Professional Documents
Culture Documents
تصنيف العلوم بين محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن
تصنيف العلوم بين محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن
321
ISSN :1112-4377 مجلة المعيار
السنة5256 : عدد16 : مجلد52:
مقدمة:
يف كل فرتة من فرتات التحوالت العلمية واملعرفية حنو التقدم والتغري ،واإلنتاجات النوعية تصحبها تصنيفات وتقاسيم للعلوم
وإحصاءات تشهد هلا كما تربز معاملها وخطوطها العريضة وحتقق أهدافها ،ذلك أن كل تصنيف حيمل فلسفة أو يعتمد على فلسفة
ورؤية تتموضع من خالهلا العلوم احتادا وتفرقا وتفاضال وتراتبا ،كما تتحد د من خالهلا أيضا جمموعة العالقات اليت تكون بينها.
وحيقق كل تصنيف أهدافا معينة علمية ومعرفية وتعليمية وتربوية.
وعالوة على تلك اإلنتاجات الكثرية يف احلضارات املتقدمة اليونانية والغربية واإلسالمية خاصة اليت متيزت بالتنوع والتفرد ،يستمر
التأليف يف هذا اجملال يف وقتنا احلايل مع املشاريع الفلسفية واحلضارية اليت يقدمها العلماء والباحثون ،وجند هنا تصنيفني :األول لطه
عبد الرمحن والثاين تصنيف حممد عابد اجلابري ،حيث أبرز كل منهما فلسفة مبتكرة لتصنيف العلوم ،يف خضم مشروعيهما
املقدمني حلل إشكاالت الرتاث ،واحلداثة واملعرفة العلمية ،ومن هذا املنطلق ماذا كانت أبرز االختالفات بني التصنيفني؟ ،وكيف
أثرت فلسفتهما يف متوضع العلوم اتصاال وانفصاال وتفاعال؟.
-1األسس الفلسفية للتصنيف:
إن التصنيفات املختلفة اليت يقدمها املفكرون الفالسفة واملصنفون ،تعتمد على أسس فلسفية يف منطلقاهتا ،وهي تلك النماذج
واألفكار املوجهة للتصنيف ،وهذه األسس تكون إما ابستمولوجية (معرفية) ،تتعلق بنظرية املعرفة ،وتنبين على القوى اإلدراكية
لإلنسان ،ونلتقي فيها باجتاهني كبريين مها :االجتاه العقلي الذي حيدد املبادئ األولية (القبلية) للمعرفة عن طريق العقل( ،)1ويدخل
يف هذا األساس الفالسفة ،مثل أرسطو ومن تأثر به كالكندي والفارايب وابن سينا ،واالجتاه التجرييب الذي يستمد نظرياته ومعرفته
عن طريق التجربة بعد استقراء الواقع( .)2ويدخل فيه فالسفة الغرب أمثال فرانسيس بيكون وأوجست كونت .ومن املسلمني ابن
الندمي وابن خلدون وطاش كربى زادة .فهم بذلك يعربون عن اجتاهني حتت أساس واحد(.)3
أو أكسيولوجية قيمية (تتعلق بالقيمة واألخالق) ،أي أن هناك أساسا قيميا ،سواء كان هو اخلري أو الفضيلة ،أو احلق أو الفائدة،
إضافة إىل خاصية أساسية هي تقسيم العلوم إىل علوم الوسائل وعلوم الغايات ،ومن هذه التصنيفات :رسالة اخلوارزمي يف العلوم،
التهانوي يف كشاف اصطالحات الفنون ،وحاجي خليفة والتوحيدي.
أو أنطولوجية خاصة بالوجود ،مثل "جابر بن حيان" الصويف ،و"حممد بن تومرت" وغريمها(.)4
فهم يصنفون العلوم بشكل موازي لتصورهم للكون كنظرية الفيض مثال.
