حقوق الإنسان بين الفكر الاسلامي والفكر الغربي

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 153

‫حقوق اإلنسان‬

‫بني الفكر اإلسالمي والفكرالغربي‬


‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪ )‬أمنوذجًا‬
‫رقم اإليداع يف دار الكتب والوثائق العراقية‬
‫‪ 1732‬لسنة ‪2017‬م‬

‫‪.IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda :‬‬


‫‪.BP38.09.H8 J3 2017 :LC‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫متت الفهرسة قبل النشر يف مكتبة العتبة احلسينية املقدسة‬

‫‪https://t.me/Borsippa_Library‬‬ ‫‪Tele: @Borsippa_Library‬‬


‫سلسلة دراسات يف عهد اإلمام‬
‫(‪)4‬‬ ‫علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬
‫وحدة الدراسات األخالقية‬

‫حقوق اإلنسان‬
‫بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬
‫عهد اإلمام (‪ )‬ملالك األشرت (‪ )‬أمنوذجًا‬

‫تأليف‬
‫د‪ .‬إمساعيل طه اجلابري‬
‫د‪ .‬حيدر قاسم َم َطر التميمي‬
‫مجيع احلقوق حمفوظة‬
‫العتبة احلسينية املقدسة‬

‫الطبعة األوىل‬
‫‪1438‬هـ ‪2017 -‬م‬

‫العراق ‪ -‬كربالء املقد�سة ‪-‬جماور مقام علي الأكرب عليه ال�سالم‬


‫م�ؤ�س�سة علوم نهج البالغة‬
‫هاتف‪07815016633 - 07728243600 :‬‬
‫املوقع الألكرتوين‪www.inahj.org :‬‬
‫الإمييل‪Info@ Inahj.org :‬‬

‫تنويه‪:‬‬
‫إن األفكار واآلراء املذكورة يف هذا الكتاب تعرب عن وجهة نظر كاتبها‪،‬‬
‫وال تعرب بالرضورة عن وجهة نظر العتبة احلسينية املقدسة‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‬

‫‪5‬‬
‫مقدمة املؤسسة‬
‫احلمــد هلل عــى مــا أنعــم ولــه الشــكر بــا أهلــم والثنــاء‬
‫بــا قــدم مــن عمــوم نعــ ٍم ابتدأهــا وســبوغ آالء أســداها‬
‫والصــاة والســام عــى خــر اخللــق أمجعــن حممــد وآلــه‬
‫الطاهريــن‪.‬‬
‫أما بعد‪:‬‬
‫فــإن مــن أبــرز احلقائــق التــي ارتبطــت بالعــرة النبويــة‬
‫هــي حقيقــة املالزمــة بــن النــص القــرآين والنــص النبــوي‬
‫ونص��وص األئمةــ املعصومـين (عليه��م الس�لام أمجع�ين)‪.‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫وإن خــر مــا ُيرجــع إليــه يف املصاديــق َلديــث الثقلــن‬


‫ّ‬
‫«كتــاب اهلل وعــريت أهــل بيتــي» هــو صالحيــة النــص‬
‫القــرآين لــكل األزمنــة متالزمــ ًا مــع صالح ّيــة النصــوص‬
‫الرشيفــة للعــرة النبويــة لــكل األزمنــة‪.‬‬
‫ومــا كتــاب اإلمــام أمــر املؤمنــن عــي بــن أيب‬
‫طالــب (صل��وات اهلل عليـ�ه) ملالـ�ك األشــر (عليــه الرمحــة‬
‫والرضوــان) إال أنموذجــ ًا واحــد ًا مــن بــن املئــات التــي‬ ‫‪6‬‬
‫زخــرت هبــا املكتبــة اإلســامية والتــي اكتنــزت يف متوهنــا‬
‫الكث�ير م��ن احلقــول املعرفيــة مظهــرة بذلــك احتيــاج‬
‫اإلنسـ�ان إىل نصـ�وص الثقلـين يف كل األزمنـ�ة‪.‬‬
‫من هنا‪:‬‬
‫ارتــأت مؤسســة علــوم هنــج البالغــة أن ختصــص‬
‫ا معرفي ـ ًا ضمــن نتاجهــا املعــريف التخصــي يف حيــاة‬
‫حق ـ ً‬
‫أم�ير املؤمن�ين ع�لي بــن أيب طالـ�ب (علي��ه الس�لام) وفكــره‪،‬‬
‫متّخــذة مــن عهــده الرشيــف إىل مالــك األشــر (رمحــه‬
‫اهلل) مــادة خصبــة للعلــوم اإلنســانية التــي هــي أرشف‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫العلــوم ومــدار بنــاء اإلنســان وإصــاح متعلقاتــه احلياتيــة‬


‫وذل��ك ضم��ن سلســلة بحثيـ�ة علميــة واملوس��ومة بـ(سلســلة‬
‫دراس��ات يف عهــد اإلمــام عــي (عليــه الســام) ملالــك‬
‫األشــر (رمحــه اهلل)‪ ،‬التــي ســتصدر بــإذن اهلل تباعـ ًا‪ ،‬حرصـ ًا‬
‫منهــا عــى إثــراء املكتبــة اإلســامية واملكتبــة اإلنســانية‬
‫بتلــك الدراســات العلميــة والتــي هتــدف إىل بيــان أثــر هــذه‬
‫النصــوص يف بنــاء اإلنســان واملجتمــع والدولــة متالزمــة‬
‫‪7‬‬
‫مــع هــدف القــرآن الكريــم يف إقامــة نظــام احليــاة اآلمنــة‬
‫واملفعمــة باخلــر والعطــاء والعيــش بحريــة وكرامــة‪.‬‬
‫وكان البحــث املوســوم بـ(حقــوق اإلنســان بــن‬
‫الفكــر اإلســامي والفكــر الغــريب عهــد اإلمــام عــي (عليــه‬
‫الســام) إىل مالــك األشــر (رضــوان اهلل عليــه) أنموذج ـ ًا)‬
‫حتــت عنــوان الدراســات األخالقيــة‪ ،‬حيــث تنــاول البحــث‬
‫حقــوق اإلنســان يف الفكــر الغــريب ومــا جــاء يف هــذه‬
‫احلقــوق مــن أفــكار ومقرتحــات‪ ،‬وأجــرى الباحــث مقارنــة‬
‫مــع الفكــر الغــريب وحقــوق اإلنســان يف الفكــر والرشيعــة‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫اإلســامية متمثل ـ ًة بالعهــد الرشيــف الــذي عهــد بــه رائــد‬


‫الفكــر اإلنســاين ومؤسســة حقــوق اإلنســان اإلمــام أمــر‬
‫املؤنــن (عليــه الســام) إىل مالــك األشــر (رضــوان اهلل‬
‫عليــه)‪.‬‬
‫فجــزى اهلل الباحثــن خــر اجلــزاء فقــد بــذال جهدمهــا‬
‫وعــى اهلل أجرمهــا‪ ،‬واحلمــد هلل رب العاملــن‪.‬‬
‫‪8‬‬

‫السيد نبيل احلسني الكربالئي‬


‫رئيس مؤسسة علوم هنج البالغة‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‬

‫مقدمة‬
‫‪9‬‬
‫أصبحــت فكــرة حقــوق اإلنســان‪ ،‬والدعــوة إليهــا‪ ،‬من‬
‫األمــور اجلوهريــة يف املجتمعــات املعــارصة‪ .‬وارتبــط قيــام‬
‫مبــادئ حقــوق اإلنســان والدفــاع عنهــا يف العــر احلديث‪،‬‬
‫ســواء يف املجتمعــات التــي تنتســب إىل اإلســام أو غريهــا‪،‬‬
‫بالغــرب‪ ،‬الــذي أصبــح مرجعـ ًا للحقــوق اإلنســانية‪ ،‬حيــث‬
‫أســهم اإلســتعامر الغــريب عــى املســتوى العاملــي يف تأطــر‬
‫املكونــة للحقــوق األساســية‬
‫النظريــة الغربيــة للمفاهيــم ِّ‬
‫ِ‬
‫قيمــه‬ ‫ٍ‬
‫كثــر مــن الــدول إىل فــرض‬ ‫لإلنســان‪ ،‬وســعى يف‬
‫ِ‬
‫ومنظــوره عــى احليــاة‪ ،‬عــن طريــق القهــر اإلســتعامري‪،‬‬
‫والســيطرة اإلســتبدادية املاديــة يف كافــة جمــاالت احليــاة‪.‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫أ َّمــا يف الفكــر والرشيعــة اإلســامية‪َّ ،‬‬


‫فــإن مــن ينظــر‬
‫يف حقــوق اإلنســان يف اإلســام جيــد َّأنــا حقــوق رشعيــة‬
‫أبديــة ال تتغــر وال تتبــدل مهــا طــال الزمــن‪ ،‬ال يدخلهــا‬
‫حتريــف وال تبديــل‪ ،‬هلــا حصانــ ٌة‬
‫ٌ‬ ‫نســخ وال تعطيــل‪ ،‬وال‬ ‫ٌ‬
‫ألنــا مــن َلــدُ ِن حكي ـ ٍم عليــم‪ ،‬فــاهلل (جــل وعــا)‬
‫ذاتيــة؛ َّ‬
‫(عــز وجــل) أعلــم بمصالــح العبــاد‬
‫بخلقــه‪ ،‬وهــو ّ‬‫ِ‬ ‫أعلــم‬
‫ُ‬
‫مــن أنفســهم‪ ،‬فهــي أحــكام إهليــة تكليفيــة‪ ،‬أنــزل اهلل (جــل‬ ‫‪10‬‬
‫وعــا) هبــا كتبـ ِـه‪ ،‬وأرســل هبــا رسـ ِ‬
‫ـله‪.‬‬ ‫ُ ُ‬
‫ِ‬
‫هلــذه األمــة اإلســام‬ ‫لقــد ريض اهلل (جــل وعــا)‬
‫دين ـ ًا وجعــل خاتــم األنبيــاء ُم َّمــد ًا (صــى اهلل عليــه وآلــه)‪،‬‬
‫وفــوق ذلــك ك ِّلـ ِـه فــرض اهلل (جــل وعــا) عــى العبــاد محاية‬
‫ـم فإننــا نجــد َّ‬
‫أن‬ ‫ِ‬
‫هــذه احلقــوق ورعايتهــا فيــا بينهــم‪ .‬ومــن ثـ ّ‬
‫ـان باإلنســان ويف تقديــس حقوقـ ِـه‬ ‫اإلســام قــد بلــغ يف اإليـ ِ‬

‫إىل احلــدِّ الــذي جتــاوز بـ ِـه مرتبــة (احلقــوق) عندمــا اعتربهــا‬


‫ثــم أدخلهــا يف إطــار (الواجبــات)‪...‬‬
‫(رضورات) ومــن َّ‬
‫هــي يف نظــر اإلســام ليســت فقــط حقوق ـ ًا لإلنســان مــن‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫ح ِّقـ ِـه أن يطلبهــا ويســعى يف ســبيلها‪ ،‬ويتمســك باحلصــول‬


‫(رضورات‬
‫ٌ‬ ‫ويــرم صــدَّ ه عــن طلبهــا‪ ،‬وإنَّــا هــي‬
‫عليهــا‪ُ ،‬‬
‫ـات عليــه أيض ـ ًا‪.‬‬
‫واجبــة) هلــذا اإلنســان‪ ،‬بــل َّإنــا واجبـ ٌ‬

‫إالَّ أنَّــه وبالرغــم مــن ذلــك‪ ،‬نجــد ُّ‬


‫ترســخ املفاهيــم‬
‫الغربيــة عــن حقــوق اإلنســان يف املجتمعــات اإلســامية‬
‫بســبب غيــاب املفاهيــم اإلســامية ا ُملن ِّظمــة للحقــوق‬
‫‪11‬‬ ‫الرشعيــة لألفــراد واجلامعــات‪ ،‬ممــا أدى إىل بنــاء تصــور‬
‫للحقــوق اإلنســانية عنــد املســلمني ُمســتمد مــن التجربــة‬
‫الغربيــة ملعاجلــة الواقــع‪ ،‬وحماولــة اإلرتقــاء بحقــوق األفــراد‬
‫واجلامعــات‪ .‬ولذلــك يمكــن القــول‪َّ :‬‬
‫(إن املفاهيــم واملبــادئ‬
‫الغربيــة صــارت املرجــع األســايس لبنــاء قواعــد إجتامعيــة‬
‫لتنظيــم احلقــوق الفرديــة يف العــامل أمجــع‪ .‬ونجــم عــن ذلــك‬
‫ســلب احلضــارة اإلســامية مقومــات وجودهــا كواقــع‬
‫ممــارس يف العديــد مــن املجتمعــات اإلســامية‪ ،‬وصــارت‬
‫تراثــ ًا عاجــز ًا عــن تنظيــم الواقــع‪ ،‬ومرجعــ ًا أخالقيــ ًا‬
‫حمــدود األثــر يف الواقــع الترشيعــي املعــارص ا ُملن ِّظــم حلقــوق‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫اإلنســان)(((‪.‬‬

‫وهلــذا‪ ،‬فإ َّنــه مــن األمهيـ ِـة بمــكان بيــان اإلطــار ا ُملن ِّظــم‬
‫للحقــوق الرشعيــة يف النظــام الســيايس اإلســامي‪ ،‬وإبــراز‬
‫القواعــد الفكريــة التــي تُبنــى عليهــا فكــرة احلقوق اإلنســانية‬
‫يف الفكــر الغــريب‪ ،‬وبيــان تناقضهــا مــع التصــور اإلســامي‬
‫للحقــوق الرشعيــة لإلنســان‪ ،‬ومصادرهــا‪ ،‬ومقاصدهــا‪،‬‬
‫وتفصيالهتــا‪ ،‬و ُيــرز اختالفهــا عــن احلقــوق الغربيــة‬ ‫‪12‬‬
‫الوضعيــة‪ .‬كــا يؤكِّــد البحــث َّ‬
‫أن قيــام احلقــوق الرشعيــة‬
‫ِ‬
‫بالعــودة إىل‬ ‫اإلنســانية‪ ،‬ال يتــم يف املجتمــع اإلســامي إالَّ‬
‫جــذور الفكــر اإلســامي‪ ،‬واســتنباط الترشيعــات املعاجلــة‬
‫للحقــوق السياســية واإلجتامعيــة واإلقتصاديــة مــن ِ‬
‫الق َيــم‬
‫اإلســامية الراســخة الثابتــة‪.‬‬
‫ِ‬
‫هــذه اجلــذور الفكريــة هــو‬ ‫أهــم وأبــرز‬ ‫َّ‬
‫ولعــل مــن‬
‫ِّ‬

‫((( مفتــي‪ ،‬حممــد أمحــد وســامي صالــح الوكيــل‪ ،‬حقــوق اإلنســان يف‬
‫الفكــر الســيايس الغــريب والــرع اإلســامي‪ ..‬دراســة مقارنــة‪( ،‬القاهــرة‪،‬‬
‫دار النهضــة اإلســامية‪1413 ،‬هـــ‪1992/‬م)‪ ،‬ص‪.2‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫نــص عهــد اإلمــام عــي بــن أيب طالــب (عليــه الســام)‬


‫إىل مالــك بــن األشــر النُخعــي (رضــوان اهلل عليــه)‬
‫(ت‪38‬هـــ‪658/‬م)‪ .‬فقــد كان ألمــر املؤمنــن (عليــه‬
‫أي شــأن‪ .‬وآراؤه‬ ‫الســام) يف تاريــخ حقــوق اإلنســان شـ ٌ‬
‫ـأن َّ‬
‫فيهــا تتصــل اتصــاالً كثــر ًا باإلســام يومــذاك وهــي تــدور‬
‫عــى حمــور مــن رفــع االســتبداد والقضــاء عــى التفــاوت‬
‫‪13‬‬ ‫ــرف اإلمــام عــي بــن أيب‬
‫الطبقــي بــن النــاس‪ .‬و َمــن َع َ‬
‫طالــب (عليــه الســام) وموقفــه مــن قضايــا املجتمــع‪،‬‬
‫أدرك أ َّنــه الســيف ا ُملس ـ َّلط عــى رقــاب ا ُملســتبدين ال ُطغــاة‪.‬‬
‫وأ َّنــه الســاعي يف تركيــز العدالــة اإلجتامعيــة بآرائـ ِـه وأدبـ ِـه‬
‫ـكل موقـ ٍ‬
‫ـف لــه ممــن يتجــاوزون‬ ‫وحكومتـ ِـه وسياسـ ِ‬
‫ـته‪ ...‬وبـ ِّ‬
‫احلقــوق العامــة إىل امتهــان اجلامعــة واالســتهتار بمصاحلهــا‬
‫وتأســيس األجمــاد عــى الكواهــل املتعبــة‪.‬‬

‫وأخــر ًا‪ ،‬نــود اإلشــارة إىل أن لــو كانــت الصحيفــة‬


‫قــد أرســت ُأســس االســتقرار والتآلــف اإلجتامعــي املبنــي‬
‫عــى قاعــدة ِ‬
‫الســلم األهــي املنَّــاع لألزمــات احلــادة يف‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫جمتمــع املدينــة املنــورة أ َّبــان زمــن النبــي الكريــم (صــى اهلل‬


‫عليــه وآلــه)‪ ،‬فـ َّ‬
‫ـإن عهــد اإلمــام عــي بــن أيب طالــب (عليــه‬
‫الســام) ملالــك األشــر ُيعــد تطــور ًا كبــر ًا عــى طريــق إدارة‬
‫وحكــم البــاد‪ ،‬التــي ُفتحــت ودخلهــا اإلســام‪ُ .‬يــريس‬
‫ِّ‬
‫بــكل وضــوح املعــامل األساســية ملهــات احلاكــم ا ُملســلم‬
‫ثــم فهــي مــن الوثائــق التــي َّ‬
‫قــل‬ ‫وحقــوق الرعيــة‪ ،‬ومــن ّ‬
‫التعامــل معهــا وعرضهــا جلمهــور املســلمني‪ ،‬وهــذا يف‬ ‫‪14‬‬
‫األســاس مــا يدفعنــا لتســليط الضــوء عــى جانــب حقــوق‬
‫اإلنســان مــن هــذا ِ‬
‫الســفر اخلالــد‪ ..‬واهلل (جــل وعــا) و ُّيل‬
‫التوفيــق‪.‬‬
‫املبحث األول‬

‫حقوق اإلنسان يف الفكر الغربي‬


‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫حلقــوق اإلنســان يف احلضــارة الغربيــة((( تاريـ ٌ‬


‫ـخ طويل‪،‬‬
‫وإذا قطعنــا النظــر عــن حقــوق اإلنســان يف اإلســام‪ ،‬وتأثري‬
‫ذلــك عــى احلضــارة الغربيــة احلديثــة‪ ،‬فإنَّــه يمكننــا أن‬

‫(((  ُيعــرف الدبلومــايس الفرنــي رينيــه كاســان(*) ‪René Samuel‬‬


‫(إنــا‬ ‫ِ‬
‫‪ )1887-1976( Cassin‬مصطلــح حقــوق اإلنســان‪ ،‬بقولــه‪َّ :‬‬
‫‪17‬‬
‫فــرع مــن فــروع العلــوم اإلجتامعيــة ختتــص بدراســة العالقــات بــن النــاس‬
‫كرامــة اإلنســان بتحديــد احلقــوق والرخــص الرضوريــة‬ ‫ِ‬ ‫اســتناد ًا إىل‬
‫إلزدهــار شــخصية الكائــن اإلنســاين) ‪ .‬الســيد برعــي‪ ،‬عــزت ســعيد‪،‬‬
‫محايــة حقــوق اإلنســان يف ظـ ِّـل التنظيــم الــدويل اإلقليمــي‪ ،‬ط‪( ،1‬القاهــرة‪،‬‬
‫مطبعــة العاصمــة‪1985 ،‬م)‪ ،‬ص‪.4‬‬
‫أســس املعهــد الفرنــي للعلــوم اإلداريــة‪،‬‬
‫(*) هــو‪ :‬دبلومــايس فرنــي‪َّ ،‬‬
‫ِ‬
‫صياغــة اإلعــان العاملــي حلقــوق اإلنســان‪ .‬حتصــل ســنة‬ ‫وشــارك يف‬
‫ِ‬
‫لعملــه عــى‬ ‫‪ 1968‬عــى جائــزة نوبــل للســام ‪Nobel Peace Prize‬‬
‫صياغــة اإلعــان العاملــي حلقــوق اإلنســان‪ ،‬كــا حصــل يف نفــس العــام‬
‫عــى جائــزة األمــم املتحــدة حلقــوق اإلنســان‪ .‬نُقــل رفاتــه مــن مقــرة‬
‫مونبارنــاس إىل مقــرة العظــاء (البانتيــون) بباريــس خــال االحتفــال‬
‫ـده ســنة ‪1987‬م‪ .‬ملزيـ ٍـد مــن التفاصيــل‪ُ ،‬ينظــر املوقــع‬
‫بالذكــرى املئويــة ملولـ ِ‬

‫‪https://en.wikipedia.org/wiki/René_Cassin‬‬ ‫اإللكــروين‪:‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫نُجمــل تاريــخ حقــوق اإلنســان يف الغــرب يف الصفحــات‬


‫التاليــة‪..‬‬

‫أن الفرنســيني كانــوا أول مــن‬‫فمــن الثابــت تارخييــ ًا َّ‬


‫أطلقــوا هــذا االســم عــى مواثيــق احلقــوق‪ ،‬وأطلقــوا ِصفــة‬
‫احلقــوق يف إعالهنــم الــذي أصــدروه يف ســنة ‪1789‬م(((‪،‬‬

‫((( إعــان حقــوق اإلنســان واملواطــن‪The Declaration of the‬‬


‫‪18‬‬
‫‪Rights of Man and of the Citizen (French: Déclaration‬‬
‫)‪ :des droits de l’homme et du citoyen‬هــو اإلعــان الــذي‬
‫أصدرتــه اجلمعيــة التأسيســية الوطنيــة يف ‪ 26‬آب‪/‬أغســطس ‪1789‬م‪.‬‬
‫ُيعتــر اإلعــان وثيقــة حقــوق مــن وثائــق الثــورة الفرنســية األساســية‪،‬‬
‫ُعــرف فيهــا احلقــوق الفرديــة واجلامعيــة لألمــة‪ .‬اإلعــان متأثــر مــن‬
‫إذ ت َّ‬
‫فكــر التنويــر ونظريــات ال َعقــد اإلجتامعــي واحلقــوق الطبيعيــة التــي قــال‬
‫هبــا مفكِّــرون أمثــال‪ :‬جــان جــاك روســو ‪Jean-Jacques Rousseau‬‬
‫(‪ ،)1712-1778‬جــون لــوك ‪،)1632-1704( John Locke‬‬
‫فولتــر )‪،)1694-1778( François-Marie Arouet (Voltaire‬‬
‫مونتســكيو )‪Charles-Louis de Secondat (Montesquieu‬‬
‫(‪ ..)1689-1755‬وهــو ُيشـكِّل اخلطــوة األوىل لصياغـ ِـة الدســتور‪ .‬رغــم‬
‫َّ‬
‫أن اإلعــان حــدد حقــوق البــر دون اســتثناء (وليــس حقــوق املواطنــن‬
‫الفرنســيني فقــط) إالَّ أ َّنــه مل ُيــدد مكانــة النســاء أو العبودية بشـ ٍ‬
‫ـكل واضح‪.‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫أن تلــك احلقــوق ال ختــص إنســان ًا دون آخــر‬


‫عــى اعتبــار َّ‬
‫ِ‬
‫بوصفــه إنســان ًا أينــا كان‪،‬‬ ‫بــل َّإنــا لصيقــة باإلنســان‬
‫ولذلــك مل يوجهوهــا إىل الفرنســيني كــا فعــل اإلنكليــز‬
‫وأبنــاء الواليــات املتحــدة األمريكيــة يف إعالناهتــم(((‪ .‬لكــن‬
‫أن جوهــر الفكــرة‪ ،‬وأساســها‬ ‫مــن الثابــت تارخييــ ًا أيضــ ًا َّ‬
‫الفلســفي ولــد يف أثينــا عــى يـ ِـد فالسـ ِ‬
‫ـفة القانــون الطبيعــي‬
‫‪19‬‬
‫أن ملبادئ هذا اإلعالن مكان ًة دستورية يف القانون الفرنيس احلايل‪.‬‬
‫كام َّ‬
‫‪Jellinek, Georg, The Declaration of the Rights of Man‬‬
‫‪and of Citizens.. A Contribution to Modern Constitutional‬‬
‫‪History, Authorized Translation from the German By:‬‬
‫‪Max Farrand, New York: Henry Holt and Company, 1901‬‬
‫‪Pp.1-8.‬‬
‫((( مــدين‪ ،‬الســيد حممــد‪ ،‬مســؤولية الدولــة عــن أعامهلــا ا ُملرشعــة‪..‬‬
‫القوانــن واللوائــح يف القانــون املــري‪ ..‬دراســة مقارنــة‪ ،‬أطروحــة‬
‫دكتــوراه غــر منشــورة‪ ،‬القاهــرة‪ ،‬جامعــة فــؤاد األول‪ ،‬ك ِّليــة احلقــوق‪،‬‬
‫‪1953‬م‪ ،‬ص‪137‬؛ كارتــر‪ ،‬جوندولــن وجــون هــرز‪ ،‬نظــام احلكــم‬
‫والسياســة يف القــرن العرشيــن‪ ،‬ترمجــة‪ :‬ماهــر نســيم‪( ،‬القاهــرة‪ ،‬دار‬
‫الكرنــك للنــر والطبــع والتوزيــع‪1962 ،‬م)‪ ،‬ص‪.78‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫أن الفكــرة ظ َّلــت‬ ‫ِ‬


‫مدرســة السفســطائيني(((‪ .‬غــر َّ‬ ‫ممثلــ ًة يف‬

‫((( السوفســطائية ‪ :Sophism‬كلمـ�ة يونانيـ�ة مشـ�تقة مـ�ن اللفظـ�ة‬


‫(سفســطة) (سوفيســا ‪ ،(Sophisma‬التــي تعنــي احلكمــة واحلــذق‪.‬‬
‫وقــد أطلقهــا الفالســفة عــى احلكمــة املموهــة واحلذاقــة يف ِ‬
‫اخلطابــة أو‬
‫كل فلسـ ٍ‬
‫�فة ضعيفـ�ة األسـ�اس متهافتـ�ة املبـ�ادئ‪.‬‬ ‫الفلسـ�فة‪ ،‬كـما ُأطلقـ�ت عـلى ِّ‬
‫والسوفســطائية حركــة فلســفية غــر متكاملــة ضمــن نظــام‪ ،‬ظهــرت يف‬
‫القــرن اخلامــس قبــل امليــاد‪ ،‬ومركزهــا أثينــا‪ ،‬وهــي فلســفة عمليــة تقــوم‬
‫‪20‬‬
‫ـي‬‫البهــان العلمــي أو املنطقــي‪ ،‬وعــى اإلدراك احلـ ِّ‬ ‫عــى اإلقنــاع ال عــى ُ‬
‫والظــن‪ ،‬وعــى اســتعامل قــوة اخلطابــة والبيــان والبالغــة واحلــوار ِ‬
‫اخلطــايب‪،‬‬
‫والقوانــن اجلدليــة الكالميــة هبــدف الوصــول إىل اإلقنــاع بــا ُيعتقــد أ َّنــه‬
‫احلقيقــة‪ ،‬وهبــذا املعنــى أصبحــت السوفســطائية عنوانــ ًا عــى ا ُملغالطــة‬
‫واجلــدل العقيــم واللعــب باأللفــاظ وإخفــاء احلقيقــة‪ .‬تُعــد السوفســطائية‬
‫دعــو ًة نســبية شـكِّية ومتــرد ًا عــى العلــوم الطبيعيــة‪ ،‬فقــد كانــت يف صميمهــا‬
‫دعــوة إىل االقتصــار يف تفســر الكــون عــى الظواهــر وحدهــا‪ ،‬مــن دون‬
‫ـأي مبــادئ خارجيــة أو عــوامل أخــرى‪ ،‬وكانــت أيض ـ ًا دعــوة‬
‫االســتعانة بـ ِّ‬
‫ضــدَّ (املدرســة اإليليــة) التــي كانــت تبحــث عــن احلقيقــة خــارج عــامل‬
‫ِ‬
‫بوصفــه عاملــ ًا ومهيــ ًا‪ ،‬فقــد حولــت السوفســطائية الفكــر مــن‬ ‫الظواهــر‬
‫االهتــام بالطبيعــة إىل االهتــام باإلنســان‪ ،‬وقلبــت أسســه‪ ،‬وغــرت‬
‫معايــره؛ إذ تركــت الظواهــر اخلارجيــة جانبــ ًا وجعلــت مــن اإلنســان‬
‫موضوعــ ًا أساســي ًا للتفلســف والتفكــر قبــل املوضوعــات األخــرى‪،‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫ِ‬
‫الدولــة‬ ‫فكــر ًة فلســفية ال حتظــى بتطبيــق عمــي يف ِّ‬
‫ظــل‬
‫املدينــة اإلغريقيــة‪ ،‬أو اإلمرباطوريــة الرومانيــة‪ ،‬فلــم يكــن‬
‫ـأي حقــوق‪،‬‬
‫قــد اعــرف بعــد للفــرد يف احلضــارة الغربيــة بـ ّ‬
‫قبــل قيــام الدولــة احلديثــة‪.‬‬

‫وحاولــت الديانــة املســيحية يف أول عهدهــا أن تُثبــت‬


‫للفــرد قيمتــه كإنســان مؤ ِّكــد ًة عــى حـ ٍّـق لــه كان هيمهــا يف‬
‫‪21‬‬
‫فاإلنســان الفــرد هــو معيــار احلقيقــة‪ .‬هلــذا اهتمــت السوفســطائية‬
‫باملعرفــة والــذات واألخــاق‪ .‬ومل ينبثــق السوفســطائيون (املغالطــون)‬
‫عــن تيـ ٍ‬
‫ـار فلســفي واحــد‪ ،‬بــل عــن مــدارس فلســفية خمتلفــة‪ ،‬وكان نعــت‬
‫«مغالــط» أو سوفســطائي يعنــي وصمــة اإلزدراء والطعــن والنقــد‪ ،‬بيــد‬
‫أن بعــض الباحثــن عــدوا املغالطــن األُ َول رجــاالً أجــاء حمرتمــن هلــم‬
‫َّ‬
‫كلمتهــم املســموعة ورأهيــم النافــذ يف وطنهــم‪ ،‬أخــذوا عــى عاتقهــم‬
‫ِ‬
‫هتيئــة رجــال الدولــة‪ .‬وكان مــن‬ ‫عــب َء تربيــة األحــداث وســعوا إىل‬
‫أشــهر أعــام السوفســطائية‪ :‬پروتاگــوراس ‪ Protagoras ‬وگورگيــاس‬
‫‪  Gorgias‬وهيپيــاس ‪ Hippias‬وپروديكــوس ‪ Prodicus‬وپولــوس‬
‫‪ُ .Polos‬ينظــر‪ :‬ســتيس‪ ،‬ولــر‪ ،‬تاريــخ الفلســفة اليونانيــة‪ ،‬ترمجــة‪ :‬جماهــد‬
‫عبــد املنعــم جماهــد‪( ،‬القاهــرة‪ ،‬دار الثقافــة للنــر والتوزيــع‪1984 ،‬م)‪،‬‬
‫ص‪.112-97‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫املقــام األول وهــو حريــة اعتنــاق العقيــدة‪ .‬وكانــت نقلــ ًة‬


‫واســعة عــى طريــق االعــراف للفــرد بحقوقـ ِـه األوليــة‪ ،‬إالَّ‬
‫َّ‬
‫أن القائمــن عــى شــؤون الديانــة املســيحية قــد تراجعــوا‬
‫عــن تلــك اخلطــوة خــال القــرن الرابــع امليــادي عندمــا‬
‫اشــتد عودهــا‪ ،‬واعــرف هبــا اإلمرباطــور قســطنطني‬
‫‪337-272( Constantine the Great‬م) دينــ ًا‬
‫رســمي ًا لإلمرباطوريــة الرومانيــة‪ ،‬واعتــرت العقيــدة‬ ‫‪22‬‬
‫الوحيــدة املســموح هبــا داخــل اإلمرباطوريــة(((‪ .‬وقــد‬
‫ضاعــت الفكــرة – حقــوق اإلنســان – يف أوربــا بعــد ذلك يف‬
‫خضــم ظــام القــرون الوســطى إالَّ مــن ومضـ ٍ‬
‫ـات خاطفــة‬ ‫ِّ‬
‫مثــل وثيقــة العهــد الكبــر (املاجنــا كارتــا) ‪Magna Carta‬‬
‫‪ Libertatum‬يف إنكلــرا التــي صــدرت عــام ‪1215‬م‪،‬‬
‫والتــي َحــدَّ ت مــن ُســلطان امللــك جــون ‪-1166( John‬‬
‫‪ ،)1216‬واألرشاف‪ ،‬ورجــال الديــن لصالــح الشــعب(((‪.‬‬

‫ ‪(1) Wylen, Stephen M., The Jews in the Time of Jesus: An‬‬


‫‪Introduction, New York: Paulist Press, 1995, Pp.190-192.‬‬
‫ ‪(2) The Roots of Liberty.. Magna Carta, Ancient‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫وبحلــول القــرن الســابع عــر امليــادي بــدأ ظهــور‬


‫ا ُملفكِّريــن الذيــن ُيسـ َّـمون بـ(الفرديــن)‪ ،‬أو فالســفة املذهــب‬
‫الفــردي‪ ،‬أمثــال‪ :‬جــون لــوك ‪-1632( John Locke‬‬
‫‪)1704‬؛ جــان جــاك روســو ‪Jean-Jacques Rousseau‬‬
‫(‪)1778-1712‬؛ آدم ســميث ‪-1723( Adam Smith‬‬
‫‪)1790‬؛ جــان بابتســت ســاي ‪Jean-Baptiste Say‬‬

‫‪23‬‬ ‫(‪ .)1896-1826‬وقــد كان رأي هــؤالء َّ‬


‫أن اهلــدف‬
‫ِ‬
‫وحريتــه)(((‪.‬‬ ‫األقــى للقانــون (محايــة الفــرد‬

‫مواثيق احلقوق‪:‬‬
‫حيظــى ميثــاق احلقــوق الفرنــي مــن معظــم فقهــاء‬
‫ِ‬
‫باإلشــادة‬ ‫ِ‬
‫غــره مــن مواثيــق احلقــوق‬ ‫القانــون مــن دون‬

‫‪Constitution, and the Anglo-American Tradition of Rule‬‬


‫‪of Law, Edited by: Ellis Sandoz, Columbia: University of‬‬
‫‪Missouri Press, 1993.‬‬
‫((( عطيــة‪ ،‬نعيــم‪ ،‬القانــون والقيــم اإلجتامعيــة‪ ..‬دراســة يف الفلســفة‬
‫القانونيــة‪( ،‬القاهــرة‪ ،‬اهليــأة املرصيــة العامــة للتأليــف والنــر‪1971 ،‬م)‪،‬‬
‫ص‪.30‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫والتعظيــم‪ ،‬عــى أنَّــه (يمثــل فلســفة الديمقراطيــة الغربيــة‬


‫عــن احلريــة)(((‪ .‬مــع َّ‬
‫أن هنــاك مواثيــق أخــرى للحقــوق‬
‫إنكليزيــة وأمريكيــة ســابق ًة عليــه كان هلــا الكثــر مــن‬
‫ِ‬
‫وحرياتــه وذيوعهــا‪.‬‬ ‫الفضــل يف تدعيــم حقــوق الفــرد‬

‫‪ .1‬ميثــاق احلقــوق اإلنكليــزي‪ :‬أســفرت ثــورة عــام‬


‫‪1668‬م يف إنكلــرا عــن خلــع الربملــان للملــك جيمــس‬
‫الثــاين ‪ ،)1701-1633( James II‬واســتُدعي ويليــام‬ ‫‪24‬‬
‫أورانــج ‪ِّ )1702-1650( William of Orange III‬‬
‫لتول‬
‫ا ُمللــك‪ ،‬و ُقــدِّ م إليــه يف ‪/13‬فربايــر ســنة ‪1688‬م (وثيقــة‬
‫احلقــوق) لتكــون أساسـ ًا للحكــم‪ ،‬والــروط األساســية يف‬
‫تلــك الوثيقــة كانــت متصلــة بحاميــة املصالــح اإلقتصاديــة‬
‫للطبقــة الوســطى ‪ ،The middle class‬وبمقتــى تلــك‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫ســلطاته للربملــان‪،‬‬ ‫الوثيقــة تنــازل امللــك عــن أغلــب‬

‫((( متــويل‪ ،‬عبــد احلميــد‪ ،‬احلريــات العامــة‪ ..‬نظــرات يف تطوراهتــا‬


‫وضامناهتــا ومســتقبلها‪( ،‬اإلســكندرية‪ ،‬منشــأة املعــارف‪1975 ،‬م)‪،‬‬
‫ص ‪.30‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫وســيطرت الطبقــة الوســطى (الربجوازيــة ‪)Bourgeoisie‬‬


‫عــى الربملــان ممــا أدى إىل تطــور كبــر يف نظــام التمثيــل‬
‫الربملــاين‪ ،‬واقــرب مــن نظــام التصويــت النيــايب(((‪.‬‬

‫ومهــا كان مــن أمــر تلــك الوثيقــة واهتــام البعــض‬


‫بأنــا مل تكــن وثيقــة ديمقراطيــة(((‪َّ ،‬‬
‫فــإن جمــرد تنــازل‬ ‫هلــا َّ‬
‫ـلطاته للربملــان هــو يف حــدِّ ذاتـ ِـه مكســب‬
‫ِ‬ ‫امللــك عــن ُجـ ّـل سـ‬
‫‪25‬‬ ‫ألنــا نقلــت الســيادة مــن فــرد (امللــك)‬
‫للديمقراطيــة؛ َّ‬
‫لصالــح مجاعــة (الربملــان)‪ ،‬وكانــوا إىل حــدٍّ مــا ُيمثلــون‬
‫ٍ‬
‫زيــادة يف ســلطاهتم ترتــد حتــ ًا لصالــح‬ ‫الشــعب‪ُّ ،‬‬
‫وكل‬
‫الشــعب‪.‬‬

‫وعــى الرغــم مــن عــدم وجــود وثيقــة للحقــوق يف‬


‫إنكلــرا مكتوبــة عــى ِغــرار الوثيقــة األمريكية أو الفرنســية‪،‬‬
‫ــدون‪َّ ،‬‬
‫فــإن االحــرام املســتمر للحريــة‬ ‫أو دســتور أعــى ُم َّ‬

‫((( ســيف الدولــة‪ ،‬عصمــت‪ ،‬النظــام النيــايب ومشــكلة الديمقراطيــة‪،‬‬


‫(القاهــرة‪ ،‬دار املوقــف العــريب‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،).‬ص‪.82‬‬
‫((( املرجع نفسه‪.‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫هــو يف حــدِّ ذاتـ ِـه خــر ضــان للحقــوق األساســية‪ ،‬فصيانــة‬


‫ِ‬
‫قــوة‬ ‫احلريــات التقليديــة يف بريطانيــا أســمى مثــال عــى‬
‫التقاليــد وعــى روح الشــعب الغالبــة‪ ،‬حيــث حقــوق‬
‫الرجــل اإلنكليــزي مصونــة‪ ،‬وحمروســة بفضــل تطبيــق‬
‫حكــم القانــون‪.‬‬

‫ورغــم النُضــج الســيايس لربيطانيــا فـ َّ‬


‫ـإن نقطــة الضعــف‬
‫التــي شــابت احلقــوق األساســية عندهــم هــي َّأنــا كانــت‬ ‫‪26‬‬
‫عــى الــدوام حقــوق اإلنكليــز‪ ،‬ال حقــوق اإلنســان‪،‬‬
‫حارمــن ســكَّان ا ُملســتعمرات منهــا إالَّ مؤخــر ًا(((‪ .‬وهــذا‬
‫يذكرنــا بديمقراطيــة أثينــا التــي كانــت مقصــور ًة عــى‬
‫الوطنيــن األحــرار دون العبيــد‪ ،‬أي األجانــب عمومــ ًا‪.‬‬

‫‪ .2‬ميثــاق احلقــوق األمريكــي‪ :‬تعــد الثــورة‬


‫‪The American Revolutionary War‬‬ ‫(((‬
‫األمريكيــة‬

‫((( كارتــر‪ ،‬جوندولــن وجــون هــرز‪ ،‬نظــام احلكــم والسياســة يف القــرن‬


‫العرشيــن‪ ،‬ص‪.77‬‬
‫((( هــي‪ :‬ثــورة قامــت يف ا ُملســتعمرات الربيطانيــة الثالثــة عــر الواقعــة‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫(‪ )1783-1775‬بحــق أول مــن قنَّــن بصـ ٍ‬


