تحريف أقوال المسيح (1) بارت إيرمان موقع المكتبة تحميل كتب PDF

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 372

‫؟‬

‫‪1‬‬
‫هذه ترمجة حرفية لكتاب‬

‫‪Misquoting Jesus : The Story Behind Who Changed‬‬


‫‪the Bible and Why‬‬

‫ترمجة احرتافية غري منقوصة من منتدى الدعوة االسالمية‬

‫تنسيق مكتبة االمني ‪https://t.me/el_amine‬‬

‫‪2‬‬
4
9
35
83

129
182
228
273
319

3
‫‪:‬‬

‫بارت إيرمان أحد علماء العهد اجلديد و متخصص يف تاريخ القرون األوىل أي‬
‫الفرتة املبكرة للديانة املسيحية ‪ .‬وقد حصل على درجيت الدكتوراه يف الفلسفة و‬
‫األستاذية يف الالهوت من معهد برينستون الالهوتي التعليمي حيث درس على‬
‫يد العلّامة "بروس ميتزجر‪" .‬‬

‫وهو حاليا يعمل كعميد لقسم الدراسات الدينية جبامعة نورث كارولينا يف‬
‫تشابيل هيل‪ .‬وقد كان عميدا للمنطقة اجلنوبية الشرقية جلمعية أدب الكتاب‬
‫املقدس‪ ،‬و عمل كمحرر لعدد من نشرات اجلمعية ‪ .‬وهو اآلن مؤلف مشارك‬
‫لسلسلة من أدوات ودراسات العهد اجلديد‪.‬‬

‫كثري من مؤلفات إيرمان كانت تتمركز حول األوجه املتعددة لفرضية "والرت‬
‫باور" اليت تفرتض أن الديانة املسيحية كانت على الدوام منقسمة على نفسها ‪.‬‬
‫وقد اعترب إيرمان دوما رائدًا يف عالقة تاريخ الكنيسة املبكرة بالقراءات املتباينة‬
‫املوجودة يف ثنايا خمطوطات الكتاب املقدس و يف صياغة مصطلح "مسيحية‬
‫عصر ما قبل األرثوذكسية‪".‬‬

‫‪4‬‬
‫فقد كان إيرمان يدندن ‪ ،‬يف كتاباته‪ ،‬حول النقد النصِّي ‪ .‬فمنذ عصر آباء‬
‫الكنيسة ‪ ،‬ظل اهلراطقة (مرقيون على سبيل املثال) يواجهون اتهامات حول‬
‫العبث مبخطوطات الكتاب املقدس‪ .‬يطرح إيرمان يف مؤلفاته نظريته حول أن‬
‫املسيحيون األرثوذكس هم يف أغلب األحوال من " أفسدوا " املخطوطات ‪،‬عرب‬
‫حتريفهم النص ‪ ،‬تدعيما لوجهات نظر معينة‪ .‬وقد قام بتأليف و املساهمة يف‬
‫إصدار تسعة عشر كتابا‪.‬‬

‫وإيرمان لديه طفلني ‪ ،‬بنتٌ تسمى كيلي ‪ ،‬و ولد امسه ديريك ‪ .‬وهو متزوج‬
‫من سارة بيكويث (دكتوراه يف الفلسفة من الكلية امللكية يف لندن) ‪ ،‬وأستاذة‬
‫اللغة اإلجنليزية جبامعة دوك ‪.‬‬

‫أصبح إيرمان يف سن املراهقة مسيحيا إجنيليا‪ .‬و التحق مبعهد مودي لدراسة‬
‫الكتاب املقدس و كلية ويتون (حصل على البكالوريوس عام ‪ .) 1978‬رغبته‬
‫يف التعرف على كلمات الكتاب املقدس األصلية قادته إىل علم النقد النصي‬
‫‪،‬الذي بدوره ضعضع إميانه بالكتاب املقدس ككلمة اهلل املنزَّهة عن اخلطأ ‪.‬‬
‫إيرمان يف الوقت احلاضر يعترب نفسه "ال أدريًّا‪".‬‬

‫‪5‬‬
:
• Ehrman, Bart (2006). The Lost Gospel of Judas Iscariot: A
New Look at Betrayer and Betrayed. Oxford University Press,
USA.
• Ehrman, Bart (2006). Peter, Paul, and Mary Magdalene: The
Followers of Jesus in History and Legend. Oxford University
Press, USA.
• Ehrman, Bart (2005). Misquoting Jesus: The Story Behind
Who Changed the Bible and Why. HarperSanFrancisco.
• Metzger, Bruce M.; Ehrman, Bart (2005). The Text of the New
Testament: Its Transmission, Corruption, and Restoration.
Oxford University Press, USA.
• Ehrman, Bart (2004). Truth and Fiction in The Da Vinci Code:
A Historian Reveals What We Really Know about Jesus, Mary
Magdalene, and Constantine. Oxford University Press, USA .
• Ehrman, Bart (2004). A Brief Introduction to the New
Testament. Oxford University Press, USA.
• Ehrman, Bart (2003). The Lost Christianities: The Battles for
******ure and the Faiths We Never Knew. Oxford University
Press, USA.
• Ehrman, Bart (2003). The New Testament: A Historical
Introduction to the Early Christian Writings. Oxford University
Press, USA.
• Ehrman, Bart; Jacobs, Andrew S. (2003). Christianity in Late
Antiquity, 300-450 C.E.: A Reader. Oxford University Press,
USA.

6
• Ehrman, Bart (2003). The Apostolic Fathers: Volume II. Epistle
of Barnabas. Papias and Quadratus. Epistle to Diognetus. The
Shepherd of Hermas. Harvard University Press.
• Ehrman, Bart (2003). The Apostolic Fathers: Volume I. I
Clement. II Clement. Ignatius. Polycarp. Didache. Harvard
University Press.
• Ehrman, Bart (2003). The New Testament and Other Early
Christian Writings: A Reader. Oxford University Press, USA.
• Ehrman, Bart (2003). Lost ******ures: Books that Did Not Make
It into the New Testament. Oxford University Press, USA.
• Ehrman, Bart (1999). Jesus: Apocalyptic Prophet of the New
Millennium. Oxford University Press, USA.
• Ehrman, Bart (1998). After the New Testament: A Reader in
Early Christianity. Oxford University Press, USA.
• Ehrman, Bart (1996). The Orthodox Corruption of ******ure:
The Effect of Early Christological Controversies on the Text of
the New Testament. Oxford University Press, USA.
• Ehrman, Bart (1987). Didymus the Blind and the Text of the
Gospels (The New Testament in the Greek Fathers; No. 1).
Society of Biblical Literature.

7
‫‪:‬‬

‫كان موضوع هذا الكتاب يدور يف عقلي ‪ ،‬رمبا أكثر من أي شئ كتبت عنه ‪،‬‬
‫خالل الثالثني عامًا املاضية ‪ ،‬وذلك منذ أن كنت يف أواخر سين مراهقيت ومنذ‬
‫أن كنت أخطو خطواتي األوىل يف دراسة العهد اجلديد‪.‬وألن هذا املوضوع كان‬
‫جزءًا منِّي لفرتة طويلة‪ ،‬فلقد رأيت أنه من الضروري أن أبدأ بإعطاء بيان‬
‫شخصي لألسباب اليت جعلت هذه املادة ‪،‬وما تزال‪،‬شديدة األهمية بالنسبة‬
‫إلي‪.‬‬

‫هذا الكتاب يدور حول خمطوطات الكتاب املقدس و االختالفات املوجودة‬


‫فيها‪،‬وحول النساخ الذين نسخوا األسفار وحرفوها أحيانًا‪ .‬رمبا ال يبدو ذلك‬
‫أمرًا متوقعًا كمدخل إىل السرية الذاتية لشخص ما‪،‬لكنه كذلك يف حاليت تلك‪.‬‬
‫ال ميلك اإلنسان السيطرة التامةعلى مثل هذه األمور‪.‬لكن قبل توضيح كيف‬
‫وملاذا كانت خمطوطات العهد اجلديد متثل شيئا خمتلفًا متامًا عاطفيًًّا وفكريًّا‬
‫بالنسبة إلي ‪،‬وإىل إدراكي لذاتي‪،‬وللعامل الذي أحيا فيه‪،‬وألفكاري حول‬
‫اإلله‪،‬وحول الكتاب املقدس‪،‬ينبغي أن أحكي بعض اخللفيات عن شخصيتى‪.‬‬
‫وُلدتُ وترعرعت يف مكانٍ وزمانٍ حمافظني ـــــ يف قلب البالد‪ ،‬وبداية منتصف‬
‫اخلمسينات‪.‬نشأتي مل تشهد شيئا غري عادي‪.‬كنا أسرة رائعة تقليدية مكونة من‬

‫‪8‬‬
‫مخس أفراد‪،‬من املرتددين على الكنيسة لكن من ذوي التدين العادي‪.‬بدءًا من‬
‫العام الذي كنت فيه يف الصف الدراسي اخلامس انضممت إىل الكنيسة‬
‫األسقفية يف لورنس‪،‬بوالية كينساس‪،‬اليت كان يرأسها قسيس طيب وحكيم‪،‬‬
‫تصادف أنه أيضًا كان جارًا لي ووالدًا ألحد أصدقائي(الذي تورطت فيما بعد‬
‫معه يف متاعب أثناء املدرسة العليا املتخصصة ـــ شئ متعلق بتدخني السجائر‬

‫مثل كثري من الكنائس األسقفية‪،‬هذه الكنيسة كانت حسنة السمعة وموثوقًًا بها‬
‫يف نظر اجملتمع ‪.‬كانت تتعامل مع طقوس الكنيسة بشكل جاد ‪،‬وكان الكتاب‬
‫املقدس جزءا من هذه الطقوس‪.‬لكن الكتاب املقدس مل يكن حمط االهتمام‬
‫الكامل‪:‬لقد كان الكتاب املقدس آنذاك واحدًا من الطرق إىل اإلميان والعمل‬
‫‪،‬إىل جانب التقليد الكنسي و الفطرة السليمة ‪.‬مل نكن نتكلم يف الواقع عن‬
‫الكتاب املقدس كثريًا‪،‬ومل نكن نقرأه كثريًا‪،‬حتى يف فصول مدارس‬
‫األحد‪،‬اليت كان تركيزها األكرب على القضايا العملية واالجتماعية ‪،‬وعن‬
‫الكيفية اليت ينبغي أن نعيش بها يف العامل‪.‬لكن الكتاب املقدس استحوذ على‬
‫مكانة عظيمة يف بيتنا‪،‬خاصة بالنسبة ألمي‪،‬اليت كانت تقرأ لنا منه أحيانًا‬
‫وتعاليمه‬ ‫قصصه‬ ‫نفهم‬ ‫أننا‬ ‫من‬ ‫تتأكد‬ ‫أن‬ ‫على‬ ‫وتعمل‬
‫األخالقية(و"عقائده"بدرجة أقل) ‪ .‬حتى قبل سنوات دراسيت يف املدرسة‬
‫الثانوية‪،‬أفرتضُ أنين كنت أرى يف الكتاب املقدس كتابًا غامضًا له بعض‬

‫‪9‬‬
‫األهمية بالنسبة للدين؛لكنه بالتأكيد مل يكن شيئا مستحقًا ألن يتم تعلمُه‬
‫ومدارسته‪.‬لقد كان الكتاب املقدس ميثل للدين إحساسًا باألصالة وال ِقدَم وكان‬
‫بصورة أو بأخرى مرتبطًا بشكل ال يقبل االنفصام باإلله والكنيسة والعبادة ‪.‬‬
‫إىل اآلن‪،‬مل أر أي مربر يدفعين لقراءته من تلقاء نفسي أو إلتقانه‪.‬لكن األمور‬
‫تغريت بصورة حادة بالنسبة إلي حينما كنت يف السنة الثانية يف املدرسة‬
‫الثانوية‪.‬لقد حدث بعدها أن مررت بتجربة "امليالد مرة ثانية" يف حميطٍ شديدِ‬
‫االختالفِ عن حميط الكنيسة يف مدينيت ‪ .‬لقد كنت منوذجًا للولد "املتزمت"ـــ‬
‫فأنا طالب صاحل‪،‬مهتم ومشارك يف الرياضات املدرسية لكن ليس لدرجة‬
‫النبوغ يف واحدة منها ‪،‬مهتم ومشارك يف احلياة االجتماعية ولكين لست منتميًا‬
‫إىل الطبقة العليا من النخبة ذات الشعبية يف املدرسة‪ .‬أتذكر شعورًا بنوع من‬
‫الفراغ الداخلي بلغ درجةً مل يستطع أي شئ مأله ـــ ال التسكع مع األصدقاء‬
‫(كنا بالفعل قد أدمنا جلسات مجاعية للشراب يف احلفالت)‪،‬وال أخذ املواعيد‬
‫الغرامية(بدأنا يف دخول عامل اجلنس شديدالغموض )‪ ،‬والالدراسة (كنت‬
‫أذاكر جبد و أبليت بالءا حسنًا لكن مل أكن جنمًا فوق العادة)‪ ،‬وال العمل(كنت‬
‫مندوبًا للمبيعات حلساب شركة تبيع املنتجات لفاقدي البصر)‪،‬وال‬
‫الكنيسة(كنت مساعدًا للكاهن وتقيًا وسيمًا ــــ أي كنت ذلك الشخص الذي‬
‫جيب أن يكون يف صباح كل أحد معرتفًا بكل شئ حدث يف ليلة كل‬
‫سبت)‪.‬كنت أشعر بنوع من الوحدة تزامن مع كوني شاب يف مرحلة املراهقة‬
‫‪10‬‬
‫؛لكنين‪ ،‬بالطبع‪،‬مل أدرك أن الشعور بالوحدة جزء من كوني مراهق ــ ظننت‬
‫أن شيئًا البد وأنه ينقصين‪.‬حدث هذا عندما بدأت حضور لقاءات شبيبة احلياة‬
‫اجلامعية التابعة لنادي املسيح ؛ اليت كانت جتري يف بيوت الشباب ــــ أول لقاء‬
‫حضرته كان حفلة يف حديقة منزل )‪ (yard Party‬ألحد الشباب وكان‬
‫وسيمًا وحمبوبًا ‪،‬وهذا ما جعلين أظن أن اجملموعة ستكون رائعة‪.‬قائد اجملموعة‬
‫كان يف العشرينات من عمره يسمى "بروس" و كان يقيم هذا النوع من احلفالت‬
‫لسبب حيوي – فقد حاولت أندية شباب من أجل املسيح اليت يتم تنظيمها‬
‫على النطاق احمللي أن حتول شباب املدارس الثانوية إىل "مولودين مرة أخرى"‬
‫ثم بعد ذلك إشراكهم يف دراسات جادة للكتاب املقدس‪،‬واجتماعات‬
‫للصالة‪،‬وما إىل ذلك ‪ .‬كان لربوس شخصية ساحرة – لقد كان أصغر سنًّا من‬
‫آبائنا و أكثر خربة منا ـــ ولديه رسالة قوية‪،‬وهي أن الفراغ الذي حنسه داخلنا‬
‫(كنا مراهقني! كلنا نشعر بالفراغ) هو من عدم وجود "يسوع" يف قلوبنا ‪.‬ولو‬
‫طلبنا فقط من "يسوع" أن يدخل‪،‬فسيدخل وميأل حياتنا بالبهجة والسعادة اليت‬
‫يعرفها فقط "احلاصلون على اخلالص" ‪ .‬كان باستطاعة "بروس" أن يستحضر‬
‫ما شاء من االقتباسات من الكتاب املقدس يف أي وقت‪،‬وكان يفعل ذلك‬
‫بصورة مذهلة ‪.‬ولشعوري بالتوقري جتاه الكتاب املقدس ‪،‬مع جهلي به‪ ،‬كان‬
‫األمر يبدو مقنعًا بكل ما يف الكلمة من معنى‪.‬ولقد كان األمر هنا خمتلفًا عما‬
‫كنت أشعر به جتاه الكنيسة اليت كانت تستخدم طقوسًا قدمية ولذلك بدت‬
‫‪11‬‬
‫مالئمة أكثر لبالغني عجائز وليس لشباب صغار يبحثون عن املتعة وروح‬
‫املغامرة‪،‬وأيضًا يشعرون يف ذواتهم بالفراغ‪.‬باملختصر املفيد‪،‬تعرفت يف النهاية‬
‫ب"بروس"‪،‬و قبلت رسالته اخلالصية ‪،‬وطلبت من املسيح أن يدخل إىل‬
‫قليب‪ ،‬ومررت عن طيب خاطر بتجربة امليالد مرة أخرى‪.‬لقد ولدت يف الواقع‬
‫قبل ذلك خبمسة عشر عامًا‪،‬لكن تلك التجربة كانت جديدة وممتعة يف نظري‪.‬‬
‫وجعلتين أبدأ رحلة إميان مستمرة شهدت حتوالت ومنعطفات كثرية ‪،‬انتهت‬
‫بنهاية مميتة بر َهنَتََْ على أنها‪،‬يف الواقع‪،‬طريق جديدة سلكتها يف ذلك الوقت‪،‬‬
‫جتاوزت اآلن ما يزيد عن ثالثني سنة‪.‬هؤالء اللذين مروا بتجربة الوالدة من‬
‫جديد من بيننا يظنون أنفسهم املسيحيني"الوحيدين"ــــ عكس هؤالء اللذين‬
‫يذهبون إىل الكنيسة بشكل روتيين ‪،‬اللذين ليس لديهم املسيح حقًيقةً يف‬
‫قلوبهم ولذلك يذهبون إىل الكنيسة بشكل خالٍ من أي روح‪.‬إحدى الطرق‬
‫اليت جتعلنا خمتلفني عن هؤالء اآلخرين هي التزامنا بدراسة الكتاب املقدس‬
‫والصالة ‪ .‬وخاصة دراسة الكتاب املقدس‪ .‬بروس نفسه كان دارسًا للكتاب‬
‫املقدس‪.‬فقد كان يدرس يف معهد "مودي" للكتاب املقدس يف شيكاغو وكان‬
‫باستطاعته أن يقتبس جوابًا من اإلجنيل ألي سؤال نفكر فيه(بل ولكثري من‬
‫األسئلة اليت مل نكن لنفكر فيها على اإلطالق)‪.‬أحسست سريعًا بالغرية جتاه‬
‫هذه القدرة على االقتباس من الكتاب املقدس واخنرطت أنا أيضًا يف حلقات‬
‫لدراسة الكتاب املقدس ‪،‬درست بعض النصوص‪،‬فهمت مناسباتهم‪،‬وحتى‬
‫‪12‬‬
‫حفظت اآليات الرئيسية ‪.‬أقنعين بروس أنين جيب أن أهتم بأن أكون مسيحيًا‬
‫"جادًا" وأن أكرس نفسي بالكامل لإلميان املسيحي‪.‬هذا كان يعين أن أدرس‬
‫الكتاب املقدس بالكامل يف معهد "مودي" للكتاب املقدس‪،‬الذي كان‪،‬من بني‬
‫أمور أخرى عديدة‪،‬ميثل تغيريًا جذريًا لنمط حياتي‪.‬يف معهد "مودي" هناك‬
‫"قانون" أخالقي جيب على الطالب أن ميتثلوه‪:‬ال مخر‪،‬ال تدخني‪،‬ال‬
‫رقص‪،‬ال قمار‪،‬ال أفالم‪.‬بل كثري مبا فيه الكفاية من الكتاب املقدس ‪ .‬كنا‬
‫معتادين على ترديد‪":‬معهد مودي للكتاب املقدس ‪،‬حيث الكتاب املقدس هو‬
‫ما مييزنا‪".‬أظن أنين نظرت إليه كمعسكر مسيحي تدرييب ذي نظامٍ قاسٍ‪.‬يف كل‬
‫مناسبة‪،‬قررت أن أتعامل مع إمياني جبدية كاملة؛تقدمت بطلب التحاق ملعهد‬
‫"مودي"‪،‬التحقت به‪،‬وذهبت إىل هناك يف خريف ‪.1973‬لقد كانت جتربة‬
‫معهد "مودي" جتربة قوية‪.‬قررت أن أختصص يف الالهوت الكتابي‪،‬وهو ما كان‬
‫يعين احلصول على الكثري من دروس الكتاب املقدس ودورات الالهوت‬
‫النظامي‪.‬وجهة نظر واحدة كنا نتعلمها يف هذه الدورات‪،‬صدق عليها كل‬
‫األساتذة(وكان عليهم أن يوقعوا إفادة بذلك)وكل الطالب (وقد فعلنا الشئ‬
‫ذاته)‪:‬الكتاب املقدس هو كلمة اهلل املعصومة‪.‬ليس به أية أخطاء‪.‬أوحاه اهلل وكل‬
‫كلمة من كلماته ــــ "وحيًا شفويًا‪،‬كامالً"‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫كل الدورات العلمية اليت حصلت عليها تفرتض مسبقًا وتُعَلِّم وجهة النظر‬
‫مضللَة أو حتى‬
‫ِّ‬ ‫هذه؛وأيُّ وجهة نظر أخرى ماهي إال وجهة نظر‬
‫هرطوقية‪.‬البعض‪،‬فيما أظن‪،‬سيسمي ذلك عملية غسيل مخ‪.‬بالنسبة إليَّ‪،‬كان‬
‫ذلك"ارتقاءا" هائالً عن وجهة النظر اخلجولة جتاه الكتاب املقدس اليت كنت‬
‫ٍّا يف الكنيسة األسقفية يف ريعان شبابي‪ .‬هذه هي‬
‫أعتنقها باعتباري عضوًا تقليدي‬
‫املسيحية الواضحة ‪،‬اليت تناسب امللتزمني التزامًا كامالً‪ .‬إال أنه كان هناك‬
‫إشكالية واضحةٌ تواجه هذا الزعم بأن الكتاب املقدس موحى به حرفيًا ــــ وفقا‬
‫لكلماته نفسها ‪ .‬فكما تعلمنا يف معهد "مودي" يف واحدةٍ من الدورات األوىل‬
‫للمنهج الدراسي‪،‬ليس لدينا بالفعل النصوص األصلية للعهد اجلديد‪.‬ما‬
‫حبوذتنا هو نسخ من هذه الكتابات‪،‬كتبت بعد ذلك بسنني ـــ بل بعد ذلك مبئات‬
‫السنني ‪،‬يف الغالب األعم‪ .‬فوق ذلك‪،‬ليس بني هذه النسخ نسخة صحيحة‬
‫بالكامل ‪،‬حيث قام النساخ اللذين أنتجوها بطريق السهو و‪/‬أو عن قصد‬
‫بتغيريها عن مواضعها‪ .‬كل النساخ فعلوا ذلك‪.‬ولذلك بدال من امتالك كلمات‬
‫املخطوطات املوحى بها فعليًا(أي األصول)‪،‬ما لدينا هو نسخ مليئة باألخطاء‬
‫)‪(errorridden‬من تلك األصول‪ .‬لذلك‪ ،‬كان التحقق مما قالته أصول‬
‫الكتاب املقدس إحدى أكثر املهام إحلاحًا ‪ ،‬مع وضع الظروف التالية يف‬
‫االعتبار (‪ )1‬أنها موحى بها (‪)2‬أننا ال منتلكها ‪ .‬جيب أن أذكر أن كثريًا من‬
‫أصدقائي يف "مودي" مل يروا أن هذه املهمة تستحق كل هذه االهتمام أو‬
‫‪14‬‬
‫العناء‪.‬كانوا سعيدين بالركون إىل الزعم بأن األصول كانت من‬
‫الوحي‪،‬وبتجاهل أن األصول ‪،‬إن بشكل أكرب أو أقل‪ ،‬مل يعُد هلا وجود‪.‬‬
‫بالنسبة إليَّ‪،‬على الرغم من ذلك‪،‬كانت هذه مشكلة قهرية ‪.‬لقد كانت هذه‬
‫هي كلمات الكتاب املقدس ذاتها اليت كان الرب قد أوحاها‪.‬وبالتأكيد كان من‬
‫الواجب أن نعرف ماهية هذه الكلمات لو كنا نريد أن نعرف كيف كان اهلل يريد‬
‫أن يتواصل معنا‪،‬مادامت الكلمات ذاتها هي كلماته‪،‬ووجود بعض الكلمات‬
‫اليت كتبها اآلخرون(أي اليت أحدثها النساخ إن عرضيًا أو بشكل متعمد)لن‬
‫تساعدنا كثريًا لو أردنا أن نعرف كلماته ‪ .‬هذا ما جعلين مهتمًا مبخطوطات‬
‫العهد اجلديد يف ذلك الوقت حينما كنت يف الثامنة عشر من عمري‪ .‬يف معهد‬
‫"مودي"‪،‬تعلمت األساسيات يف ميدان "النقد النصي" ـــ وهو مصطلح علمي‬
‫يقصد به علم استعادة الكلمات "األصلية" لنص ما من خمطوطاته اليت مت العبث‬
‫بها‪ .‬إال أنين حتى ذلك الوقت مل أكن مؤهالً بعد للتعامل مع هذا العلم ‪.‬أوالً‬
‫كان عليَّ أن أتعلم اللغة اليونانية ‪،‬لغة العهد اجلديد األصلية‪،‬ورمبا لغات قدمية‬
‫أخرى مثل العربية(لغة العهد القديم حسب املصطلح املسيحي) والالتينية‪،‬‬
‫باإلضافة إىل اللغات األوروبية احلديثة مثل األملانية والفرنسية ‪،‬من أجل‬
‫الطالع على ما قاله العلماء اآلخرون خبصوص هذه القضايا ‪ .‬لقد كان الطريق‬
‫أمامي طويال ‪ .‬يف نهاية الثالث سنوات اليت قضيتها يف معهد "مودي"( كانت‬
‫الدبلومة مدتها ثالث سنوات)‪،‬كنت قد أبليت بالءًا حسنًا يف مقرراتي‬
‫‪15‬‬
‫الدراسية وأصبحت أكثر جدية عن ذي قبل فيما يتعلق برغبيت أن أصبح عاملًا‬
‫مسيحيًا‪.‬كان تصوري يف ذلك احلني أنَّ مثة وفرة يف العلماء احلاصلني على تعليم‬
‫عال بني املسيحيني اإلجنليني‪،‬لذلك أردت أن أصبح "صوتًا" لإلجنيليني داخل‬
‫الدوائر العلمانية‪،‬عرب احلصول على درجات علمية تسمح لي أن أقوم‬
‫بالتدريس يف احمليطات العلمانية يف الوقت الذي أحافظ فيه على التزاماتي‬
‫الدينية اإلجنيلية‪ .‬أوالً ‪،‬كان يلزمين احلصول على درجة البكالوريوس‪،‬ولكي‬
‫أفعل هذا فقد قررت أن التحق بكلية من الكليات اإلجنيلية األعلى مقامًا‪.‬وقع‬
‫اختياري على "ويتون كوليدج"‪ ،‬الواقعة يف إحدى ضواحي شيكاغو‪ .‬يف‬
‫"مودي" تلقيت حتذيرات خبصوص أنه من الصعب العثور على مسيحيني‬
‫حقيقيني يف "ويتون" ــ وهو ما يكشف حجم التطرف يف "مودي"‪ :‬فـ"ويتون"‬
‫كانت مفتوحة فقط أمام املسيحيني اإلجنيليني وقد خترج منها بيلي جراهام‬
‫‪،‬على سبيل املثال ‪ .‬يف البداية وجدتها أكثر حتررًا ولو قليال باملقارنة مع ما أؤمن‬
‫به ‪.‬كان الطالب يتحدثون عن األدب‪ ،‬والتاريخ‪،‬والفلسفة أكثر من احلديث‬
‫عن الوحي الشفوي للكتاب املقدس‪ .‬كانوا يفعلون ذلك من منظور‬
‫مسيحي‪،‬ولكن بغض النظر عن ذلك‪:‬أمل يالحظوا بالفعل أهمية هذا األمر‬
‫(أي الوحي الشفوي)؟‬

‫‪16‬‬
‫قررت أن أختصص يف األدب اإلجنليزي يف جامعة "ويتون"‪،‬حيث كانت القراءة‬
‫إحدى هواياتي وخاصة منذ أن علمت أنه لكي أشق طريقي إىل الدوائر العلمية‬
‫‪ ،‬فسيكون عليَّ أن أصبح واسع االطالع يف جمالٍ من جماالت العلم خبالف‬
‫الكتاب املقدس‪ .‬قررت أيضًا أن ألزم نفسي بتعلم اليونانية‪ .‬يف ذلك الوقت ‪،‬‬
‫وخالل فصلي الدراسي األول يف "ويتون" ‪،‬التقيت الدكتور "جريالد هاوثورن"‬
‫‪،‬أستاذي يف اللغة اليونانية و الذي أصبح أكثر األشخاص تأثريًا يف حياتي‬
‫كعامل ‪،‬وكأستاذ‪،‬و‪،‬أخريًا ‪،‬كصديق ‪ .‬كان "هاوثورن" ‪،‬متاما مثل معظم‬
‫خضِع‬
‫أساتذتي يف "ويتون"‪ ،‬مسيحيًا إجنيليًا ملتزمًا‪.‬لكنه كان ال خيشى من أن يُ َْ‬
‫إميانه لألسئلة ‪ .‬يف حينه‪ ،‬وجدت يف ذلك عالمة على الضعف (يف‬
‫احلقيقة‪،‬كنت أعتقد أنين تقريبًا أمتلك مجيع األجوبة عن أسئلته)؛يف النهاية‬
‫رأيت فيه التزامًا حقيقيًا مبقتضيات احلقيقة و رأيت فيه استعدادًا لالنفتاح على‬
‫إمكانية أن تكون أراء اإلنسان يف حاجة للمراجعة يف ضوء اتساع املعرفة‬
‫وخربات احلياة‪ .‬كان تعلم اليونانية جتربة مثرية بالنسبة لي‪ .‬وحينما انتهت‬
‫دراسيت ‪،‬كنت جيدًا للغاية يف أساسيات اللغة وكنت على الدوام طاحمًا إىل‬
‫املزيد‪.‬ويف مرحلة أكثر عمقًا‪ ،‬أصبحت جتربة تعلم اللغة اليونانية إىل حدٍ ما‬
‫جمهدة لي ولنظرتي للكتاب املقدس‪.‬ثم صرت أرى يف مرحلة مبكرة أن املعنى‬
‫الكامل للنص اليوناني للعهد اجلديد ال ميكن التعرف عليه إال عندما نقرأه‬
‫وندرسه يف لغته األصلية (األمر نفسه ينطبق على العهد القديم‪،‬كما عرفت‬
‫‪17‬‬
‫فيما بعد عندما تعلمت العربية)‪.‬وكل هذا كان يدعم ‪ ،‬حسب ما كنت أعتقد ‪،‬‬
‫اجتاهي لتعلم اللغة على حنوٍ أعمق ‪ .‬يف الوقت ذاته‪،‬جعلين ذلك أشك يف‬
‫مفهومي عن الكتاب املقدس باعتباره كلمة اهلل املنزلة حرفيًّا‪ .‬وإذا كان املعنى‬
‫الكامل لكلمات الكتاب املقدس ال ميكن احلصول عليه إال عرب دراسة الكتاب‬
‫املقدس باللغة اليونانية(والعربية)‪،‬أال يعين ذلك أن معظم املسيحيني ‪،‬اللذين‬
‫ال يعرفون اللغات القدمية‪،‬لن يصلوا أبدًا للطريق الصحيح إىل معرفة ما أراد‬
‫اهلل منهم أن يعرفوه؟ أال جيعل هذا من عقيدة الوحي جمرد عقيدة مالئمة فقط‬
‫للنخبة واسعة اإلطالع ‪ ،‬ممن ميتلكون املهارات الفكرية و الفراغ الالزمني لتعلم‬
‫اللغات ودراسة النصوص عرب قراءتها بلغتها األصلية؟ما الفائدة اليت نتحصل‬
‫عليها من قولنا إن هذه الكلمات موحى بها من اهلل ما دام غالبية الناس ال‬
‫يعرفون سبيال إىل هذه الكلمات على اإلطالق ‪،‬وإمنا بإمكانهم االطالع‬
‫فحسب على ترمجات أكثر أو أقل إتقانًا هلذه الكلمات إىل لغة ليس هلا أيُّ‬
‫عالقة بالكلمات األصلية‪،‬مثل اإلجنليزية ؟ (‪)1‬‬

‫كانت أسئلتى تتعقد أكثر وأكثر كلما بدأت التفكري على حنوٍ متزايد يف‬
‫املخطوطات اليت حتوي الكلمات‪.‬كلما تعمقت يف دراسة اليونانية‪،‬كلما صرت‬
‫أكثر اهتمامًا باملخطوطات اليت حتتفظ لنا بالعهد اجلديد‪،‬وبعلم النقد‬

‫‪18‬‬
‫النصي‪،‬والذي من احملتمل أن يكون قادرًا على مساعدتنا يف استعادة الكلمات‬
‫األصلية للعهد اجلديد على صورتها اليت كانت عليها ‪ .‬وكنت دئاما أعود إىل‬
‫سؤالي األساسي‪:‬كيف ميكن للقول إن إن الكتاب املقدس هو كلمة اهلل‬
‫املعصومة أن يساعدنا لو كنا يف الواقع ال منتلك تلك الكلمات املعصومة اليت‬
‫أوحاها اهلل ‪،‬وإمنا الكلمات اليت نسخها النساخ ــــ بطريقة صحيحة أحيانًا‬
‫وبطريقة غري صحيحة أحيانًا أخرى(كثرية)؟ ما الفائدة املرجوة من القول إن‬
‫األصول كانت موحى بها؟ حنن ال منتلك األصول! ما منتلكه هو نسخ حمرفة‬
‫‪،‬واألغلبية العظمى منها تفصلها مئات السنني عن األصول وهي ختتلف‬
‫عنها‪،‬بوضوح‪،‬يف آالف املواضع ‪ .‬اجتاحتين هذه الشكوك ودفعتين إىل‬
‫التنقيب بتعمق أكرب‪،‬بغية الوصول إىل فهم أوضح للحقيقة اليت كان عليها‬
‫الكتاب املقدس ‪ .‬أنهيت دراسيت يف "ويتون"يف عامني وقررت‪،‬بتوجيهاتٍ من‬
‫األستاذ هاوثورن‪،‬أن أختصص يف النقد النصي للعهد اجلديد باالجتاه إىل‬
‫الدراسة حتت إشراف اخلبري ذي الشهرة العاملية يف هذا امليدان ‪،‬العامل بروس‬
‫‪.‬م‪ .‬ميتزجر ‪ ،‬الذي كان يقوم بالتدريس يف معهد "برينستون" الالهوتي‪ .‬مرة‬
‫أخرى حذرني أصدقائي من اإلجنيليني من االلتحاق بـمعهد‬
‫"برينستون"‪،‬ألنه‪،‬كما قيل لي‪،‬سيكون من الصعب علي أن أجد مسيحيني‬
‫"حقيقيني"هناك‪ .‬لقد كان معهدبرينستون ‪،‬رغم هذا ‪،‬معهدًا مشيخيًا ‪،‬لكنه مل‬
‫يكن بالتأكيد تربةً خصبةً لظهور املسيحيني املولودين مرة أخرى‪ .‬كانت دراسيت‬
‫‪19‬‬
‫لألدب اإلجنليزي‪،‬والفلسفة‪،‬والتاريخ ــــ ناهيك عن اليونانية ـــ قد وسعت‬
‫آفاقي بشكل كبري ‪،‬وأصبحت أجد متعيت اآلن يف املعرفة ‪،‬املعرفة بكافة‬
‫أشكاهلا‪،‬الدينية والدنيوية ‪ .‬ولو أن معرفة "احلقيقة"تعين أن ال أكون بعدُ من‬
‫املسيحيني املولودين مرة أخرى مثل الذين عرفتهم يف الثانوية ‪،‬فليكن ما يكون‬
‫‪ .‬كنت أنوي أن أواصل حبثي عن احلقيقة مهما كان الطريق الذي ستقودني‬
‫إليه‪ ،‬وأنا على ثقة من أنَّ أيَّ حقيقة سأتعلَّمها ال يقلل من قيمتها كونها غري‬
‫متوقعة أو كونها تتالئم بصعوبة مع التصنيفات اليت تضعها خلفييت اإلجنيلية ‪.‬‬
‫عند وصولي إىل معهد "برينستون" الالهوتي ‪،‬التحقت سريعًا بفصول السنة‬
‫األوىل للتفسري باليونانية والعربية‪،‬وشغلت جدولي بقدر ما أستطيع مبثل هذه‬
‫الدروس‪.‬وجدت يف هذه الفصول حتديًا ‪،‬على املستويني العلمي والشخصي ‪.‬‬
‫أما التحدي على املستوى العلمي فقد كنت مرحِّبًا به بشكل كامل‪،‬لكنَّ‬
‫التحديات الشخصية اليت واجهتها كانت على عكس ذلك مزعجة من الناحية‬
‫العاطفية‪ .‬فكما أشرت‪،‬كنت بالفعل قد بدأت يف "ويتون" يف الشك يف بعض‬
‫املظاهر األساسية يف التزامي حنو الكتاب املقدس باعتباره كلمة اهلل املعصومة‬
‫من اخلطأ‪.‬هذا االلتزام كان عرضة لتهديدات جدية خالل دراسيت التفصيلية يف‬
‫"برينستون" ‪ .‬لقد قاومت كل حماولة لتغيري وجهات نظري‪،‬ووجدت عددًا من‬
‫األصدقاء‪،‬القادمني‪،‬مثلي‪ ،‬من مدارس إجنيلية حمافظة وكانوا حياولون أن‬
‫"حيافظوا على اإلميان "(وهي طريقة مثرية للضحك لوضع اإلميان يف برنامج‬
‫‪20‬‬
‫مسيحي الهوتي ‪،‬أي التمسك باملاضي حيث كنا ‪ ،‬على الرغم من كل ما‬
‫يتناقض مع ذلك من مؤشرات )‪ .‬لكنَّين بدأت أنشغل بدراساتي ‪ .‬وجاءت نقطة‬
‫التحول يف الفصل الدراسي الثاني ‪،‬خالل دورة كنت أحضرها حتت إشراف‬
‫أكثر األساتذة تقديرا وتدينا وكان امسه "كولني ستوري"‪.‬وقد كانت الدورة‬
‫حول تفسري إجنيل مرقس‪ ،‬وكان إجنيلي املفضل حينها (وما يزال)‪ .‬وقد كان‬
‫يُ َْشتَ َرطُ فينا حلضور هذه الدورة أن نكون قادرين على قراءة إجنيل مرقس كامال‬
‫باللغة اليونانية(حفظت كلمات اإلجنيل اليونانية كاملةً قبل أسبوع واحدٍ من‬
‫بداية الفصل الدراسي)‪:‬كان علينا أن حنتفظ بدفرت مالحظات تفسريية نسجل‬
‫فيها انطباعتنا حول تفسري الفقرات الرئيسية؛ وقد كنا نناقش املشكالت املتعلقة‬
‫بتفسريات النصوص‪،‬وكان ينبغي علينا أن نكتب مقاال يف نهاية الفصل‬
‫الدراسي حول إشكال تفسريي خنتاره حنن ‪ .‬وقد اخرتت الفقرة يف مرقس ‪2‬‬
‫‪،‬حيث يتصدى الفريسيون ليسوع ألن تالمذته كانوا ميشون عرب أحد‬
‫احلقول‪،‬وكانوا يأكلون من السنابل يف يوم السبت‪.‬كان يسوع يريد أن يبيِّن‬
‫للفريسيني أن"السبت جعل من أجل اإلنسان وليس اإلنسان من أجل‬
‫السبت"ولذلك ذكَّرهم مبا كان امللك داوود العظيم قد فعله عندما شعَرَ ورجاله‬
‫باجلوع‪،‬و كيف أنهم قد دخلوا إىل اهليكل "حينما كان أبيثار هو الكاهن‬
‫األكرب"وأكلوا من خبز التقدمة‪،‬الذي كان خمصصًا للكهنة فقط ‪ .‬إحدى‬
‫اإلشكاليات الشهرية يف الفقرة هي عندما ينظر اإلنسان إىل الفقرة اليت استشهد‬
‫‪21‬‬
‫بها يسوع من العهد القديم (‪ 1‬صمويل ‪ ،) 6 : 21‬يتضح أن داوود مل يفعل‬
‫ذلك عندما كان أبيثار هو الكاهن األعظم ‪،‬وإمنا عندما كان أخيمالك والد‬
‫أبيثار هو الكاهن ‪ .‬بطريقة أخرى ‪،‬هذه الفقرة هي واحدة من تلك الفقرات‬
‫اليت يشار إليها لبيان أن الكتاب املقدس ليس معصومًا من اخلطأ على اإلطالق‬
‫‪ ،‬بل حيوي أخطاءًا‪ .‬يف ورقيت اليت قدمتها إىل األستاذ "ستوري"‪،‬طورت فكرة‬
‫جدلية طويلة ومعقدة مفادها أنه حتى لو كان مرقس يشري إىل حدوث ذلك‬
‫"حينما كان أبيثار هو الكاهن األكرب‪ "،‬فإن هذا ال يعين يف احلقيقة أن أبيثار كان‬
‫هو الكاهن األعظم ‪،‬وإمنا املعنى هو أن هذا احلدث وقع يف هذا اجلزء من‬
‫النص الكتابي الذي يعترب فيه أبيثار واحدًا من الشخصيات الرئيسية ‪.‬كانت‬
‫فكرتي تتمركز حول أن معنى الكلمات اليونانية املشار إليها هو معنى معقد إىل‬
‫حد ما‪ .‬كنت على يقني ال يتزعزع أن األستاذ"ستوري" سيثين على هذه الرؤية‬
‫اجلدلية ‪،‬حيث إنين أعلم أنه عاملٌ مسيحيٌّ صاحلٌ وهو بالتأكيد (مثلي) ال ميكن‬
‫أن يفكر مطلقًا يف أنَّ شيئًا ما خطأ بالفعل داخل الكتاب املقدس‪ .‬لكنه كتب يف‬
‫نهاية حبثي تعليقًأ بسيطًا من سطر واحدٍ أثر يفّ كثريًا ألسباب عدة‪ .‬فقد كتب‬
‫يقول‪":‬رمبا مرقس وقع يف خطأ"‪.‬‬

‫بدأت أفكر يف هذا التعليق‪،‬ويف كل العمل الذي قدمته يف البحث‪،‬وفهمت‬


‫أنين كان من املفرتض أن أقوم ببعض املناورات التفسريية الوهمية لاللتفاف‬

‫‪22‬‬
‫حول املشكلة ‪،‬وأن احللَّ الذي اقرتحته يف احلقيقة كان ممطوطًا إىل حدٍ ما ‪ .‬يف‬
‫النهاية وصلت لنتيجة‪...":‬رمبا مرقس بالفعل قد ارتكب خطئًا"‪.‬‬

‫وما أن كتبت هذا االعرتاف‪،‬حتى زالت السدود‪.‬ألنه لو كان مثة خطأٌ واحدٌ‬
‫صغريٌ وتافهٌ يف مرقس ‪، 2‬فرمبا يوجد أخطاءأخرى يف أماكن أخرى أيضًا‪.‬‬
‫فعندما سيقول يسوع بعد ذلك يف مرقس ‪ 4‬إن بذرة احلنطة هي"أصغر كل بذور‬
‫وهمي حول كيف أن حبة‬
‫ٍّ‬ ‫األرض‪"،‬فرمبا ليس بي حاجة أن أوافق على تفسريٍ‬
‫احلنطة هي األصغر بني كل البذور ‪ ،‬يف الوقت الذي أعلم متامًا أنَّ هذا ليس‬
‫صحيحًا ‪.‬ورمبا ينطبق أمر هذه األخطاء على قضايا أكثر أهمية‪ .‬فمن احملتمل أنه‬
‫حينما يقول مرقس إن يسوع صلب يف اليوم التالي لتناوله عشاء الفصح(مرقس‬
‫‪ )15:25، 12 : 14‬وحينما يقول يوحنا إنه مات يف اليوم السابق لتناوله‬
‫إياه(يوحنا ‪)14: 19‬ــــ رمبا كان ذلك تناقضًا حقيقيًّا ‪ .‬أو عندما يشري لوقا يف‬
‫حكايته لقصة ميالد يسوع أن يوسف ومريم عادا إىل الناصرة بعد مايزيد عن‬
‫شهر بالتمام من مقدمهم إىل بيت حلم (وتأديتهم لطقوس التطهري ؛لوقا ‪2‬‬
‫‪،) 39:‬يف الوقت الذي يشري متى إىل أنهم هربوا بدال من ذلك إىل مصر (متى‬
‫‪ )22 -19 :2‬ـــ رمبا يكون هذا تناقضًا آخر ‪ .‬و حينما يقول بولس إنه بعد‬
‫أن آمن على الطريق إىل دمشق مل يذهب إىل أورشاليم لكي يرى هؤالء اللذين‬

‫‪23‬‬
‫كانوا رسالً من قبله(غالطية ‪،)17 -16: 1‬يف الوقت الذي يقول سفر‬
‫األعمال أن ذلك كان عمله األول بعد مغادرته دمشق (األعمال ‪ )26: 9‬ـــ‬
‫فرمبا يكون هذا تناقضًا آخر‪.‬هذا النوع من الفهم تواكب مع املشكالت اليت‬
‫كنت أواجهها كلما درست بعناية أكرب خمطوطات العهد اجلديد املوجودة‪.‬ليس‬
‫أمامنا سوى أن نقول إن األصول كانت منزلة من قبل اهلل ‪،‬لكنَّ احلقيقة هي‬
‫أننا ال منلك هذه األصول ـــــ ولذلك‪ ،‬القول إنها كانت موحى بها ال يساعدنا‬
‫كثريًا‪،‬إال إذا استطعت إعادة بناء األصول‪ .‬زد على ذلك أن الغالبية الساحقة‬
‫من املسيحيني مل يسمح هلم بالوصول إىل األصول طوال تاريخ الكنيسة كامال‬
‫ومل يسمح هلم بوضع مسألة املصدر اإلهلي هلذه األصول موضع نقاش ‪.‬بل‬
‫إن األمر ال يقتصر على فقدان األصول‪ ،‬بل حنن ال منلك أيضًا النسخ األوىل‬
‫من األصول‪ .‬بل حنن ال منلك أي نسخٍ حتى اجليل الثالث منها ‪.‬ما منلكه هو‬
‫نسخ كتبت يف وقت متأخرـــ متأخر للغاية‪.‬على أحسن تقدير‪،‬كانت نسخًا‬
‫كتبت بعد ذلك بقرون كثرية ‪ .‬وهذه النسخ ختتلف مجيعها من واحدة‬
‫ألخرى‪،‬يف مواضع كثرية تُعَدُّ باآلالف‪ .‬وهذه النسخ ‪ ،‬كما سنرى فيما بعد يف‬
‫هذا الكتاب‪ ،‬ختتلف بعضها عن بعض يف مواضع كثرية للغاية إىل درجة أننا‬
‫حتى ال نعرف عدد االختالفات املوجودة ‪ .‬وللتسهيل ميكننا أن نضعها على‬
‫هيئة مقارنات‪ :‬عدد االختالفات بني خمطوطاتنا كبريٌ على حنوٍ يفوق عدد‬
‫كلمات العهد اجلديد ‪ .‬معظم هذه االختالفات القيمة هلا وغري ذات أهمية ‪.‬‬
‫‪24‬‬
‫وقسم كبري منها يبني لنا ببساطة أن النسَّاخ يف القديم كانت مقدرتهم على‬
‫االستهجاء ليست بأفضل حاال من مقدرة الناس يف أيامنا هذه (بل مل يكن‬
‫مصححٍ إمالئي)‪ .‬رغم ذلك‪،‬ما هو سبب كل‬
‫ِّ‬ ‫لديهم حتى معاجم‪،‬ناهيك عن‬
‫هذه االختالفات؟ لو أن شخصًا ما يزال يصرُّ على أن الرب بالفعل أوحى‬
‫كلمات الكتاب املقدس ‪،‬فما الفائدة من ذلك إذا كنا ال منتلك بالفعل كلمات‬
‫الكتاب املقدس األصلية ؟‬

‫يف بعض املواضع ‪،‬كما سنرى‪ ،‬ال ميكننا أن نصل إىل درجة من اليقني ختولنا‬
‫أن نقول إننا أعدنا بناء النص األصلي على حنوٍ دقيق‪ .‬إن معرفة ما تعنيه كلمات‬
‫الكتاب املقدس هلو أمر عسري إذا كنا ال نعرف حتى ماهية هذه الكلمات!‬

‫حتول هذا األمر إىل مشكلة يف وجه ما كنت أتبناه من وجهات نظر فيما يتعلق‬
‫بالوحي‪،‬ألنين وصلت إىل االقتناع بأن حفظ كلمات الكتاب املقدس هو‬
‫أسهل على اهلل من قدرته على اإلحياء بها بدايةً ‪.‬ولو كان اهلل يريد أن تصل‬
‫كلماته إىل شعبه ‪،‬فبالتأكيد سيعطيهم إياها(ورمبا سيعطيهم إياها يف لغة ميكنهم‬
‫فهمها‪،‬وليس يف اللغة العربية أو اليونانية)‪ .‬حقيقةُ أننا ال منتلك هذه الكلمات‬
‫جيب أن تؤكد لنا ‪،‬حسب ما كنت أعتقد ‪،‬أنه مل حيفظ هذه الكلمات من‬

‫‪25‬‬
‫أجلنا‪ .‬وإذا مل يكن قد صنع هذه املعجزة (أي حفظ الكتاب)‪،‬فيبدو أنه ليس‬
‫هناك مربرٌ جيعلنا نعتقد أنه صنع املعجزة األوىل اليت هي إنزال هذه الكلمات‬
‫كوحي‪.‬‬

‫باختصار‪،‬تعلُّمي للغة اليونانية ودراسيت للمخطوطات اليونانية‪،‬أدت بي إىل‬


‫إعادة النظر بصورة جذرية يف مفهومي ملاهية الكتاب املقدس‪.‬كان ذلك تغيريًا‬
‫مزلزال بالنسبة إلي ‪ .‬قبل ذلك ـــ منذ بداية جتربة امليالد مرة ثانية اليت مررت بها‬
‫يف املدرسة العليا‪،‬مرورًا بأيام تزميت الديين يف معهد "مودي"‪،‬و الذي استمرَّ‬
‫ٍّ يف معهد "ويتون"ـــ كان إمياني مبنيًا‬
‫وصوال إىل أيامي اليت عشتها كإجنيلي‬
‫بالكامل على نظرة يقينية إىل الكتاب املقدس باعتباره كلمة الرب املوحى بها‬
‫واملعصومة متاما من اخلطأ ‪ .‬اآلن ما عدتُ أرى الكتاب املقدس على هذا النحو‬
‫‪ .‬بدأ الكتاب املقدس يبدو لي ككتاب بشري متاما ‪.‬فكما دوَّن النساخون‬
‫املنتمون إىل بين البشر نصوص الكتاب املقدس و حرَّفوها ‪،‬فكذلك وبالطريقة‬
‫ذاتها دونت نصوص الكتاب املقدس منذ البداية مبعرفة مؤلفني من بين البشر‪.‬‬
‫لقد كان كتابًا بشريًا من البداية وإىل النهاية‪.‬كتبه مؤلفون متنوعون من البشر يف‬
‫أزمنة خمتلفة ويف أماكن خمتلفة تلبيةً حلاجات خمتلفة‪ .‬كثريٌ من هؤالء املؤلفني بال‬
‫شك كانوا يشعرون أنهم يوحى إليهم من قبل اهلل لقول ما حدث ‪،‬لكنهم كان‬

‫‪26‬‬
‫هلم آراؤهم ‪،‬ومعتقداتهم ‪،‬ورؤاهم ‪،‬وحاجاتهم ‪،‬و رغباتهم و‪،‬مفاهيمهم‬
‫اآلراء‪،‬والعقائد‪،‬ووجهات‬ ‫وهذه‬ ‫اخلاصة‪.‬‬ ‫الالهوتية‬ ‫‪،‬وعقائدهم‬
‫النظر‪،‬واحلاجات‪،‬والرغبات‪،‬واملفاهيم ‪،‬والعقائد الالهوتية أملت عليهم كلَّ‬
‫شئ قالوه‪ .‬لقد كانوا خمتلفني يف كل هذه األمور‪.‬ومن بني أمور أخرى‪ ،‬كان هذا‬
‫يعين أن مرقس مل يقل الشئ ذاته الذي قاله لوقا ‪ ،‬وذلك ألنه مل يكن يقصد‬
‫الشئ ذاته الذي يقصده لوقا‪ .‬يوحنا خيتلف عن متى ــــ ليسوا سواءًا ‪ .‬بولس يف‬
‫رسائله خيتلف عن بولس املوجود يف األعمال‪.‬ويعقوب خيتلف عن بولس‪ .‬كلُّ‬
‫مؤلفٍ هو كائنٌ بشريٌّ ‪ ،‬وهو حباجة إىل أن يقرأ الناس ما يكتبه (على فرض‬
‫أنهم مجيعًا من البشر)من أجل ما جيب عليه أن يقوله ‪،‬وليس عرب االفرتاض‬
‫أن ما يكتبه هو الشئ ذاته‪،‬أو متطابق مع‪،‬مالئم ملا جيب أن يكتبه كلُّ مؤلف‬
‫آخر‪ .‬الكتاب املقدس ‪،‬يف النهاية‪ ،‬هو كتابٌ بشريٌّ‪ .‬كانت هذه الرؤية جديدة‬
‫عليّ ‪،‬ومن الواضح أنها مل تكن الرؤية ذاتها اليت كنت أعتنقها أبَّان كوني‬
‫مسيحيًا إجنيليًا ـــ وال هي الرؤية اليت يعتنقها الغالبية من املسيحيني اإلجنيليني‬
‫اليوم‪ .‬امسحوا لي أن أقدم مثاال للتباين الذي اتسمت به رؤييت املغايرة للكتاب‬
‫املقدس‪ .‬عندما كنت يف معهد "مودي"‪،‬كان كتاب ‪،‬كوكب األرض العظيم‬
‫الراحل‪،‬هلال ليندسيي ‪ Hal Lindsey‬عن التخطيط الرؤوي‬
‫‪apocalyptic‬ملستقبلنا واحدًا من أكثر الكتب رواجًا يف اجلامعة‪ .‬كان كتاب‬
‫ليندسي هو األكثر رواجًا ليس فقط يف "مودي"‪،‬بل إنه كان ‪،‬يف احلقيقة‪،‬العمل‬
‫‪27‬‬
‫األكثر مبيعًا بني األعمال املنبنية على حقائق ‪work of nonfiction‬‬
‫(باإلضافة إىل الكتاب املقدس؛واستخدام مصطلح "املنبين على حقائق" هو‬
‫استخدام فضفاض بعض الشئ) املكتوبة باللغة اإلجنليزية يف السبعينات‪.‬كان‬
‫ليندسي يؤمن ‪،‬مثلنا حينما كنا يف مودي‪ ،‬بأن الكتاب املقدس معصومٌ بشكل‬
‫مطلق من اخلطأ يف كل كلمة من كلماته‪،‬إىل درجة أنك تستطيع أن تقرأ العهد‬
‫اجلديد وأن تعرف الكيفية اليت يريدك الرب أن تعيش من خالهلا ‪،‬و ليس ذلك‬
‫فحسب ‪،‬بل ما يريدك أن تؤمن به‪،‬بل و أن تعرف أيضًا ما كان اهلل ذاته خيطط‬
‫ألن يفعله يف املستقبل وكيف كان سيفعله‪ .‬كان العامل متجهًا حنو أزمة رؤوية‬
‫ذات أبعاد كارثية ‪،‬وكانت كلمات الكتاب املقدس املنزهة عن اخلطأ ميكن‬
‫قراءتها إلظهار ماهية ‪،‬وكيفية و توقيت حدوث كل ذلك‪ .‬لقد كنت متيمًا‬
‫بشكل خاص بال"توقيت"‪ .‬أشار ليندسي إىل مثل شجرة التني الذي ضربه‬
‫يسوع كعالمة على التوقيت الذي ميكننا أن ننتظر عنده حدوث معركة‬
‫هرجمدون املستقبلية ‪ .‬كان تالميذ يسوع يريدون أن يعرفوا متى ستحني حلظة‬
‫"النهاية" ويسوع جييبهم‪:‬‬

‫صُنهَا َرخَْصاً وَأَخَْ َرجَتَْ أَوَْرَاقَهَا‬


‫جرَةِ التِّنيِ َتع ََّلمُوا ا ْل َمَثلَ‪ :‬مَتَى صَارَ غُ َْ‬
‫َف ِمنَْ شَ َ‬
‫الص َْيفَ قَرِيبٌ‪َ .‬ه َكذَا أَنَُْتمَْ أَيَْضاً مَتَى َرأَيَُْتمَْ هَذَا ك َُّلهُ فَا َْع َلمُوا أَنَّهُ‬
‫تَ َْع َلمُونَ أَنَّ َّ‬

‫‪28‬‬
‫قَرِيبٌ َعلَى األَبَْوَابِ‪ .‬اَلْحَقَّ َأقُولُ َل ُكمَْ‪ :‬الَ َي َْمضِي َهذَا الْجِيلُ حَتَّى َيكُونَ َهذَا‬
‫ك ُُّلهُ‪(.‬متى ‪). 34 -32: 24‬‬

‫ماذا يعين هذا املثل؟ حيلل ليندسي رسالتها‪،‬معتقدًا أنها كلمة الرب ذاته‬
‫املعصومة من اخلطأ‪ ،‬عرب اإلشارة إىل أن "شجرة التني" يف الكتاب املقدس كثريًا‬
‫ما استخدمت كرمز لشعب إسرائيل‪ .‬ماذا يعين أن خترج أغصانها؟ هذا سيعين‬
‫ص ِليّ (شِتوي) ‪،‬سيعود مرة أخرى‬
‫أن الشعب بعد أن يدخل يف بيات فَ َْ‬
‫للحياة‪.‬ومتى ستعود إسرائيل مرة أخرى إىل احلياة؟ يف ‪ ،1948‬حينما‬
‫أصبحت إسرائيل أمة ذات سيادة مرة أخرى‪،‬يشري يسوع إىل أن النهاية ستأتي‬
‫يف خالل اجليل ذاته الذي سيقع له ذلك ‪.‬وما هو عمر اجليل وفقًا للكتاب‬
‫املقدس؟ أربعون سنة‪.‬من هنا فإنه حسب التعليم اإلهلي املوحى به مباشرة من‬
‫بني شفاه يسوع‪ :‬ستحل نهاية العامل يف وقت ما قبل عام ‪،1988‬أي بعد‬
‫أربعني سنة من ظهور إسرائيل مرة أخرى‪.‬كانت هذه الرسالة آنذاك مقنعة لنا‬
‫متامًا ‪.‬رمبا يبدو األمر غريبًا اآلن ــــ مع األخذ يف االعتبار أن العام ‪ 1988‬قد‬
‫جاء وذهب من دون أن تقع هرجمدون ـــ لكن‪،‬من ناحية أخرى‪،‬هناك ماليني‬
‫املسيحيني اللذين ال يزالون يعتقدون أنَّ الكتاب املقدس ميكن قراءته حرفيًا‬
‫ككتاب موحى به يف تنبؤاته عمَّا هو مزمع أن يقع وصوال إىل نهاية التاريخ كما‬
‫نعرفه ‪ .‬انظر إىل آخر صيحة يف هذه األيام وهي سلسلة )‪(Left Behind‬‬

‫‪29‬‬
‫للكاتبني "تيم الهاي" و"جريي جينكينز"‪،‬اليت هي رؤية رؤوية أخرى ملستقبلنا‬
‫مبنية على القراءة احلَ َْرفِية للكتاب املقدس‪،‬وهي سلسلة بيع منها ما يزيد عن‬
‫ستة ماليني نسخة يف يومنا احلاضر‪.‬إنها لتحول عظيم من قراءة الكتاب املقدس‬
‫كتخطيط معصوم إلمياننا ‪،‬وحياتنا‪،‬و مستقبلنا إىل رؤيته ككتاب بشري إىل حد‬
‫بعيد‪،‬حيمل وجهات نظر بشرية ‪،‬كثريٌ منها ختتلف الواحدة عن األخرى ‪ ،‬وال‬
‫متثل واحدة منها دليالً معصومًا من اخلطأ يرشدنا إىل الكيفية اليت ينبغي أن حنيا‬
‫على هديها ‪ .‬هذا هو التغيري الذي انتهيت ‪،‬حسب وجهة نظري ‪ ،‬من‬
‫صياغته‪،‬والذي أؤمن به اآلن بصورة مطلقة‪ .‬كثريٌ من املسيحيني ‪،‬بالطبع‪،‬مل‬
‫يؤمنوا أبدًا من البداية بالكتاب املقدس وفقًا لتلك الرؤية احلَرفِيَّة‪،‬وبالنسبة هلم‬
‫مثل هذه الرؤية رمبا بدت متحيزة وغري دقيقة(ناهيك عن غرابتها و عدم‬
‫ارتباطها بقضايا اإلميان) ‪ .‬وهناك ‪،‬على الرغم من ذلك‪ ،‬عددٌ كبري من الناس‬
‫هنا وهناك ما يزالون ينظرون إىل الكتاب املقدس على هذا النحو‪.‬أحيانًا‪،‬أرى‬
‫ملصقًا على سيارة يقول‪":‬الرب قاله‪،‬أنا أؤمن به‪،‬وهو حل مشاكلنا ‪ ".‬ودائما‬
‫ما يكون جوابي ‪،‬ماذا لو كان الرب مل يقله؟ ماذا لو كان الكتاب الذي تعتربه‬
‫يقدم لك كلمة الرب‪ ،‬حيتوي بدال من ذلك على كلمات بشرية؟ ماذا لو كان‬
‫الكتاب املقدس ال يقدم لك جوابًا أكيدًا لألسئلة املعاصرة ــــ‬
‫الديين‪،‬الدميوقراطية‬ ‫الشواذ‪،‬التفوق‬ ‫املرأة‪،‬حقوق‬ ‫اإلجهاض‪،‬حقوق‬
‫الغربية‪،‬وما أشبه؟ ماذا إن كان من املتحتم علينا أن نستكشف بأنفسنا كيف‬
‫‪30‬‬
‫نعيش ومباذا نؤمن‪،‬بدون تنصيب الكتاب املقدس كوثن زائف ــ أو كوسيط‬
‫يهدينا إىل الطريق املباشر لالتصال باخلالق؟‬

‫هناك أسباب واضحة تدفعنا لالعتقاد أن الكتاب املقدس‪،‬يف الواقع‪،‬ليس من‬


‫ذلك النوع من اهلداة املنزهني عن اخلطأ حلياتنا ‪:‬فبني أمور أخرى ‪ ،‬كما كنت‬
‫أوضح ‪ ،‬يف مواضع كثرية ال نعرف حتى(كعلماء‪،‬أو كقراء منتظمني‬
‫فحسب)كيف كانت أصول كتاب املقدس ‪ .‬لقد تغريت معتقداتي الشخصية‬
‫بشكل عنيف من خالل إدراكي هلذا‪ ،‬لتسوقين إىل طرق خمتلفة متامًا عن تلك‬
‫اليت مررت بها يف أواخر سين مراهقيت وبواكري العشرينات من عمري‪.‬‬
‫واصلت تقديري للكتاب املقدس وللرسائل الكثرية واملتنوعة اليت حيتويها ــ‬
‫بقدر ما أصبحت أقدر كتابات املسيحيني األوائل األخرى اليت كتبت قريبا من‬
‫الفرتة ذاتها وبعد ذلك بقليل ‪ ،‬كتابات الشخصيات األقل شهرة مثل‬
‫إجناتيوس األنطاكي ‪،‬كليمنت الروماني (نسبة إىل روما)‪،‬وبرنابا‬
‫السكندري‪،‬وأصبحت حتى أقدِّر كتابات الشخصيات الذين ينطلقون من‬
‫معتقدات أخرى ‪ ،‬يف الوقت نفسه تقريبًا‪،‬مثل كتابات يوسيفوس ‪،‬ولوسيان‬
‫السمساطي‪،‬وبلوتارخ ‪ .‬كلُّ هؤالء املؤلفني كانوا حياولون أن يتصوروا العامل‬
‫وموقعهم فيه‪ ،‬ويف كل عمل من أعماهلم يوجد أشياء قيِّمة ميكننا تعلمها‪ .‬من‬

‫‪31‬‬
‫املهم أن نعرف كلمات هؤالء املؤلفني‪ ،‬حتى نستطيع أن نرى ما كان ينبغي أن‬
‫تكون عليه أقواهلم أو أحكامهم ‪،‬ثم‪،‬بالنسبة لنا ماذا نعتقد وكيف نعيش يف‬
‫ضوء هذه الكلمات ‪ .‬إن هذا يعود بي إىل اهتمامي مبخطوطات العهد اجلديد‬
‫ودراسة هذه املخطوطات من خالل امليدان العلمي الذي يعرف بالنقد النصي ‪.‬‬
‫ما أعتقده حول النقد النصي هو أن هذا هو ميدانُ دراسةٍ ضروريٌّ وجذابٌ ‪،‬‬
‫وهو ذو أهمية ليس فقط بالنسبة إىل العلماء ولكن بالنسبة إىل املهتمني بالكتاب‬
‫املقدس كلِّهم (سواء أكانوا ممن ال يزالون من أنصار التفسري احلريف‪،‬أو ممن‬
‫كانوا أنصارا للتفسري احلريف سابقًا ‪،‬أو حتى ممن مل يكونوا يومًا من أنصار‬
‫التفسري احلريف‪ ،‬وأليِّ شخص له اهتمام ولو من بعيد بالكتاب املقدس كظاهرة‬
‫تارخيية وثقافية)‪ .‬األمر املثري للصدمة‪،‬بالرغم من ذلك‪،‬هو أن غالبية القراء ـ‬
‫حتى هؤالء اللذين يهتمون باملسيحية ‪،‬وبالكتاب املقدس‪،‬وبالدراسات‬
‫الكتابية‪،‬و هؤالء اللذين يؤمنون بالكتاب املقدس ككتاب معصوم من اخلطأ‬
‫واآلخرون اللذين ال يؤمنون بذلك ــ ال يعرفون تقريبًا أي شئ عن النقد‬
‫النصي‪.‬وليس من الصعب معرفة أسباب هذا ‪.‬وعلى الرغم من حقيقة أن النقد‬
‫النصي كان موضوعًا لعلم عمره اآلن ما يزيد عن ثالمثائة عام‪،‬فإن هناك‬
‫بالكاد كتابًا واحدًا يدور حول هذا العلم خياطب اجلمهور العلماني ـــأي للذين‬
‫ال يعلمون شيئا عنه‪ ،‬أي للجمهور الذي ال يعرف اليونانية وال اللغات‬
‫األخرى الالزمة لدراساته األكثر تعمقًا ‪،‬وللذين ال يعلمون حتى أن هناك‬
‫‪32‬‬
‫"مشكلة" يف النصوص‪،‬ولكنهم يف الوقت ذاته لديهم الفضول ملعرفة جواب‬
‫السؤالني التاليني كليهما‪ :‬ما هي هذه املشاكل و كيف باشر العلماء التعامل‬
‫معها؟(‪ . )2‬هذا الكتاب الذي حنن بصدده هو من هذه النوعية ــ و حسب‬
‫علمي ‪ ،‬هو األول من نوعه ‪ .‬كتبته ملن ال يعرفون شيئا من الناس عن النقد‬
‫النصي ولكنهم رمبا حيبون أن يتعلموا شيئا عن الكيفية اليت كان النساخ يغريون‬
‫من خالهلا الكتاب املقدس والكيفية اليت نعرف بها مواضع هذا التغيري‪ .‬كتبتها‬
‫معتمدًا على تفكري دام ثالثني عامًا حول هذا املوضوع‪ ،‬وصدورًا عن الرؤية‬
‫اليت أعتنقها اآلن‪،‬مرورًا بهذه التحوالت العنيفة لرؤييت حول الكتاب املقدس‪.‬‬
‫كتبته من أجل كل من جيد يف نفسه اهتمامًا مبعرفة الكيفية اليت وصل إلينا بها‬
‫العهد اجلديد‪،‬ومبعرفة كيف أننا يف بعض املواقف ال نعرف حتى الصورة اليت‬
‫كانت عليها الكلمات األصلية اليت خطتها يدُ املؤلف‪،‬ومبعرفة الطريقة الطريفة‬
‫اليت مت تغيري هذه الكلمات أحيانًا من خالهلا ‪،‬ومعرفة كيف أننا رمبا ‪،‬عرب‬
‫تطبيق بعض مناهج التحليل األكثر صرامة‪ ،‬أعدنا بناء هذه الكلمات األصلية‬
‫كما كانت‪.‬‬

‫ألسباب كثرية‪،‬من هنا ‪ ،‬يعترب هلذا الكتاب وضع خاص بالنسبة إلي‪،‬وهو‬
‫وحمصلة نهائية لرحلة طويلة‪ .‬وقد يكون ‪،‬بالنسبة لآلخرين‪،‬جزءا من رحلتهم‬
‫الشخصية‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫لكي ندرس نسخ العهد اجلديد اليت حبوذتنا ‪ ،‬حنتاج أوال إىل البدء بدراسة أحد‬
‫اخلصائص غري املألوفة اليت تتميز بها املسيحية يف حميط العامل اليوناني‬
‫الروماني‪:‬أال وهي طابعها الكتابيّ ‪ (Bookish).‬يف الواقع ‪،‬لكي نفهم هذه‬
‫اخلصيصة اليت تتميز بها املسيحية ‪،‬حنن حباجة ‪،‬قبل احلديث عن املسيحية‪،‬إىل‬
‫البدء باحلديث عن الديانة اليهودية‪،‬وهي الديانة اليت انبثقت منها املسيحية ‪.‬‬
‫حيث إن اليهودية ‪،‬اليت كانت "ديانة الكتاب" األوىل يف احلضارة الغربية‪،‬كانت‬
‫قد سبقت كتابيّة املسيحية إىل حد ما وتنبأت بها‪.‬‬

‫كانت اليهودية ‪ ،‬اليت هي أساس املسيحية‪ ،‬ديانة غري مألوفة يف العامل‬


‫الروماني‪،‬على الرغم من أنها مل تكن منقطعة النظري‪ .‬فمثل أتباع أيَّة ديانة‬
‫أخرى من (املئات ) من الديانات اليت كانت موجودة يف منطقة حوض‬
‫املتوسط‪،‬كان اليهود يؤمنون بوجود مملكة إهلية تسكنها الكائنات‬

‫‪34‬‬
‫العلوية(مالئكة‪،‬رؤساء مالئكة‪،‬طغمات املالئكة‪،‬القوى)؛كما اتفقوا على‬
‫عبادة إله عرب تقديم األضحيات اليت هي عبارة عن حيوانات وأطعمة أخرى؛‬
‫وكانوا يؤمنون بأن هناك مكانًا مقدسًا له خصوصية حبيث يسكن فيه هذا‬
‫الكائن اإلهلي هنا على األرض ( الذي هو اهليكل يف أورشليم)‪ ،‬حيث تسفك‬
‫دماء هذه األضاحي ‪ .‬وقد كانوا يصلُّون إىل هذا اإلله طلبا لقضاء حوائج‬
‫مجاعية وشخصية‪ .‬وحكوا قصصًا عن الكيفية اليت تعامل بها هذا اإلله مع‬
‫البشر يف الزمن املاضي ‪ ،‬وانتظروا عونه للبشر يف الزمن احلاضر ‪ .‬يف كل هذه‬
‫النواحي ‪ ،‬مل تكن اليهودية "خمتلفة" يف أعني كل املؤمنني باآلهلة األخرى داخل‬
‫اإلمرباطورية‪.‬لكنَّ اليهودية يف بعض النواحي ‪،‬على الرغم من ذلك ‪ ،‬كانت‬
‫متميزة عن غريها‪ .‬فكلُّ الديانات األخرى داخل اإلمرباطورية كانت ديانات‬
‫شركية ـ أي تعرتف بالعديد من اآلهلة من كل األنواع ومبختلف الوظائف‬
‫وتتوجه إليها بالعبادات ‪:‬مثل اآلهلة العظيمة للدولة ‪ ،‬واآلهلة األقل شأنًا يف‬
‫األقاليم املختلفة ‪ ،‬آهلة تراقب املناحي املختلفة مليالد اإلنسان ‪،‬وحياته ‪،‬‬
‫وموته ‪ .‬ومن ناحية أخرى ‪ ،‬كانت اليهودية ديانة توحيديَّة ؛ فاليهود أصرُّوا‬
‫على عبادة اإلله الواحد الذي عبده أجدادهم فحسب ‪ ،‬اإلله الذي ‪،‬حسب‬
‫زعمهم ‪ ،‬كان قد خلق هذا العامل ‪ ،‬وحكمه‪،‬وهو وحدُه الذي كان يف حاجةِ‬
‫شعبِه ‪ .‬وفقًا للتقليد اليهودي ‪،‬هذا اإلله الواحد القادر على كل شئ دعى‬
‫إسرائيل ليكونوا شعبه املختار ووعده باحلماية والدفاع عنه يف مقابل إخالصه‬
‫‪35‬‬
‫املطلق له‪ ،‬وله وحده ‪ .‬كان بني الشعب اليهودي ‪،‬كما كان يُعتَقد‪ ،‬وبني اهلل‬
‫"عهد"‪،‬أي اتفاق مبوجبه يكونون وحدهم شعبه كما يكون هو ربهم وحدهم ‪.‬‬
‫هذا اإلله الواحد هو املستحق وحده للعبادة وللطاعة ؛ وهكذا ‪،‬للسبب ذاته‬
‫‪،‬كان مثة هيكل واحد فقط ‪،‬على عكس الديانات الشركيّة يف ذلك العصر اليت‬
‫‪،‬على سبيل املثال ‪،‬تسمح أن يوجد أي عدد من املعابد إلله مثل "زيوس"‪ .‬بال‬
‫شك ‪،‬كان بإمكان اليهود أن يعبدوا اهلل يف أي مكان يعيشون فيه ‪،‬لكنهم مل‬
‫يكونوا يستطيعون إقامة واجباتهم الدينية مثل تقديم الذبائح هلل إال يف اهليكل‬
‫يف أورشليم ‪.‬أما يف األماكن األخرى ‪،‬مع ذلك ‪،‬فيمكنهم أن جيتمعوا معًا يف‬
‫"الكنيسات" للصالة وملناقشة التقاليد اآلبائية اليت تتعلق بشئون دينهم ‪ .‬هذه‬
‫التقاليد تشتمل على قصص تدور حول عالقة اهلل بآباء شعب إسرائيل – أو‬
‫آباء و أمهات اإلميان ـ إذا جاز التعبري ‪ :‬إبراهيم ‪،‬سارة ‪ ،‬إسحاق ‪ ،‬راشيل‬
‫‪،‬يعقوب ‪ ،‬رُفقى ‪،‬يوسف ‪،‬موسى ‪،‬داوود ‪،‬وهلم جرا ــ وأيضًا تعاليم‬
‫يسيرَ بها هذا الشعب عبادته وحياته‪.‬‬
‫مفصَّلة خبصوص الكيفية اليت ينبغي أن ِّ‬
‫أحد األشياء اليت جتعل اليهودية ديانة فريدة وسط ديانات اإلمرباطورية‬
‫الرومانية أن هذه التعاليم ‪ ،‬إىل جانب التقاليد اآلبائية األخرى‪ ،‬كانت مكتوبة‬
‫يف ثنايا كتبٍ مقدسة‪ .‬إال أن املعرفة الوثيقة لإلنسان املعاصر بالديانات الغربية‬
‫الرئيسية املعاصرة (اليهودية ‪،‬املسيحية ‪ ،‬اإلسالم)‪،‬رمبا ستجعل من العسري أن‬
‫يتصور املرء غرابة هذا األمر ‪ ،‬لكنَّ الكتب مل تلعب فعليًا أيَّ دورٍ يف الديانات‬
‫‪36‬‬
‫الوثنية اليت كانت موجودة يف العامل الغربي القديم‪ .‬هذه الديانات كانت تقريبا‬
‫وبشكل خاص معنية بتمجيد اآلهلة عرب طقوس الذبح‪ .‬مل يكن مثّةَ عقائدٌ ميكن‬
‫تعلُّمها ‪،‬ومن ثمَّ تفسريُها يف ثنايا الكتب ‪ ،‬وتقريبا مل يكن مثَّة مبادئ أخالقية‬
‫حتتذى ‪ ،‬فيتم تضمينها يف الكتب‪ .‬وهذا ال يعين أننا نقول إن أتباع الديانات‬
‫الوثنية املتنوعة مل يكن لديهم أي عقائد حول آهلتهم أو أنهم مل يكن لديهم‬
‫أي مبادئ أخالقية ‪،‬بل ما نقصده هو أن العقائد واألخالق ـ وهو ما يبدو غريبًا‬
‫على األمساع يف العصر احلديث ـ مل تلعب تقريبا أيَّ دور يف الدين حتديدًا‪.‬‬
‫فتلك العقائد واألخالق كانت بدال من ذلك من قضايا الفلسفة الشخصية‪،‬‬
‫والفلسفات ‪ ،‬بالطبع ‪،‬ميكن أن تكتب يف الكتب‪ .‬وحيث إن الديانات القدمية‬
‫ذاتها مل تتطلب أي جمموعة خاصة من "العقائد السليمة" أو ‪ ،‬يف الغالب ‪ ،‬من"‬
‫القوانني األخالقية‪ "،‬فالكتب مل تلعب تقريبًا أي دور فيها‪ .‬كانت اليهودية‬
‫فريدة يف أنها أكدّت على تقاليدها ‪،‬وعاداتها‪ ،‬وقوانينها اآلبائية ‪ ،‬وأصرت‬
‫على أن يتمَّ تسجيلُها يف ثنايا الكتب املقدسة‪ ،‬اليت كانت هلا ‪،‬من أجل هذا‪،‬‬
‫منزلة "الكتاب املقدس" يف أعني الشعب اليهودي‪ .‬يف أثناء الفرتة موضع دراستنا‬
‫ـ القرن األول من امليالد (‪ ،)1‬عندما كانت الكتب املتضمَّنة يف العهد اجلديد يف‬
‫مرحلة الكتابة ـ كان اليهود الذين تشتتوا يف كل مكان من اإلمرباطورية‬
‫الرومانية يعتقدون أن التعاليم اليت أعطاها الرب بشكل خاص للشعب‬

‫‪37‬‬
‫موجودة يف ثنايا كتب موسى ‪،‬املشار إليها جمموعةً بالتوراة ‪،‬اليت تعين حرفيًا‬
‫شيئا مثل "قانون" أو "هداية "‪.‬‬

‫تتكون التوراة من مخسة كتب ‪،‬يطلق عليها أحيانا )‪ (Pentateuch‬أي‬


‫(أسفار موسى اخلمسة)‪،‬اليت هي بداية الكتاب املقدس اليهودي (الذي يقابل‬
‫مصطلح العهد القديم عند املسيحيني)‪ :‬التكوين ‪ ،‬اخلروج ‪،‬الالويني‪ ،‬العدد‬
‫‪ ،‬التثنية‪.‬‬

‫ها هنا جيد املرء روايات عن خلق العامل ‪،‬دعوة شعب إسرائيل ليصريوا شعب‬
‫اهلل ‪،‬قصص اآلباء واألمهات وعالقة اهلل بهم ‪،‬واألهم (واألطول مساحةً‬
‫)‪،‬القوانني اليت أعطاها اهلل ملوسى لتعرِّفَهم كيف ينبغي أن يعبد الشعبُ ربَّهم‬
‫وكيف ينبغي أن يتعاملوا بعضهم مع بعض داخل اجملتمع ‪ .‬لقد كانت قوانينًا‬
‫مقدسة ‪ ،‬ينبغي تعلُّمها ‪،‬ومناقشتها ‪ ،‬واتِّباعِها ـ و كانت مكتوبة يف ثنايا‬
‫جمموعة من الكتب‪.‬‬

‫كان لليهود كتبًا أخرى كانت متثل شيئًا مهمَّا حلياتهم الدينية اجلماعية‬
‫أيضًا‪،‬على سبيل املثال ‪،‬أسفار األنبياء (مثل إشعياء ‪،‬إرميا ‪ ،‬عاموس)‪،‬‬
‫األشعار (أو املزامري)‪ ،‬واألسفار التارخيية( مثل يشوع وصموئيل)‪ .‬يف احملصلة ‪،‬‬
‫‪38‬‬
‫بعد فرتة من ظهور املسيحية ‪ ،‬حدث وأن أصبحت جمموعة من هذه الكتب‬
‫العربية ـ اثنان وعشرين منهم حتديدًا ـ ي َْنظَرُ إليها على أنها القائمة القانونية‬
‫للكتاب املقدَّس ‪،‬أي الكتاب املقدس اليهودي يف الوقت احلاضر ‪،‬الذي قبله‬
‫املسيحيون باعتباره اجلزء األول من القائمة القانونية املسيحية ‪ ،‬أو ما يعرف‬
‫بـ"العهد القديم ‪)2( ".‬‬

‫هذه احلقائق املختصرة حول اليهود ونصوصهم املكتوبة هي من األهمية مبكان‬


‫ألنها متثل اخللفية بالنسبة للمسيحية ‪،‬اليت كانت أيضًا ‪ ،‬منذ حلظاتاها األوىل‬
‫‪،‬ديانة "كتابية"‪ .‬لقد بدأت املسيحية ‪،‬بالطبع ‪ ،‬من خالل يسوع ‪ ،‬الذي كان‬
‫نفسه حربًا يهوديًا( ) ‪ (Rabbi‬أي معلمًا) قَبِل سلطان التوراة ‪ ،‬ورمبا الكتب‬
‫اليهودية املقدسة األخرى ‪،‬و لقن تالميذه تفسريه اخلاص هلذه الكتب (‪. )3‬‬
‫ومثل معلمي عصره اآلخرين ‪،‬أكد يسوع أن النصوص املقدسة‪،‬قانون موسى‬
‫على وجه اخلصوص‪ ،‬متثل إرادة اهلل ‪ .‬لقد قرأ من هذه الكتب املقدسة‬
‫‪،‬وتعلَّمها‪،‬وقام بتفسريها ‪،‬والتزم بها‪،‬وعلَّمها‪ .‬لقد كان تالمذته ‪،‬منذ البداية‬
‫‪ ،‬يهودًا وكانوا ينظرون إىل الكتب اليت حتوي تقاليد قومهم على أنها ذات قيمة‬
‫خاصة‪ .‬وهكذا ‪ ،‬بالفعل ‪،‬يف بداية املسيحية ‪،‬كان أتباع هذه الديانة اجلديدة‬
‫‪،‬أي تالميذ يسوع ‪،‬فريدين يف اإلمرباطورية الرومانية ‪:‬فهم كانوا مثل اليهود‬

‫‪39‬‬
‫من قبلهم ‪،‬لكنهم مل يكونوا مثلَ أيِّ شخص آخر تقريبًا ‪،‬فقد أوجدوا سلطة‬
‫مقدسة يف ثنايا كتب مقدسة ‪ .‬لقد كانت املسيحية يف بدايتها ديانة الكتاب‪.‬‬

‫كما سنرى قريبا ‪ ،‬مل تكن األهمية اليت احتلتها الكتب لدى املسيحية األوىل‬
‫تعين أنَّ كلَّ املسيحيني كان بإمكانهم قراءة الكتب ؛ بل على العكس من ذلك‬
‫متاما ‪ ،‬معظم املسيحيني األوائل ‪،‬مثلهم مثل غالبية الشعب يف أحناء‬
‫اإلمرباطورية (مبن فيهم اليهود ! ) ‪ ،‬كانوا أمِّيني ‪ .‬لكنَّ ذلك ال يعين أنَّ الكتب‬
‫لعبت دورًا ثانويًا بالنسبة إىل الدين ‪ .‬يف احلقيقة ‪ ،‬كانت الكتب ذات أهمية‬
‫رئيسية‪ ،‬بشكل مطلق ‪ ،‬حلياة املسيحيني يف جمتمعاتهم‪.‬‬

‫أول ما جيب مالحظته هو أن أنواعًا كثرية ومتباينة من الكتابة كانت حتمل أهمية‬
‫للمجتمعات املسيحية النامية يف القرن األول بعد وفاة يسوع ‪ .‬فأقدم الرباهني‬
‫اليت بني أيدينا عن اجملتمعات املسيحية تأتي من الرسائل اليت كتبها القادة‬
‫املسيحيون ‪ .‬بولس الرسول هو أقدم وأفضل مثال لدينا ‪ .‬أقام بولس الكنائس‬

‫‪40‬‬
‫يف أحناء غرب املتوسط ‪ ،‬بشكل أساسي يف املراكز احلضرية ‪،‬وبصورة جلية عرب‬
‫إقناع الوثنيني (أي أتباع الديانات الشركية داخل اإلمرباطورية) بأن إله اليهود‬
‫هو اإلله الوحيد املستحق للعبادة ‪،‬وأن يسوع كان ابنه‪،‬الذي مات من أجل‬
‫خطايا العامل وأنه سيعود قريبًا للدينوية على األرض (انظر ‪1‬تسالونيكي ‪: 1‬‬
‫‪ . ) 11 -9‬ليس من الواضح إىل أيِّ حدٍ استخدم بولس الكتاب املقدس (‬
‫أي نصوص الكتاب املقدس اليهودي) يف حماولته إلقناع مُتنَصِّريه ا ُملحََْتمَلني بأن‬
‫رسالته هي رسالة احلق ؛ لكنه يشري يف واحدة من ملخصاته اهلامة لرحالته‬
‫الوعظية إىل أن ما يعظ به هو أن "املسيح مات ‪ ،‬حسب الكتب " (‪ 1‬كورنثوس‬
‫‪ .)4 -3 : 15‬من الواضح أن بولس ربط بني أحداث موت املسيح و قيامته‪،‬‬
‫بتفسريه إلحدى الفقرات الرئيسية يف الكتاب املقدس اليهودي ‪،‬اليت كان‬
‫باستطاعته بشكل واضح ‪،‬باعتباره يهوديًّا واسع الثقافة ‪ ،‬أن يقرأها لنفسه‬
‫‪،‬وأن يفسرها ملستمعيه يف حماولة لتنصريهم كثريا ما تكللت بالنجاح‪ .‬وبعد أن‬
‫يقوم بتحويل عددٍ من الناس إىل املسيحية يف مكان معني ‪ ،‬كان بولس ينتقل‬
‫إىل مكان آخر وحياول ‪ ،‬وعادة ما يكون ذلك مصحوبا ببعض النجاح ‪ ،‬أن‬
‫حيوّل الناس فيه أيضًا إىل املسيحية‪ .‬لكنه يف بعض األحيان ( ورمبا كثريا ؟)كانت‬
‫تتناهى إىل مسامعه أخبارًا من إحدى جمتمعات املؤمنني األخرى اليت أقامها من‬
‫قبل ‪:‬و أحيانًا (أم هل نقول كثريا ؟) مل تكن هذه األخبار جيدة ‪ :‬فأفراد‬
‫اجملتمع بدءوا يسلكون سلوكا رديئا ‪ ،‬وظهرت مشكالت الفجور األخالقي‬
‫‪41‬‬
‫)‪،(Immorality‬و"املعلمون الكذبة )‪" (false teachers‬أصبحوا‬
‫ينشرون تعاليم مضادة لتعاليمه ‪،‬بعض أفراد اجملتمع بدءوا يف اعتناق العقائد‬
‫الباطلة ‪ ،‬وهكذا ‪ .‬عند مساعه هذه األخبار ‪،‬كتب بولس ردًا يف رسالة إىل‬
‫اجملتمع ‪،‬تتناول هذه املشكالت ‪ .‬كانت هذه الرسائل شديدة األهمية حلياة‬
‫اجملتمع ‪،‬ويف النهاية أصبح عددٌ من هذه اجملتمعات ينظر إىل هذه الرسائل‬
‫باعتبارها كتابًا مقدسًا ‪.‬حوالي ثالث عشرة رسالة كتبت باسم بولس أصبحت‬
‫جزءا من العهد اجلديد‪ .‬ميكننا تصوُّر األهمية اليت كانت حتتلها هذه الرسائل يف‬
‫مراحل احلركة املسيحية األوىل من أول الكتابات املسيحية اليت لدينا ‪ ،‬أي‬
‫رسالة بولس األوىل إىل أهل تسالونيكي ‪،‬اليت عادة ما تؤرخ بعام ‪ 49‬ميالديًا‬
‫تقريبًا (‪ ، )4‬أي بعد عشرين عامًا تقريبا من موت يسوع ‪ ،‬و قبل عشرين عامًا‬
‫تقريبًا من كتابة أيٍ من روايات األناجيل عن حياته ‪.‬ينهي بولس رسالته بقوله‪،‬‬
‫جمِيعاً بِقُ َْب َلةٍ ُمقَدَّسَةٍ ؛ ُأنَا ِشدُ ُكمَْ بِالرَّبِّ أَنَْ تُقْرَأَ َه ِذهِ‬
‫إلخَْوَةِ َ‬
‫" س َِّلمُوا َعلَى ا ِ‬
‫إلخَْوَةِ ا ْلقِدِّيسِنيَ"( ‪ 1‬تسالونيكي ‪). 27 – 26: 5‬‬
‫جمِيعِ ا ِ‬
‫الرِّسَالَةُ عَلَى َ‬

‫معين به ؛ إن‬
‫مل يكن هذا اخلطاب خطابا تقليديًا يقرأه ببساطة شخصٌ ما ٌّ‬
‫الرسول يُصِرُّ على أن يُقرأ هذا اخلطاب ‪ ،‬وأن يتمَّ قبولُه باعتباره بيانًا رمسيًا‬
‫منه ‪،‬كمؤسسٍ للمجتمع ‪ .‬كانت اخلطابات من أجل ذلك يتم نشرها يف كل‬

‫‪42‬‬
‫مكان تتواجد به اجلماعات املسيحية منذ أقدم العصور ‪ .‬كانت الرسائل حلقة‬
‫االتصال بني اجملتمعات اليت كانت تعيش يف أماكن خمتلفة ‪ ،‬فقد وحَّدت إميان‬
‫و طقوس املسيحيني ؛وذكرت ما كان يفرتض أن يؤمن به املسيحيون وكيف‬
‫يفرتض أن يكون سلوكهم ‪ .‬كانت تقرأ بصوت عالٍ على أفراد اجملتمع يف‬
‫اجتماعاتهم ـ حيث مل يكن معظم املسيحيني ‪،‬كما أوضحت ‪،‬مثلهم يف ذلك‬
‫مثل الغالبية العظمى من اآلخرين ‪ ،‬باستطاعتهم قراءة الرسائل بأنفسهم‪.‬‬

‫أصبح عددٌ من هذه الرسائل جزءًا من العهد اجلديد ‪ .‬العهد اجلديد ‪ ،‬يف الواقع‬
‫‪ ،‬يتشكل بشكل كبري من رسائل بولس و القادة املسيحيني اآلخرين‬
‫للمجتمعات املسيحية (الكرونثيون و الغالطيون على سبيل املثال ) واألفراد‬
‫املسيحيني (فيليمون كمثال)‪.‬أضف إىل هذا أن الرسائل اليت بقيت حية ــ منها‬
‫إحدى وعشرين متضمنة يف العهد اجلديد ـ هي فقط جزء صغري من هذه‬
‫الكتابات ‪ .‬بالنسبة لبولس وحده ‪ ،‬ميكننا أن نفرتض أنه كتب رسائل كثرية‬
‫أخرى أكرب من من تلك املنسوبة إليه يف العهد اجلديد‪ .‬فقد كان ‪،‬أحيانًا ‪ ،‬يذكر‬
‫رسائل أخرى مل يعد هلا وجود ؛ ففي ‪ 1‬كورنثوس ‪ ، 9 : 5‬على سبيل‬
‫املثال ‪ ،‬ذكر رسالة كان قد كتبها قبل أن يكتب الرسالة إىل الكورنثيني (يف وقت‬

‫‪43‬‬
‫ما قبل الرسالة األوىل إىل الكورنثيني )‪ .‬وذكر رسالة أخرى أرسلها إليه بعض‬
‫ٍّ من هذه الرسائل ‪.‬‬
‫الكورنثيني (‪ 1‬كور ‪ . )1 : 3‬لكنَّ أثرًا مل يبق ألي‬

‫ارتاب العلماء لفرتة طويلة يف أن بعضًا من هذه الرسائل املوجودة يف العهد‬


‫اجلديد منسوبةً لبولس هي يف احلقيقة من كتابات أتباعه املتأخرين ونسبت إليه‬
‫بالباطل (‪ . )5‬و لو صحَّت هذه الشكوك ‪،‬فستعطي دليلًا ال شك فيه على‬
‫أهمية الرسائل عند احلركة املسيحية األوىل ‪ :‬فلكي جيذب اإلنسان األمساع‬
‫إىل وجهات نظره ‪ ،‬كان عليه أن يكتب رسالة ممهورة بتوقيع الرسول مفرتضًا‬
‫أن ذلك سيمنحها حجمًا من املوثوقية جديرًا باالعتبار‪.‬‬

‫إحدى هذه الرسائل اليت يزعمون أنها منسوبة إليه هي الرسالة إىل أهل‬
‫كولوسي ‪ ،‬اليت تؤكد حبد ذاتها أهمية الرسائل و هي تذكر رسالة أخرى مل‬
‫يعُد هلا اآلن وجود‪ " :‬وَ َمتَى ُق ِرئَتَْ عِ َْندَ ُكمَْ َهذِهِ الرِّسَالَةُ فَاجَْ َعلُوهَا تُقْرَأُ ايَْضاً‬
‫ال ُودِكِيَّةَ َتقْ َرأُوَنهَاأنَُْتمَْ أيَْضاً‪1(" .‬كولوسي ‪4‬‬
‫فِي كَنِي َسةِ الالَّوُدِكِيِّنيَ‪ ،‬وَالَّتِي ِمنَْ َ‬
‫‪ .) 16 :‬من الواضح أن بولس – إما هو نفسه ‪ ،‬أو شخص آخر يكتب بامسه‬
‫ـ كتب رسالة إىل مدينة الالودكية اجملاورة‪ .‬هذه الرسالة أيضًا مفقودة (‪) .6‬‬

‫‪44‬‬
‫النقطة اليت أدندن حوهلا هي أن الرسائل كانت حتمل أهمية حلياة اجملتمعات‬
‫املسيحية األوىل‪ .‬هذه الرسائل كانت هي الوثائق املكتوبة اليت كتبت لرتشدهم‬
‫يف إميانهم و عباداتهم ‪ .‬فقد وحَّدت تلك الكنائس برباط واحد ‪.‬وساعدت على‬
‫جعل املسيحية ديانة شديدة االختالف عن غريها من األديان األخرى املنتشرة‬
‫يف أحناء االمرباطورية ‪،‬وذلك يف أن اجملتمعات املسيحية املتعددة ‪،‬اليت تتوحد‬
‫من خالل هذا األدب املشرتك الذي تشاركوه هنا وهنالك (قارن مع كولوسي‬
‫‪ ، )16: 4‬كانت ملتزمة بالتعاليم املوجودة يف الوثائق املكتوبة أو "الكتُب"‪.‬‬
‫ومل تكن الرسائل هي الوحيدة اليت محلت أهمية بالنسبة هلذه اجملتمعات ‪.‬‬
‫فلقد كان هناك أدبٌ ‪،‬يف احلقيقة ‪ ،‬يتم انتاجه ‪ ،‬ونشره ‪،‬وقراءته و االلتزام به‬
‫على نطاق شديد االتساع من خالل املسيحيني األُوَل ‪،‬وهو أدب شديد‬
‫االختالف عن أيِّ شئ آخر شهده العامل الروماني الوثين على اإلطالق ‪.‬‬
‫وبدال من وصف كل هذا األدب بتفصيل مملّ ‪ ،‬ميكنين اآلن ببساطة أن أذكر‬
‫بعض األمثلة من تلك األنواع من الكتب اليت كانت تُكتَب وتُوَزَّع‪.‬‬

‫األناجيل املبكرة‬

‫كان املسيحيون بالطبع معنيِّني مبعرفة معلومات أكثر عن حياة ‪،‬وتعاليم ‪،‬‬
‫وموت الرب و قيامته ؛ ولذلك كُِتَبتَْ العديد من األناجيل ‪،‬اليت قامت‬
‫بتسجيل التقاليد املتصلة حبياة يسوع ‪ .‬أربعة من هذه األناجيل أصبحت هي‬

‫‪45‬‬
‫األوسع استخدامًا ـ وهي تلك اليت كتبها متَّى ‪،‬ومرقس ‪،‬ولوقا ‪ ،‬ويوحنا يف‬
‫ثنايا العهد اجلديد ـ لكنَّ أناجيال أخرى كثرية كُتِبت‪ :‬منها على سبيل املثال‬
‫‪،‬األناجيل املنسوبة إىل فيليبُّس تلميذ يسوع ‪ ،‬ويهوذا توما أخيه ‪ ،‬ورفيقته‬
‫مريم اجملدلية‪ .‬كما فقدت أناجيل أخرى بعضها من األناجيل األكثر قِدمًا ‪ .‬نعلم‬
‫ذلك ‪،‬على سبيل املثال ‪،‬من إجنيل لوقا ‪،‬الذي يشري مؤلفه أنه يسرتشد يف‬
‫كتابة روايته ب"كثريٍ" من املؤلَّفات السابقة (لوقا ‪،)1 : 1‬اليت من الواضح‬
‫جدا أنها مل يعد هلا وجود ‪ .‬إحدى هذه الروايات األكثر ِقدَمًا رمبا كانت هي‬
‫املصدر الذي حدده العلماء حتت اسم املصدر "‪، "Q‬والذي حيتمل أنه كان‬
‫رواية مكتوبة تشتمل على أقوال يسوع بشكل أساسيّ ‪ ،‬واستخدمها كل من‬
‫لوقا ومتَّى كمصدرٍ لكثري من تعاليم يسوع اليت انفردا بها (على سبيل املثال‬
‫صالة الرب والتطويبات ) (‪ . )7‬فسَّر بولس وآخرون حياة يسوع ‪،‬كما رأينا ‪،‬‬
‫على ضوء الكتابات املقدسة اليهودية‪ .‬هذه الكتب أيضًا ـ أي كال من األسفار‬
‫اخلمسة و الكتابات اليهودية األخرى ‪ ،‬مثل أسفار األنبياء و املزامري ـ كانت‬
‫تُستخدم على نطاقٍ واسعٍ بني املسيحيني ‪،‬الذين سربوا أغوارها لريوا ما ميكنها‬
‫كشفه خبصوص إرادة اهلل كما حتققت يف شخص املسيح خاصةً‪ .‬كانت نسخ من‬
‫هذا الكتاب املقدس اليهودي ‪،‬مرتمجة يف العادة باليونانية (تسمى السبعينية )‬
‫‪ ،‬منتشرة على نطاق واسع ‪،‬إذن‪ ،‬يف اجملتمعات املسيحية األوىل كمصادر‬
‫للدراسة والتأمل ‪.‬‬
‫‪46‬‬
‫األعمال املبكرة للرسل‬

‫ليست حياة يسوع فحسب ‪،‬بل أيضًا حياة األتباع األوائل كانت حمطًّا الهتمام‬
‫اجملتمعات املسيحية املتنامية يف القرنني األول والثاني ‪ .‬ليست مفاجأة ‪،‬إذن ‪،‬أن‬
‫نرى أن قصص الرسل ـ مغامراتهم و أعماهلم التبشريية ‪،‬خاصة بعد موت‬
‫وقيامة يسوع ـ أصبحت تشغل مكانة هامة عند املسيحيني املهتمني مبعرفة املزيد‬
‫من املعلومات عن دينهم ‪ .‬إحدى هذه القصص ‪ ،‬أي سفر أعمال الرسل ‪،‬‬
‫جنحت يف النهاية يف أن تصبح جزءًا من العهد اجلديد ‪ .‬لكنَّ قصصًا أخرى كثرية‬
‫كُتَِبتَْ عن الرسل كلٌّ على حدى ‪،‬مثل تلك املوجودة يف أعمال بولس ‪،‬‬
‫وأعمال بطرس ‪،‬وأعمال توما ‪ .‬أعمال أخرى جنى بعضها من الضياع ولكن‬
‫يف صورة مقاطع صغرية فحسب ‪ ،‬بينما فُ ِقدَ البعض اآلخر متامًا‪.‬‬

‫كما أشرت ‪،‬نشر بولس (مع الرسل اآلخرين) تعليمًا يقول إن يسوع كان‬
‫مُزمعًا أن يعود من السماء للحكم على األرض ‪ .‬النهاية الوشيكة لكل األشياء‬
‫حرَ باستمرار لُبَّ املسيحيني األوائل ‪،‬الذين يف العموم كانوا‬
‫كانت أمرًا َس َ‬
‫يتوقعون أن اهلل سيتدخل قريبًا يف شئون العامل ليقهر قوى الشر وليقيم هنا على‬
‫‪47‬‬
‫األرض مملكته اخليِّرة ‪،‬وعلى رأسها يسوع‪ .‬بعض املؤلفني املسيحيني كتبوا‬
‫قصصًا تنبُّؤيَّة‬

‫)‪(prophetic accounts‬عمّا سيحدث يف هذه النهاية الكارثية للعامل‬


‫كما نعرفه‪ .‬لقد كان عند اليهود أعمال حاذت قصبة السبق يف هذا النوع من‬
‫األدب "الر َؤ ِويّ )‪ ،" (apocalyptic‬يف كتاب دانيال ‪،‬على سبيل‪ ،‬يف‬
‫الكتاب املقدس اليهودي ‪ ،‬أو كتاب أخنوخ‪ (book of 1 Enoch) 1‬يف‬
‫األبوكريفا اليهودية ‪ .‬ومن بني الرؤى املسيحية ‪،‬دخلت واحدة يف النهاية إىل‬
‫العهد اجلديد‪ :‬رؤيا يوحنا ‪ .‬بينما كانت رؤى أخرى ‪،‬من بينها رؤيا بطرس و‬
‫الراعي هلرماس ‪ ،‬شائعة القراءة يف عددٍ من اجملتمعات املسيحية يف القرون‬
‫األوىل للكنيسة‪.‬‬

‫تضاعفت اجملتمعات املسيحية ومنت ‪،‬بدءًا من عصر بولس ولتتواصل خالل‬


‫األجيال اليت جاءت من بعده‪ .‬كانت الكنائس املسيحية يف األصل ‪،‬أو على‬
‫األقل تلك اليت أقامها بولس نفسه ‪،‬من اجملتمعات اليت ميكننا أن نطلق عليها‬
‫جمتمعاتٍ ذات مواهب قيادية‬