تقرتب هذه التقسيمات من تقسيمات الفلسفة إىل أنطولوجيا وإبستمولوجيا وإكسيولوجيا ،وهلذا مسيت أسس فلسفية ،وليس هذا
سببا فحسب ،بل إن تلك التقسيمات تعرب أيضا عن زوايا ونظرات للكون واإلنسان ،باملعىن الواسع فهي تتفق مع نظرة املصنف
-1عبد الرمحان بن زيد الزنيدي ،مصادر املعرفة يف الفكر الديين والفلسفي ،دراسة نقدية يف ضوء اإلسالم ،ط ،3مكتبة املؤيد ،الرياض 3131 ،هـ ــ3991 ،م ،ص112 :
-2عبد الرمحان بن زيد الزنيدي ،املرجع نفسه ،ص.141-114 :
-3حممد حسن كاظم اخلفاجي ،مقدمة يف الرتاث احلضاري لتصنيف العلوم ،جملة املورد العراقية ،مج ،1ع3944 ،1م ،ص. 232 :
-4أمحد عبد احلليم عطية ،تصنيف العلوم عند العرب ،ودراسات أخرى ،دار النصر ،القاهرة ،ص.382:
321
ISSN :1112-4377 مجلة المعيار
السنة5256 : عدد16 : مجلد52:
للمنهج األركيولوجي من حقل اجليولوجيا جمازا ،وذلك من أجل الكشف عن ما يشرط خمتلف املعارف ،وإىل التعرف على البنية
الضمنية اليت حتكم مرحلة ما من تاريخ الثقافة"وإظهار العالقات اليت تربط التشكيالت اخلطابية بامليادين غري اخلطابية( كاملؤسسات
واألحداث السياسية ،واملمارسات والتطورات االقتصادية) .1فشابه ذلك عمل األركيولوجي يف معاجلة طبقات املعرفة والثقافة ،حيث
يستبعد املنظور التارخيي القائم على مفهوم التعاقب والصريورة املنتظمة الرابطة بني السابق والالحق ،واملتقدم واملتأخر.2
باإلضافة إىل ذلك يقوم "فوكو" باستبعاد "الذات اإلنسانية" ،فهو ال يرى وجود ذات فاعلة يف التاريخ ،بل مثة بنية خفية ينبغي
الكشف عنها يسميها ب"االبستيمي" ،وهو النظام املتحكم يف وعي اإلنسان وسلوكه ،لذا كان "فوكو" يستهدف بأركيولوجيته
احلفر يف بنيات الثقافة من أجل حتديد االبستيمي/نظام الفكر املتحكم يف كل بنية على حدة .هذا "االبستيمي /نظام الفكر"هو
الذي يشكل الشروط احملددة للتفكري والسلوك ومنط احلياة ،وهو األمر الذي يؤكد به ضرورة إحالل مفهوم القطيعة املعرفية بوصفه
أساسا منهجيا للمعرفة احلداثية -ما بعد احلداثية.3
يذكر عبد السالم بنعبد العايل أن اجلابري ينقلنا من مفهوم تارخيي لألفكار إىل مفهوم تكويين جينالوجي ،ومن هنا تلك النظرة
إىل الثقافة العربية اإلسالمية كفضاء تارخيي أصيل ..ومن هذا املنظور تنهار املقابلة التقليدية بني األصيل والدخيل..إهنا جزء من
تارخينا القومي .4إنه مبعىن آخر يريد أن يربز "قواعد اللعب" اليت تستخدمها الثقافة العاملة عندما تقوم بإنتاج املعرفة .5
تموضع العلوم وأساس التفاضل بينها عند الجابري: ب -
توجه اجلابري بالنقد إىل هذا العقل بوصفه أداة اإلنتاج ال منتوج هذا العقل بالذات ،فانقسم العقل إىل ثالث عقول ،والعلوم
إىل ثالثة أقسام أو أصناف :علوم العرفان :من تصوف وفكر شيعي باطين هرمسي ،وسحر وطلسمات..وآلية إنتاج املعرفة فيها غري
سببية وغري ضرورية ،وهي من قبيل األوهام واخلرافات ،والعقل فيها معطل بل مستقيل ،وعلوم البيان وتشمل :علوم اللغة ،والفقه
واألصول والكالم ..وآلية إنتاج املعرفة فيها جامدة ألهنا تعتمد القياس والتشبيه ما يؤدي إىل التقليد والتبعية ،فالعقل فيها على الرغم
من أنه متحرك إال أن حركته حمدودة ومقيدة ورجعية (أي ترجع دائما إىل أصل) ،أما علوم الربهان :من منطق وطبيعيات ..فتعتمد
6
الضرورة السببية واالرتباط السبيب.
ويقول يف هذا.." :ملا أخذنا يف تركيز اهتمامنا كله على اجلانب اإلبستملوجي ،أي البحث يف ما يؤسس املعرفة داخل الثقافة
العربية ،حىت بدأ يرتاءى أمامنا تصنيف جديد يطرح إعادة ترتيب العالقات بني قطاعات تراثنا الفكري بصورة تسمح بتجاوز
االختالفات الراجعة إىل املظاهر اخلارجية ،وتدفع اكتشاف االختالفات الداخلية البنيوية". 7
عرض اجلابري تصنيفه للعلوم بعد أن انتقد التصنيفات السابقة يف الثقافة العربية اليت ال تقوم إال على اعتبار املظاهر اخلارجية،
إىل علوم نقلية وأخرى عقلية ،أو إىل علوم دين وعلوم لغة ،أو إىل علوم العرب وعلوم العجم .
