Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 44

‫ِيم‬

‫الرح ِ‬ ‫ِب ْس ِم ال َّلـ ِه َّ‬


‫الر ْح َم ٰـ ِن َّ‬
‫هّٰللا‬
‫الحمد هللا رب العالمین ‪ ،‬وصلى على نبینا محمد وآله الطاهرین ‪ ،‬واللعن‬
‫الدائم على أعدائهم أجمعین ‪٠٠٠‬‬
‫توطئة ؛ فیها مقدمات ‪:‬‬

‫األولى ؛ في معنى العقیدة ‪:‬‬


‫العقیدة ‪ ،‬وهي معنى نسبي متكون من عاقد ومعقود علیه ومعقود له ‪،‬‬
‫وهي تعني اإللزام أیضا ‪ ،‬بأن یلتزم الشخص بشئ في قرارة نفسه ‪٠‬‬
‫والعقیدة بهذا المعنى النسبي ؛ هي ماعقد علیه القلب واللسان أو روح‬
‫اإلنسان ‪ ،‬وهو معنى اإلیمان ‪ ،‬فاإلیمان ؛ هو كل مایعتقد به اإلنسان ‪٠‬‬
‫ومنه یظهر لك ‪ ،‬إن مفردة العقیدة ‪ ،‬من المفردات المستحدثة التي‬
‫إستعملها المتكلمون والفقهاء ‪ ،‬وإال فمعناها في اإلستعمال الشرعي تعني‬
‫اإلیمان الذي یحرك اإلنسان نحو العمل ‪٠‬‬
‫ثم إن العقیدة لها منشئان ‪ ،‬فتارة یكون منشأها یؤدي الى اإللتزام بالعقیدة‬
‫الحقیقیة الصالحة ‪ ،‬وأخرى منشأها یؤدي الى اإللتزام بالعقیدة الوهمیة‬
‫الفاسدة ‪ ،‬وعلى هذا نجد الناس في المجتمعات على نحوین ؛ منهم من‬
‫یعتقد بالعقائد الحقیقیة ‪ ،‬ومنهم من یعتقد بالعقائد الباطلة ‪،‬‬
‫وفالسفة الغرب إستعملوا بدل مصطلح العقیدة ‪ ،‬مصطلح الرؤیة الكونیة‬
‫‪ ،‬فالرؤیة الكونیة تعني عندهم العقیدة ‪ ،‬إال أن على هذا اإلصطالح‬
‫إشكاال لسنا بصدده ‪٠‬‬

‫ومنشأ العقیدة اإلسالمیة الحقه لها طرق ‪:‬‬


‫األول ‪:‬العقل ‪٠‬‬
‫الثاني ‪ :‬القرآن الكریم ‪٠‬‬
‫الثالث ‪ :‬أحادیث النبي وأهل بیته ( صلوات اهللا علیهم ) ‪٠‬‬
‫وهذه الطرق الثالثة تعتبر هي المیزان في التمییز بین العقائد ‪ ،‬وإختالف‬
‫سائر فرق المسلمین في عقائدهم دون اإلمامیة ‪ ،‬إنما نشأ من التهاون‬
‫بهذه الموازین الثالثة ‪ ،‬وعدم اإلكتراث بها ‪ ،‬سیما المیزان الثالث وهم‬
‫أهل البیت (علیهم السالم ) ‪٠‬‬

‫الثانیة ‪:‬األحكام والسنن ‪:‬‬


‫ویعني بها المجعوالت واالعتبارات التي تنظم حیاة اإلنسان على‬
‫المستوى الفردي واالجتماعي وغیر ذلك ‪٠‬‬
‫وهي أیضا قوانین تعصم البشریة من الفساد فیما لو إلتزم بها ‪ ،‬وترتقي‬
‫بهم الى سلم الكمال والرقي والتكامل الروحي والمادي‪ ،‬فهي على‬
‫الصعید المعنوي ؛ تطهر البشریة من الرذائل النفسیة ‪ ،‬وتجعلهم في مقام‬
‫اإلنسانیة الكریمة وتخرجهم عن نظام الحیوانیة ‪ ،‬القائم على اإلعتداد‬
‫باألنانیة والتفرد ‪ ،‬واإلنغماس بالشهوات والملذات الغرائزیة ‪٠‬‬
‫وأما على الصعید المادي ؛ فاألحكام تنظم معیشة البشریة بما الیؤدي الى‬
‫التزاحم وبخس الحقوق وإستغالل الضعفاء ‪ ،‬على المستوى اإلجتماعي‬
‫واإلقتصادي والبیئي وعمارة األرض وغیر ذلك ‪٠‬‬
‫وهذه األحكام والسنن واآلداب ‪ ،‬قد أصطلحوا علیها متأخرا ‪ ،‬بالرؤیة‬
‫األیدلوجیة ‪٠‬‬

‫الثالثة ‪ :‬اإلسالم ‪:‬‬


‫هو الدین المتقوم باألركان الخمس ؛ الوالیة ‪ ،‬والصالة ‪ ،‬والزكاة ‪،‬‬
‫والصوم ‪ ،‬والحج ‪٠‬‬
‫ولإلسالم أحكام تترتب على الفرد والمجتمع المسلم ‪ ،‬وتترتب هذه‬
‫األحكام على اإلنسان بمجرد أن ینطق بالشهادتین ‪ ،‬وعدم إظهار الكفر ‪،‬‬
‫أو نصب العداء ألهل البیت ( علیهم السالم ) ‪ ،‬فلو تشهد الشهادتین‬
‫وأنكر ضرورة لدى جمیع المسلمین كما لو أنكر وجوب الصالة أو حرمة‬
‫الخمر مثال ‪ ،‬أو نصب العداء ألهل بیت النبي ( صلى اهللا علیه وآله ) ‪،‬‬
‫فهذا یكون كافرا خارجا عن ربقة اإلسالم ‪٠‬‬

‫الرابعة ‪ :‬اإلیمان ‪:‬‬


‫تقدم أن االیمان هو العقیدة ‪ ،‬فإذا أعتقد االنسان بما نطق به ‪ ،‬كان مؤمنا‬
‫‪ ،‬وهنا إجتمع االسالم مع اإلیمان ‪ ،‬وقد یكون المسلم مسلما والیكون‬
‫مؤمنا ‪ ،‬كما لو تشهد الشهادتین مع الشك بهما أو اإلنكار ‪ ،‬أو أعتقد‬
‫بإعتقاد فاسد ‪ ،‬ومثل هذا یسمى منافقا ‪ ،‬ألنه أظهر خالف أما أبطن من‬
‫ت اَأْلعْ رابُ آ َم َّنا قُ ْل َل ْم ُتْؤ ِم ُنوا‬
‫إعتقاد ‪ ،‬وقد أشار القرآن الكریم بقوله تعالى ‪ " :‬قا َل ِ‬
‫وب ُك ْم ‪" ٠٠٠‬‬ ‫َو ل ِكنْ قُولُوا َأسْ َلمْ نا َو َلمَّا َي ْد ُخ ِل اِإْليمانُ فِي قُلُ ِ‬
‫{الحجرات ‪}١٤/‬‬
‫ومنه یظهر ؛ أن األصل في اإلسالم ‪ ،‬هو التسلیم ‪ ،‬أعم من كونه قلبا أو‬
‫لسانا ‪٠‬‬

‫أحادیث في الباب ‪:‬‬


‫أورد الكلیني ( قدس سره ) في هذا الباب أحادیثا تبین الفارق بین اإلسالم‬
‫واإلیمان ‪،‬منها ماعن فضیل بن یسار قال ‪ :‬سمعت أبا عبداهللا ( علیه السالم )‬
‫یقول ‪ " :‬إن اإلیمان یشارك اإلسالم وال یشاركه اإلسالم ‪ ،‬إن اإلیمان ما وقر‬
‫في القلوب ‪ ،‬واإلسالم ماعلیه المناكح والمواریث وحقن الدماء ‪ ،‬واإلیمان‬
‫یشرك اإلسالم ال یشرك اإلیمان " { الكافي ‪ / ٢٦/ ٢/‬باب إن االسالم یحقن‬
‫به الدم ‪ /‬ح ‪}٣‬‬
‫وعن أبي الصباح الكناني قال ‪ :‬قلت ألبي عبداهللا (علیه السالم ) أیهما أفضل‬
‫االیمان أو االسالم ؟ ‪ ،‬فإن من قبلنا یقولون ؛ إن االسالم أفضل من اإلیمان‬
‫‪٠‬‬
‫فقال ‪ :‬اإلیمان أرفع من اإلسالم ‪٠‬‬
‫قلت ‪ :‬فأوجدني ذلك ‪ (،‬أي أظفرني ذلك ) ‪٠‬‬
‫قال ( علیه السالم ) ‪ :‬ماتقول فیمن أحدث في المسجد الحرام متعمدا ؟‬
‫قال ‪ :‬قلت ؛ یضرب ضربا شدیدا ‪٠‬‬
‫قال ‪ :‬أصبت ‪ ،‬قال ‪ :‬فما تقول فیمن أحدث في الكعبة متعمدا ؟‬
‫قلت ‪ :‬یقتل ‪٠‬‬
‫قال ‪ :‬أصبت ‪ ،‬أال ترى أن الكعبة أفضل من المسجد وأن الكعبة تشرك‬
‫المسجد والمسجد الیشرك الكعبة ‪ ،‬وكذلك اإلیمان یشرك اإلسالم واإلسالم‬
‫الیشرك اإلیمان ‪ {٠‬ان االیمان یشرك االسالم ‪ /‬ح ‪}٤‬‬
‫وعن أبي بصیر عن جعفر ( علیه السالم ) قال ؛ سمعته یقول ‪ " :‬قالت‬
‫األعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ‪، ٠٠٠‬فمن زعم أنهم آمنوا فقد‬
‫كذب ‪ ،‬ومن زعم أنهم لم یسلموا فقد كذب "‬
‫{ باب إن االسالم الیشرك االیمان ‪ /‬ح‪} ٥‬‬
‫وعن حمران بن أعین عن أبي جعفر ( علیه السالم ) قال ‪ ،‬سمعته یقول ؛‬
‫اإلیمان ما استقر في القلب وأفضى به الى اهللا عزوجل بالطاعة هللا والتسلیم‬
‫ألمره ‪ ،‬واإلسالم ماظهر من قول أو فعل وهو الذي علیه جماعة الناس من‬
‫الفرق كلها ‪ ،‬وبه حقنت الدماء وعلیه جرت المواریث وجاز النكاح واجتمعوا‬
‫على الصالة والزكاة والصوم والحج ‪ ،‬فخرجوا بذلك من الكفر وأضیفوا الى‬
‫االیمان ‪ ،‬واإلسالم الیشرك االیمان ‪ ،‬واإلیمان یشرك االسالم وهما في القول‬
‫والفعل یجتمعان ‪٠٠٠‬إلخ الحدیث ‪ { ٠‬باب ان االیمان الیشرك االسالم ‪ /‬ح ‪٠} ٥‬‬

‫ومن هذا ظهر لك تعامل النبي ( صلى اهللا علیه وآله ) مع مسلمة الفتح‪ ،‬وهم‬
‫الطلقاء الذین أطلق سراحهم عند فتح مكة كأبي سفیان وهند ومعاویة وخالد‬
‫ابن الولید وغیرهم ‪ ،‬هم ممن ابطنوا الكفر والنفاق ‪ ،‬إإل أنه (صلى اهللا علیه‬
‫وآله ) كان یعاملهم على ظاهر االسالم كما عرفت ‪٠‬‬

‫أصول الدین ‪:‬‬


‫األصل ؛ هو األساس الذي یبتني علیه الشئ ‪٠‬‬
‫وأصول األدیان السماویة ثالثة ‪ ،‬التوحید ‪ ،‬والنبوة ‪ ،‬والمعاد ‪ ،‬إال أن التوحید‬
‫لما كان فیه جهتان ؛ توحید الذات ‪ ،‬وتوحید الصفات ‪ ،‬وكان صفة العدل‬
‫محل بین المتكلمین ‪ ،‬فأنكر ثبوتها األشاعرة ‪ ،‬وأثبتها المعتزلة واإلمامیة ‪،‬‬
‫فمع ضرورة اإلیمان بها كصفه للباري عزوجل یقرها العقل البشري‬
‫والفطرة السلیمة ‪ ،‬وإنتفاءها عنه عزوجل یؤدي الى نسبة القبیح علیه تعالى‬
‫عن ذلك ‪ ،‬إقتضى ذكرها كأصل یمیز العدلیة عن غیرهم ‪٠‬‬
‫وأما اإلمامة فهي ضرورة إسالمیة تمیز به مذهب اإلمامیة عن سائر الفرق ‪،‬‬
‫إذ تعتبر اإلمتداد لهدایة البشریة بعد النبي الخاتم ( صلى اهللا علیه وآله ) ‪،‬‬
‫مما أقتضى عدها ضمن األصول ‪٠‬‬

‫فروع الدین ‪:‬‬


‫الفرع ‪ ،‬هو ماینبع وینبعث من األصل ‪٠‬‬
‫وهي عند اإلمامیة ( أیدهم اهللا تعالى ) عشرة ؛ الصالة‬
‫‪ ،‬والصوم ‪ ،‬والزكاة ‪ ،‬والخمس ‪ ،‬والحج ‪ ،‬والجهاد ‪ ،‬واألمر بالمعروف ‪ ،‬والنهي‬
‫عن المنكر‪ ٠‬و الوالية (التولّي) للنبي وآله (عليهم السالم) ‪ ،‬والبراءة (التبرّ ي)‬
‫من أعداء النبي وآله (عليهم السالم)‬

‫وكل من األصول والفروع تسمي ثوابت على ما يصطلح علیه متأخرا ‪،‬‬
‫ویعني بالثابت ؛ هو كل مورد في الدین یشكل ضرورة غیر قابلة لإلجتهاد‬
‫والنظر ‪ ،‬فمثال ؛ لو أخذنا اإلمامة التي هي من االصول ‪ ،‬فإنها غیر قابلة‬
‫للتغیر والتنازل عنها ‪ ،‬لتواتر ثبوتها شرعا ‪ ،‬وضرورتها عقال ‪ ،‬فاإلجتهاد‬
‫في عدمها الیجدي نفعا ‪ ،‬بل یؤدي الى الفساد وإلغاء خط الهداية بعد‬
‫النبي ( صلى اهللا علیه وآله ) ‪ ،‬كما وقع فیه سائر المذاهب والفرق ‪٠‬‬

‫الخامسة ‪ :‬الثابت والمتغیر ‪:‬‬


‫تقدمت اإلشارة الى الثابت والمتغیر ‪ ،‬ولتوضیحهما یقال ‪:‬‬
‫المراد من الثابت الدیني ‪،‬هو األمر الغیر قابل للتبدل ‪ ،‬أو اإلجتهاد والتالعب‬
‫‪ ،‬وهو ینطبق على موارد كثیرة في الدین في من أصول وفروع وأحكام‬
‫وآداب وسنن ‪ ،‬وتقدم مثال اإلمامة ‪ ،‬واآلن نوضح مثال آخر في األحكام ‪،‬‬
‫فمثال عندما نرجع الى مفردة الحجاب للمرأة في اإلسالم نجد أن هذه المفردة‬
‫بهذه الصیغة تقرر في الشرع المقدس ‪ ،‬بأن یقال ‪:‬‬
‫یجب على المرأة إرتداء الحجاب بما التظهر لألجنبي مفاتنها من إنتقاء اللون‬
‫الملفت لألنظار ولبس المالبس الضیقة ونحو ذلك ‪٠‬‬
‫فلو تالعب شخص ما بهذه المفردة الدینیة ‪ ،‬وقال ؛ إنه یكفي من الحجاب‬
‫مایستر شعر المرأة كیفما كان وغض النظر الى بروز المفاتن ‪ ،‬كان هذا‬
‫التالعب بهذا الحكم الرباني من باب التنزل عن المفردة الدینیة ‪٠‬‬
‫هذا مع أن هذه المفردة الشرعیة غیر قابله للتنازل والتالعب ‪ ،‬النها ثابت من‬
‫الثوابت ‪٠‬‬
‫نعم هناك بعض الموارد الشرعیة قد تتغیر ‪ ،‬وتسمى المتغیر الدیني وقد‬
‫یمثل له في إستنباطات الفقیه وفهمه للنص الشرعي فقد ینتهي اإلجتهاد‬
‫والنظر في مسأله حرمة العصیر العنبي إذا غال أو نش ‪ ،‬وقد ینتهي نظر‬
‫فقیه آخر أن العصیر یحرم بالغلیان دون النشیش ‪ ،‬فبهذا المقدار في هذه‬
‫المسألة تكون متغیر بالنسبة الى إختالف الفتوى ‪ ،‬أو أن تغیر المسألة بمقدار‬
‫الضرورة أو لزوم الحرج أو المشقة ‪ ،‬نظیر من أضطر الى أكل المیتة لدفع‬
‫الموت من الجوع عن نفسه ‪ ،‬وترخیص اإلفطار في الصوم للشیخ والشیخة‬
‫إذا لزم الحرج والمشقة ‪ ،‬وغیر ذلك ‪ ،‬على أن الترخیص في بعض الموارد‬
‫‪ ،‬أو إلزام المكلفین في بعض الموارد إنما هي وظیفة المشرع اإلسالمي ‪،‬‬
‫ولیست وظیفة لكل أحد ‪٠‬‬

‫وكیف ماكان ‪ ،‬إن هذین اإلصطالحین ( الثابت والمتغیر ) من‬


‫اإلصطالحات المستحدثة والطارئة ‪ ،‬قد حاول إقحامها في المفاهیم والعقائد‬
‫اإلسالمیة ‪٠‬‬

