Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 372

‫؟‬

‫‪1‬‬
‫هذه ترمجة حرفية لكتاب‬

‫‪Misquoting Jesus : The Story Behind Who Changed‬‬


‫‪the Bible and Why‬‬

‫ترمجة احرتافية غري منقوصة من منتدى الدعوة االسالمية‬

‫تنسيق مكتبة االمني ‪https://t.me/el_amine‬‬

‫‪2‬‬
4
9
35
83

129
182
228
273
319

3
‫‪:‬‬

‫بارت إيرمان أحد علماء العهد اجلديد و متخصص يف تاريخ القرون األوىل أي‬
‫الفرتة املبكرة للديانة املسيحية ‪ .‬وقد حصل على درجيت الدكتوراه يف الفلسفة و‬
‫األستاذية يف الالهوت من معهد برينستون الالهوتي التعليمي حيث درس على‬
‫يد العلّامة "بروس ميتزجر‪" .‬‬

‫وهو حاليا يعمل كعميد لقسم الدراسات الدينية جبامعة نورث كارولينا يف‬
‫تشابيل هيل‪ .‬وقد كان عميدا للمنطقة اجلنوبية الشرقية جلمعية أدب الكتاب‬
‫املقدس‪ ،‬و عمل كمحرر لعدد من نشرات اجلمعية ‪ .‬وهو اآلن مؤلف مشارك‬
‫لسلسلة من أدوات ودراسات العهد اجلديد‪.‬‬

‫كثري من مؤلفات إيرمان كانت تتمركز حول األوجه املتعددة لفرضية "والرت‬
‫باور" اليت تفرتض أن الديانة املسيحية كانت على الدوام منقسمة على نفسها ‪.‬‬
‫وقد اعترب إيرمان دوما رائدًا يف عالقة تاريخ الكنيسة املبكرة بالقراءات املتباينة‬
‫املوجودة يف ثنايا خمطوطات الكتاب املقدس و يف صياغة مصطلح "مسيحية‬
‫عصر ما قبل األرثوذكسية‪".‬‬

‫‪4‬‬
‫فقد كان إيرمان يدندن ‪ ،‬يف كتاباته‪ ،‬حول النقد النصِّي ‪ .‬فمنذ عصر آباء‬
‫الكنيسة ‪ ،‬ظل اهلراطقة (مرقيون على سبيل املثال) يواجهون اتهامات حول‬
‫العبث مبخطوطات الكتاب املقدس‪ .‬يطرح إيرمان يف مؤلفاته نظريته حول أن‬
‫املسيحيون األرثوذكس هم يف أغلب األحوال من " أفسدوا " املخطوطات ‪،‬عرب‬
‫حتريفهم النص ‪ ،‬تدعيما لوجهات نظر معينة‪ .‬وقد قام بتأليف و املساهمة يف‬
‫إصدار تسعة عشر كتابا‪.‬‬

‫وإيرمان لديه طفلني ‪ ،‬بنتٌ تسمى كيلي ‪ ،‬و ولد امسه ديريك ‪ .‬وهو متزوج‬
‫من سارة بيكويث (دكتوراه يف الفلسفة من الكلية امللكية يف لندن) ‪ ،‬وأستاذة‬
‫اللغة اإلجنليزية جبامعة دوك ‪.‬‬

‫أصبح إيرمان يف سن املراهقة مسيحيا إجنيليا‪ .‬و التحق مبعهد مودي لدراسة‬
‫الكتاب املقدس و كلية ويتون (حصل على البكالوريوس عام ‪ .) 1978‬رغبته‬
‫يف التعرف على كلمات الكتاب املقدس األصلية قادته إىل علم النقد النصي‬
‫‪،‬الذي بدوره ضعضع إميانه بالكتاب املقدس ككلمة اهلل املنزَّهة عن اخلطأ ‪.‬‬
‫إيرمان يف الوقت احلاضر يعترب نفسه "ال أدريًّا‪".‬‬

‫‪5‬‬
:
• Ehrman, Bart (2006). The Lost Gospel of Judas Iscariot: A
New Look at Betrayer and Betrayed. Oxford University Press,
USA.
• Ehrman, Bart (2006). Peter, Paul, and Mary Magdalene: The
Followers of Jesus in History and Legend. Oxford University
Press, USA.
• Ehrman, Bart (2005). Misquoting Jesus: The Story Behind
Who Changed the Bible and Why. HarperSanFrancisco.
• Metzger, Bruce M.; Ehrman, Bart (2005). The Text of the New
Testament: Its Transmission, Corruption, and Restoration.
Oxford University Press, USA.
• Ehrman, Bart (2004). Truth and Fiction in The Da Vinci Code:
A Historian Reveals What We Really Know about Jesus, Mary
Magdalene, and Constantine. Oxford University Press, USA .
• Ehrman, Bart (2004). A Brief Introduction to the New
Testament. Oxford University Press, USA.
• Ehrman, Bart (2003). The Lost Christianities: The Battles for
******ure and the Faiths We Never Knew. Oxford University
Press, USA.
• Ehrman, Bart (2003). The New Testament: A Historical
Introduction to the Early Christian Writings. Oxford University
Press, USA.
• Ehrman, Bart; Jacobs, Andrew S. (2003). Christianity in Late
Antiquity, 300-450 C.E.: A Reader. Oxford University Press,
USA.

6
• Ehrman, Bart (2003). The Apostolic Fathers: Volume II. Epistle
of Barnabas. Papias and Quadratus. Epistle to Diognetus. The
Shepherd of Hermas. Harvard University Press.
• Ehrman, Bart (2003). The Apostolic Fathers: Volume I. I
Clement. II Clement. Ignatius. Polycarp. Didache. Harvard
University Press.
• Ehrman, Bart (2003). The New Testament and Other Early
Christian Writings: A Reader. Oxford University Press, USA.
• Ehrman, Bart (2003). Lost ******ures: Books that Did Not Make
It into the New Testament. Oxford University Press, USA.
• Ehrman, Bart (1999). Jesus: Apocalyptic Prophet of the New
Millennium. Oxford University Press, USA.
• Ehrman, Bart (1998). After the New Testament: A Reader in
Early Christianity. Oxford University Press, USA.
• Ehrman, Bart (1996). The Orthodox Corruption of ******ure:
The Effect of Early Christological Controversies on the Text of
the New Testament. Oxford University Press, USA.
• Ehrman, Bart (1987). Didymus the Blind and the Text of the
Gospels (The New Testament in the Greek Fathers; No. 1).
Society of Biblical Literature.

7
‫‪:‬‬

‫كان موضوع هذا الكتاب يدور يف عقلي ‪ ،‬رمبا أكثر من أي شئ كتبت عنه ‪،‬‬
‫خالل الثالثني عامًا املاضية ‪ ،‬وذلك منذ أن كنت يف أواخر سين مراهقيت ومنذ‬
‫أن كنت أخطو خطواتي األوىل يف دراسة العهد اجلديد‪.‬وألن هذا املوضوع كان‬
‫جزءًا منِّي لفرتة طويلة‪ ،‬فلقد رأيت أنه من الضروري أن أبدأ بإعطاء بيان‬
‫شخصي لألسباب اليت جعلت هذه املادة ‪،‬وما تزال‪،‬شديدة األهمية بالنسبة‬
‫إلي‪.‬‬

‫هذا الكتاب يدور حول خمطوطات الكتاب املقدس و االختالفات املوجودة‬


‫فيها‪،‬وحول النساخ الذين نسخوا األسفار وحرفوها أحيانًا‪ .‬رمبا ال يبدو ذلك‬
‫أمرًا متوقعًا كمدخل إىل السرية الذاتية لشخص ما‪،‬لكنه كذلك يف حاليت تلك‪.‬‬
‫ال ميلك اإلنسان السيطرة التامةعلى مثل هذه األمور‪.‬لكن قبل توضيح كيف‬
‫وملاذا كانت خمطوطات العهد اجلديد متثل شيئا خمتلفًا متامًا عاطفيًًّا وفكريًّا‬
‫بالنسبة إلي ‪،‬وإىل إدراكي لذاتي‪،‬وللعامل الذي أحيا فيه‪،‬وألفكاري حول‬
‫اإلله‪،‬وحول الكتاب املقدس‪،‬ينبغي أن أحكي بعض اخللفيات عن شخصيتى‪.‬‬
‫وُلدتُ وترعرعت يف مكانٍ وزمانٍ حمافظني ـــــ يف قلب البالد‪ ،‬وبداية منتصف‬
‫اخلمسينات‪.‬نشأتي مل تشهد شيئا غري عادي‪.‬كنا أسرة رائعة تقليدية مكونة من‬

‫‪8‬‬
‫مخس أفراد‪،‬من املرتددين على الكنيسة لكن من ذوي التدين العادي‪.‬بدءًا من‬
‫العام الذي كنت فيه يف الصف الدراسي اخلامس انضممت إىل الكنيسة‬
‫األسقفية يف لورنس‪،‬بوالية كينساس‪،‬اليت كان يرأسها قسيس طيب وحكيم‪،‬‬
‫تصادف أنه أيضًا كان جارًا لي ووالدًا ألحد أصدقائي(الذي تورطت فيما بعد‬
‫معه يف متاعب أثناء املدرسة العليا املتخصصة ـــ شئ متعلق بتدخني السجائر‬

‫مثل كثري من الكنائس األسقفية‪،‬هذه الكنيسة كانت حسنة السمعة وموثوقًًا بها‬
‫يف نظر اجملتمع ‪.‬كانت تتعامل مع طقوس الكنيسة بشكل جاد ‪،‬وكان الكتاب‬
‫املقدس جزءا من هذه الطقوس‪.‬لكن الكتاب املقدس مل يكن حمط االهتمام‬
‫الكامل‪:‬لقد كان الكتاب املقدس آنذاك واحدًا من الطرق إىل اإلميان والعمل‬
‫‪،‬إىل جانب التقليد الكنسي و الفطرة السليمة ‪.‬مل نكن نتكلم يف الواقع عن‬
‫الكتاب املقدس كثريًا‪،‬ومل نكن نقرأه كثريًا‪،‬حتى يف فصول مدارس‬
‫األحد‪،‬اليت كان تركيزها األكرب على القضايا العملية واالجتماعية ‪،‬وعن‬
‫الكيفية اليت ينبغي أن نعيش بها يف العامل‪.‬لكن الكتاب املقدس استحوذ على‬
‫مكانة عظيمة يف بيتنا‪،‬خاصة بالنسبة ألمي‪،‬اليت كانت تقرأ لنا منه أحيانًا‬
‫وتعاليمه‬ ‫قصصه‬ ‫نفهم‬ ‫أننا‬ ‫من‬ ‫تتأكد‬ ‫أن‬ ‫على‬ ‫وتعمل‬
‫األخالقية(و"عقائده"بدرجة أقل) ‪ .‬حتى قبل سنوات دراسيت يف املدرسة‬
‫الثانوية‪،‬أفرتضُ أنين كنت أرى يف الكتاب املقدس كتابًا غامضًا له بعض‬

‫‪9‬‬
‫األهمية بالنسبة للدين؛لكنه بالتأكيد مل يكن شيئا مستحقًا ألن يتم تعلمُه‬
‫ومدارسته‪.‬لقد كان الكتاب املقدس ميثل للدين إحساسًا باألصالة وال ِقدَم وكان‬
‫بصورة أو بأخرى مرتبطًا بشكل ال يقبل االنفصام باإلله والكنيسة والعبادة ‪.‬‬
‫إىل اآلن‪،‬مل أر أي مربر يدفعين لقراءته من تلقاء نفسي أو إلتقانه‪.‬لكن األمور‬
‫تغريت بصورة حادة بالنسبة إلي حينما كنت يف السنة الثانية يف املدرسة‬
‫الثانوية‪.‬لقد حدث بعدها أن مررت بتجربة "امليالد مرة ثانية" يف حميطٍ شديدِ‬
‫االختالفِ عن حميط الكنيسة يف مدينيت ‪ .‬لقد كنت منوذجًا للولد "املتزمت"ـــ‬
‫فأنا طالب صاحل‪،‬مهتم ومشارك يف الرياضات املدرسية لكن ليس لدرجة‬
‫النبوغ يف واحدة منها ‪،‬مهتم ومشارك يف احلياة االجتماعية ولكين لست منتميًا‬
‫إىل الطبقة العليا من النخبة ذات الشعبية يف املدرسة‪ .‬أتذكر شعورًا بنوع من‬
‫الفراغ الداخلي بلغ درجةً مل يستطع أي شئ مأله ـــ ال التسكع مع األصدقاء‬
‫(كنا بالفعل قد أدمنا جلسات مجاعية للشراب يف احلفالت)‪،‬وال أخذ املواعيد‬
‫الغرامية(بدأنا يف دخول عامل اجلنس شديدالغموض )‪ ،‬والالدراسة (كنت‬
‫أذاكر جبد و أبليت بالءا حسنًا لكن مل أكن جنمًا فوق العادة)‪ ،‬وال العمل(كنت‬
‫مندوبًا للمبيعات حلساب شركة تبيع املنتجات لفاقدي البصر)‪،‬وال‬
‫الكنيسة(كنت مساعدًا للكاهن وتقيًا وسيمًا ــــ أي كنت ذلك الشخص الذي‬
‫جيب أن يكون يف صباح كل أحد معرتفًا بكل شئ حدث يف ليلة كل‬
‫سبت)‪.‬كنت أشعر بنوع من الوحدة تزامن مع كوني شاب يف مرحلة املراهقة‬
‫‪10‬‬
‫؛لكنين‪ ،‬بالطبع‪،‬مل أدرك أن الشعور بالوحدة جزء من كوني مراهق ــ ظننت‬
‫أن شيئًا البد وأنه ينقصين‪.‬حدث هذا عندما بدأت حضور لقاءات شبيبة احلياة‬
‫اجلامعية التابعة لنادي املسيح ؛ اليت كانت جتري يف بيوت الشباب ــــ أول لقاء‬
‫حضرته كان حفلة يف حديقة منزل )‪ (yard Party‬ألحد الشباب وكان‬
‫وسيمًا وحمبوبًا ‪،‬وهذا ما جعلين أظن أن اجملموعة ستكون رائعة‪.‬قائد اجملموعة‬
‫كان يف العشرينات من عمره يسمى "بروس" و كان يقيم هذا النوع من احلفالت‬
‫لسبب حيوي – فقد حاولت أندية شباب من أجل املسيح اليت يتم تنظيمها‬
‫على النطاق احمللي أن حتول شباب املدارس الثانوية إىل "مولودين مرة أخرى"‬
‫ثم بعد ذلك إشراكهم يف دراسات جادة للكتاب املقدس‪،‬واجتماعات‬
‫للصالة‪،‬وما إىل ذلك ‪ .‬كان لربوس شخصية ساحرة – لقد كان أصغر سنًّا من‬
‫آبائنا و أكثر خربة منا ـــ ولديه رسالة قوية‪،‬وهي أن الفراغ الذي حنسه داخلنا‬
‫(كنا مراهقني! كلنا نشعر بالفراغ) هو من عدم وجود "يسوع" يف قلوبنا ‪.‬ولو‬
‫طلبنا فقط من "يسوع" أن يدخل‪،‬فسيدخل وميأل حياتنا بالبهجة والسعادة اليت‬
‫يعرفها فقط "احلاصلون على اخلالص" ‪ .‬كان باستطاعة "بروس" أن يستحضر‬
‫ما شاء من االقتباسات من الكتاب املقدس يف أي وقت‪،‬وكان يفعل ذلك‬
‫بصورة مذهلة ‪.‬ولشعوري بالتوقري جتاه الكتاب املقدس ‪،‬مع جهلي به‪ ،‬كان‬
‫األمر يبدو مقنعًا بكل ما يف الكلمة من معنى‪.‬ولقد كان األمر هنا خمتلفًا عما‬
‫كنت أشعر به جتاه الكنيسة اليت كانت تستخدم طقوسًا قدمية ولذلك بدت‬
‫‪11‬‬
‫مالئمة أكثر لبالغني عجائز وليس لشباب صغار يبحثون عن املتعة وروح‬
‫املغامرة‪،‬وأيضًا يشعرون يف ذواتهم بالفراغ‪.‬باملختصر املفيد‪،‬تعرفت يف النهاية‬
‫ب"بروس"‪،‬و قبلت رسالته اخلالصية ‪،‬وطلبت من املسيح أن يدخل إىل‬
‫قليب‪ ،‬ومررت عن طيب خاطر بتجربة امليالد مرة أخرى‪.‬لقد ولدت يف الواقع‬
‫قبل ذلك خبمسة عشر عامًا‪،‬لكن تلك التجربة كانت جديدة وممتعة يف نظري‪.‬‬
‫وجعلتين أبدأ رحلة إميان مستمرة شهدت حتوالت ومنعطفات كثرية ‪،‬انتهت‬
‫بنهاية مميتة بر َهنَتََْ على أنها‪،‬يف الواقع‪،‬طريق جديدة سلكتها يف ذلك الوقت‪،‬‬
‫جتاوزت اآلن ما يزيد عن ثالثني سنة‪.‬هؤالء اللذين مروا بتجربة الوالدة من‬
‫جديد من بيننا يظنون أنفسهم املسيحيني"الوحيدين"ــــ عكس هؤالء اللذين‬
‫يذهبون إىل الكنيسة بشكل روتيين ‪،‬اللذين ليس لديهم املسيح حقًيقةً يف‬
‫قلوبهم ولذلك يذهبون إىل الكنيسة بشكل خالٍ من أي روح‪.‬إحدى الطرق‬
‫اليت جتعلنا خمتلفني عن هؤالء اآلخرين هي التزامنا بدراسة الكتاب املقدس‬
‫والصالة ‪ .‬وخاصة دراسة الكتاب املقدس‪ .‬بروس نفسه كان دارسًا للكتاب‬
‫املقدس‪.‬فقد كان يدرس يف معهد "مودي" للكتاب املقدس يف شيكاغو وكان‬
‫باستطاعته أن يقتبس جوابًا من اإلجنيل ألي سؤال نفكر فيه(بل ولكثري من‬
‫األسئلة اليت مل نكن لنفكر فيها على اإلطالق)‪.‬أحسست سريعًا بالغرية جتاه‬
‫هذه القدرة على االقتباس من الكتاب املقدس واخنرطت أنا أيضًا يف حلقات‬
‫لدراسة الكتاب املقدس ‪،‬درست بعض النصوص‪،‬فهمت مناسباتهم‪،‬وحتى‬
‫‪12‬‬
‫حفظت اآليات الرئيسية ‪.‬أقنعين بروس أنين جيب أن أهتم بأن أكون مسيحيًا‬
‫"جادًا" وأن أكرس نفسي بالكامل لإلميان املسيحي‪.‬هذا كان يعين أن أدرس‬
‫الكتاب املقدس بالكامل يف معهد "مودي" للكتاب املقدس‪،‬الذي كان‪،‬من بني‬
‫أمور أخرى عديدة‪،‬ميثل تغيريًا جذريًا لنمط حياتي‪.‬يف معهد "مودي" هناك‬
‫"قانون" أخالقي جيب على الطالب أن ميتثلوه‪:‬ال مخر‪،‬ال تدخني‪،‬ال‬
‫رقص‪،‬ال قمار‪،‬ال أفالم‪.‬بل كثري مبا فيه الكفاية من الكتاب املقدس ‪ .‬كنا‬
‫معتادين على ترديد‪":‬معهد مودي للكتاب املقدس ‪،‬حيث الكتاب املقدس هو‬
‫ما مييزنا‪".‬أظن أنين نظرت إليه كمعسكر مسيحي تدرييب ذي نظامٍ قاسٍ‪.‬يف كل‬
‫مناسبة‪،‬قررت أن أتعامل مع إمياني جبدية كاملة؛تقدمت بطلب التحاق ملعهد‬
‫"مودي"‪،‬التحقت به‪،‬وذهبت إىل هناك يف خريف ‪.1973‬لقد كانت جتربة‬
‫معهد "مودي" جتربة قوية‪.‬قررت أن أختصص يف الالهوت الكتابي‪،‬وهو ما كان‬
‫يعين احلصول على الكثري من دروس الكتاب املقدس ودورات الالهوت‬
‫النظامي‪.‬وجهة نظر واحدة كنا نتعلمها يف هذه الدورات‪،‬صدق عليها كل‬
‫األساتذة(وكان عليهم أن يوقعوا إفادة بذلك)وكل الطالب (وقد فعلنا الشئ‬
‫ذاته)‪:‬الكتاب املقدس هو كلمة اهلل املعصومة‪.‬ليس به أية أخطاء‪.‬أوحاه اهلل وكل‬
‫كلمة من كلماته ــــ "وحيًا شفويًا‪،‬كامالً"‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫كل الدورات العلمية اليت حصلت عليها تفرتض مسبقًا وتُعَلِّم وجهة النظر‬
‫مضللَة أو حتى‬
‫ِّ‬ ‫هذه؛وأيُّ وجهة نظر أخرى ماهي إال وجهة نظر‬
‫هرطوقية‪.‬البعض‪،‬فيما أظن‪،‬سيسمي ذلك عملية غسيل مخ‪.‬بالنسبة إليَّ‪،‬كان‬
‫ذلك"ارتقاءا" هائالً عن وجهة النظر اخلجولة جتاه الكتاب املقدس اليت كنت‬
‫ٍّا يف الكنيسة األسقفية يف ريعان شبابي‪ .‬هذه هي‬
‫أعتنقها باعتباري عضوًا تقليدي‬
‫املسيحية الواضحة ‪،‬اليت تناسب امللتزمني التزامًا كامالً‪ .‬إال أنه كان هناك‬
‫إشكالية واضحةٌ تواجه هذا الزعم بأن الكتاب املقدس موحى به حرفيًا ــــ وفقا‬
‫لكلماته نفسها ‪ .‬فكما تعلمنا يف معهد "مودي" يف واحدةٍ من الدورات األوىل‬
‫للمنهج الدراسي‪،‬ليس لدينا بالفعل النصوص األصلية للعهد اجلديد‪.‬ما‬
‫حبوذتنا هو نسخ من هذه الكتابات‪،‬كتبت بعد ذلك بسنني ـــ بل بعد ذلك مبئات‬
‫السنني ‪،‬يف الغالب األعم‪ .‬فوق ذلك‪،‬ليس بني هذه النسخ نسخة صحيحة‬
‫بالكامل ‪،‬حيث قام النساخ اللذين أنتجوها بطريق السهو و‪/‬أو عن قصد‬
‫بتغيريها عن مواضعها‪ .‬كل النساخ فعلوا ذلك‪.‬ولذلك بدال من امتالك كلمات‬
‫املخطوطات املوحى بها فعليًا(أي األصول)‪،‬ما لدينا هو نسخ مليئة باألخطاء‬
‫)‪(errorridden‬من تلك األصول‪ .‬لذلك‪ ،‬كان التحقق مما قالته أصول‬
‫الكتاب املقدس إحدى أكثر املهام إحلاحًا ‪ ،‬مع وضع الظروف التالية يف‬
‫االعتبار (‪ )1‬أنها موحى بها (‪)2‬أننا ال منتلكها ‪ .‬جيب أن أذكر أن كثريًا من‬
‫أصدقائي يف "مودي" مل يروا أن هذه املهمة تستحق كل هذه االهتمام أو‬
‫‪14‬‬
‫العناء‪.‬كانوا سعيدين بالركون إىل الزعم بأن األصول كانت من‬
‫الوحي‪،‬وبتجاهل أن األصول ‪،‬إن بشكل أكرب أو أقل‪ ،‬مل يعُد هلا وجود‪.‬‬
‫بالنسبة إليَّ‪،‬على الرغم من ذلك‪،‬كانت هذه مشكلة قهرية ‪.‬لقد كانت هذه‬
‫هي كلمات الكتاب املقدس ذاتها اليت كان الرب قد أوحاها‪.‬وبالتأكيد كان من‬
‫الواجب أن نعرف ماهية هذه الكلمات لو كنا نريد أن نعرف كيف كان اهلل يريد‬
‫أن يتواصل معنا‪،‬مادامت الكلمات ذاتها هي كلماته‪،‬ووجود بعض الكلمات‬
‫اليت كتبها اآلخرون(أي اليت أحدثها النساخ إن عرضيًا أو بشكل متعمد)لن‬
‫تساعدنا كثريًا لو أردنا أن نعرف كلماته ‪ .‬هذا ما جعلين مهتمًا مبخطوطات‬
‫العهد اجلديد يف ذلك الوقت حينما كنت يف الثامنة عشر من عمري‪ .‬يف معهد‬
‫"مودي"‪،‬تعلمت األساسيات يف ميدان "النقد النصي" ـــ وهو مصطلح علمي‬
‫يقصد به علم استعادة الكلمات "األصلية" لنص ما من خمطوطاته اليت مت العبث‬
‫بها‪ .‬إال أنين حتى ذلك الوقت مل أكن مؤهالً بعد للتعامل مع هذا العلم ‪.‬أوالً‬
‫كان عليَّ أن أتعلم اللغة اليونانية ‪،‬لغة العهد اجلديد األصلية‪،‬ورمبا لغات قدمية‬
‫أخرى مثل العربية(لغة العهد القديم حسب املصطلح املسيحي) والالتينية‪،‬‬
‫باإلضافة إىل اللغات األوروبية احلديثة مثل األملانية والفرنسية ‪،‬من أجل‬
‫الطالع على ما قاله العلماء اآلخرون خبصوص هذه القضايا ‪ .‬لقد كان الطريق‬
‫أمامي طويال ‪ .‬يف نهاية الثالث سنوات اليت قضيتها يف معهد "مودي"( كانت‬
‫الدبلومة مدتها ثالث سنوات)‪،‬كنت قد أبليت بالءًا حسنًا يف مقرراتي‬
‫‪15‬‬
‫الدراسية وأصبحت أكثر جدية عن ذي قبل فيما يتعلق برغبيت أن أصبح عاملًا‬
‫مسيحيًا‪.‬كان تصوري يف ذلك احلني أنَّ مثة وفرة يف العلماء احلاصلني على تعليم‬
‫عال بني املسيحيني اإلجنليني‪،‬لذلك أردت أن أصبح "صوتًا" لإلجنيليني داخل‬
‫الدوائر العلمانية‪،‬عرب احلصول على درجات علمية تسمح لي أن أقوم‬
‫بالتدريس يف احمليطات العلمانية يف الوقت الذي أحافظ فيه على التزاماتي‬
‫الدينية اإلجنيلية‪ .‬أوالً ‪،‬كان يلزمين احلصول على درجة البكالوريوس‪،‬ولكي‬
‫أفعل هذا فقد قررت أن التحق بكلية من الكليات اإلجنيلية األعلى مقامًا‪.‬وقع‬
‫اختياري على "ويتون كوليدج"‪ ،‬الواقعة يف إحدى ضواحي شيكاغو‪ .‬يف‬
‫"مودي" تلقيت حتذيرات خبصوص أنه من الصعب العثور على مسيحيني‬
‫حقيقيني يف "ويتون" ــ وهو ما يكشف حجم التطرف يف "مودي"‪ :‬فـ"ويتون"‬
‫كانت مفتوحة فقط أمام املسيحيني اإلجنيليني وقد خترج منها بيلي جراهام‬
‫‪،‬على سبيل املثال ‪ .‬يف البداية وجدتها أكثر حتررًا ولو قليال باملقارنة مع ما أؤمن‬
‫به ‪.‬كان الطالب يتحدثون عن األدب‪ ،‬والتاريخ‪،‬والفلسفة أكثر من احلديث‬
‫عن الوحي الشفوي للكتاب املقدس‪ .‬كانوا يفعلون ذلك من منظور‬
‫مسيحي‪،‬ولكن بغض النظر عن ذلك‪:‬أمل يالحظوا بالفعل أهمية هذا األمر‬
‫(أي الوحي الشفوي)؟‬

‫‪16‬‬
‫قررت أن أختصص يف األدب اإلجنليزي يف جامعة "ويتون"‪،‬حيث كانت القراءة‬
‫إحدى هواياتي وخاصة منذ أن علمت أنه لكي أشق طريقي إىل الدوائر العلمية‬
‫‪ ،‬فسيكون عليَّ أن أصبح واسع االطالع يف جمالٍ من جماالت العلم خبالف‬
‫الكتاب املقدس‪ .‬قررت أيضًا أن ألزم نفسي بتعلم اليونانية‪ .‬يف ذلك الوقت ‪،‬‬
‫وخالل فصلي الدراسي األول يف "ويتون" ‪،‬التقيت الدكتور "جريالد هاوثورن"‬
‫‪،‬أستاذي يف اللغة اليونانية و الذي أصبح أكثر األشخاص تأثريًا يف حياتي‬
‫كعامل ‪،‬وكأستاذ‪،‬و‪،‬أخريًا ‪،‬كصديق ‪ .‬كان "هاوثورن" ‪،‬متاما مثل معظم‬
‫خضِع‬
‫أساتذتي يف "ويتون"‪ ،‬مسيحيًا إجنيليًا ملتزمًا‪.‬لكنه كان ال خيشى من أن يُ َْ‬
‫إميانه لألسئلة ‪ .‬يف حينه‪ ،‬وجدت يف ذلك عالمة على الضعف (يف‬
‫احلقيقة‪،‬كنت أعتقد أنين تقريبًا أمتلك مجيع األجوبة عن أسئلته)؛يف النهاية‬
‫رأيت فيه التزامًا حقيقيًا مبقتضيات احلقيقة و رأيت فيه استعدادًا لالنفتاح على‬
‫إمكانية أن تكون أراء اإلنسان يف حاجة للمراجعة يف ضوء اتساع املعرفة‬
‫وخربات احلياة‪ .‬كان تعلم اليونانية جتربة مثرية بالنسبة لي‪ .‬وحينما انتهت‬
‫دراسيت ‪،‬كنت جيدًا للغاية يف أساسيات اللغة وكنت على الدوام طاحمًا إىل‬
‫املزيد‪.‬ويف مرحلة أكثر عمقًا‪ ،‬أصبحت جتربة تعلم اللغة اليونانية إىل حدٍ ما‬
‫جمهدة لي ولنظرتي للكتاب املقدس‪.‬ثم صرت أرى يف مرحلة مبكرة أن املعنى‬
‫الكامل للنص اليوناني للعهد اجلديد ال ميكن التعرف عليه إال عندما نقرأه‬
‫وندرسه يف لغته األصلية (األمر نفسه ينطبق على العهد القديم‪،‬كما عرفت‬
‫‪17‬‬
‫فيما بعد عندما تعلمت العربية)‪.‬وكل هذا كان يدعم ‪ ،‬حسب ما كنت أعتقد ‪،‬‬
‫اجتاهي لتعلم اللغة على حنوٍ أعمق ‪ .‬يف الوقت ذاته‪،‬جعلين ذلك أشك يف‬
‫مفهومي عن الكتاب املقدس باعتباره كلمة اهلل املنزلة حرفيًّا‪ .‬وإذا كان املعنى‬
‫الكامل لكلمات الكتاب املقدس ال ميكن احلصول عليه إال عرب دراسة الكتاب‬
‫املقدس باللغة اليونانية(والعربية)‪،‬أال يعين ذلك أن معظم املسيحيني ‪،‬اللذين‬
‫ال يعرفون اللغات القدمية‪،‬لن يصلوا أبدًا للطريق الصحيح إىل معرفة ما أراد‬
‫اهلل منهم أن يعرفوه؟ أال جيعل هذا من عقيدة الوحي جمرد عقيدة مالئمة فقط‬
‫للنخبة واسعة اإلطالع ‪ ،‬ممن ميتلكون املهارات الفكرية و الفراغ الالزمني لتعلم‬
‫اللغات ودراسة النصوص عرب قراءتها بلغتها األصلية؟ما الفائدة اليت نتحصل‬
‫عليها من قولنا إن هذه الكلمات موحى بها من اهلل ما دام غالبية الناس ال‬
‫يعرفون سبيال إىل هذه الكلمات على اإلطالق ‪،‬وإمنا بإمكانهم االطالع‬
‫فحسب على ترمجات أكثر أو أقل إتقانًا هلذه الكلمات إىل لغة ليس هلا أيُّ‬
‫عالقة بالكلمات األصلية‪،‬مثل اإلجنليزية ؟ (‪)1‬‬

‫كانت أسئلتى تتعقد أكثر وأكثر كلما بدأت التفكري على حنوٍ متزايد يف‬
‫املخطوطات اليت حتوي الكلمات‪.‬كلما تعمقت يف دراسة اليونانية‪،‬كلما صرت‬
‫أكثر اهتمامًا باملخطوطات اليت حتتفظ لنا بالعهد اجلديد‪،‬وبعلم النقد‬

‫‪18‬‬
‫النصي‪،‬والذي من احملتمل أن يكون قادرًا على مساعدتنا يف استعادة الكلمات‬
‫األصلية للعهد اجلديد على صورتها اليت كانت عليها ‪ .‬وكنت دئاما أعود إىل‬
‫سؤالي األساسي‪:‬كيف ميكن للقول إن إن الكتاب املقدس هو كلمة اهلل‬
‫املعصومة أن يساعدنا لو كنا يف الواقع ال منتلك تلك الكلمات املعصومة اليت‬
‫أوحاها اهلل ‪،‬وإمنا الكلمات اليت نسخها النساخ ــــ بطريقة صحيحة أحيانًا‬
‫وبطريقة غري صحيحة أحيانًا أخرى(كثرية)؟ ما الفائدة املرجوة من القول إن‬
‫األصول كانت موحى بها؟ حنن ال منتلك األصول! ما منتلكه هو نسخ حمرفة‬
‫‪،‬واألغلبية العظمى منها تفصلها مئات السنني عن األصول وهي ختتلف‬
‫عنها‪،‬بوضوح‪،‬يف آالف املواضع ‪ .‬اجتاحتين هذه الشكوك ودفعتين إىل‬
‫التنقيب بتعمق أكرب‪،‬بغية الوصول إىل فهم أوضح للحقيقة اليت كان عليها‬
‫الكتاب املقدس ‪ .‬أنهيت دراسيت يف "ويتون"يف عامني وقررت‪،‬بتوجيهاتٍ من‬
‫األستاذ هاوثورن‪،‬أن أختصص يف النقد النصي للعهد اجلديد باالجتاه إىل‬
‫الدراسة حتت إشراف اخلبري ذي الشهرة العاملية يف هذا امليدان ‪،‬العامل بروس‬
‫‪.‬م‪ .‬ميتزجر ‪ ،‬الذي كان يقوم بالتدريس يف معهد "برينستون" الالهوتي‪ .‬مرة‬
‫أخرى حذرني أصدقائي من اإلجنيليني من االلتحاق بـمعهد‬
‫"برينستون"‪،‬ألنه‪،‬كما قيل لي‪،‬سيكون من الصعب علي أن أجد مسيحيني‬
‫"حقيقيني"هناك‪ .‬لقد كان معهدبرينستون ‪،‬رغم هذا ‪،‬معهدًا مشيخيًا ‪،‬لكنه مل‬
‫يكن بالتأكيد تربةً خصبةً لظهور املسيحيني املولودين مرة أخرى‪ .‬كانت دراسيت‬
‫‪19‬‬
‫لألدب اإلجنليزي‪،‬والفلسفة‪،‬والتاريخ ــــ ناهيك عن اليونانية ـــ قد وسعت‬
‫آفاقي بشكل كبري ‪،‬وأصبحت أجد متعيت اآلن يف املعرفة ‪،‬املعرفة بكافة‬
‫أشكاهلا‪،‬الدينية والدنيوية ‪ .‬ولو أن معرفة "احلقيقة"تعين أن ال أكون بعدُ من‬
‫املسيحيني املولودين مرة أخرى مثل الذين عرفتهم يف الثانوية ‪،‬فليكن ما يكون‬
‫‪ .‬كنت أنوي أن أواصل حبثي عن احلقيقة مهما كان الطريق الذي ستقودني‬
‫إليه‪ ،‬وأنا على ثقة من أنَّ أيَّ حقيقة سأتعلَّمها ال يقلل من قيمتها كونها غري‬
‫متوقعة أو كونها تتالئم بصعوبة مع التصنيفات اليت تضعها خلفييت اإلجنيلية ‪.‬‬
‫عند وصولي إىل معهد "برينستون" الالهوتي ‪،‬التحقت سريعًا بفصول السنة‬
‫األوىل للتفسري باليونانية والعربية‪،‬وشغلت جدولي بقدر ما أستطيع مبثل هذه‬
‫الدروس‪.‬وجدت يف هذه الفصول حتديًا ‪،‬على املستويني العلمي والشخصي ‪.‬‬
‫أما التحدي على املستوى العلمي فقد كنت مرحِّبًا به بشكل كامل‪،‬لكنَّ‬
‫التحديات الشخصية اليت واجهتها كانت على عكس ذلك مزعجة من الناحية‬
‫العاطفية‪ .‬فكما أشرت‪،‬كنت بالفعل قد بدأت يف "ويتون" يف الشك يف بعض‬
‫املظاهر األساسية يف التزامي حنو الكتاب املقدس باعتباره كلمة اهلل املعصومة‬
‫من اخلطأ‪.‬هذا االلتزام كان عرضة لتهديدات جدية خالل دراسيت التفصيلية يف‬
‫"برينستون" ‪ .‬لقد قاومت كل حماولة لتغيري وجهات نظري‪،‬ووجدت عددًا من‬
‫األصدقاء‪،‬القادمني‪،‬مثلي‪ ،‬من مدارس إجنيلية حمافظة وكانوا حياولون أن‬
‫"حيافظوا على اإلميان "(وهي طريقة مثرية للضحك لوضع اإلميان يف برنامج‬
‫‪20‬‬
‫مسيحي الهوتي ‪،‬أي التمسك باملاضي حيث كنا ‪ ،‬على الرغم من كل ما‬
‫يتناقض مع ذلك من مؤشرات )‪ .‬لكنَّين بدأت أنشغل بدراساتي ‪ .‬وجاءت نقطة‬
‫التحول يف الفصل الدراسي الثاني ‪،‬خالل دورة كنت أحضرها حتت إشراف‬
‫أكثر األساتذة تقديرا وتدينا وكان امسه "كولني ستوري"‪.‬وقد كانت الدورة‬
‫حول تفسري إجنيل مرقس‪ ،‬وكان إجنيلي املفضل حينها (وما يزال)‪ .‬وقد كان‬
‫يُ َْشتَ َرطُ فينا حلضور هذه الدورة أن نكون قادرين على قراءة إجنيل مرقس كامال‬
‫باللغة اليونانية(حفظت كلمات اإلجنيل اليونانية كاملةً قبل أسبوع واحدٍ من‬
‫بداية الفصل الدراسي)‪:‬كان علينا أن حنتفظ بدفرت مالحظات تفسريية نسجل‬
‫فيها انطباعتنا حول تفسري الفقرات الرئيسية؛ وقد كنا نناقش املشكالت املتعلقة‬
‫بتفسريات النصوص‪،‬وكان ينبغي علينا أن نكتب مقاال يف نهاية الفصل‬
‫الدراسي حول إشكال تفسريي خنتاره حنن ‪ .‬وقد اخرتت الفقرة يف مرقس ‪2‬‬
‫‪،‬حيث يتصدى الفريسيون ليسوع ألن تالمذته كانوا ميشون عرب أحد‬
‫احلقول‪،‬وكانوا يأكلون من السنابل يف يوم السبت‪.‬كان يسوع يريد أن يبيِّن‬
‫للفريسيني أن"السبت جعل من أجل اإلنسان وليس اإلنسان من أجل‬
‫السبت"ولذلك ذكَّرهم مبا كان امللك داوود العظيم قد فعله عندما شعَرَ ورجاله‬
‫باجلوع‪،‬و كيف أنهم قد دخلوا إىل اهليكل "حينما كان أبيثار هو الكاهن‬
‫األكرب"وأكلوا من خبز التقدمة‪،‬الذي كان خمصصًا للكهنة فقط ‪ .‬إحدى‬
‫اإلشكاليات الشهرية يف الفقرة هي عندما ينظر اإلنسان إىل الفقرة اليت استشهد‬
‫‪21‬‬
‫بها يسوع من العهد القديم (‪ 1‬صمويل ‪ ،) 6 : 21‬يتضح أن داوود مل يفعل‬
‫ذلك عندما كان أبيثار هو الكاهن األعظم ‪،‬وإمنا عندما كان أخيمالك والد‬
‫أبيثار هو الكاهن ‪ .‬بطريقة أخرى ‪،‬هذه الفقرة هي واحدة من تلك الفقرات‬
‫اليت يشار إليها لبيان أن الكتاب املقدس ليس معصومًا من اخلطأ على اإلطالق‬
‫‪ ،‬بل حيوي أخطاءًا‪ .‬يف ورقيت اليت قدمتها إىل األستاذ "ستوري"‪،‬طورت فكرة‬
‫جدلية طويلة ومعقدة مفادها أنه حتى لو كان مرقس يشري إىل حدوث ذلك‬
‫"حينما كان أبيثار هو الكاهن األكرب‪ "،‬فإن هذا ال يعين يف احلقيقة أن أبيثار كان‬
‫هو الكاهن األعظم ‪،‬وإمنا املعنى هو أن هذا احلدث وقع يف هذا اجلزء من‬
‫النص الكتابي الذي يعترب فيه أبيثار واحدًا من الشخصيات الرئيسية ‪.‬كانت‬
‫فكرتي تتمركز حول أن معنى الكلمات اليونانية املشار إليها هو معنى معقد إىل‬
‫حد ما‪ .‬كنت على يقني ال يتزعزع أن األستاذ"ستوري" سيثين على هذه الرؤية‬
‫اجلدلية ‪،‬حيث إنين أعلم أنه عاملٌ مسيحيٌّ صاحلٌ وهو بالتأكيد (مثلي) ال ميكن‬
‫أن يفكر مطلقًا يف أنَّ شيئًا ما خطأ بالفعل داخل الكتاب املقدس‪ .‬لكنه كتب يف‬
‫نهاية حبثي تعليقًأ بسيطًا من سطر واحدٍ أثر يفّ كثريًا ألسباب عدة‪ .‬فقد كتب‬
‫يقول‪":‬رمبا مرقس وقع يف خطأ"‪.‬‬

‫بدأت أفكر يف هذا التعليق‪،‬ويف كل العمل الذي قدمته يف البحث‪،‬وفهمت‬


‫أنين كان من املفرتض أن أقوم ببعض املناورات التفسريية الوهمية لاللتفاف‬

‫‪22‬‬
‫حول املشكلة ‪،‬وأن احللَّ الذي اقرتحته يف احلقيقة كان ممطوطًا إىل حدٍ ما ‪ .‬يف‬
‫النهاية وصلت لنتيجة‪...":‬رمبا مرقس بالفعل قد ارتكب خطئًا"‪.‬‬

‫وما أن كتبت هذا االعرتاف‪،‬حتى زالت السدود‪.‬ألنه لو كان مثة خطأٌ واحدٌ‬
‫صغريٌ وتافهٌ يف مرقس ‪، 2‬فرمبا يوجد أخطاءأخرى يف أماكن أخرى أيضًا‪.‬‬
‫فعندما سيقول يسوع بعد ذلك يف مرقس ‪ 4‬إن بذرة احلنطة هي"أصغر كل بذور‬
‫وهمي حول كيف أن حبة‬
‫ٍّ‬ ‫األرض‪"،‬فرمبا ليس بي حاجة أن أوافق على تفسريٍ‬
‫احلنطة هي األصغر بني كل البذور ‪ ،‬يف الوقت الذي أعلم متامًا أنَّ هذا ليس‬
‫صحيحًا ‪.‬ورمبا ينطبق أمر هذه األخطاء على قضايا أكثر أهمية‪ .‬فمن احملتمل أنه‬
‫حينما يقول مرقس إن يسوع صلب يف اليوم التالي لتناوله عشاء الفصح(مرقس‬
‫‪ )15:25، 12 : 14‬وحينما يقول يوحنا إنه مات يف اليوم السابق لتناوله‬
‫إياه(يوحنا ‪)14: 19‬ــــ رمبا كان ذلك تناقضًا حقيقيًّا ‪ .‬أو عندما يشري لوقا يف‬
‫حكايته لقصة ميالد يسوع أن يوسف ومريم عادا إىل الناصرة بعد مايزيد عن‬
‫شهر بالتمام من مقدمهم إىل بيت حلم (وتأديتهم لطقوس التطهري ؛لوقا ‪2‬‬
‫‪،) 39:‬يف الوقت الذي يشري متى إىل أنهم هربوا بدال من ذلك إىل مصر (متى‬
‫‪ )22 -19 :2‬ـــ رمبا يكون هذا تناقضًا آخر ‪ .‬و حينما يقول بولس إنه بعد‬
‫أن آمن على الطريق إىل دمشق مل يذهب إىل أورشاليم لكي يرى هؤالء اللذين‬

‫‪23‬‬
‫كانوا رسالً من قبله(غالطية ‪،)17 -16: 1‬يف الوقت الذي يقول سفر‬
‫األعمال أن ذلك كان عمله األول بعد مغادرته دمشق (األعمال ‪ )26: 9‬ـــ‬
‫فرمبا يكون هذا تناقضًا آخر‪.‬هذا النوع من الفهم تواكب مع املشكالت اليت‬
‫كنت أواجهها كلما درست بعناية أكرب خمطوطات العهد اجلديد املوجودة‪.‬ليس‬
‫أمامنا سوى أن نقول إن األصول كانت منزلة من قبل اهلل ‪،‬لكنَّ احلقيقة هي‬
‫أننا ال منلك هذه األصول ـــــ ولذلك‪ ،‬القول إنها كانت موحى بها ال يساعدنا‬
‫كثريًا‪،‬إال إذا استطعت إعادة بناء األصول‪ .‬زد على ذلك أن الغالبية الساحقة‬
‫من املسيحيني مل يسمح هلم بالوصول إىل األصول طوال تاريخ الكنيسة كامال‬
‫ومل يسمح هلم بوضع مسألة املصدر اإلهلي هلذه األصول موضع نقاش ‪.‬بل‬
‫إن األمر ال يقتصر على فقدان األصول‪ ،‬بل حنن ال منلك أيضًا النسخ األوىل‬
‫من األصول‪ .‬بل حنن ال منلك أي نسخٍ حتى اجليل الثالث منها ‪.‬ما منلكه هو‬
‫نسخ كتبت يف وقت متأخرـــ متأخر للغاية‪.‬على أحسن تقدير‪،‬كانت نسخًا‬
‫كتبت بعد ذلك بقرون كثرية ‪ .‬وهذه النسخ ختتلف مجيعها من واحدة‬
‫ألخرى‪،‬يف مواضع كثرية تُعَدُّ باآلالف‪ .‬وهذه النسخ ‪ ،‬كما سنرى فيما بعد يف‬
‫هذا الكتاب‪ ،‬ختتلف بعضها عن بعض يف مواضع كثرية للغاية إىل درجة أننا‬
‫حتى ال نعرف عدد االختالفات املوجودة ‪ .‬وللتسهيل ميكننا أن نضعها على‬
‫هيئة مقارنات‪ :‬عدد االختالفات بني خمطوطاتنا كبريٌ على حنوٍ يفوق عدد‬
‫كلمات العهد اجلديد ‪ .‬معظم هذه االختالفات القيمة هلا وغري ذات أهمية ‪.‬‬
‫‪24‬‬
‫وقسم كبري منها يبني لنا ببساطة أن النسَّاخ يف القديم كانت مقدرتهم على‬
‫االستهجاء ليست بأفضل حاال من مقدرة الناس يف أيامنا هذه (بل مل يكن‬
‫مصححٍ إمالئي)‪ .‬رغم ذلك‪،‬ما هو سبب كل‬
‫ِّ‬ ‫لديهم حتى معاجم‪،‬ناهيك عن‬
‫هذه االختالفات؟ لو أن شخصًا ما يزال يصرُّ على أن الرب بالفعل أوحى‬
‫كلمات الكتاب املقدس ‪،‬فما الفائدة من ذلك إذا كنا ال منتلك بالفعل كلمات‬
‫الكتاب املقدس األصلية ؟‬

‫يف بعض املواضع ‪،‬كما سنرى‪ ،‬ال ميكننا أن نصل إىل درجة من اليقني ختولنا‬
‫أن نقول إننا أعدنا بناء النص األصلي على حنوٍ دقيق‪ .‬إن معرفة ما تعنيه كلمات‬
‫الكتاب املقدس هلو أمر عسري إذا كنا ال نعرف حتى ماهية هذه الكلمات!‬

‫حتول هذا األمر إىل مشكلة يف وجه ما كنت أتبناه من وجهات نظر فيما يتعلق‬
‫بالوحي‪،‬ألنين وصلت إىل االقتناع بأن حفظ كلمات الكتاب املقدس هو‬
‫أسهل على اهلل من قدرته على اإلحياء بها بدايةً ‪.‬ولو كان اهلل يريد أن تصل‬
‫كلماته إىل شعبه ‪،‬فبالتأكيد سيعطيهم إياها(ورمبا سيعطيهم إياها يف لغة ميكنهم‬
‫فهمها‪،‬وليس يف اللغة العربية أو اليونانية)‪ .‬حقيقةُ أننا ال منتلك هذه الكلمات‬
‫جيب أن تؤكد لنا ‪،‬حسب ما كنت أعتقد ‪،‬أنه مل حيفظ هذه الكلمات من‬

‫‪25‬‬
‫أجلنا‪ .‬وإذا مل يكن قد صنع هذه املعجزة (أي حفظ الكتاب)‪،‬فيبدو أنه ليس‬
‫هناك مربرٌ جيعلنا نعتقد أنه صنع املعجزة األوىل اليت هي إنزال هذه الكلمات‬
‫كوحي‪.‬‬

‫باختصار‪،‬تعلُّمي للغة اليونانية ودراسيت للمخطوطات اليونانية‪،‬أدت بي إىل‬


‫إعادة النظر بصورة جذرية يف مفهومي ملاهية الكتاب املقدس‪.‬كان ذلك تغيريًا‬
‫مزلزال بالنسبة إلي ‪ .‬قبل ذلك ـــ منذ بداية جتربة امليالد مرة ثانية اليت مررت بها‬
‫يف املدرسة العليا‪،‬مرورًا بأيام تزميت الديين يف معهد "مودي"‪،‬و الذي استمرَّ‬
‫ٍّ يف معهد "ويتون"ـــ كان إمياني مبنيًا‬
‫وصوال إىل أيامي اليت عشتها كإجنيلي‬
‫بالكامل على نظرة يقينية إىل الكتاب املقدس باعتباره كلمة الرب املوحى بها‬
‫واملعصومة متاما من اخلطأ ‪ .‬اآلن ما عدتُ أرى الكتاب املقدس على هذا النحو‬
‫‪ .‬بدأ الكتاب املقدس يبدو لي ككتاب بشري متاما ‪.‬فكما دوَّن النساخون‬
‫املنتمون إىل بين البشر نصوص الكتاب املقدس و حرَّفوها ‪،‬فكذلك وبالطريقة‬
‫ذاتها دونت نصوص الكتاب املقدس منذ البداية مبعرفة مؤلفني من بين البشر‪.‬‬
‫لقد كان كتابًا بشريًا من البداية وإىل النهاية‪.‬كتبه مؤلفون متنوعون من البشر يف‬
‫أزمنة خمتلفة ويف أماكن خمتلفة تلبيةً حلاجات خمتلفة‪ .‬كثريٌ من هؤالء املؤلفني بال‬
‫شك كانوا يشعرون أنهم يوحى إليهم من قبل اهلل لقول ما حدث ‪،‬لكنهم كان‬

‫‪26‬‬
‫هلم آراؤهم ‪،‬ومعتقداتهم ‪،‬ورؤاهم ‪،‬وحاجاتهم ‪،‬و رغباتهم و‪،‬مفاهيمهم‬
‫اآلراء‪،‬والعقائد‪،‬ووجهات‬ ‫وهذه‬ ‫اخلاصة‪.‬‬ ‫الالهوتية‬ ‫‪،‬وعقائدهم‬
‫النظر‪،‬واحلاجات‪،‬والرغبات‪،‬واملفاهيم ‪،‬والعقائد الالهوتية أملت عليهم كلَّ‬
‫شئ قالوه‪ .‬لقد كانوا خمتلفني يف كل هذه األمور‪.‬ومن بني أمور أخرى‪ ،‬كان هذا‬
‫يعين أن مرقس مل يقل الشئ ذاته الذي قاله لوقا ‪ ،‬وذلك ألنه مل يكن يقصد‬
‫الشئ ذاته الذي يقصده لوقا‪ .‬يوحنا خيتلف عن متى ــــ ليسوا سواءًا ‪ .‬بولس يف‬
‫رسائله خيتلف عن بولس املوجود يف األعمال‪.‬ويعقوب خيتلف عن بولس‪ .‬كلُّ‬
‫مؤلفٍ هو كائنٌ بشريٌّ ‪ ،‬وهو حباجة إىل أن يقرأ الناس ما يكتبه (على فرض‬
‫أنهم مجيعًا من البشر)من أجل ما جيب عليه أن يقوله ‪،‬وليس عرب االفرتاض‬
‫أن ما يكتبه هو الشئ ذاته‪،‬أو متطابق مع‪،‬مالئم ملا جيب أن يكتبه كلُّ مؤلف‬
‫آخر‪ .‬الكتاب املقدس ‪،‬يف النهاية‪ ،‬هو كتابٌ بشريٌّ‪ .‬كانت هذه الرؤية جديدة‬
‫عليّ ‪،‬ومن الواضح أنها مل تكن الرؤية ذاتها اليت كنت أعتنقها أبَّان كوني‬
‫مسيحيًا إجنيليًا ـــ وال هي الرؤية اليت يعتنقها الغالبية من املسيحيني اإلجنيليني‬
‫اليوم‪ .‬امسحوا لي أن أقدم مثاال للتباين الذي اتسمت به رؤييت املغايرة للكتاب‬
‫املقدس‪ .‬عندما كنت يف معهد "مودي"‪،‬كان كتاب ‪،‬كوكب األرض العظيم‬
‫الراحل‪،‬هلال ليندسيي ‪ Hal Lindsey‬عن التخطيط الرؤوي‬
‫‪apocalyptic‬ملستقبلنا واحدًا من أكثر الكتب رواجًا يف اجلامعة‪ .‬كان كتاب‬
‫ليندسي هو األكثر رواجًا ليس فقط يف "مودي"‪،‬بل إنه كان ‪،‬يف احلقيقة‪،‬العمل‬
‫‪27‬‬
‫األكثر مبيعًا بني األعمال املنبنية على حقائق ‪work of nonfiction‬‬
‫(باإلضافة إىل الكتاب املقدس؛واستخدام مصطلح "املنبين على حقائق" هو‬
‫استخدام فضفاض بعض الشئ) املكتوبة باللغة اإلجنليزية يف السبعينات‪.‬كان‬
‫ليندسي يؤمن ‪،‬مثلنا حينما كنا يف مودي‪ ،‬بأن الكتاب املقدس معصومٌ بشكل‬
‫مطلق من اخلطأ يف كل كلمة من كلماته‪،‬إىل درجة أنك تستطيع أن تقرأ العهد‬
‫اجلديد وأن تعرف الكيفية اليت يريدك الرب أن تعيش من خالهلا ‪،‬و ليس ذلك‬
‫فحسب ‪،‬بل ما يريدك أن تؤمن به‪،‬بل و أن تعرف أيضًا ما كان اهلل ذاته خيطط‬
‫ألن يفعله يف املستقبل وكيف كان سيفعله‪ .‬كان العامل متجهًا حنو أزمة رؤوية‬
‫ذات أبعاد كارثية ‪،‬وكانت كلمات الكتاب املقدس املنزهة عن اخلطأ ميكن‬
‫قراءتها إلظهار ماهية ‪،‬وكيفية و توقيت حدوث كل ذلك‪ .‬لقد كنت متيمًا‬
‫بشكل خاص بال"توقيت"‪ .‬أشار ليندسي إىل مثل شجرة التني الذي ضربه‬
‫يسوع كعالمة على التوقيت الذي ميكننا أن ننتظر عنده حدوث معركة‬
‫هرجمدون املستقبلية ‪ .‬كان تالميذ يسوع يريدون أن يعرفوا متى ستحني حلظة‬
‫"النهاية" ويسوع جييبهم‪:‬‬

‫صُنهَا َرخَْصاً وَأَخَْ َرجَتَْ أَوَْرَاقَهَا‬


‫جرَةِ التِّنيِ َتع ََّلمُوا ا ْل َمَثلَ‪ :‬مَتَى صَارَ غُ َْ‬
‫َف ِمنَْ شَ َ‬
‫الص َْيفَ قَرِيبٌ‪َ .‬ه َكذَا أَنَُْتمَْ أَيَْضاً مَتَى َرأَيَُْتمَْ هَذَا ك َُّلهُ فَا َْع َلمُوا أَنَّهُ‬
‫تَ َْع َلمُونَ أَنَّ َّ‬

‫‪28‬‬
‫قَرِيبٌ َعلَى األَبَْوَابِ‪ .‬اَلْحَقَّ َأقُولُ َل ُكمَْ‪ :‬الَ َي َْمضِي َهذَا الْجِيلُ حَتَّى َيكُونَ َهذَا‬
‫ك ُُّلهُ‪(.‬متى ‪). 34 -32: 24‬‬

‫ماذا يعين هذا املثل؟ حيلل ليندسي رسالتها‪،‬معتقدًا أنها كلمة الرب ذاته‬
‫املعصومة من اخلطأ‪ ،‬عرب اإلشارة إىل أن "شجرة التني" يف الكتاب املقدس كثريًا‬
‫ما استخدمت كرمز لشعب إسرائيل‪ .‬ماذا يعين أن خترج أغصانها؟ هذا سيعين‬
‫ص ِليّ (شِتوي) ‪،‬سيعود مرة أخرى‬
‫أن الشعب بعد أن يدخل يف بيات فَ َْ‬
‫للحياة‪.‬ومتى ستعود إسرائيل مرة أخرى إىل احلياة؟ يف ‪ ،1948‬حينما‬
‫أصبحت إسرائيل أمة ذات سيادة مرة أخرى‪،‬يشري يسوع إىل أن النهاية ستأتي‬
‫يف خالل اجليل ذاته الذي سيقع له ذلك ‪.‬وما هو عمر اجليل وفقًا للكتاب‬
‫املقدس؟ أربعون سنة‪.‬من هنا فإنه حسب التعليم اإلهلي املوحى به مباشرة من‬
‫بني شفاه يسوع‪ :‬ستحل نهاية العامل يف وقت ما قبل عام ‪،1988‬أي بعد‬
‫أربعني سنة من ظهور إسرائيل مرة أخرى‪.‬كانت هذه الرسالة آنذاك مقنعة لنا‬
‫متامًا ‪.‬رمبا يبدو األمر غريبًا اآلن ــــ مع األخذ يف االعتبار أن العام ‪ 1988‬قد‬
‫جاء وذهب من دون أن تقع هرجمدون ـــ لكن‪،‬من ناحية أخرى‪،‬هناك ماليني‬
‫املسيحيني اللذين ال يزالون يعتقدون أنَّ الكتاب املقدس ميكن قراءته حرفيًا‬
‫ككتاب موحى به يف تنبؤاته عمَّا هو مزمع أن يقع وصوال إىل نهاية التاريخ كما‬
‫نعرفه ‪ .‬انظر إىل آخر صيحة يف هذه األيام وهي سلسلة )‪(Left Behind‬‬

‫‪29‬‬
‫للكاتبني "تيم الهاي" و"جريي جينكينز"‪،‬اليت هي رؤية رؤوية أخرى ملستقبلنا‬
‫مبنية على القراءة احلَ َْرفِية للكتاب املقدس‪،‬وهي سلسلة بيع منها ما يزيد عن‬
‫ستة ماليني نسخة يف يومنا احلاضر‪.‬إنها لتحول عظيم من قراءة الكتاب املقدس‬
‫كتخطيط معصوم إلمياننا ‪،‬وحياتنا‪،‬و مستقبلنا إىل رؤيته ككتاب بشري إىل حد‬
‫بعيد‪،‬حيمل وجهات نظر بشرية ‪،‬كثريٌ منها ختتلف الواحدة عن األخرى ‪ ،‬وال‬
‫متثل واحدة منها دليالً معصومًا من اخلطأ يرشدنا إىل الكيفية اليت ينبغي أن حنيا‬
‫على هديها ‪ .‬هذا هو التغيري الذي انتهيت ‪،‬حسب وجهة نظري ‪ ،‬من‬
‫صياغته‪،‬والذي أؤمن به اآلن بصورة مطلقة‪ .‬كثريٌ من املسيحيني ‪،‬بالطبع‪،‬مل‬
‫يؤمنوا أبدًا من البداية بالكتاب املقدس وفقًا لتلك الرؤية احلَرفِيَّة‪،‬وبالنسبة هلم‬
‫مثل هذه الرؤية رمبا بدت متحيزة وغري دقيقة(ناهيك عن غرابتها و عدم‬
‫ارتباطها بقضايا اإلميان) ‪ .‬وهناك ‪،‬على الرغم من ذلك‪ ،‬عددٌ كبري من الناس‬
‫هنا وهناك ما يزالون ينظرون إىل الكتاب املقدس على هذا النحو‪.‬أحيانًا‪،‬أرى‬
‫ملصقًا على سيارة يقول‪":‬الرب قاله‪،‬أنا أؤمن به‪،‬وهو حل مشاكلنا ‪ ".‬ودائما‬
‫ما يكون جوابي ‪،‬ماذا لو كان الرب مل يقله؟ ماذا لو كان الكتاب الذي تعتربه‬
‫يقدم لك كلمة الرب‪ ،‬حيتوي بدال من ذلك على كلمات بشرية؟ ماذا لو كان‬
‫الكتاب املقدس ال يقدم لك جوابًا أكيدًا لألسئلة املعاصرة ــــ‬
‫الديين‪،‬الدميوقراطية‬ ‫الشواذ‪،‬التفوق‬ ‫املرأة‪،‬حقوق‬ ‫اإلجهاض‪،‬حقوق‬
‫الغربية‪،‬وما أشبه؟ ماذا إن كان من املتحتم علينا أن نستكشف بأنفسنا كيف‬
‫‪30‬‬
‫نعيش ومباذا نؤمن‪،‬بدون تنصيب الكتاب املقدس كوثن زائف ــ أو كوسيط‬
‫يهدينا إىل الطريق املباشر لالتصال باخلالق؟‬

‫هناك أسباب واضحة تدفعنا لالعتقاد أن الكتاب املقدس‪،‬يف الواقع‪،‬ليس من‬


‫ذلك النوع من اهلداة املنزهني عن اخلطأ حلياتنا ‪:‬فبني أمور أخرى ‪ ،‬كما كنت‬
‫أوضح ‪ ،‬يف مواضع كثرية ال نعرف حتى(كعلماء‪،‬أو كقراء منتظمني‬
‫فحسب)كيف كانت أصول كتاب املقدس ‪ .‬لقد تغريت معتقداتي الشخصية‬
‫بشكل عنيف من خالل إدراكي هلذا‪ ،‬لتسوقين إىل طرق خمتلفة متامًا عن تلك‬
‫اليت مررت بها يف أواخر سين مراهقيت وبواكري العشرينات من عمري‪.‬‬
‫واصلت تقديري للكتاب املقدس وللرسائل الكثرية واملتنوعة اليت حيتويها ــ‬
‫بقدر ما أصبحت أقدر كتابات املسيحيني األوائل األخرى اليت كتبت قريبا من‬
‫الفرتة ذاتها وبعد ذلك بقليل ‪ ،‬كتابات الشخصيات األقل شهرة مثل‬
‫إجناتيوس األنطاكي ‪،‬كليمنت الروماني (نسبة إىل روما)‪،‬وبرنابا‬
‫السكندري‪،‬وأصبحت حتى أقدِّر كتابات الشخصيات الذين ينطلقون من‬
‫معتقدات أخرى ‪ ،‬يف الوقت نفسه تقريبًا‪،‬مثل كتابات يوسيفوس ‪،‬ولوسيان‬
‫السمساطي‪،‬وبلوتارخ ‪ .‬كلُّ هؤالء املؤلفني كانوا حياولون أن يتصوروا العامل‬
‫وموقعهم فيه‪ ،‬ويف كل عمل من أعماهلم يوجد أشياء قيِّمة ميكننا تعلمها‪ .‬من‬

‫‪31‬‬
‫املهم أن نعرف كلمات هؤالء املؤلفني‪ ،‬حتى نستطيع أن نرى ما كان ينبغي أن‬
‫تكون عليه أقواهلم أو أحكامهم ‪،‬ثم‪،‬بالنسبة لنا ماذا نعتقد وكيف نعيش يف‬
‫ضوء هذه الكلمات ‪ .‬إن هذا يعود بي إىل اهتمامي مبخطوطات العهد اجلديد‬
‫ودراسة هذه املخطوطات من خالل امليدان العلمي الذي يعرف بالنقد النصي ‪.‬‬
‫ما أعتقده حول النقد النصي هو أن هذا هو ميدانُ دراسةٍ ضروريٌّ وجذابٌ ‪،‬‬
‫وهو ذو أهمية ليس فقط بالنسبة إىل العلماء ولكن بالنسبة إىل املهتمني بالكتاب‬
‫املقدس كلِّهم (سواء أكانوا ممن ال يزالون من أنصار التفسري احلريف‪،‬أو ممن‬
‫كانوا أنصارا للتفسري احلريف سابقًا ‪،‬أو حتى ممن مل يكونوا يومًا من أنصار‬
‫التفسري احلريف‪ ،‬وأليِّ شخص له اهتمام ولو من بعيد بالكتاب املقدس كظاهرة‬
‫تارخيية وثقافية)‪ .‬األمر املثري للصدمة‪،‬بالرغم من ذلك‪،‬هو أن غالبية القراء ـ‬
‫حتى هؤالء اللذين يهتمون باملسيحية ‪،‬وبالكتاب املقدس‪،‬وبالدراسات‬
‫الكتابية‪،‬و هؤالء اللذين يؤمنون بالكتاب املقدس ككتاب معصوم من اخلطأ‬
‫واآلخرون اللذين ال يؤمنون بذلك ــ ال يعرفون تقريبًا أي شئ عن النقد‬
‫النصي‪.‬وليس من الصعب معرفة أسباب هذا ‪.‬وعلى الرغم من حقيقة أن النقد‬
‫النصي كان موضوعًا لعلم عمره اآلن ما يزيد عن ثالمثائة عام‪،‬فإن هناك‬
‫بالكاد كتابًا واحدًا يدور حول هذا العلم خياطب اجلمهور العلماني ـــأي للذين‬
‫ال يعلمون شيئا عنه‪ ،‬أي للجمهور الذي ال يعرف اليونانية وال اللغات‬
‫األخرى الالزمة لدراساته األكثر تعمقًا ‪،‬وللذين ال يعلمون حتى أن هناك‬
‫‪32‬‬
‫"مشكلة" يف النصوص‪،‬ولكنهم يف الوقت ذاته لديهم الفضول ملعرفة جواب‬
‫السؤالني التاليني كليهما‪ :‬ما هي هذه املشاكل و كيف باشر العلماء التعامل‬
‫معها؟(‪ . )2‬هذا الكتاب الذي حنن بصدده هو من هذه النوعية ــ و حسب‬
‫علمي ‪ ،‬هو األول من نوعه ‪ .‬كتبته ملن ال يعرفون شيئا من الناس عن النقد‬
‫النصي ولكنهم رمبا حيبون أن يتعلموا شيئا عن الكيفية اليت كان النساخ يغريون‬
‫من خالهلا الكتاب املقدس والكيفية اليت نعرف بها مواضع هذا التغيري‪ .‬كتبتها‬
‫معتمدًا على تفكري دام ثالثني عامًا حول هذا املوضوع‪ ،‬وصدورًا عن الرؤية‬
‫اليت أعتنقها اآلن‪،‬مرورًا بهذه التحوالت العنيفة لرؤييت حول الكتاب املقدس‪.‬‬
‫كتبته من أجل كل من جيد يف نفسه اهتمامًا مبعرفة الكيفية اليت وصل إلينا بها‬
‫العهد اجلديد‪،‬ومبعرفة كيف أننا يف بعض املواقف ال نعرف حتى الصورة اليت‬
‫كانت عليها الكلمات األصلية اليت خطتها يدُ املؤلف‪،‬ومبعرفة الطريقة الطريفة‬
‫اليت مت تغيري هذه الكلمات أحيانًا من خالهلا ‪،‬ومعرفة كيف أننا رمبا ‪،‬عرب‬
‫تطبيق بعض مناهج التحليل األكثر صرامة‪ ،‬أعدنا بناء هذه الكلمات األصلية‬
‫كما كانت‪.‬‬

‫ألسباب كثرية‪،‬من هنا ‪ ،‬يعترب هلذا الكتاب وضع خاص بالنسبة إلي‪،‬وهو‬
‫وحمصلة نهائية لرحلة طويلة‪ .‬وقد يكون ‪،‬بالنسبة لآلخرين‪،‬جزءا من رحلتهم‬
‫الشخصية‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫لكي ندرس نسخ العهد اجلديد اليت حبوذتنا ‪ ،‬حنتاج أوال إىل البدء بدراسة أحد‬
‫اخلصائص غري املألوفة اليت تتميز بها املسيحية يف حميط العامل اليوناني‬
‫الروماني‪:‬أال وهي طابعها الكتابيّ ‪ (Bookish).‬يف الواقع ‪،‬لكي نفهم هذه‬
‫اخلصيصة اليت تتميز بها املسيحية ‪،‬حنن حباجة ‪،‬قبل احلديث عن املسيحية‪،‬إىل‬
‫البدء باحلديث عن الديانة اليهودية‪،‬وهي الديانة اليت انبثقت منها املسيحية ‪.‬‬
‫حيث إن اليهودية ‪،‬اليت كانت "ديانة الكتاب" األوىل يف احلضارة الغربية‪،‬كانت‬
‫قد سبقت كتابيّة املسيحية إىل حد ما وتنبأت بها‪.‬‬

‫كانت اليهودية ‪ ،‬اليت هي أساس املسيحية‪ ،‬ديانة غري مألوفة يف العامل‬


‫الروماني‪،‬على الرغم من أنها مل تكن منقطعة النظري‪ .‬فمثل أتباع أيَّة ديانة‬
‫أخرى من (املئات ) من الديانات اليت كانت موجودة يف منطقة حوض‬
‫املتوسط‪،‬كان اليهود يؤمنون بوجود مملكة إهلية تسكنها الكائنات‬

‫‪34‬‬
‫العلوية(مالئكة‪،‬رؤساء مالئكة‪،‬طغمات املالئكة‪،‬القوى)؛كما اتفقوا على‬
‫عبادة إله عرب تقديم األضحيات اليت هي عبارة عن حيوانات وأطعمة أخرى؛‬
‫وكانوا يؤمنون بأن هناك مكانًا مقدسًا له خصوصية حبيث يسكن فيه هذا‬
‫الكائن اإلهلي هنا على األرض ( الذي هو اهليكل يف أورشليم)‪ ،‬حيث تسفك‬
‫دماء هذه األضاحي ‪ .‬وقد كانوا يصلُّون إىل هذا اإلله طلبا لقضاء حوائج‬
‫مجاعية وشخصية‪ .‬وحكوا قصصًا عن الكيفية اليت تعامل بها هذا اإلله مع‬
‫البشر يف الزمن املاضي ‪ ،‬وانتظروا عونه للبشر يف الزمن احلاضر ‪ .‬يف كل هذه‬
‫النواحي ‪ ،‬مل تكن اليهودية "خمتلفة" يف أعني كل املؤمنني باآلهلة األخرى داخل‬
‫اإلمرباطورية‪.‬لكنَّ اليهودية يف بعض النواحي ‪،‬على الرغم من ذلك ‪ ،‬كانت‬
‫متميزة عن غريها‪ .‬فكلُّ الديانات األخرى داخل اإلمرباطورية كانت ديانات‬
‫شركية ـ أي تعرتف بالعديد من اآلهلة من كل األنواع ومبختلف الوظائف‬
‫وتتوجه إليها بالعبادات ‪:‬مثل اآلهلة العظيمة للدولة ‪ ،‬واآلهلة األقل شأنًا يف‬
‫األقاليم املختلفة ‪ ،‬آهلة تراقب املناحي املختلفة مليالد اإلنسان ‪،‬وحياته ‪،‬‬
‫وموته ‪ .‬ومن ناحية أخرى ‪ ،‬كانت اليهودية ديانة توحيديَّة ؛ فاليهود أصرُّوا‬
‫على عبادة اإلله الواحد الذي عبده أجدادهم فحسب ‪ ،‬اإلله الذي ‪،‬حسب‬
‫زعمهم ‪ ،‬كان قد خلق هذا العامل ‪ ،‬وحكمه‪،‬وهو وحدُه الذي كان يف حاجةِ‬
‫شعبِه ‪ .‬وفقًا للتقليد اليهودي ‪،‬هذا اإلله الواحد القادر على كل شئ دعى‬
‫إسرائيل ليكونوا شعبه املختار ووعده باحلماية والدفاع عنه يف مقابل إخالصه‬
‫‪35‬‬
‫املطلق له‪ ،‬وله وحده ‪ .‬كان بني الشعب اليهودي ‪،‬كما كان يُعتَقد‪ ،‬وبني اهلل‬
‫"عهد"‪،‬أي اتفاق مبوجبه يكونون وحدهم شعبه كما يكون هو ربهم وحدهم ‪.‬‬
‫هذا اإلله الواحد هو املستحق وحده للعبادة وللطاعة ؛ وهكذا ‪،‬للسبب ذاته‬
‫‪،‬كان مثة هيكل واحد فقط ‪،‬على عكس الديانات الشركيّة يف ذلك العصر اليت‬
‫‪،‬على سبيل املثال ‪،‬تسمح أن يوجد أي عدد من املعابد إلله مثل "زيوس"‪ .‬بال‬
‫شك ‪،‬كان بإمكان اليهود أن يعبدوا اهلل يف أي مكان يعيشون فيه ‪،‬لكنهم مل‬
‫يكونوا يستطيعون إقامة واجباتهم الدينية مثل تقديم الذبائح هلل إال يف اهليكل‬
‫يف أورشليم ‪.‬أما يف األماكن األخرى ‪،‬مع ذلك ‪،‬فيمكنهم أن جيتمعوا معًا يف‬
‫"الكنيسات" للصالة وملناقشة التقاليد اآلبائية اليت تتعلق بشئون دينهم ‪ .‬هذه‬
‫التقاليد تشتمل على قصص تدور حول عالقة اهلل بآباء شعب إسرائيل – أو‬
‫آباء و أمهات اإلميان ـ إذا جاز التعبري ‪ :‬إبراهيم ‪،‬سارة ‪ ،‬إسحاق ‪ ،‬راشيل‬
‫‪،‬يعقوب ‪ ،‬رُفقى ‪،‬يوسف ‪،‬موسى ‪،‬داوود ‪،‬وهلم جرا ــ وأيضًا تعاليم‬
‫يسيرَ بها هذا الشعب عبادته وحياته‪.‬‬
‫مفصَّلة خبصوص الكيفية اليت ينبغي أن ِّ‬
‫أحد األشياء اليت جتعل اليهودية ديانة فريدة وسط ديانات اإلمرباطورية‬
‫الرومانية أن هذه التعاليم ‪ ،‬إىل جانب التقاليد اآلبائية األخرى‪ ،‬كانت مكتوبة‬
‫يف ثنايا كتبٍ مقدسة‪ .‬إال أن املعرفة الوثيقة لإلنسان املعاصر بالديانات الغربية‬
‫الرئيسية املعاصرة (اليهودية ‪،‬املسيحية ‪ ،‬اإلسالم)‪،‬رمبا ستجعل من العسري أن‬
‫يتصور املرء غرابة هذا األمر ‪ ،‬لكنَّ الكتب مل تلعب فعليًا أيَّ دورٍ يف الديانات‬
‫‪36‬‬
‫الوثنية اليت كانت موجودة يف العامل الغربي القديم‪ .‬هذه الديانات كانت تقريبا‬
‫وبشكل خاص معنية بتمجيد اآلهلة عرب طقوس الذبح‪ .‬مل يكن مثّةَ عقائدٌ ميكن‬
‫تعلُّمها ‪،‬ومن ثمَّ تفسريُها يف ثنايا الكتب ‪ ،‬وتقريبا مل يكن مثَّة مبادئ أخالقية‬
‫حتتذى ‪ ،‬فيتم تضمينها يف الكتب‪ .‬وهذا ال يعين أننا نقول إن أتباع الديانات‬
‫الوثنية املتنوعة مل يكن لديهم أي عقائد حول آهلتهم أو أنهم مل يكن لديهم‬
‫أي مبادئ أخالقية ‪،‬بل ما نقصده هو أن العقائد واألخالق ـ وهو ما يبدو غريبًا‬
‫على األمساع يف العصر احلديث ـ مل تلعب تقريبا أيَّ دور يف الدين حتديدًا‪.‬‬
‫فتلك العقائد واألخالق كانت بدال من ذلك من قضايا الفلسفة الشخصية‪،‬‬
‫والفلسفات ‪ ،‬بالطبع ‪،‬ميكن أن تكتب يف الكتب‪ .‬وحيث إن الديانات القدمية‬
‫ذاتها مل تتطلب أي جمموعة خاصة من "العقائد السليمة" أو ‪ ،‬يف الغالب ‪ ،‬من"‬
‫القوانني األخالقية‪ "،‬فالكتب مل تلعب تقريبًا أي دور فيها‪ .‬كانت اليهودية‬
‫فريدة يف أنها أكدّت على تقاليدها ‪،‬وعاداتها‪ ،‬وقوانينها اآلبائية ‪ ،‬وأصرت‬
‫على أن يتمَّ تسجيلُها يف ثنايا الكتب املقدسة‪ ،‬اليت كانت هلا ‪،‬من أجل هذا‪،‬‬
‫منزلة "الكتاب املقدس" يف أعني الشعب اليهودي‪ .‬يف أثناء الفرتة موضع دراستنا‬
‫ـ القرن األول من امليالد (‪ ،)1‬عندما كانت الكتب املتضمَّنة يف العهد اجلديد يف‬
‫مرحلة الكتابة ـ كان اليهود الذين تشتتوا يف كل مكان من اإلمرباطورية‬
‫الرومانية يعتقدون أن التعاليم اليت أعطاها الرب بشكل خاص للشعب‬

‫‪37‬‬
‫موجودة يف ثنايا كتب موسى ‪،‬املشار إليها جمموعةً بالتوراة ‪،‬اليت تعين حرفيًا‬
‫شيئا مثل "قانون" أو "هداية "‪.‬‬

‫تتكون التوراة من مخسة كتب ‪،‬يطلق عليها أحيانا )‪ (Pentateuch‬أي‬


‫(أسفار موسى اخلمسة)‪،‬اليت هي بداية الكتاب املقدس اليهودي (الذي يقابل‬
‫مصطلح العهد القديم عند املسيحيني)‪ :‬التكوين ‪ ،‬اخلروج ‪،‬الالويني‪ ،‬العدد‬
‫‪ ،‬التثنية‪.‬‬

‫ها هنا جيد املرء روايات عن خلق العامل ‪،‬دعوة شعب إسرائيل ليصريوا شعب‬
‫اهلل ‪،‬قصص اآلباء واألمهات وعالقة اهلل بهم ‪،‬واألهم (واألطول مساحةً‬
‫)‪،‬القوانني اليت أعطاها اهلل ملوسى لتعرِّفَهم كيف ينبغي أن يعبد الشعبُ ربَّهم‬
‫وكيف ينبغي أن يتعاملوا بعضهم مع بعض داخل اجملتمع ‪ .‬لقد كانت قوانينًا‬
‫مقدسة ‪ ،‬ينبغي تعلُّمها ‪،‬ومناقشتها ‪ ،‬واتِّباعِها ـ و كانت مكتوبة يف ثنايا‬
‫جمموعة من الكتب‪.‬‬

‫كان لليهود كتبًا أخرى كانت متثل شيئًا مهمَّا حلياتهم الدينية اجلماعية‬
‫أيضًا‪،‬على سبيل املثال ‪،‬أسفار األنبياء (مثل إشعياء ‪،‬إرميا ‪ ،‬عاموس)‪،‬‬
‫األشعار (أو املزامري)‪ ،‬واألسفار التارخيية( مثل يشوع وصموئيل)‪ .‬يف احملصلة ‪،‬‬
‫‪38‬‬
‫بعد فرتة من ظهور املسيحية ‪ ،‬حدث وأن أصبحت جمموعة من هذه الكتب‬
‫العربية ـ اثنان وعشرين منهم حتديدًا ـ ي َْنظَرُ إليها على أنها القائمة القانونية‬
‫للكتاب املقدَّس ‪،‬أي الكتاب املقدس اليهودي يف الوقت احلاضر ‪،‬الذي قبله‬
‫املسيحيون باعتباره اجلزء األول من القائمة القانونية املسيحية ‪ ،‬أو ما يعرف‬
‫بـ"العهد القديم ‪)2( ".‬‬

‫هذه احلقائق املختصرة حول اليهود ونصوصهم املكتوبة هي من األهمية مبكان‬


‫ألنها متثل اخللفية بالنسبة للمسيحية ‪،‬اليت كانت أيضًا ‪ ،‬منذ حلظاتاها األوىل‬
‫‪،‬ديانة "كتابية"‪ .‬لقد بدأت املسيحية ‪،‬بالطبع ‪ ،‬من خالل يسوع ‪ ،‬الذي كان‬
‫نفسه حربًا يهوديًا( ) ‪ (Rabbi‬أي معلمًا) قَبِل سلطان التوراة ‪ ،‬ورمبا الكتب‬
‫اليهودية املقدسة األخرى ‪،‬و لقن تالميذه تفسريه اخلاص هلذه الكتب (‪. )3‬‬
‫ومثل معلمي عصره اآلخرين ‪،‬أكد يسوع أن النصوص املقدسة‪،‬قانون موسى‬
‫على وجه اخلصوص‪ ،‬متثل إرادة اهلل ‪ .‬لقد قرأ من هذه الكتب املقدسة‬
‫‪،‬وتعلَّمها‪،‬وقام بتفسريها ‪،‬والتزم بها‪،‬وعلَّمها‪ .‬لقد كان تالمذته ‪،‬منذ البداية‬
‫‪ ،‬يهودًا وكانوا ينظرون إىل الكتب اليت حتوي تقاليد قومهم على أنها ذات قيمة‬
‫خاصة‪ .‬وهكذا ‪ ،‬بالفعل ‪،‬يف بداية املسيحية ‪،‬كان أتباع هذه الديانة اجلديدة‬
‫‪،‬أي تالميذ يسوع ‪،‬فريدين يف اإلمرباطورية الرومانية ‪:‬فهم كانوا مثل اليهود‬

‫‪39‬‬
‫من قبلهم ‪،‬لكنهم مل يكونوا مثلَ أيِّ شخص آخر تقريبًا ‪،‬فقد أوجدوا سلطة‬
‫مقدسة يف ثنايا كتب مقدسة ‪ .‬لقد كانت املسيحية يف بدايتها ديانة الكتاب‪.‬‬

‫كما سنرى قريبا ‪ ،‬مل تكن األهمية اليت احتلتها الكتب لدى املسيحية األوىل‬
‫تعين أنَّ كلَّ املسيحيني كان بإمكانهم قراءة الكتب ؛ بل على العكس من ذلك‬
‫متاما ‪ ،‬معظم املسيحيني األوائل ‪،‬مثلهم مثل غالبية الشعب يف أحناء‬
‫اإلمرباطورية (مبن فيهم اليهود ! ) ‪ ،‬كانوا أمِّيني ‪ .‬لكنَّ ذلك ال يعين أنَّ الكتب‬
‫لعبت دورًا ثانويًا بالنسبة إىل الدين ‪ .‬يف احلقيقة ‪ ،‬كانت الكتب ذات أهمية‬
‫رئيسية‪ ،‬بشكل مطلق ‪ ،‬حلياة املسيحيني يف جمتمعاتهم‪.‬‬

‫أول ما جيب مالحظته هو أن أنواعًا كثرية ومتباينة من الكتابة كانت حتمل أهمية‬
‫للمجتمعات املسيحية النامية يف القرن األول بعد وفاة يسوع ‪ .‬فأقدم الرباهني‬
‫اليت بني أيدينا عن اجملتمعات املسيحية تأتي من الرسائل اليت كتبها القادة‬
‫املسيحيون ‪ .‬بولس الرسول هو أقدم وأفضل مثال لدينا ‪ .‬أقام بولس الكنائس‬

‫‪40‬‬
‫يف أحناء غرب املتوسط ‪ ،‬بشكل أساسي يف املراكز احلضرية ‪،‬وبصورة جلية عرب‬
‫إقناع الوثنيني (أي أتباع الديانات الشركية داخل اإلمرباطورية) بأن إله اليهود‬
‫هو اإلله الوحيد املستحق للعبادة ‪،‬وأن يسوع كان ابنه‪،‬الذي مات من أجل‬
‫خطايا العامل وأنه سيعود قريبًا للدينوية على األرض (انظر ‪1‬تسالونيكي ‪: 1‬‬
‫‪ . ) 11 -9‬ليس من الواضح إىل أيِّ حدٍ استخدم بولس الكتاب املقدس (‬
‫أي نصوص الكتاب املقدس اليهودي) يف حماولته إلقناع مُتنَصِّريه ا ُملحََْتمَلني بأن‬
‫رسالته هي رسالة احلق ؛ لكنه يشري يف واحدة من ملخصاته اهلامة لرحالته‬
‫الوعظية إىل أن ما يعظ به هو أن "املسيح مات ‪ ،‬حسب الكتب " (‪ 1‬كورنثوس‬
‫‪ .)4 -3 : 15‬من الواضح أن بولس ربط بني أحداث موت املسيح و قيامته‪،‬‬
‫بتفسريه إلحدى الفقرات الرئيسية يف الكتاب املقدس اليهودي ‪،‬اليت كان‬
‫باستطاعته بشكل واضح ‪،‬باعتباره يهوديًّا واسع الثقافة ‪ ،‬أن يقرأها لنفسه‬
‫‪،‬وأن يفسرها ملستمعيه يف حماولة لتنصريهم كثريا ما تكللت بالنجاح‪ .‬وبعد أن‬
‫يقوم بتحويل عددٍ من الناس إىل املسيحية يف مكان معني ‪ ،‬كان بولس ينتقل‬
‫إىل مكان آخر وحياول ‪ ،‬وعادة ما يكون ذلك مصحوبا ببعض النجاح ‪ ،‬أن‬
‫حيوّل الناس فيه أيضًا إىل املسيحية‪ .‬لكنه يف بعض األحيان ( ورمبا كثريا ؟)كانت‬
‫تتناهى إىل مسامعه أخبارًا من إحدى جمتمعات املؤمنني األخرى اليت أقامها من‬
‫قبل ‪:‬و أحيانًا (أم هل نقول كثريا ؟) مل تكن هذه األخبار جيدة ‪ :‬فأفراد‬
‫اجملتمع بدءوا يسلكون سلوكا رديئا ‪ ،‬وظهرت مشكالت الفجور األخالقي‬
‫‪41‬‬
‫)‪،(Immorality‬و"املعلمون الكذبة )‪" (false teachers‬أصبحوا‬
‫ينشرون تعاليم مضادة لتعاليمه ‪،‬بعض أفراد اجملتمع بدءوا يف اعتناق العقائد‬
‫الباطلة ‪ ،‬وهكذا ‪ .‬عند مساعه هذه األخبار ‪،‬كتب بولس ردًا يف رسالة إىل‬
‫اجملتمع ‪،‬تتناول هذه املشكالت ‪ .‬كانت هذه الرسائل شديدة األهمية حلياة‬
‫اجملتمع ‪،‬ويف النهاية أصبح عددٌ من هذه اجملتمعات ينظر إىل هذه الرسائل‬
‫باعتبارها كتابًا مقدسًا ‪.‬حوالي ثالث عشرة رسالة كتبت باسم بولس أصبحت‬
‫جزءا من العهد اجلديد‪ .‬ميكننا تصوُّر األهمية اليت كانت حتتلها هذه الرسائل يف‬
‫مراحل احلركة املسيحية األوىل من أول الكتابات املسيحية اليت لدينا ‪ ،‬أي‬
‫رسالة بولس األوىل إىل أهل تسالونيكي ‪،‬اليت عادة ما تؤرخ بعام ‪ 49‬ميالديًا‬
‫تقريبًا (‪ ، )4‬أي بعد عشرين عامًا تقريبا من موت يسوع ‪ ،‬و قبل عشرين عامًا‬
‫تقريبًا من كتابة أيٍ من روايات األناجيل عن حياته ‪.‬ينهي بولس رسالته بقوله‪،‬‬
‫جمِيعاً بِقُ َْب َلةٍ ُمقَدَّسَةٍ ؛ ُأنَا ِشدُ ُكمَْ بِالرَّبِّ أَنَْ تُقْرَأَ َه ِذهِ‬
‫إلخَْوَةِ َ‬
‫" س َِّلمُوا َعلَى ا ِ‬
‫إلخَْوَةِ ا ْلقِدِّيسِنيَ"( ‪ 1‬تسالونيكي ‪). 27 – 26: 5‬‬
‫جمِيعِ ا ِ‬
‫الرِّسَالَةُ عَلَى َ‬

‫معين به ؛ إن‬
‫مل يكن هذا اخلطاب خطابا تقليديًا يقرأه ببساطة شخصٌ ما ٌّ‬
‫الرسول يُصِرُّ على أن يُقرأ هذا اخلطاب ‪ ،‬وأن يتمَّ قبولُه باعتباره بيانًا رمسيًا‬
‫منه ‪،‬كمؤسسٍ للمجتمع ‪ .‬كانت اخلطابات من أجل ذلك يتم نشرها يف كل‬

‫‪42‬‬
‫مكان تتواجد به اجلماعات املسيحية منذ أقدم العصور ‪ .‬كانت الرسائل حلقة‬
‫االتصال بني اجملتمعات اليت كانت تعيش يف أماكن خمتلفة ‪ ،‬فقد وحَّدت إميان‬
‫و طقوس املسيحيني ؛وذكرت ما كان يفرتض أن يؤمن به املسيحيون وكيف‬
‫يفرتض أن يكون سلوكهم ‪ .‬كانت تقرأ بصوت عالٍ على أفراد اجملتمع يف‬
‫اجتماعاتهم ـ حيث مل يكن معظم املسيحيني ‪،‬كما أوضحت ‪،‬مثلهم يف ذلك‬
‫مثل الغالبية العظمى من اآلخرين ‪ ،‬باستطاعتهم قراءة الرسائل بأنفسهم‪.‬‬

‫أصبح عددٌ من هذه الرسائل جزءًا من العهد اجلديد ‪ .‬العهد اجلديد ‪ ،‬يف الواقع‬
‫‪ ،‬يتشكل بشكل كبري من رسائل بولس و القادة املسيحيني اآلخرين‬
‫للمجتمعات املسيحية (الكرونثيون و الغالطيون على سبيل املثال ) واألفراد‬
‫املسيحيني (فيليمون كمثال)‪.‬أضف إىل هذا أن الرسائل اليت بقيت حية ــ منها‬
‫إحدى وعشرين متضمنة يف العهد اجلديد ـ هي فقط جزء صغري من هذه‬
‫الكتابات ‪ .‬بالنسبة لبولس وحده ‪ ،‬ميكننا أن نفرتض أنه كتب رسائل كثرية‬
‫أخرى أكرب من من تلك املنسوبة إليه يف العهد اجلديد‪ .‬فقد كان ‪،‬أحيانًا ‪ ،‬يذكر‬
‫رسائل أخرى مل يعد هلا وجود ؛ ففي ‪ 1‬كورنثوس ‪ ، 9 : 5‬على سبيل‬
‫املثال ‪ ،‬ذكر رسالة كان قد كتبها قبل أن يكتب الرسالة إىل الكورنثيني (يف وقت‬

‫‪43‬‬
‫ما قبل الرسالة األوىل إىل الكورنثيني )‪ .‬وذكر رسالة أخرى أرسلها إليه بعض‬
‫ٍّ من هذه الرسائل ‪.‬‬
‫الكورنثيني (‪ 1‬كور ‪ . )1 : 3‬لكنَّ أثرًا مل يبق ألي‬

‫ارتاب العلماء لفرتة طويلة يف أن بعضًا من هذه الرسائل املوجودة يف العهد‬


‫اجلديد منسوبةً لبولس هي يف احلقيقة من كتابات أتباعه املتأخرين ونسبت إليه‬
‫بالباطل (‪ . )5‬و لو صحَّت هذه الشكوك ‪،‬فستعطي دليلًا ال شك فيه على‬
‫أهمية الرسائل عند احلركة املسيحية األوىل ‪ :‬فلكي جيذب اإلنسان األمساع‬
‫إىل وجهات نظره ‪ ،‬كان عليه أن يكتب رسالة ممهورة بتوقيع الرسول مفرتضًا‬
‫أن ذلك سيمنحها حجمًا من املوثوقية جديرًا باالعتبار‪.‬‬

‫إحدى هذه الرسائل اليت يزعمون أنها منسوبة إليه هي الرسالة إىل أهل‬
‫كولوسي ‪ ،‬اليت تؤكد حبد ذاتها أهمية الرسائل و هي تذكر رسالة أخرى مل‬
‫يعُد هلا اآلن وجود‪ " :‬وَ َمتَى ُق ِرئَتَْ عِ َْندَ ُكمَْ َهذِهِ الرِّسَالَةُ فَاجَْ َعلُوهَا تُقْرَأُ ايَْضاً‬
‫ال ُودِكِيَّةَ َتقْ َرأُوَنهَاأنَُْتمَْ أيَْضاً‪1(" .‬كولوسي ‪4‬‬
‫فِي كَنِي َسةِ الالَّوُدِكِيِّنيَ‪ ،‬وَالَّتِي ِمنَْ َ‬
‫‪ .) 16 :‬من الواضح أن بولس – إما هو نفسه ‪ ،‬أو شخص آخر يكتب بامسه‬
‫ـ كتب رسالة إىل مدينة الالودكية اجملاورة‪ .‬هذه الرسالة أيضًا مفقودة (‪) .6‬‬

‫‪44‬‬
‫النقطة اليت أدندن حوهلا هي أن الرسائل كانت حتمل أهمية حلياة اجملتمعات‬
‫املسيحية األوىل‪ .‬هذه الرسائل كانت هي الوثائق املكتوبة اليت كتبت لرتشدهم‬
‫يف إميانهم و عباداتهم ‪ .‬فقد وحَّدت تلك الكنائس برباط واحد ‪.‬وساعدت على‬
‫جعل املسيحية ديانة شديدة االختالف عن غريها من األديان األخرى املنتشرة‬
‫يف أحناء االمرباطورية ‪،‬وذلك يف أن اجملتمعات املسيحية املتعددة ‪،‬اليت تتوحد‬
‫من خالل هذا األدب املشرتك الذي تشاركوه هنا وهنالك (قارن مع كولوسي‬
‫‪ ، )16: 4‬كانت ملتزمة بالتعاليم املوجودة يف الوثائق املكتوبة أو "الكتُب"‪.‬‬
‫ومل تكن الرسائل هي الوحيدة اليت محلت أهمية بالنسبة هلذه اجملتمعات ‪.‬‬
‫فلقد كان هناك أدبٌ ‪،‬يف احلقيقة ‪ ،‬يتم انتاجه ‪ ،‬ونشره ‪،‬وقراءته و االلتزام به‬
‫على نطاق شديد االتساع من خالل املسيحيني األُوَل ‪،‬وهو أدب شديد‬
‫االختالف عن أيِّ شئ آخر شهده العامل الروماني الوثين على اإلطالق ‪.‬‬
‫وبدال من وصف كل هذا األدب بتفصيل مملّ ‪ ،‬ميكنين اآلن ببساطة أن أذكر‬
‫بعض األمثلة من تلك األنواع من الكتب اليت كانت تُكتَب وتُوَزَّع‪.‬‬

‫األناجيل املبكرة‬

‫كان املسيحيون بالطبع معنيِّني مبعرفة معلومات أكثر عن حياة ‪،‬وتعاليم ‪،‬‬
‫وموت الرب و قيامته ؛ ولذلك كُِتَبتَْ العديد من األناجيل ‪،‬اليت قامت‬
‫بتسجيل التقاليد املتصلة حبياة يسوع ‪ .‬أربعة من هذه األناجيل أصبحت هي‬

‫‪45‬‬
‫األوسع استخدامًا ـ وهي تلك اليت كتبها متَّى ‪،‬ومرقس ‪،‬ولوقا ‪ ،‬ويوحنا يف‬
‫ثنايا العهد اجلديد ـ لكنَّ أناجيال أخرى كثرية كُتِبت‪ :‬منها على سبيل املثال‬
‫‪،‬األناجيل املنسوبة إىل فيليبُّس تلميذ يسوع ‪ ،‬ويهوذا توما أخيه ‪ ،‬ورفيقته‬
‫مريم اجملدلية‪ .‬كما فقدت أناجيل أخرى بعضها من األناجيل األكثر قِدمًا ‪ .‬نعلم‬
‫ذلك ‪،‬على سبيل املثال ‪،‬من إجنيل لوقا ‪،‬الذي يشري مؤلفه أنه يسرتشد يف‬
‫كتابة روايته ب"كثريٍ" من املؤلَّفات السابقة (لوقا ‪،)1 : 1‬اليت من الواضح‬
‫جدا أنها مل يعد هلا وجود ‪ .‬إحدى هذه الروايات األكثر ِقدَمًا رمبا كانت هي‬
‫املصدر الذي حدده العلماء حتت اسم املصدر "‪، "Q‬والذي حيتمل أنه كان‬
‫رواية مكتوبة تشتمل على أقوال يسوع بشكل أساسيّ ‪ ،‬واستخدمها كل من‬
‫لوقا ومتَّى كمصدرٍ لكثري من تعاليم يسوع اليت انفردا بها (على سبيل املثال‬
‫صالة الرب والتطويبات ) (‪ . )7‬فسَّر بولس وآخرون حياة يسوع ‪،‬كما رأينا ‪،‬‬
‫على ضوء الكتابات املقدسة اليهودية‪ .‬هذه الكتب أيضًا ـ أي كال من األسفار‬
‫اخلمسة و الكتابات اليهودية األخرى ‪ ،‬مثل أسفار األنبياء و املزامري ـ كانت‬
‫تُستخدم على نطاقٍ واسعٍ بني املسيحيني ‪،‬الذين سربوا أغوارها لريوا ما ميكنها‬
‫كشفه خبصوص إرادة اهلل كما حتققت يف شخص املسيح خاصةً‪ .‬كانت نسخ من‬
‫هذا الكتاب املقدس اليهودي ‪،‬مرتمجة يف العادة باليونانية (تسمى السبعينية )‬
‫‪ ،‬منتشرة على نطاق واسع ‪،‬إذن‪ ،‬يف اجملتمعات املسيحية األوىل كمصادر‬
‫للدراسة والتأمل ‪.‬‬
‫‪46‬‬
‫األعمال املبكرة للرسل‬

‫ليست حياة يسوع فحسب ‪،‬بل أيضًا حياة األتباع األوائل كانت حمطًّا الهتمام‬
‫اجملتمعات املسيحية املتنامية يف القرنني األول والثاني ‪ .‬ليست مفاجأة ‪،‬إذن ‪،‬أن‬
‫نرى أن قصص الرسل ـ مغامراتهم و أعماهلم التبشريية ‪،‬خاصة بعد موت‬
‫وقيامة يسوع ـ أصبحت تشغل مكانة هامة عند املسيحيني املهتمني مبعرفة املزيد‬
‫من املعلومات عن دينهم ‪ .‬إحدى هذه القصص ‪ ،‬أي سفر أعمال الرسل ‪،‬‬
‫جنحت يف النهاية يف أن تصبح جزءًا من العهد اجلديد ‪ .‬لكنَّ قصصًا أخرى كثرية‬
‫كُتَِبتَْ عن الرسل كلٌّ على حدى ‪،‬مثل تلك املوجودة يف أعمال بولس ‪،‬‬
‫وأعمال بطرس ‪،‬وأعمال توما ‪ .‬أعمال أخرى جنى بعضها من الضياع ولكن‬
‫يف صورة مقاطع صغرية فحسب ‪ ،‬بينما فُ ِقدَ البعض اآلخر متامًا‪.‬‬

‫كما أشرت ‪،‬نشر بولس (مع الرسل اآلخرين) تعليمًا يقول إن يسوع كان‬
‫مُزمعًا أن يعود من السماء للحكم على األرض ‪ .‬النهاية الوشيكة لكل األشياء‬
‫حرَ باستمرار لُبَّ املسيحيني األوائل ‪،‬الذين يف العموم كانوا‬
‫كانت أمرًا َس َ‬
‫يتوقعون أن اهلل سيتدخل قريبًا يف شئون العامل ليقهر قوى الشر وليقيم هنا على‬
‫‪47‬‬
‫األرض مملكته اخليِّرة ‪،‬وعلى رأسها يسوع‪ .‬بعض املؤلفني املسيحيني كتبوا‬
‫قصصًا تنبُّؤيَّة‬

‫)‪(prophetic accounts‬عمّا سيحدث يف هذه النهاية الكارثية للعامل‬


‫كما نعرفه‪ .‬لقد كان عند اليهود أعمال حاذت قصبة السبق يف هذا النوع من‬
‫األدب "الر َؤ ِويّ )‪ ،" (apocalyptic‬يف كتاب دانيال ‪،‬على سبيل‪ ،‬يف‬
‫الكتاب املقدس اليهودي ‪ ،‬أو كتاب أخنوخ‪ (book of 1 Enoch) 1‬يف‬
‫األبوكريفا اليهودية ‪ .‬ومن بني الرؤى املسيحية ‪،‬دخلت واحدة يف النهاية إىل‬
‫العهد اجلديد‪ :‬رؤيا يوحنا ‪ .‬بينما كانت رؤى أخرى ‪،‬من بينها رؤيا بطرس و‬
‫الراعي هلرماس ‪ ،‬شائعة القراءة يف عددٍ من اجملتمعات املسيحية يف القرون‬
‫األوىل للكنيسة‪.‬‬

‫تضاعفت اجملتمعات املسيحية ومنت ‪،‬بدءًا من عصر بولس ولتتواصل خالل‬


‫األجيال اليت جاءت من بعده‪ .‬كانت الكنائس املسيحية يف األصل ‪،‬أو على‬
‫األقل تلك اليت أقامها بولس نفسه ‪،‬من اجملتمعات اليت ميكننا أن نطلق عليها‬
‫جمتمعاتٍ ذات مواهب قيادية‬