‫‪48‬‬
‫‪(charismatic) .‬فقد كانوا يؤمنون بأن كل فرد من اجملتمع قد أُوتِيَ‬
‫"موهبةً" ( كاريزما باليونانية) من الروح القدس ملساعدة اجملتمع يف تسيري حياته‬
‫احلاضرة‪ :‬على سبيل املثال ‪،‬هناك مواهب التعليم ‪ ،‬موهبة اإلدارة ‪ ،‬موهبة‬
‫إعطاء الصدقات ‪،‬موهبة الشفاء ‪،‬وموهبة التنبوء ‪ .‬إال أنه يف نهاية املطاف ‪،‬‬
‫حينما بدأت التنبؤات اخلاصة بالنهاية الوشيكة للعامل يف االضمحالل ‪ ،‬بدى‬
‫واضحًا أن هناك حاجة إلجياد بنية كنسية أكثر صرامة ‪،‬خاصة إذا كانت‬
‫الكنيسة ستظل قائمة لفرتة طويلة (قارن ‪ 1‬كرونثوس ‪ 11‬؛ مع متّى ‪16‬‬
‫‪ .)18،‬بدأت الكنائس الواقعة على جانيب البحر املتوسط ‪ ،‬ومن بينها تلك‬
‫اليت أسسها بولس ‪ ،‬يف تعيني قادة سيتولُّون املسئولية واختاذ القرارات (بدال من‬
‫النظر إىل كل فرد من أفراد الكنيسة باعتباره "متساويًا" يف املوهبة من الروح )؛‬
‫فبدأت القواعد اخلاصة بكيفية عيش اجملتمع املسيحي معًا ‪ ،‬وبكيفية ممارسته‬
‫لشعائره املقدسة (العماد والقربان املقدس على سبيل املثال ) ‪ ،‬وتعليم‬
‫األعضاء اجلدد ‪..‬إخل ‪،‬يتمُّ صياغتها‪ .‬وسرعان ما بدأ تدوين الوثائق اليت تذكر‬
‫الكيفية املثلى لتنظيم وهيكلة الكنيسة‪ .‬لقد أصبح ما يعرف ب"النظم الكنسية"‬
‫أمرًا ذا أهمية متزايدة يف القرنني املسيحيني الثاني والثالث‪،‬لكن يف العام ‪111‬‬
‫بعد امليالد تقريبًا كان الكتاب املعروف باسم "ديداخي (تعليم ) الرسل االثنى‬
‫عشر" هو أول (حسب ما نعلمه ) ما كتب بالفعل‪ .‬وخالل زمن قصري تبعه‬
‫العديد من الكتب‪.‬‬
‫‪49‬‬
‫عندما كانت اجملتمعات املسيحية يف مرحلة النشوء ‪،‬كانت جتابه أحيانًا مبعارضة‬
‫من اليهود و الوثنيني الذين رأوا يف هذا اإلميان اجلديد تهديدًا وارتابوا يف اخنراط‬
‫أتباعه يف طقوس ال أخالقية ومدمرة للمجتمع (كما ينظر اليوم إىل احلركات‬
‫الدينية اجلديدة يف أحيان كثرية بالريبة ذاتها متاما)‪ .‬هذه املعارضة أدت يف أحيان‬
‫كثرية إىل وقوع اضطهادات للمسيحيني يف جمتمعهم احمللي؛ ويف النهاية‬
‫أصبحت االضطهادات ذات طابع "رمسيّ"‪ ،‬حيث تدخلت السلطات الرومانية‬
‫للقبض على املسيحيني ويف حماولة إلجبارهم على الرجوع إىل معتقداتهم‬
‫الوثنية القدمية ‪ .‬وعندما كانت املسيحية تنمو ‪،‬جنحت يف النهاية يف استمالة‬
‫املثقفني إىل اإلميان ‪،‬وهم الذين كانوا مؤهلني جيدًا ملناقشة االتهامات اليت‬
‫ُر ِفعَت يف وجوه املسيحيني ودحضها‪ .‬كتابات هؤالء املثقفني يطلق عليها أحيانًا‬
‫الدفاعيات ‪،‬من الكلمة اليونانية (أبولوجيا) املقابلة لكلمة "دفاع"‪ .‬املدافعون‬
‫كتبوا أعماال فكرية دفاعًا عن اإلميان اجلديد ‪ ،‬حماولني إظهار أن املسيحية هي‬
‫ديانة تبشر بالقيم األخالقية ‪،‬وهي بعيدة كل البعد عن أن تكون تهديدًا للبناء‬
‫اإلجتماعي لإلمرباطورية الرومانية ‪ ،‬وأن املسيحية متثل احلقيقة املطلقة يف‬

‫‪50‬‬
‫توجهها حنو عبادة اإلله احلق وهي بعيدة كل البعد عن أن تكون تلك الديانة‬
‫اخلطرة املبنية على اخلرافات‪ .‬هذه الكتابات الدفاعية كانت ذات أهمية للقراء‬
‫املسيحيني األوائل ‪،‬ألنها أمدتهم باحلجج اليت حيتاجونها عند تعرضهم‬
‫لالضطهاد‪ .‬هذا النوع من الدفاع نشأ بالفعل يف العصر الذي كُِتبَ فيه العهد‬
‫اجلديد ‪،‬على سبيل املثال ‪ ،‬يف ‪1‬بطرس ‪ 15 : 3‬نقرأ " مُ َْسَتعِدِّينَ دَائِماً‬
‫الرجَاءِ الَّذِي فِي ُكمَْ " ويف سفر األعمال‬
‫ِلمُجَا َوبَةِ كُلِّ َمنَْ يَ َْسأَُل ُكمَْ َعنَْ َسبَبِ َّ‬
‫‪،‬حيث يدافع بولس والرسل اآلخرون عن أنفسهم ردًا على االتهامات اليت‬
‫وجهت إليهم ‪ .‬قريبًا من النصف الثاني من القرن الثاني ‪،‬كانت الكتابات‬
‫الدفاعية قد أصبحت شكال معروفًا من الكتابة املسيحية‬

‫قريبا من الفرتة الزمنية ذاتها اليت بدأ فيها تدوين الكتابات الدفاعية ‪،‬بدأ‬
‫املسيحيون يف تدوين روايات عن اضطهاداتهم و االستشهادات اليت وقعت‬
‫نتيجة هلذه االضطهادات‪ .‬هناك بعض الوصف لألمرين كليهما يف سفر‬
‫األعمال املوجود يف العهد اجلديد‪،‬حيث كانت املعارضة للحركة‬
‫املسيحية‪،‬وإلقاء القبض على الزعماء املسيحيني‪ ،‬وإعدام أحدهم (ستيفانوس)‬
‫على األقل تشكل جزءا هاما من احلكي داخل السفر (انظر أعمال ‪ . )7‬بعد‬

‫‪51‬‬
‫ذلك ‪ ،‬يف القرن الثاني امليالدي ‪ ،‬بدأت سري الشهداء يف الظهور ‪ .‬أول ما ظهر‬
‫منها كان استشهاد بوليكاربوس ‪ ،‬الذي كان قائدا مسيحيًّا مرموقًا وكان أسقفًا‬
‫لكنيسة "مسرينا"‪ ،‬يف آسيا الصغرى‪ ،‬تقريبا طوال النصف األول من القرن‬
‫الثاني كامال‪ .‬قصة موت بوليكاربوس موجودة يف رسالة كتبها أفراد كنيسته‬
‫‪،‬حيث كتبوها جملتمع مسيحي آخر ‪ .‬بعد ذلك مباشرة ‪ ،‬بدأت قصص الشهداء‬
‫اآلخرين يف الظهور‪.‬هذه القصص أيضا كانت واسعة االنتشار بني املسيحيني‬
‫‪،‬ألنها منحت هؤالء الذين كانوا حمال لالضطهاد من أجل اإلميان تشجيعا‬
‫‪،‬ومنحتهم البوصلة اليت بها يعرفون طريقهم يف مواجهة أقصى التهديدات مثل‬
‫الوقوع يف األسر ‪،‬والتعذيب و املوت‪.‬‬

‫مل تقتصر املشكالت اليت واجهت املسيحيني على التهديدات اخلارجية املتمثلة‬
‫تنوعًا يف‬
‫يف االضطهاد‪ .‬فقد كان املسيحيون ‪،‬منذ أقدم العصور ‪ ،‬يعون أن مثة ُّ‬
‫تفسري "احلقيقة" الدينية كان موجودا بني صفوفهم‪ .‬فها هو الرسول بولس‬
‫يشتكي من "املعلمني الكذبة" ــ على سبيل املثال‪،‬يف رسالته إىل الغالطيني ‪ .‬فإذا‬
‫قرأنا الروايات املوجودة ‪ ،‬ميكننا أن نرى بوضوح أن هؤالء اخلصوم مل يكونوا‬
‫من الغرباء ‪ .‬فقد كانوا مسيحيني فهموا الدين بطرق خمتلفة على حنوٍ مطلق ‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫وللتعامل مع هذه املشكلة ‪،‬بدأ القادة املسيحيون يف كتابة املقاالت اليت تتصدى‬
‫"للهراطقة"(أي الذين اختاروا الطريق اخلطأ لفهم اإلميان)؛ متثل بعض رسائل‬
‫بولس ‪ ،‬إىل حدٍ ما ‪ ،‬أقدم النماذج هلذا النوع من املقال ‪ .‬يف النهاية أصبح‬
‫املسيحيون من كل االجتاهات معنيني مبحاولة حتديد "التعليم احلق" (وهو املعنى‬
‫احلريف لكلمة "األرثوذكسية") وبالتصدي هلؤالء الذين يدافعون عن التعاليم‬
‫الباطلة ‪ .‬هذه املقاالت املضادة للهرطقات أصبحت مَيزة مهمة من ميزات‬
‫املشهد األدبي املسيحي املبكر‪ .‬األمر الطريف هو أنَّ جمموعات" املعلمني الكذبة"‬
‫كتبوا هم أيضًا مقاالت ضد "املعلمني الكذبة"‪،‬حتى إن اجملموعة اليت أقامت‬
‫ذات مرة ولألبد ما أصبح املسيحيون يؤمنون به ( هؤالء مسئولون ‪،‬على سبيل‬
‫املثال‪ ،‬عن العقائد اليت وصلت إلينا اليوم) أصبحت تتعرض أحيانا النتقادات‬
‫املسيحيني الذين اعتنقوا عقائدا اعتربت يف النهاية تعاليم باطلة‪ .‬علمنا ذلك من‬
‫خالل بعض االكتشافات احلديثة نسبيًا لآلداب "اهلرطوقية"‪ ،‬اليت يصر فيها من‬
‫يُعَْ َرفُون باهلراطقة على أن رؤاهم هي الرؤى الصحيحة و أن تلك التعاليم اليت‬
‫يعتنقها قادة الكنيسة " األرثوذوكسية" هي تعاليم باطلة (‪). 8‬‬

‫‪53‬‬
‫مساحة واسعة من اجلدل حول العقيدة الصحيحة والعقيدة الباطلة مت الزج بها‬
‫يف تفسري النصوص املسيحية‪ ،‬ومن ضمنها "العهد القديم"‪،‬الذي ادعى‬
‫املسيحيون أنه جزء من كتابهم املقدس ‪ .‬هذا يبني مرة أخرى كيف احتلت‬
‫النصوص موقعا مركزيًّا بالنسبة للمجتمعات املسيحية املبكرة‪ .‬يف النهاية ‪،‬بدأ‬
‫املؤلفون املسيحيون يف كتابة تفاسري هذه النصوص ‪،‬ليس بالضرورة بغرض‬
‫دحض التفاسري الباطلة على حنوٍ مباشرٍ ( على الرغم من أن ذلك كثريا ما كان‬
‫يف احلسبان أيضًا)‪،‬لكن أحيانا ببساطة لتفسري معنى النصوص و إلظهار‬
‫عالقاتها باحلياة و املمارسة املسيحيتني ‪.‬من الطريف أن أول التفاسري املسيحيَّة‬
‫اليت نعرفها أليِّ نص من نصوص الكتاب املقدس كان كاتبه هو واحد ممن‬
‫يسمَّوَْن هراطقة ‪ ،‬وهو الغنوصي املسمى هرياكليون الذي عاش يف القرن الثاني‬
‫‪،‬والذي كتب تفسريًا إلجنيل يوحنا (‪) .9‬‬

‫يف النهاية أصبح وجود التفاسري ‪،‬واحلواشي التفسريية ‪،‬والتفاسري التطبيقية‪،‬‬


‫‪،‬والعظات الدينية حول النصوص أمرًا شائعًا داخل اجملتمعات املسيحية يف‬
‫القرنني الثالث والرابع‪.‬‬

‫لقد كنت أقوم بتلخيص األنواع املختلفة من الكتابات اليت كانت ذات أهمية‬
‫حلياة الكنائس املسيحية األوىل ‪ .‬كما أمتنى أن يكون واضحًا للعيان أنَّ الكتابة‬
‫‪54‬‬
‫كانت هي الظاهرة األكثر أهمية بالنسبة للكنائس واملسيحيني املنضويني حتتها ‪.‬‬
‫لقد احتلت الكتب مكان القلب من الديانة املسيحية ـ على عكس الديانات‬
‫األخرى داخل اإلمرباطورية ـ منذ البداية ‪.‬فالكتب قصَّت علينا الروايات اليت‬
‫حكاها املسيحيون مرارًا وتكرارًا عن يسوع وتالمذته؛ وزودت الكتبُ‬
‫املسيحيني بالتعاليم اليت ينبغي ان يؤمنوا بها وبالطريقة اليت يعيشون حياتهم‬
‫وحدَت الكتب بني اجملتمعات املنفصلة جغرافيًا لتنشأ كنيسة‬
‫من خالهلا ؛ كما َّ‬
‫واحدة عاملية ؛و دعَّمت الكتبُ املسيحيني يف أيام االضطهاد وأعطتهم مناذج‬
‫من التضحية بالذات ليتمثلوها يف مواجهة التعذيب واملوت ؛ مل تعطِهم الكتب‬
‫فحسب نصيحة نافعة بل صحَّحت العقيدة ‪،‬وحذرت من تعاليم اآلخرين‬
‫الباطلة و عجَّلت من قبول املعتقدات الصحيحة (األرثوذكسية)؛ و مسحت‬
‫الكتب للمسيحيني أن يعرفوا املعنى الصحيح للكتابات األخرى ‪ ،‬معطية إياهم‬
‫إرشاداتٍ عما ينبغي أن يفكروا فيه ‪،‬وكيف يتعبدُّون ‪،‬وكيف ينبغي أن يكون‬
‫سلوكهم ‪ .‬لقد كانت منزلة الكتب يف القلب متامًا من حياة املسيحيني األوائل‪.‬‬

‫تشكل قائمة الكتب الرمسية املسيحية(القانون)‬

‫يف النهاية ‪،‬بعض هذه الكتب املسيحية بدأ املسيحيون ينظرون إليها ليس فقط‬
‫باعتبارها كتبًا تستحق القراءة وإمنا أيضًا باعتبارها كتبًا موثوقًا بها متامًا كمصدر‬

‫‪55‬‬
‫تستقى منه املعتقدات واملمارسات اخلاصة باملسيحيني‪ .‬لقد صارت هي الكتاب‬
‫املقدس ‪.‬‬

‫لقد كانت عملية تشكُّل القائمة الرمسية للكتاب املقدس املسيحي‬


‫‪(Christian canon of s cripture‬طويلة ومعقدة ‪ ،‬ولست حباجة‬
‫إىل أن أدخل يف كل التفصيالت هنا (‪ . )11‬بدأ ‪ ،‬كما أشرت بالفعل من قبل‬
‫ٍّ على أن منشئ ديانتهم هو نفسه معلمٌ يهوديٌّ اعرتف‬
‫‪ ،‬املسيحيون بقانون مبين‬
‫بالتوراة ككتاب مقدسٍ موثوقٍ به موحى به من اهلل ‪ ،‬وعلَّم تالميذه تفسريه‬
‫الشخصيّ له ‪ .‬كان املسيحيون األوائل أتباعًا ليسوع الذي قبِلَ الكتب اليت‬
‫يتكون منها الكتاب املقدس اليهودي (الذي مل يكن قد نُصِّبَ حتى هذه‬
‫اللحظة و إىل األبد ك"قانون") باعتباره كتابهم املقدس اخلاص‪ .‬يف اصطالح‬
‫مؤلفي العهد اجلديد ‪،‬مبا فيهم بولس ‪ ،‬أقدم مؤلفينا ‪ ،‬يشري مصطلح‬
‫"الكتابات املقدسة " ) ‪ (s-riptures‬إىل الكتاب املقدس اليهودي ‪،‬وهو‬
‫جمموعة الكتب اليت كان الرب قد أعطاها لشعبه واليت تنبأت باملسيح اآلتي‬
‫‪،‬يسوع ‪ .‬مع ذلك ‪ ،‬مل يدم األمر طويال حتى بدأ املسيحيون يف قبول الكتابات‬
‫األخرى باعتبارها مساوية للكتب املقدسة اليهودية‪ .‬هذا القبول رمبا كان له‬
‫جذوره يف التعاليم األصلية ليسوع نفسه ‪،‬حيث أخذ تالميذه تفسريه للكتاب‬

‫‪56‬‬
‫املقدس باعتباره على قدم املساواة يف املوثوقية مع كلمات الكتاب املقدس نفسه‬
‫‪ .‬من احملتمل أن يكون يسوع قد شجع هذا الفهم عرب الطريقة اليت عرب بها عن‬
‫بعض تعاليمه ‪ .‬ففي أثناء موعظة اجلبل ‪،‬على سبيل املثال ‪،‬مت تصوير املسيح‬
‫وكأنه يذكر القوانني اليت أعطاها الرب ملوسى ‪ ،‬ثم يعطي تفسريه اخلاص‬
‫األكثر تشددا هلا ‪،‬مشريا إىل أن تفسريه هو اجلدير باالعتماد والقبول‪ .‬هذا‬
‫يوجد فيما يعرف يف إجنيل متى ‪ ،‬يف الفصل ‪ 5‬ب"املقابالت" ‪ .‬يقول يسوع ‪"،‬‬
‫« َقدَْ َس ِم َْعُتمَْ أََّنهُ قِيلَ ِللْ ُقدَمَاءِ‪ :‬الَ تَقُْتلَْ(وهي واحدة من الوصايا العشر) وَأَمَّا أَنَا‬
‫ح ْكمِ « ما‬
‫جبَ الْ ُ‬
‫ضبُ َعلَى َأخِيهِ بَا ِطالً َيكُونُ مُسَْتَ َْو ِ‬
‫َفَأقُولُ َل ُكمَْ‪ :‬إِنَّ كُلَّ مَنَْ َيغَْ َ‬
‫يقوله يسوع ‪ ،‬يف سياق تفسريه للشريعة ‪،‬يبدو مماثال يف املوثوقية للشريعة نفسها‬
‫‪ .‬أو يقول يسوع ‪َ "،‬قدَْ َس ِمعَُْتمَْ أََّنهُ قِيلَ ِل ْل ُقدَمَاءِ‪ :‬الَ تَ َْزنِ‪(.‬وهي وصية أخرى من‬
‫الوصايا العشر) وَأَمَّا أَنَا َفَأقُولُ َل ُكمَْ‪ :‬إِنَّ كُلَّ مَنَْ َينَْ ُظرُ إِلَى ا َْمرََأةٍ ِلَيشََْتهَِيهَا فَقَدَْ‬
‫زَنَى ِبهَا فِي َقلِْبهِ‪ ".‬يف بعض املناسبات تبدو هذه التفسريات املوثوقة للكتاب‬
‫املقدس ‪،‬يف الواقع ‪،‬ناسخةً لشرائع الكتاب املقدس(أي اليهودي) ذاتها‪ .‬على‬
‫سبيل املثال ‪،‬يقول يسوع ‪َ "،‬وقِيلَ‪َ :‬منَْ طَلَّقَ ا َْمرَأَتَهُ َفلْيُعَْ ِطهَا كِتَابَ‬
‫القٍ‪(،‬وهو أمرٌ موجودٌ يف التثنية ‪ )1: 24‬أَمَّا أَنَا َفَأقُولُ َل ُكمَْ‪ :‬إِنَّ َمنَْ َطلَّقَ‬
‫َط َ‬
‫َوجُ مُطَلَّ َقةً َفإَِّنهُ يَزَْنِي "‪.‬‬
‫امَْرَأََتهُ إِالَّ لِ ِعلَّةِ الزِّنَى يَجَْ َع ُلهَا َت َْزنِي وَ َمنَْ َيَتز َّ‬

‫‪57‬‬
‫من العسري أن نفهم كيف يستطيع شخصٌ أن يتبَِّع أمر موسى بإعطاء كتاب‬
‫طالق ‪ ،‬لو مل يكن الطالق يف حقيقة األمر خيارًا متاحًا ‪ .‬على أية حال‬
‫‪،‬أصبحت تعاليم يسوع ينظر إليها باعتبارها تعاليم يف الرتبة ذاتها اليت حتتلها‬
‫شرائع موسى ـ اليت هي شرائع التوراة ذاتها‪ .‬هذا األمر أصبح أكثر وضوحًا‬
‫فيما بعد يف زمن العهد اجلديد ‪ ،‬ففي الرسالة األوىل إىل تيموثي ‪ ،‬اليت من‬
‫املفرتض أن بولس هو كاتبها وإن كان العلماء كثريا ما يعدُّونها مكتوبة مبعرفة‬
‫أتباعٍ متأخرين نسبوها إليه ‪ .‬يف ‪ 1‬تيموثاوس ‪ 18 : 5‬يستحث املؤلف قراءه‬
‫إىل أن يدفعوا ماال إىل من يعظون بينهم ‪ ،‬ويدعم هذا احلث باقتباسٍ من‬
‫"الكتاب املقدس"‪ .‬األمر الطريف أنه حينئذ اقتبس فقرتني ‪ ،‬اقتبس واحدة من‬
‫التوراه ("الَ َتكُمَّ ثَوَْراً دَارِسًا ‪ "،‬تثنية ‪ )4 : 25‬واألخرى جاءت من كلمات‬
‫يسوع ("وَالْفَا ِعلُ ُمسَْتَحِقٌّ أُجَْ َرَتهُ")؛ انظر لوقا ‪ .)7 : 11‬يبدو أنَّ أقوال يسوع‬
‫‪ ،‬حسب وجهة نظر هذا املؤلف ‪ ،‬كانت على قدم املساواة بالفعل مع الكتاب‬
‫املقدس ‪ .‬و مل تكن تعاليم يسوع فحسب هي اليت كان اجليالن املسيحيان‬
‫الثاني والثالث يعتربانها جزءا من الكتاب املقدس ‪ .‬بل اعتربت كتابات رسله‬
‫أيضا كذلك‪ .‬الدليل على ذلك يأتي من آخر أسفار العهد اجلديد كتابةً‪ ،‬أي‬
‫رسالة بطرس الثانية ‪ ،‬وهو السفر الذي يعتقد معظم علماء النقد أنه مل يكتب‬
‫يف احلقيقة بقلم بطرس وإمنا بقلم واحدٍ من أتباعه ‪ ،‬الذي كتبه حتت اسم‬
‫مستعار ‪ .‬ففي ‪ 2‬بطرس‪ 3‬يشري املؤلف إىل أن املعلمني الكذبة حيرِّفون معنى‬
‫‪58‬‬
‫َر ُفهَا غَيَْرُ الْ ُعلَمَاءِ َوغَيَْرُ‬
‫رسائل بولس ليجعلوها تقول ما يريدونها أن تقوله‪ "،‬يُح ِّ‬
‫الثَّابِتِنيَ َكبَاقِي ا ْلكُتُبِ َأيَْضا" (‪ 2‬بط ‪ .) 16 : 3‬يبدو أن رسائل بولس ً قد‬
‫فهمت ها هنا على أنها كتاب مقدس‪ .‬بعد عصر العهد اجلديد بقليل ‪ ،‬كانت‬
‫بعض الكتابات املسيحية يتمُّ اقتباسها كنصوص رمسية نافعة حلياة ومعتقدات‬
‫الكنيسة‪ .‬الرسالة اليت كتبها يف بداية القرن الثاني بوليكاربوس‪ ،‬أسقف مسرينا‬
‫املذكور سابقا ‪ ،‬تعترب مثاال بارزًا ‪ .‬لقد طلبت كنيسة فيلييب النصيحة من‬
‫بوليكاربوس فيما يتعلق حتديدًا بقضية متَسُّ واحدًا من القادة الذي كان من‬
‫الواضح أنه تورط يف بعض أشكال سوء اإلدارة املالية داخل الكنيسة ( رمبا‬
‫اختالس أموال ختص الكنيسة )‪ .‬رسالة بوليكاربوس إىل أهل فيلييب ‪،‬اليت‬
‫بقيت إىل اآلن ‪ ،‬هي رسالة مثرية لعددٍ من األسباب ‪ ،‬ليس أقلها نزوعها إىل‬
‫االقتباس من كتابات أقدم ختص املسيحيني‪ .‬ففي أربعة عشر فصال فقط ‪،‬‬
‫يقتبس بوليكاربوس أكثر من مائة فقرة معروفة من تلك الكتابات األقدم‪،‬‬
‫مصرحًا بسلطانها على الوضع الذي كان أهل فيلييب يواجهونه ( على العكس‬
‫من اثين عشر اقتباسا فقط من الكتابات املقدسة اليهودية )؛ ويف أحد املواضع‬
‫يبدو وكأنه يطلق على رسالة بولس إىل أهل أفسوس كتابا مقدسا ‪ .‬كان من‬
‫املعتاد كثريا أن يقتبس ببساطة من كتابات أقدم أو يشري إليها ‪ ،‬مصوِّرًا‬
‫للمجتمع كونها كتاباتٍ موثوقًا بها (‪).11‬‬

‫‪59‬‬
‫يف وقت ما قبل تدوين رسالة بوليكاربوس ‪،‬نعلم أن املسيحيني كانوا يستمعون‬
‫إىل الكتب املقدسة اليهودية تُقرأ أثناء تأديتهم الطقوس التعبديِّة‪ .‬كاتب رسالة‬
‫تيموثي ‪، 1‬على سبيل املثال ‪،‬حيفِّز مستلم الرسالة أن‪ َ" :‬أ َْعكُفَْ َعلَى الْقِرَا َءةِ‬
‫(أي العامَّة) وَالْ َو َْعظِ وَالتَّ َْعلِيمِ‪ .)13 : 4(".‬وكما رأينا يف حالة الرسالة إىل أهل‬
‫كولوسي ‪،‬يبدو أن رسائل املسيحيني كانت تُقرأ على اجملموعة اجملتمعة أيضًا‪.‬‬
‫ونعلم أيضًا أنه قريبًا من منتصف القرن الثاني ‪ ،‬كان جزءٌ كبريٌ من طقوس‬
‫العبادة املسيحية يتضمن القراءة العامة للكتاب املقدس ‪ .‬يف فقرة كثريا ما‬
‫تناولتها ألسنة املتناقشني من كتابات املفكر املسيحي و عامل الدفاعيات‬
‫جوستينوس الشهيد ‪،‬على سبيل املثال ‪ ،‬لدينا إشارة إىل ما تضمنته اخلدمة‬
‫الكنسية يف مدينته األم روما‪:‬‬

‫يف اليوم املسمى يوم األحد ‪،‬كلُّ من يعيشون يف املدن أو يف البلد جيتمعون سويًا‬
‫يف مكان واحدٍ ‪ ،‬و تُقرأ مذكرات الرسل أو كتابات األنبياء ‪ ،‬حبسب ما يسمح‬
‫الوقت ؛ثمَّ‪ ،‬ملا يتوقف القارئ ‪،‬يلقي القسيس التعاليم ‪،‬ويعظ بضرورة‬
‫احتذاء هذه األعمال الطيبة ‪ 1( . . .‬أبولوج ‪) 67‬‬

‫‪60‬‬
‫يبدو على األرجح أن االستخدام الليتورجي (الطقسي) لبعض النصوص‬
‫املسيحية ـ على سبيل املثال ‪ ،‬أعلت " مذكرات الرسل" ‪ ،‬اليت عادةً ما ينظر‬
‫إليها على أنها هي نفسها األناجيل ‪ ،‬من مكانة هذه النصوص لدى معظم‬
‫املسيحيني حتى إنها كانت تُعَدُّ جديرة باالعتماد والقبول‬
‫)‪،(authoritative‬على قدم املساواة مع الكتابات املقدسة اليهودية‬
‫("كتابات األنبياء") ذاتها‪.‬‬

‫ميكننا تتبع أثر تشكُّل القائمة الرمسية للكتاب املقدس املسيحي حتى اآلن عن‬
‫كثب من خالل ما بني أيدينا من دليل ‪ .‬ففي الوقت ذاته الذي كان يكتب فيه‬
‫جوستينوس ‪ ،‬أي يف منتصف القرن الثاني ‪ ،‬كان مثة كاتبٌ مسيحيّ بارزٌ آخر‬
‫ميارس نشاطه داخل روما ‪ ،‬وهو الفيلسوف املعلم مرقيون ‪ ،‬الذي حكم عليه‬
‫فيما بعد باهلرطقة (‪ . )12‬مرقيون كان شخصية مثرية لالهتمام للعديد من‬
‫األسباب ‪ .‬فهو كان قد جاء إىل روما من آسيا الصغرى ‪ ،‬وكان بالفعل قد كوَّن‬
‫ثروة مما كان واضحًا أنه أعمال متعلقة ببناء السفن ‪ .‬عند وصوله إىل روما ‪،‬‬
‫تربع للكنيسة يف روما مببلغ طائل ‪،‬رمبا لكي حيصل ‪ ،‬إىل حدٍ ما ‪ ،‬على عونها‬
‫الكريم ‪ .‬وقد ظلَّ يف روما خلمس سنوات ‪ ،‬منفقا كثريا من وقته يف نشر مفهومه‬

‫‪61‬‬
‫عن اإلميان املسيحي ويف كتابة تفاصيل هذا اإلميان يف العديد من الكتابات‪ .‬مل‬
‫يكن عمله األكثر تأثريا هو شئ قام بكتابته ‪،‬بل شئ قام بتعديله‪ .‬لقد كان‬
‫فعلي للكتاب‬
‫ٍّ‬ ‫ٍّ‪ ،‬فيما نعلم‪ ،‬قام بتشكيل "قانون"‬
‫مرقيون هو أول مسيحي‬
‫املقدس ـ أي جمموعة من الكتب اليت ‪،‬كما زعم ‪ ،‬تضم النصوص املقدسة‬
‫النافعة لإلميان ‪ .‬لكي نفهم هذه احملاولة األوىل لتشكيل قائمة رمسية للكتاب‬
‫املقدس ‪ ،‬حنتاج إىل أن نعرف قليال من املعلومات حول تعاليم مرقيون الفريدة‬
‫‪ .‬لقد كان مرقيون مأخوذًا متامًا حبياة وتعاليم الرسول بولس ‪،‬الذي كان يعتربه‬
‫الرسول الوحيد "احلقيقيَّ" من األيام األوىل للكنيسة‪ .‬يف بعض رسائله ‪ ،‬مثل‬
‫الرسائل إىل أهل رومية و أهل غالطية ‪ ،‬كانت تعاليم بولس تنص على أن‬
‫ٍّ من‬
‫املنزلة الطيبة أمام اهلل تأتي فقط من اإلميان باملسيح ‪ ،‬وليس بأداء أيٍ‬
‫األعمال اليت فرضتها الشريعة اليهودية‪ .‬التقط مرقيون هذا االختالف بني‬
‫شريعة اليهود و بني اإلميان باملسيح ليصل به إىل ما رأى أنه نتيجة ذلك املنطقية‬
‫‪،‬وهي أنَّ هناك متايزًا تامًّا بني الشريعة من ناحية وبني اإلجنيل من الناحية‬
‫األخرى‪ .‬لقد كانت الشريعة خمتلفة متام االختالف عن اإلجنيل ‪،‬يف احلقيقة ‪،‬‬
‫إىل درجة جعلت من املستحيل أن يكونا كالهما قد جاءا من اإلله ذاته ‪ .‬استنتج‬
‫مرقيون أن رب يسوع (وبولس) مل يكن ‪،‬هلذا السبب ‪،‬اإلله ذاته الذي أوحى‬
‫العهد القديم‪ .‬لقد كان مثة ‪،‬يف الواقع‪ ،‬إهلان اثنان خمتلفان‪ :‬إله اليهود ‪ ،‬الذي‬
‫خلق العامل ‪ ،‬ودعا إسرائيل ليكونوا شعبه املختار ‪ ،‬وأنزل إليهم قانونه‬
‫‪62‬‬
‫القاسي ؛ وإله يسوع ‪،‬الذي أرسل املسيح إىل العامل لينقذ بين البشر من‬
‫االنتقام القاسي لرب اليهود اخلالق‪.‬‬

‫آمن مرقيون بأن هذا املفهوم عن يسوع هو ما بشَّر به بولس نفسُه ‪،‬وهكذا ‪،‬‬
‫ضمَّت قائمتُه الرمسية للكتاب املقدس الرسائلَ العشرَ اليت كتبها بولس وهي‬
‫اليت كانت متاحة له ( هذه الرسائل كلها موجودة يف العهد اجلديد ما عدا‬
‫الرسائل الرعوية‪ ،‬وهي الرسالتان األوىل والثانية إىل تيموثي وتيطس)؛ وألنَّ‬
‫بولس كان أحيانًا يشري إىل "إجنيله"‪ ،‬فقد ضمَّ مرقيون إجنيال )‪ (Gospel‬إىل‬
‫قائمته ‪ ،‬وهو شكل من إجنيل لوقا املعروف لنا اآلن ‪ .‬وهذا كل ما يف األمر ‪.‬‬
‫لقد تكونت قائمة مرقيون من أحد عشر كتابا ‪ :‬مل يكن مثة عهدٌ قديمٌ ‪،‬بل‬
‫كتابٌ مقدسٌ واحدٌ فحسب ‪ ،‬مضافا إليه عشر رسائل ‪ .‬ليس ذلك فحسب ‪:‬‬
‫بل كان مرقيون يعتقد أن املؤمنني الكاذبني ‪ ،‬أي الذين مل يكونوا يشاطرونه‬
‫مفهومه اخلاص عن اإلميان ‪ ،‬قد نقلوا هذه األحد عشر كتابا عرب نسخها و‬
‫إضافة أجزاء من هنا ومن هنالك لكي تتماشى مع معتقداتهم اخلاصة اليت من‬
‫بينها مفهومهم "الباطل" عن كون إله العهد القديم هو أيضا إله يسوع ‪ .‬وهكذا‬
‫"صحَّح" مرقيون الكتب األحد عشر اليت تضمنتها قائمته عرب حذف اإلشارات‬
‫إىل إله العهد القديم ‪،‬أو إىل اخللق باعتباره عمل اإلله احلق ‪ ،‬أو إىل الشريعة‬
‫باعتبارها شئ ينبغي االلتزام به‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫كما سنرى ‪ ،‬حماولة مرقيون جلعل نصوصه املقدسة تتوائم بشكل أكثر إحكاما‬
‫مع تعاليمه عرب حتريفها مل تكن باألمر اجلديد ‪ .‬فقبله وبعده على حدٍ سواء ‪،‬‬
‫حرَّف نساخ األدب املسيحي املبكر من وقت آلخر نصوصهم ليجعلوها تقول‬
‫ما يعتقدون أنها بالفعل تعنيه‪.‬‬

‫يعتقد كثري من العلماء أن املسيحيني اآلخرين أصبحوا أكثر اهتماما بوضع‬


‫تصور ملا يفرتض أن يصبح قائمةً ألسفار العهد اجلديد كشكل من أشكال‬
‫املقاومة ملرقيون حتديدا‪ .‬من الطريف أنه يف العصر الذي عاش فيه مرقيون ‪،‬كان‬
‫جوستينوس ميكنه الكالم بطريقة أكثر غموضا عن " مذكرات الرسل "بدون‬
‫ٍّ هذه الكتب ( أو رمبا األناجيل ) كان مقبوال يف الكنائس وملاذا‬
‫اإلشارة إىل أي‬
‫‪ ،‬يف حني اختذ كاتبٌ مسيحيٌّ آخرُ‪ ،‬عارض مرقيون أيضًا ‪ ،‬بعد ذلك حبوالي‬
‫ثالثني عاما موقفا أكثر مَيَْال للجزم والتأكيد ‪ .‬إنه إيريناوس‪ ،‬أسقف ليون يف‬
‫بالد الغال (فرنسا يف العصر احلديث )‪،‬الذي كتب عمال من مخس جملدات‬
‫ضد اهلراطقة من أمثال مرقيون والغنوصيني ‪ ،‬و كانت لديه أفكارٌ شديدةُ‬
‫الوضوح فيما يتعلق بأيِّ الكتب ينبغي أن يعترب من بني األناجيل القانونية ‪ .‬يف‬
‫فقرة يكثر اقتباسها من مؤلَّفه ضد اهلراقطة ‪ ،‬يقول إيريناوس إن مرقيون مل‬

‫‪64‬‬
‫يكن وحده فحسب الذي افرتض بالباطل أن هذا اإلجنيل أو ذاك فقط من بني‬
‫األناجيل هو املستحق ألن يقبل باعتباره كتابا مقدسا ‪ ،‬بل كان معه أيضا‬
‫"هراطقة" آخرون ‪: ،‬فاملسيحيون املتهوِّدون الذين متسكوا بالصالحية املتواصلة‬
‫للشريعة استخدموا متى وحده ؛ بعض اجملموعات الذين زعموا أن يسوع ليس‬
‫هو املسيح يف احلقيقة قبلوا إجنيل مرقس فحسب ؛ مرقيون وأتباعه قبلوا فقط‬
‫(شكال من ) لوقا ؛ وجمموعة من الغنوصيني مسوا بال"فالنتينيني "قبلوا إجنيل‬
‫يوحنا فحسب ‪ .‬هؤالء مجيعًا كانوا خمطئني ‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬ألنه ليس من املمكن‬
‫أن تكون األناجيل أكثر أو أقل عددًا مما هي عليه حيث إن املناطق اليت نعيش‬
‫فيها يف العامل هي أربع مناطق ‪ ،‬والرياح الرئيسية أربعة ‪ ،‬ويف حني تنتشر‬
‫الكنيسة يف أحناء العامل ‪ ،‬وعامود الكنيسة و أرضها هو اإلجنيل‪ . ...‬فمن‬
‫املناسب أن يكون هلا عمدان أربع ‪( ،‬ضد اهلراطقة ‪) 7. 11 . 3‬‬

‫بكلمات أخرى ‪ ،‬زوايا األرض أربع ‪ ،‬الرياح أربعة ‪ ،‬العمدان أربعة ـ فمن‬
‫الضروري ‪،‬حينذ ‪ ،‬أن تكون األناجيل أربعة ‪ .‬وهكذا ‪ ،‬قرب نهاية القرن‬
‫الثاني كان هناك مسيحيون يصرُّون على أنَّ متَّى ‪ ،‬مرقس ‪ ،‬لوقا ‪ ،‬ويوحنا‬
‫كانت هي األناجيل ؛ ومل يكن مثة أكثر من ذلك أو أقل‪ .‬ولقد استمرت‬
‫النقاشات حول حدود القائمة الرمسية لقرون عديدة ‪ .‬ويبدو أن املسيحيني هنا‬

‫‪65‬‬
‫وهناك كانوا مهتمني مبعرفة أيِّ الكتب ينبغي أن تُقْبَل باعتبارها كتبًا مقدسة‬
‫وذلك ليعلموا‪:‬‬

‫أوال‪ :‬أي الكتب ينبغي قراءتها يف خدمة الصالة‬

‫وثانيًا‪ :‬وهو األمر وثيق الصلة بالسبب األول ‪ ،‬ليعرفوا أي الكتب ميكن‬
‫الوثوق بها كناصح أمني يرشدهم إىل ما جيب أن يؤمنوا به والسلوكيات اليت‬
‫ينبغي أن يسريوا على هديها‪.‬‬

‫مل تكن القرارات اليت اختذت بشأن الكتب وأيها ينبغي أن ينظر إليه يف النهاية‬
‫ٍّ أو بشكل خال من املشاكل ؛‬
‫باعتباره قانونيًّا قرارات مت اختاذها على حنوٍ آلي‬
‫لقد كانت مناقشات طويلة وممتدة ‪ ،‬وأحيانا عنيفة ‪ .‬رمبا يعتقد كثري من‬
‫املسيحيني اليوم أن قائمة كتب العهد اجلديد الرمسية ظهرت إىل الوجود‬
‫ببساطة يف يوم ما بعد موت يسوع بوقت قليل ‪ ،‬إال أن هذا االعتقاد ال يضارعه‬
‫يف البعد عن احلقيقة أيُّ شئٍ آخر‪ .‬كما سيتضح ‪ ،‬حنن قادرون على حتديد‬
‫الوقت الذي قام فيه واحدٌ من املسيحيني من املوثوق بهم بوضع قائمة تضم‬
‫كتب عهدنا اجلديد السبعة والعشرين ‪ -‬أو أكثر أو أقل ‪ .‬رمبا سيبدو مدهشا‬
‫أن هذا املسيحي كان ميارس الكتابة يف النصف الثاني من القرن الرابع ‪ ،‬أي بعد‬
‫ثالمثائة عام تقريبا من العصر الذي بدأت تُكتَب فيه كتب العهد اجلديد ذاتها‪.‬‬
‫هذا املؤلف هو أثناسيوس‪ ،‬أسقف اإلسكندرية األقوى‪ .‬يف عام ‪ 367‬م ‪،‬‬
‫‪66‬‬
‫كتب أثناسيوس رسالته الرعوية السنوية إىل الكنائس املصرية حتت واليته ‪،‬‬
‫ضمَّنها نصيحة خبصوص الكتب اليت ينبغي أن تقرأ يف الكنائس باعتبارها‬
‫الكتاب املقدس‪ .‬حيث ذكر يف قائمته كتبنا السبعة والعشرين ‪ ،‬واستثنى ما‬
‫عداها من كتب ‪ .‬هذه هي املناسبة األوىل املسجلة لشخص يؤكد أن جمموعة‬
‫األسفار اليت نعرفها هي العهد اجلديد ‪ .‬بل حتى أثناسيوس مل حيسم هذه‬
‫املسألة ‪ .‬فقد استمرت املناظرات لعشرات السنني ‪ ،‬بل وحتى القرون ‪ .‬إنَّ‬
‫الكتب اليت نطلق عليها لفظ العهد اجلديد مل تُجمَع معًا يف قائمة رمسية‬
‫واحدة و مل تعترب كتابا مقدسا ‪،‬يف النهاية ‪،‬إال بعد مرور املئات من السنني‬
‫على العصر الذي كتبت فيه هذه الكتب للمرة األوىل ‪.‬‬

‫يف الباب السابق تركّز نقاشنا حول تقنني) ‪ (canonization‬الكتاب‬


‫املقدس‪ .‬وكما رأينا سابقا كان املسيحيون ‪ ،‬رغم ذلك ‪،‬يكتبون و يقرأون أنواع‬
‫كثرية من الكتب يف القرون األوىل ‪ ،‬وليس فقط الكتب اليت جنحت يف أن‬
‫تصبح جزءا من العهد اجلديد‪ .‬لقد كان مثة أناجيل أخرى ‪،‬وأعمال ‪ ،‬ورسائل‬
‫‪ ،‬و رؤى ؛ و كان هناك تدوينات لالضطهادات ‪ ،‬وحكايات عن االستشهاد‬
‫‪ ،‬وكتب تدافع عن اإلميان ‪ ،‬ونظم كنسية ‪ ،‬وأعمال تهاجم اهلراطقة ‪،‬‬

‫‪67‬‬
‫ورسائل وعظية و تعليمية ‪،‬وشروحات للكتاب املقدس ‪ -‬منظومة كاملة من‬
‫األعمال األدبية اليت ساعدت يف رسم حدود املسيحية وجعلها تلك الديانة‬
‫اليت كانتها ‪ .‬سيكون من املفيد يف هذه املرحلة من نقاشنا أن نسأل سؤاال‬
‫أساسيًّا حول كل هذه األعمال األدبية‪ .‬من الذي كان يقوم بقراءتها ؟‬

‫يف عامل اليوم ‪ ،‬رمبا سيبدو ذلك سؤاال غريبًا نوعًا ما ‪ .‬فلو كان املؤلفون‬
‫يكتبون كتبًا من أجل املسيحيني ‪ ،‬فالذين يقرأون الكتب سيكونون والبد من‬
‫املسيحيني‪ .‬فإذا كان السؤال يتناول العامل القديم فإنه سيمثل مرارة خاصة ألن‬
‫غالبية الناس ‪ ،‬يف العامل القديم ‪ ،‬مل يكونوا يعرفون القراءة ‪ .‬إنَّ معرفة القراءة‬
‫والكتابة هي أسلوبُ حياة بالنسبة لنا يف الغرب املعاصر ‪ .‬حنن نقرأ طوالَ الوقت‬
‫‪ ،‬وكلَّ يوم ‪ .‬نقرأ اجلرائد و اجملالت و الكتب من كل األنواع ‪ -‬ترمجات‬
‫الشخصيات ‪ ،‬الروايات ‪،‬كتب "كيف تفعل كذا )‪،" (how-to books‬‬
‫كتب "اعتمد على نفسك)‪ ،" (self-help books‬كتب احلمية)‪، (diet‬‬
‫كتب دينية ‪ ،‬كتب فلسفية ‪ ،‬علوم التاريخ ‪،‬مذكرات ‪ ،‬وهكذا بال توقف‪.‬‬

‫لكنَّ السهولة اليت نشعر بها اليوم مع اللغة املكتوبة ليس هلا أي عالقة‬
‫مبمارسات القراءة وحقائقها يف العصور القدمية‪ .‬لقد أظهرت الدراسات املتعلقة‬
‫مبعرفة القراءة والكتابة أن ما نعتقده حول معرفة اجلماهري للقراءة والكتابة هي‬
‫ظاهرة حديثة ‪ ،‬ظهرت فقط مع بزوغ فجر الثورة الصناعية (‪. )13‬فهي حتدث‬

‫‪68‬‬
‫فقط عندما ترى األمم أن مثة فائدة اقتصادية يف جعلها كلَّ شخص قادرا على‬
‫القراءة ‪ ،‬إىل الدرجة اليت جتعلهم ينتوون أن يكرسوا كل املوارد الضخمة ‪-‬‬
‫خاصة الوقت ‪ ،‬املال ‪ ،‬و املوارد البشرية‪ -‬اليت حيتاجونها للتأكد من أن كل‬
‫إنسان قد حصل على قدر أساسي من التعليم يؤهله للقراءة والكتابة‪ .‬يف‬
‫اجملتمعات غري الصناعية ‪ ،‬كانت املوارد مطلوبة ألشياء أخرى بدرجة كبرية ‪،‬‬
‫ومعرفة القراءة والكتابة مل تكن تساعد اقتصاد اجملتمع وال رفاهيته ككل‪ .‬ويف‬
‫احملصلة ‪ ،‬حتى العصر احلالي ‪ ،‬كل اجملتمعات تقريبًا كانت تضم أقلية صغرية‬
‫فحسب من القادرين على القراءة والكتابة‪.‬‬

‫وهذا ينطبق حتى على اجملتمعات القدمية اليت نربطها تلقائيًا بالقراءة والكتابة‬
‫‪ -‬روما ‪ ،‬على سبيل املثال ‪،‬خالل القرون املسيحية املبكرة ‪ ،‬أو حتى اليونان‬
‫يف أثناء الفرتة الكالسيكية ‪ .‬أفضل دراسة معروفة عن معرفة القراءة والكتابة يف‬
‫األزمنة القدمية و أكثرها تأثريا ‪،‬هي تلك اليت كتبها ويليام هاريس الربوفيسور‬
‫جبامعة كولومبيا ‪،‬حيث تشري إىل أنه يف أفضل األوقات و األماكن ـ أثينا ‪،‬على‬
‫سبيل املثال ‪ ،‬يف أوج الفرتة الكالسيكية يف القرن اخلامس قبل امليالد‪ -‬كانت‬
‫معدالت القراءة والكتابة نادرًا ما تتعدى نسبة ‪ 15 – 11‬يف املائة من السكان ‪.‬‬
‫لكي نعكس حقيقة هذه األرقام ‪ ،‬هذا يعين أنه يف أفضل الظروف ‪– 85،‬‬
‫‪ 91‬يف املائة من السكان مل يكن بإمكانهم القراءة وال الكتابة ‪ .‬يف القرن‬

‫‪69‬‬
‫املسيحي األول ‪ ،‬يف خمتلف أحناء اإلمرباطورية الرومانية ‪ ،‬معدالت معرفة‬
‫القراءة والكتابة رمبا كانت أقل نوعًا ما (‪ . )14‬حتى وضع تعريف ‪ ،‬كما‬
‫سيتضح ‪ ،‬ملا تعنيه القدرة على القراءة والكتابة هو عمل شديد التعقيد ‪ .‬فكثري‬
‫من الناس ميكنهم القراءة لكنهم ‪ ،‬على سبيل املثال ‪ ،‬يعجزون عن تكوين‬
‫مجلة كاملة‪ .‬ثمَّ ما هو معنى كونك تعرف القراءة ؟ هل الناس ميكن تصنيفهم‬
‫بني من يعرفون القراءة والكتابة لو كان باستطاعتهم معرفة معنى املسلسالت‬
‫الكرتونية يف الوقت الذي ال يعرفون فيه معنى الصفحة االفتتاحية ؟ هل ميكننا‬
‫أن نقول عن الناس إنهم يعرفون الكتابة لو كان باستطاعتهم توقيع أمسائهم يف‬
‫الوقت الذي ال يستطيعون فيه نسخ صفحة بها أحد النصوص ؟‬

‫مشكلة التعريف تبدو أكثر وضوحا عندما نطبقها على العامل القديم ‪ ،‬حيث‬
‫كان لدى القدماء أنفسهم صعوبة يف حتديد ما يعنيه أن تكون عارفا للقراءة‬
‫والكتابة ‪ .‬أحد األمثلة التوضيحية األكثر شهرة تأتي من مصر يف القرن املسيحي‬
‫الثاني ‪ .‬طوال معظم العصور القدمية ‪ ،‬حيث مل يكن معظم الناس يعرف‬
‫الكتابة ‪ ،‬كان مثة " قرّاء" و "كتّاب" أجروا أنفسهم لتقديم خدمات ملن حيتاجهم‬
‫من الناس ممن ميارسون األعمال )‪ (business‬اليت تتطلب نصوصًا مكتوبة‬
‫‪ :‬إيرادات الضرائب ‪،‬عقود قانونية ‪،‬تراخيص ‪،‬رسائل شخصية ‪ ،‬وما شابه ‪.‬‬
‫يف مصر ‪ ،‬كان مثة موظفون رمسيون مت تعيينهم للقيام مبهمة مراقبة بعض املهام‬

‫‪70‬‬
‫احلكومية اليت تتطلب معرفة الكتابة ‪ .‬هذه الوظائف للعمل كنساخ حمليني ( أو‬
‫يف القرى) مل تكن عادة يسعى إليها‪ :‬فمثل كثري من الوظائف اإلدارية "‬
‫الرمسية " ‪ ،‬كان الناس الذين يطلب إليهم أن يتولوها مطلوب منهم أن يدفعوا‬
‫من جيوبهم أمواال للحصول على هذه الوظيفة ‪ .‬هذه الوظائف ‪ ،‬مبعنى آخر ‪،‬‬
‫كانت تذهب إىل األفراد األكثر ثراءا داخل اجملتمع وكانت حتمل بالنسبة هلم‬
‫نوعا من املنزلة ‪،‬لكنها كانت تتطلب إنفاقا من أمواهلم الشخصية ‪.‬‬

‫املثال الذي يصور مشكلة تعريف معنى معرفة القراءة والكتابة يتعلق بأحد‬
‫النساخ املصريني وكان يدعى بتاوس ‪ ،‬من قرية كارانيس يف صعيد مصر ‪ .‬كما‬
‫حيدث كثريا ‪ ،‬عُيّن بيتاوس للقيام بواجباته يف قرية أخرى امسها بتوليمايس‬
‫هورمو‪ ،‬حيث أوكلت إليه مهمة اإلشراف على الشئون املالية والزراعية ‪ .‬يف‬
‫عام ‪ 184‬ميالديا ‪ ،‬كان من املفرتض أن يقوم بالرد على شكاوى موجهة ضد‬
‫ناسخ قرية أخرى من "بتوليمايس هورمو" ‪ ،‬وهو شخص يدعى "إيشرييون"‪،‬‬
‫الذي كان قد عُيِّن يف مكان آخر للقيام مبسئولياته كناسخ ‪ .‬سكان القرية حتت‬
‫والية "إيشرييون" كانوا منزعجني بسبب عجز "إيشرييون" عن القيام بواجباته ‪،‬‬
‫ألنه ‪،‬كما اتهموه ‪ ،‬كان "أمّيّا ‪".‬‬

‫يف تعامله مع هذا النزاع جادل "بتاوس" قائال إن "إيشرييون" مل يكن أمِّيًّا على‬
‫اإلطالق ‪ ،‬ألنه كان قد وقع بالفعل بامسه على جمموعة من الوثائق الرمسية ‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫أي مبعنى آخر ‪" ،‬معرفة القراءة والكتابة" كانت تعين من وجهة نظر "بيتاوس "‬
‫ببساطة القدرة على التوقيع على الوثائق باستخدام االسم‪.‬‬

‫"بيتاوس " نفسه كان جيد مشقة يف التوقيع على الوثائق أكثر من ذلك بكثري ‪.‬‬
‫فلدينا قصاصة من الربدي مارس "بيتاوس" عليها قدرته على الكتابة ‪،‬حيث‬
‫كتب عليها ‪،‬ألكثر من اثين عشر مرة ‪ ،‬كلمات (باليونانية) تقول إنه كان‬
‫متوجبا عليه توقيع وثائقا رمسية ‪ ":‬أنا "بيتاوس" ‪ ،‬ناسخ القرية ‪،‬قمت بتحرير‬
‫هذه ‪ ".‬األمر الغريب أنه قام بنسخ الكلمات يف املرات األربع األوىل بطريقة‬
‫صحيحة ‪،‬لكنه يف املرة اخلامسة أغفل احلرف األول من الكلمة األخرية ‪ ،‬ويف‬
‫املرات السبع الباقية استمر يف إغفال احلرف ‪،‬األمر الذي يشري إىل أنه مل يكن‬
‫يكتب كلمات يعرف كيف يكتبها‪ ،‬بل ينسخ السطر السابق ذكره ليس إال ‪.‬‬

‫من الواضح أنه مل يكن باستطاعته قراءة الكلمات البسيطة اليت كان يدونها يف‬
‫الصفحة حتى‪ .‬وذلك على الرغم من أنه كان الناسخ احمللي الرمسي (‪) ! 15‬‬

‫لو وضعنا "بيتاوس " بني "القادرين على القراءة والكتابة" يف العصور القدمية ‪،‬‬
‫فكم من الناس كان بإمكانهم قراءة النصوص فعليا وفهم معناها ؟ من‬
‫املستحيل أن حناول التفكري يف رقمٍ دقيقٍ ‪ ،‬لكنَّ النسبة املئوية يبدو أنها لن‬
‫تكون عالية جدا ‪ .‬هناك أسباب تدعونا لالعتقاد بأنه يف داخل اجملتمعات‬
‫املسيحية ‪ ،‬كانت األرقام أقل حتى من هذا بوجه عام ‪ .‬هذا سببه أن املسيحيني‬
‫‪72‬‬
‫فيما يبدو ‪ ،‬خاصة يف وقت مبكر من عمر احلركة ‪ ،‬كانوا يف الغالب منحدرين‬
‫من الطبقات الدنيا غري املتعلمة ‪ .‬كانت هناك استثناءات دائما ‪،‬بالطبع ‪ ،‬مثل‬
‫الرسول بولس و املؤلفني اآلخرين الذين دخلت أعماهلم ضمن العهد اجلديد‬
‫والذين كانوا كتَّابًا ماهرين بشكل واضح ‪ .‬بالتأكيد هذا هو الوضع احلقيقي‬
‫للمسيحيني األوائل ‪ ،‬الذين كانوا رسال ليسوع ‪ .‬يف روايات إجنيلية ‪ ،‬جند أن‬
‫معظم تالميذ يسوع كانوا أميني بسطاء من اجلليل ‪ -‬صيادين غري متعلمني ‪،‬‬
‫على سبيل املثال ‪ .‬اثنان منهما ‪ ،‬بطرس ويوحنا ‪ ،‬قيل عنهما بوضوح أنهما‬
‫كانا "أمِّيني" يف سفر األعمال ( ‪ .)13 : 4‬بولس الرسول يشري لشعب كنيسته‬
‫الكورنثيني ‪ " :‬قليل منكم من هم حكماء باملقاييس البشرية " (‪ 1‬كو ‪27 : 1‬‬
‫) ـ اليت رمبا تعين أن البعض القليل كان حاصلني على تعليم جيد ‪ ،‬لكن ليس‬
‫الغالبية ‪ .‬فإذا تقدمنا إىل القرن املسيحي الثاني ‪ ،‬يبدو أن األمور مل تتغري كثريا ‪.‬‬
‫فكما أشرت ‪ ،‬بعض املثقفني قبلوا اإلميان ‪ ،‬لكنّ املسيحيني معظمهم كانوا من‬
‫الطبقات الدنيا وغري املتعلمة ‪ .‬أحد األدلة على صحة هذه الرؤيا تأتي من‬
‫مصادر عديدة ‪ .‬واحدة من أكثرها طرافة هو أحد الوثنيني من خصوم املسيحية‬
‫املسمى "سيلزس" والذي عاش يف أواخر القرن الثاني ‪ .‬كتب "سيلزس" كتابا‬
‫امسه " الكلمة احلقة )‪ ، "( The True Word‬هاجم فيه املسيحية لعدد‬
‫من األسباب ‪ ،‬متذرعا بأنها ديانة محقاء خطرة جيب حموها من على وجه‬
‫األرض ‪ .‬لألسف ‪ ،‬ال منلك "الكلمة احلقة " ذاتها ؛ وكل ما لدينا هو اقتباسات‬
‫‪73‬‬
‫منها وردت يف كتابات أورجيانوس أحد اآلباء املشهورين يف الكنيسة ‪ ،‬الذي‬
‫عاش ملدة سبعني عاما بعد "سيلزس" وطلب إليه أن يكتب ردا على اتهاماته‪.‬‬

‫كتاب أورجيانوس "ضد سيلزس" جنا من الضياع وهو املصدر الرئيسي ملعلوماتنا‬
‫عما قاله الناقد املثقف "سيلزس" يف كتابه ضد املسيحيني (‪ .)16‬أحد أهم‬
‫خصائص كتاب أورجيانوس هو أنه يقتبس من أقدم كتاب من كتب "سيلزس"‬
‫بشكل مطول ‪،‬سطرًا بسطر ‪ ،‬قبل أن يقدم تفنيده ملا جاء يف االقتباس‪ .‬هذا‬
‫يسمح لنا بإعادة بناء دعاوى "سيلزس" بدقة متناهية ‪ .‬أحد هذه الدعاوى هو أن‬
‫املسيحيني هم أناس جاهلون من الطبقات الدنيا ‪ .‬والغريب أن أورجيانوس ‪ ،‬يف‬
‫ثنايا رده ‪ ،‬مل ينكر ذلك ‪ .‬تأمل االتهامات التالية اليت وجهها "سيلزس‪".‬‬

‫الوصايا املسيحية هي مثل ذلك ‪" .‬ال ترتكوا شخصا متعلما ‪ ،‬أو حكيما ‪ ،‬أو‬
‫عقالنيا يقرتب ‪ .‬ألن هذه القدرات حسب اعتقادنا هي قدرات شريرة ‪ .‬أما‬
‫الشخص اجلاهل ‪ ،‬الشخص الغيب ‪ ،‬الشخص غري املتعلم ‪ ،‬الشخص الذي‬
‫هو مثل طفل ‪ ،‬فلترتكوه يأتي جبسارة ‪ (".‬ضد سيلزس ‪)44 . 3‬‬

‫فوق ذلك ‪ ،‬حنن نرى أن هؤالء الذين يظهرون معارفهم السرية يف املعارض و‬
‫يتجولون للتسول لن يدخلوا أبدا إىل مجاعة األذكياء من الناس ‪ ،‬ولن جيرؤا‬
‫على كشف معتقداتهم النبيلة يف حضورهم ؛ ولكن عندما يرون غلمانا‬

‫‪74‬‬
‫مراهقني أو حشدًا من العبيد أو رفقة من احلمقى ‪ ،‬فإنهم يندفعون ويبدأون يف‬
‫التفاخر ‪ (.‬ضد سيلزس ‪)51 . 3‬‬

‫يف البيوتات اخلاصة أيضا نرى عمال الصوف ‪ ،‬واإلسكافيني ‪،‬وعمال غسل‬
‫املالبس وأكثر الفالحني جهال و بداوة ‪ ،‬ممن لن تواتيهم اجلراءة أن يتفوهوا‬
‫ببنت شفة يف مواجهة ساداتهم األكرب سنا و األكثر ذكاءا ‪.‬لكنهم حاملا جيدون‬
‫صغار السن يف السر أو بعض النساء احلمقى معهم ‪ ،‬فإنهم خيرجون من‬
‫أفواههم بعض األقوال املثرية للدهشة مثل أنهم(أي األطفال) ‪ ،‬على سبيل‬
‫املثال‪ ،‬جيب أال يولوا حلديث آبائهم وأساتذتهم يف املدارس أي انتباه‪. . .‬‬
‫؛ويقولون إن هذه األحاديث ال معنى هلا وغري مفهومة … لكن ‪ ،‬لو كانوا‬
‫يريدون ‪ ،‬فينبغي أن يرتكوا آباءهم وأساتذتهم يف املدارس ‪ ،‬وأن يذهبوا مع‬
‫النساء واألطفال صغريي السن من زمالء لعبهم إىل حمل املالبس الصوفية ‪ ،‬أو‬
‫إىل حمل اإلسكايف أو إىل حمل غاسلة املالبس ‪ ،‬حيث ميكنهم تعُّلم الكمال‪ .‬و‬
‫يقنعونهم من خالل قول ذلك‪ ( .‬ضد سيلزس ‪)56 . 3‬‬

‫يرد أورجيانوس بأن املسيحيني املؤمنون حقا هم يف احلقيقة حكماء ( وبعضهم‬


‫‪ ،‬يف الواقع ‪ ،‬من ذوي التعليم اجليد)‪ ،‬لكنهم حكماءا فيما يتعلق باهلل ‪،‬‬
‫وليس فيما يتعلق باألشياء يف هذا العامل ‪ .‬أي أنه ‪،‬مبعنى آخر ‪،‬مل ينكر أن‬
‫اجملتمع املسيحي يتشكل يف الغالب من الطبقات الدنيا ‪،‬غري املتعلمة ‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫ٍّ اتسمت به املسيحية‬
‫يبدو أننا ‪ ،‬إذن ‪ ،‬يف وضع ينطوي على تناقض ظاهري‬
‫األوىل‪ .‬فاملسيحية كانت ديانة كتابية ‪ ،‬لديها كتابات من كل األنواع ثبت أنها‬
‫ذات أهمية بالغة لكل شأن تقريبًا من شئون اإلميان‪ .‬إال أن الناس ال ميكنهم‬
‫قراءة هذه الكتابات‪ .‬كيف ميكننا تفسري هذا التناقض ؟‬

‫يف الواقع ‪ ،‬القضية ليست بكل هذه الغرابة لو تذكرنا ما أشرنا إليه من قبل ‪،‬‬
‫أال وهو أن اجملتمعات من كل األنواع يف كل زمن من العصور القدمية كانوا‬
‫عموما حيصلون على خدمات املتعلمني ملصلحة غري املتعلمني ‪ .‬ألن "قراءة"‬
‫كتاب يف العامل القديم مل تكن تعين ‪ ،‬عادةً ‪ ،‬قراءة اإلنسان كتابا لنفسه ؛ بل‬
‫كانت تعين قراءته بصوت عالٍ أمام اآلخرين ‪ .‬فمن املمكن أن يقال عن‬
‫الشخص إنه قرأ كتابا عندما يكون يف حقيقة األمر قد مسعه ُيقْرَأُ على لسان‬
‫اآلخرين ‪ .‬يبدو أنه ال مفر من التسليم باالستنتاج الذي يقول إن الكتب‪-‬‬
‫بقدر ما كانت مهمة للحركة املسيحية املبكرة – إال أنها دائما ما كانت تقريبا‬
‫تُقرأ بصوتٍ عالٍ يف املشاهد االجتماعية ‪ ،‬مثل مشهد الصالة‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫ينبغي أن نتذكر هنا أن بولس علَّم مستمعيه السالونيكيني أن " ُتقْرَأَ َه ِذهِ الرِّسَالَةُ‬
‫إلخَْوَةِ الْقِدِّيسِنيَ‪ 1 ( " .‬تس ‪ .) 27 : 5‬وهذا من احملتمل أنه كان‬
‫جمِيعِ ا ِ‬
‫َعلَى َ‬
‫حيدث بصوت عال ‪ ،‬يف االجتماع ‪ .‬وكاتب الرسالة إىل أهل كولوسي كتب ‪:‬‬
‫ج َعلُوهَا تُقْرَأُ ايَْضاً فِي كَنِيسَةِ الالَّوُدِكِيِّنيَ‪،‬‬
‫وَمَتَى قُ ِرئَتَْ عِ َْندَكُ َْم َهذِهِ الرِّسَالَةُ فَا َْ‬
‫وَالَّتِي ِمنَْ الَوُدِكِيَّةَ َتقْرَأُوَنهَا اَْنُتمَْ ايَْضاً‪ ( ".‬كولو ‪)16 : 4‬‬

‫وتذكروا أيضًا تقرير جوستينوس الشهيد الذي يقول إنه " يف اليوم املسمى‬
‫األحد ‪ ،‬كل من يعيشون يف املدن أو يف البلدة جيتمعون معا يف مكان واحد ‪،‬‬
‫وتُقرأ عليهم مذكرات الرسل و كتابات األنبياء ‪ ،‬بقدر ما يسمح الوقت "(‪1‬‬
‫أبولوجي ‪).67‬‬

‫النقطة ذاتها أثريت يف كتابات مسيحية مبكرة أخرى ‪ .‬على سبيل املثال ‪ ،‬يف‬
‫سفر الرؤيا قيل لنا ‪ " ،‬طُوبَى ل َِّلذِي َي ْقرَأُ وَل َِّلذِينَ يَ َْسمَعُونَ أَقْوَالَ النُّبُوَّة "(‪: 1‬‬
‫‪ )3‬ـ اليت تشري بوضوح إىل القراءة العامة للنص ‪ .‬يف كتاب أقل شهرة يدعى‬
‫رسالة كلمنت الثانية ‪ ،‬من منتصف القرن الثاني ‪ ،‬يشري املؤلف ‪ ،‬يف إشارة إىل‬
‫كلماته الوعظية ‪ "،‬أقرأ إليكم طلبا أن تصغوا إىل املكتوب ‪ ،‬لعلكم ختلِّصون‬
‫أنفسكم ومن يقرأ لكم "(‪ 2‬كلمنت ‪)1 . 19‬‬

‫خالصة القول ‪ ،‬كانت الكتب اليت كانت ذات أهمية قصوى يف املسيحية‬
‫املبكرة تُقرأ يف الغالب بصوت عال عرب هؤالء الذين كان باستطاعتهم القراءة ‪،‬‬
‫‪77‬‬
‫لكي يستطيع األمِّيون االستماع إليها ‪ ،‬وفهمها ‪ ،‬بل وحتى دراستها ‪ .‬على‬
‫الرغم من أن املسيحية األوىل كانت يف العموم تتشكل من املؤمنني األميني ‪،‬‬
‫إال أنها كانت ديانة أدبية إىل حد كبري ‪ .‬مع ذلك‪ ،‬هناك موضوعات أخرى‬
‫مهمة حنتاج أن ندرسها‪ .‬لو كانت الكتب ذات أهمية كبرية للمسيحية األوىل ‪،‬‬
‫لو كانت تقرأ للمجتمعات املسيحية يف حميط البحر املتوسط ‪ ،‬كيف حصلت‬
‫هذه اجملتمعات على هذه الكتب فعليًّا؟ كيف أصبحت متاحة لالستخدام العام‬
‫‪ .‬لقد حدث ذلك يف عصور ما قبل ظهور أدوات النشر املكتيب ‪ ،‬وكذلك‬
‫وسائل الطباعة اإلليكرتونية ‪،‬بل وحتى حروف الطباعة املتحركة‪ .‬لو حصلت‬
‫جمتمعات املؤمنني على نسخٍ من الكتب املسيحية العديدة املتداولة ‪،‬فكيف‬
‫حصلوا على هذه النسخ ؟من كان يقوم بعملية النسخ ؟ واألكثر أهمية بالنسبة‬
‫ملوضوع دراستنا النهائي ‪،‬كيف ميكننا ( أو كيف أمكنهم ) أن نعرف أن النسخ‬
‫اليت حصلوا عليها كانت نسخًا دقيقة ‪ ،‬وأنهم مل يقوموا بتعديلها يف أثناء‬
‫عملية النسخ ؟‬

‫‪78‬‬
‫)‪(1‬يستخدم العلماء يف عامل اليوم هذا املصطلح )‪ (Common Era‬بديال عن الشكل القديم )‪ (Anno domini‬أو‬
‫) ‪(A.D‬اليت تعين ‪":‬يف يوم ميالد الرب"‪ ،‬ألن األول منهما مناسب أكثر لكلّ األديان‪.‬‬

‫)‪(2‬لالطالع على وصف إمجالي يتناول تشكل القائمة الرمسية للكتاب املقدس اليهودي ‪ ،‬انظر مادتي ‪("Canon,‬‬
‫)"‪Hebrew Bible‬يف كتاب "جيمس ساندر )‪ " (the Anchor Bible Dictionary‬املطبوع بتحرير ديفيد نويل‬
‫فريدمان (نيويورك ‪ ،‬دابلداي ‪ ،)1992،‬اجلزء ‪ 1‬ص ‪.852 – 838‬‬

‫)‪(3‬إن إطالق لقب "ربِّي" أو "معلم" على يسوع ال يعين أنين أقول إن املسيح حظي باحرتام رمسي داخل الديانة اليهودية‬
‫لكنين ببساطة أعين أنه كان معلمًا يهوديًّا ‪ .‬مل يكن ‪،‬بالطبع ‪،‬معلمًا فحسب ‪ ،‬رمبا ميكن من األفضل اعتباره كـ"نيبّ "‪.‬‬

‫لالطالع على املزيد من النقاشات ‪،‬انظر كتاب بارت إرمان ‪ :‬يسوع ‪:‬النيبّ الرؤوي لأللفية اجلديدة ‪(Apocalyptic‬‬
‫)‪Prophet of the New Millennium‬من مطبوعات (جامعة أكسفورد نيويورك ‪ .‬القسم املطبوعات‪).1999،‬‬

‫)‪(4‬ملعرفة معنى هذا االختصار انظر هامش رقم ‪ 1‬باألعلى‬

‫)‪(5‬سيشمل هذا الثالث رسائل (الثالثية البوليسية )"‪ "Deutero-Pauline‬إىل أهل كولوسي ‪،‬أهل أفسس ‪،‬‬
‫والرسالة ‪ 2‬إىل أهل تسالونيكي و ‪،‬بشكل خاص ‪ ،‬الرسائل "الرعوية "‪ " "pastoral‬الثالث وهي األوىل والثانية إىل‬
‫تيموثي و الرسالة إىل تيطس ‪ .‬لالطالع على أسباب تشكك العلماء يف صحة نسبة هذه الرسائل إىل بولس نفسه ‪ ،‬انظر‬
‫كتاب بارت إرمان "العهد اجلديد ‪ :‬مقدمة تارخيية للكتابات املسيحية املبكرة ‪(The New Testament: A‬‬
‫‪Historical Introduction to the Early Christian Writings),‬الطبعة الثالثة‪(.‬نيويورك‪:‬جامعة‬
‫أكسفور ‪.‬قسم املطبوعات‪،)2114،‬الفصل ‪.23‬‬

‫)‪(6‬يف وقت متأخر‪ ،‬كانت هناك العديد من الرسائل املزيفة تدعي أنها الرسالة إىل الالوديكيني‪ .‬ما يزال لدينا واحدة‬
‫منها‪،‬اليت عادة ما تدخل يف إطار ما يعرف بأبوكريفا العهد اجلديد‪ .‬وهي تزيد قليال عن كونها مزيج من أقوال و جُمَلٍ‬
‫بولسية (أي منسوبة إىل بولس)‪ ،‬مت ترقيعها معًا ليبدو مشابها لواحدة من رسائل بولس‪ .‬هناك رسالة أخرى تسمى " إىل‬

‫‪79‬‬
‫الالوديكيني" تزييفها من خالل مارقيون ‪ ،‬املهرطق الذي عاش يف القرن الثاني ‪ ،‬أمر واضح ؛ إال أن هذه الرسالة مل يعد‬
‫هلا وجود‪.‬‬

‫)‪(7‬على الرغم من أن املصدر ‪ Q‬مل يعد له وجود‪ ،‬هناك أسباب معقولة لالعتقاد بأنه كان وثيقة حقيقية ـ حتى لو كنا ال‬
‫نعرف على وجه اليقني حمتوياته الكاملة‪ .‬انظر كتاب "العهد اجلديد " إلرمان ‪ ،‬يف الفصل ال‪ . 6‬االسم ‪ Q‬هو اختصار‬
‫للكلمة األملانية ‪، Quelle‬اليت تعين "مصدر"(الذي هو مصدر لكثري من مادة لوقا ومتّى من أقوال املسيح‪).‬‬

‫)‪(8‬كمثال ‪،‬يف الرسائل )‪(tractates‬املعروفة باسم رؤيا بطرس و املقالة الثانية لشيث العظيم ‪(Treatise of the‬‬
‫)‪،Great Seth‬اللذان اكتُشفا كالهما يف ‪ 1945‬يف خمبأ للوثائق "الغنوصية"قريبا من قرية جنع محّادي يف مصر ‪ .‬لالطالع‬
‫على الرتمجة ‪،‬انظر مكتبة جنع محادي باإلجنليزية ‪،‬جليمس ‪.‬م‪.‬روبنسون‪ ،‬الطبعة الثالثة (سان فرانسيسكو‪:‬هاربر سان‬
‫فرانسيسكو ‪.378 - 362،) 1988،‬‬

‫)‪(9‬اسم غنصويني مأخوذ من كلمة جنوسيس اليونانية ‪،‬اليت تعين "معرفة"‪ .‬الغنوصية تشري إىل جمموعة من األديان من‬
‫القرن الثاني فصاعدًا وهي تؤكد على أهمية احلصول على املعرفة السرية )‪ (secret knowledge‬من أجل اخلالص‬
‫من هذا العامل املادي الشرير‪.‬‬

‫)‪(10‬لالطالع على نقاش أكثر تفصيال ‪"Lost Christianities:The Battles for ******ure and the‬‬
‫)‪Faiths We Never Knew(New York:Oxford Univ.Press,2003‬‬

‫خاصةً الفصل ‪ . 11‬لالطالع على معلومات أكثر العملية برمتها ميكن احلصول عليها يف كتاب هاري جامبل ‪""The‬‬
‫‪New Testament Canon:Its Making and Its Meaning‬مطبعة (فيالدلفيا‪:‬فورترس برس‪.)1985،‬‬
‫لالطالع على شرح منوذجي علمي موثوق ‪،‬انظر كتاب بروس ميتزجر ‪""The Canon of The New‬‬
‫‪Testament:Its Origin,Development,and Significance‬‬

‫طبع (أكسفورد ‪:‬كالروندون برس‪).1987،‬‬

‫)‪(11‬لالطالع على ترمجة حديثة لرسالة بوليكاربوس ‪،‬انظر بارت إرمان( اآلباء الرسوليني) من منشورات ‪(Loeb‬‬
‫)‪Classical Library;Cambridge:Harvard Univ.press,2003‬‬

‫اجمللد ‪. 1‬‬

‫)‪(12‬ملزيد من املعلومات حول مارقيون وتعاليمه ‪،‬انظر "الديانات املسيحية املفقودة" لبارت إرمان ص ‪.118 -113‬‬

‫‪80‬‬
‫)‪(13‬انظر على وجه اخلصوص كتاب "‪ "The ancient Literacy‬لويليام ‪.‬؟‪.‬هاريس من مطبوعات(كامربدج‪،‬‬
‫القسم اإلعالمي جبامعة هارفارد‪).‬‬

‫)‪(14‬للمزيد حول معدالت معرفة القراءة و الكتابة بني اليهود يف العصر القديم ‪ ،‬انظر كتاب كاثرين هـ‪ .‬إزسر " األمية‬
‫اليهودية يف فلسطني الرومانية"( توبنجني ‪ :‬موهر ‪ /‬سيبيك ‪).2111،‬‬

‫)‪(15‬انظر نقاش كيم هاينز أيتسن يف كتاب " حراس احلروف‪ :‬معرفة القراءة والكتابة ‪،‬قوة و ناقلوا األدب املسيحي املبكر‬
‫" ( نيو يورك ‪،‬جامعة أكسفورد ‪،‬القسم اإلعالمي ‪ ، 28 – 27 ، )2111،‬ومقاالت هـ ‪.‬سي ‪.‬يوتي اليت ذكرتها هناك‪.‬‬

‫)‪(16‬الرتمجة اإلجنليزية القياسية هلنري تشادويك " ضد سلزاس"( كامربدج ‪ :‬القسم اإلعالمي باجلامعة ‪ ،)1953،‬هي‬
‫اليت تتبعتها هنا‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫كما رأينا يف الفصل األول‪ ،‬كانت املسيحية منذ بدايتها ديانة هلا أدبياتها‪ ،‬حيث‬
‫لعبت الكتب بكافة أنواعها دوراً حمورياً يف حياة ومعتقدات اجملتمعات املسيحية‬
‫الناشئة يف حوض املتوسط‪ .‬كيف إذن كان وضع هذه األدبيات املسيحية من‬
‫ناحية النشر والتوزيع؟ اإلجابة‪ ،‬بطبيعة احلال‪،‬هي أنه لكي يتمَّ توزيع كتابٍ ما‬
‫على نطاقٍ واسعٍ‪ ،‬فالبد من أن يتمَّ نسخه أوال ‪.‬‬

‫كانت الطريقة الوحيدة لنسخ كتابٍ يف العاملِ القديمِ هي أن تتمَّ كتابتُه باليد‬
‫حرفاً حبرف‪ ،‬وكلمةً وراء أخرى‪ .‬كان ذلك عمالً بطيئاً ودقيقا ‪ -‬لكن مل‬
‫يكن مثَّة بديل آخر‪ .‬وألننا اعتدنا اليوم على رؤية نسخٍ عديدةٍ من الكتب تظهر‬
‫على رفوف املكتبات يف طول البالد وعرضها خالل أيام من نشرها‪ ،‬فإننا‬
‫نتقبل ببساطة أن تكون نسخةٌ ما من "شفرة دافنشي" مثالً مطابقةً متاماً ألي‬
‫نسخة أخرى من الكتاب نفسه ‪ .‬فلن تتغري أيٌّ من الكلمات ‪ -‬سيكون هو‬
‫الكتاب نفسه أيًّا ما كانت النسخة اليت نقرأها‪ .‬لكنَّ احلالَ مل يكن كذلك يف‬
‫العامل القديم‪ .‬فكما أنه مل يكن متيسرًا توزيعُ الكتبِ على نطاقٍ واسعٍ (لعدم‬
‫‪82‬‬
‫وجود شاحناتٍ‪ ،‬وال طائراتٍ‪ ،‬وال سككٍ حديديةٍ) مل يكن كذلك ممكنًا‬
‫إصدارُها على نطاق واسع (لعدم وجود املطابع)‪ .‬وألنه مل يكن مثة بُدٌّ من‬
‫نسخها باليد‪ ،‬نسخة نسخة‪ ،‬ببطء‪ ،‬ومبعاناة‪ ،‬فإنَّ معظم الكتب مل يتمَّ‬
‫إصدارُها بكميات كبرية‪ .‬والكتب القليلة اليت مت إصدارُ نسخٍ عديدةٍ منها مل‬
‫تكن متطابقة‪ ،‬إذ إنه البد أن يكون الناسخون الذين نسخوا تلك النصوص قد‬
‫قاموا بإدخال تعديالت عليها ‪ -‬مبدِّلني الكلمات أثناء نسخها‪ ،‬إما عن طريق‬
‫اخلطأ (زالت األقالم وغريها من صور اإلهمال) أو عمداً (عندما يقصد‬
‫الناسخ تغيري الكلمات اليت ينسخها‪).‬‬

‫إنَّ أيَّ شخصٍ يقرأ كتاباً من العصورِ القدمية ال يستطيعُ اجلزمَ بأنَّه إمنا يقرأ ما‬
‫كتبه املؤلَّفُ ذاته ‪ ،‬فلرمبا وقع للكلمات تبديل‪ .‬بل ‪ -‬يف احلقيقة ‪ -‬إنَّ‬
‫املرجَّح هو أنَّ تبديال للكلمات قد حدث ‪ ،‬ولو جزئيًّا‪.‬‬

‫يصدر الناشر اليوم عددًا معينًا من الكتب للجمهور عن طريق إرساهلا حملالت‬
‫بيع الكتب‪ .‬أما يف العامل القديم‪ ،‬وألن الكتب مل تكن تصدر بكميات كبرية‪،‬‬
‫وال كانت هناك دورٌ للنشر وال حمالتٌ لبيع الكتب‪ ،‬فقد كانت األمور خمتلفة‬
‫(‪ .)1‬عادةً ما كان املؤلِّف يكتب كتابًا‪ ،‬ورمبا جيعل جمموعة من األصدقاء‬
‫يقرأونه‪ ،‬أو يستمعون إليه وهو يُقرأ عليهم‪ .‬مما كان يشكل فرصةً لتعديلِ‬
‫وتصحيحِ بعض حمتوياته‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬وعندما يكون املؤلف قد أمتَّ كتابه‪ ،‬فإنه‬

‫‪83‬‬
‫ينسخ بعضَ النسخ لبعض األصدقاء واملعارف‪ .‬تأتي بعد ذلك مرحلة النشر‪،‬‬
‫وعندها ال يعود الكتاب حتت السيطرة الكاملة للمؤلِّف‪ ،‬وإمنا بني أيدي‬
‫آخرين‪ .‬إن أراد هؤالء اآلخرون املزيد من النسخ ‪ -‬رمبا إلعطائها ألقرباء أو‬
‫ألصدقاء آخرين ‪ -‬كان عليهم أن يتَّخذوا الرتتيبات الضرورية لنسخها‪،‬‬
‫ٍّ يتعيش من مهنة النسخ‪ ،‬أو على عبدٍ جييدُ‬
‫مثال‪ ،‬باالعتماد على ناسخٍ حملي‬
‫القراءةَ والكتابةَ ويقوم بالنسخ كجزءٍ من واجباته املنزلية‪.‬‬

‫نعلم أن هذه الطريقة ميكن أن تكون بطيئة وغري دقيقة لدرجة تدفع إىل اجلنون‪،‬‬
‫وأنَّ ما ينتج عن هذه الطريقة من نسخ ميكن أن ينتهي به األمر إىل أن يصبح‬
‫شيئًا خمتلفًا متام االختالف عن األصل‪ .‬والدليل على ذلك يأتينا من الكُتَّاب‬
‫القدامى أنفسِهم‪ .‬سأذكر هنا مثالني من األمثلة املثرية لالهتمام من القرن األول‬
‫امليالدي‪ .‬يف مقالة شهرية عن مشكلة الغضب‪ ،‬يشري الفيلسوف الروماني‬
‫"سينيكا" إىل الفارق بني الغضب املوجَّه حنو من قد سبب لنا األذى‪ ،‬والغضب‬
‫املوجه حنو ما ليس بإمكانه أن يفعل أيَّ شيء يعرِّضُنا لألذى‪ .‬وليوضح النوع‬
‫الثاني‪ ،‬يضرب مثالً بـ "بعض األشياء اليت ال حياة فيها‪ ،‬كاملخطوطة اليت نلقي‬
‫بها ألنها مكتوبة خبط صغري للغاية‪ ،‬أو منزقها ألنها مليئة باألخطاء (‪ ".)2‬ال‬
‫شك أن جتربة قراءة نص ممتلئٍ بـ "األخطاء املطبعية" (أو أخطاء النسخ) هي‬
‫جتربة حمبطة لدرجة قد تؤدي إىل تشتيت ذهن القارئ‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫هناك أيضا هذا املثال التهكمي الذي جنده يف إحدى إبيجرامات الشاعر‬
‫الروماني الساخر "مارشال" ‪ ،‬الذي حييط قارئه علمًا يف إحدى قصائده بأنه‪:‬‬

‫"إن بدت لك ‪ -‬أيها القارئ ‪ -‬أيًّا من القصائد املكتوبة يف هذه األوراق‬


‫غامضة أو ركيكة فتلك ليست غلطيت‪ ،‬ولكنَّ الناسخَ هو من أفسدها بسبب‬
‫عجلته إلمتام نسخ القصيدة من أجلك ‪.‬أمَّا إن كنت تظن أنها غلطيت وليست‬
‫غلطته‪ ،‬فسأعرف أنك معدوم الذكاء "ومع ذلك‪ ،‬أنظر‪ ،‬هؤالء سيئون" كما‬
‫لو كنت أنكر ما هو واضح‪ ،‬أجل إنهم سيئون‪ ،‬لكنك ال تستطيع أن تأتي‬
‫بأفضل منهم؟" (‪)3‬‬

‫نسخ النصوص أفسح اجملال الحتماالت األخطاء؛ وهذه املشكلة لوحظت‬


‫على نطاقٍ واسعٍ طوال العصور القدمية‪.‬‬

‫لدينا يف النصوص املسيحية األوىل عددٌ من اإلشارات اليت ترصُد ممارساتِ‬


‫النسخ (‪ .)4‬واحدة من أكثر هذه اإلشارات إثارةً لالهتمام جندها يف نص رائج‬
‫يرجع تارخيه إىل بدايات القرن الثاني وامسه "الراعي" هلرماس ‪ .‬قـُرئ هذا‬
‫الكتاب على نطاق واسع خالل الفرتة بني القرن الثاني امليالدي ووصوال إىل‬
‫القرن الرابع امليالدي؛ حتَّى إن بعض املسيحيني يعتقدون أنه جيب أن يعترب‬

‫‪85‬‬
‫جزءًا من القائمة القانونية للكتاب املق ّدسِ ‪ .‬وهو مدرج كأحد كتب العهد‬
‫اجلديد‪ ،‬على سبيل املثال‪ ،‬يف واحدة من أقدم خمطوطاتنا اليت ال تزال حمفوظة‬
‫‪ ،‬أال وهي املخطوطة " السينائية" الشهرية اليت يرجع تارخيها إىل القرن الرابع ‪.‬‬

‫يف الكتاب‪ ،‬نيبٌّ مسيحيٌّ يدعى "هرماس" كتب عددًا من الرؤى ‪ ،‬بعضها كان‬
‫يتعلق باملستقبل‪ ،‬والبعض اآلخر كان يتعلق باحلياة الشخصية واالجتماعية‬
‫ملسيحيِّي أيامه‪.‬‬

‫ٍّ من الكتب‬
‫يف موضع قريب من بداية الكتاب (وهو كتاب كبري‪ ،‬أكرب من أي‬
‫األخرى اليت ُعدّت جزءًا من العهد اجلديد) يرى هرماس رؤية تقرأ فيها سيدة‬
‫عجوز‪ ،‬وهي متثل نوعًا من الرمز املالئكي للكنيسة املسيحية‪ ،‬بصوت مرتفع‬
‫من كتابٍ صغريٍ‪ .‬وتسأل هرماس إذا ما كان باستطاعته إعالم إخوانه املسيحيني‬
‫باألشياء اليت مسعها‪ .‬فيجيب بأنه ال يستطيع أن يتذكر كل ما قرأَتَْه‪ ،‬ويطلب‬
‫منها أن " اعطين الكتاب ألنسخ منه نسخة " فتعطيه إياه‪ ،‬وعندئذ يروي قائالً‪:‬‬

‫"أخذتُـهُ وذهبت بعيداً إىل جزء آخر من احلقل‪ ،‬حيث نسختـُه بالكامل‪ ،‬حرفاً‬
‫حبرف‪ ،‬ألني مل أستطع التمييز بني املقاطع ‪ .‬وعندئذ‪ ،‬عندما أمتمت حروف‬
‫الكتاب‪ ،‬انتـُزع فجأة من بني يديّ؛ لكنين مل أرَ من فعل ذلك‪( ".‬الراعي‬
‫‪) 5.4‬‬

‫‪86‬‬
‫وعلى الرغم من أنه كان كتابًا صغريًا‪ ،‬إال أنَّ نسخه حرفًا حبرف البد وأنه كان‬
‫عمال صعبًا‪ .‬وعندما يقول هرماس إنه " مل يستطع التمييز بني املقاطع " فمن‬
‫اجلائز أنه كان يشري إىل إنه غري ماهر يف القراءة – ذلك‪ ،‬أنه مل يكن مدرَّبًا‬
‫كناسخٍ حمرتفٍ يستطيع أن يقرأ النصوص بطالقة‪ .‬إحدى املشاكل املتعلقة‬
‫بالنصوص اليونانية القدمية (و اليت تضمُّ كلَّ الكتابات املسيحية القدمية‪ ،‬مبا‬
‫فيها نصوص العهد اجلديد) أنها عندما نُسِخَت‪ ،‬مل يستخدم يف نسخها أيٌ من‬
‫عالماتِ الرتقيمِ ‪ ،‬ومل يتمَّ التمييز بني األحرف االستهاللية واألحرف العادية‪،‬‬
‫وكذلك ‪ ،‬وهو ما سرياه القراء املعاصرون أكثر إثارة للدهشة‪ ،‬مل تُستَخدام‬
‫املسافات للفصل بني الكلمات‪ .‬هذا النمط من الكتابة املتصلة يسمى (سكريبتوا‬
‫كونتينوا ‪ ) " ******uo continua".‬ومن الواضح أن هذا النمط‬
‫جعل قراءة النص ‪ ،‬ناهيك عن فهمه‪ .‬أمرًا عسريًا يف بعض األحيان‪ .‬فعبارة‬
‫مثل )‪: (godisnowhere‬ميكن للمؤمن أن يقرأها ‪: (God is now‬‬
‫)‪here‬أي (اإلله هنا اآلن) وميكن للملحد أن يقرأها ‪(God is‬‬
‫)‪nowhere‬وتعين‪( :‬اإلله ليس له وجود) (‪.)5‬وماذا ميكن أن تعين "‬
‫"‪lastnightatdinnerisaw abundanceonthetable‬؟ هل‬
‫تعين حدثًا عاديًا أم حدثًا خارقًا؟‬

‫‪87‬‬
‫من الواضح أن "هرماس" عندما يقول إنه مل يستطع التمييز بني املقاطع ‪ ،‬فإنه‬
‫يعين أنه مل يستطع قراءة النص بطالقة لكنه استطاع متييز احلروف‪ ،‬وعلى ذلك‬
‫فقد نسخها حرفًا بعد حرف ‪ .‬ومن اجللي أنك إن مل تفهم ما تقرأ‪ ،‬فإن‬
‫احتماالت الوقوع يف أخطاء النسخ تتضاعف‪.‬‬

‫ويشري "هرماس" إىل النَّ َْسخِ مرة أخرى يف موضعٍ الحقٍ من رؤيته‪ .‬حيث تأتيه‬
‫السيدة العجوز مرةً أخرى وتسأله إن كان قد سلَّم الكتاب الذي نسخة لقادة‬
‫الكنيسة أم مل يفعل بعدُ؛ فيجيبها أنه مل يفعل ‪ ،‬فتقول له‪:‬‬

‫"حسنًا فعلت‪ ،‬إذ لدي بعض الكلمات ألضيفها‪ .‬عندئذٍ‪ ،‬عندما أنتهي من‬
‫الكلمات كلِّها فسوف تقوم بإبالغها لكل من وقع عليهم االختيار‪ .‬وعلى ذلك‬
‫فسوف تكتب كتابني صغريين‪ ،‬وترسل أحدهما إىل "كلمنت" واآلخر إىل‬
‫"جرابت"‪" .‬كلمنت" سوف يرسل كتابه إىل املدن األجنبية‪ ،‬فهذه هي مهمته‪ .‬أما‬
‫"جرابت" فسوف تعظ األرامل واليتامى‪ .‬وأنت ستقرأ كتابك يف هذه املدينة مع‬
‫الشيوخ الذين يقودون الكنيسة‪(".‬الراعي ‪) 8 . 3‬‬

‫وهكذا‪ ،‬فإن النص الذي كان قد نسخه ببطء أضيفت إليه بعض اإلضافات‬
‫اليت كان عليه أن يسجِّلها؛ و كان عليه أن ينسخ منها نسختني‪ .‬إحداهما‬
‫ستعطى لرجل يدعى "كلمنت"‪ ،‬الذي من اجلائز أن يكون هو نفسه الشخص‬
‫املعروف من خالل نص آخر على أنه األسقف الثالث ملدينة روما – ورمبا‬
‫‪88‬‬
‫حدث هذا قبل توليه رئاسة الكنيسة – حيث إنه يبدو هنا كما لو كان مبعوثًا‬
‫خارجيًّا للمجتمع املسيحي الروماني‪ .‬هل كان ناسخًا رمسيًّا يتوىل نسخ‬
‫نصوصَهم؟‬

‫النسخة األخرى تذهب المرأة تدعى "جرابت" اليت حيتمل أنها كانت ناسخة‬
‫هي األخرى‪ ،‬ورمبا تولت إعداد نسخ لبعض أعضاء الكنيسة يف روما‪ .‬أما‬
‫"هرماس" نفسُه فإنَّ عليه أن يقرأ نسخته من الكتاب على مسيحيي جمتمعه‪،‬‬
‫(وقد يكون معظمهم من األمِّيني الذين ال يستطيعون قراءة النص بأنفسهم) –‬
‫إال أن الطريقة اليت يُفرتَض أن ينفَّذَ بها ذلك مع عدم قدرته على التمييز بني‬
‫املقاطع مل يتمَّ تفسريُها مطلقًا‪.‬‬

‫وهكذا‪ ،‬فقد ألقينا نظرةً خاطفةً على الكيفية اليت كانت تتمُّ بها عمليةُ النسخِ‬
‫يف الكنيسةِ األوىل‪ .‬ومن املفرتض أن احلال كان مشابها لذلك يف الكنائس‬
‫املختلفة املنتشرة على جانيب املتوسط‪ ،‬على الرغم من أن أيًا من هذه الكنائس‬
‫(على األرجح) مل تكن حبجم كنيسة روما‪ .‬جمموعةٌ خمتارةٌ قليلةُ العدد كانوا‬
‫نسّاخ الكنيسة‪ ،‬وبعض هؤالء النسّاخ كانوا أكثر مهارة من اآلخرين ‪ .‬يبدو أنَّ‬
‫"كلمنت" كان مكلَّـفًا بنشر األدب املسيحي كواحدة من مهامه‪ ،‬بينما "هرماس"‬
‫والنسَخُ اليت يقوم هؤالء‬
‫يؤدي املهمة ألنها ببساطة قد أوكلت إليه هذه املرة‪ُّ ،‬‬

‫‪89‬‬
‫األعضاء املتعلمون (وبعضهم أوسع علمًا من بعض)بنسخها تتم قراءتها على‬
‫اجملتمع املسيحي بعمومه ‪.‬‬

‫ما الذي ميكن أن نضيفه عن هؤالء النسّاخ املنتمني للمجتمع املسيحي؟ ال‬
‫نعرف على وجه التحديد من كان "كلمنت" أو"جرابت"‪ ،‬إال أن لدينا معلومات‬
‫إضافية عن "هرماس"؛ فهو يقول عن نفسه إنه عبدٌ سابقٌ (الراعي ‪، )1 .1‬‬
‫ومن الواضح أنه كان قادرًا على القراءة والكتابة‪ ،‬بل ومتعلمًا تعليمًا جيدًا‬
‫نسبيًّا‪ .‬وهو مل يكن من بني قادة كنيسة روما (فلم يذكر بني شيوخ الكنيسة)‪،‬‬
‫مع أن تقليدًا الحقًا يزعم أنَّ أخاه ‪،‬الذي كان امسه "بيوس"‪ ،‬أصبح أسقفاً‬
‫للكنيسة يف منتصف القرن الثاني (‪ .)6‬إن كان األمر كذلك‪ ،‬فمن احملتمل أن‬
‫تكون العائلة قد تبوَّأت مكانةً مرموقةً داخل اجملتمع املسيحي – على الرغم من‬
‫كون "هرماس" عبداً يف يوم من األيام‪ .‬وملَّا كان املتعلمون وحدهم‪ ،‬بطبيعة‬
‫احلال‪ ،‬هم القادرين على الكتابة‪ ،‬وملا كان التعلم يتطلب عادة توفُّر الوقت‬
‫واملال الالزمني (ما مل يكن الشخص قد مت تدريبه على القراءة والكتابة وهو‬
‫عبد)‪ ،‬فمن الظاهر أن النسّاخ املسيحيني األوائل كانوا من بني أكثر الناس ثراءً‬
‫وأفضلهم تعليمًا يف اجملتمع املسيحي الذي عاشوا فيه‪.‬‬

‫كما رأينا‪ ،‬كانت عمليات النسخ خارج اجملتمعات املسيحية‪ ،‬يف العامل‬
‫الروماني على اتساعه‪ ،‬تتمُّ إما على أيدي النسَّاخ احملرتفني‪ ،‬أو على أيدي‬

‫‪90‬‬
‫عبيدٍ قادرين على القراءة والكتابة ويتم تكليفهم بالنسخ من قبل سادتهم؛‬
‫ويعين ذلك‪ ،‬من بني ما يعين‪ ،‬أنه كقاعدة مل يكن األشخاص الذين يقومون‬
‫بالنسخ هم أنفسهم األشخاص الراغبني يف احلصول على النصوص‪ ،‬وإمنا كان‬
‫الناسخون يف الغالب األعمّ ينسخونها ملصلحة آخرين‪ .‬إال أنَّ واحدا من أهم‬
‫االكتشافات احلديثة اليت قام بها العلماء الباحثون يف نسـَّّاخ املسيحية األوىل‪،‬‬
‫هو أن احلال كان على العكس من ذلك متاما‪ .‬إذ يبدو أن املسيحيني الذين كانوا‬
‫يقومون بالنسخ‪ ،‬كانوا هم أنفسهم من حيتاجون الُنسَخ‪ ،‬مبعنى أنهم كانوا‬
‫ينسخونها إما الستخدامهم الشخصيّ‪ ،‬أو ملصلحة املقربني منهم‪ ،‬أو كانوا‬
‫ينسخونها من أجل اآلخرين يف جمتمعهم (‪ .)7‬باختصار‪ ،‬مل يكن األشخاص‬
‫الذين قاموا بنسخ النصوص املسيحية األوىل‪ ،‬يف معظم األحوال – إن مل يكن‬
‫يف كلها‪ ،‬حمرتفني ميتهنون النسخ؛ وإمنا ببساطة كانوا هم األفراد القادرين على‬
‫القراءة والكتابة من بني أعضاء الطائفة املسيحية‪ ،‬واللذين توفرت لديهم الرغبة‬
‫والقدرة على النسخ‪( .‬مثل "هرماس" املذكور أعاله)‬

‫بعض هؤالء األفراد – أو معظمهم؟ ‪ -‬رمبا كانوا قادة للمجتمعات‪ .‬لدينا من‬
‫األسباب ما يدفعنا لالعتقاد بأنَّ الزعماء املسيحيني األوائل كانوا من األعضاء‬
‫األكثر ثراءًا يف الكنيسة‪ ،‬من ذلك أن الكنائس كانت عادةً ما جتتمع يف منازل‬
‫أعضاءها (مل تكن مثة مبانٍ للكنائس‪ ،‬على حد علمنا‪ ،‬خالل القرنني األول‬

‫‪91‬‬
‫والثاني من عمر الكنيسة) ومنازل األعضاء األكثر ثراءًا هي اليت كان مبقدورها‬
‫أن تتَّسع لعددٍ كبريٍ من الناس‪ ،‬حيث كان معظم الناس يف تلك املدن القدمية‬
‫يعيشون يف غرف ضيقة‪ .‬وال يتعارض مع املنطق أن نفرتض أنّ الشخص الذي‬
‫تولَّى أمرَ توفري املكان‪ ،‬توىل قيادة الكنيسة أيضًا‪ ،‬كما تفرتض عددٌ من‬
‫الرسائل املسيحية اليت وصلتنا‪ ،‬واليت يوجِّه فيها الراسل حتياته إىل فالن ‪ ..‬وإىل‬
‫"الكنيسة اليت جتتمع يف بيته‪ ".‬أصحاب املنازل األكثر ثراءًا هؤالء‪ ،‬كانوا على‬
‫األرجح هم األفضل تعليمًا‪ ،‬وعلى ذلك فليس من املستغرب أن يُطلب منهم‬
‫أحيانًا أن "يقرأوا" الكتابات املسيحية على مجاعات املصلني‪ ،‬كما نرى على‬
‫سبيل املثال يف (‪1‬تيموث ‪ " )13 : 4‬إِلَى أَنَْ أَجِيءَ ا َْعكُفَْ َعلَى الْقِرَاءَةِ( أي‬
‫العامة) وَالْ َو َْعظِ وَالتَّ َْعلِيمِ " فهل من املمكن‪ ،‬إذن‪ ،‬أن يكون قادة الكنيسة‬
‫مسئولني‪ ،‬على األقل لفرتة ال بأس بها من الوقت‪ ،‬عن نسخ الكتابات‬
‫املسيحية اليت كانت تُقْرَأ على مجاعة املصلني؟‬

‫ألنَّ النصوص املسيحية األوىل مل تكن تنسخ مبعرفة نسّاخ حمرتفني (‪ ،)8‬على‬
‫األقل يف أثناء القرنني أو القرون الثالثة األوىل من عمر الكنيسة‪ ،‬وإمنا مبعرفة‬
‫أشخاص متعلمني ينتمون للمجتمع الكنسي لديهم القدرة والرغبة ألداء هذه‬
‫املهمة‪ ،‬فمن املمكن أن نتوقع أنه يف النسخ األوىل‪ ،‬على وجه اخلصوص‪ ،‬كان‬

‫‪92‬‬
‫يوجد أخطاء النسخ شائعة احلدوث‪ .‬يف احلقيقة‪ ،‬توجد لدينا أدلة دامغة على‬
‫ذلك‪ ،‬حيث كانت (هذه األخطاء) حمال لبعض الشكاوى العارضة من‬
‫مسيحيني يقرأون تلك النصوص وحياولون اكتشاف الكلمات األصلية اليت‬
‫خطتها أيدي املؤلفني‪ .‬ففي إحدى املرات‪ ،‬على سبيل املثال‪ ،‬يسجل األب‬
‫"أورجيانوس" املنتمي لكنيسة القرن الثالث الشكوى التالية من نسخ األناجيل‬
‫املوجودة حتت تصرفه‪:‬‬

‫"لقد أصبحت االختالفات بني املخطوطات عظيمة‪ ،‬إما بسبب إهمال بعض‬
‫النسـّاخ أو بسبب التهور األمحق للبعض اآلخر؛ فهل كانوا يهملون مراجعة‬
‫ما نسخوه‪،‬أم‪ ،‬بينما يراجعونه‪ ،‬يقومون باحلذف واإلضافة على هواهم؟(‪) 9‬‬
‫"‬
‫مل يكن "أورجيانوس" الشخص الوحيد الذي الحظ تلك املشكلة‪ ،‬فقد أشار‬
‫إليها أيضاً خصمُه الوثين "سيلزس" قبل ذلك بسبعني سنة‪ ،‬ففي سياق هجومه‬
‫على املسيحية وأعماهلا األدبية‪ ،‬طعن "سيلزس" يف النسـَّاخ املسيحيني التِّباعهم‬
‫أساليبًا تنتهك أصول النسخ‪:‬‬

‫"بعض املؤمنني يتصرفون كما لو كانوا يف جملس الحتساء الشراب‪،‬يذهبون‬


‫بعيدا إىل درجة التناقض مع أنفسهم‪ ،‬فيغيِّرون النصَّ األصليَّ لإلجنيل ثالث‬

‫‪93‬‬
‫مرات أو أربع أو مرات عديدة أكرب من ذلك‪ ،‬ويغريون أسلوبه مبا ميكّنهم من‬
‫إنكار الصعوبات متى وُجِّه النقد إليهم "‪(.‬ضد سيلزس ‪) 27 . 2‬‬