‫السادسة ‪ :‬شرفیة العلم بالدین ‪:‬‬


‫قرر بعض األكابر شرفیة علم الدین بهذا التقریب ‪:‬‬
‫اإلنسان یعشق العلم بفطرته ‪ ،‬ألن ما به یكون اإلنسان إنسانا هو العقل ‪،‬‬
‫وثمرة العقل هو العلم ‪ ،‬ولهذا إذا قلت للجاهل ؛ یتجاهل ‪ ،‬یحزن ‪ ،‬مع أنه‬
‫یعلم بكونه جاهال ‪ ،‬بینما إذا نسبت الجاهل الى العلم یفرح ‪ ،‬وهو یعلم أنه‬
‫لیس بعالم ‪٠‬‬
‫وحیث أن اإلسالم دین الفطرة ‪ ،‬فقد جعل نسبة العلم الى الجهل نسبة النور‬
‫الى الظلمة ‪ ،‬ونسبة الحیاة الى الموت " العالم بین الجهال كالحي بین األموات "‬
‫{ منقول عن أمالي المفید ‪} ٢٩ /‬‬
‫وكل علم وإن كان بذاته شریفا إال أن مراتب العلوم متفاوتة بسبب عدة أمور‬
‫كموضوع العلم ونتیجته ‪ ،‬ونوع اإلستدالل فیه ‪ ،‬فالعلم الباحث عن اإلنسان‬
‫أشرف من العلم الباحث عن النبات ‪ ،‬بنسبة فضل اإلنسان على النبات ‪،‬‬
‫والعلم الباحث عن ضمان سالمة اإلنسان أشرف من العلم الباحث عن ضمان‬
‫أمواله ‪ ،‬بنسبة شرف حیاة اإلنسان على ماله ‪ ،‬والعلم الذي یقدم نتائجه من‬
‫البرهانیات أشرف من العلم الذي یستند الى الفرضیات ‪ ،‬بنسبة شرف الیقین‬
‫من البرهان على الظن الناتج من الفرضیات ‪٠‬‬

‫وعلى هذا ‪ ،‬فإن أشرف العلوم هو العلم الذي موضوعه ( اهللا ) تبارك‬
‫وتعالى ‪ ،‬مع مالحظة نسبة شرف اهللا تعالى على غیره لیست كنسبة البحار‬
‫الى القطرة ‪ ،‬وال كنسبة الشمس الى الذرة ‪ ،‬بل نسبة غیر المتناهي الى‬
‫المتناهي ‪٠‬‬
‫وبالنظر الدقیق فإن الفقیر بالذات الیمكن أن یكون طرفا في النسبة مع الغني‬
‫بالذات‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫" َو َع َن ِ ْ‬
‫ت الوُ جُوهُ لِل َحيِّ ال َقي ِ‬
‫ُّوم ‪{ " ٠٠٠‬طه ‪}١١١ /‬‬

‫وثمرة علم الدین هو اإلیمان والعمل الصالح ‪ ،‬اللذان یترتب علیما السعادة في‬
‫" َمنْ َع ِم َل صالِحا ً ِمنْ َذ َك ٍر َأ ْو ُأ ْنثى‏ َو ه َُو مُْؤ ِمنٌ َف َل ُنحْ ِي َي َّن ُه َحيا ًة َط ِّي َب ًة َو َل َنجْ ِز َي َّن ُه ْم‬
‫ون "‬ ‫َأجْ َر ُه ْم ِبَأحْ َس ِن ما كا ُنوا َيعْ َملُ َ‬
‫{النحل ‪ ( }٩٧ /‬انظر مقدمة في أصول الدین ‪ /‬آیة اهللا الوحید الخراساني ‪)١١ /‬‬
‫باب ‪ :‬في بیان أصول الدین‬
‫التوحید ‪:‬‬
‫وهذا هو األصل االول في الدین ‪ ،‬ویعني به اإلیمان بالخالق الواحد وهو اهللا‬
‫عزوجل ذكره ‪ ،‬ونفي الشریك عنه ‪٠‬‬
‫ووجه البحث في هذا األصل من وجوه متعددة ؛‬
‫منها ‪ :‬إثبات وجود اهللا عزوجل ‪ ،‬والبراهین على وجوده بعدد أنفاس الخالئق‬
‫‪ ،‬على أن البرهان على وجوده عزوجل یشترك في إدراكه وإستیعابه كل‬
‫ت ُر ُسلُ ُه ْم َأ فِي‬ ‫أنسان مهما كان مستواه في اإلدراك والثقافة ‪ ،‬قال عزوجل " قا َل ْ‬
‫وب ُك ْم َو ُيَؤ ِّخ َر ُك ْم ِإلى‏‬ ‫ت َو اَأْلرْ ِ‬
‫ض َي ْدعُو ُك ْم لِ َي ْغف َِر َل ُك ْم ِمنْ ُذ ُن ِ‬ ‫اللَّـ ِه َش ٌّ‬
‫ك فاطِ ِر السَّماوا ِ‬
‫َأ َج ٍل م َُس ًّمى ‪٠٠٠‬إلخ اآلیة " { إبراهیم ‪}١٠ /‬‬
‫ومن البراهین الفطریة التي أشارات لها أیات عدیدة في القرآن الكریم‬
‫واألحادیث الشریفة ‪،‬هو برهان العلة والمعلول ‪ ،‬وهو موجود في جبلة‬
‫اإلنسان ‪ ،‬ویقرر هذا البرهان بهذا التقریب ‪:‬‬
‫إن ما من موجود إال وله علة في إیجاده ‪ ،‬بدأ من الشئ الصغیر الى الشئ‬
‫الكبیر ‪ ،‬وكل شئ یحیط بنا وبغیرنا من الموجودات ‪،‬‬
‫فكل شخص منا یحتاج الى سبب في وجوده ‪ ،‬وسبب وجودنا هم األباء‬
‫واإلمهات وهكذا بالنسبة الى أبائنا وأمهاتنا البد من سبب في إیجادهم حتى‬
‫یصل األمر الى سبب لیس له سبب ‪ ،‬والسبب الذي لیس له سبب هو العلة‬
‫التامة في اإلیجاد وهو اهللا عزوجل ‪٠‬‬

‫واهللا واهب الوجود لمن كان في طور العدم ‪ ،‬وكل سبب دون اهللا عزوجل‬
‫هو علل ناقصة ‪ ،‬وهذه األسباب الناقصة وجودها وعدمها على حد سواء ‪،‬‬
‫نعم وهب الوجود لها مبدأ الوجود وهو اهللا عزوجل ‪ ٠‬قال هللا تعالى‬
‫ت ُأِلولِي اَأْل ْلبا ِ‬
‫ب‬ ‫اختِالفِ اللَّي ِْل َو ال َّن ِ‬
‫هار آَل يا ٍ‬ ‫ض َو ْ‬ ‫ت َو اَأْلرْ ِ‬‫" ِإنَّ فِي َخ ْل ِق السَّماوا ِ‬
‫ُون فِي َخ ْل ِق السَّماوا ِ‬
‫ت‬ ‫وب ِه ْم َو َي َت َف َّكر َ‬ ‫ِين َي ْذ ُكر َ‬
‫ُون هَّللا َ قِياما ً َو قُعُوداً َو َعلى‏ ُج ُن ِ‬ ‫‪ ،‬الَّذ َ‬
‫ار "‬ ‫ت هذا باطِ الً ُسبْحا َن َك َفقِنا َع َ‬
‫ذاب ال َّن ِ‬ ‫ض َربَّنا ما َخ َل ْق َ‬ ‫َو اَأْلرْ ِ‬
‫{آل عمران ‪}١٩١- ١٩٠ /‬‬
‫وهتان اآلیتان تقرر هذا البرهان الذي یتم عند اإلنسان بأدنى تفكر ‪ ،‬فلو أن‬
‫أي شخص قرأ هذه اآلیات ونحوها ‪ ،‬لتفطن الى هذا البرهان النه منسجم مع‬
‫الفطرة البشریة والعقل السلیم ‪٠‬‬

‫اإلیمان باهللا تعالى مغروز في أعماق اإلنسان ‪:‬‬


‫اإلنسان موجود ضعیف ‪ ،‬ومعرض لألخطار التي تفني وجوده وتلقي الرعب‬
‫والخوف في قلبه ‪ ،‬وهذا ما یقتضي وجود قوة یستند إلیها في وجوده ‪،‬‬
‫والقوى التي یستند إلیها ؛ أما أن تكون أسباب محدودة في دفاعها الخطر‬
‫عنه ‪ ،‬وأما أن تكون سبب غیر محدودة ‪ ،‬بحث یكون هذا السبب قادرا على‬
‫كل شئ ‪ ،‬فهو قوة وقدرة مطلقة ‪٠‬‬
‫واالسباب المحدودة على أنحاء متعددة ‪ ،‬أما أن تكون إجتماعیة ‪ ،‬أو عسكریة‬
‫‪ ،‬أو إقتصادیة ‪ ،‬أو غیر ذلك ‪ ،‬وكلها التجدي فیما لو تعرض اإلنسان الى‬
‫خطر أحیط به اإل في موارد محدودة ‪ ،‬یعلم بها اإلنسان أنها ینتفع بها في تلك‬
‫الموارد ‪ ،‬إال أنه إذا عجزت هذه‬
‫األسباب فال یجد من نفسه إال أن یتعلق قلبه بالسبب والقدرة المطلقة ‪ ،‬وهذه‬
‫القدرة المطلقة هو اهللا عزوجل الذي أغرز اإلیمان في أعماق كل أنسان ‪،‬‬
‫وغروز اإلیمان به سبحانه ‪ ،‬هو الفطرة ‪ ،‬قال عزوجل " قُ ْل َمنْ ُي َنجِّ ي ُك ْم ِمنْ‬
‫ضرُّ عا ً َو ُخ ْف َي ًة َلِئنْ َأ ْنجانا ِمنْ ه ِذ ِه َل َن ُكو َننَّ م َِن‬ ‫ت ْال َبرِّ َو ْال َبحْ ِر َت ْدعُو َن ُه َت َ‬
‫ظلُما ِ‬ ‫ُ‬
‫ين " {االنعام ‪}٦٣ /‬‬ ‫ال َّشاك ِِر َ‬
‫سان ضُرٌّ دَ عا َر َّب ُه ُمنِيبا ً ِإ َل ْي ِه ُث َّم ِإذا َخوَّ َل ُه ِنعْ َم ًة ِم ْن ُه‬ ‫وقال عز وجل " َو ِإذا َمسَّ اِإْل ْن َ‬
‫كان َي ْدعُوا ِإ َل ْي ِه ِمنْ َق ْب ُل َو َج َع َل لِلَّـ ِه َأ ْنداداً لِيُضِ َّل َعنْ َس ِبيلِ ِه ‪" ٠٠٠‬‬ ‫َنسِ َي ما َ‬
‫{ الزمر ‪} ٨ /‬‬
‫وقال عز وجل " ه َُو الَّذِي ي َُس ِّي ُر ُك ْم فِي ْال َبرِّ َو ْال َبحْ ِر َح َّتى ِإذا ُك ْن ُت ْم فِي ْالفُ ْلكِ َو‬
‫يح َط ِّي َب ٍة َو َف ِرحُوا ِبها جا َء ْتها ِري ٌح عاصِ فٌ َو جا َء ُه ُم ْال َم ْو ُج ِمنْ ُك ِّل‬ ‫َج َري َْن ِب ِه ْم ِب ِر ٍ‬
‫ين َلِئنْ َأ ْن َج ْي َتنا ِمنْ ه ِذ ِه‬
‫ين َل ُه ال ِّد َ‬ ‫كان َو َظ ُّنوا َأ َّن ُه ْم ُأح َ‬
‫ِيط ِب ِه ْم دَ َعوُ ا هَّللا َ م ُْخلِصِ َ‬ ‫َم ٍ‬
‫ين " {یونس ‪}٢٢/‬‬ ‫َل َن ُكو َننَّ م َِن ال َّشاك ِِر َ‬
‫والى هذه الفطرة الخالیة من التعقید نبه األنبیاء واألوصیاء البشریة ‪ ،‬ولذا قال‬
‫رجل لموالنا الصادق ( علیه السالم) ؛" یا ابن رسول اهللا دلني على اهللا ماهو؟ ‪،‬‬
‫فلقد أكثر علي المجادلون وحیروني !‪٠‬‬
‫فقال له ‪ :‬یاعبداهللا ‪ ،‬هل ركبت سفینة ؟‬
‫قال ‪ :‬نعم ‪٠‬‬
‫قال ‪ :‬فهل كسر بك حیث ال سفینة تنجیك ‪ ،‬وسباحة تغنیك ؟‬
‫قال ‪ :‬نعم ‪٠‬‬
‫قال ‪ :‬فهل تعلق قلبك هنالك أن شیئا من األشیاء قادر على أن یخلصك من‬
‫ورطتك ؟‬
‫قال ‪ :‬نعم ‪٠‬‬
‫قال موالنا الصادق ( علیه السالم ) ‪ :‬فذلك الشئ هو اهللا القادر على اإلنجاء ‪٠‬‬
‫حیث ال منجي ‪ ،‬وعلى اإلغاثة حیث ال مغیث "‬
‫(توحید الصدوق ‪/٢٣١ /‬ب‪/ ٣١‬ح‪)٥‬‬

‫إستدالل السید أبن طاووس (قدس سره )‪:‬‬


‫بین السید رضي الدین بن طاووس إستدالال في غایة اللطافة على أن فطرة‬
‫أبن آدم ملهمة معلمة من اهللا جل جالله ‪ ،‬بأن األثر دال على محدثه ‪٠‬‬
‫قال (قدس سره) عند قوله تعالى ‪ ":‬فأقم وجهك للدین حنیفا فطرت اهللا التي‬
‫فطر الناس علیها " {الروم ‪}٣٠ /‬‬
‫فإنك تجد ابن آدم إذا كان له نحو من سبع سنین ‪ ،‬والى قبل بلوغه الى مقام‬
‫المكلفین ‪ ،‬لو كان جالسا مع جماعة فألتفت الى وراءه فجعل واحد منهم بین‬
‫یدیه شیئا مأكوال أو غیره ما حضر بذاته ‪ ،‬وإنما حضر أحضره غیره ‪،‬‬
‫ویعلم ذلك على غایة عظیمة من التحقیق والكشف والضیاء والجالء ‪ ،‬ثم‬
‫إلتفت مرة أخرى الى ورائه ‪ ،‬فأخذ بعض الحاضرین ذلك من بین یدیه ‪ ،‬فإنه‬
‫إذا عاد وإلتفت إلیه ولم یره موجودا فال شك أنه أخذه أحد سواه ‪ ،‬ولو حلف‬
‫له كل من حضر ذلك الطعام بذاته ‪ ،‬وذهب بذاته كذب الحالف ورد علیه‬
‫دعواه ‪ ،‬فهذا یدلك على أن فطرة أبن آدم ملهمه معلمة من اهللا جل جالله بأن‬
‫األثر دال على محدثه ‪٠‬‬
‫ثم قال ( قدس سره ) ‪ :‬ولو فرضنا أن عبدا من عباد اهللا ‪ ،‬ماجعل له في‬
‫فطرته األولیة ‪ ،‬أن األثر دال على المؤثر بالكلیة ‪ ،‬والنبهه جل جالله بعد‬
‫بلوغه وكمال عقله على معرفته وال على مایجب علیه من المعارف بشئ من‬
‫إبتداء فضله ورحمته ‪ ،‬فإنه یجب على هذا العبد النظر فیما یجب علیه من‬
‫التكلیف والتوصل في التعریف بكل طریق من طرق التحقیق ‪ ،‬وعلى وجه‬
‫وسبیل من سبل التوفیق ‪ ،‬ومتى ماوصل الى غایة هداه على صانع لوجوده ‪،‬‬
‫فإیاه أن یصرف الناظر خاطره ‪ ،‬أو یخلي سرائره من اإلعتماد على مراحم‬
‫ومكارم صانع وجوده ‪ ،‬فإن القادر بذاته یفتح إذا شاء على قدر قدرته الباهرة‬
‫‪ ،‬والعبد الناظر القادر بغیره الیفتح بنفسه إال بقدر قدرته القاصرة ‪ ،‬وذلك‬
‫الفتوح اإللهي أقوى إتصاالً وأبقى كماالً وأتم نورا وأعم سرورا وأوضح في‬
‫اإلطالع على األسرار ‪ ،‬وأرجح في عمارة األفكار ‪ ،‬إنتهى كالمه ‪ { ٠‬انظر‬
‫كتاب إحیاء النفوس بآداب أبن طاووس ‪ /‬السید حسن الصدر ‪} ٨٣-٨٢- ٨١ /‬‬

