Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 324

‫اإلنســان «السـائل»‬

‫بين «إيماضة الخمود» ‪ ..‬و «نظرية السوائل» !!‬


‫اإلنسان «السائل»‬
‫بين «إيماضة الخمود» في الفكـر الخلدوني‬
‫‪ ..‬و «نظــرية السـوائل» لـزيجمونت باومان‬

‫ياسـر بكـر‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫‪ ..‬بين «إيماضة الخمود» و«نظرية السوائل»‬

‫ـ ‪E. Book‬‬

‫ـ المؤلف ‪ :‬ياسر بكر‬

‫ـ بلد النشر ‪ :‬مصر‬

‫ـ تاريخ النشر ‪ :‬يناير ‪2022‬‬

‫ـ عدد الصفحات ‪ 324 :‬صفحة‬

‫***‬

‫جميع الحقوق محفوظة للمؤلف ‪.‬‬


‫اإلهداء‬
‫ـــــــــــــــ‬
‫‪ ..‬إلى رجال صدقوا ما عاهدوا هللا عليه‬
‫محتسبين‪ ،‬وصـــابرين‪ ،‬ومثابرين عـلى معـــاناة‬
‫إنتاج المعــنى‪ ،‬وعـلم ينتفع به‪ ،‬ومـا بدلـــوا تبديال‪.‬‬

‫ياسر بكر‬

‫‪5‬‬
‫«هذا زمن الحق الضائع‬
‫ال يعرف فيه مقتول من قاتله‪ ،‬ومتى قتله‬
‫ورؤوس الناس على جثث الحيوانات‬
‫ورؤوس الحيوانات على جثث الناس‬
‫فتحسس رأسك‬
‫فتحسس رأسك !!»‬

‫شعر ‪ :‬صالح عبد الصبور‬

‫مقدمة ‪:‬‬

‫‪« ..‬ااإلنسان السائل ‪ .. »liquid Individual‬صورة مجازية*(‪ )1‬بغرض‬


‫المقاربة بين معنيين لفهم القيمة المتغيرة‪ ،‬والمتصارعة‪ ،‬والمتسارعة‪،‬‬
‫والمتعاظمة ً للحالة المعيشية لإلنسان في مرحلة «ما بعد الحداثة» حيث يصبح‬
‫اإلنسان في رجة دائبة‪ ،‬وامتحان مستمر للقديم‪ ،‬وتدمير لألوثان‪ ،‬وصدع‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )1‬مصطلح «المجاز» مشتق من الفعل «جاز الشيء» بمعنى «تعداه إلى غيره»‪ ،‬وتنقسم األلفاظ في‬
‫دراسة البالغة العربية إلى حقيقة ومجاز‪ ،‬والحقيقة في األلفاظ هي استعمالها فيما وضعت له من المعاني‬
‫في المعجم اللغوي‪ ،‬أما المجاز فهو استعمال أيه لفظة في غير معناها المعجمي لوجود عالقة بين المعنى‬
‫اللغوي األصل بهذه اللفظة‪ ،‬والمعنى المجازي (الجديد) الناتج عن ذلك االستعمال (بشرط وجود قرينة مانعة‬
‫من إرادة المعنى األصلي للفظة)‪.‬‬
‫يتفق كل من الفيلسوف البولندي األصل واالنجليزي الجنسية زيجمونت باومان‪ ،‬والمفكر المصري د‪.‬عبد‬
‫الوهاب المسيري على‪«:‬إننا نحيا من خالل ابتكار الصور المجازية ونبذها؛ لقدرتها على تفسيرالمفاهيم‬
‫والصور‪ ،‬والمقاربة بين اللغة والوضع اإلنساني‪ ،‬وأهميتها في فهم الخرائط اإلدراكية واألنساق التصويرية‪،‬‬
‫وقدرتها على معارضة الغامض بالواضح»‪ ،‬ويرى ريجيس دوبري انها جزء من عملية التصور‪ ،‬والتخيل‬
‫من خالل الوساطات ذات الطابع المفاهيمي كاللغة‪ .. ،‬وإنها في الحقيقة حقل للتفكير تتقاطع فيه المناهج‪،‬‬
‫وتتواشج فيه المعطيات ‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬
‫لأليقونات‪ ،‬واألقانيم‪ ،‬وزرع مستمر لما هو جديد؛ ‪ ..‬ليظل دائما في حالة‬
‫الذي يحوِّ ل جديد اليوم‪ ،‬وحديثه إلى قديم كالسيكي ‪..‬‬ ‫العابر»*(‪)2‬‬ ‫«االنتقالي‬
‫عابر دائما في حالة دائبة من التغيير‪ ،‬والتجديد‪ ،‬وحالة مستمرة من الحركية‪،‬‬
‫والتطور وفقاً لما ترمز إليه «ما بعد الحداثة» من التطلع إلى «المجهول‬
‫الجديد»‪ ،‬والتي يتسم بالفوضى‪ ،‬والضبابية‪ ،‬والال يقين ‪.‬‬

‫‪« ..‬ااإلنسان السائل» يمثل حالة ‪«:‬اإلنسان والمجتمع في ظل الحداثة‬


‫السائلة ‪»Individual and society in the liquid modernity‬‬
‫حيث يصبح الفرد‪ ،‬والمجتمع‪ ،‬واألخالق‪ ،‬والسلطة‪ ،‬والدين مجرد كلمات‬
‫مشبعة بسيولة قادرة على تكثيف أهم جوانب الواقع الحالي في حد ذاته‪،‬‬
‫والبُعد الذي يفسح فيه الدائم الطريق إلى العابر‪ ،‬وضرورة المنفعة قبل أي‬
‫قيمة أخرى‪ ،‬والحاجة إلى الرغبة التي تفزع الرجال في التغييرات‪ ،‬والتحوالت‬
‫المستمرة التي تؤثر على حياتهم‪ ،‬والتي تحول الهوية من حقيقة إلى مهمة؛‬
‫ألن مفاهيم الهوية‪ ،‬والفرد‪ ،‬والفردية أصبحت بال معنى‪ ،‬يطلب العالم من الفرد‬
‫ً‬
‫بحثا مستم ًرا‪ ،‬ومثي ًرا للجدل بشكل متزايد عن الهوية؛ وتتبع معايير التوحيد‬
‫من أجل الحصول على «دور» األفراد؛ ألن الهوية اليوم مهمة؛ فكونك فردا‬
‫في مجتمع سائل ال يعني ببساطة كونك مستهلك جيد‪ ،‬ولكن ً‬
‫أيضا كونك سلعة‬
‫تنافسية في السوق العالمية !!‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )2‬يورجن هابرماس‪ ،‬القول الفلسفي للحداثة‪ ،‬ترجمة‪ :‬فاطمة الجيوشي‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة ـ سوريا‬
‫‪ ١٩٩٥‬ـ ص ‪١٨‬‬

‫‪8‬‬
‫‪ ..‬إذا كنت ترغب في المشاركة في المجتمع ‪ ،‬عليك أن تستهلك بهذه الطريقة‬
‫ـ تحويل نفسك إلى سلعة ـ ‪ ،‬وهذا شرط مسبق غير قابل للتفاوض‪ ،‬وبالتالي فإن‬
‫عالقات السوق أساسية لمجتمع المستهلكين‪ ،‬كما هو الحال مع العقلية الحسابية‬
‫التي تسير بمحازاتها ‪..‬‬

‫‪« ..‬ااإلنسان السائل» ‪ ..‬مجرد أفتار ‪ .. Avatar‬صورة رمزية معبرة‬


‫عن بؤس الوجود اإلنساني‪ ،‬ومعاناته ‪ ..‬إنسان بال صفات ثابتة ‪ ..‬دائم التحوالت‬
‫ليصبح «إنسانا بال روابط» يخضع للتحديث «الوسواسي القهري اإلدماني»‬
‫الذي ال يثق في اللحظة الراهنة القائمة على التأقيت‪ ،‬والال يقين‪ ،‬وأن كل شيء‬
‫موضع شك؛ «فجميع الموائمات‪ ،‬واالتفاقات مؤقتة‪ ،‬وعابرة‪ ،‬وصالحة لحين‬
‫إشعار آخر‪ ».‬على حد تعبير زيجمونت باومان ‪.‬‬

‫‪« ..‬ااإلنسان السائل» يمثل تجسيداً لـ «اإلنسان ذو البعد الواحد»‬


‫الذي يخضع لسيطرة اجتماعية في عصر التقدم التكنولوجي تتلبس طابعاً‬
‫عقالنياً يجرد كل احتجاج‪ ،‬وكل معارضة من سالحهماً عبر«نظام السيطرة‬
‫الناعمة»*(‪ ،)3‬وعودة إلى مفهوم «اإلنسان المستباح ‪ »Homo Sacar‬ــ‬
‫حسب تعبير جورجو أجامبين ـ *(‪ )4‬أو «اإلنسان الضائع» ــ حسب تعبير جون‬
‫ـــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )3‬هربرت ماركووز‪ ،‬اإلنسان ذو البعد الواحد‪ ،‬ترجمة جورج طرابيشي‪ ،‬ط ‪ ،٣‬دار اآلداب‪ ،‬بيروت‬
‫‪١٩٨٨‬ـ ص ‪13‬‬
‫*(‪ )4‬جورجو أجامبين‪ ،‬حالة االستثناء‪ ،‬نقله إلى العربية ‪ :‬د‪ .‬ناصر اسماعيل‪ ،‬دار مدارات لألبحاث والنشر‪،‬‬
‫ط‪ ،١‬القاهرة ‪٢٠١٥‬‬

‫‪9‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫ديوي ـ *(‪ ،)5‬أو «اإلنسان المهـدور» ـ على حد تعبير د‪ .‬مصطفي حجازي*(‪،)6‬‬


‫وهو مصطلح على مستوى المجاز يشير إلى كل آخر غريب يمكن قهره‪،‬‬
‫وسلبه حقوق اإلنسان كلها‪ ،‬بما في ذلك حق الوجود في إطار ظهور «ثقافة‬
‫المحظورات الكونية»‪.‬‬

‫‪« ..‬ااإلنسان المستباح» ارتبط عادة بالتجسيد المطلق للحق السيادي المطلق‬
‫في استبعاد مثل هذه الكائنات البشرية الغريبة من نطاق القوانين اإلنسانية‪،‬‬
‫واإللهية‪ ،‬حيث يصبح الكائن المستباح وجو ًدا يمكن تدميره من دون التعرض‬
‫للعقاب‪ ،‬وإن كان تدميره ال تعوزه أي داللة دينية أو أخالقية؛ فحياة «الرجل‬
‫المستباح» ال تحمل أي مغزى بالنسبة للحاكم؛ فهو موجود بصفته البيولوجية‬
‫«في حياة عارية ‪ »Ze‬مثل شئ دون األدمية‪ ،‬وينبغي إعالته بالمعنى األكثر‬
‫بدائية بالطعام‪ ،‬والماء‪ ،‬والمأوى‪ ،‬كما ينبغي إبعاده عن طريق النفي أو االحتجاز‬
‫في مراكز العزل العنصري عن الوجود الطبيعي لإلنسانية في «حياة سياسية‬
‫‪ »Bios‬باإلقامة الجبرية في (معسكرات اعتقال النازي ـ المخيمات الفلسطينية‬
‫ـ معتقل أبو غريب ـ معتقل جوانتانامو) أو جيتوهات أو أحياء عشوائية منعزلة‬
‫مثل أحياء الهنود الحمر‪ ،‬وأحياء زنوج أمريكا ‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )5‬جون ديوي‪ ،‬الفردية ‪ ..‬قديماً وحديثاً‪ ،‬ترجمة خيري حماد‪ ،‬منشورات دار مكتبة الحياة ‪ ،‬بيروت ‪ 1979‬ـ ص‬
‫‪49‬‬
‫*(‪ )6‬د ‪ .‬مصطفى حجازي‪ ،‬اإلنسان المهدور ‪ ..‬دراسة نحليلية نفسبة اجتماعية‪ ،‬ط ‪ ،١‬المركز الثقافي العربي ـ الدار‬
‫البيضاء ‪٢٠٠٥‬‬

‫‪10‬‬
‫ينقلنا مفهوم «ااإلنسان المستباح» إلى ما يطلق عليه أجامبين ‪«:‬الحياة‬
‫العارية ‪ »Ze‬حيث تقوم السلطة برد اإلنسان لكونه «مادة استعمالية» مجردة‬
‫من اإلنسانية‪ ،‬وليس إنسان له خصائص تسري عليه أحكام الكرامة‪ ،‬والحفظ‪،‬‬
‫والصون ‪ ..‬مجرد جسد لكائن مخلوق له روح تتشابه مع روح الحيوان مجردة‬
‫من كل السمات االجتماعية‪ ،‬والحقوق السياسية‪.‬‬

‫‪ ..‬يرى أجامبين أن ما يتم استبعاده في االستثناء يبقى قائما فيما يتعلق‬


‫بالقاعدة أو المعيار في شكل تعليق القاعدة‪ ،‬أى تنطبق القاعدة على االستثناء‬
‫بانسحابها‪ ،‬وتعليق القاعدة ال يعني الفوضى بل هي منطقة عدم التمييز بين‬
‫الفوضى‪ ،‬والوضع الطبيعي إذا أن السيادة تحمل معها «السلطة على الحياة»‬
‫عن طريق حكم االستثناء‪ ،‬ويبدي أجامبين قلقه من تصبح «لحظة االستثناء»‬
‫هي «اللحظة الحاكمة» على المدى البعيد‪ ،‬ويبدي أجامبين تخوفه من فرضية‬
‫جوهرية مفادها عدم قابلية حالة االستثناء أو حالة الطوارئ لإللغاء‪.‬‬

‫‪ ..‬عن العالقة بين «ااإلنسان السائل» وشخصية «المتسكع» أو «الصعلوك»‬


‫أو «المنبوذ» أو «الغرباء والمتشردين» يذكر زيجمونت باومان شخصية‬
‫المتسكع بصفته الشخصية الرمزية للمدينة الحديثة‪ ،‬ويخبرنا من خالل الربط‬
‫بين المساحة الجديدة لمراكز التسوق‪ ،‬وبين التسكع‪ ،‬بأن مراكز التسوق تجعل‬
‫العالم «مسوّ را ّ‬
‫بدقة‪ ،‬مراقبًا إلكترونياً‪ ،‬وخاضعا لحراسة عن كثب؛ بما يضفي‬

‫‪11‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫ً‬
‫آمنا للحياة بصفتها تجوّ ال تخلقه الغربة‪ ،‬والوحدة باعتبارهما مصدر إلهام‬
‫إلعادة اختراع المساحات»‪.‬‬

‫‪ ..‬صياغة مفهوم التسكع من خالل أبعاده المتعددة يجعل من المتسكع ليس‬


‫جائال في المدينة فحسب‪ ،‬بل أن تسكعه يمثل ً‬
‫أيضا «طريقة لقراءة‬ ‫ً‬ ‫شخصاً‬
‫النصوص» و«لقراءة آثار المدينة»‪.‬‬

‫ويرى باومان أنه يمكن النظر إلى التس ّوق على أنه شكل آخر من أشكال‬
‫التسكع‪ ،‬أو هو تحديق سيار وثيق الصلة بالنساء‪ ،‬ويمكن ربط عملية «تأنيث‬
‫المتسكع» بمعنى ربط سلوك تسكع النساء بنشوء الموالت الضخمة التي هي‬
‫محاولة لنقل الشارع إلى داخل األبنية‪ ..،‬صورتا الغرباء والمتشردين عند باومان‬
‫التي يشير إليها بمصطلحي ‪ Servant Group( :‬المجموعة الخدمية) أو‬
‫(‪ Inrermediate Group‬مجموعة الوسطاء) واللتان تقتربان مع ما يطلق‬
‫عليه المفكر المصري د‪ .‬عبد الوهاب المسيري‪«:‬أنموذج الجماعة الوظيفية‬
‫‪ ،»Functioal Groupe‬والتي تعني كل فئة بشرية قليلة يو ِكل إليها المجتمع‬
‫وظائف شتى يرى أن أعضاءه ال يقدرون على تحمّلها‪ ،‬ويأنفون منها ألسباب‬
‫مختلفة‪ ،‬ويُعرفون بوظائفهم وحدها‪ ،‬ال بإنسانيتهم المتكاملة؛ فيُصبح أحدهم‬
‫إنساناً ذا جانب واحد‪ ،‬ال صلة له بالمجتمع إال بوظيفته‪)7(* .‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )7‬د‪ .‬عبد الوهاب المسيري‪ ،‬الجماعات الوظيفية اليهودية ‪ ..‬نموذج تفسيري جديد ‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ط ‪٢‬‬
‫ـ القاهرة ‪٢٠٠٢‬‬

‫‪12‬‬
‫‪ ..‬و«المجتمع السائل» يعني ‪:‬‬

‫«المجتمع حين تكون الشروط التي يوجد ضمنها البشر‪ ،‬ويقومون بالفعل‬
‫متغيرة على درجة كبيرة من السرعة تجعل من قدرتهم على استيعاب التغير‪،‬‬
‫وهضم الجديد‪ ،‬وبناء سلوكيات‪ ،‬وعادات على أساسه صعباً إلى أبعد حد‪.».‬‬

‫‪..‬البشر في مجتمع االستهالك يعيشون تحت وابل انتاج كثيف لما يتم الترويج‬
‫له دعائياً أنه األفضل‪ ،‬فلم يعد المزاج الشخصي قادر على الحكم على األشياء‪،‬‬
‫ولم تعد الهويات‪ ،‬وال الثقافات قادرة على االحتفاظ بشكلها زمانا طويال‪ ،‬وال أمل‬
‫في ذلك ألنها تتحلل‪ ،‬وتنصهر بسرعة أكبر من سرعة إعادة تشكلها‪ ،‬ويتفكك‬
‫مفهوم المجتمع نفسه من جذوره؛ بسبب سيولة األبنية االجتماعية‪ ،‬وسرعة‬
‫تغيرها‪ ،‬وتحول التاريخ السياسي للمجتمعات واالفراد‪ ،‬وأنماط الحياة إلى سلسلة‬
‫من مشروعات ال متناهية‪ ،‬وتالشي كل الصور الرومانسية للعالقات االجتماعية‬
‫التي نقشت في داخلنا ألعوام‪ ،‬بل ولعقود من خالل خضوع العالقات اإلنسانية‬
‫للتسليع‪ ،‬واالستهالك في لحظة البؤس البشري‪ .. ،‬مجتمع انتهى بإعالن موت‬
‫اإلنسان لمصالح مقوالت غير إنسانية مثل اآللة‪ ،‬والدولة‪ ،‬والسوق‪ ،‬والسلعة‪،‬‬
‫والسلطة‪ ،‬أو لمصلحة مقوالت أحادية البعد مثل الجسد‪ ،‬والجنس‪ ،‬واللذة !!‬

‫‪« ..‬ااإلنسان السائل» وصف مستعار من «الفيزياء» و«االقتصاد» للخروج‬

‫‪13‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫من المفاهيم الضيقة التي يوفرها علم االجتماع باعتباره (علم عدم الحرية)‪،‬‬
‫والذي بات اآلن في لحظة فارقة بعد أن أصبحت أدواته غير شارحة‪ ،‬وال‬
‫مفسرة!! ‪.‬‬

‫‪ ..‬يعد مصطلح «ااإلنسان السائل» نتاج حالة اجتماعية‪ ،‬وسياق تاريخي‬


‫تزامن مع نتائج «ما بعد الحداثة» بكل ما تحمله من غموض‪ ،‬وابهام‪ ،‬ومفهوم‬
‫عائم ملغوم يلغي ذاته باستمرار‪ ،‬ويخلق ردود فعل متناقضة‪ ،‬وتواتر نادر‬
‫بين االرتكاس واالنبهار‪ ،‬بين الدعاية الال مشروطة‪ ،‬والرفض التام‪ ،‬وتحوالت‬
‫غير منطقية من «الحداثة الصلبة» إلى «الحداثة السائلة» على حد تعبير عالم‬
‫االجتماع اإلنجليزي الجنسية البولندي األصل زيجمونت باومان الذي أطلق‬
‫مُسمى «السيولة» على مرحلة ‪«:‬ما بعد الحداثة» الذي كان يعتبره تسمية‬
‫السائلة‪)8(*.».‬‬ ‫(خطأ)؛ لذا قرر أن يُسميه بوضوح «الحداثة‬

‫‪ ..‬وسرعان ما توسع باومان في إطالق صفة ‪« :‬السيولة» على مناحي كثيرة‬


‫في معالجته لنظرية «التقاطع المعرفي ‪»Interdiscplinarity Theory‬‬
‫في علم االجتماع من خالل ما أسماه من خالل مجموعة مؤلفاته المعروفة بـ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )8‬زيجمونت باومان ‪ ،‬الحداثة السائلة‪ ،‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬أبو الحجاج جبر‪ ،‬تقديم ‪ :‬د‪.‬هبة رءوف عزت‪ ،‬سلسلة‬
‫الفقة االستراتيجي ـ عدد ‪ ،3‬ط ‪ ،1‬الشبكة العربية لأليحاث والنشر ‪ ،‬بيروت ‪ 2016‬ـ ص ‪27‬‬

‫‪14‬‬
‫«سلسلة السيولة المدونة في كتب الفقة االستراتيجي»*(‪: )9‬‬

‫«الحداثة السائلة‪ ،‬الحب السائل‪ ،‬الخوف السائل‪ ،‬الشر السائل‪ ،‬األخالق في‬
‫زمن الحداثة السائلة‪ ،‬الحياة السائلة‪ ،‬الثقافة السائلة‪ ،‬المراقبة السائلة‪.».‬‬

‫‪.‬مفهوم الحداثة ‪:‬‬


‫ـــــــــــــــــــــــــ‬

‫يتفق أغلب الدارسين على أن «الحداثة» التي بدأت مع نهاية العصور‬


‫الوسطى عتبة تاريخية إلى العصور الحديثة؛ فالحداثة مرحلة تاريخية بلغتها‬
‫المجتمعات األوربية في مسارها التاريخي من خالل ظهور المجتمع األوربي‬
‫الحديث المتميز بدرجة عالية من التقنية‪ ،‬والعقالنية‪ ،‬والتفتح‪ ،‬والحداثة كونياً هي‬
‫ظهور المجتمع البرجوازي الحديث في إطار ما يسمى بـ «النهضة الغربية»‬
‫هذه النهضة التي جعلت المجتمعات المتطورة صناعياً تحقق مستوى عالي من‬
‫التطور مكنها‪ ،‬ودفعتها إلى غزو‪ ،‬وترويض المجتمعات األخرى ‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )9‬سلسلة الفقة االستراتيجي‪ ،‬تصدر عن الشبكة العربية لأليحاث والنشر (بيروت ـ لبنان) بالتعاون مع‬
‫منتدى الفقة االستراتيجي‪ ،‬وتتولى د‪ .‬هبة رءوف عزت أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة اإلشراف‬
‫العلمي على السلسلة ‪.‬‬
‫تهدف السلسلة إلى إعادة رسم خريطة العلوم اإلسالمية تنظيراً وعمراناً وبياناً يكشف اللثام عن أوجه‬
‫التميز في الرؤية‪ ،‬والمنظور اإلسالمي للعلوم الذي يعكس رؤية توحيدية‪ ،‬وينتج نماذج عمران متكاملة في‬
‫الحياة محققة السعادة العاجلة واآلجلة ‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫‪ ..‬وقد عبر هيجل عن هذه الحداثة بـ « عصراألزمنة الجديدة» أو «عصراألزمنة‬


‫الحديثة» في إشارة إلى القرون الثالثة التي سبقت اكتشاف العالم الجديد أي‬
‫الحقبة الي بدأت مع عام ‪ ١٥٠٠‬م تقريباً ‪.‬‬

‫‪ ..‬لكن يمكن القول بأنها حالة تحول‪ ،‬وحركة تغير ألنماط التفكير‪ ،‬والعيش‪،‬‬
‫والسلوك بعد الخروج على ائتالف رجال الكنيسة‪ ،‬والنبالء من االقطاعيين‪،‬‬
‫وإعالن «موت اإلله» أو «رحيل اإلله إلى حيث ذهب‪ ،‬ولن يعود»‪ ،‬بيد أن تأليه‬
‫المجتمع لم يكتمل إال مع ظهورسوسيولوجيا نظرية للحداثة في سياق العلمنة‪،‬‬
‫وال سيما في أعمال إميل دور كايم فأصبحت سلطة المجتمع على مركز الوجود‬
‫اإلنساني‪ ،‬وإن اإلله لم يمت تماماً بل جرى تهميشه‪ ،‬واستبدال سلطة جديدة به؛‬
‫فالحداثة الغربية كما يرى باومان شهدت ميالد ألهه بديلة مثل الطبيعة‪ ،‬والعلم‪،‬‬
‫والتقدم‪ ،‬والدولة القومية‪ ،‬وصاحب كل ذلك ميالد ثالوث (غير) مقدس جديد‬
‫تمثل في‪ :‬األرض‪ ،‬واألمة‪ ،‬والدولة ‪.)10(*.‬‬

‫لينتهى «أقنوم اإلله»‪ ،‬وليحل محله «أقنوم العلم» باعتباره إله علمانياً؛ بمعنى‬
‫انتقال اإلنسانية من سيطرة الالهوت‪ ،‬والكنيسة‪ ،‬والسحر‪ ،‬والخرافة إلى نور‬
‫العقل والعقالنية؛ فهى باختصار عبارة تحول في مجرى حياة اإلنسان ثقافياً‪،‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )10‬زيجمونت باوما‪ ،‬الحداثة والهولوكست‪ ،‬ترجمة ‪ :‬حجاج أبو جبر‪ ،‬دينا رمضان‪ ،‬مدارات لألبحاث‬
‫والنشر ـ القاهرة ‪ ٢٠١٤‬ـ ص ‪26‬‬

‫‪16‬‬
‫واجتماعياً‪ ،‬وعلمياً‪ ،‬واقتصادياً‪ ،‬وأخالقياً؛ فهي بذلك عبارة عن نمط خاص في‬
‫مقابل كل صنوف التقليد‪ ،‬وضروب الثقافة اإلرثية التى تتمسك بنقطة زمنية‬
‫أصلية‪ ،‬وتتشبس بمرجعية متعالية‪ ،‬وأمل مقدس؛ فهي بذلك ثورة كوبرانيكية‬
‫أتت على كل جوانب الحياة الكالسيكية التقليدية لتفتح عهدا جديدا مع العقالنية‪،‬‬
‫والتطور‪ ،‬والتغيير ‪.‬‬

‫أما الداللة االجتماعية فهى ترتبط بنموذج التحديث االجتماعي الذي‬


‫ً‬
‫بديال من النموذج االجتماعي التقليدي‪ ،‬كان النموذج الجديد ينتظم‬ ‫تم إحالله‬
‫حول مجتمع يصنع ذاته من خالل تدمير الذات القديمة تمهيداً إلعادة بنائها‬
‫باستعمال العقل‪ ،‬واحترام الحقيقة القابلة للتطبيق‪ ،‬وأن يلبي حاجات أعضاء‬
‫المجتمع كافة‪.‬‬

‫‪ ..‬وتعتبر «الحداثة» ـ وفقا للفكر الغربي المُشاع ـ مرحلة استنارة أعلنت‬


‫عن سلسلة من النهايات‪ :‬نهاية القديم‪ ،‬ونهاية الميتافيزيقا‪ ،‬ونهاية السحر‪ ،‬ونهاية‬
‫الخرافة‪ ،‬ونهاية سيطرة الطبيعة‪ ،‬ونهاية األسطورة‪ ،‬وغيرها من النهايات‬
‫األخري‪ ،‬ومولد سلسلة من البدايات‪ :‬بداية عصر جديد‪ ،‬وبداية النزعة العلمية‪،‬‬
‫وبداية النزعة التجريبية‪ ،‬وبداية النزعة التقنية ‪.‬‬

‫‪ ..‬وقد قدم زيجمونت باومان وصف دقيقأ لتداعيات الحداثة في كتابه‪«:‬الحداثة‬

‫‪17‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬
‫والهولوكست» بقوله ‪:‬‬

‫«شهد عصر التنوير تألية الطبيعة‪ ،‬وشرعنة العلم بوصفه دينها الحنيف‪،‬‬
‫والعلماء بوصفهم أنبياءها‪ ،‬وكهنتها ‪ ،».‬ليصل بنا باومان إلى أن وعود‬
‫الحداثة قد تبددت‪ ،‬ولم يتحقق منها شيء !! ‪ ..‬كان وعد الحداثة تحرير اإلنسان‬
‫من الخوف؛ فالجماعة التي تمارس سيطرتها عليه سيواجهها بالفردية‪ ،‬والدين‬
‫الذي يحذره من عواقب أفعاله سيتم مواجهته بفصل الغيب عن الحياة‪ ،‬وإعالن‬
‫العلمانية‪ ،‬وضربات الطبيعة‪ ،‬والمرض‪ ،‬والموت سيتم التعامل معها بالعلم‪.‬‬

‫‪ ..‬وأضاف زيجمونت باومان في كتابه «الحداثة السائلة» ‪:‬‬

‫الحداثة مجموعة من الممارسات اإلنسانية انتقلت معها المجتمعات الغربية‬


‫من أزمنة ساكنة إلى أزمنة سائلة ‪ ..‬الحداثة تبدأ حالما ينفصل المكان‪ ،‬والزمان‬
‫عن التجربة المعيشية‪ ،‬وحالما ينفصالن عن بعضهما البعض إذ يسهل التنظير‬
‫لهما باعتبارهما مستقلتين‪ ،‬ومتباينتين الستراتيجية الفعل‪ ،‬وهي تبدأ حالما‬
‫يتوقف الزمان‪ ،‬والمكان عن الوجود على الحالة التي كان عليها على مدار‬
‫قرون عديدة في أزمنة ما قبل الحداثة عندما كان يتالحمان‪ ،‬ويتشابكان بحيث‬
‫يتعذر التمييز‪ ،‬والفصل بينهما داخل التجربة المعيشية بمعنى إن الحداثة غيرت‬
‫مقومات العيش اإلنساني‪ ،‬وأعادت تعريف الزمان‪ ،‬والمكان لتمنحهما معاني‬

‫‪18‬‬
‫أكثر اقترانا بالرأسمالية في مراحلها المتتالية‪ ،‬وبالتالي أعادت طرح أسئلة‬
‫كبرى حول اإلنسانية ‪.‬‬

‫يرى أالن تورين في كتابه ‪«:‬نقد الحداثة» أن المفهوم الغربي األشد‬


‫وقعاً‪ ،‬واألكثر تأثيراً للحداثة أن التحديث يقوم على تحطم العالقات االجتماعية‪،‬‬
‫والمشاعر‪ ،‬والعادات‪ ،‬واالعتقادت المسماة بالتقليدية‪ ،‬وأن فاعل التحديث ليس‬
‫فئة‪ ،‬أو طبقة اجتماعية معينة‪ ،‬وإنما هو العقل نفسه‪ ،‬والضرورة التاريخية التي‬
‫مهدت النتصاره‪ ،‬وهكذا أصبحت العقالنية عنصر ال غنى عنه للحداثة بصفتها‬
‫آليه تلقائية‪ ،‬وضرورية للتحديث؛ فهي التي تعد السياسات االجتماعية بهدف‬
‫إخالء الطريق للعقل‪ ،‬وتهيئة الفاعلين االجتماعيين‪ ،‬والسياسيين‪ ،‬والثقافيين‬
‫على نشر معرفة تشكل نموذجا للتحديث‪ ،‬وصياغة أيدلولوجية ذات آثار نظرية‪،‬‬
‫وعملية بعيدة المدى تحقق األهداف ‪.‬‬

‫‪ ..‬ويؤكد نورين أن الغرب قد تمثل الحداثة‪ ،‬وعاشها كثورة عقلية ال يعترف‬


‫فيها العقل بأى مكسب من الماضي بل على العكس يتخلص من المعتقدات‪،‬‬
‫وأشكال التنظيم االجتماعي‪ ،‬والسياسي التي ال تؤسس على أدلة من النوع‬
‫*(‪)11‬‬ ‫العلمي‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )11‬أالن تورين‪ ،‬نقد الحداثة‪ ،‬ترجمة ‪ :‬أنور مغيث‪ ،‬المركز القومي للترجمة ـ العدد ‪ ، ٣٨‬القاهرة ‪١٩٩٧‬‬
‫ـ ص ‪31‬‬

‫‪19‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫‪ ..‬ويعود زيجمونت باومان في كتابه‪« :‬الحداثة واإلبهام»*(‪ ،)12‬ليلقي‬


‫الضوء على اإلبهام الذي يحيط بالحداثة‪ ،‬بما يعني صعوبة الفهم‪ ،‬واإلدراك‪،‬‬
‫واختفاء المعني الذي يغلف غاياتها‪ ،‬ومماراساتها‪ ،‬ويعرف ذلك االبهام تعريفاً‬
‫سوسيولوجياً بأنه‪:‬‬

‫« إمكانية تصنيف موضوع أو حدث فى أكثر من فئة‪ ،‬وهو بذلك خلل فى‬
‫اللغة‪ ،‬وقصور فى وظيفة التسمية المنوطة باللغة‪ ،‬ومعها يبدأ الخلل فى عدم‬
‫االرتياح البالغ الذى نشعر به عندما نعجز عن قراءة الموقف قراءة سليمة‪.».‬‬

‫‪ ..‬ويضيف باومان‪ :‬أننا نرى فى اإلبهام خلال بسبب القلق الذى يثيره‪،‬‬
‫والتردد الذى يترتب عليه‪ ،‬سواء ألقينا باللوم على اللغة لعدم دقتها أو على‬
‫أنفسنا الستعمالنا غير المناسب لها‪ ،‬ولكن االبهام ليس نتاجا النحراف اللغة‪،‬‬
‫وال الكالم‪ ،‬بل هو جانب طبيعى من الممارسة اللغوية‪ ،‬أنه يصدر عن إحدى‬
‫الوظائف األساسية للغة‪ ،‬أال وهى التسمية‪ ،‬والتصنيف‪ ،‬ويزداد االبهام كلما زاد‬
‫اتقان تلك الوظيفة‪ ،‬ومن ثم فإن االبهام هو األنا األخرى للغة‪ ،‬ورفيقها الدائم‪،‬‬
‫بل وضعها الطبيعى ‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )12‬زيجمونت باومان‪ ،‬الحداثة واإلبهام‪ ،‬ترجمة ‪ :‬حجاج أبو جبر‪ ،‬المركز القومي للترجمة ‪،‬العدد ‪3164‬‬
‫‪ ،‬القاهرة ‪2018‬‬

‫‪20‬‬
‫‪ ..‬ويرى باومان أنه من خالل وظيفة التسمية أو التصنيف ترسخ اللغة نفسها‬
‫بين عالم يحافظ على النظام‪ ،‬ويقوم على أساس صلب‪ ،‬ويصلح للعيش البشرى‪،‬‬
‫وعالم متقلب من العشوائية تصير فيه أسلحة البقاء البشرى (الذاكرة‪ ،‬والقدرة‬
‫على التعلم) عديمة الجدوى أن لم تكن انتحارية تماما‪.‬‬

‫ويكمل باومان قائال‪ :‬لقد وعدت الحداثة بالقضاء على اإلبهام‪ ،‬وتأسيس‬
‫الوضوح التام‪ ،‬والوصول إلى لحظة فردوسية ينتهى عندها اإلبهام‪ ،‬ولم تفلح‬
‫الحداثة في الوفاء بوعدها!!‬

‫‪ ..‬ورغم كل هذا اإلخفاق استطاعت الحداثة الخروج من مأزق الفشل‬


‫بتوزيع المخاوف الكبرى على تفاصيل الحياة اليومية‪ ،‬وإشعار الفرد أن مواجهه‬
‫التهديدات هي مهمته هو‪ ،‬وأن توفير األمن لم يعد من واجبات الدولة بل هو‬
‫مسؤولية األفراد ‪ ..‬أدارت الحداثة فشلها لصالحها‪ ،‬وحققت أدواتها االقتصادية‬
‫المكاسب من هذا الوضع بدءاً من صناعة أجهزة المراقبة‪ ،‬والحراسة إلى‬
‫صناعة السالح‪ ،‬وتجارة الحروب الدولية ‪.‬‬

‫‪ ..‬ولم تكتف الحداثة بذلك بل قامت عبر أدواتها بتجريد األفراد من‬
‫كل شبكات التضامن‪ ،‬ومهارات مواجهة المخاوف‪ ،‬والمخاطر كافة من خالل‬
‫«تأميم الخوف» في ظل النظم االشتراكية التي وعدت بتأميم خدمات التوظيف‪،‬‬

‫‪21‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫والصحة‪ ،‬والتعليم‪ ،‬والسالمة‪ ،‬واالستقالل‪ ،‬والسيادة‪ ،‬وانتقلت الحداثة في أحدث‬


‫ً‬
‫وبدال من رعاية الدولة ظهر السوق‬ ‫أطوارها السائلة إلى «خصخصة الخوف»‪،‬‬
‫ليقدم خدمات األمن‪ ،‬واألبواب الحديدية‪ ،‬والسيارات المصفحة‪ ،‬وااألسوار‬
‫العالية‪ ،‬ومن ال يملك تكلفة ذلك كله عليه أن يتعلم كيف يدافع عن نفسه بطرائق‬
‫أقل تعقيداً‪ ،‬وربما أكثر وحشية ‪.‬‬

‫‪ ..‬وأطلقت الحداثة فكرة السيادة التي هي في واقع الحال «علمنة لفكرة‬


‫اإلله»‪ ،‬واطلقت معها معاني الشر؛ فآلة الدولة تهيمن‪ ،‬ولكنها تفعل ذلك دون‬
‫رحمة‪ ،‬ودون التزام أخالقي؛ ولهذا فإن الشيطان في السياسة ليس مجرد خياالت‬
‫بل يتجسد في أشكال كثيرة أحدها هدم‪ ،‬وتدمير نظام أخالقي كوني‪ ،‬أو على‬
‫األقل نظام أخالقي قابل للحياة‪ ،‬والنمو‪ ،‬والتطبيق‪ ،‬وثانيهما ‪ :‬أن الشيطان قد‬
‫يظهر على أنه فقد للذاكرة‪ ،‬والحس األخالقي ‪.‬‬

‫‪ ..‬الخطير في األمر أن تقوم الدولة بتفتيت الشر‪ ،‬واستبطانه في تفاصيل‬


‫بيروقراطية على مستوى اإليقاع اليومي حيث تذوب بشاعته في عيون األفراد‬
‫الذين أصبحوا مجرد تروس صغيرة في آلة الشر الدائرة ‪ ..‬أصبح الشر السائل‬
‫يكمن في التفاصيل اليومية حتى بلغ حد االعتياد‪ ،‬وأصبحت المدن الحديثة هى‬
‫البوتقة المركزية لصهر القيم‪ ،‬واألخالق‪ ،‬والتطبيع مع الشر‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫***‬

‫‪ ..‬وال شك أن مفاهيم الحداثة أصبحت تمثل طرحاً جديد لـ «المشكلة‬


‫الهوميرية»؛ فقد أُعطيت دالالت‪ ،‬ومعاني للمفهوم يصل بها حد الغموض‬
‫والضبابية‪ ،‬والتعتيم‪ ،‬والتداخل‪ ،‬والتناقض بينها إلى الحد الذي يجعل كل فهم‬
‫ُملغيا للفهوم األخرى!!‬

‫مفهوم السيولة ‪:‬‬


‫ــــــــــــــــــــــــــ‬

‫يشير مفهوم السيولة عند باومان إلى تحول من الحالة الصلبة إلى الحالة‬
‫السائلة أو المائعة‪ ،‬وهو ما يقال عن المواد الصلبة مثل الحديد عندما يتحول‬
‫إلى مادة سائلة منصهرة؛ فالسيولة بهذا المفهوم تعنى الميوعة‪ ،‬واالنصهار‪،‬‬
‫والذوبان؛ فالميوعة‪ ،‬والسيالن حالة تحول من حالة الصالبة إلى الحالة السائلة‬
‫أو المائعة؛ فالميوعة هى سمة المواد السائلة‪ ،‬والغازية‪ ،‬وتتميز عن المواد‬
‫الصلبة بعدم االحتفاظ بقوى التماسك بين مكوناتها في حالة السكون‪ ،‬ومن ثم‬
‫يتغير شكلها باستمرار ما دامت تتعرض لإلجهاد؛ ويكون التغير‪ ،‬والتلون‪،‬‬
‫والتحول سمة من سماتها األساسية‪ ،‬وهو ما ينتج عنه الجريان‪ ،‬واالنسياب‪،‬‬
‫والتدفق بغير حساب‪ ،‬وهو أحد سمات الموائع أو األشياء المائعة أما األشياء‬

‫‪23‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬
‫الصلبة فال يحدث فيها جريان‪ ،‬وال تدفق‪ ،‬وال ميوعة ألن الميوعة جوهر األشياء‬
‫السائلة‪ ،‬والموائع ال تثبت في الحيز المكاني‪ ،‬وال تعوق حركة الزمن؛ فال‬
‫تحتفظ بشكل محدد فترة طويلة‪ ،‬وتكون دائما على استعداد‪ ،‬وميل إلى تغييره؛‬
‫فالسيولة في جوهرها عبارة عن سيالن‪ ،‬وانصهار‪ ،‬وذوبان‪ ،‬وحركة‪ ،‬وتغير‪،‬‬
‫وتحول‪ ،‬وميوعة‪ ،‬ومن خصائص الموائع أنها تتحرك بسهولة‪ ،‬وأنها تجري‪،‬‬
‫وتنسكب‪ ،‬وتنساب‪ ،‬وتتناثر‪ ،‬وتنهمر‪ ،‬وتتسرب‪ ،‬وتفيض‪ ،‬وتتشكل بأشكال‬
‫أوعيتها الحاوية‪ ،‬وتتلون بألوانها‪ ،‬وتسيل فال يسهل إيقافها كما هو الحال مع‬
‫المواد الصلبة‪ ،‬وهذا االنسياب له القدرة مثل تيار المياه المتدفق أن يكسر الكثير‬
‫من الحواجز‪ ،‬ويتسرب إلى عمق البنايات التي كان يظن مشيدوها أنها صلبة‪،‬‬
‫وغير قابلة لآلختراق ‪.‬‬

‫‪ ..‬مصطلح «السيولة» تم استعارته من حالة فيزيائية للمادة‪ ،‬وجعله ميزة‬


‫للمجتمع الحالي‪ ،‬وهذا دليل على أن باومان يفهم في تلك الميادين أو على األقل‬
‫طرق باب التخصصات األخرى‪ ،‬ولم يبق حبيس المفاهيم التي يوفرها علم‬
‫االجتماع فقط بل على العكس من ذلك تمكن من صقل مفاهيم جديدة تخدم علم‬
‫االجتماع ‪ ..‬أخذ باومان تلك الحالة الفيزيائية لما تكون عليه المادة من صالبة‪،‬‬
‫وانتقالها إلى حالة أخرى تكون لزجة مائعة سائلة؛ فهو أخذ هذا الشكل‪ ،‬وهذه‬
‫الصورة كي بعبر بشكل بالغ‪ ،‬وكبير عن الكيفية التي تحول بها المجتمع من‬
‫حالة الصالبة (الحداثة) إلى حالة الميوعة (ما بعد الحداثة)‪ ،‬وعلى هذا يعتبر‬

‫‪24‬‬
‫مصطلح ‪«:‬السيولة» نقطة تالقي لما أخذه باومان من العلوم األخرى‪ ،‬ووظفه‬
‫ليوصل للقارئ أن حالة المجتمع الحالى في تردية كحالة المادة المائعة السائلة‬
‫التى ال تعرف ثباتاً ‪.‬‬

‫‪ ..‬يجعل باومان من السيولة بهذا المفهوم تلك المرونة التي تنهزم في وجه‬
‫الصالبة في كل الميادين فيقول ‪:‬‬

‫«السيولة هي الصالبة الوحيدة‪ ،‬والال يقين هو اليقين الوحيد»؛ فهو‬


‫يعتبر السيولة نموذجاً لنمط حياتنا المعاصرة لكونها تقنية الصهر‪ ،‬والتمييع‪،‬‬
‫واإلذابة‪ ،‬وفي ظل السيولة كل شيء ممكن أن يحدث لكن ال شيء يمكن أن‬
‫تفعله في ثقة‪ ،‬واطمئنان‪ ،‬ومفهوم السيولة ال يظهر في سيولة الحركة‪ ،‬والتنقل‬
‫نتيجة التطورات المتسارعة في وسائل االتصال‪ ،‬واالنتقال بل هي تصل حد‬
‫سيولة المشاعر‪ ،‬والعالقات‪ ،‬والمعاني ألن المعنى قد غاب تحت نير التنقالت‪،‬‬
‫والبحث‪ ،‬واللهاث وراء كل جديد ‪.‬‬

‫في مجتمع السيولة الذي يصوره باومان تبدو حالة السيولة واضحة في‬
‫العالقات االجتماعية‪ ،‬وداخل التركيبة االجتماعية؛ فهو مجتمع تتغير فيه‬
‫الظروف التي يعيشها أعضاؤه بسرعة ال تسمح باستقرار األفعال في عادات‪،‬‬
‫وأعمال منتظمة‪ ،‬وهكذا تتغذى سيولة الحياة‪ ،‬وتستمد طاقتها‪ ،‬وحيويتها منها‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫السيولة ‪ ..‬والفوضي ‪:‬‬


‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫يرى باومان أن الصالبة‪ ،‬والسيولة ليستا ثنائية متعارضة بل حالتان‬


‫متالزمتان تحكمهما رابطة جدلية؛ فالبحث عن صالبة األشياء‪ ،‬والحاالت‬
‫هو ما دفع إلى إذابتهما‪ ،‬وأبقى على استمرارية اإلذابة‪ ،‬ووجه مسارها؛ فلم‬
‫تكن السيولة خصماً معادياً بل أثراً من أثار الصالبة‪ ،‬وهكذا فإن افتقار السائل‬
‫السيال النضاح َّ‬
‫النزار إلى شكل محدد هو ما يستدعي جهود التبريد‪ ،‬والتجميد‪،‬‬
‫والقولبة؛ فإذا كان شيء يسمح بالتميز بين الحداثة في مرحلتي «الصالبة»‪،‬‬
‫و«السيولة» (باعتبارهما متتالية زمنية)؛ فإنه التغير في األغراض الظاهرة‪،‬‬
‫*(‪)13‬‬ ‫والكامنة وراء هذه الجهود ‪.‬‬

‫ويقول باومان ‪:‬‬

‫الصهارة الذاتية «حتى‬


‫صرنا ننظر إلى المراكز الصلبة‪ ،‬ونقبلها على أنها ُ‬
‫إشعار آخر» إنها أقرب إلى تسويات مؤقتة منها إلى حلول نهائية‪ ،‬وهكذا حلت‬
‫المرونة محل الصالبة بوصفها الوضع المثالي للتعامل مع األمور‪ ،‬واألشياء؛‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )13‬زيجمونت باومان ‪ ،‬الحداثة السائلة‪ ،‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬أبو الحجاج جبر‪ ،‬تقديم ‪ :‬د‪.‬هبة رءوف عزت‪،‬‬
‫سلسلة الفقة االستراتيجي ـ عدد ‪ ،3‬ط ‪ ،1‬الشبكة العربية لأليحاث والنشر ‪ ،‬بيروت ‪ 2016‬ـ ص ‪27‬‬

‫‪26‬‬
‫فاألشياء الصلبة يمكن التعامل معها ما دامت تع ُد بأن تظل قابلة للذوبان‪ ،‬وتمتثل‬
‫إليه ‪.‬‬

‫ينبه باومان على أن السيولة ال تساوي الفوضى بمعنى انعدام مالمح‬


‫النموذج أو تهاوي النسق؛ فقد استخدم باومان مفهوم الفوضى في بعض كتاباته‬
‫بمعنى أعمق يتفق مع المفهوم في عالم الفيزياء أى بروز نمط مغاير للنسق‬
‫السائد‪ ،‬والمهيمن‪ ،‬وفي االجتماع اإلنساني يعنى استعادة اإلرادة‪ ،‬وإدراك قدرة‬
‫المجتمع اإلنساني على تقديم بدائل حياتية تحدث تغييراً في الواقع‪ ،‬ويمكن من‬
‫خاللها استعادة إنسانية النموذج الحداثي ‪.‬‬

‫‪ ..‬وأكد باومان قدرة اإلنسان على المراوغة مع السيولة من خالل خلق‬


‫صيغ من األفعال الال سيمترية‪ ،‬وغير المنتظمة‪ ،‬وال المنضبطة‪ ،‬ولكنها تتمكن‬
‫من تشكيل بعض الجزر وسط السيولة‪ ،‬وتلك القدرة تتحدى الصالبة المهيمنة‬
‫في سياقات‪ ،‬وعلى مستويات أخرى‪ ،‬ووظف باومان هذا التصور في تحليله‬
‫لسياسات المدن‪ ،‬وعلم االجتماع العمراني ‪.‬‬

‫ويرى باومان أن أزمة العلوم اإلنسانية تتلخص في أن القواعد المعمول‬


‫بها صارت تتغير بوتيرة متسارعة ال تستجيب لها الهياكل الثابتة‪ ،‬وهذه الهياكل‬
‫تراهن على «تسييل» مساحات عديدة كوسيلة هيمنة‪ ،‬وتحكم؛ لذا فإن خلخلة‬

‫‪27‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫الهياكل قد أصبح ضرورة لجني منافعها‪ ،‬وأيضاً البحث عن ثوابت في مواجهة‬


‫الميوعة‪ ،‬والسيولة‪ ،‬ومن هنا البد من إدراك تلك العالقة الجدلية‪ ،‬والتفاعلية‪،‬‬
‫والحية ليكتمل المشهد ويتضح تعقيده؛ فتبرز قدرة اإلنسان على تحديد مصيره‪،‬‬
‫وتغيير عوالمة ‪.‬‬

‫‪ ..‬ويخلص باومان إلى أن ‪«:‬السيولة هي الصالبة الوحيدة‪ ،‬والال يقين هو‬

‫اليقين الوحيد» ‪.‬‬

‫بينما ذهب ريتشارد سبنيت أحد علماء االجتماع من نقاد الحداثة إلى عكس ما‬
‫ذهب إليه باومان بقوله ‪« :‬أن الفوضي هنا ليس فعل هدم بل صيغ مقاومة تتحدى‬
‫المنطق السائد‪ ،‬وتقوم بتوليد استراتيجيات باتجاه اإلصالح‪ ،‬والتجديد‪.».‬‬

‫نظرية «التقاطع المعرفي»‬


‫‪: Interdiscplinarity Theory‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫العصر الحالي هو عصر التغييرات على مختلف األصعدة (السياسية ـ‬


‫االقتصادية ـ االجتماعية ـ الفكرية ـ التقنية ‪ ..‬ألخ)‪ ،‬واألسلوب التقليدي في‬

‫‪28‬‬
‫البحث العلمي أمر غير مجد ألنه أسلوب قائم على المحاضرات النظرية‪،‬‬
‫والتلقين‪ ،‬والحفظ‪ ،‬واالسترجاع‪ ،‬واجترار المعلومات دون االهتمام بالعمل‬
‫الجماعي‪ ،‬والتفكير اإلبداعي‪ ،‬وتطبيق المعارف‪ ،‬وهو أسلوب عقيم عجزت‬
‫معه «العلوم اإلنسانية» بصفة عامة في توصيف المشكالت‪ ،‬وطرح الحلول‪،‬‬
‫ومواجهة الطغمة القادرة على تحويل االكتشافات إلى امتيازات بما يخدم‬
‫مصالحها‪ ،‬ويحقق أهدافها‪ ،‬وكان البد من حث المهتمين بعلم االجتماع على‬
‫ضرورة إيجاد سبل بحث جدبدة‪ ،‬وكفيلة بامتالك مخيلة سوسيولوجية تساهم في‬
‫تقدبم الحل ‪.‬‬

‫‪ ..‬وبدأ العقل البشري يفكر في نظرية جديدة تساهم دوماً في إيجاد الحل‬
‫لمشكالت اإلنسان خاصة الفكرية منها؛ فقد شرع اإلنسان في إعادة التفكير من‬
‫جديد في الدعوة إلى زيادة التخصصات‪ ،‬واإلكثار منها‪ ،‬وإلى الدعوة إلى تنسيق‬
‫الجهود‪ ،‬و«التجسير» والمواكبة فيما بينها‪ ،‬وهذا ما سمح بظهور ما يسمى بـ‬
‫«الدراسات العابرة للحقول المعرفية ‪ »Cross discplinary‬أو «الحقول‬
‫المعرفية البينية ‪ »Inter discplinary‬التي تجمع بين العديد من الميادين‬
‫والمجاالت‪ ،‬وتوصل اإلنسان إلى ضرورة مشاركة الجميع في مواجهة عقباته‬
‫التي تواجهه‪ ،‬وتمنع عنه مواصلة المسيرة نحو التقدم‪ ،‬وهكذا نتج عن هذا الجو‬
‫نظريات جديدة في ظل التنسيق‪ ،‬والتعاون فيما بين التخصصات‪ ،‬وعلى رأسها‬
‫نظرية «التقاطع المعرفي ‪. »Interdiscplinarity Theory‬‬

‫‪29‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫قبل تحديد المفهوم الخاص بـ «التقاطع المعرفي» ال بد من اإلشارة إلى أن‬


‫«‪ »Interdiscplinarity Theory‬باإلنجليزية والفرنسية ليس لها ضبط‬
‫دقيق‪ ،‬ومقابل في اللغة العربية إذ ورد بعدة مفاهيم في اللغة العربية؛ فهناك من‬
‫يستعمل لفظة «الدراسات البينية»‪ ،‬وهناك من يستعمل «ما بين التخصصات»‪،‬‬
‫وهناك دراسات أخرى حبذت مصطلح «التقاطع المعرفي»‪ ،‬وارتأى البعض‬
‫أنه األنسب‪ ،‬واألكثر واقعية لكونه يحتوي على لفظ «المعرفة»‪.‬‬

‫‪« ..‬التقاطع المعرفي» ال يظهر إال عندما تبدأ وجه االنظر المتعلقة‬
‫بالتخصصات‪ ،‬واالندماج؛ فالكل في الحقيقة ليس مجرد إضافات بسيطة‬
‫لألجزاء‪ ،‬ولكن السعي في تركيب أعلى فهو نتيجة لعمل إعادة بناء الواقع‪،‬‬
‫كما يعرف أيضا على أنه عملية صياغة للمعرفة التي تؤدي من خالل المناهج‬
‫المتتالية إلى إعادة تنظيم جزئي للميادين‪ ،‬والمجاالت النظرية و«التجسير»‬
‫و«المواكبة» بين فاعليتها‪.‬‬

‫‪ ..‬ويرى البعض أنه يستخدم في العديد من المعاني مبحثاً علمياً ‪discpline‬‬


‫يتم انشاؤها بطريقة منهجية من خالل تجميع المعرفة‪ ،‬ووجهات النظر‪ ،‬وتقنيات‬
‫العمل من مختلف التخصصات العلمية‪.‬‬

‫‪ ..‬ويرى البعض أنه عملية تتضمن تقاطعاً في التصورات‪ ،‬والمفاهيم التي‬

‫‪30‬‬
‫لها عالقة بإعادة وسائل التحليل‪ ،‬والتفسير من التخصصات األخرى‪ ،‬وليس‬
‫مجرد عملية مجاورة للمناهج بعضها بعضاً‪ ،‬ولكن عملية ارتباط كاملة‪ ،‬وتامة‬
‫بين العديد من التخصصات ‪.‬‬

‫‪ ..‬ومن هنا يتضح حجم االهتمام بـ «التقاطع المعرفي»‪ ،‬وكيفية النظر إليه؛‬
‫فالقضية ليست مجرد إضافات بسيطة بقدر ما هي متعلقة‪ ،‬ومرتبطة بإيجاد‬
‫طرق جديدة لفهم الواقع‪ ،‬وكيفية التعامل معه؛ فـ «التقاطع المعرفي» لم يأت‬
‫ليسد فراغات بسيطة في حياة اإلنسان بل هو ضرورة ألح عليها الواقع اإلنساني؛‬
‫نظراً لتعقد حياته‪ ،‬وتشابكها؛ وقد كان هذا ما يعني «التقاطع المعرفي»‪ ،‬والبحث‬
‫في ضبط مفهومه ‪.‬‬

‫***‬

‫‪ ..‬حاولنا من خالل «التقاطع المعرفي» تسليط الضوء على أزمة «اإلنسان‬


‫المكدود»؛ فالتبست عليه المعايير‪ ،‬واختلطت المفاهيم مع ظروف مجتمعه‬
‫بداية من «طرائق الخلل» بلغة الفكر الخلدوني في نظرية ‪« :‬إيماضة الخمود»‬
‫أو «الذبال المشتعل» مروراً بعوامل الصهر‪ ،‬واإلذابة‪ ،‬والميوعة طبقاً لـ‬
‫«نظرية السوائل» لزيجمونت باومان‪ ،‬ونظرية توماس كوهن عن ‪« :‬النمـوذج‬
‫اإلرشــادي أو اإلطار الفكري ـ البرادايم ‪ »Paradigm‬في كتابه ‪(:‬بنية‬

‫‪31‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫الثورات العلمية) بما يعني تغير في أفق التفكير دون أن يكون بالضرورة تغير‬
‫في العناصر المكونة للتفكير‪ ،‬والتي فرضت األسس اإلبستمولوجية للعلم نفسها‬
‫في ضوء جديد حددته‪ ،‬وألقت الضوء على أزمة العلوم الطبيعية بما انطوت‬
‫عليه من مشكالت معرفية ومنطقية‪ .. ،‬عرض توماس كوهن ‪:‬‬

‫«أن العلم شهد تطورات دفعت مفكرين عديدين إلى أن ينحوا نحواً غير‬
‫وضعي في تناول فلسفة العلم خاصة أن الفلسفة الوضعية نزعت إلى إغفال‬
‫تاريخ العلم باعتباره غير ذي صلة بفلسفة العلم بناء على االعتقاد بأنه ‪:‬‬

‫«ال منطق لالكتشاف»‪ ،‬وأن عمليات مالءمة االكتشاف العلمي‪ ،‬والتقدم‬


‫العلمي هي موضوع تختص بدراسته علوم أخرى مثل علم النفس أو االجتماع‬
‫أو غيرهما حيث أن فلسفة العلم مقتصرة على منطق البحث فحسب‪ ،‬وأن عالم‬
‫المنطق مهمته تحديد اللغة ضمانا لدقة‪ ،‬وتطايق االصطالحات‪ ،‬وأن ما يعنيه‬
‫هو البنية المنطقية لكل القضايا الممكنه التي تزعم أنها قوانين علمية ‪.‬‬

‫‪ ..‬واعتاد فالسفة التجريبية المنطقية النظر إلى تاريخ العلم باعتباره أساساً‬
‫ً‬
‫مسجال لعمليات إزاحة تدريجية للخرافة‪ ،‬والهوى‪ ،‬وغير ذلك من معوقات‬
‫التقدم العلمي‪ ،‬وتتمثل عمليات اإلزاحة في إضافات متزايدة باطراد‪ ،‬وتوليف‬
‫للمعارف العلمية الجديدة في إطار المبحث العلمي الخاص بها‪ .. ،‬وهذا هو‬

‫‪32‬‬
‫التفسير المألوف لتاريخ العلم‪ ،‬والذي أطلق عليه توماس كوهن وغيره «مفهوم‬
‫التطور عن طريق التراكم » ‪.‬‬

‫يعتبر كتاب توماس كوهن بعنوان‪( :‬بنية الثورات العلمية) من الدراسات‬

‫جدال ساخناً لم يهدأ‪ ،‬واحتل الصدارة في جداول عدة‬


‫ً‬ ‫المتمردة التي أثارت‬

‫مؤتمرات دولية معنية بتاريخ العلم‪ ،‬وصدرت دراسات عديدة تركزت على‬

‫نظريته ما بين تأييد أو معارضة لها أو توضيح ألثارها‪ ،‬وانعكاساتها على‬

‫مناهج بحث لفروع علمية متباينة‪ ،‬وبخاصة في العلوم االجتماعية ‪.‬‬

‫‪ ..‬وكان من الصعب المرور على ما أحدثه الرجلين «زيجمونت باومان ـ‬


‫توماس كوهن) في تطور مسيرة الفكر اإلنساني دون اإلشارة إلى تأثر المفكر‬
‫المصري د ‪ .‬عبد الوهاب المسيري بكليهما‪ ،‬وبصمتيهما اللتين ظاهرتا بجالء‬
‫في مؤلفاته‪ ،‬واللتين اعترف بهما صراحة؛ فهناك تأثر ال ينكره المسيري بفكر‬
‫زيجمونت باومان في أنموذجين أساسيين ‪:‬‬

‫األول ‪« :‬الحداثة الصلبة» الذي هو «المادية العقالنية الصلبة» في‬


‫مصطلح المسيري ‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫الثاني ‪« :‬الحداثة السائلة» التي هي «المادية الال عقالنية السائلة» في‬

‫مصطلح المسيري ‪.‬‬

‫يقع في إطار هذين األنموذجين أنموذج فرعي أال وهو ‪« :‬الجماعة‬


‫الوظيفية» التي يشير إليها باومان بعبارة ‪ Servant Group‬الجماعة‬
‫الخدمية أو الجماعة الوسيطة ‪ Inrermediate Group‬أما المسيري‬
‫فيترجمها إلى اإلنجليزية بعبارة الجماعة الوظيفية ‪Function Group‬‬
‫استناداً إلى مصطلحات قريبة في علم االجتماع الغربي ‪.‬‬

‫كرس كل من باومان‪ ،‬والمسيري جهدهما النقدي لكبح غرور العلمانية‪،‬‬


‫وتضمن جهدهما النقدي دعوة إلى تأسيس علم جديد تحت اسمين مختلفين‪،‬‬
‫وإن كان الهدف واحد ‪« :‬السوسيولوجيا النقدية» لباومان‪ ،‬و«فقة التحيز»‬
‫للمسيري‪.‬‬

‫كما أن العالقة الفكرية بين توماس كوهين‪ ،‬والمسيري تبدو جلية في مفهوم‬
‫كليهما للمجاز‪ ،‬فقد كان لتوماس كوهن الفضل في إدراك العالقة المعقدة بين‬
‫الحقيقة‪ ،‬والواقع أو بين العلم‪ ،‬وإدراك العالم‪ ،‬والتي كشف عن تضمينات مهمة‬

‫‪34‬‬
‫عندما ظهر كتابه بعنوان ‪«:‬بنية الثورات العلمية»*(‪ ،)15(،)14‬وهي تضمينات‬
‫لها أهمية بالغة في التحليل المجازي عند المسيري‪ ،‬وباومان ‪.‬‬

‫يرجع الفضل إلى توماس كوهين في انتشار مصطلحين هامين هما «األنموذج‬

‫‪ ،»Paradigm‬و«تحول األنموذج ‪ ،»Paradigm Shift‬واالفتراض‬


‫الرئيس الذي يطرحه توماس كوهن يقول أننا ال نستطيع التعامل مع العلم على‬
‫أنه مجرد تراكم متزايد للمعلومات‪ ،‬والحقائق‪ ،‬ألنه يعتمد في األساس على‬
‫سلطة المجتمعات العلمية التي تحاول فك ألغاز وفق أنموذج حاكم (مجموعة‬
‫من االفتراضات المنهجية‪ ،‬والنظريات المتشابكة) تتبناه مجموعة من العلماء‪،‬‬
‫وعندما تهتز ثقة العلماء بهذا األنموذج الحاكم تظهر األزمة‪ ،‬والتناقض داخله‬
‫بما يعني ضرورة «تحول األنموذج»‪.‬‬

‫يستخدم المسيري مصطلح األنموذج في األغلب األعم لإلشارة إلى أداة‬


‫تحليلية‪ ،‬ونسق كامن يدرك الناس من خاللهما عالمهم‪ ،‬ويشكلونه‪ ،‬وال يستخدم‬
‫األنموذج مرادفاً للعالم أو الواقع ألن األنموذج ليس وجوداً عيانياً لكنه نتاج‬
‫صورة عقلية‪ ،‬ونسق فكري‪ ،‬وبنية تصورية مجردة‪ ،‬وتمثيل رمزي للحقيقة ‪..‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )14‬توماس س‪ .‬كوهن‪ ،‬بنية الثورات العلمية‪ ،‬ترجمة‪ :‬حيدر حاج اسماعيل‪ ،‬المنظمة العربية للترجمة ‪ ،‬ط‪ ١‬ـ بيروت‬
‫ـ سبتمبر‪.٢٠٠٧‬‬
‫*(‪ )15‬توماس س‪ .‬كوهن‪ ،‬بنية الثورات العلمية‪ ،‬ترجمة ‪ :‬شوقي جالل‪ ،‬عالم المعرفة ـ العدد ‪ ،١٦٨‬المجلس الوطني‬
‫للثقافة والفنون واآلداب ـ الكويت ـ ديسمبر ‪.١٩٩٢‬‬

‫‪35‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫كان المسيري يعي أن استخدام األنموذج ينطوي على إبراز مصطلحات من‬
‫قبيل «النسق»‪ ،‬و«البنية»‪ ،‬وأن االنموذج صورة عقلية‪ ،‬أو خريطة إداركية‬
‫يجردها عقل اإلنسان من عدد هائل من العالقات‪ ،‬والتفصيالت‪ ،‬والحقائق‪،‬‬
‫وتنطوي هذه العملية بالضرورة على اإلقرار بأن عقل اإلنسان ينخرط في عملية‬
‫جدية من اإلدراج‪ ،‬واالنتقاء‪ ،‬واالستبعاد من أجل صوغ النمط التصويري العام؛‬
‫ً‬
‫مقبوال لنص أو ظاهرة أو موقف ما‪ ،‬ويلجأ المسيري في تعريفه‬ ‫ليكون تفسيراً‬
‫األنموذج إلى استخدام كلمة «إدراكي ‪ »Cognitive‬مرادفا لكلمة «معرفي‬
‫‪ ،»Epistemological‬فيعرف األنموذج بأنه‪:‬‬

‫« رؤية تصويرية أو خريطة معرفية يجردها عقل اإلنسان (بشكل واع‬


‫أو غير واع) من الوقائع‪ ،‬والحوادث التى تقع له‪ ،‬والظواهر التى يرصدها‪،‬‬
‫والدراسات التي يقرؤها‪. ».‬‬

‫الخرائط اإلدراكية ‪:‬‬


‫ــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫تعد الخرائط اإلدراكية أحد أساليب الهندسة االجتماعية لسلب اإلرادة‬


‫والتضليل المعلوماني‪ ،‬والتالعب بالوعي بهدف منع الشعوب من التصرف أو‬
‫ممارسة ردود أفعال خارج السيطرة‪ ،‬ودفعها إلى تقبل كل األفعال‪ ،‬والتصرفات‬

‫‪36‬‬
‫التي يقوم بها طرف أو جهة ما في إطار ما يسمى بـ «اإلشباع البديل»‪ ،‬وهو‬
‫إشباع متوهم‪ ،‬وليس إشباع حقيقي يتم عمله بطريق الخداع في إطار «ضبط‬
‫المجتمعات»‪.‬‬

‫تسعى بعض األنظمة القمعية إلى تنميط الخرائط اإلدراكية‪ ،‬وإعادة تشكيل‬
‫األنظمة المعرفية للشعب بغية الوصول إلى مجتمع متجانس في تصوراته يتكون‬
‫من نماذج نمطية متشابهة تعطي االستجابات نفسها تجاه متطلبات النظام‪ ،‬من‬
‫األساليب الرائجة في تعديل الخريطة اإلدراكية‪ ،‬والتالعب بالوعي صناعة‬
‫المشاهد الرمزية االختزالية التي تقدم للجمهور معرفة زائفة‪ ،‬وشعوراً وهميا ً‪،‬‬
‫وتصور بعيد عن الواقع‪ ،‬وهذا المشهد االختزالي يتسم بقدرته على البقاء‪،‬‬
‫وااللتصاق بذاكرة المشاهد كما أنه سهل االستدعاء كلما جاء ذكر للقضية‬
‫المرتبطة بها‪ ،‬ولو افترضنا أننا نريد أن نجري اختباراً حول أكثر المشاهد‬
‫ارتباطاً بقضايا ساخنة‪ ،‬سنجد أن تلك المشاهد الرمزية هى األقرب لالستحضار‬
‫الذهني؛ إلنها أشبة ببطاقة تعريف ترتبط مع القضية المتعلقة بها في أرشيفات‬
‫الذاكرة ‪.‬‬

‫‪ ..‬أحيانا ينتج عن التالعب االدراكي خلل داخل النظام اإلدراكي؛ فيؤتي‬


‫نتائج عكسية وينقلب السحر على الساحر ‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬
‫***‬

‫ً‬
‫طويال الصورة المجازية لـ «اإلنسان السائل» التى طرحها باومان‪،‬‬ ‫تأملت‬
‫وغيره من العلماء بصيغ مختلفة كل بلغة عصره‪ ،‬ومفاهيم زمانه‪ ،‬ولكني‬
‫ارتأيت من منطلق األمانة الفكرية‪ ،‬والعلمية أننا قد تجاوزناها إلى ما هو أدنى‪،‬‬
‫وأسوأ‪ ،‬وأبشع من حيث «الفقر اإلنساني»‪ ،‬ومن هنا جاء توصيفي لحالة ما‬
‫أسميته بـ‪«:‬الكائن السائل»*(‪ )16‬الذي يشبه الزومبي المعاد إلى الحياة بأسلوب‬
‫الخداع‪ ،‬او الفيروس العالق بجدار الخلية البشرية في منطقة وسط بين الموت‬
‫والحياة يحقنها بالشر‪ ،‬واألذى‪ ،‬والخلل‪ ،‬وبرامج الموت‪ ،‬بمعنى أنه يمارس‬
‫«العنف األناني» بشكل غرائزي في ظل انعدام الردع القانوني‪ ،‬وضعف أليات‬
‫الضبط االجتماعي!!‬

‫***‬

‫طرقنا أبواب التخصصات العلمية المختلفة‪ ،‬عسى أن نجد ً‬


‫حال في ظل‬
‫أزمة العلوم اإلنسانية حيث أن علم االجتماع في البالد العربية يمر بلحظة فارقة‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )16‬مصطلح «االكائن السائل» مصطلح مجازي صاغه المؤلف األستاذ ياسر بكر لوصف فئة من اليشر‬
‫تجردت من المشاعراإلنسانية‪ ،‬وصارت أقرب في سلوكها إلى الحيونات المسعورة في الوحشية‪ ،‬والشراسة‪،‬‬
‫واالفتراس‪ ،‬والشراهة للدم والقتل‪ ،‬وارتكاب جرائم السرقة باإلكراه‪ ،‬واالتجار بالبشر‪ ،‬ونهش األعراض‪،‬‬
‫وغش األغذية‪ ،‬واإلساءة إلى براءة األطفال‪ ،‬ونهب األموال‪ ،‬وممارسة البلطجة‪ ،‬وتعطيل األعمال‪ ،‬وتخريب‬
‫المنشأت‪ ،‬والسطو على الييوت‪ ،‬والممتلكات ‪ ..‬خاصة أن كل الدراسات تؤكد أن العنف المحلي يشكل أهم‬
‫مهددات األمن القومي‪ ،‬وإضعاف وتفكيك الدول ‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫من وضع التخلف‪ ،‬والتبعية‪ ،‬واالنطباعية‪ ،‬والوصولية‪ ،‬وخدمة األيدلوجيات‬
‫اإلستعمارية‪ ،‬واألفكار التي تطرحها المؤسسات العالمية‪ ،‬والشركات المتعددة‬
‫الجنسيات‪ ،‬وينساق ورائها علماء االجتماع العرب في بحوثهم‪ ،‬وقد اتسمت‬
‫تلك االبحاث في بعض جوانبها بالسطحية؛ مما جعل أكثر التوصيفات النقدية‬
‫واقعية‪ ،‬وصدقية بصدده ما ذهب إليه أحد كبار الباحثين من وصف له بحالة «الال‬
‫وظيفية»‪ ،‬والتي تتمثل في فقدان منهجية العلوم االجتماعية ألدوارها العلمية‪،‬‬
‫والعملية‪ ،‬والنابع من فقدان اإلطار السائد لدوره‪ ،‬ووظيفته‪ ،‬وقدرته العلمية‪،‬‬
‫األمر الذي يفرض ضرورة التحول إلى إطار آخر‪ ،‬وحدا بالكثيرين للتساؤل‪:‬‬
‫هل هو علم اجتماع للناطقين بالعربية؟!! أم علم يدرس مشكالت المجتمعات‬
‫العربية لحساب الرأسملية الغربية؟!!‪ .. ،‬أم علم ينقل اإلرث السوسيولوجي‬
‫الغربي إلى اللغة العربية إسهاماً في خلق «مجتمعات سائلة»‪ ،‬وإشاعة نموذج‬
‫«اإلنسان السائل»‪ ،‬و«الثقافة السائلة»؟!!‬

‫‪ ..‬حاولنا «التجسير‪ ،‬والمواكبة» فيما بين العلوم المختلفة من خالل‬


‫«الدراسات العابرة للحقول المعرفية ‪ »Cross discplinary‬أو «الحقول‬
‫المعرفية البينية ‪ »Inter discplinary‬التي تجمع بين العديد من الميادين‪،‬‬
‫والمجاالت في ظل تشوهات مالمح العمران في المدينة العربي‪ ،‬والتلوث‬
‫البصري في المجال البصري الواسع في القاهرة‪ ،‬ودمشق‪ ،‬وبغداد‪ ،‬وصنعاء‪،‬‬
‫وطرابلس‪ .. ،‬وحالة االرتباك اللساني الحافل بنتوءات لفظية تعبر عن سياقات‬

‫‪39‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬
‫اجتماعية مختلة‪ ،‬و«معانى فارغة»‪ ،‬وتعابير خالية من الداللة تدعم مناخ‬
‫التدهور الثقافي الغير قادر على إنتاج ثقافة تدعم الهوية‪ ،‬وتمثل درعاً واقياً في‬
‫مواجهة التغيير القادم من الخارج‪ ،‬ويتمثل في المجتمع «المحكوم بالوسائط‬
‫‪ ،»Mediated Society‬و«الفردية الشبكية» اللذان يمثالن حالتان من‬
‫العالقات‪ ،‬والمشاريع ذاتية التوجيه التي أصبحت أدوات تحولية لألشكال‬
‫الجديدة للمجتمع الكوني!!‬
‫***‬
‫‪ ..‬أزمة خلَّفها عمران ال يتكلم بلسان أهله‪ ،‬وحالة االرتباك اللساني‪ ،‬واالنحطاط‬
‫الثقافي‪ ،‬وانهيار «األسرة الممتدة» بما تمثله من العزوة‪ ،‬والغلبة‪ ،‬والعصبية‬
‫واللُحمة‪ ،‬والقدرة على إنتاج ثقافة قادرة على المواجهة‪ ،‬وتحمل قيم ضاربة‬
‫في عمق التاريخ مثل الشرف‪ ،‬والكرامة‪ ،‬واإلرادة‪ ،‬والنخوة‪ ،‬والنجدة‪ ،‬وحلت‬
‫محلها «األسرة النواة» التي تمر األن بطور التقلص‪ ،‬واالنكماش لتحل محلها‬
‫«األسرة التوليفة» أو «األسرة المؤتلفة» أو «األسرة النواة بالمعاشرة» نتيجة‬
‫ارتفاع معدالت الطالق أو تكرار الزواج‪ ،‬أو اإلنجاب خارج شرعية الزواج‬
‫نتيجة الترويج لـ «العالقات العابرة» أو «عالقات الجيب العلوي» أو «التواعد‬
‫عبر االنترنت ‪ »Cyber - Dating‬أو «الجنس عبر االنترنت ‪Cyber‬‬
‫‪ »sex‬باعتباره أمر متعلق بـ «سيميولوجيا الصورة المرئية» بوصفها إبهاراً‬
‫بصريا يداعب الغرائز من حيث الشكل‪ ،‬والتقنية‪ ،‬وهو ما يجعل منها عالمة‬
‫بصرية منتجة للداللة‪ ،‬تقوم بالفعل‪ ،‬وتحث على فعله بما يسهم في تفريغ الكبت‬

‫‪40‬‬
‫الغرائزي‪ ،‬وصناعة «اإلنسان السائل» و تخليق نمط مزاجي يطلق زيجمونت‬
‫باومان‪«:‬الحب السائل»!! ‪.‬‬
‫‪ ..‬أطلق باومان مصطلح السيولة بشكل كبير بما يعني الصهر‪ ،‬والميوعة‪،‬‬
‫واإلذابة في كل مؤلفاته التي عرفت فيما بعد بـ «سلسلة السيولة» ليوصل‬
‫للقارئ حالة اإلنسان في ترديه كحالة المادة المائعة السائلة التي ال تعرف‬
‫ثباتاً؛ ألن المعنى قد غاب‪ ،‬وأن اإلنسان أصبح أسير الخوف الدائم‪ ،‬وأن عليه‬
‫التدريب المستمر على االختفاء‪ ،‬والذوبان‪ ،‬واالنسحاب‪ ،‬والرحيل !! والجري‬
‫وراء الفردية التي خلفتها الحياة السائلة بحيث تراجعت الجماعة كما ان نظامها‬
‫المناعي الذي كان يحميها من المشكالت صار مشكلة في حد ذاته؛ فحالة‬
‫األشياء صارت حالة من صنعنا؛ فأضحى المجتمع «جماعة متخيلة ‪Virtual‬‬
‫‪ »group‬بمعنى أن المجتمع أصبح ظرف اجتماعي استغنى عن الخيال في‬
‫خدمة الفحص الذاتي‪ ،‬وأصبح المجتمع نافضاً يدية من العالقات بين األشخاص‪،‬‬
‫وهو ما يسمى بـ «عالم التفاعل المباشر بين األفراد» الذي تبرز فيه الفردية‪،‬‬
‫وتتشكل في التعامالت اليومية‪ ،‬وتعزز االختيار الحر الوهمي فقط!!؛ فالجري‬
‫وراء سراب الفردية يستحوذ على الناس بحيث ال يجدون وقت للراحة واالسترخاء‪.‬‬

‫‪ ..‬وهللا الموفق والمستعان‬

‫ياسر بكر‬
‫األسكندرية ـ ا يناير ‪2022‬‬

‫‪41‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫‪42‬‬
‫الفصل األول ‪:‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــ‬

‫األنمـوذج اإلرشـــادي‬
‫«البرادايم ‪»Paradigm‬‬

‫‪43‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫** النموذج الكامن وراء معظم األيدلوجيات العلمانية الشاملة (النازية‬


‫ـ الماركسية ـ الليبرالية ـ الصهيونية) هو ما يسمى بـ «التطور أحادي‬
‫الخط ‪ »Unlinear‬أي اإليمان بأن ثمة قانوناً علمياً‪ ،‬وطبيعياً مادياً واحداً‬
‫للتطور تخضع له كل المجتمعات والظواهر‪ ،‬وأن التقدم هو في الواقع‬
‫عملية متصاعدة من الترشيد المادي أي إعادة صياغة الواقع اإلنساني في‬
‫إطار الطبيعة ‪/‬المادة؛ فتستبعد كل العناصر الكيفية‪ ،‬والمركبة‪ ،‬والغامضة‬
‫والمحفوفة باألسرار بحيث يتحول الواقع إلى مادة استعمالية بسيطة‪،‬‬
‫ويتحول اإلنسان إلى كائن وظيفي أحادي البعد ‪One - Dimensional‬‬
‫‪ ،Man‬والتطور أحادي الخط تمثل قمته الحضارة الغربية الحديثة التي‬
‫مثلت حالة فريدة من «المركزية» أي من اإلفراط في التمركز حول الذات‪،‬‬
‫وكانت األكثر جبروتاً‪ ،‬وتمدداً‪ ،‬وشعوراً بأن من حقها ذلك‪ ،‬وقد وصل‬
‫األمر ببعض رموزها الفكرية إلى التنبؤ قبل عقدين من الزمن بالوصول‬
‫إلى «نهاية التاريخ» عبر التبشير باالنتصار النهائي‪ ،‬وتأبيد الديمقراطية‬
‫الليبرالية للبشرية‪ .. ،‬وعمدت المركزية األوربية إلى تثبيت فكرة «الغرب‬
‫األبدي» المضاد لـ «الشرق األبدي» من أجل تأكيد عناصر التطور المستمر‬
‫في الغرب‪ ،‬وغلبة عناصر الثبات‪ ،‬والجمود في الشرق ‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫‪ ..‬لم تقدم «المركزية األوربية» رؤية للعالم فقط بل قدمت مشروعاً سياسياً‬
‫استعمارياً جناحيه ‪ :‬الخريطة‪ ،‬والبارود من أجل تعميم النموذج األوربي‬
‫الفكري‪ ،‬واالقتصادي‪ ،‬والسياسي في إطار من تعميم نموذجها التفسيري للعلوم‬
‫االجتماعية‪.‬‬

‫‪ ..‬ودون فهم إلشكالية ما قبل المنهج بمكوناته (اللغوية‪ ،‬والثقافية‪ ،‬والدينية‬


‫واأليدلوجية‪ ،‬والتاريخية‪ ،‬والقيمية)‪ ،‬الذي يعد أمراً ضرورياً لفهم المنهج‬
‫وتفعيله؛ ألنه يمثل المستوى األول للمنهج (الباراديم)‪ ،‬والذي يسهم بدوره في‬
‫تحديد رؤية اإلنسان والعالم ‪.‬‬

‫‪ ..‬بما جعل النتائج الواقعية لهذه المركزية األوربية تحمل بعداً واحداً هو ‪ :‬أنه‬
‫ليس هناك سوى حضارة واحدة هي المتغلبة والسائدة‪ ،‬وأنها تقوم بملء الفراغ‬
‫الناتج عن غياب أو تدهور الحضارات األخرى‪ ،‬والتي يراها الغرب تتناوب‪،‬‬
‫وتتعاقب‪ ،‬وال تتحاور‪ ،‬وقد أدت هذه المركزية األوربية إلى إضعاف مساهمة‬
‫الحضارات األخرى‪ ،‬لتكون في أحسن األحوال هامشاً على متن المساهمة‬
‫األوربية‪ ،‬والذي كان يشار إليه تحت مُسمى ‪« :‬تأسيس مدارس عربية في‬
‫العلوم االجتماعية ‪.».‬‬

‫‪ ..‬كان المنطق الغربي عدوانياً‪ ،‬ومتغطرساً‪ ،‬ومعوجا ً؛ فالتعددية الحضارية‬

‫‪45‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬
‫حقيقة تاريخية عرفها تاريخ البشرية؛ وإن كانت المركزية األوربية نتاج‬
‫الحضارة الغربية التي ما زالت سائدة في النواحي المعرفية والمنهجية‪ ،‬ولكن‬
‫على المستوى النظري يجب اإلقرار بأن منطق التعدد الحضاري يستلزم القبول‬
‫بمنطق تعدد األطر المعرفية‪ ،‬والمنهجية في العلوم االجتماعية؛ حيث لكل‬
‫حضارة تصوراتها‪ ،‬ومناهجها‪ ،‬وعلومها االجتماعية ‪.‬‬

‫‪ ..‬إن النظرة المنهجية ألية حضارة تبدأ من اكتشاف رؤيتها للعالم‪ ،‬وللحياة‬
‫وللعلم‪ ،‬وبشكل عام رؤيتها الشاملة حيث ال ينفصل «المادي» فيها عن الجانب‬
‫«الثقافي» كما ال ينفصل مضمونها المعرفي عن طريقتها المنهجية‪ ،‬وأساليبها‬
‫البحثية في علومها االجتماعية واإلنسانية‪ ،‬ومن ثم يترتب على قبول التعددية‬
‫الحضارية ‪:‬‬

