزؿ عنو‪ .‬في حيف أف الفبلسفة كاألدباء‪ ،‬مثمما نجده عند التكحيدم مثبل‪ ،‬مف‬
‫منطمؽ فكرم خمص‪ ،‬قد تناقشكا عف السبب الذم أكجب أف نسمي ا﵀ بالحكيـ كال نسميو بالعاقؿ‪ ،‬عمى الرغـ مف أف مدلكؿ الكممتيف‬
‫‪/‬حكـ)‪ 4.‬السبب ىك أف القرآف سمح باستعماؿ صفة الحكمة دكف صفة العقؿ‪.‬‬
‫(عقؿ ى‬
‫كاحد مف الناحية المغكية كىك التقييد ى‬

‫لمعقؿ حدكد ال يمكف تجاكزىا‪ ،‬كبحسب كانط فإف كؿ ما ال يتزمف كال يتحيز‪ ،‬ال يمكف أف يككف مكضكع لمعرفة ميما كانت‪.‬‬
‫ألف عقمنا ع اجز عف استيعاب المطمؽ مف الزماف كالمكاف‪ .‬لكف في حالة عمـ الكبلـ‪ ،‬فإف المنطمؽ ىك القرآف الكريـ‪ .‬كالذم بدكره‬
‫يطرح مشكبلت نظرية ىي التي أذكت النقاش حكؿ حقيقة الصفات كالذات اإلليية‪ .‬عمى اعتبار بنية القرآف مف نصكص محكمة‬
‫كنصكص متشابية‪ .‬ككؿ المكاقؼ المؤسسة لتصكر ا﵀ قد انطمؽ مف ىذا الجزء أك ذاؾ مف القرآف‪ .‬لكف المكقؼ األكثر نضجا ىك‬
‫الذم يمتمس "ركح القرآف" متجنبا الحرفية التي قد تكقع في نظرة حسية ال يقبميا مؤمف عاقؿ‪ ،‬كمتجنبا التصرؼ العقمي في آم القرآف‬
‫دكف اعتبار لمظاىر حيث تخبرنا النصكص عف صفات معمكمة كمتخيمة‪ .‬يبدك أف مكقؼ األشعرية أكثر تريثا لذا اعتبرناىا مكقفا‬

‫‪1‬‬
‫أحمد محمكد صبحي‪ :‬في عمـ الكبلـ‪ -‬دراسة فمسفية آلراء الفرؽ الكبلمية في أصكؿ الديف‪ ،‬الجزء الثاني‪ :‬األشاعرة‪ ،‬دار النيضة‬
‫العربية‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة الخامسة‪ ،1985 ،‬ص ‪.66-65‬‬
‫‪2‬‬
‫أبي الحسف األشعرم‪ :‬اإلبانة عف أصكؿ الديانة‪ ،‬الجزء‪ ،1‬تحقيؽ فكقية حسيف محمكد‪ ،‬دار االنصار‪ ،‬القاىرة‪ ،‬الطبعة األكلى‪،‬‬
‫‪ ،1977‬ص ‪.122-121‬‬
‫‪3‬‬
‫أبي الحسف األشعرم‪ :‬كتاب الممع في الرد عمى أىؿ الزيغ كالبدع‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.61‬‬
‫‪4‬‬
‫أبك حياف التكحيدم‪ :‬المقابسات‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.263‬‬

‫‪186‬‬
‫معتدال‪ ،‬ليس ألنو مكقؼ السنة كالجماعة فحسب‪ ،‬بؿ ألنو تعامؿ مع المكضكع بضرب مف المسؤكلية العممية العالية‪ ،‬ألنو لـ يض ًح‬
‫بالنصكص الصريحة التي تثبت السمع كالبصر كالرؤية كاالستكاء كالنزكؿ‪...‬الخ كما أنو لـ يض ًح بالعاقمية التي تنفر مف المشابية‬
‫كالمطابقة بيف الصفات اإلليية كالصفات البشرية‪ .‬لذا فإف القكؿ أف ﵀ جسـ ال كاألجساـ ىك استجابة متكسطة لشرط النص كلشرط‬
‫العقؿ‪ .‬لكف ىؿ استجابة ناجحة عمى جميع األصعدة ؟ نحف نشؾ في ذلؾ‪ ،‬عمى اعتبار أف القكؿ بأف "﵀ يد ال كاأليدم" ليس حبل‬
‫بقدر ما ىك بداية لمشكمة جديدة كحادة‪ :‬ما طبيعة اليد اإلليية ؟ يطرح ىذا السؤاؿ عمى أساس أف األشعرية لـ تستطع التضحية كمية‬
‫بحرفية النصكص الدينية‪ .‬السؤاؿ الضركرم بعد قاعدتيـ‪ :‬ما طبيعة ىذا الجسـ الذم ليس كالجسـ ؟ الجكاب الضركرم ىك أنو ليس‬
‫جسما ألننا عاجزكف‪ ،‬في ظؿ خبرتنا المعطاة‪ ،‬تصكر جسـ ليس كاألجساـ‪ .‬لذا فإف نياية تصكر األشعرية ىك اعتناؽ ال أدرية‬
‫بخصكص الجسمية‪ .‬كبالفعؿ‪ ،‬فإننا نجد بعض األشاعرة يعمنكف صراحة استحالة ادراؾ حقيقة الذات اإلليية ألنيا مخالفة جذريا‬
‫لخبرتنا البشرية‪ .‬فيذا الغزالي‪ ،‬الذم سقؼ عقيدة األشاعرة مف كؿ الجكانب يقكؿ‪" :‬ال يعرؼ ا﵀ إال ا﵀"‪ 1.‬كلئف معارفنا محدكدة‬
‫كمشركطة‪ ،‬كلئف ا﵀ مطمؽ ال ييحد كال يرتبط بأم حد‪ ،‬فإف الذات اإلليية محجكبة عنيا بصكرة كاممة‪ ،‬كىذا الحجب ال يعكد إلى‬
‫قصكر تاريخي في عقمنا‪ ،‬بؿ إلى طبيعة الذات اإلليية كطبيعة العقؿ البشرم معا‪ .‬فنحف مثبل عندما نقكؿ "ا﵀ أكبر" فإننا في‬
‫المستكل الداللي‪ ،‬نعتبره كذلؾ بالنسبة ألشياء كبيرة عندنا‪ 2،‬لذا فيك أكبر منيا بكثير‪ .‬كنفس المكقؼ استظيره أبف قيـ الجكزم‪ ،‬في‬
‫كتاب تمبيس ابميس‪ ،‬عندما قاؿ أف ماىية ا﵀ ال يعرفيا إال ا﵀‪ 3،‬عمى أساس أف بنية عقؿ اإلنساف ال تعقؿ إال المحدد كالمكجكد في‬
‫أطر زمانية مكانية‪.‬‬

‫ممارسة التأكيؿ في فيـ آيات القرآف التي تتحدث عف الذات كالصفات اإلليية ليس نافمة تفسيرية‪ ،‬بؿ ىك خطكة منيجية ال‬
‫يمكف االشتغاؿ بدكنيا‪ .‬كقد رأينا كيؼ حد ابف رشد التأكيؿ‪ ،‬مف أجؿ تحصيؿ فيـ مؤسس عمى عادة لساف العرب‪ .‬كالقرآف في نزكلو‬
‫لـ ييمؿ ىذه الخاصية مف أجؿ حصكؿ تمقى ناجح كمثمر‪ .‬كبالنسبة لمغزالي‪ ،‬فإف التأكيؿ حتمية منيجية‪ 4،‬باعتباره بياف لممعنى بعد‬

‫‪1‬‬
‫الغزالي‪ :‬المضنكف بو عمى غير أىمو‪ ،‬ضمف مجمكعة رسائؿ اإلماـ الغزالي‪ ،‬تنقيح كتصحيح ابراىيـ أميف محمد‪ ،‬المكتبة التكفيقية‪،‬‬
‫القاىرة‪ ،‬د س‪ ،‬ص ‪.362‬‬

‫‪2‬‬
‫الغزالي‪ :‬مشكاة األنكار‪ ،‬ضمف مجمكعة رسائؿ اإلماـ الغزالي‪ ،‬تنقيح كتصحيح ابراىيـ أميف محمد‪ ،‬المكتبة التكفيقية‪ ،‬القاىرة‪ ،‬د‬
‫س‪ ،‬ص ‪.294‬‬

‫‪3‬‬
‫ابف الجكزم البغدادم‪ :‬تمبيس ابميس‪ ،‬دار الفكر لمطباعة كالنشر كالتكزيع‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ .2001 ،‬كجكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ‬
‫الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.512‬‬

‫‪4‬‬
‫الغزالي‪ :‬قانكف التأكيؿ‪ ،‬ضمف مجمكعة رسائؿ اإلماـ الغزالي‪ ،‬تنقيح كتصحيح ابراىيـ أميف محمد‪ ،‬المكتبة التكفيقية‪ ،‬القاىرة‪ ،‬د س‪،‬‬
‫ص ‪.627‬‬

‫‪187‬‬
‫ازالة الظاىر‪ 1.‬كىذا القكؿ مكجو أساسا ضد اليشامية كبعض فرؽ الرافضة التي تأخذ النص عمى ظاىرة‪ .‬كحتى الحنابمة كقعكا في‬
‫‪2‬‬
‫حرفية مقمقة‪ ،‬حسب ابف رشد‪ ،‬فيما يتعمؽ بآية االستكاء كحديث النزكؿ (قكؿ الرسكؿ الكريـ‪ :‬ينزؿ ربنا كؿ ليمة الى سماء الدنيا)‪،‬‬
‫ككاف مكقؼ األشاعرة أكثر معقكلية ألنيـ مارسكا التأكيؿ لتفادم التجسيـ الذم يذكرنا بالعقبلنية الكثنية‪ ،‬فالنزكؿ ال يدؿ إال عمى‬
‫القرب‪ ،‬كليس فعؿ النزكؿ كالحركة كالتنقؿ ككؿ ما يستمزمو مف جسمية كتحيزية‪.‬‬

‫يمكف أف نحدد استراتيجية األشعرية أنيا الىكت سالب في النياية‪ ،‬مكجو لمخركج مف اعتقاد عبادة معبكد محدد‪ ،‬ألف القكؿ بأف‬
‫ا﵀ مكجكد ال كالمكجكدات ىك ما ينقذنا‪ ،‬نحف المسممكف‪ ،‬مف االعتقاد الخاطئ بمحدكدية ا﵀‪ ،‬كىك غير المحدكد فعبل‪ .‬كحتى عقيدة‬
‫محدكدية األسماء الحسني قابمة لممراجعة‪ ،‬عمى أساس أنيا ال تسجـ مع عظمة ا﵀ الذم ال يمكف أف يتحدد في خصاؿ بعينيا أك‬
‫أسماء معدكدة‪ 3.‬كىنا تتجمي مفارقة العقؿ الديني الذم يحدد البل محدد كباعترافو ببل محدكديتو يككف قد حدده مف جية أخرل‪ .‬في‬
‫ىذا الشأف يقكؿ الفكر الحداثي داريكش شايغاف‪ Daryush Shayegan‬في كتابو الذم عرؼ انتشا ار معتب ار بعنكاف‪Qu'est -ça :‬‬
‫‪ " :qu'une révolution religieuse‬مف دكف النفي كاف يمكف أف يعبد ا﵀ عمى أنو المخمكؽ كالمتناىي‪ ،‬ال عمى أنو البلمتناىي‪.‬‬
‫كمف خبلؿ ىذا النفي نشؾ في معارفنا عف الكجكد‪ ،‬المتأتية مف كاقع األشياء المتناىية‪ .‬كيمحي عند ىذا المستكل الثالكث أيضا‪ ،‬فبل‬
‫مكاف في عمـ البلىكت السالب ألب كاالبف كالركح القدس‪ ،‬كال كجكد إال لبلمتناىي اإلليي نفسو‪ .‬كىكذا‪ ،‬يبدك ا﵀‪ ،‬ال شيء‪ ،‬عدما‬
‫(‪ )...‬ىك ليس كائنا كال ليس كائنا‪ ،‬كليس كائنا ال كائنا في الكقت نفسو‪( .‬نيكقبلكس الككزم كاإلكبانيشاد‪ :‬المقدس ال يتجمى إال عبر‬
‫‪4‬‬
‫المفارقات)"‪.‬‬

‫كقد أشار ابف خمدكف‪ ،‬بأف القكؿ "بأف ا﵀ جسـ ال كاألجساـ" ليست مف كضع األشاعرة‪ ،‬بؿ كانت معركفة قبؿ المعتزلة بزمف‪.‬‬
‫كىذا داللة عمى انتقاؿ األفكار الفمسفية القديمة لتشكؿ مكاقؼ كبلمية‪ .‬فقد قاؿ األكلكف بأف "صكت ا﵀ ال كاألصكات"‪ ،‬كجية ال‬
‫كالجيات ك نزؿ ال كالنزكؿ‪ 5.‬كلئف كاف المستشرقكف مثؿ كلفسكف يرجعيا إلى عقائد بعض آباء الكنيسة مثؿ تركتكلياف‬
‫‪ 220/165( Terttullian‬ـ) ‪ ،‬فإف ابف خمدكف يرجعيا إلى أىؿ السمؼ كالجماعة اإلسبلمية األكلى‪ .‬كىذه العبارات دالة عمى مأزؽ‬
‫اإلنساف ازاء المقدس‪ ،‬ألنو يستمد كمية مداركو مف التجربة الطبيعية‪ ،‬في حيف أف كينكنة المقدس شيء مخالؼ كمية لما نتصكر‬
‫كندرؾ‪ .‬كبالتالي فإف جدؿ حقيقة الذات اإلليية‪ ،‬كعمى الرغـ مف أننا نمتكؾ نص محدد كىك القرآف الكريـ‪ ،‬إال أنو جدؿ يدؿ عمى‬

‫‪1‬‬
‫الغزالي‪ :‬إلجاـ العكاـ عف عمـ الكبلـ‪ ،‬ضمف مجمكعة رسائؿ اإلماـ الغزالي‪ ،‬تنقيح كتصحيح ابراىيـ أميف محمد‪ ،‬المكتبة التكفيقية‪،‬‬
‫القاىرة‪ ،‬د س‪ ،‬ص ‪.326‬‬

‫‪2‬‬
‫ابف رشد‪ :‬فصؿ المقاؿ كتقرير ما بيف الشريعة كالحكمة مف اتصاؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.36-35‬‬
‫‪3‬‬
‫طه عبد الرحمن‪ :‬دٌن الحٌاء – من الفقه اإلئتماري إلى الفقه اإلئتمانً‪ ،‬الجزء األول‪ :‬أصول النظري اإلئتمانً‪ ،‬المؤسسة العربٌة‬
‫للفكر واإلبداع‪ ،‬بٌروت‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،2117 ،‬ص ‪.61-59‬‬
‫‪4‬‬
‫داريكش شايغاف‪ :‬ما الثكرة الدينية ؟ الحضارات التقميدية في مكاجية الحداثة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.62‬‬

‫‪5‬‬
‫اإلسبلـ‪ ،‬المجمد األكؿ‪،‬‬ ‫عبد الرحمف بف خمدكف‪ :‬المقدمة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ .429‬أيضا‪ :‬ىارم‪ .‬أ‪ .‬كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في‬
‫مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.54‬‬

‫‪188‬‬
‫" عجز االنساف عف االعراب عف المغاير مطمقا‪ :‬إف الكبلـ يضطر إلى استخداـ حدكد مستمدة مف التجربة الطبيعية لئلنساف عندما‬
‫‪1‬‬
‫كاألكيد أف كينكنة ا﵀ الحقيقة تتجاكز كؿ تجربة بشرية‪ .‬ىذا‪ ،‬كقد أدرؾ العقؿ‬ ‫يكد اإليحاء بكؿ ما يجاكز ىذه التجربة بالذات"‪.‬‬
‫الفمسفي اإلسبلمي ىذا المأزؽ المعرفي‪ ،‬عندما عبر الفارابي في (آراء أىؿ المدينة الفاضمة‪ ،‬ص ‪ )55‬قائبل‪ :‬األسماء التي ينبغي أف‬
‫يسمى بيا األكؿ ىي األسماء التي تدؿ في المكجكدات التي لدينا ثـ في أفضميا عندنا (‪ )...‬مف غير أف يدؿ شيء مف تمؾ األسماء‬
‫عمى الكماؿ كالفضيمة التي جرت العادة أف تدؿ عمييا تمؾ األسماء في المكجكدات التي لدينا‪ .‬كقاؿ في (كتاب السياسة المدنية‬
‫‪2‬‬
‫الممقب بمبادئ المكجكدات‪ ،‬ص ‪ :)47‬ال نسبة إلدراكنا نحف الى ادراكو‪ ،‬كال لمعمكماتنا الى معمكمو"‪.‬‬

‫القصكر عف ادرؾ حقيقة الذات اإلليية ليس خصيصة اسبلمية‪ ،‬بؿ طبيعة أنثربكلكجية بعامة‪ .‬كما كرد في القرآف مف مشكبلت‬
‫متعمقة بحقيقة الذات كما ييحمؿ عمييا مف صفات‪ ،‬ىي مشكبلت داللية باألساس‪ ،‬ألف الكممة الكاحدة تحمؿ مف المعاني الحسية‬
‫كالمعنكية ما يجعميا مدار تأكيؿ‪ .‬يقكؿ "كلياـ جيمس" الذم درس المشكمة الدينية مف كجية نفسية‪" :‬إف معرفة الفاني لغير المحدكد ال‬
‫بد أف تبقى قاصرة"‪ 3.‬كىذا ما عبر عنو الغزالي كابف الجكزم ‪...‬الخ مف مفكرم اإلسبلـ‪ .‬أما المنظكر الكبلمي فقد انطمؽ كانتيى إلى‬
‫حتمية معرفة ا﵀ بما أخبرنا بو في القرآف الكريـ‪ .‬لذا فتفكر صفاتو كذاتو ال يتـ بمعزؿ عف كبلـ ا﵀ ذاتو‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫مرسيا إلياد‪ :‬المقدس كالعادم‪ ،‬ترجمة عادؿ العكا‪ ،‬دار التنكير لمطباعة كالنشر كالتكزيع‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2009 ،‬ص‬

‫‪2‬‬
‫عمي أكمميؿ‪ :‬أفكار مياجرة‪ ،‬مركز دراسات الكحدة العربية‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2013 ،‬ص ‪.172‬‬

‫‪3‬‬
‫كلياـ جيمس‪ :‬العقؿ كالديف (الجزء الثاني مف ارادة االعتقاد)‪ ،‬ترجمة الدكتكر محمكد حب ا﵀‪ ،‬دار احياء الكتب العربية‪ ،‬القاىرة‪،‬‬
‫‪ ،1949‬ص ‪.164‬‬

‫‪189‬‬
‫المحاضرة العاشرة‪ :‬مشكمة أفعال االنسان‪.‬‬

‫مقدمة‪.‬‬

‫يقاؿ عف حؽ بأف مكضكع الحرية ىك قفؿ الميتافيزيقا الذم عبله الصدأ مف كؿ جانب‪ .‬كىك قكؿ يفيد قدـ ىذه المشكمة أكال‬
‫كارتباطيا بمكضكع الما كراء ثانيا‪ ،‬كبصكرة خاصة مكضكع التنافس بيف القدرة البشرية كالقدرة اإلليية‪ .‬كفي السياقات اإلغريقية‪ ،‬اعتقد‬
‫أفبلطكف أف ىناؾ غمكض ما في مسألة مف يحدد حياة اإلنساف عمى الحقيقية‪ ،‬ىؿ ىي دكاليب القضاء كالقدر التي تدكر ببل تكقؼ‬
‫كببل كقكؼ في حركة أزلية قاىرة ؟ أـ أف لخيارات اإلنساف أثر ما في تحديد الكضعيات التي يعيشيا ؟ كلـ تختؼ ىذه المشكمة في‬
‫السياقات الدينية المسيحية أك اإلسبلمية‪ .‬حيث كاصؿ الفكر الديني مناقشة المسألة مف خبلؿ ربطيا بالنصكص المقدسة التي قدمت‬
‫نظرة كمية لمكجكد مؤسسة عمى تبعية األرضي لمسماكم‪ ،‬كالبشرم لئلليي‪ ،‬لكف ىؿ فعبل تـ اغفاؿ قدرة اإلنساف بصكرة كاممة في‬
‫األزمنة الكسيطية ؟ بالنسبة لمفكر العمماني كالعقبلني‪ ،‬كالذم ثار عمى البنى التقميدية التي شكميا الفكر الديني السابؽ عميو‪ ،‬فإف‬
‫خاصية أم ديانة ىي التخفيؼ مف فعالية اإلنساف في رسـ صكرة الكجكد‪ .‬لكف ال يجب اإلسترساؿ في ىذه النظرة‪ ،‬عمى أساس أننا‬
‫نعثر عمى نزعة إنسانية أصيمة‪ ،‬تمركز قدرة اإلنساف كال تضعيا في مكاجية القدرة اإلليية‪ .‬كىذه النزعة اإلنسية نجدىا في الفكر‬
‫المسيحي مثمما نجدىا في الفكر اإلسبلمي أيضا‪ .‬تبناىا أدباء فبلسفة كعمماء كبلـ عقبلنييف‪ .‬لكف ال يجب‪ ،‬مف زاكية مختمفة‪ ،‬التنكر‬
‫لممكاقؼ الكبلمية التي لـ تكف في صؼ قدرة اإلنساف في صنع أفعالو بمفرده‪ ،‬إذ نجد مكاقؼ تسحب منو ىذه اإلمكانية تماما مما‬
‫يسمى بالمجبرة المطمقة‪ ،‬كما نجد فرؽ مشيكرة ككاسعة االنتشار تحؿ المشكمة حبل كسطيا مف خبلؿ منح ما لئلنساف مف قدرة دكف‬
‫التنازؿ عف المسممة الدينية األساسية القائمة بسمطة القرار اإلليي المطمؽ عمى الكجكد بما في ذلؾ الطبيعة كاإلنساف معا‪ .‬لذا‪ ،‬فإف‬
‫العصكر الكسطي‪ ،‬سكاء كانت مسيحية أك إسبلمية‪ ،‬قد أنتجت كؿ النظريات التي فكرت مشكمة أفعاؿ اإلنساف في كجكد ذك طبيعة‬
‫إليية أصيمة‪ .‬كتبني أغمبية الناس لمنظرية التي تسمـ كؿ شيء ﵀‪ ،‬ال يدؿ عمى شذكذ النظرية التي تقكؿ بالحرية كالقدرة اإلنسانية‪.‬‬

‫مما سبؽ‪ ،‬ترتسـ الصكرة بكضكح بحيث يمكف أف نرل المشيد الكبلمي بكضكح تاـ؛ إذ أف ىناؾ مف يقؼ في صؼ ا﵀ كىناؾ‬
‫مف يقؼ في صؼ اإلنساف كىناؾ مف يقؼ في الكسط بحيث يثبت حرية لئلنساف في نفس المحظة التي يجعمكف القرار األكؿ‬
‫كاألخير ﵀ دكف سكاه‪ .‬كنحف بدكرنا نستشكؿ ىذا المشيد عمى النحك التالي‪ :‬كيؼ تشكمت ىذه المكاقؼ في التفاصيؿ ؟ ما ىك‬
‫مصدر مشكمة الحرية اإلنسانية؛ ىؿ المصدر كاف محميا مف خبلؿ ما تكافر لممسمميف مف نصكص دينية (قرآف كريـ كسنة نبكية‬
‫مشرفة) أـ أف ىناؾ تأثير لمعكامؿ الخارجية الناجمة عف االحتكاؾ بالفكر المسيحي في دمشؽ خاصة كبعد حركة الترجمة التي‬
‫فتحت كتب الحكمة الغربية (اإلغريقية) عمى العالـ اإلسبلمي ؟ كىنا نبلحظ أف العامؿ الخارجي‪ ،‬عمى افتراض تأثيره في مشكمة‬
‫الحرية في الكبلـ اإلسبلمي‪ ،‬يضـ التراثيف الفمسفي (اإلغريقي) كالديني (المسيحي)‪ ،‬بؿ ىناؾ مف يفترض التأثر بالييكدية‪ .‬ثـ أف‬
‫ىن اؾ مسألة أخرل‪ ،‬كلك أننا ذكرناىا في محاضرات سابقة‪ ،‬إال أننا لـ نفحصيا بالعمؽ المطمكب‪ ،‬كىك السؤاؿ عف عبلقة مشكمة‬
‫الخبلقة‪ ،‬أك قؿ الكضعية السياسية‪ ،‬عمى تشكيؿ المكاقؼ الكبلمية مف مسألة حرية اإلنساف‪ .‬كلئف كاف مسار الخبلفة قد تحكؿ‬
‫الممؾ مبرر جدا‪ ،‬أما غير المبرر في منطقنا ىك‬
‫بسرعة عمى يد األمكييف إلى يممؾ عضكض‪ ،‬فإف تطابؽ عقيدة الجبر مع سمطة ي‬
‫ظركؼ انتشار عقائد كبلمية تثبت قدرة اإلنساف الكمية في ظؿ أنظمة حكـ ممكية أيضا‪ .‬ألف انتشار األطركحة اإلعتزالية حكؿ حرية‬

‫‪191‬‬
‫اإلرادة ال تنسجـ كمية مع حكـ األسرة العباسية التي لـ تختمؼ عف األسرة األمكية في مسألة التكريث‪ .‬ربما أف الفرضية القكية التي‬
‫يمكف أف تفسر ىذا االنشقاؽ بيف النظر الفكرم كالكاقع السياسي ىي القائمة بأف الطرح كاف عقائديا خالصا ال يدخؿ في الحسباف‬
‫الحرية بمعناه السياسي‪ .‬أم أف دفاع المعتزلة عف قدرة اإلنساف كاف في مقابمتيا بالعدالة اإلليية كليس بالسمطة السياسية المرتبطة‬
‫بمؤسسة الخبلفة‪ .‬كما يمكف لنا اقتراح فرضية ثانية كىي االنفصاؿ بيف الدكلة كاالجتيادات الفكرية في العالـ اإلسبلمي‪ ،‬بحيث ال‬
‫تتدخؿ السمطة في تكجو مسار الفكر إطبلقا‪ .‬كمف المعركؼ أف الدكتكر "كائؿ حبلؽ" مف المدافعيف بقكة عمى ىذه األطركحة عندما‬
‫اعتبر الدكلة اإلسبلمية نمط حكـ مختمؼ كمية عف نمط حكـ الدكلة الحديثة بحيث ال تساىـ في تنميط الفرد كال تكجيو الفكر الكجية‬
‫المطمكبة‪ 1.‬كقد كانت ىذه النظرة معركفة جيدا أيضا عند "عبد ا﵀ العركم" الذم قاؿ في مفيكـ الحرية أف "الدكلة اإلسبلمية‪ ،‬عكس‬
‫طكؼ مف كؿ الجكانب حياة الفرد اإلسبلمي‪ ،‬كعند‬
‫الدكلة الميبرالية الحديثة‪ ،‬لـ تتغمغؿ في جميع مككنات المجتمع اإلسبلمي كلـ تي ٌ‬
‫تحقؽ ىذه الشركط يصبح استنتاج المستشرقيف تافيا سطحيا (بخصكص عدـ حرية الفرد)"‪ 2.‬لكف‪ ،‬عمى افتراض أننا سممنا بصدؽ‬
‫ىذا التفسير‪ ،‬فإننا ال يمكف أف نعممو عمى كؿ الفترات السياسية في التاريخ اإلسبلمي بخاصة إذا عرفنا أف الخبلفة االمكية قد‬
‫دعمت بعض النظريات الكبلمية التي تقكؿ بالجبر الميتافزيقي الكمي مف أجؿ تكجيو الناس عف مسائمة الحكاـ في تصرفاتيـ‪ .‬كىذا‬
‫المثاؿ كفيؿ بإبطاؿ صحة نظرية كائؿ حبلؽ الصحة الكمية المطمكبة‪.‬‬

‫يبدك أف منشأة مشكمة الحرية اإلنسانية لـ ينفصؿ عف بنية القرآف الذم يثبت كينفي نفس المسألة‪ .‬ففي حيف نجد آيات عديدة‬
‫الر ٍج ىس ىعمىى‬ ‫ىف تي ٍؤ ًم ىف إً َّال بًًإ ٍذ ًف المَّ ًو ىكىي ٍج ىع يؿ ّْ‬ ‫اف لًىن ٍف و‬
‫س أٍ‬ ‫﴿ك ىما ىك ى‬
‫تجعؿ كؿ شيء في الككف مرتبط بقضاء ا﵀ كمشيئتو مثؿ قكلو تعالى‪ :‬ى‬
‫ئلس ىبلًـ كم ٍف ي ًرٍد أ ٍ ً َّ‬ ‫ً‬ ‫الًَّذيف ىال يعًقميكف﴾ [يكنس‪ . ]100،‬كقكلو أيضا ﴿فىم ٍف ي ًرًد المَّو أ ٍ ً‬
‫ضيّْقنا‬ ‫ص ٍد ىرهي ى‬
‫ىف ييضموي ىي ٍج ىع ٍؿ ى‬ ‫ص ٍد ىرهي ل ٍ ً ٍ ى ى ي‬ ‫ىف ىييدىيوي ىي ٍش ىرٍح ى‬ ‫ي‬ ‫ى ي‬ ‫ى ىٍ ى‬
‫﴿ختى ىـ المَّوي ىعمىى يقميكبً ًي ٍـ‬
‫كف﴾ [األنعاـ‪ .]125 ،‬كقكلو كذلؾ‪ :‬ى‬ ‫يف ىال يي ٍؤ ًمين ى‬
‫ًَّ‬
‫الر ٍج ىس ىعمىى الذ ى‬‫ؾ ىي ٍج ىع يؿ المَّوي ّْ‬
‫اء ىك ىذلً ى‬
‫السم ً‬ ‫حرجا ىكأَّىنما يصَّع ي ً‬
‫َّد في َّ ى‬ ‫ى ى‬ ‫ىى ن‬
‫َّ‬ ‫كعمىى سم ًع ًيـ كعمىى أ ٍىبص ًارًىـ ًغ ىشاكةه كلىيـ ع ىذ ه ً‬
‫﴿كلى ٍف يي ىؤ ّْخ ىر الموي‬
‫يـ﴾ [البقرة‪ ]7 ،‬كحتى أعمار البشر مرتبطة بأجؿ يحدده ا﵀‪ :‬ى‬ ‫اب ىعظ ه‬ ‫ى ى يٍ ى‬ ‫ى ٍ‬ ‫ىٍ ٍ ى ى‬ ‫ىى‬
‫ىن ٍفسا إً ىذا جاء أىجمييا كالمَّو ىخبًير بًما تىعمميكف﴾ [المنافقكف‪ .]11 ،‬كآية التكبة األكثر شيرة بيف الناس كالتي تقكؿ‪﴿ :‬قي ٍؿ لى ٍف ي ً‬
‫ص ىيبىنا إً َّال‬ ‫ي‬ ‫ى ى ى ى ى ي ه ى ٍى ى‬ ‫ن‬

‫‪1‬‬
‫كائؿ حبلؽ‪ :‬قصكر االستشراؽ‪ -‬منيج في نقد العمـ الحديث‪ ،‬ترجمة عمرك عثماف‪ ،‬الشبكة العربية لؤلبحاث كالنشر‪ ،‬بيركت‪،‬‬
‫الطبعة األكلى‪ ،2019 ،‬ص ‪ .186-185‬يقكؿ‪ :‬قدمت في الدكلة المستحيمة طرحا مفاده أف الشرؽ‪ -‬كالسيما الجزء اإلسبلمي منو‪-‬‬
‫لـ يعرؼ أم شيء يشبو الدكلة الحديثة‪ .‬أقكؿ ىنا بصكرة أكثر دقة إف العالـ اإلسبلمي قد طكر شكبل مف الحكـ لـ يعرؼ مفيكـ‬
‫السيادة السياسية الحداثي قبؿ المكاجية مع الككلكنيالية األكربية الحديثة‪ .‬فالسياسة لـ تكف ىي حافز التنظيـ السياسي كالترتيبات‬
‫الدستكرية‪ ،‬إذ أنيا ‪-‬كما الدكلة‪ -‬لـ تكجد بالمعنى المعيارم الذم نعرفو بيا اليكـ‪ ،‬بؿ كانت شريعة اإلسبلـ‪ -‬تمؾ الظاىرة الزمانية‬
‫المكانية‪ -‬ىي التي حددت معنى السيادة (‪ )...‬لقد كاف القانكف األخبلقي الذم ىك ظاىرة عقائدية كقانكنية اجتماعية ممتدة زمانيا‬
‫كمكانيا‪ -‬خارج سيطرة السياسة (‪ )...‬لقد كاف تحقؽ ىذا الكضع ممكنا ألف الشريعة (القانكف) كانت نتاج عمؿ مجمكعة مف الفقياء‬
‫الذيف خرجكا مف المجتمع نفسو كالتحقكا بدراسة الشريعة بناء عمى استعدادىـ العممي كتقكاىـ‪ .‬بيد أنو لـ يستطع أم فقيو‪ -‬كال حتى‬
‫يدعي احتكار الشريعة‪.‬‬
‫أحد مؤسسي المذاىب الفقيية – أف ٌ‬

‫‪2‬‬
‫عبد ا﵀ العركم‪ :‬مفيكـ الحرية‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬الطبعة الخامسة‪ ،1993 ،‬ص ‪.24‬‬

‫‪191‬‬
‫َّ ً‬ ‫َّ‬
‫كف﴾ [‪ .]51‬قمنا ففي حيف يثبت ا﵀ سيطرتو كتخطيطو الكامؿ لمككف في‬ ‫ب الموي لىىنا يى ىك ىم ٍكىالىنا ىك ىعمىى المو ىف ٍمىيتى ىك َّك ًؿ ا ٍل يم ٍؤ ًمين ى‬
‫ىما ىكتى ى‬
‫اء ىف ٍميي ٍؤ ًم ٍف ىك ىم ٍف‬ ‫تفاصيمو‪ ،‬نجد آيات أخرل تثبت خيرات اإلنساف في كؿ ما يتعمؽ بدينو كأفعالو كق ارراتو‪﴿ .‬كقي ًؿ ا ٍلح ُّ ً‬
‫ؽ م ٍف ىرّْب يك ٍـ فى ىم ٍف ىش ى‬ ‫ى‬ ‫ى‬
‫اىتى ىدل﴾ [طو‪﴿]82 ،‬إً َّف ىى ًذ ًه تى ٍذ ًكرةه فىم ٍف ىشاء اتَّ ىخ ىذ إًلىى رب ً‬ ‫صالً نحا ثيَّـ ٍ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ّْو‬ ‫ى‬ ‫ى‬ ‫ى ى‬ ‫ىم ىف ىك ىعم ىؿ ى‬
‫اب ىكآ ى‬ ‫]﴿كًاّْني لى ىغفَّ هار ل ىم ٍف تى ى‬
‫اء ىف ٍمىي ٍكفي ٍر﴾ [الكيؼ‪ 29 ،‬ى‬ ‫ىش ى‬
‫ىسبً ن‬
‫يبل﴾ [اإلنساف‪ .]29 ،‬كىناؾ آيات‪ ،‬بحسب مبلحظة كلفسكف‪ 1،‬تقر بأف حرية اإلنساف أسبؽ مف اليداية كالختـ اإلليي عمى القمكب‬
‫يـ﴾ [النحؿ‪ ]104 ،‬فعدـ اإليماف‬ ‫ات المَّ ًو ىال يي ًدي ًيـ المَّو كلىيـ ع ىذ ه ً‬ ‫كالسمع كاألبصار‪ .‬مثؿ قكلو تعالى‪﴿ :‬إً َّف الًَّذيف ىال يؤ ًمينكف بًآىي ً‬
‫اب أىل ه‬ ‫ى ٍ ي ي ى يٍ ى‬ ‫ى يٍ ى ى‬
‫ض ًرب مثى نبل ما بعكضةن فىما فىكقىيا فىأ َّ ًَّ‬
‫يف‬‫ىما الذ ى‬ ‫ىف ىي ٍ ى ى ى ى ي ى ى ٍ ى‬ ‫ىنا قرار شخصي كليس مرتبط بقدر إليي‪ .‬كذلؾ قكلو تعالى‪﴿ :‬إً َّف المَّوى ىال ىي ٍستى ٍحيًي أ ٍ‬
‫ض ُّؿ بً ًو ًإ َّال‬ ‫ير كما ي ً‬ ‫ض ُّؿ بً ًو ىكثً ا ً ً ً‬
‫ير ىكىي ٍيدم بًو ىكث نا ى ى ي‬ ‫ن‬
‫ىما الًَّذيف ىكفىركا فىيقيكليكف ما ىذا أىر ىاد المَّو بًي ىذا مثى نبل ي ً‬
‫ي ى ى ي‬ ‫ى ي ى ى ى ى‬ ‫ؽ ًم ٍف ىرّْب ًي ٍـ ىكأ َّ‬
‫كف أَّىنوي ا ٍل ىح ُّ‬
‫ىمينكا فىىي ٍعمى يم ى‬
‫آى‬
‫اى ٍـ ىكيب ىر ىم ٍقتنا ًع ٍن ىد المَّ ًو ىك ًع ٍن ىد‬ ‫ات المَّ ًو بً ىغ ٍي ًر يس ٍمطى و‬
‫اف أىتى ي‬ ‫اسًقيف﴾ [البقرة‪ .]26 ،‬أك قكلو في سكرة غافر‪﴿ :35 ،‬الًَّذيف يج ًادليكف ًفي آىي ً‬
‫ى‬ ‫ى يى ى‬
‫ً‬
‫ا ٍلفى ى‬
‫َّار﴾‪ .‬كفي النياية‪ ،‬نبلحظ أف تأخر قرار ا﵀ عمى حرية اإلنساف‪ ،‬يندرج في سياؽ‬ ‫طىبعي المَّوي ىعمىى يك ّْؿ ىق ٍم ًب يمتى ىكب و‬
‫ّْر ىجب و‬ ‫ؾ ىي ٍ‬ ‫ىمينكا ىك ىذلً ى‬
‫يف آ ى‬
‫ًَّ‬
‫الذ ى‬
‫اثبات استقبلؿ اإلنساف كقدرتو عمى خمؽ أفعالو كتكجيو ارادتو‪ .‬لذا فحرية اإلنساف في القرآف مثبتة مف جيتيف ىما حرية اإلنساف‬
‫بالمطمؽ‪ ،‬كتأسيس القرار اإلليي عمى ىذه الحرية‪ .‬كفي النياية‪ ،‬ككما الحظ ابف رشد‪ ،‬فإف نصكص السمع ليست مكحدة في ىذه‬
‫المسألة‪ ،‬بؿ متعارضة سكاء في القرآف أك الحديث‪ 2.‬كما العديد مف المسائؿ األخرل مثؿ التشبيو كالتنزيو‪ .‬كاختبلؼ القرآف في ذلؾ‪،‬‬
‫ذريعة الختبلؼ العقكؿ ذاتيا‪ ،‬لذا فتعدد آراء المتكمميف في المسألة ىك امتداد الختبلؼ آم القرآف فييا‪ ،‬كال يمكف اعتباره في أم حاؿ‬
‫مذمة أك سقط ببل طائؿ‪.‬‬