‫بیان للفطرة البشریة ‪:‬‬


‫من المفردات المستعملة والمتداولة على األلس هو مفردة الفطرة ‪ ،‬وهي تعني‬
‫أصل الخلقة ‪ ،‬والجبلة التي جبل علیها اإلنسان ‪ ،‬وهي في مكون ذاته كما‬
‫أشار حدیث موالنا الصادق (علیه السالم ) ‪ ،‬وهي التوحید واإلیمان باهللا عز‬
‫وجل ‪ ،‬ولذا فسر قوله تعالى‬
‫" فطرة اهللا التي فطر الناس علیها " بأنها‬
‫اهللا عز وجل ‪ ،‬إذ هو الدین الذي یدان به العبد ‪ ،‬وقد أشار القرآن الكریم الى‬
‫إیجادها في نفس اإلنسان وأقر بها اإلنسان قبل وجوده في األرض ‪ ،‬تنبیها‬
‫منه تعالى لعباده ‪ ،‬إذ ما من مخلوق اإل وهو موحد هللا تعالى في قرارة نفسه‬
‫‪ ،‬إال أن منهم أقر بالتوحید هلل عزوجل وعبده وهم األنبیاء واألوصیاء‬
‫والصالحون ‪ ،‬ومنهم من أقر له بالتوحید وعصاه عنادا وتكبرا كأبلیس‬
‫وأتباعه من الجن واإلنس ‪ ،‬ومنهم من لم یقر له بالتوحید وناقض نفسه وذاته‬
‫ُور ِه ْم‬ ‫ُ‬
‫ُّك ِمنْ َبنِي آدَ َم ِمنْ ظه ِ‬ ‫وأنكر فطرته اإلنسانیة ‪ ،‬قال اهللا تعالى " َو ِإ ْذ َأ َخ َذ َرب َ‬
‫ت ِب َر ِّب ُك ْم قالُوا َبلى‏ َش ِه ْدنا َأنْ َتقُولُوا َي ْو َم ْالقِيا َم ِة‬ ‫ُذرِّ َّي َت ُه ْم َو َأ ْش َهدَ ُه ْم َعلى‏ َأ ْنفُسِ ِه ْم َأ َلسْ ُ‬
‫ِين ‪َ ،‬أ ْو َتقُولُوا ِإ َّنما َأ ْش َر َك آباُؤ نا ِمنْ َق ْب ُل َو ُك َّنا ُذرِّ ي ًَّة ِمنْ َبعْ ِد ِه ْم‬ ‫ِإ َّنا ُك َّنا َعنْ هذا غا ِفل َ‬
‫ُون "‬ ‫ت َو َل َعلَّ ُه ْم َيرْ ِجع َ‬ ‫ص ُل اآْل يا ِ‬ ‫ون ‪َ ،‬و َكذل َِك ُن َف ِّ‬ ‫َأ َف ُت ْهلِ ُكنا ِبما َف َع َل ْال ُم ْبطِ لُ َ‬
‫{األعراف ‪}١٧٤-١٧٣-١٧٢ /‬‬
‫فبعثت األنبیاء وجعل األوصیاء لهدایة البشر وإثارة اإلیمان الفطري المكنون‬
‫في صدورهم ‪ ،‬والذي غیبته ظلمات األوهام والظنون ‪ ،‬والشهوات والملذات‬
‫واإلنغماس في مستنقع الدنیا المظلمة ‪٠‬‬
‫وبالتدبر في هذه اآلیات الشریفة ‪ ،‬تجد أنها تشیر الى إعتذارین یأتي بهما ابن‬
‫آدم یوم القیامة ‪ ،‬یعتذر بهما الى اهللا عزوجل لكفره ‪،‬‬

‫األول ‪ :‬الغفلة ‪ " ،‬كنا عن هذا غافلین "‬


‫الثاني ‪ :‬اإلتباع لآلباء ‪ " ،‬أو تقولوا إنما أشرك أیاؤنا " ‪٠‬‬

‫وكل من هذین اإلعتذارین الیجدي نفعا ‪ ،‬فإن الغفلة هذه مذمومة ناشئة من‬
‫التقصیر والتعمد ‪ ،‬إذ الذي ینغمس بالملذات والشهوات والظلم بأشكاله ‪،‬‬
‫ویتعمد التقصیر في اإلدراك ویختار حیاة الجهل والتجاهل مما الشك یفوته‬
‫الكثیر من الواجبات تجاه خالقه عزوجل ‪ ،‬فتكون غفلته ناشئة من سوء‬
‫إختیاره في إخماد نور الفطرة في نفسه فتضعف حتى تكاد أن ینطفئ ذلك‬
‫النور نظیر الشمعة الملتهبة في الظالم ‪ ،‬فعند إنقطاع مادة الشمع تكاد تنطفئ‬
‫فلم یبقى منها اإل بصیص نور ضئیل ‪ ،‬فهكذا فطرة التوحید ‪ ،‬فإنها نور في‬
‫ظلمات النفس وظلمات هذه الدنیا الحالكة ‪ ،‬كلما تمادى اإلنسان بالمعاصي‬
‫وكبائر الذنوب ‪ ،‬ویتورط في الحرام والشبهات تضعف في نفسه نور الفطرة ‪،‬‬
‫فیصبح القلب مظلما بعد ما كان متوهجا ً ‪ ،‬فال یكاد یبصر الحقیقة ‪ ،‬بل الحقیقة‬
‫باطال ‪ ،‬والباطل حقائق ‪ ،‬فیصبح القلب معكوسا منكوسا ‪ ،‬معترضا‬
‫على اآلیات والدالئل الدال على اإلیمان وأهله ‪٠‬‬
‫ومثل هؤالء الغافلون ‪ ،‬قد طبع اهللا عزوجل على قلوبهم بإختیارهم ‪ ،‬فتصیر‬
‫هذه القلوب غیر قابله لتقبل األلطاف اإللهیة ‪ ،‬ومتصفة بصفة القساوة ‪ ،‬وهي‬
‫أعظم العقوبات التي یعاقب اهللا عزوجل عباده بها ‪٠‬‬
‫ومن هنا تجد أن الشریعة تحذر اإلنسان من اإلقتراب الى حریم المعاصي ‪،‬‬
‫فضال عن إرتكابها ‪ ،‬وحریم المعاصي إرتكاب المكروهات ‪ ،‬ویشهد لهذا‬
‫البیان أمران ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬الوجدان ‪ ،‬إذا الحظت في فصول التأریخ الماضي والمعاصر تجد إن‬
‫من یقع في مستنقع الكفر وإنكار اإلیمان هم الكثرة الكاثرة من صنف أهل‬
‫المعاص الكبیرة والظالمات العظیمة ‪٠‬‬
‫الثاني ‪ :‬األیات الكریمة ‪ ،‬واألحادیث الشریفة ‪٠‬‬

‫هناك آیات قرآنیة كثیرة تشیر الى خطورة تلوث الفطرة البشریة وقساوة القلوب ‪،‬‬
‫ت َمنْ َي َشِأ هَّللا ُ‬ ‫الظلُما ِ‬‫ص ٌّم َو ب ُْك ٌم فِي ُّ‬ ‫ِين َك َّذبُوا ِبآياتِنا ُ‬ ‫ومنها قوله تعالى ‪َ " :‬و الَّذ َ‬
‫يُضْ ل ِْل ُه َو َمنْ َي َشْأ َيجْ َع ْل ُه َعلى‏ صِ راطٍ مُسْ َتق ٍِيم ‪ ،‬قُ ْل َأ َرَأ ْي َت ُك ْم ِإنْ َأتا ُك ْم َعذابُ اللَّـ ِه َأ ْو‬
‫ِين ‪َ ،‬و َل َق ْد َأرْ َس ْلنا ِإلى‏ ُأ َم ٍم ِمنْ َق ْبل َِك‬ ‫ُون ِإنْ ُك ْن ُت ْم صا ِدق َ‬ ‫َّاع ُة َأ َغي َْر اللَّـ ِه َت ْدع َ‬
‫َأ َت ْت ُك ُم الس َ‬
‫ضرَّ عُوا‬ ‫ُون ‪َ ،‬ف َل ْو ال ِإ ْذ جا َء ُه ْم َبْأسُنا َت َ‬‫ضرَّ ع َ‬ ‫َفَأ َخ ْذنا ُه ْم ِب ْال َبْأسا ِء َو الضَّرَّ ا ِء َل َعلَّ ُه ْم َي َت َ‬
‫ون ‪َ ،‬ف َلمَّا َنسُوا ما ُذ ِّكرُوا ِب ِه‬ ‫ت قُلُو ُب ُه ْم َو َزي ََّن َل ُه ُم ال َّشيْطانُ ما كا ُنوا َيعْ َملُ َ‬ ‫َو ل ِكنْ َق َس ْ‬
‫ْواب ُك ِّل َشيْ‏ ٍء َح َّتى ِإذا َف ِرحُوا ِبما ُأو ُتوا َأ َخ ْذنا ُه ْم َب ْغ َت ًة َفِإذا ُه ْم‬ ‫َف َتحْ نا َع َلي ِْه ْم َأب َ‬
‫ِين َظ َلمُوا َو ْال َحمْ ُد لِلَّـ ِه َربِّ ْالعا َلم َ‬
‫ِين "‬ ‫داب ُر ْال َق ْو ِم الَّذ َ‬ ‫ُون ‪َ ،‬فقُطِ َع ِ‬‫ُم ْبلِس َ‬
‫{األنعام ‪} ٤٥-٣٩ /‬‬
‫ففي هذه اآلیات سنة تأریخیة وقانون إلهي یجري في األمة التي وصمت بداء‬
‫القسوة الناشئ من المعاصي والذنوب ‪ ،‬وهذه السنة هي ؛ إن األمة التي‬
‫تكذب النبي یأخذها اهللا تعالى بعذاب البأساء ‪ ،‬وهو الضرر الداخلي الذي‬
‫یخلف لهم الحزن ‪ ،‬وأكل بعضهم بعض ‪ ،‬ویذیق بعضهم بأس بعض ‪،‬‬
‫ویأخذهم عزوجل أیضا بعذاب الضراء ‪ ،‬وهو الضرر الذي یداهمهم من‬
‫خارج األمة ‪ ،‬بأن یسلط اهللا تعالى علیهم أعداءهم ‪ ،‬فیذلوهم وینهبوا خیراتهم‬
‫ویتحكمون بإدارة بالدهم ونحو ذلك ‪ ،‬إال أن مقتضى هذا العذاب الذي یصیب‬
‫هكذا أمة یلزمها أن تتضرع الى اهللا تعالى لكشف العذاب عنها ‪ ،‬وخالصهم‬
‫من واقع البؤس والضرر المحیط بهم ‪ ،‬ألن فطرة اإلنسان تتعلق باهللا تعالى‬
‫حیث ال منجي غیره ‪٠‬‬
‫إال أن اآلیات القرآنیة تبین لنا حقیقة أخرى ‪ ،‬وهي أن قساوة القلوب تمنع‬
‫هكذا أمم من التضرع وطلب النجاة من اهللا عزوجل لتخلیصهم من واقعهم ‪،‬‬
‫أو أن هذه األمم فقدت الوسیلة الى اهللا عزوجل وهم الحجج ‪،‬‬
‫فتكون درن الذنوب والظالمات والمعاصي من أعظم الموانع التي تمنع من‬
‫نزول الرحمة على العباد واللطف بهم‪ ،‬وهنا یدخلون في والیة الشیطان‬
‫فیزین لهم أعمالهم ‪ ،‬فیرون أعمالهم حسنة مع أنها سیئة ‪ ،‬وهذا هو اإلنقالب‬
‫الفطري القلبي المعكوس المنكوس ‪ ،‬الذي أشرنا له سابقا !‪٠‬‬
‫ثم إن اآلیة تستطرد بیان الفعل اإللهي في مثل هذه اإلمم ‪ ،‬إذ یبعث علیهم‬
‫عذاب من نوع آخر وهو اإلستدراج ‪ ،‬وهو عذاب خفي یحسبه الجاهل‬
‫رفاهیة في العیش وسعادة في الحیاة ‪ ،‬كما نالحظ ذلك في إنغرار جملة من‬
‫الشباب والناس بحضارة الشعوب الغربیة وبالد التي یكثر فیها المخالفین‬
‫ألهل البیت (علیهم السالم ) ‪ ،‬إذ یحسبون ذلك إستقرار في النظم بناءا صالح‬
‫قلوبهم ‪ ،‬وغاب عنهم أن هذا عذاب إلهي في باطنه وبمنظور القرآن الكریم ‪،‬‬
‫وعذاب اإلستدراج یكمن خطره في منع األمة العاصیة من األلطاف اإللهیة‬
‫النازلة على القلوب ‪ ،‬فتكون قلوب النواصب والكفار والعصاة أشد قساوة ‪،‬‬
‫وذلك من خالل ما یفتح اهللا تعالى لهم أبواب نعیم الدنیا " َف َلمَّا َنسُوا ما ُذ ِّكرُوا ِب ِه‬
‫ْواب ُك ِّل َشيْ‏ ٍء َح َّتى ِإذا َف ِرحُوا ِبما ُأو ُتوا َأ َخ ْذنا ُه ْم َب ْغ َت ًة َفِإذا ُه ْم‬ ‫َف َتحْ نا َع َلي ِْه ْم َأب َ‬
‫ُون " ‪٠‬‬ ‫ُم ْبلِس َ‬
‫ُون "‬ ‫وهنا إشارة لطیفة تشیر لها ذیل األیة وهي قوله " َأ َخ ْذنا ُه ْم َب ْغ َت ًة َفِإذا ُه ْم ُم ْبلِس َ‬
‫‪ ،‬إن العذاب لمثل هذه األمم لم یأتي إلیها بمقدمات تنذرهم بنزوله ‪،‬‬
‫بل یأتي إلیهم فجئة یباغتهم اهللا تعالى به ‪ ،‬وعند المباغتة یفرون حیث ال‬
‫مأوى لهم ‪ ،‬وهو معنى قوله مبلسون ‪٠‬‬
‫وعذاب اإلستدراج هو من نوع إمالء ‪ ،‬فیقال ‪ :‬أملیته فإمتأل ‪ ،‬قال عزوجل ‪:‬‬
‫ِين َك َفرُوا َأ َّنما ُنمْ لِي َل ُه ْم َخ ْي ٌر َأِل ْنفُسِ ِه ْم ِإ َّنما ُنمْ لِي َل ُه ْم لِ َي ْزدا ُدوا ِإ ْثما ً‬
‫" َو ال َيحْ َس َبنَّ الَّذ َ‬
‫َو َل ُه ْم َعذابٌ م ُِهينٌ " ‪٠‬‬
‫{آل عمران ‪}١٧٨ /‬‬
‫أحادیث المقام ‪:‬‬
‫روى الكلیني بسنده عن أبي عبد اهللا ( علیه السالم ) قال ‪:‬‬
‫" كان أبي یقول ؛ ما من شئ أفسد للقلب من خطیئة ‪ ،‬إن القلب لیواقع‬
‫الخطیئة فما تزال به حتى تغلب علیه فیصیر أعاله أسفله "‬
‫{ الكافي ‪ / ٢٦٨ / ٢ /‬باب الذنوب ‪ /‬ح‪} ١‬‬

‫ویعني ؛ إن حالوة الخطیئة تؤثر في القلب حتى تجعله یرى الحق باطال‬
‫والباطل حقا ‪ ،‬إلن مصیر الذنوب العاقبة السیئة لمرتكبها ‪ ،‬أعاذنا‬
‫اهللا تعالى منها ‪٠‬‬
‫وأیضا روى بسنده عن أبي بصیر قال ‪ :‬سمعت أبا عبدهللا ( علیه السالم )‬
‫یقول ‪ ":‬إذا أذنب الرجل خرج من قلبه نكتة سوداء ‪ ،‬فإن تاب انمحت ‪ ،‬وإن‬
‫زاد زادت حتى تغلب على قلبه فال یفلح بعدها أبدا " ‪٠‬‬
‫{ نفس المصدر ‪ /‬ح ‪} ١٣‬‬

‫وروى بسنده ایضا عن زرارة عن أبي جعفر ( علیه السالم ) قال ‪ ":‬ما من‬
‫عبد إال وفي قلبه نكتة بیضاء ‪ ،‬فإذا أذنب ذنبا خرج في النكتة نكتة سوداء ‪،‬‬
‫فإن تاب ذهب ذلك السواد ‪ ،‬وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى‬
‫یغطي البیاض فإذا غطى البیاض لم یرجع صاحبه الى خیر أبدا ‪ ،‬وهو قول‬
‫ران َعلى‏ قُلُ ِ‬
‫وب ِه ْم ما كا ُنوا َي ْكسِ ب َ‬
‫ُون " ‪٠‬‬ ‫اهللا عزوجل " َكالَّ َب ْل َ‬
‫{ نفس المصدر ‪ /‬ح ‪} ٢٠‬‬

‫ورى بسنده أیضا عن عرفة عن أبي الحسن ( علیه السالم ) قال ‪ ":‬مهالً مهالً‬
‫عباد اهللا عن معاصي اهللا ‪ ،‬فلوال بهائم رتع ‪ ،‬وصبیة رضع ‪ ،‬وشیوخ ركع‬
‫لصب علیكم العذاب صبا ترضون به رضا " ‪٠‬‬
‫{ نفس المصدر ‪ /‬ح‪} ٣١‬‬
‫وهنا المراد من الرض ؛ هو الدق والجریش ‪٠‬‬
‫وروى بسنده أیضا عن سدیر قال ؛ سأل رجل أبا عبدهللا ( علیه السالم ) عن‬
‫فارنا َو َظ َلمُوا َأ ْنفُ َس ُه ْم ‪ ٠٠٠‬اآلیة ‪،‬‬ ‫َأ‬
‫قول اهللا عزوجل ؛ " َفقالُوا َربَّنا باعِ ْد َبي َْن سْ ِ‬
‫فقال ‪ " :‬هؤالء قوم كانت لهم قرى متصلة ینظر بعضهم الى بعض وأنهار‬
‫جاریة وأموال ظاهرة فكفروا نعم اهللا عزوجل وغیروا ما بأنفسهم من عافیة‬
‫فغیر اهللا ما بهم من نعمة ‪ ،‬وإن اهللا الیغیر مابقوم حتى یغیروا ما بأنفسهم ‪،‬‬
‫فأرسل اهللا علیهم سیل العرم فغرق قراهم وخرب دیارهم وأذهب أموالهم ‪،‬‬
‫وأبدلهم مكان جناتهم جنتین ذواتي أكل خمر وأثل ‪ ،‬وشئ من سدر قلیل ‪ ،‬ثم‬
‫ور" " ‪٠‬‬ ‫جازي ِإالَّ ْال َكفُ َ‬ ‫قال " ذل َِك َج َزيْنا ُه ْم ِبما َك َفرُوا َو َه ْل ُن ِ‬
‫{ نفس المصدر‪ /‬ح‪}٢٣‬‬

‫وروى بسنده أیضا عن ابن مسكان عن أبي عبداهللا ( علیه السالم ) قال ؛ "‬
‫قال ‪ :‬أمیر المؤمنین ( صلوات اهللا علیه ) ما من عبد إال وعلیه أربعون جنة‬
‫حتى یعمل أربعین كبیرة ‪ ،‬فإذا عمل أربعین كبیرة انكشف عنه الجنن ‪،‬‬
‫فیوحي اهللا إلیهم أن أستروا عبدي بأجنحتكم‪ ،‬فتستره المالئكة بأجنحتها ‪ ،‬قال‬
‫؛ فما یدع شیئا من القبیح إال قارفه حتى یمتدح الى الناس بفعله القبیح ‪،‬‬
‫فیقول المالئكة ؛ یارب ‪ ،‬هذا عبدك ما یدع شیئا إال ركبه وإنا لنستحي مما‬
‫یصنع ‪ ،‬فیوحي اهللا عزوجل إلیهم أن أرفعوا أجنحتكم عنه ‪ ،‬فإذا فعل ذلك‬
‫أخذ في بغضنا أهل البیت ‪ ،‬فعند ذلك ینهتك ستره في السماء وستره في‬
‫األرض ‪ ،‬فیقول المالئكة ‪ :‬یارب ‪ ،‬هذا عبدك قد بقي مهتوك الستر فیوحي‬
‫اهللا عزوجل إلیهم ؛ لو كانت هللا فیه حاجة ما أمركم أن ترفعوا أجنحتكم عنه " ‪٠‬‬
‫{الكافي ‪/٢/‬باب الكبائر ‪ /‬ح ‪}٩‬‬

