Professional Documents
Culture Documents
الإنسان السائل ـ ياسر بكر
الإنسان السائل ـ ياسر بكر
ياسـر بكـر
اإلنسان «السائل»
ـ E. Book
***
ياسر بكر
5
«هذا زمن الحق الضائع
ال يعرف فيه مقتول من قاتله ،ومتى قتله
ورؤوس الناس على جثث الحيوانات
ورؤوس الحيوانات على جثث الناس
فتحسس رأسك
فتحسس رأسك !!»
مقدمة :
7
اإلنسان «السائل»
لأليقونات ،واألقانيم ،وزرع مستمر لما هو جديد؛ ..ليظل دائما في حالة
الذي يحوِّ ل جديد اليوم ،وحديثه إلى قديم كالسيكي .. العابر»*()2 «االنتقالي
عابر دائما في حالة دائبة من التغيير ،والتجديد ،وحالة مستمرة من الحركية،
والتطور وفقاً لما ترمز إليه «ما بعد الحداثة» من التطلع إلى «المجهول
الجديد» ،والتي يتسم بالفوضى ،والضبابية ،والال يقين .
8
..إذا كنت ترغب في المشاركة في المجتمع ،عليك أن تستهلك بهذه الطريقة
ـ تحويل نفسك إلى سلعة ـ ،وهذا شرط مسبق غير قابل للتفاوض ،وبالتالي فإن
عالقات السوق أساسية لمجتمع المستهلكين ،كما هو الحال مع العقلية الحسابية
التي تسير بمحازاتها ..
9
اإلنسان «السائل»
« ..ااإلنسان المستباح» ارتبط عادة بالتجسيد المطلق للحق السيادي المطلق
في استبعاد مثل هذه الكائنات البشرية الغريبة من نطاق القوانين اإلنسانية،
واإللهية ،حيث يصبح الكائن المستباح وجو ًدا يمكن تدميره من دون التعرض
للعقاب ،وإن كان تدميره ال تعوزه أي داللة دينية أو أخالقية؛ فحياة «الرجل
المستباح» ال تحمل أي مغزى بالنسبة للحاكم؛ فهو موجود بصفته البيولوجية
«في حياة عارية »Zeمثل شئ دون األدمية ،وينبغي إعالته بالمعنى األكثر
بدائية بالطعام ،والماء ،والمأوى ،كما ينبغي إبعاده عن طريق النفي أو االحتجاز
في مراكز العزل العنصري عن الوجود الطبيعي لإلنسانية في «حياة سياسية
»Biosباإلقامة الجبرية في (معسكرات اعتقال النازي ـ المخيمات الفلسطينية
ـ معتقل أبو غريب ـ معتقل جوانتانامو) أو جيتوهات أو أحياء عشوائية منعزلة
مثل أحياء الهنود الحمر ،وأحياء زنوج أمريكا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )5جون ديوي ،الفردية ..قديماً وحديثاً ،ترجمة خيري حماد ،منشورات دار مكتبة الحياة ،بيروت 1979ـ ص
49
*( )6د .مصطفى حجازي ،اإلنسان المهدور ..دراسة نحليلية نفسبة اجتماعية ،ط ،١المركز الثقافي العربي ـ الدار
البيضاء ٢٠٠٥
10
ينقلنا مفهوم «ااإلنسان المستباح» إلى ما يطلق عليه أجامبين «:الحياة
العارية »Zeحيث تقوم السلطة برد اإلنسان لكونه «مادة استعمالية» مجردة
من اإلنسانية ،وليس إنسان له خصائص تسري عليه أحكام الكرامة ،والحفظ،
والصون ..مجرد جسد لكائن مخلوق له روح تتشابه مع روح الحيوان مجردة
من كل السمات االجتماعية ،والحقوق السياسية.
11
اإلنسان «السائل»
ً
آمنا للحياة بصفتها تجوّ ال تخلقه الغربة ،والوحدة باعتبارهما مصدر إلهام
إلعادة اختراع المساحات».
ويرى باومان أنه يمكن النظر إلى التس ّوق على أنه شكل آخر من أشكال
التسكع ،أو هو تحديق سيار وثيق الصلة بالنساء ،ويمكن ربط عملية «تأنيث
المتسكع» بمعنى ربط سلوك تسكع النساء بنشوء الموالت الضخمة التي هي
محاولة لنقل الشارع إلى داخل األبنية ..،صورتا الغرباء والمتشردين عند باومان
التي يشير إليها بمصطلحي Servant Group( :المجموعة الخدمية) أو
( Inrermediate Groupمجموعة الوسطاء) واللتان تقتربان مع ما يطلق
عليه المفكر المصري د .عبد الوهاب المسيري«:أنموذج الجماعة الوظيفية
،»Functioal Groupeوالتي تعني كل فئة بشرية قليلة يو ِكل إليها المجتمع
وظائف شتى يرى أن أعضاءه ال يقدرون على تحمّلها ،ويأنفون منها ألسباب
مختلفة ،ويُعرفون بوظائفهم وحدها ،ال بإنسانيتهم المتكاملة؛ فيُصبح أحدهم
إنساناً ذا جانب واحد ،ال صلة له بالمجتمع إال بوظيفته)7(* .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )7د .عبد الوهاب المسيري ،الجماعات الوظيفية اليهودية ..نموذج تفسيري جديد ،دار الشروق ،ط ٢
ـ القاهرة ٢٠٠٢
12
..و«المجتمع السائل» يعني :
«المجتمع حين تكون الشروط التي يوجد ضمنها البشر ،ويقومون بالفعل
متغيرة على درجة كبيرة من السرعة تجعل من قدرتهم على استيعاب التغير،
وهضم الجديد ،وبناء سلوكيات ،وعادات على أساسه صعباً إلى أبعد حد.».
..البشر في مجتمع االستهالك يعيشون تحت وابل انتاج كثيف لما يتم الترويج
له دعائياً أنه األفضل ،فلم يعد المزاج الشخصي قادر على الحكم على األشياء،
ولم تعد الهويات ،وال الثقافات قادرة على االحتفاظ بشكلها زمانا طويال ،وال أمل
في ذلك ألنها تتحلل ،وتنصهر بسرعة أكبر من سرعة إعادة تشكلها ،ويتفكك
مفهوم المجتمع نفسه من جذوره؛ بسبب سيولة األبنية االجتماعية ،وسرعة
تغيرها ،وتحول التاريخ السياسي للمجتمعات واالفراد ،وأنماط الحياة إلى سلسلة
من مشروعات ال متناهية ،وتالشي كل الصور الرومانسية للعالقات االجتماعية
التي نقشت في داخلنا ألعوام ،بل ولعقود من خالل خضوع العالقات اإلنسانية
للتسليع ،واالستهالك في لحظة البؤس البشري .. ،مجتمع انتهى بإعالن موت
اإلنسان لمصالح مقوالت غير إنسانية مثل اآللة ،والدولة ،والسوق ،والسلعة،
والسلطة ،أو لمصلحة مقوالت أحادية البعد مثل الجسد ،والجنس ،واللذة !!
13
اإلنسان «السائل»
من المفاهيم الضيقة التي يوفرها علم االجتماع باعتباره (علم عدم الحرية)،
والذي بات اآلن في لحظة فارقة بعد أن أصبحت أدواته غير شارحة ،وال
مفسرة!! .
14
«سلسلة السيولة المدونة في كتب الفقة االستراتيجي»*(: )9
«الحداثة السائلة ،الحب السائل ،الخوف السائل ،الشر السائل ،األخالق في
زمن الحداثة السائلة ،الحياة السائلة ،الثقافة السائلة ،المراقبة السائلة.».
15
اإلنسان «السائل»
..لكن يمكن القول بأنها حالة تحول ،وحركة تغير ألنماط التفكير ،والعيش،
والسلوك بعد الخروج على ائتالف رجال الكنيسة ،والنبالء من االقطاعيين،
وإعالن «موت اإلله» أو «رحيل اإلله إلى حيث ذهب ،ولن يعود» ،بيد أن تأليه
المجتمع لم يكتمل إال مع ظهورسوسيولوجيا نظرية للحداثة في سياق العلمنة،
وال سيما في أعمال إميل دور كايم فأصبحت سلطة المجتمع على مركز الوجود
اإلنساني ،وإن اإلله لم يمت تماماً بل جرى تهميشه ،واستبدال سلطة جديدة به؛
فالحداثة الغربية كما يرى باومان شهدت ميالد ألهه بديلة مثل الطبيعة ،والعلم،
والتقدم ،والدولة القومية ،وصاحب كل ذلك ميالد ثالوث (غير) مقدس جديد
تمثل في :األرض ،واألمة ،والدولة .)10(*.
لينتهى «أقنوم اإلله» ،وليحل محله «أقنوم العلم» باعتباره إله علمانياً؛ بمعنى
انتقال اإلنسانية من سيطرة الالهوت ،والكنيسة ،والسحر ،والخرافة إلى نور
العقل والعقالنية؛ فهى باختصار عبارة تحول في مجرى حياة اإلنسان ثقافياً،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )10زيجمونت باوما ،الحداثة والهولوكست ،ترجمة :حجاج أبو جبر ،دينا رمضان ،مدارات لألبحاث
والنشر ـ القاهرة ٢٠١٤ـ ص 26
16
واجتماعياً ،وعلمياً ،واقتصادياً ،وأخالقياً؛ فهي بذلك عبارة عن نمط خاص في
مقابل كل صنوف التقليد ،وضروب الثقافة اإلرثية التى تتمسك بنقطة زمنية
أصلية ،وتتشبس بمرجعية متعالية ،وأمل مقدس؛ فهي بذلك ثورة كوبرانيكية
أتت على كل جوانب الحياة الكالسيكية التقليدية لتفتح عهدا جديدا مع العقالنية،
والتطور ،والتغيير .
17
اإلنسان «السائل»
والهولوكست» بقوله :
«شهد عصر التنوير تألية الطبيعة ،وشرعنة العلم بوصفه دينها الحنيف،
والعلماء بوصفهم أنبياءها ،وكهنتها ،».ليصل بنا باومان إلى أن وعود
الحداثة قد تبددت ،ولم يتحقق منها شيء !! ..كان وعد الحداثة تحرير اإلنسان
من الخوف؛ فالجماعة التي تمارس سيطرتها عليه سيواجهها بالفردية ،والدين
الذي يحذره من عواقب أفعاله سيتم مواجهته بفصل الغيب عن الحياة ،وإعالن
العلمانية ،وضربات الطبيعة ،والمرض ،والموت سيتم التعامل معها بالعلم.
18
أكثر اقترانا بالرأسمالية في مراحلها المتتالية ،وبالتالي أعادت طرح أسئلة
كبرى حول اإلنسانية .
19
اإلنسان «السائل»
« إمكانية تصنيف موضوع أو حدث فى أكثر من فئة ،وهو بذلك خلل فى
اللغة ،وقصور فى وظيفة التسمية المنوطة باللغة ،ومعها يبدأ الخلل فى عدم
االرتياح البالغ الذى نشعر به عندما نعجز عن قراءة الموقف قراءة سليمة.».
..ويضيف باومان :أننا نرى فى اإلبهام خلال بسبب القلق الذى يثيره،
والتردد الذى يترتب عليه ،سواء ألقينا باللوم على اللغة لعدم دقتها أو على
أنفسنا الستعمالنا غير المناسب لها ،ولكن االبهام ليس نتاجا النحراف اللغة،
وال الكالم ،بل هو جانب طبيعى من الممارسة اللغوية ،أنه يصدر عن إحدى
الوظائف األساسية للغة ،أال وهى التسمية ،والتصنيف ،ويزداد االبهام كلما زاد
اتقان تلك الوظيفة ،ومن ثم فإن االبهام هو األنا األخرى للغة ،ورفيقها الدائم،
بل وضعها الطبيعى .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )12زيجمونت باومان ،الحداثة واإلبهام ،ترجمة :حجاج أبو جبر ،المركز القومي للترجمة ،العدد 3164
،القاهرة 2018
20
..ويرى باومان أنه من خالل وظيفة التسمية أو التصنيف ترسخ اللغة نفسها
بين عالم يحافظ على النظام ،ويقوم على أساس صلب ،ويصلح للعيش البشرى،
وعالم متقلب من العشوائية تصير فيه أسلحة البقاء البشرى (الذاكرة ،والقدرة
على التعلم) عديمة الجدوى أن لم تكن انتحارية تماما.
ويكمل باومان قائال :لقد وعدت الحداثة بالقضاء على اإلبهام ،وتأسيس
الوضوح التام ،والوصول إلى لحظة فردوسية ينتهى عندها اإلبهام ،ولم تفلح
الحداثة في الوفاء بوعدها!!
..ولم تكتف الحداثة بذلك بل قامت عبر أدواتها بتجريد األفراد من
كل شبكات التضامن ،ومهارات مواجهة المخاوف ،والمخاطر كافة من خالل
«تأميم الخوف» في ظل النظم االشتراكية التي وعدت بتأميم خدمات التوظيف،
21
اإلنسان «السائل»
22
***
يشير مفهوم السيولة عند باومان إلى تحول من الحالة الصلبة إلى الحالة
السائلة أو المائعة ،وهو ما يقال عن المواد الصلبة مثل الحديد عندما يتحول
إلى مادة سائلة منصهرة؛ فالسيولة بهذا المفهوم تعنى الميوعة ،واالنصهار،
والذوبان؛ فالميوعة ،والسيالن حالة تحول من حالة الصالبة إلى الحالة السائلة
أو المائعة؛ فالميوعة هى سمة المواد السائلة ،والغازية ،وتتميز عن المواد
الصلبة بعدم االحتفاظ بقوى التماسك بين مكوناتها في حالة السكون ،ومن ثم
يتغير شكلها باستمرار ما دامت تتعرض لإلجهاد؛ ويكون التغير ،والتلون،
والتحول سمة من سماتها األساسية ،وهو ما ينتج عنه الجريان ،واالنسياب،
والتدفق بغير حساب ،وهو أحد سمات الموائع أو األشياء المائعة أما األشياء
23
اإلنسان «السائل»
الصلبة فال يحدث فيها جريان ،وال تدفق ،وال ميوعة ألن الميوعة جوهر األشياء
السائلة ،والموائع ال تثبت في الحيز المكاني ،وال تعوق حركة الزمن؛ فال
تحتفظ بشكل محدد فترة طويلة ،وتكون دائما على استعداد ،وميل إلى تغييره؛
فالسيولة في جوهرها عبارة عن سيالن ،وانصهار ،وذوبان ،وحركة ،وتغير،
وتحول ،وميوعة ،ومن خصائص الموائع أنها تتحرك بسهولة ،وأنها تجري،
وتنسكب ،وتنساب ،وتتناثر ،وتنهمر ،وتتسرب ،وتفيض ،وتتشكل بأشكال
أوعيتها الحاوية ،وتتلون بألوانها ،وتسيل فال يسهل إيقافها كما هو الحال مع
المواد الصلبة ،وهذا االنسياب له القدرة مثل تيار المياه المتدفق أن يكسر الكثير
من الحواجز ،ويتسرب إلى عمق البنايات التي كان يظن مشيدوها أنها صلبة،
وغير قابلة لآلختراق .
24
مصطلح «:السيولة» نقطة تالقي لما أخذه باومان من العلوم األخرى ،ووظفه
ليوصل للقارئ أن حالة المجتمع الحالى في تردية كحالة المادة المائعة السائلة
التى ال تعرف ثباتاً .
..يجعل باومان من السيولة بهذا المفهوم تلك المرونة التي تنهزم في وجه
الصالبة في كل الميادين فيقول :
في مجتمع السيولة الذي يصوره باومان تبدو حالة السيولة واضحة في
العالقات االجتماعية ،وداخل التركيبة االجتماعية؛ فهو مجتمع تتغير فيه
الظروف التي يعيشها أعضاؤه بسرعة ال تسمح باستقرار األفعال في عادات،
وأعمال منتظمة ،وهكذا تتغذى سيولة الحياة ،وتستمد طاقتها ،وحيويتها منها.
25
اإلنسان «السائل»
26
فاألشياء الصلبة يمكن التعامل معها ما دامت تع ُد بأن تظل قابلة للذوبان ،وتمتثل
إليه .
27
اإلنسان «السائل»
بينما ذهب ريتشارد سبنيت أحد علماء االجتماع من نقاد الحداثة إلى عكس ما
ذهب إليه باومان بقوله « :أن الفوضي هنا ليس فعل هدم بل صيغ مقاومة تتحدى
المنطق السائد ،وتقوم بتوليد استراتيجيات باتجاه اإلصالح ،والتجديد.».
28
البحث العلمي أمر غير مجد ألنه أسلوب قائم على المحاضرات النظرية،
والتلقين ،والحفظ ،واالسترجاع ،واجترار المعلومات دون االهتمام بالعمل
الجماعي ،والتفكير اإلبداعي ،وتطبيق المعارف ،وهو أسلوب عقيم عجزت
معه «العلوم اإلنسانية» بصفة عامة في توصيف المشكالت ،وطرح الحلول،
ومواجهة الطغمة القادرة على تحويل االكتشافات إلى امتيازات بما يخدم
مصالحها ،ويحقق أهدافها ،وكان البد من حث المهتمين بعلم االجتماع على
ضرورة إيجاد سبل بحث جدبدة ،وكفيلة بامتالك مخيلة سوسيولوجية تساهم في
تقدبم الحل .
..وبدأ العقل البشري يفكر في نظرية جديدة تساهم دوماً في إيجاد الحل
لمشكالت اإلنسان خاصة الفكرية منها؛ فقد شرع اإلنسان في إعادة التفكير من
جديد في الدعوة إلى زيادة التخصصات ،واإلكثار منها ،وإلى الدعوة إلى تنسيق
الجهود ،و«التجسير» والمواكبة فيما بينها ،وهذا ما سمح بظهور ما يسمى بـ
«الدراسات العابرة للحقول المعرفية »Cross discplinaryأو «الحقول
المعرفية البينية »Inter discplinaryالتي تجمع بين العديد من الميادين
والمجاالت ،وتوصل اإلنسان إلى ضرورة مشاركة الجميع في مواجهة عقباته
التي تواجهه ،وتمنع عنه مواصلة المسيرة نحو التقدم ،وهكذا نتج عن هذا الجو
نظريات جديدة في ظل التنسيق ،والتعاون فيما بين التخصصات ،وعلى رأسها
نظرية «التقاطع المعرفي . »Interdiscplinarity Theory
29
اإلنسان «السائل»
« ..التقاطع المعرفي» ال يظهر إال عندما تبدأ وجه االنظر المتعلقة
بالتخصصات ،واالندماج؛ فالكل في الحقيقة ليس مجرد إضافات بسيطة
لألجزاء ،ولكن السعي في تركيب أعلى فهو نتيجة لعمل إعادة بناء الواقع،
كما يعرف أيضا على أنه عملية صياغة للمعرفة التي تؤدي من خالل المناهج
المتتالية إلى إعادة تنظيم جزئي للميادين ،والمجاالت النظرية و«التجسير»
و«المواكبة» بين فاعليتها.
30
لها عالقة بإعادة وسائل التحليل ،والتفسير من التخصصات األخرى ،وليس
مجرد عملية مجاورة للمناهج بعضها بعضاً ،ولكن عملية ارتباط كاملة ،وتامة
بين العديد من التخصصات .
..ومن هنا يتضح حجم االهتمام بـ «التقاطع المعرفي» ،وكيفية النظر إليه؛
فالقضية ليست مجرد إضافات بسيطة بقدر ما هي متعلقة ،ومرتبطة بإيجاد
طرق جديدة لفهم الواقع ،وكيفية التعامل معه؛ فـ «التقاطع المعرفي» لم يأت
ليسد فراغات بسيطة في حياة اإلنسان بل هو ضرورة ألح عليها الواقع اإلنساني؛
نظراً لتعقد حياته ،وتشابكها؛ وقد كان هذا ما يعني «التقاطع المعرفي» ،والبحث
في ضبط مفهومه .
***
31
اإلنسان «السائل»
الثورات العلمية) بما يعني تغير في أفق التفكير دون أن يكون بالضرورة تغير
في العناصر المكونة للتفكير ،والتي فرضت األسس اإلبستمولوجية للعلم نفسها
في ضوء جديد حددته ،وألقت الضوء على أزمة العلوم الطبيعية بما انطوت
عليه من مشكالت معرفية ومنطقية .. ،عرض توماس كوهن :
«أن العلم شهد تطورات دفعت مفكرين عديدين إلى أن ينحوا نحواً غير
وضعي في تناول فلسفة العلم خاصة أن الفلسفة الوضعية نزعت إلى إغفال
تاريخ العلم باعتباره غير ذي صلة بفلسفة العلم بناء على االعتقاد بأنه :
..واعتاد فالسفة التجريبية المنطقية النظر إلى تاريخ العلم باعتباره أساساً
ً
مسجال لعمليات إزاحة تدريجية للخرافة ،والهوى ،وغير ذلك من معوقات
التقدم العلمي ،وتتمثل عمليات اإلزاحة في إضافات متزايدة باطراد ،وتوليف
للمعارف العلمية الجديدة في إطار المبحث العلمي الخاص بها .. ،وهذا هو
32
التفسير المألوف لتاريخ العلم ،والذي أطلق عليه توماس كوهن وغيره «مفهوم
التطور عن طريق التراكم » .
مؤتمرات دولية معنية بتاريخ العلم ،وصدرت دراسات عديدة تركزت على
33
اإلنسان «السائل»
كما أن العالقة الفكرية بين توماس كوهين ،والمسيري تبدو جلية في مفهوم
كليهما للمجاز ،فقد كان لتوماس كوهن الفضل في إدراك العالقة المعقدة بين
الحقيقة ،والواقع أو بين العلم ،وإدراك العالم ،والتي كشف عن تضمينات مهمة
34
عندما ظهر كتابه بعنوان «:بنية الثورات العلمية»*( ،)15(،)14وهي تضمينات
لها أهمية بالغة في التحليل المجازي عند المسيري ،وباومان .
يرجع الفضل إلى توماس كوهين في انتشار مصطلحين هامين هما «األنموذج
35
اإلنسان «السائل»
كان المسيري يعي أن استخدام األنموذج ينطوي على إبراز مصطلحات من
قبيل «النسق» ،و«البنية» ،وأن االنموذج صورة عقلية ،أو خريطة إداركية
يجردها عقل اإلنسان من عدد هائل من العالقات ،والتفصيالت ،والحقائق،
وتنطوي هذه العملية بالضرورة على اإلقرار بأن عقل اإلنسان ينخرط في عملية
جدية من اإلدراج ،واالنتقاء ،واالستبعاد من أجل صوغ النمط التصويري العام؛
ً
مقبوال لنص أو ظاهرة أو موقف ما ،ويلجأ المسيري في تعريفه ليكون تفسيراً
األنموذج إلى استخدام كلمة «إدراكي »Cognitiveمرادفا لكلمة «معرفي
،»Epistemologicalفيعرف األنموذج بأنه:
36
التي يقوم بها طرف أو جهة ما في إطار ما يسمى بـ «اإلشباع البديل» ،وهو
إشباع متوهم ،وليس إشباع حقيقي يتم عمله بطريق الخداع في إطار «ضبط
المجتمعات».
تسعى بعض األنظمة القمعية إلى تنميط الخرائط اإلدراكية ،وإعادة تشكيل
األنظمة المعرفية للشعب بغية الوصول إلى مجتمع متجانس في تصوراته يتكون
من نماذج نمطية متشابهة تعطي االستجابات نفسها تجاه متطلبات النظام ،من
األساليب الرائجة في تعديل الخريطة اإلدراكية ،والتالعب بالوعي صناعة
المشاهد الرمزية االختزالية التي تقدم للجمهور معرفة زائفة ،وشعوراً وهميا ً،
وتصور بعيد عن الواقع ،وهذا المشهد االختزالي يتسم بقدرته على البقاء،
وااللتصاق بذاكرة المشاهد كما أنه سهل االستدعاء كلما جاء ذكر للقضية
المرتبطة بها ،ولو افترضنا أننا نريد أن نجري اختباراً حول أكثر المشاهد
ارتباطاً بقضايا ساخنة ،سنجد أن تلك المشاهد الرمزية هى األقرب لالستحضار
الذهني؛ إلنها أشبة ببطاقة تعريف ترتبط مع القضية المتعلقة بها في أرشيفات
الذاكرة .
37
اإلنسان «السائل»
***
ً
طويال الصورة المجازية لـ «اإلنسان السائل» التى طرحها باومان، تأملت
وغيره من العلماء بصيغ مختلفة كل بلغة عصره ،ومفاهيم زمانه ،ولكني
ارتأيت من منطلق األمانة الفكرية ،والعلمية أننا قد تجاوزناها إلى ما هو أدنى،
وأسوأ ،وأبشع من حيث «الفقر اإلنساني» ،ومن هنا جاء توصيفي لحالة ما
أسميته بـ«:الكائن السائل»*( )16الذي يشبه الزومبي المعاد إلى الحياة بأسلوب
الخداع ،او الفيروس العالق بجدار الخلية البشرية في منطقة وسط بين الموت
والحياة يحقنها بالشر ،واألذى ،والخلل ،وبرامج الموت ،بمعنى أنه يمارس
«العنف األناني» بشكل غرائزي في ظل انعدام الردع القانوني ،وضعف أليات
الضبط االجتماعي!!
***
38
من وضع التخلف ،والتبعية ،واالنطباعية ،والوصولية ،وخدمة األيدلوجيات
اإلستعمارية ،واألفكار التي تطرحها المؤسسات العالمية ،والشركات المتعددة
الجنسيات ،وينساق ورائها علماء االجتماع العرب في بحوثهم ،وقد اتسمت
تلك االبحاث في بعض جوانبها بالسطحية؛ مما جعل أكثر التوصيفات النقدية
واقعية ،وصدقية بصدده ما ذهب إليه أحد كبار الباحثين من وصف له بحالة «الال
وظيفية» ،والتي تتمثل في فقدان منهجية العلوم االجتماعية ألدوارها العلمية،
والعملية ،والنابع من فقدان اإلطار السائد لدوره ،ووظيفته ،وقدرته العلمية،
األمر الذي يفرض ضرورة التحول إلى إطار آخر ،وحدا بالكثيرين للتساؤل:
هل هو علم اجتماع للناطقين بالعربية؟!! أم علم يدرس مشكالت المجتمعات
العربية لحساب الرأسملية الغربية؟!! .. ،أم علم ينقل اإلرث السوسيولوجي
الغربي إلى اللغة العربية إسهاماً في خلق «مجتمعات سائلة» ،وإشاعة نموذج
«اإلنسان السائل» ،و«الثقافة السائلة»؟!!
39
اإلنسان «السائل»
اجتماعية مختلة ،و«معانى فارغة» ،وتعابير خالية من الداللة تدعم مناخ
التدهور الثقافي الغير قادر على إنتاج ثقافة تدعم الهوية ،وتمثل درعاً واقياً في
مواجهة التغيير القادم من الخارج ،ويتمثل في المجتمع «المحكوم بالوسائط
،»Mediated Societyو«الفردية الشبكية» اللذان يمثالن حالتان من
العالقات ،والمشاريع ذاتية التوجيه التي أصبحت أدوات تحولية لألشكال
الجديدة للمجتمع الكوني!!
***
..أزمة خلَّفها عمران ال يتكلم بلسان أهله ،وحالة االرتباك اللساني ،واالنحطاط
الثقافي ،وانهيار «األسرة الممتدة» بما تمثله من العزوة ،والغلبة ،والعصبية
واللُحمة ،والقدرة على إنتاج ثقافة قادرة على المواجهة ،وتحمل قيم ضاربة
في عمق التاريخ مثل الشرف ،والكرامة ،واإلرادة ،والنخوة ،والنجدة ،وحلت
محلها «األسرة النواة» التي تمر األن بطور التقلص ،واالنكماش لتحل محلها
«األسرة التوليفة» أو «األسرة المؤتلفة» أو «األسرة النواة بالمعاشرة» نتيجة
ارتفاع معدالت الطالق أو تكرار الزواج ،أو اإلنجاب خارج شرعية الزواج
نتيجة الترويج لـ «العالقات العابرة» أو «عالقات الجيب العلوي» أو «التواعد
عبر االنترنت »Cyber - Datingأو «الجنس عبر االنترنت Cyber
»sexباعتباره أمر متعلق بـ «سيميولوجيا الصورة المرئية» بوصفها إبهاراً
بصريا يداعب الغرائز من حيث الشكل ،والتقنية ،وهو ما يجعل منها عالمة
بصرية منتجة للداللة ،تقوم بالفعل ،وتحث على فعله بما يسهم في تفريغ الكبت
40
الغرائزي ،وصناعة «اإلنسان السائل» و تخليق نمط مزاجي يطلق زيجمونت
باومان«:الحب السائل»!! .
..أطلق باومان مصطلح السيولة بشكل كبير بما يعني الصهر ،والميوعة،
واإلذابة في كل مؤلفاته التي عرفت فيما بعد بـ «سلسلة السيولة» ليوصل
للقارئ حالة اإلنسان في ترديه كحالة المادة المائعة السائلة التي ال تعرف
ثباتاً؛ ألن المعنى قد غاب ،وأن اإلنسان أصبح أسير الخوف الدائم ،وأن عليه
التدريب المستمر على االختفاء ،والذوبان ،واالنسحاب ،والرحيل !! والجري
وراء الفردية التي خلفتها الحياة السائلة بحيث تراجعت الجماعة كما ان نظامها
المناعي الذي كان يحميها من المشكالت صار مشكلة في حد ذاته؛ فحالة
األشياء صارت حالة من صنعنا؛ فأضحى المجتمع «جماعة متخيلة Virtual
»groupبمعنى أن المجتمع أصبح ظرف اجتماعي استغنى عن الخيال في
خدمة الفحص الذاتي ،وأصبح المجتمع نافضاً يدية من العالقات بين األشخاص،
وهو ما يسمى بـ «عالم التفاعل المباشر بين األفراد» الذي تبرز فيه الفردية،
وتتشكل في التعامالت اليومية ،وتعزز االختيار الحر الوهمي فقط!!؛ فالجري
وراء سراب الفردية يستحوذ على الناس بحيث ال يجدون وقت للراحة واالسترخاء.
ياسر بكر
األسكندرية ـ ا يناير 2022
41
اإلنسان «السائل»
42
الفصل األول :
ـــــــــــــــــــــــ
األنمـوذج اإلرشـــادي
«البرادايم »Paradigm
43
اإلنسان «السائل»
44
..لم تقدم «المركزية األوربية» رؤية للعالم فقط بل قدمت مشروعاً سياسياً
استعمارياً جناحيه :الخريطة ،والبارود من أجل تعميم النموذج األوربي
الفكري ،واالقتصادي ،والسياسي في إطار من تعميم نموذجها التفسيري للعلوم
االجتماعية.
..بما جعل النتائج الواقعية لهذه المركزية األوربية تحمل بعداً واحداً هو :أنه
ليس هناك سوى حضارة واحدة هي المتغلبة والسائدة ،وأنها تقوم بملء الفراغ
الناتج عن غياب أو تدهور الحضارات األخرى ،والتي يراها الغرب تتناوب،
وتتعاقب ،وال تتحاور ،وقد أدت هذه المركزية األوربية إلى إضعاف مساهمة
الحضارات األخرى ،لتكون في أحسن األحوال هامشاً على متن المساهمة
األوربية ،والذي كان يشار إليه تحت مُسمى « :تأسيس مدارس عربية في
العلوم االجتماعية .».
45
اإلنسان «السائل»
حقيقة تاريخية عرفها تاريخ البشرية؛ وإن كانت المركزية األوربية نتاج
الحضارة الغربية التي ما زالت سائدة في النواحي المعرفية والمنهجية ،ولكن
على المستوى النظري يجب اإلقرار بأن منطق التعدد الحضاري يستلزم القبول
بمنطق تعدد األطر المعرفية ،والمنهجية في العلوم االجتماعية؛ حيث لكل
حضارة تصوراتها ،ومناهجها ،وعلومها االجتماعية .
..إن النظرة المنهجية ألية حضارة تبدأ من اكتشاف رؤيتها للعالم ،وللحياة
وللعلم ،وبشكل عام رؤيتها الشاملة حيث ال ينفصل «المادي» فيها عن الجانب
«الثقافي» كما ال ينفصل مضمونها المعرفي عن طريقتها المنهجية ،وأساليبها
البحثية في علومها االجتماعية واإلنسانية ،ومن ثم يترتب على قبول التعددية
الحضارية :
ً
أوال :عدم قبول احتكار نموذج معرفي معين لتحديد معيار «العلمية»،
ووصف النماذج األخرى أنها «ضد ـ علمية» ،وإلقاء نتائج دراساتها في دائرة
الخرافة ،والميتافيزيقا .
ثانياً :عدم قبول زعم نموذج معين لـ «العالمية» ،والقول بمقدرته التفسيرية
لكل الظواهر االجتماعية ،والسياسية ،وأنه النموذج القياسي اإلرشادي «األوحد»
الذي يجب أن تتبعه المعرفة لكي تكون معرفة علمية .
46
..ومنذ صدور كتاب توماس كوهين بعنوان « :بنية الثورات العلمية» الذي
جاء إضافة في عوالم البحث العلمي؛ يشير توماس كوهن إلى أن« :وظيفة
النموذج القياسي اإلرشادي اختيار المشاكل التي يمكن افتراض وجود حل
لها طالما ظل النموذج اإلرشادي مسلماً به ،وطالما قبل المجتمع ،والجماعة
العلمية بها ،واعتبرها مشكالت مقبولة ،أما المشكالت المعيارية فإنه يكون
نبذها باعتبارها ميتافيزيقية ،وال تستحق إضاعة الوقت معها . ».
..ركز كوهين في كتابه على الطبيعة الجمعية للنشاطات العلمية التي اسماها بـ
«المتحد العلمي» أو «المتحد االجتماعي» مؤكداً أن العالم الفرد ال يمكن اعتباره
ذاتاً كافية للنشاط العلمي ،وانتهى كوهن إلى نتائج بعيدة المدى ابستمولوجية،
ومنهجية ،وكان كوهن ال يرى أن هناك تنقالت منطقية بين النماذج اإلرشادية
المنفصلة إذ يشبهها بعوالم مختلفة يعيش فيها الباحثين .
..وأن النماذج اإلرشادية غير قياسية إذا ثمة انقطاع أو قطيعة بين المفاهيم
النظرية اآلساسية المختلفة في العلم ،ومن ثم فإن حركة العلم أو لنقل النظريات
العلمية ،أو النماذج اإلرشادية الجديدة ليست نتيجة منطقية ،وال تجريبية للنظريات
السابقة عليها؛ ..إنها ال قياسية وحقائقها نسبية ،وفي كل حقبة علمية أو مع كل
ثورة علمية تكون السيادة لنموذج إرشادي له الغلبة ،والنماذج اإلرشادية في
التاريخ الواحد مختلفة عن بعضها اختالفاً أساسياً ،وتحل بعضها مكان بعض
47
اإلنسان «السائل»
على مدى مسار التطور التاريخي للمعرفة العلمية .
كان أخطر ما وجهه المفكرون من نقد لنظرية كوهن يتعلق بتعريفه للمنهج
العلمي ،وومعايرة الخاصة بالتمييز بين العلم ،وغير العلم على نحو أوقعه في
تناقضات منطقية في تطبيقه لهذه المفاهيم؛ ذلك أن كون يساوي بين مناهج بحث
األقدمين والمحدثين حتى وإن تعارضت ،وعلى الرغم مما يراه انقطاعاً بين
النظريات في التاريخ .. ،ومنهج كوهن هذا يفضي كما يراه منتقدوه إلى نسبية
المعرفة؛ فـ «كل معرفة صحيحة قياساً إلى نسقها ،وبالنسبة إلى نموذجها
اإلرشادي دون معايير للحكم على الصواب أو الخطأ» ،ويفضي هذا المنهج
أيضا إلى التهوين من شأن التحليل العلمي كمعيار حاسم في البحث العلمي .
..وما دام الرأى عند كوهن أن نظريات أرسطو وبطليموس ونيوتن وأينشتين
نظريات علمية على قدم المساواة؛ فليس غريباً أن يظل الباب مفتوحاً ،ولو
نظريا حسب منهج كوهن الحتماالت عودة نظرية قديمة لتحل محل أخرى
48
جديدة طالما أننا ال نملك المعيار .
..بهذا الطرح كان لتوماس كوهن الفضل في إدراك العالقة المعقدة بين الحقيقة،
والواقع أو بين العلم ،وإدراك العالم ،والتي كشف عنها في تضمينات مهمة في
كتابه « :بنية الثورات العلمية» ،وهي تضمينات لها أهمية بالغة في التحليل
المجازي عند المفكر المصري د .عبد الوهاب المسيري وعالم السوسيولوجي
اإلنجليزي باومان اللذين يمكن فهم المواقف النقدية التي يتبناها كالهما (باومان
وعبد الوهاب المسيري) في إطار الثورة على هيمنة العلوم الوضعية منذ القرن
التاسع عشر ،وهو نفس الموقف الذي يتبناه الفيلسوف األلماني األمريكي إرك
فوجيلين الذي يؤكد أن ازدهار العلوم الطبيعية المنفصلة عن القيمة أدى إلى
اآلعتقاد أن هذه العلوم تمتلك «فضائل كاملة» ..كانت األنطولوجيا هي كبش
الفداء؛ وبناء عليه لم تعد األخالق أو السياسة من طبقة العلوم التي تحقق فيها
الطبيعة اإلنسانية ..يذهب فوجيلين أن كل تحليل من توجة أنطولوجي يبقى
تحليل غير علمي ألن علم السياسة يتجاوز صحة المقدمات ،واالفتراضات إلى
حقيقة الوجود نفسها .
49
اإلنسان «السائل»
50
يرى د .حامد عبد الماجد قويسي أستاذ العلوم السياسية بجامعة قطر :أن
الوعي بإشكالية المنهج يتحقق على ثالث مستويات:
51
اإلنسان «السائل»
«اطروحات السوائل»:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
52
السوائل» تمثلت في العديد من مؤلفاته التي حملت نفس االسم ،والمعروفة بـ
«سلسلة السيولة المدونة في كتب الفقة االستراتيجي» ،لكن باومان نفسه يرى
أن تلك األطروحات لم تبلغ في دقة بنائها حد النظرية !!
53
اإلنسان «السائل»
..وبعد اطالع باومان على التاريخ وجد أن الناس يعتقدون أموراً لكنها في
الحقيقة كذب وبهتان ،تصدى باومان لخدعة القرن العشرين «الهولوكست» ..
عاد باومان لألحداث التاريخية ،ودراستها دراسة تفصيلية؛ فلم يكترث بصحة
األرقام ،والضحايا ،ولم يهتم بإحصاء عدد المعسكرات ،ولم يجمع الخرائط التى
تحدد مواقع اإلبادة بل أجتهد في دحض األسطورة السائدة في الفكر المعاصر،
والتي تروج لها إسرائيل من منطلق أنها حادثة أقر بها هتلر ضد اليهود .
..ليصل بنا باومان إلى ما أسماه «معاناة إنتاج المعنى» ،ويكشف أن
«الهولوكست» من نتاج الحداثة الغربية ليس إال ،والدليل على ذلك أن هناك
54
يهود شاركوا في المحرقة ،وبالتالي فـ «الهولوكست» قضية سيادة «الحداثة»
آنذاك .
ليس كل تاريخ يبقى ثابتاً مثل ما تعودنا عليه ،وأن هناك مغالطات وضعت
ألغراض محددة يعلمها صاحبها ،وعليه فإن الجانب التاريخي عنده يُظهر أنه
رجع إلى التاريخ ،وأخذ منه غير أنه لم يتناوله باعتباره حدثاُ تاريخيا يتم سرده
بل مزج معه جانباً نقدياً؛ مما أضفى على حادثة «الهولوكست» ـ على سبيل
المثال ـ أبعاداً متنوعة لم تقتصر فقط على بعد واحد .
نقد باومان للتاريخ يشعرنا أننا أمام ابن خلدون آخر حيث دعا ابن خلدون
في مقدمته إلى النظر ،والتفكير في نقل األخبار ،والرواية ،وعدم الثقة بالناقلين،
والتعديل ،والتجريح ،واالطالع على األحوال ،والوقائع في العمران .
55
اإلنسان «السائل»
يعرضوها على أصولها ،وال قاسوها بأشباهها ،وال سبروها بمعيار الحكمة،
والوقوف على طبائع الكائنات ،وتحكيم النظر ،والبصيرة في األخبار؛ فضلوا
عن الحق ،وتاهوا في بيداء الوهم والغلط ،وال سيما في إحصاء األعداد من
األموال ،والعساكر إذا عرضت في الحكايات إذ هي مظنة الكذب ،ومطية الهذر،
وال بد من ردها إلى األصول ،وعرضها على القواعد .»..
كان تزييف التاريخ ،والترف نقطتي االلتقاء بين باومان ،وعالم االجتماع
العربي ابن خلدون حول «خراب العمران» ،و«انهيار المجتمعات» حسب
ظروف المجتمعات ،واختالف التسميات.
«األيقنة»:
ـــــــــــــــ
يصف المفكر المصري د .عبد الوهاب المسيري عمليات تزييف التاريخ بـ
«األيقنة» ،و«األيقنة» تعني إلغاء المسافة بين الدال والمدلول ،إلى أن يصبح
مدلوال ملتفاً حول نفسه ،وال يشير إلى شيء خارج ذاته ،وحالة «التأيقن»
ً الدال
الكاملة هي حالة االلتفاف حول الذات بحيث ال يشير الشيء المتأيقن أو األيقونه
إلى أي شيء خارجة؛ فهو مرجعية ذاته ،وال يشير إال إلى ذاته؛ فمركزه،
ومصدر وحدته ،وتماسكة تكمن داخله*( ،)2وهو ما يصدق بجالء على التاريخ
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )2د .عبد الوهاب المسيري ،الحلولية ،ووحدة الوجود ،الشبكة العربية لأليحاث والنشر ،ط ١ـ بيروت
٢٠١٨ـ ص 35
56
الصهيوني في تناوله لـ «المسالة اليهودية» .
«اإلنسان السائل»
في الفكر الخلدوني :
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشك أن هناك ارتباط بين ما أسماه باومان « :سيولة اإلنسان» ،وما أسماه
ابن خلدون بلغة عصره « :طروق الخلل» التي تصيب صالبة اإلنسان ،ولحمته
التي عبر عنها ابن خلدون بـ «الشوكة والعصبية» أي القوة ،والتضامن الجمعي
«النبالة» ،و«طرائق الخلل»هى تلك األساليب التي تنذر بالهالك ،واالنقراض
إلى الركون إلى الراحة والنعيم ،واألخذ بمذاهب الملوك في المباني ،والمالبس،
واالستكثارمن ذلك ،والتأنق فيه بمقدار ما حصل من الرياش ،وما يدعو إليه
من توابع ذلك ،وذهاب خشونة البداوة ،وضعف العصبية ،والبسالة ،والتنعم
57
اإلنسان «السائل»
..و يكون العدوان على األموال من أجل سداد نفقات الترف التي ال تستطيع
العوائد المعتاة للدولة تغطيتها ،ومن هنا تشتد الحاجة إلى أموال الناس ،وهنا
يلعب العامل النفسي دوراً مهماً في تحليل اين خلدون « :إذ ليس الترف سوى
الرغبة في االستمتاع بمقادير هائلة من اللذة كنمط ثابت للحياة.».