‫كيؼ يتصرؼ اإلنساف أماـ تعدد النصكص القرآنية في تحديد حرية اإلنساف مف عدميا ؟ لنا عمى األقؿ ثبلثة مكاقؼ محددة‪:‬‬
‫آيات الجبر المطمؽ‪ ،‬آيات االختيار المطمؽ‪ ،‬آيات القرار اإلليي بعد االختيار البشرم كىي مصنفة ضمف آيات الحرية‪ .‬ثـ عمى أم‬
‫أساس تتخذ الفرؽ الكبلمية لنفسيا مكقفا ذك مرجعية قرآنية‪ ،‬عمى الرغـ مف أف كؿ المكاقؼ ليا نفس المرجعية ؟ يبدك أف الحقيقية ال‬
‫تخرج عف تحديد عمي (ض) الذم قاؿ بأف القرآف حماؿ أكجو‪ ،‬بحيث نحف مف يتكمـ بو‪ ،‬أم أف الميكؿ البشرية ىي مف تستثمر‬
‫القرآف لتقكية خياراتيا المحددة مسبقا‪ .‬كليس القرآف ىك الذم يحدد ىذه الخيارات في األصؿ‪ .‬ألنو لك كاف ىك مف يحددىا التفقت كؿ‬
‫ات يى َّف أ ُّيـ‬
‫ات يم ٍح ىك ىم ه‬ ‫اب ًم ٍنوي آىىي ه‬ ‫(ىك الًَّذم أ ٍىن ىز ىؿ عمىٍي ى ً‬
‫ؾ ا ٍلكتى ى‬ ‫ى‬ ‫الفرؽ عمى مكقؼ كاحد مف فعؿ اإلنساف‪" .‬في اآلية ‪ 7‬مف آؿ عمراف ي ى‬
‫َّ‬ ‫ًً‬ ‫ً ً ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ىما الًَّذ ً‬ ‫ا ٍل ًكتى ً‬
‫اء تىأ ًٍكيمو ىك ىما ىي ٍعمى يـ تىأ ًٍكيمىوي إً َّال الموي‬
‫اء ا ٍلفتٍىنة ىك ٍابت ىغ ى‬
‫كف ىما تى ىش ىابوى م ٍنوي ٍابت ىغ ى‬ ‫يف في قيميكبً ًي ٍـ ىزٍيغه فىىيتَّبً يع ى‬ ‫ى‬ ‫يخ ير يمتى ىشابًيى ه‬
‫ات فىأ َّ‬ ‫اب ىكأ ى‬
‫اب)‪ .‬مسألة التفرقة بيف المحكمات كالمتشابيات‪ ،‬لـ يكف‬ ‫كف آىمَّنا بً ًو يك ّّؿ ًم ٍف ًع ٍن ًد ربىّْنا كما ىي َّذ َّكر إً َّال أيكليك ٍاألىٍلىب ً‬ ‫اس يخ ً ً ً‬ ‫الر ً‬
‫ي‬ ‫ى ىى‬ ‫كف في ا ٍلع ٍمـ ىيقيكلي ى ى‬ ‫ى‬ ‫ىك َّ‬
‫األصـ يؤمف بكجكد األسرار‪ :‬كاف يؤمف بأف حتى تمؾ المكاضع متعددة المعاني في "الكحي" يمكف في نياية األمر تكضيحيا عقميا‪،‬‬
‫فاألمر يحتاج فقط إلى المزيد مف التمعف‪ .‬المتشابو يشتمؿ عمى أقكاؿ خاصة بأمكر المستقبؿ‪ :‬يكـ القيامة‪ ،‬كيكـ الحساب‪ ،‬إلى جانب‬
‫العبارات غير الكاضحة تركيبيا؛ مثؿ المنسكخات كالمنسيات‪ .‬ذلؾ ألف ىذه العبارات ستجعؿ الكثنييف‪ -‬بحد أدنى‪ -‬أكلئؾ الذيف ليس‬

‫‪1‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬ترجمة مصطفى لبيب عبد الغاني‪ ،‬المركز القكمي لمترجمة‪،‬‬
‫القاىرة‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،2009 ،‬ص ‪.764-763‬‬

‫‪2‬‬
‫ابف رشد‪ :‬مناىج األدلة في عقائد الممة‪ ،‬تحقيؽ محمكد قاسـ‪ ،‬مكتبة االنجمك المصرية‪ ،‬القاىرة‪ ،1964 ،‬ص ‪.223‬‬

‫‪192‬‬
‫ليـ كتاب سماكم‪ ،‬مثمما كرد في القرآف‪ ،‬يزيغكف عف الحقيقة"‪ 1.‬إف كجو الخبلؼ بيف الفرؽ الكبلمية مرتبط بعدـ االتفاؽ عمى ما ىك‬
‫النص المحكـ كما ىك النص المتشابو‪ .‬كمف ىنا اختمؼ استراتيجية التأكيؿ كمف ثمة البنية النيائية لممكاقؼ مف مشكمة القضاء‬
‫كالقدر‪.‬‬

‫أوال‪ -‬الكالم في قدرة اهلل المطمقة‪:‬‬

‫في مشكمة التنزيو‪ ،‬أشرنا إلى أف ىناؾ فرؽ كبلمية استشكمت الصفات عمى أساس أنو مف المتعذر نسبة صفة إنسانية إلى ا﵀‬
‫أك العكس‪ .‬مما يعني أف اثبات قدرة ا﵀‪ ،‬كىذه مسألة مثبتة كال خبلؼ حكليا‪ ،‬يستمزـ نفي القدرة عمى اإلنساف‪ .‬كقد تحدث القرآف‬
‫الكريـ أكثر مف مرة عمى صفة القدرة اإلليية التي تييمف عمى الكؿ‪ .‬كنقصد ىنا الكؿ؛ ما تعمؽ بالطبيعة إذ كرد في اآلية الثانية مف‬
‫يت ىك يى ىك ىعمىى يك ّْؿ ىش ٍي وء قىًد هير﴾ كىذا ما يثبت نفكذ قدره ا﵀ في قكانيف الطبيعة مما‬
‫ض يي ٍحيًي ىكيي ًم ي‬ ‫ؾ الس ً‬
‫ات ك ٍاأل ٍىر ً‬
‫َّم ىاك ى‬
‫سكرة الحديد ﴿لىوي يم ٍم ي ى‬
‫ناقشو عمماء الكبلـ في باب المعجزات كسير الطبيعة في نظاـ معيكد‪ .‬كبما أف قدرة ا﵀ غير متناىية كال محدكدة‪ ،‬فإنيا ال تتحكـ في‬
‫ّْح بً ىح ٍم ًد ًه ىكلى ًك ٍف ىال‬ ‫و‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ض ىك ىم ٍف في ًي َّف ىكًا ٍف م ٍف ىش ٍيء إً َّال يي ىسب ي‬
‫ات الس ٍَّبعي ىك ٍاأل ٍىر ي‬
‫َّم ىك ي‬
‫ّْح لىوي الس ى‬
‫الطبيعة الجامدة فحسب كالتي بدكرىا تسبح لو ﴿تي ىسب ي‬
‫ً‬
‫كرا﴾ [اإلسرار‪ ،]44 ،‬بؿ تتحكـ أيضا في أفعاؿ كأقدار العباد‪ .‬إذ نجد العديد مف اآليات التي تربط‬ ‫يما ىغفي ن‬ ‫يحيي ٍـ إًَّنوي ىك ى‬
‫اف ىحم ن‬ ‫كف تى ٍسبً ى‬
‫تى ٍفقىيي ى‬
‫مصير اإلنساف بالخيارات اإلليية كق ارراتو النيائية‪.‬‬

‫بحسب كلفسكف‪ ،‬فإف "أكلى المحاكالت لصياغة نظرية عف الفعؿ اإلنساني عمى تمؾ اآليات التي تؤكد سبؽ التقدير اإلليي‪.‬‬
‫كليذه النظرية مصادر ثبلث ترجع إلى منتصؼ ؽ ‪( 8‬أم الثالث لميجرة)‪:‬‬

‫مجمكعة مف األحاديث النبكية التي نقميا بعض األفراد عف محمد (ص)‪(.‬قاؿ الرسكؿ‪ :‬احتج آدـ كمكسى فقاؿ مكسى‬ ‫‪‬‬
‫يآدـ أنت أبكنا خيبتنا كأخرجتنا مف الجنة فقاؿ لو آدـ أنت مكسى اصطفاؾ ا﵀ بكبلمو كخط لؾ بيده‪ ،‬أتمكمني عمى‬
‫أمر قدره ا﵀ عمى قبؿ أف يخمقني بأربعيف سنة)"‪ 2.‬كىذا الحديث الذم ركاه األشعرم أيضا يدؿ عمى أف كؿ شيء‬
‫قدر‪ ،‬كحتى المعصية كالنزكؿ مف الجنة‪ .‬كىما أساس التاريخ البشرم البلحؽ‪.‬‬

‫"عبارة لػ جيـ بف صفكاف‪ ،‬كالذم قتؿ سنة ‪ 128‬ق‪ ،‬عف نظرية سبؽ التقدير اإلليي‪ .‬يقكؿ الجيـ‪ :‬ال يكجد فرؽ بيف ما‬ ‫‪‬‬
‫يحدث لمناس كبيف أفعاؿ الناس‪ .‬ككميا مخمكقة ﵀ خمقا مباش ار في اإلنساف كما يخمقيا في سائر الجمادات كما يقاؿ‬
‫أثمرت الشجرة كجرل الماء كتحرؾ الحجر كطمعت الشمس (‪ )...‬كذلؾ الثكاب كالعقاب جبر (‪ )...‬التكميؼ أيضا‬

‫‪1‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬ترجمة‬
‫محي الديف جماؿ بدر كرضا حامد قطب‪ ،‬مراجعة محسف الدمرداش‪ ،‬منشكرات الجمؿ‪ ،‬بيركت – بغداد‪ ،‬الطبعة األكلى‪،2016 ،‬‬
‫ص ‪.602-601‬‬

‫‪ 2‬ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ص ‪.767 -765‬‬

‫‪193‬‬
‫جبر"‪ 1.‬كليس الجيـ فقط مف قاؿ بسطكة القدرة اإلليية‪ ،‬بؿ نجد بعض الفرؽ الشيعية‪ ،‬مثؿ الزيدية‪ ،‬تقكؿ أف "أفعاؿ‬
‫‪2‬‬
‫العباد مخمكقة ﵀‪ ،‬خمقيا كأبدعيا كاخترعيا بعد أف لـ تكف‪ ،‬فيي محدثة لو مخترعة"‪.‬‬
‫"مناضرة متخيمة لػ يحي الدمشقي بيف مسيحي كمسمـ‪ .‬يسأؿ المسمـ المسيحي‪ :‬ىؿ أنت تتمتع بإرادة حرة كىؿ أنت‬ ‫‪‬‬
‫قادر عمى فعؿ ما تشاء ؟ يجيب المسيحي‪ :‬إف ا﵀ قد صكره جعؿ لو إرادة حرة‪ ،‬كتمؾ اإلرادة الحرة التي يشكؿ بيا‬
‫تجعمو قاد ار عمى فعؿ الخير أك الشر كأنو مستحؽ بسبب حرية إرادتو لمثكاب عمى فعمو لمخير لمعقاب عمى فعمو لمشر‬
‫كأف اإلنساف يككف بارتكابو الشر كاقعا تحت تأثير الشيطاف (‪ )...‬لكف المسمـ يزعـ أنو "في فعمو لمخير كالشر إنما‬
‫يصدر عف مشيئة ا﵀‪ .‬أم أف أفعالو قدرة ﵀ سمفا‪ .‬كفي نفس المناظرة يقكؿ المسيحي أنو بعد أياـ الخمؽ الستة قاـ ا﵀‬
‫بكؿ العمميات الطبيعية مف خبلؿ عمؿ كسيطة‪ ،‬كاإلنساف‪ ،‬بما ىك أحد ىذه العمؿ الكسيطة‪ ،‬يفعؿ ما يفعمو بإرادة حرة‪.‬‬
‫كيقكؿ المسمـ‪ ،‬عمى العكس مف ىذا‪ ،‬أنو حتى بعد أياـ الخمؽ الستة يخمؽ ا﵀ كؿ ما يحدث في الطبيعة خمقا مباشرا‪،‬‬
‫حتى أف كؿ فعؿ إنساني‪ ،‬ينسبو المسيحي إلى اإلنساف نفسو باعتباره فاعبل مختارا‪ ،‬ينسبو المسمـ إلى ا﵀"‪ 3.‬لكف‪،‬‬
‫كبما أف راكم المناظرة مسيحي‪ ،‬فإنو قد عمؿ عمى كصؼ كؿ المسمميف بأنيـ تحت عقيدة الجبر‪ ،‬كنحف نعمـ‪ ،‬أف‬
‫المعتزلة كحتى بعض الفرؽ األخرل مثؿ الزيدية تقكؿ أف أفعاؿ اإلنساف "غير مخمكقة ﵀‪ ،‬كال محدثة لو كال مخترعة‪،‬‬
‫‪4‬‬
‫كانما ىي كسب لمعباد أحدثكىا كاخترعكىا أبدعكىا كفعمكىا"‪.‬‬

‫نحف نرل أف مثار المشكمة ال ينفصؿ عف مكضكع الصفات‪ ،‬فمف المعمكـ أف اإلرادة صفة مف صفات ا﵀‪ .‬بحيث أنيا ال‬
‫‪5‬‬
‫تنفصؿ عف ذاتو كعممو‪ .‬كلك أف ىناؾ مف يعتبرىا صفات لمفعؿ‪ ،‬إال أف اإلرادة شرط لمفعؿ ذاتو‪ ،‬مما يجعميا صفة ذات أكلية‪.‬‬
‫فخمؽ العالـ كاف نتيجة إل رادة الخمؽ‪ ،‬كىذا ال ينفصؿ عف القدرة‪ ،‬بؿ أف الخمؽ مظي ار مف مظاىرة القدرة اإلليية‪ .‬كمف أسماء ا﵀‬
‫الحسنى نجد القادر‪ .‬كمسألة القدرة اإلليية بدييية في السياقات اإلسبلمية‪ ،‬فبل أحد يمكف أف يراجع القكؿ فييا‪ .‬كأكلية القدرة ىي التي‬
‫جعمت الغالبية مف المسمميف األكائ ؿ يقركف بأف كؿ شيء في الكجكد مخمكؽ بقدرتو كمسير بإرادتو‪ .‬كىذا ىك التفسير الذم يقدمو‬
‫كلفسكف لما يعتقده سببا لمصكرة التي نجدىا في حكارية يحي الدمشقي‪ 6.‬كقد الحظ العديد مف المستشرقيف‪ ،‬أك غير المسمميف‬
‫بالعمكـ‪ ،‬بأف ىناؾ تكجو عاـ لدل الجميكر اإلسبلمي نحك تسبيؽ قدرة ا﵀ عمى حرية اإلنساف أك قؿ طغياف عقيدة القضاء كالقدر‬
‫باعتبارىا سمب لحرية ككرامة اإلنساف‪ 7.‬كحاكؿ كؿ كاحد منيـ تفسير ىذه الظاىرة‪ ،‬في مقابؿ ظاىرة ميؿ الكعي المسيحي العاـ إلى‬
‫اثبات حرية اإلنساف‪ .‬فبالنسبة لشراينر (حكالي ‪ )1900‬فإف مرد ذلؾ انتشار عقيدة الجبر في عرب الجاىمية مما استمزـ تكاصؿ نفس‬

‫‪1‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ص ‪ .768 -765‬أيضا‪ :‬عضد ا﵀‬
‫كالديف القاضي عبد الرحمف بف أحمد اإليجي‪ :‬المكاقؼ في عمـ الكبلـ‪ ،‬عالـ الكتب‪ ،‬بيركت‪ ،‬ص ‪.428‬‬
‫‪2‬‬
‫أبي الحسف األشعرم‪ :‬مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬المكتبة الصرية‪ ،‬بيركت‪ ،2009 ،‬ص ‪.74‬‬
‫‪3‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ص ‪.766 -765‬‬
‫‪4‬‬
‫أبي الحسف األشعرم‪ :‬مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.74‬‬
‫‪5‬‬
‫سعيد عبد المطيؼ فكدة‪ :‬بحكث في عمـ الكبلـ‪ ،‬دار الرازم لمطباعة كالنشر‪ ،‬عماف‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2004 ،‬ص ‪.113‬‬
‫‪6‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ص ‪.772‬‬
‫‪7‬‬
‫جماؿ الديف األفغاني‪ :‬القضاء كالقدر كأصكؿ العقائد اإلسبلمية كأميات المسائؿ التكحيدية‪ ،‬المطبعة المحمكدية التجارية‪ ،‬القاىرة‪ ،‬د‬
‫س‪ ،‬ص ‪.6‬‬

‫‪194‬‬
‫العقيدة بعد الرسالة المحمدية‪ ،‬كبالنسبة لمكنتيغمرم كاط‪ ،‬فإف السبب يعكد إلى سيطرة ركح الحديث النبكم الذم يعتبر القضاء كالقدرة‬
‫اإلليييف أعمى مف أم عاقمية بشرية‪ .‬أما ابف ميمكف فإنو يعتقد بأف "النظر العقمي البسيط كالحماس الزائد لتصكر القدرة اإلليية‬
‫المطمقة ىك سبب نشأة مذىب القدر في اإلسبلـ"‪ 1.‬كيتحدث كلفسكف عف ظاىرة منتشرة كىي ميؿ المسمميف لتفضيؿ آيات الجبر‬
‫عمى آيات الحرية‪ ،‬كتفسيره الذم ال يمكف قبكلو ببداىة ىك ارجاعو لممماثمة مع آيات التنزيو كآيات التجسيـ‪ ،‬إذ أف الغالبية مف‬
‫ا لمسمميف يميؿ إلى آيات التنزيو عمى أساس أف ا﵀ ليس كمثمو شيء بنفس درجة ميميـ إلى آيات القدرة اإلليية المطمقة عمى أفعاؿ‬
‫العباد‪ .‬لكف غاب عميو أف األقمية التي تثبت الحرية في العالـ اإلسبلمي‪ ،‬كىي فرقة االعتزاؿ‪ ،‬كانت ميالة إلى التنزيو أكثر مف عامة‬
‫المسمميف‪ .‬ثـ أف المسمميف األكائؿ لـ يأخذكا عقيدة القدر مأخذا سطحيا أك حماسيا كما اعتقد البعض‪ ،‬بؿ ميزكا بيف ما يمكف أف‬
‫يككف كذلؾ كما يمكف أف يككف فعبل انسانيا خالصا‪ .‬كقد ركم "أف رجبل قاؿ إلبف عمر (ض) ‪ :‬ظير في زماننا رجاؿ يزنكف‬
‫كيسرفكف كيشربكف الخمر كيقتمكف النفس التي حرـ ا﵀ ثـ يحتجكف عمينا يقكلكف كاف ذلؾ في عمـ ا﵀‪ .‬فغضب ابف عمر كقاؿ‪:‬‬
‫سبحاف ا﵀‪ ،‬كاف ذلؾ في عمـ ا﵀ كلـ يكف عممو ليحمميـ عمى المعاصي"‪ 2.‬بؿ قد ركم عف عمر ذاتو (ض) أنو نير شباب مف‬
‫المسجد يتعممكف بقضاء ا﵀ كقدره دكف أف يبذلكا أم جيد في طمب الرزؽ كاالجتياد في تحصيؿ المكاسب الدنيكية‪.‬‬

‫لربما أف مكقؼ األشعرم مف سطكة عقيدة الجبر عند المسمميف‪ ،‬ليك المكقؼ الذم يمكف بحثو‪ .‬إذ يرجع الظاىرة إلى التأثر‬
‫بالفرس‪ .‬كمعمكـ أف ىذه الحضارة كانت قائمة عمى الجبرية الخالصة‪ ،‬سكاء في المجاؿ الديني أك المجاؿ السياسي‪ ،‬كفي النياية ىما‬
‫مجاالف مكحداف فالممؾ إلو كاإللو ممؾ‪ .‬كىنا يظير أثر العامؿ السياسي في تقكية عقيدة الجبر‪ .‬فكمما كاف النظاـ كراثيا استبداديا تـ‬
‫تعزيز عقائد الجبر مف أجؿ ترضية النفكس بكاقعيا المكجكد‪ .‬كنفس الكضعية نجدىا في السياقات اإلسبلمية‪ ،‬إذ أف استبلـ األمكييف‬
‫لمخبلفة كتحكلو إلى سمطاف عضكض‪ ،‬جعميـ يبحثكف عف تبرير ليذا المآؿ‪ ،‬كلعؿ أحسف ما كجدكه ىك استغبلؿ المصادر القرآنية‬
‫التي تقكؿ بالقدر مف أجؿ تعميب العقكؿ التي قد تفكر في الثكرة أك التمرد‪ .‬كبالفعؿ‪ ،‬فإف المسألة بالنسبة لمجابرم محسكمة عمى‬
‫أساس أف نشر عقيدة الجبر كاف مف طرؼ األمكييف‪ 3.‬لكنو لـ يفسر عبلقة فكرة التنكير المعتزلية‪ ،‬حسب عبارتو‪ ،‬باالستبداد العباسي‬
‫العباسي الذم لـ يختمؼ عف االستبداد األمكم‪ .‬افترضنا في المقدمة أف كبلـ االعتزاؿ عف الحرية لـ يكف سياسي إطبلقا‪ ،‬بؿ مجرد‬
‫كبلـ ميتافيزيقي الىكتي ال عبلقة لو باألكضاع االجتماعية مثؿ الطبقية أك العبكدية أك المشاركة السياسية‪ .‬ىذا المكضكع بالنسبة‬
‫لممعتزلة مف "المستحيؿ التفكير" فيو حسب عبارة أرككف‪ ،‬ألنيا لـ تكف مطركحة إطبلقا في تمؾ العصكر‪ .‬فالحرية السياسية لـ تكف‬
‫مف مكاضيع التفكير‪ ،‬إذ لـ يتـ مثبل التفكير في إزالة نظاـ العبكدية ازالة نيائية‪ .‬لكننا اليكـ يمكف أف نبلحظ‪ ،‬مثؿ الجابرم‪ ،‬كجكد‬
‫خيط رابط بيف تشكيؿ عقبلنية الطاعة التي تتجو نحك ا﵀ كنحك الحاكـ معا‪ .‬لذا نجده يتحدث عف أخبلؽ الطاعة ذات المصدر‬

‫‪1‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص‪.773‬‬
‫‪2‬‬
‫عرفاف عبد الحميد‪ :‬دراسات في الفرؽ كالعقائد اإلسبلمية‪ ،‬مطبعة اإلرشاد‪ ،‬بغداد‪ ،1967 ،‬ص ‪.250-249‬‬
‫‪3‬‬
‫محمد عابد الجابرم‪ :‬العقؿ األخبلقي العربي – دراسة تحميمية نقدية في نظـ القيـ في الثقافة العربية‪ ،‬مركز دراسات الكحدة العربية‪،‬‬
‫العربية‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2001 ،‬ص ‪.69‬‬

‫‪195‬‬
‫الفارسي‪ 1.‬لكف حتى الديف اإلسبلمي‪ ،‬بؿ أم ديف‪ ،‬قائـ عمى عقبلنية الطاعة‪ .‬كىذا ىيكمي في أم تديف إنساني‪ ،‬ألف سيككلكجية‬
‫الطاعة ىي التي تضمف العبادات‪.‬‬

‫إف جبرية الجيـ بف صفكاف ليست متعمقة فقط باألفعاؿ‪ ،‬بؿ حتى اإليماف عنده‪ ،‬ليس مرتبط بأفعاؿ العباد إنما ىك مف خمؽ ا﵀‬
‫أيضا‪" .‬ف ميس ىناؾ دليؿ كاحد عمى أف الجيـ بف صفكاف كاف يكلي الشريعة مكانة كبيرة‪ ،‬فقد كانت صكرة ا﵀ تشكؿ مركز الفكر‬
‫عنده‪ ،‬فالمرء ال يصبح مؤمنا عندما يتعرؼ عمى الشريعة‪ ،‬فاإليماف يخمقو ا﵀ في اإلنساف‪ .‬ىذا ىك أيضا سبب في عدـ ككف العمـ‬
‫با﵀ مف الفطرة (‪ )...‬ا﵀ كحده ىك الذم يقدر كؿ األحداث‪ .‬كعمى الرغـ مف أف ا﵀ قد يكىـ اإلنساف بأنو يقكـ بفعؿ ىذه األشياء‬
‫بنفسو؛ إال أف ذلؾ ما ىك إال عبارة عف أف ا﵀ ينشئ نكع مف اإلرادة في قمب اإلنساف‪ ،‬بمعنى أنو يمنحو قدرة لحظية عمى الفعؿ‪ ،‬ثـ‬
‫يشعر بعد ذلؾ بنكع مف الرضا‪ .‬غير أف ىذا ال يعدك أف يككف فعؿ بالمعنى المجازم‪ ،‬ففي حقيقة األمر يتساكل فعؿ اإلنساف ىنا مع‬
‫ما ي قع لو مف نمك في الجسـ كاكتساب لمكف البشرة‪ ،‬كىي األمكر التي ليس لو دخؿ فييا‪ .‬كالمبس الذم يحدث في األمر سببو المغة‪،‬‬
‫فنحف نقكؿ مثبل "غربت الشمس"‪ ،‬مع أف ا﵀ ىك في الحقيقة الذم جعميا تغرب"‪ 2.‬كىذا ينتج جبرية ككنية ال مفر منيا عمى أساس‬
‫أف اإلنساف في أفعالو ال يخ تمؼ عف ظكاىر الطبيعة الخارجية كالداخمية‪ .‬كقد نتج عف مثؿ ىذه االعتقادات ضرب مف المكاقؼ‬
‫االنفعالية التي تنكر أم نزكع إيجابي أك يمبادءة لمنشاط أك الفعؿ‪ .‬كبرزت عقيدة التكاكؿ التي اختمطت بمكاقؼ تصكفية ظاىرة‪ .‬كلعؿ‬
‫مكاقؼ لغزالي‪ ،‬كعمى الرغـ مف أنو ليس إال أشعريا معتدال‪ ،‬تصب في اتجاه فمسفة التكاكؿ المطمقة‪ .‬حيث اعتبر أف الخركج لطمب‬
‫الكسب أدنى درجات أخبلؽ التكاكؿ الفاضمة‪ 3.‬كتذكر سيرة "ألبك عمي شقيؽ البمخي الذم تكفي في إحدل الغزكات سنة ‪194‬ىػ في‬
‫الترؾ‪ .‬حيث التزاـ لباس الصكؼ أزرؽ المكف‪ .‬يتكمـ شقيؽ عف المنازؿ التي يمكف لممؤمف أف يترقب مف خبلليا ا﵀ (‪ )...‬يرد الزىد‬
‫في سياؽ ىذا الكبلـ في آخر األمكر‪ ،‬حيث يتككف مف خبلؿ أدكات التجكيع المنتظـ‪ ،‬كيرتبط أيضا بالخكؼ مف ا﵀ كمف النار (‪)...‬‬
‫كفي النياية يبمغ المؤمف مرحمة نشكة القمب التي تنشأ عف سبلـ ا﵀ كرحمتو (‪ )...‬يذكر أنو استنتج مف اآلية ‪ 159‬مف آؿ عمراف‬
‫"إف ا﵀ يحب المتككميف" أف مف ال يتككؿ عمى ا﵀ فيك خارج عف حظيرة اإليماف‪ .‬استنبط شقيؽ ىذا القكؿ مف فيمو الجديد لمتكحيد؛‬
‫حيث أصبح عنده معنى قكؿ "ال إلو إال ا﵀" أنو ال ضار كال نافع إال ا﵀‪ .‬ثـ كاف الرزؽ ىك أكؿ أمر تطبؽ عميو ىذه النتيجة‪،‬‬
‫فالرزؽ مقدر‪ ،‬ا﵀ متكفؿ بو‪ .‬لـ يتحدث أحد قبؿ ذلؾ عف مثؿ ىذا الترابط الكثيؽ بيف التككؿ كالرزؽ‪ .‬لذلؾ يحكى عف شقيؽ أنو كاف‬
‫يناـ في أحمؾ أكقات المعارؾ‪ ،‬ذلؾ ألف مف يتككؿ عمى ا﵀ فبل يبالي باألخطار‪( .‬ربما ىذه الحكاية مجرد أسطكرة) (‪ )...‬اعتبر أف‬
‫كؿ عمؿ دنيكم بمثابة الذنب‪ ،‬فالقياـ بمثؿ ىذه األعماؿ (التجارة‪ ،‬الحرؼ اليدكية) يدؿ عمى عدـ اليقيف في كفاية ا﵀ لمرزؽ (‪)...‬‬

‫‪1‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.133-132‬‬
‫‪2‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.737-736‬‬
‫‪3‬‬
‫زكي مبارؾ‪ :‬األخبلؽ عند الغزالي‪ ،‬دار الشعب لمصحافة كالطباعة كالنشر‪ ،‬القاىرة‪ ،‬دس‪ ،‬ص ‪.186‬‬

‫‪196‬‬
‫كبلميتو كانت بمثابة تبرير لرىبانية التسكؿ"‪ 1.‬كيمكف أف نبلحظ أف الجبرية المطمقة تختمط مع فمسفة التصكؼ السمبية بصكرة كبيرة‪.‬‬
‫فكؿ متصكؼ جبرم ككؿ جبرم متككؿ‪.‬‬

‫حقيقة‪ ،‬يمكف أف نبلحظ ميؿ عامة المسمميف لتأكيد أف كؿ ما يحث لنا مف تقدير إليي‪ ،‬كأف معظـ األمكر التي تحدث لنا مقدرة‬
‫سمفا‪ .‬كقد انتشرت نكتة تقكؿ "بأف سبلـ بف سميماف الطكيؿ القارم (تكفي ‪ 171‬ىػ) كاف يطؿ مف إحدل المنارات ليشاىد أحد خدمو‬
‫يزني بأمة لو‪ ،‬كأنو عفا عف ىذا العبد عندما أقر بأف الزنى مقدكر منذ األزؿ"‪ 2.‬كىكذا‪ ،‬فإف عقيدة الجبر تسقط عمى اإلنساف أم‬
‫مسؤكلية أخبلقية أك دينية‪ .‬كما نجد ركاية أخرل مدكنة حكؿ عبلقة اإلرادة اإلليية بالفعؿ اإلنساني عمى الشكؿ التالي‪" :‬يذكر أف‬
‫شعيب الج برم كاف مدينا بماؿ لميمكف‪ ،‬كعندما طالبو ميمكف بو‪ ،‬رد عميو قائبل إنو سكؼ يرده لو "إف شاء ا﵀"‪ .‬اعتبر ميمكف أف‬
‫ىذا نكع مف المماطمة‪ ،‬فنبيو إلى أف ا﵀ ال يريد إال ما أمر بو‪ ،‬كعميو يفيـ أف عمى شعيب أف يسدد دينو؛ إذ أف ا﵀ أمر بتسديد‬
‫الديف‪ .‬كنظ ار ألف االثنيف لـ يتكصبل إلى حؿ‪ ،‬دعيا ابف عجرد ليككف حكما بينيما‪( .‬لكنو كاف في السجف)‪ .‬القصة كقعت حكالي‬
‫‪ 120‬ىػ‪ ..‬رد ابف عجرد في رسالة‪" :‬إنا نقكؿ ما شاء ا﵀ كاف‪ ،‬كما لـ يشأ لـ يكف‪ ،‬كال نمحؽ با﵀ سكءا"‪ .‬عمى ذلؾ فإف كبل‬
‫‪3‬‬
‫المتخاصميف رأم تأيدا لو في الرسالة"‪.‬‬

‫ينتيي ال مكقؼ الجبرم إلى نكع مف التسكية بيف لحظات الزماف بحيث ال يتـ التفرقة بيف الحاضر كالمستقبؿ‪ ،‬بالنظر إلى أف كؿ‬
‫شيء معمكـ في العقؿ اإلليي‪ .‬كيخمص كلياـ جيمس مفيكـ الجبر في محاضرة ألقاىا عمى طمبة كمية ىارفارد الدينية قائبل‪" :‬ما الذم‬
‫يعنيو الجبر ؟ إنو يعترؼ بأف ىذه األجزاء مف الككف التي كجدت بالفعؿ تقرر تقري ار مطمقا الكيفية التي ستككف عمييا األجزاء األخرل‬
‫كتعينيا‪ ،‬كبأنو ال تكجد في جكؼ المستقبؿ احتماالت غامضة مبيمة‪ ،‬كبأف ما نسميو الحاضر ال ينسجـ إال مع كؿ كاحد فحسب‪،‬‬
‫ككؿ مستقبؿ خبلؼ ذلؾ الذم قرر مف األزؿ فيك محاؿ"‪ 4.‬كالظاىر أف ىذا الفيـ عاـ عمى كؿ الفكر الديني دكف تخصيص‪ .‬كعقيدة‬
‫بعض المسمميف في الجبر ال تخرج عف التحديد السابؽ‪.‬‬

‫ثانيا‪ -‬الكالم في قدرة اإلنسان المطمقة‪:‬‬

‫مف المعمكـ‪ ،‬أف االعتزاؿ ىك مف تبنى نظرية القدرة اإلنسانية المطمقة‪ ،‬لحد أنيا سميت بفرقة القدرية التي تثبت قدرة اإلنساف‪.‬‬
‫لكف مف الممكف أف نمحظ بعض الفرؽ األخرل مف الشيعة مف تبنى نظرية حرية اإلنساف في جك القضاء اإلليي المطمؽ‪ .‬فالزيدية‪،‬‬