‫وامللفت للنظر يف هذه الواقعة بالتحديد هو أن "أورجيانوس"‪ ،‬عندما جوبه‬


‫باتهام من أطراف خارجية برداءة املمارسات النسخية بني املسيحيني‪ ،‬أنكر أن‬
‫يكون املسيحيون يف الواقع قد غيّروا النص‪ ،‬على الرغم من أنه هو نفسه قد‬
‫انتقد تلك احلقيقة يف كتاباته األخرى‪ .‬واالستثناء الوحيد الذي يذكره يف سياق‬
‫الرد على "سيلزس" يتعلق بعدة جمموعات من املهرطقني الذين ‪،‬حسبما يزعم‬
‫"أورجيانوس"‪،‬حرَّفوا النصوص املقدسة بأسلوب خبيث (‪).11‬‬

‫لقد سبق ورأينا هذا االتهام بأن املهرطقني غيَّروا أحيانًا يف النصوص اليت قاموا‬
‫بنسخها بهدف جعلها أقرب إىل تأييد وجهات نظرهم‪ ،‬حيث كان هذا هو ما‬
‫اتهم به "مرقيون" الفيلسوف الالهوتي املنتمي للقرن الثاني‪ ،‬الذي قام بتقديم‬
‫قانونه الكنسي املكون من أحد عشر كتابًا مقدسًا بعد أن قام حبذف األجزاء‬
‫اليت تتعارض مع نظريته اليت تزعم أن "بولس" كان يرى أن الرب يف العهد‬
‫القديم مل يكن هو الربَ احلقيقيَّ‪ .‬يزعم خصم "مرقيون" األرثوذكسي‬
‫"إيريناوس " أن "مرقيون" قد قام مبا يلي ‪:‬‬

‫مزق أوصال رسائل "بولس"‪ ،‬حاذفاً منها كل ما قاله الرسول عن الرب الذي‬
‫خلق العامل ‪ ،‬ليطمس حقيقة أنه أب ربنا يسوع املسيح ‪ ،‬وكذلك فعل مع هذه‬
‫‪94‬‬
‫الفقرات من الكتابات النبوية اليت اقتبسها الرسل لكي يعلّمونا أنهم جهروا‬
‫باألمر فيما سبق جمئ السيّد‪(.‬ضد اهلراطقة ‪).2 . 27 . 1‬‬

‫مل يكن مرقيون هو املتهم الوحيد ‪ .‬فتقريبا يف الفرتة ذاتها اليت كان إيريناوس‬
‫يعيش فيها ‪،‬عاش أسقف كورينثيا األرثوذكسي املسمى "ديونيسيوس" الذي‬
‫كثريا ما جأر بالشكوى من أن املؤمنني الكاذبني قد حرَّفوا كتاباته من غري وازع‬
‫من ضمري ‪ ،‬مثلما قد فعلوا مع كثري من النصوص املقدسة‪.‬‬

‫عندما دعاني رفاقي املسيحيون إىل أن أكتب رسائل إليهم فعلت ما طلبوه مين‬
‫‪ .‬رسل الشيطان هؤالء مملؤون بالزوان © ‪ ،‬حيذفون أشياء و يضيفون أشياء ‪.‬‬
‫هلم العذاب مدَّخر ‪ .‬ال عجب إذن لو جترأ بعضهم على تشويه أعمالي‬
‫املتواضعة ماداموا يتآمرون على العبث حتى بكلمة الرب نفسه‪.‬‬

‫كانت االتهامات من هذا النوع املوجه ضد "اهلراطقة" ـ أي خبصوص قيامهم‬


‫بتحريف نصوص الكتاب املقدس ليجعلوها تقول ما أرادوا منها أن تعنيه ـ أمر‬
‫واسع االنتشار بني الكتّاب املسيحيني األوائل ‪ .‬من اجلدير باملالحظة ‪ ،‬مع ذلك‬
‫‪ ،‬أن دراسات حديثة أظهرت أن الدليل املستمد من خمطوطاتنا الباقية يشري‬
‫بأصابع االتهام إىل االجتاه املعاكس ‪ .‬فالنساخ الذين كانوا مؤمنني بالتقليد‬
‫األرثوذكسي كثريا ما قاموا بتحريف النصوص ‪ ،‬أحيانا بهدف التخلص من‬
‫‪95‬‬
‫احتمال أن " يسئ استخدامها " املسيحيون لتأكيد العقائد اهلرطوقية وأحيانا‬
‫ليجعلوها أكثر موافقة للعقائد اليت يتبنّاها مسيحيو طائفتهم ‪)11( .‬‬

‫اخلطورة احلقيقية اليت متثلت يف إمكانية حتريف النصوص حسب الرغبة ‪،‬‬
‫مبعرفة نسّاخ مل يشعروا باالستحسان جتاه الطريقة اليت صيغت بها هذه‬
‫النصوص ‪،‬هي أمر واضح بطرق أخرى كذلك ‪ .‬حنتاج دائما إىل أن نتذكُّر أنَّ‬
‫نساخ الكتابات املسيحية املبكرة كانوا يعيدون إنتاج نصوصهم يف عاملٍ مل‬
‫يعرف ماكينات طباعة أو بيوت نشر فحسب وإمنا أيضًا مل يكن فيه على‬
‫اإلطالق أية قوانني تتعلق حبقوق النشر‪ .‬فكيف ميكن للمؤلفني أن يضمنوا أن‬
‫نصوصهم مل تكن تتعرض للتَّعديل عند توزيعها ؟ اإلجابة املختصرة هي أنهم‬
‫مل يكن لديهم أية ضمانة على اإلطالق ‪ .‬وهذا ما يوضِّح السبب الذي من‬
‫أجله كان املؤلِّفون يف أحايني كثرية يبتهلون لكي تتنزَّل اللعنات على أي ناسخ‬
‫خلُ على نصوصهم أية تعديالت بغري إذن منهم ‪ .‬هذا النوع من اللعنات‬
‫ُي َْد ِ‬
‫جنده يف إحدى الكتابات املسيحية املبكرة اليت جنحت يف أن تصبح جزءا من‬
‫العهد اجلديد ‪ ،‬أال وهي سفر الرؤيا ‪،‬اليت يكتب مؤلفها ‪ ،‬قريبا من نهاية نصه‬
‫‪ ،‬حتذيرا رهيبًا‪:‬‬

‫‪96‬‬
‫حدٌ َيزِيدُ َعلَى َهذَا‬
‫ُوةِ َهذَا ا ْلكِتَابِ‪ :‬إِنَْ كَانَ َأ َ‬
‫ألَنِّي أَشَْ َهدُ ِلكُلِّ مَنَْ يَسَْمَعُ َأقْوَالَ نُب َّ‬
‫حذِفُ ِمنَْ‬
‫حدٌ يَ َْ‬
‫الضرَبَاتِ ا ْل َمكْتُوبَةَ فِي َهذَا ا ْلكِتَابِ‪ .‬وَِإنَْ كَانَ َأ َ‬
‫يَزِيدُ اهللُ َعلَ َْيهِ َّ‬
‫َأقْوَالِ كِتَابِ َهذِهِ النُّبُوَّةِ يَحَْذِفُ اهللُ نَصِيَبهُ مِنَْ ِس ْفرِ الْحَيَاةِ‪َ ،‬و ِمنَ ا ْل َمدِينَةِ‬
‫ا ْلمُقَدَّسَةِ‪ ،‬وَ ِمنَ ا ْل َمكْتُوبِ فِي َهذَا ا ْلكِتَابِ‪( .‬رؤيا ‪)19 – 18 : 22‬‬

‫مل يكن هذا تهديدًا للقارئ بأنه ينبغي أن يقبل أو أن يؤمن بكلِّ ما هو مكتوب‬
‫يف كتاب النبؤات هذا ‪ ،‬كما يتمُّ تفسريه يف أحيان كثرية ؛ بل هو تهديد تقليديٌّ‬
‫لنسّاخ السفر بأنهم ينبغي أن ال يضيفوا أو حيذفوا أيًّا من كلماته ‪ .‬لعناتٌ مشابهةٌ‬
‫ميكن رؤيتها متناثرة يف ثنايا عدد من الكتابات املسيحية املبكرة ‪ .‬تأمَّلَْ‬
‫التهديدات األكثر صرامة اليت كتبها العامل املسيحي الالتيين روفينوس‬
‫خبصوص ترمجته لواحد من أعمال أورجيانوس‪:‬‬

‫أناشد كل إنسان رمبا ينسخ أو يقرأ هذه الكتب‪ ،‬بإخالص يف حضرة اهلل اآلب‬
‫واالبن والروح القدس ‪ ،‬وأستحلفه حبق إميانه بامللكوت اآلتي ‪ ،‬وبكنيسة‬
‫القيامة من األموات ‪ ،‬وبالنار األبدية املُعدّة للشيطان ومالئكته ‪ ،‬أن ال يضيف‬
‫أيَّ شئ ملا هو مكتوب و أن ال حيذف منه شيئا ‪ ،‬وأن ال حي ِدثَ أي إدخال أو‬
‫حتريف ‪،‬و أن يقارن بني منسوخ يده وبني النسخ اليت قام بالنسخ منها‪ ،‬كي ال‬

‫‪97‬‬
‫يرث إىل األبد هذا املكان ‪ ،‬حيث العويل وصرير األسنان وحيث النار اليت ال‬
‫تنطفئ واألرواح اليت ال متوت ‪)12(.‬‬

‫هذه التهديدات الرهيبة ـ جحيم وكربيت ـ هي ببساطة من أجل حتريف بعض‬


‫الكلمات الواردة يف نص ‪ .‬بعض املؤلفني ‪ ،‬رغم ذلك ‪ ،‬كانوا عازمني بكل ما‬
‫يف الكلمة من معنى على التأكد من أن تنسخ كلماتهم بصورة سليمة ‪ ،‬فليس‬
‫مثة تهديد ميكن أن يكون رادعًا على حنوٍ كافٍ يف مواجهة نسّاخ ميكنهم حتريف‬
‫النصوص حسب أهوائهم ‪ ،‬يف عامل مل تكن فيه حقوق نشر وتأليف ‪.‬‬

‫خيطئ ‪ ،‬مع ذلك ‪ ،‬من يفرتض أن التغيريات الوحيدة اليت كانت حتدث ‪،‬‬
‫كانت تقع عن طريق نسَّاخٍ فعلوا ذلك مبخاطرة شخصية عرب تدخلهم املتعمَّد‬
‫يف صياغة النص‪ .‬يف الواقع ‪ ،‬غالبية التغيريات املوجودة يف خمطوطاتنا املسيحية‬
‫املبكرة ليس هلا عالقة بالالهوت وال باأليديولوجيا ‪ .‬معظم التغيريات هي إىل‬
‫حدٍ بعيدٍ نتاج أخطاء حمضة وبسيطة ـ أخطاء القلم ‪ ،‬حذوفات عرضية ‪،‬‬
‫إضافات ناجتة عن اإلهمال ‪ ،‬أخطاء يف التهجي ‪،‬أغالط من هذا النوع أو ذاك‬
‫‪98‬‬
‫‪ .‬لقد كان النساخ غري مؤهلني ‪ :‬ومن املهم أن نتذكر أنَّ معظم النساخ يف‬
‫القرون األوىل مل يكونوا مدربني على القيام بهذا النوع من العمل بل كانوا‬
‫ببساطة أفرادًا متعلمني من بني أعضاء كنائسهم وكانوا ( إن بصورة أكرب أو‬
‫أقل) قادرين على القيام بذلك وراغبني فيه ‪ .‬بل حتى فيما بعد ‪ ،‬بدءا من‬
‫القرنني الرابع واخلامس ‪ ،‬عندما ظهر النساخ املسيحيون كطبقة حمرتفة داخل‬
‫الكنيسة (‪ ، )13‬وفيما بعد حينما كانت معظم املخطوطات تُنسخ مبعرفة‬
‫رهبان مكرّسني هلذا النوع من العمل داخل األديرة ‪ -‬حتى يف ذلك الوقت‬
‫‪،‬كان بعض النساخ أقل براعة يف النسخ من اآلخرين‪ .‬يف هذه األوقات كلها‬
‫كانت املهمة شاقة ‪ ،‬كما يشار إىل ذلك يف بعض املالحظات اليت أضيفت إىل‬
‫بعض املخطوطاتٍ واليت يكتب فيها أحد النساخ نوعًا من صرخات االرتياح‬
‫مثل ‪ " ،‬نهاية املخطوطة ‪ .‬هلل احلمد " (‪ . )14‬وقد يكون النساخ يف بعض‬
‫األحيان مهملني بالفطرة ؛وأحيانا يكونون جوعى أو شاعرين بالنعاس ‪ ،‬ويف‬
‫أحايني أخرى يكونون فحسب غري معنيني بتقديم أفضل ما عندهم‪.‬‬

‫وحتى النساخ الذين اتسموا بالكفاءة ‪،‬و اليقظة و نالوا قسطًا من التدريب‬
‫كانوا يقعون أحيانًا يف األخطاء ‪ .‬ويف بعض األحيان قاموا بتغيري النص‪ ،‬كما‬
‫رأينا ‪ ،‬ألنهم اعتقدوا أنه كان من املفرتض أن يتم تغيريه ‪ .‬إال أن ذلك مل يكن‬

‫‪99‬‬
‫نتيجة فحسب ألسباب الهوتية معينة‪ .‬لقد كانت هناك أسباب أخرى من وجهة‬
‫نظر النسَّاخ جتعلهم يقومون بتغيريات عمدية ‪ -‬على سبيل املثال‪ ،‬عندما‬
‫كانوا يأتون أمام فقرة بدت وكأنها متثل خطئًا جيب تصحيحه ‪ ،‬أو رمبا أمام‬
‫تناقض موجود يف النص ‪،‬أو إشارة جغرافية خاطئة ‪ ،‬أو إحالة إىل أحد‬
‫نصوص الكتاب املقدس يف غري حملها ‪ .‬لذا ‪ ،‬عندما أحدث النساخ تغيريات‬
‫مقصودة ‪ ،‬كانت دوافعهم أحيانا نقية نقاء الثلج األبيض ‪ .‬لكنّ التغيريات‬
‫حدثت رغم ذلك ‪ ،‬وكلمات املؤلفني األصلية ‪،‬نتيحة لذلك ‪،‬رمبا قد حُرِّفت‬
‫و ضاعت نهائيًّا‪ .‬هناك صورة توضيحية طريفة للتغيري العمدي الذي وقع لنص‬
‫موجود يف واحدة من أنقى خمطوطاتنا القدمية ‪،‬أال وهي املخطوطة الفاتيكانية (‬
‫يسميها البعض كذلك ألنها اكتشفت يف املكتبة الفاتيكانية )‪،‬اليت كتبت يف‬
‫القرن الرابع ‪ .‬ففي افتتاحية سفر العربانيني هناك فقرة يقال لنا فيها ‪ ،‬وفقا ملعظم‬
‫املخطوطات‪ ،‬إنَّ " املسيح حيمل (باليونانية )‪ : PHERON‬كل األشياء بكلمة‬
‫قدرته"( عربانيني ‪ .) 3 : 1‬أما يف املخطوطة الفاتيكانية ‪،‬فقد أحدث الناسخ‬
‫األصلي اختالفا دقيقا يف النص ‪ ،‬باستخدامه أحد األفعال املشابهة يف اللغة‬
‫اليونانية ؛ حيث يُقرأ النص يف الفاتيكانية كالتالي‪ ":‬املسيح يُظِهر ( باليونانية‬
‫)‪:PHANERON‬كل األشياء بكلمة قدرته‪ ".‬بعد ذلك بعدة قرون ‪ ،‬قرأ‬
‫ناسخ ثان هذه الفقرة يف املخطوطة (الفاتيكانية) وقرر أن يستبدل الكلمة الغريبة‬
‫يُظهِِر ) ‪ ( manifests‬باألكثر شيوعا حيمل ‪ (bears) -‬ماحيًا بذلك‬
‫‪100‬‬
‫الكلمة األوىل وكاتبًا األخرى‪ .‬ثمّ قرأ املخطوطة ‪ ،‬بعد ذلك ببعض القرون ‪،‬‬
‫ناسخ ثالث والحظ التحريف الذي فعله سلفه ؛ فمحى ‪ ،‬بدوره ‪،‬الكلمة‬
‫حيمل وأعاد كتابة الفعل يظهر ‪.‬ثم أضاف مالحظة ناسخ يف اهلامش ليشري إىل‬
‫ما دار يف خلده عن الناسخ الثاني الذي سبقه ‪ .‬تقول املالحظة ‪ ":‬أيها الوغد‬
‫األمحق ‪ ،‬دع القراءة القدمية ‪،‬الحترفها"!‬

‫أحتفظُ بنسخة من تلك الصفحة وقمتُ بوضعها داخل إطار وعلقتها على‬
‫احلائط فوق مكتيب كوسيلة ثابتة تذكرني بالنساخ ونزوعهم إىل تغيري ‪ ،‬وإعادة‬
‫تغيري ما لديهم من نصوص‪ .‬من الواضح أنَّ هذا كان تغيريا حلق بكلمة واحدة‬
‫‪ :‬فلماذا كل هذا االهتمام به ؟ إن مبعث االهتمام بهذا التغيري هو أن الطريقة‬
‫الوحيدة لفهم ما يريد املؤلف أن يقوله هي أن تعرف كيف كانت كلماته ‪-‬‬
‫كل كلماته ‪ -‬يف احلقيقة ‪ (.‬فكّر يف كل املواعظ اليت تبنى على أساس كلمة‬
‫واحدة موجودة يف أحد النصوص‪ :‬ماذا لو أن هذه الكلمة مل يكتبها املؤلف يف‬
‫احلقيقة ؟) إن القول إن املسيح كشف كل األشياء بكلمة قدرته خيتلف اختالفًا‬
‫تامًّا عن قولنا إنه ميسك الكون كله بكلمته !‬

‫"‬
‫‪101‬‬
‫وهكذا ‪ ،‬وقعت كل أنواع التغيري يف املخطوطات عرب النساخ الذين قاموا‬
‫بنسخها ‪ .‬ولعلنا نقوم بدراسة أنواع التغيريات بتعمق أكرب يف أحد الفصول‬
‫األخرية من هذا الكتاب ‪ .‬أما اآلن ‪ ،‬يكفي أن نعرف أن هناك تغيرياتٍ كانت‬
‫حتدثُ ‪،‬و أنها كانت حتدث على نطاق واسع ‪ ،‬خاصة خالل املائيت عامًا‬
‫األوىل اليت كانت تنسخ فيهما النصوص ‪،‬عندما كان معظم النساخ من اهلواة‬
‫‪ .‬أحد القضايا الرئيسية اليت ينبغي أن يتعامل معها النقاد النصيني هي الطريقة‬
‫اليت سيستخدمونها يف اسرتجاع النص األصلي ـ أي النص كما كتبه املؤلف‬
‫أول مرة ‪ -‬مع الوضع يف االعتبار أن خمطوطاتنا مليئة على حنوٍ بالغ باألخطاء‬
‫‪ .‬هذه املشكلة تتفاقم وذلك ألنه ما أن يقعَ خطأٌ ‪،‬فمن اجلائز أن يتحول إىل‬
‫جزءٍ ثابتٍ من التقليد النصيِّ ‪ ،‬بل أكثر ثباتًا ‪،‬يف الواقع ‪ ،‬من النص األصلي‬
‫نفسه ‪ .‬بطريقة أخرى ‪،‬أقول إنه مبجرد أن يغري ناسخٌ من النساخ نصًا ـ سواءٌ‬
‫أكان ذلك بشكل عارض أو بصورة متعمدة ‪ -‬فإن هذه التغيريات تصبح‬
‫باقـية يف خمطوطته (ما مل يظهر ‪،‬بطبيعة احلال‪ ،‬ناسخ آخر ليصحح اخلطأ)‪.‬‬
‫الناسخ التالي الذي ينسخ هذه املخطوطة ينسخ هذه األخطاء (ظنًّا منه أنها هي‬
‫ما يقوله النص )‪ ،‬و يضيف أخطاءا من عنده ‪ .‬الناسخ الذي يليه والذي‬
‫سينسخ بعدئذ تلك املخطوطة سيقوم بنسخ األخطاء اليت ختص الناسخني‬

‫‪102‬‬
‫السابقني له كليهما ويضيف أخطاءًا من عنديات نفسه ‪ ،‬وهكذا دواليك ‪.‬‬
‫الطريقة الوحيدة اليت ستتكفل بتصحيح األخطاء هي أن يعرتف ناسخٌ بأنَّ‬
‫ناسخًا سابقًا له قد وقع يف خطأ وحياول هو أن يصحِّحَ املشكلة ‪ .‬ليس هناك‬
‫ضمانة ‪،‬رغم ذلك ‪ ،‬أن يقوم هذا الناسخ ‪،‬الذي حياول تصحيح هذا اخلطأ‬
‫‪،‬باألمر بطريقة صحيحة ‪ .‬بطريقة أخرى ‪،‬هذا الناسخ رمبا يف الواقع يغيّر النص‬
‫بطريقة غري صحيحة عندما كان كل ما يفكر فيه هو أن يصحح اخلطأ‪ ،‬لذلك‬
‫ينتج عندنا اآلن ثالثة أشكال من النص ‪:‬النص األصلي ‪،‬النص اخلطأ ‪،‬‬
‫النص الناتج عن احملاولة اخلاطئة لتصحيح اخلطأ‪ .‬وتتعدد األخطاء و تتكرر ؛‬
‫أحيانا يتم تصحيحها و أحيانا تتفاقم املشكلة ‪.‬وهكذا تسري األمور لقرون ‪.‬‬
‫أحيانا ‪ ،‬بالطبع ‪ ،‬يكون لدى ناسخ أكثر من خمطوطة واحدة بني يديه ‪ ،‬و‬
‫يستطيع تصحيح األخطاء يف املخطوطة األوىل من خالل القراءات الصحيحة‬
‫يف املخطوطة األخرى ‪.‬هذا فعليًّا ‪ ،‬يف حقيقة األمر ‪ ،‬يؤدي إىل حتسني املوقف‬
‫بصورة ملحوظة ‪ .‬من ناحية أخرى ‪ ،‬من احملتمل أحيانا أيضًا أن يقوم ناسخ‬
‫بتصحيح املخطوطة الصحيحة يف ضوء النص اخلاص مبخطوطة غري صحيحة ‪.‬‬
‫واالحتماالت تبدو بال نهاية ‪ .‬مع وضع هذه املشكالت يف االعتبار ‪ ،‬كيف‬
‫ٍّ ما ‪ ،‬أي النص الذي كتبه املؤلف بالفعل‬
‫ٍّ أصلي‬
‫ميكننا أن نأمل يف استعادة نص‬
‫؟ إنها مشكلة هائلة ‪ .‬يف الواقع ‪ ،‬إنها مشكلة ضخمة إىل درجة أنَّ عددًا من‬
‫نقاد النصوص بدأوا يف االدعاء أننا رمبا سنتوقف أيضًا عن مناقشة أي شئ‬
‫‪103‬‬
‫يتعلق بالنص " األصلي" ‪ ،‬ألن النص األصلي بالنسبة إلينا ال ميكن الوصول‬
‫إليه ‪ .‬رمبا يكون يف هذا القول نوعٌ من املبالغة ‪ ،‬لكنَّ مثاال واقعيًّا أو مثالني‬
‫مأخوذين من كتابات العهد اجلديد رمبا يكشف لنا حقيقة هذه املشكالت‪.‬‬

‫بالنسبة للمثال األول ‪ ،‬دعونا نأخذ رسالة بولس إىل أهل غالطية ‪ .‬الصعوبات‬
‫العديدة اليت يتحتم علينا التعامل معها ‪ ،‬حتى خبصوص الكتابة األصلية‬
‫للرسالة ‪ ،‬رمبا ستجعلنا متعاطفني أكثر مع هؤالء الذين يريدون أن نتخلى عن‬
‫التفكري يف الشكل الذي كان عليه النص " األصلي "‪ .‬مل تكن غالطية مدينة‬
‫منعزلة بها كنيسة منعزلة ؛ بل كانت منطقة يف آسيا الصغرى (تركيا املعاصرة )‬
‫كان بولس قد أنشأ فيها كنائس‪ .‬عندما يكتب إىل أهل غالطية ‪ ،‬فهل كان‬
‫يكتب لواحدة من الكنائس أم هلا مجيعا ؟ كان بولس ‪،‬على ما يبدو ‪ ،‬مبا أنه‬
‫ال حيدد أي مدينة على وجه اخلصوص ‪ ،‬يقصد أن تصل الرسالة إليها مجيعا ‪.‬‬
‫هل هذا يعين أنه كتب نسخا متعددة من الرسالة نفسها ‪ ،‬أم أنه أراد أن يتم‬
‫مترير الرسالة الواحدة على كل كنائس املنطقة ؟ ليس لدينا معلومات خبصوص‬
‫هذا األمر ‪ .‬لنفرتض أنه كتب نسخا متعددة ‪ .‬فكيف فعل ذلك ؟ يف البدء ‪،‬‬
‫يبدو أن هذه الرسالة ‪ ،‬مثل رسائل بولس األخرى ‪،‬مل تكتب خبط يده وإمنا‬

‫‪104‬‬
‫بيد أمني سر للنسخ ‪ .‬الدليل على ذلك يأتي من نهاية الرسالة ‪ ،‬حيث أضاف‬
‫بولس حاشية يف خمطوطته اخلاصة ‪ ،‬لكي يعرف املرسل إليهم أنه شخصيا هو‬
‫املسئول عن الرسالة ( وهو أسلوب شائع مستخدم يف الرسائل املكتوبة بطريق‬
‫اإلمالء يف العصور القدمية )‪ُ ":‬اَْنظُرُوا‪ ،‬بأي أحرف كبرية أكتب إِلَ َْي ُكمَْ‬
‫بَِيدِي!"(غالطية ‪ .)11 : 6‬رسالته املكتوبة خبط يده ‪ ،‬بكلمات أخرى ‪ ،‬كانت‬
‫أكرب حجما و رمبا أقل احرتافية من ناحية الشكل من تلك اليت كتبها الناسخ‬
‫الذي كان قد أمليت عليه الرسالة (‪) .15‬‬

‫اآلن ‪ ،‬لو أملى بولس الرسالة ‪ ،‬فهل أمالها كلمة بكلمة ؟ أم هل قام بتوضيح‬
‫النقاط الرئيسية وترك للناسخ احلرية يف تسويد ما تبقى ؟‬

‫املنهجان كالهما كانا شائعا االستخدام لدى كتَبَة الرسائل يف العصر القديم‬
‫(‪ . )16‬لو أكمل الناسخ بقية الرسالة ‪ ،‬فهل ميكننا التيقن من أنه قد أكملها‬
‫متاما على الصورة اليت أرادها بولس ؟ فإذا مل يفعل ‪ ،‬فهل لدينا يف الواقع‬
‫كلمات بولس ‪ ،‬أم هي كلمات بعض النساخ اجملهولني ؟ لكن دعونا نفرتض‬
‫أن بولس أملى الرسالة كلمة بكلمة ‪ .‬فهل من املمكن أن يكون الناسخ يف بعض‬
‫املواضع قد كتب الكلمات اخلاطئة ؟ أغرب من ذلك قد حدث ‪ .‬يف هذه احلالة‬
‫‪ ،‬فمخطوطة الرسالة ( أي النص األصلي ) فيها من البداية " خطأ" ‪ ،‬لذا‬

‫‪105‬‬
‫فجميع النسخ الالحقة لن تكون من كلمات بولس ( يف املواضع اليت أخطأ‬
‫فيها ناسخه‪).‬‬

‫فلنفرتض ‪ ،‬مع ذلك ‪ ،‬أن الناسخ كتب الكلمات صحيحة بنسبة مائة باملائة ‪.‬‬
‫لو صدرت نسخ عديدة من الرسالة ‪ ،‬فهل ميكننا أن نتأكد من أن كل النسخ‬
‫كانت أيضًا صحيحة مائة باملائة ؟ من احملتمل ‪ ،‬على األقل ‪ ،‬أنه حتى لو‬
‫نسخت مجيعا يف حضور بولس ‪ ،‬فكلمة أو اثنني هنا أو هناك ستتغري يف نسخة‬
‫أو يف أخرى من النسخ‪ .‬لوكان األمر كذلك ‪،‬ماذا لو أن واحدة من تلك النسخ‬
‫كانت هي اليت صنعت منها كل النسخ الالحقة ـ بدءا من القرن األول‬
‫‪،‬وصوال إىل القرنني الثاني والثالث‪،‬وهلم جرًّا؟‬

‫يف هذه احلالة ‪ ،‬النسخة األقدم اليت مثلت األساس لكل النسخ الالحقة من‬
‫الرسالة مل تكن بالتمام ما كتبه بولس ‪،‬أو الذي أراده أن يُكتب‪ .‬ومبجرد أن‬
‫تنتشر النسخة ـ أي مبجرد أن تصل إىل غايتها يف إحدى مدن غالطية ـ فهي‬
‫‪،‬بطبيعة احلال ‪،‬ستنسخ ‪ ،‬وستحدث األخطاء ‪ .‬يف بعض األحيان رمبا سيغري‬
‫النساخ النص بصورة عمدية ؛وأحيانا تقع األخطاءعن طريق السهو ‪ .‬هذه‬
‫النسخ املشتملة على األخطاء يتم نسخها ؛وهكذا ‪،‬سيحدث األمر ذاته يف‬
‫املستقبل‪ .‬يف مكان ما وسط هذا كله ‪ ،‬النسخة األصلية ( أو كل من النسخ‬
‫األصلية ) ينتهي بها احلال إىل الضياع‪ ،‬أو البِلى ‪ ،‬أو إىل التلف‪ .‬يف بعض‬

‫‪106‬‬
‫األحيان ‪ ،‬ال يعود ممكنا مقارنة نسخة باألصل للتأكد من أنها "صحيحة" ‪،‬‬
‫حتى لو ُوجِد شخص ما لديه الرغبة يف فعل ذلك‪.‬‬

‫ما ظل باقيا اليوم ‪ ،‬إذن ‪ ،‬ليس هو النسخة األصلية من الرسالة ‪ ،‬وال واحدة‬
‫من النسخ األوىل اليت كان بولس نفسها قد كتبها ‪ ،‬وال أيًا من النسخ اليت‬
‫ٍّ من مدن غالطيا اليت أرسلت إليها تلك الرسالة ‪ ،‬وال أيًا من‬
‫أنتجت يف أي‬
‫النسخ املنسوخة بناءا على هذه النسخة ‪ .‬النسخة األوىل الكاملة إىل حد ما اليت‬
‫منلكها من الرسالة إىل أهل غالطية (خمطوطة مؤلفة من ِكسَر ‪،‬أي أن فيها عددا‬
‫من األجزاء املفقودة ) هي ورقة بردي تعرف باسم ()‪ (P46‬حيث أنها كانت‬
‫الربدية رقم ستة وأربعني من برديات العهد اجلديد وضعا يف الفهارس أو‬
‫الكشوف اخلاصة بذلك)‪ ،‬واليت يرجع تارخيها إىل ‪ 211‬ميالديا تقريبا (‪. )17‬‬
‫أي تقريبا بعد مرور ‪ 151‬عاما من كتابة بولس للرسالة ‪ .‬لقد كانت متداولة ‪،‬‬
‫ويتم نسخها أحيانا بشكل صحيح وأحيانا بشكل غري صحيح ‪ ،‬خلمسة عشر‬
‫عَ ْقدًا قبل أن يتم إنتاج أيٍ من النسخ اليت بقيت إىل الوقت احلاضر‪ .‬ال ميكننا‬
‫إعادة بناء نسخة من تلك النسخ اليت أنتجت منها الربدية ‪ " P46 ".‬فهل‬
‫كانت هي ذاتها نسخة دقيقة ؟ لو كان األمر كذلك ‪،‬فإىل أي درجة كانت دقتها‬
‫)‪(how accurate‬؟ لقد كانت بالتأكيد حتوي أخطاءا من نوعا ما ‪ ،‬كما‬

‫‪107‬‬
‫كان احلال مع النسخة ذاتها اليت نُ ِسخَت منها ‪ ،‬والنسخة اليت نسخت منها‬
‫تلك النسخة ‪ ،‬وهلم جرا ‪.‬‬

‫باختصار ‪ ،‬إن احلديث عن النص "األصلي" للرسالة إىل أهل غالطية هو أمرٌ‬
‫شديد التعقيد ‪ .‬فالنص ليس لدينا ‪ .‬وأفضل ما ميكننا فعله هو أن نعود إىل‬
‫مرحلة نسخه املبكرة ‪ ،‬وأن نأمل ببساطة يف أن ما نعيد بناءه فيما يتعلق بالنسخ‬
‫اليت أنتجت يف هذه املرحلة ـ بناءا على النسخ اليت حدث وأن جنت من الضياع‬
‫( بعدد متزايد كلما اجتهنا إىل العصور الوسطى ) ـ يعكس بصورة معقولة ما‬
‫كتبه بالفعل بولس نفسُه ‪ ،‬أو على األقل ما كان ينوي أن يكتبه حينما قام‬
‫بإمالء الرسالة‪.‬‬

‫بالنسبة للمثال الثاني هلذه املشكالت‪ ،‬دعونا نأخذه من إجنيل يوحنا ‪ .‬هذا‬
‫اإلجنيل خيتلف بشدة عن غريه من األناجيل املوجودة يف ثنايا العهد اجلديد‬
‫‪،‬فهو خيربنا بعدد من القصص اليت ختتلف عن مثيالتها يف األناجيل األخرى و‬
‫يستخدم أسلوب كتابة شديد االختالف ‪ .‬هنا ‪،‬يف يوحنا ‪ ،‬أقوال املسيح هي‬
‫عبارة عن حورات مطولة كبديل عن األقوال املباشرة والفصيحة ؛ ال يقول‬
‫يسوع يف يوحنا ‪ ،‬على سبيل املثال ‪،‬أمثاال أبدا وهو ما خيتلف مع األناجيل‬
‫الثالثة األخرى ‪ .‬فوق ذلك ‪ ،‬األحداث احملكية يف يوحنا غالبا ما ال يكون هلا‬
‫وجود إال يف هذا اإلجنيل فحسب ‪ :‬فعلى سبيل املثال ‪ ،‬حوارات املسيح مع‬

‫‪108‬‬
‫نيقودميوس (يف الفصل ‪ ) 3‬ومع املرأة السامرية (الفصل ‪ )4‬أو معجزاته‬
‫اخلاصة بتحويل املاء إىل مخر (الفصل ‪ )2‬و إقامة أليعازر من األموات‬
‫(الفصل‪ .)11‬إن الصورة اليت يرمسها املؤلف ليسوع هي صورة خمتلفة‬
‫اختالفًا تامًّا أيضًا ؛ فيسوع يقضي كثريا من وقته ‪،‬وهو ما خيتلف مع األناجيل‬
‫الثالثة األخرى ‪ ،‬يف شرح من يكون هو (باعتباره املرسل من السماء )و يف‬
‫صنع " املعجزات" لكي يثبت أن ما يقوله عن نفسه صحيح‪.‬‬

‫لقد كان ليوحنا بال شك مصادره اخلاصة اليت بنى عليها روايته ـ مصدر رمبا‬
‫كان حيكي معجزات يسوع ‪ ،‬على سبيل املثال ‪ ،‬ومصادر كانت تصف‬
‫حواراته (‪ . )18‬لقد مجع هذه املصادر معا ليحصل على سرده املتدفق حلياة‬
‫يسوع ‪ ،‬ومهمته التبشريية ‪ ،‬وموته و قيامته‪ .‬من احملتمل ‪ ،‬مع ذلك ‪ ،‬أن يكون‬
‫يوحنا يف الواقع قد أنتج عددا خمتلفا من النسخ إلجنيله ‪ .‬لقد الحظ القراء‬
‫طويال ‪،‬على سبيل املثال‪ ،‬أن الفصل ‪ 21‬يبدو وكأنه إضافة متأخرة ‪ .‬يبدو‬
‫اإلجنيل بالتأكيد أنه قد انتهى عند العدد ‪ 31 – 31 : 21‬؛ وأن األحداث‬
‫الواردة يف الفصل ‪ 21‬تبدو كنوع من األفكار اليت ختطر على البال يف وقت‬
‫متأخر ‪ ،‬وحيتمل أن تكون قد أضيفت لكي تكمل قصص ظهورات ما بعد‬
‫القيامة ولتشرح أنه عندما مات "التلميذ احلبيب" املسئول عن حكاية التقاليد يف‬
‫اإلجنيل ‪ ،‬مل يكن ذلك عكس النبوءة (قارن مع ‪ .) 23 – 22 : 21‬فقرات‬

‫‪109‬‬
‫أخرى من اإلجنيل أيضًا غري مرتابطة متاما مع الفقرات الباقية ‪ .‬حتى الفقرات‬
‫االفتتاحية ‪ ، 18 – 1 : 1‬اليت تشكل نوعا من املقدمات االستهاللية لإلجنيل‬
‫‪ ،‬تبدو وكأنها خمتلفة عن باقي األعداد ‪ .‬هذه القصيدة املشهورة اليت تتحدث‬
‫عن "كلمة" اهلل الذي كان موجودا مع اهلل منذ البدء وكان نفسه اهلل ‪ ،‬والذي‬
‫"صار جسدا " يف املسيح يسوع ‪ .‬هذه الفقرة مكتوبة بأسلوبٍ شعريٍ رفيع ليس‬
‫له وجود يف بقية اإلجنيل ؛ فوق ذلك ‪،‬وبينما تتكرر موضوعاته احليوية يف بقية‬
‫القصة ‪ ،‬بعض كلماته األكثر أهمية مل تتكرر مرة أخرى‪ .‬لذا ‪ ،‬يسوع قد‬
‫رمست له صورة يف أحناء القصة باعتباره الشخص الذي جاء من فوق ‪ ،‬لكنه‬
‫مل ُي َْدعَ "الكلمة" مرة أخرى يف اإلجنيل‪ .‬هل ميكن أن تكون هذه الفقرة‬
‫االستهاللية قد أخذت من مصدر خمتلف عن بقية الرواية ‪ ،‬وأنها أضيفت‬
‫كبداية الئقة مبعرفة املؤلف بعد أن كانت نسخة أقدم من كتابه قد مت بالفعل‬
‫نشرها ؟‬

‫افرتض جدال ‪ ،‬ملدة ثانية ‪ ،‬أن الفصل ‪ 21‬و األعداد ‪ 18 -1 : 1‬مل‬


‫يكونوا عناصر أصلية من اإلجنيل ‪ .‬ماذا سيقدم ذلك من نفع لناقد نصيّ يريد‬
‫أن يعيد بناء النص "األصلي"؟ وأي أصل يعاد بناؤه ؟ كل خمطوطاتنا اليونانية‬
‫حتتوي على هذه الفقرة موضع الدراسة ‪ .‬لذا فهل يعيد الناقد النصيّ بناء شكل‬
‫من اإلجنيل كان حيتوي هذه الفقرات يف األصل باعتباره النص األصلي ؟ لكن‬

‫‪110‬‬
‫أليس من األوىل أن نعترب أن الشكل " األصلي " املفرتض أن يكون هو النسخة‬
‫األقدم ‪ ،‬هو ذلك الذي ال حيتويها ؟ لو أن شخصا أراد أن يعيد بناء الشكل‬
‫األقدم ‪،‬فهل من العدل أن يتوقف عند إعادة بناء ‪ ،‬فلنقل ‪ ،‬النسخة األوىل‬
‫من إجنيل يوحنا ؟ ملاذا ال يذهب حتى أبعد من ذلك و حياول أن يعيد بناء‬
‫املصادر اليت تقف وراء اإلجنيل ‪ ،‬مثل مصادر اآليات و مصادر احلوارات ‪ ،‬أو‬
‫حتى التقاليد الشفهية اليت تقف وراءها ؟‬

‫هذه أسئلة تؤرق النقاد النصيني ‪ ،‬واليت أدت بالبعض إىل أن جيادلوا حول‬
‫ضرورة إهمال أي سعي وراء النص األصلي ـ حيث إننا حتى ال ميكننا أن نتفق‬
‫حول ما حيتمل أن يعنيه احلديث عن النص "األصلي" ‪ ،‬فلنقل ‪،‬للرسالة إىل‬
‫أهل غالطية و إجنيل يوحنا ‪ .‬من ناحييت ‪،‬مع ذلك ‪ ،‬ما زلت أفكر يف أننا حتى‬
‫لو مل نكن قادرين على الوصول إىل اليقني التام خبصوص ما ميكننا أن حنصل‬
‫عليه ‪ ،‬إال أننا نستطيع على األقل أن نصل إىل التأكد من أن كل املخطوطات‬
‫الباقية قد نسخت من خمطوطات أخرى ‪ ،‬واليت كانت بدورها منسوخة من‬
‫خمطوطات أخرى ‪ ،‬وأننا على األقل قادرين على العودة إىل املرحلة املبكرة و‬
‫األكثر قدما لكل تقليد خمطوط أليٍ من كتب العهد اجلديد ‪ .‬كل خمطوطاتنا‬
‫لرسالة الغالطيني ‪،‬على سبيل املثال ‪،‬تعود بشكل واضح إىل نص ما كان‬
‫ينسخ ؛ كل خمطوطاتنا اخلاصة بإجنيل يوحنا تعود بوضوح إىل نسخة من إجنيل‬

‫‪111‬‬
‫يوحنا كانت تضم املقدمة االستهاللية و الفصل ‪ . 21‬وهكذا ينبغي أن نبقى‬
‫راضني عن معرفتنا أن العودة إىل أقدم نسخة ميكن احلصول عليها هو أفضل ما‬
‫ميكننا فعله ‪ ،‬سواء أستعدنا النص " األصلي " أم ال ‪ .‬هذا الشكل األكثر قدما‬
‫من النص هو بال شك متصل بشكل وثيق ( وثيق للغاية ) مبا كتبه املؤلف يف‬
‫األصل ‪ ،‬و لذلك فهو مبثابة األساس لتفسرينا لتعاليمه اخلاصة‪.‬‬

‫إعادة بناء نصوص العهد اجلديد‬

‫هناك مشكالت مماثلة ‪ ،‬بطبيعة احلال ‪ ،‬تنطبق على كتاباتنا املسيحية املبكرة ‪،‬‬
‫سواء أكانت تلك املوجودة يف العهد اجلديد أو املوجودة خارجه ‪ ،‬وسواء‬
‫أكانت أناجيل ‪ ،‬وأعماال ‪ ،‬رسائال ‪،‬رؤىً ‪ ،‬أو أيًّا من أنواع الكتابة املسيحية‬
‫األخرى‪.‬‬

‫مهمة الناقد النصي هي "حتديد" ما ميثله الشكل األقدم لكل هذه الكتابات ‪ .‬كما‬
‫سنرى ‪ ،‬هناك مبادئ مستقرة للقيام بهذا ال"حتديد" ‪ ،‬وهناك طرق لتقرير أي‬
‫من االختالفات املوجودة يف خمطوطاتنا هي اليت متثل األخطاء(غري املقصودة)‬
‫‪ ،‬وأيها ميثل تغيريات مقصودة ‪ ،‬وأيها يبدو أنه يعود إىل املؤلف األصلي ‪.‬‬
‫لكنها ليست مهمة يسرية ‪ .‬فالنتائج ‪ ،‬من ناحية أخرى ‪،‬ميكن أن تكون كاشفة‬
‫‪،‬وممتعة و حتى مثرية ‪ .‬لقد كان النقاد النصيون قادرين على حتديد عدد من‬
‫املواضع اليت ال متثل فيها املخطوطات اليت بني أيدينا نص العهد اجلديد‬
‫‪112‬‬
‫األصليّ وذلك بيقني نسيبّ‪ .‬بالنسبة هلؤالء الذين ليس لديهم إطالقا أيُّ معرفة‬
‫مناسبة بهذا اجملال ‪ ،‬ولكنهم يعرفون العهد اجلديد جيدا ( فلنقل ‪ ،‬من خالل‬
‫الرتمجة اإلجنليزية)‪ ،‬ميكن أن تكون بعض النتائج مفاجئة ‪ .‬يف ختام هذا‬
‫الفصل ‪ ،‬سأناقش فقرتني مشابهتني ـ فقرتان من األناجيل ‪،‬يف حالتنا هذه‪،‬حنن‬
‫اآلن على يقني تام من أنهما مل تكونا منتميتني يف األصل إىل العهد اجلديد‪،‬‬
‫على الرغم من أنهما أصبحتا أجزاءا مشهورة من الكتاب املقدس بالنسبة‬
‫للمسيحيني عرب القرون وظال هكذا حتى اليوم‪.‬‬

‫قصة يسوع واملرأة الزانية رمبا هي واحدة من أشهر قصص يسوع يف الكتاب‬
‫املقدس ؛ ولقد ظلت دائما إحدى القصص املفضلة لدى مجيع أفالم هوليوود‬
‫اليت تناولت حياته ‪ .‬بل إنها حتى جنحت يف أن تكون جزءا من فيلم آالم املسيح‬
‫ملخرجه مل جيبسون ‪،‬رغم أن الفيلم يركز فقط على الساعات األخرية من‬
‫حياة يسوع ( القصة متت معاجلتها يف إحدى االرجتاعات الفنية‬
‫‪(flashbacks) ).‬هذه القصة ‪،‬رغم شهرتها ‪ ،‬موجودة يف فقرة واحدة‬
‫فقط من العهد اجلديد ‪،‬حتديدا يف يوحنا ‪ 53 : 7‬ـ ‪ ، 12 : 8‬وهي ال تبدو‬
‫أصليةً حتى يف هذا املوضع‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫حبكة القصة عادية ‪ .‬فيسوع يعلِّم يف اهليكل ‪ ،‬وجمموعة من الكتبة والفريسيني‬
‫‪،‬أعداءه اللدودين ‪،‬يقرتبون منه ‪ ،‬حمضرين معهم امرأة " أُ َْم ِسكَتَْ َوهِيَ تَزَْنِي‬
‫فِي ذَاتِ الْفِ َْعلِ" ‪.‬لقد أحضروها أمام يسوع ألنهم يريدون أن يضعوه أمام‬
‫اختبار‪ .‬فالشريعة املوسوية ‪،‬كما خيربونه ‪،‬تطالب بأن ترجم مثل هذه املرأة‬
‫حتى املوت ؛ لكنهم يريدون أن يعرفوا ما سيقوله هو حول هذا األمر‪ .‬هل‬
‫ينبغي أن يرمجوها أم يظهروا جتاهها الرمحة ؟ إنه شَ َركٌ ‪،‬بطبيعة احلال‪ .‬فلو‬
‫أخربهم يسوع أن يرتكوها حلال سبيلها ‪ ،‬سيتهم بأنه قد انتهك شريعة اهلل ؛‬
‫ولو قال هلم أن يرمجوها سيتهم مبخالفة تعاليمه اخلاصة عن احملبة والرمحة و‬
‫الغفران ‪ .‬مل يتعجل يسوع الرد ؛ بدال من ذلك احننى ليتمكن من الكتابة على‬
‫األرض ‪ .‬وملا استمروا يف سؤاله ‪ ،‬إذا به يقول هلم ‪َ "،‬منَْ كَانَ مِ َْن ُكمَْ ِبالَ خَطِيَّةٍ‬
‫َفلْيَرَْ ِمهَا أَوَّالً ِبحَجَرٍ! "‪ .‬ثم يعود إىل كتابته على األرض ‪،‬يف حني يبدأ هؤالء يف‬
‫املغادرة ‪ -‬وهم يشعرون كما هو واضح باخلزي من فعلتهم الشريرة ‪-‬‬
‫حتى إن أحدًا خبالف املرأة مل يبق يف املكان‪ .‬فنظر يسوع إىل أعلى ‪ ،‬وهو‬
‫حدٌ؟ " فردت‬
‫يقول‪ ":‬يَا امَْرََأةُ أَ َْينَ ُهمَْ أُوَلئِكَ ا ْلمُ َْشَتكُونَ َع َليَْكِ؟ أَمَا دَانَكِ َأ َ‬
‫حدَ يَا سَِّيدُ " فأجابها حينئذ " والَ أَنَا َأدِينُكِ‪ .‬ا َْذهَبِي َوالَ تُخَْ ِطئِي أَيَْضاً"‬
‫عليه " الَ َأ َ‬

‫‪114‬‬
‫‪ .‬إنها قصة رائعة ‪ ،‬مفعمة باملشاعر و باملدارة املاكرة اليت استخدم فيها يسوع‬
‫ذكاءه لينجو بنفسه‪ -‬ناهيك عن املرأة املسكينة‪ -‬من هذا ال َشرَك‪.‬‬

‫بطبيعة احلال ‪ ،‬بالنسبة لقارئٍ يقظٍ ‪ ،‬تثري القصة أسئلة عديدة ‪ .‬لو كانت هذه‬
‫املرأة مقبوض عليها بتهمة الزنا ‪ ،‬على سبيل املثال ‪،‬فأين الرجل الذي ضبطت‬
‫معه ؟ كالهما مستوجبٌ الرجم ‪ ،‬وفقا لشريعة موسى (انظر الويني ‪: 21‬‬
‫‪ .) 11‬فوق ذلك ‪ ،‬عندما كتب يسوع على األرض ‪ ،‬ماذا كان يكتب بالضبط‬
‫؟ (وفقا لتقليد قديم ‪ ،‬كان يسوع يكتب خطايا املشتكني ‪،‬الذين ملا رأوا أن‬
‫جرائمهم كانت معروفة ‪،‬غادروا جيللهم العار)!‬

‫وحتى لو كان يسوع بالفعل يعلِّم رسالة احملبة ‪،‬فهل كان يعتقد فعال أن شريعة‬
‫اهلل اليت أعطاها ملوسى مل تعد سارية املفعول و ينبغي أن ال تطاع ؟ وهل كان‬
‫يعتقد على وجه اإلطالق أن اخلطايا ال يعاقب املرء عليها ؟‬

‫على الرغم من رونق القصة ‪،‬وجودتها األخاذة ‪ ،‬وحبكتها الفطرية ‪ ،‬فهناك‬


‫مشكلة أخرى عويصة تواجهها ‪ .‬كما سيتضح ‪ ،‬فهذه القصة مل تكن أصلية يف‬
‫إجنيل يوحنا‪ .‬بل مل تكن ‪،‬يف الواقع ‪ ،‬جزءا أصيال من أيِّ إجنيل ‪ .‬فلقد‬
‫‪115‬‬
‫أضيفت مبعرفة ناسخ آخر يف زمن متأخِّر ‪ .‬كيف نعرف ذلك ؟ يف الواقع ‪،‬‬
‫العلماء الذين اشتغلوا بالتقليد املخطوط ليس لديهم أي شكوك بشأن هذه‬
‫احلالة على وجه اخلصوص ‪ .‬يف هذا الكتاب يف وقت الحق سنقوم بفحص‬
‫أكثر عمقًا أنواع الدليل الذي يورده العلماء للحكم على هذا النوع من التغيري‪.‬‬
‫سأشرح اآلن قليال من احلقائق األساسية اليت ثبت أنها مقنعة للعلماء كلهم‬
‫تقريبا من خمتلف االجتاهات ‪ :‬القصة غري موجودة يف أقدم وأفضل خمطوطاتنا‬
‫إلجنيل يوحنا (‪ )18‬؛ أسلوب الكتابة املستخدم فيها أصعب كثريًا من ذلك‬
‫الذي جنده يف بقية إجنيل يوحنا (مبا يف ذلك القصص اليت قبلها واليت بعدها‬
‫مباشرة)؛كما تتضمن عددا كبريا من الكلمات واجلمل اليت هي بطريقة أخرى‬
‫غريبة عن اإلجنيل ‪ .‬والنتيجة اليت ال مفر منها ‪ :‬هذه الفقرة مل تكن جزءًا‬
‫أصيال من اإلجنيل‪.‬‬

‫فكيف حدث أن أضيفت هذه القصة إذن ؟ هناك العديد من النظريات حول‬
‫هذا األمر ‪ .‬معظم العلماء يعتقدون أنه من احملتمل أنها كانت قصة معروفة‬
‫ومتداولة يف التقليد الشفوي حول يسوع ‪،‬وأنها أضيفت يف حلظة ما إىل هامش‬
‫إحدى املخطوطات ‪ .‬ومن هناك اعتقد بعض النساخ أو غريهم أن املالحظة‬
‫املوجودة يف اهلامش يقصد منها أن تكون جزءا من النص ولذلك أدخلوها‬

‫‪116‬‬
‫مباشرة بعد القصة اليت تنتهي عند يوحنا ‪ . 52 : 7‬من اجلدير باملالحظة أن‬
‫نساخا آخرين أدخلوا القصة يف مواضع خمتلفة يف العهد اجلديد ـ بعضهم بعد‬
‫يوحنا ‪، 25 : 21‬على سبيل املثال‪،‬واآلخرون ‪،‬وهو أمر يف غاية الطرافة‬
‫‪،‬بعد لوقا ‪ . 38 : 21‬على أية حال ‪ ،‬أيّا كان كاتب القصة ‪ ،‬إال أنه مل يكن‬
‫يوحنا بالتأكيد ‪.‬‬

‫لو مل تكن هذه القصة جزءا من يوحنا يف األصل‪،‬فهل كان من املفرتض أن‬
‫تكون جزءا الكتاب املقدس؟ لن جييب كل إنسان على هذا السؤال بالطريقة‬
‫ذاتها ‪،‬لكن بالنسبة لغالبية النقاد النصيني ‪ ،‬اإلجابة هي ال‪.‬‬

‫املثال الثاني الذي سنناقشه رمبا ال يكون مألوفا لدى القارئ املتقطع للكتاب‬
‫املقدس‪ ،‬لكنه كان ذا أثر عظيم الشأن يف تاريخ التفسري الكتابي )‪(biblical‬‬
‫ويفرض مشكالت على الدرجة نفسها على علماء التقليد النصي للعهد‬
‫اجلديد‪ .‬إن هذا املثال مأخوذ من إجنيل مرقس و يتعلق خبامتته‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫يف الرواية املرقسية ‪ ،‬يقال لنا إن يسوع يصلب و يدفن مبعرفة يوسف األرمياتي‬
‫يف اليوم السابق للسبت (‪ .) 47 – 42 : 15‬يف اليوم التالي للسبت ‪،‬عادت‬
‫مريم اجملدلية و نساء أخريات إىل القرب رمبا لكي يدهنَّ اجلسد (‪2 -1 : 16‬‬
‫)‪ .‬عندما يصلن ‪ ،‬جيدن أن احلجر قد مت حتريكه بعيدا ‪ .‬ولدى دخوهلن إىل القرب‬
‫‪ ،‬يرين شابا يف ثوب أبيض ‪ ،‬خيربهن أن‪ "،‬الَ تَ َْن َدهِ َْشنَ! أَنَْتُنَّ تَطْ ُل َْبنَ يَسُوعَ‬
‫ضعُوهُ فِيهِ‪" .‬‬
‫صلُوبَ‪َ .‬قدَْ قَامَ! لَيَْسَ هُوَ َههُنَا‪ .‬هُوَذَا ا ْلمَ َْوضِعُ َّالذِي وَ َ‬
‫النَّاصِرِيَّ ا ْلمَ َْ‬
‫ثم يأمر النساء أن خيربن التالميذ أن يسوع قد سبقهم إىل اجلليل و أنهم سريونه‬
‫هناك ‪ "،‬هُنَاكَ َترَ َْوَنهُ َكمَا قَالَ َل ُكمَْ " لكن النساء يهربن من القرب وال يقلن أي‬
‫شئ ألي شخص ‪ "،‬ألََّنهُنَّ كُنَّ خَائِفَاتٍ "(‪).8 -4 : 16‬‬

‫ثم تأتي األعداد االثنا عشر األخرية يف مرقس املوجودة يف كثري من الرتمجات‬
‫اإلجنليزية املعاصرة ‪ ،‬وهي األعداد اليت تواصل احلكاية‪ .‬يسوع نفسه يقال عنه‬
‫إنه ظهر ملريم اجملدلية ‪ ،‬اليت ذهبت و أخربت التالميذ ؛ لكنهم مل يصدقوها(‬
‫ألعداد ‪ .)11 – 9‬فيظهر بعد ذلك إىل اثنني آخرين (األعداد ‪،) 14 -12‬‬
‫ويف النهاية لألحد عشر تلميذا (االثنا عشر باستثناء يهوذا اإلسخريوطي) الذين‬
‫اجتمعوا معا على املائدة ‪ .‬يوخبهم يسوع على عدم إميانهم ‪،‬ثم يكلفهم‬

‫‪118‬‬
‫باخلروج و أن يكرزوا بإجنيله " لكل اخلليقة"‪ .‬من يؤمن ويعتمد " خيلُص"‪ ،‬ومن‬
‫ال يؤمن "يُدن"‪ .‬ثم يأتي اثنان من أكثر األعداد إثارة للجدل يف الفقرة‪:‬‬

‫َو َهذِهِ اآليَاتُ َتتََْبعُ ا ْلمُؤَْمِنِنيَ‪ُ :‬يخَْ ِرجُونَ الشَّيَاطِنيَ بِا َْسمِي وَيََتك ََّلمُونَ ِبأَ ْلسَِنةٍ‬
‫ُر ُهمَْ َويَضَعُونَ أَيَْدَِي ُهمَْ َعلَى‬
‫ح ِملُونَ حَيَّاتٍ وَإِنَْ شَرِبُوا شَيَْئاً ُممِيتاً الَ يَض ُّ‬
‫جدِيدَةٍ‪َ.‬ي َْ‬
‫َ‬
‫ا ْلمَرَْضَى فَيَبَْ َرأُونَ‪( .‬األعداد ‪)18 – 17‬‬

‫يُ َْرفَع يسوع إىل السماء ‪ ،‬وجيلس على ميني اهلل ‪ .‬وأما التالميذ فيخرجون إىل‬
‫العامل مكرزين باإلجنيل ‪،‬و كالمهم يشهد على صحته ما يرافقه من آيات‬
‫(األعداد ‪).21 – 19‬‬

‫إنها فقرة رهيبة ‪،‬غامضة ‪،‬مثرية للمشاعر ‪،‬و قوية ‪ .‬إنها واحدة من الفقرات‬
‫اليت يستخدمها املسيحيون اخلمسينيون إلظهار أن أتباع يسوع سيكونون‬
‫قادرين على التكلم ب"ألسنة" غري معروفة هلم ‪ ،‬كما حيدث ذلك يف أثناء‬
‫طقوس العبادة عندهم ؛ وهي الفقرة الرئيسية اليت تستخدمها جمموعات‬
‫"مدربي الثعابني األباالتشيني )‪" (Appalachian snake-handlers‬‬
‫الذين حتى اليوم ميسكون بالثعابني السامة يف أيديهم لكي يظهروا إميانهم‬
‫‪119‬‬
‫بكلمات يسوع بأنهم عندما يفعلون ذلك لن يصيبهم أي أذى‪ .‬لكن مثة مشكلة‬
‫واحدة ‪ .‬مرة أخرى ‪ ،‬هذه الفقرة ليست جزءا أصيال يف إجنيل مرقس ‪ .‬فلقد‬
‫أضافها أحد النساخ املتأخرون ‪ .‬هذه املشكلة النصية بطريقة ما هي أكثر إثارة‬
‫للجدل من الفقرة اليت تتحدث عن املرأة الزانية ‪ ،‬ألن مرقس بدون هذه‬
‫األعداد اخلتامية سيكون له خامتة شديدة التناقض و يصعب فهمها ‪.‬‬

‫هذا ال يعين ‪،‬كما سنرى بعد حلظات‪ ،‬أن العلماء مييلون لقبول هذه األعداد ‪.‬‬
‫أسباب اعتبارها إضافة هي أسباب قوية ‪ ،‬وتقريبا ال ميكن اجلدال بشأنها ‪ .‬لكنَّ‬
‫العلماء يتجادلون حول ما كانت عليه بالفعل النهاية األصلية إلجنيل مرقس ‪،‬‬
‫مع التسليم بأن هذه اخلامتة ‪،‬املوجودة يف كثري من الرتمجات اإلجنليزية (على‬
‫الرغم من أنها توسم عادة بأنها غري موثوقة )و يف بعض املخطوطات اليونانية‬
‫األحدث ‪،‬غري أصلية ‪ .‬الدليل على أن هذه األعداد مل تكن أصلية يف إجنيل‬
‫مرقس مشابه نوعيًا لذلك اخلاص بالفقرة اليت تتحدث عن املرأة الزانية ‪،‬ومرة‬
‫أخرى لست حباجة إىل الدخول يف التفاصيل هنا ‪.‬هذه األعداد مفقودة يف أقدم‬
‫وأفضل خمطوطاتنا اليت ختص إجنيل مرقس ‪ ،‬إىل جانب شواهد أخرى هامة ؛‬
‫فمثال أسلوب الكتابة فيها خيتلف عن ما جنده يف أي مكان آخر يف مرقس ؛‬
‫التحول أو النقلة بني هذه الفقرة و األخرى اليت تسبقها يصعب فهمه( مريم‬

‫‪120‬‬
‫اجملدلية ‪ ،‬مثال ‪ ،‬يتم التعريف بها يف العدد ‪ 9‬كما لو كانت مل تذكر من قبل ‪،‬‬
‫على الرغم من أنها مت التحدث عنها يف األعداد السابقة ؛ هناك مشكلة أخرى‬
‫مع اللغة اليونانية جيعل حتى هذا التحول أكثر صعوبة )؛ وهناك عدد كبري من‬
‫الكلمات واجلمل يف الفقرة ليس هلا وجود يف أي مكان آخر يف مرقس‪.‬‬
‫باختصار ‪ ،‬الدليل كاف إلقناع كل علماء النص تقريبا أن هذه األعداد متثل‬
‫إضافة إىل إجنيل مرقس‪ .‬يف غياب هذه األعداد ‪،‬مع ذلك ‪،‬تنتهي القصة بشكل‬
‫مفاجئ للغاية ‪ .‬انتبه ملا سيحدث عندما حتذف هذه األعداد ‪.‬يقال للمرأة أن خترب‬
‫التالميذ أن يسوع سيسبقهم إىل اجلليل و سيلتقيهم هناك ؛ لكنهن ‪،‬أي النساء‬
‫‪ ،‬يهربن من القرب و ال يقلن أي شئ ألي شخص " ألََّنهُنَّ كُنَّ خَائِفَاتٍ "‪ .‬وهنا‬
‫ينتهي اإلجنيل ‪ .‬من الواضح أن النساخ اعتقدوا أن اخلامتة كانت مفاجئة للغاية ‪.‬‬
‫هل النساء مل خيربن أحدًا ؟ إذن ‪،‬هل التالميذ مل يعرفوا على اإلطالق حبدوث‬
‫القيامة ؟ وهل يسوع نفسه مل يظهر هلم أبدا ؟ ياهلا من خامتة! حلل هذه‬
‫املشكلة ‪ ،‬أضاف النساخ خامتة من عندهم (‪) .19‬‬

‫"بعض العلماء يتفقون مع النساخ حول االعتقاد بأن العدد ‪ 8 : 16‬هو نهاية‬
‫مت برتها بشكل مفاجئ جدا يتجاوز احلد املعقول بالنسبة خلامتة إجنيل‪ .‬و ال يعين‬
‫هذا ‪،‬كما أشرت من قبل ‪ ،‬أن هؤالء العلماء يؤمنون بأن األعداد االثنا عشر‬

‫‪121‬‬
‫األخرية املوجودة يف خمطوطاتنا احلديثة نسبيا متثل النهاية األصلية ـ هم يعلمون‬
‫أن هذا ليس صحيحا ـ لكنهم يعتقدون أن الصفحة األخرية من مرقس ‪ ،‬اليت‬
‫يلتقي فيها يسوع فعليا تالميذه يف اجلليل ‪ ،‬من احملتمل ‪ ،‬أن تكون قد فُ ِقدَت‬
‫بطريقة ما‪ ،‬ويعتقدون أن كل نسخنا من اإلجنيل تعود لتلك املخطوطة املبتورة‬
‫بدون صفحتها األخرية ‪ .‬هذا التفسري جائز متاما ‪.‬ومن اجلائز أيضًا ‪،‬يف رأي‬
‫علماء آخرين ‪،‬أن مرقس مل يكن يقصد حقا أن ينهي إجنيله بالعدد ‪8 : 16‬‬
‫(‪ . )21‬فهي بالتأكيد نهاية مروعة ‪ .‬فالتالميذ مل يعلموا أبدا حقيقة قيامة يسوع‬
‫ألن النساء مل خيربنهم بذلك على اإلطالق ‪ .‬بقي سبب وحيد فقط يدفعنا‬
‫للتفكري بأن هذه رمبا تكون الطريقة اليت اختارها مرقس لينهي بها إجنيله ‪:‬أال‬
‫وهو أن مثل هذه النهاية تتوافق جيدا مع دوافع أخرى يف كل مكان من إجنيله‬
‫‪.‬فكما الحظ دارسوا إجنيل مرقس طويال ‪ ،‬مل يبدُ التالميذ أبدا " أذكياء" يف هذا‬
‫اإلجنيل (خبالف بعض األناجيل األخرى)‪ .‬فاإلجنيل يقول عنهم مرارا وتكرارا‬
‫أنهم مل يفهموا يسوع (‪ 52 – 51 : 6‬؛ ‪ ،) 21 : 8‬وعندما يقول هلم‬
‫يسوع يف مناسبات عديدة أنه ينبغي أن يتأمل وميوت ‪ ،‬يفشلون بوضوح يف فهم‬
‫كلماته (‪ 33 – 31 :8‬؛‪ 32 – 31 : 9‬؛‪ .) 41 -33 : 11‬رمبا ‪،‬يف‬
‫واقع األمر ‪ ،‬مل يكن بإمكانهم على اإلطالق أن يفهموا( خبالف قرّاء إجنيل‬
‫مرقس ‪ ،‬الذين يستطيعون أن يفهموا من هو املسيح يف الواقع من أول األمر )‪.‬‬
‫أيضًا ‪ ،‬من الطريف أن نالحظ أنه يف كل موضع من إجنيل مرقس ‪ ،‬عندما‬
‫‪122‬‬
‫يتمكن شخص ما من فهم شئ ما عن املسيح ‪،‬يأمر يسوع هذا الشخص‬
‫بالسكوت ـ إال أن الشخص كثريا ما يتجاهل األمر ويذيع اخلرب ( انظر مثال ‪: 1‬‬
‫‪ .) 45 – 43‬فياله من أمر مثري للسخرية أنه عندما يقال للنساء عند القرب أن ال‬
‫يصمنت بل يتكلمن ‪ ،‬فإذ بهن يتجاهلن األمر أيضًا ـ ويصمنت!‬

‫باختصار ‪ ،‬رمبا كان مرقس قد تعمد أن يوقف قارئه مندهشا أمام هذه النهاية‬
‫املبتورة ـ وهي طريقة ذكية جلعل القارئ يتوقف ‪ ،‬ويأخذ نفسا متقطعا و يسأل‬
‫‪ :‬ما هذا ؟‬

‫‪123‬‬
‫الفقرات اليت ناقشناها فيما سبق تغطي موضعني فقط من بني آالف املواضع‬
‫اليت تعرضت فيها خمطوطات العهد اجلديد للتغيري على يد النساخ ‪ .‬يف املثالني‬
‫كليهما ‪ ،‬حنن نتعامل مع إضافات أحدثها النساخ يف النص ‪ ،‬أضافات ضخمة‬
‫العدد ‪ .‬ومع أن معظم التغيريات مل تكن بهذه اجلسامة ‪ ،‬إال أنه مثة كثري من‬
‫التغيريات اهلامة (وكثري جدا من التغيريات غري اهلامة ) يف خمطوطات العهد‬
‫اجلديد املوجودة لدينا ‪ .‬يف الفصول التالية سنرغب يف رؤية كيف بدأ العلماء يف‬
‫اكتشاف هذه التغيريات وكيف طوروا مناهج لفهم ما كان عليه الشكل األقدم‬
‫من النص ( أو النص " األصلي ") ؛ سنكون حريصني بشكل خاص على رؤية‬
‫املزيد من األمثلة عن املكان الذي تعرضت فيه هذه النصوص للتغيري ـ وكيف‬
‫أثرت هذه التغيريات على ترمجاتنا اإلجنليزية للكتاب املقدس ‪ .‬أودّ أن أنهي‬
‫هذا الفصل مبالحظة بسيطة عن أمر مثري للسخرية الشديدة يبدو أننا اكتشفناه ‪.‬‬
‫كما رأينا يف الفصل ‪ ، 1‬كانت املسيحية منذ البداية ديانة كتابية أكدت على‬
‫بعض النصوص باعتبارها الكتاب املقدس الرمسي ‪ .‬وكما رأينا يف هذا الفصل‬
‫‪ ،‬رغم ذلك ‪ ،‬حنن ال منلك يف الواقع هذه النصوص الرمسية ‪ .‬إن الديانة‬
‫املسيحية هي ديانة توجهها النصوص وهذه النصوص قد تعرضت للتحريف ‪،‬‬

‫‪124‬‬
‫وما بقي فقط ‪،‬يف شكل نسخ‪ ،‬خيتلف من واحدة ألخرى ‪ ،‬ويف كثري من‬
‫األحيان يكون االختالف يف أمور شديدة األهمية ‪ .‬إن مهمة الناقد النصي هي‬
‫حماولة استعادة الشكل األقدم من هذه النصوص ‪ .‬هذه املهمة واضح أنها‬
‫شديدة األهمية ‪ ،‬حيث إننا ال ميكن أن نفسر الكلمات الواردة يف العهد اجلديد‬
‫لو مل نكن نعرف الشكل الذي كانت عليه الكلمات ‪ .‬فوق ذلك ‪ ،‬كما آمل أن‬
‫يكون واضحا اآلن ‪ ،‬معرفة هذه الكلمات هي أمر مهم ليس فقط من أجل‬
‫هؤالء الذين يعتقدون أن هذه الكلمات موحاة من اهلل ‪ .‬بل هي مهمة من أجل‬
‫أي شخص يعتقد أن العهد اجلديد كتاب هام ‪ .‬وبالتأكيد كل شخص مهتم‬
‫بالتاريخ ‪ ،‬واجملتمع و بثقافة احلضارة الغربية يعتقد ذلك ‪ ،‬ألن العهد اجلديد‬
‫‪،‬إن مل يكن أكثر من ذلك ‪ ،‬هو منتج ثقايف ضخم ‪ ،‬وكتاب يوقِّره املاليني‬
‫وميثل األساس ألكرب الديانات يف عامل اليوم"‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫)‪(1‬ملزيد من النقاش ‪ ،‬انظر كتاب هاري واي‪ .‬جامبل " كتب وقراء يف الكنيسة املبكرة‪ :‬تاريخ النصوص املسيحية (نيو‬
‫هافن ‪ :‬مطبعة جامعة يال ‪ ،) 1995،‬الفصل ‪.3‬‬

‫" )‪(2‬مقاالت أخالقية ) ‪ "(Moral essays‬لسينيكا ‪،‬حترير وترمجة جون و‪ .‬باسور ) ‪(John .w Basore‬‬
‫(مكتبة لويب الكالسيكية ؛ لندن ‪:‬هاينمان ‪ ،) 1925،‬ص ‪.221‬‬

‫)‪(3‬مارشال ‪ :‬اإلبيجرامات ‪ ،‬حترير وترمجة والرت ‪.‬سي ‪ .‬إيه‪ .‬كر (مكتبة لويب الكالسيكية ؛ كمربيدج ‪ :‬مطبعة جامعة‬
‫هارفارد ‪.115: 1،) 1968،‬‬

‫)‪(4‬لالطالع على نقاش واسع انظر كتاب "حراس احلروف " هلاينز أيتزن‪".‬‬

‫)‪(5‬استعرت هذا املثال من بروس ‪.‬م ‪.‬ميتزجر ‪ .‬انظر كتاب "نص العهد اجلديد‪ :‬نقله و ضياعه و استعادته " لربوس ميتزجر‬
‫وبارت إرمان ‪ ،‬الطبعة ال‪( 4‬نيويورك‪ :‬مطبعة جامعة أكسفورد ‪.23 – 22 ،) 2115،‬‬

‫)‪(6‬هذا ما صرح به يف القائمة املوراتورية الشهرية ‪ ،‬أقدم قائمة من الكتب املقبولة باعتبارها "قانونية" مبعرفة مؤلفها اجملهول‬
‫‪ .‬انظر "الديانات املسيحية املفقودة " لبارت إرمان ‪.243 – 241،‬‬

‫)‪(7‬هذه واحدة من استنتاجات كيم هاينز اهلامة يف كتابه "حراس احلروف‪".‬‬

‫)‪(8‬أقصد بقولي "ناسخ حمرتف" هؤالء النساخ الذين كانوا مدربني بشكل خاص و‪/‬أو حيصلون على مقابل مادي نظري‬
‫قيامهم بنسخ النصوص كجزء من وظيفتهم ‪ .‬يف فرتة متأخرة ‪ ،‬كان الرهبان يف األديرة بصورة منطية مدربني ‪ ،‬لكنهم مل‬
‫يكونوا حيصلون على مقابل مادي؛ ورمبا يشملهم تعريفي بني طبقات النساخ احملرتفني‪.‬‬

‫)‪(9‬تفسري متى ‪ ، 14. 15‬كما يقتبسه بروس ميتزجر يف كتابه " إشارات واضحة يف أعمال أورجيانوس إىل القراءات املتباينة‬
‫يف خمطوطات العهد اجلديد" يف الدراسات الكتابية واآلبائية يف ذكرى روبرت بريس كاسي ‪ ،‬بتحرير ج‪ .‬نيفيل بريدسال و‬
‫روبرت ‪.‬و‪.‬تومسون (فرايربج ‪:‬هريدر‪. 79 – 78،) 1968،‬‬

‫)‪(10‬ضد سيلزس ‪.27 . 2‬‬

‫©نوع من النبات يرمز به إىل األتباع الزائفني كما يف متى ‪.31 – 25 : 13‬‬

‫‪126‬‬
‫)‪(11‬انظر كتاب بارت ‪.‬د إرمان " التخريب األرثوذكسي للكتاب املقدس ‪ :‬آثار النزاعات املبكرة حول طبيعة املسيح على‬
‫نص العهد اجلديد (نيو يورك ‪ :‬مطبعة جامعة أكسفورد ‪)1993،‬‬

‫)‪(12‬أورجيانوس "حول املبادئ األوىل ) ‪ "(On Frist principles‬مقدمة روفينوس ؛كما اقتبسها جامبل يف كتابه "‬
‫كتب وقراء" ص ‪. 124‬‬

‫)‪(13‬انظر هامش رقم ‪ 8‬يف األعلى‪.‬‬

‫)‪(14‬ملالحظات أخرى أضيفت إىل املخطوطات مبعرفة نساخ منهكني أو شاعرين بامللل ‪ ،‬انظر األمثلة اليت ساقها ميتزجر‬
‫وإرمان يف " نص العهد اجلديد" الفصل ‪ ، 1‬القسم الثالث‪.‬‬

‫)‪(15‬يف مناسبة واحدة فحسب عرف واحد من أميين سر النسخ لدى بولس نفسه ؛ كان شخص يسمى تريتيوس ‪ ،‬أملى‬
‫عليه بولس رسالته إىل أهل رومية ‪ ،‬انظر رومية ‪.22 : 16‬‬

‫)‪(16‬انظر ‪،‬على وجه اخلصوص ‪ ،‬كتاب "السكرتاريا يف رسائل بولس ‪(the Secretary in the Letters of‬‬
‫" )‪Paul‬لـ إي‪.‬راندولف ريتشاردز (توبنجن ‪:‬مور‪/‬سيبيك ‪).1991 ،‬‬

‫)‪(17‬حتى العهد اجلديد يشري غإىل أن كتبة اإلجنيل طان لديهم "مصادر " لقصصهم ‪ .‬يف لوقا ‪، 4 -1 : 1‬على سبيل‬
‫املثال ‪،‬يصرح املؤلف أن "كثريين" من السابقني كانوا قد كتبوا قصة حول األمور اليت قاهلا يسوع وفعلها ‪،‬وأنه ‪ ،‬بعد قراءته‬
‫لكتاباتهم ومشاورته "لشهود وخدام الكلمة "‪ ،‬قرر أن يكتب قصته اخلاصة ‪ ،‬وهي القصة اليت كما يقول هو ‪،‬خالفا‬
‫لآلخرين ‪"،‬أكثر دقة "‪ .‬أو بكلمات أخرى ‪ ،‬كان لدى لوقا مصدرا األحداث اليت حكاها كالهما املكتوب منهما والشفوي ـ‬
‫فهو نفسه مل يكن شاهدا على حياة يسوع األرضية ‪ .‬واألمر نفسه يبدو متطابقا مع كُتَّاب األناجيل اآلخرين كذلك ‪.‬‬
‫خبصوص مصادر إجنيل يوحنا ‪،‬انظر كتاب إرمان "العهد اجلديد " ‪.167 – 164‬‬

‫)‪(18‬سنرى فيما بعد كيف أن بعض املخطوطات ميكن تصنيفها باعتبارها "أفضل " من اآلخرين‪.‬‬

‫)‪(18‬سنرى فيما بعد كيف أن بعض املخطوطات ميكن تصنيفها باعتبارها "أفضل " من اآلخرين‪.‬‬

‫)‪(19‬يف الواقع ‪ ،‬كان هناك نهايات خمتلفة أضيفت مبعرفة نساخ خمتلفني ـ ليس فقط االثنا عشر عددا املألوفة لقراء الكتاب‬
‫املقدس اإلجنليزي ‪ .‬لالطالع على كل النهايات ‪ ،‬انظر كتاب بروس ميتزجر " تفسري نصي حول العهد اجلديد اليوناني "‬
‫الطبعة الثانية ‪( .‬نيويورك ‪ :‬مجعية الكتاب املقدس املوحد ‪ 112 ،) 1994،‬ـ ‪.116‬‬

‫)‪(20‬انظر كتاب إرمان " العهد اجلديد " الفصل ‪، 5‬خصوصا الصفحات ‪81 – 79‬‬

‫‪127‬‬
‫ما رأيناه من املمارسات اليت كانت تقع يف أثناء عملية النسخ حتى هذه اللحظة‬
‫ينتمي يف األغلب إىل القرن الثالث املسيحي ‪،‬عندما كان معظم نساخ‬
‫النصوص املسيحية من غري احملرتفني ‪،‬ممن مل يتلقوا تدريبًا على القيام بهذه‬
‫الوظيفة ‪ ،‬بل كانوا ببساطة مسيحيني مثقفني من هذه الطائفة أو تلك‪،‬ممن‬
‫يعرفون القراءة والكتابة ولذلك طُلب إليهم أن يعيدوا كتابة النصوص اليت‬
‫متتلكها الطائفة يف أوقات فراغهم (‪. )1‬وألنهم مل حيصلوا على تدريبٍ عالٍ‬
‫يؤهلهم للقيام بعمل كهذا ‪،‬فقد كانوا أكثر ميال للوقوع يف تلك األخطاء اليت‬
‫ما كان للمحرتفني من النسَّاخ أن يقعوا فيها ‪.‬‬

‫هذا يفسر ملاذا كانت النسخ املبكرة من كتابات املسيحيني األوائل متيل إىل‬
‫االختالف يف العادة من نسخةٍ ألخرى وباملقارنة مع النسخ املتأخرة أكثر مما‬
‫ختتلف فيه النسخ املتأخرة(ولنقل اليت تنتمي إىل العصور الوسطى العليا) فيما‬
‫بينها ‪ .‬يف النهاية أصبحت هناك طبقة من النساخ املسيحيني احملرتفني متثل جزءًا‬

‫‪128‬‬
‫من املشهد الفكري املسيحي ‪،‬وبظهور هؤالء النسَّاخ احملرتفني ظهرت ممارسات‬
‫نسخية أكثر انضباطًا ‪،‬ارتكبت فيها األخطاء بشكل أقل من املعتاد‪.‬‬

‫قبل أن حيدث ذلك‪،‬وأثناء القرون األوىل من عمر الكنيسة‪،‬كانت النصوص‬


‫املسيحية يتم نسخها يف أي مكان كانت تكتب فيه أو تؤخذ إليه‪ .‬وألن‬
‫النصوص كانت تنسخ حمليًّا‪،‬فلم يكن من قبيل املفاجأة أن تقوم املدن األخرى‬
‫بتطوير أنواع أخرى من التقاليد النصية ‪.‬‬

‫بكلماتٍ أخرى‪،‬املخطوطات اليت كتبت يف روما وجدت فيها الكثري من‬


‫األخطاء ذاتها‪،‬ألنها كانت يف الغالب وثائقًًا "لالستخدام احمللي" ‪،‬كتبت من‬
‫ناسخ آلخر ؛فلم تتأثر كثريًا باملخطوطات اليت كانت تنسخ يف فلسطني؛‬
‫وتلك اليت نسخت يف فلسطني كانت هلا خصائصها املميزة‪،‬واليت مل تكن من‬
‫النوع نفسه املوجود يف خمطوطات مكان مثل اإلسكندرية‪،‬يف مصر‪ .‬فوق ذلك‪،‬‬
‫يف القرون املبكرة للكنيسة‪،‬كان لبعض األماكن نسَّاخ أفضل من املتوفرين يف‬
‫األماكن األخرى‪.‬ولقد أصبح العلماء املعاصرون يقرُّون بأن نساخ‬
‫اإلسكندرية– اليت كانت مركزًا فكريًأ رئيسيًا يف العامل القديم‪ -‬كانوا‬
‫بشكل خاص من ذوي الضمائر احلية ‪،‬حتى يف هذه القرون القدمية‪،‬وهناك‬
‫‪،‬أي يف اإلسكندرية‪ ،‬ظل شكلٌ شديدُ النقاءِ من نصوص كتابات املسيحيني‬

‫‪129‬‬
‫األوائل حمفوظًا‪،‬طوال عشرات السنني‪،‬عرب نساخ مسيحيني متفانني و ماهرين‬
‫نسبيًا ‪.‬‬

‫متى بدأت الكنيسة يف استخدام النسَّاخ احملرتفني لنسخ نصوصها؟ هناك أسباب‬
‫مقنعة تدفعنا إىل االعتقاد بأن ذلك قد حدث يف وقت ما قريب من بداية القرن‬
‫الرابع‪ .‬فقبل ذلك احلني‪،‬كانت املسيحية ديانة صغرية تعتنقها أقلية داخل‬
‫اإلمرباطورية الرومانية ‪،‬كثريًا ما تعرضت هذه األقلية لالضطهاد‪،‬و للتعذيب‬
‫أحيانًا‪ .‬ولكنَّ تغيريًا عنيفًا وقع حينما حتول إمرباطور روما‪،‬قسطنطني‪،‬إىل‬
‫اإلميان عام ‪ 312‬ميالديًا تقريبًا‪ .‬فجأة تغري حال املسيحية من كونها ديانة‬
‫املنبوذين جمتمعيًا ‪،‬املعذَّبني بأيدي الرعاع و سلطات اإلمرباطورية على حدٍ‬
‫سواء ‪،‬إىل العبٍ رئيسيّ يف املشهد الديين يف اإلمرباطورية‪ .‬مل يتوقف التعذيب‬
‫فحسب بل وانهالت العطايا على الكنيسة من القوة األعظم يف العامل الغربي‪.‬‬
‫وقد نتج عن ذلك اعتناقات مجاعية للمسيحية‪،‬كما أصبح أن تكون تابعًا من‬
‫أتباع املسيح أمرًا شائعًا يف عصرٍ زعم فيه اإلمرباطور نفسه عالنيةً التزامه‬
‫باملسيحية‪.‬أعداد أكرب وأكرب من احلاصلني على تعليم عالٍ و من املدربني حتولوا‬
‫إىل املسيحية‪ .‬وكان من الطبيعيّ أن يكونوا األشخاص األكثر أهليةً لنسخ‬

‫‪130‬‬
‫نصوص التقليد املسيحي‪.‬هناك أسباب جتعلنا نفرتض أن قريبًا من هذه الفرتة‬
‫ظهرت اإلسكريبتوريات املسيحية )‪ (Christian ******oria‬يف‬
‫املناطق احلضرية الرئيسية(‪ .)2‬واإلسكريبتوريا هي مكان لنسخ املخطوطات‬
‫يتميز بكون نسَّاخه من احملرتفني‪ .‬لدينا إشارات عن أماكن النسخ‬
‫(اإلسكريبترييات) املسيحية اليت كانت تعمل يف وقت قريبٍ من بواكري القرن‬
‫الرابع‪ .‬يف ‪ 331‬ميالديًا كتب اإلمرباطور قنسطنطني ‪،‬الذي كان يريد توفري‬
‫نسخ من الكتب املقدسة ) ‪ (Bibles‬يف الكنائس الرئيسية اليت قام ببنائها‪،‬‬
‫أمرًا ألسقف قيصرية ‪،‬يوسابيوس (‪،)3‬لكي يتوىل اإلشراف على كتابة‬
‫مخسني نسخة من الكتاب املقدس على نفقة اإلمرباطور‪ .‬تعامل يوسابيوس مع‬
‫هذا الطلب بكل األبهة واالحرتام اللذين يستحقهما ‪،‬وعمل على تنفيذه‪ .‬وكما‬
‫هو واضح‪،‬فإن تنفيذ مثل هذا األمر اجلسام كان يتطلب مواقع للنسخ تتسم‬
‫باالحرتافية ‪،‬ناهيك عن املواد الالزمة لكتابة نسخ باهظة من الكتابات املقدسة‬
‫املسيحية‪ .‬حنن اآلن يف عصر آخر قبل هذا بقرن فقط أو قرنني عندما سيكون‬
‫على الكنائس احمللية أن تطالب ببساطة بأن يقوم واحدًا من أعضائها جبمع‬
‫وقت فراغ كاف لكتابة نسخة من نص‪ .‬بدءًا من القرن الرابع أصبحت نسخًا‬
‫من الكتاب املقدس تكتب عن طريق احملرتفني؛هذا حدَّ بشكل كبري من عدد‬
‫األخطاء اليت تسللت إىل النص‪ .‬يف النهاية‪،‬بعد أن مرَّت ليس فقط عشرات‬
‫السنني بل قرون‪ ،‬أصبح نسخ املخطوطات اليونانية يقع على عاتق الرهبان‬
‫‪131‬‬
‫اللذين يعملون يف األديرة‪،‬اللذين قضوا أيامهم يف نسخ النصوص املقدسة‬
‫بعناية وبضمري حيّ‪ .‬استمر هذا األمر منذ مطلع العصور الوسطى وعربها‬
‫‪،‬وصوال إىل عصر اخرتاع الطباعة باحلروف املتحركة يف القرن اخلامس‬
‫عشر‪.‬احلجم األكرب من املخطوطات اليونانية املتوفرة يف أيدينا كتبت بأقالم‬
‫هؤالء النساخ املسيحيني املنتمني إىل القرون الوسطى اللذين عاشوا وعملوا يف‬
‫الشرق (يف املناطق الواقعة اآلن يف تركيا واليونان على سبيل املثال)‪،‬املعروف‬
‫باسم االمرباطورية البيزنطية‪ .‬وهلذا السبب‪ ،‬تسمى املخطوطات اليونانية اليت‬
‫يعود تارخيها إىل القرن السابع فما فوق أحيانًا املخطوطات "البيزنطية"‪ .‬و كما‬
‫أوضحت سابقًا‪،‬أي شخص له معرفة مبنهج خمطوطات العهد اجلديد يعلم أن‬
‫هذه النسخ البيزنطية متيل إىل أن تكون شديدة التشابه من واحدة ألخرى‪ ،‬يف‬
‫حني ختتلف النسخ األقدم بشكل كبري سواء فيما بينها أو مع شكل النص‬
‫املوجود يف هذه النسخ األحدث(أي البيزنطية)‪ .‬السبب وراء ذلك البد وأنه‬
‫واضح اآلن‪ :‬هذا األمر كان له عالقة بشخصية ناسخ النصوص (النساخ‬
‫احملرتفني) ومكان قيامهم بعملية النسخ(يف نطاق حمدودة نسبيًا)‪ .‬على الرغم من‬
‫ذلك ‪،‬من اخلطأ الفادح االعتقاد بأن كون املخطوطات األحدث متوافقة بشكل‬
‫كبري بعضها مع بعض ‪،‬فإنها تكون هلذا السبب شاهدنا الرئيسي على النص‬
‫"األصلي" للعهد اجلديد‪.‬وذلك ألن اإلنسان ينبغي أن يتسائل دائمًا‪:‬أين حصل‬
‫هؤالء النسَّاخ املنتمني إىل القرون الوسطى على هذه النصوص اليت نسخوها‬
‫‪132‬‬
‫بهذه الطريقة االحرتافية؟ لقد حصلوا عليها من نصوص أقدم ‪،‬اليت هي مع‬
‫ذلك نسخ من نصوص أقدم‪،‬اليت هي بدورها نسخٌ من نصوص أخرى أقدم‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬النسخ األقرب من ناحية الشكل إىل األصول هي ‪،‬رمبا وبشكل غري‬
‫متوقع‪،‬نسخ العصور األقدم األكثر اختالفا و األقل اتقانًا‪،‬وليس النسخ‬
‫األحدث اليت تتميز بأنها أكثر احرتافية وتوافقًا ‪.‬‬

‫ممارسات النساخ اليت قمت بتلخيصها تتعلق بشكل أساسي باجلزء الشرقي من‬
‫اإلمرباطورية الرومانية ‪،‬حيث كانت اللغة اليونانية‪،‬ومازالت‪،‬هي اللغة‬
‫الرئيسية‪.‬مل يكن على املسيحيني يف املناطق اليت ال تتحدث باليونانية من اللذين‬
‫كانوا يريدون النصوص املسيحية املقدسة بلغتهم احمللية اخلاصة ‪،‬على الرغم‬
‫من ذلك‪،‬االنتظار طويال ‪ .‬كانت الالتينية‪،‬بالطبع‪،‬لغة الشطر األكرب من اجلزء‬
‫الغربي من اإلمرباطورية؛ أما السوريانية فقد كانت اللغة الرمسية يف‬
‫سوريا؛بينما القبطية هي السائدة يف مصر ‪ .‬يف كل منطقة من هذه املناطق ‪،‬‬
‫أصبحت كتب العهد اجلديد ترتجم إىل هذه اللغات الوطنية‪،‬رمبا يف وقت ما يف‬
‫النصف الثاني من القرن الثاني ‪ .‬ثم بعد ذلك نسخت هذه النصوص ذاتها عرب‬

‫‪133‬‬
‫النسَّاخ يف مناطقهم احمللية (‪ .)4‬محلت الرتمجات الالتينية أهمية خاصة لتاريخ‬
‫النص‪،‬ألن عددًا كبريًا جدًا من املسيحيني الغربيني نظروا إىل هذه اللغة كلغتهم‬
‫الرئيسية‪ .‬إال أنه سرعان ما ظهرت إشكاليات خبصوص الرتمجات الالتينية‬
‫للكتاب املقدس‪،‬حيث كان مثَّة عدد كبري جدًا منها وقد كانت هذه الرتمجات‬
‫شديدة االختالف بشكل كبري فيما بينها ‪ .‬حتولت املشكلة إىل أزمة قريبًا من‬
‫نهاية القرن الرابع املسيحي عندما منح البابا (داماسوس) (جريوم)‪ ،‬العامل‬
‫األبرز بني علماء عصره‪ ،‬تفويضًا لوضع ترمجة التينية "رمسية" ميكنها أن‬
‫تلقى قبول املسيحيني املتحدثني باللسان الالتيين يف روما وأي مكان آخر كنص‬
‫معتمد ‪(an authoritative text).‬يتحدث جريوم نفسه عن كثرة‬
‫الرتمجات املتوفرة ‪،‬وأخذ على نفسه عهدًا حبل هذه املشكلة‪ .‬وعرب اختياره‬
‫لواحدة من أفضل الرتمجات الالتينية املتوفرة آنذاك‪،‬ومبقارنة نص هذه‬
‫الرتمجة باملخطوطات اليونانية األرفع مقامًا املتوفرة حتت يده‪ ،‬قام جريوم‬
‫بإنتاج طبعة جديدة من األناجيل باللغة الالتينية‪ .‬ومن احملتمل أنه ‪،‬أو واحد من‬
‫أتباعه‪ ،‬كان مسئوال عن الطبعة اجلديدة من كتب العهد اجلديد الالتينية‬
‫األخرى(‪ .)5‬هذا الشكل من الكتاب املقدس باللغة الالتينية‪ -‬ترمجة‬
‫جريوم‪ -‬أصبح يعرف بالكتاب املقدس "الفوجلاتا" (= الشعبية) اخلاصة‬
‫بالعامل املسيحي املتحدث بالالتينية‪ .‬وقد كانت "الفوجلاتا" هي الكتاب املقدس‬
‫بالنسبة للكنيسة الغربية‪،‬وهي ذاتها نسخت وأعيد نسخها مرارًا وتكرارًا‪ .‬لقد‬
‫‪134‬‬
‫كانت الفوجلاتا هي الكتاب الذي كان املسيحيون يقرأونه‪،‬والعلماء‬
‫يدرسونه‪،‬والالهوتيون يستخدمونه طوال قرون حتى الزمن احلاضر‪.‬اليوم يبلغ‬
‫عدد نسخ "الفوجلاتا" الالتينية ضعف ما هو موجود من خمطوطات العهد اجلديد‬
‫اليونانية‪.‬‬

‫كما أشرت‪ ،‬نص العهد اجلديد ُنسِخ يف شكل معياري بكل ما يف الكلمة من‬
‫معنى عرب قرون العصور الوسطى‪،‬سواء يف الشرق(النص البيزنطي) أو يف‬
‫الغرب (الفوجلاتا الالتينية)‪ .‬لقد كان اخرتاع ماكينة الطباعة يف القرن اخلامس‬
‫عشر امليالدي على يد جوهانس جوتنربج(‪ )1468 – 1411‬هو الذي غيَّر‬
‫كل شئ يتعلق بإعادة إنتاج الكتب بشكل عام وأسفار الكتاب املقدس على‬
‫وجه اخلصوص‪ .‬فعرب طباعة الكتب باحلروف املتحركة ‪،‬أصبح اإلنسان‬
‫باستطاعته أن يضمن خروج كل صفحة يف صورة مماثلة متامًا لكل صفحة‬
‫أخرى‪ ،‬من غري وجود اختالف يف صياغة النص من أي نوع كان‪ .‬لقد ذهبت‬
‫بال رجعة تلك األيام اليت كان النسّاخ ينتجون فيها كلٌّ على حدى نسخًا‬
‫خمتلفة من النص ذاته عرب التغيريات غري املقصودة أو تلك املتعمدة‪ .‬ما أصبح‬

‫‪135‬‬
‫يكتب باستخدام آلة الطباعة مياثل النقش على احلجر ‪.‬فوق ذلك ‪،‬أصبحت‬
‫الكتب يتم إنتاجها بسرعة أكرب‪ :‬فلم تعد هذه الكتب يف حاجة ألن يتم نسخها‬
‫على حرف واحد بشكل منفصل‪.‬وصارت ‪،‬نتيجة لذلك‪ ،‬تنتج بتكلفة أقل‪.‬‬
‫رمبا ليس هناك أي شئ أحدث تأثريًا جذريًا على العامل املعاصر مقارنة مباكينة‬
‫الطباعة؛ الشئ األقرب يف تأثريه بعد الطباعة (والذي رمبا‪،‬كمحصلة‬
‫نهائية‪،‬ميتاز عنها بشكل كبري) هو ظهور الكمبيوتر الشخصي‪ .‬العمل الرئيسي‬
‫األول اليت كان له أن يطبع من خالل ماكينة طباعة جوتنربج كان نسخة رائعة‬
‫من الكتاب املقدس الالتيين (الفوجلاتا)‪ ،‬الذي استغرقت طباعته الفرتة بني‬
‫العامني ‪ 1451‬و ‪ .)6( 1456‬يف خالل نصف القرن الذي تلى ذلك‪،‬حوالي‬
‫مخسني نسخة من "الفوجلاتا" متت طباعتها يف العديد من بيوت الطباعة يف‬
‫أوروبا‪ .‬ورمبا يبدو غريبًا أنه مل يكن هناك حافزٌ لطباعة نسخة من العهد اجلديد‬
‫باليونانية خالل هذه السنوات املبكرة من عمر الطباعة‪ .‬لكن السبب يسهل‬
‫اكتشافه‪:‬إنه السبب الذي أشرنا إليه من قبل بالفعل‪ .‬لقد كان العلماء يف أحناء‬
‫أوروبا‪ -‬مبا فيهم علماء الكتاب املقدس‪ -‬معتادين خالل ألف عام تقريبًا‬
‫على االعتقاد بأن ترمجة جريوم الشعبية (الفوجلاتا)هي كتاب الكنيسة‬
‫املقدس(شئ ما يشبه ما تفرتضه بعض الكنائس املعاصرة من أن نسخة امللك‬
‫جيمس هي الكتاب املقدس "الصحيح")‪ .‬كان االعتقاد هو أن الكتاب املقدس‬
‫اليوناني كتاب غريب عن الالهوت و العلم؛ ففي الغرب الالتيين كان ينظر‬
‫‪136‬‬
‫إليه كشئ ينتمي إىل املسيحيني اليونان األرثوذكس‪،‬اللذين ينظر إليهم‬
‫كمنشقني متردوا على الكنيسة الصحيحة‪ .‬عددٌ قليل من العلماء يف غرب أوروبا‬
‫كانوا بالكاد يعرفون القراءة باليونانية‪ .‬وهكذا‪ ،‬من البداية‪ ،‬مل جيد أحدٌ شعورًا‬
‫باحلاجة إىل طباعة كتاب مقدس باليونانية‪ .‬أول عامل غربي واتته فكرة إنتاج‬
‫نسخة من العهد اجلديد باليونانية كان الكاردينال اإلسباني املسمى خيمينس دو‬
‫سيزنريوس(‪ .)1517 – 1437‬حتت قيادته‪،‬جمموعة من العلماء‪،‬بينهم واحدٌ‬
‫يسمى دييجو لوبيز دي ستونيكا‪،‬أخذوا على عاتقهم طباعة نسخة متعددة‬
‫اجمللدات من الكتاب املقدس‪ .‬وكانت هذه النسخة متعددة اللغات؛أي أنها‬
‫أعادت إنتاج الكتاب املقدس بلغات متعددة‪.‬وهكذا‪،‬طرحوا العهد القديم‬
‫باللغة العربية األصلية‪" ،‬الفوجلاتا" الالتينية‪،‬والسبعينية اليونانية‪،‬جنبًا إىل جنب‬
‫يف أعمدة ‪(.‬ما كان هؤالء احملررون يعتقدونه خبصوص أفضلية "الفوجلاتا" ميكن‬
‫أن نراه يف تعليقاتهم خبصوص هذا الرتتيب يف مقدمتهم ‪ :‬فقد شبهوه باملسيح‬
‫ــــ متمثال يف "الفوجلاتا" ـــ الذي كان مصلوبًا بني جمرمني‪ ،‬اليهود األشرار ممثلني‬
‫يف النص العربي واليونانيني املنشقني ممثلني يف السبعينية )‪.‬‬

‫طُبِعَ هذا العمل يف بلدة تدعى "ألكاال" اليت تسمى بالالتينية "كومبلومت "‬
‫‪(Complutum) .‬هلذا السبب ‪ ،‬عرفت نسخة خيمنس باسم الكتاب‬
‫املقدس الكومبلوتي متعدد اللغات‪ .‬اجمللد اخلاص بالعهد اجلديد كان أول ما مت‬

‫‪137‬‬
‫طبعه(اجمللد رقم ‪، 5‬ومت االنتهاء منه يف ‪)1514‬؛ كان يضم بني دفتيه النص‬
‫اليوناني ومعجمًا يونانيًا مصحوبًا باملقابل الالتيين‪ .‬إال أنه مل يكن هناك نية‬
‫لنشر هذا اجمللد يف شكل منفصل ـ فقد نشرت اجمللدات الست مجيعها‬
‫معًا(كانت الست جملدات تضم قاموس وكتاب حنو عربي لتساعد على قراءة‬
‫اجمللدات ‪،)4 -1‬واستغرق هذا وقتًا كبريًا‪ .‬العمل بالكامل مت االنتهاء منه‬
‫حبلول ‪1517‬؛ لكن وحيث إنه كان منتجًا كاثوليكيًا‪ ،‬كان يلزمهم تصديق‬
‫البابا ليو العاشر‪،‬قبل أن خيرج إىل الوجود‪ .‬وقد حصلوا عليه أخريًا يف‬
‫‪ ،1521‬ولكن بسبب تعقيدات أخرى ‪،‬مل يتم توزيعه قبل ‪ ،1522‬بعد‬
‫وفاة خيمنس نفسه خبمس سنوات تقريبًا‪ .‬كما رأينا ‪،‬قريبًا من هذه الفرتة كان‬
‫هناك املئات من املخطوطات اليونانية (أي نسخ مكتوبة خبط اليد)حتت يد‬
‫الكنائس املسيحية والعلماء يف الشرق‪ .‬كيف تسنى لـ"ستونيكا" ومن حتت قيادته‬
‫من احملررين أن حيددوا أي هذه املخطوطات يصلح لالستخدام‪،‬وأي هذه‬
‫املخطوطات كان متوفرًا بالفعل بني أيديهم؟‬

‫لألسف ‪،‬هذه األسئلة مل يكن باستطاعة العلماء مطلقًا اإلجابة عليها بشكل‬
‫مؤكد‪ .‬يف إهدائه للعمل ‪،‬عرب خيمنس عن امتنانه للبابا ليو العاشر من أجل‬
‫النسخ اليونانية اليت استعارها من "املكتبة الباباوية‪ ".‬وهكذا فرمبا أتت‬
‫خمطوطات هذه الطبعة من ممتلكات الفاتيكان‪ .‬بعض العلماء بالرغم من ذلك‬

‫‪138‬‬
‫يساورهم الشك يف أن املخطوطات اليت كانت متوفرة حمليًا رمبا تكون قد‬
‫استخدمت ‪ .‬بعد حوالي ‪ 251‬عامًا من إصدار الكتاب املقدس الكومبلوتي‪،‬‬
‫زار عامل دامناركي يدعى مولدنهوفر "ألكاال" ملعاينة مصادرها املتوفرة يف‬
‫املكتبات حتى جييب على هذا السؤال‪،‬لكنه مل يستطع أن جيد خمطوطات للعهد‬
‫اجلديد اليوناني على اإلطالق‪ .‬وقد قام ‪،‬الرتيابه يف أن املكتبة البد وأنها كانت‬
‫حتوي يف وقت ما بعضًا من هذه املخطوطات‪،‬بإجراء أحباثا دؤوبة حتى أُخبِر‬
‫أخريًا من خالل أمني املكتبة بأن املكتبة كانت حتوى بالفعل خمطوطات يونانية‬
‫قدمية للعهد اجلديد‪،‬لكنها بيعت مجيعا يف عام ‪ 1749‬لصانع صواريخ يدعى‬
‫"توريو" "كرقوق عدمية الفائدة "(لكن صاحلة لصناعة الصواريخ النارية)‪.‬‬
‫مؤخرًا حاول العلماء تكذيب هذه احلكاية (‪ .)7‬إال أنها على األقل تظهر أن‬
‫دراسة خمطوطات العهد اجلديد اليونانية ليست علم لصناعة الصواريخ ‪.‬‬

‫أول طبعات العهد اجلديد اليوناني نشرًا‬

‫على الرغم من أن الكتاب املقدس الكومبلوتي متعدد اللغات كان أول نسخة‬
‫مطبوعة من العهد اجلديد اليوناني ‪،‬إال أنه مل يكن أول الطبعات نشرًا‪ .‬فقد‬
‫طبعت النسخة الكومبلوتية ‪،‬كما رأينا ‪ ،‬حوالي ‪ . 1514‬لكنها مل ترَ النور‬
‫كنسخة منشورة قبل ‪ .1522‬بني ذينك التارخيني قام العامل املقدام واملفكر‬