‫ـورة واضحــة يف‬

‫يف أمريــكا الشــالية والتــي كانــت تابعــة لإلمرباطوريــة الربيطانيــة خــال‬


‫القــرن الثامــن عــر‪ ،‬وقــد اســتوطنها مهاجــرون بالســاحل الرشقــي‬
‫مــن أمريــكا الشــالية رأوا مــن حقهــم االنفصــال عــن اإلنكليــز وتســيري‬
‫أمورهــم بأنفســهم‪ .‬بــدأت الثــورة يف ‪/19‬أبريــل‪1775/‬م عندمــا اصطدم‬
‫الربيطانيــون بالثــوار األمريكيــن يف مدينتــي لكســنجتون ‪Lexington‬‬
‫وكونكــورد ‪ Concord‬يف واليــة ماساشوســيتس ‪،Massachusetts‬‬
‫‪27‬‬ ‫واســتمرت ثــاين ســنوات وانتهــت يف ‪/3‬ســبتمرب‪1783/‬م‪ ،‬عنــد‬
‫توقيــع معاهــدة باريــس بــن بريطانيــا والواليــات املتحــدة التــي اعرتفــت‬
‫ٍ‬
‫ملزيــد مــن التفاصيــل‪،‬‬ ‫فيهــا بريطانيــا باســتقالل الواليــات املتحــدة‪.‬‬
‫ُينظــر‪ :‬أبــو عليــه‪ ،‬عبــد الفتــاح حســن‪ ،‬تاريــخ األمريكيتــن والتكويــن‬
‫الســيايس للواليــات املتحــدة األمريكيــة‪( ،‬الريــاض‪ ،‬دار املريــخ للنــر‪،‬‬
‫‪1407‬هـــ‪1987/‬م)‪ ،‬ص‪.48-81‬‬
‫‪Shalhope, Robert E., Toward a Republican Synthesis:‬‬
‫‪The Emergence of an Understanding of Republicanism‬‬
‫‪in American Historiography, The William and Mary‬‬
‫;‪Quarterly, 3rd Ser., Vol. 29, No. 1. (Jan., 1972). Pp.49-80‬‬
‫‪Boatner, Mark Mayo III, Encyclopedia of the American‬‬
‫‪Revolution, 2ed, New York: Charles Scribners and Sons,‬‬
‫‪(1974); Gray, Edward G., and Jane Kamensky, eds. The‬‬
‫;)‪Oxford Handbook of the American Revolution, (2013‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫وضمنتهــا وثيقــة إعــان‬


‫َّ‬ ‫العــر احلديــث حقــوق اإلنســان‪،‬‬
‫اســتقالل((( واليــات احتــاد مجهوريــة الواليــات املتحــدة‬

‫‪Bailyn, Bernard, The Ideological Origins of the American‬‬


‫‪Revolution, Harvard University Press, (1967).‬‬
‫‪The Declaration‬‬ ‫إعــان االســتقالل األمريكــي ‪of‬‬ ‫(((‬
‫‪ :Independence‬هــو وثيقــة تبناهــا الكونغــرس القــاري يف ‪/4‬‬
‫أن ا ُملســتعمرات األمريكيــة الثالثــة عــر املتحاربــة‬
‫يوليــو‪ ،1776/‬لتُعلــن َّ‬
‫‪28‬‬
‫ـم مل تعــد‬
‫مــع بريطانيــا العظمــى قــد أصبحــت واليــات مســتقلة‪ ،‬ومــن ثـ ّ‬
‫جــز ًء مــن اإلمرباطوريــة الربيطانيــة‪ .‬مكتــوب بشــكل رئيــي بواســطة‬
‫تومــاس جيفرســون ‪ُ ،)1743-1826( Thomas Jefferson‬يعتــر‬
‫اإلعــان تفســر ًا رســمي ًا ألســباب تصويــت الكونغــرس يف ‪/2‬يوليــو‬
‫لصالــح إعــان االســتقالل عــن بريطانيــا العظمــى‪ ،‬بعــد مــرور أكثــر مــن‬
‫عــام عــى انــدالع حــرب االســتقالل األمريكيــة‪ .‬عيــد ميــاد الواليــات‬
‫املتحــدة األمريكيــة ‪ -‬يــوم االســتقالل ‪ُ -‬يتفــل ِ‬
‫بــه يف ‪/4‬يوليــو‪ ،‬يــوم‬
‫اعتــاد الكونغــرس صيغــة اإلعــان‪ .‬بعــد إمتــام النــص يف ‪/4‬يوليــو‪،‬‬
‫أصــدر الكونغــرس إعــان االســتقالل عــى أكثــر مــن صــورة‪ .‬فــوزع‬
‫ٍ‬
‫نطــاق واســع وتُليــت عــى مســامع‬ ‫ٍ‬
‫كإعــان مطبــوع وزِّ ع عــى‬ ‫بدايــ ًة‬
‫اجلمهــور‪ .‬أشــهر نســخة مــن اإلعــان‪ ،‬هــي النســخة املوقعــة التــي تُعتــر‬
‫إعــان االســتقالل الرســمي‪ ،‬وهــي معروضــة يف األرشــيف الوطنــي يف‬
‫واشــنطن العاصمــة‪ .‬بالرغــم مــن املوافقــة عــى اإلعــان يف الرابــع مــن‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫األمريكيــة‪ ،‬بعــد ثورهتــا عــى التــاج الربيطــاين وانتصارهــا‬


‫عليــه يف ‪1776/7/4‬م‪ ،‬الــذي ســبق إعــان االحتــاد‪،‬‬
‫والدســتور ســنة ‪1777‬م‪ ،‬والتصديــق عليــه ســنة ‪1781‬م‪.‬‬
‫وممــا جــاء فيــه‪( :‬نحــن ُنــر ونُسـ ِّلم كقاعـ ٍ‬
‫ـدة واضحــة مــن‬
‫أن النــاس ك َّلهــم سواســية‬ ‫تلقـ ِ‬
‫ـاء نفســها باحلقائــق اآلتيــة‪َّ :‬‬
‫ٍ‬
‫بحقــوق ال يمكــن‬ ‫وأنــم يتمتعــون كــا وهبهــم اخلالــق‬ ‫َّ‬
‫‪29‬‬ ‫التنــازل عنهــا‪ ،‬منهــا احليــاة واحلريــة والســعي نحــو‬
‫الســعادة)(((‪.‬‬

‫وحقــوق اإلنســان يف الواليــات املتحــدة األمريكيــة تعد‬


‫أكمــل حتديــد ًا منهــا يف ِّ‬
‫أي نظــا ٍم ديمقراطــي آخــر‪ ،‬ويبــدو‬

‫أن تاريــخ التوقيــع عليــه هــو حمــل جــدل‪ ،‬وقــد خلــص معظــم‬ ‫يوليــو‪ ،‬إالَّ َّ‬
‫أن الوثيقــة قــد وقــع عليهــا تقريب ـ ًا بعــد شـ ٍ‬
‫ـهر مــن تبنِّيهــا‪ ،‬يف‬ ‫املؤرخــن إىل َّ‬
‫‪/2‬أغســطس‪ ،1776/‬وليــس يف ‪/4‬يوليــو كــا ا ُملعتقــد الســائد‪ .‬ملزيـ ٍـد مــن‬
‫التفاصيــل‪ُ ،‬ينظــر املوقــع اإللكــروين‪https://en.wikipedia.org/ :‬‬
‫‪wiki/United_States_Declaration_of_Independence‬‬
‫((( العمــري‪ ،‬أمحــد ســويلم‪ ،‬جمــال الــرأي العــام واإلعــام‪( ،‬القاهــرة‪،‬‬
‫اهليــأة املرصيــة العامــة للكتــاب‪1957 ،‬م)‪ ،‬ص‪.84‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫أكثــر أمنـ ًا يف أدواتـ ِـه‪ ،‬ويف محايتـ ِـه فاحلقــوق واحلريــات مدونــة‬
‫يف الدســتور الفيــدرايل‪ ،‬ويف دســاتري الواليــات املتحــدة‪،‬‬
‫ِ‬
‫هــذه الدســاتري جــو (القانــون األعــى)‪ .‬وهــي‬ ‫ويشــيع يف‬
‫حمميــة ال مــن اعتــداء الســلطة التنفيذيــة فحســب‪ ،‬بــل مــن‬
‫اعتــداء الســلطة الترشيعيــة أيضـ ًا‪ ،‬وهنــاك املحاكــم ا ُملســتقلة‬
‫التــي تــؤدي وظيفتهــا لتجعــل ا ُملراقبــة والتنفيــذ حقيقيــن(((‪.‬‬
‫أن احلــدود والقيــود عــى هـ ِ‬
‫ـذه احلقــوق أصبحــت‬ ‫إالَّ َّ‬ ‫‪30‬‬
‫واضحــ ًة حتَّــى يف ٍ‬
‫بلــد كالواليــات املتحــدة حتــت ضغــط‬
‫التوتــرات واألزمــات واخلُطــط البارعــة التــي تعمــل هبــا‬
‫‪Social Movements‬‬ ‫(((‬
‫احلــركات اإلجتامعيــة احلديثــة‬

‫((( كارتــر‪ ،‬جوندولــن وجــون هــرز‪ ،‬نظــام احلكــم والسياســة يف القــرن‬


‫العرشيــن‪ ،‬ص‪.75‬‬
‫(((  احلــركات االجتامعيــة‪ :‬هــي تلــك اجلهــود ا ُملن َّظمــة التــي يبذهلــا‬
‫جمموعــة مــن املواطنــن هبــدف تغيــر األوضــاع‪ ،‬أو السياســات‪ ،‬أو‬
‫اهليــاكل القائمــة لتكــون أكثــر اقرتاب ـ ًا مــن ِ‬
‫الق َيــم الفلســفية العليــا التــي‬
‫تؤمــن هبــا احلركــة‪ .‬وبالرغــم مــن تراجــع مفهــوم )احلركــة االجتامعيــة(‬
‫خــال ال َعقديــن األخرييــن يف العلــوم االجتامعيــة كمفهــوم حتليــي‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫والضغــوط االجتامعيــة غــر القانونيــة‪.‬‬

‫لصالــح مفهــوم )املجتمــع املــدين(‪َّ ،‬‬


‫فــإن هنــاك مــن ال يــزال يدافــع‬
‫عنــه مــن ا ُملفكِّريــن املرموقــن‪ ،‬منهــم عــى ســبيل املثــال عــامل االجتــاع‬
‫الفرنــي آالن توريــن ‪ Alain Touraine‬الــذي يبنــي دفاعــه عــن‬
‫ِ‬
‫موقفــه النقــدي الرافــض‬ ‫مفهــوم احلركــة اإلجتامعيــة عــى أســاس‬
‫لفكــر مــا بعــد احلداثــة الــذي أعلــن انتهاءهــا لصالــح النســبية وتفضيـ ً‬
‫ا‬
‫ملفهــوم اجلامعــات املدنيــة ا ُملتنازعــة يف املجــال العــام التــي تُديــر نزاعاهتــا‬
‫‪31‬‬ ‫ِ‬
‫ر آليــة التفــاوض املســتمر وليــس احلــركات الواســعة األيدلوجيــة‪،‬‬ ‫عـ َ‬
‫فقــد انصــب نقــد توريــن عــى مــا بعــد احلداثــة بكونــه فكــر ًا هدامــ ًا‬
‫ر‬ ‫ِ‬
‫للنمــوذج العقــاين الــذي وصلــت إليــه املجتمعــات احلديثــة عــ َ‬
‫نضــاالت مريــرة عــى مــدى القرنــن الثامــن عــر والتاســع عــر‬ ‫ٍ‬

‫ثــم‬
‫والــذي يقــوم باألســاس عــى الســعي لبنــاء إمجــاع رشــيد‪ .‬ومــن ّ‬
‫َّ‬
‫فــإن هــدف احلركــة اإلجتامعيــة احلديثــة عنــد آالن توريــن هــو حتريــر‬
‫الــذات التــي ُتثــل إليــه مفهــوم الفاعــل االجتامعــي‪ ،‬أي املفهــوم‬
‫الــذي جيعــل للعالقــة االجتامعيــة بعــد ًا أصيــ ً‬
‫ا يف الفــرد‪ .‬كــا يؤكِّــد‬
‫أن احلركــة اإلجتامعيــة تكــون عــن وعــي األفــراد بذواهتــم‬ ‫توريــن َّ‬
‫ـى عــن تشــكل نِقابــة سياســية مــن أجــل الدفــاع عــن مطالبهــم‪.‬‬
‫يف غنـ ً‬
‫يقــول توريــن‪) :‬احلركــة االجتامعيــة اجلديــدة‪ :‬ال تتشــكَّل بالعمــل‬
‫الســيايس ِ‬
‫والصــدام‪ ،‬ولكــن بتأثريهــا يف الــرأي العــام‪ (.‬وال يبــدو َّ‬
‫أن‬
‫هنــاك تعريف ـ ًا جامع ـ ًا مانع ـ ًا ملفهــوم احلركــة االجتامعيــة‪ ،‬إذ يتســع حين ـ ًا‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫ـت الثورة الفرنســية‬ ‫‪ .3‬إعــان احلقــوق الفرنــي‪ْ :‬أولـ ْ‬


‫‪ The French Revolution‬حقــوق اإلنســان منــذ اللحظـ ِـة‬
‫األوىل اهتاممـ ًا بالغـ ًا ح َّتــى َّأنــا أصــدرت إعــان احلقــوق يف‬
‫‪ 26‬أغســطس ســنة ‪1789‬م‪ ،‬ومل يتــم ال َق َســم عــى الدســتور‬
‫بعــد مجعـ ِـه وصياغتـ ِـه إالَّ يف ‪ 14‬ســبتمرب ســنة ‪1791‬م‪ ،‬أي‬

‫ِ‬ ‫‪32‬‬
‫طياتــه خمتلــف املســارات أو الســرورات االجتامعيــة مهــا‬ ‫ليشــمل يف‬
‫ٍ‬
‫ســلوك‬ ‫تنوعــت أو تعــددت‪ ،‬ويضيــق حينــ ًا آخــر؛ إذ ُيشــر فقــط إىل‬
‫مجعــي لــه فــرادة متيــزه‪ ،‬ولــه بنــاء وتنظيــم وقيــادة‪ ،‬وهيــدف إىل تغيــر‬
‫األوضــاع القائمــة‪ ،‬أو تغيــر بعــض جوانبهــا األساســية عــى األقــل‪.‬‬
‫وثمــة تصنيفــات عديــدة للحــركات االجتامعيــة‪ ،‬فالبعــض ُيصنفهــا إىل‬
‫َّ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫حــركات ريفيــة وأخــرى حرضيــة‪ ،‬أو حــركات قوميــة وأخــرى عامليــة‪،‬‬
‫وغــر ذلــك مــن التصنيفــات التــي تســتند إىل ُأسـ ٍ‬
‫ـس فئويــة أو عرقيــة‪.‬‬
‫ويــرى كل مــن ريمــون بــودون ‪ Raymond Boudon‬وفرانســوا‬
‫بوريكــو ‪َّ François Bourricaud‬‬
‫أن احلــركات االجتامعيــة تتشــكَّل‬
‫ِ‬
‫هــذه‬ ‫يف الفــرات التــي تُعــاين فيهــا املجتمعــات مــن أزمــة‪ ،‬وتُســهم‬
‫احلــركات يف عمليــة التغيــر وجتــاوز األزمــة‪ .‬زهــران‪ ،‬فريــد‪ ،‬احلــركات‬
‫االجتامعيــة اجلديــدة‪ ،‬ط‪( ،1‬القاهــرة‪ ،‬مركــز القاهــرة لدراســات حقــوق‬
‫اإلنســان‪2007 ،‬م)‪ ،‬ص‪.32-27‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫بعــد عامــن مــن صــدور إعــان احلقــوق(((‪.‬‬


‫ِ‬
‫مادتــه األوىل‪:‬‬ ‫وقــد ُصــدِّ ر ضمــن هــذا اإلعــان ويف‬
‫(يولــد النــاس أحــرار ًا متســاويني أمــام القانــون)‪ .‬أ َّمــا‬
‫أن‪( :‬هــدف ِّ‬
‫كل مجاعــة سياســية‬ ‫مادتــه الثانيــة فتنــص عــى َّ‬
‫هــو ا ُملحافظــة عــى حقــوق اإلنســان الطبيعيــة‪ ،‬والثابتــة‪.‬‬
‫وهـ ِ‬
‫ـذه احلقــوق هــي‪ :‬احلريــة‪ ،‬وامللكيــة‪ ،‬واألمــن‪ ،‬ومقاومــة‬
‫‪33‬‬ ‫التعســف)‪ .‬وممــا يــدل عــى اهتــام الفرنســيني بتلــك احلقوق‬
‫ُّ‬
‫ّ‬
‫أن واضعــو دســتور نابليــون ‪Napoleon Bonaparte‬‬
‫(‪ )1821-1769‬أن ُيســجلوا يف هــذا القانــون مــا قررتــه‬
‫الثــورة الفرنســية يف (إعــان احلقــوق) مــن وجــود قانــون‬
‫طبيعــي عــام ثابــت ال يتغــر‪ ،‬وهبــذا جــاء املــروع األول‬
‫لذلــك القانــون ولكنهــم انتهــوا إىل حــذف هــذا النــص‬
‫ال عــى أ َّنــه غــر صحيــح بــل عــدَّ بمثابــة اعتنــاق ملذهـ ٍ‬
‫ـب‬

‫(((  ســيف الدولــة‪ ،‬عصمــت‪ ،‬النظــام النيــايب ومشــكلة الديمقراطيــة‪،‬‬


‫ص‪.115‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫ِ‬
‫طبيعــة النصــوص الترشيعيــة(((‪.‬‬ ‫فلســفي ال يتــاءم مــع‬
‫ٍّ‬

‫وقــد اهتمــت الدســاتري ا ُملتعاقبــة يف فرنســا بحقــوق‬


‫اإلنســان ومنهــا دســتور ســنة ‪1946‬م‪ ،‬وآخرهــا دســتور‬
‫ســنة ‪1958‬م(((‪ ،‬وقــد جــاء يف ديباجــة هــذا الدســتور‬
‫الصــادر يف ‪( :1958/10/4‬الشــعب الفرنــي ُيعلــن‬
‫ِ‬
‫متســكه بحقــوق اإلنســان‪ ،‬ومبــادئ الســيادة‬ ‫ِ‬
‫رصاحــة‬ ‫يف‬
‫القوميــة‪ ،‬كــا وردت يف إعــان احلقــوق ســنة ‪1789‬م)(((‪.‬‬ ‫‪34‬‬

‫((( بــدوي‪ ،‬ثــروت‪ ،‬النُ ُظــم السياســية‪( ،‬القاهــرة‪ ،‬دار النهضــة العربيــة‪،‬‬


‫د‪.‬ت‪ ،).‬ص‪.325‬‬
‫((( الــذي يمثــل بــدء اجلمهوريــة اخلامســة يف فرنســا‪ .‬هــذا الدســتور‬
‫الــذي وضــع قيــد التنفيــذ يف ‪/5‬ترشيــن األول‪1958/‬م‪ .‬حيــث نشــأت‬
‫اجلمهوريــة الفرنســية اخلامســة عــى أنقــاض اجلمهوريــة الفرنســية الرابعــة‬
‫ُمســتبدل ًة احلكومــة الربملانيــة بنظــا ٍم نصــف رئــايس‪ .‬ملزيـ ٍـد مــن التفاصيــل‪،‬‬
‫ُينظــر املوقــع اإللكــروين‪https://en.wikipedia.org/wiki/ :‬‬
‫‪.French_Fifth_Republic‬‬
‫((( حســنني‪ ،‬عــي حممــد‪ ،‬رقابــة األمــة عــى ُ‬
‫احلـكَّام‪ ..‬دراســة مقارنــة بــن‬
‫الرشيعــة و ُن ُظــم احلكــم الوضعيــة‪( ،‬دمشــق‪ ،‬املكتــب اإلســامي للطباعــة‬
‫والنــر‪1988 ،‬م)‪ ،‬ص‪.51‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫وعــى نقيــض الربيطانيــن‪ ،‬نجــد َّ‬


‫أن الفرنســيني منــذ‬
‫عهــد االســتنارة((( ‪ Age of Enlightenment‬والثــورة‬
‫الكــرى قــد رفعــوا عقريهتــم بصيحـ ِـة (حقــوق اإلنســان)‪،‬‬
‫ال حقــوق الفرنســيني‪ ،‬وقــد خــاض الفرنســيون معــارك‬
‫جميــدة حــول هـ ِ‬
‫ـذه احلقــوق واحلريــات كان بعضهــا فاص ـ ً‬
‫ا‬
‫بالنســبة لتطــور البــاد الديمقراطــي احلــر(((‪.‬‬
‫‪35‬‬
‫إعالنات احلقوق الدولية‪:‬‬
‫بعــد أن ُمنــي العــامل بحربــن عامليتــن خــال أقــل‬

‫(((  عــر التنويــر‪ :‬هــي حركــة سياســية‪ ،‬اجتامعيــة‪ ،‬ثقافيــة وفلســفية‬


‫ٍ‬
‫بشــكل ملحــوظ يف القــرن الثامــن عــر امليــادي يف‬ ‫واســعة‪ ،‬تطــورت‬
‫أوربــا‪ .‬نشــأت يف إنكلــرا ولكــن التطــور احلقيقــي كان يف فرنســا‪ .‬وحتــول‬
‫أي شـ ٍ‬
‫ـكل مــن أشــكال الفكــر الــذي‬ ‫مفهــوم التنويــر ليشــمل بشـ ٍ‬
‫ـكل عــام َّ‬
‫يريــد تنويــر عقــول مــن الظــام واجلهــل واخلرافــة‪ ،‬مســتفيد ًا مــن ِ‬
‫نقــد‬
‫العقــل ومسـ ٍ‬
‫ـامهة للعلــوم‪ .‬ملزيــد مــن التفاصيــل‪ُ ،‬ينظــر‪ :‬صالــح‪ ،‬هاشــم‪،‬‬ ‫ُ‬
‫مدخــل إىل التنويــر األورويب‪( ،‬بــروت‪ ،‬دار الطليعــة‪2005 ،‬م)‪.‬‬
‫((( كارتــر‪ ،‬جوندولــن وجــون هــرز‪ ،‬نظــام احلكــم والسياســة يف القــرن‬
‫العرشيــن‪ ،‬ص‪.77‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫هبمـ ٍـة واقتــدار عــن‬


‫مــن نصــف قــرن كان عليــه أن يبحــث َّ‬
‫الوســائل الكفيلــة بعــدم تِكــرار مثــل ذلــك‪ ،‬محايـ ًة للجنــس‬
‫البــري وحقوقـ ِـه املرشوعــة‪ .‬والتقــى اجلميــع عــى إنشــاء‬
‫‪)The United Nations (UN‬‬ ‫(((‬
‫هيــأة األمــم املتحــدة‬

‫((( من َّظمــة عامليــة تضــم يف عضويتهــا مجيــع دول العــامل ا ُملســتقلة‬


‫تقريب ـ ًا‪َّ .‬‬
‫تأسســت ُمن َّظمــة األمــم املتحــدة بتاريــخ ‪/24‬أكتوبــر‪ 1945/‬يف‬
‫ِ‬ ‫‪36‬‬
‫مدينــة ســان فرانسيســكو ‪ ،San Francisco‬كاليفورنيــا ‪California‬‬
‫األمريكيــة‪ ،‬تبعــ ًا ملؤمتــر دومبارتــون أوكــس ‪The Dumbarton Oaks‬‬
‫‪ Conference‬الــذي ع ُِقــدَ يف العاصمــة واشــنطن ‪Washington,‬‬
‫‪ .D.C.‬مــن ‪ 1919‬إىل ‪ 1945‬كان يوجــد ُمن َّظمــة شــبيهة بمن َّظمــة األمــم‬
‫املتحــدة تُدعــى عصبــة األمــم ‪ ،The League of Nations‬إالَّ َّأنــا‬
‫فشــلت يف مهامهــا خصوصـ ًا بعــد قيــام احلــرب العامليــة الثانيــة‪ ،‬مــا أدى إىل‬
‫نشــوء األمــم املتحــدة بعــد انتصــار احللفــاء ‪The Allies of World War‬‬
‫وتــم إلغــاء عصبــة األمــم‪ .‬وعضويــة األمــم املتحــدة مفتوحــة أمــام‬
‫‪َّ ،II‬‬
‫كل الــدول ا ُملحبــة للســام التــي تقبــل التزامــات ميثــاق األمــم املتحــدة‬
‫وحكمهــا‪ .‬ومنــذ ‪ 14‬متــوز مــن ســنة ‪ 2011‬بعــد تقســيم الســودان أصبــح‬
‫هنــاك (‪ )193‬دولــة كأعضــاء يف املن َّظمــة‪َّ .‬‬
‫إن الســعي لتوفــر حقــوق‬
‫اإلنســان كان أحــد أهــم األســباب التــي قامــت مــن أجلهــا األمــم املتحــدة‪.‬‬
‫حيــث أدت األعــال الوحشــية واإلبــادة اجلامعيــة يف احلــرب العامليــة‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫الــذي بــدأ ميثاقهــا (‪ )UN Charter‬بديباجـ ٍـة نصهــا‪( :‬نحــن‬


‫شــعوب األمــم املتحــدة وقــد آلينــا عــى أنفســنا أن نُنقــذ‬
‫األجيــال ا ُملقبلــة مــن ويــات احلــرب التــي يف خــال جيـ ٍ‬
‫ـل‬
‫واحــد جلبــت عــى اإلنســانية مرتــن أحزان ـ ًا يعجــز عنهــا‬
‫الوصــف‪ .‬وأن نؤ ِّكــد مــن جديــد إيامننــا باحلقــوق األساســية‬
‫لإلنســان‪ ،‬وبكرامـ ِـة الفــرد وقدرتـ ِـه‪ ،‬وبــا للرجــال والنســاء‪،‬‬
‫ثــم‬ ‫ٍ‬
‫‪37‬‬ ‫واألمــم كبريهــا وصغريهــا مــن حقــوق متســاوية)‪َّ .‬‬
‫تضمــن امليثــاق بعــض املــواد اخلاصــة هبـ ِ‬
‫ـذه احلقــوق ومنهــا‪:‬‬

‫املــادة األوىل للفقــرة الثالثــة‪( :‬مــن مقاصــد اهليــأة حتقيــق‬


‫التعــاون الــدويل عــى ِّ‬
‫حــل املســائل االقتصاديــة‪ ،‬وعــى‬
‫توفــر احــرام حقــوق اإلنســان‪ ،‬واحلريــات األساســية‬

‫الثانيــة إىل إمجــاع عــام عــى أن تعمــل األمــم املتحــدة مــا بوســعها ملنــع مثــل‬
‫هكــذا مــآيس يف املســتقبل‪ .‬هــذا اهلــدف ا ُملب ِّكــر أصبــح يمثــل إطــار ًا قانونيـ ًا‬
‫ـاكات حقــوق اإلنســان‪ .‬ملزيـ ٍـد من‬
‫الحتــواء وحـ ِّـل الشــكاوى ا ُملتع ِّلقــة بانتهـ ِ‬

‫التفاصيــل‪ُ ،‬ينظــر‪ :‬هانيامكــي‪ ،‬يــويس إم‪ ،‬األمــم املتحــدة‪ ..‬مقدمــة قصــرة‬


‫جــد ًا‪ ،‬ترمجــة‪ :‬حممــد فتحــي خــر‪ ،‬ط‪( ،1‬القاهــرة‪َّ ،‬‬
‫مؤسســة هنــداوي‬
‫للتعليــم والثقافــة‪2013 ،‬م)‪ ،‬ص‪.15-30‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫للنــاس مجيعـ ًا‪ ،‬والتشــجيع عليــه‪ ،‬دون متييــز بســبب اجلنس‪،‬‬


‫أو اللغــة‪ ،‬أو الديــن‪ ،‬وال تفريــق بــن الرجــال والنســاء)(((‪.‬‬

‫كذلــك املــادة (‪ )1-13‬فقــرة (ب)‪( :‬تُنشــئ‬


‫‪United‬‬ ‫‪Nations‬‬ ‫اجلمعيــة العموميــة ‪General‬‬
‫ٍ‬
‫بتوصيــات‬ ‫‪ )Assembly (UNGA‬دراســات وتُشــر‬
‫بقصــد اإلعانــة عــى حتقيــق حقــوق اإلنســان واحلريــات‬
‫األساســية للنــاس كافــة‪ ،‬بــا متييــز بينهــم يف اجلنــس‪.)...‬‬ ‫‪38‬‬

‫واملــادة (‪ )55‬فقــرة (ج)‪( :‬رغبــ ًة يف هتيــأة رشوط‬


‫ٍ‬
‫عالقــات ســليمة‬ ‫االســتقرار والرفاهيــة الرضوريــة لقيــام‬
‫وديــة‪ ،‬عالقــات تقــوم عــى احــرام املبــدأ‪ ،‬الــذي يقــي‬
‫ٍ‬
‫بحقــوق متســاوية‪ ،‬وجيعــل هلــا تقريــر مصريهــا‬ ‫للشــعوب‬
‫تعمــل األمــم املتحــدة عــى أن ينتــر يف العامل احــرام حقوق‬
‫اإلنســان‪ ،‬واحلريــات األساســية للجميــع‪ ،‬بــا متييــز بســبب‬
‫وصاعــات تلــك احلقــوق واحلريــات فعــاً)‪.‬‬ ‫اجلنــس ِ‬

‫((( ُينظــر املوقــع اإللكــروين‪http://www.un.org/en/sections/un- :‬‬

‫‪charter/introductory-note/index.html‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫وأيضـ ًا تضمنت املــواد (‪ )76-68-62-56‬إشـ ٍ‬


‫ـارات‬ ‫َّ‬
‫إىل حقــوق اإلنســان‪ ،‬وقــد ُشــكِّل املجلــس اإلقتصــادي‬
‫واإلجتامعــي هبيــأة األمــم املتحــدة (جلنــة حقــوق اإلنســان)‬
‫بقصــد إعــداد مــروع وثيقــة دوليــة بإعــان حقــوق‬
‫اإلنســان‪ ،‬وحرياتـ ِـه األساســية‪ ،‬وكيفيــة تطبيقهــا‪ ،‬ومــا هــي‬
‫وســائل تنفيذهــا‪ ،‬واالجــراءات التــي جيــب اختاذهــا ضــدَّ‬
‫انتهــاك هـ ِ‬
‫ـذه احلقــوق‪ ،‬وقــد واصلــت اللجنــة عملهــا قرابــة‬
‫‪39‬‬
‫ـم تقدمــت باملــروع‬
‫عامــن يف ليــك ســكس‪ ،‬وىف جنيــف‪ ،‬ثـ َّ‬
‫األول اخلــاص بوثيقــة إعــان احلقــوق واحلريــات‪ ،‬وقــد‬
‫أقرتــه اجلمعيــة العامــة هليــأة األمــم املتحــدة‪ .‬ومــن بينهــا‬
‫قرارهــا رقــم (‪ )217‬يف دور االنعقــاد العــادي الثالــث‬
‫بباريــس بتاريــخ ‪ 10‬ديســمرب ســنة ‪ ،1948‬وقــد اشــتمل‬
‫اإلعــان العاملــي حلقــوق اإلنســان عــى ثالثــن مــادة ك َّلهــا‬
‫تــدور حــول حقــوق اإلنســان مــن الوجــوه كا ّفــة‪ ،‬ومادتــه‬
‫األوىل تنــص عــى أن‪( :‬يولــد مجيــع الناس أحرار ًا متســاويني‬
‫ا وضمــر ًا‪ ،‬وعليهــم‬
‫يف الكرامــة واحلقــوق وقــد وهبــوا عقـ ً‬
‫أن يعامــل بعضهــم بعض ـ ًا بــروح اإلخــاء‪.)...‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫اتفاقيــات دوليــة عديــدة يف شــأن‬


‫ٌ‬ ‫وقــد صــدرت‬
‫حقــوق خاصــة لإلنســان‪ ،‬كاالتفاقيــات الدوليــة يف شــأن‬
‫احلقــوق املدنيــة والسياســية الصــادرة بقــرار األمــم املتحــدة‬
‫رقــم (‪ )2200‬يف دور االنعقــاد العــادي (‪ )21‬بتاريــخ‬
‫ٍ‬
‫واتفاقيــة أخــرى بــذات‬ ‫‪ 16‬مــن ديســمرب ســنة ‪1966‬م‪،‬‬
‫التاريــخ والــدور بشــأن احلقــوق اإلقتصاديــة واإلجتامعيــة‬
‫والثقافيــة(((‪ .‬واتفاقيــات عديــدة أخــرى‪ ،‬ال يتســع املجــال‬ ‫‪40‬‬
‫حلرصهــا‪ ،‬موضوعهــا‪ :‬القضــاء عــى التمييــز العنــري‪،‬‬
‫وحتريــم إبــادة اجلنــس البــري‪ ،‬وحتريــم الــرق‪ ،‬واحلريــة‬
‫النقابيــة‪ ،‬وحــق تقريــر املصــر‪ ،‬ومحايــة ضحايــا احلــرب‪،‬‬
‫الســخرة‪..‬‬
‫واألرسى‪ ،‬واملســاواة يف األجــور‪ ،‬وحتريــم ُ‬
‫إلخ (((‪.‬‬

‫((( املرجع نفسه‪.‬‬


‫احلـكَّام‪ ،‬ص‪109‬؛ وملزيـ ٍـد مــن التفاصيــل‬
‫(((  حســنني‪ ،‬رقابــة األمــة عــى ُ‬
‫حــول هـ ِ‬
‫ـذه االتفاقيــات‪ُ ،‬ينظــر‪ :‬وفيــق‪ ،‬حممــد‪ ،‬موســوعة حقــوق اإلنســان‪،‬‬
‫(القاهــرة‪ ،‬اجلمعيــة املرصيــة لالقتصــاد الســيايس واإلحصــاء والترشيــع‪،‬‬
‫‪1970‬م)‪.‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫والــذي هيمنــا مــن أمــر اإلعــان العاملــي حلقــوق‬


‫ـص عــى محايــة‬ ‫اإلنســان أ َّّنــه حــوى َّ‬
‫كل حقــوق اإلنســان‪ ،‬فنـ َّ‬
‫حقوقــه السياســية‪ ،‬واملدنيــة‪ ،‬واالجتامعيــة‪ ،‬والثقافيــة‪،‬‬‫ِ‬

‫واالقتصاديــة‪ ..‬وهــى حقــوق جديــدة مل تتضمنهــا إعالنــات‬


‫احلقــوق مــن قبــل‪ ،‬وهــى تتميــز بطابعهــا اإلجيــايب‪ ،‬أي‬
‫بفــرض إلتــزام عــى الدولــة بتحقيقهــا لألفــراد‪ ،‬ويــأيت يف‬
‫ِ‬
‫هــذه املــواد‪ ،‬عــى وجــه اخلصــوص‪ ،‬املــواد مــن‬ ‫مقدمــة‬
‫‪41‬‬
‫(‪ )22‬إىل (‪.((()28‬‬

‫أن مفهــوم حقــوق اإلنســان يف‬ ‫وأخــر ًا‪ ،‬يمكــن القــول َّ‬
‫ر مســارين كبرييــن‪ :‬أوهلــا التجــارب‬ ‫ِ‬
‫الغــرب قــد تبلــور ع ـ َ‬
‫السياســية الغربيــة ا ُملتمثلــة يف الـ ِ‬
‫ـراع ضــدَّ احلكــم ا ُملطلــق‬
‫ِ‬
‫صالحياتــه الواســعة‪ .‬واألمثلــة‬ ‫مــن أجــل احلــدِّ مــن‬
‫الكــرى الواضحــة هلــذا املســار هــو الــراع الســيايس يف‬
‫إنكلــرا مــن أجــل حتديــد صالحيــات الكنيســة صاحبــة‬
‫احلكــم الســيايس ا ُملطلــق وانتــزاع بعــض احلقــوق لألفــراد‬

‫((( مدين‪ ،‬مسئولية الدولة عن أعامهلا ا ُملرشعة‪ ،‬ص‪.128‬‬


‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫ِ‬
‫وثيقــة املاغنــا كارتــا‬ ‫واجلامعــات كــا ِصيــغ ذلــك يف‬
‫‪ ،Magna-carta‬وكــذا عمليــة حتريــر الواليــات املتحــدة‬
‫ـم الثــورة الفرنســية‪،‬‬
‫األمريكيــة والوثيقــة الصــادرة عنهــا‪ ،‬ثـ َّ‬
‫والثــورة الروســية‪ ...‬إلــخ‪.‬‬
‫ِ‬
‫هلــذه األفــكار فهــو اجتهــادات‬ ‫أ َّمــا املســار الثــاين‬
‫ا ُملفكِّريــن وتنظــرات الفالســفة ابتــدا ًء مــن احلقبــة‬
‫ـم احلقبــة احلديثــة يف‬ ‫‪42‬‬
‫اإلغريقيــة‪ ،‬والرومانيــة‪ ،‬واإلســامية ثـ َّ‬
‫الغــرب‪ ،‬والتــي تعــد فلســفة التنويــر ُمع ِّلمتهــا الرئيســية‪.‬‬
‫وهـ ِ‬
‫ـذه االجتهــادات الفكريــة‪ ،‬التــي كانــت بمثابــة خمترب‬
‫آخــر تبلــورت فيــه حقــوق اإلنســان‪ ،‬مل تكــن إســهامات‬
‫معزولــة عــن ســياق التاريــخ الفعــي‪ .‬بــل كانــت تفكــر ًا يف‬
‫ـذه الرصاعــات والتحــوالت مــن جهــة وإنــار ًة وتوجيه ـ ًا‬‫هـ ِ‬

‫هلــا مــن جهـ ٍـة ثانيــة‪ .‬لذلــك ســيكون مــن بــاب التبســيط أن‬
‫ـأن حقــوق اإلنســان هــي بنــت التجربــة التارخييــة‪،‬‬ ‫نقــول بـ َّ‬
‫ـذه هــي التــي و َّلــدت هـ ِ‬
‫ـذه األفــكار‪ ،‬أو عــى العكــس‬ ‫وأن هـ ِ‬
‫َّ‬
‫أن مفهــوم احلريــة واحلــق هــو الــذي أنتــج هـ ِ‬
‫ـذه‬ ‫مــن ذلــك‪َّ ،‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫احلقــوق الفعليــة يف التاريــخ‪ .‬ولعـ َّـل هــذا اإلشــكال أصبــح‬


‫اليــوم متجــاوز ًا يف العلــوم اإلنســانية‪ .‬وهــذا مــا يبيــح لنــا‬
‫ر تفاعــل‬ ‫ِ‬ ‫القــول بـ َّ‬
‫ـأن مفهــوم حقــوق اإلنســان قــد تبلــور عـ َ‬
‫جتربتــن تارخييتــن طويلتــي األمــد‪ :‬جتربــة الواقــع وجتربــة‬
‫الفكــر‪ ،‬وأ َّنــه قــد يكــون مــن التبســيط اختــزال هـ ِ‬
‫ـذه اجلدليــة‬
‫التارخييــة يف أحــد طرفيهــا فقــط‪.‬‬
‫‪43‬‬ ‫ويف منــاخ تنويــري‪ ،‬متيــز بالنضــال ضــدَّ النزعــة ا ُملطلقــة‬
‫يف احلكــم وضــدَّ النزعــة التعســفية واالســتبدادية‪ ،‬ارتبطــت‬
‫فكــرة حقوق اإلنســان بالنزعــة الفردانيــة ‪،Individualism‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بفكــرة ال َع ْقــد‬ ‫وعقلــه‪،‬‬ ‫وإلرادتــه‬ ‫ا ُمل ِّ‬
‫مجــدة حلريــة الفــرد‬
‫كفكــرة ضابطــة لألصــل‬‫ٍ‬ ‫اإلجتامعــي ‪،Social Contract‬‬
‫احلــق الطبيعــي‬
‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫بفكــرة‬ ‫البــري التعاقــدي ِّ‬
‫لــكل ســلطة‪،‬‬
‫القائمــة عــى وجــود حقــوق طبيعية راســخة لدى اإلنســان‪،‬‬
‫أمههــا احلريــة أم احلقــوق اإلنســانية مجيع ـ ًا‪ .‬ولعـ َّـل اجلملــة‬
‫التــي أوردهــا تومــاس هوبــز ‪-1588( Thomas Hobbes‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫‪ )1679‬يف (اللفياثــان)((( ســنة ‪ ،1651‬جتمــع بشــكل َّملــاح‬