‫‪48‬‬
‫‪(charismatic) .‬فقد كانوا يؤمنون بأن كل فرد من اجملتمع قد أُوتِيَ‬
‫"موهبةً" ( كاريزما باليونانية) من الروح القدس ملساعدة اجملتمع يف تسيري حياته‬
‫احلاضرة‪ :‬على سبيل املثال ‪،‬هناك مواهب التعليم ‪ ،‬موهبة اإلدارة ‪ ،‬موهبة‬
‫إعطاء الصدقات ‪،‬موهبة الشفاء ‪،‬وموهبة التنبوء ‪ .‬إال أنه يف نهاية املطاف ‪،‬‬
‫حينما بدأت التنبؤات اخلاصة بالنهاية الوشيكة للعامل يف االضمحالل ‪ ،‬بدى‬
‫واضحًا أن هناك حاجة إلجياد بنية كنسية أكثر صرامة ‪،‬خاصة إذا كانت‬
‫الكنيسة ستظل قائمة لفرتة طويلة (قارن ‪ 1‬كرونثوس ‪ 11‬؛ مع متّى ‪16‬‬
‫‪ .)18،‬بدأت الكنائس الواقعة على جانيب البحر املتوسط ‪ ،‬ومن بينها تلك‬
‫اليت أسسها بولس ‪ ،‬يف تعيني قادة سيتولُّون املسئولية واختاذ القرارات (بدال من‬
‫النظر إىل كل فرد من أفراد الكنيسة باعتباره "متساويًا" يف املوهبة من الروح )؛‬
‫فبدأت القواعد اخلاصة بكيفية عيش اجملتمع املسيحي معًا ‪ ،‬وبكيفية ممارسته‬
‫لشعائره املقدسة (العماد والقربان املقدس على سبيل املثال ) ‪ ،‬وتعليم‬
‫األعضاء اجلدد ‪..‬إخل ‪،‬يتمُّ صياغتها‪ .‬وسرعان ما بدأ تدوين الوثائق اليت تذكر‬
‫الكيفية املثلى لتنظيم وهيكلة الكنيسة‪ .‬لقد أصبح ما يعرف ب"النظم الكنسية"‬
‫أمرًا ذا أهمية متزايدة يف القرنني املسيحيني الثاني والثالث‪،‬لكن يف العام ‪111‬‬
‫بعد امليالد تقريبًا كان الكتاب املعروف باسم "ديداخي (تعليم ) الرسل االثنى‬
‫عشر" هو أول (حسب ما نعلمه ) ما كتب بالفعل‪ .‬وخالل زمن قصري تبعه‬
‫العديد من الكتب‪.‬‬
‫‪49‬‬
‫عندما كانت اجملتمعات املسيحية يف مرحلة النشوء ‪،‬كانت جتابه أحيانًا مبعارضة‬
‫من اليهود و الوثنيني الذين رأوا يف هذا اإلميان اجلديد تهديدًا وارتابوا يف اخنراط‬
‫أتباعه يف طقوس ال أخالقية ومدمرة للمجتمع (كما ينظر اليوم إىل احلركات‬
‫الدينية اجلديدة يف أحيان كثرية بالريبة ذاتها متاما)‪ .‬هذه املعارضة أدت يف أحيان‬
‫كثرية إىل وقوع اضطهادات للمسيحيني يف جمتمعهم احمللي؛ ويف النهاية‬
‫أصبحت االضطهادات ذات طابع "رمسيّ"‪ ،‬حيث تدخلت السلطات الرومانية‬
‫للقبض على املسيحيني ويف حماولة إلجبارهم على الرجوع إىل معتقداتهم‬
‫الوثنية القدمية ‪ .‬وعندما كانت املسيحية تنمو ‪،‬جنحت يف النهاية يف استمالة‬
‫املثقفني إىل اإلميان ‪،‬وهم الذين كانوا مؤهلني جيدًا ملناقشة االتهامات اليت‬
‫ُر ِفعَت يف وجوه املسيحيني ودحضها‪ .‬كتابات هؤالء املثقفني يطلق عليها أحيانًا‬
‫الدفاعيات ‪،‬من الكلمة اليونانية (أبولوجيا) املقابلة لكلمة "دفاع"‪ .‬املدافعون‬
‫كتبوا أعماال فكرية دفاعًا عن اإلميان اجلديد ‪ ،‬حماولني إظهار أن املسيحية هي‬
‫ديانة تبشر بالقيم األخالقية ‪،‬وهي بعيدة كل البعد عن أن تكون تهديدًا للبناء‬
‫اإلجتماعي لإلمرباطورية الرومانية ‪ ،‬وأن املسيحية متثل احلقيقة املطلقة يف‬

‫‪50‬‬
‫توجهها حنو عبادة اإلله احلق وهي بعيدة كل البعد عن أن تكون تلك الديانة‬
‫اخلطرة املبنية على اخلرافات‪ .‬هذه الكتابات الدفاعية كانت ذات أهمية للقراء‬
‫املسيحيني األوائل ‪،‬ألنها أمدتهم باحلجج اليت حيتاجونها عند تعرضهم‬
‫لالضطهاد‪ .‬هذا النوع من الدفاع نشأ بالفعل يف العصر الذي كُِتبَ فيه العهد‬
‫اجلديد ‪،‬على سبيل املثال ‪ ،‬يف ‪1‬بطرس ‪ 15 : 3‬نقرأ " مُ َْسَتعِدِّينَ دَائِماً‬
‫الرجَاءِ الَّذِي فِي ُكمَْ " ويف سفر األعمال‬
‫ِلمُجَا َوبَةِ كُلِّ َمنَْ يَ َْسأَُل ُكمَْ َعنَْ َسبَبِ َّ‬
‫‪،‬حيث يدافع بولس والرسل اآلخرون عن أنفسهم ردًا على االتهامات اليت‬
‫وجهت إليهم ‪ .‬قريبًا من النصف الثاني من القرن الثاني ‪،‬كانت الكتابات‬
‫الدفاعية قد أصبحت شكال معروفًا من الكتابة املسيحية‬

‫قريبا من الفرتة الزمنية ذاتها اليت بدأ فيها تدوين الكتابات الدفاعية ‪،‬بدأ‬
‫املسيحيون يف تدوين روايات عن اضطهاداتهم و االستشهادات اليت وقعت‬
‫نتيجة هلذه االضطهادات‪ .‬هناك بعض الوصف لألمرين كليهما يف سفر‬
‫األعمال املوجود يف العهد اجلديد‪،‬حيث كانت املعارضة للحركة‬
‫املسيحية‪،‬وإلقاء القبض على الزعماء املسيحيني‪ ،‬وإعدام أحدهم (ستيفانوس)‬
‫على األقل تشكل جزءا هاما من احلكي داخل السفر (انظر أعمال ‪ . )7‬بعد‬

‫‪51‬‬
‫ذلك ‪ ،‬يف القرن الثاني امليالدي ‪ ،‬بدأت سري الشهداء يف الظهور ‪ .‬أول ما ظهر‬
‫منها كان استشهاد بوليكاربوس ‪ ،‬الذي كان قائدا مسيحيًّا مرموقًا وكان أسقفًا‬
‫لكنيسة "مسرينا"‪ ،‬يف آسيا الصغرى‪ ،‬تقريبا طوال النصف األول من القرن‬
‫الثاني كامال‪ .‬قصة موت بوليكاربوس موجودة يف رسالة كتبها أفراد كنيسته‬
‫‪،‬حيث كتبوها جملتمع مسيحي آخر ‪ .‬بعد ذلك مباشرة ‪ ،‬بدأت قصص الشهداء‬
‫اآلخرين يف الظهور‪.‬هذه القصص أيضا كانت واسعة االنتشار بني املسيحيني‬
‫‪،‬ألنها منحت هؤالء الذين كانوا حمال لالضطهاد من أجل اإلميان تشجيعا‬
‫‪،‬ومنحتهم البوصلة اليت بها يعرفون طريقهم يف مواجهة أقصى التهديدات مثل‬
‫الوقوع يف األسر ‪،‬والتعذيب و املوت‪.‬‬

‫مل تقتصر املشكالت اليت واجهت املسيحيني على التهديدات اخلارجية املتمثلة‬
‫تنوعًا يف‬
‫يف االضطهاد‪ .‬فقد كان املسيحيون ‪،‬منذ أقدم العصور ‪ ،‬يعون أن مثة ُّ‬
‫تفسري "احلقيقة" الدينية كان موجودا بني صفوفهم‪ .‬فها هو الرسول بولس‬
‫يشتكي من "املعلمني الكذبة" ــ على سبيل املثال‪،‬يف رسالته إىل الغالطيني ‪ .‬فإذا‬
‫قرأنا الروايات املوجودة ‪ ،‬ميكننا أن نرى بوضوح أن هؤالء اخلصوم مل يكونوا‬
‫من الغرباء ‪ .‬فقد كانوا مسيحيني فهموا الدين بطرق خمتلفة على حنوٍ مطلق ‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫وللتعامل مع هذه املشكلة ‪،‬بدأ القادة املسيحيون يف كتابة املقاالت اليت تتصدى‬
‫"للهراطقة"(أي الذين اختاروا الطريق اخلطأ لفهم اإلميان)؛ متثل بعض رسائل‬
‫بولس ‪ ،‬إىل حدٍ ما ‪ ،‬أقدم النماذج هلذا النوع من املقال ‪ .‬يف النهاية أصبح‬
‫املسيحيون من كل االجتاهات معنيني مبحاولة حتديد "التعليم احلق" (وهو املعنى‬
‫احلريف لكلمة "األرثوذكسية") وبالتصدي هلؤالء الذين يدافعون عن التعاليم‬
‫الباطلة ‪ .‬هذه املقاالت املضادة للهرطقات أصبحت مَيزة مهمة من ميزات‬
‫املشهد األدبي املسيحي املبكر‪ .‬األمر الطريف هو أنَّ جمموعات" املعلمني الكذبة"‬
‫كتبوا هم أيضًا مقاالت ضد "املعلمني الكذبة"‪،‬حتى إن اجملموعة اليت أقامت‬
‫ذات مرة ولألبد ما أصبح املسيحيون يؤمنون به ( هؤالء مسئولون ‪،‬على سبيل‬
‫املثال‪ ،‬عن العقائد اليت وصلت إلينا اليوم) أصبحت تتعرض أحيانا النتقادات‬
‫املسيحيني الذين اعتنقوا عقائدا اعتربت يف النهاية تعاليم باطلة‪ .‬علمنا ذلك من‬
‫خالل بعض االكتشافات احلديثة نسبيًا لآلداب "اهلرطوقية"‪ ،‬اليت يصر فيها من‬
‫يُعَْ َرفُون باهلراطقة على أن رؤاهم هي الرؤى الصحيحة و أن تلك التعاليم اليت‬
‫يعتنقها قادة الكنيسة " األرثوذوكسية" هي تعاليم باطلة (‪). 8‬‬

‫‪53‬‬
‫مساحة واسعة من اجلدل حول العقيدة الصحيحة والعقيدة الباطلة مت الزج بها‬
‫يف تفسري النصوص املسيحية‪ ،‬ومن ضمنها "العهد القديم"‪،‬الذي ادعى‬
‫املسيحيون أنه جزء من كتابهم املقدس ‪ .‬هذا يبني مرة أخرى كيف احتلت‬
‫النصوص موقعا مركزيًّا بالنسبة للمجتمعات املسيحية املبكرة‪ .‬يف النهاية ‪،‬بدأ‬
‫املؤلفون املسيحيون يف كتابة تفاسري هذه النصوص ‪،‬ليس بالضرورة بغرض‬
‫دحض التفاسري الباطلة على حنوٍ مباشرٍ ( على الرغم من أن ذلك كثريا ما كان‬
‫يف احلسبان أيضًا)‪،‬لكن أحيانا ببساطة لتفسري معنى النصوص و إلظهار‬
‫عالقاتها باحلياة و املمارسة املسيحيتني ‪.‬من الطريف أن أول التفاسري املسيحيَّة‬
‫اليت نعرفها أليِّ نص من نصوص الكتاب املقدس كان كاتبه هو واحد ممن‬
‫يسمَّوَْن هراطقة ‪ ،‬وهو الغنوصي املسمى هرياكليون الذي عاش يف القرن الثاني‬
‫‪،‬والذي كتب تفسريًا إلجنيل يوحنا (‪) .9‬‬

‫يف النهاية أصبح وجود التفاسري ‪،‬واحلواشي التفسريية ‪،‬والتفاسري التطبيقية‪،‬‬


‫‪،‬والعظات الدينية حول النصوص أمرًا شائعًا داخل اجملتمعات املسيحية يف‬
‫القرنني الثالث والرابع‪.‬‬

‫لقد كنت أقوم بتلخيص األنواع املختلفة من الكتابات اليت كانت ذات أهمية‬
‫حلياة الكنائس املسيحية األوىل ‪ .‬كما أمتنى أن يكون واضحًا للعيان أنَّ الكتابة‬
‫‪54‬‬
‫كانت هي الظاهرة األكثر أهمية بالنسبة للكنائس واملسيحيني املنضويني حتتها ‪.‬‬
‫لقد احتلت الكتب مكان القلب من الديانة املسيحية ـ على عكس الديانات‬
‫األخرى داخل اإلمرباطورية ـ منذ البداية ‪.‬فالكتب قصَّت علينا الروايات اليت‬
‫حكاها املسيحيون مرارًا وتكرارًا عن يسوع وتالمذته؛ وزودت الكتبُ‬
‫املسيحيني بالتعاليم اليت ينبغي ان يؤمنوا بها وبالطريقة اليت يعيشون حياتهم‬
‫وحدَت الكتب بني اجملتمعات املنفصلة جغرافيًا لتنشأ كنيسة‬
‫من خالهلا ؛ كما َّ‬
‫واحدة عاملية ؛و دعَّمت الكتبُ املسيحيني يف أيام االضطهاد وأعطتهم مناذج‬
‫من التضحية بالذات ليتمثلوها يف مواجهة التعذيب واملوت ؛ مل تعطِهم الكتب‬
‫فحسب نصيحة نافعة بل صحَّحت العقيدة ‪،‬وحذرت من تعاليم اآلخرين‬
‫الباطلة و عجَّلت من قبول املعتقدات الصحيحة (األرثوذكسية)؛ و مسحت‬
‫الكتب للمسيحيني أن يعرفوا املعنى الصحيح للكتابات األخرى ‪ ،‬معطية إياهم‬
‫إرشاداتٍ عما ينبغي أن يفكروا فيه ‪،‬وكيف يتعبدُّون ‪،‬وكيف ينبغي أن يكون‬
‫سلوكهم ‪ .‬لقد كانت منزلة الكتب يف القلب متامًا من حياة املسيحيني األوائل‪.‬‬

‫تشكل قائمة الكتب الرمسية املسيحية(القانون)‬

‫يف النهاية ‪،‬بعض هذه الكتب املسيحية بدأ املسيحيون ينظرون إليها ليس فقط‬
‫باعتبارها كتبًا تستحق القراءة وإمنا أيضًا باعتبارها كتبًا موثوقًا بها متامًا كمصدر‬

‫‪55‬‬
‫تستقى منه املعتقدات واملمارسات اخلاصة باملسيحيني‪ .‬لقد صارت هي الكتاب‬
‫املقدس ‪.‬‬

‫لقد كانت عملية تشكُّل القائمة الرمسية للكتاب املقدس املسيحي‬


‫‪(Christian canon of s cripture‬طويلة ومعقدة ‪ ،‬ولست حباجة‬
‫إىل أن أدخل يف كل التفصيالت هنا (‪ . )11‬بدأ ‪ ،‬كما أشرت بالفعل من قبل‬
‫ٍّ على أن منشئ ديانتهم هو نفسه معلمٌ يهوديٌّ اعرتف‬
‫‪ ،‬املسيحيون بقانون مبين‬
‫بالتوراة ككتاب مقدسٍ موثوقٍ به موحى به من اهلل ‪ ،‬وعلَّم تالميذه تفسريه‬
‫الشخصيّ له ‪ .‬كان املسيحيون األوائل أتباعًا ليسوع الذي قبِلَ الكتب اليت‬
‫يتكون منها الكتاب املقدس اليهودي (الذي مل يكن قد نُصِّبَ حتى هذه‬
‫اللحظة و إىل األبد ك"قانون") باعتباره كتابهم املقدس اخلاص‪ .‬يف اصطالح‬
‫مؤلفي العهد اجلديد ‪،‬مبا فيهم بولس ‪ ،‬أقدم مؤلفينا ‪ ،‬يشري مصطلح‬
‫"الكتابات املقدسة " ) ‪ (s-riptures‬إىل الكتاب املقدس اليهودي ‪،‬وهو‬
‫جمموعة الكتب اليت كان الرب قد أعطاها لشعبه واليت تنبأت باملسيح اآلتي‬
‫‪،‬يسوع ‪ .‬مع ذلك ‪ ،‬مل يدم األمر طويال حتى بدأ املسيحيون يف قبول الكتابات‬
‫األخرى باعتبارها مساوية للكتب املقدسة اليهودية‪ .‬هذا القبول رمبا كان له‬
‫جذوره يف التعاليم األصلية ليسوع نفسه ‪،‬حيث أخذ تالميذه تفسريه للكتاب‬

‫‪56‬‬
‫املقدس باعتباره على قدم املساواة يف املوثوقية مع كلمات الكتاب املقدس نفسه‬
‫‪ .‬من احملتمل أن يكون يسوع قد شجع هذا الفهم عرب الطريقة اليت عرب بها عن‬
‫بعض تعاليمه ‪ .‬ففي أثناء موعظة اجلبل ‪،‬على سبيل املثال ‪،‬مت تصوير املسيح‬
‫وكأنه يذكر القوانني اليت أعطاها الرب ملوسى ‪ ،‬ثم يعطي تفسريه اخلاص‬
‫األكثر تشددا هلا ‪،‬مشريا إىل أن تفسريه هو اجلدير باالعتماد والقبول‪ .‬هذا‬
‫يوجد فيما يعرف يف إجنيل متى ‪ ،‬يف الفصل ‪ 5‬ب"املقابالت" ‪ .‬يقول يسوع ‪"،‬‬
‫« َقدَْ َس ِم َْعُتمَْ أََّنهُ قِيلَ ِللْ ُقدَمَاءِ‪ :‬الَ تَقُْتلَْ(وهي واحدة من الوصايا العشر) وَأَمَّا أَنَا‬
‫ح ْكمِ « ما‬
‫جبَ الْ ُ‬
‫ضبُ َعلَى َأخِيهِ بَا ِطالً َيكُونُ مُسَْتَ َْو ِ‬
‫َفَأقُولُ َل ُكمَْ‪ :‬إِنَّ كُلَّ مَنَْ َيغَْ َ‬
‫يقوله يسوع ‪ ،‬يف سياق تفسريه للشريعة ‪،‬يبدو مماثال يف املوثوقية للشريعة نفسها‬
‫‪ .‬أو يقول يسوع ‪َ "،‬قدَْ َس ِمعَُْتمَْ أََّنهُ قِيلَ ِل ْل ُقدَمَاءِ‪ :‬الَ تَ َْزنِ‪(.‬وهي وصية أخرى من‬
‫الوصايا العشر) وَأَمَّا أَنَا َفَأقُولُ َل ُكمَْ‪ :‬إِنَّ كُلَّ مَنَْ َينَْ ُظرُ إِلَى ا َْمرََأةٍ ِلَيشََْتهَِيهَا فَقَدَْ‬
‫زَنَى ِبهَا فِي َقلِْبهِ‪ ".‬يف بعض املناسبات تبدو هذه التفسريات املوثوقة للكتاب‬
‫املقدس ‪،‬يف الواقع ‪،‬ناسخةً لشرائع الكتاب املقدس(أي اليهودي) ذاتها‪ .‬على‬
‫سبيل املثال ‪،‬يقول يسوع ‪َ "،‬وقِيلَ‪َ :‬منَْ طَلَّقَ ا َْمرَأَتَهُ َفلْيُعَْ ِطهَا كِتَابَ‬
‫القٍ‪(،‬وهو أمرٌ موجودٌ يف التثنية ‪ )1: 24‬أَمَّا أَنَا َفَأقُولُ َل ُكمَْ‪ :‬إِنَّ َمنَْ َطلَّقَ‬
‫َط َ‬
‫َوجُ مُطَلَّ َقةً َفإَِّنهُ يَزَْنِي "‪.‬‬
‫امَْرَأََتهُ إِالَّ لِ ِعلَّةِ الزِّنَى يَجَْ َع ُلهَا َت َْزنِي وَ َمنَْ َيَتز َّ‬

‫‪57‬‬
‫من العسري أن نفهم كيف يستطيع شخصٌ أن يتبَِّع أمر موسى بإعطاء كتاب‬
‫طالق ‪ ،‬لو مل يكن الطالق يف حقيقة األمر خيارًا متاحًا ‪ .‬على أية حال‬
‫‪،‬أصبحت تعاليم يسوع ينظر إليها باعتبارها تعاليم يف الرتبة ذاتها اليت حتتلها‬
‫شرائع موسى ـ اليت هي شرائع التوراة ذاتها‪ .‬هذا األمر أصبح أكثر وضوحًا‬
‫فيما بعد يف زمن العهد اجلديد ‪ ،‬ففي الرسالة األوىل إىل تيموثي ‪ ،‬اليت من‬
‫املفرتض أن بولس هو كاتبها وإن كان العلماء كثريا ما يعدُّونها مكتوبة مبعرفة‬
‫أتباعٍ متأخرين نسبوها إليه ‪ .‬يف ‪ 1‬تيموثاوس ‪ 18 : 5‬يستحث املؤلف قراءه‬
‫إىل أن يدفعوا ماال إىل من يعظون بينهم ‪ ،‬ويدعم هذا احلث باقتباسٍ من‬
‫"الكتاب املقدس"‪ .‬األمر الطريف أنه حينئذ اقتبس فقرتني ‪ ،‬اقتبس واحدة من‬
‫التوراه ("الَ َتكُمَّ ثَوَْراً دَارِسًا ‪ "،‬تثنية ‪ )4 : 25‬واألخرى جاءت من كلمات‬
‫يسوع ("وَالْفَا ِعلُ ُمسَْتَحِقٌّ أُجَْ َرَتهُ")؛ انظر لوقا ‪ .)7 : 11‬يبدو أنَّ أقوال يسوع‬
‫‪ ،‬حسب وجهة نظر هذا املؤلف ‪ ،‬كانت على قدم املساواة بالفعل مع الكتاب‬
‫املقدس ‪ .‬و مل تكن تعاليم يسوع فحسب هي اليت كان اجليالن املسيحيان‬
‫الثاني والثالث يعتربانها جزءا من الكتاب املقدس ‪ .‬بل اعتربت كتابات رسله‬
‫أيضا كذلك‪ .‬الدليل على ذلك يأتي من آخر أسفار العهد اجلديد كتابةً‪ ،‬أي‬
‫رسالة بطرس الثانية ‪ ،‬وهو السفر الذي يعتقد معظم علماء النقد أنه مل يكتب‬
‫يف احلقيقة بقلم بطرس وإمنا بقلم واحدٍ من أتباعه ‪ ،‬الذي كتبه حتت اسم‬
‫مستعار ‪ .‬ففي ‪ 2‬بطرس‪ 3‬يشري املؤلف إىل أن املعلمني الكذبة حيرِّفون معنى‬
‫‪58‬‬
‫َر ُفهَا غَيَْرُ الْ ُعلَمَاءِ َوغَيَْرُ‬
‫رسائل بولس ليجعلوها تقول ما يريدونها أن تقوله‪ "،‬يُح ِّ‬
‫الثَّابِتِنيَ َكبَاقِي ا ْلكُتُبِ َأيَْضا" (‪ 2‬بط ‪ .) 16 : 3‬يبدو أن رسائل بولس ً قد‬
‫فهمت ها هنا على أنها كتاب مقدس‪ .‬بعد عصر العهد اجلديد بقليل ‪ ،‬كانت‬
‫بعض الكتابات املسيحية يتمُّ اقتباسها كنصوص رمسية نافعة حلياة ومعتقدات‬
‫الكنيسة‪ .‬الرسالة اليت كتبها يف بداية القرن الثاني بوليكاربوس‪ ،‬أسقف مسرينا‬
‫املذكور سابقا ‪ ،‬تعترب مثاال بارزًا ‪ .‬لقد طلبت كنيسة فيلييب النصيحة من‬
‫بوليكاربوس فيما يتعلق حتديدًا بقضية متَسُّ واحدًا من القادة الذي كان من‬
‫الواضح أنه تورط يف بعض أشكال سوء اإلدارة املالية داخل الكنيسة ( رمبا‬
‫اختالس أموال ختص الكنيسة )‪ .‬رسالة بوليكاربوس إىل أهل فيلييب ‪،‬اليت‬
‫بقيت إىل اآلن ‪ ،‬هي رسالة مثرية لعددٍ من األسباب ‪ ،‬ليس أقلها نزوعها إىل‬
‫االقتباس من كتابات أقدم ختص املسيحيني‪ .‬ففي أربعة عشر فصال فقط ‪،‬‬
‫يقتبس بوليكاربوس أكثر من مائة فقرة معروفة من تلك الكتابات األقدم‪،‬‬
‫مصرحًا بسلطانها على الوضع الذي كان أهل فيلييب يواجهونه ( على العكس‬
‫من اثين عشر اقتباسا فقط من الكتابات املقدسة اليهودية )؛ ويف أحد املواضع‬
‫يبدو وكأنه يطلق على رسالة بولس إىل أهل أفسوس كتابا مقدسا ‪ .‬كان من‬
‫املعتاد كثريا أن يقتبس ببساطة من كتابات أقدم أو يشري إليها ‪ ،‬مصوِّرًا‬
‫للمجتمع كونها كتاباتٍ موثوقًا بها (‪).11‬‬

‫‪59‬‬
‫يف وقت ما قبل تدوين رسالة بوليكاربوس ‪،‬نعلم أن املسيحيني كانوا يستمعون‬
‫إىل الكتب املقدسة اليهودية تُقرأ أثناء تأديتهم الطقوس التعبديِّة‪ .‬كاتب رسالة‬
‫تيموثي ‪، 1‬على سبيل املثال ‪،‬حيفِّز مستلم الرسالة أن‪ َ" :‬أ َْعكُفَْ َعلَى الْقِرَا َءةِ‬
‫(أي العامَّة) وَالْ َو َْعظِ وَالتَّ َْعلِيمِ‪ .)13 : 4(".‬وكما رأينا يف حالة الرسالة إىل أهل‬
‫كولوسي ‪،‬يبدو أن رسائل املسيحيني كانت تُقرأ على اجملموعة اجملتمعة أيضًا‪.‬‬
‫ونعلم أيضًا أنه قريبًا من منتصف القرن الثاني ‪ ،‬كان جزءٌ كبريٌ من طقوس‬
‫العبادة املسيحية يتضمن القراءة العامة للكتاب املقدس ‪ .‬يف فقرة كثريا ما‬
‫تناولتها ألسنة املتناقشني من كتابات املفكر املسيحي و عامل الدفاعيات‬
‫جوستينوس الشهيد ‪،‬على سبيل املثال ‪ ،‬لدينا إشارة إىل ما تضمنته اخلدمة‬
‫الكنسية يف مدينته األم روما‪:‬‬

‫يف اليوم املسمى يوم األحد ‪،‬كلُّ من يعيشون يف املدن أو يف البلد جيتمعون سويًا‬
‫يف مكان واحدٍ ‪ ،‬و تُقرأ مذكرات الرسل أو كتابات األنبياء ‪ ،‬حبسب ما يسمح‬
‫الوقت ؛ثمَّ‪ ،‬ملا يتوقف القارئ ‪،‬يلقي القسيس التعاليم ‪،‬ويعظ بضرورة‬
‫احتذاء هذه األعمال الطيبة ‪ 1( . . .‬أبولوج ‪) 67‬‬

‫‪60‬‬
‫يبدو على األرجح أن االستخدام الليتورجي (الطقسي) لبعض النصوص‬
‫املسيحية ـ على سبيل املثال ‪ ،‬أعلت " مذكرات الرسل" ‪ ،‬اليت عادةً ما ينظر‬
‫إليها على أنها هي نفسها األناجيل ‪ ،‬من مكانة هذه النصوص لدى معظم‬
‫املسيحيني حتى إنها كانت تُعَدُّ جديرة باالعتماد والقبول‬
‫)‪،(authoritative‬على قدم املساواة مع الكتابات املقدسة اليهودية‬
‫("كتابات األنبياء") ذاتها‪.‬‬

‫ميكننا تتبع أثر تشكُّل القائمة الرمسية للكتاب املقدس املسيحي حتى اآلن عن‬
‫كثب من خالل ما بني أيدينا من دليل ‪ .‬ففي الوقت ذاته الذي كان يكتب فيه‬
‫جوستينوس ‪ ،‬أي يف منتصف القرن الثاني ‪ ،‬كان مثة كاتبٌ مسيحيّ بارزٌ آخر‬
‫ميارس نشاطه داخل روما ‪ ،‬وهو الفيلسوف املعلم مرقيون ‪ ،‬الذي حكم عليه‬
‫فيما بعد باهلرطقة (‪ . )12‬مرقيون كان شخصية مثرية لالهتمام للعديد من‬
‫األسباب ‪ .‬فهو كان قد جاء إىل روما من آسيا الصغرى ‪ ،‬وكان بالفعل قد كوَّن‬
‫ثروة مما كان واضحًا أنه أعمال متعلقة ببناء السفن ‪ .‬عند وصوله إىل روما ‪،‬‬
‫تربع للكنيسة يف روما مببلغ طائل ‪،‬رمبا لكي حيصل ‪ ،‬إىل حدٍ ما ‪ ،‬على عونها‬
‫الكريم ‪ .‬وقد ظلَّ يف روما خلمس سنوات ‪ ،‬منفقا كثريا من وقته يف نشر مفهومه‬

‫‪61‬‬
‫عن اإلميان املسيحي ويف كتابة تفاصيل هذا اإلميان يف العديد من الكتابات‪ .‬مل‬
‫يكن عمله األكثر تأثريا هو شئ قام بكتابته ‪،‬بل شئ قام بتعديله‪ .‬لقد كان‬
‫فعلي للكتاب‬
‫ٍّ‬ ‫ٍّ‪ ،‬فيما نعلم‪ ،‬قام بتشكيل "قانون"‬
‫مرقيون هو أول مسيحي‬
‫املقدس ـ أي جمموعة من الكتب اليت ‪،‬كما زعم ‪ ،‬تضم النصوص املقدسة‬
‫النافعة لإلميان ‪ .‬لكي نفهم هذه احملاولة األوىل لتشكيل قائمة رمسية للكتاب‬
‫املقدس ‪ ،‬حنتاج إىل أن نعرف قليال من املعلومات حول تعاليم مرقيون الفريدة‬
‫‪ .‬لقد كان مرقيون مأخوذًا متامًا حبياة وتعاليم الرسول بولس ‪،‬الذي كان يعتربه‬
‫الرسول الوحيد "احلقيقيَّ" من األيام األوىل للكنيسة‪ .‬يف بعض رسائله ‪ ،‬مثل‬
‫الرسائل إىل أهل رومية و أهل غالطية ‪ ،‬كانت تعاليم بولس تنص على أن‬
‫ٍّ من‬
‫املنزلة الطيبة أمام اهلل تأتي فقط من اإلميان باملسيح ‪ ،‬وليس بأداء أيٍ‬
‫األعمال اليت فرضتها الشريعة اليهودية‪ .‬التقط مرقيون هذا االختالف بني‬
‫شريعة اليهود و بني اإلميان باملسيح ليصل به إىل ما رأى أنه نتيجة ذلك املنطقية‬
‫‪،‬وهي أنَّ هناك متايزًا تامًّا بني الشريعة من ناحية وبني اإلجنيل من الناحية‬
‫األخرى‪ .‬لقد كانت الشريعة خمتلفة متام االختالف عن اإلجنيل ‪،‬يف احلقيقة ‪،‬‬
‫إىل درجة جعلت من املستحيل أن يكونا كالهما قد جاءا من اإلله ذاته ‪ .‬استنتج‬
‫مرقيون أن رب يسوع (وبولس) مل يكن ‪،‬هلذا السبب ‪،‬اإلله ذاته الذي أوحى‬
‫العهد القديم‪ .‬لقد كان مثة ‪،‬يف الواقع‪ ،‬إهلان اثنان خمتلفان‪ :‬إله اليهود ‪ ،‬الذي‬
‫خلق العامل ‪ ،‬ودعا إسرائيل ليكونوا شعبه املختار ‪ ،‬وأنزل إليهم قانونه‬
‫‪62‬‬
‫القاسي ؛ وإله يسوع ‪،‬الذي أرسل املسيح إىل العامل لينقذ بين البشر من‬
‫االنتقام القاسي لرب اليهود اخلالق‪.‬‬

‫آمن مرقيون بأن هذا املفهوم عن يسوع هو ما بشَّر به بولس نفسُه ‪،‬وهكذا ‪،‬‬
‫ضمَّت قائمتُه الرمسية للكتاب املقدس الرسائلَ العشرَ اليت كتبها بولس وهي‬
‫اليت كانت متاحة له ( هذه الرسائل كلها موجودة يف العهد اجلديد ما عدا‬
‫الرسائل الرعوية‪ ،‬وهي الرسالتان األوىل والثانية إىل تيموثي وتيطس)؛ وألنَّ‬
‫بولس كان أحيانًا يشري إىل "إجنيله"‪ ،‬فقد ضمَّ مرقيون إجنيال )‪ (Gospel‬إىل‬
‫قائمته ‪ ،‬وهو شكل من إجنيل لوقا املعروف لنا اآلن ‪ .‬وهذا كل ما يف األمر ‪.‬‬
‫لقد تكونت قائمة مرقيون من أحد عشر كتابا ‪ :‬مل يكن مثة عهدٌ قديمٌ ‪،‬بل‬
‫كتابٌ مقدسٌ واحدٌ فحسب ‪ ،‬مضافا إليه عشر رسائل ‪ .‬ليس ذلك فحسب ‪:‬‬
‫بل كان مرقيون يعتقد أن املؤمنني الكاذبني ‪ ،‬أي الذين مل يكونوا يشاطرونه‬
‫مفهومه اخلاص عن اإلميان ‪ ،‬قد نقلوا هذه األحد عشر كتابا عرب نسخها و‬
‫إضافة أجزاء من هنا ومن هنالك لكي تتماشى مع معتقداتهم اخلاصة اليت من‬
‫بينها مفهومهم "الباطل" عن كون إله العهد القديم هو أيضا إله يسوع ‪ .‬وهكذا‬
‫"صحَّح" مرقيون الكتب األحد عشر اليت تضمنتها قائمته عرب حذف اإلشارات‬
‫إىل إله العهد القديم ‪،‬أو إىل اخللق باعتباره عمل اإلله احلق ‪ ،‬أو إىل الشريعة‬
‫باعتبارها شئ ينبغي االلتزام به‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫كما سنرى ‪ ،‬حماولة مرقيون جلعل نصوصه املقدسة تتوائم بشكل أكثر إحكاما‬
‫مع تعاليمه عرب حتريفها مل تكن باألمر اجلديد ‪ .‬فقبله وبعده على حدٍ سواء ‪،‬‬
‫حرَّف نساخ األدب املسيحي املبكر من وقت آلخر نصوصهم ليجعلوها تقول‬
‫ما يعتقدون أنها بالفعل تعنيه‪.‬‬

‫يعتقد كثري من العلماء أن املسيحيني اآلخرين أصبحوا أكثر اهتماما بوضع‬


‫تصور ملا يفرتض أن يصبح قائمةً ألسفار العهد اجلديد كشكل من أشكال‬
‫املقاومة ملرقيون حتديدا‪ .‬من الطريف أنه يف العصر الذي عاش فيه مرقيون ‪،‬كان‬
‫جوستينوس ميكنه الكالم بطريقة أكثر غموضا عن " مذكرات الرسل "بدون‬
‫ٍّ هذه الكتب ( أو رمبا األناجيل ) كان مقبوال يف الكنائس وملاذا‬
‫اإلشارة إىل أي‬
‫‪ ،‬يف حني اختذ كاتبٌ مسيحيٌّ آخرُ‪ ،‬عارض مرقيون أيضًا ‪ ،‬بعد ذلك حبوالي‬
‫ثالثني عاما موقفا أكثر مَيَْال للجزم والتأكيد ‪ .‬إنه إيريناوس‪ ،‬أسقف ليون يف‬
‫بالد الغال (فرنسا يف العصر احلديث )‪،‬الذي كتب عمال من مخس جملدات‬
‫ضد اهلراطقة من أمثال مرقيون والغنوصيني ‪ ،‬و كانت لديه أفكارٌ شديدةُ‬
‫الوضوح فيما يتعلق بأيِّ الكتب ينبغي أن يعترب من بني األناجيل القانونية ‪ .‬يف‬
‫فقرة يكثر اقتباسها من مؤلَّفه ضد اهلراقطة ‪ ،‬يقول إيريناوس إن مرقيون مل‬

‫‪64‬‬
‫يكن وحده فحسب الذي افرتض بالباطل أن هذا اإلجنيل أو ذاك فقط من بني‬
‫األناجيل هو املستحق ألن يقبل باعتباره كتابا مقدسا ‪ ،‬بل كان معه أيضا‬
‫"هراطقة" آخرون ‪: ،‬فاملسيحيون املتهوِّدون الذين متسكوا بالصالحية املتواصلة‬
‫للشريعة استخدموا متى وحده ؛ بعض اجملموعات الذين زعموا أن يسوع ليس‬
‫هو املسيح يف احلقيقة قبلوا إجنيل مرقس فحسب ؛ مرقيون وأتباعه قبلوا فقط‬
‫(شكال من ) لوقا ؛ وجمموعة من الغنوصيني مسوا بال"فالنتينيني "قبلوا إجنيل‬
‫يوحنا فحسب ‪ .‬هؤالء مجيعًا كانوا خمطئني ‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬ألنه ليس من املمكن‬
‫أن تكون األناجيل أكثر أو أقل عددًا مما هي عليه حيث إن املناطق اليت نعيش‬
‫فيها يف العامل هي أربع مناطق ‪ ،‬والرياح الرئيسية أربعة ‪ ،‬ويف حني تنتشر‬
‫الكنيسة يف أحناء العامل ‪ ،‬وعامود الكنيسة و أرضها هو اإلجنيل‪ . ...‬فمن‬
‫املناسب أن يكون هلا عمدان أربع ‪( ،‬ضد اهلراطقة ‪) 7. 11 . 3‬‬

‫بكلمات أخرى ‪ ،‬زوايا األرض أربع ‪ ،‬الرياح أربعة ‪ ،‬العمدان أربعة ـ فمن‬
‫الضروري ‪،‬حينذ ‪ ،‬أن تكون األناجيل أربعة ‪ .‬وهكذا ‪ ،‬قرب نهاية القرن‬
‫الثاني كان هناك مسيحيون يصرُّون على أنَّ متَّى ‪ ،‬مرقس ‪ ،‬لوقا ‪ ،‬ويوحنا‬
‫كانت هي األناجيل ؛ ومل يكن مثة أكثر من ذلك أو أقل‪ .‬ولقد استمرت‬
‫النقاشات حول حدود القائمة الرمسية لقرون عديدة ‪ .‬ويبدو أن املسيحيني هنا‬

‫‪65‬‬
‫وهناك كانوا مهتمني مبعرفة أيِّ الكتب ينبغي أن تُقْبَل باعتبارها كتبًا مقدسة‬
‫وذلك ليعلموا‪:‬‬

‫أوال‪ :‬أي الكتب ينبغي قراءتها يف خدمة الصالة‬

‫وثانيًا‪ :‬وهو األمر وثيق الصلة بالسبب األول ‪ ،‬ليعرفوا أي الكتب ميكن‬
‫الوثوق بها كناصح أمني يرشدهم إىل ما جيب أن يؤمنوا به والسلوكيات اليت‬
‫ينبغي أن يسريوا على هديها‪.‬‬

‫مل تكن القرارات اليت اختذت بشأن الكتب وأيها ينبغي أن ينظر إليه يف النهاية‬
‫ٍّ أو بشكل خال من املشاكل ؛‬
‫باعتباره قانونيًّا قرارات مت اختاذها على حنوٍ آلي‬
‫لقد كانت مناقشات طويلة وممتدة ‪ ،‬وأحيانا عنيفة ‪ .‬رمبا يعتقد كثري من‬
‫املسيحيني اليوم أن قائمة كتب العهد اجلديد الرمسية ظهرت إىل الوجود‬
‫ببساطة يف يوم ما بعد موت يسوع بوقت قليل ‪ ،‬إال أن هذا االعتقاد ال يضارعه‬
‫يف البعد عن احلقيقة أيُّ شئٍ آخر‪ .‬كما سيتضح ‪ ،‬حنن قادرون على حتديد‬
‫الوقت الذي قام فيه واحدٌ من املسيحيني من املوثوق بهم بوضع قائمة تضم‬
‫كتب عهدنا اجلديد السبعة والعشرين ‪ -‬أو أكثر أو أقل ‪ .‬رمبا سيبدو مدهشا‬
‫أن هذا املسيحي كان ميارس الكتابة يف النصف الثاني من القرن الرابع ‪ ،‬أي بعد‬
‫ثالمثائة عام تقريبا من العصر الذي بدأت تُكتَب فيه كتب العهد اجلديد ذاتها‪.‬‬
‫هذا املؤلف هو أثناسيوس‪ ،‬أسقف اإلسكندرية األقوى‪ .‬يف عام ‪ 367‬م ‪،‬‬
‫‪66‬‬
‫كتب أثناسيوس رسالته الرعوية السنوية إىل الكنائس املصرية حتت واليته ‪،‬‬
‫ضمَّنها نصيحة خبصوص الكتب اليت ينبغي أن تقرأ يف الكنائس باعتبارها‬
‫الكتاب املقدس‪ .‬حيث ذكر يف قائمته كتبنا السبعة والعشرين ‪ ،‬واستثنى ما‬
‫عداها من كتب ‪ .‬هذه هي املناسبة األوىل املسجلة لشخص يؤكد أن جمموعة‬
‫األسفار اليت نعرفها هي العهد اجلديد ‪ .‬بل حتى أثناسيوس مل حيسم هذه‬
‫املسألة ‪ .‬فقد استمرت املناظرات لعشرات السنني ‪ ،‬بل وحتى القرون ‪ .‬إنَّ‬
‫الكتب اليت نطلق عليها لفظ العهد اجلديد مل تُجمَع معًا يف قائمة رمسية‬
‫واحدة و مل تعترب كتابا مقدسا ‪،‬يف النهاية ‪،‬إال بعد مرور املئات من السنني‬
‫على العصر الذي كتبت فيه هذه الكتب للمرة األوىل ‪.‬‬

‫يف الباب السابق تركّز نقاشنا حول تقنني) ‪ (canonization‬الكتاب‬


‫املقدس‪ .‬وكما رأينا سابقا كان املسيحيون ‪ ،‬رغم ذلك ‪،‬يكتبون و يقرأون أنواع‬
‫كثرية من الكتب يف القرون األوىل ‪ ،‬وليس فقط الكتب اليت جنحت يف أن‬
‫تصبح جزءا من العهد اجلديد‪ .‬لقد كان مثة أناجيل أخرى ‪،‬وأعمال ‪ ،‬ورسائل‬
‫‪ ،‬و رؤى ؛ و كان هناك تدوينات لالضطهادات ‪ ،‬وحكايات عن االستشهاد‬
‫‪ ،‬وكتب تدافع عن اإلميان ‪ ،‬ونظم كنسية ‪ ،‬وأعمال تهاجم اهلراطقة ‪،‬‬

‫‪67‬‬
‫ورسائل وعظية و تعليمية ‪،‬وشروحات للكتاب املقدس ‪ -‬منظومة كاملة من‬
‫األعمال األدبية اليت ساعدت يف رسم حدود املسيحية وجعلها تلك الديانة‬
‫اليت كانتها ‪ .‬سيكون من املفيد يف هذه املرحلة من نقاشنا أن نسأل سؤاال‬
‫أساسيًّا حول كل هذه األعمال األدبية‪ .‬من الذي كان يقوم بقراءتها ؟‬

‫يف عامل اليوم ‪ ،‬رمبا سيبدو ذلك سؤاال غريبًا نوعًا ما ‪ .‬فلو كان املؤلفون‬
‫يكتبون كتبًا من أجل املسيحيني ‪ ،‬فالذين يقرأون الكتب سيكونون والبد من‬
‫املسيحيني‪ .‬فإذا كان السؤال يتناول العامل القديم فإنه سيمثل مرارة خاصة ألن‬
‫غالبية الناس ‪ ،‬يف العامل القديم ‪ ،‬مل يكونوا يعرفون القراءة ‪ .‬إنَّ معرفة القراءة‬
‫والكتابة هي أسلوبُ حياة بالنسبة لنا يف الغرب املعاصر ‪ .‬حنن نقرأ طوالَ الوقت‬
‫‪ ،‬وكلَّ يوم ‪ .‬نقرأ اجلرائد و اجملالت و الكتب من كل األنواع ‪ -‬ترمجات‬
‫الشخصيات ‪ ،‬الروايات ‪،‬كتب "كيف تفعل كذا )‪،" (how-to books‬‬
‫كتب "اعتمد على نفسك)‪ ،" (self-help books‬كتب احلمية)‪، (diet‬‬
‫كتب دينية ‪ ،‬كتب فلسفية ‪ ،‬علوم التاريخ ‪،‬مذكرات ‪ ،‬وهكذا بال توقف‪.‬‬

‫لكنَّ السهولة اليت نشعر بها اليوم مع اللغة املكتوبة ليس هلا أي عالقة‬
‫مبمارسات القراءة وحقائقها يف العصور القدمية‪ .‬لقد أظهرت الدراسات املتعلقة‬
‫مبعرفة القراءة والكتابة أن ما نعتقده حول معرفة اجلماهري للقراءة والكتابة هي‬
‫ظاهرة حديثة ‪ ،‬ظهرت فقط مع بزوغ فجر الثورة الصناعية (‪. )13‬فهي حتدث‬

‫‪68‬‬
‫فقط عندما ترى األمم أن مثة فائدة اقتصادية يف جعلها كلَّ شخص قادرا على‬
‫القراءة ‪ ،‬إىل الدرجة اليت جتعلهم ينتوون أن يكرسوا كل املوارد الضخمة ‪-‬‬
‫خاصة الوقت ‪ ،‬املال ‪ ،‬و املوارد البشرية‪ -‬اليت حيتاجونها للتأكد من أن كل‬
‫إنسان قد حصل على قدر أساسي من التعليم يؤهله للقراءة والكتابة‪ .‬يف‬
‫اجملتمعات غري الصناعية ‪ ،‬كانت املوارد مطلوبة ألشياء أخرى بدرجة كبرية ‪،‬‬
‫ومعرفة القراءة والكتابة مل تكن تساعد اقتصاد اجملتمع وال رفاهيته ككل‪ .‬ويف‬
‫احملصلة ‪ ،‬حتى العصر احلالي ‪ ،‬كل اجملتمعات تقريبًا كانت تضم أقلية صغرية‬
‫فحسب من القادرين على القراءة والكتابة‪.‬‬

‫وهذا ينطبق حتى على اجملتمعات القدمية اليت نربطها تلقائيًا بالقراءة والكتابة‬
‫‪ -‬روما ‪ ،‬على سبيل املثال ‪،‬خالل القرون املسيحية املبكرة ‪ ،‬أو حتى اليونان‬
‫يف أثناء الفرتة الكالسيكية ‪ .‬أفضل دراسة معروفة عن معرفة القراءة والكتابة يف‬
‫األزمنة القدمية و أكثرها تأثريا ‪،‬هي تلك اليت كتبها ويليام هاريس الربوفيسور‬
‫جبامعة كولومبيا ‪،‬حيث تشري إىل أنه يف أفضل األوقات و األماكن ـ أثينا ‪،‬على‬
‫سبيل املثال ‪ ،‬يف أوج الفرتة الكالسيكية يف القرن اخلامس قبل امليالد‪ -‬كانت‬
‫معدالت القراءة والكتابة نادرًا ما تتعدى نسبة ‪ 15 – 11‬يف املائة من السكان ‪.‬‬
‫لكي نعكس حقيقة هذه األرقام ‪ ،‬هذا يعين أنه يف أفضل الظروف ‪– 85،‬‬
‫‪ 91‬يف املائة من السكان مل يكن بإمكانهم القراءة وال الكتابة ‪ .‬يف القرن‬

‫‪69‬‬
‫املسيحي األول ‪ ،‬يف خمتلف أحناء اإلمرباطورية الرومانية ‪ ،‬معدالت معرفة‬
‫القراءة والكتابة رمبا كانت أقل نوعًا ما (‪ . )14‬حتى وضع تعريف ‪ ،‬كما‬
‫سيتضح ‪ ،‬ملا تعنيه القدرة على القراءة والكتابة هو عمل شديد التعقيد ‪ .‬فكثري‬
‫من الناس ميكنهم القراءة لكنهم ‪ ،‬على سبيل املثال ‪ ،‬يعجزون عن تكوين‬
‫مجلة كاملة‪ .‬ثمَّ ما هو معنى كونك تعرف القراءة ؟ هل الناس ميكن تصنيفهم‬
‫بني من يعرفون القراءة والكتابة لو كان باستطاعتهم معرفة معنى املسلسالت‬
‫الكرتونية يف الوقت الذي ال يعرفون فيه معنى الصفحة االفتتاحية ؟ هل ميكننا‬
‫أن نقول عن الناس إنهم يعرفون الكتابة لو كان باستطاعتهم توقيع أمسائهم يف‬
‫الوقت الذي ال يستطيعون فيه نسخ صفحة بها أحد النصوص ؟‬

‫مشكلة التعريف تبدو أكثر وضوحا عندما نطبقها على العامل القديم ‪ ،‬حيث‬
‫كان لدى القدماء أنفسهم صعوبة يف حتديد ما يعنيه أن تكون عارفا للقراءة‬
‫والكتابة ‪ .‬أحد األمثلة التوضيحية األكثر شهرة تأتي من مصر يف القرن املسيحي‬
‫الثاني ‪ .‬طوال معظم العصور القدمية ‪ ،‬حيث مل يكن معظم الناس يعرف‬
‫الكتابة ‪ ،‬كان مثة " قرّاء" و "كتّاب" أجروا أنفسهم لتقديم خدمات ملن حيتاجهم‬
‫من الناس ممن ميارسون األعمال )‪ (business‬اليت تتطلب نصوصًا مكتوبة‬
‫‪ :‬إيرادات الضرائب ‪،‬عقود قانونية ‪،‬تراخيص ‪،‬رسائل شخصية ‪ ،‬وما شابه ‪.‬‬
‫يف مصر ‪ ،‬كان مثة موظفون رمسيون مت تعيينهم للقيام مبهمة مراقبة بعض املهام‬

‫‪70‬‬
‫احلكومية اليت تتطلب معرفة الكتابة ‪ .‬هذه الوظائف للعمل كنساخ حمليني ( أو‬
‫يف القرى) مل تكن عادة يسعى إليها‪ :‬فمثل كثري من الوظائف اإلدارية "‬
‫الرمسية " ‪ ،‬كان الناس الذين يطلب إليهم أن يتولوها مطلوب منهم أن يدفعوا‬
‫من جيوبهم أمواال للحصول على هذه الوظيفة ‪ .‬هذه الوظائف ‪ ،‬مبعنى آخر ‪،‬‬
‫كانت تذهب إىل األفراد األكثر ثراءا داخل اجملتمع وكانت حتمل بالنسبة هلم‬
‫نوعا من املنزلة ‪،‬لكنها كانت تتطلب إنفاقا من أمواهلم الشخصية ‪.‬‬

‫املثال الذي يصور مشكلة تعريف معنى معرفة القراءة والكتابة يتعلق بأحد‬
‫النساخ املصريني وكان يدعى بتاوس ‪ ،‬من قرية كارانيس يف صعيد مصر ‪ .‬كما‬
‫حيدث كثريا ‪ ،‬عُيّن بيتاوس للقيام بواجباته يف قرية أخرى امسها بتوليمايس‬
‫هورمو‪ ،‬حيث أوكلت إليه مهمة اإلشراف على الشئون املالية والزراعية ‪ .‬يف‬
‫عام ‪ 184‬ميالديا ‪ ،‬كان من املفرتض أن يقوم بالرد على شكاوى موجهة ضد‬
‫ناسخ قرية أخرى من "بتوليمايس هورمو" ‪ ،‬وهو شخص يدعى "إيشرييون"‪،‬‬
‫الذي كان قد عُيِّن يف مكان آخر للقيام مبسئولياته كناسخ ‪ .‬سكان القرية حتت‬
‫والية "إيشرييون" كانوا منزعجني بسبب عجز "إيشرييون" عن القيام بواجباته ‪،‬‬
‫ألنه ‪،‬كما اتهموه ‪ ،‬كان "أمّيّا ‪".‬‬

‫يف تعامله مع هذا النزاع جادل "بتاوس" قائال إن "إيشرييون" مل يكن أمِّيًّا على‬
‫اإلطالق ‪ ،‬ألنه كان قد وقع بالفعل بامسه على جمموعة من الوثائق الرمسية ‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫أي مبعنى آخر ‪" ،‬معرفة القراءة والكتابة" كانت تعين من وجهة نظر "بيتاوس "‬
‫ببساطة القدرة على التوقيع على الوثائق باستخدام االسم‪.‬‬

‫"بيتاوس " نفسه كان جيد مشقة يف التوقيع على الوثائق أكثر من ذلك بكثري ‪.‬‬
‫فلدينا قصاصة من الربدي مارس "بيتاوس" عليها قدرته على الكتابة ‪،‬حيث‬
‫كتب عليها ‪،‬ألكثر من اثين عشر مرة ‪ ،‬كلمات (باليونانية) تقول إنه كان‬
‫متوجبا عليه توقيع وثائقا رمسية ‪ ":‬أنا "بيتاوس" ‪ ،‬ناسخ القرية ‪،‬قمت بتحرير‬
‫هذه ‪ ".‬األمر الغريب أنه قام بنسخ الكلمات يف املرات األربع األوىل بطريقة‬
‫صحيحة ‪،‬لكنه يف املرة اخلامسة أغفل احلرف األول من الكلمة األخرية ‪ ،‬ويف‬
‫املرات السبع الباقية استمر يف إغفال احلرف ‪،‬األمر الذي يشري إىل أنه مل يكن‬
‫يكتب كلمات يعرف كيف يكتبها‪ ،‬بل ينسخ السطر السابق ذكره ليس إال ‪.‬‬

‫من الواضح أنه مل يكن باستطاعته قراءة الكلمات البسيطة اليت كان يدونها يف‬
‫الصفحة حتى‪ .‬وذلك على الرغم من أنه كان الناسخ احمللي الرمسي (‪) ! 15‬‬

‫لو وضعنا "بيتاوس " بني "القادرين على القراءة والكتابة" يف العصور القدمية ‪،‬‬
‫فكم من الناس كان بإمكانهم قراءة النصوص فعليا وفهم معناها ؟ من‬
‫املستحيل أن حناول التفكري يف رقمٍ دقيقٍ ‪ ،‬لكنَّ النسبة املئوية يبدو أنها لن‬
‫تكون عالية جدا ‪ .‬هناك أسباب تدعونا لالعتقاد بأنه يف داخل اجملتمعات‬
‫املسيحية ‪ ،‬كانت األرقام أقل حتى من هذا بوجه عام ‪ .‬هذا سببه أن املسيحيني‬
‫‪72‬‬
‫فيما يبدو ‪ ،‬خاصة يف وقت مبكر من عمر احلركة ‪ ،‬كانوا يف الغالب منحدرين‬
‫من الطبقات الدنيا غري املتعلمة ‪ .‬كانت هناك استثناءات دائما ‪،‬بالطبع ‪ ،‬مثل‬
‫الرسول بولس و املؤلفني اآلخرين الذين دخلت أعماهلم ضمن العهد اجلديد‬
‫والذين كانوا كتَّابًا ماهرين بشكل واضح ‪ .‬بالتأكيد هذا هو الوضع احلقيقي‬
‫للمسيحيني األوائل ‪ ،‬الذين كانوا رسال ليسوع ‪ .‬يف روايات إجنيلية ‪ ،‬جند أن‬
‫معظم تالميذ يسوع كانوا أميني بسطاء من اجلليل ‪ -‬صيادين غري متعلمني ‪،‬‬
‫على سبيل املثال ‪ .‬اثنان منهما ‪ ،‬بطرس ويوحنا ‪ ،‬قيل عنهما بوضوح أنهما‬
‫كانا "أمِّيني" يف سفر األعمال ( ‪ .)13 : 4‬بولس الرسول يشري لشعب كنيسته‬
‫الكورنثيني ‪ " :‬قليل منكم من هم حكماء باملقاييس البشرية " (‪ 1‬كو ‪27 : 1‬‬
‫) ـ اليت رمبا تعين أن البعض القليل كان حاصلني على تعليم جيد ‪ ،‬لكن ليس‬
‫الغالبية ‪ .‬فإذا تقدمنا إىل القرن املسيحي الثاني ‪ ،‬يبدو أن األمور مل تتغري كثريا ‪.‬‬
‫فكما أشرت ‪ ،‬بعض املثقفني قبلوا اإلميان ‪ ،‬لكنّ املسيحيني معظمهم كانوا من‬
‫الطبقات الدنيا وغري املتعلمة ‪ .‬أحد األدلة على صحة هذه الرؤيا تأتي من‬
‫مصادر عديدة ‪ .‬واحدة من أكثرها طرافة هو أحد الوثنيني من خصوم املسيحية‬
‫املسمى "سيلزس" والذي عاش يف أواخر القرن الثاني ‪ .‬كتب "سيلزس" كتابا‬
‫امسه " الكلمة احلقة )‪ ، "( The True Word‬هاجم فيه املسيحية لعدد‬
‫من األسباب ‪ ،‬متذرعا بأنها ديانة محقاء خطرة جيب حموها من على وجه‬
‫األرض ‪ .‬لألسف ‪ ،‬ال منلك "الكلمة احلقة " ذاتها ؛ وكل ما لدينا هو اقتباسات‬
‫‪73‬‬
‫منها وردت يف كتابات أورجيانوس أحد اآلباء املشهورين يف الكنيسة ‪ ،‬الذي‬
‫عاش ملدة سبعني عاما بعد "سيلزس" وطلب إليه أن يكتب ردا على اتهاماته‪.‬‬

‫كتاب أورجيانوس "ضد سيلزس" جنا من الضياع وهو املصدر الرئيسي ملعلوماتنا‬
‫عما قاله الناقد املثقف "سيلزس" يف كتابه ضد املسيحيني (‪ .)16‬أحد أهم‬
‫خصائص كتاب أورجيانوس هو أنه يقتبس من أقدم كتاب من كتب "سيلزس"‬
‫بشكل مطول ‪،‬سطرًا بسطر ‪ ،‬قبل أن يقدم تفنيده ملا جاء يف االقتباس‪ .‬هذا‬
‫يسمح لنا بإعادة بناء دعاوى "سيلزس" بدقة متناهية ‪ .‬أحد هذه الدعاوى هو أن‬
‫املسيحيني هم أناس جاهلون من الطبقات الدنيا ‪ .‬والغريب أن أورجيانوس ‪ ،‬يف‬
‫ثنايا رده ‪ ،‬مل ينكر ذلك ‪ .‬تأمل االتهامات التالية اليت وجهها "سيلزس‪".‬‬

‫الوصايا املسيحية هي مثل ذلك ‪" .‬ال ترتكوا شخصا متعلما ‪ ،‬أو حكيما ‪ ،‬أو‬
‫عقالنيا يقرتب ‪ .‬ألن هذه القدرات حسب اعتقادنا هي قدرات شريرة ‪ .‬أما‬
‫الشخص اجلاهل ‪ ،‬الشخص الغيب ‪ ،‬الشخص غري املتعلم ‪ ،‬الشخص الذي‬
‫هو مثل طفل ‪ ،‬فلترتكوه يأتي جبسارة ‪ (".‬ضد سيلزس ‪)44 . 3‬‬

‫فوق ذلك ‪ ،‬حنن نرى أن هؤالء الذين يظهرون معارفهم السرية يف املعارض و‬
‫يتجولون للتسول لن يدخلوا أبدا إىل مجاعة األذكياء من الناس ‪ ،‬ولن جيرؤا‬
‫على كشف معتقداتهم النبيلة يف حضورهم ؛ ولكن عندما يرون غلمانا‬

‫‪74‬‬
‫مراهقني أو حشدًا من العبيد أو رفقة من احلمقى ‪ ،‬فإنهم يندفعون ويبدأون يف‬
‫التفاخر ‪ (.‬ضد سيلزس ‪)51 . 3‬‬

‫يف البيوتات اخلاصة أيضا نرى عمال الصوف ‪ ،‬واإلسكافيني ‪،‬وعمال غسل‬
‫املالبس وأكثر الفالحني جهال و بداوة ‪ ،‬ممن لن تواتيهم اجلراءة أن يتفوهوا‬
‫ببنت شفة يف مواجهة ساداتهم األكرب سنا و األكثر ذكاءا ‪.‬لكنهم حاملا جيدون‬
‫صغار السن يف السر أو بعض النساء احلمقى معهم ‪ ،‬فإنهم خيرجون من‬
‫أفواههم بعض األقوال املثرية للدهشة مثل أنهم(أي األطفال) ‪ ،‬على سبيل‬
‫املثال‪ ،‬جيب أال يولوا حلديث آبائهم وأساتذتهم يف املدارس أي انتباه‪. . .‬‬
‫؛ويقولون إن هذه األحاديث ال معنى هلا وغري مفهومة … لكن ‪ ،‬لو كانوا‬
‫يريدون ‪ ،‬فينبغي أن يرتكوا آباءهم وأساتذتهم يف املدارس ‪ ،‬وأن يذهبوا مع‬
‫النساء واألطفال صغريي السن من زمالء لعبهم إىل حمل املالبس الصوفية ‪ ،‬أو‬
‫إىل حمل اإلسكايف أو إىل حمل غاسلة املالبس ‪ ،‬حيث ميكنهم تعُّلم الكمال‪ .‬و‬
‫يقنعونهم من خالل قول ذلك‪ ( .‬ضد سيلزس ‪)56 . 3‬‬

‫يرد أورجيانوس بأن املسيحيني املؤمنون حقا هم يف احلقيقة حكماء ( وبعضهم‬


‫‪ ،‬يف الواقع ‪ ،‬من ذوي التعليم اجليد)‪ ،‬لكنهم حكماءا فيما يتعلق باهلل ‪،‬‬
‫وليس فيما يتعلق باألشياء يف هذا العامل ‪ .‬أي أنه ‪،‬مبعنى آخر ‪،‬مل ينكر أن‬
‫اجملتمع املسيحي يتشكل يف الغالب من الطبقات الدنيا ‪،‬غري املتعلمة ‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫ٍّ اتسمت به املسيحية‬
‫يبدو أننا ‪ ،‬إذن ‪ ،‬يف وضع ينطوي على تناقض ظاهري‬
‫األوىل‪ .‬فاملسيحية كانت ديانة كتابية ‪ ،‬لديها كتابات من كل األنواع ثبت أنها‬
‫ذات أهمية بالغة لكل شأن تقريبًا من شئون اإلميان‪ .‬إال أن الناس ال ميكنهم‬
‫قراءة هذه الكتابات‪ .‬كيف ميكننا تفسري هذا التناقض ؟‬

‫يف الواقع ‪ ،‬القضية ليست بكل هذه الغرابة لو تذكرنا ما أشرنا إليه من قبل ‪،‬‬
‫أال وهو أن اجملتمعات من كل األنواع يف كل زمن من العصور القدمية كانوا‬
‫عموما حيصلون على خدمات املتعلمني ملصلحة غري املتعلمني ‪ .‬ألن "قراءة"‬
‫كتاب يف العامل القديم مل تكن تعين ‪ ،‬عادةً ‪ ،‬قراءة اإلنسان كتابا لنفسه ؛ بل‬
‫كانت تعين قراءته بصوت عالٍ أمام اآلخرين ‪ .‬فمن املمكن أن يقال عن‬
‫الشخص إنه قرأ كتابا عندما يكون يف حقيقة األمر قد مسعه ُيقْرَأُ على لسان‬
‫اآلخرين ‪ .‬يبدو أنه ال مفر من التسليم باالستنتاج الذي يقول إن الكتب‪-‬‬
‫بقدر ما كانت مهمة للحركة املسيحية املبكرة – إال أنها دائما ما كانت تقريبا‬
‫تُقرأ بصوتٍ عالٍ يف املشاهد االجتماعية ‪ ،‬مثل مشهد الصالة‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫ينبغي أن نتذكر هنا أن بولس علَّم مستمعيه السالونيكيني أن " ُتقْرَأَ َه ِذهِ الرِّسَالَةُ‬
‫إلخَْوَةِ الْقِدِّيسِنيَ‪ 1 ( " .‬تس ‪ .) 27 : 5‬وهذا من احملتمل أنه كان‬
‫جمِيعِ ا ِ‬
‫َعلَى َ‬
‫حيدث بصوت عال ‪ ،‬يف االجتماع ‪ .‬وكاتب الرسالة إىل أهل كولوسي كتب ‪:‬‬
‫ج َعلُوهَا تُقْرَأُ ايَْضاً فِي كَنِيسَةِ الالَّوُدِكِيِّنيَ‪،‬‬
‫وَمَتَى قُ ِرئَتَْ عِ َْندَكُ َْم َهذِهِ الرِّسَالَةُ فَا َْ‬
‫وَالَّتِي ِمنَْ الَوُدِكِيَّةَ َتقْرَأُوَنهَا اَْنُتمَْ ايَْضاً‪ ( ".‬كولو ‪)16 : 4‬‬

‫وتذكروا أيضًا تقرير جوستينوس الشهيد الذي يقول إنه " يف اليوم املسمى‬
‫األحد ‪ ،‬كل من يعيشون يف املدن أو يف البلدة جيتمعون معا يف مكان واحد ‪،‬‬
‫وتُقرأ عليهم مذكرات الرسل و كتابات األنبياء ‪ ،‬بقدر ما يسمح الوقت "(‪1‬‬
‫أبولوجي ‪).67‬‬

‫النقطة ذاتها أثريت يف كتابات مسيحية مبكرة أخرى ‪ .‬على سبيل املثال ‪ ،‬يف‬
‫سفر الرؤيا قيل لنا ‪ " ،‬طُوبَى ل َِّلذِي َي ْقرَأُ وَل َِّلذِينَ يَ َْسمَعُونَ أَقْوَالَ النُّبُوَّة "(‪: 1‬‬
‫‪ )3‬ـ اليت تشري بوضوح إىل القراءة العامة للنص ‪ .‬يف كتاب أقل شهرة يدعى‬
‫رسالة كلمنت الثانية ‪ ،‬من منتصف القرن الثاني ‪ ،‬يشري املؤلف ‪ ،‬يف إشارة إىل‬
‫كلماته الوعظية ‪ "،‬أقرأ إليكم طلبا أن تصغوا إىل املكتوب ‪ ،‬لعلكم ختلِّصون‬
‫أنفسكم ومن يقرأ لكم "(‪ 2‬كلمنت ‪)1 . 19‬‬

‫خالصة القول ‪ ،‬كانت الكتب اليت كانت ذات أهمية قصوى يف املسيحية‬
‫املبكرة تُقرأ يف الغالب بصوت عال عرب هؤالء الذين كان باستطاعتهم القراءة ‪،‬‬
‫‪77‬‬
‫لكي يستطيع األمِّيون االستماع إليها ‪ ،‬وفهمها ‪ ،‬بل وحتى دراستها ‪ .‬على‬
‫الرغم من أن املسيحية األوىل كانت يف العموم تتشكل من املؤمنني األميني ‪،‬‬
‫إال أنها كانت ديانة أدبية إىل حد كبري ‪ .‬مع ذلك‪ ،‬هناك موضوعات أخرى‬
‫مهمة حنتاج أن ندرسها‪ .‬لو كانت الكتب ذات أهمية كبرية للمسيحية األوىل ‪،‬‬
‫لو كانت تقرأ للمجتمعات املسيحية يف حميط البحر املتوسط ‪ ،‬كيف حصلت‬
‫هذه اجملتمعات على هذه الكتب فعليًّا؟ كيف أصبحت متاحة لالستخدام العام‬
‫‪ .‬لقد حدث ذلك يف عصور ما قبل ظهور أدوات النشر املكتيب ‪ ،‬وكذلك‬
‫وسائل الطباعة اإلليكرتونية ‪،‬بل وحتى حروف الطباعة املتحركة‪ .‬لو حصلت‬
‫جمتمعات املؤمنني على نسخٍ من الكتب املسيحية العديدة املتداولة ‪،‬فكيف‬
‫حصلوا على هذه النسخ ؟من كان يقوم بعملية النسخ ؟ واألكثر أهمية بالنسبة‬
‫ملوضوع دراستنا النهائي ‪،‬كيف ميكننا ( أو كيف أمكنهم ) أن نعرف أن النسخ‬
‫اليت حصلوا عليها كانت نسخًا دقيقة ‪ ،‬وأنهم مل يقوموا بتعديلها يف أثناء‬
‫عملية النسخ ؟‬

‫‪78‬‬
‫)‪(1‬يستخدم العلماء يف عامل اليوم هذا املصطلح )‪ (Common Era‬بديال عن الشكل القديم )‪ (Anno domini‬أو‬
‫) ‪(A.D‬اليت تعين ‪":‬يف يوم ميالد الرب"‪ ،‬ألن األول منهما مناسب أكثر لكلّ األديان‪.‬‬

‫)‪(2‬لالطالع على وصف إمجالي يتناول تشكل القائمة الرمسية للكتاب املقدس اليهودي ‪ ،‬انظر مادتي ‪("Canon,‬‬
‫)"‪Hebrew Bible‬يف كتاب "جيمس ساندر )‪ " (the Anchor Bible Dictionary‬املطبوع بتحرير ديفيد نويل‬
‫فريدمان (نيويورك ‪ ،‬دابلداي ‪ ،)1992،‬اجلزء ‪ 1‬ص ‪.852 – 838‬‬

‫)‪(3‬إن إطالق لقب "ربِّي" أو "معلم" على يسوع ال يعين أنين أقول إن املسيح حظي باحرتام رمسي داخل الديانة اليهودية‬
‫لكنين ببساطة أعين أنه كان معلمًا يهوديًّا ‪ .‬مل يكن ‪،‬بالطبع ‪،‬معلمًا فحسب ‪ ،‬رمبا ميكن من األفضل اعتباره كـ"نيبّ "‪.‬‬

‫لالطالع على املزيد من النقاشات ‪،‬انظر كتاب بارت إرمان ‪ :‬يسوع ‪:‬النيبّ الرؤوي لأللفية اجلديدة ‪(Apocalyptic‬‬
‫)‪Prophet of the New Millennium‬من مطبوعات (جامعة أكسفورد نيويورك ‪ .‬القسم املطبوعات‪).1999،‬‬

‫)‪(4‬ملعرفة معنى هذا االختصار انظر هامش رقم ‪ 1‬باألعلى‬

‫)‪(5‬سيشمل هذا الثالث رسائل (الثالثية البوليسية )"‪ "Deutero-Pauline‬إىل أهل كولوسي ‪،‬أهل أفسس ‪،‬‬
‫والرسالة ‪ 2‬إىل أهل تسالونيكي و ‪،‬بشكل خاص ‪ ،‬الرسائل "الرعوية "‪ " "pastoral‬الثالث وهي األوىل والثانية إىل‬
‫تيموثي و الرسالة إىل تيطس ‪ .‬لالطالع على أسباب تشكك العلماء يف صحة نسبة هذه الرسائل إىل بولس نفسه ‪ ،‬انظر‬
‫كتاب بارت إرمان "العهد اجلديد ‪ :‬مقدمة تارخيية للكتابات املسيحية املبكرة ‪(The New Testament: A‬‬
‫‪Historical Introduction to the Early Christian Writings),‬الطبعة الثالثة‪(.‬نيويورك‪:‬جامعة‬
‫أكسفور ‪.‬قسم املطبوعات‪،)2114،‬الفصل ‪.23‬‬

‫)‪(6‬يف وقت متأخر‪ ،‬كانت هناك العديد من الرسائل املزيفة تدعي أنها الرسالة إىل الالوديكيني‪ .‬ما يزال لدينا واحدة‬
‫منها‪،‬اليت عادة ما تدخل يف إطار ما يعرف بأبوكريفا العهد اجلديد‪ .‬وهي تزيد قليال عن كونها مزيج من أقوال و جُمَلٍ‬
‫بولسية (أي منسوبة إىل بولس)‪ ،‬مت ترقيعها معًا ليبدو مشابها لواحدة من رسائل بولس‪ .‬هناك رسالة أخرى تسمى " إىل‬

‫‪79‬‬
‫الالوديكيني" تزييفها من خالل مارقيون ‪ ،‬املهرطق الذي عاش يف القرن الثاني ‪ ،‬أمر واضح ؛ إال أن هذه الرسالة مل يعد‬
‫هلا وجود‪.‬‬

‫)‪(7‬على الرغم من أن املصدر ‪ Q‬مل يعد له وجود‪ ،‬هناك أسباب معقولة لالعتقاد بأنه كان وثيقة حقيقية ـ حتى لو كنا ال‬
‫نعرف على وجه اليقني حمتوياته الكاملة‪ .‬انظر كتاب "العهد اجلديد " إلرمان ‪ ،‬يف الفصل ال‪ . 6‬االسم ‪ Q‬هو اختصار‬
‫للكلمة األملانية ‪، Quelle‬اليت تعين "مصدر"(الذي هو مصدر لكثري من مادة لوقا ومتّى من أقوال املسيح‪).‬‬

‫)‪(8‬كمثال ‪،‬يف الرسائل )‪(tractates‬املعروفة باسم رؤيا بطرس و املقالة الثانية لشيث العظيم ‪(Treatise of the‬‬
‫)‪،Great Seth‬اللذان اكتُشفا كالهما يف ‪ 1945‬يف خمبأ للوثائق "الغنوصية"قريبا من قرية جنع محّادي يف مصر ‪ .‬لالطالع‬
‫على الرتمجة ‪،‬انظر مكتبة جنع محادي باإلجنليزية ‪،‬جليمس ‪.‬م‪.‬روبنسون‪ ،‬الطبعة الثالثة (سان فرانسيسكو‪:‬هاربر سان‬
‫فرانسيسكو ‪.378 - 362،) 1988،‬‬

‫)‪(9‬اسم غنصويني مأخوذ من كلمة جنوسيس اليونانية ‪،‬اليت تعين "معرفة"‪ .‬الغنوصية تشري إىل جمموعة من األديان من‬
‫القرن الثاني فصاعدًا وهي تؤكد على أهمية احلصول على املعرفة السرية )‪ (secret knowledge‬من أجل اخلالص‬
‫من هذا العامل املادي الشرير‪.‬‬

‫)‪(10‬لالطالع على نقاش أكثر تفصيال ‪"Lost Christianities:The Battles for ******ure and the‬‬
‫)‪Faiths We Never Knew(New York:Oxford Univ.Press,2003‬‬

‫خاصةً الفصل ‪ . 11‬لالطالع على معلومات أكثر العملية برمتها ميكن احلصول عليها يف كتاب هاري جامبل ‪""The‬‬
‫‪New Testament Canon:Its Making and Its Meaning‬مطبعة (فيالدلفيا‪:‬فورترس برس‪.)1985،‬‬
‫لالطالع على شرح منوذجي علمي موثوق ‪،‬انظر كتاب بروس ميتزجر ‪""The Canon of The New‬‬
‫‪Testament:Its Origin,Development,and Significance‬‬

‫طبع (أكسفورد ‪:‬كالروندون برس‪).1987،‬‬

‫)‪(11‬لالطالع على ترمجة حديثة لرسالة بوليكاربوس ‪،‬انظر بارت إرمان( اآلباء الرسوليني) من منشورات ‪(Loeb‬‬
‫)‪Classical Library;Cambridge:Harvard Univ.press,2003‬‬

‫اجمللد ‪. 1‬‬

‫)‪(12‬ملزيد من املعلومات حول مارقيون وتعاليمه ‪،‬انظر "الديانات املسيحية املفقودة" لبارت إرمان ص ‪.118 -113‬‬

‫‪80‬‬
‫)‪(13‬انظر على وجه اخلصوص كتاب "‪ "The ancient Literacy‬لويليام ‪.‬؟‪.‬هاريس من مطبوعات(كامربدج‪،‬‬
‫القسم اإلعالمي جبامعة هارفارد‪).‬‬

‫)‪(14‬للمزيد حول معدالت معرفة القراءة و الكتابة بني اليهود يف العصر القديم ‪ ،‬انظر كتاب كاثرين هـ‪ .‬إزسر " األمية‬
‫اليهودية يف فلسطني الرومانية"( توبنجني ‪ :‬موهر ‪ /‬سيبيك ‪).2111،‬‬

‫)‪(15‬انظر نقاش كيم هاينز أيتسن يف كتاب " حراس احلروف‪ :‬معرفة القراءة والكتابة ‪،‬قوة و ناقلوا األدب املسيحي املبكر‬
‫" ( نيو يورك ‪،‬جامعة أكسفورد ‪،‬القسم اإلعالمي ‪ ، 28 – 27 ، )2111،‬ومقاالت هـ ‪.‬سي ‪.‬يوتي اليت ذكرتها هناك‪.‬‬

‫)‪(16‬الرتمجة اإلجنليزية القياسية هلنري تشادويك " ضد سلزاس"( كامربدج ‪ :‬القسم اإلعالمي باجلامعة ‪ ،)1953،‬هي‬
‫اليت تتبعتها هنا‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫كما رأينا يف الفصل األول‪ ،‬كانت املسيحية منذ بدايتها ديانة هلا أدبياتها‪ ،‬حيث‬
‫لعبت الكتب بكافة أنواعها دوراً حمورياً يف حياة ومعتقدات اجملتمعات املسيحية‬
‫الناشئة يف حوض املتوسط‪ .‬كيف إذن كان وضع هذه األدبيات املسيحية من‬
‫ناحية النشر والتوزيع؟ اإلجابة‪ ،‬بطبيعة احلال‪،‬هي أنه لكي يتمَّ توزيع كتابٍ ما‬
‫على نطاقٍ واسعٍ‪ ،‬فالبد من أن يتمَّ نسخه أوال ‪.‬‬

‫كانت الطريقة الوحيدة لنسخ كتابٍ يف العاملِ القديمِ هي أن تتمَّ كتابتُه باليد‬
‫حرفاً حبرف‪ ،‬وكلمةً وراء أخرى‪ .‬كان ذلك عمالً بطيئاً ودقيقا ‪ -‬لكن مل‬
‫يكن مثَّة بديل آخر‪ .‬وألننا اعتدنا اليوم على رؤية نسخٍ عديدةٍ من الكتب تظهر‬
‫على رفوف املكتبات يف طول البالد وعرضها خالل أيام من نشرها‪ ،‬فإننا‬
‫نتقبل ببساطة أن تكون نسخةٌ ما من "شفرة دافنشي" مثالً مطابقةً متاماً ألي‬
‫نسخة أخرى من الكتاب نفسه ‪ .‬فلن تتغري أيٌّ من الكلمات ‪ -‬سيكون هو‬
‫الكتاب نفسه أيًّا ما كانت النسخة اليت نقرأها‪ .‬لكنَّ احلالَ مل يكن كذلك يف‬
‫العامل القديم‪ .‬فكما أنه مل يكن متيسرًا توزيعُ الكتبِ على نطاقٍ واسعٍ (لعدم‬
‫‪82‬‬
‫وجود شاحناتٍ‪ ،‬وال طائراتٍ‪ ،‬وال سككٍ حديديةٍ) مل يكن كذلك ممكنًا‬
‫إصدارُها على نطاق واسع (لعدم وجود املطابع)‪ .‬وألنه مل يكن مثة بُدٌّ من‬
‫نسخها باليد‪ ،‬نسخة نسخة‪ ،‬ببطء‪ ،‬ومبعاناة‪ ،‬فإنَّ معظم الكتب مل يتمَّ‬
‫إصدارُها بكميات كبرية‪ .‬والكتب القليلة اليت مت إصدارُ نسخٍ عديدةٍ منها مل‬
‫تكن متطابقة‪ ،‬إذ إنه البد أن يكون الناسخون الذين نسخوا تلك النصوص قد‬
‫قاموا بإدخال تعديالت عليها ‪ -‬مبدِّلني الكلمات أثناء نسخها‪ ،‬إما عن طريق‬
‫اخلطأ (زالت األقالم وغريها من صور اإلهمال) أو عمداً (عندما يقصد‬
‫الناسخ تغيري الكلمات اليت ينسخها‪).‬‬

‫إنَّ أيَّ شخصٍ يقرأ كتاباً من العصورِ القدمية ال يستطيعُ اجلزمَ بأنَّه إمنا يقرأ ما‬
‫كتبه املؤلَّفُ ذاته ‪ ،‬فلرمبا وقع للكلمات تبديل‪ .‬بل ‪ -‬يف احلقيقة ‪ -‬إنَّ‬
‫املرجَّح هو أنَّ تبديال للكلمات قد حدث ‪ ،‬ولو جزئيًّا‪.‬‬

‫يصدر الناشر اليوم عددًا معينًا من الكتب للجمهور عن طريق إرساهلا حملالت‬
‫بيع الكتب‪ .‬أما يف العامل القديم‪ ،‬وألن الكتب مل تكن تصدر بكميات كبرية‪،‬‬
‫وال كانت هناك دورٌ للنشر وال حمالتٌ لبيع الكتب‪ ،‬فقد كانت األمور خمتلفة‬
‫(‪ .)1‬عادةً ما كان املؤلِّف يكتب كتابًا‪ ،‬ورمبا جيعل جمموعة من األصدقاء‬
‫يقرأونه‪ ،‬أو يستمعون إليه وهو يُقرأ عليهم‪ .‬مما كان يشكل فرصةً لتعديلِ‬
‫وتصحيحِ بعض حمتوياته‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬وعندما يكون املؤلف قد أمتَّ كتابه‪ ،‬فإنه‬

‫‪83‬‬
‫ينسخ بعضَ النسخ لبعض األصدقاء واملعارف‪ .‬تأتي بعد ذلك مرحلة النشر‪،‬‬
‫وعندها ال يعود الكتاب حتت السيطرة الكاملة للمؤلِّف‪ ،‬وإمنا بني أيدي‬
‫آخرين‪ .‬إن أراد هؤالء اآلخرون املزيد من النسخ ‪ -‬رمبا إلعطائها ألقرباء أو‬
‫ألصدقاء آخرين ‪ -‬كان عليهم أن يتَّخذوا الرتتيبات الضرورية لنسخها‪،‬‬
‫ٍّ يتعيش من مهنة النسخ‪ ،‬أو على عبدٍ جييدُ‬
‫مثال‪ ،‬باالعتماد على ناسخٍ حملي‬
‫القراءةَ والكتابةَ ويقوم بالنسخ كجزءٍ من واجباته املنزلية‪.‬‬

‫نعلم أن هذه الطريقة ميكن أن تكون بطيئة وغري دقيقة لدرجة تدفع إىل اجلنون‪،‬‬
‫وأنَّ ما ينتج عن هذه الطريقة من نسخ ميكن أن ينتهي به األمر إىل أن يصبح‬
‫شيئًا خمتلفًا متام االختالف عن األصل‪ .‬والدليل على ذلك يأتينا من الكُتَّاب‬
‫القدامى أنفسِهم‪ .‬سأذكر هنا مثالني من األمثلة املثرية لالهتمام من القرن األول‬
‫امليالدي‪ .‬يف مقالة شهرية عن مشكلة الغضب‪ ،‬يشري الفيلسوف الروماني‬
‫"سينيكا" إىل الفارق بني الغضب املوجَّه حنو من قد سبب لنا األذى‪ ،‬والغضب‬
‫املوجه حنو ما ليس بإمكانه أن يفعل أيَّ شيء يعرِّضُنا لألذى‪ .‬وليوضح النوع‬
‫الثاني‪ ،‬يضرب مثالً بـ "بعض األشياء اليت ال حياة فيها‪ ،‬كاملخطوطة اليت نلقي‬
‫بها ألنها مكتوبة خبط صغري للغاية‪ ،‬أو منزقها ألنها مليئة باألخطاء (‪ ".)2‬ال‬
‫شك أن جتربة قراءة نص ممتلئٍ بـ "األخطاء املطبعية" (أو أخطاء النسخ) هي‬
‫جتربة حمبطة لدرجة قد تؤدي إىل تشتيت ذهن القارئ‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫هناك أيضا هذا املثال التهكمي الذي جنده يف إحدى إبيجرامات الشاعر‬
‫الروماني الساخر "مارشال" ‪ ،‬الذي حييط قارئه علمًا يف إحدى قصائده بأنه‪:‬‬

‫"إن بدت لك ‪ -‬أيها القارئ ‪ -‬أيًّا من القصائد املكتوبة يف هذه األوراق‬


‫غامضة أو ركيكة فتلك ليست غلطيت‪ ،‬ولكنَّ الناسخَ هو من أفسدها بسبب‬
‫عجلته إلمتام نسخ القصيدة من أجلك ‪.‬أمَّا إن كنت تظن أنها غلطيت وليست‬
‫غلطته‪ ،‬فسأعرف أنك معدوم الذكاء "ومع ذلك‪ ،‬أنظر‪ ،‬هؤالء سيئون" كما‬
‫لو كنت أنكر ما هو واضح‪ ،‬أجل إنهم سيئون‪ ،‬لكنك ال تستطيع أن تأتي‬
‫بأفضل منهم؟" (‪)3‬‬

‫نسخ النصوص أفسح اجملال الحتماالت األخطاء؛ وهذه املشكلة لوحظت‬


‫على نطاقٍ واسعٍ طوال العصور القدمية‪.‬‬

‫لدينا يف النصوص املسيحية األوىل عددٌ من اإلشارات اليت ترصُد ممارساتِ‬


‫النسخ (‪ .)4‬واحدة من أكثر هذه اإلشارات إثارةً لالهتمام جندها يف نص رائج‬
‫يرجع تارخيه إىل بدايات القرن الثاني وامسه "الراعي" هلرماس ‪ .‬قـُرئ هذا‬
‫الكتاب على نطاق واسع خالل الفرتة بني القرن الثاني امليالدي ووصوال إىل‬
‫القرن الرابع امليالدي؛ حتَّى إن بعض املسيحيني يعتقدون أنه جيب أن يعترب‬

‫‪85‬‬
‫جزءًا من القائمة القانونية للكتاب املق ّدسِ ‪ .‬وهو مدرج كأحد كتب العهد‬
‫اجلديد‪ ،‬على سبيل املثال‪ ،‬يف واحدة من أقدم خمطوطاتنا اليت ال تزال حمفوظة‬
‫‪ ،‬أال وهي املخطوطة " السينائية" الشهرية اليت يرجع تارخيها إىل القرن الرابع ‪.‬‬

‫يف الكتاب‪ ،‬نيبٌّ مسيحيٌّ يدعى "هرماس" كتب عددًا من الرؤى ‪ ،‬بعضها كان‬
‫يتعلق باملستقبل‪ ،‬والبعض اآلخر كان يتعلق باحلياة الشخصية واالجتماعية‬
‫ملسيحيِّي أيامه‪.‬‬

‫ٍّ من الكتب‬
‫يف موضع قريب من بداية الكتاب (وهو كتاب كبري‪ ،‬أكرب من أي‬
‫األخرى اليت ُعدّت جزءًا من العهد اجلديد) يرى هرماس رؤية تقرأ فيها سيدة‬
‫عجوز‪ ،‬وهي متثل نوعًا من الرمز املالئكي للكنيسة املسيحية‪ ،‬بصوت مرتفع‬
‫من كتابٍ صغريٍ‪ .‬وتسأل هرماس إذا ما كان باستطاعته إعالم إخوانه املسيحيني‬
‫باألشياء اليت مسعها‪ .‬فيجيب بأنه ال يستطيع أن يتذكر كل ما قرأَتَْه‪ ،‬ويطلب‬
‫منها أن " اعطين الكتاب ألنسخ منه نسخة " فتعطيه إياه‪ ،‬وعندئذ يروي قائالً‪:‬‬

‫"أخذتُـهُ وذهبت بعيداً إىل جزء آخر من احلقل‪ ،‬حيث نسختـُه بالكامل‪ ،‬حرفاً‬
‫حبرف‪ ،‬ألني مل أستطع التمييز بني املقاطع ‪ .‬وعندئذ‪ ،‬عندما أمتمت حروف‬
‫الكتاب‪ ،‬انتـُزع فجأة من بني يديّ؛ لكنين مل أرَ من فعل ذلك‪( ".‬الراعي‬
‫‪) 5.4‬‬

‫‪86‬‬
‫وعلى الرغم من أنه كان كتابًا صغريًا‪ ،‬إال أنَّ نسخه حرفًا حبرف البد وأنه كان‬
‫عمال صعبًا‪ .‬وعندما يقول هرماس إنه " مل يستطع التمييز بني املقاطع " فمن‬
‫اجلائز أنه كان يشري إىل إنه غري ماهر يف القراءة – ذلك‪ ،‬أنه مل يكن مدرَّبًا‬
‫كناسخٍ حمرتفٍ يستطيع أن يقرأ النصوص بطالقة‪ .‬إحدى املشاكل املتعلقة‬
‫بالنصوص اليونانية القدمية (و اليت تضمُّ كلَّ الكتابات املسيحية القدمية‪ ،‬مبا‬
‫فيها نصوص العهد اجلديد) أنها عندما نُسِخَت‪ ،‬مل يستخدم يف نسخها أيٌ من‬
‫عالماتِ الرتقيمِ ‪ ،‬ومل يتمَّ التمييز بني األحرف االستهاللية واألحرف العادية‪،‬‬
‫وكذلك ‪ ،‬وهو ما سرياه القراء املعاصرون أكثر إثارة للدهشة‪ ،‬مل تُستَخدام‬
‫املسافات للفصل بني الكلمات‪ .‬هذا النمط من الكتابة املتصلة يسمى (سكريبتوا‬
‫كونتينوا ‪ ) " ******uo continua".‬ومن الواضح أن هذا النمط‬
‫جعل قراءة النص ‪ ،‬ناهيك عن فهمه‪ .‬أمرًا عسريًا يف بعض األحيان‪ .‬فعبارة‬
‫مثل )‪: (godisnowhere‬ميكن للمؤمن أن يقرأها ‪: (God is now‬‬
‫)‪here‬أي (اإلله هنا اآلن) وميكن للملحد أن يقرأها ‪(God is‬‬
‫)‪nowhere‬وتعين‪( :‬اإلله ليس له وجود) (‪.)5‬وماذا ميكن أن تعين "‬
‫"‪lastnightatdinnerisaw abundanceonthetable‬؟ هل‬
‫تعين حدثًا عاديًا أم حدثًا خارقًا؟‬

‫‪87‬‬
‫من الواضح أن "هرماس" عندما يقول إنه مل يستطع التمييز بني املقاطع ‪ ،‬فإنه‬
‫يعين أنه مل يستطع قراءة النص بطالقة لكنه استطاع متييز احلروف‪ ،‬وعلى ذلك‬
‫فقد نسخها حرفًا بعد حرف ‪ .‬ومن اجللي أنك إن مل تفهم ما تقرأ‪ ،‬فإن‬
‫احتماالت الوقوع يف أخطاء النسخ تتضاعف‪.‬‬

‫ويشري "هرماس" إىل النَّ َْسخِ مرة أخرى يف موضعٍ الحقٍ من رؤيته‪ .‬حيث تأتيه‬
‫السيدة العجوز مرةً أخرى وتسأله إن كان قد سلَّم الكتاب الذي نسخة لقادة‬
‫الكنيسة أم مل يفعل بعدُ؛ فيجيبها أنه مل يفعل ‪ ،‬فتقول له‪:‬‬

‫"حسنًا فعلت‪ ،‬إذ لدي بعض الكلمات ألضيفها‪ .‬عندئذٍ‪ ،‬عندما أنتهي من‬
‫الكلمات كلِّها فسوف تقوم بإبالغها لكل من وقع عليهم االختيار‪ .‬وعلى ذلك‬
‫فسوف تكتب كتابني صغريين‪ ،‬وترسل أحدهما إىل "كلمنت" واآلخر إىل‬
‫"جرابت"‪" .‬كلمنت" سوف يرسل كتابه إىل املدن األجنبية‪ ،‬فهذه هي مهمته‪ .‬أما‬
‫"جرابت" فسوف تعظ األرامل واليتامى‪ .‬وأنت ستقرأ كتابك يف هذه املدينة مع‬
‫الشيوخ الذين يقودون الكنيسة‪(".‬الراعي ‪) 8 . 3‬‬

‫وهكذا‪ ،‬فإن النص الذي كان قد نسخه ببطء أضيفت إليه بعض اإلضافات‬
‫اليت كان عليه أن يسجِّلها؛ و كان عليه أن ينسخ منها نسختني‪ .‬إحداهما‬
‫ستعطى لرجل يدعى "كلمنت"‪ ،‬الذي من اجلائز أن يكون هو نفسه الشخص‬
‫املعروف من خالل نص آخر على أنه األسقف الثالث ملدينة روما – ورمبا‬
‫‪88‬‬
‫حدث هذا قبل توليه رئاسة الكنيسة – حيث إنه يبدو هنا كما لو كان مبعوثًا‬
‫خارجيًّا للمجتمع املسيحي الروماني‪ .‬هل كان ناسخًا رمسيًّا يتوىل نسخ‬
‫نصوصَهم؟‬

‫النسخة األخرى تذهب المرأة تدعى "جرابت" اليت حيتمل أنها كانت ناسخة‬
‫هي األخرى‪ ،‬ورمبا تولت إعداد نسخ لبعض أعضاء الكنيسة يف روما‪ .‬أما‬
‫"هرماس" نفسُه فإنَّ عليه أن يقرأ نسخته من الكتاب على مسيحيي جمتمعه‪،‬‬
‫(وقد يكون معظمهم من األمِّيني الذين ال يستطيعون قراءة النص بأنفسهم) –‬
‫إال أن الطريقة اليت يُفرتَض أن ينفَّذَ بها ذلك مع عدم قدرته على التمييز بني‬
‫املقاطع مل يتمَّ تفسريُها مطلقًا‪.‬‬

‫وهكذا‪ ،‬فقد ألقينا نظرةً خاطفةً على الكيفية اليت كانت تتمُّ بها عمليةُ النسخِ‬
‫يف الكنيسةِ األوىل‪ .‬ومن املفرتض أن احلال كان مشابها لذلك يف الكنائس‬
‫املختلفة املنتشرة على جانيب املتوسط‪ ،‬على الرغم من أن أيًا من هذه الكنائس‬
‫(على األرجح) مل تكن حبجم كنيسة روما‪ .‬جمموعةٌ خمتارةٌ قليلةُ العدد كانوا‬
‫نسّاخ الكنيسة‪ ،‬وبعض هؤالء النسّاخ كانوا أكثر مهارة من اآلخرين ‪ .‬يبدو أنَّ‬
‫"كلمنت" كان مكلَّـفًا بنشر األدب املسيحي كواحدة من مهامه‪ ،‬بينما "هرماس"‬
‫والنسَخُ اليت يقوم هؤالء‬
‫يؤدي املهمة ألنها ببساطة قد أوكلت إليه هذه املرة‪ُّ ،‬‬

‫‪89‬‬
‫األعضاء املتعلمون (وبعضهم أوسع علمًا من بعض)بنسخها تتم قراءتها على‬
‫اجملتمع املسيحي بعمومه ‪.‬‬

‫ما الذي ميكن أن نضيفه عن هؤالء النسّاخ املنتمني للمجتمع املسيحي؟ ال‬
‫نعرف على وجه التحديد من كان "كلمنت" أو"جرابت"‪ ،‬إال أن لدينا معلومات‬
‫إضافية عن "هرماس"؛ فهو يقول عن نفسه إنه عبدٌ سابقٌ (الراعي ‪، )1 .1‬‬
‫ومن الواضح أنه كان قادرًا على القراءة والكتابة‪ ،‬بل ومتعلمًا تعليمًا جيدًا‬
‫نسبيًّا‪ .‬وهو مل يكن من بني قادة كنيسة روما (فلم يذكر بني شيوخ الكنيسة)‪،‬‬
‫مع أن تقليدًا الحقًا يزعم أنَّ أخاه ‪،‬الذي كان امسه "بيوس"‪ ،‬أصبح أسقفاً‬
‫للكنيسة يف منتصف القرن الثاني (‪ .)6‬إن كان األمر كذلك‪ ،‬فمن احملتمل أن‬
‫تكون العائلة قد تبوَّأت مكانةً مرموقةً داخل اجملتمع املسيحي – على الرغم من‬
‫كون "هرماس" عبداً يف يوم من األيام‪ .‬وملَّا كان املتعلمون وحدهم‪ ،‬بطبيعة‬
‫احلال‪ ،‬هم القادرين على الكتابة‪ ،‬وملا كان التعلم يتطلب عادة توفُّر الوقت‬
‫واملال الالزمني (ما مل يكن الشخص قد مت تدريبه على القراءة والكتابة وهو‬
‫عبد)‪ ،‬فمن الظاهر أن النسّاخ املسيحيني األوائل كانوا من بني أكثر الناس ثراءً‬
‫وأفضلهم تعليمًا يف اجملتمع املسيحي الذي عاشوا فيه‪.‬‬

‫كما رأينا‪ ،‬كانت عمليات النسخ خارج اجملتمعات املسيحية‪ ،‬يف العامل‬
‫الروماني على اتساعه‪ ،‬تتمُّ إما على أيدي النسَّاخ احملرتفني‪ ،‬أو على أيدي‬

‫‪90‬‬
‫عبيدٍ قادرين على القراءة والكتابة ويتم تكليفهم بالنسخ من قبل سادتهم؛‬
‫ويعين ذلك‪ ،‬من بني ما يعين‪ ،‬أنه كقاعدة مل يكن األشخاص الذين يقومون‬
‫بالنسخ هم أنفسهم األشخاص الراغبني يف احلصول على النصوص‪ ،‬وإمنا كان‬
‫الناسخون يف الغالب األعمّ ينسخونها ملصلحة آخرين‪ .‬إال أنَّ واحدا من أهم‬
‫االكتشافات احلديثة اليت قام بها العلماء الباحثون يف نسـَّّاخ املسيحية األوىل‪،‬‬
‫هو أن احلال كان على العكس من ذلك متاما‪ .‬إذ يبدو أن املسيحيني الذين كانوا‬
‫يقومون بالنسخ‪ ،‬كانوا هم أنفسهم من حيتاجون الُنسَخ‪ ،‬مبعنى أنهم كانوا‬
‫ينسخونها إما الستخدامهم الشخصيّ‪ ،‬أو ملصلحة املقربني منهم‪ ،‬أو كانوا‬
‫ينسخونها من أجل اآلخرين يف جمتمعهم (‪ .)7‬باختصار‪ ،‬مل يكن األشخاص‬
‫الذين قاموا بنسخ النصوص املسيحية األوىل‪ ،‬يف معظم األحوال – إن مل يكن‬
‫يف كلها‪ ،‬حمرتفني ميتهنون النسخ؛ وإمنا ببساطة كانوا هم األفراد القادرين على‬
‫القراءة والكتابة من بني أعضاء الطائفة املسيحية‪ ،‬واللذين توفرت لديهم الرغبة‬
‫والقدرة على النسخ‪( .‬مثل "هرماس" املذكور أعاله)‬

‫بعض هؤالء األفراد – أو معظمهم؟ ‪ -‬رمبا كانوا قادة للمجتمعات‪ .‬لدينا من‬
‫األسباب ما يدفعنا لالعتقاد بأنَّ الزعماء املسيحيني األوائل كانوا من األعضاء‬
‫األكثر ثراءًا يف الكنيسة‪ ،‬من ذلك أن الكنائس كانت عادةً ما جتتمع يف منازل‬
‫أعضاءها (مل تكن مثة مبانٍ للكنائس‪ ،‬على حد علمنا‪ ،‬خالل القرنني األول‬

‫‪91‬‬
‫والثاني من عمر الكنيسة) ومنازل األعضاء األكثر ثراءًا هي اليت كان مبقدورها‬
‫أن تتَّسع لعددٍ كبريٍ من الناس‪ ،‬حيث كان معظم الناس يف تلك املدن القدمية‬
‫يعيشون يف غرف ضيقة‪ .‬وال يتعارض مع املنطق أن نفرتض أنّ الشخص الذي‬
‫تولَّى أمرَ توفري املكان‪ ،‬توىل قيادة الكنيسة أيضًا‪ ،‬كما تفرتض عددٌ من‬
‫الرسائل املسيحية اليت وصلتنا‪ ،‬واليت يوجِّه فيها الراسل حتياته إىل فالن ‪ ..‬وإىل‬
‫"الكنيسة اليت جتتمع يف بيته‪ ".‬أصحاب املنازل األكثر ثراءًا هؤالء‪ ،‬كانوا على‬
‫األرجح هم األفضل تعليمًا‪ ،‬وعلى ذلك فليس من املستغرب أن يُطلب منهم‬
‫أحيانًا أن "يقرأوا" الكتابات املسيحية على مجاعات املصلني‪ ،‬كما نرى على‬
‫سبيل املثال يف (‪1‬تيموث ‪ " )13 : 4‬إِلَى أَنَْ أَجِيءَ ا َْعكُفَْ َعلَى الْقِرَاءَةِ( أي‬
‫العامة) وَالْ َو َْعظِ وَالتَّ َْعلِيمِ " فهل من املمكن‪ ،‬إذن‪ ،‬أن يكون قادة الكنيسة‬
‫مسئولني‪ ،‬على األقل لفرتة ال بأس بها من الوقت‪ ،‬عن نسخ الكتابات‬
‫املسيحية اليت كانت تُقْرَأ على مجاعة املصلني؟‬

‫ألنَّ النصوص املسيحية األوىل مل تكن تنسخ مبعرفة نسّاخ حمرتفني (‪ ،)8‬على‬
‫األقل يف أثناء القرنني أو القرون الثالثة األوىل من عمر الكنيسة‪ ،‬وإمنا مبعرفة‬
‫أشخاص متعلمني ينتمون للمجتمع الكنسي لديهم القدرة والرغبة ألداء هذه‬
‫املهمة‪ ،‬فمن املمكن أن نتوقع أنه يف النسخ األوىل‪ ،‬على وجه اخلصوص‪ ،‬كان‬

‫‪92‬‬
‫يوجد أخطاء النسخ شائعة احلدوث‪ .‬يف احلقيقة‪ ،‬توجد لدينا أدلة دامغة على‬
‫ذلك‪ ،‬حيث كانت (هذه األخطاء) حمال لبعض الشكاوى العارضة من‬
‫مسيحيني يقرأون تلك النصوص وحياولون اكتشاف الكلمات األصلية اليت‬
‫خطتها أيدي املؤلفني‪ .‬ففي إحدى املرات‪ ،‬على سبيل املثال‪ ،‬يسجل األب‬
‫"أورجيانوس" املنتمي لكنيسة القرن الثالث الشكوى التالية من نسخ األناجيل‬
‫املوجودة حتت تصرفه‪:‬‬

‫"لقد أصبحت االختالفات بني املخطوطات عظيمة‪ ،‬إما بسبب إهمال بعض‬
‫النسـّاخ أو بسبب التهور األمحق للبعض اآلخر؛ فهل كانوا يهملون مراجعة‬
‫ما نسخوه‪،‬أم‪ ،‬بينما يراجعونه‪ ،‬يقومون باحلذف واإلضافة على هواهم؟(‪) 9‬‬
‫"‬
‫مل يكن "أورجيانوس" الشخص الوحيد الذي الحظ تلك املشكلة‪ ،‬فقد أشار‬
‫إليها أيضاً خصمُه الوثين "سيلزس" قبل ذلك بسبعني سنة‪ ،‬ففي سياق هجومه‬
‫على املسيحية وأعماهلا األدبية‪ ،‬طعن "سيلزس" يف النسـَّاخ املسيحيني التِّباعهم‬
‫أساليبًا تنتهك أصول النسخ‪:‬‬

‫"بعض املؤمنني يتصرفون كما لو كانوا يف جملس الحتساء الشراب‪،‬يذهبون‬


‫بعيدا إىل درجة التناقض مع أنفسهم‪ ،‬فيغيِّرون النصَّ األصليَّ لإلجنيل ثالث‬

‫‪93‬‬
‫مرات أو أربع أو مرات عديدة أكرب من ذلك‪ ،‬ويغريون أسلوبه مبا ميكّنهم من‬
‫إنكار الصعوبات متى وُجِّه النقد إليهم "‪(.‬ضد سيلزس ‪) 27 . 2‬‬