58
يحتاجها اإلنسان إلزالة المشقة ،والعنت من حياته ،وتحقيق اليسر ،والسعة فيها؛
ولذا ال يقود فقدانها إلى اختالل أو انعدام الحياة بل ألن تصير أكثر صعوبة،
وغلظة ،وأخيراً يرتبط التحسيني بتلك األمور الكمالية الزائدة التي تضفي متعة
وسرورا ،وال يؤدي فقدها بطبيعة الحال إلى اإلخالل بما هو ضروري أو
حاجي .
«الظلم مؤذن
بخراب العمران» :
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
يبين ابن خلدون من خالل تجسيده لفن التنظير السياسي الذي سبق إليه
الكثيرون من خالل الميدأ « :الظلم مؤذن بخراب العمران» ،ولحمه بأرائه في
فصل أخر بعنوان « :كيفية طروق الخلل إلى الدولة ؟!» من خالل طروق
الخلل إلى األفراد ،ويسوق لنا الحكمة التي نقلها عن المسعودي ،والمسماة بـ
«الحكمة الدائرية» لكون نقطة البداية فيها التي تمنحنا منطلقات علمية ،وحقيقية
هي نقطة النهاية التي تمنحا معلومة منطقية على غرار نموذج تحليل النظم
لعالم السياسة األمريكي ديفيد إيستون ،وينكون ذلك النموذج من :المدخالت،
والمخرجات ،وعملية التحويل ،والتغذية العكسية أو التغذية المرتدة.
59
اإلنسان «السائل»
ويقدم ابن خلدون صورة لطبيعة العالقة بين الدولة ،والعمران بقوله:
«الدولة صورة ،والعمران هو مادتها» ،ويلقي الضوء « :على فساد الدولة
بفساد مادة العمران بالضرورة» ..إذن المجتمع هو المادة ،والدولة ،ونظام
الحكم هو الصورة بما يعني حسب المنطق األرسطي ،وعلى هديه نجد ابن
خلدون يجعل العمران أي االجتماع البشري هو المادة ،والدولة أو نظام الحكم
هو الصورة ،وهذه األخيرة ال يمكن أن توجد في العالم األرضي من دون مادة
حاملة لها؛ فال شك أن فساد المادة سيفضى ال محالة إلى زوال الصورة ،وبداية
النهاية؛ فالهرم إذا نزل بالدولة ال يرتفع .
60
«إيماضة ألخمود»
أو «زبالة المشتعل» :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقول ابن خلدون « :ربما يحدث عند أخر الدولة قوة توهم أن الهرم قد
ارتفع عنها ،ويومض ذبالها إيماضة الخمود كما يقع في الذبال المشتعل فإنه
عند مقاربة انطفائه يومض إيماضة توهم أنها اشتعال ،وهي انطفاء. )3(*».
« سلوك الماللك
في تدبير الممالك» :
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
في الربع األخير من القرن العشرين كشف األستاذ الدكتور حامد ربيع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )3أبو زيد ولى الدين عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون ،العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب
والعجم والبربر ،ومن عاصرهم من ذوي السلطان األكبر ،اعتنى به أبو صهيب الكرمي ،بيت األفكار الدولية،
عمان ـ الرياض ،بدون تاريخ ـ ص 148
61
اإلنسان «السائل»
أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة النقاب عن وثيقة تعود إلى الربع األول
من القرن الثالث الهجري بعنوان «:سلوك المالك في تدبير الممالك» كتبها
شهاب الدين أحمد بن محمد بن أبي الربيع للخليفة المعتصم باهلل العباسي بناء
على طلبه ،والكاتب يقر ذلك صراحة في بداية مؤلفه بقوله «:أنه انما دون هذه
الدراسة بناء على طلب الخليفة «القوي العادل» الذي جمع بين شجاعة هارون
)4(*. الرشيد وحكمة المأمون
..قلبت تلك الوثيقة األمور رأساً على عقب في جميع المفاهيم المتداولة في
علم السياسة إذ أثبتت أن ميكافيللي ليس هو مؤسس علم السياسة كما هو مشاع،
وليس الفقة األوربي هو الذي عرف نظرية إعمال السيادة ،ولسنا في حاجة
ألن نبحث في الفقة األلماني لنجد هدماً لما قدمته لنا الثورة الفرنسية ،ونظرية
القانون الدستوري على أنه اإلعجاز الفكري والتنظيري .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )4شهاب الدين أحمد بن محمد بن أبي الربيع ،سلوك المالك في تدبير الممالك ،تحقيق وتعليق وترجمة:
د.حامد عبدهللا ربيع ،جزءان ـ مطابع دار الشعب بالقاهرة ـ القاهرة ١٩٨٣
62
الملوك في سداد السلوك» ،وغيرها من المخطوطات التى ال تقل عن مائة نص
كتبها حكماء ليسوا فالسفة ،ولكنهم مستشارون أو ندماء دعتهم السلطة أو شعروا
بواجبهم في أن يطرحوا على الحاكم كيف يتعامل مع أعوانه ،والمحكومين .
وفي مخطوط ابن أبي الربيع أيضا نجد أسس «علم العمران البشري» من
خالل الحديث عن االهتمام بالتقدم العمراني؛ يخصص ابن أبي الربيع قسماً
هاماُ يتحدث فيه عن مفهوم التدبر يجعل عنصره األول واألساسي ما أسماه بـ
«عمارة البلدان» بل ويميز بين عمارة المزارع ،وعمارة األمصار ثم يعقب
ذلك بالشروط التي يجب أن تتوافر عندما يسعى الملك إلنشاء مدينة أو ما
في حكمها؛ فمفهوم تخطيط المدن يفترض المجتمع المستقر المتسع األرجاء
حيث الثقة والطمأنينة تسيطران على عالقة المواطن بالدولة ،وكذلك اإليناع
الديموجرافي ،والتخصص المهني يكمل اإلطار النفسي لالتجاه نحو االستقرار
في المدن ،وهي جميعها عناصر واضحة في مؤلف ابن أبي الربيع .
..وأيضا يعلن أبن أبى الربيع في فلسفته أركان المملكة التي يلخصها
في أربعة أركان هى «:الملك والرعية والعدل والتدبير» ،وهي ذاتها التي
ذكرها أرسطو ،وابن خلدون ،وديفيد اريستون كل بلغة عصره ،وكلها تشير
إلى ما اسماه المسعودي « :دائرة الحكمة» لبقاء الدولة ،ويذكر ابن أبي الربيع
موصفات الظاهرة السلوكية .
63
اإلنسان «السائل»
يحاول ابن أبى الربيع أن يكشف عن فلسفته حول إطار التعامل البشري في
عالم اإلنسانية االجتماعية حيث نجد أن هذا المؤلف ما هو إل اتنظير للحقيقة
السلوكية كمحور إلطار الوجود البشري .
من أهم المفاهيم في فكر ابن أبي الربيع تنظير الحقيقة السلوكية كمحور
إلطار التعامل البشري في عالم اإلنسانيات ،والتي تعد العمود الفقري ..يقودنا
سرد ابن ابي الربيع إلى كشف خصائص السلوك كحقيقة انسانية ،ويذكر ابن
أبي الربيع موصفات الظاهرة السلوكية :
ً
أوال :السلوك اختيار ..مبدأ الحتمية ال تعرفه مفاهيم ابن أبي الربيع بل
هو يعلن بصراحة منذ صفحاته األولى أن الفرد قادر بإرادته ،ومن خالل
االستقراء ،والتأمل ،وأن االختيار هو محور التعامل السلوكي.
ثانياً :السلوك بهذا المعنى قدرة على االرتقاء ،وهو يصل بهذا الخصوص
إلى حد أن الفرد يولد ،وهو يتضمن عناصر سيئة ،وأن إرادته هي تسمح له
بتخطي تلك النقائص .
ثالثاً :وهذا يعني أن السلوك هو تعبير عن صالحية الفرد لتطويع ذاته ..إنه
إعالن عن مبدأ المسئولية ،وعن رفض فكرة مطلق لفكرة الجبر ،وعن تقبل
64
لمعنى ،وحدود مبدأ االلتزام السياسي .
***
العولمة :
ـــــــــــــــ
65
اإلنسان «السائل»
..ويعتبر کتاب جالل أمين بعنوان «العولمة»*( )5مثال جيد في هذا السياق؛
فالسؤال الحاکم للكتاب هو «ما الذي تتم عولمته بالضبط؟» هل هي األفكار؟
هل هي السلع ؟ هل هي وظائف الدولة القومية؟ هل هي األسواق؟ أم ماذا
بالضبط؟ ،ويرى جالل أمين أن الحديث المتواتر والرائج عن انتهاء الحدود
وسيادة األفكار العالمية المتعلقة بالديمقراطية ،وحقوق اإلنسان ،وغيرها من
المفاهيم البراقة ،هذا الحديث يخفي جوهر العولمة الذي يعني في األساس مزي ًدا
من تسلط الدول الكبرى من خالل الشرکات متعدية الجنسية على مقدرات الدول
األضعف في المنظومة االقتصادية العالمية ،أو کما يقول في کتابه «:عولمة
نمط معين من الحياة ،أداتها األساسية اآلن هي الشرکات العمالقة متعدية
الجنسية» ،ويظهر في الكتاب نقاش نقدي لمفهوم العقالنية ،وارتباطها بالقبول
غير المشروط لمنتجات ،وقيم ،ومؤسسات العولمة في عالمنا العربي ،فيرى
أمين أن التعامل مع العولمة على أنها ظاهرة ،وتوجه ال فكاك منه يقدم على
أنه خيار عقالني بينما هو في جوهر األمر خيار بائس ،ويائس ،ويعکس غياب
القدرة على المقاومة . .الوجه الحقيقي للعولمة کما يراها أمين ليست في العقالنية
بل في تزايد قدرة الشرکات الکبرى ،والدول الكبري على ممارسة القهر من
خالل التقدم التکنولوجي الذي يصل إلى نتيجة مؤداها أن التقدم التكنولوجي،
ومنتجه الرئيس (المجتمع التكنولوجي الجديد) هو المنتصر الحقيقي ،والمسيطر
الوحيد على مجتمعات العالم .
ـــــــــــــــــــــ
*( )5د .جالل أمين ،العولمة ،دار الشروق ،ط ،١القاهرة 2009
66
يشترك المهدي المنجرة في كتابه «:عولمة العولمة من أجل التنوع
الحضاري»*( )6مع منطق جالل أمين حول العولمة؛ فيرى أنها محاولة من الدول
الكبرى لممارسة السيطرة على الدول الصغرى من خالل التنسيق ،والتحالف مع
النخب الوطنية سواء من داخل رجال السياسة ،واالقتصاد ،أو حتى األکاديميا؛
فالعولمة تشير إلى «الال تنظيم( ..بمعنى) تنظيم نزع ملكية الشعوب بمبارکة
الزعامة المحلية التي ال يفوتها االغتناء بالمناسبة» ،ويرى أن هذه العملية في
حقيقة األمر من شأنها أن تنزع أي مضمون لتحول ديمقراطي حقيقي في دول
العالم الثالث؛ فيجب أن تظل األنظمة السياسية خاضعة ،وتمارس ديمقراطية
صورية.
جوهر العولمة عند المنجرة ليست فقط في سيادة قيم السوق ،وسياساته
کما يرى جالل أمين ،بل واألهم في التنميط الثقافي لصالح نموذج بذاته هو
النموذج األمريکي ،وهو األمر الذي انعكس على ممارسات األمم المتحدة التي
ً
جهازا يعبر عن مصالح ،وقيم ،وثقافة القوة فقدت صفتها األممية لصالح کونها
الكبرى ،ويرى المنجرة أن السبيل الوحيد للنجاة من العولمة هو في «إعادة
عولمة العولمة» بمعنى استعادة التعددية الثقافية ،والقيمية في داخل النظام
الدولي بما يسمح لكل مكوناته بالتعبير عن نفسها بشکل متوازن .
ـــــــــــــــــــــ
*( )6د .المهدي المنجرة ،عولمة العولمة من أجل التنوع الحضاري ،منشورات الزمن ،العدد ١٨ـ ط ٢ـ
الرباط ٢٠١١
67
اإلنسان «السائل»
يعرف جونار ميردال «الدولة الرخوة »Soft stateبـ «الدولة التي تصدر
القوانين ،وال تطبقها ،ليس فقط لما فيها من ثغرات ،ولكن ألن ال أحد يحترم
القانون ،الكبار ال يبالون به؛ ألن لديهم من المال ،والسلطة ما يحميهم منه،
والصغار يتلقون الرشاوي لغض البصر عنه ،أما الفقراء الذين ال مال لهم ،وال
رشاوي؛ فيتم ضبطهم بواسطة أساليب قديمة متجددة من القمع والتهم.».
رخاوة الدولة تشجع على الفساد ،وانتشار الفساد يزيدها رخاوة ،والفساد
68
ينتشر من السلطتين التنفيذية ،والسياسية إلى التشريعية ،حتى يصل إلى القضاء،
والجامعات ،صحيح أن الفساد ،والرشوة موجودان بدرجة أو أخرى في جميع
البالد ،ولكنهما في ظل الدولة الرخوة يصبحان «نمط حياة».
ويقدم ميردال وصفا للطبقة الحاكمة التي تتكون في هذه الدولة ،فهي تجمع
من أسباب القوة ما تستطيع بها فرض إرادتها على سائر فئات المجتمع ،وهي
وإن كانت تصدر قوانين ،وتشريعات تبدو وكأنها ديمقراطية في ظاهرها ،فإن
لهذه الطبقة من القوة ما يجعلها مطلقة التصرف في تطبيق ما في صالحها،
وتجاهل ما يضر بها ،وأفراد هذه الطبقة ال يشعرون بالوالء لوطنهم بقدر ما
يدينون بالوالء لعائالتهم أو أقاربهم ،أو عشائرهم ومحاسبيهم .
يبين جونار ميردال كيف استطاع النوع البشري المهيأ بنزعات التدمير تلك
أن يظل على قيد الحياة حتى األن ؟ تتميز الدولة الرخوة بالعديد من الخصائص،
..من بين هذه الخصائص :
ـ وجود ترسانة قانونية متقدمة بدون تطبيق :تتوفر الدولة الرخوة على
ترسانة قانونية متطورة ،غير أن هذه النصوص القانونية تبقى من دون تطبيق
بمعنى آخر تظل حبر على الورق ،وعليه يكون وجودها كعدمها ،إال في حالة
محددة ،حيث يمكن استعمالها لمعاقبة مناهضي الفساد أو المطالبين بحقوقهم أو
69
اإلنسان «السائل»
ـ وجود مؤسسات دستورية أكثر من الالزم بدون دور واضح :في الدولة
الرخوة يالحظ وجود تعدد ،وتنوع في المؤسسات الدستورية ،وغيرها إلى
درجة تتداخل ،وتتشابه معها صالحيات المؤسسات ،غير أن الهدف من هذه
المؤسسات يبقى بعيد عن خدمة المصلحة العامة ،بل وجودها في غالب األحيان
يكون إرضاء للنخب السياسية ،والبيروقراطيين؛ فمن األشخاص الذين يشكلونها
في غالب األحيان يتبين أنها مجرد مؤسسات لخلق مناصب لألعيان ،وستر
المكشوف أمام عيون المجتمعات الديمقراطية.
ـ وجود نخبة فاسدة تسعى لتحقيق مصالحها الشخصية أوال ،ويراد بها
مجموعة من األفراد يمتلكون مصادر ،وأدوات القوة السياسية في المجتمع،
وبالتالي يصيغون السياسات العامة على مقياسهم ولصالحهم .
ـ انقسام المجتمع إلى طبقات متعددة أو طبقتين :تؤدي سياسة الدولة الرخوة
70
إلى تقسيم المجتمع إلى طبقتين أو أكثر ،الشيء الذي ينتج عنه وجود فوارق
كبرى ،وواسعة بين أفراد المجتمع الواحد.
باإلضافة إلى استشراء الفساد بمختلف أنواعه ،وغلبة التسلط على الحوار،
وتأزم عالقة الدولة بالمجتمع ،وضعف التنمية أو غيابها.
ً
أوال :ضعف قدرة الدولة الشرعية في اتخاذ قرارات عامة.
71
اإلنسان «السائل»
ثالثاً :عدم القدرة على تلبية احتياجات المواطنين ،وتوفير الخدمات العامة
األساسية للشعب.
«اإلنسان السائل»
في مصـــــــــــر :
ـــــــــــــــــــــــــــــ
72
التاريخي .. ،وانفصل عن واقعه الحضاري ،وتم تغييب وعيه بوجوده على
خريطة الوجود اإلنسانى!!
..تم تسليعه وتشييئه ..أصبح مجرد شيء يتم صياغته ،وتصنيعه ،وقولبته
ً
متداوال وتعليبه ،وصارت حالة مصنعة وفقا ألليات الهندسة االجتماعية ليصبح
أن :
73
اإلنسان «السائل»
والسلع!!
تنامي ظــــاهـــرة
«الكائن السائل» :
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
74
والغش ،وصارت البلطجة من أهم سمات الشارع المصري؛ بما جعل التعامل
في الشارع محفوفاً بمخاطر كبيرة لصعوبة توقع رد الفعل من اآلخر من العنف،
والعدوان الذي يبلغ حد القتل أو السرقة باإلكراه؛ بعدما شهدت فترة االنهيار
الكبير إنهيار كل انماط الحياة التي كانت مستقرة ،والتي انهارت بسبب التغيير
المحوري الذي وقع ،وأدى إلى انهيار «ااألسرة النووية» ،وشهد المجتمع
المصري ما اسمته سوزان فالودي «ازمة الذكورة» عندما أخفق المجتمع في
توفير فرص العمل للرجال وأنقص أجورهم ،وطالبهم يالبقاء ساعات أطول في
أماكن العمل ،وأفقدهم اإلحساس باألمان الوظيفي واالجتماعي ،بما ساهم في
تأخر سن الزواج ،وجعل رابطة الزواج غير مستقرة نتيجة المجاملة التشريعية
للمرأة على حساب الجماعة؛ فارتفعت معدالت الطالق ،ولم تعد النساء يعتمدن
على الرجال ،وأصبحن يدعمن أنفسهن وأطفالهن من خالل فرص العمل التي
يحرم منها الرجال ،وشهد المجتمع المصري ظاهرة «األب الغائب»؛ فنشأ جيل
كامل بدون أباء ،ويعاني من الفشل التعليمي ،والعنف ،والجريمة ،ونشأت ظاهرة
«أطفال الشوارع» ،وتفشي البغاء .. ،أدت الضغوط التي فرضت على «األسرة
النواة» إلى تقلص دورها ،وطرحت على الساحة أشكال عديدة من «األسر
التوليفية أو المؤتلفه» التي ظهرت نتيجة تأخر سن الزواج ،وارتفاع معدالت
الطالق ،وانتشار الدعارة ،والزوج العرفي ،واإلنجاب خارج شرعية الزواج؛
مما حدا بإدارة األمن العام بوزارة الداخلية إلى حجب التقرير السنوي عن
الجرائم ،ومنعت المختصين ،والباحثين ،واإلعالميين من االطالع عليه!!.
75
اإلنسان «السائل»
***
76
التي لم تبدي مشاركة حقيقية ،مما اضطر ضباط االنقالب إلى االعتماد على
جهاز الدولة كمحرك لعملية التنمية ،وقد ظهرت مخاطر هذه التركيبة ألن
«الفجوة السياسية» لم تسد ،ولم يتم والدة مؤسسات سياسية حقيقية تربط
الدولة بالمجتمع ،مما أدى إلى ضرورة االعتماد على المؤسسة العسكرية،
والمنظمات األمنية ،والجماعات السرية لضمان بقاء النظام ،ودعم مكانته،
وكان من نتيجة ذلك تولي الضباط مما دعوا «أهل الثقة» مجموعة ضخمة من
الوظائف القيادية في مجال الحكم ،واالقتصاد ،والدبلوماسية ،واإلدارة المحلية،
والرياضة ،والثقافة وغيرها ،وهو الوضع الذي أطلق عليه فاتيكيوتس اسم
«دولة العسكرة . »Srratiocracy
..ولم يكن أمام الجناح الكاريزمي سوى االستعانة بفئات «الرعاع السياسي»
لما يجيدونه من حشد الجماهير ،وصناعة الالفتات ،وصك الشعارات ،وصياغة
اللوجهات ،وتنفيذ المهرجانات الشعبية التي يغطى بها النظام هزائمة ،وإظهار
العداءات للقوي الكبرى ،وتنفيذ «سياسة المهرجان» التي تعنى لعب دور الدول
77
اإلنسان «السائل»
«كان استمرار المهرجان ضرورياً للحصول على الدعم ،كما أصبح الحصول
على الدعم ضرورياً لتمويل المهرجان».
..فلما خرج ناصر عن قواعد اللعبة «ضربناه علقة فى 67ـ على حد
تعبير جونسون ـ .».
78
..وبدأت سياسة «تصفير العداد» أي إعادتها إلى نقطة الصفر ..تلك
االستراتيجية التي اتبعها عبد الناصر بمساعدة خبراء C.I.A؛ فاتخذ عدة
إجراءات للتطهير الشكلي ،وأطلق إعالمه ليعلن بدء مرحلة جديدة «على
نضيف» متخلياً عن أعباء ،وأخطاء المرحلة السابقة التي يتحملها «السيئون
السابقون» !!
وهذا ما أدى إلى حالة «ذهان جماعي» تمثل في لمسة «الشر الراديكالي»
التى راح كتاب النظام ،ومنظريه ،وكتاب أغانيه (تمت كتابة 420أغنية
في التغني بشخص عبد الناصر ،ووصف أمجاده المزعومة) يبثونها في
الجماهيرلنفخهم بالهواء ،والذي يكمن جوهرة في رفض متعمد لقيمة اإلنسان،
والكرامة ،والذاكرة ،واإلحساس ،وقوى الترابط ،والتراحم .
..كان النظام هزلياً ومن أبرز مالمح الهزل فيه ادعاؤه« :االشتراكية
79
اإلنسان «السائل»
بدون اشتراكيين» التي أفضت إلى انقالب النظام على ذاته من داخله ،وبنفس
شخوصه ،وأدواته ،واالتجاه إلى الغرب ،وسياسة االنفتاح ..وبدأ تفكيك الدولة،
وإعادة إنتاج «المواطن السائل» بشكل مختلف مع شدة التدخل الذي مارسه
صندوق النقد الدولي في السياسة االقتصادية المصرية منذ ١٩٨٧عندما
عجزت الدولة عن سداد أقساط ديونها الخارجية وفوائدها ،وزاد من تفكك
الدولة ابتداء من ،١٩٩١عندما وقعت مصر اتفاقية مع الصندوق عرفت باسم
اتفاقية «التثبيت ،والتكيف الهيكلي» ،وانطوت علي انسحاب الدولة من كثير
من المهام التي اعتاد الناس أن تمارسها الدولة منذ الستينيات من دعم الصحة،
والتعليم ،ووسائل المواصالت ،والسلع المعيشية ،وعلي اإلسراع ببيع شركات
القطاع العام ،وتسريح العمالة لتنضم إلى عمالة زائدة في مجال الخدمات
ليبدأ ظهور ،وتنامي ظاهرة«:الحيوان السائل» في شوارع القاهرة ،وتزامن
مع بداية الجيل الثاني من « :أطفال الشوارع» ليمارس التسول ،والبلطجة،
والنصب ،والدعارة ،واللصوصية ،وصار كل شيء خاضع للمساومة والشطارة
والفهلوة!!
***
80
فالجغرافيا ظل األرض على الزمان ..منذ منتصف القرن العشرين ،ومع تطور
الجغرافيا في طورها الثالث ،ومع ظهور حقبة ما بعد االستعمار ،انتبه بعض
الجغرافيين إلى الدور اإلنساني ،واالجتماعي لهذا العلم ،وراقبوا ضمائرهم في
أن هذا العلم في حقيقته هو علم تفتيش عن مواطن الخلل االجتماعي في توزيع
الثروة ،والخدمات ،والسكان ،والرفاه ،والتركز السكاني ،والفائض ،والعوز،
الجغرافيا في حقيقة تعريفها هي «علم التوزيعات المكانية»؛ ألن الهدف الرئيس
للكشف عن هذه التوزيعات هو المسارعة بتحقيق «إعادة التوزيع» من أجل
ضبط الخلل ،وإصالح المظالم التي تسبب فيها اإلنسان ،ويسمى هذا التيار
الفكري في الجغرافيا باسم «جغرافية العدالة ،والمساواة».
الجغرافيا الحقة تكشف عن توزيع الفقر ،أين يوجد السكان األقل دخال،
ما هي المناطق التي تعاني من سوء الصرف الصحي ،ضعف ،ورداءة مياه
الشرب ،التكدس السكني ،توطن المرض ،التلوث ،أين توجد مناطق العجز
في المستشفيات وفقا لعدد السكان ،مناطق الحاجة لصيدليات ،مناطق الحاجة
إلى نقاط تركز أمنية ردعا للمجرمين ،مناطق شح مياه الشرب ،العوز في
المدارس ،والتعليم األساسي..
81
اإلنسان «السائل»
«سيأتي اليوم الذي تطرد فيه الزراعة تماما من أرض مصر ،لتصبح كلها
مكان سكن ،دون مكان عمل ،أي دون عمل ،أي دون زراعة ،أي دون حياة
أي موت! لتتحول في النهاية من مكان سكن على مستوى الوطن إلى مقبرة
بحجم دولة؛ الن مصر بيئة جغرافية مرهفة ،وهشة ال تحتمل العبث ،وال تصلح
بطبيعتها للرأسمالية المسعورة الجامحة الجانحة؛ فالرأسمالية الهوجاء تعني
مقتل مصر الطبيعية.».
..ويضيف حمدان « :إن مصر تتحول ألول مرة من تعبير جغرافي الى
تعبير تاريخي بعد أن ضاقت أمامها الخيارات ..،ويصف بقاءها ،واستمرارها
بأنه نوع من القصور الذاتي ،وأنها أصبحت كيان منكمش في عالم متمدد ،وأنها
كيان متقلص في عالم متوسع» .
١ـ اصبحت أرض مصر معرضة للتأكل الجغرافي ألول مرة في التاريخ
كله ،وإلى األبد إذ تحولت من عالم متناه بالطبع ،والطبيعة ،والجغرافيا إلى
82
عالم متأكل بفعل اإلنسان؛ فالسد العالى أوقف نمو أرض مصر أفقيا ،ورأسياً،
وعرضها للتأكل البحري والصحراوي.
2ـ أصبحت أرض مصر «ارضاً مغلقة» بيولوجيا بال صرف ،وبالتالي
ال تتجدد مياهها ،وتربتها ..كما لم يعد تجدد أرضها ،وترابها ،ومن ثم أصبحت
بيئة تلوث نموذجية ،وبقدر ماهي بللورة مركزة طبيعياً؛ ستصبح بللورة تلوث
مكثفة حتى الموت البيولوجي .
4ـ في الوقت نفسه بلغ سكان مصر الذروة المتصورة ،ووصل الطفح
السكاني إلى مداه ،ولم يبقى سوى المجاعة ،فلم تعد األرض قادرة على ما
*()7 يتوسع إسكانا في المدن ،والقرى ،والطرق !!
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )7د .جمال حمدان« ،صفحات من أوراقه الخاصة» ..مذكرات في الجغرافيا السياسية ،ط ، ١دار الغد
العربي ـ القاهرة ١٩٩٦ـ ص 34: 33
83
اإلنسان «السائل»
يقول د .سعيد عاشور « :أن هناك في المراجع العربية ما يشير إلى أن ملوك
الحبشة هددوا أكثر من مرة بتحويل مجرى النيل في بالدهم ،وتجويع مصر،
وقد أرسل ألفونس ملك أرغونة إلى ملك الحبشة سنة ١٤٥٠يطلب منه العمل
على تحويل مجرى النيل ،ولما اشتد النزاع بين المماليك ،والبرتغاليين عقب
اكنشاف طريق رأس الرجاء الصالح أرسل البوكرك قائد األسطول البرتغالي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )8ياسر بكر ،حرب المعلومات ،مطابع حواس ـ القاهرة 2017ـ ص 78
84
إلى ملك البرتغال يطلب إمداده بعدد من العمال المدربين على قطع الصخور،
وحفر األرض للعمل فوراً على تحويل مجرى النيل)9(*.».
«لحل مشكلة المياه التي ستضطر إسرائيل لمواجهتها لبضع سنوات قادمة،
رأى اليشع أن الحل في إحضار مياه من نهر النيل إلى النقب الشمالي» ،وفي
إبريل 1974ومع أول زيارة لمندوب صندوق النقد الدولي لمصر لعرض
حزمة من إجراءات «االغتيال االقتصادي» لمصر ،كانت هناك زيارة أخرى
متزامنة مع الزيارة المصرية لدولة أثيوبيا لعرض حزمة من اإلجراءات
عصبها «بيع المياه» لدول حوض النيل ،وإسرائيل.
..وخالل االندفاع نحو الخصخصة كان كثير من الشركات الضخمة قد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )9د .سعيد عبد الفتاح عاشور ،أضواء على الحروب الصليبية ،المكتبة الثقافية ،١١٨الثقافة واإلرشاد
القومي ..الدار المصرية للتأليف والترجمة ـ القاهرة 1964ـ ص 63
85
اإلنسان «السائل»
وضعت نصب أعينها السيطرة على الشركات الصغيرة ،ووضعت خطتها بـ
«خصخصة المياه » في أفريقيا ،وأمريكا الالتينية ،والمنطقة العربية .
..وتم إحياء السيناريو الذي سبق أن تقدم به تيودور هرتزل في زيارة لمصر
في 25مارس عام ،1903تلك الزيارة التي عرض فيها على الخائن بطرس
نيروز غالي توصيل مياه النيل إلى سيناء؛ لتصبح وطناً بديال للفلسطينيين عن
أرضهم ..وجاء رفض الفكرة من قبل اللورد كرومر ألسباب تتعلق باستقرار
الوجود اإلنجليزي في مصر .
..وتم حقن المشروع بالحياة في عهد الرئيس أنور السادات ،كان السادات
بعد حدوث الثغرة ،ووقوع الجيش الثالث الميداني في الحصار ال يستطيع أن
يعصي أمراً لألمريكيين الذين قايضوا على فك حصار الجيش الثالث الميداني
بتحقيق المطالب اإلسرائيلية ،أو تجويع الجيش وإجباره على االستسالم،
واالنسحاب بدون سالح في سابقة هي األولى من نوعها في تاريخ الحروب.. ،
وتحققت أولى خطوات الحلم اإلسرائيلي في السيطرة على مياه النيل ،وتحويلها
لصالح إسرائيل؛ بإعالن الرئيس السادات في يوم الثالثاء 27نوفمبر 1979
أثناء إعطاء إشارة البدء في حفر ترعة السالم فيما بين فارسكور والتينة عند
الكيلو 25طريق اإلسماعيلية ـ بورسعيد ،وطلب من المختصين عمل الدراسات
لتوصيل مياه نهر النيل إلى مدينة القدس؛ لتكون مساهمة من الشعب المصري
86
لجعل مياه النيل في متناول المترددين على المسجد األقصى ،ومسجد الصخرة،
وكنيسة القيامة ،وحائط المبكى .
..كان إعالن السادات عن كارثة توصيل مياه النيل إلسرائيل ،وما سبقه
من إعالن السادات في يوم االثنين 23يوليو 1979عن إنشاء مجمع لألديان
87
اإلنسان «السائل»
فوق جبل موسى ،يضم خمسة أبراج ،ثالثة منها يعلوها الهالل والصليب،
والرابع تعلوه نجمة داود ،أما الخامس فيضم الهالل والصليب ونجمة داود معاً،
وما اتبعه من أوامر لطبع الكتب المدرسية المشتركة بين اإلسالم والنصرانية؛
مما يكشف عن ماسونيته ،فالماسونية دعوه مشبوهة للتآخي اإلنساني ،وتنحية
األديان تحت شعار زائف ينادي بـ «أبوة هللا ،وأخوة البشر» ،وقد أشارت دائرة
المعارف الماسونية إلى أن المحفل الماسوني السوري في اجتماعه بتاريخ 21
فبراير 1958قد اعتمد أنور السادات أستاذا أعظم شرفيا في المحفل الماسوني
األكبر.
وفي الوقت الذي أعلن فيه السادات توصيل مياه النيل إلى إسرائيل؛ لتكون
ماء زمزم الجديدة لجميع األديان ـ على حد قوله ـ ..أمعن في حرمان أهلنا في
سيناء من قطرة ماء تسقي عطشهم ،وتروي أرضهم؛ فقد قام المهندس حسب
هللا الكفراوي وزير التعمير آنذاك بشق ترعة السالم فى أرض سهل الطينة تلك
األرض المتجددة الملوحة!!
88
حالة السخط الشعبي على مشاريع السادات ،وسياسته التي انتهت باغتياله،
وأدت إلى تعثر إقامة تلك المشاريع ،ولم يكن أمام الصهاينة سوى العبث بنيل
مصر عبر إغراءات تقدم لدول المنبع ،فقد شاركت إسرائيل في إقامة 25
سداً من السدود التي نفذتها إثيوبيا على أراضيها خالل الفترة من أول نوفمبر
1989م ،وحتى منتصف فبراير ،1990والتي يبلغ عددها 37سداً على النيل
األزرق وحده الذي يأتي منه خمسة أسباع مياه النيل.
وقد سعت إسرائيل بكل ما أوتيت من وسائل للسيطرة على منابع النيل؛
وكانت تنتظر قيام دولة جنوب السودان؛ لتباشر شراء مياه النيل منها؛ لتصل
إسرائيل عن طريق مصر بعد دفع رسوم المرور المقررة لذلك ( 4,5سنتات ـ
58قرشاً ـ عن كل متر مكعب) ،وقد لعب البنك الدولي دورً ا مشبوهاً في تنفيذ
هذا المخطط؛ حيث سعى إلى تسهيل المخطط لتوصيل المياه إلى إسرائيل،
وبصورة قانونية ،ولما حالت مصر دون تحقيق هذا األمر لجأت إسرائيل إلى
ورقة ضغط أخرى هي سد النهضة اإلثيوبي لخنق مصر.
..واليوم إسرائيل تسعى إللغاء اتفاقيات المياه الحالية عن طريق دعم دول
المنبع لتوقيع اتفاقيات جديدة مشتركة بينهم تتجاهل دول المصب ،وتعيد تقسيم
حصص المياه بتعديل اتفاقية اإلطار التعاوني لصالح دول المنبع ،وقد نجحت
إسرائيل حتى اآلن ـ جزئياً ـ في مساعيها حين قامت إثيوبيا ،وتنزانيا ،وأوغندا
89
اإلنسان «السائل»
ورواندا في مايو 2010بالتوقيع على اتفاقية في عنتيبي ،ولحقت بهم كينيا ثم
بوروندي في 2011بعد انفصال دولة جنوب السودان ،وفي أول إبريل 2011
بدأت أثيوبيا في إنشاء «سد النهضة» .
خطورة المشروع معناه نقل مياه النيل إلى النقب الشمالي الغربي؛ لتتصل
هذه القنوات الجديدة بالقنوات القديمة المنبثقة من نهر األردن ،وتتصل مياة
النيل بمياه نهر األردن ،وتمتد شبكة األنهار إلى الجنوب لتعمير النقب بشرياً،
وزراعيا ً ،وصناعيا ً ،وذريا!!
90
الدولية) ،و(االستخدام األمثل ،والتوزيع المنصف ،والمعقول) ً
بدال من (توزيع
الحصص) ،ومصطلح (المياه المتصرفة) ً
بدال عن (المياه المتدفقة))10(*.
***
..ليتحول «اإلنسان المصري» بدون النيل ،وفي ظل حالة «االنهيار
الحضاري» إلى «كائن سائل» بدون هوية ،أو ثقافة ،وليس له طعام أو مأوى
إال في (مزابل) النفايات!!
91
اإلنسان «السائل»
يعاني حالة من الجدب التي تجعله غير قادر على التفكير ،واإلبداع ،واالبتكار،
والتجديد في شتى مناحي الحياة ،وتقديم المبادرات الحضارية ،واالرتياد
المستمر للمجاهل للتحرر من من حالة الركود الحضاري .. ،وال تصبح للحياة
العقلية قيمة تتعدى اإلطناب ،والتفصيل ،والرطانة ،والطنطنة على هامش ما
يملكة من معارف قديمة ،وإجابات معلبة ،ونماذج ،وقوالب جاهزة.
وأصبح طرح السؤال واجباً :عما إذا كانت العلوم المسماة إنسانية ،هي
ً
فعال إنسانية؟!
..وهو ما أصبح محل شك !!؛ لوجود مجموعة عوامل تؤثر سلباً في إنسانية
العلوم اإلنسانية ..،والحقيقة أنه يمكن الوثوق بالنظرية في العلوم الطبيعية،
والتطبيقية؛ ألن نتائجها بادية للعيان ،وقابلة لالختبار أما النظرية في العلوم
االجتماعية ،واإلنسانية فال يمكن الوثوق بها ،ويذهب البعض إلى أنه يمكن
االنطالق من دون نظرية في بعض المجاالت ،ويستدلون على ذلك بأن علماء
الحضارة اإلسالمية لم ينطلقوا من نظريات بعينها ،رغم أن مطالعة أي كتاب
ً
ونسقا نظريًا محكمًا سواء في الصياغة أو في لهم يشي بأن وراءه منطقا،
األدوات المستخدمة أو في نظام االستدالل أو في التقسيم المنهجي ،وإلحاق
الفرع باألصل ،والمثيل بمثيله ،والنظير بنظيره ،األمر الذي يبرهن على وجود
إطار نظري كامن إذ ال يمكن تصور عمل معرفي من دونه ،وإذا كانت النماذج
النظرية أو النظرية االجتماعية حاضرة في أي عمل بحثي.
92
..عانت العلوم االجتماعية قي الفكر األوربي من سيطرة نظريات زائفة،
ومناهج العلوم الطبيعية الزائفة ،وليس أدل على ذلك من دعوتها إلى «الحداثة»
من خالل خزعبالت داروين التي تم حقنها بالحياة على يد ريتشارد دوكنز
والتي ال األعمى»*()11 فيما أسماه بـ «االدارونية الجديدة ..صانع الساعات
تزيد عن كونها مساجالت نظرية تستهدف السفسطة ،وملء الفراغ ،والتسويغ
لال أخالقيات إلقاء البشر في سالل المهمالت ،ومزابل النفايات ،فـ «الحداثة»
تعاملت مع اإلله بجهالة وسوء أدب مع هللا «صانع الساعات األعظم سبحانه
وتعالى» ،ومع العالم بوصفه الساعة التي تعمل من دون الحاجة إلى تدخل أى
قوة خارجية أو التي حولت العالم إلى غابة دارونية ،والبشر إلى نباتات عضوية
أو حيوانات مفترسة !! .
..يؤكد دوكنز بال دليل أن االنتخاب الطبيعي الذي يتحكم في اتجاه التطور
هو ال عشوائي ،وإن كان في نفس الوقت ال يتجه لهدف في المستقبل ،وهو إذ
يؤدي إلى تصميمات مركبة؛ فهو بمثابة صانع ساعات معقدة ،ولكنه صانع
ساعات أعمى بال رؤية وبال غرض .
لم يستطع دوكنز أن يفسر كيف بدأ االنتخاب الطبيعي في عالمنا ،ولم يشير
استغالال سياسياً لتبرير الحروب على أنها
ً إلى استغالل تلك األراء المزيفة
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )11ريتشارد دوكنز ..الدارونية الجديدة ..صانع الساعات األعمى ،ترجمة مصطفى ابراهيم فهمي ،ط
،2دار العين للنشر ـ القاهرة 2002
93
اإلنسان «السائل»
وسئلت
«لنفترض أنني أثناء عبور مرج حطت قدمي على قطعة حجرُ ،
كيف وصل الحجر إلى هناك ،لعلى أجيب بأني ال أعلم؛ فربما يقبع هناك منذ
األبد ،ولكن لنفرض أني وجدت ساعة على األرض ،وأنه ينبغي البحث عن
كيف حدث أن وجدت الساعة في ذلك المكان؛ فلن أجيب تلك اإلجابة التي سبق
أن أدليت بها بشأن الحجر ،وهذا هو الفرق بين األشياء الفيزيائية كالحجارة،
واألشياء المصممة المصنوعة مثل الساعات إذ ينبغي أن يكون للساعة صانع
صمم تركيبها ،وأدرك استخدامها؛ فصانع الساعات له تبصر بتصميم تروسه
وزنبركاته ،ويخلط ما بينها من ترابطات ،وقد وضع نصب عينيه هدف مستقبلي
أما ما يصنع الساعات في الطبيعة هو «االنتخاب الطبيعي» الذي اكتشفه داروين
في تلك العملية األتوماتيكية العمياء غير الواعية التي بال عقل ،وال تخطط
للمستقبل ،والتى يقال عنها أنها تلعب دور صانع الساعات في الطبيعة ،فهو
94
صانع ساعات «أعمى» ..
***
..الدارونية منظومة تستند إلى خرافة همجية ال تميز بين اإلنسان ،واألشياء
بمعنى أن القوة هي المعول عليه األساسي لإلستراتيجية األمريكية أي أن عقيدته
أو ديانتها هى «القوة» بحيث تصبح الذات األمريكية التي حملت السالح هي
إله الكون الذي يحدد كل شيء .. ،والداروينية هي أيضا المرجعية النهائية
للنشاط االقتصادي الرأسمالي؛ فاإلستهالك في مجتمع المستهلكين ليس إشباع
الحاجات ،والرغبات ،واألمنيات بل تسليع المستهلك أو إعادة تسليعه ،إنه رفع
حال المستهلكين إلى حال السلع القابلة للبيع ،وهو ما يمكن المجتمع من سهولة
التخلص منهم على شكل نفايات؛ فإن الصناعة األكثر رواجاً في «المجتمع
السائل» هي صناعة «التخلص من النفايات» ،بل سرعة ومهارة التخلص
من النفايات ..إذ أن بقاء ورفاهية أفراد المجتمع يقاسان بمدى سرعتهما في
95
اإلنسان «السائل»
تعد «ثقافة البستنة» ،و«إنتاج نفايات البشر» هما إعادة صياغة لـ
«الدارونية»؛ فـ «ثقافة البستنة» يتم الترويج لها باعتبارها خطة لحياة مثالية،
وتنظيم مثالي لألوضاع االنسانية؛ لكونها ثقافة تُستمد من االرتياب في الطبيعة
العفوية لتصبح بذلك ثقافة اإلبادة ،والتخلص من البشر؛ «ثقافة البستنة» ابتدعها
األمريكان لشرعنة اإلبادة؛ لتصبح تلك الثقافة للتخلص من البشر ثقافة إعتيادية
بزعم تطهير المجتمعات من اإلرهاب ،ونشر الديمقراطية ،وغيرها من الحجج
التي تبيح رمي البشر في مزابل النفايات البشرية التي أعدت بعناية في بعض
أماكن الكرة األرضية !!