‫((( يعــد كتــاب )اللفياثــان (الــذي أ َّلفــه عــامل الرياضيــات والفيلســوف‬


‫املؤسســة لنظريــة‬
‫اإلنكليــزي تومــاس هوبــز ســنة ‪1651‬م مــن الكتــب ِّ‬
‫فلســفة الدولــة‪ ،‬ولع َّلــه األكثــر تأثــر ًا يف السياســة بعــد كتــاب )األمــر(‬
‫ملكيافيــي‪ ،‬وتقــوم فكــرة الكتــاب عــى َّ‬
‫أن البــر أنشــأوا تقاليــد سياســية‬
‫للحكــم والدولــة اســتناد ًا إىل قدراهتــم وخماوفهــم وطبائعهــم اخلاصــة‪،‬‬
‫وليــس بنــا ًء عــى الغيــب‪ .‬واللفياثــان هــو كائــن خــرايف لــه رأس تنــن‬
‫‪44‬‬
‫وجســد أفعــى يســتعمله )هوبــز( ليصــور ســلطة احلاكــم أو الدولــة التــي‬
‫عقــد اجتامعــي جديــد ســلطة الديــن أو‬‫ٍ‬ ‫يســتبدل هبــا النــاس ضمــن‬
‫الالهــوت‪ .‬حتــدث )هوبــز( يف القســم األول مــن الكتــاب عــن األجســام‬
‫وحركتهــا يف العــامل الطبيعــي‪ ،‬وحتــدث يف القســم الثــاين األكــر عــن الدولــة‬
‫املدينــة‪ ،‬وحتــدث يف القســم الثالــث عــن الدولــة املســيحية‪ ،‬ليتوصــل إىل‬
‫رضورة أن ختضــع الكنيســة للدولــة وليــس العكــس‪ ،‬ويف القســم الرابــع‬
‫)مملكــة الظــام( يتحــدث عــن مســاوئ الدولــة الدينيــة‪ ،‬وعــن خمالفتهــا‬
‫للعهــد القديــم والعهــد اجلديــد‪ .‬و ُيع ِّلــق )رضــوان الســيد (عــى الكتــاب‬
‫بالقــول‪َّ :‬‬
‫)إن هوبــز أخــذ بالفكــرة الســائدة للعقــد االجتامعــي‪ ،‬ولكنــه‬
‫ِ‬
‫مضمونــه حــن عــدّ ه مــؤد ًا ال رجعــة فيــه وال تعديــل وال‬ ‫أفرغــه مــن‬
‫مســؤولية‪ ،‬وحــن ربطــه بخطــأ يف الطبيعــة البرشيــة يســتحيل إجــراؤه إالَّ‬
‫يؤسســها‬ ‫ِ‬
‫هبــذه الطريقــة‪ ،‬وبذلــك تســود النظــام اهلوبــزي جربيــة مطلقــة ِّ‬
‫الفيلســوف عــى فرضيـ ٍ‬
‫ـات يعتقــد َّأنــا يف يقينهــا مثــل ُمس ـ َّلامت الرياضــة‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫هـ ِ‬
‫ـذه العنــارص الثالثــة (احلريــة‪ ،‬التعاقــد‪ ،‬احلــق الطبيعــي)‪،‬‬
‫حيــث يقــول‪( :‬احلــق الــذايت الطبيعــي) الــذي تعــود ال ُكتَّاب‬
‫عــى تسـ ِ‬
‫ـميته باحلـ ِّـق الطبيعــي (هــو احلريــة التــي يملكهــا كل‬
‫إنســان يف أن يســتعمل كــا يشــاء قدراتــه اخلاصــة)(((‪.‬‬
‫ِ‬
‫هــذه الروافــد الثالثــة الكــرى‪ ،‬التــي تصــب‬ ‫تُشــكِّل‬
‫ِ‬
‫دائــرة حقــوق اإلنســان‪ ،‬عائلــ ًة فكريــ ًة واحــدة‪.‬‬ ‫ك َّلهــا يف‬
‫‪45‬‬ ‫فهــي مجيع ـ ًا تعكــس التحــوالت الكــرى التــي حدثــت يف‬
‫التاريــخ احلــي ويف الفكــر‪ ،‬والتــي أســهمت يف إحــداث‬
‫تعديـ ٍ‬
‫ـات كــرى عــى أســاس الثقافــة الغربيــة الكالســيكية‬

‫واهلندســة‪ .‬وطبيعــي وســط ازدهــار أفــكار الديمقراطيــات وممارســاهتا أن‬


‫ال يأخــذ أحــد اليــوم نظــرة )هوبــز( عــن الدولــة باالعتبــار‪ ،‬ولكنــه يظــل‬
‫مرحلــة مهمــة يف تاريــخ الفكــر احلديــث‪ ،‬ورصخ ـ ًة يف وجــه االضطــراب‬
‫ٍ‬
‫لســلطة واحــدة يف املجتمــع الواحــد(‪ُ .‬ينظــر‪ :‬هوبــز‪،‬‬ ‫الســيايس‪ ،‬ودعــو ًة‬
‫تومــاس‪ ،‬اللفياثــان‪ ..‬األصــول الطبيعيــة والسياســية لســلطة الدولــة‪،‬‬
‫ترمجــة‪ :‬ديانــا حبيــب حــرب وبــرى صعــب‪ ،‬مراجعــة وتقديــم‪ :‬رضــوان‬
‫الســيد‪ ،‬ط‪( ،1‬أبــو ظبــي‪ ،‬هيــأة أبــو ظبــي للثقافــة والــراث (كلمــة)‪،‬‬
‫‪1432‬هـــ‪2011/‬م)‪ ،‬ص‪ ،15-16‬مقدمــة ا ُمل ِ‬
‫راجــع‪.‬‬
‫((( املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.54‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫يف اجتــاه إثبــات دور أكــر للعقــل يف الكــون (العقالنيــة‬


‫‪ ،)Rationalism‬وإثبــات صــورة الطبيعــة كنظــا ٍم مســتقل‬
‫لــه نواميســه اخلاصــة (الوضعيــة ‪ ،)Positivism‬وإقــرار‬
‫ٍ‬
‫قــدرة عــى الوعــي باحلتميــات‬ ‫إرادة اإلنســان بــا هلــا مــن‬
‫املختلفــة والتخلــص مــن تأثريهــا (النزعــة اإلراديــة)‪،‬‬
‫وذلــك ضمــن منظــور الصــرورة والتحــول يف ســياق‬
‫التاريــخ احلــي (النزعــة التارخيانيــة ‪ ،)Historicism‬ويف‬ ‫‪46‬‬
‫ُأفــق منظــور نمطــي متصاعــد للزمــن‪.‬‬
‫وهـ ِ‬
‫ـذه األفــكار‪ ،‬يف مراوحتهــا اجلدليــة بــن نضــاالت‬
‫ِ‬
‫وصاعــات الواقــع التارخيــي‪ ،‬واالجتهــادات الفلســفية‬
‫يف ميــدان الفكــر‪ ،‬ســتنتقل بالتدريــج مــن بطــون الكتــب‬
‫ودوائــر اخلاصــة إىل رحــاب الواقــع الســيايس‪ ،‬كام ســتتحول‬
‫بالتدريــج مــن معايــر أخالقيــة ُملهمــة وموضوعيــة إىل‬
‫ترشيعـ ٍ‬
‫ـات وقوانــن ضابطــة و ُملزمــة ســواء أعــى الصعيــد‬
‫الداخــي أم عــى صعيــد العالقــات بــن الــدول‪.‬‬
‫املبحث الثاني‬

‫حقوق اإلنسان يف الفكر‬


‫والشريعة اإلسالمية‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫راق يف نظرتـ ِـه لإلنســان؛‬ ‫ينطلــق اإلســام مــن اعتقـ ٍ‬


‫ـاد ٍ‬

‫(عــز وجــل) اإلنســان خليفــ ًة لــه يف األرض‬


‫إذ جعــل اهلل ّ‬
‫ِ‬
‫رشيعتــه فيهــا‪ ،‬فاإلنســان‬ ‫ِ‬
‫لع َمرهتــا(((‪ ،‬وإقامــة أحــكام‬
‫هــو حمــور الوجــود‪ ،‬وهــو املخلــوق املميــز بــن ســائر‬
‫املخلوقــات‪ .‬وقــد جــاءت الرشيعــة اإلســامية بأحــكا ٍم‬
‫‪49‬‬ ‫شــمولية وثابتــة بشــأن حقــوق اإلنســان‪ ،‬تقــوم عــى‬
‫أســاس الوســطية واالعتــدال‪ ،‬إذ املســاواة بــن النــاس‬
‫واحلــوار واألخــوة يف كا َّفــة األُمــم‪ ،‬وقــد َش ِ‬
‫ــم َلت حقــوق‬
‫اإلنســان يف اإلســام احلقــوق اخلاصــة الفرديــة‪ ،‬إىل جانــب‬
‫احلقــوق األخــرى االقتصاديــة والثقافيــة واالجتامعيــة‪ .‬وقــد‬
‫الغــراء املعاهــدات الدوليــة‬
‫َّ‬ ‫ســبقت الرشيعــة اإلســامية‬
‫واإلعالنــات واملواثيــق الدوليــة والترشيعــات الوطنيــة‬

‫((( الغــزايل‪ ،‬حممــد‪ ،‬حقــوق اإلنســان بــن تعاليــم اإلســام وإعــان‬


‫األمــم املتحــدة‪ ،‬ط‪( ،4‬القاهــرة‪ ،‬هنضــة مــر للطباعــة والنــر والتوزيــع‪،‬‬
‫‪2005‬م)‪ ،‬ص‪.11‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫كا َّفــة منــذ مخســة عــر قرنــ ًا يف جمــال حقــوق اإلنســان‬


‫ِ‬
‫وإحاطتــه بتكريــم وتفضيــل‬ ‫واالعــراف بمركــز الفــرد‪،‬‬
‫ٍ‬
‫كثــر مــن املخلوقــات‪.‬‬ ‫عــى‬

‫وردت كلمــة (إنســان) يف القــرآن الكريــم (‪)65‬‬


‫ــن * َع َّل َ‬
‫ــم‬ ‫مح ُ‬‫﴿الر َ‬
‫مــرة بمعنــى املخلــوق‪ ،‬وأنَّــه عبــد اهلل‪َّ ،‬‬
‫ــان﴾(((‪ ،‬لذلــك‬ ‫َســان * َع َّل َمــ ُه ال َب َي َ‬
‫إلن َ‬ ‫ــق ا ِ‬
‫ان * َخ َل َ‬ ‫ال ُق َ‬
‫ــرء َ‬
‫(العبــاد)‪ ،‬يف مقابــل (حقــوق‬ ‫أشــار الفقهــاء إىل حقــوق ِ‬ ‫‪50‬‬
‫اإلنســان)‪ .‬فالوضــع الطبيعــي هــو العنايــة باإلنســان قبــل‬
‫ألن هـ ِ‬
‫ـذه احلقــوق إ َّنــا ُأضيفــت‬ ‫العنايــة بحقــوق اإلنســان؛ َّ‬
‫لإلنســان واســتحقها لكونـ ِـه إنســان ًا‪ ،‬وليــس أل َّنــه كائــن مــن‬
‫فضــل البــاري‬ ‫ٌ‬
‫وخملــوق مــن املخلوقــات‪ ،‬وقــد َّ‬ ‫الكائنــات‬
‫(جــل وعــا) اإلنســان عــى باقــي املخلوقــات والكائنــات‪،‬‬
‫ِ‬
‫حقوقــه تســخريها‬ ‫فلــ ُه مــن احلقــوق مــا ليــس هلــا‪ ،‬ومــن‬
‫ِ‬
‫ملصلحتــه(((‪ .‬ولقــد حــدد اإلســام رســالة‬ ‫واســتعامهلا‬

‫(((  سورة الرمحن‪ ،‬اآليات‪1-4 :‬‬


‫((( الريســوين‪ ،‬أمحــد وآخــرون‪ ،‬حقــوق اإلنســان‪ ..‬حمــور مقاصــد‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫ِ‬
‫أرضــه‪ ،‬عندمــا‬ ‫اإلنســان يف احليــاة إذ جعلــه اهلل خليفــ َة يف‬
‫بلــغ املالئكــة خلقــ ُه (جــل وعــا) آلدم (عليــه الســام)‬
‫ــل ِف األَ ِ‬ ‫َــة إِن ج ِ‬
‫ِ ِ‬ ‫ــال رب َ ِ‬
‫رض‬ ‫اع ٌ‬ ‫لمالئك ِّ َ‬ ‫ــك ل َ‬ ‫﴿وإِ ْذ َق َ َ ُّ‬
‫قائــاً‪َ :‬‬
‫َخلِي َفـ ًة﴾(((‪ ،‬وأ َّكــد القــرآن الكريــم ذلــك يف ســ ِ‬
‫ـورة األنعام‪،‬‬
‫رض﴾(((‪،‬‬ ‫ـف األَ ِ‬ ‫﴿و ُهـ َـو ا َّلـ ِـذي َج َع َل ُكــم َخالَئِـ َ‬
‫إذ ورد فـــيها‪َ :‬‬
‫ويف موضــ ٍع آخــر يقــول القــرآن الكريــم‪﴿ :‬هــو ا َّل ِ‬
‫ــذي‬ ‫ُ َ‬
‫‪51‬‬ ‫رض َف َمــن َك َفـ َـر َف َعليـ ِـه ُك ْفـ ُـر ُه﴾(((‪.‬‬
‫ـف ِف األَ ِ‬ ‫َج َع َل ُكــم َخالَئِـ َ‬

‫واســتخالف اإلنســان يف األرض يعنــي التكريــم‬


‫ُ‬
‫ــز َة عليــه‪ ،‬ويؤمــن‬ ‫ِ‬
‫والع َّ‬ ‫والرعايــة واإلنعــام بالــرف‬
‫أن اهلل (جــل وعــا) َخ َلــق اإلنســان عــى أحســن‬
‫املســلمون َّ‬
‫صــورة جســد ًا وروحــ ًا‪ ،‬فنظــر اإلســام نظــرة تكريــ ٍم‬
‫(عــز وجــل) مالئكتــه‬
‫ّ‬ ‫لإلنســان‪ ،‬حيــث أمــر البــاري‬

‫الرشيعــة‪ ،‬ط‪( ،1‬قطــر‪ ،‬وزارة األوقــاف والشــؤون اإلســامية‪1423 ،‬هـ)‪،‬‬


‫ص‪ 40‬ومــا بعدهــا‪.‬‬
‫(((  سورة البقرة‪ ،‬آية‪30 :‬‬
‫(((  سورة األنعام‪ ،‬آية‪165 :‬‬
‫(((  سورة فاطر‪ ،‬آية‪39 :‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫بالســجود لــه‪ ،‬فقــال (جــل وعــا)‪﴿ :‬وإِ ْذ ُقلنَــا لِ ْلمالئِك ِ‬


‫َــة‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫يــس َأ َبــى﴾(((‪ .‬ومنهــا مــا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ــجدُ وا إِالَّ إِ ْبل َ‬
‫اســجدُ و ْا آل َد َم َف َس َ‬
‫ُ‬
‫كل‬‫يتع َّلــق بكــال اإلنســان حيــث خلقــ ُه اهللُ بريئــ ًا مــن ِّ‬
‫ِ‬
‫بـ(الف ْطــرة)‪ ،‬ومــا‬ ‫انحــراف؛ أي مــا ُيعــرف يف اإلســام‬
‫لرشيعــة اهللِ (جــل وعــا)‬ ‫ِ‬ ‫عــارض ِخالفــ ًا‬‫ٌ‬ ‫االنحــراف إالَّ‬
‫حتــت تأثــر شــهوات اإلنســان اخلاصــة أو ســوء الرتبيــة‬
‫ٍ‬
‫عندئــذ العقوبــة‪ ،‬ومنهــا مــا يتع َّلــق‬ ‫وغريهــا‪ ،‬ويســتحق‬ ‫‪52‬‬
‫ِ‬
‫وترصفاتــه عــى أســاس إقامــة‬ ‫ِ‬
‫ســلوكه‬ ‫ِ‬
‫بمســؤوليته عــن‬
‫العــدل وا ُملســاواة؛ لضــان الســام واخلــر واملصلحــة‬
‫للجميــع ( (( ‪.‬‬

‫ـف‬ ‫ويف ضـ ِ‬
‫ـوء ذلــك فخالفــة اإلنســان يف األرض ترشيـ ٌ‬
‫ومتكــن هلــذا اإلنســان‪ ،‬ومــن أســباب التكريــم والتفضيــل‬

‫((( سورة البقرة‪ ،‬آية‪34 :‬‬


‫((( احلقيــل‪ ،‬ســليامن بــن عبــد الرمحــن حممد‪ ،‬حقوق اإلنســان يف اإلســام‬
‫والــرد عــى ُ‬
‫الشــبهات املثــارة حوهلــا‪( ،‬الريــاض‪1415 ،‬هـــ‪1994/‬م)‪،‬‬
‫ص‪.31-30‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫ســا َء‬ ‫َ‬ ‫﴿و َع َّل َ‬ ‫َّ‬


‫ــم آ َد َم األ َ‬ ‫(عــز وجــل) يقــول‪َ :‬‬ ‫ّ‬ ‫أن البــاري‬
‫ُك َّل َهــا﴾(((‪ ،‬و﴿ع َّل ِ‬
‫ــان َمــا ْل َ َي ْع َل ْ‬
‫ــم﴾(((‪ ،‬و﴿ َع َّل َمــ ُه‬ ‫نس َ‬ ‫ــم اإل َ‬
‫َ َ‬
‫ـان﴾(((‪ ،‬والبيــان ليــس جمــرد النُطــق والــكالم بــل (قبــل‬ ‫ال َب َيـ َ‬
‫ِ‬
‫ـم بياهنــا‪ ،‬واألهــم مــن ذلــك‬ ‫ذلــك) فكـ ٌـر و َن ْظـ ٌ‬
‫ـم لألفــكار‪ ،‬ثـ َّ‬
‫أن البــاري َن َفــخ فيـ ِـه مــن روحـ ِـه‪َ ﴿ :‬فـإِ َذا َسـ َّـوي ُت ُه َو َن َف ُ‬
‫خت‬ ‫هــو َّ‬
‫وحــي﴾(((‪ ،‬وهــذا النــوع مــن التكريــم ســبب‬ ‫يــه ِمــن ر ِ‬ ‫فِ ِ‬
‫ْ ُّ‬
‫ِ‬
‫ومؤهالتــه واملــدد املالئــم‬ ‫ِ‬
‫مواهبــه‬ ‫ِ‬
‫وتفوقــه ومنبــع‬ ‫ســمو ِه‬
‫‪53‬‬ ‫ِّ‬
‫تعهــد البــاري (جــل وعــا) بنــي‬ ‫لتســاميه وترقيــه(((‪ ،‬حيــث َّ‬
‫بشوهنــم‪،‬‬ ‫البــر‪ ،‬فأرســل هلــم ُرس ـ َل ُه باألدلـ ِـة والبيانــات ُي ِّ‬
‫﴿و َأ َّن‬
‫و ُينذروهنــم ويقودوهنــم إىل رصاط العزيــز الـــرحيم‪َ :‬‬
‫صاطِــي ُمس ـت َِق َ ً‬
‫يم َفا َّتبِ ُعــو ُه َوالَ َت َّتبِ ُعــوا ُّ‬
‫الس ـ ُب َل َف َت َفـ َّـر َق‬ ‫ِ‬
‫َهـ َـذا َ‬

‫(((  سورة البقرة‪ ،‬آية‪31 :‬‬


‫(((  سورة ال َع َلق‪ ،‬آية‪5 :‬‬
‫(((  سورة الرمحن‪ ،‬آية‪4 :‬‬
‫(((  سورة احلجر‪ ،‬آية‪29 :‬‬
‫(((  الريسوين‪ ،‬حقوق اإلنسان‪ ..‬حمور مقاصد الرشيعة‪ ،‬ص‪.43‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫بِ ُكــم َعــن َس ـبِيلِ ِه ﴾(((‪.‬‬

‫وقــد أشــار عــدد مــن الدارســن إىل َّ‬


‫أن حقــوق اإلنســان‬
‫يف اإلســام ليســت جمــرد حقــوق؛ وإنَّــا هــي رضورات‬
‫وواجبــات رشعيــة؛ أي َّ‬
‫أن حقــوق اإلنســان هــي قواعــد‬
‫آمــرة‪ ،‬ومصدرهــا إهلــي ال وضعــي‪ ،‬إنَّــا هــي جــزء مــن‬
‫الرشيعــة اإلســامية القائمــة عــى تأمــن الصالــح العــام‬
‫لإلنســان ولبنــي البــر كا َّفــة‪ .‬وهنــاك أربعــة مصــادر‬ ‫‪54‬‬
‫أساســية حلقــوق اإلنســان يف اإلســام‪ ،‬هــي مصــادر‬
‫الرشيعــة اإلســامية(((‪ ،‬وتتمثــل بالقــرآن الكريــم بوصفــه‬
‫املصــدر األول الــذي تتفــرع عنــه بقيــة املصــادر األخــرى‪،‬‬
‫ويتنــاول القضــاء عــى التقاليــد غــر املعقولــة يف مجيــع‬
‫شــؤون اإلنســان‪ ،‬وإصــاح املجتمــع إصالحــ ًا شــام ً‬
‫ال يف‬

‫(((  سورة األنعام‪ ،‬آية‪153 :‬‬


‫((( احلقيــل‪ ،‬حقــوق اإلنســان يف اإلســام والــرد عــى ُ‬
‫الشــبهات املثــارة‬
‫حوهلــا‪ ،‬ص‪ 33‬ومــا بعدهــا؛ و ُينظــر كذلــك‪ :‬الفتــاوي‪ ،‬ســهيل حســن‪،‬‬
‫حقــوق اإلنســان يف اإلســام‪ ..‬دراســة مقارنــة يف ضــوء اإلعــان العاملــي‬
‫حلقــوق اإلنســان‪( ،‬بــروت‪ ،‬دار الفكــر العــريب‪2001 ،‬م)‪.‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫ـده الدينيــة أو يف ِصالتـ ِـه اإلجتامعيــة عــر الدعــوة إىل‬


‫عقائـ ِ‬

‫حيــاة إنســانية ُفضــى دون متييــز يف احلقــوق والواجبــات‪،‬‬‫ٍ‬


‫بســبب اجلنــس أو اللغــة أو ِ‬
‫العــرق والدعــوة إىل اخلــر‬
‫وجتنــب َّ‬
‫كل رش‪ ،‬واألمــر باملعــروف والنهــي عــن ا ُملنكــر‪،‬‬
‫والدعــوة إىل الســام بــن النــاس‪ ،‬وجــاء القــرآن الكريــم‬
‫بصفتــه املصــدر األول للرشيعــة اإلســامية وحقــوق‬ ‫ِ‬

‫‪55‬‬ ‫اإلنســان بأحــكا ٍم ك ِّليــة وقواعــد عامــة ال تقبــل التغيــر‬


‫والتعديــل كعــدم التمييــز بــن أبنــاء الرشيعــة اإلســامية‬
‫ومحايــة حقــوق اإلنســان األساســية مــن حريتـ ِـه الشــخصية‬
‫وحصانــة بيتـ ِـه‪ ،‬وصيانــة مالـ ِـه ودمـ ِـه‪ ،‬وحـ ِّـق ِّ‬
‫كل إنســان يف‬
‫العمــل‪ ،‬وح ِّقـ ِـه يف املجتمــع هــو ضــان حيــاة كريمــة‪ ،‬وعــدم‬
‫اإلكــراه يف الديــن والعــدل يف احلكــم‪.‬‬

‫أ َّمــا املصــدر الثــاين حلقــوق اإلنســان يف الرشيعــة‬


‫الســنَّة النبويــة الرشيفــة‪ ،‬وهــي كل مــا‬
‫اإلســامية فهــو ُ‬
‫صــدر عــن رســول اهلل (صــى اهلل عليــه وآلــه) مــن قـ ٍ‬
‫ـول أو‬
‫والســنَّة النبويــة ُح َّجــة‬ ‫ٍ‬
‫فعــل أو تقريــر أو صفــة خلقيــة‪ُ ...‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫الر ُسـ َ‬
‫ـول َف َقــد‬ ‫ِ‬
‫﴿مــن ُيط ـ ِع َّ‬
‫رشعيــة‪ ،‬قــال اهلل (جــل وعــا)‪َّ :‬‬
‫ـاع اهللَ﴾ ‪ُ .‬‬
‫والسـنَّة النبويــة تابعــة للقــرآن الكريــم وبيــان‬ ‫(((‬
‫َأ َطـ َ‬
‫لــه‪ ،‬إ َّمــا تفريــع عــى قواعــد القــرآن أو رشح ل ُك ِّليتــه‪ ،‬وبسـ ٌ‬
‫ـط‬
‫ُملجملـ ِـه‪ ،‬أو وضــع قاعــدة عامــة ُمســتمدة مــن أحــكا ٍم جزئية‬
‫أو مــن قواعــد ُك ِّليــة فيــه‪ُ ،‬‬
‫فالس ـنَّة هــي التجســيد والتنزيــل‬
‫ِ‬
‫حيــاة النــاس‪ ،‬وتقويمهــا‬ ‫والســنَّة عــى‬ ‫ِ‬
‫للق َيــم يف الكتــاب ُ‬
‫الســنَّة‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬
‫والتجــي املعصــوم للق َيــم يف الواقــع؛ هــي ُ‬ ‫هبــا‪،‬‬ ‫‪56‬‬
‫العمليــة مــن ُســنن النبــوة‪ ،‬وهــي وإن كانــت تُش ـكِّل حقبــة‬
‫ـأس‬ ‫ـم عــن طريقهــا بنــاء أنمــوذج االقتــداء والتـ ِّ‬ ‫تارخييــة تـ َّ‬
‫كل املجــاالت واحلــاالت التــي مـ َّـرت هبــا مســرة النبــوة‬ ‫يف ِّ‬
‫ابتــدا ًء مــن قولـ ِـه (جــل وعــا)‪﴿ :‬أ ْقـ َـر ْأ﴾ وانتهــا ًء بقولـ ِـه ّ‬
‫(عز‬
‫ـت َل ُكـ ْـم ِدينَ ُكـ ْـم ﴾(((‪ ،‬بـ ِّ‬
‫ـكل مــا فيهــا؛‬ ‫وجــل)‪﴿ :‬ا ْل َيـ ْـو َم َأك َْم ْلـ ُ‬
‫كل مــا تُعــاين األمــة‪ ،‬ومــا‬ ‫لتكــون الســرة أنمــوذج اقتـ ٍ‬
‫ـداء يف ِّ‬
‫يعــرض هلــا عــى مســتوى الفــرد واجلامعــة والدولــة ِ‬
‫والســلم‬

‫(((  سورة النساء‪ ،‬آية‪80 :‬‬


‫(((  سورة املائدة‪ ،‬آية‪3 :‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫واحلــرب‪ ...‬إالَّ َّأنــا ختتلــف عــن التاريــخ َّ‬


‫بأنــا فــرة بنــاء‬
‫األنمــوذج‪ ،‬فــرة املرجعيــة ومصدريــة الترشيــع يف مجيــع‬
‫جمــاالت احليــاة؛ ألنــا مســدد ٌة بالوحــي ومؤيدة ِ‬
‫ٌبــه‪ ،‬فيــا‬ ‫َّ ُ‬
‫يعــد التاريــخ اجتهــاد البــر وفعلهــم وخطأهــم وصواهبــم‬
‫يف حماوالهتــم ُملقاربـ ِـة األنمــوذج وحماكاتــه‪ ،‬فالتاريــخ هبــذا‬
‫ِ‬
‫رة و َدرس وجتربــة تُضــاف إىل عقــل األمــة‬‫يكــون حمـ َّـل ع ـ َ‬
‫‪57‬‬ ‫ٍ‬
‫بحــال مــن األحــوال ليكــون‬ ‫وخربهتــا‪ ،‬لكــن ال يرقــى‬
‫مصــدر ترشيــع ومعيــار تقويــم وتشــكيل مرجعيــة‪.‬‬

‫الس ـ ْبق‬
‫ـب َ‬‫ـإن لدســتور املدينــة املنــورة َق َصـ ُ‬
‫ـم فـ َّ‬
‫ومــن ثـ ّ‬
‫ـكل دســاتري العــامل‪ ،‬فهــو يعــد أول جتربــة سياســية‬ ‫بالنسـ ِ‬
‫ـبة لـ ِّ‬
‫ِ‬
‫بقيــادة الرســول (صــى اهلل‬ ‫إســامية يف صــدر اإلســام‬
‫عليــه وآلــه)‪ ،‬فقــد كان لــه دور بــارز يف إخــراج املجتمــع‬
‫مــن دوامــة الــراع ال َق َبــي إىل رحــاب األخــوة واملح َّبــة‬
‫كثــر مــن املبــادئ اإلنســانية‬ ‫ٍ‬ ‫والتســامح‪ ،‬إذ ركَّــز عــى‬
‫الســامية كنُــرة املظلــوم‪ ،‬ومحايـ ِـة اجلــار‪ ،‬ورعايـ ِـة احلقــوق‬
‫اخلاصــة والعامــة‪ ،‬وحتريــم اجلريمــة‪ ،‬والتعــاون يف دفــع‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫الد َّيــات‪ ،‬وافتــداء األرسى‪ ،‬ومســاعدة ا َمل ِديــن‪ ،‬إىل غري ذلك‬
‫مــن املبــادئ التــي تُشــعر أبنــاء الوطــن الواحــد بمختلــف‬
‫‪-‬أنــم أرسة ‪ -‬واحــدة‬
‫أجناســهم وأعراقهــم ومعتقداهتــم َّ‬
‫ُمك َّلفــة بالدفــاع عــن الوطــن أمــام ِّ‬
‫أي اعتــداء يفاجأهــم‬
‫مــن اخلــارج‪ .‬فا ُملســاواة قامــت بينهــم عــى أســاس القيمــة‬
‫اإلنســانية املشــركة؛ هــو أن النــاس مجيعــ ًا متســاوون يف‬
‫أصــل الكرامــة اإلنســانية‪ ،‬ويف أصــل التكليف واملســؤولية‪،‬‬ ‫‪58‬‬
‫وأ َّنــه ليــس هنــاك مجاعــة تفضــل غريهــا بحســب عنرصهــا‬
‫اإلنســاين وخلقهــا األول(((‪.‬‬

‫ويــأيت اإلمجــاع كمصــدر ثالــث حلقــوق اإلنســان يف‬


‫اإلســام‪ ،‬وهــو مــا يصــدر عــن علــاء الرشيعــة يف ِّ‬
‫كل‬
‫ٍ‬
‫زمــان وقــت إرشــاد القواعــد واملبــادئ العامــة يف القــرآن‬
‫والســنَّة النبويــة الرشيفــة وتطبيقاهتــا التفصيليــة‪،‬‬
‫الكريــم ُ‬
‫((( ملزيـ ٍـد مــن التفاصيــل‪ُ ،‬ينظــر‪ :‬عبــد احلســن‪ ،‬شــذى عبــد الصاحــب‪،‬‬
‫جمتمــع املدينــة مــن خــال القــرآن الكريــم‪ ..‬اجلوانــب السياســية‬
‫واالجتامعيــة‪ ..‬دراســة تأرخييــة‪ ،‬رســالة ماجســتري غــر منشــورة‪ ،‬جامعــة‬
‫ديــاىل ‪ ،‬ك ِّليــة الرتبيــة‪2005 ،‬م‪ ،‬ص‪.83-74‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫ومــن طــرف الــرأي اإلمجاعــي ورأي بعــض علــاء الرشيعــة‬


‫مصحوبــ ًا بســكوت الباحثــن الذيــن اطلعــوا عــى هــذا‬
‫الــرأي أو التعامــل لــدى بعــض علــاء الرشيعــة دون‬
‫ٍ‬
‫اعــراض عليــه مــن الباقــن الذيــن اطلعــوا عليــه(((‪.‬‬

‫أ َّمــا املصــدر الرابــع حلقــوق اإلنســان يف اإلســام‬


‫فهــو االجتهــاد‪ ،‬وهــو الــرأي الفــردي الصــادر عــن علــاء‬
‫‪59‬‬ ‫كل زمـ ٍ‬
‫ـان ومــكان عــى وفــق إرشــاد القواعــد‬ ‫الرشيعــة يف ِّ‬
‫والســنَّة واإلمجــاع‪ ،‬واالجتهــاد‬
‫العامــة يف القــرآن الكريــم ُ‬
‫(وهــو الــرأي غــر ا ُملجمــع عليــه) قــد يكــون اجتهــاد ًا‬
‫تفســري ًا عنــد اإلهبــام يف النصــوص الرشعيــة جتــاه بعــض‬
‫املســائل احلقوقيــة اجلديــدة‪ ،‬كــا يكــون عنــد ســكوت هـ ِ‬
‫ـذه‬
‫ـص عليهــا(((‪.‬‬
‫النصــوص فيــا جيــد مــن وقائــع حقوقيــة ال نـ َّ‬

‫((( الزعبــي‪ ،‬فــاروق فالــح‪ ،‬حقــوق اإلنســان بــن الرشيعــة اإلســامية‬


‫والقانــون الــدويل‪ ..‬دراســة حتليليــة مقارنــة‪ ،‬جم َّلــة احلقــوق‪ ،‬جملــس النــر‬
‫العلمــي‪ ،‬الكويــت‪ ،‬العــدد ‪ ،4‬الســنة ‪ ،29‬ذو القعــدة ‪1426‬هـ‪/‬ديســمرب‬
‫‪2005‬م‪ ،‬ص‪.112‬‬
‫(((  املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.115‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫إن مــا ُيم ِّيــز حقــوق اإلنســان يف اإلســام هــو َّأنــا‬ ‫َّ‬
‫ألن اإلســام طاملــا ينطلــق بوجـ ٍـه‬ ‫ليســت حقوق ـ ًا ُمطلقــة؛ َّ‬
‫عــام مــن واجبـ ِ‬
‫ـات األفــراد‪ ،‬فإ َّنــه يضــع منــذ البدايــة حــدود ًا‬
‫حلقــوق اإلنســان(((‪ ،‬إنَّــا حــدود احلــال واحلــرام‪ ،‬وحــدود‬
‫الفقــه الــذي ُيراعــي تبــدل األزمــان واألماكــن واملصالــح‬
‫فــا حريــة ُمطلقــة لإلنســان؛ بــل حريــة مقيــدة بمصالــح‬
‫ِ‬
‫ـخصية اإلنســان املميــزة عــن ســائر املخلوقــات‬
‫النــاس‪ ،‬وبشـ‬ ‫‪60‬‬
‫مــن حيــث العقــل والضمــر والشــعور‪ ،‬وال ملكيــة مفتوحة‬
‫للفــرد يف مواجهـ ِـة اآلخريــن مــن بنــي جمتمعـ ِـه‪ ،‬بــل ضوابــط‬
‫حيددهــا التكافــل االجتامعــي بــن النــاس‪ ،‬وال اســتئثار‬
‫باملــوارد والثــروات عــى حســاب الشــعوب‪ ،‬وإالَّ نقــع يف‬
‫ٍ‬
‫واســتغالل بشــع حلقــوق اإلنســان يف‬ ‫ٍ‬
‫إمربياليــة متامديــة‬
‫مناطــق حمــددة مــن العــامل(((‪.‬‬

‫((( الرشــيدي‪ ،‬أمحــد وعدنــان الســيد حســن‪ ،‬حقــوق اإلنســان يف الوطــن‬


‫العريب‪( ،‬دمشــق‪ ،‬دار الفكــر‪2002 ،‬م)‪ ،‬ص‪.18‬‬
‫(((  الســيد حســن‪ ،‬عدنــان‪ ،‬حقــوق اإلنســان يف اإلســام‪ ،‬ط‪( ،1‬بــروت‪،‬‬
‫املؤسســة اجلامعية للدراســات والنــر والتوزيع‪1426 ،‬هـــ‪2006/‬م)‪ ،‬ص‪.316‬‬
‫َّ‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫كــا َّ‬
‫أن حــرص اإلســام عــى تأكيــد املســاواة وهــدم‬
‫أهــم العوامــل التــي جعلــت‬
‫ِّ‬ ‫احلواجــز كا ّفــةكان مــن‬
‫العبيــد واملقهوريــن واملظلومــن هيرعــون إليــه‪ .‬وقــد كان‬
‫هــذا التأكيــد مــع ســلوك املســلمني دافع ـ ًا للمف ِّكــر اهلنــدي‬
‫(دهــاال)‪-1875( Maneckji Nusserwanji Dhalla‬‬
‫‪ )1956‬إىل القــول‪َّ :‬‬
‫(إن ديــن ُم َّمــد [(صــى اهلل عليــه‬
‫‪61‬‬ ‫وآلــه)] وحــده بــن أديــان العــامل هــو الــذي ظـ َّـل متحــرر ًا‬
‫مــن احلاجــز اللــوين‪ ...‬إنَّــه يفتــح ذراعيــه عــى وســعها‬
‫بمعتنقيــه أيـ ًا كانــوا زنوجـ ًا أو منبوذيــن‪ ،‬وهــو يمنــح‬
‫ترحيبـ ًا ُ‬
‫اجلميــع حقوقهــم وميزاهتــم دون حتفــظ‪ ،‬وحيتضنهــم يف‬
‫نطــاق املجتمــع مثلام حيتضنهــم يف نطاق العقيدة‪ ،‬واإلســام‬
‫يســتبعد َّ‬
‫كل حواجــز املولــد واللــون‪ ،‬ويقبــل شـتَّى معتنقيــه‬
‫ضمــن مجاعــة املســلمني عــى أســاس املســاواة االجتامعيــة‬
‫التامة)(((‪.‬‬

‫ ‪(1) Dhalla, Maneckji Nusservanji, Our Perfecting‬‬


‫‪World: Zarathushtra’s Way of Life, New York: Kessinger‬‬
‫‪Publishing LLC., 2008, p.211.‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫كذلــك َّ‬
‫فــإن غريــزة حــب الــذات التــي أودعهــا اهلل‬
‫كل إنســان‪ ،‬هــي التــي تدفعــه‬‫(جــل وعــا) يف أعــاق نفــس ِّ‬
‫إىل الدفــاع عــن حقوقـ ِـه ومحايــة مصاحلـ ِـه‪ ،‬واألوامــر الدينيــة‬
‫يف هــذا املجــال هــي مــن نــوع األوامــر اإلرشــادية التــي‬
‫الصعــاب‬‫تســاعد اإلنســان عــى خت ِّطــي العقبــات وحتمــل ِ‬
‫ّ‬
‫التــي تعــرض الدفــاع عــن احلقــوق‪ .‬فالقــرآن الكريــم‬
‫ُيشــجع مــن انت ُِهــك يش ٌء مــن حقوقـ ِـه أن جيهــر باالعــراض‬ ‫‪62‬‬
‫وإعــان ظالمتـ ِـه‪ ،‬ويف ذلــك يقــول اهلل (جــل وعــا)‪﴿ :‬الَ‬
‫ـول إالَّ مـ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ـم﴾(((‪ .‬ومــن‬ ‫ـن َال َقـ ِ َ ْ‬
‫ـن ُظلـ َ‬ ‫ـب اهللُ َا َْل ْهـ َـر بِ ُ‬
‫الســوء مـ َ‬ ‫ُيـ ُّ‬
‫ِ‬
‫مصاحلــه‬ ‫ِ‬
‫حلقوقــه والدفــاع عــن‬ ‫ســعى وحتــرك لالنتصــار‬
‫املرشوعــة‪ ،‬فإ َّنــه قــد مــارس ح َّقــه الطبيعــي وال لــوم عليــه‬
‫وال مؤاخــذة‪ ،‬وذلــك أل َّنــه أنطلــق ممــا هــو مســتقر يف قناعتـ ِـه‬
‫﴿و َلـ ِ‬
‫ـن‬ ‫ِ‬
‫وعقيدتــه ووجدانــه‪ ،‬ويف ذلــك يقــول (عـ ّـز وجــل)‪َ :‬‬
‫ِ ٍ (((‬
‫يل﴾ ‪ .‬ثـ َّ‬
‫ـم‬ ‫يهــم ِّمــن َس ـب‬ ‫لمـ ِـه َف ُأو َلئـ َ‬
‫ـك َمــا َع َل ِ‬ ‫ان َتــر بعــدَ ُظ ِ‬
‫َ َ َْ‬

‫(((  سورة النساء‪ ،‬آية‪148 :‬‬


‫(((  سورة الشورى‪ ،‬آية‪41 :‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫ِ‬
‫لبعــده ال َع َقــدي ال‬ ‫إن الدفــاع عــن حقــوق اإلنســان وفقــ ًا‬
‫َّ‬
‫يقــف عنــد حــدود املصالــح ا ُملرتبطــة بــذات الشــخص‪ ،‬بــل‬
‫أي حـ ٍّـق إنســاين ُينتهــك‪ ،‬ح َّتــى‬
‫يعنــي حتمــل املســؤولية جتــاه ِّ‬
‫َّ‬
‫أن اهلل (جــل وعــا) ُيــرض املؤمنــن عــى القتــال نُــر ًة‬
‫﴿و َمــا‬ ‫(عــز وجــل)‪َ :‬‬ ‫ّ‬ ‫للمســتضعفني‪ ،‬ويف ذلــك يقــول‬ ‫ُ‬
‫ــن الر َج ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ــون ِف َســبِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ــال‬ ‫ني م َ ِّ‬ ‫يل اهللِ َوا ُمل ْســت َْض َعف َ‬ ‫َلكُــم الَ ُت َقات ُل َ‬
‫‪63‬‬ ‫ـن َهـ ِـذ ِه‬ ‫ِ‬
‫خر ْجنَــا مـ ْ‬‫ـون َر َّبنَــا َأ ِ‬
‫ـن َي ُقو ُلـ َ‬ ‫الولــدَ ِ ِ‬
‫ان ا َّلذيـ َ‬ ‫ـاء َو ِ‬ ‫ِوالنِّسـ ِ‬
‫َ‬
‫ـك َولِ َّي ـ ًا ِواج َعــل‬‫اج َعــل َّلنَــا ِمــن َّلدُ نـ َ‬ ‫ال َقريـ ِـة ال َّظـ ِ‬
‫ـالِ َأه ُل َهــا َو ْ‬ ‫َ‬
‫ـك ن َِصــر ًا﴾(((‪.‬‬ ‫َّلنَــا ِمــن َّلدُ نـ َ‬