ويعده تصنيفا مبتكرا يفتح آفاق التقدم للعلوم واملعارف فيقول.. ":تصنيف آخر ال يؤخذ فيه بعني االعتبار سوى البنية
الداخلية للمعرفة ،أعين آلياهتا ووسائلها ومفامهها األساسية ،تصنيف يطرق آفاقا جديدة متاما هي من اخلصوبة والعمق مبثل اآلفاق
اليت فتحها أمام علم البيولوجيا التصنيف احلديث للحيوانات إىل فقريات والفقاريات.1"..
نالحظ يف مشروعه أيضا أن هذه األقسام الثالثة تعود إىل العقل النظري ،الذي يقابله العقل العملي ،وهو القسم الثاين الذي
جيعله صنفني العقل السياسي ،والعقل األخالقي ،ويتحدث عنهما وحيللهما يف كتابني مستقلني ،وال جيعل هلما بنية منفردة وخاصة
بكل واحد منهما ،وإمنا تتغري النظم املعرفية حسب احلاجة ،فقد يكون العقل السياسي وكذا األخالقي بيانيا ،أو عرفانيا أو
2
برهانيا.
ج -القطيعة اإلبستيمولوجية وآثارها:
يعتقد اجلابري أن تطور العلوم وتقدمها ال يكون إال إذا متت القطيعة مع آلية إنتاج املعرفة يف البيان والعرفان واالستمرار مع آلية
الربهان ،وهبذا تتحقق العلمية والعقالنية على كل املستويات العقلية والشرعية.
وصورة هذه القطيعة قد حدثت يف التاريخ اإلسالمي مع ابن رشد وابن خلدون والشاطيب وابن حزم وما علينا سوى أن نستمر
مع روحها.3
تقوم القطيعة عند اجلابري على استئناف القطيعة اليت حدثت يف التاريخ العريب اإلسالمي مع ابن رشد ،والتيار العقالين
ككل ،واستعادهتا مع اللحظة املعاصرة ،فهي وحدها املناسبة ،لتأسيس عصر تدوين جديد ،وهذا ما جعل الباحث امبارك حامدي
يسميها بالقطيعة الصغرى ،يف مقابل القطيعة الوسطى والكربى للعروي وحممد أركون.4
إن اجلابري قد قلب وظيفة "اإلبستيمي" كما يقول طرابيشي فبدل أن تكون ممتدة يف املكان متحولة يف الزمان ،صارت
العكس ،5ما شطر املعرفة وبضعها . ،وعليه كان االنفصال بينها انفصاال تاما أيضا ال جمال فيه لوجود عالقات تفاعل وتعاون
وتكامل ،أو النتقال آلية إنتاجية من علم إىل علم آخر يف الصنف املقابل .فانتقل اجلابري بذلك من "تشطري الثقافة العربية
اإلسالمية إىل ثالث قطاعات يشكل كل منها حقال معرفيا متميزا ،أو عاملا من التصورات واملعارف اليت يكفي كل منها نفسه
بنفسه ،ويدخل يف عالقة منافسة ،وصدام مع عوامل معرفية أخرى ،إىل حفر خنادق بني أنواع املعارف والعلوم غري قابلة لالجتياز،
وهذا يف املوقع عينه الذي يفرتض فيه بالباحث اإلبستيمولوجي أن ميد جسورا".6
إهنا النتيجة احلتمية للقطيعة اإلبستيمولوجية ،املبنية على رؤية كونية تفصل بني العقل والشرع ،بني العلم والدين ،بني املادي
والروحي فصال ال يعترب فيه إال العقل والعلم واملادة اجملردة من كل إميان وهدى وقيم .إنه يبحث عن وحدة للعلوم تقوم على وحدة
املنهج (الربهان) ،أو ت كامل معريف منبثق من وحدة العقل اإلنساين وهو غري التكامل املعريف املنبثق من الرؤية الكونية التوحيدية اليت
جتمع بني القراءتني ،قراءة الكون املنظور وقراءة الكتاب املسطور ،على هدي من القرآن الكرمي دون تلفيق ،بعيدا عن القراءات
القائمة على املقاربات واملقارنات ،وهبذا تتحدد وظيفة القرآن بالنسبة لإلبستملوجيا املعاصرة ،إنه ُّ
يسد النقص يف املعرفة الكونية
مبنطق (االستيعاب) و(التجاوز) معا ،رجوعا إىل القرآن نفسه بوصفه معادال معرفيا مطلقا يف حد ذاته ملطلق اإلنسان ومطلق
الوجود الكوين ،فهو كتاب متعال ،مبعىن مطلق تعطي نصوصه أو آياته الكونية متاحات وعي ال متناه يف كون ال متناه ،فاخللق يف
القرآن يتجاوز خصائص املادة وتفاعالهتا املنضبطة إىل تفعيلها عرب حركة كونية المتناهية ،ويكون اجلمع بني القراءة باهلل خالقا
والقراءة مع اهلل معلما بالقلم املوضوعي ..وعليه فاآلليات اإلبستيمولوجية املعاصرة تشكل قوة إسناد لدعم القراءة األوىل ،ولكنها
1
ليست مصدرها ،فمصدرها من ذاهتا أي العبودية هلل.