‫‪139‬‬
‫اإلنساني اهلولندي "ديسيديريوس إيرازاموس" بطبع ونشر نسخة من العهد‬
‫اجلديد اليوناني ‪،‬ليحصل بذلك على شرف حترير ما يعرف بالـ ‪(editio‬‬
‫)‪ ،princeps‬أي أوىل النسخ نشرًا‪ .‬كان "إيرازاموس" قد قام بدراسة العهد‬
‫اجلديد‪،‬جنبًا إىل جنب مع الكتابات األخرى العظيمة اليت أبدعها‬
‫القدماء‪،‬على فرتات متقطعة خالل سنوات عديدة‪،‬ورأى يف حلظةٍ ما مدى‬
‫أهمية إصدار نسخة للطباعة ‪.‬‬

‫غري أن ناشرًا يدعى "جوهان فروبن"سرعان ما اقنعه‪ ،‬عند زيارته مدينة "بازل"‬
‫يف أغسطس ‪ ، 1514‬بأن يتقدم خطوة إىل األمام‪ .‬كان كال من إيرازاموس‬
‫وفروبن يعلمان أن الكتاب املقدس الكومبلوتي متعدد اللغات يف حيز اإلعداد‬
‫للنشر‪ ،‬ولذلك قررا نشر نص يوناني بأسرع ما ميكن ‪،‬إال أن التزامات أخرى‬
‫ٍّ حتى يوليو من العام‬
‫منعت "إيرازاموس" من مواصلة مهمته بشكل جاد‬
‫‪ .1515‬يف هذا الوقت ذهب إىل "بازل" حبثًا عن املخطوطات املالئمة اليت‬
‫ميكنه استخدامها كأساسٍ لنصه‪ .‬مل يكتشف ثروة عظيمة من املخطوطات‬
‫‪،‬لكنَّ ما وجده كان كافيًا لتنفيذ مهمته‪ .‬يف األغلب ‪ ،‬اعتمد على حفنة قليلة‬
‫من خمطوطات القرون الوسطى املتأخرة ‪،‬اليت قام بوضع عالمات عليها كما لو‬
‫كان يقوم بتحرير نسخة مكتوبة يدويًا استعدادا للطباعة؛ عامل املطبعة أخذ‬
‫املخطوطات بتلك العالمات عليها و رتب حروفه مباشرة من خالهلم‪ .‬يبدو أن‬

‫‪140‬‬
‫"إيرازموس" اعتمد بشدة على خمطوطة واحدة فقط من القرن الثاني عشر‬
‫لكتابة األناجيل وغريها‪،‬وأيضًا خمطوطات من القرن الثاني عشر لكتابة سفر‬
‫أعمال الرسل و الرسائل – على الرغم من أنه كان قادرًا على الرجوع إىل‬
‫خمطوطات أخرى عديدة و إدخال تصحيحات اعتمادًا على قراءاتها‪ .‬من أجل‬
‫سفر الرؤية كان مضطرًا الستعارة خمطوطة من صديقه األديب األملاني‬
‫"جوهانس رويشلني" ؛ هذه املخطوطة‪ ،‬لألسف‪ ،‬كانت قراءة بعض املواضع‬
‫فيها مستحيال تقريبًا‪ ،‬وكانت صفحتها األخرية ‪،‬اليت حوت األعداد الستة‬
‫األخرية من السفر‪ ،‬مفقودة‪ .‬ويف أثناء عجلته إلنهاء عمله‪ ،‬استخدم إيرازموس‬
‫يف هذه املواضع "الفوجلاتا" الالتينية حيث قام برتمجة نصها مرة أخرى إىل‬
‫اليونانية ‪ ،‬ونتيجة لذلك إختلق بعض القراءات النصية اليت ليس هلا وجود يف‬
‫أي خمطوطة يونانية باقية حتى اليوم‪ .‬وهذه ‪،‬كما سنرى‪،‬هي نسخة العهد‬
‫اجلديد اليت كان مرتمجوا نسخة "امللك جيمس" يستخدمونها ملدة قرن تقريبًا‬
‫بعد ذلك‪ .‬بدأت عملية طباعة نسخة إرازاموس يف أكتوبر ‪ 1515‬ومت االنتهاء‬
‫منها خالل مخسة أشهر فحسب‪.‬تضمنت النسخة النص اليوناني اجملمَّع على‬
‫عجل والنسخة املنقحة من "الفوجلاتا" الالتينية‪ ،‬جنبًا إىل جنب (يف النسخ‬
‫الثانية و ما تالها‪،‬ضم إرازموس ترمجته الالتينية اخلاصة لنص الكتاب املقدس‬
‫بدلًا من "الفوجلاتا" األمر الذي أحدث ما هو أكثر من الصدمة لكثريٍ من علماء‬
‫الالهوت يف هذا العصر اللذين ال يزالون يعتربون أن "الفوجلاتا" هي كتاب‬
‫‪141‬‬
‫الكنيسة املقدس "احلقيقي")‪ .‬لقد كان كتابًا كبريًا بلغت صفحاته األلف تقريبًا‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬كما قال "إرازموس" نفسه فيما بعد‪،‬لقد كانت "درجة العجلة يف‬
‫نشرها أكرب من درجة تنقيحها" (أو كما قال حرفيًا باللغة الالتينية ‪:‬‬
‫‪praecipitatum verius quam editum).‬‬
‫من املهم االعرتاف بأن نسخة إرازموس(أصدر مخس نسخ ‪،‬كلها تعتمد‬
‫بشكل أساسي على هذه النسخة األوىل اجملمعة بشكل متسرع ) هي النسخة‬
‫املنشورة األوىل)‪ (editio princeps‬من العهد اجلديد اليوناني ليس ألنها‬
‫متثل حكاية تارخيية ممتعة‪ ،‬لكن أكثر من ذلك ألنها أصبحت ‪،‬باعتبارها تاريخ‬
‫للنص املتطور‪ ،‬الشكل املعياري للنص اليوناني الذي قامت بنشره دور الطباعة‬
‫يف غرب أوروبا ملا يزيد عن ثالثة قرون ‪.‬‬

‫تتابعت العديد من النسخ اليونانية اليت أصدرها ناشرون من ذوي األمساء‬


‫املعروفة جيدًا لدى العلماء يف هذا اجملال مثل‪" :‬استيفانوس" ‪،‬أو(روبرت‬
‫إشتني)‪"،‬ثيودور بيزا"‪،‬و"بونافينتشر" و"أبراهام إلتسفري"‪ .‬كل هذه‬
‫النصوص‪،‬بالرغم من ذلك‪ ،‬اعتمدت ‪،‬إن بشكل أكرب أو أقل‪ ،‬على نسخ من‬
‫سبقهم‪ ،‬واليت تعود مجيعها إىل نسخة إرازموس بكل أخطائها واليت اعتمدت‬
‫على حفنة قليلة من املخطوطات(أحيانًا خمطوطتني فقط أو حتى واحدة ـــ بل‬
‫بال أي خمطوطة أحيانًا وذلك يف أجزاء من سفر الرؤية!)اليت كانت قد كتبت يف‬

‫‪142‬‬
‫وقت متأخر نسبيًّا من القرون الوسطى‪ .‬دور الطباعة يف الغالب مل تبحث عن‬
‫املخطوطات اليت رمبا تكون أقدم وأفضل ليعتمدوا عليها يف إخراج نصوصهم‪.‬‬
‫بل قاموا ‪،‬بدالً من ذلك ‪ ،‬بطبع وإعادة طبع النص ذاته‪،‬مدخلني فقط تغيريات‬
‫حمدودة للغاية‪ .‬البعض من هذه النسخ رائع بالتأكيد‪ .‬فالطبعة الثالثة من نسخة‬
‫ستيفانوس املنشورة يف ‪، 1551‬على سبيل املثال‪ ،‬جديرة بالذكر باعتبارها‬
‫أوىل النسخ على اإلطالق احتوءا على مالحظات توثق االختالفات بني بعض‬
‫املخطوطات حمل البحث؛ كما إن طبعته الرابعة(‪ )1551‬هي ‪،‬على أية حال‪،‬‬
‫األبرز بني طبعاته‪ ،‬حيث إنها النسخة اليونانية األوىل من العهد اجلديد اليت‬
‫قسمت النص إىل أعداد‪ .‬قبل ذلك‪،‬كان النص يطبع بأمجعه بدون أي إشارة‬
‫إىل التقسيم إىل أعداد‪ .‬هناك حكاية طريفة تتعلق بالكيفية اليت قام بها‬
‫ستيفانوس بعمل هذه النسخة‪ .‬ذكر ابنه فيما بعد أن استيفانوس كان قد اختذ‬
‫قراره خبصوص التقسيم باألعداد(معظمها مازال باقيًا عندنا يف الرتمجات‬
‫اإلجنليزية) بينما كان يقوم برحلة على ظهر حصان‪ .‬بال شك كان يعين أن‬
‫والده كان"يعمل على الطريق"ـــــ ما يعين أنه أدخل أرقام األعداد أثناء الليالي‬
‫اليت كان يقضيها يف الفنادق حيث كان يقيم‪ .‬لكن بعد أن قال ابنه بشكل حريف‬
‫إن ستيفانوس أدخل هذه التغيريات "وهو على ظهر حصانه" اقرتح بعض‬
‫املعنيني‪ ،‬تهكمًا‪ ،‬أن يكون بالفعل قد قام بعمله أثناء ترحاله‪ .‬ولذلك عندما‬
‫كان حصانه يرتطم بأي مطب بشكل مفاجئ ‪،‬كان قلم ستيفانوس يقفز‪،‬ما‬
‫‪143‬‬
‫يفسر بعض املواضع الشاذة إىل حدٍ ما اليت مازلنا جندها يف ترمجاتنا اإلجنليزية‬
‫للعهد اجلديد‪ .‬ما أحاول أن أثبته ‪،‬على الرغم من ذلك‪ ،‬هو أن كل النسخ‬
‫الالحقة‪،‬مبا فيها نسخ ستيفانوس‪،‬تعود يف النهاية إىل النسخة ال ‪" editio‬‬
‫" ‪princeps‬اخلاصة بإرازموس اليت كانت تعتمد على بعض املخطوطات‬
‫اليونانية األحدث‪،‬وليست بالضرورة موثوق بها‪،‬ــــ وهي تلك اليت وجدها يف‬
‫"بازل" إىل جانب املخطوطة اليت استعارها من صديقه رويتشلني‪ .‬ليس هناك‬
‫سبب جيعلنا نعتقد أن هذه املخطوطات كانت عالية اجلودة على حنوٍ خاص‪ .‬بل‬
‫ببساطة كانت تلك املخطوطات هي اليت كان مبقدوره احلصول عليها‪ .‬بالفعل‬
‫‪،‬كما يبدو ‪،‬هذه املخطوطات مل تكن األفضل من ناحية اجلودة‪:‬فلقد‬
‫كتبت‪،‬يف النهاية‪ ،‬بعد املخطوطات األصلية حبوالي أحد عشر قرنًا!‬

‫كمثال‪،‬املخطوطة الرئيسية اليت استخدمها "إرازموس" إلخراج األناجيل كانت‬


‫حتتوي على قصة املرأة الزانية املوجودة يف إجنيل يوحنا و أيضًا االثنى عشر‬
‫عددًا األخرية من إجنيل مرقس ‪،‬وهي الفقرات اليت مل تكن يف األصل جزءًا‬
‫من األناجيل‪،‬كما علمنا يف الفصل السابق‪ .‬لقد كان هناك على الرغم من ذلك‬
‫فقرة أساسية من الكتاب املقدس مل تكن موجودة ضمن املخطوطات املصدر‬
‫اليت كانت لدى "إرازموس"‪ .‬وهي تسجيل األعداد من رسالة يوحنا األوىل‬
‫إصحاح ‪ 5‬واألعداد ‪ 8 -7‬واليت يطلق عليها العلماء مسمى الـ فاصلة‬

‫‪144‬‬
‫اليوحنّاويّة ‪ " Johannine Comma" .‬هذه األعداد موجودة يف‬
‫خمطوطات الفوجلاتا الالتينية ولكنها مفقودة يف الغالبية الساحقة من‬
‫املخطوطات اليونانية ‪ .‬هذه الفقرة كانت هي املفضلة لدى الالهوتيني املسيحيني‬
‫لفرتة طويلة‪،‬حيث إنها الفقرة الوحيدة يف الكتاب املقدس بأكمله اليت تشري‬
‫بوضوح إىل عقيدة الثالوث ‪،‬أي وجود ثالثة أقانيم بطبيعة إهلية‪ ،‬إال أن الثالثة‬
‫مجيعًا يشكلون إهلًا واحدًا فحسب ‪ .‬هذه الفقرة تقرأ يف الفوجلاتا كالتالي‪:‬‬

‫"ألن اللذين يشهدون يف السماء هم ثالثة‪:‬اآلب‪ ،‬الكلمة‪ ،‬والروح‪،‬وهذه‬


‫ثالثة‬ ‫األرض‬ ‫يف‬ ‫يشهدون‬ ‫واللذين‬ ‫واحد؛‬ ‫هي‬ ‫الثالثة‬
‫‪،‬الروح‪،‬املاء‪،‬والدم‪،‬وهؤالء الثالثة يف الواحد"‪.‬‬

‫وهي فقرة غامضة ‪،‬لكنها تدعم التعاليم التقليدية اخلاصة بالكنيسة واملتعلقة‬
‫بـ"اإلله املثلث األقانيم الذي هو واحد " على حنوٍ ال لبس فيه‪.‬‬

‫يف غياب هذه الفقرة‪ ،‬البد أن نستنبط عقيدة الثالوث من عدد من الفقرات‬
‫اجملمَّعَة للداللة على أن املسيح هو اهلل‪،‬كما هو احلال بالنسبة للروح ولآلب و‬
‫على أن هناك ‪،‬على الرغم من ذلك ‪ ،‬إهلًا واحدًا فحسب‪ .‬هذه الفقرة ‪،‬على‬
‫النقيض من الفقرات األخرى‪ ،‬تصرح بهذه العقيدة بشكل مباشر وموجز‪ .‬لكنَّ‬
‫"إرازموس" مل جيدها يف خمطوطاته اليونانية واليت ببساطة تُقرأ بدال من ذلك‬
‫كالتالي‪:‬‬
‫‪145‬‬
‫"هناك ثالثة يشهدون‪:‬الروح‪،‬املاء‪،‬والدم‪،‬وهذه الثالثة هم واحد"‪.‬‬

‫أين ذهب "اآلب‪ ،‬واالبن‪،‬والروح القدس"؟ مل يرد أيّ ذكرٍ هلم يف خمطوطة‬
‫ٍّ من املخطوطات األخرى اليت رجع‬
‫"إرازموس" الرئيسية‪،‬أو يف أي‬
‫إليها‪،‬وهكذا‪ ،‬بطبيعة احلال‪ ،‬مل يذكرهم يف نسخته اليونانية األوىل ‪ .‬وهذا ما‬
‫أثار غضب الالهوتيني يف عصره أكثر من أي شئ آخر ‪.‬فقد اتهموه بالعبث‬
‫بالنص يف حماولة منه للتخلص من عقيدة التثليث واحلط من فاعليتها‪،‬اليت هي‬
‫عقيدة الطبيعة اإلهلية الكاملة للمسيح‪ .‬أحد احملررين الرئيسيني للكتاب املقدس‬
‫الكومبلوتي متعدد اللغات وامسه"ستونيكا" قام بنشر جترحيه يف مسعة‬
‫"إيرازموس" وأصر على أن يعيد العدد يف الطبعات املستقبلية إىل مكانها‬
‫الصحيح ‪.‬‬

‫ومتضي القصة‪،‬ويوافق "إرازموس"ــــ رمبا يف حلظة ضعف ــ على أن يدرج هذا‬


‫العدد يف الطبعة املستقبلية للعهد اجلديد باللغة اليونانية على شرطٍ واحدٍ‪:‬أن‬
‫يقدم خصومه خمطوطة يونانية حيتمل أن يوجد بها هذا العدد(وجودها يف‬
‫خمطوطات التينية ليس كافيًا)‪ .‬وهكذا ظهرت إىل الوجود خمطوطة يونانية! يف‬
‫الواقع ‪ ،‬ظهرت هذه املخطوطة إىل الوجود بهذه املناسبة‪ .‬يبدو أن شخصًا ما‬
‫قام بنسخ نصٍ يونانيٍ حيوي الرسائل وعندما وصل إىل هذه الفقرة موضع‬
‫البحث‪،‬قام برتمجة النص الالتيين إىل اللغة اليونانية ‪،‬لتظهر ال "‬

‫‪146‬‬
‫"‪Johannine Comma‬يف شكلها املألوف‪ ...‬واملفيد الهوتيًا‪ .‬املخطوطة‬
‫اليت قدمت إىل "إرازموس"‪ ،‬بكلمات أخرى ‪،‬يرجع تارخيها إىل القرن‬
‫السادس عشر أي أنها كتبت حسب طلب الزبون‪ .‬وعلى الرغم من‬
‫تشككه‪،‬إال أن "إرازموس" كان عند كلمته وضمَّن الـ ‪" Johannine‬‬
‫"‪Comma‬نصَّ نسختِه وكل طبعاته املتتالية‪ .‬هذه الطبعات‪،‬كما أشرت من‬
‫قبل‪،‬أصبحت األساس بالنسبة لكل النسخ اليت أعيدت طباعتها من العهد‬
‫اجلديد اليوناني مرة بعد أخرى عرب أناس مثل "ستيفانوس" ‪"،‬بيزا"‪،‬و"إلزيفريز"‪.‬‬
‫هذه النسخ قدمت شكال من النص اعتمد عليه يف النهاية مرتمجوا "نسخة‬
‫امللك جيمس" من الكتاب املقدس‪ .‬وكذلك الفقرات املألوفة لدى قراء الكتاب‬
‫املقدس برتمجته اإلجنليزيةـ بدءًا من نسخة امللك جيمس الصادرة ‪1611‬‬
‫فصاعدًا‪،‬حتى النسخ املعاصرة يف القرن العشرين ــــ اليت ضمت الفقرة اخلاصة‬
‫باملرأة الزانية‪،‬واإلثين عشر عددًا األخرية من مرقس‪،‬و الفاصلة‬
‫اليوحناوية) ‪،(Johannine Comma‬على الرغم من أن أيًا من هذه‬
‫الفقرات ليس هلا وجود يف املخطوطات اليونانية األقدم واألعلى شأنًا للعهد‬
‫اجلديد‪ .‬هذه الفقرات دخلت إىل تيار الوعي لدى املتحدثني باإلجنليزية فقط عرب‬
‫مصادفة تارخيية وذلك اعتمادًا على خمطوطات تصادف أن كانت يف متناول يد‬
‫"إرازموس" وأخرى صنعت ملساعدته‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫هذه النسخ اليونانية املتنوعة اليت صدرت يف القرنني السادس عشر والسابع‬
‫عشر كانت شديدة التشابه لكنَّ دور الطباعة متكنت يف النهاية من الزعم أنها‬
‫النص املقبول عامليًا لدى كل العلماء وقراء العهد اجلديد اليوناني ــ وهو ما‬
‫حدث بالفعل‪،‬حينما مل يعد هناك منافسون !‬

‫االدعاء األكثر ورودًا على األلسنة جنده يف نسخة صدرت عام ‪ 1633‬مبعرفة‬
‫"أبراهام" و "بونافنتشر إلزفري" (اللذان هما عمٌّ وابن أخيه)‪ ،‬أخربوا فيه قراءهم‬
‫‪،‬يف كلماتٍ أصبحت منذئذ معروفة لدى العلماء‪":،‬أنتم اآلن متلكون النص‬
‫املقبول لدى اجلميع‪،‬الذي مل نضمنه أي شئ تعرض للتغيري أو التشويه‪)8(".‬‬

‫املعنى الوارد يف هذا السطر‪،‬خاصة هذه الكلمات‪":‬املقبول لدى اجلميع‪ "،‬هو‬


‫ما أمدنا باجلملة الشائعة ("‪ " Textus Receptus‬اليت يتم اختصارها‬
‫بالرمز )‪، T.R‬وهو مصطلح يستخدمه علماء النقد النصي لإلشارة إىل النص‬
‫اليوناني الذي يعتمد ‪،‬ال على أقدم املخطوطات وأفضلها‪،‬وإمنا على شكل من‬
‫النص نشره يف األصل "إرازموس" وسلمه إىل دور الطباعة ملا يزيد عن ثالثة‬
‫قرون حتى بدأ علماء النقد النصي يشددون على أن العهد اجلديد اليوناني‬
‫ينبغي أن ينشأ على أسس علمية تعتمد على أقدم خمطوطاتنا و أفضلها وليس‬
‫ببساطة على نسخ أعيد طبعها وفقًا لرغبات الزبون‪ .‬لقد كان شكال نصيًّا أدنى‬
‫قيمة من النص املستلم "‪ " Textus Receptus‬هو الذي كان أساسًا‬

‫‪148‬‬
‫للرتمجات اإلجنليزية املبكرة ‪،‬مثل إجنيل امللك جيمس ‪،‬والنسخ األخرى حتى‬
‫نهاية القرن التاسع عشر تقريبًا‪.‬‬

‫"‬

‫كان نص العهد اجلديد اليوناني ‪،‬إذن‪،‬يبدو وكأنه يقف على قدم صلبة حسب‬
‫قناعات معظم العلماء اللذين استطاعوا أن يستفيدوا من النسخ املطبوعة خالل‬
‫القرنني السادس عشر و السابع عشر ‪ .‬يف النهاية‪،‬كل النسخ تقريبًا كانت‬
‫متماثلة يف صياغتها‪.‬إال أن العلماء كرَّسوا أنفسهم أحيانًا لكشف واإلشارة إىل‬
‫أنَّ املخطوطات اليونانية ختتلف عن النص والذي طبع بشكل غري رمسي‪ .‬رأينا‬
‫كيف أن "ستيفانوس" ضمَّن نسخته املطبوعة يف ‪ 1551‬هوامشًا حتدد مواضع‬
‫االختالف بني خمطوطات عديدة كان قد اطلع عليها(أربعة عشر خمطوطة‬
‫إمجاال)‪ .‬بعدذلك ‪ ،‬يف القرن السابع عشر‪،‬نُ ِشرَت نسخٌ مبعرفة علماء إجنليز‬
‫مثل "بريان والتون" و "جون ِفلّ" تعاملوا فيها مع االختالفات بني املخطوطات‬
‫احملفوظة (واملتاحة) بشكل أكثر جدية إىل حدٍ ما‪ .‬لكنَّ أحدًا تقريبًا مل يعرتف‬
‫بضخامة مشكلة االختالف النصي حتى العام ‪ 1717‬وهو عام صدور واحدة‬
‫من كالسيكيات ميدان النقد النصي للعهد اجلديد‪،‬وهو الكتاب الذي كان له‬
‫تأثريٌ وخيمٌ على دراسة نقل )‪(transmission‬العهد اجلديد اليوناني ‪،‬فاحتًا‬

‫‪149‬‬
‫كل السدود اليت أجربت العلماء على التعامل مع مشكلة النصية ملخطوطاتنا‬
‫للعهد اجلديد بشكل أكثر جدية (‪ . )9‬إنها نسخة العهد اجلديد اليوناني اليت‬
‫أصدرها "جون ملّ"‪،‬احلاصل على درجة الزمالة من الكلية امللكية ‪،‬جبامعة‬
‫أكسفورد‪ .‬استثمر "ملّ" ثالثني عامًا من العمل الدؤوب يف جتميع املادة العلمية‬
‫الالزمة لنسخته‪ .‬النص الذي قام بطباعته هو ببساطة نسخة "ستيفانوس"‬
‫الصادرة يف عام ‪ 1551‬م ‪ .‬لكنَّ الشئ املُهمّ يف نسخة "ملّ " مل يكن النص‬
‫الذي استخدمه‪ ،‬بل القراءات اليت ختتلف عن نصه هذا اليت ذكرها يف هوامشه‬
‫النقدية‪ .‬كان مبقدور " ِملّ" الوصول إىل حوالي مائة خمطوطة يونانية من‬
‫خمطوطات العهد اجلديد‪ .‬أضف إىل ذلك‪ ،‬أنه قام بفحص كتابات آباء الكنيسة‬
‫األوائل بعناية لريى الكيفية اليت كانوا يستشهدون بها بالنص – حيث افرتض‬
‫أن اإلنسان ميكنه أن يعيد بناء املخطوطات اليت كانت لدى هؤالء اآلباء عن‬
‫طريق فحص اقتباساتهم‪ .‬فوق ذلك‪ ،‬وعلى الرغم من أنه مل يكن يعرف‬
‫الكثري من اللغات القدمية األخرى خبالف الالتينية‪،‬فإنه قد استخدم نسخة‬
‫نشرت قبل ذلك عن طريق "والتون " لريى املواضع اليت ختتلف فيها النسخ‬
‫األقدم املكتوبة بلغات مثل السوريانية والقبطية عن تلك املكتوبة باليونانية‪.‬‬

‫على أساس هذه اجلهود املكثفة اليت استمرت ثالثني عامًا بهدف جتميع‬
‫املخطوطات‪،‬نشر " ِملّ" نصه املصحوب بالشواهد‪،‬اليت أشار فيها إىل مواضع‬

‫‪150‬‬
‫االختالف بني املخطوطات احلية املوجودة يف حوذته‪ .‬نظرًا للصدمة و الفزع‬
‫اللذين شعر بهما كثري من قرائه‪،‬فرزت شواهد " ِملّ" قريبًا من ثالثني ألف‬
‫موضع من االختالفات بني املخطوطات املوجودة‪ .‬ثالثون ألف موضع كانت‬
‫متثل قراءات خمتلفة للفقرات الواردة يف العهد اجلديد احتوتها املخطوطات‬
‫‪،‬والقراءات اآلبائية(نسبة إىل آباء الكنيسة)‪،‬والنسخ‪.‬‬

‫مل يكن " ِملّ" شامال يف تقدميه للبيانات اليت مجعها‪ .‬لقد وجد‪،‬يف الواقع‪،‬أكثر‬
‫بكثري من ثالثني ألف موضع من االختالفات‪ .‬لكنه مل يذكر كل ما اكتشفه‪ .‬فقد‬
‫جتاهل اختالفات مثل تلك اليت تتعلق بتغيري ترتيب الكلمات‪ .‬مع ذلك‪ ،‬كانت‬
‫املواضع اليت ذكرها كافية لدفع مجهور القراء بعيدًا عن القبول بالواقع اعتمادًا‬
‫على كثرة طباعة النص املستلم )‪ (Textus Receptus‬واالفرتاض األبله‬
‫بأنه داخل النص املستلم ميلك املرء العهد اجلديد اليوناني"األصلي"‪ .‬اآلن‬
‫دخلت مكانة النص األصلي يف حيز النزاع من أوسع األبواب‪ .‬لو مل يكن املرء‬
‫يعلم أي الكلمات تنتمي بالفعل للعهد اجلديد اليوناني‪،‬فكيف سيكون مبقدوره‬
‫أن يستخدم هذه الكلمات يف تقرير العقيدة والتعاليم املسيحية الصحيحة؟‬

‫‪151‬‬
‫"‬

‫تأثري كتاب "ملّ" أصبح ملموسًا بشكل سريع‪،‬على الرغم من أنه مل يعش‬
‫ليشهد بنفسه مآل النزاع‪ .‬لقد مات‪ ،‬ضحية لسكتة قلبية‪،‬بعد نشر مؤلفه‬
‫الضخم بأسبوعني فقط‪ .‬موته املفاجئ(قال أحد املراقبون أنه حدث نتيجة‬
‫"تناول كمية كبرية للغاية من القهوة"!) مل مينع خصومه‪،‬على الرغم من ذلك‪،‬‬
‫من مواصلة النزاع‪ .‬اهلجوم األكثر قسوة حدث بعد ذلك بثالث سنوات يف جملد‬
‫علمي كتبه أحد املناظرين البارعني وكان يسمى "دانيال ويتيب"‪،‬الذي نشر يف‬
‫عام ‪ 1711‬جمموعة من املالحظات على تفسري العهد اجلديد ‪،‬أضاف إليها‬
‫ملحقًا من مائة صفحة فحص فيه بشكل أكثر تفصيال االختالفات اليت ذكرها‬
‫" ِملّ" يف ثنايا شواهده‪ .‬كان "ويتيب" عامل الهوت بروتستانيت حمافظ وكانت‬
‫رؤيته األساسية تتلخص يف أنه على الرغم من أن الرب بالتأكيد مل حيُل دون‬
‫تسلل األخطاء إىل النسخ اليت أعدها النسَّاخ من العهد اجلديد‪،‬إال أنه يف‬
‫الوقت ذاته مل يسمح على اإلطالق بفساد النص (أي حتريفه) إىل احلد الذي‬
‫يكفي ملنعه (أي الكتاب املقدس)من إجناز هدفه وغرضه املقدس‪ .‬ولذا جنده‬
‫ينتحب قائال‪"،‬أشعر باحلزن والغيظ من أنين وجدت الكثري يف مقدمة " ِملّ"‬
‫النقدية مما يبدو بوضوح تام أنه يضع أساس اإلميان يف دائرة عدم املوثوقية‪،‬أو‬
‫على أحسن تقدير يعطي اآلخرين احلُجة لالرتياب‪) 11(".‬‬

‫‪152‬‬
‫ويستمر"ويتيب" فيفرتض أن العلماء الرومان الكاثوليك‪ -‬اللذين يطلق عليهم‬
‫لقب"الباباويني"‪ -‬سيشعرون بسعادة بالغة بسبب قدرتهم على إظهار أن‬
‫الكتاب املقدس مل يكن مرجعًا كافيًا لإلميان وذلك اعتمادًا على األسس غري‬
‫املوثوقة للنص اليوناني للعهد اجلديد‪ ،‬األمر الذي يعين أن مرجعية الكنيسة‬
‫بدال من ذلك هي األحق بالتقديم‪ .‬كما جنده يصرح‪":‬جيادل‬
‫"مورينوس"(وهوعامل كاثوليكي)حول فساد النص اليوناني الذي جيعل سلطانه‬
‫موضع شك بسبب اختالف القراءات املوجودة يف العهد اجلديد اليوناني‬
‫اخلاص بـ"ر‪.‬ستيفنس" (=ستيفانوس)؛ فما حجم النصر إذن اللذي سيحققه‬
‫الباباويّون على النص ذاته عندما سيَرَوَْن االختالفات اليت ذكرها " ِملّ" بعد‬
‫عمل مضنٍ استمر ثالثني عامًا واليت تزيد عن املوجود اآلن بأربعة أضعاف؟"‬
‫(‪)11‬‬

‫تابع "ويتيب" دفوعه حول كون نص العهد اجلديد ‪،‬يف الواقع‪،‬هو نص موثوق‬
‫به‪،‬حيث إنَّ االختالفات اليت ذكرها " ِملّ" نادرًا ما تتناول مسألة عقائدية أو‬
‫قضية سلوكية‪ ،‬والغالبية العظمى من اختالفات " ِمٍلّ" ليس هلا أي صلة بقضية‬
‫املوثوقية ‪.‬‬

‫رمبا كان "ويتيب" يقصد أن يبلغ رده تأثريه من دون أن يقرأه أحد يف الواقع؛فهو‬
‫رد يتكون من مائة صفحة منمقة‪،‬كثيفة‪،‬وغري جذابة من الدفوع املتشابهة‪،‬ومن‬

‫‪153‬‬
‫ثمّ فهو حياول أن يبين قضيته ببساطة على ضخامة حجم رده‪ .‬دفاع "ويتيب" رمبا‬
‫كان سينهي اجلدل حول هذه القضية بشكل أفضل لو مل يظهر هؤالء اللذين‬
‫استخدموا املواضع الثالثني ألفًا اليت استخرجها " ِملّ" لكي يصلوا بها إىل‬
‫النهاية اليت كان "ويتيب" خيشاها‪،‬أال وهي اجلدال حول كون نص الكتاب‬
‫املقدس ال ميكن الوثوق به ألن عدم موثوقيته تنبع من ذاته‪ .‬الذين جادلوا حول‬
‫هذه القضية تزعَّمهم "أنتوني كولينز" وهو إجنليزي ديسطيقي ***** وكان‬
‫صديقًا وتابعًا لـ"جون لوك"الذي كتب يف عام ‪ 1713‬كتيبًا عنونه بـ "مقالة‬
‫حول التفكري احلر"‪ .‬هذا الكتيب كان منوذجًا لألفكار الديسطيقية يف بواكري‬
‫القرن الثامن عشر‪ :‬حيث كان يدعوا إىل تقديم املنطق والدليل على‬
‫الوحي(املوجود يف الكتاب املقدس كمثال) واملعجزات املتوهمة‪.‬يف الفصل‬
‫الثاني من الكتاب الذي يتناول "القضايا الدينية" يذكر "كولينز"‪،‬يف وسط‬
‫اآلالف من األمور األخرى‪،‬أن رجال الدين املسيحيني (" ِملّ" كمثال) كانوا وال‬
‫يزالون "ميلكون الدليل ويبذلون اجلهد إلثبات أن نص الكتاب املقدس غري‬
‫موثوق به‪ "،‬مشريًا من ثمّ إىل اختالفات " ِملّ" الثالثني ألفًا‪.‬‬

‫أثار كتيب "كولينز"‪،‬الذي قُرئ على نطاق واسع وكان له تأثريٌ بالغٌ ‪ ،‬عددًا من‬
‫الردود الصارمة‪،‬كثريٌ منها كان يتسم بالغموض ويتطلب جهدًا لفهمه‪،‬وبعضها‬
‫ينم عن مستوى علمي رفيع وينم عن شعور باالستياء ‪ .‬كانت حمصلته األبرز‪،‬‬

‫‪154‬‬
‫رمبا‪ ،‬أنها استقطبت إىل حلبة الصراع واحدًا من ذوي السمعة العاملية الرفيعة‬
‫من العلماء ‪،‬أال وهو "ريتشارد بنتلي"‪ ،‬عميد ترينييت كوليج جبامعة كامربدج ‪.‬‬
‫اكتسب "بنتلي" شهرته من اشتغاله بأعمال املؤلفني الكالسيكيني من أمثال‬
‫هومريوس‪،‬هوراس‪،‬و تريينس‪ .‬يف رده على كل من "ويتيب" و"كولينز"‪،‬الذي‬
‫صدر حتت عنوان ‪" pseudonym Phileleutherus‬‬
‫"‪Lipsiensis‬الذي يعين شئ ما مثل "مُحِبُّ احلرية من "ليبزج" "ــ يف إشارة‬
‫واضحة إىل دعوة "كولينز" إىل "التفكري احلر")‪ ،‬أوضح "بنتلي" أن القراءات‬
‫املختلفة اليت أحصاها " ِملّ" ال ميكن أن جتعل أساس اإلميان الربوتستانيت‬
‫موضع شك ‪،‬حيث إن هذه القراءات كانت موجودة حتى قبل أن يالحظها‬
‫" ِملّ" ‪ .‬فهو مل خيرتعها اخرتاعًا و لكنه فقط لفت األنظار إليها !‬

‫لو كان لنا أن نصدق ليس هذا املؤلف احلكيم (كولينز) فحسب ‪،‬ولكن أيضًا‬
‫أستاذكم احلاصل على درجة الدكتوراه األكثر حكمة (ويتيب)‪ ،‬فإنه (أي‬
‫ِملّ)كان شغله الشاغل طوال كل هذا الوقت أن يثبت أن نص الكتاب املقدس‬
‫مشكوك يف أصالته‪...‬فعالم كل هذا الصريخ والشجب من أستاذكم"‬
‫ويتيب"؟جهود الدكتور ‪،‬كما يقول هو‪ ،‬جتعل كامل نص الكتاب املقدس‬
‫موضع ريبة و يضر بكال من احلركة اإلصالحية ملصلحة "الباباويني"و الدين‬
‫ذاته ملصلحة امللحدين‪ ...‬ال مسح اهلل ! سنظل نظن به كل اخلري‪ .‬بالتأكيد هذه‬

‫‪155‬‬
‫القراءات املتباينة كانت موجودة من قبل يف العديد من النماذج؛ إن الدكتور‬
‫" ِملّ" مل يصنعهم صنعًا ومل يبتكرهم ابتكارا ‪ ،‬ما قام به هو أن أبرزهم فحسب‬
‫أمام أعيننا‪ .‬ولذلك لو كان الدين صحيحًا قبل ذلك ‪ ،‬على الرغم من وجود‬
‫مثل هذه القراءات املتباينة‪ :‬فإنه ما يزال صحيحًا وبالتالي موثوقًا به‪ ،‬على‬
‫الرغم معرفة كل الناس بها (أي بالقراءت املتباينة)‪ .‬بناءا على ذلك ‪ ،‬ليس‬
‫هناك حقيقة أو مسألة معروضة عرضًا غري متحيزٍ ميكن أن تؤثر على اإلطالق‬
‫على دين احلق (‪)12‬‬

‫"بنتلي" ‪ ،‬كونه خبريًا يف التقاليد النصية للكتابات الكالسكية‪ ،‬يواصل لفت‬


‫االنتباه إىل أن اإلنسان ميكنه أن يتوقع العثور على عددٍ وفريٍ من القراءات‬
‫النصية املتباينة كلما اكتشف عددًا كبريًا من املخطوطات‪ .‬فلو كان لعمل من‬
‫األعمال خمطوطة واحدة فحسب ‪ ،‬فحينئذٍ لن جتد قراءات نصية متباينة‪ .‬فإذا‬
‫وجدت خمطوطة أخرى ‪،‬فستختلف عن األوىل يف عددٍ من املواضع ‪ .‬وعلى‬
‫الرغم من ذلك ‪ ،‬فإنَّ هذا ليس باألمر السيء ألن عددًا من هذه القراءات‬
‫املتباينة سيبني أين احتفظت املخطوطة األوىل باخلطأ‪ .‬أضف خمطوطة ثالثة‬
‫وستجد قراءات متباينة إضافية‪،‬بل أيضًا مواضع جديدة ‪،‬يف احملصلة‪،‬قد حُفِظ‬
‫فيها النص األصلي(أي يف املكان الذي تتفق فيه املخطوطتان األوليان يف خطأ‬
‫ما)‪ .‬وهكذا دَوَاليَْك ‪ -‬كلما يتم اكتشاف خمطوطات جديدة ‪ ،‬كلما تتزايد‬

‫‪156‬‬
‫القراءات املتباينة؛ لكنَّ ذلك يرلفقه كذلك املزيد من التشابهات اليت يف مكان‬
‫ما بني هذه القراءات املتعددة ميكن للمرء أن يكتشف النص األصلي‪ .‬لذلك‪،‬‬
‫الثالثني ألف قراءة الكتباينة اليت كشف عنها " ِملّ" ال تطعن يف سالمة العهد‬
‫اجلديد؛ فهذه القراءات تقدم ببساطة البيانات اليت حيتاجها العلماء للعمل على‬
‫إنشاء النص ‪،‬الذي هو النص األكثر موثوقية من أي نص آخر كتب يف العامل‬
‫القديم‪ .‬كما سنرى يف الفصل القادم ‪ ،‬هذا اجلدال الدائر حول كتاب " ِملّ" دفع‬
‫يف النهاية "بنتلي" ليحول قدراته العقلية غري العادية إىل مشكلة تأسيس النص‬
‫األقدم املتوفر من العهد اجلديد‪ .‬قبل االنتقال إىل هذا البحث فرمبا ينبغي علينا‬
‫‪،‬على الرغم من ذلك ‪ ،‬أن نعود خطوة إىل الوراء لكي نتأمل مكاننا اليوم‬
‫باملقارنة مع اكتشاف " ِملّ" الرائع فيما خيص الثالثني ألف قراءة املتباينة املوجودة‬
‫يف التقليد املخطوط للعهد اجلديد‪.‬‬

‫على الرغم من أن "مل" ع ِلمَ بوجود حوالي مائة خمطوطة يونانية وقام بفحصها‬
‫ليكشف االختالفات الثالثني ألفًا اليت أعلن عنها‪ ،‬فإن ما نعرفه اليوم أكثر من‬
‫ذلك ‪،‬بل أكثر من ذلك بكثري‪ .‬ففي آخر إحصاء ‪،‬مت الكشف عن أكثر من‬
‫مخسة آالف وسبعمائة خمطوطة يونانية و فهرستها‪ .‬وهذا ميثل من ناحية العدد‬

‫‪157‬‬
‫سبعة ومخسني ضعفًا مما أتيح لـ"ملّ" االطالع عليه يف عام ‪ . 1717‬هذه‬
‫اخلمسة آالف وسبعمائة تشمل كل شئ بدءًا من أصغر كِسَر من املخطوطات –‬
‫أي يف حجم بطاقة االئتمان – إىل األعمال الرائعة و شديدة الضخامة اليت‬
‫حفظت كاملةً ‪ .‬بعضها يتكون من كتابٍ واحدٍ فقط من العهد اجلديد‬
‫؛والبعض اآلخر يضم بني ثناياه جمموعة صغرية (األناجيل األربعة و رسائل‬
‫بولس كمثال) ؛ والقليل للغاية منها يشمل العهد اجلديد بكامله (‪ . )13‬هناك‬
‫‪،‬أيضًا ‪ ،‬كثري من خمطوطات النسخ ( = ترمجات العهد اجلديد) املبكرة‬
‫املتعددة‪ .‬هذه املخطوطات ميتد تارخيها بني بدايات القرن الثاني ( كسرة صغرية‬
‫تسمى‪، P52‬واليت تضم عددًا من األعداد من يوحنا ‪ )18‬وصوال إىل القرن‬
‫السادس عشر (‪ . )14‬هذه املخطوطات تتفاوت بشكل كبري من ناحية احلجم‬
‫‪:‬فبعضها ميثل نسخًا صغرية يف حجم كف اليد ‪ ،‬مثل النسخة القبطية من إجنيل‬
‫متى ‪،‬اليت تسمى املخطوطة الصعيدية )‪ ،(Scheide Codex‬واليت يبلغ‬
‫حجمها ‪x5 4‬بوصة ؛والبعض اآلخر نسخٌ كبرية للغاية ومثرية لإلعجاب منها‬
‫املخطوطة السينائية سابقة الذكر اليت يبلغ حجمها ‪ x 13.5 15‬بوصة واليت‬
‫أثارت اإلعجاب عند الكشف عنها كاملة ‪ .‬البعض من هذه املخطوطات كان‬
‫من مواد رخيصة ومت نسخه على عجل ؛فبعضها كان قد مت نسخه بالفعل فوق‬
‫صفحات مستعملة (أي أنها وثيقة مت حموها وكتب نص العهد اجلديد على قمة‬
‫الصفحات املمحاة)؛ بينما البعض اآلخر كان نسخًا أنفق عليها بسخاء و غالية‬
‫‪158‬‬
‫الثمن ومنها بعض املخطوطات اليت ُكتِبَت على رق أرجواني اللون حبرب فضيّ‬
‫أو ذهيبّ ‪.‬‬

‫كالعادة ‪ ،‬يتحدث العلماء عن أربعة أنواع من املخطوطات اليونانية (‪) .15‬‬

‫‪ 1-‬األقدم وهي الربديات ‪،‬وهي خمطوطات مكتوبة على مواد مصنوعة من‬
‫قصب الربدي ‪ ،‬وهي خمطوطات قيمة لكنها رخيصة الثمن ومادة كتابة ذات‬
‫فعالية يف العامل القديم ؛ يؤرخ هلا بني القرنني الثاني والسابع ‪.‬‬

‫‪ 2-‬املخطوطات املاجوسكول (= املكتوبة باحلروف الكبرية ) وهي مصنوعة‬


‫من الربمشان (= جلود احليوانات ؛أحيانًا يطلق عليها الرق) ثم أطلق عليها‬
‫احلروف الكبرية ‪ ،‬وهي تشبه إىل حد ما احلروف الكابيتال املعروفة لدينا؛‬
‫وتؤرخ هذه املخطوطات ‪،‬يف أغلب األحيان ‪،‬من القرن الرابع إىل التاسع‪.‬‬

‫‪ 3-‬املخطوطات املينوسكول (= ذات احلروف الصغرية )وهي مصنوعة أيضًا‬


‫من الربمشان لكنها كتبت حبروف صغرية كثريا ما يتم وصلها (من غري أن يغادر‬
‫القلم الصفحة) إىل ما يشبه املقابل اليوناني حلروف الرقعة (اليت تكون احلروف‬
‫فيها متشابكة )؛وهذه يؤرخ هلا بدءًا من القرن التاسع فصاعدًا‬

‫‪ 4-‬الفصول وهي عادة ما تكتب باحلروف الصغرية من ناحية الشكل ‪،‬‬


‫لكنها بدال من أن تضم كتب العهد اجلديد ‪ ،‬تضم يف شكل منتظم ‪" ،‬قراءات "‬

‫‪159‬‬
‫مأخوذة من العهد اجلديد الستخدامها يف الكنيسة كل أسبوع أويف كل عطلة‬
‫(مثل الفصول اليت تستخدم يف الكنائس اليوم ‪).‬‬

‫باإلضافة إىل هذه املخطوطات اليونانية ‪ ،‬نعلم بوجود عشرة آالف خمطوطة‬
‫للفوجلاتا الالتينية ‪،‬ناهيك عن خمطوطات النسخ األخرى ‪ ،‬مثل الرتمجة‬
‫السريانية ‪ ،‬والقبطية ‪ ،‬األرمينية ‪ ،‬واجلورجية القدمية ‪،‬وخمطوطات الكنيسة‬
‫السالفية ‪...‬إىل آخره ( تذكروا أن " ِملّ" كان لديه إمكانية االطالع على القليل‬
‫من النسخ القدمية فحسب ‪ ،‬وهذه كان يعرفها فقط عن طريق ترمجاتها‬
‫الالتينية ‪).‬‬

‫باإلضافة إىل ذلك ‪ ،‬لدينا كتابات آباء الكنيسة مثل "كليمنت السكندري"‪،‬‬
‫"أورجيانوس" و "أثاناسيوس" من بني اآلباء اليونانيني و "ترتليانوس"‪،‬و‬
‫"جريوم" ‪،‬و "أوغسطينوس" من بني اآلباء الالتينيني – كلهم اقتبسوا من‬
‫نصوص العهد اجلديد يف مواضع ‪،‬مما جعل إعادة بناء ما كانت عليه‬
‫خمطوطاتهم (اليت هي مفقودة حاليًا‪،‬يف الغالب) أمرًا ممكنًا ‪.‬‬

‫يف وجود هذه الوفرة من األدلة ‪،‬ماذا ميكننا أن نقول عن العدد اإلمجالي‬
‫للقراءات املتباينة املعروفة يف وقتنا احلاضر ؟‬

‫‪160‬‬
‫خيتلف العلماء بشكل كبري يف أحكامهم – البعض يقول إن هناك ‪211.111‬‬
‫قراءة متباينة مت التعرف عليها ‪،‬البعض اآلخر يقول ‪ ، 311.111‬البعض‬
‫يقول ‪ 411.111‬أو أكثر ! حنن ال نعلم على وجه اليقني عددها ألنه ‪،‬على‬
‫الرغم من التطورات املدهشة اليت حدثت يف جمال تكنولوجيا الكمبيوتر ‪،‬ال‬
‫أحد إىل اآلن قادرٌ على عدّهم مجيعًا ‪ .‬رمبا ‪ ،‬كما أشرت من قبل ‪،‬من‬
‫األفضل ببساطة أن نضع املسألة يف صورة مقارنات‪.‬فلنقل‪ :‬إن عدد القراءات‬
‫املتباينة بني خمطوطاتنا يفوق عدد الكلمات املوجودة يف العهد اجلديد‪.‬‬

‫لو كان لدينا مشكلة يف احلديث حول أعداد التغيريات املوجودة حتى اآلن‬
‫‪،‬فماذا ميكننا أن نقول حول أنواع التغيريات املوجودة يف هذه املخطوطات؟‬
‫يفرق العلماء اليوم بشكل عام بني التغيريات اليت يبدو أنها وقعت بشكل غري‬
‫ترو وطول‬
‫ٍّ‬ ‫املقصود عرب أخطاء النساخ وتلك اليت تقع بشكل متعمد ‪ ،‬أي بعد‬
‫نظر ‪ .‬هذه ليست حتديدات قاطعة وعجلى ‪،‬بطبيعة احلال ‪ ،‬لكنها تبدو حتى‬
‫اآلن سليمة‪ :‬فاإلنسان ميكنه مشاهدة كيف أن ناسخًا من النساخ ميكن أن يغفل‬
‫عن طريق السهو كلمة عند كتابته أحد النصوص (تغيري عرضي) ‪،‬لكن من‬

‫‪161‬‬
‫الصعب مشاهدة كيف أمكن لألعداد اإلثنى عشرة األخرية من إجنيل مرقس أن‬
‫تضاف إىل اإلجنيل خبطأٍ يف الكتابة‪.‬‬

‫وهكذا ‪ ،‬رمبا جيدر بنا أن ننهي هذا الفصل بأمثلة قليلة لكل نوع من هذه‬
‫التغيريات‪ .‬سأبدأها باإلشارة إىل بعض أنواع القراءات املتباينة اليت تقع بشكل‬
‫"عرضيّ‪".‬‬

‫أخطاء األقالم العرضية(‪ )16‬كانت بال شك تزداد تفاقمًا ‪،‬كما رأينا ‪ ،‬بسبب‬
‫حقيقة أن املخطوطات اليونانية كانت مجيعها مكتوبة باخلط املتصل‬
‫‪(scriptuo continua) -‬وبدون عالمات ترقيم ‪،‬غالبًا‪ ،‬وبال حتى‬
‫مسافات فاصلة بني الكلمات‪ .‬هذا يعين أن الكلمات اليت بدت متشابهةً كثريًا‬
‫ما كانت تؤدي إلساءة الفهم بني واحدة وأخرى‪ .‬كمثال ‪ ،‬يف ‪ 1‬كور ‪، 8 :5‬‬
‫خيرب بولس قراءه أنهم ينبغي أن يتناولوا املسيح ‪،‬محل الفصح ‪ ،‬وأن ال يأكلوا‬
‫خمِريَةِ الْخُ َْبثِ وَ الشَّرِّ‪ ".‬الكلمة األخرية ‪،‬الشر‪ ،‬تقابلها‬
‫خلمِ َريةٍ ال َعتِي َقةٍ ‪َ ،‬‬
‫"ا َ‬
‫باليونانية بونرياس ‪، PONERAS‬اليت تشبه كثريًا كلمة بورنياس‬
‫‪PORNEIAS‬املقابلة لـمعنى" الفجور اجلنسي"‪ .‬الفرق يف املعنى رمبا ليس‬

‫‪162‬‬
‫كبريًا‪ ،‬لكن من املدهش أنه يف خمطوطتني من املخطوطات املوجودة ‪ ،‬حيذر‬
‫بولس بكل وضوح وصراحة ليس من الشر بشكل عام ‪ ،‬ولكن من الرذيلة‬
‫اجلنسية خصوصًا‪ .‬هذا الشكل من األخطاء اإلمالئية كان حيدث على األرجح‬
‫بسبب حقيقة أن النساخ أحيانًا خيتصرون كلمات معينة اختصارًا للوقت‬
‫واملساحة‪ .‬الكلمة اليونانية املقابلة حلرف العطف "الواو"‪،‬كمثال‪ ،‬هي ‪KAI‬‬
‫‪،‬اليت كان بعض النساخ ببساطة يكتبون بدال منها احلرف األول ‪ ، K‬مع وضع‬
‫عالمة حتتانية يف النهاية لإلشارة إىل أنها اختصار ‪ .‬على حنوٍ مماثلٍ ‪،‬يف ‪ 1‬كور‬
‫‪ ، 13 : 12‬يشري بولس إىل أن كل إنسان يف املسيح قد " مت تعميده إىل جسدٍ‬
‫واحد " وأنهم مجيعًا "سقوا من روحٍ واحدةٍ"‪.‬‬

‫الكلمة "روح )‪" (PNEUMA‬كانت قد متَّ اختصارها يف معظم املخطوطات‬


‫إىل)‪ ، (PMA‬اليت من املتوقع أنها ستفهم خطئًا ‪،‬وقد حدث ذلك بالفعل‬
‫حني فهمها بعض النُسَّاخ باعتبارها املقابل اليوناني للكلمة‬
‫"شراب )‪"(POMA‬؛ وهكذا ففي هذه الشواهد قيل إن بولس يشري إىل أن‬
‫اجلميع "شربوا من شراب واحد‪ ".‬نوع شائع من األخطاء يف املخطوطات‬
‫اليونانية حدث حينما كان سطران من النص املنسوخ ينتهي باحلروف نفسها أو‬
‫بالكلمات نفسها ‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫رمبا كان ناسخ من النساخ يكتب السطر األول من نص ما ‪ ،‬وبعد ذلك عندما‬
‫ترجع عينه إىل الصفحة ‪،‬فلرمبا سيالحظ الكلمات ذاتها موجودةً يف السطر‬
‫التالي ‪،‬بدال من السطر الذي كان للتوّ ينسخه؛ عندها سيواصل النسخ من‬
‫هناك و ‪،‬نتيجة لذلك‪ ،‬سيهمل الكلمات أو السطور الواقعة بينهما أو كليهما ‪.‬‬
‫هذا النوع من األخطاء يطلق عليه ال ) ‪ (periblepsis‬أي (قفزة عني)‬
‫الواقعة نتيجة للـ )‪ (homoeoteleuton‬أي (النهايات املتشابهة‪).‬‬

‫أحد األمور اليت أعلِّمها لطالبي هي أنهم يستطيعون االدعاء حبصوهلم على‬
‫تعليم جامعي مبجرد أن يستطيعوا احلديث بذكاء حول (قفزة العني اليت تتسبب‬
‫فيها النهايات املتشابهة‪).‬‬

‫ميكننا شرح كيفية حدوث ذلك عرب التمثيل بنص إجنيل لوقا ‪9 -8 :12‬‬
‫الذي ُيقْرَأ كالتالي‪:‬‬

‫‪8‬الذي يعرتف بي أمام البشر ‪ ،‬ابن اإلنسان‬

‫سيعرتف به أمام مالئكة اهلل‬

‫‪9‬لكن من ينكرني أمام البشر‬

‫سينكره أمام مالئكة اهلل‬

‫‪164‬‬
‫خمطوطتنا األقدم املصنوعة من الربدي هلذه الفقرة ختلو من العدد ‪ 9‬بالكامل ؛‬
‫وليس من الصعوبة مبكان أن نرى كيف وقع اخلطأ‪ .‬الناسخ قام بنسخ الكلمات‬
‫"أمام مالئكة اهلل" يف العدد ‪ ، 8‬وعندما ارتدت عينه إىل الصفحة ‪،‬الحظت‬
‫عينه الكلمات ذاتها يف العدد ‪ 9‬فافرتض أنها هي ذاتها الكلمات اليت قام للتوّ‬
‫بنسخها ـ وهكذا واصل نسخ العدد ‪ ،11‬تاركًا العدد ‪ 9‬بالكامل‪.‬‬

‫أحيانًا يكون هذا النوع من األخطاء أكثر كارثية بشكل مريع بالنسبة ملعنى‬
‫النص‪ .‬يف إجنيل يوحنا ‪، 15: 17‬على سبيل املثال‪ ،‬يقول يسوع يف صالته إىل‬
‫الرب عن تالمذته‪:‬‬

‫ال أطلب منك أن حتفظهم من العامل ‪ ،‬لكن أن حتفظهم من الشرير‪.‬‬

‫يف واحدة من أفضل خمطوطاتنا (املخطوطة الفاتيكانية من القرن الرابع)‬


‫الكلمات " عامل‪. . .‬من ال" جندها حمذوفة ‪ ،‬لكي يصبح يسوع اآلن يتفوه بهذه‬
‫الصالة املشئومة " ال أطلب منك أن حتفظهم من الشرير !"‬

‫يف بعض األحيان كانت األخطاء العرضية تقع ال ألنَّ الكلمات كانت تبدو‬
‫متشابهة ‪،‬لكن ألن نطقهم يبدو متشابهًا‪.‬‬

‫من املمكن أن حيدث هذا ‪،‬على سبيل املثال ‪ ،‬عندما يقوم أحد النساخ بنسخ‬
‫نص ميلى عليه ‪ -‬عندما يكون أحد النساخ يقرأ من إحدى املخطوطات و‬

‫‪165‬‬
‫ناسخ آخر أو عدد أكرب من النساخ اآلخرين يقومون بنسخ الكلمات إىل‬
‫خمطوطة جديدة‪،‬كما كان حيدث أحيانًأ يف السكريبتوريات بعد القرن الرابع ‪.‬‬
‫فلو حدث أن كلمتني كانتا تنطقان بالطريقة ذاتها‪ ،‬فإن الناسخ الذي يضطلع‬
‫مبهمة النسخ رمبا عن طريق السهو سيستخدم الكلمة اخلاطئة يف نسخته خاصةً‬
‫إذا كان املعنى يبدو جيدًا للغاية (رغم خطئه)‪ .‬يبدو أن هذا هو ما حدث ‪،‬على‬
‫سبيل املثال‪ ،‬يف سفر الرؤيا ‪ ، 5: 1‬حيث يصلي املؤلف إىل "الواحد الذي‬
‫حررنا من خطايانا"‪.‬‬

‫فالكلمة املقابلة ل" حرَّر" هي )‪ (LUSANTI‬يتطابق نطقها متاما مع الكلمة‬


‫طهرَ)‪ ،" (LOUSANTI‬وهكذا فلن نتفاجأ أن يصلِّي املؤلِّف يف‬
‫املقابلة ل" َّ‬
‫عدٍد من خمطوطات اليت ترجع إىل العصور الوسطى إىل الواحد "الذي طهرنا‬
‫من خطايانا"‪.‬‬

‫مثال آخر وقع يف رسالة بولس إىل أهل رومية ‪ ،‬حينما يصرح بولس بأنه" منذ‬
‫أن تربرنا باإلميان ‪ ،‬حصلنا على السالم مع الرب" (روم‪ .)1 :5 .‬أم هل هذا‬
‫هو ما قاله؟ اجلملة اليت تعين " حصلنا على السالم‪ "،‬يف احلقيقة ‪،‬تُنطق متاما‬
‫مثلما تُنطق اجلملة "اجعلنا حنصل على السالم‪ ",‬اليت هي نوع من احلثّ‪.‬‬
‫وهكذا يف عدد كبري من املخطوطات‪ ،‬مبا يف ذلك البعض من أقدم املخطوطات‬
‫املوجودة يف حوذتنا‪،‬مل يكن بولس على يقني من أنه وأتباعه وصلوا إىل‬

‫‪166‬‬
‫السالم مع اهلل ‪،‬فهو حيث نفسه واآلخرين على أن يسعوا إىل السالم‪ .‬هذه فقرة‬
‫من أجلها القى علماء النقد النصيّ مشقة يف تقرير أي القراءات هي الصحيحة‬
‫(‪ .)17‬يف حاالت أخرى يوجد ما هو أقل التباسا ‪ ،‬ألن التغيري احلادث يف‬
‫النص ‪،‬إن كان غري مفهوم ‪،‬ينتج عنه نصٌ غري مفهوم كبديل عن النص‬
‫املفهوم ‪ .‬وهذا حيدث كثريا ‪،‬وكثريا ما كان لألسباب ذاتها اليت كنا نناقشها ‪.‬‬

‫على سبيل املثال ‪،‬يف يوحنا ‪ ، 39: 5‬خيرب يسوع خصومه أن "يفتشوا الكتب ‪.‬‬
‫‪ . .‬ألنها تشهد لي‪ ".‬يف إحدى املخطوطات القدمية ‪،‬الفعل األخري مت تبديله‬
‫بفعل يشبهه من ناحية النطق لكنه ال يعطي معنى مفهومًا يف سياقه‪ .‬يف تلك‬
‫املخطوطة يقول يسوع " فتشوا الكتب ‪ . . .‬ألنها تتجنّى عليّ !"‬

‫مثال آخر يأتي من سفر الرؤيا ‪،‬حيث يرى النيب رؤيا عن عرش اهلل وحوله‬
‫ُردِ" (‪ .)3: 4‬يف بعض خمطوطاتنا األكثر قدمًا هناك‬
‫الزم ُّ‬
‫يوجد" َقَ َْوسُ قُ َزحَ شِ َْبهُ ُّ‬
‫اختالف‪ ،‬شديد الغرابة كما سيبدو ‪ ،‬يقال لنا فيه إنَّ "شيوخًا يشبهون الزمرد "‬
‫حول العرش!‬

‫ولعل أكثر األخطاء غرابة يف خمطوطاتنا من بني كل اآلالف من األخطاء غري‬


‫املقصودة هو ذلك اخلطأ الذي يقع يف واحدة من املخطوطات املينوسكول (ذات‬
‫األحرف الصغرية) لألناجيل األربعة اليت حتمل رقم ‪ 119‬رمسيًا ‪ ،‬واليت‬
‫كتبت يف القرن الرابع(‪ . )18‬خطأها الفريد من نوعه يقع يف لوقا ‪،‬اإلصحاح‬
‫‪167‬‬
‫‪، 3‬يف حساب سلسلة نسب يسوع ‪.‬من الواضح أن النساخ كان ينسخ خمطوطة‬
‫تضع سلسلة النسب يف عمودين‪.‬‬

‫لبعض األسباب ‪،‬مل يقم بنسخ عمود واحدٍ يف املرة الواحدة ‪ ،‬لكنه نسخ عرب‬
‫العمودين‪ .‬كنتيجة لذلك ‪،‬األمساء الواردة يف سلسلة النسب أصبحت غري‬
‫متوافقة ‪ ،‬حيث معظم األبناء دعوا إىل آباء غري آبائهم بطريق اخلطأ‪ .‬ال يزال‬
‫هناك ما هو أسوأ ‪،‬العمود الثاني من النص الذي كان الناسخ يقوم بنسخه ال‬
‫يشتمل على الكثري من سالسل النسب اليت حيتويها األول ‪ ،‬لنصل اآلن ‪ ،‬يف‬
‫النسخة اليت قام بنسخها ‪ ،‬إىل أن أبا اجلنس البشري (أي االسم األخري‬
‫املذكور) ليس هو اهلل وإمنا أحد اإلسرائيليون الذي يدعى فارص‬
‫)‪(Phares‬؛ واهلل ذاته قيل عنه أنه ابن أحد البشر الذي يدعى آرام!‬

‫التغيريات اليت رأيناها يسهل ‪ ،‬من بعض الوجوه ‪ ،‬حتديدها والتخلص منها‬
‫أكثر من غريها عند حماولة إجياد الشكل األقدم من النص‪ .‬التغيريات العمدية‬
‫مييل حتديدها إىل أن يكون أكثر صعوبة بعض الشئ‪.‬وذلك حتديدًا ألنها حدثت‬
‫(بوضوح) مع سبق اإلصرار والرتصد‪ ،‬كما أن هذه التغيريات متيل إىل أن‬

‫‪168‬‬
‫تعطي معنى مفيدًا‪ .‬وحيث إنها تعطي معنى مفيدًا ‪ ،‬فسيكون هناك دائما نقّادٌ‬
‫جيادلون حول أن هذه التغيريات تعطي املعنى األفضل‪ -‬ما يعين أنها هي‬
‫القراءة األصلية‪ .‬هذا ليس نزاعًا بني العلماء الذين يعتقدون أن النص قد‬
‫تعرض للتحريف وبني هؤالء الذين يعتقدون غري ذلك‪ .‬اجلميع يعلمون أن‬
‫النص قد مت التالعب به ‪ ،‬وإمنا القضية هنا هي‪ :‬أي قراءة متثل التحريف وأيها‬
‫متثل أقدم شكل ميكننا احلصول عليه من النص‪ .‬ويف هذا يتنازع العلماء أحيانا ‪.‬‬

‫يف عدد كبري من احلاالت – أغلبها يف احلقيقة ‪ -‬يتفق العلماء ‪ .‬رمبا من املفيد‬
‫لنا يف هذه اللحظة أن نتناول بالبحث جمموعة كبرية من أنواع التغيريات العمدية‬
‫اليت جندها بني خمطوطاتنا ‪،‬وذلك باعتبارها تلك التغيريات اليت سرتينا‬
‫األسباب اليت دفعت النسّاخ إىل اقرتاف التحريف‪.‬‬

‫يف بعض األحيان قام النساخ بتغيري النصوص املوجودة بني أيديهم ألنهم كانوا‬
‫يظنون أن النص حيتوي على خطأ يتعلق بإحدى احلقائق‪ .‬يبدو األمر على هذا‬
‫النحو عند بداية إجنيل مرقس حيث يقدم املؤلف إلجنيله بقوله " كما هو‬
‫مكتوب يف إشعياء النيب ‪ ،‬ها أنا ارسل أمام وجهك مالكي ‪ . . .‬اصنعوا سبله‬
‫مستقيمة‪ ".‬املشكلة هي أن بداية االقتباس ليست من إشعياء على اإلطالق بل‬
‫ميثل توليفة من فقرة مأخوذة من سفر اخلروج ‪ 21 : 23‬و آخر مأخوذ من‬
‫مالخي ‪ . 1 : 3‬عرف النسّاخ أن هذا ميثل إشكالية ولذلك قاموا بتغيري النص‬

‫‪169‬‬
‫حيث جعلوه يقول " كما هو مكتوب يف األنبياء‪ "...‬اآلن ليس هناك مشكلة عزو‬
‫اقتباس إىل غري موضعه ‪ .‬رغم ذلك من املمكن ‪،‬يف احلقيقة‪ ،‬أن يكون هناك‬
‫القليل من الشكوك حول ما كتبه مرقس‪ :‬فنسبة االقتباس إىل إشعياء ثابتٌ يف‬
‫أقدم وأفضل املخطوطات املوجودة لدينا‪.‬‬

‫يف بعض األحيان يكون "اخلطأ " الذي حياول أحد النسّاخ تصحيحه ليس متعلقًا‬
‫حبقائق ‪،‬وإمنا تفسرييًّا‪ .‬هناك مثال شهري مأخوذ من إجنيل متى ‪ ، 36: 24‬وفيه‬
‫يتنبأ يسوع بنهاية الزمان و يقول " وَأَمَّا ذَلِكَ الْيَ َْومُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ َفالَ يَ َْع َلمُ ِب ِهمَا‬
‫ح َدهُ" ‪.‬‬
‫السمَاوَاتِ وال حتى االبن إِالَّ اآلب َو َْ‬
‫حدٌ َوالَ َمالَِئكَةُ َّ‬
‫َأ َ‬

‫وجد النسّاخ معضلة يف هذه الفقرة‪ :‬ابن اهلل ‪ ،‬يسوع ذاته ‪ ،‬ال يعلم متى‬
‫ستأتي النهاية ؟ كيف ذلك ؟ أليس هو ك ِّليّ املعرفة ؟ حلل هذه املشكلة قام‬
‫بعض النساخ بكل بساطة بتعديل النص عرب حذف الكلمات " وال حتَّى االبن‪".‬‬
‫واآلن رمبا جتهل املالئكة هذا األمر ‪،‬أما ابن اهلل فكال (‪).19‬‬

‫يف بعض احلاالت األخرى غيَّر النسّاخ نصًا ال بسبب أنهم ظنوا أنه حيوي خطئًا‬
‫وإمنا ألنهم أرادوا أن يتحاشوا أن يُ ْفهَمَ النصُّ على حنوٍ خاطئ ‪ .‬متى ‪: 17‬‬
‫‪ 13 – 12‬هو املثال الذي يصرح فيه يسوع بأن يوحنا املعمدان هو ذاته إيليّا ‪،‬‬
‫النيب املزمع أن يأتي قبل نهاية األيام‪:‬‬

‫‪170‬‬
‫"أقول لكم إن إيليا قد جاء ‪ ،‬ومل يتعرفوا عليه ‪،‬بل فعلوا ضده أكثر ما كانوا‬
‫يتمنون ‪ .‬هكذا أيضًا ابن اإلنسان سوف يتأمل منهم‪ .‬حينئذ أدرك تالمذته أنه‬
‫كان يتحدث إليهم عن يوحنا املعمدان"‪.‬‬

‫املشكلة الكامنة هي أن النصَّ ‪ :‬وفقًا ملنطوقه ‪ ،‬ميكن تفسريه لكي يصبح معناه‬
‫ال أنَّ يوحنا املعمدان كان هو إيليّا ‪ ،‬بل على أنه هو ابن اإلنسان ‪ .‬يعلم النسّاخ‬
‫متام املعرفة أن هذا ليس هو املعنى الصحيح ‪ ،‬ولذلك قام البعض منهم بتحوير‬
‫النص " حينئذ أدرك تالمذته أنه كان يتحدث إليهم عن يوحنا املعمدان"‬
‫جاعلينه يقع قبل الكالم عن ابن اإلنسان‪§.‬‬

‫يف بعض األحيان قام النسّاخ بتغيري النص املوجود بني أيديهم ألسباب الهوتية‬
‫خ َدمَ من قِبَل "املهرطقني"‪ ،‬أو‬
‫واضحة وذلك حتَّى يتأكدوا من أن النص لن ُيسَْتَ َْ‬
‫لكي يتأكدوا من أنها تقول ما يفرتِضُ (النسَّاخ )أنها تعنيه بالفعل ‪.‬‬

‫هناك العديد من احلاالت توضح هذا النوع من التحريف ‪ ،‬سنبحثها بشكل‬


‫أكثر تفصيال يف فصل من الفصول القادمة‪ .‬أما اآلن فسأشري فقط إىل مثالني‬
‫اثنني من األمثلة املختصرة ‪.‬‬

‫يف القرن الثاني كان هناك مسيحيون يؤمنون بشدة بأنَّ اخلالص الذي أتى به‬
‫املسيح كان شيئًا جديدًا متامًا ‪،‬و أرفع شأنًا من أي شئ شهده العامل على‬

‫‪171‬‬
‫اإلطالق بل وحتى أرفع شأنا بالطبع من الديانة اليهودية اليت كانت املسيحية‬
‫قد انبثقت منها ‪ .‬بعض املسيحيني ذهبوا أبعد من ذلك إىل اإلصرار على أن‬
‫اليهودية ‪،‬ديانة اليهود القدمية ‪ ،‬قد ُأبَْ ِطلَتَْ متامًا بظهور املسيح‪.‬‬

‫بالنسبة لبعض النسَّاخ الذين كانوا يعتنقون هذه العقيدة ‪،‬بدى املثل الذي حكاه‬
‫املسيح عن اخلمر اجلديدة والزقاق العتيقة رمبا أنه ينطوي على مشكالت ‪.‬‬

‫جمِيعاً ‪.‬‬
‫جدِيدَةٍ فَُتحَْفَظُ َ‬
‫جدِيدَةً فِي ِزقَاقٍ َ‬
‫خمَْراً َ‬
‫ل َيجَْ َعلُونَ َ‬
‫َب َْ‬

‫جدِيدَ ألََّنهُ يَقُولُ‪ :‬ا ْلعَتِيقُ َأطَْيبُ ‪».‬‬


‫حدٌ إِذَا َش ِربَ الْ َعتِيقَ يُرِيدُ ِللْوَقْتِ الْ َ‬
‫وََليَْسَ أَ َ‬

‫(لوقا ‪)39 -38 : 5‬‬

‫كيف ميكن ليسوع أن يشري إىل أن العتيقة أفضل من اجلديدة ؟ أليس اخلالص‬
‫الذي أتى به أمسى قدرًا من أي شئ قدمته اليهودية ( أو أي ديانة أخرى )؟‬
‫النسّاخ الذين وجدوا يف هذه املقولة أمرًا مرِبكًا ختلصوا من اجلملة األخرية بكل‬
‫بساطة ‪ ،‬لكي ال يقول يسوع اآلن أي شئ خبصوص تلك العتيقة اليت هي‬
‫أفضل من اجلديدة‪.‬‬

‫يف بعض األحيان قام النسّاخ بتحريف النصوص اليت بني أيديهم لكي يطمئنوا‬
‫على أن إحدى العقائد املفضلة لديهم قد متَّ تعزيزُها على حنوٍ واف‪.‬‬

‫‪172‬‬
‫على سبيل املثال ‪ ،‬جند هذا يف فقرة اخلاصة بسلسلة نسب يسوع يف إجنيل متى‬
‫‪ ،‬اليت تبدأ بأب اليهود ‪،‬إبراهيم ‪ ،‬وتتعقب سلسلة نسب يسوع من األب إىل‬
‫االبن عرب السلسلة وصوال إىل "يعقوب‪ ،‬الذي كان أبًا ليوسف ‪،‬رجل مريم ‪،‬‬
‫اليت ولد منها يسوع ‪ ،‬املدعو مسيحًا" (متى ‪ .) 16 : 1‬كما هو واضح ‪،‬‬
‫سلسلة النسب تتعامل بالفعل مع املسيح كحالة استثنائية حيث مل تدعُه "ابنا"‬
‫ليوسف ‪ .‬إال أنَّ هذا مل يكن كافيًا ‪،‬مع ذلك ‪ ،‬من وجهة نظر بعض النُّسَّاخ‬
‫الذين غريوا النص لكي يُقرأ كالتالي‪ " :‬يعقوب ‪ ،‬الذي كان أبًا ليوسف ‪،‬‬
‫الذي كانت العذراء مريم خمطوبة له ‪،‬أجنبت يسوع ‪،‬املسمى املسيح ‪ ".‬اآلن‬
‫يوسف ال يدعى حتى زوجًا ملريم ‪ ،‬بل خطيبها فحسب ومتَّ بوضوح التصريح‬
‫بكونها عذراء ‪ -‬األمر الذي ميثل مسألة ذات أهمية بالنسبة للكثريين من‬
‫النسّاخ األوائل!‬

‫يف بعض األحيان كان النسَّاخ يقومون بتعديل نصوصهم ‪،‬ال ألسباب‬
‫الهوتية‪ ،‬وإمنا ألسباب طقسية ‪ (liturgical) .‬فبما أن التقاليد الزهدية يف‬
‫املسيحية األوىل كانت تنمو يف يف املراحل املبكرة من املسيحية ‪ ،‬فاكتشاف‬
‫التأثري الكبري هلذا األمر على التغيريات اليت أحدثها النسّاخ داخل النصوص‬
‫ليس أمرًا مفاجئًا ‪ .‬على سبيل املثال‪ ،‬يف مرقس ‪ ، 9‬حينما يقوم يسوع بطرد‬
‫الروح الشريرة اليت عجز تالمذته على طردها ‪،‬جنده خيربهم « َهذَا الْجِ َْنسُ الَ‬

‫‪173‬‬
‫الةِ " (مرقس ‪ .) 29 : 9‬فيما بعد أدخل‬
‫ِالص َ‬
‫ُي َْم ِكنُ أَنَْ َيخَْ ُرجَ بِ َشيَْءٍ إالَّ ب َّ‬
‫النسّاخ اإلضافة املناسبة بسبب طريقتهم اخلاصة يف العبادة ‪ ،‬لكي يصري يسوع‬
‫يشري اآلن إىل أن " َهذَا الْجِنَْسُ الَ ُي َْم ِكنُ َأنَْ يَخَْرُجَ بِ َشيَْءٍ إالَّ بِالصَّالَةِ‬
‫والصوم"‪.‬‬

‫أحد أفضل التغيريات اليت حدثت للنص ألسباب طقوسيّة جنده يف رواية لوقا‬
‫اخلاصة لصالة الرب ‪ .‬فالصالة موجودة أيضًا يف إجنيل متّى ‪،‬بطبيعة احلال‪.‬‬
‫وشكل الصالة املتَّوي األكثر طوال كان وال يزال األكثر شهرة عند‬
‫املسيحيني(‪. )21‬عند املقارنة ‪ ،‬تبدو الرواية اخلاصة بلوقا مبتورة بشكل غري‬
‫مرغوب به‪.‬‬

‫"أيها اآلب ‪ ،‬ليتقدس امسك ‪ .‬ليأت ملكوتك‪ .‬إعطنا خبزنا اليومي كل يوم ‪.‬‬
‫واغفر لنا خطايانا ‪ ،‬ألننا نغفر لكل من يذنب إلينا ‪ .‬وال تدخلنا يف جتربة ‪( .‬لوقا‬
‫‪)4 -2 : 11‬‬

‫قام النسّاخ حبل املشكلة اخلاصة برواية لوقا املختصرة من خالل إضافة‬
‫االسرتحامات املعروفة من الفقرة املوازية يف متى ‪ ، 13 -9 : 6‬لكي تصري‬
‫قراءتها اآلن كما يف متى كالتالي‪:‬‬

‫‪174‬‬
‫َدسِ ا َْس ُمكَ لَِي ْأتِ َم َلكُوتُكَ لِتَ ُكنَْ مَشِيَئتُكَ َكمَا فِي‬
‫السمَاوَاتِ لِيَتَق َّ‬
‫أَبَانَا َّالذِي فِي َّ‬
‫ألرَْضِ‪ .‬خُبَْزَنَا كَفَافَنَا َأعَْطِنَا كُلَّ يَ َْومٍ ‪ .‬وَاغْفِرَْ لَنَا خَطَايَانَا‬
‫السمَاءِ َكذَلِكَ َعلَى ا َ‬
‫َّ‬
‫خلْنَا فِي َتجَْرَِبةٍ َلكِنَْ نَجِّنَا مِنَ‬
‫ألَنَّنَا نَحَْنُ َأيَْضاً َن َْغفِرُ ِلكُلِّ َمنَْ ُي َْذِنبُ ِإلَ َْينَا َوالَ ُتدَْ ِ‬
‫الشِّرِّيرِ‪».‬‬

‫هذا امليل لدى النسّاخ إىل "التوفيق" بني الفقرات يف األناجيل موجود يف كل‬
‫مكان يف اإلجنيل‪ .‬فمتى حكيت القصة ذاتها يف األناجيل املختلفة ‪ ،‬فعلى‬
‫األرجح قام هذا الناسخ أو ذاك بالتأكد من أن القصص متوافقة بشكل تام‬
‫وذلك عرب حذف الفروقات جبرة قلم‪.‬‬

‫يف بعض األحيان مل يقع النُّسّاخ حتت تأثري الفقرات املتوازية داخل الكتاب‬
‫املقدس‪ ،‬بل حتت تأثري التقاليد الشفوية املتداولة حينذاك حول يسوع والقصص‬
‫املروية عنه ‪ .‬رأينا بالفعل مثل هذا بصورة مكربة يف قضية املرأة الزانية واالثنا‬
‫عشر عددًا األخرية يف إجنيل مرقس‪ .‬يف حاالت أقل ميكننا أن نرى كيف ألقت‬
‫التقاليد الشفوية بظالهلا على نصوص األناجيل املكتوبة ‪ .‬أحد األمثلة‬
‫الواضحة هي القصة املشهورة يف يوحنا ‪ 5‬عن شفاء يسوع ألحد املرضى يف‬
‫بركة بيت حسدا‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫قيل لنا يف أول القصة إن عددًا من األشخاص ــ املرضى ‪،‬العمي ‪،‬العرج‬
‫‪،‬املشلولني ــ كانوا مضجعني جبانب هذه الربكة ‪ ،‬وإن يسوع اختار أحدهم و‬
‫كان يأتي إىل هذا املكان طلبًا للشفاء طوال مثانية وثالثني عامًا‪.‬‬

‫عندما سأل يسوعُ الرجلَ ما إذا كان يرغب يف أن يشفى ‪ ،‬أجاب الرجل بأنه‬
‫ليس هناك من يستطيع أن يضعه يف الربكة ‪،‬فعندما "يتحرك املاء" دائما ما يسبقه‬
‫أحدهم إليها‪.‬‬

‫يف أقدم وأفضل خمطوطاتنا ليس هناك تفسري يوضح السبب الذي من أجله يريد‬
‫الرجل أن يدخل إىل املاء مبجرد اضطراب املاء‪ ،‬لكن التقليد الشفوي يسد‬
‫النقص بإضافته للعددين ‪ 4 -3‬املوجودة يف كثري من خمطوطاتنا األحدث‬
‫عمرًا‪.‬‬

‫ففي هذه املخطوطات يقال لنا إن " مالكا كان ينزل أحيانًا إىل الربكة و حيرك‬
‫املاء ؛ وأول من ينزل بعد حركة املياه يشفى ‪ )21( ".‬وهي ملسة رائعة لقصة‬
‫مسليّة بالفعل‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫ميكننا أن نواصل احلديث إىل األبد تقريبًا حول مواضع معينة مت تغيري نصوص‬
‫العهد اجلديد فيها سواء أحدث ذلك بشكل عفويّ أو بصورة متعمدة ‪.‬وكما‬
‫أشرت من قبل ‪ ،‬األمثلة ليست فقط باملئات ولكن باآلالف ‪ .‬واألمثلة اليت‬
‫قدمتها كافية لنقل الفكرة العامة اليت مفادها‪ :‬هناك الكثري من االختالفات بني‬
‫خمطوطاتنا ‪،‬وهذه االختالفات اختلقها النسّاخ الذين أعادوا إنتاج نصوصهم‬
‫املقدسة ‪ .‬يف القرون األوىل للمسيحية ‪ ،‬كان النسّاخ من اهلواة ومن كان على‬
‫هذه الشاكلة فميله إىل حتريف النصوص اليت ينسخها ـ أو لتحريفها عن طريق‬
‫اخلطأ –هو أكثر من ميل هؤالء الذين صاروا هم النسّاخ يف الفرتات الزمنية‬
‫األحدث الذين أصبحوا من احملرتفني بدءًا بداية من القرن الرابع ‪.‬‬

‫من املهم أن نرى أنواع التغيريات ‪ ،‬سواء العرضية أو العمدية ‪،‬اليت كانت‬
‫قابلة للحدوث عرب النسّاخ ألنه حينذاك سيكون من السهل أن حندِّدَ هذه‬
‫التغيريات ‪،‬ومن ثمَّ ميكننا أن نتخلص من بعض األعمال القائمة على التخمني‬
‫املستخدمة يف حتديد الشكل الذي يعترب حتريفًا للنص واآلخر الذي يعترب الشكل‬

‫‪177‬‬
‫األقدم منه‪ .‬من املهم أيضًا أن نرى كيف ابتكر العلماء املعاصرون املناهج‬
‫الالزمة للقيام بهذا النوع من التحديد‪ .‬يف الفصل التالي سنتتبع بعضًا من خيوط‬
‫هذه القصة اليت تبدأ من عصر "جون ِملّ" وصوال إىل الوقت احلاضر ‪ ،‬لنرى‬
‫املناهج اليت تطورت بغية إعادة بناء نص العهد اجلديد وللتعرف على الطرق‬
‫اليت استخدمت لتغيريه خالل عملية النقل‪.‬‬

‫‪178‬‬
‫]‪[1‬لالطالع على تعريفي للناسخ احملرتف انظر اهلامش رقم يف الفصل ‪.2‬‬

‫]‪[2‬لالطالع على وجهة النظر اليت تقول بعدم وجود دليل على وجود اإلسكريبتوريات يف القرون املبكرة ‪ ،‬انظر كتاب‬
‫"حراس احلروف" هلاينز أيتسن ‪.91 - 83،‬‬

‫]‪[3‬يعرف يوسابيوس على نطاق واسع اليوم بأنه أبو التأريخ الكنسي ‪،‬بناءا على روايته للثالمثائة عامًا األوىل من تاريخ‬
‫الكنيسة‪.‬‬

‫]‪[4‬لالطالع على املزيد عن هذه " النسخ " (أي الرتمجات) املبكرة للعهد اجلديد ‪ ،‬انظر "نص العهد اجلديد" لكل من‬
‫ميتزجر و إرمان ‪،‬الفصل الثاني ‪ ،‬القسم ‪.2‬‬

‫]‪[5‬حول النسخ الالتينية من العهد اجلديد ‪ ،‬مبا يف ذلك مؤلف جريوم ‪ ،‬انظر "نص العهد اجلديد" مليتزجر وإرمان‪،‬الفصل‬
‫ال‪، 2‬القسم ‪، 2‬رقم ‪2‬‬

‫]‪[6‬لالطالع على املعلومات حول ذلك بشكل أكثر تفصيال ‪ ،‬وحول الطبعات اليت نوقشت يف الصفحات التالية ‪ ،‬انظر‬
‫ميتزجر و إرمان "نص العهد اجلديد" ‪ ،‬الفصل ‪.3‬‬

‫]‪[7‬انظر‪،‬بشكل خاص ‪ ،‬الوصف املعريف يف كتاب " قصة النص املطبوع للعهد اجلديد اليوناني " لصمويل ب‪.‬‬
‫ترجييلز)‪3- 11. ،(London: Samuel Bagster & Sons, 1854‬‬

‫)‪(8‬النص الالتيين يُقرأ كالتالي‪:‬‬

‫‪"textum ergo habes, nunc ab omnibus receptum: in quo nihil immutatum aut‬‬
‫"‪corruptum damus.‬‬

‫)‪(9‬انظر كتاب ميتزجر و إرمان ‪ ،‬نص العهد اجلديد‪ ،‬الفصل ‪ ، 3‬القسم ‪.2‬‬

‫)‪(10‬تأكيد ويتيب‪ .‬اقتبس يف كتاب آدم فوكس ‪ ،‬جون مل وآدم بنتلي ‪:‬دراسة النقد النصي للعهد اجلديد‪– 1675 ،‬‬
‫‪( 1729‬أكسفورد ‪:‬بالكويل‪.116 ، )1954،‬‬

‫)‪(11‬فوكس ‪ ،‬مل وبنتلي ‪116 ،‬‬

‫‪179‬‬
‫*****يؤمن بوجود إله ال يتدخل يف تسري الكون كما ال يؤمن بوجود ظاهرة الوحي ‪(.‬املرتجم)‬

‫)‪(12‬كتاب "مالحظات حول حوار التفكري احلر األخري‪ ،‬الطبعة ال‪( 7‬لندن ‪:‬و‪.‬ثوربورن ‪.94 – 93 ،)1737 ،‬‬

‫)‪(13‬صديقي مايكل هوملز أشار على بأنه من بني اآلالف السبع من نسخ الكتاب املقدس اليوناني (العهد اجلديد اليوناني‬
‫والعهد القديم اليوناني)‪ ،‬أقل من عشر ‪ ،‬حسب معرفتنا ‪،‬كانت حتوي الكتاب املقدس بالكامل ‪ ،‬العهدين اجلديد والقديم‬
‫كليهما ‪ .‬هذه العشر هي اآلن نافصة (فاقدة صفحات هناك أو هناك )؛ وأربع منهم فقط يرجع تارخيه إىل القرن العاشر‪.‬‬

‫)‪(14‬املخطوطات – اليت هي نسخ مكتوبة خبط اليد – استمرت كتابتها بعد اخرتاع الطباعة ‪ ،‬متاما مثلما يواصل بعض‬
‫الناس إىل اآلن استخدام اآللة الكاتبة ‪ ،‬على الرغم من وجود معاجلات الكلمات‪.‬‬

‫)‪(15‬سوف نرى أن األنواع األربعة للمخطوطات الم يتم تقسيمهم يف جمموعات وفقًا للمبادئ ذاتها ‪ .‬فأوراق الربدي‬
‫مكتوبة باألحرف الكبرية ‪ ،‬متاما مثلما هو احلال مع املخطوطات املوجيسكول ‪ ،‬ولكن على سطح صاحل للكتابة خمتلف ؛‬
‫فاملينوسكول يكتب على النوع ذاته من السطح الصاحل للكتابة الذي يكتب عليه املاجوسكول (الربمشان) ولكن بنوع خمتلف‬
‫من اخلطوط‪.‬‬

‫)‪(16‬لالطالع على أمثلة إضافية للتغيريات العرضية غري املقصودة ‪،‬انظر كتاب ميتزجر وإرمان ‪،‬نص العهد اجلديد‪،‬‬
‫الفصل ‪، 7‬القسم ‪.1‬‬

‫)‪(17‬هؤالء الذين لديهم االهتمام مبشاهدة كيف يتناقش العلماء جيئة وذهابا خبصوص أفضلية إحدى القراءات عن‬
‫األخرى ينبغي عليهم الرجوع إىل ميتزجر وكتابه ‪ ،‬التفسري النصي‪.‬‬

‫)‪(18‬استعرت هذا املثال ‪ ،‬مع العديد من األمثلة السابقة ‪ ،‬من بروس م‪ .‬ميتزجر ‪ .‬انظر كتاب "نص العهد اجلديد" مليتزجر‬
‫و إرمان ‪ ،‬ص ‪.259‬‬

‫)‪(19‬لالطالع على املزيد من النقاش حول هذه القراءة املتباينة ‪ ،‬انظر الصفحتني ‪.214 ، 213‬‬

‫§أي أصبح الكالم يف النص كالتالي "أقول لكم إن إيليا قد جاء ‪ ،‬ومل يتعرفوا عليه ‪،‬بل فعلوا ضده أكثر ما كانوا يتمنون‬
‫‪ ". .‬حينئذ أدرك تالمذته أنه كان يتحدث إليهم عن يوحنا املعمدان‪ .‬هكذا أيضًا ابن اإلنسان سوف يتأمل منهم"‬

‫)‪(20‬لالطالع على تفاصيل أكرب حول القراءات املتباينة لصالة السيد ‪ ،‬انظر باركر ‪ ،‬النص احلي للكتابات املقدسة‬
‫)‪49 – 74 . ،(Living Text of the Gospels‬‬

‫)‪(21‬هناك عدد من القراءات النصية املتباينة بني الشواهد اليت تؤكد هذا الشكل املطول من الفقرة‬

‫‪180‬‬
‫كما رأينا ‪ ،‬بعض العلماء (عددهم قليل)‪ ،‬قبل قيام "مِل" بنشر نسخته من‬
‫العهد اجلديد باليونانية بفرتة طويلة مصحوبة بإشاراته إىل الثالثني ألف موضع‬
‫من القراءات املتباينة يف شواهدنا الناجية من الضياع ‪ ،‬كانوا قد اعرتفوا بوجود‬
‫مشكلة يف نص العهد اجلديد ‪ .‬وقبل ذلك خالل القرن الثاني ‪ ،‬كان الناقد‬
‫الوثين سيلزس يزعم أن املسيحيني غيَّروا النص على هواهم ‪،‬كما لو كانوا‬
‫خممورين يف جلسة شراب ؛ أما خَصَْمُه أورجيانوس فيتحدث عن عددٍ "كبريٍ"‬
‫من االختالفات بني خمطوطات الكتاب املقدس ؛ بعد ذلك مبا يزيد عن قرن‬
‫كان البابا داماسوس يساوره قلق شديد جرَّاء االختالفات املوجودة بني‬
‫املخطوطات الالتينية إىل درجة أنه كلَّف القديس جريوم بإنتاج ترمجة معيارية‬
‫؛ بل وحتى جريوم نفسه كان قد قارن العديد من نسخ النص ‪ ،‬سواء الالتينية‬
‫أو اليونانية ‪ ،‬لكي خيتار النص الذي كان يعتقد أنه النص األصلي الذي خطته‬
‫أيدي مؤلفيه ‪.‬ثم مخدت املشكلة طوال القرون الوسطى وصوال إىل القرن‬
‫السابع عشر ‪ ،‬عندما بدأ "مِلّ" وآخرون يف معاجلتها بصورة جديَّة (‪ . )1‬وبينما‬
‫كان " ِملّ" يف غمرة عملية جتميع البيانات الالزمة لنسخته اليت صدرت ‪1717‬‬

‫‪181‬‬
‫و اليت متثل عالمة فارقة ‪ ،‬كان هناك عامل آخر يعمل جبد أيضًا على قضية نص‬
‫العهد اجلديد؛ هذا العامل مل يكن من أصل إجنليزيّ بل كان فرنسيّا ‪ ،‬و مل‬
‫يكن بروتستانتيا بل كاثوليكيا‪ .‬فوق ذلك ‪ ،‬كانت وجهة نظره هي على وجه‬
‫الدقة هي ما كان كثري من الربوتستانت اإلجنليز خيشون أن يكون حمصلة‬
‫التحليل الدقيق لنص العهد اجلديد ‪،‬وجهة النظر هذه تتلخص حتديدا يف أن‬
‫االختالفات واسعة النطاق يف املخطوطات أوضحت أن اإلميان املسيحي ال‬
‫ميكن أن يبنى فحسب على الكتاب املقدس ( أو ما يعرف مببدأ "الكتاب املقدس‬
‫فحسب " أو الـ )‪(sola scriptura‬عند الربوتستانت اإلصالحيني)‪ ،‬حيث‬
‫إن النص كان متغريا و ال يعول عليه ‪(unstable and unreliable) .‬‬
‫بدال من ذلك ‪ ،‬ووفقا هلذه الرؤية ‪ ،‬البد أن الكاثوليك على حق يف قوهلم إن‬
‫اإلميان يف حاجة إىل التقليد اآلبائي احملفوظ يف الكنيسة (الكاثوليكية)‪ .‬املؤلف‬
‫الفرنسي الذي واصل نشر هذه األفكار يف سلسلة من اإلصدارات اهلامة كان‬
‫هو "ريتشارد سيمون" (‪).1712 -1638‬‬

‫على الرغم من أن "سيمون" كان يف األصل عاملًا يف اللغة العربية ‪ ،‬إال أنه كان‬
‫مهتمًّا بالتقليد النصي للعهدين القديم واحلديث كليهما‪ .‬دراسته اليت نال عنها‬
‫درجة املاجيستري ‪"،‬تاريخ نقدي لنص العهد اجلديد" ‪،‬ظهرت يف ‪ 1689‬بينما‬

‫‪182‬‬
‫كان "ملّ" ما يزال يعمل على كشف النقاب عن القراءات املتباينة يف التقليد‬
‫النصي ؛ وقد كان لدى"ملّ" إمكانية االطالع على هذا العمل و هو يعرتف‪،‬‬
‫خالل النقاش املفتوح لنسخته اليت صدرت ‪ ، 1717‬بسعة العلم املوجود‬
‫املتوفرة يف هذا العمل وبأهميته ألحباثه الشخصية رغم اختالفه مع‬
‫االستنتاجات الالهوتية املوجودة فيه ‪ .‬مل يكن كتاب "سيمون" خمصَّصا لكشف‬
‫كل قراءة متباينة موجودة وإمنا ملناقشة االختالفات النصية يف التقليد ‪،‬وذلك‬
‫بهدف إظهار عدم موثوقية النص يف هذه املواضع ولكي يدافع أحيانًا عن‬
‫أفضلية الكتاب املقدس الالتيين الذي ما يزال الالهوتيون الكاثوليك يعتقدون‬
‫يف كونه النص املعتمد‪ .‬و"سيمون" أيضا على معرفة تامة باملشكالت النصيِّة‬
‫شديدة األهمية ‪ .‬فعلى سبيل املثال ‪،‬يعقد مناقشة مطولة لعدد من القضايا اليت‬
‫قمنا حنن أنفسنا ببحثها يف هذا الكتاب ‪ :‬مثل املرأة الزانية ‪ ،‬األعداد االثين‬
‫عشر األخرية يف مرقس ‪ ،‬والفاصلة اليوحناوية (اليت تؤكد مبدأ التثليث على‬
‫حنوٍ ال لبس فيه)‪ .‬طوال نقاشه كان"سيمون"جيتهد يف إظهار أن جريوم هو من‬
‫أمدّ الكنيسة بالنص الذي ميكنها أن تستخدمه كأساس للفكر الالهوتي ‪ .‬أو كما‬
‫يقول هو يف مقدمة اجلزء ‪ 1‬من كتابه‪:‬‬

‫مل يكن ما أسداه القديس جريوم للكنيسة من خدمات بالشئ القليل سواء يف‬
‫تصحيح أو يف تنقيح النسخ الالتينية القدمية وفقا للقواعد النقدية الصارمة ‪ .‬هذا‬

‫‪183‬‬
‫ما نسعى إىل إظهاره يف هذا العمل ‪ ،‬إىل جانب إظهار أن غالبية النسخ اليونانية‬
‫القدمية من العهد اجلديد ليست هي األعلى قيمة ‪،‬حيث إنها متوافقة مع تلك‬
‫النسخ الالتينية اليت وجد القديس جريوم أنها شديدة الفساد وأنها حباجة إىل‬
‫التعديل) (‪).2‬‬

‫هذا يف جوهره دفاع بارع وسوف نصطدم به مرة أخرى‪ :‬ويتلخص يف أن‬
‫املخطوطات اليونانية غري جديرة باالعتماد عليها ألنها هي حتديدا تلك النسخ‬
‫الفاسدة اليت كان على القديس جريوم أن ينقحها لكي يبين النص األفضل ؛‬
‫أو بطريقة أخرى هذه النسخ اليونانية احملفوظة أنتجت قبل عصر جريوم ‪ ،‬ومع‬
‫أنها رمبا تكون أقدم ما لدينا من نسخ ‪،‬إال أنها ال ميكن الوثوق بها‪.‬‬

‫بقدر ما هو بارع هذا الدفاع إال أنه مل ينل على اإلطالق دعمًا واسع النطاق‬
‫بني نقاد النصوص ‪ .‬يف حقيقة األمر ‪ ،‬هي جمرد إعالن عن أن خمطوطاتنا احلية‬
‫األقدم عمرا ال ميكن الوثوق بها ‪ ،‬لكنَّ املمكن الوحيد أمامنا هو تنقيحها ‪.‬‬
‫على أي أساس ‪ ،‬مع ذلك ‪ ،‬قام جريوم بتنقيح ما لديه من نص ؟ بالطبع على‬
‫أساس املخطوطات األقدم ‪ .‬إذن فحتى جريوم نفسه قد وضع ثقته يف أقدم‬
‫تسجيل للنص ‪ .‬وإذا مل نفعل الشئ نفسه فهذه ستكون ردة إىل الوراء ‪-‬‬
‫حتى مع التسليم بتنوع التقليد النصي يف القرون األوىل ‪ .‬على أية حال ‪ ،‬جيادل‬
‫"سيمون" أثناء مواصلته ملهمته يف أن كل املخطوطات جتسد التحريفات اليت‬

‫‪184‬‬
‫تعرضت هلا النصوص و النصوص اليونانية منها على وجه اخلصوص ( ها هنا‬
‫رمبا يكون لدينا هجوم أكرب على "املنشقني اليونانيني " عن الكنيسة "اجلامعة‪").‬‬

‫لن يكون مثة يف هذا اليوم أي نسخة من العهد اجلديد ‪ ،‬سواء أكانت باليونانية‬
‫أو بالالتينية أو السوريانية أو العربية ‪ ،‬ميكننا أن نطلق عليها باحلق لقب "نسخة‬
‫أصلية" ‪،‬ألنه ليس هناك واحدة على اإلطالق ‪ ،‬أيّا كانت اللغة اليت كتبت بها‬
‫‪ ،‬قد جنت من اإلضافات ‪ .‬رمبا أؤكد أيضا أن الناسخني اليونانيني كانوا‬
‫يتمتعون حبرية واسعة يف كتابة نسخهم ‪ ،‬كما سنثبته يف موضع آخر (‪) .3‬‬

‫أجندة "سيمون" ملثل هذه املالحظات تتسم بالوضوح طوال مقاله املطول ‪ .‬يف‬
‫إحدى النقاط يتسائل بطريقة بليغة‪:‬‬

‫أتراه ممكنا‪..‬أن يكون اهلل قد أعطى كتبا لكنيسته خيدمها كدستور ‪ ،‬وأن يسمح‬
‫يف الوقت ذاته أن تضيع األصول األوىل هلذه الكتب إىل األبد منذ بداية الدين‬
‫املسيحي ؟ (‪)4‬‬

‫وإجابته ‪،‬بطبيعة احلال ‪ ،‬هي النفي ‪ .‬لقد قدمت الكتابات املقدسة بالفعل‬
‫أساسًا لإلميان ‪ ،‬لكنَّ الكتب ذاتها مل تكن يف النهاية هي العامل األهم (حيث‬
‫تعرضت للتحريف يف النهاية مع مرور الزمان )‪ ،‬بل تفسري هذه الكتب كما‬
‫وجد يف التقليد الرسولي املستلم عرب الكنيسة (الكاثوليكية‪).‬‬

‫‪185‬‬
‫"مع أن الكتابات املقدسة هي أساس ال ريب فيه عليه بُينَ اإلميان ‪ ،‬إال أن هذا‬
‫األساس ليس كافيا متاما حبد ذاته ؛ بل من الضروري التعرف ‪ ،‬إىل جانب‬
‫ذلك ‪ ،‬على التقاليد الرسولية ؛ وتلك ال يسعنا تعلمها إال عرب الكنائس‬
‫الرسوليّة ‪ ،‬اليت حافظت على املعنى احلقيقي للكتب املقدسة (‪) ." 5‬‬

‫استنتاجات "سيمون" املضادة للربوتستانتية تصري أكثر وضوحا يف بعض كتاباته‬


‫األخرى ‪ .‬على سبيل املثال ‪،‬يف كتاب له يتناول " املفسرين الرئيسيني للعهد‬
‫اجلديد " ‪،‬يصرح بغري تردد ‪ ":‬التغيريات العظيمة اليت وقعت يف خمطوطات‬
‫الكتاب املقدس ‪ . . .‬منذ أن ُف ِقدَت األصول األوىل ‪ ،‬تهدم مبدأ الربوتستانتيني‬
‫من أساسه ‪ . . .‬الذين يلجأون فحسب إىل هذه املخطوطات ذاتها اخلاصة‬
‫بالكتاب املقدس يف شكلها املوجود اليوم ‪ .‬لو أن حقيقة الدين مل تعش طويال‬
‫يف ظل الكنيسة ‪ ،‬فإن البحث عنها يف الكتب اليت كانت عرضة لكثري جدا من‬
‫التغيريات واليت كانت أيضا خاضعة إلرادة النساخ لن يكون باألمر املأمون‬
‫(‪). 6‬‬

‫هذا النوع من اهلجوم القاسي من الناحية الفكرية على املفهوم الربوتستانيت‬


‫للكتاب املقدس بشكل جدُّ خطري حدث بني جدران املعاهد العلمية ‪ .‬لكنَّ‬
‫علماء الكتاب املقدس من الربوتستانت ‪،‬مبجرد صدور نسخة "ملّ" يف ‪1717‬‬
‫‪ ،‬اضطروا بدافع من طبيعة ما لديهم من معارف إىل أن يراجعوا أنفسهم وأن‬

‫‪186‬‬
‫يبدأوا يف الدفاع عن مفهومهم حول اإلميان ‪ .‬فهم ليس بوسعهم ‪،‬بطبيعة احلال‬
‫‪ ،‬أن يتخلوا ببساطة عن عقيدة "الكتاب املقدس وحده ‪" (sola‬‬
‫‪scriptura).‬بالنسبة إليهم ‪ ،‬كلمات الكتاب املقدس ما تزال حتمل سلطان‬
‫كلمة اهلل ‪ .‬لكن كيف ميكن للمرء أن يتعامل مع حقيقة أننا يف كثري من املواقف‬
‫ال نعلم األصل الذي كانت عليه هذه الكلمات ؟ كان هناك حلٌّ وحيد وهو‬
‫تطوير مناهج النقد النصي اليت ستمكن العلماء املعاصرين على إعادة بناء‬
‫الكلمات األصلية ‪ ،‬حتى يتسنى مرة أخرى ألساس اإلميان أن يربهن موثوقيته‬
‫‪ .‬إنه جدول األعمال الذي يقف وراء كثري من اجلهود ‪،‬يف إجنلرتا وأملانيا‬
‫أساسا‪،‬اليت بذلت من أجل ابتكار مناهج ذات كفاءة و ميكن االعتماد عليها يف‬
‫إعادة بناء الكلمات األصلية للعهد اجلديد من نسخها العديدة املشتملة على‬
‫األخطاء واليت جنت من الضياع‪.‬‬