‫وإذا كانــت ســائر األنظمــة والترشيعــات تفتقــر إىل‬


‫نظــا ٍم ِعقــايب رادع لـ ِّ‬
‫ـكل مــن تُسـ ِّـول لــه نفســه انتهــاك حقــوق‬
‫ـظ لل ُبعــد ال َع َقــدي الذي‬ ‫الشـ ِ‬
‫ـارع احلكيــم حفـ ٌ‬ ‫اإلنســان‪ ،‬فـ َّ‬
‫ـإن َ‬
‫يقــرر قدســية مثــل هـ ِ‬
‫ـذه احلقــوق‪ ،‬وقــد قــرر نظام ـ ًا عقابي ـ ًا‬
‫إســامي ًا ُيعــد مــن أكثــر النُ ُظــم العقابيــة أصالــ ًة وتطــور ًا‬
‫ونجاعــة؛ إذ فيــه عنــارص يتفــق فيهــا مــع بقيــة قوانــن العــامل‬

‫(((  سورة النساء‪ :‬اآلية ‪.75‬‬


‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫القديــم واحلديــث‪ ،‬وفيــه عنــارص خاصــة ال ُيشــاركه فيهــا‬


‫ـك َّ‬
‫أن إقــرار هــذا النظــام‬ ‫أي قانــون مــن القوانــن‪ ،‬وال شـ َّ‬ ‫ِّ‬
‫العقــايب مــن شـ ِ‬
‫ـأنه أن حيفــظ ال ُبعــد ال َع َقــدي الــذي يتقــرر‬ ‫ِ‬

‫عــن طريقــه مكانــة هــذه احلقــوق وقدســيتها‪.‬‬

‫ثــم‪َّ ،‬‬
‫فــإن حقــوق اإلنســان ال يمكــن أن يتقــرر‬ ‫ومــن ّ‬
‫هلــا ال ُبعــد ال َع َقــدي مــا مل تكــن مســتقرة يف وجــدان النــاس‬
‫ويف ضامئرهــم‪ ،‬وذلــك بــا ُيشــكِّل عقيــدة يف فؤادهــم‬ ‫‪64‬‬
‫وتوجــه فكرهــم وتنظريهــم وتفعيلهــم‪َّ ،‬‬
‫وإن ذلــك حيتــاج‬
‫إىل جانبــن‪ :‬أحدمهــا إجيــايب يتمثــل يف تعزيــز ثقافــة حقــوق‬
‫اإلنســان والدفــاع عنهــا باســتامتة‪ ،‬وجانــب ســلبي يتمثــل يف‬
‫ردع كل مــن ال يلتــزم باحــرام وحفــظ مكانتهــا وقدســيتها‪.‬‬

‫ومــن اجلديــر بالذكــر يف هــذا املقــام رضورة التنويــه‬


‫عــى َّ‬
‫أن املبــادئ التــي حرصــت الرشيعــة اإلســامية عــى‬
‫احرتامهــا تتطــور بذاهتــا يف التطبيــق العمــي لكــي تواجــه‬
‫وتشــمل َّ‬
‫كل التطــورات التــي تُســفر عنهــا متطلبــات‬
‫احلضــارة يف مراحلهــا املختلفــة‪َّ ،‬‬
‫ألن الرشيعــة اإلســامية‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫ٍ‬
‫مــكان وزمــان وهــي‬ ‫شعــت للنــاس كا َّفــة‪ ،‬ويف ِّ‬
‫كل‬ ‫ُ ِّ‬
‫الرشيعــة اخلامتــة‪..‬‬

‫أن الديــن اإلســامي‬ ‫وأخــر ًا‪ ،‬يمكــن لنــا القــول َّ‬


‫ـره مــن املخلوقــات‪،‬‬ ‫وفضلــه عــى غـ ِ‬ ‫الــذي كـ َّـرم اإلنســان َّ‬
‫ـخر مجيــع مــا يف الكــون خلدمتـ ِـه‪ ،‬وجعلــه اهلل (جــل‬ ‫فقــد سـ َّ‬
‫ـك لِ ْل َمالَئِ َكـ ِـة إِ ِّن‬ ‫﴿وإِ ْذ َقـ َ‬
‫ـال َر ُّبـ َ‬ ‫وعــا) خليفــة لــه يف األرض‪َ :‬‬
‫‪65‬‬ ‫اعـ ٌـل ِف األَر ِ ِ‬‫ج ِ‬
‫ض َخلي َفـ ًة﴾ ‪ ،‬ال يمكــن أن يكــون قــد قـ َّ‬
‫ـر‬ ‫َ‬
‫(((‬
‫ْ‬
‫يف إقــرار حقوقـ ِـه األساســية‪ ،‬فحقــوق اإلنســان يف اإلســام‬
‫ـض ال َّطـ َ‬
‫ـرف عنهــا؛ للحيــز الذي‬ ‫ممــا ال يمكــن التغــايض أو غـ ِّ‬
‫تشــغله يف الـ َـرع املقــدس‪ ،‬ومــا هــذا الــذي عرضنــاه يف ثنايــا‬
‫ـض مــن فيـ ٍ‬
‫ـض يتَّســع احلديــث فيــه بــا ال‬ ‫البحــث ســوى غيـ ٌ‬
‫هــذه الصفحــات‪ .‬ولكــن األمــر‬ ‫ِ‬ ‫يتناســب مــع حمدوديــة‬
‫املؤســف َّ‬
‫إن هــذا اجلانــب (حقــوق اإلنســان يف اإلســام)‬
‫ـب يف ظـ ِّـل اخلالفــات احلــادة بــن املســلمني؛ ممــا جعــل‬
‫ُمغ َّيـ ٌ‬
‫ـذه احلقــوق يف اإلســام‪.‬‬‫الكثــر منهــم جيهــل وجــود هـ ِ‬

‫(((  سورة البقرة‪ ،‬آية‪30 :‬‬


‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫حقوق اإلنسان يف الفكر اإلسالمي املعاصر‪:‬‬


‫ـم القضايــا النظرية‬
‫تُعــد قضيــة حقــوق اإلنســان مــن أهـ ِّ‬
‫(إن مل تكــن أمههــا) يف الفكريــن العــريب واإلســامي‬
‫املعارصيــن‪ ،‬ذلــك َّ‬
‫أن األزمــة احلقيقيــة يف تعامــل اإلســام‬
‫مــع احلداثــة هــي أزمــة حقوقيــة‪ :‬حــق التعبــر‪ ،‬حــق حريــة‬
‫االعتقــاد واملامرســة‪ ،‬حــق احليــاة‪ ،‬وحـ ِّـق إهنائهــا‪ ،‬حــق حــدٍّ‬
‫أدنــى مــن الدخــل للفــرد‪ ،‬حــق حــدٍّ أدنــى مــن التعليــم‪ ،‬حق‬ ‫‪66‬‬
‫مســاواة املــرأة بالرجــل‪ ،‬حــق التحــرر مــن الـ ِّـرق‪ ،‬وغريهــا‬
‫مــن احلقــوق‪ ،‬التــي ُتثــل نقــاط ِصــدام أساســية مــع احلداثــة‬
‫العامليــة (وال نقــول الغربيــة) إذ حتــرك العــامل منــذ زمــن‬
‫طويــل يف اجتــاه حتريــر األرقــاء‪ ،‬ومســاواة املــرأة بالرجــل‪،‬‬
‫وحريــة التعبــر واالعتقــاد واملامرســة‪ ،‬بينــا خت َّلفــت معظــم‬
‫هــذه احلركــة؛ وذلــك َّ‬
‫ألن مجــوع‬ ‫ِ‬ ‫الــدول اإلســامية عــن‬
‫املســلمني‪ ،‬وخاصــ ًة علــاء الديــن‪ ،‬يــرون تعارضــ ًا بــن‬
‫الرشيعــة وبــن القوانــن الوضعيــة يف هــذا الصــدد‪.‬‬

‫وال يمكــن ُّ‬


‫حــل األزمــة إذا أغفلنــا اجلانــب النظــري‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫منهــا‪ ،‬كــا ال يمكــن حـ ُّـل اجلانــب النظــري مــن األزمــة إالَّ‬


‫بتحليــل جذورهــا وحماولــة ح ِّلهــا عــى هــذا املســتوى‪.‬‬

‫واملجــال األســايس الــذي يــدرس حقــوق اإلنســان يف‬


‫ِ‬
‫دائــرة املعــارف اإلســامية هــو علــم أصــول الفقــه؛ فهــو‬
‫العلــم الــذي ُيناظــر فلســفة القانــون يف الفلســفة الغربيــة مــن‬
‫جهــة‪ ،‬وفلســفة التأويــل مــن جهـ ٍـة أخــرى‪ .‬وتُعــد دراســة‬
‫‪67‬‬ ‫هــذا العلــم يف ســياق الدراســات الفلســفية النقديــة أمــر ًا‬
‫ذا أمهيــة بالغــة‪ ،‬أل َّنــه ُيــدرس بشـ ٍ‬
‫ـكل تقليــدي‪ ،‬يقــوم عــى‬
‫التكــرار وترســيخ القديــم‪ ،‬يف املعاهــد والك ِّليــات الدينيــة‪،‬‬
‫بينــا يمكــن حتليلــه وتأويــل مفاهيمــه بنــا ًء عــى مناهــج‬
‫حديثــة‪ ،‬تأويليــة وأنثروبولوجيــة واجتامعيــة ونفســية يف‬
‫أقســام الفلســفة‪ .‬وبالفعــل‪ ،‬فهــذا العلــم هــو مــا يقــرر معنــى‬
‫احلــق يف اإلســام‪ ،‬وأنــواع احلــق‪ ،‬وأقســامه‪ ،‬وأطرافــه‪ ،‬بــل‬
‫ونظريتــه العامــة‪ ،‬وإن كان بشــكل غــر مبــارش‪ .‬وحيتــاج‬
‫األمــر إىل دراسـ ٍ‬
‫ـات تســتخرج نظريــة احلــق ومفهومــه مــن‬
‫ـورة أســباب هـ ِ‬
‫ـذه األزمــة‪.‬‬ ‫هــذا العلــم‪ ،‬ملزيـ ٍـد مــن بلـ ِ‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫أهــم أســباب أزمــة حقــوق‬ ‫ويمكــن القــول َّ‬


‫بــأن مــن ِّ‬
‫اإلنســان يف الفكــر اإلســامي هــو عــدم توفــر مفهــوم احلــق‬
‫الطبيعــي يف علــم أصــول الفقــه؛ فهنــاك (حقــوق اآلدمــي)‬
‫وهــي حقــوق ُمعطــاة مــن اهلل (جــل وعــا) إىل البــر‪،‬‬
‫لكنهــا ليســت أصيلــة يف الطبيعــة البرشيــة واالجتــاع‬
‫ـم يفقــد اإلنســان اســتقالله القانــوين أمــام‬
‫اإلنســاين‪ ،‬ومــن ثـ ّ‬
‫الفقــه‪ .‬وقــد تعرضــت بعــض الكتابــات الفكرية والفلســفية‬ ‫‪68‬‬
‫هلـ ِ‬
‫ـذه املشــكلة‪ ،‬إذ هنــاك بعــض املقــاالت والفصــول املتفرقــة‬
‫حلســن حنفــي ا ُملف ِّكــر املــري‪ ،‬خاصـ ًة مــا تع َّلــق منهــا بعلــم‬
‫أصــول الفقــه يف الوقت نفسـ ِـه‪ ،‬وهنــاك كتــاب (الديمقراطية‬
‫وحقــوق اإلنســان)((( ملحمــد عابــد اجلابــري (‪-1936‬‬
‫(((‬
‫‪ ،)2010‬وهنــاك (نحــو تطويــر الترشيــع اإلســامي)‬
‫لعبــد اهلل أمحــد النعيــم تلميــذ ا ُملفكِّر الســوداين حممــود طه(((‪،‬‬

‫((( ط‪( ،2‬بريوت‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪1997 ،‬م)‪.‬‬


‫(((  ط‪( ،2‬القاهــرة‪ ،‬مركــز القاهــرة لدراســات حقــوق اإلنســان‪،‬‬
‫‪2006‬م)‪.‬‬
‫((( هــو‪ :‬حممــود حممــد طــه‪ُ ،‬مف ِّكــر ومؤ ِّلــف وســيايس ســوداين (‪-1909‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫وكذلــك ُمصنَّفــه‪Human Rights and Religious:‬‬


‫‪Values, An Uneasy Relationship? Rodopi B.V.,‬‬
‫‪, 995 ,Amsterdam, New York: NY‬‬
‫‪printed in the 1‬‬
‫‪ ..Netherlands‬كــا كتــب ٌّ‬
‫كل مــن نــر حامــد أبــو زيــد‬
‫(‪ ،)2010-1943‬وعبــد اهلل العــروي‪ ،‬وحممــد أركــون‬
‫(‪ ،)2010-1928‬وطــه عبــد الرمحــن‪ ،‬والطيــب تيزينــي‪،‬‬
‫‪69‬‬
‫‪ .)1985‬أســس مــع آخريــن احلــزب اجلمهــوري الســوداين عــام ‪1945‬‬
‫كحــزب ســيايس يدعــو إلســتقالل الســودان والنظــام اجلمهــوري‪ ،‬وبعــد‬
‫اعتـ ٍ‬
‫ـكاف طويــل خــرج منــه يف أكتوبــر ‪ 1951‬أعلــن جمموعـ ًة مــن األفــكار‬
‫ـر مــن‬
‫الدينيــة والسياســية سـ َّـمى جمموعهــا بالفكــرة اجلمهوريــة‪ .‬أخــذ كثـ ٌ‬
‫العلــاء ‪-‬عــى اختــاف مذاهبهــم‪ -‬عــى الفكــرة اجلمهوريــة وعارضوهــا‬
‫ورمــاه بعضهــم بالــردة عــن اإلســام وحوكــم هبــا مرتــن‪ُ ،‬أعــدم يف‬
‫أخرامهــا يف ينايــر ‪ 1985‬يف أواخــر عهــد الرئيــس جعفــر نمــري‪ُ .‬عــرف‬
‫بــن أتباعـ ِـه ُ‬
‫ومبيــه بلقــب (األســتاذ)‪ .‬مــا زال احلــزب اجلمهــوري ينــر‬
‫فكــره ومــا زال معارضــوه ينــرون الكتــب والفتــاوى املضــادة‪ .‬ملزيـ ٍـد مــن‬
‫التفاصيــل‪ُ ،‬ينظــر‪ :‬بشــر‪ ،‬حممــد عمــر‪ ،‬تاريــخ احلركــة الوطنيــة يف الســودان‬
‫(‪ ،)1969-1900‬ترمجــة‪ :‬هنــري ريــاض وآخــرون‪( ،‬اخلرطــوم‪ ،‬الــدار‬
‫الســودانية للكتــاب‪1400 ،‬هـــ‪1980/‬م)‪ ،‬ص ص‪.260-239‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫ٍ‬
‫مقــاالت عــن حقــوق اإلنســان يف اإلســام‪،‬‬ ‫وأدونيــس‪،‬‬
‫لكــن َّ‬
‫كل ذلــك (باســتثناء كتابــات عبــد اهلل النعيــم) إ َّمــا‬
‫ظـ َّـل متفرق ـ ًا غــر متبلــور‪ ،‬وغــر نافــذ إىل أســاس األزمــة‬
‫ا يف َف ِ‬
‫لــك‬ ‫يف الترشيــع اإلســامي نفســه‪ ،‬وإ َّمــا دار أصــ ً‬
‫ِ‬
‫هــذه‬ ‫ِ‬
‫الثقافــة الغربيــة‪ .‬إىل جانــب‬ ‫ِ‬
‫دراســة املفاهيــم يف‬
‫املقــاالت والدراســات كتــب عــدد مــن ا ُملفكِّريــن‪ ،‬الذيــن‬
‫مل يتمتــع أغلبهــم بمناهــج البحــث الفلســفي‪ ،‬أو مل يكونــوا‬ ‫‪70‬‬
‫أكاديميــن‪ُ ،‬مصنَّفــات كثــرة حتــاول بحــث قضيــة حقــوق‬
‫اإلنســان يف اإلســام‪ ،‬وانتهــوا إىل َّ‬
‫أن اإلســام قــد ســبق‬
‫املواثيــق الدوليــة يف إقــرار حقــوق اإلنســان‪ ،‬دون بحــث‬
‫املفاهيــم نفســها‪ ،‬وال نظريــة احلــق‪ ،‬وكموقـ ٍ‬
‫ـف دفاعــي ضــدَّ‬
‫اهلجــوم العلــاين والغــريب عــى املعســكر األصــويل‪ ،‬مثــل‪:‬‬
‫ُم َّمــد أبــو زهــرة (‪ ،)1974-1898‬وحممــد ِعــارة‪ ،‬وزكريا‬
‫الــري‪ ،‬وعــي عبــد الواحــد وايف (‪ ،)1991-1901‬وفــرج‬
‫حممــود حســن أبو ليــى‪ ،‬وحممــد الغــزايل (‪،)1996-1917‬‬
‫وأمحــد الرشــيدي‪ ،‬وغريهــم‪.‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫ومل يــزل جمــال حقــوق اإلنســان يف الفكــر العــريب‬


‫املعــارص جمــاالً بِكــر ًا‪ ،‬حيتــاج إىل مزيـ ٍـد مــن العقليـ ٍ‬
‫ـات الشــابة‬
‫والنقديــة املتخصصــة‪ ،‬ال تــرى بــد ًا مــن دراســة العلــوم‬
‫اإلســامية‪ ،‬إذا كان اهلــدف هــو نقــد الثقافــة‪ ،‬وتطويرهــا‪،‬‬
‫واالجتــاه نحــو حداثـ ٍـة عربيــة ذات أســاس نظــري مكــن‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫املبحث الثالث‬

‫دراسة مقارنة بني الفكرين‬


‫الغربي واإلسالمي‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫ُيشــر املــوروث اإلســامي الــذي ال يــزال بــن أيدينــا‬


‫ـم األمــة املســلمة‪ ،‬هــي‬ ‫عــى َّ‬
‫أن الديــن اإلســامي‪ ،‬ومــن ثـ َّ‬
‫أول األمــم التــي امتلكــت وثائــق ترعــى حقــوق اإلنســان‬
‫وتُن ِّظــم شــؤونه وعالقاتــه بعضهــا لبعــض‪ ،‬ومــع غــر‬
‫املســلمني‪ ،‬وكــذا العالقــة بــن املجتمــع والدولــة اإلســامية‬
‫‪75‬‬ ‫ممثلــ ًة بحكومتهــا‪.‬‬

‫وليــس جديــد ًا أن نقــول‪َّ :‬‬


‫إن أول تلــك الوثائــق‬
‫وأعمقهــا‪ ،‬بــل وأقدمهــا وأرقاهــا اهتاممــ ًا باإلنســان مــن‬
‫حيــث كونـ ِـه إنســان ًا‪ ،‬فض ـ ً‬
‫ا عــن تثبيــت مــا ل ـ ُه ومــا عليــه‪،‬‬
‫ّ‬
‫(جــل جاللــه)‬ ‫هــي وثيقــة القــرآن الكريــم‪ ،‬كتــاب اهلل‬
‫ا ُملنـ َّـزل عــى رسـ ِ‬
‫ـوله الكريــم ُم َّمــد (صــى اهلل عليــه وآلــه)‪،‬‬
‫إذ ن َّظمــت كل مــا يتع َّلــق باإلنســان‪ ،‬أكان فــرد ًا أو أرسة أم‬
‫جمتمع ـ ًا‪ ،‬بشـ ٍ‬
‫ـكل ال يقبــل التجــاوز عــى حقــوق غــره‪ ،‬وال‬
‫اســتالهبا مــن قبــل الســلطات احلاكمــة‪.‬‬
‫إذ ال يســع املجــال هنــا إليــراد مجيــع مــا جــاء ِ‬
‫بــه‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫ـات بينـ ٍ‬
‫ـات ن َّظمــت شــؤون األفــراد‬ ‫القــرآن الكريــم مــن آيـ ٍ‬

‫واملجتمعــات‪ ،‬فإننــا ســنورد أمثلــ ًة عــى ذلــك‪ ،‬ومنهــا‪:‬‬


‫أوالً‪ :‬قــال (جــل وعال)‪َ ﴿ :‬ل َقــد َأرســلنَا رسـ َلنَا بِالبين ِ‬
‫َت‬ ‫َ ِّ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َ‬
‫القسـ ِ‬ ‫َان لِي ُقــوم النَّــاس بِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـط﴾(((‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ـب َوامليـز َ َ َ‬ ‫َو َأنزَلنَــا َم َع ُهـ ُ‬
‫ـم الك َتـ َ‬
‫ــل عــى‬ ‫أن اإلســام أول مــن دعــى و َع ِم َ‬ ‫هنــا نُالحــظ َّ‬
‫ِ‬
‫حفــظ حقــوق اإلنســان‪ ،‬وتأمــن مصاحلــه‪ ،‬وكاملــه يف‬
‫الدنيــا واآلخــرة(((‪ .‬إذ تُشــر اآليــة إىل َّ‬
‫أن اهلل (جــل وعــا)‬ ‫‪76‬‬
‫ولدرجـ ِـة اهتاممـ ِـه بــأن تســود العدالــة بــن النــاس‪ ،‬فهــو مل‬
‫نــزل معهــم الكتــب الســاوية هلدايــة‬
‫الر ُســل و ُي ِّ‬
‫ُيرســل ُ‬
‫النــاس فحســب‪ ،‬بــل وأنــزل معهــا امليــزان الــذي ُيمثــل‬
‫عدالــة الســاء يف األرض‪ ،‬وذلــك للحكــم بــن النــاس‬
‫بشـ ٍ‬
‫ـكل متســاوي ليأخــذ َّ‬
‫كل ذي حـ ٍّـق ح َّقــه بالعــدل‪ ،‬وليــس‬
‫بالتاميــز بحســب اجلنــس واللــون واملكانــة اإلجتامعيــة‪.‬‬

‫(((  سورة احلديد ‪ :‬اآلية ‪.25‬‬


‫((( املالكــي‪ ،‬فاضــل‪ ،‬حقــوق اإلنســان‪( ،‬طهــران‪َّ ،‬‬
‫مؤسســة البحــوث‬
‫والدراســات اإلســامية‪2012 ،‬م)‪ ،‬ص‪.11‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫وج ِهــم‬ ‫ـن ُهــم لِ ُف ُر ِ‬ ‫ِ‬


‫﴿وا َّلذيـ َ‬
‫ثاني ـ ًا‪ :‬قولــه (جــل وعــا)‪َ :‬‬
‫ـم َف َّإنُـ ْ‬
‫ـم‬ ‫زو ِ‬
‫اج ِهــم َأو َمــا َم َل َكــت َأ َيم ُنُـ ْ‬ ‫َح ِف ُظـ َ‬
‫ـون * إِالَّ َعـ َـى َأ َ‬
‫ومــن﴾(((‪ .‬هنــا يلتفــت الــرع املقــدس إىل مسـ ٍ‬
‫ـألة‬ ‫َغــر م ُل ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬
‫مهمــة يف حقــوق األفــراد‪ ،‬تلــك هــي الغريــزة اجلنســية التــي‬
‫ألن عــدم التنظيــم‬ ‫ـيطرة عليهــا عــر تنظيمهــا‪َّ ،‬‬ ‫ال بــدَّ مــن السـ ِ‬

‫بــل والتقيــد يف بعــض جوانبهــا ســيجعلها ســائبة‪ ،‬فتــؤدي‬


‫‪77‬‬ ‫إىل إحــداث مشــاكل اجتامعيــة عديــدة‪ ،‬يكــون نِتاجهــا‬
‫تفــكك املجتمــع وانتشــار األمــراض فيــه‪ ،‬لــذا فقــد ق َّيدهــا‪،‬‬
‫ووضــع هلــا رشوط ـ ًا مــن شــأهنا أن جتعــل ممارســتها مقرتن ـ ًة‬
‫بالتنظيــم املــروع‪ ،‬كــي ال تتحــول املــرأة عــن طريقهــا إىل‬
‫كائــن ُمبتــذل ال ُينظــر إليـ ِـه إالَّ جســد ًا ورغبــة‪ ،‬وعليــه فـ َّ‬
‫ـإن‬
‫ِ‬
‫لنفســه الســعادة‪،‬‬ ‫وي ِّقــق‬
‫مــن أراد أن يســلم مــن املخاطــر ُ‬
‫فــا بــدَّ لــه مــن قيــود ُتــدد غرائــزه وتُن ِّظمهــا(((‪.‬‬
‫ـارع املقــدس عنــد ذلك‪ ،‬بــل َشـ ِ‬
‫ـم َل الغرائز‬ ‫الشـ ِ‬
‫ومل يقــف َ‬

‫(((  سورة املؤمنون‪ :‬اآليات ‪.6 - 5‬‬


‫((( املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.14‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫اإلنســانية ك َّلهــا‪ ،‬ليجعلهــا ُمن َّظمــة و ُمنســجمة مــع حركــة‬


‫ِ‬
‫وتطــوره‪ .‬فلــو أخذنــا األكل عــى ســبيل املثــال‪،‬‬ ‫املجتمــع‬
‫أن اخلالــق (عـ ّـز وجــل) قــد وضــع قيــود ًا عليـ ِـه حددهــا‬ ‫لرأينــا َّ‬
‫ِ‬
‫﴿و ُك ُلــو ْا َو َ‬
‫ارش ُبــو ْا‬ ‫بعــدم اإلرساف‪ ،‬بقولــه (جــل وعــا)‪َ :‬‬
‫ــن﴾(((‪َّ .‬‬ ‫ُرس ُفــو ْا إِنَّــه الَ ُيِــب ا ُمل ِ ِ‬
‫َوالَ ت ِ‬
‫ألن اإلرساف‬ ‫رسف َ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫ســيؤدي إىل اإلرضار باجلوانــب االقتصاديــة للمجتمــع‪ ،‬كــا‬
‫أن مــن نتائجـ ِـه حصــول حالــة اإلشــباع واالكتفــاء عنــد طبقـ ٍـة‬
‫َّ‬ ‫‪78‬‬
‫دون أخــرى فينشــأ التاميــز الطبقــي بــن األفــراد‪ ،‬وعندهــا ال‬
‫تتحقــق العدالــة يف املجتمــع‪.‬‬

‫(عــز وجــل)‬ ‫َّ‬


‫إن فكــرة التقييــد التــي وضعهــا اخلالــق ّ‬
‫ِ‬
‫إلســعاده‪ ،‬فــإذا‬ ‫ِ‬
‫إلرضاره بــل‬ ‫عــى اإلنســان‪ ،‬هــي ليســت‬
‫كانــت يف الديــن بعــض القيــود وا ُملحــددات‪ ،‬فهــذا ِّ‬
‫بــكل‬
‫تأكيــد موجــه لســعادة اإلنســان يف الدنيــا واآلخــرة‪َّ ،‬‬
‫ألن‬
‫إطــاق العنــان لغرائــز اإلنســان ســيؤدي إىل إحــداث‬

‫(((  سورة األعراف‪ :‬اآلية ‪.31‬‬


‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫أرضار كبــرة عــى مســتوى األفــراد واملجتمعــات(((‪.‬‬

‫ثالثــ ًا‪ :‬قــال (جــل وعــا)‪﴿ :‬الَ‪ ‬إِك َْرا َه ِ‪ ‬ف‪ ‬الدِّ ِ‬


‫ين‪َ  ‬قــد‬
‫ـذه اآليــة تتعــرض للحريــة‬ ‫َّتبــن الر ْشــدُ ِمــن ا ْل َغــي﴾(((‪ .‬هـ ِ‬
‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ َ ُّ‬
‫الفكريــة واالعتقاديــة‪ ،‬ومتنــح كلامهتــا القليلــة اإلنســان‬
‫حريتــه فيــا يعتقــد‪ ،‬عــى أن ال ُيرب عىل الدخول يف اإلســام‬
‫ُمكره ـ ًا‪ ،‬وهــذا مــا ال يرضــاه اهلل (عـ ّـز وجــل)‪ ،‬وال رســوله‬
‫‪79‬‬ ‫الكريــم (صــى اهلل عليــه وآلــه) الــذي هنــى عــن ذلــك‪ ،‬بــل‬
‫َّ‬
‫إن النبــي (صــى اهلل عليــه وآلــه وســلم) والصحابــة مــن‬
‫ِ‬
‫بعــده مل يســتعملوا اإلجبــار واإلكــراه‪ ،‬وقــد ظهــر ذلــك‬
‫واضح ـ ًا يف تعاملهــم مــع األقليــات املوجــودة يف املجتمــع‬
‫اإلســامي مــن نصــارى وهيــود‪ ،‬ولــو كان هنــاك إكــرا ٌه يف‬
‫االعتقــاد لــكان إجبــار األكثريــة احلاكمــة لألقليــات التــي‬
‫خضعــت حتــت ســلطتهم أمــر ًا هينــ ًا‪ ،‬وملــا أوىص الديــن‬

‫((( املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.15‬‬


‫(((  سورة البقرة‪ ،‬آية‪256 :‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫ِ‬
‫وهــذه‬ ‫باإلحســان إليهــم والتعايــش الســلمي معهــم(((‪.‬‬
‫أهــم مرتكــزات احلريــة الفكريــة‬
‫ِّ‬ ‫بــا شــك واحــدة مــن‬
‫التــي أوجدهــا اإلســام وســار عليهــا املجتمــع اإلســامي‬
‫ِ‬
‫عــره األول عــر النبــوة(((‪.‬‬ ‫والســ َّيام يف‬
‫رابعــ ًا‪ :‬قولــه (جــل وعــا)‪َ ﴿ :‬ق َال‪ ‬فِرعو ُن‪ ‬آمنتُــم بِ ِ‬
‫ــه‬ ‫ْ َْ َ‬
‫ـم إِ َّن َٰهـ َـذا َل ْكـ ٌـر َّمك َْر ُتُــو ُه ِف ا َْل ِدينَـ ِـة لِتُخْ ِر ُجــوا‬
‫َق ْبـ َـل َأ ْن آ َذ َن َل ُكـ ْ‬
‫ـون﴾(((‪ .‬وقــد وردت هـ ِ‬
‫ـذه اآليــة‬ ‫ف َت ْع َل ُمـ َ‬ ‫ِمن َْهــا َأ ْه َل َهــا َف َسـ ْـو َ‬ ‫‪80‬‬
‫بصيغــة النقــد لفعــل فرعــون‪ ،‬دا ّلــة عــى أنَّــه قــد صــادر‬ ‫ِ‬

‫حياهتــم وإرادهتــم التــي كان يــرى َّأنــا لــه وحــده‪ ،‬يف حــن‬
‫َّ‬
‫أن القــرآن الكريــم يريــد لإلنســان أن يكــون صاحــب رأي‬

‫((( رشيعتــي‪ ،‬روح اهلل‪ ،‬فقــه التعايــش‪ ..‬غــر املســلمني يف املجتمــع‬


‫اإلســامي‪ ..‬حقوقهــم وواجباهتــم‪ ،‬تعريــب‪ :‬عــي آل دهــر اجلزائــري‪،‬‬
‫(بــروت‪ ،‬مركــز احلضــارة لتنميــة الفكــر اإلســامي‪2009 ،‬م)‪ ،‬ص‪.14‬‬
‫((( لإلطــاع عــى ســبب نــزول هـ ِ‬
‫ـذه اآليــة وتفســرها‪ُ ،‬ينظر‪ :‬الشــرازي‪،‬‬
‫مؤسســة‬
‫نــارص مــكارم‪ ،‬األمثــل يف تفســر كتــاب اهلل املنــزل‪( ،‬بــروت‪َّ ،‬‬
‫األعلمــي للمطبوعــات‪2007 ،‬م)‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.95-91‬‬
‫(((  سورة األعراف‪ ،‬آية‪123 :‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫ٍ‬
‫حــر غــر مســلوب اإلرادة يف التفكــر والتدبــر والعمــل‪،‬‬
‫فاخلالــق يــرى َّ‬
‫أن مــن حـ ِّـق الفــرد تبنِّــي اآلراء التــي يؤمــن‬
‫أن ليــس مــن حـ ِّـق أتباعـ ِـه‬
‫هبــا‪ ،‬يف حــن كان فرعــون يــرى َّ‬
‫تبنِّــي اآلراء لوحدهــم‪ ،‬بــل ال بــدَّ هلــم مــن أن يســتمعوا إىل‬
‫ِ‬
‫ذاتــه مصــادرة‬ ‫ِ‬
‫بوصفــه احلاكــم‪ ،‬وهــذا بحــدِّ‬ ‫الــرأي منــه‬
‫للــرأي الــذي مل يرتضـ ِـه الديــن اإلســامي‪.‬‬
‫‪81‬‬ ‫جســد اإلمــام عــي بــن أيب طالــب (عليــه الســام)‬
‫وقــد َّ‬
‫موضــوع حريــة الــرأي واحــرام آراء الرعيــة‪ ،‬رغــم كونـ ِـه‬
‫حاك ـ ًا وذا ســلطة‪ ،‬بقولـ ِـه‪ِّ :‬‬
‫(إن ألعلــم بــا يصلــح أمركــم‪،‬‬
‫ولكــن هيهــات أن أفعــل ذلك بفســاد نفيس)(((‪ .‬وهــذا يعني‬
‫أن اإلمــام (عليــه الســام) لــو اســتعمل هــذا األســلوب مــع‬ ‫َّ‬
‫رعيتـ ِـه‪ ،‬فقــد يكــون فيــه إصــاح أمــر حكومتـ ِـه‪ ،‬ولكــن بــا‬
‫شــك ســيكون عــى حســاب قيمـ ِـه ومبادئـ ِـه ودينـ ِـه(((‪.‬‬

‫((( ابــن أيب احلديــد‪ ،‬عــز الديــن عبــد احلميــد بــن هبــة اهلل‬
‫(ت‪656‬هـــ‪1258/‬م)‪ ،‬رشح هنــج البالغــة‪( ،‬القاهــرة‪ ،‬دار إحيــاء الكتــب‬
‫العربيــة‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،).‬ج‪ ،2‬ص‪.102‬‬
‫((( املالكي‪ ،‬حقوق اإلنسان‪ ،‬ص‪.251‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫أ َّمــا الوثيقــة اإلســامية الثانيــة‪ ،‬فتتمثــل يف أحاديــث‬


‫النبــي (صــى اهلل عليــه وآلــه)‪ ،‬وكذلــك وثيقــة املدينــة املنورة‬
‫التــي ن َّظمــت العالقــة بــن املســلمني بعضهــم ببعــض‪ ،‬ومــع‬
‫غــر املســلمني‪ ،‬التــي م َّثلــت أرقــى صــور احــرام حقــوق‬
‫اإلنســان رغــم ق َّلـ ِـة عــدد موادهــا(((‪.‬‬

‫ومــن األحاديــث النبويــة التــي عاجلــت بــل واهتمــت‬


‫بحقــوق اإلنســان االجتامعيــة واإلنســانية واألخالقيــة‪،‬‬ ‫‪82‬‬
‫وحــددت عالقــة املســلم بأخيـ ِـه املســلم‪ ،‬وأ َّكــدت عــى عــدم‬
‫التجــاوز عــى حقــوق اآلخريــن‪ ،‬قولــه (صــى اهلل عليــه‬
‫ـال أخيـ ِـه إالَّ مــا أعطــا ُه مــن طيـ ِ‬
‫ـب‬ ‫وآلــه)‪( :‬ال حيـ ُّـل ألمـ ٍ‬
‫ـرئ مـ ُ‬
‫ِ‬ ‫نفـ ٍ‬
‫ـس منـ ُه‪ ،‬فــا َت ْظل َمـ َّن أن ُفســكم) ‪ .‬هــذا احلديث ِّ‬
‫يؤســس‬ ‫(((‬

‫((( عــن وثيقــة املدينــة والدراســات التــي ُقدمــت حوهلــا‪ُ ،‬ينظــر‪ :‬مركــز‬
‫دراســات الكوفــة‪ ،‬وثيقــة املدينــة‪( ،‬األعــال الكاملــة ألبحــاث املؤمتــر‬
‫العلمــي الســنوي األول ملركــز دراســات الكوفــة‪ ،‬شــباط‪2012/‬م)‪،‬‬
‫مؤسســة النــراس للطباعــة والنــر والتوزيــع‪2012 ،‬م‪3 ،‬ج‪.‬‬
‫النجــف‪َّ ،‬‬
‫((( احلاكــم النيســابوري‪ ،‬أبــو عبــد اهلل م ُ َّمــد بــن عبــد اهلل‬
‫(ت‪405‬هـــ‪1014/‬م)‪ ،‬ا ُملســتدرك عــى الصحيحــن‪( ،‬بــروت‪ ،‬دار‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫حلســن العالقــة بــن املســلمني ويــؤرش ُأســس التعامــل فيــا‬


‫ُ‬
‫بينهــم‪ ،‬والســ َّيام مــا يتع َّلــق منــه بأمــوال اآلخريــن التــي‬
‫تــأت بــرىض وطيــب خاطــر‪.‬‬ ‫تكــون ُمرمــة مــا مل ِ‬

‫ونجــد يف حديــث آخــر نبــذ ًا للتفرقــة والتمييــز بــن‬


‫املســلمني‪ ،‬بــل وبــن البــر عــى أســاس اللــون أو اجلنس أو‬
‫يب عــى‬ ‫ِ‬
‫الطائفــة‪ ،‬بقولــه (صــى اهلل عليــه وآلــه)‪( :‬ليــس لعــر ٍّ‬
‫‪83‬‬ ‫ـض عــى أســود فضــل إالَّ بالتقــوى)(((‪،‬‬ ‫أعجمــي‪ ،‬وال ألبيـ ٍ‬
‫ِ‬
‫بوصفــه‬ ‫وهــذه أجدهــا صيغــة متقدمــة الحــرام اإلنســان‬‫ِ‬

‫إنســان ًا‪ ،‬بعيــد ًا عــن لونـ ِـه وجنسـ ِـه وقوميتـ ِـه وطائفتـ ِـه‪ ،‬إذ مل‬
‫يضــع النبــي الكريــم (صــى اهلل عليــه وآلــه) إالَّ ضابطــة‬
‫واحــدة للتفريــق بينهــم‪ ،‬وهــو التقــوى‪ ،‬أي اإللتــزام‬
‫ِ‬
‫واجباتــه‬ ‫ِ‬
‫مبادئــه وأداء‬ ‫باإلســام الصحيــح‪ ،‬وتطبيــق‬
‫واجتنــاب نواهيــه‪.‬‬

‫الكتب العلمية‪1990 ،‬م)‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.171‬‬


‫((( املجلــي‪ ،‬م ُ َّمــد باقــر (ت‪1111‬هـــ‪1698/‬م)‪ ،‬بحــار األنــوار‪،‬‬
‫مؤسســة الوفــاء‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،).‬ج‪،1‬‬
‫حتقيــق‪ :‬عبــد القــادر عطــا‪( ،‬بــروت‪َّ ،‬‬
‫ص ‪.171‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫وحــدد النبــي األكــرم (صــى اهلل عليــه وآلــه) يف حديـ ٍ‬


‫ـث‬
‫آخــر العالقــة بــن الســيد والعبــد‪ ،‬ضامنــ ًا بذلــك حقــوق‬
‫العبــد‪ ،‬بقولـ ِـه (صــى اهلل عليــه وآلــه)‪( :‬إخوانكــم حولكــم‪،‬‬
‫جعلهــم اهلل حتــت أيديكــم‪ ،‬فمــن كان أخــوه حتــت ِ‬
‫يــده‬
‫فل ُيطعمــه ممــا يــأكل‪ ،‬ول ُيلبســه ممــا يلبــس‪ ،‬وال تُك ِّلفوهــم مــا‬
‫يغلبهــم)(((‪.‬‬

‫أن النبــي (صــى اهلل عليــه وآلــه) قــد‬ ‫كــا ال خيفــى َّ‬ ‫‪84‬‬
‫ـم الواجبــات‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ســاوى بــن الرجــل واملــرأة يف واحــدة مــن أهـ ِّ‬
‫وهــي احلصــول عــى العلــم وطلبـ ِـه‪ ،‬بقولـ ِـه‪( :‬طلــب ِ‬
‫العلــم‬ ‫ُ‬
‫ـف (صــى‬ ‫كل مســل ٍم ومســلمة)(((‪ .‬فلــم يكتـ ِ‬ ‫فريض ـ ٌة عــى ِّ‬
‫اهلل عليــه وآلــه) بتوجيــه طلــب العلــم بــل رفــع مــن أمهيتـ ِـه‬

‫(((  البخــاري‪ ،‬أبــو عبــد اهلل م ُ َّمــد بــن إســاعيل (ت‪256‬هـــ‪870/‬م)‪،‬‬


‫األدب املفــرد‪ ،‬حتقيــق‪ :‬حممــد فــؤاد عبــد الباقــي‪ ،‬ط‪( ،3‬بــروت‪ ،‬دار‬
‫البشــائر اإلســامية‪1409 ،‬هـــ‪1989/‬م)‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.76‬‬
‫(((  الطــراين‪ ،‬أبــو القاســم ســليامن بــن أمحــد (ت‪360‬هـــ‪918/‬م)‪،‬‬
‫املعجــم الوســيط‪ ،‬حتقيــق‪ :‬طــارق عــوض اهلل‪( ،‬القاهــرة‪ ،‬دار احلرمــن‪،‬‬
‫‪1415‬هـــ‪1995/‬م)‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.297‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫بــأن جعلــه واحــد ًا مــن الفرائــض الواجــب أداؤهــا‪ ،‬والتــي‬


‫ســاوى فيهــا ويف حتصيلهــا بــن الرجــل واملــرأة‪ ،‬بعيــد ًا عــن‬
‫التمييــز عــى أســاس اجلنــس‪.‬‬