‫وامللفت للنظر يف هذه الواقعة بالتحديد هو أن "أورجيانوس"‪ ،‬عندما جوبه‬


‫باتهام من أطراف خارجية برداءة املمارسات النسخية بني املسيحيني‪ ،‬أنكر أن‬
‫يكون املسيحيون يف الواقع قد غيّروا النص‪ ،‬على الرغم من أنه هو نفسه قد‬
‫انتقد تلك احلقيقة يف كتاباته األخرى‪ .‬واالستثناء الوحيد الذي يذكره يف سياق‬
‫الرد على "سيلزس" يتعلق بعدة جمموعات من املهرطقني الذين ‪،‬حسبما يزعم‬
‫"أورجيانوس"‪،‬حرَّفوا النصوص املقدسة بأسلوب خبيث (‪).11‬‬

‫لقد سبق ورأينا هذا االتهام بأن املهرطقني غيَّروا أحيانًا يف النصوص اليت قاموا‬
‫بنسخها بهدف جعلها أقرب إىل تأييد وجهات نظرهم‪ ،‬حيث كان هذا هو ما‬
‫اتهم به "مرقيون" الفيلسوف الالهوتي املنتمي للقرن الثاني‪ ،‬الذي قام بتقديم‬
‫قانونه الكنسي املكون من أحد عشر كتابًا مقدسًا بعد أن قام حبذف األجزاء‬
‫اليت تتعارض مع نظريته اليت تزعم أن "بولس" كان يرى أن الرب يف العهد‬
‫القديم مل يكن هو الربَ احلقيقيَّ‪ .‬يزعم خصم "مرقيون" األرثوذكسي‬
‫"إيريناوس " أن "مرقيون" قد قام مبا يلي ‪:‬‬

‫مزق أوصال رسائل "بولس"‪ ،‬حاذفاً منها كل ما قاله الرسول عن الرب الذي‬
‫خلق العامل ‪ ،‬ليطمس حقيقة أنه أب ربنا يسوع املسيح ‪ ،‬وكذلك فعل مع هذه‬
‫‪94‬‬
‫الفقرات من الكتابات النبوية اليت اقتبسها الرسل لكي يعلّمونا أنهم جهروا‬
‫باألمر فيما سبق جمئ السيّد‪(.‬ضد اهلراطقة ‪).2 . 27 . 1‬‬

‫مل يكن مرقيون هو املتهم الوحيد ‪ .‬فتقريبا يف الفرتة ذاتها اليت كان إيريناوس‬
‫يعيش فيها ‪،‬عاش أسقف كورينثيا األرثوذكسي املسمى "ديونيسيوس" الذي‬
‫كثريا ما جأر بالشكوى من أن املؤمنني الكاذبني قد حرَّفوا كتاباته من غري وازع‬
‫من ضمري ‪ ،‬مثلما قد فعلوا مع كثري من النصوص املقدسة‪.‬‬

‫عندما دعاني رفاقي املسيحيون إىل أن أكتب رسائل إليهم فعلت ما طلبوه مين‬
‫‪ .‬رسل الشيطان هؤالء مملؤون بالزوان © ‪ ،‬حيذفون أشياء و يضيفون أشياء ‪.‬‬
‫هلم العذاب مدَّخر ‪ .‬ال عجب إذن لو جترأ بعضهم على تشويه أعمالي‬
‫املتواضعة ماداموا يتآمرون على العبث حتى بكلمة الرب نفسه‪.‬‬

‫كانت االتهامات من هذا النوع املوجه ضد "اهلراطقة" ـ أي خبصوص قيامهم‬


‫بتحريف نصوص الكتاب املقدس ليجعلوها تقول ما أرادوا منها أن تعنيه ـ أمر‬
‫واسع االنتشار بني الكتّاب املسيحيني األوائل ‪ .‬من اجلدير باملالحظة ‪ ،‬مع ذلك‬
‫‪ ،‬أن دراسات حديثة أظهرت أن الدليل املستمد من خمطوطاتنا الباقية يشري‬
‫بأصابع االتهام إىل االجتاه املعاكس ‪ .‬فالنساخ الذين كانوا مؤمنني بالتقليد‬
‫األرثوذكسي كثريا ما قاموا بتحريف النصوص ‪ ،‬أحيانا بهدف التخلص من‬
‫‪95‬‬
‫احتمال أن " يسئ استخدامها " املسيحيون لتأكيد العقائد اهلرطوقية وأحيانا‬
‫ليجعلوها أكثر موافقة للعقائد اليت يتبنّاها مسيحيو طائفتهم ‪)11( .‬‬

‫اخلطورة احلقيقية اليت متثلت يف إمكانية حتريف النصوص حسب الرغبة ‪،‬‬
‫مبعرفة نسّاخ مل يشعروا باالستحسان جتاه الطريقة اليت صيغت بها هذه‬
‫النصوص ‪،‬هي أمر واضح بطرق أخرى كذلك ‪ .‬حنتاج دائما إىل أن نتذكُّر أنَّ‬
‫نساخ الكتابات املسيحية املبكرة كانوا يعيدون إنتاج نصوصهم يف عاملٍ مل‬
‫يعرف ماكينات طباعة أو بيوت نشر فحسب وإمنا أيضًا مل يكن فيه على‬
‫اإلطالق أية قوانني تتعلق حبقوق النشر‪ .‬فكيف ميكن للمؤلفني أن يضمنوا أن‬
‫نصوصهم مل تكن تتعرض للتَّعديل عند توزيعها ؟ اإلجابة املختصرة هي أنهم‬
‫مل يكن لديهم أية ضمانة على اإلطالق ‪ .‬وهذا ما يوضِّح السبب الذي من‬
‫أجله كان املؤلِّفون يف أحايني كثرية يبتهلون لكي تتنزَّل اللعنات على أي ناسخ‬
‫خلُ على نصوصهم أية تعديالت بغري إذن منهم ‪ .‬هذا النوع من اللعنات‬
‫ُي َْد ِ‬
‫جنده يف إحدى الكتابات املسيحية املبكرة اليت جنحت يف أن تصبح جزءا من‬
‫العهد اجلديد ‪ ،‬أال وهي سفر الرؤيا ‪،‬اليت يكتب مؤلفها ‪ ،‬قريبا من نهاية نصه‬
‫‪ ،‬حتذيرا رهيبًا‪:‬‬

‫‪96‬‬
‫حدٌ َيزِيدُ َعلَى َهذَا‬
‫ُوةِ َهذَا ا ْلكِتَابِ‪ :‬إِنَْ كَانَ َأ َ‬
‫ألَنِّي أَشَْ َهدُ ِلكُلِّ مَنَْ يَسَْمَعُ َأقْوَالَ نُب َّ‬
‫حذِفُ ِمنَْ‬
‫حدٌ يَ َْ‬
‫الضرَبَاتِ ا ْل َمكْتُوبَةَ فِي َهذَا ا ْلكِتَابِ‪ .‬وَِإنَْ كَانَ َأ َ‬
‫يَزِيدُ اهللُ َعلَ َْيهِ َّ‬
‫َأقْوَالِ كِتَابِ َهذِهِ النُّبُوَّةِ يَحَْذِفُ اهللُ نَصِيَبهُ مِنَْ ِس ْفرِ الْحَيَاةِ‪َ ،‬و ِمنَ ا ْل َمدِينَةِ‬
‫ا ْلمُقَدَّسَةِ‪ ،‬وَ ِمنَ ا ْل َمكْتُوبِ فِي َهذَا ا ْلكِتَابِ‪( .‬رؤيا ‪)19 – 18 : 22‬‬

‫مل يكن هذا تهديدًا للقارئ بأنه ينبغي أن يقبل أو أن يؤمن بكلِّ ما هو مكتوب‬
‫يف كتاب النبؤات هذا ‪ ،‬كما يتمُّ تفسريه يف أحيان كثرية ؛ بل هو تهديد تقليديٌّ‬
‫لنسّاخ السفر بأنهم ينبغي أن ال يضيفوا أو حيذفوا أيًّا من كلماته ‪ .‬لعناتٌ مشابهةٌ‬
‫ميكن رؤيتها متناثرة يف ثنايا عدد من الكتابات املسيحية املبكرة ‪ .‬تأمَّلَْ‬
‫التهديدات األكثر صرامة اليت كتبها العامل املسيحي الالتيين روفينوس‬
‫خبصوص ترمجته لواحد من أعمال أورجيانوس‪:‬‬

‫أناشد كل إنسان رمبا ينسخ أو يقرأ هذه الكتب‪ ،‬بإخالص يف حضرة اهلل اآلب‬
‫واالبن والروح القدس ‪ ،‬وأستحلفه حبق إميانه بامللكوت اآلتي ‪ ،‬وبكنيسة‬
‫القيامة من األموات ‪ ،‬وبالنار األبدية املُعدّة للشيطان ومالئكته ‪ ،‬أن ال يضيف‬
‫أيَّ شئ ملا هو مكتوب و أن ال حيذف منه شيئا ‪ ،‬وأن ال حي ِدثَ أي إدخال أو‬
‫حتريف ‪،‬و أن يقارن بني منسوخ يده وبني النسخ اليت قام بالنسخ منها‪ ،‬كي ال‬

‫‪97‬‬
‫يرث إىل األبد هذا املكان ‪ ،‬حيث العويل وصرير األسنان وحيث النار اليت ال‬
‫تنطفئ واألرواح اليت ال متوت ‪)12(.‬‬

‫هذه التهديدات الرهيبة ـ جحيم وكربيت ـ هي ببساطة من أجل حتريف بعض‬


‫الكلمات الواردة يف نص ‪ .‬بعض املؤلفني ‪ ،‬رغم ذلك ‪ ،‬كانوا عازمني بكل ما‬
‫يف الكلمة من معنى على التأكد من أن تنسخ كلماتهم بصورة سليمة ‪ ،‬فليس‬
‫مثة تهديد ميكن أن يكون رادعًا على حنوٍ كافٍ يف مواجهة نسّاخ ميكنهم حتريف‬
‫النصوص حسب أهوائهم ‪ ،‬يف عامل مل تكن فيه حقوق نشر وتأليف ‪.‬‬

‫خيطئ ‪ ،‬مع ذلك ‪ ،‬من يفرتض أن التغيريات الوحيدة اليت كانت حتدث ‪،‬‬
‫كانت تقع عن طريق نسَّاخٍ فعلوا ذلك مبخاطرة شخصية عرب تدخلهم املتعمَّد‬
‫يف صياغة النص‪ .‬يف الواقع ‪ ،‬غالبية التغيريات املوجودة يف خمطوطاتنا املسيحية‬
‫املبكرة ليس هلا عالقة بالالهوت وال باأليديولوجيا ‪ .‬معظم التغيريات هي إىل‬
‫حدٍ بعيدٍ نتاج أخطاء حمضة وبسيطة ـ أخطاء القلم ‪ ،‬حذوفات عرضية ‪،‬‬
‫إضافات ناجتة عن اإلهمال ‪ ،‬أخطاء يف التهجي ‪،‬أغالط من هذا النوع أو ذاك‬
‫‪98‬‬
‫‪ .‬لقد كان النساخ غري مؤهلني ‪ :‬ومن املهم أن نتذكر أنَّ معظم النساخ يف‬
‫القرون األوىل مل يكونوا مدربني على القيام بهذا النوع من العمل بل كانوا‬
‫ببساطة أفرادًا متعلمني من بني أعضاء كنائسهم وكانوا ( إن بصورة أكرب أو‬
‫أقل) قادرين على القيام بذلك وراغبني فيه ‪ .‬بل حتى فيما بعد ‪ ،‬بدءا من‬
‫القرنني الرابع واخلامس ‪ ،‬عندما ظهر النساخ املسيحيون كطبقة حمرتفة داخل‬
‫الكنيسة (‪ ، )13‬وفيما بعد حينما كانت معظم املخطوطات تُنسخ مبعرفة‬
‫رهبان مكرّسني هلذا النوع من العمل داخل األديرة ‪ -‬حتى يف ذلك الوقت‬
‫‪،‬كان بعض النساخ أقل براعة يف النسخ من اآلخرين‪ .‬يف هذه األوقات كلها‬
‫كانت املهمة شاقة ‪ ،‬كما يشار إىل ذلك يف بعض املالحظات اليت أضيفت إىل‬
‫بعض املخطوطاتٍ واليت يكتب فيها أحد النساخ نوعًا من صرخات االرتياح‬
‫مثل ‪ " ،‬نهاية املخطوطة ‪ .‬هلل احلمد " (‪ . )14‬وقد يكون النساخ يف بعض‬
‫األحيان مهملني بالفطرة ؛وأحيانا يكونون جوعى أو شاعرين بالنعاس ‪ ،‬ويف‬
‫أحايني أخرى يكونون فحسب غري معنيني بتقديم أفضل ما عندهم‪.‬‬

‫وحتى النساخ الذين اتسموا بالكفاءة ‪،‬و اليقظة و نالوا قسطًا من التدريب‬
‫كانوا يقعون أحيانًا يف األخطاء ‪ .‬ويف بعض األحيان قاموا بتغيري النص‪ ،‬كما‬
‫رأينا ‪ ،‬ألنهم اعتقدوا أنه كان من املفرتض أن يتم تغيريه ‪ .‬إال أن ذلك مل يكن‬

‫‪99‬‬
‫نتيجة فحسب ألسباب الهوتية معينة‪ .‬لقد كانت هناك أسباب أخرى من وجهة‬
‫نظر النسَّاخ جتعلهم يقومون بتغيريات عمدية ‪ -‬على سبيل املثال‪ ،‬عندما‬
‫كانوا يأتون أمام فقرة بدت وكأنها متثل خطئًا جيب تصحيحه ‪ ،‬أو رمبا أمام‬
‫تناقض موجود يف النص ‪،‬أو إشارة جغرافية خاطئة ‪ ،‬أو إحالة إىل أحد‬
‫نصوص الكتاب املقدس يف غري حملها ‪ .‬لذا ‪ ،‬عندما أحدث النساخ تغيريات‬
‫مقصودة ‪ ،‬كانت دوافعهم أحيانا نقية نقاء الثلج األبيض ‪ .‬لكنّ التغيريات‬
‫حدثت رغم ذلك ‪ ،‬وكلمات املؤلفني األصلية ‪،‬نتيحة لذلك ‪،‬رمبا قد حُرِّفت‬
‫و ضاعت نهائيًّا‪ .‬هناك صورة توضيحية طريفة للتغيري العمدي الذي وقع لنص‬
‫موجود يف واحدة من أنقى خمطوطاتنا القدمية ‪،‬أال وهي املخطوطة الفاتيكانية (‬
‫يسميها البعض كذلك ألنها اكتشفت يف املكتبة الفاتيكانية )‪،‬اليت كتبت يف‬
‫القرن الرابع ‪ .‬ففي افتتاحية سفر العربانيني هناك فقرة يقال لنا فيها ‪ ،‬وفقا ملعظم‬
‫املخطوطات‪ ،‬إنَّ " املسيح حيمل (باليونانية )‪ : PHERON‬كل األشياء بكلمة‬
‫قدرته"( عربانيني ‪ .) 3 : 1‬أما يف املخطوطة الفاتيكانية ‪،‬فقد أحدث الناسخ‬
‫األصلي اختالفا دقيقا يف النص ‪ ،‬باستخدامه أحد األفعال املشابهة يف اللغة‬
‫اليونانية ؛ حيث يُقرأ النص يف الفاتيكانية كالتالي‪ ":‬املسيح يُظِهر ( باليونانية‬
‫)‪:PHANERON‬كل األشياء بكلمة قدرته‪ ".‬بعد ذلك بعدة قرون ‪ ،‬قرأ‬
‫ناسخ ثان هذه الفقرة يف املخطوطة (الفاتيكانية) وقرر أن يستبدل الكلمة الغريبة‬
‫يُظهِِر ) ‪ ( manifests‬باألكثر شيوعا حيمل ‪ (bears) -‬ماحيًا بذلك‬
‫‪100‬‬
‫الكلمة األوىل وكاتبًا األخرى‪ .‬ثمّ قرأ املخطوطة ‪ ،‬بعد ذلك ببعض القرون ‪،‬‬
‫ناسخ ثالث والحظ التحريف الذي فعله سلفه ؛ فمحى ‪ ،‬بدوره ‪،‬الكلمة‬
‫حيمل وأعاد كتابة الفعل يظهر ‪.‬ثم أضاف مالحظة ناسخ يف اهلامش ليشري إىل‬
‫ما دار يف خلده عن الناسخ الثاني الذي سبقه ‪ .‬تقول املالحظة ‪ ":‬أيها الوغد‬
‫األمحق ‪ ،‬دع القراءة القدمية ‪،‬الحترفها"!‬

‫أحتفظُ بنسخة من تلك الصفحة وقمتُ بوضعها داخل إطار وعلقتها على‬
‫احلائط فوق مكتيب كوسيلة ثابتة تذكرني بالنساخ ونزوعهم إىل تغيري ‪ ،‬وإعادة‬
‫تغيري ما لديهم من نصوص‪ .‬من الواضح أنَّ هذا كان تغيريا حلق بكلمة واحدة‬
‫‪ :‬فلماذا كل هذا االهتمام به ؟ إن مبعث االهتمام بهذا التغيري هو أن الطريقة‬
‫الوحيدة لفهم ما يريد املؤلف أن يقوله هي أن تعرف كيف كانت كلماته ‪-‬‬
‫كل كلماته ‪ -‬يف احلقيقة ‪ (.‬فكّر يف كل املواعظ اليت تبنى على أساس كلمة‬
‫واحدة موجودة يف أحد النصوص‪ :‬ماذا لو أن هذه الكلمة مل يكتبها املؤلف يف‬
‫احلقيقة ؟) إن القول إن املسيح كشف كل األشياء بكلمة قدرته خيتلف اختالفًا‬
‫تامًّا عن قولنا إنه ميسك الكون كله بكلمته !‬

‫"‬
‫‪101‬‬
‫وهكذا ‪ ،‬وقعت كل أنواع التغيري يف املخطوطات عرب النساخ الذين قاموا‬
‫بنسخها ‪ .‬ولعلنا نقوم بدراسة أنواع التغيريات بتعمق أكرب يف أحد الفصول‬
‫األخرية من هذا الكتاب ‪ .‬أما اآلن ‪ ،‬يكفي أن نعرف أن هناك تغيرياتٍ كانت‬
‫حتدثُ ‪،‬و أنها كانت حتدث على نطاق واسع ‪ ،‬خاصة خالل املائيت عامًا‬
‫األوىل اليت كانت تنسخ فيهما النصوص ‪،‬عندما كان معظم النساخ من اهلواة‬
‫‪ .‬أحد القضايا الرئيسية اليت ينبغي أن يتعامل معها النقاد النصيني هي الطريقة‬
‫اليت سيستخدمونها يف اسرتجاع النص األصلي ـ أي النص كما كتبه املؤلف‬
‫أول مرة ‪ -‬مع الوضع يف االعتبار أن خمطوطاتنا مليئة على حنوٍ بالغ باألخطاء‬
‫‪ .‬هذه املشكلة تتفاقم وذلك ألنه ما أن يقعَ خطأٌ ‪،‬فمن اجلائز أن يتحول إىل‬
‫جزءٍ ثابتٍ من التقليد النصيِّ ‪ ،‬بل أكثر ثباتًا ‪،‬يف الواقع ‪ ،‬من النص األصلي‬
‫نفسه ‪ .‬بطريقة أخرى ‪،‬أقول إنه مبجرد أن يغري ناسخٌ من النساخ نصًا ـ سواءٌ‬
‫أكان ذلك بشكل عارض أو بصورة متعمدة ‪ -‬فإن هذه التغيريات تصبح‬
‫باقـية يف خمطوطته (ما مل يظهر ‪،‬بطبيعة احلال‪ ،‬ناسخ آخر ليصحح اخلطأ)‪.‬‬
‫الناسخ التالي الذي ينسخ هذه املخطوطة ينسخ هذه األخطاء (ظنًّا منه أنها هي‬
‫ما يقوله النص )‪ ،‬و يضيف أخطاءا من عنده ‪ .‬الناسخ الذي يليه والذي‬
‫سينسخ بعدئذ تلك املخطوطة سيقوم بنسخ األخطاء اليت ختص الناسخني‬

‫‪102‬‬
‫السابقني له كليهما ويضيف أخطاءًا من عنديات نفسه ‪ ،‬وهكذا دواليك ‪.‬‬
‫الطريقة الوحيدة اليت ستتكفل بتصحيح األخطاء هي أن يعرتف ناسخٌ بأنَّ‬
‫ناسخًا سابقًا له قد وقع يف خطأ وحياول هو أن يصحِّحَ املشكلة ‪ .‬ليس هناك‬
‫ضمانة ‪،‬رغم ذلك ‪ ،‬أن يقوم هذا الناسخ ‪،‬الذي حياول تصحيح هذا اخلطأ‬
‫‪،‬باألمر بطريقة صحيحة ‪ .‬بطريقة أخرى ‪،‬هذا الناسخ رمبا يف الواقع يغيّر النص‬
‫بطريقة غري صحيحة عندما كان كل ما يفكر فيه هو أن يصحح اخلطأ‪ ،‬لذلك‬
‫ينتج عندنا اآلن ثالثة أشكال من النص ‪:‬النص األصلي ‪،‬النص اخلطأ ‪،‬‬
‫النص الناتج عن احملاولة اخلاطئة لتصحيح اخلطأ‪ .‬وتتعدد األخطاء و تتكرر ؛‬
‫أحيانا يتم تصحيحها و أحيانا تتفاقم املشكلة ‪.‬وهكذا تسري األمور لقرون ‪.‬‬
‫أحيانا ‪ ،‬بالطبع ‪ ،‬يكون لدى ناسخ أكثر من خمطوطة واحدة بني يديه ‪ ،‬و‬
‫يستطيع تصحيح األخطاء يف املخطوطة األوىل من خالل القراءات الصحيحة‬
‫يف املخطوطة األخرى ‪.‬هذا فعليًّا ‪ ،‬يف حقيقة األمر ‪ ،‬يؤدي إىل حتسني املوقف‬
‫بصورة ملحوظة ‪ .‬من ناحية أخرى ‪ ،‬من احملتمل أحيانا أيضًا أن يقوم ناسخ‬
‫بتصحيح املخطوطة الصحيحة يف ضوء النص اخلاص مبخطوطة غري صحيحة ‪.‬‬
‫واالحتماالت تبدو بال نهاية ‪ .‬مع وضع هذه املشكالت يف االعتبار ‪ ،‬كيف‬
‫ٍّ ما ‪ ،‬أي النص الذي كتبه املؤلف بالفعل‬
‫ٍّ أصلي‬
‫ميكننا أن نأمل يف استعادة نص‬
‫؟ إنها مشكلة هائلة ‪ .‬يف الواقع ‪ ،‬إنها مشكلة ضخمة إىل درجة أنَّ عددًا من‬
‫نقاد النصوص بدأوا يف االدعاء أننا رمبا سنتوقف أيضًا عن مناقشة أي شئ‬
‫‪103‬‬
‫يتعلق بالنص " األصلي" ‪ ،‬ألن النص األصلي بالنسبة إلينا ال ميكن الوصول‬
‫إليه ‪ .‬رمبا يكون يف هذا القول نوعٌ من املبالغة ‪ ،‬لكنَّ مثاال واقعيًّا أو مثالني‬
‫مأخوذين من كتابات العهد اجلديد رمبا يكشف لنا حقيقة هذه املشكالت‪.‬‬

‫بالنسبة للمثال األول ‪ ،‬دعونا نأخذ رسالة بولس إىل أهل غالطية ‪ .‬الصعوبات‬
‫العديدة اليت يتحتم علينا التعامل معها ‪ ،‬حتى خبصوص الكتابة األصلية‬
‫للرسالة ‪ ،‬رمبا ستجعلنا متعاطفني أكثر مع هؤالء الذين يريدون أن نتخلى عن‬
‫التفكري يف الشكل الذي كان عليه النص " األصلي "‪ .‬مل تكن غالطية مدينة‬
‫منعزلة بها كنيسة منعزلة ؛ بل كانت منطقة يف آسيا الصغرى (تركيا املعاصرة )‬
‫كان بولس قد أنشأ فيها كنائس‪ .‬عندما يكتب إىل أهل غالطية ‪ ،‬فهل كان‬
‫يكتب لواحدة من الكنائس أم هلا مجيعا ؟ كان بولس ‪،‬على ما يبدو ‪ ،‬مبا أنه‬
‫ال حيدد أي مدينة على وجه اخلصوص ‪ ،‬يقصد أن تصل الرسالة إليها مجيعا ‪.‬‬
‫هل هذا يعين أنه كتب نسخا متعددة من الرسالة نفسها ‪ ،‬أم أنه أراد أن يتم‬
‫مترير الرسالة الواحدة على كل كنائس املنطقة ؟ ليس لدينا معلومات خبصوص‬
‫هذا األمر ‪ .‬لنفرتض أنه كتب نسخا متعددة ‪ .‬فكيف فعل ذلك ؟ يف البدء ‪،‬‬
‫يبدو أن هذه الرسالة ‪ ،‬مثل رسائل بولس األخرى ‪،‬مل تكتب خبط يده وإمنا‬

‫‪104‬‬
‫بيد أمني سر للنسخ ‪ .‬الدليل على ذلك يأتي من نهاية الرسالة ‪ ،‬حيث أضاف‬
‫بولس حاشية يف خمطوطته اخلاصة ‪ ،‬لكي يعرف املرسل إليهم أنه شخصيا هو‬
‫املسئول عن الرسالة ( وهو أسلوب شائع مستخدم يف الرسائل املكتوبة بطريق‬
‫اإلمالء يف العصور القدمية )‪ُ ":‬اَْنظُرُوا‪ ،‬بأي أحرف كبرية أكتب إِلَ َْي ُكمَْ‬
‫بَِيدِي!"(غالطية ‪ .)11 : 6‬رسالته املكتوبة خبط يده ‪ ،‬بكلمات أخرى ‪ ،‬كانت‬
‫أكرب حجما و رمبا أقل احرتافية من ناحية الشكل من تلك اليت كتبها الناسخ‬
‫الذي كان قد أمليت عليه الرسالة (‪) .15‬‬

‫اآلن ‪ ،‬لو أملى بولس الرسالة ‪ ،‬فهل أمالها كلمة بكلمة ؟ أم هل قام بتوضيح‬
‫النقاط الرئيسية وترك للناسخ احلرية يف تسويد ما تبقى ؟‬

‫املنهجان كالهما كانا شائعا االستخدام لدى كتَبَة الرسائل يف العصر القديم‬
‫(‪ . )16‬لو أكمل الناسخ بقية الرسالة ‪ ،‬فهل ميكننا التيقن من أنه قد أكملها‬
‫متاما على الصورة اليت أرادها بولس ؟ فإذا مل يفعل ‪ ،‬فهل لدينا يف الواقع‬
‫كلمات بولس ‪ ،‬أم هي كلمات بعض النساخ اجملهولني ؟ لكن دعونا نفرتض‬
‫أن بولس أملى الرسالة كلمة بكلمة ‪ .‬فهل من املمكن أن يكون الناسخ يف بعض‬
‫املواضع قد كتب الكلمات اخلاطئة ؟ أغرب من ذلك قد حدث ‪ .‬يف هذه احلالة‬
‫‪ ،‬فمخطوطة الرسالة ( أي النص األصلي ) فيها من البداية " خطأ" ‪ ،‬لذا‬

‫‪105‬‬
‫فجميع النسخ الالحقة لن تكون من كلمات بولس ( يف املواضع اليت أخطأ‬
‫فيها ناسخه‪).‬‬

‫فلنفرتض ‪ ،‬مع ذلك ‪ ،‬أن الناسخ كتب الكلمات صحيحة بنسبة مائة باملائة ‪.‬‬
‫لو صدرت نسخ عديدة من الرسالة ‪ ،‬فهل ميكننا أن نتأكد من أن كل النسخ‬
‫كانت أيضًا صحيحة مائة باملائة ؟ من احملتمل ‪ ،‬على األقل ‪ ،‬أنه حتى لو‬
‫نسخت مجيعا يف حضور بولس ‪ ،‬فكلمة أو اثنني هنا أو هناك ستتغري يف نسخة‬
‫أو يف أخرى من النسخ‪ .‬لوكان األمر كذلك ‪،‬ماذا لو أن واحدة من تلك النسخ‬
‫كانت هي اليت صنعت منها كل النسخ الالحقة ـ بدءا من القرن األول‬
‫‪،‬وصوال إىل القرنني الثاني والثالث‪،‬وهلم جرًّا؟‬

‫يف هذه احلالة ‪ ،‬النسخة األقدم اليت مثلت األساس لكل النسخ الالحقة من‬
‫الرسالة مل تكن بالتمام ما كتبه بولس ‪،‬أو الذي أراده أن يُكتب‪ .‬ومبجرد أن‬
‫تنتشر النسخة ـ أي مبجرد أن تصل إىل غايتها يف إحدى مدن غالطية ـ فهي‬
‫‪،‬بطبيعة احلال ‪،‬ستنسخ ‪ ،‬وستحدث األخطاء ‪ .‬يف بعض األحيان رمبا سيغري‬
‫النساخ النص بصورة عمدية ؛وأحيانا تقع األخطاءعن طريق السهو ‪ .‬هذه‬
‫النسخ املشتملة على األخطاء يتم نسخها ؛وهكذا ‪،‬سيحدث األمر ذاته يف‬
‫املستقبل‪ .‬يف مكان ما وسط هذا كله ‪ ،‬النسخة األصلية ( أو كل من النسخ‬
‫األصلية ) ينتهي بها احلال إىل الضياع‪ ،‬أو البِلى ‪ ،‬أو إىل التلف‪ .‬يف بعض‬

‫‪106‬‬
‫األحيان ‪ ،‬ال يعود ممكنا مقارنة نسخة باألصل للتأكد من أنها "صحيحة" ‪،‬‬
‫حتى لو ُوجِد شخص ما لديه الرغبة يف فعل ذلك‪.‬‬

‫ما ظل باقيا اليوم ‪ ،‬إذن ‪ ،‬ليس هو النسخة األصلية من الرسالة ‪ ،‬وال واحدة‬
‫من النسخ األوىل اليت كان بولس نفسها قد كتبها ‪ ،‬وال أيًا من النسخ اليت‬
‫ٍّ من مدن غالطيا اليت أرسلت إليها تلك الرسالة ‪ ،‬وال أيًا من‬
‫أنتجت يف أي‬
‫النسخ املنسوخة بناءا على هذه النسخة ‪ .‬النسخة األوىل الكاملة إىل حد ما اليت‬
‫منلكها من الرسالة إىل أهل غالطية (خمطوطة مؤلفة من ِكسَر ‪،‬أي أن فيها عددا‬
‫من األجزاء املفقودة ) هي ورقة بردي تعرف باسم ()‪ (P46‬حيث أنها كانت‬
‫الربدية رقم ستة وأربعني من برديات العهد اجلديد وضعا يف الفهارس أو‬
‫الكشوف اخلاصة بذلك)‪ ،‬واليت يرجع تارخيها إىل ‪ 211‬ميالديا تقريبا (‪. )17‬‬
‫أي تقريبا بعد مرور ‪ 151‬عاما من كتابة بولس للرسالة ‪ .‬لقد كانت متداولة ‪،‬‬
‫ويتم نسخها أحيانا بشكل صحيح وأحيانا بشكل غري صحيح ‪ ،‬خلمسة عشر‬
‫عَ ْقدًا قبل أن يتم إنتاج أيٍ من النسخ اليت بقيت إىل الوقت احلاضر‪ .‬ال ميكننا‬
‫إعادة بناء نسخة من تلك النسخ اليت أنتجت منها الربدية ‪ " P46 ".‬فهل‬
‫كانت هي ذاتها نسخة دقيقة ؟ لو كان األمر كذلك ‪،‬فإىل أي درجة كانت دقتها‬
‫)‪(how accurate‬؟ لقد كانت بالتأكيد حتوي أخطاءا من نوعا ما ‪ ،‬كما‬

‫‪107‬‬
‫كان احلال مع النسخة ذاتها اليت نُ ِسخَت منها ‪ ،‬والنسخة اليت نسخت منها‬
‫تلك النسخة ‪ ،‬وهلم جرا ‪.‬‬

‫باختصار ‪ ،‬إن احلديث عن النص "األصلي" للرسالة إىل أهل غالطية هو أمرٌ‬
‫شديد التعقيد ‪ .‬فالنص ليس لدينا ‪ .‬وأفضل ما ميكننا فعله هو أن نعود إىل‬
‫مرحلة نسخه املبكرة ‪ ،‬وأن نأمل ببساطة يف أن ما نعيد بناءه فيما يتعلق بالنسخ‬
‫اليت أنتجت يف هذه املرحلة ـ بناءا على النسخ اليت حدث وأن جنت من الضياع‬
‫( بعدد متزايد كلما اجتهنا إىل العصور الوسطى ) ـ يعكس بصورة معقولة ما‬
‫كتبه بالفعل بولس نفسُه ‪ ،‬أو على األقل ما كان ينوي أن يكتبه حينما قام‬
‫بإمالء الرسالة‪.‬‬

‫بالنسبة للمثال الثاني هلذه املشكالت‪ ،‬دعونا نأخذه من إجنيل يوحنا ‪ .‬هذا‬
‫اإلجنيل خيتلف بشدة عن غريه من األناجيل املوجودة يف ثنايا العهد اجلديد‬
‫‪،‬فهو خيربنا بعدد من القصص اليت ختتلف عن مثيالتها يف األناجيل األخرى و‬
‫يستخدم أسلوب كتابة شديد االختالف ‪ .‬هنا ‪،‬يف يوحنا ‪ ،‬أقوال املسيح هي‬
‫عبارة عن حورات مطولة كبديل عن األقوال املباشرة والفصيحة ؛ ال يقول‬
‫يسوع يف يوحنا ‪ ،‬على سبيل املثال ‪،‬أمثاال أبدا وهو ما خيتلف مع األناجيل‬
‫الثالثة األخرى ‪ .‬فوق ذلك ‪ ،‬األحداث احملكية يف يوحنا غالبا ما ال يكون هلا‬
‫وجود إال يف هذا اإلجنيل فحسب ‪ :‬فعلى سبيل املثال ‪ ،‬حوارات املسيح مع‬

‫‪108‬‬
‫نيقودميوس (يف الفصل ‪ ) 3‬ومع املرأة السامرية (الفصل ‪ )4‬أو معجزاته‬
‫اخلاصة بتحويل املاء إىل مخر (الفصل ‪ )2‬و إقامة أليعازر من األموات‬
‫(الفصل‪ .)11‬إن الصورة اليت يرمسها املؤلف ليسوع هي صورة خمتلفة‬
‫اختالفًا تامًّا أيضًا ؛ فيسوع يقضي كثريا من وقته ‪،‬وهو ما خيتلف مع األناجيل‬
‫الثالثة األخرى ‪ ،‬يف شرح من يكون هو (باعتباره املرسل من السماء )و يف‬
‫صنع " املعجزات" لكي يثبت أن ما يقوله عن نفسه صحيح‪.‬‬

‫لقد كان ليوحنا بال شك مصادره اخلاصة اليت بنى عليها روايته ـ مصدر رمبا‬
‫كان حيكي معجزات يسوع ‪ ،‬على سبيل املثال ‪ ،‬ومصادر كانت تصف‬
‫حواراته (‪ . )18‬لقد مجع هذه املصادر معا ليحصل على سرده املتدفق حلياة‬
‫يسوع ‪ ،‬ومهمته التبشريية ‪ ،‬وموته و قيامته‪ .‬من احملتمل ‪ ،‬مع ذلك ‪ ،‬أن يكون‬
‫يوحنا يف الواقع قد أنتج عددا خمتلفا من النسخ إلجنيله ‪ .‬لقد الحظ القراء‬
‫طويال ‪،‬على سبيل املثال‪ ،‬أن الفصل ‪ 21‬يبدو وكأنه إضافة متأخرة ‪ .‬يبدو‬
‫اإلجنيل بالتأكيد أنه قد انتهى عند العدد ‪ 31 – 31 : 21‬؛ وأن األحداث‬
‫الواردة يف الفصل ‪ 21‬تبدو كنوع من األفكار اليت ختطر على البال يف وقت‬
‫متأخر ‪ ،‬وحيتمل أن تكون قد أضيفت لكي تكمل قصص ظهورات ما بعد‬
‫القيامة ولتشرح أنه عندما مات "التلميذ احلبيب" املسئول عن حكاية التقاليد يف‬
‫اإلجنيل ‪ ،‬مل يكن ذلك عكس النبوءة (قارن مع ‪ .) 23 – 22 : 21‬فقرات‬

‫‪109‬‬
‫أخرى من اإلجنيل أيضًا غري مرتابطة متاما مع الفقرات الباقية ‪ .‬حتى الفقرات‬
‫االفتتاحية ‪ ، 18 – 1 : 1‬اليت تشكل نوعا من املقدمات االستهاللية لإلجنيل‬
‫‪ ،‬تبدو وكأنها خمتلفة عن باقي األعداد ‪ .‬هذه القصيدة املشهورة اليت تتحدث‬
‫عن "كلمة" اهلل الذي كان موجودا مع اهلل منذ البدء وكان نفسه اهلل ‪ ،‬والذي‬
‫"صار جسدا " يف املسيح يسوع ‪ .‬هذه الفقرة مكتوبة بأسلوبٍ شعريٍ رفيع ليس‬
‫له وجود يف بقية اإلجنيل ؛ فوق ذلك ‪،‬وبينما تتكرر موضوعاته احليوية يف بقية‬
‫القصة ‪ ،‬بعض كلماته األكثر أهمية مل تتكرر مرة أخرى‪ .‬لذا ‪ ،‬يسوع قد‬
‫رمست له صورة يف أحناء القصة باعتباره الشخص الذي جاء من فوق ‪ ،‬لكنه‬
‫مل ُي َْدعَ "الكلمة" مرة أخرى يف اإلجنيل‪ .‬هل ميكن أن تكون هذه الفقرة‬
‫االستهاللية قد أخذت من مصدر خمتلف عن بقية الرواية ‪ ،‬وأنها أضيفت‬
‫كبداية الئقة مبعرفة املؤلف بعد أن كانت نسخة أقدم من كتابه قد مت بالفعل‬
‫نشرها ؟‬

‫افرتض جدال ‪ ،‬ملدة ثانية ‪ ،‬أن الفصل ‪ 21‬و األعداد ‪ 18 -1 : 1‬مل‬


‫يكونوا عناصر أصلية من اإلجنيل ‪ .‬ماذا سيقدم ذلك من نفع لناقد نصيّ يريد‬
‫أن يعيد بناء النص "األصلي"؟ وأي أصل يعاد بناؤه ؟ كل خمطوطاتنا اليونانية‬
‫حتتوي على هذه الفقرة موضع الدراسة ‪ .‬لذا فهل يعيد الناقد النصيّ بناء شكل‬
‫من اإلجنيل كان حيتوي هذه الفقرات يف األصل باعتباره النص األصلي ؟ لكن‬

‫‪110‬‬
‫أليس من األوىل أن نعترب أن الشكل " األصلي " املفرتض أن يكون هو النسخة‬
‫األقدم ‪ ،‬هو ذلك الذي ال حيتويها ؟ لو أن شخصا أراد أن يعيد بناء الشكل‬
‫األقدم ‪،‬فهل من العدل أن يتوقف عند إعادة بناء ‪ ،‬فلنقل ‪ ،‬النسخة األوىل‬
‫من إجنيل يوحنا ؟ ملاذا ال يذهب حتى أبعد من ذلك و حياول أن يعيد بناء‬
‫املصادر اليت تقف وراء اإلجنيل ‪ ،‬مثل مصادر اآليات و مصادر احلوارات ‪ ،‬أو‬
‫حتى التقاليد الشفهية اليت تقف وراءها ؟‬

‫هذه أسئلة تؤرق النقاد النصيني ‪ ،‬واليت أدت بالبعض إىل أن جيادلوا حول‬
‫ضرورة إهمال أي سعي وراء النص األصلي ـ حيث إننا حتى ال ميكننا أن نتفق‬
‫حول ما حيتمل أن يعنيه احلديث عن النص "األصلي" ‪ ،‬فلنقل ‪،‬للرسالة إىل‬
‫أهل غالطية و إجنيل يوحنا ‪ .‬من ناحييت ‪،‬مع ذلك ‪ ،‬ما زلت أفكر يف أننا حتى‬
‫لو مل نكن قادرين على الوصول إىل اليقني التام خبصوص ما ميكننا أن حنصل‬
‫عليه ‪ ،‬إال أننا نستطيع على األقل أن نصل إىل التأكد من أن كل املخطوطات‬
‫الباقية قد نسخت من خمطوطات أخرى ‪ ،‬واليت كانت بدورها منسوخة من‬
‫خمطوطات أخرى ‪ ،‬وأننا على األقل قادرين على العودة إىل املرحلة املبكرة و‬
‫األكثر قدما لكل تقليد خمطوط أليٍ من كتب العهد اجلديد ‪ .‬كل خمطوطاتنا‬
‫لرسالة الغالطيني ‪،‬على سبيل املثال ‪،‬تعود بشكل واضح إىل نص ما كان‬
‫ينسخ ؛ كل خمطوطاتنا اخلاصة بإجنيل يوحنا تعود بوضوح إىل نسخة من إجنيل‬

‫‪111‬‬
‫يوحنا كانت تضم املقدمة االستهاللية و الفصل ‪ . 21‬وهكذا ينبغي أن نبقى‬
‫راضني عن معرفتنا أن العودة إىل أقدم نسخة ميكن احلصول عليها هو أفضل ما‬
‫ميكننا فعله ‪ ،‬سواء أستعدنا النص " األصلي " أم ال ‪ .‬هذا الشكل األكثر قدما‬
‫من النص هو بال شك متصل بشكل وثيق ( وثيق للغاية ) مبا كتبه املؤلف يف‬
‫األصل ‪ ،‬و لذلك فهو مبثابة األساس لتفسرينا لتعاليمه اخلاصة‪.‬‬

‫إعادة بناء نصوص العهد اجلديد‬

‫هناك مشكالت مماثلة ‪ ،‬بطبيعة احلال ‪ ،‬تنطبق على كتاباتنا املسيحية املبكرة ‪،‬‬
‫سواء أكانت تلك املوجودة يف العهد اجلديد أو املوجودة خارجه ‪ ،‬وسواء‬
‫أكانت أناجيل ‪ ،‬وأعماال ‪ ،‬رسائال ‪،‬رؤىً ‪ ،‬أو أيًّا من أنواع الكتابة املسيحية‬
‫األخرى‪.‬‬

‫مهمة الناقد النصي هي "حتديد" ما ميثله الشكل األقدم لكل هذه الكتابات ‪ .‬كما‬
‫سنرى ‪ ،‬هناك مبادئ مستقرة للقيام بهذا ال"حتديد" ‪ ،‬وهناك طرق لتقرير أي‬
‫من االختالفات املوجودة يف خمطوطاتنا هي اليت متثل األخطاء(غري املقصودة)‬
‫‪ ،‬وأيها ميثل تغيريات مقصودة ‪ ،‬وأيها يبدو أنه يعود إىل املؤلف األصلي ‪.‬‬
‫لكنها ليست مهمة يسرية ‪ .‬فالنتائج ‪ ،‬من ناحية أخرى ‪،‬ميكن أن تكون كاشفة‬
‫‪،‬وممتعة و حتى مثرية ‪ .‬لقد كان النقاد النصيون قادرين على حتديد عدد من‬
‫املواضع اليت ال متثل فيها املخطوطات اليت بني أيدينا نص العهد اجلديد‬
‫‪112‬‬
‫األصليّ وذلك بيقني نسيبّ‪ .‬بالنسبة هلؤالء الذين ليس لديهم إطالقا أيُّ معرفة‬
‫مناسبة بهذا اجملال ‪ ،‬ولكنهم يعرفون العهد اجلديد جيدا ( فلنقل ‪ ،‬من خالل‬
‫الرتمجة اإلجنليزية)‪ ،‬ميكن أن تكون بعض النتائج مفاجئة ‪ .‬يف ختام هذا‬
‫الفصل ‪ ،‬سأناقش فقرتني مشابهتني ـ فقرتان من األناجيل ‪،‬يف حالتنا هذه‪،‬حنن‬
‫اآلن على يقني تام من أنهما مل تكونا منتميتني يف األصل إىل العهد اجلديد‪،‬‬
‫على الرغم من أنهما أصبحتا أجزاءا مشهورة من الكتاب املقدس بالنسبة‬
‫للمسيحيني عرب القرون وظال هكذا حتى اليوم‪.‬‬

‫قصة يسوع واملرأة الزانية رمبا هي واحدة من أشهر قصص يسوع يف الكتاب‬
‫املقدس ؛ ولقد ظلت دائما إحدى القصص املفضلة لدى مجيع أفالم هوليوود‬
‫اليت تناولت حياته ‪ .‬بل إنها حتى جنحت يف أن تكون جزءا من فيلم آالم املسيح‬
‫ملخرجه مل جيبسون ‪،‬رغم أن الفيلم يركز فقط على الساعات األخرية من‬
‫حياة يسوع ( القصة متت معاجلتها يف إحدى االرجتاعات الفنية‬
‫‪(flashbacks) ).‬هذه القصة ‪،‬رغم شهرتها ‪ ،‬موجودة يف فقرة واحدة‬
‫فقط من العهد اجلديد ‪،‬حتديدا يف يوحنا ‪ 53 : 7‬ـ ‪ ، 12 : 8‬وهي ال تبدو‬
‫أصليةً حتى يف هذا املوضع‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫حبكة القصة عادية ‪ .‬فيسوع يعلِّم يف اهليكل ‪ ،‬وجمموعة من الكتبة والفريسيني‬
‫‪،‬أعداءه اللدودين ‪،‬يقرتبون منه ‪ ،‬حمضرين معهم امرأة " أُ َْم ِسكَتَْ َوهِيَ تَزَْنِي‬
‫فِي ذَاتِ الْفِ َْعلِ" ‪.‬لقد أحضروها أمام يسوع ألنهم يريدون أن يضعوه أمام‬
‫اختبار‪ .‬فالشريعة املوسوية ‪،‬كما خيربونه ‪،‬تطالب بأن ترجم مثل هذه املرأة‬
‫حتى املوت ؛ لكنهم يريدون أن يعرفوا ما سيقوله هو حول هذا األمر‪ .‬هل‬
‫ينبغي أن يرمجوها أم يظهروا جتاهها الرمحة ؟ إنه شَ َركٌ ‪،‬بطبيعة احلال‪ .‬فلو‬
‫أخربهم يسوع أن يرتكوها حلال سبيلها ‪ ،‬سيتهم بأنه قد انتهك شريعة اهلل ؛‬
‫ولو قال هلم أن يرمجوها سيتهم مبخالفة تعاليمه اخلاصة عن احملبة والرمحة و‬
‫الغفران ‪ .‬مل يتعجل يسوع الرد ؛ بدال من ذلك احننى ليتمكن من الكتابة على‬
‫األرض ‪ .‬وملا استمروا يف سؤاله ‪ ،‬إذا به يقول هلم ‪َ "،‬منَْ كَانَ مِ َْن ُكمَْ ِبالَ خَطِيَّةٍ‬
‫َفلْيَرَْ ِمهَا أَوَّالً ِبحَجَرٍ! "‪ .‬ثم يعود إىل كتابته على األرض ‪،‬يف حني يبدأ هؤالء يف‬
‫املغادرة ‪ -‬وهم يشعرون كما هو واضح باخلزي من فعلتهم الشريرة ‪-‬‬
‫حتى إن أحدًا خبالف املرأة مل يبق يف املكان‪ .‬فنظر يسوع إىل أعلى ‪ ،‬وهو‬
‫حدٌ؟ " فردت‬
‫يقول‪ ":‬يَا امَْرََأةُ أَ َْينَ ُهمَْ أُوَلئِكَ ا ْلمُ َْشَتكُونَ َع َليَْكِ؟ أَمَا دَانَكِ َأ َ‬
‫حدَ يَا سَِّيدُ " فأجابها حينئذ " والَ أَنَا َأدِينُكِ‪ .‬ا َْذهَبِي َوالَ تُخَْ ِطئِي أَيَْضاً"‬
‫عليه " الَ َأ َ‬

‫‪114‬‬
‫‪ .‬إنها قصة رائعة ‪ ،‬مفعمة باملشاعر و باملدارة املاكرة اليت استخدم فيها يسوع‬
‫ذكاءه لينجو بنفسه‪ -‬ناهيك عن املرأة املسكينة‪ -‬من هذا ال َشرَك‪.‬‬

‫بطبيعة احلال ‪ ،‬بالنسبة لقارئٍ يقظٍ ‪ ،‬تثري القصة أسئلة عديدة ‪ .‬لو كانت هذه‬
‫املرأة مقبوض عليها بتهمة الزنا ‪ ،‬على سبيل املثال ‪،‬فأين الرجل الذي ضبطت‬
‫معه ؟ كالهما مستوجبٌ الرجم ‪ ،‬وفقا لشريعة موسى (انظر الويني ‪: 21‬‬
‫‪ .) 11‬فوق ذلك ‪ ،‬عندما كتب يسوع على األرض ‪ ،‬ماذا كان يكتب بالضبط‬
‫؟ (وفقا لتقليد قديم ‪ ،‬كان يسوع يكتب خطايا املشتكني ‪،‬الذين ملا رأوا أن‬
‫جرائمهم كانت معروفة ‪،‬غادروا جيللهم العار)!‬

‫وحتى لو كان يسوع بالفعل يعلِّم رسالة احملبة ‪،‬فهل كان يعتقد فعال أن شريعة‬
‫اهلل اليت أعطاها ملوسى مل تعد سارية املفعول و ينبغي أن ال تطاع ؟ وهل كان‬
‫يعتقد على وجه اإلطالق أن اخلطايا ال يعاقب املرء عليها ؟‬

‫على الرغم من رونق القصة ‪،‬وجودتها األخاذة ‪ ،‬وحبكتها الفطرية ‪ ،‬فهناك‬


‫مشكلة أخرى عويصة تواجهها ‪ .‬كما سيتضح ‪ ،‬فهذه القصة مل تكن أصلية يف‬
‫إجنيل يوحنا‪ .‬بل مل تكن ‪،‬يف الواقع ‪ ،‬جزءا أصيال من أيِّ إجنيل ‪ .‬فلقد‬
‫‪115‬‬
‫أضيفت مبعرفة ناسخ آخر يف زمن متأخِّر ‪ .‬كيف نعرف ذلك ؟ يف الواقع ‪،‬‬
‫العلماء الذين اشتغلوا بالتقليد املخطوط ليس لديهم أي شكوك بشأن هذه‬
‫احلالة على وجه اخلصوص ‪ .‬يف هذا الكتاب يف وقت الحق سنقوم بفحص‬
‫أكثر عمقًا أنواع الدليل الذي يورده العلماء للحكم على هذا النوع من التغيري‪.‬‬
‫سأشرح اآلن قليال من احلقائق األساسية اليت ثبت أنها مقنعة للعلماء كلهم‬
‫تقريبا من خمتلف االجتاهات ‪ :‬القصة غري موجودة يف أقدم وأفضل خمطوطاتنا‬
‫إلجنيل يوحنا (‪ )18‬؛ أسلوب الكتابة املستخدم فيها أصعب كثريًا من ذلك‬
‫الذي جنده يف بقية إجنيل يوحنا (مبا يف ذلك القصص اليت قبلها واليت بعدها‬
‫مباشرة)؛كما تتضمن عددا كبريا من الكلمات واجلمل اليت هي بطريقة أخرى‬
‫غريبة عن اإلجنيل ‪ .‬والنتيجة اليت ال مفر منها ‪ :‬هذه الفقرة مل تكن جزءًا‬
‫أصيال من اإلجنيل‪.‬‬

‫فكيف حدث أن أضيفت هذه القصة إذن ؟ هناك العديد من النظريات حول‬
‫هذا األمر ‪ .‬معظم العلماء يعتقدون أنه من احملتمل أنها كانت قصة معروفة‬
‫ومتداولة يف التقليد الشفوي حول يسوع ‪،‬وأنها أضيفت يف حلظة ما إىل هامش‬
‫إحدى املخطوطات ‪ .‬ومن هناك اعتقد بعض النساخ أو غريهم أن املالحظة‬
‫املوجودة يف اهلامش يقصد منها أن تكون جزءا من النص ولذلك أدخلوها‬

‫‪116‬‬
‫مباشرة بعد القصة اليت تنتهي عند يوحنا ‪ . 52 : 7‬من اجلدير باملالحظة أن‬
‫نساخا آخرين أدخلوا القصة يف مواضع خمتلفة يف العهد اجلديد ـ بعضهم بعد‬
‫يوحنا ‪، 25 : 21‬على سبيل املثال‪،‬واآلخرون ‪،‬وهو أمر يف غاية الطرافة‬
‫‪،‬بعد لوقا ‪ . 38 : 21‬على أية حال ‪ ،‬أيّا كان كاتب القصة ‪ ،‬إال أنه مل يكن‬
‫يوحنا بالتأكيد ‪.‬‬

‫لو مل تكن هذه القصة جزءا من يوحنا يف األصل‪،‬فهل كان من املفرتض أن‬
‫تكون جزءا الكتاب املقدس؟ لن جييب كل إنسان على هذا السؤال بالطريقة‬
‫ذاتها ‪،‬لكن بالنسبة لغالبية النقاد النصيني ‪ ،‬اإلجابة هي ال‪.‬‬

‫املثال الثاني الذي سنناقشه رمبا ال يكون مألوفا لدى القارئ املتقطع للكتاب‬
‫املقدس‪ ،‬لكنه كان ذا أثر عظيم الشأن يف تاريخ التفسري الكتابي )‪(biblical‬‬
‫ويفرض مشكالت على الدرجة نفسها على علماء التقليد النصي للعهد‬
‫اجلديد‪ .‬إن هذا املثال مأخوذ من إجنيل مرقس و يتعلق خبامتته‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫يف الرواية املرقسية ‪ ،‬يقال لنا إن يسوع يصلب و يدفن مبعرفة يوسف األرمياتي‬
‫يف اليوم السابق للسبت (‪ .) 47 – 42 : 15‬يف اليوم التالي للسبت ‪،‬عادت‬
‫مريم اجملدلية و نساء أخريات إىل القرب رمبا لكي يدهنَّ اجلسد (‪2 -1 : 16‬‬
‫)‪ .‬عندما يصلن ‪ ،‬جيدن أن احلجر قد مت حتريكه بعيدا ‪ .‬ولدى دخوهلن إىل القرب‬
‫‪ ،‬يرين شابا يف ثوب أبيض ‪ ،‬خيربهن أن‪ "،‬الَ تَ َْن َدهِ َْشنَ! أَنَْتُنَّ تَطْ ُل َْبنَ يَسُوعَ‬
‫ضعُوهُ فِيهِ‪" .‬‬
‫صلُوبَ‪َ .‬قدَْ قَامَ! لَيَْسَ هُوَ َههُنَا‪ .‬هُوَذَا ا ْلمَ َْوضِعُ َّالذِي وَ َ‬
‫النَّاصِرِيَّ ا ْلمَ َْ‬
‫ثم يأمر النساء أن خيربن التالميذ أن يسوع قد سبقهم إىل اجلليل و أنهم سريونه‬
‫هناك ‪ "،‬هُنَاكَ َترَ َْوَنهُ َكمَا قَالَ َل ُكمَْ " لكن النساء يهربن من القرب وال يقلن أي‬
‫شئ ألي شخص ‪ "،‬ألََّنهُنَّ كُنَّ خَائِفَاتٍ "(‪).8 -4 : 16‬‬

‫ثم تأتي األعداد االثنا عشر األخرية يف مرقس املوجودة يف كثري من الرتمجات‬
‫اإلجنليزية املعاصرة ‪ ،‬وهي األعداد اليت تواصل احلكاية‪ .‬يسوع نفسه يقال عنه‬
‫إنه ظهر ملريم اجملدلية ‪ ،‬اليت ذهبت و أخربت التالميذ ؛ لكنهم مل يصدقوها(‬
‫ألعداد ‪ .)11 – 9‬فيظهر بعد ذلك إىل اثنني آخرين (األعداد ‪،) 14 -12‬‬
‫ويف النهاية لألحد عشر تلميذا (االثنا عشر باستثناء يهوذا اإلسخريوطي) الذين‬
‫اجتمعوا معا على املائدة ‪ .‬يوخبهم يسوع على عدم إميانهم ‪،‬ثم يكلفهم‬

‫‪118‬‬
‫باخلروج و أن يكرزوا بإجنيله " لكل اخلليقة"‪ .‬من يؤمن ويعتمد " خيلُص"‪ ،‬ومن‬
‫ال يؤمن "يُدن"‪ .‬ثم يأتي اثنان من أكثر األعداد إثارة للجدل يف الفقرة‪:‬‬

‫َو َهذِهِ اآليَاتُ َتتََْبعُ ا ْلمُؤَْمِنِنيَ‪ُ :‬يخَْ ِرجُونَ الشَّيَاطِنيَ بِا َْسمِي وَيََتك ََّلمُونَ ِبأَ ْلسَِنةٍ‬
‫ُر ُهمَْ َويَضَعُونَ أَيَْدَِي ُهمَْ َعلَى‬
‫ح ِملُونَ حَيَّاتٍ وَإِنَْ شَرِبُوا شَيَْئاً ُممِيتاً الَ يَض ُّ‬
‫جدِيدَةٍ‪َ.‬ي َْ‬
‫َ‬
‫ا ْلمَرَْضَى فَيَبَْ َرأُونَ‪( .‬األعداد ‪)18 – 17‬‬

‫يُ َْرفَع يسوع إىل السماء ‪ ،‬وجيلس على ميني اهلل ‪ .‬وأما التالميذ فيخرجون إىل‬
‫العامل مكرزين باإلجنيل ‪،‬و كالمهم يشهد على صحته ما يرافقه من آيات‬
‫(األعداد ‪).21 – 19‬‬

‫إنها فقرة رهيبة ‪،‬غامضة ‪،‬مثرية للمشاعر ‪،‬و قوية ‪ .‬إنها واحدة من الفقرات‬
‫اليت يستخدمها املسيحيون اخلمسينيون إلظهار أن أتباع يسوع سيكونون‬
‫قادرين على التكلم ب"ألسنة" غري معروفة هلم ‪ ،‬كما حيدث ذلك يف أثناء‬
‫طقوس العبادة عندهم ؛ وهي الفقرة الرئيسية اليت تستخدمها جمموعات‬
‫"مدربي الثعابني األباالتشيني )‪" (Appalachian snake-handlers‬‬
‫الذين حتى اليوم ميسكون بالثعابني السامة يف أيديهم لكي يظهروا إميانهم‬
‫‪119‬‬
‫بكلمات يسوع بأنهم عندما يفعلون ذلك لن يصيبهم أي أذى‪ .‬لكن مثة مشكلة‬
‫واحدة ‪ .‬مرة أخرى ‪ ،‬هذه الفقرة ليست جزءا أصيال يف إجنيل مرقس ‪ .‬فلقد‬
‫أضافها أحد النساخ املتأخرون ‪ .‬هذه املشكلة النصية بطريقة ما هي أكثر إثارة‬
‫للجدل من الفقرة اليت تتحدث عن املرأة الزانية ‪ ،‬ألن مرقس بدون هذه‬
‫األعداد اخلتامية سيكون له خامتة شديدة التناقض و يصعب فهمها ‪.‬‬

‫هذا ال يعين ‪،‬كما سنرى بعد حلظات‪ ،‬أن العلماء مييلون لقبول هذه األعداد ‪.‬‬
‫أسباب اعتبارها إضافة هي أسباب قوية ‪ ،‬وتقريبا ال ميكن اجلدال بشأنها ‪ .‬لكنَّ‬
‫العلماء يتجادلون حول ما كانت عليه بالفعل النهاية األصلية إلجنيل مرقس ‪،‬‬
‫مع التسليم بأن هذه اخلامتة ‪،‬املوجودة يف كثري من الرتمجات اإلجنليزية (على‬
‫الرغم من أنها توسم عادة بأنها غري موثوقة )و يف بعض املخطوطات اليونانية‬
‫األحدث ‪،‬غري أصلية ‪ .‬الدليل على أن هذه األعداد مل تكن أصلية يف إجنيل‬
‫مرقس مشابه نوعيًا لذلك اخلاص بالفقرة اليت تتحدث عن املرأة الزانية ‪،‬ومرة‬
‫أخرى لست حباجة إىل الدخول يف التفاصيل هنا ‪.‬هذه األعداد مفقودة يف أقدم‬
‫وأفضل خمطوطاتنا اليت ختص إجنيل مرقس ‪ ،‬إىل جانب شواهد أخرى هامة ؛‬
‫فمثال أسلوب الكتابة فيها خيتلف عن ما جنده يف أي مكان آخر يف مرقس ؛‬
‫التحول أو النقلة بني هذه الفقرة و األخرى اليت تسبقها يصعب فهمه( مريم‬

‫‪120‬‬
‫اجملدلية ‪ ،‬مثال ‪ ،‬يتم التعريف بها يف العدد ‪ 9‬كما لو كانت مل تذكر من قبل ‪،‬‬
‫على الرغم من أنها مت التحدث عنها يف األعداد السابقة ؛ هناك مشكلة أخرى‬
‫مع اللغة اليونانية جيعل حتى هذا التحول أكثر صعوبة )؛ وهناك عدد كبري من‬
‫الكلمات واجلمل يف الفقرة ليس هلا وجود يف أي مكان آخر يف مرقس‪.‬‬
‫باختصار ‪ ،‬الدليل كاف إلقناع كل علماء النص تقريبا أن هذه األعداد متثل‬
‫إضافة إىل إجنيل مرقس‪ .‬يف غياب هذه األعداد ‪،‬مع ذلك ‪،‬تنتهي القصة بشكل‬
‫مفاجئ للغاية ‪ .‬انتبه ملا سيحدث عندما حتذف هذه األعداد ‪.‬يقال للمرأة أن خترب‬
‫التالميذ أن يسوع سيسبقهم إىل اجلليل و سيلتقيهم هناك ؛ لكنهن ‪،‬أي النساء‬
‫‪ ،‬يهربن من القرب و ال يقلن أي شئ ألي شخص " ألََّنهُنَّ كُنَّ خَائِفَاتٍ "‪ .‬وهنا‬
‫ينتهي اإلجنيل ‪ .‬من الواضح أن النساخ اعتقدوا أن اخلامتة كانت مفاجئة للغاية ‪.‬‬
‫هل النساء مل خيربن أحدًا ؟ إذن ‪،‬هل التالميذ مل يعرفوا على اإلطالق حبدوث‬
‫القيامة ؟ وهل يسوع نفسه مل يظهر هلم أبدا ؟ ياهلا من خامتة! حلل هذه‬
‫املشكلة ‪ ،‬أضاف النساخ خامتة من عندهم (‪) .19‬‬

‫"بعض العلماء يتفقون مع النساخ حول االعتقاد بأن العدد ‪ 8 : 16‬هو نهاية‬
‫مت برتها بشكل مفاجئ جدا يتجاوز احلد املعقول بالنسبة خلامتة إجنيل‪ .‬و ال يعين‬
‫هذا ‪،‬كما أشرت من قبل ‪ ،‬أن هؤالء العلماء يؤمنون بأن األعداد االثنا عشر‬

‫‪121‬‬
‫األخرية املوجودة يف خمطوطاتنا احلديثة نسبيا متثل النهاية األصلية ـ هم يعلمون‬
‫أن هذا ليس صحيحا ـ لكنهم يعتقدون أن الصفحة األخرية من مرقس ‪ ،‬اليت‬
‫يلتقي فيها يسوع فعليا تالميذه يف اجلليل ‪ ،‬من احملتمل ‪ ،‬أن تكون قد فُ ِقدَت‬
‫بطريقة ما‪ ،‬ويعتقدون أن كل نسخنا من اإلجنيل تعود لتلك املخطوطة املبتورة‬
‫بدون صفحتها األخرية ‪ .‬هذا التفسري جائز متاما ‪.‬ومن اجلائز أيضًا ‪،‬يف رأي‬
‫علماء آخرين ‪،‬أن مرقس مل يكن يقصد حقا أن ينهي إجنيله بالعدد ‪8 : 16‬‬
‫(‪ . )21‬فهي بالتأكيد نهاية مروعة ‪ .‬فالتالميذ مل يعلموا أبدا حقيقة قيامة يسوع‬
‫ألن النساء مل خيربنهم بذلك على اإلطالق ‪ .‬بقي سبب وحيد فقط يدفعنا‬
‫للتفكري بأن هذه رمبا تكون الطريقة اليت اختارها مرقس لينهي بها إجنيله ‪:‬أال‬
‫وهو أن مثل هذه النهاية تتوافق جيدا مع دوافع أخرى يف كل مكان من إجنيله‬
‫‪.‬فكما الحظ دارسوا إجنيل مرقس طويال ‪ ،‬مل يبدُ التالميذ أبدا " أذكياء" يف هذا‬
‫اإلجنيل (خبالف بعض األناجيل األخرى)‪ .‬فاإلجنيل يقول عنهم مرارا وتكرارا‬
‫أنهم مل يفهموا يسوع (‪ 52 – 51 : 6‬؛ ‪ ،) 21 : 8‬وعندما يقول هلم‬
‫يسوع يف مناسبات عديدة أنه ينبغي أن يتأمل وميوت ‪ ،‬يفشلون بوضوح يف فهم‬
‫كلماته (‪ 33 – 31 :8‬؛‪ 32 – 31 : 9‬؛‪ .) 41 -33 : 11‬رمبا ‪،‬يف‬
‫واقع األمر ‪ ،‬مل يكن بإمكانهم على اإلطالق أن يفهموا( خبالف قرّاء إجنيل‬
‫مرقس ‪ ،‬الذين يستطيعون أن يفهموا من هو املسيح يف الواقع من أول األمر )‪.‬‬
‫أيضًا ‪ ،‬من الطريف أن نالحظ أنه يف كل موضع من إجنيل مرقس ‪ ،‬عندما‬
‫‪122‬‬
‫يتمكن شخص ما من فهم شئ ما عن املسيح ‪،‬يأمر يسوع هذا الشخص‬
‫بالسكوت ـ إال أن الشخص كثريا ما يتجاهل األمر ويذيع اخلرب ( انظر مثال ‪: 1‬‬
‫‪ .) 45 – 43‬فياله من أمر مثري للسخرية أنه عندما يقال للنساء عند القرب أن ال‬
‫يصمنت بل يتكلمن ‪ ،‬فإذ بهن يتجاهلن األمر أيضًا ـ ويصمنت!‬

‫باختصار ‪ ،‬رمبا كان مرقس قد تعمد أن يوقف قارئه مندهشا أمام هذه النهاية‬
‫املبتورة ـ وهي طريقة ذكية جلعل القارئ يتوقف ‪ ،‬ويأخذ نفسا متقطعا و يسأل‬
‫‪ :‬ما هذا ؟‬

‫‪123‬‬
‫الفقرات اليت ناقشناها فيما سبق تغطي موضعني فقط من بني آالف املواضع‬
‫اليت تعرضت فيها خمطوطات العهد اجلديد للتغيري على يد النساخ ‪ .‬يف املثالني‬
‫كليهما ‪ ،‬حنن نتعامل مع إضافات أحدثها النساخ يف النص ‪ ،‬أضافات ضخمة‬
‫العدد ‪ .‬ومع أن معظم التغيريات مل تكن بهذه اجلسامة ‪ ،‬إال أنه مثة كثري من‬
‫التغيريات اهلامة (وكثري جدا من التغيريات غري اهلامة ) يف خمطوطات العهد‬
‫اجلديد املوجودة لدينا ‪ .‬يف الفصول التالية سنرغب يف رؤية كيف بدأ العلماء يف‬
‫اكتشاف هذه التغيريات وكيف طوروا مناهج لفهم ما كان عليه الشكل األقدم‬
‫من النص ( أو النص " األصلي ") ؛ سنكون حريصني بشكل خاص على رؤية‬
‫املزيد من األمثلة عن املكان الذي تعرضت فيه هذه النصوص للتغيري ـ وكيف‬
‫أثرت هذه التغيريات على ترمجاتنا اإلجنليزية للكتاب املقدس ‪ .‬أودّ أن أنهي‬
‫هذا الفصل مبالحظة بسيطة عن أمر مثري للسخرية الشديدة يبدو أننا اكتشفناه ‪.‬‬
‫كما رأينا يف الفصل ‪ ، 1‬كانت املسيحية منذ البداية ديانة كتابية أكدت على‬
‫بعض النصوص باعتبارها الكتاب املقدس الرمسي ‪ .‬وكما رأينا يف هذا الفصل‬
‫‪ ،‬رغم ذلك ‪ ،‬حنن ال منلك يف الواقع هذه النصوص الرمسية ‪ .‬إن الديانة‬
‫املسيحية هي ديانة توجهها النصوص وهذه النصوص قد تعرضت للتحريف ‪،‬‬

‫‪124‬‬
‫وما بقي فقط ‪،‬يف شكل نسخ‪ ،‬خيتلف من واحدة ألخرى ‪ ،‬ويف كثري من‬
‫األحيان يكون االختالف يف أمور شديدة األهمية ‪ .‬إن مهمة الناقد النصي هي‬
‫حماولة استعادة الشكل األقدم من هذه النصوص ‪ .‬هذه املهمة واضح أنها‬
‫شديدة األهمية ‪ ،‬حيث إننا ال ميكن أن نفسر الكلمات الواردة يف العهد اجلديد‬
‫لو مل نكن نعرف الشكل الذي كانت عليه الكلمات ‪ .‬فوق ذلك ‪ ،‬كما آمل أن‬
‫يكون واضحا اآلن ‪ ،‬معرفة هذه الكلمات هي أمر مهم ليس فقط من أجل‬
‫هؤالء الذين يعتقدون أن هذه الكلمات موحاة من اهلل ‪ .‬بل هي مهمة من أجل‬
‫أي شخص يعتقد أن العهد اجلديد كتاب هام ‪ .‬وبالتأكيد كل شخص مهتم‬
‫بالتاريخ ‪ ،‬واجملتمع و بثقافة احلضارة الغربية يعتقد ذلك ‪ ،‬ألن العهد اجلديد‬
‫‪،‬إن مل يكن أكثر من ذلك ‪ ،‬هو منتج ثقايف ضخم ‪ ،‬وكتاب يوقِّره املاليني‬
‫وميثل األساس ألكرب الديانات يف عامل اليوم"‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫)‪(1‬ملزيد من النقاش ‪ ،‬انظر كتاب هاري واي‪ .‬جامبل " كتب وقراء يف الكنيسة املبكرة‪ :‬تاريخ النصوص املسيحية (نيو‬
‫هافن ‪ :‬مطبعة جامعة يال ‪ ،) 1995،‬الفصل ‪.3‬‬

‫" )‪(2‬مقاالت أخالقية ) ‪ "(Moral essays‬لسينيكا ‪،‬حترير وترمجة جون و‪ .‬باسور ) ‪(John .w Basore‬‬
‫(مكتبة لويب الكالسيكية ؛ لندن ‪:‬هاينمان ‪ ،) 1925،‬ص ‪.221‬‬

‫)‪(3‬مارشال ‪ :‬اإلبيجرامات ‪ ،‬حترير وترمجة والرت ‪.‬سي ‪ .‬إيه‪ .‬كر (مكتبة لويب الكالسيكية ؛ كمربيدج ‪ :‬مطبعة جامعة‬
‫هارفارد ‪.115: 1،) 1968،‬‬

‫)‪(4‬لالطالع على نقاش واسع انظر كتاب "حراس احلروف " هلاينز أيتزن‪".‬‬

‫)‪(5‬استعرت هذا املثال من بروس ‪.‬م ‪.‬ميتزجر ‪ .‬انظر كتاب "نص العهد اجلديد‪ :‬نقله و ضياعه و استعادته " لربوس ميتزجر‬
‫وبارت إرمان ‪ ،‬الطبعة ال‪( 4‬نيويورك‪ :‬مطبعة جامعة أكسفورد ‪.23 – 22 ،) 2115،‬‬

‫)‪(6‬هذا ما صرح به يف القائمة املوراتورية الشهرية ‪ ،‬أقدم قائمة من الكتب املقبولة باعتبارها "قانونية" مبعرفة مؤلفها اجملهول‬
‫‪ .‬انظر "الديانات املسيحية املفقودة " لبارت إرمان ‪.243 – 241،‬‬

‫)‪(7‬هذه واحدة من استنتاجات كيم هاينز اهلامة يف كتابه "حراس احلروف‪".‬‬

‫)‪(8‬أقصد بقولي "ناسخ حمرتف" هؤالء النساخ الذين كانوا مدربني بشكل خاص و‪/‬أو حيصلون على مقابل مادي نظري‬
‫قيامهم بنسخ النصوص كجزء من وظيفتهم ‪ .‬يف فرتة متأخرة ‪ ،‬كان الرهبان يف األديرة بصورة منطية مدربني ‪ ،‬لكنهم مل‬
‫يكونوا حيصلون على مقابل مادي؛ ورمبا يشملهم تعريفي بني طبقات النساخ احملرتفني‪.‬‬

‫)‪(9‬تفسري متى ‪ ، 14. 15‬كما يقتبسه بروس ميتزجر يف كتابه " إشارات واضحة يف أعمال أورجيانوس إىل القراءات املتباينة‬
‫يف خمطوطات العهد اجلديد" يف الدراسات الكتابية واآلبائية يف ذكرى روبرت بريس كاسي ‪ ،‬بتحرير ج‪ .‬نيفيل بريدسال و‬
‫روبرت ‪.‬و‪.‬تومسون (فرايربج ‪:‬هريدر‪. 79 – 78،) 1968،‬‬

‫)‪(10‬ضد سيلزس ‪.27 . 2‬‬

‫©نوع من النبات يرمز به إىل األتباع الزائفني كما يف متى ‪.31 – 25 : 13‬‬

‫‪126‬‬
‫)‪(11‬انظر كتاب بارت ‪.‬د إرمان " التخريب األرثوذكسي للكتاب املقدس ‪ :‬آثار النزاعات املبكرة حول طبيعة املسيح على‬
‫نص العهد اجلديد (نيو يورك ‪ :‬مطبعة جامعة أكسفورد ‪)1993،‬‬

‫)‪(12‬أورجيانوس "حول املبادئ األوىل ) ‪ "(On Frist principles‬مقدمة روفينوس ؛كما اقتبسها جامبل يف كتابه "‬
‫كتب وقراء" ص ‪. 124‬‬

‫)‪(13‬انظر هامش رقم ‪ 8‬يف األعلى‪.‬‬

‫)‪(14‬ملالحظات أخرى أضيفت إىل املخطوطات مبعرفة نساخ منهكني أو شاعرين بامللل ‪ ،‬انظر األمثلة اليت ساقها ميتزجر‬
‫وإرمان يف " نص العهد اجلديد" الفصل ‪ ، 1‬القسم الثالث‪.‬‬

‫)‪(15‬يف مناسبة واحدة فحسب عرف واحد من أميين سر النسخ لدى بولس نفسه ؛ كان شخص يسمى تريتيوس ‪ ،‬أملى‬
‫عليه بولس رسالته إىل أهل رومية ‪ ،‬انظر رومية ‪.22 : 16‬‬

‫)‪(16‬انظر ‪،‬على وجه اخلصوص ‪ ،‬كتاب "السكرتاريا يف رسائل بولس ‪(the Secretary in the Letters of‬‬
‫" )‪Paul‬لـ إي‪.‬راندولف ريتشاردز (توبنجن ‪:‬مور‪/‬سيبيك ‪).1991 ،‬‬

‫)‪(17‬حتى العهد اجلديد يشري غإىل أن كتبة اإلجنيل طان لديهم "مصادر " لقصصهم ‪ .‬يف لوقا ‪، 4 -1 : 1‬على سبيل‬
‫املثال ‪،‬يصرح املؤلف أن "كثريين" من السابقني كانوا قد كتبوا قصة حول األمور اليت قاهلا يسوع وفعلها ‪،‬وأنه ‪ ،‬بعد قراءته‬
‫لكتاباتهم ومشاورته "لشهود وخدام الكلمة "‪ ،‬قرر أن يكتب قصته اخلاصة ‪ ،‬وهي القصة اليت كما يقول هو ‪،‬خالفا‬
‫لآلخرين ‪"،‬أكثر دقة "‪ .‬أو بكلمات أخرى ‪ ،‬كان لدى لوقا مصدرا األحداث اليت حكاها كالهما املكتوب منهما والشفوي ـ‬
‫فهو نفسه مل يكن شاهدا على حياة يسوع األرضية ‪ .‬واألمر نفسه يبدو متطابقا مع كُتَّاب األناجيل اآلخرين كذلك ‪.‬‬
‫خبصوص مصادر إجنيل يوحنا ‪،‬انظر كتاب إرمان "العهد اجلديد " ‪.167 – 164‬‬

‫)‪(18‬سنرى فيما بعد كيف أن بعض املخطوطات ميكن تصنيفها باعتبارها "أفضل " من اآلخرين‪.‬‬

‫)‪(18‬سنرى فيما بعد كيف أن بعض املخطوطات ميكن تصنيفها باعتبارها "أفضل " من اآلخرين‪.‬‬

‫)‪(19‬يف الواقع ‪ ،‬كان هناك نهايات خمتلفة أضيفت مبعرفة نساخ خمتلفني ـ ليس فقط االثنا عشر عددا املألوفة لقراء الكتاب‬
‫املقدس اإلجنليزي ‪ .‬لالطالع على كل النهايات ‪ ،‬انظر كتاب بروس ميتزجر " تفسري نصي حول العهد اجلديد اليوناني "‬
‫الطبعة الثانية ‪( .‬نيويورك ‪ :‬مجعية الكتاب املقدس املوحد ‪ 112 ،) 1994،‬ـ ‪.116‬‬

‫)‪(20‬انظر كتاب إرمان " العهد اجلديد " الفصل ‪، 5‬خصوصا الصفحات ‪81 – 79‬‬

‫‪127‬‬
‫ما رأيناه من املمارسات اليت كانت تقع يف أثناء عملية النسخ حتى هذه اللحظة‬
‫ينتمي يف األغلب إىل القرن الثالث املسيحي ‪،‬عندما كان معظم نساخ‬
‫النصوص املسيحية من غري احملرتفني ‪،‬ممن مل يتلقوا تدريبًا على القيام بهذه‬
‫الوظيفة ‪ ،‬بل كانوا ببساطة مسيحيني مثقفني من هذه الطائفة أو تلك‪،‬ممن‬
‫يعرفون القراءة والكتابة ولذلك طُلب إليهم أن يعيدوا كتابة النصوص اليت‬
‫متتلكها الطائفة يف أوقات فراغهم (‪. )1‬وألنهم مل حيصلوا على تدريبٍ عالٍ‬
‫يؤهلهم للقيام بعمل كهذا ‪،‬فقد كانوا أكثر ميال للوقوع يف تلك األخطاء اليت‬
‫ما كان للمحرتفني من النسَّاخ أن يقعوا فيها ‪.‬‬

‫هذا يفسر ملاذا كانت النسخ املبكرة من كتابات املسيحيني األوائل متيل إىل‬
‫االختالف يف العادة من نسخةٍ ألخرى وباملقارنة مع النسخ املتأخرة أكثر مما‬
‫ختتلف فيه النسخ املتأخرة(ولنقل اليت تنتمي إىل العصور الوسطى العليا) فيما‬
‫بينها ‪ .‬يف النهاية أصبحت هناك طبقة من النساخ املسيحيني احملرتفني متثل جزءًا‬

‫‪128‬‬
‫من املشهد الفكري املسيحي ‪،‬وبظهور هؤالء النسَّاخ احملرتفني ظهرت ممارسات‬
‫نسخية أكثر انضباطًا ‪،‬ارتكبت فيها األخطاء بشكل أقل من املعتاد‪.‬‬

‫قبل أن حيدث ذلك‪،‬وأثناء القرون األوىل من عمر الكنيسة‪،‬كانت النصوص‬


‫املسيحية يتم نسخها يف أي مكان كانت تكتب فيه أو تؤخذ إليه‪ .‬وألن‬
‫النصوص كانت تنسخ حمليًّا‪،‬فلم يكن من قبيل املفاجأة أن تقوم املدن األخرى‬
‫بتطوير أنواع أخرى من التقاليد النصية ‪.‬‬

‫بكلماتٍ أخرى‪،‬املخطوطات اليت كتبت يف روما وجدت فيها الكثري من‬


‫األخطاء ذاتها‪،‬ألنها كانت يف الغالب وثائقًًا "لالستخدام احمللي" ‪،‬كتبت من‬
‫ناسخ آلخر ؛فلم تتأثر كثريًا باملخطوطات اليت كانت تنسخ يف فلسطني؛‬
‫وتلك اليت نسخت يف فلسطني كانت هلا خصائصها املميزة‪،‬واليت مل تكن من‬
‫النوع نفسه املوجود يف خمطوطات مكان مثل اإلسكندرية‪،‬يف مصر‪ .‬فوق ذلك‪،‬‬
‫يف القرون املبكرة للكنيسة‪،‬كان لبعض األماكن نسَّاخ أفضل من املتوفرين يف‬
‫األماكن األخرى‪.‬ولقد أصبح العلماء املعاصرون يقرُّون بأن نساخ‬
‫اإلسكندرية– اليت كانت مركزًا فكريًأ رئيسيًا يف العامل القديم‪ -‬كانوا‬
‫بشكل خاص من ذوي الضمائر احلية ‪،‬حتى يف هذه القرون القدمية‪،‬وهناك‬
‫‪،‬أي يف اإلسكندرية‪ ،‬ظل شكلٌ شديدُ النقاءِ من نصوص كتابات املسيحيني‬

‫‪129‬‬
‫األوائل حمفوظًا‪،‬طوال عشرات السنني‪،‬عرب نساخ مسيحيني متفانني و ماهرين‬
‫نسبيًا ‪.‬‬

‫متى بدأت الكنيسة يف استخدام النسَّاخ احملرتفني لنسخ نصوصها؟ هناك أسباب‬
‫مقنعة تدفعنا إىل االعتقاد بأن ذلك قد حدث يف وقت ما قريب من بداية القرن‬
‫الرابع‪ .‬فقبل ذلك احلني‪،‬كانت املسيحية ديانة صغرية تعتنقها أقلية داخل‬
‫اإلمرباطورية الرومانية ‪،‬كثريًا ما تعرضت هذه األقلية لالضطهاد‪،‬و للتعذيب‬
‫أحيانًا‪ .‬ولكنَّ تغيريًا عنيفًا وقع حينما حتول إمرباطور روما‪،‬قسطنطني‪،‬إىل‬
‫اإلميان عام ‪ 312‬ميالديًا تقريبًا‪ .‬فجأة تغري حال املسيحية من كونها ديانة‬
‫املنبوذين جمتمعيًا ‪،‬املعذَّبني بأيدي الرعاع و سلطات اإلمرباطورية على حدٍ‬
‫سواء ‪،‬إىل العبٍ رئيسيّ يف املشهد الديين يف اإلمرباطورية‪ .‬مل يتوقف التعذيب‬
‫فحسب بل وانهالت العطايا على الكنيسة من القوة األعظم يف العامل الغربي‪.‬‬
‫وقد نتج عن ذلك اعتناقات مجاعية للمسيحية‪،‬كما أصبح أن تكون تابعًا من‬
‫أتباع املسيح أمرًا شائعًا يف عصرٍ زعم فيه اإلمرباطور نفسه عالنيةً التزامه‬
‫باملسيحية‪.‬أعداد أكرب وأكرب من احلاصلني على تعليم عالٍ و من املدربني حتولوا‬
‫إىل املسيحية‪ .‬وكان من الطبيعيّ أن يكونوا األشخاص األكثر أهليةً لنسخ‬

‫‪130‬‬
‫نصوص التقليد املسيحي‪.‬هناك أسباب جتعلنا نفرتض أن قريبًا من هذه الفرتة‬
‫ظهرت اإلسكريبتوريات املسيحية )‪ (Christian ******oria‬يف‬
‫املناطق احلضرية الرئيسية(‪ .)2‬واإلسكريبتوريا هي مكان لنسخ املخطوطات‬
‫يتميز بكون نسَّاخه من احملرتفني‪ .‬لدينا إشارات عن أماكن النسخ‬
‫(اإلسكريبترييات) املسيحية اليت كانت تعمل يف وقت قريبٍ من بواكري القرن‬
‫الرابع‪ .‬يف ‪ 331‬ميالديًا كتب اإلمرباطور قنسطنطني ‪،‬الذي كان يريد توفري‬
‫نسخ من الكتب املقدسة ) ‪ (Bibles‬يف الكنائس الرئيسية اليت قام ببنائها‪،‬‬
‫أمرًا ألسقف قيصرية ‪،‬يوسابيوس (‪،)3‬لكي يتوىل اإلشراف على كتابة‬
‫مخسني نسخة من الكتاب املقدس على نفقة اإلمرباطور‪ .‬تعامل يوسابيوس مع‬
‫هذا الطلب بكل األبهة واالحرتام اللذين يستحقهما ‪،‬وعمل على تنفيذه‪ .‬وكما‬
‫هو واضح‪،‬فإن تنفيذ مثل هذا األمر اجلسام كان يتطلب مواقع للنسخ تتسم‬
‫باالحرتافية ‪،‬ناهيك عن املواد الالزمة لكتابة نسخ باهظة من الكتابات املقدسة‬
‫املسيحية‪ .‬حنن اآلن يف عصر آخر قبل هذا بقرن فقط أو قرنني عندما سيكون‬
‫على الكنائس احمللية أن تطالب ببساطة بأن يقوم واحدًا من أعضائها جبمع‬
‫وقت فراغ كاف لكتابة نسخة من نص‪ .‬بدءًا من القرن الرابع أصبحت نسخًا‬
‫من الكتاب املقدس تكتب عن طريق احملرتفني؛هذا حدَّ بشكل كبري من عدد‬
‫األخطاء اليت تسللت إىل النص‪ .‬يف النهاية‪،‬بعد أن مرَّت ليس فقط عشرات‬
‫السنني بل قرون‪ ،‬أصبح نسخ املخطوطات اليونانية يقع على عاتق الرهبان‬
‫‪131‬‬
‫اللذين يعملون يف األديرة‪،‬اللذين قضوا أيامهم يف نسخ النصوص املقدسة‬
‫بعناية وبضمري حيّ‪ .‬استمر هذا األمر منذ مطلع العصور الوسطى وعربها‬
‫‪،‬وصوال إىل عصر اخرتاع الطباعة باحلروف املتحركة يف القرن اخلامس‬
‫عشر‪.‬احلجم األكرب من املخطوطات اليونانية املتوفرة يف أيدينا كتبت بأقالم‬
‫هؤالء النساخ املسيحيني املنتمني إىل القرون الوسطى اللذين عاشوا وعملوا يف‬
‫الشرق (يف املناطق الواقعة اآلن يف تركيا واليونان على سبيل املثال)‪،‬املعروف‬
‫باسم االمرباطورية البيزنطية‪ .‬وهلذا السبب‪ ،‬تسمى املخطوطات اليونانية اليت‬
‫يعود تارخيها إىل القرن السابع فما فوق أحيانًا املخطوطات "البيزنطية"‪ .‬و كما‬
‫أوضحت سابقًا‪،‬أي شخص له معرفة مبنهج خمطوطات العهد اجلديد يعلم أن‬
‫هذه النسخ البيزنطية متيل إىل أن تكون شديدة التشابه من واحدة ألخرى‪ ،‬يف‬
‫حني ختتلف النسخ األقدم بشكل كبري سواء فيما بينها أو مع شكل النص‬
‫املوجود يف هذه النسخ األحدث(أي البيزنطية)‪ .‬السبب وراء ذلك البد وأنه‬
‫واضح اآلن‪ :‬هذا األمر كان له عالقة بشخصية ناسخ النصوص (النساخ‬
‫احملرتفني) ومكان قيامهم بعملية النسخ(يف نطاق حمدودة نسبيًا)‪ .‬على الرغم من‬
‫ذلك ‪،‬من اخلطأ الفادح االعتقاد بأن كون املخطوطات األحدث متوافقة بشكل‬
‫كبري بعضها مع بعض ‪،‬فإنها تكون هلذا السبب شاهدنا الرئيسي على النص‬
‫"األصلي" للعهد اجلديد‪.‬وذلك ألن اإلنسان ينبغي أن يتسائل دائمًا‪:‬أين حصل‬
‫هؤالء النسَّاخ املنتمني إىل القرون الوسطى على هذه النصوص اليت نسخوها‬
‫‪132‬‬
‫بهذه الطريقة االحرتافية؟ لقد حصلوا عليها من نصوص أقدم ‪،‬اليت هي مع‬
‫ذلك نسخ من نصوص أقدم‪،‬اليت هي بدورها نسخٌ من نصوص أخرى أقدم‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬النسخ األقرب من ناحية الشكل إىل األصول هي ‪،‬رمبا وبشكل غري‬
‫متوقع‪،‬نسخ العصور األقدم األكثر اختالفا و األقل اتقانًا‪،‬وليس النسخ‬
‫األحدث اليت تتميز بأنها أكثر احرتافية وتوافقًا ‪.‬‬

‫ممارسات النساخ اليت قمت بتلخيصها تتعلق بشكل أساسي باجلزء الشرقي من‬
‫اإلمرباطورية الرومانية ‪،‬حيث كانت اللغة اليونانية‪،‬ومازالت‪،‬هي اللغة‬
‫الرئيسية‪.‬مل يكن على املسيحيني يف املناطق اليت ال تتحدث باليونانية من اللذين‬
‫كانوا يريدون النصوص املسيحية املقدسة بلغتهم احمللية اخلاصة ‪،‬على الرغم‬
‫من ذلك‪،‬االنتظار طويال ‪ .‬كانت الالتينية‪،‬بالطبع‪،‬لغة الشطر األكرب من اجلزء‬
‫الغربي من اإلمرباطورية؛ أما السوريانية فقد كانت اللغة الرمسية يف‬
‫سوريا؛بينما القبطية هي السائدة يف مصر ‪ .‬يف كل منطقة من هذه املناطق ‪،‬‬
‫أصبحت كتب العهد اجلديد ترتجم إىل هذه اللغات الوطنية‪،‬رمبا يف وقت ما يف‬
‫النصف الثاني من القرن الثاني ‪ .‬ثم بعد ذلك نسخت هذه النصوص ذاتها عرب‬

‫‪133‬‬
‫النسَّاخ يف مناطقهم احمللية (‪ .)4‬محلت الرتمجات الالتينية أهمية خاصة لتاريخ‬
‫النص‪،‬ألن عددًا كبريًا جدًا من املسيحيني الغربيني نظروا إىل هذه اللغة كلغتهم‬
‫الرئيسية‪ .‬إال أنه سرعان ما ظهرت إشكاليات خبصوص الرتمجات الالتينية‬
‫للكتاب املقدس‪،‬حيث كان مثَّة عدد كبري جدًا منها وقد كانت هذه الرتمجات‬
‫شديدة االختالف بشكل كبري فيما بينها ‪ .‬حتولت املشكلة إىل أزمة قريبًا من‬
‫نهاية القرن الرابع املسيحي عندما منح البابا (داماسوس) (جريوم)‪ ،‬العامل‬
‫األبرز بني علماء عصره‪ ،‬تفويضًا لوضع ترمجة التينية "رمسية" ميكنها أن‬
‫تلقى قبول املسيحيني املتحدثني باللسان الالتيين يف روما وأي مكان آخر كنص‬
‫معتمد ‪(an authoritative text).‬يتحدث جريوم نفسه عن كثرة‬
‫الرتمجات املتوفرة ‪،‬وأخذ على نفسه عهدًا حبل هذه املشكلة‪ .‬وعرب اختياره‬
‫لواحدة من أفضل الرتمجات الالتينية املتوفرة آنذاك‪،‬ومبقارنة نص هذه‬
‫الرتمجة باملخطوطات اليونانية األرفع مقامًا املتوفرة حتت يده‪ ،‬قام جريوم‬
‫بإنتاج طبعة جديدة من األناجيل باللغة الالتينية‪ .‬ومن احملتمل أنه ‪،‬أو واحد من‬
‫أتباعه‪ ،‬كان مسئوال عن الطبعة اجلديدة من كتب العهد اجلديد الالتينية‬
‫األخرى(‪ .)5‬هذا الشكل من الكتاب املقدس باللغة الالتينية‪ -‬ترمجة‬
‫جريوم‪ -‬أصبح يعرف بالكتاب املقدس "الفوجلاتا" (= الشعبية) اخلاصة‬
‫بالعامل املسيحي املتحدث بالالتينية‪ .‬وقد كانت "الفوجلاتا" هي الكتاب املقدس‬
‫بالنسبة للكنيسة الغربية‪،‬وهي ذاتها نسخت وأعيد نسخها مرارًا وتكرارًا‪ .‬لقد‬
‫‪134‬‬
‫كانت الفوجلاتا هي الكتاب الذي كان املسيحيون يقرأونه‪،‬والعلماء‬
‫يدرسونه‪،‬والالهوتيون يستخدمونه طوال قرون حتى الزمن احلاضر‪.‬اليوم يبلغ‬
‫عدد نسخ "الفوجلاتا" الالتينية ضعف ما هو موجود من خمطوطات العهد اجلديد‬
‫اليونانية‪.‬‬

‫كما أشرت‪ ،‬نص العهد اجلديد ُنسِخ يف شكل معياري بكل ما يف الكلمة من‬
‫معنى عرب قرون العصور الوسطى‪،‬سواء يف الشرق(النص البيزنطي) أو يف‬
‫الغرب (الفوجلاتا الالتينية)‪ .‬لقد كان اخرتاع ماكينة الطباعة يف القرن اخلامس‬
‫عشر امليالدي على يد جوهانس جوتنربج(‪ )1468 – 1411‬هو الذي غيَّر‬
‫كل شئ يتعلق بإعادة إنتاج الكتب بشكل عام وأسفار الكتاب املقدس على‬
‫وجه اخلصوص‪ .‬فعرب طباعة الكتب باحلروف املتحركة ‪،‬أصبح اإلنسان‬
‫باستطاعته أن يضمن خروج كل صفحة يف صورة مماثلة متامًا لكل صفحة‬
‫أخرى‪ ،‬من غري وجود اختالف يف صياغة النص من أي نوع كان‪ .‬لقد ذهبت‬
‫بال رجعة تلك األيام اليت كان النسّاخ ينتجون فيها كلٌّ على حدى نسخًا‬
‫خمتلفة من النص ذاته عرب التغيريات غري املقصودة أو تلك املتعمدة‪ .‬ما أصبح‬

‫‪135‬‬
‫يكتب باستخدام آلة الطباعة مياثل النقش على احلجر ‪.‬فوق ذلك ‪،‬أصبحت‬
‫الكتب يتم إنتاجها بسرعة أكرب‪ :‬فلم تعد هذه الكتب يف حاجة ألن يتم نسخها‬
‫على حرف واحد بشكل منفصل‪.‬وصارت ‪،‬نتيجة لذلك‪ ،‬تنتج بتكلفة أقل‪.‬‬
‫رمبا ليس هناك أي شئ أحدث تأثريًا جذريًا على العامل املعاصر مقارنة مباكينة‬
‫الطباعة؛ الشئ األقرب يف تأثريه بعد الطباعة (والذي رمبا‪،‬كمحصلة‬
‫نهائية‪،‬ميتاز عنها بشكل كبري) هو ظهور الكمبيوتر الشخصي‪ .‬العمل الرئيسي‬
‫األول اليت كان له أن يطبع من خالل ماكينة طباعة جوتنربج كان نسخة رائعة‬
‫من الكتاب املقدس الالتيين (الفوجلاتا)‪ ،‬الذي استغرقت طباعته الفرتة بني‬
‫العامني ‪ 1451‬و ‪ .)6( 1456‬يف خالل نصف القرن الذي تلى ذلك‪،‬حوالي‬
‫مخسني نسخة من "الفوجلاتا" متت طباعتها يف العديد من بيوت الطباعة يف‬
‫أوروبا‪ .‬ورمبا يبدو غريبًا أنه مل يكن هناك حافزٌ لطباعة نسخة من العهد اجلديد‬
‫باليونانية خالل هذه السنوات املبكرة من عمر الطباعة‪ .‬لكن السبب يسهل‬
‫اكتشافه‪:‬إنه السبب الذي أشرنا إليه من قبل بالفعل‪ .‬لقد كان العلماء يف أحناء‬
‫أوروبا‪ -‬مبا فيهم علماء الكتاب املقدس‪ -‬معتادين خالل ألف عام تقريبًا‬
‫على االعتقاد بأن ترمجة جريوم الشعبية (الفوجلاتا)هي كتاب الكنيسة‬
‫املقدس(شئ ما يشبه ما تفرتضه بعض الكنائس املعاصرة من أن نسخة امللك‬
‫جيمس هي الكتاب املقدس "الصحيح")‪ .‬كان االعتقاد هو أن الكتاب املقدس‬
‫اليوناني كتاب غريب عن الالهوت و العلم؛ ففي الغرب الالتيين كان ينظر‬
‫‪136‬‬
‫إليه كشئ ينتمي إىل املسيحيني اليونان األرثوذكس‪،‬اللذين ينظر إليهم‬
‫كمنشقني متردوا على الكنيسة الصحيحة‪ .‬عددٌ قليل من العلماء يف غرب أوروبا‬
‫كانوا بالكاد يعرفون القراءة باليونانية‪ .‬وهكذا‪ ،‬من البداية‪ ،‬مل جيد أحدٌ شعورًا‬
‫باحلاجة إىل طباعة كتاب مقدس باليونانية‪ .‬أول عامل غربي واتته فكرة إنتاج‬
‫نسخة من العهد اجلديد باليونانية كان الكاردينال اإلسباني املسمى خيمينس دو‬
‫سيزنريوس(‪ .)1517 – 1437‬حتت قيادته‪،‬جمموعة من العلماء‪،‬بينهم واحدٌ‬
‫يسمى دييجو لوبيز دي ستونيكا‪،‬أخذوا على عاتقهم طباعة نسخة متعددة‬
‫اجمللدات من الكتاب املقدس‪ .‬وكانت هذه النسخة متعددة اللغات؛أي أنها‬
‫أعادت إنتاج الكتاب املقدس بلغات متعددة‪.‬وهكذا‪،‬طرحوا العهد القديم‬
‫باللغة العربية األصلية‪" ،‬الفوجلاتا" الالتينية‪،‬والسبعينية اليونانية‪،‬جنبًا إىل جنب‬
‫يف أعمدة ‪(.‬ما كان هؤالء احملررون يعتقدونه خبصوص أفضلية "الفوجلاتا" ميكن‬
‫أن نراه يف تعليقاتهم خبصوص هذا الرتتيب يف مقدمتهم ‪ :‬فقد شبهوه باملسيح‬
‫ــــ متمثال يف "الفوجلاتا" ـــ الذي كان مصلوبًا بني جمرمني‪ ،‬اليهود األشرار ممثلني‬
‫يف النص العربي واليونانيني املنشقني ممثلني يف السبعينية )‪.‬‬

‫طُبِعَ هذا العمل يف بلدة تدعى "ألكاال" اليت تسمى بالالتينية "كومبلومت "‬
‫‪(Complutum) .‬هلذا السبب ‪ ،‬عرفت نسخة خيمنس باسم الكتاب‬
‫املقدس الكومبلوتي متعدد اللغات‪ .‬اجمللد اخلاص بالعهد اجلديد كان أول ما مت‬

‫‪137‬‬
‫طبعه(اجمللد رقم ‪، 5‬ومت االنتهاء منه يف ‪)1514‬؛ كان يضم بني دفتيه النص‬
‫اليوناني ومعجمًا يونانيًا مصحوبًا باملقابل الالتيين‪ .‬إال أنه مل يكن هناك نية‬
‫لنشر هذا اجمللد يف شكل منفصل ـ فقد نشرت اجمللدات الست مجيعها‬
‫معًا(كانت الست جملدات تضم قاموس وكتاب حنو عربي لتساعد على قراءة‬
‫اجمللدات ‪،)4 -1‬واستغرق هذا وقتًا كبريًا‪ .‬العمل بالكامل مت االنتهاء منه‬
‫حبلول ‪1517‬؛ لكن وحيث إنه كان منتجًا كاثوليكيًا‪ ،‬كان يلزمهم تصديق‬
‫البابا ليو العاشر‪،‬قبل أن خيرج إىل الوجود‪ .‬وقد حصلوا عليه أخريًا يف‬
‫‪ ،1521‬ولكن بسبب تعقيدات أخرى ‪،‬مل يتم توزيعه قبل ‪ ،1522‬بعد‬
‫وفاة خيمنس نفسه خبمس سنوات تقريبًا‪ .‬كما رأينا ‪،‬قريبًا من هذه الفرتة كان‬
‫هناك املئات من املخطوطات اليونانية (أي نسخ مكتوبة خبط اليد)حتت يد‬
‫الكنائس املسيحية والعلماء يف الشرق‪ .‬كيف تسنى لـ"ستونيكا" ومن حتت قيادته‬
‫من احملررين أن حيددوا أي هذه املخطوطات يصلح لالستخدام‪،‬وأي هذه‬
‫املخطوطات كان متوفرًا بالفعل بني أيديهم؟‬

‫لألسف ‪،‬هذه األسئلة مل يكن باستطاعة العلماء مطلقًا اإلجابة عليها بشكل‬
‫مؤكد‪ .‬يف إهدائه للعمل ‪،‬عرب خيمنس عن امتنانه للبابا ليو العاشر من أجل‬
‫النسخ اليونانية اليت استعارها من "املكتبة الباباوية‪ ".‬وهكذا فرمبا أتت‬
‫خمطوطات هذه الطبعة من ممتلكات الفاتيكان‪ .‬بعض العلماء بالرغم من ذلك‬

‫‪138‬‬
‫يساورهم الشك يف أن املخطوطات اليت كانت متوفرة حمليًا رمبا تكون قد‬
‫استخدمت ‪ .‬بعد حوالي ‪ 251‬عامًا من إصدار الكتاب املقدس الكومبلوتي‪،‬‬
‫زار عامل دامناركي يدعى مولدنهوفر "ألكاال" ملعاينة مصادرها املتوفرة يف‬
‫املكتبات حتى جييب على هذا السؤال‪،‬لكنه مل يستطع أن جيد خمطوطات للعهد‬
‫اجلديد اليوناني على اإلطالق‪ .‬وقد قام ‪،‬الرتيابه يف أن املكتبة البد وأنها كانت‬
‫حتوي يف وقت ما بعضًا من هذه املخطوطات‪،‬بإجراء أحباثا دؤوبة حتى أُخبِر‬
‫أخريًا من خالل أمني املكتبة بأن املكتبة كانت حتوى بالفعل خمطوطات يونانية‬
‫قدمية للعهد اجلديد‪،‬لكنها بيعت مجيعا يف عام ‪ 1749‬لصانع صواريخ يدعى‬
‫"توريو" "كرقوق عدمية الفائدة "(لكن صاحلة لصناعة الصواريخ النارية)‪.‬‬
‫مؤخرًا حاول العلماء تكذيب هذه احلكاية (‪ .)7‬إال أنها على األقل تظهر أن‬
‫دراسة خمطوطات العهد اجلديد اليونانية ليست علم لصناعة الصواريخ ‪.‬‬

‫أول طبعات العهد اجلديد اليوناني نشرًا‬

‫على الرغم من أن الكتاب املقدس الكومبلوتي متعدد اللغات كان أول نسخة‬
‫مطبوعة من العهد اجلديد اليوناني ‪،‬إال أنه مل يكن أول الطبعات نشرًا‪ .‬فقد‬
‫طبعت النسخة الكومبلوتية ‪،‬كما رأينا ‪ ،‬حوالي ‪ . 1514‬لكنها مل ترَ النور‬
‫كنسخة منشورة قبل ‪ .1522‬بني ذينك التارخيني قام العامل املقدام واملفكر‬