‫كما رأينا ‪ ،‬وظف "ريتشارد بنتلي" ‪،‬العامل املتخصص يف فقه اللغات القدمية‬
‫وعميد كلية ترينييت جبامعة كامربدج قدرته الفكرية الفذة يف دراسة مشكالت‬
‫التقليد النصي للعهد اجلديد ردا على التفاعالت السلبية اليت نتجت عن نشر‬
‫ٍّ هائل من التناقضات النصية املوجودة‬
‫" ِملّ" للعهد اجلديد اليوناني مصحوبًا بكم‬

‫‪187‬‬
‫بني املخطوطات (‪ .)7‬ردُّ "بنتلي" على "كولينز الديسطيقي " ‪،‬وهو ردٌّ على‬
‫"مقالة حول التفكري احلر"‪ ،‬اكتسب انتشارًا واسعًا االنتشار وصلت طبعاته إىل‬
‫مثان طبعات ‪ .‬رؤيته اجلامعة كانت تتلخص يف أن التناقضات الثالثني ألفا يف‬
‫العهد اجلديد اليوناني مل تكن بالكثرة املتوقعة من تقليد نصي حيتوي مثل تلك‬
‫الثروة من النصوص ‪ ،‬و أن "ملّ" تقريبًا ال ميكن ألحد أن يتهمه بتقويض صحة‬
‫الديانة املسيحية حيث إنه مل يبتكر هذه املواضع املتباينة بل ببساطة قام برصدها‬
‫‪ .‬يف النهاية أصبح بنتلي نفسه مهتما بدراسة التقليد النصي للعهد اجلديد ‪،‬‬
‫ومبجرد أن حَوَّل اهتمامه إليه ‪،‬استنتج أنه يستطيع يف احلقيقة إجناز تقدم‬
‫ملحوظ يف تكوين النص األصلي يف غالبية املواضع اليت يتوافر فيها تباين نصي‬
‫‪ .‬يف رسالة أرسلها إىل أحد داعميه وهو كبري األساقفة "ويك" يف عام ‪، 1716‬‬
‫كتب يف مقدمة نسخة جديدة مفرتضة من العهد اجلديد اليوناني يقول إنه‬
‫سيكون مبقدرته ‪،‬عرب التحليل الدقيق ‪ ،‬أن يعيد نص العهد اجلديد إىل حالته‬
‫اليت كان عليها يف عصر جممع نيقية (أوائل القرن الرابع )‪،‬وهي احلال اليت كان‬
‫سيكون عليها شكل النص الذي نشره يف القرون السابقة عامل النصوص‬
‫القدمية العظيم "أورجيانوس"‪ ،‬قبل قرون عديدة من تسرب الفساد إىل التقليد‬
‫النصي (للكتاب املقدس)بسبب الغالبية الساحقة من القراءات النصية‬
‫املتباينة(كما كان ظنُّ " بنتلي‪" ).‬‬

‫‪188‬‬
‫مل يكن "بنتلي" على اإلطالق بالشخص الذي ينشغل بالتواضع الزائف ‪ .‬فها‬
‫هو كما يزعم يف رسالته ‪:‬‬

‫أجد أنين قادر على إنتاج نسخة من العهد اجلديد اليوناني بالدقة ذاتها اليت كان‬
‫عليها يف أفضل النسخ يف عصر جممع نيقية (وهو األمر الذي يظنه البعض يف‬
‫حكم املستحيل) ؛ لكي ال يكون مثة ال عشرون كلمة ‪،‬وال حتى حروف جر‬
‫‪،‬بها أي اختالف ‪ . . .‬ولكي يصري هلذا الكتاب‪،‬الذي تعتقد اإلدارة احلالية أنه‬
‫مشكوك فيه إىل أبعد احلدود ‪،‬حجية فوق مجيع الكتب األخرى مهما كانت‪،‬‬
‫ولكي توضع نهاية فورية لكل القراءات املتباينة اآلن ويف املستقبل (‪).8‬‬

‫منهج العمل لدى بنتلي كان نزيها للغاية ‪ .‬فهو كان قد قرر أن يقارن (على حنوٍ‬
‫مفصَّل) نص أهم خمطوطة من خمطوطات العهد اجلديد اليونانية يف إجنلرتا ‪،‬أال‬
‫وهي املخطوطة السكندرية اليت تؤرخ ببواكري القرن اخلامس ‪،‬بأقدم النسخ‬
‫املتاحة للفوجلاتا الالتينية ‪ .‬ما وجده كان حجما كبرية من القراءات املتوافقة‬
‫على حنوٍ ملحوظ ‪ .‬اتفقت فيها هذه املخطوطات مرات كثرية بعضها مع بعض‬
‫ولكن مع اختالفها مع الغالبية الساحقة من املخطوطات اليونانية اليت متت‬
‫نسخها يف العصور الوسطى ‪ .‬لقد امتدت املوافقات لتشمل حتى أمورا مثل‬
‫ترتيب الكلمات يف املواضع اليت ختتلف فيه املخطوطات املختلفة‪ .‬لقد كان‬
‫بنتلي على قناعة تامة ‪،‬إذن‪ ،‬من قدرته على تنقيح )‪ (edit‬الفوجلاتا الالتينية‬

‫‪189‬‬
‫و العهد اجلديد اليوناني كليهما ليصل إىل األشكال األقدم من هذه النصوص‬
‫وذلك لكي ال يكون مثة ولو أدنى ذرة من الشك فيما يتعلق بقراءتهما األقدم ‪.‬‬
‫مواضع التباين الثالثني ألفا اليت ذكرها ِملّ ستكون شيئا أخرقا غري ذي صلة‬
‫بتلك اليت سنحصل عليها حتت سلطان النص‪ .‬فلسفة هذا املنهج بسيطة ‪ :‬لو‬
‫كان جريوم ‪،‬يف الواقع‪ ،‬قد استخدم أفضل املخطوطات اليونانية املتاحة له‬
‫لتنقيح ما بني يديه من نصوص ‪،‬إذن فبمقارنة املخطوطات األقدم من الفوجلاتا‬
‫( بهدف التثبت من نص جريوم األصلي) باملخطوطات األقدم من العهد‬
‫اجلديد اليوناني ( ملعرفة أيها استخدمه جريوم )‪ ،‬فسيكون بوسع أحدنا حتديد‬
‫ما كانت عليه أفضل النصوص يف عصر جريوم ـ وختطي أكثر من ألف عام من‬
‫نقل النصوص اليت تغري النص خالهلا مرارًا وتكرارًا‪ .‬فوق ذلك ‪،‬وحيث إن‬
‫نص جريوم كان هو النص ذاته الذي كان لدى سابقه أورجيانوس ‪ ،‬فإن املرء‬
‫سيكون بوسعه أن يطمئن متاما أن هذا كان أفضل نص موجود يف القرون‬
‫األوىل للمسيحية على اإلطالق ‪ .‬وهكذا ‪ ،‬استشف "بنتلي" ما كان استنتاجا ال‬
‫مفر منه حسب وجهة نظره‪:‬‬

‫من خالل أخذ ألفي خطأ من الفوجلاتا الباباويّة ‪،‬و نفس املقدار من نسخة البابا‬
‫الربوتستانيت ستيفانس (أي نسخة ستيفانوس أو النص املستلم )‪،‬ميكنين أن‬
‫أصدر منهما نسخة يف عمودين ‪،‬من غري استخدام أيّ كتاب يرجع تارخيه إىل‬

‫‪190‬‬
‫ما هو أدنى من تسعة قرون ‪،‬وهو ما سيتوافق متاما كلمة بكلمة ‪،‬و نسق بنسق‬
‫‪،‬وهو األمر الذي أصابين بالدهشة يف أول األمر ‪ ،‬إىل درجة أن لن يكون مثة‬
‫وثيقتان أو سجالن متوافقان على حنو أفضل منهما (‪). 9‬‬

‫ومن خالل إنفاقه املزيد من الوقت يف مقارنة املخطوطات ويف فحص املقارنات‬
‫اليت قام بها اآلخرون ‪،‬زادت ثقة بنتلي يف قدرته على القيام باملهمة ‪ ،‬وعلى‬
‫القيام بها على وجهها الصحيح ‪ ،‬وعلى القيام بها مرة واحدة ولألبد ‪ .‬يف‬
‫‪ 1721‬نشر بنتلي حبثا موجزا )‪ (pamphlet‬حتت عنوان مقرتحات للطباعة‬
‫)‪(Proposals for Printing‬صممه حلشد الدعم ملشروعه عرب احلصول‬
‫على عددٍ من الداعمني املاليني‪ .‬يف هذا الكتيب يضع منهجه املقرتح الذي‬
‫يهدف إىل إعادة بناء النص و جيادل حول صحته منقطعة النظري ‪.‬‬

‫يؤمن املؤلف أنه استعاد األعداد الصحيحة (باستثناءا القليل جدا من املواضع)‬
‫اليت كانت يف نسخة أورجيانوس ‪ . . .‬وهو على يقني من أنه بواسطة‬
‫املخطوطات اليونانية والالتينية ‪،‬عرب االعتماد على مساعدتهما معًا‪،‬سيقوم‬
‫بإعادة النص األصلي إىل دقَّته األوىل ‪،‬بشكل ال ميكن أن يقوم مبثله اآلن أي‬
‫مؤلف كالسيكي مهما كان‪ :‬وأنه من متاهةالقراءات الثالثني ألفا املتباينة اليت‬
‫تزدحم بها صفحات أفضل نسخنا املوجودة يف الوقت احلاضر ‪،‬اجلميع يضعون‬
‫رهانهم بشكل متساوٍ على أخطاء كثري من األشخاص الصاحلني؛ مفتاح اللغز‬

‫‪191‬‬
‫هذا سيكون قائدا و منقذا لنا إىل درجة أنه من بني هذه اآلالف املؤلفة من‬
‫القراءات املتباينة لن يكون مستحقا لالهتمام سوى مائيت قراءة على األكثر‬
‫(‪). 11‬‬

‫ختفيض القراءات املتباينة الكثرية من آالف "مِل" الثالثني إىل مائتني قراءة‬
‫فحسب من الواضح أنه تقدم ملحوظ ‪ .‬مل يكن اجلميع ‪،‬مع ذلك ‪،‬على يقني‬
‫من أن بنتلي كان بوسعه أن ينتج بضاعته ‪.‬يف مقال جمهول املؤلف كتب ردا على‬
‫االقرتاحات( لقد كان عصرا ذهبيا للمجادلني ومؤلفوا األحباث املوجزة‬
‫))‪،(pamphleteers‬ناقش مؤلِّفُه حبث بنتلي فقرة بفقرة‪ .‬لقد تعرض‬
‫بنتلي للهجوم من أجل منهجه وقيل عنه ‪،‬على لسان خصمه اجملهول ‪،‬إنه ال‬
‫ميلك "ال املوهبة وال املادة الصاحلة لعمله الذي كان قد آل على نفسه القيام به‬
‫(‪)."11‬‬

‫اعترب بنتلي هذا اهلجوم ‪،‬كما قد يتصور املرء‪،‬وصمة على جبني مواهبه‬
‫العظيمة اليت يفتخر بها وأجاب بالطريقة ذاتها ‪ .‬لكنه ولألسف ‪،‬أخطأ يف حتديد‬
‫شخصية خصمه ‪،‬الذي كان يف الواقع عامل من كمربيدج يدعى "كانيارز‬
‫ميدلتون" ‪ ،‬حيث ظنه "جون كولباتش" ‪ ،‬فكتب ردًا حادًّا ‪ ،‬ذكر فيه اسم‬
‫"كولباتش" و ‪،‬كما كان األسلوب يف هذه األزمنة ‪،‬وجه إليه بعض اإلهانات ‪.‬‬
‫مثل هذه األحباث اجلدالية املوجزة يندر أن يكون هلا وجود يف عصرنا احلالي‬

‫‪192‬‬
‫الذي يتميز مبؤلفاته اجلدلية رقيقة األسلوب؛أما تلك األيام البعيدة ‪،‬فلم يكن‬
‫هناك شئ من الرقة خاصة فيما يتعلق بالشعور الشخصي بالظلم ‪ .‬يعلق بنتلي‬
‫قائال‪ ":‬لسنا حباجة للذهاب إىل أبعد من هذه الفقرة كنموذج لسوء القصد و‬
‫الوقاحة العظيمني ‪،‬الذان سادا ما خطه مؤلف تافه من خفافيش الظالم على‬
‫الورق (‪ . )12‬ويف كل موضع من رده يقدم بنتلي عددًا من اإلهانات شديدة‬
‫القسوة ‪،‬داعيًا "كولباتش"(الذي مل يكن له عالقة يف حقيقة األمر بالبحث‬
‫املعينّ) باملغفل ‪،‬احلشرة‪،‬الدودة ‪،‬النغفة ‪،‬الشخص املؤذي ‪،‬الفأر القارض‬
‫‪،‬الكلب النابح ‪،‬السارق اجلاهل ‪،‬الدجال (‪ .)13‬آه ‪ ،‬ياهلا من أيام‪.‬‬

‫وعندما أحيط بنتلي علمًا باهلوية احلقيقية خلصمه ‪،‬شعر بالطبع بالقليل من‬
‫اإلحراج ملهامجته الشخص اخلطأ ‪،‬إال أنه واصل دفاعه عن نفسه ‪ ،‬واجلانبان‬
‫كالهما كانا ما يزال يف جعبتهما الكثري من السهام ‪ .‬هذا الدفاع أعاق العمل‬
‫ذاته ‪،‬بطبيعة احلال ‪ ،‬كما فعلت عوامل أخرى مبا فيها التزامات بنتلي الشاقة‬
‫كونه عميدًا لكليته يف جامعة كامربدج و مشاريعه الكتابية األخرى ‪،‬وعوائق‬
‫أخرى مثبطة تشمل فشله يف احلصول على إعفاء من تكاليف استرياد الورق‬
‫الذي أراد استخدامه يف إصدار النسخة ‪ .‬يف النهاية ‪ ،‬اقرتاحاته لطباعة العهد‬
‫اجلديد اليوناني ‪ ،‬بأقدم النصوص اليت ميكن الوصول إليها وليس بتلك‬
‫اخلاصة باملخطوطات اليونانية التالفة املتأخرة (مثل تلك املبين عليها النص‬

‫‪193‬‬
‫املستلم) ‪ Textus Receptus‬مل تسفر عن شئ ‪ .‬بعد موته ‪ ،‬اضطر ابن‬
‫أخيه إىل إعادة األموال اليت كان قد مجعها باالكتتاب ‪،‬مسدال الستار على‬
‫املسألة برمتها‪.‬‬

‫من (سيمون) يف فرنسا إىل ( ِملّ و بنتلي) يف إجنلرتا ‪،‬واآلن إىل أملانيا ‪ .‬كانت‬
‫املشكالت النصية للعهد اجلديد تشغل بال علماء الكتاب املقدس البارزين يف‬
‫ذلك العصر يف مناطق رئيسية من العامل املسيحي األوروبي ‪.‬كان يوهان‬
‫ألربخيت بينجل (‪ ) 1752 -1687‬قسيسا لوثريّا و ِرعًا وأستاذًا أصبح يف‬
‫بواكري حياته منزعجًا بشدة من وجود مثل هذا الكمِّ الكبري من القراءات النصية‬
‫املتباينة يف التقليد املكتوب للعهد اجلديد ‪،‬و كان على وجه اخلصوص قد تأثر‬
‫سلبًا كشاب يف العشرين من عمره نتيجة لنشر نسخة " ِملّ" مبواضعها الثالثني‬
‫ألفًا املتباينة‪ .‬هذه القراءات املتباينة كان يوهان ينظر إليه باعتبارها حتديًّا رئيسيا‬
‫أمام إميانه الشخصي الذي كان إميانا متجذرا بكلمات الكتاب املقدس نفسها ‪.‬‬
‫فإذا كانت هذه الكلمات غريَ موثوق بها ‪،‬فعالما ينبين اإلميان إذن ؟‬

‫ٍّ هلذه املشكلة ‪،‬‬


‫أنفق بينجيل كثريا من عمل وظيفته العلمية يف البحث عن حل‬
‫وكما سنرى ‪،‬فقد أحدث تقدمًا ملحوظًا يف التوصل إىل حلول هلا‪ .‬يف البداية ‪،‬‬
‫‪194‬‬
‫حنن حباجة إىل أن ننظر قليال يف منهج بينجيل يف التعامل مع الكتاب املقدس‬
‫(‪ . )14‬استحوذ االلتزام الديين الذي كان يتميز به بينجيل على حياته و تفكريه‬
‫‪ .‬ميكن للمرء أن يفهم شعور اجلدية اليت تعامل بها بها مع إميانه بدءًا من عنوان‬
‫احملاضرة االفتتاحية اليت ألقاها عندما عني كمدرس مبتدئ يف املعهد الالهوتي‬
‫اجلديد يف دينكيندورف ‪:" De certissima ad veram‬‬
‫‪eruditonem perveniendi ratione per studium‬‬
‫"‪pietatis‬وترمجتها‪( :‬السعي الدؤوب عن التقوى هو املنهج اآلكد‬
‫للحصول على تعليمٍ مرموق ‪).‬‬

‫كان بينجيل عاملًا شديد احلذر يف تفسريه لنص الكتاب املقدس و كان خبريًا‬
‫باألعمال الكالسيكية ‪ .‬وهو على األرجح ذو شهرة واسعة كمفسر للكتاب‬
‫املقدس ‪ :‬فلقد كتب حواشي مكثفة على كل كتاب من كتب العهد اجلديد‬
‫‪،‬مستقصيًا القضايا النحَْوية ‪،‬والتارخيية و التفسريية بالتفصيل ا ُملمِل ‪،‬يف‬
‫تفسريات اتسمت بالوضوح و اإلقناع‪ -‬وماتزال تستحق القراءة إىل اليوم ‪.‬‬
‫كانت الثقة يف كلمات الكتاب املقدس هي أساس هذا العمل التفسريي ‪ .‬لقد‬
‫وصلت هذه الثقة إىل درجة أنها أخذت بينجيل إىل اجتاهات رمبا تبدو اليوم‬
‫غريبة قليال ‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫ونظرا العتقاده بأن كلمات الكتاب املقدس كلها موحى بها – مبا يف ذلك‬
‫كلمات األنبياء وسفر الرؤيا – ‪،‬وبأن تدخل اهلل يف شئون البشر كانت تقرتب‬
‫من نهايتها ‪ ،‬وأن النبؤة الكتابية أشارت إىل أن جيله احلالي يعيش قريبا من‬
‫نهاية اآليام ‪ .‬آمن ‪،‬يف واقع األمر ‪ ،‬بأنه يعرف موعد جمئ النهاية ‪ :‬فالقيامة‬
‫ستأتي بعد قرن ‪ ،‬أي يف عام ‪. 1836‬‬

‫مل يكن بينجيل ليعود عن رأيه بقراءته أعدادًا مثل متى ‪ ، 36 : 24‬اليت تقول‬
‫إن " أما هذا اليوم وتلك الساعة فال يعلم بهما أحد ‪،‬ال املالئكة يف السماء ‪،‬‬
‫وال حتى االبن ‪،‬إال اآلب‪ ".‬وألنه كان مفسِّرًا حذرًا ‪ ،‬يوضح بنجيل هنا أن‬
‫يسوع يتكلم يف الزمن املضارع ‪ :‬أي يف عصره كان بإمكان يسوع أن يقول " ال‬
‫أحد يعلم ‪ "،‬لكنَّ هذا ال يعين أنه ال أحد فيما بعد لن يتمكن من معرفة املوعد‬
‫‪ .‬فبعض املسيحيني ‪،‬يف حقيقة األمر ‪ ،‬سيتمكنون من الوصول ملعرفة املوعد‬
‫من خالل دراستهم للنبؤات الواردة يف الكتاب املقدس ‪ .‬فالكرسي الباباوي‬
‫كان هو املسيح الدجال و املاسونيون (البناؤون األحرار ) رمبا كانوا ميثلون "‬
‫النيب الكاذب" الذي ورد ذكره يف سفر الرؤيا ‪ ،‬و نهاية األيام ستحل يف غضون‬
‫ما يقل عن قرن (كان يكتب يف ثالثينات القرن ال‪ .) 17‬احملنة العظيمة ‪،‬اليت‬
‫كانت الكنيسة األوىل تتوقع أن يتسبب فيها " املسيح الدجال" املزمع أن يأتي يف‬
‫املستقبل ‪،‬مل تقع ‪ ،‬لكنها قريبة الوقوع ؛ ألن النبؤات اليت وردت يف سفر‬

‫‪196‬‬
‫الرؤيا ‪ ،‬بدءا من الفصل العاشر ووصوال إىل الرابع عشر ‪ ،‬كان حتققها‬
‫يتواصل لقرون كثرية ؛ والقضية احملورية اليت تتضح رؤيتها للعيان أكثر و أكثر‬
‫هي أنه يف غضون مائة سنة أخرى رمبا يقع التغيري العظيم املنتظر لألمور‪...‬أما‬
‫اآلن ‪ ،‬فدعوا باقي الرؤى تتضح هي األخرى ‪،‬خاصة النهاية العظيمة اليت‬
‫أتوقع أن حتل يف العام ‪).15( 1836‬‬

‫من الواضح أن املتنبئني حبلول القيامة يف عصرنا احلالي – من أمثال هال‬


‫ليندسي (مؤلف كتاب " كوكب األرض ذلك الراحل العظيم") و تيموثي‬
‫الهاي (مؤلف كتاب " سلسلة املرتوكون خلفا " باالشرتاك مع آخرين)‪ -‬مل‬
‫يكونوا بِدعا من املتنبئني فقد كان هلم سلف ‪،‬مثلما سيكون هلم خلف‪،‬ألن‬
‫العامل ال ينتهي‪.‬‬

‫بالنسبة ملا يهمنا هنا ‪ ،‬كانت تفسريات بنجيل الشاذة للنبؤة أمرًا مهمًا ألنها‬
‫كانت أساسًا ملعرفة كلمات الكتاب املقدس على وجه الدقة ‪ .‬فلو مل يكن العدد‬
‫الذي يرمز إىل ضد املسيح هو ‪ 666‬وإمنا ‪ ، 616‬فإن هذا سيكون له تأثري‬
‫عظيم ‪ .‬حيث إنه إن كان للكلمات أي أهمية‪ ،‬فإن معرفة هذه الكلمات البد و‬
‫أنه أيضًا ذو أهمية‪.‬‬

‫وهكذا أنفق بنجيل جزءًا كبريًا من وقت أحباثه يف سرب أغوار اآلالف املؤلفة من‬
‫القراءات املتباينة اليت تزخر بها خمطوطاتنا ‪.‬ويف أثناء حماولته اخلروج من ربقة‬
‫‪197‬‬
‫التحريفات اليت أحدثها النسَّاخ املتأخرون والعودة إىل نصوص املؤلفني‬
‫األصليني‪ ،‬حقق العديد من صور التقدم يف املنهج‪.‬‬

‫أول تقدم حققه هو املقياس الذي ابتكره الذي قد أوجز ‪،‬إن قليال أو كثريا‪،‬‬
‫منهجه يف بناء النص األصلي وذلك متى تطرق الشك إىل الصياغة ‪.‬‬
‫العلماء‪،‬مثل سيمون و بنتلي ‪ ،‬قبل ظهور طريقته كانوا قد حاولوا أن ينشئوا‬
‫مقاييسًا لتقييم القراءات املتباينة ‪ .‬البعض اآلخر ‪،‬الذين مل نذكرهم هاهنا ‪،‬‬
‫ابتكروا قوائم طويلة من املقاييس اليت رمبا أثبتت نفعها ‪ .‬بعد الدراسة املكثفة‬
‫للموضوع ( بنجيل كان يدرس كل شئ بشكل مكثف )‪ ،‬وجد بينجيل أنه‬
‫استطاع أن يوجز الغالبية العظمى من املقاييس املقرتحة يف مجلة بسيطة تتألف‬
‫من أربع كلمات ‪: (Proclivi scriptioni praestat ardua) -‬أي‬
‫القراءة األكثر صعوبة هي املفضلة إذا قورنت بالقراءة األسهل‪ .‬وكانت حجته‬
‫كالتالي ‪ :‬عندما غيَّر النُسَّاخ النصوص اليت بني أيديهم ‪ ،‬كان األكثر احتماال‬
‫أنهم حاولوا أن يدخلوا عليها حتسينات‪ .‬وإذا رأوا ما اعتربوه خطئًا ‪ ،‬كانوا‬
‫يصححونه ؛ ولو رأوا روايتني خمتلفتني للقصة ذاتها ‪ ،‬فإنهم كانوا يوفقون‬
‫بينهما ؛ ولو صادفوا نصا يبدو متعارضا مع آرائهم الالهوتية اخلاصة ‪ ،‬كانوا‬
‫حيرفونه ‪ .‬يف كل موقفٍ ‪ ،‬لكي نعرف ما قاله النص األقدم ( أو حتى "‬
‫األصلي") ‪ ،‬فاألفضلية ال متنح للقراءة اليت صححت خطئًا ‪ ،‬أو أدخلت‬

‫‪198‬‬
‫توافقا على حكاية ‪،‬أو حسَّنت رأيا الهوتيًّا ‪ ،‬ولكن لألخرى اليت تناقضها‬
‫متاما ‪ ،‬أي للقراءة اليت من " الصعب" شرحها‪ .‬إذن ‪ ،‬القراءة األكثر صعوبة هي‬
‫املفضلة (‪) .16‬‬

‫التقدم اآلخر الذي حققه بينجيل ال يتعلق بغالبية القراءات اليت منلكها حتت‬
‫تصرفنا بقدر ما يتعلق بالوثائق اليت حتتوي هذه القراءات ‪ .‬فقد الحظ أن‬
‫الوثائق اليت ُتنَْسّخ من وثيقة أخرى بطبيعة احلال حتمل تشابهًا وثيقًا بالنسخ‬
‫اليت نقلت عنها وبالنسخ األخرى املكتوبة من هذه النسخ ذاتها ‪ .‬بعض‬
‫املخطوطات تشبه كثريًا بعض املخطوطات بأكثر مما يشبهها البعض اآلخر‪ .‬كل‬
‫الوثائق احملفوظة‪ ،‬إذن ‪ ،‬ميكن ترتيبها من خالل نوع من العالقة الَنسَبيَّة‬
‫)‪،(genealogical relationship‬يف هذه العالقة توجد جمموعات من‬
‫الوثائق يتمتع بعضها مع بعض بدرجة قرابة أكثر مما تتمتع به من قرابة مع بعض‬
‫الوثائق األخرى ‪ .‬من املفيد معرفة ذلك ‪ ،‬ألنه من الناحية النظرية ميكن للمرء‬
‫أن يكوِّن شيئا يشبه شجرة نسب ليتعقب أثر ساللة الوثائق ليعود إىل مصدرها‪.‬‬
‫هذا يشبه إىل حدٍ ما أن جتد جَدًّا مشرتكًا بينك وبني شخصٍ ما يف دولة أخرى‬
‫عرب تعقبك لالسم األخري‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫فيما بعد ‪ ،‬سنرى بشكل أكثر تفصيال كيف أن تصنيف الشواهد إىل عائالت‬
‫النصيّ يف بناء النص‬
‫ينتج عنه قاعدة منهجيّة أكثر معياريّة تساعد الناقد ِّ‬
‫األصلي‪.‬‬

‫يف الوقت الراهن ‪ ،‬يكفي أن تعلموا أن "بنجيل" هو أول من خطرت له هذه‬


‫الفكرة‪ .‬يف ‪ 1734‬قام بينجيل بنشر نسخته الرائعة من العهد اجلديد اليوناني ‪،‬‬
‫اليت طبع فيها يف الغالب النص املستلم )‪ (Textus Receptus‬مع‬
‫اإلشارة إىل املواضع اليت اعتقد أن لديه قراءة أفضل من تلك اليت يف النص‬
‫املستلم‪.‬‬

‫كان يوهان ج‪.‬ج‪ .‬فيتشتاين(‪ ) 1754 -1693‬واحدًا من أكثر الشخصيات‬


‫املثرية للجدل يف أوساط علماء الكتاب املقدس يف القرن الثامن عشر ‪ .‬يف سنٍ‬
‫صغرية أصبح "فيتشتاين" أسريًا لقضية نص العهد اجلديد و قراءاته املتباينة‬
‫وعمل على هذا املوضوع خالل دراسته املبكرة ‪.‬بعد بلوغه العشرين بيوم واحد‬
‫‪ ،‬يف ال‪ 17‬من مارس ‪ 1713‬تقدم إىل "جامعة بازل" بفرضية عنوانها " تنوع‬
‫القراءات يف نص العهد اجلديد‪ ".‬ومن بني أشياء أخرى ‪ ،‬بنى "فيتشتاين"‬
‫الربوتستانيتُّ املذهب دفوعه على أن القراءات املتباينة "ميكن أن يكون هلا‬
‫‪200‬‬
‫تأثريات موهِنَة ملسألة صحة وسالمة الكتاب املقدس‪ ".‬والسبب هو أن اهلل "‬
‫أنزل هذا الكتاب مرة واحدة و لألبد إىل العامل كوسيلة لتحقيق كمال‬
‫ٍّ للخالص سواء على‬
‫الشخصية اإلنسانية‪ .‬فهو يشتمل على كل ما هو ضروري‬
‫مستوى االعتقاد أو على مستوى السلوك‪ ".‬لذلك ‪ ،‬رمبا يكون للقراءات‬
‫املتباينة تأثري على نقاط ثانوية يف الكتاب املقدس ‪ ،‬لكن الرسالة األساسية تبقى‬
‫سليمة بغض النظر عن القراءت املتباينة اليت قد يالحظها املرء (‪). 17‬‬

‫يف عام ‪ 1715‬ذهب "فيتشتاين" إىل إجنلرتا (كجزء من جولة علميَّة ) ومُنِح‬
‫إذنًا خيوِّلُه القدرة على االطالع على املخطوطة السكندرية اليت تكلمنا عنها من‬
‫قبل عند احلديث عن "بنتلي"‪ .‬جز ٌء واحدٌ فحسب من املخطوطة هو ما لفت‬
‫انتباه "فيتشتاين" ‪:‬إنها واحدة من هذه األشياء بالغة الصغر اليت يكون هلا توابع‬
‫بالغة الضخامة ‪ .‬هذا الشئ كان يتعلق بفقرة ذات أهمية كبرية يف الرسالة األوىل‬
‫إىل تيموثي‪ .‬الفقرة موضع البحث ‪ 1 ،‬تيمو ‪، 16 : 3‬كثريًا ما استخدمها‬
‫املدافعون عن الالهوت األرثوذكسي لتدعيم وجهة النظر اليت تنص على أن‬
‫العهد اجلديد ذاته يطلق على يسوع اسم اإلله‪ .‬وذلك ألن النص ‪ ،‬يف معظم‬
‫املخطوطات‪،‬يشري إىل املسيح باعتباره " اهلل الذي ظهر يف اجلسد‪ ،‬وتربَّر يف‬
‫الروح‪ ".‬وكما شرحت يف الفصل الثالث ‪،‬معظم املخطوطات ختتصر األمساء‬
‫املقدسة (اليت تعرف يف الالتينية بالـ )‪ ، nomina sacra‬وهذا هو احلال ها‬

‫‪201‬‬
‫هنا أيضًا ‪ ،‬فالكلمة اليونانية اهلل )‪ (God‬يتم اختصارها إىل حرفني اثنني ‪،‬‬
‫هما "الثيتا" و"السيجما" ‪ ،‬مع وضع خط فوق رأسيهما ‪ .‬ما الحظه "فيتشتاين"‬
‫عند فحصه للمخطوطة السكندرية هو أن اخلط املوضوع فوق الرأس كان قد‬
‫رسم حبرب خمتلف عن احلرب املستخدم يف كتابة الكلمات احمليطة ولذا فقد بدى‬
‫متأخرٍ ‪a later‬‬
‫األمر وكأنه حدث نتيجة لتدخل أحدثته يد ناسخ يف وقت ِّ‬
‫‪hand .‬أضف إىل ذلك أنَّ اخلط األفقي يف وسط احلرف األول مل يكن يف‬
‫تسربَ من اجلانب اآلخر هلذا الرَّق‬
‫احلقيقة جزءًا من احلرف ولكنه خطٌ كان قد َّ‬
‫القديم‪ .‬بطريقة أخرى ‪ ،‬هذه الكلمة ‪ ،‬بدال من كونها اختصار لكلمة "اهلل"‬
‫(ثيتا‪ -‬سيجما )‪ ،‬هي يف الواقع احلرفان "أوميكرون" و "سيجما" ‪ ،‬أي أنها‬
‫كلمة أخرى خمتلفة متامًا ‪ ،‬وهي ببساطة تعين "الذي" ‪ .‬وهكذا ال تتحدث‬
‫القراءة األصلية اليت وردت يف املخطوطة عن املسيح باعتباره " اهلل الذي ظهر‬
‫يف اجلسد" وإمنا عن املسيح " الذي ظهر يف اجلسد‪ ".‬وفقًا هلذه الشهادة القدمية‬
‫الصادرة من املخطوطة السكندرية‪،‬مل يعد املسيح بوضوح يدعى اهلل يف هذه‬
‫الفقرة‪.‬‬

‫وحينما واصل "فيتشتاين" أحباثه ‪ ،‬وجد فقرات أخرى استخدمت على النمط‬
‫ذاته لتأكيد عقيدة ألوهية املسيح اليت هي يف الواقع فقرات متثل مشكالت نصيَّة‬
‫؛ وعندما متَّ حلُّ هذه املشكالت على أرضية علم النقد النصي ‪ ،‬متَّ حذف‬

‫‪202‬‬
‫اإلشارات إىل ألوهية يسوع يف معظم املواضع‪ .‬هذا حدث ‪،‬على سبيل املثال ‪،‬‬
‫عندما حذفت الفاصلة اليوحنَّاوية (رسالة يوحنا األوىل ‪) 8 - 7 : 5‬من نص‬
‫العهد اجلديد‪ .‬وحدث يف فقرة موجودة يف سفر أعمال الرسل ‪، 28 : 21‬‬
‫اليت تتحدث يف كثريٍ من املخطوطات عن " كنيسة اهلل ‪ ،‬اليت اقتناها بدمه ‪ ".‬ها‬
‫هنا مرة أخرى ‪،‬يبدو يسوع يف صورة من يتحدث عنه النص باعتباره إهلًا ‪.‬‬
‫لكنَّ النص يف املخطوطة السكندريّة وبعض املخطوطات األخرى يتحدث بدال‬
‫من ذلك عن " كنيسة السيد )‪ ، (Lord‬اليت اقتناها بدمه ‪ ".‬اآلن يسمى يسوع‬
‫سيدًا ‪ ،‬لكنه مل يطلق عليه اسم اهلل‪.‬‬

‫ولكونه واعيًا مبثل هذه املشكالت ‪ ،‬بدأ "فيتشتاين" يف التفكري جبدية يف قناعاته‬
‫الشخصية الالهوتية‪ ،‬وأصبح متأقلمًا مع مشكلة العهد اجلديد الذي نادرًا‪،‬إن‬
‫حدث أصال ‪ ،‬ما يدعو املسيح إهلًا ‪ .‬وبدأ يشعر باالنزعاج من زمالئه من‬
‫القساوسة و املعلمني يف مدينته األم "بازل" الذين خيلطون أحيانًا بني اهلل و بني‬
‫املسيح وذلك على سبيل املثال عندما يتحدثون عن ابن اهلل كما لو كان هو‬
‫نفسه اآلب‪،‬أو عند التوجه إىل اهلل اآلب يف الصالة باحلديث عن " جروحك‬
‫املقدسة "‪ .‬اعتقد "فيتشتاين" أنَّ الكثري من الدقة هو أمر مطلوب عند احلديث‬
‫عن األب و عن االبن ألنهما ليسا الشخص ذاته‪ .‬تأكيد "فيتشتاين" هلذه‬
‫القضايا بدأ يثري الشكوك بني زمالئه ‪،‬وهي الشكوك اليت تأكدت هلم عندما‬

‫‪203‬‬
‫قام "فيتشتاين" يف ‪ 1731‬بنشر كتاب يناقش مشكالت العهد اجلديد اليوناني‬
‫كمقدمة لطبعة جديدة كان منشغال باإلعداد هلا ‪ .‬بعض النصوص املتنازع‬
‫عليها ‪،‬واليت كان الالهوتيون يستعملونها يف تأسيس القاعدة الكتابية لعقيدة‬
‫تأليه املسيح‪ ،‬كانت من بني الفقرات اليت سيقت كنماذج يف هذا الكتاب ‪ .‬هذه‬
‫النصوص ‪،‬حسب ما كان "فيتشتاين" يعتقد‪ ،‬كانت يف حقيقة األمر قد‬
‫أُخضعت للتحريف من أجل أن تدعم هذه العقيدة اليت ما كان ميكن أن‬
‫تستخدم النصوص األصلية يف دعمها ؛ ‪.‬‬

‫هذه األفكار سببت هياجًا شديدًا بني زمالء "فيتشتاين" وأصبح كثريون منهم‬
‫خصومًا له‪ .‬وقد َألَحُوا على جملس مدينة "بازل" أن مينع "فيتشتاين" من نشر‬
‫نسخته من العهد اجلديد باليونانية واليت ومسوها بالـ" العمل عديم الفائدة‬
‫وغري املالئم ‪،‬بل و حتى اخلطري"؛ وقد استمروا باتهامه بأن " الشماس‬
‫"فيتشتاين" ينشر عقائدًا غري أرثوذكسية ‪ ،‬ويصرح يف أثناء حماضراته بتعاليم‬
‫مضادة لتعاليم الكنيسة اإلصالحية ‪،‬كما أنه لديه طبعة من العهد اجلديد‬
‫اليوناني سينشرها تشتمل على بعض البدع اخلطرية يشتبه يف كونها ذات عالقة‬
‫بالسوسيانية (عقيدة أنكرت الهوت املسيح )‪ )18( ".‬وعندما ُأخَْضِع جمللس‬
‫ٍّ بسبب وجهات نظره أمام اجمللس األعلى للجامعة ‪،‬متت أدانته العتناقه‬
‫تأدييب‬
‫رؤىً "عقالنية " تنكر الوحي املطلق للكتاب املقدس وتنكر وجود إبليس‬

‫‪204‬‬
‫والشياطني و تركز االنتباه على القضايا الغامضة يف الكتاب املقدس‪ .‬مت طرده‬
‫من عضوية جملس الشمامسة املسيحي و ُأجبِر على مغادرة "بازل"؛ ولذلك قام‬
‫باحلصول على مسكن يف "أمسرتدام" ‪ ،‬حيث استمر يف العمل على إجناز كتابه ‪.‬‬
‫ثم زعم فيما بعد أنَّ النزاع أجربه على تأخري موعد إصدار طبعته من العهد‬
‫اجلديد اليوناني (‪ ) 1752 - 1751‬لعشرين عامًا‪ .‬على الرغم من ذلك هذه‬
‫النسخة كانت رائعة وما تزال ذات قيمة للعلماء يف عصرنا هذا أكثر مما كانت‬
‫عليه طوال ال‪ 251‬عامًا السابقة ‪ .‬طبع "فيتشتاين" فيها النص املستلم كما‬
‫مجع أيضًا تشكيلة مدهشة من النصوص اليونانية والرومانية واليهوديَّة اليت‬
‫تتشابه مع األقوال املوجودة يف العهد اجلديد و اليت ميكن أن تساعد على‬
‫توضيح معناها‪ .‬كما ساق أيضًا عددًا ضخما من القراءات النصيَّة املتباينة‬
‫‪،‬حيث ساق حوالي ‪ 25‬خمطوطة من ذوات احلروف الكبرية و حنو ‪251‬‬
‫خمطوطة من ذوات احلروف الصغرية (تقريبًا ثالث أضعاف العدد الذي كان‬
‫متاحًا لـ " ِملّ ") كدليل ‪ ،‬وقد رتبهم بطريقة واضحة من خالل اإلشارة إىل كل‬
‫حرف كبري )‪ (majuscule‬حبرف كبري آخر مغاير و عرب استخدامه األرقام‬
‫العربية لكي يرمز إىل املخطوطات املكتوبة حبروف كبرية – وهي طريقة اإلشارة‬
‫اليت أصبحت هي املعيار طوال قرون وما تزال ‪،‬بصورة جوهرية ‪ ،‬تستخدم‬
‫على نطاق واسع إىل اليوم ‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫وعلى الرغم من القيمة الكبرية للنسخة اليت ألَّفها "فيتشتاين" ‪ ،‬إال أن النظرية‬
‫النصيَّة اليت كانت أساسًا هلا عادة ما ينظر إليها على أنها نظرية ساقطة متامًا ‪.‬‬
‫مل يلق "فيتشتاين" باال لالجنازات املتعلقة باملنهج اليت أحدثها "بنتلي" (الذي‬
‫َع ِملَ يف خدمته ذات يوم يف وظيفة جامع خمطوطات ) وتلك اليت أحدثها‬
‫"بنجلي" (والذي اعتربه عدوًّا)‪،‬وأصرَّ على أن خمطوطات العهد اجلديد‬
‫اليونانية ال ميكن الوثوق بها ألنها مجيعا‪ ،‬من وجهة نظره ‪،‬تعرضت للتحريف‬
‫لتتوافق مع الشواهد الالتينيَّة ‪ .‬ليس مثة دليلٌ على حدوث ذلك واحملصلة‬
‫النهائية الستخدام هذه الرؤية كمعيار أساسي للحكم على قيمة الشئ هي أنه‬
‫عندما حياكم شخص ما قراءة نصية متباينة فإن األجراء األمثل الذي ينبغي أن‬
‫يتخذه ليس أن يبحث عما تقوله أقدم الشواهد (هذه اليت‪،‬وفقا هلذه النظرية‬
‫‪،‬هي بعيدة كل البعد عن األصول!)‪ ،‬وإمنا أن يبحث عما تقوله الشواهد‬
‫األحدث(أال وهي خمطوطات العصور الوسطى املكتوبة باليونانية)‪.‬هذه النظرية‬
‫الشاذة مل يدعمها أيٌ من علماء النصوص البارزين‪.‬‬

‫بعد "فيتشتاين"‪ ،‬ظهر عددٌ من علماء النقد النصي ‪ ،‬مثل "ج‪.‬سيملر" و "ج‪.‬ج‪.‬‬
‫جريسباخ" ‪ ،‬الذين قام كل منهم بإسهامات أكرب أو أقل من إسهاماته يف جمال‬

‫‪206‬‬
‫تأسيس منهجية لتحديد الشكل األقدم لنص الكتاب املقدس يف مواجهة عددٍ‬
‫متزايدٍ من املخطوطات ( مثل اليت تظهر عن طريق االكتشافات ) اليت تؤكِّد‬
‫قضية التنوع‪ .‬بطريقة أو بأخرى ‪ ،‬مع ذلك ‪ ،‬مل تتحقق أي خطوات ناجحة‬
‫رئيسية يف هذا امليدان ملدة مثانني عامًا أخرى ‪ ،‬من خالل نشرٍ ذي حظ عاثر‬
‫لكنه ميثل ثورة يف هذا اجملال لنسخة تبدو صغرية احلجم نسبيًا من العهد اجلديد‬
‫اليوناني قام بتأليفها أحد علماء فقه اللغة وهو األملاني "كارل المخانّ"‬
‫(‪). 19( ) 1851 – 1793‬‬

‫قرر "المخانّ " ‪ ،‬يف الصفحات األوىل من كتابه ‪ ،‬أنَّ الدليل املستمد من النص‬
‫ليس كافيًا لتحديد ما كتبه املؤلفون األصليون ‪ .‬املخطوطات األصلية اليت كان‬
‫له قدرة على االطالع عليها كانت هي تلك اليت تنتمي للقرنني الرابع واخلامس‬
‫‪ -‬أي بعد مئات السنني من الوقت اليت أنتجت فيه املخطوطات األصلية‪ .‬من‬
‫كان باستطاعته أن يتنبأ بالتغريات املفاجئة اليت حدثت أثناء عملية النقل اليت‬
‫حدثت يف الفرتة اليت تفصل ما بني وقت كتابة املخطوطات األصلية وبني إنتاج‬
‫الشواهد املبكرة الباقية بعد ذلك بعدة قرون ؟‬

‫لذلك حدد "المخانّ " لنفسه مهمة أكثر بساطة ‪ .‬كان المخان يعلم أنَّ النص‬
‫املستلم مبينٌّ على تقليد خمطوط )‪ (manuscript tradition‬يرجع‬
‫تارخيه إىل القرن الثاني عشر ‪ .‬فرأى أنه بإمكانه أن يُ َْنتِجَ ما هو أفضل منه –‬

‫‪207‬‬
‫باعتباره أقدم منه بثمانية قرون – عرب إنتاج نسخة من العهد اجلديد تشبه تلك‬
‫اليت كان من املفرتض أن يبدو عليها العهد اجلديد عند نهاية القرن الرابع‬
‫تقريبًا‪.‬‬

‫فاملخطوطات املكتوبة باليونانية واليت جنت من الضياع جنبًا إىل جنب مع‬
‫املخطوطات اليت استخدمها "جريوم" يف الفوجلاتا و النصوص اليت اقتبس منها‬
‫هؤالء الكتاب من أمثال "إيريناوس" ‪ ،‬و"أورجيانوس" و "كيربيانوس"‪،‬‬
‫ستسمح بذلك على أسوأ الفروض ‪ .‬وهذا ما فعله ‪ .‬فعن طريق اعتماده على‬
‫كل ما تصل إليه يداه من املخطوطات القدمية املكتوبة باحلرف الكبري مضافًا‬
‫إليها أقدم املخطوطات الالتينية و االقتباسات اآلبائية من النص ‪ ،‬مل خيرت‬
‫تنقيح النص املستلم عند اللزوم فحسب(و هو السبيل الذي سار فيه سابقوه‬
‫ممن مل يكونوا راضني عن النص املستلم )لكنه ترك النص املستلم بالكليَّة و بنى‬
‫النص من جديد ‪ ،‬وفقًا ملبادئه اخلاصة‪.‬‬

‫وهكذا ‪ ،‬يف عام ‪ 1831‬انتهى من تأليف نسخة جديدة من النص مل يعتمد‬


‫فيه على النص املستلم ‪ .‬هذه كانت املرة األوىل اليت يتجرأ فيها أي إنسان على‬
‫فعل هذا األمر‪ .‬لقد استغرق األمر ما يزيد عن ثالثة قرون ‪،‬لكنَّ نسخة من‬
‫كليةً على الشواهد القدمية ظهرت أخريًا إىل‬
‫العهد اجلديد اليوناني اعتمدت َّ‬
‫الوجود‪.‬‬

‫‪208‬‬
‫غاية "المخانّ " من إنتاج نصٍ على احلال اليت كان عليها يف أواخر القرن‬
‫الرابع مل يكن مفهومًا دائمًا ‪ ،‬وحتى عندما صار الغرض مفهومًا مل حيصل‬
‫صاحب الكتاب دائمًا على التقدير املناسب‪ .‬اعتقد كثريٌ من القُرَّاء أن "المخانّ"‬
‫كان يدعي أنه جاء بالنص "األصلي" وعارضوا قيامه ‪ ،‬من ناحية املبدأ ‪،‬‬
‫بإبطال كل الشواهد تقريبًا (أي التقليد النصي املتأخر الذي يتضمن عددًا وافرًا‬
‫من املخطوطات )‪ .‬البعضُ اآلخرُ الحظوا التشابه يف املنهج بينه وبني "بنتلي"‬
‫الذي كانت لديه أيضًا فكرة مقارنة املخطوطات اليونانية األقدم مع‬
‫املخطوطات الالتينية للوصول إىل النص الذي كان مستخدمًا يف القرن الرابع‬
‫(الذي كان بنتلي يعتقد أنه النص الذي كان معروفًا لدى "أورجيانوس" يف بداية‬
‫ُميَ "المخان" أحيانًا " ُمقَلِّد بنتلي"‪ .‬إال أن‬
‫القرن الثالث)؛نتيجة لذلك ‪،‬س ِّ‬
‫"المخان" كان يف احلقيقة قد اخرتق العرف غري النافع الذي استقر بني أصحاب‬
‫املطابع وبني العلماء على حد سواء من إسباغ منزلة خاصة على النص املستلم‬
‫‪ ،‬وهي املنزلة اليت ال يستحقها النص املستلم بالتأكيد وذلك ألنه قد طبع و‬
‫أعيد طبعه ال ألن أحدًا يشعر أنه اعتمد على قاعدة نصوصية سليمة وإمنا فقط‬
‫ألن نصه كان معتادًا ومألوفًا‪.‬‬

‫‪209‬‬
‫بينما كان العلماء من أمثال "بنتلي" و"بينجيل" و "المخان" يقومون بتصفية‬
‫املناهج اليت كانت لتستخدم يف فحص القراءات املتباينة داخل خمطوطات العهد‬
‫اجلديد‪ ،‬كان مثة اكتشافات جديدة يف طور احلدوث على حنوٍ منتظم داخل‬
‫املكتبات القدمية و األديرة الشرقية منها و الغربية‪ .‬أكثر علماء القرن التاسع عشر‬
‫اجتهادًا يف جمال اكتشاف خمطوطات الكتاب املقدس ونشر نصوصها كان حيمل‬
‫امسًا طريفًا وهو "لوبيجوت فريدريك قسطنطني فون تشيندورف" (‪– 1815‬‬
‫‪.) 1874‬كان يسمى لوبيجوت (اليت تعين باألملانية " سبحوا اهلل ") ألنَّ أمَّه ‪،‬‬
‫قبل والدته ‪،‬كانت قد رأت رجال ضريرًا ‪،‬وخضوعًا منها للمعتقدات اخلرافية‬
‫اعتقدت أن ابنها سيولد ضريرًا ‪ .‬وعندما وُلِد سليمًا متاما نذرته أمُّه هلل من‬
‫خالل إطالق هذا االسم غري املعتاد عليه‪.‬‬

‫كان "تشيندورف" عاملًا متحمِّسا بشكل غري عادي رأى يف اشتغاله بنص العهد‬
‫اجلديد مَهَمَّة مقدسة أُلقيت على عاتقه بتكليف مساويّ‪ .‬فقد كتب ذات مرة‬
‫خلطيبته ‪،‬حينما كان يف أوائل العشرينات من عمره ‪ ":‬لقد محلتُ على كاهلي‬
‫َمهَمَّة مقدسة أال وهي النضال من أجل استعادة الشكل األصلي للعهد‬
‫اجلديد‪)"21(.‬‬

‫‪210‬‬
‫هذه املهمة املقدسة سعى إلجنازها عرب البحث عن كل خمطوطة خمتفية يف كل‬
‫مكتبة وديرٍ ميكنه الوصول إليه ‪ .‬فقام بعدد من الرحالت حول أوربا و إىل‬
‫"الشرق" ( يقصد ما نسميه اآلن الشرق األوسط )‪،‬ليعثر على‪،‬ولينقل‪،‬وليقوم‬
‫بنشر املخطوطات أينما حلَّ أو ارحتل ‪ .‬واحدة من أقدم جناحاته و أكثرها شهرة‬
‫هي املتعلقة مبخطوطة كانت معروفة بالفعل إال أنَّ أحدًا مل يكن مبقدوره‬
‫االطِّالع عليها ‪ .‬إنها املخطوطة اإلفراميية ‪(Codex Ephraemi‬‬
‫)‪Rescriptus‬احملفوظة يف املكتبة الوطنية يف باريس‪ .‬هذه املخطوطة هي يف‬
‫األصل خمطوطة يونانية من خمطوطات العهد اجلديد تنتمي للقرن اخلامس‬
‫حيَ يف القرن الثاني عشر حتى يتسنى ملن فعلوا‬
‫امليالدي ‪،‬لكنَّ نصها كان قد مُ ِ‬
‫ذلك بها أن يعيدوا استخدام صفحاتها اجللدية لتدوين بعض املواعظ اليت‬
‫حيَتَْ‬
‫ألقاها إفرايم بابا الكنيسة السوريانية‪ .‬وحيث إن الصفحات مل تكن قد مُ ِ‬
‫بشكل جذري‪،‬فقد ظلَّ باإلمكان مشاهدة بعض الكالم املكتوب حتت هذه‬
‫املواعظ وإن مل يكن بالوضوح الكايف لفك شفرات معظم كلماته – على‬
‫الرغم من أن عددًا من أرفع العلماء قد بذلوا وسعهم يف هذا االجتاه ‪ .‬قريبًا من‬
‫العصر الذي عاش فيه "تشيندورف" كانت بعض املواد الكيميائية اليت قد‬
‫تساعد على إظهار الكالم السفلي قد اكتُ ِشفَت ‪ .‬ومن خالل استعمال هذه‬
‫املواد حبذر وعرب التأنِّي يف سرب أغوار النص ‪،‬كان "تشيندورف" قد أصبح قادرًا‬
‫على متييز هذه الكلمات‪ ،‬وهكذا قام بأول عملية نسخ ناجحة هلذا النص‬
‫‪211‬‬
‫القديم ما أكسبه مسعة طيبة بني املهتمني بهذه األمور‪ .‬بعض هؤالء قاموا‬
‫ٍّ لرحالت "تشيندورف" إىل املناطق األخرى يف أوروبا و‬
‫بتقديم دعمٍ مالي‬
‫الشرق األوسط للبحث عن املخطوطات ‪ .‬بكل املقاييس ‪ ،‬كانت أشهر‬
‫اكتشافاته هي تلك اليت تتعلق بواحدة من أعظم خمطوطات الكتاب املقدس‬
‫حبق واليت ما تزال باقية ‪ ،‬أال وهي املخطوطة السينائية ‪ .‬قصة اكتشافها هي‬
‫درب من اخليال على الرغم من أن مصدرها هو الرواية املباشرة لتشيندورف‬
‫نفسه مكتوبةً خبط يده ‪ .‬كان تشيندورف قد قام برحلة إىل مصر يف عام ‪1844‬‬
‫‪،‬يف وقت مل يكن قد بلغ عامه الثالثني ليصل يف النهاية على ظهر مجل إىل‬
‫دير سانت كاثرين الواقع يف الصحراء ‪ .‬ما حدث هناك يف ال‪ 24‬من مايو عام‬
‫‪ 1844‬ليس مثة إىل اآلن من يصفه أفضل من كلماته الشخصية حيث يقول‪:‬‬

‫لقد حدث هذا عند سفح جبل سيناء ‪،‬عند دير سانت كاثرين ‪،‬حيث اكتشفت‬
‫واسطة عقد أحباثي مجيعها ‪ .‬فعند زيارتي للدير يف شهر مايو من العام ‪1844‬‬
‫‪،‬الحظت يف منتصف الرواق الكبري سلة كبرية وواسعة ملئى بالرقوق ؛‬
‫وعامل املكتبة الذي كان رجال واسع االطالع أخربني أن كومتني من مثل هذه‬
‫األوراق املهرتئة ‪،‬بسبب عامل الزمن‪ ،‬كانتا قد أضرمت فيهما النريان بالفعل‪.‬‬

‫ما كان مفاجأة بالنسبة لي هو أنين وجدت وسط كومة األوراق هذه عدد ال‬
‫بأس به من الصحف اليت حتوي نسخة من العهد القديم مكتوبة باليونانية واليت‬

‫‪212‬‬
‫بدت بالنسبة إلي واحدة من أقدم النسخ اليت رأيتها من قبل على اإلطالق ‪.‬‬
‫مسحت لي سلطات الدير أن أحتفظ بثلثيّ هذه الرقوق ‪ ،‬أي ما مقداره ثالثة و‬
‫أربعون صحيفة تقريبًا ‪،‬كان من املقرر أن يتم التخلص منها باحلرق‪ .‬لكنين مل‬
‫أستطع أن أقنعهم باحلصول على الباقي‪ .‬ما ظهر على مالحمي من السعادة‬
‫الغامرة أصابهم باالرتياب فيما يتعلق بقيمة املخطوطة ‪.‬قمت بنسخ صفحة من‬
‫نص إشعياء و إرمياء وأخذت على الرهبان عهدًا أن يعتنوا بكل ما تقع عليه‬
‫أيديهم من مثل هذه البقايا مبا ميليه عليهم ضمريُهم الديين (‪).21‬‬

‫حاول تشيندورف أن ينقذ ما تبقى من هذه املخطوطات لكنه مل يستطع أن يقنع‬


‫الرهبان أن يتنازلوا له عنها ‪ .‬بعد ذلك حبوالي ‪ 9‬سنوات عاد يف رحلة أخرى‬
‫ولكنه مل جيد هلذه البقايا أيَّ أثر ‪.‬ثم عاود الكرَّة مرة أخرى يف عام ‪،1859‬‬
‫ولكن هذه املرة حتت رعاية القيصر الروسي ألكسندر الثاني الذي كان له شغف‬
‫بكل ما يتعلق بالديانة املسيحية وخاصة اآلثار املسيحية القدمية ‪ .‬هذه املرة مل‬
‫يعثر تشيندورف على أيِّ أثرٍ للمخطوطة حتى جاء اليوم األخري من زيارته ‪.‬‬
‫فحينما دُ ِعيَ إىل حجرة القائم على أمر الدير‪ ،‬دخل معه يف نقاش فيما يتعلق‬
‫بالرتمجة السبعينيَّة (أي العهد القديم مكتوبًا باللغة اليونانيَّة)‪ ،‬فقال له القائم‬
‫على الدير ‪":‬أنا أيضًا قرأت السبعينية‪ ".‬واجته إىل ركن يف غرفته وسحب منه‬
‫مغلفًا بقماشٍ أمحر اللون ‪ .‬يقول تشيندورف‪ :‬فقمت بإزالة الغطاء عنه‬
‫جملدًا َّ‬

‫‪213‬‬
‫‪ ،‬فاكتشفت ‪،‬وياللمفاجأة ‪،‬ليس فقط هذه الكِسَر نفسها اليت كنت قد تناولتها‬
‫قبل ذلك خبمسة عشر عامًا من السلة ‪ ،‬وإمنا أيضًا أجزاءً أخرى من العهد‬
‫القديم ‪ ،‬و العهد اجلديد كامال ‪،‬وباإلضافة إىل ذلك ‪ ،‬رسالة برنابا و جزءًا‬
‫من رسالة الراعي هلرماس ‪ .‬ولشد ما غمرني من سعادة ‪،‬أحسست بالتزام‬
‫داخلي يأمرني بأن أخفي املخطوطة هذه املرة من القائم على الدير ومن الدير‬
‫كله ‪،‬فطلبت ‪ ،‬كما لو كنت غري مهتمٍ كثريا بها ‪ ،‬إذنًا بأن آخذ املخطوطة إىل‬
‫غرفة نومي لكي أفحصها بصورة أفضل يف أوقات فراغي (‪).22‬‬

‫يف وقت قصري تعرَّف تشيندورف على املخطوطة نظرًا لقيمتها – باعتبارها أقدم‬
‫ٍّ على نص العهد اجلديد ‪ ":‬أغلى ثروة تتعلق بالكتاب املقدس يف‬
‫شاهدٍ حيّ‬
‫الوجود – إنها الوثيقة اليت يتجاوز عمرها و أهميتها ما تتمتع به كل‬
‫املخطوطات اليت قمت بفحصها من قبل من عمر وأهمية‪ ".‬بعد مفاوضات‬
‫شاقة ومطوَّلة ‪ ،‬ذكَّر فيها تشيندورف الرهبان براعيه ‪ ،‬القيصر الروسي ‪ ،‬الذي‬
‫ستذهله هدية مثل هذه املخطوطة النادرة وسريدُّ بال شك حتيتكم بأفضل منها‬
‫عرب منح الدير تربعات مالية ‪ .‬يف النهاية ُسمِحَ لتشيندورف أن يعود باملخطوطة‬
‫إىل مدينة "ليبزج" حيث قام بإعداد نسخة فخمة منها تتكون من أربع جملدات‬
‫على نفقة القيصر‪ .‬وقد ظهرت هذه النسخة يف عام ‪ 1862‬يف االحتفال مبرور‬
‫األلفية األوىل على تأسيس اإلمرباطورية الروسيَّة (‪]*[. )23‬بعد قيام الثورة‬

‫‪214‬‬
‫الروسيّة ‪ ،‬أدى احتياج احلكومة اجلديدة إىل املال و عدم اهتمامها مبخطوطات‬
‫الكتاب املقدس إىل قيامها ببيع املخطوطة السينائية إىل ا ُملتَْحف الربيطاني نظري‬
‫مائة ألف جنيه اسرتليين؛وهي اآلن جزء من اجملموعة القيمة اليت متتلكها‬
‫املكتبة الربيطانية وهي معروضة يف مكان بارز يف غرفة املخطوطات باملكتبة‬
‫الربيطانية ‪.‬هذه كانت ‪،‬بطبيعة احلال ‪،‬واحدة فقط من مآثر تشيندورف الكثرية‬
‫يف ميدان الدراسات النصيَّة (‪ . )24‬يف اجلملة ‪ ،‬قام تشيندورف بنشر اثنني‬
‫وعشرين نسخة من النصوص املسيحية املبكرة بالتوازي مع مثان طبعات‬
‫منفصلة من العهد اجلديد اليوناني ‪ ،‬الطبعة الثامنة منهم ما تزال إىل اآلن متثل‬
‫كنزًا دفينًا من املعلومات فيما يتعلق بتوثيق الشواهد اليونانية واملرتمجة هلذه‬
‫القراءة املتباينة أو تلك ‪.‬إن إنتاجه كعامل ميكن تقييمه من خالل أحد املقاالت‬
‫الببليوغرافية (علم التعريف بالكتب واملخطوطات)اليت كتبها تأييدًا له أحد‬
‫العلماء يدعى "كاسرب رين جرجيوري"‪" :‬إن قائمة منشورات تشيندروف متأل‬
‫أمساؤها أحد عشر صفحة‪ ،‬كل صفحة منها مقسمة إىل ثالث أعمدة" (‪) .25‬‬

‫بروك فوس "ويستكوت" و فينتون جون أنتوني هورت‬

‫يدين علماء النقد النصي املعاصرون بفضل كبري إىل عاملني من جامعة كمريدج‬
‫هما "بروك فوس ويستكوت" (‪ ) 1911 - 1825‬و "فينتون جون أنتوني‬

‫‪215‬‬
‫هورت" (‪ ) 1892 -1828‬أكثر من أي شخص آخر يف القرنني الثامن عشر‬
‫والتاسع عشر ‪،‬وذلك نظري قيامهما بتطوير مناهج التحليل اليت ساعدتنا على‬
‫التعامل مع التقليد املخطوط للعهد اجلديد ‪ .‬فمنذ ظهور كتابهما الشهري يف عام‬
‫‪، 1881‬العهد اجلديد باللغة اليونانية األصلية‪،‬أصبح التعامل مع هذين‬
‫االمسني أمرًا الزمًا– سواء أكان هذا التعامل لتأكيد مفاهيمهم األساسية أو‬
‫إصالحًا للتفاصيل اليت وردت يف فرضياتهم أو يف إعداد مناهج بديلة لنظام‬
‫التحليل املقنع والرائع الذي قدمه كال من "ويستكوت" و "هورت ‪" .‬‬

‫إن القوة اليت يتسم بها هذا التحليل يرجع الفضل األكرب قليال فيها للعبقري‬
‫"هورت" على وجه اخلصوص‪.‬‬

‫ظهر مؤلَّف "ويستكوت" و "هورت" يف جملدين ‪ ،‬أحدهما كان طبعة حقيقية‬


‫من العهد اجلديد مبنية على جهدهما املشرتك الذي استمر لـ ‪ 28‬عامًا بغية‬
‫حتديد أيِّ النصني هو النص األصلي وذلك يف أي موضع تظهر فيه قراءات‬
‫متباينة داخل التقليد؛ أما اجمللد اآلخر فكان عرضًا ملبادئهما النقديَّة اليت ساروا‬
‫على نهجها يف تأليف هذا الكتاب‪.‬‬

‫هذا اجمللد األخري كتبه "هورت" وهو ميثل مسحًا عامًّا شديد اإلقناع و العقالنية‬
‫للمواد و املناهج املتاحة أمام العلماء الراغبني يف أن يأخذوا على عاتقهم القيام‬
‫مبهمة النقد النصيِّ ‪ .‬أسلوبُ الكتابة فيه كان شديد التكثيف فال توجد فيه كلمة‬
‫‪216‬‬
‫ليس هلا أهميتها ‪ .‬منطق الكتاب مقنع فلم يرتك شاردة وال واردة إال وتكلم‬
‫عنها‪ .‬إنه كتاب عظيم وهو بطريقة أو بأخرى كتاب لكل العصور يف هذا اجملال‪.‬‬
‫حتى إني ال أمسح ألحد من طالبي املتخرجني أن ينتهي من دراسته إال بعد أن‬
‫يصبح خبريًا فيه ‪.‬‬

‫لقد شغلت مشكالت نص العهد اجلديد ‪،‬على حنوٍ ما ‪،‬اهتمامات "ويستكوت"‬


‫و "هورت" طوال حياتهما التأليفية‪" .‬هورت" الذي كان قد حصل على قسط‬
‫من دراسة األعمال الكالسيكية والذي مل يكن يف البداية على وعي باحلالة‬
‫النصيَّة للعهد اجلديد ‪ ،،‬كتب وهو يف الثالثة والعشرين من عمره خطابًا إىل‬
‫صديقه "جون إلريتون" جاء فيه‪:‬‬

‫مل يكن لدي أيّ فكرة حتى األسابيع القليلة املاضية عن أهمية النصوص‪ ،‬فقد‬
‫قرأت قليال للغاية من العهد اجلديد اليوناني واستغرقت وقتا طويال يف قراءة‬
‫النص املستلم احلقري‪ ....‬لذلك فكثري من التغيريات يف مرجعٍ خمطوطٍ جيِّد جتعل‬
‫األمور تتضح ليس بطريقة عامّية ونظرية ‪،‬وإنِّما عرب إدخال معنى أعمق وأكثر‬
‫تأملَْ هذا النص املستلم احلقري الذي يعتمد بالكامل على خمطوطات‬
‫اكتماال ‪َّ ...‬‬
‫متأخرة ؛ إنها لنعمة أن يكون لدينا خمطوطات أقدم (‪).26‬‬

‫‪217‬‬
‫بعد ذلك بعامني فقط ‪،‬كان "ويستكوت" و"هورت" قد قررا أن حيرروا طبعة‬
‫جديدة من العهد اجلديد‪ .‬يف رسالة أخرى إىل إلريتون مؤرخة بتاريخ ‪ 19‬أبريل‬
‫‪ ، 1853،‬حيكي "هورت" قائال ‪:‬‬

‫مل أرَ أي شخص أعرفه باستثناء "ويستكوت" الذي قمت بزيارته لعدة ساعات‬
‫قليلة‪ .‬نتيجة واحدة من نتائج حديثنا رمبا أقصها عليك أيضًا ‪.‬أنا وهو سنقوم‬
‫ٍّ للعهد اجلديد بعد سنتني أو ثالث سنوات من اآلن إذا‬
‫بتأليف نص يوناني‬
‫وسعنا ذلك ‪" .‬المخان" و"تشيندورف" سيقدمان لنا مادة غنية ‪ ،‬لكن تقريبًا‬
‫ليس مبا فيه الكفاية‪ . . .‬هدفنا هو أن نزوِّد القساوسة بوجه عام ‪ ،‬واملدارس‬
‫ٍّ ميكن محله بسهولة ‪،‬عهد جديد ال يشوهه وجود‬
‫‪...‬إخل بعهدٍ جديدٍ يوناني‬
‫التحريفات البيزنطية (أي اليت تنتمي للقرون الوسطى) فيه (‪) . 27‬‬

‫توقعات "هورت" شديدة التفاؤل بأن هذه الطبعة لن يستغرق إخراجها إىل النور‬
‫وقتًا طويال كانت ما تزال قائمة يف نوفمرب من ذلك العام حينما يشري إىل أنه‬
‫يأمل أن يتمكن هو و "ويستكوت" من إخراج طبعتهما إىل النور " يف مدة أكثر‬
‫قليال من العام‪ )28(".‬ومبجرد أن بدأ العمل يف املشروع تالشت اآلمال يف‬
‫حدوث جناح سريع ‪ .‬بعد ذلك بتسع سنوات جند أن "هورت" ‪،‬يف خطاب كتبه‬

‫‪218‬‬
‫رفعًا ملعنويات "ويستكوت" ‪،‬الذي كانت معنوياته تضمحل بسبب فرص ما بني‬
‫يديه من عمل ‪ ،‬وليستحثه قائال"‪:‬‬

‫هذه املهمة جيب أن تكتمل ‪ ،‬ولن تكتمل على الوجه األكمل‪...‬من غري بذل‬
‫جمهودٍ ضخم ‪،‬وهي احلقيقة اليت ال يبدو أن أحدًا غرينا يف أوروبا على وعيٍ‬
‫بها ‪ .‬بالنسبة للحجم األكرب من القراءات ‪ ،‬لو ركزنا تفكرينا عليها دون الباقني‬
‫‪،‬فسيكون جهدنا غري متكافئ باملرة ‪ .‬لكنَّنا إذا اعتقدنا بأنه من املستحيل متاما أن‬
‫نفصل بني القراءات املهمة واألخرى غري ذات أهمية ‪ ،‬فينبغي أن أتردد يف‬
‫القول إن عملنا كله هو جهد ال يكافئ قيمة إصالح النص كله إىل أقصى حدٍ‬
‫ميكن الوصول إليه‪ .‬أعتقد أنه ليس لكلينا على اإلطالق أي عذر يف التخلي عن‬
‫هذه املهمة‪)29( .‬‬

‫ما كان هلم أن يتخلوا عن هذه املهمة ‪،‬لكنها مبرور الوقت أصبحت أكثر‬
‫صعوبة ووجوبًا‪ .‬يف النهاية ‪ ،‬استغرق األمر من هذين العاملني القادمني من‬
‫جامعة كامربدج ‪ 28‬عامًا يف عمل متواصل تقريبًا لكي ينتهوا من تأليف نصهم‬
‫مرفقًا مبقدمة كتبها "هورت ‪" .‬‬

‫لقد كان عملهم ذا قيمة عالية ‪ .‬فالنص اليوناني الذي أنتجه "ويستكوت" و‬
‫"هورت" شديد الشبه بشكل ملحوظ بالنص املستخدم اآلن على نطاق واسع‬
‫بني العلماء ‪،‬أي بعد إنتاجهما له مبا يزيد عن قرن ‪ .‬ال يعين هذا أنه ليس هناك‬
‫‪219‬‬
‫جديد يف ميدان اكتشاف املخطوطات أو أنَّه ليس هناك تقدم مت إجنازه يف ميدان‬
‫النظريات أو أنه ليس مثة أي اختالفات يف اآلراء قد اندلعت منذ ذلك الوقت‬
‫الذي عاش فيه "ويستكوت" و "هورت" ‪ .‬إىل اآلن ‪ ،‬حتى مع ما حققناه من‬
‫تقدم يف امليدان التقين و املنهجي ‪ ،‬وحتى مع وجود مصادر للمخطوطات بني‬
‫أيدينا هي أكرب حجمًا إذا ما قورنت مبا كان لديهما ‪،‬فإن نصوصنا اليونانية‬
‫اليوم حتمل تشابهًا غري العادي مع النص اليوناني الذي أنتجه "ويستكوت" و‬
‫"هورت" ‪ .‬لن خيدم غرضي من عمل هذا الكتاب أن أدخل يف نقاش موسع عن‬
‫اإلجنازات املنهجيَّة اليت حققها كال من "ويستكورت" و"هورت" يف بناء نصٍ‬
‫العهد اجلديد اليوناني (‪. )31‬امليدان الذي رمبا ثبتت فيه القيمة العالية لعملهما‬
‫هي جتميع املخطوط ‪ .‬حيث إن "بنجيل" كان قد اعرتف يف البداية أن‬
‫املخطوطات ميكن مجعها معًا يف جمموعات مصنفة على أساس "عائلي" (شئ‬
‫مثل أن يكتب شخص ما سالسل نسب أفراد عائلة )‪ ،‬كما حاول العلماء أن‬
‫يقسموا جمموعات عديدة من الشواهد إىل عائالت ‪ .‬كان ويستكورت و‬
‫"هورت" معنيني بشدة بهذه احملاولة كذلك‪ .‬وجهة نظرهم خبصوص هذه األمر‬
‫كانت مبنية على مبدأ وهو أن املخطوطات تنتمي إىل العائلة ذاتها ماداموا‬
‫يتفقون يف أسلوب صياغتهم ‪ .‬بكلمات أخرى ‪ ،‬لو أن خمطوطتني اشتملتا على‬
‫الصياغة ذاتها لعدد ما ‪ ،‬ينبغي أن تكونا يف النهاية منحدرتني من املصدر ذاته –‬

‫‪220‬‬
‫إما للمخطوطة األصلية أو إىل نسخة منها ‪ .‬ألن املبدأ كان أحيانًا ينصُّ على أن‬
‫" التطابق يف القراءة يتضمن التطابق يف األصل"‪.‬‬

‫بإمكان املرء حينئذٍ أن يكوِّن جمموعات عائلية مبنيةً على التوافقات النصيَّة بني‬
‫املخطوطات العديدة احملفوظة ‪ .‬حسب وجهة نظر "ويستكوت" و"هورت" كان‬
‫مثة أربع عائالت رئيسية من الشواهد‪:‬‬

‫)‪(1‬النص السورياني (أو ما مساه البعض اآلخر من العلماء النص‬


‫البيزنطي)‪،‬واليت تضم معظم املخطوطات اليت ترجع إىل القرون الوسطى‬
‫املتأخرة؛هناك العديد من هذا النوع لكنَّ تشابهها يف الصياغة مع النص‬
‫األصلي ليس واضحًا ؛(‪ )2‬النص الغربي ‪ ،‬يتشكل من املخطوطات اليت‬
‫ميكن إرجاع تارخيها إىل عصر قديم جدا‪ -‬النموذج األصلي البد أن تارخيه‬
‫كان قريبًا من وقت ما يف القرن الثاني على األقل ؛ هذه املخطوطات ‪،‬مع‬
‫ذلك ‪ ،‬هي جتسيد ملمارسات النسخ الشاذة اليت كان يقرتفها النُسَّاخ يف هذه‬
‫الفرتة قبل أن يصري نسخ النصوص حرفة يشتغل بها احملرتفون ؛(‪ )3‬النص‬
‫السكندري ‪ ،‬نسبة إىل اإلسكندرية ‪،‬حيث متيز النساخ هناك باخلربة و احلذر‬
‫لكنهم قاموا يف بعض األحيان بتحريف النصوص من خالل تغيري صياغة‬
‫األصول ليجعلوها أكثر قبوال من الناحية النَّحَْويَّة واألسلوبية ؛(‪ )4‬النص‬
‫احملايد ‪ ،‬الذي كان يتشكل من املخطوطات اليت مل تكن قد مرَّت بأيِّ تغيري أو‬

‫‪221‬‬
‫مراجعة جديَّتني أثناء نسخها بل مثَّلت نصوص املخطوطات األصلية على وجه‬
‫أدق ‪.‬‬

‫النموذجان الرئيسان هلذا النص احملايد ‪ ،‬حسب رأي "ويستكوت"‬


‫وهورت‪،‬هما املخطوطة السينائية (اليت اكتشفها تشيندورف) و املخطوطة‬
‫الفاتيكانية‪ ،‬املكتشفة داخل املكتبة الفاتيكانية‪.‬‬

‫هاتان كانتا هما املخطوطتان األكثر قدمًا اللتان كانتا بني أيدي "ويستكوت"‬
‫و"هورت" ومن وجهة نظرهما كانتا أعلى مقامًا من أي خمطوطات أخرى‬
‫ألنهما ميثالن ما يعرف بالنص احملايد‪.‬‬

‫كثري من األشياء تغريت مصطلحاتها منذ عصر "ويستكوت" و"هورت" ‪ :‬مل‬


‫يعُد العلماء يتحدثون عن النص احملايد ‪،‬و أدركت الغالبية أن النصَّ الغربيَّ هو‬
‫جدَت يف الغرب و يف الشرق‬
‫تسمية خاطئة ألنَّ املمارسات النسخية الشاذة ُو ِ‬
‫على حدٍ سواء ‪.‬‬

‫أضف إىل ذلك أن النظام الذي وضعه "ويستكوت" و"هورت" خضع لتدقيقات‬
‫قام بها العلماء الالحقون‪ .‬معظم العلماء ‪،‬على سبيل املثال ‪ ،‬يعتقدون أن‬
‫النصني احملايد والسكندري هما شئ واحد ‪ :‬لكنَّ املسألة هي أن بعض‬
‫املخطوطات متثِّل هذا النص على حنوٍ أفضل من البعض اآلخر ‪.‬ثمَّ هناك أيضًا‬

‫‪222‬‬
‫االكتشافات اهلامة للمخطوطات ‪،‬خاصة الربديات‪ ،‬اليت وقعت منذ عصرهم‬
‫(‪ .)31‬مع كل ذلك ‪،‬مايزال املنهج األساسي لويستكورت وهورت يضطلع‬
‫بدورٍ بالنسبة للعلماء الذين حياولون أن يقرروا املوضع الذي وقعت فيه‬
‫حتريفات متأخرة و املوضع الذي ميكننا أن جند فيه املرحلة املبكرة من النص‪.‬‬

‫كما سنرى يف الفصل التالي ‪ ،‬هذا املنهج األساسي هو منهج فهمه يسري‬
‫نسبيًاوذلك ألنَّه قد صِيغَ بشكل واضح‪ .‬تطبيقه على املشكالت النصيَّة ميكن أن‬
‫يكون ممتعًا بل وحتى مسليًّا حينما نعمل على حتديد أي القراءات املتباينة يف‬
‫خمطوطاتنا ميثِّل كلمات النص كما كتبته أيادي مؤلفيه وأيها ميثِّل التغيريات اليت‬
‫اقرتفها النساخ املتأخرون ‪.‬‬

‫‪223‬‬
‫)‪(1‬لالطالع على دراسة كالسيكية ترصد الطريقة اليت ُفهِمَ بها الكتاب املقدس ومت التعامل معه من خالهلا يف القرون‬
‫الوسطى ‪ ،‬انظر كتاب بريللي مسالي " )‪ (Beryl Smalley‬دراسة الكتاب املقدس يف العصور الوسطى ‪" (The‬‬
‫( )‪Study of the Bible in the Middle Ages‬من مطبوعات دار كالرندون ‪،‬أكسفورد‪).1941،‬‬

‫)‪(2‬ريتشارد سيمون )‪"، ( Richard Simon‬تاريخ نقدي لنص العهد اجلديد ‪" (A Critical History of the‬‬
‫( )‪Text of the New Testament‬لندن ‪ :‬ر‪.‬تايلور ‪ ، ) 1689،‬يف املقدمة‪.‬‬

‫)‪(3‬سيمون "تاريخ نقدي" جزء ‪ ، 1‬ص ‪.65‬‬

‫)‪(4‬سيمون "تاريخ نقدي" جزء ‪ ، 1‬ص ‪.31 -31‬‬

‫)‪(5‬سيمون "تاريخ نقدي" جزء ‪ ، 1‬ص ‪.31‬‬

‫)‪(6‬قام جورج وارنر كومل باقتباس هذه الفقرة يف كتابه " العهد اجلديد ‪ :‬تاريخ حبث مشكالته ‪" (he New‬‬
‫( )‪Testament: The History of the Investigation of Its Problems‬ناشفيل ‪:‬مطبعة أبينجدون‬
‫‪ ،) 1972،‬ص ‪.41‬‬

‫)‪(7‬السرية الذاتية الكاملة اليت نعتمد عليها ما تزال هي تلك اليت كتبها حيمس هنري مونك يف كتابه ‪،‬حياة ريتشارد‬
‫بنتلي‪ ،‬الصادر يف جملدين (لندن‪ :‬ريفنجتون‪).1833 ،‬‬

‫)‪(8‬هذه الفقرة مقتبسة من كتاب مونك ‪،‬حياة بنتلي ‪.398 : 1 ،‬‬

‫)‪(9‬مونك ‪ ،‬حياة بنتلي‪.399 ،‬‬

‫)‪(10‬مقرتحات لطباعة طبعة جديدة من العهد اجلديد اليوناني و نسخة القديس هريومز الالتينية (لندن‪ ،‬عام ‪،) 1721‬‬
‫ص ‪.3‬‬

‫)‪(11‬انظر ‪،‬حياة بنتلي ‪ ،‬ملونك اجمللد ‪.133 – 131 : 2‬‬

‫)‪(12‬مونك ‪،‬حياة بنتلي ‪،‬ص ‪.136‬‬

‫‪224‬‬
‫)‪(13‬مونك ‪،‬حياة بنتلي ‪،‬ص ‪.137 – 135‬‬

‫)‪(14‬لالطالع على سريته كاملة ‪ ،‬انظر كتاب جون سي ‪.‬إف‪.‬بروك ‪،‬سرية حياة و كتابات جون ألربت بينجيل‪(،‬لندن ‪:‬‬
‫ر‪.‬جالدينج ‪).1842،‬‬

‫)‪(15‬املرجع السابق ‪،‬ص ‪.316‬‬

‫)‪(16‬رأينا هذا املبدأ موضع البحث بالفعل ‪ ،‬انظر األمثلة يف مرقس ‪ ، 2 : 1‬و متى ‪ 36 : 24‬اليت نوقشت يف الفصل‬
‫ال‪.3‬‬

‫)‪(17‬سي‪.‬إل‪.‬هالربت باول ‪ ،‬جون جيمس فيتشتاين‪: 1754 - 1693،‬قصة حياته ‪ ،‬عمله ‪ ،‬وبعض معاصريه‬
‫(لندن‪:‬سباك‪،) 1938،‬ص ‪ ، 15‬و ‪.17‬‬

‫‪º‬هذه هي ترمجيت هلذه اجلملة حسب فهمي هلا واهلل أعلى وأعلم‪:‬‬

‫‪For Wettstein, these texts in fact had been altered precisely in order to‬‬
‫‪incorporate that perspective: the original texts could not be used in support of‬‬
‫‪it.‬‬

‫)‪(18‬هالربت باول ‪ ،‬جون جيمس فيتشتاين‪،‬ص ‪.43‬‬

‫)‪(19‬المخان معروف يف احلوليات الثقافية بأنه الشخص الذي ‪ ،‬أكثر من أي أحد سواه ‪،‬ابتكر منهجًا ألجل تكوين‬
‫العالقة الَنسَبيَّة بني املخطوطات يف التقليد النصي للمؤلفني الكالسيكيني‪ .‬اهتمامات األولية يف جمال عمله مل يكن ‪ ،‬يف‬
‫حتديًا فريدًا وممتعًا لعلماء‬
‫حقيقة األمر‪ ،‬هلا عالقة بكتابات العهد اجلديد‪ ،‬لكنه رأى بالفعل أن هذه الكتابات تفرض عليه ِّ‬
‫النصوص‪.‬‬

‫)‪(20‬هذه الفقرة مقتبسة من كتاب "نص العهد اجلديد" مليتزجر و إرمان ‪،‬ص ‪.172‬‬

‫)‪(21‬قنسطنطني فون تشيندورف ‪،‬متى كتبت أناجيلنا؟()?‪( When Were Our Gospels Written‬لندن ‪:‬ذا‬
‫ريليجيوس تراكت سوساييت‪) 1866 ،‬ص ‪.23‬‬

‫)‪(22‬املصدر السابق ‪ ،‬ص ‪.29‬‬

‫)‪(23‬حتى يومنا هذا ما يزال رهبان دير سانت كاترين يصرُّون على أن تشيندورف مل "يعطَ" املخطوطة وإمنا فرَّ بها‪.‬‬

‫‪225‬‬
‫)‪(24‬منذ عصر تشيندورف ‪،‬اكتشفت خمطوطات أكثر أهمية ‪ .‬على وجه اخلصوص ‪ ،‬طوال القرن العشرين كشف‬
‫األثريون عن عدد من املخطوطات املكتوبة على ورق الربدي ‪ ،‬اليت يرجع تارخيها إىل ما هو أقدم من املخطوطة السينائية بـ‬
‫‪ 151‬عامًا‪ .‬معظم هذه الربديات هي على شكل ِكسَر ‪ ،‬لكنَّ بعضها كامل ‪ .‬حتى اآلن ‪،‬حوالي ‪ 116‬بردية مت الكشف عنها‬
‫ووضعت يف فهارس ؛ هذه ال‪ 116‬بردية تضم أجزاء من غالبية كتب العهد اجلديد‪.‬‬

‫)‪(25‬من كتاب "تشيندورف" (طبع عام ‪ 1876‬يف مكتبة) " ‪ " Bibliotheca Sacra 33‬لكاسرب ر‪.‬جرجيوري ‪،‬‬
‫ص‪.193 - 153‬‬

‫)‪(26‬حياة ورسائل فينتون جون أنتوني "هورت" ‪ ،‬من تأليف أرثر فينتون هورت(لندن‪:‬مطبعة ماكميالن ‪،) 1896،‬ص‬
‫‪.211‬‬

‫)‪(27‬املرجع السابق ‪،‬ص ‪.251‬‬

‫)‪(28‬املرجع السابق ‪،‬ص ‪.264‬‬

‫)‪(29‬املرجع السابق ‪،‬ص ‪.455‬‬

‫)‪(30‬لالطالع على موجز هلذه املبادئ يف نقد النصوص اليت استخدمها "ويستكوت" و "هورت" يف تأليف نصهم من العهد‬
‫اجلديد ‪ ،‬انظر كتاب‪" ،‬نص العهد اجلديد"‪،‬مليتزجر و إرمان ‪،‬ص ‪.181 -174‬‬

‫)‪(31‬انظر اهلامش رقم ‪ 24‬يف األعلى‪.‬‬

‫‪226‬‬
‫يف هذا الفصل سنقوم بإلقاء الضوء على املناهج اليت أنتجها العلماء لكي‬
‫يصلوا إىل الشكل " األصليّ" من النص (أو على األقل "أقدم ما ميكن احلصول‬
‫عليه" من هذا الشكل ) و ليصلوا إىل شكل النص الذي جيسد التحريف الذي‬
‫أحدثه النسَّاخ يف العصور التالية‪ .‬بعد توضيح هذه املناهج ‪،‬سأشرح ‪،‬عرب‬
‫الرتكيز على ثالث قراءات نصيَّة متباينة موجودة يف التقليد املخطوط لعهدنا‬
‫اجلديد ‪ ،‬كيف ميكننا استخدام هذه املناهج‪ .‬لقد اخرتت هذه األمثلة الثالثة ألنَّ‬
‫كل واحدٍ منها له أهميته البالغة يف تفسري السفر الذي حيتويه؛ فوق ذلك ‪،‬‬
‫ٍّ من هذه القراءات يف الغالبية الساحقة من ترمجاتنا‬
‫ليس هناك وجود ألي‬
‫اإلجنليزية املعاصرة للعهد اجلديد‪ .‬أي أنَّ هذه الرتمجات اليت يستخدمها غالبية‬
‫القارئني باإلجنليزية مبعنى آخر ‪،‬وحسب وجهة نظري‪ ،‬هي تعتمد على النص‬
‫اخلطأ ‪،‬واعتمادها على النص اخلطأ يشكل فارقًا كبريًا عند تفسري األسفار‪.‬‬

‫‪227‬‬
‫يف البداية ينبغي أنَّ نتعرض للمناهج اليت طوَّرها العلماء لتساعدهم على‬
‫حتديد أيِّ القراءات النصيَّة متثِّل القراءة األصلية وأيُّها ميثل التغيريات اليت‬
‫أحدثها النسَّاخ يف عصور متأخرة‪ .‬كما سنرى ‪ ،‬ليس بناء شكل أقدم من النص‬
‫باألمر اليسري دائمًا ؛ بل قد يكون ممارسة مرهقة‪.‬‬

‫أكثرية علماء النقد النصيّ اليوم عندما يصلون إىل مرحلة اختاذ القرارات‬
‫خبصوص الشكل األقدم من النص سيطلقون على أنفسهم اسم االنتقائيني‬
‫العقالنيني ‪(rational eclecticists) .‬هذا يعين أنهم "ينتقون" ( وهو‬
‫معنى كلمة )" ‪ " eclectic‬القراءة النصيَّة اليت تعرب أفضل تعبري عن الشكل‬
‫األقدم من النص وذلك من بني العديد من القراءات النصيَّة مستخدمني لفعل‬
‫ذلك جمموعة من احلجج النصيَّة (العقالنية)‪ .‬هذه احلجج تعتمد على دليل يتم‬
‫تقسيمه عادةً إما إىل دليل خارجيّ أو داخليّ حسب طبيعته‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫الرباهني املبنية على أدلة خارجية تعين تأييد إحدى املخطوطات املوجودة هلذه‬
‫القراءة أو لتلك ‪.‬ما هي املخطوطات اليت ميكنها أنَّ تشهد على صحة قراءة‬
‫؟هل هذه املخطوطات ميكن االعتماد عليها؟ وعلى أيِّ أساسٍ بُين هذا‬
‫التقسيم‪..‬أي إىل خمطوطة ميكن االعتماد عليها وأخرى ال ميكن االعتماد عليها‬
‫؟‬

‫عند التفكري يف املخطوطات اليت تدعم قراءة ما على حساب القراءة األخرى ‪،‬‬
‫رمبا دُفِع املرء منا ببساطة إىل أنَّ يبذل جهدًا خارقًا لكي يرى أيَّ القراءة املتباينة‬
‫هلا وجود يف غالبية الشواهد (أي املخطوطات)املوجودة ‪ .‬معظم العلماء اليوم‬
‫‪،‬رغم ذلك ‪ ،‬ليسوا مقتنعني متامًا بأن غالبية املخطوطات هي بالضرورة ما‬
‫مينحنا أفضل نصِّ متاح ‪ .‬من اليسري تفسري السبب وراء ذلك من خالل بعض‬
‫التوضيحات ‪ .‬فلنفرتض أنه بعد أنَّ ُكتِبَت املخطوطة األصلية اليت حتوي نصًا‬
‫ما‪ ،‬نسخت منها نسختان ‪،‬رمبا نطلق عليهما االمسني ( أ) و (ب)‪ .‬هاتان‬
‫النسختان ‪،‬بطبيعة احلال ‪،‬سيكون بينهما اختالفات بطريقة أو بأخرى – رمبا‬
‫هي اختالفات هامة و على األرجح هي اختالفات يسرية ‪ .‬اآلن لنفرتض أنَّ‬
‫النسخة (أ) قد نسخت من خالل ناسخ واحد آخر فقط ‪ ،‬لكنّ النسخة (ب)‬

‫‪229‬‬
‫نسخت من خالل مخسني ناسخ ‪.‬ثم حدث أنَّ فقدت املخطوطة األصلية‬
‫‪،‬وكذلك النسختان (أ) و (ب)‪،‬ليصبح ما تبقى لدينا يف شكل تقليد نصيّ هما‬
‫الواحد واخلمسون نسخة اليت متثل اجليل الثاني ‪،‬واحدة منهم نسخت من‬
‫النسخة (أ) و اخلمسون الباقية مت نسخهم من النسخة (ب)‪ .‬لو أنَّ إحدى‬
‫القراءات موجودة يف املخطوطات اخلمسني ختتلف عن قراءة موجودة يف‬
‫املخطوطة الوحيدة (املنسوخة من (أ))‪ ،‬فهل القراءة األوىل منهما (أي‬
‫املوجودة يف اخلمسني نسخة) بالضرورة هي األكثر احتماال أنَّ تكون القراءة‬
‫األصلية ؟ال ‪ ،‬على اإلطالق – حتى لو ثبت أنها متكررة يف الشواهد اخلمسني‬
‫مخسني مرة ‪ .‬يف الواقع ‪ ،‬الفارق النهائي الذي يدعم تلك القراءة ليس نسبة‬
‫مخسني إىل واحد ‪ .‬بل الفارق هو بنسبة واحد إىل واحد (أ يف مقابل ب )‪.‬‬
‫قضية عدد املخطوطات اليت تدعم قراءة على أخرى يف حد ذاتها ‪،‬هلذه‬
‫األسباب‪ ،‬ليست وثيقة الصلة حتديدًا مبسألة حتديد أيِّ القراءات املوجودة يف‬
‫خمطوطاتنا احملفوظة هي اليت متثِّل الشكل األصلي (أو األقدم) من النص‪.‬‬

‫العلماء على وجه العموم مقتنعون ‪،‬هلذه األسباب‪ ،‬أنَّ اعتباراتٍ أخرى هي‬
‫األكثر أهمية عند حتديد أيِّ القراءات هي األَ َْولَى بأن تعترب الشكل األقدم من‬
‫النص‪.‬‬

‫‪230‬‬
‫إحدى هذه االعتبارت األخرى هي ُعمَْرُ املخطوطة اليت تدعم قراءة ما ‪ .‬أنَّ‬
‫العثور على الشكل األقدم من النص يف املخطوطات األقدم هو أمر كبري‬
‫االحتمال‪ -‬بالوضع يف االعتبار أنه من املألوف جدا أنَّ يزيد مرور الزمن‬
‫حجم التغيريات اليت تتعرض هلا املخطوطة ‪ .‬هذا بطبيعة احلال ال يعين أننا‬
‫نقول أنَّ املخطوطات األقدم جيب اتباعها بال أي نقاش يف كل احلاالت ‪ .‬وهذا‬
‫لسببني اثنني ‪ ،‬أوهلما سبب منطقي والثاني سبب تارخييّ‪ .‬أمَّا عن السبب‬
‫املنطقي ‪،‬فلنفرتض أنَّ خمطوطة من القرن اخلامس تشتمل على قراءة واحدة‬
‫‪،‬بينما حتتوي خمطوطة من القرن الثامن على قراءة خمتلفة ‪ .‬فهل يلزم أنَّ تكون‬
‫القراءة املوجودة يف خمطوطة القرن اخلامس هي اليت متثِّل الشكل األقدم من‬
‫النص ؟ ال ‪ ،‬ذلك غري الزم ‪ .‬ماذا لو أنَّ خمطوطة القرن اخلامس قد متَّ نسخُها‬
‫من نسخة أخرى يرجع تارخيها إىل القرن اخلامس ‪ ،‬بينما األخرى اليت تنتمي‬
‫إىل القرن الثامن قد نسخت من نسخة ترجع إىل القرن الثالث ؟ يف تلك احلالة‬
‫‪ ،‬خمطوطة القرن الثامن هي اليت ستحتوي على القراءة األقدم ‪.‬‬

‫السبب الثاني ‪،‬أي ذو البعد التارخيي ‪ ،‬يف أنَّ املرء ال ميكن ببساطة أنَّ ينظر إىل‬
‫ما تقوله املخطوطة األقدم‪ ،‬بعيدًا عن أي اعتبارات أخرى‪ ،‬هو أنَّ املرحلة‬
‫املبكرة من مراحل نسخ النصوص ‪،‬كما رأينا من قبل ‪ ،‬كانت أيضًا أقل‬
‫املراحل انضباطًا ‪ .‬ففي تلك املرحلة كان النسَّاخ غري احملرتفني يف أغلب األحيان‬

‫‪231‬‬
‫هم من تولّوا أمر نسخ نصوصنا – وضمَّنوها الكثري من األخطاء ‪ .‬لذلك ‪،‬‬
‫فعمر املخطوطة له أهميته ‪،‬لكنه ليس املعيار املطلق ‪ .‬هذا ما جيعل غالبية نقاد‬
‫النصوص "انتقائيني عقالنيني"‪ .‬فهم يعتقدون أنَّ سوق عدد كبري من احلجج‬
‫تدعيمًا هلذه القراءة أو تلك هو شئٌ ضروريّ ‪ ،‬وليس االعتماد ببساطة على‬
‫عدد املخطوطات أو أقدمها فحسب ‪ .‬مع ذلك ‪،‬وبعد أخذ كل هذه األمور يف‬
‫االعتبار‪،‬لو أنَّ غالبية خمطوطاتنا األقدم تدعم قراءة ما ضد األخرى فمن‬
‫املؤكد أنَّ هذه العوامل جمتمعة ينبغي أنَّ ينظر إليها باعتبارها متثل أهمية يف‬
‫عملية اختاذ القرارات املتعلقة بالنص‪.‬‬

‫ملمح آخر يتميز به الدليل اخلارجي وهو النطاق اجلغرايف للمخطوطات الذي‬
‫يدعم قراءة ما أكثر من القراءة األخرى ‪ .‬فلنفرتض أنَّ قراءة ما وجدت يف عددٍ‬
‫من املخطوطات ‪ ،‬لكنَّ هذه املخطوطات كلها من الواضح أنَّ مكان نسخها‬
‫يرجع ‪،‬فلنقل ‪،‬إىل روما ‪ ،‬بينما عددٌ كبريٌ من املخطوطات األخرى يرجع‬
‫أصلها إىل مصر وفلسطني و آسيا الصغرى وبالد الغال يعطي قراءة أخرى ‪.‬‬
‫ففي هذه احلالة ‪،‬البد أنَّ يرتاب الناقد يف أنَّ القراءة األوىل هي اختالف يعود‬
‫إىل أسباب " حملِّيَّة" (أي أنَّ النسخ اليت أنتجت يف روما كلها حتمل اخلطأ ذاته )‬
‫وأنَّ القراءة األخرى هي القراءة األقدم ومن احملتمل أكثر أنها تتضمن النصَّ‬
‫األصليّ‪.‬‬

‫‪232‬‬
‫من الراجح أنَّ املعيار اخلارجي األكثر أهميَّة الذي يتبعه العلماء هو التالي‪:‬‬

‫لكي يُ َْنظَر إىل قراءة ما باعتبارها القراءة "األصلية"‪ ،‬فالبد أنَّ يعثر عليها يف‬
‫أفضل املخطوطات ويف أفضل جمموعات املخطوطات ‪ .‬لكنه أيضًا معيارٌ خادعٌ‬
‫آخرُ ‪ ،‬لكنه يستخدم على النحو التالي ‪ :‬بعض املخطوطات ميكن ‪،‬ألسباب‬
‫عديدة‪،‬إثبات أنها أعلى قيمةً من املخطوطات األخرى ‪ .‬فعلى سبيل املثال‬
‫‪،‬متى يكون الدليل الداخلي (سنناقشه فيما بعد) حامسًا يف تدعيمه لقراءة ما‪،‬‬
‫فإن هذه املخطوطات(أي األعلى قيمة)غالبًا ودائمًا ما حتتوي هذه القراءة ‪،‬‬
‫بينما املخطوطات األخرى ‪،‬واليت عادةً ما تكون ‪،‬كما سنوضِّح‪ ،‬خمطوطات‬
‫أحدث عمرًا‪ ،‬تتضمن القراءة املغايرة ‪ .‬املبدأ الذي يهمنا هنا هو أنه لو ُع ِرفَ‬
‫عن بعض املخطوطات أنها األعلى قيمة من ناحية ما حتويه من قراءات عندما‬
‫يكون الشكل األقدم واضحًا ‪ ،‬فمن احملتمل أكثر أنَّ تكون هذه املخطوطات‬
‫هي األعلى مقامًا أيضًا يف القراءات اليت يكون دعم الدليل الداخلي هلا ليس‬
‫بالقدر ذاته من الوضوح ‪ .‬هذا يشبه ‪،‬إىل حدٍ ما ‪،‬أن يكون لديك شهودٌ يف‬
‫حمكمة أو أنَّ يكون لديك أصحاب تثق يف وعودهم ‪ .‬عندما تعرف أنَّ شخصًا‬
‫ما مييل إىل الكذب ‪ ،‬فلن تتمكن أبدًا من التأكد أنه ميكن أنَّ يوثق به ؛ لكنك‬
‫لو علمت أنَّ شخصًا ما موثوق به متامًا ‪ ،‬فإنك حينئذ تستطيع أنَّ تثق بصدقه‬
‫حتى عندما خيربك بشئ ما ال ميكنك التأكُّد منه بطريقة أخرى‪.‬‬

‫‪233‬‬
‫هذا األمر ذاته ينطبق على جمموعات الشواهد‪ .‬فقد رأينا يف الفصل الرابع أنَّ‬
‫"ويستكوت" و "هورت" طوَّرا الفكرة اليت توصل إليها "بنجيل" حول أنَّ‬
‫املخطوطات ميكن تقسيمها إىل جمموعات من العائالت النصيَّة ‪ .‬بعض هذه‬
‫اجملموعات النصيَّة ‪ ،‬كما سيتضح ‪ ،‬ميكن الوثوق بكونها حتتفظ بأفضل و أقدم‬
‫شواهدنا احملفوظة أكثر مما تفعله بعض اجملموعات األخرى ‪،‬و أنَّ الدليل قد قام‬
‫‪ ،‬عند اختبارها ‪،‬على أنها تقدم القراءات األفضل قيمة‪.‬‬

‫غالبية االنتقائيني العقالنيني‪،‬على وجه اخلصوص ‪،‬يعتقدون أنَّ النص‬


‫السكندري املزعوم (يشمل ما مسَّاه "هورت" النص " احملايد")‪،‬الذي كان يف‬
‫األساس مقرتنًا باملمارسات النسخيَّة املنضبطة اليت مارسها النساخ املسيحيون‬
‫يف اإلسكندرية يف مصر ‪ ،‬هو الشكل األعلى مقامًا بني النصوص املتاحة لنا ‪،‬‬
‫وهو يف أغلب احلاالت يزوِّدُنا بالنص األقدم أو "األصلي" يف أي موضع يوجد‬
‫فيه قراءات متباينة ‪ .‬النصان "البيزنطي" و "الغربي" ‪ ،‬من ناحية أخرى ‪ ،‬من‬
‫احملتمل بصورة أقل أنَّ حيتفظا بأفضل القراءات عندما ال يكونان مدعومني‬
‫باملخطوطات السكندرية‪.‬‬

‫‪234‬‬
‫يعترب علماء النقد النصي أنفسهم انتقائيني عقالنيني وذلك ألنهم يقومون‬
‫باالختيار من بني عدد كبري من القراءات اليت تعتمد على عددٍ من أجزاء‬
‫الدليل‪(a number of pieces of evidence).‬فباإلضافة إىل‬
‫الدليل اخلارجي الذي تقدمه لنا املخطوطات ‪،‬هناك نوعان من األدلة الداخلية‬
‫يستخدمان بصورة منطية ‪ .‬النوع األول يتعلق مبا يعرف باسم االحتماالت‬
‫الداخلية ‪ (intrinsic probabilities)-‬أي االحتماالت املبنية على ما‬
‫تأكد لدينا تقريبًا أنه مما كتبه املؤلف نفسه ‪ .‬بالطبع ميكننا أنَّ ندرس أسلوب‬
‫الكتابة ومفردات اللغة و العقيدة الالهوتية اليت يستخدمها مؤلف ما ‪ .‬وعندما‬
‫حتتفظ املخطوطات لنا بقراءة أو بقراءتني متباينتني وإحداها تستخدم الكلمات‬
‫و اخلواص األسلوبية اليت ال توجد يف عمل ذلك املؤلف ‪،‬أو لو أنها متثل‬
‫وجهة نظر ختتلف متاما مع تلك اليت يعتنقها هذا املؤلف ‪ ،‬فمن غري احملتمل يف‬
‫هذه احلالة أنَّ تكون هذه القراءة هي مما كتبه املؤلف – خاصة لو أنَّ قراءة‬
‫أخرى ثبتت موثوقيتها تطابقت متامًا مع كتابات املؤلف يف مكان آخر‪.‬‬

‫النوع اآلخر من أنواع الدليل الداخلي يسمى االحتمال النسخي‬


‫‪(transcriptional probability) .‬هذا الدليل ال يبحث عن القراءة‬

‫‪235‬‬
‫اليت رمبا كتبها املؤلف فحسب‪ ،‬بل أيضًا عن حتديد القراءة اليت من احملتمل أنَّ‬
‫يكون الناسخ قد أدخلها ‪.‬‬