‫‪1‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.810-808‬‬
‫‪2‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.563‬‬
‫‪3‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.860-859‬‬
‫‪4‬‬
‫كلياـ جيمس‪ :‬العقؿ كالديف (الجزء الثاني مف ارادة االعتقاد)‪ ،‬ترجمة الدكتكر محمكد حب ا﵀‪ ،‬دار احياء الكتب العربية‪ ،‬القاىرة‪،‬‬
‫‪ ،1949‬ص ‪.115‬‬

‫‪197‬‬
‫عمى حد مبلحظة األشعرم‪ ،‬قد تفرعت منيا فرقة تؤكد حرية االختيار كقدرة اإلنساف‪ 1.‬كبالنسبة إلى "النظاـ" فإف البارم تعالى غير‬
‫مكصكؼ باإلرادة عمى كجو الحقيقة‪ ،‬كىنا نبلحظ حديث عمى منكاؿ حديث الجبرية القائؿ بأف اإلنساف ال يفعؿ عمى كجية الحقيقة‪.‬‬
‫كنفي اإلرادة كالرغبة عف ا﵀ نابع مف أف كؿ ارادة متأتية مف النقص كطمب الحاجة‪ ،‬كا﵀ يتعالى عف ذلؾ‪ .‬كاف كرد الشرع ذلؾ أم‬
‫حقيقة اإلرادة اإلليية‪ ،‬فالمراد بككنو تعالى مريدا ألفعالو أنو خالقيا كمنشئيا‪ ،‬كاف كصؼ بككنو مريدا ألفعاؿ العباد فالمراد بذلؾ أنو‬
‫‪2‬‬
‫أمر بيا‪ ،‬كاف كاف كصؼ ككنو مريدا في األزؿ فالمراد بذلؾ أنو عالـ فقط‪.‬‬

‫كقد الحظ ىارم كلفسكف بأف نظرية الحرية اإلنسانية كانت معركفة في السياقات المسيحية‪ ،‬كىذا ما يمكف لنا كشفو مف خبلؿ‬
‫المحاكرة المتخيمة بيف يكحنا الدمشقي كمحاكره المسمـ‪ .‬كلك أننا نبلحظ بكضكح تحيز يكحنا إلى كصـ المسمميف بعقيدة الجبرية‬
‫كالمسيحييف بتبني عقيدة الحرية‪ ،‬إال أننا نبلحظ البكادر األكلى لفكرة المعتزلة التي تربط الحرية اإلنسانية كالعدؿ اإلليي‪ .‬إذ نجد‬
‫"حجج المسيحي عمى الحرية (حسب محاكرة يكحنا الدمشقي‪ )John of Damascus‬كما يمي‪:‬‬

‫لك لـ يكف اإلنساف حرا‪ ،‬فسكؼ يككف ا﵀‪ ،‬إذف‪ ،‬غير عادؿ في عقابو أك في أمره بمعاقبة مف يرتكبكف الشر‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫كالحجة األخرل‪ :‬عدـ االتساؽ بيف افتراض أف يككف ا﵀ أراد لمعاصي مقدما أف يرتكب بعض الخطايا كبيف ككنو ال‬ ‫‪‬‬
‫‪3‬‬
‫يريد لمخاطئ أف يرتكب تمؾ الخطايا‪ ،‬كىك ما تتضمنو النكاىي المكحاة عف ارتكاب تمؾ الخطايا"‪.‬‬

‫ضى لً ًعىب ًاد ًه‬ ‫َّ ً‬


‫كبالفعؿ‪ ،‬فقد تمسكت المعتزلة بكممات مف ظكاىر الكتاب؛ منيا قكلو تعالى‪﴿ :‬إً ٍف تى ٍكفييركا فىًإ َّف الموى ىغن ّّي ىع ٍن يك ٍـ ىكىال ىي ٍر ى‬
‫ا ٍل يك ٍف ىر﴾ [الزمر‪ 4.]7،‬كىك القكؿ الذم يجعؿ الكفر أك غيره مف الشركر األخرل نابعة مف ق اررات الفرد كليس تقدير إليي مسبؽ عف‬
‫كينكنة اإلنساف‪ .‬كلك أف الشيرستاني يرد عمى ىذا الفيـ‪ ،‬مف خبلؿ مكقؼ األشاعرة عمى حجة الحرية (العدالة اإلليية تستمزـ‬
‫الحرية) بقكليـ أف لو تصك ار لعدؿ ال يمكف لنا أف نعرفو"‪ 5.‬أم أف عدلو ليس كعدؿ البشر‪ ،‬كىذا تصكر يشبو مكقؼ األشاعرة مف‬
‫مشكمة التنزيو مف خبلؿ قكليـ أف ا﵀ جسـ ال كاألجساـ أك لو فعؿ ال كاألفعاؿ‪.‬‬

‫عمى أف كلفسكف‪ ،‬المستشرؽ المكلع بإرجاع كؿ كبلـ إسبلمي إلى أصكؿ مسيحية أك إغريقية‪ ،‬لـ ينكر بأف في زمف تأليؼ‬
‫المحاكرة ليحي الدمشقي‪ ،‬ىناؾ مكاقؼ إسبلمية تقر بمبدأ الحرية البشرية‪ .‬إذ أف "معبد الجيني (تكفي ‪ 699‬ـ) كاف أكؿ مف بدأ‬
‫النقاش حكؿ قدرة اإلنساف‪ .‬كىك تمميذه الحسف البصرم‪ .‬كبدءا مف غيبلف الدمشقي (‪ )730‬تكثر الركايات عف آراء أكلئؾ الذيف‬

‫‪ 1‬أبي الحسف األشعرم‪ :‬مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.74‬‬
‫‪2‬‬
‫الشيرستاني‪ :‬نياية اإلقداـ في عمـ الكبلـ‪ ،‬تحرير كتصحيح ألفريد جيكـ‪ ،‬مكتبة الثقافة الدينية‪ ،‬القاىرة‪ ،‬الطبعة االكلى‪،2009 ،‬‬
‫ص ‪.227‬‬
‫‪3‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص‪.769‬‬
‫‪4‬‬
‫الشيرستاني‪ :‬نياية اإلقداـ في عمـ الكبلـ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.247‬‬
‫‪5‬‬
‫ابف رشد‪ ،‬مناىج األدلة‪ .113 ،‬أيضا‪ :‬ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪،‬‬
‫ص‪.775‬‬

‫‪198‬‬
‫سممكا بحرية اإلرادة اإلنسانية"‪ 1.‬مما يدؿ عمى أف فكرة الحرية كانت معركفة في السياقات اإلسبلمية كمألكفة لدرجة أنيا تتناقؿ بيف‬
‫األلسف بصكرة جارية‪ .‬كيسمى كؿ مف معبد لجيني كغيبلف الدمشقي بأصحاب القدرية الخالصة‪ ،‬ألنيما أنك ار كؿ ما كاف يقاؿ عف‬
‫سطكة القدر اإلليي في الكجكد كفي تدبير شؤكف السياسة‪" .‬كيركل أف معبد الجيني كعطاء بف سيار أتيا الحسف البصرم كقاال لو‪ :‬يا‬
‫أبا سعيد ىؤالء الممكؾ ي سفككف دماء المسمميف كيأخذكف أمكاليـ كيقكلكف "إنما تجرل أعمالنا عمى قدر ا﵀ تعالى‪ .‬فقاؿ الحسف في‬
‫‪2‬‬
‫كلما كاف أصحاب مذىب القدرية القائؿ بحرية اإلنساف أتباع لمشيخ الحسف البصرم‪ ،‬فقد نجد مف يعتبره‬ ‫جكابيما "كذب أعداء ا﵀"‪.‬‬
‫قدريا ضد المجبرة‪ .‬كقد كردت ركايات تقكؿ بأنو ق أر كممة "أشاء" (األعراؼ ‪ )156‬بػ "أساء"‪ ،‬كعمى ذلؾ فإنو ينتفي أف يقكؿ ا﵀ عمى‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫الد ٍنىيا ىح ىسىنةن ىكًفي ٍاآلى ًخ ىرًة إًَّنا يى ٍدىنا إًلىٍي ى‬
‫ب لىىنا ًفي ىى ًذ ًه ُّ‬
‫يب بًو ىم ٍف أى ىش ي‬
‫اء﴾‪ ،‬فيصبح مف المفترض أنو قاؿ‬ ‫ؾ قىا ىؿ ىع ىذابًي أيص ي‬ ‫نفسو ﴿ ىكا ٍكتي ٍ‬
‫"عذابي أصيب بو مف أساء"‪ .‬غير أنو ال يمكف االستبعاد بالكمية أف كؿ ىذه القراءات قد حدثت في كقت متأخر بعد مكت الحسف‬
‫البصرم‪ ،‬كأف عمرك بف عبيد‪ ،‬كىك قريب كاصؿ بف عطاء‪ ،‬نسبيا إلى الحسف البصرم‪ 3.‬ىنا نبلحظ مدل ممارسة التعقؿ الحاد‬
‫لمسمع‪ ،‬إذ أف المنطؽ يقكؿ بأف ا﵀ يعاقب مف ارتكب السيئات كليس مف شاء دكف كجو حؽ‪ .‬كسنجد نظرية الحقة عند المعتزلة‬
‫تتحدث عف ضركرة فعؿ الصبلح‪ ،‬أم أف ا﵀ ال يمكف أف يفعؿ ما يفسد لئلنساف‪ .‬كىذا المكقؼ مف الحسف البصرم‪ ،‬ما جعؿ‬
‫الب عض مف رجاالت اإلستشراؽ يعتبركنو المؤسس األكؿ لئلعتزاؿ‪ ،‬اذ أف قراءة اآلية القرآنية مف األعراؼ قراءة عقمية تجعمنا نقكؿ‬
‫بأف الصحيح ىك "مف أساء"‪ ،‬لكف المنقكؿ عمى الخطاطيف ىك "مف أشاء"‪ .‬كىي مبلحظة تستشكؿ في النياية العدؿ اإلليي‪ ،‬ألف‬
‫"معاقبة مف أساء" عدؿ مطمؽ‪ ،‬في حيف أـ "معاقبة مف أشاء" فيك يفترض ممارسة ا﵀ إلرادة غير مبررة‪ .‬كىك متعاؿ عف ذلؾ‪ ،‬كليس‬
‫مف مستمزمات العدؿ التصرؼ كفؽ ىذا المنطؽ اإلرادم الخالص‪ .‬لكف ىؿ يمكف تحديد إرادة ا﵀ ؟ ىؿ ارادة ا﵀ مقيدة كمشركطو ؟‬
‫الحؽ أف مطمقية ا﵀ تستبعد كؿ مشركطية كقد تقييد ميما كاف‪ .‬كحتى خمؽ الشيطاف‪ ،‬عند البعض مف القدرييف‪ ،‬يجعؿ اإلنساف‬
‫يستشكؿ العدؿ‪ .‬فقد تـ الحديث عف "شخص قدرم اسمو أحمد كاف يرل أف العدؿ اإلليي يتطمب أف اإلنساف كحده ىك الذم يقرر‬
‫أفعالو‪ ،‬كال نعرؼ شيئا كذلؾ عف ىؤالء القدرييف الذيف كانكا يدعكف أف ا﵀ ال يمكف أف يككف ىك الذم قد خمؽ الشيطاف"‪ 4.‬كألنو‬
‫مصدر كؿ شر ككؿ ظمـ‪ ،‬فبل يمكف أف يككف مف مصدره إليي‪ .‬لكف ىذه الفكرة قد تككف ذات أصكؿ ثنكية تعتقد بتعادؿ إلييي‬
‫الخير كالشر‪ ،‬كبالتالي ال تتكافؽ كمية مع عقائد اإلسبلـ التكحيدية‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص‪.776‬‬
‫‪2‬‬
‫عرفاف عبد الحميد‪ :‬دراسات في الفرؽ كالعقائد اإلسبلمية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ .258-257‬أيضا جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ‬
‫كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ .93‬أبو معاذ عطاء‬
‫بن أبي ميمونة منيع البصري ىك تمميذ الحسف البصرم‪ ،‬تكفي ‪ 131‬ىػ ‪ ...‬يقاؿ أنو رمى الحسف البصرم القدرية زك ار كبيتاف‪.‬‬
‫يدعكف أف ما يمحقكنو مف أذل بالمسمميف‬
‫يركل أنو كاف يبحث عف الحسف البصرم كعف معبد الجيني كشكي ليما بأف األمكييف ٌ‬
‫ىك مف قبيؿ القضاء كالقدر‪ .‬كيرل أف الحسف البصرم رد عمى ذلؾ بقكلو‪" :‬أعداء ا﵀ يكذبكف"‪.‬‬
‫أيضا‪ :‬ابف المرتضي‪ :‬طبقات المعتزلة‪ ،‬تحقيؽ سكسنة ديفمد‪ -‬فمزر‪ ،‬جمعية المستشرقيف األلمانية‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪،1961 ،‬‬
‫ص ‪.121‬‬
‫‪3‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.84-83‬‬
‫‪4‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.88‬‬

‫‪199‬‬
‫المبلحظ بأف القدرية‪ ،‬بمختمؼ فركعيا‪ ،‬قد أق رت بقدرة ا﵀ المطمقة عمى الظكاىر الطبيعية كنظاـ الككف‪ ،‬إذ يمكف ﵀ أف يغير‬
‫مسارات الطبيعة كفؽ ارادتو الخاصة‪ .‬لكف الفعؿ اإلنساني مختمؼ مف حيث نكعو عف بقية الظكاىر الطبيعية‪ ،‬مما يجعمو تابع‬
‫لمشيئة العبد كليس لتقدير ا﵀‪ 1.‬كىذا ليس انتقاصا مف قدرة ا﵀‪ ،‬كالمبلحظ بأف القدر مرتبط بالقدرة‪ ،‬مما جعؿ البعض يعتقد بأف نفي‬
‫القدر يستمزـ نفي القدرة‪ .‬في حيف أف ىذا ليس بالضركرة الكمية‪ ،‬إذ أف قدرة ا﵀ ال تتضمف الفعؿ البشرم‪ .‬كالمسألة التي جعمتيـ‬
‫يقركف بقدرة اإلنساف عمى خمؽ أفعالو ىك العدؿ اإلليي‪ .‬كيذكر بأف حجة القدرم غيبلف الدمشقي في شكؿ عدد مف األسئمة كجييا‬
‫إلى الخميفة "عمر بف عبد العزيز"‪ :‬فيؿ كجدت‪ ،‬يا عمر‪ ،‬حكيما يعيب ما يصنع أك يصنع ما يعيب‪ ،‬أك ّْ‬
‫يعذب عمى ما قضى‪ ،‬أك‬
‫يقضي عمى ما ّْ‬
‫يعذب عميو ؟ أـ ىؿ كجدت رشيدا يدعك إلى اليدل ثـ يضؿ عنو ؟ أـ ىؿ كجدت رحيما يكمؼ العباد فكؽ الطاقة أك‬
‫يعذبيـ عمى الطاعة ؟ أـ ىؿ كجدت عدال يحمؿ الناس عمى الكذب أك التكاذب بينيـ ؟ كفى ببياف ىذا البياف كبالعمى عنو عمى‪" .‬‬
‫(ابف المرتضي‪ ،‬الممؿ كالنحؿ – المعتزلة‪ )16 ،‬ىذا ما سكؼ يكرره المعتزلة فيما بعد"‪ 2.‬كقد نقؿ عف مكسى بف سيار أف الحسف‬
‫البصرم كاف ال يصنؼ القتؿ ضمف القضاء كالقدر‪ .‬كاالٌ تحرر اإلنساف مف كؿ تبعيات أفعالو الشريرة‪ .‬ثـ أنو ال يمكف ارجاع القتؿ‬
‫إلى ا﵀ ألف ىذا مناؼ لخيريتو كعدالتو المطمقتيف‪ 3.‬بؿ أف اثبات القضاء كالقدر ينتيي إلى ابطاؿ األكامر كالنكاىي كالتكميؼ الثكاب‬
‫العقاب‪ ،‬لذا فإف قكؿ العامة بالقض اء كالقدر ىك مف قبيؿ العبارات التي لـ تدرس في معناىا الحقيقي‪ ،‬أم أف مكقؼ العامة في اثبات‬
‫ؾ أ َّىال تى ٍعيب يدكا إً َّال إًيَّاهي ىكبًا ٍل ىكالً ىد ٍي ًف‬
‫ضى ىرُّب ى‬
‫﴿كقى ى‬
‫القضاء كالقدر المطمقيف‪ ،‬ال يميؽ بمرتبة ا﵀‪ ،‬ألنو يسقط ما سمؼ ذكره‪ .‬كقكلو تعالى ى‬
‫ًإ ٍح ىس نانا﴾ [اإلسراء‪ ]23 ،‬فيك قضاء يصح فقط في الطاعات الكاجبة‪ ،‬لكف ال يمكف اطبلقو عمى بقية المعاصي كالمباحات‪ .‬فيي مف‬
‫خمؽ اإلنساف ذاتو‪ 4.‬بؿ أف مشيئة اإلنساف في الكفر كالمعصية أنفذ مف مشيئة ا﵀‪ ،‬عمى أساس أف العدالة اإلليية تتطمب عدـ دفع‬
‫اإلنساف إلييما ثـ العقاب الحقا‪ .‬إف مش يئة ا﵀ مرتبطة بفعؿ اإليماف كالطاعة‪ .‬كىذا ىك بالضبط مربط مسألة العدالة اإلليية‪ .‬كقد‬
‫ركم عف عمر بف الخطاب أنو شبو عمـ ا﵀ بكفر العبد المستقبمي ال يفترض منو العقاب أصبل‪ ،‬أم ال يؤثر في استحقاؽ العقاب‬
‫بكفره‪ 5.‬كلقد عرضنا مناظرة األشعرم مع الجبائي في ىذه المسألة‪ .‬كقد استشكؿ البعض‪ ،‬قبؿ الفيمسكؼ الدينماركي سكريف‬
‫كيركجادر (‪ ،)1855/1813‬مسألة أمر ا﵀ ابراىيـ بنحر ابنو‪ .‬عمى أساس أنيا دعكة صريحة لممعصية‪" .‬فقد ذكر عف عمرك بف‬
‫فائد األسكارم التميمي األنصارم الذم يركل أنو ظؿ ‪ 36‬عاما يفسر القرآف‪ .‬يرل أف ا﵀ أمر ابراىيـ قتؿ ابنو‪ ،‬غير أنو لـ يرد ذلؾ‬
‫في الحقيقة‪ .‬كادعى أف ما حدث إلبراىيـ كاف مجرد رؤية رآىا في نكمو"‪ 6.‬بالنسبة لكيركجارد فإف القصة اإلبراىيمية تتضمف قمؽ‬
‫بيف مدرجيف أحدىما إيماني كاآلخر أخبلقي‪ .‬فتمبية األمر اإلليي الذم يقتضيو اإليماف‪ ،‬ال يمكف أف ينسجـ مع األخبلؽ التي‬

‫‪1‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص‪.777 -776‬‬
‫‪2‬‬
‫المرجع نفسو‪.779 ،‬‬
‫‪3‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.132‬‬
‫‪4‬‬
‫أبك القاسـ البمخي كالقاضي عبد الجبار كالحاكـ الجشمي‪ :‬فضؿ اإلعتزاؿ كطبقات المعتزلة‪ ،‬تحقيؽ فؤاد سيد‪ ،‬المعيد األلماني‬
‫لؤلبحاث الشرقية في بيركت‪ ،‬دار الفارابي‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2017 ،‬ص ‪.126‬‬
‫‪5‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.128‬‬
‫‪6‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.136-134‬‬

‫‪211‬‬
‫تقتضي المحافظة عمى األبناء كرعايتيـ‪ .‬كعف أبك خالد يكسؼ السمتي الميثي (تكفي ‪ 189‬ىػ) أنو صدـ القدرية بعقيدتو التي تقكؿ‬
‫"إف الكافر الذم يعمـ ا﵀ أنو لف يؤمف أبدا‪ ،‬يقدر (أيضا) عمى أف يتصرؼ‪ -‬إذا تسنى لو ذلؾ‪ -‬عمى خبلؼ قضاء ا﵀ كقدره"‪ .‬عمى‬
‫ىذا فإف السمتي يعت بر أف معرفة ا﵀ في األزؿ تتضمف معنى القدر‪ .‬كقد أدار القدرية لو الرمح‪ ،‬فكاف عمى السمتي أف يقر بأف‬
‫اإليماف الزـ عمى اإلنساف‪ ،‬كعميو يككف الكافر ممزما بفعؿ شيء ليس في مقدرتو‪ ،‬كىذا يتعارض مع مبدأ "ال إلزاـ بمستحيؿ"[القانكف‬
‫‪1‬‬
‫الركماني‪ . ]ultra posse nemo obligatur :‬كربما أف ىذه المسألة كاف يتبناىا أبك حنيفة نفسو"‪.‬‬

‫يقكؿ كاصؿ بف عطاء‪ ،‬كىك الذم تبني مكقؼ القدرية األصمي‪ ،‬إف البارم تعالى حكيـ عادؿ ال يجكز أف يضاؼ إليو شر كظمـ‬
‫ال يجكز أف يريد مف العباد خبلؼ ما يأمر كيحكـ عمييـ شيئا ثـ يجازييـ عميو؛ فالعبد ىك الفاعؿ لمخير كالشر كاإليماف كالفكر‬
‫كالطاعة كالمعصية كىك الم جازل عمى فعمو كالرب تعاؿ بأقدر عمى ذلؾ كمو‪( .‬الشيرستاني‪ ،‬الممؿ كالنحؿ‪ 2.)32 ،‬إف بعثة األنبياء‬
‫كمجمؿ الرساالت تفترض أف العبد قادر عمى االختيار بيف القبكؿ كالرفض‪ .‬مما يدؿ عمى أف فعالية الق اررات البشرية ال تقؿ أىمية‬
‫عف فاعمية القدر اإلليي‪ 3.‬حجة أخرل لكاصؿ ليا ما يناظرىا في الفمسفة القديمة‪ ،‬فييا يقكؿ‪ :‬إف اإلنساف يحس مف نفسو االقتدار‬
‫كالفعؿ‪ ،‬كمف أنكره فقد أنكر الضركرة (أم ما ىك معمكـ بالضركرة)‪ .‬ىذه الحجة ذكرىا الشيرستاني (نياية االقداـ‪ .)79 ،‬كالحجة كما‬
‫صاغيا اإلسكندر األفركديسي‪ :‬مف المحاؿ حقا كالمضاد لكؿ دليؿ القكؿ بأف الضركرة تمتد لتشمؿ حتى "الحركات التي يقكـ بيا‬
‫الناس‪ ،‬ألننا نرل طكاؿ الكقت أنو ليست كؿ األشياء مقيدة بعمؿ مثؿ ىذه ‪ .‬إنو عمى حيف أف النار غير قادرة‪ ،‬مثبل‪ ،‬عمى أف تستقبؿ‬
‫البارد‪ ،‬فمف الممكف لئلنساف الجالس أف يقؼ‪ ،‬لئلنساف المتحرؾ أف يسكف‪ ،‬لئلنساف المتكمـ أف يبقى صامتا‪ 4.‬لذا فإف التركيز عمى‬
‫الخبلؼ بيف أفعاؿ اإلنساف كظكاىر الطبيعة أمر ضركرم مف أجؿ فيـ طبيعة الحرية البشرية‪.‬‬

‫رفع عمرك بف عبيد‪ ،‬كىك الرجؿ الثاني في االعتزاؿ‪ ،‬عدـ التطابؽ في نظرية الحسف البصرم الخاصة "بحرية اإلرادة"‪ ،‬حيث‬
‫قاؿ عمرك بأف ا﵀ ليس فقط ال يقدر الشر‪ ،‬كانما ال يقدر الخير أيضا‪ 5.‬أم كؿ شيء مف عند اإلنساف‪ .‬كليس كما فيـ البعض مف‬

‫ص ٍبيي ٍـ ىسيىّْئةه ىيقيكليكا ىى ًذ ًه ًم ٍف ًع ٍن ًد ى‬


‫ؾ يق ٍؿ يك ّّؿ‬ ‫ص ٍبيـ حسىنةه يقيكليكا ىى ًذ ًه ًم ٍف ًع ٍن ًد المَّ ًو كًا ٍف تي ً‬
‫ى‬
‫ً‬
‫﴿كًا ٍف تي ي ٍ ى ى ى‬ ‫أف الحسنات مف عند ا﵀ استنادا لآلية ى‬
‫كف ىح ًديثنا﴾ [النساء‪ .]78 ،‬ىنا يرد رجاؿ االعتزاؿ بأف ىذه اآلية لـ ترد في أفعاؿ‬ ‫كف ىي ٍفقىيي ى‬ ‫اؿ ىى يؤىال ًء ا ٍلقى ٍكًـ ىال ىي ىك ي‬
‫اد ى‬ ‫ًم ٍف ًع ٍن ًد المَّ ًو فىم ً‬
‫ى‬
‫العباد‪ ،‬بؿ متعمقة بما ينزؿ مف السمكات مف خصب كقحط‪ 6.‬إذ أرجع الكفار الخير إلى ا﵀ كالشر إلى محمد‪ ،‬فتـ استنزاؿ اآلية‬
‫ظاـ‪ ،‬المسماة بنظرية‬ ‫ؾ ًم ٍف ىسيىّْئ وة فى ًم ٍف ىن ٍف ًس ى‬
‫ؾ﴾ [النساء‪ ]79 ،‬كتكشؼ نظرية الن ٌ‬ ‫ىص ىاب ى‬ ‫و ً َّ ً‬ ‫التالية ليا‪﴿ :‬ما أىصاب ى ً‬
‫ؾ م ٍف ىح ىسىنة فىم ىف المو ىك ىما أ ى‬ ‫ى ىى‬
‫الخاطريف‪ ،‬خاطر الطاعة كخاطر المعصية‪ ،‬عف ارتباط سمكؾ اإلنساف تارة بالعقؿ كتارة باليكل‪" .‬كقد قكبمت نظرية الخاطريف بردكد‬
‫أفعاؿ متباينة مف المعتزلة أصحابو‪ .‬فعمي حيف ركل األشعرم‪ :‬كقاؿ أبك اليذيؿ (كالبعض مف) سائر المعتزلة‪ :‬الخاطر الداعي إلى‬

‫‪1‬‬
‫المرجع نفسو‪.241 ،‬‬
‫‪2‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص‪.779‬‬
‫‪3‬‬
‫عرفاف عبد الحميد‪ :‬دراسات في الفرؽ كالعقائد اإلسبلمية‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.262‬‬
‫‪4‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص‪.781‬‬
‫‪5‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.458‬‬
‫‪6‬‬
‫أبك القاسـ البمخي كالقاضي عبد الجبار كالحاكـ الجشمي‪ :‬فضؿ اإلعتزاؿ كطبقات المعتزلة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.133‬‬

‫‪211‬‬
‫الطاعة مف ا﵀ كخاطر المعصية مف الشيطاف‪ ".‬فإف آخريف قد رفضكا النظرية برمتيا‪ .‬يعتقد المعتزلة مثؿ النظاـ أنو‪ ،‬في حالة‬
‫‪1‬‬
‫األفعاؿ الدينية‪ ،‬يكجد لممعصية أيضا مثير خارجي‪ ،‬كذلؾ ىك الشيطاف المذككر في القرآف‪.‬‬

‫" نيج الشيعة الككفييف الذيف يركف بأف اإلرادة اإلليية تبدأ في نفس كقت كقكع الحدث‪ .‬كىذا يعني أف ا﵀ ال يريد فعؿ أم شيء‬
‫في األزؿ‪ ،‬كال حتى الخير‪ ،‬كلكف األم ر يصبح مختمفا عند لحظة كقكع الحدث‪ ،‬ففي حالة أف يقكـ اإلنساف بفعؿ الخير‪ ،‬حينئذ يقاؿ‬
‫بأف ا﵀ أراد ذلؾ‪ ،‬أما إذا فعؿ الشر فيقاؿ بأف ا﵀ لـ يرد ذلؾ"‪ 2.‬كبالتالي فإف نسبة المعاصي ﵀ غير معقكلة كال تستقيـ مع كمالو‬
‫كخيريتو‪ ،‬في حيف أف نسبة الطاعات إليو ال تسبب أم حرج‪ .‬لكف بالنسبة لممعتزلة‪ ،‬فإف نفي الطاعات كالمعاصي عمى ا﵀ كاجب في‬
‫كبل الحالتيف‪ .‬فا﵀ ال يخمؽ كال يصنع كال يحدث سكاء المعاصي أك الطاعات‪ ،‬ككؿ شيء مف العبد‪ .‬كاضافة الطاعات ﵀ ليس إال‬
‫تجك از مف باب األدب في الحديث‪3.‬كمف الكاضح جدا‪ ،‬ميؿ المعتزلة إلى التمييز بيف الخطاب الحقيقي كالخطاب المجازم‪ ،‬كىذا ما‬
‫أظيرناه في محاضرة الصفات كالتنزيو‪ .‬كقد نقؿ عف النحكم أبك زيد األنصارم‪ ،‬ىك مف القدرية‪ ،‬إذ يقاؿ أنو كاف يستقبح صيغة‬
‫معينة في الدعاء‪ ،‬تمؾ التي تقكؿ "أليـ اعصمني"‪ ،‬نظ ار ألنيا تتضمف تحديدا لمسؤكلية اإلنساف عف نفسو‪ 4.‬فيك دعاء يسقط حقيقة‬
‫ككف اإلنساف ىك مف يحدد خيره ىك مف يحدد شره أيضا‪ ،‬كطمب العصمة ىنا تنتيي إلى تبعية اإلنساف في سمككياتو إلى ا﵀ تبعية‬
‫تسقط عنو المسؤكلية في ميزاف الخاتمة‪.‬‬

‫ثالثا‪ -‬مشكمة نظرية الكسب‪:‬‬

‫ككف األشعرية مذىب كبلمي ذك منحي رجكعي مف خبلؿ تأكيده استراتيجية العكدة إلى أىؿ السنة كالجماعة‪ ،‬فإنيا لف تكافؽ‬
‫المعتزلة في نظرية خمؽ أفعاؿ العبادة بمعزؿ عف قدرة ا﵀ كقدره‪ .‬لكف ىذا ال يدؿ عمى أنيـ اعتنقكا نظرية المجبرة التي ألغت أم‬
‫فعالية لئلنساف‪ .‬كبال نظر إلى احتكاء القرآف عمى آم الجبر كعمى آم اإلختيار معا‪ ،‬فبل يمكف ممارسة االنتقاء مف خبلؿ اىماؿ ىذه‬
‫أك تمؾ‪ ،‬كال يمكف التنكر لمحرية مثمما ال يمكف التنكر لمقضاء اإلليي العاـ‪ .‬بالنسبة البف قتيبة في مسائمو الكبلمية فإف "القرآف ال‬
‫يفصؿ في مسألة ىؿ اإلنساف ىك ا لمتحكـ في أفعالو أـ ىك مجبر عمييا عف طريؽ إرادة ا﵀‪ .‬كبل االحتماليف ثابتاف في القرآف‪،‬‬
‫كعميو فكبل الفريقيف – الجبرية كالقدرية‪ -‬عمى صكاب‪ ،‬كال يبقى بعد ذلؾ إال افتراض أف االختبلؼ بينيما متعمؽ بكجو نظر أف‬
‫أحدىما يريد إبراز جبلؿ ا﵀‪ ،‬كيريد الفريؽ اآلخر أف يبع د عف الذات العمية (أية مسؤكلية عف كقكع الشر) في العالـ‪ .‬عمى ىذا النحك‬
‫ينطبؽ األمر كذلؾ عمى "اآلراء المختمفة" فيما يخص كضع مرتكبي الكبائر‪ ،‬فالقرآف يدعـ االعتزالييف كالمرجئة ككؿ الفرؽ األخرل‬

‫‪1‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص‪.800-798‬‬
‫‪2‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.267‬‬
‫‪3‬‬
‫أبك القاسـ البمخي كالقاضي عبد الجبار كالحاكـ الجشمي‪ :‬فضؿ اإلعتزاؿ كطبقات المعتزلة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.132‬‬
‫‪4‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.474‬‬

‫‪212‬‬
‫بأدلة تساند آرائيـ‪ .‬ال يعني ىذا أف القرآف متناقض في ذاتو؛ فالمشكمة تتعمؽ بتفسير ىذه المكاضيع‪ ،‬فاآلية الكاحدة يمكف تأكيميا عمى‬
‫‪1‬‬
‫أكثر مف جية‪ ،‬كليس ىناؾ منيج مكحد يمكف مف خبللو الكصكؿ إلى استنتاج كاضح عند تفسير مكضع معيف"‪.‬‬

‫يمكف لنظرية الحرية اإلنسانية التي تبنتيا فرقة المعتزلة كبعض الشيعة أف تطرح أكثر مف مشكمة عمى شكؿ معضبلت ال يمكف‬
‫فكميا‪ .‬المعضمة األكلى تصاغ عمى النحك التالي‪" :‬كيؼ سيفسركف تمؾ اآليات القرآنية التي تنسب إلى ا﵀ مباشرة ىيمنة عمى الفعؿ‬
‫اإلنساني ؟ كالمعضمة الثانية‪ :‬كيؼ سيكفقكف بيف كصؼ ا﵀ في القرآف بأنو العميـ بإطبلؽ كالقادر بإطبلؽ كبيف تصكرىـ لئلرادة‬
‫اإلنسانية ؟"‪ 2‬كال يمكف االنفبلت مف احراج ىذه األسئمة إال مف خبلؿ افتراض قكة الطرح القرآني الذم يجعؿ ا﵀ عالـ كقادر عمى كؿ‬
‫شيء بما في ذلؾ خمؽ أفعاؿ العباد‪ .‬إذ ال يختمؼ اإلنساف عمى بقية ظكاىر الككف في خضكعيا لئلرادة اإلليية‪.‬‬

‫ناقش األشعرم آراء المعتزلة مف خبلؿ قكلو بأف تقريرىـ القدرم القائؿ بأف ا﵀ ال يعمـ الشيء حتى يككف تقرير ال يمكف قبكلو‪.‬‬
‫﴿ك ىما تى ٍسقيطي ًم ٍف‬
‫ألف ا﵀ تعالى إذ كتب ذلؾ كأمر أف يكتب فبل يكتب شيء ال يعممو ج ٌؿ عف ذلؾ كتقدس‪ .‬كفي ذلؾ يقكؿ تعالى‪ :‬ى‬
‫يف﴾ [اإلنعاـ‪ 3 .]59،‬كيبلحظ األشعرم بأف "المعتزلة‬ ‫اب يمبً و‬‫س إً َّال ًفي ًكتى و‬‫ط وب كىال ىيابً و‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫و ً‬ ‫و ً َّ‬
‫ىكىرقىة إال ىي ٍعمى يميىا ىكىال ىحبَّة في ظيمي ىمات ٍاأل ٍىرض ىكىال ىر ٍ ى‬
‫كف﴾ [األنعاـ‪ .]2 ،‬كىـ‬ ‫ً‬ ‫﴿ى ىك الًَّذم ىخمىقى يك ٍـ ًم ٍف ًط و‬
‫ىج هؿ يم ىس ِّمى ع ٍن ىدهي ثيَّـ أ ٍىنتي ٍـ تى ٍمتىير ى‬
‫ىج نبل ىكأ ى‬
‫ضى أ ى‬ ‫يف ثيَّـ قى ى‬ ‫قد قبمكا ما يقكلو القرآف عف اآلجاؿ ( ي‬
‫يقكلكف بحرية اإلرادة‪ ،‬لذا يظير االحراج التالي‪ :‬إذا كاف اإلنساف يعتقد باألجؿ المحتكـ‪ ،‬فمف الضركرم لفعؿ القتؿ إذف أف يككف قد‬
‫حدث في األجؿ‪ ،‬طالما أنو ليس فعبل حرا؛ إذا كاف المرء يعتقد باإلرادة الحرة‪ ،‬فيمكف لفعؿ القتؿ إذف أف يحدث في أم كقت يريده‬
‫‪4‬‬
‫القاتؿ‪ ،‬طالما أف األجؿ غير محتكـ"‪.‬‬