‫ً‬
‫أوال ‪ :‬عدم قبول احتكار نموذج معرفي معين لتحديد معيار «العلمية»‪،‬‬
‫ووصف النماذج األخرى أنها «ضد ـ علمية»‪ ،‬وإلقاء نتائج دراساتها في دائرة‬
‫الخرافة‪ ،‬والميتافيزيقا ‪.‬‬

‫ثانياً ‪ :‬عدم قبول زعم نموذج معين لـ «العالمية»‪ ،‬والقول بمقدرته التفسيرية‬
‫لكل الظواهر االجتماعية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬وأنه النموذج القياسي اإلرشادي «األوحد»‬
‫الذي يجب أن تتبعه المعرفة لكي تكون معرفة علمية ‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫‪ ..‬ومنذ صدور كتاب توماس كوهين بعنوان ‪« :‬بنية الثورات العلمية» الذي‬
‫جاء إضافة في عوالم البحث العلمي؛ يشير توماس كوهن إلى أن‪« :‬وظيفة‬
‫النموذج القياسي اإلرشادي اختيار المشاكل التي يمكن افتراض وجود حل‬
‫لها طالما ظل النموذج اإلرشادي مسلماً به‪ ،‬وطالما قبل المجتمع‪ ،‬والجماعة‬
‫العلمية بها‪ ،‬واعتبرها مشكالت مقبولة‪ ،‬أما المشكالت المعيارية فإنه يكون‬
‫نبذها باعتبارها ميتافيزيقية‪ ،‬وال تستحق إضاعة الوقت معها ‪. ».‬‬

‫‪ ..‬ركز كوهين في كتابه على الطبيعة الجمعية للنشاطات العلمية التي اسماها بـ‬
‫«المتحد العلمي» أو «المتحد االجتماعي» مؤكداً أن العالم الفرد ال يمكن اعتباره‬
‫ذاتاً كافية للنشاط العلمي‪ ،‬وانتهى كوهن إلى نتائج بعيدة المدى ابستمولوجية‪،‬‬
‫ومنهجية‪ ،‬وكان كوهن ال يرى أن هناك تنقالت منطقية بين النماذج اإلرشادية‬
‫المنفصلة إذ يشبهها بعوالم مختلفة يعيش فيها الباحثين ‪.‬‬

‫‪ ..‬وأن النماذج اإلرشادية غير قياسية إذا ثمة انقطاع أو قطيعة بين المفاهيم‬
‫النظرية اآلساسية المختلفة في العلم‪ ،‬ومن ثم فإن حركة العلم أو لنقل النظريات‬
‫العلمية‪ ،‬أو النماذج اإلرشادية الجديدة ليست نتيجة منطقية‪ ،‬وال تجريبية للنظريات‬
‫السابقة عليها؛ ‪ ..‬إنها ال قياسية وحقائقها نسبية‪ ،‬وفي كل حقبة علمية أو مع كل‬
‫ثورة علمية تكون السيادة لنموذج إرشادي له الغلبة‪ ،‬والنماذج اإلرشادية في‬
‫التاريخ الواحد مختلفة عن بعضها اختالفاً أساسياً‪ ،‬وتحل بعضها مكان بعض‬

‫‪47‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬
‫على مدى مسار التطور التاريخي للمعرفة العلمية ‪.‬‬

‫‪ ..‬ورفض كوهن رأي الوضعية المنطقية في اعتبار بنية النظريات العلمية‬


‫نسقاً من العالقات الشكلية الخالصة ألبنية لغوية إذ يرى أن نسق النظرية غارق‪،‬‬
‫ومنغمس في مخططات معرفية هادفة تحدد كال من طابع‪ ،‬ومسارات كل تطور‬
‫جديد للنظرية‪ ،‬وكذا أسلوب تحديد التجارب وتفسيرها ‪.‬‬

‫كان أخطر ما وجهه المفكرون من نقد لنظرية كوهن يتعلق بتعريفه للمنهج‬
‫العلمي‪ ،‬وومعايرة الخاصة بالتمييز بين العلم‪ ،‬وغير العلم على نحو أوقعه في‬
‫تناقضات منطقية في تطبيقه لهذه المفاهيم؛ ذلك أن كون يساوي بين مناهج بحث‬
‫األقدمين والمحدثين حتى وإن تعارضت‪ ،‬وعلى الرغم مما يراه انقطاعاً بين‬
‫النظريات في التاريخ‪ .. ،‬ومنهج كوهن هذا يفضي كما يراه منتقدوه إلى نسبية‬
‫المعرفة؛ فـ «كل معرفة صحيحة قياساً إلى نسقها‪ ،‬وبالنسبة إلى نموذجها‬
‫اإلرشادي دون معايير للحكم على الصواب أو الخطأ»‪ ،‬ويفضي هذا المنهج‬
‫أيضا إلى التهوين من شأن التحليل العلمي كمعيار حاسم في البحث العلمي ‪.‬‬

‫‪ ..‬وما دام الرأى عند كوهن أن نظريات أرسطو وبطليموس ونيوتن وأينشتين‬
‫نظريات علمية على قدم المساواة؛ فليس غريباً أن يظل الباب مفتوحاً‪ ،‬ولو‬
‫نظريا حسب منهج كوهن الحتماالت عودة نظرية قديمة لتحل محل أخرى‬

‫‪48‬‬
‫جديدة طالما أننا ال نملك المعيار ‪.‬‬

‫‪ ..‬بهذا الطرح كان لتوماس كوهن الفضل في إدراك العالقة المعقدة بين الحقيقة‪،‬‬
‫والواقع أو بين العلم‪ ،‬وإدراك العالم‪ ،‬والتي كشف عنها في تضمينات مهمة في‬
‫كتابه ‪« :‬بنية الثورات العلمية»‪ ،‬وهي تضمينات لها أهمية بالغة في التحليل‬
‫المجازي عند المفكر المصري د‪ .‬عبد الوهاب المسيري وعالم السوسيولوجي‬
‫اإلنجليزي باومان اللذين يمكن فهم المواقف النقدية التي يتبناها كالهما (باومان‬
‫وعبد الوهاب المسيري) في إطار الثورة على هيمنة العلوم الوضعية منذ القرن‬
‫التاسع عشر‪ ،‬وهو نفس الموقف الذي يتبناه الفيلسوف األلماني األمريكي إرك‬
‫فوجيلين الذي يؤكد أن ازدهار العلوم الطبيعية المنفصلة عن القيمة أدى إلى‬
‫اآلعتقاد أن هذه العلوم تمتلك «فضائل كاملة» ‪ ..‬كانت األنطولوجيا هي كبش‬
‫الفداء؛ وبناء عليه لم تعد األخالق أو السياسة من طبقة العلوم التي تحقق فيها‬
‫الطبيعة اإلنسانية ‪ ..‬يذهب فوجيلين أن كل تحليل من توجة أنطولوجي يبقى‬
‫تحليل غير علمي ألن علم السياسة يتجاوز صحة المقدمات‪ ،‬واالفتراضات إلى‬
‫حقيقة الوجود نفسها ‪.‬‬

‫في العقد األخير من القرن العشرين كرس المسيري جهده في تحليل‬


‫فكرة التحيز المعرفي بإصدار مؤلفين األول بعنوان ‪« :‬إشكالية التحيز» في‬
‫سبعة مجلدات جاء المجلد األول بعنوان ‪« :‬فقة التحيز» شرح فيه المسيري‬

‫‪49‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫«ديناميت التحيز»‪ ،‬وأسطورتي «الموضوعية»‪ ،‬و«الذاتية» إذ استبدل‬


‫المسبري مصطلحي «الموضوعية» و«الذاتية» بمصطلحي «أكثر تفسيرية»‬
‫ً‬
‫جاعال من التأويل عملية اجتهاد مستمرة‪ ،‬ويرى المسيري أن‬ ‫و«أقل تفسيرية»‬
‫فقة التحيز علم ال يسعى إلى التحكم التام بالظواهر اإلنسانية‪ ،‬وال يتخلى عن‬
‫األبعاد األنطولولوجية‪ ،‬والمعرفية للمجاز ‪.‬‬

‫تقترب رؤية المسيري من رؤية باومان إلى حد كبير إذ يؤمن باومان‬


‫بأن التحدي الذي تمثله الهيرمينوطيقا للعلوم االجتماعية يتمثل في مشكلتين‬
‫أساسيتين ‪ :‬اإلجماع‪ ،‬والحقيقة‪ ،‬وتؤسس العلوم الوضعية التزاماً متجرداً غير‬
‫متحيز للحقيقة‪ ،‬وتستأصل أى التزام يتجاوز البعد العلمي‪ ،‬ويعتبره ينتمي إلى‬
‫عالم الال واقعية‪ ،‬والتخييل‪ ،‬والفانتازيا‪ ،‬والنزعات الطوباوية‪ ،‬وأن نجاح العلوم‬
‫الوضعية يعود إلى فصل الخطاب العلمي‪ ،‬والخطاب األخالقي‪ ،‬والخطاب‬
‫الجمالي؛ فاالنبهار بالحقائق العلمية الموضعية الصلبة‪ ،‬ورفض باومان رفضاً‬
‫قاطعاً هذه «اإلبستمولوجيا الوضعية الضيقة» أو «اإلمبريالية الوضعية»‬
‫ووجهه سهام نقده إلى «التكنولوجيا المحايدة ‪،»Technology-Neutral‬‬
‫و«سلطة المصالح األداتية» التي تعزز االنفصال الدائم بين الذات والموضوع‪،‬‬
‫والمتحكم والمتحكم به‪ ،‬والمخضع والخاضع؛ فالتكنولوجيا ال يمكن أن تكون‬
‫محايدة ‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫يرى د ‪ .‬حامد عبد الماجد قويسي أستاذ العلوم السياسية بجامعة قطر‪ :‬أن‬
‫الوعي بإشكالية المنهج يتحقق على ثالث مستويات‪:‬‬

‫المستوى األول للمنهج ‪ :‬باعتباره طرق البحث‪ ،‬وخطواته؛ فالمنهج هو الطريق‬


‫المؤدي لالقتراب من الحقيقة عبر االلتزام بمجموعة من القواعد التي يسترشد‬
‫بها العقل البشري لالقتراب من حقيقة الظواهر موضع الدراسة‪ ،‬وبعتمد المنهج‬
‫مجموعة عمليات يقوم بها الباحث من وصف الظاهرة‪ ،‬وتحليلها‪ ،‬وتفسيرها‪،‬‬
‫والتنبؤ بمسيرتها‪ ،‬ومآالتها‪ ،‬وتقييمها‪ ،‬والتحكم فيها‪ ،‬ويتطلب هذا تحديد خطوات‬
‫التعامل مع المشكلة البحثية‪ ،‬والفروض‪ ،‬والمتغيرات‪ ،‬والمقاييس‪ ،‬وغيرها‪،‬‬
‫ً‬
‫وصوال إلى نتيجة معينة بمعنى آخر فإن المنهج مجموعة‬ ‫والتي تحدد عملياته‬
‫الخطوات والقواعد المنطقية المنظمة ‪.‬‬

‫المستوى الثاني للمنهج‪ :‬يتعلق بالوعي بالمنهج باعتباره أساليب البحوث‬


‫وأدواتها وإجراءاتها؛ أى الوعى بالمنهج من حيث كونه مجموعة األدوات‬
‫البحثية الكمية‪ ،‬والكيفية لجمع البيانات‪ ،‬والمعلومات الميدانية التي يتم تنظيمها‪،‬‬
‫ومعالجتها‪ ،‬وإخضاعها إلجراءات معينة بأساليب محددة‪ ،‬وبهذا المعنى فإن‬
‫المنهج هو الوسائل أو الدواب التي يمتطيها الباحث على الطريق لغرض‬
‫الوصول إلى هدفه ومبتغاه‪ ،‬ومن بين هذه األدوات نجد المالحظة‪ ،‬وتحليل‬
‫المضمون‪ ،‬واالستبيان‪ ،‬والمقابلة ‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫المستوى الثالث للمنهج‪ :‬ويرى د‪ .‬قويسي أن من الضروري إقامة تمييز بين‬


‫المستوى األول‪ ،‬والثاني للوعي بالمنهج (‪ )Method‬تمييزاً له عن المستوى‬
‫الثالث المتمثل في المنهجية (‪ ،)Methodology‬والذي يراه موضع اإلشكالية‪،‬‬
‫واالختالف في تأويل المنهج‪ ،‬ويقدم مفتاح «الحلول» العلمية لها‪ ،‬والذي يتمثل‬
‫في الباراديم ‪ paradigm‬أو اإلطار السائد في العلوم االجتماعية الحديثة‬
‫إذ ال يوجد تحديد علمي دقيق لمفهوم الباراديم الذي قدمه توماس كوهن في‬
‫دراسته حول بنية الثورات العلمية‪ ،‬وتتنوع التعريفات المتداولة من «النموذج‬
‫القياسي» إلى «النموذج التفسيري»‪ ،‬و«اإلطار المعرفي الفلسفي»‪ ،‬وغيرها‪،‬‬
‫ودون الدخول في جدل المسميات سنحاول قدر اإلمكان اإلمساك بالمضمون‪،‬‬
‫والدالالت حيث يتضمن الباراديم أو اإلطار السائد في العلوم منهجياً مجموعة‬
‫من النظريات الكبرى‪ ،‬واألطر النظرية‪ ،‬والمفاهيمية‪ ،‬والنماذج‪ ،‬واالقترابات‬

‫‪)1(*.‬‬ ‫العلمية‪ ،‬وغيرها‪ ،‬وتحدد وظيفة اإلطار السائد أو الباراديم ‪Paradigm‬‬

‫«اطروحات السوائل»‪:‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫كان البعض يرى زيجمونت باومان صاحب نظرية اسموها «نظرية‬


‫ـــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )1‬مؤلفون عديدون‪ ،‬أزمة العلوم االجتماعية ‪ ..‬المظاهر واألفاق‪ ،‬مقال حامد عبد الماجد قويسي بعنوان‪:‬‬
‫إشكالية الوعي المنهاجي في علومنا االجتماعية ‪ :‬الظاهرة السياسية نموذجاً‪ ،‬سلسلة ندوات ومؤتمرات‪،‬‬
‫إصدار ‪ ،١‬ط‪ ،١‬مركز ابن خلدون للعلوم اإلنسانية واألجتماعية ـ جامعة قطر ‪٢٠٢١‬ـ ص ‪٥٥‬‬

‫‪52‬‬
‫السوائل» تمثلت في العديد من مؤلفاته التي حملت نفس االسم‪ ،‬والمعروفة بـ‬
‫«سلسلة السيولة المدونة في كتب الفقة االستراتيجي»‪ ،‬لكن باومان نفسه يرى‬
‫أن تلك األطروحات لم تبلغ في دقة بنائها حد النظرية !!‬

‫كان باومان ضالعاً في العديد من المرجعيات العلمية بحيث أن حضوره‬


‫لم يقتصر فقط على علم االجتماع بل كان من المناهضيين لسياسة االنفراد‬
‫بالتخصص‪ ،‬والتوغل فيه دون االطالع على ما لهذا التخصص من تقاطعات‬
‫ضرورية مع التخصصات األخرى‪ ،‬وكان يرى أن علم االجتماع لن ينمو‪،‬‬
‫ويتطور‪ ،‬ويزدهر إال إذا نزل من السجن االنفرادي (التخصص) ـ على حد‬
‫نعبير باومان ـ إلى الساحة المشتركة للعلوم حيث يجد نفسه متقاطعاً مع باقي‬
‫التخصصات ‪.‬‬

‫باومان يعتبر شخصية رئيسية في علم االجتماع األوروبي‪ ،‬ويهيمن على‬


‫عمله القلق الناجم عن تعاقب األزمات السياسية‪ ،‬واالقتصادية‪ ،‬واألخالقية‬
‫التي تؤثر على مجتمعاتنا المعاصرة من التكلفة البشرية للعولمة إلى األخالق‪،‬‬
‫وتحييد اآلثار األخالقية لألفعال البشرية‪ ،‬وتوابع عالم المستهلك‪ ،‬ويحمل‬
‫عمله تشخيصاً لألوجاع الحاصلة دون السماح لنفسه بالوقوع في أُطر‬
‫«النظـــرية»‪ ،‬وذلك من خالل تنويع التفسير‪ ،‬واالنخراط في حوار مستمر مع‬
‫العلماء والمفكرين‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫كان بعض علماء السوسيولوجيا يرى أن المجتمع الحالي أصبح سائال‬


‫في قيمه‪ ،‬وعادته‪ ،‬وتقاليده‪ ،‬وثقافته‪ ،‬وتربيته‪ ،‬ودينه‪ ،‬وتاريخه‪ ،‬وهذا مضمون‬
‫ما يفترض كونه نظرية «السوائل» لباومان في علم االجتماع التي مكنته‪،‬‬
‫وأجبرته أن يكون متقاطعاً معرفياً أى يستعين بالتخصصات األخرى؛ فقد أخذ‬
‫من كل ميدان شيئاً‪ ،‬وركبه مع ميدان آخر ليوصل لنا رسالة أن المجتمع الحالي‬
‫مجتمع خطير سائل قريب من االنهيار؛ فبعد إطالعه على االقتصاد وجد ان‬
‫الناس يجتهدون في االستهالك أكثر من اإلنتاج‪ ،‬وهذا ما يسميه بـ «النزعة‬
‫اإلستهالكية»‪ ،‬وهو ما يطلق عليه ابن خلدون ‪«:‬عوارض الترف والغرق في‬
‫النعيم» المؤذن بخراب العمران ‪.‬‬

‫‪ ..‬وبعد اطالع باومان على التاريخ وجد أن الناس يعتقدون أموراً لكنها في‬
‫الحقيقة كذب وبهتان‪ ،‬تصدى باومان لخدعة القرن العشرين «الهولوكست» ‪..‬‬
‫عاد باومان لألحداث التاريخية‪ ،‬ودراستها دراسة تفصيلية؛ فلم يكترث بصحة‬
‫األرقام‪ ،‬والضحايا‪ ،‬ولم يهتم بإحصاء عدد المعسكرات‪ ،‬ولم يجمع الخرائط التى‬
‫تحدد مواقع اإلبادة بل أجتهد في دحض األسطورة السائدة في الفكر المعاصر‪،‬‬
‫والتي تروج لها إسرائيل من منطلق أنها حادثة أقر بها هتلر ضد اليهود ‪.‬‬

‫‪ ..‬ليصل بنا باومان إلى ما أسماه «معاناة إنتاج المعنى»‪ ،‬ويكشف أن‬
‫«الهولوكست» من نتاج الحداثة الغربية ليس إال‪ ،‬والدليل على ذلك أن هناك‬

‫‪54‬‬
‫يهود شاركوا في المحرقة‪ ،‬وبالتالي فـ «الهولوكست» قضية سيادة «الحداثة»‬
‫آنذاك ‪.‬‬

‫الحقيقة الثانية التي أكدها باومان أن ‪:‬‬

‫ليس كل تاريخ يبقى ثابتاً مثل ما تعودنا عليه‪ ،‬وأن هناك مغالطات وضعت‬
‫ألغراض محددة يعلمها صاحبها‪ ،‬وعليه فإن الجانب التاريخي عنده يُظهر أنه‬
‫رجع إلى التاريخ‪ ،‬وأخذ منه غير أنه لم يتناوله باعتباره حدثاُ تاريخيا يتم سرده‬
‫بل مزج معه جانباً نقدياً؛ مما أضفى على حادثة «الهولوكست» ـ على سبيل‬
‫المثال ـ أبعاداً متنوعة لم تقتصر فقط على بعد واحد ‪.‬‬

‫نقد باومان للتاريخ يشعرنا أننا أمام ابن خلدون آخر حيث دعا ابن خلدون‬
‫في مقدمته إلى النظر‪ ،‬والتفكير في نقل األخبار‪ ،‬والرواية‪ ،‬وعدم الثقة بالناقلين‪،‬‬
‫والتعديل‪ ،‬والتجريح‪ ،‬واالطالع على األحوال‪ ،‬والوقائع في العمران ‪.‬‬

‫وهو ما يصفه ابن خلدون بقوله ‪:‬‬

‫«وكثيرا ما وقع للمؤرخين‪ ،‬والمفسرين‪ ،‬وأئمة النقل من المغالط في‬


‫الحكايات‪ ،‬والوقائع العتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً‪ ،‬ولم‬

‫‪55‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫يعرضوها على أصولها‪ ،‬وال قاسوها بأشباهها‪ ،‬وال سبروها بمعيار الحكمة‪،‬‬
‫والوقوف على طبائع الكائنات‪ ،‬وتحكيم النظر‪ ،‬والبصيرة في األخبار؛ فضلوا‬
‫عن الحق‪ ،‬وتاهوا في بيداء الوهم والغلط‪ ،‬وال سيما في إحصاء األعداد من‬
‫األموال‪ ،‬والعساكر إذا عرضت في الحكايات إذ هي مظنة الكذب‪ ،‬ومطية الهذر‪،‬‬
‫وال بد من ردها إلى األصول‪ ،‬وعرضها على القواعد ‪.»..‬‬
‫كان تزييف التاريخ‪ ،‬والترف نقطتي االلتقاء بين باومان‪ ،‬وعالم االجتماع‬
‫العربي ابن خلدون حول «خراب العمران»‪ ،‬و«انهيار المجتمعات» حسب‬
‫ظروف المجتمعات‪ ،‬واختالف التسميات‪.‬‬

‫«األيقنة»‪:‬‬
‫ـــــــــــــــ‬

‫يصف المفكر المصري د‪ .‬عبد الوهاب المسيري عمليات تزييف التاريخ بـ‬
‫«األيقنة»‪ ،‬و«األيقنة» تعني إلغاء المسافة بين الدال والمدلول‪ ،‬إلى أن يصبح‬
‫مدلوال ملتفاً حول نفسه‪ ،‬وال يشير إلى شيء خارج ذاته‪ ،‬وحالة «التأيقن»‬
‫ً‬ ‫الدال‬
‫الكاملة هي حالة االلتفاف حول الذات بحيث ال يشير الشيء المتأيقن أو األيقونه‬
‫إلى أي شيء خارجة؛ فهو مرجعية ذاته‪ ،‬وال يشير إال إلى ذاته؛ فمركزه‪،‬‬
‫ومصدر وحدته‪ ،‬وتماسكة تكمن داخله*(‪ ،)2‬وهو ما يصدق بجالء على التاريخ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )2‬د‪ .‬عبد الوهاب المسيري‪ ،‬الحلولية‪ ،‬ووحدة الوجود‪ ،‬الشبكة العربية لأليحاث والنشر‪ ،‬ط ‪ ١‬ـ بيروت‬
‫‪٢٠١٨‬ـ ص ‪35‬‬

‫‪56‬‬
‫الصهيوني في تناوله لـ «المسالة اليهودية» ‪.‬‬

‫يرى د‪ .‬المسيري تزييف التاريخ أنه ‪«:‬عزل للوقائع التاريخية عن سياقها‪،‬‬


‫وإطارها بحيث تصبح ظواهر غير تاريخية‪ ،‬وال تنتمي إلى أى نمط‪ ،‬ويوظفها‬
‫المستفيدون بالطريقة المناسبة لهم‪ ،‬والتي تخدم مصالحهم‪ ،‬وهو ما يطلق عليه‬
‫مُسمى ‪« :‬األيقنة» أي التحول إلى «أيقونة» يتعبد اإلنسان أمامها ألنها أصبحت‬
‫موضع الحلول‪ ،‬والتأليه أو صارت إله أى تصنم !! ‪.‬‬

‫«اإلنسان السائل»‬
‫في الفكر الخلدوني ‪:‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫الشك أن هناك ارتباط بين ما أسماه باومان ‪« :‬سيولة اإلنسان»‪ ،‬وما أسماه‬
‫ابن خلدون بلغة عصره ‪« :‬طروق الخلل» التي تصيب صالبة اإلنسان‪ ،‬ولحمته‬
‫التي عبر عنها ابن خلدون بـ «الشوكة والعصبية» أي القوة‪ ،‬والتضامن الجمعي‬
‫«النبالة»‪ ،‬و«طرائق الخلل»هى تلك األساليب التي تنذر بالهالك‪ ،‬واالنقراض‬
‫إلى الركون إلى الراحة والنعيم‪ ،‬واألخذ بمذاهب الملوك في المباني‪ ،‬والمالبس‪،‬‬
‫واالستكثارمن ذلك‪ ،‬والتأنق فيه بمقدار ما حصل من الرياش‪ ،‬وما يدعو إليه‬
‫من توابع ذلك‪ ،‬وذهاب خشونة البداوة‪ ،‬وضعف العصبية‪ ،‬والبسالة‪ ،‬والتنعم‬

‫‪57‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫في البسطة‪ ،‬والترفع عن خدمة أنفسهم‪ ،‬ووالية حاجاتهم‪ ،‬ويستنكفون عن سائر‬


‫األمور الضرورية في العصبية حتى يصير ذاك خلقاً لهم‪ ،‬وسجية؛ فتنقص‬
‫عصبيتهم‪ ،‬وبسالتهم في األجيال بعدهم‪ ،‬وعلى قدر ترفهم يكون إشرافهم على‬
‫الفناء؛ فإن عوارض الترف‪ ،‬والغرق في النعيم كاسر سورة العصبية التي بها‬
‫ً‬
‫فضال عن‬ ‫التغلب‪ ،‬وإذا انقرضت العصبية قصر القبيل عن المدافعة‪ ،‬والحماية‬
‫المطالبة‪ ،‬والتهمتهم األمم ‪.‬‬

‫‪ ..‬و يكون العدوان على األموال من أجل سداد نفقات الترف التي ال تستطيع‬
‫العوائد المعتاة للدولة تغطيتها‪ ،‬ومن هنا تشتد الحاجة إلى أموال الناس‪ ،‬وهنا‬
‫يلعب العامل النفسي دوراً مهماً في تحليل اين خلدون ‪« :‬إذ ليس الترف سوى‬
‫الرغبة في االستمتاع بمقادير هائلة من اللذة كنمط ثابت للحياة‪.».‬‬

‫موقف ابن خلدون من الترف‪ ،‬واإلسراف يُظهر تكوينه الفكري بصفته‬


‫فقيه مالكي المذهب من التقسيم الشائع لمستويات الحياة في الفقة اإلسالمي إلى‬
‫ضروري‪ ،‬وحاجي‪ ،‬وتحسيني كما يوضحه الشاطبي في كتاب (الموافقات)‪،‬‬
‫ويتعلق المستوى الضروري بما ال بد منه من أمور لوجود الحياة اإلنسانية‪،‬‬
‫واستمرارها في حد ذاتها كالدين‪ ،‬والعقل‪ ،‬والنفس‪ ،‬والثروة‪ ،‬والنسل‪ ،‬ومن‬
‫دونها تنعدم الحياة اإلنسانية أما الحاجي فيتصل بمستوى أرقى من األمور‬

‫‪58‬‬
‫يحتاجها اإلنسان إلزالة المشقة‪ ،‬والعنت من حياته‪ ،‬وتحقيق اليسر‪ ،‬والسعة فيها؛‬
‫ولذا ال يقود فقدانها إلى اختالل أو انعدام الحياة بل ألن تصير أكثر صعوبة‪،‬‬
‫وغلظة‪ ،‬وأخيراً يرتبط التحسيني بتلك األمور الكمالية الزائدة التي تضفي متعة‬
‫وسرورا‪ ،‬وال يؤدي فقدها بطبيعة الحال إلى اإلخالل بما هو ضروري أو‬
‫حاجي ‪.‬‬

‫«الظلم مؤذن‬
‫بخراب العمران» ‪:‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫يبين ابن خلدون من خالل تجسيده لفن التنظير السياسي الذي سبق إليه‬
‫الكثيرون من خالل الميدأ ‪« :‬الظلم مؤذن بخراب العمران»‪ ،‬ولحمه بأرائه في‬
‫فصل أخر بعنوان ‪« :‬كيفية طروق الخلل إلى الدولة ؟!» من خالل طروق‬
‫الخلل إلى األفراد‪ ،‬ويسوق لنا الحكمة التي نقلها عن المسعودي‪ ،‬والمسماة بـ‬
‫«الحكمة الدائرية» لكون نقطة البداية فيها التي تمنحنا منطلقات علمية‪ ،‬وحقيقية‬
‫هي نقطة النهاية التي تمنحا معلومة منطقية على غرار نموذج تحليل النظم‬
‫لعالم السياسة األمريكي ديفيد إيستون‪ ،‬وينكون ذلك النموذج من ‪ :‬المدخالت‪،‬‬
‫والمخرجات‪ ،‬وعملية التحويل‪ ،‬والتغذية العكسية أو التغذية المرتدة‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫‪ ..‬وهو ما نقله ابن خلدون عن المسعودي بقوله ‪« :‬وال عز للملك إال‬


‫بالرجال‪ ،‬وال قوام للرجال إال بالمال‪ ،‬وال سبيل إلى المال إال بالعمارة‪ ،‬وال سبيل‬
‫للعمارة إال بالعدل» ‪.‬‬

‫بيان ذلك أن نظام الملك له مدخالن أساسيان يرتبطان ببعضهما البعض؛‬


‫فالملك أو السلطة تحتاج إلى تأييد ومطالب الرجال‪ ،‬والرجال ال يجندون إال‬
‫بالمال أو الرواتب واألعطيات‪ ،‬ويتولد المال أو الثروة عن العمارة أى األنشطة‬
‫االقتصادية وحركة الحياة التي تعمر البالد‪ ،‬وتنتج األرباح ‪ ..‬تلك األرباح التي‬
‫يفرض عليها الخراج وفق سياسة تقوم على العدل‪ ،‬وهذه أهم مخرجات نظام‬
‫الملك ‪.‬‬

‫ويقدم ابن خلدون صورة لطبيعة العالقة بين الدولة‪ ،‬والعمران بقوله‪:‬‬
‫«الدولة صورة‪ ،‬والعمران هو مادتها»‪ ،‬ويلقي الضوء ‪« :‬على فساد الدولة‬
‫بفساد مادة العمران بالضرورة» ‪ ..‬إذن المجتمع هو المادة‪ ،‬والدولة‪ ،‬ونظام‬
‫الحكم هو الصورة بما يعني حسب المنطق األرسطي‪ ،‬وعلى هديه نجد ابن‬
‫خلدون يجعل العمران أي االجتماع البشري هو المادة‪ ،‬والدولة أو نظام الحكم‬
‫هو الصورة‪ ،‬وهذه األخيرة ال يمكن أن توجد في العالم األرضي من دون مادة‬
‫حاملة لها؛ فال شك أن فساد المادة سيفضى ال محالة إلى زوال الصورة‪ ،‬وبداية‬
‫النهاية؛ فالهرم إذا نزل بالدولة ال يرتفع ‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫«إيماضة ألخمود»‬
‫أو «زبالة المشتعل» ‪:‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫يقول ابن خلدون ‪« :‬ربما يحدث عند أخر الدولة قوة توهم أن الهرم قد‬
‫ارتفع عنها‪ ،‬ويومض ذبالها إيماضة الخمود كما يقع في الذبال المشتعل فإنه‬
‫عند مقاربة انطفائه يومض إيماضة توهم أنها اشتعال‪ ،‬وهي انطفاء‪. )3(*».‬‬

‫في ما كتبه ابن خلدون عن «ايماضة الخمود» أو «زبالة المشتعل» ما‬


‫يحيل إلى الذاكرة المعرفية ما كتبه «جان جاك روسو» عن األضواء التى تلهينا‬
‫عن أعراض النهاية !!‬

‫« سلوك الماللك‬
‫في تدبير الممالك» ‪:‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫في الربع األخير من القرن العشرين كشف األستاذ الدكتور حامد ربيع‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )3‬أبو زيد ولى الدين عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون‪ ،‬العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب‬
‫والعجم والبربر‪ ،‬ومن عاصرهم من ذوي السلطان األكبر‪ ،‬اعتنى به أبو صهيب الكرمي‪ ،‬بيت األفكار الدولية‪،‬‬
‫عمان ـ الرياض ‪ ،‬بدون تاريخ ـ ص ‪148‬‬

‫‪61‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة النقاب عن وثيقة تعود إلى الربع األول‬
‫من القرن الثالث الهجري بعنوان ‪«:‬سلوك المالك في تدبير الممالك» كتبها‬
‫شهاب الدين أحمد بن محمد بن أبي الربيع للخليفة المعتصم باهلل العباسي بناء‬
‫على طلبه‪ ،‬والكاتب يقر ذلك صراحة في بداية مؤلفه بقوله ‪«:‬أنه انما دون هذه‬
‫الدراسة بناء على طلب الخليفة «القوي العادل» الذي جمع بين شجاعة هارون‬
‫‪)4(*.‬‬ ‫الرشيد وحكمة المأمون‬

‫‪ ..‬قلبت تلك الوثيقة األمور رأساً على عقب في جميع المفاهيم المتداولة في‬
‫علم السياسة إذ أثبتت أن ميكافيللي ليس هو مؤسس علم السياسة كما هو مشاع‪،‬‬
‫وليس الفقة األوربي هو الذي عرف نظرية إعمال السيادة‪ ،‬ولسنا في حاجة‬
‫ألن نبحث في الفقة األلماني لنجد هدماً لما قدمته لنا الثورة الفرنسية‪ ،‬ونظرية‬
‫القانون الدستوري على أنه اإلعجاز الفكري والتنظيري ‪.‬‬

‫وقد اثبتت الدراسات أن الحضارة اإلسالمية عامرة بالعديد من المخطوطات‬


‫صدرت عن علماء متخصصين في الثقافة السياسية كان يطلق عليهم ‪«:‬كتاب‬
‫الحكمة السياسية» من أمثال الحسين ابن محمد ومؤلفه المعروف بعنوان‪«:‬رسل‬
‫الملوك ومن يصلح للسفارة»‪ ،‬وابراهيم ابن ابي اليزيد الهندي بعنوان ‪« :‬رشاد‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )4‬شهاب الدين أحمد بن محمد بن أبي الربيع‪ ،‬سلوك المالك في تدبير الممالك‪ ،‬تحقيق وتعليق وترجمة‪:‬‬
‫د‪.‬حامد عبدهللا ربيع ‪ ،‬جزءان ـ مطابع دار الشعب بالقاهرة ـ القاهرة ‪١٩٨٣‬‬

‫‪62‬‬
‫الملوك في سداد السلوك»‪ ،‬وغيرها من المخطوطات التى ال تقل عن مائة نص‬
‫كتبها حكماء ليسوا فالسفة‪ ،‬ولكنهم مستشارون أو ندماء دعتهم السلطة أو شعروا‬
‫بواجبهم في أن يطرحوا على الحاكم كيف يتعامل مع أعوانه‪ ،‬والمحكومين ‪.‬‬

‫وفي مخطوط ابن أبي الربيع أيضا نجد أسس «علم العمران البشري» من‬
‫خالل الحديث عن االهتمام بالتقدم العمراني؛ يخصص ابن أبي الربيع قسماً‬
‫هاماُ يتحدث فيه عن مفهوم التدبر يجعل عنصره األول واألساسي ما أسماه بـ‬
‫«عمارة البلدان» بل ويميز بين عمارة المزارع‪ ،‬وعمارة األمصار ثم يعقب‬
‫ذلك بالشروط التي يجب أن تتوافر عندما يسعى الملك إلنشاء مدينة أو ما‬
‫في حكمها؛ فمفهوم تخطيط المدن يفترض المجتمع المستقر المتسع األرجاء‬
‫حيث الثقة والطمأنينة تسيطران على عالقة المواطن بالدولة‪ ،‬وكذلك اإليناع‬
‫الديموجرافي‪ ،‬والتخصص المهني يكمل اإلطار النفسي لالتجاه نحو االستقرار‬
‫في المدن‪ ،‬وهي جميعها عناصر واضحة في مؤلف ابن أبي الربيع ‪.‬‬

‫‪ ..‬وأيضا يعلن أبن أبى الربيع في فلسفته أركان المملكة التي يلخصها‬
‫في أربعة أركان هى ‪«:‬الملك والرعية والعدل والتدبير»‪ ،‬وهي ذاتها التي‬
‫ذكرها أرسطو‪ ،‬وابن خلدون‪ ،‬وديفيد اريستون كل بلغة عصره‪ ،‬وكلها تشير‬
‫إلى ما اسماه المسعودي ‪« :‬دائرة الحكمة» لبقاء الدولة‪ ،‬ويذكر ابن أبي الربيع‬
‫موصفات الظاهرة السلوكية ‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫يحاول ابن أبى الربيع أن يكشف عن فلسفته حول إطار التعامل البشري في‬
‫عالم اإلنسانية االجتماعية حيث نجد أن هذا المؤلف ما هو إل اتنظير للحقيقة‬
‫السلوكية كمحور إلطار الوجود البشري ‪.‬‬

‫من أهم المفاهيم في فكر ابن أبي الربيع تنظير الحقيقة السلوكية كمحور‬
‫إلطار التعامل البشري في عالم اإلنسانيات‪ ،‬والتي تعد العمود الفقري ‪ ..‬يقودنا‬
‫سرد ابن ابي الربيع إلى كشف خصائص السلوك كحقيقة انسانية‪ ،‬ويذكر ابن‬
‫أبي الربيع موصفات الظاهرة السلوكية ‪:‬‬

‫ً‬
‫أوال ‪ :‬السلوك اختيار‪ ..‬مبدأ الحتمية ال تعرفه مفاهيم ابن أبي الربيع بل‬
‫هو يعلن بصراحة منذ صفحاته األولى أن الفرد قادر بإرادته‪ ،‬ومن خالل‬
‫االستقراء‪ ،‬والتأمل‪ ،‬وأن االختيار هو محور التعامل السلوكي‪.‬‬

‫ثانياً ‪ :‬السلوك بهذا المعنى قدرة على االرتقاء‪ ،‬وهو يصل بهذا الخصوص‬
‫إلى حد أن الفرد يولد‪ ،‬وهو يتضمن عناصر سيئة‪ ،‬وأن إرادته هي تسمح له‬
‫بتخطي تلك النقائص ‪.‬‬

‫ثالثاً ‪ :‬وهذا يعني أن السلوك هو تعبير عن صالحية الفرد لتطويع ذاته‪ ..‬إنه‬
‫إعالن عن مبدأ المسئولية‪ ،‬وعن رفض فكرة مطلق لفكرة الجبر‪ ،‬وعن تقبل‬

‫‪64‬‬
‫لمعنى‪ ،‬وحدود مبدأ االلتزام السياسي ‪.‬‬

‫***‬

‫العولمة ‪:‬‬
‫ـــــــــــــــ‬

‫‪ ..‬انتجت «الحداثة السائلة» في أخر أطوارها مُسمى‪« :‬العولمة» التي‬


‫بدأت مع األلفية الثالثة‪ ،‬ومع تغلغل العولمة کأفکار‪ ،‬وسياسات‪ ،‬ونظم معرفية‪،‬‬
‫ومؤسسات کونية؛ ولذا کان من الطبيعي أن تکون قضية العولمة من أهم‬
‫القضايا الجديرة بالبحث بين العلماء العرب؛ فارتأى البعض منهم أن «العولمة»‬
‫مرحلة تاريخية‪ ،‬وتجليات لبعض الظواهر االقتصادية‪ ،‬وانتصارً ا وتكريساً‬
‫للقيم األمريكية‪ ،‬وتعبيرً ا عن الثورات التقنية‪ ،‬واالتصالية‪ ،‬وأکد البعض على‬
‫ضرورة التمييز بين عملية العولمة ‪ ،Globalization‬والعولمة کمذهب أو‬
‫أيديولوجيًّا ‪ ،Globalism‬في الوقت الذي أكد فيه البعض ضرورة التمييز بين‬
‫العولمة‪ ،‬والعالمية باعتبار األولى خطاب هيمنة‪ ،‬وسيطرة‪ ،‬والثانية تعني بشکل‬
‫أکبر الوعي بالتنوع‪ ،‬والتعددية‪ ،‬والتعارف‪ ،‬واالختالف‪ ،‬بينما طرح فريق‬
‫ثالث مسألة «عولمة المفاهيم»‪ ،‬وعالقتها بالخصوصية الثقافية‪ ،‬والجغرافية‪،‬‬
‫والسياسية للمنطقة‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫‪ ..‬ويعتبر کتاب جالل أمين بعنوان «العولمة»*(‪ )5‬مثال جيد في هذا السياق؛‬
‫فالسؤال الحاکم للكتاب هو «ما الذي تتم عولمته بالضبط؟» هل هي األفكار؟‬
‫هل هي السلع ؟ هل هي وظائف الدولة القومية؟ هل هي األسواق؟ أم ماذا‬
‫بالضبط؟‪ ،‬ويرى جالل أمين أن الحديث المتواتر والرائج عن انتهاء الحدود‬
‫وسيادة األفكار العالمية المتعلقة بالديمقراطية‪ ،‬وحقوق اإلنسان‪ ،‬وغيرها من‬
‫المفاهيم البراقة‪ ،‬هذا الحديث يخفي جوهر العولمة الذي يعني في األساس مزي ًدا‬
‫من تسلط الدول الكبرى من خالل الشرکات متعدية الجنسية على مقدرات الدول‬
‫األضعف في المنظومة االقتصادية العالمية‪ ،‬أو کما يقول في کتابه ‪«:‬عولمة‬
‫نمط معين من الحياة‪ ،‬أداتها األساسية اآلن هي الشرکات العمالقة متعدية‬
‫الجنسية»‪ ،‬ويظهر في الكتاب نقاش نقدي لمفهوم العقالنية‪ ،‬وارتباطها بالقبول‬
‫غير المشروط لمنتجات‪ ،‬وقيم ‪ ،‬ومؤسسات العولمة في عالمنا العربي‪ ،‬فيرى‬
‫أمين أن التعامل مع العولمة على أنها ظاهرة‪ ،‬وتوجه ال فكاك منه يقدم على‬
‫أنه خيار عقالني بينما هو في جوهر األمر خيار بائس‪ ،‬ويائس‪ ،‬ويعکس غياب‬
‫القدرة على المقاومة ‪ . .‬الوجه الحقيقي للعولمة کما يراها أمين ليست في العقالنية‬
‫بل في تزايد قدرة الشرکات الکبرى‪ ،‬والدول الكبري على ممارسة القهر من‬
‫خالل التقدم التکنولوجي الذي يصل إلى نتيجة مؤداها أن التقدم التكنولوجي‪،‬‬
‫ومنتجه الرئيس (المجتمع التكنولوجي الجديد) هو المنتصر الحقيقي‪ ،‬والمسيطر‬
‫الوحيد على مجتمعات العالم ‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )5‬د‪ .‬جالل أمين‪ ،‬العولمة‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ط ‪ ،١‬القاهرة ‪2009‬‬

‫‪66‬‬
‫يشترك المهدي المنجرة في كتابه ‪«:‬عولمة العولمة من أجل التنوع‬
‫الحضاري»*(‪ )6‬مع منطق جالل أمين حول العولمة؛ فيرى أنها محاولة من الدول‬
‫الكبرى لممارسة السيطرة على الدول الصغرى من خالل التنسيق‪ ،‬والتحالف مع‬
‫النخب الوطنية سواء من داخل رجال السياسة‪ ،‬واالقتصاد‪ ،‬أو حتى األکاديميا؛‬
‫فالعولمة تشير إلى «الال تنظيم‪( ..‬بمعنى) تنظيم نزع ملكية الشعوب بمبارکة‬
‫الزعامة المحلية التي ال يفوتها االغتناء بالمناسبة»‪ ،‬ويرى أن هذه العملية في‬
‫حقيقة األمر من شأنها أن تنزع أي مضمون لتحول ديمقراطي حقيقي في دول‬
‫العالم الثالث؛ فيجب أن تظل األنظمة السياسية خاضعة‪ ،‬وتمارس ديمقراطية‬
‫صورية‪.‬‬

‫جوهر العولمة عند المنجرة ليست فقط في سيادة قيم السوق‪ ،‬وسياساته‬
‫کما يرى جالل أمين‪ ،‬بل واألهم في التنميط الثقافي لصالح نموذج بذاته هو‬
‫النموذج األمريکي‪ ،‬وهو األمر الذي انعكس على ممارسات األمم المتحدة التي‬
‫ً‬
‫جهازا يعبر عن مصالح‪ ،‬وقيم‪ ،‬وثقافة القوة‬ ‫فقدت صفتها األممية لصالح کونها‬
‫الكبرى‪ ،‬ويرى المنجرة أن السبيل الوحيد للنجاة من العولمة هو في «إعادة‬
‫عولمة العولمة» بمعنى استعادة التعددية الثقافية‪ ،‬والقيمية في داخل النظام‬
‫الدولي بما يسمح لكل مكوناته بالتعبير عن نفسها بشکل متوازن ‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )6‬د‪ .‬المهدي المنجرة‪ ،‬عولمة العولمة من أجل التنوع الحضاري‪ ،‬منشورات الزمن‪ ،‬العدد ‪١٨‬ـ ط ‪ ٢‬ـ‬
‫الرباط ‪٢٠١١‬‬

‫‪67‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫« العولمة» في حقيقتها نظام لـ «تفكيك الدول»‪ ،‬و«تصفية مقومات اقتصادها‬


‫الوطني» عبر «االنفتاحات» االقتصادية‪ ،‬وعمليات الخصخصة بالسلطوية‬
‫السياسية في ظل منظومة فساد يقودها الحكام المحليين من فئة الكومبرادور‬
‫‪ ،Combador‬وهو ما اسماه عالم االقتصاد السويدي جونار ميردال‪:‬‬
‫بـ «نظرية الدولة الرخوة» التي تعد أخطر المزالق لما يطلق عليه «الدولة‬
‫الكومبارس» أى «الدولة التابعة» التي نعثر عليها في أروقة األمم المتحدة‪ ،‬وفي‬
‫مجلس األمن‪ ،‬جاهزة للتصويت على كل القرارات المدعومة من اإلمبراطورية‬
‫األمريكية‪ ،‬وأيضا ما أسماه نعوم تشوميسكي ‪ :‬بـ «الدولة الفاشلة»‪ ،‬وما أسماه‬
‫باومان بـ «السيولة»‪.‬‬

‫«الدولة الرخوة ‪: »Soft state‬‬


‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫يعرف جونار ميردال «الدولة الرخوة ‪ »Soft state‬بـ «الدولة التي تصدر‬
‫القوانين‪ ،‬وال تطبقها‪ ،‬ليس فقط لما فيها من ثغرات‪ ،‬ولكن ألن ال أحد يحترم‬
‫القانون‪ ،‬الكبار ال يبالون به؛ ألن لديهم من المال‪ ،‬والسلطة ما يحميهم منه‪،‬‬
‫والصغار يتلقون الرشاوي لغض البصر عنه‪ ،‬أما الفقراء الذين ال مال لهم‪ ،‬وال‬
‫رشاوي؛ فيتم ضبطهم بواسطة أساليب قديمة متجددة من القمع والتهم‪.».‬‬
‫رخاوة الدولة تشجع على الفساد‪ ،‬وانتشار الفساد يزيدها رخاوة‪ ،‬والفساد‬

‫‪68‬‬
‫ينتشر من السلطتين التنفيذية‪ ،‬والسياسية إلى التشريعية‪ ،‬حتى يصل إلى القضاء‪،‬‬
‫والجامعات‪ ،‬صحيح أن الفساد‪ ،‬والرشوة موجودان بدرجة أو أخرى في جميع‬
‫البالد‪ ،‬ولكنهما في ظل الدولة الرخوة يصبحان «نمط حياة»‪.‬‬

‫ويقدم ميردال وصفا للطبقة الحاكمة التي تتكون في هذه الدولة‪ ،‬فهي تجمع‬
‫من أسباب القوة ما تستطيع بها فرض إرادتها على سائر فئات المجتمع‪ ،‬وهي‬
‫وإن كانت تصدر قوانين‪ ،‬وتشريعات تبدو وكأنها ديمقراطية في ظاهرها‪ ،‬فإن‬
‫لهذه الطبقة من القوة ما يجعلها مطلقة التصرف في تطبيق ما في صالحها‪،‬‬
‫وتجاهل ما يضر بها‪ ،‬وأفراد هذه الطبقة ال يشعرون بالوالء لوطنهم بقدر ما‬
‫يدينون بالوالء لعائالتهم أو أقاربهم‪ ،‬أو عشائرهم ومحاسبيهم ‪.‬‬

‫يبين جونار ميردال كيف استطاع النوع البشري المهيأ بنزعات التدمير تلك‬
‫أن يظل على قيد الحياة حتى األن ؟ تتميز الدولة الرخوة بالعديد من الخصائص‪،‬‬
‫‪ ..‬من بين هذه الخصائص ‪:‬‬

‫ـ وجود ترسانة قانونية متقدمة بدون تطبيق‪ :‬تتوفر الدولة الرخوة على‬
‫ترسانة قانونية متطورة‪ ،‬غير أن هذه النصوص القانونية تبقى من دون تطبيق‬
‫بمعنى آخر تظل حبر على الورق‪ ،‬وعليه يكون وجودها كعدمها‪ ،‬إال في حالة‬
‫محددة‪ ،‬حيث يمكن استعمالها لمعاقبة مناهضي الفساد أو المطالبين بحقوقهم أو‬

‫‪69‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫المجرمين‪ ،‬واللصوص من الطبقات المسحوقة‪.‬‬

‫ـ وجود مؤسسات دستورية أكثر من الالزم بدون دور واضح‪ :‬في الدولة‬
‫الرخوة يالحظ وجود تعدد‪ ،‬وتنوع في المؤسسات الدستورية‪ ،‬وغيرها إلى‬
‫درجة تتداخل‪ ،‬وتتشابه معها صالحيات المؤسسات‪ ،‬غير أن الهدف من هذه‬
‫المؤسسات يبقى بعيد عن خدمة المصلحة العامة‪ ،‬بل وجودها في غالب األحيان‬
‫يكون إرضاء للنخب السياسية‪ ،‬والبيروقراطيين؛ فمن األشخاص الذين يشكلونها‬
‫في غالب األحيان يتبين أنها مجرد مؤسسات لخلق مناصب لألعيان‪ ،‬وستر‬
‫المكشوف أمام عيون المجتمعات الديمقراطية‪.‬‬

‫ـ وجود نخبة فاسدة تسعى لتحقيق مصالحها الشخصية أوال‪ ،‬ويراد بها‬
‫مجموعة من األفراد يمتلكون مصادر‪ ،‬وأدوات القوة السياسية في المجتمع‪،‬‬
‫وبالتالي يصيغون السياسات العامة على مقياسهم ولصالحهم ‪.‬‬

‫ـ تفشي الفقر والتخلف‪ :‬توجد الفئات االجتماعية الهشة‪ ،‬والضعيفة التي‬


‫لن تستفيد من العدالة االجتماعية‪ ،‬والعدالة المجالية في وضعية فقر‪ ،‬وتخلف‪،‬‬
‫بسبب سياسات اإلقصاء المتعمد‪.‬‬

‫ـ انقسام المجتمع إلى طبقات متعددة أو طبقتين‪ :‬تؤدي سياسة الدولة الرخوة‬

‫‪70‬‬
‫إلى تقسيم المجتمع إلى طبقتين أو أكثر‪ ،‬الشيء الذي ينتج عنه وجود فوارق‬
‫كبرى‪ ،‬وواسعة بين أفراد المجتمع الواحد‪.‬‬

‫باإلضافة إلى استشراء الفساد بمختلف أنواعه‪ ،‬وغلبة التسلط على الحوار‪،‬‬
‫وتأزم عالقة الدولة بالمجتمع‪ ،‬وضعف التنمية أو غيابها‪.‬‬

‫«الدولة الفاشلة ‪: »Failed States‬‬


‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫طبقاً لما أصدرته مجلة «السياسة الخارجية» ومؤسسة «صندوق السالم»‬


‫فإن الدولة الفاشلة تُعتبر‪« :‬هيئة سياسية مُفككة لدرجة فقدان الحكومة قدرتها‬
‫المركزية على سيطرتها‪ ،‬وسيادتها على كافة أراضيها‪.».‬‬

‫أهم سمات الدولة الفاشلة‪:‬‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬ضعف قدرة الدولة الشرعية في اتخاذ قرارات عامة‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬فقدان الدولة‪ ،‬ومؤسساتها لشرعية احتكارها استخدام القوة‪ ،‬وبالتالي‬


‫تكون غير قادرة على حماية مواطنيها‪ ،‬وأراضيها‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫ثالثاً‪ :‬عدم القدرة على تلبية احتياجات المواطنين‪ ،‬وتوفير الخدمات العامة‬
‫األساسية للشعب‪.‬‬

‫رابعاً‪ :‬تالشي مصداقية الكيان الممثل للدولة خارج حدودها‪.‬‬

‫«اإلنسان السائل»‬
‫في مصـــــــــــر ‪:‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫أصبح اإلنسان في مصر تحت تأثير الضغوط الشديدة‪ ،‬والمتسارعة‪،‬‬


‫والمتعاظمة كحالة المادة المائعة السائلة التي ال تعرف ثباتاً؛ ألن المعنى قد‬
‫غاب‪ ،‬واإلنسان أصبح أسير الخوف الدائم تدبير احتياجاته المعيشية بأساليب‬
‫أغليها غير مشروع في ظل غالء األسعار‪ ،‬وقلة العائد‪ ،‬وأن عليه التدريب‬
‫المستمر على االختفاء‪ ،‬والذوبان‪ ،‬واالنسحاب‪ ،‬والرحيل !! والجري وراء‬
‫الفردية التي خلفتها الحياة السائلة‪ ،‬وتراجعت الجماعة كما ان نظامها المناعي‬
‫الذي كان يحميها من المشكالت صار مشكلة في حد ذاته؛ وأضحى المجتمع‬
‫قي حد ذاته «جماعة خائلية»!!‬

‫‪ ..‬فقد اإلنسان صالبته‪ ،‬ومعها إنسانيته‪ ،‬وهويته‪ ،‬وثقافته ‪ ..‬فقد عقله‬

‫‪72‬‬
‫التاريخي‪ .. ،‬وانفصل عن واقعه الحضاري‪ ،‬وتم تغييب وعيه بوجوده على‬
‫خريطة الوجود اإلنسانى!!‬

‫‪ ..‬تم تسليعه وتشييئه ‪ ..‬أصبح مجرد شيء يتم صياغته‪ ،‬وتصنيعه‪ ،‬وقولبته‬
‫ً‬
‫متداوال‬ ‫وتعليبه‪ ،‬وصارت حالة مصنعة وفقا ألليات الهندسة االجتماعية ليصبح‬
‫أن ‪:‬‬

‫«اإلنسان صناعة اإلنسان» بمعنى صناعة اإلنسان االجتماعي‪ ،‬والمواطن‬


‫السياسي الذي يصوت ضد مصالحه !!‬

‫‪ ..‬أصبح اإلنسان أسير «مجتمع الفرجة» الذي تح ّول العالم المحسوس‬


‫فيه إلى مجتمع صورة يجري فيه تسليع كل شيء‪ ،‬وكل نشاط‪ ،‬وكل فكر‪ ،‬وأن‬
‫التحوالت االجتماعية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬واالقتصادية‪ ،‬والثقافية أنتجت عالماً مقلوباً‬
‫واقعياً رأساً على عقب‪ ،‬إذ أصبح ما هو حقيقي وواقعي فيه وهمياً وزائفاً؛ بما‬
‫يراه جي ديبور عودة منمّقة إلى نظرية االستالب بمعنى استالب المتفرج لصالح‬
‫الفرجة» يجري تسليع كل شيء بحيث يتحقق مفهوم‬ ‫الشيء‪ ،‬في «مجتمع ُ‬
‫الفرجة بشكل كامل عندما تُعلن السلعة «احتاللها الكلي للحياة االجتماعية»‬
‫سواء كانت بضاعة‪ ،‬أو خدمة‪ ،‬أو فكرة أو رغبة ‪ ..‬تتوسل باإلغراء الناعم‬
‫ودغدغة المشاعر‪ ،‬واألحاسيس الحانية لحث الناس على التماهي بين األشياء‬

‫‪73‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫والسلع!!‬

‫تنامي ظــــاهـــرة‬
‫«الكائن السائل» ‪:‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫‪ ..‬أصبح «الشر السائل» يكمن في التفاصيل اليومية حتى بلغ حد االعتياد‪،‬‬


‫وأصبحت المدن هى البوتقة المركزية لصهر القيم‪ ،‬واألخالق‪ ،‬والتطبيع مع‬
‫الشر‪ ،‬وسادت المدن المصرية ظاهرة االنتقال من ظاهرة «اإلنسان السائل»‪،‬‬
‫إلى ما يمكن أن يطلق عليه ‪« :‬الكائن السائل» أو «الحيوان السائل»؛ فقد‬
‫أصبحت المدن المصرية أقرب إلى «حدائق حيونات بشرية ‪The Human‬‬
‫‪ .. »Zoo‬تسودها العدوانية‪ ،‬والعنف‪ ،‬والبلطجة‪ ،‬واالنفجار والتحرش الجنسي‪،‬‬
‫وعدم بسط الحماية على المرأة من قبل أفراد المجتمع‪ ،‬وامتهان كرامتها في‬
‫وضح النهار في أماكن العمل‪ ،‬والمواصالت العامة‪ ،‬واألنانية‪ ،‬والفساد البنيوي‬
‫ذو الصالت القوية بأسباب ضاربة الجذور في عمق التاريخ!!‪ ..،‬أو أنها صارت‬
‫أشبة بـ «المقابر» حيث تغيب فيها جميع مالمح الحياة اإلنسانية‪ ،‬وتخلو من‬
‫روحها‪ ،‬ومن صور التالقي بين الناس‪.‬‬

‫‪ ..‬وشهد الشارع المصري تنامي ظاهرة النصب‪ ،‬واالحتيال‪ ،‬واالستغالل‪،‬‬

‫‪74‬‬
‫والغش‪ ،‬وصارت البلطجة من أهم سمات الشارع المصري؛ بما جعل التعامل‬
‫في الشارع محفوفاً بمخاطر كبيرة لصعوبة توقع رد الفعل من اآلخر من العنف‪،‬‬
‫والعدوان الذي يبلغ حد القتل أو السرقة باإلكراه؛ بعدما شهدت فترة االنهيار‬
‫الكبير إنهيار كل انماط الحياة التي كانت مستقرة‪ ،‬والتي انهارت بسبب التغيير‬
‫المحوري الذي وقع‪ ،‬وأدى إلى انهيار «ااألسرة النووية»‪ ،‬وشهد المجتمع‬
‫المصري ما اسمته سوزان فالودي «ازمة الذكورة» عندما أخفق المجتمع في‬
‫توفير فرص العمل للرجال وأنقص أجورهم‪ ،‬وطالبهم يالبقاء ساعات أطول في‬
‫أماكن العمل‪ ،‬وأفقدهم اإلحساس باألمان الوظيفي واالجتماعي‪ ،‬بما ساهم في‬
‫تأخر سن الزواج‪ ،‬وجعل رابطة الزواج غير مستقرة نتيجة المجاملة التشريعية‬
‫للمرأة على حساب الجماعة؛ فارتفعت معدالت الطالق‪ ،‬ولم تعد النساء يعتمدن‬
‫على الرجال‪ ،‬وأصبحن يدعمن أنفسهن وأطفالهن من خالل فرص العمل التي‬
‫يحرم منها الرجال‪ ،‬وشهد المجتمع المصري ظاهرة «األب الغائب»؛ فنشأ جيل‬
‫كامل بدون أباء‪ ،‬ويعاني من الفشل التعليمي‪ ،‬والعنف‪ ،‬والجريمة‪ ،‬ونشأت ظاهرة‬
‫«أطفال الشوارع»‪ ،‬وتفشي البغاء‪ .. ،‬أدت الضغوط التي فرضت على «األسرة‬
‫النواة» إلى تقلص دورها‪ ،‬وطرحت على الساحة أشكال عديدة من «األسر‬
‫التوليفية أو المؤتلفه» التي ظهرت نتيجة تأخر سن الزواج‪ ،‬وارتفاع معدالت‬
‫الطالق‪ ،‬وانتشار الدعارة‪ ،‬والزوج العرفي‪ ،‬واإلنجاب خارج شرعية الزواج؛‬
‫مما حدا بإدارة األمن العام بوزارة الداخلية إلى حجب التقرير السنوي عن‬
‫الجرائم‪ ،‬ومنعت المختصين‪ ،‬والباحثين‪ ،‬واإلعالميين من االطالع عليه!!‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫‪ ..‬واختفت األمانة بصفة عامة‪ ،‬وتالشت «األمانة الفكرية» بصفة خاصة‪،‬‬


‫والتعامل الرشيد‪ ،‬وساد الخداع؛ فكل رأي صار «رأي سجالي» حيث يدافع‬
‫كل عن رأيه‪ ،‬ويقمع عن قصد رأي محدثه‪ .. ،‬وفي كل األحوال ال تؤمن نتيجة‬
‫الحديث الذي غالباً ما ينتهي بالمشاجرة التي قد تفضي إلى القتل ‪.‬‬

‫‪ ..‬الكثيرون غير أمناء‪ ،‬والكثيرون ال يشعرون بأيه رحمة تجاه من هم‬


‫خارج النطاق المباشر لمصالحه‪ ،‬واألدهي هو إمكانية فتح الرحمة‪ ،‬وغلقها مثل‬
‫الصنبور وفق المصلحة الشخصية‪.‬‬

‫‪ ..‬وأصبحت ظاهرة البلطجية أحد أذرع الدولة الخفية التي تحميها‪،‬‬


‫وتعفيها من المسؤولية القانونية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬حيث يسرف ضباط األقسام في‬
‫المناطق العشوائية بتسجيل شباب تلك المناطق تحت مسمى «شباب الكارتة»‬
‫أو «األشقياء»‪ ،‬وتستغلهم في أعمال غير مشروعة‪ ،‬وتعدهم بعدم المالحقة‪،‬‬
‫وإسقاط ما عليهم من أحكام‪.‬‬

‫***‬

‫مع بداية «المشروع الحداثي التسلطي» الذي بدأ مع انقالب ‪ 23‬يوليو‬


‫‪ 1952‬الذي ادعى زورا الحداثة‪ ،‬والثورية‪ ،‬واالستجابة لمصالح الجماهير‬

‫‪76‬‬
‫التي لم تبدي مشاركة حقيقية‪ ،‬مما اضطر ضباط االنقالب إلى االعتماد على‬
‫جهاز الدولة كمحرك لعملية التنمية‪ ،‬وقد ظهرت مخاطر هذه التركيبة ألن‬
‫«الفجوة السياسية» لم تسد‪ ،‬ولم يتم والدة مؤسسات سياسية حقيقية تربط‬
‫الدولة بالمجتمع‪ ،‬مما أدى إلى ضرورة االعتماد على المؤسسة العسكرية‪،‬‬
‫والمنظمات األمنية‪ ،‬والجماعات السرية لضمان بقاء النظام‪ ،‬ودعم مكانته‪،‬‬
‫وكان من نتيجة ذلك تولي الضباط مما دعوا «أهل الثقة» مجموعة ضخمة من‬
‫الوظائف القيادية في مجال الحكم‪ ،‬واالقتصاد‪ ،‬والدبلوماسية‪ ،‬واإلدارة المحلية‪،‬‬
‫والرياضة‪ ،‬والثقافة وغيرها‪ ،‬وهو الوضع الذي أطلق عليه فاتيكيوتس اسم‬
‫«دولة العسكرة ‪. »Srratiocracy‬‬

‫‪ ..‬وبدأ الصراع المكتوم بين الجناح الكاريزمي والجناح العسكري‪ ،‬وبدأت‬


‫تتضح مالمح القيادة القائمة على فكرة «المولى‪ ،‬والتايع» أى على مبدأ النصرة‬
‫الشخصية‪ ،‬والتعاضد الجماعي فقد كان أنصار عبد الحكيم عامر يصفونه بـ‬
‫«الشهامة الصعيدي»‪ ،‬وكان عبد الناصر يصفه بـ «اإلقطاعية»‪.‬‬

‫‪ ..‬ولم يكن أمام الجناح الكاريزمي سوى االستعانة بفئات «الرعاع السياسي»‬
‫لما يجيدونه من حشد الجماهير‪ ،‬وصناعة الالفتات‪ ،‬وصك الشعارات‪ ،‬وصياغة‬
‫اللوجهات‪ ،‬وتنفيذ المهرجانات الشعبية التي يغطى بها النظام هزائمة‪ ،‬وإظهار‬
‫العداءات للقوي الكبرى‪ ،‬وتنفيذ «سياسة المهرجان» التي تعنى لعب دور الدول‬

‫‪77‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫الكبرى لتدفع له الدول الكبرى مقابل التدخل فى اليمن‪ ،‬والجزائر‪ ،‬والكونغو‬


‫دعماً للمصالح األمريكية‪ ،‬ودخلت مصر فى الحلقة المفرغة التى أشار إليها‬
‫مايلز كوبالند‪:‬‬

‫«كان استمرار المهرجان ضرورياً للحصول على الدعم‪ ،‬كما أصبح الحصول‬
‫على الدعم ضرورياً لتمويل المهرجان»‪.‬‬

‫‪ ..‬وألن مايلز كوبالند هو صانع األلعاب فى دراما الناصرية «كمنهج»؛‬


‫فقد قال ‪:‬‬

‫«أنه كان على الزعامات المصنوعة مخابراتيا أن تقبل الدعم‪ ،‬وترضى‬


‫بالعمالة‪ .. ،‬وكنا نصنع لهم طواحين الهواء‪ ،‬ونتيح لهم فرصة االنتصارات‬
‫الوهمية طالما ذلك يرضى الغوغاء الذين كان تأييدهم الجارف أحد أسباب البقاء‬
‫األطول لتلك «القيادات المطلوبة» طبقا لخريطة العمل السياسى األمريكى فى‬
‫الشرق األوسط ‪.‬‬

‫‪ ..‬فلما خرج ناصر عن قواعد اللعبة «ضربناه علقة فى ‪ 67‬ـ على حد‬
‫تعبير جونسون ـ ‪.».‬‬

‫‪78‬‬
‫‪ ..‬وبدأت سياسة «تصفير العداد» أي إعادتها إلى نقطة الصفر‪ ..‬تلك‬
‫االستراتيجية التي اتبعها عبد الناصر بمساعدة خبراء ‪C.I.A‬؛ فاتخذ عدة‬
‫إجراءات للتطهير الشكلي‪ ،‬وأطلق إعالمه ليعلن بدء مرحلة جديدة «على‬
‫نضيف» متخلياً عن أعباء‪ ،‬وأخطاء المرحلة السابقة التي يتحملها «السيئون‬
‫السابقون» !!‬

‫‪ ..‬وهو ما يفسر صعود «الرعاع السياسي»‪ ،‬وما صاحب صعودهم من‬


‫الشرور التي أخطرها صعود «القيم الميتة»؛ فـ «الشيطان في السياسة» ـ‬
‫على حد تعبير باومان ـ ليس مجرد خياالت بل أنه يتجسد في ممارسات كثيرة‬
‫أحدها تدمير نظام أخالقي كوني أو على األقل نظام أخالقي قابل للحياة‪ ،‬والنمو‪،‬‬
‫والتطبيق بيد أن الشيطان قد يظهر على أنه فقدان للذاكرة‪ ،‬والحس األخالقي ‪.‬‬

‫وهذا ما أدى إلى حالة «ذهان جماعي» تمثل في لمسة «الشر الراديكالي»‬
‫التى راح كتاب النظام‪ ،‬ومنظريه‪ ،‬وكتاب أغانيه (تمت كتابة ‪ 420‬أغنية‬
‫في التغني بشخص عبد الناصر‪ ،‬ووصف أمجاده المزعومة) يبثونها في‬
‫الجماهيرلنفخهم بالهواء‪ ،‬والذي يكمن جوهرة في رفض متعمد لقيمة اإلنسان‪،‬‬
‫والكرامة‪ ،‬والذاكرة‪ ،‬واإلحساس‪ ،‬وقوى الترابط‪ ،‬والتراحم ‪.‬‬

‫‪ ..‬كان النظام هزلياً ومن أبرز مالمح الهزل فيه ادعاؤه‪« :‬االشتراكية‬

‫‪79‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫بدون اشتراكيين» التي أفضت إلى انقالب النظام على ذاته من داخله‪ ،‬وبنفس‬
‫شخوصه‪ ،‬وأدواته‪ ،‬واالتجاه إلى الغرب‪ ،‬وسياسة االنفتاح ‪ ..‬وبدأ تفكيك الدولة‪،‬‬
‫وإعادة إنتاج «المواطن السائل» بشكل مختلف مع شدة التدخل الذي مارسه‬
‫صندوق النقد الدولي في السياسة االقتصادية المصرية منذ ‪ ١٩٨٧‬عندما‬
‫عجزت الدولة عن سداد أقساط ديونها الخارجية وفوائدها‪ ،‬وزاد من تفكك‬
‫الدولة ابتداء من ‪ ،١٩٩١‬عندما وقعت مصر اتفاقية مع الصندوق عرفت باسم‬
‫اتفاقية «التثبيت‪ ،‬والتكيف الهيكلي»‪ ،‬وانطوت علي انسحاب الدولة من كثير‬
‫من المهام التي اعتاد الناس أن تمارسها الدولة منذ الستينيات من دعم الصحة‪،‬‬
‫والتعليم‪ ،‬ووسائل المواصالت‪ ،‬والسلع المعيشية‪ ،‬وعلي اإلسراع ببيع شركات‬
‫القطاع العام‪ ،‬وتسريح العمالة لتنضم إلى عمالة زائدة في مجال الخدمات‬
‫ليبدأ ظهور‪ ،‬وتنامي ظاهرة‪«:‬الحيوان السائل» في شوارع القاهرة‪ ،‬وتزامن‬
‫مع بداية الجيل الثاني من ‪« :‬أطفال الشوارع» ليمارس التسول‪ ،‬والبلطجة‪،‬‬
‫والنصب‪ ،‬والدعارة‪ ،‬واللصوصية‪ ،‬وصار كل شيء خاضع للمساومة والشطارة‬
‫والفهلوة!!‬

‫***‬

‫‪ ..‬وألن الجغرافيا واحدة من أهم العلوم االجتماعية‪ ،‬وسميت بذلك ألن‬


‫المجتمع مادتها‪ ،‬والناس هدفها؛ فإذا كان التاريخ هو ظل اإلنسان على األرض؛‬

‫‪80‬‬
‫فالجغرافيا ظل األرض على الزمان ‪ ..‬منذ منتصف القرن العشرين‪ ،‬ومع تطور‬
‫الجغرافيا في طورها الثالث‪ ،‬ومع ظهور حقبة ما بعد االستعمار‪ ،‬انتبه بعض‬
‫الجغرافيين إلى الدور اإلنساني‪ ،‬واالجتماعي لهذا العلم‪ ،‬وراقبوا ضمائرهم في‬
‫أن هذا العلم في حقيقته هو علم تفتيش عن مواطن الخلل االجتماعي في توزيع‬
‫الثروة‪ ،‬والخدمات‪ ،‬والسكان‪ ،‬والرفاه‪ ،‬والتركز السكاني‪ ،‬والفائض‪ ،‬والعوز‪،‬‬
‫الجغرافيا في حقيقة تعريفها هي «علم التوزيعات المكانية»؛ ألن الهدف الرئيس‬
‫للكشف عن هذه التوزيعات هو المسارعة بتحقيق «إعادة التوزيع» من أجل‬
‫ضبط الخلل‪ ،‬وإصالح المظالم التي تسبب فيها اإلنسان‪ ،‬ويسمى هذا التيار‬
‫الفكري في الجغرافيا باسم «جغرافية العدالة‪ ،‬والمساواة»‪.‬‬

‫الجغرافيا الحقة تكشف عن توزيع الفقر‪ ،‬أين يوجد السكان األقل دخال‪،‬‬
‫ما هي المناطق التي تعاني من سوء الصرف الصحي‪ ،‬ضعف‪ ،‬ورداءة مياه‬
‫الشرب‪ ،‬التكدس السكني‪ ،‬توطن المرض‪ ،‬التلوث‪ ،‬أين توجد مناطق العجز‬
‫في المستشفيات وفقا لعدد السكان‪ ،‬مناطق الحاجة لصيدليات‪ ،‬مناطق الحاجة‬
‫إلى نقاط تركز أمنية ردعا للمجرمين‪ ،‬مناطق شح مياه الشرب‪ ،‬العوز في‬
‫المدارس‪ ،‬والتعليم األساسي‪..‬‬

‫كان البد من االستئناس بفكر عالم الجغرافيا المفكر المصري د‪ .‬جمال‬

‫‪81‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫حمدان ‪ ..‬يقول حمدان الذي يبدو متشائما في «صفحات من أوراقه الخاصة»‪..‬‬


‫مذكرات في الجغرافيا السياسية ‪:‬‬

‫«سيأتي اليوم الذي تطرد فيه الزراعة تماما من أرض مصر‪ ،‬لتصبح كلها‬
‫مكان سكن‪ ،‬دون مكان عمل‪ ،‬أي دون عمل‪ ،‬أي دون زراعة‪ ،‬أي دون حياة‬
‫أي موت! لتتحول في النهاية من مكان سكن على مستوى الوطن إلى مقبرة‬
‫بحجم دولة؛ الن مصر بيئة جغرافية مرهفة‪ ،‬وهشة ال تحتمل العبث‪ ،‬وال تصلح‬
‫بطبيعتها للرأسمالية المسعورة الجامحة الجانحة؛ فالرأسمالية الهوجاء تعني‬
‫مقتل مصر الطبيعية‪.».‬‬
‫‪ ..‬ويضيف حمدان‪ « :‬إن مصر تتحول ألول مرة من تعبير جغرافي الى‬
‫تعبير تاريخي بعد أن ضاقت أمامها الخيارات‪ ..،‬ويصف بقاءها‪ ،‬واستمرارها‬
‫بأنه نوع من القصور الذاتي‪ ،‬وأنها أصبحت كيان منكمش في عالم متمدد‪ ،‬وأنها‬
‫كيان متقلص في عالم متوسع» ‪.‬‬

‫ويضيف حمدان ‪« :‬من المتغييرات الخطرة التي تضرب صميم الوجود‬


‫المصري ليس فقط من حيث المكانة‪ ،‬ولكن في المكان ذاته ما يلي ‪:‬‬

‫‪ ١‬ـ اصبحت أرض مصر معرضة للتأكل الجغرافي ألول مرة في التاريخ‬
‫كله‪ ،‬وإلى األبد إذ تحولت من عالم متناه بالطبع‪ ،‬والطبيعة‪ ،‬والجغرافيا إلى‬

‫‪82‬‬
‫عالم متأكل بفعل اإلنسان؛ فالسد العالى أوقف نمو أرض مصر أفقيا‪ ،‬ورأسياً‪،‬‬
‫وعرضها للتأكل البحري والصحراوي‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ أصبحت أرض مصر «ارضاً مغلقة» بيولوجيا بال صرف‪ ،‬وبالتالي‬
‫ال تتجدد مياهها‪ ،‬وتربتها‪ ..‬كما لم يعد تجدد أرضها‪ ،‬وترابها‪ ،‬ومن ثم أصبحت‬
‫بيئة تلوث نموذجية‪ ،‬وبقدر ماهي بللورة مركزة طبيعياً؛ ستصبح بللورة تلوث‬
‫مكثفة حتى الموت البيولوجي ‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ ألول مرة ظهر لمصر منافسون‪ ،‬ومطالبون‪ ،‬ومدعون هيدرولوجيا‪..‬‬


‫كانت مصر سيدة النيل بل مالكة النيل الوحيدة ـ اآلن فقط ـ انتهى هذا إلى األبد‪،‬‬
‫واصبحت شريكة محسودة‪ ،‬ومحاسبة‪ ،‬ورصيدها المائي محدود‪ ،‬وثابت‪ ،‬وغير‬
‫قابل للزيادة إن لم يكن للنقص‪ ،‬والمستقبل أسود‪ ،‬ولت أيام الغرق‪ ،‬وبدأت أيام‬
‫َ‬
‫الشرَّ ق‪ ،‬وعرفت الجفاف ال كحظر‪ ،‬ولكن دائم «الجفاف المستديم» بعد «الري‬
‫المستديم‪.».‬‬

‫‪ 4‬ـ في الوقت نفسه بلغ سكان مصر الذروة المتصورة‪ ،‬ووصل الطفح‬
‫السكاني إلى مداه‪ ،‬ولم يبقى سوى المجاعة‪ ،‬فلم تعد األرض قادرة على ما‬
‫*(‪)7‬‬ ‫يتوسع إسكانا في المدن‪ ،‬والقرى‪ ،‬والطرق !!‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )7‬د‪ .‬جمال حمدان‪« ،‬صفحات من أوراقه الخاصة» ‪ ..‬مذكرات في الجغرافيا السياسية‪ ،‬ط ‪ ، ١‬دار الغد‬
‫العربي ـ القاهرة ‪١٩٩٦‬ـ ص ‪34: 33‬‬

‫‪83‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫‪ ..‬والحقيقة أن ما توصل إليه د‪.‬حمدان من معرفة نتيجة استنطاق خرائطه‪،‬‬


‫واستقراء مناهج البحث التي توسل بها التي جاءت متوافقة مع بعض شذرات‬
‫من الفكر الصهيوني الذي تم صياغته في شكل قصص توراتية عن خراب‬
‫مصر ‪ ..‬تقول التوارة المنحولة في نسخها السبعينية ذلك‪:‬‬

‫« حيث ورد في سفر يوئيل اإلصحاح ‪ 3‬آية ‪« :19‬مصر تصير خراباً»‪،‬‬


‫ولن تكون مصر خراباً إال بجفاف النهر؛ حيث يقول سفر إشعياء اإلصحاح‬
‫‪ 11‬اآلية ‪« : 15‬ويبيد الرب لسان بحر مصر» ‪ ..‬الذي هو النيل !! وجاء في‬
‫نفس السفر في اإلصحاح ‪ 19‬اآلية ‪« : 5‬ويجف النهر‪ ،‬وييبس‪ ،‬وتنتن األنهار‬
‫وتضعف‪ ،‬وتجف سواقي مصر»؛ وفي نفس السفر‪ ،‬وذات اإلصحاح في اآلية ‪2‬‬
‫جاء‪« :‬ويذوب قلب مصر داخلها‪ ،‬وأهيج مصريين على مصريين‪ ،‬فيحاربون‬
‫كل واحد أخاه‪ ،‬وكل واحد صاحبه ‪..)8(* ».‬‬

‫يقول د‪ .‬سعيد عاشور ‪« :‬أن هناك في المراجع العربية ما يشير إلى أن ملوك‬
‫الحبشة هددوا أكثر من مرة بتحويل مجرى النيل في بالدهم‪ ،‬وتجويع مصر‪،‬‬
‫وقد أرسل ألفونس ملك أرغونة إلى ملك الحبشة سنة ‪ ١٤٥٠‬يطلب منه العمل‬
‫على تحويل مجرى النيل‪ ،‬ولما اشتد النزاع بين المماليك‪ ،‬والبرتغاليين عقب‬
‫اكنشاف طريق رأس الرجاء الصالح أرسل البوكرك قائد األسطول البرتغالي‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )8‬ياسر بكر‪ ،‬حرب المعلومات‪ ،‬مطابع حواس ـ القاهرة ‪ 2017‬ـ ص ‪78‬‬

‫‪84‬‬
‫إلى ملك البرتغال يطلب إمداده بعدد من العمال المدربين على قطع الصخور‪،‬‬
‫وحفر األرض للعمل فوراً على تحويل مجرى النيل‪)9(*.».‬‬

‫كانت الكنيسة المصرية هي الدرع الواقي لنيل مصر من عدوان األحباش‬


‫بصفتها راعية للكنيسة الحبشية‪ ،‬وبعد خروج األحباش من راعيتها أثر خالف‬
‫سياسي بين الرئيس السادات وهيالسالسي ‪ ..‬بدأ إحياء المشروع وتحديثه؛ ‪..‬‬
‫ً‬
‫مقاال بعنوان‪« :‬مياه السالم» للمهندس‬ ‫ففي مارس ‪ 1974‬نشرت مجلة «أوت»‬
‫اليشع كلي مدير التخطيط طويل المدى في شركة تاحال‪ ،‬وهي شركة مساهمة‬
‫إسرائيلية تمتلك الحكومة اإلسرائيلية ‪ % 52‬من أسهمها‪ ،‬ويمتلك الباقي مناصفة‬
‫الوكالة اليهودية‪ ،‬والصندوق القومي اليهودي‪ ،‬كتب اليشع كلي‪:‬‬

‫«لحل مشكلة المياه التي ستضطر إسرائيل لمواجهتها لبضع سنوات قادمة‪،‬‬
‫رأى اليشع أن الحل في إحضار مياه من نهر النيل إلى النقب الشمالي»‪ ،‬وفي‬
‫إبريل ‪ 1974‬ومع أول زيارة لمندوب صندوق النقد الدولي لمصر لعرض‬
‫حزمة من إجراءات «االغتيال االقتصادي» لمصر‪ ،‬كانت هناك زيارة أخرى‬
‫متزامنة مع الزيارة المصرية لدولة أثيوبيا لعرض حزمة من اإلجراءات‬
‫عصبها «بيع المياه» لدول حوض النيل‪ ،‬وإسرائيل‪.‬‬
‫‪ ..‬وخالل االندفاع نحو الخصخصة كان كثير من الشركات الضخمة قد‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )9‬د ‪ .‬سعيد عبد الفتاح عاشور‪ ،‬أضواء على الحروب الصليبية‪ ،‬المكتبة الثقافية ‪ ،١١٨‬الثقافة واإلرشاد‬
‫القومي ‪ ..‬الدار المصرية للتأليف والترجمة ـ القاهرة ‪1964‬ـ ص ‪63‬‬

‫‪85‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬
‫وضعت نصب أعينها السيطرة على الشركات الصغيرة‪ ،‬ووضعت خطتها بـ‬
‫«خصخصة المياه » في أفريقيا‪ ،‬وأمريكا الالتينية‪ ،‬والمنطقة العربية ‪.‬‬

‫‪ ..‬وتم إحياء السيناريو الذي سبق أن تقدم به تيودور هرتزل في زيارة لمصر‬
‫في ‪ 25‬مارس عام ‪ ،1903‬تلك الزيارة التي عرض فيها على الخائن بطرس‬
‫نيروز غالي توصيل مياه النيل إلى سيناء؛ لتصبح وطناً بديال للفلسطينيين عن‬
‫أرضهم ‪ ..‬وجاء رفض الفكرة من قبل اللورد كرومر ألسباب تتعلق باستقرار‬
‫الوجود اإلنجليزي في مصر ‪.‬‬

‫‪ ..‬وتم حقن المشروع بالحياة في عهد الرئيس أنور السادات‪ ،‬كان السادات‬
‫بعد حدوث الثغرة‪ ،‬ووقوع الجيش الثالث الميداني في الحصار ال يستطيع أن‬
‫يعصي أمراً لألمريكيين الذين قايضوا على فك حصار الجيش الثالث الميداني‬
‫بتحقيق المطالب اإلسرائيلية‪ ،‬أو تجويع الجيش وإجباره على االستسالم‪،‬‬
‫واالنسحاب بدون سالح في سابقة هي األولى من نوعها في تاريخ الحروب‪.. ،‬‬
‫وتحققت أولى خطوات الحلم اإلسرائيلي في السيطرة على مياه النيل‪ ،‬وتحويلها‬
‫لصالح إسرائيل؛ بإعالن الرئيس السادات في يوم الثالثاء ‪ 27‬نوفمبر ‪1979‬‬
‫أثناء إعطاء إشارة البدء في حفر ترعة السالم فيما بين فارسكور والتينة عند‬
‫الكيلو ‪ 25‬طريق اإلسماعيلية ـ بورسعيد‪ ،‬وطلب من المختصين عمل الدراسات‬
‫لتوصيل مياه نهر النيل إلى مدينة القدس؛ لتكون مساهمة من الشعب المصري‬

‫‪86‬‬
‫لجعل مياه النيل في متناول المترددين على المسجد األقصى‪ ،‬ومسجد الصخرة‪،‬‬
‫وكنيسة القيامة‪ ،‬وحائط المبكى ‪.‬‬