‫‪139‬‬
‫اإلنساني اهلولندي "ديسيديريوس إيرازاموس" بطبع ونشر نسخة من العهد‬
‫اجلديد اليوناني ‪،‬ليحصل بذلك على شرف حترير ما يعرف بالـ ‪(editio‬‬
‫)‪ ،princeps‬أي أوىل النسخ نشرًا‪ .‬كان "إيرازاموس" قد قام بدراسة العهد‬
‫اجلديد‪،‬جنبًا إىل جنب مع الكتابات األخرى العظيمة اليت أبدعها‬
‫القدماء‪،‬على فرتات متقطعة خالل سنوات عديدة‪،‬ورأى يف حلظةٍ ما مدى‬
‫أهمية إصدار نسخة للطباعة ‪.‬‬

‫غري أن ناشرًا يدعى "جوهان فروبن"سرعان ما اقنعه‪ ،‬عند زيارته مدينة "بازل"‬
‫يف أغسطس ‪ ، 1514‬بأن يتقدم خطوة إىل األمام‪ .‬كان كال من إيرازاموس‬
‫وفروبن يعلمان أن الكتاب املقدس الكومبلوتي متعدد اللغات يف حيز اإلعداد‬
‫للنشر‪ ،‬ولذلك قررا نشر نص يوناني بأسرع ما ميكن ‪،‬إال أن التزامات أخرى‬
‫ٍّ حتى يوليو من العام‬
‫منعت "إيرازاموس" من مواصلة مهمته بشكل جاد‬
‫‪ .1515‬يف هذا الوقت ذهب إىل "بازل" حبثًا عن املخطوطات املالئمة اليت‬
‫ميكنه استخدامها كأساسٍ لنصه‪ .‬مل يكتشف ثروة عظيمة من املخطوطات‬
‫‪،‬لكنَّ ما وجده كان كافيًا لتنفيذ مهمته‪ .‬يف األغلب ‪ ،‬اعتمد على حفنة قليلة‬
‫من خمطوطات القرون الوسطى املتأخرة ‪،‬اليت قام بوضع عالمات عليها كما لو‬
‫كان يقوم بتحرير نسخة مكتوبة يدويًا استعدادا للطباعة؛ عامل املطبعة أخذ‬
‫املخطوطات بتلك العالمات عليها و رتب حروفه مباشرة من خالهلم‪ .‬يبدو أن‬

‫‪140‬‬
‫"إيرازموس" اعتمد بشدة على خمطوطة واحدة فقط من القرن الثاني عشر‬
‫لكتابة األناجيل وغريها‪،‬وأيضًا خمطوطات من القرن الثاني عشر لكتابة سفر‬
‫أعمال الرسل و الرسائل – على الرغم من أنه كان قادرًا على الرجوع إىل‬
‫خمطوطات أخرى عديدة و إدخال تصحيحات اعتمادًا على قراءاتها‪ .‬من أجل‬
‫سفر الرؤية كان مضطرًا الستعارة خمطوطة من صديقه األديب األملاني‬
‫"جوهانس رويشلني" ؛ هذه املخطوطة‪ ،‬لألسف‪ ،‬كانت قراءة بعض املواضع‬
‫فيها مستحيال تقريبًا‪ ،‬وكانت صفحتها األخرية ‪،‬اليت حوت األعداد الستة‬
‫األخرية من السفر‪ ،‬مفقودة‪ .‬ويف أثناء عجلته إلنهاء عمله‪ ،‬استخدم إيرازموس‬
‫يف هذه املواضع "الفوجلاتا" الالتينية حيث قام برتمجة نصها مرة أخرى إىل‬
‫اليونانية ‪ ،‬ونتيجة لذلك إختلق بعض القراءات النصية اليت ليس هلا وجود يف‬
‫أي خمطوطة يونانية باقية حتى اليوم‪ .‬وهذه ‪،‬كما سنرى‪،‬هي نسخة العهد‬
‫اجلديد اليت كان مرتمجوا نسخة "امللك جيمس" يستخدمونها ملدة قرن تقريبًا‬
‫بعد ذلك‪ .‬بدأت عملية طباعة نسخة إرازاموس يف أكتوبر ‪ 1515‬ومت االنتهاء‬
‫منها خالل مخسة أشهر فحسب‪.‬تضمنت النسخة النص اليوناني اجملمَّع على‬
‫عجل والنسخة املنقحة من "الفوجلاتا" الالتينية‪ ،‬جنبًا إىل جنب (يف النسخ‬
‫الثانية و ما تالها‪،‬ضم إرازموس ترمجته الالتينية اخلاصة لنص الكتاب املقدس‬
‫بدلًا من "الفوجلاتا" األمر الذي أحدث ما هو أكثر من الصدمة لكثريٍ من علماء‬
‫الالهوت يف هذا العصر اللذين ال يزالون يعتربون أن "الفوجلاتا" هي كتاب‬
‫‪141‬‬
‫الكنيسة املقدس "احلقيقي")‪ .‬لقد كان كتابًا كبريًا بلغت صفحاته األلف تقريبًا‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬كما قال "إرازموس" نفسه فيما بعد‪،‬لقد كانت "درجة العجلة يف‬
‫نشرها أكرب من درجة تنقيحها" (أو كما قال حرفيًا باللغة الالتينية ‪:‬‬
‫‪praecipitatum verius quam editum).‬‬
‫من املهم االعرتاف بأن نسخة إرازموس(أصدر مخس نسخ ‪،‬كلها تعتمد‬
‫بشكل أساسي على هذه النسخة األوىل اجملمعة بشكل متسرع ) هي النسخة‬
‫املنشورة األوىل)‪ (editio princeps‬من العهد اجلديد اليوناني ليس ألنها‬
‫متثل حكاية تارخيية ممتعة‪ ،‬لكن أكثر من ذلك ألنها أصبحت ‪،‬باعتبارها تاريخ‬
‫للنص املتطور‪ ،‬الشكل املعياري للنص اليوناني الذي قامت بنشره دور الطباعة‬
‫يف غرب أوروبا ملا يزيد عن ثالثة قرون ‪.‬‬

‫تتابعت العديد من النسخ اليونانية اليت أصدرها ناشرون من ذوي األمساء‬


‫املعروفة جيدًا لدى العلماء يف هذا اجملال مثل‪" :‬استيفانوس" ‪،‬أو(روبرت‬
‫إشتني)‪"،‬ثيودور بيزا"‪،‬و"بونافينتشر" و"أبراهام إلتسفري"‪ .‬كل هذه‬
‫النصوص‪،‬بالرغم من ذلك‪ ،‬اعتمدت ‪،‬إن بشكل أكرب أو أقل‪ ،‬على نسخ من‬
‫سبقهم‪ ،‬واليت تعود مجيعها إىل نسخة إرازموس بكل أخطائها واليت اعتمدت‬
‫على حفنة قليلة من املخطوطات(أحيانًا خمطوطتني فقط أو حتى واحدة ـــ بل‬
‫بال أي خمطوطة أحيانًا وذلك يف أجزاء من سفر الرؤية!)اليت كانت قد كتبت يف‬

‫‪142‬‬
‫وقت متأخر نسبيًّا من القرون الوسطى‪ .‬دور الطباعة يف الغالب مل تبحث عن‬
‫املخطوطات اليت رمبا تكون أقدم وأفضل ليعتمدوا عليها يف إخراج نصوصهم‪.‬‬
‫بل قاموا ‪،‬بدالً من ذلك ‪ ،‬بطبع وإعادة طبع النص ذاته‪،‬مدخلني فقط تغيريات‬
‫حمدودة للغاية‪ .‬البعض من هذه النسخ رائع بالتأكيد‪ .‬فالطبعة الثالثة من نسخة‬
‫ستيفانوس املنشورة يف ‪، 1551‬على سبيل املثال‪ ،‬جديرة بالذكر باعتبارها‬
‫أوىل النسخ على اإلطالق احتوءا على مالحظات توثق االختالفات بني بعض‬
‫املخطوطات حمل البحث؛ كما إن طبعته الرابعة(‪ )1551‬هي ‪،‬على أية حال‪،‬‬
‫األبرز بني طبعاته‪ ،‬حيث إنها النسخة اليونانية األوىل من العهد اجلديد اليت‬
‫قسمت النص إىل أعداد‪ .‬قبل ذلك‪،‬كان النص يطبع بأمجعه بدون أي إشارة‬
‫إىل التقسيم إىل أعداد‪ .‬هناك حكاية طريفة تتعلق بالكيفية اليت قام بها‬
‫ستيفانوس بعمل هذه النسخة‪ .‬ذكر ابنه فيما بعد أن استيفانوس كان قد اختذ‬
‫قراره خبصوص التقسيم باألعداد(معظمها مازال باقيًا عندنا يف الرتمجات‬
‫اإلجنليزية) بينما كان يقوم برحلة على ظهر حصان‪ .‬بال شك كان يعين أن‬
‫والده كان"يعمل على الطريق"ـــــ ما يعين أنه أدخل أرقام األعداد أثناء الليالي‬
‫اليت كان يقضيها يف الفنادق حيث كان يقيم‪ .‬لكن بعد أن قال ابنه بشكل حريف‬
‫إن ستيفانوس أدخل هذه التغيريات "وهو على ظهر حصانه" اقرتح بعض‬
‫املعنيني‪ ،‬تهكمًا‪ ،‬أن يكون بالفعل قد قام بعمله أثناء ترحاله‪ .‬ولذلك عندما‬
‫كان حصانه يرتطم بأي مطب بشكل مفاجئ ‪،‬كان قلم ستيفانوس يقفز‪،‬ما‬
‫‪143‬‬
‫يفسر بعض املواضع الشاذة إىل حدٍ ما اليت مازلنا جندها يف ترمجاتنا اإلجنليزية‬
‫للعهد اجلديد‪ .‬ما أحاول أن أثبته ‪،‬على الرغم من ذلك‪ ،‬هو أن كل النسخ‬
‫الالحقة‪،‬مبا فيها نسخ ستيفانوس‪،‬تعود يف النهاية إىل النسخة ال ‪" editio‬‬
‫" ‪princeps‬اخلاصة بإرازموس اليت كانت تعتمد على بعض املخطوطات‬
‫اليونانية األحدث‪،‬وليست بالضرورة موثوق بها‪،‬ــــ وهي تلك اليت وجدها يف‬
‫"بازل" إىل جانب املخطوطة اليت استعارها من صديقه رويتشلني‪ .‬ليس هناك‬
‫سبب جيعلنا نعتقد أن هذه املخطوطات كانت عالية اجلودة على حنوٍ خاص‪ .‬بل‬
‫ببساطة كانت تلك املخطوطات هي اليت كان مبقدوره احلصول عليها‪ .‬بالفعل‬
‫‪،‬كما يبدو ‪،‬هذه املخطوطات مل تكن األفضل من ناحية اجلودة‪:‬فلقد‬
‫كتبت‪،‬يف النهاية‪ ،‬بعد املخطوطات األصلية حبوالي أحد عشر قرنًا!‬

‫كمثال‪،‬املخطوطة الرئيسية اليت استخدمها "إرازموس" إلخراج األناجيل كانت‬


‫حتتوي على قصة املرأة الزانية املوجودة يف إجنيل يوحنا و أيضًا االثنى عشر‬
‫عددًا األخرية من إجنيل مرقس ‪،‬وهي الفقرات اليت مل تكن يف األصل جزءًا‬
‫من األناجيل‪،‬كما علمنا يف الفصل السابق‪ .‬لقد كان هناك على الرغم من ذلك‬
‫فقرة أساسية من الكتاب املقدس مل تكن موجودة ضمن املخطوطات املصدر‬
‫اليت كانت لدى "إرازموس"‪ .‬وهي تسجيل األعداد من رسالة يوحنا األوىل‬
‫إصحاح ‪ 5‬واألعداد ‪ 8 -7‬واليت يطلق عليها العلماء مسمى الـ فاصلة‬

‫‪144‬‬
‫اليوحنّاويّة ‪ " Johannine Comma" .‬هذه األعداد موجودة يف‬
‫خمطوطات الفوجلاتا الالتينية ولكنها مفقودة يف الغالبية الساحقة من‬
‫املخطوطات اليونانية ‪ .‬هذه الفقرة كانت هي املفضلة لدى الالهوتيني املسيحيني‬
‫لفرتة طويلة‪،‬حيث إنها الفقرة الوحيدة يف الكتاب املقدس بأكمله اليت تشري‬
‫بوضوح إىل عقيدة الثالوث ‪،‬أي وجود ثالثة أقانيم بطبيعة إهلية‪ ،‬إال أن الثالثة‬
‫مجيعًا يشكلون إهلًا واحدًا فحسب ‪ .‬هذه الفقرة تقرأ يف الفوجلاتا كالتالي‪:‬‬

‫"ألن اللذين يشهدون يف السماء هم ثالثة‪:‬اآلب‪ ،‬الكلمة‪ ،‬والروح‪،‬وهذه‬


‫ثالثة‬ ‫األرض‬ ‫يف‬ ‫يشهدون‬ ‫واللذين‬ ‫واحد؛‬ ‫هي‬ ‫الثالثة‬
‫‪،‬الروح‪،‬املاء‪،‬والدم‪،‬وهؤالء الثالثة يف الواحد"‪.‬‬

‫وهي فقرة غامضة ‪،‬لكنها تدعم التعاليم التقليدية اخلاصة بالكنيسة واملتعلقة‬
‫بـ"اإلله املثلث األقانيم الذي هو واحد " على حنوٍ ال لبس فيه‪.‬‬

‫يف غياب هذه الفقرة‪ ،‬البد أن نستنبط عقيدة الثالوث من عدد من الفقرات‬
‫اجملمَّعَة للداللة على أن املسيح هو اهلل‪،‬كما هو احلال بالنسبة للروح ولآلب و‬
‫على أن هناك ‪،‬على الرغم من ذلك ‪ ،‬إهلًا واحدًا فحسب‪ .‬هذه الفقرة ‪،‬على‬
‫النقيض من الفقرات األخرى‪ ،‬تصرح بهذه العقيدة بشكل مباشر وموجز‪ .‬لكنَّ‬
‫"إرازموس" مل جيدها يف خمطوطاته اليونانية واليت ببساطة تُقرأ بدال من ذلك‬
‫كالتالي‪:‬‬
‫‪145‬‬
‫"هناك ثالثة يشهدون‪:‬الروح‪،‬املاء‪،‬والدم‪،‬وهذه الثالثة هم واحد"‪.‬‬

‫أين ذهب "اآلب‪ ،‬واالبن‪،‬والروح القدس"؟ مل يرد أيّ ذكرٍ هلم يف خمطوطة‬
‫ٍّ من املخطوطات األخرى اليت رجع‬
‫"إرازموس" الرئيسية‪،‬أو يف أي‬
‫إليها‪،‬وهكذا‪ ،‬بطبيعة احلال‪ ،‬مل يذكرهم يف نسخته اليونانية األوىل ‪ .‬وهذا ما‬
‫أثار غضب الالهوتيني يف عصره أكثر من أي شئ آخر ‪.‬فقد اتهموه بالعبث‬
‫بالنص يف حماولة منه للتخلص من عقيدة التثليث واحلط من فاعليتها‪،‬اليت هي‬
‫عقيدة الطبيعة اإلهلية الكاملة للمسيح‪ .‬أحد احملررين الرئيسيني للكتاب املقدس‬
‫الكومبلوتي متعدد اللغات وامسه"ستونيكا" قام بنشر جترحيه يف مسعة‬
‫"إيرازموس" وأصر على أن يعيد العدد يف الطبعات املستقبلية إىل مكانها‬
‫الصحيح ‪.‬‬

‫ومتضي القصة‪،‬ويوافق "إرازموس"ــــ رمبا يف حلظة ضعف ــ على أن يدرج هذا‬


‫العدد يف الطبعة املستقبلية للعهد اجلديد باللغة اليونانية على شرطٍ واحدٍ‪:‬أن‬
‫يقدم خصومه خمطوطة يونانية حيتمل أن يوجد بها هذا العدد(وجودها يف‬
‫خمطوطات التينية ليس كافيًا)‪ .‬وهكذا ظهرت إىل الوجود خمطوطة يونانية! يف‬
‫الواقع ‪ ،‬ظهرت هذه املخطوطة إىل الوجود بهذه املناسبة‪ .‬يبدو أن شخصًا ما‬
‫قام بنسخ نصٍ يونانيٍ حيوي الرسائل وعندما وصل إىل هذه الفقرة موضع‬
‫البحث‪،‬قام برتمجة النص الالتيين إىل اللغة اليونانية ‪،‬لتظهر ال "‬

‫‪146‬‬
‫"‪Johannine Comma‬يف شكلها املألوف‪ ...‬واملفيد الهوتيًا‪ .‬املخطوطة‬
‫اليت قدمت إىل "إرازموس"‪ ،‬بكلمات أخرى ‪،‬يرجع تارخيها إىل القرن‬
‫السادس عشر أي أنها كتبت حسب طلب الزبون‪ .‬وعلى الرغم من‬
‫تشككه‪،‬إال أن "إرازموس" كان عند كلمته وضمَّن الـ ‪" Johannine‬‬
‫"‪Comma‬نصَّ نسختِه وكل طبعاته املتتالية‪ .‬هذه الطبعات‪،‬كما أشرت من‬
‫قبل‪،‬أصبحت األساس بالنسبة لكل النسخ اليت أعيدت طباعتها من العهد‬
‫اجلديد اليوناني مرة بعد أخرى عرب أناس مثل "ستيفانوس" ‪"،‬بيزا"‪،‬و"إلزيفريز"‪.‬‬
‫هذه النسخ قدمت شكال من النص اعتمد عليه يف النهاية مرتمجوا "نسخة‬
‫امللك جيمس" من الكتاب املقدس‪ .‬وكذلك الفقرات املألوفة لدى قراء الكتاب‬
‫املقدس برتمجته اإلجنليزيةـ بدءًا من نسخة امللك جيمس الصادرة ‪1611‬‬
‫فصاعدًا‪،‬حتى النسخ املعاصرة يف القرن العشرين ــــ اليت ضمت الفقرة اخلاصة‬
‫باملرأة الزانية‪،‬واإلثين عشر عددًا األخرية من مرقس‪،‬و الفاصلة‬
‫اليوحناوية) ‪،(Johannine Comma‬على الرغم من أن أيًا من هذه‬
‫الفقرات ليس هلا وجود يف املخطوطات اليونانية األقدم واألعلى شأنًا للعهد‬
‫اجلديد‪ .‬هذه الفقرات دخلت إىل تيار الوعي لدى املتحدثني باإلجنليزية فقط عرب‬
‫مصادفة تارخيية وذلك اعتمادًا على خمطوطات تصادف أن كانت يف متناول يد‬
‫"إرازموس" وأخرى صنعت ملساعدته‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫هذه النسخ اليونانية املتنوعة اليت صدرت يف القرنني السادس عشر والسابع‬
‫عشر كانت شديدة التشابه لكنَّ دور الطباعة متكنت يف النهاية من الزعم أنها‬
‫النص املقبول عامليًا لدى كل العلماء وقراء العهد اجلديد اليوناني ــ وهو ما‬
‫حدث بالفعل‪،‬حينما مل يعد هناك منافسون !‬

‫االدعاء األكثر ورودًا على األلسنة جنده يف نسخة صدرت عام ‪ 1633‬مبعرفة‬
‫"أبراهام" و "بونافنتشر إلزفري" (اللذان هما عمٌّ وابن أخيه)‪ ،‬أخربوا فيه قراءهم‬
‫‪،‬يف كلماتٍ أصبحت منذئذ معروفة لدى العلماء‪":،‬أنتم اآلن متلكون النص‬
‫املقبول لدى اجلميع‪،‬الذي مل نضمنه أي شئ تعرض للتغيري أو التشويه‪)8(".‬‬

‫املعنى الوارد يف هذا السطر‪،‬خاصة هذه الكلمات‪":‬املقبول لدى اجلميع‪ "،‬هو‬


‫ما أمدنا باجلملة الشائعة ("‪ " Textus Receptus‬اليت يتم اختصارها‬
‫بالرمز )‪، T.R‬وهو مصطلح يستخدمه علماء النقد النصي لإلشارة إىل النص‬
‫اليوناني الذي يعتمد ‪،‬ال على أقدم املخطوطات وأفضلها‪،‬وإمنا على شكل من‬
‫النص نشره يف األصل "إرازموس" وسلمه إىل دور الطباعة ملا يزيد عن ثالثة‬
‫قرون حتى بدأ علماء النقد النصي يشددون على أن العهد اجلديد اليوناني‬
‫ينبغي أن ينشأ على أسس علمية تعتمد على أقدم خمطوطاتنا و أفضلها وليس‬
‫ببساطة على نسخ أعيد طبعها وفقًا لرغبات الزبون‪ .‬لقد كان شكال نصيًّا أدنى‬
‫قيمة من النص املستلم "‪ " Textus Receptus‬هو الذي كان أساسًا‬

‫‪148‬‬
‫للرتمجات اإلجنليزية املبكرة ‪،‬مثل إجنيل امللك جيمس ‪،‬والنسخ األخرى حتى‬
‫نهاية القرن التاسع عشر تقريبًا‪.‬‬

‫"‬

‫كان نص العهد اجلديد اليوناني ‪،‬إذن‪،‬يبدو وكأنه يقف على قدم صلبة حسب‬
‫قناعات معظم العلماء اللذين استطاعوا أن يستفيدوا من النسخ املطبوعة خالل‬
‫القرنني السادس عشر و السابع عشر ‪ .‬يف النهاية‪،‬كل النسخ تقريبًا كانت‬
‫متماثلة يف صياغتها‪.‬إال أن العلماء كرَّسوا أنفسهم أحيانًا لكشف واإلشارة إىل‬
‫أنَّ املخطوطات اليونانية ختتلف عن النص والذي طبع بشكل غري رمسي‪ .‬رأينا‬
‫كيف أن "ستيفانوس" ضمَّن نسخته املطبوعة يف ‪ 1551‬هوامشًا حتدد مواضع‬
‫االختالف بني خمطوطات عديدة كان قد اطلع عليها(أربعة عشر خمطوطة‬
‫إمجاال)‪ .‬بعدذلك ‪ ،‬يف القرن السابع عشر‪،‬نُ ِشرَت نسخٌ مبعرفة علماء إجنليز‬
‫مثل "بريان والتون" و "جون ِفلّ" تعاملوا فيها مع االختالفات بني املخطوطات‬
‫احملفوظة (واملتاحة) بشكل أكثر جدية إىل حدٍ ما‪ .‬لكنَّ أحدًا تقريبًا مل يعرتف‬
‫بضخامة مشكلة االختالف النصي حتى العام ‪ 1717‬وهو عام صدور واحدة‬
‫من كالسيكيات ميدان النقد النصي للعهد اجلديد‪،‬وهو الكتاب الذي كان له‬
‫تأثريٌ وخيمٌ على دراسة نقل )‪(transmission‬العهد اجلديد اليوناني ‪،‬فاحتًا‬

‫‪149‬‬
‫كل السدود اليت أجربت العلماء على التعامل مع مشكلة النصية ملخطوطاتنا‬
‫للعهد اجلديد بشكل أكثر جدية (‪ . )9‬إنها نسخة العهد اجلديد اليوناني اليت‬
‫أصدرها "جون ملّ"‪،‬احلاصل على درجة الزمالة من الكلية امللكية ‪،‬جبامعة‬
‫أكسفورد‪ .‬استثمر "ملّ" ثالثني عامًا من العمل الدؤوب يف جتميع املادة العلمية‬
‫الالزمة لنسخته‪ .‬النص الذي قام بطباعته هو ببساطة نسخة "ستيفانوس"‬
‫الصادرة يف عام ‪ 1551‬م ‪ .‬لكنَّ الشئ املُهمّ يف نسخة "ملّ " مل يكن النص‬
‫الذي استخدمه‪ ،‬بل القراءات اليت ختتلف عن نصه هذا اليت ذكرها يف هوامشه‬
‫النقدية‪ .‬كان مبقدور " ِملّ" الوصول إىل حوالي مائة خمطوطة يونانية من‬
‫خمطوطات العهد اجلديد‪ .‬أضف إىل ذلك‪ ،‬أنه قام بفحص كتابات آباء الكنيسة‬
‫األوائل بعناية لريى الكيفية اليت كانوا يستشهدون بها بالنص – حيث افرتض‬
‫أن اإلنسان ميكنه أن يعيد بناء املخطوطات اليت كانت لدى هؤالء اآلباء عن‬
‫طريق فحص اقتباساتهم‪ .‬فوق ذلك‪ ،‬وعلى الرغم من أنه مل يكن يعرف‬
‫الكثري من اللغات القدمية األخرى خبالف الالتينية‪،‬فإنه قد استخدم نسخة‬
‫نشرت قبل ذلك عن طريق "والتون " لريى املواضع اليت ختتلف فيها النسخ‬
‫األقدم املكتوبة بلغات مثل السوريانية والقبطية عن تلك املكتوبة باليونانية‪.‬‬

‫على أساس هذه اجلهود املكثفة اليت استمرت ثالثني عامًا بهدف جتميع‬
‫املخطوطات‪،‬نشر " ِملّ" نصه املصحوب بالشواهد‪،‬اليت أشار فيها إىل مواضع‬

‫‪150‬‬
‫االختالف بني املخطوطات احلية املوجودة يف حوذته‪ .‬نظرًا للصدمة و الفزع‬
‫اللذين شعر بهما كثري من قرائه‪،‬فرزت شواهد " ِملّ" قريبًا من ثالثني ألف‬
‫موضع من االختالفات بني املخطوطات املوجودة‪ .‬ثالثون ألف موضع كانت‬
‫متثل قراءات خمتلفة للفقرات الواردة يف العهد اجلديد احتوتها املخطوطات‬
‫‪،‬والقراءات اآلبائية(نسبة إىل آباء الكنيسة)‪،‬والنسخ‪.‬‬

‫مل يكن " ِملّ" شامال يف تقدميه للبيانات اليت مجعها‪ .‬لقد وجد‪،‬يف الواقع‪،‬أكثر‬
‫بكثري من ثالثني ألف موضع من االختالفات‪ .‬لكنه مل يذكر كل ما اكتشفه‪ .‬فقد‬
‫جتاهل اختالفات مثل تلك اليت تتعلق بتغيري ترتيب الكلمات‪ .‬مع ذلك‪ ،‬كانت‬
‫املواضع اليت ذكرها كافية لدفع مجهور القراء بعيدًا عن القبول بالواقع اعتمادًا‬
‫على كثرة طباعة النص املستلم )‪ (Textus Receptus‬واالفرتاض األبله‬
‫بأنه داخل النص املستلم ميلك املرء العهد اجلديد اليوناني"األصلي"‪ .‬اآلن‬
‫دخلت مكانة النص األصلي يف حيز النزاع من أوسع األبواب‪ .‬لو مل يكن املرء‬
‫يعلم أي الكلمات تنتمي بالفعل للعهد اجلديد اليوناني‪،‬فكيف سيكون مبقدوره‬
‫أن يستخدم هذه الكلمات يف تقرير العقيدة والتعاليم املسيحية الصحيحة؟‬

‫‪151‬‬
‫"‬

‫تأثري كتاب "ملّ" أصبح ملموسًا بشكل سريع‪،‬على الرغم من أنه مل يعش‬
‫ليشهد بنفسه مآل النزاع‪ .‬لقد مات‪ ،‬ضحية لسكتة قلبية‪،‬بعد نشر مؤلفه‬
‫الضخم بأسبوعني فقط‪ .‬موته املفاجئ(قال أحد املراقبون أنه حدث نتيجة‬
‫"تناول كمية كبرية للغاية من القهوة"!) مل مينع خصومه‪،‬على الرغم من ذلك‪،‬‬
‫من مواصلة النزاع‪ .‬اهلجوم األكثر قسوة حدث بعد ذلك بثالث سنوات يف جملد‬
‫علمي كتبه أحد املناظرين البارعني وكان يسمى "دانيال ويتيب"‪،‬الذي نشر يف‬
‫عام ‪ 1711‬جمموعة من املالحظات على تفسري العهد اجلديد ‪،‬أضاف إليها‬
‫ملحقًا من مائة صفحة فحص فيه بشكل أكثر تفصيال االختالفات اليت ذكرها‬
‫" ِملّ" يف ثنايا شواهده‪ .‬كان "ويتيب" عامل الهوت بروتستانيت حمافظ وكانت‬
‫رؤيته األساسية تتلخص يف أنه على الرغم من أن الرب بالتأكيد مل حيُل دون‬
‫تسلل األخطاء إىل النسخ اليت أعدها النسَّاخ من العهد اجلديد‪،‬إال أنه يف‬
‫الوقت ذاته مل يسمح على اإلطالق بفساد النص (أي حتريفه) إىل احلد الذي‬
‫يكفي ملنعه (أي الكتاب املقدس)من إجناز هدفه وغرضه املقدس‪ .‬ولذا جنده‬
‫ينتحب قائال‪"،‬أشعر باحلزن والغيظ من أنين وجدت الكثري يف مقدمة " ِملّ"‬
‫النقدية مما يبدو بوضوح تام أنه يضع أساس اإلميان يف دائرة عدم املوثوقية‪،‬أو‬
‫على أحسن تقدير يعطي اآلخرين احلُجة لالرتياب‪) 11(".‬‬

‫‪152‬‬
‫ويستمر"ويتيب" فيفرتض أن العلماء الرومان الكاثوليك‪ -‬اللذين يطلق عليهم‬
‫لقب"الباباويني"‪ -‬سيشعرون بسعادة بالغة بسبب قدرتهم على إظهار أن‬
‫الكتاب املقدس مل يكن مرجعًا كافيًا لإلميان وذلك اعتمادًا على األسس غري‬
‫املوثوقة للنص اليوناني للعهد اجلديد‪ ،‬األمر الذي يعين أن مرجعية الكنيسة‬
‫بدال من ذلك هي األحق بالتقديم‪ .‬كما جنده يصرح‪":‬جيادل‬
‫"مورينوس"(وهوعامل كاثوليكي)حول فساد النص اليوناني الذي جيعل سلطانه‬
‫موضع شك بسبب اختالف القراءات املوجودة يف العهد اجلديد اليوناني‬
‫اخلاص بـ"ر‪.‬ستيفنس" (=ستيفانوس)؛ فما حجم النصر إذن اللذي سيحققه‬
‫الباباويّون على النص ذاته عندما سيَرَوَْن االختالفات اليت ذكرها " ِملّ" بعد‬
‫عمل مضنٍ استمر ثالثني عامًا واليت تزيد عن املوجود اآلن بأربعة أضعاف؟"‬
‫(‪)11‬‬

‫تابع "ويتيب" دفوعه حول كون نص العهد اجلديد ‪،‬يف الواقع‪،‬هو نص موثوق‬
‫به‪،‬حيث إنَّ االختالفات اليت ذكرها " ِملّ" نادرًا ما تتناول مسألة عقائدية أو‬
‫قضية سلوكية‪ ،‬والغالبية العظمى من اختالفات " ِمٍلّ" ليس هلا أي صلة بقضية‬
‫املوثوقية ‪.‬‬

‫رمبا كان "ويتيب" يقصد أن يبلغ رده تأثريه من دون أن يقرأه أحد يف الواقع؛فهو‬
‫رد يتكون من مائة صفحة منمقة‪،‬كثيفة‪،‬وغري جذابة من الدفوع املتشابهة‪،‬ومن‬

‫‪153‬‬
‫ثمّ فهو حياول أن يبين قضيته ببساطة على ضخامة حجم رده‪ .‬دفاع "ويتيب" رمبا‬
‫كان سينهي اجلدل حول هذه القضية بشكل أفضل لو مل يظهر هؤالء اللذين‬
‫استخدموا املواضع الثالثني ألفًا اليت استخرجها " ِملّ" لكي يصلوا بها إىل‬
‫النهاية اليت كان "ويتيب" خيشاها‪،‬أال وهي اجلدال حول كون نص الكتاب‬
‫املقدس ال ميكن الوثوق به ألن عدم موثوقيته تنبع من ذاته‪ .‬الذين جادلوا حول‬
‫هذه القضية تزعَّمهم "أنتوني كولينز" وهو إجنليزي ديسطيقي ***** وكان‬
‫صديقًا وتابعًا لـ"جون لوك"الذي كتب يف عام ‪ 1713‬كتيبًا عنونه بـ "مقالة‬
‫حول التفكري احلر"‪ .‬هذا الكتيب كان منوذجًا لألفكار الديسطيقية يف بواكري‬
‫القرن الثامن عشر‪ :‬حيث كان يدعوا إىل تقديم املنطق والدليل على‬
‫الوحي(املوجود يف الكتاب املقدس كمثال) واملعجزات املتوهمة‪.‬يف الفصل‬
‫الثاني من الكتاب الذي يتناول "القضايا الدينية" يذكر "كولينز"‪،‬يف وسط‬
‫اآلالف من األمور األخرى‪،‬أن رجال الدين املسيحيني (" ِملّ" كمثال) كانوا وال‬
‫يزالون "ميلكون الدليل ويبذلون اجلهد إلثبات أن نص الكتاب املقدس غري‬
‫موثوق به‪ "،‬مشريًا من ثمّ إىل اختالفات " ِملّ" الثالثني ألفًا‪.‬‬

‫أثار كتيب "كولينز"‪،‬الذي قُرئ على نطاق واسع وكان له تأثريٌ بالغٌ ‪ ،‬عددًا من‬
‫الردود الصارمة‪،‬كثريٌ منها كان يتسم بالغموض ويتطلب جهدًا لفهمه‪،‬وبعضها‬
‫ينم عن مستوى علمي رفيع وينم عن شعور باالستياء ‪ .‬كانت حمصلته األبرز‪،‬‬

‫‪154‬‬
‫رمبا‪ ،‬أنها استقطبت إىل حلبة الصراع واحدًا من ذوي السمعة العاملية الرفيعة‬
‫من العلماء ‪،‬أال وهو "ريتشارد بنتلي"‪ ،‬عميد ترينييت كوليج جبامعة كامربدج ‪.‬‬
‫اكتسب "بنتلي" شهرته من اشتغاله بأعمال املؤلفني الكالسيكيني من أمثال‬
‫هومريوس‪،‬هوراس‪،‬و تريينس‪ .‬يف رده على كل من "ويتيب" و"كولينز"‪،‬الذي‬
‫صدر حتت عنوان ‪" pseudonym Phileleutherus‬‬
‫"‪Lipsiensis‬الذي يعين شئ ما مثل "مُحِبُّ احلرية من "ليبزج" "ــ يف إشارة‬
‫واضحة إىل دعوة "كولينز" إىل "التفكري احلر")‪ ،‬أوضح "بنتلي" أن القراءات‬
‫املختلفة اليت أحصاها " ِملّ" ال ميكن أن جتعل أساس اإلميان الربوتستانيت‬
‫موضع شك ‪،‬حيث إن هذه القراءات كانت موجودة حتى قبل أن يالحظها‬
‫" ِملّ" ‪ .‬فهو مل خيرتعها اخرتاعًا و لكنه فقط لفت األنظار إليها !‬

‫لو كان لنا أن نصدق ليس هذا املؤلف احلكيم (كولينز) فحسب ‪،‬ولكن أيضًا‬
‫أستاذكم احلاصل على درجة الدكتوراه األكثر حكمة (ويتيب)‪ ،‬فإنه (أي‬
‫ِملّ)كان شغله الشاغل طوال كل هذا الوقت أن يثبت أن نص الكتاب املقدس‬
‫مشكوك يف أصالته‪...‬فعالم كل هذا الصريخ والشجب من أستاذكم"‬
‫ويتيب"؟جهود الدكتور ‪،‬كما يقول هو‪ ،‬جتعل كامل نص الكتاب املقدس‬
‫موضع ريبة و يضر بكال من احلركة اإلصالحية ملصلحة "الباباويني"و الدين‬
‫ذاته ملصلحة امللحدين‪ ...‬ال مسح اهلل ! سنظل نظن به كل اخلري‪ .‬بالتأكيد هذه‬

‫‪155‬‬
‫القراءات املتباينة كانت موجودة من قبل يف العديد من النماذج؛ إن الدكتور‬
‫" ِملّ" مل يصنعهم صنعًا ومل يبتكرهم ابتكارا ‪ ،‬ما قام به هو أن أبرزهم فحسب‬
‫أمام أعيننا‪ .‬ولذلك لو كان الدين صحيحًا قبل ذلك ‪ ،‬على الرغم من وجود‬
‫مثل هذه القراءات املتباينة‪ :‬فإنه ما يزال صحيحًا وبالتالي موثوقًا به‪ ،‬على‬
‫الرغم معرفة كل الناس بها (أي بالقراءت املتباينة)‪ .‬بناءا على ذلك ‪ ،‬ليس‬
‫هناك حقيقة أو مسألة معروضة عرضًا غري متحيزٍ ميكن أن تؤثر على اإلطالق‬
‫على دين احلق (‪)12‬‬

‫"بنتلي" ‪ ،‬كونه خبريًا يف التقاليد النصية للكتابات الكالسكية‪ ،‬يواصل لفت‬


‫االنتباه إىل أن اإلنسان ميكنه أن يتوقع العثور على عددٍ وفريٍ من القراءات‬
‫النصية املتباينة كلما اكتشف عددًا كبريًا من املخطوطات‪ .‬فلو كان لعمل من‬
‫األعمال خمطوطة واحدة فحسب ‪ ،‬فحينئذٍ لن جتد قراءات نصية متباينة‪ .‬فإذا‬
‫وجدت خمطوطة أخرى ‪،‬فستختلف عن األوىل يف عددٍ من املواضع ‪ .‬وعلى‬
‫الرغم من ذلك ‪ ،‬فإنَّ هذا ليس باألمر السيء ألن عددًا من هذه القراءات‬
‫املتباينة سيبني أين احتفظت املخطوطة األوىل باخلطأ‪ .‬أضف خمطوطة ثالثة‬
‫وستجد قراءات متباينة إضافية‪،‬بل أيضًا مواضع جديدة ‪،‬يف احملصلة‪،‬قد حُفِظ‬
‫فيها النص األصلي(أي يف املكان الذي تتفق فيه املخطوطتان األوليان يف خطأ‬
‫ما)‪ .‬وهكذا دَوَاليَْك ‪ -‬كلما يتم اكتشاف خمطوطات جديدة ‪ ،‬كلما تتزايد‬

‫‪156‬‬
‫القراءات املتباينة؛ لكنَّ ذلك يرلفقه كذلك املزيد من التشابهات اليت يف مكان‬
‫ما بني هذه القراءات املتعددة ميكن للمرء أن يكتشف النص األصلي‪ .‬لذلك‪،‬‬
‫الثالثني ألف قراءة الكتباينة اليت كشف عنها " ِملّ" ال تطعن يف سالمة العهد‬
‫اجلديد؛ فهذه القراءات تقدم ببساطة البيانات اليت حيتاجها العلماء للعمل على‬
‫إنشاء النص ‪،‬الذي هو النص األكثر موثوقية من أي نص آخر كتب يف العامل‬
‫القديم‪ .‬كما سنرى يف الفصل القادم ‪ ،‬هذا اجلدال الدائر حول كتاب " ِملّ" دفع‬
‫يف النهاية "بنتلي" ليحول قدراته العقلية غري العادية إىل مشكلة تأسيس النص‬
‫األقدم املتوفر من العهد اجلديد‪ .‬قبل االنتقال إىل هذا البحث فرمبا ينبغي علينا‬
‫‪،‬على الرغم من ذلك ‪ ،‬أن نعود خطوة إىل الوراء لكي نتأمل مكاننا اليوم‬
‫باملقارنة مع اكتشاف " ِملّ" الرائع فيما خيص الثالثني ألف قراءة املتباينة املوجودة‬
‫يف التقليد املخطوط للعهد اجلديد‪.‬‬

‫على الرغم من أن "مل" ع ِلمَ بوجود حوالي مائة خمطوطة يونانية وقام بفحصها‬
‫ليكشف االختالفات الثالثني ألفًا اليت أعلن عنها‪ ،‬فإن ما نعرفه اليوم أكثر من‬
‫ذلك ‪،‬بل أكثر من ذلك بكثري‪ .‬ففي آخر إحصاء ‪،‬مت الكشف عن أكثر من‬
‫مخسة آالف وسبعمائة خمطوطة يونانية و فهرستها‪ .‬وهذا ميثل من ناحية العدد‬

‫‪157‬‬
‫سبعة ومخسني ضعفًا مما أتيح لـ"ملّ" االطالع عليه يف عام ‪ . 1717‬هذه‬
‫اخلمسة آالف وسبعمائة تشمل كل شئ بدءًا من أصغر كِسَر من املخطوطات –‬
‫أي يف حجم بطاقة االئتمان – إىل األعمال الرائعة و شديدة الضخامة اليت‬
‫حفظت كاملةً ‪ .‬بعضها يتكون من كتابٍ واحدٍ فقط من العهد اجلديد‬
‫؛والبعض اآلخر يضم بني ثناياه جمموعة صغرية (األناجيل األربعة و رسائل‬
‫بولس كمثال) ؛ والقليل للغاية منها يشمل العهد اجلديد بكامله (‪ . )13‬هناك‬
‫‪،‬أيضًا ‪ ،‬كثري من خمطوطات النسخ ( = ترمجات العهد اجلديد) املبكرة‬
‫املتعددة‪ .‬هذه املخطوطات ميتد تارخيها بني بدايات القرن الثاني ( كسرة صغرية‬
‫تسمى‪، P52‬واليت تضم عددًا من األعداد من يوحنا ‪ )18‬وصوال إىل القرن‬
‫السادس عشر (‪ . )14‬هذه املخطوطات تتفاوت بشكل كبري من ناحية احلجم‬
‫‪:‬فبعضها ميثل نسخًا صغرية يف حجم كف اليد ‪ ،‬مثل النسخة القبطية من إجنيل‬
‫متى ‪،‬اليت تسمى املخطوطة الصعيدية )‪ ،(Scheide Codex‬واليت يبلغ‬
‫حجمها ‪x5 4‬بوصة ؛والبعض اآلخر نسخٌ كبرية للغاية ومثرية لإلعجاب منها‬
‫املخطوطة السينائية سابقة الذكر اليت يبلغ حجمها ‪ x 13.5 15‬بوصة واليت‬
‫أثارت اإلعجاب عند الكشف عنها كاملة ‪ .‬البعض من هذه املخطوطات كان‬
‫من مواد رخيصة ومت نسخه على عجل ؛فبعضها كان قد مت نسخه بالفعل فوق‬
‫صفحات مستعملة (أي أنها وثيقة مت حموها وكتب نص العهد اجلديد على قمة‬
‫الصفحات املمحاة)؛ بينما البعض اآلخر كان نسخًا أنفق عليها بسخاء و غالية‬
‫‪158‬‬
‫الثمن ومنها بعض املخطوطات اليت ُكتِبَت على رق أرجواني اللون حبرب فضيّ‬
‫أو ذهيبّ ‪.‬‬

‫كالعادة ‪ ،‬يتحدث العلماء عن أربعة أنواع من املخطوطات اليونانية (‪) .15‬‬

‫‪ 1-‬األقدم وهي الربديات ‪،‬وهي خمطوطات مكتوبة على مواد مصنوعة من‬
‫قصب الربدي ‪ ،‬وهي خمطوطات قيمة لكنها رخيصة الثمن ومادة كتابة ذات‬
‫فعالية يف العامل القديم ؛ يؤرخ هلا بني القرنني الثاني والسابع ‪.‬‬

‫‪ 2-‬املخطوطات املاجوسكول (= املكتوبة باحلروف الكبرية ) وهي مصنوعة‬


‫من الربمشان (= جلود احليوانات ؛أحيانًا يطلق عليها الرق) ثم أطلق عليها‬
‫احلروف الكبرية ‪ ،‬وهي تشبه إىل حد ما احلروف الكابيتال املعروفة لدينا؛‬
‫وتؤرخ هذه املخطوطات ‪،‬يف أغلب األحيان ‪،‬من القرن الرابع إىل التاسع‪.‬‬

‫‪ 3-‬املخطوطات املينوسكول (= ذات احلروف الصغرية )وهي مصنوعة أيضًا‬


‫من الربمشان لكنها كتبت حبروف صغرية كثريا ما يتم وصلها (من غري أن يغادر‬
‫القلم الصفحة) إىل ما يشبه املقابل اليوناني حلروف الرقعة (اليت تكون احلروف‬
‫فيها متشابكة )؛وهذه يؤرخ هلا بدءًا من القرن التاسع فصاعدًا‬

‫‪ 4-‬الفصول وهي عادة ما تكتب باحلروف الصغرية من ناحية الشكل ‪،‬‬


‫لكنها بدال من أن تضم كتب العهد اجلديد ‪ ،‬تضم يف شكل منتظم ‪" ،‬قراءات "‬

‫‪159‬‬
‫مأخوذة من العهد اجلديد الستخدامها يف الكنيسة كل أسبوع أويف كل عطلة‬
‫(مثل الفصول اليت تستخدم يف الكنائس اليوم ‪).‬‬

‫باإلضافة إىل هذه املخطوطات اليونانية ‪ ،‬نعلم بوجود عشرة آالف خمطوطة‬
‫للفوجلاتا الالتينية ‪،‬ناهيك عن خمطوطات النسخ األخرى ‪ ،‬مثل الرتمجة‬
‫السريانية ‪ ،‬والقبطية ‪ ،‬األرمينية ‪ ،‬واجلورجية القدمية ‪،‬وخمطوطات الكنيسة‬
‫السالفية ‪...‬إىل آخره ( تذكروا أن " ِملّ" كان لديه إمكانية االطالع على القليل‬
‫من النسخ القدمية فحسب ‪ ،‬وهذه كان يعرفها فقط عن طريق ترمجاتها‬
‫الالتينية ‪).‬‬

‫باإلضافة إىل ذلك ‪ ،‬لدينا كتابات آباء الكنيسة مثل "كليمنت السكندري"‪،‬‬
‫"أورجيانوس" و "أثاناسيوس" من بني اآلباء اليونانيني و "ترتليانوس"‪،‬و‬
‫"جريوم" ‪،‬و "أوغسطينوس" من بني اآلباء الالتينيني – كلهم اقتبسوا من‬
‫نصوص العهد اجلديد يف مواضع ‪،‬مما جعل إعادة بناء ما كانت عليه‬
‫خمطوطاتهم (اليت هي مفقودة حاليًا‪،‬يف الغالب) أمرًا ممكنًا ‪.‬‬

‫يف وجود هذه الوفرة من األدلة ‪،‬ماذا ميكننا أن نقول عن العدد اإلمجالي‬
‫للقراءات املتباينة املعروفة يف وقتنا احلاضر ؟‬

‫‪160‬‬
‫خيتلف العلماء بشكل كبري يف أحكامهم – البعض يقول إن هناك ‪211.111‬‬
‫قراءة متباينة مت التعرف عليها ‪،‬البعض اآلخر يقول ‪ ، 311.111‬البعض‬
‫يقول ‪ 411.111‬أو أكثر ! حنن ال نعلم على وجه اليقني عددها ألنه ‪،‬على‬
‫الرغم من التطورات املدهشة اليت حدثت يف جمال تكنولوجيا الكمبيوتر ‪،‬ال‬
‫أحد إىل اآلن قادرٌ على عدّهم مجيعًا ‪ .‬رمبا ‪ ،‬كما أشرت من قبل ‪،‬من‬
‫األفضل ببساطة أن نضع املسألة يف صورة مقارنات‪.‬فلنقل‪ :‬إن عدد القراءات‬
‫املتباينة بني خمطوطاتنا يفوق عدد الكلمات املوجودة يف العهد اجلديد‪.‬‬

‫لو كان لدينا مشكلة يف احلديث حول أعداد التغيريات املوجودة حتى اآلن‬
‫‪،‬فماذا ميكننا أن نقول حول أنواع التغيريات املوجودة يف هذه املخطوطات؟‬
‫يفرق العلماء اليوم بشكل عام بني التغيريات اليت يبدو أنها وقعت بشكل غري‬
‫ترو وطول‬
‫ٍّ‬ ‫املقصود عرب أخطاء النساخ وتلك اليت تقع بشكل متعمد ‪ ،‬أي بعد‬
‫نظر ‪ .‬هذه ليست حتديدات قاطعة وعجلى ‪،‬بطبيعة احلال ‪ ،‬لكنها تبدو حتى‬
‫اآلن سليمة‪ :‬فاإلنسان ميكنه مشاهدة كيف أن ناسخًا من النساخ ميكن أن يغفل‬
‫عن طريق السهو كلمة عند كتابته أحد النصوص (تغيري عرضي) ‪،‬لكن من‬

‫‪161‬‬
‫الصعب مشاهدة كيف أمكن لألعداد اإلثنى عشرة األخرية من إجنيل مرقس أن‬
‫تضاف إىل اإلجنيل خبطأٍ يف الكتابة‪.‬‬

‫وهكذا ‪ ،‬رمبا جيدر بنا أن ننهي هذا الفصل بأمثلة قليلة لكل نوع من هذه‬
‫التغيريات‪ .‬سأبدأها باإلشارة إىل بعض أنواع القراءات املتباينة اليت تقع بشكل‬
‫"عرضيّ‪".‬‬

‫أخطاء األقالم العرضية(‪ )16‬كانت بال شك تزداد تفاقمًا ‪،‬كما رأينا ‪ ،‬بسبب‬
‫حقيقة أن املخطوطات اليونانية كانت مجيعها مكتوبة باخلط املتصل‬
‫‪(scriptuo continua) -‬وبدون عالمات ترقيم ‪،‬غالبًا‪ ،‬وبال حتى‬
‫مسافات فاصلة بني الكلمات‪ .‬هذا يعين أن الكلمات اليت بدت متشابهةً كثريًا‬
‫ما كانت تؤدي إلساءة الفهم بني واحدة وأخرى‪ .‬كمثال ‪ ،‬يف ‪ 1‬كور ‪، 8 :5‬‬
‫خيرب بولس قراءه أنهم ينبغي أن يتناولوا املسيح ‪،‬محل الفصح ‪ ،‬وأن ال يأكلوا‬
‫خمِريَةِ الْخُ َْبثِ وَ الشَّرِّ‪ ".‬الكلمة األخرية ‪،‬الشر‪ ،‬تقابلها‬
‫خلمِ َريةٍ ال َعتِي َقةٍ ‪َ ،‬‬
‫"ا َ‬
‫باليونانية بونرياس ‪، PONERAS‬اليت تشبه كثريًا كلمة بورنياس‬
‫‪PORNEIAS‬املقابلة لـمعنى" الفجور اجلنسي"‪ .‬الفرق يف املعنى رمبا ليس‬

‫‪162‬‬
‫كبريًا‪ ،‬لكن من املدهش أنه يف خمطوطتني من املخطوطات املوجودة ‪ ،‬حيذر‬
‫بولس بكل وضوح وصراحة ليس من الشر بشكل عام ‪ ،‬ولكن من الرذيلة‬
‫اجلنسية خصوصًا‪ .‬هذا الشكل من األخطاء اإلمالئية كان حيدث على األرجح‬
‫بسبب حقيقة أن النساخ أحيانًا خيتصرون كلمات معينة اختصارًا للوقت‬
‫واملساحة‪ .‬الكلمة اليونانية املقابلة حلرف العطف "الواو"‪،‬كمثال‪ ،‬هي ‪KAI‬‬
‫‪،‬اليت كان بعض النساخ ببساطة يكتبون بدال منها احلرف األول ‪ ، K‬مع وضع‬
‫عالمة حتتانية يف النهاية لإلشارة إىل أنها اختصار ‪ .‬على حنوٍ مماثلٍ ‪،‬يف ‪ 1‬كور‬
‫‪ ، 13 : 12‬يشري بولس إىل أن كل إنسان يف املسيح قد " مت تعميده إىل جسدٍ‬
‫واحد " وأنهم مجيعًا "سقوا من روحٍ واحدةٍ"‪.‬‬

‫الكلمة "روح )‪" (PNEUMA‬كانت قد متَّ اختصارها يف معظم املخطوطات‬


‫إىل)‪ ، (PMA‬اليت من املتوقع أنها ستفهم خطئًا ‪،‬وقد حدث ذلك بالفعل‬
‫حني فهمها بعض النُسَّاخ باعتبارها املقابل اليوناني للكلمة‬
‫"شراب )‪"(POMA‬؛ وهكذا ففي هذه الشواهد قيل إن بولس يشري إىل أن‬
‫اجلميع "شربوا من شراب واحد‪ ".‬نوع شائع من األخطاء يف املخطوطات‬
‫اليونانية حدث حينما كان سطران من النص املنسوخ ينتهي باحلروف نفسها أو‬
‫بالكلمات نفسها ‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫رمبا كان ناسخ من النساخ يكتب السطر األول من نص ما ‪ ،‬وبعد ذلك عندما‬
‫ترجع عينه إىل الصفحة ‪،‬فلرمبا سيالحظ الكلمات ذاتها موجودةً يف السطر‬
‫التالي ‪،‬بدال من السطر الذي كان للتوّ ينسخه؛ عندها سيواصل النسخ من‬
‫هناك و ‪،‬نتيجة لذلك‪ ،‬سيهمل الكلمات أو السطور الواقعة بينهما أو كليهما ‪.‬‬
‫هذا النوع من األخطاء يطلق عليه ال ) ‪ (periblepsis‬أي (قفزة عني)‬
‫الواقعة نتيجة للـ )‪ (homoeoteleuton‬أي (النهايات املتشابهة‪).‬‬

‫أحد األمور اليت أعلِّمها لطالبي هي أنهم يستطيعون االدعاء حبصوهلم على‬
‫تعليم جامعي مبجرد أن يستطيعوا احلديث بذكاء حول (قفزة العني اليت تتسبب‬
‫فيها النهايات املتشابهة‪).‬‬

‫ميكننا شرح كيفية حدوث ذلك عرب التمثيل بنص إجنيل لوقا ‪9 -8 :12‬‬
‫الذي ُيقْرَأ كالتالي‪:‬‬

‫‪8‬الذي يعرتف بي أمام البشر ‪ ،‬ابن اإلنسان‬

‫سيعرتف به أمام مالئكة اهلل‬

‫‪9‬لكن من ينكرني أمام البشر‬

‫سينكره أمام مالئكة اهلل‬

‫‪164‬‬
‫خمطوطتنا األقدم املصنوعة من الربدي هلذه الفقرة ختلو من العدد ‪ 9‬بالكامل ؛‬
‫وليس من الصعوبة مبكان أن نرى كيف وقع اخلطأ‪ .‬الناسخ قام بنسخ الكلمات‬
‫"أمام مالئكة اهلل" يف العدد ‪ ، 8‬وعندما ارتدت عينه إىل الصفحة ‪،‬الحظت‬
‫عينه الكلمات ذاتها يف العدد ‪ 9‬فافرتض أنها هي ذاتها الكلمات اليت قام للتوّ‬
‫بنسخها ـ وهكذا واصل نسخ العدد ‪ ،11‬تاركًا العدد ‪ 9‬بالكامل‪.‬‬

‫أحيانًا يكون هذا النوع من األخطاء أكثر كارثية بشكل مريع بالنسبة ملعنى‬
‫النص‪ .‬يف إجنيل يوحنا ‪، 15: 17‬على سبيل املثال‪ ،‬يقول يسوع يف صالته إىل‬
‫الرب عن تالمذته‪:‬‬

‫ال أطلب منك أن حتفظهم من العامل ‪ ،‬لكن أن حتفظهم من الشرير‪.‬‬

‫يف واحدة من أفضل خمطوطاتنا (املخطوطة الفاتيكانية من القرن الرابع)‬


‫الكلمات " عامل‪. . .‬من ال" جندها حمذوفة ‪ ،‬لكي يصبح يسوع اآلن يتفوه بهذه‬
‫الصالة املشئومة " ال أطلب منك أن حتفظهم من الشرير !"‬

‫يف بعض األحيان كانت األخطاء العرضية تقع ال ألنَّ الكلمات كانت تبدو‬
‫متشابهة ‪،‬لكن ألن نطقهم يبدو متشابهًا‪.‬‬

‫من املمكن أن حيدث هذا ‪،‬على سبيل املثال ‪ ،‬عندما يقوم أحد النساخ بنسخ‬
‫نص ميلى عليه ‪ -‬عندما يكون أحد النساخ يقرأ من إحدى املخطوطات و‬

‫‪165‬‬
‫ناسخ آخر أو عدد أكرب من النساخ اآلخرين يقومون بنسخ الكلمات إىل‬
‫خمطوطة جديدة‪،‬كما كان حيدث أحيانًأ يف السكريبتوريات بعد القرن الرابع ‪.‬‬
‫فلو حدث أن كلمتني كانتا تنطقان بالطريقة ذاتها‪ ،‬فإن الناسخ الذي يضطلع‬
‫مبهمة النسخ رمبا عن طريق السهو سيستخدم الكلمة اخلاطئة يف نسخته خاصةً‬
‫إذا كان املعنى يبدو جيدًا للغاية (رغم خطئه)‪ .‬يبدو أن هذا هو ما حدث ‪،‬على‬
‫سبيل املثال‪ ،‬يف سفر الرؤيا ‪ ، 5: 1‬حيث يصلي املؤلف إىل "الواحد الذي‬
‫حررنا من خطايانا"‪.‬‬

‫فالكلمة املقابلة ل" حرَّر" هي )‪ (LUSANTI‬يتطابق نطقها متاما مع الكلمة‬


‫طهرَ)‪ ،" (LOUSANTI‬وهكذا فلن نتفاجأ أن يصلِّي املؤلِّف يف‬
‫املقابلة ل" َّ‬
‫عدٍد من خمطوطات اليت ترجع إىل العصور الوسطى إىل الواحد "الذي طهرنا‬
‫من خطايانا"‪.‬‬

‫مثال آخر وقع يف رسالة بولس إىل أهل رومية ‪ ،‬حينما يصرح بولس بأنه" منذ‬
‫أن تربرنا باإلميان ‪ ،‬حصلنا على السالم مع الرب" (روم‪ .)1 :5 .‬أم هل هذا‬
‫هو ما قاله؟ اجلملة اليت تعين " حصلنا على السالم‪ "،‬يف احلقيقة ‪،‬تُنطق متاما‬
‫مثلما تُنطق اجلملة "اجعلنا حنصل على السالم‪ ",‬اليت هي نوع من احلثّ‪.‬‬
‫وهكذا يف عدد كبري من املخطوطات‪ ،‬مبا يف ذلك البعض من أقدم املخطوطات‬
‫املوجودة يف حوذتنا‪،‬مل يكن بولس على يقني من أنه وأتباعه وصلوا إىل‬

‫‪166‬‬
‫السالم مع اهلل ‪،‬فهو حيث نفسه واآلخرين على أن يسعوا إىل السالم‪ .‬هذه فقرة‬
‫من أجلها القى علماء النقد النصيّ مشقة يف تقرير أي القراءات هي الصحيحة‬
‫(‪ .)17‬يف حاالت أخرى يوجد ما هو أقل التباسا ‪ ،‬ألن التغيري احلادث يف‬
‫النص ‪،‬إن كان غري مفهوم ‪،‬ينتج عنه نصٌ غري مفهوم كبديل عن النص‬
‫املفهوم ‪ .‬وهذا حيدث كثريا ‪،‬وكثريا ما كان لألسباب ذاتها اليت كنا نناقشها ‪.‬‬

‫على سبيل املثال ‪،‬يف يوحنا ‪ ، 39: 5‬خيرب يسوع خصومه أن "يفتشوا الكتب ‪.‬‬
‫‪ . .‬ألنها تشهد لي‪ ".‬يف إحدى املخطوطات القدمية ‪،‬الفعل األخري مت تبديله‬
‫بفعل يشبهه من ناحية النطق لكنه ال يعطي معنى مفهومًا يف سياقه‪ .‬يف تلك‬
‫املخطوطة يقول يسوع " فتشوا الكتب ‪ . . .‬ألنها تتجنّى عليّ !"‬

‫مثال آخر يأتي من سفر الرؤيا ‪،‬حيث يرى النيب رؤيا عن عرش اهلل وحوله‬
‫ُردِ" (‪ .)3: 4‬يف بعض خمطوطاتنا األكثر قدمًا هناك‬
‫الزم ُّ‬
‫يوجد" َقَ َْوسُ قُ َزحَ شِ َْبهُ ُّ‬
‫اختالف‪ ،‬شديد الغرابة كما سيبدو ‪ ،‬يقال لنا فيه إنَّ "شيوخًا يشبهون الزمرد "‬
‫حول العرش!‬

‫ولعل أكثر األخطاء غرابة يف خمطوطاتنا من بني كل اآلالف من األخطاء غري‬


‫املقصودة هو ذلك اخلطأ الذي يقع يف واحدة من املخطوطات املينوسكول (ذات‬
‫األحرف الصغرية) لألناجيل األربعة اليت حتمل رقم ‪ 119‬رمسيًا ‪ ،‬واليت‬
‫كتبت يف القرن الرابع(‪ . )18‬خطأها الفريد من نوعه يقع يف لوقا ‪،‬اإلصحاح‬
‫‪167‬‬
‫‪، 3‬يف حساب سلسلة نسب يسوع ‪.‬من الواضح أن النساخ كان ينسخ خمطوطة‬
‫تضع سلسلة النسب يف عمودين‪.‬‬

‫لبعض األسباب ‪،‬مل يقم بنسخ عمود واحدٍ يف املرة الواحدة ‪ ،‬لكنه نسخ عرب‬
‫العمودين‪ .‬كنتيجة لذلك ‪،‬األمساء الواردة يف سلسلة النسب أصبحت غري‬
‫متوافقة ‪ ،‬حيث معظم األبناء دعوا إىل آباء غري آبائهم بطريق اخلطأ‪ .‬ال يزال‬
‫هناك ما هو أسوأ ‪،‬العمود الثاني من النص الذي كان الناسخ يقوم بنسخه ال‬
‫يشتمل على الكثري من سالسل النسب اليت حيتويها األول ‪ ،‬لنصل اآلن ‪ ،‬يف‬
‫النسخة اليت قام بنسخها ‪ ،‬إىل أن أبا اجلنس البشري (أي االسم األخري‬
‫املذكور) ليس هو اهلل وإمنا أحد اإلسرائيليون الذي يدعى فارص‬
‫)‪(Phares‬؛ واهلل ذاته قيل عنه أنه ابن أحد البشر الذي يدعى آرام!‬

‫التغيريات اليت رأيناها يسهل ‪ ،‬من بعض الوجوه ‪ ،‬حتديدها والتخلص منها‬
‫أكثر من غريها عند حماولة إجياد الشكل األقدم من النص‪ .‬التغيريات العمدية‬
‫مييل حتديدها إىل أن يكون أكثر صعوبة بعض الشئ‪.‬وذلك حتديدًا ألنها حدثت‬
‫(بوضوح) مع سبق اإلصرار والرتصد‪ ،‬كما أن هذه التغيريات متيل إىل أن‬

‫‪168‬‬
‫تعطي معنى مفيدًا‪ .‬وحيث إنها تعطي معنى مفيدًا ‪ ،‬فسيكون هناك دائما نقّادٌ‬
‫جيادلون حول أن هذه التغيريات تعطي املعنى األفضل‪ -‬ما يعين أنها هي‬
‫القراءة األصلية‪ .‬هذا ليس نزاعًا بني العلماء الذين يعتقدون أن النص قد‬
‫تعرض للتحريف وبني هؤالء الذين يعتقدون غري ذلك‪ .‬اجلميع يعلمون أن‬
‫النص قد مت التالعب به ‪ ،‬وإمنا القضية هنا هي‪ :‬أي قراءة متثل التحريف وأيها‬
‫متثل أقدم شكل ميكننا احلصول عليه من النص‪ .‬ويف هذا يتنازع العلماء أحيانا ‪.‬‬

‫يف عدد كبري من احلاالت – أغلبها يف احلقيقة ‪ -‬يتفق العلماء ‪ .‬رمبا من املفيد‬
‫لنا يف هذه اللحظة أن نتناول بالبحث جمموعة كبرية من أنواع التغيريات العمدية‬
‫اليت جندها بني خمطوطاتنا ‪،‬وذلك باعتبارها تلك التغيريات اليت سرتينا‬
‫األسباب اليت دفعت النسّاخ إىل اقرتاف التحريف‪.‬‬

‫يف بعض األحيان قام النساخ بتغيري النصوص املوجودة بني أيديهم ألنهم كانوا‬
‫يظنون أن النص حيتوي على خطأ يتعلق بإحدى احلقائق‪ .‬يبدو األمر على هذا‬
‫النحو عند بداية إجنيل مرقس حيث يقدم املؤلف إلجنيله بقوله " كما هو‬
‫مكتوب يف إشعياء النيب ‪ ،‬ها أنا ارسل أمام وجهك مالكي ‪ . . .‬اصنعوا سبله‬
‫مستقيمة‪ ".‬املشكلة هي أن بداية االقتباس ليست من إشعياء على اإلطالق بل‬
‫ميثل توليفة من فقرة مأخوذة من سفر اخلروج ‪ 21 : 23‬و آخر مأخوذ من‬
‫مالخي ‪ . 1 : 3‬عرف النسّاخ أن هذا ميثل إشكالية ولذلك قاموا بتغيري النص‬

‫‪169‬‬
‫حيث جعلوه يقول " كما هو مكتوب يف األنبياء‪ "...‬اآلن ليس هناك مشكلة عزو‬
‫اقتباس إىل غري موضعه ‪ .‬رغم ذلك من املمكن ‪،‬يف احلقيقة‪ ،‬أن يكون هناك‬
‫القليل من الشكوك حول ما كتبه مرقس‪ :‬فنسبة االقتباس إىل إشعياء ثابتٌ يف‬
‫أقدم وأفضل املخطوطات املوجودة لدينا‪.‬‬

‫يف بعض األحيان يكون "اخلطأ " الذي حياول أحد النسّاخ تصحيحه ليس متعلقًا‬
‫حبقائق ‪،‬وإمنا تفسرييًّا‪ .‬هناك مثال شهري مأخوذ من إجنيل متى ‪ ، 36: 24‬وفيه‬
‫يتنبأ يسوع بنهاية الزمان و يقول " وَأَمَّا ذَلِكَ الْيَ َْومُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ َفالَ يَ َْع َلمُ ِب ِهمَا‬
‫ح َدهُ" ‪.‬‬
‫السمَاوَاتِ وال حتى االبن إِالَّ اآلب َو َْ‬
‫حدٌ َوالَ َمالَِئكَةُ َّ‬
‫َأ َ‬

‫وجد النسّاخ معضلة يف هذه الفقرة‪ :‬ابن اهلل ‪ ،‬يسوع ذاته ‪ ،‬ال يعلم متى‬
‫ستأتي النهاية ؟ كيف ذلك ؟ أليس هو ك ِّليّ املعرفة ؟ حلل هذه املشكلة قام‬
‫بعض النساخ بكل بساطة بتعديل النص عرب حذف الكلمات " وال حتَّى االبن‪".‬‬
‫واآلن رمبا جتهل املالئكة هذا األمر ‪،‬أما ابن اهلل فكال (‪).19‬‬

‫يف بعض احلاالت األخرى غيَّر النسّاخ نصًا ال بسبب أنهم ظنوا أنه حيوي خطئًا‬
‫وإمنا ألنهم أرادوا أن يتحاشوا أن يُ ْفهَمَ النصُّ على حنوٍ خاطئ ‪ .‬متى ‪: 17‬‬
‫‪ 13 – 12‬هو املثال الذي يصرح فيه يسوع بأن يوحنا املعمدان هو ذاته إيليّا ‪،‬‬
‫النيب املزمع أن يأتي قبل نهاية األيام‪:‬‬

‫‪170‬‬
‫"أقول لكم إن إيليا قد جاء ‪ ،‬ومل يتعرفوا عليه ‪،‬بل فعلوا ضده أكثر ما كانوا‬
‫يتمنون ‪ .‬هكذا أيضًا ابن اإلنسان سوف يتأمل منهم‪ .‬حينئذ أدرك تالمذته أنه‬
‫كان يتحدث إليهم عن يوحنا املعمدان"‪.‬‬

‫املشكلة الكامنة هي أن النصَّ ‪ :‬وفقًا ملنطوقه ‪ ،‬ميكن تفسريه لكي يصبح معناه‬
‫ال أنَّ يوحنا املعمدان كان هو إيليّا ‪ ،‬بل على أنه هو ابن اإلنسان ‪ .‬يعلم النسّاخ‬
‫متام املعرفة أن هذا ليس هو املعنى الصحيح ‪ ،‬ولذلك قام البعض منهم بتحوير‬
‫النص " حينئذ أدرك تالمذته أنه كان يتحدث إليهم عن يوحنا املعمدان"‬
‫جاعلينه يقع قبل الكالم عن ابن اإلنسان‪§.‬‬

‫يف بعض األحيان قام النسّاخ بتغيري النص املوجود بني أيديهم ألسباب الهوتية‬
‫خ َدمَ من قِبَل "املهرطقني"‪ ،‬أو‬
‫واضحة وذلك حتَّى يتأكدوا من أن النص لن ُيسَْتَ َْ‬
‫لكي يتأكدوا من أنها تقول ما يفرتِضُ (النسَّاخ )أنها تعنيه بالفعل ‪.‬‬

‫هناك العديد من احلاالت توضح هذا النوع من التحريف ‪ ،‬سنبحثها بشكل‬


‫أكثر تفصيال يف فصل من الفصول القادمة‪ .‬أما اآلن فسأشري فقط إىل مثالني‬
‫اثنني من األمثلة املختصرة ‪.‬‬

‫يف القرن الثاني كان هناك مسيحيون يؤمنون بشدة بأنَّ اخلالص الذي أتى به‬
‫املسيح كان شيئًا جديدًا متامًا ‪،‬و أرفع شأنًا من أي شئ شهده العامل على‬

‫‪171‬‬
‫اإلطالق بل وحتى أرفع شأنا بالطبع من الديانة اليهودية اليت كانت املسيحية‬
‫قد انبثقت منها ‪ .‬بعض املسيحيني ذهبوا أبعد من ذلك إىل اإلصرار على أن‬
‫اليهودية ‪،‬ديانة اليهود القدمية ‪ ،‬قد ُأبَْ ِطلَتَْ متامًا بظهور املسيح‪.‬‬

‫بالنسبة لبعض النسَّاخ الذين كانوا يعتنقون هذه العقيدة ‪،‬بدى املثل الذي حكاه‬
‫املسيح عن اخلمر اجلديدة والزقاق العتيقة رمبا أنه ينطوي على مشكالت ‪.‬‬

‫جمِيعاً ‪.‬‬
‫جدِيدَةٍ فَُتحَْفَظُ َ‬
‫جدِيدَةً فِي ِزقَاقٍ َ‬
‫خمَْراً َ‬
‫ل َيجَْ َعلُونَ َ‬
‫َب َْ‬

‫جدِيدَ ألََّنهُ يَقُولُ‪ :‬ا ْلعَتِيقُ َأطَْيبُ ‪».‬‬


‫حدٌ إِذَا َش ِربَ الْ َعتِيقَ يُرِيدُ ِللْوَقْتِ الْ َ‬
‫وََليَْسَ أَ َ‬

‫(لوقا ‪)39 -38 : 5‬‬

‫كيف ميكن ليسوع أن يشري إىل أن العتيقة أفضل من اجلديدة ؟ أليس اخلالص‬
‫الذي أتى به أمسى قدرًا من أي شئ قدمته اليهودية ( أو أي ديانة أخرى )؟‬
‫النسّاخ الذين وجدوا يف هذه املقولة أمرًا مرِبكًا ختلصوا من اجلملة األخرية بكل‬
‫بساطة ‪ ،‬لكي ال يقول يسوع اآلن أي شئ خبصوص تلك العتيقة اليت هي‬
‫أفضل من اجلديدة‪.‬‬

‫يف بعض األحيان قام النسّاخ بتحريف النصوص اليت بني أيديهم لكي يطمئنوا‬
‫على أن إحدى العقائد املفضلة لديهم قد متَّ تعزيزُها على حنوٍ واف‪.‬‬

‫‪172‬‬
‫على سبيل املثال ‪ ،‬جند هذا يف فقرة اخلاصة بسلسلة نسب يسوع يف إجنيل متى‬
‫‪ ،‬اليت تبدأ بأب اليهود ‪،‬إبراهيم ‪ ،‬وتتعقب سلسلة نسب يسوع من األب إىل‬
‫االبن عرب السلسلة وصوال إىل "يعقوب‪ ،‬الذي كان أبًا ليوسف ‪،‬رجل مريم ‪،‬‬
‫اليت ولد منها يسوع ‪ ،‬املدعو مسيحًا" (متى ‪ .) 16 : 1‬كما هو واضح ‪،‬‬
‫سلسلة النسب تتعامل بالفعل مع املسيح كحالة استثنائية حيث مل تدعُه "ابنا"‬
‫ليوسف ‪ .‬إال أنَّ هذا مل يكن كافيًا ‪،‬مع ذلك ‪ ،‬من وجهة نظر بعض النُّسَّاخ‬
‫الذين غريوا النص لكي يُقرأ كالتالي‪ " :‬يعقوب ‪ ،‬الذي كان أبًا ليوسف ‪،‬‬
‫الذي كانت العذراء مريم خمطوبة له ‪،‬أجنبت يسوع ‪،‬املسمى املسيح ‪ ".‬اآلن‬
‫يوسف ال يدعى حتى زوجًا ملريم ‪ ،‬بل خطيبها فحسب ومتَّ بوضوح التصريح‬
‫بكونها عذراء ‪ -‬األمر الذي ميثل مسألة ذات أهمية بالنسبة للكثريين من‬
‫النسّاخ األوائل!‬

‫يف بعض األحيان كان النسَّاخ يقومون بتعديل نصوصهم ‪،‬ال ألسباب‬
‫الهوتية‪ ،‬وإمنا ألسباب طقسية ‪ (liturgical) .‬فبما أن التقاليد الزهدية يف‬
‫املسيحية األوىل كانت تنمو يف يف املراحل املبكرة من املسيحية ‪ ،‬فاكتشاف‬
‫التأثري الكبري هلذا األمر على التغيريات اليت أحدثها النسّاخ داخل النصوص‬
‫ليس أمرًا مفاجئًا ‪ .‬على سبيل املثال‪ ،‬يف مرقس ‪ ، 9‬حينما يقوم يسوع بطرد‬
‫الروح الشريرة اليت عجز تالمذته على طردها ‪،‬جنده خيربهم « َهذَا الْجِ َْنسُ الَ‬

‫‪173‬‬
‫الةِ " (مرقس ‪ .) 29 : 9‬فيما بعد أدخل‬
‫ِالص َ‬
‫ُي َْم ِكنُ أَنَْ َيخَْ ُرجَ بِ َشيَْءٍ إالَّ ب َّ‬
‫النسّاخ اإلضافة املناسبة بسبب طريقتهم اخلاصة يف العبادة ‪ ،‬لكي يصري يسوع‬
‫يشري اآلن إىل أن " َهذَا الْجِنَْسُ الَ ُي َْم ِكنُ َأنَْ يَخَْرُجَ بِ َشيَْءٍ إالَّ بِالصَّالَةِ‬
‫والصوم"‪.‬‬

‫أحد أفضل التغيريات اليت حدثت للنص ألسباب طقوسيّة جنده يف رواية لوقا‬
‫اخلاصة لصالة الرب ‪ .‬فالصالة موجودة أيضًا يف إجنيل متّى ‪،‬بطبيعة احلال‪.‬‬
‫وشكل الصالة املتَّوي األكثر طوال كان وال يزال األكثر شهرة عند‬
‫املسيحيني(‪. )21‬عند املقارنة ‪ ،‬تبدو الرواية اخلاصة بلوقا مبتورة بشكل غري‬
‫مرغوب به‪.‬‬

‫"أيها اآلب ‪ ،‬ليتقدس امسك ‪ .‬ليأت ملكوتك‪ .‬إعطنا خبزنا اليومي كل يوم ‪.‬‬
‫واغفر لنا خطايانا ‪ ،‬ألننا نغفر لكل من يذنب إلينا ‪ .‬وال تدخلنا يف جتربة ‪( .‬لوقا‬
‫‪)4 -2 : 11‬‬

‫قام النسّاخ حبل املشكلة اخلاصة برواية لوقا املختصرة من خالل إضافة‬
‫االسرتحامات املعروفة من الفقرة املوازية يف متى ‪ ، 13 -9 : 6‬لكي تصري‬
‫قراءتها اآلن كما يف متى كالتالي‪:‬‬

‫‪174‬‬
‫َدسِ ا َْس ُمكَ لَِي ْأتِ َم َلكُوتُكَ لِتَ ُكنَْ مَشِيَئتُكَ َكمَا فِي‬
‫السمَاوَاتِ لِيَتَق َّ‬
‫أَبَانَا َّالذِي فِي َّ‬
‫ألرَْضِ‪ .‬خُبَْزَنَا كَفَافَنَا َأعَْطِنَا كُلَّ يَ َْومٍ ‪ .‬وَاغْفِرَْ لَنَا خَطَايَانَا‬
‫السمَاءِ َكذَلِكَ َعلَى ا َ‬
‫َّ‬
‫خلْنَا فِي َتجَْرَِبةٍ َلكِنَْ نَجِّنَا مِنَ‬
‫ألَنَّنَا نَحَْنُ َأيَْضاً َن َْغفِرُ ِلكُلِّ َمنَْ ُي َْذِنبُ ِإلَ َْينَا َوالَ ُتدَْ ِ‬
‫الشِّرِّيرِ‪».‬‬

‫هذا امليل لدى النسّاخ إىل "التوفيق" بني الفقرات يف األناجيل موجود يف كل‬
‫مكان يف اإلجنيل‪ .‬فمتى حكيت القصة ذاتها يف األناجيل املختلفة ‪ ،‬فعلى‬
‫األرجح قام هذا الناسخ أو ذاك بالتأكد من أن القصص متوافقة بشكل تام‬
‫وذلك عرب حذف الفروقات جبرة قلم‪.‬‬

‫يف بعض األحيان مل يقع النُّسّاخ حتت تأثري الفقرات املتوازية داخل الكتاب‬
‫املقدس‪ ،‬بل حتت تأثري التقاليد الشفوية املتداولة حينذاك حول يسوع والقصص‬
‫املروية عنه ‪ .‬رأينا بالفعل مثل هذا بصورة مكربة يف قضية املرأة الزانية واالثنا‬
‫عشر عددًا األخرية يف إجنيل مرقس‪ .‬يف حاالت أقل ميكننا أن نرى كيف ألقت‬
‫التقاليد الشفوية بظالهلا على نصوص األناجيل املكتوبة ‪ .‬أحد األمثلة‬
‫الواضحة هي القصة املشهورة يف يوحنا ‪ 5‬عن شفاء يسوع ألحد املرضى يف‬
‫بركة بيت حسدا‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫قيل لنا يف أول القصة إن عددًا من األشخاص ــ املرضى ‪،‬العمي ‪،‬العرج‬
‫‪،‬املشلولني ــ كانوا مضجعني جبانب هذه الربكة ‪ ،‬وإن يسوع اختار أحدهم و‬
‫كان يأتي إىل هذا املكان طلبًا للشفاء طوال مثانية وثالثني عامًا‪.‬‬

‫عندما سأل يسوعُ الرجلَ ما إذا كان يرغب يف أن يشفى ‪ ،‬أجاب الرجل بأنه‬
‫ليس هناك من يستطيع أن يضعه يف الربكة ‪،‬فعندما "يتحرك املاء" دائما ما يسبقه‬
‫أحدهم إليها‪.‬‬

‫يف أقدم وأفضل خمطوطاتنا ليس هناك تفسري يوضح السبب الذي من أجله يريد‬
‫الرجل أن يدخل إىل املاء مبجرد اضطراب املاء‪ ،‬لكن التقليد الشفوي يسد‬
‫النقص بإضافته للعددين ‪ 4 -3‬املوجودة يف كثري من خمطوطاتنا األحدث‬
‫عمرًا‪.‬‬

‫ففي هذه املخطوطات يقال لنا إن " مالكا كان ينزل أحيانًا إىل الربكة و حيرك‬
‫املاء ؛ وأول من ينزل بعد حركة املياه يشفى ‪ )21( ".‬وهي ملسة رائعة لقصة‬
‫مسليّة بالفعل‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫ميكننا أن نواصل احلديث إىل األبد تقريبًا حول مواضع معينة مت تغيري نصوص‬
‫العهد اجلديد فيها سواء أحدث ذلك بشكل عفويّ أو بصورة متعمدة ‪.‬وكما‬
‫أشرت من قبل ‪ ،‬األمثلة ليست فقط باملئات ولكن باآلالف ‪ .‬واألمثلة اليت‬
‫قدمتها كافية لنقل الفكرة العامة اليت مفادها‪ :‬هناك الكثري من االختالفات بني‬
‫خمطوطاتنا ‪،‬وهذه االختالفات اختلقها النسّاخ الذين أعادوا إنتاج نصوصهم‬
‫املقدسة ‪ .‬يف القرون األوىل للمسيحية ‪ ،‬كان النسّاخ من اهلواة ومن كان على‬
‫هذه الشاكلة فميله إىل حتريف النصوص اليت ينسخها ـ أو لتحريفها عن طريق‬
‫اخلطأ –هو أكثر من ميل هؤالء الذين صاروا هم النسّاخ يف الفرتات الزمنية‬
‫األحدث الذين أصبحوا من احملرتفني بدءًا بداية من القرن الرابع ‪.‬‬

‫من املهم أن نرى أنواع التغيريات ‪ ،‬سواء العرضية أو العمدية ‪،‬اليت كانت‬
‫قابلة للحدوث عرب النسّاخ ألنه حينذاك سيكون من السهل أن حندِّدَ هذه‬
‫التغيريات ‪،‬ومن ثمَّ ميكننا أن نتخلص من بعض األعمال القائمة على التخمني‬
‫املستخدمة يف حتديد الشكل الذي يعترب حتريفًا للنص واآلخر الذي يعترب الشكل‬

‫‪177‬‬
‫األقدم منه‪ .‬من املهم أيضًا أن نرى كيف ابتكر العلماء املعاصرون املناهج‬
‫الالزمة للقيام بهذا النوع من التحديد‪ .‬يف الفصل التالي سنتتبع بعضًا من خيوط‬
‫هذه القصة اليت تبدأ من عصر "جون ِملّ" وصوال إىل الوقت احلاضر ‪ ،‬لنرى‬
‫املناهج اليت تطورت بغية إعادة بناء نص العهد اجلديد وللتعرف على الطرق‬
‫اليت استخدمت لتغيريه خالل عملية النقل‪.‬‬

‫‪178‬‬
‫]‪[1‬لالطالع على تعريفي للناسخ احملرتف انظر اهلامش رقم يف الفصل ‪.2‬‬

‫]‪[2‬لالطالع على وجهة النظر اليت تقول بعدم وجود دليل على وجود اإلسكريبتوريات يف القرون املبكرة ‪ ،‬انظر كتاب‬
‫"حراس احلروف" هلاينز أيتسن ‪.91 - 83،‬‬

‫]‪[3‬يعرف يوسابيوس على نطاق واسع اليوم بأنه أبو التأريخ الكنسي ‪،‬بناءا على روايته للثالمثائة عامًا األوىل من تاريخ‬
‫الكنيسة‪.‬‬

‫]‪[4‬لالطالع على املزيد عن هذه " النسخ " (أي الرتمجات) املبكرة للعهد اجلديد ‪ ،‬انظر "نص العهد اجلديد" لكل من‬
‫ميتزجر و إرمان ‪،‬الفصل الثاني ‪ ،‬القسم ‪.2‬‬

‫]‪[5‬حول النسخ الالتينية من العهد اجلديد ‪ ،‬مبا يف ذلك مؤلف جريوم ‪ ،‬انظر "نص العهد اجلديد" مليتزجر وإرمان‪،‬الفصل‬
‫ال‪، 2‬القسم ‪، 2‬رقم ‪2‬‬

‫]‪[6‬لالطالع على املعلومات حول ذلك بشكل أكثر تفصيال ‪ ،‬وحول الطبعات اليت نوقشت يف الصفحات التالية ‪ ،‬انظر‬
‫ميتزجر و إرمان "نص العهد اجلديد" ‪ ،‬الفصل ‪.3‬‬

‫]‪[7‬انظر‪،‬بشكل خاص ‪ ،‬الوصف املعريف يف كتاب " قصة النص املطبوع للعهد اجلديد اليوناني " لصمويل ب‪.‬‬
‫ترجييلز)‪3- 11. ،(London: Samuel Bagster & Sons, 1854‬‬

‫)‪(8‬النص الالتيين يُقرأ كالتالي‪:‬‬

‫‪"textum ergo habes, nunc ab omnibus receptum: in quo nihil immutatum aut‬‬
‫"‪corruptum damus.‬‬

‫)‪(9‬انظر كتاب ميتزجر و إرمان ‪ ،‬نص العهد اجلديد‪ ،‬الفصل ‪ ، 3‬القسم ‪.2‬‬

‫)‪(10‬تأكيد ويتيب‪ .‬اقتبس يف كتاب آدم فوكس ‪ ،‬جون مل وآدم بنتلي ‪:‬دراسة النقد النصي للعهد اجلديد‪– 1675 ،‬‬
‫‪( 1729‬أكسفورد ‪:‬بالكويل‪.116 ، )1954،‬‬

‫)‪(11‬فوكس ‪ ،‬مل وبنتلي ‪116 ،‬‬

‫‪179‬‬
‫*****يؤمن بوجود إله ال يتدخل يف تسري الكون كما ال يؤمن بوجود ظاهرة الوحي ‪(.‬املرتجم)‬

‫)‪(12‬كتاب "مالحظات حول حوار التفكري احلر األخري‪ ،‬الطبعة ال‪( 7‬لندن ‪:‬و‪.‬ثوربورن ‪.94 – 93 ،)1737 ،‬‬

‫)‪(13‬صديقي مايكل هوملز أشار على بأنه من بني اآلالف السبع من نسخ الكتاب املقدس اليوناني (العهد اجلديد اليوناني‬
‫والعهد القديم اليوناني)‪ ،‬أقل من عشر ‪ ،‬حسب معرفتنا ‪،‬كانت حتوي الكتاب املقدس بالكامل ‪ ،‬العهدين اجلديد والقديم‬
‫كليهما ‪ .‬هذه العشر هي اآلن نافصة (فاقدة صفحات هناك أو هناك )؛ وأربع منهم فقط يرجع تارخيه إىل القرن العاشر‪.‬‬

‫)‪(14‬املخطوطات – اليت هي نسخ مكتوبة خبط اليد – استمرت كتابتها بعد اخرتاع الطباعة ‪ ،‬متاما مثلما يواصل بعض‬
‫الناس إىل اآلن استخدام اآللة الكاتبة ‪ ،‬على الرغم من وجود معاجلات الكلمات‪.‬‬

‫)‪(15‬سوف نرى أن األنواع األربعة للمخطوطات الم يتم تقسيمهم يف جمموعات وفقًا للمبادئ ذاتها ‪ .‬فأوراق الربدي‬
‫مكتوبة باألحرف الكبرية ‪ ،‬متاما مثلما هو احلال مع املخطوطات املوجيسكول ‪ ،‬ولكن على سطح صاحل للكتابة خمتلف ؛‬
‫فاملينوسكول يكتب على النوع ذاته من السطح الصاحل للكتابة الذي يكتب عليه املاجوسكول (الربمشان) ولكن بنوع خمتلف‬
‫من اخلطوط‪.‬‬

‫)‪(16‬لالطالع على أمثلة إضافية للتغيريات العرضية غري املقصودة ‪،‬انظر كتاب ميتزجر وإرمان ‪،‬نص العهد اجلديد‪،‬‬
‫الفصل ‪، 7‬القسم ‪.1‬‬

‫)‪(17‬هؤالء الذين لديهم االهتمام مبشاهدة كيف يتناقش العلماء جيئة وذهابا خبصوص أفضلية إحدى القراءات عن‬
‫األخرى ينبغي عليهم الرجوع إىل ميتزجر وكتابه ‪ ،‬التفسري النصي‪.‬‬

‫)‪(18‬استعرت هذا املثال ‪ ،‬مع العديد من األمثلة السابقة ‪ ،‬من بروس م‪ .‬ميتزجر ‪ .‬انظر كتاب "نص العهد اجلديد" مليتزجر‬
‫و إرمان ‪ ،‬ص ‪.259‬‬

‫)‪(19‬لالطالع على املزيد من النقاش حول هذه القراءة املتباينة ‪ ،‬انظر الصفحتني ‪.214 ، 213‬‬

‫§أي أصبح الكالم يف النص كالتالي "أقول لكم إن إيليا قد جاء ‪ ،‬ومل يتعرفوا عليه ‪،‬بل فعلوا ضده أكثر ما كانوا يتمنون‬
‫‪ ". .‬حينئذ أدرك تالمذته أنه كان يتحدث إليهم عن يوحنا املعمدان‪ .‬هكذا أيضًا ابن اإلنسان سوف يتأمل منهم"‬

‫)‪(20‬لالطالع على تفاصيل أكرب حول القراءات املتباينة لصالة السيد ‪ ،‬انظر باركر ‪ ،‬النص احلي للكتابات املقدسة‬
‫)‪49 – 74 . ،(Living Text of the Gospels‬‬

‫)‪(21‬هناك عدد من القراءات النصية املتباينة بني الشواهد اليت تؤكد هذا الشكل املطول من الفقرة‬

‫‪180‬‬
‫كما رأينا ‪ ،‬بعض العلماء (عددهم قليل)‪ ،‬قبل قيام "مِل" بنشر نسخته من‬
‫العهد اجلديد باليونانية بفرتة طويلة مصحوبة بإشاراته إىل الثالثني ألف موضع‬
‫من القراءات املتباينة يف شواهدنا الناجية من الضياع ‪ ،‬كانوا قد اعرتفوا بوجود‬
‫مشكلة يف نص العهد اجلديد ‪ .‬وقبل ذلك خالل القرن الثاني ‪ ،‬كان الناقد‬
‫الوثين سيلزس يزعم أن املسيحيني غيَّروا النص على هواهم ‪،‬كما لو كانوا‬
‫خممورين يف جلسة شراب ؛ أما خَصَْمُه أورجيانوس فيتحدث عن عددٍ "كبريٍ"‬
‫من االختالفات بني خمطوطات الكتاب املقدس ؛ بعد ذلك مبا يزيد عن قرن‬
‫كان البابا داماسوس يساوره قلق شديد جرَّاء االختالفات املوجودة بني‬
‫املخطوطات الالتينية إىل درجة أنه كلَّف القديس جريوم بإنتاج ترمجة معيارية‬
‫؛ بل وحتى جريوم نفسه كان قد قارن العديد من نسخ النص ‪ ،‬سواء الالتينية‬
‫أو اليونانية ‪ ،‬لكي خيتار النص الذي كان يعتقد أنه النص األصلي الذي خطته‬
‫أيدي مؤلفيه ‪.‬ثم مخدت املشكلة طوال القرون الوسطى وصوال إىل القرن‬
‫السابع عشر ‪ ،‬عندما بدأ "مِلّ" وآخرون يف معاجلتها بصورة جديَّة (‪ . )1‬وبينما‬
‫كان " ِملّ" يف غمرة عملية جتميع البيانات الالزمة لنسخته اليت صدرت ‪1717‬‬

‫‪181‬‬
‫و اليت متثل عالمة فارقة ‪ ،‬كان هناك عامل آخر يعمل جبد أيضًا على قضية نص‬
‫العهد اجلديد؛ هذا العامل مل يكن من أصل إجنليزيّ بل كان فرنسيّا ‪ ،‬و مل‬
‫يكن بروتستانتيا بل كاثوليكيا‪ .‬فوق ذلك ‪ ،‬كانت وجهة نظره هي على وجه‬
‫الدقة هي ما كان كثري من الربوتستانت اإلجنليز خيشون أن يكون حمصلة‬
‫التحليل الدقيق لنص العهد اجلديد ‪،‬وجهة النظر هذه تتلخص حتديدا يف أن‬
‫االختالفات واسعة النطاق يف املخطوطات أوضحت أن اإلميان املسيحي ال‬
‫ميكن أن يبنى فحسب على الكتاب املقدس ( أو ما يعرف مببدأ "الكتاب املقدس‬
‫فحسب " أو الـ )‪(sola scriptura‬عند الربوتستانت اإلصالحيني)‪ ،‬حيث‬
‫إن النص كان متغريا و ال يعول عليه ‪(unstable and unreliable) .‬‬
‫بدال من ذلك ‪ ،‬ووفقا هلذه الرؤية ‪ ،‬البد أن الكاثوليك على حق يف قوهلم إن‬
‫اإلميان يف حاجة إىل التقليد اآلبائي احملفوظ يف الكنيسة (الكاثوليكية)‪ .‬املؤلف‬
‫الفرنسي الذي واصل نشر هذه األفكار يف سلسلة من اإلصدارات اهلامة كان‬
‫هو "ريتشارد سيمون" (‪).1712 -1638‬‬

‫على الرغم من أن "سيمون" كان يف األصل عاملًا يف اللغة العربية ‪ ،‬إال أنه كان‬
‫مهتمًّا بالتقليد النصي للعهدين القديم واحلديث كليهما‪ .‬دراسته اليت نال عنها‬
‫درجة املاجيستري ‪"،‬تاريخ نقدي لنص العهد اجلديد" ‪،‬ظهرت يف ‪ 1689‬بينما‬

‫‪182‬‬
‫كان "ملّ" ما يزال يعمل على كشف النقاب عن القراءات املتباينة يف التقليد‬
‫النصي ؛ وقد كان لدى"ملّ" إمكانية االطالع على هذا العمل و هو يعرتف‪،‬‬
‫خالل النقاش املفتوح لنسخته اليت صدرت ‪ ، 1717‬بسعة العلم املوجود‬
‫املتوفرة يف هذا العمل وبأهميته ألحباثه الشخصية رغم اختالفه مع‬
‫االستنتاجات الالهوتية املوجودة فيه ‪ .‬مل يكن كتاب "سيمون" خمصَّصا لكشف‬
‫كل قراءة متباينة موجودة وإمنا ملناقشة االختالفات النصية يف التقليد ‪،‬وذلك‬
‫بهدف إظهار عدم موثوقية النص يف هذه املواضع ولكي يدافع أحيانًا عن‬
‫أفضلية الكتاب املقدس الالتيين الذي ما يزال الالهوتيون الكاثوليك يعتقدون‬
‫يف كونه النص املعتمد‪ .‬و"سيمون" أيضا على معرفة تامة باملشكالت النصيِّة‬
‫شديدة األهمية ‪ .‬فعلى سبيل املثال ‪،‬يعقد مناقشة مطولة لعدد من القضايا اليت‬
‫قمنا حنن أنفسنا ببحثها يف هذا الكتاب ‪ :‬مثل املرأة الزانية ‪ ،‬األعداد االثين‬
‫عشر األخرية يف مرقس ‪ ،‬والفاصلة اليوحناوية (اليت تؤكد مبدأ التثليث على‬
‫حنوٍ ال لبس فيه)‪ .‬طوال نقاشه كان"سيمون"جيتهد يف إظهار أن جريوم هو من‬
‫أمدّ الكنيسة بالنص الذي ميكنها أن تستخدمه كأساس للفكر الالهوتي ‪ .‬أو كما‬
‫يقول هو يف مقدمة اجلزء ‪ 1‬من كتابه‪:‬‬

‫مل يكن ما أسداه القديس جريوم للكنيسة من خدمات بالشئ القليل سواء يف‬
‫تصحيح أو يف تنقيح النسخ الالتينية القدمية وفقا للقواعد النقدية الصارمة ‪ .‬هذا‬

‫‪183‬‬
‫ما نسعى إىل إظهاره يف هذا العمل ‪ ،‬إىل جانب إظهار أن غالبية النسخ اليونانية‬
‫القدمية من العهد اجلديد ليست هي األعلى قيمة ‪،‬حيث إنها متوافقة مع تلك‬
‫النسخ الالتينية اليت وجد القديس جريوم أنها شديدة الفساد وأنها حباجة إىل‬
‫التعديل) (‪).2‬‬

‫هذا يف جوهره دفاع بارع وسوف نصطدم به مرة أخرى‪ :‬ويتلخص يف أن‬
‫املخطوطات اليونانية غري جديرة باالعتماد عليها ألنها هي حتديدا تلك النسخ‬
‫الفاسدة اليت كان على القديس جريوم أن ينقحها لكي يبين النص األفضل ؛‬
‫أو بطريقة أخرى هذه النسخ اليونانية احملفوظة أنتجت قبل عصر جريوم ‪ ،‬ومع‬
‫أنها رمبا تكون أقدم ما لدينا من نسخ ‪،‬إال أنها ال ميكن الوثوق بها‪.‬‬

‫بقدر ما هو بارع هذا الدفاع إال أنه مل ينل على اإلطالق دعمًا واسع النطاق‬
‫بني نقاد النصوص ‪ .‬يف حقيقة األمر ‪ ،‬هي جمرد إعالن عن أن خمطوطاتنا احلية‬
‫األقدم عمرا ال ميكن الوثوق بها ‪ ،‬لكنَّ املمكن الوحيد أمامنا هو تنقيحها ‪.‬‬
‫على أي أساس ‪ ،‬مع ذلك ‪ ،‬قام جريوم بتنقيح ما لديه من نص ؟ بالطبع على‬
‫أساس املخطوطات األقدم ‪ .‬إذن فحتى جريوم نفسه قد وضع ثقته يف أقدم‬
‫تسجيل للنص ‪ .‬وإذا مل نفعل الشئ نفسه فهذه ستكون ردة إىل الوراء ‪-‬‬
‫حتى مع التسليم بتنوع التقليد النصي يف القرون األوىل ‪ .‬على أية حال ‪ ،‬جيادل‬
‫"سيمون" أثناء مواصلته ملهمته يف أن كل املخطوطات جتسد التحريفات اليت‬

‫‪184‬‬
‫تعرضت هلا النصوص و النصوص اليونانية منها على وجه اخلصوص ( ها هنا‬
‫رمبا يكون لدينا هجوم أكرب على "املنشقني اليونانيني " عن الكنيسة "اجلامعة‪").‬‬

‫لن يكون مثة يف هذا اليوم أي نسخة من العهد اجلديد ‪ ،‬سواء أكانت باليونانية‬
‫أو بالالتينية أو السوريانية أو العربية ‪ ،‬ميكننا أن نطلق عليها باحلق لقب "نسخة‬
‫أصلية" ‪،‬ألنه ليس هناك واحدة على اإلطالق ‪ ،‬أيّا كانت اللغة اليت كتبت بها‬
‫‪ ،‬قد جنت من اإلضافات ‪ .‬رمبا أؤكد أيضا أن الناسخني اليونانيني كانوا‬
‫يتمتعون حبرية واسعة يف كتابة نسخهم ‪ ،‬كما سنثبته يف موضع آخر (‪) .3‬‬

‫أجندة "سيمون" ملثل هذه املالحظات تتسم بالوضوح طوال مقاله املطول ‪ .‬يف‬
‫إحدى النقاط يتسائل بطريقة بليغة‪:‬‬

‫أتراه ممكنا‪..‬أن يكون اهلل قد أعطى كتبا لكنيسته خيدمها كدستور ‪ ،‬وأن يسمح‬
‫يف الوقت ذاته أن تضيع األصول األوىل هلذه الكتب إىل األبد منذ بداية الدين‬
‫املسيحي ؟ (‪)4‬‬

‫وإجابته ‪،‬بطبيعة احلال ‪ ،‬هي النفي ‪ .‬لقد قدمت الكتابات املقدسة بالفعل‬
‫أساسًا لإلميان ‪ ،‬لكنَّ الكتب ذاتها مل تكن يف النهاية هي العامل األهم (حيث‬
‫تعرضت للتحريف يف النهاية مع مرور الزمان )‪ ،‬بل تفسري هذه الكتب كما‬
‫وجد يف التقليد الرسولي املستلم عرب الكنيسة (الكاثوليكية‪).‬‬

‫‪185‬‬
‫"مع أن الكتابات املقدسة هي أساس ال ريب فيه عليه بُينَ اإلميان ‪ ،‬إال أن هذا‬
‫األساس ليس كافيا متاما حبد ذاته ؛ بل من الضروري التعرف ‪ ،‬إىل جانب‬
‫ذلك ‪ ،‬على التقاليد الرسولية ؛ وتلك ال يسعنا تعلمها إال عرب الكنائس‬
‫الرسوليّة ‪ ،‬اليت حافظت على املعنى احلقيقي للكتب املقدسة (‪) ." 5‬‬

‫استنتاجات "سيمون" املضادة للربوتستانتية تصري أكثر وضوحا يف بعض كتاباته‬


‫األخرى ‪ .‬على سبيل املثال ‪،‬يف كتاب له يتناول " املفسرين الرئيسيني للعهد‬
‫اجلديد " ‪،‬يصرح بغري تردد ‪ ":‬التغيريات العظيمة اليت وقعت يف خمطوطات‬
‫الكتاب املقدس ‪ . . .‬منذ أن ُف ِقدَت األصول األوىل ‪ ،‬تهدم مبدأ الربوتستانتيني‬
‫من أساسه ‪ . . .‬الذين يلجأون فحسب إىل هذه املخطوطات ذاتها اخلاصة‬
‫بالكتاب املقدس يف شكلها املوجود اليوم ‪ .‬لو أن حقيقة الدين مل تعش طويال‬
‫يف ظل الكنيسة ‪ ،‬فإن البحث عنها يف الكتب اليت كانت عرضة لكثري جدا من‬
‫التغيريات واليت كانت أيضا خاضعة إلرادة النساخ لن يكون باألمر املأمون‬
‫(‪). 6‬‬

‫هذا النوع من اهلجوم القاسي من الناحية الفكرية على املفهوم الربوتستانيت‬


‫للكتاب املقدس بشكل جدُّ خطري حدث بني جدران املعاهد العلمية ‪ .‬لكنَّ‬
‫علماء الكتاب املقدس من الربوتستانت ‪،‬مبجرد صدور نسخة "ملّ" يف ‪1717‬‬
‫‪ ،‬اضطروا بدافع من طبيعة ما لديهم من معارف إىل أن يراجعوا أنفسهم وأن‬

‫‪186‬‬
‫يبدأوا يف الدفاع عن مفهومهم حول اإلميان ‪ .‬فهم ليس بوسعهم ‪،‬بطبيعة احلال‬
‫‪ ،‬أن يتخلوا ببساطة عن عقيدة "الكتاب املقدس وحده ‪" (sola‬‬
‫‪scriptura).‬بالنسبة إليهم ‪ ،‬كلمات الكتاب املقدس ما تزال حتمل سلطان‬
‫كلمة اهلل ‪ .‬لكن كيف ميكن للمرء أن يتعامل مع حقيقة أننا يف كثري من املواقف‬
‫ال نعلم األصل الذي كانت عليه هذه الكلمات ؟ كان هناك حلٌّ وحيد وهو‬
‫تطوير مناهج النقد النصي اليت ستمكن العلماء املعاصرين على إعادة بناء‬
‫الكلمات األصلية ‪ ،‬حتى يتسنى مرة أخرى ألساس اإلميان أن يربهن موثوقيته‬
‫‪ .‬إنه جدول األعمال الذي يقف وراء كثري من اجلهود ‪،‬يف إجنلرتا وأملانيا‬
‫أساسا‪،‬اليت بذلت من أجل ابتكار مناهج ذات كفاءة و ميكن االعتماد عليها يف‬
‫إعادة بناء الكلمات األصلية للعهد اجلديد من نسخها العديدة املشتملة على‬
‫األخطاء واليت جنت من الضياع‪.‬‬