‫كعمى السؤاؿ الكبلمي المخصكص لمسألة الخمؽ بيف ا﵀ كالعبد‪ ،‬طرح األشعرم المسألة التالية‪ :‬ىؿ يقدر ا﵀ عمى جنس ما‬
‫أقدر عميو عباده ؟ كقدـ رأم المعتزلة الذم لـ يكف متجانسا‪ .‬فقاؿ معتزلي بغداد أف ا﵀ ال يكصؼ بالقدرة عمى فعؿ عباده كال عمى‬
‫شيء ىك مف جنس ما أقدرىـ عميو‪ .‬أم أف أفعاؿ العباد مخصكصة ليـ دكف غيره بما في ذلؾ ا﵀ تعالى‪ .‬فبل يخمؽ مثبل ايماف بو‬
‫يككف العباد مؤمنكف‪ ،‬كما ال يكصؼ بالقدرة عمى خمؽ كفر بو يكفركف‪ ،‬أك كسبا بو يككنكف مكتسبيف‪ .‬كقاؿ أبك اليذيؿ العبلؼ بأف‬
‫أفعاؿ اإلنساف ال تشبو اطبلقا أفعاؿ البارم تعالى‪ .‬أما الجبائي فقد رأم بأف ا﵀ قادر عمى ما ىك مف جنس ما أقدر عميو عباده مثؿ‬
‫الحركات كالسكنات‪ ،‬لكنو لـ يكف يعتقد بأف ا﵀ يخمؽ ايماف بو يككف عباده مؤمنكف أك كفر بو يككنكف كافريف‪ 5.‬كقدـ األشعرم في‬
‫مقاالت اإلسبلمييف "حؿ المعتزلة ليذا االحراج حكؿ مسألة‪ :‬ماذا سيحدث لممقتكؿ لك أف القاتؿ‪ ،‬الذم يمارس فعؿ القتؿ بإرادتو‬
‫الحرة‪ ،‬لـ يقتمو في الكقت الذم يفترض أنو أجمو‪ .‬كىذه اآلراء حسب األشعرم ىي‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫جكزؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة – تاريخ الفكر الديني في اإلسبلـ‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع‬
‫سابؽ‪ ،‬ص ‪.254‬‬
‫‪2‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.821‬‬
‫‪3‬‬
‫أبي الحسف األشعرم‪ :‬اإلبانة عف أصكؿ الديانة‪ ،‬الجزء‪ ،1‬تحقيؽ فكقية حسيف محمكد‪ ،‬دار االنصار‪ ،‬القاىرة‪ ،‬الطبعة األكلى‪،‬‬
‫‪ ،1977‬ص ‪.227‬‬
‫‪4‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.823‬‬
‫‪5‬‬
‫أبي الحسف األشعرم‪ :‬مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬المكتبة الصرية‪ ،‬بيركت‪ ،2009 ،‬ص ‪.401‬‬

‫‪213‬‬
‫رأم قكـ مف جياليـ‪ :‬أف الكقت الذم في معمكـ ا﵀ سبحانو أف اإلنساف لك لـ يقتؿ لبقى إليو ىك أجمو دكف الكقت‬ ‫‪‬‬
‫الذم قتؿ فيو‪.‬‬

‫رأم أبك اليذيؿ‪ :‬إف الرجؿ لك لـ ييقتؿ مات في ذلؾ الكقت‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫قاؿ بعضيـ‪ :‬يجكز لك لـ يقتمو القاتؿ أف يمكت كيجكز أف يعيش‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪1‬‬
‫أحاؿ منيـ (أم المعتزلة) محيمكف ىذا القكؿ‪( .‬أم انكار عمـ ا﵀ السابؽ بالكقت الذم سكؼ يقتؿ القاتؿ فيو بحريتو"‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫أما رأم األشعرية‪ ،‬كىك أىؿ الحؽ كاإلثبات‪ ،‬في مسألة قدرة ا﵀ عمى خمؽ أفعاؿ البشر أك أفعاؿ مثؿ البشر‪ ،‬فيك القائؿ بأف‬
‫البارم قادر عمى خمؽ ايمانا يككف عباده بو مؤمنيف ككف ار يككنكا بو كافريف ككسبا يككنكف بو مكتسبيف‪ ،‬كطاعة يككنكف بيا مطيعيف‪،‬‬
‫كمعصية يككنكف بيا عاصييف"‪ 2.‬إذ ال يمكف كصؼ ا﵀ تعالى بأنو غير قادر‪ ،‬فيذا انتقاص ال يجكز في حؽ ذاتو تعالى‪ ،‬كما أف‬
‫ا﵀ يصؼ نفسو بالقدرة مما يتعذر عمى أم متكمـ أف يستعمؿ عبارة "غير قادر"‪ .‬فاألصؿ ىك أف ا﵀ خالؽ أفعاؿ اإلنساف االختيارية‪،‬‬
‫كىذا ما نسميو بالكسب‪ ،‬أم أف الفعؿ القاعدم مف ا﵀ كاالختيار مف العبد‪ .‬بمعنى أف "قدره ا﵀ تتعمؽ بأصؿ الفعؿ‪ ،‬كقدره العبد‬
‫بككنو طاعة أك معصية‪ ،‬كما في لطـ اليتيـ تأديبا أك ايذاء"‪ 3.‬كبيذا الحؿ‪ ،‬ال يبقى المسمـ في حيرة مف أمر أفعالو في مقابمة قدرة ا﵀‬
‫ال كمية‪ .‬فا﵀ يخمؽ لو األفعاؿ التي يقكـ ىك باختيار ما يريد‪ ،‬لكف اختياره ىنا يبقى في حدكد ما خمقو ا﵀ لو‪ .‬لذا يمكف تحديد مفيكـ‬
‫الكسب كالتالي‪" :‬ىك كصؼ ألفعاؿ اإلنساف المعتبرة كميا أفعاال حرة ناتجة عف القدرة عمى الفعؿ التي منحيا ا﵀ لئلنساف‪ ،‬أم القدرة‬
‫التي اكتسبيا مف ا﵀"‪ 4.‬كلعؿ أف استعماؿ األشاعرة لمصطمح الكسب‪ ،‬كاف مقصكدا بو التأكيد عمى المفظ القرآني‪ ،‬إذ نجد ا﵀ تعالى‬
‫كف﴾ [األنعاـ‪]3 ،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ات كًفي ٍاأل ٍىر ً‬‫ًفي الس ً‬ ‫َّ‬
‫ض ىي ٍعمى يـ سَّريك ٍـ ىك ىج ٍي ىريك ٍـ ىكىي ٍعمى يـ ىما تى ٍكسيب ى‬ ‫َّم ىاك ى‬
‫ى‬ ‫﴿ك يى ىك الموي‬
‫يستعمؿ لفظ الكسب في مثؿ قكلو‪ :‬ى‬
‫ً‬ ‫ًَّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫اىر ًٍ ً‬
‫اإلثٍ ىـ ىسيي ٍج ىزٍك ىف بً ىما ىك يانكا ىي ٍقتى ًرفي ى‬
‫كف﴾‬ ‫كف ًٍ‬‫يف ىي ٍكسيب ى‬ ‫اإلثٍـ ىكىباطىنوي إً َّف الذ ى‬ ‫﴿كىذ يركا ظى ى‬
‫ى‬ ‫كالكسب قد يككف لمخير أك لئلثـ مثمما كرد في‬
‫[األنعاـ‪ .]120 ،‬كفي ىذا االستعماؿ لمكسب تأكيد عمى ربط االصطبلح الكبلمي باالصطبلح القرآني‪ .‬كيشرح الغزالي‪ ،‬الذم ىمثؿ‬
‫اكتماؿ عقيدة األشاعرة الكبلمية‪ ،‬مفيكـ االكتساب مف خبلؿ تأصيمو في القرآف‪ ،‬قائبل أف ا﵀ ىك خالؽ أك صانع األفعاؿ كما‬
‫اإلنساف مجرد مكتسب ليا‪ 5.‬كقد أشار كلفسكف إلى أف لمكسب مفيكـ تجارم‪ ،‬مف خبلؿ التكظيؼ القرآني ذاتو‪ ،‬فعندما يشترم الرجؿ‬
‫الرجؿ جرة مف فخار أك غيرىا‪ ،‬تصبح بعد الشراء كسبا لو كمممككو لو مف الناحية الشرعية عمى الرغـ مف أنيا كانت في األصؿ‬
‫مممككة لصانعيا‪ ،‬فيك الفاعؿ الحقيقي ليا‪ 6.‬كبمغة أرسطية‪ ،‬يككف ا﵀ ىك الفاعؿ الحقيقي أ كالعمة الفاعمة كاإلنساف يكتسب األفعاؿ‬
‫بعد ذلؾ لتصبح لو كتابعة لشخصو‪ .‬ككأف ا﵀ ىك الفاعؿ األصمي كيأتي اإلنساف ليتممكيا بعد ذلؾ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ص ‪.826-823‬‬
‫‪ 2‬أبي الحسف األشعرم‪ :‬مقاالت اإلسبلميف كاختبلؼ المصميف‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.401‬‬
‫‪3‬‬
‫عضد ا﵀ كالديف القاضي عبد الرحمف بف أحمد اإليجي‪ :‬المكاقؼ في عمـ الكبلـ‪ ،‬عالـ الكتب‪ ،‬بيركت‪ ،‬ص ‪.312‬‬
‫‪4‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ص ‪.833‬‬
‫‪ 5‬أبك حامد الغزالي‪ :‬إحياء عمكـ الديف‪ ،‬الجزء الرابع‪ ،‬ص ‪ .312‬نقبل عف كلفسكف‪ ،‬ص ‪.838‬‬
‫‪6‬‬
‫ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ص ‪.839‬‬

‫‪214‬‬
‫يقدـ الغزالي ترسانة مف الحجج عمى أسبقية القضاء اإلليي عمى التدبر اإلنساني‪ ،‬مف أجؿ مجابية منطؽ اإلعتزاؿ‪.‬‬

‫بما أف قدرة ا﵀ تامة ال قصكر فييا‪ .‬فبل يمكف إال أف تككف أفعاؿ العبد مخمكقة ﵀‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫بما أف أفعاؿ العبد متعمقة بحركة أبداف العباد كالحركات متماثمة كتتعمؽ القدرة بيا لذاتيا‪ ،‬فميس ىنالؾ مكجب لمتفرقة‬ ‫‪‬‬
‫مف ىذا الجانب بيف بعض الحركات‪ ،‬التي تسمى أفعاال‪ ،‬دكف البعض مف الحركات األخرل‪.‬‬

‫الكسب عند الغزالي ليس مناقضا لمجبر كال لبلختيار‪ ،‬بؿ ىك جامع بينيما عند مف فيمو‪( .‬اإلحياء‪ ،‬مجمد ‪ .)4‬ككف ا﵀ تعالي‬
‫فاعبل أنو المخترع المكجد كمعنى ككف العبد فاعبل أنو المحؿ الذم خمؽ ا﵀ فيو القدرة بعد أف خمؽ فيو اإلرادة بعد أف خمؽ فيو‬
‫العمـ‪ .‬لذا ينتيي الغزالي إلى أف ا﵀ ىك الخالؽ المباشر لكؿ شرط في سمسمة الشركط‪ ،‬كما أنو الخالؽ لفعؿ اإلنساف‪.‬فالفعؿ اإلنساني‬
‫عنده برغـ ككنو مخمكقا ﵀ مباشرة‪ ،‬يشتمؿ عمى عنصر االختيار ألنو يرل أف قدرة اإلنساف‪ ،‬مع أنيا مخمكقة ﵀ في اإلنساف‬
‫باعتبارىا الشرط ‪ condition‬المباشر لفعمو‪ ،‬فإف "محميا" ىك اإلنساف‪ 1.‬فمعنى التكحيد الحقيقي ىك اإليماف بأف ا﵀ ىك الفاعؿ‬
‫الكحيد كالحقيقي‪ ،‬إذ ال يمكف أف يككف الفعؿ ﵀ كالعبد معا‪.‬‬

‫كيسير الماتريدم في طريؽ شبيو بطريؽ األشاعرة مف خبلؿ اثباتو لمكسب بدؿ الحرية في خمؽ األفعاؿ‪ .‬يقكؿ (في كتابو‬
‫التكحيد)‪ :‬إف كؿ أحد يعمـ مف نفسو أنو فاعؿ مختار‪ ،‬أنو فاعؿ كاسب‪ .‬اإلنساف الكاسب‪ :‬ىك إنساف فاعؿ لكف ليس فاعبل عمى‬
‫الحقيقة‪ .‬يقكؿ الماتريدم (في كتاب التكحيد)‪ :‬يكصؼ ا﵀ بالقدرة عمى كؿ شيء بما في ذلؾ القدرة عمى أفعاؿ الناس "خمؽ العباد"‪.‬‬
‫كاإلنساف ليس قاد ار عمى أف يخمؽ بنفسو شيئا ما لـ ييبو ا﵀ مف قبؿ القدرة كاالستطاعة" عمى الفعؿ‪ .‬أم لئلنساف قدرة خمقيا ا﵀ فيو‬
‫عمى اكتساب الفعؿ الحر الذم يختاره بنفسو‪ .‬لذا يقرر الماتريدم بأف ا﵀ ىك خالؽ الفعؿ الذم كاف اإلنساف قد اختاره كاكتسبو‬
‫بنفسو‪ 2.‬مما يزيؿ التعارض بيف قدر ا﵀ كحرية اإلنساف‪.‬‬

‫خالصة‪.‬‬

‫ىؿ ىناؾ فرؽ بيف االعتقاد بالقضاء كالقدر كاالعتقاد بالجبر عمى مذىب الجبرية قبؿ القرف الرابع لميجرة ؟ ىكذا كاف ينظر‬
‫جماؿ الديف األفغاني إلى المسألة ممي از تميي از صارما بيف القكليف‪ .‬ففي حيف يمكف رفض مذىب الجبر الخالص الذم يمغى أم ارادة‬
‫حقيقية لئلنساف‪ ،‬فبل يمكف لنا كمسمميف‪ ،‬التشكؾ في قضاء ا﵀ كقدره‪ 3.‬كمف المعمكـ بأف اإليماف بالقضاء كالقدر مسألة عقدية أم‬
‫أصؿ مف أصكؿ الديف‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫أبك حامد الغزالي‪ :‬إحياء عمكـ الديف‪ ،‬الجزء الرابع‪ ،‬مؤسسة المختار لمنشر كالتكزيع‪ ،‬القاىرة‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2004 ،‬ص ‪.338‬‬
‫‪ 2‬أبك منصكر الماتريدم‪ :‬كتاب التكحيد‪ ،‬تحقيؽ بكر طكباؿ أكغمي كمحمد آركشي‪ ،‬دار صادر كمكتبة اإلرشاد‪ ،‬بيركت كأستانبكؿ‪،‬‬
‫ص ص ‪ .320-278-275‬أيضا‪ :‬ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ص‬
‫‪.886-884‬‬
‫‪3‬‬
‫جماؿ الديف األفغاني‪ ،‬القضاء كالقدرة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ .9‬أيضا‪ :‬ىارم أكستريف كلفسكف‪ :‬فمسفة المتكمميف في اإلسبلـ‪ ،‬المجمد‬
‫الثاني‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ص ‪.882-870‬‬

‫‪215‬‬
‫مجمؿ تأكيبلت عمماء الكبلـ المتعمقة بحرية اإلنساف مستندة عمى النصكص الدينية سكاء كاف ما كراء في القرآف الكريـ أك ما‬
‫كرد في األحاديث النبكية الشريفة‪ .‬كمف المفيد أف نبلحظ أنيا مسألة نصية باألساس‪ ،‬كلـ يتـ التفكير في الحرية بالمفيكـ الكاقعي‪.‬‬
‫كىذا مبرر عمى أساس أف عمـ الكبلـ نظرم خالص كال ييتـ بالكقائع أك الشرائع إال اىتماما ىامشيا‪ .‬كأكبر مسألة جعمت مف األفعاؿ‬
‫اإلنسانية كاألفعاؿ اإلليية مثار استشكاؿ‪ ،‬ىك االعتقاد بعدـ مش ركعية الحديث عف قدرة إنسانية في ظؿ قدرة إليية تشمؿ كؿ ما في‬
‫الكجكد‪ .‬كترتبط المشكمة بمسألة التكحيد‪ ،‬إذ أف اثبات قدرة اإلنساف عمى افعالو ىك اشراؾ بقدرة ا﵀‪ ،‬كىك ما يقمؽ مبدأ التكحيد‪.‬‬
‫كبالنسبة لممعتزلة‪ ،‬فإف مشكمة األفعاؿ ترتبط بمسألة العدالة اإلليية‪ ،‬إذ أف نفي الحرية يشغب كيشكش عمى عدالة ا﵀ المطمقة‪.‬‬
‫كالرأم األكثر رسكخا في التراث اإلسبلمي حتى اليكـ ىك نظرية الكسب األشعرية كالماتردية عمى أساس أنيا تيكفؽ بيف مبدأ القدرة‬
‫اإلليية القاعدية كبيف ىامش اختيار الفرد مف أجؿ انقاض مبدأ التكميؼ كتسكيغ الحساب‪ .‬لكف بالنسبة لرجاؿ المعتزلة المتأخريف‬
‫تبقي نظرية الكسب فارغة مف أم مدلكؿ كاضح‪ .‬عمى أساس أنو تكفيؽ شكمي يجمع بيف متناقضيف ال يمكف الجمع بينيما‪.‬‬

‫‪216‬‬
‫المحاضرة ‪ :11‬اإلستشراق وعمم الكالم اإلسالمي‪.‬‬
‫مقدمة‪.‬‬
‫م‬
‫لمداللة عمى االستقطاب الدكر ٌ‬
‫اإلسبلمي" عمى منكاؿ "نقائض العقؿ الخالص"‪ٌ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫سنسمح ألنفسنا باستخداـ عبارة "نقائض العقؿ‬
‫قسمت‬ ‫الدرس االستشراقي ؟ أنأخذه مأخ ىذ ّْ‬
‫الجد ؟ ىذه ىي األسئمة الٌتي ٌ‬ ‫الٌذم كقع فيو‪ ،‬حكؿ مسألة االستشراؽ‪ :‬ىؿ ينبغي أف نثؽ في ٌ‬
‫ٌ‬
‫تبيف إجابتو عف األسئمة السابقة‪ .‬العقؿ‬
‫تكجو المف ٌكر مف خبلؿ ٌ‬
‫حؽ المعرفة‪ٌ ،‬‬
‫عقمنا قسميف متنافريف ببل حكار‪ .‬بؿ يمكف أف نعرؼ‪ٌ ،‬‬
‫عمميتو‪ .‬كبيف ىذا كذاؾ‪ ،‬نزفت‬
‫الحداثي يؤ ٌكد ٌ‬
‫ٌ‬ ‫اإلسبلمي‬
‫ٌ‬ ‫اقي محايدا‪ ،‬في حيف العقؿ‬
‫يثي يرفض أف يككف العقؿ االستشر ٌ‬
‫اإلسبلمي التتر ٌ‬
‫ٌ‬
‫كضعيا‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫يقدـ بديبل‬
‫قدرات ىذا العقؿ دكف أف ٌ‬
‫ألف االستشراؽ‬
‫الرفض‪ٌ .‬‬ ‫اإليديكلكجي‪ ،‬ليك الكبلـ الفصؿ ٌإزاء جدؿ القبكؿ ك ٌ‬
‫ٌ‬ ‫العممي‪ ،‬كاالستشراؽ‬
‫ٌ‬ ‫إف التمييز بيف االستشراؽ‬
‫ٌ‬
‫العممي‪ ،‬دكف مراعاة‪ ،‬مصالح أك ما شابو‪ٌ .‬إنو‬
‫ٌ‬ ‫ركسية‪...‬الخ ممتزـ بالمكقؼ‬
‫ٌ‬ ‫ألمانية أك إنجميزٌية‪ ،‬أك‬
‫ٌ‬ ‫جنسيتو‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫األكاديمي ميما كانت‬
‫ٌ‬
‫كرس نفسو لفيـ النصكص المكجكدة‪ ،‬ككشؼ النصكص المجيكلة‪ ،‬كانجاز تأكيبلت‪...‬الخ‪ .‬كىذا ىك الفرؽ بيف العقؿ‬ ‫العقؿ الٌذم ٌ‬
‫اإليديكلكجي المغمؽ‪ ،‬سكاء عند المستشرقيف أك عند المسمميف‪ ،‬كىك الٌذم‬
‫ٌ‬ ‫المفيكمية‪ ،‬كالعقؿ‬
‫ٌ‬ ‫العممي المفتكح الٌذم ال يعترؼ بالناجزة‬
‫ٌ‬
‫اإلسبلمي قد أينجزت ككفى االجتياد‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫تأكيمية التراث‬
‫ٌ‬ ‫بأف‬
‫يعتقد ٌ‬
‫المتخصص‬
‫ٌ‬ ‫المتبحر‬
‫ٌ‬ ‫الدكتكر "فاف ايس" كتقرظ منيجو‪ ،‬فبل يعقؿ أف يدافع العبد الضعيؼ عف العالـ‬
‫لف نسعى المتداح ٌ‬
‫الحيز المكاني الكافي لتكسيعيا‪ ،‬إلى بياف منطؽ اجتياد مستشرؽ معاصر‪،‬‬
‫المكسكعي‪ .‬بؿ ىسعت ىذه الدراسة فقط‪ ،‬الٌتي لـ يتح ليا ٌ‬
‫ٌ‬
‫شح الترجمة‪ ،‬إلى المٌغة العربية‪ .‬كتكمف أىمية ىذا المستشرؽ‪ ،‬في ٌأنو طرح مف جديد مكضكع تأريخ عمـ الكبلـ‬
‫غير معركؼ بسبب ٌ‬
‫سكسيكلكجية المعرفة الٌذم يكشؼ عف‬
‫ٌ‬ ‫مطبة قكؿ المقكؿ‪ ،‬كشرح الشركح‪ ،‬بؿ عمد إلى نيج كدرب‬ ‫لكنو لـ يقع في ٌ‬ ‫اإلسبلمي‪ٌ .‬‬
‫ٌ‬
‫إف السؤاؿ‪:‬‬
‫الكبلمية المستغمقة‪ٌ .‬‬
‫ٌ‬ ‫مما يساعدنا في االقتراب أكثر مف تفسير الكثير مف المكاقؼ‬
‫العقمية‪ٌ .‬‬
‫ٌ‬ ‫االجتماعية لممعرفة‬
‫ٌ‬ ‫األصكؿ‬
‫تبنى متكمٌـ ما مكقفا ما؟ ىك ما يسعى ىذا المنيج الجديد إلى قكلو ككشفو‪.‬‬
‫كيؼ حدث أف ٌ‬
‫الحرة‪ ،‬القادحة كالمادحة‪ ،‬المغرضة‬
‫الدراسات االستشراقية المكثٌفة‪ ،‬األكاديمية ك ٌ‬
‫مضي أكثر مف قرنيف عمى ظيكر ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ليس لنا‪ ،‬بعد‬
‫اتية كنكاياه‬
‫اتيجية االستشراؽ المخابر ٌ‬
‫حد الميكعة‪ ،‬عف استر ٌ‬ ‫نستمر في إطبلؽ األحكاـ المتداكلة‪ ،‬أك قؿ الشائعة ٌ‬
‫ٌ‬ ‫النزيية‪ ،‬أف‬
‫كٌ‬
‫بجرة‬
‫المكضكعي ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ككأنو ال يجب أف يككف ىناؾ استشراؽ أصبل‪ .‬فبل التاريخ يعكد إلى الكراء‪ ،‬كال لمفكر أف يمغي الفكر‬
‫االستعمارٌية‪ٌ .‬‬
‫المؤرخ ىشاـ جعيط الٌذم قاؿ‪" :‬ال معنى النتقاد االستشراؽ ما داـ العرب‪ ،‬كالمسممكف لـ يقكمكا‬
‫ٌ‬ ‫فإننا نكافؽ ممحكظة‬
‫قمـ بسيطة‪ .‬لذا ٌ‬
‫مبرر‪،‬‬
‫أف االستشراؽ ٌ‬ ‫النقدية ٌ‬
‫ٌ‬ ‫عالميا‪ ".‬كيمكف أف نستخمص مف ىذه المٌفتة‬
‫ٌ‬ ‫باستكشاؼ ماضييـ بأنفسيـ باتٌخاذ المناىج المعترؼ بيا‬
‫األكركبي يراجع نفسو دكف تكقٌؼ‪ ،‬بؿ قؿ ٌإنو ىيجمًد‬
‫ٌ‬ ‫أف الفكر‬
‫مبررات كجكده‪ ،‬عمى اعتبار ٌ‬
‫في حيف ٌأنو عمى االستغراب أف يبحث عف ٌ‬
‫نفسو دكف ىكادة‪.‬‬
‫اإلسباني‪...،‬الخ‬
‫ٌ‬ ‫اإليطالي‪ ،‬ك‬
‫ٌ‬ ‫نسي‪ ،‬ك‬
‫م‪ ،‬كالفر ٌ‬
‫خصكصيات االستشراؽ األلماني‪ ،‬مقارنة باالستشراؽ االنجميز ٌ‬
‫ٌ‬ ‫يتحدث عف‬
‫ىناؾ مف ٌ‬
‫األلماني المعاصر‪ .‬كلئف اعتقد‬
‫ٌ‬ ‫اإلسبلمية في الفكر‬
‫ٌ‬ ‫خمفية الييمنة السياسية‪ ،‬كالعسكرٌية لـ تؤثٌر في نشكء الدراسات‬
‫أف ٌ‬ ‫عمى اعتبار ٌ‬
‫فإف‬
‫األلماني لـ ينخرط في االيديكلكجيا االستعمارٌية‪ٌ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫أف االستشراؽ‬
‫كؿ مف ادكارد سعيد‪ ،‬كأنكر عبد المالؾ‪ ،‬كعبد الغفٌار مكاكم ٌ‬
‫ٌ‬
‫تكرط بعض المستشرقيف‬ ‫إمكانية ٌ‬
‫ٌ‬ ‫مما يد ٌؿ عمى‬
‫يتـ بال ٌشرؽ في خدمة الشأف السياسي‪ٌ .‬‬
‫األلماني الم ٌ‬
‫ٌ‬ ‫تكرط الفكر‬
‫ىناؾ مف يثبت ٌ‬
‫بالجمعية المصرٌية‬
‫ٌ‬ ‫بالسياسي‪ ،‬كىك ما فعمو‪ ،‬بأدلٌة كافية‪ ،‬مثبل عبد الحميد صبحي ناصيؼ‪ ،‬العضك‬
‫ٌ‬ ‫في‬
‫األلماف في تعميؽ المعر ٌ‬

‫‪217‬‬
‫الحؽ ييقاؿ ٌأنو ال يمكف إطبلقا تأثيـ ىذا االرتباط‪ ،‬أم التعالؽ بيف المعرفي كالبكليطيقي‪ ،‬فبل يمكف تص ٌكر‬
‫يخية‪ .‬ك ٌ‬
‫لمدراسات التار ٌ‬
‫ألية دكلة‪ .‬فالمجتمع بنية متكاممة كمتعالقة كال يمكف‬
‫الثقافية ٌ‬
‫ٌ‬ ‫م‪ ،‬كك ٌؿ مجاالت الحياة‬
‫السياسي‪ ،‬كالعسكر ٌ‬
‫ٌ‬ ‫اإلبستمكلكجي منعزال عف‬
‫ٌ‬
‫تفكيؾ البنية بالبساطة الٌتي نعتقدىا‪ ،‬فما يقاؿ عمينا يقاؿ عف غيرنا‪ ،‬كالعكس صحيح‪ ،‬كال استثناء‪ ،‬بيف ىذا كذاؾ‪ ،‬في ىذه المسألة‪،‬‬
‫بعامة‪.‬‬
‫إنسية ٌ‬
‫ألنيا ٌ‬
‫ٌ‬
‫متعددة حكؿ الفكر‬
‫(كلد سنة ‪ )1943‬بدراسات ٌ‬
‫الدكتكر يكسؼ فاف ايس‪ Josef Van Ass‬ي‬
‫ألماني معاصر‪ ،‬ىك ٌ‬
‫ٌ‬ ‫تفرد مستشرؽ‬
‫ٌ‬
‫كنا نعمـ‬
‫تخصص‪ ،‬في دراسة عمـ الكبلـ ‪ .Kalâmelogie/ Théologie‬كلئف ٌ‬
‫ٌ‬ ‫تخصص‪ ،‬أكثر ما‬
‫ٌ‬ ‫بأنو‬
‫اإلسبلمي‪ .‬كيمكف القكؿ ٌ‬
‫فإف الفارؽ الٌذم صنعو "فاف ايس"‪،‬‬
‫اقي‪ٌ ،‬‬
‫بالمستجد‪ ،‬بالنسبة لنا نحف المسممكف‪ ،‬أك بالنسبة لمدرس االستشر ٌ‬
‫ٌ‬ ‫الكبلمي ليس‬
‫ٌ‬ ‫بأف الدرس‬
‫ٌ‬
‫كعقدية ‪...‬الخ كعمـ الكبلـ‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫كدينية‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫كتنظيمية‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫اقتصادية‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫سياسية‪ ،‬ك‬
‫ٌ‬ ‫ىك بحثو في العبلقة بيف المجتمع بك ٌؿ ما يحممو مف تعقيدات‬
‫تكلد‬
‫المتفردة‪ .‬كىنا أيضا ٌ‬
‫ٌ‬ ‫المعرفية‬
‫ٌ‬ ‫الكبلمية‪ ،‬كىنا تكمف فضيمتو‬
‫ٌ‬ ‫سكسيكلكجية المعرفة‬
‫ٌ‬ ‫كبيذا فقد فتح فتحا معر ٌفيا جديدا نحك درس‬
‫تضمنتو ستٌة مجمٌدات تحت عنكاف "عمـ‬
‫ٌ‬ ‫تيتـ بمنتكج ىذا المستشرؽ‪ .‬كىك المنتكج الٌذم‬
‫ال ٌشعكر بضركرة إفراد دراسة‪ ،‬بؿ دراسات‪ٌ ،‬‬
‫الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة" ‪Théologie und Gesellschaft im 2und 3 jahrhundert hidschra,‬‬
‫‪1990.‬‬
‫إف قراءة نصكص "فاف ايس"‪ٌ ،‬أدت بنا إلى التأ ٌكد مف صدؽ قكلة الفيمسكؼ الفرنسي ىنرم بيرجسكف (‪Henri )1941/1859‬‬
‫ٌ‬
‫تامة‪.‬‬
‫عدكه بصكرة ٌ‬
‫فإنو ال يمكف البتٌة أف يككف ٌ‬
‫بأف الٌذم يعرؼ بإتقاف كعمؽ لغة شعب ما كأدبو‪ٌ ،‬‬
‫‪ luis Bergson‬الٌذم أ ٌكد ٌ‬
‫الركح‬
‫األكاديمية‪ ،‬ك ٌ‬
‫ٌ‬ ‫عممية‪ ،‬بؿ التزـ بأقصى الحدكد باألخبلؽ‬
‫ٌ‬ ‫األلماني ٌأية عداكة أك مماحكة غير‬
‫ٌ‬ ‫كبالفعؿ‪ ،‬فمـ يظير المستشرؽ‬
‫أكاديميتو‪ ،‬فيك غير منتـ‬
‫ٌ‬ ‫عممية في ميداف دراسة عمـ الكبلـ‪ .‬كالى جانب‬
‫ٌ‬ ‫أم أغراض غير‬
‫مما يجعمنا نسقط عميو ٌ‬‫العممية العالية‪ٌ .‬‬
‫ٌ‬
‫معينة‪.‬‬
‫المكجو لسمطة ٌ‬
‫ٌ‬ ‫المتحررة مف ضغط االنتماء أك مف التفكير‬
‫ٌ‬ ‫الحرة‪،‬‬
‫مما سمح لو بالدراسة ٌ‬
‫ألية فرقة ميما كانت‪ٌ ،‬‬
‫ٌ‬
‫المتكررة‪ ،‬كالتقريظات غير المنتيية في‬
‫ٌ‬ ‫حرضنا فعبلن إلى خكض غمار قراءة المكسكعة الٌتي ألٌفيا "فاف ايس"‪ ،‬ىك اإلشادات‬
‫ما ٌ‬
‫كجييا إليو أرككف‪ٌ ،‬إال ٌأنو لـ يتكقٌؼ عف التنبيو إلى ضركرة ترجمة‬
‫الرغـ مف بعض االنتقادات المٌطيفة الٌتي ٌ‬
‫الرجؿ‪ .‬فعمى ٌ‬
‫حؽ ىذا ٌ‬
‫ٌ‬
‫‪1‬‬
‫الدكتكر عبد‬
‫أف ٌ‬‫النقؿ‪ .‬كما ٌ‬
‫لمنفع الكبير الٌذم سيأتيو ىذا ٌ‬
‫الفارسية)‪ ،‬نظ ار ٌ‬
‫ٌ‬ ‫التركية‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫اإلسبلمية الكبرل (العر ٌبية‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫أعمالو إلى المٌغات‬
‫اإلسبلمي‪ ،‬سكاء مف بيف المسمميف أك غير المسمميف‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫بأف "فاف ايس" مف أكبر العالميف األحياء بعمـ الكبلـ‬
‫المجيد الشرفي‪ ،‬قد أ ٌكد ٌ‬
‫المخصصة لدراسة عبلقة عمـ الكبلـ بالمجتمع‬
‫ٌ‬ ‫الدراسة عف نتائج المكسكعة‬‫كؿ ىذا‪ ،‬كغيره كثير لـ نذكره‪ ،‬قد دفعنا إلى إنجاز ىذه ٌ‬
‫ٌ‬
‫حدد "يكسؼ فاف ايس" العبلقة بيف عمـ الكبلـ‬
‫في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ .‬كالمشكمة الٌتي تمثٌؿ نقطة االنطبلؽ ىي‪ :‬كيؼ ٌ‬

‫‪1‬‬
‫محمد أرككف‪ :‬التش ٌكؿ البشرم لئلسبلـ – مقاببلت مع رشيد بف زيف كجاف لكم شميجؿ‪ ،‬ترجمة ىاشـ صالح‪ ،‬المركز الثقافي‬
‫ٌ‬
‫األصكلي كاستحالة التأصيؿ – تحك تاريخ‬
‫ٌ‬ ‫محمد أرككف‪ :‬الفكر‬
‫الدار البيضاء‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2013 ،‬ص ‪ .235‬كأيضا‪ٌ :‬‬
‫العربي‪ٌ ،‬‬
‫محمد أرككف‪:‬‬
‫الساقي‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،1999 ،‬ص ‪ .34-33‬كأيضا‪ٌ :‬‬ ‫آخر لمفكر اإلسبلمي‪ ،‬ترجمة ىاشـ صالح‪ ،‬دار ٌ‬
‫الدار البيضاء كمركز اإلنماء القكمي‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة‬
‫يخية الفكر العربي اإلسبلمي‪ ،‬ترجمة ىاشـ صالح‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ٌ ،‬‬
‫تار ٌ‬
‫الثانية‪ ،1996 ،‬ص ص ‪ .111-92‬كذلؾ‪ :‬محمد أرككف‪ :‬اإلسبلـ‪ ،‬أكركبا‪ ،‬العرب – رىانات المعنى كارادات الييمنة‪ ،‬ترجمة ىاشـ‬