‫ا عــا تقــدم‪ ،‬فـ َّ‬


‫ـإن هنــاك العديــد مــن الوثائــق التــي‬ ‫فضـ ً‬
‫عــدد مــن أئمــة أهــل بيــت النبــي (عليهــم‬‫ٍ‬ ‫صــدرت عــن‬
‫الســام)‪ ،‬فيهــا تأكيــد عــى حقــوق اإلنســان وتأكيــد عــى‬
‫‪85‬‬ ‫عــدم التجــاوز عليهــا‪ ،‬ويــأيت يف مقدمتهــا عهــد اإلمــام‬
‫عــي بــن أيب طالــب (عليــه الســام) إىل عاملــه عــى مــر‬
‫(موضــوع بحثنــا) الــذي ُيعــد دســتور ًا ُين ِّظــم عالقــة احلاكــم‬
‫ويــدد ُأســس العالقــة معهــم وال يســمح للحاكــم‬ ‫بالرعيــة‪ُ ،‬‬
‫بالتجــاوز عليهــم(((‪.‬‬

‫حلســن‬
‫كــا تُعــد رســالة احلقــوق لإلمــام عــي بــن ا ُ‬
‫زيــن العابديــن (عليهــم الســام) وثيقــة مهمــة ُعنيــت‬

‫(((  للمزيــد عــن عهــد اإلمــام ملالــك األشــر‪ُ ،‬ينظــر‪ :‬ســوادي‪ ،‬فليــح‪،‬‬
‫عهــد اخلليفــة اإلمــام عــي بــن أيب طالــب (عليــه الســام) لواليـ ِـه عــى مــر‬
‫مالــك األشــر‪( ،‬النجــف األرشف‪ ،‬العتبــة العلويــة‪2010 ،‬م)‪.‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫ٍ‬
‫بشــكل عــام وليــس املســلم فحســب‪،‬‬ ‫بحقــوق اإلنســان‬
‫تضمنــت مخســون حق ـ ًا‪ ،‬شــملت حيــاة اإلنســان وكل‬ ‫فقــد َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مــا يتع َّلــق بحريتــه وعقيدتــه وفكــره وتعليمــه‪ ،‬كــا َّ‬
‫تضمنــت‬
‫بعــض احلقــوق ُأســس العالقــة داخــل املجتمــع‪ ،‬إذ ر َّكــزت‬
‫عــى حقــوق الوالــد عــى الولــد‪ ،‬والزوجــة عــى الــزوج‪،‬‬
‫وا ُملع ِّلــم عــى ا ُملتع ِّلــم‪ ..‬وغريهــا(((‪.‬‬

‫وباالنتقــال إىل حقــوق اإلنســان يف الفكــر الغــريب‪ ،‬فـ َّ‬


‫ـإن‬ ‫‪86‬‬
‫التاريــخ ُيســجل لنــا َّ‬
‫أن وثيقــة العهــد الكبــر (املاغنــا كارتــا)‬
‫هــي أقــدم وثيقــة يعــود تاريــخ صدورهــا إىل عــام ‪1215‬م‪،‬‬
‫ُفصــل يف حقــوق اإلنســان‪ ،‬بــل حــددت‬
‫وهــي مــع ذلــك مل ت ّ‬
‫مــن ســلطات امللــك واألرشاف ورجــال الديــن‪ ،‬ممــا عُــدَّ‬
‫ذلــك انتصــار ًا لصالــح الشــعب(((‪.‬‬

‫ٍ‬
‫ملزيــد مــن التفاصيــل حــول رســالة احلقــوق ورشحهــا‪ُ ،‬ينظــر‪:‬‬ ‫(((‬
‫القبانجــي‪ ،‬حســن الســيد عــي‪ ،‬رشح رســالة احلقــوق‪ ،‬ط‪( ،3‬قــم‪ ،‬مطبعــة‬
‫إســاعيليان‪1416 ،‬هـــ‪1996/‬م)‪ ،‬ج‪.3-2‬‬
‫ ‪(2) Sandoz, Ellis, The Roots of Liberty, London: Liberty‬‬
‫‪Fund Inc.; Liberty Fund Ed edition, p.81.‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫وصــدرت بعــد ذلــك بقــرون وثائــق ُعنيــت بحقــوق‬


‫اإلنســان مــن ٍ‬
‫دول عــدَّ ة‪ ،‬كل عــى انفــراد‪ ،‬مثــل ميثــاق‬
‫احلقــوق اإلنكليــزي عــام ‪1668‬م(((‪ ،‬وميثــاق احلقــوق‬
‫األمريكــي‪ ،‬الــذي صــدر بعــد إعــان اســتقالل الواليــات‬
‫املتحــدة األمريكيــة عــن بريطانيــا يف ‪/4‬متــوز‪1776/‬م(((‪،‬‬
‫يف حــن جــاء إعــان احلقــوق الفرنــي يف أعقــاب الثــورة‬
‫‪87‬‬ ‫الفرنســية يف ‪/26‬آب‪1789/‬م(((‪.‬‬

‫إن قانونــ ًا من َّظــ ًا حيظــى بالقبــول الــدويل العــام مل‬


‫بيــد َّ‬
‫يصــدر إالَّ يف عــام ‪1948‬م‪ ،‬إذ صــدر اإلعــان العاملــي‬
‫حلقــوق اإلنســان عــن اجلمعيــة العامــة لألمــم املتحــدة يف‬
‫العــارش مــن كانــون األول‪ ،‬والــذي و َّقعــت عليــه يف حينـ ِـه‬

‫(((  ســيف الدولــة‪ ،‬عصمــت‪ ،‬النظــام النيــايب ومشــكلة الديمقراطيــة‪،‬‬


‫ص‪.82‬‬
‫(((  العمري‪ ،‬أمحد سويلم‪ ،‬جمال الرأي العام واإلعالم‪ ،‬ص‪.84‬‬
‫(((  ســيف الدولــة‪ ،‬عصمــت‪ ،‬النظــام النيــايب ومشــكلة الديمقراطيــة‪،‬‬
‫ص‪.115‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫ثــان وأربعــن دولــة‪ ،‬متضمن ـ ًا ديباجــة وثالثــون مــادة(((‪.‬‬

‫ممــا تقــدم نســتنتج َّ‬


‫أن الفارقــة الزمنيــة بــن أول ترشيــع‬
‫إســامي حلقــوق اإلنســان ممثــ ً‬
‫ا بالقــرآن الكريــم‪ ،‬وأول‬
‫وثيقــة غربيــة تُعنــى بجانــب مــن حقــوق اإلنســان هــو مــا‬
‫يقــرب عــن ســتة قــرون‪ ،‬يف حــن شـكَّلت الفاصلــة الزمنيــة‬
‫بــن أول وثيقــة إســامية ن َّظمــت حقــوق اإلنســان‪ ،‬والوثيقة‬
‫الغربيــة ا ُملن َّظمــة ا ُملتمثلــة باإلعــان العاملــي حلقــوق اإلنســان‬ ‫‪88‬‬
‫مــا يزيــد عــى اثنــي عــر قرن ـ ًا‪ ،‬وهــذا مــا يــدل عــى ِقــدَ م‬
‫الترشيــع اإلســامي املعنــي هبــذا املجــال‪.‬‬

‫والســؤال الــذي يطــرح نفســه بإحلــاح‪ ،‬ملــاذا تأخــرت‬


‫املجتمعــات اإلســامية يف ممارسـ ِـة حقوقهــا والتمتــع هبــا ؟‬

‫واإلجابــة عــن ذلــك ُيعيدنــا إىل طبيعــة الدولــة‬


‫اإلســامية يف هنايــة العهــد الراشــدي‪ ،‬وهــي التــي َشـ ِـهدَ ت‬

‫(((  اجلــدة‪ ،‬رعــد ناجــي وآخــرون‪ ،‬حقــوق اإلنســان والديمقراطيــة‪،‬‬


‫(بغــداد‪ ،‬وزارة التعليــم العــايل والبحــث العلمــي‪2009 ،‬م)‪ ،‬ص‪.43‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫ِ‬
‫ملقاتلتــه‬ ‫متــرد الــوايل عــى اخلليفــة‪ ،‬وحتشــيده اجليــوش‬
‫واغتصــاب احلكــم منــه‪ ،‬ذلــك احلكــم الــذي تس ـ َّلمه وفق ـ ًا‬
‫ِ‬
‫بأكملــه ذلــك هــو‬ ‫قــر يف خــال العهــد الراشــدي‬‫ملبــدأ ُأ َّ‬
‫مبــدأ أو قاعــدة الشــورى‪.‬‬

‫اجتهــت أمــور الدولــة الدينيــة والسياســية بعــد ذلــك‬


‫وحتديــد ًا يف العهديــن األمــوي والعبــايس‪ ،‬اجتاهــ ًا مغايــر ًا‬
‫‪89‬‬ ‫السـنَّة‬
‫للمبــادئ التــي جاء هبــا القرآن الكريــم وأكَّدت عليها ُ‬
‫ِ‬
‫عتقده‪،‬‬ ‫النبويــة‪ ،‬والتــي متثلــت باحــرام اإلنســان وحريتـ ِـه و ُم‬
‫التــي منحتــه جمــاالً واســع ًا للتعبــر عــن رأيـ ِـه‪ ،‬كــا هنجــت‬
‫طريقــ ًا جديــد ًا يف التــداول الســلمي للســلطة‪ .‬فابتعــدت‬
‫القيــادة الدينيــة السياســية التــي متثــل قمــة هــرم الســلطة يف‬
‫الدولــة اإلســامية كثــر ًا عــن هـ ِ‬
‫ـذه املبــادئ‪ ،‬وعملــت عــى‬
‫بأنــم إ َّنــا حيكموهنــم ويسوســوهنم بحســب‬
‫إقنــاع النــاس َّ‬
‫نظريــة احلـ ِّـق اإلهلــي‪ ،‬بوصــف اخلليفــة ظــل اهلل يف األرض‪.‬‬

‫وراح معاويــة بــن أيب ســفيان (‪20‬ق‪.‬هـــ‪-.‬‬


‫ـده احلـكَّام األمويــن بتهيئــأِ‬
‫‪60‬هـــ‪680-603/‬م) ومــن بعـ ِ‬
‫ُ‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫طبقـ ٍـة مــن الــرواة ورجــال الديــن‪ ،‬مــن الذيــن أغــدق عليهــم‬
‫العطايــا لتدويــن الروايــات التــي حتــط مــن مكانــة اخلليفــة‬
‫(عــي بــن أيب طالــب عليــه الســام) وتُق ِّلــل مــن شـ ِ‬
‫ـأنه‪ ،‬حتَّى‬
‫بلــغ بـ ِـه األمــر إىل أن أمــر بسـ ِّب ِه عــى املنابــر ويف أوقــات ِّ‬
‫كل‬
‫أذان‪ ،‬وبــذا اســتغل معاويــة هــؤالء الــرواة يف ســبيل إجيــاد‬
‫تربيــر دينــي لســلطان بنــي أميــة‪ ،‬وكذلــك لكبــح اجلامهــر‬
‫عــن القيــام بالثــورة بــراد ٍع داخــي وهــو الديــن نفســه(((‪.‬‬ ‫‪90‬‬
‫ونتيج ـ ًة لسياســة حتطيــم اإلطــار الدينــي‪ ،‬التــي اتبعهــا‬
‫معاويــة ُيعاونــه فيهــا طائفــة مــن رواة األحاديــث املكذوبــة‪،‬‬
‫وســلبت إرادة النــاس يف التعبــر عـ َّـا‬
‫فقــد ك ُِّممــت األفــواه‪ُ ،‬‬
‫يعتقــدون‪ ،‬األمــر الــذي جعــل أغلــب النــاس يعتقــدون‬
‫وخــارج عــن‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫عمــل حمظــور‬ ‫أن الثــورة عــى األمويــن‬
‫الديــن‪ ،‬وقــد أدى ذلــك اإلعتقــاد إىل خــروج النــاس مــع‬
‫األمويــن يف قتــال كل مــن يعارضهــم أو يثــور ضدهــم‪،‬‬

‫(((  شــمس الديــن‪ ،‬حممــد مهــدي‪ ،‬ثــورة ُ‬


‫احلســن‪ ..‬ظروفهــا اإلجتامعيــة‬
‫وآثارهــا اإلنســانية‪( ،‬قــم‪ ،‬مطبعــة ســتارة‪2006 ،‬م)‪ ،‬ص‪.110-109‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫حلســن بــن‬ ‫منهــا مثــ ُ‬


‫ا وقوفهــم بوجــه‪ :‬ثــورة اإلمــام ا ُ‬
‫عــي بــن أيب طالــب (عليــه الســام) ســنة ‪61‬هـــ‪681/‬م؛‬
‫وحركــة التوابــن ســنة ‪65‬هـــ‪685/‬م؛ وحركــة املختــار‬
‫الثقفــي يف الفــرة ‪67-65‬هـــ‪687-685/‬م؛ وثــورة عبــد‬
‫اهلل بــن اجلــارود ســنة ‪75‬هـــ‪694/‬م؛ وثــورة زيــد بــن عــي‬
‫(رضــوان اهلل عليــه) ســنة ‪122‬هـــ‪740/‬م؛ وثــورة حييــى بن‬
‫‪91‬‬ ‫زيــد ســنة ‪125‬هـــ‪743/‬م؛ وغريهــا(((‪.‬‬
‫ِ‬
‫وحقوقه يف العــر العبايس‬ ‫وال خيتلــف حــال اإلنســان‬
‫عـ َّـا ســبقه يف زمــن األمويــن‪ ،‬فقــد اســتمر الظلــم‪ ،‬و ُمالحقة‬
‫الشــبهة‪ ،‬وإكــراه النــاس عــى بيعـ ِـة اخلليفــة‪،‬‬
‫املعارضــن عــى ُ‬

‫(((  لإلطــاع عــى تفاصيــل تلــك الثــورات وظروفهــا‪ُ ،‬ينظــر‪ :‬عكلــة‪،‬‬


‫مثــال حســن‪ ،‬الثــورات العلويــة الشــعبية يف العــراق وأثرهــا يف نشــوء‬
‫الفــرق اإلســامية ح َّتــى عــام ‪334‬هـــ‪ ،‬رســالة ماجســتري غــر منشــورة‪،‬‬
‫ك ِّليــة الرتبيــة‪ ،‬اجلامعــة املســتنرصية‪2010 ،‬م؛ وعــن ثــورة زيــد بــن عــي‬
‫أســباهبا وظروفهــا وجمريــات أحداثهــا‪ُ ،‬ينظــر‪ :‬املقــرم‪ ،‬عبــد الــرزاق‬
‫حلســن بــن عــي بــن أيب طالــب‪،‬‬
‫املوســوي‪ ،‬زيــد الشــهيد بــن عــي بــن ا ُ‬
‫(قــم‪ ،‬مطبعــة رشيعــت‪1427 ،‬هـــ‪2006/‬م)‪.‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫أن اخلليفــة ســلطان اهلل يف أرضـ ِـه‪ ،‬وليــس‬


‫وإشــاعة مفهــوم َّ‬
‫للنــاس حــق املعارضــة‪ ،‬بــل عليهــم مجيعـ ًا الطاعــة والتســليم‬
‫والبيعــة خمرييــن أو مكرهــن‪.‬‬

‫ومــن أمثلــة ذلــك حــرص اخلليفــة العبــايس‬


‫األول أبــو العبــاس الســ َّفاح (‪136-104‬هـــ‪-722/‬‬
‫ِ‬
‫أخــذه البيعــة مــن ُم َّمــد ذو النفــس الزكيــة‬ ‫‪754‬م) عــى‬
‫ِ‬
‫وأخيــه إبراهيــم‪ ،‬اللذيــن‬ ‫(‪145-93‬هـــ‪762-712/‬م)‬ ‫‪92‬‬
‫أن العلويــن مجيعــ ًا قــد بايعــوه(((‪،‬‬
‫معارضــن رغــم َّ‬
‫َ‬ ‫ظــا‬
‫فــراح يتبــع أثرمهــا الــذي اســتكمله مــن بعـ ِ‬
‫ـده أبــو جعفــر‬
‫املنصــور (‪158-95‬هـــ‪775-714/‬م)‪ ،‬أو راح يســأل‬
‫ا رج ـاً‪ ،‬فــكان كل منهــم يقــول‪:‬‬ ‫عنهــا بنــي هاشــم رج ـ ً‬
‫ـم أنــك قــد عرفتــه يطلــب هــذا‬ ‫ِ‬
‫(يــا أمــر املؤمنــن قــد َعلـ َ‬
‫الشــأن قبــل اليــوم‪ ،‬فهــو خيافــك عــى نفسـ ِـه‪ ،‬وهــو ال يريــد‬

‫((( العــذاري‪ ،‬حممــد عبــد الرضــا‪ ،‬واقعــة فــخ ســنة ‪169‬هـــ‪ ..‬أســباهبا‬
‫ونتائجهــا‪ ،‬رســالة ماجســتري غــر منشــورة‪ ،‬ك ِّليــة الرتبيــة‪ ،‬اجلامعــة‬
‫املســتنرصية‪2009 ،‬م‪ ،‬ص‪.15‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫بذلــك خالفــ ًا وال حيــب لــك معصيــة)(((‪.‬‬

‫ولعـ َّـل أبشــع جمــزرة ارتكبهــا املنصــور بحـ ِّـق اإلنســانية‪،‬‬


‫ِ‬
‫غرفــة زوجــة ابنــه‬ ‫ٍ‬
‫خزانــة يف‬ ‫هــي عندمــا أقــدم عــى ملــئ‬
‫املهــدي بــرؤوس العلويــن شــيوخ ًا وشــباب ًا وأطفــاالً‪،‬‬
‫وأوىص بــأن ال يفتحهــا ابنــه املهــدي وال ي َّطلــع عليهــا إالَّ‬
‫ِ‬
‫هالكــه(((‪.‬‬ ‫بعــد‬
‫‪93‬‬
‫وكـ ِ‬
‫ـردة فعـ ٍ‬
‫ـل عــى ســلب احلريــات‪ ،‬وقمــع املعارضــن‪،‬‬
‫فقــد نشــبت العديــد مــن الثــورات التــي قــام هبــا العلويــون‬
‫حلســن‬
‫ضــدَّ احلكــم العبــايس‪ ،‬كان مــن أبرزهــا‪ :‬ثــورة ا ُ‬
‫بــن عــي صاحــب فــخ ســنة ‪169‬هـــ‪785/‬م؛ وثــورة حييــى‬
‫بــن عمــر العلــوي ســنة ‪250‬هـــ‪864/‬م؛ وثــورة ُم َّمــد بــن‬

‫((( أبــو الفــرج األصفهــاين‪ ،‬عــي بــن احلســن بــن م ُ َّمــد‬


‫(ت‪356‬هـــ‪967/‬م)‪ ،‬مقاتــل الطالبيــن‪ ،‬حتقيــق‪ :‬أمحــد صقــر‪( ،‬طهــران‪،‬‬
‫منشــورات ذي القربــى‪1425 ،‬هـــ‪2004/‬م)‪ ،‬ص‪.188‬‬
‫((( الطــري‪ ،‬أبــو جعفــر م ُ َّمــد بــن جريــر (ت‪310‬هـــ‪923/‬م)‪ ،‬تاريــخ‬
‫الر ُســل وامللــوك‪ ،‬حتقيــق‪ :‬حممــد أبــو الفضــل إبراهيــم‪( ،‬القاهــرة‪ ،‬دار‬
‫ُ‬
‫املعــارف‪1979 ،‬م)‪ ،‬ج‪ ،8‬ص‪.104‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫جعفــر العلــوي ســنة ‪252‬هـــ‪866/‬م؛ وثــورة عــي بــن زيــد‬


‫العلــوي ســنة ‪256‬هـــ‪870/‬م(((‪.‬‬

‫ومل تكــن الثــورات مقتــر ًة عــى العلويــن‪ ،‬بــل َشـ ِـهدَ‬


‫العــر العبــايس الثــاين ثــور ًة كبــرة امتــدت بــن ســنة‬
‫‪270-255‬هـــ‪883-869/‬م‪ ،‬تلــك هــي ثــورة الزنج التي‬
‫جــاءت كــر ِّد فعـ ٍ‬
‫ـل عــى الظلــم واالضطهــاد والتاميــز ال َط َبقي‬
‫الــذي َشـ ِـهدَ ُه ذلــك العــر‪ ،‬حــن ســاد الظلــم للعبيــد مــن‬ ‫‪94‬‬
‫قبــل طبقــة املالَّكــن مــن أصحــاب األرايض املدعومــن مــن‬
‫الســلطة‪ ،‬فكانــت ثــورة األعــراب الســاخطني عــى النظــام‬
‫اإلجتامعــي مــن جهــة وبــن مالكــي األرض وأصحــاب‬
‫العبيــد واخلالفــة مــن جهـ ٍـة أخــرى(((‪.‬‬

‫وقــد كان مــن نتائــج ذلــك أن ظهــرت العديــد مــن‬

‫((( عن تلك الثورات‪ُ ،‬ينظر‪ :‬عكله‪ ،‬حسن‪ ،‬مرجع سابق‪.‬‬


‫(((  عــن ثــورة الزنــج وأســباهبا وجمريــات أحداثهــا‪ُ ،‬ينظــر‪ :‬الســامر‪،‬‬
‫فيصــل‪ ،‬ثــورة الزنــج‪ ،‬ط‪( ،2‬بغــداد‪ ،‬دار الشــؤون الثقافيــة العامــة‪،‬‬
‫‪2012‬م)‪.‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫الفــرق الغاليــة يف معتقدهــا‪ ،‬مثــل ا ُملرجئــة والقدريــة‬


‫واجلربيــة والكيســانية‪ ..‬وغريهــا‪.‬‬

‫اســتمرت عمليــة التفريــط بحقوق اإلنســان يف املجتمع‬


‫ر العصــور املختلفــة وصــوالً إىل العرصيــن‬ ‫ِ‬
‫اإلســامي ع ـ َ‬
‫احلديــث واملعــارص‪ ،‬واللذيــن َشـ ِـهدا جتــاوز ًا عــى احلريــات‪،‬‬
‫وتكميــ ًا لألفــواه‪ ،‬وانتقامــ ًا مــن املعارضــن بوســائل‬
‫‪95‬‬ ‫ا عــن القهــر واإلذالل النفــي‪ ،‬ك َّلهــا‬
‫تعذيــب ش ـتَّى‪ ،‬فض ـ ً‬
‫وســائل وأســاليب جعلــت املجتمــع اإلســامي بعيــد ًا َّ‬
‫كل‬
‫ال ُبعــد عــن متثيــل أبســط احلقــوق وأكثرهــا بدهييـ ًة وهــو حــق‬
‫العيــش‪ ،‬مــا جعــل املجتمعــات اإلســامية ختتلــف كثــر ًا‬
‫عــن املجتمعــات الغربيــة يف توثيــق وتنظيــم قوانــن حقــوق‬
‫اإلنســان والعمــل عــى أساســها‪.‬‬
‫املبحث الرابع‬

‫اإلمام علي (عليه السالم)‬


‫وحقوق اإلنسان‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫إن البحــث يف مكانــة ودور اإلمــام عــي بــن أيب‬ ‫َّ‬


‫طالــب (عليــه الســام) يف التاريــخ اإلنســاين بصـ ٍ‬
‫ـورة عامــة‬
‫والتاريــخ العــريب اإلســامي عــى وجــه اخلصــوص‪ ،‬عمليــة‬
‫شــاقة ومتشــعبة عــى ِّ‬
‫كل مــن ولــج هــذا امليــدان‪ ،‬والس ـ َّيام‬
‫والعلــم ســبيله‪ ،‬ومــا يزيــد مــن‬‫إذا كانــت احلقيقــة غايتــه ِ‬
‫‪99‬‬ ‫صعوبتهــا تداخلهــا مــع املؤثــرات السياســية والعقائديــة‬
‫والتارخييــة وح َّتــى النفســية‪ ،‬ســواء أيف إرثهــا املــايض أم يف‬
‫واقعهــا احلــايل‪ ،‬ناهيــك عــن مــدى توافــر القــدرات العلميــة‬
‫والنقديــة عنــد الباحــث نفســه‪.‬‬
‫ٍ‬
‫حضاريــة‬ ‫ٍ‬
‫رســالة‬ ‫َّ‬
‫إن األمــة اإلســامية كوهنــا ذات‬
‫بحاجــة إىل توظيــف أدوات املعرفــة والبحــث العلمــي‬
‫معــزز ًة بالشــجاعة وروح النقــد يف عمليـ ِـة البحــث داخــل‬
‫ِ‬
‫تفصيالتــه كا َّفــة‪ ،‬ومــا‬ ‫موروثنــا احلضــاري العــام ويف‬
‫يتطلبــه ذلــك مــن الوقــوف إزاء مضامــن اإلرث التارخيــي‬
‫عمــق قبــل التوصــل إىل‬
‫وقفــة تفحــص دقيــق‪ ،‬وحتليــل ُم َّ‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫األحــكام الصحيحــة واالســتنتاجات املبنيــة عــى الدليــل‬


‫املعــريف‪ ،‬وينبغــي للباحــث املوضوعــي أن يتجنَّــب عــدد ًا‬
‫مــن األحــكام أو الــرؤى ا ُملســبقة واجلاهــزة التــي تنتــر‬
‫ـر مــن‬ ‫ٍ‬
‫يف كثــر مــن الكتابــات التارخييــة‪ ،‬والتــي عدَّ هــا كثـ ٌ‬
‫أي حـ ٍ‬
‫ـال جتاوزهــا أو‬ ‫ال ُك َّتــاب خطوط ـ ًا محــراء ال يمكــن يف ّ‬
‫مناقشــتها‪..‬‬

‫ولإلمــام عــي بــن أيب طالــب (عليــه الســام) يف‬ ‫‪100‬‬


‫حقــوق اإلنســان وغايــة املجتمــع أصـ ٌ‬
‫ـول وآراء متتــد هلــا يف‬
‫ـذور وتعلــو هلــا فــروع‪ .‬أ َّمــا العلــوم االجتامعيــة‬
‫األرض جـ ٌ‬
‫ِ‬
‫وهــذه‬ ‫ِ‬
‫هــذه اآلراء‬ ‫احلديثــة فــا كانــت إالَّ لتؤيــد معظــم‬
‫ٍ‬
‫صــور‬ ‫األصــول‪ .‬ومهــا اختــذت العلــوم االجتامعيــة مــن‬
‫ســميات‪َّ ،‬‬
‫فــإن‬ ‫وأشــكال‪ ،‬ومهــا اختلــف عليهــا مــن ُم َّ‬
‫ع َّلتهــا واحــدة وغايتهــا واحــدة كذلــك‪ .‬ومهــا رفــع ال ُغبــن‬
‫ـم بنــاء املجتمــع عــى‬
‫واالســتبداد عــن كاهــل اجلامعــات‪ .‬ثـ َّ‬
‫ُأســس أصلــح حتفــظ لإلنســان حقوقــه يف العيــش وكرامتــه‬
‫ٍ‬
‫نطــاق‬ ‫كإنســان‪ .‬وحمورهــا حريــة القــول والعمــل ضمــن‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫ٍ‬
‫لظــروف معينــة‬ ‫ِ‬
‫هــذه العلــوم‬ ‫ُيفيــدُ وال ُيــيء‪ .‬وختضــع‬
‫مــن الزمــان واملــكان هلــا األثــر األول يف تكوينهــا عــى هــذا‬
‫النحــو أو ذاك(((‪.‬‬

‫ـي بــن أيب طالــب (عليــه الســام) يف تاريــخ‬


‫قــد كان لعـ ٍّ‬
‫أي شــأن‪ .‬وآراؤه فيها تتصــل اتصاالً‬ ‫حقــوق اإلنســان شـ ٌ‬
‫ـأن ُّ‬
‫كثــر ًا باإلســام يومــذاك وهــي تــدور عــى حمــور مــن رفــع‬
‫‪101‬‬ ‫االســتبداد والقضــاء عــى التفــاوت الطبقــي بــن النــاس‪.‬‬
‫ــرف اإلمــام عــي بــن أيب طالــب (عليــه اســام)‬
‫و َمــن َع َ‬
‫وموقفــه مــن قضايــا املجتمــع‪ ،‬أدرك أنَّــه الســيف ا ُملســ َّلط‬
‫عــى رقــاب ا ُملســتبدين ال ُطغــاة‪ .‬وأنَّــه الســاعي يف تركيــز‬
‫ِ‬
‫وسياســته‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وحكومتــه‬ ‫ِ‬
‫وأدبــه‬ ‫ِ‬
‫بآرائــه‬ ‫العدالــة االجتامعيــة‬
‫ٍ‬
‫موقــف لــه ممــن يتجــاوزون احلقــوق العامــة إىل‬ ‫ِّ‬
‫وبــكل‬
‫امتهــان اجلامعــة واالســتهتار بمصاحلهــا وتأســيس األجمــاد‬

‫((( جــرداق‪ ،‬جــورج‪ ،‬اإلمــام عــي صــوت العدالــة اإلنســانية‪..‬‬


‫عــي وحقــوق اإلنســان‪( ،‬البحريــن‪ ،‬دار ومكتبــة صعصعــة‪،‬‬
‫ص‪.105‬‬ ‫ج‪،1‬‬ ‫‪1423‬هـــ‪2003/‬م)‪،‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫عــى الكواهــل املتعبــة‪.‬‬

‫ولــو اســتعرضنا تاريــخ احلــركات التحرريــة‬


‫اإلصالحيــة والثــورات االجتامعيــة يف اإلســام وغــره‬
‫ِ‬
‫صــدره وحتَّــى العصــور املتأخــرة لرأيناهــا ترجــع‬ ‫منــذ‬
‫بوجهتهــا وأصالتهــا إىل آراء اإلمــام عــي بــن أيب طالــب‬
‫(عليــه الســام)‪ ،‬وإىل األُســس العادلــة التــي أرســاها يف‬
‫ِ‬
‫عهــده ملالــك بــن األشــر النُخعــي (رضــوان اهلل عليــه)‬ ‫‪102‬‬
‫(ت‪38‬هـــ‪658/‬م) وخــال سـ ِ‬
‫ـرته الرشيفة‪ ،‬التــي وضعها‬
‫لتكويــن جمتمــع فاضــل يف حكــم فاضــل واســتطاع بذكائـ ِـه‬
‫َّ‬
‫الفــذة وبمقدرتــه الفائقــة عــى اإلدراك‬ ‫ِ‬
‫وبصريتــه‬ ‫اخلــارق‬
‫والس ـنَّة يف‬ ‫ِ‬
‫واســتنباط األحــكام وإحاطتــه التامــة بالكتــاب ُ‬
‫ـرف وزمــان‬ ‫ـلطة عادلــة أو حكومـ ٍـة صاحلــة ألي ظـ ٍ‬
‫ظـ ِّـل سـ ٍ‬
‫ِّ‬
‫وتتامشــى مــع الرشيعــة الســاوية دون انفصــال‪ ،‬ولذلــك مل‬
‫ِ‬
‫غــره‪..‬‬ ‫يؤخــذ عليــه مــا ُأ ِخ َ‬
‫ــذ عــى‬

‫ولــو كانــت الصحيفــة قــد أرســت ُأســس االســتقرار‬


‫الســلم األهــي‬
‫والتآلــف االجتامعــي املبنــي عــى قاعــدة ِّ‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫املنَّــاع لألزمــات احلــادة يف جمتمــع املدينــة املنــورة أ َّبــان زمــن‬


‫النبــي الكريــم (صــى اهلل عليــه وآلــه)‪ ،‬فـ َّ‬
‫ـإن عهــد اإلمــام عيل‬
‫بــن أيب طالــب (عليــه الســام) ملالــك األشــر (رضــوان اهلل‬
‫عليــه) ُيعــد تطــور ًا كبــر ًا عــى طريــق إدارة وحكــم البــاد‪،‬‬
‫التــي ُفتحــت ودخلهــا اإلســام‪ُ .‬يــريس بـ ِّ‬
‫ـكل وضــوح املعامل‬
‫األساســية ملهــات احلاكــم املســلم وحقــوق الرعيــة‪ ،‬وهــي‬
‫‪103‬‬ ‫مــن الوثائــق التــي قـ َّـل التعامــل معهــا وعرضهــا جلمهــور‬
‫املســلمني‪ ،‬وهــذا يف األســاس مــا يدفعنــا لتســليط الضــوء‬
‫عــى جانــب حقــوق اإلنســان مــن هــذا ِ‬
‫الســفر اخلالــد‪..‬‬

‫ال َغة‪ ..‬بني ِص َّحة االنتساب وأهمية املضمون‬


‫نهج ال َب َ‬
‫ُ‬
‫مــا أشــبه مــا ُمنــي بـ ِـه كتــاب النهــج بــا ُمنــي بـ ِـه كتــاب‬
‫اهلل (عـ ّـز وجــل)‪ ،‬فقــد قــال ا ُملنكــرون للتنزيــل‪َّ :‬‬
‫إن القــرآن‬
‫الكريــم مــن كالم ُم َّمــد (صــى اهلل عليــه وآلــه) وليــس مــن‬
‫كالم اهلل‪ ،‬وقــال ا ُملرتابــون يف النهــج‪ :‬أ َّنــه مــن كالم جامعـ ِـه‬
‫الســيد الرشيــف الــريض((( وليــس مــن كالم اإلمــام (عليــه‬

‫((( هــو‪ :‬أبــو احلســن م ُ َّمــد بــن احلســن بــن موســى الــريض العلــوي‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫أن لـ ٍّ‬
‫ـكل‬ ‫الســام)(((‪ ،‬ولــو أنَّــم أمعنــوا النظــر جيــد ًا لعرفــوا َّ‬

‫حلســيني املوســوي (‪406-359‬هـــ‪1015-970/‬م)‪ .‬أشــعر الطالبيــن‪،‬‬ ‫ا ُ‬


‫عــى كثـ ِ‬
‫ـرة املجيديــن فيهــم‪ .‬مولــده ووفاتــه يف بغــداد‪ .‬انتهــت إليــه نقابــة‬
‫وجــدد لــه التقليــد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األرشاف يف حيــاة والــده‪ .‬وخلــع عليــه بالســواد‪ُ ،‬‬
‫ســنة ‪403‬هـــ‪ .‬لــه‪) :‬ديــوان شــعر( يف ُم َّلديــن‪ ،‬وكتــب‪ ،‬منهــا‪) :‬املجــازات‬
‫النبويــة(؛ )جمــاز القــرآن( باســم )تلخيــص البيــان عــن جمــاز القــرآن(؛ )‬
‫خمتــار شــعر الصابــئ(؛ )جمموعــة مــا دار بينــه وبــن أيب إســحاق الصابــئ‬
‫‪104‬‬
‫مــن الرســائل( ُطبعــت باســم )رســائل الصابــئ والرشيــف الــريض(‪،‬‬
‫(حقائــق التأويــل يف متشــابه التنزيــل(؛ )خصائــص أمــر املؤمنــن عــي‬
‫بــن أيب طالــب(‪ .‬وشــعره مــن الطبقـ ِـة األوىل رصفـ ًا وبيانـ ًا وإبداعـ ًا‪ُ .‬ينظــر‪:‬‬
‫ابــن خ ِّلــكان‪ ،‬أبــو العبــاس شــمس الديــن أمحــد بــن ُم َّمــد بــن أيب بكــر‬
‫(ت‪681‬هـــ‪1282/‬م)‪ ،‬وفيــات األعيــان وأنبــاء أبنــاء الزمــان‪ ،‬حتقيــق‪:‬‬
‫إحســان عبــاس‪( ،‬بــروت‪ ،‬دار صــادر‪1968 ،‬م)‪ ،‬ج‪ ،4‬ص ص‪414-‬‬
‫‪420‬؛ الــزركيل‪ ،‬خــر الديــن‪ ،‬األعــام‪ ،‬ط‪( ،15‬بــروت‪ ،‬دار العلــم‬
‫للماليــن‪2002 ،‬م)‪ ،‬ج‪ ،6‬ص‪.99‬‬
‫(((  ُينظــر عــى ســبيل‪ ،‬مــا ذكــره ابــن خ ِّلــكان ضمــن ترمجتــه للرشيــف‬
‫املرتــى‪ ،‬مــا نصــه‪) :‬وقــد اختلــف النــاس يف كتــاب هنــج البالغــة املجمــوع‬
‫جعـ ُه أم مجــع‬
‫مــن كالم اإلمــام عــي بــن أيب طالــب‪ ،‬ريض اهلل عنــه‪ ،‬هــل هــو َ ْ‬
‫أخيــه الــريض؟ وقــد قيــل‪ :‬إ َّنــه ليــس مــن كالم عــي‪ ،‬وإ َّنــا الــذي مجعــه‬
‫ونســبه إليــه هــو الــذي وضعــه(‪ .‬وفيــات األعيــان‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.313‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫مــن الكالمــن طابعــه اخلــاص‪ ،‬الــذي يمتــاز بـ ِـه عــن اآلخــر‬


‫بصـ ٍ‬
‫ـورة واضحــة‪ .‬فأيــن كالم ُم َّمــد (صــى اهلل عليــه وآلــه)‬
‫مــن كالم اهلل (جــل وعــا)؟ وأيــن كالم الــريض مــن كالم‬
‫عــي بــن أيب طالــب (عليــه الســام)؟ وكيــف جيــوز أن‬ ‫ٍّ‬
‫ِ‬
‫يشــتبه هــذا بــذاك؟ ومــا اشــتبه التــر يوم ـ ًا بال ُلجــن‪.‬‬

‫أن هنــاك مــن الوثائــق التارخييــة ا ُملعتمــد عليهــا مــا‬ ‫عــى َّ‬
‫‪105‬‬ ‫لــو رجــع إليهــا ا ُملتتبــع الزداد إيامن ـ ًا ويقين ـ ًا بصحــة النِســبة‬
‫وثبوهتــا بشـ ٍ‬
‫ـكل ال يقبــل اجلــدل واالرتيــاب‪ ،‬وهــذا مــا َنَــد‬
‫إىل مجعـ ِـه واإلملــام بـ ِـه أهــل التنقيــب والتدقيــق(((‪ُ ،‬مبطلــن‬

‫((( ُينظــر‪ :‬مغنيــة‪ ،‬حممــد جــواد‪ ،‬يف ظــال هنــج البالغــة‪ ..‬حماولــة لفه ـ ٍم‬
‫جديــد‪ ،‬حتقيــق‪ :‬ســامي الغريــري‪ ،‬ط‪( ،1‬قــم‪ ،‬دار الكتــاب اإلســامي‪،‬‬
‫حلســيني‪ ،‬مصادر هنج‬
‫‪1425‬هـــ‪2005/‬م)‪6 ،‬ج؛ اخلطيــب‪ ،‬عبــد الزهراء ا ُ‬
‫البالغــة وأســانيده‪ ،‬ط‪( ،3‬بــروت‪ ،‬دار األضــواء‪1405 ،‬هـــ‪1985/‬م)؛‬
‫حلســيني‪ُ ،‬مسـنَد هنــج البالغــة‪ ،‬ط‪( ،1‬قــم‪ ،‬مكتبــة‬
‫اجلــايل‪ ،‬حممــد حســن ا ُ‬
‫العالَّمــة املجلــي‪1431 ،‬هـــ)‪3 ،‬ج؛ اجلبــوري‪ ،‬حيــدر كاظــم‪ ،‬مصــادر‬
‫الدراســة عــن هنــج البالغــة‪( ،‬النجــف األرشف‪ ،‬العتبــة العلويــة املقدســة‪،‬‬
‫‪2013‬م)‪.‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫أن ُخ َطــب النَّهــج‪ ،‬أو أكثرهــا‪،‬‬ ‫هــذا الزعــم بأد َّل ٍ‬


‫ــة‪ ،‬منهــا َّ‬
‫الســنَّة مــن قبــل أن يولــد‬
‫دونــة يف كتــب الشــيعة وأهــل ُ‬
‫ُم َّ‬
‫الــريض بســنوات(((‪.‬‬
‫الشيــف َّ‬
‫َّ‬
‫ِ‬
‫نســبة النَّهــج إىل اإلمــام (عليــه‬ ‫والقــول ال َفصــل يف‬
‫الســام) هــو أن ننظــر‪ ،‬ونُحاكــم مــا جــاء فيـ ِـه عــى أســاس‬
‫(عــز وجــل)‪ ،‬فــا وافــق منــ ُه القــرآن الكريــم‬
‫كتــاب اهلل ّ‬
‫فهــو مــن قــول اإلمــام (عليــه الســام)‪ ،‬أل َّنــه مــع القــرآن‪،‬‬ ‫‪106‬‬
‫والقــرآن مع ـ ُه‪ ،‬ومــا خالف ـ ُه فــا عالقــة ل ـ ُه باإلمــام (عليــه‬
‫أئمـ ِـة أهــل‬
‫ـب‪ ،‬أو بعيــد‪ .‬وقــد تواتــر عــن َّ‬ ‫الســام) مــن قريـ ٍ‬
‫البيــت (عليهــم الســام) قوهلــم‪( :‬ال تقبلــوا علينــا ِخــاف‬
‫والس ـنَّة‪ ،‬إ َّنــا عــن‬ ‫ِ‬
‫القــرآن‪ ،‬فإ َّنــا إن حتدثنــا بموافقــة القــرآن‪ُ ،‬‬
‫ـان‪ ،‬و ُفــان‪،‬‬ ‫اهلل‪ ،‬وعــن رسـ ِ‬
‫ـوله نُحــدِّ ث‪ ،‬وال نقــول‪ :‬قــال ُفـ ٌ‬
‫إن لكالمنــا‬ ‫بخــاف ذلــك فــر ُّدوه‪َّ ،‬‬‫فــإذا أتاكــم مــن ُيدثكــم ِ‬