96
« ..البستنة» مشتقة من لفظ «البستان» ،والقائم عليه هو «البستاني
األمريكي» الذي يحدد ماهية الحشائش الضارة ،ويقرر إزالتها ألن التخلص
منها عمل بناء ال هدام ..يقوم به البستاني بعمله بشكل روتيني يومي ،وبهذه
الطريقة تتم عملية إبادة البشر الضارين غير النافعين!!
..والحقيقة أن هناك مشكلة أساسية تواجه المجتمع المنتظم حول قيم «نفعية»،
وهي التخلص من البشر «غير المفيدين» أو السمات «عديمة الجدوى» عند
اإلنسان ،والسيطرة عليها؛ فمثل هؤالء البشر قد يفصلوا ،ويعزلوا أيكوجياَ في
جيتوهات ،أو مناطق منعزلة مكانياً حيث ال تثير رؤيتهم ألم المفيدين .
97
اإلنسان «السائل»
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ( )12شوقي جالل ،التراث والتاريخ ،كتب عربية ،القاهرة 2006ـ ص97
98
أنها حالة من االضطراب ،والقلق لدى األفراد نـاجمة عن إنهيار المعايير،
والقيم اإلجتمـاعية ،أو االفتقـار إلى الهدف ،والمثل العليا.
دخل المصطلح إلى علم االجتماع على يد عالم االجتماع المجري كارل
مانهيام ( ،)1947-1893وبني عليه عالم االجتماع إميل دوركـايم عام
،1897في كتابه «االنتحار»*( ،)13وتتجلى حالة األنوميا عند دوركـايم في
ظل حالة التفكك التنظيمي لمؤسسات المجتمع ،وانهيار المعايير ،واالنفصال
بين األهداف االجتماعية المعلنة ،والوسائل الصحيحة لتحقيق هذه األهداف،
ويشعر المرء سيكولوجيا باالغتراب ،والعبثية ،واإلنهيار األخالقي مما ينعكس
سلباً ،وعزلة ،وانحراف؛ فاألنوميا هي ثورة الفرد على كل معايير المجتمع
من تقاليد ،وأعراف ،و دين إلخ ،وقد تحدث إميل دوركايم في هذا الصدد عن
اإلنتحار األنومي ،وهو إنتحار ناتج عن كسر الفرد لمعايير مجتمعه ،والتخلي
عنها ،في هذه الحالة يصبح الفرد يعاني من حالة إغتراب داخل المجتمع تؤدي
به إلى العزلة ،واإلنفراد لينتج عنهم اإلنتحار .
***
99
اإلنسان «السائل»
تحت تأثير حالة مزاجية عارضة نستشهد بدراسة علمية جرت بمعرفة مركز
الدراسات االجتماعية بجامعة القاهرة برعاية وزارة التنمية اإلدارية ،ومركز
المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء بعنوان« :األطر الثقافية الحاكمة
والفساد»*(. )14 لسلوك المصريين واختيارتهم ..دراسة لقيم النزاهة والشفافية
100
وقلة حيلة علماء االجتماع ،وحيرتهم دون فهم الطبيعة التسلطية ألنظمة الحكم،
وطبيعة الدولة السلطانية القائمة على القبلية ،والعصبية ،وطبيعتها الغنمية
للقائمين عليها ،ومواليهم بتقسيم الجماهير إلى« :أولئك الذين معنا» ،و«أولئك
الذين ليسوا معنا» ..وتقديم المكافآت السخية لـ «أولئك الذين معنا» ،ومقاطعة
«أولئك الذين ليسوا معنا» ..أما أصوات الذين يشعرون بالنفور فيتم إغرق
أصواتهم بضجيج الدهماء من خالل االتهام بالتخوين ،والعمالة ،أو على األقل
يتم وصفهم بـ «القلة المندسة» أو «القلة الحاقدة» وترسيخ يقين أن «القيادة
تعرف أكثر» ،و«أنك ليست لديك الصورة الكاملة» مع التلويح بالنبذ لمن
يظهرا رأياً متفرداً بغرض التخويف من اإلقصاء ،أو نقص المكانة ،أو إنهاء
الوجود ذاته ،..أما األشخاص الذين يقفون في منطقة الحياد ،فيجب إغراقهم
في الضجيج ،بحيث ال يحظى اإلنسان بفواصل كافية من الصمت؛ كى يركز،
ويكمل عملية التفكير حتى النهاية بالمعنى المترابط ،وقد برزت في الغرب
المعاصر ظاهرة عرفت بـ «ديمقراطية الضجيج» ،وهؤالء عادة ليس لهم أي
تأثير في الواقع ،وال يتم استدعاؤهم سوى إلظهار التأييد للوضع القائم فقط؛
لينصرفوا بعد ذلك إلى البقع المعتمة دون الحصول على شيء!!.
101
اإلنسان «السائل»
..يقول شيللر:
«كما تعيق الدعاية التركيز ،وتنشر المعلومة المقطوعة الصلة باالتزان ،فإن
تقنية معالجة المعلومة الجديدة تسمح بملء األثير بتيارات من المعلومات غير
الضرورية ،التي تُ ِّ
عقد على الفرد أكثر عملية البحث اليائسة عن المعنى.».
ً
أوال :الدولة العربية:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
حاولنا أن ننقل سمات وطبيعة الدولة العربية من خالل رؤى أربع من أساطين
الفكر السياسي العرب ،وهم :د .نزية نصيف األيوبي ،ود .محمد السيد سعيد،
ود .وائل حالق ،ود .هبة رءوف عزت من خالل أطروحاتهم المنشورة .
..ينقلنا د .األيوبي إلى مأساة الدولة العربية بكل ما تحمله من تخلف في
مؤلفه بعنوان « :تضخيم الدولة العربية»*( ،)15والذي صدر في النصف الثاني
من تسعينيات القرن العشرين باإلنجليزية ،وصدرت ترجمته العربية في عام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )15نزية ن .األيوبي ،تضخيم الدولة العربية ..السياسة والمجتمع في الشرق األوسط ،ط ،١ترجمة أمجد
حسين ،المنظمة العربية للترجمة ـ بيروت 2010
102
،٢٠١٠يبدأ هذا العمل الموسوعي بافتراض مقتضاه أنه بالرغم من أن معظم
الدول العربية هي دول صلبة وضارية ،فإن قلة قليلة منها هي التي يمکن أن
ً
جيوشا وبيروقراطيات، نعتبرها دولاً قوية حقيقة؛ فمعظم هذه الدول تمتلك
وسجو ًنا متعددة ،ولكنها تفتقر إلى القدرة فيما يتعلق بجباية الضرائب أو کسب
الحروب أو حتى في تشكيل إطار أيديولجي لقيادة مجتمعاتها بشکل يتجاوز
استعمال القوة القهرية ،ويتبنى الكتاب منهج االقتصاد السياسي لتحليل اثنتي
عشرة دولة عربية (مصر ،وسوريا ،والعراق ،واألردن ،والمملکة العربية
السعودية ،والکويت ،واإلمارات العربية المتحدة ،ولبنان ،واليمن ،وتونس،
والمغرب) بشكل أساسي مع اإلشارة إلى حالة ترکيا وإيران کلما لزم األمر
الختبار الفرضية السابق اإلشارة إليها؛ وحاول األيوبي من خالل الکتاب تحقيق
هدفين رئيسين:
103
اإلنسان «السائل»
ومفهوم الدولة خاصة من وجهة نظر المارکسيين القدامى ،والجدد وإن کان
خاصا لتحليل جرامشي عن نظرية الدولة ،وخاصة مفهومي
ًّ أولى اهتمامًا
الهيمنة ،والتشارکية ،کما ناقش بقدر من االستفاضة تأثر علماء السياسة العرب
المعاصرين في نظرتهم للدولة بالمدرسة السلوکية األمريکية ،ومقوالتها الرئيسة
بالرغم من التباعد بين بيئة مفاهيم هذه المدرسة ،وبيئة الدول العربية التي يراها
األقرب لتحليل جرامشي ومدرسته ،فالدولة في المنطقة العربية وغيرها من
مناطق العالم غير األوربي قد تطورت بشکل قانوني رسمي (من حيث عالقتها
بالتراث االستعماري) ،وإن لم تتطور بنفس الدرجة بالمعنى السوسيولوجي
(بمعنى عالقتها بالمجتمع) ،کما عانت من النمو غير المتوازن في قطاعات
االقتصاد ،والتنمية لصالح النمو في قطاع البيروقراطية ،وأجهزة القمع ،وقدم
األيوبي قراءة نقدية تفصيلية لعالقة العرب بالدولة ،وخاصة تطور نظرتهم من
المجال اإلسالمي (األمة) للمجال الدولتي (الدولة بمعناها الحديث) ،وما ارتبط
بها من مفاهيم العدل أو الحرية أو غيرها.
..يستقرئ األيوبي أفكار کل من حامد ربيع حول الوظيفة السياسية ،والدعوية
للدولة في التراث اإلسالمي مقارنة بالدولة في الفكر األوربي ،وتأثير ذلك على
تطور الدولة ،وغربتها عن السياق العربي*( ،)16وأفکار عبد هللا العروي حول
عالقة الفرد بالدولة في مسيرتها التاريخية والتي يمکن القول إن الدولة ظلت
ً
جهازا غريبًا عن المجتمع؛ يتحکم في حياته ،وإن کان ال يعبر عنه*( )17ويخلص
ــــــــــــــــــــــــــــ
*( )16نزيه األيوبي ،مرجع سابق ـ ص 64
*( )17نزيه األيوبي ،مرجع سابق ـ ص 75
104
إلى مناقشة مطولة نسبيًّا حول مفهوم الدولة ،والمفاهيم المتصلة به من وجهة
نظره ،والتي يمکن تلخيصها في ثالث مفاهيم :التشارکية في المصالح بين
مجموعة ضيقة من النخب ،والهيمنة ،والالتوازن في السيطرة.
ينتقل األيوبي بعد ذلك لمناقشة العالقة بين أنماط اإلنتاج ،وأصول الدولة
العربية اإلسالمية ،وتشکل الدولة في العصر الحديث ،وتأثير االستعمار عليها،
ويرکز في فصل خاص على دراسة فکرة الوحدة العربية ،وعالقتها بالدولة
القطرية ،ويختبر فرضياته المنطلقة من االقتصاد السياسي ،واقتراب الثقافة
السياسية في دراسة ما أسماهم بالجمهوريات الراديکالية الشعبوية ،والملکيات
المحافظة القائمة على أساس القرابة ،وينتقل بعد هذا إلى دراسة تفاصيل عالقات
القوى في داخل الدول العربية ،وانعکاسات مفهوم الهيمنة کما قدمه في البداية
من خالل دراسة العالقات المدنية العسکرية ،والنمو البيروقراطي باإلضافة
إلى ظاهرة الخصخصة ،ومستقبل الديمقراطية ،وخاصة دور المجتمع المدني،
وينتهي بفصل خاص عن الدولة القوية والصلبة والضارية ،والذي يعيد فيه
مناقشة الفروق بين الدول القوية القادرة على التغلغل في مجتمعاتها من خالل
شبکة عالقات ،ومصالح معبرة عن المجتمع ،ويقارن هذا المفهوم بالدولة الصلبة،
والتي يميزها من خالل قدرتها على السيطرة األمنية على مجتمعاتها دون قدرة
على السيطرة بنفس الشکل في مسائل إنفاذ القانون أو القدرة التوزيعية ،وتتميز
الدولة الضارية باستبدادها بمجتمعها على جميع األصعدة ،ويؤکد األيوبي على
105
اإلنسان «السائل»
ضرورة التفرقة بين الدولة القوية ،وقوة الدولة على مستوى مؤسسات األمن
والبيروقراطية ،فالدولة العربية في وجهة نظره هي دول ضعيفة في مجتمعات
قوية ،ويحاول االستدالل على هذه النتيجة من خالل تحليل مفصل للنظم
الضرائبية في الدول العربية ،وکيف أن فلسفتها ،وطريقة تطبيقها ،والتداعيات
السياسية ،واالقتصادية المترتبة عليها تؤکد ضعف الدولة ،وينتهي باستنتاج
يراه واضحً ا؛ إذ إنه ليس من الضرورة أن تنمو الدولة بشکل استبدادي على
حساب المجتمع؛ فمن الممكن لالثنين أن يزدهرا معًا.
106
2ـ د .محمد السيد سعيد :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يدعم وجة نظر د .نزيه األيوبي ما تضمنه کتاب محمد السيد سعيد عن:
«االنتقال الديمقراطي المحتجز في مصر»*( )18الذي نشر في طبعته األولى في
عام ،٢٠٠٦وسط ما بدا أنه مزاج عام لدى بعض الحكومات العربية ،والضغوط
الدولية لتحقيق تحول ديمقراطي بشکل ما ،خاصة في ضوء ما طرحه جورج
بوش حول «مبادرة الشرق األوسط الکبير» عقب الغزو األمريکي للعراق
في ،٢٠٠٣فقد شكل العقد األول من األلفية الجديدة ما بدا أنه استجابة من
النظم السياسية العربية للضغوط الشعبية تجاه مزيد من االنفتاح الديمقراطي،
ويحاول سعيد في کتابه دحض هذه المقولة على اعتبار أن السعي للديمقراطية
من جانب الشعوب العربية والحالة المصرية على وجه الخصوص هو أمر
قديم يعود إلى نهاية الستينيات من القرن العشرين ،هذا التراث من الحراك
الشعبي قوبل بالرفض ،والمواجهة من جانب النظم السياسية ،إلى جانب جهود
هذه األنظمة في إجهاض هذه الحرکات من خالل تقديم إصالحات دستورية،
وقانونية فارغة من المضمون ،وإن نجحت في کسب مزيد من الوقت لصالح
استقرار ،واستمرار األنظمة الحاکمة ،تظهر مفاهيم اإلصالح الدستوري،
والمجتمعي بشکل مترابط مع مفاهيم اإلصالح االقتصادي ،والسياسي کشروط
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )18محمد السيد سعيد ،االنتقال الديمقراطي المحتجز في مصر ،الهيئة العامة المصرية للكتاب ،مكتبة
األسرة ـ القاهرة 2016
107
اإلنسان «السائل»
ضامنة لبدء لتحول ديمقراطي حقيقي واستمرار هذه التحول؛ فيرى الکاتب
أن مشروعات اإلصالح الدستوري ،والقانوني التي تطرحها النظم الحاکمة
في غياب حوار مجتمعي حقيقي حول مضمون هذه اإلصالحات ،وعالقتها
بالمنظومة اإلصالحية الکبرى في المجتمع ،هو أمر يفرغ هذه اإلصالحات
من جوهرها ومضمونها في الوقت نفسه يرصد سعيد شعورً ا متزاي ًدا بميالد
رغبة متزايدة في المجتمع تجاه إحداث إصالح حقيقي ،وإن کانت هذه الرغبة
ال تزال في تلك الفترة بمثابة الرماد غير الظاهر للعين ،ويحاول سعيد ً
أيضا من
خالل الكناب تقديم قراءة نقدية لعدد من المفاهيم التي سادت کثيراً في أدبيات
دراسة المنطقة لتبرير االستبداد وتراثه؛ فيرى أن استبداد النظم العربية لم يُبنَ
على نظرية سياسية لالستبداد الشرقي ،أو الفرعونية السياسية ،ولکن بُني على
تطورات ومعطيات تاريخية ارتبطت بمراحل بناء الدولة الحديثة في العالم
العربي.
..في مقابل هذا يطرح سعيد رؤيته لما أسماه بـ «التحلل السلطوي» في
الدولة المصرية على سبيل المثال؛ فالنظام السياسي لم يعد قادرً ا على استيعاب
المجتمع داخل حقله األيديولوجي ،وغير قادر على إحداث طفرات اقتصادية،
وال إصالحات اجتماعية ،ومن ثم فالبناء السياسي ،واالقتصادي الذي أسس
على معادلة األمن ،والسياسة ،والخدمات االجتماعية فقد واحدة من أهم أسس
شرعيته ،وبدأ في مرحلة التحلل السياسي ،ويطرح سعيد معادلة جديدة وجديرة
108
باالهتمام في مسألة االنتقال الديمقراطي؛ فيقدم رؤيته الناقدة للتطور الديمقراطي
في أوربا ،ومسألة ربطه بفکر التنوير ،والفکر الدستوري؛ فيرى أن تطورات
الديمقراطية حدثت حينما تكاتفت ثالثة عوامل باألساس؛ التعددية السياسية
الحقيقية ،والتوازن الحرج بين مختلف القوى السياسية ،والثالثة هي إدراك
وممارسة الحلول السلمية للصراع السياسي بناء على مبدأ األغلبية؛ أي بعبارة
أخرى ما أسماه بـ «التعلم الديمقراطي» ،وينتقل سعيد لمناقشة ما أسماه بـ
«المعطيات الذاتية والموضوعية للديمقراطية» في المجتمعات العربية ،على
اعتبار أنها (أي الديمقراطية) وسيط تاريخي لالنتقال للعصر الحديث ،وتتحول
الديمقراطية وفق رؤية سعيد ألداة ،وليست لغاية في حد ذاتها.
في سياق الحديث عن كيان الدولة من منطلقات الفكر اإلسالمي جاء كتاب
د .وائل .ب .حالق بعنوان «:الدولة المستحيلة :اإلسالم والسياسة ومأزق
الحداثة األخالقي» *( )19تتمثل أطروحة الكتاب الرئيسة في أن مفهوم «الدولة
اإلسالمية» مستحيل التحقق ،وينطوي على تناقض داخلي؛ وذلك بحسب أي
تعريف سائد لما تمثله «الدولة الحديثة» ،وتناول د .حالق «مقدمات» وصف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )19وائل ب .حالق ،الدولة المستحيلة :اإلسالم والسياسة ومأزق الحداثة األخالقي ،ترجمة:عمرو
عثمان ،المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسة ،سلسلة ترجمان ـ ط ١ـ بيروت ٢٠١٤
109
اإلنسان «السائل»
..وتناول د .حالق مبدأ الفصل بين السلطات بين حكم القانون ،وحكم الدولة،
ً
هادفا من فناقش مفاهيم اإلرادة السيادية ،وحكم القانون في ما يخص المبدأ؛
وراء هذه المناقشة إلى استعراض األطر ،والبنى الدستورية لكل من الدولة
الحديثة والحكم اإلسالمي ،وتسليط الضوء على االختالفات الدستورية بين
نظامي الحكم هذين ،واعتمادا على هذه االختالفات ،يستكشف االختالفات بين
القانوني ،والسياسي ،واألخالقي ،ومعنى القانون ،وعالقته باألخالق ،ويؤكد
من خالل هذا العرض الفلسفي أساسا االختالفات النوعية بين المفهوم األخالقي
للدولة الحديثة ،والحكم اإلسالمي ،ويح ّول هذا العرض إلى عرض ذي طابع
ّ
وستتعزز هذه التباينات القانونية -األخالقية بفعل التباينات السياسية سياسي،
كاشفة عن مجال آخر من عدم التوافق بين الدولة الحديثة ،والشريعة.
110
المجاالن النموذجيان تتباين تباي ًنا كبيرا ،األمر الذي يولد نوعين مختلفين من
التصورات األخالقية ،والسياسية ،والمعرفية ،والنفسية ،واالجتماعية للعالم،
وتلك االختالفات العميقة بين أفراد الدولة القومية الحديثة ،ونظرائهم في الحكم
اإلسالمي إنما تمثل التجليات المجهرية المصغرة لالختالفات الكونية المادية،
والبنيوية ،والدستورية ،وكذلك الفلسفية ،والفكرية .
ويختم د .حالق كتابه بتفحص مآزق أخالقية حديثة مع اإلشارة إلى أسسها
المعرفية ،والبنيوية بصفتها تؤسس ألصل األزمات األخالقية التي واجهتها
الحداثة في ّ
كل صورها الشرقية والغربية؛ حيث يرى المؤلف أن استحالة فكرة
الحكم اإلسالمي ناتجة بصورة مباشرة من غياب بيئة أخالقية مواتية تستطيع
أن تلبي أدنى معايير ذلك الحكم وتوقعاته ،ويرى أن هذه االستحالة هي تجل
111
اإلنسان «السائل»
آخر لعدة مشاكل أخرى ليس أقلها شأنا االنهيار المطرد للوحدات االجتماعية
العضوية ،ونشأة أنماط اقتصادية استبدادية ،إضافة إلى ما هو أكثر أهمية من
ذلك ،وهو الدمار الشامل للموائل الطبيعية ،والبيئة.
..ومع ذلك يؤكد د.حالق أن الكتاب ال يهدف إلى إصابة القارئ المسلم
والعربي باإلحباط واليأس من عدم قدرته على الفكاك من ورطة الحداثة التي
وجد نفسه فيها بال اختيار منه ،ومن استحالة قيام دولة إسالمية تحافظ على
خصوصيته األخالقية ،والتاريخية ،وإنّما غايته هي توفير سبيل للمسلمين إلى
الحياة الحسنة المستندة إلى موارد تاريخ اإلسالم األخالقية ،واثبات أن أزمات
اإلسالم السياسية وغيرها ليست بالفريدة أو الخاصة ،بل هي جزء ال يتجزأ من
العالم الحديث ،في الغرب كما في الشرق.
في الوقت الذي يرى البعض أن كتاب «الدولة المستحيلة» يعد «إجهاضاً
معرفيا»ً لفكرة اإلسالم السياسي يرى البعض أنه محاولة لـ «التجسير» بين
الذات واآلخر .
112
الکاتبة ،والتي تحاول مناقشتها بقدر من التفصيل هو «تماهي تصور الدولة عند
التيار اإلسالمي بدرجة کبيرة مع تصورات الدولة القومية الحديثة على الرغم
من كل الشعارات ،والعناوين من خالل ما تبين للباحثة عبر سنوات من البحث
في مفهوم الدولة القومية ،وما تؤكده من معرفة قوية بأبعاد السلطة ،والحكم
في النظام اإلسالمي ،من خالل منهج المالحظة بالمشاركة الذي مارسته من
خالل الخبرة العملية ،واالنخراط في واقع الصحوة اإلسالمية لجيل السبعينيات
والثمانينيات من القرن العشرين.».
وتعد الدراسة تحليل نقدي ألفكار حقبة مهمة سبقت االنتفاضات العربية؛
بما يعين على فهم أسباب االرتباك في اإلدارة السياسية ،والعلل الكامنة في بنية
الدولة الحديثة التي لم ينتبه إليها القطاع األوسع من التيار اإلسالمي ،وظن أنها
حصن يمكن االستيالء عليه ،في حين أن من درس الدولة القومية ،ونشأتها،
وعرف خرائطها التاريخية ،والمنطق الكامن فيها يعلم أنها ثقب أسود يلتهم
األيدلوجيا ،واألخالق لصالح الهيمنة ،والتحكم ،ومصالح رأس المال ،وأنها
كيان قائم على العلمانية؛ األمر الذي يستلزم فهم التيار اإلسالمي لشروط كل
مرحلة يريد أن يقطعها من أجل التغير ،وأن يثق في قدرته على تغيير هذه
الشروط والسياقات ،ووعي بالضوابط الدقيقة لذلك كي ال تضيع الغاية ،وتُفقد
البوصلة.
ترى د .هبة رءوف ضرورة إعادة التفکير في الدولة الحديثة التي ورثها
113
اإلنسان «السائل»
العالم (وليس المنطقة العربية أو اإلسالمية فقط) من منتصف القرن السابع
عشر ،وهذه الدولة تقوم على أضالع ثالثة (فهى «قومية» نشأت على بزوغ
الفكر القومي ،وهي «قطرية» قامت على ترسيم الحدود الجغرافية لنفسها
أو استباحة حدود األخرين باالحتالل ،وهي « حديثة» ألنها تأسست على
أركان فكر الحداثة الذي آل يؤمن بالغيب ،ويعتبر ما وراء الطبيعة خارج
إطار العلم ،وتحت سقف الدولة ،وهو فكر يحكم موازين القوى في مجالى
التشريع واألخالق ،).وال يمکن فهم عالقتها بالمجتمع دون إدراك األسس
النظرية التي اعتمدت عليها في نشأتها ،وعالقتها باألضالع الثالثة ،وترى د.
هبة أن أساس الدولة في المنظومة العقدية ،والتشريعية اإلسالمية مختلف فهو
يقوم على استقالل القضاء ،والعلماء ،واألوقاف ،والفصل الرأسي واألفقي بين
سلطان الملك ،ومؤسسات العلم ،ودائرة العدل ،وکفالة االستقالل المادي لهذه
المؤسسات من ثم فإن محاوالت أسلمة الدولة القطرية الحديثة هي مسألة محكوم
عليها بالفشل بسبب اختالف المنطلقات الفکرية ،والفلسفية ،وآراء کل منهما.
كان الهم األساس الذي انطلقت منه د هبة متعلقا بالخطاب اإلسالمى ،فى
محاولة منها للخروج مما تُسميه «الثنائية المفخخة» التى تضع العلمانية فى
مقابل الحاكمية/الشريعة التى اعتبرتها «حائلاً دون خيال اإلسالميين ،وخطابهم
السياسي؛ مما جعل أطروحاتهم فى حالة ركود عبر قرن كامل» .
ترى د .هبة أن المشکلة في محاولة إيجاد عالقة بين الدولة القطرية والمنظور
114
اإلسالمي؛ فالخطاب اإلسالمي الرائج في كثير منه (حسب وجهة نظر الباحثة)
خطاب ليبرالي رأسمالي في جوهرة ،ومتسربل بالديباجة الدينية ،ويسعى إلى
األسلمة بتنقية الهياكل من ظواهرها الرأسمالية من دون نقض لها أو إعادة
تأسيس هياكل اقتصادية ،وسياسية ،وإدارية مؤسسة على بنيان اإلسالم،
وفلسفاته في العمران التي تقوم على العدل ،وشراكة الناس في مقومات الحياة؛
فهو بمثابة تعبئة النبيذ القديم في أوان جديدة دون إدراك ضرورة االشتباك
مع النبيذ القديم اصلاً ،وأهمية إنتاج شيء جديد بالكلية ..تشتبك هبة رءوف
مع النقد «اإلسالمي» لمفهوم العلمانية ،وتقدم رؤية مختلفة لضرورة تحرير
المفاهيم .
ثمة التقاء بين د .هبة رءوف ود .وائل حالق في أمرين :
115
اإلنسان «السائل»
عالم المسلمين؛ فشعارات التجديد تسد األفق بلغط كثير أغلبه سياسي الهوى
تردده منصات تحارب التجديد ،وأهله في الواقع ،وتنوم العقل كى ال يفكر
كثيراً ثم ينتقل من التفكير إلى التغيير ،أما فعل التجديد الحقيقي فتقوم عليه ثلة
من األخرين يتبعثرون على ثغور عديدة منها الفقهي ،والعلمي ،والفلسفي لكنهم
يعانون قلة الموارد ،وضعف اإلمكانيات في حين يتم شغل أصحاب العقول
في شتى المجاالت بالفرعي من األمور ،أو بلقمة العيش التي تصرف العقل
عن تلمس الحكمة ،وإبداع األفكار ،وتذل أحياناً أعناق الرجال في حين تسيطر
على المشهد الثقافي ،والفكري رموز من خلف السلطات المهيمنة على العقل
من مؤسسات سياسية ،واحتكارات اقتصادية دينية ،وأبنية تقليدية غايتها تجميد
الساحة التجديدية في علوم الدنيا ،والدين .
وترى د .هبة أن التجديد ليس أفكار متناثرة يغزلها عقل مبدع ،بل هو
صناعة ثقيلة للعقل المجدد في كل العلوم ،ولكن العقل المسلم في عمومه ركن
للنقل من التراث ،أو نقل التكنولوجيا من دون اإلحاطة بقواعد المعرفة التي
أنشأتها؛ فالتجديد ليس دعوى تطلق في المؤتمرات السنوية دون أن تتضافر
الجهود لتفتح سراديب التخلف ،وتخرج األمة إلى عالميتها الثانية .
ترى د.هبة أن واقع األمة يدلنا أن هناك «قوى ممانعة ضد التجديد» تتمثل
في تلك المؤسسات بعينها التي من المفترض أن تقود التجديد ،ولكنها تكلست
116
حتى صارت مؤسسات إعادة إنتاج للفكر أو منصات لإلرتزاق السياسي،
واالقتصادي ،وهو ما نلمسه على الساحة :مؤتمرات التجديد ،وبرامج التفنيد،
وكتابات الترديد ،يُنفق عليها الماليين لتشغل وقت المفكرين ،والفقهاء؛ فتعوق
تواصل الجهد البحثي ،وتجمع الكبار من دون أن تتيح مساحة للعقول الشابة،
وتجتر القضايا ذاتها من دون أن تبحث في الشواغل الحقيقية التي يمكن أن تغير
نوعية حياة الناس ،وتحقق مفصود الشرع من عدالة وحرية ،وتتحدث د .هبة
عن تجديد عكسي ينقض كل فكرة أو رأى جديد؛ بوضعها في خانة الخصوصية
التي ال تقبل التعميم أو العمومية التي ال تقبل التطبيق .
وتؤكد د.هبة أن جهوداً ضخمة تُبذل لكنها خارج السرب ،والتغريد خارج
السرب ثمنه باهظ ،ومحصوله قيد التفعيل ،ويحتاج الجهد ،والمال لنشره ،وتعميم
فوائده ،وبيان حجمه للناس ،وإرشادهم إلى كيفية تغيير نمط الحياة؛ ليثمر التجديد
ثماره ،وال بظل حبيس األوراق من دون قدرة على تغيير الواقع الذي تحكمه
التقاليد ،أو يهيمن عليه من بيده السلطة والمقاليد ،أو تحاربه نخب المنتفعين من
استيراد الجديد من دون استنبات لعقل رشيد يرفع لواء االجتهاد .
وترى د.هبه أن هناك قضايا ملحة في عالم المسلمين اليوم ،وفي العالم
بأسره ال ينطبق على التعامل معها فقط منطق التجديد؛ ومن هنا لزم التجديد
باالقتران باالجتهاد؛ فالتجديد نفض غبار عن أفكار وتفعيلها ،لكن االجتهاد هو
117
اإلنسان «السائل»
التعامل مع مستجدات غير مسبوقة ،وتقويمها لصالح اإلنسان بما يحقق نفعه
)22(*. العاجل ،وال يجور على مصلحته اآلجلة
118
في يهدد دورها اإلقليمي أو أمنها القومي ،وال يمكن للتيار اإلسالمي إال أن
يعترف بالفشل أو باالخفاق في فهم طبيعة الدولة الحديثة ،ومدى مالئمة أفكاره
لها ،وقدرته على تطويعها دون إعطاء الفرصة الستدراجه تماما إلى ما سعى
إلى مواجهته والقضاء عليه ،ويرى د .حالق « :أنه ال ينبغي أن تكون عملية
المراجعة أقل من شاملة ،ومبدعة ،ومتحررة من نظرة إلى التاريخ مغرقة في
وحيد)24(*.». الطوباوية أو إلى الدولة الحديثة كنموذج
119
اإلنسان «السائل»
من سعة ،وسقطت في تقليدية كامنة غير واعية ،وتحقيق الشعور المتسم بالتمايز
والمفاضلة ،واألهم :اعتبار الوصول إلى السلطة هو غاية التمكين ،واعتبار
الفشل مؤامرة ،والكوارث ابتالءات ال توجب اإلقرار أو االعتذار أو المراجعة
أو تنحية المسئول عنها ،لوضوح افتقاده القدرة ،واألهلية أو طرح أي احتمال
)25(*. للفساد والهوى ( «عصمة» خفية من نوع ما)
120
السياسية لألقباط في االنتخابات ،وبحث الروح المعنوبة للجنود عقب هزيمة
يونيو ،١٩٦٧وبحث ظاهرة «أمراض الخندقة» بعد حرب ،1973وتنامي
ظاهرة السلوك الخشن بعد إدماج المسرحين من الخدمة العسكرية في وظائف
مدنية وبحث أحداث تمرد األمن المركزي عام ،1986وبحث موضوع السلوك
الجنسي عقب حادث «فتاة العتبة» عام ،١٩٩٣وازدياد حوادث االغتصاب،
والتحرش الجنسي الجماعي ،وبحث تصفية القطاع العام وتسريح العاملين به
عام ،1993وبحث استطالع رأى المالك والمستأجرين حول تعديل العالقة
بينهم في األراضي الزراعية عام ،1997وبحث آثار اإلنفالت التي خلفتها
االنتفاضة السياسية 25يناير ،2011وتنامي ظاهرة البلطجة وتفشي الدعارة
وتقنيعها وتقنينها تحت مسميات مختلفة؛ ليضحى الميراث في المجمل ثقافة
اجتماعية مسطحة اكتفت بما تناقلته من رغوة المصلحات والقضايا المنفصلة
عن سخونة وتشابك هموم مجتمعها.
..ويذهب البعض إلى أن المجتمع هو محل محتكر للدولة ،وليس محال
ًللبحث العلمي ،وأن مثل تلك المحاولة لن تنجح إال في المنافي أو المخابئ
السرية ،ويرى أخرون أن حالة الهيمنة السياسية على المجتمع لم تعطل نمو
مستقل لعلم االجتماع وحسب ،وإنما ساعدت على نمو طبقة من الباحثين
االنتهازيين (الكمبرادورز) الذين يعتمدون فكريا ومالياً على دول خارجية ،كما
يقومون باستغالل صغار الباحثين وإفسادهم في الترويج لألكاذيب!!
121
اإلنسان «السائل»
..وقد حاول علماء االجتماع العرب الدفاع عن دورهم المشبوة في خيانة قضايا
األمة في مؤتمر عقد في وهران (الجزائر) في مارس ،2012وقيامهم بدور
«المخبرين المحليين» لجيش من الباحثين العالميين ،والصحافيين ،والدارسين
الذين يعقدون بانتظام جوالت في الجامعات العربية ،ومراكز األبحاث بحثاً عن
معلومات ،وتحليالت عن السياسة العربية ،والمجتمع ،وبخاصة في أوقات
االضطرابات االجتماعية ،والسياسية .
كان مصدر الخطر على علم االجتماع ،وسمعة القائمين عليه صعود
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )26أوراق قدمت في مؤتمر عقد في وهران ( الجزائر) أيام 22 ،21 ،20مارس 2012شارك فيه 32
باحث من 11دولة عربية بإشراف مركز دراسات الوحدة العربية ( بيروت ـ لبنان) والمركز الوطني للبحث
في األنثروبولوجيا االجتماعية والقافية ( وهران ـ الجزائر) والجمعية العربية لعلم االجتماع (تونس) ،وتم
نشره في كتاب يعنوان « :مستقبل العلوم االجتماعية في الوطن العربي»تحالير وتقديم :ساري حنفي،
نورية بن غبريط ـ ريمون مجاهدي مصطفى ،مركز دراسات الوحدة العربية ـ بيروت 2014
122
النفعية االجتماعية ،وتنامي مؤشراتها من خالل االتجاهات التي تستهدف
إخضاع علم االجتماع للمطالب النفعية االجتماعية ،والسياسية التي تزداد
كثافتها راهناً بفضل انتشار أفكار الفعالية الذرائعية ،وأشكالها التنظيمية ،مع
ما ينطوي عليه تصاعد هذه األفكار ضمنياً على تشجيع ما يسمى «البحوث
التطبيقية» ،والبحوث المتصلة بالسياسات على حساب «البحوث األساسية»،
ويؤكد البعض أنه ما من عالم اجتماع إال ويرغب أن يصبح منظراً أو مستشاراً
للطبقة الجديدة الحاكمة ،وأن ينضم إليها إن أمكن من خالل عملية التسويق،
والهرولة؛ وبهذا تأكلت مصداقية علماء االجتماع في نظر عامة !!
123
اإلنسان «السائل»
2ـ ويالحظ د .ريتشارد أنطون أن االدراسات األنثربولوجية في السبعينيات
كانت تركز على دراسة مشكالت مصر االجتماعية ،واالقتصادية (من منطلقات
واطروحات فرنسية ،وليست مصرية) وخاصة مشكلة النمو السكاني السريع
واألسرة وتنظيمها ،والتحضر ،والتصنيع ،وتوطين الفالحين في األراضي
المستصلحة ،ومشكلة العمالة المصرية المهاجرة بمستوياتها المختلفة ،كان
ذلك يمثل حالة من «االنسحاق الحضاري»؛ فاألخر هو الذي يحدد لنا رؤوس
الموضوعات المبحوثة ،ويحدد لنا األسئلة عن أنفسنا ،ويطرح علينا الفرضيات،
ويضيق علينا في االختيارات؛ ليصل بنا إلى حيث يريد أن يضعنا.
124
كان العيب الثاني :أن الباحثين المصريين في مجال األنثروبولوجيا ينتمون
إلى مدارس مختلفة يصعب إذابة الفوارق بينها كما أنه لم يوجد العالم المصري
القطب الذي يستطيع أن يستوعب تفردات تلك المدارس ،وأن يسخر أطروحاتها
لخدمة المجتمع؛ فقد حصل الدكتور أحمد الخشاب على الدكتوراة من جامعة لندن
في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي ( ،)1953فأدخل التقاليد البريطانية
في األنثربولوجيا إلى جامعة القاهرة ،وما لبث أن عاد في منتصف الستينيات
د .عاطف وصفي بعد أن درس األنثروبولوجيا في أمريكا؛ فدخلت معه تقاليد
األنثربولوجيا الثقافية األمريكية إلى جامعة القاهرة ،ثم عاد د .محمد الجوهري
في السبعينيات بعد أن درس األنثروبولوجيا في جامعة بون بألمانيا التي تعد من
أهم معاهد دراسة الفلكلور في العالم فدخلت معه تقاليد األنثربولوجيا األلمانية..
كانت المدرسة األلمانية تقوم باألساس على «دراسة الفلكلور» من خالل إلقاء
الضوء على ما في صدور الناس من معتقدات ،وما يدور في عقولهم من
تصورات ،ورؤى للعالم ،وكذلك ما يمارسونه من عادات اجتماعية موضوعها
«المأثور الشعبي»؛ بما يعين على فهم العقلية الشعبية ،وعلى االقتراب من
الخريطة االجتماعية !!
125
اإلنسان «السائل»
يعاب عليهم هو :أن الفروض التي انطلقت تلك الدراسات للتحقق منها مشتقة
من كتابات العلماء الفرنسيين (وليست مصرية).
..وقد أشار أحد الباحثين إلى الحيرة التي أحس بها أفراد ذلك الجيل حينما
حاولوا بعد عوتهم من أوربا أن يطبقوا ما درسوه ،ولكنهم لم يجدوا مجتمعاً
صناعياً ،وال طبقات متميزة ،وإنما وجدوا مجتمعات زراعية ،وبدأت معاناة
ذلك الجيل ،وهم يحاولون الموائمة بين المفاهيم ،والنظريات التي تدربوا عليها
في الغرب ،والواقع االجتماعي العربي الذي عادوا إليه .
أولهما :أن معظم المحاوالت التي قام بها الباحثون استندت إلى مرجعيات
غربية متعددة المدارس الفكرية األمر الذي أفرز حالة من الفوضى في المفاهيم،
والمصطلحات المستخدمة ،وتضارب األهداف ،وبذلك ضاعت الرؤيه،
وتبعثرت الرسالة .
ثانيهما :عدم وجود تنظيم أكاديمي عربي يجمع االجتماعيين العرب الذي
126
يرون توطين علم االجتماع في الوطن العربي .
..أزمة علم االجتماع ،والقائمين عليه ليست خافية على أحد ،وقد تضمنها
تقرير التقرير العالمي لليونسكو عن العلوم االجتماعية لعام ،2010والذي أفاد
ً
هائال في مجال األبحاث أن في مأزق العلوم االجتماعية قد أنتج تضخماً كمياً
صاحبه فقر مدقع في النوعية ،والجودة ،وانعدام الهدف ،والدور ..بلخص ذلك
التقرير الذي يصدر بصفة دورية كل عشر سنوات األزمة حيث جاء به :
التقرير الذي لخصه لنا رشيد جرموني في « :أن األقطار العربية مازالت
تعاني نقصاً حاداً في مخرجاتها التعليمية ،وبشكل خاص في العلوم االجتماعية،
وهو ما ينعكس على دورها في مواجهة اإلشكاالت المجتمعية المتوالدة
127
اإلنسان «السائل»
128
اتخاذ العلوم الطبيعية نموذجاً للعلوم اإلنسانية؛ فوحدوا بين اإلنساني ،والطبيعي
من دون مراعاة مكونات اإلنسان العقلية ،والنفسية ،والتاريخية وهي مكونات
أساسية في دراسة الفرد ،والمجتمع .
بينما يرى البعض ضرورة خوض تجربة أسلمة العلوم االجتماعية من
حيث الصياغة ،والتأصيل ،والتوجيه ،والتأسيس على األصول ،وتنقسم هذه
األراء إلى ثالث نماذج رئيسية :أولها :تكاملي ـ منهجي ( اسلمة العلوم
االجتماعية) ،وثانيهما :تأصيلي ـ معياري (تأصيل العلوم االجتماعية)،
وثالثهما :تأصيلي ـ انكفائي ( رفض النموذج الغربي) بمعنى رفض التفاعل مع
129
اإلنسان «السائل»
الحضارة الغربية التي بلغت أوج تطورها العلمي؛ ألن ذلك يؤدي إلى االنغالق
الذي ال يجدي نفعاً ..قدم بعض العلماء العرب مشاريع علمية لتوطين العلوم
اإلنسانية ،واالجتماعية في الوطن العربي ،وكان أكثر هذه المشاريع استناداً إلى
أسس علمية ومنطقية هو مشروع األستاذ الدكتور حامد ربيع .
130
ِشرطاً أساسياً للحصول على الحقوق ،والبعض من الحكام يعتقد أن الكذب هو
تعبير عن الدهاء ،والقدرة على التالعب بالموقف ،واتهم د .ربيع تلك الطبقات
بتخلف المنطق القيادي ،وعدم المقدررة على استيعاب حقيقة التطورات،
واالنفصال عن الطبقات المحكومة في أبراج عاجية تسودها األنانية ،والتجمد،
وعدم وضوح الرؤية ،وعدم القدرة على اعطاء كل موقف وزنه الحقيقي أو
التعامل معه من منطق الفاعلية ،والقدرات الواعية.
..وأكد د .ربيع أن القيادات العربية ال تفهم ،وال تعرف ،وال تقبل فن
المناقشة ،وهى الترى في هذه المناقشة وسيلة للوصول إلى الحقيقة ،وإنما
تراها أسلوباً من أساليب عدم االحترام؛ فإذا فرض على هذه القيادات المناقشة
المنطقية ـ في موقف ما ـ فإنها تنتقل ببساطة وسهولة إلى اإلسفاف ،والبذاءة .