‫صالح‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،2001 ،‬ص ‪.185‬‬

‫‪218‬‬
‫مادم البحت ؟ كما قيمة ىذا التحديد في فيمنا لتاريخ عمـ الكبلـ‬
‫اإلسبلمي في كاقعو ال ٌ‬
‫ٌ‬ ‫م خالص‪ ،‬كالمجتمع‬‫كمنتكج فكر ٌ‬ ‫اإلسبلمي‬
‫ٌ‬
‫النكعية الٌتي أضافتيا مكسكعة "فاف‬
‫الكمية ك ٌ‬
‫ٌ‬ ‫سكسيكلكجية[عمـ اجتماع] المعرفة ؟ كأخي ار ماىي اإلضافة‬
‫ٌ‬ ‫في ظ ٌؿ منظكر‬ ‫اإلسبلمي‬
‫ٌ‬
‫اإلسبلمية ؟‬
‫ٌ‬ ‫الكبلمية إلى المكتبة‬
‫ٌ‬ ‫ايس"‬
‫أوال‪ -‬من االستشراق إلى االستغراب‪ :‬قراءة جديدة "الستشراق" إدوارد سعيد‪:‬‬
‫اإلسبلمي مف االستشراؽ‪ .‬كعندما‬
‫ٌ‬ ‫سيككلكجية المكقؼ‬
‫ٌ‬ ‫التحميمية الكافية‪ ،‬إليراد ك ٌؿ ما يمزـ لمشكمة‬
‫ٌ‬ ‫المفيكمية ك‬
‫ٌ‬ ‫تنقصنا المساحة‬
‫الذاتية المفرطة‪ .‬إذ نجد الكثير مف‬
‫ٌ‬ ‫فإننا نقصد المكقؼ البلٌ – عممي أك قؿ المصبكغ بمكف‬ ‫"سيككلكجية المكقؼ"‪ٌ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫نستعمؿ عبارة‬
‫اإلسبلمي‪ ،‬ما ىي إالٌ رسمة غير بريئة لريشة‬
‫ٌ‬ ‫أف صكرة ال ٌشرؽ‬
‫العممي‪ ،‬عمى أساس ٌ‬
‫ٌ‬ ‫المكاقؼ المح ٌذرة مف االستشراؽ‪ ،‬التٌحذير غير‬
‫بي لم ٌشرؽ ‪ ، Western conception of the orient‬يذ ٌكرنا تحديدا بالدراسة‬
‫المفاىيمي الغر ٌ‬
‫ٌ‬ ‫بي‪ .‬كالحديث عف التصكير‬ ‫الفناف الغر ٌ‬
‫ٌ‬
‫مر عمييا إلى غاية اليكـ‪ ،‬كنحف في‪ ،2016‬قرابة‬ ‫الدراسة الٌتي ٌ‬
‫الممتازة كال ٌذائعة لؤلديب كالمف ٌكر "إدكارد سعيد"‪ .‬كرغـ تقادـ ىذه ٌ‬
‫أف ما حممو مف مكاقؼ أمينة كصادقة‪ ،‬جعمتو يحتفظ بًر ٌ‬
‫اىنيتو‪ .‬كعمى‬ ‫طبعة األكلى منو سنة ‪ ،1978‬إالٌ ٌ‬‫األربعيف سنة‪ ،‬إذ صدرت ال ٌ‬
‫الخمفية الفكرٌية‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫بأف "سعيد" قد كشؼ عف عكرة االستشراؽ كمثالبو عندما استطاع تبياف‬
‫المتأنية القائمة ٌ‬
‫ٌ‬ ‫الرغـ مف انتشار القراءة غير‬
‫ٌ‬
‫اقية عنده لـ‬
‫الدراسات االستشر ٌ‬
‫أف حقيقة المكقؼ مف ٌ‬
‫متأنية أكثر‪ٌ ،‬‬
‫اقي‪ ،‬إالٌ ٌأننا نعتقد‪ ،‬كبعد قراءة ٌ‬
‫السياسية لمعقؿ االستشر ٌ‬
‫ٌ‬ ‫يخية ك‬
‫كالتار ٌ‬
‫تكاسي أيضا‪ ،‬الٌذم‬
‫لكنو االر ٌ‬
‫كمف كذلؾ المشركع الجرمء‪ٌ ،‬‬
‫تدرؾ اإلدراؾ الكافي‪ .‬كبالتٌالي اتٌخاذ المكقؼ السميـ‪ ،‬مف "إدكارد سعيد" ٌ‬
‫ظر لو المف ٌكر المصرم المعاصر "حسف حنفي" تحت عنكاف "عمـ االستغراب"‪.‬‬
‫نٌ‬
‫تدؿ‬
‫المتحمسة الٌتي قي ٌدمت لكتاب "االستشراؽ" إلدكارد سعيد في الكثير مف المناسبات‪ ،‬تنتقي الفقرات الٌتي ٌ‬
‫ٌ‬ ‫المتسرعة ك‬
‫ٌ‬ ‫إف القراءة‬
‫ٌ‬
‫الشرقية مف خبلؿ‬
‫ٌ‬ ‫يكي عمى الحضارات‬‫األكركبي‪ ،‬كاألمر ٌ‬
‫ٌ‬ ‫عدة صكر أخرل‪ ،‬لسيطرة الغرب‬‫عمى اعتبار ىذا المبحث صكرة‪ ،‬مف ٌ‬
‫اىية كارادة الييمنة‬
‫أف صميـ االستشراؽ قائـ عمى الكر ٌ‬
‫صناعة أك اخت ارع صكرة لتمؾ الثقافات‪ ،‬صكرة ما أنزؿ ا﵀ بيا مف سمطاف‪ .‬ك ٌ‬
‫العالمية العنيفة المتمثٌمة في "األينتي‪-‬‬
‫ٌ‬ ‫بأف االستشراؽ ال يختمؼ عف النزعة‬
‫المبررة عمى شعكب مغمكبة‪ ،‬لذا يمكف القكؿ ٌ‬
‫ٌ‬ ‫غير‬
‫لمسامية‪ 1.‬حقيقةن‪ ،‬يمكف اقتباس‬ ‫ً‬
‫العالمية المضادة ٌ‬
‫ٌ‬ ‫لمنزعة‬
‫محمية ٌ‬
‫ٌ‬ ‫إسبلمية‬
‫ٌ‬ ‫ككأنو نسخة‬
‫لمسامية‪ٌ ،‬‬
‫سيميت" ‪ antisémite‬أك العداء ٌ‬
‫الدالة عمى ىذا المنحى مف الفيـ كالتأكيؿ‪ .‬لكف‪ ،‬ال يجب إغفاؿ النصكص‬
‫العشرات مف النصكص‪ ،‬مف كتاب "االستشراؽ" لسعيد‪ٌ ،‬‬
‫التكجو الثٌنكم في تقرير قيمة‪ ،‬أك قؿ حقيقة االستشراؽ عند "ادكارد‬
‫ٌ‬ ‫الدالة عمى "تبرير" االستشراؽ‪ ،‬أك قؿ تطبيعو‪ .‬كىذا‬
‫األخرل‪ٌ ،‬‬
‫لمدراسات‬
‫أساسية في فيمنا الصحيح ٌ‬
‫قضية كاحدة ك ٌ‬
‫ٌ‬ ‫المنطقي‪ .‬بؿ يد ٌؿ فقط‪ ،‬عمى‬
‫ٌ‬ ‫م أك الخمط‬
‫يدؿ عمى التناقض الفكر ٌ‬
‫سعيد"‪ ،‬ال ٌ‬
‫سعيد عيكب االستشراؽ‬
‫ه‬ ‫القيمي ليذه الظاىرة الثقافية كالعممية الكبرل حقٌا‪ .‬ما معنى أف يكشؼ‬
‫ٌ‬ ‫الشرقية‪ ،‬كىي حقيقة االستقطاب‬
‫ٌ‬
‫المتحيزة‪ ،‬طرحو‬
‫ٌ‬ ‫االنتقائية أك االختيارٌية أك‬
‫ٌ‬ ‫حتميتو في نفس المقاـ ؟ ىذا ىك السؤاؿ الٌذم لـ يستطع‪ ،‬أصحاب القراءات‬
‫ٌ‬ ‫كيظير‬
‫ي‬
‫كنا نعتقد‬
‫الشرقية ‪ -‬كلئف ٌ‬
‫ٌ‬ ‫الصريح‪ .‬ىذا االستقطاب يد ٌؿ‪ ،‬في تقديرنا‪ ،‬عمى ٌأنو ال يمكف أف نحاكـ‪ ،‬نحف أصحاب الحضارات‬
‫طرح ٌ‬
‫ال ٌ‬
‫أف‬
‫أف تكصيؼ المسمميف بالشر ٌقية أمر فيو نظر كثير عمى اعتبار ٌأننا لسنا ال ٌشرؽ الكامؿ‪ ،‬بؿ نحف كسط بيف ال ٌشرؽ كالغرب‪ ،‬كما ٌ‬
‫ٌ‬
‫بي‪ .‬كك ٌؿ ىذه المفاىيـ الٌتي‬
‫أكركبي‪ ،‬أك غر ٌ‬
‫ٌ‬ ‫نتحدث عف إسبلـ‬
‫ٌ‬ ‫اإلسبلـ اآلف أصبح ظاىرة بارزة في حضارة الغرب‪ ،‬لذا تجدنا‬

‫‪1‬‬
‫إدكارد سعيد‪ :‬االستشراؽ – المفاىيـ الغربية لمشرؽ‪ ،‬ترجمة محمد عناني‪ ،‬رؤية لمنشر كالتكزيع‪ ،‬القاىرة‪ ،‬الطبعة األكلى‪،2006 ،‬‬
‫ص ‪.314-79-50-42‬‬

‫‪219‬‬
‫مرة‪ ،‬الحذر في استعماؿ األلفاظ العتيقة‪ ،‬كفؽ منطؽ األلفة التصكرٌية كالعادة الفكرٌية‬
‫منا‪ ،‬في ك ٌؿ ٌ‬
‫تزحزحت‪ ،‬كال زالت تتزحزح‪ ،‬تتطمٌب ٌ‬
‫أف منبع ظاىرة االستشراؽ‪ ،‬ليس مف الغرب‪ ،‬بؿ مف الشرؽ ذاتو‪،‬‬
‫المتسرعة‪ .‬عمى اعتبار ٌ‬
‫ٌ‬ ‫– في مبحث االستشراؽ كالمحاكمة الذاتية‬
‫فقد "حضر العمماء‪ ،‬أك الباحثكف‪ ،‬أك المب ٌشركف‪ ،‬أك التٌجار‪ ،‬أك الجنكد إلى الشرؽ‪ ،‬أك ف ٌكركا في أمر الشرؽ‪ ،‬ألنيـ كانوا يستطيعون‬
‫‪1‬‬
‫أف الفتة "فسح المجاؿ" الٌتي‬
‫الحضور إلى الشرؽ‪ ،‬أك التفكير في ال ٌشرؽ‪ ،‬دكف مقاكمة تذكر مف جانب ال ٌشرؽ‪ ".‬كىذا يد ٌؿ عمى ٌ‬
‫الشرقية كحضكره فييا‬
‫ٌ‬ ‫بي إلى الساحة‬
‫كتنظيميا‪ ،‬دخكؿ العقؿ الغر ٌ‬
‫ٌ‬ ‫قانكنيا‬
‫ٌ‬ ‫بكابتو‪ ،‬ىي الٌتي سمحت‪،‬‬
‫أعمنيا ال ٌشرؽ كعمٌقيا عمى ٌ‬
‫بي‪ ،‬لـ‬
‫بالنسبة لمعقؿ الغر ٌ‬
‫إف "إرادة الحضكر" ٌ‬‫فإنو بالتحديد الٌذم فتح المجاؿ‪ٌ .‬‬
‫القكم كالمييمف‪ .‬كاف كاف ىناؾ مف ييبلـ‪ٌ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫الحضكر‬
‫القكة الٌتي ىي‬
‫حد كبير‪ ،‬مظي ار مف مظاىر إرادة ٌ‬
‫فإف ىذه اإلرادة‪ ،‬قد مثٌمت إلى ٌ‬
‫تكف ممكنة لكال استشعار قدرتو كاستطاعتو‪ ،‬لذا ٌ‬
‫طبيعة أك قؿ غريزة ال يمكف اقتبلعيا مف اإلنساف دكف أف نقتمع حياتو بال ٌذات‪ ،‬أكليست إرادة القكة‪ ،‬أك قؿ االستقكاء أحسف‪ ،‬ىي‬
‫الشر‪ ،‬فيما كراء القيمة‬
‫إف ىذه اإلرادة تقع فيما كراء الخير ك ٌ‬
‫الحقيقة األكلى كاألخيرة لك ٌؿ المكجكدات بما في ذلؾ اإلنساف ذاتو ؟ ٌ‬
‫‪2‬‬
‫نبرر استقكاءنا‬
‫كنمك القكل‪ .‬فيؿ ٌ‬
‫ألنيا طبيعة طابعة في اإلنساف‪ ،‬كك ٌؿ أفكار كأفعاؿ البشر ال تخرج عف طمب االستقكاء ٌ‬
‫كالثقافة ٌ‬
‫المساءلة الصارمة‬
‫لكنيا في الحقيقة تمثٌؿ ي‬
‫بي‪ٌ ،‬‬
‫الدفاع عف العقؿ الغر ٌ‬
‫كنتن ٌكر الستقكاء الغرب‪ .‬قد تبدك ىذه المبلحظات ضربا مف ٌ‬
‫اس بًا ٍلبًّْر ىكتىٍن ىس ٍك ىف أ ٍىنفي ىس يك ٍـ‬ ‫كف َّ‬
‫الن ى‬ ‫ٍم ير ى‬
‫جدا؛﴿أىتىأ ي‬
‫الميـ ٌ‬
‫ٌ‬ ‫لم ٌذات أك قؿ االنتصار عمى ال ٌذات‪ ،‬كالقرآف الكريـ دائـ اإلشارة إلى ىذا المفيكـ‬
‫م‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫نبي" مف مسألة المدح كالقدح الحضار ٌ‬ ‫كف﴾[البقرة‪ .]44 ،‬كسنشير أدناه إلى مكقؼ المف ٌكر "مالؾ بف ٌ‬ ‫اب أىفى ىبل تى ٍعقمي ى‬
‫كف ا ٍلكتى ى‬
‫ىكأ ٍىنتي ٍـ تى ٍتمي ى‬
‫اإلسبلمي‪ ،‬المسايرة الكاممة‪ ،‬قد تكقعنا في مجاؿ مبلحظة المٌكرد كريمر‬
‫ٌ‬ ‫ألف مسايرة العقؿ الشرقي‪ ،‬أك قؿ‬
‫كعبلقتيا باستنياض اليمـ‪ٌ .‬‬
‫بأف "العرب مكلعكف باإلفراط في المدح كالممؽ"‪ 3.‬كالمسألة األخرل الٌتي ٌنبو إلييا إدكارد سيعد‪ ،‬ىي عبلقة‬
‫الٌذم كتب في مذكراتو ٌ‬
‫الصارـ‬
‫النمط مف التفكير ٌ‬
‫بأف العمـ ىك ذلؾ ٌ‬ ‫نتصكر‪ ،‬كفؽ منظكر يبدك ساذجا نكعا ما‪ٌ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫بالسياسي في ثقافة ما‪ .‬فنحف‬
‫ٌ‬ ‫العممي‬
‫ٌ‬
‫أف الثقافة بما ىي ذلؾ الك ٌؿ المرٌكب الٌذم يشمؿ ك ٌؿ المجاالت‬
‫كمية عف المجاؿ السياسي‪ .‬لكف الحقيقة ٌ‬
‫كالمحايد المنفصؿ ٌ‬
‫النسؽ‬
‫اجتماعيا‪ .‬فالثٌقافة نسؽ‪ ،‬ك ٌ‬
‫ٌ‬ ‫الكمي‪ ،‬كالتٌاـ‪ ،‬أمر غير متحقٌؽ‬
‫ٌ‬ ‫أف الفصؿ بيف منتجات ثقافة ما‪ ،‬الفصؿ‬
‫االجتماعية‪ ،‬يد ٌؿ عمى ٌ‬
‫ٌ‬
‫يشير إلى تخادـ كتعالؽ بيف حمقات الك ٌؿ‪ ،‬كىذا شأف الثقافة البشرٌية الٌتي "تشمؿ جميع مظاىر حياة المجتمع كال تقتصر عمى تمؾ‬

‫‪1‬‬
‫إدكارد سعيد‪ :‬االستشراؽ – المفاىيـ الغربية لمشرؽ‪ ،‬ص ص ‪ .142 – 51‬كقد عثرنا في سياؽ اعادة قراءة كتاب ادكارد سعيد‬
‫عمى مكقؼ قريب مف مكقفنا في نصكص السكسيكلكجية المغربية فاطمة المرنيسي‪ ،‬حيث كتبت‪" :‬اصدر ادكارد سعيد عاـ ‪1978‬‬
‫كتا ب االستشراؽ يحمؿ فيو تحميبل دقيقا كعمميا الكميشييات الغربية عف الشرؽ‪ .‬كغالبا ما قدمت ىذه الدراسة التحميمية لمعرب الحجج‬
‫إلضعاؼ "االنتقادات"‪ ،‬كأعطتيـ الفرصة لمتبمد في رضى ذاتي ال يخمك مف التساىؿ‪ ،‬كيتسـ بالغركر السيما كأنو يستند إلى تعميـ‬
‫جاىؿ لمكاقع العربي‪ ".‬نقبل مف‪:‬‬
‫فاطمة المرنيسي‪ :‬ىؿ أنتـ محصَّنكف ضد الحريـ ؟ (نص اختبار لمرجاؿ الذيف يعشقكف النساء)‪ ،‬ترجمة نيمة بيضكف‪ ،‬المركز الثقافي‬
‫العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ص‪.55‬‬

‫‪2‬‬
‫‪Friedrich Nietzsche: la volonté de puissance, traduit Geneviève Bianquis, tome 1, édition‬‬
‫‪Gallimard, Paris, 1995, livre 2, § 19, p 224.‬‬
‫‪ 3‬إدكارد سعيد‪ :‬االستشراؽ – المفاىيـ الغربية لمشرؽ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.94‬‬

‫‪211‬‬
‫‪1‬‬
‫م الٌذم ننبذه في حضارة الغرب‪ ،‬يمثٌؿ حمقة مف حضارتو‪،‬‬
‫إف المجاؿ السياسي‪ ،‬كالعسكر ٌ‬
‫المظاىر الٌتي ىي مكضع تقدير فقط"‪ ،‬بؿ ٌ‬
‫كمفيكميا‪ .‬لذا كلئف بدا ضربا مف االختبلؼ في نمط‬
‫ٌ‬ ‫يخيا‬
‫فبل يمكف أف نأخذ حمقة‪ ،‬كنشتـ بقية الحمقات الٌتي ال تنفصؿ عنيا تار ٌ‬
‫متعجبا‪" :‬ىؿ المعرفة‬
‫ٌ‬ ‫سياسية‪ ،‬كالسياسة معرفة أيضا‪ ،‬لذا يتساءؿ "إدكارد سعيد"‬
‫ٌ‬ ‫أف المعرفة‬
‫العممية‪ ،‬إالٌ ٌ‬
‫السياسية‪ ،‬ك ٌ‬
‫ٌ‬ ‫المعرفتيف‬
‫‪2‬‬
‫أف ىذا‬
‫حقيقية" ؟" األكيد ٌ‬
‫ٌ‬ ‫السياسية السافرة معرفة "غير‬
‫ٌ‬ ‫أف المعرفة‬
‫"الحقيقية " معرفة غير سياسية في جكىرىا‪ ،‬أك ىؿ يمكف القكؿ ٌ‬
‫ٌ‬
‫أف تكجيو السؤاؿ كجية شر ٌقية يفضي إلى المطمكب‪ :‬ىؿ الحضارات الشر ٌقية تفصؿ بيف‬
‫الدليؿ ٌ‬
‫الفصؿ ال يي ٌبرر‪ ،‬ميما حاكلنا التبرير‪ .‬ك ٌ‬
‫تتعضى فيو قدراتو الذىنية‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫إف اإلنساف ليك الكائف الٌذم‬
‫عقميا العممي كعقميا السياسي ؟ ىنا فقط ندرؾ مدل أنثركبكلكجية المسألة‪ٌ ،‬‬
‫أف الفصؿ بيف‬
‫كالنفسية كحتى الجسمية دكف تمييز كامؿ‪ .‬كقد أشار ميشاؿ فككك (‪ )Michel Foucault‬في "تاريخ الجنسانية" إلى ٌ‬
‫ألف المجتمع يمثٌؿ جيا از كبي ار إلنتاج الحقيقة‪ ،‬كال يمكف‬
‫كمتجاكز تماما‪ٌ ،‬‬
‫المعرفة كالسمطة تخطيب ‪ mis-en descours‬غير شفٌاؼ ي‬
‫السمطة‪ ،‬عمى‬
‫بأف "الحقيقة ال تنتمي إلى نظاـ ٌ‬
‫الكؿ؛ كالقكؿ ٌ‬
‫الكؿ مف أجؿ خدمة ىذا ٌ‬
‫الحديث عف الجياز إالٌ في ظ ٌؿ تكامؿ أجزاء ٌ‬
‫اعتبار ٌأنيا أقرب إلى الحرية منو إلى االنضباط؛ قكؿ ينتمي إلى الثٌيمات التقميدية في الفمسفة‪ ،‬لكف يمكف لمتاريخ السياسي لمحقيقة‬
‫مقيد أيضا‪ ،‬كلكف إنتاج الحقيقة مخترؽ مف طرؼ جميع ركابط‬
‫كبأف الخطأ ليس ٌ‬
‫حرة مف حيث طبيعتيا‪ٌ ،‬‬
‫بأف الحقيقة ليست ٌ‬
‫أف ييظير ٌ‬
‫‪3‬‬
‫السمطتيف‪ ،‬سمطة الحقيقة كسمطة‬
‫أف إرادة الفصؿ بيف ٌ‬
‫أف السمطة ذاتيا تنتج الحقيقة‪ ،‬كاألكيد ٌ‬
‫السمطة‪ ".‬فالحقيقة تينتج السمطة‪ ،‬مثمما ٌ‬
‫العممية‪ ،‬كالحقيقة‬
‫ٌ‬ ‫إف الثقافة ىي المجاؿ الكاسع الٌذم تذكب فيو الحقيقة‬
‫يخي مكجكد قديما كحاليا‪ٌ .‬‬
‫السياسة‪ ،‬ال يستقيـ مع كاقع تار ٌ‬
‫ثـ‬
‫األكركبي‪ٌ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫أف االىتماـ‬
‫أف "الفكرة الٌتي أطرحيا ىي ٌ‬
‫السياسية‪ ،‬كىذا بالتحديد ما أدركو إدكارد سعيد بك ٌؿ حذؽ كرطانة عندما قاؿ ٌ‬
‫ٌ‬
‫يخية كلكف الثقافة ىي التي أكجدت ذلؾ االىتماـ (‪)...‬‬
‫الركايات التار ٌ‬
‫سياسيا كفؽ بعض ٌ‬
‫ٌ‬ ‫يكي‪ ،‬بال ٌشرؽ كاف اىتماما‬
‫االىتماـ األمر ٌ‬
‫المؤسسات (‪ )...‬كاالستشراؽ ليس تمثٌبل‬
‫ٌ‬ ‫العممي‪ ،‬أك‬
‫ٌ‬ ‫سمبية في الثقافة‪ ،‬أك البحث‬
‫سياسي يتجمٌى بصكرة ٌ‬
‫ٌ‬ ‫فميس االستشراؽ مجرد مجاؿ‬
‫يالية غر ٌبية دنيئة تيدؼ إلى إخضاع العالـ الشرقي"‪ 4.‬كحتى بف نبي‪ ،‬الذم سنأخذ بضرب مف التفصيؿ‬
‫كتعبير عف مؤامرة إمبر ٌ‬
‫ا‬
‫نظريتو حكؿ االستشراؽ‪ ،‬لـ يستطع الخركج مف إطار تبعية العممي لمسياسي االستعمارم بصدد حديثو عف المستشرؽ الفرنسي الكبير‬
‫المتخصص‪ .‬المشكمة‬
‫ٌ‬ ‫قي‬
‫اقي‪ ،‬مف المسائؿ الٌتي ال يمكف إنكارىا بالنسبة لمشر ٌ‬
‫لمدرس االستشر ٌ‬
‫العممي ٌ‬
‫ٌ‬ ‫"لكيس ماسينيكف"‪ 5.‬إذ الجانب‬
‫إما مبلكا‪ ،‬أك شيطانا‪ ،‬ىك ليس بيذا كال ذاؾ‪ .‬فقصكر ىذا الدرس‪ ،‬مف األمكر‬ ‫عقمية الكاحدية الٌتي ترل في االستشراؽ ٌ‬
‫دائما ىي ٌ‬
‫الظاىرة‪ ،‬سكاء بالنظر إلى المستشرقيف الٌذيف انخرطكا في تنظيمات أق ٌؿ عممية مف العمـ ذاتو‪ ،‬أك بالنظر إلى المكقع الحضارم‬
‫أف‬
‫يدؿ عمى ٌ‬
‫مما ٌ‬
‫أىمية عف اإلخفاقات‪ٌ ،‬‬
‫لمحضارة الغربية كك ٌؿ‪ .‬لكف النزاىة العممية‪ ،‬تفرض عمينا النظر إلى اإلنجازات الٌتي ال تق ٌؿ ٌ‬

‫‪1‬‬
‫رالؼ لينتكف‪ :‬األصكؿ الحضارية لمشخصية‪ ،‬ترجمة عبد الرحمف المباف‪ ،‬دار اليقظة العربية باالشتراؾ مع مؤسسة فرانكميف‬
‫لمطباعة كالنشر‪ ،‬بيركت – نيكيكرؾ‪ ،1964 ،‬ص ص ‪.58 -42‬‬
‫‪2‬‬
‫إدكارد سعيد‪ :‬االستشراؽ – المفاىيـ الغربية لمشرؽ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.55‬‬
‫‪3‬‬
‫‪Michel Foucault: Histoire de l' sexualité – la volonté de savoir, édition Gallimard, 1976, p 80-81.‬‬
‫‪ 4‬إدكارد سعيد‪ :‬االستشراؽ – المفاىيـ الغربية لمشرؽ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ص ‪.320-319 ،58-57‬‬
‫‪ 5‬مالؾ بف نبي‪ :‬العفف (مذكرات) – الجزء األكؿ‪ ،1940-1932 :‬ترجمة نكر الديف خندكدم‪ ،‬دار األمة لمطباعة كالنشر كالتكزيع‪،‬‬
‫برج الكيفاف‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2007 ،‬ص ‪.109‬‬

‫‪211‬‬
‫‪1‬‬
‫التكجو نحك الغرب‬
‫ٌ‬ ‫قي‪ ،‬ىي‬
‫الطبيعية لكؿ باحث شر ٌ‬
‫ٌ‬ ‫أف الحركة‬
‫عممي بالمعنى الخالص كالمحض لمكممة‪ .‬لذا نجد ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ىناؾ استشراؽ‬
‫اقية مف طرؼ كبار‬
‫بالدراسات االستشر ٌ‬
‫لمحصكؿ عمى معرفتو بال ٌشرؽ ذاتو‪ ،‬كفي ىذا المكقؼ الٌذم يد ٌؿ عمى ما يد ٌؿ مف اعتراؼ ٌ‬
‫قكة االستشراؽ الذاتية‪" .‬فبل يممؾ باحث‬
‫بالتمسؾ بفرضية ٌ‬
‫ٌ‬ ‫الشرقييف المسمميف كالعرب‪ ،‬يسمح لنا‪ ،‬يقكؿ إدكارد سعيد‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫األكاديمييف‬
‫ٌ‬
‫العممية كال ما يحدث في المعاىد كالجامعات في الك‪ .‬ـ‪ .‬أ‪ ،‬كأكركبا‪ ،‬كالعكس‬
‫ٌ‬ ‫سبلمي أف يتجاىؿ ما ينشر في الدكرٌيات‬
‫ٌ‬ ‫بي‪ ،‬أك إ‬
‫عر ٌ‬
‫‪2‬‬
‫تحيز أك‬
‫أم ٌ‬‫مكضكعية شفٌافة دكف ٌ‬
‫ٌ‬ ‫عممية‬
‫فإنو الكاقع الٌذم نستند عميو لتأسيس أحكاـ ٌ‬
‫مما ييؤسؼ لو‪ٌ ،‬‬
‫ليس صحيحا‪ ".‬كاف كاف ىذا ٌ‬
‫الثقافية الغر ٌبية‪ 3.‬مف خبلؿ‬
‫ٌ‬ ‫قي ىك الٌذم ساىـ‪ ،‬كالزاؿ يساىـ‪ ،‬في استضافة كقبكؿ الييمنة‬
‫بأف الشر ٌ‬
‫مفر مف اإلقرار ٌ‬
‫تعصب‪ .‬لذا فبل ٌ‬
‫ٌ‬
‫صح‪" ،‬حسب بيرجر‪ ،‬أ ٌف المستشرؽ كحده ىك الٌذم يستطيع‬ ‫العممي المطمكب‪ ،‬ليذا أيضا ٌ‬
‫ٌ‬ ‫الدرس‬
‫رفضو لفيـ كنقد كدرس حضارتو ٌ‬
‫نبي‪ ،‬إالٌ صكرة‬
‫"القابمية لبلستعمار" عند مالؾ بف ٌ‬
‫ٌ‬ ‫متأصبل عف تفسير ذاتو"‪ .4‬كما مفيكـ‬
‫ٌ‬ ‫تفسير ال ٌشرؽ‪ ،‬ما داـ ال ٌشرؽ يعجز عج از‬
‫"القابمية لبلستشراؽ"‪ .‬كالحقيقة أف العقؿ اإلسبلمي الناقد لئلستشراؽ‪ ،‬قد تعامؿ مع عبلقة العممي‬
‫ٌ‬ ‫نسميو‬
‫مما يمكف أف ٌ‬ ‫شاممة ٌ‬
‫بالسياسي مف زاكية كاحدة فقط‪ ،‬كىذا ى ك عيف القصكر‪ .‬عمى اعتبار أننا فكرنا في إمكانية تأثير العقؿ السياسي عمى العقؿ العممي‬
‫فقط‪ ،‬عمى الرغـ مف أف ظاىرة "إضفاء العممي عمى السياسي"‪ 5،‬مف الظكاىر المكجكدة كالمدركسة أيضا‪ ،‬حيث أنو يمكف الحديث‬
‫عف أثر الدراسات االستشراقية األكاديمية عمى العقمية السياسية الغربية‪ .‬فيي تساىـ بقسط معمكـ في تشكيؿ العقؿ السياسي‪ ،‬كىذا ما‬
‫ال يمكف تغافمو ككجو معككس لعبلقة العممي باإليديكلكجي‪.‬‬
‫تبقى مسألة تبرير عمـ االستغراب؛ الٌذم أصبح حاليا مشركعا يتمكضع في سياؽ مجابية االستشراؽ‪ ،‬كالٌتي أشرنا إلييا في‬
‫الدكتكر حسف حنفي في أحد محاضراتو في جامعة‬ ‫لمنظر كالمباحثة‪ .‬كقد قاؿ ٌ‬
‫األكؿ مف ىذا البحث‪ ،‬مفتكحة ٌ‬
‫عنكاف العنصر ٌ‬
‫لمدة قركف‪ .‬لذا فمـ‬
‫لمدراسة‪ ،‬بعدما كاف ذاتا فاعمة ٌ‬
‫جسية أف يككف مكضكعا ٌ‬
‫أف الغرب رفض بك ٌؿ نر ٌ‬
‫قسنطينة‪ ،‬الجزائر‪ ،‬سنة ‪ٌ ،2008‬‬
‫ردا عمى ظاىرة التغريب الٌتي انبثقت مف المركزية‬
‫بي ٌ‬
‫"مقدمة في عمـ االستغ ارب"‪ ،‬كمكقؼ مف التراث الغر ٌ‬
‫تستقبؿ دراستو المكسكمة بػ ٌ‬
‫‪6‬‬
‫بي‪ .‬فيؿ ىذا التبرير مقبكؿ لرفض كتابو‪ ،‬كمشركعو الٌذم يبدك‬ ‫األكركبية‪ ،‬قمنا لـ تيستقبؿ االستقباؿ المنتظر مف طرؼ العقؿ الغر ٌ‬
‫أف المسألة ليست مرتبطة برفض الغرب أف ييدرس بعدما كاف‬
‫مما يبدك‪ ،‬عمى اعتبار ٌ‬
‫منطقية ٌ‬
‫ٌ‬ ‫بأف ىذا التبرير أق ٌؿ‬
‫كاعدا ؟ ٌإننا نعتقد ٌ‬
‫العممي المحض‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫الدرس‬
‫التقدـ المطمكب في دراسة حضارتو ٌ‬
‫كلحد اليكـ‪ ،‬لـ يتقدـ ٌ‬
‫ٌ‬ ‫قي‪،‬‬
‫أف الكعي الشر ٌ‬
‫الدارس‪ ،‬بقدر ما يد ٌؿ عمى ٌ‬
‫ىك ٌ‬
‫إف انتقاؿ الغرب مف الحداثة‬
‫بي‪ ،‬لـ يتكقٌؼ كلك لحظة في دراسة حدكد تاريخو‪ ،‬كحضارتو‪ ،‬كمجاؿ إخفاقاتو‪ٌ .‬‬
‫أف الكعي الغر ٌ‬
‫في حيف ٌ‬
‫يخية الٌتي تيظير‬
‫إلى األنكار إلى ما بعد الحداثة كالى "ما بعد" "ما بعد" الحداثة‪ ،‬ليك المممح الظاىر عمى ذلؾ‪ ،‬ىك المٌكحة التار ٌ‬
‫إف مكقؼ "سعيد" ليبدك في اتٌجاه معاكس تماما مف مكقؼ‬
‫كنظمو‪ٌ .‬‬
‫الدؤكب عمى نقد فكره‪ ،‬كتاريخو‪ ،‬كحضارتو‪ ،‬ي‬
‫بي ٌ‬‫االشتغاؿ الغر ٌ‬

‫‪ 1‬إدكارد سعيد‪ :‬االستشراؽ – المفاىيـ الغربية لمشرؽ‪ ،‬مرجع سابؽ ‪ ،‬ص ‪.259‬‬
‫‪2‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.490‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.491‬‬
‫‪ 4‬المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.442‬‬
‫‪5‬‬
‫يكرغف ىابرماس‪ :‬العمـ كالتقنية كػ "ايديكلكجيا"‪ ،‬ترجمة حسف صقر‪ ،‬منشكرات الجمؿ‪ ،‬ككلكنيا‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2003 ،‬ص‬
‫‪.128‬‬
‫‪6‬‬
‫الدار الفنية لمنشر كالتكزيع‪ ،‬القاىرة‪ ،1991 ،‬ص ‪.19 ،15‬‬
‫مقدمة في عمـ االستغراب‪ٌ ،‬‬
‫حسف حنفي‪ٌ :‬‬
‫‪212‬‬
‫يتصكر أحد كجكد‬
‫ٌ‬ ‫حسف حنفي‪ ،‬عمى اعتبار ٌأنو رفض ىذا االنفعاؿ أك االرتكاس في التفكير‪ .‬لذا نجده يقكؿ‪" :‬ليس مف المحتمؿ أف‬
‫الرد عمى االستشراؽ ليس ىك‬
‫متقدـ مف كتابو‪ٌ " :‬‬
‫ٌ‬ ‫يسمى "االستغراب"‪ 1.‬كيكاصؿ التأكيد في مكضع‬ ‫مجاؿ مناظر لبلستش ارؽ ٌ‬
‫شرقيا ىك نفسو فمف المحتمؿ‪ ،‬بؿ مف األرجح‪ ،‬أف‬
‫ٌ‬ ‫بأنو ما داـ‬
‫االستغراب‪ ،‬كلف يجد مف كاف "شر ٌقيا" يكما ما ٌأية تسكية في القكؿ ٌ‬
‫‪2‬‬
‫أف‬
‫الدكتكر حنفي‪ ،‬ىك ٌ‬‫ابي الٌذم اقترحو ٌ‬
‫قكة المشركع االستغر ٌ‬
‫يبرر‪ ،‬عدـ ٌ‬
‫الخاص"‪ .‬كما ٌ‬
‫ٌ‬ ‫يدرس‪" ،‬شر ٌقييف جدد" أك "غر ٌبييف" مف ابتكاره‬
‫لمزكاؿ في ٌأية لحظة‪ ،‬أم لحظة زكاؿ الفعؿ ذاتو الٌذم أكجدىا‪ .‬لذا‬
‫معرضة ٌ‬
‫كرد فعؿ‪ ،‬ىي مشاريع ٌ‬‫تكاسية‪ ،‬الٌتي تقكـ ٌ‬
‫المشاريع اإلر ٌ‬
‫إف حضارة‬
‫م لتبرير االستغراب‪ٌ .‬‬‫لي كضركر ٌ‬‫فاألىـ مف عمـ االستغراب‪ ،‬ىك االنتقاؿ مف حضارة االنفعاؿ إلى حضارة الفعؿ كشرط ٌأك ٌ‬
‫ٌ‬
‫طبيعة تنفر مف الفراغ كتأبى الخبلء‪.‬‬
‫يتجر عمينا‪ ،‬فال ٌ‬
‫بي ٌأ‬‫فعاليف لما يكجد عقؿ غر ٌ‬
‫كنا ٌ‬
‫الفعؿ‪ ،‬تمغي إمكانية االستشراؽ ذاتو‪ ،‬لك ٌ‬
‫ثانيا‪ -‬نحو تثمين نظرية "مالك بن نبي" حول قيمة االستشراق بالنسبة لموعي اإلسالمي‪ :‬من االرتضاء إلى االنتقاد‪.‬‬
‫اإلسبلمي‪ .‬سكاء في ميداف‬
‫ٌ‬ ‫نبي‪ ،‬كالٌذم كاف بدكره ميمكما بمشكمة العالـ‬
‫يتممٌكنا حنيف دائـ نحك استذكار منظكر مالؾ بف ٌ‬
‫النادر كالتحميؿ الكاضح كالمعقكؿ الٌذم نجده في كتابو‬
‫"الصدؽ" ٌ‬
‫كلعؿ ىذا الحنيف متكلٌد مف ٌ‬
‫األفكار‪ ،‬أك االقتصاد‪ ،‬أك الحضارة كك ٌؿ‪ٌ .‬‬
‫قدمو‬
‫المتسرع الٌذم ٌ‬
‫السطحي‪ ،‬ك ٌ‬
‫ٌ‬ ‫الرغـ مف التعريؼ‬
‫اإلسبلمي الحديث "‪ .‬كعمى ٌ‬
‫ٌ‬ ‫المكسكـ بػ" إنتاج المستشرقيف كأثره عمى الفكر‬
‫اإلسبلمية"‪ 3.‬عمى‬
‫ٌ‬ ‫اإلسبلمي‪ ،‬كعف الحضارة‬
‫ٌ‬ ‫"إننا نعني بالمستشرقيف ال يكتٌاب الغر ٌبييف الٌذيف يكتبكف عف الفكر‬
‫لبلستشراؽ عندما قاؿ‪ٌ :‬‬
‫الثقافي‪ ،‬بؿ‬
‫ٌ‬ ‫افي‪ ،‬ك‬
‫أف المسمميف ال يمثٌمكف ال ٌشرؽ بالمعنى الجغر ٌ‬
‫أف االستشراؽ أكسع مف ذلؾ‪ ،‬كعمى اعتبار ثاف كىك ٌ‬‫اعتبار ٌأكؿ ىك ٌ‬
‫الثقافية كالتجارية بيف االغريؽ‪ ،‬ككريت مف‬
‫ٌ‬ ‫أف العبلقات‬
‫بي في أكثر مف بعد‪ ،‬كنحف نعمـ ٌ‬
‫الثقافي الغر ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ىـ ال ينفصمكف عف المناخ‬
‫إسبلميا الحقا قد‬
‫ٌ‬ ‫أف العالـ الٌذم سيصبح‬
‫المؤرخ ليا بك ٌؿ دقٌة كعناية‪ ،‬كما ٌ‬
‫ٌ‬ ‫جية‪ ،‬كمصر‪ ،‬كشماؿ إفريقيا مف جية ثانية مف األمكر‬
‫أقؿ غر ٌبية‪ ،‬سكاء في العالـ القديـ بعد حممة ذك‬
‫أف ال ٌشرؽ أق ٌؿ شر ٌقية‪ ،‬كالغرب ٌ‬
‫المسيحية بعد ذلؾ‪ .‬الحقيقة ٌ‬
‫ٌ‬ ‫تأثٌر بحمبلت اإلسكندر ك‬
‫الصارـ لم ٌشرؽ كالغرب‪ 4،‬يمكف‬
‫الثقافية‪ .‬كالسير في طريؽ التحديد ٌ‬
‫ٌ‬ ‫تمزقت السماكات كالتغت الحدكد‬
‫القرنيف أك العالـ الجديد حيث ٌ‬