‫‪ ..‬وقال ‪ « :‬باسم مصـر‪ ،‬وأزهـرها العظيم‪ ،‬وباسم دفاعــها عن اإلسـالم‬


‫تصبح ميـاه النيل هي «آبار زمزم» لكل المؤمنين باألديان السماوية‪ .. ،‬وكما‬
‫كان مجمع األديان في سيناء بالوادي المقدس طوى رمزا لتقارب القلوب في‬
‫دليال جديداً‬
‫ً‬ ‫وجهتها الواحدة إلى هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬كذلك ستكون هذه المياه‬
‫على أننا دعاة سالم‪ ،‬وحياة‪ ،‬وخير» ‪.‬‬

‫‪ ..‬كان السادات ال يتحرى الصدق في تصريحاته‪ ،‬وكان التالعب الساداتي بـ‬


‫«وعي الجماهير» يغلف الكارثة بطابع ديني ‪ ..‬رغم أن الدين ال يعني التفريط‬
‫في الحقوق الوطنية‪ ،‬وقد شاركت أجهزة اإلعالم في خداع الجماهير باالنحياز‬
‫الدائم لما يقوله بغرض إضفاء الشرعية الشعبية عليه‪ ،‬لكن بيجن في رده على‬
‫خطاب السادات بتاريخ ‪ 4‬أغسطس ‪ 1980‬قد فضح أكاذيب السادات؛ حيث‬
‫أوضح أنه لم يتم االتفاق على توصيل المياه إلى القدس‪ ،‬وإنما تم االتفاق على‬
‫توصيل المياه إلى النقب ‪.‬‬

‫‪ ..‬كان إعالن السادات عن كارثة توصيل مياه النيل إلسرائيل‪ ،‬وما سبقه‬
‫من إعالن السادات في يوم االثنين ‪ 23‬يوليو ‪ 1979‬عن إنشاء مجمع لألديان‬

‫‪87‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫فوق جبل موسى‪ ،‬يضم خمسة أبراج‪ ،‬ثالثة منها يعلوها الهالل والصليب‪،‬‬
‫والرابع تعلوه نجمة داود‪ ،‬أما الخامس فيضم الهالل والصليب ونجمة داود معاً‪،‬‬
‫وما اتبعه من أوامر لطبع الكتب المدرسية المشتركة بين اإلسالم والنصرانية؛‬
‫مما يكشف عن ماسونيته‪ ،‬فالماسونية دعوه مشبوهة للتآخي اإلنساني‪ ،‬وتنحية‬
‫األديان تحت شعار زائف ينادي بـ «أبوة هللا‪ ،‬وأخوة البشر»‪ ،‬وقد أشارت دائرة‬
‫المعارف الماسونية إلى أن المحفل الماسوني السوري في اجتماعه بتاريخ ‪21‬‬
‫فبراير ‪ 1958‬قد اعتمد أنور السادات أستاذا أعظم شرفيا في المحفل الماسوني‬
‫األكبر‪.‬‬

‫‪ ..‬رأى بعض المحللين أن تصرفات السادات محاولة لتقديم البدائل للصهاينة‬


‫بمد مياه النيل إلى صحراء النقب؛ لتكون عوضاً عن تخليهم عن الضفة الغربية‬
‫وقطاع غزة‪ ،‬وأن مجمع األديان بديل عن القدس التي تتمسك بها إسرائيل‬
‫عاصمة موحدة !!‬

‫وفي الوقت الذي أعلن فيه السادات توصيل مياه النيل إلى إسرائيل؛ لتكون‬
‫ماء زمزم الجديدة لجميع األديان ـ على حد قوله ـ ‪ ..‬أمعن في حرمان أهلنا في‬
‫سيناء من قطرة ماء تسقي عطشهم‪ ،‬وتروي أرضهم؛ فقد قام المهندس حسب‬
‫هللا الكفراوي وزير التعمير آنذاك بشق ترعة السالم فى أرض سهل الطينة تلك‬
‫األرض المتجددة الملوحة!!‬

‫‪88‬‬
‫حالة السخط الشعبي على مشاريع السادات‪ ،‬وسياسته التي انتهت باغتياله‪،‬‬
‫وأدت إلى تعثر إقامة تلك المشاريع‪ ،‬ولم يكن أمام الصهاينة سوى العبث بنيل‬
‫مصر عبر إغراءات تقدم لدول المنبع‪ ،‬فقد شاركت إسرائيل في إقامة ‪25‬‬
‫سداً من السدود التي نفذتها إثيوبيا على أراضيها خالل الفترة من أول نوفمبر‬
‫‪1989‬م‪ ،‬وحتى منتصف فبراير ‪ ،1990‬والتي يبلغ عددها ‪ 37‬سداً على النيل‬
‫األزرق وحده الذي يأتي منه خمسة أسباع مياه النيل‪.‬‬

‫وقد سعت إسرائيل بكل ما أوتيت من وسائل للسيطرة على منابع النيل؛‬
‫وكانت تنتظر قيام دولة جنوب السودان؛ لتباشر شراء مياه النيل منها؛ لتصل‬
‫إسرائيل عن طريق مصر بعد دفع رسوم المرور المقررة لذلك (‪ 4,5‬سنتات ـ‬
‫‪ 58‬قرشاً ـ عن كل متر مكعب)‪ ،‬وقد لعب البنك الدولي دورً ا مشبوهاً في تنفيذ‬
‫هذا المخطط؛ حيث سعى إلى تسهيل المخطط لتوصيل المياه إلى إسرائيل‪،‬‬
‫وبصورة قانونية‪ ،‬ولما حالت مصر دون تحقيق هذا األمر لجأت إسرائيل إلى‬
‫ورقة ضغط أخرى هي سد النهضة اإلثيوبي لخنق مصر‪.‬‬

‫‪ ..‬واليوم إسرائيل تسعى إللغاء اتفاقيات المياه الحالية عن طريق دعم دول‬
‫المنبع لتوقيع اتفاقيات جديدة مشتركة بينهم تتجاهل دول المصب‪ ،‬وتعيد تقسيم‬
‫حصص المياه بتعديل اتفاقية اإلطار التعاوني لصالح دول المنبع‪ ،‬وقد نجحت‬
‫إسرائيل حتى اآلن ـ جزئياً ـ في مساعيها حين قامت إثيوبيا‪ ،‬وتنزانيا‪ ،‬وأوغندا‬

‫‪89‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬
‫ورواندا في مايو ‪ 2010‬بالتوقيع على اتفاقية في عنتيبي‪ ،‬ولحقت بهم كينيا ثم‬
‫بوروندي في ‪ 2011‬بعد انفصال دولة جنوب السودان‪ ،‬وفي أول إبريل ‪2011‬‬
‫بدأت أثيوبيا في إنشاء «سد النهضة» ‪.‬‬

‫وفي ‪ 23‬مارس ‪ 2015‬وقع الرئيس عبد الفتاح السيسي‪ ،‬والرئيس السوداني‬


‫عمر البشير‪ ،‬ورئيس وزراء إثيوبيا هايلى ماريام خالل اجتماعهم بالخرطوم‬
‫وثيقة إعــالن المبادئ لـ «سد النهضة» اإلثيوبي‪ .. ،‬ولم تتضح لنا وسط أجواء‬
‫التعتيم االطالع ـ حتى اآلن ـ على مالمح بنود وثيقة المبادئ‪.‬‬

‫خطورة المشروع معناه نقل مياه النيل إلى النقب الشمالي الغربي؛ لتتصل‬
‫هذه القنوات الجديدة بالقنوات القديمة المنبثقة من نهر األردن‪ ،‬وتتصل مياة‬
‫النيل بمياه نهر األردن‪ ،‬وتمتد شبكة األنهار إلى الجنوب لتعمير النقب بشرياً‪،‬‬
‫وزراعيا ً‪ ،‬وصناعيا ً‪ ،‬وذريا!!‬

‫واقترنت األفعال المشبوهة بلغة مراوغة أبدعتها الديبلوماسية البريطانية يما‬


‫لها من مورث تاريخي في تضييع الحقوق بما لها من قدرة توظيف «خداع اللغة»‬
‫للترويج اإلعالمي إلحداث لمعان زائف على الكلمات وصياغة تعابير منقطعة‬
‫الصلة بالقانون‪ ،‬وال تتفق مع الطبيعة الجغرافية لألنهار‪ ،‬وال المعايير الدولية‬
‫للتعامل بشأنها كطرح مصطلح (األنهار العابرة للحدود)‪ً ،‬‬
‫بدال من (األنهار‬

‫‪90‬‬
‫الدولية)‪ ،‬و(االستخدام األمثل‪ ،‬والتوزيع المنصف‪ ،‬والمعقول) ً‬
‫بدال من (توزيع‬
‫الحصص)‪ ،‬ومصطلح (المياه المتصرفة) ً‬
‫بدال عن (المياه المتدفقة)‪)10(*.‬‬

‫***‬
‫‪ ..‬ليتحول «اإلنسان المصري» بدون النيل‪ ،‬وفي ظل حالة «االنهيار‬
‫الحضاري» إلى «كائن سائل» بدون هوية‪ ،‬أو ثقافة‪ ،‬وليس له طعام أو مأوى‬
‫إال في (مزابل) النفايات!!‬

‫اإلنهيار الحضاري ‪:‬‬


‫ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫اإلنهيار الحضاري هو حالة الجفاف التي تصيب الحياة العقلية‪ ،‬والتوقف‬


‫الفعلى للعقل التأملي الفعال الذي يطرح على مائدة البحث شتى معضالت الوجود‬
‫الكوني‪ ،‬واالجتماعي‪ ،‬ويشحذ االجتهاد المعرفي‪ ،‬ويدفعة لالكتشاف‪ ،‬وترجمة‬
‫الكشوف العلمية‪ ،‬والمعرفية في مبتكرات تفتح سلسلة منها قنوات‪ ،‬ومسارات‬
‫لتدفق الفعل الحضاري ‪.‬‬

‫‪ ..‬وهى حالة من الموات تنذر بأن التاريخ االجتماعي‪ ،‬والمعرفي لإلنسان‬


‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )10‬ياسر بكر‪ ،‬حرب المعلومات‪ ،‬مرجع سابق ـ ص‪80 : 72‬‬

‫‪91‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬
‫يعاني حالة من الجدب التي تجعله غير قادر على التفكير‪ ،‬واإلبداع‪ ،‬واالبتكار‪،‬‬
‫والتجديد في شتى مناحي الحياة‪ ،‬وتقديم المبادرات الحضارية‪ ،‬واالرتياد‬
‫المستمر للمجاهل للتحرر من من حالة الركود الحضاري‪ .. ،‬وال تصبح للحياة‬
‫العقلية قيمة تتعدى اإلطناب‪ ،‬والتفصيل‪ ،‬والرطانة‪ ،‬والطنطنة على هامش ما‬
‫يملكة من معارف قديمة‪ ،‬وإجابات معلبة‪ ،‬ونماذج‪ ،‬وقوالب جاهزة‪.‬‬

‫وأصبح طرح السؤال واجباً ‪ :‬عما إذا كانت العلوم المسماة إنسانية‪ ،‬هي‬
‫ً‬
‫فعال إنسانية؟!‬
‫‪ ..‬وهو ما أصبح محل شك !!؛ لوجود مجموعة عوامل تؤثر سلباً في إنسانية‬
‫العلوم اإلنسانية‪ ..،‬والحقيقة أنه يمكن الوثوق بالنظرية في العلوم الطبيعية‪،‬‬
‫والتطبيقية؛ ألن نتائجها بادية للعيان‪ ،‬وقابلة لالختبار أما النظرية في العلوم‬
‫االجتماعية‪ ،‬واإلنسانية فال يمكن الوثوق بها‪ ،‬ويذهب البعض إلى أنه يمكن‬
‫االنطالق من دون نظرية في بعض المجاالت‪ ،‬ويستدلون على ذلك بأن علماء‬
‫الحضارة اإلسالمية لم ينطلقوا من نظريات بعينها‪ ،‬رغم أن مطالعة أي كتاب‬
‫ً‬
‫ونسقا نظريًا محكمًا سواء في الصياغة أو في‬ ‫لهم يشي بأن وراءه منطقا‪،‬‬
‫األدوات المستخدمة أو في نظام االستدالل أو في التقسيم المنهجي‪ ،‬وإلحاق‬
‫الفرع باألصل‪ ،‬والمثيل بمثيله‪ ،‬والنظير بنظيره‪ ،‬األمر الذي يبرهن على وجود‬
‫إطار نظري كامن إذ ال يمكن تصور عمل معرفي من دونه‪ ،‬وإذا كانت النماذج‬
‫النظرية أو النظرية االجتماعية حاضرة في أي عمل بحثي‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫‪ ..‬عانت العلوم االجتماعية قي الفكر األوربي من سيطرة نظريات زائفة‪،‬‬
‫ومناهج العلوم الطبيعية الزائفة‪ ،‬وليس أدل على ذلك من دعوتها إلى «الحداثة»‬
‫من خالل خزعبالت داروين التي تم حقنها بالحياة على يد ريتشارد دوكنز‬
‫والتي ال‬ ‫األعمى»*(‪)11‬‬ ‫فيما أسماه بـ «االدارونية الجديدة ‪ ..‬صانع الساعات‬
‫تزيد عن كونها مساجالت نظرية تستهدف السفسطة‪ ،‬وملء الفراغ‪ ،‬والتسويغ‬
‫لال أخالقيات إلقاء البشر في سالل المهمالت‪ ،‬ومزابل النفايات‪ ،‬فـ «الحداثة»‬
‫تعاملت مع اإلله بجهالة وسوء أدب مع هللا «صانع الساعات األعظم سبحانه‬
‫وتعالى»‪ ،‬ومع العالم بوصفه الساعة التي تعمل من دون الحاجة إلى تدخل أى‬
‫قوة خارجية أو التي حولت العالم إلى غابة دارونية‪ ،‬والبشر إلى نباتات عضوية‬
‫أو حيوانات مفترسة !! ‪.‬‬

‫‪ ..‬يؤكد دوكنز بال دليل أن االنتخاب الطبيعي الذي يتحكم في اتجاه التطور‬
‫هو ال عشوائي‪ ،‬وإن كان في نفس الوقت ال يتجه لهدف في المستقبل‪ ،‬وهو إذ‬
‫يؤدي إلى تصميمات مركبة؛ فهو بمثابة صانع ساعات معقدة‪ ،‬ولكنه صانع‬
‫ساعات أعمى بال رؤية وبال غرض ‪.‬‬

‫لم يستطع دوكنز أن يفسر كيف بدأ االنتخاب الطبيعي في عالمنا‪ ،‬ولم يشير‬
‫استغالال سياسياً لتبرير الحروب على أنها‬
‫ً‬ ‫إلى استغالل تلك األراء المزيفة‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )11‬ريتشارد دوكنز ‪ ..‬الدارونية الجديدة ‪ ..‬صانع الساعات األعمى‪ ،‬ترجمة مصطفى ابراهيم فهمي‪ ،‬ط‬
‫‪ ،2‬دار العين للنشر ـ القاهرة ‪2002‬‬

‫‪93‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫وسيلة لبقاء األصلح أو تبرير السلطة‪ ،‬والثروة بمزاعم عن الحتمية الوراثية‬


‫لذلك ‪.‬‬

‫‪« ..‬صانع الساعات األعمى» عنوان اقتبسه دوكنزمن رسالة «الالهوت‬


‫الطبيعي» للقس وليم بالي أحد علماء الالهوت في القرن التاسع عشر‪ ،‬والتي‬
‫نشرها في عام ‪ ،1802‬والتي يبدأها بالي بفرضية ليصل من خاللها إلى نتيجة‬
‫هزلية بقوله ‪:‬‬

‫وسئلت‬
‫«لنفترض أنني أثناء عبور مرج حطت قدمي على قطعة حجر‪ُ ،‬‬
‫كيف وصل الحجر إلى هناك‪ ،‬لعلى أجيب بأني ال أعلم؛ فربما يقبع هناك منذ‬
‫األبد‪ ،‬ولكن لنفرض أني وجدت ساعة على األرض‪ ،‬وأنه ينبغي البحث عن‬
‫كيف حدث أن وجدت الساعة في ذلك المكان؛ فلن أجيب تلك اإلجابة التي سبق‬
‫أن أدليت بها بشأن الحجر‪ ،‬وهذا هو الفرق بين األشياء الفيزيائية كالحجارة‪،‬‬
‫واألشياء المصممة المصنوعة مثل الساعات إذ ينبغي أن يكون للساعة صانع‬
‫صمم تركيبها‪ ،‬وأدرك استخدامها؛ فصانع الساعات له تبصر بتصميم تروسه‬
‫وزنبركاته‪ ،‬ويخلط ما بينها من ترابطات‪ ،‬وقد وضع نصب عينيه هدف مستقبلي‬
‫أما ما يصنع الساعات في الطبيعة هو «االنتخاب الطبيعي» الذي اكتشفه داروين‬
‫في تلك العملية األتوماتيكية العمياء غير الواعية التي بال عقل‪ ،‬وال تخطط‬
‫للمستقبل‪ ،‬والتى يقال عنها أنها تلعب دور صانع الساعات في الطبيعة‪ ،‬فهو‬

‫‪94‬‬
‫صانع ساعات «أعمى» ‪..‬‬

‫***‬

‫‪ ..‬الدارونية أسطورة ساذجة من الممكن أن تصلح نموذجاً تفسيريا لألغبياء‬


‫لتبرير أفعال االفتراس الطبقي‪ ،‬والغصب‪ ،‬والقتل‪ ،‬والعدوان‪ ،‬ونهب الشعوب!!‬
‫‪ ..‬لكنها ال تمت للعلمية بصلة !! بناء على الجزم بأنه‪« :‬ال منطق لالكتشاف»‪.‬‬

‫‪ ..‬الدارونية منظومة تستند إلى خرافة همجية ال تميز بين اإلنسان‪ ،‬واألشياء‬
‫بمعنى أن القوة هي المعول عليه األساسي لإلستراتيجية األمريكية أي أن عقيدته‬
‫أو ديانتها هى «القوة» بحيث تصبح الذات األمريكية التي حملت السالح هي‬
‫إله الكون الذي يحدد كل شيء‪ .. ،‬والداروينية هي أيضا المرجعية النهائية‬
‫للنشاط االقتصادي الرأسمالي؛ فاإلستهالك في مجتمع المستهلكين ليس إشباع‬
‫الحاجات‪ ،‬والرغبات‪ ،‬واألمنيات بل تسليع المستهلك أو إعادة تسليعه‪ ،‬إنه رفع‬
‫حال المستهلكين إلى حال السلع القابلة للبيع‪ ،‬وهو ما يمكن المجتمع من سهولة‬
‫التخلص منهم على شكل نفايات؛ فإن الصناعة األكثر رواجاً في «المجتمع‬
‫السائل» هي صناعة «التخلص من النفايات»‪ ،‬بل سرعة ومهارة التخلص‬
‫من النفايات ‪ ..‬إذ أن بقاء ورفاهية أفراد المجتمع يقاسان بمدى سرعتهما في‬

‫‪95‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫التخلص من المنتجات‪ ،‬والبضائع‪ ،‬وإرسالهما مستوع النفايات‪ ،‬ولم تقتصر‬


‫صناعة النفايات على البضائع‪ ،‬والمنتجات المادية بل تعدتها إلى المنتوجات‬
‫البشرية ألن من أهم سمات الحداثة السائلة إنتاج معدالت ضخمة من النفايات‬
‫البشرية بفضل ابتكار حديث وهو ‪« :‬صناعة التخلص من من النفايات»‪،‬‬
‫وقد انتعشت هذه الصناعة بحسب باومان بفضل تحول الكثير من أنحاء الكرة‬
‫األرضية إلى سالل مهمالت أو (مزابل) التخلص من البشر ‪.‬‬

‫الدارونية والبستنة ‪:‬‬


‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫تعد «ثقافة البستنة»‪ ،‬و«إنتاج نفايات البشر» هما إعادة صياغة لـ‬
‫«الدارونية»؛ فـ «ثقافة البستنة» يتم الترويج لها باعتبارها خطة لحياة مثالية‪،‬‬
‫وتنظيم مثالي لألوضاع االنسانية؛ لكونها ثقافة تُستمد من االرتياب في الطبيعة‬
‫العفوية لتصبح بذلك ثقافة اإلبادة‪ ،‬والتخلص من البشر؛ «ثقافة البستنة» ابتدعها‬
‫األمريكان لشرعنة اإلبادة؛ لتصبح تلك الثقافة للتخلص من البشر ثقافة إعتيادية‬
‫بزعم تطهير المجتمعات من اإلرهاب‪ ،‬ونشر الديمقراطية‪ ،‬وغيرها من الحجج‬
‫التي تبيح رمي البشر في مزابل النفايات البشرية التي أعدت بعناية في بعض‬
‫أماكن الكرة األرضية !!‬

‫‪96‬‬
‫‪« ..‬البستنة» مشتقة من لفظ «البستان»‪ ،‬والقائم عليه هو «البستاني‬
‫األمريكي» الذي يحدد ماهية الحشائش الضارة‪ ،‬ويقرر إزالتها ألن التخلص‬
‫منها عمل بناء ال هدام ‪ ..‬يقوم به البستاني بعمله بشكل روتيني يومي‪ ،‬وبهذه‬
‫الطريقة تتم عملية إبادة البشر الضارين غير النافعين!!‬

‫‪ ..‬والحقيقة أن هناك مشكلة أساسية تواجه المجتمع المنتظم حول قيم «نفعية»‪،‬‬
‫وهي التخلص من البشر «غير المفيدين» أو السمات «عديمة الجدوى» عند‬
‫اإلنسان‪ ،‬والسيطرة عليها؛ فمثل هؤالء البشر قد يفصلوا‪ ،‬ويعزلوا أيكوجياَ في‬
‫جيتوهات‪ ،‬أو مناطق منعزلة مكانياً حيث ال تثير رؤيتهم ألم المفيدين ‪.‬‬

‫الدارونية والبرجماتية ‪:‬‬


‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫الدارونية هى منطق األقوياء الذين أرسوا مبدأ ‪«:‬البقاء لألقوى»‪ ،‬وهم‬


‫يدركون أن على الضعفاء اإلذعان لهم‪ ،‬والتكيف مع الواقع الذي تمليه إرادتهم‪،‬‬
‫و«البرجماتية» بكل ال أخالقياتها شكل من أشكال «دارونية الضعفاء‪،‬‬
‫والمهزومين‪ ،‬والمهمشين»‪ ،‬ومرجعية التافهين في تسيير أمور حياتهم‬
‫الخاصة‪ ،‬وفي تفاعلهم مع بعضهم البعض خارج إطار الدولة ‪..‬‬

‫‪97‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫‪ ..‬تلك البرجماتية التي تفسر ظاهرة تنامي ‪« :‬الكائن السائل» في الشارع‬


‫المصري الذي أصبح مجتمع لالنكسار‪ ،‬وتصدع الروابط االنسانية‪ ،‬والتي‬
‫يلخصها الفكر الشعبي العامي في مقولتي ‪«:‬اللي تغلب به ‪ ..‬إلعب به»‪،‬‬
‫و«كل واحد بيقول ‪ :‬هللا نفسي‪».‬؛ الذي كشف عن داء عضال ينهش في كيان‬
‫المجتمع‪ ،‬وينبئ عن حالة وصفها عالم االجتماع المجري كارل مانهيام (‪-1893‬‬
‫اجتماعيا»*(‪)12‬‬ ‫‪ )1947‬باسم ‪« :‬حالة األنوميا ‪ »Anomie‬وتعني ‪« :‬خواءً‬
‫وتتلخص أعراضها في تفكك الروابط بين الفرد ومجتمعه‪ ،‬وتعرض البنية‬
‫المجتمعية للتكسر والتحلل‪ ،‬وشيوع الجريمة‪ ،‬والفوضى‪ ،‬والتفكك األسري‪،‬‬
‫واالنهيار الحضاري ألن الوجود الفردي لم يعد راسخ الجذور في وسط مجتمع‬
‫ثابت ومتكامل وموحد‪ ،‬ويفقد الشطر األكبر من نشاط الحياة معناه‪ ،‬ودالالته‪،‬‬
‫واتجاهه‪ ،‬حتى وإن ظلت هناك قوة تحمل اسم «الدولة» تبطش بالمستضعفين‬
‫حفاظاً على هيكل السلطة ‪ ..‬ولكن بنية المجتمع باتت بنية عقيم مصابة بحالة‬
‫من فقدان المناعة ‪.‬‬

‫‪ ..‬مفهوم «األنوميا ‪ »Anomie‬عند اميل دوركايم التي وصفها في كتابه‪:‬‬


‫«االنتحار»)؛ يقترب من حالة السيولة عند زيجمونت باومان إذ يرى دور كايم‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫* (‪ )12‬شوقي جالل‪ ،‬التراث والتاريخ ‪ ،‬كتب عربية‪ ،‬القاهرة ‪ 2006‬ـ ص‪97‬‬

‫‪98‬‬
‫أنها حالة من االضطراب‪ ،‬والقلق لدى األفراد نـاجمة عن إنهيار المعايير‪،‬‬
‫والقيم اإلجتمـاعية‪ ،‬أو االفتقـار إلى الهدف‪ ،‬والمثل العليا‪.‬‬

‫دخل المصطلح إلى علم االجتماع على يد عالم االجتماع المجري كارل‬
‫مانهيام (‪ ،)1947-1893‬وبني عليه عالم االجتماع إميل دوركـايم عام‬
‫‪ ،1897‬في كتابه «االنتحار»*(‪ ،)13‬وتتجلى حالة األنوميا عند دوركـايم في‬
‫ظل حالة التفكك التنظيمي لمؤسسات المجتمع‪ ،‬وانهيار المعايير‪ ،‬واالنفصال‬
‫بين األهداف االجتماعية المعلنة‪ ،‬والوسائل الصحيحة لتحقيق هذه األهداف‪،‬‬
‫ويشعر المرء سيكولوجيا باالغتراب‪ ،‬والعبثية‪ ،‬واإلنهيار األخالقي مما ينعكس‬
‫سلباً‪ ،‬وعزلة‪ ،‬وانحراف؛ فاألنوميا هي ثورة الفرد على كل معايير المجتمع‬
‫من تقاليد‪ ،‬وأعراف‪ ،‬و دين إلخ‪ ،‬وقد تحدث إميل دوركايم في هذا الصدد عن‬
‫اإلنتحار األنومي‪ ،‬وهو إنتحار ناتج عن كسر الفرد لمعايير مجتمعه‪ ،‬والتخلي‬
‫عنها‪ ،‬في هذه الحالة يصبح الفرد يعاني من حالة إغتراب داخل المجتمع تؤدي‬
‫به إلى العزلة‪ ،‬واإلنفراد لينتج عنهم اإلنتحار ‪.‬‬
‫***‬

‫مرسال‪ ،‬ومطلقاً على عواهنه‪ ،‬أو مجرد توهمات‬


‫َ‬ ‫‪ ..‬وكي ال يكون الكالم‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )13‬أميل دور كايم‪ ،‬االنتحار‪ ،‬ترجمة ‪ :‬حسن عودة‪ ،‬الهيئة العامة السورية للكتاب ـ دمشق ‪٢٠١١‬ـ ص‬
‫‪498‬‬

‫‪99‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫تحت تأثير حالة مزاجية عارضة نستشهد بدراسة علمية جرت بمعرفة مركز‬
‫الدراسات االجتماعية بجامعة القاهرة برعاية وزارة التنمية اإلدارية‪ ،‬ومركز‬
‫المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء بعنوان‪« :‬األطر الثقافية الحاكمة‬
‫والفساد»*(‪. )14‬‬ ‫لسلوك المصريين واختيارتهم ‪ ..‬دراسة لقيم النزاهة والشفافية‬

‫شهـدها المجتمع المصري تركت‬ ‫‪ ..‬أكدت الدراسة أن «التغيرات التي ِ‬


‫آثارا كبيرة علي سلو ِكـيات المواطنين‪ ،‬ومنظومة ال ِقـيم‪ ،‬وشكل األطر الثقافية‪،‬‬
‫واالجتماعية»‪..‬‬

‫‪ ..‬نفضت الدولة يديها من مسئوليتها؛ بما فتح المجال للمبادرات الشخصية‪،‬‬


‫ولألفراد إليجاد حلول فردية لكثير من المشكالت االجتماعية باالعتماد على‬
‫إمكانيات ضئيلة‪ ،‬ووسائل غير كافية تماماً‪ ،‬وغير واعية باقدر الكافي‪ ،‬وينجم‬
‫عنها حلول «ظرفية مؤقتة‪ ،‬ومتعجلة»‪ ،‬وغير مجدية‪ ،‬وال تصلح ألن تكون‬
‫ً‬
‫حلوال على المدى البعيد‪ ،‬وسرعان ما نجد أنفسنا مضطرين إلى البحث عن حلول‬
‫أخرى؛ بما أدخلنا في وضع مأساوي حالك السواد لخصه د‪ .‬نزيه األيوبي في‬
‫مقولة ‪«:‬دولة ضارية‪ .. ،‬ومجتمع مهمش»؛ وألنه ال يمكن فهم مأساة المجتمع‬
‫العربي‪ ،‬وتخلف العلوم اإلنسانية فيه‪ ،‬وعجز األنموذج اإلرشادي (باراديم)‪،‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫* (‪ )14‬وزارة الدولة للتنمية اإلدارية‪ ،‬لجنة الشفافية والنزاهة‪« ،‬األطر الثقافية الحاكمة لسلوك المصريين‬
‫واختيارتهم ‪ ..‬دراسة لقيم النزاهة والشفافية والفساد»‪ ،‬ـ القاهرة ‪2009‬‬

‫‪100‬‬
‫وقلة حيلة علماء االجتماع‪ ،‬وحيرتهم دون فهم الطبيعة التسلطية ألنظمة الحكم‪،‬‬
‫وطبيعة الدولة السلطانية القائمة على القبلية‪ ،‬والعصبية‪ ،‬وطبيعتها الغنمية‬
‫للقائمين عليها‪ ،‬ومواليهم بتقسيم الجماهير إلى‪« :‬أولئك الذين معنا»‪ ،‬و«أولئك‬
‫الذين ليسوا معنا» ‪ ..‬وتقديم المكافآت السخية لـ «أولئك الذين معنا»‪ ،‬ومقاطعة‬
‫«أولئك الذين ليسوا معنا» ‪ ..‬أما أصوات الذين يشعرون بالنفور فيتم إغرق‬
‫أصواتهم بضجيج الدهماء من خالل االتهام بالتخوين‪ ،‬والعمالة‪ ،‬أو على األقل‬
‫يتم وصفهم بـ «القلة المندسة» أو «القلة الحاقدة» وترسيخ يقين أن «القيادة‬
‫تعرف أكثر»‪ ،‬و«أنك ليست لديك الصورة الكاملة» مع التلويح بالنبذ لمن‬
‫يظهرا رأياً متفرداً بغرض التخويف من اإلقصاء‪ ،‬أو نقص المكانة‪ ،‬أو إنهاء‬
‫الوجود ذاته ‪ ،..‬أما األشخاص الذين يقفون في منطقة الحياد‪ ،‬فيجب إغراقهم‬
‫في الضجيج‪ ،‬بحيث ال يحظى اإلنسان بفواصل كافية من الصمت؛ كى يركز‪،‬‬
‫ويكمل عملية التفكير حتى النهاية بالمعنى المترابط‪ ،‬وقد برزت في الغرب‬
‫المعاصر ظاهرة عرفت بـ «ديمقراطية الضجيج»‪ ،‬وهؤالء عادة ليس لهم أي‬
‫تأثير في الواقع‪ ،‬وال يتم استدعاؤهم سوى إلظهار التأييد للوضع القائم فقط؛‬
‫لينصرفوا بعد ذلك إلى البقع المعتمة دون الحصول على شيء!!‪.‬‬

‫يدخل تحت ما يسمى بـ «ديمقراطية الضجيج» إغراق الخبر الذي يستحيل‬


‫تجنبه في تيار عشوائي من المعلومات الخالية من أي معنى‪ ،‬والمبتذلة أو عبر‬
‫ما يسمى «الحقن بالحلم» عبر نشر األخبار المبهجة !!‬

‫‪101‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫‪ ..‬يقول شيللر‪:‬‬

‫«كما تعيق الدعاية التركيز‪ ،‬وتنشر المعلومة المقطوعة الصلة باالتزان‪ ،‬فإن‬
‫تقنية معالجة المعلومة الجديدة تسمح بملء األثير بتيارات من المعلومات غير‬
‫الضرورية‪ ،‬التي تُ ِّ‬
‫عقد على الفرد أكثر عملية البحث اليائسة عن المعنى‪.».‬‬

‫ً‬
‫أوال ‪ :‬الدولة العربية‪:‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫حاولنا أن ننقل سمات وطبيعة الدولة العربية من خالل رؤى أربع من أساطين‬
‫الفكر السياسي العرب ‪ ،‬وهم ‪ :‬د‪ .‬نزية نصيف األيوبي‪ ،‬ود‪ .‬محمد السيد سعيد‪،‬‬
‫ود‪ .‬وائل حالق‪ ،‬ود‪ .‬هبة رءوف عزت من خالل أطروحاتهم المنشورة ‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ د‪ .‬نزية نصيف األيوبي ‪:‬‬


‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫‪ ..‬ينقلنا د‪ .‬األيوبي إلى مأساة الدولة العربية بكل ما تحمله من تخلف في‬
‫مؤلفه بعنوان ‪« :‬تضخيم الدولة العربية»*(‪ ،)15‬والذي صدر في النصف الثاني‬
‫من تسعينيات القرن العشرين باإلنجليزية‪ ،‬وصدرت ترجمته العربية في عام‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )15‬نزية ن‪ .‬األيوبي‪ ،‬تضخيم الدولة العربية ‪ ..‬السياسة والمجتمع في الشرق األوسط‪ ،‬ط ‪ ،١‬ترجمة أمجد‬
‫حسين‪ ،‬المنظمة العربية للترجمة ـ بيروت ‪2010‬‬

‫‪102‬‬
‫‪ ،٢٠١٠‬يبدأ هذا العمل الموسوعي بافتراض مقتضاه أنه بالرغم من أن معظم‬
‫الدول العربية هي دول صلبة وضارية‪ ،‬فإن قلة قليلة منها هي التي يمکن أن‬
‫ً‬
‫جيوشا وبيروقراطيات‪،‬‬ ‫نعتبرها دولاً قوية حقيقة؛ فمعظم هذه الدول تمتلك‬
‫وسجو ًنا متعددة‪ ،‬ولكنها تفتقر إلى القدرة فيما يتعلق بجباية الضرائب أو کسب‬
‫الحروب أو حتى في تشكيل إطار أيديولجي لقيادة مجتمعاتها بشکل يتجاوز‬
‫استعمال القوة القهرية‪ ،‬ويتبنى الكتاب منهج االقتصاد السياسي لتحليل اثنتي‬
‫عشرة دولة عربية (مصر‪ ،‬وسوريا‪ ،‬والعراق‪ ،‬واألردن‪ ،‬والمملکة العربية‬
‫السعودية‪ ،‬والکويت‪ ،‬واإلمارات العربية المتحدة‪ ،‬ولبنان‪ ،‬واليمن‪ ،‬وتونس‪،‬‬
‫والمغرب) بشكل أساسي مع اإلشارة إلى حالة ترکيا وإيران کلما لزم األمر‬
‫الختبار الفرضية السابق اإلشارة إليها؛ وحاول األيوبي من خالل الکتاب تحقيق‬
‫هدفين رئيسين‪:‬‬

‫األول ‪ :‬يتعلق باختبار صحة فرضية خصوصية المنطقة العربية بشکل‬


‫يستدعي تفسيرات خاصة‪ ،‬وفردية لتحليل کل ظواهرها‪.‬‬

‫الثاني ‪ :‬يتعلق بقراءة العالقة بين االقتصاد السياسي‪ ،‬والثقافة السياسية‬


‫لهذه الدول ‪ -‬والمنطقة العربية بشكل أکبر‪ -‬من خالل استقراء کتابات الباحثين‬
‫العرب أنفسهم‪.‬‬
‫‪ ..‬وناقش األيوبي بقدر کبير من التفصيل الكتابات النظرية حول فكرة‪،‬‬

‫‪103‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬
‫ومفهوم الدولة خاصة من وجهة نظر المارکسيين القدامى‪ ،‬والجدد وإن کان‬
‫خاصا لتحليل جرامشي عن نظرية الدولة‪ ،‬وخاصة مفهومي‬
‫ًّ‬ ‫أولى اهتمامًا‬
‫الهيمنة‪ ،‬والتشارکية‪ ،‬کما ناقش بقدر من االستفاضة تأثر علماء السياسة العرب‬
‫المعاصرين في نظرتهم للدولة بالمدرسة السلوکية األمريکية‪ ،‬ومقوالتها الرئيسة‬
‫بالرغم من التباعد بين بيئة مفاهيم هذه المدرسة‪ ،‬وبيئة الدول العربية التي يراها‬
‫األقرب لتحليل جرامشي ومدرسته‪ ،‬فالدولة في المنطقة العربية وغيرها من‬
‫مناطق العالم غير األوربي قد تطورت بشکل قانوني رسمي (من حيث عالقتها‬
‫بالتراث االستعماري)‪ ،‬وإن لم تتطور بنفس الدرجة بالمعنى السوسيولوجي‬
‫(بمعنى عالقتها بالمجتمع)‪ ،‬کما عانت من النمو غير المتوازن في قطاعات‬
‫االقتصاد‪ ،‬والتنمية لصالح النمو في قطاع البيروقراطية‪ ،‬وأجهزة القمع‪ ،‬وقدم‬
‫األيوبي قراءة نقدية تفصيلية لعالقة العرب بالدولة‪ ،‬وخاصة تطور نظرتهم من‬
‫المجال اإلسالمي (األمة) للمجال الدولتي (الدولة بمعناها الحديث)‪ ،‬وما ارتبط‬
‫بها من مفاهيم العدل أو الحرية أو غيرها‪.‬‬
‫‪ ..‬يستقرئ األيوبي أفكار کل من حامد ربيع حول الوظيفة السياسية‪ ،‬والدعوية‬
‫للدولة في التراث اإلسالمي مقارنة بالدولة في الفكر األوربي‪ ،‬وتأثير ذلك على‬
‫تطور الدولة‪ ،‬وغربتها عن السياق العربي*(‪ ،)16‬وأفکار عبد هللا العروي حول‬
‫عالقة الفرد بالدولة في مسيرتها التاريخية والتي يمکن القول إن الدولة ظلت‬
‫ً‬
‫جهازا غريبًا عن المجتمع؛ يتحکم في حياته‪ ،‬وإن کان ال يعبر عنه*(‪ )17‬ويخلص‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )16‬نزيه األيوبي ‪ ،‬مرجع سابق ـ ص ‪64‬‬
‫*(‪ )17‬نزيه األيوبي ‪ ،‬مرجع سابق ـ ص ‪75‬‬

‫‪104‬‬
‫إلى مناقشة مطولة نسبيًّا حول مفهوم الدولة‪ ،‬والمفاهيم المتصلة به من وجهة‬
‫نظره‪ ،‬والتي يمکن تلخيصها في ثالث مفاهيم ‪ :‬التشارکية في المصالح بين‬
‫مجموعة ضيقة من النخب‪ ،‬والهيمنة‪ ،‬والالتوازن في السيطرة‪.‬‬

‫ينتقل األيوبي بعد ذلك لمناقشة العالقة بين أنماط اإلنتاج‪ ،‬وأصول الدولة‬
‫العربية اإلسالمية‪ ،‬وتشکل الدولة في العصر الحديث‪ ،‬وتأثير االستعمار عليها‪،‬‬
‫ويرکز في فصل خاص على دراسة فکرة الوحدة العربية‪ ،‬وعالقتها بالدولة‬
‫القطرية‪ ،‬ويختبر فرضياته المنطلقة من االقتصاد السياسي‪ ،‬واقتراب الثقافة‬
‫السياسية في دراسة ما أسماهم بالجمهوريات الراديکالية الشعبوية‪ ،‬والملکيات‬
‫المحافظة القائمة على أساس القرابة‪ ،‬وينتقل بعد هذا إلى دراسة تفاصيل عالقات‬
‫القوى في داخل الدول العربية‪ ،‬وانعکاسات مفهوم الهيمنة کما قدمه في البداية‬
‫من خالل دراسة العالقات المدنية العسکرية‪ ،‬والنمو البيروقراطي باإلضافة‬
‫إلى ظاهرة الخصخصة‪ ،‬ومستقبل الديمقراطية‪ ،‬وخاصة دور المجتمع المدني‪،‬‬
‫وينتهي بفصل خاص عن الدولة القوية والصلبة والضارية‪ ،‬والذي يعيد فيه‬
‫مناقشة الفروق بين الدول القوية القادرة على التغلغل في مجتمعاتها من خالل‬
‫شبکة عالقات‪ ،‬ومصالح معبرة عن المجتمع‪ ،‬ويقارن هذا المفهوم بالدولة الصلبة‪،‬‬
‫والتي يميزها من خالل قدرتها على السيطرة األمنية على مجتمعاتها دون قدرة‬
‫على السيطرة بنفس الشکل في مسائل إنفاذ القانون أو القدرة التوزيعية‪ ،‬وتتميز‬
‫الدولة الضارية باستبدادها بمجتمعها على جميع األصعدة‪ ،‬ويؤکد األيوبي على‬

‫‪105‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫ضرورة التفرقة بين الدولة القوية‪ ،‬وقوة الدولة على مستوى مؤسسات األمن‬
‫والبيروقراطية‪ ،‬فالدولة العربية في وجهة نظره هي دول ضعيفة في مجتمعات‬
‫قوية‪ ،‬ويحاول االستدالل على هذه النتيجة من خالل تحليل مفصل للنظم‬
‫الضرائبية في الدول العربية‪ ،‬وکيف أن فلسفتها‪ ،‬وطريقة تطبيقها‪ ،‬والتداعيات‬
‫السياسية‪ ،‬واالقتصادية المترتبة عليها تؤکد ضعف الدولة‪ ،‬وينتهي باستنتاج‬
‫يراه واضحً ا؛ إذ إنه ليس من الضرورة أن تنمو الدولة بشکل استبدادي على‬
‫حساب المجتمع؛ فمن الممكن لالثنين أن يزدهرا معًا‪.‬‬

‫‪ ..‬الخط الحاکم لتحليل األيوبي للدولة العربية‪ ،‬وتضخيمها هو االقتصاد‬


‫السياسي‪ ،‬وعنصر الثقافة السياسية اللذان يقدمان في نظره تفسيرً ا للخصوصية‬
‫العربية دون اإلغراق في الحديث عن فردية التجربة‪ ،‬على مستوى آخر فهناك‬
‫تساؤل مشروع عن قدرة هذا العمل على تقديم تفسير لظاهرة الدولة الحديثة‪،‬‬
‫ومشکالتها خارج الدول االثنتي عشرة التي درسها في السياق العربي؛ فمحاولة‬
‫اإلجابة عن کل شيء قد تصل بنا إلى عدم القدرة على اإلجابة عن أي شيء‪.‬‬

‫ولکن في کل األحوال تظل الدولة‪ /‬السلطة هي المفهوم‪ ،‬والظاهرة األهم‬


‫في المخيال السياسي لعلماء السياسة العرب بشکل عام‪ ،‬والمصريين بشکل‬
‫خاص‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫‪ 2‬ـ د ‪ .‬محمد السيد سعيد ‪:‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫يدعم وجة نظر د ‪ .‬نزيه األيوبي ما تضمنه کتاب محمد السيد سعيد عن‪:‬‬
‫«االنتقال الديمقراطي المحتجز في مصر»*(‪ )18‬الذي نشر في طبعته األولى في‬
‫عام ‪ ،٢٠٠٦‬وسط ما بدا أنه مزاج عام لدى بعض الحكومات العربية‪ ،‬والضغوط‬
‫الدولية لتحقيق تحول ديمقراطي بشکل ما‪ ،‬خاصة في ضوء ما طرحه جورج‬
‫بوش حول «مبادرة الشرق األوسط الکبير» عقب الغزو األمريکي للعراق‬
‫في ‪ ،٢٠٠٣‬فقد شكل العقد األول من األلفية الجديدة ما بدا أنه استجابة من‬
‫النظم السياسية العربية للضغوط الشعبية تجاه مزيد من االنفتاح الديمقراطي‪،‬‬
‫ويحاول سعيد في کتابه دحض هذه المقولة على اعتبار أن السعي للديمقراطية‬
‫من جانب الشعوب العربية والحالة المصرية على وجه الخصوص هو أمر‬
‫قديم يعود إلى نهاية الستينيات من القرن العشرين‪ ،‬هذا التراث من الحراك‬
‫الشعبي قوبل بالرفض‪ ،‬والمواجهة من جانب النظم السياسية‪ ،‬إلى جانب جهود‬
‫هذه األنظمة في إجهاض هذه الحرکات من خالل تقديم إصالحات دستورية‪،‬‬
‫وقانونية فارغة من المضمون‪ ،‬وإن نجحت في کسب مزيد من الوقت لصالح‬
‫استقرار‪ ،‬واستمرار األنظمة الحاکمة‪ ،‬تظهر مفاهيم اإلصالح الدستوري‪،‬‬
‫والمجتمعي بشکل مترابط مع مفاهيم اإلصالح االقتصادي‪ ،‬والسياسي کشروط‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )18‬محمد السيد سعيد‪ ،‬االنتقال الديمقراطي المحتجز في مصر‪ ،‬الهيئة العامة المصرية للكتاب‪ ،‬مكتبة‬
‫األسرة ـ القاهرة ‪2016‬‬

‫‪107‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫ضامنة لبدء لتحول ديمقراطي حقيقي واستمرار هذه التحول؛ فيرى الکاتب‬
‫أن مشروعات اإلصالح الدستوري‪ ،‬والقانوني التي تطرحها النظم الحاکمة‬
‫في غياب حوار مجتمعي حقيقي حول مضمون هذه اإلصالحات‪ ،‬وعالقتها‬
‫بالمنظومة اإلصالحية الکبرى في المجتمع‪ ،‬هو أمر يفرغ هذه اإلصالحات‬
‫من جوهرها ومضمونها في الوقت نفسه يرصد سعيد شعورً ا متزاي ًدا بميالد‬
‫رغبة متزايدة في المجتمع تجاه إحداث إصالح حقيقي‪ ،‬وإن کانت هذه الرغبة‬
‫ال تزال في تلك الفترة بمثابة الرماد غير الظاهر للعين‪ ،‬ويحاول سعيد ً‬
‫أيضا من‬
‫خالل الكناب تقديم قراءة نقدية لعدد من المفاهيم التي سادت کثيراً في أدبيات‬
‫دراسة المنطقة لتبرير االستبداد وتراثه؛ فيرى أن استبداد النظم العربية لم يُبنَ‬
‫على نظرية سياسية لالستبداد الشرقي‪ ،‬أو الفرعونية السياسية‪ ،‬ولکن بُني على‬
‫تطورات ومعطيات تاريخية ارتبطت بمراحل بناء الدولة الحديثة في العالم‬
‫العربي‪.‬‬

‫‪ ..‬في مقابل هذا يطرح سعيد رؤيته لما أسماه بـ «التحلل السلطوي» في‬
‫الدولة المصرية على سبيل المثال؛ فالنظام السياسي لم يعد قادرً ا على استيعاب‬
‫المجتمع داخل حقله األيديولوجي‪ ،‬وغير قادر على إحداث طفرات اقتصادية‪،‬‬
‫وال إصالحات اجتماعية‪ ،‬ومن ثم فالبناء السياسي‪ ،‬واالقتصادي الذي أسس‬
‫على معادلة األمن‪ ،‬والسياسة‪ ،‬والخدمات االجتماعية فقد واحدة من أهم أسس‬
‫شرعيته‪ ،‬وبدأ في مرحلة التحلل السياسي‪ ،‬ويطرح سعيد معادلة جديدة وجديرة‬

‫‪108‬‬
‫باالهتمام في مسألة االنتقال الديمقراطي؛ فيقدم رؤيته الناقدة للتطور الديمقراطي‬
‫في أوربا‪ ،‬ومسألة ربطه بفکر التنوير‪ ،‬والفکر الدستوري؛ فيرى أن تطورات‬
‫الديمقراطية حدثت حينما تكاتفت ثالثة عوامل باألساس؛ التعددية السياسية‬
‫الحقيقية‪ ،‬والتوازن الحرج بين مختلف القوى السياسية‪ ،‬والثالثة هي إدراك‬
‫وممارسة الحلول السلمية للصراع السياسي بناء على مبدأ األغلبية؛ أي بعبارة‬
‫أخرى ما أسماه بـ «التعلم الديمقراطي»‪ ،‬وينتقل سعيد لمناقشة ما أسماه بـ‬
‫«المعطيات الذاتية والموضوعية للديمقراطية» في المجتمعات العربية‪ ،‬على‬
‫اعتبار أنها (أي الديمقراطية) وسيط تاريخي لالنتقال للعصر الحديث‪ ،‬وتتحول‬
‫الديمقراطية وفق رؤية سعيد ألداة‪ ،‬وليست لغاية في حد ذاتها‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ د ‪ .‬وائل ب ‪ .‬حالق ‪:‬‬


‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫في سياق الحديث عن كيان الدولة من منطلقات الفكر اإلسالمي جاء كتاب‬
‫د ‪ .‬وائل ‪ .‬ب ‪ .‬حالق بعنوان ‪«:‬الدولة المستحيلة‪ :‬اإلسالم والسياسة ومأزق‬
‫الحداثة األخالقي» *(‪ )19‬تتمثل أطروحة الكتاب الرئيسة في أن مفهوم «الدولة‬
‫اإلسالمية» مستحيل التحقق‪ ،‬وينطوي على تناقض داخلي؛ وذلك بحسب أي‬
‫تعريف سائد لما تمثله «الدولة الحديثة»‪ ،‬وتناول د ‪ .‬حالق «مقدمات» وصف‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )19‬وائل ب‪ .‬حالق‪ ،‬الدولة المستحيلة‪ :‬اإلسالم والسياسة ومأزق الحداثة األخالقي‪ ،‬ترجمة‪:‬عمرو‬
‫عثمان‪ ،‬المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسة‪ ،‬سلسلة ترجمان ـ ط ‪ ١‬ـ بيروت ‪٢٠١٤‬‬

‫‪109‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫«الحكم اإلسالمي النموذجي»‪ ،‬ويرسم حدود مفهوم «النموذج» كما سيجري‬


‫استخدامه بوصفه مفهومًا مركزيًّا في أطروحة الكتاب الكلّية‪ ،‬وينتقل يصف إلى‬
‫وصف «الدولة الحديثة النموذجية»‪ ،‬ويح ّدد «خصائص الشكل» التي تمثّل‬
‫ً‬
‫معترفا في‬ ‫الصفات الجوهرية للدولة الحديثة‪ ،‬ويقوم بتفكيك تلك الخصائص‪،‬‬
‫الوقت عينه بالتغيرات المتزامنة‪ ،‬والتن ّوعات المتالحقة في تكوين تلك الدولة‪.‬‬

‫‪ ..‬وتناول د‪ .‬حالق مبدأ الفصل بين السلطات بين حكم القانون‪ ،‬وحكم الدولة‪،‬‬
‫ً‬
‫هادفا من‬ ‫فناقش مفاهيم اإلرادة السيادية‪ ،‬وحكم القانون في ما يخص المبدأ؛‬
‫وراء هذه المناقشة إلى استعراض األطر‪ ،‬والبنى الدستورية لكل من الدولة‬
‫الحديثة والحكم اإلسالمي‪ ،‬وتسليط الضوء على االختالفات الدستورية بين‬
‫نظامي الحكم هذين‪ ،‬واعتمادا على هذه االختالفات‪ ،‬يستكشف االختالفات بين‬
‫القانوني‪ ،‬والسياسي‪ ،‬واألخالقي‪ ،‬ومعنى القانون‪ ،‬وعالقته باألخالق‪ ،‬ويؤكد‬
‫من خالل هذا العرض الفلسفي أساسا االختالفات النوعية بين المفهوم األخالقي‬
‫للدولة الحديثة‪ ،‬والحكم اإلسالمي‪ ،‬ويح ّول هذا العرض إلى عرض ذي طابع‬
‫ّ‬
‫وستتعزز هذه التباينات القانونية ‪ -‬األخالقية بفعل التباينات السياسية‬ ‫سياسي‪،‬‬
‫كاشفة عن مجال آخر من عدم التوافق بين الدولة الحديثة‪ ،‬والشريعة‪.‬‬

‫‪ ..‬يرى د‪ .‬حالق أن ‪ :‬الدولة القومية الحديثة‪ ،‬والحكم اإلسالمي يميالن‬


‫إلى إنتاج مجالين مختلفين من تكوين الذاتية‪ ،‬وأن الذوات التي ينتجها هذان‬

‫‪110‬‬
‫المجاالن النموذجيان تتباين تباي ًنا كبيرا‪ ،‬األمر الذي يولد نوعين مختلفين من‬
‫التصورات األخالقية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬والمعرفية‪ ،‬والنفسية‪ ،‬واالجتماعية للعالم‪،‬‬
‫وتلك االختالفات العميقة بين أفراد الدولة القومية الحديثة‪ ،‬ونظرائهم في الحكم‬
‫اإلسالمي إنما تمثل التجليات المجهرية المصغرة لالختالفات الكونية المادية‪،‬‬
‫والبنيوية‪ ،‬والدستورية‪ ،‬وكذلك الفلسفية‪ ،‬والفكرية ‪.‬‬

‫ويتحدث د‪ .‬حالق عن األشكال الحديثة للعولمة‪ ،‬ووضع الدولة في هذه‬


‫األشكال المتعاظمة القوة‪ ،‬وانهما يكفيان لجعل أي صورة من الحكم اإلسالمي‬
‫إما أمرا مستحيل التحقق‪ ،‬وإما غير قابل لالستمرار على المدى البعيد هذا إذا‬
‫أمكن قيامه أصال‪ ،‬وبعبارة أخرى‪ ،‬يصل المؤلف إلى نتيجة مفادها‪:‬‬

‫«إذا جرى أخذ كل العوامل في الحسبان؛ فإن الحكم اإلسالمي ال يستطيع‬


‫االستمرار نظرا للظروف السائدة في العالم الحديث ‪.».‬‬

‫ويختم د‪ .‬حالق كتابه بتفحص مآزق أخالقية حديثة مع اإلشارة إلى أسسها‬
‫المعرفية‪ ،‬والبنيوية بصفتها تؤسس ألصل األزمات األخالقية التي واجهتها‬
‫الحداثة في ّ‬
‫كل صورها الشرقية والغربية؛ حيث يرى المؤلف أن استحالة فكرة‬
‫الحكم اإلسالمي ناتجة بصورة مباشرة من غياب بيئة أخالقية مواتية تستطيع‬
‫أن تلبي أدنى معايير ذلك الحكم وتوقعاته‪ ،‬ويرى أن هذه االستحالة هي تجل‬

‫‪111‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫آخر لعدة مشاكل أخرى ليس أقلها شأنا االنهيار المطرد للوحدات االجتماعية‬
‫العضوية‪ ،‬ونشأة أنماط اقتصادية استبدادية‪ ،‬إضافة إلى ما هو أكثر أهمية من‬
‫ذلك‪ ،‬وهو الدمار الشامل للموائل الطبيعية‪ ،‬والبيئة‪.‬‬
‫‪ ..‬ومع ذلك يؤكد د‪.‬حالق أن الكتاب ال يهدف إلى إصابة القارئ المسلم‬
‫والعربي باإلحباط واليأس من عدم قدرته على الفكاك من ورطة الحداثة التي‬
‫وجد نفسه فيها بال اختيار منه‪ ،‬ومن استحالة قيام دولة إسالمية تحافظ على‬
‫خصوصيته األخالقية‪ ،‬والتاريخية‪ ،‬وإنّما غايته هي توفير سبيل للمسلمين إلى‬
‫الحياة الحسنة المستندة إلى موارد تاريخ اإلسالم األخالقية‪ ،‬واثبات أن أزمات‬
‫اإلسالم السياسية وغيرها ليست بالفريدة أو الخاصة‪ ،‬بل هي جزء ال يتجزأ من‬
‫العالم الحديث‪ ،‬في الغرب كما في الشرق‪.‬‬
‫في الوقت الذي يرى البعض أن كتاب «الدولة المستحيلة» يعد «إجهاضاً‬
‫معرفيا»ً لفكرة اإلسالم السياسي يرى البعض أنه محاولة لـ «التجسير» بين‬
‫الذات واآلخر ‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ د ‪ .‬هبة رءوف عزت ‪:‬‬


‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫في هذا السياق تقدم د‪ .‬هبة رءوف عزت أطروحتها بعنوان ‪«:‬الخيال‬
‫السياسي لإلسالميين ‪ ..‬ما قبل الدولة وما بعدها»*(‪ ، )20‬الفکرة المرکزية لدى‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )20‬د‪ .‬هبة رءوف عزت ‪،‬الخيال السياسي لإلسالميين ‪ ..‬ماقبل الدولة وما يعدها‪ ،‬الشبكة العربية لألبحاث‬
‫والنشر‪ ،‬ط ‪ ٢‬ـ بيروت ‪٢٠١٥‬‬

‫‪112‬‬
‫الکاتبة‪ ،‬والتي تحاول مناقشتها بقدر من التفصيل هو «تماهي تصور الدولة عند‬
‫التيار اإلسالمي بدرجة کبيرة مع تصورات الدولة القومية الحديثة على الرغم‬
‫من كل الشعارات‪ ،‬والعناوين من خالل ما تبين للباحثة عبر سنوات من البحث‬
‫في مفهوم الدولة القومية‪ ،‬وما تؤكده من معرفة قوية بأبعاد السلطة‪ ،‬والحكم‬
‫في النظام اإلسالمي‪ ،‬من خالل منهج المالحظة بالمشاركة الذي مارسته من‬
‫خالل الخبرة العملية‪ ،‬واالنخراط في واقع الصحوة اإلسالمية لجيل السبعينيات‬
‫والثمانينيات من القرن العشرين‪.».‬‬

‫وتعد الدراسة تحليل نقدي ألفكار حقبة مهمة سبقت االنتفاضات العربية؛‬
‫بما يعين على فهم أسباب االرتباك في اإلدارة السياسية‪ ،‬والعلل الكامنة في بنية‬
‫الدولة الحديثة التي لم ينتبه إليها القطاع األوسع من التيار اإلسالمي‪ ،‬وظن أنها‬
‫حصن يمكن االستيالء عليه‪ ،‬في حين أن من درس الدولة القومية‪ ،‬ونشأتها‪،‬‬
‫وعرف خرائطها التاريخية‪ ،‬والمنطق الكامن فيها يعلم أنها ثقب أسود يلتهم‬
‫األيدلوجيا‪ ،‬واألخالق لصالح الهيمنة‪ ،‬والتحكم‪ ،‬ومصالح رأس المال‪ ،‬وأنها‬
‫كيان قائم على العلمانية؛ األمر الذي يستلزم فهم التيار اإلسالمي لشروط كل‬
‫مرحلة يريد أن يقطعها من أجل التغير‪ ،‬وأن يثق في قدرته على تغيير هذه‬
‫الشروط والسياقات‪ ،‬ووعي بالضوابط الدقيقة لذلك كي ال تضيع الغاية‪ ،‬وتُفقد‬
‫البوصلة‪.‬‬
‫ترى د‪ .‬هبة رءوف ضرورة إعادة التفکير في الدولة الحديثة التي ورثها‬

‫‪113‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬
‫العالم (وليس المنطقة العربية أو اإلسالمية فقط) من منتصف القرن السابع‬
‫عشر‪ ،‬وهذه الدولة تقوم على أضالع ثالثة (فهى «قومية» نشأت على بزوغ‬
‫الفكر القومي‪ ،‬وهي «قطرية» قامت على ترسيم الحدود الجغرافية لنفسها‬
‫أو استباحة حدود األخرين باالحتالل‪ ،‬وهي « حديثة» ألنها تأسست على‬
‫أركان فكر الحداثة الذي آل يؤمن بالغيب‪ ،‬ويعتبر ما وراء الطبيعة خارج‬
‫إطار العلم‪ ،‬وتحت سقف الدولة‪ ،‬وهو فكر يحكم موازين القوى في مجالى‬
‫التشريع واألخالق‪ ،).‬وال يمکن فهم عالقتها بالمجتمع دون إدراك األسس‬
‫النظرية التي اعتمدت عليها في نشأتها‪ ،‬وعالقتها باألضالع الثالثة‪ ،‬وترى د‪.‬‬
‫هبة أن أساس الدولة في المنظومة العقدية‪ ،‬والتشريعية اإلسالمية مختلف فهو‬
‫يقوم على استقالل القضاء‪ ،‬والعلماء‪ ،‬واألوقاف‪ ،‬والفصل الرأسي واألفقي بين‬
‫سلطان الملك‪ ،‬ومؤسسات العلم‪ ،‬ودائرة العدل‪ ،‬وکفالة االستقالل المادي لهذه‬
‫المؤسسات من ثم فإن محاوالت أسلمة الدولة القطرية الحديثة هي مسألة محكوم‬
‫عليها بالفشل بسبب اختالف المنطلقات الفکرية‪ ،‬والفلسفية‪ ،‬وآراء کل منهما‪.‬‬

‫كان الهم األساس الذي انطلقت منه د هبة متعلقا بالخطاب اإلسالمى‪ ،‬فى‬
‫محاولة منها للخروج مما تُسميه «الثنائية المفخخة» التى تضع العلمانية فى‬
‫مقابل الحاكمية‪/‬الشريعة التى اعتبرتها «حائلاً دون خيال اإلسالميين‪ ،‬وخطابهم‬
‫السياسي؛ مما جعل أطروحاتهم فى حالة ركود عبر قرن كامل» ‪.‬‬
‫ترى د‪ .‬هبة أن المشکلة في محاولة إيجاد عالقة بين الدولة القطرية والمنظور‬

‫‪114‬‬
‫اإلسالمي؛ فالخطاب اإلسالمي الرائج في كثير منه (حسب وجهة نظر الباحثة)‬
‫خطاب ليبرالي رأسمالي في جوهرة‪ ،‬ومتسربل بالديباجة الدينية‪ ،‬ويسعى إلى‬
‫األسلمة بتنقية الهياكل من ظواهرها الرأسمالية من دون نقض لها أو إعادة‬
‫تأسيس هياكل اقتصادية‪ ،‬وسياسية‪ ،‬وإدارية مؤسسة على بنيان اإلسالم‪،‬‬
‫وفلسفاته في العمران التي تقوم على العدل‪ ،‬وشراكة الناس في مقومات الحياة؛‬
‫فهو بمثابة تعبئة النبيذ القديم في أوان جديدة دون إدراك ضرورة االشتباك‬
‫مع النبيذ القديم اصلاً ‪ ،‬وأهمية إنتاج شيء جديد بالكلية ‪ ..‬تشتبك هبة رءوف‬
‫مع النقد «اإلسالمي» لمفهوم العلمانية‪ ،‬وتقدم رؤية مختلفة لضرورة تحرير‬
‫المفاهيم ‪.‬‬

‫ثمة التقاء بين د‪ .‬هبة رءوف ود‪ .‬وائل حالق في أمرين ‪:‬‬

‫أوالهما ‪ :‬أن د‪ .‬حالق رفض المقولة التي شاعت في الكتابات اإلسالمية‬


‫واالستشراقية على حد سواء من أن «باب االجتهاد قد أغلق في اإلسالم»‪،‬‬
‫ويذهب إلى القول من خالل دراسة تاريخية أن هذه المقولة لم تعكس الواقع‬
‫الفعلي في التاريخ اإلسالمي*(‪ ،)21‬بينما ترى د‪.‬هبة أن باب االجتهاد لم يغلق بل‬
‫تجري إعاقته؛ ففي شأن التجديد هناك قرقعة‪ ،‬وال جديد مؤتمرات تنعقد وكتابات‬
‫تنشر‪ ،‬لكن لم تحدث نقلة نوعية يشعر بها المتابع للساحة أو يلمسها الساكن في‬
‫ـــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )21‬وائل ب‪ .‬حالق‪ ،‬الدولة المستحيلة‪ ،‬مرجع سايق ـ ص‪7‬‬

‫‪115‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫عالم المسلمين؛ فشعارات التجديد تسد األفق بلغط كثير أغلبه سياسي الهوى‬
‫تردده منصات تحارب التجديد‪ ،‬وأهله في الواقع‪ ،‬وتنوم العقل كى ال يفكر‬
‫كثيراً ثم ينتقل من التفكير إلى التغيير‪ ،‬أما فعل التجديد الحقيقي فتقوم عليه ثلة‬
‫من األخرين يتبعثرون على ثغور عديدة منها الفقهي‪ ،‬والعلمي‪ ،‬والفلسفي لكنهم‬
‫يعانون قلة الموارد‪ ،‬وضعف اإلمكانيات في حين يتم شغل أصحاب العقول‬
‫في شتى المجاالت بالفرعي من األمور‪ ،‬أو بلقمة العيش التي تصرف العقل‬
‫عن تلمس الحكمة‪ ،‬وإبداع األفكار‪ ،‬وتذل أحياناً أعناق الرجال في حين تسيطر‬
‫على المشهد الثقافي‪ ،‬والفكري رموز من خلف السلطات المهيمنة على العقل‬
‫من مؤسسات سياسية‪ ،‬واحتكارات اقتصادية دينية‪ ،‬وأبنية تقليدية غايتها تجميد‬
‫الساحة التجديدية في علوم الدنيا‪ ،‬والدين ‪.‬‬

‫وترى د‪ .‬هبة أن التجديد ليس أفكار متناثرة يغزلها عقل مبدع‪ ،‬بل هو‬
‫صناعة ثقيلة للعقل المجدد في كل العلوم‪ ،‬ولكن العقل المسلم في عمومه ركن‬
‫للنقل من التراث‪ ،‬أو نقل التكنولوجيا من دون اإلحاطة بقواعد المعرفة التي‬
‫أنشأتها؛ فالتجديد ليس دعوى تطلق في المؤتمرات السنوية دون أن تتضافر‬
‫الجهود لتفتح سراديب التخلف‪ ،‬وتخرج األمة إلى عالميتها الثانية ‪.‬‬

‫ترى د‪.‬هبة أن واقع األمة يدلنا أن هناك «قوى ممانعة ضد التجديد» تتمثل‬
‫في تلك المؤسسات بعينها التي من المفترض أن تقود التجديد‪ ،‬ولكنها تكلست‬

‫‪116‬‬
‫حتى صارت مؤسسات إعادة إنتاج للفكر أو منصات لإلرتزاق السياسي‪،‬‬
‫واالقتصادي‪ ،‬وهو ما نلمسه على الساحة ‪ :‬مؤتمرات التجديد‪ ،‬وبرامج التفنيد‪،‬‬
‫وكتابات الترديد‪ ،‬يُنفق عليها الماليين لتشغل وقت المفكرين‪ ،‬والفقهاء؛ فتعوق‬
‫تواصل الجهد البحثي‪ ،‬وتجمع الكبار من دون أن تتيح مساحة للعقول الشابة‪،‬‬
‫وتجتر القضايا ذاتها من دون أن تبحث في الشواغل الحقيقية التي يمكن أن تغير‬
‫نوعية حياة الناس‪ ،‬وتحقق مفصود الشرع من عدالة وحرية‪ ،‬وتتحدث د‪ .‬هبة‬
‫عن تجديد عكسي ينقض كل فكرة أو رأى جديد؛ بوضعها في خانة الخصوصية‬
‫التي ال تقبل التعميم أو العمومية التي ال تقبل التطبيق ‪.‬‬

‫وتؤكد د‪.‬هبة أن جهوداً ضخمة تُبذل لكنها خارج السرب‪ ،‬والتغريد خارج‬
‫السرب ثمنه باهظ‪ ،‬ومحصوله قيد التفعيل‪ ،‬ويحتاج الجهد‪ ،‬والمال لنشره ‪،‬وتعميم‬
‫فوائده‪ ،‬وبيان حجمه للناس‪ ،‬وإرشادهم إلى كيفية تغيير نمط الحياة؛ ليثمر التجديد‬
‫ثماره‪ ،‬وال بظل حبيس األوراق من دون قدرة على تغيير الواقع الذي تحكمه‬
‫التقاليد‪ ،‬أو يهيمن عليه من بيده السلطة والمقاليد‪ ،‬أو تحاربه نخب المنتفعين من‬
‫استيراد الجديد من دون استنبات لعقل رشيد يرفع لواء االجتهاد ‪.‬‬

‫وترى د‪.‬هبه أن هناك قضايا ملحة في عالم المسلمين اليوم‪ ،‬وفي العالم‬
‫بأسره ال ينطبق على التعامل معها فقط منطق التجديد؛ ومن هنا لزم التجديد‬
‫باالقتران باالجتهاد؛ فالتجديد نفض غبار عن أفكار وتفعيلها‪ ،‬لكن االجتهاد هو‬

‫‪117‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫التعامل مع مستجدات غير مسبوقة‪ ،‬وتقويمها لصالح اإلنسان بما يحقق نفعه‬
‫‪)22(*.‬‬ ‫العاجل‪ ،‬وال يجور على مصلحته اآلجلة‬

‫ثانيهما ‪ :‬أن د‪ .‬حالق يرى إن التيارات اإلسالمية عامة أحق من غيرها‬


‫باللوم لغياب الروح النقدية‪ ،‬وما يلحق بذلك من تقليد سطحي‪ ،‬وتكاسل عن البحث‬
‫الموضوعي المتأني في الجذور التاريخية‪ ،‬واألسس القيمية للتوجهات المختلفة‪،‬‬
‫وما ينتج عن ذلك من آفات أخرى‪ ،‬وتحديداً في التعاطي مع الحداثة والحضارة‬
‫المعاصرة مثل اإلنهزامية‪ ،‬واالنتقاص من الذات‪ ،‬وعدم القدرة على تصور فهم‬
‫آخر للتفدم؛ فكل هذه أمور ال يعترف بها صراحة مع وجود استثناءات بسيطة‬
‫ممن يجهرون بتبرؤهم من الثقافة الى نشأوا فيها أو يدعون صراحة إلى اعتناق‬
‫‪)23(*.‬‬ ‫الحداثة بكل ما فيها‬

‫‪ ..‬ويسهم د‪ .‬حالق في عملية مراجعة الحركات اإلسالمية لتصوراتها‬


‫التاريخية‪ ،‬والنظرية‪ ،‬ومواقفها العملية‪ .. ،‬وعدم مساندة الظهير الشعبي‪ ،‬وعزو‬
‫ذلك إلى مؤمرات مؤسسات الدولة القديمة المتجذرة‪ ،‬والفاسدة في الوقت نفسهأ‪،‬‬
‫وإلى قوى داخلية طغى مقتها للتيارات اإلسالمية على حرصها على مصلحة‬
‫الدولة‪ ،‬أو أخرى خارجية اعتقدت بأن وصول التيار اإلسالمي إلى الحكم‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )22‬د‪ .‬هبة رءوف عزت‪ ،‬نحو عمران جديد‪ ،‬الشبكة العربية لألبحاث والدراسات‪ ،‬سلسلة الفقة‬
‫االسنراتيجي ـ عدد ‪ ، ١‬ط ‪ ١‬ـ بيروت ‪ ٢٠١٥‬ـ ص ‪17 ،16‬‬
‫*(‪ )23‬وائل ب‪ .‬حالق‪ ،‬الدولة المستحيلة‪ ،‬مرجع سابق ـ ص ‪10‬‬

‫‪118‬‬
‫في يهدد دورها اإلقليمي أو أمنها القومي‪ ،‬وال يمكن للتيار اإلسالمي إال أن‬
‫يعترف بالفشل أو باالخفاق في فهم طبيعة الدولة الحديثة‪ ،‬ومدى مالئمة أفكاره‬
‫لها‪ ،‬وقدرته على تطويعها دون إعطاء الفرصة الستدراجه تماما إلى ما سعى‬
‫إلى مواجهته والقضاء عليه‪ ،‬ويرى د‪ .‬حالق ‪« :‬أنه ال ينبغي أن تكون عملية‬
‫المراجعة أقل من شاملة‪ ،‬ومبدعة‪ ،‬ومتحررة من نظرة إلى التاريخ مغرقة في‬
‫وحيد‪)24(*.».‬‬ ‫الطوباوية أو إلى الدولة الحديثة كنموذج‬

‫ترى د‪.‬هبة من منطلق ما استقر في عقلها عبر سنوات من المعايشة أن‬


‫معظم «التنظيمات» اإلسالمية هي بنية حداثية بامتياز‪ ،‬بعيداً عما تقوله عن‬
‫نفسها أو كيف يصنفها غيرها ‪ :‬التقسيم والتعقيد وتوزيع المهام بشكل يقسم‬
‫المسئوليات‪ ،‬ويحجب المبررات ويخلق الحُ جب بين المستويات‪ ،‬وبناء الطاعة‬
‫على الثقة ال المساءلة‪ ،‬ومركزية القيادة والفصا بين من هم داخل التنظيم‬
‫ومن هم خارجه‪ ،‬وغياب الشفافية في التمويل وانعدام المساءلة في التصرف‬
‫وتحمل التبعات عند الخطأ (الذي هو دوما اجتهاد مأجور) وخلق ثقافة خاصة‬
‫بالمنتمين‪ ،‬وأدبيات خاصة بالتنظيم‪ /‬الهيكل تعيد تأويل المرجعية في أطوله‪،‬ا‬
‫وتخلق نصوصاً يحفظها المنخرطون بأكثر مما يطلعون على العلوم الشرعية‬
‫أو المصادر األصلية‪ ،‬باإلضافة إلى الضيق بالنقد واتهام صاحبه‪ ،‬وبناء معالم‬
‫سلوكية تحقق االختالف على األخرين‪ ،‬حتى وإن خالفت أحيانا ما في األصول‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )24‬وائل ب‪ .‬حالق‪ ،‬الدولة المستحيلة‪ ،‬مرجع سابق ـ ص ‪9‬‬

‫‪119‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬
‫من سعة‪ ،‬وسقطت في تقليدية كامنة غير واعية‪ ،‬وتحقيق الشعور المتسم بالتمايز‬
‫والمفاضلة‪ ،‬واألهم ‪ :‬اعتبار الوصول إلى السلطة هو غاية التمكين‪ ،‬واعتبار‬
‫الفشل مؤامرة‪ ،‬والكوارث ابتالءات ال توجب اإلقرار أو االعتذار أو المراجعة‬
‫أو تنحية المسئول عنها‪ ،‬لوضوح افتقاده القدرة‪ ،‬واألهلية أو طرح أي احتمال‬
‫‪)25(*.‬‬ ‫للفساد والهوى ( «عصمة» خفية من نوع ما)‬

‫أزمة المجتمع ‪..‬‬


‫ومأزق العلوم اإلنسانية ‪:‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ترجع أسباب أزمة العلوم اإلنسانية بصفة عامة‪ ،‬وعلم االجتماع بصفة‬
‫خاصة في العالم العربي إلى ظروف القهر‪ ،‬والهيمنة السياسية التي تمارسها‬
‫الدولة العربية‪ ،‬وإما إلى حالة العلم نفسه أما فيما يتصل بظروف القهر‪ ،‬والهيمنة‬
‫السياسية؛ فإن علماء االجتماع العرب محكومون بالنظم السياسية التي يعملون‬
‫تحتها حيث يتعذر البحث العلمي الجاد في كثير من الموضوعات‪ ،‬والقضايا‬
‫التي تهم المجتمعات العربية‪ ،‬والتي عادة ما توصف بأنها قضايا «حساسة»‬
‫من الناحية السياسية‪ ،‬وال يمكن االقتراب منها‪ ،‬وذلك مثل قضية الديمقراطية‪،‬‬
‫والتبعية االقتصادية‪ ،‬والفكرية للغرب‪ ،‬والتفاوت في مستويات الدخل‪ ،‬والمشاركة‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )25‬د‪ .‬هبة رءوف عزت‪ ،‬نحو عمران جديد‪ ،‬مرجع سابق ـ ص ‪190‬‬

‫‪120‬‬
‫السياسية لألقباط في االنتخابات‪ ،‬وبحث الروح المعنوبة للجنود عقب هزيمة‬
‫يونيو ‪ ،١٩٦٧‬وبحث ظاهرة «أمراض الخندقة» بعد حرب ‪ ،1973‬وتنامي‬
‫ظاهرة السلوك الخشن بعد إدماج المسرحين من الخدمة العسكرية في وظائف‬
‫مدنية وبحث أحداث تمرد األمن المركزي عام ‪ ،1986‬وبحث موضوع السلوك‬
‫الجنسي عقب حادث «فتاة العتبة» عام ‪ ،١٩٩٣‬وازدياد حوادث االغتصاب‪،‬‬
‫والتحرش الجنسي الجماعي‪ ،‬وبحث تصفية القطاع العام وتسريح العاملين به‬
‫عام ‪ ،1993‬وبحث استطالع رأى المالك والمستأجرين حول تعديل العالقة‬
‫بينهم في األراضي الزراعية عام ‪ ،1997‬وبحث آثار اإلنفالت التي خلفتها‬
‫االنتفاضة السياسية ‪25‬يناير ‪ ،2011‬وتنامي ظاهرة البلطجة وتفشي الدعارة‬
‫وتقنيعها وتقنينها تحت مسميات مختلفة؛ ليضحى الميراث في المجمل ثقافة‬
‫اجتماعية مسطحة اكتفت بما تناقلته من رغوة المصلحات والقضايا المنفصلة‬
‫عن سخونة وتشابك هموم مجتمعها‪.‬‬
‫‪ ..‬ويذهب البعض إلى أن المجتمع هو محل محتكر للدولة‪ ،‬وليس محال‬
‫ًللبحث العلمي‪ ،‬وأن مثل تلك المحاولة لن تنجح إال في المنافي أو المخابئ‬
‫السرية‪ ،‬ويرى أخرون أن حالة الهيمنة السياسية على المجتمع لم تعطل نمو‬
‫مستقل لعلم االجتماع وحسب‪ ،‬وإنما ساعدت على نمو طبقة من الباحثين‬
‫االنتهازيين (الكمبرادورز) الذين يعتمدون فكريا ومالياً على دول خارجية‪ ،‬كما‬
‫يقومون باستغالل صغار الباحثين وإفسادهم في الترويج لألكاذيب!!‬

‫‪121‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬
‫‪ ..‬وقد حاول علماء االجتماع العرب الدفاع عن دورهم المشبوة في خيانة قضايا‬
‫األمة في مؤتمر عقد في وهران (الجزائر) في مارس ‪ ،2012‬وقيامهم بدور‬
‫«المخبرين المحليين» لجيش من الباحثين العالميين‪ ،‬والصحافيين‪ ،‬والدارسين‬
‫الذين يعقدون بانتظام جوالت في الجامعات العربية‪ ،‬ومراكز األبحاث بحثاً عن‬
‫معلومات‪ ،‬وتحليالت عن السياسة العربية‪ ،‬والمجتمع ‪ ،‬وبخاصة في أوقات‬
‫االضطرابات االجتماعية‪ ،‬والسياسية ‪.‬‬

‫‪ ..‬وقد تناولت عالمة االجتماع د‪ .‬منى أباظة األستاذة بالجامعة األمريكية‬


‫بالقاهرة العالقات غير المتساوية بين علماء االجتماع العرب‪ ،‬والغربيين في‬
‫مقال بعنوان ‪« :‬سياح أكاديميون يرتادون الربيع العربي»‪ ،‬وتناولت فيه‬
‫حالة االختراق البحثي أثناء االنتفاضة السياسية في ‪ 25‬يناير ‪ ،2011‬وحالة‬
‫االنقسام األكاديمي الدولي المستمر حول العمل؛ حيث االنقسام بين ما يسمى‬
‫«المنظرون» للشمال وبين «المخبرين» الذين هم أيضاً «موضوع دراسة في‬
‫النمو»‪)26(*.‬‬ ‫الجنوب يستمر في‬

‫كان مصدر الخطر على علم االجتماع‪ ،‬وسمعة القائمين عليه صعود‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )26‬أوراق قدمت في مؤتمر عقد في وهران ( الجزائر) أيام‪ 22 ،21 ،20‬مارس ‪2012‬شارك فيه ‪32‬‬
‫باحث من ‪ 11‬دولة عربية بإشراف مركز دراسات الوحدة العربية ( بيروت ـ لبنان) والمركز الوطني للبحث‬
‫في األنثروبولوجيا االجتماعية والقافية ( وهران ـ الجزائر) والجمعية العربية لعلم االجتماع (تونس)‪ ،‬وتم‬
‫نشره في كتاب يعنوان ‪ « :‬مستقبل العلوم االجتماعية في الوطن العربي»تحالير وتقديم ‪ :‬ساري حنفي‪،‬‬
‫نورية بن غبريط ـ ريمون مجاهدي مصطفى‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية ـ بيروت ‪2014‬‬

‫‪122‬‬
‫النفعية االجتماعية‪ ،‬وتنامي مؤشراتها من خالل االتجاهات التي تستهدف‬
‫إخضاع علم االجتماع للمطالب النفعية االجتماعية‪ ،‬والسياسية التي تزداد‬
‫كثافتها راهناً بفضل انتشار أفكار الفعالية الذرائعية‪ ،‬وأشكالها التنظيمية‪ ،‬مع‬
‫ما ينطوي عليه تصاعد هذه األفكار ضمنياً على تشجيع ما يسمى «البحوث‬
‫التطبيقية»‪ ،‬والبحوث المتصلة بالسياسات على حساب «البحوث األساسية»‪،‬‬
‫ويؤكد البعض أنه ما من عالم اجتماع إال ويرغب أن يصبح منظراً أو مستشاراً‬
‫للطبقة الجديدة الحاكمة‪ ،‬وأن ينضم إليها إن أمكن من خالل عملية التسويق‪،‬‬
‫والهرولة؛ وبهذا تأكلت مصداقية علماء االجتماع في نظر عامة !!‬

‫‪ ..‬يذكر د‪ .‬ريتشارد أنطون في كتابه ‪« :‬الدراسات األنثروبولوجية‬


‫في الشرق األوسط» الصادر في نيويورك سنة ‪ ١٩٧٣‬عدة حقائق هامة عن‬
‫دراسات األنثروبولوجية في مصر أهمها ‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ انطلقت الدراسات األنثروبولوجية على المستوى األكاديمي في مصر‬


‫في عقد السبعينيات من القرن الماضي ـ وهو تاريخ متأخر نسبياً ـ ويسجل د‪.‬‬
‫ريتشارد أنطون مالحظة جديرة باالهتمام حيث يالحظ تميز الدراسات المصرية‬
‫منذ بدايتها األولى بإجراء الدراسات الميدانية على نطاق واسع‪ ،‬وبشكل مركز‪،‬‬
‫ويالحظ أن رؤوس الموضوعات‪ ،‬والفروض التي انطلقت تلك الدراسات‬
‫للتحقق منها مشتقة من كتابات العلماء الفرنسيين (وليست مصرية) ‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬
‫‪ 2‬ـ ويالحظ د‪ .‬ريتشارد أنطون أن االدراسات األنثربولوجية في السبعينيات‬
‫كانت تركز على دراسة مشكالت مصر االجتماعية‪ ،‬واالقتصادية (من منطلقات‬
‫واطروحات فرنسية‪ ،‬وليست مصرية) وخاصة مشكلة النمو السكاني السريع‬
‫واألسرة وتنظيمها‪ ،‬والتحضر‪ ،‬والتصنيع‪ ،‬وتوطين الفالحين في األراضي‬
‫المستصلحة‪ ،‬ومشكلة العمالة المصرية المهاجرة بمستوياتها المختلفة‪ ،‬كان‬
‫ذلك يمثل حالة من «االنسحاق الحضاري»؛ فاألخر هو الذي يحدد لنا رؤوس‬
‫الموضوعات المبحوثة‪ ،‬ويحدد لنا األسئلة عن أنفسنا‪ ،‬ويطرح علينا الفرضيات‪،‬‬
‫ويضيق علينا في االختيارات؛ ليصل بنا إلى حيث يريد أن يضعنا‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ ارتباط أولويات البحوث االجتماعية‪ ،‬واألنثروبولوجية بأولويات‬