ويتوجه د .ربيع باللوم إلى العلماء العرب بقوله « :هل تعى الطبقة المفكرة
والمثقفة أم أنها سوف تظل سادرة في غيها مستمرئة خيانة قضايا أمتها،
حاكم؟»)28(*. وممارسة كل أشكال الزفة السياسية خدمة ألى
في النهاية يخلص د .ربيع إلى أنه ال يرى إمكانية ألن تقوم النخب الحاكمة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )28د .حامد عبد هللا ربيع ،خطابات إلى األمة والقيادة ،ثالثون رسالة سباسية حول :دو المفكر السياسي
ومسئوليته المجتمعية ،مكنبة الشروق الدولية ،ط ١ـ القاهرة ٢٠٠٧ـ ص 13 ،12
131
اإلنسان «السائل»
بوظيفة «المؤرخين الشعبيين» ،وال يرى إمكانية المعانقة بين المشروع العلمي
القومي في الواقع العربي المعاصر ،ولذلك فهو يعلق األمل بإمكانية «المعانقة»
بين الحاكم االستراتيجي ،والعالم المستشار ،وذلك مثل حالة ابن أبى الربيع مع
)29(*. الخليفة العباسي ،أو مثل حالته هو مع الرئيس صدام حسين
***
..وظل موضوع توطين العلوم اإلنسانية ،وخاصة العلوم االجتماعية
يتراوح في أذهاننا بين اليأس ،والرجاء إلى أن قذف علماء االجتماع العرب
بالقفاز في وجوهنا ( 32عالم عربي من 11دولة عربية) في مؤتمر عقد في
وهران (الجزائر) في ( 22 ،21 ،20مارس ،2012وشارك فيه 32باحث
من 11دولة عربية بإشراف مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت ـ لبنان)،
والمركز الوطني للبحث في األنثروبولوجيا االجتماعية والثقافية (وهران ـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )29شغل د .حامد ربيع في الثمانينات منصب المستشار السياسي للرئيس العراقي صدام حسين بصفته
رئيس قسم الدراسات السياسية والقومية بمعهد البحوث والدراسات العربية ببغداد.
132
الجزائر) ،والجمعية العربية لعلم االجتماع (تونس) ،وقد لخص علماء االجتماع
العرب إشكاليات العلم وفقاً لمنظور الممارسين في :
فقر النظرية ،وعدم القدرة على توليدها ،وغياب مجتمع علم االجتماع
أو ضعفه ،والتوجه التطبيقي للعلوم االجتماعية أو ما يمكن للمرء أن يصفه
بـ «مقارنة الهندسة االجتماعية ،وما يتعلق بهيمنة عمل االستشاريون تحت
تأثير وكاالت التمويل األجنبي ،وغياب علم االجتماع العمومي (Public
،)Sociologyوفشل األكاديمية العربية في تنمية ثقافة البحث *(.)30
***
وتلك التوصيات تدل على أن مصدريها فاقدون الثقة بأنفسهم ،وعلومهم
ومؤسساتهم العلمية والبحثية (جامعات ـ مراكز بحث) ،وغياب علم اجتماع نابع
من صميم الحياة االجتماعية للمواطنين في العالم العربي األمر الذي يضعنا أمام
أمرين :
1ـ التفرقة بين الذين يعيشون على علم االجتماع ،والذين يعيشون من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )30أوراق قدمت في مؤتمر عقد في وهران ( الجزائر) أيام 22 ،21 ،20مارس 2012شارك فيه 32
باحث من 11دولة عربية بإشراف مركز دراسات الوحدة العربية ( بيروت ـ لبنان) والمركز الوطني للبحث
في األنثروبولوجيا االجتماعية والقافية ( وهران ـ الجزائر) والجمعية العربية لعلم االجتماع (تونس) ،وتم
نشره في كتاب يعنوان « :مستقبل العلوم االجتماعية في الوطن العربي»تحالير وتقديم :ساري حنفي،
نورية بن غبريط ـ ريمون مجاهدي مصطفى ،مركز دراسات الوحدة العربية ـ بيروت 2014
133
اإلنسان «السائل»
أجله!!
2ـ التميز بين الكتابة الموجهه لوافع خارجي أو لجماعة علمية في إطار
غربي معين ،أو لواقع محلي يقوم على استمرارية ما لثقافة استعمارية ،أو لرسم
سياسات حكومات ذات ثقافة ،وتوجهات غربية .
يلقي تقرير المرصد العربي للعلوم االجتماعية على أجندات التمويل األجنبي
التي تسمى «الليبرالية الجديدة» ،والتي تحيط بعمل العلوم االجتماعية ،والتي
جعلت من العلم مجرد سوق استهالكي كأي سوق أخر حيث ينظر إلى الطالب
كمستهلكين (عمالء أو زبائن) ،وإلى العلم في حد ذاته كوظيفة هدفها الربح ال
أكثر (منتج أو سلعة) ،وإلى المؤسسات العلمية بما فيها الجامعات كنوع من
الشركات ال كمؤسسات ذات أهداف أجتماعية ،وعلمية ،ومدنية تتعالى على
النظرة االقتصادية المحضة؛ حيث يحتاج العلم إلى الدفاع عن نفسه ضد هذه
االتجاهات السوقية ،والثقافة االستهالكية*( )31ويؤكد التقرير أن نسبة الباحثين
العرب المستفيدين بدرجة ما من تمويل دولي تصل إلى ،%٤٠ومع ذلك ال يمكن
الخروج باستنتاجات نهائية حول العالقة بين التمويل ،وأجندات البحث *(.)32
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )31محمد بامية ،العلوم االجتماعية في العالم العربي ،أشكال الحضور ،التقرير األول للمرصد العربي
للعلوم االجتماعية ـ المجلس العربي للعلوم االجتماعية ـ بيروت ٢٠١٥ـ ص 8
*( )32التقرير األول للمرصد العربي للعلوم االجتماعية ـ مرجع سابق ـ ص 25
134
ويشير التقريرأن مؤسسات البحث أصبحت جزء مهماً من سوق عمل
علماء العلوم االجتماعية العرب ،وأن مركزين في مجال العلوم االجتماعية
يدخالن ضمن أهم ١٠٠مركز في العالم ،وهما األهرام للدراسات السياسية
واالستراتيجية في القاهرة ،ومركز كارينجى للشرق األوسط في بيروت (وهو
منظمة أمريكية يعمل فيها طاقم بحثي عربي في الغالب) ،ويتناول التقرير تنصيف
المراكز العربية المتضمنة في ١٠٠مركز العالمي من حيث تخصصاتها حيث
تهتم أربعة مراكز بالبحث في األمن القومي ،وثالث ٣مراكز تتناول شئون
العالقات الدولية ،ومركز عربي واحد في مختلف المجاالت األخرى للبحوث
*()33 االجتماعية.
ويشير التقرير إلى بروز ظاهرة جديدة نسبياً تتجسد في ظهور فئات أخرى
غير تقليدية من المراكز البحثية العربية إلى الصدارة العالمية ،فهناك أربعة
مراكز عربية تتبوأ مرتبة عالية في مجال دعم المطالب ()Advocacy؛ بما
يعنى اتجاه المراكز البحثية إلى العمل الدعوي ،والتشبيكي ،وغير التقليدي،
)34(*. ويشير إلى المسالك المستقبلية لعمل مراكز البحث العربية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )33التقرير األول للمرصد العربي للعلوم االجتماعية ـ مرجع سابق ـ ص 27، 26
*( )34التقرير األول للمرصد العربي للعلوم االجتماعية ـ مرجع سابق ـ ص 27
135
اإلنسان «السائل»
136
الفصل الثاني :
ــــــــــــــــــــــــ
«العلوم الكولونيالية»
..وخـ ـ ـ ـ ـ ــراب العم ـ ـ ــران
137
اإلنسان «السائل»
« ..ونحن قد ألهمنا هللا إلى ذلك إلهاماً ،واعثرنا على علم جعلنا سن بكره
(مثل عربي يُقال لمن يصدق قوله بما في نفسه) ،وجهينة خبره (مثل عربي
يُقال لمن عنده الخبر اليقين)؛ فإن كنت قد استوفيت مسائلة ،وميزت عن سائر
الصنائع أنظاره ،وأنحاءه فتوفيق من هللا وهداية ،وإن فاتني شيء في إحصائه،
واشتبهت بغير مسائله؛ فللناظر المحقق إصالحه ،ولى الفضل ألني نهجت
السبيل ،وأوضحت له الطريق ،وهللا يهدي بنوره من يشاء. )1(*».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )1أبو زيد ولى الدين عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون ،اعتنى به أبو صهيب الكرمي ،مرجع سابق ـ
ص25
138
وال يدعي ابن خلدون النجاح التام في تحقيق أغراضه ،وال بستبعد النقص،
والقصور ،وال يسبعد النقص ،والقصور في أبحاثه؛ فيطلب من أخالفه انتقاده
أوال ،وإتمامه ثانياً.
ً
..ويظهرابن خلدون ذلك التأكيد بوضوح من بعض العبارات التي كتبها في
خطبة الكتاب إذ يقول :
ثم يدعي بأن الكتاب الذي وضعه « :استوعب أخبار الخليقة استيعابا ،وذلل
من الحكم النافرة صعاباً ،وأعطى لحوادث الدول أسباباً ،فأصبح للحكمة صوانا ً،
*()3 وللتاريخ جراباً.».
ـــــــــــــــــــــــــــــ
*( )2ابن خلدون ،مقدمة ابن خلدون ،تحقيق عبد هللا محمد درويش ،ط ،١دار يعرب ـ دمشق ٢٠٠٤ـ
ص 85
*( )3ابن خلدون ،تحقيق عبد هللا محمد درويش ـ مرجع سابق ،ص 87
139
اإلنسان «السائل»
«لم اترك شيئاً في أولية األجيال ،والدول ،وتعاصر األمم األول ،وأسباب
التصرف ،والحول في القرون الخالية ،والملل ،وما يعرض في العمران من
دولة ،وملة ،ومدينة ،وحلة ،وعزة ،وذلة ،وكثرة ،وقلة ،وعلم ،وصناعة،
وكسب ،وإضاعة ،وأحوال متقلبة مشاعة ،وبدو ،وحضر ،وواقع منتظر إال
)4(*». استوعبت حمله ،وأوضحت براهينه ،وعلله
..وبعد هذا الزهو والفخار ،واإلعجاب بالذات يبدي ابن خلدون نوعاً من
التواضع في مخاطبة علماء زمانه بقوله :
«جاء هذا الكتاب فذا بما ضمنته من العلوم الغريبة ،والحكم المحجوبة
القريبة ،وأنا من بعدها موقن بالقصور بين أهل العصور معترف بالعجز عن
المضاء في مثل هذا القضاء ،راغب من أهل األيادي البيضاء ،والمعارف
المتسعة الفضاء التظر بعين االنتقاد ال بعين الرضاء ،والتغمد لما يعثرون عليه
عليه باإلصالح أو اإلغضاء؛ فالبضاعة بين أهل العلم مزجاة ،واالعتراف من
مرتجاة)5(*». اللوم منجاة ،والحسنى من اإلخوان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
*( )4ابن خلدون ،تحقيق عبد هللا محمد درويش ـ مرجع سابق ـ ص 87
*( )5ابن خلدون ،تحقيق عبد هللا محمد درويش ـ مرجع سابق ـ ص88
140
ويقدم االعتذار عن أي نقص أو قصور في الكتاب بقوله :
كان ابن خلدون بصدد البحث عن «بناء معياري» يُعد من القواعد التي
يعرض عليه ،واألصول التي يرد إليها؛ بغية إصالح ما عطب ،واختل من
التاريخ باإلغراق في األكاذيب ،والخرافات ،والضالالت ،واألساطير التي
أصبحت نموذجاً تفسيريا هاماً وفق للمعارف المتاحة في زمانه لما صعب
فهمه من الظواهر؛ فقاده الدرس والبحث إلى مبادئ «علم العمران البشري»،
وما توافر منها من تحكيم أصول العادة ،وقواعد السياسة ،وطبيعة العمران،
واألحوال في االجتماع اإلنساني ،وليس قيس الغائب على الشاهد ،والحاضر
بالذاهب؛ فربما لم يؤمن فيها من العثور ،ومزلة القدم ،والحيد عن جادة الصدق،
141
اإلنسان «السائل»
وهذا الفن يحتاج إلى العلم بقواعد السياسة ،وطبائع الموجودات ،واختالف
األمم ،والبقاع ،واألعصار في السير ،واألخالق ،والعوائد ،والنحل ،والمذاهب،
وسائر األحوال ،واإلحاطة بالحاضر من ذلك ،ومماثلة ما بينة ،وبين الغائب من
الوفاق أو بون ما بينهما من الخالف ،وتعليل المتفق منها ،والمختلف ،والقيام
على أصول الدولة ،والملل ،ومبادئ ظهورها ،وأسباب حدوثها ،ودواعي كونها،
وأحوال االقائمين بها ،وأخبارهم حتى يكون مستوعباً ألسباب كل حادث ،واقفاً
على أصول كل خبر ،وحينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد
واألصول؛ فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحاً ،وإال زيفه ،واستغنى
عنه .
ويصف ابن خلدون «علم العمران البشري» بأنه :علم مستقل بنفسه،
فإنه ذو موضوع ،وهو العمران البشري ،وما يعرض للبشر في اجتماعهم من
أحوال الملك ،والكسب ،والعيش ،والتساكن ،والعلوم ،والصنائع بوجوه برهانية
يتضح بها التحقيق في معارف الخاصة ،والعامة ،وتدفع بها األوهام ،وترفع
الشكوك ،ومنها أيضاً الحاجة إلى الحكم الوازع ،والسلطان القاهر ،وما يلحقه
من مسائل ،وبيان ما يلحقه من العوارض ،واألحوال لذاته واحدة بعد األخرى،
وهذا شأن كل علم من العلوم وضعياً كان أو عقلياً . .
..وقد أدرك ابن خلدون أن«علم العمران البشري» من العلوم الجديدة التي
142
ربما غفل عنها السابقون من العلماء ،أو ربما عرفوه ،ودرسوه ،ولكنه لم يصل
لمن بعدهم ألغراض غير شريفة شأن العديد من العلوم التي اندثرت مع الزمان،
أكد ابن خلدون مشروعية هذا العلم ،سواءواختفت تحت َطي النسيان ،والقدم ّ ..
ً
ومنفصال عن غيره، أكان الستحقاقه ألن يصنف كعلم مستقل ،وجديد قائم بذاته،
ّ
المفكرين السابقين ،يقول ابن خلدون : أو كونه علما لم يسبق له إليه أحد من
143
اإلنسان «السائل»
خاصة لكلف المأمون بإخراجها من لغتهم ،واقتداره على ذلك بكثرة المترجمين،
وبذل األموال فيها ،ولم نقف على شيء من علوم غيرهم ،وإذا كانت كل حقيقة
متعلقة طبيعية يصلح أن نبحث عما يعرض لها من العوارض لذاتها وجب أن
يكون باعتبار كل مفهوم ،وحقيقة علم من العلوم يخصه لكن الحكماء لعلهم
إنما الحظوا في ذلك العناية بالثمرات ،وهذا إنما ثمرته في األخبار فقط كما
رأيت ،وإن كانت مسائله في ذاتها ،وفي اختصاصها شريفة لكن ثمرته تصحيح
هجروه*()6 األخبار ،وهي ضعيفة فلهذا
« وهذا الفن (علم العمران البشري) الذي الح لنا النظر فيه نجد منه
مسائل تجري بالعرض ألهل العلوم في براهين علومهم ،وهي من جنس مسائله
بالموضوع والطلب :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )6ابن خلدون ،اعتنى به أبو صهيب الكرمي ،مرجع سابق ـ ص 24
144
..ومثل ما يذكر في أصول الفقة في باب إثبات اللغات أن الناس محتاجون
إلى العبارة عن المقاصد بطبيعة التعاون ،واالجتماع ،وتبيان العبارات أخف .
وكذلك أيضا يقع إلينا القليل من مسائله في كلمات متفرقة لحكماء الخليقة
لكنهم لم يستوفوه .
فمن كالم الموبذان (لقب رجل الدين عند الفرس) إلى الملك بهرام ابن
بهرام في حكاية البوم التي نقلها المسعودي في كتابه «أخبار الفرس» التي
مفادها أن:
«ذكر أن بوماً ذكراً يروم نكاح بوم أنثى ،فطلبت منه أن يعطيها مهرها
عشرين قرية من الخراب في أيام بهرام بن بهرام ،فاستهان الذكر بذلك ،وقبل
شرطها ،وقال لها أنه لو دامت أيام مُلك بهرام فإنه سوف يعطيها ألف قرية
145
اإلنسان «السائل»
خربة ال عشرين!».
َ تعجب بهرام من كالم الموبذان ،فخال به ،وسأله عن مراده ،وما الذي قصده
بهذا المثل ،فقال له الموبذان:
أيها الملك :إن الملك ال يتم عزه إال بالشريعة ،والقيام هلل بطاعته،
والتصرف تحت أمره ،ونهيه ،وال قوام للشريعة إال بالملك ،وال عز للملك إال
بالرجال ،وال قوام للرجال إال بالمال ،وال سبيل إلى المال إال بالعمارة ،وال سبيل
للعمارة إال بالعدل ،والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة ،نصبه الرب ،وجعل
له قيماً ،وهو الملك.
..ومن كالم أنوشروان في هذا المعني بعينه « :الملك بالجند ،والجند بالمال،
والمال بالخراج ،والخراج بالعمارة ،والعمارة بالعدل ،والعدل بإصالح العمال،
وإصالح العمال باستقامة الوزراء ،ورأس الكل بافتقاد الملك حال رعيته بنفسه،
واقتداره على تأديبها حتى يملكها ،وال تملكه. ».
وفي الكتاب المنسوب ألرسطو في السياسة المتداولة بين الناس جزء منه
إال أنه غير مستوف ،وال معطى حقه من البراهين ،ومختلط بغيره ،وقد أشار
في ذلك الكتاب إلى هذه الكلمات التي نقلناها عن الموبذان ،وأنوشروان ،وجعلها
146
في الدائرة القريبة التي أعظم القول فيها هو قوله :
«العالم بستان سياجه الدولة ،الدولة سلطان تحيا به السنة ،والسنة سياسة
بسوسها ال َملِك ،والمُلك نظام يعضده الجند ،والجند أعوان يكفلهم المال ،والمال
رزق تجمعه الرعية ،الرعية عبيد يكنفهم العدل ،العدل مألوف ،وله قوام
العالم.».
يرجع ابن خلدون إلى أول الكالم« :العالم بستان» ..مؤكداً أنها ثمان كلمات
حكيمة سياسية ارتبط بعضها ببعض ،وارتدت أعجازها على صدورها ،واتصلت
فوائدها)7(*.». في دائرة ال يتعين طرفها فخر بعثوره عليها ،وعظم من
..وينبه ابن خلدون قارئ مقدمة كتابه إلى تأمل كالمه في فصل الدول،
والملك ،واعطائه حقه من التصفح ،والتفهم ليعثر في ثناياه على تفسير هذه
الكلمات ،وتفصيل إجمالها مستوفي بيان بأوعب بيان ،وأوضح دليل ،وبرهان
اطلعنا هللا عليه من غير تعليم أرسطو ،وال إفادة موبذان .
ويشير ابن خلدون إال أنه وجد في كالم ابن المقفع ،وما يستطرد في رسائله
من ذكر السياسات الكثير من مسائل غير مبرهنة كما برهنها هو في مقدمة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )7ابن خلدون ،اعتنى به أبو صهيب الكرمي ،مرجع سابق ـ ص 25
147
اإلنسان «السائل»
كتابه الشهيرة ،إنما يجلبها في الذكر على منحى الخطابة في أسلوب الترسل،
وبالغة الكالم .
تصحيح التاريخ
ونشأة (علم العمران):
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
148
اإلنسان الخالدة في أن يعرف عن نفسه ،وعن اآلخر؛ بما جعل فن التأريخ فن
عزيز المذهب جم الفوائد شريف الغاية؛ إذ يوقفنا على أحوال الماضين من األمم
في أخالقهم ،واألنبياء في سيرهم ،والملوك في دولهم ،وسياستهم حتى تتم فائدة
االقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين الدنيا فهو محتاج إلى مآخذ متعددة،
ومعارف متنوعة ،وحسن نظر ،وتثبيت يفضيان بصاحبهما إلى الحق ،وينكبان
به عن المزالت ،والمغالط ألن األخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ،ولم
تحكم أصول العادة ،وقواعد السياسة ،وطبيعة العمران ،واألحوال في االجتماع
اإلنساني ،وليس قيس الغائب على الشاهد ،والحاضر بالذاهب؛ فربما لم يؤمن
فيها من العثور ،ومزلة القدم ،والحيد عن جادة الصدق .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )9ابن خلدون ،اعتنى به أبو صهيب الكرمي ،مرجع سابق ـ ص 11
149
اإلنسان «السائل»
وقد ارتأى ابن خلدون أنه كاد يخرج عن غرض كتابه باإلطناب في هذه
المغالط التي زلت أقدام كثير من األثبات ،والمؤرخين الحفاظ في مثل هذه
األحاديث ،واألراء ،وعلقت بأفكارهم ،ونقلها عنهم الكافة من ضعفة النظر،
والغفلة عن القياس ،وتلقوها هم أيضا كذلك من غير بحث ،وال روية ،واندرجت
في محفوظاتهم حتى صار فن التاريخ واهياً مختلطاً ،وناظره مرتبكا ،وعد من
)10(*. مناحي العامة
وارتأى ابن خلدون أن صاحب هذا الفن يحتاج إلى العلم بقواعد السياسة،
وطبائع الموجودات ،واختالف األمم ،والبقاع ،واألعصار في السير ،واألخالق
والعوائد ،والنحل ،والمذاهب ،وسائر األحوال ،واإلحاطة بالحاضر من ذلك،
ومماثلة ما بينه ،وبين الغائب من الوفاق أو بون ما بينهما من الخالف ،وتعليل
المتفق منها ،والمختلف ،والقيام على أصول الدولة ،والملل ،ومبادئ ظهورها،
وأسباب حدوثها ،ودواعي كونها ،وأحوال االقائمين بها ،وأخبارهم حتى يكون
مستوعباً ألسباب كل حادث ،واقفاً على أصول كل خبر ،وحينئذ يعرض خبر
المنقول على ما عنده من القواعد ،واألصول فإن وافقها ،وجرى على مقتضاها
كان صحيحاً ،وإال زيفه ،واستغنى عنه )11(*.
يضع ابن خلدون يده على األسباب الحقيقية التي أصابت التأريخ في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )10ابن خلدون ،اعتنى به أبو صهيب الكرمي ،مرجع سابق ـ ص 19
*( )11ابن خلدون ،اعتنى به أبو صهيب الكرمي ،مرجع سابق ـ ص 19
150
عصره بالفساد ،والعطن ،وشوهته باألكاذيب ،والخرافات ،وحادت به عن
جادة الصواب ،وابتعدت به عن مراميه في ابتغاء الحقيقة ،وحدودها المنطقية
وضوابطها الصارمة ،وفهمها في علتها وربطها بالمعلول ،ولخصها في أسباب
ال تختلف عن (آفة التأريخ) في عصرنا هذا:
ً
أوال :صار انتحال مهنة التأريخ مجهلة ،ويرجع ابن خلدون أمر اشتغال
العوام بالتأريخ إلى اشتغال أهل العصبية بالملك ،والسلطان فدفع لعلم التأريخ من
قام به سواهم ،وأصبح حرفة للمعاش ،وشمخت أنوف المترفين ،وأهل السلطان
عن التصدي للتعليم ،واختص انتحاله بالمستضعفين ،وصار منتحله محتقراً عند
أهل العصبية ،والملك ،واستخف بها العوام ،ومن ال رسوخ له في المعارف
مطالعته ،وحمله ،والغوص فيه ،والتطفل عليه؛ فاختلط المرعي بالهمل ،واللباب
بالقشر ،والصادق بالكاذب ،وصار من مهمة هؤالء المستضعفين « :اصطناع
الرجال».
151
اإلنسان «السائل»
ثانيا :تبدل األحوال والعوائد؛ فكل جيل تابع لعوائد سلطانه؛ فإذا جاءت
دولة أخرى من بعدهم مزجت من عوائدهم ،وخالفت بعض الشيء ثم ال يزال
التدرج في المخالفة حتى ينتهي إلى المباينة بالجملة؛ فما دامت األمم ،واألجيال
تتعاقب في المللك ،والسلطان ال تزال المخالفة في العوائد ،واألحوال واقعة .
..والقياس والمحاكاة لإلنسان طبيعة معروفة ،ومن الغلط غير مأمونة تخرجه
من الذهول ،والغفلة عن قصد ،وتعوج به عن مرامه؛ فربما يسمع السامع كثيراً
من أخبار الماضيين ،وال يتفطن لما وقع من تغير األحوال ،وانقالبها؛ فيجريها
ألول وهلة على ما عرف ،ويقيسها بما شهد ،وقد يكون الفرق بينهما كثيرا؛ فيقع
في مهواة من الغلط ،وهو ما يطلق عليه « :الغلط الخفي».
«الغلط الخفي»:
ــــــــــــــــــــــــــ
152
عن تبدل األحوال في األمم ،واألحوال ،واألجيال بتبدل األعصار ،ومرور
األيام ،وهو داء دوري شديد الخفاء إذ ال يقع إال بعد أحقاب متطاولة؛ فال
يكاد يتفطن إليها إال األحاد من أهل الخليقة ،وذلك أن أحوال العالم ،واألمم،
وعوائدهم ،ونحلهم ال تدوم على وتيره واحدة ،ومنهاج مستقر ،انما هو اختالف
على األيام ،واألزمنة ،وانتقال من حال إلى حال ،وكما يكون ذلك في األشخاص
واألوقات ،واألمصار؛ فكذلك يقع في األفاق ،واألقطار ،واألزمنة ،والدول،
وهو ما يحمل المؤرخون المعاصرون على استدعاء الماضي ،وإعادة بنائه
بالتوسل بـ «المنهج االستردادي»؛ للوقف على طبيعة ،وظروف ،وأحوال
العصر الذي جرت فيه األحداث.
153
اإلنسان «السائل»
يؤكد ابن خلدون أن حقيقة التاريخ أنه خبر عن االجتماع اإلنساني الذي هو
عمران العالم ،وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من األحوال مثل التوحش،
والتأنس ،والعصبيات ،وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض ،وما ينشأ
عن ذلك من الملك ،والدول ،ومراتبها ،وما ينتحله البشر بأعمالهم ،ومساعيهم
من الكسب ،والمعاش ،والعلوم ،والصنائع ،وسائر ما يحدث في ذلك العمران
بطبيعة األحوال .
ولما كان الكذب متطرقاً للخبر بطبيعته ،وله أسباب تقتضيه؛ فمنها
التشيعات لألراء والمذاهب؛ فإن النفس إذا كانت على حال من االعتدال في
قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص ،والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه ،وإذا
خامرها تشيع لرأى أو نحله قبلت ما يوافقها من األخبار ألول وهلة ،وكان ذلك
الميل ،والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن االنتقاد ،والتمحيص؛ فتقع في
قبول الكذب ،ونقلة.
154
..ومنها الذهول عن المقاصد فكثير من الناقلين ال يعرف القصد بما عاين
أو سمع ،وينقل الخبر على ما في ظنه ،وتخمينه؛ فيقع في الكذب .
..ومنها توهم الصدق ،وهو كثير ،وإنما يجيء في األكثر من جهة الثقة
بالناقلين.
ومن األسباب المقتضية للكذب أيضا ،وهى سابقة على جميع ما تقدم :
الجهل بطبائع األحوال في العمران؛ فإن كل حادث من الحوادث ذاتاً كان أو
ً
فعال ال بد له من طبيعة تخصه في ذاته ،وفيما يعرض له من أحواله؛ فإذا كان
السامع عارفاً بطبائع الحوادث ،واألحوال في الوجود ،ومقتضياتها أعانه ذلك
في تمحيص الخبر على تميز الصدق من الكذب ،وهذا أبلغ في التمحيص من
155
اإلنسان «السائل»
***
..يالحظ أن بعض األمور التي يذكرها ابن خلدون عن أسباب الكذب من نوع
الغلط ،والوهم «الالقصدي» ،وبعضها من نوع التلبيس ،والكذب «القصدي»
بالمعنى الذي يفهم من كلمة الكذب ،وبعضها من نوع «عدم التمييز» من جراء
عدم التفكير ،أو الجهل ،أو االنخداع ،وقد ميز ابن خلدون هذه األنواع بعضها
عن بعض غير أنه ذكرها تحت اسم عام ،وهو «الكذب» أى أنه استعمل هذا
األسم للداللة على كل ما هو مخالف للواقع سواء انتجت هذه المخالفة من كذب
المخبر ،وتلبيسه ،أم من توهمه ،وغلطه ،أم من جهله ،وانخداعه .
***
كان موضوع الكذب حقال لكتابات بعض المفكرين أشهرها كتاب «تاريخ
الكذب» للمفكر الفرنسي جاك دريدا ،وكتاب «صناعة الكذب» للكاتب الصحفي
والباحث المصري ياسر بكر .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )12ابن خلدون ،اعتنى به أبو صهيب الكرمي ،مرجع سابق ـ ص 23
156
جاك دريدا
و«تاريخ الكذب» :
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يقدم جاك دريدا في كتابه بعنوان «تاريخ الكذب» أطروحات تمهيدية لبلورة
جينالوجية تفكيكية لمفهوم الكذب في محاولة للوصول إلى إمكانية تشكيل تاريخ
خاص بالكذب من حيث هو كذلك ،وهي اطروحة تعتريها صعوبة ال يمكن
تجاهلها ،وتكمن في ضرورة التمييز بين تاريخ الكذب كمفهوم ،وتاريخة في
حد ذاته ،والذي يحيل إلى عوامل تاريخية ،وثقافية تساهم في بلورة الممارسات،
واألساليب ،والدوافع التي تتعلق بالكذب ،والتي تختلف من حضارة إلى أخرى،
بل وحتى داخل الحضارة الواحدة نفسها ،وتحديد أوجة القرابة التي توجد بين
الكذب ،ومفاهيم أخرى فيجب على سبيل المثال التأكيد كما يفعل كانط على
العالقة العضوية التي تربط الكذب بالوعد ومن ثم الحنث؛ فالكذب في خاتمة
التحليل إخالل بالوعد الذي أعطاة الكاذب ضمنياً لألخرين بقول الحقيقة لهم،
وبالتالي فهو يسعى إلى توجيه سلوكهم أي أن الكذب يتضمن بعداً إنجازيا غير
قابل لإلختزال .
..كما أنه يجب وضع حدود صارمة بين الكذب ،والخطأ ،ومن ثم يجب
افتراض بأن نقيض الكذب ليس الحقيقة أو الواقع ،بل الصدق؛ فالقدبس أغسطين
157
اإلنسان «السائل»
..النتائج التي يستخلصها جاك دريدا من هذه الفرضية تشكل المحاور الثالثة
لتحليالته؛ فهو يفترض وجود عالقة جوهرية بين الكذب ،والقصدية ،ويذهب
إلى أنه من المستحيل؛ وذلك العتبارات بنيوية البرهنة بالمفهوم الضيق لهذه
الكلمة بأن أحداً ما قد كذب ،وذلك على الرغم من أننا بوسعنا البرهنة على أنه
لم يقل الحقيقة .
..كانت الصعوبة التي تجعل مشروع تشكيل تاريخ خاص بالكذب من
الصعوبة بمكان؛ فكيف يمكن للكذب أن يكون له تاريخ مستقل إذا كان التاريخ،
158
والتاريخ السياسي على وجة الخصوص يعج بالكذب !!
..ويرى دريدا أن خطوة مثل هذه ال يمكن الجزم في شأنها بأنها غير
مشروعة أو عديمة الجدوى إال أنه ال يمكن الرجوع إليها إال إذا قبلنا بإدخال
البعد األخالقي للكذب ،وغير قابل لإلختزال في االعتبار؛ أى أن كنه ظاهرة
الكذب من حيث هي كذلك ،ال عالقة لها بمسائل المعرفة ،والحقيقة ،والصحة
والخطأ ،ويعبر دريدا عن رغبته في أن يخطو في اتجاه الهوة التي توجد بين
البعد األخالقي للكذب ،وأحد أشكال تاريخة السياسي؛ ليصل إلى أنه من الصعب
االعتقاد بأن يكون للكذب تاريخ ،ثم من يستطيع رواية تاريخ الكذب؟! ،ومن
بإمكانه الجزم بأن تاريخ الكذب الذي يعد بروايته سيطابق الحقيقة ؟!
يؤكد دريدا أن الكذب حسب تعبير ارسطو :يشكل دعاء أو الدعوة بالشر
في فضاء محدد من اللغة ،وعندما تلجأ الشعوب إلى التخيالت بغرض التعويض
النفسي عن االحباطات ،والهزائم ،واالنكسارات ،وكذلك أحالم اليقظة للمهمشين
والمحبطين ،واالبتكار المتعمد لألشياء المتخيلة ؟!
159
اإلنسان «السائل»
..ويتسائل دريدا :أين نصنف الظواهر المختلفة المرتبطة بالصمت ،والتي
تهدف إلى خداع األخرين ،وأحياناً إلحاق األذي بهم ،وقد تكمن من ورائها على
العكس من ذلك مقاصد حسنة ال يمكن التشكيك فيها !!
..وينطلق دريدا من فرضية أن للفهم السليم للكذب الطليق تاريخ فإنه من
المحتم على هذا األخير أن يجد نفسه في صيرورة قد تهدد باستمرار بإضفاء
طابع النسبية على سلطته ،وقيمته باإلضافة إلى هذا ،وهنا تكمن الصعوبة
160
الثانية يجب التمييز بين تاريخ الكذب كمفهوم ،وتاريخة في حد ذاته ،والذي
يمثل تاريخ ،وثقافة يؤثران في الممارسات ،واألساليب ،والدوافع ،والتقنيات،
ومختلف الطرق ،والنتائج التي يمكن ربطها بالكذب؛ فحتى عندما نأخذ ثقافة
ما حيث يسود بدون منازع مفهوم واحد للكذب محدد ال يتغير أبداً فإن التجارب
االجتماعية ،والتأويالت المختلفة ،وأساليب ممارسة فعل الكذب تبقى قابلة
!!*()13 للتغير
ياسر بكر
و«صناعة الكذب» :
ــــــــــــــــــــــــــــــ
يستلهم ياسر بكر الفكر الخلدوني عن تعريف التاريخ في مقولة ابن خلدون
العميقة :
« إعلم أنه لما كانت حقيقة التاريخ أنه خبر عن االجتماع اإلنساني الذي
هو عمران العالم ،وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من األحوال مثل التوحش،
والتأنس ،والعصبيات ،وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض ،وما ينشأ
عن ذلك من الملك ،والدول ،ومراتبها ،وما ينتحله البشر بأعمالهم ،ومساعيهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )13جاك دريدا ،تاريخ الكذب ،ترجمة رشيد بازي ،المركز الثقافي العربي ـ ط 1ـ المغرب ،الدار البيضاء
ـ بيروت ،لبنان 2016
161
اإلنسان «السائل»
162
..أخذ ياسر بكر من الفكر الخلدوني وبنى عليه في تمحيص 13قصة خبرية
مكذوبة في الصحافة المصرية في الفترة من 1949م إلى 2005م باعتبار
الكذب المرحلة األولى في عمليات تزوير التاريخ بأسلوب يعمد إلى اختالق
وقائع ال وجود لها ،وحجب المعلومات الصحيحة أو تقديمها مشوهة أو محشوة
بالمغالطات لصرف ذهن المتلقي إلى جهات أخرى غير الواقع ،بما يفقده القدرة
على التفكير ،وتدفع به في االتجاه الخاطئ بما يسهل من عمليات السيطرة عليه،
واقتياده نحو الهدف.
وهذا النوع من األكاذيب ال يتم إطالقها بالصدفة أو عفو الخاطر ،وإنما يعكف
على إعدادها فريق من أكفأ المختصين في بحوث اإلعالم ،وتوجيه الرأي،
وقيادة الجموع بأسلوب علمي دقيق يراعى فيه الظرف ،والتوقيت ،وطبيعة الفئة
المستهدفة مع تجنب اللهجة العدائية حتى ال تثار في تلك في نلك الفئات مشاعر
العناد ،والرغبة في المقاومة ،ويطلق عليهم «طهاة األخبار المطبوخة» ،وتمر
تلك «األخبار المطبوخة» بالعديد من مراحل اإلعداد ،والتجريب من خالل
«إلقاء الطعم» عبر تضخيم األخطاء ،وتقديم األكاذيب مغلفة ببعض الحقائق
التي يعرفها العامة حتى تنال ثقتهم ،ثم يتم تضخيم األكاذيب ،وإطالقها في شكل
بالونات االختبار عبر التسريبات ،والشائعات ،والنكات ،ومعرفة أثارها ،ومدى
تقبل الناس لها قبل وضعها على منصات اإلطالق ،وهو األسلوب الذي انتهجه
163
اإلنسان «السائل»
«اكذب ،ثم اكذب ،ثم اكذب؛ حتى تصدق نفسك ،فيصدقك الناس ،فإن لم
يصدقوك ،فاخترع لهم عدوً ا وهميًا ،وخوّ فهم منه ،فإن لم يصدقوك ،فاتهمهم
بالخيانة» ،تنفيذا ألوامر هتلر الذي كان يعتقد أن « :كلما كبرت الكذبة أمكن
في بعض األحيان أن تثبت في األذهان».
ويعمد هذا األسلوب إلى إدخال الغش على المتلقي من خالل إغراقه بكم
من التقارير المكذوبة في إطار زائف يخفي حقيقتها ،ويصعب على المتلقي
العادي التمييز بينه ،وبين أشكال ،وقوالب الخطاب اإلعالمي الجاد التي تلزم
الصدق ،وتقدم الحقيقة؛ فيلجأ القائمون على «صناعة الكذب» إلى نشر ،وترويج
«أشباه األخبار» أو «تلغيم األخبار» أو استخدام «الرطــانة اللغوية الجوفاء»،
واالستخدام المسيء للغة للوصول إلى «التباس اللفظ ،والمعنى» على النحو
التالي:
أ ـ أشباه األخبار:
ـــــــــــــــــــــــــــ
164
وأنصاف المتعلمين ،وكأنه أخبار ،ولكنه ال يحمل في مضمونه أي خبر أو
معلومة جديدة على اإلطالق.
وتتم صياغة أشباه األخبار في أنماط ،وقوالب من خالل أداء شديد االحترافية
بعد تغليفها بعناصر البريق ،والجذب ،واإلثارة ،والتشويق ،وتقديمها للمتلقي في
إطار االنفراد الصحفي ليزداد إقباله عليها ،وقبوله لها ،وكأنها أخبار حقيقية.
ب ـ تلغيم األخبار:
ـــــــــــــــــــــــــــ
1ـ وضع عناوين مثيرة ال عالقة لها بمضمون الخبر؛ في استفادة شريرة
لما توصلت إليه الدراسات اإلعالمية من نتائج مفادها أن الكثيرين من قراء
الصحف يكتفون بقراءة العناوين فقط ،وال يدققون في التفاصيل ،وأشارت تلك
الدراسات إلى أن:
165
اإلنسان «السائل»
هو أحد أساليب ترويج األكاذيب بنشرها عبر منصات إطالق مجهولة في
!!*()14 أماكن نائية ،ويتم النقل عنها ،وتداولها باعتبارها حقيقة مؤكدة
***
166
بباريس ،الذي ألف كتابا بعنوان « :تاريخ الكذب» لتحديد جينالوجية الكذب،
ومفاهيم أخرى ،وناقشت كتاب الصحفى المصري الصحفي المصري ياسر
بكر بعنوان«:صناعة الكذب» الذي يرصد فيه «صناعة الصحافة المصرية
للكذب في نصف قرن».
«ثورة التاريخ»:
ــــــــــــــــــــــــــ
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أسفرت حركة التاريخ التي أفرزت
التطورات التي أدت حركات التحرر الوطني ،واالعتراف بحقوق الشعوب
في إدارة شئونها إلى بروز اتجاهات جديدة في الدراسات التاريخية تهتم
بنشاط اإلنسان في مجاالت االقتصاد ،واالجتماع ،والسياسة ،والثقافة ،والفن،
والدبلوماسية ،ونظم الحكم ،والمؤسسات ،والطبقات ،وما إلى ذلك ،وكانت مثل
هذه االتجاهات الجديدة في الدراسات التاريخية ،والتي اصطلح على تسميتها
بـ «التاريخ الجديد» نتاجا للتطورات التي جرت على العالم فيما بين الحربين
العالميتين وبعدهما ،وتمثلت نتيجة هذا كله فيما أطلق عليه «الثورة التاريخية»،
وهي ثورة صامتة حققت من التقدم في مجال المعرفة التاريخية في الربع األخير
من القرن العشرين ما لم يتحقق طوال تاريخ التاريخ بأسره منذ كان وليداً في
حجر األسطورة إلى أن صار علما له فلسفته ،وتاريخه ،ومناهجه.
167
اإلنسان «السائل»
..لكن أهم ما تمخضت عنه هذه الثورة الصامتة أن التاريخ لم يعد علم ينتمي
للماضي إال من حيث موضوعه ،ولكنه صار علما ينتمي للحاضر ،والمستقبل
من حيث هدفه ،وفائدته.
ولم تعد مهمة المؤرخ أن يعيد «تصوير الماضي» وأن يحكي «ماذا» حدث،
وإنما صارت مهمة المؤرخ أن يفهم «لماذا» حدث ،وما حدث ،ومدى تأثير
هذا الذي حدث في الماضي على حاضر الجماعة اإلنسانية ،ومستقبلها ،وألن
الدراسات التاريخية الحديثة تحاول أن تفهم اإلنسان بوصفه فرداً في جماعة
168
إنسانية ،فإن المصادر التاريخية التقليدية لم تعد كافية لتحقيق هذا الفهم ،ومن ثم
كان البد من البحث في «مناطق» أخرى غير تلك التي تعود عليها المؤرخون
حيث أن المصادر التاريخية التقليدية :الحوليات ،والمدونات التاريخية،
والوثائق ،واآلثار ،وشهادات المعاصرين ،والمذكرات ..،وغيرها ،لم تعد هي
فقط المصادر التاريخية المحترمة ،فقد أخذ عدد متزايد من المؤرخين يبحث
في «مناطق» وجدانية ،وعاطفية هي ما يتضمنه الموروث الشعبي الذي يمثل
للتاريخ»)15( *. «القراءة الشعبية
***
يجمع معظم الباحثون على أن علم االجتماع قد ولد على يد ابن خلدون في
نهاية القرن الرابع عشر الميالدي ،إال أنه لم يتصل علم الغرب به ،واهتمامهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ( )15د .قاسم عبده قاسم ،القراءة الشعبية للتاريخ ،دار عين ،القاهرة 2014
169
اإلنسان «السائل»
به إال في القرن التاسع عشر الميالدي ،ومن ثم يقرون أن هذا العلم لم يتبلور في
صورته الحديثة ،ويتخذ هذا االسم إال على يد العالم الفرنسي أوجست كونت في
القرن التاسع عشر الميالدي !!