‫أخريًا ‪ ،‬هذا النوع من الدليل أصله فكرة جاء بها بينجيل كانت تنصُّ على أنَّ‬
‫القراءة "األكثر صعوبة" هي على األرجح القراءة األصلية‪ .‬هذه النظرية مبنية‬
‫على فكرة أنَّ النسَّاخ على األرجح حياولون تصحيح ما يرون أنه ميثل أخطاءً‬
‫وحياولون التوفيق بني الفقرات اليت يرونها متناقضة ‪ ،‬وليِّ عنق العقيدة‬
‫الالهوتية اليت حيتويها النص لتتوافق مع العقائد الالهوتيَّة اليت يؤمنون بها ‪ .‬أما‬
‫القراءات اليت رمبا بدت ظاهريًّا وكأنها حتتوي على "خطأ " أو يعوزها االنسجام‬
‫أو كانت تشتمل على عقيدة الهوتية غريبة ‪،‬فإنها أكثر عرضة ألن يغريها أحد‬
‫النسّاخ من تلك القراءات " األسهل"‪ .‬هذا املعيار رمبا يتمُّ التعبري يف بعض‬
‫األحيان كالتالي ‪:‬‬

‫القراءة اليت تفسر وجود القراءات األخرى بأفضل ما يكون هي األوىل‬


‫باعتبارها القراءة األصليَّة‪.‬‬

‫لقد عرضت أشكاال عديدة للدليل الداخلي و اخلارجي املعتربة لدى النقاد‬
‫النصِّيني ليس ألنين أتوقع من أي شخص يقرأ هذه الصفحات أنَّ يتقن هذه‬
‫املبادئ وأنَّ يبدأ يف تطبيقها على تقليد العهد اجلديد املخطوط ‪،‬بل ألنه من‬
‫املهم‪،‬عندما حناول أنَّ حندِّد املاهية اليت كان عليها النص األصليّ ‪ ،‬أنَّ نعرتف‬
‫‪236‬‬
‫بأن عددًا كبريًا من هذه االعتبارات البد من وضعها يف احلسبان وأنَّ كثريًا من‬
‫القرارات املبنيَّة على التقديرات الشخصية البد من اختاذها ‪ .‬فهناك أوقات‬
‫حيدث فيها تناقض بني أجزاء الدليل أحدها مع اآلخر ‪،‬على سبيل املثال‬
‫‪،‬حينما ال تكون القراءة األكثر صعوبة (حسب نظرية احتماالت‬
‫الناسخ)مدعومة جيدًا داخل املخطوطات (اليت متثل الدليل اخلارجي )‪،‬أو‬
‫عندما تكون القراءات األكثر صعوبة غري متوافقة مع أسلوب الكتابة الذي‬
‫يتميز بها الكاتب أيضًا (االحتماالت الداخلية‪).‬‬

‫باختصار‪ ،‬حتديد النص األصلي ليس باألمر اليسري وال باألمر الصريح ! بل‬
‫حلذِرِ له‪ ،‬والعلماء املختلفون‬
‫يتطلب كثريًا من التأمل يف الدليل و التمحيص ا َ‬
‫دائمًا ما يصلون إىل استنتاجات خمتلفة –ليس فقط فيما يتعلق باألمور الثانويَّة‬
‫اليت ال تؤثر على معنى الفقرة (مثل تهجئة كلمة ما أو تغيري ترتيب الكلمات‬
‫املكتوبة باليونانية واليت ال ميكن حتى أنَّ يكون هلا أي تأثريٍ على الرتمجة‬
‫اإلجنليزية)‪ ،‬و إمنا فيما يتعلق باألمور ذات األهمية القصوى ‪ ،‬اليت تؤثر على‬
‫تفسري سفرٍ كاملٍ من أسفار العهد اجلديد ‪.‬‬

‫ولتوضيح األهمية اليت تتسم بها بعض القرارت اليت تتعلق بالنصوص ‪،‬‬
‫سأنتقل اآلن إىل ثالث قراءات نصيَّة متباينة من النوع األخري ‪،‬حني يكون‬
‫لتحديد النص األصلي تأثريٌ بالغٌ على الكيفية اليت تُفهم بها الرسالة اليت يريد‬

‫‪237‬‬
‫إيصاهلا بعض مؤلفي العهد اجلديد ‪ .‬أعتقد أنَّ غالبية املرتمجني إىل اإلجنليزية يف‬
‫هذه احلاالت الثالث ‪،‬كما سيتضح ‪،‬قد اختاروا القراءة غري السليمة ومل‬
‫يقدموا لنا ترمجة النص األصلي وإمنا ترمجة النص الذي اختلقه النُسَّاخ حينما‬
‫حرَّفوا النصَّ األصليّ‪ .‬أول هذه النصوص يأتي من مرقس و هو ذو عالقة‬
‫بغضب يسوع حينما استعطفه فقري مصاب بالربص ليعاجله‪.‬‬

‫مشكلة النص يف مرقس ‪ 41 : 1‬جندها يف قصة شفاء يسوع لرجل يعاني من‬
‫مرضٍ جلديّ ‪ .‬املخطوطات املوجودة حتتفظ بشكلني خمتلفني للعدد ‪ 41‬؛‬
‫القراءتان كلتاهما موضحتان هنا بني قوسني‪:‬‬

‫فجاء ليكرِّز يف جمامعهم يف كل اجلليل و خيرج الشياطني‪.‬فأتى إليه أبرص يتضرع‬


‫إليه ويقول له ‪":‬إن ترِدَْ ‪ ،‬تقدر أنَّ تطهرني‪، ".‬فشعر بالشفقة عليه (املقابل‬
‫اليوناني هو )‪ : SPLANGNISTHEIS‬أو فشعر بالغضب ( واملقابل‬
‫اليوناني هلا هو)‪،: ORGISTHEIS‬ومدَّ يده إليه وملسه وقال ‪ ":‬أريد ‪،‬‬
‫فاطهر ‪َ ".‬ف ِللْ َوقْتِ َوهُوَ يََتك ََّلمُ َذهَبَ عَنَْهُ ا ْلبَ َرصُ َو َطهَرَ‪ .‬فَانَْتَهَ َرهُ َوأَرَْ َسلَهُ ِللْ َو ْقتِ‬
‫َدمَْ َعنَْ‬
‫حدٍ شَيَْئاً َبلِ ا َْذهَبَْ أَرِ َنفْ َسكَ ِل ْلكَا ِهنِ َوق ِّ‬
‫أل َ‬
‫َوقَالَ َلهُ‪« :‬انَْظُرَْ الَ تَ ُقلَْ َ‬
‫تَ ْطهِ ِريكَ مَا َأمَرَ ِبهِ مُوسَى َشهَادَةً َل ُهمَْ»‪َ .‬وأَمَّا هُوَ َفخَ َرجَ وَابََْت َدأَ يُنَادِي كَثِرياً وَُيذِيعُ‬
‫‪238‬‬
‫ضعَ‬
‫خلَ َمدِينَةً ظَاهِراً َبلَْ كَانَ خَارِجاً فِي مَوَا ِ‬
‫الْخََبرَ حَتَّى َلمَْ يَعُدَْ يَ ْقدِرُ أنَّ َي َْد ُ‬
‫خَالِيَةٍ وَكَانُوا َيأْتُونَ ِإلَ َْيهِ ِمنَْ كُلِّ نَاحَِيةٍ‪.‬‬

‫معظم الرتمجات اإلجنليزية ترتجم بداية العدد ‪ 41‬بطريقة تؤكِّد على حمبة‬
‫يسوع هلذا األبرص الفقري املنبوذ ‪" :‬الشعور بالشفقة"( أو ميكن ترمجة الكلمة‬
‫بأنه " حترك بدافع الشفقة") عليه ‪ .‬ويف سبيل قيامهم بهذا ‪،‬سارت هذه‬
‫الرتمجات وراء النص اليوناني املوجود يف معظم املخطوطات اليت لدينا‬
‫‪.‬بالتأكيد من السهل أنَّ نعرف السبب الذي استخدمت من أجله عاطفة الشفقة‬
‫يف هذا املوقف ‪ .‬ال نعرف طبيعة املرض الذي أملَّ بالرجل على سبيل الدقة –‬
‫يفضل بعض املفسرين أنَّ يعتربوه برصًا ( اختالل يف اجللد يظهر على شكل‬
‫قشور )بدال من اعتباره نوعًا من اإلصابة باهرتاء يف حلم جسم اإلنسان نسميه‬
‫يف العادة جذامًا ‪ .‬على أية حال ‪ ،‬من احملتمل جدًا أنَّ يكون هذا املريض قد‬
‫خضع ألوامر الشريعة التوراتية اليت حتظر على" اجملذوم" أنَّ يعيش أيَّ حياةٍ‬
‫طبيعيةٍ ؛ لقد كان مفروضًا عليهم أنَّ يعيشوا عيش املنبوذين ‪ ،‬معزولني عن‬
‫اجملتمع ‪،‬فقد اعتربوا أجناسًا( سفر الالويني ‪ .) 14 – 13‬ولشعوره بالشفقة‬
‫جتاه شخص على هذه احلال ‪،‬ميدَّ يسوع يده بلمسة حنونة ليلمس حلمه املصاب‬
‫وليشفيه ‪.‬‬

‫‪239‬‬
‫الشفقة الطبيعية و الشعور اخلالي من أي تعقيد الذي احتواه هذا املشهد رمبا‬
‫يفسر ‪،‬يف الغالب ‪ ،‬سبب عدم اعتداد املفسرين واملرتمجني بالنص اآلخر الذي‬
‫وجد يف بعض خمطوطاتنا‪ .‬هناك تعبري ورد يف أحد أقدم شواهدنا ‪،‬املسمى‬
‫خمطوطة بيزا‪ ،‬ويدعمه ثالث خمطوطات التينية ميثِّل يف البداية صياغة حميِّرة و‬
‫مشوهَة ‪ .‬فهنا ‪،‬بدال من القول أنَّ يسوع شعر جتاه الرجل بالشفقة ‪،‬يشري النص‬
‫َّ‬
‫إىل أنه استشاط غضبًا ‪ .‬يف اليونانية هنا فارق بني كلميت‬
‫)‪(SPLANGNISTHEIS‬و ‪ (ORGISTHEIS) .‬فبسبب وجودها يف‬
‫الشواهد اليونانية والالتينية ‪ ،‬يسلم املتخصصون يف النصوص بأن تاريخ هذه‬
‫القراءة الثانية يرجع إىل القرن الثاني على األقل ‪ .‬فهل من املمكن ‪ ،‬مع ذلك ‪،‬‬
‫أنَّ تكون هذه هي القراءة اليت كتبها مرقس نفسه ؟‬

‫كما رأينا بالفعل ‪ ،‬ليس صحيحًا أبدًا أنَّ نقول إنه عندما حتتوي الغالبية‬
‫الساحقة من املخطوطات قراءة ما بينما حتتوي خمطوطتان فحسب القراءة‬
‫األخرى ‪ ،‬فإن قراءة الغالبية هي الصحيحة ‪.‬يف بعض األحيان يكون العدد‬
‫القليل من املخطوطات هو الذي حيتوي القراءة الصحيحة حتى عندما ال تتفق‬
‫معه املخطوطات األخرى مجيعًا ‪ .‬إىل حدٍ ما ‪،‬هذا يكون سببه أنَّ الغالبية‬
‫الساحقة من خمطوطاتنا يبعد تاريخ كتباتها عن تاريخ كتابة األصول باملئات‬
‫واملئات من السنوات‪ ،‬وأنها قد مت نسخها من نسخ أخرى أحدث كثريًا وليس‬

‫‪240‬‬
‫من األصول‪ .‬مبجرد أنَّ جيد أحد التحريفات طريقه إىل التقليد املخطوط ‪ ،‬رمبا‬
‫يستقر فيه إىل األبد ليصبح أوسع انتشارًا من التعبري األصلي ‪ .‬يف حالة كهذه ‪،‬‬
‫القراءتان كلتاهما نعتربهما تبدوان قدميتني للغاية ‪ .‬فأيُّ القراءتني هي القراءة‬
‫األصلية ؟‬

‫لو أنَّ قارئا مسيحيًّا خُيِّر اليوم بني هاتني القراءتني ‪ ،‬ال شك أنَّ كل شخص يف‬
‫الغالب سيختار القراءة األكثر وجودًا يف خمطوطاتنا ‪ :‬شعر يسوع بالشفقة جتاه‬
‫هذا الرجل ‪ ،‬و شفاه ‪.‬أما القراءة األخرى فمن الصعب تصورُّها ‪:‬فما معنى أنَّ‬
‫يقال أنَّ يسوع قد شعر بالغضب ؟ أليس هذا وحده سببًا كافيًا لالفرتاض أنَّ‬
‫مرقس قد كتب أنَّ يسوع شعر بالشفقة ؟‬

‫على العكس ‪ ،‬فحقيقة أنَّ إحدى القراءتني تعطي معنى مفيدًَا و أنه من السهل‬
‫فهمها هي بالتحديد ما جعل بعض العلماء يرتابون يف كونها قراءة غري أصلية ‪،‬‬
‫ألن النساخ ‪،‬كما رأينا ‪،‬كانوا ليفضلوا أنَّ يكون فهمُ النص سهال وغري معقد ‪.‬‬
‫إال أنَّ السؤال الذي ينبغي أنَّ يسأل هو كالتالي‪:‬ما هو األمر املنطقي بدرجة‬
‫أكرب ‪،‬أن يغيِّر الناسخُ النص الذي يقول أنَّ يسوع شعر بالغضب ليجعله يقول‬
‫أنَّ يسوع شعر بالشفقة ‪ ،‬أم أنَّ يغري النص الذي يقول أنَّ يسوع شعر بالشفقة‬
‫ليجعله يقول إنه شعر بالغضب ؟ أي القراءتني تفسر وجود اآلخر بصورة‬
‫أفضل ؟ عندما ننظر إىل األمر من هذه الزاوية ‪،‬جند القراءة األخرية هي األكثر‬

‫‪241‬‬
‫احتماال ‪ .‬القراءة اليت تشري إىل أنَّ يسوع شعر بالغضب هي القراءة " األكثر‬
‫صعوبة " ولذلك هي األكثر احتماال ألن تكون النص " األصلي " ‪ .‬هناك دليل‬
‫آخر أفضل من هذا السؤال النظري عن أيِّ القراءتني من احملتمل أنَّ يكون‬
‫النساخ قد لفَّقوها ‪ .‬كما سيتضح ‪،‬ليس لدينا أي خمطوطة يونانية ملرقس حتتوي‬
‫هذه الفقرة حتى نهاية القرن الرابع ‪،‬أي بعد ثالثة قرون تقريبًا من تاريخ تأليف‬
‫هذا السفر ‪.‬لكننا بالفعل لدينا مؤلِّفان قاما بنسخ هذه القصة يف العشرين عاما‬
‫اليت تلت تاريخ تأليفها األول‪.‬‬

‫اعرتف العلماء لفرتة طويلة أنَّ مرقس هو أول األناجيل تأليفًا ‪ ،‬وأنَّ متى و‬
‫لوقا كليهما استخدما رواية مرقس كمصدر للقصص اليت حكياها عن يسوع ‪.‬‬
‫من املمكن ‪ ،‬إذن ‪ ،‬أنَّ نتفحص إجنيلي متى و لوقا لنعرف كيف قاما بتغيري‬
‫نص مرقس يف املواضع اليت حكيا فيها القصة ذاتها ولكن بطريقة خمتلفة (إن‬
‫بدرجة أكرب أو أقل)‪ .‬حينما نفعل هذا ‪ ،‬جند أنَّ متى ولوقا اقتبسا هذه القصة‬
‫الواردة يف مرقس ‪ .‬من الالفت للنظر أنَّ متى و لوقا قد اتَّبعا ما كتبه مرقس‬
‫حول طلب األبرص و رد يسوع يف العددين ‪ 41 – 41‬تقريبا كلمة بالكلمة ‪.‬‬
‫فأي كلمة يا ترى استخدماها لوصف رد فعل يسوع ؟ املثري للدهشة أنَّ متى‬
‫ولوقا قاما كالهما حبذف الكلمة متامًا ‪ .‬إذا كان النص املرقسيُّ الذي كان بني‬
‫يديِّ متى و لوقا قد وصف يسوع بأنه شعر بالشفقة ‪ ،‬فلماذا حيذف الرجالن‬

‫‪242‬‬
‫كالهما هذه الكلمة ؟متَّى و لوقا يصفان يسوع يف مكان آخر بأنه شفوق ‪،‬‬
‫وكلما وجدت يف إجنيل مرقس قصة ُيذَْكَرُ فيها بوضوح الشفقة اليت كان‬
‫يتصف بها يسوع ‪ ،‬فهذا الرجل أو اآلخر حيتفظ بالوصف كما هو يف روايته ‪.‬‬
‫لكن ماذا عن االحتمال اآلخر ؟ ماذا لو أنَّ متى و لوقا قد قرءا يف إجنيل مرقس‬
‫أنَّ يسوع قد شعر بالغضب ؟ فهل كانا ميَّالَيَْن إىل التخلص من هذا الشعور ؟‬
‫هناك مناسبات أخرى ‪،‬يف الواقع ‪،‬وردت يف إجنيل مرقس يصبح فيها يسوع‬
‫غاضبًا ‪ .‬يف كل مناسبة من هذه املناسبات ‪ ،‬قام متى و لوقا بتعديل الروايات ‪.‬‬
‫ففي مرقس ‪ 5 : 3‬ينظر يسوع حوله " بغضب" إىل املوجودين يف اجملمع الذين‬
‫كانوا يراقبونه لريوا ما إذا كان سيعاجل الرجل ذا اليد اليابسة ‪ .‬هذا العدد يف‬
‫إجنيل لوقا متشابه تقريبا مع العدد املوازي يف مرقس ‪ ،‬لكنَّ لوقا حيذف اإلشارة‬
‫إىل غضب يسوع ‪.‬أما متَّى ‪ ،‬فقد أعاد كتابة هذا القسم من القصة ومل يذكر أيَّ‬
‫شئ عن يسوع الغاضب ‪ .‬وعلى حنو مماثل ‪،‬يف مرقس ‪ 14 – 11‬يشتدُّ يسوع‬
‫على تالميذه (استخدمت هنا كلمة يونانية خمتلفة) ملنعهم الناس من إدخال‬
‫أطفاهلم إليه لكي يباركهم ‪ .‬متى و لوقا كالهما يرويان القصة ‪،‬باحلرف‬
‫الواحد يف الغالب‪ ،‬لكنهما حيذفان اإلشارة إىل غضب يسوع (متى ‪14 – 19‬‬
‫؛ لوقا ‪ .) 16 : 18‬يف احملصلة ‪ ،‬ال يشعر متَّى ولوقا بأي وخزٍ يف الضمري‬
‫حينما يصفان يسوع بكونه شفوقًا ‪ ،‬لكنهما أبدًا مل يصفاه باعتباره غاضبًا ‪.‬‬
‫فكلما وصف واحدٌ من مصادرهم (أي مرقس) يسوع بذلك ‪ ،‬كلما أعاد كال‬
‫‪243‬‬
‫الرجلني كلٌ على حدى حذف التعبري من روايتهما ‪ .‬لذلك ‪ ،‬يف حني أنه من‬
‫الصعب إجياد مربر جيعلهما حيذفان "الشعور بالشفقة" من روايتهما حلادثة عالج‬
‫يسوع للمجذوم ‪ ،‬فإنه من السهولة مبكان تفهُّم أسباب رغبتهم يف حذف "‬
‫الشعور بالغضب ‪ ".‬فإذا أضفنا إىل ذلك أنَّ التعبري األخري (أي الشعور‬
‫بالغضب) هو الذي ورد يف سلسلة قدمية جدا من املخطوطات وأنه من غري‬
‫احملتمل أنَّ يكون النساخ قد اختلقوا هذا التعبري كبديل عن التعبري اآلخر الذي‬
‫ميكن فهمه بسهولة أكرب (أي الشعور بالشفقة) ‪ ،‬يصبح من الواضح بشكل‬
‫أكرب أنَّ مرقس ‪،‬يف واقع األمر ‪،‬وصف يسوع بأنه قد غضب عندما اقرتب منه‬
‫اجملذوم طلبًا للشفاء‪.‬‬

‫قبل أنَّ نغادر هذه املسألة هناك أمر آخر جيب التأكيد عليه ‪ .‬أشرت إىل أنَّه يف‬
‫حني أنَّ متَّى ولوقا كانا يشعران بصعوبة يف وصف يسوع بالغضب ‪،‬مل يكن‬
‫لدى مرقس أي مشكلة يف ذلك ‪ .‬حتى يف القصة موضع الدراسة ‪ ،‬وبعيدًا عن‬
‫املشكلة النصيَّة املتعلقة بالعدد ‪ ، 41‬مل يعاجل يسوع هذا اجملذوم الفقري بطريقة‬
‫إنسانية ‪ .‬فبعد أنَّ شفاه ‪" ،‬وبَّخه بشدة " "وطرده "‪ .‬وهاتان القراءتان هما‬
‫الرتمجة احلرفية للكلمات اليونانية واليت عادةً ما ختضع لعملية " تلطيف" يف‬
‫الرتمجات ‪ .‬إنها تعبريات قاسية ‪ ،‬استخدمت على الدوام يف كل موضعٍ آخر يف‬

‫‪244‬‬
‫مرقس يف سياقات صراع و عدوان عنيفني ( على سبيل املثال عندما يطرد‬
‫يسوع الشياطني‪).‬‬

‫من الصعب أنَّ نتصور السبب الذي جيعل يسوع يقوم بتوبيخ هذا الشخص و‬
‫بطرده لو كان يشعر جتاهه بالشفقة ؛ لكنَّه لو كان غاضبًا ‪ ،‬فلرمبا كان األمر‬
‫أكثر منطقيًّة‪.‬‬

‫فعالمَ إذن غضب يسوع ؟ هنا تتضح أهمية العالقة بني النص والتفسري‪ .‬بعض‬
‫العلماء ممن فضَّلوا النص الذي يشري إىل أنَّ يسوع "أحس بالغضب" يف هذه‬
‫الفقرة توصلوا إىل تفسريات بعيدة االحتمال إىل حدٍ بعيد ‪ .‬يبدو أنَّ هدفهم من‬
‫وراء ذلك هو أنَّ يربروا هذا الشعور من خالل إظهار يسوع يف مظهر الشفوق‬
‫حتى مع إدراكهم أنَّ النص يقول إنه شعر بالغضب ‪ .‬أحد املفسرين ‪ ،‬على‬
‫سبيل املثال ‪،‬جيادل بقوله إنَّ يسوع كان غاضبًا على العامل امللئ باملرض ؛‬
‫بكلمات أخرى ‪ ،‬هو حيب املريض لكنه يكره املرض ‪.‬ليس هناك أساس نصِّيٌّ‬
‫هلذا التفسري ‪ ،‬لكنه ميلك مزيَّة جعله يسوعَ يبدو يف صورة جيدة ‪.‬مفسرٌ آخرُ‬
‫جيادل بقوله إنَّ يسوع غاضبٌ ألن هذا اجملذوم كان منبوذًا من اجملتمع ‪،‬‬
‫متجاهال حقيقة أنَّ النص ال يقول أيَّ شئ عن كون الرجل منبوذًا و أنه حتى‬
‫إذا افرتضنا أنَّ النص يقول ذلك ‪،‬فإن ذلك ليس ذنب اجملتمع الذي يعيش فيه‬
‫يسوع وإمنا سبب ذلك هو شريعة اهلل (خاصة سفر الالويني )‪ .‬آخر جيادل يف أنَّ‬

‫‪245‬‬
‫سبب غضب يسوع هو‪،‬يف حقيقة األمر‪،‬أن شريعة موسى جترب هذا النوع من‬
‫الناس على االنعزال ‪ .‬هذا التفسري يتجاهل حقيقة أنه يف خامتة الفقرة (عدد ‪44‬‬
‫) يؤكِّد يسوع على شريعة موسى و حيثُّ اجملذوم بعد شفائه على أنَّ يلتزم بها‪.‬‬

‫كل هذه التفسريات لديها رغبة عامة يف التلطيف من غضب يسوع و لديها‬
‫العزم على القفز فوق النص من أجل الوصول إىل هذه الغاية ‪ .‬فإذا فعلنا‬
‫عكسهم ‪ ،‬فماذا ستكون النتيجة ؟ يبدو لي أنَّ مثَّة خيارين اثنني ‪ ،‬أوهلما يركِّزُ‬
‫على السياق احلريفّ املباشر للفقرة واآلخر يركز على السياق األوسع للفقرة‪.‬‬
‫أوال ‪ ،‬فيما يتعلق بالسياق املباشر ‪،‬كيف تؤثِّر الصورة اليت رمستها افتتاحية‬
‫حنيَْنا أفكارَنا املسبقة عن طبيعة يسوع جانبًا‬
‫إجنيل مرقس على اخليار األوَّل ؟ لو َّ‬
‫و لو قرأنا هذا النص اهلام على حنو بسيط‪ ،‬سيتوجب علينا أنَّ نعرتف بأن‬
‫تصورُه‬
‫يسوع ال يبدو وديعًا لطيفًا دمث األخالق وال يبدو كراعٍ صاحلٍ مثلما ِّ‬
‫لوحات الكنائس ‪ .‬يبدأ مرقس إجنيله برسم صورة ليسوع من الناحية اجلسميّة‬
‫ومن ناحية املواهب كشخصٍ ذي سلطان من ذلك النوع الذي ال ينبغي أنَّ‬
‫تعبث معه ‪ .‬ويصفه بأنه نيبٌّ يعيش يف الربية قدَّمَه للخدمة نيبٌّ آخر يعيش يف‬
‫الربية أيضًا ؛ وأنه قد انعزل عن اجملتمع ليحارب الشيطان و ليحارب الوحوش‬
‫يف الربَِّيَّة ؛ وهو يعود ليدعوَ إىل التوبة السريعة ملواجهة القدوم الوشيك لدينونة‬
‫اهلل ؛ وهو يدعو أتباعه لالنفصال عن عائالتهم ‪ ،‬و يربك مجهوره بسلطانه‬

‫‪246‬‬
‫خضِع قوى الشيطان اليت بإمكانها هزمية البشر الفانني ؛ وهو‬
‫؛ ويوبِّخ ويُ َْ‬
‫يرفض التجاوب مع حاجات اجلماهري ويتجاهل هؤالء الذين يتوسلون للقائه ‪.‬‬
‫القصة الوحيدة يف هذا الفصل االفتتاحيّ من إجنيل مرقس اليت تشري إىل عطفه‬
‫الشخصي هي قصة شفاء محاة مسعان بطرس اليت كانت مريضة مالزمة‬
‫للفراش ‪ .‬لكنَّ هذا التفسري الشفوق حتَّى ميكن أنَّ خيضع للتساؤالت‪ .‬بعض‬
‫املاكرين ممن يتَّسِمون بقوة املالحظة الحظوا أنه بعد أنَّ شفاها يسوع من احلمى‬
‫اليت أصابتها قامت لتخدمهم ‪،‬ومن احملتمل أنها أحضرت هلم وجبة العشاء‪.‬‬

‫هل من احملتمل أنَّ يسوع قد جرى تصَْويرُه يف املشاهد االفتتاحيَّة إلجنيل مرقس‬
‫باعتباره شخصية قوية تتمتع باإلرادة القوية و لديها أجندتها اخلاصة و أنه‬
‫شخص ذو سلطان له كاريزما وال يروقه أن يقاطعه أحد؟‬

‫من املؤكد أنَّ رد فعله من ثمَّ كان منطقيًّا على ما قام به اجملذوم حيث قام‬
‫بتوبيخه و بطرده‪.‬‬

‫هناك تفسري آخر ‪ ،‬رغم ذلك ‪.‬كما أشرت من قبل ‪،‬يشعر يسوع بالغضب فعال‬
‫يف مكان آخر داخل إجنيل مرقس ‪ .‬حيدث هذا للمرة الثانية يف اإلصحاح ‪3‬‬
‫‪،‬الذي يتناول ‪ ،‬وياللمفاجأة ‪،‬قصة شفاء أخرى‪ .‬هنا قال مرقس بوضوح إنَّ‬
‫يسوع غضب على الفِرِّيسي الذي ظن أنه ليس من حقه أنَّ يشفي الرجل ذا اليد‬
‫اليابسة يف السبت ‪.‬‬
‫‪247‬‬
‫ٍّ بعيدٍ تصادفنا يف إحدى القصص اليت مل يذكر فيها‬
‫هناك حكاية مشابهة إىل حد‬
‫أنَّ يسوع كان غاضبًا بصراحة و لكنَّ ذلك كان واضحًا رغم ذلك ‪ .‬ففي مرقس‬
‫‪ ، 9‬عندما ينزل يسوع من جبل التجلِّي مع بطرس ويعقوب و يوحنا ‪ ،‬جيد‬
‫جتمهرًا حول تالمذته ورجال يائسا يف املنتصف ‪ .‬ابن هذا الرجل متلكته روح‬
‫شيطانية‪ ،‬وهو يشرح املوقف ليسوع ثم يناشده ‪ ":‬إن ُكنَْتَ تَسَْتَطِيعُ َشيَْئاً فَتَحََّننَْ‬
‫يءٍ مُسَْتَطَاعٌ‬
‫َعلَيَْنَا وََأعِنَّا"‪ .‬فردَّ يسوع عليه غاضبًا ‪"،‬لو كنتُ قادرًا ؟ كُلُّ َش َْ‬
‫ِل ْلمُؤَْ ِمنِ" فيصبح الرجل أكثر يئسًا ويناشده‪ "،‬أُو ِمنُ يَا سَِّيدُ َفَأ ِعنَْ عَ َدمَ إِميَانِي‪".‬‬
‫فعندها طرد يسوع الروح الشريرة‪.‬‬

‫األمر املثري للدهشة يف هذه القصص هو أنَّ غضب يسوع ينفجر حينما يشكك‬
‫أحد األشخاص يف نيَّته ‪ ،‬أو يف قدرته أو يف سلطانه اإلهلي على الشفاء ‪.‬رمبا‬
‫هذا هو سبب غضبه يف قصة اجملذوم أيضًا ‪.‬ففي القصة الواردة يف مرقس ‪9‬‬
‫‪،‬يقرتب أحدهم من يسوع حبذر ليسأله ‪ ":‬لو لديك الرغبة ‪ ،‬تقدر على‬
‫شفائه‪ ".‬فيشعر يسوع بالغضب‪ .‬يسوع بطبيعة احلال لديه الرغبة يف فعل ذلك ‪،‬‬
‫باعتباره قادرًا وخموال بهذا ‪ .‬يشفي يسوع الرجل و ‪،‬لكونه ما يزال يف نفسه‬
‫استياء من تشكك الرجل‪،‬يقوم بتوبيخه ثم طرده حبدة‪.‬‬

‫‪248‬‬
‫هنا جند شعورًا خمتلفًا متاما جتاه القصة مرتبطًا بطريقة تفسريها‪،‬وهو تفسري مبينٌّ‬
‫على طبيعة النص كما يبدو أنَّ مرقس قد كتبه‪ .‬فمرقس ‪ ،‬يف بعض املواضع ‪،‬‬
‫يرسم يسوع باعتباره شخصًا غاضبًا‪.‬‬

‫على النقيض من مرقس ‪ ،‬مل يقل إجنيل لوقا على وجه التصريح أبدًا أنَّ يسوع‬
‫شعر بالغضب‪ .‬بل ال يبدو يسوع يف هذا اإلجنيل منزعجًا على اإلطالق‪،‬أو بأية‬
‫حال‪.‬‬

‫فبدال من يسوع الغاضب ‪ ،‬يرسم لوقا صورة ليسوع اهلادئ ‪ .‬هناك فقرة يتيمة‬
‫يف هذا اإلجنيل يبدو فيها أنَّ يسوع قد فقد رباطة جأشه ‪ .‬وهي فقرة أصالتها‬
‫موضع جدال ساخن بني نقاد النصوص ‪.‬‬

‫جند هذه الفقرة يف سياق صالة يسوع على جبل الزيتون قبل وقت قصري من‬
‫تعرضه للخيانة و للوقوع يف األسر (لوقا ‪ .) 46 - 39 : 22‬فبعد أن يوجِّه‬
‫ج ِربَةٍ"‪ ،‬يرتكهم يسوع ‪،‬و جيثو‬
‫خلُوا فِي تَ َْ‬
‫تالمذته بقوله ‪ ":‬صَلُّوا ِل َكيَْ الَ َت َْد ُ‬
‫على ركبتيه‪،‬ويصلي" أَبَتَاهُ إن شِئَْتَ أن تُجِيزَ عَنِّي َهذِهِ ا ْل َك ْأسَ‪ .‬وََل ِكنَْ لَِت ُكنَْ الَ‬
‫إِرَادَتِي َبلَْ إِرَادَُتكَ" ‪ .‬يف عددٍ كبريٍ من املخطوطات تلي هذه الصالة هذه القصة‬

‫‪249‬‬
‫اليت ال جندها يف أيِّ موضعٍ آخر فيما لدينا من أناجيل ‪ ،‬واليت تتعلق بقلقه‬
‫السمَاءِ يُقَوِّيهِ‪.‬‬
‫الكٌ ِمنَ َّ‬
‫الشديد و ما يعرف بقطرات عرقه الدموية ‪َ ":‬وظَهَرَ َلهُ مَ َ‬
‫جهَادٍ كَانَ يُصَلِّي ِبأَشَدِّ لَجَاجَةٍ وَصَارَ عَ َرقُ ُه كَقَطَرَاتِ َدمٍ نَازِلَةٍ َعلَى‬
‫وَإِذَْ كَانَ فِي ِ‬
‫األَرَْضِ‪( " .‬العددان ‪).44 ، 43‬‬

‫ينتهي املشهد بقيام يسوع من الصالة وعودته إىل تالمذته ليجدهم نيامًا‪ .‬فيكرر‬
‫خلُوا فِي َتجَْرِبَةٍ" و على الفور يظهر يهوذا مع‬
‫توجيهه هلم ‪ ":‬صَلُّوا ِل َكيَْ الَ َت َْد ُ‬
‫اجلموع ويلقون القبض على يسوع‪.‬‬

‫إحدى اخلصائص املثرية هلذا النزاع حول هذه الفقرة هو تساوي كفة هذه‬
‫احلجج وتلك حول ما إذا كان العددان املتنازع عليهما (‪ ) 44 ، 43‬قد كتبهما‬
‫لوقا أم أدخلهما فيما بعد أحد النساخ ‪ .‬املخطوطات األقدم واليت يسلم العلماء‬
‫بكونها األفضل ( النص "السكندري") ال حتتوي هذين العددين يف‬
‫الغالب‪.‬لذلك من احملتمل أنهما إضافة متأخرة بيد ناسخ ‪ .‬من ناحية أخرى ‪،‬‬
‫هاتان الفقرتان موجودتان يف عدد قليل من الشواهد األخرى املبكرة وهما‬
‫غالبًا منتشرتان يف كل مكان من التقليد املخطوط ‪ .‬لذا فهل هما قد أضيفتا بيد‬
‫ناسخ أرادهما أنَّ يكونا جزءا من الكتاب املقدس أم حذفتا بيد آخر أراد‬
‫العكس ؟ من الصعوبة مبكان أنَّ جنيب على هذاالسؤال اعتمادًا على‬
‫املخطوطات ‪.‬بعض العلماء اقرتحوا أنَّ نستعني باخلصائص األخرى اليت‬

‫‪250‬‬
‫يتصف بها العددان لكي نقرر هذا األمر‪ .‬أحد العلماء ‪ ،‬على سبيل املثال ‪،‬‬
‫ادَّعى أنَّ الكلمات و األسلوب يف العددين يشبهان إىل حدٍ كبري ما جنده يف لوقا‬
‫يف موضع آخر ( هذه احلجة مبنية على "االحتماالت الداخلية ")‪ :‬على سبيل‬
‫املثال ‪ ،‬ظهورات املالئكة هي مسة شائعة يف لوقا ‪ ،‬وكلمات عديدة و مجل‬
‫موجودة يف الفقرة جندها يف مواضع أخرى يف لوقا ولكن ليس يف أي موضع‬
‫آخر يف العهد اجلديد ( مثل الفعل " يقوِّيه‪").‬‬

‫مل تقنع هذه احلجة أحدًا ‪،‬مع ذلك‪ ،‬ألن معظم هذه األفكار والرتاكيب و‬
‫اجلمل " اللوقاوية بطريقة مميزة " هي إما مصاغة بطرق ال تنتمي إىل األسلوب‬
‫اللوقاوي (على سبيل املثال ‪ ،‬املالئكة ال تظهر يف أيِّ مكان آخر من لوقا من‬
‫غري أن تتكلم ) أو شائعة يف النصوص اليهودية واملسيحية خبالف العهد اجلديد‬
‫‪ .‬زد على ذلك أنَّ هناك اجتماع غري طبيعي باملرة لكلمات ومجل غري عادية يف‬
‫هذين العددين ‪ :‬على سبيل املثال (كرب ‪،‬عَرَق‪ ،‬قطرات) ليس هلا وجود يف‬
‫موضع آخر يف لوقا وال يف سفر األعمال (الذي هو اجلزء الثاني لإلجنيل الذي‬
‫كتبه املؤلف عينُه )‪ .‬نظرا لذلك كله‪ ،‬من الصعب مبكان أنَّ نقرر أي شئ‬
‫خبصوص هذين العددين على أساس الكلمات واألسلوب‪.‬‬

‫حجة أخرى استعملها العلماء هلا عالقة بالبنية األدبيّة ‪(literary‬‬


‫بتأن من خالل‬
‫ٍّ‬ ‫)‪structure‬هلذه الفقرة ‪ .‬بإجياز ‪ ،‬هذه الفقرة يبدو أنها مبنيَّة‬

‫‪251‬‬
‫ما يعرفه عليه العلماء باعتباره قلب لرتتيب الكلمات يف مجلتني متشابهتني‬
‫‪(chiasmus) .‬حينما تبنى فقرة على هذا النحو ‪ ،‬الكلمة األوىل يف هذه‬
‫الفقرة تتطابق مع الكلمة األخرية منها؛ والكلمة الثانية تتطابق مع الكلمة قبل‬
‫األخرية ؛و الكلمة الثالثة تتطابق مع الكلمة اليت تسبق الكلمة قبل األخرية ‪،‬‬
‫وهكذا ‪ .‬أو دعونا نعرب عن هذا بطريقة أخرى فنقول ‪ :‬صياغة هذه الفقرة هي‬
‫صياغة مقصودة ؛ غرضها هو تركيز االنتباه على مركز الفقرة باعتباره مفتاح‬
‫اجلملة ‪ .‬و األمر نفسه جنده هنا‪:‬‬

‫فيسوع (أ) يطلب من تالميذه أنَّ "يصلوا كي ال يدخلوا يف جتربة" (العدد ‪) 41‬‬
‫ثم بعد ذلك يسوع (ب) يغادرهم (العدد ‪ 41‬أ) و (ج)جيثو على ركبتيه‬
‫للصالة (العدد ‪ 41‬ب)‪ .‬مركز هذه الفقرة هو (د) صالة يسوع ذاتها ‪،‬الصالة‬
‫اليت ضمَّنها طلبه بأن يتحقق ما يريده اهلل (العدد ‪ .) 42‬بعد ذلك يسوع (ج)‬
‫يقوم من صالته (عدد ‪ 45‬أ )‪( ،‬ب)يعود إىل تالميذه (عدد ‪ 45‬ب)‪ ،‬و (أ)‬
‫جيدهم نيامًا‪،‬ومرة أخرى يواجههم بالكلمات ذاتها ‪ ،‬فيقول هلم أنَّ " صلوا‬
‫لكي ال تدخلوا يف جتربة "(العددان ‪ 45‬ج ‪.) 46 ،‬وجود هذا البناء األدبي‬
‫الواضح حبد ذاته ليس هو القضية يف الواقع ‪ .‬بل القضية هي كيف أنَّ هذا‬
‫العكس لرتتيب الكلمات مهم لفهم معنى الفقرة ‪ .‬تبدأ القصة و تنتهي بوصيته‬
‫لتالميذه أن يصلوا إذا أرادوا أن يتجنبوا الدخول يف جتربة‪ .‬ظلت الصالة لوقت‬

‫‪252‬‬
‫طويل يف نظر الكثريين هي املوضع احملوريّ إلجنيل لوقا ( أكثر حتى من أي‬
‫إجنيل آخر )؛ و هنا تتجلى أهميتها اخلاصة ‪ .‬ألن صالة يسوع هي يف قلب‬
‫الفقرة ذاتها ‪ ،‬الصالة اليت تعرب عن رغباته ‪ ،‬واليت تتضمن رغبته األعظم بأن‬
‫تتمَّ مشيئة اهلل (العددان ‪ 41‬ج‪ .) 42 ،‬وباعتبارها مركزًا هلذا الرتكيب‬
‫املنعكس)‪ ، (chiastic structure‬تقدم هذه الصالة قضية الفقرة احملوريَّة‬
‫و‪،‬على حنوٍ متوازٍ‪ ،‬مفتاح تفسريها ‪ .‬هذا درس عن أهمية الصالة يف مواجهة‬
‫الشهوات ‪ .‬التالميذ ‪ ،‬على الرغم من طلب يسوع املتكرِّر هلم بأن يصلُّوا‬
‫‪،‬كانوا ينامون بدال من ذلك ‪ .‬وعلى الفور تأتي اجلموع للقبض على يسوع ‪.‬‬
‫وماذا حيدث ؟ التالميذ ‪ ،‬الذين فشلوا يف القيام بالصالة ‪ ،‬دخلوا " يف التجربة‬
‫"؛وهربوا من مسرح األحداث ‪،‬تاركني يسوع ليواجه مصريه وحيدًا ‪ .‬وماذا‬
‫عن يسوع ‪ ،‬اإلنسان الوحيد الذي صلَّى قبل أن خيضع للمحاكمة ؟ حينما‬
‫تصل اجلموع ‪ ،‬جند أنه خيضع بهدوء ملشيئة اآلب ويسلم نفسه للشهادة اليت‬
‫ِدتَْ له‪.‬‬
‫أع َّ‬

‫رواية لوقا عن اآلالم ‪ ،‬كما هو معروف ‪ ،‬هي قصة استشهاد يسوع ‪،‬‬
‫االستشهاد اليت كان اهلدف منه ‪،‬كما هو احلال مع مقتل الكثريين من‬
‫الشهداء‪،‬أن تقدم منوذجًا للمؤمن و الكيفية اليت حيافظ بها على رباطة جأشه‬

‫‪253‬‬
‫يف جمابهة املوت ‪ .‬فلسفة االستشهاد يف إجنيل لوقا تظهر أنَّ الصالة وحدها هي‬
‫اليت ميكن أن جتعل املرء على استعدادٍ للموت‪.‬‬

‫ماذا حيدث ‪ ،‬مع ذلك ‪ ،‬حينما يتمُّ إقحام العددين املتنازع عليهما (العددان‬
‫‪ ) 44 ، 43‬يف الفقرة ؟ على املستوى األدبي ‪ ،‬الرتتيب االنعكاسي‬
‫للكلمات )‪(chiasmus‬الذي يركِّز الفقرة على صالة يسوع يتمُّ تدمريُه نهائيًا‬
‫‪.‬‬
‫اآلن مركز الفقرة ‪ ،‬و من ثمَّ بؤرة اهتمامها ‪ ،‬يتحول إىل شدة الكرب الذي‬
‫واجهه يسوع ‪ ،‬شدة الكرب الفظيعة اليت كانت تتطلب ظهور ُمعِنيٍ خارقٍ‬
‫ليقويَ يسوعَ على حتملها‪ .‬من األمور اجلديرة باملالحظة يف هذه النسخة‬
‫للطبيعة ِّ‬
‫املطوَّلة من القصة أنَّ الصالة مل ينتج عنها الثقة بالنفس واهلدوء الذين حتلَّى‬
‫بهما يسوع يف بقية احلكاية ؛ نعم ‪ ،‬حدث فقط بعد أن يصلِّي "بأشد جلاجة "‬
‫أنَّ عرقه أخذ يف الظهور على هيئة قطرات عظيمة من الدماء املتساقطة على‬
‫األرض ‪ .‬ما أريد توضيحه ليس فحسب أنَّ تركيبًا أدبيًّا قد انهار ‪ ،‬و إمنا أنَّ‬
‫بؤرة االهتمام كلها تتحول إىل يسوع الواقع يف حالة كرب مفجعة و سحيقة و‬
‫الذي هو يف أشد احلاجة إىل تدخل خارق للطبيعة ‪.‬‬

‫هذا يف حدِّ ذاته ال يبدو كمشكلة مستعصية على احلل ‪ ،‬إىل أنَّ يدرك املرء أنه‬
‫ُورَ يسوع فيه على هذا النحو ‪ .‬على العكس‬
‫ليس هناك موضع يف إجنيل لوقا ص ِّ‬

‫‪254‬‬
‫من ذلك متامًا ‪ ،‬قطع لوقا شوطً طويال لكي يقدم رؤيةً مناقضةً متاما للرؤية‬
‫اليت يتبنَّاها هذان العددان ‪ .‬فبدال من دخوله يف آالمه جملال باخلوف و‬
‫االرجتاف‪ ،‬مكروبًا من مصريه احملتوم القريب ‪ ،‬جند أنَّ يسوع حسب تصوير‬
‫لوقا له ميضي إىل حتفه هادئا ورابط اجلأش واثقًا يف مشيئة أباه حتى النهاية ‪ .‬من‬
‫احلقائق الصادمة اليت هلا ارتباط وثيق مبشكلتنا النصية موضع الدراسة أنَّ لوقا‬
‫كان مبقدوره أن يرسم هذه الصورة ليسوع فقط عرب التخلص من التقاليد اليت‬
‫كانت تتناقض معها يف مصادره ( اإلجنيل وفقًا ملرقس على سبيل املثال )‪ .‬فقط‬
‫الشكل املطوَّل من النص الوارد يف لوقا ‪ 44 – 43 : 22‬يبدو خمالفا هلذه‬
‫القاعدة ‪.‬‬

‫مقارنة بسيطة بني نسخة مرقس من القصة حمل الدراسة من شأنها جالء هذه‬
‫األمر ( مع الوضع يف االعتبار أنَّ مرقس كان من مصادر لوقا – والذي قام‬
‫بتعديله لكي خيرج بتأكيداته الفريدة )‪ .‬ألن لوقا حذف قول مرقس أنَّ يسوع "‬
‫ابََْتدَأَ يَ َْدهَشُ وََيكَْتئِبُ "(مرقس ‪ ،) 33 : 14‬وكذلك تعليق يسوع أمام‬
‫ج ّداً حَتَّى ا ْلمَ َْوتِ! "‪ .‬وبدال من نزوله إىل األرض يف‬
‫تالميذه ‪ "،‬نَفْسِي حَزِينَةٌ ِ‬
‫كربٍ(مرقس ‪،) 35 : 14‬يسوع حسب لوقا جيثو على ركبتيه (لوقا ‪: 22‬‬
‫‪ .) 41‬يف لوقا ‪ ،‬مل يطلب يسوع أن تعرب عنه هذه الساعة (قارن مع مرقس‬
‫‪) 35 : 14‬؛وبدال من صالته ملراتٍ ثالث أن تُ َْنزَع عنه هذه الكأس (مرقس‬

‫‪255‬‬
‫‪ ،) 41 ، 39 ، 36 : 14‬جنده يطلب ذلك مرة واحدة (لوقا ‪42 : 22‬‬
‫)‪،‬مستهال صالته ‪،‬يف إجنيل لوقا وحده‪،‬بشرطٍ شديد األهميَّة ‪":‬إن شئت‪".‬‬

‫يصورُ فيه مصدر لوقا ‪،‬أي إجنيل مرقس‪ ،‬يسوع‬


‫وهكذا ‪ ،‬يف الوقت الذي ِّ‬
‫باعتباره مكروبًا عندما يصلِّي يف احلديقة ‪،‬يعيد لوقا صياغة هذا املشهد كامال‬
‫هلدف إظهار أنَّ يسوع كان هادئا يف مواجهة املوت ‪ .‬االستثناء الوحيد هو قصة‬
‫"عرق يسوع الدموي"‪ ،‬وهي احلكاية اليت ختلو منها أقدم وأفضل الشواهد اليت‬
‫لدينا ‪ .‬ملاذا يتعب لوقا نفسه يف التخلص من الصورة اليت رمسها مرقس عن‬
‫يسوع املكروب لو أنَّ كُ َْربَة يسوع كانت هي الغرض األساسي من القصة ؟‬

‫من الواضح أنَّ لوقا مل يكن يشاطر مرقس مفهومه عن يسوع املكروب اليائس‬
‫‪ .‬ليس مثَّة مكانٌ آخرُ يبدو فيه هذا األمر واضحًا أشد ما يكون الوضوح من‬
‫يصورُ مرقسُ يسوعَ وهو يف طريقه إىل‬
‫رواياتهما املتتالية عن صلب يسوع ‪ِّ .‬‬
‫جلجثة كإنسان صامت ‪ .‬تالميذه تركوه وهربوا ؛ حتَّى النسوة املؤمنات كنَّ‬
‫يراقبنه فحسب "من بعيد" ‪ .‬احلاضرون كلهم كانوا يسخرون منه – املارَّة‬
‫ض ِربَ وتعرض للسخرية وخُذِلَ‬
‫وزعماء اليهود و السارقان ‪ .‬يسوع املرقسيّ ُ‬
‫جرَ ‪،‬ال من قبل أتباعه فحسب‪،‬بل وحتى من قبل اهلل نفسه ‪ .‬كلماته‬
‫وهُ ِ‬
‫الوحيدة اليت تفوَّه بها يف هذا املوقف من أوله آلخره تأتي عند نهاية املشهد ‪،‬‬

‫‪256‬‬
‫حينما يصرخُ بصوتٍ عالٍ " إلوي ‪ ،‬إلوي ‪ ،‬ملا شبقتين "(إهلي ‪،‬إهلي ‪ ،‬ملا‬
‫تركتين ؟)‪ .‬ثم يطلق بعد ذلك صرخةً مدويةً و ميوت‪.‬‬

‫هذه الصورة ‪،‬مرة أخرى ‪ ،‬تتناقض متاما مع ما جنده يف إجنيل لوقا ‪ .‬ففي رواية‬
‫لوقا ‪ ،‬جند يسوع بعيدًا متاما عن أنَّ يكون صامتًا ‪ .‬وعندما يتكلم ‪ ،‬يظهر أنه ما‬
‫يزال رابط اجلأش واثقًا يف اهلل أبيه ‪،‬راضٍ عن قدره ‪،‬مهتمًّا أكثر مبصري‬
‫اآلخرين ‪ .‬ففي طريقه إىل الصلب ‪ ،‬وفقا ملا جاء يف إجنيل لوقا ‪،‬عندما يرى‬
‫يسوع جمموعة من النسوة يندبن سوء حظه ‪ ،‬خيربهنَّ أنَّ ال يبكني عليه بل‬
‫باألحرى على أنفسهنَّ و على أطفاهلن بسبب الكارثة اليت ستحل بهم قريبًا‬
‫(‪.) 31 – 27 : 23‬وبينما جيري تثبيتُه على الصليب باملسامري ‪ ،‬جنده يصلِّي‬
‫إىل اهلل ‪ ":‬يَا أَبَتَاهُ اغْفِرَْ َل ُهمَْ ألََّن ُهمَْ الَ يَعَْ َلمُونَ مَاذَا يَفْ َعلُونَ " بدال من أن حيافظ‬
‫على صمته‪.‬‬

‫شيقٍ مع أحد السا ِرقَيَْن‬


‫على الصليب ‪ ،‬يف وسط آالمه ‪ ،‬يدخل يسوع يف حوارٍ ِّ‬
‫املصلوبَيَْن إىل جواره ‪ ،‬مؤكِّدًا له أنهما سيجتمعان معًا يف هذا اليوم يف اجلنة‬
‫(‪ .) 43 : 23‬أكثر األمور تعبريًا عما نقول هو أنه بدال من أن يطلق يسوع يف‬
‫النهاية صرخته احلزينة بسبب هجر اهلل له‪،‬حسبما يصوره لوقا‪ ،‬يستودع روحه‬
‫عند أبيه الرحيم وكُلُّه ثقة يف منزلته عند اهلل ‪ ":،‬يَا َأبَتَاهُ فِي َيدَ َْيكَ أَ َْستَوَْدِعُ‬
‫رُوحِي "(‪).46 : 23‬‬

‫‪257‬‬
‫سيكون من العسري أن نغالي يف تقدير أهمية هذه التغيريات اليت أحدثها لوقا يف‬
‫مصدره (إجنيل مرقس) لكي نفهم مشكلة النص حمل دراستنا ‪ .‬ليس هناك‬
‫موضع يف رواية لوقا لآلالم يفقد يسوع فيه السيطرة على نفسه ؛ ومل حيدث‬
‫على اإلطالق أنَّ كان يسوع يف حالة عميقة و موهنة من الكرب بسبب ما‬
‫سيؤول إليه مصريه ‪ .‬فهو هنا مسيطر متاما على قدره ‪ ،‬يعرف ما جيب عليه فعله‬
‫وما سيحدث له مبجرد أن حيدث ‪ .‬إنه ذلك الرجل الذي يعيش يف سالم مع‬
‫نفسه و يواجه املوت بهدوء‪.‬‬

‫ماذا ‪ ،‬إذن ‪ ،‬سنقول عن عددينا املتنازع عليهما ؟ هذان هما العددان يف‬
‫اإلجنيل حسب لوقا كله الذان يقوِّضان هذه الصورة الواضحة ‪ .‬هنا فحسب‬
‫يشعُرُ يسوع باألسى على مصريه احملتوم ؛ هنا فحسب يفقد هدوءه ‪،‬هنا جنده‬
‫غري قادر على حتمل أعباء مصريه ‪ .‬ملاذا حذف لوقا كل آثار األسى الذي شعر‬
‫به يسوع يف كل موضعٍ آخر لو كان قد قصد أن يؤكِّده هنا بأقوى الكلمات ؟‬

‫ملاذا حيذف مادة من مصدره متوافقة مع هذا العدد قبل وبعد العددين موضع‬
‫دراستنا ؟ يبدو أنَّ رواية " العرق الدموي" ليسوع ‪ ،‬اليت ليس هلا وجود يف‬
‫أقدم و أفضل خمطوطاتنا ‪،‬ليست أصيلة يف إجنيل لوقا و إمنا هي إضافة أحدثها‬
‫أحد النساخ إىل اإلجنيل (‪).11‬‬

‫‪258‬‬
‫الصورة اليت رمسها لوقا ليسوع تتعارض ليس فقط مع ما جاء يف إجنيل مرقس‬
‫‪ ،‬و إمنا أيضًا مع تلك الواردة يف أسفار مؤلفي العهد اجلديد اآلخرين ‪،‬مبا يف‬
‫ذلك املؤلف اجملهول للرسالة إىل العربانيني ‪ ،‬الذي يبدو أنه افرتض مسبقا‬
‫معرفة تقاليد اآلالم اليت يواجه يسوع املوت خالهلا وهو مكروب و اليت مات‬
‫فيها بال أيِّ عونٍ من اهلل أو دعم منه ‪ ،‬وذلك ما ميكننا رؤيته يف حلِّ واحدة من‬
‫أكثر مشكالت العهد اجلديد إثارة‪.‬‬

‫هذه املشكلة النصية جندها يف سياق يتحدث عن خضوع كلِّ األشياء النهائي‬
‫ليسوع ‪ ،‬ابن اإلنسان‪ .‬ملرة أخرى ‪ ،‬سأضعُ القراءات املتباينة حمل الدراسة بني‬
‫األقواس ‪.‬‬

‫"ألنه عندما خيضع (اهلل) كلَّ شئٍ له ‪ ،‬مل يرتك شيئا غري خاضع له ‪ ،‬لكننا‬
‫لآلن مل نرَ كلَّ األشياء خاضعة له ‪ .‬لكننا رأينا يسوع بالفعل ‪ ،‬الذي ‪،‬كونه‬
‫جُ ِعلَ أقل شأنا من املالئكة لوقت قليل ‪ ،‬ك ُِّللَ باجملد والكرامة بسبب معاناته‬
‫املوت ‪ ،‬لكي يذوق املوت عن كل واحدٍ (بنعمة اهلل ‪ /‬بعيدا عن اهلل‬
‫)‪(".‬عربانيني ‪) 9 -8 : 2‬‬

‫‪259‬‬
‫على الرغم من أنَّ غالبية املخطوطات الباقية تصرح بأنَّ يسوع مات عن مجيع‬
‫البشر (بنعمة اهلل ))‪ ، ) CHARITI THEOU‬توجد خمطوطتان أخريان‬
‫تقوالن ‪ ،‬بدال من ذلك ‪،‬إنه مات " مبعزلٍ عن اهلل ‪" (CHORIS‬‬
‫‪THEOU).‬هناك أسباب جيدة جتعلنا نعتقد أنَّ القراءة األخرية ‪ ،‬مع كل‬
‫ذلك ‪ ،‬كانت هي القراءة األصلية يف الرسالة إىل العربانيني‪.‬‬

‫لست حباجة إىل الدخول يف التعقيدات اخلاصة بدعم املخطوطات للقراءة اليت‬
‫تقول " بعيدًا عن اهلل " إال لكي أقول إنه حتى لو وجدت هذه القراءة يف وثيقتني‬
‫فقط يرجع تاريخ كتابتهما إىل القرن العاشر ‪ ،‬فإن أحدها (وهي املخطوطة رقم‬
‫‪ ) 1739‬من املعروف أنها قد نقلت عن نسخة على األقل ال تقل ِقدَمًا عن‬
‫أقدم خمطوطاتنا‪.‬‬

‫األمر األكثر إثارة هو أنَّ أورجيانوس أحد علماء بواكري القرن الثالث خيربنا أنَّ‬
‫هذه القراءة (مبعزلٍ عن اهلل ) كانت هي القراءة الواردة يف أغلب املخطوطات‬
‫يف عصره ‪ .‬هناك دليل آخر كذلك يشري إىل ذيوع هذه القراءة يف العصور‬
‫القدمية‪ :‬فقد ُوجِ َدتَْ يف خمطوطات كانت معروفة للقدي َسيَْن "أمربوز" و"جريوم"‬
‫يف الغرب الالتيين واقتبسها عددٌ من كتاب الكنيسة حتى القرن احلادي عشر‪.‬‬
‫وهكذا ‪،‬على الرغم من أنها مل تكن ثابتة فيما لدينا من خمطوطات على نطاق‬
‫واسع‪،‬إال أنها يف الوقت ذاته كانت مدعومة بأدلة خارجية قوية‪.‬‬

‫‪260‬‬
‫وحينما يتحول املرء من االعتماد على دليل خارجي إىل االعتماد على دليل‬
‫داخلي‪،‬فال ريب يف أفضليَّة هذه القراءة املتباينة الثابتة يف املخطوطات ولو على‬
‫حنوٍ ضعيف‪.‬‬

‫ٍّ كبريٍ أنَّ يغيِّروا القراءة‬


‫رأينا بالفعل من قبل أنَّ النساخ كان من املرجَّح إىل حد‬
‫اليت يكون من الصعب فهمها إىل أخرى أكثر سهولة ‪ ،‬و العكس غري صحيح ‪.‬‬
‫قراءتنا هذه تقدِّم لنا حالة منوذجية هلذه الظاهرة ‪ .‬كان املسيحيون يف العادة يف‬
‫القرون األوىل ينظرون إىل موت يسوع باعتباره إظهارًا أمسى لنعمة اهلل ‪ .‬القول‬
‫إنَّ يسوع مات " مبعزلٍ عن اهلل " ميكن اعتبار أنه يعين عددًا من األشياء غالبها‬
‫غري مستساغ ‪ .‬وحيث إنَّ النساخ البد وأنهم قد اختلقوا إحدى هاتني القراءاتني‬
‫باالعتماد على القراءة األخرى ‪،‬فهناك تساؤلٌ صغريٌ عن أيِّ هاتني القراءتني‬
‫من املرجح أكثر أنه التحريف‪.‬‬

‫لكن‪...‬هل كان هذا التحريف عن عمدٍ ؟ املدافعون عن النص األكثر ورودا يف‬
‫املخطوطات " بنعمة اهلل " كان من املتحتم عليهم بالطبع أنَّ يزعموا أنَّ التغيري‬
‫مل يطرأ بشكل متعمَّد (وإال فسيكون نصهم املفضل هو الذي ميثِّل التحريف)‪.‬‬
‫حتت وطأة االضطرار ‪،‬إذن ‪ ،‬قاموا بابتكار سيناريوهات بديلة لتفسري األصل‬
‫(غري املقصود) للقراءة األكثر صعوبة ‪ .‬يف الغالب ‪،‬سيفرتضون ببساطة أنَّ‬
‫التشابه بني الكلمتني حمل الدراسة )‪ (XARITI/ XWRIS‬يف الشكل هو‬

‫‪261‬‬
‫الذي جعل النساخ خيطئون عن غري قصد فيضعون حرف اجلر(مبعزلٍ عن) بدال‬
‫من كلمة(نعمة‪) .‬‬

‫وجهة النظر هذه ‪،‬مع ذلك ‪ ،‬تبدو بعيدة االحتمال قليال‪ .‬فأيُّ احلالتني التاليتني‬
‫هي األكثر احتماال‪ :‬أنَّ يقوم ناسخٌ مهملٌ أو شارد الذهن بتغيري نصه من‬
‫خالل كتابة كلمة " أقل " تكرارا يف العهد اجلديد (مبعزلٍ عن اهلل ) ‪،‬أم أن‬
‫يستخدم أحدهم كلمة كثرية التكرار يف العهد اجلديد ("نعمة" شائعة أربع‬
‫أضعاف "مبعزل عن اهلل")؟ هل من احملتمل أن يكون هذا الناسخ قد اختلق‬
‫مجلة ليس هلا أي وجود يف أي مكان آخر يف العهد اجلديد ("مبعزلٍ عن اهلل) أم‬
‫أنه اختلق مجلة تكررت أكثر من عشرين مرة (" بنعمة اهلل")؟ ما هو األكثر‬
‫احتماال ‪:‬أن خيتلق قوال غريبا و مثريا للصعوبات ‪ ،‬ولو بغري قصد‪،‬أم أن خيتلق‬
‫اآلخر الذي يعترب قوال مألوفا وسهل الفهم ؟ بالتأكيد ‪ ،‬اخليار األخري هو‬
‫األكثر احتماال ‪ .‬فالقُرَّاء خيطئون يف الكلمات الغريبة لصاحل الكلمات الشائعة و‬
‫يبسطون ما هو أكثر تعقيدًا خاصة عندما تشرد أذهانهم جزئيًّا‪ .‬لذلك ‪،‬حتى‬
‫نظرية اإلهمال تدعم كون القراءة األقل ورودًا يف املخطوطات (مبعزلٍ عن اهلل)‬
‫هي القراءة األصلية‪.‬‬

‫النظرية األكثر شيوعًا يف أوساط من يعتقدون أنَّ مجلة " مبعزلٍ عن اهلل" ليست‬
‫اجلملة األصلية هي أنَّ هذه القراءة اختلقت كمالحظة هامشية ‪ :‬فقد قرأ أحد‬

‫‪262‬‬
‫ضعَتَْ لسلطان‬
‫النساخ يف العدد ‪ 8 : 2‬من سفر العربانيني أنَّ " كل األشياء" ُأخَْ ِ‬
‫املسيح ‪ ،‬وعلى الفور ذهب فكره إىل العدد ‪ 27 : 15‬من الرسالة األوىل إىل‬
‫أهل كورنثوس‪:‬‬

‫خضِ َعتَْ حتت قدمه (أي املسيح)‪ ".‬لكن حينما يقال أنَّ "‬
‫"ألن كل األشياء ُأ َْ‬
‫كل األشياء ستخضع‪ "،‬من الواضح أنها تعين كل األشياء باستثناء من‬
‫أخضعها له (أي أنَّ اهلل نفسه ليس من بني األشياء اليت أُخَْضِعَت للمسيح يف‬
‫النهاية‪).‬‬

‫وفقا هلذه النظرية ‪،‬الناسخ الذي كان يقوم بنسخ اإلصحاح ‪ 2‬من العربانيني‬
‫أراد أنَّ يوضح هنا أيضًا أنَّ النص يشري إىل أنَّ كل شئ هو خاضع للمسيح ‪،‬‬
‫وأنَّ هذا األمر ال ينطبق على اهلل اآلب‪ .‬وحلماية النص من أنَّ يسئ أحدٌ فهمه‬
‫‪،‬أدخل الناسخ مالحظة تفسرييَّة يف هامش العدد ‪ 8 : 2‬من العربانيني (كنوع‬
‫من اإلحالة إىل اكورونثوس ‪ )27 : 15‬ليشري إىل أنه ال شئ جنا من اخلضوع‬
‫للمسيح‪ "،‬باستثناء اهلل"‪ .‬هذه املالحظة انتقلت يف وقت تالٍ مبعرفة ناسخ مهمل‬
‫يف العصور التالية إىل نصِّ العدد التالي ‪ ،‬العربانيني ‪ ، 9 : 2‬حيث ظنَّ أنَّها‬
‫تنتمي إليه‪.‬‬

‫على الرغم من ذيوع هذا احلل ‪ ،‬إال أنه رمبا أذكى من أن يعتمد ويتطلب‬
‫حدوث كثري من اخلطوات املشكوك فيها لكي يتم التصديق عليه‪.‬‬
‫‪263‬‬
‫ليس هناك أي خمطوطة تضم بني ثناياها القراءتني معًا (أي التصحيح الذي وقع‬
‫للهامش أو لنص العدد ‪، 8‬حيث ينتمي اهلامش ‪،‬ومعهما النص األصلي‬
‫للعدد ‪ .) 9‬أضف إىل ذلك أنه لو ظنَّ ناسخٌ أنَّ املالحظة كانت تصحيحا ورد‬
‫يف اهلامش ‪،‬فلماذا وجده يف اهلامش بعد العدد ‪ 8‬وليس العدد ‪ 9‬؟ أخريًا ‪ ،‬لو‬
‫أنَّ الناسخ الذي اختلق اهلامش كان قد فعل ذلك ليشري إىل الرسالة األوىل إىل‬
‫أهل كورنثوس ‪ ،‬أمل يكن سيكتب " باستثناء اهلل ‪"( EKTOS THEOU)-‬‬
‫وهي اجلملة املوجودة بالفعل يف الرسالة األوىل إىل أهل كورنثوس) بدال من أنَّ‬
‫يكتب " مبعزلٍ عن اهلل ‪ "( CHORIS THEOU)-‬اليت ليس هلا وجود يف‬
‫الرسالة األوىل إىل أهل كورنثيوس؟‬

‫باجلملة ‪ ،‬من الصعب جدا تفسري مجلة (مبعزل عن اهلل ) لو أنَّ مجلة ( بنعمة‬
‫اهلل) كانت هي القراءة األصلية يف العربانيني ‪. 9 : 2‬‬

‫يف الوقت نفسه ‪ ،‬بينما يصعب توقع أنَّ ناسخًا قد قال إنَّ املسيح مات "مبعزلٍ‬
‫عن اهلل " ‪،‬جند أنَّ مثة أسبابًا منطقيةً للغاية تدفعنا إىل االعتقاد بأن هذه القراءة‬
‫حتديدًا هي ما خطته يدُ مؤلِّف الرسالة إىل العربانيني ‪ .‬ألن هذه القراءة األكثر‬
‫ورودًا يف املخطوطات هي أكثر توافقا مع العقيدة الالهوتية للرسالة إىل‬
‫العربانيني(" وهذا املنهج هو ما يعرف باالحتماالت الداخلية")‪ .‬فهذه الكلمة‬

‫‪264‬‬
‫"نعمة )‪" (CHARIS‬مل ترد مطلقا يف الرسالة كلها يف معرض اإلشارة إىل‬
‫موت يسوع أو إىل فوائد اخلالص اليت جاءت كنتيجة ملوته‪.‬‬

‫بدال من ذلك ‪ ،‬دائما ما جندها تتعلق بهبة اخلالص املكفولة للمؤمن برمحة اهلل‬
‫(انظر على وجه اخلصوص األعداد ‪ 16 : 4‬؛ و ‪ 29 : 11‬؛ و‪15 : 12‬‬
‫؛‪ 25 : 13‬من سفر الرسالة إىل العربانيني‪).‬‬

‫وللتأكيد على ذلك ‪ ،‬من املعروف تارخييًّا أنَّ املسيحيني كانوا أكثر تأثُّرًا‬
‫باملؤلفني اآلخرين للعهد اجلديد ‪،‬بولس على وجه اخلصوص‪،‬الذي كان يرى‬
‫يف تضحية يسوع على الصليب باعتبارها التجسيد األمسى لنعمة اهلل ‪ .‬لكنَّ‬
‫العربانيني ال تستخدم هذا املصطلح (نعمة اهلل) على هذا النحو على الرغم من‬
‫أنَّ النساخ الذي كانوا يعتقدون أنَّ مؤلف هذا السفر هو بولس رمبا مل يدركوا‬
‫هذا ‪.‬‬

‫من ناحية أخرى ‪،‬القول إنَّ يسوع قد مات " مبعزل عن اهلل"‪ -‬وهو القول‬
‫الغامض إذا فهمناه مبعزل عن السياق‪ -‬يعطي معنى مقنعًا يف سياقه األدبي‬
‫الواسع يف ثنايا الرسالة إىل العربانيني‪ .‬ويف حني أنَّ هذا املؤلف مل يشِر على‬
‫اإلطالق إىل موت يسوع باعتباره جتسيدا لل"نعمة" اإلهلية ‪ ،‬فهو يؤكد على‬
‫حنو متكرر أنَّ يسوع مات ميتة بشريَّة وخمزية متامًا ‪ ،‬وأنَّه أَُْب ِعدَ متاما عن اململكة‬
‫اليت جاء منها ‪ ،‬مملكة اهلل؛ وأنَّ تضحيته ‪ ،‬نتيجة لذلك‪ ،‬قبلها اهلل ككفارة‬
‫‪265‬‬
‫صحيحة عن اخلطية‪ .‬فوق ذلك ‪ ،‬مل يتدخل اهلل يف مسألة آالم يسوع ومل يفعل‬
‫شيئا ليخفف من آالمه ‪ .‬لذلك ‪ ،‬على سبيل املثال ‪،‬يتحدث سفر الرسالة إىل‬
‫العربانيني عن يسوع وهو يتضرع يف مواجهة املوت إىل اهلل بصرخات مدوية‬
‫وبدموع ‪ .‬يف العدد ‪ 2 : 12‬يقال عنه إنه احتمل " خزي " موتته‪،‬ليس ألن اهلل‬
‫قد أعانه على ذلك ‪،‬بل ألنه كان يأمل يف التربُّر ‪.‬ويف أحناء الرسالة ‪،‬يقال إنَّ‬
‫يسوع اخترب األمل و املوت اإلنسانيَّ ‪ ،‬مثل الكائنات البشرية األخرى " من كل‬
‫وجه "‪ .‬لكنَّ آالمه مل تكن كربة خففتها تدابري إهلية خاصة‪.‬‬

‫األمر األكثر أهمية هو أنَّ هذا هو موضوع رئيسي للسياق القريب لعدد ‪9 : 2‬‬
‫‪ ،‬الذي يؤكِّد أنَّ املسيح اختذ لنفسه وضعًا أقل من املالئكة لكي يشاركنا بالدم‬
‫و اللحم ولكي خيترب اآلالم اإلنسانيَّة ولكي ميوت ميتة إنسانية‪ .‬وللتأكيد على‬
‫ذلك‪،‬من املعروف أنَّ موت يسوع قد جلب اخلالص‪،‬لكنَّ الفقرة ال تقول أيَّ‬
‫كلمة عن نعمة اهلل كأمر واضح يف عمل املسيح الكفَّاري‪،‬بل تركز بدال من‬
‫ذلك على طبيعة املسيح وعن نزول املسيح إىل مملكة املوت واآلالم العابرة ‪ .‬لقد‬
‫اخترب يسوع اآلالم كإنسانٍ كاملٍ مبعزلٍ عن أي عون من جهة نفسه باعتباره‬
‫َملُه مبوته‪ ،‬املوت الذي كان من‬
‫كائنًا علويًّا‪ .‬العمل الذي بدأه عند نزوله يك ِّ‬
‫املتحتم أنَّ حيدث " مبعزلٍ عن اهلل‪".‬‬

‫‪266‬‬
‫كيف ميكن أن تكون القراءة "مبعزلٍ عن اهلل"‪ ،‬اليت ميكن تفسريها بصعوبة‬
‫كتحريف أحدثه النساخ متوافقة مع االختيارات اللغوية واألسلوبية والالهوتية‬
‫للرسالة إىل العربانيني‪ ،‬بينما القراءة البديلة "بنعمة اهلل"‪،‬اليت ال متثل للنساخ أي‬
‫صعوبة على اإلطالق ‪ ،‬تبدو متناقضة مع ما ختربنا به الرسالة إىل العربانيني عن‬
‫موت يسوع و مع الطريقة اليت استعملتها يف إخبارنا عن هذا املوت ؟ العدد ‪2‬‬
‫‪ 9 :‬من الرسالة إىل العربانيني يبدو أنه يف األصل كان يقول أنَّ يسوع مات "‬
‫مبعزلٍ عن اهلل " ‪ ،‬مرتوكًا ‪ ،‬على حنو مشابه كثريا للصورة اليت رمسها إجنيل‬
‫مرقس يف روايته عن آالم املسيح‪.‬‬

‫‪267‬‬
‫يف كل حالة من هذه احلاالت الثالث اليت ألقينا عليها الضوء ‪ ،‬هناك تباين‬
‫نصيّ هام يضطلع بدور هام يف الكيفية اليت يتم بها تفسري هذه الفقرة املستهدفة‬
‫بالدراسة ‪ .‬من املهم على حنوٍ واضح أنَّ نعرف ما إذا كان يسوع قد قيل عنه أنه‬
‫شعر بالشفقة أم بالغضب يف مرقس ‪ 41 : 1‬؛ وما إذا قد كان هادئا و رابط‬
‫اجلأش أم شاعر بقلق عميق يف العدد لوقا ‪ 44 - 43 : 22‬؛ وما إذا كان قد‬
‫قيل عنه إنه مات بنعمة اهلل أو " مبعزلٍ عن اهلل "يف العدد ‪ 9 : 2‬من الرسالة إىل‬
‫العربانيني‪.‬ميكننا أنَّ ننظر يف فقرات أخرى بسهولة كذلك ‪،‬لكي ندرك معنى‬
‫أهميةالتعرف على كلمات مؤلف ما إذا كنا نريد أنَّ نفسر رسالته‪.‬‬

‫بالنسبة للتقليد املخطوط للعهد اجلديد ‪ ،‬هناك ما هو أكرب بكثري من جمرد‬


‫التوصل إىل ما قاله مؤلفها بالفعل‪ .‬هناك أيضًا قضية (األسباب) اليت من أجلها‬
‫تعرضت هذه الكلمات للتغيري وكيف تؤثر هذه التغيريات على معاني كتاباتهم‬
‫‪.‬هذه القضية املتعلقة بتعديل الكتاب املقدس يف الكنيسة املسيحية األوىل‬
‫ستكون موضوع الفصلني التاليني حيث سأحاول أن أوضح كيف أنَّ النساخ‬
‫‪،‬الذين مل يكونوا راضني متاما عن ما قالته أسفار العهد اجلديد ‪،‬عدَّلوا‬

‫‪268‬‬
‫كلماتها ليجعلوها تدعم املسيحية األرثوذكسية بصورة أوضح ولكي تعارض‬
‫اهلراطقة والنساء واليهود والوثنيني بصورة أكرب‪.‬‬

‫‪269‬‬
‫]‪[1‬لالطالع على شرح أكثر تفصيال هلذه املناهج ‪ ،‬انظر كتاب " نص الكتاب املقدس ‪" (text of the new‬‬
‫)‪ ،testament‬لربوس ميتزجر و بارت إرمان ‪ ،‬ص ‪.315 – 311‬‬

‫]‪[2‬من بني أمور أخرى ‪،‬هذا يعين أن القراءات يف نص األغلبية " البيزنطي" ليست بالضرورة هي القراءات األفضل ‪ .‬فهذه‬
‫القراءات تتمتع ببساطة بدعم املخطوطات على قاعدة عددها جمردًا‪ .‬وكما يقول القول املأثور املعروف يف أوساط نقاد‬
‫النصوص ‪ ":‬املخطوطات تُقَيَّم وال تعَدُّ"‪.‬‬

‫]‪[3‬بعض العلماء يعتربون هذه القاعدة هي أهم و أكثر مبادئ علم النقد النصي مجيعا مصداقية‪.‬‬

‫]‪[4‬كثري مما سيأتي مأخوذ من مقاليت " النص والتقليد ‪:‬دور خمطوطات العهد اجلديد يف الدراسات املسيحية املبكرة‬
‫‪"،‬وجتدونه يف جريدة النقد النصي على الرابط التالي‪:‬‬

‫‪http://rosetta.reltech.org/TC/vol05/Ehrman2000a.html‬‬

‫]‪[5‬ملناقشة أكثر تفصيال هلذه القراءة املتباينة ‪ ،‬وأهميتها بالنسبة للتفسري ‪ ،‬انظر مقاليت" خاطئ بني يدي يسوع الغاضب ("‬
‫)‪ ،A Sinner in the Hands of an Angry Jesus‬يف كتاب " العهد اجلديد اليوناني والتفاسري‪ :‬مقاالت تكرميا‬
‫جلريالد‪.‬ف‪.‬هاوثورن‪،‬بتحرير تيموثي ‪ .‬ب‪ .‬سيلورز( مطبعة‪ :‬جراند رابيدز‪:‬إيردمانز‪ .) 2113،‬اعتمدت على هذا املقال يف‬
‫كثري من املناقشة التالية‪.‬‬

‫]‪[6‬انظر كتاب"العهد اجلديد"‪،‬لبارت إرمان ‪ ،‬الفصل ال‪.6‬‬

‫]‪[7‬يف موضعني آخرين فقط يف إجنيل مرقس يوصف يسوع بوضوح أنه شفوق ‪:‬يف مرقس ‪ ، 34 : 6‬عند إطعام اآلالف‬
‫اخلمسة ‪ ،‬ويف مرقس ‪ ، 2 : 8‬عند إطعام األربعة آالف ‪.‬أما لوقا فيحكي القصة األوىل على حنو مغاير كليًّا‪ ،‬وال يذكر‬
‫الثانية ‪ .‬متَّى ‪ ،‬رغم ذلك ‪،‬يذكر القصتني كلتيهما و حيتفظ بالوصف الذي ذكره مرقس عن شفقة يسوعفي املوضعني كليهما‬
‫(متَّى ‪ 14 : 14‬و ‪) 31 : 9‬؛ وكذلك يف ‪ .) 32 : 15‬يف ثالثة مواقف أخرى يف متَّى ‪ ،‬وكذلك يف مناسبة أخرى يف لوقا‬
‫يوصف يسوع باعتباره شفوقا ‪،‬باستخدام هذا التعبري ‪ (SPLANGNIZO).‬من الصعب ‪،‬إذن ‪ ،‬ختيُّل السبب الذي‬
‫جيعلهما ‪ ،‬كل منهما على حنو مستقل ‪ ،‬حيذفان التعبري من روايتهما اليت نناقشهما اآلن لو كانا قد وجداها يف مرقس‪.‬‬

‫‪270‬‬
‫]‪[8‬لالطالع على هذه التفسريات املتنوعة ‪ ،‬انظر مقال بارت إرمان " خاطئ بني يديّ يسوع الغاضب ‪."(a sinner in‬‬
‫)‪the Hands of an angry Jesus‬‬

‫]‪[9‬لالطالع على مناقشة أكثر تفصيال لألسباب اليت جعلت النساخ يغريون الرواية األصلية ‪ ،‬انظر الصفحتني (‪– 211‬‬
‫‪) .211‬‬

‫(مقصود املؤلف هو الصفحتان يف النص اإلجنليزي‪...‬املرتجم‪).‬‬

‫]‪[10‬لالطالع على مناقشة أكثر تفصيال هلذه القراءة املتباينة ‪،‬انظر كتاب إرمان " األرثوذكس حرفوا الكتاب املقدس ("‬
‫)‪ ،Orthodox Corruption of Scripture‬ص ‪ . 194 – 187‬معاجليت األوىل هلذه الفقرة كتبته بالتعاون مع‬
‫مارك بالنكيت‪.‬‬

‫]‪[11‬للطالع على مناقشة لألسباب اليت حدت بالنساخ إىل إضافة العددين إىل رواية لوقا انظر الصفحتني ‪165 – 164‬‬
‫فيما يلي‪.‬‬

‫ملحوظة‪:‬‬

‫يقصد املؤلف هاتني الصفحتني حسب الرتقيم يف النسخة اإلجنليزية‪....‬املرتجم‬

‫]‪[12‬لالطالع على دراسة أكثر تفصيال هلذه القراءة املتباينة ‪ ،‬انظر كتاب" األرثوذكس حرفوا الكتاب املقدس " لبارت‬
‫إرمان ‪ ،‬ص ‪.151 – 146‬‬

‫‪271‬‬
‫"‬ ‫"‬

‫يتناول علم النقد النصي ما هو أكثر من جمرد حتديد النص األصلي ‪ .‬فهو يعمل‬
‫أيضًا على رصد الكيفية اليت متَّ من خالهلا تعديل النص عرب الزمن سواء‬
‫بسبب هفوات النساخ أو حتريفهم املقصود هلا ‪.‬هذا النوع األخري‪،‬أي التغيريات‬
‫العمدية‪ ،‬مهمٌّ للغاية‪ ،‬ال ألنَّه فحسب يساعدنا بالضرورة على فهم ما كان‬
‫املؤلِّفون األصليون حياولون قوله ‪،‬بل أيضًا ألنَّه قادر على أن يوضح لنا شيئًا‬
‫عن الكيفية اليت كان النساخ ‪،‬الذين أعادوا إنتاج النصوص‪ ،‬يفسِّرون بها‬
‫النصوص اليت كتبها املؤلفون‪ .‬ومن خالل رصد الكيفية اليت حرَّفوا من خالهلا‬
‫النصوص اليت بني أيديهم ‪،‬ميكننا اكتشاف إشارات تدلُّنا على ما كان هؤالء‬
‫النساخ يظنونه ُمهِمَّا يف النص‪،‬وهكذا ميكننا أن نتعلم الكثري فيما يتعلق بتاريخ‬
‫النصوص عندما كانت تُنسخ و يعاد نسخها عرب القرون‪.‬‬

‫الفرضية اليت ينبين عليها هذا الفصل هي أن نصوص العهد اجلديد يف بعض‬
‫األحيان كانت تتعرض للتحوير ألسباب الهوتية ‪ .‬هذا كان حيدث كلَّما كان‬
‫‪272‬‬
‫النسَّاخ القائمون على عملية النسخ معنيني بالتأكُّد من أن النصوص تقول ما‬
‫يريدونها أن تقوله ؛ وأحيانًا يكون هذا بسبب نزاعات الهوتية اشتعلت يف‬
‫العصر ذاته الذي عاش فيه النسَّاخ ‪ .‬ولكي نفهم هذا النوع من التغيري‪،‬يلزمنا‬
‫أن نستوعب بعض املفاهيم عن النزاعات الالهوتية يف القرون املبكرة للمسيحية‬
‫قبل الظهور واسع النطاق للنسّاخ "احملرتفني " ـ وهي القرون اليت حدثت فيها‬
‫غالبية حتريفات الكتاب املقدس ‪.‬‬

‫منلك معلومات كثرية عن املسيحية خالل القرنني الثاني والثالث ‪ -‬وهو‬


‫العصر الذي يقع ‪ ،‬فلن ُقلَْ ‪،‬بني اكتمال كتابة أسفار العهد اجلديد و حتوُّل‬
‫اإلمرباطور الروماني قسطنطني إىل اإلميان‪ ،‬الذي‪،‬كما رأينا‪،‬غيَّر كل شئ (‪)1‬‬
‫‪ .‬هذان القرنان بشكل خاص كانا غنيني بالتنوُّع الالهوتيِّ بني املسيحيني‬
‫األوائل‪ .‬يف الواقع ‪ ،‬كان التنوُّع الالهوتيُّ واسعًا جدًا إىل الدرجة اليت جعلت‬
‫جمموعات أطلقت على نفسها اسم املسيحيني يعتنقون املعتقدات واملمارسات‬
‫اليت يصِّرُّ معظم مسيحيي اليوم على أنَّها ليست معتقدات مسيحية مطلقًا (‪. )2‬‬
‫يف القرنني الثاني والثالث كان مثَّة مسيحيون يؤمنون بأنه ال إله إال إلهٌ واحدٌ‬

‫‪273‬‬
‫خلق كلَّ شئ‪ .‬أناس آخرون من الذين يسمُّون أنفسهم املسيحيني أصرُّوا على‬
‫أن للكون إهلني اثنني متمايزين ‪ -‬إلهٌ للعهد القديم ( إله النقمة ) وإلهٌ للعهد‬
‫اجلديد ( إله احملبة و الرمحة)‪ .‬هاذان مل يكونا وجهني خمتلفني لإلله نفسه‪ :‬بل‬
‫كانا يف الواقع إهلني خمتلفني متامًا‪ .‬من املدهش أن اجملموعات اليت تفوهت بهذه‬
‫املزاعم ‪ -‬مبا يف ذلك أتباع مرقيون ‪ ،‬الذين تعرفنا عليهم من قبل‪،‬أصرَّت‬
‫على أن رؤاها كانت هي التعاليم احلقة اليت نادى بها يسوع وتالميذه‪.‬‬
‫جمموعات أخرى ‪ ،‬من املسيحيني الغنوصيني على سبيل املثال‪ ،‬أصرُّوا على أنه‬
‫مل يكن مثة إهلني اثنني فحسب‪ ،‬بل اثنا عشر إهلا‪ .‬وآخرون قالوا‪ :‬بل ثالثون‬
‫إهلًا ‪ .‬و آخرون استمروا يف القول أن اآلهلة ‪ 365‬إهلًا ‪ .‬كل هذه اجملموعات‬
‫زعمت أنَّها مسيحية وأصرت على أن رؤاها هي الرؤى احلقة و أن يسوع‬
‫وتالميذه بشروا بها‪ .‬ملاذا بكل بساطة مل تقرأ هذه اجملموعات األخرى عهدها‬
‫اجلديد لريوا أن آراءهم كانت خاطئة ؟ هذا ألنه مل يكن مثة عهدٌ جديدٌ‪.‬‬
‫وللتدليل على ذلك ‪ ،‬كلُّ كتب العهد اجلديد كانت قد كتبت قريبًا من هذا‬
‫الوقت ‪ ،‬ولكن كان مثة كثريٌ من الكتب األخرى أيضًا كلها تزعم أنَّها كُِتَبتَْ‬
‫بأقالم تالميذ يسوع نفسه ‪ -‬منها األناجيل وأعمال الرسل ورسائل ورؤًى‬
‫أخرى كانت حتوي وجهات نظر أخرى ختتلف أشدُّ االختالف عن تلك‬
‫املوجودة يف الكتب اليت حدث يف النهاية وأن أصبحت تُ َْعرَفُ بالعهد اجلديد‪.‬‬
‫العهد اجلديد نفسه ظهر نتيجة هلذه الصراعات حول العقيدة يف اهلل ( أو اآلهلة)‬
‫‪274‬‬
‫حيث اكتسبت جمموعة من جمموعات املؤمنني متحوِّلني إىل اإلميان أكثرَ مما‬
‫اكتسبته اجملموعاتُ األخرى وحدَّدت الكتب اليت ينبغي أن تتضمنها القائمة‬
‫الرمسية للكتاب املقدس‪ .‬يف القرنني الثاني والثالث ‪،‬رغم ذلك‪،‬مل يكن مثة‬
‫قائمة رمسية وال عقيدة الهوتية متفق عليهما ‪ .‬بدال من ذلك ‪ ،‬كان هناك تنوعٌ‬
‫كبريٌ ‪:‬جمموعات متنوعة تؤكد على عقائد الهوتية متنوعة مبنية على نصوص‬
‫مكتوبة متنوعة وكلُّها يزعم أنه قد كُِتبَ بأقالم تالميذ يسوع ‪.‬‬

‫بعض من هذه اجملموعات املسيحية أصرَّت على أن اهلل قد خلق هذا العامل ؛‬
‫آخرون رأوا أن اإلله احلق مل خيلق العامل (الذي هو‪،‬يف النهاية‪،‬مكان شرير)‪،‬‬
‫لكنَّ العامل نتج عن كارثة كونية ‪ .‬بعضٌ من هذه اجملموعات أصرَّ على أن‬
‫الكتب املقدسة اليهودية أوحاها اإللهُ الواحدُ احلقُّ ؛ آخرون زعموا أن الكتب‬
‫املقدسة اليهودية تنتمي إىل إلهِ اليهودِ األقلِّ شأنًا الذي مل يكن هو نفسه اإلله‬
‫الواحد احلق‪ .‬بعض هذه اجملموعات أصرَّت على أن يسوع املسيح كان االبن‬
‫الوحيد لإلله و أنَّه كان إنسانًا كامال وإهلًا كامال ؛ جمموعات أخرى أصرَّت‬
‫على أن املسيح كان إنسانًا تامًّا ومل يكن إهلًا على اإلطالق ؛ آخرون ادعوا أنه‬
‫كان إهلًا كامال ومل يكن إنسانًا على اإلطالق؛ وأكد البعض اآلخر أن يسوع‬
‫املسيح كان الشيئني كليهما ‪ :‬كائنًا إهليًّا ( املسيح) و كائنا بشريًّا (يسوع)‪ .‬بعض‬
‫هذه اجملموعات آمنت بأن موت املسيح حدث ألجل خالص العامل؛ بينما أكد‬

‫‪275‬‬
‫اآلخرون أن موت املسيح مل يكن له أيَّ عالقة خبالص العامل؛ يف حني أصرَّت‬
‫جمموعات أخرى على أن املسيح مل َيمُتَْ أبدًا يف احلقيقة ‪.‬كل واحدة من‬
‫وجهات النظر هذه ‪ -‬ووجهات نظر أخرى باإلضافة إليها ‪ -‬كانت حملًّا‬
‫لنقاشات وحوارات و مناظرات متواصلة طوال القرون األوىل من عمر الكنيسة‬
‫حيث كان املسيحيون من خمتلف املعتقدات حياولون إقناع اآلخرين بصحة‬
‫مزاعمهم ‪ .‬جمموعةٌ واحدةٌ يف النهاية "خرجت منتصرة" من هذه املناظرات‪ .‬إنها‬
‫تلك اجملموعة اليت قررت ما ستكون عليه العقائد املسيحية ‪ :‬االعتقادات اليت‬
‫ستؤكد أنه ليس مثة إال إله واحد ‪ ،‬هو اخلالق ‪ ،‬ويسوع ابنه هو اإلنسان و اإلله‬
‫كالهما ؛ وأنَّ اخلالص متَّ باملوت والقيامة ‪ .‬وهي أيضًا تلك اجملموعة اليت‬
‫قررت أيَّ الكتابات ستتضمنها القائمة الرمسيَّة للكتاب املقدس‪ .‬لقد اتفق‬
‫معظمُ املسيحيِّني ‪،‬قريبًا من نهاية القرن الرابع‪،‬على أن األناجيل األربعة وسفر‬
‫األعمال ورسائل بولس وكذلك جمموعة أخرى من الرسائل مثل رساليت‬
‫يوحنا األوىل وبطرس األوىل ‪،‬إىل جانب رؤيا يوحنا‪ ،‬هم جزء من القائمة‬
‫الرمسية ‪ .‬ويا تُرى من كان يقوم بنسخ هذه النصوص ؟ هم أنفسهم املسيحيون‬
‫تام‬
‫ٍّ‬ ‫من أعضاء الرعويات نفسها ‪،‬أي املسيحيون الذين كانوا على وعي‬
‫بـاملناظرات اليت دارت حول شخص اإلله وحول منزلة الكتب املقدسة اليهودية‬
‫وطبيعة املسيح وآثار موته بل وكانوا حتى مشاركني فيها‪ .‬إنها اجملموعة اليت‬
‫نصَّبت من نفسها "أرثوذكسًا"( اليت تعين أنهم يؤمنون مبا يعتربونه هم "‬
‫‪276‬‬
‫االعتقاد الصحيح") ثمَّ قرَّرت ما ستؤمن به األجيال املسيحية التالية وما ستقرأه‬
‫على اعتبار أنَّه الكتاب املقدس ‪ .‬إذن ما االسم الذي ينبغي أن نطلقه على‬
‫وجهات النظر "األرثوذكسية" يف الفرتة اليت سبقت حتوهلا إىل الرأي الغالب‬
‫عند كل املسيحيني ؟ رمبا من األفضل أن نسميها "ماقبل األرثوذكسية "‬
‫‪(proto-orthodox).‬ما يعين أنها متثل وجهات نظر املسيحيني "‬
‫األرثوذكس" قبل أن ينتصروا يف النزاعات اليت وقعت يف وقتٍ قريبٍ من‬
‫بواكري القرن الرابع امليالديّ‪.‬‬

‫هل أثرت هذه النزاعات على النسّاخ حينما كانوا يقومون بنسخ كتبهم املقدسة‬
‫؟ يف هذا الفصل سأزعم أنها أثَّرت‪ .‬ولبيان هذه املسألة‪،‬سأقتصر على قضية‬
‫متثلُ جانبًا واحدًا فحسب من جوانب النزاعات الالهوتية‬
‫طبيعة املسيح اليت ِّ‬
‫املتواصلة خالل القرنني الثاني والثالث‪ .‬هل كان املسيحُ إنسانًا ؟ هل كان إهلًا ؟‬
‫أم كان االثنني كليهما ؟ ولو كان هو االثنني كليهما‪ ،‬فهل كان كائنني منفصلني‬
‫أحدهما بشريٌّ واآلخر إهليٌّ ؟ أما كان كائنا واحدا بشريًّا وإهليًّا يف الوقت ذاته‬
‫؟‬

‫هذه هي األسئلة اليت متَّت اإلجابة عنها يف نهاية األمر عرب العقائد اليت صيغت‬
‫ثمَّ استمر تناقلها إىل أن وصلتنا يف عصرنا احلالي‪،‬إنها العقائد اليت تنصُّ على‬
‫أنَّه يوجد" ربٌّ واحدٌ يسوعُ املسيح " الذي كان إهلًا كامال وإنسانًا كامال‪ .‬قبل أن‬

‫‪277‬‬
‫تصدر هذه القرارات ‪،‬كان مثَّة اختالفات واسعة وكان هلذه االختالفات تأثريها‬
‫على نصوص كتابنا املقدس (‪. )3‬ولتوضيح هذا األمر سأدرس ثالثة مواضع‬
‫للنزاع حول طبيعة املسيح وسأرصد الطرق اليت غيَّر من خالهلا نسَّاخٌ حسين‬
‫النية(ال شك يف ذلك) نصوص الكتب اليت ستصبح فيما بعد العهد اجلديد‪ .‬لقد‬
‫حرَّفوا النصوص اليت لديهم عن عمد بغية جعلها أكثر موافقةً لوجهات نظرهم‬
‫الالهوتية الشخصيَّة وأقل موافقة لوجهات النظر الالهوتية اليت يعتنقها‬
‫خصومهم ‪ .‬أول املواضع اليت سأتناوهلا بالبحث تتعلق بزعم بعض املسيحيني‬
‫أن يسوعَ كان إنسانًا كامال لدرجة ال ميكن معها أن يكون إهلًا ‪ .‬و تلك كانت‬
‫وجهة نظر جمموعة من املسيحيني يسميها العلماء اليوم بالتبنَّويني‬
‫‪(adoptionists).‬وجهة نظري اليت أجادل إلثباتها هي أن النسَّاخ‬
‫املسيحيني الذين كانوا خصومًا لوجهات النظر التبنّوية حول يسوع قاموا بتعديل‬
‫نصوصهم يف بعض املواضع لكي يؤكَّدوا وجهة نظرهم القائلة أن يسوع مل‬
‫يكن إنسانًا فحسب وإمنا كان إهلًا أيضًا‪ .‬ميكننا أن نسمي هذه التعديالت‬
‫حتريفات الكتاب املقدس املضادة للتبنَّويني‪.‬‬

‫‪278‬‬
‫عددٌ من اجملموعات املسيحية يف القرنني الثاني والثالث نعلم عنها أنَّها كان هلا‬
‫وجهات نظر" تبنَّويّة" فيما يتعلق باملسيح ‪ .‬وجهة النظر هذه سُمِّيت بالتبنَّوية ألنَّ‬
‫ٍإهلي وإمنا هو كائنٌ بشريُّ كاملٌ‬
‫ٍّ‬ ‫املؤمنني بها أكدُّوا أن يسوع مل يكن من جوهر‬
‫من حلمٍ ودمٍ " تبنّاه" اهلل لكي يصري ابنًا له وهو ما حدث غالبًا أثناء حلظة عماده‬
‫(‪ . )4‬أحدًُ أشهرِ اجملموعات املسيحية املبكرة اليت اعتنقت عقائد تبنَّوية حول‬
‫املسيح كانت طائفة من اليهود املتنصرين عرفت باسم األبيونيني‪.‬‬

‫لسنا على يقني من السبب الذي من أجله أطلق عليهم هذا االسم ‪ .‬فمن‬
‫احملتمل أنه ظهر كتسمية أطلقوها هم على أنفسهم استمدُّوها من االسم العربي‬
‫إبيون)‪ (Ebyon‬الذي يعين " فقري"‪ .‬أتباع يسوع هؤالء من احملتمل أنَّهم تأسَّوا‬
‫بتالميذ يسوع األوائل يف التخلِّي عن كلِّ شئٍ ميلكونه يف سبيل إميانهم وهكذا‬
‫فرضوا على أنفسهم فقرًا اختياريًّا من أجل اآلخرين ‪.‬‬

‫مهما يكن مصدر االسم الذي محلوه فقد ذُكِرَت آراء هذه اجملموعة بوضوح يف‬
‫سجالتنا املبكرة‪،‬خاصة تلك اليت كتبها أعداؤهم الذين نظروا إليهم باعتبارهم‬
‫هراطقة‪ .‬أتباع يسوع هؤالء كانوا مثلََه يهودًا ؛حيث كان إصرارهم على أن‬
‫اإلنسان "لكي يصري تابعًا من أتباع يسوع فعليه أن يكون يهوديًّا" هو ما كان‬
‫مييِّزُهم عن املسيحيني اآلخرين‪ .‬فكون اإلنسان يهوديًّا يعين بالنسبة للرجال أن‬

‫‪279‬‬
‫خيتتنوا‪ .‬وبالنسبة للرجال والنساء‪،‬كان ذلك يعين اتِّباع الشريعة اليهودية اليت‬
‫جاء بها موسى مبا يف ذلك أحكام الطعام الكوشري (احلالل) وحفظ السبت و‬
‫األعياد اليهوديَّة‪.‬‬

‫لقد كان مفهومُهم عن يسوع باعتباره مسيحًا يهوديّا هو‪،‬على وجه‬


‫اخلصوص‪ ،‬ما فرَّق بني هؤالء املسيحيني وبني اآلخرين‪ .‬ألنَّه وحيث إنهم كانوا‬
‫موحِّدين شديديِّ االلتزام ـ أي يؤمنون بأنًّ واحدًا فحسب هو املستحق ألن‬
‫يكون إهلًا ـ فقد أصرُّوا على أن يسوع مل يكن إهلًا‪،‬بل كائنًا بشريًّا ال خيتلف يف‬
‫"الطبيعة" عن بقيتنا‪ .‬فهو قد ُولِدَ من اتِّحادٍ جنسيِّ بني أبويه يوسف ومريم ووُلِد‬
‫ٍّ‪.‬‬
‫مثل أيِّ شخصٍ آخرَ ( فأمُّه مل تكن عذراءً) وتربّى ‪،‬من ثمَّ‪ ،‬يف بيت يهودي‬
‫أمَّا ما جعل يسوع خمتلفًا عن اآلخرين كلِّهم فهو أنه كان أكثرهم برًّا يف اتِّباعه‬
‫للشريعة اليهودية؛ ومن أجل شدة برِّه تبنَّاه اهلل لكي يصري ابنه يف حلظة العماد‬
‫حينما سُمِع صوتٌ قادم من السماء يعلن أنَّه ابنَ اهلل ‪ .‬من تلك اللحظة فصاعدًا‬
‫‪،‬شعر يسوع أنه مدعوٌّ إلكمال املهمة اليت كان اهلل قد أوكلها إليه ـ املوتُ على‬
‫الصليب كأضحيةٍ كرمية من أجل خطايا اآلخرين ‪.‬‬

‫فعل ذلك بطاعة خملصة جتاه ما ُدعِي إليه ؛ الرب حينئذ أكرم تضحيته بإقامته‬
‫يسوع من بني األموات ورفعه إىل السماء حيث ينتظر إىل اآلن قبل عودته‬
‫لدينونة األرض ‪.‬‬

‫‪280‬‬
‫وحبسب األبيونيني‪،‬مل يكن ليسوع‪،‬إذن‪،‬وجود قبل الزمان؛ وهو مل يُولَد من‬
‫عذراء ؛ومل يكن إهلًا‪ .‬كان يسوع إنسانًا بارًّا و مميَّزًا اختاره اهلل وأواله عالقة‬
‫خاصة معه‪.‬‬

‫ردًا على وجهات النظر التبنّويّة تلك ‪،‬مسيحيو ما قبل األرثوذوكسية أصرّوا‬
‫على أن يسوع مل يكن إنسانًا " فحسب" ‪ ،‬وإمنا كان بالفعل من جوهرٍ إهليّ‪،‬‬
‫بل كان هو اهلل نفسه من بعض الوجوه‪ .‬فلقد ُوِلدَ من عذراء‪،‬وكان أكثرَ برًّا من‬
‫أيِّ إنسانٍ آخرَ حبكم جوهره املختلف‪ ،‬ويف حلظة عماده مل يعلنه اهلل ابنا ( عرب‬
‫التبنّي ) وإمنا أكّد فقط بنوته له كما هوحاله منذ األزل‪.‬‬

‫كيف أثرت هذه النزاعات على نصوص الكتاب املقدَّس اليت كانت منتشرة‬
‫خالل القرنني الثاني والثالث ‪ ،‬اليت هي تلك النصوص كانت يف طور الّنسَْخ‬
‫من خالل نُسَّاخٍ غري حمرتفني كانوا هم أنفسهم متورطني إن بصورة أكرب أو أقل‬
‫يف تلكم النزاعات ؟ هناك القليل جدا ‪،‬بل تكاد تكون منعدمة‪،‬من القراءات‬
‫املتباينة اليت يبدو أنها كتبت عرب نساخ كانوا يعتنقون وجهة نظر تبنّوية ‪ .‬سبب‬
‫هذه الندرة يف األدلة ال ينبغي أن يصيبنا بالدهشة ‪ .‬فلو حدث أن أحد املسيحيني‬
‫التبنَّويني كان قد أدخل وجهات نظره إىل نصوص الكتاب املقدس ‪،‬فبالتأكيد‬
‫سيجد من يصحِّحُها من بني النسَّاخِ املتأخرين ممن يعتنقون خطًّا أكثر‬
‫أرثوذكسية‪ .‬ما وجدناه بالفعل‪،‬مع ذلك‪،‬هي مناذج تعرَّضت فيها النصوص‬