‫الحكومات القائمة على أساس أن المؤسسات الحكومية هي جهة التمويل الوحيدة‬
‫القادرة على دعم البحوث االجتماعية؛ فجميع الدراسات في مصر تعتمد على‬
‫التمويل الحكومي‪ ،‬وهو ما يفرض على تلك الدراسات الخضوع التام ألولويات‬
‫المؤسسات الحكومية‪ ،‬واحتياجات المجتمع التخطيطية والتنموية‪ ،‬وهذا ليس‬
‫ليس عيباً وال عار على الباحث‪ ،‬ألن خضوعه لتلك األولويات هو توظيف‬
‫كامل لعلمه في خدمة عمليات التغيير الموجه لخدمة حركة المجتمع‪ ،‬ولخدمة‬
‫القطاعات األكبر من أبناء مجتمعة‪ ،‬لكن كان العيب في هذه الدراسات هو‬
‫القفز من رؤوس الموضوعات إلى الفرضيات‪ ،‬وانتهاء بالنتائج دون إشارة إلى‬
‫المناهج المستخدمة‪ ،‬والوسائل المتبعة ‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫كان العيب الثاني ‪:‬أن الباحثين المصريين في مجال األنثروبولوجيا ينتمون‬
‫إلى مدارس مختلفة يصعب إذابة الفوارق بينها كما أنه لم يوجد العالم المصري‬
‫القطب الذي يستطيع أن يستوعب تفردات تلك المدارس‪ ،‬وأن يسخر أطروحاتها‬
‫لخدمة المجتمع؛ فقد حصل الدكتور أحمد الخشاب على الدكتوراة من جامعة لندن‬
‫في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي (‪ ،)1953‬فأدخل التقاليد البريطانية‬
‫في األنثربولوجيا إلى جامعة القاهرة‪ ،‬وما لبث أن عاد في منتصف الستينيات‬
‫د‪ .‬عاطف وصفي بعد أن درس األنثروبولوجيا في أمريكا؛ فدخلت معه تقاليد‬
‫األنثربولوجيا الثقافية األمريكية إلى جامعة القاهرة‪ ،‬ثم عاد د‪ .‬محمد الجوهري‬
‫في السبعينيات بعد أن درس األنثروبولوجيا في جامعة بون بألمانيا التي تعد من‬
‫أهم معاهد دراسة الفلكلور في العالم فدخلت معه تقاليد األنثربولوجيا األلمانية‪..‬‬
‫كانت المدرسة األلمانية تقوم باألساس على «دراسة الفلكلور» من خالل إلقاء‬
‫الضوء على ما في صدور الناس من معتقدات‪ ،‬وما يدور في عقولهم من‬
‫تصورات‪ ،‬ورؤى للعالم‪ ،‬وكذلك ما يمارسونه من عادات اجتماعية موضوعها‬
‫«المأثور الشعبي»؛ بما يعين على فهم العقلية الشعبية‪ ،‬وعلى االقتراب من‬
‫الخريطة االجتماعية !!‬

‫كان المصري الوحيد الذي جمع بين األنثروبولوجيا من منظوريها اإلنجليزي‬


‫والفرنسي هو الدكتور أحمد أبوزيد مؤسس ما يطلق عليه تجاوزاً‪« :‬مدرسة‬
‫األسكندرية» حيث بدأ هو وزمالئه على عيسى‪ ،‬وعاطف غيث‪ ،‬لكن ما كان‬

‫‪125‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫يعاب عليهم هو ‪ :‬أن الفروض التي انطلقت تلك الدراسات للتحقق منها مشتقة‬
‫من كتابات العلماء الفرنسيين (وليست مصرية)‪.‬‬

‫‪ ..‬وقد أشار أحد الباحثين إلى الحيرة التي أحس بها أفراد ذلك الجيل حينما‬
‫حاولوا بعد عوتهم من أوربا أن يطبقوا ما درسوه‪ ،‬ولكنهم لم يجدوا مجتمعاً‬
‫صناعياً‪ ،‬وال طبقات متميزة‪ ،‬وإنما وجدوا مجتمعات زراعية‪ ،‬وبدأت معاناة‬
‫ذلك الجيل‪ ،‬وهم يحاولون الموائمة بين المفاهيم‪ ،‬والنظريات التي تدربوا عليها‬
‫في الغرب‪ ،‬والواقع االجتماعي العربي الذي عادوا إليه ‪.‬‬

‫‪ ..‬ولم تكن أحوال االجتماعيين العرب أفضل من نظرائهم المصريين؛ بما‬


‫يعني أن االجتماعيين العرب جميعاً لم يتفقوا على وضع أسس فكرية‪ ،‬ومرجعية‬
‫لقيام علم اجتماع عربي لسببين ‪:‬‬

‫أولهما‪ :‬أن معظم المحاوالت التي قام بها الباحثون استندت إلى مرجعيات‬
‫غربية متعددة المدارس الفكرية األمر الذي أفرز حالة من الفوضى في المفاهيم‪،‬‬
‫والمصطلحات المستخدمة‪ ،‬وتضارب األهداف‪ ،‬وبذلك ضاعت الرؤيه‪،‬‬
‫وتبعثرت الرسالة ‪.‬‬

‫ثانيهما ‪ :‬عدم وجود تنظيم أكاديمي عربي يجمع االجتماعيين العرب الذي‬

‫‪126‬‬
‫يرون توطين علم االجتماع في الوطن العربي ‪.‬‬

‫‪ ..‬أزمة علم االجتماع‪ ،‬والقائمين عليه ليست خافية على أحد‪ ،‬وقد تضمنها‬
‫تقرير التقرير العالمي لليونسكو عن العلوم االجتماعية لعام ‪ ،2010‬والذي أفاد‬
‫ً‬
‫هائال في مجال األبحاث‬ ‫أن في مأزق العلوم االجتماعية قد أنتج تضخماً كمياً‬
‫صاحبه فقر مدقع في النوعية‪ ،‬والجودة‪ ،‬وانعدام الهدف‪ ،‬والدور ‪ ..‬بلخص ذلك‬
‫التقرير الذي يصدر بصفة دورية كل عشر سنوات األزمة حيث جاء به ‪:‬‬

‫«إنه في العالم العربي يوجد عدد كبير من الطلبة‪ ،‬والجامعيين ذوي‬


‫المواهب العالية في العلوم االجتماعية‪ ،‬لكن ال يوجد لبحوثهم هدف محدد»؛ فلم‬
‫ً‬
‫حلوال لقضايا المجتمع الهامة ‪.‬‬ ‫تقدم‬

‫‪ ..‬الحظ محررو التقرير أن واحد من بين خمسة أفراد من الحاصلين على‬


‫الدكتوراه في العلوم االجتماعية الذين يعملون في الواليات المتحدة هم من الذين‬
‫ولدوا في الخارج في البالد العربية وأفريقيا‪.‬‬

‫التقرير الذي لخصه لنا رشيد جرموني في ‪« :‬أن األقطار العربية مازالت‬
‫تعاني نقصاً حاداً في مخرجاتها التعليمية‪ ،‬وبشكل خاص في العلوم االجتماعية‪،‬‬
‫وهو ما ينعكس على دورها في مواجهة اإلشكاالت المجتمعية المتوالدة‬

‫‪127‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫والمتكاثرة‪ ،‬وأيضا في إحداث تغيرات اجتماعية معينة‪ ،».‬وهذه حقيقة يدعمها‬


‫واقعنا التعليمي والبحثي؛ إذ أن األولوية تعطى دائماً للعلوم المادية اعتقاداً من‬
‫بأنها تخرجنا مما نحن فيه من تأخر حضاري‪ ،‬وهى مغالطة خطيرة تداعياتها‬
‫‪)27(*.‬‬ ‫غير محسوبة العواقب على مجتمعنا العربي‬

‫بحيث أصبحت العلوم االجتماعية تشكو من أزمة داخلية عميقة ال تمكنها‬


‫من النظر في األزمة الكبرى التي يمر بها المجتمع؛ بما أوجب على عالم‬
‫ً‬
‫عمال فكريا‬ ‫االجتماع العربي المخلص لعلمه أن يمارس عملين في أن واحد‬
‫وعمال سياسياً للتحرك بالمجتمع نحو حل أزمة التخلف‬
‫ً‬ ‫لتخليص العلم من عقمه‪،‬‬
‫والتبعية‪ ،‬وهو ما يمثل درب من دروب االنتحار الوجودي!!‬

‫لذا كان التفكير في إقامة علوم إنسانية‪ ،‬واجتماعية في المجتمع العربي‬


‫تعني بمشاكله المتعددة تستدعي إعادة االعتبار لها من حيث هي علوم ضرورية‬
‫في تناول القضايا المرتبطة باإلنسان كمبدع‪ ،‬ومبتكر للمعرفة بمختلف فروعها‬
‫الطبيعية‪ ،‬والبيولوجية‪ ،‬واإلنسانية في رؤية متكاملة من دون تفريط في أحد‬
‫جوانبها‪ ،‬وهذا لتدارك المثالب التي وقعت فيها حضارة الغرب حينما ركزت‬
‫على ما هو طبيعي؛ مما أدى ببعض رواد العلوم اإلنسانية‪ ،‬واالجتماعية إلى‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )27‬مقال رشيد جرموني‪ ،‬التقرير العالمي حول العلوم االجتماعية لسنة ‪،٢٠١٠‬مجلة‪« :‬تقاسم المعرفة»‪،‬‬
‫مجلة إضافات‪ ،‬مجلة أكاديمية فصلية محكمة‪ ،‬تصدر عن الجمعية العربية لعلم االجتماع بالتعاون مع مركز‬
‫دراسات الوحدة العربية‪ ،‬العدد ‪ ،١٦‬بيروت ـ خريف ‪ 2011‬ـ ص ‪145‬‬

‫‪128‬‬
‫اتخاذ العلوم الطبيعية نموذجاً للعلوم اإلنسانية؛ فوحدوا بين اإلنساني‪ ،‬والطبيعي‬
‫من دون مراعاة مكونات اإلنسان العقلية‪ ،‬والنفسية‪ ،‬والتاريخية وهي مكونات‬
‫أساسية في دراسة الفرد‪ ،‬والمجتمع ‪.‬‬

‫‪ ..‬وفي النهاية تحولت ممارسة البحث في العلوم االنسانية في المنطقة العربية‬


‫إلى مجرد «سجاالت نظرية» من باب التواجد فقط لحفظ ماء الوجه‪ ،‬وال قيمة‬
‫لها‪ ،‬بينما يرى بعض علماء االجتماع ضرورة توطين العلم في الوطن العربي‬
‫حتى يساعدهم في صوغ رؤية موحدة إلنشاء علم اجتماع عربي من خالل‬
‫محاولة لـ «أقلمة ‪ »localization‬المعرفة أو «توطينها ‪،»Indigization‬‬
‫والتوطين يقصد به االعتماد على القدرات الذاتية‪ ،‬ويتضمن ذلك االستغالل‬
‫األمثل للقوى البشرية‪ ،‬والموارد الطبيعية‪ ،‬والتقنيات‪ ،‬ومبادئ الملكية‪ ،‬والتحكم‪،‬‬
‫أو «التوليف ‪ ،»Domestication‬ويعني الجهود التي نروم من خاللها تحويل‬
‫ما هو أجنبي‪ ،‬وجعله أكثر مالءمة ألحوالنا‪ ،‬وحاجتنا المحلية‪.‬‬

‫بينما يرى البعض ضرورة خوض تجربة أسلمة العلوم االجتماعية من‬
‫حيث الصياغة‪ ،‬والتأصيل‪ ،‬والتوجيه‪ ،‬والتأسيس على األصول‪ ،‬وتنقسم هذه‬
‫األراء إلى ثالث نماذج رئيسية ‪ :‬أولها ‪ :‬تكاملي ـ منهجي ( اسلمة العلوم‬
‫االجتماعية)‪ ،‬وثانيهما ‪ :‬تأصيلي ـ معياري (تأصيل العلوم االجتماعية)‪،‬‬
‫وثالثهما ‪ :‬تأصيلي ـ انكفائي ( رفض النموذج الغربي) بمعنى رفض التفاعل مع‬

‫‪129‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫الحضارة الغربية التي بلغت أوج تطورها العلمي؛ ألن ذلك يؤدي إلى االنغالق‬
‫الذي ال يجدي نفعاً ‪ ..‬قدم بعض العلماء العرب مشاريع علمية لتوطين العلوم‬
‫اإلنسانية‪ ،‬واالجتماعية في الوطن العربي‪ ،‬وكان أكثر هذه المشاريع استناداً إلى‬
‫أسس علمية ومنطقية هو مشروع األستاذ الدكتور حامد ربيع ‪.‬‬

‫مشروع د‪ .‬حامد ربيع‪:‬‬


‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫يؤكد د‪ .‬حامد ربيع في اطروحته حول فكرة «توطين العلوم» على‬


‫وجود تالزم بين أزمة المجتمع العربي‪ ،‬وضعف وعيه القومي‪ ،‬وأنه ال سبيل‬
‫لنهضة هذا المجتمع دون إحياء لتراثه الفكري اإلسالمي ‪ ..‬يرى العلماء العرب‬
‫أن نموذج د‪ .‬ربيع يضع أسسا متينة الستراتيجية سياسية ـ قومية لكنها ال‬
‫تخلو من «فجوات معرفية» حيث لم يحدد د‪ .‬ربيع الجهة التي يوكل إليها تنفيذ‬
‫االستراتيجية أهو «المفكر السياسي»؟ أم هو «رجل الشارع»؟ خاصة أن د‪.‬‬
‫ربيع يسقط النخب الحاكمة من االعتبار؛ ألنها نخب قد انقصلت بحسب تقديره‬
‫عن هموم األمة وقضاياها‪ ،‬وليست لها فاعلية أو وعي بالمصالح االستراتيجية‬
‫لألمة إضافة إلى تعود هذه القيادات على الكذب‪ ،‬وممارسته بعناد‪ ،‬وصالبة حتى‬
‫انتهت بأن تصدق هى ذاتها تلك األكاذيب؛ يساعدها على ذلك خوف من تحول‬
‫السلطة عنها‪ ،‬واستعداد المواطن للتملق‪ ،‬الذي تحول إلى سلوك ثابت‪ ،‬وصار‬

‫‪130‬‬
‫ِشرطاً أساسياً للحصول على الحقوق‪ ،‬والبعض من الحكام يعتقد أن الكذب هو‬
‫تعبير عن الدهاء‪ ،‬والقدرة على التالعب بالموقف‪ ،‬واتهم د‪ .‬ربيع تلك الطبقات‬
‫بتخلف المنطق القيادي‪ ،‬وعدم المقدررة على استيعاب حقيقة التطورات‪،‬‬
‫واالنفصال عن الطبقات المحكومة في أبراج عاجية تسودها األنانية‪ ،‬والتجمد‪،‬‬
‫وعدم وضوح الرؤية‪ ،‬وعدم القدرة على اعطاء كل موقف وزنه الحقيقي أو‬
‫التعامل معه من منطق الفاعلية‪ ،‬والقدرات الواعية‪.‬‬

‫‪ ..‬وأكد د‪ .‬ربيع أن القيادات العربية ال تفهم‪ ،‬وال تعرف‪ ،‬وال تقبل فن‬
‫المناقشة‪ ،‬وهى الترى في هذه المناقشة وسيلة للوصول إلى الحقيقة‪ ،‬وإنما‬
‫تراها أسلوباً من أساليب عدم االحترام؛ فإذا فرض على هذه القيادات المناقشة‬
‫المنطقية ـ في موقف ما ـ فإنها تنتقل ببساطة وسهولة إلى اإلسفاف‪ ،‬والبذاءة ‪.‬‬

‫ويتوجه د‪ .‬ربيع باللوم إلى العلماء العرب بقوله ‪« :‬هل تعى الطبقة المفكرة‬
‫والمثقفة أم أنها سوف تظل سادرة في غيها مستمرئة خيانة قضايا أمتها‪،‬‬
‫حاكم؟»‪)28(*.‬‬ ‫وممارسة كل أشكال الزفة السياسية خدمة ألى‬

‫في النهاية يخلص د ‪ .‬ربيع إلى أنه ال يرى إمكانية ألن تقوم النخب الحاكمة‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )28‬د‪ .‬حامد عبد هللا ربيع‪ ،‬خطابات إلى األمة والقيادة‪ ،‬ثالثون رسالة سباسية حول ‪ :‬دو المفكر السياسي‬
‫ومسئوليته المجتمعية‪ ،‬مكنبة الشروق الدولية‪ ،‬ط ‪ ١‬ـ القاهرة ‪ ٢٠٠٧‬ـ ص ‪13 ،12‬‬

‫‪131‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫بوظيفة «المؤرخين الشعبيين»‪ ،‬وال يرى إمكانية المعانقة بين المشروع العلمي‬
‫القومي في الواقع العربي المعاصر‪ ،‬ولذلك فهو يعلق األمل بإمكانية «المعانقة»‬
‫بين الحاكم االستراتيجي‪ ،‬والعالم المستشار‪ ،‬وذلك مثل حالة ابن أبى الربيع مع‬
‫‪)29(*.‬‬ ‫الخليفة العباسي‪ ،‬أو مثل حالته هو مع الرئيس صدام حسين‬

‫‪ ..‬توفي الدكتور حامد ربيع في ‪1989‬م في مكتبه بالجيزة في ظروف‬


‫غامضة تحوطها شبهة أثر تناول فنجان من القهوة أعده ساعي مكتبه‪ ،‬ولم‬
‫يكشف الفحص الطبي عن سبب محدد‪ ،‬وذهب مشروعه العلمي إلى مقبرة‬
‫التاريخ ‪.‬‬

‫***‬
‫‪ ..‬وظل موضوع توطين العلوم اإلنسانية‪ ،‬وخاصة العلوم االجتماعية‬
‫يتراوح في أذهاننا بين اليأس‪ ،‬والرجاء إلى أن قذف علماء االجتماع العرب‬
‫بالقفاز في وجوهنا (‪ 32‬عالم عربي من ‪ 11‬دولة عربية) في مؤتمر عقد في‬
‫وهران (الجزائر) في (‪ 22 ،21 ،20‬مارس ‪ ،2012‬وشارك فيه ‪ 32‬باحث‬
‫من ‪ 11‬دولة عربية بإشراف مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت ـ لبنان)‪،‬‬
‫والمركز الوطني للبحث في األنثروبولوجيا االجتماعية والثقافية (وهران ـ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )29‬شغل د‪ .‬حامد ربيع في الثمانينات منصب المستشار السياسي للرئيس العراقي صدام حسين بصفته‬
‫رئيس قسم الدراسات السياسية والقومية بمعهد البحوث والدراسات العربية ببغداد‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫الجزائر)‪ ،‬والجمعية العربية لعلم االجتماع (تونس)‪ ،‬وقد لخص علماء االجتماع‬
‫العرب إشكاليات العلم وفقاً لمنظور الممارسين في ‪:‬‬

‫فقر النظرية‪ ،‬وعدم القدرة على توليدها‪ ،‬وغياب مجتمع علم االجتماع‬
‫أو ضعفه‪ ،‬والتوجه التطبيقي للعلوم االجتماعية أو ما يمكن للمرء أن يصفه‬
‫بـ «مقارنة الهندسة االجتماعية‪ ،‬وما يتعلق بهيمنة عمل االستشاريون تحت‬
‫تأثير وكاالت التمويل األجنبي‪ ،‬وغياب علم االجتماع العمومي (‪Public‬‬
‫‪ ،)Sociology‬وفشل األكاديمية العربية في تنمية ثقافة البحث *(‪.)30‬‬

‫***‬
‫وتلك التوصيات تدل على أن مصدريها فاقدون الثقة بأنفسهم‪ ،‬وعلومهم‬
‫ومؤسساتهم العلمية والبحثية (جامعات ـ مراكز بحث)‪ ،‬وغياب علم اجتماع نابع‬
‫من صميم الحياة االجتماعية للمواطنين في العالم العربي األمر الذي يضعنا أمام‬
‫أمرين ‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ التفرقة بين الذين يعيشون على علم االجتماع‪ ،‬والذين يعيشون من‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )30‬أوراق قدمت في مؤتمر عقد في وهران ( الجزائر) أيام‪ 22 ،21 ،20‬مارس ‪2012‬شارك فيه ‪32‬‬
‫باحث من ‪ 11‬دولة عربية بإشراف مركز دراسات الوحدة العربية ( بيروت ـ لبنان) والمركز الوطني للبحث‬
‫في األنثروبولوجيا االجتماعية والقافية ( وهران ـ الجزائر) والجمعية العربية لعلم االجتماع (تونس)‪ ،‬وتم‬
‫نشره في كتاب يعنوان ‪ « :‬مستقبل العلوم االجتماعية في الوطن العربي»تحالير وتقديم ‪ :‬ساري حنفي‪،‬‬
‫نورية بن غبريط ـ ريمون مجاهدي مصطفى‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية ـ بيروت ‪2014‬‬

‫‪133‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫أجله!!‬

‫‪ 2‬ـ التميز بين الكتابة الموجهه لوافع خارجي أو لجماعة علمية في إطار‬
‫غربي معين‪ ،‬أو لواقع محلي يقوم على استمرارية ما لثقافة استعمارية‪ ،‬أو لرسم‬
‫سياسات حكومات ذات ثقافة‪ ،‬وتوجهات غربية ‪.‬‬

‫يلقي تقرير المرصد العربي للعلوم االجتماعية على أجندات التمويل األجنبي‬
‫التي تسمى «الليبرالية الجديدة»‪ ،‬والتي تحيط بعمل العلوم االجتماعية‪ ،‬والتي‬
‫جعلت من العلم مجرد سوق استهالكي كأي سوق أخر حيث ينظر إلى الطالب‬
‫كمستهلكين (عمالء أو زبائن)‪ ،‬وإلى العلم في حد ذاته كوظيفة هدفها الربح ال‬
‫أكثر (منتج أو سلعة)‪ ،‬وإلى المؤسسات العلمية بما فيها الجامعات كنوع من‬
‫الشركات ال كمؤسسات ذات أهداف أجتماعية‪ ،‬وعلمية‪ ،‬ومدنية تتعالى على‬
‫النظرة االقتصادية المحضة؛ حيث يحتاج العلم إلى الدفاع عن نفسه ضد هذه‬
‫االتجاهات السوقية‪ ،‬والثقافة االستهالكية*(‪ )31‬ويؤكد التقرير أن نسبة الباحثين‬
‫العرب المستفيدين بدرجة ما من تمويل دولي تصل إلى ‪ ،%٤٠‬ومع ذلك ال يمكن‬
‫الخروج باستنتاجات نهائية حول العالقة بين التمويل‪ ،‬وأجندات البحث *(‪.)32‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )31‬محمد بامية‪ ،‬العلوم االجتماعية في العالم العربي‪ ،‬أشكال الحضور‪ ،‬التقرير األول للمرصد العربي‬
‫للعلوم االجتماعية ـ المجلس العربي للعلوم االجتماعية ـ بيروت ‪ ٢٠١٥‬ـ ص ‪8‬‬
‫*(‪ )32‬التقرير األول للمرصد العربي للعلوم االجتماعية ـ مرجع سابق ـ ص ‪25‬‬

‫‪134‬‬
‫ويشير التقريرأن مؤسسات البحث أصبحت جزء مهماً من سوق عمل‬
‫علماء العلوم االجتماعية العرب‪ ،‬وأن مركزين في مجال العلوم االجتماعية‬
‫يدخالن ضمن أهم ‪ ١٠٠‬مركز في العالم‪ ،‬وهما األهرام للدراسات السياسية‬
‫واالستراتيجية في القاهرة ‪ ،‬ومركز كارينجى للشرق األوسط في بيروت (وهو‬
‫منظمة أمريكية يعمل فيها طاقم بحثي عربي في الغالب)‪ ،‬ويتناول التقرير تنصيف‬
‫المراكز العربية المتضمنة في ‪ ١٠٠‬مركز العالمي من حيث تخصصاتها حيث‬
‫تهتم أربعة مراكز بالبحث في األمن القومي‪ ،‬وثالث ‪ ٣‬مراكز تتناول شئون‬
‫العالقات الدولية‪ ،‬ومركز عربي واحد في مختلف المجاالت األخرى للبحوث‬
‫*(‪)33‬‬ ‫االجتماعية‪.‬‬

‫ويشير التقرير إلى بروز ظاهرة جديدة نسبياً تتجسد في ظهور فئات أخرى‬
‫غير تقليدية من المراكز البحثية العربية إلى الصدارة العالمية‪ ،‬فهناك أربعة‬
‫مراكز عربية تتبوأ مرتبة عالية في مجال دعم المطالب (‪)Advocacy‬؛ بما‬
‫يعنى اتجاه المراكز البحثية إلى العمل الدعوي‪ ،‬والتشبيكي‪ ،‬وغير التقليدي‪،‬‬
‫‪)34(*.‬‬ ‫ويشير إلى المسالك المستقبلية لعمل مراكز البحث العربية‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )33‬التقرير األول للمرصد العربي للعلوم االجتماعية ـ مرجع سابق ـ ص ‪27، 26‬‬
‫*(‪ )34‬التقرير األول للمرصد العربي للعلوم االجتماعية ـ مرجع سابق ـ ص ‪27‬‬

‫‪135‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫‪136‬‬
‫الفصل الثاني ‪:‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــ‬

‫«العلوم الكولونيالية»‬
‫‪ ..‬وخـ ـ ـ ـ ـ ــراب العم ـ ـ ــران‬

‫‪137‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫‪ ..‬كان العرب سباقين بوضع أسس العلوم االجتماعية‪ ،‬وعلى رأسها‬


‫علم االجتماع بفضل ما قدمه ابن خلدون في هذا المجال باسم «علم العمران‬
‫البشري» في القرن الرابع عشر الميالدي‪ ،‬ومن سبقوه من العلماء في التحوم‬
‫حول بعض مسائل هذا العلم دون استيفائها‪ ،‬وإليضاح أدلتها؛ حيث يعبر ابن‬
‫خلدون في مقدمة مؤلفه الشهير ‪« :‬العبر‪ ،‬وديوان المبتدأ‪ ،‬والخبر في أيام‬
‫العرب‪ ،‬والعجم‪ ،‬والبربر‪ ،‬ومن عاصرهم من ذوي السلطان األكبر» عن‬
‫وضعه ألسس «علم العمران البشري» يقول ابن خلدون ‪:‬‬

‫«‪ ..‬ونحن قد ألهمنا هللا إلى ذلك إلهاماً‪ ،‬واعثرنا على علم جعلنا سن بكره‬
‫(مثل عربي يُقال لمن يصدق قوله بما في نفسه)‪ ،‬وجهينة خبره (مثل عربي‬
‫يُقال لمن عنده الخبر اليقين)؛ فإن كنت قد استوفيت مسائلة‪ ،‬وميزت عن سائر‬
‫الصنائع أنظاره‪ ،‬وأنحاءه فتوفيق من هللا وهداية‪ ،‬وإن فاتني شيء في إحصائه‪،‬‬
‫واشتبهت بغير مسائله؛ فللناظر المحقق إصالحه‪ ،‬ولى الفضل ألني نهجت‬
‫السبيل‪ ،‬وأوضحت له الطريق‪ ،‬وهللا يهدي بنوره من يشاء‪. )1(*».‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )1‬أبو زيد ولى الدين عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون‪ ،‬اعتنى به أبو صهيب الكرمي‪ ،‬مرجع سابق ـ‬
‫ص‪25‬‬

‫‪138‬‬
‫وال يدعي ابن خلدون النجاح التام في تحقيق أغراضه‪ ،‬وال بستبعد النقص‪،‬‬
‫والقصور‪ ،‬وال يسبعد النقص‪ ،‬والقصور في أبحاثه؛ فيطلب من أخالفه انتقاده‬
‫أوال‪ ،‬وإتمامه ثانياً‪.‬‬
‫ً‬

‫‪ ..‬ويظهرابن خلدون ذلك التأكيد بوضوح من بعض العبارات التي كتبها في‬
‫خطبة الكتاب إذ يقول ‪:‬‬

‫« فأنشأت قي التاريخ كتابا رفعت به عن أحوال الناشئة من األجيال حجابا‪،‬‬


‫وفصلته في األخبار بابأ باباً‪ ،‬وأبديت فيه ألولية الدول‪ ،‬والعمران ً‬
‫علال وأسبابا‪،».‬‬
‫ويضيف ‪« :‬فهذبت مناحيه تهذيبا‪ ،‬وقربته ألفهام العلماء والخاصة تقريبا ً‪،‬‬
‫وسلكت في ترتيبه‪ ،‬وتبويبه مسلكا غريباً‪ ،‬واخترعته من بين المناحي مذهباً‬
‫عجيباً‪ ،‬وطريقة مبتدعة وأسلوبا‪ ،‬وشرحت فيه من أحوال العمران‪ ،‬والمدن‪،‬‬
‫الذاتية‪)2(*.».‬‬ ‫والتمدن‪ ،‬وما يعرض في االجتماع اإلنساني من األعراض‬

‫ثم يدعي بأن الكتاب الذي وضعه ‪« :‬استوعب أخبار الخليقة استيعابا‪ ،‬وذلل‬
‫من الحكم النافرة صعاباً‪ ،‬وأعطى لحوادث الدول أسباباً‪ ،‬فأصبح للحكمة صوانا ً‪،‬‬
‫*(‪)3‬‬ ‫وللتاريخ جراباً‪.».‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )2‬ابن خلدون ‪ ،‬مقدمة ابن خلدون ‪ ،‬تحقيق عبد هللا محمد درويش‪ ،‬ط ‪ ،١‬دار يعرب ـ دمشق ‪٢٠٠٤‬ـ‬
‫ص ‪85‬‬
‫*(‪ )3‬ابن خلدون ‪ ،‬تحقيق عبد هللا محمد درويش ـ مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪87‬‬

‫‪139‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫ثم يعرض للمباحث التي تناولها بقوله ‪:‬‬

‫«لم اترك شيئاً في أولية األجيال‪ ،‬والدول‪ ،‬وتعاصر األمم األول‪ ،‬وأسباب‬
‫التصرف‪ ،‬والحول في القرون الخالية‪ ،‬والملل‪ ،‬وما يعرض في العمران من‬
‫دولة‪ ،‬وملة‪ ،‬ومدينة‪ ،‬وحلة‪ ،‬وعزة‪ ،‬وذلة‪ ،‬وكثرة‪ ،‬وقلة‪ ،‬وعلم‪ ،‬وصناعة‪،‬‬
‫وكسب‪ ،‬وإضاعة‪ ،‬وأحوال متقلبة مشاعة‪ ،‬وبدو‪ ،‬وحضر‪ ،‬وواقع منتظر إال‬
‫‪)4(*».‬‬ ‫استوعبت حمله‪ ،‬وأوضحت براهينه‪ ،‬وعلله‬

‫‪ ..‬وبعد هذا الزهو والفخار‪ ،‬واإلعجاب بالذات يبدي ابن خلدون نوعاً من‬
‫التواضع في مخاطبة علماء زمانه بقوله ‪:‬‬

‫«جاء هذا الكتاب فذا بما ضمنته من العلوم الغريبة‪ ،‬والحكم المحجوبة‬
‫القريبة‪ ،‬وأنا من بعدها موقن بالقصور بين أهل العصور معترف بالعجز عن‬
‫المضاء في مثل هذا القضاء‪ ،‬راغب من أهل األيادي البيضاء‪ ،‬والمعارف‬
‫المتسعة الفضاء التظر بعين االنتقاد ال بعين الرضاء‪ ،‬والتغمد لما يعثرون عليه‬
‫عليه باإلصالح أو اإلغضاء؛ فالبضاعة بين أهل العلم مزجاة‪ ،‬واالعتراف من‬
‫مرتجاة‪)5(*».‬‬ ‫اللوم منجاة‪ ،‬والحسنى من اإلخوان‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )4‬ابن خلدون ‪ ،‬تحقيق عبد هللا محمد درويش ـ مرجع سابق ـ ص ‪87‬‬
‫*(‪ )5‬ابن خلدون ‪ ،‬تحقيق عبد هللا محمد درويش ـ مرجع سابق ـ ص‪88‬‬

‫‪140‬‬
‫ويقدم االعتذار عن أي نقص أو قصور في الكتاب بقوله ‪:‬‬

‫«وإن كنت قد استوفيت مسائله‪ ،‬وميزت عن سائر الصنائع أنحاءه‪ ،‬وأنظاره؛‬


‫فتوفيق من هللا‪ ،‬وهداية‪ ،‬وإن فاتني شيء في احصائه‪ ،‬واشتبهت بغيره؛ فللناظر‬
‫المحقق إصالحه‪.».‬‬

‫ويختتم كالمه بقوله ‪:‬‬

‫« ولي الفضل ألني نهجت له السبيل‪ ،‬وأوضحت له الطريق‪ ،‬وهللا يهدي‬


‫بنوره من يشاء‪.».‬‬

‫كان ابن خلدون بصدد البحث عن «بناء معياري» يُعد من القواعد التي‬
‫يعرض عليه‪ ،‬واألصول التي يرد إليها؛ بغية إصالح ما عطب‪ ،‬واختل من‬
‫التاريخ باإلغراق في األكاذيب‪ ،‬والخرافات‪ ،‬والضالالت‪ ،‬واألساطير التي‬
‫أصبحت نموذجاً تفسيريا هاماً وفق للمعارف المتاحة في زمانه لما صعب‬
‫فهمه من الظواهر؛ فقاده الدرس والبحث إلى مبادئ «علم العمران البشري»‪،‬‬
‫وما توافر منها من تحكيم أصول العادة‪ ،‬وقواعد السياسة‪ ،‬وطبيعة العمران‪،‬‬
‫واألحوال في االجتماع اإلنساني‪ ،‬وليس قيس الغائب على الشاهد‪ ،‬والحاضر‬
‫بالذاهب؛ فربما لم يؤمن فيها من العثور‪ ،‬ومزلة القدم‪ ،‬والحيد عن جادة الصدق‪،‬‬

‫‪141‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫وهذا الفن يحتاج إلى العلم بقواعد السياسة‪ ،‬وطبائع الموجودات‪ ،‬واختالف‬
‫األمم‪ ،‬والبقاع‪ ،‬واألعصار في السير‪ ،‬واألخالق‪ ،‬والعوائد‪ ،‬والنحل‪ ،‬والمذاهب‪،‬‬
‫وسائر األحوال‪ ،‬واإلحاطة بالحاضر من ذلك‪ ،‬ومماثلة ما بينة‪ ،‬وبين الغائب من‬
‫الوفاق أو بون ما بينهما من الخالف‪ ،‬وتعليل المتفق منها‪ ،‬والمختلف‪ ،‬والقيام‬
‫على أصول الدولة‪ ،‬والملل‪ ،‬ومبادئ ظهورها‪ ،‬وأسباب حدوثها‪ ،‬ودواعي كونها‪،‬‬
‫وأحوال االقائمين بها‪ ،‬وأخبارهم حتى يكون مستوعباً ألسباب كل حادث‪ ،‬واقفاً‬
‫على أصول كل خبر‪ ،‬وحينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد‬
‫واألصول؛ فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحاً‪ ،‬وإال زيفه‪ ،‬واستغنى‬
‫عنه ‪.‬‬

‫ويصف ابن خلدون «علم العمران البشري» بأنه ‪ :‬علم مستقل بنفسه‪،‬‬
‫فإنه ذو موضوع‪ ،‬وهو العمران البشري‪ ،‬وما يعرض للبشر في اجتماعهم من‬
‫أحوال الملك‪ ،‬والكسب‪ ،‬والعيش‪ ،‬والتساكن‪ ،‬والعلوم‪ ،‬والصنائع بوجوه برهانية‬
‫يتضح بها التحقيق في معارف الخاصة‪ ،‬والعامة‪ ،‬وتدفع بها األوهام‪ ،‬وترفع‬
‫الشكوك‪ ،‬ومنها أيضاً الحاجة إلى الحكم الوازع‪ ،‬والسلطان القاهر‪ ،‬وما يلحقه‬
‫من مسائل‪ ،‬وبيان ما يلحقه من العوارض‪ ،‬واألحوال لذاته واحدة بعد األخرى‪،‬‬
‫وهذا شأن كل علم من العلوم وضعياً كان أو عقلياً ‪. .‬‬

‫‪ ..‬وقد أدرك ابن خلدون أن«علم العمران البشري» من العلوم الجديدة التي‬

‫‪142‬‬
‫ربما غفل عنها السابقون من العلماء‪ ،‬أو ربما عرفوه‪ ،‬ودرسوه‪ ،‬ولكنه لم يصل‬
‫لمن بعدهم ألغراض غير شريفة شأن العديد من العلوم التي اندثرت مع الزمان‪،‬‬
‫أكد ابن خلدون مشروعية هذا العلم‪ ،‬سواء‬‫واختفت تحت َطي النسيان‪ ،‬والقدم ‪ّ ..‬‬
‫ً‬
‫ومنفصال عن غيره‪،‬‬ ‫أكان الستحقاقه ألن يصنف كعلم مستقل‪ ،‬وجديد قائم بذاته‪،‬‬
‫ّ‬
‫المفكرين السابقين‪ ،‬يقول ابن خلدون ‪:‬‬ ‫أو كونه علما لم يسبق له إليه أحد من‬

‫«أن الكالم في هذا الغرض (علم العمران البشري) مستحدث الصنعة‬


‫غريب النزعة عزيز الفائدة اعثر عليه البحث‪ ،‬وأدى إليه الغوص‪ ،‬وليس من‬
‫علم الخطابة إنما هو األقوال المقنعة النافعة في استمالة الجمهور إلى رأي أو‬
‫صدهم عنه‪ ،‬وال هو أيضا من علم السياسة المدنية إذ السياسة المدنية هي تدبير‬
‫المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى األخالق‪ ،‬والحكمة ليحمل الجمهور على‬
‫منهاج يكون فيه حفظ النوع‪ ،‬وبقاؤه فقد خالف موضوعه موضوع هذين الفنين‬
‫اللذين ربما يشبهانه‪ ،‬وكأنه علم مسنبط النشأة‪ ،‬ولعمري لم أقف على الكالم في‬
‫منحاه ألحد من الخليقة ما أدري ألغفلتهم عن ذلك‪ ،‬وليس الظن بهم أو لعلهم‬
‫كتبوا في هذا الغرض‪ ،‬واستوفوه‪ ،‬ولم يصل إلينا فالعلوم كثيرة‪ ،‬والحكماء في‬
‫أمم النوع االنساني متعددون‪ ،‬وما لم يصل إلينا من العلوم أكثر مما وصل فأين‬
‫علوم الفرس التي أمر عمر رضى هللا عنه بمحوها عند الفتح؟‪ ،‬وأين علوم‬
‫الكلدانيين‪ ،‬والسريانيين‪ ،‬وأهل بابل‪ ،‬وما ظهر عليهم من آثارها‪ ،‬ونتائجها؟‬
‫وأين علوم القبط‪ ،‬ومن قبلهم؟‪ ،‬وإنما وصل إلينا علوم أمة واحدة‪ ،‬وهم يونان‬

‫‪143‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫خاصة لكلف المأمون بإخراجها من لغتهم‪ ،‬واقتداره على ذلك بكثرة المترجمين‪،‬‬
‫وبذل األموال فيها‪ ،‬ولم نقف على شيء من علوم غيرهم‪ ،‬وإذا كانت كل حقيقة‬
‫متعلقة طبيعية يصلح أن نبحث عما يعرض لها من العوارض لذاتها وجب أن‬
‫يكون باعتبار كل مفهوم‪ ،‬وحقيقة علم من العلوم يخصه لكن الحكماء لعلهم‬
‫إنما الحظوا في ذلك العناية بالثمرات‪ ،‬وهذا إنما ثمرته في األخبار فقط كما‬
‫رأيت‪ ،‬وإن كانت مسائله في ذاتها‪ ،‬وفي اختصاصها شريفة لكن ثمرته تصحيح‬
‫هجروه*(‪)6‬‬ ‫األخبار‪ ،‬وهي ضعيفة فلهذا‬

‫يقول ابن خلدون في مقدمة كتابه عن سبق األولين له في وضع مبادئ‬


‫(علم العمران البشري)‪:‬‬

‫« وهذا الفن (علم العمران البشري) الذي الح لنا النظر فيه نجد منه‬
‫مسائل تجري بالعرض ألهل العلوم في براهين علومهم‪ ،‬وهي من جنس مسائله‬
‫بالموضوع والطلب ‪:‬‬

‫مثل ما يذكره الحكماء والعلماء في إثبات النبوة من أن البشر متعاونون في‬


‫وجودهم؛ فيحتاجون إلى الحاكم‪ ،‬والوازع ‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )6‬ابن خلدون ‪،‬اعتنى به أبو صهيب الكرمي‪ ،‬مرجع سابق ـ ص ‪24‬‬

‫‪144‬‬
‫‪ ..‬ومثل ما يذكر في أصول الفقة في باب إثبات اللغات أن الناس محتاجون‬
‫إلى العبارة عن المقاصد بطبيعة التعاون‪ ،‬واالجتماع‪ ،‬وتبيان العبارات أخف ‪.‬‬

‫ومثل ما يذكره الفقهاء في تعليل األحكام الشرعية بالمقاصد في أن الزنا‬


‫مخلط لألنساب مفسد للنوع‪ ،‬وأن القتل أيضا مفسد للنوع‪ ،‬وأن الظلم مؤذن‬
‫بخراب العمران المفضي لفساد النوع‪ ،‬وغير ذلك من سائر المقاصد الشرعية‬
‫في األحكام؛ فإنها كلها مبنية على المحافظة على العمران؛ فكان لها النظر فيما‬
‫يعرض له‪ ،‬وهو ظاهر من كالمنا هذا في هذه المسائل الممثلة ‪.‬‬

‫وكذلك أيضا يقع إلينا القليل من مسائله في كلمات متفرقة لحكماء الخليقة‬
‫لكنهم لم يستوفوه ‪.‬‬

‫فمن كالم الموبذان (لقب رجل الدين عند الفرس) إلى الملك بهرام ابن‬
‫بهرام في حكاية البوم التي نقلها المسعودي في كتابه «أخبار الفرس» التي‬
‫مفادها أن‪:‬‬

‫«ذكر أن بوماً ذكراً يروم نكاح بوم أنثى‪ ،‬فطلبت منه أن يعطيها مهرها‬
‫عشرين قرية من الخراب في أيام بهرام بن بهرام‪ ،‬فاستهان الذكر بذلك‪ ،‬وقبل‬
‫شرطها‪ ،‬وقال لها أنه لو دامت أيام مُلك بهرام فإنه سوف يعطيها ألف قرية‬

‫‪145‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫خربة ال عشرين!»‪.‬‬

‫َ تعجب بهرام من كالم الموبذان‪ ،‬فخال به‪ ،‬وسأله عن مراده‪ ،‬وما الذي قصده‬
‫بهذا المثل‪ ،‬فقال له الموبذان‪:‬‬

‫أيها الملك ‪ :‬إن الملك ال يتم عزه إال بالشريعة‪ ،‬والقيام هلل بطاعته‪،‬‬
‫والتصرف تحت أمره‪ ،‬ونهيه‪ ،‬وال قوام للشريعة إال بالملك‪ ،‬وال عز للملك إال‬
‫بالرجال‪ ،‬وال قوام للرجال إال بالمال‪ ،‬وال سبيل إلى المال إال بالعمارة‪ ،‬وال سبيل‬
‫للعمارة إال بالعدل‪ ،‬والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة‪ ،‬نصبه الرب‪ ،‬وجعل‬
‫له قيماً‪ ،‬وهو الملك‪.‬‬

‫‪ ..‬ومن كالم أنوشروان في هذا المعني بعينه ‪« :‬الملك بالجند‪ ،‬والجند بالمال‪،‬‬
‫والمال بالخراج‪ ،‬والخراج بالعمارة‪ ،‬والعمارة بالعدل‪ ،‬والعدل بإصالح العمال‪،‬‬
‫وإصالح العمال باستقامة الوزراء‪ ،‬ورأس الكل بافتقاد الملك حال رعيته بنفسه‪،‬‬
‫واقتداره على تأديبها حتى يملكها‪ ،‬وال تملكه‪. ».‬‬

‫وفي الكتاب المنسوب ألرسطو في السياسة المتداولة بين الناس جزء منه‬
‫إال أنه غير مستوف‪ ،‬وال معطى حقه من البراهين‪ ،‬ومختلط بغيره‪ ،‬وقد أشار‬
‫في ذلك الكتاب إلى هذه الكلمات التي نقلناها عن الموبذان‪ ،‬وأنوشروان‪ ،‬وجعلها‬

‫‪146‬‬
‫في الدائرة القريبة التي أعظم القول فيها هو قوله ‪:‬‬

‫«العالم بستان سياجه الدولة‪ ،‬الدولة سلطان تحيا به السنة‪ ،‬والسنة سياسة‬
‫بسوسها ال َملِك‪ ،‬والمُلك نظام يعضده الجند‪ ،‬والجند أعوان يكفلهم المال‪ ،‬والمال‬
‫رزق تجمعه الرعية‪ ،‬الرعية عبيد يكنفهم العدل‪ ،‬العدل مألوف‪ ،‬وله قوام‬
‫العالم‪.».‬‬

‫يرجع ابن خلدون إلى أول الكالم‪« :‬العالم بستان» ‪..‬مؤكداً أنها ثمان كلمات‬
‫حكيمة سياسية ارتبط بعضها ببعض‪ ،‬وارتدت أعجازها على صدورها‪ ،‬واتصلت‬
‫فوائدها‪)7(*.».‬‬ ‫في دائرة ال يتعين طرفها فخر بعثوره عليها‪ ،‬وعظم من‬

‫‪ ..‬وينبه ابن خلدون قارئ مقدمة كتابه إلى تأمل كالمه في فصل الدول‪،‬‬
‫والملك‪ ،‬واعطائه حقه من التصفح‪ ،‬والتفهم ليعثر في ثناياه على تفسير هذه‬
‫الكلمات‪ ،‬وتفصيل إجمالها مستوفي بيان بأوعب بيان‪ ،‬وأوضح دليل‪ ،‬وبرهان‬
‫اطلعنا هللا عليه من غير تعليم أرسطو‪ ،‬وال إفادة موبذان ‪.‬‬

‫ويشير ابن خلدون إال أنه وجد في كالم ابن المقفع‪ ،‬وما يستطرد في رسائله‬
‫من ذكر السياسات الكثير من مسائل غير مبرهنة كما برهنها هو في مقدمة‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )7‬ابن خلدون‪ ،‬اعتنى به أبو صهيب الكرمي‪ ،‬مرجع سابق ـ ص ‪25‬‬

‫‪147‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫كتابه الشهيرة‪ ،‬إنما يجلبها في الذكر على منحى الخطابة في أسلوب الترسل‪،‬‬
‫وبالغة الكالم ‪.‬‬

‫‪ ..‬ويذكر ابن خلدون أن القاضي أيو بكر الطرطوشي في كتابه «سراج‬


‫الملوك» قد حوم على أبواب تقرب من مقدمة ابن خلدون‪ ،‬ومسائلها لكنه لم‬
‫بصادف فيه الرمية‪ ،‬وال أصاب الشاكلة‪ ،‬وال استوفى‪ ،‬وال أوضح األدلة‪ ،‬إنما‬
‫يبوب الباب للمسألة تم يستكثر من األحادث‪ ،‬واآلثار‪ ،‬وينقل كلمات متفرقة‬
‫لحكماء الفرس‪ ،‬وحكماء الهند‪ ،‬والمأثور عن دانيال‪ ،‬وهرمس‪ ،‬وغيرهم من‬
‫الحكماء‪ ،‬وال يكشف عن التحقيق قناعا‪ ،‬وال يرفع بالبراهين الطبيعية حجابا إنما‬
‫هو نفل‪ ،‬وتركيب شبيه بالمواعظ‪ ،‬وكأنه حوم على الغرض‪ ،‬ولم بصادفه‪ ،‬وال‬
‫*(‪)8‬‬ ‫تحقق قصده‪ ،‬وال استوفى مسائله ‪.‬‬

‫تصحيح التاريخ‬
‫ونشأة (علم العمران)‪:‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫كان ابن خلدون من المؤمنين بأن التاريخ «علم الحقيقة» و«مخزون‬


‫التجربة اإلنسانية» من األحداث‪ ،‬واألفعال‪ ،‬واألفكار‪ ،‬وهو استجابة لرغبة‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )8‬ابن خلدون‪ ،‬اعتنى به أبو صهيب الكرمي‪ ،‬مرجع سابق ـ ص ‪25‬‬

‫‪148‬‬
‫اإلنسان الخالدة في أن يعرف عن نفسه‪ ،‬وعن اآلخر؛ بما جعل فن التأريخ فن‬
‫عزيز المذهب جم الفوائد شريف الغاية؛ إذ يوقفنا على أحوال الماضين من األمم‬
‫في أخالقهم‪ ،‬واألنبياء في سيرهم‪ ،‬والملوك في دولهم‪ ،‬وسياستهم حتى تتم فائدة‬
‫االقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين الدنيا فهو محتاج إلى مآخذ متعددة‪،‬‬
‫ومعارف متنوعة‪ ،‬وحسن نظر‪ ،‬وتثبيت يفضيان بصاحبهما إلى الحق‪ ،‬وينكبان‬
‫به عن المزالت‪ ،‬والمغالط ألن األخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل‪ ،‬ولم‬
‫تحكم أصول العادة‪ ،‬وقواعد السياسة‪ ،‬وطبيعة العمران‪ ،‬واألحوال في االجتماع‬
‫اإلنساني‪ ،‬وليس قيس الغائب على الشاهد‪ ،‬والحاضر بالذاهب؛ فربما لم يؤمن‬
‫فيها من العثور‪ ،‬ومزلة القدم‪ ،‬والحيد عن جادة الصدق ‪.‬‬

‫‪ ..‬وقد ارتأى ابن خلدون أن ‪« :‬كثيرا ما وقع للمؤرخين‪ ،‬والمفسرين‪ ،‬وأئمة‬


‫النقل من المغالط في الحكايات‪ ،‬والوقائع العتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو‬
‫سميناً‪ ،‬ولم يعرضوها على أصولها‪ ،‬وال قاسوها بأشباهها‪ ،‬وال سبروها بمعيار‬
‫الحكمة‪ ،‬والوقوف على طبائع الكائنات‪ ،‬وتحكيم النظر‪ ،‬والبصيرة في األخبار؛‬
‫فضلوا عن الحق‪ ،‬وتاهوا في بيداء الوهم‪ ،‬والغلط‪ ،‬وال سيما في إحصاء األعداد‬
‫من األموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات إذ هي مظنة الكذب‪ ،‬ومطية‬
‫‪)9(*.‬‬ ‫الهذر‪ ،‬وال بد من ردها إلى األصول‪ ،‬وعرضها على القواعد‪».‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )9‬ابن خلدون ‪ ،‬اعتنى به أبو صهيب الكرمي‪ ،‬مرجع سابق ـ ص ‪11‬‬

‫‪149‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫وقد ارتأى ابن خلدون أنه كاد يخرج عن غرض كتابه باإلطناب في هذه‬
‫المغالط التي زلت أقدام كثير من األثبات‪ ،‬والمؤرخين الحفاظ في مثل هذه‬
‫األحاديث‪ ،‬واألراء‪ ،‬وعلقت بأفكارهم‪ ،‬ونقلها عنهم الكافة من ضعفة النظر‪،‬‬
‫والغفلة عن القياس‪ ،‬وتلقوها هم أيضا كذلك من غير بحث‪ ،‬وال روية‪ ،‬واندرجت‬
‫في محفوظاتهم حتى صار فن التاريخ واهياً مختلطاً‪ ،‬وناظره مرتبكا‪ ،‬وعد من‬
‫‪)10(*.‬‬ ‫مناحي العامة‬

‫وارتأى ابن خلدون أن صاحب هذا الفن يحتاج إلى العلم بقواعد السياسة‪،‬‬
‫وطبائع الموجودات‪ ،‬واختالف األمم‪ ،‬والبقاع‪ ،‬واألعصار في السير‪ ،‬واألخالق‬
‫والعوائد‪ ،‬والنحل‪ ،‬والمذاهب‪ ،‬وسائر األحوال‪ ،‬واإلحاطة بالحاضر من ذلك‪،‬‬
‫ومماثلة ما بينه‪ ،‬وبين الغائب من الوفاق أو بون ما بينهما من الخالف‪ ،‬وتعليل‬
‫المتفق منها‪ ،‬والمختلف‪ ،‬والقيام على أصول الدولة‪ ،‬والملل‪ ،‬ومبادئ ظهورها‪،‬‬
‫وأسباب حدوثها‪ ،‬ودواعي كونها‪ ،‬وأحوال االقائمين بها‪ ،‬وأخبارهم حتى يكون‬
‫مستوعباً ألسباب كل حادث‪ ،‬واقفاً على أصول كل خبر‪ ،‬وحينئذ يعرض خبر‬
‫المنقول على ما عنده من القواعد‪ ،‬واألصول فإن وافقها‪ ،‬وجرى على مقتضاها‬
‫كان صحيحاً‪ ،‬وإال زيفه‪ ،‬واستغنى عنه ‪)11(*.‬‬

‫يضع ابن خلدون يده على األسباب الحقيقية التي أصابت التأريخ في‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )10‬ابن خلدون‪ ،‬اعتنى به أبو صهيب الكرمي‪ ،‬مرجع سابق ـ ص ‪19‬‬
‫*(‪ )11‬ابن خلدون‪ ،‬اعتنى به أبو صهيب الكرمي‪ ،‬مرجع سابق ـ ص ‪19‬‬

‫‪150‬‬
‫عصره بالفساد‪ ،‬والعطن‪ ،‬وشوهته باألكاذيب‪ ،‬والخرافات‪ ،‬وحادت به عن‬
‫جادة الصواب‪ ،‬وابتعدت به عن مراميه في ابتغاء الحقيقة‪ ،‬وحدودها المنطقية‬
‫وضوابطها الصارمة‪ ،‬وفهمها في علتها وربطها بالمعلول‪ ،‬ولخصها في أسباب‬
‫ال تختلف عن (آفة التأريخ) في عصرنا هذا‪:‬‬

‫ً‬
‫أوال ‪ :‬صار انتحال مهنة التأريخ مجهلة‪ ،‬ويرجع ابن خلدون أمر اشتغال‬
‫العوام بالتأريخ إلى اشتغال أهل العصبية بالملك‪ ،‬والسلطان فدفع لعلم التأريخ من‬
‫قام به سواهم‪ ،‬وأصبح حرفة للمعاش‪ ،‬وشمخت أنوف المترفين‪ ،‬وأهل السلطان‬
‫عن التصدي للتعليم‪ ،‬واختص انتحاله بالمستضعفين‪ ،‬وصار منتحله محتقراً عند‬
‫أهل العصبية‪ ،‬والملك‪ ،‬واستخف بها العوام‪ ،‬ومن ال رسوخ له في المعارف‬
‫مطالعته‪ ،‬وحمله‪ ،‬والغوص فيه‪ ،‬والتطفل عليه؛ فاختلط المرعي بالهمل‪ ،‬واللباب‬
‫بالقشر‪ ،‬والصادق بالكاذب‪ ،‬وصار من مهمة هؤالء المستضعفين ‪« :‬اصطناع‬
‫الرجال»‪.‬‬

‫اصطناع الرجال ‪:‬‬


‫ـــــــــــــــــــــــــــ‬

‫‪ ..‬وكان المؤرخون لتلك العهود يضعون تواريخهم ألهل الدولة‪ ،‬وأبناؤها‬


‫متشوفون إلى سير أسالفهم‪ ،‬ومعرفة أحوالهم؛ ليقتفوا آُثارهم‪ ،‬وينسجوا على‬

‫‪151‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫منوالهم حتى في اصطناع الرجال من خلف دولتهم‪ ،‬وتقليد الخطط‪ ،‬والمراتب‬


‫ألبناء صنائعهم‪ ،‬وذويهم‪ ،‬وكان القضاة من أهل عصبية الدولة‪ ،‬وفي عداد‬
‫الوزراء ‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬تبدل األحوال والعوائد؛ فكل جيل تابع لعوائد سلطانه؛ فإذا جاءت‬
‫دولة أخرى من بعدهم مزجت من عوائدهم‪ ،‬وخالفت بعض الشيء ثم ال يزال‬
‫التدرج في المخالفة حتى ينتهي إلى المباينة بالجملة؛ فما دامت األمم‪ ،‬واألجيال‬
‫تتعاقب في المللك‪ ،‬والسلطان ال تزال المخالفة في العوائد‪ ،‬واألحوال واقعة ‪.‬‬

‫‪ ..‬والقياس والمحاكاة لإلنسان طبيعة معروفة‪ ،‬ومن الغلط غير مأمونة تخرجه‬
‫من الذهول‪ ،‬والغفلة عن قصد‪ ،‬وتعوج به عن مرامه؛ فربما يسمع السامع كثيراً‬
‫من أخبار الماضيين‪ ،‬وال يتفطن لما وقع من تغير األحوال‪ ،‬وانقالبها؛ فيجريها‬
‫ألول وهلة على ما عرف‪ ،‬ويقيسها بما شهد‪ ،‬وقد يكون الفرق بينهما كثيرا؛ فيقع‬
‫في مهواة من الغلط‪ ،‬وهو ما يطلق عليه ‪« :‬الغلط الخفي»‪.‬‬

‫«الغلط الخفي»‪:‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــ‬

‫‪ ..‬وتحدث ابن خلدون عنما اسماه بـ «الغلط الخفي» في التاريخ‪ ،‬والذهول‬

‫‪152‬‬
‫عن تبدل األحوال في األمم‪ ،‬واألحوال‪ ،‬واألجيال بتبدل األعصار‪ ،‬ومرور‬
‫األيام‪ ،‬وهو داء دوري شديد الخفاء إذ ال يقع إال بعد أحقاب متطاولة؛ فال‬
‫يكاد يتفطن إليها إال األحاد من أهل الخليقة‪ ،‬وذلك أن أحوال العالم‪ ،‬واألمم‪،‬‬
‫وعوائدهم‪ ،‬ونحلهم ال تدوم على وتيره واحدة‪ ،‬ومنهاج مستقر‪ ،‬انما هو اختالف‬
‫على األيام‪ ،‬واألزمنة‪ ،‬وانتقال من حال إلى حال‪ ،‬وكما يكون ذلك في األشخاص‬
‫واألوقات‪ ،‬واألمصار؛ فكذلك يقع في األفاق‪ ،‬واألقطار‪ ،‬واألزمنة‪ ،‬والدول‪،‬‬
‫وهو ما يحمل المؤرخون المعاصرون على استدعاء الماضي‪ ،‬وإعادة بنائه‬
‫بالتوسل بـ «المنهج االستردادي»؛ للوقف على طبيعة‪ ،‬وظروف‪ ،‬وأحوال‬
‫العصر الذي جرت فيه األحداث‪.‬‬

‫‪ ..‬وأيضا يلجأ المؤرخون المعاصرون بمناهجهم المستحدثة إلى القراءات‬


‫المختلفة لألحداث من خالل القراءة الشعبية للتاريخ‪ ،‬واستقراء التاريخ‪،‬‬
‫واآلثار‪ ،‬والقراءة الدينية‪ ،‬والمأثور الشعبي الذي يعد نمط هام من أنماط القراءة‬
‫الشعبية للتاريخ؛ ألنه يحمل تفسيرات شعبية ألحداث التاريخ من خالل النثر‪،‬‬
‫والشعر والحكاية‪ ،‬والعادات‪ ،‬والخرافات‪ ،‬واألغاني‪ ،‬والرقصات‪ ،‬والمالبس‪،‬‬
‫‪ ..‬ويحمل أيضا رؤية الشعوب ألصولها‪ ،‬وتاريخها‪ ،‬وأبطاله‪ ،‬ويحمل التفسير‬
‫الشعبي للظواهر الطبيعية‪ ،‬ومن أيضا من خالل التوسل باللغة‪ ،‬وفهم السياقات‬
‫االجتماعية التي تكتسب فيها اللغة‪ ،‬وتستخدم‪ ،‬والوقوف على معنى المعنى‪،‬‬
‫ومرامي المغزى‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫«أسباب الكذب» ‪:‬‬


‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫يؤكد ابن خلدون أن حقيقة التاريخ أنه خبر عن االجتماع اإلنساني الذي هو‬
‫عمران العالم‪ ،‬وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من األحوال مثل التوحش‪،‬‬
‫والتأنس‪ ،‬والعصبيات‪ ،‬وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض‪ ،‬وما ينشأ‬
‫عن ذلك من الملك‪ ،‬والدول‪ ،‬ومراتبها‪ ،‬وما ينتحله البشر بأعمالهم‪ ،‬ومساعيهم‬
‫من الكسب‪ ،‬والمعاش‪ ،‬والعلوم‪ ،‬والصنائع‪ ،‬وسائر ما يحدث في ذلك العمران‬
‫بطبيعة األحوال ‪.‬‬

‫ولما كان الكذب متطرقاً للخبر بطبيعته‪ ،‬وله أسباب تقتضيه؛ فمنها‬
‫التشيعات لألراء والمذاهب؛ فإن النفس إذا كانت على حال من االعتدال في‬
‫قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص‪ ،‬والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه‪ ،‬وإذا‬
‫خامرها تشيع لرأى أو نحله قبلت ما يوافقها من األخبار ألول وهلة‪ ،‬وكان ذلك‬
‫الميل‪ ،‬والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن االنتقاد‪ ،‬والتمحيص؛ فتقع في‬
‫قبول الكذب‪ ،‬ونقلة‪.‬‬

‫ومن األسباب المقتضية للكذب في األخبار أيضا الثقة بالناقلين‪ ،‬وتمحيص‬


‫ذلك يرجع إلى التعديل‪ ،‬والتجريح ‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫‪ ..‬ومنها الذهول عن المقاصد فكثير من الناقلين ال يعرف القصد بما عاين‬
‫أو سمع‪ ،‬وينقل الخبر على ما في ظنه‪ ،‬وتخمينه؛ فيقع في الكذب ‪.‬‬

‫‪ ..‬ومنها توهم الصدق‪ ،‬وهو كثير‪ ،‬وإنما يجيء في األكثر من جهة الثقة‬
‫بالناقلين‪.‬‬

‫‪ ..‬ومنها الجهل بتطبيق األحوال على الوقائع ألجل ما يداخلها من التلبيس‪،‬‬


‫والتتصنع؛ فينقلها المخبر كما رأها‪ ،‬وهي بالتصنع على غير الحق نفسه ‪.‬‬

‫‪ ..‬ومنها تقرب الناس في األكثر ألصحاب التجلة والمراتب بالثناء‪ ،‬والمدح‪،‬‬


‫وتحسين األحوال‪ ،‬وإشاعة الذكر بذلك؛ فتستفيض األخبار بها على غير حقيقة؛‬
‫فالنفوس مولعة بحب الثناء‪ ،‬والناس متطلعون إلى الدنيا‪ ،‬وأسبابها من جاه‪،‬‬
‫وثروة‪ ،‬وليسوا في األكثر براغبين في الفضائل‪ ،‬وال متنافسين في أهلها ‪.‬‬

‫ومن األسباب المقتضية للكذب أيضا‪ ،‬وهى سابقة على جميع ما تقدم ‪:‬‬
‫الجهل بطبائع األحوال في العمران؛ فإن كل حادث من الحوادث ذاتاً كان أو‬
‫ً‬
‫فعال ال بد له من طبيعة تخصه في ذاته‪ ،‬وفيما يعرض له من أحواله؛ فإذا كان‬
‫السامع عارفاً بطبائع الحوادث‪ ،‬واألحوال في الوجود‪ ،‬ومقتضياتها أعانه ذلك‬
‫في تمحيص الخبر على تميز الصدق من الكذب‪ ،‬وهذا أبلغ في التمحيص من‬

‫‪155‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫يعرض‪)12(*.‬‬ ‫كل وجه‬

‫***‬

‫‪ ..‬يالحظ أن بعض األمور التي يذكرها ابن خلدون عن أسباب الكذب من نوع‬
‫الغلط‪ ،‬والوهم «الالقصدي»‪ ،‬وبعضها من نوع التلبيس‪ ،‬والكذب «القصدي»‬
‫بالمعنى الذي يفهم من كلمة الكذب‪ ،‬وبعضها من نوع «عدم التمييز» من جراء‬
‫عدم التفكير‪ ،‬أو الجهل‪ ،‬أو االنخداع‪ ،‬وقد ميز ابن خلدون هذه األنواع بعضها‬
‫عن بعض غير أنه ذكرها تحت اسم عام‪ ،‬وهو «الكذب» أى أنه استعمل هذا‬
‫األسم للداللة على كل ما هو مخالف للواقع سواء انتجت هذه المخالفة من كذب‬
‫المخبر‪ ،‬وتلبيسه‪ ،‬أم من توهمه‪ ،‬وغلطه‪ ،‬أم من جهله‪ ،‬وانخداعه ‪.‬‬

‫***‬

‫كان موضوع الكذب حقال لكتابات بعض المفكرين أشهرها كتاب «تاريخ‬
‫الكذب» للمفكر الفرنسي جاك دريدا‪ ،‬وكتاب «صناعة الكذب» للكاتب الصحفي‬
‫والباحث المصري ياسر بكر ‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )12‬ابن خلدون‪ ،‬اعتنى به أبو صهيب الكرمي‪ ،‬مرجع سابق ـ ص ‪23‬‬

‫‪156‬‬
‫جاك دريدا‬
‫و«تاريخ الكذب» ‪:‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫يقدم جاك دريدا في كتابه بعنوان «تاريخ الكذب» أطروحات تمهيدية لبلورة‬
‫جينالوجية تفكيكية لمفهوم الكذب في محاولة للوصول إلى إمكانية تشكيل تاريخ‬
‫خاص بالكذب من حيث هو كذلك‪ ،‬وهي اطروحة تعتريها صعوبة ال يمكن‬
‫تجاهلها‪ ،‬وتكمن في ضرورة التمييز بين تاريخ الكذب كمفهوم‪ ،‬وتاريخة في‬
‫حد ذاته‪ ،‬والذي يحيل إلى عوامل تاريخية‪ ،‬وثقافية تساهم في بلورة الممارسات‪،‬‬
‫واألساليب‪ ،‬والدوافع التي تتعلق بالكذب‪ ،‬والتي تختلف من حضارة إلى أخرى‪،‬‬
‫بل وحتى داخل الحضارة الواحدة نفسها‪ ،‬وتحديد أوجة القرابة التي توجد بين‬
‫الكذب‪ ،‬ومفاهيم أخرى فيجب على سبيل المثال التأكيد كما يفعل كانط على‬
‫العالقة العضوية التي تربط الكذب بالوعد ومن ثم الحنث؛ فالكذب في خاتمة‬
‫التحليل إخالل بالوعد الذي أعطاة الكاذب ضمنياً لألخرين بقول الحقيقة لهم‪،‬‬
‫وبالتالي فهو يسعى إلى توجيه سلوكهم أي أن الكذب يتضمن بعداً إنجازيا غير‬
‫قابل لإلختزال ‪.‬‬

‫‪ ..‬كما أنه يجب وضع حدود صارمة بين الكذب‪ ،‬والخطأ‪ ،‬ومن ثم يجب‬
‫افتراض بأن نقيض الكذب ليس الحقيقة أو الواقع ‪ ،‬بل الصدق؛ فالقدبس أغسطين‬

‫‪157‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫قوال خاطئاً دون أن نعتبر كاذبين‪ ،‬وذلك إذا كنا‬


‫يذهب إلى أنه بإمكاننا أن نقول ً‬
‫نعتقد عن حسن نية بأن ما نقوله صحيح‪ ،‬وإال يكون قصدنا خداع اآلخرين ‪ ،‬كما‬
‫قوال صحيحاً‪ ،‬وأن نعتبر رغم ذلك كاذبين إذا كان القصد‬
‫ً‬ ‫أن بإمكاننا أن نقول‬
‫من قولنا هو خداع األخرين ‪.‬‬

‫‪ ..‬النتائج التي يستخلصها جاك دريدا من هذه الفرضية تشكل المحاور الثالثة‬
‫لتحليالته؛ فهو يفترض وجود عالقة جوهرية بين الكذب‪ ،‬والقصدية‪ ،‬ويذهب‬
‫إلى أنه من المستحيل؛ وذلك العتبارات بنيوية البرهنة بالمفهوم الضيق لهذه‬
‫الكلمة بأن أحداً ما قد كذب‪ ،‬وذلك على الرغم من أننا بوسعنا البرهنة على أنه‬
‫لم يقل الحقيقة ‪.‬‬

‫‪ ..‬يؤكد دريدا من جهة ثالثة استحالة الكذب على الذات !! هل يإمكان‬


‫اإلنسان أن يقول بذاته عن قصد أشياء مختلفة عن تلك التي يفكر فيها ً‬
‫فعال‪ ،‬وأن‬
‫يفعل ذلك بقصد خداعها‪ ،‬وإلحاق األذى بها أى كيف يمكن الكذب على الذات‬
‫دون اعتبارها بمثابة آخر مستقل يجب ـ كما يرى جان جاك روسو ـ االلتزام‬
‫بواجب الصدق تجاهه !!‬

‫‪ ..‬كانت الصعوبة التي تجعل مشروع تشكيل تاريخ خاص بالكذب من‬
‫الصعوبة بمكان؛ فكيف يمكن للكذب أن يكون له تاريخ مستقل إذا كان التاريخ‪،‬‬

‫‪158‬‬
‫والتاريخ السياسي على وجة الخصوص يعج بالكذب !!‬

‫‪ ..‬ويستمر دريدا في طرح أو افتراض عالقة متصلة بين الكذب‪ ،‬والخطأ‬


‫ومن ثمة بين الحق‪ ،‬والصدق ما يمكنة بالفعل من طرح قضية الكذب في أسلوب‬
‫محايد‪ ،‬وبعيد عن االعتبارات االخالقية أي كمسألة نظرية‪ ،‬وإبستيمولوجية ‪.‬‬

‫‪ ..‬ويرى دريدا أن خطوة مثل هذه ال يمكن الجزم في شأنها بأنها غير‬
‫مشروعة أو عديمة الجدوى إال أنه ال يمكن الرجوع إليها إال إذا قبلنا بإدخال‬
‫البعد األخالقي للكذب‪ ،‬وغير قابل لإلختزال في االعتبار؛ أى أن كنه ظاهرة‬
‫الكذب من حيث هي كذلك‪ ،‬ال عالقة لها بمسائل المعرفة‪ ،‬والحقيقة‪ ،‬والصحة‬
‫والخطأ‪ ،‬ويعبر دريدا عن رغبته في أن يخطو في اتجاه الهوة التي توجد بين‬
‫البعد األخالقي للكذب‪ ،‬وأحد أشكال تاريخة السياسي؛ ليصل إلى أنه من الصعب‬
‫االعتقاد بأن يكون للكذب تاريخ ‪ ،‬ثم من يستطيع رواية تاريخ الكذب؟!‪ ،‬ومن‬
‫بإمكانه الجزم بأن تاريخ الكذب الذي يعد بروايته سيطابق الحقيقة ؟!‬

‫يؤكد دريدا أن الكذب حسب تعبير ارسطو ‪ :‬يشكل دعاء أو الدعوة بالشر‬
‫في فضاء محدد من اللغة‪ ،‬وعندما تلجأ الشعوب إلى التخيالت بغرض التعويض‬
‫النفسي عن االحباطات‪ ،‬والهزائم‪ ،‬واالنكسارات‪ ،‬وكذلك أحالم اليقظة للمهمشين‬
‫والمحبطين‪ ،‬واالبتكار المتعمد لألشياء المتخيلة ؟!‬

‫‪159‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬
‫‪ ..‬ويتسائل دريدا ‪ :‬أين نصنف الظواهر المختلفة المرتبطة بالصمت‪ ،‬والتي‬
‫تهدف إلى خداع األخرين‪ ،‬وأحياناً إلحاق األذي بهم‪ ،‬وقد تكمن من ورائها على‬
‫العكس من ذلك مقاصد حسنة ال يمكن التشكيك فيها !!‬

‫‪ ..‬وهل يمكن اعتبار االبتسامات المتكلفة من باب حسن اللياقة أو النظرات‪،‬‬


‫وحركات اليد المضمرة على أنها مجرد أكاذيب ؟!!‬

‫‪ ..‬ويؤكد دريدا على مالحظته اإلقصاءات الشاملة‪ ،‬والصعبة التي يجب‬


‫اللجوء إليها بكل دقة منطقة حرة للكذب‪ ،‬منطقة يمكن لمفهوم الكذب الطليق أن‬
‫يجد فيها حدوداً سهلة التحديد ‪.‬‬

‫‪ ..‬ويؤكد دريدا على ظاهرة الكتلة ـ وهى أن التعريف الخام‪ ،‬والجامد‪،‬‬


‫والصلب‪ ،‬والواضح وبالحرف الواحد الطليق للكذب‪ ،‬ويمكن من اإلحاطة‬
‫بمفهوم سائد في ثقافتنا؛ فذلك أوال وقبل كل شيء ألنه ال يوجد في ثقافتنا أخالق‪،‬‬
‫أو قانون‪ ،‬أو سياسة بإمكانهم االستمرار في حالة زوالها الكلي ‪.‬‬

‫‪ ..‬وينطلق دريدا من فرضية أن للفهم السليم للكذب الطليق تاريخ فإنه من‬
‫المحتم على هذا األخير أن يجد نفسه في صيرورة قد تهدد باستمرار بإضفاء‬
‫طابع النسبية على سلطته‪ ،‬وقيمته باإلضافة إلى هذا‪ ،‬وهنا تكمن الصعوبة‬

‫‪160‬‬
‫الثانية يجب التمييز بين تاريخ الكذب كمفهوم‪ ،‬وتاريخة في حد ذاته‪ ،‬والذي‬
‫يمثل تاريخ‪ ،‬وثقافة يؤثران في الممارسات‪ ،‬واألساليب‪ ،‬والدوافع‪ ،‬والتقنيات‪،‬‬
‫ومختلف الطرق‪ ،‬والنتائج التي يمكن ربطها بالكذب؛ فحتى عندما نأخذ ثقافة‬
‫ما حيث يسود بدون منازع مفهوم واحد للكذب محدد ال يتغير أبداً فإن التجارب‬
‫االجتماعية‪ ،‬والتأويالت المختلفة‪ ،‬وأساليب ممارسة فعل الكذب تبقى قابلة‬
‫!!*(‪)13‬‬ ‫للتغير‬

‫ياسر بكر‬
‫و«صناعة الكذب» ‪:‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫يستلهم ياسر بكر الفكر الخلدوني عن تعريف التاريخ في مقولة ابن خلدون‬
‫العميقة ‪:‬‬

‫« إعلم أنه لما كانت حقيقة التاريخ أنه خبر عن االجتماع اإلنساني الذي‬
‫هو عمران العالم‪ ،‬وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من األحوال مثل التوحش‪،‬‬
‫والتأنس‪ ،‬والعصبيات‪ ،‬وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض‪ ،‬وما ينشأ‬
‫عن ذلك من الملك‪ ،‬والدول‪ ،‬ومراتبها‪ ،‬وما ينتحله البشر بأعمالهم‪ ،‬ومساعيهم‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )13‬جاك دريدا‪ ،‬تاريخ الكذب‪ ،‬ترجمة رشيد بازي‪ ،‬المركز الثقافي العربي ـ ط ‪ 1‬ـ المغرب ‪ ،‬الدار البيضاء‬
‫ـ بيروت ‪ ،‬لبنان ‪2016‬‬

‫‪161‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫من الكسب‪ ،‬والمعاش‪ ،‬والعلوم‪ ،‬والصنائع‪ ،‬وسائر ما يحدث من ذلك العمران‬


‫بطبيعة األحوال‪ ،».‬يعد ابن خلدون أول مفكر في تاريخ البشرية يمارس ما‬
‫يسميه المؤرخون في العصر الحديث‪« :‬التاريخ من أسفل البناء االجتماعي»‬
‫أي تاريخ «األنفار»‪ ،‬أو ما تطلق عليه المدرسة الهندية في كتابة التاريخ ‪:‬‬
‫«تأريخ التابع»‪ ،‬وتعرف التابع بأنه ‪« :‬كل ما دون النخبة»‪ ..‬خاصة أن التاريخ‬
‫بصفة عامة اقتصر في أغلبه على التأريخ للملوك‪ ،‬والحكام‪ ،‬والقادة من منطلقات‬
‫الفخار الوطني الزائف‪ ،‬والمزعوم‪ ،‬والمتوارث‪ ،‬وأغفل كل ذكر للبشر العاديين‬
‫‪ ....‬وكان المورخون القدامي يتحرجون من تناول سير هؤالء‪ ،‬وتاريخهم‬
‫االجتماعي ـ إن لم يكن حتى اآلن ـ ألسباب بعضها يرجع إلى منطلقات ساذجة‬
‫تتعلق بالعيب‪ ،‬والحرام‪ ،‬والتمييز‪ ،‬والتهميش!!‬

‫‪ ..‬وفي ظل التحدي الذي جلبته الصحافة الورقية صار الصحفيون هم ناقلوا‬


‫الخبر عن االجتماع البشري‪ ،‬وأحوال العمران ‪ ..‬أي صاروا هم كتاب التاريخ‬
‫في بروفته األولى المنطبعة‪ ،‬وألنه ليس من السهل االطالع على علة الحدث‬
‫في مرحلته األولي‪ ،‬فضال عن أن الصحافة في مصر نشأت قي كنف الحاكم بما‬
‫يجعل الكثير من المواد الصحفية المنشورة تخضع للتعديل‪ ،‬والتحوير‪ ،‬والفلترة‬
‫بما يدعم النظام القائم في حينها‪ ،‬وهو ما أورث الصحف في البلدان التى غابت‬
‫فيها الديمقراطية‪ ،‬وحرية تداول المعلومات لميراث ثقيل من القهر جعلها تبث‬
‫عبر صفحاتها الكثير من القصص الخبرية «المفبركة»‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫‪ ..‬أخذ ياسر بكر من الفكر الخلدوني وبنى عليه في تمحيص ‪ 13‬قصة خبرية‬
‫مكذوبة في الصحافة المصرية في الفترة من ‪1949‬م إلى ‪ 2005‬م باعتبار‬
‫الكذب المرحلة األولى في عمليات تزوير التاريخ بأسلوب يعمد إلى اختالق‬
‫وقائع ال وجود لها‪ ،‬وحجب المعلومات الصحيحة أو تقديمها مشوهة أو محشوة‬
‫بالمغالطات لصرف ذهن المتلقي إلى جهات أخرى غير الواقع‪ ،‬بما يفقده القدرة‬
‫على التفكير‪ ،‬وتدفع به في االتجاه الخاطئ بما يسهل من عمليات السيطرة عليه‪،‬‬
‫واقتياده نحو الهدف‪.‬‬

‫وهذا النوع من األكاذيب ال يتم إطالقها بالصدفة أو عفو الخاطر‪ ،‬وإنما يعكف‬
‫على إعدادها فريق من أكفأ المختصين في بحوث اإلعالم‪ ،‬وتوجيه الرأي‪،‬‬
‫وقيادة الجموع بأسلوب علمي دقيق يراعى فيه الظرف‪ ،‬والتوقيت‪ ،‬وطبيعة الفئة‬
‫المستهدفة مع تجنب اللهجة العدائية حتى ال تثار في تلك في نلك الفئات مشاعر‬
‫العناد‪ ،‬والرغبة في المقاومة‪ ،‬ويطلق عليهم «طهاة األخبار المطبوخة»‪ ،‬وتمر‬
‫تلك «األخبار المطبوخة» بالعديد من مراحل اإلعداد‪ ،‬والتجريب من خالل‬
‫«إلقاء الطعم» عبر تضخيم األخطاء‪ ،‬وتقديم األكاذيب مغلفة ببعض الحقائق‬
‫التي يعرفها العامة حتى تنال ثقتهم‪ ،‬ثم يتم تضخيم األكاذيب‪ ،‬وإطالقها في شكل‬
‫بالونات االختبار عبر التسريبات‪ ،‬والشائعات‪ ،‬والنكات‪ ،‬ومعرفة أثارها‪ ،‬ومدى‬
‫تقبل الناس لها قبل وضعها على منصات اإلطالق‪ ،‬وهو األسلوب الذي انتهجه‬

‫‪163‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫جوزيف جوبلز وزير إعالم هتلر ولخصه في عبارته الشهيرة‪:‬‬

‫«اكذب‪ ،‬ثم اكذب‪ ،‬ثم اكذب؛ حتى تصدق نفسك‪ ،‬فيصدقك الناس‪ ،‬فإن لم‬
‫يصدقوك‪ ،‬فاخترع لهم عدوً ا وهميًا‪ ،‬وخوّ فهم منه‪ ،‬فإن لم يصدقوك‪ ،‬فاتهمهم‬
‫بالخيانة»‪ ،‬تنفيذا ألوامر هتلر الذي كان يعتقد أن‪ « :‬كلما كبرت الكذبة أمكن‬
‫في بعض األحيان أن تثبت في األذهان»‪.‬‬

‫ويعمد هذا األسلوب إلى إدخال الغش على المتلقي من خالل إغراقه بكم‬
‫من التقارير المكذوبة في إطار زائف يخفي حقيقتها‪ ،‬ويصعب على المتلقي‬
‫العادي التمييز بينه‪ ،‬وبين أشكال‪ ،‬وقوالب الخطاب اإلعالمي الجاد التي تلزم‬
‫الصدق‪ ،‬وتقدم الحقيقة؛ فيلجأ القائمون على «صناعة الكذب» إلى نشر‪ ،‬وترويج‬
‫«أشباه األخبار» أو «تلغيم األخبار» أو استخدام «الرطــانة اللغوية الجوفاء»‪،‬‬
‫واالستخدام المسيء للغة للوصول إلى «التباس اللفظ‪ ،‬والمعنى» على النحو‬
‫التالي‪:‬‬

‫أ ـ أشباه األخبار‪:‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــ‬

‫يقصد بأشباه األخبار (‪ ،)pseudo news‬ذلك الكذب الذي يقدم للبسطاء‬

‫‪164‬‬
‫وأنصاف المتعلمين‪ ،‬وكأنه أخبار‪ ،‬ولكنه ال يحمل في مضمونه أي خبر أو‬
‫معلومة جديدة على اإلطالق‪.‬‬

‫وتتم صياغة أشباه األخبار في أنماط‪ ،‬وقوالب من خالل أداء شديد االحترافية‬
‫بعد تغليفها بعناصر البريق‪ ،‬والجذب‪ ،‬واإلثارة‪ ،‬والتشويق‪ ،‬وتقديمها للمتلقي في‬
‫إطار االنفراد الصحفي ليزداد إقباله عليها‪ ،‬وقبوله لها‪ ،‬وكأنها أخبار حقيقية‪.‬‬

‫ب ـ تلغيم األخبار‪:‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــ‬

‫يقصد بـ «تلغيم األخبار» التالعب في الصياغة الخبرية؛ بما يستهدف استفزاز‬


‫ً‬
‫أنماطا متعددة منها‪:‬‬ ‫القارئ‪ ،‬واستنفاره‪ ،‬وهذا األسلوب يتخذ‬

‫‪ 1‬ـ وضع عناوين مثيرة ال عالقة لها بمضمون الخبر؛ في استفادة شريرة‬
‫لما توصلت إليه الدراسات اإلعالمية من نتائج مفادها أن الكثيرين من قراء‬
‫الصحف يكتفون بقراءة العناوين فقط‪ ،‬وال يدققون في التفاصيل‪ ،‬وأشارت تلك‬
‫الدراسات إلى أن‪:‬‬

‫• ‪ % 75‬من قراء الصحف يالحظون الصورة‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫• وأكثر من ‪ % 50‬يالحظون العناوين‪.‬‬