..منذ منتصف القرن التاسع عشر تزايد االهتمام بدراسة العمليات النفسية،
وعالقتها بالحياة االجتماعية مثل « :علم النفس المقارن» ،و«علم نفس
الجماعة» ،و«علم النفس االجتماعي» ،و«علم نفس األجناس» ،و«علم
نفس الجماهير» ،و«علم نفس الشعوب» ،و«علم نفس الطوائف» ،و«علم
األنثربولوجيا الثقافية» ،كانت األمال كبيرة ،ومنعقدة على تلك العلوم في أن
تحل لنا من استشكل علينا ،وكان عصياً على الفهم من حيث تركيب الشعوب،
وفهم ثقافتها ،وفهم السياقات االجتماعية التي تكتسب فيها اللغة ،وتستخدم
وأثر ذلك على سلوك األفراد وروح الجماعات ،وكيف يمكن األخذ بها نحو
األفضل.
إال أن نشأة تلك العلوم حديثاً في العالم العربي لم تكن استمراراً لجهود
أسالفنا الفكرية ،وعوضاً عن ذلك تم استبدالها باستيراد نسخة غريبة عن واقع
مجتمعاتنا ،ومتعالية على تراثه بسبب حالة النكوص الحضاري التي تمر بها
امتنا فجعلتنا مستلبين فكرياً ،وعلمياً ،وتاريخياً قاقدين للثقة بأنفسنا ،وتاريخنا،
وقد وافق ذلك هيمنة على القطاعات السياسية ،واالقتصادية ،والتعليمية .
170
..ورغم أن القائمون على تلك العلوم لم يفلحوا في تحديد موضوعاتهاـ
واختبار مناهجها يأساليب علمية ،وتحديد مصطلحاتها بدقة؛ فال يوجد ً
مثال ما
يُطلق عليه «النظرية االجتماعية»؛ فـ «النظرية االجتماعية» مجرد تصورات
شخصية لبعض علماء السوسيولوجيا يتم االرتكان إليها بصورة انتقائية ،وال
تستند إلى واقع أو منهج ..فتختلف من مجتمع إلى أخر حسب ظروفه االجتماعية،
وسياقاته السياسة ،ومدى توظيف هؤالء الباحثون في دعم النظام القائم !!
ومع ذلك يصر القائمون على تلك العلوم على إقحامها عنوة في شتى مناحي
الحياة ،ومنها مجال «الثقافة الشعبية» بغرض مسخ تلك الثقافة ،وتشويهها،
وإزاحتها إحالل ثقافة بديلة مكانها ،وزراعة «ذاكرة بديلة» قائمة على قيم
زائفة ،وخادعة بغرض تحويل المواطنين إلى وحدات متشابهة كأنها خرجت
من خط إنتاج واحد ،وتنعدم فيما بينهم مواصفات التمايز الفردي تحت تأثير
«العدوى النفسية»؛ ..كان تقاعس الباحثون عن رؤية واقعهم االجتماعي رؤية
نقدية ،ومن ثم وضع أيديهم على المشكالت ،والموضوعات الحقيقية األجدر
بالدراسة ،فعلم االجتماع في كل الدنيا هو أكثر العلوم اإلنسانية انتقاداً لنفسه،
ووعياً بنواحي قصوره ،وسلبياته ،ويكفي أن نقرأ انتقادات علماء االجتماع
الذين يتحدثون عن عدم انضباط القوانين أو التعميمات السوسيولوجية؛ فهذه
المبالغة في النقد الذاتي المعروفة عند المشتغلين بعلم االجتماع تمثل مظهراً من
مظاهر الصحة.
171
اإلنسان «السائل»
وزاد األمر سوءاً ذلك االضطراب في أداء العلوم االجتماعية لدورها الذي
يرجع في األساس إلى تدخل مقيت أو فهم مغلوط من جانب السلطة لطبيعة
الواقع االجتماعي الذي تحكمه ،أو إلمكانات البحث العلمي االجتماعي ،وقدرة
أصحابه على اإلسهام في صياغة السياسات االجتماعية ،وترشيدها .
..وهو ما أكده كارل بوبر بقوله « :إذا افترضنا أن العالم االجتماعي يسعى
حقاً في طلب الحقيقة ،فإن المذهب التاريخي ينبهنا إلى الصعوبات المترتبة على
هذا الفرض المتعلقة بالميول ،والمصالح مثل التأثير في مضمون النظريات،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )16د .عبد الوهاب المسيري وأخرون ،إشكالية التحيز ..رؤية معرفية ودعوة لالجتهاد ،ط ، ٢المعهد
العالمي للفكر اإلسالمي ـ الواليات المتحدة األمريكية ١٩٩٦
172
والتبريرات العلمية؛ فال مفر من الشك في إمكانية السيطرة على التحيز،
وتجنبه.
كما ينبغي أن نتوقع تعدد وجهات النظر بقدر ما يوجد من مصالح ،ودائماً
تكون الكلمة الفاصلة لـ «النجاح السياسي» وحده . )17(*.
وبرهن كارل بوبر على كذب «المذهب التاريخي» بعدة أسباب أهمها :
١ـ يتأثر التاريخ اإلنساني في سيره تأثيراً قويا بنمو المعرفة اإلنسانية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )17كارل بوبر ،عقم المذهب التاريخي ،دراسة في مناهج العلوم االجتماعية ،ترجمة عبد الحميد صبره،
منشأة المعارف باألسكندرية ـ األسكندرية ١٩٥٩ـ ص 26
*( )18كارل بوبر ،عقم المذهب التاريخي ،دراسة في مناهج العلوم االجتماعية ،مرجع سابق ـ ص . 5
173
اإلنسان «السائل»
٢ـ ال يمكن لنا بالطريقة العقلية أو العلمية أن نتنبأ بطريقة نمو معارفنا
العلمية.
٣ـ إذن فال يمكننا التنبؤ بمستقبل سير التاريخ اإلنساني ..
٤ـ وهذا معناه أننا يجب أن نرفض إمكان قيام تاريخ نظري؛ أي إمكانية
قيام علم تاريخ اجتماعي يقابل علم الطبيعة النظري ،وال يمكن أن تقوم
نظرية علمية في التطور التاريخي تصلح أن تكون أساساً للتنبؤ التاريخي.
٥ـ إذن فقد أخطأ المذهب التاريخي في تصوره للغاية األساسية التي يتوسل
)19(*. إليها بمناهجه
فمنذ نهاية القرن قبل الماضي راح عدد من العلماء األوربيون من أمثال
جوستاف لوبون يركزون على عملية اإليحاء في السلوك االجتماعي ،بناء
على فرضية «غريزة الرضوخ» أو «غريزة الخنوع » لدى اإلنسان ،وكما أن
لإليحاء جوانب إيجابية فإن له جوانب سلبية ،وتستهدف الجوانب السلبية لعملية
اإليحاء ،والتي تهدف لجعل اإليحاء أداة فعالة في يد العقل الباطن يلفظ بها
بكل الوسائل عوامل الدفع اإليجابي في حياة اإلنسان ،ويتمسك بها بكل أسباب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )19كارل بوبر ،عقم المذهب التاريخي ،دراسة في مناهج العلوم االجتماعية ،مرجع سابق
174
الهدم ،والتعاسة ،وقد أصدر الفسيولوجي النفسي الروسي ف .م .بيختيروف
عام 1903كتابه بعنوان« :اإليحاء ودوره في الحياة االجتماعية» وصف
فيه ظاهرة اإليحاء الجماهيري تحت تأثير «العدوى النفسية»؛ أي عند نقل
المعلومة بمساعدة شتى المنظومات الرمزية ،كان اإليحاء لديّه مرتبطا مباشرة
بالتالعب بالوعي بل إنه يمثل عملية «اقتحام للوعي» !!
لم تستطع هذه العلوم أن تزيد من علمنا شيئا أو تقدم لنا جديدا يحظى
باالهتمام ،ويرجع ذلك ان الذين تولوا طرح تلك العلوم كان يقفزون من الفراغ
إلى الفراغ أو بمعنى أدق أن القائمين على تلك العلوم قاموا بما يشبه «قفزة
الضفدعة »leapfroggingفي تجاوز الموضوعات ،والظواهر إلى نتائج
لم يقدموا عليها أدلة أو براهين ،ولم يتبعوا مناهج علمية معتبرة؛ فلم يوجد
اتفاق حقيقيي بين الباحثين بصدد الموضوع أو المنهج أو نتائج البحث فكل
باحث يقطع من مجال المالحظة العادية ما يشيد عليه قصوره من الرمال بمواد
متناثرة ،ومتناقضة من هنا ،وهناك !!
175
اإلنسان «السائل»
)20(*. ُ
ضربت بقوة
..وهكذا فإن جولدنر ينتقد النموذج الوظيفي ،ومنهجيته ألنه يعكس مصالح
البرجوازية ،ويخدم احتياجاتهم ،حيث تم استبدال المنفعة ،والسلطة باالعتبارات
األخالقية؛ ففي المجتمعات البرجوازية تم فصل السلطة عن األخالق ،وأصبحت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )20الفن جولدنر ،األزمة القادمة لعلم االجتماع الغربي ،ترجمة على ليلة ،المشروع القومي للترجمة،
المجلس القومي للترجمة ـ العدد ٦٦٧ـ القاهرة ٢٠٠٤
176
األخالق شأناً خاصاً .
177
اإلنسان «السائل»
نشاطات ،وأفعال انعكاسية تأملية واعية ،لها معاني مختلفة مرتبطة بتأويالتهم
المختلفة للعالم من حولهم ،عكس الوضعيين الذين يرون البشر يقومون بأفعالهم
بسبب عامل أو متغير محدد .
..وبعد جولدنير بنحو ثالث عقود وفي عام ١٩٩٩نشر كال من جوزيف
لوبريانو ،Joseph Lopreanoوتيموثي كريبن Timothy Crippen
كتاباً بعنوان « :أزمة في علم االجتماع :الحاجة إلى داروين» تناوال فيه
أزمة علم االجتماع المعاصر الذي يواجة خطر السقوط بسبب محاوالت ربطه
بالسياسة ً
بدال من تطويره كموضوع علمي له قوانينه العامة ،وعالقات معترف
بها مع بقية العلوم اإلنسانية األخري وعلى رأسها علم االنفس ،واعتبر أن حبل
النجاة لعلم االجتماع يكون من خالل ارتباطه بالتقاليد الدارونية ،وهو األمر
الذي سبقهم إليه بعض العلماء الذين تسألو ا عن سبب تجاهل النموذج التطوري
الداروني في فهم السلوك البشري ،والتغيير االجتماعي ،وتنوع أشكال الحياة .
178
من الجيل الذي سبقهم في تقديم إجابات حول أسئلة تتعلق بمجموعة من المشاكل
السياسية ،والثقاقية ،والتي تتجلى أبرز مالمحها في أنه تخلى عن روح النقد،
والتحرير في عالم يحتاج إلى هذه الروح كي تستنفر فيه إمكانيات التمرد،
والثورة في مواجهة قوى دولة الرفاهية الباطشة ،والمسلحة بالثقافة التي تدعمها
تكنولوجيا اإلعالم والمعلومات ،والتي تسعى إلى فرض نمط ،ونوعية حياتها
على العالم ،وتشويه ثقافات المجتمعات األخرى ،وتعديل واقعها االجتماعي؛
بما يجعلها فريسة سهلة الستالب مواردها ،وتحويلها إلى سوق كبيرة لتصريف
إنتاج دولة الرفاهية األقوى في العالم ،وهكذا اكتملت الدائرة التي بدأت
باألنثروبولوجيا ،وعلم االجتماع باعتبارهما علمين استعماريين ،وانتهت في
النهاية استعمارية على نحو ما بدأت ..
يشير عالم االجتماع المصري د .على ليلة إلى مالحظة دقيقة في مقدمة
ترجمة كتاب الفن جولدنر حيث يقول :
«حاول الفن جولدنر كعالم اجتماع راديكالي واع ،وبارز أن يلمس جملة
من القضايا في مؤلفه «األزمة القادمة لعلم االجتماع الغربي» منها أن التنظير
االجتماعي الذي استسلم لدولة الرفاهية ،وسلم بشروطها بل بدأ يلعب دوراً
في الحفاظ على سيطرتها على العالم خالل عصر العولمة ،وقد نجح في ذلك
بامتياز؛ فقد سجل مالحظاته خالل عقد السبعينيات غير أن مالمح األزمة ألتي
179
اإلنسان «السائل»
..وتتابعت حلقات تلك األزمات خالل العقود األريعة المتتابعة حتى انتهت
آخر حلقاتها مع غروب القرن التي بدأت فيه ،وتركت علم االجتماع مع بداية
القرن ٢١في حاجة إلى تأمل جديد ،ولكن من نوع آخر ،وإذا كان القرن السابق
ً
تأمال لطبيعة األزمات التي ُفرض على علم االجتماع أن يواجهها فإن قد قدم
التأمل الذي نحتاجه في القرن الجديد ينبغي أن يهتم بالبحث عن سبل الخروج
من األزمة أو األزمات التي مر بها التنظير االجتماعي؛ وذلك لتقديم حلول
تساعد على استمرار خصوبة ،وفعالية هذا التنظير ،وكفاءته ،وقدرته على فهم
واقعه الجديد.
180
الحرب الباردة التي امتدت من منتصف االربعينيات ،وحتى التسعينيات كان
علم االجتماع في كل من الكتلة االشتراكية ،والرأسمالية يؤدي دوره في الحفاظ
على واقعه االجتماعي ،والدفاع عنه ،وتبرير التفاعالت التي تقع في إطاره،
وإبراز نقائص ،وأخطاء الواقع اآلخر ،وعلى هذا النحو أدى الصراع بين واقع
الكتلتين :االشتراكية ،والرأسمالية ،إلى اهتزاز الثقة في علم االجتماع؛ ..ألن
التنظير االجتماعي شكل خط الدفاع األول في هذا الصراع ،ومع سقوط االتحاد
السوفيتتي سقطت األيديولوجية ،وبدأ علم االجتماع بال أيديولوجية توجهه
وتستنفر طاقاته ،وإبداعاته ،وتراجع علم االجتماع عن كونه علماً يمارس دوراً
نقدياً بالنظر إلى مرجعية أيديولوجية محددة ،ويسعى إلى ترشيد حركة المجتمع
استناداً إلى توجيهاتها .
ـ ويتمثل البعد الثاني لألزمة في المنهجية التي نقلها علم االجتماع عن
العلوم الطبيعية في الفترة التي عاصرت نشأته ،وأنه مهد بمنطلقاته العلمانية،
وتوجهاته السياسية الطريق لقيام الثورة الفرنسية ..تلك المنطلقات التي أفقدت
العلوم اإلنسانية ـ بصفة عامة ـ إنسانيتها؛ فعالم االجتماع ليس ساعاتي ،أو
مبرمج حواسب رقمية ،أو ميكانيكي سيارات .
ويرجع السبب في ذلك أن تلك العلوم لم تجد ما تبنى عليه فنحن نعلم
تاريخياً أن علم الطبيعة نشأ بعد علم الرياضيات قائما على الكثير من نظرياته،
181
اإلنسان «السائل»
وكذلك علم الكمياء نشأ بعد علم الطبيعة قائما على الكثير من حقائقة ،وأن علم
األحياء نشأ بعد علم الكيمياء مستفيدا مما توصل إليه ،وكذلك علوم الحواسب،
والبرمجيات مدعوما باكتشاف ( )0وثنائية ( ،)1،0ودورها في الطفرة الهائلة
التي ابتليت به البشرية بصناعة الفيروسات المهندسة ،والمصممة مختبريا،
وأخرها كوفيد ( 19كورونا).
كانت مشكلة تلك العلوم التي من المفترض كونها إنسانية أنها لم تحدد
مجال البحث الخاص بكل منها تحديداً كافيا ،ولم تعرف موضوع كل منها ،ولم
تكفل سالمة مناهجها الخاصة ،ويبدو ان الباحثين فيها لم يتفقوا تماما على رأى
عام يرتضونه ألنفسهم عن طبيعة دراستهم ،وما تتصف به من طابع خاص،
وهذا السبب وراء ما يشعر به المتلقي لتلك العلوم من الحرج ،والغموض،
واالضطراب عندما ينتقل بين هذه المواد وقد أعرب بعض العلماء عن حسرتهم
لهذا األمر ،ومن تلك العلوم .:
..في سنة 1879أسس فلهملم فونت أول معمل نفسي ،وكان فونت
مشتبكا مع تيارات الصراع السياسي ،والفكري في عصره ،وأسس فونت مجلة
182
اسماها«:دراسات فلسفية» ثم غير اسمها إلى «دراسات نفسية» ،وكانت مقاالت
فونت بدايه ما أطلق عليه «علم النفس السياسي» ،وبمرور األيام تم رصد
تدخل السياسة في تحديد مسار علم النفس السياسي؛ فقد قررت اللجنة المركزية
للحزب الشيوعي سنة ،1926وهي اللجنة التي تحدد النظريات النفسية األولى
باالتباع ،وأيها تستحق اإلدانة والتحريم ،والتي أصدرت قرار بإدانة علم التربية
سواء من حيث النظرية أو من حيث التطبيق باعتباره يمثل مواقف علمية زائفة،
*()21 ومعادية للماركسية
كانت العالقة بين العلوم اإلنسانية عامة ـ ومن بينها علم النفس ـ عالقة
تمتد إلى تاريخ العلوم جميعا ،وإن كانت األزمات ،والحروب بمثابة البوتقة
التي جسدت دوما تلك العالقة ،وما ينبغي أن تقوم به تلك العلوم لقهر األعداء،
وتدمير شعوبهم ..بمعنى أن تلك العلوم لم تستخدم في تحقيق خير اإلنسانية بقدر
ما اسهمت في خدمة قوي الشر ،والعدوان .
بمعنى أن الحروب بما تثيره من قضايا ،وما تفرضه من متطلبات ،وما تخلقه
من مشكالت ،وبما لكل ذلك من طبيعة ملحة تترك آثاراً عميقة ليس على نفوس
البشر فحسب بل على مسار المعرفة اإلنسانية عامة ،وفي مجال االكتشاف،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )21دافيد أو ـ سيز ،ليوني هادي ،روبرت جيرفيس ،المرجع في علم النفس السياسي ،ترجمة :ربيع
وهبة ،مشيرة الجزيري ،محمد الرخاوي ـ المشروع القومي للترجمة ـ العد ١٤٨٤ـ ط ١ـ القاهرة ٢٠١٠
ـ ص 14
183
اإلنسان «السائل»
واالختراع على وجه الخصوص ،وليس ذلك غريبا فالحاجة أم االختراع ،وليس
من حاجة ،وال احتياج بأكثر ،وال أقصى مما تفرضه الحروب.
1ـ امكانية استخدام هذه الدراسات في الحرب النفسية باعتبارها يمكن أن تسهم
في فهم عدو فعلي أو محتمل؛ وبالتالي فإن تلك الدراسات في جوهرها سالح
فعلى حال كشفها ضعف ذلك العدو ،وأوهامه ،ومعاييره ،وقيمه ،ورموزه؛ بما
يسهم في هزيمته !!
ً
فضال عن ذلك فإن تلك الدراسات ال تقدم لنا المعلومات عن أعدائنا فقط بل 3ـ
عن حلفائنا أيضا ،وأنها قد تمكننا من المضي معهم بشكل أفضل ،ومن التعامل
معهم بكفاءة أكبر ،وقد نصل إلى فهم أفضل لما يعانونه من مشاكل؛ وبالتالي
184
يصبح في وسعنا مساعدتهم بكفاءة أكثر .
وتؤكد مارجريت ميد (عالمة انثربولوجيا ثقافية) تلك األهداف بقولها :
185
اإلنسان «السائل»
هذا العلم في األغراض العملية ،ولعل لهؤالء العلماء بعض العذر في موقفهم
هذا حيث يرتبط هذا االستخدام العملي بكثير من القضايا األخالقية ،ويتصل
بمشكالت ممارسة الباحث لمسئوليات العملية .
ً
مقاال لقد نشر السويل (أحد أهم الخبراء في التالعب بالوعي) سنة 1970
بعنوان «:هل يجب على العلم أن يخدم السلطة السياسية؟!» أشار فيه بوضوح
إلى أن:
«القول بتأثر السلطة السياسية بالمعرفة العلمية ،وتأثيرها فيها ليس من
ورغم العالقة بين علم النفس ،والسلطة السياسية فقد امتنع العلماء عن
صك مصطلح «علم النفس السياسي» ربما نفوراً من االفصاح عن مواقفهم
السياسية أو ترفعاً عن إلصاق شبهة السياسة بالعلم ،وتقديم مساهماتهم في
التطبيقات السياسية العملية .
186
أما بيتر بريز أستاذ علم النفس في جامعة كيب تاون بجنوب أفريقيا فقد
أصدر عام ١٩٨٠كتاباً بعنوان « :علم النفس االجتماعي ،والسياسة» أعلن
فيه تطبيق إحدى نظريات علم النفس االجتماعي لتفسير العملية السياسية المتعلقة
بالهوية لتفسير العملية السياسية التي عايشها في موطنه ،وقد عبر في المقدمة
عن رؤيته السلبية للسياسة مستعيراً عبارة الشاعر الفرنسي بول فاليري :
«كانت السياسة هى فن منع البشر من التدخل فيما يعنيهم ،ثم اضيفت إليها
187
اإلنسان «السائل»
«إذا أخذت كل أمرئ على حدة ،وجدت أنه مزود بالحكمة ،والذكاء على
نحو غي معقول ،فإذا نظرت إليه ،وهو في جماعة ،وجدت في نفس الوقت أنك
188
..وعن دور الحشود في الخداع ،والتضليل يقول رب العزة سبحانه وتعالى
في كتابه العزيز عن أداء فرعون في إدخال الغش على الرعية :
« إن حشد العقالء أمر معقد للغاية إما حشد القطيع ال يحتاج إال راعي،
وكلب. ».
189
اإلنسان «السائل»
وفي الفترة من عام ١٨٩٠إلى ١٩٠٠نشأ فرع جديد قائم بذاته ،وهو
الذي يسمى «علم النفس االجتماعي» ،ولم يكن لهذا الفرع روح العلم فقد كان
له مظهره ،وهو ذلك الفرع الذي ظل يحمل مسمى «علم نفس الجماهير»،
وتنطوي معظم دراسات علم النفس االجتماعي على نفس العيوب التي تبدو
بجالء من وجهة النظر العلمية؛ ألسباب أهمها:
أن الباحثين في هذا العلم يستعيرون الظواهر من هنا ،وهناك تبعاً للمناسبات،
وبناء على معلوماتهم الخاصة أى أنهم كانوا يستعيرونها من مالحظاتهم اليومية،
ومن التاريخ القصصي؛ وسرعان ما أدت هذه الظواهر إلى التعميم المفرط في
الغلو ،وإلى نتائج قياسية قاهرة شديدة الوقع في النفس ،وسهلة التناول بالمعاني
الكلية دون أن تهتم بتحديدها ،وإيضاحها .
إن علم وظائف األعضاء لم يصبح علماُ بمعنى الكلمة إال منذ اليوم الذي
استطاع أن يحدد فيه الظواهر العضوية ،وأن يفصلها عن غيرها من الظواهر،
وذلك عندما جرد الحقائق الحيوية من كتلة األراء الوهمية التي كانت متضمنة
فيها ،كذلك لن يصبح علم النفس فردياً كان أم اجتماعياً علماً ال يرقي إليه الشك
190
إال إذا أصبح قادراً على القيام بهذه العملية نفسها فيما يمس الظواهر النفسية .
وليس ثمة ما هو أشد بداهة ،ووضوحاً بحسب الظاهر من تلك الصيغة التي
ذكرها «بلدوين»:
«إن علم النفس يدرس الفرد أما علم االجتماع فيدرس الجماعة» ،ولكننا
إذا أردنا االنتقال من النظرية إلى التطبيق فإن الصعوبة الكبرى تنحصر أين
ينتهي الفرد؟! ،وأين يبدأ المجتمع ؟!
ورغم حالة الدجل التي ترتدي ثوب «العلمي» والتخبط؛ فال يوجد اتفاق
حقيقي بصدد الموضوع أو المنهج أو نتائج البحث فكل باحث يقطع من مجال
المالحظة العادية ما يشيد عليه قصوره من الرمال بمواد متناثرة ،ومتناقضة
من هنا وهناك!!
..وبدأ النقاش حول كيف يمكن أن نجعل من «علم النفس االجتماعي» أن
يصير «موضوعيا وعلماً» بمعنى الكلمةً ،
بدال من أن نأخذ في تعداد النتائج
المشكوك فيها إلى حد كبير أو قليل دون أن نلقي عليها نظرة عامة أو دون
نمحصها بالنقد ،ونعني بهذه النتائج المشكوك فيها نتائج هذا العلم الذي لم يهتد
لموضوعه ،ويمكن أن يصبح «علم النفس االجتماعي» موضوعيا ،وعلما
191
اإلنسان «السائل»
بمعنى الكلمة متى حددنا له نقطة البدء في الدراسة ،وعينا اتجاهاته الواضحة،
ووجدنا له فروضاً يمكن اتخاذها أساساً للبحث ،وهى الفروض التي سوف
تقاس قيمتها بصفة نهائية بناء على ما تؤدي إليه من نتائج فيما بعد ،في حين
أنها كانت تقاس ً
أوال وقبل البرهنة بمطابقتها للتجربة ،ولشروط التفكير مطابقة
)23(*. عامة
يفترض الباحثون في هذا المجال أن «علم النفس االجتماعي» يبدأ بظاهرة تقع
تحت المالحظة :وهي أن نتائج النشاط لدى إحدى الجماعات اإلنسانية كاللغة،
والصناعة ،والفنون ،واألخالق ،والعادات ،والتشريع ـ أو لنقل بعبارة أفضل
من ذلك إن المعارف العامة ،والرموز ،والعقائد ،وقواعد السلوك العام ـ تدخل
في نطاق شعور الفرد ،وتعمل على تعديله ،ومالحظة مثل هذه الظاهرة تفرض
علينا واجباً أول وهو :إعداد قائمة بكل العناصر التي يحتوي عليها شعور الفرد،
والتي ال تأتيه من تلقاء ذاته؛ بل عن طريق الجماعة؛ فإذا كان «علم النفس
االجتماعي» هو علم الظواهر النفسية التي تتوقف على وجود جماعة من
األفراد؛ فإن عدد كبير من الظواهر الواقعية التي يصفها الناس بأنها ظواهر
فردية يرجع مجال البحث فيها حقيقة إلى «علم النفس االجتماعي» دون أن
تكون ثمة حاجة إلى وجود الجماهير ،والجماعات بالفعل في اللحظة التي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )23شارل بلوندل ،مقدمة في علم النفس االجتماعي ،ترجمة :د .محمود قاسم و د .ابراهيم سالمة ،مكتبة األنجلو
المصرية ـ القاهرة ١٩٥١ـ ص 14
192
تنشأ فيها هذه الظواهر ،وحينئذ يجب أن تكون نقطة البدء في «علم نفس
اجتماعي» فرضاً يوضع سلفاً ،ويقبل أن تدخل عليه تعديالت بصفة دائمة،
ونعني به ذلك الفرض الذي سوف يحدد مدى المجال الذي يحتمل أن يمتد إليه
موضوع هذا العلم ،ومجموعة المسائل التي يجب على علم النفس العام أن
له)24(*. يدعها
من البديهي أنه يأتي «علم النفس االجتماعي» بعد علم النفس الفردي،
وأنه يجب أن نبدأ بالفرد لكى ننتهي بالمجتمع ال أن نبدأ بالمجتمع لكى ننتهي إلى
الفرد ،ولكن هذه البداهة أيضا تعوذها أدلتها ،وليس هناك ما يدل على أنها بداهة
خادعة ،كما أننا نفتقد النظام الذي ينبغي في دراسة الظاهرة الفردية ،والظاهرة
االجتماعية الفردية !!
193
اإلنسان «السائل»
ً
أوال :علم النفس العضوي
***
194
***
«الهندسة االجتماعية
:»Social Engineering
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
195
اإلنسان «السائل»
واإلعتماد فقط على أساليب اإلحتيال للحصول على معلومات خاصة من
الضحية ،وقد تطورت تلك الممارسات فأصبحت تتم عن طريق الهاتف أو
البريد اإللكتروني مع انتحال شخصية ذي سلطة أو فتاة جميلة على مواقع
التواصل االجتماعي أو ذات عمل يسمح للمحتال أو المخترق بطرح أسئلة
شخصية (على سبيل تحديث البيانات) دون إثارة الشبهات لدى الضحية.
196
..وتعرَّ ف أيضا بأنها :
197
اإلنسان «السائل»
وهى عبارة عن مجموعة التطبيقات التي تعمل على الحصول على بعض
المعلومات عن الشخصية ،ومالمحها الستخراج صورة مشابهة لصورة
الشخص المشارك في هذه التطبيقات ،ولكن بصورة مغايرة على ما هو عليه في
الواقع كتطبيق فيس آب ،Face Appوفلسفة التطبيق تعتمد في االساس على
مجموعة معلومات عن الشخص المشارك فيه إلى جانب صورة شخصية له،
ومن ثم يحصل المشارك على صورة له وهو كهل أو عجوز مقارنة بصورته
الحالية .
198
)24(*. على أسئلة االختبارات الخاصة
علوم الخداع
و«التالعب بالوعي»:
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد انتجت لنا تلك العلوم الزائفة التي تمثلت في علوم الخداع ،والتالعب
بالوعي ،والتي يطلق عليها مسميات مختلفة ،يقول ميشيل فوكو عما اسماه بـ
«رسم الذات ،»Self Stylizationورسم الذات تعني:
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
*( ) )24مقال د .حسام فايز عبد الحي ،مشاركة الجمهور في تقنيات الهندسة االجتماعية عبر موقع فيس
بوك وعالقتها بالخصوصية والتعويض النفسي لديهم ،مجلة البحوث اإلعالمية ..مجلة علمية و محكمة
تصدرها كلية اإلعالم بجامة األزهر ،العدد ٥٥ـ ج ١ـ اكتوبر ٢٠٢٠ص٦٠٠
199
اإلنسان «السائل»
«نظام تسيطر فيه طريقة معينة للحياة ،والتفكير ،وليس فيه إال مفهوم
وحيد للحقيقة ،ينتشر في المجتمع بكل مظاهره المؤسسية والخاصة ،ويصوغ
بروحيته األذواق ،واألخالق ،والعادات ،والمبادئ الدينية ،والسياسية ،وكل
العالقات االجتماعية ،وخصوصاً في مالمحها الثقافية ،واألخالقية ،فإن الهيمنة
هي السيطرة التي يتم التوصل إليها بالموافقة أكثر من القوة من قبل طبقة أو فئة
على بقية المجتمع» .
بينما يرى والتر ليبمان عميد الصحفيين األمريكيين أثناء الحرب العالمية
األولى« :أنها الثورة في فن الديمقراطية ،وأنه يمكن تطويعها لخدمة ما وصفه
بـ « تصنيع اإلجماع» ،بمعنى يجعل الرأي العام يوافق على أمور ال يرغبها
باألساس عن طريق وسائل دعائية ..وأن الحديث عن المصالح العامة ـ من
وجهة نظره ـ كفيل تماما بخداع الرأي العام».
200
بالتفكير وفهم التخطيط للمصالح العامة .
«ليس علينا أن نتنازل للدوجما عن الديمقراطية التي يمكن للناس وفقا لها
أن يحكموا على مصالحهم الخاصة».
وال يخجل هارولد السويل من الجهر باإلساءة إلى شرف العلم باستخدامه
في التالعب بوعي الشعوب ،وصناعة رأى عام زائف بقوله :
201
اإلنسان «السائل»
من خالل إضفاء نوع من «العقلنة الزائفة» على القيم الخادعة والكاذبة
والمخادعة ..أي محاولة إيجاد قبول لما ال أصل ،وال حقيقة له!!
202
وهو ما عبر عن جوزيف ناي في أطروحته بعنوان «القوة الناعمة Soft
» Powerالتي نشرها سنة 2004في توصيف وظائف المصطلح بقوله :
« إننا ال نكتفي بتحطــيم أعدائنا فقط ..،بل نجعلهم يفعلون بأنفسهم ما نريد
بما يخدم مصالحنا ».
وقد اقتبس جوزيف ناي مصطلح (القوة الناعمة )Soft Powerمن ثنائية
الصلب ،والناعم في مكونات الحواسب ،فأجهزة الكومبيوتر تتألف من روافد
الشق المادي الصلبة (تكنولوجيا عتاد الحاسوب ،)Hardwareوروافد الشق
الذهني الناعمة (نظم برامج المعلومات ،)Softwareوقد أخذت تلك المسميات
في االنتشار مع بداية التسعينيات من القرن الماضي على أثر انتشار الكومبيوتر
واإلنترنت.
203
اإلنسان «السائل»
كما تحدث جوزيف س .ناي عن مصادر قوة أميركا الناعمة وقوة اآلخرين
الناعمة (أي أعداء أميركا أو منافسيها على الحلبة الدولية) ،وعن البراعة في
استخدام القوة الناعمة ،وأخيرا القوة الناعمة وسياسة أميركا الخارجية ،وقد
أغفل الكاتب عن قصد ذكر التطبيقات السرية للقوة الناعمة في حاالت الحرب
204
والمواجهات العسكرية ،ألن هذه المخططات ستبقى طي الكتمان في أروقة
البنتاجون والمخابرات المركزية األميركية .
1ـ مصانع هوليود وكل اإلنتاج اإلعالمي والسينمائي األميركي ،رغم أن
«بوليوود» الهندية تنتج أفالما أكثر منها في كل عام.
205
اإلنسان «السائل»
4ـ برامج التبادل الثقافي الدولي والمؤتمرات الدولية التي ترعاها وتشارك
في تنظيمها أميركا.
206
تمهيدا لالنقضاض على النظام المستهدف .
وتتركز األدوار الهامة التي تقوم بها الحرب الناعمة ،في استهدف ثالث
غايات :
2ـ بلبلة األفكار وتشويش النفوس لتعطيل وتجميد نشاطات وطاقات جزء من
جمهورنا من خالل الدعوة لنظريات ومواقف الحياد.
ويخطط القائمون على «الحرب الناعمة» لتحقيق تلك الغايات عبر الوسائل
التالية:
• كسب الشرعية لصالح القوة العظمى ،أو القطب األوحد (أمريكا) ،ونزع
207
اإلنسان «السائل»
• زيادة حدة االنقسامات والصراعات وأخذ العدو لدور المنقذ والمُخلص .
208
بينها :المنشط والمهدئ ،والمثير للبهجة أو االكتئاب ،ما يجعل اإلنسان أكثر
تهذيباً أو شجاعة أو إقداماً وتحديا للمخاطر ،أو ما يطلق لسان صاحبه من
عقاله فيتدفق بالحديث في سالسة وطالقة دون تلعثم ،ومن تلك العقاقير عقار
«األتروفين» العقار المؤثر على تخفيض الروح العدوانية ،والذي اقترح بعض
المهتمين بالشأن العام في بعض البلدان وضع جرعات منها في مياه الشرب
لضمان هدوء الجماهير وامتثالها لقادتها وزيادة شعورها بالقناعة .
كما أنه توجد العديد من العقاقير التي تزيد من عدوانية الناس عن طريق
إضافتها لمياه الشرب أو ملح الطعام ،أو حتى نشرها في الهواء لضمان سهولة
تحريكهم صوب الهدف المنشود ،كما نجح األمريكان في اكتشاف عقار « إل .
سي .دي ».والذي يتحلل في المياه ،ويمكن بإذابة رطل منه في مستودع للمياه
بمدينة كبيرة إصابة الماليين بمختلف األعراض النفسية والعصبية .
209
اإلنسان «السائل»
في إشارة لها معنى وداللة لمفهوم «القوة الناعمة» ذهب وزير الخارجية
األمريكي األسبق كولن باول إلى القول « :ال أستطيع أن أفكر في رصيد لبلدنا
أثمن من صداقة قادة المستقبل الذين تلقوا تعليمهم هنا في أمريكا»
يمكن تحديد مظاهر تأثير القوة الناعمة األمريكية على حياة الشعوب
المستهدفة باألمركة في جذب الشباب والنساء إلى أنماط الحياة والثقافة الشعبية
األمريكية من المأكوالت السريعة واألزياء والمالبس وأدوات الزينة واألغاني
والموسيقى واألفالم التي شكلت أذواق ماليين البشر ،وصارت مظهراً من
210
ً
فضال عن نشر اللغة اإلنجليزية كلغة مظاهر التحوالت االجتماعية والثقافية،
تخاطب يومي في بعض البلدان ،واعتبارها مسوغ أساسي في شغل الوظائف،
واالنتشار الواسع والسريع للمدارس والجامعات إلى جانب المراكز الثقافية،
والبحثية األمريكية في البالد المستهدفة توازيا مع تعاظم النفوذ السياسي
والعسكري األمريكي ،واستخدام أساليب الخطاب الودود ودغدغة المشاعر
الذي يطلق عليه بريجنسكي ( :أسر العقول واألفئدة) بقوله :إن االنتشار السريع
لإلنترنت كأداه جديدة لالتصال ما هو إال مظهر واحد من مظاهر التأثير العالمي
ألمريكا بوصفها الرائد االجتماعي للعالم ،».فمواقع التواصل االجتماعي وشبكة
االنترنت من األدوات التي تعمل أمريكا على توظيفها ،وتسخيرها لصالح الرأى
العام العالمي ،والترويج للنموذج الليبرالي ،وتسويق األهداف المبتغاة نحو
الطريق التي تريده أمريكا عبر مواقع التواصل االجتماعي ( فيسبوك ـ تويتر
ـ يوتيوب ،ومحركات البحث مثل ياهو وجوجل) والتي تعد من أهم الشركات
األمريكية العالمية التي تعني بالتجسس ،وجمع المعلومات حول العالم ،وتعد
أداة فعالة في عمليات تغيير األنظمة حول العالم ،وهذا ما حدث في تونس
ومصر حيث قامت بتعبئة الرأي العام التونسي والمصري واستطاعت تجميع
األالف من المواطنين إلسقاط نظام بن على في تونس ثم نظام مبارك في مصر؛
ً
مجاال للشك أن هذه األداة هي إحدى وسائل أمريكا لتغيير األنظمة بما ال يدع
حول العالم .
211
اإلنسان «السائل»
يقول إريك شميث مدير جوجل أن هناك «ديناً جديداً» تقدمة الشركات
العاملة في مجال تقنيات المعلومات واالتصال وعالم االنترنت ،رسالة هذا الدين
ً
تواصال تقنياً بين أعداد غفيرة من البشرفإن ذلك سيجعل هى أنه « :إذا حققت
عالمنا أفضل ..لكن استطيع أن أؤكد في الوقت ذاته أن األنترنت هو أول
اختراع للبشرية في تاريخها ال تستطيع فهمه ،وأنه أكبر معمل تجارب للفوضى
عرفه اإلنسان. ».
لكن زيجمونت باومان ال يشارك شميت رأيه ..يقول باومان :إحدى التبعات
المشئومة أليدلوجية النت تتمثل في استبدال «الهوية المشتركة» لتحل محلها
«المصالح المشتركة»؛ فال بد من رفض «الدخالء والمجهولين والمختلفين»،
وهو مايطلق عليه « البستنة» !!
أغلب رؤى التغيير القادمة من الخارج تنظر إلى المجتمع على أنه بستان
تصنف نصف قطاعاته بأنها حشائش بشرية ضارة البد من عزلها ،ومن األفضل
رميها في مزابل النفايات البشرية من أجل عالم ال يشوبه االختالف وخالي من
المخالفين عن طريق تغيير األنظمة المعارضة للواليات المتجدة ولمصالحها
فتعطى تلك األنطمة فرصة واجدة لتغير مواقفها أوتزال نهائياً !!.
212
كاملة نواتها تشكيل «األسطورة السياسية» عن طريق انتقاء الكلمات المناسبة
عاد جوزيف ناي في سنة 2017ليناقض نفسه دون ذرة من خجل بالحديث
عنما أسماه «القوة الحادة ..،» Sharp Powerوهو مفهوم جديد في العالقات
الدولية يُرجع البعض جذوره إلى القرن التاسع عشر ،وأعيد استخدامه بشكل
واسع بعد أن تم استخدامه في تقرير صدر سنة ٢٠١٧عن «الوقف الوطني
للديمقراطية» ،وهو وكالة أمريكية تعد أحد فروع ،C.I.A.ويعني بالترويج
للديمقراطية المزيفة خارج أمريكا بما يخدم المصالح األمريكية.
ظهر المفهوم على غالف مجلة اإليكونوميست أوخر عام ٢٠١٧تحت
عنوان « :القوة الحادة :المظهر الجديد للنفوذ الصيني» ،ووظفه جوزيف ناي
الحقا في مقال له في مجلة « فوريم أفيرز »Forum Affairsحيث عرف
«القوة الحادة » Sharp Powerبأنها االستعمال المخادع للمعلومات لمآرب
عدوانية ،وهو ما يتفق مع مفهوم ومضمون (القوة الناعمة ،)Soft Power
ويتناقض معها في التسمية وفقا لنظرية «التالعب األمريكي»!!
وقبل االعتداء على العراق سنة .. 2003كان الكالم األمريكي المخادع عن
استخدام (القوة الناعمة )Soft Powerو «القوة الصلبة »Hard Power
213
اإلنسان «السائل»
..كانت «أصول اللعبة» معروفة؛ فلم يكن مطلوباً سوى تقرير إخباري
مُعد ببراعة ،وصورة صحفية مصطنعة بتقنية عالية !! ،واصطناع األزمات
وسحب السفراء ،والحصار ،وفرض العقوبات وإثارة قوى المعارضة داخل
البالد وتمويلها وتسليحها ودعم مطالبها للتغيير أو تحريكها لقلب نظام الحكم،
وتسخير جهود الهيئات الدولية (األمم المتحدة) لتصبح أبواق الدعاية للعدوان
والخادم األمين ألهدافه!!