‫كما رأينا ‪ ،‬وظف "ريتشارد بنتلي" ‪،‬العامل املتخصص يف فقه اللغات القدمية‬
‫وعميد كلية ترينييت جبامعة كامربدج قدرته الفكرية الفذة يف دراسة مشكالت‬
‫التقليد النصي للعهد اجلديد ردا على التفاعالت السلبية اليت نتجت عن نشر‬
‫ٍّ هائل من التناقضات النصية املوجودة‬
‫" ِملّ" للعهد اجلديد اليوناني مصحوبًا بكم‬

‫‪187‬‬
‫بني املخطوطات (‪ .)7‬ردُّ "بنتلي" على "كولينز الديسطيقي " ‪،‬وهو ردٌّ على‬
‫"مقالة حول التفكري احلر"‪ ،‬اكتسب انتشارًا واسعًا االنتشار وصلت طبعاته إىل‬
‫مثان طبعات ‪ .‬رؤيته اجلامعة كانت تتلخص يف أن التناقضات الثالثني ألفا يف‬
‫العهد اجلديد اليوناني مل تكن بالكثرة املتوقعة من تقليد نصي حيتوي مثل تلك‬
‫الثروة من النصوص ‪ ،‬و أن "ملّ" تقريبًا ال ميكن ألحد أن يتهمه بتقويض صحة‬
‫الديانة املسيحية حيث إنه مل يبتكر هذه املواضع املتباينة بل ببساطة قام برصدها‬
‫‪ .‬يف النهاية أصبح بنتلي نفسه مهتما بدراسة التقليد النصي للعهد اجلديد ‪،‬‬
‫ومبجرد أن حَوَّل اهتمامه إليه ‪،‬استنتج أنه يستطيع يف احلقيقة إجناز تقدم‬
‫ملحوظ يف تكوين النص األصلي يف غالبية املواضع اليت يتوافر فيها تباين نصي‬
‫‪ .‬يف رسالة أرسلها إىل أحد داعميه وهو كبري األساقفة "ويك" يف عام ‪، 1716‬‬
‫كتب يف مقدمة نسخة جديدة مفرتضة من العهد اجلديد اليوناني يقول إنه‬
‫سيكون مبقدرته ‪،‬عرب التحليل الدقيق ‪ ،‬أن يعيد نص العهد اجلديد إىل حالته‬
‫اليت كان عليها يف عصر جممع نيقية (أوائل القرن الرابع )‪،‬وهي احلال اليت كان‬
‫سيكون عليها شكل النص الذي نشره يف القرون السابقة عامل النصوص‬
‫القدمية العظيم "أورجيانوس"‪ ،‬قبل قرون عديدة من تسرب الفساد إىل التقليد‬
‫النصي (للكتاب املقدس)بسبب الغالبية الساحقة من القراءات النصية‬
‫املتباينة(كما كان ظنُّ " بنتلي‪" ).‬‬

‫‪188‬‬
‫مل يكن "بنتلي" على اإلطالق بالشخص الذي ينشغل بالتواضع الزائف ‪ .‬فها‬
‫هو كما يزعم يف رسالته ‪:‬‬

‫أجد أنين قادر على إنتاج نسخة من العهد اجلديد اليوناني بالدقة ذاتها اليت كان‬
‫عليها يف أفضل النسخ يف عصر جممع نيقية (وهو األمر الذي يظنه البعض يف‬
‫حكم املستحيل) ؛ لكي ال يكون مثة ال عشرون كلمة ‪،‬وال حتى حروف جر‬
‫‪،‬بها أي اختالف ‪ . . .‬ولكي يصري هلذا الكتاب‪،‬الذي تعتقد اإلدارة احلالية أنه‬
‫مشكوك فيه إىل أبعد احلدود ‪،‬حجية فوق مجيع الكتب األخرى مهما كانت‪،‬‬
‫ولكي توضع نهاية فورية لكل القراءات املتباينة اآلن ويف املستقبل (‪).8‬‬

‫منهج العمل لدى بنتلي كان نزيها للغاية ‪ .‬فهو كان قد قرر أن يقارن (على حنوٍ‬
‫مفصَّل) نص أهم خمطوطة من خمطوطات العهد اجلديد اليونانية يف إجنلرتا ‪،‬أال‬
‫وهي املخطوطة السكندرية اليت تؤرخ ببواكري القرن اخلامس ‪،‬بأقدم النسخ‬
‫املتاحة للفوجلاتا الالتينية ‪ .‬ما وجده كان حجما كبرية من القراءات املتوافقة‬
‫على حنوٍ ملحوظ ‪ .‬اتفقت فيها هذه املخطوطات مرات كثرية بعضها مع بعض‬
‫ولكن مع اختالفها مع الغالبية الساحقة من املخطوطات اليونانية اليت متت‬
‫نسخها يف العصور الوسطى ‪ .‬لقد امتدت املوافقات لتشمل حتى أمورا مثل‬
‫ترتيب الكلمات يف املواضع اليت ختتلف فيه املخطوطات املختلفة‪ .‬لقد كان‬
‫بنتلي على قناعة تامة ‪،‬إذن‪ ،‬من قدرته على تنقيح )‪ (edit‬الفوجلاتا الالتينية‬

‫‪189‬‬
‫و العهد اجلديد اليوناني كليهما ليصل إىل األشكال األقدم من هذه النصوص‬
‫وذلك لكي ال يكون مثة ولو أدنى ذرة من الشك فيما يتعلق بقراءتهما األقدم ‪.‬‬
‫مواضع التباين الثالثني ألفا اليت ذكرها ِملّ ستكون شيئا أخرقا غري ذي صلة‬
‫بتلك اليت سنحصل عليها حتت سلطان النص‪ .‬فلسفة هذا املنهج بسيطة ‪ :‬لو‬
‫كان جريوم ‪،‬يف الواقع‪ ،‬قد استخدم أفضل املخطوطات اليونانية املتاحة له‬
‫لتنقيح ما بني يديه من نصوص ‪،‬إذن فبمقارنة املخطوطات األقدم من الفوجلاتا‬
‫( بهدف التثبت من نص جريوم األصلي) باملخطوطات األقدم من العهد‬
‫اجلديد اليوناني ( ملعرفة أيها استخدمه جريوم )‪ ،‬فسيكون بوسع أحدنا حتديد‬
‫ما كانت عليه أفضل النصوص يف عصر جريوم ـ وختطي أكثر من ألف عام من‬
‫نقل النصوص اليت تغري النص خالهلا مرارًا وتكرارًا‪ .‬فوق ذلك ‪،‬وحيث إن‬
‫نص جريوم كان هو النص ذاته الذي كان لدى سابقه أورجيانوس ‪ ،‬فإن املرء‬
‫سيكون بوسعه أن يطمئن متاما أن هذا كان أفضل نص موجود يف القرون‬
‫األوىل للمسيحية على اإلطالق ‪ .‬وهكذا ‪ ،‬استشف "بنتلي" ما كان استنتاجا ال‬
‫مفر منه حسب وجهة نظره‪:‬‬

‫من خالل أخذ ألفي خطأ من الفوجلاتا الباباويّة ‪،‬و نفس املقدار من نسخة البابا‬
‫الربوتستانيت ستيفانس (أي نسخة ستيفانوس أو النص املستلم )‪،‬ميكنين أن‬
‫أصدر منهما نسخة يف عمودين ‪،‬من غري استخدام أيّ كتاب يرجع تارخيه إىل‬

‫‪190‬‬
‫ما هو أدنى من تسعة قرون ‪،‬وهو ما سيتوافق متاما كلمة بكلمة ‪،‬و نسق بنسق‬
‫‪،‬وهو األمر الذي أصابين بالدهشة يف أول األمر ‪ ،‬إىل درجة أن لن يكون مثة‬
‫وثيقتان أو سجالن متوافقان على حنو أفضل منهما (‪). 9‬‬

‫ومن خالل إنفاقه املزيد من الوقت يف مقارنة املخطوطات ويف فحص املقارنات‬
‫اليت قام بها اآلخرون ‪،‬زادت ثقة بنتلي يف قدرته على القيام باملهمة ‪ ،‬وعلى‬
‫القيام بها على وجهها الصحيح ‪ ،‬وعلى القيام بها مرة واحدة ولألبد ‪ .‬يف‬
‫‪ 1721‬نشر بنتلي حبثا موجزا )‪ (pamphlet‬حتت عنوان مقرتحات للطباعة‬
‫)‪(Proposals for Printing‬صممه حلشد الدعم ملشروعه عرب احلصول‬
‫على عددٍ من الداعمني املاليني‪ .‬يف هذا الكتيب يضع منهجه املقرتح الذي‬
‫يهدف إىل إعادة بناء النص و جيادل حول صحته منقطعة النظري ‪.‬‬

‫يؤمن املؤلف أنه استعاد األعداد الصحيحة (باستثناءا القليل جدا من املواضع)‬
‫اليت كانت يف نسخة أورجيانوس ‪ . . .‬وهو على يقني من أنه بواسطة‬
‫املخطوطات اليونانية والالتينية ‪،‬عرب االعتماد على مساعدتهما معًا‪،‬سيقوم‬
‫بإعادة النص األصلي إىل دقَّته األوىل ‪،‬بشكل ال ميكن أن يقوم مبثله اآلن أي‬
‫مؤلف كالسيكي مهما كان‪ :‬وأنه من متاهةالقراءات الثالثني ألفا املتباينة اليت‬
‫تزدحم بها صفحات أفضل نسخنا املوجودة يف الوقت احلاضر ‪،‬اجلميع يضعون‬
‫رهانهم بشكل متساوٍ على أخطاء كثري من األشخاص الصاحلني؛ مفتاح اللغز‬

‫‪191‬‬
‫هذا سيكون قائدا و منقذا لنا إىل درجة أنه من بني هذه اآلالف املؤلفة من‬
‫القراءات املتباينة لن يكون مستحقا لالهتمام سوى مائيت قراءة على األكثر‬
‫(‪). 11‬‬

‫ختفيض القراءات املتباينة الكثرية من آالف "مِل" الثالثني إىل مائتني قراءة‬
‫فحسب من الواضح أنه تقدم ملحوظ ‪ .‬مل يكن اجلميع ‪،‬مع ذلك ‪،‬على يقني‬
‫من أن بنتلي كان بوسعه أن ينتج بضاعته ‪.‬يف مقال جمهول املؤلف كتب ردا على‬
‫االقرتاحات( لقد كان عصرا ذهبيا للمجادلني ومؤلفوا األحباث املوجزة‬
‫))‪،(pamphleteers‬ناقش مؤلِّفُه حبث بنتلي فقرة بفقرة‪ .‬لقد تعرض‬
‫بنتلي للهجوم من أجل منهجه وقيل عنه ‪،‬على لسان خصمه اجملهول ‪،‬إنه ال‬
‫ميلك "ال املوهبة وال املادة الصاحلة لعمله الذي كان قد آل على نفسه القيام به‬
‫(‪)."11‬‬

‫اعترب بنتلي هذا اهلجوم ‪،‬كما قد يتصور املرء‪،‬وصمة على جبني مواهبه‬
‫العظيمة اليت يفتخر بها وأجاب بالطريقة ذاتها ‪ .‬لكنه ولألسف ‪،‬أخطأ يف حتديد‬
‫شخصية خصمه ‪،‬الذي كان يف الواقع عامل من كمربيدج يدعى "كانيارز‬
‫ميدلتون" ‪ ،‬حيث ظنه "جون كولباتش" ‪ ،‬فكتب ردًا حادًّا ‪ ،‬ذكر فيه اسم‬
‫"كولباتش" و ‪،‬كما كان األسلوب يف هذه األزمنة ‪،‬وجه إليه بعض اإلهانات ‪.‬‬
‫مثل هذه األحباث اجلدالية املوجزة يندر أن يكون هلا وجود يف عصرنا احلالي‬

‫‪192‬‬
‫الذي يتميز مبؤلفاته اجلدلية رقيقة األسلوب؛أما تلك األيام البعيدة ‪،‬فلم يكن‬
‫هناك شئ من الرقة خاصة فيما يتعلق بالشعور الشخصي بالظلم ‪ .‬يعلق بنتلي‬
‫قائال‪ ":‬لسنا حباجة للذهاب إىل أبعد من هذه الفقرة كنموذج لسوء القصد و‬
‫الوقاحة العظيمني ‪،‬الذان سادا ما خطه مؤلف تافه من خفافيش الظالم على‬
‫الورق (‪ . )12‬ويف كل موضع من رده يقدم بنتلي عددًا من اإلهانات شديدة‬
‫القسوة ‪،‬داعيًا "كولباتش"(الذي مل يكن له عالقة يف حقيقة األمر بالبحث‬
‫املعينّ) باملغفل ‪،‬احلشرة‪،‬الدودة ‪،‬النغفة ‪،‬الشخص املؤذي ‪،‬الفأر القارض‬
‫‪،‬الكلب النابح ‪،‬السارق اجلاهل ‪،‬الدجال (‪ .)13‬آه ‪ ،‬ياهلا من أيام‪.‬‬

‫وعندما أحيط بنتلي علمًا باهلوية احلقيقية خلصمه ‪،‬شعر بالطبع بالقليل من‬
‫اإلحراج ملهامجته الشخص اخلطأ ‪،‬إال أنه واصل دفاعه عن نفسه ‪ ،‬واجلانبان‬
‫كالهما كانا ما يزال يف جعبتهما الكثري من السهام ‪ .‬هذا الدفاع أعاق العمل‬
‫ذاته ‪،‬بطبيعة احلال ‪ ،‬كما فعلت عوامل أخرى مبا فيها التزامات بنتلي الشاقة‬
‫كونه عميدًا لكليته يف جامعة كامربدج و مشاريعه الكتابية األخرى ‪،‬وعوائق‬
‫أخرى مثبطة تشمل فشله يف احلصول على إعفاء من تكاليف استرياد الورق‬
‫الذي أراد استخدامه يف إصدار النسخة ‪ .‬يف النهاية ‪ ،‬اقرتاحاته لطباعة العهد‬
‫اجلديد اليوناني ‪ ،‬بأقدم النصوص اليت ميكن الوصول إليها وليس بتلك‬
‫اخلاصة باملخطوطات اليونانية التالفة املتأخرة (مثل تلك املبين عليها النص‬

‫‪193‬‬
‫املستلم) ‪ Textus Receptus‬مل تسفر عن شئ ‪ .‬بعد موته ‪ ،‬اضطر ابن‬
‫أخيه إىل إعادة األموال اليت كان قد مجعها باالكتتاب ‪،‬مسدال الستار على‬
‫املسألة برمتها‪.‬‬

‫من (سيمون) يف فرنسا إىل ( ِملّ و بنتلي) يف إجنلرتا ‪،‬واآلن إىل أملانيا ‪ .‬كانت‬
‫املشكالت النصية للعهد اجلديد تشغل بال علماء الكتاب املقدس البارزين يف‬
‫ذلك العصر يف مناطق رئيسية من العامل املسيحي األوروبي ‪.‬كان يوهان‬
‫ألربخيت بينجل (‪ ) 1752 -1687‬قسيسا لوثريّا و ِرعًا وأستاذًا أصبح يف‬
‫بواكري حياته منزعجًا بشدة من وجود مثل هذا الكمِّ الكبري من القراءات النصية‬
‫املتباينة يف التقليد املكتوب للعهد اجلديد ‪،‬و كان على وجه اخلصوص قد تأثر‬
‫سلبًا كشاب يف العشرين من عمره نتيجة لنشر نسخة " ِملّ" مبواضعها الثالثني‬
‫ألفًا املتباينة‪ .‬هذه القراءات املتباينة كان يوهان ينظر إليه باعتبارها حتديًّا رئيسيا‬
‫أمام إميانه الشخصي الذي كان إميانا متجذرا بكلمات الكتاب املقدس نفسها ‪.‬‬
‫فإذا كانت هذه الكلمات غريَ موثوق بها ‪،‬فعالما ينبين اإلميان إذن ؟‬

‫ٍّ هلذه املشكلة ‪،‬‬


‫أنفق بينجيل كثريا من عمل وظيفته العلمية يف البحث عن حل‬
‫وكما سنرى ‪،‬فقد أحدث تقدمًا ملحوظًا يف التوصل إىل حلول هلا‪ .‬يف البداية ‪،‬‬
‫‪194‬‬
‫حنن حباجة إىل أن ننظر قليال يف منهج بينجيل يف التعامل مع الكتاب املقدس‬
‫(‪ . )14‬استحوذ االلتزام الديين الذي كان يتميز به بينجيل على حياته و تفكريه‬
‫‪ .‬ميكن للمرء أن يفهم شعور اجلدية اليت تعامل بها بها مع إميانه بدءًا من عنوان‬
‫احملاضرة االفتتاحية اليت ألقاها عندما عني كمدرس مبتدئ يف املعهد الالهوتي‬
‫اجلديد يف دينكيندورف ‪:" De certissima ad veram‬‬
‫‪eruditonem perveniendi ratione per studium‬‬
‫"‪pietatis‬وترمجتها‪( :‬السعي الدؤوب عن التقوى هو املنهج اآلكد‬
‫للحصول على تعليمٍ مرموق ‪).‬‬

‫كان بينجيل عاملًا شديد احلذر يف تفسريه لنص الكتاب املقدس و كان خبريًا‬
‫باألعمال الكالسيكية ‪ .‬وهو على األرجح ذو شهرة واسعة كمفسر للكتاب‬
‫املقدس ‪ :‬فلقد كتب حواشي مكثفة على كل كتاب من كتب العهد اجلديد‬
‫‪،‬مستقصيًا القضايا النحَْوية ‪،‬والتارخيية و التفسريية بالتفصيل ا ُملمِل ‪،‬يف‬
‫تفسريات اتسمت بالوضوح و اإلقناع‪ -‬وماتزال تستحق القراءة إىل اليوم ‪.‬‬
‫كانت الثقة يف كلمات الكتاب املقدس هي أساس هذا العمل التفسريي ‪ .‬لقد‬
‫وصلت هذه الثقة إىل درجة أنها أخذت بينجيل إىل اجتاهات رمبا تبدو اليوم‬
‫غريبة قليال ‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫ونظرا العتقاده بأن كلمات الكتاب املقدس كلها موحى بها – مبا يف ذلك‬
‫كلمات األنبياء وسفر الرؤيا – ‪،‬وبأن تدخل اهلل يف شئون البشر كانت تقرتب‬
‫من نهايتها ‪ ،‬وأن النبؤة الكتابية أشارت إىل أن جيله احلالي يعيش قريبا من‬
‫نهاية اآليام ‪ .‬آمن ‪،‬يف واقع األمر ‪ ،‬بأنه يعرف موعد جمئ النهاية ‪ :‬فالقيامة‬
‫ستأتي بعد قرن ‪ ،‬أي يف عام ‪. 1836‬‬

‫مل يكن بينجيل ليعود عن رأيه بقراءته أعدادًا مثل متى ‪ ، 36 : 24‬اليت تقول‬
‫إن " أما هذا اليوم وتلك الساعة فال يعلم بهما أحد ‪،‬ال املالئكة يف السماء ‪،‬‬
‫وال حتى االبن ‪،‬إال اآلب‪ ".‬وألنه كان مفسِّرًا حذرًا ‪ ،‬يوضح بنجيل هنا أن‬
‫يسوع يتكلم يف الزمن املضارع ‪ :‬أي يف عصره كان بإمكان يسوع أن يقول " ال‬
‫أحد يعلم ‪ "،‬لكنَّ هذا ال يعين أنه ال أحد فيما بعد لن يتمكن من معرفة املوعد‬
‫‪ .‬فبعض املسيحيني ‪،‬يف حقيقة األمر ‪ ،‬سيتمكنون من الوصول ملعرفة املوعد‬
‫من خالل دراستهم للنبؤات الواردة يف الكتاب املقدس ‪ .‬فالكرسي الباباوي‬
‫كان هو املسيح الدجال و املاسونيون (البناؤون األحرار ) رمبا كانوا ميثلون "‬
‫النيب الكاذب" الذي ورد ذكره يف سفر الرؤيا ‪ ،‬و نهاية األيام ستحل يف غضون‬
‫ما يقل عن قرن (كان يكتب يف ثالثينات القرن ال‪ .) 17‬احملنة العظيمة ‪،‬اليت‬
‫كانت الكنيسة األوىل تتوقع أن يتسبب فيها " املسيح الدجال" املزمع أن يأتي يف‬
‫املستقبل ‪،‬مل تقع ‪ ،‬لكنها قريبة الوقوع ؛ ألن النبؤات اليت وردت يف سفر‬

‫‪196‬‬
‫الرؤيا ‪ ،‬بدءا من الفصل العاشر ووصوال إىل الرابع عشر ‪ ،‬كان حتققها‬
‫يتواصل لقرون كثرية ؛ والقضية احملورية اليت تتضح رؤيتها للعيان أكثر و أكثر‬
‫هي أنه يف غضون مائة سنة أخرى رمبا يقع التغيري العظيم املنتظر لألمور‪...‬أما‬
‫اآلن ‪ ،‬فدعوا باقي الرؤى تتضح هي األخرى ‪،‬خاصة النهاية العظيمة اليت‬
‫أتوقع أن حتل يف العام ‪).15( 1836‬‬

‫من الواضح أن املتنبئني حبلول القيامة يف عصرنا احلالي – من أمثال هال‬


‫ليندسي (مؤلف كتاب " كوكب األرض ذلك الراحل العظيم") و تيموثي‬
‫الهاي (مؤلف كتاب " سلسلة املرتوكون خلفا " باالشرتاك مع آخرين)‪ -‬مل‬
‫يكونوا بِدعا من املتنبئني فقد كان هلم سلف ‪،‬مثلما سيكون هلم خلف‪،‬ألن‬
‫العامل ال ينتهي‪.‬‬

‫بالنسبة ملا يهمنا هنا ‪ ،‬كانت تفسريات بنجيل الشاذة للنبؤة أمرًا مهمًا ألنها‬
‫كانت أساسًا ملعرفة كلمات الكتاب املقدس على وجه الدقة ‪ .‬فلو مل يكن العدد‬
‫الذي يرمز إىل ضد املسيح هو ‪ 666‬وإمنا ‪ ، 616‬فإن هذا سيكون له تأثري‬
‫عظيم ‪ .‬حيث إنه إن كان للكلمات أي أهمية‪ ،‬فإن معرفة هذه الكلمات البد و‬
‫أنه أيضًا ذو أهمية‪.‬‬

‫وهكذا أنفق بنجيل جزءًا كبريًا من وقت أحباثه يف سرب أغوار اآلالف املؤلفة من‬
‫القراءات املتباينة اليت تزخر بها خمطوطاتنا ‪.‬ويف أثناء حماولته اخلروج من ربقة‬
‫‪197‬‬
‫التحريفات اليت أحدثها النسَّاخ املتأخرون والعودة إىل نصوص املؤلفني‬
‫األصليني‪ ،‬حقق العديد من صور التقدم يف املنهج‪.‬‬

‫أول تقدم حققه هو املقياس الذي ابتكره الذي قد أوجز ‪،‬إن قليال أو كثريا‪،‬‬
‫منهجه يف بناء النص األصلي وذلك متى تطرق الشك إىل الصياغة ‪.‬‬
‫العلماء‪،‬مثل سيمون و بنتلي ‪ ،‬قبل ظهور طريقته كانوا قد حاولوا أن ينشئوا‬
‫مقاييسًا لتقييم القراءات املتباينة ‪ .‬البعض اآلخر ‪،‬الذين مل نذكرهم هاهنا ‪،‬‬
‫ابتكروا قوائم طويلة من املقاييس اليت رمبا أثبتت نفعها ‪ .‬بعد الدراسة املكثفة‬
‫للموضوع ( بنجيل كان يدرس كل شئ بشكل مكثف )‪ ،‬وجد بينجيل أنه‬
‫استطاع أن يوجز الغالبية العظمى من املقاييس املقرتحة يف مجلة بسيطة تتألف‬
‫من أربع كلمات ‪: (Proclivi scriptioni praestat ardua) -‬أي‬
‫القراءة األكثر صعوبة هي املفضلة إذا قورنت بالقراءة األسهل‪ .‬وكانت حجته‬
‫كالتالي ‪ :‬عندما غيَّر النُسَّاخ النصوص اليت بني أيديهم ‪ ،‬كان األكثر احتماال‬
‫أنهم حاولوا أن يدخلوا عليها حتسينات‪ .‬وإذا رأوا ما اعتربوه خطئًا ‪ ،‬كانوا‬
‫يصححونه ؛ ولو رأوا روايتني خمتلفتني للقصة ذاتها ‪ ،‬فإنهم كانوا يوفقون‬
‫بينهما ؛ ولو صادفوا نصا يبدو متعارضا مع آرائهم الالهوتية اخلاصة ‪ ،‬كانوا‬
‫حيرفونه ‪ .‬يف كل موقفٍ ‪ ،‬لكي نعرف ما قاله النص األقدم ( أو حتى "‬
‫األصلي") ‪ ،‬فاألفضلية ال متنح للقراءة اليت صححت خطئًا ‪ ،‬أو أدخلت‬

‫‪198‬‬
‫توافقا على حكاية ‪،‬أو حسَّنت رأيا الهوتيًّا ‪ ،‬ولكن لألخرى اليت تناقضها‬
‫متاما ‪ ،‬أي للقراءة اليت من " الصعب" شرحها‪ .‬إذن ‪ ،‬القراءة األكثر صعوبة هي‬
‫املفضلة (‪) .16‬‬

‫التقدم اآلخر الذي حققه بينجيل ال يتعلق بغالبية القراءات اليت منلكها حتت‬
‫تصرفنا بقدر ما يتعلق بالوثائق اليت حتتوي هذه القراءات ‪ .‬فقد الحظ أن‬
‫الوثائق اليت ُتنَْسّخ من وثيقة أخرى بطبيعة احلال حتمل تشابهًا وثيقًا بالنسخ‬
‫اليت نقلت عنها وبالنسخ األخرى املكتوبة من هذه النسخ ذاتها ‪ .‬بعض‬
‫املخطوطات تشبه كثريًا بعض املخطوطات بأكثر مما يشبهها البعض اآلخر‪ .‬كل‬
‫الوثائق احملفوظة‪ ،‬إذن ‪ ،‬ميكن ترتيبها من خالل نوع من العالقة الَنسَبيَّة‬
‫)‪،(genealogical relationship‬يف هذه العالقة توجد جمموعات من‬
‫الوثائق يتمتع بعضها مع بعض بدرجة قرابة أكثر مما تتمتع به من قرابة مع بعض‬
‫الوثائق األخرى ‪ .‬من املفيد معرفة ذلك ‪ ،‬ألنه من الناحية النظرية ميكن للمرء‬
‫أن يكوِّن شيئا يشبه شجرة نسب ليتعقب أثر ساللة الوثائق ليعود إىل مصدرها‪.‬‬
‫هذا يشبه إىل حدٍ ما أن جتد جَدًّا مشرتكًا بينك وبني شخصٍ ما يف دولة أخرى‬
‫عرب تعقبك لالسم األخري‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫فيما بعد ‪ ،‬سنرى بشكل أكثر تفصيال كيف أن تصنيف الشواهد إىل عائالت‬
‫النصيّ يف بناء النص‬
‫ينتج عنه قاعدة منهجيّة أكثر معياريّة تساعد الناقد ِّ‬
‫األصلي‪.‬‬

‫يف الوقت الراهن ‪ ،‬يكفي أن تعلموا أن "بنجيل" هو أول من خطرت له هذه‬


‫الفكرة‪ .‬يف ‪ 1734‬قام بينجيل بنشر نسخته الرائعة من العهد اجلديد اليوناني ‪،‬‬
‫اليت طبع فيها يف الغالب النص املستلم )‪ (Textus Receptus‬مع‬
‫اإلشارة إىل املواضع اليت اعتقد أن لديه قراءة أفضل من تلك اليت يف النص‬
‫املستلم‪.‬‬

‫كان يوهان ج‪.‬ج‪ .‬فيتشتاين(‪ ) 1754 -1693‬واحدًا من أكثر الشخصيات‬


‫املثرية للجدل يف أوساط علماء الكتاب املقدس يف القرن الثامن عشر ‪ .‬يف سنٍ‬
‫صغرية أصبح "فيتشتاين" أسريًا لقضية نص العهد اجلديد و قراءاته املتباينة‬
‫وعمل على هذا املوضوع خالل دراسته املبكرة ‪.‬بعد بلوغه العشرين بيوم واحد‬
‫‪ ،‬يف ال‪ 17‬من مارس ‪ 1713‬تقدم إىل "جامعة بازل" بفرضية عنوانها " تنوع‬
‫القراءات يف نص العهد اجلديد‪ ".‬ومن بني أشياء أخرى ‪ ،‬بنى "فيتشتاين"‬
‫الربوتستانيتُّ املذهب دفوعه على أن القراءات املتباينة "ميكن أن يكون هلا‬
‫‪200‬‬
‫تأثريات موهِنَة ملسألة صحة وسالمة الكتاب املقدس‪ ".‬والسبب هو أن اهلل "‬
‫أنزل هذا الكتاب مرة واحدة و لألبد إىل العامل كوسيلة لتحقيق كمال‬
‫ٍّ للخالص سواء على‬
‫الشخصية اإلنسانية‪ .‬فهو يشتمل على كل ما هو ضروري‬
‫مستوى االعتقاد أو على مستوى السلوك‪ ".‬لذلك ‪ ،‬رمبا يكون للقراءات‬
‫املتباينة تأثري على نقاط ثانوية يف الكتاب املقدس ‪ ،‬لكن الرسالة األساسية تبقى‬
‫سليمة بغض النظر عن القراءت املتباينة اليت قد يالحظها املرء (‪). 17‬‬

‫يف عام ‪ 1715‬ذهب "فيتشتاين" إىل إجنلرتا (كجزء من جولة علميَّة ) ومُنِح‬
‫إذنًا خيوِّلُه القدرة على االطالع على املخطوطة السكندرية اليت تكلمنا عنها من‬
‫قبل عند احلديث عن "بنتلي"‪ .‬جز ٌء واحدٌ فحسب من املخطوطة هو ما لفت‬
‫انتباه "فيتشتاين" ‪:‬إنها واحدة من هذه األشياء بالغة الصغر اليت يكون هلا توابع‬
‫بالغة الضخامة ‪ .‬هذا الشئ كان يتعلق بفقرة ذات أهمية كبرية يف الرسالة األوىل‬
‫إىل تيموثي‪ .‬الفقرة موضع البحث ‪ 1 ،‬تيمو ‪، 16 : 3‬كثريًا ما استخدمها‬
‫املدافعون عن الالهوت األرثوذكسي لتدعيم وجهة النظر اليت تنص على أن‬
‫العهد اجلديد ذاته يطلق على يسوع اسم اإلله‪ .‬وذلك ألن النص ‪ ،‬يف معظم‬
‫املخطوطات‪،‬يشري إىل املسيح باعتباره " اهلل الذي ظهر يف اجلسد‪ ،‬وتربَّر يف‬
‫الروح‪ ".‬وكما شرحت يف الفصل الثالث ‪،‬معظم املخطوطات ختتصر األمساء‬
‫املقدسة (اليت تعرف يف الالتينية بالـ )‪ ، nomina sacra‬وهذا هو احلال ها‬

‫‪201‬‬
‫هنا أيضًا ‪ ،‬فالكلمة اليونانية اهلل )‪ (God‬يتم اختصارها إىل حرفني اثنني ‪،‬‬
‫هما "الثيتا" و"السيجما" ‪ ،‬مع وضع خط فوق رأسيهما ‪ .‬ما الحظه "فيتشتاين"‬
‫عند فحصه للمخطوطة السكندرية هو أن اخلط املوضوع فوق الرأس كان قد‬
‫رسم حبرب خمتلف عن احلرب املستخدم يف كتابة الكلمات احمليطة ولذا فقد بدى‬
‫متأخرٍ ‪a later‬‬
‫األمر وكأنه حدث نتيجة لتدخل أحدثته يد ناسخ يف وقت ِّ‬
‫‪hand .‬أضف إىل ذلك أنَّ اخلط األفقي يف وسط احلرف األول مل يكن يف‬
‫تسربَ من اجلانب اآلخر هلذا الرَّق‬
‫احلقيقة جزءًا من احلرف ولكنه خطٌ كان قد َّ‬
‫القديم‪ .‬بطريقة أخرى ‪ ،‬هذه الكلمة ‪ ،‬بدال من كونها اختصار لكلمة "اهلل"‬
‫(ثيتا‪ -‬سيجما )‪ ،‬هي يف الواقع احلرفان "أوميكرون" و "سيجما" ‪ ،‬أي أنها‬
‫كلمة أخرى خمتلفة متامًا ‪ ،‬وهي ببساطة تعين "الذي" ‪ .‬وهكذا ال تتحدث‬
‫القراءة األصلية اليت وردت يف املخطوطة عن املسيح باعتباره " اهلل الذي ظهر‬
‫يف اجلسد" وإمنا عن املسيح " الذي ظهر يف اجلسد‪ ".‬وفقًا هلذه الشهادة القدمية‬
‫الصادرة من املخطوطة السكندرية‪،‬مل يعد املسيح بوضوح يدعى اهلل يف هذه‬
‫الفقرة‪.‬‬

‫وحينما واصل "فيتشتاين" أحباثه ‪ ،‬وجد فقرات أخرى استخدمت على النمط‬
‫ذاته لتأكيد عقيدة ألوهية املسيح اليت هي يف الواقع فقرات متثل مشكالت نصيَّة‬
‫؛ وعندما متَّ حلُّ هذه املشكالت على أرضية علم النقد النصي ‪ ،‬متَّ حذف‬

‫‪202‬‬
‫اإلشارات إىل ألوهية يسوع يف معظم املواضع‪ .‬هذا حدث ‪،‬على سبيل املثال ‪،‬‬
‫عندما حذفت الفاصلة اليوحنَّاوية (رسالة يوحنا األوىل ‪) 8 - 7 : 5‬من نص‬
‫العهد اجلديد‪ .‬وحدث يف فقرة موجودة يف سفر أعمال الرسل ‪، 28 : 21‬‬
‫اليت تتحدث يف كثريٍ من املخطوطات عن " كنيسة اهلل ‪ ،‬اليت اقتناها بدمه ‪ ".‬ها‬
‫هنا مرة أخرى ‪،‬يبدو يسوع يف صورة من يتحدث عنه النص باعتباره إهلًا ‪.‬‬
‫لكنَّ النص يف املخطوطة السكندريّة وبعض املخطوطات األخرى يتحدث بدال‬
‫من ذلك عن " كنيسة السيد )‪ ، (Lord‬اليت اقتناها بدمه ‪ ".‬اآلن يسمى يسوع‬
‫سيدًا ‪ ،‬لكنه مل يطلق عليه اسم اهلل‪.‬‬

‫ولكونه واعيًا مبثل هذه املشكالت ‪ ،‬بدأ "فيتشتاين" يف التفكري جبدية يف قناعاته‬
‫الشخصية الالهوتية‪ ،‬وأصبح متأقلمًا مع مشكلة العهد اجلديد الذي نادرًا‪،‬إن‬
‫حدث أصال ‪ ،‬ما يدعو املسيح إهلًا ‪ .‬وبدأ يشعر باالنزعاج من زمالئه من‬
‫القساوسة و املعلمني يف مدينته األم "بازل" الذين خيلطون أحيانًا بني اهلل و بني‬
‫املسيح وذلك على سبيل املثال عندما يتحدثون عن ابن اهلل كما لو كان هو‬
‫نفسه اآلب‪،‬أو عند التوجه إىل اهلل اآلب يف الصالة باحلديث عن " جروحك‬
‫املقدسة "‪ .‬اعتقد "فيتشتاين" أنَّ الكثري من الدقة هو أمر مطلوب عند احلديث‬
‫عن األب و عن االبن ألنهما ليسا الشخص ذاته‪ .‬تأكيد "فيتشتاين" هلذه‬
‫القضايا بدأ يثري الشكوك بني زمالئه ‪،‬وهي الشكوك اليت تأكدت هلم عندما‬

‫‪203‬‬
‫قام "فيتشتاين" يف ‪ 1731‬بنشر كتاب يناقش مشكالت العهد اجلديد اليوناني‬
‫كمقدمة لطبعة جديدة كان منشغال باإلعداد هلا ‪ .‬بعض النصوص املتنازع‬
‫عليها ‪،‬واليت كان الالهوتيون يستعملونها يف تأسيس القاعدة الكتابية لعقيدة‬
‫تأليه املسيح‪ ،‬كانت من بني الفقرات اليت سيقت كنماذج يف هذا الكتاب ‪ .‬هذه‬
‫النصوص ‪،‬حسب ما كان "فيتشتاين" يعتقد‪ ،‬كانت يف حقيقة األمر قد‬
‫أُخضعت للتحريف من أجل أن تدعم هذه العقيدة اليت ما كان ميكن أن‬
‫تستخدم النصوص األصلية يف دعمها ؛ ‪.‬‬

‫هذه األفكار سببت هياجًا شديدًا بني زمالء "فيتشتاين" وأصبح كثريون منهم‬
‫خصومًا له‪ .‬وقد َألَحُوا على جملس مدينة "بازل" أن مينع "فيتشتاين" من نشر‬
‫نسخته من العهد اجلديد باليونانية واليت ومسوها بالـ" العمل عديم الفائدة‬
‫وغري املالئم ‪،‬بل و حتى اخلطري"؛ وقد استمروا باتهامه بأن " الشماس‬
‫"فيتشتاين" ينشر عقائدًا غري أرثوذكسية ‪ ،‬ويصرح يف أثناء حماضراته بتعاليم‬
‫مضادة لتعاليم الكنيسة اإلصالحية ‪،‬كما أنه لديه طبعة من العهد اجلديد‬
‫اليوناني سينشرها تشتمل على بعض البدع اخلطرية يشتبه يف كونها ذات عالقة‬
‫بالسوسيانية (عقيدة أنكرت الهوت املسيح )‪ )18( ".‬وعندما ُأخَْضِع جمللس‬
‫ٍّ بسبب وجهات نظره أمام اجمللس األعلى للجامعة ‪،‬متت أدانته العتناقه‬
‫تأدييب‬
‫رؤىً "عقالنية " تنكر الوحي املطلق للكتاب املقدس وتنكر وجود إبليس‬

‫‪204‬‬
‫والشياطني و تركز االنتباه على القضايا الغامضة يف الكتاب املقدس‪ .‬مت طرده‬
‫من عضوية جملس الشمامسة املسيحي و ُأجبِر على مغادرة "بازل"؛ ولذلك قام‬
‫باحلصول على مسكن يف "أمسرتدام" ‪ ،‬حيث استمر يف العمل على إجناز كتابه ‪.‬‬
‫ثم زعم فيما بعد أنَّ النزاع أجربه على تأخري موعد إصدار طبعته من العهد‬
‫اجلديد اليوناني (‪ ) 1752 - 1751‬لعشرين عامًا‪ .‬على الرغم من ذلك هذه‬
‫النسخة كانت رائعة وما تزال ذات قيمة للعلماء يف عصرنا هذا أكثر مما كانت‬
‫عليه طوال ال‪ 251‬عامًا السابقة ‪ .‬طبع "فيتشتاين" فيها النص املستلم كما‬
‫مجع أيضًا تشكيلة مدهشة من النصوص اليونانية والرومانية واليهوديَّة اليت‬
‫تتشابه مع األقوال املوجودة يف العهد اجلديد و اليت ميكن أن تساعد على‬
‫توضيح معناها‪ .‬كما ساق أيضًا عددًا ضخما من القراءات النصيَّة املتباينة‬
‫‪،‬حيث ساق حوالي ‪ 25‬خمطوطة من ذوات احلروف الكبرية و حنو ‪251‬‬
‫خمطوطة من ذوات احلروف الصغرية (تقريبًا ثالث أضعاف العدد الذي كان‬
‫متاحًا لـ " ِملّ ") كدليل ‪ ،‬وقد رتبهم بطريقة واضحة من خالل اإلشارة إىل كل‬
‫حرف كبري )‪ (majuscule‬حبرف كبري آخر مغاير و عرب استخدامه األرقام‬
‫العربية لكي يرمز إىل املخطوطات املكتوبة حبروف كبرية – وهي طريقة اإلشارة‬
‫اليت أصبحت هي املعيار طوال قرون وما تزال ‪،‬بصورة جوهرية ‪ ،‬تستخدم‬
‫على نطاق واسع إىل اليوم ‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫وعلى الرغم من القيمة الكبرية للنسخة اليت ألَّفها "فيتشتاين" ‪ ،‬إال أن النظرية‬
‫النصيَّة اليت كانت أساسًا هلا عادة ما ينظر إليها على أنها نظرية ساقطة متامًا ‪.‬‬
‫مل يلق "فيتشتاين" باال لالجنازات املتعلقة باملنهج اليت أحدثها "بنتلي" (الذي‬
‫َع ِملَ يف خدمته ذات يوم يف وظيفة جامع خمطوطات ) وتلك اليت أحدثها‬
‫"بنجلي" (والذي اعتربه عدوًّا)‪،‬وأصرَّ على أن خمطوطات العهد اجلديد‬
‫اليونانية ال ميكن الوثوق بها ألنها مجيعا‪ ،‬من وجهة نظره ‪،‬تعرضت للتحريف‬
‫لتتوافق مع الشواهد الالتينيَّة ‪ .‬ليس مثة دليلٌ على حدوث ذلك واحملصلة‬
‫النهائية الستخدام هذه الرؤية كمعيار أساسي للحكم على قيمة الشئ هي أنه‬
‫عندما حياكم شخص ما قراءة نصية متباينة فإن األجراء األمثل الذي ينبغي أن‬
‫يتخذه ليس أن يبحث عما تقوله أقدم الشواهد (هذه اليت‪،‬وفقا هلذه النظرية‬
‫‪،‬هي بعيدة كل البعد عن األصول!)‪ ،‬وإمنا أن يبحث عما تقوله الشواهد‬
‫األحدث(أال وهي خمطوطات العصور الوسطى املكتوبة باليونانية)‪.‬هذه النظرية‬
‫الشاذة مل يدعمها أيٌ من علماء النصوص البارزين‪.‬‬

‫بعد "فيتشتاين"‪ ،‬ظهر عددٌ من علماء النقد النصي ‪ ،‬مثل "ج‪.‬سيملر" و "ج‪.‬ج‪.‬‬
‫جريسباخ" ‪ ،‬الذين قام كل منهم بإسهامات أكرب أو أقل من إسهاماته يف جمال‬

‫‪206‬‬
‫تأسيس منهجية لتحديد الشكل األقدم لنص الكتاب املقدس يف مواجهة عددٍ‬
‫متزايدٍ من املخطوطات ( مثل اليت تظهر عن طريق االكتشافات ) اليت تؤكِّد‬
‫قضية التنوع‪ .‬بطريقة أو بأخرى ‪ ،‬مع ذلك ‪ ،‬مل تتحقق أي خطوات ناجحة‬
‫رئيسية يف هذا امليدان ملدة مثانني عامًا أخرى ‪ ،‬من خالل نشرٍ ذي حظ عاثر‬
‫لكنه ميثل ثورة يف هذا اجملال لنسخة تبدو صغرية احلجم نسبيًا من العهد اجلديد‬
‫اليوناني قام بتأليفها أحد علماء فقه اللغة وهو األملاني "كارل المخانّ"‬
‫(‪). 19( ) 1851 – 1793‬‬

‫قرر "المخانّ " ‪ ،‬يف الصفحات األوىل من كتابه ‪ ،‬أنَّ الدليل املستمد من النص‬
‫ليس كافيًا لتحديد ما كتبه املؤلفون األصليون ‪ .‬املخطوطات األصلية اليت كان‬
‫له قدرة على االطالع عليها كانت هي تلك اليت تنتمي للقرنني الرابع واخلامس‬
‫‪ -‬أي بعد مئات السنني من الوقت اليت أنتجت فيه املخطوطات األصلية‪ .‬من‬
‫كان باستطاعته أن يتنبأ بالتغريات املفاجئة اليت حدثت أثناء عملية النقل اليت‬
‫حدثت يف الفرتة اليت تفصل ما بني وقت كتابة املخطوطات األصلية وبني إنتاج‬
‫الشواهد املبكرة الباقية بعد ذلك بعدة قرون ؟‬

‫لذلك حدد "المخانّ " لنفسه مهمة أكثر بساطة ‪ .‬كان المخان يعلم أنَّ النص‬
‫املستلم مبينٌّ على تقليد خمطوط )‪ (manuscript tradition‬يرجع‬
‫تارخيه إىل القرن الثاني عشر ‪ .‬فرأى أنه بإمكانه أن يُ َْنتِجَ ما هو أفضل منه –‬

‫‪207‬‬
‫باعتباره أقدم منه بثمانية قرون – عرب إنتاج نسخة من العهد اجلديد تشبه تلك‬
‫اليت كان من املفرتض أن يبدو عليها العهد اجلديد عند نهاية القرن الرابع‬
‫تقريبًا‪.‬‬

‫فاملخطوطات املكتوبة باليونانية واليت جنت من الضياع جنبًا إىل جنب مع‬
‫املخطوطات اليت استخدمها "جريوم" يف الفوجلاتا و النصوص اليت اقتبس منها‬
‫هؤالء الكتاب من أمثال "إيريناوس" ‪ ،‬و"أورجيانوس" و "كيربيانوس"‪،‬‬
‫ستسمح بذلك على أسوأ الفروض ‪ .‬وهذا ما فعله ‪ .‬فعن طريق اعتماده على‬
‫كل ما تصل إليه يداه من املخطوطات القدمية املكتوبة باحلرف الكبري مضافًا‬
‫إليها أقدم املخطوطات الالتينية و االقتباسات اآلبائية من النص ‪ ،‬مل خيرت‬
‫تنقيح النص املستلم عند اللزوم فحسب(و هو السبيل الذي سار فيه سابقوه‬
‫ممن مل يكونوا راضني عن النص املستلم )لكنه ترك النص املستلم بالكليَّة و بنى‬
‫النص من جديد ‪ ،‬وفقًا ملبادئه اخلاصة‪.‬‬

‫وهكذا ‪ ،‬يف عام ‪ 1831‬انتهى من تأليف نسخة جديدة من النص مل يعتمد‬


‫فيه على النص املستلم ‪ .‬هذه كانت املرة األوىل اليت يتجرأ فيها أي إنسان على‬
‫فعل هذا األمر‪ .‬لقد استغرق األمر ما يزيد عن ثالثة قرون ‪،‬لكنَّ نسخة من‬
‫كليةً على الشواهد القدمية ظهرت أخريًا إىل‬
‫العهد اجلديد اليوناني اعتمدت َّ‬
‫الوجود‪.‬‬

‫‪208‬‬
‫غاية "المخانّ " من إنتاج نصٍ على احلال اليت كان عليها يف أواخر القرن‬
‫الرابع مل يكن مفهومًا دائمًا ‪ ،‬وحتى عندما صار الغرض مفهومًا مل حيصل‬
‫صاحب الكتاب دائمًا على التقدير املناسب‪ .‬اعتقد كثريٌ من القُرَّاء أن "المخانّ"‬
‫كان يدعي أنه جاء بالنص "األصلي" وعارضوا قيامه ‪ ،‬من ناحية املبدأ ‪،‬‬
‫بإبطال كل الشواهد تقريبًا (أي التقليد النصي املتأخر الذي يتضمن عددًا وافرًا‬
‫من املخطوطات )‪ .‬البعضُ اآلخرُ الحظوا التشابه يف املنهج بينه وبني "بنتلي"‬
‫الذي كانت لديه أيضًا فكرة مقارنة املخطوطات اليونانية األقدم مع‬
‫املخطوطات الالتينية للوصول إىل النص الذي كان مستخدمًا يف القرن الرابع‬
‫(الذي كان بنتلي يعتقد أنه النص الذي كان معروفًا لدى "أورجيانوس" يف بداية‬
‫ُميَ "المخان" أحيانًا " ُمقَلِّد بنتلي"‪ .‬إال أن‬
‫القرن الثالث)؛نتيجة لذلك ‪،‬س ِّ‬
‫"المخان" كان يف احلقيقة قد اخرتق العرف غري النافع الذي استقر بني أصحاب‬
‫املطابع وبني العلماء على حد سواء من إسباغ منزلة خاصة على النص املستلم‬
‫‪ ،‬وهي املنزلة اليت ال يستحقها النص املستلم بالتأكيد وذلك ألنه قد طبع و‬
‫أعيد طبعه ال ألن أحدًا يشعر أنه اعتمد على قاعدة نصوصية سليمة وإمنا فقط‬
‫ألن نصه كان معتادًا ومألوفًا‪.‬‬

‫‪209‬‬
‫بينما كان العلماء من أمثال "بنتلي" و"بينجيل" و "المخان" يقومون بتصفية‬
‫املناهج اليت كانت لتستخدم يف فحص القراءات املتباينة داخل خمطوطات العهد‬
‫اجلديد‪ ،‬كان مثة اكتشافات جديدة يف طور احلدوث على حنوٍ منتظم داخل‬
‫املكتبات القدمية و األديرة الشرقية منها و الغربية‪ .‬أكثر علماء القرن التاسع عشر‬
‫اجتهادًا يف جمال اكتشاف خمطوطات الكتاب املقدس ونشر نصوصها كان حيمل‬
‫امسًا طريفًا وهو "لوبيجوت فريدريك قسطنطني فون تشيندورف" (‪– 1815‬‬
‫‪.) 1874‬كان يسمى لوبيجوت (اليت تعين باألملانية " سبحوا اهلل ") ألنَّ أمَّه ‪،‬‬
‫قبل والدته ‪،‬كانت قد رأت رجال ضريرًا ‪،‬وخضوعًا منها للمعتقدات اخلرافية‬
‫اعتقدت أن ابنها سيولد ضريرًا ‪ .‬وعندما وُلِد سليمًا متاما نذرته أمُّه هلل من‬
‫خالل إطالق هذا االسم غري املعتاد عليه‪.‬‬

‫كان "تشيندورف" عاملًا متحمِّسا بشكل غري عادي رأى يف اشتغاله بنص العهد‬
‫اجلديد مَهَمَّة مقدسة أُلقيت على عاتقه بتكليف مساويّ‪ .‬فقد كتب ذات مرة‬
‫خلطيبته ‪،‬حينما كان يف أوائل العشرينات من عمره ‪ ":‬لقد محلتُ على كاهلي‬
‫َمهَمَّة مقدسة أال وهي النضال من أجل استعادة الشكل األصلي للعهد‬
‫اجلديد‪)"21(.‬‬

‫‪210‬‬
‫هذه املهمة املقدسة سعى إلجنازها عرب البحث عن كل خمطوطة خمتفية يف كل‬
‫مكتبة وديرٍ ميكنه الوصول إليه ‪ .‬فقام بعدد من الرحالت حول أوربا و إىل‬
‫"الشرق" ( يقصد ما نسميه اآلن الشرق األوسط )‪،‬ليعثر على‪،‬ولينقل‪،‬وليقوم‬
‫بنشر املخطوطات أينما حلَّ أو ارحتل ‪ .‬واحدة من أقدم جناحاته و أكثرها شهرة‬
‫هي املتعلقة مبخطوطة كانت معروفة بالفعل إال أنَّ أحدًا مل يكن مبقدوره‬
‫االطِّالع عليها ‪ .‬إنها املخطوطة اإلفراميية ‪(Codex Ephraemi‬‬
‫)‪Rescriptus‬احملفوظة يف املكتبة الوطنية يف باريس‪ .‬هذه املخطوطة هي يف‬
‫األصل خمطوطة يونانية من خمطوطات العهد اجلديد تنتمي للقرن اخلامس‬
‫حيَ يف القرن الثاني عشر حتى يتسنى ملن فعلوا‬
‫امليالدي ‪،‬لكنَّ نصها كان قد مُ ِ‬
‫ذلك بها أن يعيدوا استخدام صفحاتها اجللدية لتدوين بعض املواعظ اليت‬
‫حيَتَْ‬
‫ألقاها إفرايم بابا الكنيسة السوريانية‪ .‬وحيث إن الصفحات مل تكن قد مُ ِ‬
‫بشكل جذري‪،‬فقد ظلَّ باإلمكان مشاهدة بعض الكالم املكتوب حتت هذه‬
‫املواعظ وإن مل يكن بالوضوح الكايف لفك شفرات معظم كلماته – على‬
‫الرغم من أن عددًا من أرفع العلماء قد بذلوا وسعهم يف هذا االجتاه ‪ .‬قريبًا من‬
‫العصر الذي عاش فيه "تشيندورف" كانت بعض املواد الكيميائية اليت قد‬
‫تساعد على إظهار الكالم السفلي قد اكتُ ِشفَت ‪ .‬ومن خالل استعمال هذه‬
‫املواد حبذر وعرب التأنِّي يف سرب أغوار النص ‪،‬كان "تشيندورف" قد أصبح قادرًا‬
‫على متييز هذه الكلمات‪ ،‬وهكذا قام بأول عملية نسخ ناجحة هلذا النص‬
‫‪211‬‬
‫القديم ما أكسبه مسعة طيبة بني املهتمني بهذه األمور‪ .‬بعض هؤالء قاموا‬
‫ٍّ لرحالت "تشيندورف" إىل املناطق األخرى يف أوروبا و‬
‫بتقديم دعمٍ مالي‬
‫الشرق األوسط للبحث عن املخطوطات ‪ .‬بكل املقاييس ‪ ،‬كانت أشهر‬
‫اكتشافاته هي تلك اليت تتعلق بواحدة من أعظم خمطوطات الكتاب املقدس‬
‫حبق واليت ما تزال باقية ‪ ،‬أال وهي املخطوطة السينائية ‪ .‬قصة اكتشافها هي‬
‫درب من اخليال على الرغم من أن مصدرها هو الرواية املباشرة لتشيندورف‬
‫نفسه مكتوبةً خبط يده ‪ .‬كان تشيندورف قد قام برحلة إىل مصر يف عام ‪1844‬‬
‫‪،‬يف وقت مل يكن قد بلغ عامه الثالثني ليصل يف النهاية على ظهر مجل إىل‬
‫دير سانت كاثرين الواقع يف الصحراء ‪ .‬ما حدث هناك يف ال‪ 24‬من مايو عام‬
‫‪ 1844‬ليس مثة إىل اآلن من يصفه أفضل من كلماته الشخصية حيث يقول‪:‬‬

‫لقد حدث هذا عند سفح جبل سيناء ‪،‬عند دير سانت كاثرين ‪،‬حيث اكتشفت‬
‫واسطة عقد أحباثي مجيعها ‪ .‬فعند زيارتي للدير يف شهر مايو من العام ‪1844‬‬
‫‪،‬الحظت يف منتصف الرواق الكبري سلة كبرية وواسعة ملئى بالرقوق ؛‬
‫وعامل املكتبة الذي كان رجال واسع االطالع أخربني أن كومتني من مثل هذه‬
‫األوراق املهرتئة ‪،‬بسبب عامل الزمن‪ ،‬كانتا قد أضرمت فيهما النريان بالفعل‪.‬‬

‫ما كان مفاجأة بالنسبة لي هو أنين وجدت وسط كومة األوراق هذه عدد ال‬
‫بأس به من الصحف اليت حتوي نسخة من العهد القديم مكتوبة باليونانية واليت‬

‫‪212‬‬
‫بدت بالنسبة إلي واحدة من أقدم النسخ اليت رأيتها من قبل على اإلطالق ‪.‬‬
‫مسحت لي سلطات الدير أن أحتفظ بثلثيّ هذه الرقوق ‪ ،‬أي ما مقداره ثالثة و‬
‫أربعون صحيفة تقريبًا ‪،‬كان من املقرر أن يتم التخلص منها باحلرق‪ .‬لكنين مل‬
‫أستطع أن أقنعهم باحلصول على الباقي‪ .‬ما ظهر على مالحمي من السعادة‬
‫الغامرة أصابهم باالرتياب فيما يتعلق بقيمة املخطوطة ‪.‬قمت بنسخ صفحة من‬
‫نص إشعياء و إرمياء وأخذت على الرهبان عهدًا أن يعتنوا بكل ما تقع عليه‬
‫أيديهم من مثل هذه البقايا مبا ميليه عليهم ضمريُهم الديين (‪).21‬‬

‫حاول تشيندورف أن ينقذ ما تبقى من هذه املخطوطات لكنه مل يستطع أن يقنع‬


‫الرهبان أن يتنازلوا له عنها ‪ .‬بعد ذلك حبوالي ‪ 9‬سنوات عاد يف رحلة أخرى‬
‫ولكنه مل جيد هلذه البقايا أيَّ أثر ‪.‬ثم عاود الكرَّة مرة أخرى يف عام ‪،1859‬‬
‫ولكن هذه املرة حتت رعاية القيصر الروسي ألكسندر الثاني الذي كان له شغف‬
‫بكل ما يتعلق بالديانة املسيحية وخاصة اآلثار املسيحية القدمية ‪ .‬هذه املرة مل‬
‫يعثر تشيندورف على أيِّ أثرٍ للمخطوطة حتى جاء اليوم األخري من زيارته ‪.‬‬
‫فحينما دُ ِعيَ إىل حجرة القائم على أمر الدير‪ ،‬دخل معه يف نقاش فيما يتعلق‬
‫بالرتمجة السبعينيَّة (أي العهد القديم مكتوبًا باللغة اليونانيَّة)‪ ،‬فقال له القائم‬
‫على الدير ‪":‬أنا أيضًا قرأت السبعينية‪ ".‬واجته إىل ركن يف غرفته وسحب منه‬
‫مغلفًا بقماشٍ أمحر اللون ‪ .‬يقول تشيندورف‪ :‬فقمت بإزالة الغطاء عنه‬
‫جملدًا َّ‬

‫‪213‬‬
‫‪ ،‬فاكتشفت ‪،‬وياللمفاجأة ‪،‬ليس فقط هذه الكِسَر نفسها اليت كنت قد تناولتها‬
‫قبل ذلك خبمسة عشر عامًا من السلة ‪ ،‬وإمنا أيضًا أجزاءً أخرى من العهد‬
‫القديم ‪ ،‬و العهد اجلديد كامال ‪،‬وباإلضافة إىل ذلك ‪ ،‬رسالة برنابا و جزءًا‬
‫من رسالة الراعي هلرماس ‪ .‬ولشد ما غمرني من سعادة ‪،‬أحسست بالتزام‬
‫داخلي يأمرني بأن أخفي املخطوطة هذه املرة من القائم على الدير ومن الدير‬
‫كله ‪،‬فطلبت ‪ ،‬كما لو كنت غري مهتمٍ كثريا بها ‪ ،‬إذنًا بأن آخذ املخطوطة إىل‬
‫غرفة نومي لكي أفحصها بصورة أفضل يف أوقات فراغي (‪).22‬‬

‫يف وقت قصري تعرَّف تشيندورف على املخطوطة نظرًا لقيمتها – باعتبارها أقدم‬
‫ٍّ على نص العهد اجلديد ‪ ":‬أغلى ثروة تتعلق بالكتاب املقدس يف‬
‫شاهدٍ حيّ‬
‫الوجود – إنها الوثيقة اليت يتجاوز عمرها و أهميتها ما تتمتع به كل‬
‫املخطوطات اليت قمت بفحصها من قبل من عمر وأهمية‪ ".‬بعد مفاوضات‬
‫شاقة ومطوَّلة ‪ ،‬ذكَّر فيها تشيندورف الرهبان براعيه ‪ ،‬القيصر الروسي ‪ ،‬الذي‬
‫ستذهله هدية مثل هذه املخطوطة النادرة وسريدُّ بال شك حتيتكم بأفضل منها‬
‫عرب منح الدير تربعات مالية ‪ .‬يف النهاية ُسمِحَ لتشيندورف أن يعود باملخطوطة‬
‫إىل مدينة "ليبزج" حيث قام بإعداد نسخة فخمة منها تتكون من أربع جملدات‬
‫على نفقة القيصر‪ .‬وقد ظهرت هذه النسخة يف عام ‪ 1862‬يف االحتفال مبرور‬
‫األلفية األوىل على تأسيس اإلمرباطورية الروسيَّة (‪]*[. )23‬بعد قيام الثورة‬

‫‪214‬‬
‫الروسيّة ‪ ،‬أدى احتياج احلكومة اجلديدة إىل املال و عدم اهتمامها مبخطوطات‬
‫الكتاب املقدس إىل قيامها ببيع املخطوطة السينائية إىل ا ُملتَْحف الربيطاني نظري‬
‫مائة ألف جنيه اسرتليين؛وهي اآلن جزء من اجملموعة القيمة اليت متتلكها‬
‫املكتبة الربيطانية وهي معروضة يف مكان بارز يف غرفة املخطوطات باملكتبة‬
‫الربيطانية ‪.‬هذه كانت ‪،‬بطبيعة احلال ‪،‬واحدة فقط من مآثر تشيندورف الكثرية‬
‫يف ميدان الدراسات النصيَّة (‪ . )24‬يف اجلملة ‪ ،‬قام تشيندورف بنشر اثنني‬
‫وعشرين نسخة من النصوص املسيحية املبكرة بالتوازي مع مثان طبعات‬
‫منفصلة من العهد اجلديد اليوناني ‪ ،‬الطبعة الثامنة منهم ما تزال إىل اآلن متثل‬
‫كنزًا دفينًا من املعلومات فيما يتعلق بتوثيق الشواهد اليونانية واملرتمجة هلذه‬
‫القراءة املتباينة أو تلك ‪.‬إن إنتاجه كعامل ميكن تقييمه من خالل أحد املقاالت‬
‫الببليوغرافية (علم التعريف بالكتب واملخطوطات)اليت كتبها تأييدًا له أحد‬
‫العلماء يدعى "كاسرب رين جرجيوري"‪" :‬إن قائمة منشورات تشيندروف متأل‬
‫أمساؤها أحد عشر صفحة‪ ،‬كل صفحة منها مقسمة إىل ثالث أعمدة" (‪) .25‬‬

‫بروك فوس "ويستكوت" و فينتون جون أنتوني هورت‬

‫يدين علماء النقد النصي املعاصرون بفضل كبري إىل عاملني من جامعة كمريدج‬
‫هما "بروك فوس ويستكوت" (‪ ) 1911 - 1825‬و "فينتون جون أنتوني‬

‫‪215‬‬
‫هورت" (‪ ) 1892 -1828‬أكثر من أي شخص آخر يف القرنني الثامن عشر‬
‫والتاسع عشر ‪،‬وذلك نظري قيامهما بتطوير مناهج التحليل اليت ساعدتنا على‬
‫التعامل مع التقليد املخطوط للعهد اجلديد ‪ .‬فمنذ ظهور كتابهما الشهري يف عام‬
‫‪، 1881‬العهد اجلديد باللغة اليونانية األصلية‪،‬أصبح التعامل مع هذين‬
‫االمسني أمرًا الزمًا– سواء أكان هذا التعامل لتأكيد مفاهيمهم األساسية أو‬
‫إصالحًا للتفاصيل اليت وردت يف فرضياتهم أو يف إعداد مناهج بديلة لنظام‬
‫التحليل املقنع والرائع الذي قدمه كال من "ويستكوت" و "هورت ‪" .‬‬

‫إن القوة اليت يتسم بها هذا التحليل يرجع الفضل األكرب قليال فيها للعبقري‬
‫"هورت" على وجه اخلصوص‪.‬‬

‫ظهر مؤلَّف "ويستكوت" و "هورت" يف جملدين ‪ ،‬أحدهما كان طبعة حقيقية‬


‫من العهد اجلديد مبنية على جهدهما املشرتك الذي استمر لـ ‪ 28‬عامًا بغية‬
‫حتديد أيِّ النصني هو النص األصلي وذلك يف أي موضع تظهر فيه قراءات‬
‫متباينة داخل التقليد؛ أما اجمللد اآلخر فكان عرضًا ملبادئهما النقديَّة اليت ساروا‬
‫على نهجها يف تأليف هذا الكتاب‪.‬‬

‫هذا اجمللد األخري كتبه "هورت" وهو ميثل مسحًا عامًّا شديد اإلقناع و العقالنية‬
‫للمواد و املناهج املتاحة أمام العلماء الراغبني يف أن يأخذوا على عاتقهم القيام‬
‫مبهمة النقد النصيِّ ‪ .‬أسلوبُ الكتابة فيه كان شديد التكثيف فال توجد فيه كلمة‬
‫‪216‬‬
‫ليس هلا أهميتها ‪ .‬منطق الكتاب مقنع فلم يرتك شاردة وال واردة إال وتكلم‬
‫عنها‪ .‬إنه كتاب عظيم وهو بطريقة أو بأخرى كتاب لكل العصور يف هذا اجملال‪.‬‬
‫حتى إني ال أمسح ألحد من طالبي املتخرجني أن ينتهي من دراسته إال بعد أن‬
‫يصبح خبريًا فيه ‪.‬‬

‫لقد شغلت مشكالت نص العهد اجلديد ‪،‬على حنوٍ ما ‪،‬اهتمامات "ويستكوت"‬


‫و "هورت" طوال حياتهما التأليفية‪" .‬هورت" الذي كان قد حصل على قسط‬
‫من دراسة األعمال الكالسيكية والذي مل يكن يف البداية على وعي باحلالة‬
‫النصيَّة للعهد اجلديد ‪ ،،‬كتب وهو يف الثالثة والعشرين من عمره خطابًا إىل‬
‫صديقه "جون إلريتون" جاء فيه‪:‬‬

‫مل يكن لدي أيّ فكرة حتى األسابيع القليلة املاضية عن أهمية النصوص‪ ،‬فقد‬
‫قرأت قليال للغاية من العهد اجلديد اليوناني واستغرقت وقتا طويال يف قراءة‬
‫النص املستلم احلقري‪ ....‬لذلك فكثري من التغيريات يف مرجعٍ خمطوطٍ جيِّد جتعل‬
‫األمور تتضح ليس بطريقة عامّية ونظرية ‪،‬وإنِّما عرب إدخال معنى أعمق وأكثر‬
‫تأملَْ هذا النص املستلم احلقري الذي يعتمد بالكامل على خمطوطات‬
‫اكتماال ‪َّ ...‬‬
‫متأخرة ؛ إنها لنعمة أن يكون لدينا خمطوطات أقدم (‪).26‬‬

‫‪217‬‬
‫بعد ذلك بعامني فقط ‪،‬كان "ويستكوت" و"هورت" قد قررا أن حيرروا طبعة‬
‫جديدة من العهد اجلديد‪ .‬يف رسالة أخرى إىل إلريتون مؤرخة بتاريخ ‪ 19‬أبريل‬
‫‪ ، 1853،‬حيكي "هورت" قائال ‪:‬‬

‫مل أرَ أي شخص أعرفه باستثناء "ويستكوت" الذي قمت بزيارته لعدة ساعات‬
‫قليلة‪ .‬نتيجة واحدة من نتائج حديثنا رمبا أقصها عليك أيضًا ‪.‬أنا وهو سنقوم‬
‫ٍّ للعهد اجلديد بعد سنتني أو ثالث سنوات من اآلن إذا‬
‫بتأليف نص يوناني‬
‫وسعنا ذلك ‪" .‬المخان" و"تشيندورف" سيقدمان لنا مادة غنية ‪ ،‬لكن تقريبًا‬
‫ليس مبا فيه الكفاية‪ . . .‬هدفنا هو أن نزوِّد القساوسة بوجه عام ‪ ،‬واملدارس‬
‫ٍّ ميكن محله بسهولة ‪،‬عهد جديد ال يشوهه وجود‬
‫‪...‬إخل بعهدٍ جديدٍ يوناني‬
‫التحريفات البيزنطية (أي اليت تنتمي للقرون الوسطى) فيه (‪) . 27‬‬

‫توقعات "هورت" شديدة التفاؤل بأن هذه الطبعة لن يستغرق إخراجها إىل النور‬
‫وقتًا طويال كانت ما تزال قائمة يف نوفمرب من ذلك العام حينما يشري إىل أنه‬
‫يأمل أن يتمكن هو و "ويستكوت" من إخراج طبعتهما إىل النور " يف مدة أكثر‬
‫قليال من العام‪ )28(".‬ومبجرد أن بدأ العمل يف املشروع تالشت اآلمال يف‬
‫حدوث جناح سريع ‪ .‬بعد ذلك بتسع سنوات جند أن "هورت" ‪،‬يف خطاب كتبه‬

‫‪218‬‬
‫رفعًا ملعنويات "ويستكوت" ‪،‬الذي كانت معنوياته تضمحل بسبب فرص ما بني‬
‫يديه من عمل ‪ ،‬وليستحثه قائال"‪:‬‬

‫هذه املهمة جيب أن تكتمل ‪ ،‬ولن تكتمل على الوجه األكمل‪...‬من غري بذل‬
‫جمهودٍ ضخم ‪،‬وهي احلقيقة اليت ال يبدو أن أحدًا غرينا يف أوروبا على وعيٍ‬
‫بها ‪ .‬بالنسبة للحجم األكرب من القراءات ‪ ،‬لو ركزنا تفكرينا عليها دون الباقني‬
‫‪،‬فسيكون جهدنا غري متكافئ باملرة ‪ .‬لكنَّنا إذا اعتقدنا بأنه من املستحيل متاما أن‬
‫نفصل بني القراءات املهمة واألخرى غري ذات أهمية ‪ ،‬فينبغي أن أتردد يف‬
‫القول إن عملنا كله هو جهد ال يكافئ قيمة إصالح النص كله إىل أقصى حدٍ‬
‫ميكن الوصول إليه‪ .‬أعتقد أنه ليس لكلينا على اإلطالق أي عذر يف التخلي عن‬
‫هذه املهمة‪)29( .‬‬

‫ما كان هلم أن يتخلوا عن هذه املهمة ‪،‬لكنها مبرور الوقت أصبحت أكثر‬
‫صعوبة ووجوبًا‪ .‬يف النهاية ‪ ،‬استغرق األمر من هذين العاملني القادمني من‬
‫جامعة كامربدج ‪ 28‬عامًا يف عمل متواصل تقريبًا لكي ينتهوا من تأليف نصهم‬
‫مرفقًا مبقدمة كتبها "هورت ‪" .‬‬

‫لقد كان عملهم ذا قيمة عالية ‪ .‬فالنص اليوناني الذي أنتجه "ويستكوت" و‬
‫"هورت" شديد الشبه بشكل ملحوظ بالنص املستخدم اآلن على نطاق واسع‬
‫بني العلماء ‪،‬أي بعد إنتاجهما له مبا يزيد عن قرن ‪ .‬ال يعين هذا أنه ليس هناك‬
‫‪219‬‬
‫جديد يف ميدان اكتشاف املخطوطات أو أنَّه ليس هناك تقدم مت إجنازه يف ميدان‬
‫النظريات أو أنه ليس مثة أي اختالفات يف اآلراء قد اندلعت منذ ذلك الوقت‬
‫الذي عاش فيه "ويستكوت" و "هورت" ‪ .‬إىل اآلن ‪ ،‬حتى مع ما حققناه من‬
‫تقدم يف امليدان التقين و املنهجي ‪ ،‬وحتى مع وجود مصادر للمخطوطات بني‬
‫أيدينا هي أكرب حجمًا إذا ما قورنت مبا كان لديهما ‪،‬فإن نصوصنا اليونانية‬
‫اليوم حتمل تشابهًا غري العادي مع النص اليوناني الذي أنتجه "ويستكوت" و‬
‫"هورت" ‪ .‬لن خيدم غرضي من عمل هذا الكتاب أن أدخل يف نقاش موسع عن‬
‫اإلجنازات املنهجيَّة اليت حققها كال من "ويستكورت" و"هورت" يف بناء نصٍ‬
‫العهد اجلديد اليوناني (‪. )31‬امليدان الذي رمبا ثبتت فيه القيمة العالية لعملهما‬
‫هي جتميع املخطوط ‪ .‬حيث إن "بنجيل" كان قد اعرتف يف البداية أن‬
‫املخطوطات ميكن مجعها معًا يف جمموعات مصنفة على أساس "عائلي" (شئ‬
‫مثل أن يكتب شخص ما سالسل نسب أفراد عائلة )‪ ،‬كما حاول العلماء أن‬
‫يقسموا جمموعات عديدة من الشواهد إىل عائالت ‪ .‬كان ويستكورت و‬
‫"هورت" معنيني بشدة بهذه احملاولة كذلك‪ .‬وجهة نظرهم خبصوص هذه األمر‬
‫كانت مبنية على مبدأ وهو أن املخطوطات تنتمي إىل العائلة ذاتها ماداموا‬
‫يتفقون يف أسلوب صياغتهم ‪ .‬بكلمات أخرى ‪ ،‬لو أن خمطوطتني اشتملتا على‬
‫الصياغة ذاتها لعدد ما ‪ ،‬ينبغي أن تكونا يف النهاية منحدرتني من املصدر ذاته –‬

‫‪220‬‬
‫إما للمخطوطة األصلية أو إىل نسخة منها ‪ .‬ألن املبدأ كان أحيانًا ينصُّ على أن‬
‫" التطابق يف القراءة يتضمن التطابق يف األصل"‪.‬‬

‫بإمكان املرء حينئذٍ أن يكوِّن جمموعات عائلية مبنيةً على التوافقات النصيَّة بني‬
‫املخطوطات العديدة احملفوظة ‪ .‬حسب وجهة نظر "ويستكوت" و"هورت" كان‬
‫مثة أربع عائالت رئيسية من الشواهد‪:‬‬

‫)‪(1‬النص السورياني (أو ما مساه البعض اآلخر من العلماء النص‬


‫البيزنطي)‪،‬واليت تضم معظم املخطوطات اليت ترجع إىل القرون الوسطى‬
‫املتأخرة؛هناك العديد من هذا النوع لكنَّ تشابهها يف الصياغة مع النص‬
‫األصلي ليس واضحًا ؛(‪ )2‬النص الغربي ‪ ،‬يتشكل من املخطوطات اليت‬
‫ميكن إرجاع تارخيها إىل عصر قديم جدا‪ -‬النموذج األصلي البد أن تارخيه‬
‫كان قريبًا من وقت ما يف القرن الثاني على األقل ؛ هذه املخطوطات ‪،‬مع‬
‫ذلك ‪ ،‬هي جتسيد ملمارسات النسخ الشاذة اليت كان يقرتفها النُسَّاخ يف هذه‬
‫الفرتة قبل أن يصري نسخ النصوص حرفة يشتغل بها احملرتفون ؛(‪ )3‬النص‬
‫السكندري ‪ ،‬نسبة إىل اإلسكندرية ‪،‬حيث متيز النساخ هناك باخلربة و احلذر‬
‫لكنهم قاموا يف بعض األحيان بتحريف النصوص من خالل تغيري صياغة‬
‫األصول ليجعلوها أكثر قبوال من الناحية النَّحَْويَّة واألسلوبية ؛(‪ )4‬النص‬
‫احملايد ‪ ،‬الذي كان يتشكل من املخطوطات اليت مل تكن قد مرَّت بأيِّ تغيري أو‬

‫‪221‬‬
‫مراجعة جديَّتني أثناء نسخها بل مثَّلت نصوص املخطوطات األصلية على وجه‬
‫أدق ‪.‬‬

‫النموذجان الرئيسان هلذا النص احملايد ‪ ،‬حسب رأي "ويستكوت"‬


‫وهورت‪،‬هما املخطوطة السينائية (اليت اكتشفها تشيندورف) و املخطوطة‬
‫الفاتيكانية‪ ،‬املكتشفة داخل املكتبة الفاتيكانية‪.‬‬

‫هاتان كانتا هما املخطوطتان األكثر قدمًا اللتان كانتا بني أيدي "ويستكوت"‬
‫و"هورت" ومن وجهة نظرهما كانتا أعلى مقامًا من أي خمطوطات أخرى‬
‫ألنهما ميثالن ما يعرف بالنص احملايد‪.‬‬

‫كثري من األشياء تغريت مصطلحاتها منذ عصر "ويستكوت" و"هورت" ‪ :‬مل‬


‫يعُد العلماء يتحدثون عن النص احملايد ‪،‬و أدركت الغالبية أن النصَّ الغربيَّ هو‬
‫جدَت يف الغرب و يف الشرق‬
‫تسمية خاطئة ألنَّ املمارسات النسخية الشاذة ُو ِ‬
‫على حدٍ سواء ‪.‬‬

‫أضف إىل ذلك أن النظام الذي وضعه "ويستكوت" و"هورت" خضع لتدقيقات‬
‫قام بها العلماء الالحقون‪ .‬معظم العلماء ‪،‬على سبيل املثال ‪ ،‬يعتقدون أن‬
‫النصني احملايد والسكندري هما شئ واحد ‪ :‬لكنَّ املسألة هي أن بعض‬
‫املخطوطات متثِّل هذا النص على حنوٍ أفضل من البعض اآلخر ‪.‬ثمَّ هناك أيضًا‬

‫‪222‬‬
‫االكتشافات اهلامة للمخطوطات ‪،‬خاصة الربديات‪ ،‬اليت وقعت منذ عصرهم‬
‫(‪ .)31‬مع كل ذلك ‪،‬مايزال املنهج األساسي لويستكورت وهورت يضطلع‬
‫بدورٍ بالنسبة للعلماء الذين حياولون أن يقرروا املوضع الذي وقعت فيه‬
‫حتريفات متأخرة و املوضع الذي ميكننا أن جند فيه املرحلة املبكرة من النص‪.‬‬

‫كما سنرى يف الفصل التالي ‪ ،‬هذا املنهج األساسي هو منهج فهمه يسري‬
‫نسبيًاوذلك ألنَّه قد صِيغَ بشكل واضح‪ .‬تطبيقه على املشكالت النصيَّة ميكن أن‬
‫يكون ممتعًا بل وحتى مسليًّا حينما نعمل على حتديد أي القراءات املتباينة يف‬
‫خمطوطاتنا ميثِّل كلمات النص كما كتبته أيادي مؤلفيه وأيها ميثِّل التغيريات اليت‬
‫اقرتفها النساخ املتأخرون ‪.‬‬

‫‪223‬‬
‫)‪(1‬لالطالع على دراسة كالسيكية ترصد الطريقة اليت ُفهِمَ بها الكتاب املقدس ومت التعامل معه من خالهلا يف القرون‬
‫الوسطى ‪ ،‬انظر كتاب بريللي مسالي " )‪ (Beryl Smalley‬دراسة الكتاب املقدس يف العصور الوسطى ‪" (The‬‬
‫( )‪Study of the Bible in the Middle Ages‬من مطبوعات دار كالرندون ‪،‬أكسفورد‪).1941،‬‬

‫)‪(2‬ريتشارد سيمون )‪"، ( Richard Simon‬تاريخ نقدي لنص العهد اجلديد ‪" (A Critical History of the‬‬
‫( )‪Text of the New Testament‬لندن ‪ :‬ر‪.‬تايلور ‪ ، ) 1689،‬يف املقدمة‪.‬‬

‫)‪(3‬سيمون "تاريخ نقدي" جزء ‪ ، 1‬ص ‪.65‬‬

‫)‪(4‬سيمون "تاريخ نقدي" جزء ‪ ، 1‬ص ‪.31 -31‬‬

‫)‪(5‬سيمون "تاريخ نقدي" جزء ‪ ، 1‬ص ‪.31‬‬

‫)‪(6‬قام جورج وارنر كومل باقتباس هذه الفقرة يف كتابه " العهد اجلديد ‪ :‬تاريخ حبث مشكالته ‪" (he New‬‬
‫( )‪Testament: The History of the Investigation of Its Problems‬ناشفيل ‪:‬مطبعة أبينجدون‬
‫‪ ،) 1972،‬ص ‪.41‬‬

‫)‪(7‬السرية الذاتية الكاملة اليت نعتمد عليها ما تزال هي تلك اليت كتبها حيمس هنري مونك يف كتابه ‪،‬حياة ريتشارد‬
‫بنتلي‪ ،‬الصادر يف جملدين (لندن‪ :‬ريفنجتون‪).1833 ،‬‬

‫)‪(8‬هذه الفقرة مقتبسة من كتاب مونك ‪،‬حياة بنتلي ‪.398 : 1 ،‬‬

‫)‪(9‬مونك ‪ ،‬حياة بنتلي‪.399 ،‬‬

‫)‪(10‬مقرتحات لطباعة طبعة جديدة من العهد اجلديد اليوناني و نسخة القديس هريومز الالتينية (لندن‪ ،‬عام ‪،) 1721‬‬
‫ص ‪.3‬‬

‫)‪(11‬انظر ‪،‬حياة بنتلي ‪ ،‬ملونك اجمللد ‪.133 – 131 : 2‬‬

‫)‪(12‬مونك ‪،‬حياة بنتلي ‪،‬ص ‪.136‬‬

‫‪224‬‬
‫)‪(13‬مونك ‪،‬حياة بنتلي ‪،‬ص ‪.137 – 135‬‬

‫)‪(14‬لالطالع على سريته كاملة ‪ ،‬انظر كتاب جون سي ‪.‬إف‪.‬بروك ‪،‬سرية حياة و كتابات جون ألربت بينجيل‪(،‬لندن ‪:‬‬
‫ر‪.‬جالدينج ‪).1842،‬‬

‫)‪(15‬املرجع السابق ‪،‬ص ‪.316‬‬

‫)‪(16‬رأينا هذا املبدأ موضع البحث بالفعل ‪ ،‬انظر األمثلة يف مرقس ‪ ، 2 : 1‬و متى ‪ 36 : 24‬اليت نوقشت يف الفصل‬
‫ال‪.3‬‬

‫)‪(17‬سي‪.‬إل‪.‬هالربت باول ‪ ،‬جون جيمس فيتشتاين‪: 1754 - 1693،‬قصة حياته ‪ ،‬عمله ‪ ،‬وبعض معاصريه‬
‫(لندن‪:‬سباك‪،) 1938،‬ص ‪ ، 15‬و ‪.17‬‬

‫‪º‬هذه هي ترمجيت هلذه اجلملة حسب فهمي هلا واهلل أعلى وأعلم‪:‬‬

‫‪For Wettstein, these texts in fact had been altered precisely in order to‬‬
‫‪incorporate that perspective: the original texts could not be used in support of‬‬
‫‪it.‬‬

‫)‪(18‬هالربت باول ‪ ،‬جون جيمس فيتشتاين‪،‬ص ‪.43‬‬

‫)‪(19‬المخان معروف يف احلوليات الثقافية بأنه الشخص الذي ‪ ،‬أكثر من أي أحد سواه ‪،‬ابتكر منهجًا ألجل تكوين‬
‫العالقة الَنسَبيَّة بني املخطوطات يف التقليد النصي للمؤلفني الكالسيكيني‪ .‬اهتمامات األولية يف جمال عمله مل يكن ‪ ،‬يف‬
‫حتديًا فريدًا وممتعًا لعلماء‬
‫حقيقة األمر‪ ،‬هلا عالقة بكتابات العهد اجلديد‪ ،‬لكنه رأى بالفعل أن هذه الكتابات تفرض عليه ِّ‬
‫النصوص‪.‬‬

‫)‪(20‬هذه الفقرة مقتبسة من كتاب "نص العهد اجلديد" مليتزجر و إرمان ‪،‬ص ‪.172‬‬

‫)‪(21‬قنسطنطني فون تشيندورف ‪،‬متى كتبت أناجيلنا؟()?‪( When Were Our Gospels Written‬لندن ‪:‬ذا‬
‫ريليجيوس تراكت سوساييت‪) 1866 ،‬ص ‪.23‬‬

‫)‪(22‬املصدر السابق ‪ ،‬ص ‪.29‬‬

‫)‪(23‬حتى يومنا هذا ما يزال رهبان دير سانت كاترين يصرُّون على أن تشيندورف مل "يعطَ" املخطوطة وإمنا فرَّ بها‪.‬‬

‫‪225‬‬
‫)‪(24‬منذ عصر تشيندورف ‪،‬اكتشفت خمطوطات أكثر أهمية ‪ .‬على وجه اخلصوص ‪ ،‬طوال القرن العشرين كشف‬
‫األثريون عن عدد من املخطوطات املكتوبة على ورق الربدي ‪ ،‬اليت يرجع تارخيها إىل ما هو أقدم من املخطوطة السينائية بـ‬
‫‪ 151‬عامًا‪ .‬معظم هذه الربديات هي على شكل ِكسَر ‪ ،‬لكنَّ بعضها كامل ‪ .‬حتى اآلن ‪،‬حوالي ‪ 116‬بردية مت الكشف عنها‬
‫ووضعت يف فهارس ؛ هذه ال‪ 116‬بردية تضم أجزاء من غالبية كتب العهد اجلديد‪.‬‬

‫)‪(25‬من كتاب "تشيندورف" (طبع عام ‪ 1876‬يف مكتبة) " ‪ " Bibliotheca Sacra 33‬لكاسرب ر‪.‬جرجيوري ‪،‬‬
‫ص‪.193 - 153‬‬

‫)‪(26‬حياة ورسائل فينتون جون أنتوني "هورت" ‪ ،‬من تأليف أرثر فينتون هورت(لندن‪:‬مطبعة ماكميالن ‪،) 1896،‬ص‬
‫‪.211‬‬

‫)‪(27‬املرجع السابق ‪،‬ص ‪.251‬‬

‫)‪(28‬املرجع السابق ‪،‬ص ‪.264‬‬

‫)‪(29‬املرجع السابق ‪،‬ص ‪.455‬‬

‫)‪(30‬لالطالع على موجز هلذه املبادئ يف نقد النصوص اليت استخدمها "ويستكوت" و "هورت" يف تأليف نصهم من العهد‬
‫اجلديد ‪ ،‬انظر كتاب‪" ،‬نص العهد اجلديد"‪،‬مليتزجر و إرمان ‪،‬ص ‪.181 -174‬‬

‫)‪(31‬انظر اهلامش رقم ‪ 24‬يف األعلى‪.‬‬

‫‪226‬‬
‫يف هذا الفصل سنقوم بإلقاء الضوء على املناهج اليت أنتجها العلماء لكي‬
‫يصلوا إىل الشكل " األصليّ" من النص (أو على األقل "أقدم ما ميكن احلصول‬
‫عليه" من هذا الشكل ) و ليصلوا إىل شكل النص الذي جيسد التحريف الذي‬
‫أحدثه النسَّاخ يف العصور التالية‪ .‬بعد توضيح هذه املناهج ‪،‬سأشرح ‪،‬عرب‬
‫الرتكيز على ثالث قراءات نصيَّة متباينة موجودة يف التقليد املخطوط لعهدنا‬
‫اجلديد ‪ ،‬كيف ميكننا استخدام هذه املناهج‪ .‬لقد اخرتت هذه األمثلة الثالثة ألنَّ‬
‫كل واحدٍ منها له أهميته البالغة يف تفسري السفر الذي حيتويه؛ فوق ذلك ‪،‬‬
‫ٍّ من هذه القراءات يف الغالبية الساحقة من ترمجاتنا‬
‫ليس هناك وجود ألي‬
‫اإلجنليزية املعاصرة للعهد اجلديد‪ .‬أي أنَّ هذه الرتمجات اليت يستخدمها غالبية‬
‫القارئني باإلجنليزية مبعنى آخر ‪،‬وحسب وجهة نظري‪ ،‬هي تعتمد على النص‬
‫اخلطأ ‪،‬واعتمادها على النص اخلطأ يشكل فارقًا كبريًا عند تفسري األسفار‪.‬‬

‫‪227‬‬
‫يف البداية ينبغي أنَّ نتعرض للمناهج اليت طوَّرها العلماء لتساعدهم على‬
‫حتديد أيِّ القراءات النصيَّة متثِّل القراءة األصلية وأيُّها ميثل التغيريات اليت‬
‫أحدثها النسَّاخ يف عصور متأخرة‪ .‬كما سنرى ‪ ،‬ليس بناء شكل أقدم من النص‬
‫باألمر اليسري دائمًا ؛ بل قد يكون ممارسة مرهقة‪.‬‬

‫أكثرية علماء النقد النصيّ اليوم عندما يصلون إىل مرحلة اختاذ القرارات‬
‫خبصوص الشكل األقدم من النص سيطلقون على أنفسهم اسم االنتقائيني‬
‫العقالنيني ‪(rational eclecticists) .‬هذا يعين أنهم "ينتقون" ( وهو‬
‫معنى كلمة )" ‪ " eclectic‬القراءة النصيَّة اليت تعرب أفضل تعبري عن الشكل‬
‫األقدم من النص وذلك من بني العديد من القراءات النصيَّة مستخدمني لفعل‬
‫ذلك جمموعة من احلجج النصيَّة (العقالنية)‪ .‬هذه احلجج تعتمد على دليل يتم‬
‫تقسيمه عادةً إما إىل دليل خارجيّ أو داخليّ حسب طبيعته‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫الرباهني املبنية على أدلة خارجية تعين تأييد إحدى املخطوطات املوجودة هلذه‬
‫القراءة أو لتلك ‪.‬ما هي املخطوطات اليت ميكنها أنَّ تشهد على صحة قراءة‬
‫؟هل هذه املخطوطات ميكن االعتماد عليها؟ وعلى أيِّ أساسٍ بُين هذا‬
‫التقسيم‪..‬أي إىل خمطوطة ميكن االعتماد عليها وأخرى ال ميكن االعتماد عليها‬
‫؟‬

‫عند التفكري يف املخطوطات اليت تدعم قراءة ما على حساب القراءة األخرى ‪،‬‬
‫رمبا دُفِع املرء منا ببساطة إىل أنَّ يبذل جهدًا خارقًا لكي يرى أيَّ القراءة املتباينة‬
‫هلا وجود يف غالبية الشواهد (أي املخطوطات)املوجودة ‪ .‬معظم العلماء اليوم‬
‫‪،‬رغم ذلك ‪ ،‬ليسوا مقتنعني متامًا بأن غالبية املخطوطات هي بالضرورة ما‬
‫مينحنا أفضل نصِّ متاح ‪ .‬من اليسري تفسري السبب وراء ذلك من خالل بعض‬
‫التوضيحات ‪ .‬فلنفرتض أنه بعد أنَّ ُكتِبَت املخطوطة األصلية اليت حتوي نصًا‬
‫ما‪ ،‬نسخت منها نسختان ‪،‬رمبا نطلق عليهما االمسني ( أ) و (ب)‪ .‬هاتان‬
‫النسختان ‪،‬بطبيعة احلال ‪،‬سيكون بينهما اختالفات بطريقة أو بأخرى – رمبا‬
‫هي اختالفات هامة و على األرجح هي اختالفات يسرية ‪ .‬اآلن لنفرتض أنَّ‬
‫النسخة (أ) قد نسخت من خالل ناسخ واحد آخر فقط ‪ ،‬لكنّ النسخة (ب)‬

‫‪229‬‬
‫نسخت من خالل مخسني ناسخ ‪.‬ثم حدث أنَّ فقدت املخطوطة األصلية‬
‫‪،‬وكذلك النسختان (أ) و (ب)‪،‬ليصبح ما تبقى لدينا يف شكل تقليد نصيّ هما‬
‫الواحد واخلمسون نسخة اليت متثل اجليل الثاني ‪،‬واحدة منهم نسخت من‬
‫النسخة (أ) و اخلمسون الباقية مت نسخهم من النسخة (ب)‪ .‬لو أنَّ إحدى‬
‫القراءات موجودة يف املخطوطات اخلمسني ختتلف عن قراءة موجودة يف‬
‫املخطوطة الوحيدة (املنسوخة من (أ))‪ ،‬فهل القراءة األوىل منهما (أي‬
‫املوجودة يف اخلمسني نسخة) بالضرورة هي األكثر احتماال أنَّ تكون القراءة‬
‫األصلية ؟ال ‪ ،‬على اإلطالق – حتى لو ثبت أنها متكررة يف الشواهد اخلمسني‬
‫مخسني مرة ‪ .‬يف الواقع ‪ ،‬الفارق النهائي الذي يدعم تلك القراءة ليس نسبة‬
‫مخسني إىل واحد ‪ .‬بل الفارق هو بنسبة واحد إىل واحد (أ يف مقابل ب )‪.‬‬
‫قضية عدد املخطوطات اليت تدعم قراءة على أخرى يف حد ذاتها ‪،‬هلذه‬
‫األسباب‪ ،‬ليست وثيقة الصلة حتديدًا مبسألة حتديد أيِّ القراءات املوجودة يف‬
‫خمطوطاتنا احملفوظة هي اليت متثِّل الشكل األصلي (أو األقدم) من النص‪.‬‬

‫العلماء على وجه العموم مقتنعون ‪،‬هلذه األسباب‪ ،‬أنَّ اعتباراتٍ أخرى هي‬
‫األكثر أهمية عند حتديد أيِّ القراءات هي األَ َْولَى بأن تعترب الشكل األقدم من‬
‫النص‪.‬‬

‫‪230‬‬
‫إحدى هذه االعتبارت األخرى هي ُعمَْرُ املخطوطة اليت تدعم قراءة ما ‪ .‬أنَّ‬
‫العثور على الشكل األقدم من النص يف املخطوطات األقدم هو أمر كبري‬
‫االحتمال‪ -‬بالوضع يف االعتبار أنه من املألوف جدا أنَّ يزيد مرور الزمن‬
‫حجم التغيريات اليت تتعرض هلا املخطوطة ‪ .‬هذا بطبيعة احلال ال يعين أننا‬
‫نقول أنَّ املخطوطات األقدم جيب اتباعها بال أي نقاش يف كل احلاالت ‪ .‬وهذا‬
‫لسببني اثنني ‪ ،‬أوهلما سبب منطقي والثاني سبب تارخييّ‪ .‬أمَّا عن السبب‬
‫املنطقي ‪،‬فلنفرتض أنَّ خمطوطة من القرن اخلامس تشتمل على قراءة واحدة‬
‫‪،‬بينما حتتوي خمطوطة من القرن الثامن على قراءة خمتلفة ‪ .‬فهل يلزم أنَّ تكون‬
‫القراءة املوجودة يف خمطوطة القرن اخلامس هي اليت متثِّل الشكل األقدم من‬
‫النص ؟ ال ‪ ،‬ذلك غري الزم ‪ .‬ماذا لو أنَّ خمطوطة القرن اخلامس قد متَّ نسخُها‬
‫من نسخة أخرى يرجع تارخيها إىل القرن اخلامس ‪ ،‬بينما األخرى اليت تنتمي‬
‫إىل القرن الثامن قد نسخت من نسخة ترجع إىل القرن الثالث ؟ يف تلك احلالة‬
‫‪ ،‬خمطوطة القرن الثامن هي اليت ستحتوي على القراءة األقدم ‪.‬‬

‫السبب الثاني ‪،‬أي ذو البعد التارخيي ‪ ،‬يف أنَّ املرء ال ميكن ببساطة أنَّ ينظر إىل‬
‫ما تقوله املخطوطة األقدم‪ ،‬بعيدًا عن أي اعتبارات أخرى‪ ،‬هو أنَّ املرحلة‬
‫املبكرة من مراحل نسخ النصوص ‪،‬كما رأينا من قبل ‪ ،‬كانت أيضًا أقل‬
‫املراحل انضباطًا ‪ .‬ففي تلك املرحلة كان النسَّاخ غري احملرتفني يف أغلب األحيان‬

‫‪231‬‬
‫هم من تولّوا أمر نسخ نصوصنا – وضمَّنوها الكثري من األخطاء ‪ .‬لذلك ‪،‬‬
‫فعمر املخطوطة له أهميته ‪،‬لكنه ليس املعيار املطلق ‪ .‬هذا ما جيعل غالبية نقاد‬
‫النصوص "انتقائيني عقالنيني"‪ .‬فهم يعتقدون أنَّ سوق عدد كبري من احلجج‬
‫تدعيمًا هلذه القراءة أو تلك هو شئٌ ضروريّ ‪ ،‬وليس االعتماد ببساطة على‬
‫عدد املخطوطات أو أقدمها فحسب ‪ .‬مع ذلك ‪،‬وبعد أخذ كل هذه األمور يف‬
‫االعتبار‪،‬لو أنَّ غالبية خمطوطاتنا األقدم تدعم قراءة ما ضد األخرى فمن‬
‫املؤكد أنَّ هذه العوامل جمتمعة ينبغي أنَّ ينظر إليها باعتبارها متثل أهمية يف‬
‫عملية اختاذ القرارات املتعلقة بالنص‪.‬‬

‫ملمح آخر يتميز به الدليل اخلارجي وهو النطاق اجلغرايف للمخطوطات الذي‬
‫يدعم قراءة ما أكثر من القراءة األخرى ‪ .‬فلنفرتض أنَّ قراءة ما وجدت يف عددٍ‬
‫من املخطوطات ‪ ،‬لكنَّ هذه املخطوطات كلها من الواضح أنَّ مكان نسخها‬
‫يرجع ‪،‬فلنقل ‪،‬إىل روما ‪ ،‬بينما عددٌ كبريٌ من املخطوطات األخرى يرجع‬
‫أصلها إىل مصر وفلسطني و آسيا الصغرى وبالد الغال يعطي قراءة أخرى ‪.‬‬
‫ففي هذه احلالة ‪،‬البد أنَّ يرتاب الناقد يف أنَّ القراءة األوىل هي اختالف يعود‬
‫إىل أسباب " حملِّيَّة" (أي أنَّ النسخ اليت أنتجت يف روما كلها حتمل اخلطأ ذاته )‬
‫وأنَّ القراءة األخرى هي القراءة األقدم ومن احملتمل أكثر أنها تتضمن النصَّ‬
‫األصليّ‪.‬‬

‫‪232‬‬
‫من الراجح أنَّ املعيار اخلارجي األكثر أهميَّة الذي يتبعه العلماء هو التالي‪:‬‬

‫لكي يُ َْنظَر إىل قراءة ما باعتبارها القراءة "األصلية"‪ ،‬فالبد أنَّ يعثر عليها يف‬
‫أفضل املخطوطات ويف أفضل جمموعات املخطوطات ‪ .‬لكنه أيضًا معيارٌ خادعٌ‬
‫آخرُ ‪ ،‬لكنه يستخدم على النحو التالي ‪ :‬بعض املخطوطات ميكن ‪،‬ألسباب‬
‫عديدة‪،‬إثبات أنها أعلى قيمةً من املخطوطات األخرى ‪ .‬فعلى سبيل املثال‬
‫‪،‬متى يكون الدليل الداخلي (سنناقشه فيما بعد) حامسًا يف تدعيمه لقراءة ما‪،‬‬
‫فإن هذه املخطوطات(أي األعلى قيمة)غالبًا ودائمًا ما حتتوي هذه القراءة ‪،‬‬
‫بينما املخطوطات األخرى ‪،‬واليت عادةً ما تكون ‪،‬كما سنوضِّح‪ ،‬خمطوطات‬
‫أحدث عمرًا‪ ،‬تتضمن القراءة املغايرة ‪ .‬املبدأ الذي يهمنا هنا هو أنه لو ُع ِرفَ‬
‫عن بعض املخطوطات أنها األعلى قيمة من ناحية ما حتويه من قراءات عندما‬
‫يكون الشكل األقدم واضحًا ‪ ،‬فمن احملتمل أكثر أنَّ تكون هذه املخطوطات‬
‫هي األعلى مقامًا أيضًا يف القراءات اليت يكون دعم الدليل الداخلي هلا ليس‬
‫بالقدر ذاته من الوضوح ‪ .‬هذا يشبه ‪،‬إىل حدٍ ما ‪،‬أن يكون لديك شهودٌ يف‬
‫حمكمة أو أنَّ يكون لديك أصحاب تثق يف وعودهم ‪ .‬عندما تعرف أنَّ شخصًا‬
‫ما مييل إىل الكذب ‪ ،‬فلن تتمكن أبدًا من التأكد أنه ميكن أنَّ يوثق به ؛ لكنك‬
‫لو علمت أنَّ شخصًا ما موثوق به متامًا ‪ ،‬فإنك حينئذ تستطيع أنَّ تثق بصدقه‬
‫حتى عندما خيربك بشئ ما ال ميكنك التأكُّد منه بطريقة أخرى‪.‬‬

‫‪233‬‬
‫هذا األمر ذاته ينطبق على جمموعات الشواهد‪ .‬فقد رأينا يف الفصل الرابع أنَّ‬
‫"ويستكوت" و "هورت" طوَّرا الفكرة اليت توصل إليها "بنجيل" حول أنَّ‬
‫املخطوطات ميكن تقسيمها إىل جمموعات من العائالت النصيَّة ‪ .‬بعض هذه‬
‫اجملموعات النصيَّة ‪ ،‬كما سيتضح ‪ ،‬ميكن الوثوق بكونها حتتفظ بأفضل و أقدم‬
‫شواهدنا احملفوظة أكثر مما تفعله بعض اجملموعات األخرى ‪،‬و أنَّ الدليل قد قام‬
‫‪ ،‬عند اختبارها ‪،‬على أنها تقدم القراءات األفضل قيمة‪.‬‬

‫غالبية االنتقائيني العقالنيني‪،‬على وجه اخلصوص ‪،‬يعتقدون أنَّ النص‬


‫السكندري املزعوم (يشمل ما مسَّاه "هورت" النص " احملايد")‪،‬الذي كان يف‬
‫األساس مقرتنًا باملمارسات النسخيَّة املنضبطة اليت مارسها النساخ املسيحيون‬
‫يف اإلسكندرية يف مصر ‪ ،‬هو الشكل األعلى مقامًا بني النصوص املتاحة لنا ‪،‬‬
‫وهو يف أغلب احلاالت يزوِّدُنا بالنص األقدم أو "األصلي" يف أي موضع يوجد‬
‫فيه قراءات متباينة ‪ .‬النصان "البيزنطي" و "الغربي" ‪ ،‬من ناحية أخرى ‪ ،‬من‬
‫احملتمل بصورة أقل أنَّ حيتفظا بأفضل القراءات عندما ال يكونان مدعومني‬
‫باملخطوطات السكندرية‪.‬‬

‫‪234‬‬
‫يعترب علماء النقد النصي أنفسهم انتقائيني عقالنيني وذلك ألنهم يقومون‬
‫باالختيار من بني عدد كبري من القراءات اليت تعتمد على عددٍ من أجزاء‬
‫الدليل‪(a number of pieces of evidence).‬فباإلضافة إىل‬
‫الدليل اخلارجي الذي تقدمه لنا املخطوطات ‪،‬هناك نوعان من األدلة الداخلية‬
‫يستخدمان بصورة منطية ‪ .‬النوع األول يتعلق مبا يعرف باسم االحتماالت‬
‫الداخلية ‪ (intrinsic probabilities)-‬أي االحتماالت املبنية على ما‬
‫تأكد لدينا تقريبًا أنه مما كتبه املؤلف نفسه ‪ .‬بالطبع ميكننا أنَّ ندرس أسلوب‬
‫الكتابة ومفردات اللغة و العقيدة الالهوتية اليت يستخدمها مؤلف ما ‪ .‬وعندما‬
‫حتتفظ املخطوطات لنا بقراءة أو بقراءتني متباينتني وإحداها تستخدم الكلمات‬
‫و اخلواص األسلوبية اليت ال توجد يف عمل ذلك املؤلف ‪،‬أو لو أنها متثل‬
‫وجهة نظر ختتلف متاما مع تلك اليت يعتنقها هذا املؤلف ‪ ،‬فمن غري احملتمل يف‬
‫هذه احلالة أنَّ تكون هذه القراءة هي مما كتبه املؤلف – خاصة لو أنَّ قراءة‬
‫أخرى ثبتت موثوقيتها تطابقت متامًا مع كتابات املؤلف يف مكان آخر‪.‬‬

‫النوع اآلخر من أنواع الدليل الداخلي يسمى االحتمال النسخي‬


‫‪(transcriptional probability) .‬هذا الدليل ال يبحث عن القراءة‬

‫‪235‬‬
‫اليت رمبا كتبها املؤلف فحسب‪ ،‬بل أيضًا عن حتديد القراءة اليت من احملتمل أنَّ‬
‫يكون الناسخ قد أدخلها ‪.‬‬