‫• وأن ‪ % 29‬يلفت نظرهم كالم الصور‪.‬‬
‫• بينما ال تسترعي المادة التحريرية سوى انتباه ‪ % 25‬من القراء‪.‬‬

‫ج ـ ماكينات غسيل األخبار ‪:‬‬


‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫هو أحد أساليب ترويج األكاذيب بنشرها عبر منصات إطالق مجهولة في‬
‫!!*(‪)14‬‬ ‫أماكن نائية‪ ،‬ويتم النقل عنها‪ ،‬وتداولها باعتبارها حقيقة مؤكدة‬

‫***‬

‫في أبريل ‪ 2017‬نظم مركز هسبريس للدراسات واإلعالم ‪ ،‬بشراكة مع‬


‫مؤسسة «دويتشه فيله» ندوة فكرية حول موضوع «األخبار الكاذبة‪ ،‬وتأثيرها‬
‫على الرأي العام واإلعالم»‪ ،‬شارك فيها إعالميون‪ ،‬وخبراء في التواصل‬
‫الرقمي‪ ،‬والمنصات الحديثة‪ ،‬ونظرا ألهمية موضوع الكذب وخطورته‪ ،‬فقد‬
‫تحول إلى مادة دسمة للبحث‪ ،‬والنظر للكثير من الباحثين العرب واألجانب‪،‬‬
‫ومن أبرزهم الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا األستاذ في الكلوليج الدولي للفلسفة‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )14‬ياسر بكر‪ ،‬صناعة الكذب ‪ ،‬مطابع حواس ـ القاهرة ‪2013‬‬

‫‪166‬‬
‫بباريس‪ ،‬الذي ألف كتابا بعنوان ‪ « :‬تاريخ الكذب» لتحديد جينالوجية الكذب‪،‬‬
‫ومفاهيم أخرى‪ ،‬وناقشت كتاب الصحفى المصري الصحفي المصري ياسر‬
‫بكر بعنوان‪«:‬صناعة الكذب» الذي يرصد فيه «صناعة الصحافة المصرية‬
‫للكذب في نصف قرن»‪.‬‬

‫«ثورة التاريخ»‪:‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــ‬

‫بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أسفرت حركة التاريخ التي أفرزت‬
‫التطورات التي أدت حركات التحرر الوطني‪ ،‬واالعتراف بحقوق الشعوب‬
‫في إدارة شئونها إلى بروز اتجاهات جديدة في الدراسات التاريخية تهتم‬
‫بنشاط اإلنسان في مجاالت االقتصاد‪ ،‬واالجتماع‪ ،‬والسياسة‪ ،‬والثقافة‪ ،‬والفن‪،‬‬
‫والدبلوماسية‪ ،‬ونظم الحكم‪ ،‬والمؤسسات‪ ،‬والطبقات‪ ،‬وما إلى ذلك‪ ،‬وكانت مثل‬
‫هذه االتجاهات الجديدة في الدراسات التاريخية‪ ،‬والتي اصطلح على تسميتها‬
‫بـ «التاريخ الجديد» نتاجا للتطورات التي جرت على العالم فيما بين الحربين‬
‫العالميتين وبعدهما‪ ،‬وتمثلت نتيجة هذا كله فيما أطلق عليه «الثورة التاريخية»‪،‬‬
‫وهي ثورة صامتة حققت من التقدم في مجال المعرفة التاريخية في الربع األخير‬
‫من القرن العشرين ما لم يتحقق طوال تاريخ التاريخ بأسره منذ كان وليداً في‬
‫حجر األسطورة إلى أن صار علما له فلسفته‪ ،‬وتاريخه‪ ،‬ومناهجه‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫‪ ..‬وكان من نتائج «ثورة التاريخ الصامتة» أن تطورت مناهج البحث‬


‫وأدواته من ناحية‪ ،‬وتغيرت النظرة إلى المصادر التاريخية التي يعتمد عليها‬
‫الباحثون من ناحية أخرى‪ ،‬وتخلت النظرة القديمة للتاريخ باعتباره مرادفا لسير‬
‫الحكام‪ ،‬وحروبهم عن مكانها لنظرة جديدة ترى في التاريخ مرادفاً لمسيرة‬
‫البشر الحضارية على هذا الكوكب عبر الزمان‪ ،‬وترى أن كل ما حققه اإلنسان‬
‫أو تطلع إليه بأمل أو فكر فيه جدير بالدراسة‪ ،‬والتسجيل‪ ،‬والبحث‪ ،‬والفهم‪ ،‬ومن‬
‫ثم فإن كل األفعال البشرية خيرا كانت أو شراً‪ ..‬حروباً أو إنجازات ‪ ..‬ثقافة‬
‫وفنا أو زراعة‪ ،‬وصناعة‪ ..‬طموحاً أو يأساً ‪ ..‬رفعة أو ضعة‪ ..‬كلها جديرة بأن‬
‫ينظر فيها الباحثون‪ ،‬والدارسون علّهم يفهمون قصة الوجود اإلنساني على هذا‬
‫الكوكب‪ ،‬والقوانين التي تحكم هذا الوجود‪.‬‬

‫‪ ..‬لكن أهم ما تمخضت عنه هذه الثورة الصامتة أن التاريخ لم يعد علم ينتمي‬
‫للماضي إال من حيث موضوعه‪ ،‬ولكنه صار علما ينتمي للحاضر‪ ،‬والمستقبل‬
‫من حيث هدفه‪ ،‬وفائدته‪.‬‬

‫ولم تعد مهمة المؤرخ أن يعيد «تصوير الماضي» وأن يحكي «ماذا» حدث‪،‬‬
‫وإنما صارت مهمة المؤرخ أن يفهم «لماذا» حدث‪ ،‬وما حدث‪ ،‬ومدى تأثير‬
‫هذا الذي حدث في الماضي على حاضر الجماعة اإلنسانية‪ ،‬ومستقبلها‪ ،‬وألن‬
‫الدراسات التاريخية الحديثة تحاول أن تفهم اإلنسان بوصفه فرداً في جماعة‬

‫‪168‬‬
‫إنسانية‪ ،‬فإن المصادر التاريخية التقليدية لم تعد كافية لتحقيق هذا الفهم‪ ،‬ومن ثم‬
‫كان البد من البحث في «مناطق» أخرى غير تلك التي تعود عليها المؤرخون‬
‫حيث أن المصادر التاريخية التقليدية ‪ :‬الحوليات‪ ،‬والمدونات التاريخية‪،‬‬
‫والوثائق‪ ،‬واآلثار‪ ،‬وشهادات المعاصرين‪ ،‬والمذكرات‪ ..،‬وغيرها‪ ،‬لم تعد هي‬
‫فقط المصادر التاريخية المحترمة‪ ،‬فقد أخذ عدد متزايد من المؤرخين يبحث‬
‫في «مناطق» وجدانية‪ ،‬وعاطفية هي ما يتضمنه الموروث الشعبي الذي يمثل‬
‫للتاريخ»‪)15( *.‬‬ ‫«القراءة الشعبية‬

‫***‬

‫ظهرت العلوم االجتماعية في الغرب في منتصف القرن التاسع عشر أثر‬


‫الثورة الصناعية‪ ،‬وظهور المدن‪ ،‬وما واكبها من مشكالت‪ ،‬وتحديات اجتماعية‪،‬‬
‫وثقافية سبقها ثورة سياسية على األنظمة االقطاعية والدينية؛ حيث يعتبر علم‬
‫االجتماع‪ ،‬وسيظل استجابة للثقافة «النفعية»‪ ،‬وتعد الطبقة المتوسطة الحامل‬
‫التاريخي لهذه الثقافة ‪.‬‬

‫يجمع معظم الباحثون على أن علم االجتماع قد ولد على يد ابن خلدون في‬
‫نهاية القرن الرابع عشر الميالدي‪ ،‬إال أنه لم يتصل علم الغرب به‪ ،‬واهتمامهم‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫* (‪ )15‬د‪ .‬قاسم عبده قاسم‪ ،‬القراءة الشعبية للتاريخ‪ ،‬دار عين‪ ،‬القاهرة ‪2014‬‬

‫‪169‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫به إال في القرن التاسع عشر الميالدي‪ ،‬ومن ثم يقرون أن هذا العلم لم يتبلور في‬
‫صورته الحديثة‪ ،‬ويتخذ هذا االسم إال على يد العالم الفرنسي أوجست كونت في‬
‫القرن التاسع عشر الميالدي !!‬

‫‪ ..‬منذ منتصف القرن التاسع عشر تزايد االهتمام بدراسة العمليات النفسية‪،‬‬
‫وعالقتها بالحياة االجتماعية مثل ‪« :‬علم النفس المقارن»‪ ،‬و«علم نفس‬
‫الجماعة»‪ ،‬و«علم النفس االجتماعي»‪ ،‬و«علم نفس األجناس»‪ ،‬و«علم‬
‫نفس الجماهير»‪ ،‬و«علم نفس الشعوب»‪ ،‬و«علم نفس الطوائف»‪ ،‬و«علم‬
‫األنثربولوجيا الثقافية»‪ ،‬كانت األمال كبيرة‪ ،‬ومنعقدة على تلك العلوم في أن‬
‫تحل لنا من استشكل علينا‪ ،‬وكان عصياً على الفهم من حيث تركيب الشعوب‪،‬‬
‫وفهم ثقافتها‪ ،‬وفهم السياقات االجتماعية التي تكتسب فيها اللغة‪ ،‬وتستخدم‬
‫وأثر ذلك على سلوك األفراد وروح الجماعات‪ ،‬وكيف يمكن األخذ بها نحو‬
‫األفضل‪.‬‬

‫إال أن نشأة تلك العلوم حديثاً في العالم العربي لم تكن استمراراً لجهود‬
‫أسالفنا الفكرية‪ ،‬وعوضاً عن ذلك تم استبدالها باستيراد نسخة غريبة عن واقع‬
‫مجتمعاتنا‪ ،‬ومتعالية على تراثه بسبب حالة النكوص الحضاري التي تمر بها‬
‫امتنا فجعلتنا مستلبين فكرياً‪ ،‬وعلمياً‪ ،‬وتاريخياً قاقدين للثقة بأنفسنا‪ ،‬وتاريخنا‪،‬‬
‫وقد وافق ذلك هيمنة على القطاعات السياسية‪ ،‬واالقتصادية‪ ،‬والتعليمية ‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫‪ ..‬ورغم أن القائمون على تلك العلوم لم يفلحوا في تحديد موضوعاتهاـ‬
‫واختبار مناهجها يأساليب علمية‪ ،‬وتحديد مصطلحاتها بدقة؛ فال يوجد ً‬
‫مثال ما‬
‫يُطلق عليه «النظرية االجتماعية»؛ فـ «النظرية االجتماعية» مجرد تصورات‬
‫شخصية لبعض علماء السوسيولوجيا يتم االرتكان إليها بصورة انتقائية‪ ،‬وال‬
‫تستند إلى واقع أو منهج ‪ ..‬فتختلف من مجتمع إلى أخر حسب ظروفه االجتماعية‪،‬‬
‫وسياقاته السياسة‪ ،‬ومدى توظيف هؤالء الباحثون في دعم النظام القائم !!‬

‫ومع ذلك يصر القائمون على تلك العلوم على إقحامها عنوة في شتى مناحي‬
‫الحياة‪ ،‬ومنها مجال «الثقافة الشعبية» بغرض مسخ تلك الثقافة‪ ،‬وتشويهها‪،‬‬
‫وإزاحتها إحالل ثقافة بديلة مكانها‪ ،‬وزراعة «ذاكرة بديلة» قائمة على قيم‬
‫زائفة‪ ،‬وخادعة بغرض تحويل المواطنين إلى وحدات متشابهة كأنها خرجت‬
‫من خط إنتاج واحد‪ ،‬وتنعدم فيما بينهم مواصفات التمايز الفردي تحت تأثير‬
‫«العدوى النفسية»؛ ‪ ..‬كان تقاعس الباحثون عن رؤية واقعهم االجتماعي رؤية‬
‫نقدية‪ ،‬ومن ثم وضع أيديهم على المشكالت‪ ،‬والموضوعات الحقيقية األجدر‬
‫بالدراسة‪ ،‬فعلم االجتماع في كل الدنيا هو أكثر العلوم اإلنسانية انتقاداً لنفسه‪،‬‬
‫ووعياً بنواحي قصوره‪ ،‬وسلبياته‪ ،‬ويكفي أن نقرأ انتقادات علماء االجتماع‬
‫الذين يتحدثون عن عدم انضباط القوانين أو التعميمات السوسيولوجية؛ فهذه‬
‫المبالغة في النقد الذاتي المعروفة عند المشتغلين بعلم االجتماع تمثل مظهراً من‬
‫مظاهر الصحة‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫وزاد األمر سوءاً ذلك االضطراب في أداء العلوم االجتماعية لدورها الذي‬
‫يرجع في األساس إلى تدخل مقيت أو فهم مغلوط من جانب السلطة لطبيعة‬
‫الواقع االجتماعي الذي تحكمه‪ ،‬أو إلمكانات البحث العلمي االجتماعي‪ ،‬وقدرة‬
‫أصحابه على اإلسهام في صياغة السياسات االجتماعية‪ ،‬وترشيدها ‪.‬‬

‫‪ ..‬والحقيقة أنه اليمكن الحديث في العلوم االجتماعية‪ ،‬واإلنسانية عن‬


‫موضوعية أوحياد؛ إذ أن كل باحث يرى الحقائق من منظوره هو‪ ،‬ومن واقع‬
‫تجربته الشخصية‪ ،‬ومن خالل خبراته الذاتية‪ ،‬ورؤيته الكلية‪ ،‬والنماذج المنبثقة‬
‫عنها‪ ،‬وقد نفى األستاذ محمود شاكر في سياق حديثه عن «المنهج» بشكل‬
‫حازم إمكانية أن يكون المنهج محايداً؛ لذلك طرح فكرة ‪«:‬ما قبل المنهج»‪ ،‬وما‬
‫قبل المنهج ينبه إلى تلك األبعاد المتصلة بالذات اإلنسانية‪ ،‬وباللغة‪ ،‬والمعتقد‪،‬‬
‫والرؤية الكلية للكون‪ ،‬وهذه األبعاد تشكل رؤية الباحث‪ ،‬وتحدد زاويته في‬
‫النظر‪ ،‬والتحليل‪ ،‬والتفكير‪ ،‬وتؤثر بدرجة أو بأخرى على نتيجة تحليله‪ ،‬وطريقة‬
‫فهمه‪ ،‬وتفسيره*(‪.)16‬‬

‫‪ ..‬وهو ما أكده كارل بوبر بقوله ‪« :‬إذا افترضنا أن العالم االجتماعي يسعى‬
‫حقاً في طلب الحقيقة‪ ،‬فإن المذهب التاريخي ينبهنا إلى الصعوبات المترتبة على‬
‫هذا الفرض المتعلقة بالميول‪ ،‬والمصالح مثل التأثير في مضمون النظريات‪،‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )16‬د‪ .‬عبد الوهاب المسيري وأخرون‪ ،‬إشكالية التحيز‪ ..‬رؤية معرفية ودعوة لالجتهاد ‪ ،‬ط ‪ ، ٢‬المعهد‬
‫العالمي للفكر اإلسالمي ـ الواليات المتحدة األمريكية ‪١٩٩٦‬‬

‫‪172‬‬
‫والتبريرات العلمية؛ فال مفر من الشك في إمكانية السيطرة على التحيز‪،‬‬
‫وتجنبه‪.‬‬

‫كما ينبغي أن نتوقع تعدد وجهات النظر بقدر ما يوجد من مصالح‪ ،‬ودائماً‬
‫تكون الكلمة الفاصلة لـ «النجاح السياسي» وحده ‪. )17(*.‬‬

‫‪ ..‬كان االرتباك واضحاً بين الباحثين المصريين‪ ،‬وبين علماء االجتماع‬


‫الدوليين؛ فقد أعلن كارل بوبر عن ‪ :‬عقم «المذهب التاريخي» في مناهج‬
‫*(‪)18‬‬ ‫العلوم االجتماعية‬

‫المقصود بـ «المذهب التاريخي ‪ »Historicism‬طريقة في معالجة‬


‫العلوم االجتماعية تفترض أن التنبؤ التاريخي هو غايتها الرئيسية كما تفترض‬
‫الوصول إلى هذه الغاية بالكشف عن «القوانين» أو «االتجاهات» أو «األنماط»‬
‫أو«االيقاعات» التي يسير التطور التاريخي وفقاً لها ‪.‬‬

‫وبرهن كارل بوبر على كذب «المذهب التاريخي» بعدة أسباب أهمها ‪:‬‬
‫‪ ١‬ـ يتأثر التاريخ اإلنساني في سيره تأثيراً قويا بنمو المعرفة اإلنسانية ‪.‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )17‬كارل بوبر‪ ،‬عقم المذهب التاريخي‪ ،‬دراسة في مناهج العلوم االجتماعية ‪ ،‬ترجمة عبد الحميد صبره‪،‬‬
‫منشأة المعارف باألسكندرية ـ األسكندرية ‪١٩٥٩‬ـ ص ‪26‬‬
‫*(‪ )18‬كارل بوبر‪ ،‬عقم المذهب التاريخي‪ ،‬دراسة في مناهج العلوم االجتماعية ‪ ،‬مرجع سابق ـ ص ‪. 5‬‬

‫‪173‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬
‫‪٢‬ـ ال يمكن لنا بالطريقة العقلية أو العلمية أن نتنبأ بطريقة نمو معارفنا‬
‫العلمية‪.‬‬

‫‪ ٣‬ـ إذن فال يمكننا التنبؤ بمستقبل سير التاريخ اإلنساني ‪..‬‬

‫‪ ٤‬ـ وهذا معناه أننا يجب أن نرفض إمكان قيام تاريخ نظري؛ أي إمكانية‬
‫قيام علم تاريخ اجتماعي يقابل علم الطبيعة النظري‪ ،‬وال يمكن أن تقوم‬
‫نظرية علمية في التطور التاريخي تصلح أن تكون أساساً للتنبؤ التاريخي‪.‬‬

‫‪ ٥‬ـ إذن فقد أخطأ المذهب التاريخي في تصوره للغاية األساسية التي يتوسل‬
‫‪)19(*.‬‬ ‫إليها بمناهجه‬

‫فمنذ نهاية القرن قبل الماضي راح عدد من العلماء األوربيون من أمثال‬
‫جوستاف لوبون يركزون على عملية اإليحاء في السلوك االجتماعي‪ ،‬بناء‬
‫على فرضية «غريزة الرضوخ» أو «غريزة الخنوع » لدى اإلنسان‪ ،‬وكما أن‬
‫لإليحاء جوانب إيجابية فإن له جوانب سلبية‪ ،‬وتستهدف الجوانب السلبية لعملية‬
‫اإليحاء‪ ،‬والتي تهدف لجعل اإليحاء أداة فعالة في يد العقل الباطن يلفظ بها‬
‫بكل الوسائل عوامل الدفع اإليجابي في حياة اإلنسان‪ ،‬ويتمسك بها بكل أسباب‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )19‬كارل بوبر‪ ،‬عقم المذهب التاريخي‪ ،‬دراسة في مناهج العلوم االجتماعية ‪ ،‬مرجع سابق‬

‫‪174‬‬
‫الهدم‪ ،‬والتعاسة‪ ،‬وقد أصدر الفسيولوجي النفسي الروسي ف ‪ .‬م ‪ .‬بيختيروف‬
‫عام ‪ 1903‬كتابه بعنوان‪« :‬اإليحاء ودوره في الحياة االجتماعية» وصف‬
‫فيه ظاهرة اإليحاء الجماهيري تحت تأثير «العدوى النفسية»؛ أي عند نقل‬
‫المعلومة بمساعدة شتى المنظومات الرمزية‪ ،‬كان اإليحاء لديّه مرتبطا مباشرة‬
‫بالتالعب بالوعي بل إنه يمثل عملية «اقتحام للوعي» !!‬

‫لم تستطع هذه العلوم أن تزيد من علمنا شيئا أو تقدم لنا جديدا يحظى‬
‫باالهتمام‪ ،‬ويرجع ذلك ان الذين تولوا طرح تلك العلوم كان يقفزون من الفراغ‬
‫إلى الفراغ أو بمعنى أدق أن القائمين على تلك العلوم قاموا بما يشبه «قفزة‬
‫الضفدعة ‪ »leapfrogging‬في تجاوز الموضوعات‪ ،‬والظواهر إلى نتائج‬
‫لم يقدموا عليها أدلة أو براهين‪ ،‬ولم يتبعوا مناهج علمية معتبرة؛ فلم يوجد‬
‫اتفاق حقيقيي بين الباحثين بصدد الموضوع أو المنهج أو نتائج البحث فكل‬
‫باحث يقطع من مجال المالحظة العادية ما يشيد عليه قصوره من الرمال بمواد‬
‫متناثرة‪ ،‬ومتناقضة من هنا‪ ،‬وهناك !!‬

‫ولم يلبث في بداية السبعينيات من القرن الماضي أن تحدث عالم االجتماع‬


‫األمريكي الفن جولدنرعنما اسماه ‪«:‬األزمة القادمة لعلم االجتماع الغربي» في‬
‫ظل المناخ السئ الذي يعمل فيه المنظرون االجتماعيون في إطار بيئة اجتماعية‬
‫منهارة سواء تلك البيئة الحضرية المصابة بالشلل‪ ،‬أو في حرم الجامعات التي‬

‫‪175‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫‪)20(*.‬‬ ‫ُ‬
‫ضربت بقوة‬

‫هاجم الفن جولدنر ‪ Alvin W. Gouldner‬العلوم االجتماعية الوضعية‬


‫(منزوعة القيمة ‪ )Value Free‬وانتقد (‪ Scientism‬عبادة العلموية) في‬
‫العلوم االجتماعية األمريكية مؤكداً أن هذه النزعة تؤدي إلى دراسات مستمدة‬
‫من افتراضات واعية جزئياً بحقيقة الواقع فحسب‪ ،‬وطالب علماء االجتماع‬
‫باالعتراف باستحالة تحقيق الموضوعية الكاملة‪ ،‬والسعي لفهم المصادر‬
‫االجتماعية والنفسية لتحيزاتهم‪ ،‬والتي اسماها (الخلفيات ‪ )Background‬أو‬
‫(‪ domin Assumption‬ادعاء المجال)‪ ،‬واالهتمام بالعواقب االجتماعية‬
‫لنتائج دراستهم؛ فمهمتهم األساسية هى إنتاج دراسات‪ ،‬ونظريات تساهم في‬
‫تحرير اإلنسان ً‬
‫بدال من االستمرار في قمعه‪ ،‬ودعا إلى ما اسماه (علم االجتماع‬
‫االنعكاسي ‪ )Reflexive‬حيث يكون الباحث واعياً بذاته‪ ،‬يكشف تحيزاته قبل‬
‫أن يسعى إلى كشف تحيزات غيره ‪.‬‬

‫‪ ..‬وهكذا فإن جولدنر ينتقد النموذج الوظيفي‪ ،‬ومنهجيته ألنه يعكس مصالح‬
‫البرجوازية‪ ،‬ويخدم احتياجاتهم‪ ،‬حيث تم استبدال المنفعة‪ ،‬والسلطة باالعتبارات‬
‫األخالقية؛ ففي المجتمعات البرجوازية تم فصل السلطة عن األخالق‪ ،‬وأصبحت‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )20‬الفن جولدنر‪ ،‬األزمة القادمة لعلم االجتماع الغربي‪ ،‬ترجمة على ليلة‪ ،‬المشروع القومي للترجمة‪،‬‬
‫المجلس القومي للترجمة ـ العدد ‪ ٦٦٧‬ـ القاهرة ‪٢٠٠٤‬‬

‫‪176‬‬
‫األخالق شأناً خاصاً ‪.‬‬

‫بدأت األزمة التي تحدث عنها الفن جولدنر في السبعينيات من القرن‬


‫الماضي‪ ،‬وبعد الفن جولدنر بعقدين وفي سنة ‪١٩٩٠‬م تحدث روبرت بروس‬
‫‪ Robert Prus‬عن أزمة العلوم االجتماعية في ضوء ما ينشر في مجالت‬
‫العلوم االجتماعية المحشوة باألبحاث الكمية السببية التي تنتج معرفة علمية من‬
‫حيث الفرضيات‪ ،‬والمتغيرات‪ ،‬واالختبارات‪ ،‬والعينات‪ ،‬والتحليل اإلحصائي‬
‫للبيانات بينما األطر النظرية إما وظيفية دوركايمية أو ماركسية (بمعنى القيام‬
‫على النفعية في العلوم اإلنسانية بتشييءاإلنسان‪ ،‬واستغالله)‪ ،‬إال أنه خلف هذا‬
‫التيار الوضعي الشائع تحدي فكري كبير يرقى إال كونه (تحول في النموذج‬
‫السائد ‪ )Paradigm Shift‬يتمثل في النموذج التأويلي الذي سيكون له تبعات‬
‫عميقة‪ ،‬وشاملة لفكرة النظرية‪ ،‬والمناهج‪ ،‬والبحث األمر الذي سيهزم التصميم‬
‫الوضعي الذي قدمه أوجست كونت‪ ،‬والمستمد من صورة العلوم الطبيعية‪،‬‬
‫ألنه غاب عن أوجست كونت إدراك القاعدة التأويلية االجتماعية في العلوم‬
‫الطبيعية‪ ،‬ويرى بروس أن فكرة ارتباط العلم بالموضوعية‪ ،‬والسببية يجب‬
‫مراجعتها‪ ،‬وأن تحقيق وحدة العلوم على أسس تأويلية أمر ممكن‪ ،‬ويفترض‬
‫النموذج التأويلي أن الحقيقة يمكن معرفتها من خالل الخبرة البشرية‪ ،‬وأن هناك‬
‫تنوعاً في الحقيقة‪ ،‬على عكس السائد في النموذج الوضعي الذي يفترض أن‬
‫هناك حقيقة موضوعية واحدة‪ ،‬وتفترض التأويلية كذلك أن البشر يندمجون في‬

‫‪177‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫نشاطات‪ ،‬وأفعال انعكاسية تأملية واعية‪ ،‬لها معاني مختلفة مرتبطة بتأويالتهم‬
‫المختلفة للعالم من حولهم‪ ،‬عكس الوضعيين الذين يرون البشر يقومون بأفعالهم‬
‫بسبب عامل أو متغير محدد ‪.‬‬

‫‪ ..‬وبعد جولدنير بنحو ثالث عقود وفي عام ‪ ١٩٩٩‬نشر كال من جوزيف‬
‫لوبريانو ‪ ،Joseph Lopreano‬وتيموثي كريبن ‪Timothy Crippen‬‬
‫كتاباً بعنوان ‪« :‬أزمة في علم االجتماع ‪ :‬الحاجة إلى داروين» تناوال فيه‬
‫أزمة علم االجتماع المعاصر الذي يواجة خطر السقوط بسبب محاوالت ربطه‬
‫بالسياسة ً‬
‫بدال من تطويره كموضوع علمي له قوانينه العامة‪ ،‬وعالقات معترف‬
‫بها مع بقية العلوم اإلنسانية األخري وعلى رأسها علم االنفس‪ ،‬واعتبر أن حبل‬
‫النجاة لعلم االجتماع يكون من خالل ارتباطه بالتقاليد الدارونية‪ ،‬وهو األمر‬
‫الذي سبقهم إليه بعض العلماء الذين تسألو ا عن سبب تجاهل النموذج التطوري‬
‫الداروني في فهم السلوك البشري‪ ،‬والتغيير االجتماعي‪ ،‬وتنوع أشكال الحياة ‪.‬‬

‫يرى عالم االجتماع النرويجي فيلوس سيجورد سكيربيك ‪Philos Sigurd‬‬


‫‪ Skirbekk‬عام ‪ ٢٠٠٨‬أن علم االجتماع المعاصر يعاني من مجموعة من‬
‫األزمات على رأسها عدم امتالك علماء االجتماع الغربيين نموذجاً معرفياً‬
‫شائعا ً‪ ،‬ومتفق عليه كمرجع للبحث في مختلف المجاالت‪ ،‬وعليه فإننا من النادر‬
‫أن نشهد تفسيرات سوسيولوجية أصيلة‪ ،‬وقد فشل علماء االجتماع المعاصرين‬

‫‪178‬‬
‫من الجيل الذي سبقهم في تقديم إجابات حول أسئلة تتعلق بمجموعة من المشاكل‬
‫السياسية‪ ،‬والثقاقية‪ ،‬والتي تتجلى أبرز مالمحها في أنه تخلى عن روح النقد‪،‬‬
‫والتحرير في عالم يحتاج إلى هذه الروح كي تستنفر فيه إمكانيات التمرد‪،‬‬
‫والثورة في مواجهة قوى دولة الرفاهية الباطشة‪ ،‬والمسلحة بالثقافة التي تدعمها‬
‫تكنولوجيا اإلعالم والمعلومات‪ ،‬والتي تسعى إلى فرض نمط‪ ،‬ونوعية حياتها‬
‫على العالم‪ ،‬وتشويه ثقافات المجتمعات األخرى‪ ،‬وتعديل واقعها االجتماعي؛‬
‫بما يجعلها فريسة سهلة الستالب مواردها‪ ،‬وتحويلها إلى سوق كبيرة لتصريف‬
‫إنتاج دولة الرفاهية األقوى في العالم‪ ،‬وهكذا اكتملت الدائرة التي بدأت‬
‫باألنثروبولوجيا‪ ،‬وعلم االجتماع باعتبارهما علمين استعماريين‪ ،‬وانتهت في‬
‫النهاية استعمارية على نحو ما بدأت ‪..‬‬

‫يشير عالم االجتماع المصري د‪ .‬على ليلة إلى مالحظة دقيقة في مقدمة‬
‫ترجمة كتاب الفن جولدنر حيث يقول ‪:‬‬

‫«حاول الفن جولدنر كعالم اجتماع راديكالي واع‪ ،‬وبارز أن يلمس جملة‬
‫من القضايا في مؤلفه «األزمة القادمة لعلم االجتماع الغربي» منها أن التنظير‬
‫االجتماعي الذي استسلم لدولة الرفاهية‪ ،‬وسلم بشروطها بل بدأ يلعب دوراً‬
‫في الحفاظ على سيطرتها على العالم خالل عصر العولمة‪ ،‬وقد نجح في ذلك‬
‫بامتياز؛ فقد سجل مالحظاته خالل عقد السبعينيات غير أن مالمح األزمة ألتي‬

‫‪179‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫بدأت في النصف الثاني من القرن العشرين استمرت تفرخ أزمات متوالية‬


‫بصورة مستمرة حتى انتهت األلفية الثانية‪ ،‬وقد اتسع نطاق األزمات‪ ،‬وساحتها‬
‫حتى مألت فضاء العلم‪ ،‬وحينما جاءت األلفية الثالثة طرق علم االحتماع أبوابها‪،‬‬
‫وهو يحمل أزماته على كاهله‪.».‬‬

‫‪ ..‬وتتابعت حلقات تلك األزمات خالل العقود األريعة المتتابعة حتى انتهت‬
‫آخر حلقاتها مع غروب القرن التي بدأت فيه‪ ،‬وتركت علم االجتماع مع بداية‬
‫القرن ‪ ٢١‬في حاجة إلى تأمل جديد‪ ،‬ولكن من نوع آخر‪ ،‬وإذا كان القرن السابق‬
‫ً‬
‫تأمال لطبيعة األزمات التي ُفرض على علم االجتماع أن يواجهها فإن‬ ‫قد قدم‬
‫التأمل الذي نحتاجه في القرن الجديد ينبغي أن يهتم بالبحث عن سبل الخروج‬
‫من األزمة أو األزمات التي مر بها التنظير االجتماعي؛ وذلك لتقديم حلول‬
‫تساعد على استمرار خصوبة‪ ،‬وفعالية هذا التنظير‪ ،‬وكفاءته‪ ،‬وقدرته على فهم‬
‫واقعه الجديد‪.‬‬

‫يرى الفن جولدنر أن األزمة األولى التي واجهت التنظير االجتماعي‬


‫انقسامه على ذاته مع نهاية الحرب العالمية الثانية إلى علمين ‪ :‬علم اجتماع‬
‫يوجهه التنظير الماركسي في مقابل علم اجتماع أخر يوجهه التنظير المحافظ‬
‫أو الليبرالي‪ ،‬وبذلك كان علم االجتماع المنقسم على ذاته أكثر ارتباطاً‬
‫باأليديولوجية؛ حيث شكلت األيدولوجية الطاقة التي تفجر إبداعاته‪ ،‬وفي فترة‬

‫‪180‬‬
‫الحرب الباردة التي امتدت من منتصف االربعينيات‪ ،‬وحتى التسعينيات كان‬
‫علم االجتماع في كل من الكتلة االشتراكية‪ ،‬والرأسمالية يؤدي دوره في الحفاظ‬
‫على واقعه االجتماعي‪ ،‬والدفاع عنه‪ ،‬وتبرير التفاعالت التي تقع في إطاره‪،‬‬
‫وإبراز نقائص‪ ،‬وأخطاء الواقع اآلخر‪ ،‬وعلى هذا النحو أدى الصراع بين واقع‬
‫الكتلتين ‪ :‬االشتراكية‪ ،‬والرأسمالية‪ ،‬إلى اهتزاز الثقة في علم االجتماع؛ ‪ ..‬ألن‬
‫التنظير االجتماعي شكل خط الدفاع األول في هذا الصراع‪ ،‬ومع سقوط االتحاد‬
‫السوفيتتي سقطت األيديولوجية‪ ،‬وبدأ علم االجتماع بال أيديولوجية توجهه‬
‫وتستنفر طاقاته‪ ،‬وإبداعاته‪ ،‬وتراجع علم االجتماع عن كونه علماً يمارس دوراً‬
‫نقدياً بالنظر إلى مرجعية أيديولوجية محددة‪ ،‬ويسعى إلى ترشيد حركة المجتمع‬
‫استناداً إلى توجيهاتها ‪.‬‬

‫ـ ويتمثل البعد الثاني لألزمة في المنهجية التي نقلها علم االجتماع عن‬
‫العلوم الطبيعية في الفترة التي عاصرت نشأته‪ ،‬وأنه مهد بمنطلقاته العلمانية‪،‬‬
‫وتوجهاته السياسية الطريق لقيام الثورة الفرنسية ‪ ..‬تلك المنطلقات التي أفقدت‬
‫العلوم اإلنسانية ـ بصفة عامة ـ إنسانيتها؛ فعالم االجتماع ليس ساعاتي‪ ،‬أو‬
‫مبرمج حواسب رقمية‪ ،‬أو ميكانيكي سيارات ‪.‬‬

‫ويرجع السبب في ذلك أن تلك العلوم لم تجد ما تبنى عليه فنحن نعلم‬
‫تاريخياً أن علم الطبيعة نشأ بعد علم الرياضيات قائما على الكثير من نظرياته‪،‬‬

‫‪181‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬
‫وكذلك علم الكمياء نشأ بعد علم الطبيعة قائما على الكثير من حقائقة‪ ،‬وأن علم‬
‫األحياء نشأ بعد علم الكيمياء مستفيدا مما توصل إليه‪ ،‬وكذلك علوم الحواسب‪،‬‬
‫والبرمجيات مدعوما باكتشاف (‪ )0‬وثنائية (‪ ،)1،0‬ودورها في الطفرة الهائلة‬
‫التي ابتليت به البشرية بصناعة الفيروسات المهندسة‪ ،‬والمصممة مختبريا‪،‬‬
‫وأخرها كوفيد ‪( 19‬كورونا)‪.‬‬

‫كانت مشكلة تلك العلوم التي من المفترض كونها إنسانية أنها لم تحدد‬
‫مجال البحث الخاص بكل منها تحديداً كافيا‪ ،‬ولم تعرف موضوع كل منها‪ ،‬ولم‬
‫تكفل سالمة مناهجها الخاصة‪ ،‬ويبدو ان الباحثين فيها لم يتفقوا تماما على رأى‬
‫عام يرتضونه ألنفسهم عن طبيعة دراستهم‪ ،‬وما تتصف به من طابع خاص‪،‬‬
‫وهذا السبب وراء ما يشعر به المتلقي لتلك العلوم من الحرج‪ ،‬والغموض‪،‬‬
‫واالضطراب عندما ينتقل بين هذه المواد وقد أعرب بعض العلماء عن حسرتهم‬
‫لهذا األمر‪ ،‬ومن تلك العلوم ‪.:‬‬

‫‪ 1‬ـ «علم النفس السياسي»‪:‬‬


‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫‪ ..‬في سنة ‪ 1879‬أسس فلهملم فونت أول معمل نفسي‪ ،‬وكان فونت‬
‫مشتبكا مع تيارات الصراع السياسي‪ ،‬والفكري في عصره‪ ،‬وأسس فونت مجلة‬

‫‪182‬‬
‫اسماها‪«:‬دراسات فلسفية» ثم غير اسمها إلى «دراسات نفسية»‪ ،‬وكانت مقاالت‬
‫فونت بدايه ما أطلق عليه «علم النفس السياسي»‪ ،‬وبمرور األيام تم رصد‬
‫تدخل السياسة في تحديد مسار علم النفس السياسي؛ فقد قررت اللجنة المركزية‬
‫للحزب الشيوعي سنة ‪ ،1926‬وهي اللجنة التي تحدد النظريات النفسية األولى‬
‫باالتباع‪ ،‬وأيها تستحق اإلدانة والتحريم‪ ،‬والتي أصدرت قرار بإدانة علم التربية‬
‫سواء من حيث النظرية أو من حيث التطبيق باعتباره يمثل مواقف علمية زائفة‪،‬‬
‫*(‪)21‬‬ ‫ومعادية للماركسية‬

‫كانت العالقة بين العلوم اإلنسانية عامة ـ ومن بينها علم النفس ـ عالقة‬
‫تمتد إلى تاريخ العلوم جميعا‪ ،‬وإن كانت األزمات‪ ،‬والحروب بمثابة البوتقة‬
‫التي جسدت دوما تلك العالقة‪ ،‬وما ينبغي أن تقوم به تلك العلوم لقهر األعداء‪،‬‬
‫وتدمير شعوبهم ‪ ..‬بمعنى أن تلك العلوم لم تستخدم في تحقيق خير اإلنسانية بقدر‬
‫ما اسهمت في خدمة قوي الشر‪ ،‬والعدوان ‪.‬‬

‫بمعنى أن الحروب بما تثيره من قضايا‪ ،‬وما تفرضه من متطلبات‪ ،‬وما تخلقه‬
‫من مشكالت‪ ،‬وبما لكل ذلك من طبيعة ملحة تترك آثاراً عميقة ليس على نفوس‬
‫البشر فحسب بل على مسار المعرفة اإلنسانية عامة‪ ،‬وفي مجال االكتشاف‪،‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )21‬دافيد أو ـ سيز‪ ،‬ليوني هادي‪ ،‬روبرت جيرفيس‪ ،‬المرجع في علم النفس السياسي‪ ،‬ترجمة ‪ :‬ربيع‬
‫وهبة‪ ،‬مشيرة الجزيري‪ ،‬محمد الرخاوي ـ المشروع القومي للترجمة ـ العد ‪ ١٤٨٤‬ـ ط ‪ ١‬ـ القاهرة ‪٢٠١٠‬‬
‫ـ ص ‪14‬‬

‫‪183‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫واالختراع على وجه الخصوص‪ ،‬وليس ذلك غريبا فالحاجة أم االختراع‪ ،‬وليس‬
‫من حاجة‪ ،‬وال احتياج بأكثر‪ ،‬وال أقصى مما تفرضه الحروب‪.‬‬

‫وقدد حدد دويجلر وفريجدا في كتابه ‪« :‬الشخصيات الوطنية والقوالب‬


‫الوطنية القومية ‪»National character and national stereotypes‬‬
‫األسباب العملية لتك الدراسات على الوجه التالي ‪:‬‬

‫‪1‬ـ امكانية استخدام هذه الدراسات في الحرب النفسية باعتبارها يمكن أن تسهم‬
‫في فهم عدو فعلي أو محتمل؛ وبالتالي فإن تلك الدراسات في جوهرها سالح‬
‫فعلى حال كشفها ضعف ذلك العدو‪ ،‬وأوهامه‪ ،‬ومعاييره‪ ،‬وقيمه‪ ،‬ورموزه؛ بما‬
‫يسهم في هزيمته !!‬

‫‪ 2‬ـ إمكانية استخدام تلك الدراسات في مجال الدعاية الداخلية في تبرير‬


‫اتجاهات العدوان‪ ،‬وتخفف من حالة التأثم حيال استخدام شتى الوسائل لتحقيق‬
‫ذلك ‪.‬‬

‫ً‬
‫فضال عن ذلك فإن تلك الدراسات ال تقدم لنا المعلومات عن أعدائنا فقط بل‬ ‫‪3‬ـ‬
‫عن حلفائنا أيضا‪ ،‬وأنها قد تمكننا من المضي معهم بشكل أفضل‪ ،‬ومن التعامل‬
‫معهم بكفاءة أكبر‪ ،‬وقد نصل إلى فهم أفضل لما يعانونه من مشاكل؛ وبالتالي‬

‫‪184‬‬
‫يصبح في وسعنا مساعدتهم بكفاءة أكثر ‪.‬‬

‫وتؤكد مارجريت ميد (عالمة انثربولوجيا ثقافية) تلك األهداف بقولها ‪:‬‬

‫«لقد استخدم هذا االتجاة لتحقيق العديد من األهداف السياسية ‪ :‬إنجاز‬


‫مهام حكومية معينة‪ ،‬وتيسير العالقة مع الحلفاء‪ ،‬وترشيد العالقة مع جماعات‬
‫األنصار (الجواسيس) في البلدان الخاضعة لسيطرة العدو‪ ،‬والمساهمة في‬
‫تقييم قوى األعداء‪ ،‬ونواحي ضعفهم‪ ،‬وتقديم المشورة في إعداد الوثائق على‬
‫المستوى الدولي ‪. ».‬‬

‫‪ ..‬وال شك أنه في البالد التي نهضت فيها الدراسة األنثربولوجية‪ ،‬واحتلت‬


‫مكانا مرموقاً بين فروع العلوم االجتماعية نجد أن األفكار التي تخرج بها‬
‫دراسات االتصال الثقافي يمكن أن تستخدم عمليا في أوجة متعددة‪ ،‬وليس هذا‬
‫فحسب بل أن العديد من المواقف التطبيقية تتيح لعالم األنثربولوجيا الثقافية‬
‫التحكم بشكل وثيق في بعض عوامل التغيير‪ ،‬كما تسمح بإجراء اختيار معملي‬
‫لبعض الفروض‪ ،‬والنظريات؛ فهذا التطبيق العملي يفيد الممارسة اليومية؛‬
‫فاألنثربولوجيا التطبيقية إذن تنطوي على توجية سلوك البشر من أجل تحقيق‬
‫غايات معينة‪ ،‬ولعل هذا البعد هو الذي حدا ببعض علماء األنثربولوجيا إلى‬
‫رفض األنثربولوجيا التطبيقية أوإبداء العديد من التحفظات على االنتفاع بنتائج‬

‫‪185‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫هذا العلم في األغراض العملية‪ ،‬ولعل لهؤالء العلماء بعض العذر في موقفهم‬
‫هذا حيث يرتبط هذا االستخدام العملي بكثير من القضايا األخالقية‪ ،‬ويتصل‬
‫بمشكالت ممارسة الباحث لمسئوليات العملية ‪.‬‬

‫ً‬
‫مقاال‬ ‫لقد نشر السويل (أحد أهم الخبراء في التالعب بالوعي) سنة ‪1970‬‬
‫بعنوان ‪«:‬هل يجب على العلم أن يخدم السلطة السياسية؟!» أشار فيه بوضوح‬
‫إلى أن‪:‬‬

‫«القول بتأثر السلطة السياسية بالمعرفة العلمية‪ ،‬وتأثيرها فيها ليس من‬

‫‪)22(*.».‬‬ ‫قبيل االكتشاف الجديد‬

‫ورغم العالقة بين علم النفس‪ ،‬والسلطة السياسية فقد امتنع العلماء عن‬
‫صك مصطلح «علم النفس السياسي» ربما نفوراً من االفصاح عن مواقفهم‬
‫السياسية أو ترفعاً عن إلصاق شبهة السياسة بالعلم‪ ،‬وتقديم مساهماتهم في‬
‫التطبيقات السياسية العملية ‪.‬‬

‫لقد نشر هانز أيزنك كتاب بعنوان ‪« :‬سيكولوجية السياسة» لم يستخدم‬


‫تعبير «علم النفس السياسي» على مدى صفحات الكتاب ‪.‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )22‬دافيد أو ـ سيز‪ ،‬ليوني هادي‪ ،‬روبرت جيرفيس‪ ،‬المرجع في علم النفس السياسي‪ ،‬مرجع سابق‬

‫‪186‬‬
‫أما بيتر بريز أستاذ علم النفس في جامعة كيب تاون بجنوب أفريقيا فقد‬
‫أصدر عام ‪ ١٩٨٠‬كتاباً بعنوان ‪« :‬علم النفس االجتماعي‪ ،‬والسياسة» أعلن‬
‫فيه تطبيق إحدى نظريات علم النفس االجتماعي لتفسير العملية السياسية المتعلقة‬
‫بالهوية لتفسير العملية السياسية التي عايشها في موطنه‪ ،‬وقد عبر في المقدمة‬
‫عن رؤيته السلبية للسياسة مستعيراً عبارة الشاعر الفرنسي بول فاليري ‪:‬‬

‫«كانت السياسة هى فن منع البشر من التدخل فيما يعنيهم‪ ،‬ثم اضيفت إليها‬

‫دفع هوالء البشرإلى اتخاذ قرارات ال يفهمونها‪.».‬‬

‫رصد العالم الروسي سيرجي مورزا في كتابه بعنوان ‪« :‬التالعب بالوعي»‬


‫الكثير من أساليب التالعب بالوعي‪ ،‬وفضح أكاذيب جلبرت فرانكة عن غرس‬
‫«الكتروا دات» في المخ البشري للتحكم في تصرفاته من خالل التوجية عبر‬
‫وسيط راديوي‪ .. ،‬وأكد مورزا أن أكاذيب فرانكة كانت بهدف التغطية على‬
‫تجارب عمليات غسيل المخ القذرة التي تمت في بعض الجامعات األلمانية‬
‫بتمويل أمريكي‪ ،‬والتي تم استخدام نتائجها في حرب فيتنام وبالتحديد في العملية‬
‫«فينكس ‪ Phoenix‬العنقاء» وإذابة الفلوريدات التي يطلق عليها «مثبطات‬
‫العزائم ‪. »Stimulants inhibitors‬‬

‫‪187‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫‪ 2‬ـ «سيكولوجية الجماهير»‪:‬‬


‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫وهي النتائج التي كانت تستخدم في اللعب بالمعاني الكلية دون أن تهتم‬
‫بتحديدها أو ايضاحها مثل ما ساقه جوستاف لوبون في كتابيه «نفسية الشعوب»‬
‫و«سيكولوجية الجماهير»؛ فكل جمهور من الناحية العقلية في مستوى أقل من‬
‫مستوى األفراد الذين يتألف منهم‪ ،‬وعلى هذا األساس يكون الجمهور بصفته‬
‫مستوى أدنى لتحديد المستوى العام‪ ،‬وقد صاغ شيللر تلك الحقيقة بأسلوب أكثر‬
‫لياقة وتوفيقا بقوله‪:‬‬

‫«إذا أخذت كل أمرئ على حدة‪ ،‬وجدت أنه مزود بالحكمة‪ ،‬والذكاء على‬

‫نحو غي معقول‪ ،‬فإذا نظرت إليه‪ ،‬وهو في جماعة‪ ،‬وجدت في نفس الوقت أنك‬

‫لست إال حيال جماعة من األغبياء!!» ‪.‬‬

‫وقد الحظت السيدة «روالند» أن ‪:‬‬

‫«الناس تطول آذانهم عندما يوجدون في جماعة»‪ ،‬وبذلك ليس لعلماء‬


‫النفس الذين يدرسون سيكولوجية الجماهير فضل التجديد على سابقيهم ‪.‬‬

‫‪188‬‬
‫‪ ..‬وعن دور الحشود في الخداع‪ ،‬والتضليل يقول رب العزة سبحانه وتعالى‬
‫في كتابه العزيز عن أداء فرعون في إدخال الغش على الرعية ‪:‬‬

‫آيه‬ ‫ال أَ َن ْا َرب ُُّك ُم َْ‬


‫االعْ لَى ـ صدق اله العظيم» ـ النازعات‪،‬‬ ‫« َف َح َش َر َف َنادَى* َف َق َ‬
‫‪24 ،23‬‬

‫يقول شكسبير في مسرحية «أنطونيو وكليوباترا» عن طبيعة الحشود‪:‬‬

‫« إن حشد العقالء أمر معقد للغاية إما حشد القطيع ال يحتاج إال راعي‪،‬‬
‫وكلب‪. ».‬‬

‫وقد أدرك أحمد شوقي روح الجماعات فصاغها في مسرحية ‪« :‬مصرع‬


‫كليوباترا» التى كتبها سنة ‪1927‬؛ فوصف غياب العقل في جموع القطيع‬
‫بقوله‪:‬‬

‫الشـــــعب كيف يُوحون إليه‬


‫َ‬ ‫اسمــع‬
‫بحياتي قاتليْه‬
‫ْ‬ ‫مأل الجـوَّ ُهتافـًا‬
‫البهتان فيه وانطلى الزور عليه‬‫ُ‬ ‫َّأثر‬
‫يا له من َببَّغاء عقله في أذنيه‬

‫‪189‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫‪ 3‬ـ «علم النفس االجتماعي» ‪:‬‬


‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫وفي الفترة من عام ‪ ١٨٩٠‬إلى ‪ ١٩٠٠‬نشأ فرع جديد قائم بذاته‪ ،‬وهو‬
‫الذي يسمى «علم النفس االجتماعي»‪ ،‬ولم يكن لهذا الفرع روح العلم فقد كان‬
‫له مظهره‪ ،‬وهو ذلك الفرع الذي ظل يحمل مسمى «علم نفس الجماهير»‪،‬‬
‫وتنطوي معظم دراسات علم النفس االجتماعي على نفس العيوب التي تبدو‬
‫بجالء من وجهة النظر العلمية؛ ألسباب أهمها‪:‬‬

‫أن الباحثين في هذا العلم يستعيرون الظواهر من هنا‪ ،‬وهناك تبعاً للمناسبات‪،‬‬
‫وبناء على معلوماتهم الخاصة أى أنهم كانوا يستعيرونها من مالحظاتهم اليومية‪،‬‬
‫ومن التاريخ القصصي؛ وسرعان ما أدت هذه الظواهر إلى التعميم المفرط في‬
‫الغلو‪ ،‬وإلى نتائج قياسية قاهرة شديدة الوقع في النفس‪ ،‬وسهلة التناول بالمعاني‬
‫الكلية دون أن تهتم بتحديدها‪ ،‬وإيضاحها ‪.‬‬

‫إن علم وظائف األعضاء لم يصبح علماُ بمعنى الكلمة إال منذ اليوم الذي‬
‫استطاع أن يحدد فيه الظواهر العضوية‪ ،‬وأن يفصلها عن غيرها من الظواهر‪،‬‬
‫وذلك عندما جرد الحقائق الحيوية من كتلة األراء الوهمية التي كانت متضمنة‬
‫فيها‪ ،‬كذلك لن يصبح علم النفس فردياً كان أم اجتماعياً علماً ال يرقي إليه الشك‬

‫‪190‬‬
‫إال إذا أصبح قادراً على القيام بهذه العملية نفسها فيما يمس الظواهر النفسية ‪.‬‬

‫وليس ثمة ما هو أشد بداهة‪ ،‬ووضوحاً بحسب الظاهر من تلك الصيغة التي‬
‫ذكرها «بلدوين»‪:‬‬

‫«إن علم النفس يدرس الفرد أما علم االجتماع فيدرس الجماعة»‪ ،‬ولكننا‬
‫إذا أردنا االنتقال من النظرية إلى التطبيق فإن الصعوبة الكبرى تنحصر أين‬
‫ينتهي الفرد؟!‪ ،‬وأين يبدأ المجتمع ؟!‬

‫ورغم حالة الدجل التي ترتدي ثوب «العلمي» والتخبط؛ فال يوجد اتفاق‬
‫حقيقي بصدد الموضوع أو المنهج أو نتائج البحث فكل باحث يقطع من مجال‬
‫المالحظة العادية ما يشيد عليه قصوره من الرمال بمواد متناثرة‪ ،‬ومتناقضة‬
‫من هنا وهناك!!‬

‫‪ ..‬وبدأ النقاش حول كيف يمكن أن نجعل من «علم النفس االجتماعي» أن‬
‫يصير «موضوعيا وعلماً» بمعنى الكلمة‪ً ،‬‬
‫بدال من أن نأخذ في تعداد النتائج‬
‫المشكوك فيها إلى حد كبير أو قليل دون أن نلقي عليها نظرة عامة أو دون‬
‫نمحصها بالنقد‪ ،‬ونعني بهذه النتائج المشكوك فيها نتائج هذا العلم الذي لم يهتد‬
‫لموضوعه‪ ،‬ويمكن أن يصبح «علم النفس االجتماعي» موضوعيا‪ ،‬وعلما‬

‫‪191‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫بمعنى الكلمة متى حددنا له نقطة البدء في الدراسة‪ ،‬وعينا اتجاهاته الواضحة‪،‬‬
‫ووجدنا له فروضاً يمكن اتخاذها أساساً للبحث‪ ،‬وهى الفروض التي سوف‬
‫تقاس قيمتها بصفة نهائية بناء على ما تؤدي إليه من نتائج فيما بعد‪ ،‬في حين‬
‫أنها كانت تقاس ً‬
‫أوال وقبل البرهنة بمطابقتها للتجربة‪ ،‬ولشروط التفكير مطابقة‬
‫‪)23(*.‬‬ ‫عامة‬

‫يفترض الباحثون في هذا المجال أن «علم النفس االجتماعي» يبدأ بظاهرة تقع‬
‫تحت المالحظة ‪ :‬وهي أن نتائج النشاط لدى إحدى الجماعات اإلنسانية كاللغة‪،‬‬
‫والصناعة‪ ،‬والفنون‪ ،‬واألخالق‪ ،‬والعادات‪ ،‬والتشريع ـ أو لنقل بعبارة أفضل‬
‫من ذلك إن المعارف العامة‪ ،‬والرموز‪ ،‬والعقائد‪ ،‬وقواعد السلوك العام ـ تدخل‬
‫في نطاق شعور الفرد‪ ،‬وتعمل على تعديله‪ ،‬ومالحظة مثل هذه الظاهرة تفرض‬
‫علينا واجباً أول وهو‪ :‬إعداد قائمة بكل العناصر التي يحتوي عليها شعور الفرد‪،‬‬

‫والتي ال تأتيه من تلقاء ذاته؛ بل عن طريق الجماعة؛ فإذا كان «علم النفس‬
‫االجتماعي» هو علم الظواهر النفسية التي تتوقف على وجود جماعة من‬
‫األفراد؛ فإن عدد كبير من الظواهر الواقعية التي يصفها الناس بأنها ظواهر‬
‫فردية يرجع مجال البحث فيها حقيقة إلى «علم النفس االجتماعي» دون أن‬

‫تكون ثمة حاجة إلى وجود الجماهير‪ ،‬والجماعات بالفعل في اللحظة التي‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )23‬شارل بلوندل‪ ،‬مقدمة في علم النفس االجتماعي‪ ،‬ترجمة ‪ :‬د‪ .‬محمود قاسم و د ‪ .‬ابراهيم سالمة‪ ،‬مكتبة األنجلو‬
‫المصرية ـ القاهرة ‪١٩٥١‬ـ ص ‪14‬‬

‫‪192‬‬
‫تنشأ فيها هذه الظواهر‪ ،‬وحينئذ يجب أن تكون نقطة البدء في «علم نفس‬
‫اجتماعي» فرضاً يوضع سلفاً‪ ،‬ويقبل أن تدخل عليه تعديالت بصفة دائمة‪،‬‬
‫ونعني به ذلك الفرض الذي سوف يحدد مدى المجال الذي يحتمل أن يمتد إليه‬
‫موضوع هذا العلم‪ ،‬ومجموعة المسائل التي يجب على علم النفس العام أن‬
‫له‪)24(*.‬‬ ‫يدعها‬

‫من البديهي أنه يأتي «علم النفس االجتماعي» بعد علم النفس الفردي‪،‬‬
‫وأنه يجب أن نبدأ بالفرد لكى ننتهي بالمجتمع ال أن نبدأ بالمجتمع لكى ننتهي إلى‬
‫الفرد‪ ،‬ولكن هذه البداهة أيضا تعوذها أدلتها‪ ،‬وليس هناك ما يدل على أنها بداهة‬
‫خادعة‪ ،‬كما أننا نفتقد النظام الذي ينبغي في دراسة الظاهرة الفردية‪ ،‬والظاهرة‬
‫االجتماعية الفردية !!‬

‫ومع هذا ظل الباحثون يضعون في حساب «علم النفس االجتماعي»‬


‫موضوعات مازالت تعد حتى اآلن من مجال البحث في «علم النفس الفردي»‪،‬‬
‫وهي الظواهر التي تطلق عليه األسماء اآلتية ‪ :‬سيكولوجية الذكاء‪ ،‬وسيكولوجية‬
‫اإلرادة‪ ،‬وحتى سيكولوجية الحياة الوجدانية ‪.‬‬

‫يرى الباحثين أن العلوم التي تعالج العقلية اإلنسانية ومظاهرها‪ ،‬وأسباب‬


‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )24‬شارل بلوندل‪ ،‬مرجع سابق ـ ص ‪15‬‬

‫‪193‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫هذه المظاهر ونتائجها يكن ترتيبها تبعاً للترتيب اآلتي ‪:‬‬

‫ً‬
‫أوال ‪ :‬علم النفس العضوي‬

‫تانيا ‪ :‬علم النفس االجتماعي‬

‫ثالثاً ‪ :‬علم النفس الفردي‬

‫***‬

‫‪ 4‬ـ علم «الفلكلور»‪:‬‬


‫ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫لم يتعرض علم من العلوم اإلنسانية لمشكالت االستخدام العملي لمواده‪،‬‬


‫ومناهجة‪ ،‬وأفكاره‪ ،‬ومحنة «االنتفاع» بمادته‪ ،‬وتطويرها في ضوء ايدلوجيات‬
‫معينة بمثل ما تعرض له «علم الفلكلور» وأبرز تلك المحن التي مر بها هذا‬
‫العلم تطويره‪ ،‬واستخدامه لتأكيد بعض قضايا الفكر القومي النازي في ألمانيا‬
‫الهتلرية‪ ،‬وفي مصر في مرحلة ما بعد انقالب يوليو ‪ ١٩٥٢‬وبدأ تنفيد سياسة ‪:‬‬
‫«عسكرة المجتمع ‪.»Stratocracy‬‬

‫‪194‬‬
‫***‬

‫لكن ما يجب أخذه في االعتبار هو أن األراء الفردية ليست مقنعة إال‬


‫في القليل النادر كذلك ال يمكن التفكير في سرد التفاصيل التاريخية التدريجية‬
‫لجميع األراء‪ ،‬والمناقشات حول موضوع «علم النفس السياسي»‪ ،‬و«علم‬
‫النفس االجتماعي»‪ ،‬و «علم الفلكلور» كما يجب األخذ في االعتبار أن تلك‬
‫المحاوالت انتجت لنا علوم زائفة أساءت إلى شرف العلم‪ ،‬وامتهنت كرامة‬
‫اإلنسان‪ ،‬وخدعته‪ ،‬و«تالعبت بعقله»‪ ،‬واسهمت في توجيه سلوكه على غير ما‬
‫يرغب‪ ،‬وعلى غير إرادته‪ ،‬وقد أنتجت تلك العلوم الزائفة أحد أشكال «االحتيال‬
‫اإلجرامي المقنن» أو «التصيد االحتيالي» والذي أُطلق عليه على سبيل‬
‫االصطالح مُسمى «الهندسة االجتماعية ‪.»Social Engineering‬‬

‫«الهندسة االجتماعية‬
‫‪:»Social Engineering‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫الهندسة االجتماعية عبارة عن مجموعة من الحيل‪ ،‬والتقنيات المستخدمة‬


‫لخداع الناس‪ ،‬وجعلهم يقومون بعمل ما أو يفصحون عن معلومات سرية‪،‬‬
‫وشخصية‪ ،‬قد تـُستخدم الهندسة االجتماعية دون االعتماد على أي تقنية‪،‬‬

‫‪195‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫واإلعتماد فقط على أساليب اإلحتيال للحصول على معلومات خاصة من‬
‫الضحية‪ ،‬وقد تطورت تلك الممارسات فأصبحت تتم عن طريق الهاتف أو‬
‫البريد اإللكتروني مع انتحال شخصية ذي سلطة أو فتاة جميلة على مواقع‬
‫التواصل االجتماعي أو ذات عمل يسمح للمحتال أو المخترق بطرح أسئلة‬
‫شخصية (على سبيل تحديث البيانات) دون إثارة الشبهات لدى الضحية‪.‬‬

‫وفي ظل التحدي الذي جلبته االنترنت أصبحت الهندسة االجتماعية‬


‫‪ Social Engineering‬التي يُطلق عليها «علم فن اختراق العقول» ذات‬
‫شعبية كبيرة في ظل النمو الهائل‪ ،‬والمتسارع لشبكات التواصل االجتماعي‬
‫والبريد االلكتروني‪ ،‬واألشكال األخري لإلتصاالت الكترونية‪ ،‬وفي في مجال‬
‫أمن المعلومات‪ ،‬وأصبح هذا المصطلح مستخدما لألشارة إلى مجموعة من‬
‫األساليب التي يستخدمها المجرمون في الحصول في الحصول على المعلومات‬
‫الحساسة أو إقناع الضحايا المستهدفة ببعض اإلجراءات التي تساعد على‬
‫اختراق أنظمتهم‪ ،‬واإلضرار بها ‪.‬‬

‫ومصطلح «الهندسة االجتماعية» ليس له معنى متفق عليه‪ ،‬ولكن من أقرب‬


‫التعريفات ‪:‬‬
‫«أنها استخدام المهاجم لحيل نفسية ليخدع ضحاياه المستهدفين ليمكنوه‬
‫من الوصول إلى معلومات عنهم‪.».‬‬

‫‪196‬‬
‫‪ ..‬وتعرَّ ف أيضا بأنها ‪:‬‬

‫« أي عمل يؤثر على الشخص التخاذ إجراء يكون او ال يكون في مصلحتهم‬


‫عن طريق مجموعة من التقنيات المستخدمة يقومون بعمل أو يفضون بمعلومات‬
‫سرية‪ ،‬وشخصية عنهم‪ ،‬وهو أمر ال يتم بدون إدراك وإلمام لطبيعة الجوانب‬
‫النفسية‪ ،‬والفسيولوجية‪ ،‬والتكنولوجية لألشخاص الذين يتم التأثير عليهم‪،‬‬
‫وبالتالي التعرف على الطريقة األنسب لتحقيق ذلك الغرض ‪.».‬‬

‫وهي أيضا «عملية القرصنة» على األشخاص بشكل أساسي عن طريق‬


‫استخدام المهاجم للمهارات االجتماعية الكالمية أو باستخدام أحد التقنيات‬
‫بغرض الحصول على معلومات عنهم ‪.‬‬

‫كذلك يمكن تعريفها ‪ :‬بأنها التالعب بالبشر‪ ،‬وخداعهم بهدف الحصول‬


‫على بيانات أو معلومات كانت ستظل خاصة‪ ،‬وآمنة‪ ،‬وال يمكن الوصول‬
‫إليها‪ ،‬وبالتالي فتقنيات الهندسة االجتماعية تعمل على إعطاء الجمهور ما يود‪،‬‬
‫ويحب الحصول عليه من نتائج؛ فالقائمين عليها يدرسون رغبات الجمهور‬
‫جيداً‪ ،‬ويقدمون لهم التقنيات التي تستهويهم وتجذبهم ليشاركوا فيها‪ ،‬وفي مقابل‬
‫إعطاء المشاركين معلوماتهم يطواعية يحصلون على نتائج عن انفسهم تتوافق‪،‬‬
‫وقناعاتهم‪ ،‬ومحببة إلى أنفسهم‪.‬‬

‫‪197‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫وتأخذ عدة أشكال وتقنيات فنية أهما ‪:‬‬

‫‪ ١‬ـ التطبيقات بمحاكاة الشخصية‪:‬‬


‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫وهى عبارة عن مجموعة التطبيقات التي تعمل على الحصول على بعض‬
‫المعلومات عن الشخصية‪ ،‬ومالمحها الستخراج صورة مشابهة لصورة‬
‫الشخص المشارك في هذه التطبيقات‪ ،‬ولكن بصورة مغايرة على ما هو عليه في‬
‫الواقع كتطبيق فيس آب ‪ ،Face App‬وفلسفة التطبيق تعتمد في االساس على‬
‫مجموعة معلومات عن الشخص المشارك فيه إلى جانب صورة شخصية له‪،‬‬
‫ومن ثم يحصل المشارك على صورة له وهو كهل أو عجوز مقارنة بصورته‬
‫الحالية ‪.‬‬

‫‪ ٢‬ـ االختبارات الشخصية التنبؤية ‪:‬‬


‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫وهي نوعية من تقنيات الهندسة االجتماعية تعتمد على مجموعة من‬


‫المعلومات التي يتم الحصول عليها من قبل المشارك فيها ـ والتي تعتتبر شرط‬
‫حتى يكما االختبار ـ حتى تظهر له النتيجة عن نفسه وشخصيته في نهاية إجابة‬

‫‪198‬‬
‫‪)24(*.‬‬ ‫على أسئلة االختبارات الخاصة‬

‫علوم الخداع‬
‫و«التالعب بالوعي»‪:‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫وقد انتجت لنا تلك العلوم الزائفة التي تمثلت في علوم الخداع‪ ،‬والتالعب‬
‫بالوعي‪ ،‬والتي يطلق عليها مسميات مختلفة‪ ،‬يقول ميشيل فوكو عما اسماه بـ‬
‫«رسم الذات ‪ ،»Self Stylization‬ورسم الذات تعني‪:‬‬

‫«كممارسة إنسانية عقالنية للحياة‪ ،‬والحرية‪ ،‬وتجري تلك الممارسات بـ‬


‫«تكنولوجيا الذات ‪ »Self Technology‬التي تسمح لألفراد بأن يؤثروا من‬
‫خالل وسائلهم الخاصة‪ ،‬أو بمساعدة آخرين في عمليات محددة على أجسادهم‪،‬‬
‫وأفكارهم‪ ،‬وسلوكهم‪ ،‬وطريقتهم في الوجود‪ ،‬من أجل تحويل أنفسهم لتحقيق‬
‫حالة محددة من السعادة‪ ،‬والطهر‪ ،‬والحكمة‪ ،‬والكمال‪ ،‬أو الال أخالقية أي تحقيق‬
‫حالة ما أو هدف ما »‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ ) )24‬مقال د‪ .‬حسام فايز عبد الحي‪ ،‬مشاركة الجمهور في تقنيات الهندسة االجتماعية عبر موقع فيس‬
‫بوك وعالقتها بالخصوصية والتعويض النفسي لديهم ‪ ،‬مجلة البحوث اإلعالمية‪ ..‬مجلة علمية و محكمة‬
‫تصدرها كلية اإلعالم بجامة األزهر ‪ ،‬العدد ‪ ٥٥‬ـ ج ‪ ١‬ـ اكتوبر ‪ ٢٠٢٠‬ص‪٦٠٠‬‬

‫‪199‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫وهي ما يطلق عليه الكاتب األمريكي إسرائيل زنجويل‪« :‬بوتقة الصهر»‪.‬‬


‫و«صناعة اإلجماع» تماثل فكرة الهيمنة عند أنطونيو جرامشي‪:‬‬

‫«نظام تسيطر فيه طريقة معينة للحياة‪ ،‬والتفكير‪ ،‬وليس فيه إال مفهوم‬
‫وحيد للحقيقة‪ ،‬ينتشر في المجتمع بكل مظاهره المؤسسية والخاصة‪ ،‬ويصوغ‬
‫بروحيته األذواق‪ ،‬واألخالق‪ ،‬والعادات‪ ،‬والمبادئ الدينية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬وكل‬
‫العالقات االجتماعية‪ ،‬وخصوصاً في مالمحها الثقافية‪ ،‬واألخالقية‪ ،‬فإن الهيمنة‬
‫هي السيطرة التي يتم التوصل إليها بالموافقة أكثر من القوة من قبل طبقة أو فئة‬
‫على بقية المجتمع» ‪.‬‬

‫بينما يرى والتر ليبمان عميد الصحفيين األمريكيين أثناء الحرب العالمية‬
‫األولى‪« :‬أنها الثورة في فن الديمقراطية‪ ،‬وأنه يمكن تطويعها لخدمة ما وصفه‬
‫بـ « تصنيع اإلجماع»‪ ،‬بمعنى يجعل الرأي العام يوافق على أمور ال يرغبها‬
‫باألساس عن طريق وسائل دعائية ‪ ..‬وأن الحديث عن المصالح العامة ـ من‬
‫وجهة نظره ـ كفيل تماما بخداع الرأي العام»‪.‬‬

‫ويرى ليبمان أن هناك وظيفتين في النظم الديمقراطية ‪:‬‬

‫الوظيفة األولى ‪ :‬منوط بها الطبقة المتخصصة الرجال المسئولون يقومون‬

‫‪200‬‬
‫بالتفكير وفهم التخطيط للمصالح العامة ‪.‬‬

‫والوظيفة الثانية ‪ :‬منوط بها القطيع الضال (الجماهير من غير النخبة)‪،‬‬


‫ووفق ذلك التحليل ـ من وجهة نظر ليبمان ـ فإن وظيفة هذا القطيع تتمثل في‬
‫كونهم مشاهدين‪ ،‬وليسوا مشاركين في الفعل‪ ،‬فمن وقت آلخر يسمح لهذا القطيع‬
‫بتأييد أحد أفراد الطبقة المتخصصة‪ ،‬وهذا ما يطلق عليه الديمقراطية‪ ،‬وأداتها‬
‫(االنتخابات)‪.‬‬
‫بمعنى أن مفهوم الديمقراطية صار نفسه مفهوما شكلياً خاليا من أي‬
‫مضمون‪ ،‬ويستخدم فقط كشعار أيديولوجي ال يؤخذ على محمل الجد من قبل‬
‫المحترفين‪ ،‬يقول هارولد السويل الذي يعد من أشهر المتــالعبين بالوعي‪،‬‬
‫وتزييف اإلرادات في «موسوعة العلوم االجتماعية » ‪:‬‬

‫«ليس علينا أن نتنازل للدوجما عن الديمقراطية التي يمكن للناس وفقا لها‬
‫أن يحكموا على مصالحهم الخاصة»‪.‬‬

‫وال يخجل هارولد السويل من الجهر باإلساءة إلى شرف العلم باستخدامه‬
‫في التالعب بوعي الشعوب‪ ،‬وصناعة رأى عام زائف بقوله ‪:‬‬

‫«ال بأس من دعوة الجماهير من آن آلخر للخروج في تظاهرات جماعية‬

‫‪201‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫لدعم النظام القائم بعد أن نجحنا في إقناعهم بالتصويت ضد مصالحهم !!»‪.‬‬

‫من خالل إضفاء نوع من «العقلنة الزائفة» على القيم الخادعة والكاذبة‬
‫والمخادعة ‪ ..‬أي محاولة إيجاد قبول لما ال أصل‪ ،‬وال حقيقة له!!‬

‫‪ ..‬يرى هارولد السويل عالم االجتماع األمريكي ومؤسس االتجاه العلمي‬


‫دور الكلمة في الدعاية (ومن ثم التالعب بالوعي)‪ ،‬والذي بدأ دراساته منذ‬
‫الحرب العالمية األولى‪ ،‬وعمم النتائج عام ‪ 1927‬في كتاب بعنوان‪« :‬تقنية‬
‫الدعاية في الحرب العالمية»‪ ،‬والذي وضع فيه التحليل الداللي للنصوص‪،‬‬
‫أي استخدام هذه الكلمات من أجل نقل المعاني أو تشويهها‪ ،‬وقد بنى السويل‬
‫منظومة كاملة نواتها تشكيل «األسطورة السياسية» عن طريق انتقاء الكلمات‬
‫المناسبة ‪.‬‬

‫‪ ..‬بمعنى اختالف مفهوم المصطلح رغم وحدة المضمون باختالف‬


‫موقع أمريكا منه؛ فإذا كان حقل المصطلح الذي ينطوي على «المعلومات‬
‫المخادعة» بغرض العدوان موجه أمريكيا بما يخدم المصالح األمريكية؛ فهو‬
‫«القوة الناعمة ‪ ،» Soft Power‬وإذا كان موجه من الغير (روسيا ـ الصين‬
‫ـ إيران) فهو «القوة الحادة ‪. » Sharp Power‬‬

‫‪202‬‬
‫وهو ما عبر عن جوزيف ناي في أطروحته بعنوان «القوة الناعمة ‪Soft‬‬
‫‪ » Power‬التي نشرها سنة ‪ 2004‬في توصيف وظائف المصطلح بقوله ‪:‬‬

‫« إننا ال نكتفي بتحطــيم أعدائنا فقط‪ ..،‬بل نجعلهم يفعلون بأنفسهم ما نريد‬
‫بما يخدم مصالحنا »‪.‬‬

‫وقد اقتبس جوزيف ناي مصطلح (القوة الناعمة ‪ )Soft Power‬من ثنائية‬
‫الصلب‪ ،‬والناعم في مكونات الحواسب‪ ،‬فأجهزة الكومبيوتر تتألف من روافد‬
‫الشق المادي الصلبة (تكنولوجيا عتاد الحاسوب ‪ ،)Hardware‬وروافد الشق‬
‫الذهني الناعمة (نظم برامج المعلومات ‪ ،)Software‬وقد أخذت تلك المسميات‬
‫في االنتشار مع بداية التسعينيات من القرن الماضي على أثر انتشار الكومبيوتر‬
‫واإلنترنت‪.‬‬

‫عرَّ ف ناي القوة الناعمة بأنها ‪:‬‬

‫«القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية واالستمالة واإلغواء‬


‫ً‬
‫فبدال من‬ ‫و الجذب دون أن تظهر رغباتك للعيان ومن دون أن تترك بصمات؛‬
‫تكتيكات التهديد حقق رغباتك عبر دور المصلح المنقذ وتقديم النموذج الثقافي‬
‫السياسى‪ ،‬وزرع األمل بأن الخالص في يد أمريكا المانحة لحقوق اإنسان‬

‫‪203‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫والديمقراطية وحرية التعبير وما شابة من عناوين مضللة العقول ومدغدغة‬


‫ً‬
‫وبدال من استعراض الصواريخ أو بث الرعب‬ ‫لألحالم مالمسة للمشاعر‪،‬‬
‫عبر اإلذاعات والمنشورات للفتك بإرادة العدو يتم إرسال أشرطة الفيديو أو‬
‫األقراص اللمغنطة أو صفحات التواصل االجتماعي للشباب واألطفال والنساء‬
‫والرجال كل حسب رغباته ً‬
‫بدال عن اإلرغام‪ ،‬وهي القدرة على التأثير في‬
‫سلوك اآلخرين للحصول على النتائج‪ ،‬وتحقيق األهداف بدون االضطرار إلى‬
‫االستعمال المفرط للعوامل‪ ،‬والوسائل العسكرية والصلبة؛ ألن القوة ال تصلح‬
‫إال في السياق الذي تعمل فيه‪ ،‬فالدبابة ال تصلح للمستنقعات‪ ،‬والصاروخ ال‬
‫يصلح لجذب اآلخرين نحونا؛ فعندما تتمكن من جعل اآلخرين يعجبون بمُثُلك‪،‬‬
‫ويريدون ما تريد فإنك لن تضطر إلى اإلنفاق كثيراً على العصي والجزرات‬
‫(أي عوامل اإلرغام واإلغراء)؛ لتحريكهم في اتجاهك‪ ،‬فاإلغراء أكثر فاعلية‬
‫من اإلرغام على الدوام وبعبارة أدق فإن القوة الناعمة هي القدرة على التأثير‬
‫في سلوك اآلخرين للحصول على النتائج التي يتوخاها المرء‪ ،‬وتستطيع أن‬
‫تجتذبهم وتقنعهم بأن يريدوا ما تريد‪.‬‬

‫كما تحدث جوزيف س‪ .‬ناي عن مصادر قوة أميركا الناعمة وقوة اآلخرين‬
‫الناعمة (أي أعداء أميركا أو منافسيها على الحلبة الدولية)‪ ،‬وعن البراعة في‬
‫استخدام القوة الناعمة‪ ،‬وأخيرا القوة الناعمة وسياسة أميركا الخارجية‪ ،‬وقد‬
‫أغفل الكاتب عن قصد ذكر التطبيقات السرية للقوة الناعمة في حاالت الحرب‬

‫‪204‬‬
‫والمواجهات العسكرية‪ ،‬ألن هذه المخططات ستبقى طي الكتمان في أروقة‬
‫البنتاجون والمخابرات المركزية األميركية ‪.‬‬

‫موارد « القوة الناعمة» ‪:‬‬


‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫حدد جوزيف ناي هذه الموارد بثالثة روافد‪:‬‬
‫‪1‬ـ القيم والمؤسسات األميركية‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ جاذبية الرموز الثقافية والتجارية واإلعالمية والعلمية األميركية‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ صورة أميركا وشرعية سياساتها الخارجية وتعامالتها وسلوكياتها‬


‫الدولية‪.‬‬

‫كما حدد ناي عناصر القوى الناعمة بأنها ‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ مصانع هوليود وكل اإلنتاج اإلعالمي والسينمائي األميركي‪ ،‬رغم أن‬
‫«بوليوود» الهندية تنتج أفالما أكثر منها في كل عام‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ الطالب والباحثون األجانب الوافدون للدراسة في الجامعات والمؤسسات‬


‫التعليمية‪ ،‬فمن بين ‪ 1.6‬مليون طالب مسجلين في جامعات خارج بلدانهم‪%28 ،‬‬

‫‪205‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫منهم موجودون في الواليات المتحدة‪ ،‬وأكثر من ‪ 86‬ألف باحث أجنبي كانوا‬


‫منتمين في مؤسسات تعليمية أميركية في عام ‪2002‬؛ فهم سيشكلون جيوشاً‬
‫يحملون معهم آالف النوايا الطيبة والودائع الحسنة عندما يعودون إلى بلدانهم‬
‫وأوطانهم‪ ،‬ويتقلدون المراكز والمواقع العليا‪ ،‬وسيصبحون سفراء غير رسميين‬
‫لخدمة أميركا‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ المهاجرون ورجال األعمال األجانب العاملون في السوق األميركي‬


‫حيث تجتذب الواليات المتحدة ما يقرب من ستة أضعاف‬‫ُ‬ ‫وقطاع األعمال؛‬
‫المهاجرين األجانب أكثر من ألمانيا التي تليها في ذلك ‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ برامج التبادل الثقافي الدولي والمؤتمرات الدولية التي ترعاها وتشارك‬
‫في تنظيمها أميركا‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ الشركات االقتصادية العابرة للقارات‪ ،‬والرموز‪ ،‬والعالمات التجارية مثل‬


‫كوكا كوال وماكدونالدز وغيرها‪.‬‬

‫وباإلجمال ترتكز القوة الناعمة على كل المؤثرات اإلعالمية والثقافية‬


‫والتجارية والعالقات العامة‪ ،‬وكل مورد ال يدخل ضمن القدرات العسكرية‬
‫المصنفة ضمن القوة الصلبة؛ فمعركة الحرب الناعمة تبدأ أوال مع الرأي العام‬

‫‪206‬‬
‫تمهيدا لالنقضاض على النظام المستهدف ‪.‬‬

‫وتتركز األدوار الهامة التي تقوم بها الحرب الناعمة‪ ،‬في استهدف ثالث‬
‫غايات ‪:‬‬

‫‪1‬ـ استمالة جزء من هذا الجمهور نحو المشروع األميركي في السيطرة‬


‫والهيمنة‪ ،‬وتوجيه الفئات المستقطبة لالنقالب على المشروع القومي لبالدهم‬
‫واالرتداد على شعاراته وأفكاره السابقة‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ بلبلة األفكار وتشويش النفوس لتعطيل وتجميد نشاطات وطاقات جزء من‬
‫جمهورنا من خالل الدعوة لنظريات ومواقف الحياد‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ إحداث حالة من التردد المفضي إلى الالمباالة والتقاعس عن نصرة‬


‫الحق‪.‬‬

‫ويخطط القائمون على «الحرب الناعمة» لتحقيق تلك الغايات عبر الوسائل‬
‫التالية‪:‬‬

‫• كسب الشرعية لصالح القوة العظمى‪ ،‬أو القطب األوحد (أمريكا)‪ ،‬ونزع‬

‫‪207‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫الشرعية عن المؤسسات الدولية ‪.‬‬

‫• بث اليأس واإلحباط والشكوك حيال الرموز والمعتقدات والمستقبل‪.‬‬

‫• زيادة حدة االنقسامات والصراعات وأخذ العدو لدور المنقذ والمُخلص ‪.‬‬

‫• تهيئة األرضية للتحرك االستخباراتي ‪.‬‬


‫***‬
‫‪ ..‬وهذه الوسائط والتطبيقات ال تنفي وجود بعض الممارسات اإلجرامية‬
‫التي يجرى استخدامها للتأثير على المخ البشري‪ ،‬وتنطوي كلها على إهانة‬
‫شرف العلم‪ ،‬واإلساءة إلى حقوق اإلنسان‪ ،‬وهذه الوسائل ال تدخل في دائرة‬
‫«حرب المعلومات»‪ ،‬ولكنها تندرج تحت مسمى «الجريمة المنظمة» التي‬
‫يرتكبها أفراد يتمتعون بقدرات علمية عالية‪ ،‬يتم توظيفها في أغراض إجرامية‬
‫أو مسمى «الجريمة المارقة» التي ترتكبها « عصابات دولية » ودول وأجهزة‬
‫استخبارات وال تخضع للمساءلة القانونية‪ ،‬وإذا خضعت فاألسباب ال عالقة لها‬
‫بالقانون أو كرامة اإلنسان‪ ،‬ولكن ألسباب مرتبطة بتحقيق هدف سياسي‪ ،‬ومن‬
‫تلك الوسائل ‪:‬‬

‫العقاقير المؤثرة في المخ‪ ،‬وبالتالي في حالة المزاج والسلوك البشري ومن‬

‫‪208‬‬
‫بينها‪ :‬المنشط والمهدئ‪ ،‬والمثير للبهجة أو االكتئاب‪ ،‬ما يجعل اإلنسان أكثر‬
‫تهذيباً أو شجاعة أو إقداماً وتحديا للمخاطر‪ ،‬أو ما يطلق لسان صاحبه من‬
‫عقاله فيتدفق بالحديث في سالسة وطالقة دون تلعثم‪ ،‬ومن تلك العقاقير عقار‬
‫«األتروفين» العقار المؤثر على تخفيض الروح العدوانية‪ ،‬والذي اقترح بعض‬
‫المهتمين بالشأن العام في بعض البلدان وضع جرعات منها في مياه الشرب‬
‫لضمان هدوء الجماهير وامتثالها لقادتها وزيادة شعورها بالقناعة ‪.‬‬

‫كما أنه توجد العديد من العقاقير التي تزيد من عدوانية الناس عن طريق‬
‫إضافتها لمياه الشرب أو ملح الطعام‪ ،‬أو حتى نشرها في الهواء لضمان سهولة‬
‫تحريكهم صوب الهدف المنشود‪ ،‬كما نجح األمريكان في اكتشاف عقار « إل ‪.‬‬
‫سي ‪ .‬دي ‪ ».‬والذي يتحلل في المياه‪ ،‬ويمكن بإذابة رطل منه في مستودع للمياه‬
‫بمدينة كبيرة إصابة الماليين بمختلف األعراض النفسية والعصبية ‪.‬‬