‫وإن عليـ ِـه لنــور ًا‪ ،‬فــا ال حقيقــة لـ ُه‪ ،‬وال نــور عليـ ِـه‬
‫حقيقــة‪َّ ،‬‬

‫((( نعمــة‪ ،‬عبــد اهلل‪ ،‬مصــادر هنــج البالغــة‪( ،‬بــروت‪ ،‬مطابــع دار اهلــدى‪،‬‬
‫‪1392‬هـ‪1972/‬م)‪ ،‬ص ص‪.35-28‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫فــذاك قــول َّ‬


‫الشــيطان)(((‪.‬‬

‫ِ‬
‫دحض‬ ‫وقــد اجتهــد علــاء الشــيعة عــى مــدى قــرون يف‬
‫وتــم‬
‫َّ‬ ‫صحــة كتــاب (هنــج البالغــة)؛‬ ‫املوجهــة إىل َّ‬
‫التهــم َّ‬
‫ختصيــص َقــدْ ٍر عظيــم مــن العمــل ا ُملســتنري خــال العقــود‬
‫األخــرة مــن أجــل إثبــات‪ ،‬أوالً‪َّ ،‬‬
‫أن املــادة ا ُمل ِّ‬
‫كونــة للنص ال‬
‫يمكــن أن تكــون مــن فعــل الــريض (إذ َّ‬
‫أن الغالبيــة العظمــى‬
‫‪107‬‬ ‫منهــا موجــودة يف مصــادر ســبقته زمنيــ ًا) وثانيــ ًا‪ ،‬أننــا‬
‫ٍ‬
‫سلســلة موثوقــة‬ ‫ر‬ ‫ِ‬
‫نســتطيع تتَّبــع معظــم مــادة النــص‪ ،‬عــ َ‬
‫مــن الــرواة‪ ،‬إىل اإلمــام (عليــه الســام) نفســه حتَّــى ولــو‬
‫مل تصــل مجيــع األقــوال إىل أعــى مكانــة يف ســ َّلم صحيــح‬
‫احلديــث‪ ،‬أي كوهنــا متواتــرة (بمعنــى َّأنــا أحاديــث مرويــة‬
‫ر سالســل عديــدة تتكــون مــن رواة موثوقــن‪ ،‬ال يمكــن‬ ‫ِ‬
‫عـ َ‬
‫الشــك فيهــم بصـ ٍ‬
‫ـورة خطــرة)‪.‬‬

‫((( الطــويس‪ ،‬أبــو جعفــر م ُ َّمــد بــن احلســن (ت‪460‬هـــ‪1068/‬م)‪،‬‬


‫الكــي(‪ ،‬حتقيــق‪ :‬جــواد‬
‫ِّ‬ ‫اختيــار معرفــة الرجــال املعــروف بـ)رجــال‬
‫مؤسســة النــر اإلســامي‪1427 ،‬هـــ)‪ ،‬ج‪،2‬‬
‫القيومــي األصفهــاين‪( ،‬قــم‪َّ ،‬‬
‫ص‪.489‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫يقــول خمتــار جيــي ملخص ـ ًا أبحاثــه ا ُملســتفيضة حــول‬


‫هـ ِ‬
‫ـذه القضيــة‪(:‬ال نُكــران‪ ..‬يف َّ‬
‫أن قس ـ ًا ضخ ـ ًا مــن النَّهــج‬
‫(هكــذا) يمكــن نســبته فعــ ً‬
‫ا إىل عــي (عليــه الســام)‪،‬‬
‫وخاصــ ًة مقاطــع تارخييــة وتقريظيــة بعينهــا‪ ،‬ولــو أنَّــه‬
‫صحــة األقســام األكثــر تعرضــ ًا‬
‫َّ‬ ‫مــن الصعــب تأكيــد‬
‫للتشــكيك‪ُ ...‬يضــاف إىل ذلــك أنَّــه مــن املمكــن حتديــد‬
‫عــدد هــام مــن املقاطــع املصحوبــة بأســانيد كاملــة‪ ،‬والتــي‬ ‫‪108‬‬
‫يمكــن العــودة بتارخيهــا إىل زمــن عــي (عليــه الســام)‪.‬‬
‫ـذه النصــوص مــن ِقبــل باحثــن قدمــاء‬
‫وقــد جــرى اعتــاد هـ ِ‬

‫مــن أصحــاب الشــهرة كالطــري واملســعودي واجلاحــظ‬


‫وكثرييــن غريهــم)(((‪.‬‬

‫ودل عليهــا القــرآن‬ ‫ومــا مــن كلمـ ٍـة يف هنــج البالغــة إالَّ َّ‬
‫بالتفصيــل‪ ،‬أو اإلمجــال مــع ِ‬
‫العلــم بـ َّ‬
‫ـأن كالم اهلل قــد تفـ َّـرد‬
‫بخصائــص كثــرة ال ُيشــاركه فيهــا كالم البــر أ َّيــ ًا كان‬

‫(((  جيــي‪ ،‬خمتــار‪) ،‬هنــج البالغــة(‪ ،‬طهــران‪ ،‬املوســوعة اإلســامية‪ ،‬ط‪،2‬‬


‫م‪ ،7‬ص‪.904‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫(عــز‬
‫ّ‬ ‫وهــذه احلقيقــة ُيدركهــا ك ُُّل مــن قــرأ قولــه‬ ‫ِ‬ ‫قائلــه‪،‬‬
‫ـب َأو َأل َقــى‬ ‫ـك َل ِذكـ َـرى َل ِــن ك َ‬
‫َان َل ـ ُه َق ْلـ ٌ‬ ‫وجــل)‪﴿ :‬إِ َّن ِف َذلِـ َ‬
‫ــو َش ِ‬
‫ــهيدٌ ﴾(((‪.‬‬ ‫ــم َع َو ُه َ‬
‫الس ْ‬
‫َّ‬

‫ال يشــك أديــب أو مــؤرخ أو عــامل دينــي أو اجتامعــي‬


‫مصــاف‬
‫ِّ‬ ‫ٍ‬
‫قيمــة كبــرة‪ ،‬وأنَّــه يف‬ ‫فيــا لنهــج البالغــة مــن‬
‫الكتــب املعــدودة‪ ،‬التــي تعــد مــن أمهــات مصــادر حضارتنــا‬
‫‪109‬‬ ‫العربيــة‪ ..‬كيــف ال‪ ،‬وهنــج البالغــة هــو كالم أمــر املؤمنــن‬
‫عــي بــن أيب طالــب (عليــه الســام)‪ ،‬ذلــك الــذي كان‬
‫قــدو ًة مثاليــة للمســلمني ونرباس ـ ًا رائــد ًا للمؤمنــن‪ ،‬ح َّتــى‬
‫َّ‬
‫أن اخلليــل بــن أمحــد الفراهيــدي (‪170-100‬هـــ‪-718/‬‬
‫عــي بــن أيب طالــب‬
‫ٍّ‬ ‫‪786‬م) حــن ُســئل‪ :‬مــا تقــول يف‬
‫(عليــه الســام)؟ قــال قولــه املأثــور‪( :‬احتيــاج الــكُل‬
‫إليــه‪ ،‬واســتغناؤ ُه عــن الــكُل‪ٌ ،‬‬
‫دليــل عــى أنَّــه إمــام الــكُل‬
‫يف ال ـكُل)(((‪ .‬وهبــذا فـ َّ‬
‫ـإن هنــج البالغــة ُيعــد أعظــم كتــاب‬

‫((( سورة ق‪ ،‬آية‪37 :‬‬


‫((( بيضــون‪ ،‬لبيــب‪ ،‬تصنيــف هنــج البالغــة‪ ،‬ط‪( ،2‬طهــران‪ ،‬مكتــب‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫أديب ودينــي وأخالقــي واجتامعــي‪ ..‬بعــد القــرآن الكريــم‬


‫واحلديــث النبــوي الرشيــف‪ .‬وحســبنا مــن وصفـ ِـه مــا قــال‬
‫فــره الشــيخ ُم َّمــد عبــده‪( :‬وال أعلــم إســ ًا أليــق‬
‫فيــه ُم ِّ‬
‫بالداللــة عــى معنــاه منــه‪ ،‬وليــس يف وســعي أن أصــف‬
‫ِ‬
‫عليــه اســم ُه‪ ..‬وهــو مل يــرك‬ ‫هــذا الكتــاب بأزيــد ممــا َّ‬
‫دل‬
‫غرضــ ًا مــن أغــراض الــكالم إالَّ أصابــه‪ ،‬ومل يــدع للفكــر‬
‫ممــر ًا إالَّ جابــ ُه)(((‪ .‬وهــو أحــد املصــادر األربعــة‪ ،‬التــي ال‬ ‫‪110‬‬
‫ِغنــى لألديــب العــريب عنهــا‪ ،‬وهــي القــرآن الكريــم وهنــج‬
‫رد‪.‬‬
‫للمــ ِّ‬
‫البالغــة والبيــان والتبيــن للجاحــظ والكامــل ُ‬
‫هــذا َّ‬
‫وإن كالم اإلمــام عــي بــن أيب طالــب (عليــه‬
‫الســام) أرحــب مــن أن تســع ُه ا ُملؤ َّلفــات أو تســتوعبه‬
‫غيــض مــن فيــض‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ا ُملج َّلــدات‪ .‬ومــا (هنــج البالغــة) إالَّ‬
‫وباق ـ ٌة مــن بســتان‪ ،‬اســتطاع الرشيــف الـ َّـريض أن جيمعهــا‬

‫اإلعالم اإلسالمي‪1408 ،‬هـ)‪ ،‬ص‪.41‬‬


‫((( عبــده‪ ،‬م ُ َّمــد‪ ،‬رشح هنــج البالغــة‪( ،‬بــروت‪ ،‬دار املعرفــة‪ ،‬د‪.‬ت‪،).‬‬
‫ج‪ ،1‬ص‪.4‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫ِ‬
‫زمنــه وقبلــه‪ ،‬وأن يدققهــا‬ ‫مــن املصــادر التــي كانــت يف‬
‫تدقيقـ ًا صادقـ ًا‪ ،‬بــا ُأويت مــن أمانـ ٍـة وعدالــة‪ ،‬وأصالـ ٍـة أدبيــة‬
‫ولغويــة‪ .‬وقــد رتَّبــه ترتيبـ ًا مبدئيـ ًا‪ ،‬فجعــل اخلُطــب أوالً ثـ َّ‬
‫ـم‬
‫الكُتــب والرســائل ثــم ِ‬
‫احلكَــم‪.‬‬ ‫َّ‬

‫رشوح كثــرة‪ ،‬يزيــد عددهــا‬


‫ٌ‬ ‫وقــد متَّــت لنهــج البالغــة‬
‫باللغتــن العربيــة والفارســية عــى أربعــن رشحــ ًا‪ ،‬مــن‬
‫‪111‬‬ ‫أمههــا‪:‬‬

‫(معــارج هنــج البالغــة)‪ :‬رشح فريــد خراســان‬


‫أيب احلســن عــي بــن زيــد بــن ُم َّمــد بــن عــي البيهقــي‬
‫(‪565-493‬هـــ‪1170-1100/‬م)‪.‬‬ ‫النيســابوري‬

‫(منهــاج الرباعــة)‪ :‬رشح قطــب الديــن أبــو‬


‫احلســن ســعيد بــن هبــة اهلل بــن احلســن الراونــدي‬
‫( ت ‪5 7 3‬هـــ ‪11 7 7 /‬م ) ‪.‬‬

‫عــز الديــن عبــد احلميــد بــن هبــة اهلل بــن أيب‬


‫رشح ِّ‬
‫احلديــد ا ُملعتــزيل (ت‪655‬هـــ‪1258/‬م)‪.‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫رشح كــال الديــن ميثــم بــن عــي بــن ميثــم البحــراين‬


‫(ت‪679‬هـــ‪1280/‬م)‪.‬‬

‫(إعــام هنــج البالغــة)‪ :‬رشح الســيد عــي بــن نــارص‬


‫العلــوي الرسخــي (مــن أعــام القــرن الســادس اهلجري‪/‬‬
‫الثــاين عــر امليــادي)(((‪.‬‬

‫وهنــاك طبعــات كثــرة لــروح هنــج البالغــة ذكرهــا‬


‫‪112‬‬
‫ا ُملح ِّقــق الدكتــور ســيد جــواد مصطفــوي خراســاين‪ ،‬وهــي‪:‬‬
‫(الــرح املحشــى) طبــع طهــران؛ (الــرح املحشــى) طبــع‬
‫تربيــز؛ (رشح مــ َّ‬
‫ا فتــح اهلل)؛ (رشح فيــض اإلســام)؛‬
‫(رشح مــرزا ُم َّمــد باقــر الالهيجــاين املشــتهر بنــواب؛‬
‫(الــدرة النجفيــة)؛ (رشح‬
‫َّ‬ ‫(رشح مــ َّ‬
‫ا صالــح القزوينــي)؛‬
‫ابــن أيب احلديــد) طبــع مــر‪ ،‬طبــع بــروت‪ ،‬طبــع طهــران؛‬
‫(رشح حميــي الديــن اخليــاط)؛ (رشح الشــيخ ُم َّمــد عبــده)‬
‫طبعــة أوىل مــر‪ ،‬طبعــة بــروت؛ (رشح حممــد حســن نائــل‬
‫ا ُملرصفــي)؛ (رشح احلــاج مــرزا حبيــب اهلل اخلوئــي)؛‬

‫((( بيضون‪ ،‬تصنيف هنج البالغة‪ ،‬ص‪.42‬‬


‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫(رشح الدكتــور صبحــي الصالــح)؛ (يف ظــال هنــج‬


‫البالغــة)؛ (رشح الشــيخ ُم َّمــد جــواد مغنيــة(((‪.‬‬

‫عهد أمري املؤمنني (عليه الس�لام)‬


‫حقوق اإلنس��ان يف ِ‬
‫ملالك األشرت (رضوان اهلل عليه)‬
‫حيمــل عهــد اإلمــام (عليــه الســام) ملالــك األشــر‬
‫(رضــوان اهلل عليــه) بتوليتـ ِـه عــى واليـ ِـة مــر الرقــم (‪)52‬‬
‫‪113‬‬ ‫ٍ‬
‫وبعبــارات تارخييــة‬ ‫يف معظــم طبعــات هنــج البالغــة(((‪.‬‬
‫ر القــرون‪،‬‬ ‫ِ‬
‫عريضــة‪ ،‬أصبــح هــذا العهــد مصــدر إهلــام ع ـ َ‬
‫إذ كان ُيقــرأ كدســتور مثــايل لــإدارة اإلســامية ُيكمــل‬
‫ِ‬
‫وحقوقــه‬ ‫املفصــل نســبي ًا لواجبــات احلاكــم‬ ‫ِ‬
‫(عــر وصفــه َّ‬
‫وواجبــات معظــم مو َّظفــي الدولــة وطبقــات املجتمــع‬
‫الرئيســة) اإلطــار العــام للمبــادئ ا ُمل َّ‬
‫رشعــة يف (دســتور‬
‫املدينــة املنــورة) الــذي أمــاه النَّبــي الكريــم (صــى اهلل‬

‫((( اخلراســاين‪ ،‬جــواد املصطفــوي‪ ،‬الكاشــف عــن ألفــاظ هنــج البالغــة‬


‫يف رشوحـ ِـه‪( ،‬طهــران‪ ،‬دار الكتــب اإلســامية‪ ،‬د‪.‬ت‪.).‬‬
‫ ‪(2) Wadād Al-Qādī, An Early Fatimid Political‬‬
‫‪48, 1978, Pp.71-108.ْDocument, Studia Islamica, N‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫عليــه وآلــه)‪ .‬غــر َّ‬


‫أن النصائــح الــواردة يف العهــد تفــوق‬
‫كثــر ًا املقاييــس املوضوعــة تقليديــ ًا بالنصــوص السياســية‬
‫ـض النظــر عــن‬‫حلكــم‪ .‬وبغـ ِّ‬ ‫ِ‬
‫أو القانونيــة اخلاصــة بــاإلدارة وا ُ‬
‫كوهنــا ُتاطــب ألول وهلــة احلاكــم أو الــوايل يف الدولــة‪،‬‬
‫فـ َّ‬
‫ـإن القســم األعظــم مــن النصيحــة ينتمــي يف احلقيقــة إىل‬
‫املبــادئ األخالقيــة ا ُملط َّبقــة عاملي ـ ًا‪ ،‬ومــن ثـ ّ‬
‫ـم‪ ،‬فـ َّ‬
‫ـإن صلتهــا‬
‫نــص‬‫حلــكَّام‪ .‬ولذلــك فهــي ٌّ‬ ‫باملحكومــن ُتاثــل صلتهــا با ُ‬ ‫‪114‬‬
‫أخالقــي بمقــدار مــا هــي نــص ســيايس َّإنــا ليســت (نظام ًا)‬
‫متنــوع األســاليب واألغــراض‪ ،‬أو نظريــة يف األخــاق‪ ،‬بــل‬
‫تعــد ُملهــ ًا‪ ،‬يف احلقيقــة‪ ،‬عــن فضائــل روحانيــة َّ‬
‫جســدها‬
‫اإلمــام (عليــه الســام) وشــ َّعت عنــه‪ ،‬طبائــع فاضــت‬
‫مبــارش ًة مــن مصــادر الوحــي اإلســامي‪ ،‬وتكشــف عــن‬
‫جــذور الفضيلــة واألخــاق يف منــاخٍ حمكــوم بمبــدأ الوحــي‬
‫ـكل يشء‪ ،‬لذلــك مــن املمكــن قــراءة هـ ِ‬
‫ـذه الوثيقــة‬ ‫الشــامل لـ ِّ‬
‫كتعليــق أيضــ ًا عــى ذلــك الوحــي‪ ،‬األمــر الــذي ُي ِّ‬
‫شــجع‪،‬‬
‫ِ‬
‫بــدوره‪ ،‬القــارئ عــى الغــوص ب ُع ٍ‬
‫مــق أكــر يف املعــاين‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫ا ُملودعــة يف النصــوص ا ُمل َّنزلــة(((‪.‬‬

‫كان مالــك األشــر (رضــوان اهلل عليــه) تابعــ ًا‬


‫خملص ـ ًا وعريق ـ ًا لإلمــام (عليــه الســام)‪ ،‬وكان ُيشــار إليـ ِـه‬
‫أن‬ ‫عــى أنَّــه واحــد مــن (رجــال ِ‬
‫يــده ال ُيمنــى)‪ .‬و ُيذكــر َّ‬
‫معاويــة بــن أيب ســفيان‪ ،‬ا ُملعــارض الرئيــس لإلمــام (عليــه‬
‫الســام) أثنــاء خروجــه عــن طاعــة اإلمــا (عليــه الســام)‬
‫‪115‬‬ ‫(‪41-37‬هـــ‪661-657/‬م) التــي طغــت عــى فــرة‬
‫خالفتـ ِـه‪ ،‬كان أحــد األشــخاص الذيــن قالــوا ذلــك بحـ ِّـق‬
‫مالــك (رضــوان اهلل عليــه)‪ ،‬وذلــك بعــد سـ ِ‬
‫ـاعه نبــأ نجــاح‬
‫مهمتــه يف تســميم مالــك قبــل متكنــه مــن احتــال منصبـ ِـه‬
‫َّ‬
‫والي ـ ًا عــى مــر‪ .‬فقــد روى الطــري عــن معاويــة قولــه‪:‬‬
‫لعــي بــن أيب طالــب يمينــان‪ .‬إحدامهــا ُقطعــت يف‬
‫ٍّ‬ ‫(كان‬

‫تعريــف بروحانيــة اإلمــام‬


‫ٌ‬ ‫((( كاظمــي‪ ،‬رضــا شــاه‪ ،‬العــدل والذكــر‪..‬‬
‫عــي‪ ،‬ط‪( ،1‬بــروت‪ ،‬دار الســاقي ومعهــد الدراســات اإلســاعيلية‪،‬‬
‫‪2009‬م)‪ ،‬ص‪.107-106‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫ص ِّفــن((( واألخــرى اليــوم)(((‪ .‬ومــن جهتـ ِـه‪ ،‬كان ر َّد اإلمــام‬


‫عــى أخبــار اغتيــال مالــك عــى النحــو التــايل‪( :‬مالِــك ومــا‬
‫مالِــك! واهلل لــو كان جبــ ً‬
‫ا لــكان َفنْــد ًا‪ ،‬ولــو كان حجــر ًا‬
‫لــكان َص ْلــد ًا‪ ،‬ال يرتقيــه احلافــر‪ ،‬وال يــويف عليــه الطائــر)(((‪.‬‬

‫((( هـ ِ‬
‫ـذه إشــارة إىل عــار بــن يــارس (رضــوان اهلل عليــه) الــذي ُقتــل عــى‬
‫أيــدي قــوات معاويــة يف ص ِّفــن‪ .‬وشـكَّل مقتــل عــار صفعـ ًة معنويــة كبــرة‬
‫‪116‬‬
‫جليــش معاويــة‪ ،‬إذا مــا تذكرنــا نبــوءة النبــي َّ‬
‫بــأن الفئــة الباغيــة ســتقتل‬
‫عــار ًا‪ُ .‬ينظــر‪ :‬القشــري‪ ،‬أبــو احلســن مســلم بــن احلجــاج النيســابوري‬
‫(ت‪261‬هـــ‪875/‬م)‪ ،‬صحيــح مســلم‪ ،‬حتقيــق‪ :‬نظــر حممــد الفاريــايب‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫(الريــاض‪ ،‬دار طيبــة‪1427 ،‬هـــ‪2006/‬م)‪ ،‬حديــث رقــم (‪ ،)2916‬م‪،2‬‬
‫أن رســول اهلل‬ ‫ص‪ .1333‬ذكــر مســلم عــن أ ِّم ســلمة (رضــوان اهلل عليهــا) َّ‬
‫الف َئـ ُة الب ِ‬
‫اغ َي ُة)‪.‬‬ ‫ـك ِ‬
‫(صــى اهلل عليــه وآلــه وســلم) قــال لعــار بــن يــارس‪( :‬تَق ُت ُلـ َ‬
‫َ‬
‫((( الطــري‪ ،‬أبــو جعفــر م ُ َّمــد بــن جريــر (ت‪310‬هـــ‪922/‬م)‪ ،‬تاريــخ‬
‫الرســل وامللــوك‪ ،‬حتقيــق‪ :‬حممــد أبــو الفضــل إبراهيــم‪ ،‬ط‪( ،2‬القاهــرة‪ ،‬دار‬
‫املعــارف‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،).‬ج‪ ،5‬ص‪.96‬‬
‫((( ابــن أيب احلديــد‪ ،‬عــز الديــن عبــد احلميــد بــن هبــة اهلل املعتــزيل‬
‫(ت‪656‬هـــ‪1258/‬م)‪ ،‬رشح هنــج البالغــة‪ ،‬حتقيــق‪ :‬حممــد أبــو الفضــل‬
‫إبراهيــم‪ ،‬ط‪( ،2‬القاهــرة‪ ،‬دار إحياء الكتب العربيــة‪1385 ،‬هـ‪1965/‬م)‪،‬‬
‫ج‪ ،6‬ص‪.77‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫تــأيت دائــرة حقــوق اإلنســان يف منظــور اإلمــام عــي‬


‫بــن أيب طالــب (عليــه الســام) أوســع ممــا أوردهــا الفقهــاء‬
‫أثنــاء معاجلاهتــم القضائيــة‪ .‬فاحلقــوق عنــده (عليــه الســام)‬
‫هــي الركــن القانــوين يف نظــام العالقــات االجتامعيــة‪،‬‬
‫فاملســلم مسـ ٌ‬
‫ـؤول عــن حقــوق اآلخريــن‪ :‬حـ ّـق الوالديــن‪،‬‬
‫وحـ ّـق الزوجــة‪ ،‬وحـ ّـق االبــن‪ ،‬وحـ ّـق ا ُملع ِّلــم‪ ،‬وحـ َّـق ا ُملـ ِّ‬
‫ـرب‪،‬‬
‫هلــذه احلقــوق ا ُملتبادلــة‬ ‫ِ‬ ‫وحــق الصديــق‪ ...‬إلــخ‪ .‬ونتيجــ ًة‬
‫ّ‬
‫‪117‬‬
‫يقــوم نظــام العالقــات اإلجتامعيــة بــن األفــراد‪ .‬أ َّمــا حـ َّـق‬
‫اهلل (جــل وعــا) فهــو الدائــرة الواســعة التــي تشــمل حـ َّـق‬
‫املجتمــع‪ ،‬فهــو غــر منفصــل عــن حقــوق النــاس‪ ،‬بــل‬
‫ـع حلقــوق النــاس‪ ،‬وليــس العكــس‪ .‬إذ يقــول أمــر‬
‫هــو َت َبـ ٌ‬
‫املؤمنــن (عليــه الســام)‪( :‬جعــل اهلل ســبحانه حقــوق‬
‫ـاده ُمقدِّ مــة حلقوقـ ِـه)(((‪ .‬وهبــذا يكــون أفضــل مــا يقــوم‬
‫عبـ ِ‬

‫(((  اآلمــدي‪ ،‬أبــو الفتــح ناصــح الديــن عبــد الواحــد بــن م ُ َّمــد بــن عبــد‬
‫الواحــد التميمــي (ت ق‪6‬هـــ‪12/‬م)‪ُ ،‬غــرر ِ‬
‫احل َكــم و ُد َرر الك َِلــم‪ ،‬حتقيــق‪:‬‬ ‫َ‬
‫مؤسســة األعلمــي للمطبوعــات‪،‬‬ ‫حســن األعلمــي‪ ،‬ط‪( ،1‬بــروت‪َّ ،‬‬
‫‪1422‬هـــ‪2002/‬م)‪ ،‬ص‪.120‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫بـ ِـه اإلنســان هــو أن ُيوصــل احلقــوق إىل أهلهــا‪ ،‬يقــول أمــر‬
‫املؤمنــن (عليــه الســام)‪( :‬أفضــل اجلـ ِ‬
‫ـود إيصــال احلقــوق‬ ‫ُ‬
‫إىل أهلهــا)(((‪.‬‬

‫َن َظــر اإلمــام عــي بــن أيب طالــب (عليــه الســام) إىل‬
‫الوجــود نظــر ًة ال يتع َّطــل فيهــا حــدٌّ مــن حــدود العقــل‬
‫والقلــب واجلســد‪ .‬وال يطغــى فيهــا تأ ُّم ُ‬
‫ــل اإلنســان يف‬
‫ِ‬
‫كامالتــه‪ .‬عــى النظــر يف حقــوق‬ ‫واالندمــاج يف‬ ‫الكــون‬ ‫‪118‬‬
‫ُ‬
‫اإلنســان ا ُملرتبــط بــاألرض ارتبــاط عيـ ٍ‬
‫ـش وبقــاء‪ .‬أو عــى‬
‫النظــر يف حقــوق اجلامعــة املتعاونــة املتكافلــة يف سـ ِ‬
‫ـبيل البقــاء‬
‫مقومــات‪ .‬فهــو إ َّمــا دعــا إىل اإلعجــاب‬
‫ومــا يقتضيــه مــن ِّ‬
‫بروعـ ِـة الوجــود وعجائــب اخللــق‪ ،‬دعــا يف احلــن ذاتـ ِـه إىل‬
‫توجيــه األفــراد واجلامعــات توجيهـ ًا صحيحـ ًا يســر هبــم يف‬
‫طريــق التعــاون االقتصــادي والتكا ُفــل املــادي الــذي يضمن‬
‫هلــم الوصــول إىل اخلــر األكــر‪ :‬إىل املحافظــة عــى كرامـ ِـة‬
‫ٍ‬
‫وعاطفــة تتحــرك‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫فكــر يعمــل‪،‬‬ ‫اإلنســان ا ُملركَّــب مــن‬

‫(((  املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.42‬‬


‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫وجسـ ٍـد لــه عليــك حـ ٌّـق ولــك بـ ِـه املعنــى املــادي مــن معــاين‬
‫وجــودك‪ .‬وهــو إ َّمــا ســعى يف تطهــر الضمــر وتقديــس‬
‫الشــوق وســاحة الوجــدان‪ ،‬راح يف الوقــت نفسـ ِـه يســعى‬
‫يف تنظيــم جمتمــ ٍع عــادل لــه قوانــن وضع َّيــة هــي بمثابــة‬
‫األســاس مــن البنــاء(((‪.‬‬

‫هــذه واحــد ٌة مــن أبــرز مقاطــع وموضوعــات حقــوق‬


‫‪119‬‬ ‫ِ‬
‫عهــده‬ ‫اإلنســان التــي أوردهــا اإلمــام (عليــه الســام) يف‬
‫ملالــك األشــر (رضــوان اهلل عليــه) (رمحــة العــدل)‪ ،‬حيــث‬
‫ـي احلاكــم بحاجتـ ِـه الدائمــة إىل‬
‫االقــران بالفقــراء ُيعـ ِّـزز وعـ َ‬
‫اهلل (جــل وعــا)‪ ،‬وهــذا مــا يســاعده عــى العيــش بصـ ٍ‬
‫ـورة‬ ‫ُ‬
‫دائمــة معتمــد ًا عــى رمحـ ِـة اهلل‪ ،‬باألمــل والثقــة؛ واملصاحــب‬
‫الطبيعــي ملثــل هـ ِ‬
‫ـذه احليــاة هــو اإلنعــام بالعطــف والرمحــة‬
‫عــى بنــي جنــس املــرء مــن البــر‪ .‬وال تتعــارض القــدرة‬
‫ـفقة ورمحـ ٍـة مــع متط ِّلبــات العــدل‪ ،‬إذا مــا‬
‫عــى العمــل بشـ ٍ‬

‫((( جــرداق‪ ،‬اإلمــام عــي صوت العدالــة اإلنســانية‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ص‪-111‬‬


‫‪.112‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫ٍ‬
‫ســس أنطولوجيــة ‪ ،Ontology‬أي وفقــ ًا‬‫تصورنــاه عــى ُأ‬
‫للطبيعــة األساســية للحقيقــة‪ .‬والتــرف برمحــة يتطابــق مــع‬
‫العــدل ليــس بمعنــى وضــع األمــور يف مواضعهــا فحســب‬
‫(إذ علينــا أن نمــدَّ الرمحــة إىل حيثــا كانــت احلاجــة إليهــا)‬
‫بــل تتــاءم مــع العــدل مــن جهـ ِـة كوهنــا تتوافــق مــع طبيعــة‬
‫األشــياء احلقيقيــة‪ ،‬أي مــع الطبــع املطبــوع للحــق‪ .‬وهلــذا‬
‫كل سـ ٍ‬
‫ـورة مــن ســور القــرآن (مــا‬ ‫الســبب نجــد عــى رأس ِّ‬ ‫‪120‬‬
‫عــدا واحــدة) اســم اهلل متبوعـ ًا بعبــاريت (الرمحــن الرحيــم)‪.‬‬
‫ـارة أخــرى‪ ،‬ال تنبــع القــدرة عــى التــرف برمحــة مــن‬ ‫بعبـ ٍ‬

‫مشــاعر شــخصية إىل هــذا احلــد كــا لــو كانــت صــادرة عــن‬
‫ارتبـ ٍ‬
‫ـاط مطبــوع بطبيعــة احلقيقــة اإلهليــة نفســها؛ أي تلــك‬
‫محتِــي‬
‫﴿و َر َ‬
‫احلقيقــة األســمى التــي يقــول عنهــا القــرآن‪َ :‬‬
‫َو ِســ َعت ك َُّل َش ٍء﴾((( ؛ أو تلــك احلقيقــة التــي يقــول‬
‫محــ َة﴾(((؛ أو تلــك‬ ‫ــى َن ْف ِس ِ‬
‫ــه َا َّلر َ‬ ‫ُــم َع َ‬ ‫فيهــا‪َ ﴿ :‬كت َ‬
‫َــب َر ُّبك ْ‬

‫((( سورة األعراف‪ ،‬آية‪.156 :‬‬

‫((( سورة األنعام‪ ،‬آية‪.54 :‬‬


‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫(ســبِقت رمحتــي‬
‫التــي يتقــرر فيهــا طب ُعهــا اجلوهــري بمبــدأ َ‬
‫غضبــي)(((‪ .‬ويعثــر املــرء أيض ـ ًا عــى أقــوال عديــدة لإلمــام‬
‫عــي (عليــه الســام) بخصــوص رضورة إظهــار الرمحــة‪:‬‬
‫ُرحــم)(((؛‬
‫َرحــم ت َ‬
‫(توزيــع الرمحــة يســتنزل الرمحــة)(((؛ (كــا ت َ‬
‫ٍ‬
‫المــرئ يرجــو رمحــ َة َمــ ْن هــو أعــى منــه‪ ،‬وال‬ ‫(أعجــب‬
‫ُ‬
‫يرحــم َم ـ ْن هــو أدنــى من ـ ُه)(((‪.‬‬
‫‪121‬‬ ‫وفيــا يتع َّلــق بموضــوع الرمحــة أيضــ ًا‪ ،‬تعــد الفقــرة‬
‫التاليــة مــن عهــد اإلمــام (عــي الســام) ملالــك األشــر‬
‫ا رائعــ ًا َّ‬
‫ألنــا تضــع رضورة‬ ‫(رضــوان اهلل عليــه) عمــ ً‬

‫حديــث ُقــديس‪ ،‬أي حديــث إهلــي نطــق ِ‬


‫بــه النبــي‪ُ .‬ينظــر‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫((( هــذا‬
‫ابــن حجــر العســقالين‪ ،‬أمحــد بــن عــي (ت‪852‬هـــ‪1448/‬م)‪ ،‬فتــح‬
‫حل َمــد‪،‬‬
‫البــاري بــرح صحيــح البخــاري‪ ،‬حتقيــق‪ :‬عبــد القــادر شــيبة ا َ‬
‫ط‪( ،1‬الريــاض‪1421 ،‬هـــ‪2001/‬م)‪ ،‬ج‪ ،13‬ص‪ ،449‬حديــث رقــم‬
‫(‪.)7179‬‬
‫((( اآلمدي‪ ،‬غُرر ِ‬
‫احلكَم و ُد َرر الك َِلم‪ ،‬ص‪.111‬‬ ‫َ‬
‫((( املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.238‬‬
‫((( املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.38‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫ٍ‬
‫ســياق عاملــي‪ ،‬كــا َّإنــا أحــد أكثــر‬ ‫الرمحــة والشــفقة يف‬
‫التعابــر أمهيـ ًة لإلمــام (عليــه الســام) حــول وحــدة اجلنــس‬
‫البــري ومســاواة مجيــع بنــي البــر‪َّ .‬إنــا تقــف بــارز ًة‬
‫كوســيلة تصحيــح ِّ‬
‫لــكل أشــكال التحامــل والتخصيــص‬
‫والتمييــز الطائفــي‪ ،‬التــي قــد تُط ِّبــق العــدل أو الرمحــة‬
‫عــى أعضــاء (جمموعة)الفــرد فقــط‪ ،‬مهــا كان تعريفهــا‬
‫ـك الر ْ َ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ـم‬ ‫ح ـ َة ل َّلرع َّيــة َوا َْل َح َّب ـ َة َلُـ ْ‬ ‫(و َأ ْشــع ْر َق ْل َبـ َ َّ‬ ‫أو حتديدهــا‪َ :‬‬ ‫‪122‬‬
‫ِ‬ ‫ــم َســ ُبع ًا َض ِ‬
‫ــم‬ ‫اريــ ًا َت ْغتَن ُ‬ ‫ــم‪َ ،‬وال َتكُونَــ َّن َع َل ْي ِه ْ‬ ‫ــف ِبِ ْ‬ ‫َوال ُّل ْط َ‬
‫ـر‬ ‫ِ‬ ‫ـك ِف الدِّ يـ ِ ِ‬ ‫ـان إِ َّمــا َأ ٌخ َلـ َ‬ ‫َأ ْك َلهــم‪َ ،‬فإِنــم ِصنْ َفـ ِ‬
‫ـن‪َ ،‬وإ َّمــا نَظـ ٌ‬ ‫ُ ْ َّ ُ ْ‬
‫ــم ا ْل ِع َل ُــل‬ ‫الز َل ُــل َو َت ْع ِ‬ ‫ِ‬ ‫ــك ِف ْ‬
‫الَ ْل ِ‬ ‫َل َ‬
‫ــر ُض َل ُ ُ‬ ‫ــم َّ‬‫ــق‪َ ،‬ي ْف ُــر ُط من ُْه ُ‬
‫ـم ِمـ ْن َع ْفـ ِـو َك‬ ‫ِ‬ ‫ـم ِف ا ْل َع ْمـ ِـد َو ْ‬
‫الَ َطــإِ َف َأ ْعط ِهـ ْ‬
‫ِ‬
‫َو ُي ْؤ َتــى َعـ َـى َأ ْيدهيِـ ْ‬
‫ـك اللَُّ ِم ـ ْن‬ ‫ـب َو َتـ ْـر َض َأ ْن ُي ْعطِ َيـ َ‬ ‫ـك ِم ْثـ ِ ِ ِ‬
‫ـل ا َّلــذي ُتـ ُّ‬ ‫َو َص ْف ِحـ َ‬
‫ـك‬ ‫ـك َف ْو َقـ َ‬ ‫ـم َو َو ِال األَ ْمـ ِـر َع َل ْيـ َ‬ ‫ـك َف ْو َق ُهـ ْ‬ ‫َع ْفـ ِـو ِه َو َص ْف ِحـ ِـه َفإِ َّنـ َ‬
‫ِ‬
‫ــم َوا ْبتَــا ََك‬ ‫اك َأ ْم َر ُه ْ‬‫اســ َت ْك َف َ‬ ‫ــو َق َمــ ْن َوالَّ َك‪َ ،‬و َقــد ْ‬ ‫َواللَُّ َف ْ‬
‫ــم)(((‪.‬‬ ‫ِ ِب ْ‬

‫((( عبده‪ ،‬م ُ َّمد‪ ،‬رشح هنج البالغة‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.84‬‬


‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫إن ا ُملال َء َمــة العامليــة ملبــدأ الرمحــة والعطــف قــد‬


‫َّ‬
‫(عــز وجــل)‪.‬‬ ‫بمذك ٍ‬
‫ِّــر بالســلطة ا ُملطلقــة هلل ّ‬ ‫اجتمعــت هنــا ُ‬
‫فمهــا كان الرجــل (حاكــ ًا أو واليــ ًا ُيع ِّينــ ُه حاكــم) فإنَّــه‬
‫ليــس بــيء ســوى عبــدٌ هلل‪ ،‬يعتمــد عــى رمحــة ربـ ِـه بصـ ٍ‬
‫ـورة‬ ‫ِّ‬
‫كل مــن جيــد نفســه يف موقــ ٍع مــن‬ ‫ُمطلقــة‪ .‬وهكــذا‪ ،‬عــى ِّ‬
‫التفــوق النســبي عــى اآلخريــن أن يتذكَّــر دائــ ًا ضعفــه‬
‫مقابــل ا ُملطلــق‪ ،‬إذ يــؤدي بـ ِـه هــذا الوعــي يف ٍ‬
‫آن إىل إظهــار‬
‫‪123‬‬
‫الرمحــة جتــاه مــن هــم أدنــى منــه‪ ،‬واكتســاب رمحــة اهلل الــذي‬
‫هــو فوقــه(((‪.‬‬

‫ثــم‪ ،‬فقــد كان لإلمــام (عليــه الســام) اهتــام‬


‫ومــن ّ‬
‫ـده ملالِك‬
‫واضــح وتشــديد بالــغ عــى موضــوع الرمحــة يف عهـ ِ‬

‫األشــر (رضــوان اهلل عليــه)‪ ،‬واضعـ ًا يف طليعـ ِـة هــذا العهــد‬


‫جمموعـ ًة مــن املبــادئ العامــة‪ ،‬ومــن مجلتهــا حقــوق اإلنســان‬
‫كإنســان‪ ،‬إىل جانــب حقوقـ ِـه كمســلم‪ ،‬منطلق ـ ًا مبدئي ـ ًا مــن‬
‫الرمحـ ِـة باإلنســان كإنســان‪ .‬يقــول (عليــه الســام)‪( :‬و َأ ْشـ ِ‬
‫ـع ْر‬ ‫َ‬

‫تعريف بروحانية اإلمام عيل‪ ،‬ص‪.134‬‬


‫ٌ‬ ‫((( كاظمي‪ ،‬العدل والذكر‪..‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫ـك الر ْ َ ِ ِ ِ‬
‫ـم)‪ .‬وهكــذا‬‫ـف ِبِـ ْ‬
‫ـم َوال ُّل ْطـ َ‬
‫حـ َة ل َّلرع َّيــة َوا َْل َح َّبـ َة َلُـ ْ‬ ‫َق ْل َبـ َ َّ‬
‫أســس اإلمــام (عليــه الســام) حلقــوق اإلنســان عــى ُمرك ٍ‬
‫َّب‬ ‫َّ‬
‫مــن ثالثـ ِـة ُأســس‪:‬‬