‫‪ 1‬إدكارد سعيد‪ :‬االستشراؽ – المفاىيـ الغربية لمشرؽ‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.110‬‬
‫‪ 2‬المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.497‬‬
‫‪3‬‬
‫الرشاد لمطباعة كالنشر كالتكزيع‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة‬
‫نبي‪ :‬إنتاج المستشرقيف كأثره عمى الفكر اإلسبلمي الحديث‪ ،‬دار ٌ‬
‫مالؾ بف ٌ‬
‫األكلى‪ ،1969 ،‬ص ‪ . 5‬كنكد أف نقدـ نظرة أكثر سعة كأكثر تخصص لمفيكـ االستشراؽ عند بدكم مثبل مف خبلؿ النص‬
‫التالي‪":‬مؤتمر المستشرقيف مؤتمر دكلي يعقد كؿ ثبلثة أعكاـ‪ ،‬كيحضره الباحثكف في عمكـ الشرؽ األدنى كاألكسط كاألقصى‪ .‬كينقسـ‬
‫في العادة إلى أقساـ ىي‪ :‬الدراسات العربية اإلسبلمية‪ ،‬الحضارة المصرية‪ ،‬الحضارة اليندية‪ ،‬الحضارة الصينية‪ ،‬الدراسات البيزنطية‪،‬‬
‫الدراسات العبرية‪ ،‬الدراسات األرمنية‪ ،‬آسيا الكسطى‪ ،‬الدراسات التركية‪ ،‬حضارة أشكر كبابؿ‪ ".‬لمتكسع يرجى العكدة لػ‪ :‬عبد الرحمف‬
‫بدكم‪ :‬سيرة حياتي‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬المؤسسة العربية لمدراسات كالنشر‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2000 ،‬ص ‪ .363-362‬كأيضا‪:‬‬
‫عبد الرحمف بدكم‪ :‬سيرة حياتي‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬المؤسسة العربية لمدراسات كالنشر‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2000 ،‬ص ‪.255‬‬
‫كنحف نعمـ أف بدكل ىك الكحيد الذم قدـ عمؿ مكسكعي يجمع أعماؿ كسيرة المستشرقيف‪ ،‬كما أنو عرؼ الكثير منيـ كحضر العديد‬
‫مف المؤتمرات الدكلية لبلستشراؽ مثؿ مؤتمرات فرنسا كانجمت ار كاليند‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫فإننا مف أجؿ التأكيد‬
‫الفناف‪ ،‬دار القمـ‪ ،‬القاىرة‪ ،‬ص ‪ .4-3‬كلئف كنا نشير إلى ىذا الكتاب الجميؿ‪ٌ ،‬‬
‫زكي نجيب محمكد‪ :‬الشرؽ ٌ‬
‫الفف ليس ظاىرة مقصكرة عمى الشرؽ‪ ،‬فالفف الغربي مف المكاضيع الكاسعة‬‫أف ٌ‬ ‫عمى ضركرة مراجعة التقسـ الذم قدمو‪ ،‬عمى اعتبار ٌ‬
‫اإلسبلمي الحالي‪ ،‬كالٌتي استطاعت‬
‫ٌ‬ ‫أف نظرٌيتو حكؿ ال ٌشرؽ األكسط‪ ،‬الٌذم يقصد بو العالـ العربي‬
‫التي يعسر اإلحاطة بيا‪ .‬كما ٌ‬
‫‪213‬‬
‫بي‬
‫النقدم حكؿ "بف ن ٌ‬ ‫الدرس ٌ‬
‫خاصة بعد حممة اإلسكندر الكبيرة‪ ،‬لكف المقاـ ال يسمح‪ ،‬لذا سنكاصؿ ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫عدة أكجو‪،‬‬
‫نقضو مف ٌ‬
‫اقي‬
‫تفرد بالمكقؼ مف ظاىرة العمـ االستشر ٌ‬
‫التقنية الٌتي يثيرىا تحديد مفيكـ االستشراؽ عنده‪ ،‬إالٌ ٌأنو ٌ‬
‫ٌ‬ ‫كاالستشراؽ"‪ .‬قمنا رغـ المشكبلت‬
‫بخاصة‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫بي‬
‫اإلسبلمي‪ ،‬كالعر ٌ‬
‫ٌ‬ ‫الٌذم أصبح يفرض نفسو يكما بعد يكـ عمى العالـ‬
‫السبات أك التٌسبيت‪ ،‬أك التٌنكيـ المقصكد كالمدركس‪ .‬يقكؿ‪:‬‬
‫ككأنيا صفعة مكقظة مف ٌ‬‫يحكي لنا مالؾ حادثة ذات مغزل كبير‪ٌ ،‬‬
‫تقرر مف لدف المشرفيف عمى‬
‫العماؿ الجزائرٌييف بأكركبا‪ ،‬كبيذه المناسبة ٌ‬
‫ينيات القرف الماضي] بباريس مؤتمر ٌ‬
‫"انعقد أخي ار [في ستٌ ٌ‬
‫األلمانية [ يقصد طبعا زغريد‬
‫ٌ‬ ‫السيدة‬
‫تكجو إلى تمؾ ٌ‬
‫الدعكة ٌ‬
‫كتيب لصاحب ىذا العرض (‪ )...‬كاذا بنا نرل ٌ‬
‫المؤتمر تكزيع ٌ‬
‫المقربة الٌتي كضعت أك يكضع اسميا عمى ذلؾ الكتاب ذم العنكاف الج ٌذاب (شمس ا﵀ تشرؽ عمى الغرب‪،‬‬
‫ىكن يكو ‪ٌ ]Sigrid Hunke‬‬
‫كقدمت كتابيا إلى‬
‫السيدة‪ٌ ،‬‬
‫اإلسبلمية‪ .‬كتق ٌدمت ٌ‬
‫ٌ‬ ‫صدرت طبعتو العر ٌبية األكلى سنة ‪ ،)1964‬كفيو ما فيو مف مدح كتمجيد لمحضارة‬
‫الحادة القائمة‪ ،‬إلى أبية كأمجاد الماضي الخبلٌب ! (‪ )...‬كفي األخير قامت‬
‫ٌ‬ ‫المؤتمر‪ ،‬فانتقؿ عمى الفكر بركحو مف مجاؿ المشكبلت‬
‫نبي يمكف أف نمحظ الكثير مف المسائؿ العالقة‪ ،‬منيا‪:‬‬
‫قدميا مالؾ بف ٌ‬ ‫القصة الٌتي ٌ‬
‫ٌ‬ ‫السيدة !"‪ 1‬كمف ىذه‬
‫لتحيي ٌ‬
‫القاعة كمٌيا ٌ‬
‫اإلسبلمي‪ ،‬كالعربي بخاصة‪ ،‬ال يخمك مف مشكبلت مرتبطة‬
‫ٌ‬ ‫أف ىذا الكتاب‪ ،‬كتاب زغريد ىكن يكو‪ ،‬الٌذم انتشر كثي ار في العالـ‬
‫‪ٌ-‬‬
‫يستمد أسسو إالٌ مف‬
‫ٌ‬ ‫تتكخى العمـ الخالص أك المحض‪ ،‬أم العمـ الٌذم ال‬
‫ألم دراسة ٌ‬
‫العممي ٌ‬
‫ٌ‬ ‫اتيجية‪ ،‬رٌبما تنحرؼ عف المسار‬
‫باستر ٌ‬
‫‪2‬‬
‫ألف‬
‫أف ترجمة عنكاف ىذا الكتاب‪ ،‬فييا أكثر مف سؤاؿ ٌ‬ ‫عمميةن‪ .‬كالحقيقة ٌ‬
‫جية تؤثٌر فيو التأثير الٌذم يجعمو أق ٌؿ ٌ‬
‫ذاتو‪ ،‬دكف عكامؿ خار ٌ‬
‫أف الترجمة العر ٌبية قد استبدلت (ا﵀) بػ (العرب)‪ 3.‬كلئف كاف ىناؾ‬ ‫األصمي ىك‪ :‬شمس ا﵀ تسطع عمى الغرب‪ ،‬في حيف ٌ‬
‫ٌ‬ ‫العنكاف‬
‫اإلليي ‪ ،‬كالمٌغة العربية‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫تبرير ليذا االستبداؿ‪ ،‬فيك يطرح صعكبات عمى أكثر مف صعيد‪ .‬فعمى الرغـ مف التٌطابؽ البدئي بيف الكبلـ‬
‫اليكية المٌغكية‪ ،‬في بعض األحياف‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫أف‬
‫إنساني‪ .‬ثـ ٌ‬
‫ٌ‬ ‫أم لساف‬
‫يتقيد فقط بالمٌغة العر ٌبية‪ ،‬بؿ يستكعب ٌ‬
‫عالمي ال ٌ‬
‫ٌ‬ ‫أف اإلسبلـ كديف‬
‫إالٌ ٌ‬
‫اإلسبلمية الشاممة‪ ،‬كىذه الترجمة قد ال‬
‫ٌ‬ ‫بأف اليكية العربية‪ ،‬جزء مف اليكية‬
‫يكية العممية كالعقدية‪ .‬كيجب أف نعترؼ ٌ‬
‫تتأخر عمى ال ٌ‬
‫ٌ‬
‫اليكية العربية‪ ،‬فبيف التتريؾ كالتعريب ألؼ كألؼ خبلؼ‪ .‬ىذا‬
‫ٌ‬ ‫ترضي األتراؾ مثبل‪ ،‬الٌذيف خاضكا صراعا طكيبل‪ ،‬كال يزاؿ قائما‪ ،‬مع‬
‫األصمي كىك (شمس ا﵀‪Allahs sonne uber dem :‬‬ ‫ٌ‬ ‫األلماني‬
‫ٌ‬ ‫تـ الحفاظ عمى العنكاف‬
‫مف جية كمف جية أخرل‪ ،‬كاف ٌ‬
‫ألف العمـ ىك ذلؾ الٌذم‬
‫مما ىك مطمكب‪ٌ ،‬‬
‫عممية كأكاديمية ٌ‬
‫بأف العنكاف أق ٌؿ ٌ‬
‫فإننا نعتقد ٌ‬
‫‪ٌ ،)abendland – unser arabishes erbe‬‬
‫العممي المدركس‪ ،‬كتصفٌح‬
‫ٌ‬ ‫التخصص‪ ،‬لذا فالعنكاف الجدير‪ ،‬يجب أف يرتبط بالحقؿ‬
‫ٌ‬ ‫الدقيؽ‪ ،‬مف أجؿ التح ٌكـ ك‬
‫يقتطع‪ ،‬لنفسو المجاؿ ٌ‬

‫الجمع بيف فضائؿ ال ٌشرؽ األقصى كالغرب‪ ،‬حيث استجمعت العمـ كالٌديف معا‪ ،‬ىي نظرية تحتاج إلى أدلٌة أكثر‪ .‬كىك أصبل قد شعر‬
‫أف نظرة الغرب إلى الكجكد كانت‬
‫الفناف‪ ،‬عمى حيف ٌ‬
‫أف نظرة الشرؽ إلى الكجكد كانت نظرة ٌ‬‫"إني ألزعـ ٌ‬
‫بصعكبة التعميـ عندما قاؿ‪ٌ :‬‬
‫أعمـ تعميما ال يخمك مف مجازفة خطيرة في الحكـ‪ ،".‬ص ‪.13‬‬
‫نظرة عالـ (‪ )...‬ذلؾ إف جاز لي أف ٌ‬
‫‪1‬‬
‫نبي‪ :‬القضايا الكبرل‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬الجزائر – دمشؽ‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،1991 ،‬ص ‪.176-175‬‬
‫مالؾ بف ٌ‬
‫‪ 2‬مارتف ىايدغر‪ :‬السؤاؿ عف الشيء ‪:‬حكؿ نظرية المبادئ الترنسندنتالية عند كنت‪ ،‬ترجمة إسماعيؿ المصدؽ‪ ،‬مراجعة مكسى‬
‫كىبة‪ ،‬المنظمة العربية لمترجمة‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2012 ،‬ص ‪.154 -152 -101‬‬

‫‪3‬‬
‫زيغريد ىكن يكو‪ :‬شمس العرب تسطع عمى الغرب – أثر الحضارة العربية في أكركبة‪ ،‬ترجمة عف األلمانية فاركؽ بيكض ككماؿ‬
‫دسكقي‪ ،‬دار الجيؿ كدار األفاؽ الجديدة‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة الثامنة‪.1993 ،‬‬

‫‪214‬‬
‫العممية في الحضارة العر ٌبية‬
‫ٌ‬ ‫عممية مسح شاممة لممنتكجات‬
‫تمت ٌ‬‫التخصص في عمـ كاحد بمفرده‪ ،‬بؿ ٌ‬
‫ٌ‬ ‫الفيرست‪ ،‬يشير إلى ٌأنو لـ يتـ‬
‫‪1‬‬
‫المتخصصة‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ممية‬
‫اإلسبلمية‪ ،‬كىذا بال ٌذات عبلمة عمى الطابع الشامؿ الٌذم يتنافى مع الع ٌ‬
‫ٌ‬
‫الثقافي ظاىرة‬
‫ٌ‬ ‫أف التفاعؿ‬
‫بذىنية مؤدلجة كمغمقة‪ .‬عمى اعتبار ٌ‬
‫ٌ‬ ‫أف مشكمة التفاعؿ بيف الحضارات أك قؿ التٌثاقؼ‪ ،‬تيدرس دكما‬ ‫‪ٌ-‬‬
‫م المقصكد‪ ،‬بؿ ىك‬‫التكجو الفكر ٌ‬
‫ٌ‬ ‫مكجيا‬
‫ألف ىذا التفاعؿ لـ يكف ٌ‬
‫عالمية كقديمة أيضا‪ ،‬كال يمكف البتٌة استغبلليا لتبرير فكرة مسبقة‪ٌ .‬‬
‫ٌ‬
‫فإنو استفاد أيضا مف‬
‫أف الغرب قد استفاد مف العرب‪ٌ ،‬‬
‫يخية‪ .‬فك ٌؿ حضارة تأخذ مف األخرل‪ ،‬كمثمما ٌ‬
‫الحتمية التار ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ظاىرة تطمٌبتيا‬
‫إف ىكذا‬
‫عكنية‪...‬الخ‪ٌ .‬‬
‫انييف الييكد‪ .‬كالعرب ذاتيـ أخذكا ما أخذكه مف اإلغريؽ‪ ،‬الٌذيف بدكرىـ أخذكا العمـ مف اليند كمصر الفر ٌ‬
‫العبر ٌ‬
‫شخصية‪ .‬لذا فبل يجب أف تسأؿ ماذا أخذت مف غيرؾ‪ ،‬بقدر ما‬
‫ٌ‬ ‫تامة‪ ،‬كك ٌؿ تكجيو لو‪ ،‬ىك خدمة ألغراض‬
‫طبيعي بصكرة ٌ‬
‫ٌ‬ ‫تفاعؿ أمر‬
‫القكمية في النياية ال يمكف أف تتعالى عف الحضارة‬
‫ٌ‬ ‫ألف‬
‫اإلنسانية‪ٌ .‬‬
‫ٌ‬ ‫عما فعمتو بيذا المأخكذ‪ ،‬ىؿ استثمرتو لخدمة‬
‫يجب أف تسأؿ ٌ‬
‫أف الغرب جحد مجيكد العرب‪.‬‬
‫خاصة مف طرؼ بعض مف ٌكرم الحضارة العربية‪ ،‬ىك ٌ‬
‫ٌ‬ ‫البشرٌية‪ .‬كاالعتراض المألكؼ ليذه المشكمة‪،‬‬
‫قكة الحضارة العربية‬
‫لمدفاع عف ٌ‬‫انفعاليا ٌ‬
‫ٌ‬ ‫بي‪ ،‬ال يجعمنا نرتكس‬
‫العممي العر ٌ‬
‫ٌ‬ ‫بأف بعض المستشرقيف‪ ،‬الٌذيف أنكركا التجديد‬
‫لكننا نقكؿ ٌ‬
‫ٌ‬
‫كرد فعؿ مؤقٌت يزكؿ بزكاؿ الفعؿ‪.‬‬
‫الكبلسيكية‪ ،‬كقد أشرنا أعبله‪ ،‬في العنصر األكؿ‪ ،‬إلى مخاطر عمـ االستغراب ٌ‬
‫اىية‪ .‬فما إف يكجد ىناؾ مف‬
‫الحب ىك الكجو اآلخر لمكر ٌ‬
‫ٌ‬ ‫أف‬
‫اىية‪ .‬كفي تقديرنا ٌ‬
‫الحب‪ ،‬أك الكر ٌ‬
‫ٌ‬ ‫العممية‪ ،‬ال تنطمؽ مف‬
‫ٌ‬ ‫العقمية‬
‫ٌ‬ ‫إف‬
‫‪ٌ-‬‬
‫يحب العرب كالمسمميف‪ ،‬فيجب‪ ،‬ككفؽ الحتمية السيككلكجية‪ ،‬أف يككف ىناؾ مف يكرىنا‪ .‬لذا‪ ،‬فبل ينبغي االنطبلؽ‬
‫ٌ‬ ‫المستشرقيف مف‬
‫"الرحالة‬
‫بأف ٌ‬
‫األلمانية ٌ‬
‫ٌ‬ ‫العممي‪ .‬كعندما يقكؿ أحد المترجميف عف‬
‫ٌ‬ ‫لمدرس‬
‫عممية‪ ،‬أك قابمة ٌ‬
‫مف "نكايا" المستشرقيف‪ .‬كالنكايا ليست مسألة ٌ‬
‫حبا بيا‪ ،‬كدفاعا عف حقكقيا‪ ،‬كانما كضعكا أكثرىا‪ ،‬كالسيما في الفترة األكلى‪ ،‬لتككف دليبل لمف‬
‫األلماف لـ يضعكا كتبيـ عف الجزائر ٌ‬
‫األجنبي كحماية حككمتو !‬
‫ٌ‬ ‫أراد مف مكاطنييـ اليجرة إلى الجزائر إلنشاء المستعمرات كاإلقامة بيا إقامة دائمة تحت ظؿ االحتبلؿ‬
‫الدكلة الجزائرية السابقة كيرغبكف رغبة كبيرة في االنتقاـ‪ ،‬تحت‬
‫(‪ )...‬كانكا في األغمب يشارككف المحتمٌيف في عكاطؼ الحقد عمى ٌ‬
‫‪2‬‬
‫الرحاليف األلماف ما ال يحتمؿ‪ ،‬فبل أحد يخدـ مصالح غيره‪ ،‬كال حتٌى العرب‬
‫فإنو يطمب مف ٌ‬
‫ٌ‬ ‫األكركبي‪."...‬‬
‫ٌ‬ ‫الديف كالتضامف‬
‫ستار ٌ‬
‫طبيعي يتجاكز حكـ القيمة‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ذاتيـ قد خدمكا مصالح دكؿ أخرل‪ ،‬فالك ٌؿ يسعى لمصالحو كسعادتو‪ ،‬كىذا أمر‬
‫اقي‪ .‬يكاصؿ‬
‫نبي مف االستشراؽ‪ ،‬لكي ال نسترسؿ في التحميؿ المرتبط بالمطمكب مف العقؿ االستشر ٌ‬‫نعكد إلى مكقؼ مالؾ بف ٌ‬
‫بأنو يمكف تصنيؼ‬
‫لقصة ندكة تكريـ كتاب "شمس ا﵀ [أك العرب] تسطع عمى الغرب"‪ ،‬قائبل ٌ‬
‫اإلسبلمية‪ ،‬بعد عرضو ٌ‬
‫ٌ‬ ‫مف ٌكر النيضة‬
‫كماديا‪ ،‬ييحتفى‬
‫ٌ‬ ‫معنكيا‬
‫ٌ‬ ‫يكرـ‬
‫إنتاج المستشرقيف إلى صنفيف كبيريف ىما‪ :‬االستشراؽ المادح‪ ،‬كىك األكثر ركاجا كقبكال عند المسمميف‪ٌ ،‬‬
‫ألنو يعمؿ‪ ،‬كلك بصكرة غير مباشرة‪،‬‬
‫مما نعتقد‪ٌ ،‬‬
‫اإلسبلمي أكثر ٌ‬
‫ٌ‬ ‫تأمؿ‪ .‬رغـ ذلؾ فمو مف األخطار عمى الكاقع‬
‫بو دكف حدكد كدكف ٌ‬
‫النكع اآلخر‬
‫كنمكذجي‪ .‬ك ٌ‬
‫ٌ‬ ‫كبطكلي‪ ،‬ككامؿ‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫قدـ عمى ٌأنو يمشرؽ‪،‬‬
‫الم ٌ‬
‫عمى تحكيؿ اىتماـ المسمميف مف حاضرىـ المأزكـ إلى ماضييـ ي‬
‫العممية الٌتي‬
‫ٌ‬ ‫المكضكعية‬
‫ٌ‬ ‫الصارـ لدرجة ٌأنو انتقؿ مف‬
‫ىك االستشراؽ القادح‪ ،‬الٌذم تعامؿ مع تاريخ الحضارة اإلسبلمية التٌعامؿ ٌ‬
‫الدكنية‪ ،‬أم شعكر‬
‫ٌ‬ ‫اقية القادحة ىك "عقدة التٌقميؿ" أك‬
‫الدراسات االستشر ٌ‬
‫ذاتي صرؼ‪ .‬كالمشكؿ الذم خمقتو ىذه ٌ‬‫يدعييا إلى مكقؼ ٌ‬ ‫ٌ‬
‫شر‬
‫أف إنتاج المستشرقيف‪ ،‬بنكعيو‪ ،‬المادح كالقادح؛ كاف ٌا‬ ‫نبي إلى ٌ‬
‫بتفكؽ الحضارة الغر ٌبية‪ .‬كيخمص بف ٌ‬
‫بدكنية حضارتو مقارنة ٌ‬
‫ٌ‬ ‫المسمـ‬

‫‪ 1‬زيغريد ىكن يكو‪ :‬شمس العرب تسطع عمى الغرب – أثر الحضارة العربية في أكركبا‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.588-585‬‬
‫‪2‬‬
‫الرحاليف األلماف ‪ ،1855-1830‬المؤسسة الكطنية لمكتاب‪ ،‬الجزائر‪ ،1989 ،‬ص ‪.8-7‬‬
‫أبك العيد دكدك‪ :‬الجزائر في مؤلٌفات ٌ‬
‫‪215‬‬
‫‪1‬‬
‫أف العقؿ‬
‫أف المفيكـ منو ٌ‬
‫الدرجات‪ ،‬إالٌ ٌ‬
‫يتضمف تقري ار مقبكال إلى أبعد ٌ‬
‫ٌ‬ ‫كلئف بدا لنا‪ ،‬أف ىذا المكقؼ‬ ‫اإلسبلمي‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫عمى المجتمع‬
‫تسبب في تعطيب الكعي لدل المسمـ‬
‫اإلسبلمي‪ ،‬فيك قد ٌ‬
‫ٌ‬ ‫م‬
‫ضد اإلسياـ الحضار ٌ‬‫اقي‪ ،‬في ك ٌؿ الحاالت‪ ،‬سكاء كاف مع أك ٌ‬
‫االستشر ٌ‬
‫بأنو كاف‬
‫سبب إساءة لمتاريخ اإلسبلم ٌي‪ .‬لكف ما يمكف أف نفيـ أيضا ؟ يمكف أف نقكؿ ٌ‬
‫مما ٌ‬
‫سبب أعطابا راىنة أكثر ٌ‬
‫المعاصر‪ ،‬بؿ ٌ‬
‫نبي‪ .‬إف كاف إنتاج المستشرقيف‪ ،‬بنكعيو‪،‬‬
‫األجدر أف ال يككف ىناؾ أصبل مبحث استشراقي‪ ،‬كىذه ىي الحمقة األضعؼ في نظرية بف ٌ‬
‫بي‬
‫فكأننا‪ ،‬نقكؿ بصريح العبارة ٌأنو ال يجب أف يككف ىناؾ استش ارؽ‪ ،‬كىذا محاؿ بالنسبة لمعقؿ الغر ٌ‬
‫شر عمى المجتمع اإلسبلمي‪ٌ ،‬‬
‫ٌا‬
‫بالصحة الكافرة‪ ،‬ال يمكف أف يتكقٌؼ عف التفكير‪ٌ ،‬إنو‬
‫ٌ‬ ‫يتميز‬
‫أف العقؿ الٌذم ٌ‬
‫يقرر ٌ‬
‫الصحة‪ .‬كىك المبدأ الٌذم ٌ‬
‫ٌ‬ ‫الٌذم كاف متمظي ار بمبدأ‬
‫مرة‬
‫بي‪ ،‬الٌذم تقاطع‪ ،‬ألكثر مف ٌ‬
‫إف العقؿ الغر ٌ‬
‫ثـ ٌ‬‫العقؿ الٌذم يتجاكز نفسو مف خبلؿ التفكير المستداـ‪ ،‬تفكير ال ٌذات‪ ،‬كتفكير الغير‪ٌ .‬‬
‫بأف حكـ مالؾ بف‬
‫اإلسبلمي‪ .‬لذا نعتقد ٌ‬
‫ٌ‬ ‫مع التاريخ اإلسبلمي‪ ،‬بحكـ التجاكز الجغرافي‪ ،‬ال يمكف أف يف ٌكر ذاتو بمعزؿ عف التاريخ‬
‫إف االستشراؽ حقيقة تاريخية‪ ،‬ال يمكف إلغاءىا‪ ،‬كال يمكف‬
‫م‪ٌ .‬‬ ‫مما ىك حكـ تقرير ٌ‬
‫نبي كاف حكما تقديرٌيا مفرطا في تقديرٌيتو‪ ،‬أكثر ٌ‬
‫ٌ‬
‫عممية عالية‪ ،‬أم‬
‫نتقبمو بركح ٌ‬
‫اقي عمى ٌأنو كاقع ٌ‬
‫إيقافيا حاليا‪ .‬لذا فالمطمكب مف العقؿ اإلسبلمي اآلف‪ ،‬ىك تقديـ إنتاج العقؿ االستشر ٌ‬
‫قدحية‪ ،‬أك‬
‫ألنو ف ٌكر تاريخنا كثقافتنا كعمكمنا‪ ،‬دكف النظر إلى ما انتيى إليو مف نتائج ٌ‬
‫خير ٌ‬
‫اعتباره خي ار بالنسبة لممجتمع اإلسبلمي‪ ،‬ه‬
‫فإننا نممسو في القادحيف"‪ 2.‬كفي تقديرينا‬
‫إيجابي‪ ،‬ألعماؿ المستشرقيف‪ٌ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫بأنو "إف كاف ىناؾ كجو‬
‫نبي‪ ،‬مستدركا‪ٌ ،‬‬
‫مدحية‪ .‬كيكاصؿ بف ٌ‬‫ٌ‬
‫أف‬
‫سبلمي‪ ،‬في حيف ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ألف القادح ينعش الفكر اإل‬
‫اإليجابي لنظرٌيتو حكؿ "االستشراؽ‪ :‬ما لو كما عميو"‪ٌ .‬‬
‫ٌ‬ ‫أف ىذا التقرير‪ ،‬ىك الكجو‬
‫ٌ‬
‫اإلسبلمي‪ ،‬ىك التالي‪ :‬إلى ماذا نحتاج اليكـ؛ إلى التخدير أـ إلى‬
‫ٌ‬ ‫كضعية العالـ‬
‫ٌ‬ ‫السؤاؿ المطركح‪ ،‬بالنظر إلى‬
‫يخدره‪ .‬ك ٌ‬
‫المادح ٌ‬
‫يركج‬
‫أف ك ٌؿ مف ٌ‬
‫العممية ‪ postopératoire‬؟ الحقيقة ٌ‬
‫ٌ‬ ‫العممية ‪ préopératoire‬أـ حالة ما بعد‬
‫ٌ‬ ‫اإلنعاش ؟ ىؿ نطمب حالة قبؿ‬
‫الرغـ مف ٌأننا‪ ،‬نحف المسممكف‪،‬‬
‫لبلستشراؽ المادح‪ ،‬ليك الٌذم يريد أف ييدخؿ العالـ اإلسبلمي في حالة تخدير طكيمة األمد‪ ،‬عمى ٌ‬
‫إسبلمية محتممة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫فكؿ تشريع لنيضة‬ ‫اإلسبلمي كاف معطٌبل لقركف عديدة سابقة‪ .‬لذا‪ٌ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫أف العقؿ‬
‫متٌفقكف عمى مسألة كاحدة فقط‪ ،‬كىي ٌ‬
‫ب ىعمىٍي يك يـ ا ٍلًقتىا يؿ ىك يى ىك يك ٍرهه لى يك ٍـ ىك ىع ىسى أ ٍ‬
‫ىف تى ٍك ىريىكا‬ ‫ً‬
‫التفنيدم‪ .‬فػ ﴿ يكت ى‬
‫ٌ‬ ‫الجد منطؽ االستشراؽ القادح أك االستشراؽ‬
‫يجب أف يأخذ مأخذ ٌ‬
‫َّ‬ ‫ىش ٍينئا ك يىك ىخ ٍير لى يكـ كعسى أ ٍ ً‬
‫محبة االستشراؽ المادح ىك‬‫أف ٌ‬ ‫ىف تيحُّبكا ىش ٍينئا ىك يى ىك ىشّّر لى يك ٍـ ىكالموي ىي ٍعمى يـ ىكأ ٍىنتي ٍـ ىال تى ٍعمى يم ى‬
‫كف﴾[البقرة‪ ]216 ،‬إذ ٌ‬ ‫ى ى ه ٍ ىىى‬
‫الداخؿ‪ ،‬ليك ما يدعكنا إليو االستش ارؽ‬
‫بأف ترميـ العقؿ اإلسبلمي مف ٌ‬ ‫أف كره االستشراؽ المادح ىك خير لنا‪ ،‬فمنعمـ ٌ‬ ‫شر لنا‪ ،‬في حيف ٌ‬ ‫ٌ‬
‫الصريح‪ .‬تبقى مشكمة االعتراؼ‪ ،‬كىك مف أىـ‬
‫القادح‪ ،‬كاف كانت دعكة غير صريحة‪ ،‬كفيـ المضمكر أكثر ينببل مف فيـ المقكؿ ٌ‬
‫"الحساسية‬
‫ٌ‬ ‫أم كقت سابؽ‪ ،‬إلى االنتقاؿ مف‬
‫مدعككف‪ ،‬أكثر مف ٌ‬
‫ٌ‬ ‫تسير العقؿ اإلسبلمي الحالي‪ .‬لذا فنحف‬
‫المكاضيع الراىنة‪ ،‬ىي الٌتي ٌ‬
‫حساسية"‬
‫ٌ‬ ‫"عاطفية أك‬
‫ٌ‬ ‫الرزيف‪ ،‬بدؿ تككيف ردكد أفعاؿ‬
‫اإلسبلمية"‪ ،‬حيث نأخذ األمكر مأخذ العقؿ المسؤكؿ ك ٌ‬
‫ٌ‬ ‫"العقبلنية‬
‫ٌ‬ ‫اإلسبلمية" إلى‬
‫حكؿ مكقؼ األغيار مف تاريخنا السابؽ‪ ،‬كما ال يجب أف ننسى مشكمة االستشراؽ الٌذم يدرس كاقع اإلسبلـ الحالي‪ ،‬كىك درس آخر‪،‬‬
‫تكجيو‪.‬‬
‫ماضكيا في ٌ‬
‫ٌ‬ ‫الكبلسيكي الٌذم كاف‬
‫ٌ‬ ‫اإلسبلمي‪ ،‬في مقابؿ االستشراؽ‬
‫ٌ‬ ‫الراىف‬
‫الضكء عمى ٌ‬
‫ألنو يسمٌط ٌ‬‫يتطمٌب مقاما آخر‪ٌ .‬‬
‫ثالثا‪" -‬يوسف فان إيس" والفكر اإلسالمي‪ :‬بداية العالقة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫اإلسبلمي الحديث‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ .25‬كأيضا‪ :‬مالؾ بف نبي‪ :‬القضايا‬
‫ٌ‬ ‫نبي‪ :‬إنتاج المستشرقيف كأثره عمى الفكر‬
‫مالؾ بف ٌ‬
‫الكبرل‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.181‬‬
‫‪2‬‬
‫نبي‪ :‬إنتاج المستشرقيف كأثره عمى الفكر اإلسبلمي‬
‫نبي‪ :‬القضايا الكبرل‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ .182‬كأيضا‪ :‬مالؾ بف ٌ‬
‫مالؾ بف ٌ‬
‫الحديث‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.25‬‬