‫وخالصة األمر ؛ أن منكري التوحید ‪ ،‬أو المشركین ‪ ،‬أو منكري ضروریات‬


‫اإلسالم كالوالیة أوالصالة أوالصوم أو الزكاة وشئ من المحرمات الواضحة‬
‫‪،‬تجد أكثر هؤالء ممن إنغمسوا في الذنوب والمعاصي والخطایا التي خلفت‬
‫لهم أزمات روحیة أحاطت بهم ‪ ،‬ودرجات التسافل الروحي متفاوتة فمنهم‬
‫من یتعض ویذعن ‪ ،‬ومنهم من الیتعض ‪ ،‬وما على المكلف إال اإلنذار‬
‫والتذكیر ‪٠‬‬
‫اإلتباع والتبعیة ‪:‬‬
‫تقدم إن اإلمر الثاني الذي یسبب إضالل البشریة ‪ ،‬هو إتباع األباء كما أشارة‬
‫اآلية " َأ ْو َتقُولُوا ِإ َّنما َأ ْش َر َك آباُؤ نا ِمنْ َق ْب ُل َو ُك َّنا ُذرِّ ي ًَّة ِمنْ َبعْ ِد ِه ْم ‪ "٠٠٠‬واإلتباع‬
‫‪ ،‬هو التقلید المذموم ‪ ،‬ولبیان هذا المفهوم نقول ‪ :‬إن التقلید واإلتباع من‬
‫المفاهیم المتشابهة ‪ ،‬ألن له صنفین ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬أما یكون التقلید واإلتباع سلبیا ‪ ،‬هو إتباع األخرین على الظن‬
‫والعادة ‪ ،‬بدون رجوع الى تمییز العقل و إدراكاته السلیمة ‪ ،‬وهذا مانشاهده‬
‫لدى كثیر من الشعوب أو القبائل أو الجماعات ‪ ،‬فیفرض من فرض علیهم‬
‫عقائد باطله أو عادات سیئة فیلتزم المقلدون واألتباع بها بدون رؤیة أو‬
‫تفحص عنها ومدى تمامیتها في كمالهم ونجاتهم الدنيوي واألخروي‬
‫ویجعلونها مقدسات الیمكن المساس بها مثل إتخاذ األلهة وعبادة األوثان ‪،‬‬
‫الذ َك ُر َو َل ُه‬ ‫ى ‪َ ،‬أ َل ُك ُم َّ‬ ‫الثالِ َث َة اُأْل ْخر ‏‬ ‫ت َو ْالع َُّزى ‪َ ،‬و َمنا َة َّ‬ ‫قال تعالى ‪َ " :‬أ َف َرَأ ْي ُت ُم الالَّ َ‬
‫ِي ِإالَّ َأسْ ما ٌء َس َّم ْي ُتمُوها َأ ْن ُت ْم َو آباُؤ ُك ْم ما‬ ‫ى ‪ِ ،‬إنْ ه َ‬ ‫ى ‪ ،‬ت ِْل َك ِإذاً ِقسْ َم ٌة ضِ يز ‏‬ ‫اُأْل ْنث ‏‬
‫الظنَّ َو ما َته َْوى اَأْل ْنفُسُ َو َل َق ْد جا َء ُه ْم ِمنْ‬ ‫ُون ِإالَّ َّ‬ ‫َأ ْن َز َل هَّللا ُ ِبها ِمنْ س ُْل ٍ‬
‫طان ِإنْ َي َّت ِبع َ‬
‫َرب ِِّه ُم ْالهُدى‏ " { ‪ / ٢٣_١٩‬النجم } ‪٠‬‬
‫فهذا القسم من اإلتباع مستنده الظن ولیس العلم ‪ ،‬ومستنده االمیل والشهوات‬
‫النفسیة ‪ ،‬وهذه صفة حیوانیة ‪ ،‬موجودة في الحیوانات وبدایات نشوء اإلنسان‬
‫في دور الطفولة ‪ ،‬ولیست صفة اإلنسان العاقل الذي وصل الى مرحلة الرشد‬
‫‪ ،‬إذ العقل المودع في اإلنسان ینبغي أن یحصل على الیقین القلبي الناشئ من‬
‫العلم ‪ ،‬فیعبد اهللا تعالى عن علم ویقین وتقدم البرهان الفطري على ذلك ‪،‬‬
‫ویعتقد عن علم ویعمل عن علم ‪ ،‬ویستن بالسنن واآلداب عن علم وهكذا في‬
‫ممارسة طقوس حیاته ‪٠‬‬
‫ص َر َو ْالفُؤادَ ُك ُّل‬ ‫ْس َل َك ِب ِه عِ ْل ٌم ِإنَّ السَّمْ َع َو ْال َب َ‬ ‫قال عز وجل ‪َ " :‬و ال َت ْقفُ ما َلي َ‬
‫كان َع ْن ُه َمسْ ُؤ الً " ‪ ،‬فهذه األیة ترفض اإلتباع و اإلقتفاء بدون معرفة‬ ‫ُأ َ‬
‫ولِئك َ‬
‫قطعیة ‪ ،‬فجعل اهللا تعالى أدوات للمعرفة في هذا اإلنسان ‪ ،‬حسیة وقلبیة عقلیة ‪،‬‬
‫ون ُأمَّها ِت ُك ْم ال‬
‫ُط ِ‬ ‫وبالنظر الى هذه اآلية ‪ ،‬قال عز وجل ‪َ " :‬و هَّللا ُ َأ ْخ َر َج ُك ْم ِمنْ ب ُ‬
‫ُون "‬ ‫ْصار َو اَأْل ْفِئدَ َة َل َعلَّ ُك ْم َت ْش ُكر َ‬
‫ُون َشيْئا ً َو َج َع َل َل ُك ُم السَّمْ َع َو اَأْلب َ‬ ‫َتعْ َلم َ‬
‫{ النحل ‪، }٧٨/‬‬
‫{ فالسمع والبصر إشار الى الحس ‪ ،‬والفؤاد إشار الى العقل ‪ ،‬والحواس‬
‫والعقل أكثر األدوات صوابا في حصول العلم والمعرفة ‪٠‬‬
‫الثاني ‪ :‬اإلتباع والتقلید اإلیجابي ‪:‬وهذا الصنف من اإلتباع صدق التقلید‬
‫علیه قریبا من المجاز ‪ ،‬كجواز الرجوع في األحكام الفرعیة الى المجتهد‬
‫الجامع للشرائط ‪ ،‬فإتباعه في األحكام لیس من التقلید المذموم الذي یتشبث به‬
‫بعض ‪ ،‬الن تقلید المجتهد البارع في فنه هو من باب رجوع الجاهل الى‬
‫العالم ‪ ،‬وهذاعلیه سیرة العقالء في جمیع مجاالت الحیاة ‪ ،‬فالجاهل بالصنعة‬
‫برجع الى عالمها والجاهل بالطب یرجع الى خبیره وهكذا ‪ ،‬فلیس تقلیده‬
‫یكون بال علم كتقلید األباء ‪ ،‬بل تقلیده ناشئ من العلم والیقین بأصول‬
‫اإلعتقادات ‪ ،‬ومنها اإلعتقاد والیقین بالنبي و بإمامة األئمة اإلثني عشر‬
‫( صلوات اهللا علیهم ) ‪ ،‬الذین یجب إتباعهم وتقلیدهم بمقتضى ثبوت النبوة‬
‫والرسالة للنبي وثبوت اإلمامة و الخالفة لألئمة ‪ ،‬فالفقیه في زمان الغیبة هو‬
‫الواسطة في تقلید المعصومین (علیهم السالم ) ‪ ،‬ألنه الخبیر العارف الذي‬

‫إستفرغ وسعه وبذل جهده في فهم أحكام القرآن وكالم المعصومین‬


‫( علیهم السالم ) ‪ ،‬ولهذا یكون إتباع وتقلید المجتهد الورع البارع هو إتباع وتقلید‬
‫للمعصومین ( علیهم السالم ) إال أنه بواسطة المجتهد ‪ ،‬وتقلید وإتباع‬
‫المعصومین مما یعلم ویتقن بوجوب إتباعهم وإمامتهم على األمة بمقتضى‬
‫الدلیل العقلي والنقلي العلمي الذي ینبغي تحصیله من قبل المكلفین ‪ ،‬الن‬
‫اإلمامة من أصول اإلعتقادات التي ینبغي الفحص عنها والمعرفة بها ‪ ،‬على‬
‫أساس اإلیمان برسالة النبي ووجوب إتباعه واألخذ‬
‫بقوله ( صلى اهللا علیه وآله ) ‪٠‬‬
‫وعلى هذا األساس في ثبوت إمامة األئمة (علیهم السالم ) یطرح هذا‬
‫التساؤل بشأن المذاهب اآلخرى التي تبنت الخالفة لغیر األئمة‬
‫( علیهم السالم ) ؛ هل تقلید الناس لعلماءهم ‪ ،‬من الصنف األول للتقلید أو من‬
‫الصنف الثاني ؟ ‪٠‬‬
‫على أن األدلة النقلیة على وجوب تقلید الفقهیه الجامع للشرائط في زمن‬
‫الغیبة الكبرى هي األخرى تعزز ما ذكرناه ‪٠‬‬
‫طریقة النقض واإلثبات في منهج التوحید ‪:‬‬
‫إن للقرآن الكريم أسلوب في مخاطبة العقول البشریة یثیر دفائن العقول‬
‫ویرشدهم الى األدلة المحیطة بهم على وجوده عزوجل ‪ ،‬وعبادتة ووجوب‬
‫شكره ‪ ،‬وأهل البیت ( علیهم السالم ) ساروا على هذا النهج ‪ ،‬وبینوا كیفیة‬
‫إلزام المنكرین بأوضح السبل ‪ ،‬فقد روى الكلیني (قدس سره) بسنده عن علي‬
‫بن منصور قال ؛ قال لي هشام بن الحكم ‪ ،‬كان بمصر زندیق تبلغه عن أبي‬
‫عبدهللا أشیاء فخرج الى المدینة لیناظره ‪ ،‬فلم یصادفه بها ‪ ،‬وقیل له إنه‬
‫خارج بمكة ‪ ،‬فخرج الى مكة ونحن مع أبي عبداهللا (علیه السالم ) في الطواف‬
‫وكان أسمه عبدالملك وكنیته أبوعبداهللا ‪ ،‬فضرب كتفه كتف‬
‫أبي عبداهللا (علیه السالم ) ‪ ،‬فقال له أبو عبداهللا ( علیه السالم ) ‪ :‬ما أسمك ؟‬
‫فقال ؛ أسمي عبدالملك ‪ ،‬قال ‪ :‬فما كنیتك ؟ ‪ ،‬قال ؛ كنیتي أبو عبداهللا ‪٠‬‬
‫فقال له أبو عبداهللا ( علیه السالم ) ؛ فمن هذا الملك الذي أنت عبده ؟ ‪ ،‬أمن‬
‫ملوك االرض أم ملوك السماء ؟ ‪ ،‬وأخبرني عن أبنك عبد إآله السماء أم عبد‬
‫إآله األرض ؟ ‪ ،‬قل ماشئت تخصم !‪٠‬‬
‫قال هشام بن الحكم ‪ :‬فقلت للزندیق ؛ أما ترد علیه ‪ ،‬قال‪ :‬فقبح قولي ‪٠‬‬
‫فقال أبو عبداهللا ؛ إذا فرغت من الطواف فأتنا ‪ ،‬فلما فرغ أبوعبداهللا أتاه‬
‫الزندیق فقعد بین یدي أبي عبداهللا ونحن مجتمعون عنده ‪ ،‬فقال‬
‫أبو عبداهللا (علیه السالم ) للزندیق ‪ :‬أتعلم أن لألرض تحتا وفوقا ؟ قال ‪ :‬نعم ‪٠‬‬
‫قال ‪ :‬فدخلت تحتها ؟ ‪ ،‬قال ‪ :‬ال ‪٠‬‬
‫قال ‪ :‬فما یدریك ما تحتها ؟ !‪ ،‬قال ‪ :‬ال أدري إال أني أظن أن لیس تحتها شئ ‪٠‬‬
‫فقال أبو عبداهللا (علیه السالم ) فالظن عجز لمن الیستیقن ‪ ،‬ثم قال أبو عبداهللا‬
‫؛ أفصعدت السماء ؟ ‪ ،‬قال ؛ ال ‪ ،‬قال ؛ عجبا لك لم تبلغ المشرق ولم تبلغ‬
‫المغرب ولم تنزل األرض ولم تصعد السماء ولم تجز هناك فتعرف ما‬
‫خلفهن وأنت جاحد بما فیهن ‪ ،‬وهل یجحد العاقل ما الیعرف ؟!‪٠‬‬
‫قال الزندیق ؛ ما كلمني بهذا أحد غیرك !‪٠‬‬
‫فقال أبو عبداهللا ( علیه السالم ) ‪ :‬فأنت من ذلك في شك ‪ ،‬فلعله هو ولعله‬
‫لیس هو ؟‬
‫فقال ‪ :‬الزندیق ؛ ولعل ذلك ‪٠‬‬
‫فقال أبو عبداهللا ( علیه السالم ) ؛ أیها الرجل ‪ ،‬لیس لمن ال یعلم حجة على‬
‫من یعلم ‪ ،‬والحجة للجاهل یا أخا أهل مصر !‪ ،‬أتفهم عني ‪ ،‬فأنا ال نشك في‬
‫اهللا أبدا ‪ ،‬أما ترى الشمس والقمر واللیل والنهار یلجان فال یشتبهان وال‬
‫یرجعان ‪ ،‬قد أضطرا لیس لهما مكان إال مكانهما ‪ ،‬فإن كان یقدران على أن‬
‫یذهبا فلم یرجعان ؟‬
‫وإن كانا غیر مضطرین فلم الیصیر اللیل نهارا والنهار لیال ؟‬
‫إضطرا واهللا یا أخا أهل مصر ‪٠‬‬
‫إن الذي تذهبون إلیه وتظنون أنه الدهر ‪ ،‬إن كان الدهر یذهب بهم لم‬
‫الیردهم ‪ ،‬وإن كان یردهم لم الیذهب بهم ؟ ‪ ،‬القوم مضطرون یاأخا أهل‬
‫مصر ‪ ،‬لم السماء مرفوعة ‪ ،‬واألرض موضوعة ‪ ،‬لم ال یسقط السماء على‬
‫األرض ‪ ،‬لم ال تنحدر األرض فوق طباقها وال یتماسكان والیتماسك من‬
‫علیها ؟‬
‫قال الزندیق ‪ :‬أمسكهما اهللا ربهما وسیدهما ‪ ،‬قال ‪ :‬فآمن الزندیق على یدي‬
‫أبي عبداهللا ( علیه السالم ) ‪ ،‬فقال له حمران ‪ :‬جعلت فداك ‪ ،‬إن آمنت‬
‫الزنادقة على یدك ‪ ،‬فقد آمن الكفار على یدي أبیك ‪٠‬‬