‫‪281‬‬
‫للتحريف على حنوٍ يبدو وكأنه قد حدث ملواجهة وجهة نظرٍ تبنَّوية فيما يتعلق‬
‫بطبيعة املسيح ‪ .‬هذه التغيريات تؤكِّد أن املسيح مولودٌ من عذراء وأنه مل يُتَبَنَّ‬
‫أثناء العماد بل هو نفسه كان إهلًا‪.‬‬

‫لقد رأينا بالفعل من قبل تغيريا نصّيًّا يتعلق بالنِّزاع حول طبيعة املسيح وذلك‬
‫عند نقاشنا يف الفصل الرابع لألحباث النصّية اخلاصة بـ ( ج‪.‬ج فيتشتاين )‪ .‬قام‬
‫فيتشتاين بفحص املخطوطة السكندرية ‪ ،‬احملفوظة اآلن يف املكتبة الربيطانية‬
‫وتوصل إىل أنَّه يف ‪ 1‬تيموثي ‪، 16 : 3‬بينما تتحدث معظم املخطوطات‬
‫املتأخرة عن املسيح على اعتبار أنَّه " اهلل ظهر يف اجلسد "‪ ،‬تتحدث هذه‬
‫املخطوطة األكثر قِ َدمًا يف األصل ‪،‬بدال من ذلك‪ ،‬عن املسيح "الذي ُأ ْظهِرَ يف‬
‫اجلسد )‪" (who was made manifest in the flesh‬‬
‫‪.‬االختالف دقيق جدا يف اللغة اليونانية ـ فهي فرق بني حرف "ثيتا" وحرف‬
‫"أوميكرون" املتشابهني كثريًا‪ .‬أحد النسَّاخُ املتأخرين أدخل تغيريًا إىل القراءة‬
‫األصلية حتى ال تعود تُقرأ " الذي" وإمنا لتقرأ " اهلل " ( ظهر يف اجلسد )‪ .‬أو‬
‫فلنقلها بكلمات أخرى‪،‬هذا املصحّح املتأخِّر غيّر النص بتلك الطريقة لكي‬

‫‪282‬‬
‫يؤكِّد على ألوهية املسيح‪ .‬من املدهش أن ندرك أن هذا التصحيح نفسَه وقع يف‬
‫أربعٍ من خمطوطاتنا األخرى األكثر قدمًا اليت ختص ‪ 1‬تيموثي ‪ ،‬يف مجيع هذه‬
‫املخطوطات كان مثة مصحِّحُون يغريون النص بالطريقة ذاتها لكي يُدعى‬
‫املسيح اآلن " إهلا" على حنوٍ واضحٍ‪ .‬هذا النص أصبح هو النص املفضل لدى‬
‫األغلبية الساحقة من املخطوطات البيزنطية (أي املنتمية للعصور الوسطى )‬
‫‪ -‬وبعد ذلك أصبح نصُّ غالبية الرتمجات املسيحيَّة القدمية ‪ .‬خمطوطاتنا‬
‫األقدم واألفضل‪،‬مع ذلك‪،‬تتحدث عن املسيح "الذي" أُ ْظهِرَ يف اجلسد بدون‬
‫أن تدعو يسوع إهلًا وذلك بشكل شديد الوضوح‪ .‬هذا التغيري الذي حدث وأن‬
‫صنَْعًا لكي يؤكِّد‬
‫تسيَّد املخطوطات املكتوبة يف العصور الوسطى‪،‬إذن‪ ،‬صُِنعَ ُ‬
‫ٍّ كان يتَّسم بالغموض‪،‬يف أحسن الظروف‪ ،‬بشأنها‪ .‬هذا‬
‫ألوهية يسوع يف نص‬
‫سيصبح مثاال على التحريف املضاد لآلراء التبنوية وحتريفًا نصيّا أُح ِدثَ لكي‬
‫يضاد الزعم بأنَّ يسوع كان إنسانًا كامال و مل يكن من جوهرٍ إهليّ‪.‬‬

‫تؤرخُ حلياة‬
‫تغيرياتٌ أخرى مضادة لآلراء التبنويّة وقعت يف املخطوطات اليت ِّ‬
‫يسوع املبكرة يف إجنيل لوقا‪ .‬ففي موضعٍ واحدٍ يقال لنا أن يوسف ومريم‬
‫اصطحبا يسوع إىل اهليكل وباركه رجل اهلل مسعان ‪ " ،‬وَكَانَ أَبُوهُ َوأُمُّهُ‬
‫يََتعَجَّبَانِ مِمَّا قِيلَ فِيهِ " (لوقا ‪ .) 33 : 2‬أبوه ؟!! كيف جيرؤ النص أن يدعو‬
‫يوسفَ أبًا ليسوع لو كان يسوع قد وُلِد من عذراء ؟ ليس من الغريب إذن أن‬

‫‪283‬‬
‫يغيِّر عددٌ كبريٌ من النُسّاخ النصَّ لكي يزيلوا اإلشكالية احملتملة وذلك عرب‬
‫قوهلم " وَكَانَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ َيتَعَجَّبَانِ ‪ "...‬فاآلن ال يسع مسيحيًّا تبنّويًّا أن يستغلَّ‬
‫هذا النصَّ لكي يدعم الزعم القائل أن يوسفَ كان والدَ الطفل ‪.‬‬

‫ظاهرة مشابهة حدثت بعد عددٍ قليلٍ من األعداد يف قصة يسوع ذي االثنى‬
‫عشر ربيعًا يف اهليكل ‪ .‬للقصة خطٌّ مألوف‪ :‬يوسف ومريم ويسوع حيضرون‬
‫احتفاال يف أورشليم لكن بعد ذلك عندما يتوجه باقي العائلة إىل بيتهم مع‬
‫القافلة يتخلَّف يسوع بغري علمهم ‪ .‬كما يقول النص ‪ "،‬أبواه مل يكونا يعلمان‬
‫عن ذلك ‪ ".‬لكن كيف للنص أن يتحدَّث عن أبويه يف الوقت الذي مل يكن‬
‫يوسف أبًا ليسوع يف احلقيقة ؟ عددٌ من الشواهد النصَّية "تصحّحُ" املشكلة عرب‬
‫ُمهُ َلمَْ يَ َْع َلمَا"‪ .‬مثالٌ آخرُ نستقيه من‬
‫جعلها النص يُقرأ كالتالي‪ "،‬وَيُو ُسفُ وَأ ُّ‬
‫بعض األعداد التالية‪ ،‬فبعد أن عادوا إىل أورشليم للبحث عن يسوع يف كلِّ‬
‫مكانٍ‪ ،‬جتده مريم بعد ثالثة أيام يف اهليكل‪ .‬فإذا بها توخبه قائلة ‪ ":‬أنا وأبوك‬
‫كنَّا نبحث عنك!" ومرة أخرى‪،‬قام بعض النسّاخ حبل املشكلة ‪ -‬هذه املرة‬
‫عرب حتريف النص ببساطة لكي يُقرأ ‪":‬كنا نبحث عنك "!‬

‫أحدُ أكثرِ القراءات املتباينة املضادة لآلراء التبنّوية طرافة بني خمطوطاتنا حتدث‬
‫متامًا حيث يتوقع املرء وجودها‪ ،‬ففي الرواية اخلاصة بعماد يسوع على يدي‬
‫يوحنا‪،‬أي يف اللحظة ذاتها اليت أصرَّ كثريٌ من التبنَّويني على أن يسوع اختري‬

‫‪284‬‬
‫فيها من ِقبَل اهلل لكي يصبح ابنَه املتبنَّى‪ .‬ففي إجنيل لوقا ‪،‬كما يف مرقس‪،‬عندما‬
‫كان يسوع يتمُّ تعميدُه ‪،‬انفتحت السماء ونزل الروح على يسوع يف شكل‬
‫محامة وجاء صوت من السماء ‪ .‬لكنّ خمطوطاتِ إجنيلِ لوقا منقسمة بشأن ما‬
‫قاله الصوت على وجه التحديد‪ .‬وفقًا ملعظم خمطوطاتنا‪ ،‬جندها تنطق الكلمات‬
‫نفسها اليت جيدها املرء يف إجنيل مرقس ‪َ ":‬أنَْتَ اَْبنِي الْحَبِيبُ َّالذِي ِبهِ سُرِ َْرتُ! "‬
‫(مرقس ‪ 11 : 1‬؛ لوقا ‪).3:23‬‬

‫يف خمطوطة يونانية ُممَْعنةٌ يف ال ِق َدمِ ويف العديد من املخطوطات الالتينية يقول‬
‫الصوت شيئًا خمتلفًَا بصورة صادمة ‪ ":‬أنت ابين ‪،‬أنا اليوم ولدتُك"‪.‬‬

‫اليوم! ولدتُك! أال يوحي ذلك بأنَّ يوم العماد هو اليوم ذاته الذي أصبح فيه‬
‫يسوع ابنًا هلل ؟ أال ميكن أن يستخدم مسيحيٌّ تبنّويٌّ هذا النص ليدعم قضية‬
‫صريورة املسيح ابنا هلل يف هذا اليوم ؟‬

‫ومبا أن هذه القراءة املتباينة تتسم مبثل هذه الطرافة‪،‬رمبا من املستحسن أن نعريَها‬
‫بعض االنتباه كتوضيحٍ موسَّعٍ لصعوبة املشكالت اليت يواجهها النقاد النصِّيون ‪.‬‬

‫القضية األوىل اليت ينبغي حلها هي ‪ :‬أيُّ هذين الشكلني من النص هو الشكل‬
‫األصلي وأيُّهما التحريف ؟ الغالبية الساحقة من املخطوطات اليونانية تدعم‬
‫القراءة األوىل "أنت ابين احلبيب الذي به سررت"؛ وهكذا رمبا تغوي هذه‬

‫‪285‬‬
‫احلقيقة املرء لكي ينظر إىل القراءة األخرى باعتبارها حتريفًا ‪ .‬املشكلة يف هذه‬
‫احلالة هو أن هذا العدد اقتبسه كثري من آباء الكنيسة األوَّلون يف وقت مل تكن‬
‫فيه معظم خمطوطاتنا قد كتبت بعد ‪ .‬فالنص يتمُّ اقتباسه يف القرنني الثاني‬
‫والثالث يف كل مكان من روما إىل اإلسكندرية ومن مشال أفريقيا وفلسطني‬
‫إىل بالد الغال (فرنسا)وأسبانيا‪ .‬ويف كل احلاالت تقريبًا ‪ ،‬كان الشكل الثاني‬
‫من النص هو الذي يقتبس ( "أنا اليوم ولدتُك‪").‬‬

‫أضف إىل ذلك أن هذا هو شكل النص الذي ال يشبه كثريًا ما هو موجود يف‬
‫الفقرة املوازية يف مرقس‪ .‬حياول النساخ بصورة منطيّة ‪،‬كما رأينا ‪،‬أن يوفِّقوا بني‬
‫النصوص بدال من أن يرتكوها متنافرة ‪ .‬لذا فشكل النص الذي خيتلف عن‬
‫مرقس هو الذي من احملتمل أكثر أن يكون النص األصليَّ يف لوقا‪ .‬هذه‬
‫االفرتاضات ترجح أن القراءة األقل ورودا يف املخطوطات ـ" أنا اليوم ولدتُك" ـ‬
‫هي بالفعل القراءة األصلية وأنها تعرضت للتحريف عرب نسَّاخٍ خشوا من‬
‫صداها التبنَّويّ ‪ .‬بعض العلماء اعتقدوا وجهة النظر املخالفة عرب التذرُّع بأنَّ‬
‫الصوت أثناء العماد لدى لوقا ال ميكن أن يقول" أنا اليوم ولدتك " ألنه من‬
‫الواضح أنه قد ذُكِرَ من قبلُ بالفعل ضمن رواية لوقا أن يسوع هو ابن اهلل ‪ .‬فها‬
‫هو املالك جربيل يعلن قبل ميالد يسوع ‪،‬يف لوقا ‪،35 : 1‬ألمِّ يسوع أن "‬

‫‪286‬‬
‫اَلرُّوحُ ا ْل ُق ُدسُ يَحِلُّ َع َليَْكِ َوقُوَّةُ الْ َعلِيِّ تُظ َِّل ُلكِ فَ ِلذَِلكَ َأيَْضاً الْقُدُّوسُ ا ْلمَوَْلُودُ‬
‫مِ َْنكِ ُيدَْعَى اَْبنَ اهللِ" ‪.‬‬

‫حسب وجهة نظر لوقا نفسه‪،‬بكلماتٍ أخرى‪،‬كان يسوع بالفعل ابنًا هلل عند‬
‫والدته‪ .‬فال ميكن أن يقال عن يسوع ‪،‬وفقًا هلذه احلُجة‪ ،‬إنَّه أصبح ابنًا هلل يف‬
‫أثناء عماده‪ -‬ولذلك فالقراءة األكثر ذكرا يف املخطوطات ‪ "،‬أنت ابين‬
‫احلبيب الذي به سررت‪ "،‬من احملتمل أن تكون هي القراءة األصلية‪ .‬الصعوبة‬
‫اليت يواجهها هذا النمط من التفكري ـ برغم مظهره املقنع للوهلة األوىل ـ أنَّه‬
‫يتجاهل الكيفية اليت يستخدم بها لوقا ألقاب يسوع بشكل عام يف ثنايا كتابه (‬
‫مبا يف ذلك كتابه الثاني سفر األعمال وليس فقط اإلجنيل )‪ .‬تأمَّل‪،‬على سبيل‬
‫املثال‪ ،‬ما يقوله لوقا عن يسوع باعتباره " املسيح"( اليت هي الكلمة العربية‬
‫املقابلة للمصطلح اليوناني كرايست)‪ .‬فوفقًًا للوقا ‪،11 : 2‬ولد يسوع‬
‫كمسيح‪ ،‬لكنَّه يف واحدة من العبارات الواردة يف سفر األعمال‪ ،‬يقال عنه إنَّه‬
‫صار مسيحًا أثناء عماده ( أعمال ‪) 38 – 37 : 11‬؛ ويف فقرة أخرى يصرح‬
‫لوقا بأنَّ يسوع أصبح املسيح عند قيامته من األموات ( أعمال ‪.) 38 : 2‬‬
‫كيف ميكن أن تكون كل هذه األمور صحيحة جمتمعةً ؟ يبدو أن التأكيد على‬
‫اللحظات اهلامة يف حياة يسوع بالنسبة للوقا كان هو األمر األهم والذي ينبغي‬
‫التشديد عليه باعتباره ضروريًّا لتأكيد هوية يسوع( باعتباره املسيح على سبيل‬

‫‪287‬‬
‫املثال)‪ .‬األمر ذاته ينطبق على املفهوم اللوقاوي عن املسيح باعتباره " الرب "‬
‫‪(Lord).‬فقد قيل عنه أن الربَّ قد وُلِد يف لوقا ‪ 11 : 2‬؛وأطلق عليه‬
‫لقب"الرب" أثناء حياته يف لوقا ‪ 1 : 11‬؛ لكنَّ سفر األعمال ‪ 38 : 2‬يشري‬
‫إىل أنه أصبح ربًّا عند قيامته ‪ .‬من وجهة نظر لوقا‪ ،‬شخصية يسوع باعتباره‬
‫الرب وابن اهلل هي األمر ذو األهمية ‪ .‬لكنَّ وقت حدوث ذلك‪،‬من‬
‫الواضح‪،‬أنه ليس كذلك‪ .‬فيسوع هو كل هذه األشياء عند حلظات حياته‬
‫احلامسة ـ امليالد ‪ ،‬العماد ‪ ،‬القيامة ‪ ،‬مثال‪.‬‬

‫يبدو ‪ ،‬من ثمّ‪ ،‬أنه يف رواية لوقا عن عماد يسوع يف األصل‪،‬أتى الصوت من‬
‫السماء ليعلن" أنت ابين ‪ ،‬أنا اليوم ولدتُك "‪ .‬من احملتمل أن لوقا مل يكن يقصد‬
‫أن يتم تفسري هذا العدد مبا خيدم وجهة النظر التبنَّويّة‪،‬حيث إنه‪،‬يف النهاية‪،‬‬
‫كان بالفعل قد حكى قصة ميالد يسوع من عذراء ( يف الفصلني ‪ .) 2 – 1‬لكنَّ‬
‫املسيحيني املتأخِّرين عند قراءتهم للعدد ‪ 22 : 3‬من إجنيل لوقا رمبا قد‬
‫أدهشهم مضمونها احملتمل حيث إنه يبدو عرضةً للتفسري التبنّوي‪.‬‬

‫ولكي مينعوا كلَّ أحدٍ من أن يفهم هذا النص على هذا النحو‪ ،‬بعضُ نسَّاخ ما‬
‫قبل األرثوذكسيّة غيَّروا النص لكي جيعلوه متطابقًا متامًا مع النص ‪ 1 : 1‬من‬
‫إجنيل مرقس‪ .‬اآلن‪ ،‬وبدال من أن يقال عن يسوع إنَّه وُلِد من اهلل‪ ،‬قيل عنه ما‬

‫‪288‬‬
‫يؤكِّد أنَّه‪":‬أنت ابين احلبيب الذي به ُسرِ َْرتُ"‪ .‬وهذا ‪ ،‬بكلمات أخرى‪ ،‬تغيريٌ‬
‫آخر للنص وقع لدوافع مضادة لألفكار التبنّويّة‪.‬‬

‫سوف خنتم هذا اجلزء من نقاشنا بالنظر إىل حتريف آخر على الشاكلة ذاتها ‪.‬‬
‫هذا التغيري‪،‬مثلما هو احلال مع ‪ 1‬تيموثي ‪،16 : 3‬يتعلق بنص قام فيه‬
‫يؤكدَ بعبارات قوية للغاية أن إمياننا بيسوع ينبغي‬
‫الناسخ بإحداث حتريف لكي ِّ‬
‫أن يكون باعتباره اهلل بكل ما يف الكلمة من معنى ‪ .‬يقع هذا النص يف إجنيل‬
‫يوحنا الذي هو اإلجنيل الذي يتميز عن غريه من األسفار اليت جنحت يف أن‬
‫تكون جزءًا من القائمة القانونية للعهد اجلديد يف أنَّه بالفعل قد قطع شوطًا كبريًا‬
‫جتاه حتديد هويّة يسوع باعتباره كائنًا إهليًّا( انظر على سبيل املثال ‪ ،‬يوحنا ‪: 8‬‬
‫‪ 58‬؛ ‪ 31: 11‬؛ ‪ .) 28 : 21‬حتديد اهلويّة هذا قد حدث على حنوٍ مدهشٍ‬
‫للغاية يف فقرة كان نصُّها األصليّ مَحِال لنزاع ساخن ‪ .‬األعداد الثمانية األوىل‬
‫من إجنيل يوحنا يطلق عليها أحيانا مقدمة اإلجنيل ‪ (Prologue).‬يوحنا هنا‬
‫يتحدث عن" كلمة اهلل "الذي كان" يف البدء عند اهلل" والذي "كان هو اهلل " (‬
‫كل شئٍ موجود‪ .‬فوق ذلك‪ ،‬هي‬
‫األعداد ‪.) 3 -1‬كلمة اهلل هذه خلقت َّ‬
‫وسيلة اهلل يف االتصال بالعامل ؛ فالكلمة هي الطريقة اليت بها أظهر اهلل نفسه‬
‫لآلخرين ‪ .‬ويقال لنا إنَّه يف حلظة ما "الكلمة صار جسدا و حلّ بيننا ‪ ".‬بطريقة‬
‫أخرى‪ ،‬كلمة اهلل أصبحت كائنًا بشريًّا ( عدد ‪ .) 14‬هذا الكائن البشريُّ كان‬

‫‪289‬‬
‫هو" يسوع املسيح "(عدد ‪ .) 17‬وفقًا هلذا الفهم لألمور ‪،‬فإن يسوع املسيح‬
‫ميثّل " جتسُّد " كلمة اهلل ‪ ،‬الذي كان مع اهلل يف البدء وكان هو نفسه اهلل‪،‬والذي‬
‫من خالله خلق اهلل كلَّ األشياء ‪ .‬ثمَّ تنتهي املقدمة ببعض الكلمات املفاجئة ‪،‬‬
‫حدٌ قَطُّ‪ .‬اَالَِْبنُ الْ َوحِيدُ َّالذِي هُوَ فِي‬
‫َللهُ َلمَْ َيرَ ُه َأ َ‬
‫اليت تأتي يف أشكال متنوعة ‪ ":‬ا َّ‬
‫ضنِ اآلبِ هُوَ خََّبرَ" ‪.‬‬
‫حِ َْ‬

‫املشكلة النصّيّة تتعلق بتحديد هوية هذا " الوحيد"‪ .‬هل ينبغي حتديده باعتباره‬
‫"اإلله الوحيد الذي هو يف حضن اآلب " أم باعتباره " االبن الوحيد الذي هو يف‬
‫حضن اآلب"‬

‫جيب أن يكون معلومًا أنَّ القراءة األوىل هي القراءة اليت وجدت يف أقدم‬
‫املخطوطات واألفضل بوجه عام ‪ -‬وهي اليت تنتمي إىل العائلة النصّيّة‬
‫السكندرية‪ .‬إال أن األمر املدهش هو أنه نادرًا ما جندها يف خمطوطات ليست هلا‬
‫صلة باإلسكندريّة ‪ .‬هل من املمكن أن تكون هذه القراءة قراءةً نصيّةً متباينة‬
‫سيفسرُ‬
‫أحدثها ناسخٌ يف اإلسكندرية ثمّ متَّ تعميمُها هناك ؟ لو صحَّ ذلك‪،‬فهذا ِّ‬
‫السبب الذي من أجله تضمنت الغالبية الساحقة من املخطوطات من كل‬
‫األماكن األخرى القراءة الثانية اليت جاء فيها أن يسوع مل ُيدَْعَ اإلله الوحيد‬
‫)‪ ،(unique God‬وإمنا االبن الوحيد ‪.‬هناك أسبابٌ أخرى جتعلنا نعتقد أن‬
‫القراءة األخرية هي‪،‬يف حقيقة األمر‪،‬القراءة الصحيحة‪ .‬وذلك ألنَّ إجنيل يوحنا‬

‫‪290‬‬
‫يستخدم عبارة "االبن الوحيد" ( أحيانا ترتجم بطريقة خاطئة كـ" االبن الوحيد‬
‫املولود ) " ‪ only begotten Son‬يف مناسبات أخرى عديدة ( انظر‬
‫يوحنا ‪) 18 ، 16 : 3‬؛ ومل يذكر يف أيِّ مكان آخر أن املسيح هو " اإلله‬
‫الوحيد "‪ .‬فوق ذلك ‪ ،‬ماهو املقصود من إطالق (اإلله الوحيد)على املسيح ؟‬
‫كلمة وحيد ‪ unique‬باليونانية تعين " الفريد من نوعه‪ ".‬من يكون وحيدًا من‬
‫نوعه البد أنه واحدٌ فقط‪ .‬أمَّا مصطلح اإلله الوحيد البد وأنه يشري إىل اهلل اآلب‬
‫نفسه ـ وإال فهو ليس فريدًا من نوعه‪ .‬لكنَّ التعبري لو كان يشري إىل اآلب ‪،‬‬
‫فكيف يتم استخدامه للداللة على االبن؟‬

‫لو سلمنا بأنَّ عبارة إجنيل يوحنا "االبن الوحيد" هي األكثر شيوعًا (وقابلية‬
‫للفهم )‪ ،‬فمن الواضح أنَّ تلك العبارة هي اليت كان عليها النصُّ املكتوب يف‬
‫يوحنا ‪ 18 : 1‬يف شكله األصليّ ‪ .‬هذا النص حبد ذاته ما يزال ميثل رؤية أكثر‬
‫متجيدًا للمسيح ـ فهو"االبن الوحيد الذي يف حضن اآلب‪ ".‬وهو الشخص الذي‬
‫جيعل اهلل ظاهرًا لكلِّ إنسانٍ آخرَ ‪.‬‬

‫يبدو ‪ ،‬مع ذلك ‪ ،‬أنَّ بعض النسّاخ ‪ -‬من احملتمل أنَّ اإلسكندرية كانت‬
‫موطنهم ‪ -‬مل يكونوا سعيدين حتى بتلك الرؤية املمجِّدة للمسيح ‪،‬ولذلك‬
‫جعلوها أكثر متجيدًا عن ذي قبل وذلك عرب حتريف النص ‪ .‬اآلن املسيح ليس‬
‫ابن اهلل الوحيد فحسب‪،‬بل هو اإلله الوحيد نفسُه ! وهذا أيضًا يبدو‪،‬حينئذ‪،‬‬

‫‪291‬‬
‫تغيريًا للنص ألسباب مضادة لآلراء التبنّويّة اضطلع به نسّاخ ماقبل‬
‫األرثوذكسية يف القرن الثاني ‪.‬‬

‫*‬

‫يف الطرف املقابل للخط الالهوتي القادم من خلفية يهودية متنصرة واملتمثل يف‬
‫األبيونيني ومعتقداتهم التبنَّويَّة يف املسيح‪،‬كانت تقف جمموعات من املسيحيني‬
‫عرفوا باسم الظهوريني (‪. )5‬أصل هذا االسم مشتقٌ من الكلمة اليونانية‬
‫)‪،(DOKEO‬اليت تعين " ظهور" أو "ترائي"‪ .‬كان الظهوريون يعتقدون أن‬
‫يسوع مل يكن كائنًا بشريًّا كامال من حلمٍ ودمٍ ‪ .‬بل كان بدال من ذلك إهليا متامًا‬
‫بشري ‪،‬أو بدى وكأنه يشعر باجلوع‬
‫ٍّ‬ ‫( وفقط )؛ لكنه "بدى" أو " ترائى " ككائن‬
‫والعطش و األمل ‪ ،‬وبدى وكأنه ينزف وميوت‪ .‬وحيث أن يسوعَ كان هو اهلل ‪،‬‬
‫فال يسعه أن يكون إنسانًا على احلقيقة‪ .‬وإنَّما هو ببساطة كان قد جاء إىل‬
‫ٍّ من حلمٍ ودم‪.‬‬
‫األرض يف "مظهر" بشري‬

‫‪292‬‬
‫رمبا كان الفيلسوف املُعَلِّم مرقيون هو أشهرُ ظهوريِّي القرون األوىل للمسيحية‪.‬‬
‫لدينا كمٌّ كبري من املعلومات حول مرقيون ألن آباء الكنيسة يف عصر ما قبل‬
‫األرثوذكسية من أمثال إيريناوس و تريتوليانوس اعتربوا آراءه تهديدًا حقيقيًّا‬
‫ولذا كتبوا عنها بكثافة‪ .‬وما يزال لدينا كتابٌ من مخس جملدات كتبه‬
‫"تريتليانوس" يسمى ضد مرقيون حتدث فيه بالتفصيل عن مفهوم اإلميان عند‬
‫مرقيون وشنَّ فيه هجومًا عليه ‪ .‬ومن هذه املقالة اجلدالية ميكننا أن نستقي‬
‫اخلصائص الرئيسية ألفكاره ‪.‬‬

‫كما رأينا (‪ ، )6‬يبدو أنَّ مرقيون استقى أفكاره من الرسول بولس الذي كان‬
‫يعتربه التلميذ احلقيقيَّ الوحيد ليسوع ‪ .‬يف بعض رسائله يفرِّق بولس بني‬
‫مؤكدًا أنَّ اإلنسان سيتربَّر أمام اهلل عرب اإلميان‬
‫الناموس (الشريعة) واإلجنيل ِّ‬
‫باملسيح (أي اإلجنيل ) وليس بتأدية أعمال الناموس اليهودي‪ .‬بالنسبة ملرقيون‬
‫هذا االختالف بني إجنيل املسيح وشريعة موسى كان اختالفًا جذريًّا إىل درجة‬
‫أن اإلله الذي أعطى الشريعة ال ميكنه أبدًا أن يكون ذلك الذي أعطانا اخلالص‬
‫يف املسيح‪.‬‬

‫لقد كانا‪،‬بطريقة أخرى ‪،‬إهلني اثنني خمتلفني ‪ .‬فإله العهد القديم هو الذي خلق‬
‫العامل واختار إسرائيل ليكونوا شعبه وأعطاهم شريعته املتوحشة ‪ .‬وهو‪،‬عندما‬
‫ينقضون شريعته ( كما فعلوا مجيعا )‪،‬يعاقبهم باملوت ‪ .‬أما يسوع فقد جاء من‬

‫‪293‬‬
‫قِبَل اإلله األعظم ‪،‬أُرسل لينقذ الناس من إله النقمة الذي يعبده اليهود ‪.‬‬
‫وحيث إنه ال ينتمي هلذا اإلله اآلخر الذي خلق العامل املادِّيّ‪ ،‬مل يكن يسوع‬
‫نفسه جزءًا من هذا العامل املادي‪ .‬هذا يعين‪،‬من ثمّ‪،‬أنه ال ميكن أن يكون قد‬
‫وُلِد يف احلقيقة ‪،‬وأنه مل يكن له جسدٌ ماديٌّ ‪،‬ومل يكن بوسعه النزيف حقيقةً‬
‫وهذا يعين أنه يف حقيقة األمر مل ميت ‪ .‬كل هذه األشياء كانت أمرًا ظهوريًّا‪.‬‬
‫لكنَّ يسوع حني "ظهر" ميتًا ـ كأضحية كاملة يف الظاهر‪ -‬قَبِِل ربُّ اليهود هذا‬
‫املوت كثمن ملغفرة اخلطايا‪ .‬وكل من يؤمن بهذا سينجو من نقمة هذا اإلله‪.‬‬

‫مؤلفوا ماقبل األرثوذكسيّة مثل ترتليانوس محلوا بشدة على هذه العقيدة‬
‫الالهوتية وأصرُّوا على أنَّه لو مل يكن املسيح كائنًا بشريًّا حقيقيًّا ‪،‬فلن يكون‬
‫بوسعه أن ينقذ الكائنات البشرية األخرى‪،‬وأنَّه لو مل ينزف دماءًا على احلقيقة‬
‫‪ ،‬فإنَّ دمه ال ميكن أن جيلبَ اخلالصَ وأنَّه لو مل ميت حقيقةً ‪،‬فموته "‬
‫الظاهري" هذا لن يفيد أي شخص ‪ .‬لقد اختذ ترتليانوس واآلخرون‪ ،‬إذن‪،‬‬
‫موقفًا قويًّا مفاده أن يسوع ـ يف حني أنه ما يزال كائنًا إهليًّا (على الرغم ممَّا قاله‬
‫األبيونيون و التبنَّويون اآلخرون ) ‪ -‬كان مع ذلك إنسانًا كامال‪ .‬كان إنسانًا‬
‫من حلم ودم ؛ كان باستطاعته الشعور باآلالم والنزف حقيقةً ‪ ،‬وقد أُقيم حقًا‬
‫ببدنه من بني األموات ؛ وارتفع بالبدن على احلقيقة إىل السماء حيث ما يزال‬
‫يف انتظار العودة بالبدن مكلَّال باجملد‪.‬‬

‫‪294‬‬
‫)‬

‫الصراع حول العقائد الظهورية املتعلقة باملسيح كان له تأثريٌ على النسَّاخ الذين‬
‫كانوا يقومون بنسخ الكتب اليت أصبحت يف النهاية هي العهد اجلديد‪ .‬لكي‬
‫أوضح هذه النقطة سوف أقوم بفحص أربع قراءات نصية متباينة يف الفصول‬
‫األخرية من إجنيل لوقا الذي ‪،‬كما رأينا‪ ،‬كان اإلجنيل الوحيد الذي قبله‬
‫مرقيون باعتباره الكتاب املقدس الرمسي (‪) .7‬‬

‫أوىل القراءت األربع تتعلق بفقرة ناقشناها أيضا يف الفصل اخلامس ـ أال وهي‬
‫الرواية اخلاصة بـ"دماء يسوع اليت على هيئة عَرَق "‪ .‬وكما رأينا هناك ‪،‬من‬
‫احملتمل أن األعداد حمل الدراسة مل تكن أصلية يف إجنيل لوقا ‪ .‬وتذكَّرَْ أن هذه‬
‫الفقرة تصف احلوادث اليت وقعت قبل القبض على يسوع مباشرةً عندما ترك‬
‫تالميذه ليختلي بنفسه للصالة داعيا اهلل أن جييز عنه كأس آالمه مع الدعاء بأن‬
‫" تتم مشيئة اهلل "‪ .‬ثمّ نقرأ‪ ،‬يف بعض املخطوطات‪،‬األعداد املتنازع عليها ‪" :‬‬
‫جةٍ‬
‫جهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَا َ‬
‫السمَاءِ ُيقَوِّيهِ‪َ .‬وإِذَْ كَانَ فِي ِ‬
‫َو َظ َهرَ َلهُ َمالَكٌ ِمنَ َّ‬
‫ألرَْضِ‪ ( ".‬األعداد ‪). 44 – 43‬‬
‫وَصَارَ عَرَ ُقهُ كَقَطَرَاتِ َدمٍ نَازَِلةٍ َعلَى ا َ‬

‫أنا جادلت يف الفصل ‪ 5‬إلثبات أن األعداد ‪ 44 - 43‬متزق بناء هذه الفقرة‬


‫املوجودة يف إجنيل لوقا‪،‬اليت هي بطريقة أخرى قلب لرتتيب الكلمات يف‬

‫‪295‬‬
‫مجلتني متوازيتني ‪ * chiasmus‬تشد االنتباه إىل صالة يسوع خبصوص‬
‫مشيئة اهلل اليت ينبغي أن تتمَّ‪.‬‬

‫أفرتض أيضًا أن هذه األعداد تتضمن عقيدة الهوتية ختتلف متامًا عن األخرى‬
‫املوجودة يف رواية لوقا عن اآلالم ‪ .‬يف كل مكان آخر ‪ ،‬كان يسوع هادئًا‬
‫وحمافظًا على رباطة جأشه‪ .‬لقد خرج لوقا‪،‬يف احلقيقة ‪،‬عن مساره يف التخلص‬
‫من أي إشارة إىل جزع يسوع يف روايته ‪ .‬هذه األعداد ‪ ،‬من ثمَّ ‪،‬ليس هلا‬
‫وجود يف أهم وأقدم الشواهد فحسب ‪ ،‬بل إنها أيضًا تسري عكس تيار الصورة‬
‫األخرى املوجودة يف إجنيل لوقا عن مواجهة يسوع ملوته ‪ .‬رغم ذلك ‪،‬يبقى‬
‫السؤال مطروحًا ‪ :‬ملاذا أضاف النسَّاخ هذه األعداد إىل الرواية ؟ حنن اآلن يف‬
‫موقع يسمح لنا باإلجابة عن ذلك السؤال‪ .‬من اجلدير باملالحظة أن هذه‬
‫األعداد أُشريَ إليها ملرات ثالث من خالل مؤلفي ماقبل األرثوذكسية يف‬
‫منتصف آواخر القرن الثاني ( جوستينوس الشهيد وإيريناوس الغالي ( من بالد‬
‫الغال)وهيبوليتوس الرومي (نسبة إىل روما ) )؛ األمر الذي ال يزال مثريًا‬
‫للكثري من التعجُّب هو أن هذه األعداد كلما تُذكر يف أيِّ موضعٍ‪،‬حيدث ذلك‬
‫يف معرض مقاومة وجهة النظر اخلاصة بكون يسوع مل يكن كائنًا بشريًّا حقيقيًّا‪.‬‬
‫أو فلنقلها بكلمات أخرى‪،‬اجلزع العميق الذي شعر به يسوع وفقا هلذه‬
‫األعداد كان اهلدف منها إظهار أنه كان يف احلقيقة إنسانًا وأنه كان قابال‬

‫‪296‬‬
‫للمعاناة مثلنا مجيعا‪ .‬لذلك جوستينوس ‪،‬على سبيل املثال‪ ،‬الذي هو أحد‬
‫علماء الالهوت الدفاعي من املسيحيني األوائل يزعم ‪،‬بعد مالحظته أن "‬
‫ألرَْضِ عِنَْدَمَاٍ كَانَ يُصَلِّي " أن ذلك أظهر"‬
‫عَ َر ُقهَُصَارَ كَ َقطَرَاتِ َدمٍ نَازَِلةٍ َعلَى ا َ‬
‫أن اآلب كان يتمنى أن يعاني ابنه مثل هذه اآلالم من أجلنا ‪ "،‬حتى" ال نقول‬
‫إنه ‪،‬ألنه كان ابنا هلل‪ ،‬مل يشعر مبا كان حيدث له وال مبا تكبّده (‪)."8‬‬

‫لنقلها بطريقة أخرى‪،‬جوستينوس وأضرابه من مسيحيي ماقبل األرثوذكسية‬


‫فهموا أن هذه األعداد أظهرت يف شكل نابض باحلياة أن يسوع مل "يظهر"‬
‫فحسب أنه إنسان ‪ :‬بل لقد كان بالفعل إنسانًا يف كل شئ ‪ .‬يبدو من‬
‫احملتمل‪،‬إذن‪،‬وحيث أن هذه األعداد ‪،‬كما رأينا‪،‬مل تكن جزءا أصليًّا يف إجنيل‬
‫لوقا‪ ،‬أنَّها أضيفت ألغراض مضادة للدوسيطيني(الظهوريني)‪،‬ألنها ترسم‬
‫صورة واضحة متامًا لبشرية يسوع احلقيقية‪.‬‬

‫من وجهة نظر مسيحيي ما قبل األرثوذكسيّة ‪ ،‬كان من األهمية مبكان تأكيد‬
‫املسيح كان إنسانًا حقيقيًّا من حلمٍ ودمٍ ألنَّ حلمه املذبوح و دمه املسفوك هما‬
‫حتديدًا الذان جلبا لنا اخلالص ‪ -‬ليس يف الظاهر وإنَّما يف احلقيقة ‪.‬‬

‫قراءة نصيّة متباينة أخرى يف رواية لوقا للساعات األخرية من حياة يسوع تؤكد‬
‫هذه احلقيقة ‪ .‬حيدث ذلك يف رواية عشاء يسوع األخري مع تالميذه ‪ .‬يف واحدة‬

‫‪297‬‬
‫من أقدم خمطوطاتنا اليونانية ‪ ،‬وكذلك يف العديد من الشواهد الالتينية ‪ ،‬يقال‬
‫لنا‪:‬‬

‫وبعد أن أخذ كأسًا ‪ ،‬وشكر ‪ ،‬قال ‪ " ،‬خذوا هذه وقسموها على أنفسكم ‪،‬‬
‫ألنين أقول لكم إنين لن أشرب من فاكهة هذه الكرمة من اآلن فصاعدًا ‪،‬‬
‫حتى يأتي ملكوتُ اهلل‪ ".‬ثم أخذ خبزا ‪ ،‬وشكر ‪،‬وأخذ قطعة وأعطاهم إياها ‪،‬‬
‫قائال ‪ ",‬هذا جسدي ‪ .‬لكن انظروا‪ ،‬يد ذلك الشخص الذي سيخونين هي معي‬
‫على هذه املنضدة ‪ ( .‬لوقا ‪)19 - 17 : 22‬‬

‫يف غالبية خمطوطاتنا ‪ ،‬مع ذلك ‪ ،‬هناك إضافة إىل هذا النص ‪ ،‬وهي تلك‬
‫اإلضافة اليت ستبدو مألوفة لكثري من قراء الكتاب املقدس اإلجنليزي ‪ ،‬حيث‬
‫وجدت طريقها إىل معظم الرتمجات احلديثة ‪ .‬فبعد أن يقول يسوع " هذا‬
‫صنَعُوا َهذَا‬
‫جسدي ‪ "،‬يواصل حديثه مع هذه الكلمات " الَّذِي يُ َْب َذلُ عَ َْن ُكمَْ‪ .‬اِ َْ‬
‫ِلذِ ْكرِي»‪ .‬وَ َك َذلِكَ ا ْل َك ْأسَ أَيَْضاً بَ َْعدَ الْعَشَاءِ قَاِئالً‪َ « :‬هذِهِ ا ْل َك ْأسُ ِهيَ الْ َعهَْدُ‬
‫جدِيدُ بِدَمِي َّالذِي يُسَْ َفكُ عَ َْن ُكمَْ "‪.‬‬
‫الْ َ‬

‫هذه كلمات مألوفة تتحدث عن "شراكة " عشاء ربنا املعروفة أيضًا يف شكل‬
‫شديد الشبه يف الرسالة األوىل إىل الكورينثيني (‪ 1‬كور ‪.) 25 – 23 : 11‬‬
‫على الرغم من حقيقة أن هذه األعداد مألوفة‪،‬هناك أسباب مقنعة تدفعنا‬
‫لالعتقاد بأنَِّ هذه األعداد مل تكن يف األصل يف إجنيل لوقا بل متت إضافتها‬
‫‪298‬‬
‫للتأكيد على أن جسد يسوع املكسور والدم املسفوك هما اللذان أتيا "لكم"‬
‫باخلالص‪.‬‬

‫أوال‪،‬من الصعب تفسري السبب الذي من أجله سيحذف ناسخٌ هذه األعداد إذا‬
‫كانت أصيلة يف إجنيل لوقا (فليس مثة نهايات متشابهة‬
‫)‪،(homoeoteleuton‬على سبيل املثال ‪،‬ميكنها أن تفسر هذا احلذف‬
‫)وخاصة إذا مع ما متنحه من معنى واضح وسلس عند إضافتها ‪ .‬يف الواقع ‪،‬‬
‫معظم الناس ‪،‬عندما حتذف هذه األعداد‪ ،‬سيجدون أن النص سيبدو مبتورا‬
‫بعض الشئ ‪ .‬غرابة هذه النسخة املبتورة رمبا هي اليت أدت بالنسَّاخ إىل إضافة‬
‫هذه األعداد ‪ .‬فوق ذلك ‪ ،‬ينبغي مالحظة أن هذه األعداد‪،‬بقدر ما هي‬
‫مألوفة‪،‬ال متثل مفهوم لوقا اخلاص عن موت يسوع ‪.‬ألنَّ إحدى اخلصائص‬
‫الالفتة للصورة اليت يرمسها لوقا ملوت يسوع ‪ -‬قد يبدو ذلك غريبا يف البداية‬
‫ـ هي أنه أبدًا مل يشِر ‪،‬يف أيِّ موضعٍ آخر‪،‬أن املوت ذاته هو الذي جيلب‬
‫اخلالص من اخلطيئة ‪ .‬ال يوجد يف أي مكان يف كتاب لوقا كامال مبجلديه (‬
‫إجنيل لوقا وسفر األعمال )‪،‬أنَّ موت يسوع قيل عنه أنه حدث "من أجلكم "‪.‬‬
‫يف الواقع ‪ ،‬يف املناسبتني الوحيدتني اليت يشري فيهما املصدر الذي استقى منه‬
‫إجنيل لوقا ( إجنيل مرقس) إىل أنه مبوت يسوع جاء اخلالص ( مرقس ‪: 11‬‬
‫‪ 45‬؛ ‪ ،) 39: 15‬غيَّرَ لوقا صياغة النص ( أو حذفها )‪ .‬لوقا ‪ ،‬إذا قلناها‬

‫‪299‬‬
‫بطريقة أخرى ‪،‬كان له مفهومه املختلف خبصوص الطريقة اليت من خالهلا‬
‫يؤدي موت يسوع إىل اخلالص عن ما لدى مرقس ( وبولس ‪ ،‬والكتاب‬
‫املسيحيون األوائل اآلخرون )‪ .‬من اليسري أن نرى وجهة نظر لوقا املتميزة من‬
‫خالل ما يتوجب أن يقوله يف سفر األعمال الذي يلقي الرسل فيه عددًا من‬
‫ٍّ من هذه العبارات‪،‬مع‬
‫األقوال بهدف حتويل اآلخرين إىل اإلميان ‪ .‬ليس يف أي‬
‫ذلك‪،‬أنَّ الرسل أشاروا فعليًّا إىل أن موت يسوع جيلب تكفري اخلطايا ( على‬
‫سبيل املثال ‪ ،‬يف الفصول ‪ .) 13 ، 4 ، 3‬هذا ال يعين أن موت يسوع مل يكن‬
‫مهمّا ‪ .‬بل هو مهمٌّ للغاية من وجهة نظر لوقا ـ لكن ليس باعتباره مكفرًا عن‬
‫اخلطايا ‪ .‬عوضا عن ذلك ‪،‬موت يسوع هو ما جعل الناس يدركون آثامهم أمام‬
‫اهلل ( حيث مات على الرغم من أنه كان بريئًا )‪ .‬ومبجرد أن يدرك الناس‬
‫خطيئتهم‪،‬يعودون إىل اهلل بالتوبة ومن ثمّ تُغَْفَر هلم خطاياهم ‪ .‬موت يسوع من‬
‫وجهة نظر لوقا‪،‬بطريقة أخرى ‪،‬يقود الناس إىل التوبة وهذه التوبة هي اليت‬
‫جتلب اخلالص ‪ .‬ولكن ليس بناءًا على هذه األعداد املتنازع عليها اليت ليس هلا‬
‫وجود يف بعض شواهدنا املبكرة‪:‬‬

‫هنا يتم تصوير موت يسوع باعتباره توبة "لكم"‪ .‬يف األصل تبدو األعداد وكأنها‬
‫مل تكن جزءا من إجنيل لوقا ‪ .‬فلماذا‪،‬إذن‪،‬أضيفت ؟ يف نزاع حدث بعد ذلك‬
‫مع مرقيون ‪ ،‬أكد ترتليانوس التالي‪:‬‬

‫‪300‬‬
‫أعلن يسوع بوضوحٍ كافٍ ما كان يقصده من ذكره للخبز‪،‬عندما مسَّى اخلبز‬
‫جسده اخلاص‪ .‬كما أكَّد على حنوٍ مشابهٍ‪،‬عند ذكره للكأس و صناعة العهد‬
‫اجلديد وخَ َْتمِه بدمه‪،‬حقيقة دمه ‪.‬ألنه ليس هناك دمٌ ميكنه أن يكون يف جسد‬
‫ليس جسدًا من حلم‪ .‬لذلك من دليل اجلسد حصلنا على برهان اجلسد‪،‬وبرهان‬
‫اجلسد من دليل الدم ( ضد مرقيون ‪)41 ، 4‬‬

‫يبدو أن تلك األعداد أضيفت للتأكيد على جسد املسيح احلقيقيِّ ودمه الذان‬
‫ضحى بهما حقيقةً من أجل اآلخرين‪ .‬من احملتمل أن ال يكون هذا التأكيد‬
‫وجهة نظر ختصُّ لوقا‪ ،‬لكنَّ مصدره بالتأكيد كان نسَّاخ ماقبل األرثوذكسية‬
‫الذين حرَّفوا نصوص لوقا اليت بني أيديهم لكي جيابهوا عقائد الظهوريني‬
‫املتعلقة بطبيعة املسيح مثل عقيدة مرقيون (‪) .9‬‬

‫عددٌ آخر يبدو أنَّه كان قد أضيف إىل إجنيل لوقا من خالل نُسَّاخ ماقبل‬
‫األرثوذكسيّة هو العدد ‪ 12 : 24‬من إجنيل لوقا ‪،‬الذي يقع بعد قيامة يسوع‬
‫من األموات متامًا‪ .‬بعض أتباع يسوع من النساء ذهنب إىل القرب‪ ،‬فلم جيدنه‬
‫هناك‪،‬وقيل هلم إنه قد أُقيم ‪ .‬فعُ َْدنَ ليخربن التالميذ الذين رفضوا أن‬
‫يصدقوهنَّ ألنَّ احلكاية قد أدهشتهم باعتبارها " حكاية ساذجة ‪".‬‬

‫‪301‬‬
‫ثمّ ‪ ،‬يف كثري من املخطوطات تقع القصة املذكورة يف ‪ " : 12 : 24‬لكنَّ‬
‫بطرس قَامَ وَرَ َكضَ إِلَى الْ َقبَْرِ فَانَْحَنَى وََنظَرَ األَكْفَانَ املصنوعة من الكتان‬
‫ح َدهَا َفمَضَى ُمتَعَجِّبًا فِي َن ْف ِسهِ مِمَّا كَانَ‪.‬‬
‫مَوَْضُو َعةً َو َْ‬

‫هناك أسباب ممتازة جتعلنا نعتقد أن هذا العدد مل يكن يف األصل جزءًا من إجنيل‬
‫لوقا‪ .‬فهو حيتوي على عدد كبري من السمات األسلوبية اليت ليس هلا مثيل يف‬
‫أي موضعٍ آخر من إجنيل لوقا‪ .‬من بني ذلك غالبية الكلمات املفصلية يف النص‬
‫‪،‬على سبيل املثال ‪" ،‬احننى " و " األكفان املصنوعة من الكتان" ( هناك كلمة‬
‫أخرى كانت تستخدم للداللة على مالبس القرب قبل ذلك يف الرواية )‪.‬فوق‬
‫ذلك ‪،‬من الصعب معرفة السبب الذي جيعل شخصًا ما يرغب يف حذف هذا‬
‫العدد لو كان يف احلقيقة يشكَّل جزءًا أصليًّا من اإلجنيل ( مرة أخرى ‪ ،‬ليس‬
‫هناك نهايات متشابهة أو ما إىل ذلك لكي نعتربها حذفًا غري مقصود )‪ .‬وكما‬
‫الحظ كثريٌ من القرَّاء ‪ ،‬يبدو العدد وكأنه تلخيص حلكاية وردت يف إجنيل‬
‫يوحنا ( ‪) 11 - 3 : 21‬حيث يتسابق كلٌّ من بطرس و" التلميذ احلبيب"‬
‫جريًا إىل القرب وجيدانه فارغًا‪ .‬هل ميكن أن يكون شخصٌ قد أضاف حكاية‬
‫مشابهة‪ ،‬بأسلوب خمتصر‪،‬إىل إجنيل لوقا ؟‬

‫لو كان هذا صحيحًا ‪،‬فياهلا من إضافة مدهشة ! فهي تدعم بشكل جيد جدا‬
‫موقف مسيحيي ماقبل األرثوذكسية من يسوع وأنَّ مل يكن ببساطة شكال ما‬

‫‪302‬‬
‫من األشباح وإمنا كان له جسدٌ حقيقيٌّ ماديٌّ ‪ .‬أضف إىل ذلك أن هذا هو ما‬
‫اعرتف به كبري التالميذ نفسه ‪،‬أعين بطرس ‪ .‬لذلك‪،‬وبدال من ترك قصة القرب‬
‫الفارغ على حالتها كـ" حكاية ساذجة " لبعض النساء غري اجلديرات بالثقة ‪،‬فإنَّ‬
‫النصَّ يف وضعه احلالي يظهر أن القصة مل تكن قابلة للتصديق فحسب بل‬
‫حقيقية ‪ :‬على اعتبار أن صحتها مل تتأكد إال من خالل بطرس ( الذي هو‬
‫رجل مستحق للثقة كما قد يفرتض اإلنسان )‪ .‬األمر األكثر أهمية هو أن العدد‬
‫حتى يؤكِّد على الطبيعة املاديَّة لقيامة يسوع‪ ،‬ألنَّ الشئ الوحيد الذي ترك‬
‫داخل القرب هو دليلٌ ماديٌّ على حدوث القيامة ‪ :‬الكفن املصنوع من الكتان‬
‫ٍّ‪ .‬أهمية هذه‬
‫الذي غطَّى جسد يسوع ‪ .‬لقد كانت قيامة جسدية لشخصٍ حقيقي‬
‫النقطة أشري إليها مرة أخرى من خالل ترتليانوس ‪:‬‬

‫اآلن لو أنكروا موت (املسيح ) بسبب إنكار كونه جسدًا‪ ،‬فلن يكون ثمَّ تأكيدٌ‬
‫حلدوث قيامته‪ .‬فإذا مل يكن قد قام وذلك من أجل السبب ذاته الذي مل ميت‬
‫من أجله‪،‬وحتى بسبب أنه مل يكن ميتلك حقيقة اجلسد الذي كما عليه يقع‬
‫املوت فله ميكن للقيامة أن تقع‪.‬على حنوٍ مماثل‪ ،‬لو أمكن دحض قيامة‬
‫املسيح‪،‬فإن قيامتنا أيضًا تنمحي ‪(.‬ضد مرقيون ‪)8 ، 3‬‬

‫البد أن املسيح كان له جسًدا حسًّيًا حقيقيًّا وأنه قد أقيم حقًا من املوت‬
‫باجلسد‪.‬فليست اآلالم و املوت فحسب هما اللذان حتملهما املسيح جسديًّا‪،‬بل‬

‫‪303‬‬
‫وأقيم من األموات جسديًّا‪ :‬بالنسبة ملسيحيي ماقبل األرثوذكسية فقد رفع إىل‬
‫السماء أيضًا جبسده ‪.‬‬

‫آخر قراءة متباينة سنلقي عليها الضوء تأتي من نهاية إجنيل لوقا ‪،‬بعد أن‬
‫حدثت القيامة (ولكن يف اليوم ذاته )‪ .‬حتدَّث يسوع إىل أتباعه للمرة‬
‫األخرية‪،‬وبعد ذلك انفصل عنهم‪:‬‬

‫جعُوا إِلَى‬
‫جدُوا َلهُ وَرَ َ‬
‫السمَاءِ‪ .‬فَسَ َ‬
‫َوفِيمَا هُوَ يُبَارِ ُكهُمُ انَْفَ َردَ عَ َْنهُمَْ َوأُصَْعِدَ إِلَى َّ‬
‫أُورُ َشلِيمَ بِفَ َرحٍ َعظِيمٍ ‪(.‬لوقا ‪)52 - 51 : 24‬‬

‫من الطريف أن نالحظ‪،‬مع ذلك‪،‬أنَّ هناك زيادة يف بعض خمطوطاتنا األكثر‬


‫قدمًا‪ -‬ومن بينها املخطوطة السينائية السكندرية – قد حدثت للنص (‪. )11‬‬
‫فبعد أن تشري إىل أنَّه "أُب ِعدَ عنهم ‪ "،‬تصرح يف هذه املخطوطات بأنه " َأُصَْعِدَ‬
‫السمَاءِ"‪ .‬إنَّها زيادةٌ هامَّة ألنها تشدِّدُ على مغادرة يسوع جسديًّا خالل‬
‫إِلَى َّ‬
‫ٍّ ما‪،‬هذه قراءة متباينة مثرية‬
‫ارتفاعه ( بدال من التعبري اهلادئ " نُقِل ")‪ .‬فإىل حد‬
‫لالنتباه ألن املؤلف ذاته‪،‬أي لوقا‪،‬يف كتابه الثاني‪،‬سفر األعمال‪،‬حيكي مرة‬
‫أخرى عن ارتفاع يسوع إىل السماء‪،‬لكنَّه يصرح بوضوح أنها حدثت‬
‫بعد"أربعني يومًا" من وقت حدوث القيامة من بني األموات ( أعمال ‪-1 : 1‬‬
‫‪).11‬‬

‫‪304‬‬
‫هذا جيعل من الصعوبة مبكان أن نصدق أن لوقا كتب هذه العبارة موضع‬
‫الدراسة يف لوقا ‪ 51 : 24‬ـ حيث إنَّه بالتأكيد لن يعتقد أن يسوع قد ارتفع إىل‬
‫السماء يف يوم قيامته لو أنه يشري يف بداية كتابه الثاني أنه ارتفع بعد ذلك بأربعني‬
‫يوما‪ .‬من اجلدير باملالحظة أيضًا أن الكلمة املفتاحية )‪ (key word‬موضع‬
‫أي موضع آخر‬
‫ٍّ‬ ‫الدراسة اليت هي " ُرفِع " ‪ was taken up‬مل تذكر يف‬
‫سواء يف إجنيل لوقا أو يف سفر األعمال ‪ .‬فلماذا يضيف شخص ما هذه‬
‫الكلمات ؟ حنن نعلم أن مسيحيي ماقبل األرثوذكسيّة أرادوا أن يؤكدوا على‬
‫مادي‬
‫ٍّ‬ ‫الطبيعة املادية احلقيقية ملغادرة يسوع لألرض‪:‬لقد غادر يسوع بشكل‬
‫وسيعود ثانية بصورة ماديَّة ليأتي معه باخلالص املاديِّ‪.‬وعلى هذا النحو قاموا‬
‫مبجادلة الظهوريني الذين متسكوا بأن هذا كله كان ظهورًا ‪ .‬من احملتمل أن‬
‫ناسخًا كان مشرتكًا يف هذه املناظرات قام بتنقيح نصِّه لكي يؤكِّد على هذه‬
‫القضيَّة‪.‬‬

‫االجتاه الثالث الذي كان حمط اهتمام مسيحيي ماقبل األرثوذكسية الذين عاشوا‬
‫يف القرنني الثاني والثالث له صلة مبجموعات مسيحيَّة كانت ترى املسيح ال‬
‫‪305‬‬
‫باعتباره إنسانًا فحسب (مثلما هو احلال مع التبنِّيِّني) أو إهلًا فحسب ( كما‬
‫يقول الظهوريُّون ) وإمنا ككائنني اثنني ‪ ،‬أحدهما إنسانٌ متامًا واآلخر إله متاما‬
‫(‪ . )11‬رمبا مبقدورنا أن نطلق على هذا " العقيدة االنقسامية"حول طبيعة‬
‫املسيح ألنَّها قسمت يسوع املسيح إىل اثنني ‪ :‬يسوع اإلنسان ( الذي كان إنسانًا‬
‫كامال) و املسيح اإلله (الذي كان إهلًا كامال ‪).‬‬

‫وفقا لغالبية القائلني بوجهة النظر هذه‪،‬يسوع اإلنسان كان مسكونًا على جنوٍ‬
‫غري دائمٍ بالكائن اإلهليِّ ‪،‬الذي هو املسيح ‪،‬وهذا مكَّنه من إجناز أعماله‬
‫اإلعجازية و بتبليغ تعاليمه؛ لكنَّ املسيح فارق يسوع قبل موته‪،‬جمربًا إياه على‬
‫مواجهة الصلب وحده‪.‬‬

‫هذه العقيدة االنقسامية فيما يتعلق بطبيعة املسيح كان من الشائع الدفاع عنها‬
‫غالبًا عرب جمموعة من املسيحيني يطلق عليهم العلماء اسم "الغنوصيني" (‪)12‬‬
‫‪.‬مصطلح الغنُّوصيَّة يأتي من الكلمة اليونانية (جينوسيس) اليت تعين‬
‫املعرفة‪.‬وهي تنطبق على جمموعات واسعة التنوع من املسيحيني األوائل الذين‬
‫شدَّدوا على أهمية املعرفة الباطنية يف الوصول إىل اخلالص ‪ .‬وفقا ملعظم هذه‬
‫اجملموعات ‪ ،‬العامل املادي الذي حنيا فيه مل يكن من عمل يدي اإلله الواحد‬
‫احلقيقيِّ‪ .‬فلقد جاء نتيجة لكارثة وقعت يف اململكة السماويَّة ‪(divine‬‬
‫)‪realm‬اليت ُطرِد منها أحد الكائنات اإلهلية (الكثرية) ألسبابٍ غامضةٍ من‬

‫‪306‬‬
‫نواحي السماء ؛ وكنتيجة لسقوط العامل املاديِّ من حالة القداسة فقد قام إلهٌ‬
‫أقل مقامًا خبلقه وذلك عرب َسبَْيِه وسَجَْنِه يف أجسام اآلدميني هنا على األرض ‪.‬‬
‫بعض الكائنات البشرية لذلك يف داخلهم ومضة إهلية وهم حباجة إىل تعلُّم‬
‫حقيقة كينونتهم ومن أين جاءوا وكيف جاءوا إىل هنا وكيف ميكنهم العودة ‪.‬‬
‫معرفة هذه احلقيقة ستقودهم إىل خالصهم ‪.‬‬

‫تتكون احلقيقة من تعاليم باطنية و"معرفة"(جنوسيس) غامضة ال ميكن احلصول‬


‫ٍّ من اململكة السماوية ‪.‬حسب املسيحيني الغنوصيني‪،‬‬
‫عليها إال عرب كائنٍ إهلي‬
‫املسيح هو الكاشف اإلهلي حلقائق اخلالص؛ فقد دخل املسيح ‪،‬يف كثري من‬
‫أهلَه ملهمَّتِه‬
‫األفكار الغنوصية‪ ،‬إىل يسوع اإلنسان أثناء العماد األمر الذي َّ‬
‫التبشريية ثم بعد ذلك غادره ليموت على الصليب يف النهاية‪.‬وهذا السبب الذي‬
‫جعل يسوع يصرخ‪ "،‬إهلي ‪ ،‬إهلي ‪ ،‬ملاذا تركتين ؟" فبالنسبة هلؤالء‬
‫الغنوصيني‪ ،‬كان املسيح قد غادر يسوع باملعنى احلريفِّ ( أو "تركه وراءه ")‪ .‬بعد‬
‫موت يسوع أقامه من بني األموات كمكافأة من أجل إخالصه واستمر عربه يف‬
‫تعليم تالميذه احلقائق الباطنيَّة اليت بإمكانها أن تقودهم إىل اخلالص‪ .‬لقد وجد‬
‫مسيحيو ماقبل األرثوذكسية هذا التعليم مستهجنًا تقريبًا من كل الوجوه‪.‬‬
‫فبالنسبة إليهم ‪ ،‬العامل املاديّ ليس مكانًا شريرًا نشأ عن كارثة كونيَّة وإمنا هو‬
‫خليقة صاحلة لإلله الواحد احلقيقيّ‪ .‬واخلالص‪،‬عندهم‪ ،‬يأتي عرب اإلميان‬

‫‪307‬‬
‫مبوت املسيح و قيامته وليس من خالل تعلّم املعرفة الروحية الباطنيَّة اليت‬
‫بإمكانها أن تضئ حقيقة الوضع اإلنساني ‪ .‬واألمر األهم ألهدافنا يف هذا‬
‫الفصل هو أن يسوع املسيح ‪،‬بالنسبة إليهم‪ ،‬مل يكن كائنني اثنني وإنَّما كائنٌ‬
‫واحدٌ إهليٌّ وبشريٌّ معًا يف وقت واحد ويف الوقت ذاته‪.‬‬

‫لعبت النزاعات حول عقائد االنقساميني املتعلقة بطبيعة املسيح دورًا يف نسخ‬
‫النصوص اليت ستصبح فيما بعد العهد اجلديد‪.‬‬

‫رأينا من قبل بالفعل موضعًا لقراءة متباينة تعرضنا هلا بالبحث يف الفصل‬
‫اخلامس وهي تلك املوجودة يف سفر العربانيني ‪ 9 : 2‬واليت قيل فيها عن‬
‫يسوع ‪،‬أي يف نص الرسالة األصلي‪ ،‬إنَّه مات "منفصال عن اهلل "‪ .‬يف نقاشنا‬
‫هناك‪ ،‬رأينا أن معظم النساخ كانوا قد قبلوا القراءة األخرى اليت أشارت إىل‬
‫أن املسيح مات "بنعمة اهلل " على الرغم من أن ذلك ليس هو النص الذي كتبه‬
‫املؤلِّف األصليُّ ‪ .‬لكننا مل نتعرض بالتفصيل لقضيَّة السبب الذي رمبا جعل‬
‫النساخ يرون أن النص يف وضعه األصلي رمبا ميثِّل خطورة ولذلك ينبغي‬
‫تعديله ‪.‬اآلن‪،‬يف وجود هذه اخللفية املوجزة عن املفاهيم الغنوصية جتاه‬
‫املسيح‪،‬يصبح التغيري منطقيًّا على حنوٍ أكرب‪.‬ألنه وفقًا للمعتقدات اليت تبناها‬
‫‪308‬‬
‫االنقساميون خبصوص طبيعة املسيح ‪،‬مات املسيح بالفعل "منفصال عن اهلل"‬
‫وذلك يف أنَّه عندما كان على الصليب غادره العنصر اإلهليُّ الذي كان قد‬
‫سكنه يف وقتٍ سابق ولذلك مات يسوع وحده ‪ .‬وألنهم كانوا واعني إىل أن‬
‫النص ميكن أن يستعمل لتدعيم وجهة النظر هذه‪ ،‬أحدث النسَّاخ املسيحيون‬
‫تغيريًا عميقًًا رغم بساطته‪ .‬اآلن‪،‬بدال من أن يشري النص إىل أن يسوع قد مات‬
‫منفصال عن اهلل‪ ،‬إذ به أكد أن وفاة املسيح َّمتت "بنعمة اهلل"‪ .‬هذا ‪،‬إذن‪،‬حتريفٌ‬
‫موجَّه ضدَّ التعاليم االنقسامية ‪ .‬منوذجٌ آخرُ مثري لالهتمام خيص هذه الظاهرة‬
‫يقع متامًا يف املوضع الذي رمبا يتوقع املرء منَّا أن جيده فيه ‪ ،‬يف رواية اإلجنيل‬
‫حلادثة صلب يسوع ‪ .‬كما أشرت من قبل‪،‬يف إجنيل مرقس التزم يسوع الصمت‬
‫يف كل موقفٍ من مواقفِ عملية الصلب ‪ .‬صلبه اجلنود وسخر منه املارَّة و‬
‫زعماء اليهود ‪ ،‬كما سخر منه أيضًا جمرمان عُلِّقوا معه على الصليب ؛ لكنه مل‬
‫ينطق ببنت شفة – حتى اللحظة النهائية حينما يقرتب املوت ويصرخ يسوع‬
‫بكلماتٍ مقتبسة من مزمور ‪": 22‬إلوي ‪،‬إلوي ‪،‬ملا شبقتين ؟" ‪،‬اليت ترتجم‬
‫كاآلتي‪":‬إهلي ‪ ،‬إهلي ‪،‬ملا تركتين ؟"(مرقس ‪ .) 34: 15‬من الطريف أن‬
‫نالحظ أنَّه وفقًا ملا ذكره إيريناوس‪،‬الكاتب الذي عاش يف عصر ماقبل‬
‫األرثوذكسية ‪،‬كان إجنيل مرقس هو املفضَّل لدى هؤالء "الذين فصلوا يسوع‬
‫عن املسيح " – أي لدى الغنوصيني الذي اعتنقوا عقائد انقسامية فيما يتعلق‬
‫بطبيعة املسيح(‪).13‬‬
‫‪309‬‬
‫لدينا من األدلة القوية ما جيعلنا نفرتض أن بعض الغنوصيني أخذوا هذه اجلملة‬
‫األخرية اليت قاهلا يسوع على معناها احلريفِّ لكي يثبتوا أن هذه اللحظة هي‬
‫اليت انفصل فيها املسيح ذو الطبيعة اإلهلية عن يسوع (حيث أن الالهوت ال‬
‫ميكن أن يذوق الفناء واملوت )‪ .‬الدليل يأتي من الوثائق الغنوصية اليت تعتقد يف‬
‫أهمية هذه اللحظة من حياة يسوع ‪ .‬لذلك ‪،‬على سبيل املثال ‪ ،‬يقتبس إجنيل‬
‫بطرس غري القانوني )‪،(apocryphal‬الذي راودت البعضَ الشكوكُ يف‬
‫احتوائه على عقائد انقسامية خبصوص طبيعة املسيح ‪،‬هذه الكلمات بطريقة‬
‫مغايرة نوعًا ما فيقول ‪ ":‬قوتي‪،‬قوتي‪،‬لقد غادرتين!" األمر األشد وقعًا هو أن‬
‫النص الغنوصي املعروف باسم إجنيل فيليب ذكر النص ثمَّ أُعطاه تفسريا‬
‫انقساميًّا ‪":‬إهلي ‪ ،‬إهلي ‪ ،‬ملاذا أيها السيد )‪(Lord‬تركتين ؟" وألنَّه قال هذه‬
‫الكلمات على الصليب‪،‬فالبد أنَّه يف هذه اللحظة ذاتها قد انقسم ‪ .‬مسيحيو‬
‫عصر ما قبل األرثوذكسية كان لديهم معلومات عن الشيئني كليهما‪:‬األناجيل‬
‫وتفسرياتها هلذه اللحظة احلامسة من مشهد صلب يسوع‪.‬ليس إذن من قبيل‬
‫املفاجئة أن نص إجنيل مرقس مت التالعب به عرب بعض النساخ بطريقة راوغت‬
‫هذا التفسري الغنوصي‪ .‬يف إحدى املخطوطات اليونانية و العديد من الشواهد‬
‫الالتينية ‪ ،‬يقال أن يسوع مل يطلق " صرخة االفرتاق " التقليدية اليت وردت يف‬
‫مزمور ‪ ، 22‬لكنه بدال من ذلك صرخ ‪ ":‬إهلي ‪،‬إهلي ‪ ،‬ملاذا سخرت مين ؟"‬
‫هذا التغيري الذي تعرض له النص نتج عنه قراءة طريفة – بل ومنسجمة متاما‬
‫‪310‬‬
‫مع سياقها األدبي‪ .‬ألنه كما أشرت من قبل ‪،‬كلُّ إنسانٍ آخر تقريبًا يف القصة قد‬
‫سخر من يسوع عند هذه اللحظة – القادة اليهود واملارَّة والسارقان ‪.‬‬
‫واآلن‪،‬ويف وجود هذه القراءة‪،‬انضم اهلل أيضًا حسب قول النص إىل قائمة‬
‫الساخرين من يسوع ‪ .‬يسوع ‪ ،‬شاعرًا باليأس ‪،‬يطلق صرخة مدوية وميوت‪ .‬إنه‬
‫مشهد قوي ومثري للشفقة ‪.‬هذه القراءة رغم ذلك ليست هي القراءة‬
‫أصلية‪،‬وذلك يتضح من كونها مفقودة تقريبًا يف كل شواهدنا األقدم واألفضل‬
‫(مبا يف ذلك تلك اليت تنتمي إىل النص السكندري) وكذلك لكونها ال تتوافق‬
‫مع الكلمات اآلرامية اليت تفوه بها يسوع( ملا شبقتين – اليت تعين "ملاذا‬
‫تركتين‪ "،‬وليس " ملاذا سخرت منِّي‪").‬‬

‫ملاذا إذن حرَّف النُسَّاخ هذا النص؟ إذا سلَّمنا مبدى فائدتها ملن يدافعون عن‬
‫العقائد اليت ختصُّ طبيعة املسيح وذلك من وجهة نظر اإلنقساميني ‪،‬فحينها‬
‫سيظلُّ هناك سؤالٌ صغريٌ عن سبب ذلك‪ .‬لقد كان كُتَّابُ عصر ما قبل‬
‫األرثوذكسية معنيِّني بأن ال يستخدمَ خصومُهم الغنوصيُّون النص ضدهم‬
‫ٍّ ومتناغمٍ مع السياق الذي عاشوا يف ظله‪،‬وذلك لكي‬
‫فقاموا بإحداث تغيري هام‬
‫يقال من اآلن فصاعدًا عن اهلل إنه سخر من يسوع بدال من أن يقالَ عنه إنَّه‬
‫تركه‪.‬‬

‫‪311‬‬
‫مثالنا األخري على هذا النوع من القراءات املتباينة الذي كان سبب حدوثه‬
‫الرغبة يف الوقوف ضد التعاليم االنقسامية فيما يتعلق بطبيعة املسيح سنسوقه‬
‫من فقرة تقع يف الرسالة األوىل ليوحنا‪ .‬ففي أقدم شكلٍ معروفٍ للعدد ‪: 4‬‬
‫‪، 23‬يقال لنا ‪":‬بهذا تعرفون روح اهلل ‪ .‬كل روح تعرتف بأن يسوع قد جاء يف‬
‫اجلسد فهي من اهلل؛وكل روح ال تعرتف بيسوع فهي ليست من اهلل‪.‬هذا هو‬
‫روح ضد املسيح‪ ".‬إنها فقرة واضحة وصرحية ‪ :‬هؤالء الذين اعرتفوا بأن يسوع‬
‫جاء حقًا يف اجلسد (أي رفضوا قبول وجهات النظر الظهورية على سبيل املثال‬
‫) هم وحدهم من ينتمون إىل اهلل؛أما هؤالء الذين رفضوا االعرتاف بهذا فهم‬
‫مقاومون للمسيح (أي أنهم أضداد املسيح )‪ .‬مع ذلك ‪،‬هناك قراءة خمتلفة‬
‫طريفة جندها يف النصف الثاني من هذه الفقرة ‪ .‬فبدال من اإلشارة إىل الشخص‬
‫الذي " مل يعرتف بيسوع "‪ ،‬هناك العديد من الشواهد تشري إىل الشخص الذي‬
‫" يقسم يسوع " ماذا يعين هذا ‪ -‬يقسم يسوع – وملاذا جنحت هذه القراءة يف‬
‫أن تشق طريقها إىل بعض املخطوطات ؟ يف البدء ‪ ،‬ينبغي أن أشدِّدَ على أن‬
‫عدد املخطوطات اليت حتوي هذه القراءة ليس بالكبري جدا ‪.‬ففي الشواهد‬
‫اليونانية ال توجد إال يف هامش خمطوطة واحدة يرجع تارخيها إىل القرن احلادي‬
‫عشر(وهي املخطوطة ‪ .) 1739‬لكنَّ هذه املخطوطة‪،‬كما رأينا من قبل‪،‬هي‬
‫خمطوطة مميزة ألنها فيما يبدو قد نسخت من خمطوطة ترجع إىل القرن الرابع‬
‫وهوامشها تسجل أمساء آباء الكنيسة الذي كان لديهم قراءات خمتلفة ألجزاء‬
‫‪312‬‬
‫حمددة من النص‪ .‬يف هذا املوضع حتديدًا ‪،‬يشري اهلامش إىل أن القراءة " يقسم‬
‫يسوع " كانت معروفة لدى العديد من آباء الكنيسة يف أواخر القرن الثاني و‬
‫بواكري القرن الثالث‪،‬من أمثال إيريناوس وكليمنت وأورجيانوس‪ .‬أضف إىل‬
‫ذلك أنها تظهر يف الفوجلاتا الالتينية‪ .‬ومن بني أمور أخرى ‪ ،‬هذا يوضح أن‬
‫هذه القراءة املختلفة كانت مشهورة خالل العصر الذي كان مسيحيو عصر ما‬
‫قبل األرثوذكسية يتنازعون مع الغنوصيني حول قضايا طبيعة املسيح‪ .‬مع ذلك‪،‬‬
‫هذه القراءة ال ميكن على األرجح أن تقبل باعتبارها النص" األصليّ " مع‬
‫التسليم بقلة األدلة اليت تعضد موثوقيتها‪ -‬فهي مفقودة‪،‬على سبيل املثال‪،‬يف‬
‫كل خمطوطاتنا اليت تصنَّف باعتبارها األقدم واألفضل بني املخطوطات ( يف‬
‫الواقع ليس هلا أي وجود يف أي خمطوطة يونانية باستثناء هذا الوجود يف‬
‫اهلامش)‪ .‬ملاذا‪،‬رغم كل ذلك‪،‬أضافها أحد النسَّاخ املسيحيني ؟ يبدو أنها قد‬
‫ٍّ" على عقائد االنقساميني اليت تتعلق‬
‫أضيفت من أجل اختالق مطعن "كتابي‬
‫بطبيعة املسيح‪،‬اليت تفرق فيها املسيح و يسوع بعضهما عن اآلخر إىل كيانات‬
‫منفصلة‪،‬أو حبسب تعبري هذه القراءة املختلفة اليت جاء فيها أن يسوع قد "‬
‫انفصل " عن املسيح‪ .‬أيُّ إنسانٍ يؤمن بصحة وجهة النظر هذه‪ ،‬حسب ما‬
‫تفرتض القراءة النصية املختلفة‪ ،‬فهو ليس من اهلل ‪،‬بل باألحرى هو ضد‬
‫املسيح‪.‬‬

‫‪313‬‬
‫مرة أخرى ‪،‬إذن ‪ ،‬لدينا ها هنا قراءة تولدت عن سياق النزاعات املتعلقة‬
‫بطبيعة املسيح اليت اندلعت يف القرنني الثاني و الثالث‪.‬‬

‫أحد العوامل اليت ساهمت يف وقوع حتريفات النساخ لنصوصهم هو السياق‬


‫التارخيي الذي عاشوا يف ظلِّه ‪ .‬كان النسَّاخ املسيحيُّون يف القرنني الثاني والثالث‬
‫متورطني يف النزاعات و املناظرات اليت حدثت يف زمنهم ‪ ،‬وقد أثَّرت هذه‬
‫النزاعات أحيانًا يف عملية إعادة إنتاج النصوص اليت اندلعت خبصوصها هذه‬
‫النزاعات‪ .‬بكلمات أخرى ‪،‬قام النساخ يف بعض األحيان بتحريف نصوصهم‬
‫لكي يدفعوها ألن تقول ما كانوا يعتقدون مسبقًا أنَّها تعنيه ‪.‬مل يكن هذا‬
‫بالضرورة أمرًا سيئًا ‪ ،‬ألننا على األرجح ميكننا أن نفرتض أن معظم النساخ‬
‫الذين أدخلوا تغيريات إىل نصوصهم غالبًا ما فعلوا ذلك إما بسبب عدم االنتباه‬
‫أو بنيَّة حسنة ‪ .‬لكنَّ احلقيقة‪ ،‬مع ذلك‪،‬هي أنه مبجرد أن قام هؤالء بتحريف‬
‫نصوصهم‪ ،‬أصبحت كلمات النصوص خمتلفة متام االختالف وهذه الكلمات‬
‫اليت حلقها التغيري أثَّرت بالضرورة على تفسري القرَّاء املتأخِّرين هلذه الكلمات‪.‬‬
‫كانت النزاعات الالهوتية اليت اندلعت يف القرنني الثاني والثالث من بني‬
‫أسباب هذه التحريفات ألنَّ النسَّاخَ أحيانًا عدَّلوا نصوصهم يف ضوء العقائد‬
‫اليت اعتنقها التبنيُّون والظهوريُّون واالنقساميون فيما يتعلق باملسيح‬

‫‪314‬‬
‫وطبيعته‪،‬وهم الذين كانوا يتنافسون من أجل الفوز مبوطء قدم حتت الشمس‬
‫ٍّ كانت مؤثرة أيضًا يف هذا‬
‫يف هذه الفرتة‪ .‬هناك عوامل أخرى ذات بعدٍ تارخيي‬
‫الصدد ‪ ،‬منها ما يتعلق على حنوٍ أقل بالنزاع الالهوتي و على حنوٍ أكرب‬
‫بصراعات هذا العصر االجتماعية ‪ ،‬مثل الصراع حول دور النساء يف الكنائس‬
‫املسيحية األوىل و العداء املسيحيِّ لليهود والدفاع املسيحي عن اإلميان ضد‬
‫مطاعن اخلصوم الوثنيني‪ .‬يف الفصل التالي سنرى كيف أن هذه الصراعات‬
‫األخرى ذات الطابع االجتماعي تركت أثارها على النساخ املسيحييِّن الذين‬
‫نسخوا نصوص الكتاب املقدس يف القرون اليت سبقت العصر الذي أصبح‬
‫النساخ احملرتفون هم من ينسخون النصوص فيه‪.‬‬

‫‪315‬‬
‫)‪(1‬لالطالع على نصوص هامة من هذه الفرتة ‪،‬انظر كتاب ‪ ":‬بعد العهد اجلديد‪ :‬قارئ يف املسيحية املبكرة ‪" (fter the‬‬
‫)‪New Testament: A Reader in Early Christianity‬تأليف بارت د‪.‬إرمان (نيويورك ‪:‬مطبعة جامعة‬
‫أكسفورد‪ .) 1999،‬مقدمة رائعة هلذه الفرتة ميكن احلصول عليه من كتاب ‪":‬الكنيسة األوىل ‪"( The Early‬‬
‫)‪Church‬هلنري تشادويك (نيويورك‪ :‬بنجوين‪).1967،‬‬

‫)‪(2‬لالطالع على مناقشة أوسع للمادة اليت تناقشها الفقرات التالية ‪،‬انظر على وجه اخلصوص كتاب إرمان ‪،‬الديانات‬
‫املسيحية املفقودة ‪،( Lost Christianities)،‬الفصل األول‪.‬‬

‫)‪(3‬لالطالع على مناقشة أوسع‪،‬انظر كتاب إرمان ‪،‬األرثوذكس حرفوا الكتاب املقدس‪( Orthodox ،‬‬
‫‪Corruption of Scripture).‬‬

‫)‪(4‬لالطالع على مناقشة أكثر تفصيال لآلراء التبنَّويَّة‪،‬والشخصيات اليت اعتنقتها ‪،‬انظر كتاب إرمان إرمان ‪،‬األرثوذكس‬
‫حرفوا الكتاب املقدس‪ ،( Orthodox Corruption of Scripture)،‬ص ‪.54 – 47‬‬

‫)‪(5‬لالطالع على مناقشة أكثر تفصيال عن الظهوريني والعقائد الظهورية خبصوص طبيعة املسيح‪ ،‬انظر كتاب إرمان إرمان‬
‫‪،‬األرثوذكس حرفوا الكتاب املقدس‪ ،( Orthodox Corruption of Scripture)،‬ص ‪.187 – 181‬‬

‫)‪(6‬انظر الصفحتني ‪ ، 15 ، 14‬من الفصل األول‪.‬‬

‫)‪(7‬اعرتف أيضًا بقانونية عشر رسائل بولسية باعتبارها جزء من الكتاب املقدس(مجيعها موجودة يف العهد اجلديد ما عدا‬
‫الرسالة ‪ 2 ،1‬إىل تيموثاوس والرسالة إىل تيطوس)‪ ،‬رفض العهد القديم كله ‪ ،‬ألنها منسوبة إىل اإلله اخلالق ‪ ،‬وليس إله‬
‫يسوع‪.‬‬

‫*معنى مصطلح ‪ chiasmus‬يتضح من اجلملة التالية‪:‬‬

‫أنا ذهبت إىل املدرسة ‪،‬إىل املدرسة ذهبوا هم ‪ .‬أي هي عكس يف اجلملة الثانية لرتتيب الكلمات يف اجلملة األوىل‪.‬‬

‫)‪(8‬هذه االقتباسات مأخوذة من حوار جوستينوس مع تريفو ‪ ،‬ص ‪.113‬‬

‫‪316‬‬
‫)‪(9‬إلثبات مطول ألن هذه األعداد مل تكن أصلية يف إجنيل لوقا بل أضيفت لدحض آراء ظهورية ‪ ،‬انظر كتاب إرمان‬
‫إرمان ‪،‬األرثوذكس حرفوا الكتاب املقدس‪ ،( Orthodox Corruption of Scripture)،‬ص ‪.219 – 198‬‬

‫)‪(10‬لالطالع على إضافة نصية أخرى ومناقشة أوسع هلذه اإلضافة ‪ ،‬انظر كتاب إرمان إرمان ‪،‬األرثوذكس حرفوا‬
‫الكتاب املقدس‪ ،( Orthodox Corruption of Scripture)،‬ص ‪.232 - 227‬‬

‫)‪(11‬لالطالع على معلومات أكثر تفصيال عن عقائد االنقساميني املتعلقة بطبيعة املسيح واجلماعات الغنوصية اليت‬
‫اعتنقتها ‪ ،‬انظر كتاب إرمان إرمان ‪،‬األرثوذكس حرفوا الكتاب املقدس‪( Orthodox Corruption of ،‬‬
‫)‪ ،Scripture‬ص ‪.124 – 119‬‬

‫)‪(12‬للمزيد من النقاشات عن الغنوصية ‪ ،‬انظر كتاب إرمان إرمان ‪،‬األرثوذكس حرفوا الكتاب املقدس‪( ،‬‬
‫)‪ ،Orthodox Corruption of Scripture‬الفصل ال‪.6‬‬

‫)‪(13‬ضد اهلراطقة ‪.7، 2 ،3‬‬

‫‪317‬‬
‫رمبا من املأمون متامًا أن نقول إن عملية نَسَْخ النصوص املسيحية املبكرة كانت‬
‫يف العادة عملية «حمافِظة»‪ .‬فقد كان النساخ ‪ -‬سواء أكانوا من هواة القرون‬
‫األوىل أم كانوا من احملرتفني يف العصور الوسطى‪ -‬عازمني على «احملافظة»‬
‫على التقليد النصيِِّ الذي كانوا يقومون بنسخه‪ .‬مل يكن اهتمامهم األول منصبًّا‬
‫على تعديل التقليد‪ ،‬بل على احلفاظ عليه ملصلحتهم اخلاصة وملصلحة من‬
‫سيأتون بعدهم‪ .‬معظم النساخ‪ ،‬بال شك‪ ،‬حاولوا أن يؤدُّوا عملهم يف التأكد‬
‫من أن النص الذي يقومون بإعادة إنتاجه كان هو النص نفسه الذي ورثوه‬
‫بنزاهة ‪.‬‬

‫رغم ذلك‪ ،‬حدث وأن وقعت التغيريات يف النصوص املسيحية املبكرة‪ .‬فالنساخ‬
‫سيقعون أحيانًا ـ بل يف كثريٍ من األحيان ـ يف األخطاء غري املقصودة‪ ،‬من خطاء‬
‫جلمَل اليت كان من‬
‫يف تهجئة كلمة ما أو حذف لسطر أو ببساطة عرب إفساد ا ُ‬
‫املفرتض أن يقوموا بنسخها؛ وأحيانا قاموا بتغيري النص عمدًا مع سبق‬
‫اإلصرار والرتصُّد حيث أدخلوا «تصحيحات» إىل النص اتضح يف الواقع أنَّها‬

‫‪318‬‬
‫حتريفٌ ملا كان مؤلِّفُ النصِّ قد كتبه يف األصل‪ .‬قمنا يف الفصل السابق بدراسة‬
‫أحد أنواعٍ التغيريات العمدية ـ وهي تلك املتصلة ببعض الصراعات الالهوتية‬
‫اليت اضطرم أوارها يف القرنني الثاني والثالث‪ ،‬أي يف الوقت الذي وقعت فيه‬
‫معظم التغيريات اليت شهدها تقليدنا احملفوظ يف شكل نصيّ‪ .‬لكين ال أريد أن‬
‫أؤكد صحة االنطباع اخلاطئ أنَّ هذا النوع من التغيريات الالهوتية للنص كان‬
‫يقع يف كل مرة جيلس فيها ناسخ لينسخ فقرة من الفقرات‪ .‬كان هذا حيدث‬
‫أحيانا‪ .‬وعندما كان يقع‪ ،‬كان له تأثريٌ بعيدُ الغور على النص ‪.‬‬

‫يف هذا الفصل‪ ،‬سنرصد عوامل أخرى تتعلق بالظروف واملالبسات اليت‬
‫أدَّت‪ ،‬يف بعض األحيان‪ ،‬إىل حتريف النص‪ .‬هناك ثالثة أنواع‪ ،‬على وجه‬
‫اخلصوص‪ ،‬من النزاعات اليت كانت ملحوظة جدًا يف اجملتمعات املسيحية‬
‫املبكرة سنقوم بدراستها‪ :‬نزاعٌ داخليٌّ حول دور النساء يف الكنيسة ونزاعني‬
‫آخرين خارجيني‪ ،‬أحدهما مع اليهود من غري املسيحيني واآلخر مع اخلصوم‬
‫الوثنيني‪ .‬وسنرى يف كل نوع على حدى كيف أنَّ هذه النزاعات‪ ،‬يف أحايني‬
‫متفرقة‪ ،‬لعبت أيضا دورًا يف حتريف النصوص اليت كان يقوم بإعادة إنتاجها‬
‫ملصلحة اجملتمع نسَّاخٌ هم أنفسهم كانوا متورطني يف هذه النزاعات ‪.‬‬

‫‪319‬‬
‫مل تلعب النزاعات اليت ثارت حول دور املرأة يف الكنيسة دورا كبريًا يف حتريف‬
‫نصوص العهد اجلديد‪ ،‬لكنها لعبت بالفعل دورا وذلك يف فقراتٍ طريفةٍ‬
‫وهامَّة‪ .‬حنتاج‪ ،‬لكي نفهم أنواع التغيريات اليت وقعت للنص‪ ،‬أن نعرف بعض‬
‫اخللفيات عن طبيعة هذه النزاعات(‪). 117‬‬

‫النساء يف الكنيسة األوىل‬

‫وصل العلماء املعاصرون إىل درجة االعرتاف بأنَّ النزاعات اليت دارت حول‬
‫دور املرأة يف الكنيسة األوىل وقعت حتديدًا ألن النساء كان هلن دور‪ ،‬وكثريا ما‬
‫كان دورًا كبريًا ومرموقًا لدى العامة ‪.‬‬

‫فوق ذلك‪ ،‬كان هذا هو الوضع املألوف منذ بدايات املسيحية ذاتها‪ ،‬ابتداءً من‬
‫خدمة يسوع‪ .‬نعم كان التالميذ األكثر قربًا من يسوع ـ احلواريني االثنى عشر ـ‬
‫مجيعهم من الرجال‪ ،‬وهو املتوقع من معلّم يهودي يف فلسطني يف القرن‬
‫األول‪ .‬إال أن أناجيلنا املبكرة تشري إىل أن يسوع أيضًا كان يرافقه نساء يف أثناء‬
‫رحالته‪ ،‬وأن بعضًا من هؤالء النسوة كنّ من الداعمات له ولتالميذه من‬
‫الناحية املاليَّة‪ ،‬حيث عملن كمساعدات له أثناء جتواله للقيام بعمله التبشريي‬
‫(انظر مرقس ‪ ،51 - 41 :15‬لوقا ‪ .)3 -1 :8‬يقال لنا إن يسوع قد‬

‫‪320‬‬
‫اخنرط يف حوار علين مع بعض النسوة وأنه بشَّرهن عالنية (مرقس ‪– 24 :7‬‬
‫‪31‬؛ يوحنا ‪ .)42 -1 :4‬ويقال لنا‪ ،‬على وجه اخلصوص‪ ،‬إن النسوة‬
‫رافقن يسوع أثناء رحلته األخرية إىل أورشليم‪ ،‬حيث كنَّ حاضرات عند صلبه‬
‫وحيث بقني‪ ،‬وحدهنّ‪ ،‬على والئهنَّ له حتى النهاية يف الوقت الذي فرّ فيه‬
‫التالميذ الذكور (متى ‪55 :27‬؛ مرقس ‪ .)41 -41 :15‬األهم من هذا‬
‫كله هو أنَّ كل إجنيلٍ من أناجيلنا يشري إىل أنَّ النسوة ـ مريم اجملدلية وحدها‪ ،‬أو‬
‫مع رفيقاتها األخريات ـ هن الالتي اكتشفن قربه الفارغ وهكذا كنّ أولَ من‬
‫عرفن وشهِدن على قيامة يسوع من بني األموات (متى ‪11 -1 :28‬؛‬
‫مرقس ‪8 -1 :16‬؛ لوقا ‪11 :24 – 55 :23‬؛ ويوحنا ‪-1 :21‬‬
‫‪). 2‬‬
‫وإنه ألمر مثري أن نسأل عن ماهية الرسالة اليت قدمها يسوع فجذبت النسوة‬
‫على وجه اخلصوص‪ .‬معظم العلماء يعتقدون أن يسوع أعلن عن مملكة اهلل‬
‫املزمع أن تأتي‪ ،‬واليت لن يكون مثة ظلم فيها وال معاناة وال شرّ‪ ،‬واليت فيها‬
‫كل الناس‪ ،‬األغنياء منهم والفقراء‪ ،‬العبيد واألحرار‪ ،‬الرجال والنساء‪،‬‬
‫سيكونون متساويني‪ .‬يبدو جليًّا أنَّ هذا كان أمرا جذَّابًا على حنو خمصوص‬
‫كرسالة أمل للذين كانوا حمرومني ـ مثل الفقراء‪ ،‬املرضى‪ ،‬املنبوذين‪....‬‬
‫والنساء(‪ )118‬يف هذا العصر ‪.‬‬

‫‪321‬‬
‫على أية حال‪ ،‬من الواضح أنه حتى بعد موته‪ ،‬استمرت رسالة يسوع يف‬
‫جذبها للنساء‪ .‬بعض اخلصوم القدماء للمسيحية من بني الوثنيني‪ ،‬مبن فيهم‬
‫سيلزس‪ ،‬على سبيل املثال‪ ،‬الناقد الذي عاش يف أواخر القرن الثاني والذي‬
‫ذكرناه من قبل‪ ،‬انتقد الديانة املسيحية على خلفية أن أتباعها يف الغالب كانوا‬
‫من األطفال والعبيد والنساء (أي من هؤالء الذين مل يكونوا يف الغالب‬
‫يتمتعون مبركز اجتماعي داخل اجملتمع)‪ .‬الغريب أنَّ أورجيانوس‪ ،‬الذي كتب‬
‫الرد املسيحي على سيلزس‪ ،‬مل ينكر التهمة لكنَّه حاول أن حيوَِّهلا ضد سيلزس‬
‫يف حماولة إلظهار أن اهلل يستطيع أن يأخذ ما هو ضعيف وأن يكسوه بالقوة ‪.‬‬

‫لكننا لسنا حباجة إىل االنتظار حتى قدوم أواخر القرن الثاني لكي نرى أنَّ‬
‫النساء لعنب دورًا رئيسًا يف الكنائس املسيحية املبكرة‪ .‬لدينا بالفعل معرفة‬
‫واضحة بهذا األمر من الكاتب املسيحي القديم الذي جنت أعماله من الضياع‪،‬‬
‫بولس الرسول‪ .‬الرسائل البولسية اليت يتضمنها العهد اجلديد تقدم دليال ثريًّا‬
‫تبوأْن مكانة مميَّزة يف اجملتمعات املسيحية الناهضة وذلك منذ‬
‫على أنَّ النساء َّ‬
‫أقدم األزمنة‪ .‬رمبا ننظر‪ ،‬على سبيل املثال‪ ،‬إىل رسالة بولس إىل أهل رومية‪،‬‬
‫اليت يرسل يف نهايتها حتياته إىل أعضاء عديدين من الكنيسة الرومانية (الفصل‬
‫‪ .)16‬على الرغم من أنَّ بولس يذكر هنا أمساء عدد أكرب من الرجال يف مقابل‬
‫النساء‪ ،‬إال أنه من الواضح أنَّ النساء مل يكن ينظر إليهن على اإلطالق‬

‫‪322‬‬
‫باعترباهنَّ أدنى مرتبةً من نظرائهنَّ الذكور يف داخل الكنيسة‪ .‬من بني من‬
‫يذكرهن بولس‪ ،‬على سبيل املثال‪« ،‬فييب» اليت كانت مشاسة )‪(deacon‬‬
‫(أو قسيسة) فِي َكنَْخَرِيَا‪ ،‬واملساعدة اخلاصة لبولس‪ ،‬واليت أوالها ثقته يف‬
‫القيام مبهمة محل رسالته إىل رومية (األعداد ‪ .)2 -1‬وهناك أيضا فريسكا‬
‫اليت كانت‪ ،‬مع زوجها أكيال‪ ،‬مسئولة عن العمل التبشريي بني األمم وكانا‬
‫يدعمان كنيسة مسيحية يف بيتهما (رومية ‪ :4 -3 :16‬والحظوا أنها ذكرت‬
‫أوال وقبل زوجها)‪ .‬ثم هناك مريم‪ ،‬زميلة بولس اليت تعمل بني الرومانيني‬
‫(العدد ‪)6‬؛ وهناك أيضا النساء «تريفينا» و«تريفوسا»‪ ،‬و«برسيس»‪ ،‬الالتي‬
‫يطلق عليهن بولس «شركاء العمل» يف اإلجنيل (العددين ‪ .)12 ،6‬وهناك‬
‫جوليا وأم روفس وأخت نرييوس‪ ،‬وكلهنَّ فيما يبدو كان هلنَّ مكانةً عالية‬
‫داخل اجلماعة (العددين ‪ .)15 ،13‬األكثر إثارة للدهشة‪ ،‬وجود يونياس‪،‬‬
‫املرأة اليت يدعوها بولس «قبلي بني الرسل» (العدد ‪ .)7‬مجاعة الرسل كانت‬
‫كما هو واضح أوسع من قائمة االثين عشر رجال املشهورين لدى معظم‬
‫الناس ‪.‬‬

‫النساء‪ ،‬باختصار‪ ،‬يبدو أنهنَّ لعنب دورًا هامًّا يف الكنائس يف عصر بولس‪ .‬هذه‬
‫املكانة العالية إىل حد ما مل تكن باألمر املألوف يف العامل اليوناني الروماني‪.‬‬
‫ورمبا تكون هذه املكانة قد ترسخَّت‪ ،‬كما أعتقد‪ ،‬بإعالن يسوع أنَّ اململكة‬

‫‪323‬‬
‫املزمع أن تأتي ستعتمد املساواة بني الرجال والنساء‪ .‬كانت هذه‪ ،‬فيما يبدو‪،‬‬
‫هي كذلك رسالة بولس كما ميكن أن نلحظ‪ ،‬على سبيل املثال‪ ،‬يف إعالنه‬
‫الشهري ألهل غالطية ‪:‬‬

‫ألَنَّ ك َُّلكُمُ َّالذِينَ ا َْعَت َمدَُْتمَْ بِالْمَسِيحِ َقدَْ َلبِسَُْتمُ ا ْل َمسِيحَ‪ .‬لَ َْيسَ َيهُودِيٌّ َوالَ يُونَانِيٌّ‪.‬‬
‫حدٌ فِي ا ْلمَسِيحِ يَسُوعَ‬
‫جمِيعًا وَا ِ‬
‫لَيَْسَ عَ َْبدٌ وَالَ حُرٌّ‪ .‬لَيَْسَ ذَكَرٌ وَأُنَْثَى‪ ،‬ألََّن ُكمَْ َ‬
‫(غالطية ‪) 28 -27 :3‬‬

‫املساواة يف املسيح رمبا جتسدت يف طقوس العبادة الفعلية للجماعات اليت أقامها‬
‫بولس‪ .‬فبدال من التزام الصمت كـ «سامعني للكلمة»‪ ،‬يبدو أن النساء شاركن‬
‫بنشاط يف اللقاءات األسبوعية للجماعة‪ ،‬حيث شاركن‪ ،‬على سبيل املثال‪،‬‬
‫بالصالة والتنبؤ متامًا كما كان الرجال يفعلون (‪ 1‬كور ‪). 5, 4 -11‬‬

‫يف الوقت ذاته‪ ،‬حبسب املفسرين املعاصرين‪ ،‬يبدو أنَّ بولس مل يصل برؤيته‬
‫للعالقة بني الرجال والنساء يف املسيح إىل احلد الذي ميكن أن نظنه كنتيجة‬
‫منطقية هلذه العالقة‪ .‬فلقد أمر بالفعل‪ ،‬على سبيل املثال‪ ،‬أن تغطي النساء‬
‫رؤوسهن عندما يتنبأن ويصلني يف الكنيسةلكي يظهرن كـ «خاضعات لسلطان»‬
‫(‪1‬كور ‪ ،16 -3 :11‬خاصة العدد ‪ .)11‬بولس‪ ،‬بكلمات أخرى‪ ،‬مل يثر‬
‫انقالبا اجتماعيًّا يف العالقة بني الرجال والنساء ـ مثلما مل يدع إىل إلغاء‬
‫العبوديّة‪ ،‬على الرغم من أنه ادّعى أنه ليس ثمّ «عبدٌ وال حرٌّ «يف املسيح‪ .‬بل‬
‫‪324‬‬
‫أصرّ بدال من ذلك على أنه ما دام «الوقت قليل «(قبل جمئ اململكة)‪ ،‬فإنَّ كل‬
‫إنسان ينبغي أن يكون راضيًا عن األوضاع املستقرة وأنه ينبغي أن ال يسعى أحدٌ‬
‫ما إىل تغيري وضعه االجتماعي ـ سواء أكان عبدًا أم حرًّا‪ ،‬متزوجا أم أعذبا‪،‬‬
‫ذكرًا أم أنثى (‪1‬كور ‪). 24 – 17 :7‬‬

‫يف أفضل األحوال‪ ،‬إذن‪ ،‬ميكن النظر إىل هذا باعتباره موقفًا متضاربًا جتاه دور‬
‫النساء‪ :‬فلقد كنَّ متساويات يف املسيح وكان مسموحًا هلنَّ أن يشاركن يف حياة‬
‫اجلماعة‪ ،‬ولكن باعتبارهن نساءً‪ ،‬ال رجاال (فلم ي ُكنّ‪ ،‬على سبيل املثال‪،‬‬
‫قادرات على نزع أغطية رؤوسهن ليتساوين مع الرجال‪ ،‬أي يف أن رؤوس‬
‫الرجال ليست خاضعة «لسلطان»)‪ .‬هذه االزدواجية من جانب بولس كان هلا‬
‫أثرٌ مثريٌ للدهشة على دور النساء داخل الكنائس فيما تلى العصر الذي عاش‬
‫فيه‪ .‬ففي بعض الكنائس متَّ التأكيد على املساواة يف املسيح؛ يف البعض اآلخر‬
‫كانت الضرورة تتطلب أن تظل النساء خاضعاتٍ للرجال‪ .‬وهكذا يف بعض‬
‫الكنائس‪ ،‬اضطلعت النساء بأدوار قيادية شديدة األهمية؛ ويف البعض اآلخر‪،‬‬
‫حبَت أدوارهن وأُخرِسَت أصواتُهنّ‪ .‬إذا قرأنا الوثائق املتأخرة املرتبطة‬
‫شُ‬
‫بالكنائس اليت أقامها بولس‪ ،‬بعد موته‪ ،‬ميكننا أن نرى أنَّ النزاعات قد‬
‫اندلعت حول الدور الذي ينبغي أن تلعبه النساء؛ يف النهاية كان مثة جهود‬
‫تبذل لقمع دور النساء يف الكنائس متامًا ‪.‬‬

‫‪325‬‬
‫يتضح هذا من إحدى الرسائل اليت نسبت إىل بولس‪ .‬أصبح العلماء اليوم‬
‫بشكل عام على قناعة من أنَّ الرسالة األوىل إىل تيموثاوس مل يكتبها بولس بل‬
‫كتبها واحدٌ من أتباعه املتأخرين من اجليل الثاني من تالمذته (‪ .)119‬يف هذه‬
‫الرسالة‪ ،‬يف فقرة من الفقرات غري املشهورة اليت تتناول النساء يف العهد‬
‫اجلديد‪ ،‬يقال لنا إنَّ النساء جيب أن ال يسمح هلنَّ أن يعلمن الرجال ألنهن‬
‫خلقن أقل شأنا‪ ،‬كما أشار إىل ذلك اهلل ذاته يف الشريعة‪ ،‬حيث خلق اهلل حواء‬
‫الثانية يف الرتتيب من أجل الرجل؛ وأنَّ امرأة (يف إشارة إىل حواء) جيب أن ال‬
‫تتسلط على رجل (يف إشارة إىل آدم) من خالل قيامها بالتعليم‪ .‬عالوة على‬
‫ذلك‪ ،‬وفقا هلذا املؤلف‪ ،‬كلُّ إنسانٍ يعرف ما حيدث عندما تتوىل امرأة القيام‬
‫بدور املعلم‪ :‬يغويها (الشيطان) بال شك وتقود الرجل إىل الضالل‪ .‬لذلك‬
‫فعلى النساء أن يبقني يف املنزل وأن حيافظن على القيام بأعمال الرب اليت تناسب‬
‫املرأة‪ ،‬من إجناب األطفال ألزواجهن وااللتزام بالتعقل‪ .‬أو كما يقول النص‬
‫ذاته‪:‬‬

‫لَِتتَع ََّلمِ الْمَرََْأةُ بِ ُسكُوتٍ فِي كُلِّ خُضُوعٍ‪ .‬وََل ِكنَْ لَسَْتُ آذَنُ ِل ْلمَ َْرأَةِ أَنَْ تُع َِّلمَ وَالَ‬
‫الرجُلِ‪َ ،‬بلَْ َتكُونُ فِي سُكُوتٍ‪ ،‬ألَنَّ آ َدمَ جُِبلَ أَوَّلًا ثُمَّ حَوَّاءُ‪ ،‬وَآ َدمُ‬
‫تَتَس ََّلطَ عَلَى َّ‬
‫صلَتَْ فِي التَّعَدِّي‪ ،‬وََلكَِّنهَا سَتَخَْلُصُ بِوِالَ َدةِ‬
‫َل َْم ُيغَْوَ َلكِنَّ ا ْلمَ َْرأَةَ ُأغْ ِويَتَْ فَحَ َ‬