‫‪216‬‬
‫الدار البيضاء المغر ٌبية‪ ،‬سنة ‪ ،1998‬كىي‬
‫نسية‪ ،‬في مدينة ٌ‬
‫الدكتكر "يكسؼ فاف اس" مجمكعة مف المحاضرات‪ ،‬بالمٌغة الفر ٌ‬
‫ألقى ٌ‬
‫قدمو في المحاضرات الٌتي ألقاىا في بػ "الككليج دم فرانس" في باريس سنة‬
‫مما سبؽ لو أف ٌ‬
‫" دركس يستعيد فييا المحاضر بعضا ٌ‬
‫‪ 1978‬عف "قراءة االعتزاؿ بداية مف اآلخر"‪ .‬كيستعيد فييا بالخصكص زبدة مؤلٌفو الجميؿ عف "الثقافة كالمجتمع في القرنيف ‪ 2‬ك‪3‬‬
‫‪1‬‬
‫يسيؽ األستاذ عبد المجيد الشرفي الكتاب الٌذم سنشتغؿ عميو اآلف‪ ،‬تحميبل كنقدا‪ ،‬كىك كتاب "بدايات الفكر‬
‫لميجرة"‪ .‬ىكذا ٌ‬
‫‪2‬‬
‫اإلسبلمية‬
‫ٌ‬ ‫لكيفية دراستو لمحضارة‬
‫ٌ‬ ‫مؤرخ أدياف في األساس‪،‬‬
‫اإلسبلمي‪ :‬األنساؽ كاألبعاد"‪ .‬كفي ىذا الكتاب‪ ،‬أشار المؤلٌؼ‪ ،‬كىك ٌ‬
‫قدمنا العنكاف أعبله‪ :‬بداية‬
‫بي‪ .‬لذا ٌ‬
‫الشرقي كالعقؿ الغر ٌ‬
‫ٌ‬ ‫الكبلسيكي كقضايا أخرل مرتبطة بالعقؿ‬
‫ٌ‬ ‫بي‬
‫النص العر ٌ‬
‫ٌ‬ ‫كلقاءاتو األكلى مع‬
‫الصغير ىي‪:‬‬
‫العبلقة‪ .‬كالمسائؿ الٌتي احتكاىا ىذا الكتاب ٌ‬
‫النص القرآني [ىكد‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫تعرض لتجربة االختبلؼ المريرة عند المسمميف مف خبلؿ مقابمة‬
‫‪ -‬االنقساـ كالبدعة في اإلسبلـ‪ .‬كفيو ٌ‬
‫‪ ]189-188‬كاألخبار التاريخية كالكاقع التاريخي‪.‬‬
‫التكحيدية الكبرل‪ ،‬مف حيث االختبلؼ كالتقاطع‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫النصكص‬
‫الرسكؿ كبدايات عمـ الكبلـ‪ .‬كىي مسألة تتعمٌؽ بمقارنة ٌ‬
‫‪ -‬معراج ٌ‬
‫في نمكذج اإلسراء‪ ،‬أك التكاصؿ البشرم – اإلليي‪ ،‬الٌتي كردت في الثقافات الشر ٌقية القديمة كاألناجيؿ كالقرآف الكريـ‪.‬‬
‫لي‪ .‬فيو يستشكؿ مسألة لجكء المتكمٌميف المسمميف إلى‬
‫الىكتية لمكبلـ المعتز ٌ‬
‫ٌ‬ ‫م قاعدة‬
‫الطبيعي‪ :‬المذىب الذر ٌ‬
‫ٌ‬ ‫‪ -‬الكبلـ كالعمـ‬
‫م‬
‫الغائية كالمذىب الذر ٌ‬
‫الديف اإلسبلمي القائـ عمى الخمؽ كالعناية ك ٌ‬
‫يقي‪ ،‬عمى الرغـ مف تعارض ركح ٌ‬ ‫م اإلغر ٌ‬‫المذىب الذر ٌ‬
‫‪3‬‬
‫الصدفة كالييمؿ كاآللية‪.‬‬
‫يقي القائـ عمى ٌ‬
‫الطبيعي اإلغر ٌ‬
‫ٌ‬
‫تطرؽ "فاف ايس" إلى مشكمة التاريخ‬
‫السياسية‪ .‬كفي ىذا الفصؿ ٌ‬
‫ٌ‬ ‫تصكرات التاريخ كاألفكار‬
‫ٌ‬ ‫‪ -‬عمـ الكبلـ كالكاقع اإلنساني‪:‬‬
‫النص كالفعؿ‪ .‬مع‬
‫ٌ‬ ‫النص‪ ،‬أك بيف‬
‫يخية‪ .‬كأخذ نمكذج الخمفاء بيف التاريخ ك ٌ‬
‫الطكباكية التار ٌ‬
‫ٌ‬ ‫اقعية ك‬
‫يخية الك ٌ‬
‫اإلسبلمي بيف التار ٌ‬
‫العمـ ٌأنو مف كاقع اال ختبلؼ السياسي في زمف الخمفاء نشأ عمـ الكبلـ ذاتو ليشمؿ بعد ذلؾ مشكمة آثاـ ارتكبيا أقرب الناس‬
‫‪4‬‬
‫العقدية‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫السياسية ‪-‬‬
‫ٌ‬ ‫الرسكؿ (صمٌى ا﵀ عميو كسمٌـ)‪ ،‬كحتٌى الفقياء انخرطكا في تدارس ىذه المشكمة‬
‫إلى ٌ‬
‫منيجيتو في‬
‫ٌ‬ ‫حدد فيو "فاف ايس"‬
‫األكركبية‪ :‬دراسة حكؿ خطاب في المنيج‪ .‬كىك الفصؿ الٌذم ٌ‬
‫ٌ‬ ‫‪ -‬اإلسبلـ كاإلسبلمكلكجيا‬
‫أساسي في المشكمة‬
‫ٌ‬ ‫ألنو‬
‫خاصة‪ .‬كسنفصؿ ىذا المكضكع أدناه‪ٌ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫عامة‪ ،‬كتاريخ عمـ الكبلـ‬
‫دراسة تاريخ الفكر اإلسبلمي ٌ‬
‫الٌتي طرحناىا أعبله‪.‬‬
‫فإف الكتاب ال يش ٌكؿ خطٌة متكاممة لدراسة مكضكع كاحد‪ ،‬بؿ ىك مجمكعة مف المحاضرات الٌتي ترتبط‬
‫ككما ىك ظاىر‪ٌ ،‬‬
‫التخصص‪ ،‬فحتٌى ىذه‬
‫ٌ‬ ‫أف ك ٌؿ الفصكؿ ترتبط برباط ما إلى ىذا‬
‫اإلسبلمييف مع التركيز عمى عمـ الكبلـ‪ ،‬إذ ٌ‬
‫ٌ‬ ‫بالفمسفة كالفكر‬
‫مخصصة لئلجابة عف أسئمة حكؿ سبب اختيار عمـ الكبلـ كمنيج دراستو‪ .‬لذا سيككف عممنا اآلف مرٌك از عمى‬
‫ٌ‬ ‫المحاضرة األخيرة‬

‫‪1‬‬
‫عبد المجيد الشرفي‪ :‬تقديـ لكتاب يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬ترجمة عبد المجيد الصغير‪ ،‬نشر‬
‫الفنؾ‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،2000 ،‬ص ‪.8‬‬
‫‪2‬‬
‫يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬ترجمة عبد المجيد الصغير‪ ،‬نشر الفنؾ‪ ،‬الدار البيضاء‪،2000 ،‬‬
‫ص ص ‪.139 -50‬‬
‫‪ 3‬يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.67‬‬
‫‪ 4‬نفس المرجع ‪ ،‬ص ص ‪.115 – 100‬‬

‫‪217‬‬
‫المنيجية الٌتي أثارىا‪ ،‬كالنتائج التٌي‬
‫ٌ‬ ‫المؤرخ بالفكر اإلسبلمي‪ ،‬مف خبلؿ دراسة عمـ الكبلـ‪ ،‬كمختمؼ القضايا‬
‫ٌ‬ ‫استقصاء عبلقة ىذا‬
‫تكصؿ إلييا‪.‬‬
‫ٌ‬
‫التكحيدية المجاكرة‪ ،‬نقصد‬
‫ٌ‬ ‫الديف اإلسبلمي‪ ،‬مقارنة باألدياف‬
‫اإلسبلمي‪ ،‬ىي مسألة إسياـ ٌ‬
‫ٌ‬ ‫مف المسائؿ الثابتة في تناكؿ الفكر‬
‫مدكنا في المصحؼ المعركؼ بالقرآف‪ .‬لـ ينفصؿ‪ ،‬في‬ ‫تأسس عمى الكحي‪ ،‬كالٌذم أصبح الحقا ٌ‬
‫المسيحية‪ .‬فاإلسبلـ الٌذم ٌ‬
‫ٌ‬ ‫الييكدية‪ ،‬ك‬
‫ٌ‬
‫ركحو كسياقو كمضمكنو منيجو‪ ،‬عف الكتب السابقة‪ ،‬كىذا ليس باألمر الجمؿ‪ ،‬فالقرآف ذاتو كثير اإلشارة إلى ذلؾ‪ .‬كقد تناكؿ "يكسؼ‬
‫التكحيدية السابقة‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫فاف إيس"‪ ،‬ىذه المسألة الٌتي عرفت تأكيبلت مختمفة‪ ،‬كأغراض متباينة‪ .‬فالقكؿ بكجكد عبلقة بيف القرآف كالكتب‬
‫آنية فقط‪،‬‬
‫كتفرده‪ ،‬لكف المشكمة الٌتي تيثار ترتبط بالميزة القر ٌ‬
‫يؤدم إلى االنتقاص مف أصالتو ٌ‬
‫ليس بالقكؿ الجديد‪ ،‬كال القكؿ الٌذم ٌ‬
‫النكعي‪ ،‬أم ماذا يفصؿ القرآف عف بقية الكتب كالتي تدخؿ جميعا في نكع كاحد‬
‫ٌ‬ ‫باحتماؿ ككنو استجماع فقط لما سبؽ‪ ،‬أك بالفاصؿ‬
‫بأف "اإلسبلـ‪ ،‬مف حيث المبدأ‪ ،‬لـ يختمؽ مضاميف جديدة‪،‬‬
‫التكحيدية كالقائمة عمى الكحي‪ .‬يقكؿ "فاف ايس" ٌ‬
‫ٌ‬ ‫مف المعرفة‪ ،‬كىك المعرفة‬
‫‪1‬‬
‫ىى ىؿ‬‫أف القرآف ذاتو قد أ ٌكد الكتب السابقة‪﴿ :‬قي ٍؿ ىيا أ ٍ‬ ‫فالقرآف لـ يؤ ٌكد سكل الكتب السابقة"‪ .‬لكف ماذا يمكف أف نفيـ مف ذلؾ ؟ حقيقة ٌ‬
‫ؾ ًم ٍف ىرب ى‬
‫ّْؾ طي ٍغىي نانا ىك يك ٍف نار‬ ‫ير ًم ٍنيي ٍـ ىما أيٍن ًز ىؿ ًإلىٍي ى‬
‫يد َّف ىكثً نا‬
‫اإل ٍن ًجي ىؿ ىك ىما أ ٍين ًز ىؿ إًلىٍي يك ٍـ ًم ٍف ىرّْب يك ٍـ ىكلىىي ًز ى‬
‫اب لى ٍستي ٍـ ىعمىى ىشي وء ىحتَّى تيًقيمكا التَّكىراةى ك ًٍ‬
‫ٍ ى‬ ‫ي‬ ‫ٍ‬
‫ا ٍل ًكتى ً‬
‫ً‬
‫أف القرآف ليس إالٌ نسخة‬ ‫يف﴾[ المائدة‪ ]68 ،‬كنصكص كثيرة ال يمكف ذكرىا جميعا‪ .‬فيؿ ىذا يد ٌؿ عمى ٌ‬ ‫ٍس ىعمىى ا ٍلقى ٍكًـ ا ٍل ىكاف ًر ى‬
‫فى ىبل تىأ ى‬
‫أف الكثير مف المستشرقيف كغير المستشرقيف قد طعنكا في القرآف مف ىذا المدخؿ بال ٌذات‪.‬‬
‫عر ٌبية مف اإلنجيؿ كالتكراة ؟ الحقيقة ٌ‬
‫التكحيدية السابقة‪ ،‬كلـ يتخمٌص أيضا مف تأثير البيئة العر ٌبية السابقة عمى‬
‫ٌ‬ ‫كمية مف الكتاب‬
‫أف القرآف لـ يتخمٌص ٌ‬
‫فيناؾ مف يشير إلى ٌ‬
‫‪2‬‬
‫الكثني‬
‫ٌ‬ ‫التاـ بيف‬
‫أف ىذه النظرة تدخؿ في نظرٌية أكسع قالت بعدـ االنفصاؿ ٌ‬ ‫بالجاىمية‪ .‬كالحقيقة ٌ‬
‫ٌ‬ ‫سماىا القرآف ذاتو‬
‫اإلسبلـ كالٌتي ٌ‬
‫التنزه‪ 3،‬ثـ عدـ‬
‫التجسد ك ٌ‬
‫ٌ‬ ‫التعدد كالتكحيد‪ ،‬أك بيف‬
‫ٌ‬ ‫التكحيدم‪ ،‬حيث نميؿ نحف‪ -‬المؤمنيف الحرفييف‪ -‬إلى االعتقاد بالقطيعة بيف‬
‫ٌ‬ ‫ك‬
‫‪4‬‬
‫اإلسبلمي‬
‫ٌ‬ ‫متعمؽ لمفكر‬
‫ألنو دارس ٌ‬
‫أف "يكسؼ فاف ايس" ذاتو‪ ،‬ك ٌ‬‫اتبيا‪ .‬كالحقيقة ٌ‬
‫التكحيدية الثبلثة تر ٌ‬
‫ٌ‬ ‫الكمي بيف النسخ‬
‫التاـ ك ٌ‬
‫االنفصاؿ ٌ‬
‫متخصص‪ ،‬فمثبل مف الناحية‬
‫ٌ‬ ‫السماكية الثبلثة‪ ،‬تفرز فركقات ال ينكرىا عاقؿ‬
‫ٌ‬ ‫أف المقارنة بيف الكتب‬‫فإنو قد أدرؾ ٌ‬
‫آنية‪ٌ ،‬‬
‫كأصكلو القر ٌ‬
‫األخبلقية أكثر كضكحا"‪ 5.‬كىذا يد ٌؿ عمى‬
‫ٌ‬ ‫بأف "القرآف‪ ،‬مقارنة مع العيد الجديد‪ ،‬يبدك في مجاؿ األكامر كالقكاعد‬
‫يعية‪ ،‬نجد ٌ‬
‫التشر ٌ‬

‫اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.15‬‬


‫ٌ‬ ‫‪ 1‬يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر‬
‫المقدس عند العرب قبؿ اإلسبلـ كبعده‪ ،‬ترجمة خميؿ أحمد خميؿ‪ ،‬دار الطميعة لمطباعة كالنشر‪ ،‬بيركت‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫‪ 2‬يكسؼ شمحد‪ :‬بنى‬
‫الطبعة األكلي‪ ،1996 ،‬ص‪.173-139 -95-93‬‬

‫‪3‬‬
‫الكثنية لممسيحية‪ ،‬ترجمة سميرة عزمي الزيف‪ ،‬منشكرات المعيد الدكلي‬
‫ٌ‬ ‫أندريو نايتكف كادغار كيند ككارؿ غكستاؼ يكنغ‪ :‬األصكؿ‬
‫لمدراسات االنسانية‪ ،‬دكف مكاف‪ ،‬دكف طبعة‪ ،‬دكف سنة‪ ،‬ص ‪.143 ،124 ،56 ،40 ،23 ،20‬‬

‫‪4‬‬
‫الفف القصصي في القرآف الكريـ‪ ،‬سينا لمنشر – االنتشار العربي‪ ،‬لندف – بيركت – القاىرة‪ ،‬الطبعة‬
‫محمد أحمد خمؼ ا﵀‪ٌ :‬‬
‫ٌ‬
‫الرابعة‪ ،1999 ،‬ص ‪ .69‬كأيضا‪ :‬محمد أرككف‪ :‬الفكر العربي‪ ،‬ترجمة عادؿ العكا‪ ،‬منشكرات عكيدات‪ ،‬بيركت ‪ -‬باريس‪ ،‬الطبعة‬
‫الثالثة‪ ،1985 ،‬ص ‪ .92‬كمحمد عابد الجابرم‪ :‬مدخؿ إلى القرآف الكريـ‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬في التعريؼ بالقرآف‪ ،‬مركز دراسات الكحدة‬
‫العربية‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2006 ،‬ص ‪.423‬‬
‫‪ 5‬يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.14‬‬

‫‪218‬‬
‫العيسكية الٌتي‬
‫ٌ‬ ‫الدعكة‬
‫كؿ كتاب عمى حدل‪ .‬ىذا الكضكح يد ٌؿ أيضا عمى خطكة جديدة خطاىا القرآف‪ ،‬مقارنة بركح ٌ‬
‫االختبلؼ في بنية ٌ‬
‫العقمية األس اررٌية الٌتي غمٌفت‬
‫ٌ‬ ‫خبلقية يد ٌؿ عمى تكارم‬
‫تميزىا بالتشريع التفصيمي‪ .‬كالكضكح في القكاعد األ ٌ‬
‫تميزت بالتبشير أكثر مف ٌ‬
‫ٌ‬
‫يميز اإلسبلـ‪ ،‬رسكال ككتابا‪ ،‬ىك‬
‫بأف‪" :‬ما ٌ‬
‫محمد عابد الجابرم عندما أ ٌكد ٌ‬
‫تكصؿ إلييا ٌ‬
‫األدياف السابقة‪ ،‬كىذا يتكافؽ مع الخبلصة الٌتي ٌ‬
‫أف اإلسبلـ قد عرؼ تيارات‬
‫بالديف تقع خارج تناكؿ العقؿ (‪ )...‬كاألكيد ٌ‬
‫خمكه مف "ثقؿ اإلسرار" ‪ Mystères‬الٌتي تجعؿ المعرفة ٌ‬
‫ٌ‬
‫لمديف (ديف األسرار كالكسائط)‪ 1.‬رغـ ذلؾ‪ ،‬فبل أحد يمكف أف يفصؿ بيف ركح‬
‫التصكر ٌ‬
‫ٌ‬ ‫النكع مف‬
‫تمتقي بصكرة أك بأخرل مع ىذا ٌ‬
‫أف كبلٌ مف العقديتيف قريبتاف بعضيما مف بعض في‬
‫النبكية‪ ،‬عمى اعتبار ٌ‬
‫ٌ‬ ‫السنة‬
‫المسيحية‪ ،‬كركح اإلسبلـ ممثٌبل في القرآف الكريـ ك ٌ‬
‫ٌ‬
‫‪2‬‬
‫مما‬
‫مسألة "معانقة الحياة األبدية"‪ ،‬فيذا اليدؼ كالمبتغى ىك القاسـ الٌذم يشرؾ اإلسبلـ كالمسيحية عمى كجو الخصكص‪ ،‬أكثر ٌ‬
‫الييكدية‪ .‬كلكي نخرج مف ىذا المكضكع‪ ،‬مكضكع العبلقة بيف الكتب السماكية‪ ،‬التي تندرج‬
‫ٌ‬ ‫المسيحية ك‬
‫ٌ‬ ‫الييكدية‪ ،‬أك‬
‫ٌ‬ ‫يشرؾ اإلسبلـ ك‬
‫قرر "الفاصؿ النكعي"‬
‫في البلىكت[ كىك ما يقابؿ عندنا عمـ الكبلـ] العقمي المقارف‪ ،‬يمكف أف ىنممح مكقفا معتدال ليكسؼ فاف إيس إذ ٌ‬
‫الٌذم يد ٌؿ عمى اندراج القرآف ضمف األفؽ الرسكلي التكحيدم كانفصالو بجممة مف الخصائص المحمية‪ ،‬كيظير اعتداؿ فكر "فاف‬
‫المتسرعة كالٌتي ال تخرج عف احتماليف مثٌمتيما العقمية اإلسبلمية األصكلية الٌتي ترفض‬
‫ٌ‬ ‫ايس" في عدـ انزالقو في األطركحات المألكفة‬
‫التفكير‪ ،‬كالعقمية اإلستشراقية الٌتي ترفض التفيٌـ‪:‬‬
‫الجدة‪ ،‬ال تربطيا صمة بما سبؽ مف عقائد‪ ،‬سكاء تكحيدية‪ ،‬أك كثنية‪ ،‬أك ما نسميو جاىمية‪.‬‬
‫‪ -‬اعتبار القرآف رسالة جديدة ك ٌؿ ٌ‬
‫كىك ما تمثمو العقمية األصكلية اإلسبلمية التي تأبى النظر المكضكعي‪.‬‬
‫مكررة لنسخ سابقة ىي األناجيؿ كالتكراة‪ .‬كىك ما يمثمو بعض المستشرقيف المتسرعيف غير‬
‫‪ -‬اعتبار القرآف نسخة عربية ٌ‬
‫المتفيميف‪.‬‬
‫ننتقؿ اآلف إلى مسألة أخرل‪ ،‬ترتبط بعبلقة "فاف ايس" بالفكر اإلسبلمي‪ .‬كقد افتتح ىذه المحاضرة األخيرة‪ ،‬الٌتي تحمؿ عنكاف‬
‫المحدد؛ قائبل‪" :‬إ ٌف مجاؿ‬
‫ٌ‬ ‫"اإلسبلـ كاإلسبلمكلكجيا األكركبية‪ :‬دراسة حكؿ خطاب المنيج" بتقرير أساسي‪ ،‬يضع مشركعو في إطاره‬
‫خاصة في مرحمتو األكلى‪ ،‬فمقد أكقفت دراساتي عمى القرنيف الثاني كالثالث مف اليجرة‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫اىتمامي ينحصر في عمـ الكبلـ في اإلسبلـ‪،‬‬
‫التعرؼ عميو اآلف ‪[ théologie und Gesellschaft‬أم البلٌىكت كالمجتمع]‪ 3".‬لكف دراسة عمـ‬
‫ٌ‬ ‫تكدكف‬
‫كذلؾ في كتابي الٌذم ٌ‬
‫فإف األسئمة الرئيسية الٌتي تطرح عمى "فاف ايس" ىي‪:‬‬
‫عامة‪ ،‬لذا ٌ‬
‫اإلسبلمي تندرج في مجاؿ أكسع كىك دراسة الفكر اإلسبلمي ٌ‬
‫ٌ‬ ‫الكبلـ‬
‫‪4‬‬
‫بالدراسة كالبحث أيضا‪.‬‬
‫‪ -1‬لماذا دراسة الفكر اإلسبلمي فقط ضمف ك ٌؿ التراثات الشرقية الكثيرة ؟ كالٌتي تغرم ٌ‬

‫‪ 1‬كمحمد عابد الجابرم‪ :‬مدخؿ إلى القرآف الكريـ‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬في التعريؼ بالقرآف‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.433-429‬‬
‫‪2‬‬
‫يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ .41 -39‬كقد عمد "فاف ايس"‪ ،‬ىنا‪ ،‬إلى ذكر‬
‫ميمة "عيسى" مع ميمة "محمد "(ص) مف حيث تمامية الرسالة كتمجيد السمطة اإلليٌية‬ ‫الكثير مف النصكص التي تدؿ عمى تطابؽ ٌ‬
‫الدالة عمى ذلؾ مثؿ‪﴿ :‬ىيا أىيُّيىا ا ٍل يم َّدثّْير‪ ،‬قي ٍـ فىأ ٍىن ًذ ٍر‪ ،‬ىكىرَّب ى‬
‫ؾ فى ىكب ٍّْر﴾‬ ‫المقدس‪ ،‬مف خبلؿ تكظيفو العديد مف النصكص القرآنية ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫كالقرب مف‬
‫كدا﴾[ اإلسراء‪ .]79 ،‬ىذا‪ ،‬كال يمكف التغافؿ عف‬ ‫اما ىم ٍح يم ن‬ ‫ؾ ىرُّب ى‬
‫ؾ ىمقى ن‬ ‫ىف ىي ٍب ىعثى ى‬ ‫[المدثر‪ ،]3 - 1 ،‬ك﴿ ىك ًم ىف المٍَّي ًؿ فىتىيى َّج ٍد بً ًو ىن ًافمىةن لى ى‬
‫ؾ ىع ىسى أ ٍ‬
‫أف "محمدان" صمٌى ا﵀ عميو كسمٌـ ليس إالٌ بشرا‪ ،‬عمى عكس‬
‫تمح عمى الفصؿ بيف البشرم كاإلليي في القرآف حيث ٌ‬
‫النصكص الٌتي ٌ‬
‫المسيحية التي تمجأ إلى فرضية الىكتية المسيح‪.‬‬
‫‪ 3‬يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.129‬‬
‫‪ 4‬المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.135‬‬

‫‪219‬‬
‫‪1‬‬
‫بخاصة الدرس الفقيي كالفمسفي‪،‬‬ ‫‪ -2‬لماذا دراسة عمـ الكبلـ بالحصر كالتحديد‪ ،‬ضمف فركع الفكر اإلسبلمي الكثيرة أيضا ؟‬
‫أك حتى األخبلقي‪.‬‬
‫‪ -3‬لماذا إنجاز دراسة ضخمة (ستة أجزاء كاممة) حكؿ مرحمة نشأة عمـ الكبلـ‪ ،‬أم القرف الثاني كالثالث‪ 2،‬كاىماؿ مرحمة‬
‫النضح كاالكتماؿ في القرف الرابع كالخامس ؟‬
‫ٌ‬
‫لؤلكركبي‪ ،‬درجة أكثؽ‬
‫ٌ‬ ‫عامة‪ ،‬ىذه "الحضارة الٌتي تمثٌؿ‪ ،‬بالنسبة‬
‫ٌأكال‪ -‬الفكر اإلسبلمي الٌذم يندرج ضمف الحضارة اإلسبلمية ٌ‬
‫لمصيف أك لميند‪ ،‬إذف ىي تتغ ٌذل مف نفس‬‫الخصكصية الٌتي ىي ٌ‬
‫ٌ‬ ‫تميزىا عف تمؾ‬
‫لخصكصية ٌ‬
‫ٌ‬ ‫مف العبلقات مف حيث امتبلكيا‬
‫‪3‬‬
‫فإف االىتماـ بالفكر اإلسبلمي‪ ،‬القريب مف الفكر األكركبي‪،‬‬
‫المصادر الٌتي تتغ ٌذل منيا أكركبا‪ٌ ،‬إنيا تنطمؽ مف نفس المسمٌمات‪ ".‬لذا ٌ‬
‫األـ بالنسبة "لفاف إيس"‪ ،‬مف خبلؿ مقارنتو بالفكر الجار‪ ،‬أك الفكر‬
‫ال ينفصؿ عف إرادة فيـ الفكر األكربي ذاتو‪ ،‬الٌذم ىك الفكر ٌ‬
‫استمد ىذه‬
‫ٌ‬ ‫أف "فاف ايس" قد‬
‫القريب كىك الفكر اإلسبلمي كليس الفكر الشرقي البعيد مف حيث بنيتو عف الحضارة األكربية‪ .‬كالحقيقة ٌ‬
‫المسيحي‪ ،‬مف مبلحظات مستشرقيف ألماف سابقيف أمثاؿ"‬ ‫ٌ‬ ‫المنيجية‪ ،‬الٌتي تنطمؽ مف االشتراؾ بيف العالـ اإلسبلمي ك‬
‫ٌ‬ ‫الممحكظة‬
‫بيكر"(‪ ،)Carl Heinrich Becher‬كمف مف ٌكريف عرب أمثاؿ "طو حسيف" الٌذم أ ٌكد يقينا‪ ،‬معاكسا لما ىك ذائع في الفكر اإلسبلمي‬
‫فكؿ شيء يد ٌؿ عمى ٌأنو ليس ىناؾ‬
‫األكركبييف فرؽ في الجكىر (‪ٌ )...‬‬
‫ٌ‬ ‫بأف "ليس بيننا كبيف‬
‫نص‪ٌ ،1938‬‬
‫المعاصر عندما قاؿ في ٌ‬
‫أف بيف العقؿ‬
‫فإننا نجد ما يحممنا عمى أف نقبؿ ٌ‬
‫أكركبي يمتاز عف ىذا العقؿ الشرقي (‪ )...‬فميما نبحث كميما نستقص ٌ‬
‫ٌ‬ ‫عقؿ‬
‫‪4‬‬
‫تحدثنا عف ضركرة مراجعة مفيكـ ال ٌشرؽ كالغرب‬
‫م فرقا جكىرٌيا"‪ .‬كىذا ما أشرنا إليو أعبله‪ ،‬عندما ٌ‬
‫األكركبي‪ ،‬كالعقؿ المصر ٌ‬
‫ٌ‬
‫عممية ال تخمك مف‬
‫ٌ‬ ‫تكجو اإلنساف كجية‬
‫عقمية محضة‪ ،‬بقدر ما ٌ‬
‫أف دراسة اآلخر‪ ،‬ليست متعة ٌ‬
‫كالتقاطعات الكائنة بينيما‪ .‬كالحقيقة ٌ‬
‫تدبر الغرض مف دراسة اآلخر‪ ،‬اليدؼ الحقيقي كالعممي‬
‫يحدد‪ ،‬التحديد الٌذم يساعدنا‪ ،‬نحف المسممكف‪ ،‬في ٌ‬
‫فائدة‪ ،‬لذا نجد "فاف ايس" ٌ‬
‫السنكات عف بداية اىتمامو بالفكر اإلسبلمي‪ ،‬يقكؿ في‬
‫مف اىتمامو بالفكر اإلسبلمي‪ ،‬كىك ىدؼ لف يتقادـ رغـ مركر العشرات مف ٌ‬
‫ىذا الشأف ما يمكف أف نعتبره درسا في التسامح كالتسامع أيضا‪" :‬بقدر دراستنا لآلخر نتعمٌـ الكثير عف ذاتنا نحف‪ ،‬كنتعمٌـ التسامح؛‬
‫تـ اتٌخاذىا داخؿ المجتمع الٌذم ننتمي إليو‪ ،‬أك داخؿ التاريخ الٌذم كرثناه‪ ،‬لـ تكف في‬
‫أف العديد مف الق اررات الٌتي ٌ‬
‫كما ٌأننا نكتشؼ ٌ‬
‫مفر منيا (‪ )...‬نجعؿ التفاىـ يح ٌؿ مح ٌؿ الجداؿ كالتكفير‪ 5".‬كىذا التقرير يخالؼ الكثير مف التقريرات الٌتي‬
‫حتمية ال ٌ‬
‫ٌ‬ ‫الحقيقة ق اررات‬
‫اإلسبلمي أك غيرىما‪ ،‬الٌذم يخمص‪ ،‬بعد قراءة اآلخر‪ ،‬إلى ضركرة تكفيره‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫المسيحي‪ ،‬أك‬
‫ٌ‬ ‫المتطرؼ‪ ،‬سكاء‬
‫ٌ‬ ‫نسمعيا مف أصحاب الفكر‬
‫قدميا المف ٌكر‬
‫نثمف المبلحظة المذككرة في فاتحة ىذه الدراسة‪ ،‬الٌتي ٌ‬
‫أك تبديعو‪ ،‬أك إدانتو‪...‬الخ‪ .‬بسبب عسر تفيٌـ الغير‪ .‬لذا‪ ،‬فنحف ٌ‬
‫الدراسة؛ فعندما نعرؼ بإتقاف كعمؽ لغة شعب ما‬
‫نسي "بيرجسكف"‪ ،‬كالمرتبطة بالمٌغة كالتسامح كالٌتي أشرنا إلييا أعبله في بداية ٌ‬
‫الفر ٌ‬

‫‪ 1‬يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.139‬‬
‫‪ 2‬المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪ 147‬كما تبلىا‪.‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.130‬‬
‫‪4‬‬
‫طو حسيف‪ :‬مستقبؿ الثقافة في مصر‪ ،‬دار المعارؼ‪ ،‬القاىرة‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬ص ‪ .30‬كأيضا‪ :‬يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر‬
‫اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.131‬‬
‫‪ 5‬يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.132‬‬

‫‪221‬‬
‫‪1‬‬
‫كجمالية الحضارة‪ ،‬الٌتي ىي‬
‫ٌ‬ ‫ركحانية الثٌقافة‬
‫ٌ‬ ‫تتسرب‬
‫غكية‪ٌ ،‬‬
‫ألف في ىذه المعرفة المٌ ٌ‬
‫كأدبو أيضا‪ ،‬فبل يمكف البتٌة أف نككف أعداء لو‪ٌ ،‬‬
‫في النياية حضارة اإلنساف‪ .‬كقد كاف المستشرؽ ياككب إيرىارت ‪ [ Jacob Ehrharth‬عاش في منتصؼ القرف الثامف عشر] يقكؿ‬
‫(في كتاب ايضاحات حكؿ األخطاء األساسية الغامضة في تاريخ محمد) أف الجيؿ بالمغة العربية يؤدم إلى ارتكاب أخطاء بحؽ‬
‫محمد‪ 2.‬كىك نفس رأم "أدرياف ركالند" ‪ [ Adriani Relandi‬مستشرؽ مف القرف الثامف عشر لو كتاب بعنكاف الديف المحمدم] الذم‬
‫غكم‪ ،‬في فيـ كدراسة‬
‫المنيجي المٌ ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ربط األخطاء في فيـ ركح المحمدييف بجيؿ المغة العربية‪ .‬ليذا نجد "فاف ايس" يدخؿ‪ ،‬المدخؿ‬
‫األرضية‬
‫ٌ‬ ‫ثـ‬
‫المؤسسات ٌ‬
‫ٌ‬ ‫االجتماعية كفي‬
‫ٌ‬ ‫الفكر اإلسبلمي‪ :‬فػ" الكقائع المممكسة تقبع دائما كراء المٌغة‪ :‬البيئة المتمثٌمة في األطر‬
‫‪3‬‬
‫إنسانية‬
‫ٌ‬ ‫مما تمتمكو ٌأية ظاىرة‬
‫يخية‪ ".‬فالمٌغة تمتمؾ مف المفاتيح أكثر ٌ‬
‫الصكر كالنماذج التار ٌ‬
‫السنة كفي ٌ‬
‫العقائدية المتمثٌمة في القرآف ك ٌ‬
‫المكجو كالمنتقى باإلرادة‪.‬‬
‫ألنيا تقكؿ ما ال يقكلو الخطاب المقصكد ك ٌ‬
‫أخرل‪ٌ ،‬‬
‫الزمف المعاصر بال ٌذات‪ ،‬مف بيف دركس الفكر اإلسبلمي‬
‫التفرد بدرس عمـ الكبلـ‪ ،‬في ىذا ٌ‬
‫السؤاؿ الثاني‪ ،‬سؤاؿ ٌ‬
‫أما عف ٌ‬
‫ٌ‬
‫الدرس الفقيي‪ .‬لذا نجده يقكؿ‪" :‬عمـ الكبلـ‬
‫الكبلمي عند المسمميف ذاتيـ لصالح ٌ‬
‫ٌ‬ ‫الدرس‬
‫فإف "فاف ايس"‪ ،‬يعزكه إلى إىماؿ ٌ‬
‫األخرل‪ٌ .‬‬
‫العقمية أك في مخياؿ المسمميف؛ فػ"الكبلـ" في المممكة العربية السعكدية يعتبر‬
‫ٌ‬ ‫أم دكر في الحياة‬
‫بمعناه الخاص ال يكاد اليكـ يمعب ٌ‬
‫الفقيية‪ 4.‬كالحقيقة ٌأننا ال نكافؽ‪ ،‬أك لـ‬
‫ٌ‬ ‫الدراسات‬
‫منصب عمى ٌ‬
‫ٌ‬ ‫أف االىتماـ‬
‫يتـ تدريسو في الجامعة‪ .‬في حيف ٌ‬
‫مف البدع المضمٌة‪ ،‬كال ٌ‬
‫بي‬
‫عدة اعتبارات‪ ،‬كمنيا‪ٌ :‬أنو أخذ بنمكذج كاحد‪ ،‬في العالـ العر ٌ‬
‫قدمو "فاف ايس"‪ ،‬عمى ٌ‬
‫نقتنع أحسف االقتناع‪ ،‬مف ىذا التبرير الٌذم ٌ‬
‫اإلسبلمية‪ ،‬ال تدرس عمـ‬
‫ٌ‬ ‫الدكؿ‬
‫فإننا نجد الكثير مف ٌ‬‫تقرر كفؽ ىذا السياؽ‪ٌ ،‬‬
‫عامة‪ ،‬كلئف كاف االختيار السعكدم‪ ،‬قد ٌ‬‫اإلسبلمي ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ك‬
‫الكبلـ أك الفمسفة في الجامعات فقط‪ ،‬بؿ كأكثر مف ذلؾ في الثانكيات‪ .‬بؿ أف بعض الجامعات اإلسبلمية تدرس مقياس اإللحاد ذاتو‪.‬‬
‫فإف التعميؿ كالتٌعميـ ىنا ليس في محمٌو‪ .‬كاف شككنا مف عدـ تدريس عمـ الكبلـ في الجامعات السعكدية‪ ،‬كالٌذم يؤثٌر فعبلن‪ ،‬كمف‬
‫لذا ٌ‬
‫الدكؿ الٌتي ال تدرس الفمسفة ذاتيا كفؽ‬
‫فإنو مف الممكف أيضا التعميؿ بالكثير مف ٌ‬
‫الناحية السمبية‪ ،‬في إثراء كتنمية المعرفة اإلسبلمية‪ٌ ،‬‬
‫‪5‬‬
‫أف عمـ الفقو‪ ،‬يعتبر مف العمكـ العممية الٌتي‬
‫الديف مف عمـ الكبلـ‪ .‬كالتعميؿ الثاني ىك ٌ‬
‫تقرير اليكنيسكك‪ ،‬كىي معرفة أكثر خط ار عمى ٌ‬