‫يتحسس الرمحة باإلنسان‪.‬‬


‫َّ‬ ‫أوالً‪ :‬يأمره بأن‬
‫(((‬
‫وثانيـ ًا‪ :‬املح َّبــة لإلنســان‪ ،‬وهــي غــر الرمحــة‪ .‬فالرمحة‬
‫ـاف قلبــي وشــفقة عــى الــيء الــذي ترمحــه‪ ،‬ولكــن‬
‫إنعطـ ٌ‬
‫‪124‬‬
‫ليــس بالــرورة أن ُتبــه‪ ،‬فاإلمــام (عليــه الســام)‬
‫ُيضيــف إىل الرمحــة املح َّبــة‪ ،‬بمعنــى أن يكــون لــدى الــوايل‬
‫مــود ًة للنــاس بــا هــم نــاس؛ بقطــع النظــر عــن الفــوارق‬
‫األخــرى‪ ،‬فينبغــي أن تُقــدَّ ر ظــروف اإلنســان ُمــرد ًا عــن‬
‫لونــه وتوجهاتــه الفكريــة والعقائديــة وغريهــا؛ فاإلنســان‬
‫إذا عــاش يف ظـ ٍ‬
‫ـروف معينــة توجــب عليــه أن يعتقــد ببعــض‬

‫ٍ‬
‫ملزيــد مــن التفاصيــل حــول موضــوع الرمحــة يف اإلســام‪ُ ،‬ينظــر‪:‬‬ ‫(((‬
‫أعــال املؤمتــر الــدويل حــول )الرمحــة يف اإلســام(‪ ،‬الــذي أقامتــه جامعــة‬
‫امللــك ســعود‪ ،‬ك ِّليــة الرتبيــة‪ ،‬قســم الدراســات اإلســامية‪ ،‬الريــاض‪،‬‬
‫‪1430‬هـــ‪ُ 13 ،‬م َّلــد‪.‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫ِ‬
‫كظروفــه‬ ‫األمــور اعتقــد هبــا‪ ،‬ولــو عــاش غــره ظروفــ ًا‬
‫العتقــد بــا اعتقــده‪ ،‬فينبغــي أن تُقــدَّ ر ظروفــه انطالق ـ ًا مــن‬
‫الرمحــة لــه كإنســان‪ ،‬طبعـ ًا مــا مل يكــن خطــر ًا عــى البرشيــة‪،‬‬
‫ـاب آخــر‪.‬‬
‫فهــذا لــه حسـ ٌ‬

‫وثالثــ ًا‪ :‬يأمــره (عليــه الســام) باللطــف هبــم‪ ،‬وهــو‬


‫مــن صفــات احلــق (جــل وعــا) ومــن معــاين (ال َّلطيــف)‬
‫‪125‬‬ ‫حلســنى (عـ ّـز وجــل)‪ ،‬وجــاء يف األثــر‪( :‬خت َّلقــوا‬ ‫ِ‬
‫مــن أســائه ا ُ‬
‫بأخــاق اهلل)(((‪ .‬و ُيــراد مــن ال ُّلطــف هنــا‪ :‬التعامــل معهــم‬
‫با ُملســاحمة ِ‬
‫والرفــق وال ُيــر‪ ،‬فالرمحــة واملح َّبــة مــن وظائــف‬
‫القلــب‪ ،‬بينــا ال ُّلطــف أمـ ٌـر عمــي‪ُ ،‬يــراد منــه التعامــل معهــم‬
‫بوســائل مبن َّيــة عــى اللــن وال َعطــف‪ ،‬ف ُيخاطــب اإلنســان‬
‫ب ُلطــف‪ ،‬وتُــدار شــؤونه بلطــف‪ .‬ولتكــن قــرارات الــوايل‬
‫رحيمــ ًة غــر شــديدة أو شــا َّقة‪ ،‬بــل مبن َّيــة عــى أســاس‬

‫((( الفخــر الــرازي‪ ،‬أبــو عبــد اهلل م ُ َّمــد بــن عمــر بــن احلســن الطربســتاين‬
‫ال َقـ َـريش (ت‪604‬هـــ‪1208/‬م)‪ ،‬تفســر الفخــر الــرازي ا ُملشــتهر بالتفســر‬
‫الكبــر ومفاتيح الغيــب‪ ،‬ط‪( ،1‬بريوت‪ ،‬دار الفكــر‪1401 ،‬هـ‪1981/‬م)‪،‬‬
‫ج‪ ،9‬ص‪.66‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫الرفــق‪ ،‬يقــول النبــي‬ ‫ألن اإلســام ديــن ِ‬ ‫التل ُّطــف هبــم‪َّ ،‬‬
‫ُــون ِف‬
‫فــق الَ َيك ُ‬
‫الر َ‬ ‫(إن ِ‬
‫الكريــم (صــى اهلل عليــه وآلــه)‪َّ :‬‬
‫نــز ُع ِمــن َش ٍء إال َشــا َن ُه)(((‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫َشء إال َزانَــ ُه‪َ ،‬والَ ُي َ‬

‫وحينــا فــرغ اإلمــام (عليــه الســام) مــن تقريــر هــذا‬


‫ِ‬
‫ضــده وهــو (الوحشــية) يف التعامــل‬ ‫َّ‬
‫حــذر مــن‬ ‫املبــدأ‬
‫ٍ‬
‫بشــكل جزئــي كــا يفعــل البعــض حــن خيلــط بــن‬ ‫ولــو‬
‫اإلنســانية‪ ،‬حينــ ًا والوحشــية حينــ ًا آخــر فتغلــب وحشــيته‬ ‫‪126‬‬
‫كل ٍ‬
‫يشء‬ ‫ِ‬
‫غــره يف ِّ‬ ‫أن أحــد ًا عَــدَ ل مــع‬ ‫ِ‬
‫إنســانيته‪ ،‬فلــو َّ‬ ‫عــى‬
‫وسـ ِّـمي‬ ‫ٍ‬
‫وظلمــه يف جمــال واحــد فقــط لغلــب ظلمــه عدلــه ُ‬
‫(وال َتكُونَــ َّن َع َل ْي ِه ْ‬
‫ــم‬ ‫(ظاملــ ًا) لــه‪ ،‬فقــال (عليــه الســام)‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫َســ ُبع ًا َض ِ‬
‫هــم‬
‫ــم)‪ .‬فــا ينبغــي أن يكــون َّ‬ ‫ــم َأ ْك َل ُه ْ‬
‫اريــ ًا َت ْغتَن ُ‬
‫الــوايل هــو النهــب مــن حقــوق الرعيــة واالعتــداء عــى‬
‫ِ‬
‫ذهنــه دائــ ًا بأنَّــه‬ ‫كراماهتــم‪ ،‬بــل ينبغــي أن يســتحرض يف‬
‫ِ‬
‫لنفســه ينبغــي أن يتمنــاه‬ ‫إنســان وهــم كذلــك‪ ،‬فــا يتمنــاه‬

‫(((  القشريي‪ ،‬صحيح مسلم‪ ،‬حديث رقم (‪ ،)2594‬م‪ ،2‬ص‪.1203‬‬


‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫ِ‬
‫ناحيــة اإلنســانية(((‪.‬‬ ‫هلــم‪ ،‬إذ ال فــرق بينــه وبينهــم مــن‬
‫ٍ‬
‫نقطــة يف‬ ‫ويصــل اإلمــام (عليــه الســام) اآلن إىل‬
‫الرســالة‪( ،‬ال َعهــد)‪ُ ،‬يريــد مــن مالِــك (رضــوان اهلل عليه) أن‬
‫يوليهــا اهتاممـ ًا خاصـ ًا‪ .‬إ َّنــه يبــدأ الفقــرة((( بعبـ ٍ‬
‫ـارة تعجبيــة‪،‬‬ ‫ُ‬

‫(مؤسســة البحــوث‬
‫َّ‬ ‫(((  املالكــي‪ ،‬فاضــل‪ ،‬حقــوق اإلنســان‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫والدراســات اإلســامية ‪ /‬دار الفكــر‪1432 ،‬هـــ)‪ ،‬موســوعة املحــارضات‬
‫‪127‬‬
‫اإلســامية‪ ،‬ص ص‪.18-15‬‬
‫ِ‬
‫هبــذه الفقــرة‪ ،‬مــا نصــه مــن كتــاب اإلمــام (عليــه الســام)‬ ‫(((  نقصــد‬
‫السـ ْف َل ِمـ َن ا َّل ِذيـ َن‬ ‫ِ‬
‫ملالــك األشــر (رضــوان اهلل عليــه)‪) :‬اللََّ اللََّ ِف ال َّط َب َقــة ُّ‬
‫ِ‬

‫الز ْمنَــى‪َ ،‬فــإِ َّن‬ ‫ـل ا ْل ُب ْؤ َســى َو َّ‬ ‫ـن َو َأ ْهـ ِ‬‫َاجـ َ‬ ‫ني َوا ُْل ْحت ِ‬ ‫ـاك ِ‬‫ال ِحي َل ـ َة َلــم ِم ـن ا َْلسـ ِ‬
‫ُ ْ َ َ‬
‫ــظ لَِّ مــا اســتَح َف َظ َك ِمــن ح ِّق ِ‬ ‫ــر ًا‪ .‬واح َف ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ــه‬ ‫ْ َ‬ ‫َ ْ ْ‬ ‫ِف َهــذه ال َّط َب َقــة َقانعــ ًا َو ُم ْع َ ّ َ ْ‬
‫ــو ِاف‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ــل َل ِ‬ ‫ِ‬
‫ــم ق ْســ ًا مــ ْن َب ْيــت َمالــك َوق ْســ ًا مــ ْن َغــاَّت َص َ‬ ‫اج َع ْ ُ ْ‬ ‫ــم‪َ ،‬و ْ‬ ‫ف ِيه ْ‬
‫أل ْد َنــى‪َ .‬وك ٌُّل َقـ ِـد‬ ‫ـم ِم ْثـ َـل ا َّلـ ِـذي لِ َ‬ ‫ِ‬
‫ـى من ُْهـ ْ‬ ‫اإل ْسـ َـا ِم ِف ك ُِّل َب َلـ ٍـد‪َ ،‬فــإِ َّن لِ َ‬
‫أل ْقـ َ‬ ‫ِ‬
‫ــذر بِت َْض ِي ِ‬ ‫ــر‪َ ،‬فإِن َ‬ ‫ــر ِع َ‬
‫ــك‬ ‫يع َ‬ ‫َّــك ال ُت ْع َ ُ‬ ‫ــم َب َط ٌ‬ ‫يت َح َّقــ ُه َوال َي ْشــ َغ َلن ََّك َعن ُْه ْ‬ ‫اس ُ ْ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ــم‪َ ،‬وال ت َُص ِّع ْــر‬ ‫ــك َعن ُْه ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ص َ َّ‬ ‫ــم َفــا ت ُْشــخ ْ‬ ‫ــر ا ُْله َّ‬ ‫ــك ا ْلكَث َ‬ ‫التَّافــ َه إل ْحكَام َ‬
‫ـك ِمنْهــم ِمـن َت ْقت ِ‬ ‫ِ‬
‫ـون‬‫َح ُمـ ُه ا ْل ُع ُيـ ُ‬ ‫ـور َمـ ْن ال َيصـ ُـل إِ َل ْيـ َ ُ ْ َّ ْ‬ ‫ـم‪َ ،‬و َت َف َّقــدْ ُأ ُمـ َ‬ ‫َخــدَّ َك َلُـ ْ‬
‫اضــعِ‪،‬‬ ‫الَ ْشــ َي ِة َوالت ََّو ُ‬ ‫ــل ْ‬ ‫َــك ِمــ ْن َأ ْه ِ‬ ‫ــك ثِ َقت َ‬ ‫ــر ْغ ألُو َل ِئ َ‬ ‫ــال‪َ ،‬ف َف ِّ‬‫الر َج ُ‬ ‫ــر ُه ِّ‬
‫ِ‬
‫َو َ ْتق ُ‬
‫اإل ْعـ َـذ ِار إِ َل اللَِّ َيـ ْـو َم َت ْل َقــا ُه‪َ ،‬فــإِ َّن‬ ‫ِ‬ ‫ـع إِ َل ْيـ َ‬
‫ـم بِ ِ‬ ‫ـم ا ْع َمـ ْـل ف ِيهـ ْ‬ ‫ـم‪ُ ،‬ثـ َّ‬ ‫ور ُهـ ْ‬‫ـك ُأ ُم َ‬ ‫َف ْل َ ْي َفـ ْ‬
‫ـم‪َ ،‬وك ٌُّل َف َأ ْعـ ِـذ ْر‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫الر ِع َّيـ ِـة َأ ْحـ َـو ُج إِ َل ِ‬ ‫الء ِم ـ ْن َبـ ْ ِ‬ ‫هــؤ ِ‬
‫اإلن َْصــاف م ـ ْن َغ ْ ِيهـ ْ‬ ‫ـن َّ‬ ‫َ ُ‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫(اهللَ‪ ،‬اهللَ)مــن أجــل التشــديد عــى رضورهتــا وإحلاحهــا‪.‬‬


‫ـاس ال مــورد هلــم عــى اإلطــاق‬ ‫ويتع َّلــق التوجيــه هنــا ُبأنـ ٍ‬
‫الســن) أولئــك‬ ‫ِ‬
‫والز ْمنــى واليتامــى وكبــار ِّ‬
‫(أهــل البــؤس َّ‬
‫(((‬

‫الذيــن هــم (أحــوج إىل اإلنصــاف) مــن غريهــم‪ ،‬والذيــن‬


‫جيــب ُمعاملتهــم بطريقـ ٍـة تــؤدي إىل (اإلعذار إىل اهلل ُســبحانه‬
‫إن هــؤالء مجيعـ ًا‪ ،‬ومعهــم أولئــك ا ُملحتاجــون‬ ‫يــوم تلقــاه)‪َّ .‬‬
‫الذيــن يرفضــون التســول‪ ،‬هــم مــن جيــب عــى الــوايل‬ ‫‪128‬‬

‫السـ ِّن ِم َّـ ْن‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬


‫إِ َل اللَِّ ِف ت َْأد َيــة َح ِّقــه إِ َل ْيــه‪َ .‬و َت َع َّهــدْ َأ ْهـ َـل ا ْل ُي ْتـ ِم َو َذ ِوي ِّ‬
‫الر َّقــة ِف ِّ‬
‫ِ ِ‬ ‫ـب لِ ْل َم ْسـ َـأ َل ِة َن ْف َسـ ُه‪َ ،‬و َذلِـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـك َعـ َـى ا ْلـ ُـوالة َثقيـ ٌـل َو ْ َ‬
‫الـ ُّـق‬ ‫ال حي َلـ َة َلـ ُه َوال َينْصـ ُ‬
‫ـروا َأ ْن ُف َسـ ُـه ْم‬ ‫ِ‬ ‫ُك ُّل ـ ُه َث ِقيـ ٌـل‪َ .‬و َقــدْ ُ َ‬
‫ي ِّف ُف ـ ُه اللَُّ َعـ َـى َأ ْقـ َـوا ٍم َط َل ُبــوا ا ْل َعاق َب ـ َة َف َصـ َّ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ـم(‪ .‬عبــده‪ُ ،‬م َّمــد‪ ،‬رشح هنــج البالغــة‪ ،‬ج‪،3‬‬ ‫َو َوث ُقــوا بِصــدْ ق َم ْو ُعــود اللَِّ َلُـ ْ‬
‫ص‪.101-100‬‬
‫بـ)الز َمانَــة( بفتــح‬
‫َّ‬ ‫ِ‬
‫أولــه‪ ،‬مجــع زمــن‪ ،‬وهــو ا ُملصــاب‬ ‫الزمنــى‪ :‬بفتــح‬
‫((( َّ‬
‫الــزاي أي العاهــة‪ .‬يريــد أربــاب العاهــات املانعــة هلــم عــن االكتســاب‪.‬‬
‫ُينظــر حــول املعنــى‪ :‬الفــروز آبــادي‪ ،‬جمــد الديــن أبــو طاهــر ُم َّمــد‬
‫بــن يعقــوب بــن ُم َّمــد (ت‪817‬هـــ‪1415/‬م)‪ ،‬معجــم القامــوس‬
‫املحيــط‪ ،‬حتقيــق‪ :‬خليــل مأمــون شــيحا‪ ،‬ط‪( ،4‬بــروت‪ ،‬دار املعرفــة‪،‬‬
‫‪1430‬هـــ‪2009/‬م)‪ ،‬ص‪.573‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫مســاعدهتم‪ ،‬وأن ُيعـ ِّـن هلــم أحــدَ ثِقاتـ ِـه مــن أهـ ِ‬
‫ـل اخلَشــية‬
‫ثــم ُيضيــف الكلــات‬ ‫والتواضــع لريفــع إليــه أمورهــم‪َّ .‬‬
‫ــق ُك ُّلــ ُه َث ِق ٌ‬
‫يــل‪،‬‬ ‫يــل َو ْ َ‬
‫ال ُّ‬ ‫الة َث ِق ٌ‬
‫ــى ا ْلــو ِ‬
‫ُ‬ ‫ــك َع َ‬ ‫(و َذلِ َ‬ ‫احلاســمة‪َ :‬‬
‫ـروا َأ ْن ُف َسـ ُـه ْم‬ ‫ِ‬
‫ي ِّف ُفـ ُه اللَُّ َعـ َـى َأ ْقـ َـوا ٍم َط َل ُبــوا ا ْل َعاق َبـ َة َف َصـ َّ ُ‬
‫َو َقــدْ ُ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ـم)‪ .‬ولعـ َّـل هــذا مــن أقــوى‬ ‫َو َوث ُقــوا بِصــدْ ق َم ْو ُعــود اللَِّ َلُـ ْ‬
‫مصاديــق رعايــة اإلمــام (عليــه الســام) حلقــوق اإلنســان‪،‬‬
‫‪129‬‬ ‫أي إنســان‪ ،‬يف ظـ ِّـل إدارة دولتـ ِـه وسياســتها الــذي أوضــح‬ ‫َّ‬
‫جانب ـ ًا منهــا عهــده إىل مالِــك األشــر (رضــوان اهلل عليــه)‪.‬‬

‫مــا نريــد تســليط الضــوء عليــه هنــا هــو َّ‬


‫أن العنــر‬
‫الروحــي هــو مــا جيعــل الــيء املثــايل شــيئ ًا عملي ـ ًا؛ ولــوال‬
‫ذلــك ألصبــح محــ ً‬
‫ا ثقيــاً‪ :‬املســاعدة اإلهليــة مضمونــة‬
‫ِ‬
‫هــذه الدنيــا‬ ‫ألولئــك الذيــن ال يقتــر اهتاممهــم عــى‬
‫فقــط‪ ،‬ولكــ َّن طلباهتــم تتعــدَّ ى حدودهــا لتعــر إىل الــدار‬
‫ِ‬
‫هــذه الدنيــا عــى َّأنــا ممــر إىل‬ ‫اآلخــرة‪ .‬وعندمــا ننظــر إىل‬
‫اآلخــرة فحســب‪ ،‬يــرز لدينــا موقــف جتــاه الدنيــا يتَّســم‬
‫بالعــدل الكامــل‪ .‬أ َّمــا أولئــك الذيــن ال ختــرج حــدود‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫فإنــم ســيكونون ضحيــة خيــار‬ ‫ِ‬


‫طلباهتــم خــارج هــذه الدنيــا َّ‬
‫إمهــال الفقــراء الســهل؛ ألنَّــه وطبقــ ًا للمقاييــس األفقيــة‬
‫للتقييــم الســيايس‪ ،‬فـ َّ‬
‫ـإن تكاليــف إتِّبــاع سياســة الصدقــات‬
‫جتــاه الفقــراء وا ُملحتاجــن قــد تفــوق يف وزهنــا‪ ،‬بالنسـ ِ‬
‫ـبة إىل‬
‫الــوايل‪ ،‬مــا يتأتَّــى ِ‬
‫إليــه مــن منافــع‪ .‬ويكــون ذلــك حيثــا‬
‫كانــت السياســة األخالقيــة مرتبطــة بتقديــر حــري هلـ ِ‬
‫ـذه‬
‫الدنيــا‪ ،‬أو بسياسـ ٍ‬
‫ـات براغامتيــة((( ‪ Pragmatism‬أو مصالح‬ ‫‪130‬‬

‫((( املذهــب العمــي أو فلســفة الذرائع‪ ‬أو‪ ‬الرباغامتيــة ‪:Pragmatism‬‬


‫هــو مذهــب فلســفي ســيايس يعــد نجــاح العمــل املعيــار الوحيــد للحقيقــة؛‬
‫ر‬ ‫ِ‬ ‫رابطــ ًا بــن التطبيــق والنظريــة‪ ،‬إذ َّ‬
‫إن النظريــة يتــم اســتخراجها عــ َ‬
‫ِ‬
‫هــذه املدرســة يف الواليــات املتحــدة يف أواخــر ســنة‬ ‫التطبيــق‪ ،‬نشــأت‬
‫‪ .1878‬والرباغامتيــة اســم ُمشــتق مــن اللفــظ اليونــاين‪ :‬براغــا‪ ،‬ومعنــاه‬
‫أن األثــر العمــي هــو ا ُملحــدِّ د األســايس‬
‫العمــل‪ .‬تقــوم الرباغامتيــة عــى َّ‬
‫وص َّحــة االعتقــاد باحليــاة االجتامعيــة للنــاس‪ .‬فالقيمــة‬‫يف ِصــدق املعرفــة ِ‬

‫واحلقيقــة ال تتحــدان إالَّ يف عالقتهــا باملامرســة العمليــة‪ .‬وتتميــز الرباغامتية‬


‫الفعالنيــة كــا حددهــا الفيلســوف األمريكــي شــارل ســاندرز پــرس‬ ‫عــن ِ‬

‫‪ .)1839-1914( Charles Sanders Peirce‬وتشــمل الرباغامتيــة‬


‫كل احلركــة الفلســفية ا ُملتع ِّلقــة بوليــام جيمــس ‪William James‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫شــخصية‪ ،‬وتكشــف عــن عيــوب موروثــة بعينها‪ .‬لكــن‪ ،‬إذا‬


‫مــا كان مفهــوم احلــق يف مــا يتع َّلــق بالفقــراء مشــبع ًا بإيـ ٍ‬
‫ـان‬ ‫ُ‬
‫كل‬ ‫ِ‬
‫بعدالــة اهلل (جــل وعــا) ال تلــن ورمحــة ت ََســع َّ‬ ‫ثابــت‬
‫يشء وتفيــض بطلــب اآلخــرة‪ ،‬عندهــا ســيتو َّلد موقــف مــن‬
‫الوفــاء الثابــت حلاجــات الفقــراء واملســاكني يف املجتمــع‪،‬‬
‫حتقيقــ ًا لضــان حقــوق اإلنســان فيــه‪ ،‬بــل سيســتمر يف‬
‫ِ‬
‫توالــده إىل مــا ال هنايــة‪.‬‬
‫‪131‬‬
‫إن مثــل هــذا املوقــف يذهــب بعيــد ًا خــارج نطــاق‬
‫َّ‬
‫املفاهيــم املعهــودة للصداقــة أو ال َكـ َـرم‪َّ .‬‬
‫ألن مــن أدرك هــذا‬
‫أي اقــراح‬ ‫املوقــف مــن الكــال لــن يكــون قابــ ً‬
‫ا لتق ُّبــل َّ‬
‫معاكــس ينبــع مــن براغامتيـ ٍـة أنانيــة أو فرديــة‪ ،‬وبصـ ٍ‬
‫ـورة أقــل‬

‫ـم‬
‫(‪ )1842-1910‬وجــون ديــوي ‪ ،)1859-1952( John Dewey‬ثـ َّ‬
‫جلــدد الذيــن اســتأنفوا تراثهــم الفكــري‪ ،‬مــن مثــل‪ :‬ريتشــارد‬
‫الفالســفة ا ُ‬
‫روريت ‪ )1931-2007( Richard McKay Rorty‬وهيــاري پوتنــام‬
‫‪.)1926-2016( Hilary Whitehall Putnam‬‬
‫‪Pratt, James Bissett, What is Pragmatism?, New York:‬‬
‫‪The MacMillan Company, 1909, Pp.1-47.‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫مــن الالمبــاالة أو العنــاد وقــوة الشــكيمة‪ .‬هبــذا املوقــف‬


‫الثابــت يف املــكان يــأيت ِذ ْكـ ُـر اإلمــام (عليــه الســام) للصفــة‬
‫ٍ‬
‫بصورة‬ ‫التاليــة‪ِ ،‬صفــة االحتــال والصــر‪ ،‬والتــي جتــري هنــا‬
‫طبيعيــة؛ ألنَّــه‪ ،‬يف ضــوء االستشــعار امللمــوس‪ ،‬وليــس‬
‫املفهومــي فحســب‪ِ ،‬‬
‫للق َيــم ا ُملطلقــة موضــوع البحــث‪،‬‬
‫يمكــن مــدَّ الصــر واالحتــال إىل مــا ال هنايــة إذ ال يعــود‬
‫معتمــد ًا عــى اإلرادة الشــخصية وحدهــا‪ ،‬بــل ُيســتَدام‬ ‫‪132‬‬
‫بتقويــة النعمــة التــي جتــري مــن إيـ ٍ‬
‫ـان ُمستَش ـ َعر بالقلــب‪.‬‬

‫ويســتكمل اإلمــام (عليــه الســام) النقطــة املذكــورة‬


‫ٍ‬
‫بإشــارة إىل أولئــك الذيــن هلــم طلبــات ُم َّقــة‪،‬‬ ‫أعــاه‬
‫ِ‬
‫بحقيقــة وعــد اهلل‬ ‫ولدهيــم‪ ،‬كنتيجــة لذلــك‪ ،‬ثقــة عظيمــة‬
‫(جــل وعــا)‪ ،‬إذا مــا كان وعــد اهلل باجلــزاء‪ ،‬وبعدالتـ ِـه التــي‬
‫ثــم الدافــع‬ ‫ِ‬
‫ال ختــذل‪ ،‬ورمحتــه الالحمــدودة كوهنــا حقيقــة‪َّ ،‬‬
‫وراء جهــد الــوايل ملــدِّ الرمحــة إىل الفقــراء والتعامــل معهــم‬
‫ـيتعمق بصـ ٍ‬
‫ـور ال تُقــاس‪ .‬وتتحــول املهمــة التــي‬ ‫ٍ‬
‫بعدالــة سـ َّ‬
‫يصفهــا اإلمــام (عليــه الســام) بـ(الثقيلــة) – أي واجــب‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫مســاعدة الضعفــاء واملســاكني‪ ،‬وهــي املســاعدة التــي ال‬


‫أي منافــع سياســية – تتحــول إىل‬
‫يمكــن أن تتأتَّــى عنهــا َّ‬
‫واجــب ال مفـ َّـر منــه ُملــزم لقناعــات املــرء الروحيــة‪ .‬وجتــد‬
‫هـ ِ‬
‫ـذه القناعــة أو االعتقــاد أرضي ـ ًة هلــا يف اليقــن بـ َّ‬
‫ـأن مثــل‬
‫وم َّقــة ومناســبة‬
‫هــذا الكــرم والرمحــة هــي أمــور َح َســنة ُ‬
‫ِ‬
‫هــذه الفضائــل إنَّــا هــي يف تناغــم‬ ‫فحســب‪ ،‬بــل َّ‬
‫إن مثــل‬
‫‪133‬‬ ‫وانســجام مــع اجلوهــر الصحيــح والقريــب للحقيقــة‬
‫ا ُملطلقــة‪َّ .‬‬
‫إن املضامــن (األخالقيــة) للحقيقــة (الروحيــة)‬
‫والصــدى الروحــي املــردد للفضيلــة أيضــ ًا حمجوبــة عــن‬
‫حلـكَّام الدنيويــن بتحاملهــم املســتور يف أحســن األحــوال‪،‬‬
‫ا ُ‬
‫حلــكَّام‬
‫وبقبائحهــم املســتورة يف أســوأها‪ .‬ومثــل هــؤالء ا ُ‬
‫غافلــون أيضــ ًا عــن التحذيــرات والتهديــدات بالعقــاب‬
‫للظاملــن‪ .‬ويمكــن النظــر إىل الظـ ِ‬
‫ـال هنــا عــى أ َّنــه ذلــك الذي‬
‫يعــي األوامــر اإلهليــة بالعــدل‪ ،‬والــذي خيــرق أيضـ ًا‪ ،‬وهذا‬
‫هــو املهــم أساس ـ ًا‪ ،‬صفــة الرمحــة الواقعــة يف قلــب الطبيعــة‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫ِ‬
‫هــذه الصفــة التــي نــادى هبــا وحــاول بياهنــا‬ ‫اإلهليــة(((‪.‬‬
‫وإيضاحهــا عــي بــن أيب طالــب (عليــه الســام) خــال‬
‫عهــده لواليــه عــى مــر مالِــك بــن األشــر النُخعــي‬
‫ِ‬

‫رضــوان اهلل عليــه‪.‬‬

‫كان (عليــه الســام) ُي ِّســد العدالــة اإلنســانية ب ُبعدهيــا‬


‫الفــردي واالجتامعــي‪ ،‬إذ جت َّلــت عدالــة اإلنســان يف حــدود‬
‫ِ‬
‫وعدالتــه يف مضــار احلكــم والســلطة تلــك‬ ‫ِ‬
‫حياتــه الفرديــة‬ ‫‪134‬‬
‫التــي نطلــق عليهــا (العدالــة االجتامعيــة)((( ‪Social Justice‬‬

‫تعريــف بروحانيــة اإلمــام عــي‪ ،‬ص‬


‫ٌ‬ ‫(((  كاظمــي‪ ،‬العــدل والذكــر‪..‬‬
‫ص‪.145-144‬‬
‫((( هــي‪ :‬نظــام اقتصــادي – اجتامعــي‪ ،‬هيــدف إىل إزالــة الفــوارق‬
‫االقتصاديــة الكبــرة بــن طبقــات املجتمــع‪ .‬تُسـ َّـمى أحيانـ ًا العدالــة املدنيــة‪،‬‬
‫وتصــف فكــرة املجتمــع الــذي تســود فيــه العدالــة يف كافــة مناحيــه‪ ،‬بــدالً‬
‫ٍ‬
‫بشــكل عــام‪ ،‬تُفهــم العدالــة‬ ‫ِ‬
‫عدالــة القانــون فقــط‪.‬‬ ‫مــن انحصارهــا يف‬
‫االجتامعيــة عــى َّأنــا توفــر معاملــة عادلــة وحصــة تشــاركية مــن خــرات‬
‫املجتمــع‪ .‬العدالــة االجتامعيــة تُش ـكِّل مــاد ًة خصبــة للنقــاش يف السياســة‪،‬‬
‫والديــن‪ ،‬وحمــددات املجتمــع ا ُملتحــر‪ .‬مــن وجهــة نظر‪ ‬اليســار‪ ،‬تتمثــل‬
‫العدالــة االجتامعيــة يف النفعيــة االقتصاديــة‪ ،‬وإعــادة توزيــع الدخــل‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫ـي بــن أيب طالــب (عليــه الســام)‪.‬‬ ‫ِ‬


‫يف حيــاة أمــر املؤمنــن عـ ِّ‬
‫وعلينــا أن نعــرف ذلــك بنيـ ِـة تطبيقـ ِـه عملي ـ ًا الس ـيام بالنسـ ِ‬
‫ـبة‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ألولئــك الذيــن حتملــون املســؤوليات يف املجتمــع ويتبــوأون‬
‫موقعــ ًا يف احلكومــة‪ ،‬فلقــد مت َّثلــت العدالــة الفرديــة بأعــى‬
‫ُعب‬
‫درجاهتــا يف شــخصية اإلمــام (عليــه الســام)‪ ،‬وذلــك مــا ن ِّ‬
‫عنــه بـ(التقــوى)‪ ،‬تلــك التقــوى التــي كان (عليــه الســام)‬
‫‪135‬‬
‫القومــي‪ ،‬وتكافــؤ الفــرص‪ ،‬وغريهــا مــن أمــارات املجتمــع املــدين‪ .‬مــن‬
‫أبــرز نظريــات العدالــة االجتامعيــة تعــود للفيلســوف األمريكــي الليــرايل‬
‫جــون رولــس ‪ )1921-2002( John Bordley Rawls‬التــي اعتمــد‬
‫فيهــا عــى تبــرات الفيلســوفان النفعيــان جريمــي بينثــام ‪Jeremy‬‬
‫‪ )1748-1832(Bentham‬وجــون ســتيوارت ميــل ‪John Stuart‬‬
‫‪ ،)1806-1873( Mill‬وأفــكار ال َعقــد االجتامعــي عنــد جــون لــوك‬
‫‪ ،)1632-1704( John Locke‬وأفــكار إيامنويــل كانــت ‪Immanuel‬‬
‫ِ‬
‫نظريتــه يف العدالــة‬ ‫‪ .)1724-1804( Kant‬إذ كان أول تعبــر لــه عــن‬
‫كتابــه‪) :‬نظريــة يف العدالــة( ‪،ATheory of Justice‬‬ ‫ِ‬ ‫االجتامعيــة يف‬
‫الــذي ُنــر عــام ‪ .1971‬جاع ـ ً‬
‫ا مــن العدالــة االجتامعيــة فكــر ًة فلســفية‬
‫ال سياســية‪.‬‬
‫‪Social Justice in an Open World.. The Role of the United‬‬
‫‪Nation, New York: United Nation, 2006. Pp.11-20.‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫ُيســدها يف عملـ ِـه الســيايس والعســكري ويف توزيعـ ِـه لبيـ ِ‬


‫ـت‬ ‫ِّ‬
‫ثــم‪ ،‬متثــل العدالــة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫املــال ويف قضائــه ومجيــع شــؤونه‪ .‬ومــن ّ‬
‫الفرديــة أو الذاتيــة يف الواقــع ســند ًا للعدالـ ِـة االجتامعيــة‪.‬‬

‫قــدَّ م اإلمــام (عليــه الســام) درســه اخلالــد لـ ِّ‬


‫ـكل الذيــن‬
‫ُيامرســون دور ًا عــى الصعيــد الســيايس ملجتمعاهتــم‪ ،‬فهــو‬
‫ـب نفس ـ ُه‬
‫(عليــه الســام) يف هــذا املجــال يقــول‪َ ( :‬مــن ن ََّصـ َ‬
‫ـاس إمامـ ًا فعليـ ِـه أن يبــدأ بتعليــم نفسـ ِـه قبــل تعليــم ِ‬
‫غريه‪،‬‬ ‫للنـ ِ‬ ‫‪136‬‬
‫ـرته قبــل تأديبــه بلسـ ِ‬
‫ـانه)(((‪ .‬إذ بإمــكان‬ ‫وليكــن تأديبــه بسـ ِ‬

‫بيد اإلنســانية لســلوك‬ ‫اللســان النُطــق بالكثــر‪ ،‬أمــا مــا يأخــذ ِ‬


‫َّ‬
‫رصاط اهلل (عـ ّـز وجــل) فهــو ســرة وأفعــال مــن يقــع عليـ ِـه‬
‫االختيــار ليكــون إمامـ ًا للنــاس ســواء عــى املجتمــع أو أدنى‬
‫ـتوى من ذلــك(((‪.‬‬
‫مسـ ً‬

‫((( عبده‪ ،‬م ُ َّمد‪ ،‬رشح هنج البالغة‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.153‬‬


‫((( عفــراوي‪ ،‬أيــاد دخيــل‪ ،‬سياســة املجتمــع عنــد اإلمــام عــي (عليــه‬
‫الســام)‪ ،‬رســالة ماجســتري غــر منشــورة‪ ،‬اجلامعــة املســتنرصية‪ ،‬ك ِّليــة‬
‫الرتبيــة األساســية‪1437 ،‬هـــ‪2015/‬م‪ ،‬ص ص‪.97-96‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫ـف اإلمــام (عليــه الســام) أن يقــوم هــو بنفسـ ِـه‬ ‫ومل يكتـ ِ‬
‫لــه ومــن يو ِّل ِ‬
‫يــه عــى‬ ‫بالعــدل‪ ،‬وإنَّــا كان يؤكِّــد عــى عم ِ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫البلــدان واألمصــار‪ .‬حيــث قــال (عليــه الســام) يف عهـ ِ‬
‫ـده‬
‫ـب األ ُمـ ِ‬ ‫ِ‬
‫ـور‬ ‫(و ْل َي ُكـ ْن َأ َحـ َّ‬
‫ملالــك األشــر (رضــوان اهلل عليــه)‪َ :‬‬
‫ــق‪َ ،‬و َأ َع ُّم َهــا ِف ا ْل َعــدْ ِل‪َ ،‬و َأ ْ َ‬
‫ج ُع َهــا‬ ‫ــك َأ ْو َســ ُط َها ِف ْ َ‬
‫ال ِّ‬ ‫إِ َل ْي َ‬
‫الر ِع َّيـ ِـة)‪ .‬ومــن عهـ ٍـد لــه (عليــه الســام) إىل ُم َّمــد‬ ‫لـ ِـر َض َّ‬
‫ِ‬

‫‪137‬‬ ‫بــن أيب بكــر (رضــوان اهلل عليــه) (‪38-10‬هـــ‪-631/‬‬


‫ـك‪َ ،‬و َألِـ ْن‬ ‫ِ‬
‫َاحـ َ‬‫‪658‬م) حــن ق َّلــده مــر‪َ ( :‬فاخفــض َلُــم َجن َ‬
‫وآس َبين َُهــم ِف ال َّلح َظـ ِـة‬ ‫ِ‬ ‫ـك‪،‬‬‫جهـ َ‬ ‫أبســط َلُــم َو َ‬ ‫ـك‪َ ،‬و ُ‬ ‫َلُــم َجانِ َبـ َ‬
‫ـك َلُــم َوالَ َييـ َـأ َس‬ ‫ـع ال ُع َظـ َـا ُء ِف َح ِيفـ َ‬ ‫طمـ َ‬
‫ِ‬
‫َوالنَّظـ َـرة َح َّتــى ال َي َ‬
‫ِ‬ ‫ـك ِ ِبــم‪َ ،‬فـ َّ‬ ‫الض َع َفــا ُء ِمــن َعدلِـ َ‬
‫ـر‬ ‫ـال ُي َســائ ُلكُم َمعـ َ َ‬ ‫ـإن اهللَ َت َعـ َ‬ ‫ُّ‬
‫ــر ِة‬ ‫ِ‬
‫ــرة‪َ ،‬وال َّظاه َ‬
‫ــن الص ِغــر ِة ِمــن َأعملِكُــم والكَبِ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ع َبــاده َع ِ َّ َ‬
‫ِ ِِ‬

‫ــف َف ُه َ‬
‫ــو‬ ‫وإن َي ْع ُ‬ ‫ــم‪ْ ،‬‬ ‫ــذ ْب َفأنتُــم أظ َل ُ‬ ‫ُور ِة‪َ ،‬ف ْ‬
‫ــإن ُي َع ِّ‬ ‫َوا َملســت َ‬
‫ـاب ل ـ ُه (عليــه الســام) إىل األســود بــن‬ ‫أكـ َـر ُم)(((‪ .‬ومــن كتـ ٍ‬
‫ِ‬ ‫َقطِي َبـ َة‬
‫ـف‬ ‫ال إ َذا اخ َت َلـ َ‬ ‫ـإن الـ َـو ِ َ‬ ‫صاحــب ُحلـ َـوان‪( :‬أ َّمــا َبعــدُ َفـ َّ‬

‫((( عبده‪ ،‬م ُ َّمد‪ ،‬رشح هنج البالغة‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.27‬‬


‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫أمــر الن ِ‬ ‫ِ‬ ‫هــواه منَعــه َذلِ َ ِ ِ‬


‫َّــاس‬ ‫ــك كَثــر ًا مــ َن ال َعــدل‪َ .‬فل َيكُــن ُ‬ ‫َ َ ُ َ َ ُ‬
‫ــو ٌض ِمــ َن‬ ‫ِ‬
‫ــو ِر ع َ‬
‫جل ْ‬‫يــس ِف ا َ‬
‫ــوا ًء َفإنَّــ ُه َل َ‬
‫ــق َس َ‬
‫حل ِّ‬ ‫ِ‬
‫عنــدَ َك ِف ا َ‬
‫ـدل‪َ .‬فاجتَنِــب مــا ت ِ‬
‫ُنكـ ُـر أم َثا َل ـ ُه)(((‪.‬‬ ‫ال َعـ ِ‬
‫َ‬
‫ومــن هــذا املتقــدم يتضــح لنــا َّ‬
‫أن آراء اإلمــام (عليــه‬
‫الســام) تُعــد مقياس ـ ًا جيــب عــى الــكل التفكــر والعمــل‬
‫عــى وفقهــا‪ ،‬التــي يمكــن عدّ هــا يف هـ ِ‬
‫ـذه املســألة املهمــة أبــرز‬
‫نمــوذج ملعرفــة معنــى العدالــة االجتامعيــة احلقيقــي و ُمراعاة‬ ‫‪138‬‬
‫املســاواة بــن النــاس ويف العدالــة التــي مــن املفــرض أن‬
‫حتكــم عالقــة احلكومــات بشــعوهبا‪.‬‬