‫فقال المؤمن الذي آمن على یدي أبي عبداهللا ( علیه السالم ) أجعلني من‬
‫تالمذتك ‪ ،‬فقال أبو عبداهللا ‪ :‬یاهشام بن الحكم ‪ ،‬خذه إلیك وعلمه ‪ ،‬فعلمه‬
‫هشام ‪ ،‬فكان معلم أهل الشام وأهل مصر اإلیمان ‪ ،‬وحسنت طهارته حتى‬
‫رضي بها أبو عبداهللا ‪ { ٠‬الكافي ‪ / ٧٤/ ١/‬باب حدوث العالم ‪ /‬ح ‪}١‬‬
‫تعلیق وتوضیح ‪:‬‬
‫الزندیق ‪ :‬كلمة فارسیة األصل ‪ -‬زنده كرد أو زندي أي أو زنده ‪ ، -‬إستعملها‬
‫العرب في كالمهم ‪ ،‬ومعناها الملحد الدهري الذي یقول ببقاء الدهرالذي الیؤمن‬
‫بوحدانیة الخالق عزوجل وال باآلخرة ‪ ،‬والزندقة تعني الضیق أیضا‬
‫‪ ،‬ومنه الزندیق ‪ ،‬النه ضیق على نفسه ‪٠‬‬
‫{ أنظر شرح الشافیة ‪ /‬ابن الحاجب ‪} ١٨٦ / ٢ /‬‬
‫وفي زماننا هذا یسمى الزندیق بالملحد ‪ ،‬واإللحاد ؛ هو المیل عن القصد ‪،‬‬
‫ویأتي بمعنى اإلعتراض ‪ ،‬والزم اإللحاد هو الظلم وقد فسر به أیضا ‪٠‬‬
‫{ أنظر لسان العرب ‪} ٣٨٩ / ٣ /‬‬
‫والدهریة ؛ هم المالحدة القائلون بمبدئیة الدهر للكائنات وهم القائلون مایهلكنا‬
‫إال الدهر ‪ ،‬وهم یساوقون الطبیعین في زماننا هذا من هذه الجهة ‪ ،‬القائلون‬
‫بأن الذي أوجد األشیاء الطبیعة المنكرون لأللوهیة ‪٠‬‬
‫وهؤالء دعواهم تقوم على أساس اإلنكار ولیس اإلثبات ‪٠‬‬
‫ثمت أن اإلنكار ودعوى اإلثبات كل منها التقبل بنظر العقل إال بعد إقامة‬
‫البرهان القائم على مقدمات مسلمة ‪ ،‬لكي ینتهین الى نتیجة قطعیة ولیست‬
‫ظنیة إحتمالیة ‪٠‬‬
‫وهؤالء المالحدة دعواهم قائمة على إنكار وجود الخالق عزوجل ‪ ،‬فال بد من‬
‫إقامة برهان على هذه الدعوى ‪ ،‬وإقامة الدعوى على ذلك مستحیل عقال‬
‫ووقوعا بأشد اإلستحالة ‪ ،‬وذلك ‪:‬‬
‫إن الذي یدعي عدم وجود الشئ البد أن یبحث بنفسه عن ذلك الشئ لكي‬
‫یصل الى نتیجة عدم وجوده ‪ ،‬وهذا أمر بدیهي ‪٠‬‬
‫ومدعي عدم وجود الخالق عزوجل لم یفتش عن وجوده بین الموجودات من‬
‫أرضین وسماوات ‪ ،‬وأنى له ذلك ! ‪ ،‬فكیف ینفي وجوده ؟!‪ ،‬ومجرد الظن‬
‫بذلك هو جهل ومكابرة ‪ ،‬ال یركن إلیها عاقل سلیم ‪ ،‬نظیر مایقال ‪ :‬لشخص‬
‫محبوس في حجرة ‪ ،‬هل یوجد أسد في البلد ؟ فیقول ؛ ال ‪ ،‬بدون علم وتفحص ‪٠‬‬
‫فهكذا هو حال المنكرین ‪ ،‬على أن اهللا عزوجل هو شئ ال كاألشیاء فال هو‬
‫بجوهر والهو بعرض وال هو بجسم ‪ ،‬ولم یكیف بكیف ‪ ،‬والهو كائن بمكان‬
‫‪،‬وال یؤین بزمان ‪ ،‬بل هو خالق الجواهر واألعراض واألجسام وواجد‬
‫الكیف والمكان والزمان ‪ ،‬والتدركه األبصار وهو یدركها ‪ ،‬وهو المحیط‬
‫بكل شئ ‪،‬وهو العلیم الحكیم ‪٠‬‬
‫ثم ألفت موالنا الصادق ( علیه السالم ) هذا الرجل الى نظام الكون من‬
‫الشمس والقمر ‪ ،‬واللیل والنهار یسیر كل منهما وفق نظام مدبر لهما ‪ ،‬ال‬
‫كیفما إتفقا ولیس هما من المصادفة ‪ ،‬إذ لو كانا من الصدفة لكان التخلف فیها‬
‫الزم ‪ ،‬بأن یكون مكان النهار ظالم اللیل ومكان اللیل نور النهار حیث ال لیل‬
‫منسلخ من النهار ‪ ،‬وال نهار منسلخ من اللیل ‪ ،‬وهكذا في وضع السماء في‬
‫إرتفاعها ‪ ،‬ووضع االرض في إنبساطها ‪ ،‬وتقدیر نظامهما بحیث ال تسقط‬
‫السماء على األرض ‪ ،‬وال األرض تنحدر فوق طبقاتها ویختل نظام الجاذبیة‬
‫فتنعدم الحیاة علیها ‪٠‬‬

‫وبهذا أرشد موالنا الصادق ( علیه السالم ) الرجل ‪ ،‬وبین له إن جمیع أجزاء‬
‫العالم من العلویات والسفلیات وإرتباط بعضها ببعض وتالزمها في غایة‬
‫اإلحكام وإالتقان ‪ ،‬ال یتم إال بوجود خالق لها ‪ ،‬وهو اهللا عزوجل ‪٠‬‬
‫ثم إن اهللا تعالى دل عباده إلیه ‪ ،‬وأرشدهم الى التأمل والتفكر والنظر في‬
‫عالماته وآیاته ومخلوقاته وأنفسهم بما یحصل لهم الیقین به تعالى ‪ ،‬الذي‬
‫یحتج به علیهم یوم المعاد ‪ ،‬معززا ببعث الرسل واألنبیاء ‪ ،‬لتنبیه الناس‬
‫لفطرتهم المودعة في نفوسهم ‪ ،‬فكانت طریقة ومنهجیة األنبیاء‬
‫واألوصیاء ( علیهم السالم ) على غرار منهجیة هدایة اهللا في خلقه لعباده ‪،‬فكل‬
‫هذه المخلوقات آیات هدایة البشریة لعبادة خالقها وهو اهللا تعالى ‪،‬وهنا یتجلى لك‬
‫ما جاء في الدعاء ‪ " : ٠‬یامن دل على ذاته بذاته "‬

‫ض َو ما‬‫ت َو اَأْلرْ َ‬‫قال عزوجل ‪َ ":‬أ َو َل ْم َي َت َف َّكرُوا فِي َأ ْنفُسِ ِه ْم ما َخ َل َق هَّللا ُ السَّماوا ِ‬
‫َب ْي َنهُما ِإالَّ ِب ْال َح ِّق َو َأ َج ٍل م َُس ًّمى َو ِإنَّ َكثِيراً م َِن ال َّن ِ‬
‫اس ِبلِقا ِء َرب ِِّه ْم َلكا ِفر َ‬
‫ُون " ‪٠‬‬
‫{الروم ‪}٨ /‬‬
‫برهان وجوده سبحانه وتعالى یدل على تنزهه عن مخلوقات‪:‬‬
‫إن البرهان على وجود الخالق بوجود المخلوقات ‪ ،‬یتضمن برهان آخر على‬
‫وجدوه عزوجل أیضا یفطن إلیه من تأمله من المؤمنین ‪ ،‬وقد أشرنا إلیه‬
‫بدعاء أمیر المؤمنین ( علیه السالم ) ‪ " :‬یامن دل على ذاته بذاته " ‪٠‬‬
‫روى الكلیني بسنده عن محمد بن عبداهللا الخراساني خادم‬
‫الرضا ( علیه السالم ) ‪ ،‬قال الكليني ‪ :‬دخل رجل من الزنادقة على‬
‫أبي الحسن ( علیه السالم )‬
‫وعنده جماعة ‪ ،‬فقال أبو الحسن (علیه السالم ) ؛‬
‫أیها الرجل ‪ ،‬أرأیت إن كان القول قولكم ‪ -‬ولیس هو كما تقولون ‪ -‬ألسنا‬
‫وإیاكم شرعا سواء ‪ ،‬الیضرنا ما صلینا وزكینا وأقررنا ؟ ‪ ،‬فسكت الرجل ‪٠‬‬
‫ثم قال أبو الحسن ( علیه السالم ) ؛ وإن كان القول ‪ -‬وهو قولنا ‪ -‬ألستم قد‬
‫هلكتم ونجونا ؟ ‪ ،‬فقال رحمك اهللا ‪ ،‬أوجدني ( أي أظفرني ) كیف هو وأین هو ؟‬
‫فقال ؛ ویلك ‪ ،‬إن الذي ذهبت إلیه غلط ‪ ،‬هو أین األین بال أین ‪ ،‬وكیف‬
‫الكیف بال كیف فال یعرف بالكیفوفیة وال بأینونیة والیدرك بحاسة وال یقاس‬
‫بشئ ‪٠‬‬
‫فقال الرجل ‪ :‬فإذا أنه الشئ إذا لم یدرك بحاسة من الحواس ؟‬
‫فقال أبو الحسن (علیه السالم )‪ :‬ویلك ‪ ،‬لما عجزت حواسنا عن إدراكه أیقنا‬
‫أنه ربنا بخالف شئ من األشیاء ‪٠‬‬
‫قال الرجل ؛ أخبرني متى هو ؟‬
‫قال أبو الحسن (علیه السالم )؛ أخبرني متى لم یكن فأخبرك متى كان ‪٠‬‬
‫قال الرجل ؛ فما الدلیل علیه ؟‬
‫فقال أبو الحسن (علیه السالم ) ‪ :‬إني لما نظرت الى جسدي ولم یمكني فیه‬
‫زیادة وال نقصان في العرض والطول ودفع المكاره عنه وجر المنعة إلیه ‪،‬‬
‫علمت أن لهذا البنیان بانیا ‪ ،‬فأقررت به مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته‬
‫وإنشاء السحاب وتصریف الریاح ومجرى الشمس والقمر والنجوم وغیر‬
‫ذلك من اآلیات العجیبات المبنیات علمت أن لهذا مقدرا ومنشئا ‪٠‬‬
‫{ الكافي ‪ / ٧٩ /١/‬التوحید ‪ /‬ح ‪} ٣‬‬
‫تعلیق وتوضیح ‪:‬‬
‫نالحظ في هذا النص اإلستدراج من قبل االمام ( علیه السالم ) في خصومة‬
‫الرجل ‪ ،‬وذلك ؛‬
‫أوال ‪ :‬ألفت االمام الرجل الى أن دعوى إنكار الخالق بنفسها التجدي نفعا‬
‫لمدعیها ‪ ،‬النه الیؤمن المنكر بالمعاد وال العقاب والثواب ‪ ،‬فالعبادات على‬
‫رأي المنكر فعلت أو لم تفعل ال تضر بزعم المنكر ‪ ،‬النه لم یؤمن بالخالق‬
‫والمعاد ‪٠‬‬
‫وأما بناءا على دعوى المؤمن ‪ ،‬فإن المنكر یكون من أشد الهالكین ‪ ،‬إذ لم‬
‫یأت بما أتى المؤمن من إیمان وأعمال ‪ ،‬النه یؤمن بالخالق والمعاد إلیه ‪٠‬‬
‫ثانیا ‪ :‬إن االمام ( علیه السالم ) عند إجابة الرجل شرع في بیان برهان‬
‫وجوده وتنزهه یسمى باإلصطالح ببرهان الصدیقین ‪ ،‬القائم على تنزیه‬
‫الخالق عزوجل عن كل شائبة نقص ‪ ،‬إذ كل موجود من الموجودات وكل أیة‬
‫من هذه األیات من أجسام وأجرام وأفالك وما فیهن وما فوقهن وما تحتهن‬
‫مفتقر الى وجوده وفیضه عزوجل ‪ ،‬فوجوداتها بالعرض ‪ ،‬فهو المفیض‬
‫علیها الوجود والقدرة ‪ ،‬فدل على أن لها خالقا وجوده بذاته لیس مفتقر‬
‫بوجوده ‪٠‬‬
‫وبهذا ظهر لك ‪ -‬كما في الروایة ‪ -‬إنتقال االمام (علیه السالم ) في البرهان‬
‫على وجود اهللا عزوجل منزها عما یحده من المكان والزمان والكیف وإدراك‬
‫الحواس ومشابهة األشیاء ‪ ،‬إذ كل ذلك یدلك أن لهذا الخلق خالقا منزه عما‬
‫خلقه ‪٠‬‬
‫فهذا البرهان قائم على اإلنتقال من الزم من لوازم الموجودات الى الزم أخر‬
‫‪ ،‬فیكون الموجود برهان على الموجود بذاته المنزه عن مجانسة مخلوقاته ‪٠‬‬
‫روى الكلیني بسنده عن الفضل بن السكن عن أبي عبداهللا ( علیه السالم )‬
‫قال ‪" :‬قال أمیر المؤمنین ( علیه السالم ) ‪ :‬أعرفوا اهللا باهللا ‪ ،‬والرسول‬
‫بالرسول ‪ ٠٠٠‬الى أن قال (علیه السالم ) ‪ :‬ومعنى معرقة اهللا باهللا ‪ ،‬یعني أن‬
‫اهللا خلق األشخاص واألنوار والجواهر واألعیان ‪ ،‬فاالعیان ؛ االبدان ‪،‬‬
‫والجواهر ؛ األرواح ‪ ،‬وهو عزوجل الیشبه جسما والروحا ولیس ألحد في‬
‫خلق الروح الحساس الدراك أمر والسبب ‪ ،‬هو المتفرد بخلق األرواح‬
‫واألجسام ‪ ،‬فإذا نفى عنه الشبهین ؛ شبه األبدان وشبه األرواح ‪ ،‬فقد عرف‬
‫اهللا باهللا ‪ ،‬وإذا شبهه بالروح أو البدن أو النور فلم یعرف اهللا باهللا " ‪٠‬‬
‫{ الكافي‪ / ٨٥/ ١ /‬باب أنه الیعرف إال به ‪ /‬ح‪} ١‬‬

‫تذكیر ؛‬
‫فقد روى من كالمه عزوجل لعباده أنه قال ‪ ":‬ابن آدم بمشیئتي كنت ‪ ،‬أنت‬
‫الذي تشاء لنفسك وبقوتي أدیت فرائضي ‪ ،‬وبنعمتي قویت على معصیتي ‪،‬‬
‫جعلتك سمیعا بصریا ً قویا ‪ ،‬ما أصابك من حسنة فمن اهللا ‪ ،‬وما أصابك من‬
‫سیئة فمن نفسك ‪ ،‬وذلك أني أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسیئاتك مني ‪،‬‬
‫إنني ال أسأل عما أفعل وهم یسألون ‪ ،‬قد نظمت لك كل شئ ترید " ‪٠‬‬
‫{ انظر كتاب كلمة اهللا ‪} ٣٦ /‬‬
‫وقال عزوجل في حدیث آخر ‪ " :‬عبدي خلقت األشیاء ألجلك ‪ ،‬وخلقتك‬
‫ألجلي وهبتك الدنیا باإلحسان ‪ ،‬واآلخرة باإلیمان " ‪٠‬‬
‫وقال عزوجل في حدیث أیضا ‪:‬‬
‫" یاعبادي ‪ ،‬إني لم أخلق الخلق ألستكثر بهم من قلة ‪ ،‬وال آلنس بهم من‬
‫وحشة ‪ ،‬وال ألستعین بهم على شئ عجزت عنه ‪ ،‬وال لجر منفعة ‪ ،‬وال لدفع‬
‫مضرة ‪ ،‬ولو أن جمیع خلقي من أهل السماوات واألرض أجتمعوا على‬
‫طاعتي وعبادتي الیفترون عن ذلك لیال ونهارا ‪ ،‬مازاد في ملكي شئ ‪ ،‬سبحاني‬
‫وتعاليت عن ذلك " ‪{ ٠‬نفس المصدر ‪}١٦٩ /‬‬

‫إستحالة فرض الشریك ‪:‬‬


‫المشرك ‪ :‬هو الذي یتخذ مع اهللا عزوجل شریكا من مخلوقاته أو من صناعة‬
‫البشر ‪ ،‬ویسمى المشرك ناكرا للتوحید ‪ ،‬وأما الكافر الذي ینكر وجود اهللا‬
‫تعالى یسمى ناكرا لإللوهیة ‪٠‬‬
‫وفرض وجود إآلهین لهذا الوجود محال للزومه الفساد ‪ ،‬ووجه الفاسد ؛ أنه‬
‫لو كان مبدأ الوجود ‪ -‬موجود بذاته ‪ -‬أثنین فال یخلو ‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬أما یكونا قدیمین قویین ‪٠‬‬
‫وثانیا ‪ :‬أو یكون أحدهما قوي واآلخر ضعیفا ‪٠‬‬
‫وثالثا ‪ :‬أو یكونا ضعیفین ‪٠‬‬
‫ثم أن المراد بالقوي هو القادر على فعل الكل مطلقا ‪ ،‬والمراد من الضعیف‬
‫الذي الیقوى على فعل الكل ‪ ،‬فهو ضعیف مطلقا ‪٠‬‬
‫فإن كانا كالهما قویین فلماذا ال یدفع كل واحد منهما صاحبه ‪ ،‬ویتفرد بوقوع‬
‫الفعل وتدبیر الخلق ‪٠‬‬
‫ولو قیل ؛ یفرض أنهما متفقان من كل جهة في التدبیر واألفعال ‪٠‬‬
‫وجوابه ؛ إنه إذا فرض ذلك ‪ ،‬دل على أن الخالق واحد ‪ ،‬والفاعل والمدبر‬
‫للنظام الواحد واحد خالف كونه أثنین ‪ ،‬ألن فرض األثنینیة تستدعي التمییز‬
‫‪ ،‬وعدم التمییز تتحقق الوحدة ‪٠‬‬
‫ولو فرض مع هذا التدبیر والنظام الدال على الواحد إآلها ثانیا للزم من ذلك‬
‫لوازم باطله أیضا من إفتراض ثالثا و هكذا خامس مع ضم اإلثنین إلى آخره‬
‫من لزوم تعدد اآللهة بدون إنقطاع ‪ ،‬ألنه ال موجب لوقوف السلسلة ‪ ،‬ما دام‬
‫كونه مجرد فرض ومنه یستكشف ‪ ،‬إن فرض إآله ثان متفق من جمیع‬
‫الجهات محال وفاسد عقال ‪٠‬‬
‫على أن سلسلة الفساد التنتهي ‪ ،‬إلن اإلله الموجود الحد لوجوده ‪ ،‬وتصور‬
‫إله ثان یحدد وجود األول ‪ ،‬فیكون مركبا من الوجود والعدم ‪ ،‬وهو أسوأ‬
‫أنواع التركیب ‪٠‬‬
‫والتركیب الیتصور في حقه تعالى عن ذلك ‪ ،‬ألن التركیب یلزم اإلشارة إلیه‬
‫وهي تحده بحد ‪ ،‬والمحدود معدود ‪ ،‬والمعدود ممكن مفتقر ‪ ،‬قال أمیر‬
‫المؤمنین ( علیه السالم ) ؛" وال یقال له حد وال نهایة ‪ ،‬وال انقطاع وال غایة " ‪٠‬‬
‫{ نهج البالغة ‪ /‬ش محمد عبده ‪٠ } ٣٠٠ /‬‬
‫وقال أمیر المؤمنین (علیه السالم ) ‪ " :‬ومن ثناه فقد جزأه ‪ ،‬ومن جزأه فقد‬
‫جهله ‪ ،‬ومن جهله فقد أشار إلیه ‪ ،‬ومن أشار إلیه فقد حده ومن حده فقد عده‬
‫‪٠٠٠‬إلخ كالمه " ‪٠‬‬
‫{ نهج البالغة ‪ /‬ش محمد عبده ‪} ٢٢ /‬‬
‫قال عزوجل ‪َ " :‬ما ا َّت َخ َذ هَّللا ُ ِمنْ َو َل ٍد َو ما َ‬
‫كان َم َع ُه ِمنْ ِإل ٍه ِإذاً َل َذ َه َ‬
‫ب ُك ُّل ِإل ٍه ِبما‬
‫ون " ‪٠‬‬ ‫ْحان اللَّـ ِه َعمَّا يَصِ فُ َ‬ ‫ض ُه ْم َعلى‏ َبعْ ٍ‬
‫ض ُسب َ‬ ‫َخ َل َق َو َل َعال َبعْ ُ‬
‫{ المؤمنون ‪٠ } ٩١ /‬‬