‫أخريًا ‪ ،‬هذا النوع من الدليل أصله فكرة جاء بها بينجيل كانت تنصُّ على أنَّ‬
‫القراءة "األكثر صعوبة" هي على األرجح القراءة األصلية‪ .‬هذه النظرية مبنية‬
‫على فكرة أنَّ النسَّاخ على األرجح حياولون تصحيح ما يرون أنه ميثل أخطاءً‬
‫وحياولون التوفيق بني الفقرات اليت يرونها متناقضة ‪ ،‬وليِّ عنق العقيدة‬
‫الالهوتية اليت حيتويها النص لتتوافق مع العقائد الالهوتيَّة اليت يؤمنون بها ‪ .‬أما‬
‫القراءات اليت رمبا بدت ظاهريًّا وكأنها حتتوي على "خطأ " أو يعوزها االنسجام‬
‫أو كانت تشتمل على عقيدة الهوتية غريبة ‪،‬فإنها أكثر عرضة ألن يغريها أحد‬
‫النسّاخ من تلك القراءات " األسهل"‪ .‬هذا املعيار رمبا يتمُّ التعبري يف بعض‬
‫األحيان كالتالي ‪:‬‬

‫القراءة اليت تفسر وجود القراءات األخرى بأفضل ما يكون هي األوىل‬


‫باعتبارها القراءة األصليَّة‪.‬‬

‫لقد عرضت أشكاال عديدة للدليل الداخلي و اخلارجي املعتربة لدى النقاد‬
‫النصِّيني ليس ألنين أتوقع من أي شخص يقرأ هذه الصفحات أنَّ يتقن هذه‬
‫املبادئ وأنَّ يبدأ يف تطبيقها على تقليد العهد اجلديد املخطوط ‪،‬بل ألنه من‬
‫املهم‪،‬عندما حناول أنَّ حندِّد املاهية اليت كان عليها النص األصليّ ‪ ،‬أنَّ نعرتف‬
‫‪236‬‬
‫بأن عددًا كبريًا من هذه االعتبارات البد من وضعها يف احلسبان وأنَّ كثريًا من‬
‫القرارات املبنيَّة على التقديرات الشخصية البد من اختاذها ‪ .‬فهناك أوقات‬
‫حيدث فيها تناقض بني أجزاء الدليل أحدها مع اآلخر ‪،‬على سبيل املثال‬
‫‪،‬حينما ال تكون القراءة األكثر صعوبة (حسب نظرية احتماالت‬
‫الناسخ)مدعومة جيدًا داخل املخطوطات (اليت متثل الدليل اخلارجي )‪،‬أو‬
‫عندما تكون القراءات األكثر صعوبة غري متوافقة مع أسلوب الكتابة الذي‬
‫يتميز بها الكاتب أيضًا (االحتماالت الداخلية‪).‬‬

‫باختصار‪ ،‬حتديد النص األصلي ليس باألمر اليسري وال باألمر الصريح ! بل‬
‫حلذِرِ له‪ ،‬والعلماء املختلفون‬
‫يتطلب كثريًا من التأمل يف الدليل و التمحيص ا َ‬
‫دائمًا ما يصلون إىل استنتاجات خمتلفة –ليس فقط فيما يتعلق باألمور الثانويَّة‬
‫اليت ال تؤثر على معنى الفقرة (مثل تهجئة كلمة ما أو تغيري ترتيب الكلمات‬
‫املكتوبة باليونانية واليت ال ميكن حتى أنَّ يكون هلا أي تأثريٍ على الرتمجة‬
‫اإلجنليزية)‪ ،‬و إمنا فيما يتعلق باألمور ذات األهمية القصوى ‪ ،‬اليت تؤثر على‬
‫تفسري سفرٍ كاملٍ من أسفار العهد اجلديد ‪.‬‬

‫ولتوضيح األهمية اليت تتسم بها بعض القرارت اليت تتعلق بالنصوص ‪،‬‬
‫سأنتقل اآلن إىل ثالث قراءات نصيَّة متباينة من النوع األخري ‪،‬حني يكون‬
‫لتحديد النص األصلي تأثريٌ بالغٌ على الكيفية اليت تُفهم بها الرسالة اليت يريد‬

‫‪237‬‬
‫إيصاهلا بعض مؤلفي العهد اجلديد ‪ .‬أعتقد أنَّ غالبية املرتمجني إىل اإلجنليزية يف‬
‫هذه احلاالت الثالث ‪،‬كما سيتضح ‪،‬قد اختاروا القراءة غري السليمة ومل‬
‫يقدموا لنا ترمجة النص األصلي وإمنا ترمجة النص الذي اختلقه النُسَّاخ حينما‬
‫حرَّفوا النصَّ األصليّ‪ .‬أول هذه النصوص يأتي من مرقس و هو ذو عالقة‬
‫بغضب يسوع حينما استعطفه فقري مصاب بالربص ليعاجله‪.‬‬

‫مشكلة النص يف مرقس ‪ 41 : 1‬جندها يف قصة شفاء يسوع لرجل يعاني من‬
‫مرضٍ جلديّ ‪ .‬املخطوطات املوجودة حتتفظ بشكلني خمتلفني للعدد ‪ 41‬؛‬
‫القراءتان كلتاهما موضحتان هنا بني قوسني‪:‬‬

‫فجاء ليكرِّز يف جمامعهم يف كل اجلليل و خيرج الشياطني‪.‬فأتى إليه أبرص يتضرع‬


‫إليه ويقول له ‪":‬إن ترِدَْ ‪ ،‬تقدر أنَّ تطهرني‪، ".‬فشعر بالشفقة عليه (املقابل‬
‫اليوناني هو )‪ : SPLANGNISTHEIS‬أو فشعر بالغضب ( واملقابل‬
‫اليوناني هلا هو)‪،: ORGISTHEIS‬ومدَّ يده إليه وملسه وقال ‪ ":‬أريد ‪،‬‬
‫فاطهر ‪َ ".‬ف ِللْ َوقْتِ َوهُوَ يََتك ََّلمُ َذهَبَ عَنَْهُ ا ْلبَ َرصُ َو َطهَرَ‪ .‬فَانَْتَهَ َرهُ َوأَرَْ َسلَهُ ِللْ َو ْقتِ‬
‫َدمَْ َعنَْ‬
‫حدٍ شَيَْئاً َبلِ ا َْذهَبَْ أَرِ َنفْ َسكَ ِل ْلكَا ِهنِ َوق ِّ‬
‫أل َ‬
‫َوقَالَ َلهُ‪« :‬انَْظُرَْ الَ تَ ُقلَْ َ‬
‫تَ ْطهِ ِريكَ مَا َأمَرَ ِبهِ مُوسَى َشهَادَةً َل ُهمَْ»‪َ .‬وأَمَّا هُوَ َفخَ َرجَ وَابََْت َدأَ يُنَادِي كَثِرياً وَُيذِيعُ‬
‫‪238‬‬
‫ضعَ‬
‫خلَ َمدِينَةً ظَاهِراً َبلَْ كَانَ خَارِجاً فِي مَوَا ِ‬
‫الْخََبرَ حَتَّى َلمَْ يَعُدَْ يَ ْقدِرُ أنَّ َي َْد ُ‬
‫خَالِيَةٍ وَكَانُوا َيأْتُونَ ِإلَ َْيهِ ِمنَْ كُلِّ نَاحَِيةٍ‪.‬‬

‫معظم الرتمجات اإلجنليزية ترتجم بداية العدد ‪ 41‬بطريقة تؤكِّد على حمبة‬
‫يسوع هلذا األبرص الفقري املنبوذ ‪" :‬الشعور بالشفقة"( أو ميكن ترمجة الكلمة‬
‫بأنه " حترك بدافع الشفقة") عليه ‪ .‬ويف سبيل قيامهم بهذا ‪،‬سارت هذه‬
‫الرتمجات وراء النص اليوناني املوجود يف معظم املخطوطات اليت لدينا‬
‫‪.‬بالتأكيد من السهل أنَّ نعرف السبب الذي استخدمت من أجله عاطفة الشفقة‬
‫يف هذا املوقف ‪ .‬ال نعرف طبيعة املرض الذي أملَّ بالرجل على سبيل الدقة –‬
‫يفضل بعض املفسرين أنَّ يعتربوه برصًا ( اختالل يف اجللد يظهر على شكل‬
‫قشور )بدال من اعتباره نوعًا من اإلصابة باهرتاء يف حلم جسم اإلنسان نسميه‬
‫يف العادة جذامًا ‪ .‬على أية حال ‪ ،‬من احملتمل جدًا أنَّ يكون هذا املريض قد‬
‫خضع ألوامر الشريعة التوراتية اليت حتظر على" اجملذوم" أنَّ يعيش أيَّ حياةٍ‬
‫طبيعيةٍ ؛ لقد كان مفروضًا عليهم أنَّ يعيشوا عيش املنبوذين ‪ ،‬معزولني عن‬
‫اجملتمع ‪،‬فقد اعتربوا أجناسًا( سفر الالويني ‪ .) 14 – 13‬ولشعوره بالشفقة‬
‫جتاه شخص على هذه احلال ‪،‬ميدَّ يسوع يده بلمسة حنونة ليلمس حلمه املصاب‬
‫وليشفيه ‪.‬‬

‫‪239‬‬
‫الشفقة الطبيعية و الشعور اخلالي من أي تعقيد الذي احتواه هذا املشهد رمبا‬
‫يفسر ‪،‬يف الغالب ‪ ،‬سبب عدم اعتداد املفسرين واملرتمجني بالنص اآلخر الذي‬
‫وجد يف بعض خمطوطاتنا‪ .‬هناك تعبري ورد يف أحد أقدم شواهدنا ‪،‬املسمى‬
‫خمطوطة بيزا‪ ،‬ويدعمه ثالث خمطوطات التينية ميثِّل يف البداية صياغة حميِّرة و‬
‫مشوهَة ‪ .‬فهنا ‪،‬بدال من القول أنَّ يسوع شعر جتاه الرجل بالشفقة ‪،‬يشري النص‬
‫َّ‬
‫إىل أنه استشاط غضبًا ‪ .‬يف اليونانية هنا فارق بني كلميت‬
‫)‪(SPLANGNISTHEIS‬و ‪ (ORGISTHEIS) .‬فبسبب وجودها يف‬
‫الشواهد اليونانية والالتينية ‪ ،‬يسلم املتخصصون يف النصوص بأن تاريخ هذه‬
‫القراءة الثانية يرجع إىل القرن الثاني على األقل ‪ .‬فهل من املمكن ‪ ،‬مع ذلك ‪،‬‬
‫أنَّ تكون هذه هي القراءة اليت كتبها مرقس نفسه ؟‬

‫كما رأينا بالفعل ‪ ،‬ليس صحيحًا أبدًا أنَّ نقول إنه عندما حتتوي الغالبية‬
‫الساحقة من املخطوطات قراءة ما بينما حتتوي خمطوطتان فحسب القراءة‬
‫األخرى ‪ ،‬فإن قراءة الغالبية هي الصحيحة ‪.‬يف بعض األحيان يكون العدد‬
‫القليل من املخطوطات هو الذي حيتوي القراءة الصحيحة حتى عندما ال تتفق‬
‫معه املخطوطات األخرى مجيعًا ‪ .‬إىل حدٍ ما ‪،‬هذا يكون سببه أنَّ الغالبية‬
‫الساحقة من خمطوطاتنا يبعد تاريخ كتباتها عن تاريخ كتابة األصول باملئات‬
‫واملئات من السنوات‪ ،‬وأنها قد مت نسخها من نسخ أخرى أحدث كثريًا وليس‬

‫‪240‬‬
‫من األصول‪ .‬مبجرد أنَّ جيد أحد التحريفات طريقه إىل التقليد املخطوط ‪ ،‬رمبا‬
‫يستقر فيه إىل األبد ليصبح أوسع انتشارًا من التعبري األصلي ‪ .‬يف حالة كهذه ‪،‬‬
‫القراءتان كلتاهما نعتربهما تبدوان قدميتني للغاية ‪ .‬فأيُّ القراءتني هي القراءة‬
‫األصلية ؟‬

‫لو أنَّ قارئا مسيحيًّا خُيِّر اليوم بني هاتني القراءتني ‪ ،‬ال شك أنَّ كل شخص يف‬
‫الغالب سيختار القراءة األكثر وجودًا يف خمطوطاتنا ‪ :‬شعر يسوع بالشفقة جتاه‬
‫هذا الرجل ‪ ،‬و شفاه ‪.‬أما القراءة األخرى فمن الصعب تصورُّها ‪:‬فما معنى أنَّ‬
‫يقال أنَّ يسوع قد شعر بالغضب ؟ أليس هذا وحده سببًا كافيًا لالفرتاض أنَّ‬
‫مرقس قد كتب أنَّ يسوع شعر بالشفقة ؟‬

‫على العكس ‪ ،‬فحقيقة أنَّ إحدى القراءتني تعطي معنى مفيدًَا و أنه من السهل‬
‫فهمها هي بالتحديد ما جعل بعض العلماء يرتابون يف كونها قراءة غري أصلية ‪،‬‬
‫ألن النساخ ‪،‬كما رأينا ‪،‬كانوا ليفضلوا أنَّ يكون فهمُ النص سهال وغري معقد ‪.‬‬
‫إال أنَّ السؤال الذي ينبغي أنَّ يسأل هو كالتالي‪:‬ما هو األمر املنطقي بدرجة‬
‫أكرب ‪،‬أن يغيِّر الناسخُ النص الذي يقول أنَّ يسوع شعر بالغضب ليجعله يقول‬
‫أنَّ يسوع شعر بالشفقة ‪ ،‬أم أنَّ يغري النص الذي يقول أنَّ يسوع شعر بالشفقة‬
‫ليجعله يقول إنه شعر بالغضب ؟ أي القراءتني تفسر وجود اآلخر بصورة‬
‫أفضل ؟ عندما ننظر إىل األمر من هذه الزاوية ‪،‬جند القراءة األخرية هي األكثر‬

‫‪241‬‬
‫احتماال ‪ .‬القراءة اليت تشري إىل أنَّ يسوع شعر بالغضب هي القراءة " األكثر‬
‫صعوبة " ولذلك هي األكثر احتماال ألن تكون النص " األصلي " ‪ .‬هناك دليل‬
‫آخر أفضل من هذا السؤال النظري عن أيِّ القراءتني من احملتمل أنَّ يكون‬
‫النساخ قد لفَّقوها ‪ .‬كما سيتضح ‪،‬ليس لدينا أي خمطوطة يونانية ملرقس حتتوي‬
‫هذه الفقرة حتى نهاية القرن الرابع ‪،‬أي بعد ثالثة قرون تقريبًا من تاريخ تأليف‬
‫هذا السفر ‪.‬لكننا بالفعل لدينا مؤلِّفان قاما بنسخ هذه القصة يف العشرين عاما‬
‫اليت تلت تاريخ تأليفها األول‪.‬‬

‫اعرتف العلماء لفرتة طويلة أنَّ مرقس هو أول األناجيل تأليفًا ‪ ،‬وأنَّ متى و‬
‫لوقا كليهما استخدما رواية مرقس كمصدر للقصص اليت حكياها عن يسوع ‪.‬‬
‫من املمكن ‪ ،‬إذن ‪ ،‬أنَّ نتفحص إجنيلي متى و لوقا لنعرف كيف قاما بتغيري‬
‫نص مرقس يف املواضع اليت حكيا فيها القصة ذاتها ولكن بطريقة خمتلفة (إن‬
‫بدرجة أكرب أو أقل)‪ .‬حينما نفعل هذا ‪ ،‬جند أنَّ متى ولوقا اقتبسا هذه القصة‬
‫الواردة يف مرقس ‪ .‬من الالفت للنظر أنَّ متى و لوقا قد اتَّبعا ما كتبه مرقس‬
‫حول طلب األبرص و رد يسوع يف العددين ‪ 41 – 41‬تقريبا كلمة بالكلمة ‪.‬‬
‫فأي كلمة يا ترى استخدماها لوصف رد فعل يسوع ؟ املثري للدهشة أنَّ متى‬
‫ولوقا قاما كالهما حبذف الكلمة متامًا ‪ .‬إذا كان النص املرقسيُّ الذي كان بني‬
‫يديِّ متى و لوقا قد وصف يسوع بأنه شعر بالشفقة ‪ ،‬فلماذا حيذف الرجالن‬

‫‪242‬‬
‫كالهما هذه الكلمة ؟متَّى و لوقا يصفان يسوع يف مكان آخر بأنه شفوق ‪،‬‬
‫وكلما وجدت يف إجنيل مرقس قصة ُيذَْكَرُ فيها بوضوح الشفقة اليت كان‬
‫يتصف بها يسوع ‪ ،‬فهذا الرجل أو اآلخر حيتفظ بالوصف كما هو يف روايته ‪.‬‬
‫لكن ماذا عن االحتمال اآلخر ؟ ماذا لو أنَّ متى و لوقا قد قرءا يف إجنيل مرقس‬
‫أنَّ يسوع قد شعر بالغضب ؟ فهل كانا ميَّالَيَْن إىل التخلص من هذا الشعور ؟‬
‫هناك مناسبات أخرى ‪،‬يف الواقع ‪،‬وردت يف إجنيل مرقس يصبح فيها يسوع‬
‫غاضبًا ‪ .‬يف كل مناسبة من هذه املناسبات ‪ ،‬قام متى و لوقا بتعديل الروايات ‪.‬‬
‫ففي مرقس ‪ 5 : 3‬ينظر يسوع حوله " بغضب" إىل املوجودين يف اجملمع الذين‬
‫كانوا يراقبونه لريوا ما إذا كان سيعاجل الرجل ذا اليد اليابسة ‪ .‬هذا العدد يف‬
‫إجنيل لوقا متشابه تقريبا مع العدد املوازي يف مرقس ‪ ،‬لكنَّ لوقا حيذف اإلشارة‬
‫إىل غضب يسوع ‪.‬أما متَّى ‪ ،‬فقد أعاد كتابة هذا القسم من القصة ومل يذكر أيَّ‬
‫شئ عن يسوع الغاضب ‪ .‬وعلى حنو مماثل ‪،‬يف مرقس ‪ 14 – 11‬يشتدُّ يسوع‬
‫على تالميذه (استخدمت هنا كلمة يونانية خمتلفة) ملنعهم الناس من إدخال‬
‫أطفاهلم إليه لكي يباركهم ‪ .‬متى و لوقا كالهما يرويان القصة ‪،‬باحلرف‬
‫الواحد يف الغالب‪ ،‬لكنهما حيذفان اإلشارة إىل غضب يسوع (متى ‪14 – 19‬‬
‫؛ لوقا ‪ .) 16 : 18‬يف احملصلة ‪ ،‬ال يشعر متَّى ولوقا بأي وخزٍ يف الضمري‬
‫حينما يصفان يسوع بكونه شفوقًا ‪ ،‬لكنهما أبدًا مل يصفاه باعتباره غاضبًا ‪.‬‬
‫فكلما وصف واحدٌ من مصادرهم (أي مرقس) يسوع بذلك ‪ ،‬كلما أعاد كال‬
‫‪243‬‬
‫الرجلني كلٌ على حدى حذف التعبري من روايتهما ‪ .‬لذلك ‪ ،‬يف حني أنه من‬
‫الصعب إجياد مربر جيعلهما حيذفان "الشعور بالشفقة" من روايتهما حلادثة عالج‬
‫يسوع للمجذوم ‪ ،‬فإنه من السهولة مبكان تفهُّم أسباب رغبتهم يف حذف "‬
‫الشعور بالغضب ‪ ".‬فإذا أضفنا إىل ذلك أنَّ التعبري األخري (أي الشعور‬
‫بالغضب) هو الذي ورد يف سلسلة قدمية جدا من املخطوطات وأنه من غري‬
‫احملتمل أنَّ يكون النساخ قد اختلقوا هذا التعبري كبديل عن التعبري اآلخر الذي‬
‫ميكن فهمه بسهولة أكرب (أي الشعور بالشفقة) ‪ ،‬يصبح من الواضح بشكل‬
‫أكرب أنَّ مرقس ‪،‬يف واقع األمر ‪،‬وصف يسوع بأنه قد غضب عندما اقرتب منه‬
‫اجملذوم طلبًا للشفاء‪.‬‬

‫قبل أنَّ نغادر هذه املسألة هناك أمر آخر جيب التأكيد عليه ‪ .‬أشرت إىل أنَّه يف‬
‫حني أنَّ متَّى ولوقا كانا يشعران بصعوبة يف وصف يسوع بالغضب ‪،‬مل يكن‬
‫لدى مرقس أي مشكلة يف ذلك ‪ .‬حتى يف القصة موضع الدراسة ‪ ،‬وبعيدًا عن‬
‫املشكلة النصيَّة املتعلقة بالعدد ‪ ، 41‬مل يعاجل يسوع هذا اجملذوم الفقري بطريقة‬
‫إنسانية ‪ .‬فبعد أنَّ شفاه ‪" ،‬وبَّخه بشدة " "وطرده "‪ .‬وهاتان القراءتان هما‬
‫الرتمجة احلرفية للكلمات اليونانية واليت عادةً ما ختضع لعملية " تلطيف" يف‬
‫الرتمجات ‪ .‬إنها تعبريات قاسية ‪ ،‬استخدمت على الدوام يف كل موضعٍ آخر يف‬

‫‪244‬‬
‫مرقس يف سياقات صراع و عدوان عنيفني ( على سبيل املثال عندما يطرد‬
‫يسوع الشياطني‪).‬‬

‫من الصعب أنَّ نتصور السبب الذي جيعل يسوع يقوم بتوبيخ هذا الشخص و‬
‫بطرده لو كان يشعر جتاهه بالشفقة ؛ لكنَّه لو كان غاضبًا ‪ ،‬فلرمبا كان األمر‬
‫أكثر منطقيًّة‪.‬‬

‫فعالمَ إذن غضب يسوع ؟ هنا تتضح أهمية العالقة بني النص والتفسري‪ .‬بعض‬
‫العلماء ممن فضَّلوا النص الذي يشري إىل أنَّ يسوع "أحس بالغضب" يف هذه‬
‫الفقرة توصلوا إىل تفسريات بعيدة االحتمال إىل حدٍ بعيد ‪ .‬يبدو أنَّ هدفهم من‬
‫وراء ذلك هو أنَّ يربروا هذا الشعور من خالل إظهار يسوع يف مظهر الشفوق‬
‫حتى مع إدراكهم أنَّ النص يقول إنه شعر بالغضب ‪ .‬أحد املفسرين ‪ ،‬على‬
‫سبيل املثال ‪،‬جيادل بقوله إنَّ يسوع كان غاضبًا على العامل امللئ باملرض ؛‬
‫بكلمات أخرى ‪ ،‬هو حيب املريض لكنه يكره املرض ‪.‬ليس هناك أساس نصِّيٌّ‬
‫هلذا التفسري ‪ ،‬لكنه ميلك مزيَّة جعله يسوعَ يبدو يف صورة جيدة ‪.‬مفسرٌ آخرُ‬
‫جيادل بقوله إنَّ يسوع غاضبٌ ألن هذا اجملذوم كان منبوذًا من اجملتمع ‪،‬‬
‫متجاهال حقيقة أنَّ النص ال يقول أيَّ شئ عن كون الرجل منبوذًا و أنه حتى‬
‫إذا افرتضنا أنَّ النص يقول ذلك ‪،‬فإن ذلك ليس ذنب اجملتمع الذي يعيش فيه‬
‫يسوع وإمنا سبب ذلك هو شريعة اهلل (خاصة سفر الالويني )‪ .‬آخر جيادل يف أنَّ‬

‫‪245‬‬
‫سبب غضب يسوع هو‪،‬يف حقيقة األمر‪،‬أن شريعة موسى جترب هذا النوع من‬
‫الناس على االنعزال ‪ .‬هذا التفسري يتجاهل حقيقة أنه يف خامتة الفقرة (عدد ‪44‬‬
‫) يؤكِّد يسوع على شريعة موسى و حيثُّ اجملذوم بعد شفائه على أنَّ يلتزم بها‪.‬‬

‫كل هذه التفسريات لديها رغبة عامة يف التلطيف من غضب يسوع و لديها‬
‫العزم على القفز فوق النص من أجل الوصول إىل هذه الغاية ‪ .‬فإذا فعلنا‬
‫عكسهم ‪ ،‬فماذا ستكون النتيجة ؟ يبدو لي أنَّ مثَّة خيارين اثنني ‪ ،‬أوهلما يركِّزُ‬
‫على السياق احلريفّ املباشر للفقرة واآلخر يركز على السياق األوسع للفقرة‪.‬‬
‫أوال ‪ ،‬فيما يتعلق بالسياق املباشر ‪،‬كيف تؤثِّر الصورة اليت رمستها افتتاحية‬
‫حنيَْنا أفكارَنا املسبقة عن طبيعة يسوع جانبًا‬
‫إجنيل مرقس على اخليار األوَّل ؟ لو َّ‬
‫و لو قرأنا هذا النص اهلام على حنو بسيط‪ ،‬سيتوجب علينا أنَّ نعرتف بأن‬
‫تصورُه‬
‫يسوع ال يبدو وديعًا لطيفًا دمث األخالق وال يبدو كراعٍ صاحلٍ مثلما ِّ‬
‫لوحات الكنائس ‪ .‬يبدأ مرقس إجنيله برسم صورة ليسوع من الناحية اجلسميّة‬
‫ومن ناحية املواهب كشخصٍ ذي سلطان من ذلك النوع الذي ال ينبغي أنَّ‬
‫تعبث معه ‪ .‬ويصفه بأنه نيبٌّ يعيش يف الربية قدَّمَه للخدمة نيبٌّ آخر يعيش يف‬
‫الربية أيضًا ؛ وأنه قد انعزل عن اجملتمع ليحارب الشيطان و ليحارب الوحوش‬
‫يف الربَِّيَّة ؛ وهو يعود ليدعوَ إىل التوبة السريعة ملواجهة القدوم الوشيك لدينونة‬
‫اهلل ؛ وهو يدعو أتباعه لالنفصال عن عائالتهم ‪ ،‬و يربك مجهوره بسلطانه‬

‫‪246‬‬
‫خضِع قوى الشيطان اليت بإمكانها هزمية البشر الفانني ؛ وهو‬
‫؛ ويوبِّخ ويُ َْ‬
‫يرفض التجاوب مع حاجات اجلماهري ويتجاهل هؤالء الذين يتوسلون للقائه ‪.‬‬
‫القصة الوحيدة يف هذا الفصل االفتتاحيّ من إجنيل مرقس اليت تشري إىل عطفه‬
‫الشخصي هي قصة شفاء محاة مسعان بطرس اليت كانت مريضة مالزمة‬
‫للفراش ‪ .‬لكنَّ هذا التفسري الشفوق حتَّى ميكن أنَّ خيضع للتساؤالت‪ .‬بعض‬
‫املاكرين ممن يتَّسِمون بقوة املالحظة الحظوا أنه بعد أنَّ شفاها يسوع من احلمى‬
‫اليت أصابتها قامت لتخدمهم ‪،‬ومن احملتمل أنها أحضرت هلم وجبة العشاء‪.‬‬

‫هل من احملتمل أنَّ يسوع قد جرى تصَْويرُه يف املشاهد االفتتاحيَّة إلجنيل مرقس‬
‫باعتباره شخصية قوية تتمتع باإلرادة القوية و لديها أجندتها اخلاصة و أنه‬
‫شخص ذو سلطان له كاريزما وال يروقه أن يقاطعه أحد؟‬

‫من املؤكد أنَّ رد فعله من ثمَّ كان منطقيًّا على ما قام به اجملذوم حيث قام‬
‫بتوبيخه و بطرده‪.‬‬

‫هناك تفسري آخر ‪ ،‬رغم ذلك ‪.‬كما أشرت من قبل ‪،‬يشعر يسوع بالغضب فعال‬
‫يف مكان آخر داخل إجنيل مرقس ‪ .‬حيدث هذا للمرة الثانية يف اإلصحاح ‪3‬‬
‫‪،‬الذي يتناول ‪ ،‬وياللمفاجأة ‪،‬قصة شفاء أخرى‪ .‬هنا قال مرقس بوضوح إنَّ‬
‫يسوع غضب على الفِرِّيسي الذي ظن أنه ليس من حقه أنَّ يشفي الرجل ذا اليد‬
‫اليابسة يف السبت ‪.‬‬
‫‪247‬‬
‫ٍّ بعيدٍ تصادفنا يف إحدى القصص اليت مل يذكر فيها‬
‫هناك حكاية مشابهة إىل حد‬
‫أنَّ يسوع كان غاضبًا بصراحة و لكنَّ ذلك كان واضحًا رغم ذلك ‪ .‬ففي مرقس‬
‫‪ ، 9‬عندما ينزل يسوع من جبل التجلِّي مع بطرس ويعقوب و يوحنا ‪ ،‬جيد‬
‫جتمهرًا حول تالمذته ورجال يائسا يف املنتصف ‪ .‬ابن هذا الرجل متلكته روح‬
‫شيطانية‪ ،‬وهو يشرح املوقف ليسوع ثم يناشده ‪ ":‬إن ُكنَْتَ تَسَْتَطِيعُ َشيَْئاً فَتَحََّننَْ‬
‫يءٍ مُسَْتَطَاعٌ‬
‫َعلَيَْنَا وََأعِنَّا"‪ .‬فردَّ يسوع عليه غاضبًا ‪"،‬لو كنتُ قادرًا ؟ كُلُّ َش َْ‬
‫ِل ْلمُؤَْ ِمنِ" فيصبح الرجل أكثر يئسًا ويناشده‪ "،‬أُو ِمنُ يَا سَِّيدُ َفَأ ِعنَْ عَ َدمَ إِميَانِي‪".‬‬
‫فعندها طرد يسوع الروح الشريرة‪.‬‬

‫األمر املثري للدهشة يف هذه القصص هو أنَّ غضب يسوع ينفجر حينما يشكك‬
‫أحد األشخاص يف نيَّته ‪ ،‬أو يف قدرته أو يف سلطانه اإلهلي على الشفاء ‪.‬رمبا‬
‫هذا هو سبب غضبه يف قصة اجملذوم أيضًا ‪.‬ففي القصة الواردة يف مرقس ‪9‬‬
‫‪،‬يقرتب أحدهم من يسوع حبذر ليسأله ‪ ":‬لو لديك الرغبة ‪ ،‬تقدر على‬
‫شفائه‪ ".‬فيشعر يسوع بالغضب‪ .‬يسوع بطبيعة احلال لديه الرغبة يف فعل ذلك ‪،‬‬
‫باعتباره قادرًا وخموال بهذا ‪ .‬يشفي يسوع الرجل و ‪،‬لكونه ما يزال يف نفسه‬
‫استياء من تشكك الرجل‪،‬يقوم بتوبيخه ثم طرده حبدة‪.‬‬

‫‪248‬‬
‫هنا جند شعورًا خمتلفًا متاما جتاه القصة مرتبطًا بطريقة تفسريها‪،‬وهو تفسري مبينٌّ‬
‫على طبيعة النص كما يبدو أنَّ مرقس قد كتبه‪ .‬فمرقس ‪ ،‬يف بعض املواضع ‪،‬‬
‫يرسم يسوع باعتباره شخصًا غاضبًا‪.‬‬

‫على النقيض من مرقس ‪ ،‬مل يقل إجنيل لوقا على وجه التصريح أبدًا أنَّ يسوع‬
‫شعر بالغضب‪ .‬بل ال يبدو يسوع يف هذا اإلجنيل منزعجًا على اإلطالق‪،‬أو بأية‬
‫حال‪.‬‬

‫فبدال من يسوع الغاضب ‪ ،‬يرسم لوقا صورة ليسوع اهلادئ ‪ .‬هناك فقرة يتيمة‬
‫يف هذا اإلجنيل يبدو فيها أنَّ يسوع قد فقد رباطة جأشه ‪ .‬وهي فقرة أصالتها‬
‫موضع جدال ساخن بني نقاد النصوص ‪.‬‬

‫جند هذه الفقرة يف سياق صالة يسوع على جبل الزيتون قبل وقت قصري من‬
‫تعرضه للخيانة و للوقوع يف األسر (لوقا ‪ .) 46 - 39 : 22‬فبعد أن يوجِّه‬
‫ج ِربَةٍ"‪ ،‬يرتكهم يسوع ‪،‬و جيثو‬
‫خلُوا فِي تَ َْ‬
‫تالمذته بقوله ‪ ":‬صَلُّوا ِل َكيَْ الَ َت َْد ُ‬
‫على ركبتيه‪،‬ويصلي" أَبَتَاهُ إن شِئَْتَ أن تُجِيزَ عَنِّي َهذِهِ ا ْل َك ْأسَ‪ .‬وََل ِكنَْ لَِت ُكنَْ الَ‬
‫إِرَادَتِي َبلَْ إِرَادَُتكَ" ‪ .‬يف عددٍ كبريٍ من املخطوطات تلي هذه الصالة هذه القصة‬

‫‪249‬‬
‫اليت ال جندها يف أيِّ موضعٍ آخر فيما لدينا من أناجيل ‪ ،‬واليت تتعلق بقلقه‬
‫السمَاءِ يُقَوِّيهِ‪.‬‬
‫الكٌ ِمنَ َّ‬
‫الشديد و ما يعرف بقطرات عرقه الدموية ‪َ ":‬وظَهَرَ َلهُ مَ َ‬
‫جهَادٍ كَانَ يُصَلِّي ِبأَشَدِّ لَجَاجَةٍ وَصَارَ عَ َرقُ ُه كَقَطَرَاتِ َدمٍ نَازِلَةٍ َعلَى‬
‫وَإِذَْ كَانَ فِي ِ‬
‫األَرَْضِ‪( " .‬العددان ‪).44 ، 43‬‬

‫ينتهي املشهد بقيام يسوع من الصالة وعودته إىل تالمذته ليجدهم نيامًا‪ .‬فيكرر‬
‫خلُوا فِي َتجَْرِبَةٍ" و على الفور يظهر يهوذا مع‬
‫توجيهه هلم ‪ ":‬صَلُّوا ِل َكيَْ الَ َت َْد ُ‬
‫اجلموع ويلقون القبض على يسوع‪.‬‬

‫إحدى اخلصائص املثرية هلذا النزاع حول هذه الفقرة هو تساوي كفة هذه‬
‫احلجج وتلك حول ما إذا كان العددان املتنازع عليهما (‪ ) 44 ، 43‬قد كتبهما‬
‫لوقا أم أدخلهما فيما بعد أحد النساخ ‪ .‬املخطوطات األقدم واليت يسلم العلماء‬
‫بكونها األفضل ( النص "السكندري") ال حتتوي هذين العددين يف‬
‫الغالب‪.‬لذلك من احملتمل أنهما إضافة متأخرة بيد ناسخ ‪ .‬من ناحية أخرى ‪،‬‬
‫هاتان الفقرتان موجودتان يف عدد قليل من الشواهد األخرى املبكرة وهما‬
‫غالبًا منتشرتان يف كل مكان من التقليد املخطوط ‪ .‬لذا فهل هما قد أضيفتا بيد‬
‫ناسخ أرادهما أنَّ يكونا جزءا من الكتاب املقدس أم حذفتا بيد آخر أراد‬
‫العكس ؟ من الصعوبة مبكان أنَّ جنيب على هذاالسؤال اعتمادًا على‬
‫املخطوطات ‪.‬بعض العلماء اقرتحوا أنَّ نستعني باخلصائص األخرى اليت‬

‫‪250‬‬
‫يتصف بها العددان لكي نقرر هذا األمر‪ .‬أحد العلماء ‪ ،‬على سبيل املثال ‪،‬‬
‫ادَّعى أنَّ الكلمات و األسلوب يف العددين يشبهان إىل حدٍ كبري ما جنده يف لوقا‬
‫يف موضع آخر ( هذه احلجة مبنية على "االحتماالت الداخلية ")‪ :‬على سبيل‬
‫املثال ‪ ،‬ظهورات املالئكة هي مسة شائعة يف لوقا ‪ ،‬وكلمات عديدة و مجل‬
‫موجودة يف الفقرة جندها يف مواضع أخرى يف لوقا ولكن ليس يف أي موضع‬
‫آخر يف العهد اجلديد ( مثل الفعل " يقوِّيه‪").‬‬

‫مل تقنع هذه احلجة أحدًا ‪،‬مع ذلك‪ ،‬ألن معظم هذه األفكار والرتاكيب و‬
‫اجلمل " اللوقاوية بطريقة مميزة " هي إما مصاغة بطرق ال تنتمي إىل األسلوب‬
‫اللوقاوي (على سبيل املثال ‪ ،‬املالئكة ال تظهر يف أيِّ مكان آخر من لوقا من‬
‫غري أن تتكلم ) أو شائعة يف النصوص اليهودية واملسيحية خبالف العهد اجلديد‬
‫‪ .‬زد على ذلك أنَّ هناك اجتماع غري طبيعي باملرة لكلمات ومجل غري عادية يف‬
‫هذين العددين ‪ :‬على سبيل املثال (كرب ‪،‬عَرَق‪ ،‬قطرات) ليس هلا وجود يف‬
‫موضع آخر يف لوقا وال يف سفر األعمال (الذي هو اجلزء الثاني لإلجنيل الذي‬
‫كتبه املؤلف عينُه )‪ .‬نظرا لذلك كله‪ ،‬من الصعب مبكان أنَّ نقرر أي شئ‬
‫خبصوص هذين العددين على أساس الكلمات واألسلوب‪.‬‬

‫حجة أخرى استعملها العلماء هلا عالقة بالبنية األدبيّة ‪(literary‬‬


‫بتأن من خالل‬
‫ٍّ‬ ‫)‪structure‬هلذه الفقرة ‪ .‬بإجياز ‪ ،‬هذه الفقرة يبدو أنها مبنيَّة‬

‫‪251‬‬
‫ما يعرفه عليه العلماء باعتباره قلب لرتتيب الكلمات يف مجلتني متشابهتني‬
‫‪(chiasmus) .‬حينما تبنى فقرة على هذا النحو ‪ ،‬الكلمة األوىل يف هذه‬
‫الفقرة تتطابق مع الكلمة األخرية منها؛ والكلمة الثانية تتطابق مع الكلمة قبل‬
‫األخرية ؛و الكلمة الثالثة تتطابق مع الكلمة اليت تسبق الكلمة قبل األخرية ‪،‬‬
‫وهكذا ‪ .‬أو دعونا نعرب عن هذا بطريقة أخرى فنقول ‪ :‬صياغة هذه الفقرة هي‬
‫صياغة مقصودة ؛ غرضها هو تركيز االنتباه على مركز الفقرة باعتباره مفتاح‬
‫اجلملة ‪ .‬و األمر نفسه جنده هنا‪:‬‬

‫فيسوع (أ) يطلب من تالميذه أنَّ "يصلوا كي ال يدخلوا يف جتربة" (العدد ‪) 41‬‬
‫ثم بعد ذلك يسوع (ب) يغادرهم (العدد ‪ 41‬أ) و (ج)جيثو على ركبتيه‬
‫للصالة (العدد ‪ 41‬ب)‪ .‬مركز هذه الفقرة هو (د) صالة يسوع ذاتها ‪،‬الصالة‬
‫اليت ضمَّنها طلبه بأن يتحقق ما يريده اهلل (العدد ‪ .) 42‬بعد ذلك يسوع (ج)‬
‫يقوم من صالته (عدد ‪ 45‬أ )‪( ،‬ب)يعود إىل تالميذه (عدد ‪ 45‬ب)‪ ،‬و (أ)‬
‫جيدهم نيامًا‪،‬ومرة أخرى يواجههم بالكلمات ذاتها ‪ ،‬فيقول هلم أنَّ " صلوا‬
‫لكي ال تدخلوا يف جتربة "(العددان ‪ 45‬ج ‪.) 46 ،‬وجود هذا البناء األدبي‬
‫الواضح حبد ذاته ليس هو القضية يف الواقع ‪ .‬بل القضية هي كيف أنَّ هذا‬
‫العكس لرتتيب الكلمات مهم لفهم معنى الفقرة ‪ .‬تبدأ القصة و تنتهي بوصيته‬
‫لتالميذه أن يصلوا إذا أرادوا أن يتجنبوا الدخول يف جتربة‪ .‬ظلت الصالة لوقت‬

‫‪252‬‬
‫طويل يف نظر الكثريين هي املوضع احملوريّ إلجنيل لوقا ( أكثر حتى من أي‬
‫إجنيل آخر )؛ و هنا تتجلى أهميتها اخلاصة ‪ .‬ألن صالة يسوع هي يف قلب‬
‫الفقرة ذاتها ‪ ،‬الصالة اليت تعرب عن رغباته ‪ ،‬واليت تتضمن رغبته األعظم بأن‬
‫تتمَّ مشيئة اهلل (العددان ‪ 41‬ج‪ .) 42 ،‬وباعتبارها مركزًا هلذا الرتكيب‬
‫املنعكس)‪ ، (chiastic structure‬تقدم هذه الصالة قضية الفقرة احملوريَّة‬
‫و‪،‬على حنوٍ متوازٍ‪ ،‬مفتاح تفسريها ‪ .‬هذا درس عن أهمية الصالة يف مواجهة‬
‫الشهوات ‪ .‬التالميذ ‪ ،‬على الرغم من طلب يسوع املتكرِّر هلم بأن يصلُّوا‬
‫‪،‬كانوا ينامون بدال من ذلك ‪ .‬وعلى الفور تأتي اجلموع للقبض على يسوع ‪.‬‬
‫وماذا حيدث ؟ التالميذ ‪ ،‬الذين فشلوا يف القيام بالصالة ‪ ،‬دخلوا " يف التجربة‬
‫"؛وهربوا من مسرح األحداث ‪،‬تاركني يسوع ليواجه مصريه وحيدًا ‪ .‬وماذا‬
‫عن يسوع ‪ ،‬اإلنسان الوحيد الذي صلَّى قبل أن خيضع للمحاكمة ؟ حينما‬
‫تصل اجلموع ‪ ،‬جند أنه خيضع بهدوء ملشيئة اآلب ويسلم نفسه للشهادة اليت‬
‫ِدتَْ له‪.‬‬
‫أع َّ‬

‫رواية لوقا عن اآلالم ‪ ،‬كما هو معروف ‪ ،‬هي قصة استشهاد يسوع ‪،‬‬
‫االستشهاد اليت كان اهلدف منه ‪،‬كما هو احلال مع مقتل الكثريين من‬
‫الشهداء‪،‬أن تقدم منوذجًا للمؤمن و الكيفية اليت حيافظ بها على رباطة جأشه‬

‫‪253‬‬
‫يف جمابهة املوت ‪ .‬فلسفة االستشهاد يف إجنيل لوقا تظهر أنَّ الصالة وحدها هي‬
‫اليت ميكن أن جتعل املرء على استعدادٍ للموت‪.‬‬

‫ماذا حيدث ‪ ،‬مع ذلك ‪ ،‬حينما يتمُّ إقحام العددين املتنازع عليهما (العددان‬
‫‪ ) 44 ، 43‬يف الفقرة ؟ على املستوى األدبي ‪ ،‬الرتتيب االنعكاسي‬
‫للكلمات )‪(chiasmus‬الذي يركِّز الفقرة على صالة يسوع يتمُّ تدمريُه نهائيًا‬
‫‪.‬‬
‫اآلن مركز الفقرة ‪ ،‬و من ثمَّ بؤرة اهتمامها ‪ ،‬يتحول إىل شدة الكرب الذي‬
‫واجهه يسوع ‪ ،‬شدة الكرب الفظيعة اليت كانت تتطلب ظهور ُمعِنيٍ خارقٍ‬
‫ليقويَ يسوعَ على حتملها‪ .‬من األمور اجلديرة باملالحظة يف هذه النسخة‬
‫للطبيعة ِّ‬
‫املطوَّلة من القصة أنَّ الصالة مل ينتج عنها الثقة بالنفس واهلدوء الذين حتلَّى‬
‫بهما يسوع يف بقية احلكاية ؛ نعم ‪ ،‬حدث فقط بعد أن يصلِّي "بأشد جلاجة "‬
‫أنَّ عرقه أخذ يف الظهور على هيئة قطرات عظيمة من الدماء املتساقطة على‬
‫األرض ‪ .‬ما أريد توضيحه ليس فحسب أنَّ تركيبًا أدبيًّا قد انهار ‪ ،‬و إمنا أنَّ‬
‫بؤرة االهتمام كلها تتحول إىل يسوع الواقع يف حالة كرب مفجعة و سحيقة و‬
‫الذي هو يف أشد احلاجة إىل تدخل خارق للطبيعة ‪.‬‬

‫هذا يف حدِّ ذاته ال يبدو كمشكلة مستعصية على احلل ‪ ،‬إىل أنَّ يدرك املرء أنه‬
‫ُورَ يسوع فيه على هذا النحو ‪ .‬على العكس‬
‫ليس هناك موضع يف إجنيل لوقا ص ِّ‬

‫‪254‬‬
‫من ذلك متامًا ‪ ،‬قطع لوقا شوطً طويال لكي يقدم رؤيةً مناقضةً متاما للرؤية‬
‫اليت يتبنَّاها هذان العددان ‪ .‬فبدال من دخوله يف آالمه جملال باخلوف و‬
‫االرجتاف‪ ،‬مكروبًا من مصريه احملتوم القريب ‪ ،‬جند أنَّ يسوع حسب تصوير‬
‫لوقا له ميضي إىل حتفه هادئا ورابط اجلأش واثقًا يف مشيئة أباه حتى النهاية ‪ .‬من‬
‫احلقائق الصادمة اليت هلا ارتباط وثيق مبشكلتنا النصية موضع الدراسة أنَّ لوقا‬
‫كان مبقدوره أن يرسم هذه الصورة ليسوع فقط عرب التخلص من التقاليد اليت‬
‫كانت تتناقض معها يف مصادره ( اإلجنيل وفقًا ملرقس على سبيل املثال )‪ .‬فقط‬
‫الشكل املطوَّل من النص الوارد يف لوقا ‪ 44 – 43 : 22‬يبدو خمالفا هلذه‬
‫القاعدة ‪.‬‬

‫مقارنة بسيطة بني نسخة مرقس من القصة حمل الدراسة من شأنها جالء هذه‬
‫األمر ( مع الوضع يف االعتبار أنَّ مرقس كان من مصادر لوقا – والذي قام‬
‫بتعديله لكي خيرج بتأكيداته الفريدة )‪ .‬ألن لوقا حذف قول مرقس أنَّ يسوع "‬
‫ابََْتدَأَ يَ َْدهَشُ وََيكَْتئِبُ "(مرقس ‪ ،) 33 : 14‬وكذلك تعليق يسوع أمام‬
‫ج ّداً حَتَّى ا ْلمَ َْوتِ! "‪ .‬وبدال من نزوله إىل األرض يف‬
‫تالميذه ‪ "،‬نَفْسِي حَزِينَةٌ ِ‬
‫كربٍ(مرقس ‪،) 35 : 14‬يسوع حسب لوقا جيثو على ركبتيه (لوقا ‪: 22‬‬
‫‪ .) 41‬يف لوقا ‪ ،‬مل يطلب يسوع أن تعرب عنه هذه الساعة (قارن مع مرقس‬
‫‪) 35 : 14‬؛وبدال من صالته ملراتٍ ثالث أن تُ َْنزَع عنه هذه الكأس (مرقس‬

‫‪255‬‬
‫‪ ،) 41 ، 39 ، 36 : 14‬جنده يطلب ذلك مرة واحدة (لوقا ‪42 : 22‬‬
‫)‪،‬مستهال صالته ‪،‬يف إجنيل لوقا وحده‪،‬بشرطٍ شديد األهميَّة ‪":‬إن شئت‪".‬‬

‫يصورُ فيه مصدر لوقا ‪،‬أي إجنيل مرقس‪ ،‬يسوع‬


‫وهكذا ‪ ،‬يف الوقت الذي ِّ‬
‫باعتباره مكروبًا عندما يصلِّي يف احلديقة ‪،‬يعيد لوقا صياغة هذا املشهد كامال‬
‫هلدف إظهار أنَّ يسوع كان هادئا يف مواجهة املوت ‪ .‬االستثناء الوحيد هو قصة‬
‫"عرق يسوع الدموي"‪ ،‬وهي احلكاية اليت ختلو منها أقدم وأفضل الشواهد اليت‬
‫لدينا ‪ .‬ملاذا يتعب لوقا نفسه يف التخلص من الصورة اليت رمسها مرقس عن‬
‫يسوع املكروب لو أنَّ كُ َْربَة يسوع كانت هي الغرض األساسي من القصة ؟‬

‫من الواضح أنَّ لوقا مل يكن يشاطر مرقس مفهومه عن يسوع املكروب اليائس‬
‫‪ .‬ليس مثَّة مكانٌ آخرُ يبدو فيه هذا األمر واضحًا أشد ما يكون الوضوح من‬
‫يصورُ مرقسُ يسوعَ وهو يف طريقه إىل‬
‫رواياتهما املتتالية عن صلب يسوع ‪ِّ .‬‬
‫جلجثة كإنسان صامت ‪ .‬تالميذه تركوه وهربوا ؛ حتَّى النسوة املؤمنات كنَّ‬
‫يراقبنه فحسب "من بعيد" ‪ .‬احلاضرون كلهم كانوا يسخرون منه – املارَّة‬
‫ض ِربَ وتعرض للسخرية وخُذِلَ‬
‫وزعماء اليهود و السارقان ‪ .‬يسوع املرقسيّ ُ‬
‫جرَ ‪،‬ال من قبل أتباعه فحسب‪،‬بل وحتى من قبل اهلل نفسه ‪ .‬كلماته‬
‫وهُ ِ‬
‫الوحيدة اليت تفوَّه بها يف هذا املوقف من أوله آلخره تأتي عند نهاية املشهد ‪،‬‬

‫‪256‬‬
‫حينما يصرخُ بصوتٍ عالٍ " إلوي ‪ ،‬إلوي ‪ ،‬ملا شبقتين "(إهلي ‪،‬إهلي ‪ ،‬ملا‬
‫تركتين ؟)‪ .‬ثم يطلق بعد ذلك صرخةً مدويةً و ميوت‪.‬‬

‫هذه الصورة ‪،‬مرة أخرى ‪ ،‬تتناقض متاما مع ما جنده يف إجنيل لوقا ‪ .‬ففي رواية‬
‫لوقا ‪ ،‬جند يسوع بعيدًا متاما عن أنَّ يكون صامتًا ‪ .‬وعندما يتكلم ‪ ،‬يظهر أنه ما‬
‫يزال رابط اجلأش واثقًا يف اهلل أبيه ‪،‬راضٍ عن قدره ‪،‬مهتمًّا أكثر مبصري‬
‫اآلخرين ‪ .‬ففي طريقه إىل الصلب ‪ ،‬وفقا ملا جاء يف إجنيل لوقا ‪،‬عندما يرى‬
‫يسوع جمموعة من النسوة يندبن سوء حظه ‪ ،‬خيربهنَّ أنَّ ال يبكني عليه بل‬
‫باألحرى على أنفسهنَّ و على أطفاهلن بسبب الكارثة اليت ستحل بهم قريبًا‬
‫(‪.) 31 – 27 : 23‬وبينما جيري تثبيتُه على الصليب باملسامري ‪ ،‬جنده يصلِّي‬
‫إىل اهلل ‪ ":‬يَا أَبَتَاهُ اغْفِرَْ َل ُهمَْ ألََّن ُهمَْ الَ يَعَْ َلمُونَ مَاذَا يَفْ َعلُونَ " بدال من أن حيافظ‬
‫على صمته‪.‬‬

‫شيقٍ مع أحد السا ِرقَيَْن‬


‫على الصليب ‪ ،‬يف وسط آالمه ‪ ،‬يدخل يسوع يف حوارٍ ِّ‬
‫املصلوبَيَْن إىل جواره ‪ ،‬مؤكِّدًا له أنهما سيجتمعان معًا يف هذا اليوم يف اجلنة‬
‫(‪ .) 43 : 23‬أكثر األمور تعبريًا عما نقول هو أنه بدال من أن يطلق يسوع يف‬
‫النهاية صرخته احلزينة بسبب هجر اهلل له‪،‬حسبما يصوره لوقا‪ ،‬يستودع روحه‬
‫عند أبيه الرحيم وكُلُّه ثقة يف منزلته عند اهلل ‪ ":،‬يَا َأبَتَاهُ فِي َيدَ َْيكَ أَ َْستَوَْدِعُ‬
‫رُوحِي "(‪).46 : 23‬‬

‫‪257‬‬
‫سيكون من العسري أن نغالي يف تقدير أهمية هذه التغيريات اليت أحدثها لوقا يف‬
‫مصدره (إجنيل مرقس) لكي نفهم مشكلة النص حمل دراستنا ‪ .‬ليس هناك‬
‫موضع يف رواية لوقا لآلالم يفقد يسوع فيه السيطرة على نفسه ؛ ومل حيدث‬
‫على اإلطالق أنَّ كان يسوع يف حالة عميقة و موهنة من الكرب بسبب ما‬
‫سيؤول إليه مصريه ‪ .‬فهو هنا مسيطر متاما على قدره ‪ ،‬يعرف ما جيب عليه فعله‬
‫وما سيحدث له مبجرد أن حيدث ‪ .‬إنه ذلك الرجل الذي يعيش يف سالم مع‬
‫نفسه و يواجه املوت بهدوء‪.‬‬

‫ماذا ‪ ،‬إذن ‪ ،‬سنقول عن عددينا املتنازع عليهما ؟ هذان هما العددان يف‬
‫اإلجنيل حسب لوقا كله الذان يقوِّضان هذه الصورة الواضحة ‪ .‬هنا فحسب‬
‫يشعُرُ يسوع باألسى على مصريه احملتوم ؛ هنا فحسب يفقد هدوءه ‪،‬هنا جنده‬
‫غري قادر على حتمل أعباء مصريه ‪ .‬ملاذا حذف لوقا كل آثار األسى الذي شعر‬
‫به يسوع يف كل موضعٍ آخر لو كان قد قصد أن يؤكِّده هنا بأقوى الكلمات ؟‬

‫ملاذا حيذف مادة من مصدره متوافقة مع هذا العدد قبل وبعد العددين موضع‬
‫دراستنا ؟ يبدو أنَّ رواية " العرق الدموي" ليسوع ‪ ،‬اليت ليس هلا وجود يف‬
‫أقدم و أفضل خمطوطاتنا ‪،‬ليست أصيلة يف إجنيل لوقا و إمنا هي إضافة أحدثها‬
‫أحد النساخ إىل اإلجنيل (‪).11‬‬

‫‪258‬‬
‫الصورة اليت رمسها لوقا ليسوع تتعارض ليس فقط مع ما جاء يف إجنيل مرقس‬
‫‪ ،‬و إمنا أيضًا مع تلك الواردة يف أسفار مؤلفي العهد اجلديد اآلخرين ‪،‬مبا يف‬
‫ذلك املؤلف اجملهول للرسالة إىل العربانيني ‪ ،‬الذي يبدو أنه افرتض مسبقا‬
‫معرفة تقاليد اآلالم اليت يواجه يسوع املوت خالهلا وهو مكروب و اليت مات‬
‫فيها بال أيِّ عونٍ من اهلل أو دعم منه ‪ ،‬وذلك ما ميكننا رؤيته يف حلِّ واحدة من‬
‫أكثر مشكالت العهد اجلديد إثارة‪.‬‬

‫هذه املشكلة النصية جندها يف سياق يتحدث عن خضوع كلِّ األشياء النهائي‬
‫ليسوع ‪ ،‬ابن اإلنسان‪ .‬ملرة أخرى ‪ ،‬سأضعُ القراءات املتباينة حمل الدراسة بني‬
‫األقواس ‪.‬‬

‫"ألنه عندما خيضع (اهلل) كلَّ شئٍ له ‪ ،‬مل يرتك شيئا غري خاضع له ‪ ،‬لكننا‬
‫لآلن مل نرَ كلَّ األشياء خاضعة له ‪ .‬لكننا رأينا يسوع بالفعل ‪ ،‬الذي ‪،‬كونه‬
‫جُ ِعلَ أقل شأنا من املالئكة لوقت قليل ‪ ،‬ك ُِّللَ باجملد والكرامة بسبب معاناته‬
‫املوت ‪ ،‬لكي يذوق املوت عن كل واحدٍ (بنعمة اهلل ‪ /‬بعيدا عن اهلل‬
‫)‪(".‬عربانيني ‪) 9 -8 : 2‬‬

‫‪259‬‬
‫على الرغم من أنَّ غالبية املخطوطات الباقية تصرح بأنَّ يسوع مات عن مجيع‬
‫البشر (بنعمة اهلل ))‪ ، ) CHARITI THEOU‬توجد خمطوطتان أخريان‬
‫تقوالن ‪ ،‬بدال من ذلك ‪،‬إنه مات " مبعزلٍ عن اهلل ‪" (CHORIS‬‬
‫‪THEOU).‬هناك أسباب جيدة جتعلنا نعتقد أنَّ القراءة األخرية ‪ ،‬مع كل‬
‫ذلك ‪ ،‬كانت هي القراءة األصلية يف الرسالة إىل العربانيني‪.‬‬

‫لست حباجة إىل الدخول يف التعقيدات اخلاصة بدعم املخطوطات للقراءة اليت‬
‫تقول " بعيدًا عن اهلل " إال لكي أقول إنه حتى لو وجدت هذه القراءة يف وثيقتني‬
‫فقط يرجع تاريخ كتابتهما إىل القرن العاشر ‪ ،‬فإن أحدها (وهي املخطوطة رقم‬
‫‪ ) 1739‬من املعروف أنها قد نقلت عن نسخة على األقل ال تقل ِقدَمًا عن‬
‫أقدم خمطوطاتنا‪.‬‬

‫األمر األكثر إثارة هو أنَّ أورجيانوس أحد علماء بواكري القرن الثالث خيربنا أنَّ‬
‫هذه القراءة (مبعزلٍ عن اهلل ) كانت هي القراءة الواردة يف أغلب املخطوطات‬
‫يف عصره ‪ .‬هناك دليل آخر كذلك يشري إىل ذيوع هذه القراءة يف العصور‬
‫القدمية‪ :‬فقد ُوجِ َدتَْ يف خمطوطات كانت معروفة للقدي َسيَْن "أمربوز" و"جريوم"‬
‫يف الغرب الالتيين واقتبسها عددٌ من كتاب الكنيسة حتى القرن احلادي عشر‪.‬‬
‫وهكذا ‪،‬على الرغم من أنها مل تكن ثابتة فيما لدينا من خمطوطات على نطاق‬
‫واسع‪،‬إال أنها يف الوقت ذاته كانت مدعومة بأدلة خارجية قوية‪.‬‬

‫‪260‬‬
‫وحينما يتحول املرء من االعتماد على دليل خارجي إىل االعتماد على دليل‬
‫داخلي‪،‬فال ريب يف أفضليَّة هذه القراءة املتباينة الثابتة يف املخطوطات ولو على‬
‫حنوٍ ضعيف‪.‬‬

‫ٍّ كبريٍ أنَّ يغيِّروا القراءة‬


‫رأينا بالفعل من قبل أنَّ النساخ كان من املرجَّح إىل حد‬
‫اليت يكون من الصعب فهمها إىل أخرى أكثر سهولة ‪ ،‬و العكس غري صحيح ‪.‬‬
‫قراءتنا هذه تقدِّم لنا حالة منوذجية هلذه الظاهرة ‪ .‬كان املسيحيون يف العادة يف‬
‫القرون األوىل ينظرون إىل موت يسوع باعتباره إظهارًا أمسى لنعمة اهلل ‪ .‬القول‬
‫إنَّ يسوع مات " مبعزلٍ عن اهلل " ميكن اعتبار أنه يعين عددًا من األشياء غالبها‬
‫غري مستساغ ‪ .‬وحيث إنَّ النساخ البد وأنهم قد اختلقوا إحدى هاتني القراءاتني‬
‫باالعتماد على القراءة األخرى ‪،‬فهناك تساؤلٌ صغريٌ عن أيِّ هاتني القراءتني‬
‫من املرجح أكثر أنه التحريف‪.‬‬

‫لكن‪...‬هل كان هذا التحريف عن عمدٍ ؟ املدافعون عن النص األكثر ورودا يف‬
‫املخطوطات " بنعمة اهلل " كان من املتحتم عليهم بالطبع أنَّ يزعموا أنَّ التغيري‬
‫مل يطرأ بشكل متعمَّد (وإال فسيكون نصهم املفضل هو الذي ميثِّل التحريف)‪.‬‬
‫حتت وطأة االضطرار ‪،‬إذن ‪ ،‬قاموا بابتكار سيناريوهات بديلة لتفسري األصل‬
‫(غري املقصود) للقراءة األكثر صعوبة ‪ .‬يف الغالب ‪،‬سيفرتضون ببساطة أنَّ‬
‫التشابه بني الكلمتني حمل الدراسة )‪ (XARITI/ XWRIS‬يف الشكل هو‬

‫‪261‬‬
‫الذي جعل النساخ خيطئون عن غري قصد فيضعون حرف اجلر(مبعزلٍ عن) بدال‬
‫من كلمة(نعمة‪) .‬‬

‫وجهة النظر هذه ‪،‬مع ذلك ‪ ،‬تبدو بعيدة االحتمال قليال‪ .‬فأيُّ احلالتني التاليتني‬
‫هي األكثر احتماال‪ :‬أنَّ يقوم ناسخٌ مهملٌ أو شارد الذهن بتغيري نصه من‬
‫خالل كتابة كلمة " أقل " تكرارا يف العهد اجلديد (مبعزلٍ عن اهلل ) ‪،‬أم أن‬
‫يستخدم أحدهم كلمة كثرية التكرار يف العهد اجلديد ("نعمة" شائعة أربع‬
‫أضعاف "مبعزل عن اهلل")؟ هل من احملتمل أن يكون هذا الناسخ قد اختلق‬
‫مجلة ليس هلا أي وجود يف أي مكان آخر يف العهد اجلديد ("مبعزلٍ عن اهلل) أم‬
‫أنه اختلق مجلة تكررت أكثر من عشرين مرة (" بنعمة اهلل")؟ ما هو األكثر‬
‫احتماال ‪:‬أن خيتلق قوال غريبا و مثريا للصعوبات ‪ ،‬ولو بغري قصد‪،‬أم أن خيتلق‬
‫اآلخر الذي يعترب قوال مألوفا وسهل الفهم ؟ بالتأكيد ‪ ،‬اخليار األخري هو‬
‫األكثر احتماال ‪ .‬فالقُرَّاء خيطئون يف الكلمات الغريبة لصاحل الكلمات الشائعة و‬
‫يبسطون ما هو أكثر تعقيدًا خاصة عندما تشرد أذهانهم جزئيًّا‪ .‬لذلك ‪،‬حتى‬
‫نظرية اإلهمال تدعم كون القراءة األقل ورودًا يف املخطوطات (مبعزلٍ عن اهلل)‬
‫هي القراءة األصلية‪.‬‬

‫النظرية األكثر شيوعًا يف أوساط من يعتقدون أنَّ مجلة " مبعزلٍ عن اهلل" ليست‬
‫اجلملة األصلية هي أنَّ هذه القراءة اختلقت كمالحظة هامشية ‪ :‬فقد قرأ أحد‬

‫‪262‬‬
‫ضعَتَْ لسلطان‬
‫النساخ يف العدد ‪ 8 : 2‬من سفر العربانيني أنَّ " كل األشياء" ُأخَْ ِ‬
‫املسيح ‪ ،‬وعلى الفور ذهب فكره إىل العدد ‪ 27 : 15‬من الرسالة األوىل إىل‬
‫أهل كورنثوس‪:‬‬

‫خضِ َعتَْ حتت قدمه (أي املسيح)‪ ".‬لكن حينما يقال أنَّ "‬
‫"ألن كل األشياء ُأ َْ‬
‫كل األشياء ستخضع‪ "،‬من الواضح أنها تعين كل األشياء باستثناء من‬
‫أخضعها له (أي أنَّ اهلل نفسه ليس من بني األشياء اليت أُخَْضِعَت للمسيح يف‬
‫النهاية‪).‬‬

‫وفقا هلذه النظرية ‪،‬الناسخ الذي كان يقوم بنسخ اإلصحاح ‪ 2‬من العربانيني‬
‫أراد أنَّ يوضح هنا أيضًا أنَّ النص يشري إىل أنَّ كل شئ هو خاضع للمسيح ‪،‬‬
‫وأنَّ هذا األمر ال ينطبق على اهلل اآلب‪ .‬وحلماية النص من أنَّ يسئ أحدٌ فهمه‬
‫‪،‬أدخل الناسخ مالحظة تفسرييَّة يف هامش العدد ‪ 8 : 2‬من العربانيني (كنوع‬
‫من اإلحالة إىل اكورونثوس ‪ )27 : 15‬ليشري إىل أنه ال شئ جنا من اخلضوع‬
‫للمسيح‪ "،‬باستثناء اهلل"‪ .‬هذه املالحظة انتقلت يف وقت تالٍ مبعرفة ناسخ مهمل‬
‫يف العصور التالية إىل نصِّ العدد التالي ‪ ،‬العربانيني ‪ ، 9 : 2‬حيث ظنَّ أنَّها‬
‫تنتمي إليه‪.‬‬

‫على الرغم من ذيوع هذا احلل ‪ ،‬إال أنه رمبا أذكى من أن يعتمد ويتطلب‬
‫حدوث كثري من اخلطوات املشكوك فيها لكي يتم التصديق عليه‪.‬‬
‫‪263‬‬
‫ليس هناك أي خمطوطة تضم بني ثناياها القراءتني معًا (أي التصحيح الذي وقع‬
‫للهامش أو لنص العدد ‪، 8‬حيث ينتمي اهلامش ‪،‬ومعهما النص األصلي‬
‫للعدد ‪ .) 9‬أضف إىل ذلك أنه لو ظنَّ ناسخٌ أنَّ املالحظة كانت تصحيحا ورد‬
‫يف اهلامش ‪،‬فلماذا وجده يف اهلامش بعد العدد ‪ 8‬وليس العدد ‪ 9‬؟ أخريًا ‪ ،‬لو‬
‫أنَّ الناسخ الذي اختلق اهلامش كان قد فعل ذلك ليشري إىل الرسالة األوىل إىل‬
‫أهل كورنثوس ‪ ،‬أمل يكن سيكتب " باستثناء اهلل ‪"( EKTOS THEOU)-‬‬
‫وهي اجلملة املوجودة بالفعل يف الرسالة األوىل إىل أهل كورنثوس) بدال من أنَّ‬
‫يكتب " مبعزلٍ عن اهلل ‪ "( CHORIS THEOU)-‬اليت ليس هلا وجود يف‬
‫الرسالة األوىل إىل أهل كورنثيوس؟‬

‫باجلملة ‪ ،‬من الصعب جدا تفسري مجلة (مبعزل عن اهلل ) لو أنَّ مجلة ( بنعمة‬
‫اهلل) كانت هي القراءة األصلية يف العربانيني ‪. 9 : 2‬‬

‫يف الوقت نفسه ‪ ،‬بينما يصعب توقع أنَّ ناسخًا قد قال إنَّ املسيح مات "مبعزلٍ‬
‫عن اهلل " ‪،‬جند أنَّ مثة أسبابًا منطقيةً للغاية تدفعنا إىل االعتقاد بأن هذه القراءة‬
‫حتديدًا هي ما خطته يدُ مؤلِّف الرسالة إىل العربانيني ‪ .‬ألن هذه القراءة األكثر‬
‫ورودًا يف املخطوطات هي أكثر توافقا مع العقيدة الالهوتية للرسالة إىل‬
‫العربانيني(" وهذا املنهج هو ما يعرف باالحتماالت الداخلية")‪ .‬فهذه الكلمة‬

‫‪264‬‬
‫"نعمة )‪" (CHARIS‬مل ترد مطلقا يف الرسالة كلها يف معرض اإلشارة إىل‬
‫موت يسوع أو إىل فوائد اخلالص اليت جاءت كنتيجة ملوته‪.‬‬

‫بدال من ذلك ‪ ،‬دائما ما جندها تتعلق بهبة اخلالص املكفولة للمؤمن برمحة اهلل‬
‫(انظر على وجه اخلصوص األعداد ‪ 16 : 4‬؛ و ‪ 29 : 11‬؛ و‪15 : 12‬‬
‫؛‪ 25 : 13‬من سفر الرسالة إىل العربانيني‪).‬‬

‫وللتأكيد على ذلك ‪ ،‬من املعروف تارخييًّا أنَّ املسيحيني كانوا أكثر تأثُّرًا‬
‫باملؤلفني اآلخرين للعهد اجلديد ‪،‬بولس على وجه اخلصوص‪،‬الذي كان يرى‬
‫يف تضحية يسوع على الصليب باعتبارها التجسيد األمسى لنعمة اهلل ‪ .‬لكنَّ‬
‫العربانيني ال تستخدم هذا املصطلح (نعمة اهلل) على هذا النحو على الرغم من‬
‫أنَّ النساخ الذي كانوا يعتقدون أنَّ مؤلف هذا السفر هو بولس رمبا مل يدركوا‬
‫هذا ‪.‬‬

‫من ناحية أخرى ‪،‬القول إنَّ يسوع قد مات " مبعزل عن اهلل"‪ -‬وهو القول‬
‫الغامض إذا فهمناه مبعزل عن السياق‪ -‬يعطي معنى مقنعًا يف سياقه األدبي‬
‫الواسع يف ثنايا الرسالة إىل العربانيني‪ .‬ويف حني أنَّ هذا املؤلف مل يشِر على‬
‫اإلطالق إىل موت يسوع باعتباره جتسيدا لل"نعمة" اإلهلية ‪ ،‬فهو يؤكد على‬
‫حنو متكرر أنَّ يسوع مات ميتة بشريَّة وخمزية متامًا ‪ ،‬وأنَّه أَُْب ِعدَ متاما عن اململكة‬
‫اليت جاء منها ‪ ،‬مملكة اهلل؛ وأنَّ تضحيته ‪ ،‬نتيجة لذلك‪ ،‬قبلها اهلل ككفارة‬
‫‪265‬‬
‫صحيحة عن اخلطية‪ .‬فوق ذلك ‪ ،‬مل يتدخل اهلل يف مسألة آالم يسوع ومل يفعل‬
‫شيئا ليخفف من آالمه ‪ .‬لذلك ‪ ،‬على سبيل املثال ‪،‬يتحدث سفر الرسالة إىل‬
‫العربانيني عن يسوع وهو يتضرع يف مواجهة املوت إىل اهلل بصرخات مدوية‬
‫وبدموع ‪ .‬يف العدد ‪ 2 : 12‬يقال عنه إنه احتمل " خزي " موتته‪،‬ليس ألن اهلل‬
‫قد أعانه على ذلك ‪،‬بل ألنه كان يأمل يف التربُّر ‪.‬ويف أحناء الرسالة ‪،‬يقال إنَّ‬
‫يسوع اخترب األمل و املوت اإلنسانيَّ ‪ ،‬مثل الكائنات البشرية األخرى " من كل‬
‫وجه "‪ .‬لكنَّ آالمه مل تكن كربة خففتها تدابري إهلية خاصة‪.‬‬

‫األمر األكثر أهمية هو أنَّ هذا هو موضوع رئيسي للسياق القريب لعدد ‪9 : 2‬‬
‫‪ ،‬الذي يؤكِّد أنَّ املسيح اختذ لنفسه وضعًا أقل من املالئكة لكي يشاركنا بالدم‬
‫و اللحم ولكي خيترب اآلالم اإلنسانيَّة ولكي ميوت ميتة إنسانية‪ .‬وللتأكيد على‬
‫ذلك‪،‬من املعروف أنَّ موت يسوع قد جلب اخلالص‪،‬لكنَّ الفقرة ال تقول أيَّ‬
‫كلمة عن نعمة اهلل كأمر واضح يف عمل املسيح الكفَّاري‪،‬بل تركز بدال من‬
‫ذلك على طبيعة املسيح وعن نزول املسيح إىل مملكة املوت واآلالم العابرة ‪ .‬لقد‬
‫اخترب يسوع اآلالم كإنسانٍ كاملٍ مبعزلٍ عن أي عون من جهة نفسه باعتباره‬
‫َملُه مبوته‪ ،‬املوت الذي كان من‬
‫كائنًا علويًّا‪ .‬العمل الذي بدأه عند نزوله يك ِّ‬
‫املتحتم أنَّ حيدث " مبعزلٍ عن اهلل‪".‬‬

‫‪266‬‬
‫كيف ميكن أن تكون القراءة "مبعزلٍ عن اهلل"‪ ،‬اليت ميكن تفسريها بصعوبة‬
‫كتحريف أحدثه النساخ متوافقة مع االختيارات اللغوية واألسلوبية والالهوتية‬
‫للرسالة إىل العربانيني‪ ،‬بينما القراءة البديلة "بنعمة اهلل"‪،‬اليت ال متثل للنساخ أي‬
‫صعوبة على اإلطالق ‪ ،‬تبدو متناقضة مع ما ختربنا به الرسالة إىل العربانيني عن‬
‫موت يسوع و مع الطريقة اليت استعملتها يف إخبارنا عن هذا املوت ؟ العدد ‪2‬‬
‫‪ 9 :‬من الرسالة إىل العربانيني يبدو أنه يف األصل كان يقول أنَّ يسوع مات "‬
‫مبعزلٍ عن اهلل " ‪ ،‬مرتوكًا ‪ ،‬على حنو مشابه كثريا للصورة اليت رمسها إجنيل‬
‫مرقس يف روايته عن آالم املسيح‪.‬‬

‫‪267‬‬
‫يف كل حالة من هذه احلاالت الثالث اليت ألقينا عليها الضوء ‪ ،‬هناك تباين‬
‫نصيّ هام يضطلع بدور هام يف الكيفية اليت يتم بها تفسري هذه الفقرة املستهدفة‬
‫بالدراسة ‪ .‬من املهم على حنوٍ واضح أنَّ نعرف ما إذا كان يسوع قد قيل عنه أنه‬
‫شعر بالشفقة أم بالغضب يف مرقس ‪ 41 : 1‬؛ وما إذا قد كان هادئا و رابط‬
‫اجلأش أم شاعر بقلق عميق يف العدد لوقا ‪ 44 - 43 : 22‬؛ وما إذا كان قد‬
‫قيل عنه إنه مات بنعمة اهلل أو " مبعزلٍ عن اهلل "يف العدد ‪ 9 : 2‬من الرسالة إىل‬
‫العربانيني‪.‬ميكننا أنَّ ننظر يف فقرات أخرى بسهولة كذلك ‪،‬لكي ندرك معنى‬
‫أهميةالتعرف على كلمات مؤلف ما إذا كنا نريد أنَّ نفسر رسالته‪.‬‬

‫بالنسبة للتقليد املخطوط للعهد اجلديد ‪ ،‬هناك ما هو أكرب بكثري من جمرد‬


‫التوصل إىل ما قاله مؤلفها بالفعل‪ .‬هناك أيضًا قضية (األسباب) اليت من أجلها‬
‫تعرضت هذه الكلمات للتغيري وكيف تؤثر هذه التغيريات على معاني كتاباتهم‬
‫‪.‬هذه القضية املتعلقة بتعديل الكتاب املقدس يف الكنيسة املسيحية األوىل‬
‫ستكون موضوع الفصلني التاليني حيث سأحاول أن أوضح كيف أنَّ النساخ‬
‫‪،‬الذين مل يكونوا راضني متاما عن ما قالته أسفار العهد اجلديد ‪،‬عدَّلوا‬

‫‪268‬‬
‫كلماتها ليجعلوها تدعم املسيحية األرثوذكسية بصورة أوضح ولكي تعارض‬
‫اهلراطقة والنساء واليهود والوثنيني بصورة أكرب‪.‬‬

‫‪269‬‬
‫]‪[1‬لالطالع على شرح أكثر تفصيال هلذه املناهج ‪ ،‬انظر كتاب " نص الكتاب املقدس ‪" (text of the new‬‬
‫)‪ ،testament‬لربوس ميتزجر و بارت إرمان ‪ ،‬ص ‪.315 – 311‬‬

‫]‪[2‬من بني أمور أخرى ‪،‬هذا يعين أن القراءات يف نص األغلبية " البيزنطي" ليست بالضرورة هي القراءات األفضل ‪ .‬فهذه‬
‫القراءات تتمتع ببساطة بدعم املخطوطات على قاعدة عددها جمردًا‪ .‬وكما يقول القول املأثور املعروف يف أوساط نقاد‬
‫النصوص ‪ ":‬املخطوطات تُقَيَّم وال تعَدُّ"‪.‬‬

‫]‪[3‬بعض العلماء يعتربون هذه القاعدة هي أهم و أكثر مبادئ علم النقد النصي مجيعا مصداقية‪.‬‬

‫]‪[4‬كثري مما سيأتي مأخوذ من مقاليت " النص والتقليد ‪:‬دور خمطوطات العهد اجلديد يف الدراسات املسيحية املبكرة‬
‫‪"،‬وجتدونه يف جريدة النقد النصي على الرابط التالي‪:‬‬

‫‪http://rosetta.reltech.org/TC/vol05/Ehrman2000a.html‬‬

‫]‪[5‬ملناقشة أكثر تفصيال هلذه القراءة املتباينة ‪ ،‬وأهميتها بالنسبة للتفسري ‪ ،‬انظر مقاليت" خاطئ بني يدي يسوع الغاضب ("‬
‫)‪ ،A Sinner in the Hands of an Angry Jesus‬يف كتاب " العهد اجلديد اليوناني والتفاسري‪ :‬مقاالت تكرميا‬
‫جلريالد‪.‬ف‪.‬هاوثورن‪،‬بتحرير تيموثي ‪ .‬ب‪ .‬سيلورز( مطبعة‪ :‬جراند رابيدز‪:‬إيردمانز‪ .) 2113،‬اعتمدت على هذا املقال يف‬
‫كثري من املناقشة التالية‪.‬‬

‫]‪[6‬انظر كتاب"العهد اجلديد"‪،‬لبارت إرمان ‪ ،‬الفصل ال‪.6‬‬

‫]‪[7‬يف موضعني آخرين فقط يف إجنيل مرقس يوصف يسوع بوضوح أنه شفوق ‪:‬يف مرقس ‪ ، 34 : 6‬عند إطعام اآلالف‬
‫اخلمسة ‪ ،‬ويف مرقس ‪ ، 2 : 8‬عند إطعام األربعة آالف ‪.‬أما لوقا فيحكي القصة األوىل على حنو مغاير كليًّا‪ ،‬وال يذكر‬
‫الثانية ‪ .‬متَّى ‪ ،‬رغم ذلك ‪،‬يذكر القصتني كلتيهما و حيتفظ بالوصف الذي ذكره مرقس عن شفقة يسوعفي املوضعني كليهما‬
‫(متَّى ‪ 14 : 14‬و ‪) 31 : 9‬؛ وكذلك يف ‪ .) 32 : 15‬يف ثالثة مواقف أخرى يف متَّى ‪ ،‬وكذلك يف مناسبة أخرى يف لوقا‬
‫يوصف يسوع باعتباره شفوقا ‪،‬باستخدام هذا التعبري ‪ (SPLANGNIZO).‬من الصعب ‪،‬إذن ‪ ،‬ختيُّل السبب الذي‬
‫جيعلهما ‪ ،‬كل منهما على حنو مستقل ‪ ،‬حيذفان التعبري من روايتهما اليت نناقشهما اآلن لو كانا قد وجداها يف مرقس‪.‬‬

‫‪270‬‬
‫]‪[8‬لالطالع على هذه التفسريات املتنوعة ‪ ،‬انظر مقال بارت إرمان " خاطئ بني يديّ يسوع الغاضب ‪."(a sinner in‬‬
‫)‪the Hands of an angry Jesus‬‬

‫]‪[9‬لالطالع على مناقشة أكثر تفصيال لألسباب اليت جعلت النساخ يغريون الرواية األصلية ‪ ،‬انظر الصفحتني (‪– 211‬‬
‫‪) .211‬‬

‫(مقصود املؤلف هو الصفحتان يف النص اإلجنليزي‪...‬املرتجم‪).‬‬

‫]‪[10‬لالطالع على مناقشة أكثر تفصيال هلذه القراءة املتباينة ‪،‬انظر كتاب إرمان " األرثوذكس حرفوا الكتاب املقدس ("‬
‫)‪ ،Orthodox Corruption of Scripture‬ص ‪ . 194 – 187‬معاجليت األوىل هلذه الفقرة كتبته بالتعاون مع‬
‫مارك بالنكيت‪.‬‬

‫]‪[11‬للطالع على مناقشة لألسباب اليت حدت بالنساخ إىل إضافة العددين إىل رواية لوقا انظر الصفحتني ‪165 – 164‬‬
‫فيما يلي‪.‬‬

‫ملحوظة‪:‬‬

‫يقصد املؤلف هاتني الصفحتني حسب الرتقيم يف النسخة اإلجنليزية‪....‬املرتجم‬

‫]‪[12‬لالطالع على دراسة أكثر تفصيال هلذه القراءة املتباينة ‪ ،‬انظر كتاب" األرثوذكس حرفوا الكتاب املقدس " لبارت‬
‫إرمان ‪ ،‬ص ‪.151 – 146‬‬

‫‪271‬‬
‫"‬ ‫"‬

‫يتناول علم النقد النصي ما هو أكثر من جمرد حتديد النص األصلي ‪ .‬فهو يعمل‬
‫أيضًا على رصد الكيفية اليت متَّ من خالهلا تعديل النص عرب الزمن سواء‬
‫بسبب هفوات النساخ أو حتريفهم املقصود هلا ‪.‬هذا النوع األخري‪،‬أي التغيريات‬
‫العمدية‪ ،‬مهمٌّ للغاية‪ ،‬ال ألنَّه فحسب يساعدنا بالضرورة على فهم ما كان‬
‫املؤلِّفون األصليون حياولون قوله ‪،‬بل أيضًا ألنَّه قادر على أن يوضح لنا شيئًا‬
‫عن الكيفية اليت كان النساخ ‪،‬الذين أعادوا إنتاج النصوص‪ ،‬يفسِّرون بها‬
‫النصوص اليت كتبها املؤلفون‪ .‬ومن خالل رصد الكيفية اليت حرَّفوا من خالهلا‬
‫النصوص اليت بني أيديهم ‪،‬ميكننا اكتشاف إشارات تدلُّنا على ما كان هؤالء‬
‫النساخ يظنونه ُمهِمَّا يف النص‪،‬وهكذا ميكننا أن نتعلم الكثري فيما يتعلق بتاريخ‬
‫النصوص عندما كانت تُنسخ و يعاد نسخها عرب القرون‪.‬‬

‫الفرضية اليت ينبين عليها هذا الفصل هي أن نصوص العهد اجلديد يف بعض‬
‫األحيان كانت تتعرض للتحوير ألسباب الهوتية ‪ .‬هذا كان حيدث كلَّما كان‬
‫‪272‬‬
‫النسَّاخ القائمون على عملية النسخ معنيني بالتأكُّد من أن النصوص تقول ما‬
‫يريدونها أن تقوله ؛ وأحيانًا يكون هذا بسبب نزاعات الهوتية اشتعلت يف‬
‫العصر ذاته الذي عاش فيه النسَّاخ ‪ .‬ولكي نفهم هذا النوع من التغيري‪،‬يلزمنا‬
‫أن نستوعب بعض املفاهيم عن النزاعات الالهوتية يف القرون املبكرة للمسيحية‬
‫قبل الظهور واسع النطاق للنسّاخ "احملرتفني " ـ وهي القرون اليت حدثت فيها‬
‫غالبية حتريفات الكتاب املقدس ‪.‬‬

‫منلك معلومات كثرية عن املسيحية خالل القرنني الثاني والثالث ‪ -‬وهو‬


‫العصر الذي يقع ‪ ،‬فلن ُقلَْ ‪،‬بني اكتمال كتابة أسفار العهد اجلديد و حتوُّل‬
‫اإلمرباطور الروماني قسطنطني إىل اإلميان‪ ،‬الذي‪،‬كما رأينا‪،‬غيَّر كل شئ (‪)1‬‬
‫‪ .‬هذان القرنان بشكل خاص كانا غنيني بالتنوُّع الالهوتيِّ بني املسيحيني‬
‫األوائل‪ .‬يف الواقع ‪ ،‬كان التنوُّع الالهوتيُّ واسعًا جدًا إىل الدرجة اليت جعلت‬
‫جمموعات أطلقت على نفسها اسم املسيحيني يعتنقون املعتقدات واملمارسات‬
‫اليت يصِّرُّ معظم مسيحيي اليوم على أنَّها ليست معتقدات مسيحية مطلقًا (‪. )2‬‬
‫يف القرنني الثاني والثالث كان مثَّة مسيحيون يؤمنون بأنه ال إله إال إلهٌ واحدٌ‬

‫‪273‬‬
‫خلق كلَّ شئ‪ .‬أناس آخرون من الذين يسمُّون أنفسهم املسيحيني أصرُّوا على‬
‫أن للكون إهلني اثنني متمايزين ‪ -‬إلهٌ للعهد القديم ( إله النقمة ) وإلهٌ للعهد‬
‫اجلديد ( إله احملبة و الرمحة)‪ .‬هاذان مل يكونا وجهني خمتلفني لإلله نفسه‪ :‬بل‬
‫كانا يف الواقع إهلني خمتلفني متامًا‪ .‬من املدهش أن اجملموعات اليت تفوهت بهذه‬
‫املزاعم ‪ -‬مبا يف ذلك أتباع مرقيون ‪ ،‬الذين تعرفنا عليهم من قبل‪،‬أصرَّت‬
‫على أن رؤاها كانت هي التعاليم احلقة اليت نادى بها يسوع وتالميذه‪.‬‬
‫جمموعات أخرى ‪ ،‬من املسيحيني الغنوصيني على سبيل املثال‪ ،‬أصرُّوا على أنه‬
‫مل يكن مثة إهلني اثنني فحسب‪ ،‬بل اثنا عشر إهلا‪ .‬وآخرون قالوا‪ :‬بل ثالثون‬
‫إهلًا ‪ .‬و آخرون استمروا يف القول أن اآلهلة ‪ 365‬إهلًا ‪ .‬كل هذه اجملموعات‬
‫زعمت أنَّها مسيحية وأصرت على أن رؤاها هي الرؤى احلقة و أن يسوع‬
‫وتالميذه بشروا بها‪ .‬ملاذا بكل بساطة مل تقرأ هذه اجملموعات األخرى عهدها‬
‫اجلديد لريوا أن آراءهم كانت خاطئة ؟ هذا ألنه مل يكن مثة عهدٌ جديدٌ‪.‬‬
‫وللتدليل على ذلك ‪ ،‬كلُّ كتب العهد اجلديد كانت قد كتبت قريبًا من هذا‬
‫الوقت ‪ ،‬ولكن كان مثة كثريٌ من الكتب األخرى أيضًا كلها تزعم أنَّها كُِتَبتَْ‬
‫بأقالم تالميذ يسوع نفسه ‪ -‬منها األناجيل وأعمال الرسل ورسائل ورؤًى‬
‫أخرى كانت حتوي وجهات نظر أخرى ختتلف أشدُّ االختالف عن تلك‬
‫املوجودة يف الكتب اليت حدث يف النهاية وأن أصبحت تُ َْعرَفُ بالعهد اجلديد‪.‬‬
‫العهد اجلديد نفسه ظهر نتيجة هلذه الصراعات حول العقيدة يف اهلل ( أو اآلهلة)‬
‫‪274‬‬
‫حيث اكتسبت جمموعة من جمموعات املؤمنني متحوِّلني إىل اإلميان أكثرَ مما‬
‫اكتسبته اجملموعاتُ األخرى وحدَّدت الكتب اليت ينبغي أن تتضمنها القائمة‬
‫الرمسية للكتاب املقدس‪ .‬يف القرنني الثاني والثالث ‪،‬رغم ذلك‪،‬مل يكن مثة‬
‫قائمة رمسية وال عقيدة الهوتية متفق عليهما ‪ .‬بدال من ذلك ‪ ،‬كان هناك تنوعٌ‬
‫كبريٌ ‪:‬جمموعات متنوعة تؤكد على عقائد الهوتية متنوعة مبنية على نصوص‬
‫مكتوبة متنوعة وكلُّها يزعم أنه قد كُِتبَ بأقالم تالميذ يسوع ‪.‬‬

‫بعض من هذه اجملموعات املسيحية أصرَّت على أن اهلل قد خلق هذا العامل ؛‬
‫آخرون رأوا أن اإلله احلق مل خيلق العامل (الذي هو‪،‬يف النهاية‪،‬مكان شرير)‪،‬‬
‫لكنَّ العامل نتج عن كارثة كونية ‪ .‬بعضٌ من هذه اجملموعات أصرَّ على أن‬
‫الكتب املقدسة اليهودية أوحاها اإللهُ الواحدُ احلقُّ ؛ آخرون زعموا أن الكتب‬
‫املقدسة اليهودية تنتمي إىل إلهِ اليهودِ األقلِّ شأنًا الذي مل يكن هو نفسه اإلله‬
‫الواحد احلق‪ .‬بعض هذه اجملموعات أصرَّت على أن يسوع املسيح كان االبن‬
‫الوحيد لإلله و أنَّه كان إنسانًا كامال وإهلًا كامال ؛ جمموعات أخرى أصرَّت‬
‫على أن املسيح كان إنسانًا تامًّا ومل يكن إهلًا على اإلطالق ؛ آخرون ادعوا أنه‬
‫كان إهلًا كامال ومل يكن إنسانًا على اإلطالق؛ وأكد البعض اآلخر أن يسوع‬
‫املسيح كان الشيئني كليهما ‪ :‬كائنًا إهليًّا ( املسيح) و كائنا بشريًّا (يسوع)‪ .‬بعض‬
‫هذه اجملموعات آمنت بأن موت املسيح حدث ألجل خالص العامل؛ بينما أكد‬

‫‪275‬‬
‫اآلخرون أن موت املسيح مل يكن له أيَّ عالقة خبالص العامل؛ يف حني أصرَّت‬
‫جمموعات أخرى على أن املسيح مل َيمُتَْ أبدًا يف احلقيقة ‪.‬كل واحدة من‬
‫وجهات النظر هذه ‪ -‬ووجهات نظر أخرى باإلضافة إليها ‪ -‬كانت حملًّا‬
‫لنقاشات وحوارات و مناظرات متواصلة طوال القرون األوىل من عمر الكنيسة‬
‫حيث كان املسيحيون من خمتلف املعتقدات حياولون إقناع اآلخرين بصحة‬
‫مزاعمهم ‪ .‬جمموعةٌ واحدةٌ يف النهاية "خرجت منتصرة" من هذه املناظرات‪ .‬إنها‬
‫تلك اجملموعة اليت قررت ما ستكون عليه العقائد املسيحية ‪ :‬االعتقادات اليت‬
‫ستؤكد أنه ليس مثة إال إله واحد ‪ ،‬هو اخلالق ‪ ،‬ويسوع ابنه هو اإلنسان و اإلله‬
‫كالهما ؛ وأنَّ اخلالص متَّ باملوت والقيامة ‪ .‬وهي أيضًا تلك اجملموعة اليت‬
‫قررت أيَّ الكتابات ستتضمنها القائمة الرمسيَّة للكتاب املقدس‪ .‬لقد اتفق‬
‫معظمُ املسيحيِّني ‪،‬قريبًا من نهاية القرن الرابع‪،‬على أن األناجيل األربعة وسفر‬
‫األعمال ورسائل بولس وكذلك جمموعة أخرى من الرسائل مثل رساليت‬
‫يوحنا األوىل وبطرس األوىل ‪،‬إىل جانب رؤيا يوحنا‪ ،‬هم جزء من القائمة‬
‫الرمسية ‪ .‬ويا تُرى من كان يقوم بنسخ هذه النصوص ؟ هم أنفسهم املسيحيون‬
‫تام‬
‫ٍّ‬ ‫من أعضاء الرعويات نفسها ‪،‬أي املسيحيون الذين كانوا على وعي‬
‫بـاملناظرات اليت دارت حول شخص اإلله وحول منزلة الكتب املقدسة اليهودية‬
‫وطبيعة املسيح وآثار موته بل وكانوا حتى مشاركني فيها‪ .‬إنها اجملموعة اليت‬
‫نصَّبت من نفسها "أرثوذكسًا"( اليت تعين أنهم يؤمنون مبا يعتربونه هم "‬
‫‪276‬‬
‫االعتقاد الصحيح") ثمَّ قرَّرت ما ستؤمن به األجيال املسيحية التالية وما ستقرأه‬
‫على اعتبار أنَّه الكتاب املقدس ‪ .‬إذن ما االسم الذي ينبغي أن نطلقه على‬
‫وجهات النظر "األرثوذكسية" يف الفرتة اليت سبقت حتوهلا إىل الرأي الغالب‬
‫عند كل املسيحيني ؟ رمبا من األفضل أن نسميها "ماقبل األرثوذكسية "‬
‫‪(proto-orthodox).‬ما يعين أنها متثل وجهات نظر املسيحيني "‬
‫األرثوذكس" قبل أن ينتصروا يف النزاعات اليت وقعت يف وقتٍ قريبٍ من‬
‫بواكري القرن الرابع امليالديّ‪.‬‬

‫هل أثرت هذه النزاعات على النسّاخ حينما كانوا يقومون بنسخ كتبهم املقدسة‬
‫؟ يف هذا الفصل سأزعم أنها أثَّرت‪ .‬ولبيان هذه املسألة‪،‬سأقتصر على قضية‬
‫متثلُ جانبًا واحدًا فحسب من جوانب النزاعات الالهوتية‬
‫طبيعة املسيح اليت ِّ‬
‫املتواصلة خالل القرنني الثاني والثالث‪ .‬هل كان املسيحُ إنسانًا ؟ هل كان إهلًا ؟‬
‫أم كان االثنني كليهما ؟ ولو كان هو االثنني كليهما‪ ،‬فهل كان كائنني منفصلني‬
‫أحدهما بشريٌّ واآلخر إهليٌّ ؟ أما كان كائنا واحدا بشريًّا وإهليًّا يف الوقت ذاته‬
‫؟‬

‫هذه هي األسئلة اليت متَّت اإلجابة عنها يف نهاية األمر عرب العقائد اليت صيغت‬
‫ثمَّ استمر تناقلها إىل أن وصلتنا يف عصرنا احلالي‪،‬إنها العقائد اليت تنصُّ على‬
‫أنَّه يوجد" ربٌّ واحدٌ يسوعُ املسيح " الذي كان إهلًا كامال وإنسانًا كامال‪ .‬قبل أن‬

‫‪277‬‬
‫تصدر هذه القرارات ‪،‬كان مثَّة اختالفات واسعة وكان هلذه االختالفات تأثريها‬
‫على نصوص كتابنا املقدس (‪. )3‬ولتوضيح هذا األمر سأدرس ثالثة مواضع‬
‫للنزاع حول طبيعة املسيح وسأرصد الطرق اليت غيَّر من خالهلا نسَّاخٌ حسين‬
‫النية(ال شك يف ذلك) نصوص الكتب اليت ستصبح فيما بعد العهد اجلديد‪ .‬لقد‬
‫حرَّفوا النصوص اليت لديهم عن عمد بغية جعلها أكثر موافقةً لوجهات نظرهم‬
‫الالهوتية الشخصيَّة وأقل موافقة لوجهات النظر الالهوتية اليت يعتنقها‬
‫خصومهم ‪ .‬أول املواضع اليت سأتناوهلا بالبحث تتعلق بزعم بعض املسيحيني‬
‫أن يسوعَ كان إنسانًا كامال لدرجة ال ميكن معها أن يكون إهلًا ‪ .‬و تلك كانت‬
‫وجهة نظر جمموعة من املسيحيني يسميها العلماء اليوم بالتبنَّويني‬
‫‪(adoptionists).‬وجهة نظري اليت أجادل إلثباتها هي أن النسَّاخ‬
‫املسيحيني الذين كانوا خصومًا لوجهات النظر التبنّوية حول يسوع قاموا بتعديل‬
‫نصوصهم يف بعض املواضع لكي يؤكَّدوا وجهة نظرهم القائلة أن يسوع مل‬
‫يكن إنسانًا فحسب وإمنا كان إهلًا أيضًا‪ .‬ميكننا أن نسمي هذه التعديالت‬
‫حتريفات الكتاب املقدس املضادة للتبنَّويني‪.‬‬

‫‪278‬‬
‫عددٌ من اجملموعات املسيحية يف القرنني الثاني والثالث نعلم عنها أنَّها كان هلا‬
‫وجهات نظر" تبنَّويّة" فيما يتعلق باملسيح ‪ .‬وجهة النظر هذه سُمِّيت بالتبنَّوية ألنَّ‬
‫ٍإهلي وإمنا هو كائنٌ بشريُّ كاملٌ‬
‫ٍّ‬ ‫املؤمنني بها أكدُّوا أن يسوع مل يكن من جوهر‬
‫من حلمٍ ودمٍ " تبنّاه" اهلل لكي يصري ابنًا له وهو ما حدث غالبًا أثناء حلظة عماده‬
‫(‪ . )4‬أحدًُ أشهرِ اجملموعات املسيحية املبكرة اليت اعتنقت عقائد تبنَّوية حول‬
‫املسيح كانت طائفة من اليهود املتنصرين عرفت باسم األبيونيني‪.‬‬

‫لسنا على يقني من السبب الذي من أجله أطلق عليهم هذا االسم ‪ .‬فمن‬
‫احملتمل أنه ظهر كتسمية أطلقوها هم على أنفسهم استمدُّوها من االسم العربي‬
‫إبيون)‪ (Ebyon‬الذي يعين " فقري"‪ .‬أتباع يسوع هؤالء من احملتمل أنَّهم تأسَّوا‬
‫بتالميذ يسوع األوائل يف التخلِّي عن كلِّ شئٍ ميلكونه يف سبيل إميانهم وهكذا‬
‫فرضوا على أنفسهم فقرًا اختياريًّا من أجل اآلخرين ‪.‬‬

‫مهما يكن مصدر االسم الذي محلوه فقد ذُكِرَت آراء هذه اجملموعة بوضوح يف‬
‫سجالتنا املبكرة‪،‬خاصة تلك اليت كتبها أعداؤهم الذين نظروا إليهم باعتبارهم‬
‫هراطقة‪ .‬أتباع يسوع هؤالء كانوا مثلََه يهودًا ؛حيث كان إصرارهم على أن‬
‫اإلنسان "لكي يصري تابعًا من أتباع يسوع فعليه أن يكون يهوديًّا" هو ما كان‬
‫مييِّزُهم عن املسيحيني اآلخرين‪ .‬فكون اإلنسان يهوديًّا يعين بالنسبة للرجال أن‬

‫‪279‬‬
‫خيتتنوا‪ .‬وبالنسبة للرجال والنساء‪،‬كان ذلك يعين اتِّباع الشريعة اليهودية اليت‬
‫جاء بها موسى مبا يف ذلك أحكام الطعام الكوشري (احلالل) وحفظ السبت و‬
‫األعياد اليهوديَّة‪.‬‬

‫لقد كان مفهومُهم عن يسوع باعتباره مسيحًا يهوديّا هو‪،‬على وجه‬


‫اخلصوص‪ ،‬ما فرَّق بني هؤالء املسيحيني وبني اآلخرين‪ .‬ألنَّه وحيث إنهم كانوا‬
‫موحِّدين شديديِّ االلتزام ـ أي يؤمنون بأنًّ واحدًا فحسب هو املستحق ألن‬
‫يكون إهلًا ـ فقد أصرُّوا على أن يسوع مل يكن إهلًا‪،‬بل كائنًا بشريًّا ال خيتلف يف‬
‫"الطبيعة" عن بقيتنا‪ .‬فهو قد ُولِدَ من اتِّحادٍ جنسيِّ بني أبويه يوسف ومريم ووُلِد‬
‫ٍّ‪.‬‬
‫مثل أيِّ شخصٍ آخرَ ( فأمُّه مل تكن عذراءً) وتربّى ‪،‬من ثمَّ‪ ،‬يف بيت يهودي‬
‫أمَّا ما جعل يسوع خمتلفًا عن اآلخرين كلِّهم فهو أنه كان أكثرهم برًّا يف اتِّباعه‬
‫للشريعة اليهودية؛ ومن أجل شدة برِّه تبنَّاه اهلل لكي يصري ابنه يف حلظة العماد‬
‫حينما سُمِع صوتٌ قادم من السماء يعلن أنَّه ابنَ اهلل ‪ .‬من تلك اللحظة فصاعدًا‬
‫‪،‬شعر يسوع أنه مدعوٌّ إلكمال املهمة اليت كان اهلل قد أوكلها إليه ـ املوتُ على‬
‫الصليب كأضحيةٍ كرمية من أجل خطايا اآلخرين ‪.‬‬

‫فعل ذلك بطاعة خملصة جتاه ما ُدعِي إليه ؛ الرب حينئذ أكرم تضحيته بإقامته‬
‫يسوع من بني األموات ورفعه إىل السماء حيث ينتظر إىل اآلن قبل عودته‬
‫لدينونة األرض ‪.‬‬

‫‪280‬‬
‫وحبسب األبيونيني‪،‬مل يكن ليسوع‪،‬إذن‪،‬وجود قبل الزمان؛ وهو مل يُولَد من‬
‫عذراء ؛ومل يكن إهلًا‪ .‬كان يسوع إنسانًا بارًّا و مميَّزًا اختاره اهلل وأواله عالقة‬
‫خاصة معه‪.‬‬

‫ردًا على وجهات النظر التبنّويّة تلك ‪،‬مسيحيو ما قبل األرثوذوكسية أصرّوا‬
‫على أن يسوع مل يكن إنسانًا " فحسب" ‪ ،‬وإمنا كان بالفعل من جوهرٍ إهليّ‪،‬‬
‫بل كان هو اهلل نفسه من بعض الوجوه‪ .‬فلقد ُوِلدَ من عذراء‪،‬وكان أكثرَ برًّا من‬
‫أيِّ إنسانٍ آخرَ حبكم جوهره املختلف‪ ،‬ويف حلظة عماده مل يعلنه اهلل ابنا ( عرب‬
‫التبنّي ) وإمنا أكّد فقط بنوته له كما هوحاله منذ األزل‪.‬‬

‫كيف أثرت هذه النزاعات على نصوص الكتاب املقدَّس اليت كانت منتشرة‬
‫خالل القرنني الثاني والثالث ‪ ،‬اليت هي تلك النصوص كانت يف طور الّنسَْخ‬
‫من خالل نُسَّاخٍ غري حمرتفني كانوا هم أنفسهم متورطني إن بصورة أكرب أو أقل‬
‫يف تلكم النزاعات ؟ هناك القليل جدا ‪،‬بل تكاد تكون منعدمة‪،‬من القراءات‬
‫املتباينة اليت يبدو أنها كتبت عرب نساخ كانوا يعتنقون وجهة نظر تبنّوية ‪ .‬سبب‬
‫هذه الندرة يف األدلة ال ينبغي أن يصيبنا بالدهشة ‪ .‬فلو حدث أن أحد املسيحيني‬
‫التبنَّويني كان قد أدخل وجهات نظره إىل نصوص الكتاب املقدس ‪،‬فبالتأكيد‬
‫سيجد من يصحِّحُها من بني النسَّاخِ املتأخرين ممن يعتنقون خطًّا أكثر‬
‫أرثوذكسية‪ .‬ما وجدناه بالفعل‪،‬مع ذلك‪،‬هي مناذج تعرَّضت فيها النصوص‬