‫‪ ..‬وفي الستينيات من القرن الماضي ادعت إدارة الحرب الكيماوية في الجيش‬


‫األميركي إنتاج عقار يعرف باسم « بي‪ .‬زد‪ ».‬الستخدامه في الحروب‪ ،‬وقد‬
‫ادعى األمريكان أن من أبرز صفات هذا العقار أن مفعوله مؤثر في تشتيت فكر‬
‫العدو وانحرافه عن هدفه أو ما يسمى بلغة المخابرات «بالعجز المطلوب»‪،‬‬
‫وقد أثبتت حرب فيتنام كذب االدعاء األميركي‪.‬‬

‫‪209‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫وقد أثبت المختصون أنه يمكن وضع «الفلوريدات» في مياه الشرب‬


‫كوسيلة خطيرة لتوزيع المهدئات أو مثبطات الهمم‪ ،‬وذلك الحتواء الثورات أو‬
‫االضطرابات أو حتى مجرد عمليات االحتجاج‪.‬‬

‫‪ ..‬وهكذا أصبح من الممكن أن تسلب إرادة اإلنسان منه دون أن يدري‪،‬‬


‫وبالتالي يتحول إلى مجرد أداة طيّعة في يد من سلبها‪.‬‬
‫ما دامت في صلب المواجهة الدائرة وقوى المقاومة والممانعة في العالم‪..‬‬
‫وبالرغم من محاولته إخفاء هذه المخططات‪ ،‬لكنها أفلتت منه في ثنايا بعض‬
‫النصوص والعبارات في طيات الكتاب ‪.‬‬

‫في إشارة لها معنى وداللة لمفهوم «القوة الناعمة» ذهب وزير الخارجية‬
‫األمريكي األسبق كولن باول إلى القول ‪« :‬ال أستطيع أن أفكر في رصيد لبلدنا‬
‫أثمن من صداقة قادة المستقبل الذين تلقوا تعليمهم هنا في أمريكا»‬

‫يمكن تحديد مظاهر تأثير القوة الناعمة األمريكية على حياة الشعوب‬
‫المستهدفة باألمركة في جذب الشباب والنساء إلى أنماط الحياة والثقافة الشعبية‬
‫األمريكية من المأكوالت السريعة واألزياء والمالبس وأدوات الزينة واألغاني‬
‫والموسيقى واألفالم التي شكلت أذواق ماليين البشر‪ ،‬وصارت مظهراً من‬

‫‪210‬‬
‫ً‬
‫فضال عن نشر اللغة اإلنجليزية كلغة‬ ‫مظاهر التحوالت االجتماعية والثقافية‪،‬‬
‫تخاطب يومي في بعض البلدان‪ ،‬واعتبارها مسوغ أساسي في شغل الوظائف‪،‬‬
‫واالنتشار الواسع والسريع للمدارس والجامعات إلى جانب المراكز الثقافية‪،‬‬
‫والبحثية األمريكية في البالد المستهدفة توازيا مع تعاظم النفوذ السياسي‬
‫والعسكري األمريكي‪ ،‬واستخدام أساليب الخطاب الودود ودغدغة المشاعر‬
‫الذي يطلق عليه بريجنسكي ‪( :‬أسر العقول واألفئدة) بقوله ‪ :‬إن االنتشار السريع‬
‫لإلنترنت كأداه جديدة لالتصال ما هو إال مظهر واحد من مظاهر التأثير العالمي‬
‫ألمريكا بوصفها الرائد االجتماعي للعالم‪ ،».‬فمواقع التواصل االجتماعي وشبكة‬
‫االنترنت من األدوات التي تعمل أمريكا على توظيفها‪ ،‬وتسخيرها لصالح الرأى‬
‫العام العالمي‪ ،‬والترويج للنموذج الليبرالي‪ ،‬وتسويق األهداف المبتغاة نحو‬
‫الطريق التي تريده أمريكا عبر مواقع التواصل االجتماعي ( فيسبوك ـ تويتر‬
‫ـ يوتيوب‪ ،‬ومحركات البحث مثل ياهو وجوجل) والتي تعد من أهم الشركات‬
‫األمريكية العالمية التي تعني بالتجسس‪ ،‬وجمع المعلومات حول العالم‪ ،‬وتعد‬
‫أداة فعالة في عمليات تغيير األنظمة حول العالم‪ ،‬وهذا ما حدث في تونس‬
‫ومصر حيث قامت بتعبئة الرأي العام التونسي والمصري واستطاعت تجميع‬
‫األالف من المواطنين إلسقاط نظام بن على في تونس ثم نظام مبارك في مصر؛‬
‫ً‬
‫مجاال للشك أن هذه األداة هي إحدى وسائل أمريكا لتغيير األنظمة‬ ‫بما ال يدع‬
‫حول العالم ‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫يقول إريك شميث مدير جوجل أن هناك «ديناً جديداً» تقدمة الشركات‬
‫العاملة في مجال تقنيات المعلومات واالتصال وعالم االنترنت‪ ،‬رسالة هذا الدين‬
‫ً‬
‫تواصال تقنياً بين أعداد غفيرة من البشرفإن ذلك سيجعل‬ ‫هى أنه ‪« :‬إذا حققت‬
‫عالمنا أفضل ‪ ..‬لكن استطيع أن أؤكد في الوقت ذاته أن األنترنت هو أول‬
‫اختراع للبشرية في تاريخها ال تستطيع فهمه‪ ،‬وأنه أكبر معمل تجارب للفوضى‬
‫عرفه اإلنسان‪. ».‬‬

‫لكن زيجمونت باومان ال يشارك شميت رأيه ‪ ..‬يقول باومان ‪ :‬إحدى التبعات‬
‫المشئومة أليدلوجية النت تتمثل في استبدال «الهوية المشتركة» لتحل محلها‬
‫«المصالح المشتركة»؛ فال بد من رفض «الدخالء والمجهولين والمختلفين»‪،‬‬
‫وهو مايطلق عليه « البستنة» !!‬

‫أغلب رؤى التغيير القادمة من الخارج تنظر إلى المجتمع على أنه بستان‬
‫تصنف نصف قطاعاته بأنها حشائش بشرية ضارة البد من عزلها‪ ،‬ومن األفضل‬
‫رميها في مزابل النفايات البشرية من أجل عالم ال يشوبه االختالف وخالي من‬
‫المخالفين عن طريق تغيير األنظمة المعارضة للواليات المتجدة ولمصالحها‬
‫فتعطى تلك األنطمة فرصة واجدة لتغير مواقفها أوتزال نهائياً !!‪.‬‬

‫‪ ..‬وطبقا لنظرية الخداع األمريكي التي صاغها هارولد السويل في منظومة‬

‫‪212‬‬
‫كاملة نواتها تشكيل «األسطورة السياسية» عن طريق انتقاء الكلمات المناسبة‬
‫عاد جوزيف ناي في سنة ‪ 2017‬ليناقض نفسه دون ذرة من خجل بالحديث‬
‫عنما أسماه «القوة الحادة ‪ ..،» Sharp Power‬وهو مفهوم جديد في العالقات‬
‫الدولية يُرجع البعض جذوره إلى القرن التاسع عشر‪ ،‬وأعيد استخدامه بشكل‬
‫واسع بعد أن تم استخدامه في تقرير صدر سنة ‪ ٢٠١٧‬عن «الوقف الوطني‬
‫للديمقراطية»‪ ،‬وهو وكالة أمريكية تعد أحد فروع ‪ ،C.I.A.‬ويعني بالترويج‬
‫للديمقراطية المزيفة خارج أمريكا بما يخدم المصالح األمريكية‪.‬‬
‫ظهر المفهوم على غالف مجلة اإليكونوميست أوخر عام ‪ ٢٠١٧‬تحت‬
‫عنوان ‪« :‬القوة الحادة ‪ :‬المظهر الجديد للنفوذ الصيني»‪ ،‬ووظفه جوزيف ناي‬
‫الحقا في مقال له في مجلة « فوريم أفيرز ‪ »Forum Affairs‬حيث عرف‬
‫«القوة الحادة ‪ » Sharp Power‬بأنها االستعمال المخادع للمعلومات لمآرب‬
‫عدوانية‪ ،‬وهو ما يتفق مع مفهوم ومضمون (القوة الناعمة ‪،)Soft Power‬‬
‫ويتناقض معها في التسمية وفقا لنظرية «التالعب األمريكي»!!‬

‫القوة الصلبة ‪:Hard Power‬‬


‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫وقبل االعتداء على العراق سنة ‪ .. 2003‬كان الكالم األمريكي المخادع عن‬
‫استخدام (القوة الناعمة ‪ )Soft Power‬و «القوة الصلبة ‪»Hard Power‬‬

‫‪213‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫وتدخل الجيوش في االحتالل العسكري للعراق بشكل غاشم في انتهاك حرمة‬


‫البيت العراقي وونهب تراث المتاحف‪ ،‬والمخطوطات التاريخية من المكتبات‬
‫واغتصاب النساء العراقيات‪ ،‬وامتهان كرامة الرجال في السجون‪ ،‬واختراق‬
‫العقول في غرف المعيشة من خالل الصور التي اصطنعتها األطقم الهوليودية‬
‫وبثتها القنوات الفضائية عن سقوط بغداد (ممثلة في لقطة إسقاط التمثال)‪،‬‬
‫والصور المصطنعة عن االستسالم المزري للجنود العراقيين‪ ،‬واطعامهم‬
‫بطريقة مهينة بعد سقوطهم من اإلعياء والجوع والبرد بصورة تم استنساخها‬
‫من صورة قديمة نشرتها مجلة اليف ‪ Life‬للجنود المصريين بعد هزيمة ‪5‬‬
‫يونيو ‪.1967‬‬

‫‪ ..‬كانت «أصول اللعبة» معروفة؛ فلم يكن مطلوباً سوى تقرير إخباري‬
‫مُعد ببراعة‪ ،‬وصورة صحفية مصطنعة بتقنية عالية !!‪ ،‬واصطناع األزمات‬
‫وسحب السفراء‪ ،‬والحصار‪ ،‬وفرض العقوبات وإثارة قوى المعارضة داخل‬
‫البالد وتمويلها وتسليحها ودعم مطالبها للتغيير أو تحريكها لقلب نظام الحكم‪،‬‬
‫وتسخير جهود الهيئات الدولية (األمم المتحدة) لتصبح أبواق الدعاية للعدوان‬
‫والخادم األمين ألهدافه!!‬

‫يقول وليام كريستول ولورانس كابالن ‪:‬‬

‫‪214‬‬
‫«ما وجه الخطأ في فرض السيطرة لخدمة أهداف سليمة ومثل عليا»؛‬
‫فالدول تحتاج في حاالت معينة إلى كل القوتين الصلبة والناعمة وبالشكل الذي‬
‫ال يمكن االستغناء عنه وهو ما يسمى بـ «القوة الذكية ‪. »Smart Power‬‬

‫«القوة الذكية أوالقوة الكيسة ‪:»Smart Power‬‬


‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تعد القوة الذكية من األطروحات الحديثة نسبياً في الفكر االستراتيجي‬
‫األمريكي الذي لطالما بحث عن التجديد الدائم في بطون األفكار؛ لكي يخرج‬
‫بأطروحات فكرية نموذجية متكاملة تكون بصيغة نظريات أو مشاريع أو‬
‫استراييجيات تأخذ مجالها إلى المجال التطبيقي من قبل مختلف اإلدارات التي‬
‫تعاقبت على الحكم في أمريكا حيث ظهر مفهوم القوة الذكية بعدما اصيبت أمريكا‬
‫بخيبات أمل عسكرية في منطقة الشرق األوسط بعد أحداث ‪ ١١‬سبتمبر‪٢٠٠١‬‬
‫خصوصاً في العراق وأفغانستان‪ ،‬وهي تختلف عن القوة الناعمة والقوة الصلبة‬
‫بل هي تركيب ذكي من االثنين؛ إن االنتقال الفكري الذي حدث في الفكر‬
‫االستراتيجي األمرسكي أدى إلى تطور مفهوم القوة الناعمة بعد دمجة في‬
‫مفهوم القوة الصلبة لكي يولد مفهوم القوة الذكية‪ ،‬وهذا (التزاوج المفاهيمي)‬
‫لم يأت بشكل اعتباطي بل جاء نتيجة تفاعالت فكرية داخل أمريكا عبر العديد‬
‫من مراكز األبحاث والدراسات‪ ،‬والمعاهد‪ ،‬والجامعات‪ ،‬ومراكز الفكر التي‬
‫تمد صانع القرار بالدراسات والمشاريع االستراتيجية؛ فالسياسات والخطوط‬

‫‪215‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫العريضة التخاذ القرار في أمريكا هي نتاج عقول المنتسبين لتلك المؤسسات‬


‫األكاديمية والبحثية وليست اجتهادات فردية وشخصية فقط ‪.‬‬

‫فالقوة الذكية تعني وضع استراتيجية متكاملة لموارد دولة من أجل تحقيق‬
‫أهدافها‪ ،‬وهو النهج الذي يؤكد على ضرورة وجود قوة عسكرية واقتصادية‪،‬‬
‫ولكن تهتم بالقيم‪ ،‬والثقافة‪ ،‬والشراكة‪ ،‬والتعاون‪ ،‬والشرعية‪ ،‬والمؤسسات‪،‬‬
‫ويشير النموذج التالي إلى أساسيات كل من القوة الناعمة‪ ،‬والقوة الصلبة أو‬
‫الخشنة؛ فالقوة الناعمة تعتمد على الجاذبية‪ ،‬والقدرة على التأثير باستخدام‬
‫أساليب‪ ،‬وأدوات ثقافية في حين تعتمد القوة الصلبة على اإلكراه‪ ،‬واإلغراء‬
‫من خالل المدفوعات‪ ،‬والقوة العسكرية‪ ،‬والعقوبات االقتصادية‪ ،‬والرشاوي إن‬
‫جوهر القوة الذكية هو الفاعلية‪ ،‬والتكامل المرن والنشط فى استخدام مختلف‬
‫مصادر القوة الوطنية التي تمزج بين عناصر إستراتيجيات القوة الصلبة‪ ،‬والقوة‬
‫الناعمة معاً حيث توفر أمناً أفضل ضد التغييرات‪ ،‬والتهديدات المستمرة ‪.‬‬

‫القوة «االفتراضية» ‪:‬‬


‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫كان جوزيف ناي من أهم من تحدثوا عن القوة االفتراضية كشكل جديد من‬
‫أشكال القوة‪ ،‬وهي مرتبطة بامتالك المعرفة التكنولوجية والقدرة على استخدامها‬

‫‪216‬‬
‫وقد حدد ناي ثالثة أنواع من الفاعلين الذين يمتلكون القوة االفتراضية ‪:‬‬

‫‪ ١‬ـ يتمثل النوع األول في الدولة التي لديها القدرة على تنفيذ هجمات‬
‫إلكترونية‪ ،‬وتطوير البنية التحتية وممارسة السلطات داخل حدودها ومثال ذلك‬
‫قيام مصر بقطع االنترنت وخدمات المحمول لمدة ثالث أيام أثناء انتفاضة ‪٢٥‬‬
‫يناير ‪ ،٢٠١١‬ولم يكن التصرف المصري نابعاً من فهم وتقدير سليم لطبائع‬
‫األمور بل كان استنساخاً من التجربة الصينية حيث قامت الحكومة الصينية‬
‫في ‪ ٢٠٠٩‬أثناء أحداث شغب في منطقة شينجيانج بقطع خدمات المحمول‬
‫واالنترنت عن المنطقة مما تسبب في حرمان ‪ ١٩‬مليون من سكانها من إرسال‬
‫رسائل نصية‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ ويتمثل النوع الثاني من الفاعلين من غير الدول ‪ ،‬ويستخدم هؤالء‬


‫الفاعلون القوة االفتراضية ألغراض هجومية باألساس إال أن قدرتهم على تنفيذ‬
‫هجوم افتراضي تتطلب وكاالت استخباراتية متطورة‪ ،‬وفك رموز مشفرة‪،‬‬
‫وعادة ال تمتلك هذه الجماعات نفس إمكانيات الدولة في مجال استخدام القوة‬
‫االفتراضية‪ ،‬ولكن يمكن أن ينفذ الفاعلون من غير الدول هجمات متنوعة تشمل‬
‫اختراق مواقع الكترونية‪ ،‬واستهداف أنظمة االتصاالت الدفاعية «‪Defense‬‬
‫‪»Communication System‬‬

‫‪217‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫‪ 3‬ـ وينصرف النوع الثالث إلى األفراد الذين يمتلكون معرفة تكنولوجية‬
‫وقدرة على توظيفها‪ ،‬وعادة ما تكون هناك صعوبة في الكشف عن هويتهم كما‬
‫أنه من الصعب مالحقتهم ‪.‬‬

‫***‬

‫لم يكن الهدف من تلك العلوم الكولونيالية المزيفة الضالة المضللة ذات‬
‫الطابع النفعي‪ ،‬وتكنولوجيات «القوة االفتراضية» سوى إحكام السيطرة على‬
‫الشعوب والتالعب بها ألغراض عنصرية‪ ،‬واستعمارية وسيطرة رأس المال‪،‬‬
‫وتكريس الهيمنة النخبوية‪ ،‬وتحقيق «الدارونية االجتماعية» التي قامت على‬
‫اكذوبة من يصرون على إطالق مًسمى «نظرية» عليها من منطلق أن لكل‬
‫قاعدة شواذ‪ ،‬بينما أكد دارون نفسه في كتابه ‪«:‬أصل األنواع» أن ‪«:‬االستثناء‬
‫يبطل صحة القاعدة‪ ،».‬وكان مصطلح «البقاء لألقوى» من وضع هربرت‬
‫سبنسر‪ ،‬وليس داروين كما يشاع بطريق الخطأ‪ ،‬وقد ساهم سبنسرفي ترسيخ‬
‫مفهوم االرتقاء‪ ،‬واعطى له ابعادا اجتماعية‪ ،‬فيما عرف الحقا بـ «الدارونية‬
‫االجتماعية»!!‬

‫‪218‬‬
‫الفصل الثالث ‪:‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــ‬
‫«لع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــبة» احل ـ ـ ـ ـ ــاكـم الف ـ ـ ـ ـ ـ ــرد‪..‬‬
‫واملشروع احلداثي«التسلطي»‬

‫‪219‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫‪ ..‬لم يكن مسلك الشعب المصري المتمثل في بيئته األخالقية «السائلة»‬


‫التي تختلط فيها المعايير‪ ،‬وتتداخل الحدود نتيجة تحول طفري لكنه نتيجة‬
‫تراكم تاريخي قائم على عمليات سياسية قائمة على نظم حكم مختلفة‪ ،‬وعقائد‬
‫دينية متباينة بداية من الفرعون الواحد‪ ،‬ومروراً بعقيدة التليث‪ ،‬وانتهاء بعبادة‬
‫اإلله الواحد األحد ‪ ،‬وتحوالت اجتماعية‪ ،‬وثقافية‪ ،‬واقتصادية عميقة‪ ،‬ومعقدة‪،‬‬
‫ومتراكمة عبر حقب طويلة ومختلفة من الزمان تعرضت فيها الشخصية‬
‫المصرية لعمليات من الرج العنيف‪ ،‬والضغط‪ ،‬والصهر‪ ،‬واإلذابة‪ ،‬والتهجين‪،‬‬
‫والتدجين‪ ،‬وخداع قوامها «حاكم فرد» يمتلك الحكمة والرشد اللذان يجعالنه‬
‫قادر على صواب الرؤية والحماية‪ ،‬والرعاية‪ ،‬و«مشروع حداثي تسلطي»‬
‫ً‬
‫وعسال !!‪ ..‬بمعنى قيام منظومة الحكم على نظرية‪:‬‬ ‫يجعل البالد تفيض لبناً‬
‫«العصا والجزرة» ‪ ..‬القهر‪ ،‬والحلم !!‬

‫‪ ..‬ويذهب الحاكم الفرد‪ ،‬ومعه أكاذيبه‪ ،‬ويندرج «المشروع الحداثي‬


‫التسلطي» تحت مسمى ‪« »:‬محاولة فاشلة» لم يؤتي ثمارها لكونه قائمة على‬
‫أسطورة وكذبة تحكي لنا جزء من بدايتها مقابر العبيد «بناة األهرامات»‪ ،‬والتي‬

‫‪220‬‬
‫تقع على بعد ‪ 500‬متر من األهرامات في سراديب حفرت في األرض لعدة‬
‫كيلومترات؛ لتكون مقابر للبؤساء الذين خدعتهم األسطورة وأغراهم الحلم؛‬
‫فشيدوا األهرامات على مدى مائة وثالثين عاماً‪ ،‬حملوا خاللها ثمانمائة مليون‬
‫صخرة تزن الواحدة منها طنين ـ تقريباً ـ جاءوا بها من أسوان إلى حيث‬
‫الجيزة اآلن (‪ 980‬كيلومترا)؛ ليشيدوا تسعة أهرامات‪ ،‬ستة صغيرة‪ ،‬وثالثة‬
‫كبيرة؛ لتصبح فيما بعد صروحاً تذكارية للفراعين؛ حيث لم يثبت حتى اآلن أن‬
‫األهرامات استعملت كمقابر حسبما شاع في عهود مضت!!‬

‫‪ ..‬سقطت األسطورة‪ ،‬وبقيت بصمتها على جدران المعابد‪ ،‬وذهب صوت‬


‫المصري أدراج الرياح‪ ،‬ومعها رجائه للفرعون اإلله ‪:‬‬

‫« أنت ‪ ..‬أنت الميزان؛ فال تكذب ‪.».‬‬

‫‪..‬ذهب الفرعون‪ ،‬وبقيت الكذبة تنهش في عقل الشعب المصري ‪ ..‬لم يكن‬
‫«الفرعون اإلله» سوى حاكم فرد ولد من رحم كذبه اختلقها كاهن لتصبح القاسم‬
‫المشترك لكل مشاريع الحكم التسلطية على مدى التاريخ مع اختالف األساليب‪،‬‬
‫والتسميات‪ ،‬والمسميات !! ‪.‬‬

‫‪ ..‬بين أيدينا وثيقة مبتكرة ُكتبت بلغة يغلب عليها طابع العامية المصرية‬

‫‪221‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫ما بين منثور ومشعور‪ ،‬وهى بعنوان‪« :‬هز القحوف في شرح قصيد أبي‬
‫شادوف»*(‪ ،)3(،)2(،)1‬ورغم توافر أكثر من نسخة بين يدي فقد أعتمدت بشكل‬
‫كامل على نسخة الطبعة الثانية التي طبعت على نفقة الشيخ محمود موسى‬
‫شريف الكتبي‪ ،‬طبعة المطابع األميرية ببوالق مصر المحمية ـ سنة ‪1308‬هـ‬
‫ـ ‪1890‬م‪ ،‬ولم أتحرج من نقل «األلفاظ» التي يعدها البعض «خادشة للحياء»‬
‫الواردة في ذلك النص‪ ،‬لكوني عددت ما جاء فيه من ألفاظ جزء من تشخيص‬
‫الحالة التي يصفها الكاتب‪ ،‬وأن غض الطرف عنها أخطر أشكال «عقدة اإلنكار»‬
‫التي كلفتنا كثيراً؛ فلم نعرف واقعنا‪ ،‬وال كيف نعالج سلبياته!!‪ ،‬وقد خطر ببالي‬
‫أيضا أنه ربما ال يستطيع الباحث أو القارئ أن يحصل على مخطوط تلك الوثيقة‬
‫أو مطبوعها فيصبح الكالم عنها ـ هنا ـ كالم في المطلق يصعب إنزاله على‬
‫النص المبحوث ‪.‬‬

‫وقد صبغ الشربيني مُؤلَفه بصبغة وصفية؛ فجاءالكتاب ملي ٌء بالعبارات‬


‫الساخرة تعبث باأللفاظ‪ ،‬وتستخدام الغريب منها‪ ،‬والخارج على المألوف كأداة‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )1‬العالمة الشيخ محمد ابن يوسف ابن عبد الجواد ابن خضر الشربيني‪ ،‬هز القحوف قي شرح قصيدة‬
‫أبي شادوف‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ ،‬التي طبعت على نفقة الشيخ محمود موسى شريف الكتبي‪ ،‬المطابع األميرية‬
‫ببوالق مصر المحمية ـ سنة ‪1308‬هـ ـ ‪1890‬م‬
‫*(‪ )2‬تحقيق ومقدمة ‪:‬همفري تيمن ديفيز‪ ،‬تقديم‪ :‬د‪ .‬نللى حنا‪ ،‬هز القحوف بشرح قصيد أبي شادوف ـ بيترز‬
‫ـ لوفين ـ ‪2005‬‬
‫*(‪ )3‬يوسف ابن محمد الشربيني‪ ،‬هز القحوف بشرح قصيد ابي شادوف‪ ،‬تحقيق همفري ديفيز‪ ،‬المكتبة‬
‫العربية ـ معهد جامعة نيويورك ـ أبوظبي ‪.‬‬

‫‪222‬‬
‫تنفيس عن كبت عميق ال يقدر صاحبه أن يواجه الواقع االجتماعي بأساليب‬
‫إصالحية بناءة؛ ولهذا جاء المُؤلف متسمًا بصبغة وصفية تقريرية مصاغة‬
‫في قالب هزلي ساخر‪ ،‬و«القحوف» في عنوان القصيد ليست قحوف سعف‬
‫النخيل‪ ،‬وليست ذلك النوع من لباس الرأس الذي يشبه الطواقي الطويلة‪ ،‬ولكن‬
‫«القحوف» تعني عظم فوق الدماغ‪ ،‬وما انتلف من الجمجمة‪ ،‬وال يدعى قحف‬
‫حتى يبين أو ينكسر منه شيء‪ ،‬وهي تستخدم في بعض المواضع للداللة على قلة‬
‫الفهم‪ ،‬وغلظة الطبع‪ ،‬وانعدام الذوق‪ ،‬و«أبوشادف» كناية عن الفالح المصري؛‬
‫فالشادوف أحد أدواته لرفع المياه من مكان منخفض إلى مكان مرتفع‪ ،‬والعنوان‬
‫في مجمله يحمل كناية ‪« :‬االقتراب من عقل الفالح المصري» !!‪.‬‬

‫‪ ..‬وتظهر قصيدة أبي شادوف قسوة الحكم العثماني على الفالح في جباية‬
‫الملتزم لجباية الضرائب‪ ،‬وعنف الكاشف‪ ،‬وإلزام الفالح بتقديم الطعام لهم‪،‬‬
‫والعلف لركائبهم‪ ،‬والتكليف بالعونة «السخرة» بدون أجر‪:‬‬

‫يحيف*(‪)4‬‬ ‫«وال ضــرني إال إن ابن عمي محيلبة*** يوم تجي الوجــبة علي‬

‫ومن نزلة ال ُك ّشـَاف شابت عوارضي*** وصار لقلبي لوعــة ورجيف‬

‫يوم يجي الديوان تبطل مفاصـيلي *** ُ‬


‫وأه ُّر على روحـي من التخــويف‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )4‬يوسف الشربيني ‪ ،‬طبعة المطابع األميرية ببوالق مصر ‪ ،‬مرجع سابق ـ ـ ص ‪ 109‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪223‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫ويا دوب عمري في الخراج وهمه *** تقضى وال لي في الحصاد سعيف‬

‫ويوم تجي العونة على الناس في البلد *** تخبيني في الفرن أم وطيف‬

‫وأهرب حدا النسوان والتف بالعبا *** ويبقى ضراطي شبه طبل عنيف»‬

‫وقد أورد المؤرخ محمـد بن إياس الحنفى القاهرى فى الجزء الخامس من‬
‫كتابه «بدائع الزهور‪ ،‬ووقائع الدهور» أشكالاً من أشد أنواع الظلم المملوكى‪،‬‬
‫والعثمانى ضد المصريين‪ ،‬حتى عرف أبناء المحروسة «االنتحار» بسبب‬
‫الفقر‪ ،‬وغلبة الديون عليهم‪ ،‬وكانت واقعة غريبة عليهم كما يشير ابن إياس‪،‬‬
‫حيث يقول إن بعض العوام ‪ -‬فى عام ‪ 825‬هـ ‪ -‬شنق روحه‪ ،‬فمات قهرً ا‪ ،‬لما‬
‫ضاق األمر عليه‪.‬‬

‫فى كتابه «حكاية الفالح المصرى فى العهد العثماني»‪ ،‬يقول الدكتور جمال‬
‫كمال محمود عن حال الفالح فى ذلك العصر‪:‬‬

‫«إن الفالح وصل إلى حال أقل من حال العبيد‪ ،‬حيث كان يلزم بالسخرة‬
‫فى األعمال العامة‪ ،‬وأعمال المُلتزم‪ ،‬والباشا الوالي‪ ..‬كما فرضت عليه أنواع‬
‫غريبة من الضرائب‪ ،‬ومن ذلك ضريبة «كراء األسنان» فكان الملتزمون‪،‬‬
‫والمماليك العثمانية إذا مروا بقرية التزم أهلها بتقديم الطعام لهم كنوع من‬

‫‪224‬‬
‫اإلتاوة‪ ،‬وأن يدفع لهم األهالى قبل تناولهم الطعام ضريبة الكراء‪ ،‬مقابل الجهد‬
‫الطعام‪)5(*.».‬‬ ‫الذى تبذله أسنانهم فى مضغ‬

‫ضريبة القرع ‪:‬‬


‫ــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪ ..‬وكان شر البلية ما يضحك ففى سيرة السلطان المملوكى التركى الجركسى‬
‫األشرف سيف الدين برسباى الذى حكم مصر ‪ 17‬عامًا ما يؤكد ذلك‪ ،‬ويزيد‬
‫عليه؛ حيث ذكر المقريزى وابن إياس واقعة غريبة عن ذلك السلطان‪ ،‬ورويا‬
‫تفاصيلها التالية‪:‬‬
‫«كان السلطان مجتمعًا مع عدد من األمراء‪ ،‬وانكشف رأس أحدهم‪ ،‬فسخر‬
‫منه باقى األمراء أمام السلطان وكان أصلع‪ ،‬فطلب األمير من السلطان أن يوليه‬
‫كبيرً ا للقرعان‪ ،‬فوافق له‪ ،‬فكان األمير ينزل إلى شوارع القاهرة‪ ،‬ويأمر الناس‬
‫بكشف رؤوسهم‪ ،‬ومن كان أقرع أو أجلح فرض عليه جباية القرع‪.».‬‬

‫جباية الميري ‪:‬‬


‫ــــــــــــــــــــــ‬
‫وتسمى جباية األموال‪« :‬األموال األميرية أو المال الميرى أو الميرة»‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )5‬د ‪ .‬جمال كمال محمود‪ ،‬األرض والفالح في صعيد مصر في العصر العثماني‪ ،‬الهيئة العامة المصرية‬
‫للكتاب‪ ،‬تاريخ المصريين‪ ،‬العدد ‪ ٢٨٥‬ـ القاهرة ‪ ٢٠١٠‬ـ ص ‪٢٠٨‬‬

‫‪225‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫أي المال الذى تجمعه الدولة‪ ،‬وتتصرف فيه كما يعن لها‪ ..،‬وهى ضريبة‬
‫تفرض على األرض الزراعية باعتبار المزارع مستأجر لها من الدولة بموجب‬
‫«عقد طابو»‪ ،‬وتكاليف عرفية لم يدل عليها دليل من الكتاب‪ ،‬والسنة حسب‬
‫لفظ دراسة الضرائب فى الدولة العثمانية‪ ،‬وإنما فرضتها الدولة بموجب سلطة‬
‫ولى األمر ‪ ..‬كان قانون السلطان سليمان القانونى ابن سليم األول‪ ،‬المسمى بـ‬
‫«الطابو» خاص بتنظيم عالقة المصريين أو على األحرى الشعوب المحتلة‬
‫عثمانيًّا‪ ،‬باألراضى الزراعية ينص علي ‪« :‬الدولة هى المالكة لرقعة األرض‪،‬‬
‫ومن يزرعها مستأجرً ا دائمًا لها»‪ ..،‬و«سند طابو» كلمة تركية معناها عقد‬
‫دائم الستئجار األرض الزراعية‪ ..‬وعليه أصبح آل عثمان يملكون األراضى‬
‫الزراعية‪ ،‬من حقهم تفكيك حيازتها ثم إعادة توزيعها حسب أهوائهم‪ ..،‬وأمام‬
‫هذا الوضع المأساوي كان من الطبيعى أن يهرب الفالح من زراعة األرض‪،‬‬
‫فى ظاهرة سميت «التسحب» فقد كان الفالح يسحب أسرته‪ ،‬ويهرب من القرية‬
‫ليلاً ‪ ،‬فيرسل الملتزم جنوده لتعقب الهاربين للقبض عليهم‪ ،‬وإعادتهم للجلد‪،‬‬
‫والحبس ثم زراعة األرض‪.‬‬

‫وقد أوضح ابن خلدون أثر االستيالء على أموال الناس بالباطل‪ ،‬وبغير حق‬
‫في باب بعنوان ‪« :‬الظلم مؤذن بخراب العمران» بقوله ‪:‬‬

‫«إعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بأمالهم في تحصيلها‪،‬‬

‫‪226‬‬
‫واكتسابها لما يرونه من أن غايتها‪ ،‬ومصيرها انتهابها من أيديهم‪ ،‬وإذا ذهبت‬
‫آمالهم في اكتسابها‪ ،‬وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك‪ ،‬وعلى‬
‫قدر االعتداء‪ ،‬ونسبته يكون انقباض الرعايا في السعي‪ ،‬واالكتساب؛ فإذا كان‬
‫االعتداء كثيراًعاما في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه‬
‫باآلمال جملة بدخول النهب من جميع أبوابها‪ ،‬وإن كان االعتداء يسيراً كان‬
‫االنقباض عن الكسب على نسبته‪ ،‬والعمران‪ ،‬ووفوره‪ ،‬ونفاق أسواقه إنما هو‬
‫باألعمال‪ ،‬وسعى الناس في المصالح‪ ،‬والمكاسب ذاهبين‪ ،‬وجائين ؛ فإذا قعد‬
‫الناس عن المعاش‪ ،‬وانقيضت أيديهم كسدت أسواق العمران‪ ،‬وانتقضت األحوال‬
‫وابذعر الناس في األفاق من غير تلك اإليالة في طلب الرزق فيما خرج من‬
‫نطاقها‪ ،‬فخف ساكن القطر‪ ،‬وخلت دياره‪ ،‬وخربت أمصاره‪ ،‬واختل باختالله‬
‫مادتها‪)6(*.».‬‬ ‫حال الدولة‪ ،‬والسلطان لما أنها صورة للعمران تفسد بفساد‬

‫ويشير أن ابن خلدون على أشكال أخرى من الظلم بقوله ‪:‬‬

‫«وال تحسبن الظلم إنما أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض‪ ،‬وال‬
‫سبب كما هو المشهور بل الظلم أعم من ذلك‪ ،‬وكل من أخذ ملك أحد أو غصبه‬
‫في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حق لم يفرضه الشرع فقد ظلمه؛‬
‫فجباية األموال بغير حق ظلمة‪ ،‬والمنتهبون لها ظلمة‪ ،‬والمانعون لحقوق الناس‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )6‬ابن خلدون‪ ،‬عني به صهيب الكرمي ‪ ،‬مرجع سايق ـ ص ‪144‬‬

‫‪227‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫ظلمة‪ ،‬وغصاب األمالك على العموم ظلمة‪ ،‬ووبال ذلك كله عائد على الدولة‬
‫بخراب العمران الذي هو مادتها إلذهابه األمال من أهله‪.».‬‬

‫ويؤكد ابن خلدون على أن أشد الظلمات‪ ،‬وأعظمها في إفساد العمران هى‬
‫المتمثلة في تسخير الرعايا بغير حق؛ فيقول ‪:‬‬

‫«إن األعمال من قبيل المتموالت؛ ألن الرزق‪ ،‬والكسب إنما هو قيم أعمال‬
‫أهل العمران؛ فإذا مساعيهم‪ ،‬وأعمالهم كلها متموالت‪ ،‬ومكاسب لهم‪ ،‬بل ال‬
‫مكاسب لهم سواها؛ فإن الرعية المعتملين في العمارة إنما معاشهم‪ ،‬ومكاسبهم‬
‫من اعتمالهم ذلك؛ فإذا كلفوا في غير شأنهم‪ ،‬واتخذو سخريا في معاشهم بطل‬
‫كسبهم‪ ،‬واغتصبوا قيمة عملهم ذلك‪ ،‬وهو متمولهم فدخل عليهم الضرر‪ ،‬وذهب‬
‫لهم حظ كبير من معاشهم ‪ ،‬بل هو معاشهم بالجملة‪ ،‬وإن تكرر ذلك عليهم‬
‫أفسد آمالهم في العمارة‪ ،‬وقعدوا عن السعي فيها جملة؛ فأدى ذلك إلى انتقاص‬
‫العمران‪ ،‬وتخريبه‪.».‬‬

‫ويتناول ابن خلدون تأثير السلطة على أخالق الشعوب‪ ،‬وكيف تتغير‬
‫أخالق الناس من جراء الظلم‪ ،‬وأن الشعوب المقهورة تسوء اخالقها ‪ ..‬يقول‬
‫اين خلدون‪:‬‬
‫«إن الملك إذا كان قاهراً باطشاً بالعقوبات منقباً عن عورات الناس‪،‬‬

‫‪228‬‬
‫وتعديد ذنوبهم شملهم الخوف‪ ،‬والذل‪ ،‬والذو منه بالكذب‪ ،‬والمكر‪ ،‬والخديعة؛‬
‫فتخلقوا بها‪ ،‬وفسدت بصائرهم‪ ،‬وأخالقهم‪ ،‬وربما خذلوه في مواطن الحرب‪،‬‬
‫والمدافعات؛ ففسدت الحماية بفساد النيات‪ ،‬وربما أجمعوا على قتله لذلك؛ فتفسد‬
‫الدولة‪ ،‬ويخرب السياج‪ ،‬وإن دام أمره عليهم‪ ،‬وقهره فسدت العصبية‪ ،‬وفسد‬
‫الحماية‪)7(*.».‬‬ ‫السياج من أصله بالعجز عن‬

‫‪ ..‬فاالستبداد يقلب موازين االخالق؛ فيجعل من الفضائل رزائل‪ ،‬ومن‬


‫الرزائل فضائل؛ فالناس من الكد‪ ،‬والتعب في حاجات العوائد‪ ،‬والتلون بألوان‬
‫البشر في تحصيلها يكثر منهم الفسق‪ ،‬والسفسفة‪ ،‬والتحيل على تحصيل المعاش‬
‫من وجهه‪ ،‬وغير وجهه؛ فتجدهم أجرياء على الكذب‪ ،‬والمغامرة‪ ،‬والغش‪،‬‬
‫والخالبة‪ ،‬والسرقة‪ ،‬والفجور في اإليمان‪ ،‬والربا في البيعات‪ ،‬وتجدهم أبصر‬
‫بطريق الفسقـ ومذاهبه‪ ،‬والمجاهرة به‪ ،‬وبدواعيه‪ ،‬وتجدهم أيضا أبصر بالمكر‪،‬‬
‫والخديعة يدفعون بذلك ما عساه ينالهم من القهر‪ ،‬وما يتوقعونه من العقاب على‬
‫تلك القبائح حتى يصير ذلك عادة‪ ،‬وخلقاً لهم ‪.‬‬

‫ويتناول ابن خلدون أحوال العمران في الرخاء‪ ،‬وما يطرأ عليه من تفسخ‪،‬‬
‫وضعف «النبالة» أو «تضامنها الجمعي» أو «العصبية» عند نزول البالء؛‬
‫فيقول‪ ..« :‬والناس فى السكينة سواء؛ فإن جاءت المحن تباينو‪.».‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )7‬ابن خلدون ‪ ،‬مقدمة ابن خلدون ‪ ،‬تحقيق عبد هللا محمد درويش‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪362‬‬

‫‪229‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬
‫وهو ما يرصده زيجمومنت باومان بعد ابن خلدون بستة قرون يقول‬
‫زيجمومنت باومان ‪:‬‬

‫« وينقضي عهد المصاهرة التقليدية‪ ،‬واختفاءها من واقع الممارسة‪،‬‬


‫ويزيد من المأزق الذي تعانية القرابة؛ فشبكات القرابة تفتقر إلى جسور‬
‫مستقرة’ للمسئوليات المتدفقة؛ فصار يعتريها الضعف‪ ،‬والوهن كما تصبح‬
‫حدودها ضبابية وخالفية؛ فصارت تتفكك في أرض من دون سندات ملكية‬
‫واضحة‪ ،‬وال حيازات موروثة قاطعة؛ فليست بوسع شبكات القرابة أن تكون‬
‫على يقين بإمكانات بقائها‪ ،‬وال حساب عمرها المتوقع‪ ،‬وهذه الهشاشة ال تزيد‬
‫من قيمتها النفيسة؛ فما دامت هذه الشبكات هشة‪ ،‬وواهية‪ ،‬وواهنة؛ فإنها تثير‬
‫الشفقة‪)8(*.».‬‬

‫لم تعد عالقة «القرابة» قائمة على صالت الدم‪ ،‬وأواصر العصب بل‬
‫أصبحت قائمة فقط على «المصلحية»‪ ،‬و«النفعية»‪ ،‬ووشائج «المعاشرة»‬
‫اليومية !!‬

‫وبعد ابن خلدون بثالثة قرون جاءت دراسات علماء الحملة الفرنسية لتؤكد‬
‫صدق أقواله ‪.‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )8‬زيجمومنت باومان‪ ،‬الحب السائل ‪ ..‬عن هشاشة الروابط اإلنسانية‪ ،‬ترجمة حجاج أبو جبر‪ ،‬سلسلة‬
‫الفقة االستراتيجي‪ ،‬العدد ‪ ، ٥‬ط ‪ ، ١‬الشبكة العربية لألبحاث والنشرـ بيروت ‪٢٠١٦‬ـ ص ‪20‬‬

‫‪230‬‬
‫الالمباالة‪ ،‬والخمول‬
‫في حياة المصريين ‪:‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫عندما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر استرعى انتباه الفرنسيين أن‬
‫مؤسسة واحدة فقط في القاهرة تُعد أكثر شيوعً ا من المسجد‪ :‬هو المقهى فقد‬
‫أحصى جيش نابليون ‪ ١٣٥٠‬مقهى في مدينة األلف مئذنة‪ ،‬أي بنسبة ‪٢٠٠‬‬
‫مواطن لكل مقهى‪ ،‬حيث يجلس الناس يعلّقون على المارة‪ ،‬ويتبادلون أخبار‬
‫الحي‪ ،‬وبسترقون النظر إلى النساء المارات!!‪.‬‬

‫وقد أجرى علماء الحملة الفرنسية اختباراً بسيطا على عينات مختلفة من‬
‫سكان الحارات للوقوف على مدى «المشاركة اإليجابية» في مجتمع القاهرة‬
‫بوضع أحجار كبيرة أمام مداخل بعض الحارات؛ فكان المارة يعتلون الحجر‪،‬‬
‫وينزلون إلى الجانب اآلخر ليدخلون الحارة‪ ،‬أو يلتفون حوله من أحد جوانبه‪،‬‬
‫ويدخلون الحارة دون أن يكلف أحدهم نفسه السؤال عن سبب وضع هذا الحجر‪،‬‬
‫أو محاولة زحزحته بعيداً عن مدخل الحارة !!‬

‫‪ ..‬وقد رصد علماء الحملة الفرنسية عدة أمور أخرى أهمها‪:‬‬

‫* أن المصريين شعب شديد الكسل‪ ،‬والخمول حتى أن الفرنسيين قالوا‪:‬‬

‫‪231‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫«إننا لنظنهم بلهاء أو معتوهين؛ فحركاتهم‪ ،‬وأحاديثهم‪ ،‬وأبسط انفعاالتهم‪،‬‬


‫ومسراتهم تشي بعدم اكتراث مذهل ال يشغلهم طوال نهارهم سوى تدخين‬
‫غالينهم الطويلة‪ ،‬والتي يطلقون عليها (شبكة الدخان)‪ ،‬وشرب القهوة‪ ،‬ويستخدم‬
‫األغنياء تبغ الالذقية الفاخر مخلوطاً بخالصة أوعصارة الخشاش المطبوخ‬
‫أما الفقراء فيقنعون بالتبغ المحلى مخلوطاً بنوع من عصارة القنب ـ الحشيش‬
‫ـ للوصول إلى حالة من الخدر تنسيهم أالمهم‪ ،‬ومضايقاتهم‪ .. ،‬ويباع األفيون‬
‫في مقاهي القاهرة‪ ،‬واألفيون هو نوع من المعجون المخلوط باألعشاب !! حتى‬
‫يخيل للبعض أنهم شعب من البلهاء يقضون طوال أيامهم في استرخاء يدخنون‬
‫الغالين الطوليه»‪.‬‬

‫* أنهم شعب ال يثور بدون أيدي تحركه أو قيادة تقوده‪ ،‬فقد كان المحرك‬
‫لثورة القاهرة الثانية بعض عناصر تابعة للمخابرات اإلنجليزية‪ ،‬وعناصر‬
‫عثمانية للضغط على الفرنسيين للجالء عن مصر !!‬

‫*انعدام المشاركة اإليجابية في الشأن العام (تجربة وضع الحجر أمام‬


‫الحارات) ‪.‬‬

‫‪ ..‬وقدر رصد علماء الحملة الفرنسية في كتاب «وصف مصر» أن المصريين‬


‫يتمتعون بقدرة هائلة على (الثبات االنفعالي ‪،)Emotional Constancy‬‬

‫‪232‬‬
‫والثبات االنفعالي هو قدرة الشخص على التحكم في انفعاالته‪ ،‬والمحافظة على‬
‫الهدوء‪ ،‬واالتزان مهما كانت الضغوط المحيطة به؛ فالمصريون ال يكشفون عن‬
‫ما يعتمل في نفوسهم عن طريق قسمات مالمحهم‪ ،‬وتعبيرات وجوههم؛ فصورة‬
‫الوجة ليست مرآة ألفكارهم؛ فشكلهم الخارجي في كل ظروف حياتهم يكاد يكون‬
‫هو نفسه ‪ ..‬إذ تغلب عليه حالة من الموات ‪ ..‬إذ يحتفظون في مالمحهم بنفس‬
‫الحيدة‪ ،‬وعدم التأثر سواء حين تأكلهم الهموم أو يعضهم الندم أو كانوا في نشوة‬
‫من سعادة عارمة‪ ،‬وسواء كانت تحطمهم تقلبات غير منتظرة أو كانت تنهشهم‬
‫الغيرة‪ ،‬واألحقاد‪ ،‬أو يغلون داخلهم من الغضب أو يتحرقون لإلنتقام؛ وأرجع‬
‫العلماء ذلك إلى االعتقاد في القضاء‪ ،‬والقدر‪ ،‬كما تعود إلى تعرضهم دوماً‬
‫لنزوات الطغاة الذين يعم ظلمهم البالد؛ ففي كل يوم تنشأ أخطاء‪ ،‬وبشاعات‬
‫جديدة تصبح «الغفلة» معها بالنسبة للمصريين نوعاً من الحيلة لمواجهة هذا‬
‫العسف‪ ،‬ويحاولون من خاللها أن يتفادوا الخطر؛ ‪ ..‬بما يجعل المصري أمام‬
‫حالة من التسليم المستعذب لأللم؛ فالشكاوي‪ ،‬والصيحات أمور ال فائدة منها أمام‬
‫!!*(‪)9‬‬ ‫جبروت الطغاة‬

‫‪ ..‬وكان البحث في طبائع الحياة االجتماعية للمصريين من إرهاصات‬


‫دخول العلوم االجتماعية إلى المجتمعات العربية‪ ،‬واإلسالمية مع دراسات‬
‫األنثروبولوجيا‪ ،‬واالستشراق‪ ،‬والتي استمرت مع البعثات التعليمية‪ ،‬والتبشيرية‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )9‬علماء الحملة الفرنسية‪ ،‬ترجمة زهير الشايب‪ ،‬وصف مصر ‪ ..‬المصريون المحدثون‪ ،‬الطبعة ‪ 3‬ـ دار‬
‫الشايب ـ القاهرة ‪ 1992‬ص ‪ ، 44‬ص ‪128‬‬

‫‪233‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫وطالئع االستعمار المبكر للمنطقة العربية‪ ،‬واإلسالمية‪ ،‬ولم يكن مستغرباً أنه‬
‫كانت في مقدمة الحملة الفرنسية التي احتلت مصر (‪ ١٧٩٨‬ـ ‪١٨٠٣‬م) بعثة‬
‫علمية متنوعة التخصصات انتجت سفراً ضخماً هو كتاب «وصف مصر» الذي‬
‫يحوي رصداً دقيقاً لكافة جوانب الحياة االجتماعية المصرية‪.‬‬

‫المشروع األسري لـ «الباشا» ‪:‬‬


‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫إن أي تصور لمشروع محمد على ال يخرجه عن كونه مشروعاً خاصاً بالحكم‬
‫األسري ألسرة محمد على‪ ،‬أى أن الباشا لم يرد إال حكم مصر له‪ ،‬ولساللته من‬
‫بعده بموجب فرمان فبراير ‪ ،1841‬وبذلك يصبح بناء الدولة‪ ،‬ووظيفتها مرتبطاً‬
‫بهدفه الرئيس في حدوده وطبيعته‪ ،‬وقد حرص الباشا على استخدام تقنيات‬
‫وأبنية حديثة للدولة‪ ،‬وكان القانون فيها أداة لتطويع اإلنسان (اآللة)‪ ،‬واستغالله‪،‬‬
‫وتأهيله مع حرصه على صورة المحدث على النسق األوربي‪.‬‬

‫الخطأ الشائع والمتداول عن أن محمد على مؤسس مصر الحديثة مجرد‬


‫أكذوبة روجها أبناء محمد على‪ ،‬وأحفاده مستعينين ببعض المرتزقة من الكتاب‪،‬‬
‫والمؤرخين‪ ،‬والرحالة األوربيين الذين زاروا مصر‪ ،‬وقابلوا الباشا مثل لورد‬
‫ليندساي‪ ،‬و د‪ .‬وايلد والد الكاتب أوسكارد وايلد‪ ،‬والرحالة جيمس سان جون‬

‫‪234‬‬
‫وساعد أفراد أسرة محمد على في ذلك استمرار حكمهم للبالد لفترة تقترب من‬
‫قرن‪ ،‬ونصف تمكنوا خاللها من ترسيخ تلك األكذوبه في عقول خمسة أجيال‬
‫تقريباً‪ ،‬وحشرها في الكتب المدرسية‪ ،‬وترديدها في المحافل بمناسبة وبغير‬
‫مناسبة !!‬

‫ولم تكن مشاريع الري ممثلة في قناطر القاهرة (القناطر الخيرية)‪،‬‬


‫وشبكة الترع إال من أفكار السان سيمون‪ ،‬وهم حفنة من الماسون الفرنسيين‬
‫من خريجي مدرسة البوليتيكنيك‪ ،‬الذين أخذوا على عاتقهم تنفيذ األفكار العملية‬
‫للماسونية مستعينين برجالهم في شتى األماكن‪ ،‬وكان من رجالهم في مصر‬
‫رفاعة الطهطاوي‪ ،‬وعلي مبارك‪.‬‬

‫أما ما يروجه المضللون عن إنشاء محمد علي للترسانة البحرية؛ فهو‬


‫محض تضليل؛ فقد أنشأ مراد باشا تلك الترسانة في بوالق‪ ،‬ولم يكن لمحمد علي‬
‫سوى فضل التوسع فيها‪ ،‬ونقلها إلى اإلسكندرية‪ .. ،‬أما ما يروجه المضللون‬
‫عن أن محمد علي هو الذي أدخل زراعة القطن في مصر فهو محض هراء‪،‬‬
‫فقد دخلت زراعة القطن إلى مصر قبل الحملة الفرنسية بعقود‪ ،‬وقبل أن يأتي‬
‫محمد علي إلى مصر!!‬

‫‪ ..‬تعامل محمد على مع المصريين بوصفهم عبيد لتنفيذ مشروع الباشا‪،‬‬

‫‪235‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫وأسرف في تنجيد الرجال في الجيش‪ ،‬واألسطول‪ ،‬ومشاريع السخرة بحيث‬


‫أصبحت قرى بأكملها بدون رجال؛ بما دفع المصريين لتشويه أجسادهم‪ ،‬وفقأ‬
‫أعينهم‪ ،‬وتسمية أوالدهم بأسماء البنات‪ ،‬وكان التسحب من الجيش يمثل أزمة‬
‫تهدد مشروع الباشا حيث استمر تسحب الفالحين باألالف من القرى على الرغم‬
‫مما وضع من قوانين‪ ،‬وما تضمنته من عقوبات أو من اجراءات منها نظام‬
‫تراخيص المرور لمنعهم من النزوح من قرية إلى أخرى‪ ،‬كان عدد المتسحبين‬
‫من الجيش ستون ألفا ً‪ ،‬ومن البحرية عشرون ألفاً من عدد القوات الجيش البالغ‬
‫ربع مليون نفر مقسمة على الجيش ـ ‪ 130‬ألف نفر ـ واألسطول ـ ‪ 120‬ألف‬
‫نفرـ في الوقت الذي كان عدد سكان مصر ‪ 2,5‬مليون نسمة‪ .. ،‬حتى أن بعض‬
‫المراجع قد ذكرت أن حملته على الشام كانت بهدف استعادة ست أالف فالح‬
‫فروا إليها!!‬

‫‪ ..‬ولم تفلح محاوالت محمد علي في االستعانة بالوعاظ‪ ،‬والفقهاء؛ ليقنعوا‬


‫الفالحين بأن الخدمة العسكرية ليست كالسخرة‪ ..،‬ولعب هؤالء بـ «ورقة‬
‫الطائفية» من خالل تذكير الفالحين بأن الفرنسيين استطاعوا بسهولة حين‬
‫كانوا في مصر أن يجمعوا من األقباط فرقة في جيشهم بسبب تلهفهم على‬
‫خدمة عقيدتهم؛ ‪ ..‬فإذا كان هذا حال األقباط؛ فال شك أن حال المسلمين سيكون‬
‫أفضل؛ فقلوبهم تمتلئ بالتقوى‪ ،‬والحماس للدفاع عن الدين‪ ،‬وأن الخدمة في‬
‫الجيش واجب ديني ‪ ..‬لكن تلك الدعوات لم تلق إال آذانا صماء‪ ،‬ولم تستطع تلك‬

‫‪236‬‬
‫الدعوات التالعب بهم‪ ،‬فالحروب هي «حروب الباشا»‪ ،‬ال «حروب مصر»‪،‬‬
‫وأن الباشا ك ّون «جيشاً أسرياً»‪ ،‬وليس «جيشاً قوميا»!!‬

‫‪ ..‬وهناك الكثير من الدالئل التي تشير إال أن الدعارة كانت تتزايد في مصر‬
‫خالل عهد محمد على‪ ،‬وهو أمر ال يعود إلى انهيار مفاجئ في األخالق أو أي‬
‫زيادة مفاجئة في الرذيلة على نحو ما تمثله كوتشوك هانم‪ ،‬وتختها ورقصتها‬
‫الشهيرة (رقصة النحلة) التي تتخفف فيها من مالبسها حتى تصل إلى العري‬
‫التام‪ ،‬والتي خلدها جوستاف فلوبير في ‪«:‬رسائل فلوبير»؛ كان انتشار الدعارة‬
‫نتيجة التوسع الجائر برعونة‪ ،‬ودون روية في التجنيد اإلجباري‪ ،‬ومشاريع‬
‫السخرة أن تزايدت الدعارة بشكل غير مسبوق لما ترتب على التفكك غير‬
‫المسبوق للحياة األسرية الذي نتج عن سياسة التجنيد النهمة التي أجبرت األالف‬
‫من الرجال على التنقل من مدينة ألخرى‪ ،‬ومن منطقة ألخرى تاركين خلفهم‬
‫الزوجات‪ ،‬واألمهات‪ ،‬والبنات تحت وطأة الجوع؛ فاضطر العديد من الزوجات‬
‫الشابات؛ وقد هجرن بهذا الشكل‪ ،‬وتحت وطأة الجوع أو لتجنب هالك أبنائهن‬
‫إلى العمل بالدعارة ‪.‬‬

‫‪ ..‬وانتشرت ظاهرة «الخوالت» في المجتمع المصري‪ ،‬وهم مجموعة من‬


‫الغلمان المخثين الذين يرقصون في الشوارع بمالبس نسائية‪ ،‬ويقلدن حركات‬
‫النساء‪ ،‬وأفعالهن‪ ،‬يصف جوستاف فلوبير هؤالء الغلمان بقوله ‪« :‬شاهدنا‬

‫‪237‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫راقصين من الرجال ‪ ..‬تص ّور وغدَين في غاية البشاعة‪ ،‬لكنهما فاتنان في‬
‫فسادهما‪ ،‬وفي نظراتهما الشذراء وحركاتهما األنثوية‪ ،‬يرتديان مالبس النساء‪،‬‬
‫وعيونهما مكحّ لة‪ ،‬ومن حين إلى آخر كان قائد الفرقة‪ ،‬أو الق ّواد الذي جلبهما‪،‬‬
‫ّ‬
‫والمؤخرة‪ ،‬وفي الظهر‪ ،‬ويقوم‬ ‫يقوم بالعزف حولهما‪ ،‬يقبّلهما على البطن‪،‬‬
‫ً‬
‫محاوال وضع توابل إضافية على شيء واضح في ح ّد ذاته» ‪.‬‬ ‫بحركات بذيئة‬

‫كان جيش الباشا يشكل ضغطاً على النساء؛ فباإلضافة إلى انتشار الدعارة‬
‫بين النساء تشير(سجالت ضبطية مصر) إلى إزالة بكارة الكثيرات من فتيات‬
‫القاهرة‪ ،‬وأنهن مستعمالت‪ .. ،‬ونتيجة حالة الفسق انتشر مرض الزهري بين‬
‫األنفار‪ ،‬وانتشر بين طلبة المدارس العسكرية في القاهرة؛ فحين أبلغ كلوت بك‬
‫بأن عدد الطلبة المصابين بالزهري في مدرسة واحدة ‪ ٣٠٥‬نفر؛ أرجع ذلك إلى‬
‫عدم وجود أدب‪ ،‬وإلى أفعال غير الئقة‪ ،‬وفي النهاية قرر كلوت بك أن جذر‬
‫المشكلة يكمن في الدعارة ‪.‬‬

‫عن المشهد في مصر في ظل تلك الحالة من االنفالت‪ ،‬وصف سان جون‬


‫في كتابه بعنوان ‪« :‬مصر» زيارة قام بها لبني سويف في مارس ‪١٨٣٣‬م تمثل‬
‫مشهداً نموذجيا للحالة األخالقية في مصر ‪:‬‬
‫« عند وصولنا إلى المدينة كان سمة ثمة صخب‪ ،‬وسرعان ما اكتشف السبب‬
‫كان أحمد باشا يكن قد وصل على التو من الحجاز‪ ،‬ومعه قسم من الجيش‬

‫‪238‬‬
‫المصري‪ ،‬وكان الجنود ينتشرون في أنحاء المدينة؛ ليمارسوا المتع الفظة‪،‬‬
‫وانتشرت الفتيات في المدينة‪ ،‬ومعهم الموسيقيين‪ ،‬والمغنين‪ ،‬والراقصات‪،‬‬
‫غرفة‪)10(*.‬‬ ‫وامتألت الفنادق بهذه الحثالة العسكرية بحيث تعذرالعثور على‬

‫أرجع كلوت بك هذه الحالة من االنفالت األخالقي إلى ارتفاع معدالت‬


‫الطالق‪ ،‬وإلى «الطبيعة الشبقية للنساء المصريات»!!‬

‫‪ ..‬وتوالى احتالل بلدان المنطقة طوال القرن التاسع عشر‪ ،‬وتأسيس المعاهد‪،‬‬
‫والكليلت‪ ،‬والجامعات في المنطقة التي غلب عليها الدراسات اإلنسانية‪،‬‬
‫واالجتماعية‪ ،‬ومنها جامعة القديس يوسف في لبنان‪ ،‬وكلية جوردن في السودان‪،‬‬
‫وكلية فكتوريا في مصر‪ ،‬والجامعة األمريكية في مصر‪ ،‬ولبنان التي كان هدفها‬
‫جميعاً «صناعة النخب الحداثية» ‪.‬‬

‫اللورد كرومر‬
‫و«هاتولي حبيبي»‪:‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫‪ ..‬وجاء االحتالل االنجليزي إلى مصر‪ ،‬وجاء معه اللورد كرومر المعتمد‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )10‬د ‪ .‬خالد فهمي‪ ،‬الجسد والحداثة‪ ،‬الطب والقانون في مصر الحديثة‪ ،‬ترجمة ‪ :‬شريف يونس‪ ،‬دار‬
‫الكتب والوثائق القومية بالقاهرة ـ القاهرة ‪ ٢٠٠٦‬ـ ص‪133‬‬

‫‪239‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫العام البريطاني في مصر‪ ،‬وبأسلوب المخابرات البريطانية في العمل راح‬


‫كرومر يتغلل في جميع مناحي الحياة في مصر‪ ،‬ويمارس اختراق المجتمع‬
‫بشتى الوسائل‪ ،‬واألساليب‪ ،‬وحدث أن كان الرجل مدعواً إلحدى حفالت الزفاف‬
‫مع الزعيم سعد زغلول‪ ،‬وكان مطرب الحفل عبده الحامولي يتغنى بأغنية يقول‬
‫مطلعها ‪:‬‬
‫«‪ ..‬حبيبي راح هاتوه لي يا ناس‪»..‬‬

‫وراح المطرب يرددها كثيراً‪ ،‬وبدأ الملل يتسرب إلى كرومر الذي دفعه‬
‫الفضول لمعرفة معنى العبارة‪ ،‬وطلب ترجمتها‪ ،‬عندها اتخذها حجة على إقامة‬
‫الدليل على أن الشعب المصري شعب خامل ال يحسن التفكير‪ ،‬أو التدبير‪ ،‬أو‬
‫القدرة على اإلنجاز؛ فحتى في العشق ال يُكلف المحب نفسه مشقة البحث عن‬
‫حبيبه‪ ،‬طالبا من الناس ان يجيئوا به إليه!!‬

‫واتخذ كرومر تلك الحكاية وسيلة يتندر بها في كل محفل لوصف طبيعة‬
‫الفرد العربي بصفة عامة‪ ،‬والمصري بصفة خاصة‪ ،‬والتدليل على أن موروثاته‬
‫الثقافية انعكست على مواقفه السياسية‪ ،‬واالجتماعية‪ ،‬واالقتصادية‪ ،‬وان الشعوب‬
‫العربية إتكالية‪ ،‬تجيد لغة النواح‪ ،‬حتى تستجدي عطف اآلخرين ليهبوا لنجدتها‬
‫من منطلق نصرة الضعيف‪ ،‬ال من منطلق القناعة بأن لها حقاً ملزماً يحتم على‬
‫اآلخرين الوقوف معها الستعادته‪.‬‬

‫‪240‬‬
‫وراح لورد كرومر يكشف عن عورات وجداننا‪ ،‬وسوء أفعالنا‪ ،‬وضعف‬
‫همتنا‪ ،‬وانعدام إرادتنا ‪ ..‬قال اللورد كرومر في كتابه بعنوان ‪«:‬مصر الحديثة»‬
‫إن مصر تحكم بثالث كلمات تبدأ بحرف ‪ C‬الالتيني ‪« :‬الكورباج ‪،Courbash‬‬
‫والسخرة ‪ ،Corvette‬والفساد ‪.»Corruption‬‬

‫يقول كرومر‪« :‬أنه عندما جاء لورد دوفرين إلى مصر كان عاقدا ٌ العزم‬
‫على أال يحكم هذا البلد تحت أي ظرف من الظروف باستعمال الكرباج‪ ،‬وأصدر‬
‫منشور بذلك‪ ،‬وكانت النتيجة كارثية عندما لم يعد لمنظومة السخرة التي كانت‬
‫مفروضة في ظل حكم الكرباج وجود‪ ،‬ورفض الفالحون الذهاب إلى األعمال‬
‫بناء على طلب المديرين‪ ،‬ولم يعد بالوسع إجبارهم‪ ،‬ولم نعد قادرين على تطهير‬
‫الترع‪ ،‬وتوصيل المياه إلى الحقول‪ ،‬وبدأت الزراعة تنهار‪ ،‬ولم يعد في مقدورنا‬
‫حماية شواطئ النيل في وقت الفيضانات العالية‪ ..،‬وأدركنا الحقيقة التي مفادها‬
‫أن األمر قد يحتم جلد الشعب المصري لمنعه من الموت جوعاً‪.».‬‬

‫الفساد في حياة المصريين ‪:‬‬


‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫‪ ..‬وعن الفساد البنيوي المتجذر في أخالق‪ ،‬وتاريخ المصريين يقول كرومر‪:‬‬


‫« لم يحدث أن كان هناك فساد في أي بلد من البلدان مثل الفساد الذي عشش في‬

‫‪241‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫كل أنحاء مصر ‪ ..‬كان المصريون يقبلون الرشاوي‪ ،‬ويدفعونها بدءاً من الحمّار‬
‫شبة العاري الذي يصيح مطالباً بالبقشيش‪ ،‬ومروراً بالمطالبة بقرش أو قرشين‬
‫من سائح فصل الشتاء‪ ،‬وانتهاء بالباشا عالى المقام الذي يمكنه الحصول على‬
‫عونة عن طريق دفع مبالغ كبيرة معظمها أو كلها تقريباً على سبيل الرشوة‪،‬‬
‫كان المقاول يرشي الوزير كيما يحصل على عقد بشروط مناسبة له هو‪ ،‬تم‬
‫يقوم بعد ذلك برشوة كاتب األشغال حتى ال يتحرى الدقة عما إذا كانت نصوص‬
‫العقد قد نفذت تنفيذاً دقيقاً‪ .. ،‬وكان المرؤوس يرشى رئيسه طلباً للترقية‪ ،‬وكان‬
‫مالك األرض يرشي المهندس للحصول على المزيد من الماء ألرضه‪ ،‬وحقوله‬
‫أكثر مما يستحق‪ ،‬وكان القضاة يرتشون من المدعي‪ ،‬والمدعى عليه في أى‬
‫قضية من القضايا‪ ،‬وكان القرار يصدر لصالح ذلك الذي دفع رشوة أكبر‪،‬‬
‫وكان مساحو األراضي الحكوميون يرشون لتزوير قياسات األرض‪ ،‬وكان‬
‫مشايخ القرى يحصلون على رشوة نظير اإلعفاء من السخرة‪ ،‬ومن الخدمة‬
‫العسكرية‪ ،‬وكانت الشرطة تحصل على رشوة من كل سيئ الحظ الذين تحتم‬
‫عليهم االتصال بها‪ ،‬وكان المسافر بالسكك الحديدية يجد أنه من األرخص أن‬
‫يدفع بقشيشاً للحارس‪ ،‬أو المحصل ً‬
‫بدال من أن يدفع ثمن التذكرة‪ ،‬وعلى سبيل‬
‫التمهيد لرشوة المدير كيما يقوم بتحري مظلمة من المظالم كان يتحتم على‬
‫الشاكي رشوة األتباع الجياع الذين يتسكعون حول مكتب المديرية قبل إبالغ‬
‫الرجل الكبير شخصياً بالشكوى المقدمة‪.‬‬

‫‪242‬‬
‫كان واقع األمر أن تفشي الرشوة في المنظومة اإلدارية المصرية كان بال‬
‫نهاية‪ ،‬وكانت الحياة االجتماعية‪ ،‬والحياة الرسمية المصريتان مشبعتين بالفكرة‬
‫التي مفادها أن المطالب الشخصية‪ ،‬والمصالح الشخصية المصرية أيضا‪،‬‬
‫!!*(‪)11‬‬ ‫وبغض النظر عن عدالتها ال يمكن الوفاء بها بدون دفع بقشيش‬

‫الهيمنة اإل نجليزية‬


‫على العقلية المصرية ‪:‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫يمكن الكشف عن أساليب الهيمنة اإل نجليزية على الثقافة العربية بالرجوع إلى‬
‫الخطط االستعمارية التعليمية في المستعمرات العربية في القرن التاسع عشر‪،‬‬
‫وما قام به دانلوب مستشار التربية في مصر في عهد المعتمد السامي البريطاني‬
‫كرومر‪ ،‬إذ عمل على الكشف عن خصائص العقلية الشرقية‪ ،‬وتجذيرها في‬
‫«البنية التعليمية»‪ ،‬واستند في ذلك إلى خاصية معينة من خصائص العقلية‬
‫الشرقية‪ ،‬أال وهي تقديسها للمكتوب‪ ،‬للكلمة المكتوبة للنصوص‪ ،‬وراح يصدر‬
‫تعليماته الدورية إلى المفتشين‪ ،‬والنظار على أساس تنمية الذاكرة‪ ،‬والحفظ‬
‫بالذاكرة‪ ،‬دون كل ما من شأنه أن ينمي ملكة التفكير النقدي‪ ،‬واإلبداعي الخالق‪،‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫* (‪ )11‬اللورد كرومر‪ ،‬مصر الحديثة ‪ ،‬ج‪، ٢‬ط ‪ ،١‬ترجمة صبري محمد حسن ـ المركز القومي للترجمة‪،‬عدد‬
‫رقم ‪ ٢١٥٧‬القاهرة ‪٢٠١٥‬‬

‫‪243‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬
‫وكان الهدف من هذه الخطة وضع استراتيجية للهيمنة الثقافية على مصر‪ ،‬من‬
‫خالل إنتاج مثقفين بال ثقافة‪ ،‬ألنهم ال يمتلكون‪ ،‬وسائل الثقافة الفعالة‪ ،‬وهي‬
‫الحوار‪ ،‬والنقاش‪ ،‬والجدل‪ ،‬والنقد بل يكتفون بالحفظ‪ ،‬والتكرار‪ ،‬واالجترار‪،‬‬
‫وهذا ما يكشف عنه رأي دانلوب بقوله ‪:‬‬

‫«إن الضمان الوحيد الستعباد مصر على مر األجيال ال يكمن في االحتالل‬


‫العسكري‪ ،‬واالستعمار االقتصادي بقدر ما يكمن في ضرب الفكر المصري‬
‫في الصميم بحيث يصبح عاجزاً عن التطور‪ ،‬واإلبداع‪ ،‬والخلق‪ ،‬ويظل معتمداً‬
‫على غيره ليتحرك‪.».‬‬

‫ورأى دانلوب أنه لكي يتحقق هذا الهدف البد من أن تتجه سياسة التعليم‬
‫كلها ـ في مرحلة االبتدائية‪ ،‬والثانوية‪ ،‬والعالية على السواء ـ إلى الحفظ دون‬
‫المناقشة‪ ،‬والترتيل دون النقد‪ ،‬ومحاكاة المراجع‪ ،‬واألساتذة دون تشريحها‪،‬‬
‫وتكوين رأي مستقل فيها‪ ،‬واحترام الكلمة المكتوبة دون امتحانها‪ ،‬والتصارع‬
‫فكرياً معها‪)12(*.».‬‬

‫‪ ..‬وكانت رافعة المشروع «الحداثي التسلطي» االستعماري هى إنشاء أول‬


‫قسم أكاديمي للعلوم االجتماعية بالجامعات المصرية سنة ‪ 1925‬في السياق‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )12‬د ‪ .‬أنور عبد الملك‪ ،‬دراسات في الثقافة الوطنية‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بيروت‪1967 ،‬ـ ص ‪. 38‬‬

‫‪244‬‬
‫التاريخي إلعالن استقالل مصر صورياً عن بريطانيا بموجب تصريح ‪٢٨‬‬
‫فبراير ‪ ،١٩٢٢‬وكان ذلك في أعقاب ثورة ‪ ، ١٩١٩‬ومتزامناً مع وضع دستور‬
‫‪ ١٩٢٣‬في الحقبة الليبرالية في مصر التي امتدت حتى استيالء الجيش على‬
‫السلطة في مصر سنة ‪ ١٩٥٢‬حيث قدم ضباط االنقالب نسخة أخرى من‬
‫«المشروع الحداثي التسلطي» بعد جالء المستعمر اإلنجليزي ‪.‬‬

‫يوجه د‪ .‬نزية األيوبي انتباهنا إلى أمر شديد األهمية بخصوص المعضالت‬
‫التي تواجه الدولة بعد مرحلة من االستعمار‪ ،‬وبعد التحرر الوطنيهو أن الدولة‬
‫من الصعب أن تعود إلى طبيعتها‪ ،‬وهو ما يطلق عليه ‪«:‬الدولة المبتسرة» أو‬
‫«الدولة الخديجية»؛ ألن جزء من المعضلة يُعزى إلى طبيعتها الال متوازنه‪،‬‬
‫وإلى حقيقة كونها متخلفة في النمو في جوانب معينة‪ ،‬ومفرطة في النمو في‬
‫جوانب أخرى؛ فالدولة في المجتمعات المستعمرة سابقاً لم تخلقها بورجوازية‬
‫وطنية بل بورجوازية استعمارية أجنبية قامت بتضخيم حجم اآللة البيروقراطية‬
‫خصوصاً في جناجها العسكري لخدمة أغراضها الخاصة في المستعمرات؛ بما‬
‫أن هذه األغراض كانت معزولة عن الجزء الرئيسي من المصالح الوطنية؛‬
‫فإن هذه الدول كونت كماً كبيراً من «االستقالل الذاتي النسبي» إزاء القوى‬
‫االقتصادية‪ ،‬واالجتماعية األهلية‪ ،‬وبصفتها استمرارية لإلرث االستعماريالذي‬
‫أدى إلى هذا بصورة حتمية‪ ،‬ومنح الدولة سلطة هامة في شئون المجتمع‬
‫*(‪)13‬‬ ‫االقتصادية‪ ،‬والسياسية‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )13‬د‪ .‬نزية األيوبي ‪ ،‬مرجع سابق ـ ص ‪٥٤‬‬

‫‪245‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫‪ ..‬وألن المجتمع المصري كان في حالة إرباك بعد العديد من اإلجراءات‬


‫التى اتخذت مظهر الثورية‪ ،‬ومع ضعف المشاركة الشعبية‪ ،‬وعدم وجود تنظيم‬
‫سياسي قوي‪ ،‬وغياب التقاليد الديمقراطية األسبق زمنا ًاضطرت الدولة إلى‬
‫الدخول في «تشاركية» مع القوات المسلحة‪ ،‬وأن تلعب دور قيادياً في عملية‬
‫التطور االجتماعي بحكم الضرورة‪.‬‬

‫‪ ..‬فمع بداية انقالب ‪ 23‬يوليو ‪ 1952‬بدأت «عسكرة الدولة» بتبني‬


‫شعار‪«:‬المواطنون عيال الدولة» من خالل توفير االحتياجات المعيشية‬
‫للمواطنين من خالل دعم سفية بلغ في سفهه توزيع كوبونات الكيروسين على‬
‫كافة فئات الشعب دون تميز‪ ،‬وضمان الدولة لحق العالج المجاني‪ ،‬والتعليم‬
‫المجاني للجميع‪ ،‬والتوسع في التوظف‪ ،‬وإتاحة فرص الترقي االجتماعي شرط‬
‫الوالء للنظام‪ ،‬وااللتزام بسياسة المهرجان الذي يتغنى بانتصارات‪ ،‬وأمجاد ال‬
‫وجود لها في الواقع !!؛ وسقط المشروع بأكمله مع هزيمة يونية ‪ 1967‬بما‬
‫يحملة من ترميز‪ ،‬ورموز‪ ،‬وعالمات !!‬

‫‪ ..‬ومع بداية عصر السادات قاد انقالب من داخل النظام في ‪ 15‬مايو‬


‫‪1971‬؛ ليضع نهاية لمهزلة نظام ‪«:‬اشتراكية بال اشتراكيين»‪ ،‬ويتبنى سياسة‬
‫فوقية لضرب مصر بهوس المد الوهابي‪ ،‬واألخونة من خالل نشر قيم السلفية‬
‫المحافظة التي سرعان ما انقلبت على الرئيس السادات بعد كامب ديفيد‪ ،‬وتبنت‬

‫‪246‬‬
‫األفكار الجهادية‪ ،‬وتحولت إلى سلفية مجاهدة رفعت السالح على الدولة‪،‬‬
‫وأغرقت البالد في الدماء‪ ،‬وقتلت الرئيس السادات‪ .. ،‬وتزامن انقالب الرئيس‬
‫السادات مع التوجه السياسي نحو الغرب‪ ،‬وتحول مصر إلى سياسة «االنفتاح‬
‫االقتصادي» وما انتجته من نمط «االستهالك المتوحش» في ظل فساد الطبقة‬
‫العاملة المصرية التي تعودت على «ثقافة االستهالك»‪ ،‬و«بذل الجهد األقل»‬
‫أن تحصل على الكثير من المكتسبات المالية دون بذل جهد في العمل أو تحقيق‬
‫إنتاج حقيقي؛ ‪ ..‬ودخلت مصر إلى عاصفة النار‪ ،‬ودوامات الدم !!‬

‫‪ُ ..‬‬
‫وفرض على البالد قانون الطوارئ عشية اغتيال الرئيس السادات؛ مما‬
‫سهل على الدولة وضع المواطنين أمام حتميتين ‪« :‬إما الخصخصة أو الموت‬
‫جوعاً»‪ ،‬ولم يلغ إال في أكتوبر ‪.2021‬‬

‫‪ ..‬وفي ظل نظام الخصخصة تم تسريح «جحافل العمال والموظفين» من‬


‫المصان‪ ،‬والشركات‪ ،‬والكثير من أجهزة الدولة لينضموا تحت مسمى «عمالة‬
‫زائدة» إلى قطاع الخدمات بأجور متدنية جعلت سلوكهم أقرب إلى أخالقيات‬
‫البلطجيةـ واللصوص‪ ،‬والمحتالين‪ ،‬والمتسولين في ظل انخفاض دخل األسرة‬
‫بما جعلهم يفقدون األمن االجتماعي‪ ،‬واألمن االقتصادي!!‬

‫‪ ..‬كانت شرعية نظام مبارك تقوم على خطاب سمج ال يمل من تكراره بدأه‬

‫‪247‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫بـ «النزاهة‪ ،‬والطهارة»‪ ،‬وأن «الكفن ما لوش جيوب»‪ ،‬ثم اتضح بعد ذلك‬
‫أن الجيب األصغر لبذة فخامة الرئيس يسع الوطن بأكمله‪ ،‬وفي مرحلة أخرى‬
‫تحدث عن ضرورة وجوده على رأس الحكم لدعم ثنائية األمن‪ ،‬واالستقرار‬
‫في مقابل الفوضى‪ ،‬واالحتراب األهلي‪ ،‬ولم يخجل من إعالنها صريحة عبر‬
‫أبواقه اإلعالمية‪«:‬إما أنا أو الفوضى!!»‪ ،‬كان أخطر ما أنتجه نظام الرئيس‬
‫مبارك (‪ 1980‬ـ ‪2011‬م)‪ :‬ظاهرة أطفال الشوراع (التي بدأ ظهور الجيل‬
‫الثاني منها مع بداية سنة ‪2005‬م)‪ ،‬وتنامي ظاهرة البلطجة كأحد آليات الضبط‬
‫االجتماعي‪ ،‬والسياسي‪ ،‬وتنفيذ «المهام القذرة» لبعض فئات الطبقة المتوسطة‬
‫والتجار‪ ،‬ورجال األعمال الذي يصعب إتمامها‪ ،‬أو أخذ الحقوق من خالل القنوات‬
‫القانونية المباشرة‪ ،‬وال يعني هذا أن البلطجة أصبحت دائرة خارج أو ضد حيز‬
‫ً‬
‫مكمال لها كما أصبحت أحد‬ ‫العدالة‪ ،‬واإلجراءات الجنائية بل أصبحت جزءاً‬
‫أذرع الدولة الخفية التي تحميها‪ ،‬وتعفيها من المسؤولية الجنائية‪ ،‬والسياسية‪،‬‬
‫ومع توحش الجهاز الشرطي ككل‪ ،‬وهيمنة سلطته على الدولة‪ ،‬والمجتمع‪،‬‬
‫صارت قوات األمن بشكلها الرسمي والمؤسسي‪ ،‬وغير الرسمي والالمؤسسي‬
‫المؤلفة من مجموعات البلطجية‪ ،‬والمرشدين‪ ،‬أحد أهم عناصر إنتاج الفزع في‬
‫المجتمع إلى جانب أقسام الشرطة التي تحولت إلى مسالخ بشرية‪.‬‬

‫‪ ..‬وفي ظل تزاوج المال بالسلطة‪ ،‬وما خلفه من نشوء خندق فساد الكبار‪:‬‬
‫(من رجال الحكم‪ ،‬ورجال المال واألعمال‪ ،‬وكبار ضباط الجيش والبوليس‪،‬‬

‫‪248‬‬
‫واإلدارة الحكومية في تحالف غير مسبوق في تاريخ مصر)‪ ،‬وبالمقابل تشكل‬
‫خندق فساد الصغار الذي وجد وسائلة في تعويض الفقر‪ ،‬والحرمان المتزايد في‬
‫نمط آخر من الفساد تمثل في انتشار الدروس الخصوصية‪ ،‬وتعاطي الرشوة‪،‬‬
‫واإلكراميات مقابل أداء الخدمات الوظيفية للجماهير‪ ،‬وامتدت شبكة الفساد‬
‫لتشمل الخدمات الحكومية كافة بدءاً من أقسام الشرطة مروراً بالمستشفيات‬
‫العامة‪ ،‬وانتهاء بالمحاكم‪ ،‬وقد اصبحت تلك الممارسات تمثل أخطر روافد‬
‫االقتصاد الخفي‪ ،‬والتى ساهمت في انتعاش أنشطة أخرى مثل الدعارة‪ ،‬والبغاء‪،‬‬
‫والمخدرات‪ ،‬وعمليات تهريب وغسيل األموال عبر القنوات الرسمية‪ ،‬ونظم‬
‫االستيراد وغيرها ‪.‬‬

‫كان التحول األخطر في عصر حسني مبارك تحول الفساد من انحرافات‬


‫فردية إلى بنية اجتماعية‪ ،‬ونظام مؤسسي حينما تحلقت جماعة رجال المال‬
‫حول مائدته األسرية لتخلق بذلك أسوأ شبكة سرية للفساد‪ ،‬واإلفساد‪ ،‬حيث‬
‫اختلط المال الحرام بالسلطة‪ ،‬وقراراتها‪ ،‬ولم يكتف بذلك‪ ،‬بل وأنه عبر سياسات‬
‫معينة‪ ،‬وقرارات جمهورية استهدفت إفساد أفراد‪ ،‬وجماعات‪ ،‬ومؤسسات؛‬
‫ليتحول األمر خالل ثالثين عاماً إلى إفساد مجتمع بأكمله ‪.‬‬

‫‪ ..‬وكان من أخطر أشكال الفساد هو ما قام به جمال مبارك‪ ،‬وأطلق‬


‫عليه البعض‪«:‬شراء ديون مصر»‪ ،‬وهى أخطر عملية نصب باالستيالء على‬

‫‪249‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫موارد الدولة بزعم شراء ديون هي في الواقع معدومة‪ ،‬و«التالعب بالبورصة»‬


‫للحصول على مكاسب بغير حق!!‪ ،‬والحصول على السمسرة‪ ،‬والعموالت من‬
‫بيع الشركات‪ ،‬والمصانع في عملية الخصخصة‪ ،‬وكان أخطر أشكال الفساد هو‬
‫تأسيس الشركات ـ على الورق ـ لإلستفادة من المزايا‪ ،‬واإلعفاءات الممنوحة‬
‫للمستثمرين‪ ،‬ومدة السماح‪ ،‬واغالقها ـ على الورق ـ أيضا بعد انتهاء المدة‬
‫المحددة قانونا لالستفادة من االعفاءات الجمركية‪ ،‬وبيع الورادت في السوق‬
‫السوداء !!‬