هبذا يتم اجلمع بني ابن رشد الفقيه ،وابن رشد الطبيب ،وابن رشد الفيلسوف .فنخرج من اجتهاد الكم إىل اجتهاد الكيف املفارق،
بعيدا عن العصرنة املفتعلة اليت خترج النص من دالالته املقيدة إىل "عائدها املعريف" يف الرتاث غافال عن إطالقية القرآن والوحي مع
أن التعامل هنا ال يتم مع نص بشري حمكوم بالتارخيانية ولكن مع نص إهلي.
هلذا فاجلمع بني القراءتني :قراءة الوحي وقراءة الوجود جيعل من املعارف كلها معارف حمرتمة" ،2وتزول احلاجة إىل التفاضل بينها
فضال عن القطع معها.
وهذا ما جعل طه عبد الرمحن يقدم مشروعا مضادا للجابري ،انتقده فيه وقدم بديال عن تصنيفه يقوم على التكاملية بدل
االنفصال.
-1حممد أبو القاسم حاج محد ،إبستمولوجيا املعرفة الكونية ،إسالمية املعرفة واملنهج ،ط ،3دار اهلادي ،مركز دراسات فلسفة الدين يف بغداد ،بريوت ،لبنان3111 ،ه،
2221م ،ص.228-221:
-2طه جابر العلواين ،إصالح الفكر اإلسالمي ،مدخل إىل نظم اخلطاب يف الفكر اإلسالمي املعاصر ،ط ،1املعهد العاملي للفكر اإلسالمي ،فرجينيا ،الواليات املتحدة
األمريكية3129 ،ه2229 -م ،ص.339-338:
328
ISSN :1112-4377 مجلة المعيار
السنة5256 : عدد16 : مجلد52:
العقل النظري
العقل العملي
أخالق +سياسة
-1طه عبد الرمحن ،جتديد املنهج يف تقومي الرتاث ، ،ط ،2املركز الثقايف العريب ،الدار البيضاء ،ص.42:
-2عمار صويلة ،حتليالت التكامل املعريف يف أعمال طه عبد الرمحن وفكره ،جملة املعيار ،العدد2231 ،1:م ،ص.92:
3
ضيق العلمانية إىل َس َعة االئتمانية -ط ، 2املركز الثقايف العريب ،الدار البيضاء ،املغرب ،بريوت ،لبنان2232 ،م .والعمل الديين
-أنظر:طه عبد الرمحن ،روح الدين-من َ
وجتديد العقل ،ط ،2املركز الثقايف العريب ،الدار البيضاء ،احلمراء ،بريوت3994 ،م.
329
ISSN :1112-4377 مجلة المعيار
السنة5256 : عدد16 : مجلد52:
فهو غري مسبوق ألننا نقول بالنظرة التكاملية ،وهو غري مألوف ألننا توسلنا فيه بأدوات مأصولة ،حيث توسل غرينا بأدوات
منقولة".1
اعترب طه عبد الرمحن إبطال التقومي التفاضلي للرتاث اإلسالمي العريب ،عند حممد عابد اجلابري ،شرطا ضروريا إلثبات نظرته،
اليت يعتربها تكاملية ،هلذا ركز على ميزة منهجية يف تقومي الرتاث ،وهي :اشتغاهلا بآليات التداخل املعريف ،أي :االنشغال بالبناء اآليل
للرتاث ،بدل االقتصار على االشتغال مبضامينه كما فعل اجلابري ،وذلك أن " التقومي الذي يتوىل استكشاف اآلليات اليت تأصلت
وتفرعت هبا مضامني الرتاث كما يتوىل استعماهلا يف نقد هذه املضامني ،يصري ال حمالة إىل األخذ بنظرة تكاملية".2
ينطلق يف هذه النظرة التكاملية للرتاث من مسلمات ثالث:
- 3مسلمة الرتكيب املزدوج للنص :وتقتضي إسناد كل مضمون خمصوص إىل كيفيات إنتاجية خمصوصة.
- 2مسلمة تنقل اآلليات اإلنتاجية :فقد تشرتك العلوم يف توظيف اآللية الواحدة ،دون أن يقلل ذلك من القيمة املنهجية هلذه
العلوم أو لتلك اآللية.