214
«ما وجه الخطأ في فرض السيطرة لخدمة أهداف سليمة ومثل عليا»؛
فالدول تحتاج في حاالت معينة إلى كل القوتين الصلبة والناعمة وبالشكل الذي
ال يمكن االستغناء عنه وهو ما يسمى بـ «القوة الذكية . »Smart Power
215
اإلنسان «السائل»
فالقوة الذكية تعني وضع استراتيجية متكاملة لموارد دولة من أجل تحقيق
أهدافها ،وهو النهج الذي يؤكد على ضرورة وجود قوة عسكرية واقتصادية،
ولكن تهتم بالقيم ،والثقافة ،والشراكة ،والتعاون ،والشرعية ،والمؤسسات،
ويشير النموذج التالي إلى أساسيات كل من القوة الناعمة ،والقوة الصلبة أو
الخشنة؛ فالقوة الناعمة تعتمد على الجاذبية ،والقدرة على التأثير باستخدام
أساليب ،وأدوات ثقافية في حين تعتمد القوة الصلبة على اإلكراه ،واإلغراء
من خالل المدفوعات ،والقوة العسكرية ،والعقوبات االقتصادية ،والرشاوي إن
جوهر القوة الذكية هو الفاعلية ،والتكامل المرن والنشط فى استخدام مختلف
مصادر القوة الوطنية التي تمزج بين عناصر إستراتيجيات القوة الصلبة ،والقوة
الناعمة معاً حيث توفر أمناً أفضل ضد التغييرات ،والتهديدات المستمرة .
كان جوزيف ناي من أهم من تحدثوا عن القوة االفتراضية كشكل جديد من
أشكال القوة ،وهي مرتبطة بامتالك المعرفة التكنولوجية والقدرة على استخدامها
216
وقد حدد ناي ثالثة أنواع من الفاعلين الذين يمتلكون القوة االفتراضية :
١ـ يتمثل النوع األول في الدولة التي لديها القدرة على تنفيذ هجمات
إلكترونية ،وتطوير البنية التحتية وممارسة السلطات داخل حدودها ومثال ذلك
قيام مصر بقطع االنترنت وخدمات المحمول لمدة ثالث أيام أثناء انتفاضة ٢٥
يناير ،٢٠١١ولم يكن التصرف المصري نابعاً من فهم وتقدير سليم لطبائع
األمور بل كان استنساخاً من التجربة الصينية حيث قامت الحكومة الصينية
في ٢٠٠٩أثناء أحداث شغب في منطقة شينجيانج بقطع خدمات المحمول
واالنترنت عن المنطقة مما تسبب في حرمان ١٩مليون من سكانها من إرسال
رسائل نصية.
217
اإلنسان «السائل»
3ـ وينصرف النوع الثالث إلى األفراد الذين يمتلكون معرفة تكنولوجية
وقدرة على توظيفها ،وعادة ما تكون هناك صعوبة في الكشف عن هويتهم كما
أنه من الصعب مالحقتهم .
***
لم يكن الهدف من تلك العلوم الكولونيالية المزيفة الضالة المضللة ذات
الطابع النفعي ،وتكنولوجيات «القوة االفتراضية» سوى إحكام السيطرة على
الشعوب والتالعب بها ألغراض عنصرية ،واستعمارية وسيطرة رأس المال،
وتكريس الهيمنة النخبوية ،وتحقيق «الدارونية االجتماعية» التي قامت على
اكذوبة من يصرون على إطالق مًسمى «نظرية» عليها من منطلق أن لكل
قاعدة شواذ ،بينما أكد دارون نفسه في كتابه «:أصل األنواع» أن «:االستثناء
يبطل صحة القاعدة ،».وكان مصطلح «البقاء لألقوى» من وضع هربرت
سبنسر ،وليس داروين كما يشاع بطريق الخطأ ،وقد ساهم سبنسرفي ترسيخ
مفهوم االرتقاء ،واعطى له ابعادا اجتماعية ،فيما عرف الحقا بـ «الدارونية
االجتماعية»!!
218
الفصل الثالث :
ــــــــــــــــــــــــ
«لع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــبة» احل ـ ـ ـ ـ ــاكـم الف ـ ـ ـ ـ ـ ــرد..
واملشروع احلداثي«التسلطي»
219
اإلنسان «السائل»
220
تقع على بعد 500متر من األهرامات في سراديب حفرت في األرض لعدة
كيلومترات؛ لتكون مقابر للبؤساء الذين خدعتهم األسطورة وأغراهم الحلم؛
فشيدوا األهرامات على مدى مائة وثالثين عاماً ،حملوا خاللها ثمانمائة مليون
صخرة تزن الواحدة منها طنين ـ تقريباً ـ جاءوا بها من أسوان إلى حيث
الجيزة اآلن ( 980كيلومترا)؛ ليشيدوا تسعة أهرامات ،ستة صغيرة ،وثالثة
كبيرة؛ لتصبح فيما بعد صروحاً تذكارية للفراعين؛ حيث لم يثبت حتى اآلن أن
األهرامات استعملت كمقابر حسبما شاع في عهود مضت!!
..ذهب الفرعون ،وبقيت الكذبة تنهش في عقل الشعب المصري ..لم يكن
«الفرعون اإلله» سوى حاكم فرد ولد من رحم كذبه اختلقها كاهن لتصبح القاسم
المشترك لكل مشاريع الحكم التسلطية على مدى التاريخ مع اختالف األساليب،
والتسميات ،والمسميات !! .
..بين أيدينا وثيقة مبتكرة ُكتبت بلغة يغلب عليها طابع العامية المصرية
221
اإلنسان «السائل»
ما بين منثور ومشعور ،وهى بعنوان« :هز القحوف في شرح قصيد أبي
شادوف»*( ،)3(،)2(،)1ورغم توافر أكثر من نسخة بين يدي فقد أعتمدت بشكل
كامل على نسخة الطبعة الثانية التي طبعت على نفقة الشيخ محمود موسى
شريف الكتبي ،طبعة المطابع األميرية ببوالق مصر المحمية ـ سنة 1308هـ
ـ 1890م ،ولم أتحرج من نقل «األلفاظ» التي يعدها البعض «خادشة للحياء»
الواردة في ذلك النص ،لكوني عددت ما جاء فيه من ألفاظ جزء من تشخيص
الحالة التي يصفها الكاتب ،وأن غض الطرف عنها أخطر أشكال «عقدة اإلنكار»
التي كلفتنا كثيراً؛ فلم نعرف واقعنا ،وال كيف نعالج سلبياته!! ،وقد خطر ببالي
أيضا أنه ربما ال يستطيع الباحث أو القارئ أن يحصل على مخطوط تلك الوثيقة
أو مطبوعها فيصبح الكالم عنها ـ هنا ـ كالم في المطلق يصعب إنزاله على
النص المبحوث .
222
تنفيس عن كبت عميق ال يقدر صاحبه أن يواجه الواقع االجتماعي بأساليب
إصالحية بناءة؛ ولهذا جاء المُؤلف متسمًا بصبغة وصفية تقريرية مصاغة
في قالب هزلي ساخر ،و«القحوف» في عنوان القصيد ليست قحوف سعف
النخيل ،وليست ذلك النوع من لباس الرأس الذي يشبه الطواقي الطويلة ،ولكن
«القحوف» تعني عظم فوق الدماغ ،وما انتلف من الجمجمة ،وال يدعى قحف
حتى يبين أو ينكسر منه شيء ،وهي تستخدم في بعض المواضع للداللة على قلة
الفهم ،وغلظة الطبع ،وانعدام الذوق ،و«أبوشادف» كناية عن الفالح المصري؛
فالشادوف أحد أدواته لرفع المياه من مكان منخفض إلى مكان مرتفع ،والعنوان
في مجمله يحمل كناية « :االقتراب من عقل الفالح المصري» !!.
..وتظهر قصيدة أبي شادوف قسوة الحكم العثماني على الفالح في جباية
الملتزم لجباية الضرائب ،وعنف الكاشف ،وإلزام الفالح بتقديم الطعام لهم،
والعلف لركائبهم ،والتكليف بالعونة «السخرة» بدون أجر:
يحيف*()4 «وال ضــرني إال إن ابن عمي محيلبة*** يوم تجي الوجــبة علي
223
اإلنسان «السائل»
ويا دوب عمري في الخراج وهمه *** تقضى وال لي في الحصاد سعيف
ويوم تجي العونة على الناس في البلد *** تخبيني في الفرن أم وطيف
وأهرب حدا النسوان والتف بالعبا *** ويبقى ضراطي شبه طبل عنيف»
وقد أورد المؤرخ محمـد بن إياس الحنفى القاهرى فى الجزء الخامس من
كتابه «بدائع الزهور ،ووقائع الدهور» أشكالاً من أشد أنواع الظلم المملوكى،
والعثمانى ضد المصريين ،حتى عرف أبناء المحروسة «االنتحار» بسبب
الفقر ،وغلبة الديون عليهم ،وكانت واقعة غريبة عليهم كما يشير ابن إياس،
حيث يقول إن بعض العوام -فى عام 825هـ -شنق روحه ،فمات قهرً ا ،لما
ضاق األمر عليه.
فى كتابه «حكاية الفالح المصرى فى العهد العثماني» ،يقول الدكتور جمال
كمال محمود عن حال الفالح فى ذلك العصر:
«إن الفالح وصل إلى حال أقل من حال العبيد ،حيث كان يلزم بالسخرة
فى األعمال العامة ،وأعمال المُلتزم ،والباشا الوالي ..كما فرضت عليه أنواع
غريبة من الضرائب ،ومن ذلك ضريبة «كراء األسنان» فكان الملتزمون،
والمماليك العثمانية إذا مروا بقرية التزم أهلها بتقديم الطعام لهم كنوع من
224
اإلتاوة ،وأن يدفع لهم األهالى قبل تناولهم الطعام ضريبة الكراء ،مقابل الجهد
الطعام)5(*.». الذى تبذله أسنانهم فى مضغ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )5د .جمال كمال محمود ،األرض والفالح في صعيد مصر في العصر العثماني ،الهيئة العامة المصرية
للكتاب ،تاريخ المصريين ،العدد ٢٨٥ـ القاهرة ٢٠١٠ـ ص ٢٠٨
225
اإلنسان «السائل»
أي المال الذى تجمعه الدولة ،وتتصرف فيه كما يعن لها ..،وهى ضريبة
تفرض على األرض الزراعية باعتبار المزارع مستأجر لها من الدولة بموجب
«عقد طابو» ،وتكاليف عرفية لم يدل عليها دليل من الكتاب ،والسنة حسب
لفظ دراسة الضرائب فى الدولة العثمانية ،وإنما فرضتها الدولة بموجب سلطة
ولى األمر ..كان قانون السلطان سليمان القانونى ابن سليم األول ،المسمى بـ
«الطابو» خاص بتنظيم عالقة المصريين أو على األحرى الشعوب المحتلة
عثمانيًّا ،باألراضى الزراعية ينص علي « :الدولة هى المالكة لرقعة األرض،
ومن يزرعها مستأجرً ا دائمًا لها» ..،و«سند طابو» كلمة تركية معناها عقد
دائم الستئجار األرض الزراعية ..وعليه أصبح آل عثمان يملكون األراضى
الزراعية ،من حقهم تفكيك حيازتها ثم إعادة توزيعها حسب أهوائهم ..،وأمام
هذا الوضع المأساوي كان من الطبيعى أن يهرب الفالح من زراعة األرض،
فى ظاهرة سميت «التسحب» فقد كان الفالح يسحب أسرته ،ويهرب من القرية
ليلاً ،فيرسل الملتزم جنوده لتعقب الهاربين للقبض عليهم ،وإعادتهم للجلد،
والحبس ثم زراعة األرض.
وقد أوضح ابن خلدون أثر االستيالء على أموال الناس بالباطل ،وبغير حق
في باب بعنوان « :الظلم مؤذن بخراب العمران» بقوله :
226
واكتسابها لما يرونه من أن غايتها ،ومصيرها انتهابها من أيديهم ،وإذا ذهبت
آمالهم في اكتسابها ،وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك ،وعلى
قدر االعتداء ،ونسبته يكون انقباض الرعايا في السعي ،واالكتساب؛ فإذا كان
االعتداء كثيراًعاما في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه
باآلمال جملة بدخول النهب من جميع أبوابها ،وإن كان االعتداء يسيراً كان
االنقباض عن الكسب على نسبته ،والعمران ،ووفوره ،ونفاق أسواقه إنما هو
باألعمال ،وسعى الناس في المصالح ،والمكاسب ذاهبين ،وجائين ؛ فإذا قعد
الناس عن المعاش ،وانقيضت أيديهم كسدت أسواق العمران ،وانتقضت األحوال
وابذعر الناس في األفاق من غير تلك اإليالة في طلب الرزق فيما خرج من
نطاقها ،فخف ساكن القطر ،وخلت دياره ،وخربت أمصاره ،واختل باختالله
مادتها)6(*.». حال الدولة ،والسلطان لما أنها صورة للعمران تفسد بفساد
«وال تحسبن الظلم إنما أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ،وال
سبب كما هو المشهور بل الظلم أعم من ذلك ،وكل من أخذ ملك أحد أو غصبه
في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حق لم يفرضه الشرع فقد ظلمه؛
فجباية األموال بغير حق ظلمة ،والمنتهبون لها ظلمة ،والمانعون لحقوق الناس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )6ابن خلدون ،عني به صهيب الكرمي ،مرجع سايق ـ ص 144
227
اإلنسان «السائل»
ظلمة ،وغصاب األمالك على العموم ظلمة ،ووبال ذلك كله عائد على الدولة
بخراب العمران الذي هو مادتها إلذهابه األمال من أهله.».
ويؤكد ابن خلدون على أن أشد الظلمات ،وأعظمها في إفساد العمران هى
المتمثلة في تسخير الرعايا بغير حق؛ فيقول :
«إن األعمال من قبيل المتموالت؛ ألن الرزق ،والكسب إنما هو قيم أعمال
أهل العمران؛ فإذا مساعيهم ،وأعمالهم كلها متموالت ،ومكاسب لهم ،بل ال
مكاسب لهم سواها؛ فإن الرعية المعتملين في العمارة إنما معاشهم ،ومكاسبهم
من اعتمالهم ذلك؛ فإذا كلفوا في غير شأنهم ،واتخذو سخريا في معاشهم بطل
كسبهم ،واغتصبوا قيمة عملهم ذلك ،وهو متمولهم فدخل عليهم الضرر ،وذهب
لهم حظ كبير من معاشهم ،بل هو معاشهم بالجملة ،وإن تكرر ذلك عليهم
أفسد آمالهم في العمارة ،وقعدوا عن السعي فيها جملة؛ فأدى ذلك إلى انتقاص
العمران ،وتخريبه.».
ويتناول ابن خلدون تأثير السلطة على أخالق الشعوب ،وكيف تتغير
أخالق الناس من جراء الظلم ،وأن الشعوب المقهورة تسوء اخالقها ..يقول
اين خلدون:
«إن الملك إذا كان قاهراً باطشاً بالعقوبات منقباً عن عورات الناس،
228
وتعديد ذنوبهم شملهم الخوف ،والذل ،والذو منه بالكذب ،والمكر ،والخديعة؛
فتخلقوا بها ،وفسدت بصائرهم ،وأخالقهم ،وربما خذلوه في مواطن الحرب،
والمدافعات؛ ففسدت الحماية بفساد النيات ،وربما أجمعوا على قتله لذلك؛ فتفسد
الدولة ،ويخرب السياج ،وإن دام أمره عليهم ،وقهره فسدت العصبية ،وفسد
الحماية)7(*.». السياج من أصله بالعجز عن
ويتناول ابن خلدون أحوال العمران في الرخاء ،وما يطرأ عليه من تفسخ،
وضعف «النبالة» أو «تضامنها الجمعي» أو «العصبية» عند نزول البالء؛
فيقول ..« :والناس فى السكينة سواء؛ فإن جاءت المحن تباينو.».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )7ابن خلدون ،مقدمة ابن خلدون ،تحقيق عبد هللا محمد درويش ،مرجع سابق ،ص 362
229
اإلنسان «السائل»
وهو ما يرصده زيجمومنت باومان بعد ابن خلدون بستة قرون يقول
زيجمومنت باومان :
لم تعد عالقة «القرابة» قائمة على صالت الدم ،وأواصر العصب بل
أصبحت قائمة فقط على «المصلحية» ،و«النفعية» ،ووشائج «المعاشرة»
اليومية !!
وبعد ابن خلدون بثالثة قرون جاءت دراسات علماء الحملة الفرنسية لتؤكد
صدق أقواله .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )8زيجمومنت باومان ،الحب السائل ..عن هشاشة الروابط اإلنسانية ،ترجمة حجاج أبو جبر ،سلسلة
الفقة االستراتيجي ،العدد ، ٥ط ، ١الشبكة العربية لألبحاث والنشرـ بيروت ٢٠١٦ـ ص 20
230
الالمباالة ،والخمول
في حياة المصريين :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
عندما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر استرعى انتباه الفرنسيين أن
مؤسسة واحدة فقط في القاهرة تُعد أكثر شيوعً ا من المسجد :هو المقهى فقد
أحصى جيش نابليون ١٣٥٠مقهى في مدينة األلف مئذنة ،أي بنسبة ٢٠٠
مواطن لكل مقهى ،حيث يجلس الناس يعلّقون على المارة ،ويتبادلون أخبار
الحي ،وبسترقون النظر إلى النساء المارات!!.
وقد أجرى علماء الحملة الفرنسية اختباراً بسيطا على عينات مختلفة من
سكان الحارات للوقوف على مدى «المشاركة اإليجابية» في مجتمع القاهرة
بوضع أحجار كبيرة أمام مداخل بعض الحارات؛ فكان المارة يعتلون الحجر،
وينزلون إلى الجانب اآلخر ليدخلون الحارة ،أو يلتفون حوله من أحد جوانبه،
ويدخلون الحارة دون أن يكلف أحدهم نفسه السؤال عن سبب وضع هذا الحجر،
أو محاولة زحزحته بعيداً عن مدخل الحارة !!
231
اإلنسان «السائل»
* أنهم شعب ال يثور بدون أيدي تحركه أو قيادة تقوده ،فقد كان المحرك
لثورة القاهرة الثانية بعض عناصر تابعة للمخابرات اإلنجليزية ،وعناصر
عثمانية للضغط على الفرنسيين للجالء عن مصر !!
232
والثبات االنفعالي هو قدرة الشخص على التحكم في انفعاالته ،والمحافظة على
الهدوء ،واالتزان مهما كانت الضغوط المحيطة به؛ فالمصريون ال يكشفون عن
ما يعتمل في نفوسهم عن طريق قسمات مالمحهم ،وتعبيرات وجوههم؛ فصورة
الوجة ليست مرآة ألفكارهم؛ فشكلهم الخارجي في كل ظروف حياتهم يكاد يكون
هو نفسه ..إذ تغلب عليه حالة من الموات ..إذ يحتفظون في مالمحهم بنفس
الحيدة ،وعدم التأثر سواء حين تأكلهم الهموم أو يعضهم الندم أو كانوا في نشوة
من سعادة عارمة ،وسواء كانت تحطمهم تقلبات غير منتظرة أو كانت تنهشهم
الغيرة ،واألحقاد ،أو يغلون داخلهم من الغضب أو يتحرقون لإلنتقام؛ وأرجع
العلماء ذلك إلى االعتقاد في القضاء ،والقدر ،كما تعود إلى تعرضهم دوماً
لنزوات الطغاة الذين يعم ظلمهم البالد؛ ففي كل يوم تنشأ أخطاء ،وبشاعات
جديدة تصبح «الغفلة» معها بالنسبة للمصريين نوعاً من الحيلة لمواجهة هذا
العسف ،ويحاولون من خاللها أن يتفادوا الخطر؛ ..بما يجعل المصري أمام
حالة من التسليم المستعذب لأللم؛ فالشكاوي ،والصيحات أمور ال فائدة منها أمام
!!*()9 جبروت الطغاة
233
اإلنسان «السائل»
وطالئع االستعمار المبكر للمنطقة العربية ،واإلسالمية ،ولم يكن مستغرباً أنه
كانت في مقدمة الحملة الفرنسية التي احتلت مصر ( ١٧٩٨ـ ١٨٠٣م) بعثة
علمية متنوعة التخصصات انتجت سفراً ضخماً هو كتاب «وصف مصر» الذي
يحوي رصداً دقيقاً لكافة جوانب الحياة االجتماعية المصرية.
إن أي تصور لمشروع محمد على ال يخرجه عن كونه مشروعاً خاصاً بالحكم
األسري ألسرة محمد على ،أى أن الباشا لم يرد إال حكم مصر له ،ولساللته من
بعده بموجب فرمان فبراير ،1841وبذلك يصبح بناء الدولة ،ووظيفتها مرتبطاً
بهدفه الرئيس في حدوده وطبيعته ،وقد حرص الباشا على استخدام تقنيات
وأبنية حديثة للدولة ،وكان القانون فيها أداة لتطويع اإلنسان (اآللة) ،واستغالله،
وتأهيله مع حرصه على صورة المحدث على النسق األوربي.
234
وساعد أفراد أسرة محمد على في ذلك استمرار حكمهم للبالد لفترة تقترب من
قرن ،ونصف تمكنوا خاللها من ترسيخ تلك األكذوبه في عقول خمسة أجيال
تقريباً ،وحشرها في الكتب المدرسية ،وترديدها في المحافل بمناسبة وبغير
مناسبة !!
235
اإلنسان «السائل»
236
الدعوات التالعب بهم ،فالحروب هي «حروب الباشا» ،ال «حروب مصر»،
وأن الباشا ك ّون «جيشاً أسرياً» ،وليس «جيشاً قوميا»!!
..وهناك الكثير من الدالئل التي تشير إال أن الدعارة كانت تتزايد في مصر
خالل عهد محمد على ،وهو أمر ال يعود إلى انهيار مفاجئ في األخالق أو أي
زيادة مفاجئة في الرذيلة على نحو ما تمثله كوتشوك هانم ،وتختها ورقصتها
الشهيرة (رقصة النحلة) التي تتخفف فيها من مالبسها حتى تصل إلى العري
التام ،والتي خلدها جوستاف فلوبير في «:رسائل فلوبير»؛ كان انتشار الدعارة
نتيجة التوسع الجائر برعونة ،ودون روية في التجنيد اإلجباري ،ومشاريع
السخرة أن تزايدت الدعارة بشكل غير مسبوق لما ترتب على التفكك غير
المسبوق للحياة األسرية الذي نتج عن سياسة التجنيد النهمة التي أجبرت األالف
من الرجال على التنقل من مدينة ألخرى ،ومن منطقة ألخرى تاركين خلفهم
الزوجات ،واألمهات ،والبنات تحت وطأة الجوع؛ فاضطر العديد من الزوجات
الشابات؛ وقد هجرن بهذا الشكل ،وتحت وطأة الجوع أو لتجنب هالك أبنائهن
إلى العمل بالدعارة .
237
اإلنسان «السائل»
راقصين من الرجال ..تص ّور وغدَين في غاية البشاعة ،لكنهما فاتنان في
فسادهما ،وفي نظراتهما الشذراء وحركاتهما األنثوية ،يرتديان مالبس النساء،
وعيونهما مكحّ لة ،ومن حين إلى آخر كان قائد الفرقة ،أو الق ّواد الذي جلبهما،
ّ
والمؤخرة ،وفي الظهر ،ويقوم يقوم بالعزف حولهما ،يقبّلهما على البطن،
ً
محاوال وضع توابل إضافية على شيء واضح في ح ّد ذاته» . بحركات بذيئة
كان جيش الباشا يشكل ضغطاً على النساء؛ فباإلضافة إلى انتشار الدعارة
بين النساء تشير(سجالت ضبطية مصر) إلى إزالة بكارة الكثيرات من فتيات
القاهرة ،وأنهن مستعمالت .. ،ونتيجة حالة الفسق انتشر مرض الزهري بين
األنفار ،وانتشر بين طلبة المدارس العسكرية في القاهرة؛ فحين أبلغ كلوت بك
بأن عدد الطلبة المصابين بالزهري في مدرسة واحدة ٣٠٥نفر؛ أرجع ذلك إلى
عدم وجود أدب ،وإلى أفعال غير الئقة ،وفي النهاية قرر كلوت بك أن جذر
المشكلة يكمن في الدعارة .
238
المصري ،وكان الجنود ينتشرون في أنحاء المدينة؛ ليمارسوا المتع الفظة،
وانتشرت الفتيات في المدينة ،ومعهم الموسيقيين ،والمغنين ،والراقصات،
غرفة)10(*. وامتألت الفنادق بهذه الحثالة العسكرية بحيث تعذرالعثور على
..وتوالى احتالل بلدان المنطقة طوال القرن التاسع عشر ،وتأسيس المعاهد،
والكليلت ،والجامعات في المنطقة التي غلب عليها الدراسات اإلنسانية،
واالجتماعية ،ومنها جامعة القديس يوسف في لبنان ،وكلية جوردن في السودان،
وكلية فكتوريا في مصر ،والجامعة األمريكية في مصر ،ولبنان التي كان هدفها
جميعاً «صناعة النخب الحداثية» .
اللورد كرومر
و«هاتولي حبيبي»:
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
..وجاء االحتالل االنجليزي إلى مصر ،وجاء معه اللورد كرومر المعتمد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )10د .خالد فهمي ،الجسد والحداثة ،الطب والقانون في مصر الحديثة ،ترجمة :شريف يونس ،دار
الكتب والوثائق القومية بالقاهرة ـ القاهرة ٢٠٠٦ـ ص133
239
اإلنسان «السائل»
وراح المطرب يرددها كثيراً ،وبدأ الملل يتسرب إلى كرومر الذي دفعه
الفضول لمعرفة معنى العبارة ،وطلب ترجمتها ،عندها اتخذها حجة على إقامة
الدليل على أن الشعب المصري شعب خامل ال يحسن التفكير ،أو التدبير ،أو
القدرة على اإلنجاز؛ فحتى في العشق ال يُكلف المحب نفسه مشقة البحث عن
حبيبه ،طالبا من الناس ان يجيئوا به إليه!!
واتخذ كرومر تلك الحكاية وسيلة يتندر بها في كل محفل لوصف طبيعة
الفرد العربي بصفة عامة ،والمصري بصفة خاصة ،والتدليل على أن موروثاته
الثقافية انعكست على مواقفه السياسية ،واالجتماعية ،واالقتصادية ،وان الشعوب
العربية إتكالية ،تجيد لغة النواح ،حتى تستجدي عطف اآلخرين ليهبوا لنجدتها
من منطلق نصرة الضعيف ،ال من منطلق القناعة بأن لها حقاً ملزماً يحتم على
اآلخرين الوقوف معها الستعادته.
240
وراح لورد كرومر يكشف عن عورات وجداننا ،وسوء أفعالنا ،وضعف
همتنا ،وانعدام إرادتنا ..قال اللورد كرومر في كتابه بعنوان «:مصر الحديثة»
إن مصر تحكم بثالث كلمات تبدأ بحرف Cالالتيني « :الكورباج ،Courbash
والسخرة ،Corvetteوالفساد .»Corruption
يقول كرومر« :أنه عندما جاء لورد دوفرين إلى مصر كان عاقدا ٌ العزم
على أال يحكم هذا البلد تحت أي ظرف من الظروف باستعمال الكرباج ،وأصدر
منشور بذلك ،وكانت النتيجة كارثية عندما لم يعد لمنظومة السخرة التي كانت
مفروضة في ظل حكم الكرباج وجود ،ورفض الفالحون الذهاب إلى األعمال
بناء على طلب المديرين ،ولم يعد بالوسع إجبارهم ،ولم نعد قادرين على تطهير
الترع ،وتوصيل المياه إلى الحقول ،وبدأت الزراعة تنهار ،ولم يعد في مقدورنا
حماية شواطئ النيل في وقت الفيضانات العالية ..،وأدركنا الحقيقة التي مفادها
أن األمر قد يحتم جلد الشعب المصري لمنعه من الموت جوعاً.».
241
اإلنسان «السائل»
كل أنحاء مصر ..كان المصريون يقبلون الرشاوي ،ويدفعونها بدءاً من الحمّار
شبة العاري الذي يصيح مطالباً بالبقشيش ،ومروراً بالمطالبة بقرش أو قرشين
من سائح فصل الشتاء ،وانتهاء بالباشا عالى المقام الذي يمكنه الحصول على
عونة عن طريق دفع مبالغ كبيرة معظمها أو كلها تقريباً على سبيل الرشوة،
كان المقاول يرشي الوزير كيما يحصل على عقد بشروط مناسبة له هو ،تم
يقوم بعد ذلك برشوة كاتب األشغال حتى ال يتحرى الدقة عما إذا كانت نصوص
العقد قد نفذت تنفيذاً دقيقاً .. ،وكان المرؤوس يرشى رئيسه طلباً للترقية ،وكان
مالك األرض يرشي المهندس للحصول على المزيد من الماء ألرضه ،وحقوله
أكثر مما يستحق ،وكان القضاة يرتشون من المدعي ،والمدعى عليه في أى
قضية من القضايا ،وكان القرار يصدر لصالح ذلك الذي دفع رشوة أكبر،
وكان مساحو األراضي الحكوميون يرشون لتزوير قياسات األرض ،وكان
مشايخ القرى يحصلون على رشوة نظير اإلعفاء من السخرة ،ومن الخدمة
العسكرية ،وكانت الشرطة تحصل على رشوة من كل سيئ الحظ الذين تحتم
عليهم االتصال بها ،وكان المسافر بالسكك الحديدية يجد أنه من األرخص أن
يدفع بقشيشاً للحارس ،أو المحصل ً
بدال من أن يدفع ثمن التذكرة ،وعلى سبيل
التمهيد لرشوة المدير كيما يقوم بتحري مظلمة من المظالم كان يتحتم على
الشاكي رشوة األتباع الجياع الذين يتسكعون حول مكتب المديرية قبل إبالغ
الرجل الكبير شخصياً بالشكوى المقدمة.
242
كان واقع األمر أن تفشي الرشوة في المنظومة اإلدارية المصرية كان بال
نهاية ،وكانت الحياة االجتماعية ،والحياة الرسمية المصريتان مشبعتين بالفكرة
التي مفادها أن المطالب الشخصية ،والمصالح الشخصية المصرية أيضا،
!!*()11 وبغض النظر عن عدالتها ال يمكن الوفاء بها بدون دفع بقشيش
يمكن الكشف عن أساليب الهيمنة اإل نجليزية على الثقافة العربية بالرجوع إلى
الخطط االستعمارية التعليمية في المستعمرات العربية في القرن التاسع عشر،
وما قام به دانلوب مستشار التربية في مصر في عهد المعتمد السامي البريطاني
كرومر ،إذ عمل على الكشف عن خصائص العقلية الشرقية ،وتجذيرها في
«البنية التعليمية» ،واستند في ذلك إلى خاصية معينة من خصائص العقلية
الشرقية ،أال وهي تقديسها للمكتوب ،للكلمة المكتوبة للنصوص ،وراح يصدر
تعليماته الدورية إلى المفتشين ،والنظار على أساس تنمية الذاكرة ،والحفظ
بالذاكرة ،دون كل ما من شأنه أن ينمي ملكة التفكير النقدي ،واإلبداعي الخالق،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ( )11اللورد كرومر ،مصر الحديثة ،ج، ٢ط ،١ترجمة صبري محمد حسن ـ المركز القومي للترجمة،عدد
رقم ٢١٥٧القاهرة ٢٠١٥
243
اإلنسان «السائل»
وكان الهدف من هذه الخطة وضع استراتيجية للهيمنة الثقافية على مصر ،من
خالل إنتاج مثقفين بال ثقافة ،ألنهم ال يمتلكون ،وسائل الثقافة الفعالة ،وهي
الحوار ،والنقاش ،والجدل ،والنقد بل يكتفون بالحفظ ،والتكرار ،واالجترار،
وهذا ما يكشف عنه رأي دانلوب بقوله :
ورأى دانلوب أنه لكي يتحقق هذا الهدف البد من أن تتجه سياسة التعليم
كلها ـ في مرحلة االبتدائية ،والثانوية ،والعالية على السواء ـ إلى الحفظ دون
المناقشة ،والترتيل دون النقد ،ومحاكاة المراجع ،واألساتذة دون تشريحها،
وتكوين رأي مستقل فيها ،واحترام الكلمة المكتوبة دون امتحانها ،والتصارع
فكرياً معها)12(*.».
244
التاريخي إلعالن استقالل مصر صورياً عن بريطانيا بموجب تصريح ٢٨
فبراير ،١٩٢٢وكان ذلك في أعقاب ثورة ، ١٩١٩ومتزامناً مع وضع دستور
١٩٢٣في الحقبة الليبرالية في مصر التي امتدت حتى استيالء الجيش على
السلطة في مصر سنة ١٩٥٢حيث قدم ضباط االنقالب نسخة أخرى من
«المشروع الحداثي التسلطي» بعد جالء المستعمر اإلنجليزي .
يوجه د .نزية األيوبي انتباهنا إلى أمر شديد األهمية بخصوص المعضالت
التي تواجه الدولة بعد مرحلة من االستعمار ،وبعد التحرر الوطنيهو أن الدولة
من الصعب أن تعود إلى طبيعتها ،وهو ما يطلق عليه «:الدولة المبتسرة» أو
«الدولة الخديجية»؛ ألن جزء من المعضلة يُعزى إلى طبيعتها الال متوازنه،
وإلى حقيقة كونها متخلفة في النمو في جوانب معينة ،ومفرطة في النمو في
جوانب أخرى؛ فالدولة في المجتمعات المستعمرة سابقاً لم تخلقها بورجوازية
وطنية بل بورجوازية استعمارية أجنبية قامت بتضخيم حجم اآللة البيروقراطية
خصوصاً في جناجها العسكري لخدمة أغراضها الخاصة في المستعمرات؛ بما
أن هذه األغراض كانت معزولة عن الجزء الرئيسي من المصالح الوطنية؛
فإن هذه الدول كونت كماً كبيراً من «االستقالل الذاتي النسبي» إزاء القوى
االقتصادية ،واالجتماعية األهلية ،وبصفتها استمرارية لإلرث االستعماريالذي
أدى إلى هذا بصورة حتمية ،ومنح الدولة سلطة هامة في شئون المجتمع
*()13 االقتصادية ،والسياسية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )13د .نزية األيوبي ،مرجع سابق ـ ص ٥٤
245
اإلنسان «السائل»
246
األفكار الجهادية ،وتحولت إلى سلفية مجاهدة رفعت السالح على الدولة،
وأغرقت البالد في الدماء ،وقتلت الرئيس السادات .. ،وتزامن انقالب الرئيس
السادات مع التوجه السياسي نحو الغرب ،وتحول مصر إلى سياسة «االنفتاح
االقتصادي» وما انتجته من نمط «االستهالك المتوحش» في ظل فساد الطبقة
العاملة المصرية التي تعودت على «ثقافة االستهالك» ،و«بذل الجهد األقل»
أن تحصل على الكثير من المكتسبات المالية دون بذل جهد في العمل أو تحقيق
إنتاج حقيقي؛ ..ودخلت مصر إلى عاصفة النار ،ودوامات الدم !!
ُ ..
وفرض على البالد قانون الطوارئ عشية اغتيال الرئيس السادات؛ مما
سهل على الدولة وضع المواطنين أمام حتميتين « :إما الخصخصة أو الموت
جوعاً» ،ولم يلغ إال في أكتوبر .2021
..كانت شرعية نظام مبارك تقوم على خطاب سمج ال يمل من تكراره بدأه
247
اإلنسان «السائل»
بـ «النزاهة ،والطهارة» ،وأن «الكفن ما لوش جيوب» ،ثم اتضح بعد ذلك
أن الجيب األصغر لبذة فخامة الرئيس يسع الوطن بأكمله ،وفي مرحلة أخرى
تحدث عن ضرورة وجوده على رأس الحكم لدعم ثنائية األمن ،واالستقرار
في مقابل الفوضى ،واالحتراب األهلي ،ولم يخجل من إعالنها صريحة عبر
أبواقه اإلعالمية«:إما أنا أو الفوضى!!» ،كان أخطر ما أنتجه نظام الرئيس
مبارك ( 1980ـ 2011م) :ظاهرة أطفال الشوراع (التي بدأ ظهور الجيل
الثاني منها مع بداية سنة 2005م) ،وتنامي ظاهرة البلطجة كأحد آليات الضبط
االجتماعي ،والسياسي ،وتنفيذ «المهام القذرة» لبعض فئات الطبقة المتوسطة
والتجار ،ورجال األعمال الذي يصعب إتمامها ،أو أخذ الحقوق من خالل القنوات
القانونية المباشرة ،وال يعني هذا أن البلطجة أصبحت دائرة خارج أو ضد حيز
ً
مكمال لها كما أصبحت أحد العدالة ،واإلجراءات الجنائية بل أصبحت جزءاً
أذرع الدولة الخفية التي تحميها ،وتعفيها من المسؤولية الجنائية ،والسياسية،
ومع توحش الجهاز الشرطي ككل ،وهيمنة سلطته على الدولة ،والمجتمع،
صارت قوات األمن بشكلها الرسمي والمؤسسي ،وغير الرسمي والالمؤسسي
المؤلفة من مجموعات البلطجية ،والمرشدين ،أحد أهم عناصر إنتاج الفزع في
المجتمع إلى جانب أقسام الشرطة التي تحولت إلى مسالخ بشرية.
..وفي ظل تزاوج المال بالسلطة ،وما خلفه من نشوء خندق فساد الكبار:
(من رجال الحكم ،ورجال المال واألعمال ،وكبار ضباط الجيش والبوليس،
248
واإلدارة الحكومية في تحالف غير مسبوق في تاريخ مصر) ،وبالمقابل تشكل
خندق فساد الصغار الذي وجد وسائلة في تعويض الفقر ،والحرمان المتزايد في
نمط آخر من الفساد تمثل في انتشار الدروس الخصوصية ،وتعاطي الرشوة،
واإلكراميات مقابل أداء الخدمات الوظيفية للجماهير ،وامتدت شبكة الفساد
لتشمل الخدمات الحكومية كافة بدءاً من أقسام الشرطة مروراً بالمستشفيات
العامة ،وانتهاء بالمحاكم ،وقد اصبحت تلك الممارسات تمثل أخطر روافد
االقتصاد الخفي ،والتى ساهمت في انتعاش أنشطة أخرى مثل الدعارة ،والبغاء،
والمخدرات ،وعمليات تهريب وغسيل األموال عبر القنوات الرسمية ،ونظم
االستيراد وغيرها .
249
اإلنسان «السائل»
..وفي ظل هذا المناخ التي أصبحت فيه الدولة بكل مواردها ،وأجهزتها
ومؤسساتها تدار لصالح حفنة من الفاسدين ،واللصوص ،وبدأ الحديث عن
250
«التوريث» ،وتهيئة المناخ لخالفة جمال مبارك على الحكم ،وقد أعطى
السيناريو السوري األمل للداعمين لمسلسل التوريث بعبور بشار األسد إلى
رئاسة سوريا عبر جسر البعث ،وكوادره التي تضبط إيقاع الحركة في الشارع،
وتحكم سيطرتها على مفاصل الدولة ،وتصور بعضهم أنه يمكن استنساخ
التجربة بإدخال تعديالت على السيناريو المصري عبر سن بعض اإلجراءات
التشريعية التي أفقدت األسرة النواة تماسكها عبر المجامالت التشريعية للمرأة؛
بما أسهم في تفاقم (أزمة الذكورة) في المجتمع المصري!!
251
اإلنسان «السائل»
أجل التغيير» التى رفعت شعار «كفاية» لرفض التجديد للرئيس مبارك لفترة
خامسة ،وقطع الطريق على محاوالت التوريث ورفعت شعار «:ال للتمديد ..ال
للتوريث».
حركة 6أبريل:
ـــــــــــــــــــــــ
بدأ هؤالء الشباب فى تشكيل مجموعات لنشر فكرة اإلضراب ،فقد أنشأت
إسراء عبد الفتاح جروب « خليك فى البيت»على موقع « فيسبوك» دعت فيه
إلى إضراب يوم 6أبريل ،2008كما دعت أيضا للتظاهر فى عدة أماكن
بمحافظة القاهرة ،واإلسكندرية ،والمحلة.
وفى وقت قصير انتشرت فكرة اإلضراب فى جميع أنحاء مصر ،وشارك
فى هذه المجموعة أكثر من 71ألف شخص ،ومن خالل إرسال رسائل إلى
األعضاء؛ مما أدى الستجابة بعض األحزاب ،والحركات المعارضة المصرية
252
لفكرة اإلضراب ،مثال ذلك حركة موظفى الضرائب العقارية ،حركة إداري،
وعمال القطاع التعليمى ،ونقابة المحامين ،وحركة 9مارس التى تضم أساتذة
الجامعات ،باإلضافة إلى بعض المثقفين ،والمدونين ،وناشطى اإلنترنت.
محطة النطالقه ،ليخوض أولى معاركه مع السلطة بعد إحالة المستشارين هشام
وهى المعركة التى تطورت مع تصدى قضاة التيار لتزوير االنتخابات البرلمانية
وقد تمت تصفية كل رموز ذلك التيار باإلحالة للتأديب لعدم الصالحية
الرتكاب أفعال ال تليق بشخص القاضى ،وانتهى األمر بسجن بعضهم في
253
اإلنسان «السائل»
باراك أوبامـــــا
رئيس اإلنترنت :
ـــــــــــــــــــــــــــ
فقد راهن أوباما شخصياً وكذلك القائمون على حملته االنتخابية الرئاسية؛
على هذا اإلعالم الجديد مبكراً جداً ليس فقط من بداية هذه الحملة؛ بل منذ عام
2004حين اعتمد على اإلنترنت فى انتخابات الكونجرس ... ،وقد بدأ أوباما
حملته التمهيدية داخل الحزب الديمقراطى سعياً للفوز بترشيحه فى «فضاء
اإلنترنت» إذ استضاف عدداً من المانحين اإللكترونيين لتناول العشاء معه؛
وبث تفاصيل اللقاء معهم كاملة على موقعه الخاص على الشبكة العنكبوتية .
..ومع تقدم الحملة االنتخابية استخدمت حملة أوباما بكثافة ،وفاعلية المواقع
254
الثالث األكثر شهرة فى أوساط األجيال الجديدة ،وهى (الفيسبوك ،ويوتيوب،
وماى سبيس ) ،فكان لهذه المواقع أثر هائل فى الوصول إلى عدد ال يقل عن 75
مليون شخص معظمهم من الشباب ،وإطالعهم على أخبار الحملة االنتخابية،
وتطوراتها وكليبات المؤتمرات واللقاءات التى تحدث فيها .
..وتؤكد األرقام الواردة في الدراسة التى نشرت على موقع بيو (مشروع
اإلنترنت البيولوجية )Internet Project Biologicalأن أوباما لديه
1726453صديق على الفيس بوك ،و 510799على ماي سبيس مقارنة
بمنافسه ماكين الذي لديه 309691صديق فقط على الفيس بوك ،و87652
فقط على ماي سبيس .