‫كان أخطر سمات الحكم في عصر مبارك هو ‪« :‬تقاسم األداء األسري‬


‫للحكم»؛ فكان الرئيس مبارك يتولى مسئوليات وزرات الدفاع‪ ،‬والخارجية‪،‬‬
‫والداخلية‪ ،‬واإلعالم‪ ،‬وكانت السيدة سوزان مبارك تتولى بنفسها اختيار وزراء‬
‫الصحة‪ ،‬والتعليم‪ ،‬والشئون االجتماعية‪ ،‬والثقافة‪ ،‬وتشرف عليهم‪ ،‬وانضمت‬
‫إلى اختصاصها وزارة اإلعالم بعد قيامها باختيار أنس الفقي وزيراً لإلعالم!!‪،‬‬
‫وكان جمال مبارك يتولى اختيار وزراء المالية‪ ،‬واالقتصاد‪ ،‬والصناعة‪ ،‬وقطاع‬
‫األعمال‪ ،‬والتعمير‪ ،‬واالستثمار‪ ،‬ويشرف عليهم لتسهيل مصالحة‪ ،‬ومفاسد‬
‫الدائرة الضيقة المحيطة به من رجال األعمال!!‬

‫‪ ..‬وفي ظل هذا المناخ التي أصبحت فيه الدولة بكل مواردها‪ ،‬وأجهزتها‬
‫ومؤسساتها تدار لصالح حفنة من الفاسدين‪ ،‬واللصوص‪ ،‬وبدأ الحديث عن‬

‫‪250‬‬
‫«التوريث»‪ ،‬وتهيئة المناخ لخالفة جمال مبارك على الحكم‪ ،‬وقد أعطى‬
‫السيناريو السوري األمل للداعمين لمسلسل التوريث بعبور بشار األسد إلى‬
‫رئاسة سوريا عبر جسر البعث‪ ،‬وكوادره التي تضبط إيقاع الحركة في الشارع‪،‬‬
‫وتحكم سيطرتها على مفاصل الدولة‪ ،‬وتصور بعضهم أنه يمكن استنساخ‬
‫التجربة بإدخال تعديالت على السيناريو المصري عبر سن بعض اإلجراءات‬
‫التشريعية التي أفقدت األسرة النواة تماسكها عبر المجامالت التشريعية للمرأة؛‬
‫بما أسهم في تفاقم (أزمة الذكورة) في المجتمع المصري!!‬

‫‪ ..‬وبدأت الحكومة بعض اإلجراءات لتدجين بعض الفئات عالية الصوت‪،‬‬


‫‪ ..‬وبدأت نفس النهج في إفساد السلك الدبلوماسي‪ ،‬وافساد استاذة الجامعات‪،‬‬
‫وضباط الجيش‪ ،‬والشرطة بمنع فرص غير مستحقة ألبنائهم بحيث خلت‬
‫مؤسسات الدولة من الكوادر الخالقة القادرة على االبتكار؛ بما أخل بمبدأ تكافؤ‬
‫الفرص‪ ،‬وأرسى قواعد االستبعاد االجتماعي‪ ،‬وأسهم في تراجع التصنيف‬
‫العلمي للجامعات إلى أدنى مستوياته!!‬

‫حركة كفاية ‪:‬‬


‫ـــــــــــــــــــــ‬

‫في عام ‪ 2004‬كون مجموعة من النشطاء السياسين «الحركة المصرية من‬

‫‪251‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫أجل التغيير» التى رفعت شعار «كفاية» لرفض التجديد للرئيس مبارك لفترة‬
‫خامسة‪ ،‬وقطع الطريق على محاوالت التوريث ورفعت شعار ‪«:‬ال للتمديد ‪..‬ال‬
‫للتوريث»‪.‬‬

‫حركة ‪ 6‬أبريل‪:‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــ‬

‫بدأت بإعالن بعض الشباب تضامنهم مع إضراب العمال فى ‪ 6‬أبريل ‪،2008‬‬


‫وتبنيهم فكرة الكاتب الصحافى مجدى أحمد حسين أن يكون اإلضراب عاما‬
‫فى مصر‪ ،‬وليس للعمال فقط‪.‬‬

‫بدأ هؤالء الشباب فى تشكيل مجموعات لنشر فكرة اإلضراب‪ ،‬فقد أنشأت‬
‫إسراء عبد الفتاح جروب « خليك فى البيت»على موقع « فيسبوك» دعت فيه‬
‫إلى إضراب يوم ‪ 6‬أبريل ‪ ،2008‬كما دعت أيضا للتظاهر فى عدة أماكن‬
‫بمحافظة القاهرة‪ ،‬واإلسكندرية‪ ،‬والمحلة‪.‬‬

‫وفى وقت قصير انتشرت فكرة اإلضراب فى جميع أنحاء مصر‪ ،‬وشارك‬
‫فى هذه المجموعة أكثر من ‪ 71‬ألف شخص‪ ،‬ومن خالل إرسال رسائل إلى‬
‫األعضاء؛ مما أدى الستجابة بعض األحزاب‪ ،‬والحركات المعارضة المصرية‬

‫‪252‬‬
‫لفكرة اإلضراب‪ ،‬مثال ذلك حركة موظفى الضرائب العقارية‪ ،‬حركة إداري‪،‬‬
‫وعمال القطاع التعليمى‪ ،‬ونقابة المحامين‪ ،‬وحركة ‪ 9‬مارس التى تضم أساتذة‬
‫الجامعات‪ ،‬باإلضافة إلى بعض المثقفين‪ ،‬والمدونين‪ ،‬وناشطى اإلنترنت‪.‬‬

‫حركة استقالل القضاء ‪:‬‬


‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ظهر تيار استقالل القضاء مع بداية سنة ‪ ،2004‬واتخذ من نادى القضاة‬

‫محطة النطالقه‪ ،‬ليخوض أولى معاركه مع السلطة بعد إحالة المستشارين هشام‬

‫البسطويسى‪ ،‬ومحمود مكى للتأديب بدعوى خروجهما عن التقاليد القضائية‪،‬‬

‫وهى المعركة التى تطورت مع تصدى قضاة التيار لتزوير االنتخابات البرلمانية‬

‫فى عام ‪.2005‬‬

‫وقد تمت تصفية كل رموز ذلك التيار باإلحالة للتأديب لعدم الصالحية‬

‫الرتكاب أفعال ال تليق بشخص القاضى‪ ،‬وانتهى األمر بسجن بعضهم في‬

‫قضايا جنائية !!‬

‫‪253‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫باراك أوبامـــــا‬
‫رئيس اإلنترنت ‪:‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــ‬

‫وصفت مارى جوردن مديرة مكتب صحيفة «واشنطن بوست» فى لندن‬


‫باراك أوباما بأنه «رئيس اإلنترنت» فقد ساهم اإلعالم اإللكترونى بفضاءاته‬
‫الفسيحة بقوة فى تحديد ُه ِويَّة الفائز فى االنتخابات الرئاسية للمرة األولى فى‬
‫تاريخ الواليات المتحدة؛ وبدت الشبكة اإللكترونية كما لو أنها هى صندوق‬
‫االقتراع الفعلى؛ فقد سجل التاريخ أن الفضل األول فى فوز أوباما للشباب‬
‫عموما؛ ولجيل اإلنترنت من الناخبين الجدد ‪.‬‬

‫فقد راهن أوباما شخصياً وكذلك القائمون على حملته االنتخابية الرئاسية؛‬
‫على هذا اإلعالم الجديد مبكراً جداً ليس فقط من بداية هذه الحملة؛ بل منذ عام‬
‫‪ 2004‬حين اعتمد على اإلنترنت فى انتخابات الكونجرس‪ ... ،‬وقد بدأ أوباما‬
‫حملته التمهيدية داخل الحزب الديمقراطى سعياً للفوز بترشيحه فى «فضاء‬
‫اإلنترنت» إذ استضاف عدداً من المانحين اإللكترونيين لتناول العشاء معه؛‬
‫وبث تفاصيل اللقاء معهم كاملة على موقعه الخاص على الشبكة العنكبوتية ‪.‬‬
‫‪ ..‬ومع تقدم الحملة االنتخابية استخدمت حملة أوباما بكثافة‪ ،‬وفاعلية المواقع‬

‫‪254‬‬
‫الثالث األكثر شهرة فى أوساط األجيال الجديدة‪ ،‬وهى (الفيسبوك‪ ،‬ويوتيوب‪،‬‬
‫وماى سبيس )‪ ،‬فكان لهذه المواقع أثر هائل فى الوصول إلى عدد ال يقل عن ‪75‬‬
‫مليون شخص معظمهم من الشباب‪ ،‬وإطالعهم على أخبار الحملة االنتخابية‪،‬‬
‫وتطوراتها وكليبات المؤتمرات واللقاءات التى تحدث فيها ‪.‬‬

‫ففى الواليات المتحدة ؛ يملك معظم الشباب (حوالى ‪ )% 70‬صفحة على‬


‫الفيسبوك‪ ،‬ويقضى كل منهم ما ال يقل عن عشرين دقيقة يومياً فى متابعة‬
‫أخبار أصدقائه‪ ،‬ونشاطاتهم‪ ،‬كما أن موقع يوتيوب أتاح عرض لقاءات أوباما‪،‬‬
‫وعرض مقاطع فيديو مما يعرض على قنوات التليفزيون المختلفة‪ ،‬والوصول‬
‫بها إلى الشباب الذى يقل إقباله على اإلعالم المرئى‪ ،‬والمكتوب ‪.‬‬

‫أصدقاء أوباما ‪:‬‬


‫ـــــــــــــــــــــــــ‬

‫‪ ..‬وتؤكد األرقام الواردة في الدراسة التى نشرت على موقع بيو (مشروع‬
‫اإلنترنت البيولوجية ‪ )Internet Project Biological‬أن أوباما لديه‬
‫‪ 1726453‬صديق على الفيس بوك‪ ،‬و‪ 510799‬على ماي سبيس مقارنة‬
‫بمنافسه ماكين الذي لديه ‪ 309691‬صديق فقط على الفيس بوك‪ ،‬و‪87652‬‬
‫فقط على ماي سبيس ‪.‬‬

‫‪255‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫إرهصات انتفاضة يناير ‪:‬‬


‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ومع التحدي الذي جلبته اإلنترنت بدأت إرهصات انتفاضة يناير؛ فبدأت‬
‫تولد في الفضاء االفتراضي لإلنترنت ما يسمي بـ «اإلحتجاجات الرقمية‬
‫ً‬
‫قبوال من المواطن المصري لخلوها من عنف‬ ‫‪ »E- Protests‬التي القت‬
‫اإلحتجاجات العادية‪ ،‬وكونها في مأمن من بطش‪ ،‬وإيذاء الشرطة‪ ،‬ونشأ ما‬
‫يُسمى بـ «مواقع التواصل االجتماعي ‪ »Social Media‬التي أوجدت ما‬
‫يُعرف بالـ «المجموعات ‪.»Groups‬‬

‫‪ ..‬أوجد الفضاء االفتراضى االلكتروني ‪ Cyberspace‬ما أطلق عليه‬


‫أندكت اندرسون «المجتمعات الخائلية ‪ »Virtual Communities‬من خالل‬
‫التنسيق‪ ،‬والتفاعل بين األفراد من ذي العواطف‪ ،‬والمعتقدات‪ ،‬واألفكار‪،‬‬
‫واالنتماءات المتقاربة الذين ال يرتبطون معاً بصالت وشائجية‪ ،‬وتنظيم صفوفهم‬
‫عبر الفضاء االفتراضي؛ ليبدأ تنظيم الصفوف على األرض‪.‬‬

‫‪ ..‬وبدأ عنف الشرطة يتزايد‪ ،‬واشتدت القبضة األمنية‪ ،‬وراحت تمارس‬


‫الترويع بدون مبرر من خالل الخطة «ردع» التي أعدها اللواء أحمد رشدي‬

‫‪256‬‬
‫وزير الداخلية األسبق بزعم إعادة اإلنضباط إلى الشارع المصري في‬
‫الثمانينيات من القرن الماضي‪ ،‬وأخرجها من األرشيف اللواء عدلي فايد مدير‬
‫األمن العام‪ ،‬وأقرها اللواء حبيب العادلي وزير الداخلية لبث الرعب في قلوب‬
‫المواطنين عبر تحويل أقسام الشرطة إلى «مسالخ بشرية» يتم تعليق الضحايا‬
‫مثل الذبائح في أقبيتها‪ ،‬وممارسة «التعذيب الممنهج» بالصعق بالكهرباء‪ ،‬وهتك‬
‫األعراض‪ ،‬وإهانة كرامة الرجال‪ ،‬وإنسانيتهم بإذاللهم‪ ،‬والعبث بمؤخراتهم‬
‫بالعصي واألصابع؛ فقد نشر نشطاء فيديو إدخال العصا في دبر عماد الكبير‬
‫على أيدي أفراد من جهاز الشرطة في أحد األقسام‪ ،‬وتصوير عملية التعذيب‬
‫بمعرفتهم‪ ،‬وتداوله بقصد التفاخر‪ ،‬وتلفيق القضايا‪ ،‬واحتجاز النساء رهائن لحين‬
‫تسليم المطلوبين ‪.‬‬

‫كان اللواء عدلي فايد مدير األمن العام ضابط متواضع الكفاءة‪ ،‬وكانت‬
‫كل مؤهالته أنه دفعة حبيب العادلي وزير الداخلية‪ ،‬وحسن عبد الرحمن رئيس‬
‫جهاز مباحث أمن الدولة في كلية الشرطة؛ فأتوا به من منطلق كونه من «أهل‬
‫الثقة»‪ ،‬وقد كلف ذلك االختيار مصر الكثير؛ فالرجل بأدائه الردئ أفسد العالقة‬
‫ً‬
‫اعتقاال‬ ‫بين أهالي سيناء‪ ،‬ووزارة الداخلية باعتقال قرابة ‪ 4‬آالف من أبناء سيناء‬
‫عشوائياً بتوسيع دائرة االشتباة عقب حوادث إرهابية‪ ،‬وأهان شيوخ القبائل‪،‬‬
‫وانتهك حرمة المرأة البدوية باحتجازها رهينة في أقسام الشرطة لحين تسليم‬
‫ذويهم‪ ،‬وهى إهانات ال يقبلها المجتمع السيناوي‪ ،‬ومازالت سيناء إلى يومنا‬

‫‪257‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫هذا تجني ثمار اإلرهاب الذي وضعت بذوره تصرفات غير مسئولة لضابط‬
‫ضعيف االمكانيات ‪.‬‬

‫‪ ..‬واستحدثت الشرطة االستعانة بقطعان البلطجية لتأديب بعض المعارضيين‬


‫السياسيين والنشطاء؛ فتمت إهانة المهندس ابراهيم شكري رئيس حزب العمل‬
‫في ‪ 2004‬أثناء حضورة مؤتمر شعبي في باب الشعرية لمناهضة التمديد‪،‬‬
‫والتوريث على يد إحدى النساء القوادات المسجالت خطر «دعارة» تدعى «أم‬
‫أحمد»؛ مما اضطر الرجل العتزال الحياة السياسية‪ ،‬ولزوم بيته حتى وافته‬
‫المنية ‪.‬‬

‫‪ ..‬وفى ‪ 25‬مايو ‪ 2005‬تم االعتداء على األستاذة نوال على الصحفية‬


‫بجريدة الجيل أمام نقابة الصحفيين أثناء دخولها إلى مبنى النقابة لحضور دورة‬
‫فى اللغة اإلنجليزية ‪.‬‬

‫القوة االفتراضية‬
‫في مواجهة النظام ‪:‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫‪ ..‬نشر المدون وائل عباس صور االعتداء على األستاذة نوال على من‬

‫‪258‬‬
‫خالل مدونته ‪ Blog‬بعنوان ‪«:‬الوعي المصري» التي دأب من خاللها على‬
‫فضح تجاوزات الشرطة‪ ،‬ومنها واقعة تعذيب عماد الكبير‪ ،‬وكانت اللطمة‬
‫القاسية لنظام حسني مبارك هو إعادة نشر مجلة ‪ The Economist‬على‬
‫غالفها صورة االعتداء على األستاذة نوال على‪ ،‬ونقلته عنها بعض الصحف‬
‫العالمية!!‬

‫وزاد من تشجيع المدونين المصريين ‪ Bloggers‬على فضح تشوهات نظام‬


‫حسني مبارك رعاية محرك البحث العمالق جوجل ‪ Google‬للتدوين‪ ،‬والتشجيع‬
‫عليه باستضافة المدونات مجاناً حتى بلغ عدد المدونات في مصر‪ 180‬ألف‬
‫مدونة قبيل ثورة يناير‪ 2011‬حملت الفتات تدل على القهر مثل مدونة «مواطن‬
‫مصري واخد على قفاه»‪ ،‬وبعضها يدل على التهميش مثل مدونة «مرفوع من‬
‫الخدمة»‪ ،‬وبعضها يدل على االنعزال‪ ،‬والشعور باالغتراب مثل مدونة «مدونة‬
‫تهتم بإثنان فقط ‪ :‬أنا ونفسي»‪ ،‬وبعضها يدل على المعاناة مثل مدونة «لقمة‬
‫عيش»‪ ،‬وبعضها يدل على اليأس مثل مدونة «خربانة يا جدعان»‪.‬‬

‫كانت المدونات أحد أشكال «اإلعالم البديل ‪»Alternative Media‬‬


‫للتعبير عن أوجاع المهمشين الذين لم تتح لهم فرصة للتعبير عن أنفسهم في‬
‫وسائل اإلعالم الرسمية ‪.‬‬

‫‪259‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫‪ ..‬وأصبحت المدونات أحد أشكال ممارسة «الديمقراطية الرقمية»‪ ،‬وساهم‬


‫في تنشيط المدونات‪ ،‬والصفحات على مواقع التواصل االجتماعي ظهور ما‬
‫يسمى بظاهرة «المواطن الصحفي» الذين سارعوا تسجيل وقائع األحداث‪،‬‬
‫وتصويرها بكاميرات هواتفهم المحمولة‪ ،‬ونقلها عبر صفحاتهم على االنترنت‪،‬‬
‫‪ ..‬واصبحت العديد من تلك الصفحات لها ميزة الـ «سبق الصحفي»‪ ،‬وأصبحت‬
‫وسائل اإلعالم الرسمية تنقل عنهم!!‪.‬‬

‫ولم يهتم نظام حسني مبارك بتلك اإلرهاصات‪ ،‬واعتبرها ممارسات‬


‫مشاغبة لـ «شوية عيال السعة» دون أن يتفهم أن االنترنت أسقط حواجز‬
‫الحدود‪ ،‬وقيود الرقابة‪ ،‬وأن عصر «الكتابات العابرة للحدود» قد بدأ‪ ،‬وأن‬
‫العالم بصدد فكر ال يقتصر على األوطان داخل الحدود التي حددتها الخرائط‪،‬‬
‫وال على الشعوب بأجناسها المختلفة‪ ،‬وقومياتها المتعددة بل ينتمي إلى اإلنسانية‪،‬‬
‫وأن الذين يمارسون ذلك النشاط يعدون مواطنون عالميون ‪.‬‬

‫كما أن االنترنت أعطى مستخدميه القدرة على التخفي بارتداء «طاقية‬


‫اإلخفاء اإللكترونية» التي تمكن المستخدم الواحد من التعامل بأكثر من اسم‬
‫خياال باألمس أصبح واقعاً ملموساً‬
‫ً‬ ‫مستعار‪ ،‬وأكثر من هوية مزيفة؛ فما كان‬
‫اليوم !!‬

‫‪260‬‬
‫‪ ..‬وفي ظل ميزة «التفاعلية النشطة ‪»Interactive Communication‬‬
‫التي تتيح تجميع األالف من البشر في دقائق حول مناقشة األفكار‪ ،‬وبلورتها‪،‬‬
‫وتنقيحها بحيث تبدو مثل كرة الثلج التي سرعان ما يزداد حجمها‪ ،‬ويتغير‬
‫مسارها في دقائق قليلة؛ وساعد على ذلك أيضاً ليونة‪ ،‬وسهولة تشكيل المعلومات‬
‫الرقمية‪ ،‬وصياغتها في قوالب مختلفة قابلة للحفظ في أوعية الكترونية‪ ،‬ويسهل‬
‫استعادتها‪ ،‬وتداولها؛ ففي عام ‪ 2008‬قرر عمال غزل المحلة اإلضراب في‬
‫السادس من أبريل‪ ،‬وقرر ناشطون على النت مساندة اإلضراب‪ ،‬وتبني اقتراح‬
‫األستاذ مجدي أحمد حسين ليشمل اإلضراب مصر كلها‪ ،‬وخالل ساعة انضم‬
‫أكثر من ‪ 70‬ألف مشترك إلى إحدى صفحات اإلضراب على «الفيس بوك»‪.‬‬

‫كان ما حدث يوم ‪ 6‬ابريل جرس إنذار للنظام؛ فقد أدرك األستاذ عبد هللا‬
‫كمال الصحفي بـ «روز اليوسف»‪ ،‬وعضو أمانة السياسات بالحزب الوطني‬
‫أن اإلنترنت أصبح العب جديد على الساحة‪ ،‬وأنه سيغير شكل الحياة السياسية‬
‫في مصر خالل سنوات‪ ،‬وأوصى بوجوب تحقيق أقصى استفادة منه‪ ،‬فاستحدث‬
‫الجهاز األمني فرعاً لإلنترنت‪ ،‬وكون الحزب الوطني لجان الكترونية تحوي‬
‫مئات الشباب الذين توظفوا مقابل أجور خيالية للقيلم بوضع التعليقات المؤيدة‬
‫للحكومة‪ ،‬وللحزب دون القيام بإصالحات حقيقية ‪.‬‬

‫كانت كل الشواهد تشير إلى أن دور الرئيس مبارك قد انتهى وأن من‬

‫‪261‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫األفضل إقناعه بالتخلي طواعية عن الحكم لكن عناد الرجل في التشبث بالسلطة‬
‫فاق كل الحدود‪ ،‬والتصورات؛‪ ..‬فقد احتوى خطاب أوباما في نصه األصلي‬
‫بجامعة القاهرة على العبارة‪« :‬آن للرئيس مبارك أن يعتزل ويستريح»‪ ،‬وبذل‬
‫د‪ .‬عبد المنعم سعيد جهود كبيرة مع مسئولي السفارة األمريكية بالقاهرة مستعينا‬
‫بصديقة السفير اإلسرائيلي ليتم حذف تلك العبارة‪ ،‬وتمت مكافأة د‪ .‬عبد المنعم‬
‫سعيد على ذلك بتعيينه رئيساً لجريدة األهرام ‪.‬‬

‫وبعد ذلك دعى عماد الدين أديب في مقال بعنوان ‪« :‬الخروج اآلمن‬
‫لمبارك»‪ ،‬دعى فيه الرئيس مبارك إلى التخلي طواعية عن السلطة شريطة‬
‫تأمينه هو‪ ،‬وأفراد أسرته من المالحقة القضائية‪ ،‬وبالطبع لم يكن أديب يستطيع‬
‫كتابة مثل هذا المقال بدون ضوء أخضر‪ ،‬ومظلة حماية من جهات خارجية ‪.‬‬

‫وبدأت أبواق مبارك تهاجم عماد الدين أديب وتسخر من كتاباته بعناوين‬
‫ً‬
‫مقاال في جريدة‬ ‫كان أهمها‪«:‬الخروج اآلمن ألديب!!» وكتب فهمي هويدي‬
‫الشروق يقطر مرارة بعنوان ‪ « :‬رضينا ‪ ..‬والهم ما رضي !!»‬

‫‪ ..‬وعندما جاء د‪ .‬محمد البرادعي إلى مصر استقبله في المطار مئات من‬
‫الشخصيات العامة‪ ،‬والنشطاء السياسين‪ ،‬وأطلق الشاب محمود الحته على موقع‬
‫الفيس بوك صفحة بعنوان ‪« :‬البرادعي رئيساً لمصر»‪ ،‬وبعد ساعات كان عدد‬

‫‪262‬‬
‫ً‬
‫وبدال من أن يتفهم نظام مبارك رغبة الناس‬ ‫أعضاء الصفحة ‪ 150‬ألف عضو‪،‬‬
‫في التغيير‪ ،‬وإحداث إصالحات جذرية تحسن من واقع المواطن المصري لجأ‬
‫إلى اإلساءة للبرادعي‪ ،‬وطالت اإلساءات بشكل فج أفراد من أسرته ‪.‬‬

‫كانت التقارير األمنية التي يرفعها اللواء حبيب العادلي‪ ،‬واللواء حسن عبد‬
‫الرحمن مدير مباحث أمن الدولة تشير إلى أنه تم «تدجين الشعب المصري»‪،‬‬
‫وأنه لن يستطيع أن يرفع رأسه‪ ،‬ولن يستطيع أن يكسر حاجز الخوف ‪.‬‬

‫‪ ..‬ثم كانت واقعة قتل الشاب السكندري خالد سعيد في ‪ 6‬يونية ‪2010‬‬
‫على أيدي شرطيين سريين من قوة قسم شرطة سيدي جابر‪ .. ،‬وتم التعتيم على‬
‫القضية في اإلعالم الرسمي‪ ،‬وعندما تناول بعض النشطاء الواقعة قام اإلعالم‬
‫الرسمي بتشوية الضحية بإطالق صفات سلبية على الشاب القتيل مثل «عاطل‬
‫اإلسكندرية»‪ ،‬و«شهيد البانجو»‪ ،‬و «الديلر» بمعنى تاجر المخدرات‪ ،‬والهارب‬
‫من أداء الخدمة العسكرية ‪.‬‬

‫وانبرى شباب النشطاء عبر صفحاتهم اإللكترونية يفندون أكاذيب اإلعالم‬


‫الرسمي بالوثائق‪ ،‬والمستندات التي كان أهمها «شهادة أداء الخدمة العسكرية»‪،‬‬
‫وتسجيل شهادات شهود الواقعة عبر وسائط «المالتي ميديا ‪،»Multi Media‬‬
‫ونشرها على المواقع‪ ،‬وكانت من بينها الصورة البشعة للشاب القتيل في‬

‫‪263‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫المشرحة‪ ،‬وبها أثار التعذيب الوحشي ‪ ..‬كانت الصورة البشعة صادمة لـ‬
‫«األغلبية الصامتة» من جموع الشعب المصري التي ارتأت أن «الصمت‬
‫الجبان» هو السبب في قتل ابنائها‪ ،‬وتعذيبهم‪ ،‬وإهانة كرماتهم على أيدي‬
‫الشرطة‪ ،‬وبقاء ابنائهم عاطلين‪ ،‬ومهمشين دون تعليم جيد‪ ،‬أو رعاية صحية‪،‬‬
‫وزاد من إحساس تلك الطبقة بالقهر تزوير االنتخابات البرلمانية في ‪،2010‬‬
‫واستخفاف الرئيس مبارك بهم بقوله ‪« :‬خليهم يتسلوا» !!‬

‫وعندما أنشأ المهندس وائل غنيم مدير التسويق لشركة جوجل بمنطقة‬
‫الشرق األوسط‪ ،‬وشمال أفريقيا صفحة على الفيس بوك بعنوان‪«:‬كلنا خالد‬
‫سعيد» يعاونه في إدارتها الشاب عبد الرحمن منصور الطالب بكلية اإلعالم ـ‬
‫جامعة المنصورة بلغ عدد المشاركين في الصفحة خالل دقيقتين ‪ 300‬مشارك‪،‬‬
‫في اليوم األول بلغ عدد المشاركين ‪ 36‬ألف مشترك ليصل بعد ذلك إلى أكثر من‬
‫نصف مليون خالل أيام‪ ،‬وليبلغ مساء يوم ‪ 25‬يناير ‪ 2011‬مليون مشترك‪.‬‬

‫‪ ..‬وأنشأ محمد ابراهيم الشاب المصري المقيم في إنجلترا صفحة باإلنجليزية‬


‫على الفيس بوك بعنوان‪« :‬كلنا خالد سعيد» لتعريف العالم بقضية مقتل خالد‬
‫سعيد كان لتلك الصفحة دوراً هاما في حشد الدعم للقضية من مختلف الجنسيات‬
‫حول العالم ‪,‬‬

‫‪264‬‬
‫وقد تمت الدعوة للتظاهر يوم ‪ 25‬يناير ‪ 2011‬عبر صفحة «كلنا خالد‬
‫سعيد»‪ ،‬واستجاب للدعوة ‪ 100‬ألف مواطن خالل ساعتين‪ ،‬وكسر الشعب‬
‫المصري حاجز الخوف‪ ،‬وتم تحديد وسائل انطالق التظاهرات سيرا على‬
‫األقدام‪ ،‬وتحديد أماكن تجمعاتها‪ ،‬وأساليب عملها من خالل ما تعلمه الشباب‬
‫المشارك عن «حرب الال عنف» من مؤلفات بريجنسكي‪ ،‬وجين شارب‪،‬‬
‫وجوزيف ناي‪ ،‬ومطبوعات أكاديمية التغيير في قطر ‪.‬‬

‫‪ ..‬كان الذي استرعى انتباهي هو استخدام هؤالء الشباب الصغار لـ‬


‫«اإلستماالت العاطفية» للشارع المصري من خالل الهتاف ‪« :‬يا أهالينا ضموا‬
‫علينا»؛ بما يعكس وعياً وفهماً لـ «سيكولوجية الجماهير» طبقا للمفاهيم التي‬
‫وضعها جوستاف لوبون لردم الفجوة بين علم نفس الفرد‪ ،‬وعلم نفس الجماهير؛‬
‫فدافع عنهم األباء‪ ،‬واحتضنهم األمهات‪ ،‬ومع حلول المساء جاء شباب األتراس‬
‫إلى ميدان التحرير؛ ليشعلوا شماريخهم مما اضفى أجواء احتفالية على الميدان‬
‫بألعابهم النارية‪ ،‬وأغانيهم المرحة‪ ،‬وأدخل إحساساً بالبهجة على المتظاهرين‪،‬‬
‫وكانت انطالقة ثورة شعب مصر الحقيقة ألول مرة في تاريخه ‪.‬‬

‫***‬

‫‪ ..‬وكانت انتفاضة ‪ 25‬يناير ‪ .. ،2011‬وكانت صورة الشاب السكندري‬

‫‪265‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬
‫القتيل خالد سعيد هى الصورة التي أطلقت شرارة الثورة ‪.‬‬

‫الرئيس مبارك لم يتخلى طواعية عن السلطة كما أشيع‪ ،‬وتم نقله للكافة عبر‬
‫كلمة قصيرة متلفزة ألقاها اللواء عمر سليمان؛ فقد كان الرئيس مبارك مصراً‬
‫على إبادة المتظاهرين‪ ،‬وإراقة الدماء‪ ،‬وقد ذهب إلى غرفة عمليات القوات‬
‫المسلحة‪ ،‬وقام بالتوقيع على الخطة «إرادة» التي أُعدت للتنفيذ عن طريق‬
‫القوات الجوية في حال حدوث شغب في البالد‪ ،‬وهو ما يعني قتل ‪ 3‬مليون‬
‫مصري متواجدين في ميدان التحرير‪.‬‬

‫‪ ..‬ورفضت القوات المسلحة تنفيذ الخطة تنفيذ إرادة في مواجهة الثوار‪،‬‬


‫وقررت حماية الثوار‪ ،‬واالحتماء بهم؛ بالقيام بانقالب ناعم بغطاء من إرادة‬
‫شعبية حسبما جاء في مذكرات الفريق سامي عنان التي نشرت بعض حلقاتها‬
‫في الصحف ثم اختفت في ظروف غامضة ‪.‬‬

‫اتفق المجلس العسكري علي عدم تنفيذ تعليمات مبارك ألن الخيار بين بقائه‬
‫في الحكم‪ ،‬وإبادة ‪ 3‬ماليين مصري كان أمراً مرعباً ‪ ..‬وبعد أن علم مبارك‬
‫بقرار الجيش اتصل بالمشير طنطاوي‪ ،‬وسبه‪ ،‬وقال له ‪:‬‬

‫ـ «انتوا بتخونوني»‪.‬‬

‫‪266‬‬
‫وتمادى مبارك في تسفله على القيادات العسكرية؛ فأصدر المشير طنطاوي‬
‫التعليمات بتحويل ابراج الدبابات تجاه القصر الجمهوري في رسالة معلنة‬
‫وواضحة لمبارك‪ ،‬والمتعاطفين معه‪ ،‬وكان يوما عصيبا علي أسرة مبارك‬
‫‪ ..‬بكى أفراد من الحرس‪ ،‬وتشاجر عالء مبارك مع شقيقه جمال‪ ،‬وحمله‬
‫المسئولية عما يحدث لوالده هو واصدقائه من «غلمان أمانة السياسات»‪.. ،‬‬
‫وبكت سوزان مبارك‪ .. ،‬وتوجهت مدافع الدبابات تجاه وزارة الداخلية‪ ،‬وحلقت‬
‫طائرات حربية فوقها لتحمل رسالة مماثلة إلى اللواء حبيب العادلي مفادها أن‪:‬‬
‫«كل شئ قد انتهى‪».‬؛ فقد كانت هناك مؤامرة يقودها جمال مبارك‪ ،‬وحبيب‬
‫العادلى لالنقالب على الرئيس مبارك أثناء الثورة تم إعدادها في ورقة من ‪8‬‬
‫بنود تمثل خط الدفاع األخير‪ ،‬وتحدد ساعة الـ ‪( blackout‬التعتيم)‪ ،‬وكيفية‬
‫التصرف حيال األوضاع‪ ،‬لكن العادلى استخدم هذه الورقة فى غير ظروفها‬
‫الحقيقية‪ .. ،‬كان تحليق الطيران الحربي فوق وزارة الداخلية رسالة صريحة‬
‫ألخطر مجرم في تاريخ مصر‪ ..‬تسلمها‪ ،‬وفهمها‪ ،‬وكان عليه أن يقبع في الشيخ‬
‫ريحان في انتظار األوامرإلجالئه بسالم ‪.‬‬

‫كان خلع مبارك أشبة بعملية خلع ضرس صعبة؛ فقد عبر المخلوع بما ينبئ‬
‫عن سوء نواياه تجاه الوطن‪ ،‬وناسه‪ ،‬وأفصح عن الدماء السوداء في قلبه في‬
‫جملة تطفح بالغل‪ ،‬والكراهية‪ ،‬والنذالة‪ ،‬والخسة‪ ،‬وفقدان الشرف؛ فقال ‪:‬‬
‫ـ هوا طنطاوي عاوز البلد يبقي يشيلها‪ ،‬وانا حخليها خرابة‪..‬‬

‫‪267‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬
‫***‬

‫شهد المجتمع المصري مؤخراً تطورات اجتماعية مثيرة لالنتباه؛ فالتغيرات‬


‫االقتصادية (رفع الدعم عن الجنيه‪ ،‬وعن المواد االستهالكية األساسية‪ ،‬وتعويم‬
‫الدوالر‪ ،‬وأصبح الدين العام ‪ 1, 172‬تريليون جنية‪ ،‬وصارت فوائده تمثل‬
‫‪ %100‬من الناتج القومي) ألقت بظالل ثقيلة على الحياة اليومية في البالد‪،‬‬
‫وجاءت وطأتها أشد قسوة على الشرائح األفقر؛ فمصر دخلت في دائرة مفرغة‬
‫من التضخم‪ ،‬ثم رفع سعر الفائدة‪ ،‬ثم تقليل سعر الفائدة لتقليل التضخم‪ ،‬والتشجيع‬
‫على االستثمارالذي ال يأتي !!‬

‫‪ ..‬وصار في مصر أسواق لفضالت الطعام من بقايا مخلفات محالت‬


‫الجزارة‪ ،‬والمطاعم‪ ،‬والفنادق‪ ،‬من العظم‪ ،‬وأرجل‪ ،‬وأجنحة الدجاج‪ ،‬وعظام‬
‫صدورها المخلية؛ ومنتجات األلبان المغشوشة‪ ،‬واألطعمة الغير صالحة‬
‫لالستخدام األدمي؛ حتى تتمكن بعض الشرائح من السكان من الوصول إلى‬
‫غذائها؛ فهناك ‪ % 45‬من بين ‪ 104‬مليون مواطن تحت خط الفقر‪.‬‬

‫‪268‬‬
‫الفصل الرابع ‪:‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــ‬

‫اإلنسان السائل‬

‫‪269‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫‪« ..‬ااإلنسان السائل»‬

‫هو ذلك اإلنسان الذي خضع لعوامل كثيرة من الرج‪ ،‬والصهر‪ ،‬والضغط‬
‫التي نتج عنها حالة من اإلسالة‪ ،‬واإلذابة‪ ،‬والميوعة شكلت مصطلح‬
‫«ااإلنسان السائل» الذي يُعد نتاج حالة اجتماعية‪ ،‬وسياق تاريخي تزامن‬
‫مع مرحلة «ما بعد الحداثة» بكل ما تحمله من «السيولة» التى أغرقت‬
‫جميع مناحي الحياة‪ ،‬فتداخلت الحدود‪ ،‬وتراخت السمات‪ ،‬واختلطت‬
‫المعايير‪ ،‬وازدادت ضبابية‪ ،‬وتشابهت حتى صار من الممكن أن نتحدث‬
‫عن سيولة أو ذوبان في حدود الدول أو معالم المجتمع أو سمات الهوية‬
‫الفردية أو خصائص الثقافات‪ ،‬وسيولة الجانب األخالقي‪ ،‬وسيولة‬
‫التعامالت‪ ،‬وسيولة البشر بتدفقهم من مكان إلى آخر‪ ،‬وسيولة المال بل‬
‫وإلغائه للحدود التقليدية‪ ،‬وسيولة الهويات بتغييرها المستمر‪ ،‬والسيولة‬
‫السلوكية من خالل النزعة االستهالكية‪ ،‬وما عنته من تمظهرات في‬
‫السلوك وفي المعتقدات‪ ،‬والتحوالت غير منطقية من «الحداثة الصلبة»‬
‫إلى «الحداثة السائلة» على حد تعبير عالم االجتماع اإلنجليزي الجنسية‬
‫البولندي األصل زيجمونت باومان في معالجته لنظرية «التقاطع المعرفي‬
‫‪ »Interdiscplinarity Theory‬في علم االجتماع من خالل ما أسماه‬
‫‪270‬‬
‫من خالل مجموعة مؤلفاته المعروفة بـ «سلسلة السيولة» ‪:‬‬

‫«الحداثة السائلة‪ ،‬الحب السائل‪ ،‬الخوف السائل‪ ،‬الشر السائل ‪ ..‬العيش‬


‫مع الال بديل‪ ،‬األخالق في زمن الحداثة السائلة‪ ،‬الحب السائل ‪ ..‬هشاشة‬
‫الروابط اإلنسانية‪ ،‬الحياة السائلة‪ ،‬الثقافة السائلة‪ ،‬المراقبة السائلة‪.».‬‬

‫‪ ..‬بدأ باومان أطروحته بأن ‪:‬‬

‫المجتمع الحالي ال يُفهم من وجهة واحدة ضيقة بل البد من اتحاد فيما بين‬
‫التخصصات المختلفة؛ لذا كانت معالجته لنظرية «التقاطع المعرفي» و«مفهوم‬
‫السيولة» الذي قام على فكرة الفعل االجتماعي الموجه ثقافياً بفعل مؤسسات‬
‫الفكر والعلم‪ ،‬ومؤسسات البيروقراطية لخدمة آليات السوق‪ ،‬ومؤسسات‬
‫اإلقراض الربوي!!؛ إذ ليس بوسع المستهلك دخول عالم الحياة االستهالكية إال‬
‫عندما يتحولون إلى سلع‪ ،‬ويستطيعون إبراز قيمتهم االستعمالية؛ فالتفرقة بين‬
‫المستهكين‪ ،‬وموضوعات االستهالك في الحياة السائلة هي تفرقة لحظية عابرة‬
‫غالبا‪ ،‬ومشروطة بالظروف دائماً‪.‬‬

‫‪ ..‬مصطلح «السيولة» تم استعارته من حالة فيزيائية للمادة‪ ،‬وجعله‬


‫ميزة للمجتمع الحالي‪ ،‬وهذا دليل على أن باومان يفهم في تلك الميادين أو على‬

‫‪271‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫األقل طرق باب التخصصات األخرى‪ ،‬ولم يبق حبيس المفاهيم التي يوفرها‬
‫علم االجتماع فقط بل على العكس من ذلك تمكن من صقل مفاهيم جديدة تخدم‬
‫علم االجتماع ‪ ..‬أخذ باومان تلك الحالة الفيزيائية لما تكون عليه المادة من‬
‫صالبة‪ ،‬وانتقالها إلى حالة أخرى تكون لزجة مائعة سائلة؛ فهو أخذ هذا الشكل‪،‬‬
‫وهذه الصورة كي يعبر بشكل بالغ‪ ،‬وكبير عن الكيفية التي تحول بها المجتمع‬
‫من حالة الصالبة (الحداثة) إلى حالة الميوعة (ما بعد الحداثة)‪ ،‬وعلى هذا يعتبر‬
‫مصطلح ‪«:‬السيولة» نقطة تالقي لما أخذه باومان من العلوم األخرى‪ ،‬ووظفه‬
‫ليوصل للقارئ أن حالة المجتمع الحالى في ترديه كحالة المادة المائعة السائلة‬
‫التى ال تعرف ثباتاً ‪.‬‬

‫‪ ..‬يجعل باومان من السيولة بهذا المفهوم تلك المرونة التي تنهزم في‬
‫وجه الصالبة في كل الميادين فيقول ‪« :‬السيولة هي الصالبة الوحيدة‪ ،‬والال‬
‫يقين هو اليقين الوحيد»؛ فهو يعتبر السيولة نموذجاً لنمط حياتنا المعاصرة‬
‫‪ ..‬إنها تقنية الصهر‪ ،‬والتمييع‪ ،‬واإلذابة‪ ،‬وفي ظل السيولة كل شيء ممكن أن‬
‫يحدث لكن ال شيء يمكن أن تفعله في ثقة‪ ،‬واطمئنان‪ ،‬ومفهوم السيولة ال يظهر‬
‫في سيولة الحركة‪ ،‬والتنقل نتيجة التطورات المتسارعة في وسائل االتصال‪،‬‬
‫واالنتقال بل هي تصل حد سيولة المشاعر‪ ،‬والعالقات‪ ،‬والمعاني ألن المعنى قد‬
‫غاب تحت نير التنقالت‪ ،‬والبحث‪ ،‬واللهاث وراء كل جديد ‪.‬‬
‫في مجتمع السيولة الذي يصوره باومان تبدو حالة السيولة واضحة في‬

‫‪272‬‬
‫العالقات االجتماعية‪ ،‬وداخل التركيبة االجتماعية؛ فهو مجتمع تتغير فيه‬
‫الظروف التي يعيشها أعضاؤه بسرعة ال تسمح باستقرار األفعال في عادات‪،‬‬
‫وأعمال منتظمة‪ ،‬وهكذا تتغذى سيولة الحياة‪ ،‬وتستمد طاقتها‪ ،‬وحيويتها منها ‪.‬‬

‫«نظرية السوائل»‪:‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫كان البعض يرى زيجمونت باومان صاحب نظرية اسموها «نظرية‬


‫السوائل» تمثلت في العديد من مؤلفاته التي حملت نفس اإلسم‪ ،‬والمعروفة بـ‬
‫«سلسلة السيولة المدونة في كتب الفقة االستراتيجي»‪ ،‬لكن باومان نفسه يرى‬
‫أن تلك األطروحات لم تبلغ حد النظرية !!‬

‫كان باومان ضالعاً في العديد من المرجعيات العلمية بحيث أن حضوره‬


‫لم يقتصر فقط على علم االجتماع بل كان من المناهضيين لسياسة االنفراد‬
‫بالتخصص‪ ،‬والتوغل فيه دون االطالع على ما لهذا التخصص من تقاطعات‬
‫ضرورية مع التخصصات األخرى‪ ،‬وكان يرى أن علم االجتماع لن ينمو‪،‬‬
‫ويتطور‪ ،‬ويزدهر إال إذا نزل من السجن االنفرادي (التخصص) ـ على حد‬
‫نعبير باومان ـ إلى الساحة المشتركة للعلوم حيث يجد نفسه متقاطعاً مع باقي‬
‫التخصصات ‪.‬‬

‫‪273‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬
‫باومان يعتبر شخصية رئيسية في علم االجتماع األوروبي‪ ،‬ويهيمن على‬
‫عمله القلق الناجم عن تعاقب األزمات السياسية‪ ،‬واالقتصادية‪ ،‬واألخالقية‬
‫التي تؤثر على مجتمعاتنا المعاصرة من التكلفة البشرية للعولمة على‬
‫األخالق‪ ،‬وتحييد اآلثار األخالقية لألفعال البشرية‪ ،‬وتوابع عالم المستهلك‪،‬‬
‫ويحمل عمله تشخيصاً لألوجاع الحاصلة دون السماح لنفسه بالوقوع في أطر‬
‫«النظـــرية»‪ ،‬وذلك من خالل تنويع التفسير‪ ،‬واالنخراط في حوار مستمر مع‬
‫العلماء‪ ،‬والمفكرين؛ بما حدا به ليؤكد في أكثر من موضع ‪:‬‬

‫«أن الواقع أكبر من أي تصور‪ ،‬وأعمق من أي نظرية ‪.».‬‬

‫باومان وابن خلدون ‪..‬‬


‫قــــــــرابة العلمـــــاء ‪:‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫يرى البعض أن ثمة قرابة بين باومان وابن خلدون‪ .. ،‬وقرابة العلماء ليست‬
‫صالت دم أو أواصر نسب أو جيرة مكان لكنها مقاربة فكر‪ ،‬وإن تباعدت‬
‫األزمان‪ ،‬وهو ما يربط بصلة مقاربة فكرية بين ابن خلدون‪ ،‬وزيجمونت‬
‫باومان الذي يرى أن المجتمع الحالي أصبح سائال في قيمه‪ ،‬وعادته‪ ،‬وتقاليده‪،‬‬

‫‪274‬‬
‫وثقافته‪ ،‬وتربيته‪ ،‬ودينه‪ ،‬وتاريخه‪ ،‬وهذا مضمون نظرية «السوائل» لباومان‬
‫في علم االجتماع التي مكنته‪ ،‬وأجبرته أن يكون متقاطعاً معرفياً أى يستعين‬
‫بالتخصصات األخرى؛ فقد أخذ من كل ميدان شيئاً‪ ،‬وركبه مع ميدان آخر‬
‫ليوصل لنا رسالة أن المجتمع الحالي مجتمع خطير سائل قريب من االنهيار؛‬
‫فبعد اطالعه على االقتصاد وجد ان الناس يجتهدون في االستهالك أكثر من‬
‫اإلنتاج‪ ،‬وهذا ما يسميه بـ «النزعة اإلستهالكية»‪ ،‬وهو ما يطلق عليه ابن‬
‫خلدون ‪«:‬عوارض الترف والغرق في النعيم» المؤذن بخراب العمران ‪.‬‬

‫‪ ..‬وبعد اطالع باومان على التاريخ وجد أن الناس يعتقدون أموراً لكنها‬
‫في الحقيقة كذب وبهتان‪ ،‬تصدى باومان لخدعة القرن العشرين «الهولوكست»‬
‫‪ ..‬عاد باومان لألحداث التاريخية‪ ،‬ودراسها دراسة تفصيلية؛ فلم يكترث بصحة‬
‫األرقام‪ ،‬والضحايا‪ ،‬ولم يهتم بإحصاء عدد المعسكرات‪ ،‬ولم يجمع الخرائط التى‬
‫تحدد مواقع اإلبادة بل أجتهد في دحض األسطورة السائدة في الفكر المعاصر‪،‬‬
‫والتي تروج لها إسرائيل من منطلق أنها حادثة أقر بها هتلر ضد اليهود ‪.‬‬

‫‪ ..‬ليصل بنا باومان إلى أنه ال يمكن في أغلب األحداث التاريخية فهم‬
‫الحدث في علته األولي المُعلن عنها؛ فغالباً ما تختفي األسباب الحقيقية خلف‬
‫الشعارات البراقة‪ ،‬والمبررات‪ ،‬والحجج الزائفة التي يصعب رفضها‪ ،‬وتلقى‬
‫قبوال شعبيا !!؛ إذ غالباً ما تقف أسباب‪ ،‬وذرائع‪ ،‬ومصالح غير معلنة وراء‬
‫ً‬

‫‪275‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫الحدث‪ ،‬وغالباً ما يلجأ المستفيدون إلى اخفائها‪ ،‬والتعتيم عليها‪ ،‬والتعمية عنها؛‬
‫ولذا يجب إخضاع الحدث لضوابط الفحص التاريخي‪ ،‬وحدوده الصارمة‪،‬‬
‫وأهمها‪«:‬السببية التاريخية»‪ ،‬وهو ما أسماه بـ «معاناة إنتاج المعنى»‪ ،‬ويكشف‬
‫أن «الهولوكست» من نتاج الحداثة الغربية ليس إال‪ ،‬والدليل على ذلك أن هناك‬
‫يهود شاركوا في المحرقة‪ ،‬وبالتالي فـ «الهولوكست» قضية سيادة «الحداثة»‬
‫آنذاك‪ ،‬ولم تكن ضحاياه من اليهود وحدهم ‪ ..‬كان ضحايا الهولوكست ‪ 20‬مليون‬
‫شخص منهم ‪ 6‬ماليين يهودي فقط ‪ ،‬وكان ضحايا الهولوكست من األفراد‬
‫الذين يعدهم الفكر الغربي إضافات كمية إلى عبث الوجود بجهلهم‪ ،‬وقذراتهم‪،‬‬
‫وممارستهم الوحشية كجماعات وظيفية تساند طبقة اإلقطاعيين المتحالفة مع‬
‫الكنيسة‪ ،‬وتقف عائقاً ضد االنطالقة الجامحة لرأس المال؛ ليخلق مجتمع مناسباً‬
‫ألغراضه‪ ،‬واالنتقال إلى طور العولمة !! ‪.‬‬

‫ويحاول اليهود اليوم في الجدل الدائر حول تبرير العالم لإلبادة الجماعية‪،‬‬
‫وظهور سلسلة جديدة من االدعاءات بأن جماعة ما ليست إال ضحايا من أجل‬
‫االنتقام من ظلم الماضي‪ ،‬والدفاع عن ضجايا الماضي حتى ال تتكرر معاناتهم‪،‬‬
‫وهو ما ينتقده عالم االجتماع الفرنسي لوك بولتانسكي ‪Luk Boltanski‬‬
‫في كتابه بعنوان ‪« :‬معاناة بعيدة ‪ :‬األخالق واإلعالم والسياسة ‪Distant‬‬
‫‪ »Suffering : Morality, Media and Politics‬في إطار أطروحة‬
‫حول نواة مفاهيمية تتطلع إلى بناء نظرية فعل تستند إلى نظرية إميل دوركهايم‬

‫‪276‬‬
‫لـ «الحقيقة األخالقية» بقوله ‪:‬‬

‫إن دروس التاريخ في غالب األمر هي أسلحة من يمتلكون القوة‪ ،‬ومن‬


‫بستغلون ضحايا الماضي حتى يستحوذوا على المستقبل بينما يتجاهلون معاناة‬
‫الحاضر‪ ،‬وهناك وجة آخر يدعيه من أصبحوا «ضحايا بالتفويض» التي‬
‫يعرفهم بأنهم فئه فريدة من الطبقة االرستقراطية الالعبة لدور الضحية ممن‬
‫لديهم استحقاق وراثي للتعاطف‪ ،‬والغفران األخالقي الذي يدين به المجتمع‬
‫ألصحاب المعاناة‪.‬‬

‫يفحص لوك بولتانسكي الطرق التي حاول بها المتفرجون رؤية الكارثة‬
‫منذ نهاية القرن الثامن عشر‪ ،‬واالستجابة بشكل مقبول لما رأوه من الوحشية‬
‫في التعامل مع كل ما هو آخر‪ ،‬ويناقش أساليب اإلنتاج االجتماعي لال مباالة‪،‬‬
‫ويتساءل عما إذا كان ال يزال هناك مكان للشفقة في السياسة الحديثة‪.‬‬

‫الحقيقة الثانية التي أكدها باومان أن ‪ :‬ليس كل تاريخ يبقى ثابتاً مثل ما‬
‫تعودنا عليه‪ ،‬وأن هناك مغالطات وضعت ألغراض محددة يعلمها صاحبها‪،‬‬
‫وعليه فإن الجانب التاريخي عنده يُظهر أنه رجع إلى التاريخ‪ ،‬وأخذ منه غير أنه‬
‫لم يتناوله باعتباره حدثاُ تاريخيا يتم سرده بل مزج معه جانباً نقدياً؛ مما أضفى‬
‫على حادثة «الهولوكست» ـ على سبيل المثال ـ أبعاداً متنوعة لم تقتصر فقط‬

‫‪277‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬
‫على بعد واحد ‪.‬‬

‫نقد باومان للتاريخ يشعرنا أننا أمام ابن خلدون آخر حيث دعا ابن خلدون‬
‫في مقدمته إلى النظر‪ ،‬والتفكير في نقل األخبار‪ ،‬والروية‪ ،‬وعدم الثقة بالناقلين‪،‬‬
‫والتعديل‪ ،‬والتجريح‪ ،‬واآلطالع على األحوال‪ ،‬والوقائع في العمران ‪.‬‬

‫وهو ما يصفه ابن خلدون بقوله ‪:‬‬

‫«وكثيرا ما وقع للمؤرخين‪ ،‬والمفسرين‪ ،‬وأئمة النقل من المغالط في‬


‫الحكايات‪ ،‬والوقائع العتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً‪ ،‬ولم‬
‫يعرضوها على أصولها‪ ،‬وال قاسوها بأشباهها‪ ،‬وال سبروها بمعيار الحكمة‪،‬‬
‫والوقوف على طبائع الكائنات‪ ،‬وتحكيم النظر‪ ،‬والبصيرة في األخبار؛ فضلوا‬
‫عن الحق‪ ،‬وتاهوا في بيداء الوهم والغلط‪ ،‬وال سيما في إحصاء األعداد من‬
‫األموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات إذ هي مظنة الكذب‪ ،‬ومطية الهذر‪،‬‬
‫وال بد من ردها إلى األصول‪ ،‬وعرضها على القواعد ‪.»..‬‬

‫كان تزييف التاريخ‪ ،‬والترف نقطتي االلتقاء بين باومان وبين عالم االجتماع‬
‫العربي ابن خلدون حول «خراب العمران» و«إنهيار المجتمعات» حسب‬
‫ظروف المجتمعات‪ ،‬واختالف التسميات‪.‬‬

‫‪278‬‬
‫***‬

‫‪« ..‬ااإلنسان السائل» نتاج توصيف مجازي لحالة الفردية التي حولت‬
‫جسد المواطن الذي يرمز لألمة إلى جسد المستهلك الذي يلهث وراء السلع‬
‫ً‬
‫وبدال من توحد القلوب‬ ‫في سوق ال يحقق له الرضا الكامل‪ ،‬وال األمن أبداً‪،‬‬
‫على هوية جماعية تتفرق القلوب على تنافس حول السلع‪ ،‬و «االستعراض»‪،‬‬
‫كما سماه جي ديبور في كتابه ‪«:‬مجتمع الفرجة» ـ لمقاومة الشعور الداخلي‬
‫بالهشاشة‪ ،‬والخوف بعد توغل الخصخصة‪ ،‬وانسحاب الدولة من أدوارها‬
‫االجتماعية‪ ،‬واالقتصادية‪ ،‬والثقافية‪ ،‬وافساح الطريق أمام عولمة االقتصاد‪،‬‬
‫وعولمة الجريمة‪ ،‬وعولمة االرهاب‪ ،‬وتحولها إلى «الدولة السجانة» و«الدولة‬
‫األمنية» التي تستثمر رأس مال الخوف حتى تضمن شرعية وجودها بعدما‬
‫تخلت عن كل األدور التي كانت تكتسب منها شرعيتها‪.‬‬

‫‪ ..‬لم تقتصر الدولة على خصخصة السلع‪ ،‬والخدمات بل تعتدها إلى‬


‫«خصخصة الخوف» عبر تجريد األفراد عبر أدوات «الحداثة السائلة» من‬
‫كل شبكات التضامن‪ ،‬ومهارات مواجهة المخاوف والمخاطر؛ ليصبح األمان‬
‫ً‬
‫وبدال من رعاية الدولة ظهر السوق ليقدم خدمات األمن‪ ،‬واألبواب‬ ‫مهمة الفرد‪،‬‬
‫والسيارات المصفحة‪ ،‬وااألسوار العالية‪ ،‬ومن ال يملك تكلفة ذلك كله عليه أن‬
‫يتعلم كيف يدافع عن نفسه بطرائق أقل تعقيدا! وربما أكثر وحشية ‪.‬‬

‫‪279‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫عن حالة‬ ‫السائل»*(‪)1‬‬ ‫أفرد باومان كتاباً عن الخوف بعنوان ‪«:‬الخوف‬


‫الخوف التي يواجهها اإلنسان نتيجة لخوف حقيقي من فقدان كل شيء‪ ،‬ومواجهة‬
‫المجهول باستراتيجيات نفسية أهمها ‪:‬‬

‫االستغراق في اللحظة الراهنة‪ ،‬والسلوك االستهالكي‪ ،‬والتمحور حول‬


‫اللذة اللحظية من خالل اللجوء إلى االقتراض الذي توفره النظم الرأسمالية‬
‫الربوية للتعايش مع المجتمع االستهالكي‪ ،‬وطبيعته الحياة السائلة فيه من خالل‬
‫القروض الالزمة لذلك بأجل وفائدة!!‪ ،‬وبمواكبة من اإلعالم الذي يعد بالمستقبل‬
‫هنا واألن‪ ..،‬يرى علماء االجتماع أن االقتراض تعبير عن حالة خوف من عدم‬
‫التحقق‪ ،‬والرغبة في االقتناص قبل األوان‪ ،‬واستباقها !! ‪« ..‬الحياة السائلة»‬
‫حياة محفوفة بالمخاطر التي يحياها المرء في حالة من الال يقين الدائم‪ ،‬وأشد‬
‫هاجس يساور المرء في تلك الحياة هو الخوف أن تأخذه على حين غرة‪ ،‬ومن‬
‫الفشل في اللحاق بالمستجدات المتسارعة‪ ،‬ومن التخلف عن ركب السائرين‪،‬‬
‫ومن إغفال تواريخ «نهاية الصالحية»‪ ،‬ومن االحتفاظ بأغراض مهجورة‪،‬‬
‫ومن فقدان اللحظة التي تدعو إلى تحول في اتجاة السير قبل عبور نقطة الال‬
‫عودة؛ فالحياة السائلة سلسلة من البدايات الجديدة‪ ،‬ولذا فإن النهايات السريعة‬
‫المؤلمة التي لوالها لكانت البدايات الجديدة خارج طوق الفكر هي أصعب‬
‫لحظات «الحياة السائلة» وأوجعها‪ ،‬وهكذا فإن تعلم أسبقية التخلص من األشياء‬
‫ـــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )1‬زيجمونت باومان‪ ،‬الخوف السائل‪ ،‬ترجمة حجاج أبو جبر‪ ،‬تقديم ‪ :‬د‪ .‬هبة رءوف عزت‪ ،‬الشبكة‬
‫العربية لألبحاث والنشر‪ ،‬ط ‪ ١‬ـ بيروت ‪2017‬‬

‫‪280‬‬
‫صار أحد فنون «الحياة السائلة»‪ ،‬وإحدى المهارات الالزمة لممارستها ‪.‬‬

‫يرى باومان إن النفايات هي المنتج الرئيس‪ ،‬بل المنتج األكثر انتشاراً في‬
‫المجتمع االستهالكي الحديث السائل؛ فإنتاج النفايات هو أضخم الصناعات في‬
‫المجتمع االستهالكي‪ ،‬وأكثرها حصانة من األزمات‪ ،‬وذلك يجعل التخلص من‬
‫النفايات أحد أبرز التحديات التي البد للحياة السائلة من مواجهتها‪ ،‬والتعامل‬
‫معها؛ ففي عالم يحفل بالمستهلكين‪ ،‬وموضوعات االستهالك تتأرجح الحياة‬
‫بشدة بين حدين ‪ :‬ملذات االستهالك‪ ،‬ووأهوال القمامة‪ ،‬وربما تكون الحياة في‬
‫األزمنة كافة‪ ،‬حياة نحو الموت‪ ،‬ولكن في المجتمع الحديث السائل ربما تمثل‬
‫الحياة نحو مقلب القمامة والنفايات أفقا ً‪ ،‬واهتماماً لألحياء أقرب من غيره‪،‬‬
‫‪)2(*.‬‬ ‫وأكثر استهالكاً للطاقة والجهد‬

‫‪ ..‬وفي فضاء العري «السيبراني» وتدفقاته الال محدودة لم يعد‬


‫«ااإلنسان السائل» يخجل مما أصابه من «العمى األخالقي» و«حالة التأخر‬
‫األخالقي»!!‬

‫ً‬
‫أشكاال للسيطرة؛‬ ‫حيث ان التكنولوجيا‪ ،‬والشبكات االجتماعيه صارت‬
‫فصار باإلمكان رؤية الجميع‪ ،‬وهم يكشفون عن أنفسهم‪ ،‬ويسجلون بياناتهم‪،‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )2‬زيجمونت باومان‪ ،‬الحياة السائلة‪ ،‬ترجمة حجاج أبو جبر‪ ،‬تقديم ‪ :‬د‪ .‬هبة رءوف عزت‪ ،‬سلسلة الفقة‬
‫االسنراتيجي‪ ،‬العدد ‪، ٤‬ط ‪ ،١‬الشبكة العربية لألبحاث والنشر ـ بيروت ‪ 2016‬ـ ص ‪22‬‬

‫‪281‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫ويشاركون في السيطرة‪ ،‬واالنفصال‪ ،‬وينصب الجهد على طرق اإلبقاء على‬


‫كل فرد في حالة ال توجد فيها إمكانية إخفاء أي شيء عن اآلخرين‪ .. ،‬وهكذا‬
‫تحتضر الخصوصية أمام أعيننا بل لم يعد لها وجود؛ فلم يعد رسائل ال يقرؤها‬
‫أو يراقبها غرباء ‪.‬‬

‫‪ ..‬واختفى ما كنا نطلق عليه حقاً وصدقاً كلمة «سر» لقد صار السر‬
‫إما بضاعة معروضة للبيع‪ ،‬أوسلعة تجارية‪ ،‬أوكلمة مرور إلى نجاح عابر‪ ،‬أو‬
‫نقطة ضعف تعبر عن نقيصة تعذر على المرء أن يخفيها‪ ،‬ومن ثم التعرض‬
‫لإلبتزاز‪ ،‬والتهديد بالفضيحة‪ ،‬وسلب البقية المتبقية من الكرامة واالستقالل‪،‬‬
‫‪ ..‬ولم يعد للناس أسرار بالمعنى القديم‪ ،‬ولم يعد الناس يفهمون معنى كلمة‬
‫«سر»‪.‬‬

‫‪ ..‬الناس ينفثون عن أزماتهم في محاولة للتغلب على مشاعر العزلة‪ ،‬وعدم‬


‫األمان حيث يجسد الفيسبوك جوهر ظاهرة‪:‬‬

‫« افعل األمر بنفسك ‪ ..‬تجرد من مالبسك‪ ،‬وأرنا أسرارك‪ ،‬وافعل ذلك بنفسك‬
‫وبإرادتك الحرة‪ ،‬واسعد بما تفعل‪.».‬‬

‫‪ ..‬وصدرت العديد من الكتب التي تشجع على عري الجسد‪ ،‬والنفس مثل‪:‬‬

‫‪282‬‬
‫«نهاية الخصوصية‪ ،‬واستراق النظر‪ ،‬والجمهور العاري‪ ،‬وال مالذ‪،‬‬
‫والخصوصية في خطر‪ ،‬والطريق إلى األخ األكبر‪ ،‬وأمة واحدة تحت المراقبة‪،‬‬
‫وأنا أعرف من تكون وأرى ما تفعل‪.».‬‬

‫‪ ..‬وأصبح البشر تحت سطوة الشر السائل المسمى «غسل الدماغ» الذي تلجأ‬
‫إليه القوة الناعمة ً‬
‫بدال من القوة الخشنة بالمعنى الذي حدده جوزيف ناى‪ ،‬والذي‬
‫حققت فيه التكنولوجيا قفزة فارقة جديدة للغاية ‪ ..‬إننا واقعون بإحكام في شبكة‬
‫عنكبوتية من المراقبة اإللكترونية‪ ،‬ويجري إغوائنا بأن نلعب دور العناكب‬
‫التي تنسج خيوط تلك الشبكة أو نكون خدمها الطيعين المتحمسين في الغالب‬
‫األعم‪ ،‬شئنا أم أبينا‪ ،‬وفي كل الحاالت‪ ،‬من دون استئذاننا‪ ،‬ويمثل غسل الدماغ‬
‫المعاصر تلك النقمة التي ترتدي عباءة النعمة؛ فالوظيفة الظاهرة للوغاريتمات‬
‫السالح األساسي لغسيل الدماغ في الوقت الراهن هو السماح لنا باإلبحار عبر‬
‫‪ ٢,٥‬كوينتليون بايت (كوينتليون = مليون تريليون =‪000, 000, 000, 000‬‬
‫‪( 1, 000, 000,‬واحد عن يمينه ثمانية عشر صفرا) من البيانات التي تولّد كل‬
‫يوم معلومات تفوق مليون مرة ما يستطيع أن يخزنه العقل البشري‪ ،‬واستنتاج‬
‫نتائج قابلة للتنفيذ‪ .،‬هذه النعمة الظاهرة التي توحي بها تلك الوظائف هي األمل‬
‫بأن أجهزة الكمبيوتر‪ ،‬وما بها من لوغريتمات ستحملنا في أمان عبر محيطات‬
‫ً‬
‫فضال عن الغوص بأنفسنا‬ ‫البيانات التي سنغرق فيها إذا حاولنا أن نسبح بأنفسنا‪،‬‬
‫‪ ..‬واقع األمر أن بحثاً واحداً على موقع جوجل يذهلنا باالمتداد الشاسع المزعج‬

‫‪283‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬
‫المروع العويص لتلك المياه‪ ،‬وأما النقمة الخفية فهي أن الذين يسمح لهم «منا»‬
‫باإلبحار عبر محيط البيانات هم السلطات المهيمنة‪ ،‬السلطات التي تراقبنا‪،‬‬
‫والنتائج القابلة للتطبيق التي يستنتجها هؤالء البحارة تمكنهم من تحديد كل واحد‬
‫منا على حده حتى تستهدفنا ألغراض محددة مثل إرغامنا أو إغوائنا بإنفاق‬
‫أموالنا‪ ،‬أو حشدنا لقضايا ليست من اختيارنا‪ ،‬أو استهدافنا لجولة من الطائرات‬
‫بدون طيار‪.‬‬

‫‪ ..‬حالة من «الوباء االجتماعي»‪ ،‬و «العمى األخالقي»‪« .. ،‬الميوعة»‬


‫و«السيولة» تزداد كل دقيقة بأبلغ األوصاف؛ وهوحال ينبئ بخطورة بالغة ألن‬
‫المجتمعات تسير في درب فنائها بهذه الكيفية دون أن تعي ‪.‬‬

‫‪« ..‬الميوعة»‪ ،‬و«السيولة»‪ ،‬و«الوباء االجتماعي»‪ ،‬و«العمى األخالقي»‬


‫شكلت مجتمعاً للفرجة أداته االستهالك السفيهه‪ ،‬وأهم عناصره اجترار‬
‫«الوجاهة الكاذبة»‪ ،‬و«الطبقية العبيطة»‪ ،‬وفقد االرتباط بأهم شيء‪ ،‬وهو‬
‫اإليمان بأنه يمكنه تغير شيء في العالم‪ ،‬ومسرحه «الفضاء السيبراني» حيث‬
‫يتم تفتيت الشر‪ ،‬واستبطانه في تفاصيل صغيرة حيث تذوب بشاعته في الوسائط‬
‫المتداخلة‪ ،‬وإبداعات «حراس البوابات» الذين أصبحوا مجرد تروس صغيرة‬
‫في ألة الشر الدائرة‪ ،‬وال يعنيهم إال ما يكسبونه من أموال‪.‬‬

‫‪284‬‬
‫‪ ..‬و«الجاني» شبح يتخفي تحت «طاقية اإلخفاء» االلكترونية‪ ،‬ويتسلل وراء‬
‫ماليين األسماء‪ ،‬وماليين الهويات‪ ،‬ومئات األلسن‪ ،‬والمعتقدات‪ ،‬والماليين من‬
‫عناوين البريد االلكتروني‪ .. ،‬والضحايا «منتحرون» مثل «خرفان بانورج‬
‫‪ »moutons de Panurge‬في األدبيات الفرنسية‪ ،‬ويعني انسياق القطيع‬
‫الضال بال فهم أو وعي أو إرادة وراء آراء أو أفعال اآلخرين‪.‬‬

‫‪ ..‬كل شيء صار افتراضياً حتى العالقات الحميمة صارت بدون تالمس عبر‬
‫المشاهدة من خالل مضاجعة الخيال‪ ،‬وعشق الصور عبر التيك توك ‪Tik Tok‬‬
‫ووتش ‪ Watch‬المدفوعة الثمن بالكوينات (العمالت الرقمية) أو المواعدة‪،‬‬
‫والمواقعة على األرض بقوانين العالم االفتراضي بما ال يحقق رغبة اإلشباع‬
‫بقدر ما يحقق األمنية حيث ال تتوافق االهتمامات التقنية مع العواطف اإلنسانية؛‬
‫فالتركيز على األداء الجيد ال يترك وقتا ً‪ ،‬وال متسعاً لإلحساس بالنشوة‪ .. ،‬وأنت‬
‫تتجول في أوربا الموحدة ستجد في مختلف العواصم اإلعالنات األتية ‪:‬‬

‫ً‬
‫سهال في رأس السنة مع شريك‬ ‫«قابل حلم حياتك‪ ،‬دعنا نرتب لك لقاء‬
‫سيعجبك ـ أحصل على الطفل الذي تريد (بنوك الحيونات المنوية‪ ،‬واستئجار‬
‫األرحام) ـ إجهاض آمن‪ ،‬ورعاية صحية فائقة ‪ :‬هذا حقك ـ نقدم استشارات‬
‫من أجل عالقة جنسية أفضل ـ ال تشغل بالك بوالديك لدينا أفضل خدمة لرعاية‬
‫المسنين ‪ .. ».‬كهذا أصيح الفرد يسنطيع تلبية احتياجاته من السوق‪ ،‬وبعيداً‬

‫‪285‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫عن األسرة‪ ،‬وأصبحت األسرة مجرد كيان هزيل من المشاعر غير المؤثرة أو‬
‫المنتجة ‪.‬‬

‫كما تنتشر ما يسمى بـ «عالقات الجيب العلوي» أى تلك العالقات التي‬


‫يمكن إخراجها من الجيب عند االحتياج‪ ،‬ودفعها إلى أسفل حال انعدام الرغبة‪.‬‬

‫‪ ..‬كهذا تعده ألة التسويق الرأسمالي بـ «منتهى اللذة ‪ ..‬منتهى النشوة ‪..‬‬
‫غاية المتعة»؛ لتدمر فيه ما تتسم به العالقات الوجدانية من ديمومة ـ عفوية ـ‬
‫تلقائية ـ عاطفية حيث التأقيت‪ ،‬والمدى القصير الذي تقوم عليه حسابات المجتمع‬
‫االستهالكي القائمة على توليد الحاجات بشكل مستمر ‪.‬‬

‫هكذا يتم استدراجه إلى عالم الصالت العابرة ظناً منه أنه يتخفف من‬
‫مسئوليات‪ ،‬وال يحرم نفسه من فرص قد تظهر‪ ،‬وأفاق قد تستجد لكنه يجد نفسه‬
‫فريسة عالم النفايات في مجتمع االستهالك بكل أعبائه‪ ،‬وقوانينه حيث تختفي‬
‫الثقة‪ ،‬وتسود المغامرة‪ ،‬وتتبارى فتيات المتعة الجنسية‪ ،‬والقوادون في عرض‬
‫ما يتم تزيينه أنه األفضل‪ ،‬واألكثر إثارة‪ ،‬وإمتاعاً !!‬

‫في مجتمع االستهالك الجنس مثل المواد القابلة لإلستهالك مغرية‪ ،‬والنفايات‬
‫منفرة‪ ،‬وتحقيق الرغبة يليه التخلص من النفايات (رجل ـ امرأة) بمجرد انتهاء‬

‫‪286‬‬
‫المهمة ‪.‬‬

‫ليس هذا فحسب فقد أعلنت شركات عديدة في مجال صناعة الروبوت أنها‬
‫بصدد إنتاج روبوت يمكن ممارسة الجنس بواسطته‪ ،‬واالستغناء عن البشر ‪.‬‬

‫‪ ..‬فقدت العالقات الوجدانية حميميتها‪ ،‬وفقدت الحروب أيضا إنسانيتها؛‬


‫فقد أنتجت حرب تحرير الكويت ما يسمى بـ «الحرب الخائلية»‪ ،‬تلك الحرب‬
‫المنقولة من خالل الطواقم السينمائية الهوليودية‪ ،‬التي تم ربطها بأرتال الدبابات‬
‫متخيال عبر شبكة ‪ ،C.N.N.‬ال عالقة له بما يجري في ميدان القتال‬ ‫ً‬ ‫لتبث واقعاً‬
‫من قتل وحشي وتدمير لكل شيء‪ ،‬وهو ما أطلق عليه جوزيف ناي اسم «تسليح‬
‫المراسلين» !!؛ يما ينطوي على اختزال الميدان في رقعة حجرة المعيشة‪،‬‬
‫والزمان في المسافة بين مقعدك وشاشة التلفاز‪ ،‬والمطلوب فقط تقرير إخباري‬
‫مُعد بشكل جيد‪ ،‬وصورة ذات تقنية عالية !!‪.‬‬

‫‪ ..‬صارت الحرب صورة تبثها طواقم التصوير عبر هواتفها الخلوية من‬
‫فوق أرتال الدبابات لتنقل للمشاهد أمام الشاشات معارك افتراضية في ميادين‬
‫افتراضية!! يسهم الليل‪ ،‬والخوف في تعميق قابلية المتلقي‪ ،‬وتصديقه لها «إن‬
‫قوى اإلرادة عند اإلنسان تقاوم بالنهار كل محاولة تحاول إخضاعها إلرادة‬
‫أخرى‪ ،‬فإذا استهدفتها المحاولة نفسها ً‬
‫ليال فال تلبث أن تخضع للسيطرة‪ ،‬ذلك‬

‫‪287‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫إن قوة اإلرادة تضعف في آخر النهار‪ ،‬وإننا نالحظ أن الكنيسة الكاثوليكية‬
‫تصطنع الظالل المنبعثة من خالل قشر بيض النعام في المعابد؛ لتسبغ عليها‬
‫جوا من الجالل والرهبة‪ ،‬هذا الجو يجعل المؤمنين في حالة نفسية يسهل على‬
‫الواعظ أن يتالعب بقلوبهم‪ ،‬وعواطفهم‪ ،‬ويسهل عملية االعتراف على العصاة‬
‫من مرتكبي الخطايا‪.‬‬

‫‪ ..‬ولهذا السبب يكمن السر وراء الضوء الخافت في عيادات الطب النفسي‪.‬‬

‫افتعال الحروب ال يستلزم سبباً حقيقياً ‪ ..‬يكفي تضليل الرأى العام‪ ،‬وإقناعه‬
‫بأن الحرب ضرورية‪ ،‬ومرغوبة للغاية فما عليك إال أن تفتعل أزمة‪ ،‬وأن تضحي‬
‫ببضع عشرات من األرواح البريئة قربانا سياسيا‪ ،‬وأن تزيد من إحساس الناس‬
‫بعدم األمان‪ ،‬وعندئذ وبين عشية‪ ،‬وضحاها سيرغب الناس في يد مسيطرة‬
‫باطشة‪ ،‬وفي خطابات سياسية خشنة‪ ،‬وفي شن الحرب !!‬

‫‪ ..‬فيكفي نشر صورة «بطة بحرية» ملوثة بالسواد تم اصطناعها على شاطئ‬
‫مستنقعات أالسكا إلقناع العالم أن صدام حسين أفسد البيئة البحرية في منطقة‬
‫الخليج العربي بما يهدد الوجود اإلنساني!!‬

‫‪ ..‬ويكفي نشر صورة مصطنعة لحريق ال يزيد عن خمسة أمتار على‬

‫‪288‬‬
‫مستنقعات أالسكا ومعالجته بوسائل الخداع الهليودي لتقنع العالم أن صدام‬
‫حسين فجر أبار البترول في الكويت وحرم العالم من نعمة وهبها هللا له !!‬

‫‪ ..‬اإلعالم أصبح «الشر السائل» القادر على ارتداء أقنعة فعالة‪ ،‬وحشد‬
‫الهواجس‪ ،‬والرغبات اإلنسانية في خدمته تحت دعاوى زائفة‪ ،‬ولكنها دعاوى‬
‫يصعب دحضها‪ ،‬وإثبات زيفها؛ فهو يستعرض نفسه كأنه تقدم الحياة المحايد‬
‫والمتجرد من األهواء‪ ،‬وكأنه السرعة غير المسبوقة للحياة‪ ،‬وللتغيير االجتماعي‪،‬‬
‫وما هو عليه من نسيان‪ ،‬وفقدان للذاكرة األخالقية كما أن الشر السائل يرتدي‬
‫عباءة غياب البدائل‪ ،‬وامتناعها ‪.‬‬

‫‪« ..‬الشر السائل» يلجأ إلى إخفاء النقمة في صورة النعمة باعتباره السمة‬
‫الرئيسية المميزة لتكنولولوجيا غسيل الدماغ التي ترتدي عباءة «االهتمام‬
‫باألمن» مع أنها تستخدم أساساً ألغراض بعيدة إلى حد ما من اهتمامات‬
‫السالمة‪ ،‬واألمان ‪.‬‬

‫زاد اإلعالم من ألفة الشر‪ ،‬واعتياده لدى الشعوب‪ ،‬وأصبح الناس العاديون‬
‫يمررون الكثير من الوحشية‪ ،‬ويسهمون فيها!!‬

‫وساعد تكنولولوجيا البث التليفزيوني القائمة على المسح النقطي ‪Raster‬‬

‫‪289‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫‪ Scan‬على تعميق تلك الحالة من البالدة؛ فقد أكد هربرت كروجمان ‪Herbert‬‬
‫‪ Krugman‬في عام ‪ 1970‬اكتشاف ما يحدث من الناحية الفسيولوجية في‬
‫دماغ شخص يشاهد التلفاز‪ ،‬وأنه وجد أنه خالل ‪ 30‬ثانية تحولت موجات‬
‫الدماغ «بيتا» المهيمنة التي تشير إلى اليقظة‪ ،‬واالنتباه الواعي إلى الموجات‬
‫«ألفا» التي تشير إلى نقص تلقي االنتباه‪ ،‬وعدم تركيزه‪ ،‬وهذه حالة من الخيال‪،‬‬
‫والحلم النهاري تقع تحت ما يسمى بـ «عتبة الوعي» ‪.‬‬

‫وأشار مزيد من البحث إلى أن النصف األيسر من كرة الدماغ الذي يعالج‬
‫المعلومات بشكل منطقي وتحليلي‪ ،‬ينقطع عن االستماع عندما يشاهد الشخص‬
‫التلفاز‪ ،‬يسمح هذا االنقطاع للنصف األيمن من الدماغ الذي يعالج المعلومات‬
‫عاطفيا‪ ،‬ودون نقد أن يعمل دون عائق؛ فالمنتج التليفزيوني في سمته الغالبة‬
‫«سلعة مخدرة»‪ ،‬ويتزايد هذا التأثير المخدر مع قيام القائمين على البث‬
‫التليفزيوني بإذاعة مواد ممصوصة الحيوية تصيب المشاهد بالملل‪ ،‬والهمد‬
‫الجسماني مما يساعد على النوم !!‬

‫‪ ..‬أصبحت الصورة صانعة الحدث وسابقة عليه‪ .. ،‬وأصبح الواقع في حد‬


‫ذاته نسخة باهته من الصورة في تعبير بأس عن «الفردية الموحشة»‪ ..،‬ونضال‬
‫«األريكة» في زمن الال عقل‪ ،‬والال يقين ‪ ..‬والتردي اإلنساني !!‬

‫‪290‬‬
‫«الظلم مؤذن‬
‫بخراب العمران» ‪:‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫يبين ابن خلدون من خالل تجسيده لفن التنظير السياسي الذي سبق إليه‬
‫الكثيرون من خالل الميدأ ‪« :‬الظلم مؤذن بخراب العمران»‪ ،‬واتبعه بتوضيح‬
‫ألرائه في فصل أخر بعنوان ‪« :‬كيفية طروق الخلل إلى الدولة ؟!» ؛ فيقول ‪:‬‬

‫‪« ..‬عندما يصل صاحب الدولة إلى طور اإلسراف‪ ،‬والتبذير‪ ،‬ويكون في‬
‫هذا الطور متلفاً لما جمع أولوه في سبيل الشهوات‪ ،‬والمالذ‪ ،‬والكرم على بطانته‪،‬‬
‫وفي مجالسه‪ ،‬واصطناع أخدان السوء‪ ،‬وخضراء الدمن‪ ،‬وتقليدهم عظيمات‬
‫األمور التي ال يستقلون بحملها‪ ،‬وال يعرفون ما يأتون‪ ،‬ويذرون منها مستفسداً‬
‫لكبار األولياء‪ ،‬ومن قومه‪ ،‬وصنائع سلفه حتى يضطغنوا عليه‪ ،‬ويتخازلوا عن‬
‫نصرته‪ ،‬مضيعاً من جنده بما أنفق من أعطياتهم في شهواته‪ ،‬وحجب عنهم وجه‬
‫مباشرته وتفقده ؛ فيكون مخرباً لما كان سلفه يؤسسون‪ ،‬وهدما لما يبنون وفي‬
‫هذا الطور تحصل في الدولة طبيعة الهرم‪ ،‬ويستولي عليها المرض المزمن‬
‫‪)3(*».‬‬ ‫الذي ال تكاد تخلص منه‪ ،‬وال يكون لها معه براء إلى أن تنقرض‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )3‬ساطع الحصري‪ ،‬دراسة في نقدمة ابن خلدون‪ /‬دار المعارف ـ القاهرة ‪ 1959‬ـ ص ‪٣٤٤‬‬

‫‪291‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬
‫وعن طروق الخلل إلى األفراد يقول ابن خلدون في فصل عن ‪« :‬خراب‬
‫األمصار بخراب الدولة» ‪:‬‬

‫«الرعايا تبع للدولة؛ فيرجعون إلى خلق الدولة إما طوعاً لما في طباع البشر‬
‫من تقليد متبوعهم‪. ».‬‬

‫كما يقول في فصل عن ‪« :‬طروق الخلل للدولة» ‪:‬‬

‫«يقلد اآلخر من أهل الدولة في ذلك األول‪ ،‬مع ما يكون قد نزل بهم من مهلكة‬
‫الترف‪ ..‬ثم يعظم الترف فيكثر اإلسراف في النفقات‪ ،‬وينتشر ذلك في الرعية؛‬
‫أن الناس إلى دين ملوكها‪ ،‬وعوائدها ‪.».‬‬