3
- 1مسلمة تشبع الرتاث باآلليات اإلنتاجية :وتقتضي أن فهم النص الرتاثي ال يتم إال بفهم هذه اآلليات.
استنبط بذلك ثالث حقائق للمعرفة الرتاثية كلها تغذي النظرة التكاملية أوالها :أن املعرفة الرتاثية معرفة خادمة تقوم بوظيفة التوسل
وبشرائط ما مساه"احلقيقة اإلسالمية العربية" ،والثانية :أن املعرفة الرتاثية معرفة عملية تبىن على مبدأ اإلجرائية ،ومتارس تقومي السلوك،
وتنقل مضامينها إىل حيز التطبيق ،والثالثة :أن املعرفة الرتاثية معرفة منهجية تتحدد بطرق الناظر ،وطرق املناظر مع غلبة طرق
4
التناظر.
العقول الثالثة وتكاملها عند طه عبد الرحمن: ب -
متقربا" ،وهبذا
جاء منوذج طه عبد الرمحن التصنيفي منبثقا من حتليل وتقومي "الفعالية العقلية" اليت يظهر هبا اإلنسان باعتباره كائنا " ِّ
كان صاحب العقل اجملرد مقاربا ،وصاحب العقل املسدد قرباين ،وصاحب العقل املؤيد مقربا ،فعقالنية األول يف أدىن املراتب ألنه
يقف عند التحليل امللموس للواقع امللموس ،ما يؤدي إىل آفتني مها :عدم اليقني أو الوقوع يف الظن والرمز والتشبيه ،وعدم
االطمئنان املتمثل يف النسبية واالسرتقاق والفوضى.
أما عقلية الثاين فتصعد مرتبة لدخوله يف االشتغال الشرعي الذي خيرج هذه العقالنية من وصف عدم اليقني وعدم االطمئنان،
وذلك بفضل أسباب التسديد اليت حيملها هذا االشتغال ،وتنري هلا السبيل فيما تقضي به من أحكام وإجراءات ،وفيما تقوم به من
متييزات واختيارات ،لكن ملا كانت ممارسة القرباين ال تتطلع إىل آداب من التقرب جتاوز حد الفرائض ،فإن عقالنيته تتعرض إىل ما
حيد من يقينها بسبب وقوعها يف التساهل يف الصدق املتمثل يف التظاهر والتقليد ،وإىل ما حيد من اطمئناهنا بسبب التساهل يف
العمل املتمثل يف التجريد والتسييس.
وأما عقالنية املقرب فهي يف أعلى املراتب لنزوهلا منازل متغلغلة يف االشتغال الشرعي ،فيخرجه من وصف التساهل يف الصدق
والعمل بفضل أسباب التأييد اليت حيملها ،واليت تزود عقالنيته بالتحقيق ،فيدرك األشياء بالوجه الذي تدل به على احلق ،وبالتخلق
فيأيت أفعاال ترغبه يف جتديد العمل وتكامله.1ويف كتابه "روح الدين يسميهم بالعلماين والدياين واإلئتماين.2
ومبوجب هذا جيعل طه عبد الرمحن العقل املؤيد أكمل العقول ،وهو الذي يوصف بالعقالنية األكمل واألمشل ،وكلما نزلنا كلما
ارتفع نصيب الالعقالنية ونقص غريها ،أي العقالنية.
نستطيع القول إذا أن طه عبد الرمحن يرفع من قيمة املمارسة الصوفية ،يف مقابل املمارسة العلمية والنظرية ،واملمارسة الفقهية
والسلفية .فكان مشروعه يف سبيل فلسفة عملية إسالمية .يقول":وقيمة كل علم تكون على قدر تعلقه بالعمل".3
كما يقدم كثريا من االنتقادات للعقل الربهاين عند اجلابري ويسميه العقل اجملرد ،يف مقابل العقل املسدد (البيان) ،والعقل املؤيد
(العرفان) ،وجيعله يف أدىن املراتب ،وهو درجة دنيا ال ميكنها أن تكتمل إال بالدرجتني األخريني على التوايل ،4فالعقل اجملرد هو أويل
وآيل يقابله العقل املشروط يف تكليف املكلف ،أما املسدد فهو مسدد بالوحي وباألوامر اإلهلية اليت ال تكتمل إال بالعمل أو بالعقل
املؤيد.