‫‪281‬‬
‫للتحريف على حنوٍ يبدو وكأنه قد حدث ملواجهة وجهة نظرٍ تبنَّوية فيما يتعلق‬
‫بطبيعة املسيح ‪ .‬هذه التغيريات تؤكِّد أن املسيح مولودٌ من عذراء وأنه مل يُتَبَنَّ‬
‫أثناء العماد بل هو نفسه كان إهلًا‪.‬‬

‫لقد رأينا بالفعل من قبل تغيريا نصّيًّا يتعلق بالنِّزاع حول طبيعة املسيح وذلك‬
‫عند نقاشنا يف الفصل الرابع لألحباث النصّية اخلاصة بـ ( ج‪.‬ج فيتشتاين )‪ .‬قام‬
‫فيتشتاين بفحص املخطوطة السكندرية ‪ ،‬احملفوظة اآلن يف املكتبة الربيطانية‬
‫وتوصل إىل أنَّه يف ‪ 1‬تيموثي ‪، 16 : 3‬بينما تتحدث معظم املخطوطات‬
‫املتأخرة عن املسيح على اعتبار أنَّه " اهلل ظهر يف اجلسد "‪ ،‬تتحدث هذه‬
‫املخطوطة األكثر قِ َدمًا يف األصل ‪،‬بدال من ذلك‪ ،‬عن املسيح "الذي ُأ ْظهِرَ يف‬
‫اجلسد )‪" (who was made manifest in the flesh‬‬
‫‪.‬االختالف دقيق جدا يف اللغة اليونانية ـ فهي فرق بني حرف "ثيتا" وحرف‬
‫"أوميكرون" املتشابهني كثريًا‪ .‬أحد النسَّاخُ املتأخرين أدخل تغيريًا إىل القراءة‬
‫األصلية حتى ال تعود تُقرأ " الذي" وإمنا لتقرأ " اهلل " ( ظهر يف اجلسد )‪ .‬أو‬
‫فلنقلها بكلمات أخرى‪،‬هذا املصحّح املتأخِّر غيّر النص بتلك الطريقة لكي‬

‫‪282‬‬
‫يؤكِّد على ألوهية املسيح‪ .‬من املدهش أن ندرك أن هذا التصحيح نفسَه وقع يف‬
‫أربعٍ من خمطوطاتنا األخرى األكثر قدمًا اليت ختص ‪ 1‬تيموثي ‪ ،‬يف مجيع هذه‬
‫املخطوطات كان مثة مصحِّحُون يغريون النص بالطريقة ذاتها لكي يُدعى‬
‫املسيح اآلن " إهلا" على حنوٍ واضحٍ‪ .‬هذا النص أصبح هو النص املفضل لدى‬
‫األغلبية الساحقة من املخطوطات البيزنطية (أي املنتمية للعصور الوسطى )‬
‫‪ -‬وبعد ذلك أصبح نصُّ غالبية الرتمجات املسيحيَّة القدمية ‪ .‬خمطوطاتنا‬
‫األقدم واألفضل‪،‬مع ذلك‪،‬تتحدث عن املسيح "الذي" أُ ْظهِرَ يف اجلسد بدون‬
‫أن تدعو يسوع إهلًا وذلك بشكل شديد الوضوح‪ .‬هذا التغيري الذي حدث وأن‬
‫صنَْعًا لكي يؤكِّد‬
‫تسيَّد املخطوطات املكتوبة يف العصور الوسطى‪،‬إذن‪ ،‬صُِنعَ ُ‬
‫ٍّ كان يتَّسم بالغموض‪،‬يف أحسن الظروف‪ ،‬بشأنها‪ .‬هذا‬
‫ألوهية يسوع يف نص‬
‫سيصبح مثاال على التحريف املضاد لآلراء التبنوية وحتريفًا نصيّا أُح ِدثَ لكي‬
‫يضاد الزعم بأنَّ يسوع كان إنسانًا كامال و مل يكن من جوهرٍ إهليّ‪.‬‬

‫تؤرخُ حلياة‬
‫تغيرياتٌ أخرى مضادة لآلراء التبنويّة وقعت يف املخطوطات اليت ِّ‬
‫يسوع املبكرة يف إجنيل لوقا‪ .‬ففي موضعٍ واحدٍ يقال لنا أن يوسف ومريم‬
‫اصطحبا يسوع إىل اهليكل وباركه رجل اهلل مسعان ‪ " ،‬وَكَانَ أَبُوهُ َوأُمُّهُ‬
‫يََتعَجَّبَانِ مِمَّا قِيلَ فِيهِ " (لوقا ‪ .) 33 : 2‬أبوه ؟!! كيف جيرؤ النص أن يدعو‬
‫يوسفَ أبًا ليسوع لو كان يسوع قد وُلِد من عذراء ؟ ليس من الغريب إذن أن‬

‫‪283‬‬
‫يغيِّر عددٌ كبريٌ من النُسّاخ النصَّ لكي يزيلوا اإلشكالية احملتملة وذلك عرب‬
‫قوهلم " وَكَانَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ َيتَعَجَّبَانِ ‪ "...‬فاآلن ال يسع مسيحيًّا تبنّويًّا أن يستغلَّ‬
‫هذا النصَّ لكي يدعم الزعم القائل أن يوسفَ كان والدَ الطفل ‪.‬‬

‫ظاهرة مشابهة حدثت بعد عددٍ قليلٍ من األعداد يف قصة يسوع ذي االثنى‬
‫عشر ربيعًا يف اهليكل ‪ .‬للقصة خطٌّ مألوف‪ :‬يوسف ومريم ويسوع حيضرون‬
‫احتفاال يف أورشليم لكن بعد ذلك عندما يتوجه باقي العائلة إىل بيتهم مع‬
‫القافلة يتخلَّف يسوع بغري علمهم ‪ .‬كما يقول النص ‪ "،‬أبواه مل يكونا يعلمان‬
‫عن ذلك ‪ ".‬لكن كيف للنص أن يتحدَّث عن أبويه يف الوقت الذي مل يكن‬
‫يوسف أبًا ليسوع يف احلقيقة ؟ عددٌ من الشواهد النصَّية "تصحّحُ" املشكلة عرب‬
‫ُمهُ َلمَْ يَ َْع َلمَا"‪ .‬مثالٌ آخرُ نستقيه من‬
‫جعلها النص يُقرأ كالتالي‪ "،‬وَيُو ُسفُ وَأ ُّ‬
‫بعض األعداد التالية‪ ،‬فبعد أن عادوا إىل أورشليم للبحث عن يسوع يف كلِّ‬
‫مكانٍ‪ ،‬جتده مريم بعد ثالثة أيام يف اهليكل‪ .‬فإذا بها توخبه قائلة ‪ ":‬أنا وأبوك‬
‫كنَّا نبحث عنك!" ومرة أخرى‪،‬قام بعض النسّاخ حبل املشكلة ‪ -‬هذه املرة‬
‫عرب حتريف النص ببساطة لكي يُقرأ ‪":‬كنا نبحث عنك "!‬

‫أحدُ أكثرِ القراءات املتباينة املضادة لآلراء التبنّوية طرافة بني خمطوطاتنا حتدث‬
‫متامًا حيث يتوقع املرء وجودها‪ ،‬ففي الرواية اخلاصة بعماد يسوع على يدي‬
‫يوحنا‪،‬أي يف اللحظة ذاتها اليت أصرَّ كثريٌ من التبنَّويني على أن يسوع اختري‬

‫‪284‬‬
‫فيها من ِقبَل اهلل لكي يصبح ابنَه املتبنَّى‪ .‬ففي إجنيل لوقا ‪،‬كما يف مرقس‪،‬عندما‬
‫كان يسوع يتمُّ تعميدُه ‪،‬انفتحت السماء ونزل الروح على يسوع يف شكل‬
‫محامة وجاء صوت من السماء ‪ .‬لكنّ خمطوطاتِ إجنيلِ لوقا منقسمة بشأن ما‬
‫قاله الصوت على وجه التحديد‪ .‬وفقًا ملعظم خمطوطاتنا‪ ،‬جندها تنطق الكلمات‬
‫نفسها اليت جيدها املرء يف إجنيل مرقس ‪َ ":‬أنَْتَ اَْبنِي الْحَبِيبُ َّالذِي ِبهِ سُرِ َْرتُ! "‬
‫(مرقس ‪ 11 : 1‬؛ لوقا ‪).3:23‬‬

‫يف خمطوطة يونانية ُممَْعنةٌ يف ال ِق َدمِ ويف العديد من املخطوطات الالتينية يقول‬
‫الصوت شيئًا خمتلفًَا بصورة صادمة ‪ ":‬أنت ابين ‪،‬أنا اليوم ولدتُك"‪.‬‬

‫اليوم! ولدتُك! أال يوحي ذلك بأنَّ يوم العماد هو اليوم ذاته الذي أصبح فيه‬
‫يسوع ابنًا هلل ؟ أال ميكن أن يستخدم مسيحيٌّ تبنّويٌّ هذا النص ليدعم قضية‬
‫صريورة املسيح ابنا هلل يف هذا اليوم ؟‬

‫ومبا أن هذه القراءة املتباينة تتسم مبثل هذه الطرافة‪،‬رمبا من املستحسن أن نعريَها‬
‫بعض االنتباه كتوضيحٍ موسَّعٍ لصعوبة املشكالت اليت يواجهها النقاد النصِّيون ‪.‬‬

‫القضية األوىل اليت ينبغي حلها هي ‪ :‬أيُّ هذين الشكلني من النص هو الشكل‬
‫األصلي وأيُّهما التحريف ؟ الغالبية الساحقة من املخطوطات اليونانية تدعم‬
‫القراءة األوىل "أنت ابين احلبيب الذي به سررت"؛ وهكذا رمبا تغوي هذه‬

‫‪285‬‬
‫احلقيقة املرء لكي ينظر إىل القراءة األخرى باعتبارها حتريفًا ‪ .‬املشكلة يف هذه‬
‫احلالة هو أن هذا العدد اقتبسه كثري من آباء الكنيسة األوَّلون يف وقت مل تكن‬
‫فيه معظم خمطوطاتنا قد كتبت بعد ‪ .‬فالنص يتمُّ اقتباسه يف القرنني الثاني‬
‫والثالث يف كل مكان من روما إىل اإلسكندرية ومن مشال أفريقيا وفلسطني‬
‫إىل بالد الغال (فرنسا)وأسبانيا‪ .‬ويف كل احلاالت تقريبًا ‪ ،‬كان الشكل الثاني‬
‫من النص هو الذي يقتبس ( "أنا اليوم ولدتُك‪").‬‬

‫أضف إىل ذلك أن هذا هو شكل النص الذي ال يشبه كثريًا ما هو موجود يف‬
‫الفقرة املوازية يف مرقس‪ .‬حياول النساخ بصورة منطيّة ‪،‬كما رأينا ‪،‬أن يوفِّقوا بني‬
‫النصوص بدال من أن يرتكوها متنافرة ‪ .‬لذا فشكل النص الذي خيتلف عن‬
‫مرقس هو الذي من احملتمل أكثر أن يكون النص األصليَّ يف لوقا‪ .‬هذه‬
‫االفرتاضات ترجح أن القراءة األقل ورودا يف املخطوطات ـ" أنا اليوم ولدتُك" ـ‬
‫هي بالفعل القراءة األصلية وأنها تعرضت للتحريف عرب نسَّاخٍ خشوا من‬
‫صداها التبنَّويّ ‪ .‬بعض العلماء اعتقدوا وجهة النظر املخالفة عرب التذرُّع بأنَّ‬
‫الصوت أثناء العماد لدى لوقا ال ميكن أن يقول" أنا اليوم ولدتك " ألنه من‬
‫الواضح أنه قد ذُكِرَ من قبلُ بالفعل ضمن رواية لوقا أن يسوع هو ابن اهلل ‪ .‬فها‬
‫هو املالك جربيل يعلن قبل ميالد يسوع ‪،‬يف لوقا ‪،35 : 1‬ألمِّ يسوع أن "‬

‫‪286‬‬
‫اَلرُّوحُ ا ْل ُق ُدسُ يَحِلُّ َع َليَْكِ َوقُوَّةُ الْ َعلِيِّ تُظ َِّل ُلكِ فَ ِلذَِلكَ َأيَْضاً الْقُدُّوسُ ا ْلمَوَْلُودُ‬
‫مِ َْنكِ ُيدَْعَى اَْبنَ اهللِ" ‪.‬‬

‫حسب وجهة نظر لوقا نفسه‪،‬بكلماتٍ أخرى‪،‬كان يسوع بالفعل ابنًا هلل عند‬
‫والدته‪ .‬فال ميكن أن يقال عن يسوع ‪،‬وفقًا هلذه احلُجة‪ ،‬إنَّه أصبح ابنًا هلل يف‬
‫أثناء عماده‪ -‬ولذلك فالقراءة األكثر ذكرا يف املخطوطات ‪ "،‬أنت ابين‬
‫احلبيب الذي به سررت‪ "،‬من احملتمل أن تكون هي القراءة األصلية‪ .‬الصعوبة‬
‫اليت يواجهها هذا النمط من التفكري ـ برغم مظهره املقنع للوهلة األوىل ـ أنَّه‬
‫يتجاهل الكيفية اليت يستخدم بها لوقا ألقاب يسوع بشكل عام يف ثنايا كتابه (‬
‫مبا يف ذلك كتابه الثاني سفر األعمال وليس فقط اإلجنيل )‪ .‬تأمَّل‪،‬على سبيل‬
‫املثال‪ ،‬ما يقوله لوقا عن يسوع باعتباره " املسيح"( اليت هي الكلمة العربية‬
‫املقابلة للمصطلح اليوناني كرايست)‪ .‬فوفقًًا للوقا ‪،11 : 2‬ولد يسوع‬
‫كمسيح‪ ،‬لكنَّه يف واحدة من العبارات الواردة يف سفر األعمال‪ ،‬يقال عنه إنَّه‬
‫صار مسيحًا أثناء عماده ( أعمال ‪) 38 – 37 : 11‬؛ ويف فقرة أخرى يصرح‬
‫لوقا بأنَّ يسوع أصبح املسيح عند قيامته من األموات ( أعمال ‪.) 38 : 2‬‬
‫كيف ميكن أن تكون كل هذه األمور صحيحة جمتمعةً ؟ يبدو أن التأكيد على‬
‫اللحظات اهلامة يف حياة يسوع بالنسبة للوقا كان هو األمر األهم والذي ينبغي‬
‫التشديد عليه باعتباره ضروريًّا لتأكيد هوية يسوع( باعتباره املسيح على سبيل‬

‫‪287‬‬
‫املثال)‪ .‬األمر ذاته ينطبق على املفهوم اللوقاوي عن املسيح باعتباره " الرب "‬
‫‪(Lord).‬فقد قيل عنه أن الربَّ قد وُلِد يف لوقا ‪ 11 : 2‬؛وأطلق عليه‬
‫لقب"الرب" أثناء حياته يف لوقا ‪ 1 : 11‬؛ لكنَّ سفر األعمال ‪ 38 : 2‬يشري‬
‫إىل أنه أصبح ربًّا عند قيامته ‪ .‬من وجهة نظر لوقا‪ ،‬شخصية يسوع باعتباره‬
‫الرب وابن اهلل هي األمر ذو األهمية ‪ .‬لكنَّ وقت حدوث ذلك‪،‬من‬
‫الواضح‪،‬أنه ليس كذلك‪ .‬فيسوع هو كل هذه األشياء عند حلظات حياته‬
‫احلامسة ـ امليالد ‪ ،‬العماد ‪ ،‬القيامة ‪ ،‬مثال‪.‬‬

‫يبدو ‪ ،‬من ثمّ‪ ،‬أنه يف رواية لوقا عن عماد يسوع يف األصل‪،‬أتى الصوت من‬
‫السماء ليعلن" أنت ابين ‪ ،‬أنا اليوم ولدتُك "‪ .‬من احملتمل أن لوقا مل يكن يقصد‬
‫أن يتم تفسري هذا العدد مبا خيدم وجهة النظر التبنَّويّة‪،‬حيث إنه‪،‬يف النهاية‪،‬‬
‫كان بالفعل قد حكى قصة ميالد يسوع من عذراء ( يف الفصلني ‪ .) 2 – 1‬لكنَّ‬
‫املسيحيني املتأخِّرين عند قراءتهم للعدد ‪ 22 : 3‬من إجنيل لوقا رمبا قد‬
‫أدهشهم مضمونها احملتمل حيث إنه يبدو عرضةً للتفسري التبنّوي‪.‬‬

‫ولكي مينعوا كلَّ أحدٍ من أن يفهم هذا النص على هذا النحو‪ ،‬بعضُ نسَّاخ ما‬
‫قبل األرثوذكسيّة غيَّروا النص لكي جيعلوه متطابقًا متامًا مع النص ‪ 1 : 1‬من‬
‫إجنيل مرقس‪ .‬اآلن‪ ،‬وبدال من أن يقال عن يسوع إنَّه وُلِد من اهلل‪ ،‬قيل عنه ما‬

‫‪288‬‬
‫يؤكِّد أنَّه‪":‬أنت ابين احلبيب الذي به ُسرِ َْرتُ"‪ .‬وهذا ‪ ،‬بكلمات أخرى‪ ،‬تغيريٌ‬
‫آخر للنص وقع لدوافع مضادة لألفكار التبنّويّة‪.‬‬

‫سوف خنتم هذا اجلزء من نقاشنا بالنظر إىل حتريف آخر على الشاكلة ذاتها ‪.‬‬
‫هذا التغيري‪،‬مثلما هو احلال مع ‪ 1‬تيموثي ‪،16 : 3‬يتعلق بنص قام فيه‬
‫يؤكدَ بعبارات قوية للغاية أن إمياننا بيسوع ينبغي‬
‫الناسخ بإحداث حتريف لكي ِّ‬
‫أن يكون باعتباره اهلل بكل ما يف الكلمة من معنى ‪ .‬يقع هذا النص يف إجنيل‬
‫يوحنا الذي هو اإلجنيل الذي يتميز عن غريه من األسفار اليت جنحت يف أن‬
‫تكون جزءًا من القائمة القانونية للعهد اجلديد يف أنَّه بالفعل قد قطع شوطًا كبريًا‬
‫جتاه حتديد هويّة يسوع باعتباره كائنًا إهليًّا( انظر على سبيل املثال ‪ ،‬يوحنا ‪: 8‬‬
‫‪ 58‬؛ ‪ 31: 11‬؛ ‪ .) 28 : 21‬حتديد اهلويّة هذا قد حدث على حنوٍ مدهشٍ‬
‫للغاية يف فقرة كان نصُّها األصليّ مَحِال لنزاع ساخن ‪ .‬األعداد الثمانية األوىل‬
‫من إجنيل يوحنا يطلق عليها أحيانا مقدمة اإلجنيل ‪ (Prologue).‬يوحنا هنا‬
‫يتحدث عن" كلمة اهلل "الذي كان" يف البدء عند اهلل" والذي "كان هو اهلل " (‬
‫كل شئٍ موجود‪ .‬فوق ذلك‪ ،‬هي‬
‫األعداد ‪.) 3 -1‬كلمة اهلل هذه خلقت َّ‬
‫وسيلة اهلل يف االتصال بالعامل ؛ فالكلمة هي الطريقة اليت بها أظهر اهلل نفسه‬
‫لآلخرين ‪ .‬ويقال لنا إنَّه يف حلظة ما "الكلمة صار جسدا و حلّ بيننا ‪ ".‬بطريقة‬
‫أخرى‪ ،‬كلمة اهلل أصبحت كائنًا بشريًّا ( عدد ‪ .) 14‬هذا الكائن البشريُّ كان‬

‫‪289‬‬
‫هو" يسوع املسيح "(عدد ‪ .) 17‬وفقًا هلذا الفهم لألمور ‪،‬فإن يسوع املسيح‬
‫ميثّل " جتسُّد " كلمة اهلل ‪ ،‬الذي كان مع اهلل يف البدء وكان هو نفسه اهلل‪،‬والذي‬
‫من خالله خلق اهلل كلَّ األشياء ‪ .‬ثمَّ تنتهي املقدمة ببعض الكلمات املفاجئة ‪،‬‬
‫حدٌ قَطُّ‪ .‬اَالَِْبنُ الْ َوحِيدُ َّالذِي هُوَ فِي‬
‫َللهُ َلمَْ َيرَ ُه َأ َ‬
‫اليت تأتي يف أشكال متنوعة ‪ ":‬ا َّ‬
‫ضنِ اآلبِ هُوَ خََّبرَ" ‪.‬‬
‫حِ َْ‬

‫املشكلة النصّيّة تتعلق بتحديد هوية هذا " الوحيد"‪ .‬هل ينبغي حتديده باعتباره‬
‫"اإلله الوحيد الذي هو يف حضن اآلب " أم باعتباره " االبن الوحيد الذي هو يف‬
‫حضن اآلب"‬

‫جيب أن يكون معلومًا أنَّ القراءة األوىل هي القراءة اليت وجدت يف أقدم‬
‫املخطوطات واألفضل بوجه عام ‪ -‬وهي اليت تنتمي إىل العائلة النصّيّة‬
‫السكندرية‪ .‬إال أن األمر املدهش هو أنه نادرًا ما جندها يف خمطوطات ليست هلا‬
‫صلة باإلسكندريّة ‪ .‬هل من املمكن أن تكون هذه القراءة قراءةً نصيّةً متباينة‬
‫سيفسرُ‬
‫أحدثها ناسخٌ يف اإلسكندرية ثمّ متَّ تعميمُها هناك ؟ لو صحَّ ذلك‪،‬فهذا ِّ‬
‫السبب الذي من أجله تضمنت الغالبية الساحقة من املخطوطات من كل‬
‫األماكن األخرى القراءة الثانية اليت جاء فيها أن يسوع مل ُيدَْعَ اإلله الوحيد‬
‫)‪ ،(unique God‬وإمنا االبن الوحيد ‪.‬هناك أسبابٌ أخرى جتعلنا نعتقد أن‬
‫القراءة األخرية هي‪،‬يف حقيقة األمر‪،‬القراءة الصحيحة‪ .‬وذلك ألنَّ إجنيل يوحنا‬

‫‪290‬‬
‫يستخدم عبارة "االبن الوحيد" ( أحيانا ترتجم بطريقة خاطئة كـ" االبن الوحيد‬
‫املولود ) " ‪ only begotten Son‬يف مناسبات أخرى عديدة ( انظر‬
‫يوحنا ‪) 18 ، 16 : 3‬؛ ومل يذكر يف أيِّ مكان آخر أن املسيح هو " اإلله‬
‫الوحيد "‪ .‬فوق ذلك ‪ ،‬ماهو املقصود من إطالق (اإلله الوحيد)على املسيح ؟‬
‫كلمة وحيد ‪ unique‬باليونانية تعين " الفريد من نوعه‪ ".‬من يكون وحيدًا من‬
‫نوعه البد أنه واحدٌ فقط‪ .‬أمَّا مصطلح اإلله الوحيد البد وأنه يشري إىل اهلل اآلب‬
‫نفسه ـ وإال فهو ليس فريدًا من نوعه‪ .‬لكنَّ التعبري لو كان يشري إىل اآلب ‪،‬‬
‫فكيف يتم استخدامه للداللة على االبن؟‬

‫لو سلمنا بأنَّ عبارة إجنيل يوحنا "االبن الوحيد" هي األكثر شيوعًا (وقابلية‬
‫للفهم )‪ ،‬فمن الواضح أنَّ تلك العبارة هي اليت كان عليها النصُّ املكتوب يف‬
‫يوحنا ‪ 18 : 1‬يف شكله األصليّ ‪ .‬هذا النص حبد ذاته ما يزال ميثل رؤية أكثر‬
‫متجيدًا للمسيح ـ فهو"االبن الوحيد الذي يف حضن اآلب‪ ".‬وهو الشخص الذي‬
‫جيعل اهلل ظاهرًا لكلِّ إنسانٍ آخرَ ‪.‬‬

‫يبدو ‪ ،‬مع ذلك ‪ ،‬أنَّ بعض النسّاخ ‪ -‬من احملتمل أنَّ اإلسكندرية كانت‬
‫موطنهم ‪ -‬مل يكونوا سعيدين حتى بتلك الرؤية املمجِّدة للمسيح ‪،‬ولذلك‬
‫جعلوها أكثر متجيدًا عن ذي قبل وذلك عرب حتريف النص ‪ .‬اآلن املسيح ليس‬
‫ابن اهلل الوحيد فحسب‪،‬بل هو اإلله الوحيد نفسُه ! وهذا أيضًا يبدو‪،‬حينئذ‪،‬‬

‫‪291‬‬
‫تغيريًا للنص ألسباب مضادة لآلراء التبنّويّة اضطلع به نسّاخ ماقبل‬
‫األرثوذكسية يف القرن الثاني ‪.‬‬

‫*‬

‫يف الطرف املقابل للخط الالهوتي القادم من خلفية يهودية متنصرة واملتمثل يف‬
‫األبيونيني ومعتقداتهم التبنَّويَّة يف املسيح‪،‬كانت تقف جمموعات من املسيحيني‬
‫عرفوا باسم الظهوريني (‪. )5‬أصل هذا االسم مشتقٌ من الكلمة اليونانية‬
‫)‪،(DOKEO‬اليت تعين " ظهور" أو "ترائي"‪ .‬كان الظهوريون يعتقدون أن‬
‫يسوع مل يكن كائنًا بشريًّا كامال من حلمٍ ودمٍ ‪ .‬بل كان بدال من ذلك إهليا متامًا‬
‫بشري ‪،‬أو بدى وكأنه يشعر باجلوع‬
‫ٍّ‬ ‫( وفقط )؛ لكنه "بدى" أو " ترائى " ككائن‬
‫والعطش و األمل ‪ ،‬وبدى وكأنه ينزف وميوت‪ .‬وحيث أن يسوعَ كان هو اهلل ‪،‬‬
‫فال يسعه أن يكون إنسانًا على احلقيقة‪ .‬وإنَّما هو ببساطة كان قد جاء إىل‬
‫ٍّ من حلمٍ ودم‪.‬‬
‫األرض يف "مظهر" بشري‬

‫‪292‬‬
‫رمبا كان الفيلسوف املُعَلِّم مرقيون هو أشهرُ ظهوريِّي القرون األوىل للمسيحية‪.‬‬
‫لدينا كمٌّ كبري من املعلومات حول مرقيون ألن آباء الكنيسة يف عصر ما قبل‬
‫األرثوذكسية من أمثال إيريناوس و تريتوليانوس اعتربوا آراءه تهديدًا حقيقيًّا‬
‫ولذا كتبوا عنها بكثافة‪ .‬وما يزال لدينا كتابٌ من مخس جملدات كتبه‬
‫"تريتليانوس" يسمى ضد مرقيون حتدث فيه بالتفصيل عن مفهوم اإلميان عند‬
‫مرقيون وشنَّ فيه هجومًا عليه ‪ .‬ومن هذه املقالة اجلدالية ميكننا أن نستقي‬
‫اخلصائص الرئيسية ألفكاره ‪.‬‬

‫كما رأينا (‪ ، )6‬يبدو أنَّ مرقيون استقى أفكاره من الرسول بولس الذي كان‬
‫يعتربه التلميذ احلقيقيَّ الوحيد ليسوع ‪ .‬يف بعض رسائله يفرِّق بولس بني‬
‫مؤكدًا أنَّ اإلنسان سيتربَّر أمام اهلل عرب اإلميان‬
‫الناموس (الشريعة) واإلجنيل ِّ‬
‫باملسيح (أي اإلجنيل ) وليس بتأدية أعمال الناموس اليهودي‪ .‬بالنسبة ملرقيون‬
‫هذا االختالف بني إجنيل املسيح وشريعة موسى كان اختالفًا جذريًّا إىل درجة‬
‫أن اإلله الذي أعطى الشريعة ال ميكنه أبدًا أن يكون ذلك الذي أعطانا اخلالص‬
‫يف املسيح‪.‬‬

‫لقد كانا‪،‬بطريقة أخرى ‪،‬إهلني اثنني خمتلفني ‪ .‬فإله العهد القديم هو الذي خلق‬
‫العامل واختار إسرائيل ليكونوا شعبه وأعطاهم شريعته املتوحشة ‪ .‬وهو‪،‬عندما‬
‫ينقضون شريعته ( كما فعلوا مجيعا )‪،‬يعاقبهم باملوت ‪ .‬أما يسوع فقد جاء من‬

‫‪293‬‬
‫قِبَل اإلله األعظم ‪،‬أُرسل لينقذ الناس من إله النقمة الذي يعبده اليهود ‪.‬‬
‫وحيث إنه ال ينتمي هلذا اإلله اآلخر الذي خلق العامل املادِّيّ‪ ،‬مل يكن يسوع‬
‫نفسه جزءًا من هذا العامل املادي‪ .‬هذا يعين‪،‬من ثمّ‪،‬أنه ال ميكن أن يكون قد‬
‫وُلِد يف احلقيقة ‪،‬وأنه مل يكن له جسدٌ ماديٌّ ‪،‬ومل يكن بوسعه النزيف حقيقةً‬
‫وهذا يعين أنه يف حقيقة األمر مل ميت ‪ .‬كل هذه األشياء كانت أمرًا ظهوريًّا‪.‬‬
‫لكنَّ يسوع حني "ظهر" ميتًا ـ كأضحية كاملة يف الظاهر‪ -‬قَبِِل ربُّ اليهود هذا‬
‫املوت كثمن ملغفرة اخلطايا‪ .‬وكل من يؤمن بهذا سينجو من نقمة هذا اإلله‪.‬‬

‫مؤلفوا ماقبل األرثوذكسيّة مثل ترتليانوس محلوا بشدة على هذه العقيدة‬
‫الالهوتية وأصرُّوا على أنَّه لو مل يكن املسيح كائنًا بشريًّا حقيقيًّا ‪،‬فلن يكون‬
‫بوسعه أن ينقذ الكائنات البشرية األخرى‪،‬وأنَّه لو مل ينزف دماءًا على احلقيقة‬
‫‪ ،‬فإنَّ دمه ال ميكن أن جيلبَ اخلالصَ وأنَّه لو مل ميت حقيقةً ‪،‬فموته "‬
‫الظاهري" هذا لن يفيد أي شخص ‪ .‬لقد اختذ ترتليانوس واآلخرون‪ ،‬إذن‪،‬‬
‫موقفًا قويًّا مفاده أن يسوع ـ يف حني أنه ما يزال كائنًا إهليًّا (على الرغم ممَّا قاله‬
‫األبيونيون و التبنَّويون اآلخرون ) ‪ -‬كان مع ذلك إنسانًا كامال‪ .‬كان إنسانًا‬
‫من حلم ودم ؛ كان باستطاعته الشعور باآلالم والنزف حقيقةً ‪ ،‬وقد أُقيم حقًا‬
‫ببدنه من بني األموات ؛ وارتفع بالبدن على احلقيقة إىل السماء حيث ما يزال‬
‫يف انتظار العودة بالبدن مكلَّال باجملد‪.‬‬

‫‪294‬‬
‫)‬

‫الصراع حول العقائد الظهورية املتعلقة باملسيح كان له تأثريٌ على النسَّاخ الذين‬
‫كانوا يقومون بنسخ الكتب اليت أصبحت يف النهاية هي العهد اجلديد‪ .‬لكي‬
‫أوضح هذه النقطة سوف أقوم بفحص أربع قراءات نصية متباينة يف الفصول‬
‫األخرية من إجنيل لوقا الذي ‪،‬كما رأينا‪ ،‬كان اإلجنيل الوحيد الذي قبله‬
‫مرقيون باعتباره الكتاب املقدس الرمسي (‪) .7‬‬

‫أوىل القراءت األربع تتعلق بفقرة ناقشناها أيضا يف الفصل اخلامس ـ أال وهي‬
‫الرواية اخلاصة بـ"دماء يسوع اليت على هيئة عَرَق "‪ .‬وكما رأينا هناك ‪،‬من‬
‫احملتمل أن األعداد حمل الدراسة مل تكن أصلية يف إجنيل لوقا ‪ .‬وتذكَّرَْ أن هذه‬
‫الفقرة تصف احلوادث اليت وقعت قبل القبض على يسوع مباشرةً عندما ترك‬
‫تالميذه ليختلي بنفسه للصالة داعيا اهلل أن جييز عنه كأس آالمه مع الدعاء بأن‬
‫" تتم مشيئة اهلل "‪ .‬ثمّ نقرأ‪ ،‬يف بعض املخطوطات‪،‬األعداد املتنازع عليها ‪" :‬‬
‫جةٍ‬
‫جهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَا َ‬
‫السمَاءِ ُيقَوِّيهِ‪َ .‬وإِذَْ كَانَ فِي ِ‬
‫َو َظ َهرَ َلهُ َمالَكٌ ِمنَ َّ‬
‫ألرَْضِ‪ ( ".‬األعداد ‪). 44 – 43‬‬
‫وَصَارَ عَرَ ُقهُ كَقَطَرَاتِ َدمٍ نَازَِلةٍ َعلَى ا َ‬

‫أنا جادلت يف الفصل ‪ 5‬إلثبات أن األعداد ‪ 44 - 43‬متزق بناء هذه الفقرة‬


‫املوجودة يف إجنيل لوقا‪،‬اليت هي بطريقة أخرى قلب لرتتيب الكلمات يف‬

‫‪295‬‬
‫مجلتني متوازيتني ‪ * chiasmus‬تشد االنتباه إىل صالة يسوع خبصوص‬
‫مشيئة اهلل اليت ينبغي أن تتمَّ‪.‬‬

‫أفرتض أيضًا أن هذه األعداد تتضمن عقيدة الهوتية ختتلف متامًا عن األخرى‬
‫املوجودة يف رواية لوقا عن اآلالم ‪ .‬يف كل مكان آخر ‪ ،‬كان يسوع هادئًا‬
‫وحمافظًا على رباطة جأشه‪ .‬لقد خرج لوقا‪،‬يف احلقيقة ‪،‬عن مساره يف التخلص‬
‫من أي إشارة إىل جزع يسوع يف روايته ‪ .‬هذه األعداد ‪ ،‬من ثمَّ ‪،‬ليس هلا‬
‫وجود يف أهم وأقدم الشواهد فحسب ‪ ،‬بل إنها أيضًا تسري عكس تيار الصورة‬
‫األخرى املوجودة يف إجنيل لوقا عن مواجهة يسوع ملوته ‪ .‬رغم ذلك ‪،‬يبقى‬
‫السؤال مطروحًا ‪ :‬ملاذا أضاف النسَّاخ هذه األعداد إىل الرواية ؟ حنن اآلن يف‬
‫موقع يسمح لنا باإلجابة عن ذلك السؤال‪ .‬من اجلدير باملالحظة أن هذه‬
‫األعداد أُشريَ إليها ملرات ثالث من خالل مؤلفي ماقبل األرثوذكسية يف‬
‫منتصف آواخر القرن الثاني ( جوستينوس الشهيد وإيريناوس الغالي ( من بالد‬
‫الغال)وهيبوليتوس الرومي (نسبة إىل روما ) )؛ األمر الذي ال يزال مثريًا‬
‫للكثري من التعجُّب هو أن هذه األعداد كلما تُذكر يف أيِّ موضعٍ‪،‬حيدث ذلك‬
‫يف معرض مقاومة وجهة النظر اخلاصة بكون يسوع مل يكن كائنًا بشريًّا حقيقيًّا‪.‬‬
‫أو فلنقلها بكلمات أخرى‪،‬اجلزع العميق الذي شعر به يسوع وفقا هلذه‬
‫األعداد كان اهلدف منها إظهار أنه كان يف احلقيقة إنسانًا وأنه كان قابال‬

‫‪296‬‬
‫للمعاناة مثلنا مجيعا‪ .‬لذلك جوستينوس ‪،‬على سبيل املثال‪ ،‬الذي هو أحد‬
‫علماء الالهوت الدفاعي من املسيحيني األوائل يزعم ‪،‬بعد مالحظته أن "‬
‫ألرَْضِ عِنَْدَمَاٍ كَانَ يُصَلِّي " أن ذلك أظهر"‬
‫عَ َر ُقهَُصَارَ كَ َقطَرَاتِ َدمٍ نَازَِلةٍ َعلَى ا َ‬
‫أن اآلب كان يتمنى أن يعاني ابنه مثل هذه اآلالم من أجلنا ‪ "،‬حتى" ال نقول‬
‫إنه ‪،‬ألنه كان ابنا هلل‪ ،‬مل يشعر مبا كان حيدث له وال مبا تكبّده (‪)."8‬‬

‫لنقلها بطريقة أخرى‪،‬جوستينوس وأضرابه من مسيحيي ماقبل األرثوذكسية‬


‫فهموا أن هذه األعداد أظهرت يف شكل نابض باحلياة أن يسوع مل "يظهر"‬
‫فحسب أنه إنسان ‪ :‬بل لقد كان بالفعل إنسانًا يف كل شئ ‪ .‬يبدو من‬
‫احملتمل‪،‬إذن‪،‬وحيث أن هذه األعداد ‪،‬كما رأينا‪،‬مل تكن جزءا أصليًّا يف إجنيل‬
‫لوقا‪ ،‬أنَّها أضيفت ألغراض مضادة للدوسيطيني(الظهوريني)‪،‬ألنها ترسم‬
‫صورة واضحة متامًا لبشرية يسوع احلقيقية‪.‬‬

‫من وجهة نظر مسيحيي ما قبل األرثوذكسيّة ‪ ،‬كان من األهمية مبكان تأكيد‬
‫املسيح كان إنسانًا حقيقيًّا من حلمٍ ودمٍ ألنَّ حلمه املذبوح و دمه املسفوك هما‬
‫حتديدًا الذان جلبا لنا اخلالص ‪ -‬ليس يف الظاهر وإنَّما يف احلقيقة ‪.‬‬

‫قراءة نصيّة متباينة أخرى يف رواية لوقا للساعات األخرية من حياة يسوع تؤكد‬
‫هذه احلقيقة ‪ .‬حيدث ذلك يف رواية عشاء يسوع األخري مع تالميذه ‪ .‬يف واحدة‬

‫‪297‬‬
‫من أقدم خمطوطاتنا اليونانية ‪ ،‬وكذلك يف العديد من الشواهد الالتينية ‪ ،‬يقال‬
‫لنا‪:‬‬

‫وبعد أن أخذ كأسًا ‪ ،‬وشكر ‪ ،‬قال ‪ " ،‬خذوا هذه وقسموها على أنفسكم ‪،‬‬
‫ألنين أقول لكم إنين لن أشرب من فاكهة هذه الكرمة من اآلن فصاعدًا ‪،‬‬
‫حتى يأتي ملكوتُ اهلل‪ ".‬ثم أخذ خبزا ‪ ،‬وشكر ‪،‬وأخذ قطعة وأعطاهم إياها ‪،‬‬
‫قائال ‪ ",‬هذا جسدي ‪ .‬لكن انظروا‪ ،‬يد ذلك الشخص الذي سيخونين هي معي‬
‫على هذه املنضدة ‪ ( .‬لوقا ‪)19 - 17 : 22‬‬

‫يف غالبية خمطوطاتنا ‪ ،‬مع ذلك ‪ ،‬هناك إضافة إىل هذا النص ‪ ،‬وهي تلك‬
‫اإلضافة اليت ستبدو مألوفة لكثري من قراء الكتاب املقدس اإلجنليزي ‪ ،‬حيث‬
‫وجدت طريقها إىل معظم الرتمجات احلديثة ‪ .‬فبعد أن يقول يسوع " هذا‬
‫صنَعُوا َهذَا‬
‫جسدي ‪ "،‬يواصل حديثه مع هذه الكلمات " الَّذِي يُ َْب َذلُ عَ َْن ُكمَْ‪ .‬اِ َْ‬
‫ِلذِ ْكرِي»‪ .‬وَ َك َذلِكَ ا ْل َك ْأسَ أَيَْضاً بَ َْعدَ الْعَشَاءِ قَاِئالً‪َ « :‬هذِهِ ا ْل َك ْأسُ ِهيَ الْ َعهَْدُ‬
‫جدِيدُ بِدَمِي َّالذِي يُسَْ َفكُ عَ َْن ُكمَْ "‪.‬‬
‫الْ َ‬

‫هذه كلمات مألوفة تتحدث عن "شراكة " عشاء ربنا املعروفة أيضًا يف شكل‬
‫شديد الشبه يف الرسالة األوىل إىل الكورينثيني (‪ 1‬كور ‪.) 25 – 23 : 11‬‬
‫على الرغم من حقيقة أن هذه األعداد مألوفة‪،‬هناك أسباب مقنعة تدفعنا‬
‫لالعتقاد بأنَِّ هذه األعداد مل تكن يف األصل يف إجنيل لوقا بل متت إضافتها‬
‫‪298‬‬
‫للتأكيد على أن جسد يسوع املكسور والدم املسفوك هما اللذان أتيا "لكم"‬
‫باخلالص‪.‬‬

‫أوال‪،‬من الصعب تفسري السبب الذي من أجله سيحذف ناسخٌ هذه األعداد إذا‬
‫كانت أصيلة يف إجنيل لوقا (فليس مثة نهايات متشابهة‬
‫)‪،(homoeoteleuton‬على سبيل املثال ‪،‬ميكنها أن تفسر هذا احلذف‬
‫)وخاصة إذا مع ما متنحه من معنى واضح وسلس عند إضافتها ‪ .‬يف الواقع ‪،‬‬
‫معظم الناس ‪،‬عندما حتذف هذه األعداد‪ ،‬سيجدون أن النص سيبدو مبتورا‬
‫بعض الشئ ‪ .‬غرابة هذه النسخة املبتورة رمبا هي اليت أدت بالنسَّاخ إىل إضافة‬
‫هذه األعداد ‪ .‬فوق ذلك ‪ ،‬ينبغي مالحظة أن هذه األعداد‪،‬بقدر ما هي‬
‫مألوفة‪،‬ال متثل مفهوم لوقا اخلاص عن موت يسوع ‪.‬ألنَّ إحدى اخلصائص‬
‫الالفتة للصورة اليت يرمسها لوقا ملوت يسوع ‪ -‬قد يبدو ذلك غريبا يف البداية‬
‫ـ هي أنه أبدًا مل يشِر ‪،‬يف أيِّ موضعٍ آخر‪،‬أن املوت ذاته هو الذي جيلب‬
‫اخلالص من اخلطيئة ‪ .‬ال يوجد يف أي مكان يف كتاب لوقا كامال مبجلديه (‬
‫إجنيل لوقا وسفر األعمال )‪،‬أنَّ موت يسوع قيل عنه أنه حدث "من أجلكم "‪.‬‬
‫يف الواقع ‪ ،‬يف املناسبتني الوحيدتني اليت يشري فيهما املصدر الذي استقى منه‬
‫إجنيل لوقا ( إجنيل مرقس) إىل أنه مبوت يسوع جاء اخلالص ( مرقس ‪: 11‬‬
‫‪ 45‬؛ ‪ ،) 39: 15‬غيَّرَ لوقا صياغة النص ( أو حذفها )‪ .‬لوقا ‪ ،‬إذا قلناها‬

‫‪299‬‬
‫بطريقة أخرى ‪،‬كان له مفهومه املختلف خبصوص الطريقة اليت من خالهلا‬
‫يؤدي موت يسوع إىل اخلالص عن ما لدى مرقس ( وبولس ‪ ،‬والكتاب‬
‫املسيحيون األوائل اآلخرون )‪ .‬من اليسري أن نرى وجهة نظر لوقا املتميزة من‬
‫خالل ما يتوجب أن يقوله يف سفر األعمال الذي يلقي الرسل فيه عددًا من‬
‫ٍّ من هذه العبارات‪،‬مع‬
‫األقوال بهدف حتويل اآلخرين إىل اإلميان ‪ .‬ليس يف أي‬
‫ذلك‪،‬أنَّ الرسل أشاروا فعليًّا إىل أن موت يسوع جيلب تكفري اخلطايا ( على‬
‫سبيل املثال ‪ ،‬يف الفصول ‪ .) 13 ، 4 ، 3‬هذا ال يعين أن موت يسوع مل يكن‬
‫مهمّا ‪ .‬بل هو مهمٌّ للغاية من وجهة نظر لوقا ـ لكن ليس باعتباره مكفرًا عن‬
‫اخلطايا ‪ .‬عوضا عن ذلك ‪،‬موت يسوع هو ما جعل الناس يدركون آثامهم أمام‬
‫اهلل ( حيث مات على الرغم من أنه كان بريئًا )‪ .‬ومبجرد أن يدرك الناس‬
‫خطيئتهم‪،‬يعودون إىل اهلل بالتوبة ومن ثمّ تُغَْفَر هلم خطاياهم ‪ .‬موت يسوع من‬
‫وجهة نظر لوقا‪،‬بطريقة أخرى ‪،‬يقود الناس إىل التوبة وهذه التوبة هي اليت‬
‫جتلب اخلالص ‪ .‬ولكن ليس بناءًا على هذه األعداد املتنازع عليها اليت ليس هلا‬
‫وجود يف بعض شواهدنا املبكرة‪:‬‬

‫هنا يتم تصوير موت يسوع باعتباره توبة "لكم"‪ .‬يف األصل تبدو األعداد وكأنها‬
‫مل تكن جزءا من إجنيل لوقا ‪ .‬فلماذا‪،‬إذن‪،‬أضيفت ؟ يف نزاع حدث بعد ذلك‬
‫مع مرقيون ‪ ،‬أكد ترتليانوس التالي‪:‬‬

‫‪300‬‬
‫أعلن يسوع بوضوحٍ كافٍ ما كان يقصده من ذكره للخبز‪،‬عندما مسَّى اخلبز‬
‫جسده اخلاص‪ .‬كما أكَّد على حنوٍ مشابهٍ‪،‬عند ذكره للكأس و صناعة العهد‬
‫اجلديد وخَ َْتمِه بدمه‪،‬حقيقة دمه ‪.‬ألنه ليس هناك دمٌ ميكنه أن يكون يف جسد‬
‫ليس جسدًا من حلم‪ .‬لذلك من دليل اجلسد حصلنا على برهان اجلسد‪،‬وبرهان‬
‫اجلسد من دليل الدم ( ضد مرقيون ‪)41 ، 4‬‬

‫يبدو أن تلك األعداد أضيفت للتأكيد على جسد املسيح احلقيقيِّ ودمه الذان‬
‫ضحى بهما حقيقةً من أجل اآلخرين‪ .‬من احملتمل أن ال يكون هذا التأكيد‬
‫وجهة نظر ختصُّ لوقا‪ ،‬لكنَّ مصدره بالتأكيد كان نسَّاخ ماقبل األرثوذكسية‬
‫الذين حرَّفوا نصوص لوقا اليت بني أيديهم لكي جيابهوا عقائد الظهوريني‬
‫املتعلقة بطبيعة املسيح مثل عقيدة مرقيون (‪) .9‬‬

‫عددٌ آخر يبدو أنَّه كان قد أضيف إىل إجنيل لوقا من خالل نُسَّاخ ماقبل‬
‫األرثوذكسيّة هو العدد ‪ 12 : 24‬من إجنيل لوقا ‪،‬الذي يقع بعد قيامة يسوع‬
‫من األموات متامًا‪ .‬بعض أتباع يسوع من النساء ذهنب إىل القرب‪ ،‬فلم جيدنه‬
‫هناك‪،‬وقيل هلم إنه قد أُقيم ‪ .‬فعُ َْدنَ ليخربن التالميذ الذين رفضوا أن‬
‫يصدقوهنَّ ألنَّ احلكاية قد أدهشتهم باعتبارها " حكاية ساذجة ‪".‬‬

‫‪301‬‬
‫ثمّ ‪ ،‬يف كثري من املخطوطات تقع القصة املذكورة يف ‪ " : 12 : 24‬لكنَّ‬
‫بطرس قَامَ وَرَ َكضَ إِلَى الْ َقبَْرِ فَانَْحَنَى وََنظَرَ األَكْفَانَ املصنوعة من الكتان‬
‫ح َدهَا َفمَضَى ُمتَعَجِّبًا فِي َن ْف ِسهِ مِمَّا كَانَ‪.‬‬
‫مَوَْضُو َعةً َو َْ‬

‫هناك أسباب ممتازة جتعلنا نعتقد أن هذا العدد مل يكن يف األصل جزءًا من إجنيل‬
‫لوقا‪ .‬فهو حيتوي على عدد كبري من السمات األسلوبية اليت ليس هلا مثيل يف‬
‫أي موضعٍ آخر من إجنيل لوقا‪ .‬من بني ذلك غالبية الكلمات املفصلية يف النص‬
‫‪،‬على سبيل املثال ‪" ،‬احننى " و " األكفان املصنوعة من الكتان" ( هناك كلمة‬
‫أخرى كانت تستخدم للداللة على مالبس القرب قبل ذلك يف الرواية )‪.‬فوق‬
‫ذلك ‪،‬من الصعب معرفة السبب الذي جيعل شخصًا ما يرغب يف حذف هذا‬
‫العدد لو كان يف احلقيقة يشكَّل جزءًا أصليًّا من اإلجنيل ( مرة أخرى ‪ ،‬ليس‬
‫هناك نهايات متشابهة أو ما إىل ذلك لكي نعتربها حذفًا غري مقصود )‪ .‬وكما‬
‫الحظ كثريٌ من القرَّاء ‪ ،‬يبدو العدد وكأنه تلخيص حلكاية وردت يف إجنيل‬
‫يوحنا ( ‪) 11 - 3 : 21‬حيث يتسابق كلٌّ من بطرس و" التلميذ احلبيب"‬
‫جريًا إىل القرب وجيدانه فارغًا‪ .‬هل ميكن أن يكون شخصٌ قد أضاف حكاية‬
‫مشابهة‪ ،‬بأسلوب خمتصر‪،‬إىل إجنيل لوقا ؟‬

‫لو كان هذا صحيحًا ‪،‬فياهلا من إضافة مدهشة ! فهي تدعم بشكل جيد جدا‬
‫موقف مسيحيي ماقبل األرثوذكسية من يسوع وأنَّ مل يكن ببساطة شكال ما‬

‫‪302‬‬
‫من األشباح وإمنا كان له جسدٌ حقيقيٌّ ماديٌّ ‪ .‬أضف إىل ذلك أن هذا هو ما‬
‫اعرتف به كبري التالميذ نفسه ‪،‬أعين بطرس ‪ .‬لذلك‪،‬وبدال من ترك قصة القرب‬
‫الفارغ على حالتها كـ" حكاية ساذجة " لبعض النساء غري اجلديرات بالثقة ‪،‬فإنَّ‬
‫النصَّ يف وضعه احلالي يظهر أن القصة مل تكن قابلة للتصديق فحسب بل‬
‫حقيقية ‪ :‬على اعتبار أن صحتها مل تتأكد إال من خالل بطرس ( الذي هو‬
‫رجل مستحق للثقة كما قد يفرتض اإلنسان )‪ .‬األمر األكثر أهمية هو أن العدد‬
‫حتى يؤكِّد على الطبيعة املاديَّة لقيامة يسوع‪ ،‬ألنَّ الشئ الوحيد الذي ترك‬
‫داخل القرب هو دليلٌ ماديٌّ على حدوث القيامة ‪ :‬الكفن املصنوع من الكتان‬
‫ٍّ‪ .‬أهمية هذه‬
‫الذي غطَّى جسد يسوع ‪ .‬لقد كانت قيامة جسدية لشخصٍ حقيقي‬
‫النقطة أشري إليها مرة أخرى من خالل ترتليانوس ‪:‬‬

‫اآلن لو أنكروا موت (املسيح ) بسبب إنكار كونه جسدًا‪ ،‬فلن يكون ثمَّ تأكيدٌ‬
‫حلدوث قيامته‪ .‬فإذا مل يكن قد قام وذلك من أجل السبب ذاته الذي مل ميت‬
‫من أجله‪،‬وحتى بسبب أنه مل يكن ميتلك حقيقة اجلسد الذي كما عليه يقع‬
‫املوت فله ميكن للقيامة أن تقع‪.‬على حنوٍ مماثل‪ ،‬لو أمكن دحض قيامة‬
‫املسيح‪،‬فإن قيامتنا أيضًا تنمحي ‪(.‬ضد مرقيون ‪)8 ، 3‬‬

‫البد أن املسيح كان له جسًدا حسًّيًا حقيقيًّا وأنه قد أقيم حقًا من املوت‬
‫باجلسد‪.‬فليست اآلالم و املوت فحسب هما اللذان حتملهما املسيح جسديًّا‪،‬بل‬

‫‪303‬‬
‫وأقيم من األموات جسديًّا‪ :‬بالنسبة ملسيحيي ماقبل األرثوذكسية فقد رفع إىل‬
‫السماء أيضًا جبسده ‪.‬‬

‫آخر قراءة متباينة سنلقي عليها الضوء تأتي من نهاية إجنيل لوقا ‪،‬بعد أن‬
‫حدثت القيامة (ولكن يف اليوم ذاته )‪ .‬حتدَّث يسوع إىل أتباعه للمرة‬
‫األخرية‪،‬وبعد ذلك انفصل عنهم‪:‬‬

‫جعُوا إِلَى‬
‫جدُوا َلهُ وَرَ َ‬
‫السمَاءِ‪ .‬فَسَ َ‬
‫َوفِيمَا هُوَ يُبَارِ ُكهُمُ انَْفَ َردَ عَ َْنهُمَْ َوأُصَْعِدَ إِلَى َّ‬
‫أُورُ َشلِيمَ بِفَ َرحٍ َعظِيمٍ ‪(.‬لوقا ‪)52 - 51 : 24‬‬

‫من الطريف أن نالحظ‪،‬مع ذلك‪،‬أنَّ هناك زيادة يف بعض خمطوطاتنا األكثر‬


‫قدمًا‪ -‬ومن بينها املخطوطة السينائية السكندرية – قد حدثت للنص (‪. )11‬‬
‫فبعد أن تشري إىل أنَّه "أُب ِعدَ عنهم ‪ "،‬تصرح يف هذه املخطوطات بأنه " َأُصَْعِدَ‬
‫السمَاءِ"‪ .‬إنَّها زيادةٌ هامَّة ألنها تشدِّدُ على مغادرة يسوع جسديًّا خالل‬
‫إِلَى َّ‬
‫ٍّ ما‪،‬هذه قراءة متباينة مثرية‬
‫ارتفاعه ( بدال من التعبري اهلادئ " نُقِل ")‪ .‬فإىل حد‬
‫لالنتباه ألن املؤلف ذاته‪،‬أي لوقا‪،‬يف كتابه الثاني‪،‬سفر األعمال‪،‬حيكي مرة‬
‫أخرى عن ارتفاع يسوع إىل السماء‪،‬لكنَّه يصرح بوضوح أنها حدثت‬
‫بعد"أربعني يومًا" من وقت حدوث القيامة من بني األموات ( أعمال ‪-1 : 1‬‬
‫‪).11‬‬

‫‪304‬‬
‫هذا جيعل من الصعوبة مبكان أن نصدق أن لوقا كتب هذه العبارة موضع‬
‫الدراسة يف لوقا ‪ 51 : 24‬ـ حيث إنَّه بالتأكيد لن يعتقد أن يسوع قد ارتفع إىل‬
‫السماء يف يوم قيامته لو أنه يشري يف بداية كتابه الثاني أنه ارتفع بعد ذلك بأربعني‬
‫يوما‪ .‬من اجلدير باملالحظة أيضًا أن الكلمة املفتاحية )‪ (key word‬موضع‬
‫أي موضع آخر‬
‫ٍّ‬ ‫الدراسة اليت هي " ُرفِع " ‪ was taken up‬مل تذكر يف‬
‫سواء يف إجنيل لوقا أو يف سفر األعمال ‪ .‬فلماذا يضيف شخص ما هذه‬
‫الكلمات ؟ حنن نعلم أن مسيحيي ماقبل األرثوذكسيّة أرادوا أن يؤكدوا على‬
‫مادي‬
‫ٍّ‬ ‫الطبيعة املادية احلقيقية ملغادرة يسوع لألرض‪:‬لقد غادر يسوع بشكل‬
‫وسيعود ثانية بصورة ماديَّة ليأتي معه باخلالص املاديِّ‪.‬وعلى هذا النحو قاموا‬
‫مبجادلة الظهوريني الذين متسكوا بأن هذا كله كان ظهورًا ‪ .‬من احملتمل أن‬
‫ناسخًا كان مشرتكًا يف هذه املناظرات قام بتنقيح نصِّه لكي يؤكِّد على هذه‬
‫القضيَّة‪.‬‬

‫االجتاه الثالث الذي كان حمط اهتمام مسيحيي ماقبل األرثوذكسية الذين عاشوا‬
‫يف القرنني الثاني والثالث له صلة مبجموعات مسيحيَّة كانت ترى املسيح ال‬
‫‪305‬‬
‫باعتباره إنسانًا فحسب (مثلما هو احلال مع التبنِّيِّني) أو إهلًا فحسب ( كما‬
‫يقول الظهوريُّون ) وإمنا ككائنني اثنني ‪ ،‬أحدهما إنسانٌ متامًا واآلخر إله متاما‬
‫(‪ . )11‬رمبا مبقدورنا أن نطلق على هذا " العقيدة االنقسامية"حول طبيعة‬
‫املسيح ألنَّها قسمت يسوع املسيح إىل اثنني ‪ :‬يسوع اإلنسان ( الذي كان إنسانًا‬
‫كامال) و املسيح اإلله (الذي كان إهلًا كامال ‪).‬‬

‫وفقا لغالبية القائلني بوجهة النظر هذه‪،‬يسوع اإلنسان كان مسكونًا على جنوٍ‬
‫غري دائمٍ بالكائن اإلهليِّ ‪،‬الذي هو املسيح ‪،‬وهذا مكَّنه من إجناز أعماله‬
‫اإلعجازية و بتبليغ تعاليمه؛ لكنَّ املسيح فارق يسوع قبل موته‪،‬جمربًا إياه على‬
‫مواجهة الصلب وحده‪.‬‬

‫هذه العقيدة االنقسامية فيما يتعلق بطبيعة املسيح كان من الشائع الدفاع عنها‬
‫غالبًا عرب جمموعة من املسيحيني يطلق عليهم العلماء اسم "الغنوصيني" (‪)12‬‬
‫‪.‬مصطلح الغنُّوصيَّة يأتي من الكلمة اليونانية (جينوسيس) اليت تعين‬
‫املعرفة‪.‬وهي تنطبق على جمموعات واسعة التنوع من املسيحيني األوائل الذين‬
‫شدَّدوا على أهمية املعرفة الباطنية يف الوصول إىل اخلالص ‪ .‬وفقا ملعظم هذه‬
‫اجملموعات ‪ ،‬العامل املادي الذي حنيا فيه مل يكن من عمل يدي اإلله الواحد‬
‫احلقيقيِّ‪ .‬فلقد جاء نتيجة لكارثة وقعت يف اململكة السماويَّة ‪(divine‬‬
‫)‪realm‬اليت ُطرِد منها أحد الكائنات اإلهلية (الكثرية) ألسبابٍ غامضةٍ من‬

‫‪306‬‬
‫نواحي السماء ؛ وكنتيجة لسقوط العامل املاديِّ من حالة القداسة فقد قام إلهٌ‬
‫أقل مقامًا خبلقه وذلك عرب َسبَْيِه وسَجَْنِه يف أجسام اآلدميني هنا على األرض ‪.‬‬
‫بعض الكائنات البشرية لذلك يف داخلهم ومضة إهلية وهم حباجة إىل تعلُّم‬
‫حقيقة كينونتهم ومن أين جاءوا وكيف جاءوا إىل هنا وكيف ميكنهم العودة ‪.‬‬
‫معرفة هذه احلقيقة ستقودهم إىل خالصهم ‪.‬‬

‫تتكون احلقيقة من تعاليم باطنية و"معرفة"(جنوسيس) غامضة ال ميكن احلصول‬


‫ٍّ من اململكة السماوية ‪.‬حسب املسيحيني الغنوصيني‪،‬‬
‫عليها إال عرب كائنٍ إهلي‬
‫املسيح هو الكاشف اإلهلي حلقائق اخلالص؛ فقد دخل املسيح ‪،‬يف كثري من‬
‫أهلَه ملهمَّتِه‬
‫األفكار الغنوصية‪ ،‬إىل يسوع اإلنسان أثناء العماد األمر الذي َّ‬
‫التبشريية ثم بعد ذلك غادره ليموت على الصليب يف النهاية‪.‬وهذا السبب الذي‬
‫جعل يسوع يصرخ‪ "،‬إهلي ‪ ،‬إهلي ‪ ،‬ملاذا تركتين ؟" فبالنسبة هلؤالء‬
‫الغنوصيني‪ ،‬كان املسيح قد غادر يسوع باملعنى احلريفِّ ( أو "تركه وراءه ")‪ .‬بعد‬
‫موت يسوع أقامه من بني األموات كمكافأة من أجل إخالصه واستمر عربه يف‬
‫تعليم تالميذه احلقائق الباطنيَّة اليت بإمكانها أن تقودهم إىل اخلالص‪ .‬لقد وجد‬
‫مسيحيو ماقبل األرثوذكسية هذا التعليم مستهجنًا تقريبًا من كل الوجوه‪.‬‬
‫فبالنسبة إليهم ‪ ،‬العامل املاديّ ليس مكانًا شريرًا نشأ عن كارثة كونيَّة وإمنا هو‬
‫خليقة صاحلة لإلله الواحد احلقيقيّ‪ .‬واخلالص‪،‬عندهم‪ ،‬يأتي عرب اإلميان‬

‫‪307‬‬
‫مبوت املسيح و قيامته وليس من خالل تعلّم املعرفة الروحية الباطنيَّة اليت‬
‫بإمكانها أن تضئ حقيقة الوضع اإلنساني ‪ .‬واألمر األهم ألهدافنا يف هذا‬
‫الفصل هو أن يسوع املسيح ‪،‬بالنسبة إليهم‪ ،‬مل يكن كائنني اثنني وإنَّما كائنٌ‬
‫واحدٌ إهليٌّ وبشريٌّ معًا يف وقت واحد ويف الوقت ذاته‪.‬‬

‫لعبت النزاعات حول عقائد االنقساميني املتعلقة بطبيعة املسيح دورًا يف نسخ‬
‫النصوص اليت ستصبح فيما بعد العهد اجلديد‪.‬‬

‫رأينا من قبل بالفعل موضعًا لقراءة متباينة تعرضنا هلا بالبحث يف الفصل‬
‫اخلامس وهي تلك املوجودة يف سفر العربانيني ‪ 9 : 2‬واليت قيل فيها عن‬
‫يسوع ‪،‬أي يف نص الرسالة األصلي‪ ،‬إنَّه مات "منفصال عن اهلل "‪ .‬يف نقاشنا‬
‫هناك‪ ،‬رأينا أن معظم النساخ كانوا قد قبلوا القراءة األخرى اليت أشارت إىل‬
‫أن املسيح مات "بنعمة اهلل " على الرغم من أن ذلك ليس هو النص الذي كتبه‬
‫املؤلِّف األصليُّ ‪ .‬لكننا مل نتعرض بالتفصيل لقضيَّة السبب الذي رمبا جعل‬
‫النساخ يرون أن النص يف وضعه األصلي رمبا ميثِّل خطورة ولذلك ينبغي‬
‫تعديله ‪.‬اآلن‪،‬يف وجود هذه اخللفية املوجزة عن املفاهيم الغنوصية جتاه‬
‫املسيح‪،‬يصبح التغيري منطقيًّا على حنوٍ أكرب‪.‬ألنه وفقًا للمعتقدات اليت تبناها‬
‫‪308‬‬
‫االنقساميون خبصوص طبيعة املسيح ‪،‬مات املسيح بالفعل "منفصال عن اهلل"‬
‫وذلك يف أنَّه عندما كان على الصليب غادره العنصر اإلهليُّ الذي كان قد‬
‫سكنه يف وقتٍ سابق ولذلك مات يسوع وحده ‪ .‬وألنهم كانوا واعني إىل أن‬
‫النص ميكن أن يستعمل لتدعيم وجهة النظر هذه‪ ،‬أحدث النسَّاخ املسيحيون‬
‫تغيريًا عميقًًا رغم بساطته‪ .‬اآلن‪،‬بدال من أن يشري النص إىل أن يسوع قد مات‬
‫منفصال عن اهلل‪ ،‬إذ به أكد أن وفاة املسيح َّمتت "بنعمة اهلل"‪ .‬هذا ‪،‬إذن‪،‬حتريفٌ‬
‫موجَّه ضدَّ التعاليم االنقسامية ‪ .‬منوذجٌ آخرُ مثري لالهتمام خيص هذه الظاهرة‬
‫يقع متامًا يف املوضع الذي رمبا يتوقع املرء منَّا أن جيده فيه ‪ ،‬يف رواية اإلجنيل‬
‫حلادثة صلب يسوع ‪ .‬كما أشرت من قبل‪،‬يف إجنيل مرقس التزم يسوع الصمت‬
‫يف كل موقفٍ من مواقفِ عملية الصلب ‪ .‬صلبه اجلنود وسخر منه املارَّة و‬
‫زعماء اليهود ‪ ،‬كما سخر منه أيضًا جمرمان عُلِّقوا معه على الصليب ؛ لكنه مل‬
‫ينطق ببنت شفة – حتى اللحظة النهائية حينما يقرتب املوت ويصرخ يسوع‬
‫بكلماتٍ مقتبسة من مزمور ‪": 22‬إلوي ‪،‬إلوي ‪،‬ملا شبقتين ؟" ‪،‬اليت ترتجم‬
‫كاآلتي‪":‬إهلي ‪ ،‬إهلي ‪،‬ملا تركتين ؟"(مرقس ‪ .) 34: 15‬من الطريف أن‬
‫نالحظ أنَّه وفقًا ملا ذكره إيريناوس‪،‬الكاتب الذي عاش يف عصر ماقبل‬
‫األرثوذكسية ‪،‬كان إجنيل مرقس هو املفضَّل لدى هؤالء "الذين فصلوا يسوع‬
‫عن املسيح " – أي لدى الغنوصيني الذي اعتنقوا عقائد انقسامية فيما يتعلق‬
‫بطبيعة املسيح(‪).13‬‬
‫‪309‬‬
‫لدينا من األدلة القوية ما جيعلنا نفرتض أن بعض الغنوصيني أخذوا هذه اجلملة‬
‫األخرية اليت قاهلا يسوع على معناها احلريفِّ لكي يثبتوا أن هذه اللحظة هي‬
‫اليت انفصل فيها املسيح ذو الطبيعة اإلهلية عن يسوع (حيث أن الالهوت ال‬
‫ميكن أن يذوق الفناء واملوت )‪ .‬الدليل يأتي من الوثائق الغنوصية اليت تعتقد يف‬
‫أهمية هذه اللحظة من حياة يسوع ‪ .‬لذلك ‪،‬على سبيل املثال ‪ ،‬يقتبس إجنيل‬
‫بطرس غري القانوني )‪،(apocryphal‬الذي راودت البعضَ الشكوكُ يف‬
‫احتوائه على عقائد انقسامية خبصوص طبيعة املسيح ‪،‬هذه الكلمات بطريقة‬
‫مغايرة نوعًا ما فيقول ‪ ":‬قوتي‪،‬قوتي‪،‬لقد غادرتين!" األمر األشد وقعًا هو أن‬
‫النص الغنوصي املعروف باسم إجنيل فيليب ذكر النص ثمَّ أُعطاه تفسريا‬
‫انقساميًّا ‪":‬إهلي ‪ ،‬إهلي ‪ ،‬ملاذا أيها السيد )‪(Lord‬تركتين ؟" وألنَّه قال هذه‬
‫الكلمات على الصليب‪،‬فالبد أنَّه يف هذه اللحظة ذاتها قد انقسم ‪ .‬مسيحيو‬
‫عصر ما قبل األرثوذكسية كان لديهم معلومات عن الشيئني كليهما‪:‬األناجيل‬
‫وتفسرياتها هلذه اللحظة احلامسة من مشهد صلب يسوع‪.‬ليس إذن من قبيل‬
‫املفاجئة أن نص إجنيل مرقس مت التالعب به عرب بعض النساخ بطريقة راوغت‬
‫هذا التفسري الغنوصي‪ .‬يف إحدى املخطوطات اليونانية و العديد من الشواهد‬
‫الالتينية ‪ ،‬يقال أن يسوع مل يطلق " صرخة االفرتاق " التقليدية اليت وردت يف‬
‫مزمور ‪ ، 22‬لكنه بدال من ذلك صرخ ‪ ":‬إهلي ‪،‬إهلي ‪ ،‬ملاذا سخرت مين ؟"‬
‫هذا التغيري الذي تعرض له النص نتج عنه قراءة طريفة – بل ومنسجمة متاما‬
‫‪310‬‬
‫مع سياقها األدبي‪ .‬ألنه كما أشرت من قبل ‪،‬كلُّ إنسانٍ آخر تقريبًا يف القصة قد‬
‫سخر من يسوع عند هذه اللحظة – القادة اليهود واملارَّة والسارقان ‪.‬‬
‫واآلن‪،‬ويف وجود هذه القراءة‪،‬انضم اهلل أيضًا حسب قول النص إىل قائمة‬
‫الساخرين من يسوع ‪ .‬يسوع ‪ ،‬شاعرًا باليأس ‪،‬يطلق صرخة مدوية وميوت‪ .‬إنه‬
‫مشهد قوي ومثري للشفقة ‪.‬هذه القراءة رغم ذلك ليست هي القراءة‬
‫أصلية‪،‬وذلك يتضح من كونها مفقودة تقريبًا يف كل شواهدنا األقدم واألفضل‬
‫(مبا يف ذلك تلك اليت تنتمي إىل النص السكندري) وكذلك لكونها ال تتوافق‬
‫مع الكلمات اآلرامية اليت تفوه بها يسوع( ملا شبقتين – اليت تعين "ملاذا‬
‫تركتين‪ "،‬وليس " ملاذا سخرت منِّي‪").‬‬

‫ملاذا إذن حرَّف النُسَّاخ هذا النص؟ إذا سلَّمنا مبدى فائدتها ملن يدافعون عن‬
‫العقائد اليت ختصُّ طبيعة املسيح وذلك من وجهة نظر اإلنقساميني ‪،‬فحينها‬
‫سيظلُّ هناك سؤالٌ صغريٌ عن سبب ذلك‪ .‬لقد كان كُتَّابُ عصر ما قبل‬
‫األرثوذكسية معنيِّني بأن ال يستخدمَ خصومُهم الغنوصيُّون النص ضدهم‬
‫ٍّ ومتناغمٍ مع السياق الذي عاشوا يف ظله‪،‬وذلك لكي‬
‫فقاموا بإحداث تغيري هام‬
‫يقال من اآلن فصاعدًا عن اهلل إنه سخر من يسوع بدال من أن يقالَ عنه إنَّه‬
‫تركه‪.‬‬

‫‪311‬‬
‫مثالنا األخري على هذا النوع من القراءات املتباينة الذي كان سبب حدوثه‬
‫الرغبة يف الوقوف ضد التعاليم االنقسامية فيما يتعلق بطبيعة املسيح سنسوقه‬
‫من فقرة تقع يف الرسالة األوىل ليوحنا‪ .‬ففي أقدم شكلٍ معروفٍ للعدد ‪: 4‬‬
‫‪، 23‬يقال لنا ‪":‬بهذا تعرفون روح اهلل ‪ .‬كل روح تعرتف بأن يسوع قد جاء يف‬
‫اجلسد فهي من اهلل؛وكل روح ال تعرتف بيسوع فهي ليست من اهلل‪.‬هذا هو‬
‫روح ضد املسيح‪ ".‬إنها فقرة واضحة وصرحية ‪ :‬هؤالء الذين اعرتفوا بأن يسوع‬
‫جاء حقًا يف اجلسد (أي رفضوا قبول وجهات النظر الظهورية على سبيل املثال‬
‫) هم وحدهم من ينتمون إىل اهلل؛أما هؤالء الذين رفضوا االعرتاف بهذا فهم‬
‫مقاومون للمسيح (أي أنهم أضداد املسيح )‪ .‬مع ذلك ‪،‬هناك قراءة خمتلفة‬
‫طريفة جندها يف النصف الثاني من هذه الفقرة ‪ .‬فبدال من اإلشارة إىل الشخص‬
‫الذي " مل يعرتف بيسوع "‪ ،‬هناك العديد من الشواهد تشري إىل الشخص الذي‬
‫" يقسم يسوع " ماذا يعين هذا ‪ -‬يقسم يسوع – وملاذا جنحت هذه القراءة يف‬
‫أن تشق طريقها إىل بعض املخطوطات ؟ يف البدء ‪ ،‬ينبغي أن أشدِّدَ على أن‬
‫عدد املخطوطات اليت حتوي هذه القراءة ليس بالكبري جدا ‪.‬ففي الشواهد‬
‫اليونانية ال توجد إال يف هامش خمطوطة واحدة يرجع تارخيها إىل القرن احلادي‬
‫عشر(وهي املخطوطة ‪ .) 1739‬لكنَّ هذه املخطوطة‪،‬كما رأينا من قبل‪،‬هي‬
‫خمطوطة مميزة ألنها فيما يبدو قد نسخت من خمطوطة ترجع إىل القرن الرابع‬
‫وهوامشها تسجل أمساء آباء الكنيسة الذي كان لديهم قراءات خمتلفة ألجزاء‬
‫‪312‬‬
‫حمددة من النص‪ .‬يف هذا املوضع حتديدًا ‪،‬يشري اهلامش إىل أن القراءة " يقسم‬
‫يسوع " كانت معروفة لدى العديد من آباء الكنيسة يف أواخر القرن الثاني و‬
‫بواكري القرن الثالث‪،‬من أمثال إيريناوس وكليمنت وأورجيانوس‪ .‬أضف إىل‬
‫ذلك أنها تظهر يف الفوجلاتا الالتينية‪ .‬ومن بني أمور أخرى ‪ ،‬هذا يوضح أن‬
‫هذه القراءة املختلفة كانت مشهورة خالل العصر الذي كان مسيحيو عصر ما‬
‫قبل األرثوذكسية يتنازعون مع الغنوصيني حول قضايا طبيعة املسيح‪ .‬مع ذلك‪،‬‬
‫هذه القراءة ال ميكن على األرجح أن تقبل باعتبارها النص" األصليّ " مع‬
‫التسليم بقلة األدلة اليت تعضد موثوقيتها‪ -‬فهي مفقودة‪،‬على سبيل املثال‪،‬يف‬
‫كل خمطوطاتنا اليت تصنَّف باعتبارها األقدم واألفضل بني املخطوطات ( يف‬
‫الواقع ليس هلا أي وجود يف أي خمطوطة يونانية باستثناء هذا الوجود يف‬
‫اهلامش)‪ .‬ملاذا‪،‬رغم كل ذلك‪،‬أضافها أحد النسَّاخ املسيحيني ؟ يبدو أنها قد‬
‫ٍّ" على عقائد االنقساميني اليت تتعلق‬
‫أضيفت من أجل اختالق مطعن "كتابي‬
‫بطبيعة املسيح‪،‬اليت تفرق فيها املسيح و يسوع بعضهما عن اآلخر إىل كيانات‬
‫منفصلة‪،‬أو حبسب تعبري هذه القراءة املختلفة اليت جاء فيها أن يسوع قد "‬
‫انفصل " عن املسيح‪ .‬أيُّ إنسانٍ يؤمن بصحة وجهة النظر هذه‪ ،‬حسب ما‬
‫تفرتض القراءة النصية املختلفة‪ ،‬فهو ليس من اهلل ‪،‬بل باألحرى هو ضد‬
‫املسيح‪.‬‬

‫‪313‬‬
‫مرة أخرى ‪،‬إذن ‪ ،‬لدينا ها هنا قراءة تولدت عن سياق النزاعات املتعلقة‬
‫بطبيعة املسيح اليت اندلعت يف القرنني الثاني و الثالث‪.‬‬

‫أحد العوامل اليت ساهمت يف وقوع حتريفات النساخ لنصوصهم هو السياق‬


‫التارخيي الذي عاشوا يف ظلِّه ‪ .‬كان النسَّاخ املسيحيُّون يف القرنني الثاني والثالث‬
‫متورطني يف النزاعات و املناظرات اليت حدثت يف زمنهم ‪ ،‬وقد أثَّرت هذه‬
‫النزاعات أحيانًا يف عملية إعادة إنتاج النصوص اليت اندلعت خبصوصها هذه‬
‫النزاعات‪ .‬بكلمات أخرى ‪،‬قام النساخ يف بعض األحيان بتحريف نصوصهم‬
‫لكي يدفعوها ألن تقول ما كانوا يعتقدون مسبقًا أنَّها تعنيه ‪.‬مل يكن هذا‬
‫بالضرورة أمرًا سيئًا ‪ ،‬ألننا على األرجح ميكننا أن نفرتض أن معظم النساخ‬
‫الذين أدخلوا تغيريات إىل نصوصهم غالبًا ما فعلوا ذلك إما بسبب عدم االنتباه‬
‫أو بنيَّة حسنة ‪ .‬لكنَّ احلقيقة‪ ،‬مع ذلك‪،‬هي أنه مبجرد أن قام هؤالء بتحريف‬
‫نصوصهم‪ ،‬أصبحت كلمات النصوص خمتلفة متام االختالف وهذه الكلمات‬
‫اليت حلقها التغيري أثَّرت بالضرورة على تفسري القرَّاء املتأخِّرين هلذه الكلمات‪.‬‬
‫كانت النزاعات الالهوتية اليت اندلعت يف القرنني الثاني والثالث من بني‬
‫أسباب هذه التحريفات ألنَّ النسَّاخَ أحيانًا عدَّلوا نصوصهم يف ضوء العقائد‬
‫اليت اعتنقها التبنيُّون والظهوريُّون واالنقساميون فيما يتعلق باملسيح‬

‫‪314‬‬
‫وطبيعته‪،‬وهم الذين كانوا يتنافسون من أجل الفوز مبوطء قدم حتت الشمس‬
‫ٍّ كانت مؤثرة أيضًا يف هذا‬
‫يف هذه الفرتة‪ .‬هناك عوامل أخرى ذات بعدٍ تارخيي‬
‫الصدد ‪ ،‬منها ما يتعلق على حنوٍ أقل بالنزاع الالهوتي و على حنوٍ أكرب‬
‫بصراعات هذا العصر االجتماعية ‪ ،‬مثل الصراع حول دور النساء يف الكنائس‬
‫املسيحية األوىل و العداء املسيحيِّ لليهود والدفاع املسيحي عن اإلميان ضد‬
‫مطاعن اخلصوم الوثنيني‪ .‬يف الفصل التالي سنرى كيف أن هذه الصراعات‬
‫األخرى ذات الطابع االجتماعي تركت أثارها على النساخ املسيحييِّن الذين‬
‫نسخوا نصوص الكتاب املقدس يف القرون اليت سبقت العصر الذي أصبح‬
‫النساخ احملرتفون هم من ينسخون النصوص فيه‪.‬‬

‫‪315‬‬
‫)‪(1‬لالطالع على نصوص هامة من هذه الفرتة ‪،‬انظر كتاب ‪ ":‬بعد العهد اجلديد‪ :‬قارئ يف املسيحية املبكرة ‪" (fter the‬‬
‫)‪New Testament: A Reader in Early Christianity‬تأليف بارت د‪.‬إرمان (نيويورك ‪:‬مطبعة جامعة‬
‫أكسفورد‪ .) 1999،‬مقدمة رائعة هلذه الفرتة ميكن احلصول عليه من كتاب ‪":‬الكنيسة األوىل ‪"( The Early‬‬
‫)‪Church‬هلنري تشادويك (نيويورك‪ :‬بنجوين‪).1967،‬‬

‫)‪(2‬لالطالع على مناقشة أوسع للمادة اليت تناقشها الفقرات التالية ‪،‬انظر على وجه اخلصوص كتاب إرمان ‪،‬الديانات‬
‫املسيحية املفقودة ‪،( Lost Christianities)،‬الفصل األول‪.‬‬

‫)‪(3‬لالطالع على مناقشة أوسع‪،‬انظر كتاب إرمان ‪،‬األرثوذكس حرفوا الكتاب املقدس‪( Orthodox ،‬‬
‫‪Corruption of Scripture).‬‬

‫)‪(4‬لالطالع على مناقشة أكثر تفصيال لآلراء التبنَّويَّة‪،‬والشخصيات اليت اعتنقتها ‪،‬انظر كتاب إرمان إرمان ‪،‬األرثوذكس‬
‫حرفوا الكتاب املقدس‪ ،( Orthodox Corruption of Scripture)،‬ص ‪.54 – 47‬‬

‫)‪(5‬لالطالع على مناقشة أكثر تفصيال عن الظهوريني والعقائد الظهورية خبصوص طبيعة املسيح‪ ،‬انظر كتاب إرمان إرمان‬
‫‪،‬األرثوذكس حرفوا الكتاب املقدس‪ ،( Orthodox Corruption of Scripture)،‬ص ‪.187 – 181‬‬

‫)‪(6‬انظر الصفحتني ‪ ، 15 ، 14‬من الفصل األول‪.‬‬

‫)‪(7‬اعرتف أيضًا بقانونية عشر رسائل بولسية باعتبارها جزء من الكتاب املقدس(مجيعها موجودة يف العهد اجلديد ما عدا‬
‫الرسالة ‪ 2 ،1‬إىل تيموثاوس والرسالة إىل تيطوس)‪ ،‬رفض العهد القديم كله ‪ ،‬ألنها منسوبة إىل اإلله اخلالق ‪ ،‬وليس إله‬
‫يسوع‪.‬‬

‫*معنى مصطلح ‪ chiasmus‬يتضح من اجلملة التالية‪:‬‬

‫أنا ذهبت إىل املدرسة ‪،‬إىل املدرسة ذهبوا هم ‪ .‬أي هي عكس يف اجلملة الثانية لرتتيب الكلمات يف اجلملة األوىل‪.‬‬

‫)‪(8‬هذه االقتباسات مأخوذة من حوار جوستينوس مع تريفو ‪ ،‬ص ‪.113‬‬

‫‪316‬‬
‫)‪(9‬إلثبات مطول ألن هذه األعداد مل تكن أصلية يف إجنيل لوقا بل أضيفت لدحض آراء ظهورية ‪ ،‬انظر كتاب إرمان‬
‫إرمان ‪،‬األرثوذكس حرفوا الكتاب املقدس‪ ،( Orthodox Corruption of Scripture)،‬ص ‪.219 – 198‬‬

‫)‪(10‬لالطالع على إضافة نصية أخرى ومناقشة أوسع هلذه اإلضافة ‪ ،‬انظر كتاب إرمان إرمان ‪،‬األرثوذكس حرفوا‬
‫الكتاب املقدس‪ ،( Orthodox Corruption of Scripture)،‬ص ‪.232 - 227‬‬

‫)‪(11‬لالطالع على معلومات أكثر تفصيال عن عقائد االنقساميني املتعلقة بطبيعة املسيح واجلماعات الغنوصية اليت‬
‫اعتنقتها ‪ ،‬انظر كتاب إرمان إرمان ‪،‬األرثوذكس حرفوا الكتاب املقدس‪( Orthodox Corruption of ،‬‬
‫)‪ ،Scripture‬ص ‪.124 – 119‬‬

‫)‪(12‬للمزيد من النقاشات عن الغنوصية ‪ ،‬انظر كتاب إرمان إرمان ‪،‬األرثوذكس حرفوا الكتاب املقدس‪( ،‬‬
‫)‪ ،Orthodox Corruption of Scripture‬الفصل ال‪.6‬‬

‫)‪(13‬ضد اهلراطقة ‪.7، 2 ،3‬‬

‫‪317‬‬
‫رمبا من املأمون متامًا أن نقول إن عملية نَسَْخ النصوص املسيحية املبكرة كانت‬
‫يف العادة عملية «حمافِظة»‪ .‬فقد كان النساخ ‪ -‬سواء أكانوا من هواة القرون‬
‫األوىل أم كانوا من احملرتفني يف العصور الوسطى‪ -‬عازمني على «احملافظة»‬
‫على التقليد النصيِِّ الذي كانوا يقومون بنسخه‪ .‬مل يكن اهتمامهم األول منصبًّا‬
‫على تعديل التقليد‪ ،‬بل على احلفاظ عليه ملصلحتهم اخلاصة وملصلحة من‬
‫سيأتون بعدهم‪ .‬معظم النساخ‪ ،‬بال شك‪ ،‬حاولوا أن يؤدُّوا عملهم يف التأكد‬
‫من أن النص الذي يقومون بإعادة إنتاجه كان هو النص نفسه الذي ورثوه‬
‫بنزاهة ‪.‬‬

‫رغم ذلك‪ ،‬حدث وأن وقعت التغيريات يف النصوص املسيحية املبكرة‪ .‬فالنساخ‬
‫سيقعون أحيانًا ـ بل يف كثريٍ من األحيان ـ يف األخطاء غري املقصودة‪ ،‬من خطاء‬
‫جلمَل اليت كان من‬
‫يف تهجئة كلمة ما أو حذف لسطر أو ببساطة عرب إفساد ا ُ‬
‫املفرتض أن يقوموا بنسخها؛ وأحيانا قاموا بتغيري النص عمدًا مع سبق‬
‫اإلصرار والرتصُّد حيث أدخلوا «تصحيحات» إىل النص اتضح يف الواقع أنَّها‬

‫‪318‬‬
‫حتريفٌ ملا كان مؤلِّفُ النصِّ قد كتبه يف األصل‪ .‬قمنا يف الفصل السابق بدراسة‬
‫أحد أنواعٍ التغيريات العمدية ـ وهي تلك املتصلة ببعض الصراعات الالهوتية‬
‫اليت اضطرم أوارها يف القرنني الثاني والثالث‪ ،‬أي يف الوقت الذي وقعت فيه‬
‫معظم التغيريات اليت شهدها تقليدنا احملفوظ يف شكل نصيّ‪ .‬لكين ال أريد أن‬
‫أؤكد صحة االنطباع اخلاطئ أنَّ هذا النوع من التغيريات الالهوتية للنص كان‬
‫يقع يف كل مرة جيلس فيها ناسخ لينسخ فقرة من الفقرات‪ .‬كان هذا حيدث‬
‫أحيانا‪ .‬وعندما كان يقع‪ ،‬كان له تأثريٌ بعيدُ الغور على النص ‪.‬‬

‫يف هذا الفصل‪ ،‬سنرصد عوامل أخرى تتعلق بالظروف واملالبسات اليت‬
‫أدَّت‪ ،‬يف بعض األحيان‪ ،‬إىل حتريف النص‪ .‬هناك ثالثة أنواع‪ ،‬على وجه‬
‫اخلصوص‪ ،‬من النزاعات اليت كانت ملحوظة جدًا يف اجملتمعات املسيحية‬
‫املبكرة سنقوم بدراستها‪ :‬نزاعٌ داخليٌّ حول دور النساء يف الكنيسة ونزاعني‬
‫آخرين خارجيني‪ ،‬أحدهما مع اليهود من غري املسيحيني واآلخر مع اخلصوم‬
‫الوثنيني‪ .‬وسنرى يف كل نوع على حدى كيف أنَّ هذه النزاعات‪ ،‬يف أحايني‬
‫متفرقة‪ ،‬لعبت أيضا دورًا يف حتريف النصوص اليت كان يقوم بإعادة إنتاجها‬
‫ملصلحة اجملتمع نسَّاخٌ هم أنفسهم كانوا متورطني يف هذه النزاعات ‪.‬‬

‫‪319‬‬
‫مل تلعب النزاعات اليت ثارت حول دور املرأة يف الكنيسة دورا كبريًا يف حتريف‬
‫نصوص العهد اجلديد‪ ،‬لكنها لعبت بالفعل دورا وذلك يف فقراتٍ طريفةٍ‬
‫وهامَّة‪ .‬حنتاج‪ ،‬لكي نفهم أنواع التغيريات اليت وقعت للنص‪ ،‬أن نعرف بعض‬
‫اخللفيات عن طبيعة هذه النزاعات(‪). 117‬‬

‫النساء يف الكنيسة األوىل‬

‫وصل العلماء املعاصرون إىل درجة االعرتاف بأنَّ النزاعات اليت دارت حول‬
‫دور املرأة يف الكنيسة األوىل وقعت حتديدًا ألن النساء كان هلن دور‪ ،‬وكثريا ما‬
‫كان دورًا كبريًا ومرموقًا لدى العامة ‪.‬‬

‫فوق ذلك‪ ،‬كان هذا هو الوضع املألوف منذ بدايات املسيحية ذاتها‪ ،‬ابتداءً من‬
‫خدمة يسوع‪ .‬نعم كان التالميذ األكثر قربًا من يسوع ـ احلواريني االثنى عشر ـ‬
‫مجيعهم من الرجال‪ ،‬وهو املتوقع من معلّم يهودي يف فلسطني يف القرن‬
‫األول‪ .‬إال أن أناجيلنا املبكرة تشري إىل أن يسوع أيضًا كان يرافقه نساء يف أثناء‬
‫رحالته‪ ،‬وأن بعضًا من هؤالء النسوة كنّ من الداعمات له ولتالميذه من‬
‫الناحية املاليَّة‪ ،‬حيث عملن كمساعدات له أثناء جتواله للقيام بعمله التبشريي‬
‫(انظر مرقس ‪ ،51 - 41 :15‬لوقا ‪ .)3 -1 :8‬يقال لنا إن يسوع قد‬

‫‪320‬‬
‫اخنرط يف حوار علين مع بعض النسوة وأنه بشَّرهن عالنية (مرقس ‪– 24 :7‬‬
‫‪31‬؛ يوحنا ‪ .)42 -1 :4‬ويقال لنا‪ ،‬على وجه اخلصوص‪ ،‬إن النسوة‬
‫رافقن يسوع أثناء رحلته األخرية إىل أورشليم‪ ،‬حيث كنَّ حاضرات عند صلبه‬
‫وحيث بقني‪ ،‬وحدهنّ‪ ،‬على والئهنَّ له حتى النهاية يف الوقت الذي فرّ فيه‬
‫التالميذ الذكور (متى ‪55 :27‬؛ مرقس ‪ .)41 -41 :15‬األهم من هذا‬
‫كله هو أنَّ كل إجنيلٍ من أناجيلنا يشري إىل أنَّ النسوة ـ مريم اجملدلية وحدها‪ ،‬أو‬
‫مع رفيقاتها األخريات ـ هن الالتي اكتشفن قربه الفارغ وهكذا كنّ أولَ من‬
‫عرفن وشهِدن على قيامة يسوع من بني األموات (متى ‪11 -1 :28‬؛‬
‫مرقس ‪8 -1 :16‬؛ لوقا ‪11 :24 – 55 :23‬؛ ويوحنا ‪-1 :21‬‬
‫‪). 2‬‬
‫وإنه ألمر مثري أن نسأل عن ماهية الرسالة اليت قدمها يسوع فجذبت النسوة‬
‫على وجه اخلصوص‪ .‬معظم العلماء يعتقدون أن يسوع أعلن عن مملكة اهلل‬
‫املزمع أن تأتي‪ ،‬واليت لن يكون مثة ظلم فيها وال معاناة وال شرّ‪ ،‬واليت فيها‬
‫كل الناس‪ ،‬األغنياء منهم والفقراء‪ ،‬العبيد واألحرار‪ ،‬الرجال والنساء‪،‬‬
‫سيكونون متساويني‪ .‬يبدو جليًّا أنَّ هذا كان أمرا جذَّابًا على حنو خمصوص‬
‫كرسالة أمل للذين كانوا حمرومني ـ مثل الفقراء‪ ،‬املرضى‪ ،‬املنبوذين‪....‬‬
‫والنساء(‪ )118‬يف هذا العصر ‪.‬‬

‫‪321‬‬
‫على أية حال‪ ،‬من الواضح أنه حتى بعد موته‪ ،‬استمرت رسالة يسوع يف‬
‫جذبها للنساء‪ .‬بعض اخلصوم القدماء للمسيحية من بني الوثنيني‪ ،‬مبن فيهم‬
‫سيلزس‪ ،‬على سبيل املثال‪ ،‬الناقد الذي عاش يف أواخر القرن الثاني والذي‬
‫ذكرناه من قبل‪ ،‬انتقد الديانة املسيحية على خلفية أن أتباعها يف الغالب كانوا‬
‫من األطفال والعبيد والنساء (أي من هؤالء الذين مل يكونوا يف الغالب‬
‫يتمتعون مبركز اجتماعي داخل اجملتمع)‪ .‬الغريب أنَّ أورجيانوس‪ ،‬الذي كتب‬
‫الرد املسيحي على سيلزس‪ ،‬مل ينكر التهمة لكنَّه حاول أن حيوَِّهلا ضد سيلزس‬
‫يف حماولة إلظهار أن اهلل يستطيع أن يأخذ ما هو ضعيف وأن يكسوه بالقوة ‪.‬‬

‫لكننا لسنا حباجة إىل االنتظار حتى قدوم أواخر القرن الثاني لكي نرى أنَّ‬
‫النساء لعنب دورًا رئيسًا يف الكنائس املسيحية املبكرة‪ .‬لدينا بالفعل معرفة‬
‫واضحة بهذا األمر من الكاتب املسيحي القديم الذي جنت أعماله من الضياع‪،‬‬
‫بولس الرسول‪ .‬الرسائل البولسية اليت يتضمنها العهد اجلديد تقدم دليال ثريًّا‬
‫تبوأْن مكانة مميَّزة يف اجملتمعات املسيحية الناهضة وذلك منذ‬
‫على أنَّ النساء َّ‬
‫أقدم األزمنة‪ .‬رمبا ننظر‪ ،‬على سبيل املثال‪ ،‬إىل رسالة بولس إىل أهل رومية‪،‬‬
‫اليت يرسل يف نهايتها حتياته إىل أعضاء عديدين من الكنيسة الرومانية (الفصل‬
‫‪ .)16‬على الرغم من أنَّ بولس يذكر هنا أمساء عدد أكرب من الرجال يف مقابل‬
‫النساء‪ ،‬إال أنه من الواضح أنَّ النساء مل يكن ينظر إليهن على اإلطالق‬

‫‪322‬‬
‫باعترباهنَّ أدنى مرتبةً من نظرائهنَّ الذكور يف داخل الكنيسة‪ .‬من بني من‬
‫يذكرهن بولس‪ ،‬على سبيل املثال‪« ،‬فييب» اليت كانت مشاسة )‪(deacon‬‬
‫(أو قسيسة) فِي َكنَْخَرِيَا‪ ،‬واملساعدة اخلاصة لبولس‪ ،‬واليت أوالها ثقته يف‬
‫القيام مبهمة محل رسالته إىل رومية (األعداد ‪ .)2 -1‬وهناك أيضا فريسكا‬
‫اليت كانت‪ ،‬مع زوجها أكيال‪ ،‬مسئولة عن العمل التبشريي بني األمم وكانا‬
‫يدعمان كنيسة مسيحية يف بيتهما (رومية ‪ :4 -3 :16‬والحظوا أنها ذكرت‬
‫أوال وقبل زوجها)‪ .‬ثم هناك مريم‪ ،‬زميلة بولس اليت تعمل بني الرومانيني‬
‫(العدد ‪)6‬؛ وهناك أيضا النساء «تريفينا» و«تريفوسا»‪ ،‬و«برسيس»‪ ،‬الالتي‬
‫يطلق عليهن بولس «شركاء العمل» يف اإلجنيل (العددين ‪ .)12 ،6‬وهناك‬
‫جوليا وأم روفس وأخت نرييوس‪ ،‬وكلهنَّ فيما يبدو كان هلنَّ مكانةً عالية‬
‫داخل اجلماعة (العددين ‪ .)15 ،13‬األكثر إثارة للدهشة‪ ،‬وجود يونياس‪،‬‬
‫املرأة اليت يدعوها بولس «قبلي بني الرسل» (العدد ‪ .)7‬مجاعة الرسل كانت‬
‫كما هو واضح أوسع من قائمة االثين عشر رجال املشهورين لدى معظم‬
‫الناس ‪.‬‬

‫النساء‪ ،‬باختصار‪ ،‬يبدو أنهنَّ لعنب دورًا هامًّا يف الكنائس يف عصر بولس‪ .‬هذه‬
‫املكانة العالية إىل حد ما مل تكن باألمر املألوف يف العامل اليوناني الروماني‪.‬‬
‫ورمبا تكون هذه املكانة قد ترسخَّت‪ ،‬كما أعتقد‪ ،‬بإعالن يسوع أنَّ اململكة‬

‫‪323‬‬
‫املزمع أن تأتي ستعتمد املساواة بني الرجال والنساء‪ .‬كانت هذه‪ ،‬فيما يبدو‪،‬‬
‫هي كذلك رسالة بولس كما ميكن أن نلحظ‪ ،‬على سبيل املثال‪ ،‬يف إعالنه‬
‫الشهري ألهل غالطية ‪:‬‬

‫ألَنَّ ك َُّلكُمُ َّالذِينَ ا َْعَت َمدَُْتمَْ بِالْمَسِيحِ َقدَْ َلبِسَُْتمُ ا ْل َمسِيحَ‪ .‬لَ َْيسَ َيهُودِيٌّ َوالَ يُونَانِيٌّ‪.‬‬
‫حدٌ فِي ا ْلمَسِيحِ يَسُوعَ‬
‫جمِيعًا وَا ِ‬
‫لَيَْسَ عَ َْبدٌ وَالَ حُرٌّ‪ .‬لَيَْسَ ذَكَرٌ وَأُنَْثَى‪ ،‬ألََّن ُكمَْ َ‬
‫(غالطية ‪) 28 -27 :3‬‬

‫املساواة يف املسيح رمبا جتسدت يف طقوس العبادة الفعلية للجماعات اليت أقامها‬
‫بولس‪ .‬فبدال من التزام الصمت كـ «سامعني للكلمة»‪ ،‬يبدو أن النساء شاركن‬
‫بنشاط يف اللقاءات األسبوعية للجماعة‪ ،‬حيث شاركن‪ ،‬على سبيل املثال‪،‬‬
‫بالصالة والتنبؤ متامًا كما كان الرجال يفعلون (‪ 1‬كور ‪). 5, 4 -11‬‬

‫يف الوقت ذاته‪ ،‬حبسب املفسرين املعاصرين‪ ،‬يبدو أنَّ بولس مل يصل برؤيته‬
‫للعالقة بني الرجال والنساء يف املسيح إىل احلد الذي ميكن أن نظنه كنتيجة‬
‫منطقية هلذه العالقة‪ .‬فلقد أمر بالفعل‪ ،‬على سبيل املثال‪ ،‬أن تغطي النساء‬
‫رؤوسهن عندما يتنبأن ويصلني يف الكنيسةلكي يظهرن كـ «خاضعات لسلطان»‬
‫(‪1‬كور ‪ ،16 -3 :11‬خاصة العدد ‪ .)11‬بولس‪ ،‬بكلمات أخرى‪ ،‬مل يثر‬
‫انقالبا اجتماعيًّا يف العالقة بني الرجال والنساء ـ مثلما مل يدع إىل إلغاء‬
‫العبوديّة‪ ،‬على الرغم من أنه ادّعى أنه ليس ثمّ «عبدٌ وال حرٌّ «يف املسيح‪ .‬بل‬
‫‪324‬‬
‫أصرّ بدال من ذلك على أنه ما دام «الوقت قليل «(قبل جمئ اململكة)‪ ،‬فإنَّ كل‬
‫إنسان ينبغي أن يكون راضيًا عن األوضاع املستقرة وأنه ينبغي أن ال يسعى أحدٌ‬
‫ما إىل تغيري وضعه االجتماعي ـ سواء أكان عبدًا أم حرًّا‪ ،‬متزوجا أم أعذبا‪،‬‬
‫ذكرًا أم أنثى (‪1‬كور ‪). 24 – 17 :7‬‬

‫يف أفضل األحوال‪ ،‬إذن‪ ،‬ميكن النظر إىل هذا باعتباره موقفًا متضاربًا جتاه دور‬
‫النساء‪ :‬فلقد كنَّ متساويات يف املسيح وكان مسموحًا هلنَّ أن يشاركن يف حياة‬
‫اجلماعة‪ ،‬ولكن باعتبارهن نساءً‪ ،‬ال رجاال (فلم ي ُكنّ‪ ،‬على سبيل املثال‪،‬‬
‫قادرات على نزع أغطية رؤوسهن ليتساوين مع الرجال‪ ،‬أي يف أن رؤوس‬
‫الرجال ليست خاضعة «لسلطان»)‪ .‬هذه االزدواجية من جانب بولس كان هلا‬
‫أثرٌ مثريٌ للدهشة على دور النساء داخل الكنائس فيما تلى العصر الذي عاش‬
‫فيه‪ .‬ففي بعض الكنائس متَّ التأكيد على املساواة يف املسيح؛ يف البعض اآلخر‬
‫كانت الضرورة تتطلب أن تظل النساء خاضعاتٍ للرجال‪ .‬وهكذا يف بعض‬
‫الكنائس‪ ،‬اضطلعت النساء بأدوار قيادية شديدة األهمية؛ ويف البعض اآلخر‪،‬‬
‫حبَت أدوارهن وأُخرِسَت أصواتُهنّ‪ .‬إذا قرأنا الوثائق املتأخرة املرتبطة‬
‫شُ‬
‫بالكنائس اليت أقامها بولس‪ ،‬بعد موته‪ ،‬ميكننا أن نرى أنَّ النزاعات قد‬
‫اندلعت حول الدور الذي ينبغي أن تلعبه النساء؛ يف النهاية كان مثة جهود‬
‫تبذل لقمع دور النساء يف الكنائس متامًا ‪.‬‬

‫‪325‬‬
‫يتضح هذا من إحدى الرسائل اليت نسبت إىل بولس‪ .‬أصبح العلماء اليوم‬
‫بشكل عام على قناعة من أنَّ الرسالة األوىل إىل تيموثاوس مل يكتبها بولس بل‬
‫كتبها واحدٌ من أتباعه املتأخرين من اجليل الثاني من تالمذته (‪ .)119‬يف هذه‬
‫الرسالة‪ ،‬يف فقرة من الفقرات غري املشهورة اليت تتناول النساء يف العهد‬
‫اجلديد‪ ،‬يقال لنا إنَّ النساء جيب أن ال يسمح هلنَّ أن يعلمن الرجال ألنهن‬
‫خلقن أقل شأنا‪ ،‬كما أشار إىل ذلك اهلل ذاته يف الشريعة‪ ،‬حيث خلق اهلل حواء‬
‫الثانية يف الرتتيب من أجل الرجل؛ وأنَّ امرأة (يف إشارة إىل حواء) جيب أن ال‬
‫تتسلط على رجل (يف إشارة إىل آدم) من خالل قيامها بالتعليم‪ .‬عالوة على‬
‫ذلك‪ ،‬وفقا هلذا املؤلف‪ ،‬كلُّ إنسانٍ يعرف ما حيدث عندما تتوىل امرأة القيام‬
‫بدور املعلم‪ :‬يغويها (الشيطان) بال شك وتقود الرجل إىل الضالل‪ .‬لذلك‬
‫فعلى النساء أن يبقني يف املنزل وأن حيافظن على القيام بأعمال الرب اليت تناسب‬
‫املرأة‪ ،‬من إجناب األطفال ألزواجهن وااللتزام بالتعقل‪ .‬أو كما يقول النص‬
‫ذاته‪:‬‬

‫لَِتتَع ََّلمِ الْمَرََْأةُ بِ ُسكُوتٍ فِي كُلِّ خُضُوعٍ‪ .‬وََل ِكنَْ لَسَْتُ آذَنُ ِل ْلمَ َْرأَةِ أَنَْ تُع َِّلمَ وَالَ‬
‫الرجُلِ‪َ ،‬بلَْ َتكُونُ فِي سُكُوتٍ‪ ،‬ألَنَّ آ َدمَ جُِبلَ أَوَّلًا ثُمَّ حَوَّاءُ‪ ،‬وَآ َدمُ‬
‫تَتَس ََّلطَ عَلَى َّ‬
‫صلَتَْ فِي التَّعَدِّي‪ ،‬وََلكَِّنهَا سَتَخَْلُصُ بِوِالَ َدةِ‬
‫َل َْم ُيغَْوَ َلكِنَّ ا ْلمَ َْرأَةَ ُأغْ ِويَتَْ فَحَ َ‬