‫وقــد جيــوز لنــا أن نــورد حادثــة توضــح بشـ ٍ‬


‫ـكل جيــد‬
‫تطبيــق اإلمــام الرحيــم ملبــدأ العــدل إضافــ ًة إىل كوهنــا‬
‫أن النــاس مجيع ـ ًا‬
‫تعبــر ًا عــن مبــدأ أرشنــا إليــه ســابق ًا وهــو َّ‬
‫ـر لــك يف اخلَلــق)‪ .‬التقــى اإلمــام (عليــه الســام)‬
‫هــم (نظـ ٌ‬
‫مصادف ـ ًة متســوالً أعمــى عجــوز ًا‪ ،‬فســأل عنــه‪ .‬فقيــل‪ :‬لــه‬
‫َّ‬
‫أن املتســول نــراين‪ ،‬فقــال ملــن حولــه‪( :‬لقــد اســتعملتموه‪،‬‬

‫((( املرجع نفسه‪ ،‬ج‪ ،3‬ص ص‪.116-115‬‬


‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫ح َّتــى أصبــح عجــوز ًا ضعيف ـ ًا‪ ،‬وترفضــون اآلن مســاعدته‪.‬‬


‫أعطــوه مــن بيــت املــال مــا يقيــم ِ‬
‫بــه أو َد ُه)(((‪ُ .‬يضــاف‬ ‫ُ‬
‫ُعــر بإجيــاز شــديد عــن مبــدأ‬ ‫ِ‬ ‫إىل ذلــك‪َّ ،‬‬
‫أن هــذه اجلملــة ت ِّ‬
‫املصلحــة االجتامعيــة اإلســامي‪ ،‬الــذي يقــوم عــى إعــادة‬
‫توزيــع عادلــة وسياســة مــن عــدم التمييــز بــن املســلمني‬
‫وغريهــم بصـ ٍ‬
‫ـورة صارمــة‪ .‬فالعدالــة االجتامعيــة واملســاواة‬
‫‪139‬‬ ‫الدينيــة تنبعــان منســابتني مــن الرمحــة التــي ال ُينظــر إليهــا‬
‫كأحــد املشــاعر فقــط‪ ،‬بــل ك ُبعــد منطبــع يف احلــق‪ .‬ولذلــك‪،‬‬
‫ُرتجــم إىل واجــب دينــي أســايس مفــروض عــى ِّ‬
‫كل‬ ‫فإنــا ت َ‬
‫َّ‬
‫املســلمني‪ُ ،‬حكَّامــ ًا ومواطنــن‪ ،‬ال فــرق‪.‬‬

‫وجديــر بالذكــر َّ‬


‫أن اجلملــة األخــرة مــن الفقــرة‬
‫املذكــورة ســابق ًا‪ ،‬وهــي التــي ُت ِّ‬
‫ــذر احلاكــم مــن اعتبــار‬
‫الســلطة املمنوحــة لــه عــى رعايــاه‪ ،‬ليســت ببســاطة امتيــاز ًا‪،‬‬

‫((( احلــر العامــي‪ ،‬م ُ َّمــد بــن احلســن (ت‪1104‬هـــ‪1693/‬م)‪ ،‬تفصيــل‬


‫مؤسســة آل البيــت‬
‫وســائل الشــيعة إىل حتصيــل مســائل الرشيعــة‪( ،‬قــم‪َّ ،‬‬
‫(عليــه الســام) إلحيــاء الــراث‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،).‬ج‪ ،11‬ص‪.49‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫وإنَّــا امتحانــ ًا مــن اهلل (عــز وجــل)‪ ،‬ت ِّ‬


‫ُعــر بوضــوح عــن‬
‫حلكــم‪ .‬لقــد‬ ‫موقــف اإلمــام (عليــه الســام) اخلــاص مــن ا ُ‬
‫بـ(الش ْق ِشــق َّية) إ َّنــه مل يقبــل بالســلطة‬ ‫ِ‬ ‫قــال يف اخلطبــة الشــهرية‬
‫ألنــا واجــب ال يمكــن التهــرب منــه‪َ ( :‬أ َمــا َوا َّلـ ِـذي َف َلـ َـق‬ ‫إالَّ َّ‬
‫ال َّجـ ِـة‬ ‫الـ ِ ِ ِ‬
‫ـاض‪َ ،‬وق َيــا ُم ْ ُ‬ ‫ال َّب ـ َة‪َ ،‬و َبـ َـر َأ الن ََّسـ َـم َة َلـ ْـوالَ ُح ُضـ ُ‬
‫ـور ْ َ‬ ‫َْ‬
‫ِ‬ ‫ــود الن ِ ِ‬ ‫بِوج ِ‬
‫ــاروا‬ ‫ــى ا ْل ُع َل َــاء َأ ْن الَ‪ُ  ‬ي َق ُّ‬ ‫َّــاص‪َ ،‬و َمــا َأ َخ َ‬
‫ــذ اللُّ َع َ‬ ‫ُ ُ‬
‫ـت َح ْب َل َهــا َعـ َـى‬ ‫ب َم ْظ ُلــوم‪ ،‬ألَ ْل َق ْيـ ُ‬ ‫َعـ َـى ِك َّظـ ِـة َظـ ِ‬
‫ـال َوالَ َ‪ ‬س ـ َغ ِ‬ ‫‪140‬‬
‫آخرهــا بِـك َْأ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َغ ِ‬
‫ـم ُد ْن َيا ُكـ ْ‬
‫ـم‬ ‫س َأ َّولَــا‪َ ،‬وألَ ْل َف ْي ُتـ ْ‬ ‫ار ِ َبــا‪َ ،‬و َل َس ـ َق ْي ُت َ َ‬
‫هـ ِـذ ِه َأ ْز َهــدَ ِعنْـ ِـدي ِم ـ ْن َع ْط َفـ ِـة َعنْــز)(((‪.‬‬

‫ا باهــر ًا ملوقــف أفالطــون املثــايل مــن‬


‫نــرى يف ذلــك متث ـ ً‬
‫الســلطة؛ الســلطة التــي حيملهــا (الفيلســوف) احلــق‪ ،‬ذلــك‬
‫الــذي يتحمــل عــبء احلكــم مــن أجــل النــاس فحســب‪( :‬وال‬
‫يعدّ هــا متييــز ًا بــل مهمــة ال جمــال لتجنبهــا‪ ...‬ينصــب اهتاممــه‬
‫عــى احلــق ومــا يســتجلبه ذلــك مــن رشف‪ ،‬وفــوق ذلــك ك َّلــه‪،‬‬
‫ـى عنــه‪ ،‬ومــن أجلـ ِـه وأجــل‬ ‫ِ‬
‫يرعــى العــدل بكونــه شــيئ ًا ال غنـ ً‬

‫((( عبده‪ ،‬م ُ َّمد‪ ،‬رشح هنج البالغة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ص‪.37-36‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫ضــان ســامته‪ ،‬يعملــون عــى إعـ ِ‬


‫ـادة تنظيــم دولتــه)(((‪.‬‬

‫ثــم‪ ،‬فقــد ابتــدأ أمــر املؤمنــن (عليــه الســام)‬


‫ومــن ّ‬
‫عهــده ملالِــك األشــر (رضــوان اهلل عليــه) باألمــر‪ ،‬بقولـ ِـه‪:‬‬
‫ــن َمالِ َ‬
‫ــك بــ َن‬ ‫ــر ا ُْل ْؤ ِمنِ َ‬ ‫بــه َعبــدُ اللَِّ َع ِ ِ‬
‫ــي َأم ُ‬
‫ٌّ‬ ‫ْ‬
‫ــذا مــا َأمــر ِ‬
‫(ه َ َ َ َ‬ ‫َ‬
‫ــه ِح َ‬
‫ــن‬ ‫ــد ِه إِ َلي ِ‬
‫ْ‬
‫ــر‪( ‬رضوا اهلل عليــه) ِف َعه ِ‬
‫ْ‬
‫ال ِ ِ‬
‫ــارث األَ ْش َ َ‬ ‫َْ‬
‫ــر)‪ُ .‬م ْ ِ‬ ‫ِ‬
‫شعــ ًا هبــذا األمــر ُيعــدد الواجبــات التــي‬ ‫َوالَّ ُه م ْ َ‬
‫‪141‬‬ ‫ينبغــي عــى مالِــك األشــر (رضــوا اهلل عليــه) القيــام هبــا‪،‬‬
‫واألمــور التــي عليـ ِـه ُمراعاهتــا‪ ،‬وحقــوق النــاس التــي جيــب‬
‫أن احلاكــم مــا هــو إالَّ مســؤول ُمؤمتــن‬
‫تأديتهــا‪ .‬مبينــ ًا لــ ُه َّ‬
‫عــى حقــوق النــاس‪ ،‬وخدمتهــم‪ ،‬وعــدل احلاكــم هــو مــا‬
‫يوجــب عــى الرعيــة إتباعــه‪ .‬وا ُملتدبــر يف قـ ِ‬
‫ـراءة العهــد جيــد‬ ‫ِّ‬
‫أن اإلمــام (عليــه الســام) كان قــد أنكــر أن يكــون احلاكــم‬‫َّ‬
‫واحلكومــة ســلطة ُمتجـ ِّـرة ُمتسـ ِّلطة عــى رؤوس الناس‪ ،‬بل‬
‫أن يكــون احلاكــم واحلكومــة يف خدمـ ِـة النــاس‪ ،‬و ُمداراهتــم‪،‬‬

‫(((  املنيــاوي‪ ،‬أمحــد‪ ،‬مجهوريــة أفالطــون‪ ..‬املدينــة الفاضلــة كــا تصورهــا‬


‫فيلســوف الفالســفة‪ ،‬ط‪( ،1‬دمشــق‪ ،‬دار الكتــاب العــريب‪2010 ،‬م)‪،‬‬
‫ص‪.205‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫وإالَّ حتولــت احلكومــة إىل منصــب دنيــوي يلهــث وراءه ّ‬


‫كل‬
‫وكل باحـ ٍ‬
‫ـث عــن جــاه‪ ،‬وهــذا‬ ‫مــن ُيــب الدنيــا ومغرياهتــا‪ّ ،‬‬
‫مــا حـ َّـذر منــه اإلمــام (عليــه الســام) ون َّبــه عليــه‪ ،‬وخـ َّـوف‬
‫مــن عاقبتـ ِـه يف الدنيــا واآلخــرة‪.‬‬
‫وأخــر ًا‪ ،‬فقــد أ َّكــد اإلمــام (عليــه الســام) يف عهـ ِ‬
‫ـده‬
‫ٍ‬
‫مجلــة مــن القواعــد‬ ‫لألشــر(رضوان اهلل عليــه) عــى‬
‫وتكــم عــن طريقهــا الدولــة‪،‬‬‫والقوانــن التــي تُــدار ُ‬ ‫‪142‬‬
‫وتُراعــى شــؤون الرعيــة‪ ،‬فحينــا توجــه مالِــك (رضــوان‬
‫اهلل عليــه) إلدارة شــؤون مــر كان مــزود ًا بدســتور حك ـ ٍم‬
‫ناضــج و ُمكتمــل القواعــد والــروط‪ ،‬وبــا يو ِّفــر العــدل‬
‫واملســاواة وحيفــظ كرامــة اإلنســان وحقوقـ ِـه‪ ،‬مؤ ِّكــد ًا عــى‬
‫ـب‬ ‫ِ‬
‫وحـ ِّ‬
‫عـ َـارة البــاد واســتصالحها‪ ،‬واالبتعــاد عــن الطمــع ُ‬
‫حل َســن‪ ،‬والعمــل الصالــح‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الشــهوات‪ ،‬واإللتــزام بالذكــر ا َ‬
‫ِ‬
‫الرمحــة بالرعيــة وال ُلطــف هبــم‪،‬‬ ‫كــا أكَّــد (العهــد) عــى‬
‫وعــدم ُظلــم اآلخريــن‪ .‬وقــد أوىص اإلمــام (عليــه الســام)‬
‫مالِــك ًا (رضــوان اهلل عليــه) إىل احلــذر مــن دعـ ِ‬
‫ـوة املظلــوم‪،‬‬
‫ِ‬
‫دارســة‬ ‫حســن وا ُمل ِ‬
‫ــيء‪ ،‬وإىل ُم‬ ‫وإىل عــدم املســاواة بــن ا ُمل ِ‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫العلــاء واحلكــاء‪ ..‬وأراد منــه أن ُيــويل اهتاممــ ًا خاصــ ًا‬


‫بــذوي احلاجــات وا َمل ْســكَنة والفقــراء‪ ،‬وأن يعمــل عــى‬
‫بــث العيــون ُملراقبــة ا ُ‬
‫حلــكَّام‪ ،‬وليــس مراقبــة املحكومــن‬ ‫ِّ‬
‫مــر العصــور‪ ،‬وأن‬‫كــا تفعــل األنظمــة ا ُملســتبدة عــى ِّ‬
‫الســن‪ ،‬واالبتعــاد عــن‬ ‫ِ‬
‫يعمــل عــى ُمــداراة اليتامــى وكبــار ِّ‬
‫ا َملــ ِّن عــى الرعيــة والتواضــع ونــر العــدل واإلنصــاف‬
‫والصفــح‪ ،‬وقضــاء حاجــات النــاس‪ ،‬وقــول احلــق‪،‬‬
‫والعفــو َ‬
‫‪143‬‬
‫ٍ‬
‫وموضوعــات‬ ‫والعمــل عــى نــر املســاواة بــن النــاس‪..‬‬
‫أخــرى كثــرة وردت يف هــذا العهــد الــذي أنفــذه اإلمــام‬
‫عــي (عليــه الســام) إىل مالــك األشــر (رضــوان اهلل عليــه)‬
‫ِ‬
‫عليــه يف حكــم مــر‪.‬‬ ‫ليكــون دســتور حكــ ٍم يعتمــد‬

‫وهكــذا‪ ،‬فـ َّ‬


‫ـإن حقــوق اإلنســان ليســت جمــرد شــعارات‬
‫وإنــا‬
‫تُطلــق فحســب‪ ،‬بــل هــي أحــكام وتقنيــات إداريــة‪َّ ،‬‬
‫الكــرام يف مواقفهــم‬‫مبــادئ جســدها رمــوز اإلســام ِ‬
‫َّ‬
‫العمليــة السـ َّيام النبــي الكريــم (صــى اهلل عليــه وآلــه) وأهــل‬
‫بيتـ ِـه الطيبــن الطاهريــن‪.‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫املصادر‬
‫‪1‬ابــن أيب احلديــد‪ ،‬عــز الديــن عبــد احلميــد بــن هبــة اهلل‬ ‫‪.1‬‬
‫(ت‪656‬هـــ‪1258/‬م)‪ ،‬رشح هنــج البالغــة‪( ،‬القاهــرة‪ ،‬دار إحيــاء‬
‫الكتــب العربيــة‪ ،‬د‪.‬ت‪.).‬‬
‫‪2‬ابــن حجــر العســقالين‪ ،‬أمحــد بــن عــي (ت‪852‬هـــ‪1448/‬م)‪ ،‬فتــح‬ ‫‪.2‬‬ ‫‪144‬‬
‫حل َمــد‪،‬‬
‫البــاري بــرح صحيــح البخــاري‪ ،‬حتقيــق‪ :‬عبــد القــادر شــيبة ا َ‬
‫ط‪( ،1‬الريــاض‪1421 ،‬هـ‪2001/‬م)‬
‫‪3‬أبــو الفــرج األصفهــاين‪ ،‬عــي بــن احلســن بــن ُم َّمــد‬ ‫‪.3‬‬
‫(ت‪356‬هـــ‪967/‬م)‪ ،‬مقاتــل الطالبيــن‪ ،‬حتقيــق‪ :‬أمحــد صقــر‪،‬‬
‫(طهــران‪ ،‬منشــورات ذي القربــى‪1425 ،‬هـــ‪2004/‬م)‬
‫‪4‬أب��و عليـ�ه‪ ،‬عب��د الفتـ�اح حسـ�ن‪ ،‬تاريــخ األمريكيتــن والتكويــن‬ ‫‪.4‬‬
‫الســيايس للواليــات املتحــدة األمريكيــة‪( ،‬الرياــض‪ ،‬دار املريـ�خ‬
‫للنـشر‪1407 ،‬هـــ‪1987/‬م)‪.‬‬
‫‪5‬أع�مال املؤمت��ر ال��دويل حوــل )الرمحـ�ة يف اإلســام(‪ ،‬الــذي أقامتـ�ه‬ ‫‪.5‬‬
‫جامع��ة املل��ك س��عود‪ ،‬ك ِّلي��ة الرتبي��ة‪ ،‬قس��م الدراس��ات اإلسـلامية‪،‬‬
‫الريـ�اض‪1430 ،‬هـــ‪ُ 13 ،‬م َّلــد‬
‫‪6‬البخــاري‪ ،‬أبــو عبــد اهلل ُم َّمــد بــن إســاعيل (ت‪256‬هـــ‪870/‬م)‪،‬‬ ‫‪.6‬‬
‫األدب املفــرد‪ ،‬حتقيــق‪ :‬حممــد فــؤاد عبــد الباقــي‪ ،‬ط‪( ،3‬بــروت‪ ،‬دار‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫البشــائر اإلســامية‪1409 ،‬هـــ‪1989/‬م)‪.‬‬


‫‪7 .7‬بــدوي‪ ،‬ثــروت‪ ،‬النُ ُظــم السياســية‪( ،‬القاهــرة‪ ،‬دار النهضــة العربيــة‪،‬‬
‫د‪.‬ت‪.).‬‬
‫‪8 .8‬بشــر‪ ،‬حممــد عمــر‪ ،‬تاريــخ احلركــة الوطنيــة يف الســودان (‪-1900‬‬
‫‪ ،)1969‬ترمجــة‪ :‬هنــري ريــاض وآخــرون‪( ،‬اخلرطــوم‪ ،‬الــدار‬
‫الســودانية للكتــاب‪1400 ،‬هـــ‪1980/‬م)‪.‬‬
‫‪9 .9‬بيضــون‪ ،‬لبيــب‪ ،‬تصنيــف هنــج البالغــة‪ ،‬ط‪( ،2‬طهــران‪ ،‬مكتــب‬
‫اإلعــام اإلســامي‪1408 ،‬هـــ)‬
‫‪145‬‬ ‫‪1010‬اجلبــوري‪ ،‬حيــدر كاظــم‪ ،‬مصــادر الدراســة عــن هنــج البالغــة‪،‬‬
‫(النجــف األرشف‪ ،‬العتبــة العلويــة املقدســة‪2013 ،‬م)‪.‬‬
‫‪1111‬اجلــدة‪ ،‬رعــد ناجــي وآخــرون‪ ،‬حقــوق اإلنســان والديمقراطيــة‪،‬‬
‫(بغــداد‪ ،‬وزارة التعليــم العــايل والبحــث العلمــي‪2009 ،‬م)‬
‫‪1212‬جــرداق‪ ،‬جــورج‪ ،‬اإلمــام عــي صــوت العدالــة اإلنســانية‪..‬‬
‫عــي وحقــوق اإلنســان‪( ،‬البحريــن‪ ،‬دار ومكتبــة صعصعــة‪،‬‬
‫‪1423‬هـــ‪2003 /‬م)‬
‫‪1313‬اجلــايل‪ ،‬حممــد حســن احلُســيني‪ُ ،‬مس ـنَد هنــج البالغــة‪ ،‬ط‪( ،1‬قــم‪،‬‬
‫مكتبــة العالَّمــة املجلــي‪1431 ،‬هـــ)‬
‫‪1414‬جيـلي‪ ،‬خمتـ�ار‪) ،‬هنــج البالغــة(‪ ،‬طه��ران‪ ،‬املوس��وعة اإلس�لامية‪ ،‬ط‪،2‬‬
‫م‪7‬‬
‫‪1515‬احلاكــم النيســابوري‪ ،‬أبــو عبــد اهلل ُم َّمــد بــن عبــد اهلل‬
‫(ت‪405‬هـــ‪1014/‬م)‪ ،‬ا ُملســتدرك عــى الصحيحــن‪( ،‬بــروت‪ ،‬دار‬
‫الكتــب العلميــة‪1990 ،‬م)‪.‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫‪1616‬احلــر العامــي‪ُ ،‬م َّمــد بــن احلســن (ت‪1104‬هـــ‪1693/‬م)‪ ،‬تفصيــل‬


‫مؤسســة آل‬‫وســائل الشــيعة إىل حتصيــل مســائل الرشيعــة‪( ،‬قــم‪َّ ،‬‬
‫البيــت (عليــه الســام) إلحيــاء الــراث‪ ،‬د‪.‬ت‪).‬‬
‫‪1717‬احلقيــل‪ ،‬ســليامن بــن عبــد الرمحــن حممــد‪ ،‬حقــوق اإلنســان‬
‫الشــبهات املثــارة حوهلــا‪( ،‬الريــاض‪،‬‬ ‫يف اإلســام والــرد عــى ُ‬
‫‪1415‬هـــ‪1994 /‬م)‪.‬‬
‫‪1818‬اخلراســاين‪ ،‬جــواد املصطفــوي‪ ،‬الكاشــف عــن ألفــاظ هنــج البالغــة‬
‫رشوحــه‪( ،‬طهــران‪ ،‬دار الكتــب اإلســامية‪ ،‬د‪.‬ت‪).‬‬ ‫ِ‬ ‫يف‬
‫حلســيني‪ ،‬مصــادر هنــج البالغــة وأســانيده‪،‬‬ ‫‪1919‬اخلطيــب‪ ،‬عبــد الزهــراء ا ُ‬ ‫‪146‬‬
‫ط‪( ،3‬بــروت‪ ،‬دار األضــواء‪1405 ،‬هـــ‪1985/‬م)‬
‫‪2020‬الرشــيدي‪ ،‬أمحــد وعدنــان الســيد حســن‪ ،‬حقــوق اإلنســان يف الوطــن‬
‫العريب‪( ،‬دمشــق‪ ،‬دار الفكــر‪2002 ،‬م)‪.‬‬
‫‪2121‬الريســوين‪ ،‬أمحــد وآخــرون‪ ،‬حقــوق اإلنســان‪ ..‬حمــور مقاصــد‬
‫الرشيعــة‪ ،‬ط‪( ،1‬قطــر‪ ،‬وزارة األوقــاف والشــؤون اإلســامية‪،‬‬
‫‪1423‬هـــ)‪.‬‬
‫‪2222‬ال�زـركيل‪ ،‬خ�ير الديـ�ن‪ ،‬األعــام‪ ،‬ط‪( ،15‬ب�يروت‪ ،‬دار العلـ�م‬
‫للماليـين‪2002 ،‬م)‬
‫‪2323‬الزعبــي‪ ،‬فــاروق فالــح‪ ،‬حقــوق اإلنســان بــن الرشيعــة اإلســامية‬
‫والقانــون الــدويل‪ ..‬دراســة حتليليــة مقارنــة‪ ،‬جم َّلـ�ة احلقوــق‪ ،‬جملـ�س‬
‫الن�شر العلمـ�ي‪ ،‬الكويـ�ت‪ ،‬العـ�دد ‪ ،4‬السـ�نة ‪ ،29‬ذو القعـ�دة‬
‫‪1426‬هـ‪/‬ديسـ�مرب ‪2005‬م‪.‬‬
‫‪2424‬زهــران‪ ،‬فريــد‪ ،‬احلــركات االجتامعيــة اجلديــدة‪ ،‬ط‪( ،1‬القاهــرة‪،‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫مركــز القاهــرة لدراســات حقــوق اإلنســان‪2007 ،‬م)‪.‬‬


‫‪2525‬الســامر‪ ،‬فيصــل‪ ،‬ثــورة الزنــج‪ ،‬اآلمــدي‪ ،‬أبــو الفتــح ناصــح الديــن‬
‫عبــد الواحــد بــن ُم َّمد بــن عبــد الواحــد التميمي (ت ق‪6‬هـــ‪12/‬م)‪،‬‬
‫ُغــرر ِ‬
‫احل َكــم و ُد َرر الك َِلــم‪ ،‬حتقيــق‪ :‬حســن األعلمــي‪ ،‬ط‪( ،1‬بــروت‪،‬‬ ‫َ‬
‫مؤسســة األعلمــي للمطبوعات‪1422 ،‬هـــ‪2002/‬م)‬
‫َّ‬
‫‪2626‬ســتيس‪ ،‬ولــر‪ ،‬تاريــخ الفلســفة اليونانيــة‪ ،‬ترمجــة‪ :‬جماهــد عبــد املنعــم‬
‫جماهــد‪( ،‬القاهــرة‪ ،‬دار الثقافــة للنــر والتوزيــع‪1984 ،‬م)‪.‬‬
‫‪2727‬ســوادي‪ ،‬فليــح‪ ،‬عهــد اخلليفــة اإلمــام عــي بــن أيب طالــب (عليــه‬
‫‪147‬‬ ‫ِ‬
‫لواليــه عــى مــر مالــك األشــر‪( ،‬النجــف األرشف‪،‬‬ ‫الســام)‬
‫العتبــة العلويــة‪2010 ،‬م)‬
‫‪2828‬الس��يد برع��ي‪ ،‬ع��زت سـ�عيد‪ ،‬محايــة حقــوق اإلنســان يف ظـ ِّـل التنظيــم‬
‫الــدويل اإلقليمــي‪ ،‬ط‪( ،1‬القاهــرة‪ ،‬مطبع��ة العاصمـ�ة‪1985 ،‬م)‪،‬‬
‫ص‪.4‬‬
‫‪2929‬الســيد حســن‪ ،‬عدنــان‪ ،‬حقــوق اإلنســان يف اإلســام‪ ،‬ط‪( ،1‬بــروت‪،‬‬
‫املؤسســة اجلامعيــة للدراســات والنــر والتوزيــع‪1426 ،‬هـــ‪2006/‬م)‪.‬‬ ‫َّ‬
‫‪3030‬ســيف الدولــة‪ ،‬عصمــت‪ ،‬النظــام النيــايب ومشــكلة الديمقراطيــة‪،‬‬
‫(القاهــرة‪ ،‬دار املوقــف العــريب‪ ،‬د‪.‬ت‪.).‬‬
‫‪3131‬رشيعتــي‪ ،‬روح اهلل‪ ،‬فقــه التعايــش‪ ..‬غــر املســلمني يف املجتمــع‬
‫اإلســامي‪ ..‬حقوقهــم وواجباهتــم‪ ،‬تعريــب‪ :‬عــي آل دهــر اجلزائري‪،‬‬
‫(بــروت‪ ،‬مركــز احلضــارة لتنميــة الفكــر اإلســامي‪2009 ،‬م)‪.‬‬
‫حلســن‪ ..‬ظروفهــا االجتامعيــة‬ ‫‪3232‬شــمس الديــن‪ ،‬حممــد مهــدي‪ ،‬ثــورة ا ُ‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫وآثارهــا اإلنســانية‪( ،‬قــم‪ ،‬مطبعــة ســتارة‪2006 ،‬م)‬


‫‪3333‬الشــرازي‪ ،‬نــارص مــكارم‪ ،‬األمثــل يف تفســر كتــاب اهلل املنــزل‪،‬‬
‫مؤسســة األعلمــي للمطبوعــات‪2007 ،‬م)‪.‬‬ ‫(بــروت‪َّ ،‬‬
‫‪3434‬صحيــح مســلم‪ ،‬حتقي��ق‪ :‬نظ��ر حمم��د الفاري��ايب‪ ،‬ط‪( ،1‬الري��اض‪ ،‬دار‬
‫طيبة‪1427 ،‬هـــ‪2006/‬م)‬
‫ ‪ 35.‬ط‪( ،2‬بغداد‪ ،‬دار الشؤون الثقافية العامة‪2012 ،‬م)‪.‬‬
‫‪3636‬الطــراين‪ ،‬أبــو القاســم ســليامن بــن أمحــد (ت‪360‬هـــ‪918/‬م)‪،‬‬
‫املعجــم الوســيط‪ ،‬حتقيــق‪ :‬طــارق عــوض اهلل‪( ،‬القاهــرة‪ ،‬دار‬
‫احلرمــن‪1415 ،‬هـــ‪1995/‬م)‬ ‫‪148‬‬
‫‪3737‬الطــري‪ ،‬أبــو جعفــر ُم َّمــد بــن جريــر (ت‪310‬هـــ‪923/‬م)‪ ،‬تاريــخ‬
‫الر ُســل وامللــوك‪ ،‬حتقيــق‪ :‬حممــد أبــو الفضــل إبراهيــم‪( ،‬القاهــرة‪ ،‬دار‬
‫ُ‬
‫املعــارف‪1979 ،‬م)‬
‫‪3838‬الطــويس‪ ،‬أبــو جعفــر ُم َّمــد بــن احلســن (ت‪460‬هـــ‪1068/‬م)‪،‬‬
‫ـي(‪ ،‬حتقي��ق‪ :‬جـ�واد‬ ‫اختيــار معرفــة الرجــال املعــروف بـ)رجــال الكـ ِّ‬
‫مؤسس��ة الن�شر اإلسـلامي‪1427 ،‬هـــ)‬ ‫القيوم��ي األصفه��اين‪( ،‬ق��م‪َّ ،‬‬
‫‪3939‬عبــد احلســن‪ ،‬شــذى عبــد الصاحــب‪ ،‬جمتمــع املدينــة مــن خــال‬
‫القــرآن الكريــم‪ ..‬اجلوانــب السياســية واالجتامعيــة‪ ..‬دراســة‬
‫تأرخييــة‪ ،‬رســالة ماجســتري غــر منشــورة‪ ،‬جامعــة ديــاىل ‪ ،‬ك ِّليــة‬
‫الرتبيــة‪2005 ،‬م‪.‬‬
‫‪4040‬عبده‪ُ ،‬م َّمد‪ ،‬رشح هنج البالغة‪( ،‬بريوت‪ ،‬دار املعرفة‪ ،‬د‪.‬ت‪).‬‬
‫‪4141‬العــذاري‪ ،‬حممــد عبــد الرضــا‪ ،‬واقعــة فــخ ســنة ‪169‬هـــ‪ ..‬أســباهبا‬
‫ونتائجهــا‪ ،‬رســالة ماجســتري غــر منشــورة‪ ،‬ك ِّليــة الرتبيــة‪ ،‬اجلامعــة‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫املســتنرصية‪2009 ،‬م‬
‫‪4242‬عطيــة‪ ،‬نعيــم‪ ،‬القانــون والقيــم اإلجتامعيــة‪ ..‬دراســة يف الفلســفة‬
‫القانونيــة‪( ،‬القاهــرة‪ ،‬اهليــأة املرصيــة العامــة للتأليــف والنــر‪،‬‬
‫‪1971‬م)‪.‬‬
‫‪4343‬عفــراوي‪ ،‬أيــاد دخيــل‪ ،‬سياســة املجتمــع عنــد اإلمــام عــي (عليــه‬
‫الســام)‪ ،‬رســالة ماجســتري غــر منشــورة‪ ،‬اجلامعــة املســتنرصية‪،‬‬
‫ك ِّليــة الرتبيــة األساســية‪1437 ،‬هـــ‪2015/‬م‬
‫‪4444‬عكلــة‪ ،‬مثــال حســن‪ ،‬الثــورات العلويــة الشــعبية يف العــراق وأثرهــا‬
‫‪149‬‬ ‫يف نشــوء الفــرق اإلســامية حتَّــى عــام ‪334‬هـــ‪ ،‬رســالة ماجســتري‬
‫غــر منشــورة‪ ،‬ك ِّليــة الرتبيــة‪ ،‬اجلامعــة املســتنرصية‪2010 ،‬م‬
‫‪4545‬العمــري‪ ،‬أمحــد ســويلم‪ ،‬جمــال الــرأي العــام واإلعــام‪( ،‬القاهــرة‪،‬‬
‫اهليــأة املرصيــة العامــة للكتــاب‪1957 ،‬م)‪.‬‬
‫‪4646‬الغــزايل‪ ،‬حممــد‪ ،‬حقــوق اإلنســان بــن تعاليم اإلســام وإعــان األمم‬
‫املتحــدة‪ ،‬ط‪( ،4‬القاهــرة‪ ،‬هنضــة مــر للطباعــة والنــر والتوزيــع‪،‬‬
‫‪2005‬م)‪.‬‬
‫‪4747‬الفخــر الــرازي‪ ،‬أبــو عبــد اهلل ُم َّمــد بــن عمــر بــن احلســن الطربســتاين‬
‫ــريش (ت‪604‬هـــ‪1208/‬م)‪ ،‬تفســر الفخــر الــرازي ا ُملشــتهر‬ ‫ال َق َ‬
‫بالتفســر الكبــر ومفاتيــح الغيــب‪ ،‬ط‪( ،1‬بــروت‪ ،‬دار الفكــر‪،‬‬
‫‪1401‬هـــ‪1981/‬م)‬
‫‪4848‬القبانجــي‪ ،‬حســن الســيد عــي‪ ،‬رشح رســالة احلقــوق‪ ،‬ط‪( ،3‬قــم‪،‬‬
‫مطبعــة إســاعيليان‪1416 ،‬هـــ‪1996/‬م)‪.‬‬
‫‪4949‬القش�يري‪ ،‬أب��و احلس�ين مس��لم ب��ن احلج��اج النيسـ�ابوري‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

‫( ت ‪2 6 1‬هـــ ‪8 7 5 /‬م )‬
‫‪5050‬كارتــر‪ ،‬جوندولــن وجــون هــرز‪ ،‬نظــام احلكــم والسياســة يف القــرن‬
‫العرشيــن‪ ،‬ترمجــة‪ :‬ماهــر نســيم‪( ،‬القاهــرة‪ ،‬دار الكرنــك للنــر‬
‫والطبــع والتوزيــع‪1962 ،‬م)‪.‬‬
‫تعريــف بروحانيــة اإلمــام‬
‫ٌ‬ ‫‪5151‬كاظمــي‪ ،‬رضــا شــاه‪ ،‬العــدل والذكــر‪..‬‬
‫عــي‪ ،‬ط‪( ،1‬بــروت‪ ،‬دار الســاقي ومعهــد الدراســات اإلســاعيلية‪،‬‬
‫‪2009‬م)‬
‫مؤسســة البحــوث‬ ‫‪5252‬املالكــي‪ ،‬فاضــل‪ ،‬حقــوق اإلنســان‪( ،‬طهــران‪َّ ،‬‬
‫والدراســات اإلســامية‪2012 ،‬م)‪.‬‬ ‫‪150‬‬
‫‪5353‬متــويل‪ ،‬عبــد احلميــد‪ ،‬احلريــات العامــة‪ ..‬نظــرات يف تطوراهتــا‬
‫وضامناهتــا ومســتقبلها‪( ،‬اإلســكندرية‪ ،‬منشــأة املعــارف‪1975 ،‬م)‪.‬‬
‫‪5454‬املجلــي‪ُ ،‬م َّمــد باقــر (ت‪1111‬هـــ‪1698/‬م)‪ ،‬بحــار األنــوار‪،‬‬
‫مؤسســة الوفــاء‪ ،‬د‪.‬ت‪.).‬‬ ‫حتقيــق‪ :‬عبــد القــادر عطــا‪( ،‬بــروت‪َّ ،‬‬
‫‪5555‬مــدين‪ ،‬الســيد حممــد‪ ،‬مســؤولية الدولــة عــن أعامهلــا ا ُملرشعــة‪..‬‬
‫القوانــن واللوائــح يف القانــون املــري‪ ..‬دراســة مقارنــة‪ ،‬أطروحــة‬
‫دكتــوراه غــر منشــورة‪ ،‬القاهــرة‪ ،‬جامعــة فــؤاد األول‪ ،‬ك ِّليــة احلقــوق‪،‬‬
‫‪1953‬م‪.‬‬
‫‪5656‬مركــز دراســات الكوفــة‪ ،‬وثيقــة املدينــة‪( ،‬األعــال الكاملــة‬
‫ألبحــاث املؤمتــر العلمــي الســنوي األول ملركــز دراســات الكوفــة‪،‬‬
‫مؤسســة النــراس للطباعــة والنــر‬ ‫شــباط‪2012/‬م)‪ ،‬النجــف‪َّ ،‬‬
‫والتوزيــع‪2012 ،‬م‪.‬‬
‫‪5757‬معجــم القامــوس املحيــط‪ ،‬حتقي��ق‪ :‬خلي��ل مأم��ون ش��يحا‪ ،‬ط‪،4‬‬
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫(بيـروت‪ ،‬دار املعرفـ�ة‪1430 ،‬هـــ‪2009/‬م)‬


‫‪5858‬مغنيــة‪ ،‬حممــد جــواد‪ ،‬يف ظــال هنــج البالغــة‪ ..‬حماولــة لفهـ ٍم جديــد‪،‬‬
‫حتقيــق‪ :‬ســامي الغريــري‪ ،‬ط‪( ،1‬قــم‪ ،‬دار الكتــاب اإلســامي‪،‬‬
‫‪1425‬هـــ‪2005/‬م)‬
‫‪5959‬مفتــي‪ ،‬حممــد أمحــد وســامي صالــح الوكيــل‪ ،‬حقــوق اإلنســان يف‬
‫الفكــر الســيايس الغــريب والــرع اإلســامي‪ ..‬دراســة مقارنــة‪،‬‬
‫(القاهــرة‪ ،‬دار النهضــة اإلســامية‪1413 ،‬هـــ‪1992/‬م)‪.‬‬

‫‪6060‬املقــرم‪ ،‬عبــد الــرزاق املوســوي‪ ،‬زيــد الشــهيد بــن عــي بــن احلُســن بن‬
‫‪151‬‬ ‫عــي بــن أيب طالــب‪( ،‬قــم‪ ،‬مطبعة رشيعــت‪1427 ،‬هـــ‪2006/‬م)‪.‬‬
‫‪6161‬املنيــاوي‪ ،‬أمحــد‪ ،‬مجهوريــة أفالطــون‪ ..‬املدينــة الفاضلــة كــا تصورهــا‬
‫فيلســوف الفالســفة‪ ،‬ط‪( ،1‬دمشــق‪ ،‬دار الكتــاب العــريب‪2010 ،‬م)‬
‫‪6262‬نعمــة‪ ،‬عبــد اهلل‪ ،‬مصــادر هنــج البالغــة‪( ،‬بــروت‪ ،‬مطابــع دار اهلــدى‪،‬‬
‫‪1392‬هـ‪1972/‬م)‬
‫‪6363‬هانيامك��ي‪ ،‬ي��ويس إم‪ ،‬األمــم املتحــدة‪ ..‬مقدمــة قصــرة جــد ًا‪ ،‬ترمج��ة‪:‬‬
‫مؤسسـ�ة هن�دـاوي للتعليـ�م‬ ‫حمم��د فتح��ي خ�ضر‪ ،‬ط‪( ،1‬القاهرــة‪َّ ،‬‬
‫والثقافـ�ة‪2013 ،‬م)‪.‬‬
‫‪6464‬هوب��ز‪ ،‬تومـ�اس‪ ،‬اللفياثــان‪ ..‬األصــول الطبيعيــة والسياســية لســلطة‬
‫الدولــة‪ ،‬ترمجـ�ة‪ :‬ديانـ�ا حبيـ�ب حــرب وبــرى صعــب‪ ،‬مراجعـ�ة‬
‫وتقدي��م‪ :‬رض��وان الس��يد‪ ،‬ط‪( ،1‬أبـ�و ظبــي‪ ،‬هيــأة أبـ�و ظبـ�ي للثقافـ�ة‬
‫والـتراث (كلم��ة)‪1432 ،‬هـــ‪2011/‬م)‪.‬‬
‫‪6565‬وفيــات األعيــان وأنبــاء أبنــاء الزمــان‪ ،‬حتقي��ق‪ :‬إحس��ان عبـ�اس‪،‬‬
‫حقوق اإلنسان بني الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‬

)‫م‬1968 ،‫ دار صـ�ادر‬،‫(بـيروت‬


‫ اجلمعيــة‬،‫ (القاهــرة‬،‫ موســوعة حقــوق اإلنســان‬،‫ حممــد‬،‫وفيــق‬6666
.)‫م‬1970 ،‫املرصيــة لالقتصــاد الســيايس واإلحصــاء والترشيــع‬

‫املصادر األجنبية‬

Sandoz, Ellis, The Roots of Liberty, London: Liberty


Fund Inc.; Liberty Fund Ed edition
Wadād Al-Qādī, An Early Fatimid Political 152
Document, Studia Islamica
Dhalla, Maneckji Nusservanji, Our Perfecting World:
Zarathushtra’s Way of Life, New York: Kessinger
2008 ,.Publishing LLC
‫ً‬
‫أمنوذجا‬ ‫عهد اإلمام علي (‪ )‬ملالك األشرت (‪)‬‬

‫احملتويات‬

‫مقدمة املؤسسة‪5......................................................‬‬
‫مقدمة‪9...............................................................‬‬
‫املبحث األول‪ :‬حقوق اإلنسان يف الفكر الغريب‪15.......................‬‬
‫‪153‬‬
‫مواثيق احلقوق‪23.... .................................................:‬‬
‫إعالنات احلقوق الدولية‪35.. .........................................:‬‬
‫املبحث الثاين‪ :‬حقوق اإلنسان يف الفكر والرشيعة اإلسالمية‪47..........‬‬
‫حقوق اإلنسان يف الفكر اإلسالمي املعارص‪66.... .....................:‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬دراسة مقارنة بني الفكرين الغريب واإلسالمي‪73.... ....‬‬
‫املبحث الرابع‪ :‬اإلمام عيل (عليه السالم) وحقوق اإلنسان‪97.... .......‬‬
‫ال َغة‪ ..‬بني ِص َّحة االنتساب وأمهية املضمون‪103................‬‬
‫هنج ال َب َ‬
‫ُ‬
‫حقوق اإلنسان يف ِ‬
‫عهد أمري املؤمنني (‪ )‬ملالك األشرت (‪113...)‬‬

You might also like