خيتص العقل اجملرد عند طه بالعلوم النظرية ،كاإلهليات ،واملنطق والرياضيات والطبيعة والكيمياء والفلك والطب..وكل هذه العلوم
عدا اإلهليات ال ختتص به املعرفة النظرية اإلسالمية العربية على وجه ال حيصل لغريها ،ألن مبحث اإلهليات تتوسل بالعقل اجملرد يف
التحصيل والتبليغ عرب الفلسفة وعلم الكالم.5
أما العقل املسدد فهو العقل غري املستقل عند الفقهاء واألصوليني ،أو املقيد ،ويتمثل يف الفقه وأصوله ،ودافع عنه طه عبد
الرمحن ،ردا على اجلابري الذي يقول بأنه العقالين والتارخيي ،لكنه يف الوقت نفسه يعترب بأن له آفات ،تتدارك بكماالت العقل
املؤيد ،أو التصوف الذي يقوم على طلب الكمال يف العمل الشرعي.6
آثار األخذ بالنظرة التكاملية: ج -
إن هذه النظرة التكاملية تنظر للعلوم من جهة تداخلها املعريف ،هذا التداخل الذي مييز فيه طه عبد الرمحن بني درجتني اثنتني:
-درجة الرتاتب :وقد خلف لنا علماء اإلسالم مصنفات عديدة رتبوا فيها العلوم ،وهي وإن اختلفت يف املعايري العملية ويف
األهداف اليت وجهتها ..فإهنا توضح كامل التوضيح النزعة التكاملية اليت كانت تطبع النظرية الرتاثية للمعرفة ،فقد كانت هذه النظرية
مبنية على االقتناع التام بتقارب العلوم وتشاهبها ،وبفائدة ترتيبها حىت تربز عالقات هذا التقارب والتشابه.7
-ودرجة التفاعل :فلم يكتف علماء اإلسالم بالقول بتدرج العلوم فيما بينها ،بل أقروا مبشروعية تفاعل العلوم بعضها مع
بعض ،وتشابك العالقات بينها ،فاملباحث الكالمية تتفاعل مه املباحث اللغوية والبالغية والفلسفية ،كما تتفاعل املباحث املنطقية
مع املباحث اللغوية واألصولية..ما أدى إىل إثراء العلوم والفنون بعضها لبعض ،ويف توجيه بعضها مسار البعض اآلخر ،وامتزاج
املصطلحات فيما بينها1.إضافة إىل املوسوعية اليت متيز هبا علماء األمة.
كما مييز بني نوعني من التداخل املعريف :تداخل خارجي وداخلي :الداخلي ما كان بني علوم الرتاث بعضها مع بعض ،واخلارجي
ما كان بني العلوم املأصولة واملنقولة.
ميثل للتداخل الداخلي بعلم املقاصد عند الشاطيب ،2فعنده تلتقي العقول الثالثة :العقل اجملرد ،والعقل املسدد ،والعقل املؤيد يف
نظرة تكاملية بينها ،وعلى أساس أن علم املقاصد علم عملي مبين على األخالق اليت هي مقصد الدين األمسى ،فهو ال كما يعتربه
اجلابري علما برهانيا صرفا" ،.فإذا كانت املعقولية يف الفلسفة-يقول اجلابري -تعين الرتتيب والنظام املشاهدان يف العامل ،أو مبدأ
السببية ،فإن املعقولية يف الدين مؤسسة على قصد الشارع ،ففكرة قصد الشارع يف جمال النقليات توازن فكرة األسباب الطبيعية يف
3
جمال العقليات".
كما ميثل للتداخل اخلارجي بالعلم اإلهلي عند ابن رشد ،4ردا على اجلابري الذي اعترب هذا األخري ميثل قمة الربهانية الصافية وال
وال يوجد عنده أي تداخل أو خلط بني أساليب اجلدل ،وطرائق الربهان ،وكشوفات العرفان ،من شأهنا أن تسبب فوضى يف
التفكري وميوعة يف النظر كما حدث مع ابن سينا والغزايل ،لكن طه عبد الرمحن حياول أن يثبت أن منت ابن رشد مليء بالتداخل
بني العلوم واملعارف املنقولة واألصيلة ،من خالل بيان أثر علم الكالم يف فلسفة أيب الوليد ،وذلك من شأنه أن يقوض أطروحة
5
اجلابري من أساسها.
وجتدر اإلشارة إىل أن طه عبد الرمحن ال يتعلق التكامل عنده باجلانب املعريف فحسب بل يقول بالتكاملية الشاملة ،بني عاملي
الغيب والشهادة ،بني امللك وامللكوت ،بني الدنيا واآلخرة ،بني اإلنسان وملكاته ،فالعقل والقلب متكامالن ،وبني األخالق
واجملاالت األخرى ،كالعلم واملعرفة والسياسة واالجتماع والعمران وغريها .6ويلتقي هبذا مع طه جابر العلواين يف كثري من النقاط.