‫‪1‬‬
‫‪Henri Bergson: les Deux Sources de la Morale et de la Religion, Librairie Félix Alcan, Paris,‬‬
‫‪11eme édition, 1932, p 309.‬‬
‫‪2‬عبد الرحمف بدكم‪ :‬دفاع عف القرآف ضد منتقديو‪ ،‬ترجمة كماؿ جاد ا﵀‪ ،‬الدار العالمية لمكتب كالنشر‪ ،‬د ـ‪ ،‬دف‪ ،‬دط‪ ،‬ص ‪- 166‬‬
‫‪.167‬‬
‫‪ 3‬يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.11‬‬
‫‪ 4‬يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.139‬‬
‫‪5‬‬
‫مفيدة قكشة (تنسيؽ)‪ :‬الفمسفة مدرسة الحرية – تعميـ الفمسفة كتعمـ التفمسؼ‪ :‬كصؼ الحالة الراىنة كاستشراؼ المستقبؿ‪ ،‬ترجمة‬
‫فؤاد الصفا كعبد الرحيـ زركيؿ‪ ،‬تحت اشراؼ عمي بنمخمكؼ‪ ،‬منشكرات اليكنيسكك‪ ،‬باريس‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2009 ،‬ص ‪-72 -50‬‬
‫‪ . 192-79‬حيث تـ اإلشارة في ىذه الصفحة األخيرة إلى قمة حضكر الدكؿ العربية في الييئات الدكلية لمفمسفة‪ ،‬لكنيا ليست الغائب‬
‫الكحيد‪ .‬فحتى بعض الدكؿ المتقدمة لـ تدرج الفمسفة في منظكماتيا التربكية الحككمية‪.‬‬

‫‪221‬‬
‫أف عمـ الكبلـ‪ ،‬مف العمكـ التي ال يطٌمع عمييا‬
‫العاـ‪ ،‬في حيف ٌ‬
‫المختص أك ٌ‬
‫ٌ‬ ‫بعامة‪ ،‬سكاء العالـ أك الجاىؿ‪،‬‬
‫تيـ اإلنساف المؤمف ٌ‬
‫الٌتي ٌ‬
‫‪1‬‬
‫كؿ بمنظاره كتفسيره‪.‬‬
‫المتخصصكف‪ ،‬كىذه المسألة قد تناكليا الغزالي كابف رشد‪ٌ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫إال الخكاص مف الناس أك‬
‫الدرس عمى العصكر األكلى لظيكر عمـ الكبلـ‪ ،‬في مقابؿ السككت عف مرحمة االكتماؿ‬
‫أما السؤاؿ الثالث‪ ،‬المتعمٌؽ بتركيز ٌ‬
‫ٌ‬
‫الدخكؿ في العنصر الرابع‪ ،‬كالٌذم‬
‫كالنضج الٌتي تعاصر الغزالي خاصة كما تبله مف عمماء‪ ،‬فسكؼ نرجأ اإلجابة عنو إلى غاية ٌ‬
‫المعبر عنيا بتسمية عمـ الكبلـ ‪ -‬بالمجتمع‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫تناكؿ مشكمة عبلقة الثيكلكجيا اإلسبلمية ‪-‬‬
‫رابعا‪ -‬عالقة عمم الكالم بالمجتمع في القرون اليجرية األولى‪.‬‬
‫أف مسألة مصدر األفكار كحقيقة‬
‫أىـ مسألة طرحت في نياية القرف العشريف‪ ،‬عمى اعتبار ٌ‬
‫إف مشكمة سكسيكلكجية المعرفة ليي ٌ‬
‫ٌ‬
‫قدمو الفيمسكؼ األلماني "كارؿ مانيايـ"‬
‫الميـ الٌذم ٌ‬
‫ٌ‬ ‫الدرس‬
‫الدقيؽ‪ .‬كلسنا بحاجة إلى استحضار ٌ‬
‫العممي ٌ‬
‫ٌ‬ ‫الدرس‬
‫التمذىب لـ تدرس ٌ‬
‫كيفية أداء الفكر كظيفتو‬
‫ضيؽ كال يحتمؿ التكسيع أكثر‪ .‬كىك الٌذم اشتغؿ عمى ٌ‬
‫ألف المقاـ ٌ‬
‫(‪ٌ ،)3891/3981 Karl Mannheim‬‬
‫تحكؿ الفكر "كأداة اجتماعية"‪ 2.‬كىذا المنيج يسمح‪ ،‬أحسف بكثير مف‬
‫االقتصادية‪ ،‬أم ظركؼ ٌ‬
‫ٌ‬ ‫بعامة‪ ،‬سكاء السياسية أك‬
‫االجتماعية ٌ‬
‫الكبلمية المعركفة كالمتداكلة في تاريخ الفكر اإلسبلمي‪ .‬كىذا ما يتيح تحقيؽ "فيـ‬
‫ٌ‬ ‫المناىج األخرل في الكشؼ عف حقيقة األفكار‬
‫االجتماعي‪ ،‬كالفكر‪ 3".‬كىذا ما يدؿ عميو فرع "عمـ اجتماع المعرفة"‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫منيجي كمنتظـ لمعبلقة بيف الكجكد‬
‫ٌ‬
‫بي المعاصر‪ ،‬فيناؾ أساتذة‬
‫أف دراسة تاريخ عمـ الكبلـ ليس مف األمكر الٌتي غفؿ عنيا الفكر العر ٌ‬ ‫كما تجدر اإلشارة إلى ٌ‬
‫الميمة‬
‫ٌ‬ ‫أىـ فرقو‪ .‬لكف‬
‫اإلسبلمي‪ ،‬كمختمؼ مراحمو‪ ،‬ك ٌ‬
‫ٌ‬ ‫تبحركا في التأريخ كالتفسير كالمقارنة كالمقاربة لمفيكـ عمـ الكبلـ‬
‫أكاديميكف ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ك‬
‫الٌتي لـ تنجز‪ ،‬اإلنجاز المطمكب‪ ،‬ىي ربط ظيكر النظرٌيات الكبلمية بالمجتمع في جكانبو االقتصادية‪ ،‬كالسياسية‪ ،‬كالعرقية‪...‬الخ‪.‬‬
‫سكسيكلكجية المعرفة‬
‫ٌ‬ ‫أف ىذا المنظكر مف كتابة التاريخ الكبلمي‪ ،‬ال ينفصؿ عف نظرٌية‬
‫كىذا بالضبط ما قصده "فاف ايس"‪ .‬كاألكيد ٌ‬
‫الٌتي أشرنا إلييا منذ برىة‪ ،‬أعبله‪.‬‬
‫الدكتكر "فاف ايس"‪ ،‬عمى السؤاؿ السابؽ حكؿ سبب اختيار فترة القرف الثاني كالثالث فقط‪ ،‬كالٌتي تمثٌؿ مرحمة نشأة عمـ‬
‫يجيب ٌ‬
‫األكؿ ٌأكال كالقركف األخيرة التالية لمقرف الثالث‪ ،‬بإجابة تحتكل عمى شقٌيف‪:‬‬
‫الكبلـ‪ ،‬كبالتٌالي إغفاؿ‪ ،‬أك قؿ عدـ التركيز عمى‪ ،‬القرف ٌ‬
‫اإلسبلمية عف القرف‬
‫ٌ‬ ‫فإف – يقكؿ فاف ايس – " ك ٌؿ ما نعرفو مف النصكص‬ ‫األكؿ لميجرة‪ ،‬لذا ٌ‬
‫تتيسر المراجع الكافية في القرف ٌ‬
‫‪-‬لـ ٌ‬
‫قكة المصادر عمى اإلببلغ‬
‫أم كقت مضى بشأف ٌ‬ ‫األكركبية ىنا أكثر اختبلفا مف ٌ‬
‫ٌ‬ ‫الشؾ باإلسقاط؛ كالبحكث‬
‫ٌ‬ ‫األكؿ يقع تحت طائمة‬
‫ٌ‬

‫‪ 1‬أبك حامد الغزالي‪ :‬إلجاـ العكاـ عف عمـ الكبلـ‪ ،‬ضمف مجمكع رسائؿ اإلماـ الغزالي‪ ،‬تحقيؽ ابراىيـ أميف محمد‪ ،‬المكتبة التكفيقية‪،‬‬
‫القاىرة‪ ،‬ص ‪ 319‬كما تبلىا‪ .‬كأيضا‪ :‬ابف رشد‪ :‬فصؿ المقاؿ كتقرير ما بيف الشريعة كالحكمة مف االتصاؿ‪ ،‬الشركة الكطنية لمنشر‬
‫كالتكزيع‪ ،‬الجزائر‪ ،1982 ،‬ص ‪.51‬‬
‫‪2‬‬
‫كارؿ مانيايـ‪ :‬االيديكلكجيا كاليكتكبيا – مقدمة في سكسيكلكجيا المعرفة‪ ،‬ترجمة محمد رجا الديريني‪ ،‬شركة المكتبات الككيتية ‪،‬‬
‫الطبعة األكلى‪ ،1980 ،‬ص ‪.84-83‬‬

‫‪3‬‬
‫المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.246‬‬

‫‪222‬‬
‫‪1‬‬
‫أف الدرس التاريخي المكثكؽ بالنسبة لمباحث الٌذم يشتغؿ عمى النصكص‪ ،‬يبدأ مع عصر التدكيف‪ ،‬في‬
‫كطريقة تفسيرىا‪ ".‬كالحقيقة ٌ‬
‫‪2‬‬
‫حدده الجابرم في دراساتو لمعقؿ العربي‪.‬‬
‫منتصؼ القرف الثاني لميجرة‪ ،‬كىذا ما ٌ‬
‫بعدة‬
‫لمدرس كالتحقيؽ التاريخي كالتأكيمي‪ ،‬تمتاز حسب قكلو ٌ‬
‫‪-‬في القرنيف الثاني كالثالث‪ ،‬كىي الفترة التي اقتطعيا "فاف ايس" ٌ‬
‫خصائص منيا‪:‬‬
‫تميزت بذلؾ التكاجد لمعديد مف االختيارات الٌتي ظمٌت مفتكحة‬
‫"أف مرحمة البداية كالٌنشأة [ الٌتي تمثٌؿ األجياؿ األكلى لئلسبلـ] ٌ‬
‫‪ٌ -1‬‬
‫و‬
‫غطاء مف اإلجماع العقائدم أك التكافؽ االجتماعي‪ .‬تمؾ األجياؿ األكلى لـ تكف تعرؼ بعد ذلؾ‬ ‫يتـ إلغاؤىا تحت‬‫كمتاحة قبؿ أف ٌ‬
‫فإف الحركات المخالفة‪ ،‬أك الشاذة لـ تكف تعتبر إذ ذاؾ بدعا‪ ،‬بؿ كانت تعتبر – رغـ‬
‫التسنف كالتقنيف "األكرثكدككسي" ‪ٌ ،‬‬
‫‪‬‬
‫ٌ‬ ‫النكع مف‬
‫‪3‬‬
‫التعدد‪ ،‬ىك‬
‫الحرية‪ ،‬كالقبكؿ باالختبلؼ ك ٌ‬
‫انتيائيا إلى الفشؿ‪ -‬محاكالت تمثٌؿ ىي أيضا إحدل طاقات تجميات اإلسبلـ"‪ .‬كىذه ٌ‬
‫يحية كفيما كراء اإلخفاء كالمكاربة‪.‬‬
‫بكؿ أر ٌ‬
‫عبر عف نفسيا ٌ‬
‫بالتحديد ما يجعؿ النصكص تي ٌ‬
‫‪-2‬الفائدة األخرل مف تخصيص مرحمة البدايات‪ ،‬أم بدايات عمـ الكبلـ في القرف ‪ 2‬ك‪ 3‬ق‪ ،‬عمى الرغـ مف قمٌة النصكص األصمية‬
‫‪4‬‬
‫الركايات األسطكرية التي لحقت الكثير مف األحداث التاريخية المتعمقة بمشكمة عمـ الكبلـ‪ ،‬كرٌبما أحسف‬
‫فييا‪ ،‬ىي االنفبلت مف ٌ‬
‫إيديكلكجية‬
‫ٌ‬ ‫الميمة المعركفة بمحنة الحنابمة‪ ،‬في سياقات‬
‫ٌ‬ ‫تـ تكظيؼ ىذه الحادثة‬
‫مثاؿ عمى ذلؾ حادثة اإلماـ "أحمد بف حنبؿ"‪ .‬حيث ٌ‬
‫العامة أك المعتزلة كسمطة المأمكف‪ 218/198:‬ق)‪ 5.‬كنحف نعمـ ٌأنو أينما‬
‫غير نزيية‪ ،‬سكاء مف ىؤالء أك ىؤالء (أم الحنابمة ك ٌ‬
‫فإنو مف الصعب‪ ،‬إف لـ نقؿ مف المحاؿ‪ ،‬العثكر عمى الحقيقة التاريخية‪.‬‬
‫حضرت األسطكرة كاأليديكلكجيا‪ٌ ،‬‬
‫األكركبية‪ :‬دراسة حكؿ خطاب في المنيج"‬
‫ٌ‬ ‫لذا ىيخمص‪" ،‬فاف ايس"‪ ،‬في آخر فقرة مف محاضرتو حكؿ "اإلسبلـ كاإلسبلمكلكجيا‬
‫خاصة إباف مرحمة النشأة‪ ،‬تكازم في قيمتيا قيمة "إعادة فتح باب االجتياد"‪ 6.‬إذ ليس باإلمكاف إبقاء باب‬
‫ٌ‬ ‫أف "دراسة عمـ الكبلـ‪،‬‬
‫إلى ٌ‬
‫أف ىذا المشركع الطمكح ليذا المستشرؽ‪ ،‬يجعمنا ننساؽ ك ارء‬
‫نقدية‪ ".‬كالحقيقة ٌ‬
‫بكيفية ٌ‬
‫الماضي مفتكحا‪ ،‬إالٌ بفضؿ إعادة أجزاء التاريخ ٌ‬
‫إف ارتباط عمـ الكبلـ‪،‬‬
‫اإلسبلمي ؟ ٌ‬
‫ٌ‬ ‫المطمب التساؤلي التالي‪ :‬إلى ماذا انتيى بعد ىذه الدراسة المكسكعية‪ -‬النقدية لبداية عمـ الكبلـ‬

‫‪1‬‬
‫جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬ترجمة سالمة صالح‪ ،‬الجزء األكؿ‪ ،‬منشكرات الجمؿ‪،‬‬
‫بغداد – بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2008 ،‬ص ‪.8‬‬
‫‪2‬‬
‫محمد عابد الجابرم‪ :‬العقؿ األخبلقي العربي – دراسة تحميمية نقدية في نظـ القيـ في الثقافة العربية‪ ،‬مركز دراسات الكحدة‬
‫العربية‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2001 ،‬ص ‪.58-57‬‬

‫الرغـ مف ٌأنيا كممة محايدة‬


‫المسيحي‪ ،‬عمى ٌ‬
‫ٌ‬ ‫كتـ إدخاليا في القامكس‬
‫أف كممة أرثكدككس‪ ،‬كممة يكنانية األصؿ‪ٌ ،‬‬‫يجب التنبيو إلى ٌ‬
‫‪‬‬

‫الدككسا=رأم‪ ،‬أكرثا= المستقيـ‪ ،‬كأف نقكؿ األرثكبراكسي أم الفعؿ المستقيـ أك نقكؿ األكرثكغرافيا أم‬
‫تد ٌؿ عمى "الرأم المستقيـ"‪ٌ :‬‬
‫ثكدككسية عمى أساس ٌأنيا تنصير لممضمكف‬
‫ٌ‬ ‫فإننا‪ ،‬نحف المسممكف ننزعج عندما نصؼ عقيدة إسبلمية ما باألر‬
‫الكتابة المستقيمة‪ .‬لذا ٌ‬
‫"محمد أرككف" ذاتو عندما استعمؿ بكثرة ىذه الكممة لتكصيفات إسبلمية خالصة‪ .‬يمكف العكدة تقريبا إلى كؿ‬
‫ٌ‬ ‫اإلسبلمي‪ .‬كقد ىكجـ‬
‫كتبو لمعثكر عمى ىذا االستعماؿ المتكرر‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.148-147‬‬
‫‪ 4‬جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.9‬‬
‫‪5‬‬
‫يكسؼ فاف إيس‪ :‬بدايات الفكر اإلسبلمي‪ -‬األنساؽ كاألبعاد‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪ 152‬كما تبلىا‪.‬‬
‫‪ 6‬المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.155‬‬

‫‪223‬‬
‫كسياسية‪ ،‬يد ٌؿ عمى أمكر كثيرة‪ ،‬حسب "فاف ايس"‪ ،‬يمكف‬
‫ٌ‬ ‫اقتصادية‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫م‪ ،‬بالمجتمع كما يحممو مف مظاىر إدارٌية‪ ،‬ك‬
‫كنمط فكر ٌ‬
‫اختصارىا فيما يمي‪:‬‬
‫كف ىك ىم ٍف‬ ‫ًً ً‬
‫جاىميةن‪﴿ :‬أىفى يح ٍك ىـ ا ٍل ىجاىميَّة ىي ٍب يغ ى‬
‫ٌ‬ ‫سمى في القرآف‬ ‫الم ٌ‬ ‫بي السابؽ عمى اإلسبلـ ي‬ ‫تامة بيف النسؽ الثقافي العر ٌ‬ ‫‪-‬عدـ حدكث قطيعة ٌ‬
‫الزىكاةى‬‫يف َّ‬ ‫ً‬ ‫َّة ٍاأليكلىى ىكأ ًىق ٍم ىف الص ى‬
‫اىمًي ً‬
‫ىحسف ًمف المَّ ًو ح ٍكما لًقىكوـ يكًقينكف﴾[ المائدة‪ ]50 ،‬أك ﴿كقىرف ًفي بيكتً يك َّف كىال تىبَّر ٍجف تىبُّرج ا ٍلج ً‬
‫َّبلةى ىكآىت ى‬ ‫ى ى ى ى ى ى‬ ‫يي‬ ‫ى ٍى‬ ‫ي ن ٍ ي ى‬ ‫أٍ ىي ى‬
‫ط ًي نيرا﴾ [األحزاب‪ .]33‬كالنسؽ اإلسبلمي الجديد‪ .‬كمف‬ ‫ىى ىؿ ا ٍلىب ٍي ًت ىكييطىيّْ ىريك ٍـ تى ٍ‬
‫الر ٍج ىس أ ٍ‬
‫ب ىع ٍن يك يـ ّْ‬ ‫ىطعف المَّو كرسكلىو إًَّنما ي ًر ي َّ ً ً‬
‫يد الموي ليي ٍذى ى‬ ‫ىكأ ٍ ى ى ى ى ي ي ى ي‬
‫ً‬

‫العقمية‪ ،‬كحتٌى‬
‫العقدية‪ ،‬ك ٌ‬
‫ٌ‬ ‫تصكر تكاصؿ في الحياة‬
‫تامة بيف النسقيف‪ ،‬لدرجة ٌأنو ال يمكف ٌ‬
‫اإلسبلمية‪ ،‬تضع قطيعة ٌ‬
‫ٌ‬ ‫األدبيات‬
‫ٌ‬ ‫أف‬
‫المعمكـ ٌ‬
‫مما نعتقد؛‬
‫جدة ٌ‬‫أف الجديد أق ٌؿ ٌ‬‫التغير االجتماعي مسألة معقٌدة‪ ،‬كتسير كفؽ آليات مرٌكبة‪ ،‬بما يعني ٌ‬
‫أف ٌ‬ ‫االجتماعية‪ .‬لكف كبما ٌ‬
‫ٌ‬
‫‪1‬‬
‫الجماعية في الفرد‪ .‬فالمذىب‬
‫ٌ‬ ‫يدؿ‪ ،‬فيما يد ٌؿ‪ ،‬عمى استم اررٌية‬
‫فإف ارتباط الكبلـ بالمجتمع ٌ‬
‫"فالجديد ال حقيؽ لو تماما إالٌ بقدر يسير"‪ٌ .‬‬
‫تأسس عمى أفكار عر ٌبية سابقة عمى اإلسبلـ‪ ،‬كما حدث ىك ضرب مف إعادة‬
‫مؤسسيو‪ ،‬قد ٌ‬
‫بأف "معاكية" كاف أحد ٌ‬
‫القدرم الٌذم يقاؿ ٌ‬
‫‪2‬‬
‫بلنييف العرب ذاتيـ‪ ،‬قد رٌكزكا عمى ضركرة إعادة درس تفاصيؿ‬
‫أف العديد مف المستشرقيف‪ ،‬كحتٌى العق ٌ‬
‫الصياغة فقط‪ .‬كالحقيقة ٌ‬
‫الجاىمية كعصر اإلسبلـ‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫التكاصؿ كالتفاصؿ بيف عصر‬
‫اإليمانية الٌتي كفٌرتيا الرسالة الجديدة‪ .‬بؿ ٌأنو "طالما نظر المرء إلى مح ٌمد‬
‫ٌ‬ ‫أف الدخكؿ إلى اإلسبلـ لـ يتـ فقط تحت تأثير الحقيقة‬
‫‪ٌ-‬‬
‫كنبي لمعرب‪ ،‬فمـ يكف لمرسالة خارج المنطقة العر ٌبية معنى‪ .‬مف تى ىح ٌكؿ [ مف غير العرب] عف دينو إلى‬
‫ٌ‬ ‫"صمٌى المٌو عميو كسمٌـ"‬
‫غض المسممكف النظر عف ديانة األفراد ذكم المعارؼ اإلدارٌية‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫اقتصادية‪ 3"...‬كقد‬
‫ٌ‬ ‫اجتماعية ك‬
‫ٌ‬ ‫اإلسبلـ ٌإنما فعؿ ذلؾ ألسباب‬
‫الكضعية العددية لمعرب المسمميف‪ ،‬مقارنة بالمسمميف غير‬
‫ٌ‬ ‫أف‬
‫اإلسبلمية الجديدة‪ .‬كما ٌ‬
‫ٌ‬ ‫لمدكلة‬
‫العممية ‪ ،‬نظ ار لخدماتيـ الضركرٌية ٌ‬
‫ك ٌ‬
‫أف كسر امتياز‬
‫العرب‪ ،‬جعميـ متعمٌقيف بالمسمميف الجدد كفؽ منطؽ الحاجة‪ .‬ىؤالء‪ ،‬الداخميف الجدد في اإلسبلـ‪ ،‬الٌذيف تفطٌنكا إلى ٌ‬
‫اإلسبلمية حدثت‪ ،‬حسب "فاف ايس" كفؽ‬
‫ٌ‬ ‫فإف الفتكحات‬
‫العقدم‪ ،‬كالمٌساني‪ .‬لذا ٌ‬
‫ٌ‬ ‫افي‪ ،‬ك‬
‫العرب‪ ،‬يقتضي منيـ التنازؿ عف انتمائيـ الثق ٌ‬
‫العقدية الخالصة‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫االجتماعية‪ ،‬كاإلدارٌية مع العكامؿ‬
‫ٌ‬ ‫مما نعتقد‪ ،‬بحيث تشابكت العكامؿ‬
‫آليات معقٌدة أكثر ٌ‬
‫الكبلمية‪" .‬فقد كاف أبرز الفقياء في العصر‬
‫ٌ‬ ‫الفقيية ك‬
‫ٌ‬ ‫الكظيفية لئلنساف تمعب دك ار مؤثٌ ار في تحديد مكاقفو‬
‫ٌ‬ ‫االجتماعية ك‬
‫ٌ‬ ‫أف المكانة‬
‫‪ٌ-‬‬
‫الدكلة (‪ )...‬ككاف الجاحظ[ في‬
‫األمكم‪" :‬غيبلف الدمشقي"‪" ،‬جعد بف درىـ"‪" ،‬جيـ بف صفكاف"‪" ،‬الحسف البصرم"‪ ،‬مكظٌفيف لدل ٌ‬
‫ظفيف‪ 4".‬كفي ىذه اإلشارة نفيـ حقيقة المكاقؼ الكبلمية الٌتي ال تنفصؿ‬
‫تبعية مف المك ٌ‬
‫أف التٌجار أق ٌؿ ٌ‬
‫الرسائؿ] قد أ ٌكد مف قبؿ ٌ‬
‫كتابو ٌ‬

‫‪1‬‬
‫الركح‪ ،‬ترجمة ناجي العكنمي‪ ،‬المنظمة العربية لمترجمة‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2006 ،‬استيبلؿ‪ ،‬ص ‪.125-124‬‬
‫ىيجؿ‪ :‬فنكمينكلكجيا ٌ‬
‫‪ 2‬جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ص ‪.62-52‬‬
‫‪3‬‬
‫جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬مرجع سابؽ ‪ ،‬ص ‪ .73 ،68‬يقكؿ في ىذه الصفحة‬
‫األخيرة [أف كاردات الضرائب كانت أىـ بالنسبة "لمحاكميف" مف القيـ المثالية‪ ].‬مما يدؿ عمى أثر العقمية المالية عمى العقمية الدينية‪.‬‬
‫أك قؿ سطكة اإلنساف االقتصادم عمى اإلنساف الديني‪ .‬كفي المسألة العصبية يمكف التأكد مف ىذا المنحى في مقدمة ابف خمدكف‬
‫حكؿ استمرار عصبية الجاىمية في الخبلفة اإلسبلمية‪ .‬لمتكسع يرجى العكدة إلى‪ :‬محمد عابد الجابرم‪ :‬فكر ابف خمدكف – العصبية‬
‫كالدكلة – معالـ نظرية خمدكنية في التاريخ اإلسبلمي‪ ،‬مركز د ارسات الكحدة العربية‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة السادسة‪ ،1994 ،‬ص ‪.258‬‬

‫‪ 4‬المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.72-71‬‬

‫‪224‬‬
‫السياسية‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫بالكظيفية‬
‫ٌ‬ ‫التحدد الكبير‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫يتحدد‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫االجتماعية لممتكمٌـ أك الفقيو‪ .‬لذا فالمكقؼ الكبلمي – الفقيي‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫الكضعية‬
‫ٌ‬ ‫عف الكظيفة ك‬
‫االجتماعية لمفرد‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ك‬
‫أف "فاف ايس" قد تأثٌر بالعبارة االبستمكلكجية (نقد المعرفة العممية) الٌتي راجت بعد أزمة اليقيف في الفيزياء‪ ،‬في النصؼ الثاني‬
‫‪-‬يبدك ٌ‬
‫الكبلمية دكف معرفة الكاقع‬
‫ٌ‬ ‫مف القرف العشريف‪ .‬كنقميا إلى مجاؿ التأريخ لمفكر اإلسبلمي الكبلمي‪ .‬فبل يمكف أف نعرؼ حقيقة النظرية‬
‫عنا المذىب الكبلمي‪ .‬ىذا ىك مبدأ البلٌيقيف‪ ،‬كالبلٌ تحديد‪ .‬يقكؿ‪":‬لدينا‬
‫يتحجب ٌ‬
‫ٌ‬ ‫االجتماعي ألصحابيا‪ ،‬كاذا عرفنا الكاقع االجتماعي‪،‬‬
‫أسماء أشخاص كصؼ مذىبيـ دكف أف نعرؼ عف مكقعيـ االجتماعي شيئا‪ ،‬كمف ناحية أخرل نعرؼ عف عدد كبير مف "المثقٌفيف"‬
‫‪1‬‬
‫لكننا ال نعرؼ عف‬
‫حد ما‪ٌ ،‬‬
‫[كىناؾ مف يعتبر المتكمٌميف بمثابة مثقٌفيف كأبطاؿ المٌساف ] المينة كالكسط الٌذم عاشكا فيو بكضكح إلى ٌ‬
‫‪2‬‬
‫الكبلمية أمر غير كارد بالنسبة لمف يربط الفكر بالمجتمع‪ .‬كىذا‬
‫ٌ‬ ‫فإف الجزـ كالتحقٌؽ مف المذاىب‬
‫كجيات نظرىـ بدقٌة إالٌ القميؿ‪ ".‬لذا ٌ‬
‫مؤسس عمـ اجتماع المعرفة‪ ،‬أم "كارؿ مانيايـ"‪ ،‬يصؼ مذىبو‬
‫نسبية دكما‪ ،‬كقد أشار ٌ‬
‫ىك الٌذم يجعؿ معرفتنا بتاريخ عمـ الكبلـ ٌ‬
‫العبلئقية ‪ 3.relationnisme‬كىذا ما يجعؿ اليقيف‪ ،‬أق ٌؿ يقينا‪ ،‬أم مفتكحا دكما عمى امكانات محتممة‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫بالنسبية‪ ،‬أك المنظكرٌية‪ ،‬ك‬
‫ٌ‬
‫خالصة‪ :‬حدود منيجية "فان ايس"‪ ،‬عين عمى االستشراق الغربي عمى الحاضر العربي‪ .‬أوليفيو روا وآخرون‪.‬‬
‫يقدـ لنا‪ ،‬حقيقة مشركعو الٌذم يركـ تفسير عمـ الكبلـ مف خبلؿ المجتمع كما يحممو مف‬
‫الدكتكر "يكسؼ فاف ايس" لـ ٌ‬
‫أف ٌ‬‫األكيد ٌ‬
‫يتضمناف‬
‫ٌ‬ ‫األكؿ مف مكسكعتو الٌتي تحتكل عمى ستٌة أجزاء (المجمٌداف األخيراف‬
‫ظكاىر معقٌدة ال ترتبط فقط بالعقيدة‪ ،‬في ىذا الجزء ٌ‬
‫‪4‬‬
‫القكة ال‬
‫القكة الدافعة ليا‪ ".‬كىذه ٌ‬
‫الفقيية تتكقٌؼ عمى معرفة ٌ‬
‫ٌ‬ ‫أف "معرفة النظـ‬
‫فرضيتو مف خبلؿ مبدأ ٌ‬
‫ٌ‬ ‫حدد‬
‫ترجمة نصكص فقط)‪ .‬فقد ٌ‬
‫بحثي طكيؿ‪ .‬لـ يكتمؿ بعد‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫مقدمة لمسار‬
‫مجرد ٌ‬
‫األكؿ ٌ‬‫تنفصؿ عف ظركؼ المجتمع المادية كالسياسية‪ .‬لذا نعتبر ىذا الجزء ٌ‬
‫أف ىذا الفكر قد رٌكز‬
‫نريد في ىذه الخاتمة العاجمة‪ ،‬اإلشارة إلى ظاىرة فارقة في مكقؼ الفكر اإلسبلمي مف االستشراؽ‪ .‬فاألكيد ٌ‬
‫المحمدية إلى غاية‬
‫ٌ‬ ‫الكبلسيكي‪ ،‬أم منذ ظيكر الرسالة‬
‫ٌ‬ ‫اإلسبلمي‬
‫ٌ‬ ‫المتخصصة في الفكر‬
‫ٌ‬ ‫اقية‬
‫كؿ طاقاتو نحك فحص الدراسات االستشر ٌ‬
‫ٌ‬
‫كفعاؿ‪ .‬كىك‬
‫ميـ كنشط ٌ‬ ‫أف لبلستشراؽ فرع آخر ٌ‬ ‫أفكؿ الفكر اإلسبلمي مع الشعاع األخير في األندلس كالمغرب‪ .‬لكف تناسينا ٌ‬
‫القكم أك‬
‫ٌ‬ ‫اإلسبلمية كنتائج التثاقؼ‬
‫ٌ‬ ‫التحكالت الٌتي طرأت عمى الظاىرة‬
‫ٌ‬ ‫االستشراؽ الٌذم يدرس الفكر اإلسبلمي الحالي‪ .‬كمختمؼ‬
‫القاصي الٌذم حصؿ مع عصر العكلمة الفائقة‪ .‬كنكاد نندىش لمسار الفكر اإلسبلمي األكركبي كاألمريكي كغير العربي عمكما‪،‬‬
‫بأنو قد حاف الكقت لتحقيؽ تكازف بيف‬
‫فإننا نعتقد‪ٌ ،‬‬
‫متجددا لدرجة ٌأنو يختمؼ في أسسو عف المبادئ المعيكدة لدينا‪ .‬لذا‪ٌ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫الٌذم أصبح‬
‫ألف إىماؿ دراسة مآالت الفكر‬
‫الكبلسيكي كاالستشراؽ الٌذم يدرس اإلسبلـ المعاصر‪ٌ .‬‬
‫ٌ‬ ‫استيعاب االستشراؽ الٌذم يدرس الفكر‬
‫حتمي‪ ،‬إلى‬
‫ٌ‬ ‫مما يفضي‪ ،‬كفؽ منطؽ‬
‫اإلسبلمية‪ ،‬ىك السير في خطأ إىماؿ دراسة الفكر اإلسبلمي الكبلسيكي ٌ‬
‫ٌ‬ ‫اإلسبلمي‪ ،‬بؿ الظاىرة‬
‫ٌ‬
‫طغياف العقؿ االستشراقي عمى العقؿ اإلسبلمي في معرفتو لخبايا التاريخ الفكرم اإلسبلمي ذاتو‪.‬‬
‫ٌإنو لمف األمكر الصعبة عمى العقؿ االسبلمي‪ ،‬أف يساير العقؿ االستشراقي‪ .‬الٌذم ال يتكقٌؼ عف تفكير الظاىرات الجديدة‪ .‬في‬
‫اإليمانية الجديدة‪ ،‬كتيكيؿ القديمة‬
‫ٌ‬ ‫يتحرؾ بمنطؽ تيكيف الظكاىر‬
‫نسبيا‪ٌ ،‬‬
‫أف العقؿ اإلسبلمي‪ ،‬في مسائؿ العقيدة كالكبلـ‪ ،‬كالفقو ٌ‬
‫حيف ٌ‬

‫‪ 1‬جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.85-82‬‬
‫‪ 2‬المرجع نفسو‪ ،‬ص ‪.615‬‬
‫‪ 3‬كارؿ مانيايـ‪ :‬االيديكلكجيا كاليكتكبيا – مقدمة في سكسيكلكجيا المعرفة‪ ،‬ص ‪.324‬‬
‫‪4‬‬
‫جكزيؼ فاف أس‪ :‬عمـ الكبلـ كالمجتمع في القرنيف الثاني كالثالث لميجرة‪ ،‬مرجع سابؽ‪ ،‬ص ‪.9‬‬

‫‪225‬‬
‫‪1‬‬
‫فإننا نميؿ إلى‬
‫يتحدث‪ ،‬اليكـ مثبل‪ ،‬عف كجكد "مسمـ ممحد"[‪ Olivier Roy‬مثبل]‪ٌ ،‬‬
‫أساسية‪ .‬كعندما نجد مستشرقا ٌ‬
‫ٌ‬ ‫منيا‪ ،‬أم اعتبارىا‬
‫بالنسبة لنا‪ .‬فيبلٌ انفتح عقمنا‬
‫التديف‪ ،‬غير المعيكد ٌ‬
‫اعتبارىا فكاىة‪ ،‬لكف انتقاؿ اإلسبلـ إلى أكركبا كغيرىا‪ ،‬قد أفرز فعبل‪ ،‬ضربا مف ٌ‬
‫اقي يجكؿ كيصكؿ فييا كيفما شاء‪.‬‬
‫الساحة الفكرٌية فارغة لمعقؿ االستشر ٌ‬
‫اإلسبلمية الجديدة ! لكي ال نترؾ ٌ‬
‫ٌ‬ ‫عمى الظكاىر‬

‫‪ 1‬أكليفيو ركا‪ :‬الجيؿ المقدس – زمف ديف ببل ثقافة‪ ،‬ترجمة صالح األشقر‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬بيركت‪ ،‬الطبعة األكلى‪ ،2012 ،‬ص ‪.29‬‬

‫‪226‬‬

You might also like