‫‪326‬‬
‫التع َُّقلِ (‪1‬تيموثاوس ‪:2‬‬
‫األَ َْوالَدِ‪ِ ،‬إنَْ ثَبَ َْتنَ فِي اإلِميَانِ وَا ْلمَحَبَّةِ وَالْ َقدَاسَةِ مَعَ َّ‬
‫‪) 15 - 11‬‬

‫ياله من فرق شاسع بني هذا وبني رؤية بولس أنه «يف املسيح‪ ...‬ليس مثة ذكر أو‬
‫أنثى» وكلما حتركنا باجتاه القرن الثاني‪ ،‬إذ خبطوط املعركة تبدو مرسومة على‬
‫حنوٍ أوضح‪ .‬فهناك بعض اجلماعات املسيحية اليت تؤكد على أهمية النساء‬
‫وتسمح هلن باالضطالع بأدوار بارزة داخل الكنيسة‪ ،‬وهناك آخرون يؤمنون‬
‫بأن النساء ينبغي أن حيافظن على صمتهن وخضوعهن لرجال اجلماعة‪.‬‬

‫النساخ الذين كانوا يقومون بنسخ النصوص اليت أصبحت فيما بعد الكتاب‬
‫املقدس كانوا بصورة واضحة مشاركني يف هذه الصراعات‪ .‬وأحيانا كانت هذه‬
‫الصراعات ترتك أثرا على النص الذي ينسخ‪ ،‬حيث غُيِّرَت فقرات لكي تعكس‬
‫وجهات نظر النساخ الذين كانوا يعيدون إنتاجها‪ .‬تقريبا يف كل موضع حيدث‬
‫فيه تغري من هذا النوع‪ ،‬يتعرض النص للتغيري لكي حيد من دور املرأة ولتقليل‬
‫أهميتها بالنسبة للحركة املسيحية ‪.‬‬

‫يف هذا اجلزء ميكننا أن نرصد بعض األمثلة القليلة‪.‬‬

‫‪327‬‬
‫واحدة من أهم الفقرات اليت تتعلق بالنقاش احلالي حول دور النساء يف‬
‫الكنيسة جنده يف ‪ 1‬كورنثيوس اإلصحاح ‪ .14‬كما هو احلال يف معظم ترمجاتنا‬
‫اإلجنليزية احلديثة‪ ،‬تُقرأ الفقرة على النحو التالي ‪:‬‬

‫جمِيعِ كَنَائِسِ الْقِدِّيسِنيَ‪.‬‬


‫المٍ َكمَا فِي َ‬
‫ألَنَّ اهللَ لَيَْسَ إَِلهَ تَشَْوِيشٍ َبلَْ إَِلهُ َس َ‬
‫لِتَصَْمُتَْ نِسَاؤُ ُكمَْ فِي ا ْلكَنَائِسِ ألََّنهُ َليَْسَ َمأْذُونًا َلهُنَّ أَنَْ يََتك ََّل َْمنَ بَلَْ َيخَْضَعَْنَ‬
‫َكمَا يَقُولُ النَّامُوسُ أَيَْضًا‪ .‬وَلَ ِكنَْ ِإنَْ كُنَّ يُرِ َْدنَ َأنَْ َيتَع ََّل َْمنَ شَيَْئًا َفلْيَ َْسأَ ْلنَ ِرجَاَلهُنَّ‬
‫خ َرجَتَْ َك ِل َمةُ اهللِ؟ أَمَْ‬
‫فِي الَْبيَْتِ ألََّنهُ قَبِيحٌ بِالنِّسَاءِ َأنَْ تََتك ََّلمَ فِي كَنِيسَةٍ‪َ .‬أمَْ مِ َْن ُكمَْ َ‬
‫حدَ ُكمُ انََْتهَتَْ؟‬
‫إِلَ َْي ُكمَْ وَ َْ‬

‫تبدو الفقرة كأمر واضح وصريح للنساء بأن ال يتكلمن (فضال عن أن يعلِّمن!)‬
‫داخل الكنيسة‪ ،‬متاما مثلما هو احلال مع الفقرة املوجودة يف ‪1‬تيموثي‬
‫اإلصحاح ‪ .2‬معظم العلماء‪ ،‬كما رأينا‪ ،‬على قناعة بأن بولس مل يكتب هذه‬
‫الفقرة الواردة يف ‪ 1‬تيموثي وذلك ألنها جزء من رسالة تبدو وكأنها قد كتبت‬
‫مبعرفة أحد أتباع بولس من اجليل الثاني ثمَّ نسبت إىل بولس‪ .‬ورغم أنَّ أحدًا ال‬
‫يشك أنَّ بولس‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬قد كتب الرسالة األوىل إىل أهل كورنثوس‪ .‬إال أنَّ‬
‫مثة شكوكًا حتوم حول هذه الفقرة فحسب‪ .‬ألنَّ العددين موضع البحث (أعين‬
‫العددين ‪ ،)35 ،34‬كما سيتضح‪ ،‬تغيَّر موضعهما يف بعض من شواهدنا‬
‫النصية اهلامة‪ .‬ففي خمطوطات يونانية ثالث وشاهدين اثنني التينيني‪ ،‬جندهما‬

‫‪328‬‬
‫ال يف هذا املوضع‪ ،‬بعد العدد ‪ ،33‬وإمنا يف موضع مـتأخر بعد العدد ‪ .41‬هذا‬
‫ما دعا بعض العلماء لالفرتاض بأنَّ هذه األعداد مل يكتبها بولس وإمنا كانت‬
‫يف األصل نوعًا من اهلوامش أضيفت مبعرفة أحد النساخ‪ ،‬رمبا حتت تأثري‬
‫األعداد يف ‪ 1‬تيموثي اإلصحاح ‪ .2‬بعد ذلك أدخل هذا اهلامش يف مواضع‬
‫خمتلفة من النص عرب نسَّاخٍ متعددين ـ البعض يضع هذا اهلامش بعد العدد ‪33‬‬
‫واآلخرون بعد العدد ‪. 41‬‬

‫هناك أسباب معقولة جتعلنا نعتقد أنَّ بولس مل يكتب هذه األعداد أصال‪.‬‬
‫فأوال‪ ،‬هذه األعداد غري منسجمة مع سياقها املباشر‪ .‬ففي هذا اجلزء من‬
‫اإلصحاح ‪ 14‬من الرسالة األوىل إىل أهل كورنثوس‪ ،‬يشري بولس إىل قضية‬
‫التنبُّوء يف الكنيسة ويعطي تعليمات لألنبياء املسيحيني خبصوص الكيفية اليت‬
‫ينبغي أن يكون عليها سلوكهم أثناء طقوس العبادة املسيحية‪ .‬هذا هو موضوع‬
‫األعداد من ‪ 26‬إىل ‪ ،33‬وهو مرة أخرى موضوع األعداد من ‪ 36‬إىل ‪.41‬‬
‫فلو أننا حذفنا العددين ‪ 34‬و‪ 35‬من سياقهما‪ ،‬فإن تدفق الفقرة سيبدو سلسًا‬
‫باعتباره حديثًا عن دور األنبياء املسيحيني‪ .‬وحينها يبدو احلديث عن النساء‬
‫وكأنه حشر يف سياق النص املباشر يقطع التعاليم اليت يعطيها بولس خبصوص‬
‫قضية أخرى خمتلفة‪.‬‬

‫‪329‬‬
‫هذان العددان ال يبدو أنهما فقط حمشوران يف سياق اإلصحاح ‪ ،14‬بل إنهما‬
‫يبدوان أيضا غريبني عن ما يقوله بولس بوضوح يف كل موضع من الرسالة‬
‫األوىل إىل أهل كورنثوس‪ .‬فبولس يف موضعٍ سابق خالل هذا السفر‪ ،‬كما‬
‫ذكرنا بالفعل من قبل‪ ،‬يعطي تعليمات للنساء الالئي يتكلمن داخل الكنيسة‪:‬‬
‫فوفقا لإلصحاح ‪ ،11‬فإنهن عندما يصلني ويتنبأن ـ وهي األعمال اليت كانت‬
‫دائما ما تتمُ بصوتٍ عالٍ خالل إقامة طقوس العبادة املسيحية ـ فإنه يتوجَب‬
‫عليهن أن يكنَّ متأكداتٍ من ارتدائهن للحجاب على رؤوسهن (‪-2 :11‬‬
‫‪ .)16‬يف هذه الفقرة‪ ،‬اليت ال يرتاب أحدٌ يف صحة نسبتها إىل بولس‪ ،‬من‬
‫الواضح أنَّ بولس يدرك أنَّ النساء يستطعن أن يتكلمن‪ ،‬بل وميارسن الكالم‬
‫بالفعل داخل الكنيسة‪ .‬يف الفقرة املتنازع عليها يف اإلصحاح ‪ ،14‬مع ذلك‪،‬‬
‫من الواضح أن «بولس» * حيرِّم على النساء أن يتكلمن مطلقًا‪ .‬من الصعب‬
‫التوفيق بني وجهيتِّ النظر املختلفتني هاتني ـ فإما أن بولس يسمح للنساء‬
‫بالكالم (مع تغطية رؤوسهن‪ ،‬كما يف اإلصحاح ‪ )11‬أو ال يسمح بذلك‬
‫(اإلصحاح ‪ .)14‬وكما يبدو التفكري بأن بولس سيناقض نفسه سريعا خالل‬
‫مساحة قصرية تتكون من ثالث فصول أمرًا غري منطقي‪ ،‬فيبدو أنَّ بولس ليس‬
‫هو مصدر هذه األعداد حمل البحث ‪.‬‬

‫‪330‬‬
‫وهكذا على أساس مجع األدلة‪ ،‬العديد من املخطوطات اليت ختتلف فيها‬
‫مواضع األعداد والسياق األدبي القريب والسياق ضمن الرسالة األوىل إىل‬
‫أهل كورنثوس ككل‪ ،‬يتضح أنَّ بولس مل يكتب األعداد ‪1‬كورنثوس ‪:14‬‬
‫‪ .35 -34‬كان لزاما على املرء أن يفرتض من ثمّ أنَّ هذه األعداد اليت هي‬
‫حتريف للنص قام به أحد النساخ‪ ،‬كان حتريفها يف األصل يف صورة‪ ،‬رمبا‪،‬‬
‫مالحظة مكتوبة يف اهلامش ثم يف النهاية ويف مرحلة مبكرة من مراحل نسخ‬
‫الرسالة األوىل إىل أهل كورنثوس‪ ،‬أحلقت بالنص ذاته‪ .‬التحريف متَّ بال شك‬
‫مبعرفة ناسخ كان معنيًّا بتأكيد أنه ال ينبغي أن يكون مثة دور عامٌّ تضطلع به‬
‫النساء داخل الكنيسة‪ ،‬وأنهن ينبغي أن يصمنت وأن ي ِط َْعنَ أزواجهن‪ .‬وجهة‬
‫النظر هذه إذن حدث وأن أصبحت جزءًا من النص ذاته عرب حتريف النصوص‬
‫(‪).121‬‬

‫ميكننا أن ندرس مثاال آخر للتغيريات اليت حلقت بالنص من النوع ذاته ولكن‬
‫بصورة خمتصرة‪ .‬أحد التغيريات يقع يف فقرة ذكرتها من قبل بالفعل‪ ،‬أال وهي‬
‫الرسالة إىل أهل رومية اإلصحاح ‪ ،16‬حيث يتكلم بولس فيها عن إحدى‬
‫النسوة‪ ،‬جونيا‪ ،‬ورجل كان فيما يبدو زوجا هلا‪ ،‬أندرونيكوس‪ ،‬وكالهما‬
‫قال بولس عنهما إنهما «مقدمان َب َْينَ الرُّ ُسلِ» (العدد ‪ .)7‬هذا العدد شديد‬
‫األهمية‪ ،‬ألنه هو املوضع الوحيد يف العهد اجلديد الذي يشار فيه إىل امرأة‬

‫‪331‬‬
‫باعتبارها واحدة من الرسل‪ .‬ولقد كان هلذه الفقرة تأثريًا كبريًا على املفسرين‬
‫إىل درجة أنَّ عددًا كبريًا منهم أصرَّ على أنَّ ما تقوله الفقرة ليس هو معناها‬
‫احلقيقي‪ ،‬لذلك ترمجوا الفقرة باعتبارها تشري ال إىل امرأة تدعى جونيا وإمنا‬
‫إىل رجل يسمى جونياس‪ ،‬الذي أُثنِي عليه جنبا إىل جنب مع رفيقه‬
‫أندرونيكوس باعتباره رسوال ‪ (apostle).‬العقبة اليت تقف أمام هذه‬
‫الرتمجة هي أنه يف الوقت الذي كانت فيه جونيا امسا نسويًّا شائعًا‪ ،‬فإن‬
‫«جونياس» ال دليل يف العامل القديم على أنه كان امسًا لرجل‪ .‬إنَّ بولس يشري‬
‫إىل امرأة تدعى جونيا‪ ،‬وذلك على الرغم من أنه يف بعض الرتمجات احلديثة‬
‫اإلجنليزية للكتاب املقدس (رمبا تريدون أن ترجعوا إىل نسختكم اخلاصة‬
‫للتأكد!) يواصل املرتمجون اإلشارة إىل هذه املرأة اليت كانت من بني الرسل‬
‫كما لو أنها كانت رجال يدعى جونياس (‪).121‬‬

‫بعض النساخ أيضا كان لديهم صعوبة يف وصف هذه املرأة اجملهولة بالرسولة‪،‬‬
‫ولذلك قاموا بإحداث تغيري بسيط للغاية يف النص للتحايل على املشكلة‪ .‬يف‬
‫بعض خمطوطاتنا‪ ،‬بدال من أن تقول «س َِّلمُوا َعلَى أََْندَرُوِنكُوسَ وَجونيا‪ ،‬نَسِيبَيَّ‬
‫اللذَ َْينِ ُهمَا مقدمان بَ َْينَ الرُّسُلِ َو َقدَْ كَانَا فِي ا ْلمَسِيحِ قَ َْبلِي‪،‬‬
‫ا ْل َمأْسُو َر َْينِ مَعِي َّ‬
‫«جند أن النص قد تغري لكي تسهل ترمجته أكثر‪« :‬س َِّلمُوا َعلَى أَنَْدَرُوِنكُوسَ‬
‫اللذَ َْينِ ُهمَا مقدمان َب َْينَ الرُّسُلِ‬
‫وَجونيا‪ ،‬نَسِيبَيَّ؛ وأيضا على ا ْل َمأْسُو َر َْينِ مَعِي َّ‬

‫‪332‬‬
‫َو َقدَْ كَانَا فِي ا ْلمَسِيحِ قَ َْبلِي»‪ .‬مع وجود هذا التغيري الذي تعرض له النص‪ ،‬مل‬
‫يعد املرء يف حاجة إىل أن يقلق بشأن املرأة اليت ذكرت بني العصبة الرسولية‬
‫املكونة من الذكور !‬

‫تغيري مشابه وقع مبعرفة بعض النساخ الذين قاموا بنسخ سفر األعمال‪ .‬ففي‬
‫اإلصحاح رقم ‪ 17‬حناط علمًا بأن بولس ورفيقه يف التبشري «سيال» قضوا وقتا‬
‫يف تسالونيكي يدعون اليهود املوجودين يف املعبد احمللي إىل اإلميان بإجنيل‬
‫املسيح‪ .‬يقال لنا يف العدد ‪ 4‬إن االثنني القا بعضًا من النجاح الباهر يف حتويل‬
‫الناس إىل اإلميان‪« :‬فَاقَْتنَعَ قَ َْومٌ مِ َْنهُمَْ وَانَْحَازُوا إِلَى بُولُسَ وَسِيالَ وَ ِمنَ‬
‫ج َْمهُورٌ َكثِريٌ وَمِنَ النِّسَاءِ ا ْلمَُتقَدِّمَاتِ َعدَدٌ َليَْسَ بِقَلِيلٍ‪».‬‬
‫الْيُونَانِيِّنيَ ا ْلمَُتعَِّبدِينَ ُ‬

‫فكرة أن هؤالء النسوة كن متقدمات‪ ،‬ناهيك عن التحوالت اهلامة إىل اإلميان‬


‫اليت حدثت على أيديهما‪ ،‬كانت أكثر مما حيتمل بالنسبة لبعض النساخ‪،‬‬
‫ولذلك حدث وأن تعرض النص للتغيري يف بعض املخطوطات‪ ،‬لكي يقال لنا‬
‫اآلن‪« :‬فَاقْتَنَعَ قَ َْومٌ مِ َْن ُهمَْ وَانَْحَازُوا إِلَى بُولُسَ وَسِيالَ وَمِنَ الْيُونَانِيِّنيَ ا ْلمَُتعَِّبدِينَ‬
‫ج َْمهُورٌ كَثِريٌ وَ ِمنَ زوجات الرجال ا ْل ُمتَقَدِّمني َعدَدٌ َليَْسَ ِب َقلِيلٍ» اآلن أصبح‬
‫ُ‬
‫الرجال هم املتقدمون‪ ،‬وليس النسوة الالتي حتولن إىل اإلميان ‪.‬‬

‫من بني رفاق بولس يف سفر األعمال كان مثة زوج وامرأته يسميان «أكيال»‬
‫و«بريسكال»؛ وهماعند ذكرهما يف بعض األحيان‪ ،‬يقدم املؤلف اسم الزوجة‬
‫‪333‬‬
‫أوال‪ ،‬كما لو كانت تتمتع برتبة أعلى سواء من ناحية القرابة أو داخل املهمة‬
‫التبشرييَّة املسيحية (كما حيدث يف رومية ‪ 3 :16‬كذلك‪ ،‬حيث يطلق عليها‬
‫اسم بريسكا)‪ .‬ليس أمرًا مثريًا لالستغراب إذن أن يبدي النساخ أحيانًا‬
‫امتعاضهم بسبب هذا الرتتيب ومن ثمَّ يقومون بعكسه حتى حيصل الرجل على‬
‫ما يستحقه من مكانة عرب ذكر امسه أوال‪ :‬أكيال وبريسكال بدال من بريسكال‬
‫وأكيال (‪).122‬‬

‫باختصار‪ ،‬كان مثة نزاعات يف القرون األوىل للكنيسة حول دور النساء‪ ،‬وعند‬
‫اللزوم كانت هذه النزاعات تتسلل إىل عملية نسخ نصوص العهد اجلديد ذاته‪،‬‬
‫حيث غيَّر النساخ أحيانًا نصوصهم ليجعلوها تتوافق بصورة أكرب مع مفهومهم‬
‫اخلاص عن الدور (احملدود) للنساء داخل الكنيسة ‪.‬‬

‫إىل هنا نكون قد تعرضنا بالدراسة للعديد من النزاعات الدينية اليت نبعت من‬
‫الداخل املسيحي يف وقت مبكر من عمر الكنيسة – مثل النزاعات اليت دارت‬
‫حول قضايا ذات عالقة بطبيعة املسيح وعن دور النساء يف الكنيسة – ورأينا‬
‫كيف كان تأثري هذه النزاعات على النسَّاخ الذي أعادوا نسخ نصوصهم‬
‫املقدسة ‪.‬‬
‫‪334‬‬
‫مع ذلك‪ ،‬مل تكن هذه النزاعات هي النوع الوحيد الذي اخنرط فيه املسيحيون‪.‬‬
‫فكما كانت هذه النزاعات شاقة بالنسبة ملن أداروا رحاها‪ ،‬وذات أهمية بالنسبة‬
‫لنقاشاتنا يف هذا الكتاب‪ ،‬كذلك كانت الصراعات اليت اندلعت مع هؤالء‬
‫اخلارجني عن اإلميان‪ ،‬من يهودٍ ووثنيني‪ ،‬الذين وقفوا موقف املعارضة‬
‫للمسيحيني واشتبكوا معهم يف نزاعات جدليَّة‪ .‬اضطلعت هذه النزاعات أيضًا‬
‫بدورٍ ما يف عملية نسخ نصوص الكتاب املقدس‪ .‬ميكننا البدء بالتعرض‬
‫للنزاعات اليت كان مسيحيو القرون األوىل قد اخنرطوا فيها مع اليهود غري‬
‫املسيحيني‪.‬‬

‫إحدى األمور اليت تبعث على السخرية فيما يتعلق باملسيحية يف عصورها‬
‫املبكرة هي أنَّ يسوع نفسه كان يهوديًّا‪ ،‬عََبدَ إله اليهود وحافظ على العادات‬
‫اليهودية وفسَّر الشريعة اليهودية‪ ،‬وكان له تالميذ من اليهود الذين اتبعوه على‬
‫اعتبار أنه املسيح اليهوديَّ‪ .‬على الرغم من ذلك‪ ،‬ويف غضون عشرات قليلة‬
‫من السنوات فحسب بعد موته‪ ،‬كان أتباع يسوع قد كوَّنوا ديانة وقفت من‬
‫اليهودية موقف النقيض‪ .‬فكيف انتقلت املسيحية بهذه السرعة من كونها طائفة‬
‫يهودية إىل ديانة معادية لليهود؟‬

‫‪335‬‬
‫إنه سؤال صعب‪ ،‬واإلجابة عليه بصورة مرضية تستلزم أن نفرد له كتابًا كامال‬
‫(‪ .)123‬أما هنا‪ ،‬فبإمكاني على األقل أن أكتفي بإعطاء وصفٍ تارخيي موجز‬
‫لظهور معاداة اليهودية يف املسيحية األوىل كوسيلة إلعطاء وصف معقول‬
‫للمحيط الذي عاش فيه النسَّاخ املسيحيون الذين يف بعض األحيان قاموا‬
‫بتحريف نصوص كتابهم املقدس على حنوٍ معادٍ لليهودية ‪.‬‬

‫شهدت العشرون عامًا األخرية زيادة كبرية ومفاجأة يف جمال البحث عن يسوع‬
‫التارخيي‪ .‬نتج عن ذلك أنَّه قد توفَّر اآلن عددٌ هائلٌ من اآلراء اليت تبحث يف‬
‫الكيفية املثلى لفهم حقيقة املسيح‪ -‬هل كان معلمًا يهوديًّا‪ ،‬أم كان مصلحًا‬
‫اجتماعيًّا؟ هل كان متمردًا سياسيًّا أم فيلسوفًا ساخرًا أم نبيًّا رؤَوِيًّا‪ :‬تتزايد‬
‫اخليارات إىل ماال نهاية‪ .‬الشئ الوحيد الذي يتفق عليه كل العلماء تقريبًا‪ ،‬على‬
‫الرغم من كل هذه االختالفات‪ ،‬هو أنه بغض النظر عن الكيفية اليت ميكن‬
‫للمرء أن يفهم بها الدافع وراء رسالة يسوع‪ ،‬فإنه البد أن يوضع يف سياقه‬
‫احلقيقي باعتباره يهوديًّا فلسطينيًّا عاش يف القرن األول امليالديّ‪ .‬أيًّا ما تكن‬
‫السمات األخرى اليت كان عليها يسوع‪ ،‬فإنه كان يهوديًّا بكل ما يف الكلمة من‬
‫معنى‪ ،‬لقد كان يهوديًّا من كل الوجوه – كما هو احلال بالنسبة لتالميذه أيضًا‪.‬‬
‫يف بعض اللحظات – قبل موته على األرجح‪ ،‬وبعده على وجه اليقني ‪-‬‬
‫أصبح أتباع يسوع ينظرون إليه باعتباره املسيح اليهوديَّ‪ .‬ورغم أن اليهود‬

‫‪336‬‬
‫اآلخرون كانوا يفهمون مصطلح املسيح بطرق مغايرة خالل القرن األول‪ ،‬إال‬
‫أنَّ شيئا واحدًا بدى أنه كان حمط إمجاع كل اليهود عندما يفكرون يف املسيح‪،‬‬
‫وذلك أنه جيب أن يكون شخصية عظيمة وصاحبة سلطان وذلك حتى يقهر‪،‬‬
‫يهودي أو إنزال‬
‫ٍّ‬ ‫بطريقة ما ‪ -‬رمبا على سبيل املثال من خالل تكوين جيش‬
‫مالئكة السماء ‪ -‬أعداء إسرائيل وليقيم دولة إسرائيل ذات السيادة اليت‬
‫حيكمها اهلل نفسه (رمبا من خالل وسيط بشريّ)‪ .‬املسيحيون الذين أطلقوا على‬
‫املسيح لقب املسيح من الواضح أنهم مرُّوا بأوقات عصيبة لكي يقنعوا اآلخرين‬
‫بزعمهم هذا‪ ،‬ألن يسوع‪ ،‬بدال من أن يكون حماربًا عظيمًا أو حاكم بأمر‬
‫السماء‪ ،‬كان معروفًا على نطاق واسع باعتباره واعظًا متجوِّال هاجم اجلانب‬
‫صلِب كمجرم أثيم‪.‬‬
‫السئ من الشريعة و ُ‬

‫إطالق اسم املسيح على يسوع كان بالنسبة لغالبية اليهود أمرًا جيلب لقائله‬
‫السخرية‪ .‬مل يكن يسوع قائدًا لليهود مهاب اجلانب‪ .‬بل كان ضعيفًا وعاجزًا –‬
‫فقد أعدم بأكثر طرق القتل إذالال وإيالمًا من بني الطرق اليت ابتكرها الرومان‬
‫الذين هم أصحاب السلطة احلقيقية‪ .‬رغم ذلك‪ ،‬أصرَّ املسيحيون على أنَّ‬
‫يسوع هو املسيح وعلى أنَّ موته مل يكن إخفاقًا للعدالة بل حدثًا تنبأ به الكتاب‬
‫املقدس وأنَّه وقع برتتيبٍ من اهلل‪ ،‬حيث جلب عن طريقه اخلالص للعامل ‪.‬‬

‫‪337‬‬
‫األمريَْن إلقناع‬
‫ماذا كان على املسيحيني أن يفعلوا حيال حقيقة أنهم عانوا َّ‬
‫غالبية اليهود بصحة مزاعمهم عن يسوع؟ ما كانوا بطبيعة احلال ليعرتفوا أنهم‬
‫كانوا هم املخطئون‪ .‬وإذا مل يكونوا هم‪ ،‬فمن؟ البد وأن اليهود كانوا هم‬
‫املخطئني‪ .‬يف وقت مبكر من تارخيهم‪ ،‬بدأ املسيحيون يصرُّون على أنَّ اليهود‬
‫الذين رفضوا رسالة املسيحيني كانوا متمردين وعميانا‪ ،‬ألنهم برفضهم لرسالة‬
‫يسوع‪ ،‬يرفضون اخلالص الذي قدمه اإلله ذاته الذي يعبده اليهود‪ .‬بعضٌ من‬
‫هذه املزاعم كانت تصاغ بواسطة مؤلفنا املسيحي األقدم‪ ،‬بولس الرسول‪ .‬ففي‬
‫رسالته األوىل اليت كتبها ملسيحيي تسالونيكي‪ ،‬واحملفوظة حتى اليوم‪ ،‬يقول‬
‫بولس ‪:‬‬

‫صرَُْتمَْ مُتَمَِّثلِنيَ ِبكَنَائِسِ اهللِ َّالتِي ِهيَ فِي الَْيهُودِيَّةِ فِي ا ْلمَسِيحِ‬
‫إلخَْ َوةُ ِ‬
‫َفإَِّن ُكمَْ أَُّيهَا ا ِ‬
‫المَ َع َْيَنهَا َكمَا هُمَْ‬
‫يَسُوعَ‪ ،‬ألََّن ُكمَْ َتأََّل َْمُتمَْ أَنَْتُمَْ َأيَْضًا مِنَْ أَ َْهلِ عَشِ َريِت ُكمَْ ِت ْلكَ اآل َ‬
‫حنُ‪َ .‬وهُمَْ‬
‫ض َط َهدُونَا َن َْ‬
‫أَيَْضًا ِمنَ الَْيهُودِ‪َّ ،‬الذِينَ قََتلُوا الرَّبَّ يَسُوعَ وَأََْنبِيَا َء ُهمَْ‪ ،‬وَا َْ‬
‫جمِيعِ النَّاسِ (‪1‬تسالونيكي ‪) 15 -14 :2‬‬
‫ضدَادٌ ِل َ‬
‫غَيَْرُ ُم َْرضِنيَ ل َِّلهِ َوأَ َْ‬

‫أصبح بولس يؤمن بأن اليهود رفضوا يسوع ألنهم فهموا أن مقامهم اخلاص‬
‫عند اهلل كان عائدًا إىل أمرين اثنني‪ :‬أنَّ لديهم الشريعة اليت أعطاها اهلل إياها‬
‫وأنهم يتمسكون بها (رومية ‪ .)34 :11‬مع ذلك‪ ،‬كان اخلالص حسب‬
‫مفهوم بولس قد جاء لليهود ولألمم كذلك‪ ،‬ولكن ليس عرب الشريعة وإمنا‬

‫‪338‬‬
‫باإلميان مبوت يسوع وقيامته (رومية ‪ .)22 - 21 :3‬لذلك‪ ،‬ليس لاللتزام‬
‫بالشريعة أي دور يف وقوع اخلالص؛ وألجل هذا علَّم بولس الوثنيني (أو‬
‫األمم) الذين أصبحوا أتباعًا ليسوع أن رفع قيمتهم أمام اهلل ال حيدث باتباعهم‬
‫للشريعة‪ .‬لقد كان على األمميني أن يبقوا كما هم – أي ليس عليهم أن يتحولوا‬
‫إىل اليهودية (غالطية ‪). 16 – 15 :2‬‬

‫املسيحيون األوائل اآلخرون‪ ،‬بطبيعة احلال‪ ،‬كان هلم رأي آخرـ كما هو‬
‫حاهلم مع كل قضية تقريبا من قضايا هذا العصر! فالقديس متَّى‪ ،‬على سبيل‬
‫املثال‪ ،‬يبدو وكأنه يفرتض مقدمًا أنه على الرغم من أنَّ موت يسوع وقيامته‬
‫هما اللذان جلبا اخلالص‪ ،‬فإن تالميذه سيلتزمان بطبيعة احلال بأحكام‬
‫الشريعة‪ ،‬كما فعل يسوع نفسه (انظر متى ‪ .)21 -17 :5‬يف النهاية‪ ،‬مع‬
‫ذلك‪ ،‬أصبح من املسلم به على نطاق واسع أنَّ املسيحيني كانوا خمتلفني مع‬
‫اليهود حول قضية اتِّباع الشريعة اليهودية وعدم ارتباطها بقضية اخلالص‪،‬‬
‫وحول أن االنضمام إىل الشعب اليهودي سيعين االرتباط بالشعب الذي رفض‬
‫مسيحه‪ ،‬والذي‪ ،‬يف حقيقة األمر‪ ،‬رفض اإلميان بإهله اخلاص‪.‬‬

‫وعندما ننتقل إىل القرن الثاني جند أنَّ املسيحية واليهودية قد أصبحتا ديانتني‬
‫منفصلتني كليةً إال أنَّ كلَّ واحدةٍ منهما لديها‪ ،‬رغم ذلك‪ ،‬الكثري لتقوله عن‬
‫األخرى‪ .‬وجد املسيحيون أنفسهم‪ ،‬يف الواقع‪ ،‬وقد شكلوا نوعا من الرابطة‪.‬‬

‫‪339‬‬
‫ألنهم كانوا يؤمنون بأنَّ يسوع كان هو املسيح الذي تنبأت به الكتب اليهودية‬
‫املقدسة؛ ولكي حتصل على املصداقية يف عاملٍ يعتزُّ بكل ما هو قديم ويرتاب‬
‫يف كلِّ «جديد» باعتباره بدعة مشكوكا بها‪ ،‬فقد صار لزامًا على املسيحيني أن‬
‫يواصلوا االستشهاد بالكتب املقدسة ـ باعتبارها أساسا ملعتقداتهم اخلاصة‪ .‬كان‬
‫هذا يعين أنَّ املسيحيني ادَّعوا أنَّ الكتاب املقدس اليهودي هو كتابهم هم أيضًا‬
‫املقدس‪ .‬ولكن أليس الكتاب املقدس اليهودي هو لليهود؟ بدأ املسيحيون‬
‫يصرّون على أنَّ اليهود مل ينكروا فحسب مسيحهم‪ ،‬وإمنا هم بذلك قد أنكروا‬
‫إهلهم‪ ،‬وأساؤوا فهم كتابهم املقدس أيضا‪ .‬ولذلك جند أنَّ الكتابات املسيحية‬
‫مثل ما عرف باسم رسالة برنابا‪ ،‬وهو الكتاب الذي اعتربه بعض املسيحيني‬
‫األوائل جزءا من قائمة العهد اجلديد الرمسية‪ ،‬قد أكَّد أن اليهودية كانت دائمًا‬
‫وال تزال ديانة باطلة‪ ،‬وأنَّ مالكا شريرًا أضلَّ اليهود ليفهموا الشريعة اليت‬
‫أعطاها اهلل ملوسى بأنها تعاليم حرفية تشرح كيف ينبغي أن يعيش اإلنسان‪ ،‬يف‬
‫ٍّ(‪). 124‬‬
‫حني أنها كانت من املفرتض أن تفسر يف احلقيقة على حنوٍ رمزي‬

‫يف النهاية جند املسيحيني يعاقبون اليهود بأقسى العقوبات املمكنة لعدم قبوهلم‬
‫يسوع باعتباره املسيح‪ .‬فمع وجود مؤلفني‪ ،‬جوستينوس الشهيد الذي عاش يف‬
‫القرن الثاني كمثال‪ ،‬يدِّعون أنَّ السبب الذي دعا اهلل أن يفرض اخلتان على‬
‫اليهود كان ليميزهم باعتبارهم شعبًا خمصوصًا جديرًا باالضطهاد‪ .‬هناك أيضا‬

‫‪340‬‬
‫مؤلفون‪ ،‬مثل ترتليانوس وأورجيانوس‪ ،‬يزعمون أنَّ أورشاليم دمرها اجليش‬
‫الروماني يف عام ‪ 71‬ميالديا كعقوبة لليهود الذين قتلوا مسيحهم‪ ،‬ومؤلفون‬
‫مثل مليتو أسقف سرديس جيادلون حول أنَّ اليهود بقتلهم املسيح‪ ،‬كانوا يف‬
‫الواقع مدانني بقتل اهلل ‪.‬‬

‫«انتبهوا يا كل عائالت األمم وترقبوا! جرمية قتل استثنائية حدثت يف قلب‬


‫أورشاليم‪ ،‬يف املدينة املكرسة لشريعة اهلل‪ ،‬يف مدينة العربانيني‪ ،‬يف مدينة‬
‫األنبياء‪ ،‬يف املدينة املعروفة بالعادلة‪ .‬ومن يا ترى الذي قُتِل؟ ومن القاتل؟ أشعر‬
‫بالعار من إجابة هذا السؤال‪ ،‬لكنَّ اإلجابة عليه واجبة‪ ....‬الذي علّق السماء يف‬
‫الفضاء هو نفسه من عُلِّق؛ الذي مسَّّر السموات يف مكانها‪ ،‬دُقَّ باملسامري؛‬
‫الذي ثبت كل األشياء هو نفسه ثُِّبتَ إىل شجرة‪ .‬السيد قد ُأهِني‪ ،‬الرب قد‬
‫قُتِل‪ ،‬ملك إسرائيل أبيد بيد إسرائيل اليمنى» (عظة الفصح ‪-94‬‬
‫‪).125()96‬‬

‫من الواضح أننا قطعنا شوطا طويال يف االبتعاد عن منوذج يسوع‪ ،‬ذلك‬
‫اليهودي الفلسطيين الذي التزم التقاليد اليهودية ومارس التبشري بني أبناء وطنه‬
‫وعلَّم تالميذه اليهود املعنى احلقيقي للشريعة اليهودية‪ .‬باقرتاب القرن الثاني‬
‫وعندما كان النسَّاخ املسيحيون يقومون بإعادة كتابة النصوص اليت أصبحت يف‬
‫النهاية جزءًا من العهد اجلديد‪ ،‬كان غالبية املسيحيني من الوثنيني السابقني‪ ،‬أي‬

‫‪341‬‬
‫من غري اليهود ممن حتولوا إىل اإلميان باملسيحية والذين فهموا أنه على الرغم‬
‫من أنَّ هذا الدين كان مبنيًّا‪ ،‬يف األساس‪ ،‬على اإلميان بإله اليهود كما ذُكِرَ نعته‬
‫يف الكتاب املقدس اليهودي‪ ،‬إال أنه كان ذا توجه معاد لليهود متاما ‪.‬‬

‫حتريفات النص املناهضة لليهود‬

‫معاداة اليهودية اليت كان يكنها بعض النساخ املسيحيني يف القرنني الثاني‬
‫والثالث كان هلا دورٌ هام يف الطريقة اليت بها نسخت النصوص‪ .‬واحد من‬
‫أوضح األمثلة جنده يف رواية لوقا حلادثة الصلب‪ ،‬اليت يقال فيها إن يسوع نطق‬
‫بصالة من أجل هؤالء املسئولني عن صلبه ‪:‬‬

‫ج َمةَ» صَلَبُوهُ هُنَاكَ َمعَ ا ْل ُمذَْنِبَ َْينِ‬


‫جمَْ ُ‬
‫ضعِ َّالذِي ُي َْدعَى « ُ‬
‫وَلَمَّا مَضَوَْا ِبهِ إِلَى ا ْلمَوَْ ِ‬
‫حدًا َعنَْ َيمِينِهِ وَاآلخَرَ َعنَْ يَسَارِهِ‪ .‬فَقَالَ يَسُوعُ‪« :‬يَا أَبَتَاهُ اغْفِرَْ َل ُهمَْ ألََّن ُهمَْ الَ‬
‫وَا ِ‬
‫يَ َْع َلمُونَ مَاذَا َيفْ َعلُونَ»‪َ .‬وإِذِ اقْتَ َسمُوا ِثيَاَبهُ اقْتَ َرعُوا َعلَ َْيهَا (لوقا ‪-33 :23‬‬
‫‪) 34‬‬
‫صالة يسوع هذه كما سيتضح ال ميكن أن جندها‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬يف كل ما لدينا من‬
‫خمطوطات‪ :‬فهي مفقودة يف أقدم شاهد يوناني لدينا (وهي الربدية‪ ، P75‬اليت‬
‫يرجع تارخيها إىل وقت قريب من عام ‪ 211‬ميالدية) وشواهد أخرى عديدة‬
‫عالية القيمة من القرن الرابع والقرون اليت تلته؛ يف الوقت ذاته‪ ،‬هذه الصالة‬
‫موجودة يف املخطوطة السينائية ويف عدد كبري من املخطوطات‪ ،‬مبا يف ذلك‬
‫‪342‬‬
‫معظم املخطوطات اليت متت كتابتها يف العصور الوسطى‪ .‬ولذلك فالسؤال‬
‫امللح اآلن هو‪ :‬هل قام ناسخ أو عدد من النساخ حبذف هذه الصالة من‬
‫خمطوطة كانت حتتوي عليها يف األصل؟ أم هل أضيفت من خالل أحد النساخ‬
‫(أو عدد من النساخ) إىل خمطوطة هي يف األصل كانت خالية منها؟‬

‫انقسمت آراء العلماء لفرتة طويلة عند الرد على هذا السؤال‪ .‬فألن الصالة‬
‫مفقودة يف العديد من الشواهد املبكرة‪ ،‬وألنها شديدة األهمية‪ ،‬فلم يقصِّر كثريٌ‬
‫من العلماء يف االدِّعاء بأنها غري أصلية داخل النصّ‪ .‬أحيانا مييلون إىل حجة‬
‫مبنية على دليل داخليّ‪ .‬كما أوضحت من قبل‪ ،‬مؤلف إجنيل لوقا هو نفسه من‬
‫كتب سفر أعمال الرسل‪ .‬يف سفر األعمال جند فقرة شبيهة بفقرتنا هذه يف قصة‬
‫ستيفانوس‪ ،‬شهيد املسيحية األول واإلنسان الوحيد الذي ذُ ِكرَ يف سفر األعمال‬
‫ُفذَ يف‬
‫أنَّ أمرًا قد صدر بقتله‪ .‬وألن اسطيفانوس كان متَّهمًا بالتجديف‪ ،‬فقد ن ِّ‬
‫ٍّ غاضب؛ وقبل أن ميوت صلى‬
‫حقه الرجم حتى املوت عرب مجهور يهودي‬
‫قائال‪« :‬يَا رَبُّ الَ ُت ِقمَْ َل ُهمَْ َهذِهِ ا ْلخَطَِّيةَ» (أعمال ‪). 61 :7‬‬

‫بعض العلماء جادلوا بالقول إنَّ أحد النساخ مل يرغب يف أن يبدو يسوع أقلَّ‬
‫تساحمًا بأيِّ حالٍ من شهيده األول‪ ،‬إسطيفانوس‪ ،‬فأضاف الصالة إىل إجنيل‬
‫لوقا حتى يدعو يسوع أيضا باملغفرة لقاتليه‪ .‬إنه دفاعٌ مقنعٌ لكنه ليس مقنعًا متامًا‬
‫ألسباب عدَّة‪ .‬أشدُّ هذه األسباب إقناعا هو اآلتي‪ :‬يف كلِّ مرة حياول النساخ أن‬

‫‪343‬‬
‫يوفقوا بني النصوص بعضها البعض‪ ،‬كانوا مييلون إىل فعل ذلك عرب تكرار‬
‫الكلمات ذاتها يف الفقرتني كلتيهما‪ .‬يف حالتنا هذه‪ ،‬ال جند الصياغة متطابقة بل‬
‫جلُّ ما جنده جمرد صالتني متشابهتني‪ .‬ليس هذا هو نوع «التوافق» الذي كان‬
‫منطًا يكرره النساخ‪.‬‬

‫األمر املفاجئ أيضا خبصوص هذه النقطة هو أنَّ لوقا‪ ،‬أي املؤلف نفسه‪ ،‬يف‬
‫عددٍ من املناسبات ينحرف عن أسلوبه لكي يظهر التشابه بني ما حدث ليسوع‬
‫يف اإلجنيل وما حدث لتالميذه يف سفر األعمال‪ :‬يسوع وتالميذه يعمَّدون‪،‬‬
‫يبشرُ باألخبار‬
‫كال اجلانبني يقبالن الروح القدس عند حلظة العماد‪ ،‬كالهما ِّ‬
‫السارة‪ ،‬وكالهما يرفضان من قبل الناس بسببها‪ ،‬كال اجلانبني يتأملان بأيدي‬
‫الزعماء اليهود‪ ...‬إىل آخره‪ .‬ما حيدث ليسوع يف الكتاب املقدس حيدث لتالميذه‬
‫يف سفر األعمال‪ .‬ومن هنا فليس مثة أي مفاجأة ـ بل األمر باألحرى متوقع ـ يف‬
‫أنَّ واحدا من تالميذ يسوع الذين أعدموا مثله متاما مبعرفة السلطات احلانقة‪،‬‬
‫سيصلِّي إىل اهلل ليغفر لقاتليه ‪.‬‬

‫هناك أسباب أخرى تدفعنا لالرتياب يف كون صالة يسوع من أجل الغفران هي‬
‫جزء أصلي من اإلصحاح ‪ 23‬من إجنيل لوقا‪ .‬ففي كل مكان إجنيل لوقا وسفر‬
‫األعمال يتم التأكيد‪ ،‬على سبيل املثال‪ ،‬على أنَّه رغم براءة يسوع (مثلما هو‬
‫حال تالميذه)‪ ،‬فإن هؤالء الذين قتلوه فعلوا ذلك لعدم معرفتهم حبقيقة ما‬

‫‪344‬‬
‫يقومون به‪ .‬فها هو بطرس يف سفر األعمال إصحاح ‪ 3‬يقول‪« :‬أَنَا َأ َْع َلمُ أََّنكُمَْ‬
‫جهَاَلةٍ َع ِملُْتمَْ» (العدد ‪)27‬؛ أو كما يقول بولس يف سفر األعمال اإلصحاح‬
‫بِ َ‬
‫جمِيعَ النَّاسِ فِي كُلِّ َمكَانٍ َأنَْ يَتُوبُوا مُتَغَاضِيًا َعنَْ أَزَْ ِمَنةِ‬
‫َاللهُ اآلنَ َيأْمُرُ َ‬
‫‪« :17‬ف َّ‬
‫ج َْهلِ» (العدد ‪ .)* 31‬وهذه هي حتديدا املالحظة املتوافقة مع صالة يسوع‪:‬‬
‫الْ َ‬
‫«ألنهم ال يعلمون ماذا يفعلون ‪».‬‬

‫يبدو‪ ،‬إذن‪ ،‬أنَّ لوقا ‪ 34 :23‬كانت جزءا من نص لوقا األصلي‪ .‬فلماذا‪،‬‬


‫رغم ذلك‪ ،‬يريد ناسخ (أو عدد من النساخ) حذف هذا اجلزء؟ هنا يصري‬
‫الوعي بالسياق التارخيي الذي كان النساخ يعملون ضمنه أمرًا حامسًا‪ .‬رمبا‬
‫يتساءل القرَّاء املعاصرون عن حقيقة الشخص الذي كان املسيح يصلي من‬
‫أجله‪ .‬فهل هم الرومان الذين قتلوه عن جهل؟أم هم اليهود الذين كانوا‬
‫مسئولني عن تسليمه للرومان يف املقام األول؟ مهما تكن الطريقة اليت ميكن أن‬
‫جنيب بها على هذا التساؤل يف حماولة لتفسري هذه الفقرة اليوم‪ ،‬يبدو أنَّ الكيفية‬
‫اليت كانوا يف الكنيسة األوىل يفسرونها بها هي من الوضوح مبكان‪ .‬تقريبا يف‬
‫كل حالة نوقشت فيه الصالة يف كتابات اآلباء األوائل للكنيسة‪ ،‬يبدو جليًّا‬
‫أنهم كانوا يفسرونها بأن املقصود بها اليهود وليس الرومان(‪ .)126‬لقد كان‬
‫يسوع يطلب من اهلل أن يسامح الشعب اليهودي (أو القادة اليهود) الذين كانوا‬
‫مسئولني عن موته ‪.‬‬

‫‪345‬‬
‫اآلن أصبح السبب الذي من أجله أراد بعض النُسَّاخ أن حيذفوا العدد واضحًا‪.‬‬
‫أيصلِّي يسوع من أجل املغفرة لليهود؟ كيف ذلك؟ بالنسبة للمسيحيني األوائل‬
‫كان مثة مشكلتان تواجهان هذا العدد يف حال النظر إليه على هذا النحو‪ .‬أوال‪،‬‬
‫تسائل املسيحيون‪ :‬ما الذي جيعل يسوع يصلي ملغفرة ذنوب هذا الشعب املتمرد‬
‫الذي رفض اهللَ نفسهَ عن عمد؟ هذا األمر كان نادر التصور عند كثريٍ من‬
‫املسيحيني‪ .‬بل أكثر من ذلك‪ ،‬نقول‪ :‬إنه قريبًا من القرن الثاني كان كثريٌ من‬
‫املسيحيني على قناعة تامة بأنَّ اهلل مل يغفر لليهود ألنهم‪ ،‬كما ذكرت من قبل‪،‬‬
‫اعتقدوا أن اهلل مسح بتدمري أورشليم كعقوبة لليهود على قتلهم يسوع‪ .‬يقول‬
‫أورجيانوس أحد آباء الكنيسة‪« :‬صحيحٌ أنَّ املدينة اليت مر فيها يسوع مبثل هذه‬
‫اآلالم ينبغي أن تدمر بالكامل‪ ،‬وأنَّ األمة اليهودية ينبغي أن تباد» (ضد‬
‫سيلزس ‪) 127()22 ،4‬‬

‫كان اليهود يعرفون جيدا ما كانوا يفعلونه‪ ،‬ومن الواضح أن اهلل مل يساحمهم‪.‬‬
‫انطالقًا من وجهة النظر هذه‪ ،‬ليس لدعاء يسوع باملغفرة من أجلهم أيَّ معنى‬
‫يف وقت مل يكن مثة غفران ممكن يف حقهم‪ .‬ماذا كان على النساخ أن يفعلوا‪،‬‬
‫إذن‪ ،‬مع هذا النص الذي يصلي فيه يسوع «أبتاه‪ ،‬اغفر هلم‪ ،‬ألنهم ال‬
‫يعلمون ماذا يفعلون»؟ تعاملوا مع النص ببساطة من خالل اقتطاع النص لكي‬
‫ال يواصل يسوع طلب املغفرة هلم ‪.‬‬

‫‪346‬‬
‫هناك فقرات أخرى تركت فيها املشاعر املعادية لليهود اليت كان النساخ األوائل‬
‫يكنونها يف صدورهم أثرها على النصوص اليت كانوا ينسخونها‪ .‬واحدة من‬
‫أبرز الفقرات اليت تشري إىل الظهور النهائي للمعاداة للسامية هي يف مشهد‬
‫حماكمة يسوع يف إجنيل متَّى‪ .‬فوفقًا هلذه احلادثة‪ ،‬يعلن بيالطس براءة يسوع‪،‬‬
‫حيث يغسل يده لكي يظهر أنه‪َ« :‬برِيءٌ ِمنَْ َدمِ َهذَا الْبَارِّ‪َ .‬أبَْصِرُوا أَنَْتُمَْ »!‬

‫ثم يطلق احلشد اليهودي صرخة كان مقدَّرًا هلا أن تلعب هذا الدور الرهيب يف‬
‫اندالع العنف ضد اليهود خالل القرون الوسطى‪ ،‬حيث يبدو أنهم يعلنون فيها‬
‫مسئوليتهم عن موت يسوع‪« :‬دَ ُمهُ َع َليَْنَا َو َعلَى َأوَْالَدِنَا «(متى ‪- 24 :27‬‬
‫‪). 25‬‬
‫التباين النصّي موضع اهتمامنا حيدث يف العدد التالي‪ .‬يقال يف هذا العدد إن‬
‫صلَبـ «‪ .‬أي شخص يقرأ هذا النص سيفرتض‬
‫بيالطس جلد يسوع ثم «أَسَْ َل َمهُ لِيُ َْ‬
‫يف البداية أنه سلم يسوع جلنوده (الرومان) لكي يصلبوه‪ .‬ما جيعل األمر أكثر‬
‫إحداثا للصدمة هو أنه يف بعض الشواهد املبكرة ـ مبا يف ذلك واحدة من‬
‫التصحيحات اليت أدخلها النساخ إىل املخطوطة السينائية ـ مت إدخال تغيري إىل‬
‫النص لكي يقوِّي إىل مدى أبعد التورط اليهودي يف موت يسوع‪ .‬وفقا هلذه‬
‫املخطوطات‪ ،‬قام بيالطس «بتسليمه إليهم (أي إىل اليهود) لكي يقوموا هم‬
‫بصلبه»‪ .‬اآلن مسئولية اليهود عن مقتل يسوع هي مسئولية كاملة‪ ،‬ويف الوقت‬

‫‪347‬‬
‫نفسه هذا تغيري كان الباعث إليه شعورٌ معادٍ لليهود كان منتشرًا بني املسيحيني‬
‫األوائل‪.‬‬

‫أحيانا تكون القراءات املتباينة املعادية لليهود دقيقة للغاية وال تلفت انتباه‬
‫اإلنسان إليها إىل أن يبذل أحدهم بعض الفكر حول املسألة‪ .‬على سبيل املثال‪،‬‬
‫إن يوسف دعى ابن مريم املولود‬
‫يف قصة امليالد الواردة يف إجنيل متى‪ ،‬يقال َّ‬
‫حديثًا يسوع (اليت تعين «اخلالص») «ألنه خيلص شعبه من خطاياهم «(متى‬
‫‪ .)21 :1‬من العجيب أنه يف واحدة من املخطوطات اليت حفظتها لنا الرتمجة‬
‫السوريانية‪ ،‬يقول النص بدال عن ذلك‪« :‬ألنه سيخلص العامل من خطاياه»‪.‬‬
‫هنا مرة أخرى يبدو أنَّ ناسخًا كان يشعر بعدم الراحة من تصوُّر أنَّ اليهود‬
‫ميكنهم أن حيصلوا على اخلالص‪.‬‬

‫تغيريٌ مشابهٌ آخر حيدث يف إجنيل يوحنا‪ .‬ففي اإلصحاح الرابع‪ ،‬يتحدث يسوع‬
‫جدُونَ ِلمَا لَسَُْتمَْ تَ َْع َلمُونَ أَمَّا نَحَْنُ‬
‫مع املرأة السامريّة ويقول هلا‪َ« ،‬أنَُْتمَْ تَسَْ ُ‬
‫الصَ هُوَ مِنَ ا ْلَيهُودِ»‪( .‬العدد ‪ .)22‬يف بعض‬
‫جدُ لِمَا نَ َْع َلمُ ‪ -‬ألَنَّ الْخ َ‬
‫فَنَسَْ ُ‬
‫املخطوطات السوريانية والالتينية تغري النص فأصبح يقول اآلن إنَّ‪« :‬اخلالص‬
‫يأتي من أرض يهودا»‪ .‬بكلمات أخرى‪ ،‬ليس الشعب اليهوديُّ هو من جلب‬
‫اخلالص إىل العامل؛ بل موت يسوع يف أرض يهودا هو الذي فعل ذلك‪ .‬مرة‬

‫‪348‬‬
‫أخرى رمبا نرتاب يف أنَّ شعورًا معاديًا لليهود هو ما كان باعثًا على التحريف‬
‫الذي قام به النساخ ‪.‬‬

‫املثال األخري الذي سأسوقه يف هذا التعرض املختصر يأتي من خمطوطة بيزا اليت‬
‫يرجع تارخيها إىل القرن اخلامس‪ ،‬وهي نفسها املخطوطة اليت حتوي قراءات‬
‫متباينة طريفة ومثرية للدهشة عن أيِّ خمطوطة أخرى‪ .‬يف اإلصحاح السادس من‬
‫لوقا‪ ،‬حيث يتهم الفرِّيسيون يسوع وتالميذه بانتهاك حرمة يوم السبت (‪:6‬‬
‫‪ ،)4 -1‬جند قصة إضافية يف خمطوطة بيزا تتكون من عددٍ واحد‪« :‬يف اليوم‬
‫ذاته رأى رجال يعمل يف السبت‪ ،‬وقال له‪« ،‬يا إنسان‪ ،‬لو كنت تعلم ما‬
‫تفعله‪ ،‬فأنت مبارك‪ ،‬لكن لو مل يكن عندك علم‪ ،‬فأنت ملعون ومنتهك‬
‫للشريعة»‪ .‬إن تفسريا كامال هلذه الفقرة غري املتوقعة وغري العادية يتطلب قدرا‬
‫كبريا من البحث(‪ .)128‬بالنسبة ألهدافنا يف هذا الفصل يكفي أن نالحظ أنَّ‬
‫يسوعَ واضحٌ للغاية يف هذه الفقرة على حنوٍ مل حيدث أبدا يف أي مكان آخر يف‬
‫األناجيل‪ .‬يف مواقف أخرى‪ ،‬عندما يتهم يسوع بانتهاك السبت‪ ،‬يدافع عن‬
‫أفعاله‪ ،‬لكنه أبدا ال يشري إىل أن أحكام الشريعة الواردة يف حق يوم السبت‬
‫يصرحُ يسوع بوضوح أنَّ أيَّ إنسانٍ يعرف‬
‫جيب أن ُتنََْتهَك‪ .‬أمَّا يف هذا العدد‪ِّ ،‬‬
‫أنَّ انتهاك السبت هو أمر شرعيٌّ ال غبار عليه هو إنسان مبارك إن فعل ذلك؛‬
‫هؤالء الذين ال يفهمون سبب شرعية انتهاك السبت هم فحسب املخطئون‪ .‬مرة‬

‫‪349‬‬
‫أخرى‪ ،‬هذه قراءة متباينة يبدو أنها ذات عالقة بظهور الروح املعادية لليهودية‬
‫يف الكنيسة املبكرة‪.‬‬

‫لقد رأينا حتى اآلن كيف أثّرت النزاعات الداخلية حول كنه العقيدة الصحيحة‬
‫أو إدارة الكنيسة (دور النساء) على النساخ املسيحيني األوائل‪ ،‬وكذلك كان‬
‫أيضًا للصراعات بني الكنيسة والكنيس اليهودي التأثري ذاته‪ ،‬فلقد لعبت‬
‫مشاعر الكراهية لليهود دورا يف الكيفية اليت نقل هؤالء النساخ النصوص اليت‬
‫أعلن يف النهاية أنها العهد اجلديد‪ .‬مل يكن على املسيحيني يف القرون األوىل أن‬
‫يتجادلوا مع اهلراطقة من داخل الكنيسة واليهود من خارجها فحسب‪ ،‬بل‬
‫وجدوا أنفسهم يف معركة مستعرة مع العامل أمجع‪ ،‬العامل الذي كان يتشكل‬
‫يف الغالب من الدخالء الوثنيني‪ .‬كلمة وثين يف هذا السياق‪ ،‬أي حينما‬
‫يستخدمها املؤرخون‪ ،‬ال حتمل أي مدلوالت سلبيّة‪ .‬فهي ببساطة تشري إىل أي‬
‫ٍّ من الديانات التعددية الكثرية يف هذا‬
‫شخص يف العامل القديم يؤمن بأي‬
‫العصر‪ .‬ومبا أنَّ هذا كان يشمل أيَّ شخصٍ من غري املسيحيني أو اليهود‪ ،‬فإننا‬
‫نتحدث عن قطاعٍ يشكل ‪ 93 – 91‬يف املائة من عدد سكان اإلمرباطورية‬
‫الرومانية‪ .‬كان الوثنيون أحيانًا يقاومون املسيحيني بسبب شكل عباداتهم غري‬

‫‪350‬‬
‫املعتاد وبسبب قبوهلم يسوع باعتباره ابن اهلل الذي جلب موته على الصليب‬
‫اخلالص؛ وأحيانا كانت هذه املقاومة تؤثر على النساخ املسيحيني الذين كانوا‬
‫يعيدون كتابة نصوص الكتاب املقدس ‪.‬‬

‫املقاومة الوثنية للمسيحية‬

‫تشري سجالتنا املبكرة إىل أنَّ حشود الوثنيني وحدها أحيانًا‪ ،‬وهم إىل جانب‬
‫السلطات يف أحيان أخرى كانوا يقاومون املسيحيني بطرقٍ عنيفة (‪.)129‬‬
‫بولس الرسول‪ ،‬على سبيل املثال‪ ،‬يف عدد من من العذابات اليت تعرض هلا‬
‫من أجل املسيح‪ ،‬حيكي أنَه يف ثالث مناسبات «تعرَّض للضرب بالعصيّ»‬
‫(‪2‬كور ‪ ،)25 :11‬الذي هو نوع من العقاب كانت السلطات احمللية الرومانية‬
‫حكِم عليهم بأنهم خطرين على اجملتمع‪ .‬وكما‬
‫تستخدمه ضد اجملرمني الذين ُ‬
‫رأينا‪ ،‬يكتب بولس يف رسالته األوىل اليت جنت من الضياع أنَّ كنيسة األمم‬
‫املسيحية اليت تنتمي إليه يف تسالونيكا قد «تَأََّلمَْوا ُهمَْ أَيَْضًا ِمنَْ َأ َْهلِ عَشِريَِت ُهمَْ‬
‫المَ عَيََْنهَا َكمَا ُهمَْ (أي كنيسة اليهودية) َأيَْضًا مِنَ ا ْلَيهُودِ «(‪1‬‬
‫ِت ْلكَ اآل َ‬
‫تسالونيكي ‪).14 :2‬‬

‫يف املوقف األخري‪ ،‬يبدو أن التعذيب الذي تعرض له مل يكن «رمسيا» وإمنا‬
‫كان نتاجًا لنوع من العنف اجلماهريي‪ .‬يف احلقيقة‪ ،‬معظم املعارضة الوثنية‬
‫للمسيحيني أثناء القرنيني األوليني من عمر الكنيسة حدثت على املستوى‬
‫‪351‬‬
‫اجلماهري أكثر من كونها جاءت نتيجة الضطهاد روماني حكوميٍ منظَّم‪ .‬فعلى‬
‫خالف ما يبدو أنَّ كثريًا من الناس يعتقدونه‪ ،‬مل يكن مثة يف املسيحية ذاتها أي‬
‫شيء «غري قانوني» يف خالل هذه السنوات املبكرة‪ .‬فاملسيحية ذاتها مل تكن‬
‫حمظورة‪ ،‬ومل يكن املسيحيون غالبا يف حاجة إىل التخفِّي‪ .‬وفكرة أنهم كان‬
‫لزامًا عليهم أن خيتفوا يف املقابر الرومانية لتجنب االضطهادات‪ ،‬وأن حييِّي‬
‫بعضهم البعض بإشارات سرية مثل رمز السمكة‪ ،‬ليست إال جمموعة من‬
‫األساطري‪ .‬مل يكن مثة أيُّ خرقٍ للقانون يف اإلميان بيسوع أو يف عبادة إله‬
‫ٍّ (يف معظم األماكن)‬
‫اليهود‪ ،‬أو يف تأليه يسوع‪ ،‬ومل يكن مثة شيء غري شرعي‬
‫يف إقامة االجتماعات للصالة أو االجتماعات األخوية‪ ،‬أو يف إقناع اآلخرين‬
‫بأن يؤمنوا بأنَّ املسيح هو ابن اهلل‪.‬‬

‫وعلى الرغم من ذلك كان املسيحيون أحيانا يتعرضون لالضطهاد‪ .‬فلماذا‬


‫حدث ذلك؟‬

‫ملعرفة السبب وراء ما تعرض له املسيحيون من اضطهاد‪ ،‬من املهم أن نعرف‬


‫شيئا عن الديانات الوثنية يف داخل اإلمرباطورية الرومانية‪ .‬هذه الديانات مجيعا‬
‫ـ وكان تعدُّ باملئات ـ كانت تؤمن بتعدد اآلهلة‪ ،‬وتتوجه بالعبادة إىل آهلة كثرية؛‬
‫وكلها كان يؤكِّد على ضرورة عبادة هذه اآلهلة عرب أفعال الصالة والقرابني‪ .‬يف‬
‫أغلب األحيان‪ ،‬مل تكن هذه اآلهلة تُعَْبد لكي تضمن لعبَّادها السعادة يف احلياة‬

‫‪352‬‬
‫اآلخرة؛ لقد كان الناس‪ ،‬يف العادة‪ ،‬أكثر قلقا خبصوص احلياة الدنيا اليت‬
‫كانت بالنسبة للغالبية العظمى من الناس قاسية وحمفوفة باملخاطر يف أفضل‬
‫األحوال‪ .‬لقد كانت اآلهلة توفِّر للبشر ما كان يستحيل عليهم أن يوفروه‬
‫ألنفسهم ـ فاحملصول توفر له النماء‪ ،‬واملاشية توفر هلا الغذاء وما يكفي من‬
‫األمطار وتوفر كذلك الصحة الشخصية واحلياة الرغدة والقدرة على اإلجناب‪،‬‬
‫وحتقيق النصر يف احلرب والرخاء يف السلم‪ .‬كانت اآلهلة حتمي الدولة وترفع‬
‫من شأنها؛ وكان مبقدور اآلهلة أن تتدخل لكي جتعل احلياة جديرة بأن تعاش‬
‫ولتجعل العمر مديدا وسعيدا‪ .‬وهي تفعل كل ذلك يف مقابل حركات بسيطة‬
‫متثل نوعًا من العبادة ـ عبادة على مستوى الدولة أثناء األعياد القومية متجيدا‬
‫لآلهلة‪ ،‬وعبادة على مستوى اجلماهري يف اجملتمعات والعائالت ‪.‬‬

‫وعندما تسوء األمور بظهور نذر احلروب أو اجلفاف‪ ،‬أو اجملاعات‪ ،‬أو‬
‫األمراض‪ ،‬فإن هذا رمبا يكون عالمة على سخط اآلهلة على الطريقة اليت‬
‫يكرمونها بها‪ .‬يف مثل هذه األوقات‪ ،‬من كان يقع عليه اللوم بسبب الفشل يف‬
‫متجيد اآلهلة؟ بالتأكيد هؤالء الذين رفضوا أن خيضعوا هلا بالعبادة‪ .‬إنهم‬
‫املسيحيون ‪.‬‬

‫واليهود بطبيعة احلال كانوا هم أيضا ال يعبدون آهلة الوثنيني‪ ،‬لكنهم كانوا‬
‫ينظر إليهم على نطاق واسع باعتبارهم مستثنني من عبادة آهلة الوثنيني اليت‬

‫‪353‬‬
‫كانت أمرا ملزمًا جلميع البشر‪ ،‬حيث كان اليهود شعبًا مميزا بتقاليده اآلبائية‬
‫اليت كانوا يتبعونها بإخالص(‪ .)131‬وعندما ظهر املسيحيون على مسرح‬
‫التاريخ مل يُعََْت َرفَْ بهم باعتبارهم شعبًا منفصال مميزا عن غريه‪ ،‬فلقد كانوا إما‬
‫مرتدين عن اليهودية أو ضمن النطاق الواسع من الديانات الوثنية اليت كانت‬
‫ال توجد بني أفرادها أي روابط دم أو من أي رابط آخر فيما عدا جمموعة‬
‫االعتقادات واملمارسات الدينية اخلاصة بهم‪ .‬باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬كان معروفًا‬
‫عن املسيحيني أنهم غري اجتماعيني‪ ،‬فهم جيتمعون معًا يف كنائسهم‪ ،‬ويهجرون‬
‫عائالتهم وأصدقائهم القدامى‪ ،‬وال يشاركون يف أعياد العبادة اليت حيتفل بها‬
‫عامة الشعب ‪.‬‬

‫كان املسيحيون‪ ،‬من ثمَّ‪ ،‬عرضة لالضطهاد ألنهم كان ينظر إليهم ميثلون‬
‫ضررًا حلياة اجملتمع الصحية‪ ،‬لسببني أوهلما أنهم يرتفعون عن عبادة اآلهلة اليت‬
‫حتمي اجملتمع وثانيًا ألنهم يعيشون معًا بطرق بدت غري اجتماعية‪ .‬وحينما تنزل‬
‫بالناس الكوارث‪ ،‬أو حينما خيشى الناس أن تنزل بهم الكوارث‪ ،‬فمن يا ترى‬
‫غري املسيحيني سيحمِّلونه إثم ما يقع؟‬

‫أما حكام الواليات املتعددة من الرومانيني‪ ،‬ناهيك عن اإلمرباطور نفسه‪،‬‬


‫فنادرًا ما يتدخلون يف مثل هذه الشئون احملليّة‪ .‬وعندما فعلوا‪ ،‬تعاملوا ببساطة‬
‫مع املسيحيني كشرحية اجتماعية خطرة البد من سحقها‪ .‬كان املسيحيون يف‬

‫‪354‬‬
‫العادة مينحون الفرصة لتخليص أنفسهم من خالل عبادة اآلهلة بالطرق املطلوبة‬
‫منهم (من خالل تقديم البخور إىل أحد اآلهلة‪ ،‬على سبيل املثال)؛ فإذا‬
‫رفضوا‪ ،‬كان ينظر إليهم باعتبارهم مثريي قالقل ومتمردين وكانوا يعاملون‬
‫على هذا األساس ‪.‬‬

‫باقرتاب منتصف القرن الثاني امليالدي‪ ،‬بدأ املسيحيون يلفتون انتباه املفكرين‬
‫الوثنيني الذين هامجوهم يف مقاالت كتبت خصيصًا للرد عليهم‪ .‬هذه األعمال‬
‫مل ترسم صورة سلبية املسيحيني أنفسهم فحسب‪ ،‬وإمنا أيضًا هامجت‬
‫املعتقدات املسيحية باعتبارها معتقدات مثرية للسخرية (فهم على سبيل املثال‬
‫يدعون عبادة إله اليهود يف حني يرفضون االلتزام بالشريعة اليهودية!) وبدأوا‬
‫يف الغمز واللمز باملمارسات املسيحية باعتبارها ممارسات شائنة‪ .‬خبصوص‬
‫النقطة األخرية تلك‪ ،‬كان يالحظ أحيانا أنَّ املسيحيني جيتمعون حتت حجب‬
‫الظالم‪ ،‬وينادي أحدهم اآلخر بالـ «أخ» و«األخت» وحييِّي أحدهم اآلخر‬
‫بتبادل القبالت؛ وكان يقال عنهم إنهم يعبدون إهلهم من خالل أكلهم جسد‬
‫ابنه وشربهم دمه‪ .‬ماذا كان على املرء أن يفعل حيال مثل هذه املمارسات؟ لو‬
‫أنَّه بإمكانك أن تتصور االحتمال األسوأ‪ ،‬فلن تكون قد أبعدت النجعة‪.‬‬
‫خصوم املسيحيني من الوثنيني ادعوا أنَّ املسيحيني مارسوا زنا احملارم (أي‬
‫عالقات جنسية بني األخوة وأخواتهن)‪ ،‬ومارسوا قتل األطفال (من األبناء)‪،‬‬

‫‪355‬‬
‫ٍّ تعبُّدي‪ .‬هذه‬
‫وأكل حلوم البشر (أكل اجلسد وشرب دمه) يف شكل طقوسي‬
‫االتهامات رمبا تبدو غري قابلة للتصديق يف أيامنا هذه‪ ،‬لكنها يف جمتمع كان‬
‫حيرتم احلشمة والصراحة‪ ،‬كانت مقبولة على نطاق واسع‪ .‬لقد كان املسيحيون‬
‫ينظر إليهم على أنهم صنف شرير ‪.‬‬

‫يف ميدان اهلجمات الفكرية على املسيحيني‪ ،‬كان مثّة اهتمام ملحوظ‬
‫بيسوع(‪ .)131‬كمؤسس هلذا اإلميان اجلديد سئ السمعة جمتمعيًّا‪ .‬حيث أشار‬
‫الكتاب الوثنيون إىل أصله الوضيع وانتمائه إىل الطبقة الدنيا تقريعًا للمسيحيني‬
‫وسخرية بهم من أجل اعتقادهم بأنه كان مستحقا للعبادة ككائن إهلي‪ .‬كان‬
‫يقال إنَّ املسيحيني يعبدون جمرمًا مصلوبًا‪ ،‬ثم بغباء يؤكدون أنه كان بطريقة ما‬
‫كائنا إهليا ‪.‬‬

‫بعض هؤالء الكتَّاب‪ ،‬بدءًا من قرابة نهاية القرن الثاني‪ ،‬قرأ بالفعل كتابات‬
‫األدب املسيحيّ لكي يفهمهم على حنوٍ أفضل‪ .‬فكما قال سيلزس الناقد الوثين‬
‫ذات يوم‪ ،‬خبصوص أساس هجومه على املعتقدات املسيحية ‪:‬‬

‫هذه االعرتاضات تأتي من داخل كتاباتكم‪ ،‬ولسنا يف حاجة إىل شهود أخرين‪:‬‬
‫فأنتم بأنفسكم متنحوننا ما به نبطل إميانكم (ضد سيلزس ‪) 74 ،2‬‬

‫‪356‬‬
‫هذه الكتابات كانت أحيانا شديدة التهكم والسخرية‪ ،‬مثل ما جنده يف كلمات‬
‫الوثين «بورفراي»‪ :‬لقد كان كتبة األناجيل كتَّابٌ مزيفون ـ مل يكونوا معاينني‬
‫وال شهود عيان حلياة يسوع‪ .‬فكلُّ واحدٍ من املؤلفني األربعة يناقض اآلخر يف‬
‫روايته ألحداث معاناة يسوع وصلبه (ضد املسيحيني ‪). 132()15 -12 ،2‬‬

‫ردا على هذا النوع من اهلجمات‪ ،‬وادعاءات الوثين سيلزس‪ ،‬حرَّف النُسَّاخ‬
‫املسيحيون نصوصهم لكي يتخلصوا من املشكالت اليت ينتبه إليها املتمرسون‬
‫من اخلصوم اخلارجيني ‪:‬‬

‫«بعض املؤمنني يتصرفون كما لو كانوا يف جملس الحتساء الشراب‪ ،‬يذهبون‬


‫بعيدا إىل درجة التناقض مع أنفسهم‪ ،‬فيغريون النص األصلي لإلجنيل ثالث‬
‫مرات أو أربع أو عدد أكرب من ذلك من املرات‪ ،‬ويغريون أسلوبه مبا ميكّنهم من‬
‫إنكار الصعوبات متى وُجِّه النقد إليهم «(ضد سيلزس ‪) 27 .2‬‬

‫كما هو واضح‪ ،‬لسنا حباجة لالستشهاد خبصوم املسيحية من الوثنيني لكي جند‬
‫دليال على أن النساخ كانوا أحيانا يغريون النصوص على ضوء املعارضة الوثنية‬
‫لإلميان‪ .‬فهناك مواضع داخل خمطوطات العهد اجلديد احملفوظة إىل اآلن تظهر‬
‫هذا النوع من ميل النساخ إىل عمل ذلك(‪). 133‬‬

‫‪357‬‬
‫قبل أن نبدأ يف التعرض لبعض الفقرات املتعلقة بهذا األمر‪ ،‬ينبغي أن أشري إىل‬
‫أنَّ تلك االتهامات الوثنية املوجهة للديانة املسيحية ومؤسسها مل متر بال رد من‬
‫اجلانب املسيحي‪ .‬على العكس‪ ،‬فمع بداية حتول أصحاب الفكر لإلميان‬
‫باملسيحية‪ ،‬بداية من منتصف القرن الثاني امليالدي‪ ،‬بدأ عددٌ كبريٌ من‬
‫الدفاعات املنطقية‪ ،‬اليت عرفت حتت اسم الدفاعيات‪ ،‬يف الظهور من خالل‬
‫أقالم املسيحيني‪ .‬بعض هؤالء الكتاب املسيحيني معروفون جيدًا لدارسي‬
‫املسيحية األوىل‪ ،‬مثل جستينوس الشهيد‪ ،‬وترتليانوس‪ ،‬وأورجيانوس؛‬
‫والبعض اآلخر أقل شهرة ولكنهم ليسوا أقل متيزا يف دفاعهم عن العقيدة‪ .‬من‬
‫هؤالء «أثيناجوراس‪ ،‬وأريستيدس‪ ،‬واملؤلف اجملهول الذي كتب اخلطاب‬
‫املوجه إىل «ديوجنتس» (‪ .)134‬عمل هؤالء العلماء كمجموعة على إظهار‬
‫الضالل يف حجج خصومهم الوثنيني‪ ،‬دافعني بأنه على خالف الزعم القائل‬
‫خبطورة املسيحية على اجملتمع‪ ،‬فإنها هي الصمغ الذي يبقي اجملتمع متماسكًا؛‬
‫مصرِّين ليس فقط على أن الديانة املسيحية هي ديانة عقالنية‪ ،‬بل أيضًا على‬
‫أنها الديانة احلقة الوحيدة اليت شهدها العامل؛ زاعمني أنَّ املسيح كان بالفعل‬
‫االبن احلقيقي هلل‪ ،‬الذي جلب موته اخلالص؛ جمتهدين يف الدفاع عن طبيعة‬
‫الكتابات املسيحية األوىل على أنها حقيقية وموحى بها‪.‬‬

‫‪358‬‬
‫كيف أثَّرت هذه احلركة الدفاعية(عن اإلميان) خالل العصور األوىل للمسيحية‬
‫على نسّاخ القرنني الثاني والثالث الذين كانوا ينسخون نصوص العقيدة؟‬

‫رغم أنين مل أذكر ذلك يف حينه‪ ،‬إال أننا رأينا بالفعل نصًّا يبدو أنه قد تعرض‬
‫للتعديل على أيدي النسّاخ ألسباب دفاعيّة‪ .‬فكما رأينا يف الفصل اخلامس‪،‬‬
‫كان العدد ‪ 41 :1‬من إجنيل مرقس يشري يف األصل إىل أنه عندما اقرتب جمزومٌ‬
‫من يسوع طلبا للشفاء‪ ،‬غضب يسوع ومد يده ليلمسه‪ ،‬وقال «فلتطهر»‪ .‬وجد‬
‫النسَّاخ صعوبة يف نسبة شعور الغضب ليسوع يف هذا السياق‪ ،‬فعدَّلوا النص‬
‫ليقول‪ ،‬بدال من ذلك‪ ،‬إن يسوع حتنن على الرجل ‪.‬‬

‫من املمكن أن يكون ما دفع النسّاخ لتغيري النص شيء أكثر من جمرد رغبة‬
‫بسيطة يف تسهيل فهم مقطع صعب‪ .‬أحد نقاط اخلالف الدائمة بني منتقدي‬
‫املسيحية من الوثنيني وبني مفكريها املدافعني عنها تتعلق بسلوك املسيح‪ ،‬وما‬
‫إذا كان قد تصرف على حنوٍ يليق بشخص ادَّعى أنه ابن اهلل‪ .‬جيب أن أؤكد أنَّ‬
‫ذلك مل يكن خالفًا حول إمكانية تصور أنَّ كائنًا بشريًّا ميكن أيضًا أن تكون له‬
‫طبيعة إهلية بشكل ما‪ .‬فتلك نقطة كانت حمل اتفاق بني الوثنيني واملسيحيني‬
‫بشكل تام‪ ،‬حيث يعرف الوثنيون أيضًا قصصًا حتول فيها كائنٌّ إهليٌّ إىل بشريِّ‬
‫وتعامل مع اآلخرين هنا على األرض‪ .‬القضية كانت هل تصرف يسوع بهذا‬
‫‪359‬‬
‫الشكل الذي يربر االعتقاد بأنَّه واحد من هذا النوع‪ ،‬أم‪ ،‬على العكس من‬
‫ذلك‪ ،‬كان ملواقفه وتصرفاته دورًا يف استبعاد إمكانية أن يكون بالفعل ابنا هلل‬
‫(‪).135‬‬

‫يف تلك الفرتة كان االعتقاد السائد بني الوثنيني هو أن اآلهلة ال تعرتيها املشاعر‬
‫التافهة والنزوات اليت تعرتي اإلنسان الفاني‪ ،‬وأنهم يف احلقيقة أمسى من تلك‬
‫األشياء(‪ .)136‬كيف ميكن للمرء‪ ،‬إذن‪ ،‬أن حيدد ما إذا كان شخصٌ ما له‬
‫طبيعة إهلية أم ال؟ من البديهي أن هذا الشخص سيكون عليه إظهار قدرات‬
‫(مادية أو فكرية) فوق طاقة البشر؛ ولكنه حيتاج أيضًا ألن يتصرف بشكل‬
‫يتواءم مع الزعم بأنه قد نشأ يف العامل اإلهلي‪.‬‬

‫لدينا عددٌ من الكُتَّاب من تلك الفرتة يصرون على أن اآلهلة ال «تغضب» ألن‬
‫الغضب عاطفة إنسانية تنشأ عن اإلحباط من اآلخرين أو عن اإلحساس‬
‫باخلطأ‪ ،‬أو عن سبب وضيع آخر‪ .‬يستطيع املسيحيون بالطبع أن يدفعوا بأن‬
‫اإلله قد غضب على خلقه بسبب سوء تصرفهم‪ .‬إال أن اإلله املسيحي هو‬
‫اآلخر منزه عن أي سلوك ينم عن سرعة الغضب‪ .‬ففي تلك القصة عن يسوع‬
‫واجملذوم ال يوجد سبب بيِّن ألن يغضب يسوع‪ .‬فإذا أخذنا يف االعتبار أنَّ النص‬
‫مت تعديله خالل الفرتة اليت كان الوثنيون واملسيحيون يتجادلون فيها حول ما‬
‫إذا كان يسوع قد حرص على التصرف بطريقة تتسق مع طبيعته اإلهلية‪ ،‬فمن‬

‫‪360‬‬
‫احملتمل بقوة أن يكون أحد النساخ قد غيَّر النص على ضوء ذلك اخلالف‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬بعبارة أخرى‪ ،‬من املمكن أن يكون قراءة متباينة وقعت ألسباب دفاعية ‪.‬‬

‫حتريفٌ آخر مشابه يأتي بعد ذلك بعدة إصحاحات يف إجنيل مرقس‪ ،‬ففي‬
‫حادثة مشهورة يتعجب فيها سكان املدينة اليت يعيش فيها يسوع أنفسهم من‬
‫قدرته على التفوُّه بتلك التعاليم العجيبة‪ ،‬والقيام بتلك املعجزات‪ .‬أو كما‬
‫يعربون عن دهشتهم‪َ« ,‬ألَ َْيسَ َهذَا هُوَ النَّجَّارَ ابَْنَ مَرََْيمَ َوَأخَا َيعَْقُوبَ وَيُوسِي‬
‫وََيهُوذَا وَ ِسمَْعَانَ؟ أَوََليَْ َستَْ َأخَوَاُتهُ َههُنَا عِ َْندَنَا؟ (مرقس ‪ .)3 :6‬كيف ميكن‪،‬‬
‫يتساءلون هم‪ ،‬لشخص تربى كواحد منهم وأسرته معروفة لديهم‪ ،‬أن يكون‬
‫قادرًا على القيام مبثل هذه األشياء؟‬

‫هذه هي الفقرة األوىل والوحيدة يف العهد اجلديد اليت يطلق فيها على يسوع أنه‬
‫جنار‪ .‬اللفظة املستخدمة )‪ (TEKTON‬تنطبق يف النصوص اليونانية األخرى‬
‫بصورة منطية على أيِّ شخصٍ يعمل بيديه؛ أمَّا يف الكتابات املسيحية املتأخرة‪،‬‬
‫على سبيل املثال‪ ،‬يقال عن يسوع إنه صنع «حماريث وبوابات»(‪ .)137‬فال‬
‫ينبغي أن نفكر فيه على أنه كان شخصا يصنع أثاثًا فاخرًا‪ .‬حيتمل أن تكون‬
‫الطريقة الفضلى لكي «نشعر» مبا تعنيه تلك الكلمة هو أن نشبهها بشيء لدينا‬
‫خربة كبرية به؛ فاألمر أشبه بأن نقول على يسوع أنه عامل بناء‪ .‬فكيف ميكن‬
‫لشخص هذه خلفيته أن يكون ابنا هلل؟‬

‫‪361‬‬
‫لقد كان هذا سؤالًا يأخذه خصوم املسيحية من الوثنيني مأخذ اجلد؛ فهم‪ ،‬يف‬
‫ٍّ‪ :‬يسوع ال ميكن أن يكون ابنا هلل إن‬
‫احلقيقة‪ ،‬فهموا املسألة على حنوٍ منطقي‬
‫كان جمرد جنار‪ .‬الناقد الوثين «سيلزس» سخر من املسيحيني من أجل هذه‬
‫النقطة حتديدًا‪ ،‬حيث ربط بني الزعم بأن املسيح كان «جنارًا» وبني كونه قد‬
‫صلب (على وتد من اخلشب) وبني اإلميان املسيحي بـ «شجرة» احلياة ‪.‬‬

‫وكلما حتدثوا يف كتاباتهم عن شجرة احلياة‪ ..‬أختيل أن سبب ذلك هو أن‬


‫سيدهم قد مت تثبيته على الصليب باملسامري‪ ،‬وأنه كان يعمل جنارًا‪ .‬فلو تصادف‬
‫أنه ألقي به من على منحدر أو إىل حفرة أو تعرض للشنق‪ ،‬أو لو كان إسكافيًا‬
‫أو بناءًا أو حدادًا‪ ،‬لكان مثة منحدر للحياة فوق السماوات‪ ،‬أو حفرة للقيامة‪،‬‬
‫أو حبل للخلود‪ ،‬أو حجر مبارك‪ ،‬أو حديد للمحبة‪ ،‬أو جِلد مقدس‪ .‬لو كان‬
‫مثة امرأة عجوز تغين حكاية قبل النوم لطفلها‪ ،‬أما كانت لتخجل من اهلمس‬
‫مبثل هذه القصص؟ (ضد سيلزس ‪).34 ،6‬‬

‫أورجيانوس‪ ،‬اخلصم املسيحي لسيلزس‪ ،‬كان ينبغي عليه أن يأخذ تلك التهمة‬
‫‪ -‬أن يسوع كان جمرد «جنار» – على حممل اجلدِّ‪ ،‬لكنَّ العجيب أنه مل يتعامل‬
‫معها من خالل بيان خطئها (وهو اإلجراء املعتاد منه)‪ ،‬بل أنكرها متامًا‪:‬‬

‫«عجز سيلزس عن إدراك أنه ال يوجد يف أي من األناجيل املوجودة يف‬


‫الكنائس اآلن وصف ليسوع نفسه على أنه جنار»‪( .‬ضد سيلزس ‪).36 ،6‬‬
‫‪362‬‬
‫ماذا ميكننا أن نستنتج من هذا اإلنكار؟ إما أن أورجيانوس نسي كل ما يتعلق‬
‫بالعدد مرقس ‪ 3 :6‬أو أنه كانت لديه نسخة من النص ال تشري إىل يسوع‬
‫باعتباره جنارًا‪ .‬وكما سيتضح‪ ،‬يوجد لدينا خمطوطات حتتوي على هذا القراءة‬
‫البديلة حتديدًا‪ .‬ففي أقدم خمطوطاتنا إلجنيل مرقس‪ ،‬املسماة‪ ، P45‬واليت‬
‫يرجع تارخيها إىل أوائل القرن الثالث (أي العصر الذي عاش فيه أورجيانوس)‪،‬‬
‫ويف شواهد الحقة كثرية‪ ،‬جند أنَّ هذا النص له قراءة خمتلفة‪ .‬ففيه يسأل مواطنو‬
‫البلد الذي يعيش فيه يسوع‪« :‬أليس هذا هو ابن النجار»؟ اآلن‪ ،‬بدلًا من كون‬
‫يسوع نفسه جنارًا‪ ،‬فإنه ابن النجار فحسب(‪). 138‬‬

‫ومثلما كما كان لدى أورجيانوس أسبابًا دفاعية دفعته إىل إنكار أن يكون يسوع‬
‫قد وصف بأنه جنار يف أيِّ موضعٍ من الكتاب املقدس‪ ،‬فمن احملتمل أن يكون‬
‫أحد النسّاخ قد عدَّل النص ‪ -‬جاعلًا إياه أكثر اتفاقًا مع النص املوازي له يف‬
‫متى ‪ - 55 :13‬بهدف إبطال تهمة الوثين القائلة إن يسوع ال ميكن أن‬
‫يكون ابنا هلل ألنه كان‪ ،‬أوال وأخريًا‪ ،‬جمرد حريف )‪ (TEKTON‬من الطبقة‬
‫الدنيا ‪.‬‬

‫فقرة أخرى تناقش صلب يسوع يبدو أنها قد تعرضت للتغيري ألسباب دفاعيّة‬
‫هي لوقا ‪ .32 :23‬الرتمجة اإلجنليزية للفقرة يف النسخة القياسية املنقحة‬
‫اجلديدة من العهد اجلديد تـُقرأ كالتالي‪« :‬شخصان آخران أيضًا‪ ،‬وقد كانا‬

‫‪363‬‬
‫جمرمَني‪ ،‬مت اقتيادهما ليعدما معه» ولكن الطريقة اليت صيغت بها الفقرة يف‬
‫اليونانية ميكن ترمجتها أيضا كالتالي‪« :‬شخصان آخران‪ ،‬كانا جمرمني أيضا‪ ،‬مت‬
‫اقتيادهما ليعدما معه»‪ .‬وإذا أخذنا االلتباس املوجود يف النص اليوناني يف‬
‫االعتبار‪ ،‬فليس من املفاجئ أن يكون بعض النساخ قد وجدوا أنه من‬
‫الضروري‪ ،‬ألسباب دفاعيّة‪ ،‬إعادة ترتيب الكلمات لتقرر بدون التباس أن‬
‫اآلخرّيَْن فحسب‪ ،‬وليس يسوع أيضًا‪ ،‬هما اجملرمان ‪.‬‬

‫توجد تغيريات أخرى يف التقليد املكتوب يبدو أنَّ الدافع إىل وقوعها هو الرغبة‬
‫ٍّ من‬
‫يف إظهار أنَّ يسوع‪ ،‬باعتباره ابنا حقيقيًّا هلل‪ ،‬ال ميكن أن يكون خمطئًا يف أي‬
‫أقواله‪ ،‬خاصة ما كان منها متعلقًا باملستقبل (حيث إن ابن اهلل‪ ،‬أولًا وأخريًا‪،‬‬
‫ينبغي له أن يعرف ما هو مزمع أن حيدث)‪ .‬رمبا كان ذلك هو ما أدَّى إىل وقوع‬
‫التغيري الذي تعرضنا له بالفعل يف متَّى ‪ ،36 :24‬حيث يقرر يسوع صراحةً‬
‫أنه ال أحد يعرف اليوم وال الساعة اليت تأتي فيها النهاية‪« ،‬وال حتى مالئكة‬
‫السماء‪ ،‬وال االبن‪ ،‬إال األب»‪ .‬عدد ال بأس به من خمطوطاتنا يقوم بإسقاط‬
‫«وال حتى االبن»‪ .‬وليس من الصعب ختمني السبب؛ فإن كان يسوع ال يعرف‬
‫الغيب‪ ،‬فإنَّ الزعم املسيحي بألوهيَّته يتعرض إىل قدر ال يستهان به من‬
‫التشكيك ‪.‬‬

‫‪364‬‬
‫مثال آخر أقل وضوحًا جنده بعد ذلك بثالثة فصول يف مشهد الصلب عند متى‪.‬‬
‫يقال لنا يف متَّى ‪ 34 :27‬إنَّ يسوع عندما كان معلقا على الصليب‪ُ ،‬أ َْعطِيَ‬
‫نبيذًا ممزوجا باملُر ليشربه‪ .‬إال أنَّ عددًا كبريًا من املخطوطات يشري‪ ،‬مع ذلك‪،‬‬
‫إىل أنه أعطي خَال ال نبيذًا‪ .‬من املمكن أن يكون التغيري قد أدخل بهدف جعل‬
‫النص متفقا على حنوٍ أفضل مع العبارة املوجودة يف العهد القديم واليت مت‬
‫اقتباسها لشرح احلدث‪ .‬لكنَّ املرء بإمكانه أن يتساءل ما إذا كان شيء آخر قد‬
‫مثَّل حافزًا للنسَّاخ أيضا‪ .‬من الطريف أن نالحظ أنَّه يف العشاء األخري‪ ،‬يف متى‬
‫‪ ،29 :26‬بعد أن يوزع يسوع كأس اخلمر على أتباعه‪ ،‬يقرر بوضوح أنه لن‬
‫يشرب النبيذ مرة أخرى إال حينما يشربها يف مملكة أبيه‪ .‬فهل كان املقصود من‬
‫التغيري يف ‪ 34 :27‬من النبيذ إىل اخلل هو محاية تلك النبوءة‪ ،‬حبيث تكون‬
‫احلقيقة الثابتة أنه مل يذق النبيذ بعد أن ادعى أنه لن يفعل؟‬

‫أو رمبا نلقي الضوء على التحريف الذي وقع لنبوءة يسوع أمام كبري الكهنة‬
‫اليهودي أثناء حماكمته يف مرقس ‪ .62 :14‬عندما سُئِل عما إذا كان هو‬
‫املسيح‪ ،‬ابن املبارك‪ ،‬أجاب يسوع‪« :‬أَنَا هُوَ‪ .‬وَسَوَْفَ ُتبَْصِرُونَ اَْبنَ اإلِنَْسَانِ‬
‫السمَاءِ» واليت يرى العلماء املعاصرون‬
‫جَالِسًا عَنَْ َيمِنيِ الْقُوَّةِ وَآتِيًا فِي سَحَابِ َّ‬
‫على نطاق واسع أنها تعترب جتسيدا‪ ،‬أو تكاد‪ ،‬لقول نسبته ليسوع صحيحة‪،‬‬
‫هذه الكلمات شكلت مصدرًا لعدم االرتياح لدى الكثريين من املسيحيني منذ‬

‫‪365‬‬
‫وقت قريب من نهاية القرن األول‪ .‬ألن ابن اإلنسان مل يأت أبدًا على سحب‬
‫السماء‪ .‬فلماذا إذن تنبأ يسوع أنَّ كبري الكهنة نفسه سرياه قادمًا؟ اجلواب‬
‫التارخيي رمبا كان أن يسوع بالفعل ظن أن كبري الكهنة سرياه‪ ،‬أي أنَّ ذلك‬
‫سيحدث يف أثناء حياته‪ .‬إال أنَّه من الواضح‪ ،‬وذلك من سياق الكتابات‬
‫الدفاعية من القرن الثاني‪ ،‬أن هذا األمر كان من املمكن أن يؤخذ على أنه‬
‫نبوءة كاذبة‪ .‬ليس عجيبًا إذن أنَّ أقدم شاهد لدينا إلجنيل مرقس يتم فيه تعديل‬
‫هذه الفقرة من خالل التخلص من الكلمات املزعجة‪ ،‬لكي يصري قول يسوع‬
‫اآلن إنَّ كبري الكهنة سوف يرى ابن اإلنسان جالسًا على ميني القوة مع سحب‬
‫السماء‪ .‬وهكذا مل يبق أي ذكر للظهور الوشيك للشخص الذي‪ ،‬يف واقع‬
‫األمر‪ ،‬مل يأت أبدًا ‪.‬‬

‫يف اجململ‪ ،‬يبدو أنَّ عددًا من فقرات املخطوطات احملفوظة لدينا جتسد‬
‫املشكالت الدفاعية اليت واجهها املسيحيون األوائل‪ ،‬خاصة تلك اليت تتعلق‬
‫بيسوع نفسه مؤسس اإلميان‪ .‬وكما هو احلال مع النزاعات الالهوتية اليت‬
‫وقعت يف الكنيسة األوىل‪ ،‬ومسألة دور املرأة‪ ،‬والنزاعات مع اليهود‪ ،‬فكذلك‬
‫كان احلال فيما خيص النزاعات اليت اشتعلت بني املسيحيني وبني شانئيهم من‬
‫الوثنيني املثقفني‪ :‬كل تلك اخلالفات كان هلا تأثري يف النصوص اليت كان مقدرًا‬
‫هلا أن تكون يف النهاية جزءًا من الكتاب الذي نسميه اآلن العهد اجلديد وذلك‬

‫‪366‬‬
‫ألنَّ هذا الكتاب – أو باألحرى جمموعة الكتب تلك – متَّ نسخه اعتمادًا على‬
‫جمموعة من النسّاخ غري احملرتفني يف القرنني الثاني والثالث‪ ،‬وبني الفينة والفينة‬
‫تعرض‪ ،‬يف ضوء الظروف احمليطة بهم يف هذا العصر‪ ،‬للتحريف ‪.‬‬

‫‪367‬‬
‫)‪(117‬انظر كتاب العهد اجلديد لبارت إيرمان‪ ،‬الفصل ‪ ،24‬حيث اعتمدت على هذا الفصل يف معظم الدراسة التالية‪.‬‬
‫لالطالع على دراسة هلذا األمر ولتوثيق أكثر تفصيال‪ ،‬انظر كتاب‪« :‬النساء واألصول املسيحية» ملؤلفيه روس كرامير وماري‬
‫روز دوأجنيلو‪ ،‬من إصدارات أكسفورد‪ ،‬نيويورك‪ ،‬عام ‪ .1999‬وانظر أيضا كتاب‪« :‬شراكتها يف النعمة‪ :‬العقائد املتعلقة‬
‫بالنساء عند اليهود‪ ،‬الوثنيني‪ ،‬واملسيحيني يف العامل اليوناني الروماني» للمؤلف ر‪ .‬كرامير‪ ،‬إصدار أكسفورد ‪.1992‬‬
‫وكذلك كتاب‪« :‬عندما كنَّ قساوسة‪ :‬رئاسة املرأة يف الكنيسة األوىل وفضيحة خضوعها عند صعود املسيحية» ملؤلفته كارن‬
‫ج‪ .‬تورجيسني من مطبوعات هاربر سان فرانسيسكو عام ‪.1993‬‬

‫)‪(118‬ملناقشة أكثر إسهابا‪ ،‬انظر كتاب «يسوع‪...‬النيب الرؤوي لأللفية اجلديدة» لـ بارت إيرمان‪ ،‬ص‪.191 -188‬‬

‫)‪(119‬انظر كتاب «العهد اجلديد»‪ ،‬لـ بارت إيرمان‪ ،‬الفصل ‪.23‬‬

‫يشري القوس إىل أن املؤلف يشكك يف صحة نسبة هذا العدد إىل بولس الرسول‪.‬‬

‫)‪(120‬ملناقشة أكثر تفصيال تظهر أن بولس مل يكتب العددين ‪ ،35 ،34‬انظر على وجه اخلصوص تفسري جوردن د‪ .‬يف‬
‫املعنون بـ «الرسالة األوىل إىل أهل كورنثوس»‪ ،‬من مطبوعات إيدرمانس‪ ،‬جراندر رابيدز‪ ،‬عام ‪.1987‬‬

‫)‪(121‬أكثر املناقشات املعاصرة تفصيال هي تلك اليت قام بها إلدون جاي إبب يف اجلزء املعنون بـ «العوامل املتعلقة بالنقد‬
‫النصي و التفسريي وتلك املتعلقة بالثقافة االجتماعية املؤثرة يف القراءة املتباينة يونيا ‪ /‬يونياس يف رومية ‪ »7 :16‬يف كتاب أ‪.‬‬
‫دينوكس «التفسري والنقد النصي للعهد اجلديد»‪ ،‬من إصدارات ليوفني‪ :‬عام ‪ ،2112‬ص‪.292 -227‬‬

‫)‪(122‬لالطالع على تغيريات أخرى من هذا النوع يف سفر األعمال‪ ،‬انظر كتاب «النزعات املعادية للمرأة يف النص الغربي‬
‫لسفر األعمال» من تأليف‪ :‬بن ويثرينجتون‪ ،‬يف جريدة األدب الكتابي‪ ،‬عدد ‪ )1984( 113‬ص‪.84 -82‬‬

‫)‪(123‬لالطالع على دراستني معيارتني يف هذا اجملال‪ ،‬انظر كتاب‪« :‬اإلميان وقتل األخوة‪ :‬اجلذور الالهوتية ملعاداة‬
‫الساميَّة»‪( ،‬نيويورك‪ :‬مطبعة سيبوري‪ )1974 ،‬تأليف روزماري رويثر‪ ،‬و كتاب «أصول الالسامية‪ :‬وجهات النظر جتاه‬
‫اليهودية يف العصور الوثنية و املسيحية القدمية» من تأليف جون جاجر (نيويورك‪ :‬مطبعة جامعة أكسفورد‪ .)1983 ،‬وهناك‬
‫دراسة أحدث ملرييام = = تايلور بعنوان‪« :‬معاداة اليهودية و اهلوية املسيحية املبكرة‪ :‬حتليل اإلمجاع األكادميي» (اليدن‪،‬‬
‫بريل‪.1995 ،‬‬

‫‪368‬‬
‫)‪(124‬انظر كتاب «اآلباء الرسوليون»‪ ،‬إليرمان‪ ،‬اجمللد الثاني ص‪.383‬‬

‫)‪(125‬هذه ترمجة جريالد هاوثورن؛ الرتمجة الكاملة هلذه املوعظة ميكن االطالع عليها يف كتاب «بعد العهد اجلديد»‪،‬‬
‫لبارت إيرمان‪ ،‬ص‪. =128 -115‬‬

‫=أخطأ املؤلف يف عزو النص حيث ذكر أن قول بولس هو يف العدد ‪ 27‬من اإلصحاح ‪ 17‬والصحيح أنه يف العدد ‪ 31‬من‬
‫اإلصحاح ‪( .17‬املرتجم‪).‬‬

‫)‪(126‬انظر على وجه اخلصوص كتاب ديفيد داوب «ألنهم ال يعلمون ماذا يفعلون‪ »،‬اجمللد ‪ ،4‬بتحرير إف‪ .‬إل‪ .‬كروس‬
‫(برلني‪ :‬أكادمييافريالج‪ )1961 ،‬ص‪ ،71 -58‬و كتاب هاينز أيتسن‪« :‬حراس احلروف»‪ ،‬ص‪.123 -119‬‬

‫)‪(127‬ترمجة «ضد سيلزس» مأخوذة من طبعة هينري تشادويك «أورجيانوس‪ :‬ضد سيلزس» (أكسفورد‪ :‬كالريندون‪،‬‬
‫‪).1953‬‬

‫)‪(128‬انظر إرنست بامل‪« :‬اقتباسات كامربدج‪ :‬اإلضافات إىل لوقا ‪ 4 :6‬يف خمطوطة بيزا»‪ ،‬دراسات العهد اجلديد‪،‬‬
‫العدد ‪ :)1986( 32‬ص‪.426 -414‬‬

‫)‪(129‬أهم دراسة عن االضطهادات املسيحية املبكرة هو كتاب و‪ .‬هـ‪ .‬سي فريند «الشهادة واالضطهاد يف الكنيسة األوىل»‬
‫(أكسفورد‪ ،‬بالكويل‪ .)1965 ،‬انظر أيضًا روبرت ويلكن «املسيحيون بعيون رومانية» (نيوهافن‪ :‬مطبعة جامعة يال‪،‬‬
‫‪).1984‬‬

‫)‪(130‬فوق ذلك‪ ،‬قبل عام ‪ 71‬ميالديًا (عندما مت تدمري اهليكل)‪ ،‬عُرف اليهود بقيامهم بتقديم القرابني بالنيابة عن‬
‫اإلمرباطور‪ ،‬كعالمة على والئهم للدولة‪.‬‬

‫)‪(131‬لالطالع على مناقشة مطولة‪ ،‬انظر الكتاب الذي صدر حديثًا من تأليف واين كاناداي «مقالة دفاعية عن التقاليد‬
‫النسخية» (أتالنتا‪ :‬مطبعة مجعية األدب الكتابي‪ ،)2114 ،‬خاصة يف الفصل الثاني‪.‬‬

‫)‪(132‬ترمجة ر‪ .‬جوزيف هوفمان (أمهريست‪ ،‬نيويورك‪ :‬بروميثيوس‪).1994 ،‬‬

‫)‪(133‬الدراسة الكاملة هي لواين كاناداي‪ ،‬املذكورة يف هامش رقم ‪ 131‬باألعلى‪.‬‬

‫)‪(134‬انظر روبرت م‪ .‬جرانت‪« ،‬املدافعون اليونانيون عن اإلميان يف القرن الثاني» (فيالدلفيا‪ :‬مطبعة ويستمنسرت‪،‬‬
‫‪).1988‬‬

‫)‪(135‬انظر‪ ،‬على وجه اخلصوص‪ ،‬جيوجني جاالجر‪« :‬إله أم ساحر‪ :‬سيلزس و أورجيانوس عن يسوع» (تشيكو‪،‬‬
‫كاليفورنيا‪ :‬سكوالرز برس‪.1982 ،‬‬
‫‪369‬‬
‫)‪(136‬انظر كتاب دال ب‪ .‬مارتني‪« :‬اخرتاع اخلرافة» (كامربدج‪ :‬مطبعة جامعة هارفارد‪).2115 ،‬‬

‫)‪(137‬جوستينوس الشهيد «حوار مع تريفو»‪.88 ،‬‬

‫)‪(138‬هناك فجوة يف املخطوطة )‪ (p45‬عند هذه النقطة‪ ،‬لكن عرب حساب عدد احلروف اليت ميكن أن متأل هذه الفجوة‬
‫يتضح أن هذه هي القراءة األصلي‬

‫‪370‬‬
371

You might also like