-اإلهليات
-علوم القرآن
-التصوف -الطبيعيات
-احلديث
-املقاصد -الرياضيات
-الفقه وأصوله
-املنطق
-1طه عبد الرمحن ،العمل الديين وجتديد العقل ،ص ص.323 ،18 ،34:
-2طه عبد الرمحن ،املصدر نفسه ،ص.32:
-3طه عبد الرمحن ،سؤال األخالق :مسامهة يف النقد األخالقي للحداثة الغربية ،ص.223 :
311
ISSN :1112-4377 مجلة المعيار
السنة5256 : عدد16 : مجلد52:
-ويف مقابل نقائص العقل اجملرد عند طه ،جند أن اجلابري يرفع من العقل الربهاين ،وجيعله مسار العلم الوحيد ،وباملوازاة مع هذه
التفاضالت كانت حلبة الصراع بني الرجلني على أرض البيان ،ففي الوقت الذي حاول فيه اجلابري بناء البيان على الربهان مستندا
يف ذلك إىل عمل الشاطيب يف علم املقاصد ،وابن رشد يف العقيدة أو اإلهليات ،على أساس أهنما ميثالن قمة الربهانية يف الثقافة
العربية اإلسالمية ،يف الوقت نفسه قام طه عبد الرمحن بإثبات العكس :أن علم املقاصد علم أصويل صويف ،وأن فلسفة أبا الوليد
مليئة بالوصل والتداخل بني العلوم ،كما هاجم ابن رشد هجوما شديدا ،واعترب اإلسهام املغريب يف الرتاث اإلسالمي إسهاما أخالقيا
بالدرجة األوىل ،ردا على اجلابري الذي جعله عطاء عقالنيا برهانيا ،1وقد وقع طه عبد الرمحن بذلك يف منحى سجايل جعله يقع
يف أخطاء منهجية ،ومن بينها أنه قرأ ابن رشد من خالل اجلابري ،أو أنه ينقد ابن رشد واضعا نصب عينيه غرميه (اجلابري) ،علما
أن هذا األخري يقرأ فيلسوفنا قراءة معينة ،تقرتب كثريا من قراءة الالتني له ،فهو ال يستدعي ابن رشد الفيلسوف والفقيه واألصويل
والطبيب ،بل ابن رشد الفيلسوف فحسب أو "الروح الرشدية" كما يقول .أما ابن خلدون فقد وضعه اجلابري مع أصحاب
الربهان ،ألنه قطع مع طريقة النقل والسرد املتأثرة مبنهج اجلرح والتعديل ،وحاول "بناء املعقولية يف التاريخ ،معقولية اإلمكان الواقعي
ملضمون اخلرب اليت تتم مبعرفة طبائع العمران" ،2لقد اعتمد طريقة التربير السبيب لوقوع احلوادث اليت حتصل للبشر يف اجتماعهم ،ألنه
تصور نوعا من املماثلة بني ما حيدث يف الطبيعة وبني ما حيدث للبشر ،فإذا كان عامل األشياء يفسر سببيا ،فعامل اإلنسان أوىل هبذا
التفسري ،أما طه عبد الرمحن فقد اعتربه أحسن من الغزايل الذي مل يستفد من جتربته الصوفية اليت كان من املفروض أن جتعله يتجاوز
مرتبة "العقل اجملرد"إىل مرتبة تفوقها علوا وشرفا وهي مرتبة"العقل املؤيد" اليت من شأهنا أن تدفعه لنبذ املنطق األرسطي وراء ظهره،
والقول بتعددية مناهج الفلسفة وكثرة مضامينها يف نفس اآلن ،وهو املوقف الذي أدركه عبد الرمحن ابن خلدون فاستحق بذلك
مكانة أفضل عند طه عبد الرمحن.
خاتمة:
وعليه فإن مسألة تصنيف العلوم على أسس فلسفية معينة ،واليت تطرح إشكاالت إبستيمولوجية عديدة أمهها تراتب العلوم على
أساس من الوحدة أو التكامل ،هي مسألة قدمية جديدة خاض فيها كثريون وعرفت يف القدمي بالتوفيق بني احلكمة والشريعة ،أو بني
الفلسفة والدين ،وهي اليوم تعرض عند كل من طه عبد الرمحن واجلابري من منطلقات جديدة ،وصورة مغايرة ،تبني مشاريع
حضارية ،وقد دعا إىل التكامل املعريف ،كل من ابن رشد والغزايل على اختالف يف املوقف املعريف بينهما ،لكن أبا الوليد حني أبرز
هذه اخلاصية ال يف جمال أعماله واهتماماته يف الطب والفقه والقضاء والفلسفة والكالم فحسب –واليت استطاع أن ميزج بينها
بطريقة خيدم بعضها بعضا ،ويصعب التفريق بينها أحيانا -بل ويف سعيه املباشر للتوفيق بني مصادر املعرفة ،واجلمع بني املوسوعية
والتخصص ،فقد قدم فهما يف هذه املسألة أكثر عمقا ومشوال وهو غري ابن رشد كما فهمه الالتني واستخدموه لتقدمي نظرية احلقيقة
املزدوجة .إن ابن رشد ادعى أن احلقيقة ميكن الوصول إليها عن طريق الفلسفة وعن طريق الوحي ،وبالتايل أيد الطريقتني وليس
احلقيقتني" ،1وأحيا روح التوفيق والتكامل بني الفكر الديين والفكر العلمي ،دون أن خيرج عن الدين وال يظلم العلم ،وما هو
مبشروع علماين يوحد العلوم على منهج واحد ،بل جاء فيه بطريقة نستطيع أن نقول أهنا إصالحية جتديدية.