‫وأما الثاني ؛ وأما لو فرض أحدهما ضعیفا ‪ ،‬لكان الضعیف محتاجا ومفتقرا‬
‫‪ ،‬وهذه صفة الممكن المخلوق المفتقر بذاته ‪ ،‬العدیم لوجود الصفة ‪٠‬‬
‫ومن خالل هذا ظهر لك وضوح فساد الفرض الثالث أیضا ‪٠‬‬
‫روى الكلیني بسنده عن هشام بن الحكم في حدیث الزندیق الذي أتى اباعبداهللا‬
‫(علیه السالم ) وكان من قول أبي عبداهللا ( علیه السالم ) ‪ ":‬ال یخلو قولك‬
‫أنهما إثنان ؛ من أن یكونا قدیمین قویین أو یكونا ضعیفین أو یكون أحدهما‬
‫قویا واآلخر ضعیفا ‪ ،‬فإن كانا قویین فلم ال یدفع كل واحد منهما صاحبه‬
‫ویتفرد بالتدبیر ‪ ،‬وإن زعمت أن أحدهما قوي واآلخر ضعیف ثبت أنه واحد‬
‫كما نقول للعجز الظاهر في الثاني ‪ ،‬فإن قلت ‪،‬إنهما إثنان لم یخل من أن‬
‫یكونا متفقین من كل جهة أو مفترقین من كل جهة فلما رأینا الخلق منتظما ‪،‬‬
‫والفلك جاریا والتدبیر واحدا واللیل والنهار والشمس والقمر دل صحة األمر‬
‫والتدبیر وإئتالف األمر على أن المدبر واحد ‪ ،‬ثم یلزمك إن أدعیت أثنین‬
‫فرجة ( أي ممیز فاصل ) ما بینهما حتى یكونا اثنین فصارت الفرجة ثالثا‬
‫بینهما قدیما معهما فیلزمه ثالثة ‪ ،‬فإن أدعیت ثالثة لزمة ما قلت في اإلثنین‬
‫حتى تكون بینهم فرجة فیكونوا خمسة ثم یتناهى في العدد الى ما ال نهایة له‬
‫في الكثرة ‪٠‬‬

‫قال هشام ‪ :‬فكان من سؤال الزندیق ‪ ،‬أن قال ‪ :‬فما الدلیل علیه ؟‬
‫فقال أبو عبداهللا ( علیه السالم ) ‪ :‬وجود األفاعیل دلت على أن صانعا‬
‫صنعها ‪ ،‬أال ترى أنك إذا نظرت الى بناء مشید مبني علمت أن له بانیا ‪ ،‬وإن‬
‫كنت لم ترى الباني ولم تشاهده ‪٠‬‬
‫قال ‪ :‬فما هو ؟‬
‫قال ( علیه السالم ) ‪ :‬شئ بخالف األشیاء ارجع بقولي الى إثبات معنى وأنه‬
‫شئ بحقیقة الشیئیة غیر أنه ال جسم وال صورة وال یحس وال یجس وال‬
‫یدرك بالحواس الخمس ‪،‬‬
‫ال تدركه األوهام وال تنقصه الدهور‬
‫وال تغیره األزمان " ‪٠‬‬
‫{ الكافي ‪ / ٨١ /١ /‬التوحيد ‪ /‬ح ‪} ٥‬‬
‫ِيهما آلِ َه ٌة ِإالَّ هَّللا ُ َل َف َسدَ تا َف ُسب َ‬
‫ْحان‬ ‫ومن خالل ذلك یتضح لك قوله تعالى ‪َ " :‬ل ْو َ‬
‫كان ف ِ‬
‫ون " ‪ { ٠‬األنبیاء ‪} ٢٢ /‬‬ ‫اللَّـ ِه َربِّ ْال َعرْ ِ‬
‫ش َعمَّا يَصِ فُ َ‬

‫االسم والصفة ‪:‬‬


‫قال عزوجل ( َو لِلَّـ ِه اَأْلسْ ما ُء ْالحُسْ نى‏ َف ْادعُوهُ ِبها ‪ { ) ٠٠٠‬األعراف ‪} ١٨٠ /‬‬
‫وقال عزوجل ( قُ ِل ْادعُوا هَّللا َ َأ ِو ْادعُوا الرَّ حْ َ‬
‫من َأ ًّيا ما َت ْدعُوا‬
‫َف َل ُه اَأْلسْ ما ُء ْالحُسْ نى‏ )‬
‫{ اإلسراء ‪} ١١٠ /‬‬
‫إستعمل االسم في لسان الروایات في معان ‪:‬‬
‫االول ‪ :‬األسم هو اللفظ الدال ‪٠‬‬
‫الثاني ‪ :‬األسم هو مفهوم اللفظ ‪٠‬‬
‫الثالث ‪ :‬األسم هو العالمة ‪٠‬‬
‫الرابع ‪ :‬االسم هو الصفة ‪٠‬‬
‫فاالسم والصفة التي تقع في ذهن العبد من أسماء اهللا عزوجل و صفاته ‪ ،‬التي‬
‫أمرالعباد بأن ندعوه بها ‪ ،‬هي مخلوقة للذهن البشري ووهم مردود الى العباد ‪،‬‬
‫فهذه أشیاء تسمى مفاهیم وصور ومصادیق ‪ ،‬واهللا عزوجل هو شئ ال كاألشیاء‬
‫‪ ،‬فصفة العلم الثابتة له عزوجل الموجودة في أذهان العباد هي لیست تلك الصفة‬
‫التي وصف بها نفسه بتمامها ‪ ،‬مثل صفة عالم ‪ ،‬فهو عالم ال كالعلماء ‪ ،‬وهكذا‬
‫صفة القدرة فهو قادر ال كالقادرین ورزاق ال كالرازقین وحي ال كاألحیاء ‪،‬‬
‫وهكذا ‪٠‬‬
‫وسبب ذلك ؛ ألن اهللا تعالى غیر محدود بل فوق الالمحدود ‪ ،‬وكل مادونه‬
‫عزوجل محدود ‪ ،‬وعقول العباد محدودة ‪ ،‬فكیف تحیط بأسمائه وصفاته‬
‫الالمحدودة ! ‪٠‬‬
‫ومن هذا یتضح لك أیضا ؛ أن أسماءه عزوجل ومعانیها الموجودة في أذهان‬
‫العباد غیر متحدة ‪٠‬‬
‫إن قلت ‪ :‬كیف یدعوا العباد ویتوسلون بهذه االسماء والصفات لكي یصلوا الى‬
‫الكمال ‪ ،‬والحال أن مهما وقع في عقولهم من معاني وصفات كلها محدودة حدته‬
‫لهم عقولهم وهو المسمى بالوهم ؟‬
‫قلت ‪:‬‬
‫إن هذا المقدار من حضور االسماء والصفات في عقول العباد یؤدي بهم الى‬
‫الوصول الى الكمال ‪ ،‬فالذاكر اهللا عزوجل الذي هو مفهوم واقع في ذهنه أوجب‬
‫توجه العبد الى اهللا عزوجل ‪ ،‬إال أنه مشروط بالتنزه ‪،‬والتأمل في بدائع صنعه‬
‫وجمیل فعاله وسعة قدرته ‪ ،‬فكل الموجودات تدل على صفاته وكماله ‪ ،‬فكل من‬
‫توغل في معرفة الصفة وأسمائه إزدادت معرفته باهللا عزوجل ‪ ،‬وسیأتي مزید‬
‫بیان‬
‫إن شاء اهللا تعالى لهذا المطلب ‪ ،‬فتأمل ‪٠‬‬

‫ومن هذا یتبین ؛ إن األسماء والصفات مضافة الى اهللا عزوجل بإضافة ما ‪٠‬‬
‫ولتقریب الصورة یقال؛ إن ما حكاه القرآن الكریم عن وصف الجنان ونعیمها ‪،‬‬
‫فإنها تولد في ذهن القارئ صورة لهذه الجنان ‪ ،‬وهذه الصورة تشوق العبد الى‬
‫الطمع بهذا النعیم ‪ ،‬فیتحرك نحو التكامل ‪٠‬‬
‫إال أن هذه الصورة الذهنیة لیست هي نفس النعیم والجنان ‪ ،‬الن الجنة ونعیمها‬
‫فیها ما الیدركه العقل البشري ‪ ،‬ما ال عین رأت وال أذن سمعت وال خطر على‬
‫قلب بشر ‪٠‬‬
‫فهنا یالحظ أن ثمت فارق بین ما یخلقه ذهن العبد وبین النعیم الموعود به في‬
‫اآلخرة ‪ ،‬فتكون الصفة في الذهن غیر الموصوف ‪ ،‬إال أن هذه الصورة فیما لو‬
‫آمن بها العبد سوف تؤدي به الى التكامل فیما سار على السنن والقوانین‬
‫الصحیحة ‪٠‬‬
‫والذي یدل على ماحكیناه ‪ ،‬ما رواه الصدوق بسنده عن الحسین بن سعید الخزاز‬
‫عن رجاله عن أبي عبداهللا (علیه السالم ) قال ‪ " :‬اهللا غایة من غیاه ‪ ،‬والمغیى‬
‫غیر الغایة ‪ ،‬توحد بالربوبیة ‪ ،‬ووصف نفسه بغیر محدودیة ‪٠‬‬
‫فالذاكر اهللا غیر اهللا ‪ ،‬واهللا غیر أسمائه ‪ ،‬وكل شئ وقع علیه أسم شئ سواه فهو‬
‫مخلوق ‪٠‬‬

‫أال ترى الى قوله ؛ " العزة هلل ‪ ،‬العظمة هلل "‬
‫وقال ؛" وهلل األسماء الحسنى فأدعوه بها " ‪ ،‬وقال ؛ " قل أدعوا اهللا أو أدعوا‬
‫الرحمن أیا ما تدعوا فله األسماء الحسنى " ‪ ،‬فاألسماء مضافة إلیه ‪ ،‬وهو التوحید‬
‫الخالص "‪ { ٠‬كتاب التوحید ‪ /‬الصدوق ‪/ ٥٨ /‬ط ‪ /‬جماعة المدرسین }‬
‫تقریب لبعض مفردات الحدیث ‪:‬‬
‫قوله (علیه السالم ) ؛ (الغایة غیر المغیى ) ‪ ،‬اهللا عزوجل هو الغایة ‪ ،‬یصح أن‬
‫یجعله االنسان غایة لسلوكه ‪ ،‬والمغیى ؛ ما وقع في الذهن ‪ ،‬وهي غیر اهللا‬
‫عزوجل ‪٠‬‬
‫قوله (علیه السالم ) ؛ (فالذاكر اهللا غیر اهللا ) ‪ ،‬اي ماتصورته في ذهنك لیس هو‬
‫هو ‪ ،‬فال تدركه األوهام ‪٠‬‬
‫وإضافة االسماء ؛ هو نحو إضافة ‪ ،‬والمضاف یأخذ حكم المضاف إلیه ‪ ،‬فتكتسب‬
‫االسماء قداستها من المضاف إلیه ‪ ،‬فكل أسم أضیف الى اهللا تعالى أكتسب صفة‬
‫الكمال والقداسة والشرافة ‪ ،‬فتأمل ‪٠‬‬
‫ومنه یتضح لك ‪ ،‬أن النبي وأهل بیته (علیهم السالم ) هم مظهر لصفات اهللا‬
‫عزوجل ‪ ،‬فقدرتهم منه وعلمهم منه ‪ ،‬فأحیائهم للموتى وشفائهم للمرضى‬
‫وإبرائهم لألكمه واألبرص وأنطواء االرض لهم ‪ ،‬وأخبارهم بالمغیبات وغیر‬
‫ذلك ‪ ،‬إنما هي صفاته عزوجل تجلت فیهم ‪ ،‬فمن هنا أصبحت معرفتهم باب‬
‫لمعرفة اهللا تعالى ( من أراد اهللا بدأ بكم ) ‪٠‬‬
‫فالتوجه المأمورون به العباد إنما من خالل أسماءه ( فادعوه بها ) ‪ ،‬وهؤالء‬
‫األسماء هم محمد وال محمد (صلى اهللا علیهم أجمعین) ‪ ،‬فیجب إتباع أحكامهم و‬
‫سننهم وآدابهم ‪ ،‬لكي یتحقق التكامل للعباد ومعرفة خالقهم عزوجل ‪ ،‬وهي الغایة‬
‫المرجوة ‪٠‬‬
‫فدل هذا المبحث على إحكام صنع اهللا عزوجل وإتمام الحجة علیهم ‪ ،‬إذ جعل‬
‫الكالمین من عبادة حجج على عباده یلزم الناس إتباعهم ‪٠‬‬
‫ومن خالل هذا البیان یتضح لك أیضا إحكام نظریة اإلمامیة ‪ ،‬وأنهم هم الفرقة‬
‫الناجیة التباعهم الحجج الكاملین ‪ ،‬وكمالهم یدل على حسن فعل اهللا وجمیل‬
‫صنعه‬
‫وتنزیهه من النقص ‪٠‬‬
‫ومقابل ذلك ‪ ،‬یتضح لك بطالن نظریة أهل الخالف القائلین بخالفة الخلفاء ‪ ،‬ألن‬
‫اإلیمان بهذه النظریة یستلزم نسبة القبیح الى اهللا تعالى ‪ ،‬إذ لو جعل اهللا بجعلهم‬
‫خلفاء قد أجمعت األمة على نقصانهم ‪ ،‬لكان هذا نقص في القدرة اإللهیة ‪ ،‬واهللا‬
‫عزوجل منزه عن النقص ! ‪ ،‬كیف یجعل من فیه أدران المعاصي مظهر من‬
‫مظاهر جاللته عزوجل ‪ ،‬ألیس هذا عجز في قدرته وهو منزه عن النقص وألن‬
‫النقص قبیح وهو منزه عن القبیح ! ‪٠‬‬
‫فمن آمن بهذه المقولة یعني آمن بنسبة القبح والعجز والنقص هلل تعالى اهللا عن‬
‫ذلك ‪ ،‬وهو شرك وكفر ‪ ،‬فتأمل ‪٠‬‬

‫صفة العدل ‪:‬‬


‫من الصفات اإللهیة التي یدركها العقل البشري ‪ ،‬هي صفة العدل ‪ ،‬وأن اهللا‬
‫تعالى عادل ‪ ،‬وعدله مطلق ‪ ٠‬ثم أن في قبال العدل ‪ ،‬عدم العدل ‪ ،‬والذي یعني‬
‫الظلم ‪ ،‬واهللا تعالى منزه عن الظلم ‪ ،‬ألن الظلم قبیح بكل أشكاله ‪ ،‬واهللا تعالى‬
‫منزه عن القبیح بكل أشكال ‪ ،‬وأنما كان الظلم قبیح علیه تعالى ‪ ،‬ألنه من صفة‬
‫المحتاج الفقیر ‪ ،‬واهللا تعالى منزه عن الفقر ‪ ،‬وألن الظلم من صفات الضعیف ‪،‬‬
‫واهللا تعالى منزه عن الضعف ‪ ٠‬وأعلم ‪ ،‬أن صفة العدل تنبثق منها مباحث كثیرة‬
‫في علم الكالم ‪ ،‬وتترتب علیها إعتقادات یعتقد بها المسلمون ‪ ،‬ولذا تمیزت‬
‫اإلمامیة بهذه الصفة عند تعداد أصول الدین ‪ ،‬فكانت صفة العدل هي األصل‬
‫الثاني ‪ ،‬تمییزا لهم عمن أنكر من المسلمین ثبوت هذه الصفه هلل تعالى ! ‪٠‬‬
‫فمذهب األشاعرة ‪ ،‬الذي كان ینتشر في البالد اإلسالمیة في القرون الماضیة ‪،‬‬
‫والذي یمثل جمهور العامة من أهل الخالف في زماننا هذا ‪ ،‬فقد أشتد نكیرهم‬
‫لثبوت هذه الصفة هلل تعالى !‪ ،‬بینما إنشق من أهل الخالف المعتزلة ‪ ،‬وهم أیضا‬
‫من مذاهب العامة ‪ ،‬حیث قالوا بثبوت هذه الصفة هلل تعالى ‪ ،‬وبرزت مقالتهم في‬
‫القرن الرابع الهجري ‪ ،‬حتى عرف بین المتكلمین مذهبان في هذه الصفة ‪ ،‬كان‬
‫یطلقون علیهم ‪ ،‬العدلیة واألشاعرة ‪٠‬‬
‫ومرادهم من العدلیة هم اإلمامیة والمعتزلة ‪ ،‬واألشاعرة ‪ ،‬هم سائر من آمن‬
‫بإنكار صفة العدل من سائر مذاهب أهل الخالف ‪٠‬‬
‫ومستند ثبوت صفة العدل هللا تعالى هو إدراك العقل بضرورة ثبوتها للباري‬
‫عزوجل‪ ،‬بینما األشاعرة أنكروا عقولهم في إثبات ذلك مما أدى بهم الى نسبة‬
‫القبیح الى اهللا تعالى ‪،‬وال زالوا متمسكین بذلك ! ‪٠‬‬