‫‪ ..‬ويسوق ابن خلدون لنا الحكمة نقلها عن المسعودي والمسماة بـ «الحكمة‬


‫الدائرية» لكون نقطة البداية فيها التي تمنحنا منطلقات حقيقية‪ ،‬ومنطقية هي‬
‫نقطة النهاية على غرار نموذج تحليل النظم لعالم السياسة األمريكي ديفيد‬
‫إيستون‪ ،‬ويتكون ذلك النموذج من ‪ :‬المدخالت‪ ،‬والمخرجات‪ ،‬وعملية التحويل‪،‬‬
‫والتغذية العكسية أو التغذية المرتدة‪ ،‬وهو ما نقله ابن خلدون عن المسعودي‬
‫بقوله ‪« :‬وال عز للملك إال بالرجال‪ ،‬وال قوام للرجال إال بالمال‪ ،‬وال سبيل إلى‬
‫المال إال بالعمارة‪ ،‬وال سبيل للعمارة إال بالعدل» ‪.‬‬

‫‪292‬‬
‫شكل يبين تتايع مراحل «الحكمة الدائرية» لنماء العمران التي نقلها ابن خلدون عن المسعودي‪،‬‬
‫والتي أخذ بها عالم السياسة األمريكي ديفيد إيستون كنموذج تحليل النظم لعالم السياسة‪ ،‬ويتكون‬
‫ذلك النموذج من ‪ :‬المدخالت‪ ،‬والمخرجات‪ ،‬وعملية التحويل‪ ،‬والتغذية العكسية أو التغذية المرتدة‪.‬‬

‫بيان ذلك أن نظام الملك له مدخالن أساسيان يرتبطان ببعضهما البعض؛‬


‫فالملك أو السلطة تحتاج إلى تأييد‪ ،‬ومطالب الرجال‪ ،‬والرجال ال يجندون إال‬
‫بالمال أو الرواتب‪ ،‬واألعطيات‪ ،‬ويتولد المال أو الثروة عن العمارة أى األنشطة‬
‫االقتصادية‪ ،‬وحركة الحياة التي تعمر البالد‪ ،‬وتنتج األرباح ‪ ..‬تلك األرباح التي‬
‫يفرض عليها الخراج وفق سياسة تقوم على العدل‪ ،‬وهذه أهم مخرجات نظام‬
‫الملك ‪.‬‬
‫ويقدم ابن خلدون صورة لطبيعة العالقة بين الدولة‪ ،‬والعمران بقوله‪:‬‬
‫«الدولة صورة‪ ،‬والعمران هو مادتها»‪ ،‬ويلقي الضوء ‪« :‬على فساد الدولة‬

‫‪293‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫بفساد مادة العمران بالضرورة» ‪ ..‬إذن المجتمع هو المادة‪ ،‬والدولة‪ ،‬ونظام‬


‫الحكم هو الصورة بما يعني حسب المنطق األرسطي‪ ،‬وعلى هديه نجد ابن‬
‫خلدون يجعل العمران أي االجتماع البشري هو المادة‪ ،‬والدولة‪ ،‬أو نظام الحكم‬
‫هو الصورة‪ ،‬وهذه األخيرة ال يمكن أن توجد في العالم األرضي من دون مادة‬
‫حاملة لها؛ فال شك أن فساد المادة سيفضى ال محالة إلى زوال الصورة‪ ،‬وبداية‬
‫النهاية؛ فالهرم إذا نزل بالدولة ال يرتفع ‪.‬‬

‫«إيماضة ألخمود»‬
‫أو «زبالة المشتعل» ‪:‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫يقول ابن خلدون ‪:‬‬

‫«ربما يحدث عند أخر الدولة قوة توهم أن الهرم قد ارتفع عنها‪ ،‬ويومض‬
‫ذبالها إيماضة الخمود كما يقع في الذبال المشتعل؛ فإنه عند مقاربة انطفائه‬
‫يومض إيماضة توهم أنها اشتعال‪ ،‬وهي انطفاء‪. ».‬‬

‫ابن خلدون وميكافيللي ‪:‬‬


‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫كشف بعض الباحثين عن قرابة فكرية بين اين خلدون (‪ 1377‬م)‪ ،‬وميكافللي‬

‫‪294‬‬
‫(‪1520‬م)‪ ،‬وعزى بعضهم تلك القرابة إلى تشابة في األفكار‪ ،‬وذهب بعضهم‬
‫إلى أبعد من ذلك‪ ،‬وتم حصر السبب في أمرين ‪:‬‬

‫أوالهما ‪ :‬التأثير الخفي البن خلدون على مكيافللي نظر ألن مكيافللي متأخر‬
‫عن ابن خلدون بقرابة قرن ونصف من الزمن تقريباً‪.‬‬
‫ثانيهما‪ :‬المصادفة المحضة ‪.‬‬

‫يينما ارتأى البعض فرضين أخرين هما ‪:‬‬

‫أولهما ‪ :‬وجود مصدر مشترك يحصرونه في كتاب السياسة ألرسطو ‪.‬‬


‫ثانيهما ‪ :‬تشابة الظروف التاريخية ‪.‬‬
‫والحقيقة أن ابن خلدون في مقدمة كتابه الشهيرة يصف كتاب‪(:‬السياسة)‬
‫ألرسطو الذي لم يكن لدي العرب األصل الكامل له بقوله ‪:‬‬

‫«وفي الكتاب المنسوب ألرسطو في السياسة المتداولة بين الناس جزء منه‪،‬‬
‫إال أنه غير مستوف‪ ،‬وال مُعطى حقه من البراهين‪ ،‬ومختلط بغيره‪ ،‬وقد أشار‬
‫في ذلك الكتاب إلى هذه الكلمات الني نقلناها عن الموبذان‪ ،‬وأنوشروان‪ ،‬وجعلها‬
‫في الدائرة القريبة التي أعظم القول فيها هو قوله ‪:‬‬
‫العالم بستان سياجه الدولة‪ ،‬الدولة سلطان تحيا به السنة‪ ،‬السنة سياسة‬

‫‪295‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫يسوسها ال َملِك‪ ،‬والمُلك نظام يعضده الجند‪ ،‬والجند أعوان يكفلهم المال‪ ،‬والمال‬
‫رزق تجمعه الرعية‪ ،‬الرعية عبيد يكنفهم العدل‪ ،‬والعدل مألوف‪ ،‬وله قوام‬
‫العالم‪ ،‬العالم بستان‪ ،‬ثم نرجع إلى أول الكالم فهذه ثمان كلمات حكيمة سياسية‬
‫ارتبط بعضها ببعض‪ ،‬وارتدت أعجازها على صدورها‪ ،‬واتصلت في دائرة ال‬
‫يتعين طرفها فخر بعثوره عليها‪ ،‬وعظم من فوائدها ‪.».‬‬

‫كما أن ميكافيللي لم يكن يقرأ اليونانية‪ ،‬لكن السبب القاطع أنه لم يتصل‬
‫علم األوربيين بالحضارة اليونانية إال في وقت متأخر من خالل الترجمات‬
‫العربية لها التي عُ ثر عليها في األندلس‪ ،‬وكانت أوربا في عصر ميكافللي عبارة‬
‫عن أحراش‪ ،‬ومستنقعات غارقة في ظالم الجهل‪ ،‬والمرض من جراء القذارة‪،‬‬
‫وعدم االستحمام‪ ،‬وكان اشهر تلك األمراض مرض الجذام الذي كانوا يطلقون‬
‫عليه ‪«:‬نار القديس أنطونيو» إضافة إلى التخلف الناجم عن ائتالف الكنيسة‪،‬‬
‫واالقطاعيين النبالء‪ ،‬وما خلفه من عبودية األقنان !!‬

‫***‬

‫‪ ..‬فقد اإلنسان صالبته‪ ،‬ومعها إنسانيته‪ ،‬وهويته‪ ،‬وثقافته ‪ ..‬فقد عقله‬


‫التاريخي‪ .. ،‬وانفصل عن واقعه الحضاري‪ ،‬وتم تغييب وعيه بوجوده على‬
‫خريطة الوجود اإلنسانى!‬

‫‪296‬‬
‫‪ ..‬تم تشييئه ‪ ..‬أصبح مجرد شيء يتم صياغته‪ ،‬وتصنيعه‪ ،‬وقولبته‪ ،‬وتعليبه‪،‬‬
‫وصارت حالة األشياء حالة من صنعنا؛ وفقا ألليات الهندسة االجتماعية ليصبح‬
‫ً‬
‫متداوال أن ‪« :‬اإلنسان صناعة اإلنسان» بمعنى صناعة اإلنسان االجتماعي‪،‬‬
‫والمواطن السياسي الذي يصوت ضد مصالحه !!‬

‫‪ ..‬صار كائناً زومبياً ‪ Zombie‬أو على أليق وصف مجرد روبوت!! مُعاد‬
‫إلى الحياة أو معد للحياة بأسلوب الخداع‪ ،‬مجرد لعبة أنتجها القهر‪ ،‬والقمع ‪..‬‬
‫ثم الخداع‪ ،‬والتالعب‪ ،‬والتضليل ‪ ..‬ال يستطيع أن يعيش واقعه أو يتفاعل معه‬
‫سوى بقوانين العالم االفتراضي‪ ،‬وتحت مظلة الكوخ الشبكي!!‬

‫‪ ..‬أو على حد تعبير كافكا صار مثل «صرصور» مُلقى على ظهره ‪ ..‬يسمع‪،‬‬
‫‪ ..‬وقد يرى لكنه ال يستطيع أن يحرك ساكنا !!‬

‫‪ ..‬أصبح اإلنسان أسير «مجتمع الفرجة» الذي تح ّول العالم المحسوس‬


‫فيه إلى مجتمع صورة يجري فيه تسليع كل شيء‪ ،‬وكل نشاط‪ ،‬وكل فكر‪ ،‬وأن‬
‫التحوالت االجتماعية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬واالقتصادية‪ ،‬والثقافية أنتجت عالماً مقلوباً‬
‫ً‬
‫واقعياً رأساً على عقب‪ ،‬إذ أصبح ما هو حقيقي‪ ،‬وواقعي فيه وهمياً وزائفاً؛ بما‬
‫يراه جي ديبور عودة منمّقة إلى «نظرية االستالب» بمعنى استالب المتفرج‬

‫‪297‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬
‫لصالح الشيء‪ ،‬في «مجتمع ُ‬
‫الفرجة» يجري تسليع كل شيء بحيث يتحقق مفهوم‬
‫الفرجة بشكل كامل عندما تُعلن السلعة «احتاللها الكلي للحياة االجتماعية»‬
‫سواء كانت بضاعة‪ ،‬أو خدمة‪ ،‬أو فكرة أو رغبة ‪ ..‬تتوسل باإلغراء الناعم‪،‬‬
‫ودغدغة المشاعر‪ ،‬واألحاسيس الحانية لحث الناس على التماهي بين األشياء‪،‬‬
‫والسلع!!‬

‫الفرجة مجتمعا ً‪ ،‬وأصبح المجتمع ُفرجة؛ بما يحيل إلى الذاكرة‬


‫‪ ..‬صارت ُ‬
‫المعرفية ما كتبه «جان جاك روسو» عن األضواء التى تلهينا عن أعراض‬
‫النهاية‪ ،‬واستنا ًدا إلى ما يراه روسو‪ ،‬فإن أشكال كافة الحكم تتجه في آخر األمر‬
‫إلى الضعف‪ ،‬والذبول‪ ،‬وال يمكن كبح التدهور إال من خالل اإلمساك بزمام‬
‫المعايير األخالقية‪ ،‬ومن خالل إسقاط جماعات المصالح الخاصة‪ ،‬وهو ما كتبه‬
‫من قبله عبد الرحمن ابن خلدون عن «إيماضة الخمود» عندما عرض لنظريته‬
‫عن «الذبال المشتعل»!!‬

‫كان ابن خلدون أسبق من فرنسيس بيكون ( ‪ 1561‬ـ ‪ )1626‬بقرنين تقريباً‬


‫في فهمه لنظرية ‪« :‬دورة الحضارة» التي لخصها في مقولة ‪« :‬إن الحضارة‬
‫غاية العمران‪ ،‬ونهاية لعمره‪ ،‬ومؤذنة بفساده»‪ ،‬والتي أوجزها فرنسيس‬
‫بيكون بقوله ‪« :‬منتهى المدنية الرجوع إلى البدائية» ‪ ..‬بمعنى أن نقطة البداية‬
‫هي طفولة الشعوب ثم فتوتها‪ ،‬ونضجها‪ ،‬وانتهاء بهرمها‪ ،‬وتحللها‪ ،‬ونهايتها‬

‫‪298‬‬
‫في البدائية‪ ،‬والتحلل القيمي‪ ،‬والوحشية‪ ،‬والهمجية‪ ،‬وهي ما يطلق عليه في‬
‫االدبيات الفرنسية ‪« :‬أخالق أخر الزمان»‪ ،‬ويتم تداول ذلك المفهوم في الفكر‬
‫الشعبي المصري بمقولتي ‪« :‬جيل أخر زمن»‪ ،‬و«زمن العجائب» بمعنى الال‬
‫عقل‪ ،‬والال يقين !!‬

‫يقدر ابن خلدون عمر الدولة بما ال يعدو في الغالب ثالثة أجيال مائة‬
‫وعشرون سنة (قدر عمر الجيل بأريعين سنة) تكون الدولة في زمن الجيل‬
‫األول فتية عفية حيث يكون أفرادها لم يزالوا على البداوة‪ ،‬وخشونتها‪ ،‬وتوحشها‬
‫من شظف العيش‪ ،‬والبسالة‪ ،‬واالفتراس‪ ،‬واالشتراك في المجد؛ فال تزال بذلك‬
‫سورة العصبية فيهم؛ فحدهم مرهف‪ ،‬وجانبهم مرهوب‪ ،‬والناس لهم مغلوبون‪.‬‬

‫‪ ..‬ومع الجيل الثاني يتحول حالهم بالملك‪ ،‬والترف من البداوة إلى الحضارة‪،‬‬
‫ومن الشظف إلى الترف‪ ،‬والخصب‪ ،‬ومن االشتراك في المجد إلى االنفراد‬
‫الواحد به‪ ،‬وكل الباقين عن السعى فيه‪ ،‬ومن عز االستطالة إلى ذل االستكانة؛‬
‫فتنكسر ثورة العصبية بعض الشيء‪ ،‬وتؤنس منهم المهانة والخضوع‪ ،‬ويبقى‬
‫لهم الكثير من ذلك بما أدركو الجيل األول‪ ،‬وباشروا أحوالهم‪ ،‬وشاهدوا‬
‫اعتزازهم‪ ،‬وسعيهم إلى المجد‪ ،‬ومراميهم في المدافعة والحماية؛ فال يسعهم‬
‫ترك ذلك بالكلية‪ ،‬وإن ذهب ما ذهب‪ ،‬ويكونون على رجاء من مراجعة األحوال‬
‫التي كانت للجيل األول أو على ظن من وجودها فيهم!!‬

‫‪299‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫أما الجيل الثالث فينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن ويفقدون حالوة‬
‫العز والعصبية بما هم فيه من ملكة القهر ويبلغ الترف غابته بما تفنقوه (تنعَّم‬
‫عياال على الدولة ومن جملة‬‫ً‬ ‫بعد بُؤس) من النعيم وغضارة العيش؛ فيصيرون‬
‫‪)4(*.‬‬ ‫النساء والولدان المحتاجين للمدافعة عنهم‬

‫وتسقط العصبية بالجملة‪ ،‬وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة ويلبسون‬


‫على في الشارة والزي وركوب الخيل وحسن الثقافة يموهون بها‪ ،‬وهم في‬
‫الغالب أجبن من النسوان على ظهورها ‪ ،‬فإذا جاء المطالب لهم لم يقاوموا‬
‫مدافعته فيحتاج صاحب الدولة حينئذ إلى االستظهار بسواهم من أهل النجدة‬
‫ويستكثر بالمواليا ويصطنع من يغني الدولة بعض الغناء حتى يتأذن هللا‬
‫بانقراضها فتذهب بما حملت بعد هرمها وتخلفها !!‬

‫ويناقش ابن خلدون تلك القضية التي تحاول المجتمعات الحديثة أن توجد‬
‫حال‪ ،‬والتي طرحها المفكرون في الغرب بعده بأربعة قرون وخاصة روسو‪،‬‬‫لها ً‬
‫وبعبارات شبيهة بعبارات روسو‪ ،‬فيناقش األثر المفسد للحضارة‪ ،‬وللثقافة‬
‫الفكرية‪ ،‬وللرفاهية المادية‪ ،‬ويعتقد ابن خلدون مثلما اعتقد روسو من بعده أن‬
‫هذا التقدم ينطوي على االستبداد‪ ،‬والفساد‪ ،‬ونتيجة ذلك السيئة على األفراد؛‬
‫فاالستقالل‪ ،‬والكرامة يتنافيان مع الحياة الحضرية‪ ،‬ومع الرفاهية اللتان تتطلبان‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )4‬ابن خلدون‪ ،‬اعتنى به ‪ :‬صهيب الكرمي ـ مرجع سابق ـ ص‪89‬‬

‫‪300‬‬
‫عبودية األكثرية!!‬

‫يرى ابن خلدون أن أهل المدن عادة سلبيون؛ فهم يتحاشون بصفة عامة‬
‫االشتراك في المنازعات بين الطامحين في الحكم‪ ،‬ويظهرون الخضوع للحكومة‪،‬‬
‫ويدفعون لها الجزية مقابل حماية وهمية‪ ،‬وأنهم يتصفون بأنهم بال خلقية كبيرة؛‬
‫فهم أنانيون سيئو الخالل‪ ،‬وقد فقدوا صفات الرجولة التي تؤمن استقالل أي‬
‫شعب‪ ،‬وهم يخضعون لجميع ألوان االستبداد‪ ،‬وال يحاولون أن يقاموا الطغيان‪،‬‬
‫ويموج بحر المدينة بالسفلة من أهل االخالق الذميمة‪ ،‬ويجاريهم فيها كثير من‬
‫ناشئة الدولة‪ ،‬وولدانهم حتى لقد ذهب عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم‪ ،‬ومن‬
‫مفاسد الحضارة االنهماك في الشهوات‪ ،‬واالسترسال فيها لكثرة الترف؛ فيقع‬
‫التفنن في شهوات البطن من المأكل‪ ،‬والمالذ‪ ،‬ويتبع ذلك التفنن في شهوات‬
‫الفرج بأنواع المناكح من الزنا‪ ،‬واللواط ‪.‬‬

‫أما أهل الريف فتأثيرهم السياسي ضعيف جداً أو معدوم‪ ،‬وهم مضطرون‬
‫أن يدفعوا الضرائب دون أن يستمتعوا بما يحظى به سكان المدن من أمن‪،‬‬
‫ومزايا‪ ،‬فال توجد لديهم في مواطنهم أمور الفلح‪ ،‬ومواردها معدومة‪ ،‬وكذلك‬
‫معظم الصنائع فال يوجد لديهم بالكلية نجار‪ ،‬وخياط‪ ،‬وحداد‪ ،‬ويفتقدون ما يقيم‬
‫لهم ضروريات حياتهم !!‬

‫‪301‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫وعن خلق التجار يقول ابن خلدون ‪:‬‬

‫«إن خلق التاجر نازلة عن خلق الرؤساء‪ ،‬وبعيدة عن المروءة ألن التاجر‬
‫مدفوع إلى معاناة البيع‪ ،‬والشراء‪ ،‬وجلب الفوائد‪ ،‬واألرباح‪ ،‬والبد في ذلك‬
‫من المكايسة‪ ،‬والمماحكة‪ ،‬والتحذلق‪ ،‬وممارسة الخصومات‪ ،‬واللجاج‪ ،‬وهي‬
‫عوارض هذه الحرفة‪ ،‬وهذه األوصاف نقص من الذكاء‪ ،‬والمروءة‪ ،‬وتجرح‬
‫فيها ‪.‬‬

‫‪ ..‬وتتفاوت اآلثار يتفاوت أصناف التجار في أطوارهم ‪ :‬فمن كان منهم‬


‫سافل الطور محالفاً ألشرار الباعة أهل الفسق‪ ،‬والخالعة‪ ،‬والفجور في األثمان‬
‫إقراراً‪ ،‬أو إنكاراً‪ ،‬كانت رداءة الخلق عنده أشد‪ ،‬وغلبت عليه السفسفة‪ ،‬وبعد‬
‫عن المروءة‪ ،‬واكتسابها بالجملة‪ ،‬وإال فال بد له من تأثير المكايسة‪ ،‬والمماحكة‬
‫في مروءته ‪».‬‬

‫ ‪ ..‬وهو ما يصفه زيجمونت باومان بـ «السيولة» حيث أصبح اإلنسان‬


‫كحالة المادة المائعة السائلة التي ال تعرف ثباتاً؛ ألن المعنى قد غاب‪ ،‬واإلنسان‬
‫أصبح أسير الخوف الدائم‪ ،‬وأن عليه التدريب المستمر على االختفاء‪ ،‬والذوبان‬
‫واالنسحاب‪ ،‬والرحيل!! الخوف يعني أن تفكر بنفسك باستمرار‪ ،‬وأن تكون‬
‫عاجزاً عن تتبع مسار موضوعي لألحداث‪ ،‬والشعور بالرعب‪ ،‬والشعور بأن‬

‫‪302‬‬
‫كل ما يحدث ضدك‪ ،‬ويصبح االختيار الوحيد المتاح هو ضمان أال تصيبك‬
‫الكارثة‪ ،‬أما أن تصيب غيرك فهذا مما ال يمكن تجنبه؛ فاإلقصاء جزء من‬
‫الحداثة السائلة‪ ،‬وهناك دائماً ضحايا فاحرص أال تكون منهم؛ فالظروف كلها‬
‫معادية لـ «الفعل التضامني» ‪..‬‬

‫في الكتابات المعاصرة عن ابن خلدون يرى محمد عابد الجابري أن‬
‫ابن خلدون يعتبر أهم مفكر إسالمي يضع الدولة في بؤرة اهتمامه الفكري‪،‬‬
‫وقد ركز على إسهام ابن خلدون في ربط تطور الدولة بـ «نمط اإلنتاج»؛‬
‫فابن خلدون يعطي المرتبة األولى للخصائص االقتصادية؛ فهو يرتب الشعوب‬
‫بتمايزها تبعاً ألساليب اإلنتاج لديها ثم يضع في المقام األول الحياة الحضارية‬
‫بحرفها المتنوعة‪ ،‬ثم المزارعين المتجمعين في قرى‪ ،‬والذين يقيمون في السهل‬
‫أو في الجبل‪ ،‬وأخيراً يأتي البدو ‪.‬‬

‫عقال‪ ،‬وخصوصاً الكتابة‪،‬‬


‫ٌ‬ ‫بينما يرى ابن خلدون أن الصنائع تكسب صاحبها‬
‫والحساب ألنه يحصل عنها‪ ،‬وعن ملكتها قانون علمي مستفاد من تلك الملكة؛‬
‫فلهذا كانت الحنكة في التجربة تفيد عقال‪.‬‬

‫‪ ..‬ويرى جوستون بوتول أن نظريات ابن خلدون ترسم حالة يمكن ان‬
‫نطلق عليها«اقتصاد السكون»‪ ،‬ويتميز هذا النظام بافتقاد كبير إلى المرونة؛‬

‫‪303‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫فاإلقراض منخفض جداً‪ ،‬وال يكون إال من القروض بالربا‪ ،‬وتسود هذا النظام‬
‫عدم كفاية األمن التي تأتي من تحكم السلطة‪ ،‬ومن التنظيم التقليدي للصناعة‪.‬‬

‫يتحدث باومان في كتاب ‪« :‬الخوف السائل» عن أن الحياة السائلة حياة‬


‫محفوفة بالمخاطر يحياها المرء في حالة من الال يقين الدائم‪ ،‬وأشد هاجس‬
‫يساور المرء في تلك الحياة هو الخوف أن تأخذه على حين غرة‪ ،‬ومن الفشل في‬
‫اللحاق بالمستجدات المتسارعة‪ ،‬ومن التخلف عن ركب السائرين‪ ،‬ومن إغفال‬
‫تواريخ «نهاية الصالحية»‪ ،‬ومن االحتفاظ بأغراض مهجورة‪ ،‬ومن فقدان‬
‫اللحظة التي تدعو إلى تحول في اتجاة السير قبل عبور نقطة الال عودة؛ فالحياة‬
‫السائلة سلسلة من البدايات الجديدة‪ ،‬ولذا فإن النهايات السريعة المؤلمة التي‬
‫لوالها لكانت البدايات الجديدة خارج طوق الفكر هي أصعب لحظات الحياة‬
‫السائلة‪ ،‬وأوجعها‪ ،‬وهكذا فإن تعلم أسبقية التخلص من األشياء صار أحد فنون‬
‫الحياة الحديثة السائلة‪ ،‬وإحدى المهارات الالزمة لممارستها ‪.‬‬

‫وعن الجري وراء الفردية التي خلفتها الحياة السائلة‪ ،‬يخبرنا باومان‬
‫أنه ال يمكن لالنجازات الفردية في المجتمع الحديث السائل أن تكتسي صاللة‬
‫األشياء الفردية ألن المزية تتحول في لمح البصر إلى عيب‪ ،‬والقدرة إلى‬
‫عجز‪ ،‬أما ظروف الفعل‪ ،‬واالسترايجيات التي يلجأ إليها الفرد؛ فإنها تتقادم‬
‫بسرعة؛ فليس من الحكمة أن يتعلم المرء من التجربة ليعتمد على استراتيجيات‪،‬‬

‫‪304‬‬
‫وتكتيكات نجحت في الماضي؛ فتجارب الماضي ال يمكن ان تستوعب ما يطرأ‬
‫على الظروف من تغيرات سريعة غير متوقعة إلى حد كبير‪ ،‬وهذا يعني أن‬
‫الركون إلى أحداث ماضية في استقراء المسارات المستقبلية صار ينطوي على‬
‫مجازفات غير مسيوقة بل‪ ،‬وعلى حسابات مضللة في األغلب األعم‪ ،‬وغدت‬
‫الحسابات المحكمة خارج طوق الفكر‪ ،‬والخيال؛ ذلك أن أغلب المتغيرات في‬
‫المعادلة إن لم تكن جميعها صارت مجهولة‪ ،‬وال يمكن الركون إلى احتماالت‬
‫مساراتها المستقبلية ركونا تاماً مطمئناً‪.‬‬

‫‪ ..‬وتراجعت الجماعة كما ان نظامها المناعي الذي كان يحميها من المشكالت‬


‫صار مشكلة في حد ذاته؛ وأضحى المجتمع قي حد ذاته «جماعة متخيلة‬
‫‪!!)5(*»Virtual group‬‬

‫‪ ..‬الجماعة المتخيلة كما وصفها بندكت أندرسون تعني ببساطة أن الجماعة‬


‫الحقيقية المباشرة من أسرة‪ ،‬وجيرة‪ ،‬ومجتمع عضوي لم تعد مسؤولة‪ ،‬وحينئذ‬
‫لن يجد الفرد في الجماعة الجديدة ما يطلق عليه ابن خلدون ‪«:‬النبالة» أو‬
‫«العصبية» بمفهوم «الحميمية الجمعية»؛ فهو ال يعرف من المسؤول فيها عن‬
‫دعمه والتضامن معه مصدراً لألمن‪ ،‬بل سيفتش عن األمن في المال‪ ،‬والمادة‪،‬‬
‫والسلعة‪ ،‬ويصبح ما يملكه وحده معيار ثقته بنفسه‪ ،‬والمستقبل ‪.‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )5‬بندكت أندرسون‪ ،‬الجماعات المتخيلة‪ ..‬تأمالت في أصل القومية وانتشارها‪ ،‬ترجمة ‪ :‬ثائر أديب‪ ،‬ط ‪،1‬‬
‫شركة قدمس للنشر والتوزيع ـ بيروت ‪2009‬‬

‫‪305‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫‪ ..‬في «الجماعة المتخيلة» يجد الفرد نفسه مراقب طوال الوقت‪ ،‬وقد‬
‫أصبح سجين «آلة التحكم العالمية ‪ »Panopticon‬التكنولوجية‪،‬‏ وكلمة ‪:‬‬
‫ً‬
‫بديال عن‬ ‫«بانوبتيكون» تعني مراقبة (‪ )opticon‬الكل (‪ »)Pan‬الذي أصبح‬
‫السجن الذي قام بتصميمه الفيلسوف اإلنكليزي‪ ،‬والمنظر االجتماعي جيريمي‬
‫‪ ،1785‬هو نوع من السجون مفهوم التصميم هو السماح‬ ‫بنتام في عام‬
‫بمراقب واحد مراقبة جميع السجناء دون أن يكون المسجونين قادرين على‬
‫معرفة ما إذا كانوا مراقبين أم ال !!‪ ،‬لكنهم يعرفون بوضوح الغرض من‬
‫«مراقبتهم السيبرنطيقية ‪ ،»Cybernetics‬وأنه يخدم يطبيعة الحال هدف‬
‫الذين وضعوهم هناك ‪ ..‬إن النزالء هم موضوعات للسجن‪ ،‬والحبس‪ ،‬والعزل‪،‬‬
‫والعمل اإلجباري‪ ،‬والتهذيب‪ ،‬والغرض من وضعهم في الحبس هو تغييرهم‬
‫أو تعديلهم إلى أشخاص أخرين ليسوا هم‪ ،‬وهم أنفسهم ليس لديهم هدف في أن‬
‫يصبحوا تلك األشخاص ‪.‬‬

‫‪ ..‬إن ما يوحد النزالء هو تصميم المشرف أوالمراقب على أن تكون إرادته‬


‫ً‬
‫بديال لغياب إرادة النزالء التي ال يعتمد عليها‪ ،‬وال يعول عليها ‪ ..‬إن إرادة‬
‫المشرفين المراقبين هي إرادة تماثل إرادة (حراس السجن ـ ورؤساء العمل ـ‬
‫واألطباء ـ والمدرسين) بغض النظر عما إذا كانت تلك األوامر‪ ،‬واإلمالءات‪،‬‬
‫شرعية‪ ،‬أو قانونية !! أو ما إذا كانوا يستبطنون مقاصد‪ ،‬وأهداف مراقيبيهم‪،‬‬

‫‪306‬‬
‫ويحعلونها أهدافهم الخاصة؛ فال تهتم المنشأة بما يفكر به النزالء لكنها تهتم بما‬
‫يفعلونه‪ ،‬وقد تيدو الهيمنة األيدلوجية‪ ،‬والسيطرة الثقافية‪ ،‬والتلقين أو أى جهد آخر‬
‫مهما كان مطلوباً للوصول إلى الخضوع الروحي أو التبعية الروحية في سباق‬
‫السجن شيئاً غريباً‪ ،‬وغير مبرر‪ ،‬وغير مقبول‪ ،‬وقد ال ئسأل أي امرئ عما إذا‬
‫النزالء سوف يعملون في النهاية ما يراد عمله برغبة‪ ،‬ومستعدون‪ ،‬ومهيئوون‬
‫له؛ فهم في النهاية منتج لخط إنتاج مصنع إلنتاج النظام االجتماعي!!‪.‬‬

‫‪« ..‬اإلنسان السائل» مراقب طوال الوقت من خالل منصات الرقابة بما‬
‫فيها أدوات االتصال االجتماعي التي باتت نافذه يطل من خاللها على العالم‪،‬‬
‫وفي الوقت ذاته يطل العالم عليه‪ ،‬ويتابعه من خالل اختراق كاميرا المحمول‪،‬‬
‫وكاميرا حهاز الالتوب لمراقبته‪ ،‬وتتبع خطواته‪ ،‬وتسجيل حواراته الخاصة ‪.‬‬

‫المراقبة السائلة ليست مجرد آلة رصد أو كاميرا في ركن من متجرأو‬


‫أمام بناية سكنية إنها التطبيق تستخدمه للبحث عن طريقك فيدل جهات أخرى‬
‫على مسارك‪ ،‬وحركتك‪ ،‬وعين صغيرة مثبته على جهاز الالب توب تسجل‬
‫محادثاتك مع األصدقاء‪ ،‬وهي أجهزة رصد‪ ،‬وتجليب لكل ما يخصك من‬
‫تفاصيل تدخلها بعفوية عند التسجيل لخدمة أو موقع الكتروني ليتم تراكم هذه‬
‫المعلومات‪ ،‬وتبادلها بين جهات السيادة‪ ،‬ومؤسسات التسويق‪ ،‬وهي منظومة‬
‫متابعة‪ ،‬وتعقب‪ ،‬وتتبع‪ ،‬وفرز‪ ،‬ورصد ممنهج‪ ،‬واستهداف ‪.‬‬

‫‪307‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬
‫ناهيك عن أجهزة الفحص الدقيق للجسد في مداخل محطات المترو‪ ،‬وعند‬
‫بوابات المطارات‪ ،‬وأجهزة مطابقة البصمات في تسجيل الحضور في أماكن‬
‫العمل‪ ،‬وأجهزة مطابقة بصمة العين للحصول على تأشيرة كثير من الدول‪ ،‬وفي‬
‫المؤسسات السيادية‪ ،‬وفتح الحسابات االستثمارية‬

‫أدوات صغيرة وفرتها تكنولوجيا النانو أقل ثمناً‪ ،‬وأعلى كفاءة تخترق‬
‫أسوار االنتباة بكل ما تحمله من مخاطر على الحرية‪ ،‬والخصوصية بما‬
‫يجعلنا خاضعين لرقابة شديدة التعقيد‪ ،‬وهو ما يصفه باومان بأنه لون جديد من‬
‫«النباتات الزاحفة»!!‬

‫إن المراقبة فيما يمكن أن نسميه ‪ :‬السجون الرأسمالية المفتوحة «الكومبوندات‬


‫أو المدن واألحياء المسيجة» التي نسكنها كمستهلكين ال تقدم نفسها على أداة‬
‫للقمع بل صارت تقترن بالمتعة‪ ،‬والترفية‪ ،‬والوجاهة !!‬

‫أصناف المراقبة ليست واحدة؛ فمنهم من تجعله المراقبة أكثر أمناً‪ ،‬ومنهم من‬
‫تستخدم معلومات المراقبة في تصنيفه اجتماعيا‪ ،‬واقتصاديا‪ ،‬وسياسياً؛ فيكون‬
‫عرضة للنبذ‪ ،‬واإلقصاء بحيث ال يحصل على الخدمة نفسها أو تسهيالت الدفع‬
‫أو إمكانية االقتراض أو الحصول على الفرص نفسها في الوظائف‪ ،‬والتصعيد‬
‫المهني بل والمكانة االجتماعية ذاتها ‪.‬‬

‫‪308‬‬
‫يقول باومان أن ‪ « :‬وسائل التواصل االجتماعي هي نتاج التفكك االجتماعي؛‬
‫فالسلطة في الحداثة السائلة ال بد أن تتمع بحرية التدفق؛ فهي التي تقوم بتشكيل‬
‫أطر حياة الناس‪ ،‬والتوازنات تحكمها فالشبكات الكثيفة المحكمة للروابط‬
‫االجتماعية القائمة على األرض‪ ،‬وحدودها ال بد من التخلص منها ذلك ألن‬
‫هشاشة الروابط االجتماعية هى التي تسمح لسلطة العولمة بالعمل‪ ،‬واالجتياح‬
‫الناعم أحياناً‪ ،‬والخشن أحيانا أخرى !!»‪.‬‬

‫يرى جوستون بوتول أن طريقة ابن خلدون تستبعد التركيز على الفرد‪،‬‬
‫وتركز كل اهتمامها على محاولة تفسير الظواهر االجتماعية*(‪ ،)6‬وهو األمر‬
‫الذي يجمع بين وجهتي نظر ابن خلدون وباومان‪ ،‬حيث يرى باومان أن الحرية‬
‫ليست حق طبيعي بل هي خلق المجتمع‪ ،‬وترتيب اجتماعي‪ ،‬وأن الفردية هي‬
‫*(‪)7‬‬ ‫امتياز شخصي لمن يملك فقط‬

‫‪ ..‬ويرى زيجمونت باومان أن فاعلية الحرية في شكلها المرتبط بالرأسمالية‬


‫تتطلب أن يبقى بعض الناس األخرين غير أحرار؛ فأن تكون حراً يعني أن‬
‫يكون مسموحاً بايقاء األخرين غير أحرار‪ ،‬وأن تكون قادراً على ذلك‪ ،‬وأن‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )6‬جوستون بوتول‪ ،‬ابن خلدون في فلسفته‪ ،‬ترجمة ‪ :‬غنيم عبدون‪ ،‬أقالم عربية‪ ،‬ط‪ ١‬ـ القاهرة ‪٢٠١٨‬‬
‫‪ ٢٠١٩ ،‬ـ ص ‪51‬‬
‫*(‪ )7‬زيجمونت باومان ‪ ،‬الحرية ‪ ،‬ترجمة د‪ .‬فريال حسن خليفة ‪ ،‬مكتبة مدبولي ـ القاهرة ‪٢٠١٢‬‬

‫‪309‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫تنفرد بصفتين أساسيتين لهما أهمية سوسيولوجية هما ‪ :‬الفردية‪ ،‬والقدرة على‬
‫مجاراة اقتصاد السوق الرأسمالية؛ ففي ظل الحياة االجتماعية الموجهة باألخالق‬
‫االستهالكية أصبح العمل أداة‪ ،‬ووسيلة في جلب األرباح المادية التي يبحث عنها‬
‫المرء ليحقق بها كامل استقالله الذاتي‪ ،‬وحريته في سوق االستهالك ‪..‬‬

‫‪ ..‬ويحلل زيجمونت باومان سيكولوجيا الفردية‪ ،‬وانها تبدو في إحساس‬


‫التميز عند الفرد‪ ،‬وهذا اإلحساس يعمق االعتقاد في قيمة الموجود اإلنساني‪،‬‬
‫ويحث صاحبه على التفكير‪ ،‬وإمعان النظر في ذاته‪ ،‬وما تطلبه من عنايةـ‬
‫فضال عن اعتبار الفردية اختالفاً مركزياً بين الثقافات المختلفة ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ووعي ذاتي‬

‫***‬
‫‪ ..‬ويستمر تدفق أمواج العولمة بأدوارها المختلفة‪ ،‬وأوجهها السافرة‬
‫والمخفية بمعاونة «ثقافة االستهالك» المدعومة بتكنولوجيا المعلومات‬
‫واالتصاالت‪ ،‬وأبحاث علماء االجتماع الرقمي ‪ )8(*Digital Sociology‬في‬
‫مراكز الفكر ‪ Think Tank‬الذين يقومون بدور حارس الصيد لـ «اإلنسان‬
‫السائل» الذي سقط في الثقب األسود للسيولة التي تهدد بابتالع كل شيء!!‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*(‪ )8‬علم االجنماع الرقمي ‪ ..‬منظورات نقدية‪ ،‬تحرير‪ :‬كيت أورتون‪ ،‬جونسون‪ ،‬ونيكبريور‪ ،‬ترجمة‪:‬هاني‬
‫خميس أحمدعبده‪ ،‬عالم المعرفة‪ ،‬العدد ‪ ،٤٨٤‬المجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب‪ ،‬ط ‪ 1‬ـ الكويت‪،‬‬
‫يوليو‪٢٠٢١‬‬

‫‪310‬‬
‫مراجع الكتاب ‪:‬‬

‫‪1‬ـ د‪ .‬أحمد زكي بدوي‪ ،‬معجم مصطلحات العلوم االجتماعية‪ ،‬مكتبة لبنان ـ ‪1982‬‬
‫‪ 2‬ـ جوردون مارشال ‪ ،‬موسوعة علم االجتماع‪ ،‬ترجمة ‪ :‬د‪.‬محمد الجوهري وأخرون‪ ،‬أوكسفورد‪ ،‬نيويوك‬
‫‪1998‬الطبعة الثانية ‪ 3 ،‬مجلدات ـ الترجمة العربية ـ القاهرة ‪2007‬‬
‫‪ 3‬ـ اندرو إدجار‪ ،‬بيتر سيد جويك‪ ،‬موسوعة النظرية الثقافية ‪ ..‬المفاهيم والمصطلحات األساسية ‪ ،‬ترجمة د‪.‬‬
‫هناء الجوهري‪ ،‬المركز القومي للترجمة ـ العدد ‪ ١٣٥٧‬ـ القاهرة ‪٢٠١٤‬‬
‫‪4‬ـ ميل تشيرتون‪ ،‬آن براون ‪ ،‬علم االجتماع ‪ ..‬النظرية والمنهج‪ ،‬ترجمة د‪ .‬هناء الجوهري‪ ،‬المركز القومي‬
‫للترجمة‪ ،‬العدد ‪ ٢٠٧٥‬ـ القاهرة ‪٢٠١٢‬‬
‫‪ 5‬ـ فلوريان كولماس‪ ،‬دليل السوسيولسانيات‪ ،‬ترجمة ‪ :‬خالد األشهب‪ ،‬ماجدولين النهيبي‪ ،‬المنظمة العربية‬
‫للترجمة ـ بيروت ‪٢٠٠٩‬‬
‫‪ 6‬ـ د‪ .‬عبد العزيز نوار‪ ،‬تاريخ مصر االجتماعي‪ ..‬منذ فجر التاريخ حتى العصر الحديث‪ ،‬دارالفكرالعربي‬
‫ـ االقاهرة ‪1988‬‬
‫‪ 7‬ـ اليكس إنكلز ‪ ،‬مقدمة في علم االجتماع‪ ،‬د‪ .‬محمد الجوهري وأخرون ـ ‪ ، ،‬ط‪ ، 6‬سلسلة علم االجتماع‬
‫المعاصر‪ ،‬عدد ‪ ،15‬دار المعارف ـ القاهرة ‪1983‬‬
‫‪ 8‬ـ د‪.‬حسين فهيم ‪ ،‬قصة األنثروبولوجيا ‪ ،‬عالم المعرفة ‪ ،‬المجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب بالكويت‪،‬‬
‫العدد ‪ ،98‬الكويت ـ فبراير‪1998‬‬
‫‪9‬ـ كارل بوبر‪ ،‬عقم المذهب التاريخي‪ ،‬دراسة في مناهج العلوم االجتماعية ‪ ،‬ترجمة عبد الجميد صبره‪ ،‬منشأة‬
‫المعارف باألسكندرية ‪١٩٥٩‬‬
‫‪ 10‬ـ جينفر م‪ .‬ليمان‪ ،‬تفكيك دور كايم ‪ ..‬نقد ما بعد بعد بنيوي‪ ،‬ترجمة محمد حافظ دياب‪ ،‬ط ‪ ،١‬المشروع‬
‫القومي للترجمة‪ ،‬العدد ‪٢٠٨٥‬ـ القاهرة ‪٢٠١٣‬‬
‫‪ 11‬ـ نيكوالس جين‪ ،‬مستقبل النظرية االجتماعية‪ (،‬حوارات مع سبعة من علماء االجتماع وأحد علماء‬

‫‪311‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫السياسة وأحد علماء اللسانيات) ترجمة ‪ :‬يسري عبد الحميد رسالن‪ ،‬المركز القومي للترجمة‪ ،‬ط ‪ ١‬ـ العدد‬
‫‪ ١٧٣٧‬ـ القاهرة ‪٢٠١٤‬‬
‫‪ 12‬ـ إيان كريب ‪ ،‬النظرية االجتماعية من باسونز إلى هابرماس‪ ،‬ترجمة ‪ :‬د‪ .‬محمد حسين غليوم ‪ ،‬عالم‬
‫المعرفة ـ العدد ‪ ،٢٤٤‬المجلس األعلى للثقافة والفنون واآلداب ـ الكويت ‪١٩٩٩‬‬
‫‪ 13‬ـ بيير بورديو ‪،‬أسئلة علم االجتماع ـ حول الثقافة والسلطة والعنف الرمزي ‪ ،‬ترحمة ابراهيم فتحي‪ ،‬دار‬
‫العالم الثالث ـ القاهرة ‪١٩٩٥‬‬
‫‪ 14‬ـ ابن خلدون ‪ ،‬مقدمة ابن خلدون‪ ،‬بتحقيق المستشرق الفرنسي‪ :‬أ ‪ .‬م‪ .‬كاترمير ‪ ٣ ،‬مجلدات ـ عن طبعة‬
‫باريس ‪ ، ١٨٥٨‬مكتبة لبنان ـ بيروت ‪١٩٩٢‬‬
‫‪ 15‬ـ ابن خلدون ‪ ،‬مقدمة ابن خلدون‪ 7 ،‬مجلدات‪ ،‬دار الطباعة الخديوية ببوالق مصر المعزية ـ القاهرة‬
‫‪١٢٨٤‬هـ ـ ‪ 1867‬م‬
‫‪ 16‬ـ أبو زيد ولى الدين عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون‪ ،‬العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم‬
‫والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان األكبر‪ ،‬اعتنى به ‪ :‬أبو صهيب الكرمي‪ ،‬بيت األفكار الدولية‪ ،‬عمان‬
‫ـ الرياض ‪ ،‬بدون تاريخ‬
‫‪ 17‬ـ ابن خلدون ‪ ،‬مقدمة ابن خلدون ‪ ،‬تحقيق عبد هللا محمد درويش‪ ،‬ط ‪ ،١‬دار يعرب ـ دمشق ‪٢٠٠٤‬‬
‫‪ 18‬ـ ابن خلدون‪ ،‬مقدمة ابن خلدون ‪ ،‬ضبط المتن ووضع الحواشي والفهارس ‪ :‬خليل شحادة‪ ،‬مراجعة‪ :‬د ‪.‬‬
‫سهيل زاكار‪ ،‬دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ـ بيروت ‪٢٠٠١‬‬
‫‪ 19‬ـ أبو خلدون ساطع الحصري‪ ،‬داسات عن مقدمة ابن خلدون‪،‬دار المعارف بمصرـ القاهرة ‪١٩٥٢‬‬
‫‪ 20‬ـ جوستون بوتول‪ ،‬ابن خلدون ‪ ..‬فلسفته االجتماعية‪ ،‬ترجمة ‪ :‬غنيم عبدون‪ ،‬أقالم عربية ‪ ،‬ط ‪ 1‬ـ القاهرة‬
‫‪.2019 ،2018‬‬
‫‪ 21‬ـ شهاب الدين أحمد بن محمد بن أبي الربيع‪ ،‬سلوك المالك في تدبير الممالك‪ ،‬تحقيق وتعليق وترجمة‪:‬‬
‫د‪.‬حامد عبدهللا ربيع ‪ ،‬جزءان ـ مطابع دار الشعب بالقاهرة ـ القاهرة ‪١٩٨٣‬‬
‫‪ 22‬ــ حجاج أبو جبر ‪ ،‬نقد العقل العلماني ‪ ..‬دراسة مقارنة لفكر زيجمونت باومان‪ ،‬وعبد الوهاب المسيري‪،‬‬
‫ط‪، 1‬المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات ‪ ،‬ط ‪ ، 1‬بيروت ‪2017‬‬
‫‪ 23‬ـ مؤلفون عديدون‪ ،‬ابستيمولوجيا العلوم اإلنسانية في الفكر العربي والفكر الغربي المعاصر‪ ،‬مركز‬
‫دراسات الوحدة العربية‪،‬ط‪ ١‬ـ بيروت ‪2017‬‬
‫‪ 24‬ـ زيحمونت باومان‪ ،‬وديفيد ليون‪ ،‬المراقبة السائلة‪ ،‬ط ‪ ،١‬ترجمة حجاج أبو جبر‪ ،‬تقديم ‪ :‬د‪ .‬هبة رءوف‬
‫عزت‪ ،‬الشبكة العربية لأليحاث والنشر ـ بيروت ‪٢٠١٧‬‬
‫‪ 25‬ـ زيجمونت باومان ‪ ،‬الحرية ‪ ،‬ترجمة د‪ .‬فريال حسن خليفة ‪ ،‬مكتبة مدلولي ـ القاهرة ‪٢٠١٢‬‬

‫‪312‬‬
‫‪ 26‬ـ زيجمونت باومان‪ ،‬الحداثة والهولوكست‪ ،‬ترجمة ‪ :‬حجاج أبو جبر‪ ،‬ودينا رمضان‪ ،‬مدارات لألبحاث‬
‫والنشر ـ القاهرة ‪٢٠١٤‬‬
‫‪ 27‬ـ زيجمومنت باومان‪ ،‬الحب السائل ‪ ..‬عن هشاشة الروابط اإلنسانية‪ ،‬ترجمة حجاج أبو جبر‪ ،‬تقديم ‪:‬‬
‫د‪ .‬هبة رءوف عزت‪ ،‬سلسلة الفقة االستراتيجي‪ ،‬العدد ‪ ، ٥‬ط ‪ ، ١‬الشبكة العربية لألبحاث والنشرـ بيروت‬
‫‪٢٠١٦‬‬
‫‪ 28‬ـ زيجمومنت باومان‪ ،‬الثقافة السائلة‪ ،‬ترجمة حجاج أبو جبر‪ ،‬تقديم ‪ :‬د‪ .‬هبة رءوف عزت‪ ،‬سلسلة الفقة‬
‫االستراتيجي‪ ،‬ط ‪ ، ١‬الشبكة العربية لألبحاث والنشرـ بيروت ‪٢٠١8‬‬
‫‪ 29‬ـ زيجمومنت باومان‪ ،‬األخالق في عصر الحداثة السائلة‪ ،‬ترجمة سعيد البازعي‪ ،‬وبثينة ابراهيم‪ ،‬هيئة‬
‫أبوظبي للسياحة والثقافة ‪ ،‬مشروع كلمة‪ ،‬ط ‪ ١‬ـ أبو ظبي ‪٢٠١٦‬‬
‫‪ 29‬ـ زيجمونت باومان‪ ،‬الخوف السائل‪ ،‬ترجمة حجاج أبو جبر‪ ،‬تقديم ‪ :‬د‪ .‬هبة رءوف عزت‪ ،‬الشبكة العربية‬
‫لألبحاث والنشر‪ ،‬ط ‪ ١‬ـ بيروت ‪2017‬‬
‫‪ 30‬ـ زيجمونت باومان‪ ،‬الحياة السائلة‪ ،‬ترجمة حجاج أبو جبر‪ ،‬تقديم ‪ :‬د‪ .‬هبة رءوف عزت‪ ،‬سلسلة الفقة‬
‫االسنراتيجي‪ ،‬العدد ‪، ٤‬ط ‪ ،١‬الشبكة العربية لألبحاث والنشر ـ بيروت ‪ 2016‬ـ ص ‪22‬‬
‫‪ 31‬ـ زيجمونت باومان‪ ،‬األزمنة السائلة ‪ ..‬العيش في زمن الال يقين‪ ،‬ترجمة حجاج أبو جبر‪ ،‬تقديم ‪ :‬د‪ .‬هبة‬
‫رءوف عزت‪ ،‬الشبكة العربية لألبحاث والنشر ‪ ،‬ط ‪1‬ـ بيروت ‪2017‬‬
‫‪ 32‬ـ زيجمونت باومان‪ ،‬الحداثة السائلة‪ ،‬ترجمة حجاج أبو جبر‪ ،‬تقديم ‪ :‬د‪ .‬هبة رءوف عزت‪ ،‬سلسلة الفقة‬
‫االسنراتيجي‪ ،‬العدد ‪ ،2‬ط ‪ ،١‬الشبكة العربية لألبحاث والنشر ‪ ،‬ط ‪1‬ـ بيروت ‪2016‬‬
‫‪ 33‬ـ زيجمونت باومان‪ ،‬الحداثة واإلبهام‪ ،‬ترجمة ‪ :‬حجاج أبو جبر‪ ،‬المركز القومي للترجمة ‪،‬العدد ‪3164‬‬
‫‪ ،‬القاهرة ‪2018‬‬
‫‪ 34‬ـ ديفيد هارفي‪ ،‬مدن متمردة‪ ..‬من الحق في المدينة إلى ثورة الحضر‪ ،‬ترجمة لبنى صبري‪ ،‬الشبكة العربية‬
‫لألبحاث والنشر‪ ،‬ط ‪ ١‬ـ بيروت ‪٢٠١٧‬‬
‫‪ 35‬ـ جي ديبور‪ ،‬مجتمع الفرجة‪ ،‬ترجمة أحمد حسان ‪ ،‬دار شرقيات للنشر والتوزيع ـ القاهرة ‪٢٠٠٠‬‬
‫‪ 36‬ـ فيليب تايلور‪ ،‬قصف العقول ‪ ..‬الدعاية للحرب منذ العالم القديم حتى العصر النووي‪ ،‬ترجمة سامي خشبة‬
‫عالم المعرفة ـ العدد ‪ ،256‬ـ المجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب ـ الكويت أبريل ‪2000‬‬
‫‪ 37‬ـ يورجن هابرماس‪ ،‬القول الفلسفي للحداثة‪ ،‬ترجمة‪ :‬فاطمة الجيوشي‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة ـ سوريا‬
‫‪١٩٩٥‬‬
‫‪ 38‬ـ هربرت ماركووز‪،‬اإلنسان ذو البعد الواحد‪ ،‬ترجمة جورج طرابيشي‪ ،‬ط ‪ ،٣‬دار اآلداب‪ ،‬بيروت‬
‫‪١٩٨٨‬‬

‫‪313‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬
‫‪ 39‬ـ جورجو أجامبين‪ ،‬حالة االستثناء‪ ،‬نقله إلى العربية ‪ :‬د‪ .‬ناصر اسماعيل‪ ،‬دار مدارات لألبحاث والنشر‪،‬‬
‫ط‪ ،١‬القاهرة ‪٢٠١٥‬‬
‫‪ 40‬ـ د ‪ .‬مصطفى حجازي‪ ،‬اإلنسان المهدور ‪ ..‬دراسة نحليلية نفسبة اجتماعية‪ ،‬ط ‪ ،١‬المركز الثقافي العربي‬
‫ـ الدار البيضاء ‪٢٠٠٥‬‬
‫‪ 41‬ـ د‪ .‬عبد الوهاب المسيري‪ ،‬الجماعات الوظيفية اليهودية ‪ ..‬نموذج تفسيري جديد ‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ط ‪ ٢‬ـ‬
‫القاهرة ‪٢٠٠٢‬‬
‫‪ 42‬ـ أالن تورين‪ ،‬نقد الحداثة‪ ،‬ترجمة ‪ :‬أنور مغيث‪ ،‬المركز القومي للترجمة ـ العدد ‪ ، ٣٨‬القاهرة ‪١٩٩٧‬‬
‫‪ 43‬ـ توماس س‪ .‬كوهن‪ ،‬بنية الثورات العلمية‪ ،‬ترجمة‪ :‬حيدر حاج اسماعيل‪ ،‬المنظمة العربية للترجمة ‪ ،‬ط‪١‬‬
‫ـ بيروت‪ ،‬سبتمبر‪.٢٠٠٧‬‬
‫‪ 44‬ـ توماس كوهن‪ ،‬بنية الثورات العلمية‪ ،‬ترجمة ‪ :‬شوقي جالل‪ ،‬عالم المعرفة ـ العدد ‪ ،١٦٨‬المجلس الوطني‬
‫للثقافة والفنون واآلداب ـ الكويت ـ ديسمبر ‪.١٩٩٢‬‬
‫‪ 45‬ـ مؤلفون عديدون‪ ،‬أزمة العلوم االجتماعية ‪ ..‬المظاهر واألفاق‪ ،‬مقال حامد عبد الماجد قويسي‬
‫بعنوان‪:‬إشكالية الوعي المنهاجي في علومنا االجتماعية ‪ :‬الظاهرة السياسية نموذجاً‪ ،‬سلسلة ندوات ومؤتمرات‪،‬‬
‫إصدار ‪ ،١‬ط‪ ،١‬مركز ابن خلدون للعلوم اإلنسانية واألجتماعية ـ جامعة قطر ‪٢٠٢١‬‬
‫‪ 46‬ـ د‪ .‬عبد الوهاب المسيري‪ ،‬الحلولية‪ ،‬ووحدة الوجود‪ ،‬الشبكة العربية لأليحاث والنشر‪ ،‬ط ‪ ١‬ـ بيروت‬
‫‪٢٠١٨‬‬
‫‪ 47‬ـ د‪ .‬جالل أمين‪ ،‬العولمة ‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ط ‪ ، ١‬القاهرة ‪2009‬‬
‫‪ 48‬ـ د‪ .‬المهدي المنجرة‪ ،‬عولمة العولمة من أجل التنوع الحضاري‪ ،‬منشورات الزمن‪ ،‬العدد ‪١٨‬ـ ط ‪ ٢‬ـ‬
‫الرباط ‪٢٠١١‬‬
‫‪ 49‬ـ د‪ .‬جمال حمدان‪« ،‬صفحات من أوراقه الخاصة» ‪ ..‬مذكرات في الجغرافيا السياسية‪ ،‬ط ‪ ، ١‬دار الغد‬
‫العربي ـ القاهرة ‪١٩٩٦‬‬
‫‪ 50‬ـ د ‪ .‬سعيد عبد الفتاح عاشور‪ ،‬أضواء على الحروب الصليبية‪ ،‬المكتبة الثقافية ‪ ،١١٨‬الثقافة واإلرشاد‬
‫القومي ‪ ..‬الدار المصرية للتأليف والترجمة ـ القاهرة ‪1964‬‬
‫‪ 51‬ـ ريتشارد دوكنز ‪ ..‬الدارونية الجديدة ‪ ..‬صانع الساعات األعمى‪ ،‬ترجمة مصطفى ابراهيم فهمي‪ ،‬ط ‪،2‬‬
‫دار العين للنشر ـ القاهرة ‪2002‬‬
‫‪ ، 52‬شوقي جالل‪ ،‬التراث والتاريخ ‪ ،‬كتب عربية‪ ،‬القاهرة ‪2006‬‬
‫‪ 53‬ـ أميل دور كايم‪ ،‬االنتحار‪ ،‬ترجمة ‪ :‬حسن عودة‪ ،‬الهيئة العامة السورية للكتاب ـ دمشق ‪٢٠١١‬‬
‫‪ 54‬ـ وزارة الدولة للتنمية اإلدارية‪ ،‬لجنة الشفافية والنزاهة‪« ،‬األطر الثقافية الحاكمة لسلوك المصريين‬
‫واختيارتهم ‪ ..‬دراسة لقيم النزاهة والشفافية والفساد»‪ ،‬ـ القاهرة ‪2009‬‬

‫‪314‬‬
‫‪ 55‬ـ نزية ن‪ .‬األيوبي‪ ،‬تضخيم الدولة العربية ‪ ..‬السياسة والمجتمع في الشرق األوسط‪ ،‬ط ‪ ،١‬ترجمة أمجد‬
‫حسين‪ ،‬المنظمة العربية للترجمة ـ بيروت ‪2010‬‬
‫‪ 56‬ـ محمد السيد سعيد‪ ،‬االنتقال الديمقراطي المحتجز في مصر‪ ،‬الهيئة العامة المصرية للكتاب‪ ،‬مكتبة األسرة‬
‫ـ القاهرة ‪2016‬‬
‫‪ 57‬ـ وائل ب‪ .‬حالق‪ ،‬الدولة المستحيلة‪ :‬اإلسالم والسياسة ومأزق الحداثة األخالقي‪ ،‬ترجمة‪:‬عمرو عثمان‪،‬‬
‫المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسة‪ ،‬سلسلة ترجمان ـ ط ‪ ١‬ـ بيروت ‪٢٠١٤‬‬
‫‪ 58‬ـ د‪ .‬هبة رءوف عزت ‪،‬الخيال السياسي لإلسالميين ‪ ..‬ماقبل الدولة وما يعدها‪ ،‬الشبكة العربية لألبحاث‬
‫والنشر‪ ،‬ط ‪ ٢‬ـ بيروت ‪٢٠١٥‬‬
‫‪ 59‬ـ د‪ .‬هبة رءوف عزت‪ ،‬نحو عمران جديد‪ ،‬الشبكة العربية لألبحاث والدراسات‪ ،‬سلسلة الفقة االسنراتيجي‬
‫ـ عدد ‪ ، ١‬ط ‪ ١‬ـ بيروت ‪٢٠١٥‬‬
‫‪ 60‬ـ د‪ .‬حامد عبد هللا ربيع‪ ،‬خطابات إلى األمة والقيادة‪ ،‬ثالثون رسالة سباسية حول ‪ :‬دو المفكر السياسي‬
‫ومسئوليته المجتمعية‪ ،‬مكنبة الشروق الدولية‪ ،‬ط ‪ ١‬ـ القاهرة ‪٢٠٠٧‬‬
‫‪ ، 61‬محمد بامية‪ ،‬العلوم االجتماعية في العالم العربي‪ ،‬أشكال الحضور‪ ،‬التقرير األول للمرصد العربي‬
‫للعلوم االجتماعية ـ المجلس العربي للعلوم االجتماعية‬
‫‪ 62‬ـ جاك دريدا‪ ،‬تاريخ الكذب‪ ،‬ترجمة رشيد بازي‪ ،‬المركز الثقافي العربي ـ ط ‪ 1‬ـ المغرب ‪ ،‬الدار البيضاء‬
‫ـ بيروت ‪ ،‬لبنان ‪2016‬‬
‫‪ 63‬ـ دافيد أو ـ سيز‪ ،‬ليوني هادي‪ ،‬روبرت جيرفيس‪ ،‬المرجع في علم النفس السياسي‪ ،‬ترجمة ‪ :‬ربيع وهبة‪،‬‬
‫مشيرة الجزيري‪ ،‬محمد الرخاوي ـ المشروع القومي للترجمة ـ العد ‪ ١٤٨٤‬ـ ط ‪ ١‬ـ القاهرة ‪٢٠١٠‬‬
‫‪ 64‬ـ شارل بلوندل‪ ،‬مقدمة في علم النفس االجتماعي‪ ،‬ترجمة ‪ :‬د‪ .‬محمود قاسم و د ‪ .‬ابراهيم سالمة‪ ،‬مكتبة‬
‫األنجلو المصرية ـ القاهرة ‪١٩٥١‬‬
‫‪ 65‬ـ العالمة الشيخ محمد ابن يوسف ابن عبد الجواد ابن خضر الشربيني‪ ،‬هز القحوف قي شرح قصيدة أبي‬
‫شادوف‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ ،‬التي طبعت على نفقة الشيخ محمود موسى شريف الكتبي‪ ،‬المطابع األميرية ببوالق‬
‫مصر المحمية ـ سنة ‪1308‬هـ ـ ‪1890‬م‬
‫‪ 66‬ـ تحقيق ومقدمة ‪:‬همفري تيمن ديفيز‪ ،‬تقديم‪ :‬د‪ .‬نللى حنا‪ ،‬هز القحوف بشرح قصيد أبي شادوف ـ بيترز‬
‫ـ لوفين ـ ‪2005‬‬
‫‪ 67‬ـ يوسف ابن محمد الشربيني‪ ،‬هز القحوف بشرح قصيد ابي شادوف‪ ،‬تحقيق همفري ديفيز‪ ،‬المكتبة‬
‫العربية ـ معهد جامعة نيويورك ـ أبوظبي ‪.‬‬
‫‪ ، 68‬د ‪ .‬جمال كمال محمود‪ ،‬األرض والفالح في صعيد مصر في العصر العثماني‪ ،‬الهيئة العامة المصرية‬

‫‪315‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫للكتاب‪ ،‬تاريخ المصريين‪ ،‬العدد ‪ ٢٨٥‬ـ القاهرة ‪٢٠١٠‬‬


‫‪ 69‬ـ د ‪.‬أنور عبد الملك‪ ،‬دراسات في الثقافة الوطنية‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بيروت‪1967 ،‬‬
‫‪ 70‬ـ بندكت أندرسون‪ ،‬الجماعات المتخيلة‪ ..‬تأمالت في أصل القومية وانتشارها‪ ،‬ترجمة ‪ :‬ثائر أديب‪ ،‬ط ‪،1‬‬
‫شركة قدمس للنشر والتوزيع ـ بيروت ‪2009‬‬
‫‪ 71‬ـ جوستون بوتول‪ ،‬ابن خلدون في فلسفته‪ ،‬ترجمة ‪ :‬غنيم عبدون‪ ،‬أقالم عربية‪ ،‬ط‪ ١‬ـ القاهرة ‪٢٠١٨‬‬
‫‪٢٠١٩ ،‬‬
‫‪ 72‬ـ فيدل سليستر‪ ،‬مدرسة فرانكفوت‪ ..‬نشأتها ومغزاها ـ وجهة نظر ماركسية ‪ ،‬ترجمة خليل كلفت‪،‬‬
‫المشروع القومي للترجمة‪ ،‬العدد ‪ 154‬ـ القاهرة ‪٢٠٠٠‬‬
‫‪ 73‬ـ هربرت ماركووز‪،‬اإلنسان ذو البعد الواحد‪ ،‬ترجمة جورج طرابيشي‪ ،‬ط ‪ ،٣‬دار اآلداب بيروت‬
‫‪.١٩٨٨‬‬
‫‪ 74‬ـ د‪ .‬على ليلة‪ ،‬النظرية االجتماعية وقضايا المجتمع ‪ ..‬قضايا التحديث والتنمية المستدامة‪ ،‬ج ‪ ، ١‬مكتبة‬
‫األنجلو المصرية ـ القاهرة ‪2015‬‬
‫‪ 75‬ـ د‪ .‬محمد الجوهري‪ ،‬المدخل إلى علم االجتماع ‪ ،‬القاهرة ‪2007‬‬
‫‪76‬ـ د‪ .‬محمد الجوهري وأخرون‪ ،‬مقدمة في دراسة التراث الشعبي ‪ ،‬ط ‪ ١‬ـ القاهرة ‪٢٠٠٦‬‬
‫‪ 77‬ـ محمد الجوهري‪ ،‬علياء شكري‪ ،‬مقدمة في دراسة األنثروبولوجيا ـ القاهرة ‪٢٠٠٧‬‬
‫‪ 78‬ـ وليامز هانز ‪ ،‬ما وراء التاريخ ‪ ،‬ترجمة وتقديم ‪ :‬أحمد أبو زيد ‪ ،‬المركز القومي للترجمة ـ العدد ‪1700‬‬
‫ـ القاهرة ‪2011‬‬
‫‪ 79‬ـ بحوث في األنثروبولجيا العربية‪ ،‬مؤلفون عديدون‪ ،‬تحرير ‪ :‬ناهد صالح‪ ،‬مطبوعات مركز البحوث‬
‫والدراسات االجتماعية ‪ ،‬ط‪ 1‬ـ القاهرة ‪2002‬‬
‫‪ 80‬ـ محمد سبيال‪ ،‬نوح الهرموزي‪ ،‬موسوعة المفاهيم األساسية في العلوم اإلنسانية والفلسفة ‪ ،‬منشورات‬
‫المتوسط‪ ،‬المركز العلمي العربي لألبحاث والدراسات واإلنسانية ‪ ،‬ط ‪ 1‬ـ المغرب ‪٢٠١٧‬‬
‫‪ 81‬ـ ادجار هوفر‪ ،‬النظرية المكانية في اختيار المكان المنسب للنشاط االقتصادي ‪ ،‬ط ‪ ،١‬تعريب عزت‬
‫عيسى غوراني‪،‬دار األفاق الجديدة ـ بيروت ‪1974‬‬
‫‪ 82‬ـ د‪ .‬محمد الجوهري وأخرون‪ ،‬علم االجتماع التطبيقي ـ القاهرة ‪2008‬‬
‫‪83‬ـ د‪ .‬مازن مرسول محمد‪ ،‬حفريات في الجسد المقموع ‪ ..‬مقاربة سوسيولوجية ثقافية‪ ،‬ط ‪ ، ١‬دار األمان‬
‫ـ الرباط ‪٢٠١٥‬‬
‫‪ 84‬ـ محمد الجوهري‪ ،‬دراسات انثروبولوجية معاصرة‪ ،‬دار المعرفة الجامعية ـ األسكندرية ‪١٩٩٨‬‬
‫‪ 85‬ـ إدريس مقبول ‪ ،‬اإلنسان والعمران واللسان‪ :‬رسالة في تدهور األنساق في المدينة العربية‪ ،‬المركز‬

‫‪316‬‬
‫العربي لألبحاث ودراسات السياسات ـ الدوحة ‪2020‬‬
‫‪ 86‬ـ د‪ .‬عبد الوهاب المسيري وأخرون‪ ،‬إشكالية التحيز‪ ..‬رؤية معرفية ودعوة لالجتهاد‪ ،‬ط ‪ ،٢‬المعهد العالمي‬
‫للفكر اإلسالمي ـ الواليات المتحدة األمريكية ‪١٩٩٦‬‬
‫‪ 87‬ـ د‪.‬الزواوي بغوره‪ ،‬ما بعد الحداثة والتنوير‪ ..‬موقف األنطولوجيا التاريخية ـ دراسة نقدية‪ ،‬ط ‪ 1‬ـ دار‬
‫الطليعة للطباعة والنشر ـ بيروت ‪2009‬‬
‫‪ 88‬ـ سيرجى قرة ‪/‬مورزا‪ ،‬التالعب بالوعى ‪ ،‬ترجمة ‪ :‬عياد عياد ‪ ،‬وزارة الثقافة ‪ ،‬الهيئة العامة السورية‬
‫للكتاب‪ ،‬دمشق ‪2012‬‬
‫‪ 89‬ـ الفن جولدنر‪ ،‬األزمة القادمة لعلم االجتماع الغربي‪ ،‬ترجمة على ليلة‪ ،‬المشروع القومي للترجمة‪،‬‬
‫المجلس القومي للترجمة ـ العدد ‪ ٦٦٧‬ـ القاهرة ‪٢٠٠٤‬‬
‫‪ 90‬ـ د‪ .‬على عباس مراد‪ ،‬الهندسة االجتماعية ‪ ..‬صناعة اإلنسان والمواطن ‪،‬ط ‪ ،١‬ابن النديم للنشر والتوزيع‪،‬‬
‫دار الروافد الثقافيةـ الجزائر‪ ،‬بيروت ‪٢٠١٧‬‬
‫‪ 91‬ـ هربرت أ‪ .‬شيللر‪ ،‬المتالعبون بالعقول ‪ ..‬كيف يجذب محركو الدمى الكبار في السياسة واإلعالن ووسائل‬
‫االتصال الجماهيري خيوط الرأي العام ؟‪ ،‬ترجمة ‪ :‬عبد السالم رضوان ‪ ،‬عام المعرفة ‪ ،‬العدد ‪ ، ٢٤٣‬المجلس‬
‫الوطني للثقافة والفنون واآلداب ـ الكويت ‪1999‬‬
‫‪ 92‬ـ هربرت ماركووز‪،‬اإلنسان ذو البعد الواحد‪ ،‬ترجمة جورج طرابيشي‪ ،‬ط ‪ ،٣‬دار اآلداب بيروت‬
‫‪.١٩٨٨‬‬
‫‪ 93‬ـ د ‪ .‬خالد فهمي‪ ،‬الجسد والحداثة‪ ،‬الطب والقانون في مصر الحديثة‪،‬ترجمة ‪:‬شريف يونس دار الكتب‬
‫والوثائق القومية بالقاهرة ـ القاهرة ‪٢٠٠٦‬‬
‫‪ 94‬ـ علماء الحملة الفرنسية‪ ،‬ترجمة زهير الشايب‪ ،‬وصف مصر ‪ ..‬المصريون المحدثون‪ ،‬الطبعة ‪ 3‬ـ دار‬
‫الشايب ـ القاهرة ‪1992‬‬
‫‪ 95‬ـ اللورد كرومر‪ ،‬مصر الحديثة ‪ ،‬ج‪، ٢‬ط ‪ ،١‬ترجمة صبري محمد حسن ـ المركز القومي للترجمة‪،‬عدد‬
‫رقم ‪ ٢١٥٧‬القاهرة ‪٢٠١٥‬‬
‫‪ 96‬ـ محمد الجوهري‪ ،‬علياء شكري‪ ،‬مقدمة في دراسة األنثروبولوجيا ـ القاهرة ‪٢٠٠٧‬‬
‫‪97‬ـ وليامز هانز ‪ ،‬ما وراء التاريخ ‪ ،‬ترجمة وتقديم ‪ :‬أحمد أبو زيد ‪ ،‬المركز القومي للترجمة ـ العدد ‪1700‬‬
‫ـ القاهرة ‪2011‬‬
‫‪98‬ـ بحوث في األنثروبولجيا العربية‪ ،‬مؤلفون عديدون‪ ،‬تحرير ‪ :‬ناهد صالح‪ ،‬مطبوعات مركز البحوث‬
‫والدراسات االجتماعية ‪ ،‬ط‪ 1‬ـ القاهرة ‪2002‬‬
‫‪99‬ـ محمد سبيال‪ ،‬نوح الهرموزي‪ ،‬موسوعة المفاهيم األساسية في العلوم اإلنسانية والفلسفة‪ ،‬منشورات‬
‫المتوسط‪ ،‬المركز العلمي العربي لألبحاث والدراسات واإلنسانية ‪ ،‬ط ‪ 1‬ـ المغرب ‪٢٠١٧‬‬

‫‪317‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬
‫‪100‬ـ د‪ .‬قاسم عبده قاسم‪ ،‬القراءة الشعبية للتاريخ‪ ،‬دار عين‪ ،‬القاهرة ‪2014‬‬
‫‪ 101‬ـ مجموعة مؤلفين‪ ،‬جدليّات االندماج االجتماعي وبناء الدولة واألمة في الوطن العربي‪ ،‬المركز العربي‬
‫لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،‬ط ‪ 1‬ـ بيروت ‪2014‬‬
‫‪ 102‬ـ ياسر بكر‪ ،‬حرب المعلومات‪ ،‬حواس للطبع والنشر ـ القاهرة ‪2017‬‬
‫‪103‬ـ ياسر بكر‪ ،‬صناعة الكذب‪ ،‬حواس للطبع والنشر ـ القاهرة ‪2013‬‬
‫‪ 104‬ـ سيرجى قرة ‪/‬مورزا‪ ،‬التالعب بالوعى ‪ ،‬ترجمة ‪ :‬عياد عياد‪ ،‬وزارة الثقافة ‪ ،‬الهيئة العامة السورية‬
‫للكتاب‪ ،‬دمشق ‪2012‬‬

‫‪ 105‬ـ ياسر بكر‪« ،‬فئران المركب» ‪ ..‬دراسة في التاريخ االجتماعي‪ E. Book ،‬ـ القاهرة‪.2021‬‬
‫‪ 106‬ـ دافيد إدواردز‪ ،‬دافيد كرومويل‪ ،‬حراس السلطة ‪ ..‬أسطورة وسائل اإلعالم الليبرالية ـ ترجمة آمال‬
‫الكيالني‪ ،‬مكتبة الشروق الدولية‪ ،‬القاهرة ‪2007‬‬
‫‪ 107‬ـ سارة البلتاجي‪ ،‬األمن االجتماعي ـ االقتصادي والمواطنة النشطة في المجتمع المصري‪ ،‬المركز‬
‫العربي لألبحاث ودراسة السياسات ‪ ،‬ط ‪1‬ـ بيروت ‪2016‬‬
‫‪108‬ـ ياسر بكر‪« ،‬شعب من األوز» ‪ ..‬مقدمة في علم اللغة االجتماعي‪ E. Book ،‬ـ القاهرة‪.2020‬‬
‫‪ 109‬ـ د‪ .‬ليلى عنان‪ ،‬الحملة الفرنسية بين األسطورة والحقيقة‪ :‬كتاب الهالل رقم ‪ 500‬أغسطس ‪،1992‬‬
‫القاهرة ‪1992‬‬
‫‪ 110‬ـ د‪ .‬ليلى عنان‪ ،‬الحملة الفرنسية تنوير أم تزوير‪ ،‬كتاب الهالل ‪ ،‬العدد رقم ‪ ،٥٦٧‬القاهرة ـ مارس‬
‫‪١٩٩٨‬‬
‫‪ 111‬ـ د‪.‬ليلى عنان ‪ ،‬الحملة الفرنسية في محكمة التاريخ‪ ،‬كتاب الهالل رقم ‪ 574‬أكتوبر ‪ 1998‬ـ الفاهرة‬
‫‪1998‬‬

‫‪ 112‬ـ د‪.‬نللي حنا‪ ،‬مصر العثمانية والتحوالت العالمية ‪ 1500‬ـ ‪ 1800‬هـ ‪ ،‬ترجمة مجدي جرجس‪ ،‬المركز‬
‫القومي للترجمة ـ عدد رقم ‪ ،2805‬الطبعة ‪ 1‬ـ القاهرة ‪2016‬‬
‫‪ 113‬ـ نابليون بونابرت‪ ،‬مذكرات نابليون‪ ..‬الحملة على مصر‪ ،‬ترجمة ‪ :‬عباس أبو غزالة‪ ،‬المركز القومي‬
‫للترجمة‪ ،‬العدد ‪ 2318‬ـ القاهرة ‪2019‬‬
‫‪114‬ـ ياسر بكر‪« ،‬الثقاقة الشعبية» ‪ ..‬وتشكيل العقل المصري ‪ E. Book ،‬ـ القاهرة‪.2021‬‬
‫‪ 115‬ـ د‪ .‬خالد فهمي‪ ،‬كل رجال الباشا ‪ ..‬محمد على وجيشه وبناء مصر الحديثة‪ ،‬ترجمة ‪ :‬شريف يونس‪،‬‬
‫ط‪ ،1‬دار الشروق ـ القاهرة ‪2001‬‬
‫‪116‬ـ ياسر بكر‪ ،‬أخالقيات الصورة الصحفية‪ ،‬حواس للطبع والنشر ـ القاهرة ‪2012‬‬

‫‪318‬‬
‫‪ 117‬ـ علم االجنماع الرقمي ‪ ..‬منظورات نقدية‪ ،‬تحرير‪ :‬كيت أورتون‪ ،‬جونسون‪ ،‬ونيكبريور‪ ،‬ترجمة‪:‬هاني‬
‫خميس أحمدعبده‪ ،‬عالم المعرفة‪ ،‬العدد ‪ ،٤٨٤‬المجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب‪ ،‬ط ‪ 1‬ـ الكويت‪،‬‬
‫يوليو‪٢٠٢١‬‬

‫‪.‬‬
‫الدويات العلمية ال ُمح َّكمة ‪:‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫‪1‬ـ مقال ‪:‬رشيد جرموني‪ ،‬التقرير العالمي حول العلوم االجتماعية لسنة ‪ ،٢٠١٠‬تقاسم المعرفة‪ ،‬مجلة‬
‫إضافات‪ ،‬مجلة أكاديمية فصلية محكمة‪ ،‬تصدر عن الجمعية العربية لعلم االجتماع بالتعاون مع مركز دراسات‬
‫الوحدة العربية‪ ،‬العدد ‪ ،١٦‬بيروت ـ خريف ‪2011‬‬

‫‪ 2‬ـ مقال د‪ .‬حسام فايز عبد الحي‪ ،‬مشاركة الجمهور في تقنيات الهندسة االجتماعية عبر موقع فيس بوك‬
‫وعالقتها بالخصوصية والتعويض النفسي لديهم ‪ ،‬مجلة البحوث اإلعالمية‪ ..‬مجلة علمية و محكمة تصدرها‬
‫كلية اإلعالم بجامة األزهر ‪ ،‬العدد ‪ ٥٥‬ـ ج ‪ ١‬ـ اكتوبر ‪٢٠٢٠‬‬

‫‪319‬‬
‫اإلنسان «السائل»‬

‫فهرس الكتاب ‪:‬‬


‫ـــــــــــــــــ‬
‫الصفحة‬ ‫الموضوع‬

‫‪7‬‬ ‫ـ المقدمة ‪.......................................................................‬‬


‫ـ الفصل األول‪:‬‬
‫األنمـوذج اإلرشـــادي‬
‫«البرادايم ‪43 ................................................. »Paradigm‬‬
‫ـ الفصل الثاني‪:‬‬
‫«العلوم الكولونيالية»‬
‫‪ ..‬وخــــــــــــراب العمـــــــران ‪137 .............................................‬‬
‫ـ الفصل الثالث ‪:‬‬
‫«لعـــــــبة» الحــاكـم الفـــــــــرد‬
‫‪ ..‬والمشروع الحداثي«التسلطي» ‪219 ...........................................‬‬
‫ـ الفصل الرابع ‪:‬‬
‫اإلنسان السائل ‪269 ................................................................‬‬

‫‪320‬‬
‫كتب للمؤلف ‪:‬‬

‫ـــــــــــــــــ‬

‫‪ 1‬ـ حكايات تافهه جداً ( مجموعة قصص قصيرة )‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ ‪ .. ON LINE‬اإلعالم البديل ( دراسة )‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ حنظلة ‪ ..‬صديقى رئيس التحرير ( رواية صحفية )‪..‬‬
‫‪ 4‬ـ أخالقيات الصورة الصحفية ( دراسة )‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ صناعة الكذب ( دراسة ) تتناول أشهر القصص المفبركة فى الصحف‬
‫المصرية‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ حرب المعلومات ( دراسة )‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ المذكرات ‪ ..‬و «القتل النظيف» ( دراسة )‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ حكايات من زمن الخوف ـ ثالثة أجزاء ـ (شهادة على العصر ‪ 1954‬ـ ‪.)2014‬‬
‫‪ 9‬ـ لمصر ‪ ..‬ال لألقباط ( دراسة في أحوال الجماعة الوطنية) ‪.‬‬
‫‪ 10‬ـ فئران المركب ( دراسة في التاريخ االجتماعي) ‪.‬‬
‫‪ 11‬ـ «شعب من األوز» ‪ ..‬مقدمة في علم اللغة االجتماعي (دراسة)‬
‫‪ 12‬ـ «الثقافة الشعبية» ‪ ..‬وتشكيل العقل المصري (دراسة)‬
‫‪ 13‬ـ مجتمع ُ‬
‫«الفرجة» ‪ ..‬وصناعة «اإلنسان ذو البُعد الواحد» ‪(..‬دراسة)‬
‫‪ 14‬ـ اإلنسان السائل ‪( ..‬دراسة)‬

‫‪321‬‬
: ‫النسخة الرقمية على الرابط‬

https://hekiattafihahgedan.blogspot.com
‫** «اإلنسان السائل» مصطلح صاغة عالم االجتماع زيجمومنت باومان في إطار‬
‫معالجته لنظرية «التقاطع المعرفي»؛ فمن خالل عملية «التجسير» بين العلوم المختلفة‬
‫أخذ حالة فيزيائية للمادة‪ ،‬وجعلها خاصية لنظام المجتمع الحالي ‪ ..‬أطلق باومان مصطلح‬
‫«السيولة» بشكل كبير بما يعني الصهر‪ ،‬والميوعة‪ ،‬واإلذابة في كل مؤلفاته التي عرفت فيما‬
‫بعد بـ «سلسلة السيولة» ليوصل للقارئ حالة اإلنسان في ترديه كحالة المادة المائعة السائلة‬
‫التي ال تعرف ثباتاً؛ ألن المعنى قد غاب‪ ،‬وأن اإلنسان أصبح أسير الخوف الدائم‪ ،‬وأن عليه‬
‫التدريب المستمر على االختفاء‪ ،‬والذوبان‪ ،‬واالنسحاب‪ ،‬والرحيل !! والجري وراء الفردية‬
‫التي خلفتها الحياة السائلة بحيث تراجعت الجماعة‪ ،‬وفقدت نظامها المناعي الذي كان يحميها‬
‫من المشكالت‪ ،‬وصار مشكلة في حد ذاته؛ فحالة األشياء صارت حالة من صنعنا؛ فأضحى‬
‫المجتمع «جماعة متخيلة» بمعنى أن المجتمع أصبح ظرف اجتماعي استغنى عن الخيال‬
‫في خدمة الفحص الذاتي‪ ،‬وأصبح المجتمع نافضاً يدية من العالقات بين األشخاص‪ ،‬وهو ما‬
‫يسمى بـ «عالم التفاعل المباشر بين األفراد» الذي تبرز فيه الفردية‪ ،‬وتتشكل فيه التعامالت‬
‫اليومية‪ ،‬وتعزز االختيار الحر الوهمي فقط!!‪ ،‬و اصبح الجري وراء سراب الفردية يستحوذ‬
‫على الناس بحيث ال يجدون وقت للراحة واالسترخاء‪.‬‬
‫ياسر بكر‬
‫ـــــــــــــــــ‬
‫‪E . Book‬‬

You might also like