-1فتحي حسن ملكاوي ،العطاء الفكري أليب الوليد ابن رشد ،حلقة دراسية ،املعهد العاملي للفكر اإلسالمي ،عمان ،مجادى الثانية 3122ه ،أيلول3999م ،ص.23:
311
ISSN :1112-4377 مجلة المعيار
السنة5256 : عدد16 : مجلد52:
- 31صويلة عمار ،حتليالت التكامل املعريف يف أعمال طه عبد الرمحن وفكره ،جملة املعيار ،العدد2231 ،1:م.
- 31طرابيشي جورج ،نقد نقد العقل العريب -إشكاليات العقل العريب -ط ،3دار الساقي ،بريوت ،لبنان3998 ،م.
طه عبد الرمحان ،العمل الديين وجتديد العقل ،ط ،2املركز الثقايف العريب ،الدار البيضاء ،احلمراء ،بريوت3994 ،م. - 34
طه عبد الرمحان ،اللسان وامليزان أو التكوثر العقلي ،ط ،3املركز الثقايف العريب ،الدار البيضاء ،بريوت3998 ،م. - 38
طه عبد الرمحن ،جتديد املنهج يف تقومي الرتاث ، ،ط ،2املركز الثقايف العريب ،الدار البيضاء. - 39
ضيق العلمانية إىل َس َعة االئتمانية -ط ،2املركز الثقايف العريب ،الدار البيضاء ،املغرب،
طه عبد الرمحن ،روح الدين-من َ - 22
بريوت ،لبنان2232 ،م.
- 23طه عبد الرمحن ،سؤال األخالق :مسامهة يف النقد األخالقي للحداثة الغربية ،املركز الثقايف العريب ،بريوت ،الدار البيضاء،
2222م.
- 22عبد السالم بنعبد العايل ،سياسة الرتاث ،دراسات يف أعمال حملمد عابد اجلابري ،ط ،3دار توبقال ،الدار البيضاء،
املغرب2233 ،م.
- 21عبد النيب احلري ،طه عبد الرمحن وحممد عابد اجلابري ،صراع املشروعني على أرض احلكمة الرشدية ،ط ،3الشبكة العربية
لألحباث والنشر ،بريوت ،القاهرة ،الدار البيضاء ،الرياض2231 ،م.
- 21عطية أمحد عبد احلليم ،تصنيف العلوم عند العرب ،ودراسات أخرى ،دار النصر ،القاهرة.
- 21العلواين طه جابر ،إصالح الفكر اإلسالمي ،مدخل إىل نظم اخلطاب يف الفكر اإلسالمي املعاصر ،ط ،1املعهد العاملي
للفكر اإلسالمي ،فرجينيا ،الواليات املتحدة األمريكية3129 ،ه2229 -م.
- 21غصيب هشام ،هل هناك عقل عريب؟ ،قراءة نقدية ملشروع حممد عابد اجلابري ،دار التنوير العلمي ،املؤسسة العربية
للدراسات والنشر ،بريوت ،ودار الفارس ،عمان.
- 24فوكو ميشال ،حفريات املعرفة ،ترمجة :سامل يفوت ،ط ،2املركز الثقايف العريب ،الدار البيضاء بريوت3984 ،م.
- 28القرين حممد بن حجر ،موقف الفكر احلداثي العريب من أصول االستدالل يف اإلسالم ،دراسة حتليلية نقدية ،ط ،3مركز
البحوث والدراسات البيان ،الرياض3111 ،ه.
- 29ملكاوي فتحي حسن ،العطاء الفكري أليب الوليد ابن رشد ،حلقة دراسية ،املعهد العاملي للفكر اإلسالمي ،عمان،
مجادى الثانية 3122ه ،أيلول3999م.
- 12نائلة أيب نادر ،الرتاث واملنهج بني أركون واجلابري ،ط ،3الشبكة العربية لألحباث والنشر ،بريوت2228 ،م.
311