‫ومما ینبغي التنبیه ؛ إن المعتزلة وإن أشتركت مع اإلمامیة في هذا إال أن عندهم‬
‫كثیر من اإلنحرافات في العقائد بل واألحكام ‪ ،‬ومنها إنحرافهم عن الوالیة ‪،‬‬
‫والقول بخالفة أئمة الضالل الغاصبین لحق أمیر المؤمنین ( علیه السالم ) ‪٠‬‬
‫مضافا الى أن اإلمامیة لم یستندوا في أخذ عقیدتهم منهم ومن أمثالهم ‪ ،‬بل عقیدة‬
‫اإلمامیة عقیدة قدیمة بقدم االسالم مأخوذة من النبي واألئمة ( علیهم السالم ) ‪،‬‬
‫وقد ألف الشیخ المفید محمد بن النعمان ( قدس سره ) كتابا سماه ب ( الحكایات )‬
‫بین فیه ‪ ،‬أن اإلمامیة لیست من المعتزلة ‪ ،‬وأنهم ممن ثبت إنحرافهم في كثیر من‬
‫اإلعتقادات ‪٠‬‬

‫العدل في كالم الصادق ( علیه السالم ) ‪:‬‬


‫روى الصدوق بسنده عن السمرقندي بإسناده رفعه الى الصادق ( علیه السالم )‬
‫أنه سأله رجل ‪ ،‬فقال له ‪ " :‬إن أساس الدین التوحید والعدل ‪ ،‬وعلمه كثیر ‪ ،‬وال‬
‫بد لعاقل منه ‪٠‬‬
‫فأذكر ما یسهل علیه ویتهیأ حفظه‬
‫فقال ( علیه السالم ) ‪ :‬أما التوحید ‪ ،‬فإنه التجوز‬
‫على ربك ما جاز علیك ‪ ،‬وأما العدل ‪ ،‬فإن التنسب الى خالقك ما المك علیه " ‪،‬‬
‫أنتهى ‪ {٠‬التوحید ‪ /‬الصدوق ‪} ٩٣ /‬‬
‫توضیح ‪:‬‬
‫قوله ( علیه السالم ) أساس الدین ؛ األساس هو الذي یبتني علیه الشئ ‪ ،‬والمراد‬
‫منه األصل ‪ ،‬فكل فرع یرجع علیه ‪ ،‬بمعنى ؛ أن االعتقادات األخرى مردها الى‬
‫التوحید والعدل ‪ ،‬فإن كان االعتقاد بهما صحیحا ووفق میزان الشریعة والعقل‬
‫فسائر االعتقادات تكون صحیحة ‪ ،‬وإن كان التوحید والعدل مشوبین بالجهاالت‬
‫كان سائر االعتقادات كذلك ‪٠‬‬
‫قوله (علیه السالم ) البد لعاقل منه ؛ إن العاقل ممن تجب علیه التكالیف وتنزیه‬
‫الخالق عزوجل وعبادته ‪ ،‬فال بد من معرفة المعبود بمعرفة حقة ‪ ،‬بما یتمكن‬
‫المكلف من حفظ تلك المعرفة ‪ ،‬وتعلم ذلك من أهله ‪ ،‬وذلك لكي ینجو من هلكة‬
‫الفساد وهلكة العقاب ‪٠‬‬

‫قوله ( علیه السالم ) أما التوحید فأن التجوز ‪٠٠٠‬إلخ ‪:‬‬


‫أعطى موالنا الصادق ( علیه السالم ) في هذه العبائر الوجیزة ضابطة عقلیة في‬
‫التوحید وفي صفة العدل ؛ أما ضابطة التوحید ‪:‬‬
‫فكل ما یجوز على االنسان الیجوز أن یتصف به الخالق عزوجل ‪ ،‬فالجسم‬
‫واألكل والشرب والنوم والتعب والعناء وغیر ذلك مما یعتري االنسان هي مما‬
‫التجوز على اهللا عزوجل ‪ ،‬وتقدم بعض ذلك فیما سبق ‪ ،‬فالحظ ‪٠‬‬
‫وأما ضابطة العدل ‪:‬‬
‫فكل مورد وحالة مذمومة تصدر من االنسان ‪ -،‬بحیث تكون قبیحة مستلزم للظلم‬
‫إما لنفسه أو لآلخرین ‪ -‬فال یصح أن تنسبها الى اهللا تعالى ‪ ،‬ألن نسبتها إلیه ظلم‬
‫والظلم منزه عنه تعالى ‪٠‬‬
‫روى الصدوق بسنده عن عبدالعظیم بن عبداهللا الحسني عن االمام علي بن محمد‬
‫عن أبیه محمد بن علي عن أبیه الرضا علي بن موسى ( علیهم السالم ) قال ‪" :‬‬
‫خرج ابو حنیفة ذات یوم من عند الصادق ( علیه السالم ) فأستقبله موسى بن‬
‫جعفر ( علیه السالم) فقال له ‪ :‬یا غالم ممن المعصیة ؟‬
‫قال ‪ :‬ال تخلو من ثالث ؛ أما أن تكون من اهللا عزوجل ‪ ،‬ولیست منه فال ینبغي‬
‫للكریم أن یعذب عبده بما الیكتسبه ‪ ،‬وأما أن تكون من اهللا عزوجل ومن العبد ‪،‬‬
‫ولیس كذلك فال ینبغي للشریك القوي أن یظلم الشریك الضعیف ‪ ،‬وأما أن تكون‬
‫من العبد وهي منه ‪ ،‬فإن عاقبه فبذنبه وإن عفا عنه فبكرمه وجوده " ‪ ،‬أنتهى ‪٠‬‬
‫{ كتاب التوحید ‪ /‬الصدوق ‪} ٩٤ - ٩٣ /‬‬
‫هذه الروایة فیها إشارة الى أن نسبة القبیح الى اهللا تعالى یؤدي الى إنتفاء صفة‬
‫العدل عنه ‪ ،‬فإذا نسب فعل االنسان القبیح الى اهللا تعالى ‪ ،‬ومن ثم یعاقبه على‬
‫هذا الفعل ‪ ،‬فإن معاقبته تكون قبیحه على اهللا تعالى عن ذلك !‪٠‬‬
‫مضافا الى ذلك یستلزم كون العبد مجبور على أفعاله ‪ ،‬والمجبور على أفعاله‬
‫غیر مختار ‪ ،‬وغیر المختار یقبح معاقبته وإثابته‪ ،‬وبهذا یلزم بطالن الشرائع‬
‫السماویة القائمة على العقاب والثواب المنوط بإختیار االنسان ! ‪٠‬‬
‫فیكون العاصي في معصیته معذور وغیر مذموم ‪ ،‬وهو خالف الشریعة‬
‫الصریحة ‪ ،‬وخالف منطق العقل ! ‪٠‬‬
‫والبد من التنویه ألمر ‪:‬‬
‫عرفت فرقة من فرق المسلمین بالمرجئة ‪ ،‬وهي الفرقة التي ترجئ ( أي ترجع )‬
‫أفعال العباد الى اهللا تعالى ‪ ،‬فما من قبیح أو حسن یصدر من العبد ینسبونه الى‬
‫اهللا تعالى عن ذلك ! ‪٠‬‬
‫ونشئت هذه الفرقة في زمان بني أمیة ‪ ،‬وساهم حكامهم وعمالهم ووعاظهم في‬
‫إنتشارها في البلدان اإلسالمیة ‪ ،‬حتى أتسعت رقعتها بین األوساط المتأسلمة ‪،‬‬
‫مما أدى الى إنحراف جملة من المسلمین في عقائدهم ‪٠‬‬
‫وفي قبال هؤالء المرجئة ‪ ،‬نشأت فرقة من المتأسلمین یسمون بالمفوضة ؛ وهم‬
‫یسمون أیضا بالقدریة ‪ ،‬وهم القائلون ‪ ،‬إن اهللا تعالى فوض الى العبد أفعاله ‪،‬‬
‫فكل فعل یصدر من العبد ال دخل هلل تعالى فیه ! ‪٠‬‬
‫وشاع كال المذهبین في تلك األزمنة بین الناس ‪ ،‬وأخذوا یتكلمون بذلك ‪ ،‬مما بزر‬
‫من حفظت الشریعة وهم األئمة ( علیهم السالم ) قواعد تبین خطأ كال الفرقتین‬
‫في عقیدتهم ‪ ،‬وأن العقیدة الصحیحة هي ‪:‬‬
‫( أن ال جبر وال تفویض ولكن أمر بین أمرین ) ‪٠‬‬

‫أقول ‪:‬‬
‫عند التتبع نجد أن منشأ هذه العقائد هم الحكام الذین أغتصبوا الخالفة الربانیة من‬
‫أهل البیت ( علیهم السالم ) ‪ ،‬وذلك ؛ إن خلفاء الجور فعلوا فعال قبیحة جدا ‪،‬‬
‫وجرائم كثيرة صدرت منهم ومن ناصرهم من بعض الصحابة طیلة حكمهم ‪،‬‬
‫والتكاد تخفى هذه الجرام على أحد من المسلمین الى یوم الدنیا هذا ‪ ،‬مما یؤدي‬
‫إظهارها الى سلب شرعیة خلفاء الجور وفضحهم ‪ ،‬وقد تنبه الى هذه األخطاء‬
‫والجرائم أول من تنبه هو أبوبكر عتیق بن أبي قحافة ‪ ،‬حیث برر جریمة خالد‬
‫بن الولید عندما قتل مالك بن نویرة وأصحابه وزنى بزوجته ! ‪ ،‬فأفتضح أمرهم‬
‫بهذه الجریمة النكراء ‪ ،‬إال أن أبا بكر سرعان ما بادر بمقولة تكشف عن مكره‬
‫وهي ( إن خالدا أجتهد فأخطأ ) ‪ ،‬وبهذا المقولة برر فعل خالد ولم یقم علیه‬
‫القصاص ! ‪٠‬‬
‫فأصبحت هذه المقولة عند علماء الجمهور ووعاظهم ساریة في كل صحابي یفعل‬
‫فعل قبیح أو جریمة ‪ ،‬فیبرر له بأنه أجتهد فأخطأ حتى وإن قتل هذا الصحابي‬
‫مئات من المسلمین ! ‪ ،‬وعلى أثر هذه المقولة برر خروج عائشة ومروان وطلحة‬
‫والزبیر وأبنه على أمیر المؤمنین ( علیه السالم ) ‪ ،‬وتسبیبهم لمقتلة أكثر من‬
‫عشرین ألفا من المسلمین في معركة الجمل ‪ { ٠‬أنظر كتاب الجمل ‪ /‬للمفید }‬
‫فال تكاد أن تذكر لهم قبیحا وفعال منكرا یقرون به إال وتجد هذه المقولة حاضرة‬
‫عندهم لتبریر فعله ‪٠‬‬
‫وعلى هذا األساس سار بنو أمیة وعمالهم وقضاتهم ووعاظهم ‪ ،‬حیث تجد نسبة‬
‫جرائمهم الى اهللا تعالى في كلماتهم ‪ ،‬لكي یفسدوا عقائد الناس ‪،‬‬
‫فهذا ابن زیاد (لعنه اهللا تعالى) ‪ ،‬یقول إلمامنا زین العابدین ( علیه السالم ) ‪:‬‬
‫‪٠٠٠‬أولیس قتل اهللا علي بن الحسین ! ‪٠‬‬
‫فیجیبه االمام (علیه السالم ) ‪ :‬بل قتله الناس ‪٠‬‬
‫ومعنى ذلك ‪ :‬أن اهللا تعالى الیجبر عباده على المعصیة ‪ ،‬بل هم من یختارونها ‪،‬‬
‫وأن اهللا تعالى ال یفعل القبیح ‪٠‬‬
‫وهكذا تجد كالم ابن زیاد ( لعنه اهللا تعالى ) مخاطبا العقیلة‬
‫زینب الكبرى ( علیها السالم )‬
‫قائال ‪ ٠٠٠ :‬كیف رأیت صنع اهللا بأخیك الحسین وأهل بیته ‪٠٠‬؟‬
‫فتجیبه قائلة ‪ :‬ما رأیت اإل جمیال ‪٠‬‬
‫ومعناه ‪ :‬إن فعل اهللا تعالى بعباده جمیل ‪ ،‬وإن أفعال الناس بأولیاءه قبیح ‪،‬‬
‫فالشهادة والتضحیة في سبیل اهللا سبحانه جمیلة ویتمناها المؤمن ‪ ،‬إال أن من‬
‫یقوم بقتل المؤمن لیس اهللا تعالى ‪ ،‬بل الناس تقتل المؤمن ‪٠‬‬
‫ومن هذا تجد اإلصرار من قبل هذا الطاغیة الملعون على مقولة ؛ أن هذا الفعل‬
‫القبیح من اهللا تعالى عن ذلك ‪ ،‬ومن هنا تجد ؛ أن قبائح بني أمیة وحكامهم أسس‬
‫لها هذا المذهب ‪ ،‬وهو مذهب المرجئة ‪ ،‬التي ترجع فعل العباد قبیحه وحسنه الى‬
‫اهللا تعالى ‪٠‬‬

‫حدیث ال جبر وال تفویض ‪:‬‬


‫روى الصدوق بسنده عن المفضل بن عمر عن أبي عبداهللا ( علیه السالم ) قال ‪:‬‬
‫" ال جبر وال تفویض ولكن أمر بین أمرین ‪٠‬‬
‫قال ‪ :‬قلت ‪ :‬وما أمر بین أمرین ؟‬
‫قال ‪ :‬مثل ذلك رجل رأیته على معصیة فنهیته فلم ینته فتركته ففعل تلك المعصیة‬
‫‪ ،‬فلیس حیث لم یقبل منك فتركته أنت الذي أمرته بالمعصیة " ‪ ،‬انتهى ‪٠‬‬
‫{ التوحید ‪ /‬الصدوق ‪} ٣٥٢ /‬‬
‫نالحظ في هذا الحدیث ‪ ،‬أن موالنا الصادق (علیه السالم ) یبین للمفضل بن عمر‬
‫األمر بین األمرین ومثل له بالرجل العاصي الذي نهیته لم ینته ‪ ،‬ففعل المعصیة‬
‫لیس من أمر الناهي له ‪ ،‬فكذلك اهللا تعالى حیث نهى العبد عن المعصیة ‪ ،‬فلم‬
‫ینته ‪ ،‬فتركه اهللا تعالى وخلى بینه وبین عمله ‪ ،‬وتركه له لیس هو الذي أدخله في‬
‫المعصیة وأجبره علیها ‪ ،‬فاهللا تعالى خلى عبده بال جبر ‪ ،‬وهو قادر على منعه‬
‫إذا أراد منعه ‪ ،‬وبهذه القدرة لم یكن مفوضا الى العبد فعله ‪٠‬‬
‫وللتوضیح أكثر ‪ ،‬خذ مثال الید الضاربة ‪ ،‬فإن القدرة على الحركة إنما هي من‬
‫اهللا تعالى في الید ‪ ،‬ولكن إختیار الضرب یكون من العبد ‪ ،‬فالعبد إنما ضرب‬
‫بإختیاره ‪ ،‬بواسطة القدرة في یده ‪ ،‬فعصى اهللا تعالى بإختیاره بنعمة أنعم‬
‫بها علیه ‪،‬‬
‫فتأمل ‪.‬‬

‫هامش اإلختیار ‪:‬‬


‫اإلختیار لإلنسان ‪ ،‬من خصائص االنسان في هذه الدنیا ‪ ،‬أشارت إلیة جملة من‬
‫اآلیات القرانیة منها قوله تعالى ‪ِ " :‬إ َّنا َهدَ يْناهُ الس َِّبي َل ِإمَّا شاكِراً َو ِإمَّا َكفُوراً " ‪٠‬‬
‫[ االنسان ‪] ٣ /‬‬
‫فكل جزء في االنسان سواءا كان مادیا أو معنویا ‪ ،‬إنما هو خارج عن إرادة‬
‫االنسان ‪ ،‬فلیس لإلنسان في أصل تكوینه ونشأته أي دخل في أجزاءه ‪ ،‬وإنما اهللا‬
‫اك َف َعدَ َل َك ‪ ،‬فِي َأيِّ‬
‫عزوجل هو الذي كونه ركبه بمشیئته ‪ " ،‬الَّذِي َخ َل َق َك َف َسوَّ َ‬
‫ُور ٍة ما شا َء َر َّك َب َك " [ االنفطار ‪] ٨ - ٧ /‬‬ ‫ص َ‬
‫نعم ‪ ،‬أوكل اهللا تعالى لهذا االنسان االختیار وملكه إیاه ‪ ،‬واالختیار ؛ هو هامش‬
‫بسیط في حیاته الدنیویة ‪ ،‬تابع إلرادته ‪ ،‬اإل أن هذا الهامش البسیط المملك‬
‫لإلنسان كثیرا ما یفسد اإلنسان به نفسه ویفسد اآلخرین ‪ ،‬وذلك ألسباب یمكن‬
‫أقتصارها بثالث ‪:‬‬
‫أولها ‪ :‬التجاهل والغفلة ‪٠‬‬
‫ثانیها ‪ :‬البیئة التي ینشأ فیها ‪ ،‬وحاكمیتها وتأثیرها في تكوین االنسان ‪٠‬‬
‫ثالثها ‪ :‬المؤثرات الخارجیة والنفسیة ‪٠‬‬
‫وكل واحد من هذه األمور الثالث یمكن أن تتفرع الى فروع كثیرة ‪،‬كما أن لها‬
‫شواهد في الكتاب الكریم واألحادیث ‪٠‬‬

‫كما أن هذه األمور وفروعها تؤدي باإلنسان الى الشقاء وترك القوانین والتعالیم‬
‫السماویة الوحانیة ‪ ،‬التي تأتي على لسان األنبیاء واألوصیاء ( علیهم السالم ) ‪،‬‬
‫وهذا النوع من الترك هو أحد معاني الكفور ‪ ،‬والتي تعني صیغة مبالغة في الكفر‬
‫‪ ،‬كما أشارت اآلیة ‪،‬‬
‫فتأمل ‪٠‬‬