255
اإلنسان «السائل»
ومع التحدي الذي جلبته اإلنترنت بدأت إرهصات انتفاضة يناير؛ فبدأت
تولد في الفضاء االفتراضي لإلنترنت ما يسمي بـ «اإلحتجاجات الرقمية
ً
قبوال من المواطن المصري لخلوها من عنف »E- Protestsالتي القت
اإلحتجاجات العادية ،وكونها في مأمن من بطش ،وإيذاء الشرطة ،ونشأ ما
يُسمى بـ «مواقع التواصل االجتماعي »Social Mediaالتي أوجدت ما
يُعرف بالـ «المجموعات .»Groups
256
وزير الداخلية األسبق بزعم إعادة اإلنضباط إلى الشارع المصري في
الثمانينيات من القرن الماضي ،وأخرجها من األرشيف اللواء عدلي فايد مدير
األمن العام ،وأقرها اللواء حبيب العادلي وزير الداخلية لبث الرعب في قلوب
المواطنين عبر تحويل أقسام الشرطة إلى «مسالخ بشرية» يتم تعليق الضحايا
مثل الذبائح في أقبيتها ،وممارسة «التعذيب الممنهج» بالصعق بالكهرباء ،وهتك
األعراض ،وإهانة كرامة الرجال ،وإنسانيتهم بإذاللهم ،والعبث بمؤخراتهم
بالعصي واألصابع؛ فقد نشر نشطاء فيديو إدخال العصا في دبر عماد الكبير
على أيدي أفراد من جهاز الشرطة في أحد األقسام ،وتصوير عملية التعذيب
بمعرفتهم ،وتداوله بقصد التفاخر ،وتلفيق القضايا ،واحتجاز النساء رهائن لحين
تسليم المطلوبين .
كان اللواء عدلي فايد مدير األمن العام ضابط متواضع الكفاءة ،وكانت
كل مؤهالته أنه دفعة حبيب العادلي وزير الداخلية ،وحسن عبد الرحمن رئيس
جهاز مباحث أمن الدولة في كلية الشرطة؛ فأتوا به من منطلق كونه من «أهل
الثقة» ،وقد كلف ذلك االختيار مصر الكثير؛ فالرجل بأدائه الردئ أفسد العالقة
ً
اعتقاال بين أهالي سيناء ،ووزارة الداخلية باعتقال قرابة 4آالف من أبناء سيناء
عشوائياً بتوسيع دائرة االشتباة عقب حوادث إرهابية ،وأهان شيوخ القبائل،
وانتهك حرمة المرأة البدوية باحتجازها رهينة في أقسام الشرطة لحين تسليم
ذويهم ،وهى إهانات ال يقبلها المجتمع السيناوي ،ومازالت سيناء إلى يومنا
257
اإلنسان «السائل»
هذا تجني ثمار اإلرهاب الذي وضعت بذوره تصرفات غير مسئولة لضابط
ضعيف االمكانيات .
القوة االفتراضية
في مواجهة النظام :
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
..نشر المدون وائل عباس صور االعتداء على األستاذة نوال على من
258
خالل مدونته Blogبعنوان «:الوعي المصري» التي دأب من خاللها على
فضح تجاوزات الشرطة ،ومنها واقعة تعذيب عماد الكبير ،وكانت اللطمة
القاسية لنظام حسني مبارك هو إعادة نشر مجلة The Economistعلى
غالفها صورة االعتداء على األستاذة نوال على ،ونقلته عنها بعض الصحف
العالمية!!
259
اإلنسان «السائل»
260
..وفي ظل ميزة «التفاعلية النشطة »Interactive Communication
التي تتيح تجميع األالف من البشر في دقائق حول مناقشة األفكار ،وبلورتها،
وتنقيحها بحيث تبدو مثل كرة الثلج التي سرعان ما يزداد حجمها ،ويتغير
مسارها في دقائق قليلة؛ وساعد على ذلك أيضاً ليونة ،وسهولة تشكيل المعلومات
الرقمية ،وصياغتها في قوالب مختلفة قابلة للحفظ في أوعية الكترونية ،ويسهل
استعادتها ،وتداولها؛ ففي عام 2008قرر عمال غزل المحلة اإلضراب في
السادس من أبريل ،وقرر ناشطون على النت مساندة اإلضراب ،وتبني اقتراح
األستاذ مجدي أحمد حسين ليشمل اإلضراب مصر كلها ،وخالل ساعة انضم
أكثر من 70ألف مشترك إلى إحدى صفحات اإلضراب على «الفيس بوك».
كان ما حدث يوم 6ابريل جرس إنذار للنظام؛ فقد أدرك األستاذ عبد هللا
كمال الصحفي بـ «روز اليوسف» ،وعضو أمانة السياسات بالحزب الوطني
أن اإلنترنت أصبح العب جديد على الساحة ،وأنه سيغير شكل الحياة السياسية
في مصر خالل سنوات ،وأوصى بوجوب تحقيق أقصى استفادة منه ،فاستحدث
الجهاز األمني فرعاً لإلنترنت ،وكون الحزب الوطني لجان الكترونية تحوي
مئات الشباب الذين توظفوا مقابل أجور خيالية للقيلم بوضع التعليقات المؤيدة
للحكومة ،وللحزب دون القيام بإصالحات حقيقية .
كانت كل الشواهد تشير إلى أن دور الرئيس مبارك قد انتهى وأن من
261
اإلنسان «السائل»
األفضل إقناعه بالتخلي طواعية عن الحكم لكن عناد الرجل في التشبث بالسلطة
فاق كل الحدود ،والتصورات؛ ..فقد احتوى خطاب أوباما في نصه األصلي
بجامعة القاهرة على العبارة« :آن للرئيس مبارك أن يعتزل ويستريح» ،وبذل
د .عبد المنعم سعيد جهود كبيرة مع مسئولي السفارة األمريكية بالقاهرة مستعينا
بصديقة السفير اإلسرائيلي ليتم حذف تلك العبارة ،وتمت مكافأة د .عبد المنعم
سعيد على ذلك بتعيينه رئيساً لجريدة األهرام .
وبعد ذلك دعى عماد الدين أديب في مقال بعنوان « :الخروج اآلمن
لمبارك» ،دعى فيه الرئيس مبارك إلى التخلي طواعية عن السلطة شريطة
تأمينه هو ،وأفراد أسرته من المالحقة القضائية ،وبالطبع لم يكن أديب يستطيع
كتابة مثل هذا المقال بدون ضوء أخضر ،ومظلة حماية من جهات خارجية .
وبدأت أبواق مبارك تهاجم عماد الدين أديب وتسخر من كتاباته بعناوين
ً
مقاال في جريدة كان أهمها«:الخروج اآلمن ألديب!!» وكتب فهمي هويدي
الشروق يقطر مرارة بعنوان « :رضينا ..والهم ما رضي !!»
..وعندما جاء د .محمد البرادعي إلى مصر استقبله في المطار مئات من
الشخصيات العامة ،والنشطاء السياسين ،وأطلق الشاب محمود الحته على موقع
الفيس بوك صفحة بعنوان « :البرادعي رئيساً لمصر» ،وبعد ساعات كان عدد
262
ً
وبدال من أن يتفهم نظام مبارك رغبة الناس أعضاء الصفحة 150ألف عضو،
في التغيير ،وإحداث إصالحات جذرية تحسن من واقع المواطن المصري لجأ
إلى اإلساءة للبرادعي ،وطالت اإلساءات بشكل فج أفراد من أسرته .
كانت التقارير األمنية التي يرفعها اللواء حبيب العادلي ،واللواء حسن عبد
الرحمن مدير مباحث أمن الدولة تشير إلى أنه تم «تدجين الشعب المصري»،
وأنه لن يستطيع أن يرفع رأسه ،ولن يستطيع أن يكسر حاجز الخوف .
..ثم كانت واقعة قتل الشاب السكندري خالد سعيد في 6يونية 2010
على أيدي شرطيين سريين من قوة قسم شرطة سيدي جابر .. ،وتم التعتيم على
القضية في اإلعالم الرسمي ،وعندما تناول بعض النشطاء الواقعة قام اإلعالم
الرسمي بتشوية الضحية بإطالق صفات سلبية على الشاب القتيل مثل «عاطل
اإلسكندرية» ،و«شهيد البانجو» ،و «الديلر» بمعنى تاجر المخدرات ،والهارب
من أداء الخدمة العسكرية .
263
اإلنسان «السائل»
المشرحة ،وبها أثار التعذيب الوحشي ..كانت الصورة البشعة صادمة لـ
«األغلبية الصامتة» من جموع الشعب المصري التي ارتأت أن «الصمت
الجبان» هو السبب في قتل ابنائها ،وتعذيبهم ،وإهانة كرماتهم على أيدي
الشرطة ،وبقاء ابنائهم عاطلين ،ومهمشين دون تعليم جيد ،أو رعاية صحية،
وزاد من إحساس تلك الطبقة بالقهر تزوير االنتخابات البرلمانية في ،2010
واستخفاف الرئيس مبارك بهم بقوله « :خليهم يتسلوا» !!
وعندما أنشأ المهندس وائل غنيم مدير التسويق لشركة جوجل بمنطقة
الشرق األوسط ،وشمال أفريقيا صفحة على الفيس بوك بعنوان«:كلنا خالد
سعيد» يعاونه في إدارتها الشاب عبد الرحمن منصور الطالب بكلية اإلعالم ـ
جامعة المنصورة بلغ عدد المشاركين في الصفحة خالل دقيقتين 300مشارك،
في اليوم األول بلغ عدد المشاركين 36ألف مشترك ليصل بعد ذلك إلى أكثر من
نصف مليون خالل أيام ،وليبلغ مساء يوم 25يناير 2011مليون مشترك.
264
وقد تمت الدعوة للتظاهر يوم 25يناير 2011عبر صفحة «كلنا خالد
سعيد» ،واستجاب للدعوة 100ألف مواطن خالل ساعتين ،وكسر الشعب
المصري حاجز الخوف ،وتم تحديد وسائل انطالق التظاهرات سيرا على
األقدام ،وتحديد أماكن تجمعاتها ،وأساليب عملها من خالل ما تعلمه الشباب
المشارك عن «حرب الال عنف» من مؤلفات بريجنسكي ،وجين شارب،
وجوزيف ناي ،ومطبوعات أكاديمية التغيير في قطر .
***
265
اإلنسان «السائل»
القتيل خالد سعيد هى الصورة التي أطلقت شرارة الثورة .
الرئيس مبارك لم يتخلى طواعية عن السلطة كما أشيع ،وتم نقله للكافة عبر
كلمة قصيرة متلفزة ألقاها اللواء عمر سليمان؛ فقد كان الرئيس مبارك مصراً
على إبادة المتظاهرين ،وإراقة الدماء ،وقد ذهب إلى غرفة عمليات القوات
المسلحة ،وقام بالتوقيع على الخطة «إرادة» التي أُعدت للتنفيذ عن طريق
القوات الجوية في حال حدوث شغب في البالد ،وهو ما يعني قتل 3مليون
مصري متواجدين في ميدان التحرير.
اتفق المجلس العسكري علي عدم تنفيذ تعليمات مبارك ألن الخيار بين بقائه
في الحكم ،وإبادة 3ماليين مصري كان أمراً مرعباً ..وبعد أن علم مبارك
بقرار الجيش اتصل بالمشير طنطاوي ،وسبه ،وقال له :
ـ «انتوا بتخونوني».
266
وتمادى مبارك في تسفله على القيادات العسكرية؛ فأصدر المشير طنطاوي
التعليمات بتحويل ابراج الدبابات تجاه القصر الجمهوري في رسالة معلنة
وواضحة لمبارك ،والمتعاطفين معه ،وكان يوما عصيبا علي أسرة مبارك
..بكى أفراد من الحرس ،وتشاجر عالء مبارك مع شقيقه جمال ،وحمله
المسئولية عما يحدث لوالده هو واصدقائه من «غلمان أمانة السياسات».. ،
وبكت سوزان مبارك .. ،وتوجهت مدافع الدبابات تجاه وزارة الداخلية ،وحلقت
طائرات حربية فوقها لتحمل رسالة مماثلة إلى اللواء حبيب العادلي مفادها أن:
«كل شئ قد انتهى».؛ فقد كانت هناك مؤامرة يقودها جمال مبارك ،وحبيب
العادلى لالنقالب على الرئيس مبارك أثناء الثورة تم إعدادها في ورقة من 8
بنود تمثل خط الدفاع األخير ،وتحدد ساعة الـ ( blackoutالتعتيم) ،وكيفية
التصرف حيال األوضاع ،لكن العادلى استخدم هذه الورقة فى غير ظروفها
الحقيقية .. ،كان تحليق الطيران الحربي فوق وزارة الداخلية رسالة صريحة
ألخطر مجرم في تاريخ مصر ..تسلمها ،وفهمها ،وكان عليه أن يقبع في الشيخ
ريحان في انتظار األوامرإلجالئه بسالم .
كان خلع مبارك أشبة بعملية خلع ضرس صعبة؛ فقد عبر المخلوع بما ينبئ
عن سوء نواياه تجاه الوطن ،وناسه ،وأفصح عن الدماء السوداء في قلبه في
جملة تطفح بالغل ،والكراهية ،والنذالة ،والخسة ،وفقدان الشرف؛ فقال :
ـ هوا طنطاوي عاوز البلد يبقي يشيلها ،وانا حخليها خرابة..
267
اإلنسان «السائل»
***
268
الفصل الرابع :
ـــــــــــــــــــــــ
اإلنسان السائل
269
اإلنسان «السائل»
هو ذلك اإلنسان الذي خضع لعوامل كثيرة من الرج ،والصهر ،والضغط
التي نتج عنها حالة من اإلسالة ،واإلذابة ،والميوعة شكلت مصطلح
«ااإلنسان السائل» الذي يُعد نتاج حالة اجتماعية ،وسياق تاريخي تزامن
مع مرحلة «ما بعد الحداثة» بكل ما تحمله من «السيولة» التى أغرقت
جميع مناحي الحياة ،فتداخلت الحدود ،وتراخت السمات ،واختلطت
المعايير ،وازدادت ضبابية ،وتشابهت حتى صار من الممكن أن نتحدث
عن سيولة أو ذوبان في حدود الدول أو معالم المجتمع أو سمات الهوية
الفردية أو خصائص الثقافات ،وسيولة الجانب األخالقي ،وسيولة
التعامالت ،وسيولة البشر بتدفقهم من مكان إلى آخر ،وسيولة المال بل
وإلغائه للحدود التقليدية ،وسيولة الهويات بتغييرها المستمر ،والسيولة
السلوكية من خالل النزعة االستهالكية ،وما عنته من تمظهرات في
السلوك وفي المعتقدات ،والتحوالت غير منطقية من «الحداثة الصلبة»
إلى «الحداثة السائلة» على حد تعبير عالم االجتماع اإلنجليزي الجنسية
البولندي األصل زيجمونت باومان في معالجته لنظرية «التقاطع المعرفي
»Interdiscplinarity Theoryفي علم االجتماع من خالل ما أسماه
270
من خالل مجموعة مؤلفاته المعروفة بـ «سلسلة السيولة» :
المجتمع الحالي ال يُفهم من وجهة واحدة ضيقة بل البد من اتحاد فيما بين
التخصصات المختلفة؛ لذا كانت معالجته لنظرية «التقاطع المعرفي» و«مفهوم
السيولة» الذي قام على فكرة الفعل االجتماعي الموجه ثقافياً بفعل مؤسسات
الفكر والعلم ،ومؤسسات البيروقراطية لخدمة آليات السوق ،ومؤسسات
اإلقراض الربوي!!؛ إذ ليس بوسع المستهلك دخول عالم الحياة االستهالكية إال
عندما يتحولون إلى سلع ،ويستطيعون إبراز قيمتهم االستعمالية؛ فالتفرقة بين
المستهكين ،وموضوعات االستهالك في الحياة السائلة هي تفرقة لحظية عابرة
غالبا ،ومشروطة بالظروف دائماً.
271
اإلنسان «السائل»
األقل طرق باب التخصصات األخرى ،ولم يبق حبيس المفاهيم التي يوفرها
علم االجتماع فقط بل على العكس من ذلك تمكن من صقل مفاهيم جديدة تخدم
علم االجتماع ..أخذ باومان تلك الحالة الفيزيائية لما تكون عليه المادة من
صالبة ،وانتقالها إلى حالة أخرى تكون لزجة مائعة سائلة؛ فهو أخذ هذا الشكل،
وهذه الصورة كي يعبر بشكل بالغ ،وكبير عن الكيفية التي تحول بها المجتمع
من حالة الصالبة (الحداثة) إلى حالة الميوعة (ما بعد الحداثة) ،وعلى هذا يعتبر
مصطلح «:السيولة» نقطة تالقي لما أخذه باومان من العلوم األخرى ،ووظفه
ليوصل للقارئ أن حالة المجتمع الحالى في ترديه كحالة المادة المائعة السائلة
التى ال تعرف ثباتاً .
..يجعل باومان من السيولة بهذا المفهوم تلك المرونة التي تنهزم في
وجه الصالبة في كل الميادين فيقول « :السيولة هي الصالبة الوحيدة ،والال
يقين هو اليقين الوحيد»؛ فهو يعتبر السيولة نموذجاً لنمط حياتنا المعاصرة
..إنها تقنية الصهر ،والتمييع ،واإلذابة ،وفي ظل السيولة كل شيء ممكن أن
يحدث لكن ال شيء يمكن أن تفعله في ثقة ،واطمئنان ،ومفهوم السيولة ال يظهر
في سيولة الحركة ،والتنقل نتيجة التطورات المتسارعة في وسائل االتصال،
واالنتقال بل هي تصل حد سيولة المشاعر ،والعالقات ،والمعاني ألن المعنى قد
غاب تحت نير التنقالت ،والبحث ،واللهاث وراء كل جديد .
في مجتمع السيولة الذي يصوره باومان تبدو حالة السيولة واضحة في
272
العالقات االجتماعية ،وداخل التركيبة االجتماعية؛ فهو مجتمع تتغير فيه
الظروف التي يعيشها أعضاؤه بسرعة ال تسمح باستقرار األفعال في عادات،
وأعمال منتظمة ،وهكذا تتغذى سيولة الحياة ،وتستمد طاقتها ،وحيويتها منها .
«نظرية السوائل»:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
273
اإلنسان «السائل»
باومان يعتبر شخصية رئيسية في علم االجتماع األوروبي ،ويهيمن على
عمله القلق الناجم عن تعاقب األزمات السياسية ،واالقتصادية ،واألخالقية
التي تؤثر على مجتمعاتنا المعاصرة من التكلفة البشرية للعولمة على
األخالق ،وتحييد اآلثار األخالقية لألفعال البشرية ،وتوابع عالم المستهلك،
ويحمل عمله تشخيصاً لألوجاع الحاصلة دون السماح لنفسه بالوقوع في أطر
«النظـــرية» ،وذلك من خالل تنويع التفسير ،واالنخراط في حوار مستمر مع
العلماء ،والمفكرين؛ بما حدا به ليؤكد في أكثر من موضع :
يرى البعض أن ثمة قرابة بين باومان وابن خلدون .. ،وقرابة العلماء ليست
صالت دم أو أواصر نسب أو جيرة مكان لكنها مقاربة فكر ،وإن تباعدت
األزمان ،وهو ما يربط بصلة مقاربة فكرية بين ابن خلدون ،وزيجمونت
باومان الذي يرى أن المجتمع الحالي أصبح سائال في قيمه ،وعادته ،وتقاليده،
274
وثقافته ،وتربيته ،ودينه ،وتاريخه ،وهذا مضمون نظرية «السوائل» لباومان
في علم االجتماع التي مكنته ،وأجبرته أن يكون متقاطعاً معرفياً أى يستعين
بالتخصصات األخرى؛ فقد أخذ من كل ميدان شيئاً ،وركبه مع ميدان آخر
ليوصل لنا رسالة أن المجتمع الحالي مجتمع خطير سائل قريب من االنهيار؛
فبعد اطالعه على االقتصاد وجد ان الناس يجتهدون في االستهالك أكثر من
اإلنتاج ،وهذا ما يسميه بـ «النزعة اإلستهالكية» ،وهو ما يطلق عليه ابن
خلدون «:عوارض الترف والغرق في النعيم» المؤذن بخراب العمران .
..وبعد اطالع باومان على التاريخ وجد أن الناس يعتقدون أموراً لكنها
في الحقيقة كذب وبهتان ،تصدى باومان لخدعة القرن العشرين «الهولوكست»
..عاد باومان لألحداث التاريخية ،ودراسها دراسة تفصيلية؛ فلم يكترث بصحة
األرقام ،والضحايا ،ولم يهتم بإحصاء عدد المعسكرات ،ولم يجمع الخرائط التى
تحدد مواقع اإلبادة بل أجتهد في دحض األسطورة السائدة في الفكر المعاصر،
والتي تروج لها إسرائيل من منطلق أنها حادثة أقر بها هتلر ضد اليهود .
..ليصل بنا باومان إلى أنه ال يمكن في أغلب األحداث التاريخية فهم
الحدث في علته األولي المُعلن عنها؛ فغالباً ما تختفي األسباب الحقيقية خلف
الشعارات البراقة ،والمبررات ،والحجج الزائفة التي يصعب رفضها ،وتلقى
قبوال شعبيا !!؛ إذ غالباً ما تقف أسباب ،وذرائع ،ومصالح غير معلنة وراء
ً
275
اإلنسان «السائل»
الحدث ،وغالباً ما يلجأ المستفيدون إلى اخفائها ،والتعتيم عليها ،والتعمية عنها؛
ولذا يجب إخضاع الحدث لضوابط الفحص التاريخي ،وحدوده الصارمة،
وأهمها«:السببية التاريخية» ،وهو ما أسماه بـ «معاناة إنتاج المعنى» ،ويكشف
أن «الهولوكست» من نتاج الحداثة الغربية ليس إال ،والدليل على ذلك أن هناك
يهود شاركوا في المحرقة ،وبالتالي فـ «الهولوكست» قضية سيادة «الحداثة»
آنذاك ،ولم تكن ضحاياه من اليهود وحدهم ..كان ضحايا الهولوكست 20مليون
شخص منهم 6ماليين يهودي فقط ،وكان ضحايا الهولوكست من األفراد
الذين يعدهم الفكر الغربي إضافات كمية إلى عبث الوجود بجهلهم ،وقذراتهم،
وممارستهم الوحشية كجماعات وظيفية تساند طبقة اإلقطاعيين المتحالفة مع
الكنيسة ،وتقف عائقاً ضد االنطالقة الجامحة لرأس المال؛ ليخلق مجتمع مناسباً
ألغراضه ،واالنتقال إلى طور العولمة !! .
ويحاول اليهود اليوم في الجدل الدائر حول تبرير العالم لإلبادة الجماعية،
وظهور سلسلة جديدة من االدعاءات بأن جماعة ما ليست إال ضحايا من أجل
االنتقام من ظلم الماضي ،والدفاع عن ضجايا الماضي حتى ال تتكرر معاناتهم،
وهو ما ينتقده عالم االجتماع الفرنسي لوك بولتانسكي Luk Boltanski
في كتابه بعنوان « :معاناة بعيدة :األخالق واإلعالم والسياسة Distant
»Suffering : Morality, Media and Politicsفي إطار أطروحة
حول نواة مفاهيمية تتطلع إلى بناء نظرية فعل تستند إلى نظرية إميل دوركهايم
276
لـ «الحقيقة األخالقية» بقوله :
يفحص لوك بولتانسكي الطرق التي حاول بها المتفرجون رؤية الكارثة
منذ نهاية القرن الثامن عشر ،واالستجابة بشكل مقبول لما رأوه من الوحشية
في التعامل مع كل ما هو آخر ،ويناقش أساليب اإلنتاج االجتماعي لال مباالة،
ويتساءل عما إذا كان ال يزال هناك مكان للشفقة في السياسة الحديثة.
الحقيقة الثانية التي أكدها باومان أن :ليس كل تاريخ يبقى ثابتاً مثل ما
تعودنا عليه ،وأن هناك مغالطات وضعت ألغراض محددة يعلمها صاحبها،
وعليه فإن الجانب التاريخي عنده يُظهر أنه رجع إلى التاريخ ،وأخذ منه غير أنه
لم يتناوله باعتباره حدثاُ تاريخيا يتم سرده بل مزج معه جانباً نقدياً؛ مما أضفى
على حادثة «الهولوكست» ـ على سبيل المثال ـ أبعاداً متنوعة لم تقتصر فقط
277
اإلنسان «السائل»
على بعد واحد .
نقد باومان للتاريخ يشعرنا أننا أمام ابن خلدون آخر حيث دعا ابن خلدون
في مقدمته إلى النظر ،والتفكير في نقل األخبار ،والروية ،وعدم الثقة بالناقلين،
والتعديل ،والتجريح ،واآلطالع على األحوال ،والوقائع في العمران .
كان تزييف التاريخ ،والترف نقطتي االلتقاء بين باومان وبين عالم االجتماع
العربي ابن خلدون حول «خراب العمران» و«إنهيار المجتمعات» حسب
ظروف المجتمعات ،واختالف التسميات.
278
***
« ..ااإلنسان السائل» نتاج توصيف مجازي لحالة الفردية التي حولت
جسد المواطن الذي يرمز لألمة إلى جسد المستهلك الذي يلهث وراء السلع
ً
وبدال من توحد القلوب في سوق ال يحقق له الرضا الكامل ،وال األمن أبداً،
على هوية جماعية تتفرق القلوب على تنافس حول السلع ،و «االستعراض»،
كما سماه جي ديبور في كتابه «:مجتمع الفرجة» ـ لمقاومة الشعور الداخلي
بالهشاشة ،والخوف بعد توغل الخصخصة ،وانسحاب الدولة من أدوارها
االجتماعية ،واالقتصادية ،والثقافية ،وافساح الطريق أمام عولمة االقتصاد،
وعولمة الجريمة ،وعولمة االرهاب ،وتحولها إلى «الدولة السجانة» و«الدولة
األمنية» التي تستثمر رأس مال الخوف حتى تضمن شرعية وجودها بعدما
تخلت عن كل األدور التي كانت تكتسب منها شرعيتها.
279
اإلنسان «السائل»
280
صار أحد فنون «الحياة السائلة» ،وإحدى المهارات الالزمة لممارستها .
يرى باومان إن النفايات هي المنتج الرئيس ،بل المنتج األكثر انتشاراً في
المجتمع االستهالكي الحديث السائل؛ فإنتاج النفايات هو أضخم الصناعات في
المجتمع االستهالكي ،وأكثرها حصانة من األزمات ،وذلك يجعل التخلص من
النفايات أحد أبرز التحديات التي البد للحياة السائلة من مواجهتها ،والتعامل
معها؛ ففي عالم يحفل بالمستهلكين ،وموضوعات االستهالك تتأرجح الحياة
بشدة بين حدين :ملذات االستهالك ،ووأهوال القمامة ،وربما تكون الحياة في
األزمنة كافة ،حياة نحو الموت ،ولكن في المجتمع الحديث السائل ربما تمثل
الحياة نحو مقلب القمامة والنفايات أفقا ً ،واهتماماً لألحياء أقرب من غيره،
)2(*. وأكثر استهالكاً للطاقة والجهد
ً
أشكاال للسيطرة؛ حيث ان التكنولوجيا ،والشبكات االجتماعيه صارت
فصار باإلمكان رؤية الجميع ،وهم يكشفون عن أنفسهم ،ويسجلون بياناتهم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )2زيجمونت باومان ،الحياة السائلة ،ترجمة حجاج أبو جبر ،تقديم :د .هبة رءوف عزت ،سلسلة الفقة
االسنراتيجي ،العدد ، ٤ط ،١الشبكة العربية لألبحاث والنشر ـ بيروت 2016ـ ص 22
281
اإلنسان «السائل»
..واختفى ما كنا نطلق عليه حقاً وصدقاً كلمة «سر» لقد صار السر
إما بضاعة معروضة للبيع ،أوسلعة تجارية ،أوكلمة مرور إلى نجاح عابر ،أو
نقطة ضعف تعبر عن نقيصة تعذر على المرء أن يخفيها ،ومن ثم التعرض
لإلبتزاز ،والتهديد بالفضيحة ،وسلب البقية المتبقية من الكرامة واالستقالل،
..ولم يعد للناس أسرار بالمعنى القديم ،ولم يعد الناس يفهمون معنى كلمة
«سر».
« افعل األمر بنفسك ..تجرد من مالبسك ،وأرنا أسرارك ،وافعل ذلك بنفسك
وبإرادتك الحرة ،واسعد بما تفعل.».
..وصدرت العديد من الكتب التي تشجع على عري الجسد ،والنفس مثل:
282
«نهاية الخصوصية ،واستراق النظر ،والجمهور العاري ،وال مالذ،
والخصوصية في خطر ،والطريق إلى األخ األكبر ،وأمة واحدة تحت المراقبة،
وأنا أعرف من تكون وأرى ما تفعل.».
..وأصبح البشر تحت سطوة الشر السائل المسمى «غسل الدماغ» الذي تلجأ
إليه القوة الناعمة ً
بدال من القوة الخشنة بالمعنى الذي حدده جوزيف ناى ،والذي
حققت فيه التكنولوجيا قفزة فارقة جديدة للغاية ..إننا واقعون بإحكام في شبكة
عنكبوتية من المراقبة اإللكترونية ،ويجري إغوائنا بأن نلعب دور العناكب
التي تنسج خيوط تلك الشبكة أو نكون خدمها الطيعين المتحمسين في الغالب
األعم ،شئنا أم أبينا ،وفي كل الحاالت ،من دون استئذاننا ،ويمثل غسل الدماغ
المعاصر تلك النقمة التي ترتدي عباءة النعمة؛ فالوظيفة الظاهرة للوغاريتمات
السالح األساسي لغسيل الدماغ في الوقت الراهن هو السماح لنا باإلبحار عبر
٢,٥كوينتليون بايت (كوينتليون = مليون تريليون =000, 000, 000, 000
( 1, 000, 000,واحد عن يمينه ثمانية عشر صفرا) من البيانات التي تولّد كل
يوم معلومات تفوق مليون مرة ما يستطيع أن يخزنه العقل البشري ،واستنتاج
نتائج قابلة للتنفيذ .،هذه النعمة الظاهرة التي توحي بها تلك الوظائف هي األمل
بأن أجهزة الكمبيوتر ،وما بها من لوغريتمات ستحملنا في أمان عبر محيطات
ً
فضال عن الغوص بأنفسنا البيانات التي سنغرق فيها إذا حاولنا أن نسبح بأنفسنا،
..واقع األمر أن بحثاً واحداً على موقع جوجل يذهلنا باالمتداد الشاسع المزعج
283
اإلنسان «السائل»
المروع العويص لتلك المياه ،وأما النقمة الخفية فهي أن الذين يسمح لهم «منا»
باإلبحار عبر محيط البيانات هم السلطات المهيمنة ،السلطات التي تراقبنا،
والنتائج القابلة للتطبيق التي يستنتجها هؤالء البحارة تمكنهم من تحديد كل واحد
منا على حده حتى تستهدفنا ألغراض محددة مثل إرغامنا أو إغوائنا بإنفاق
أموالنا ،أو حشدنا لقضايا ليست من اختيارنا ،أو استهدافنا لجولة من الطائرات
بدون طيار.
284
..و«الجاني» شبح يتخفي تحت «طاقية اإلخفاء» االلكترونية ،ويتسلل وراء
ماليين األسماء ،وماليين الهويات ،ومئات األلسن ،والمعتقدات ،والماليين من
عناوين البريد االلكتروني .. ،والضحايا «منتحرون» مثل «خرفان بانورج
»moutons de Panurgeفي األدبيات الفرنسية ،ويعني انسياق القطيع
الضال بال فهم أو وعي أو إرادة وراء آراء أو أفعال اآلخرين.
..كل شيء صار افتراضياً حتى العالقات الحميمة صارت بدون تالمس عبر
المشاهدة من خالل مضاجعة الخيال ،وعشق الصور عبر التيك توك Tik Tok
ووتش Watchالمدفوعة الثمن بالكوينات (العمالت الرقمية) أو المواعدة،
والمواقعة على األرض بقوانين العالم االفتراضي بما ال يحقق رغبة اإلشباع
بقدر ما يحقق األمنية حيث ال تتوافق االهتمامات التقنية مع العواطف اإلنسانية؛
فالتركيز على األداء الجيد ال يترك وقتا ً ،وال متسعاً لإلحساس بالنشوة .. ،وأنت
تتجول في أوربا الموحدة ستجد في مختلف العواصم اإلعالنات األتية :
ً
سهال في رأس السنة مع شريك «قابل حلم حياتك ،دعنا نرتب لك لقاء
سيعجبك ـ أحصل على الطفل الذي تريد (بنوك الحيونات المنوية ،واستئجار
األرحام) ـ إجهاض آمن ،ورعاية صحية فائقة :هذا حقك ـ نقدم استشارات
من أجل عالقة جنسية أفضل ـ ال تشغل بالك بوالديك لدينا أفضل خدمة لرعاية
المسنين .. ».كهذا أصيح الفرد يسنطيع تلبية احتياجاته من السوق ،وبعيداً
285
اإلنسان «السائل»
عن األسرة ،وأصبحت األسرة مجرد كيان هزيل من المشاعر غير المؤثرة أو
المنتجة .
..كهذا تعده ألة التسويق الرأسمالي بـ «منتهى اللذة ..منتهى النشوة ..
غاية المتعة»؛ لتدمر فيه ما تتسم به العالقات الوجدانية من ديمومة ـ عفوية ـ
تلقائية ـ عاطفية حيث التأقيت ،والمدى القصير الذي تقوم عليه حسابات المجتمع
االستهالكي القائمة على توليد الحاجات بشكل مستمر .
هكذا يتم استدراجه إلى عالم الصالت العابرة ظناً منه أنه يتخفف من
مسئوليات ،وال يحرم نفسه من فرص قد تظهر ،وأفاق قد تستجد لكنه يجد نفسه
فريسة عالم النفايات في مجتمع االستهالك بكل أعبائه ،وقوانينه حيث تختفي
الثقة ،وتسود المغامرة ،وتتبارى فتيات المتعة الجنسية ،والقوادون في عرض
ما يتم تزيينه أنه األفضل ،واألكثر إثارة ،وإمتاعاً !!
في مجتمع االستهالك الجنس مثل المواد القابلة لإلستهالك مغرية ،والنفايات
منفرة ،وتحقيق الرغبة يليه التخلص من النفايات (رجل ـ امرأة) بمجرد انتهاء
286
المهمة .
ليس هذا فحسب فقد أعلنت شركات عديدة في مجال صناعة الروبوت أنها
بصدد إنتاج روبوت يمكن ممارسة الجنس بواسطته ،واالستغناء عن البشر .
..صارت الحرب صورة تبثها طواقم التصوير عبر هواتفها الخلوية من
فوق أرتال الدبابات لتنقل للمشاهد أمام الشاشات معارك افتراضية في ميادين
افتراضية!! يسهم الليل ،والخوف في تعميق قابلية المتلقي ،وتصديقه لها «إن
قوى اإلرادة عند اإلنسان تقاوم بالنهار كل محاولة تحاول إخضاعها إلرادة
أخرى ،فإذا استهدفتها المحاولة نفسها ً
ليال فال تلبث أن تخضع للسيطرة ،ذلك
287
اإلنسان «السائل»
إن قوة اإلرادة تضعف في آخر النهار ،وإننا نالحظ أن الكنيسة الكاثوليكية
تصطنع الظالل المنبعثة من خالل قشر بيض النعام في المعابد؛ لتسبغ عليها
جوا من الجالل والرهبة ،هذا الجو يجعل المؤمنين في حالة نفسية يسهل على
الواعظ أن يتالعب بقلوبهم ،وعواطفهم ،ويسهل عملية االعتراف على العصاة
من مرتكبي الخطايا.
..ولهذا السبب يكمن السر وراء الضوء الخافت في عيادات الطب النفسي.
افتعال الحروب ال يستلزم سبباً حقيقياً ..يكفي تضليل الرأى العام ،وإقناعه
بأن الحرب ضرورية ،ومرغوبة للغاية فما عليك إال أن تفتعل أزمة ،وأن تضحي
ببضع عشرات من األرواح البريئة قربانا سياسيا ،وأن تزيد من إحساس الناس
بعدم األمان ،وعندئذ وبين عشية ،وضحاها سيرغب الناس في يد مسيطرة
باطشة ،وفي خطابات سياسية خشنة ،وفي شن الحرب !!
..فيكفي نشر صورة «بطة بحرية» ملوثة بالسواد تم اصطناعها على شاطئ
مستنقعات أالسكا إلقناع العالم أن صدام حسين أفسد البيئة البحرية في منطقة
الخليج العربي بما يهدد الوجود اإلنساني!!
288
مستنقعات أالسكا ومعالجته بوسائل الخداع الهليودي لتقنع العالم أن صدام
حسين فجر أبار البترول في الكويت وحرم العالم من نعمة وهبها هللا له !!
..اإلعالم أصبح «الشر السائل» القادر على ارتداء أقنعة فعالة ،وحشد
الهواجس ،والرغبات اإلنسانية في خدمته تحت دعاوى زائفة ،ولكنها دعاوى
يصعب دحضها ،وإثبات زيفها؛ فهو يستعرض نفسه كأنه تقدم الحياة المحايد
والمتجرد من األهواء ،وكأنه السرعة غير المسبوقة للحياة ،وللتغيير االجتماعي،
وما هو عليه من نسيان ،وفقدان للذاكرة األخالقية كما أن الشر السائل يرتدي
عباءة غياب البدائل ،وامتناعها .
« ..الشر السائل» يلجأ إلى إخفاء النقمة في صورة النعمة باعتباره السمة
الرئيسية المميزة لتكنولولوجيا غسيل الدماغ التي ترتدي عباءة «االهتمام
باألمن» مع أنها تستخدم أساساً ألغراض بعيدة إلى حد ما من اهتمامات
السالمة ،واألمان .
زاد اإلعالم من ألفة الشر ،واعتياده لدى الشعوب ،وأصبح الناس العاديون
يمررون الكثير من الوحشية ،ويسهمون فيها!!
289
اإلنسان «السائل»
Scanعلى تعميق تلك الحالة من البالدة؛ فقد أكد هربرت كروجمان Herbert
Krugmanفي عام 1970اكتشاف ما يحدث من الناحية الفسيولوجية في
دماغ شخص يشاهد التلفاز ،وأنه وجد أنه خالل 30ثانية تحولت موجات
الدماغ «بيتا» المهيمنة التي تشير إلى اليقظة ،واالنتباه الواعي إلى الموجات
«ألفا» التي تشير إلى نقص تلقي االنتباه ،وعدم تركيزه ،وهذه حالة من الخيال،
والحلم النهاري تقع تحت ما يسمى بـ «عتبة الوعي» .
وأشار مزيد من البحث إلى أن النصف األيسر من كرة الدماغ الذي يعالج
المعلومات بشكل منطقي وتحليلي ،ينقطع عن االستماع عندما يشاهد الشخص
التلفاز ،يسمح هذا االنقطاع للنصف األيمن من الدماغ الذي يعالج المعلومات
عاطفيا ،ودون نقد أن يعمل دون عائق؛ فالمنتج التليفزيوني في سمته الغالبة
«سلعة مخدرة» ،ويتزايد هذا التأثير المخدر مع قيام القائمين على البث
التليفزيوني بإذاعة مواد ممصوصة الحيوية تصيب المشاهد بالملل ،والهمد
الجسماني مما يساعد على النوم !!
290
«الظلم مؤذن
بخراب العمران» :
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
يبين ابن خلدون من خالل تجسيده لفن التنظير السياسي الذي سبق إليه
الكثيرون من خالل الميدأ « :الظلم مؤذن بخراب العمران» ،واتبعه بتوضيح
ألرائه في فصل أخر بعنوان « :كيفية طروق الخلل إلى الدولة ؟!» ؛ فيقول :
« ..عندما يصل صاحب الدولة إلى طور اإلسراف ،والتبذير ،ويكون في
هذا الطور متلفاً لما جمع أولوه في سبيل الشهوات ،والمالذ ،والكرم على بطانته،
وفي مجالسه ،واصطناع أخدان السوء ،وخضراء الدمن ،وتقليدهم عظيمات
األمور التي ال يستقلون بحملها ،وال يعرفون ما يأتون ،ويذرون منها مستفسداً
لكبار األولياء ،ومن قومه ،وصنائع سلفه حتى يضطغنوا عليه ،ويتخازلوا عن
نصرته ،مضيعاً من جنده بما أنفق من أعطياتهم في شهواته ،وحجب عنهم وجه
مباشرته وتفقده ؛ فيكون مخرباً لما كان سلفه يؤسسون ،وهدما لما يبنون وفي
هذا الطور تحصل في الدولة طبيعة الهرم ،ويستولي عليها المرض المزمن
)3(*». الذي ال تكاد تخلص منه ،وال يكون لها معه براء إلى أن تنقرض
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )3ساطع الحصري ،دراسة في نقدمة ابن خلدون /دار المعارف ـ القاهرة 1959ـ ص ٣٤٤
291
اإلنسان «السائل»
وعن طروق الخلل إلى األفراد يقول ابن خلدون في فصل عن « :خراب
األمصار بخراب الدولة» :
«الرعايا تبع للدولة؛ فيرجعون إلى خلق الدولة إما طوعاً لما في طباع البشر
من تقليد متبوعهم. ».
«يقلد اآلخر من أهل الدولة في ذلك األول ،مع ما يكون قد نزل بهم من مهلكة
الترف ..ثم يعظم الترف فيكثر اإلسراف في النفقات ،وينتشر ذلك في الرعية؛
أن الناس إلى دين ملوكها ،وعوائدها .».
292
شكل يبين تتايع مراحل «الحكمة الدائرية» لنماء العمران التي نقلها ابن خلدون عن المسعودي،
والتي أخذ بها عالم السياسة األمريكي ديفيد إيستون كنموذج تحليل النظم لعالم السياسة ،ويتكون
ذلك النموذج من :المدخالت ،والمخرجات ،وعملية التحويل ،والتغذية العكسية أو التغذية المرتدة.
293
اإلنسان «السائل»
«إيماضة ألخمود»
أو «زبالة المشتعل» :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقول ابن خلدون :
«ربما يحدث عند أخر الدولة قوة توهم أن الهرم قد ارتفع عنها ،ويومض
ذبالها إيماضة الخمود كما يقع في الذبال المشتعل؛ فإنه عند مقاربة انطفائه
يومض إيماضة توهم أنها اشتعال ،وهي انطفاء. ».
294
(1520م) ،وعزى بعضهم تلك القرابة إلى تشابة في األفكار ،وذهب بعضهم
إلى أبعد من ذلك ،وتم حصر السبب في أمرين :
أوالهما :التأثير الخفي البن خلدون على مكيافللي نظر ألن مكيافللي متأخر
عن ابن خلدون بقرابة قرن ونصف من الزمن تقريباً.
ثانيهما :المصادفة المحضة .