‫‪326‬‬
‫التع َُّقلِ (‪1‬تيموثاوس ‪:2‬‬
‫األَ َْوالَدِ‪ِ ،‬إنَْ ثَبَ َْتنَ فِي اإلِميَانِ وَا ْلمَحَبَّةِ وَالْ َقدَاسَةِ مَعَ َّ‬
‫‪) 15 - 11‬‬

‫ياله من فرق شاسع بني هذا وبني رؤية بولس أنه «يف املسيح‪ ...‬ليس مثة ذكر أو‬
‫أنثى» وكلما حتركنا باجتاه القرن الثاني‪ ،‬إذ خبطوط املعركة تبدو مرسومة على‬
‫حنوٍ أوضح‪ .‬فهناك بعض اجلماعات املسيحية اليت تؤكد على أهمية النساء‬
‫وتسمح هلن باالضطالع بأدوار بارزة داخل الكنيسة‪ ،‬وهناك آخرون يؤمنون‬
‫بأن النساء ينبغي أن حيافظن على صمتهن وخضوعهن لرجال اجلماعة‪.‬‬

‫النساخ الذين كانوا يقومون بنسخ النصوص اليت أصبحت فيما بعد الكتاب‬
‫املقدس كانوا بصورة واضحة مشاركني يف هذه الصراعات‪ .‬وأحيانا كانت هذه‬
‫الصراعات ترتك أثرا على النص الذي ينسخ‪ ،‬حيث غُيِّرَت فقرات لكي تعكس‬
‫وجهات نظر النساخ الذين كانوا يعيدون إنتاجها‪ .‬تقريبا يف كل موضع حيدث‬
‫فيه تغري من هذا النوع‪ ،‬يتعرض النص للتغيري لكي حيد من دور املرأة ولتقليل‬
‫أهميتها بالنسبة للحركة املسيحية ‪.‬‬

‫يف هذا اجلزء ميكننا أن نرصد بعض األمثلة القليلة‪.‬‬

‫‪327‬‬
‫واحدة من أهم الفقرات اليت تتعلق بالنقاش احلالي حول دور النساء يف‬
‫الكنيسة جنده يف ‪ 1‬كورنثيوس اإلصحاح ‪ .14‬كما هو احلال يف معظم ترمجاتنا‬
‫اإلجنليزية احلديثة‪ ،‬تُقرأ الفقرة على النحو التالي ‪:‬‬

‫جمِيعِ كَنَائِسِ الْقِدِّيسِنيَ‪.‬‬


‫المٍ َكمَا فِي َ‬
‫ألَنَّ اهللَ لَيَْسَ إَِلهَ تَشَْوِيشٍ َبلَْ إَِلهُ َس َ‬
‫لِتَصَْمُتَْ نِسَاؤُ ُكمَْ فِي ا ْلكَنَائِسِ ألََّنهُ َليَْسَ َمأْذُونًا َلهُنَّ أَنَْ يََتك ََّل َْمنَ بَلَْ َيخَْضَعَْنَ‬
‫َكمَا يَقُولُ النَّامُوسُ أَيَْضًا‪ .‬وَلَ ِكنَْ ِإنَْ كُنَّ يُرِ َْدنَ َأنَْ َيتَع ََّل َْمنَ شَيَْئًا َفلْيَ َْسأَ ْلنَ ِرجَاَلهُنَّ‬
‫خ َرجَتَْ َك ِل َمةُ اهللِ؟ أَمَْ‬
‫فِي الَْبيَْتِ ألََّنهُ قَبِيحٌ بِالنِّسَاءِ َأنَْ تََتك ََّلمَ فِي كَنِيسَةٍ‪َ .‬أمَْ مِ َْن ُكمَْ َ‬
‫حدَ ُكمُ انََْتهَتَْ؟‬
‫إِلَ َْي ُكمَْ وَ َْ‬

‫تبدو الفقرة كأمر واضح وصريح للنساء بأن ال يتكلمن (فضال عن أن يعلِّمن!)‬
‫داخل الكنيسة‪ ،‬متاما مثلما هو احلال مع الفقرة املوجودة يف ‪1‬تيموثي‬
‫اإلصحاح ‪ .2‬معظم العلماء‪ ،‬كما رأينا‪ ،‬على قناعة بأن بولس مل يكتب هذه‬
‫الفقرة الواردة يف ‪ 1‬تيموثي وذلك ألنها جزء من رسالة تبدو وكأنها قد كتبت‬
‫مبعرفة أحد أتباع بولس من اجليل الثاني ثمَّ نسبت إىل بولس‪ .‬ورغم أنَّ أحدًا ال‬
‫يشك أنَّ بولس‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬قد كتب الرسالة األوىل إىل أهل كورنثوس‪ .‬إال أنَّ‬
‫مثة شكوكًا حتوم حول هذه الفقرة فحسب‪ .‬ألنَّ العددين موضع البحث (أعين‬
‫العددين ‪ ،)35 ،34‬كما سيتضح‪ ،‬تغيَّر موضعهما يف بعض من شواهدنا‬
‫النصية اهلامة‪ .‬ففي خمطوطات يونانية ثالث وشاهدين اثنني التينيني‪ ،‬جندهما‬

‫‪328‬‬
‫ال يف هذا املوضع‪ ،‬بعد العدد ‪ ،33‬وإمنا يف موضع مـتأخر بعد العدد ‪ .41‬هذا‬
‫ما دعا بعض العلماء لالفرتاض بأنَّ هذه األعداد مل يكتبها بولس وإمنا كانت‬
‫يف األصل نوعًا من اهلوامش أضيفت مبعرفة أحد النساخ‪ ،‬رمبا حتت تأثري‬
‫األعداد يف ‪ 1‬تيموثي اإلصحاح ‪ .2‬بعد ذلك أدخل هذا اهلامش يف مواضع‬
‫خمتلفة من النص عرب نسَّاخٍ متعددين ـ البعض يضع هذا اهلامش بعد العدد ‪33‬‬
‫واآلخرون بعد العدد ‪. 41‬‬

‫هناك أسباب معقولة جتعلنا نعتقد أنَّ بولس مل يكتب هذه األعداد أصال‪.‬‬
‫فأوال‪ ،‬هذه األعداد غري منسجمة مع سياقها املباشر‪ .‬ففي هذا اجلزء من‬
‫اإلصحاح ‪ 14‬من الرسالة األوىل إىل أهل كورنثوس‪ ،‬يشري بولس إىل قضية‬
‫التنبُّوء يف الكنيسة ويعطي تعليمات لألنبياء املسيحيني خبصوص الكيفية اليت‬
‫ينبغي أن يكون عليها سلوكهم أثناء طقوس العبادة املسيحية‪ .‬هذا هو موضوع‬
‫األعداد من ‪ 26‬إىل ‪ ،33‬وهو مرة أخرى موضوع األعداد من ‪ 36‬إىل ‪.41‬‬
‫فلو أننا حذفنا العددين ‪ 34‬و‪ 35‬من سياقهما‪ ،‬فإن تدفق الفقرة سيبدو سلسًا‬
‫باعتباره حديثًا عن دور األنبياء املسيحيني‪ .‬وحينها يبدو احلديث عن النساء‬
‫وكأنه حشر يف سياق النص املباشر يقطع التعاليم اليت يعطيها بولس خبصوص‬
‫قضية أخرى خمتلفة‪.‬‬

‫‪329‬‬
‫هذان العددان ال يبدو أنهما فقط حمشوران يف سياق اإلصحاح ‪ ،14‬بل إنهما‬
‫يبدوان أيضا غريبني عن ما يقوله بولس بوضوح يف كل موضع من الرسالة‬
‫األوىل إىل أهل كورنثوس‪ .‬فبولس يف موضعٍ سابق خالل هذا السفر‪ ،‬كما‬
‫ذكرنا بالفعل من قبل‪ ،‬يعطي تعليمات للنساء الالئي يتكلمن داخل الكنيسة‪:‬‬
‫فوفقا لإلصحاح ‪ ،11‬فإنهن عندما يصلني ويتنبأن ـ وهي األعمال اليت كانت‬
‫دائما ما تتمُ بصوتٍ عالٍ خالل إقامة طقوس العبادة املسيحية ـ فإنه يتوجَب‬
‫عليهن أن يكنَّ متأكداتٍ من ارتدائهن للحجاب على رؤوسهن (‪-2 :11‬‬
‫‪ .)16‬يف هذه الفقرة‪ ،‬اليت ال يرتاب أحدٌ يف صحة نسبتها إىل بولس‪ ،‬من‬
‫الواضح أنَّ بولس يدرك أنَّ النساء يستطعن أن يتكلمن‪ ،‬بل وميارسن الكالم‬
‫بالفعل داخل الكنيسة‪ .‬يف الفقرة املتنازع عليها يف اإلصحاح ‪ ،14‬مع ذلك‪،‬‬
‫من الواضح أن «بولس» * حيرِّم على النساء أن يتكلمن مطلقًا‪ .‬من الصعب‬
‫التوفيق بني وجهيتِّ النظر املختلفتني هاتني ـ فإما أن بولس يسمح للنساء‬
‫بالكالم (مع تغطية رؤوسهن‪ ،‬كما يف اإلصحاح ‪ )11‬أو ال يسمح بذلك‬
‫(اإلصحاح ‪ .)14‬وكما يبدو التفكري بأن بولس سيناقض نفسه سريعا خالل‬
‫مساحة قصرية تتكون من ثالث فصول أمرًا غري منطقي‪ ،‬فيبدو أنَّ بولس ليس‬
‫هو مصدر هذه األعداد حمل البحث ‪.‬‬

‫‪330‬‬
‫وهكذا على أساس مجع األدلة‪ ،‬العديد من املخطوطات اليت ختتلف فيها‬
‫مواضع األعداد والسياق األدبي القريب والسياق ضمن الرسالة األوىل إىل‬
‫أهل كورنثوس ككل‪ ،‬يتضح أنَّ بولس مل يكتب األعداد ‪1‬كورنثوس ‪:14‬‬
‫‪ .35 -34‬كان لزاما على املرء أن يفرتض من ثمّ أنَّ هذه األعداد اليت هي‬
‫حتريف للنص قام به أحد النساخ‪ ،‬كان حتريفها يف األصل يف صورة‪ ،‬رمبا‪،‬‬
‫مالحظة مكتوبة يف اهلامش ثم يف النهاية ويف مرحلة مبكرة من مراحل نسخ‬
‫الرسالة األوىل إىل أهل كورنثوس‪ ،‬أحلقت بالنص ذاته‪ .‬التحريف متَّ بال شك‬
‫مبعرفة ناسخ كان معنيًّا بتأكيد أنه ال ينبغي أن يكون مثة دور عامٌّ تضطلع به‬
‫النساء داخل الكنيسة‪ ،‬وأنهن ينبغي أن يصمنت وأن ي ِط َْعنَ أزواجهن‪ .‬وجهة‬
‫النظر هذه إذن حدث وأن أصبحت جزءًا من النص ذاته عرب حتريف النصوص‬
‫(‪).121‬‬

‫ميكننا أن ندرس مثاال آخر للتغيريات اليت حلقت بالنص من النوع ذاته ولكن‬
‫بصورة خمتصرة‪ .‬أحد التغيريات يقع يف فقرة ذكرتها من قبل بالفعل‪ ،‬أال وهي‬
‫الرسالة إىل أهل رومية اإلصحاح ‪ ،16‬حيث يتكلم بولس فيها عن إحدى‬
‫النسوة‪ ،‬جونيا‪ ،‬ورجل كان فيما يبدو زوجا هلا‪ ،‬أندرونيكوس‪ ،‬وكالهما‬
‫قال بولس عنهما إنهما «مقدمان َب َْينَ الرُّ ُسلِ» (العدد ‪ .)7‬هذا العدد شديد‬
‫األهمية‪ ،‬ألنه هو املوضع الوحيد يف العهد اجلديد الذي يشار فيه إىل امرأة‬

‫‪331‬‬
‫باعتبارها واحدة من الرسل‪ .‬ولقد كان هلذه الفقرة تأثريًا كبريًا على املفسرين‬
‫إىل درجة أنَّ عددًا كبريًا منهم أصرَّ على أنَّ ما تقوله الفقرة ليس هو معناها‬
‫احلقيقي‪ ،‬لذلك ترمجوا الفقرة باعتبارها تشري ال إىل امرأة تدعى جونيا وإمنا‬
‫إىل رجل يسمى جونياس‪ ،‬الذي أُثنِي عليه جنبا إىل جنب مع رفيقه‬
‫أندرونيكوس باعتباره رسوال ‪ (apostle).‬العقبة اليت تقف أمام هذه‬
‫الرتمجة هي أنه يف الوقت الذي كانت فيه جونيا امسا نسويًّا شائعًا‪ ،‬فإن‬
‫«جونياس» ال دليل يف العامل القديم على أنه كان امسًا لرجل‪ .‬إنَّ بولس يشري‬
‫إىل امرأة تدعى جونيا‪ ،‬وذلك على الرغم من أنه يف بعض الرتمجات احلديثة‬
‫اإلجنليزية للكتاب املقدس (رمبا تريدون أن ترجعوا إىل نسختكم اخلاصة‬
‫للتأكد!) يواصل املرتمجون اإلشارة إىل هذه املرأة اليت كانت من بني الرسل‬
‫كما لو أنها كانت رجال يدعى جونياس (‪).121‬‬

‫بعض النساخ أيضا كان لديهم صعوبة يف وصف هذه املرأة اجملهولة بالرسولة‪،‬‬
‫ولذلك قاموا بإحداث تغيري بسيط للغاية يف النص للتحايل على املشكلة‪ .‬يف‬
‫بعض خمطوطاتنا‪ ،‬بدال من أن تقول «س َِّلمُوا َعلَى أََْندَرُوِنكُوسَ وَجونيا‪ ،‬نَسِيبَيَّ‬
‫اللذَ َْينِ ُهمَا مقدمان بَ َْينَ الرُّسُلِ َو َقدَْ كَانَا فِي ا ْلمَسِيحِ قَ َْبلِي‪،‬‬
‫ا ْل َمأْسُو َر َْينِ مَعِي َّ‬
‫«جند أن النص قد تغري لكي تسهل ترمجته أكثر‪« :‬س َِّلمُوا َعلَى أَنَْدَرُوِنكُوسَ‬
‫اللذَ َْينِ ُهمَا مقدمان َب َْينَ الرُّسُلِ‬
‫وَجونيا‪ ،‬نَسِيبَيَّ؛ وأيضا على ا ْل َمأْسُو َر َْينِ مَعِي َّ‬

‫‪332‬‬
‫َو َقدَْ كَانَا فِي ا ْلمَسِيحِ قَ َْبلِي»‪ .‬مع وجود هذا التغيري الذي تعرض له النص‪ ،‬مل‬
‫يعد املرء يف حاجة إىل أن يقلق بشأن املرأة اليت ذكرت بني العصبة الرسولية‬
‫املكونة من الذكور !‬

‫تغيري مشابه وقع مبعرفة بعض النساخ الذين قاموا بنسخ سفر األعمال‪ .‬ففي‬
‫اإلصحاح رقم ‪ 17‬حناط علمًا بأن بولس ورفيقه يف التبشري «سيال» قضوا وقتا‬
‫يف تسالونيكي يدعون اليهود املوجودين يف املعبد احمللي إىل اإلميان بإجنيل‬
‫املسيح‪ .‬يقال لنا يف العدد ‪ 4‬إن االثنني القا بعضًا من النجاح الباهر يف حتويل‬
‫الناس إىل اإلميان‪« :‬فَاقَْتنَعَ قَ َْومٌ مِ َْنهُمَْ وَانَْحَازُوا إِلَى بُولُسَ وَسِيالَ وَ ِمنَ‬
‫ج َْمهُورٌ َكثِريٌ وَمِنَ النِّسَاءِ ا ْلمَُتقَدِّمَاتِ َعدَدٌ َليَْسَ بِقَلِيلٍ‪».‬‬
‫الْيُونَانِيِّنيَ ا ْلمَُتعَِّبدِينَ ُ‬

‫فكرة أن هؤالء النسوة كن متقدمات‪ ،‬ناهيك عن التحوالت اهلامة إىل اإلميان‬


‫اليت حدثت على أيديهما‪ ،‬كانت أكثر مما حيتمل بالنسبة لبعض النساخ‪،‬‬
‫ولذلك حدث وأن تعرض النص للتغيري يف بعض املخطوطات‪ ،‬لكي يقال لنا‬
‫اآلن‪« :‬فَاقْتَنَعَ قَ َْومٌ مِ َْن ُهمَْ وَانَْحَازُوا إِلَى بُولُسَ وَسِيالَ وَمِنَ الْيُونَانِيِّنيَ ا ْلمَُتعَِّبدِينَ‬
‫ج َْمهُورٌ كَثِريٌ وَ ِمنَ زوجات الرجال ا ْل ُمتَقَدِّمني َعدَدٌ َليَْسَ ِب َقلِيلٍ» اآلن أصبح‬
‫ُ‬
‫الرجال هم املتقدمون‪ ،‬وليس النسوة الالتي حتولن إىل اإلميان ‪.‬‬

‫من بني رفاق بولس يف سفر األعمال كان مثة زوج وامرأته يسميان «أكيال»‬
‫و«بريسكال»؛ وهماعند ذكرهما يف بعض األحيان‪ ،‬يقدم املؤلف اسم الزوجة‬
‫‪333‬‬
‫أوال‪ ،‬كما لو كانت تتمتع برتبة أعلى سواء من ناحية القرابة أو داخل املهمة‬
‫التبشرييَّة املسيحية (كما حيدث يف رومية ‪ 3 :16‬كذلك‪ ،‬حيث يطلق عليها‬
‫اسم بريسكا)‪ .‬ليس أمرًا مثريًا لالستغراب إذن أن يبدي النساخ أحيانًا‬
‫امتعاضهم بسبب هذا الرتتيب ومن ثمَّ يقومون بعكسه حتى حيصل الرجل على‬
‫ما يستحقه من مكانة عرب ذكر امسه أوال‪ :‬أكيال وبريسكال بدال من بريسكال‬
‫وأكيال (‪).122‬‬

‫باختصار‪ ،‬كان مثة نزاعات يف القرون األوىل للكنيسة حول دور النساء‪ ،‬وعند‬
‫اللزوم كانت هذه النزاعات تتسلل إىل عملية نسخ نصوص العهد اجلديد ذاته‪،‬‬
‫حيث غيَّر النساخ أحيانًا نصوصهم ليجعلوها تتوافق بصورة أكرب مع مفهومهم‬
‫اخلاص عن الدور (احملدود) للنساء داخل الكنيسة ‪.‬‬

‫إىل هنا نكون قد تعرضنا بالدراسة للعديد من النزاعات الدينية اليت نبعت من‬
‫الداخل املسيحي يف وقت مبكر من عمر الكنيسة – مثل النزاعات اليت دارت‬
‫حول قضايا ذات عالقة بطبيعة املسيح وعن دور النساء يف الكنيسة – ورأينا‬
‫كيف كان تأثري هذه النزاعات على النسَّاخ الذي أعادوا نسخ نصوصهم‬
‫املقدسة ‪.‬‬
‫‪334‬‬
‫مع ذلك‪ ،‬مل تكن هذه النزاعات هي النوع الوحيد الذي اخنرط فيه املسيحيون‪.‬‬
‫فكما كانت هذه النزاعات شاقة بالنسبة ملن أداروا رحاها‪ ،‬وذات أهمية بالنسبة‬
‫لنقاشاتنا يف هذا الكتاب‪ ،‬كذلك كانت الصراعات اليت اندلعت مع هؤالء‬
‫اخلارجني عن اإلميان‪ ،‬من يهودٍ ووثنيني‪ ،‬الذين وقفوا موقف املعارضة‬
‫للمسيحيني واشتبكوا معهم يف نزاعات جدليَّة‪ .‬اضطلعت هذه النزاعات أيضًا‬
‫بدورٍ ما يف عملية نسخ نصوص الكتاب املقدس‪ .‬ميكننا البدء بالتعرض‬
‫للنزاعات اليت كان مسيحيو القرون األوىل قد اخنرطوا فيها مع اليهود غري‬
‫املسيحيني‪.‬‬

‫إحدى األمور اليت تبعث على السخرية فيما يتعلق باملسيحية يف عصورها‬
‫املبكرة هي أنَّ يسوع نفسه كان يهوديًّا‪ ،‬عََبدَ إله اليهود وحافظ على العادات‬
‫اليهودية وفسَّر الشريعة اليهودية‪ ،‬وكان له تالميذ من اليهود الذين اتبعوه على‬
‫اعتبار أنه املسيح اليهوديَّ‪ .‬على الرغم من ذلك‪ ،‬ويف غضون عشرات قليلة‬
‫من السنوات فحسب بعد موته‪ ،‬كان أتباع يسوع قد كوَّنوا ديانة وقفت من‬
‫اليهودية موقف النقيض‪ .‬فكيف انتقلت املسيحية بهذه السرعة من كونها طائفة‬
‫يهودية إىل ديانة معادية لليهود؟‬

‫‪335‬‬
‫إنه سؤال صعب‪ ،‬واإلجابة عليه بصورة مرضية تستلزم أن نفرد له كتابًا كامال‬
‫(‪ .)123‬أما هنا‪ ،‬فبإمكاني على األقل أن أكتفي بإعطاء وصفٍ تارخيي موجز‬
‫لظهور معاداة اليهودية يف املسيحية األوىل كوسيلة إلعطاء وصف معقول‬
‫للمحيط الذي عاش فيه النسَّاخ املسيحيون الذين يف بعض األحيان قاموا‬
‫بتحريف نصوص كتابهم املقدس على حنوٍ معادٍ لليهودية ‪.‬‬

‫شهدت العشرون عامًا األخرية زيادة كبرية ومفاجأة يف جمال البحث عن يسوع‬
‫التارخيي‪ .‬نتج عن ذلك أنَّه قد توفَّر اآلن عددٌ هائلٌ من اآلراء اليت تبحث يف‬
‫الكيفية املثلى لفهم حقيقة املسيح‪ -‬هل كان معلمًا يهوديًّا‪ ،‬أم كان مصلحًا‬
‫اجتماعيًّا؟ هل كان متمردًا سياسيًّا أم فيلسوفًا ساخرًا أم نبيًّا رؤَوِيًّا‪ :‬تتزايد‬
‫اخليارات إىل ماال نهاية‪ .‬الشئ الوحيد الذي يتفق عليه كل العلماء تقريبًا‪ ،‬على‬
‫الرغم من كل هذه االختالفات‪ ،‬هو أنه بغض النظر عن الكيفية اليت ميكن‬
‫للمرء أن يفهم بها الدافع وراء رسالة يسوع‪ ،‬فإنه البد أن يوضع يف سياقه‬
‫احلقيقي باعتباره يهوديًّا فلسطينيًّا عاش يف القرن األول امليالديّ‪ .‬أيًّا ما تكن‬
‫السمات األخرى اليت كان عليها يسوع‪ ،‬فإنه كان يهوديًّا بكل ما يف الكلمة من‬
‫معنى‪ ،‬لقد كان يهوديًّا من كل الوجوه – كما هو احلال بالنسبة لتالميذه أيضًا‪.‬‬
‫يف بعض اللحظات – قبل موته على األرجح‪ ،‬وبعده على وجه اليقني ‪-‬‬
‫أصبح أتباع يسوع ينظرون إليه باعتباره املسيح اليهوديَّ‪ .‬ورغم أن اليهود‬

‫‪336‬‬
‫اآلخرون كانوا يفهمون مصطلح املسيح بطرق مغايرة خالل القرن األول‪ ،‬إال‬
‫أنَّ شيئا واحدًا بدى أنه كان حمط إمجاع كل اليهود عندما يفكرون يف املسيح‪،‬‬
‫وذلك أنه جيب أن يكون شخصية عظيمة وصاحبة سلطان وذلك حتى يقهر‪،‬‬
‫يهودي أو إنزال‬
‫ٍّ‬ ‫بطريقة ما ‪ -‬رمبا على سبيل املثال من خالل تكوين جيش‬
‫مالئكة السماء ‪ -‬أعداء إسرائيل وليقيم دولة إسرائيل ذات السيادة اليت‬
‫حيكمها اهلل نفسه (رمبا من خالل وسيط بشريّ)‪ .‬املسيحيون الذين أطلقوا على‬
‫املسيح لقب املسيح من الواضح أنهم مرُّوا بأوقات عصيبة لكي يقنعوا اآلخرين‬
‫بزعمهم هذا‪ ،‬ألن يسوع‪ ،‬بدال من أن يكون حماربًا عظيمًا أو حاكم بأمر‬
‫السماء‪ ،‬كان معروفًا على نطاق واسع باعتباره واعظًا متجوِّال هاجم اجلانب‬
‫صلِب كمجرم أثيم‪.‬‬
‫السئ من الشريعة و ُ‬

‫إطالق اسم املسيح على يسوع كان بالنسبة لغالبية اليهود أمرًا جيلب لقائله‬
‫السخرية‪ .‬مل يكن يسوع قائدًا لليهود مهاب اجلانب‪ .‬بل كان ضعيفًا وعاجزًا –‬
‫فقد أعدم بأكثر طرق القتل إذالال وإيالمًا من بني الطرق اليت ابتكرها الرومان‬
‫الذين هم أصحاب السلطة احلقيقية‪ .‬رغم ذلك‪ ،‬أصرَّ املسيحيون على أنَّ‬
‫يسوع هو املسيح وعلى أنَّ موته مل يكن إخفاقًا للعدالة بل حدثًا تنبأ به الكتاب‬
‫املقدس وأنَّه وقع برتتيبٍ من اهلل‪ ،‬حيث جلب عن طريقه اخلالص للعامل ‪.‬‬

‫‪337‬‬
‫األمريَْن إلقناع‬
‫ماذا كان على املسيحيني أن يفعلوا حيال حقيقة أنهم عانوا َّ‬
‫غالبية اليهود بصحة مزاعمهم عن يسوع؟ ما كانوا بطبيعة احلال ليعرتفوا أنهم‬
‫كانوا هم املخطئون‪ .‬وإذا مل يكونوا هم‪ ،‬فمن؟ البد وأن اليهود كانوا هم‬
‫املخطئني‪ .‬يف وقت مبكر من تارخيهم‪ ،‬بدأ املسيحيون يصرُّون على أنَّ اليهود‬
‫الذين رفضوا رسالة املسيحيني كانوا متمردين وعميانا‪ ،‬ألنهم برفضهم لرسالة‬
‫يسوع‪ ،‬يرفضون اخلالص الذي قدمه اإلله ذاته الذي يعبده اليهود‪ .‬بعضٌ من‬
‫هذه املزاعم كانت تصاغ بواسطة مؤلفنا املسيحي األقدم‪ ،‬بولس الرسول‪ .‬ففي‬
‫رسالته األوىل اليت كتبها ملسيحيي تسالونيكي‪ ،‬واحملفوظة حتى اليوم‪ ،‬يقول‬
‫بولس ‪:‬‬

‫صرَُْتمَْ مُتَمَِّثلِنيَ ِبكَنَائِسِ اهللِ َّالتِي ِهيَ فِي الَْيهُودِيَّةِ فِي ا ْلمَسِيحِ‬
‫إلخَْ َوةُ ِ‬
‫َفإَِّن ُكمَْ أَُّيهَا ا ِ‬
‫المَ َع َْيَنهَا َكمَا هُمَْ‬
‫يَسُوعَ‪ ،‬ألََّن ُكمَْ َتأََّل َْمُتمَْ أَنَْتُمَْ َأيَْضًا مِنَْ أَ َْهلِ عَشِ َريِت ُكمَْ ِت ْلكَ اآل َ‬
‫حنُ‪َ .‬وهُمَْ‬
‫ض َط َهدُونَا َن َْ‬
‫أَيَْضًا ِمنَ الَْيهُودِ‪َّ ،‬الذِينَ قََتلُوا الرَّبَّ يَسُوعَ وَأََْنبِيَا َء ُهمَْ‪ ،‬وَا َْ‬
‫جمِيعِ النَّاسِ (‪1‬تسالونيكي ‪) 15 -14 :2‬‬
‫ضدَادٌ ِل َ‬
‫غَيَْرُ ُم َْرضِنيَ ل َِّلهِ َوأَ َْ‬

‫أصبح بولس يؤمن بأن اليهود رفضوا يسوع ألنهم فهموا أن مقامهم اخلاص‬
‫عند اهلل كان عائدًا إىل أمرين اثنني‪ :‬أنَّ لديهم الشريعة اليت أعطاها اهلل إياها‬
‫وأنهم يتمسكون بها (رومية ‪ .)34 :11‬مع ذلك‪ ،‬كان اخلالص حسب‬
‫مفهوم بولس قد جاء لليهود ولألمم كذلك‪ ،‬ولكن ليس عرب الشريعة وإمنا‬

‫‪338‬‬
‫باإلميان مبوت يسوع وقيامته (رومية ‪ .)22 - 21 :3‬لذلك‪ ،‬ليس لاللتزام‬
‫بالشريعة أي دور يف وقوع اخلالص؛ وألجل هذا علَّم بولس الوثنيني (أو‬
‫األمم) الذين أصبحوا أتباعًا ليسوع أن رفع قيمتهم أمام اهلل ال حيدث باتباعهم‬
‫للشريعة‪ .‬لقد كان على األمميني أن يبقوا كما هم – أي ليس عليهم أن يتحولوا‬
‫إىل اليهودية (غالطية ‪). 16 – 15 :2‬‬

‫املسيحيون األوائل اآلخرون‪ ،‬بطبيعة احلال‪ ،‬كان هلم رأي آخرـ كما هو‬
‫حاهلم مع كل قضية تقريبا من قضايا هذا العصر! فالقديس متَّى‪ ،‬على سبيل‬
‫املثال‪ ،‬يبدو وكأنه يفرتض مقدمًا أنه على الرغم من أنَّ موت يسوع وقيامته‬
‫هما اللذان جلبا اخلالص‪ ،‬فإن تالميذه سيلتزمان بطبيعة احلال بأحكام‬
‫الشريعة‪ ،‬كما فعل يسوع نفسه (انظر متى ‪ .)21 -17 :5‬يف النهاية‪ ،‬مع‬
‫ذلك‪ ،‬أصبح من املسلم به على نطاق واسع أنَّ املسيحيني كانوا خمتلفني مع‬
‫اليهود حول قضية اتِّباع الشريعة اليهودية وعدم ارتباطها بقضية اخلالص‪،‬‬
‫وحول أن االنضمام إىل الشعب اليهودي سيعين االرتباط بالشعب الذي رفض‬
‫مسيحه‪ ،‬والذي‪ ،‬يف حقيقة األمر‪ ،‬رفض اإلميان بإهله اخلاص‪.‬‬

‫وعندما ننتقل إىل القرن الثاني جند أنَّ املسيحية واليهودية قد أصبحتا ديانتني‬
‫منفصلتني كليةً إال أنَّ كلَّ واحدةٍ منهما لديها‪ ،‬رغم ذلك‪ ،‬الكثري لتقوله عن‬
‫األخرى‪ .‬وجد املسيحيون أنفسهم‪ ،‬يف الواقع‪ ،‬وقد شكلوا نوعا من الرابطة‪.‬‬

‫‪339‬‬
‫ألنهم كانوا يؤمنون بأنَّ يسوع كان هو املسيح الذي تنبأت به الكتب اليهودية‬
‫املقدسة؛ ولكي حتصل على املصداقية يف عاملٍ يعتزُّ بكل ما هو قديم ويرتاب‬
‫يف كلِّ «جديد» باعتباره بدعة مشكوكا بها‪ ،‬فقد صار لزامًا على املسيحيني أن‬
‫يواصلوا االستشهاد بالكتب املقدسة ـ باعتبارها أساسا ملعتقداتهم اخلاصة‪ .‬كان‬
‫هذا يعين أنَّ املسيحيني ادَّعوا أنَّ الكتاب املقدس اليهودي هو كتابهم هم أيضًا‬
‫املقدس‪ .‬ولكن أليس الكتاب املقدس اليهودي هو لليهود؟ بدأ املسيحيون‬
‫يصرّون على أنَّ اليهود مل ينكروا فحسب مسيحهم‪ ،‬وإمنا هم بذلك قد أنكروا‬
‫إهلهم‪ ،‬وأساؤوا فهم كتابهم املقدس أيضا‪ .‬ولذلك جند أنَّ الكتابات املسيحية‬
‫مثل ما عرف باسم رسالة برنابا‪ ،‬وهو الكتاب الذي اعتربه بعض املسيحيني‬
‫األوائل جزءا من قائمة العهد اجلديد الرمسية‪ ،‬قد أكَّد أن اليهودية كانت دائمًا‬
‫وال تزال ديانة باطلة‪ ،‬وأنَّ مالكا شريرًا أضلَّ اليهود ليفهموا الشريعة اليت‬
‫أعطاها اهلل ملوسى بأنها تعاليم حرفية تشرح كيف ينبغي أن يعيش اإلنسان‪ ،‬يف‬
‫ٍّ(‪). 124‬‬
‫حني أنها كانت من املفرتض أن تفسر يف احلقيقة على حنوٍ رمزي‬

‫يف النهاية جند املسيحيني يعاقبون اليهود بأقسى العقوبات املمكنة لعدم قبوهلم‬
‫يسوع باعتباره املسيح‪ .‬فمع وجود مؤلفني‪ ،‬جوستينوس الشهيد الذي عاش يف‬
‫القرن الثاني كمثال‪ ،‬يدِّعون أنَّ السبب الذي دعا اهلل أن يفرض اخلتان على‬
‫اليهود كان ليميزهم باعتبارهم شعبًا خمصوصًا جديرًا باالضطهاد‪ .‬هناك أيضا‬

‫‪340‬‬
‫مؤلفون‪ ،‬مثل ترتليانوس وأورجيانوس‪ ،‬يزعمون أنَّ أورشاليم دمرها اجليش‬
‫الروماني يف عام ‪ 71‬ميالديا كعقوبة لليهود الذين قتلوا مسيحهم‪ ،‬ومؤلفون‬
‫مثل مليتو أسقف سرديس جيادلون حول أنَّ اليهود بقتلهم املسيح‪ ،‬كانوا يف‬
‫الواقع مدانني بقتل اهلل ‪.‬‬

‫«انتبهوا يا كل عائالت األمم وترقبوا! جرمية قتل استثنائية حدثت يف قلب‬


‫أورشاليم‪ ،‬يف املدينة املكرسة لشريعة اهلل‪ ،‬يف مدينة العربانيني‪ ،‬يف مدينة‬
‫األنبياء‪ ،‬يف املدينة املعروفة بالعادلة‪ .‬ومن يا ترى الذي قُتِل؟ ومن القاتل؟ أشعر‬
‫بالعار من إجابة هذا السؤال‪ ،‬لكنَّ اإلجابة عليه واجبة‪ ....‬الذي علّق السماء يف‬
‫الفضاء هو نفسه من عُلِّق؛ الذي مسَّّر السموات يف مكانها‪ ،‬دُقَّ باملسامري؛‬
‫الذي ثبت كل األشياء هو نفسه ثُِّبتَ إىل شجرة‪ .‬السيد قد ُأهِني‪ ،‬الرب قد‬
‫قُتِل‪ ،‬ملك إسرائيل أبيد بيد إسرائيل اليمنى» (عظة الفصح ‪-94‬‬
‫‪).125()96‬‬

‫من الواضح أننا قطعنا شوطا طويال يف االبتعاد عن منوذج يسوع‪ ،‬ذلك‬
‫اليهودي الفلسطيين الذي التزم التقاليد اليهودية ومارس التبشري بني أبناء وطنه‬
‫وعلَّم تالميذه اليهود املعنى احلقيقي للشريعة اليهودية‪ .‬باقرتاب القرن الثاني‬
‫وعندما كان النسَّاخ املسيحيون يقومون بإعادة كتابة النصوص اليت أصبحت يف‬
‫النهاية جزءًا من العهد اجلديد‪ ،‬كان غالبية املسيحيني من الوثنيني السابقني‪ ،‬أي‬

‫‪341‬‬
‫من غري اليهود ممن حتولوا إىل اإلميان باملسيحية والذين فهموا أنه على الرغم‬
‫من أنَّ هذا الدين كان مبنيًّا‪ ،‬يف األساس‪ ،‬على اإلميان بإله اليهود كما ذُكِرَ نعته‬
‫يف الكتاب املقدس اليهودي‪ ،‬إال أنه كان ذا توجه معاد لليهود متاما ‪.‬‬

‫حتريفات النص املناهضة لليهود‬

‫معاداة اليهودية اليت كان يكنها بعض النساخ املسيحيني يف القرنني الثاني‬
‫والثالث كان هلا دورٌ هام يف الطريقة اليت بها نسخت النصوص‪ .‬واحد من‬
‫أوضح األمثلة جنده يف رواية لوقا حلادثة الصلب‪ ،‬اليت يقال فيها إن يسوع نطق‬
‫بصالة من أجل هؤالء املسئولني عن صلبه ‪:‬‬

‫ج َمةَ» صَلَبُوهُ هُنَاكَ َمعَ ا ْل ُمذَْنِبَ َْينِ‬


‫جمَْ ُ‬
‫ضعِ َّالذِي ُي َْدعَى « ُ‬
‫وَلَمَّا مَضَوَْا ِبهِ إِلَى ا ْلمَوَْ ِ‬
‫حدًا َعنَْ َيمِينِهِ وَاآلخَرَ َعنَْ يَسَارِهِ‪ .‬فَقَالَ يَسُوعُ‪« :‬يَا أَبَتَاهُ اغْفِرَْ َل ُهمَْ ألََّن ُهمَْ الَ‬
‫وَا ِ‬
‫يَ َْع َلمُونَ مَاذَا َيفْ َعلُونَ»‪َ .‬وإِذِ اقْتَ َسمُوا ِثيَاَبهُ اقْتَ َرعُوا َعلَ َْيهَا (لوقا ‪-33 :23‬‬
‫‪) 34‬‬
‫صالة يسوع هذه كما سيتضح ال ميكن أن جندها‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬يف كل ما لدينا من‬
‫خمطوطات‪ :‬فهي مفقودة يف أقدم شاهد يوناني لدينا (وهي الربدية‪ ، P75‬اليت‬
‫يرجع تارخيها إىل وقت قريب من عام ‪ 211‬ميالدية) وشواهد أخرى عديدة‬
‫عالية القيمة من القرن الرابع والقرون اليت تلته؛ يف الوقت ذاته‪ ،‬هذه الصالة‬
‫موجودة يف املخطوطة السينائية ويف عدد كبري من املخطوطات‪ ،‬مبا يف ذلك‬
‫‪342‬‬
‫معظم املخطوطات اليت متت كتابتها يف العصور الوسطى‪ .‬ولذلك فالسؤال‬
‫امللح اآلن هو‪ :‬هل قام ناسخ أو عدد من النساخ حبذف هذه الصالة من‬
‫خمطوطة كانت حتتوي عليها يف األصل؟ أم هل أضيفت من خالل أحد النساخ‬
‫(أو عدد من النساخ) إىل خمطوطة هي يف األصل كانت خالية منها؟‬

‫انقسمت آراء العلماء لفرتة طويلة عند الرد على هذا السؤال‪ .‬فألن الصالة‬
‫مفقودة يف العديد من الشواهد املبكرة‪ ،‬وألنها شديدة األهمية‪ ،‬فلم يقصِّر كثريٌ‬
‫من العلماء يف االدِّعاء بأنها غري أصلية داخل النصّ‪ .‬أحيانا مييلون إىل حجة‬
‫مبنية على دليل داخليّ‪ .‬كما أوضحت من قبل‪ ،‬مؤلف إجنيل لوقا هو نفسه من‬
‫كتب سفر أعمال الرسل‪ .‬يف سفر األعمال جند فقرة شبيهة بفقرتنا هذه يف قصة‬
‫ستيفانوس‪ ،‬شهيد املسيحية األول واإلنسان الوحيد الذي ذُ ِكرَ يف سفر األعمال‬
‫ُفذَ يف‬
‫أنَّ أمرًا قد صدر بقتله‪ .‬وألن اسطيفانوس كان متَّهمًا بالتجديف‪ ،‬فقد ن ِّ‬
‫ٍّ غاضب؛ وقبل أن ميوت صلى‬
‫حقه الرجم حتى املوت عرب مجهور يهودي‬
‫قائال‪« :‬يَا رَبُّ الَ ُت ِقمَْ َل ُهمَْ َهذِهِ ا ْلخَطَِّيةَ» (أعمال ‪). 61 :7‬‬

‫بعض العلماء جادلوا بالقول إنَّ أحد النساخ مل يرغب يف أن يبدو يسوع أقلَّ‬
‫تساحمًا بأيِّ حالٍ من شهيده األول‪ ،‬إسطيفانوس‪ ،‬فأضاف الصالة إىل إجنيل‬
‫لوقا حتى يدعو يسوع أيضا باملغفرة لقاتليه‪ .‬إنه دفاعٌ مقنعٌ لكنه ليس مقنعًا متامًا‬
‫ألسباب عدَّة‪ .‬أشدُّ هذه األسباب إقناعا هو اآلتي‪ :‬يف كلِّ مرة حياول النساخ أن‬

‫‪343‬‬
‫يوفقوا بني النصوص بعضها البعض‪ ،‬كانوا مييلون إىل فعل ذلك عرب تكرار‬
‫الكلمات ذاتها يف الفقرتني كلتيهما‪ .‬يف حالتنا هذه‪ ،‬ال جند الصياغة متطابقة بل‬
‫جلُّ ما جنده جمرد صالتني متشابهتني‪ .‬ليس هذا هو نوع «التوافق» الذي كان‬
‫منطًا يكرره النساخ‪.‬‬

‫األمر املفاجئ أيضا خبصوص هذه النقطة هو أنَّ لوقا‪ ،‬أي املؤلف نفسه‪ ،‬يف‬
‫عددٍ من املناسبات ينحرف عن أسلوبه لكي يظهر التشابه بني ما حدث ليسوع‬
‫يف اإلجنيل وما حدث لتالميذه يف سفر األعمال‪ :‬يسوع وتالميذه يعمَّدون‪،‬‬
‫يبشرُ باألخبار‬
‫كال اجلانبني يقبالن الروح القدس عند حلظة العماد‪ ،‬كالهما ِّ‬
‫السارة‪ ،‬وكالهما يرفضان من قبل الناس بسببها‪ ،‬كال اجلانبني يتأملان بأيدي‬
‫الزعماء اليهود‪ ...‬إىل آخره‪ .‬ما حيدث ليسوع يف الكتاب املقدس حيدث لتالميذه‬
‫يف سفر األعمال‪ .‬ومن هنا فليس مثة أي مفاجأة ـ بل األمر باألحرى متوقع ـ يف‬
‫أنَّ واحدا من تالميذ يسوع الذين أعدموا مثله متاما مبعرفة السلطات احلانقة‪،‬‬
‫سيصلِّي إىل اهلل ليغفر لقاتليه ‪.‬‬

‫هناك أسباب أخرى تدفعنا لالرتياب يف كون صالة يسوع من أجل الغفران هي‬
‫جزء أصلي من اإلصحاح ‪ 23‬من إجنيل لوقا‪ .‬ففي كل مكان إجنيل لوقا وسفر‬
‫األعمال يتم التأكيد‪ ،‬على سبيل املثال‪ ،‬على أنَّه رغم براءة يسوع (مثلما هو‬
‫حال تالميذه)‪ ،‬فإن هؤالء الذين قتلوه فعلوا ذلك لعدم معرفتهم حبقيقة ما‬

‫‪344‬‬
‫يقومون به‪ .‬فها هو بطرس يف سفر األعمال إصحاح ‪ 3‬يقول‪« :‬أَنَا َأ َْع َلمُ أََّنكُمَْ‬
‫جهَاَلةٍ َع ِملُْتمَْ» (العدد ‪)27‬؛ أو كما يقول بولس يف سفر األعمال اإلصحاح‬
‫بِ َ‬
‫جمِيعَ النَّاسِ فِي كُلِّ َمكَانٍ َأنَْ يَتُوبُوا مُتَغَاضِيًا َعنَْ أَزَْ ِمَنةِ‬
‫َاللهُ اآلنَ َيأْمُرُ َ‬
‫‪« :17‬ف َّ‬
‫ج َْهلِ» (العدد ‪ .)* 31‬وهذه هي حتديدا املالحظة املتوافقة مع صالة يسوع‪:‬‬
‫الْ َ‬
‫«ألنهم ال يعلمون ماذا يفعلون ‪».‬‬

‫يبدو‪ ،‬إذن‪ ،‬أنَّ لوقا ‪ 34 :23‬كانت جزءا من نص لوقا األصلي‪ .‬فلماذا‪،‬‬


‫رغم ذلك‪ ،‬يريد ناسخ (أو عدد من النساخ) حذف هذا اجلزء؟ هنا يصري‬
‫الوعي بالسياق التارخيي الذي كان النساخ يعملون ضمنه أمرًا حامسًا‪ .‬رمبا‬
‫يتساءل القرَّاء املعاصرون عن حقيقة الشخص الذي كان املسيح يصلي من‬
‫أجله‪ .‬فهل هم الرومان الذين قتلوه عن جهل؟أم هم اليهود الذين كانوا‬
‫مسئولني عن تسليمه للرومان يف املقام األول؟ مهما تكن الطريقة اليت ميكن أن‬
‫جنيب بها على هذا التساؤل يف حماولة لتفسري هذه الفقرة اليوم‪ ،‬يبدو أنَّ الكيفية‬
‫اليت كانوا يف الكنيسة األوىل يفسرونها بها هي من الوضوح مبكان‪ .‬تقريبا يف‬
‫كل حالة نوقشت فيه الصالة يف كتابات اآلباء األوائل للكنيسة‪ ،‬يبدو جليًّا‬
‫أنهم كانوا يفسرونها بأن املقصود بها اليهود وليس الرومان(‪ .)126‬لقد كان‬
‫يسوع يطلب من اهلل أن يسامح الشعب اليهودي (أو القادة اليهود) الذين كانوا‬
‫مسئولني عن موته ‪.‬‬

‫‪345‬‬
‫اآلن أصبح السبب الذي من أجله أراد بعض النُسَّاخ أن حيذفوا العدد واضحًا‪.‬‬
‫أيصلِّي يسوع من أجل املغفرة لليهود؟ كيف ذلك؟ بالنسبة للمسيحيني األوائل‬
‫كان مثة مشكلتان تواجهان هذا العدد يف حال النظر إليه على هذا النحو‪ .‬أوال‪،‬‬
‫تسائل املسيحيون‪ :‬ما الذي جيعل يسوع يصلي ملغفرة ذنوب هذا الشعب املتمرد‬
‫الذي رفض اهللَ نفسهَ عن عمد؟ هذا األمر كان نادر التصور عند كثريٍ من‬
‫املسيحيني‪ .‬بل أكثر من ذلك‪ ،‬نقول‪ :‬إنه قريبًا من القرن الثاني كان كثريٌ من‬
‫املسيحيني على قناعة تامة بأنَّ اهلل مل يغفر لليهود ألنهم‪ ،‬كما ذكرت من قبل‪،‬‬
‫اعتقدوا أن اهلل مسح بتدمري أورشليم كعقوبة لليهود على قتلهم يسوع‪ .‬يقول‬
‫أورجيانوس أحد آباء الكنيسة‪« :‬صحيحٌ أنَّ املدينة اليت مر فيها يسوع مبثل هذه‬
‫اآلالم ينبغي أن تدمر بالكامل‪ ،‬وأنَّ األمة اليهودية ينبغي أن تباد» (ضد‬
‫سيلزس ‪) 127()22 ،4‬‬

‫كان اليهود يعرفون جيدا ما كانوا يفعلونه‪ ،‬ومن الواضح أن اهلل مل يساحمهم‪.‬‬
‫انطالقًا من وجهة النظر هذه‪ ،‬ليس لدعاء يسوع باملغفرة من أجلهم أيَّ معنى‬
‫يف وقت مل يكن مثة غفران ممكن يف حقهم‪ .‬ماذا كان على النساخ أن يفعلوا‪،‬‬
‫إذن‪ ،‬مع هذا النص الذي يصلي فيه يسوع «أبتاه‪ ،‬اغفر هلم‪ ،‬ألنهم ال‬
‫يعلمون ماذا يفعلون»؟ تعاملوا مع النص ببساطة من خالل اقتطاع النص لكي‬
‫ال يواصل يسوع طلب املغفرة هلم ‪.‬‬

‫‪346‬‬
‫هناك فقرات أخرى تركت فيها املشاعر املعادية لليهود اليت كان النساخ األوائل‬
‫يكنونها يف صدورهم أثرها على النصوص اليت كانوا ينسخونها‪ .‬واحدة من‬
‫أبرز الفقرات اليت تشري إىل الظهور النهائي للمعاداة للسامية هي يف مشهد‬
‫حماكمة يسوع يف إجنيل متَّى‪ .‬فوفقًا هلذه احلادثة‪ ،‬يعلن بيالطس براءة يسوع‪،‬‬
‫حيث يغسل يده لكي يظهر أنه‪َ« :‬برِيءٌ ِمنَْ َدمِ َهذَا الْبَارِّ‪َ .‬أبَْصِرُوا أَنَْتُمَْ »!‬

‫ثم يطلق احلشد اليهودي صرخة كان مقدَّرًا هلا أن تلعب هذا الدور الرهيب يف‬
‫اندالع العنف ضد اليهود خالل القرون الوسطى‪ ،‬حيث يبدو أنهم يعلنون فيها‬
‫مسئوليتهم عن موت يسوع‪« :‬دَ ُمهُ َع َليَْنَا َو َعلَى َأوَْالَدِنَا «(متى ‪- 24 :27‬‬
‫‪). 25‬‬
‫التباين النصّي موضع اهتمامنا حيدث يف العدد التالي‪ .‬يقال يف هذا العدد إن‬
‫صلَبـ «‪ .‬أي شخص يقرأ هذا النص سيفرتض‬
‫بيالطس جلد يسوع ثم «أَسَْ َل َمهُ لِيُ َْ‬
‫يف البداية أنه سلم يسوع جلنوده (الرومان) لكي يصلبوه‪ .‬ما جيعل األمر أكثر‬
‫إحداثا للصدمة هو أنه يف بعض الشواهد املبكرة ـ مبا يف ذلك واحدة من‬
‫التصحيحات اليت أدخلها النساخ إىل املخطوطة السينائية ـ مت إدخال تغيري إىل‬
‫النص لكي يقوِّي إىل مدى أبعد التورط اليهودي يف موت يسوع‪ .‬وفقا هلذه‬
‫املخطوطات‪ ،‬قام بيالطس «بتسليمه إليهم (أي إىل اليهود) لكي يقوموا هم‬
‫بصلبه»‪ .‬اآلن مسئولية اليهود عن مقتل يسوع هي مسئولية كاملة‪ ،‬ويف الوقت‬

‫‪347‬‬
‫نفسه هذا تغيري كان الباعث إليه شعورٌ معادٍ لليهود كان منتشرًا بني املسيحيني‬
‫األوائل‪.‬‬

‫أحيانا تكون القراءات املتباينة املعادية لليهود دقيقة للغاية وال تلفت انتباه‬
‫اإلنسان إليها إىل أن يبذل أحدهم بعض الفكر حول املسألة‪ .‬على سبيل املثال‪،‬‬
‫إن يوسف دعى ابن مريم املولود‬
‫يف قصة امليالد الواردة يف إجنيل متى‪ ،‬يقال َّ‬
‫حديثًا يسوع (اليت تعين «اخلالص») «ألنه خيلص شعبه من خطاياهم «(متى‬
‫‪ .)21 :1‬من العجيب أنه يف واحدة من املخطوطات اليت حفظتها لنا الرتمجة‬
‫السوريانية‪ ،‬يقول النص بدال عن ذلك‪« :‬ألنه سيخلص العامل من خطاياه»‪.‬‬
‫هنا مرة أخرى يبدو أنَّ ناسخًا كان يشعر بعدم الراحة من تصوُّر أنَّ اليهود‬
‫ميكنهم أن حيصلوا على اخلالص‪.‬‬

‫تغيريٌ مشابهٌ آخر حيدث يف إجنيل يوحنا‪ .‬ففي اإلصحاح الرابع‪ ،‬يتحدث يسوع‬
‫جدُونَ ِلمَا لَسَُْتمَْ تَ َْع َلمُونَ أَمَّا نَحَْنُ‬
‫مع املرأة السامريّة ويقول هلا‪َ« ،‬أنَُْتمَْ تَسَْ ُ‬
‫الصَ هُوَ مِنَ ا ْلَيهُودِ»‪( .‬العدد ‪ .)22‬يف بعض‬
‫جدُ لِمَا نَ َْع َلمُ ‪ -‬ألَنَّ الْخ َ‬
‫فَنَسَْ ُ‬
‫املخطوطات السوريانية والالتينية تغري النص فأصبح يقول اآلن إنَّ‪« :‬اخلالص‬
‫يأتي من أرض يهودا»‪ .‬بكلمات أخرى‪ ،‬ليس الشعب اليهوديُّ هو من جلب‬
‫اخلالص إىل العامل؛ بل موت يسوع يف أرض يهودا هو الذي فعل ذلك‪ .‬مرة‬

‫‪348‬‬
‫أخرى رمبا نرتاب يف أنَّ شعورًا معاديًا لليهود هو ما كان باعثًا على التحريف‬
‫الذي قام به النساخ ‪.‬‬

‫املثال األخري الذي سأسوقه يف هذا التعرض املختصر يأتي من خمطوطة بيزا اليت‬
‫يرجع تارخيها إىل القرن اخلامس‪ ،‬وهي نفسها املخطوطة اليت حتوي قراءات‬
‫متباينة طريفة ومثرية للدهشة عن أيِّ خمطوطة أخرى‪ .‬يف اإلصحاح السادس من‬
‫لوقا‪ ،‬حيث يتهم الفرِّيسيون يسوع وتالميذه بانتهاك حرمة يوم السبت (‪:6‬‬
‫‪ ،)4 -1‬جند قصة إضافية يف خمطوطة بيزا تتكون من عددٍ واحد‪« :‬يف اليوم‬
‫ذاته رأى رجال يعمل يف السبت‪ ،‬وقال له‪« ،‬يا إنسان‪ ،‬لو كنت تعلم ما‬
‫تفعله‪ ،‬فأنت مبارك‪ ،‬لكن لو مل يكن عندك علم‪ ،‬فأنت ملعون ومنتهك‬
‫للشريعة»‪ .‬إن تفسريا كامال هلذه الفقرة غري املتوقعة وغري العادية يتطلب قدرا‬
‫كبريا من البحث(‪ .)128‬بالنسبة ألهدافنا يف هذا الفصل يكفي أن نالحظ أنَّ‬
‫يسوعَ واضحٌ للغاية يف هذه الفقرة على حنوٍ مل حيدث أبدا يف أي مكان آخر يف‬
‫األناجيل‪ .‬يف مواقف أخرى‪ ،‬عندما يتهم يسوع بانتهاك السبت‪ ،‬يدافع عن‬
‫أفعاله‪ ،‬لكنه أبدا ال يشري إىل أن أحكام الشريعة الواردة يف حق يوم السبت‬
‫يصرحُ يسوع بوضوح أنَّ أيَّ إنسانٍ يعرف‬
‫جيب أن ُتنََْتهَك‪ .‬أمَّا يف هذا العدد‪ِّ ،‬‬
‫أنَّ انتهاك السبت هو أمر شرعيٌّ ال غبار عليه هو إنسان مبارك إن فعل ذلك؛‬
‫هؤالء الذين ال يفهمون سبب شرعية انتهاك السبت هم فحسب املخطئون‪ .‬مرة‬

‫‪349‬‬
‫أخرى‪ ،‬هذه قراءة متباينة يبدو أنها ذات عالقة بظهور الروح املعادية لليهودية‬
‫يف الكنيسة املبكرة‪.‬‬

‫لقد رأينا حتى اآلن كيف أثّرت النزاعات الداخلية حول كنه العقيدة الصحيحة‬
‫أو إدارة الكنيسة (دور النساء) على النساخ املسيحيني األوائل‪ ،‬وكذلك كان‬
‫أيضًا للصراعات بني الكنيسة والكنيس اليهودي التأثري ذاته‪ ،‬فلقد لعبت‬
‫مشاعر الكراهية لليهود دورا يف الكيفية اليت نقل هؤالء النساخ النصوص اليت‬
‫أعلن يف النهاية أنها العهد اجلديد‪ .‬مل يكن على املسيحيني يف القرون األوىل أن‬
‫يتجادلوا مع اهلراطقة من داخل الكنيسة واليهود من خارجها فحسب‪ ،‬بل‬
‫وجدوا أنفسهم يف معركة مستعرة مع العامل أمجع‪ ،‬العامل الذي كان يتشكل‬
‫يف الغالب من الدخالء الوثنيني‪ .‬كلمة وثين يف هذا السياق‪ ،‬أي حينما‬
‫يستخدمها املؤرخون‪ ،‬ال حتمل أي مدلوالت سلبيّة‪ .‬فهي ببساطة تشري إىل أي‬
‫ٍّ من الديانات التعددية الكثرية يف هذا‬
‫شخص يف العامل القديم يؤمن بأي‬
‫العصر‪ .‬ومبا أنَّ هذا كان يشمل أيَّ شخصٍ من غري املسيحيني أو اليهود‪ ،‬فإننا‬
‫نتحدث عن قطاعٍ يشكل ‪ 93 – 91‬يف املائة من عدد سكان اإلمرباطورية‬
‫الرومانية‪ .‬كان الوثنيون أحيانًا يقاومون املسيحيني بسبب شكل عباداتهم غري‬

‫‪350‬‬
‫املعتاد وبسبب قبوهلم يسوع باعتباره ابن اهلل الذي جلب موته على الصليب‬
‫اخلالص؛ وأحيانا كانت هذه املقاومة تؤثر على النساخ املسيحيني الذين كانوا‬
‫يعيدون كتابة نصوص الكتاب املقدس ‪.‬‬

‫املقاومة الوثنية للمسيحية‬

‫تشري سجالتنا املبكرة إىل أنَّ حشود الوثنيني وحدها أحيانًا‪ ،‬وهم إىل جانب‬
‫السلطات يف أحيان أخرى كانوا يقاومون املسيحيني بطرقٍ عنيفة (‪.)129‬‬
‫بولس الرسول‪ ،‬على سبيل املثال‪ ،‬يف عدد من من العذابات اليت تعرض هلا‬
‫من أجل املسيح‪ ،‬حيكي أنَه يف ثالث مناسبات «تعرَّض للضرب بالعصيّ»‬
‫(‪2‬كور ‪ ،)25 :11‬الذي هو نوع من العقاب كانت السلطات احمللية الرومانية‬
‫حكِم عليهم بأنهم خطرين على اجملتمع‪ .‬وكما‬
‫تستخدمه ضد اجملرمني الذين ُ‬
‫رأينا‪ ،‬يكتب بولس يف رسالته األوىل اليت جنت من الضياع أنَّ كنيسة األمم‬
‫املسيحية اليت تنتمي إليه يف تسالونيكا قد «تَأََّلمَْوا ُهمَْ أَيَْضًا ِمنَْ َأ َْهلِ عَشِريَِت ُهمَْ‬
‫المَ عَيََْنهَا َكمَا ُهمَْ (أي كنيسة اليهودية) َأيَْضًا مِنَ ا ْلَيهُودِ «(‪1‬‬
‫ِت ْلكَ اآل َ‬
‫تسالونيكي ‪).14 :2‬‬

‫يف املوقف األخري‪ ،‬يبدو أن التعذيب الذي تعرض له مل يكن «رمسيا» وإمنا‬
‫كان نتاجًا لنوع من العنف اجلماهريي‪ .‬يف احلقيقة‪ ،‬معظم املعارضة الوثنية‬
‫للمسيحيني أثناء القرنيني األوليني من عمر الكنيسة حدثت على املستوى‬
‫‪351‬‬
‫اجلماهري أكثر من كونها جاءت نتيجة الضطهاد روماني حكوميٍ منظَّم‪ .‬فعلى‬
‫خالف ما يبدو أنَّ كثريًا من الناس يعتقدونه‪ ،‬مل يكن مثة يف املسيحية ذاتها أي‬
‫شيء «غري قانوني» يف خالل هذه السنوات املبكرة‪ .‬فاملسيحية ذاتها مل تكن‬
‫حمظورة‪ ،‬ومل يكن املسيحيون غالبا يف حاجة إىل التخفِّي‪ .‬وفكرة أنهم كان‬
‫لزامًا عليهم أن خيتفوا يف املقابر الرومانية لتجنب االضطهادات‪ ،‬وأن حييِّي‬
‫بعضهم البعض بإشارات سرية مثل رمز السمكة‪ ،‬ليست إال جمموعة من‬
‫األساطري‪ .‬مل يكن مثة أيُّ خرقٍ للقانون يف اإلميان بيسوع أو يف عبادة إله‬
‫ٍّ (يف معظم األماكن)‬
‫اليهود‪ ،‬أو يف تأليه يسوع‪ ،‬ومل يكن مثة شيء غري شرعي‬
‫يف إقامة االجتماعات للصالة أو االجتماعات األخوية‪ ،‬أو يف إقناع اآلخرين‬
‫بأن يؤمنوا بأنَّ املسيح هو ابن اهلل‪.‬‬

‫وعلى الرغم من ذلك كان املسيحيون أحيانا يتعرضون لالضطهاد‪ .‬فلماذا‬


‫حدث ذلك؟‬

‫ملعرفة السبب وراء ما تعرض له املسيحيون من اضطهاد‪ ،‬من املهم أن نعرف‬


‫شيئا عن الديانات الوثنية يف داخل اإلمرباطورية الرومانية‪ .‬هذه الديانات مجيعا‬
‫ـ وكان تعدُّ باملئات ـ كانت تؤمن بتعدد اآلهلة‪ ،‬وتتوجه بالعبادة إىل آهلة كثرية؛‬
‫وكلها كان يؤكِّد على ضرورة عبادة هذه اآلهلة عرب أفعال الصالة والقرابني‪ .‬يف‬
‫أغلب األحيان‪ ،‬مل تكن هذه اآلهلة تُعَْبد لكي تضمن لعبَّادها السعادة يف احلياة‬

‫‪352‬‬
‫اآلخرة؛ لقد كان الناس‪ ،‬يف العادة‪ ،‬أكثر قلقا خبصوص احلياة الدنيا اليت‬
‫كانت بالنسبة للغالبية العظمى من الناس قاسية وحمفوفة باملخاطر يف أفضل‬
‫األحوال‪ .‬لقد كانت اآلهلة توفِّر للبشر ما كان يستحيل عليهم أن يوفروه‬
‫ألنفسهم ـ فاحملصول توفر له النماء‪ ،‬واملاشية توفر هلا الغذاء وما يكفي من‬
‫األمطار وتوفر كذلك الصحة الشخصية واحلياة الرغدة والقدرة على اإلجناب‪،‬‬
‫وحتقيق النصر يف احلرب والرخاء يف السلم‪ .‬كانت اآلهلة حتمي الدولة وترفع‬
‫من شأنها؛ وكان مبقدور اآلهلة أن تتدخل لكي جتعل احلياة جديرة بأن تعاش‬
‫ولتجعل العمر مديدا وسعيدا‪ .‬وهي تفعل كل ذلك يف مقابل حركات بسيطة‬
‫متثل نوعًا من العبادة ـ عبادة على مستوى الدولة أثناء األعياد القومية متجيدا‬
‫لآلهلة‪ ،‬وعبادة على مستوى اجلماهري يف اجملتمعات والعائالت ‪.‬‬

‫وعندما تسوء األمور بظهور نذر احلروب أو اجلفاف‪ ،‬أو اجملاعات‪ ،‬أو‬
‫األمراض‪ ،‬فإن هذا رمبا يكون عالمة على سخط اآلهلة على الطريقة اليت‬
‫يكرمونها بها‪ .‬يف مثل هذه األوقات‪ ،‬من كان يقع عليه اللوم بسبب الفشل يف‬
‫متجيد اآلهلة؟ بالتأكيد هؤالء الذين رفضوا أن خيضعوا هلا بالعبادة‪ .‬إنهم‬
‫املسيحيون ‪.‬‬

‫واليهود بطبيعة احلال كانوا هم أيضا ال يعبدون آهلة الوثنيني‪ ،‬لكنهم كانوا‬
‫ينظر إليهم على نطاق واسع باعتبارهم مستثنني من عبادة آهلة الوثنيني اليت‬

‫‪353‬‬
‫كانت أمرا ملزمًا جلميع البشر‪ ،‬حيث كان اليهود شعبًا مميزا بتقاليده اآلبائية‬
‫اليت كانوا يتبعونها بإخالص(‪ .)131‬وعندما ظهر املسيحيون على مسرح‬
‫التاريخ مل يُعََْت َرفَْ بهم باعتبارهم شعبًا منفصال مميزا عن غريه‪ ،‬فلقد كانوا إما‬
‫مرتدين عن اليهودية أو ضمن النطاق الواسع من الديانات الوثنية اليت كانت‬
‫ال توجد بني أفرادها أي روابط دم أو من أي رابط آخر فيما عدا جمموعة‬
‫االعتقادات واملمارسات الدينية اخلاصة بهم‪ .‬باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬كان معروفًا‬
‫عن املسيحيني أنهم غري اجتماعيني‪ ،‬فهم جيتمعون معًا يف كنائسهم‪ ،‬ويهجرون‬
‫عائالتهم وأصدقائهم القدامى‪ ،‬وال يشاركون يف أعياد العبادة اليت حيتفل بها‬
‫عامة الشعب ‪.‬‬

‫كان املسيحيون‪ ،‬من ثمَّ‪ ،‬عرضة لالضطهاد ألنهم كان ينظر إليهم ميثلون‬
‫ضررًا حلياة اجملتمع الصحية‪ ،‬لسببني أوهلما أنهم يرتفعون عن عبادة اآلهلة اليت‬
‫حتمي اجملتمع وثانيًا ألنهم يعيشون معًا بطرق بدت غري اجتماعية‪ .‬وحينما تنزل‬
‫بالناس الكوارث‪ ،‬أو حينما خيشى الناس أن تنزل بهم الكوارث‪ ،‬فمن يا ترى‬
‫غري املسيحيني سيحمِّلونه إثم ما يقع؟‬

‫أما حكام الواليات املتعددة من الرومانيني‪ ،‬ناهيك عن اإلمرباطور نفسه‪،‬‬


‫فنادرًا ما يتدخلون يف مثل هذه الشئون احملليّة‪ .‬وعندما فعلوا‪ ،‬تعاملوا ببساطة‬
‫مع املسيحيني كشرحية اجتماعية خطرة البد من سحقها‪ .‬كان املسيحيون يف‬

‫‪354‬‬
‫العادة مينحون الفرصة لتخليص أنفسهم من خالل عبادة اآلهلة بالطرق املطلوبة‬
‫منهم (من خالل تقديم البخور إىل أحد اآلهلة‪ ،‬على سبيل املثال)؛ فإذا‬
‫رفضوا‪ ،‬كان ينظر إليهم باعتبارهم مثريي قالقل ومتمردين وكانوا يعاملون‬
‫على هذا األساس ‪.‬‬

‫باقرتاب منتصف القرن الثاني امليالدي‪ ،‬بدأ املسيحيون يلفتون انتباه املفكرين‬
‫الوثنيني الذين هامجوهم يف مقاالت كتبت خصيصًا للرد عليهم‪ .‬هذه األعمال‬
‫مل ترسم صورة سلبية املسيحيني أنفسهم فحسب‪ ،‬وإمنا أيضًا هامجت‬
‫املعتقدات املسيحية باعتبارها معتقدات مثرية للسخرية (فهم على سبيل املثال‬
‫يدعون عبادة إله اليهود يف حني يرفضون االلتزام بالشريعة اليهودية!) وبدأوا‬
‫يف الغمز واللمز باملمارسات املسيحية باعتبارها ممارسات شائنة‪ .‬خبصوص‬
‫النقطة األخرية تلك‪ ،‬كان يالحظ أحيانا أنَّ املسيحيني جيتمعون حتت حجب‬
‫الظالم‪ ،‬وينادي أحدهم اآلخر بالـ «أخ» و«األخت» وحييِّي أحدهم اآلخر‬
‫بتبادل القبالت؛ وكان يقال عنهم إنهم يعبدون إهلهم من خالل أكلهم جسد‬
‫ابنه وشربهم دمه‪ .‬ماذا كان على املرء أن يفعل حيال مثل هذه املمارسات؟ لو‬
‫أنَّه بإمكانك أن تتصور االحتمال األسوأ‪ ،‬فلن تكون قد أبعدت النجعة‪.‬‬
‫خصوم املسيحيني من الوثنيني ادعوا أنَّ املسيحيني مارسوا زنا احملارم (أي‬
‫عالقات جنسية بني األخوة وأخواتهن)‪ ،‬ومارسوا قتل األطفال (من األبناء)‪،‬‬

‫‪355‬‬
‫ٍّ تعبُّدي‪ .‬هذه‬
‫وأكل حلوم البشر (أكل اجلسد وشرب دمه) يف شكل طقوسي‬
‫االتهامات رمبا تبدو غري قابلة للتصديق يف أيامنا هذه‪ ،‬لكنها يف جمتمع كان‬
‫حيرتم احلشمة والصراحة‪ ،‬كانت مقبولة على نطاق واسع‪ .‬لقد كان املسيحيون‬
‫ينظر إليهم على أنهم صنف شرير ‪.‬‬

‫يف ميدان اهلجمات الفكرية على املسيحيني‪ ،‬كان مثّة اهتمام ملحوظ‬
‫بيسوع(‪ .)131‬كمؤسس هلذا اإلميان اجلديد سئ السمعة جمتمعيًّا‪ .‬حيث أشار‬
‫الكتاب الوثنيون إىل أصله الوضيع وانتمائه إىل الطبقة الدنيا تقريعًا للمسيحيني‬
‫وسخرية بهم من أجل اعتقادهم بأنه كان مستحقا للعبادة ككائن إهلي‪ .‬كان‬
‫يقال إنَّ املسيحيني يعبدون جمرمًا مصلوبًا‪ ،‬ثم بغباء يؤكدون أنه كان بطريقة ما‬
‫كائنا إهليا ‪.‬‬

‫بعض هؤالء الكتَّاب‪ ،‬بدءًا من قرابة نهاية القرن الثاني‪ ،‬قرأ بالفعل كتابات‬
‫األدب املسيحيّ لكي يفهمهم على حنوٍ أفضل‪ .‬فكما قال سيلزس الناقد الوثين‬
‫ذات يوم‪ ،‬خبصوص أساس هجومه على املعتقدات املسيحية ‪:‬‬

‫هذه االعرتاضات تأتي من داخل كتاباتكم‪ ،‬ولسنا يف حاجة إىل شهود أخرين‪:‬‬
‫فأنتم بأنفسكم متنحوننا ما به نبطل إميانكم (ضد سيلزس ‪) 74 ،2‬‬

‫‪356‬‬
‫هذه الكتابات كانت أحيانا شديدة التهكم والسخرية‪ ،‬مثل ما جنده يف كلمات‬
‫الوثين «بورفراي»‪ :‬لقد كان كتبة األناجيل كتَّابٌ مزيفون ـ مل يكونوا معاينني‬
‫وال شهود عيان حلياة يسوع‪ .‬فكلُّ واحدٍ من املؤلفني األربعة يناقض اآلخر يف‬
‫روايته ألحداث معاناة يسوع وصلبه (ضد املسيحيني ‪). 132()15 -12 ،2‬‬

‫ردا على هذا النوع من اهلجمات‪ ،‬وادعاءات الوثين سيلزس‪ ،‬حرَّف النُسَّاخ‬
‫املسيحيون نصوصهم لكي يتخلصوا من املشكالت اليت ينتبه إليها املتمرسون‬
‫من اخلصوم اخلارجيني ‪:‬‬

‫«بعض املؤمنني يتصرفون كما لو كانوا يف جملس الحتساء الشراب‪ ،‬يذهبون‬


‫بعيدا إىل درجة التناقض مع أنفسهم‪ ،‬فيغريون النص األصلي لإلجنيل ثالث‬
‫مرات أو أربع أو عدد أكرب من ذلك من املرات‪ ،‬ويغريون أسلوبه مبا ميكّنهم من‬
‫إنكار الصعوبات متى وُجِّه النقد إليهم «(ضد سيلزس ‪) 27 .2‬‬

‫كما هو واضح‪ ،‬لسنا حباجة لالستشهاد خبصوم املسيحية من الوثنيني لكي جند‬
‫دليال على أن النساخ كانوا أحيانا يغريون النصوص على ضوء املعارضة الوثنية‬
‫لإلميان‪ .‬فهناك مواضع داخل خمطوطات العهد اجلديد احملفوظة إىل اآلن تظهر‬
‫هذا النوع من ميل النساخ إىل عمل ذلك(‪). 133‬‬

‫‪357‬‬
‫قبل أن نبدأ يف التعرض لبعض الفقرات املتعلقة بهذا األمر‪ ،‬ينبغي أن أشري إىل‬
‫أنَّ تلك االتهامات الوثنية املوجهة للديانة املسيحية ومؤسسها مل متر بال رد من‬
‫اجلانب املسيحي‪ .‬على العكس‪ ،‬فمع بداية حتول أصحاب الفكر لإلميان‬
‫باملسيحية‪ ،‬بداية من منتصف القرن الثاني امليالدي‪ ،‬بدأ عددٌ كبريٌ من‬
‫الدفاعات املنطقية‪ ،‬اليت عرفت حتت اسم الدفاعيات‪ ،‬يف الظهور من خالل‬
‫أقالم املسيحيني‪ .‬بعض هؤالء الكتاب املسيحيني معروفون جيدًا لدارسي‬
‫املسيحية األوىل‪ ،‬مثل جستينوس الشهيد‪ ،‬وترتليانوس‪ ،‬وأورجيانوس؛‬
‫والبعض اآلخر أقل شهرة ولكنهم ليسوا أقل متيزا يف دفاعهم عن العقيدة‪ .‬من‬
‫هؤالء «أثيناجوراس‪ ،‬وأريستيدس‪ ،‬واملؤلف اجملهول الذي كتب اخلطاب‬
‫املوجه إىل «ديوجنتس» (‪ .)134‬عمل هؤالء العلماء كمجموعة على إظهار‬
‫الضالل يف حجج خصومهم الوثنيني‪ ،‬دافعني بأنه على خالف الزعم القائل‬
‫خبطورة املسيحية على اجملتمع‪ ،‬فإنها هي الصمغ الذي يبقي اجملتمع متماسكًا؛‬
‫مصرِّين ليس فقط على أن الديانة املسيحية هي ديانة عقالنية‪ ،‬بل أيضًا على‬
‫أنها الديانة احلقة الوحيدة اليت شهدها العامل؛ زاعمني أنَّ املسيح كان بالفعل‬
‫االبن احلقيقي هلل‪ ،‬الذي جلب موته اخلالص؛ جمتهدين يف الدفاع عن طبيعة‬
‫الكتابات املسيحية األوىل على أنها حقيقية وموحى بها‪.‬‬

‫‪358‬‬
‫كيف أثَّرت هذه احلركة الدفاعية(عن اإلميان) خالل العصور األوىل للمسيحية‬
‫على نسّاخ القرنني الثاني والثالث الذين كانوا ينسخون نصوص العقيدة؟‬

‫رغم أنين مل أذكر ذلك يف حينه‪ ،‬إال أننا رأينا بالفعل نصًّا يبدو أنه قد تعرض‬
‫للتعديل على أيدي النسّاخ ألسباب دفاعيّة‪ .‬فكما رأينا يف الفصل اخلامس‪،‬‬
‫كان العدد ‪ 41 :1‬من إجنيل مرقس يشري يف األصل إىل أنه عندما اقرتب جمزومٌ‬
‫من يسوع طلبا للشفاء‪ ،‬غضب يسوع ومد يده ليلمسه‪ ،‬وقال «فلتطهر»‪ .‬وجد‬
‫النسَّاخ صعوبة يف نسبة شعور الغضب ليسوع يف هذا السياق‪ ،‬فعدَّلوا النص‬
‫ليقول‪ ،‬بدال من ذلك‪ ،‬إن يسوع حتنن على الرجل ‪.‬‬

‫من املمكن أن يكون ما دفع النسّاخ لتغيري النص شيء أكثر من جمرد رغبة‬
‫بسيطة يف تسهيل فهم مقطع صعب‪ .‬أحد نقاط اخلالف الدائمة بني منتقدي‬
‫املسيحية من الوثنيني وبني مفكريها املدافعني عنها تتعلق بسلوك املسيح‪ ،‬وما‬
‫إذا كان قد تصرف على حنوٍ يليق بشخص ادَّعى أنه ابن اهلل‪ .‬جيب أن أؤكد أنَّ‬
‫ذلك مل يكن خالفًا حول إمكانية تصور أنَّ كائنًا بشريًّا ميكن أيضًا أن تكون له‬
‫طبيعة إهلية بشكل ما‪ .‬فتلك نقطة كانت حمل اتفاق بني الوثنيني واملسيحيني‬
‫بشكل تام‪ ،‬حيث يعرف الوثنيون أيضًا قصصًا حتول فيها كائنٌّ إهليٌّ إىل بشريِّ‬
‫وتعامل مع اآلخرين هنا على األرض‪ .‬القضية كانت هل تصرف يسوع بهذا‬
‫‪359‬‬
‫الشكل الذي يربر االعتقاد بأنَّه واحد من هذا النوع‪ ،‬أم‪ ،‬على العكس من‬
‫ذلك‪ ،‬كان ملواقفه وتصرفاته دورًا يف استبعاد إمكانية أن يكون بالفعل ابنا هلل‬
‫(‪).135‬‬

‫يف تلك الفرتة كان االعتقاد السائد بني الوثنيني هو أن اآلهلة ال تعرتيها املشاعر‬
‫التافهة والنزوات اليت تعرتي اإلنسان الفاني‪ ،‬وأنهم يف احلقيقة أمسى من تلك‬
‫األشياء(‪ .)136‬كيف ميكن للمرء‪ ،‬إذن‪ ،‬أن حيدد ما إذا كان شخصٌ ما له‬
‫طبيعة إهلية أم ال؟ من البديهي أن هذا الشخص سيكون عليه إظهار قدرات‬
‫(مادية أو فكرية) فوق طاقة البشر؛ ولكنه حيتاج أيضًا ألن يتصرف بشكل‬
‫يتواءم مع الزعم بأنه قد نشأ يف العامل اإلهلي‪.‬‬

‫لدينا عددٌ من الكُتَّاب من تلك الفرتة يصرون على أن اآلهلة ال «تغضب» ألن‬
‫الغضب عاطفة إنسانية تنشأ عن اإلحباط من اآلخرين أو عن اإلحساس‬
‫باخلطأ‪ ،‬أو عن سبب وضيع آخر‪ .‬يستطيع املسيحيون بالطبع أن يدفعوا بأن‬
‫اإلله قد غضب على خلقه بسبب سوء تصرفهم‪ .‬إال أن اإلله املسيحي هو‬
‫اآلخر منزه عن أي سلوك ينم عن سرعة الغضب‪ .‬ففي تلك القصة عن يسوع‬
‫واجملذوم ال يوجد سبب بيِّن ألن يغضب يسوع‪ .‬فإذا أخذنا يف االعتبار أنَّ النص‬
‫مت تعديله خالل الفرتة اليت كان الوثنيون واملسيحيون يتجادلون فيها حول ما‬
‫إذا كان يسوع قد حرص على التصرف بطريقة تتسق مع طبيعته اإلهلية‪ ،‬فمن‬

‫‪360‬‬
‫احملتمل بقوة أن يكون أحد النساخ قد غيَّر النص على ضوء ذلك اخلالف‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬بعبارة أخرى‪ ،‬من املمكن أن يكون قراءة متباينة وقعت ألسباب دفاعية ‪.‬‬

‫حتريفٌ آخر مشابه يأتي بعد ذلك بعدة إصحاحات يف إجنيل مرقس‪ ،‬ففي‬
‫حادثة مشهورة يتعجب فيها سكان املدينة اليت يعيش فيها يسوع أنفسهم من‬
‫قدرته على التفوُّه بتلك التعاليم العجيبة‪ ،‬والقيام بتلك املعجزات‪ .‬أو كما‬
‫يعربون عن دهشتهم‪َ« ,‬ألَ َْيسَ َهذَا هُوَ النَّجَّارَ ابَْنَ مَرََْيمَ َوَأخَا َيعَْقُوبَ وَيُوسِي‬
‫وََيهُوذَا وَ ِسمَْعَانَ؟ أَوََليَْ َستَْ َأخَوَاُتهُ َههُنَا عِ َْندَنَا؟ (مرقس ‪ .)3 :6‬كيف ميكن‪،‬‬
‫يتساءلون هم‪ ،‬لشخص تربى كواحد منهم وأسرته معروفة لديهم‪ ،‬أن يكون‬
‫قادرًا على القيام مبثل هذه األشياء؟‬

‫هذه هي الفقرة األوىل والوحيدة يف العهد اجلديد اليت يطلق فيها على يسوع أنه‬
‫جنار‪ .‬اللفظة املستخدمة )‪ (TEKTON‬تنطبق يف النصوص اليونانية األخرى‬
‫بصورة منطية على أيِّ شخصٍ يعمل بيديه؛ أمَّا يف الكتابات املسيحية املتأخرة‪،‬‬
‫على سبيل املثال‪ ،‬يقال عن يسوع إنه صنع «حماريث وبوابات»(‪ .)137‬فال‬
‫ينبغي أن نفكر فيه على أنه كان شخصا يصنع أثاثًا فاخرًا‪ .‬حيتمل أن تكون‬
‫الطريقة الفضلى لكي «نشعر» مبا تعنيه تلك الكلمة هو أن نشبهها بشيء لدينا‬
‫خربة كبرية به؛ فاألمر أشبه بأن نقول على يسوع أنه عامل بناء‪ .‬فكيف ميكن‬
‫لشخص هذه خلفيته أن يكون ابنا هلل؟‬

‫‪361‬‬
‫لقد كان هذا سؤالًا يأخذه خصوم املسيحية من الوثنيني مأخذ اجلد؛ فهم‪ ،‬يف‬
‫ٍّ‪ :‬يسوع ال ميكن أن يكون ابنا هلل إن‬
‫احلقيقة‪ ،‬فهموا املسألة على حنوٍ منطقي‬
‫كان جمرد جنار‪ .‬الناقد الوثين «سيلزس» سخر من املسيحيني من أجل هذه‬
‫النقطة حتديدًا‪ ،‬حيث ربط بني الزعم بأن املسيح كان «جنارًا» وبني كونه قد‬
‫صلب (على وتد من اخلشب) وبني اإلميان املسيحي بـ «شجرة» احلياة ‪.‬‬

‫وكلما حتدثوا يف كتاباتهم عن شجرة احلياة‪ ..‬أختيل أن سبب ذلك هو أن‬


‫سيدهم قد مت تثبيته على الصليب باملسامري‪ ،‬وأنه كان يعمل جنارًا‪ .‬فلو تصادف‬
‫أنه ألقي به من على منحدر أو إىل حفرة أو تعرض للشنق‪ ،‬أو لو كان إسكافيًا‬
‫أو بناءًا أو حدادًا‪ ،‬لكان مثة منحدر للحياة فوق السماوات‪ ،‬أو حفرة للقيامة‪،‬‬
‫أو حبل للخلود‪ ،‬أو حجر مبارك‪ ،‬أو حديد للمحبة‪ ،‬أو جِلد مقدس‪ .‬لو كان‬
‫مثة امرأة عجوز تغين حكاية قبل النوم لطفلها‪ ،‬أما كانت لتخجل من اهلمس‬
‫مبثل هذه القصص؟ (ضد سيلزس ‪).34 ،6‬‬

‫أورجيانوس‪ ،‬اخلصم املسيحي لسيلزس‪ ،‬كان ينبغي عليه أن يأخذ تلك التهمة‬
‫‪ -‬أن يسوع كان جمرد «جنار» – على حممل اجلدِّ‪ ،‬لكنَّ العجيب أنه مل يتعامل‬
‫معها من خالل بيان خطئها (وهو اإلجراء املعتاد منه)‪ ،‬بل أنكرها متامًا‪:‬‬

‫«عجز سيلزس عن إدراك أنه ال يوجد يف أي من األناجيل املوجودة يف‬


‫الكنائس اآلن وصف ليسوع نفسه على أنه جنار»‪( .‬ضد سيلزس ‪).36 ،6‬‬
‫‪362‬‬
‫ماذا ميكننا أن نستنتج من هذا اإلنكار؟ إما أن أورجيانوس نسي كل ما يتعلق‬
‫بالعدد مرقس ‪ 3 :6‬أو أنه كانت لديه نسخة من النص ال تشري إىل يسوع‬
‫باعتباره جنارًا‪ .‬وكما سيتضح‪ ،‬يوجد لدينا خمطوطات حتتوي على هذا القراءة‬
‫البديلة حتديدًا‪ .‬ففي أقدم خمطوطاتنا إلجنيل مرقس‪ ،‬املسماة‪ ، P45‬واليت‬
‫يرجع تارخيها إىل أوائل القرن الثالث (أي العصر الذي عاش فيه أورجيانوس)‪،‬‬
‫ويف شواهد الحقة كثرية‪ ،‬جند أنَّ هذا النص له قراءة خمتلفة‪ .‬ففيه يسأل مواطنو‬
‫البلد الذي يعيش فيه يسوع‪« :‬أليس هذا هو ابن النجار»؟ اآلن‪ ،‬بدلًا من كون‬
‫يسوع نفسه جنارًا‪ ،‬فإنه ابن النجار فحسب(‪). 138‬‬

‫ومثلما كما كان لدى أورجيانوس أسبابًا دفاعية دفعته إىل إنكار أن يكون يسوع‬
‫قد وصف بأنه جنار يف أيِّ موضعٍ من الكتاب املقدس‪ ،‬فمن احملتمل أن يكون‬
‫أحد النسّاخ قد عدَّل النص ‪ -‬جاعلًا إياه أكثر اتفاقًا مع النص املوازي له يف‬
‫متى ‪ - 55 :13‬بهدف إبطال تهمة الوثين القائلة إن يسوع ال ميكن أن‬
‫يكون ابنا هلل ألنه كان‪ ،‬أوال وأخريًا‪ ،‬جمرد حريف )‪ (TEKTON‬من الطبقة‬
‫الدنيا ‪.‬‬

‫فقرة أخرى تناقش صلب يسوع يبدو أنها قد تعرضت للتغيري ألسباب دفاعيّة‬
‫هي لوقا ‪ .32 :23‬الرتمجة اإلجنليزية للفقرة يف النسخة القياسية املنقحة‬
‫اجلديدة من العهد اجلديد تـُقرأ كالتالي‪« :‬شخصان آخران أيضًا‪ ،‬وقد كانا‬

‫‪363‬‬
‫جمرمَني‪ ،‬مت اقتيادهما ليعدما معه» ولكن الطريقة اليت صيغت بها الفقرة يف‬
‫اليونانية ميكن ترمجتها أيضا كالتالي‪« :‬شخصان آخران‪ ،‬كانا جمرمني أيضا‪ ،‬مت‬
‫اقتيادهما ليعدما معه»‪ .‬وإذا أخذنا االلتباس املوجود يف النص اليوناني يف‬
‫االعتبار‪ ،‬فليس من املفاجئ أن يكون بعض النساخ قد وجدوا أنه من‬
‫الضروري‪ ،‬ألسباب دفاعيّة‪ ،‬إعادة ترتيب الكلمات لتقرر بدون التباس أن‬
‫اآلخرّيَْن فحسب‪ ،‬وليس يسوع أيضًا‪ ،‬هما اجملرمان ‪.‬‬

‫توجد تغيريات أخرى يف التقليد املكتوب يبدو أنَّ الدافع إىل وقوعها هو الرغبة‬
‫ٍّ من‬
‫يف إظهار أنَّ يسوع‪ ،‬باعتباره ابنا حقيقيًّا هلل‪ ،‬ال ميكن أن يكون خمطئًا يف أي‬
‫أقواله‪ ،‬خاصة ما كان منها متعلقًا باملستقبل (حيث إن ابن اهلل‪ ،‬أولًا وأخريًا‪،‬‬
‫ينبغي له أن يعرف ما هو مزمع أن حيدث)‪ .‬رمبا كان ذلك هو ما أدَّى إىل وقوع‬
‫التغيري الذي تعرضنا له بالفعل يف متَّى ‪ ،36 :24‬حيث يقرر يسوع صراحةً‬
‫أنه ال أحد يعرف اليوم وال الساعة اليت تأتي فيها النهاية‪« ،‬وال حتى مالئكة‬
‫السماء‪ ،‬وال االبن‪ ،‬إال األب»‪ .‬عدد ال بأس به من خمطوطاتنا يقوم بإسقاط‬
‫«وال حتى االبن»‪ .‬وليس من الصعب ختمني السبب؛ فإن كان يسوع ال يعرف‬
‫الغيب‪ ،‬فإنَّ الزعم املسيحي بألوهيَّته يتعرض إىل قدر ال يستهان به من‬
‫التشكيك ‪.‬‬

‫‪364‬‬
‫مثال آخر أقل وضوحًا جنده بعد ذلك بثالثة فصول يف مشهد الصلب عند متى‪.‬‬
‫يقال لنا يف متَّى ‪ 34 :27‬إنَّ يسوع عندما كان معلقا على الصليب‪ُ ،‬أ َْعطِيَ‬
‫نبيذًا ممزوجا باملُر ليشربه‪ .‬إال أنَّ عددًا كبريًا من املخطوطات يشري‪ ،‬مع ذلك‪،‬‬
‫إىل أنه أعطي خَال ال نبيذًا‪ .‬من املمكن أن يكون التغيري قد أدخل بهدف جعل‬
‫النص متفقا على حنوٍ أفضل مع العبارة املوجودة يف العهد القديم واليت مت‬
‫اقتباسها لشرح احلدث‪ .‬لكنَّ املرء بإمكانه أن يتساءل ما إذا كان شيء آخر قد‬
‫مثَّل حافزًا للنسَّاخ أيضا‪ .‬من الطريف أن نالحظ أنَّه يف العشاء األخري‪ ،‬يف متى‬
‫‪ ،29 :26‬بعد أن يوزع يسوع كأس اخلمر على أتباعه‪ ،‬يقرر بوضوح أنه لن‬
‫يشرب النبيذ مرة أخرى إال حينما يشربها يف مملكة أبيه‪ .‬فهل كان املقصود من‬
‫التغيري يف ‪ 34 :27‬من النبيذ إىل اخلل هو محاية تلك النبوءة‪ ،‬حبيث تكون‬
‫احلقيقة الثابتة أنه مل يذق النبيذ بعد أن ادعى أنه لن يفعل؟‬

‫أو رمبا نلقي الضوء على التحريف الذي وقع لنبوءة يسوع أمام كبري الكهنة‬
‫اليهودي أثناء حماكمته يف مرقس ‪ .62 :14‬عندما سُئِل عما إذا كان هو‬
‫املسيح‪ ،‬ابن املبارك‪ ،‬أجاب يسوع‪« :‬أَنَا هُوَ‪ .‬وَسَوَْفَ ُتبَْصِرُونَ اَْبنَ اإلِنَْسَانِ‬
‫السمَاءِ» واليت يرى العلماء املعاصرون‬
‫جَالِسًا عَنَْ َيمِنيِ الْقُوَّةِ وَآتِيًا فِي سَحَابِ َّ‬
‫على نطاق واسع أنها تعترب جتسيدا‪ ،‬أو تكاد‪ ،‬لقول نسبته ليسوع صحيحة‪،‬‬
‫هذه الكلمات شكلت مصدرًا لعدم االرتياح لدى الكثريين من املسيحيني منذ‬

‫‪365‬‬
‫وقت قريب من نهاية القرن األول‪ .‬ألن ابن اإلنسان مل يأت أبدًا على سحب‬
‫السماء‪ .‬فلماذا إذن تنبأ يسوع أنَّ كبري الكهنة نفسه سرياه قادمًا؟ اجلواب‬
‫التارخيي رمبا كان أن يسوع بالفعل ظن أن كبري الكهنة سرياه‪ ،‬أي أنَّ ذلك‬
‫سيحدث يف أثناء حياته‪ .‬إال أنَّه من الواضح‪ ،‬وذلك من سياق الكتابات‬
‫الدفاعية من القرن الثاني‪ ،‬أن هذا األمر كان من املمكن أن يؤخذ على أنه‬
‫نبوءة كاذبة‪ .‬ليس عجيبًا إذن أنَّ أقدم شاهد لدينا إلجنيل مرقس يتم فيه تعديل‬
‫هذه الفقرة من خالل التخلص من الكلمات املزعجة‪ ،‬لكي يصري قول يسوع‬
‫اآلن إنَّ كبري الكهنة سوف يرى ابن اإلنسان جالسًا على ميني القوة مع سحب‬
‫السماء‪ .‬وهكذا مل يبق أي ذكر للظهور الوشيك للشخص الذي‪ ،‬يف واقع‬
‫األمر‪ ،‬مل يأت أبدًا ‪.‬‬

‫يف اجململ‪ ،‬يبدو أنَّ عددًا من فقرات املخطوطات احملفوظة لدينا جتسد‬
‫املشكالت الدفاعية اليت واجهها املسيحيون األوائل‪ ،‬خاصة تلك اليت تتعلق‬
‫بيسوع نفسه مؤسس اإلميان‪ .‬وكما هو احلال مع النزاعات الالهوتية اليت‬
‫وقعت يف الكنيسة األوىل‪ ،‬ومسألة دور املرأة‪ ،‬والنزاعات مع اليهود‪ ،‬فكذلك‬
‫كان احلال فيما خيص النزاعات اليت اشتعلت بني املسيحيني وبني شانئيهم من‬
‫الوثنيني املثقفني‪ :‬كل تلك اخلالفات كان هلا تأثري يف النصوص اليت كان مقدرًا‬
‫هلا أن تكون يف النهاية جزءًا من الكتاب الذي نسميه اآلن العهد اجلديد وذلك‬

‫‪366‬‬
‫ألنَّ هذا الكتاب – أو باألحرى جمموعة الكتب تلك – متَّ نسخه اعتمادًا على‬
‫جمموعة من النسّاخ غري احملرتفني يف القرنني الثاني والثالث‪ ،‬وبني الفينة والفينة‬
‫تعرض‪ ،‬يف ضوء الظروف احمليطة بهم يف هذا العصر‪ ،‬للتحريف ‪.‬‬

‫‪367‬‬
‫)‪(117‬انظر كتاب العهد اجلديد لبارت إيرمان‪ ،‬الفصل ‪ ،24‬حيث اعتمدت على هذا الفصل يف معظم الدراسة التالية‪.‬‬
‫لالطالع على دراسة هلذا األمر ولتوثيق أكثر تفصيال‪ ،‬انظر كتاب‪« :‬النساء واألصول املسيحية» ملؤلفيه روس كرامير وماري‬
‫روز دوأجنيلو‪ ،‬من إصدارات أكسفورد‪ ،‬نيويورك‪ ،‬عام ‪ .1999‬وانظر أيضا كتاب‪« :‬شراكتها يف النعمة‪ :‬العقائد املتعلقة‬
‫بالنساء عند اليهود‪ ،‬الوثنيني‪ ،‬واملسيحيني يف العامل اليوناني الروماني» للمؤلف ر‪ .‬كرامير‪ ،‬إصدار أكسفورد ‪.1992‬‬
‫وكذلك كتاب‪« :‬عندما كنَّ قساوسة‪ :‬رئاسة املرأة يف الكنيسة األوىل وفضيحة خضوعها عند صعود املسيحية» ملؤلفته كارن‬
‫ج‪ .‬تورجيسني من مطبوعات هاربر سان فرانسيسكو عام ‪.1993‬‬

‫)‪(118‬ملناقشة أكثر إسهابا‪ ،‬انظر كتاب «يسوع‪...‬النيب الرؤوي لأللفية اجلديدة» لـ بارت إيرمان‪ ،‬ص‪.191 -188‬‬

‫)‪(119‬انظر كتاب «العهد اجلديد»‪ ،‬لـ بارت إيرمان‪ ،‬الفصل ‪.23‬‬

‫يشري القوس إىل أن املؤلف يشكك يف صحة نسبة هذا العدد إىل بولس الرسول‪.‬‬

‫)‪(120‬ملناقشة أكثر تفصيال تظهر أن بولس مل يكتب العددين ‪ ،35 ،34‬انظر على وجه اخلصوص تفسري جوردن د‪ .‬يف‬
‫املعنون بـ «الرسالة األوىل إىل أهل كورنثوس»‪ ،‬من مطبوعات إيدرمانس‪ ،‬جراندر رابيدز‪ ،‬عام ‪.1987‬‬

‫)‪(121‬أكثر املناقشات املعاصرة تفصيال هي تلك اليت قام بها إلدون جاي إبب يف اجلزء املعنون بـ «العوامل املتعلقة بالنقد‬
‫النصي و التفسريي وتلك املتعلقة بالثقافة االجتماعية املؤثرة يف القراءة املتباينة يونيا ‪ /‬يونياس يف رومية ‪ »7 :16‬يف كتاب أ‪.‬‬
‫دينوكس «التفسري والنقد النصي للعهد اجلديد»‪ ،‬من إصدارات ليوفني‪ :‬عام ‪ ،2112‬ص‪.292 -227‬‬

‫)‪(122‬لالطالع على تغيريات أخرى من هذا النوع يف سفر األعمال‪ ،‬انظر كتاب «النزعات املعادية للمرأة يف النص الغربي‬
‫لسفر األعمال» من تأليف‪ :‬بن ويثرينجتون‪ ،‬يف جريدة األدب الكتابي‪ ،‬عدد ‪ )1984( 113‬ص‪.84 -82‬‬

‫)‪(123‬لالطالع على دراستني معيارتني يف هذا اجملال‪ ،‬انظر كتاب‪« :‬اإلميان وقتل األخوة‪ :‬اجلذور الالهوتية ملعاداة‬
‫الساميَّة»‪( ،‬نيويورك‪ :‬مطبعة سيبوري‪ )1974 ،‬تأليف روزماري رويثر‪ ،‬و كتاب «أصول الالسامية‪ :‬وجهات النظر جتاه‬
‫اليهودية يف العصور الوثنية و املسيحية القدمية» من تأليف جون جاجر (نيويورك‪ :‬مطبعة جامعة أكسفورد‪ .)1983 ،‬وهناك‬
‫دراسة أحدث ملرييام = = تايلور بعنوان‪« :‬معاداة اليهودية و اهلوية املسيحية املبكرة‪ :‬حتليل اإلمجاع األكادميي» (اليدن‪،‬‬
‫بريل‪.1995 ،‬‬

‫‪368‬‬
‫)‪(124‬انظر كتاب «اآلباء الرسوليون»‪ ،‬إليرمان‪ ،‬اجمللد الثاني ص‪.383‬‬

‫)‪(125‬هذه ترمجة جريالد هاوثورن؛ الرتمجة الكاملة هلذه املوعظة ميكن االطالع عليها يف كتاب «بعد العهد اجلديد»‪،‬‬
‫لبارت إيرمان‪ ،‬ص‪. =128 -115‬‬

‫=أخطأ املؤلف يف عزو النص حيث ذكر أن قول بولس هو يف العدد ‪ 27‬من اإلصحاح ‪ 17‬والصحيح أنه يف العدد ‪ 31‬من‬
‫اإلصحاح ‪( .17‬املرتجم‪).‬‬

‫)‪(126‬انظر على وجه اخلصوص كتاب ديفيد داوب «ألنهم ال يعلمون ماذا يفعلون‪ »،‬اجمللد ‪ ،4‬بتحرير إف‪ .‬إل‪ .‬كروس‬
‫(برلني‪ :‬أكادمييافريالج‪ )1961 ،‬ص‪ ،71 -58‬و كتاب هاينز أيتسن‪« :‬حراس احلروف»‪ ،‬ص‪.123 -119‬‬

‫)‪(127‬ترمجة «ضد سيلزس» مأخوذة من طبعة هينري تشادويك «أورجيانوس‪ :‬ضد سيلزس» (أكسفورد‪ :‬كالريندون‪،‬‬
‫‪).1953‬‬

‫)‪(128‬انظر إرنست بامل‪« :‬اقتباسات كامربدج‪ :‬اإلضافات إىل لوقا ‪ 4 :6‬يف خمطوطة بيزا»‪ ،‬دراسات العهد اجلديد‪،‬‬
‫العدد ‪ :)1986( 32‬ص‪.426 -414‬‬

‫)‪(129‬أهم دراسة عن االضطهادات املسيحية املبكرة هو كتاب و‪ .‬هـ‪ .‬سي فريند «الشهادة واالضطهاد يف الكنيسة األوىل»‬
‫(أكسفورد‪ ،‬بالكويل‪ .)1965 ،‬انظر أيضًا روبرت ويلكن «املسيحيون بعيون رومانية» (نيوهافن‪ :‬مطبعة جامعة يال‪،‬‬
‫‪).1984‬‬

‫)‪(130‬فوق ذلك‪ ،‬قبل عام ‪ 71‬ميالديًا (عندما مت تدمري اهليكل)‪ ،‬عُرف اليهود بقيامهم بتقديم القرابني بالنيابة عن‬
‫اإلمرباطور‪ ،‬كعالمة على والئهم للدولة‪.‬‬

‫)‪(131‬لالطالع على مناقشة مطولة‪ ،‬انظر الكتاب الذي صدر حديثًا من تأليف واين كاناداي «مقالة دفاعية عن التقاليد‬
‫النسخية» (أتالنتا‪ :‬مطبعة مجعية األدب الكتابي‪ ،)2114 ،‬خاصة يف الفصل الثاني‪.‬‬

‫)‪(132‬ترمجة ر‪ .‬جوزيف هوفمان (أمهريست‪ ،‬نيويورك‪ :‬بروميثيوس‪).1994 ،‬‬

‫)‪(133‬الدراسة الكاملة هي لواين كاناداي‪ ،‬املذكورة يف هامش رقم ‪ 131‬باألعلى‪.‬‬

‫)‪(134‬انظر روبرت م‪ .‬جرانت‪« ،‬املدافعون اليونانيون عن اإلميان يف القرن الثاني» (فيالدلفيا‪ :‬مطبعة ويستمنسرت‪،‬‬
‫‪).1988‬‬

‫)‪(135‬انظر‪ ،‬على وجه اخلصوص‪ ،‬جيوجني جاالجر‪« :‬إله أم ساحر‪ :‬سيلزس و أورجيانوس عن يسوع» (تشيكو‪،‬‬
‫كاليفورنيا‪ :‬سكوالرز برس‪.1982 ،‬‬
‫‪369‬‬
‫)‪(136‬انظر كتاب دال ب‪ .‬مارتني‪« :‬اخرتاع اخلرافة» (كامربدج‪ :‬مطبعة جامعة هارفارد‪).2115 ،‬‬

‫)‪(137‬جوستينوس الشهيد «حوار مع تريفو»‪.88 ،‬‬

‫)‪(138‬هناك فجوة يف املخطوطة )‪ (p45‬عند هذه النقطة‪ ،‬لكن عرب حساب عدد احلروف اليت ميكن أن متأل هذه الفجوة‬
‫يتضح أن هذه هي القراءة األصلي‬

‫‪370‬‬
371

You might also like