‫روایة رضویة ‪:‬‬


‫روى الصدوق بسنده عن سلیمان الجعفري عن ابي الحسن الرضا (علیه السالم )‬
‫‪ ،‬قال ‪ :‬ذكر عنده الجبر والتفویض ‪ ،‬فقال ‪ " :‬أآل أعطیكم في هذا أصال ال‬
‫تختلفون فیه وال تخاصمون علیه أحدا إال كسرتموه ‪٠‬‬
‫قلنا ‪ :‬إن رأیت ذلك ‪٠‬‬
‫فقال ‪ :‬إن اهللا عزوجل لم یطع بإكراه ‪ ،‬ولم یعص بغلبة ‪ ،‬ولم یهمل العباد في‬
‫ملكه ‪ ،‬هو المالك لما ملكهم ‪ ،‬والقادر على ما أقدرهم علیه ‪ ،‬فإن أئتمر العباد‬
‫بطاعته لم یكن اهللا عنها صاداً وال منها مانعا وإن أئتمروا بمعصیته فشاء أن‬
‫یحول بینهم وبین ذلك فعل وإن لم یحل وفعلوه فلیس هو الذي أدخلهم فیه ‪ ،‬ثم قال‬
‫(علیه السالم ) ‪ :‬من یضبط حدود هذا الكالم فقد‬
‫خصم من خالفه "‪ ،‬انتهى ‪ { ٠‬التوحید ‪ /‬الصدوق ‪} ٣٥١ /‬‬
‫واألصل هنا ‪ :‬بمثابة القاعدة التي یستند إلیها ‪٠‬‬

‫وقوله (علیه السالم )‪ " :‬إن اهللا عزوجل لم یطع بإكراه " ‪ ،‬إشار الى اآلیة‬
‫الكریمة " ال إكراه في الدین قد تبین الرشد من الغي " وغیرها ‪ ،‬إذ اإلكراه هو‬
‫الجبر المنافي لإلختیار ‪ ،‬إذ لو كان االنسان مجبورا لبطل الدین وبطل العقاب‬
‫والثواب كما تقدم ‪٠‬‬
‫وعن الكلیني بسنده عن احمد بن محمد بن أبي نصر قال ‪ :‬قال أبو الحسن الرضا‬
‫(علیه السالم ) ‪ " :‬قال اهللا ؛ یا ابن آدم بمشیئتي كنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ‪،‬‬
‫وبقوتي أدیت فرائضي وبنعمتي قویت على معصیتي ‪ ،‬جعلتك سمیعا بصیرا قویا‬
‫‪ ،‬ما أصابك من حسنة فمن اهللا ‪ ،‬وما أصابك من سیئة فمن نفسك وذاك‬

‫أني أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسیئاتك مني ‪ ،‬وذاك أنني ال أسأل عما أفعل‬
‫وهم یسألون " ‪ ،‬انتهى‪ { ٠‬الكافي ‪} ١٥٢ / ١ /‬‬
‫وقوله عزوجل ( تشاء لنفسك ) ؛ أي تختار لنفسك ‪ ،‬واإلختیار من اهللا تعالى‬
‫جعله لإلنسان ‪٠‬‬

‫مقومات اإلختیار ‪:‬‬


‫جعل اهللا تعالى للعبد مقومات لإلختیار الصحیح ‪ ،‬من هذه المقومات ‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬العقل ؛ والمراد به هو الجوهر المجرد عن المادة من خالله یتوصل الى‬
‫الكمال وعبادة الرحمن ‪ ٠‬فكل من یدرك األشیاء ویمیزها عن بعضها البعض ‪،‬‬
‫بحیث یفرز ما به نجاته في الدنیا واآلخرة عما فیه خسرانة في الدنیا واآلخرة‬
‫یسمى عاقال ‪ ٠‬وهذا التعریف للعقل إنما مأخوذ من مدرسة الوحي‬
‫‪ -‬النبي وآله (صلوات اهللا علیهم ) ‪٠ -‬‬
‫إال أن العقل البشري غالبا ما یتأثر بالنفس وأوهامها ‪ ،‬كما یتأثر بالبیئة ومحیطه ‪،‬‬
‫فال یدرك الحقائق على ماهي علیه ‪ ،‬بل ربما تنعكس عنده اإلدراكات ‪ ،‬فتتحول‬
‫بعض األحیان الواضحات الى نظریات والنظریات الى واضحات وهكذا ‪٠‬‬
‫نعم تبقى مواد أولیة یستند علیها العقل إلدراك األشیاء منها قبح الظلم ‪ ،‬وحسن‬
‫العدل مثال ‪ ،‬ومن خالل هذه یتوصل الى إدراك ما به نجاته في الدنیا واآلخرة ‪،‬‬
‫ومستویات اإلدراك والتمییز لهذه الحقأئق تختلف عند الناس ‪ ،‬فمنهم من یدرك‬
‫بنسبة إدراك وتمییز كبیر ومنهم متوسط ومنهم ضعیف ‪ ،‬إال أن كلهم یشتركون‬
‫في أصل واحد وهو اإلدراك والتمییز ‪٠‬‬
‫ولعلك تقول ‪:‬‬
‫إننا نجد الحیوانات أیضا لها نسب من اإلدراك ‪ ،‬فالفرس یدرك وله إدراكات‬
‫متفاوته ‪ ،‬وهكذا الكالب لها إدراكات ومنها التعلیم على الصید وغیره ‪ ،‬بل حتى‬
‫الحشرات لها إدراك ألنها عندما تدرك الخطر تفر منه ‪ ،‬فما هو الفارق الجوهري‬
‫في عقل االنسان بحیث یمیزه عن الحیوانات ؟‬
‫والجواب یكمن في مجموع أمرین ‪:‬‬

‫األول ‪ :‬التمییز ‪٠‬‬


‫الثاني ‪ :‬الغایة اإلیجابیة ‪٠‬‬
‫وإلیك تفصیل الكالم عنهما ألهمیتهما ‪:‬‬

‫التمییز ‪:‬‬
‫التمییز ‪ ،‬هو التفریق بین الحقائق واألوهام وبین الحق والباطل وبین المنجي‬
‫والمهلك ‪ ،‬فهو نسبة من اإلدراك عالیة ‪ ،‬بحیث من خاللها یتمیز االنسان عن‬
‫الحیوان ‪ ،‬وعلى أساسها یترتب العقاب والثواب والمحاسبة ‪ ،‬هو غیر موجود في‬
‫الحیوانات والحشرات ‪٠‬‬
‫وعلى هذا األساس ‪ ،‬أصبح االنسان مكلفا في هذه الدنیا ‪ ،‬وأخذ علیه تطبیق‬
‫القانون السماوي ‪ ،‬وعصیانه یؤدي الى هالكه ‪٠‬‬
‫وهذه المرحلة من التمییز إن أمتثل لها االنسان ‪ ،‬أرتقى الى العقالنیة ‪ ،‬وإن لم‬
‫یمثلها صار في حضیض الحیوانیة ! ‪ ،‬وأصبح كل ما یمارسه من مجهود عقلي‬
‫على مستوى التفكیر إنما یكون من النكراء أو الدهاء ‪ ،‬وهما‬
‫لیس من العقل بشئ ‪٠‬‬
‫والنكراء والدهاء والفطنة تعد من جنود الجهل ‪ ،‬وتسمى الشیطنة ‪ ،‬روى الكلیني‬
‫بسنده عن بعض أصحابنا رفعة الى أبي عبداهللا (علیه السالم ) قال ‪:‬‬
‫قلت له ‪ :‬ما العقل ؟‬
‫قال ‪ :‬ما عبد به الرحمن وأكتسب به الجنان ‪٠‬‬
‫قال ؛ قلت ‪ :‬فالذي كان في معاویة ؟‬
‫فقال ‪ :‬تلك النكراء ‪ ،‬تلك الشیطنة ‪ ،‬وهي شبیهة بالعقل ‪ ،‬ولیست بالعقل ‪٠‬‬
‫{ الكافي ‪} ١١ /١/‬‬
‫الغایة اإلیجابیة ‪:‬‬
‫إن التعریف الصحیح للعقل ‪ ،‬هو ما عبد به الرحمن وأكتسب به الجنان ‪ ،‬كما‬
‫تقدم في حدیث موالنا الصادق ( علیه السالم ) ‪ ،‬إال أن هذا التعریف غفل وتغافل‬
‫عنه الحكماء ‪ ،‬فخلطوا بین الدهاء والنكراء وبین العقل ‪ ،‬وبین الحدیث السابق‬
‫سر هذا الخلط ‪ ،‬إذ أنه ناشئ من المشابهة ‪٠‬‬
‫وعند التأمل قلیال ‪ ،‬نجد صحة وتمامیة مقولة الوحي ‪ ،‬وتعریفها للعقل ‪ ،‬إذ عند‬
‫مالحظة أصحاب الدهاء والنكراء والفطنة الالدینیين نجدهم متفوقون ظاهرا‬
‫ودنیویا على غیرهم في مهنهم ومجاالتهم ‪ ،‬إال إن واقعهم حیواني بحت ‪ ،‬بحیث‬
‫تقودهم الشهوات ‪ ،‬ومن قادته الشهوة یصف مع‬
‫البهائم ال مع العقالء ‪ ،‬قال اهللا تعالى ‪:‬‬
‫ت َت ُكونُ َع َل ْي ِه َوكِيالً ‪َ ،‬أ ْم َتحْ َسبُ َأنَّ َأ ْك َث َر ُه ْم‬ ‫ْت َم ِن ا َّت َخ َذ ِإل َه ُه َهواهُ َأ َفَأ ْن َ‬
‫" َأ َرَأي َ‬
‫ض ُّل َس ِبيالً " ‪٠‬‬ ‫عام َب ْل ُه ْم َأ َ‬ ‫َأْل‬ ‫ُون َأ ْو َيعْ ِقلُ َ‬
‫ون ِإنْ ُه ْم ِإالَّ َكا ْن ِ‬ ‫َيسْ َمع َ‬
‫[ الفرقان ‪] ٤٤ - ٤٣ /‬‬
‫روى الكلیني بسنده عن موالنا الصادق (علیه السالم ) قال ‪ " :‬من كان عاقال‬
‫كان له دین ‪ ،‬ومن كان له دین دخل الجنة " ‪ { ٠‬الكافي ‪} ١١ / ١ /‬‬
‫وعنه بسنده عن هشام بن الحكم ‪ ،‬قال ‪ :‬قال لي‬
‫أبو الحسن موسى بن جعفر (علیه السالم ) ‪ " :‬یا هشام ‪ ،‬إن اهللا تبارك وتعالى‬
‫ُون ْال َق ْو َل‬
‫ِين َيسْ َت ِمع َ‬ ‫بشر أهل العقل والفهم في كتابه ‪ ،‬فقال ‪َ ... " :‬ف َب ِّشرْ عِ با ِد ‪ ،‬الَّذ َ‬
‫ب"‪٠‬‬ ‫ِين َهدا ُه ُم هَّللا ُ َو ُأ َ‬
‫ولِئك ُه ْم ُأولُوا اَأْل ْلبا ِ‬ ‫ُون َأحْ َس َن ُه ُأ َ‬
‫ولِئك الَّذ َ‬ ‫َف َي َّت ِبع َ‬
‫یاهشام ‪ ،‬إن اهللا تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول ‪ ،‬ونصر النبیین‬
‫بالبیان ‪ ،‬ودلهم على ربوبیته باألدلة ‪٠٠٠‬إلخ الحدیث " ‪ { ٠‬الكافي ‪} ١٣ /١/‬‬
‫فمن خالل هذا أتضح ‪ ،‬أن العقل بعد التمییز ینبغي أن یختار ما یكمله دون ما‬
‫ینقصه ‪ ،‬فإن تم أختیار الصالح تكامل وترقى ‪ ،‬وإن أختار‬
‫الفساد نقص وتسافل ‪٠‬‬

‫المقوم الثاني العلم والمعرفة ‪:‬‬


‫وهذا المقوم یعد األهم من بین المقومات ‪ ،‬إذ به تثار العقول ‪ ،‬وعلى أساسه‬
‫یختار االنسان الصالح ویترك الفساد ‪ ،‬ولكن أي علم ومعرفة تؤدي الى ذلك ؟‬
‫من الواضح أن العلم المكلف به االنسان ‪ ،‬هو علم األدیان ‪ ،‬ویراد ثالثة أمور ‪:‬‬
‫االول ‪ :‬معرفة العقائد وترسیخها بالنفس وتحصیل الیقین بها ‪٠‬‬
‫الثاني ‪ :‬معرفة األحكام والسنن واألداب ‪ ،‬السیما التي یبتلى بها االنسان في نفسه‬
‫ومع األخرین والمجتمع خالل حیاته الیومیة ‪٠‬‬
‫الثالث ‪ :‬معرفة الطرق التي تؤدي الى زكاة نفسه وطهارتها ‪٠‬‬
‫وهذه األمور الثالثة تشترك بها جمیع أصناف الناس على جمیع مستویاتهم‬
‫ومراتبهم اإلجتماعیة ‪،‬‬
‫كما أن هذه األمور الثالثة هي سبب بعثة األنبیاء والرسل الى البشریة ‪ ،‬وبدون‬
‫أمتثال هذه األمور تبقى البشریة ترزح في غیاهب الظلم واالستبداد ‪٠‬‬
‫فكل ما تسعى إلیه البشریة من تقدم على جمیع األصعدة ‪ ،‬ال یعدوا في المنظار‬
‫القرآني ولسان الوحي عن كونه بناء للدنیا معرض للزوال والخسران دفعة واحدة‬
‫أو بالتدریج ‪ ،‬فیذهب هباءا تذروه ریاح الظلم والفساد ‪ ،‬قال اهللا تعالى ‪َ ":‬أ َف َمنْ‬
‫وان َخ ْي ٌر َأ ْم َمنْ َأس َ‬
‫َّس ُب ْنيا َن ُه َعلى‏ َشفا‬ ‫ى َت ْقوى‏ م َِن اللَّـ ِه َو ِرضْ ٍ‬ ‫َأس َ‬
‫َّس ُب ْنيا َن ُه َعل ‏‬
‫ِين " ‪٠‬‬
‫الظالِم َ‬‫هار ِب ِه فِي نار َج َه َّن َم َو هَّللا ُ ال َي ْهدِي ْال َق ْو َم َّ‬ ‫هار َفا ْن َ‬
‫ف ٍ‬ ‫ُج ُر ٍ‬
‫ِ‬
‫[ براءة (التوبة) ‪] ١٠٩ /‬‬
‫ففرق بین أن یبني البناء على أساس متین ‪ ،‬وبین أن یبني البناء على أساس هش‬
‫سرعان ما یهوي ‪ ،‬فهكذا األمم التي تتطور على أساس اإلختیار الحیواني وتترك‬
‫األساس الوحاني الرباني الذي یبني اإلنسان أوال ثم تبنى سائر األمور ثانیا ‪٠‬‬
‫ویشهد على ماذكرناه ما رواه الكلیني بسنده عن یونس بن عبدالرحمن عن بعض‬
‫أصحابه ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫سئل أبو الحسن ( علیه السالم ) ‪ :‬هل یسع الناس ترك المسألة عما یحتاجون إلیه‬
‫؟ فقال ‪ :‬ال ‪٠‬‬
‫وروى أیضا بسنده عن علي بن أبي حمزة قال ‪ :‬سمعت أبا عبداهللا (علیه السالم‬
‫) یقول ‪ :‬تفقهوا في الدین فإنه من لم یتفقه منكم في الدین فهو أعرابي ‪ ،‬إن اهللا‬
‫ين َو لِ ُي ْن ِذرُوا َق ْو َم ُه ْم ِإذا‬
‫یقول في كتابه " لِ َي َت َف َّقهُوا فِي ال ِّد ِ‬
‫ُون " ‪٠‬‬ ‫َر َجعُوا ِإ َلي ِْه ْم َل َعلَّ ُه ْم َيحْ َذر َ‬
‫{ الكافي ‪} ٣١/ ١ /‬‬
‫والمراد من األعراب ؛ هم من یسكنون البادیة الذین الیتعلمون أحكام الشریعة‬
‫المقدسة ‪ ،‬فمن لم یتفقه في الدین مهما كانت رتبته اإلجتماعیة إنما هو أعرابي ‪،‬‬
‫لعزوفه عن تعلم األحكام وغیرها‬
‫وأعراضه عن معرفة علوم الوحي التي الیمكن ألي أنسان یرید النجاة إال‬
‫بمعرفتها واإلستنان بها ‪٠‬‬
‫وروي عن أبان بن تغلب عن أبي عبداهللا ( علیه السالم ) قال ‪ :‬لوددت أن‬
‫أصحابي ضربت رؤوسهم بالسیاط حتى یتفقهوا ‪٠‬‬
‫وعنه (علیه السالم ) قال له رجل ‪ :‬جعلت فداك ‪ ،‬رجل عرف هذا األمر لزم بیته‬
‫ولم یتعرف إلى أحد من إخوانه ؟‬
‫فقال ‪ :‬كیف یتفقه هذا في دینه ؟! ‪٠‬‬
‫وعنه (علیه السالم ) یقول ‪ :‬علیكم بالتفقه في دین اهللا والتكونوا أعرابا ‪ ،‬فإنه من‬
‫لم یتفقه في دین اهللا لم ینظر اهللا إلیه یوم القیامة ‪ ،‬ولم یزك له عمال ‪٠‬‬
‫وقوله (علیه السالم ) ( علیكم ) إلزموا التفقه والفهم للشریعة ‪ ،‬فإن الجاهل بالدین‬
‫لم ینظر إلیه نظر الرحمة ‪ ،‬كما لم یسلم عمله ولم یطهر من الشوائب التي تؤدي‬
‫الى عدم قبوله ‪ ،‬وهذا األمر یكاد أن یكون واضحا ‪٠‬‬

‫ومن بعد بيان هذا المقدار من المفاهيم التي عسى أني وفقت في إيصالها إلى‬
‫القارئ اختم هذه الحلقة األولى ‪ ،‬آمال أن اشرع في التتمة ‪ ،‬بعون هللا تعالى‬
‫وقوته ‪ ،‬والحمدهلل رب العالمين والصالة والسالم على رسول هللا وآله الطيبين‬
‫الطاهرين ‪٠‬‬

You might also like