«وفي الكتاب المنسوب ألرسطو في السياسة المتداولة بين الناس جزء منه،
إال أنه غير مستوف ،وال مُعطى حقه من البراهين ،ومختلط بغيره ،وقد أشار
في ذلك الكتاب إلى هذه الكلمات الني نقلناها عن الموبذان ،وأنوشروان ،وجعلها
في الدائرة القريبة التي أعظم القول فيها هو قوله :
العالم بستان سياجه الدولة ،الدولة سلطان تحيا به السنة ،السنة سياسة
295
اإلنسان «السائل»
يسوسها ال َملِك ،والمُلك نظام يعضده الجند ،والجند أعوان يكفلهم المال ،والمال
رزق تجمعه الرعية ،الرعية عبيد يكنفهم العدل ،والعدل مألوف ،وله قوام
العالم ،العالم بستان ،ثم نرجع إلى أول الكالم فهذه ثمان كلمات حكيمة سياسية
ارتبط بعضها ببعض ،وارتدت أعجازها على صدورها ،واتصلت في دائرة ال
يتعين طرفها فخر بعثوره عليها ،وعظم من فوائدها .».
كما أن ميكافيللي لم يكن يقرأ اليونانية ،لكن السبب القاطع أنه لم يتصل
علم األوربيين بالحضارة اليونانية إال في وقت متأخر من خالل الترجمات
العربية لها التي عُ ثر عليها في األندلس ،وكانت أوربا في عصر ميكافللي عبارة
عن أحراش ،ومستنقعات غارقة في ظالم الجهل ،والمرض من جراء القذارة،
وعدم االستحمام ،وكان اشهر تلك األمراض مرض الجذام الذي كانوا يطلقون
عليه «:نار القديس أنطونيو» إضافة إلى التخلف الناجم عن ائتالف الكنيسة،
واالقطاعيين النبالء ،وما خلفه من عبودية األقنان !!
***
296
..تم تشييئه ..أصبح مجرد شيء يتم صياغته ،وتصنيعه ،وقولبته ،وتعليبه،
وصارت حالة األشياء حالة من صنعنا؛ وفقا ألليات الهندسة االجتماعية ليصبح
ً
متداوال أن « :اإلنسان صناعة اإلنسان» بمعنى صناعة اإلنسان االجتماعي،
والمواطن السياسي الذي يصوت ضد مصالحه !!
..صار كائناً زومبياً Zombieأو على أليق وصف مجرد روبوت!! مُعاد
إلى الحياة أو معد للحياة بأسلوب الخداع ،مجرد لعبة أنتجها القهر ،والقمع ..
ثم الخداع ،والتالعب ،والتضليل ..ال يستطيع أن يعيش واقعه أو يتفاعل معه
سوى بقوانين العالم االفتراضي ،وتحت مظلة الكوخ الشبكي!!
..أو على حد تعبير كافكا صار مثل «صرصور» مُلقى على ظهره ..يسمع،
..وقد يرى لكنه ال يستطيع أن يحرك ساكنا !!
297
اإلنسان «السائل»
لصالح الشيء ،في «مجتمع ُ
الفرجة» يجري تسليع كل شيء بحيث يتحقق مفهوم
الفرجة بشكل كامل عندما تُعلن السلعة «احتاللها الكلي للحياة االجتماعية»
سواء كانت بضاعة ،أو خدمة ،أو فكرة أو رغبة ..تتوسل باإلغراء الناعم،
ودغدغة المشاعر ،واألحاسيس الحانية لحث الناس على التماهي بين األشياء،
والسلع!!
298
في البدائية ،والتحلل القيمي ،والوحشية ،والهمجية ،وهي ما يطلق عليه في
االدبيات الفرنسية « :أخالق أخر الزمان» ،ويتم تداول ذلك المفهوم في الفكر
الشعبي المصري بمقولتي « :جيل أخر زمن» ،و«زمن العجائب» بمعنى الال
عقل ،والال يقين !!
يقدر ابن خلدون عمر الدولة بما ال يعدو في الغالب ثالثة أجيال مائة
وعشرون سنة (قدر عمر الجيل بأريعين سنة) تكون الدولة في زمن الجيل
األول فتية عفية حيث يكون أفرادها لم يزالوا على البداوة ،وخشونتها ،وتوحشها
من شظف العيش ،والبسالة ،واالفتراس ،واالشتراك في المجد؛ فال تزال بذلك
سورة العصبية فيهم؛ فحدهم مرهف ،وجانبهم مرهوب ،والناس لهم مغلوبون.
..ومع الجيل الثاني يتحول حالهم بالملك ،والترف من البداوة إلى الحضارة،
ومن الشظف إلى الترف ،والخصب ،ومن االشتراك في المجد إلى االنفراد
الواحد به ،وكل الباقين عن السعى فيه ،ومن عز االستطالة إلى ذل االستكانة؛
فتنكسر ثورة العصبية بعض الشيء ،وتؤنس منهم المهانة والخضوع ،ويبقى
لهم الكثير من ذلك بما أدركو الجيل األول ،وباشروا أحوالهم ،وشاهدوا
اعتزازهم ،وسعيهم إلى المجد ،ومراميهم في المدافعة والحماية؛ فال يسعهم
ترك ذلك بالكلية ،وإن ذهب ما ذهب ،ويكونون على رجاء من مراجعة األحوال
التي كانت للجيل األول أو على ظن من وجودها فيهم!!
299
اإلنسان «السائل»
أما الجيل الثالث فينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن ويفقدون حالوة
العز والعصبية بما هم فيه من ملكة القهر ويبلغ الترف غابته بما تفنقوه (تنعَّم
عياال على الدولة ومن جملةً بعد بُؤس) من النعيم وغضارة العيش؛ فيصيرون
)4(*. النساء والولدان المحتاجين للمدافعة عنهم
ويناقش ابن خلدون تلك القضية التي تحاول المجتمعات الحديثة أن توجد
حال ،والتي طرحها المفكرون في الغرب بعده بأربعة قرون وخاصة روسو،لها ً
وبعبارات شبيهة بعبارات روسو ،فيناقش األثر المفسد للحضارة ،وللثقافة
الفكرية ،وللرفاهية المادية ،ويعتقد ابن خلدون مثلما اعتقد روسو من بعده أن
هذا التقدم ينطوي على االستبداد ،والفساد ،ونتيجة ذلك السيئة على األفراد؛
فاالستقالل ،والكرامة يتنافيان مع الحياة الحضرية ،ومع الرفاهية اللتان تتطلبان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )4ابن خلدون ،اعتنى به :صهيب الكرمي ـ مرجع سابق ـ ص89
300
عبودية األكثرية!!
يرى ابن خلدون أن أهل المدن عادة سلبيون؛ فهم يتحاشون بصفة عامة
االشتراك في المنازعات بين الطامحين في الحكم ،ويظهرون الخضوع للحكومة،
ويدفعون لها الجزية مقابل حماية وهمية ،وأنهم يتصفون بأنهم بال خلقية كبيرة؛
فهم أنانيون سيئو الخالل ،وقد فقدوا صفات الرجولة التي تؤمن استقالل أي
شعب ،وهم يخضعون لجميع ألوان االستبداد ،وال يحاولون أن يقاموا الطغيان،
ويموج بحر المدينة بالسفلة من أهل االخالق الذميمة ،ويجاريهم فيها كثير من
ناشئة الدولة ،وولدانهم حتى لقد ذهب عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم ،ومن
مفاسد الحضارة االنهماك في الشهوات ،واالسترسال فيها لكثرة الترف؛ فيقع
التفنن في شهوات البطن من المأكل ،والمالذ ،ويتبع ذلك التفنن في شهوات
الفرج بأنواع المناكح من الزنا ،واللواط .
أما أهل الريف فتأثيرهم السياسي ضعيف جداً أو معدوم ،وهم مضطرون
أن يدفعوا الضرائب دون أن يستمتعوا بما يحظى به سكان المدن من أمن،
ومزايا ،فال توجد لديهم في مواطنهم أمور الفلح ،ومواردها معدومة ،وكذلك
معظم الصنائع فال يوجد لديهم بالكلية نجار ،وخياط ،وحداد ،ويفتقدون ما يقيم
لهم ضروريات حياتهم !!
301
اإلنسان «السائل»
«إن خلق التاجر نازلة عن خلق الرؤساء ،وبعيدة عن المروءة ألن التاجر
مدفوع إلى معاناة البيع ،والشراء ،وجلب الفوائد ،واألرباح ،والبد في ذلك
من المكايسة ،والمماحكة ،والتحذلق ،وممارسة الخصومات ،واللجاج ،وهي
عوارض هذه الحرفة ،وهذه األوصاف نقص من الذكاء ،والمروءة ،وتجرح
فيها .
302
كل ما يحدث ضدك ،ويصبح االختيار الوحيد المتاح هو ضمان أال تصيبك
الكارثة ،أما أن تصيب غيرك فهذا مما ال يمكن تجنبه؛ فاإلقصاء جزء من
الحداثة السائلة ،وهناك دائماً ضحايا فاحرص أال تكون منهم؛ فالظروف كلها
معادية لـ «الفعل التضامني» ..
في الكتابات المعاصرة عن ابن خلدون يرى محمد عابد الجابري أن
ابن خلدون يعتبر أهم مفكر إسالمي يضع الدولة في بؤرة اهتمامه الفكري،
وقد ركز على إسهام ابن خلدون في ربط تطور الدولة بـ «نمط اإلنتاج»؛
فابن خلدون يعطي المرتبة األولى للخصائص االقتصادية؛ فهو يرتب الشعوب
بتمايزها تبعاً ألساليب اإلنتاج لديها ثم يضع في المقام األول الحياة الحضارية
بحرفها المتنوعة ،ثم المزارعين المتجمعين في قرى ،والذين يقيمون في السهل
أو في الجبل ،وأخيراً يأتي البدو .
..ويرى جوستون بوتول أن نظريات ابن خلدون ترسم حالة يمكن ان
نطلق عليها«اقتصاد السكون» ،ويتميز هذا النظام بافتقاد كبير إلى المرونة؛
303
اإلنسان «السائل»
فاإلقراض منخفض جداً ،وال يكون إال من القروض بالربا ،وتسود هذا النظام
عدم كفاية األمن التي تأتي من تحكم السلطة ،ومن التنظيم التقليدي للصناعة.
وعن الجري وراء الفردية التي خلفتها الحياة السائلة ،يخبرنا باومان
أنه ال يمكن لالنجازات الفردية في المجتمع الحديث السائل أن تكتسي صاللة
األشياء الفردية ألن المزية تتحول في لمح البصر إلى عيب ،والقدرة إلى
عجز ،أما ظروف الفعل ،واالسترايجيات التي يلجأ إليها الفرد؛ فإنها تتقادم
بسرعة؛ فليس من الحكمة أن يتعلم المرء من التجربة ليعتمد على استراتيجيات،
304
وتكتيكات نجحت في الماضي؛ فتجارب الماضي ال يمكن ان تستوعب ما يطرأ
على الظروف من تغيرات سريعة غير متوقعة إلى حد كبير ،وهذا يعني أن
الركون إلى أحداث ماضية في استقراء المسارات المستقبلية صار ينطوي على
مجازفات غير مسيوقة بل ،وعلى حسابات مضللة في األغلب األعم ،وغدت
الحسابات المحكمة خارج طوق الفكر ،والخيال؛ ذلك أن أغلب المتغيرات في
المعادلة إن لم تكن جميعها صارت مجهولة ،وال يمكن الركون إلى احتماالت
مساراتها المستقبلية ركونا تاماً مطمئناً.
305
اإلنسان «السائل»
..في «الجماعة المتخيلة» يجد الفرد نفسه مراقب طوال الوقت ،وقد
أصبح سجين «آلة التحكم العالمية »Panopticonالتكنولوجية، وكلمة :
ً
بديال عن «بانوبتيكون» تعني مراقبة ( )opticonالكل ( »)Panالذي أصبح
السجن الذي قام بتصميمه الفيلسوف اإلنكليزي ،والمنظر االجتماعي جيريمي
،1785هو نوع من السجون مفهوم التصميم هو السماح بنتام في عام
بمراقب واحد مراقبة جميع السجناء دون أن يكون المسجونين قادرين على
معرفة ما إذا كانوا مراقبين أم ال !! ،لكنهم يعرفون بوضوح الغرض من
«مراقبتهم السيبرنطيقية ،»Cyberneticsوأنه يخدم يطبيعة الحال هدف
الذين وضعوهم هناك ..إن النزالء هم موضوعات للسجن ،والحبس ،والعزل،
والعمل اإلجباري ،والتهذيب ،والغرض من وضعهم في الحبس هو تغييرهم
أو تعديلهم إلى أشخاص أخرين ليسوا هم ،وهم أنفسهم ليس لديهم هدف في أن
يصبحوا تلك األشخاص .
306
ويحعلونها أهدافهم الخاصة؛ فال تهتم المنشأة بما يفكر به النزالء لكنها تهتم بما
يفعلونه ،وقد تيدو الهيمنة األيدلوجية ،والسيطرة الثقافية ،والتلقين أو أى جهد آخر
مهما كان مطلوباً للوصول إلى الخضوع الروحي أو التبعية الروحية في سباق
السجن شيئاً غريباً ،وغير مبرر ،وغير مقبول ،وقد ال ئسأل أي امرئ عما إذا
النزالء سوف يعملون في النهاية ما يراد عمله برغبة ،ومستعدون ،ومهيئوون
له؛ فهم في النهاية منتج لخط إنتاج مصنع إلنتاج النظام االجتماعي!!.
« ..اإلنسان السائل» مراقب طوال الوقت من خالل منصات الرقابة بما
فيها أدوات االتصال االجتماعي التي باتت نافذه يطل من خاللها على العالم،
وفي الوقت ذاته يطل العالم عليه ،ويتابعه من خالل اختراق كاميرا المحمول،
وكاميرا حهاز الالتوب لمراقبته ،وتتبع خطواته ،وتسجيل حواراته الخاصة .
307
اإلنسان «السائل»
ناهيك عن أجهزة الفحص الدقيق للجسد في مداخل محطات المترو ،وعند
بوابات المطارات ،وأجهزة مطابقة البصمات في تسجيل الحضور في أماكن
العمل ،وأجهزة مطابقة بصمة العين للحصول على تأشيرة كثير من الدول ،وفي
المؤسسات السيادية ،وفتح الحسابات االستثمارية
أدوات صغيرة وفرتها تكنولوجيا النانو أقل ثمناً ،وأعلى كفاءة تخترق
أسوار االنتباة بكل ما تحمله من مخاطر على الحرية ،والخصوصية بما
يجعلنا خاضعين لرقابة شديدة التعقيد ،وهو ما يصفه باومان بأنه لون جديد من
«النباتات الزاحفة»!!
أصناف المراقبة ليست واحدة؛ فمنهم من تجعله المراقبة أكثر أمناً ،ومنهم من
تستخدم معلومات المراقبة في تصنيفه اجتماعيا ،واقتصاديا ،وسياسياً؛ فيكون
عرضة للنبذ ،واإلقصاء بحيث ال يحصل على الخدمة نفسها أو تسهيالت الدفع
أو إمكانية االقتراض أو الحصول على الفرص نفسها في الوظائف ،والتصعيد
المهني بل والمكانة االجتماعية ذاتها .
308
يقول باومان أن « :وسائل التواصل االجتماعي هي نتاج التفكك االجتماعي؛
فالسلطة في الحداثة السائلة ال بد أن تتمع بحرية التدفق؛ فهي التي تقوم بتشكيل
أطر حياة الناس ،والتوازنات تحكمها فالشبكات الكثيفة المحكمة للروابط
االجتماعية القائمة على األرض ،وحدودها ال بد من التخلص منها ذلك ألن
هشاشة الروابط االجتماعية هى التي تسمح لسلطة العولمة بالعمل ،واالجتياح
الناعم أحياناً ،والخشن أحيانا أخرى !!».
يرى جوستون بوتول أن طريقة ابن خلدون تستبعد التركيز على الفرد،
وتركز كل اهتمامها على محاولة تفسير الظواهر االجتماعية*( ،)6وهو األمر
الذي يجمع بين وجهتي نظر ابن خلدون وباومان ،حيث يرى باومان أن الحرية
ليست حق طبيعي بل هي خلق المجتمع ،وترتيب اجتماعي ،وأن الفردية هي
*()7 امتياز شخصي لمن يملك فقط
309
اإلنسان «السائل»
تنفرد بصفتين أساسيتين لهما أهمية سوسيولوجية هما :الفردية ،والقدرة على
مجاراة اقتصاد السوق الرأسمالية؛ ففي ظل الحياة االجتماعية الموجهة باألخالق
االستهالكية أصبح العمل أداة ،ووسيلة في جلب األرباح المادية التي يبحث عنها
المرء ليحقق بها كامل استقالله الذاتي ،وحريته في سوق االستهالك ..
***
..ويستمر تدفق أمواج العولمة بأدوارها المختلفة ،وأوجهها السافرة
والمخفية بمعاونة «ثقافة االستهالك» المدعومة بتكنولوجيا المعلومات
واالتصاالت ،وأبحاث علماء االجتماع الرقمي )8(*Digital Sociologyفي
مراكز الفكر Think Tankالذين يقومون بدور حارس الصيد لـ «اإلنسان
السائل» الذي سقط في الثقب األسود للسيولة التي تهدد بابتالع كل شيء!!.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
*( )8علم االجنماع الرقمي ..منظورات نقدية ،تحرير :كيت أورتون ،جونسون ،ونيكبريور ،ترجمة:هاني
خميس أحمدعبده ،عالم المعرفة ،العدد ،٤٨٤المجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب ،ط 1ـ الكويت،
يوليو٢٠٢١
310
مراجع الكتاب :
1ـ د .أحمد زكي بدوي ،معجم مصطلحات العلوم االجتماعية ،مكتبة لبنان ـ 1982
2ـ جوردون مارشال ،موسوعة علم االجتماع ،ترجمة :د.محمد الجوهري وأخرون ،أوكسفورد ،نيويوك
1998الطبعة الثانية 3 ،مجلدات ـ الترجمة العربية ـ القاهرة 2007
3ـ اندرو إدجار ،بيتر سيد جويك ،موسوعة النظرية الثقافية ..المفاهيم والمصطلحات األساسية ،ترجمة د.
هناء الجوهري ،المركز القومي للترجمة ـ العدد ١٣٥٧ـ القاهرة ٢٠١٤
4ـ ميل تشيرتون ،آن براون ،علم االجتماع ..النظرية والمنهج ،ترجمة د .هناء الجوهري ،المركز القومي
للترجمة ،العدد ٢٠٧٥ـ القاهرة ٢٠١٢
5ـ فلوريان كولماس ،دليل السوسيولسانيات ،ترجمة :خالد األشهب ،ماجدولين النهيبي ،المنظمة العربية
للترجمة ـ بيروت ٢٠٠٩
6ـ د .عبد العزيز نوار ،تاريخ مصر االجتماعي ..منذ فجر التاريخ حتى العصر الحديث ،دارالفكرالعربي
ـ االقاهرة 1988
7ـ اليكس إنكلز ،مقدمة في علم االجتماع ،د .محمد الجوهري وأخرون ـ ، ،ط ، 6سلسلة علم االجتماع
المعاصر ،عدد ،15دار المعارف ـ القاهرة 1983
8ـ د.حسين فهيم ،قصة األنثروبولوجيا ،عالم المعرفة ،المجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب بالكويت،
العدد ،98الكويت ـ فبراير1998
9ـ كارل بوبر ،عقم المذهب التاريخي ،دراسة في مناهج العلوم االجتماعية ،ترجمة عبد الجميد صبره ،منشأة
المعارف باألسكندرية ١٩٥٩
10ـ جينفر م .ليمان ،تفكيك دور كايم ..نقد ما بعد بعد بنيوي ،ترجمة محمد حافظ دياب ،ط ،١المشروع
القومي للترجمة ،العدد ٢٠٨٥ـ القاهرة ٢٠١٣
11ـ نيكوالس جين ،مستقبل النظرية االجتماعية (،حوارات مع سبعة من علماء االجتماع وأحد علماء
311
اإلنسان «السائل»
السياسة وأحد علماء اللسانيات) ترجمة :يسري عبد الحميد رسالن ،المركز القومي للترجمة ،ط ١ـ العدد
١٧٣٧ـ القاهرة ٢٠١٤
12ـ إيان كريب ،النظرية االجتماعية من باسونز إلى هابرماس ،ترجمة :د .محمد حسين غليوم ،عالم
المعرفة ـ العدد ،٢٤٤المجلس األعلى للثقافة والفنون واآلداب ـ الكويت ١٩٩٩
13ـ بيير بورديو ،أسئلة علم االجتماع ـ حول الثقافة والسلطة والعنف الرمزي ،ترحمة ابراهيم فتحي ،دار
العالم الثالث ـ القاهرة ١٩٩٥
14ـ ابن خلدون ،مقدمة ابن خلدون ،بتحقيق المستشرق الفرنسي :أ .م .كاترمير ٣ ،مجلدات ـ عن طبعة
باريس ، ١٨٥٨مكتبة لبنان ـ بيروت ١٩٩٢
15ـ ابن خلدون ،مقدمة ابن خلدون 7 ،مجلدات ،دار الطباعة الخديوية ببوالق مصر المعزية ـ القاهرة
١٢٨٤هـ ـ 1867م
16ـ أبو زيد ولى الدين عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون ،العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم
والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان األكبر ،اعتنى به :أبو صهيب الكرمي ،بيت األفكار الدولية ،عمان
ـ الرياض ،بدون تاريخ
17ـ ابن خلدون ،مقدمة ابن خلدون ،تحقيق عبد هللا محمد درويش ،ط ،١دار يعرب ـ دمشق ٢٠٠٤
18ـ ابن خلدون ،مقدمة ابن خلدون ،ضبط المتن ووضع الحواشي والفهارس :خليل شحادة ،مراجعة :د .
سهيل زاكار ،دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ـ بيروت ٢٠٠١
19ـ أبو خلدون ساطع الحصري ،داسات عن مقدمة ابن خلدون،دار المعارف بمصرـ القاهرة ١٩٥٢
20ـ جوستون بوتول ،ابن خلدون ..فلسفته االجتماعية ،ترجمة :غنيم عبدون ،أقالم عربية ،ط 1ـ القاهرة
.2019 ،2018
21ـ شهاب الدين أحمد بن محمد بن أبي الربيع ،سلوك المالك في تدبير الممالك ،تحقيق وتعليق وترجمة:
د.حامد عبدهللا ربيع ،جزءان ـ مطابع دار الشعب بالقاهرة ـ القاهرة ١٩٨٣
22ــ حجاج أبو جبر ،نقد العقل العلماني ..دراسة مقارنة لفكر زيجمونت باومان ،وعبد الوهاب المسيري،
ط، 1المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات ،ط ، 1بيروت 2017
23ـ مؤلفون عديدون ،ابستيمولوجيا العلوم اإلنسانية في الفكر العربي والفكر الغربي المعاصر ،مركز
دراسات الوحدة العربية،ط ١ـ بيروت 2017
24ـ زيحمونت باومان ،وديفيد ليون ،المراقبة السائلة ،ط ،١ترجمة حجاج أبو جبر ،تقديم :د .هبة رءوف
عزت ،الشبكة العربية لأليحاث والنشر ـ بيروت ٢٠١٧
25ـ زيجمونت باومان ،الحرية ،ترجمة د .فريال حسن خليفة ،مكتبة مدلولي ـ القاهرة ٢٠١٢
312
26ـ زيجمونت باومان ،الحداثة والهولوكست ،ترجمة :حجاج أبو جبر ،ودينا رمضان ،مدارات لألبحاث
والنشر ـ القاهرة ٢٠١٤
27ـ زيجمومنت باومان ،الحب السائل ..عن هشاشة الروابط اإلنسانية ،ترجمة حجاج أبو جبر ،تقديم :
د .هبة رءوف عزت ،سلسلة الفقة االستراتيجي ،العدد ، ٥ط ، ١الشبكة العربية لألبحاث والنشرـ بيروت
٢٠١٦
28ـ زيجمومنت باومان ،الثقافة السائلة ،ترجمة حجاج أبو جبر ،تقديم :د .هبة رءوف عزت ،سلسلة الفقة
االستراتيجي ،ط ، ١الشبكة العربية لألبحاث والنشرـ بيروت ٢٠١8
29ـ زيجمومنت باومان ،األخالق في عصر الحداثة السائلة ،ترجمة سعيد البازعي ،وبثينة ابراهيم ،هيئة
أبوظبي للسياحة والثقافة ،مشروع كلمة ،ط ١ـ أبو ظبي ٢٠١٦
29ـ زيجمونت باومان ،الخوف السائل ،ترجمة حجاج أبو جبر ،تقديم :د .هبة رءوف عزت ،الشبكة العربية
لألبحاث والنشر ،ط ١ـ بيروت 2017
30ـ زيجمونت باومان ،الحياة السائلة ،ترجمة حجاج أبو جبر ،تقديم :د .هبة رءوف عزت ،سلسلة الفقة
االسنراتيجي ،العدد ، ٤ط ،١الشبكة العربية لألبحاث والنشر ـ بيروت 2016ـ ص 22
31ـ زيجمونت باومان ،األزمنة السائلة ..العيش في زمن الال يقين ،ترجمة حجاج أبو جبر ،تقديم :د .هبة
رءوف عزت ،الشبكة العربية لألبحاث والنشر ،ط 1ـ بيروت 2017
32ـ زيجمونت باومان ،الحداثة السائلة ،ترجمة حجاج أبو جبر ،تقديم :د .هبة رءوف عزت ،سلسلة الفقة
االسنراتيجي ،العدد ،2ط ،١الشبكة العربية لألبحاث والنشر ،ط 1ـ بيروت 2016
33ـ زيجمونت باومان ،الحداثة واإلبهام ،ترجمة :حجاج أبو جبر ،المركز القومي للترجمة ،العدد 3164
،القاهرة 2018
34ـ ديفيد هارفي ،مدن متمردة ..من الحق في المدينة إلى ثورة الحضر ،ترجمة لبنى صبري ،الشبكة العربية
لألبحاث والنشر ،ط ١ـ بيروت ٢٠١٧
35ـ جي ديبور ،مجتمع الفرجة ،ترجمة أحمد حسان ،دار شرقيات للنشر والتوزيع ـ القاهرة ٢٠٠٠
36ـ فيليب تايلور ،قصف العقول ..الدعاية للحرب منذ العالم القديم حتى العصر النووي ،ترجمة سامي خشبة
عالم المعرفة ـ العدد ،256ـ المجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب ـ الكويت أبريل 2000
37ـ يورجن هابرماس ،القول الفلسفي للحداثة ،ترجمة :فاطمة الجيوشي ،منشورات وزارة الثقافة ـ سوريا
١٩٩٥
38ـ هربرت ماركووز،اإلنسان ذو البعد الواحد ،ترجمة جورج طرابيشي ،ط ،٣دار اآلداب ،بيروت
١٩٨٨
313
اإلنسان «السائل»
39ـ جورجو أجامبين ،حالة االستثناء ،نقله إلى العربية :د .ناصر اسماعيل ،دار مدارات لألبحاث والنشر،
ط ،١القاهرة ٢٠١٥
40ـ د .مصطفى حجازي ،اإلنسان المهدور ..دراسة نحليلية نفسبة اجتماعية ،ط ،١المركز الثقافي العربي
ـ الدار البيضاء ٢٠٠٥
41ـ د .عبد الوهاب المسيري ،الجماعات الوظيفية اليهودية ..نموذج تفسيري جديد ،دار الشروق ،ط ٢ـ
القاهرة ٢٠٠٢
42ـ أالن تورين ،نقد الحداثة ،ترجمة :أنور مغيث ،المركز القومي للترجمة ـ العدد ، ٣٨القاهرة ١٩٩٧
43ـ توماس س .كوهن ،بنية الثورات العلمية ،ترجمة :حيدر حاج اسماعيل ،المنظمة العربية للترجمة ،ط١
ـ بيروت ،سبتمبر.٢٠٠٧
44ـ توماس كوهن ،بنية الثورات العلمية ،ترجمة :شوقي جالل ،عالم المعرفة ـ العدد ،١٦٨المجلس الوطني
للثقافة والفنون واآلداب ـ الكويت ـ ديسمبر .١٩٩٢
45ـ مؤلفون عديدون ،أزمة العلوم االجتماعية ..المظاهر واألفاق ،مقال حامد عبد الماجد قويسي
بعنوان:إشكالية الوعي المنهاجي في علومنا االجتماعية :الظاهرة السياسية نموذجاً ،سلسلة ندوات ومؤتمرات،
إصدار ،١ط ،١مركز ابن خلدون للعلوم اإلنسانية واألجتماعية ـ جامعة قطر ٢٠٢١
46ـ د .عبد الوهاب المسيري ،الحلولية ،ووحدة الوجود ،الشبكة العربية لأليحاث والنشر ،ط ١ـ بيروت
٢٠١٨
47ـ د .جالل أمين ،العولمة ،دار الشروق ،ط ، ١القاهرة 2009
48ـ د .المهدي المنجرة ،عولمة العولمة من أجل التنوع الحضاري ،منشورات الزمن ،العدد ١٨ـ ط ٢ـ
الرباط ٢٠١١
49ـ د .جمال حمدان« ،صفحات من أوراقه الخاصة» ..مذكرات في الجغرافيا السياسية ،ط ، ١دار الغد
العربي ـ القاهرة ١٩٩٦
50ـ د .سعيد عبد الفتاح عاشور ،أضواء على الحروب الصليبية ،المكتبة الثقافية ،١١٨الثقافة واإلرشاد
القومي ..الدار المصرية للتأليف والترجمة ـ القاهرة 1964
51ـ ريتشارد دوكنز ..الدارونية الجديدة ..صانع الساعات األعمى ،ترجمة مصطفى ابراهيم فهمي ،ط ،2
دار العين للنشر ـ القاهرة 2002
، 52شوقي جالل ،التراث والتاريخ ،كتب عربية ،القاهرة 2006
53ـ أميل دور كايم ،االنتحار ،ترجمة :حسن عودة ،الهيئة العامة السورية للكتاب ـ دمشق ٢٠١١
54ـ وزارة الدولة للتنمية اإلدارية ،لجنة الشفافية والنزاهة« ،األطر الثقافية الحاكمة لسلوك المصريين
واختيارتهم ..دراسة لقيم النزاهة والشفافية والفساد» ،ـ القاهرة 2009
314
55ـ نزية ن .األيوبي ،تضخيم الدولة العربية ..السياسة والمجتمع في الشرق األوسط ،ط ،١ترجمة أمجد
حسين ،المنظمة العربية للترجمة ـ بيروت 2010
56ـ محمد السيد سعيد ،االنتقال الديمقراطي المحتجز في مصر ،الهيئة العامة المصرية للكتاب ،مكتبة األسرة
ـ القاهرة 2016
57ـ وائل ب .حالق ،الدولة المستحيلة :اإلسالم والسياسة ومأزق الحداثة األخالقي ،ترجمة:عمرو عثمان،
المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسة ،سلسلة ترجمان ـ ط ١ـ بيروت ٢٠١٤
58ـ د .هبة رءوف عزت ،الخيال السياسي لإلسالميين ..ماقبل الدولة وما يعدها ،الشبكة العربية لألبحاث
والنشر ،ط ٢ـ بيروت ٢٠١٥
59ـ د .هبة رءوف عزت ،نحو عمران جديد ،الشبكة العربية لألبحاث والدراسات ،سلسلة الفقة االسنراتيجي
ـ عدد ، ١ط ١ـ بيروت ٢٠١٥
60ـ د .حامد عبد هللا ربيع ،خطابات إلى األمة والقيادة ،ثالثون رسالة سباسية حول :دو المفكر السياسي
ومسئوليته المجتمعية ،مكنبة الشروق الدولية ،ط ١ـ القاهرة ٢٠٠٧
، 61محمد بامية ،العلوم االجتماعية في العالم العربي ،أشكال الحضور ،التقرير األول للمرصد العربي
للعلوم االجتماعية ـ المجلس العربي للعلوم االجتماعية
62ـ جاك دريدا ،تاريخ الكذب ،ترجمة رشيد بازي ،المركز الثقافي العربي ـ ط 1ـ المغرب ،الدار البيضاء
ـ بيروت ،لبنان 2016
63ـ دافيد أو ـ سيز ،ليوني هادي ،روبرت جيرفيس ،المرجع في علم النفس السياسي ،ترجمة :ربيع وهبة،
مشيرة الجزيري ،محمد الرخاوي ـ المشروع القومي للترجمة ـ العد ١٤٨٤ـ ط ١ـ القاهرة ٢٠١٠
64ـ شارل بلوندل ،مقدمة في علم النفس االجتماعي ،ترجمة :د .محمود قاسم و د .ابراهيم سالمة ،مكتبة
األنجلو المصرية ـ القاهرة ١٩٥١
65ـ العالمة الشيخ محمد ابن يوسف ابن عبد الجواد ابن خضر الشربيني ،هز القحوف قي شرح قصيدة أبي
شادوف ،الطبعة الثانية ،التي طبعت على نفقة الشيخ محمود موسى شريف الكتبي ،المطابع األميرية ببوالق
مصر المحمية ـ سنة 1308هـ ـ 1890م
66ـ تحقيق ومقدمة :همفري تيمن ديفيز ،تقديم :د .نللى حنا ،هز القحوف بشرح قصيد أبي شادوف ـ بيترز
ـ لوفين ـ 2005
67ـ يوسف ابن محمد الشربيني ،هز القحوف بشرح قصيد ابي شادوف ،تحقيق همفري ديفيز ،المكتبة
العربية ـ معهد جامعة نيويورك ـ أبوظبي .
، 68د .جمال كمال محمود ،األرض والفالح في صعيد مصر في العصر العثماني ،الهيئة العامة المصرية
315
اإلنسان «السائل»
316
العربي لألبحاث ودراسات السياسات ـ الدوحة 2020
86ـ د .عبد الوهاب المسيري وأخرون ،إشكالية التحيز ..رؤية معرفية ودعوة لالجتهاد ،ط ،٢المعهد العالمي
للفكر اإلسالمي ـ الواليات المتحدة األمريكية ١٩٩٦
87ـ د.الزواوي بغوره ،ما بعد الحداثة والتنوير ..موقف األنطولوجيا التاريخية ـ دراسة نقدية ،ط 1ـ دار
الطليعة للطباعة والنشر ـ بيروت 2009
88ـ سيرجى قرة /مورزا ،التالعب بالوعى ،ترجمة :عياد عياد ،وزارة الثقافة ،الهيئة العامة السورية
للكتاب ،دمشق 2012
89ـ الفن جولدنر ،األزمة القادمة لعلم االجتماع الغربي ،ترجمة على ليلة ،المشروع القومي للترجمة،
المجلس القومي للترجمة ـ العدد ٦٦٧ـ القاهرة ٢٠٠٤
90ـ د .على عباس مراد ،الهندسة االجتماعية ..صناعة اإلنسان والمواطن ،ط ،١ابن النديم للنشر والتوزيع،
دار الروافد الثقافيةـ الجزائر ،بيروت ٢٠١٧
91ـ هربرت أ .شيللر ،المتالعبون بالعقول ..كيف يجذب محركو الدمى الكبار في السياسة واإلعالن ووسائل
االتصال الجماهيري خيوط الرأي العام ؟ ،ترجمة :عبد السالم رضوان ،عام المعرفة ،العدد ، ٢٤٣المجلس
الوطني للثقافة والفنون واآلداب ـ الكويت 1999
92ـ هربرت ماركووز،اإلنسان ذو البعد الواحد ،ترجمة جورج طرابيشي ،ط ،٣دار اآلداب بيروت
.١٩٨٨
93ـ د .خالد فهمي ،الجسد والحداثة ،الطب والقانون في مصر الحديثة،ترجمة :شريف يونس دار الكتب
والوثائق القومية بالقاهرة ـ القاهرة ٢٠٠٦
94ـ علماء الحملة الفرنسية ،ترجمة زهير الشايب ،وصف مصر ..المصريون المحدثون ،الطبعة 3ـ دار
الشايب ـ القاهرة 1992
95ـ اللورد كرومر ،مصر الحديثة ،ج، ٢ط ،١ترجمة صبري محمد حسن ـ المركز القومي للترجمة،عدد
رقم ٢١٥٧القاهرة ٢٠١٥
96ـ محمد الجوهري ،علياء شكري ،مقدمة في دراسة األنثروبولوجيا ـ القاهرة ٢٠٠٧
97ـ وليامز هانز ،ما وراء التاريخ ،ترجمة وتقديم :أحمد أبو زيد ،المركز القومي للترجمة ـ العدد 1700
ـ القاهرة 2011
98ـ بحوث في األنثروبولجيا العربية ،مؤلفون عديدون ،تحرير :ناهد صالح ،مطبوعات مركز البحوث
والدراسات االجتماعية ،ط 1ـ القاهرة 2002
99ـ محمد سبيال ،نوح الهرموزي ،موسوعة المفاهيم األساسية في العلوم اإلنسانية والفلسفة ،منشورات
المتوسط ،المركز العلمي العربي لألبحاث والدراسات واإلنسانية ،ط 1ـ المغرب ٢٠١٧
317
اإلنسان «السائل»
100ـ د .قاسم عبده قاسم ،القراءة الشعبية للتاريخ ،دار عين ،القاهرة 2014
101ـ مجموعة مؤلفين ،جدليّات االندماج االجتماعي وبناء الدولة واألمة في الوطن العربي ،المركز العربي
لألبحاث ودراسة السياسات ،ط 1ـ بيروت 2014
102ـ ياسر بكر ،حرب المعلومات ،حواس للطبع والنشر ـ القاهرة 2017
103ـ ياسر بكر ،صناعة الكذب ،حواس للطبع والنشر ـ القاهرة 2013
104ـ سيرجى قرة /مورزا ،التالعب بالوعى ،ترجمة :عياد عياد ،وزارة الثقافة ،الهيئة العامة السورية
للكتاب ،دمشق 2012
105ـ ياسر بكر« ،فئران المركب» ..دراسة في التاريخ االجتماعي E. Book ،ـ القاهرة.2021
106ـ دافيد إدواردز ،دافيد كرومويل ،حراس السلطة ..أسطورة وسائل اإلعالم الليبرالية ـ ترجمة آمال
الكيالني ،مكتبة الشروق الدولية ،القاهرة 2007
107ـ سارة البلتاجي ،األمن االجتماعي ـ االقتصادي والمواطنة النشطة في المجتمع المصري ،المركز
العربي لألبحاث ودراسة السياسات ،ط 1ـ بيروت 2016
108ـ ياسر بكر« ،شعب من األوز» ..مقدمة في علم اللغة االجتماعي E. Book ،ـ القاهرة.2020
109ـ د .ليلى عنان ،الحملة الفرنسية بين األسطورة والحقيقة :كتاب الهالل رقم 500أغسطس ،1992
القاهرة 1992
110ـ د .ليلى عنان ،الحملة الفرنسية تنوير أم تزوير ،كتاب الهالل ،العدد رقم ،٥٦٧القاهرة ـ مارس
١٩٩٨
111ـ د.ليلى عنان ،الحملة الفرنسية في محكمة التاريخ ،كتاب الهالل رقم 574أكتوبر 1998ـ الفاهرة
1998
112ـ د.نللي حنا ،مصر العثمانية والتحوالت العالمية 1500ـ 1800هـ ،ترجمة مجدي جرجس ،المركز
القومي للترجمة ـ عدد رقم ،2805الطبعة 1ـ القاهرة 2016
113ـ نابليون بونابرت ،مذكرات نابليون ..الحملة على مصر ،ترجمة :عباس أبو غزالة ،المركز القومي
للترجمة ،العدد 2318ـ القاهرة 2019
114ـ ياسر بكر« ،الثقاقة الشعبية» ..وتشكيل العقل المصري E. Book ،ـ القاهرة.2021
115ـ د .خالد فهمي ،كل رجال الباشا ..محمد على وجيشه وبناء مصر الحديثة ،ترجمة :شريف يونس،
ط ،1دار الشروق ـ القاهرة 2001
116ـ ياسر بكر ،أخالقيات الصورة الصحفية ،حواس للطبع والنشر ـ القاهرة 2012
318
117ـ علم االجنماع الرقمي ..منظورات نقدية ،تحرير :كيت أورتون ،جونسون ،ونيكبريور ،ترجمة:هاني
خميس أحمدعبده ،عالم المعرفة ،العدد ،٤٨٤المجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب ،ط 1ـ الكويت،
يوليو٢٠٢١
.
الدويات العلمية ال ُمح َّكمة :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ مقال :رشيد جرموني ،التقرير العالمي حول العلوم االجتماعية لسنة ،٢٠١٠تقاسم المعرفة ،مجلة
إضافات ،مجلة أكاديمية فصلية محكمة ،تصدر عن الجمعية العربية لعلم االجتماع بالتعاون مع مركز دراسات
الوحدة العربية ،العدد ،١٦بيروت ـ خريف 2011
2ـ مقال د .حسام فايز عبد الحي ،مشاركة الجمهور في تقنيات الهندسة االجتماعية عبر موقع فيس بوك
وعالقتها بالخصوصية والتعويض النفسي لديهم ،مجلة البحوث اإلعالمية ..مجلة علمية و محكمة تصدرها
كلية اإلعالم بجامة األزهر ،العدد ٥٥ـ ج ١ـ اكتوبر ٢٠٢٠
319
اإلنسان «السائل»
320
كتب للمؤلف :
ـــــــــــــــــ
321
: النسخة الرقمية على الرابط
https://hekiattafihahgedan.blogspot.com
** «اإلنسان السائل» مصطلح صاغة عالم االجتماع زيجمومنت باومان في إطار
معالجته لنظرية «التقاطع المعرفي»؛ فمن خالل عملية «التجسير» بين العلوم المختلفة
أخذ حالة فيزيائية للمادة ،وجعلها خاصية لنظام المجتمع الحالي ..أطلق باومان مصطلح
«السيولة» بشكل كبير بما يعني الصهر ،والميوعة ،واإلذابة في كل مؤلفاته التي عرفت فيما
بعد بـ «سلسلة السيولة» ليوصل للقارئ حالة اإلنسان في ترديه كحالة المادة المائعة السائلة
التي ال تعرف ثباتاً؛ ألن المعنى قد غاب ،وأن اإلنسان أصبح أسير الخوف الدائم ،وأن عليه
التدريب المستمر على االختفاء ،والذوبان ،واالنسحاب ،والرحيل !! والجري وراء الفردية
التي خلفتها الحياة السائلة بحيث تراجعت الجماعة ،وفقدت نظامها المناعي الذي كان يحميها
من المشكالت ،وصار مشكلة في حد ذاته؛ فحالة األشياء صارت حالة من صنعنا؛ فأضحى
المجتمع «جماعة متخيلة» بمعنى أن المجتمع أصبح ظرف اجتماعي استغنى عن الخيال
في خدمة الفحص الذاتي ،وأصبح المجتمع نافضاً يدية من العالقات بين األشخاص ،وهو ما
يسمى بـ «عالم التفاعل المباشر بين األفراد» الذي تبرز فيه الفردية ،وتتشكل فيه التعامالت
اليومية ،وتعزز االختيار الحر الوهمي فقط!! ،و اصبح الجري وراء سراب الفردية يستحوذ
على الناس بحيث ال يجدون وقت للراحة واالسترخاء.
ياسر بكر
ـــــــــــــــــ
E . Book