Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 44

1

2
‫فالعامة‪ :‬يه خلقه للمخلوقني‪ ,‬ورزقهم‪ ,‬وهدايتهم ملا فيه‬ ‫تفسري الفاحتة‬
‫مصاْلهم‪ ,‬اليت فيها بقاؤهم يف ادلنيا‪.‬‬
‫ويه مكية‬
‫واخلاصة‪ :‬تربيته ألويلائه‪ ,‬فريبيهم باإليمان‪ ,‬ويوفقهم هل‪,‬‬ ‫م‬
‫اْل َ مم ُد هَّلل َر ِّب الم َعالَم َ‬ ‫ه‬ ‫{‪ِ{ }7 - 1‬مْسِب ه ه م َ‬
‫ني *‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫يم *‬
‫اَّلل الرْح ِن الر ِح ِ‬ ‫ِ‬
‫ويكمله هلم‪ ,‬ويدفع عنهم الصوارف‪ ,‬والعوائق اْلائلة بينهم‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ادلين * إيهاك نعبُد َوإيهاك ن مستع ُ‬ ‫َ‬
‫الرحيم * مالك يَ مومِ ِّ‬ ‫ه مَ ه‬
‫ني *‬ ‫ِ‬ ‫َ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫الرْح ِن ِ ِ‬
‫وبينه‪ ,‬وحقيقتها‪ :‬تربية اتلوفيق للك خري‪ ,‬والعصمة عن لك‬ ‫ت َعلَيمه مم َغ م‬ ‫ين أ من َع مم َ‬‫اَّل َ‬ ‫َ َ ه‬ ‫اط ال م ُم مستَق َ‬ ‫اه ِدنَا ِّ َ‬
‫الِّص َ‬ ‫م‬
‫ري‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يم * ِِصاط‬ ‫ِ‬
‫رش‪ .‬ولعل هذا [املعىن] هو الرس يف كون أكرث أدعية األنبياء‬ ‫َ َم م ََ ه‬
‫الضالِّ َ‬ ‫ال م َم مغ ُ‬
‫ني}‬ ‫وب علي ِهم وَل‬ ‫ِ‬ ‫ض‬
‫بلفظ الرب‪ .‬فإن مطابلهم لكها داخلة حتت ربوبيته اخلاصة‪.‬‬
‫ه‬
‫فدل قوهل { َر ِّب الم َعالَم َ‬ ‫اَّلل} أي‪ :‬أبتدئ بكل اسم هلل تعاىل‪ ,‬ألن لفظ {اسم}‬
‫{ِمْسِب ِ‬
‫ني} ىلع انفراده باخللق واتلدبري‪ ,‬وانلعم‪,‬‬ ‫ِ‬ ‫ه‬
‫اَّلل} هو املألوه‬
‫مفرد مضاف‪ ,‬فيعم مجيع األسماء [اْلسىن]‪ِ { .‬‬
‫وكمال غناه‪ ,‬وتمام فقر العاملني إيله‪ ,‬بكل وجه واعتبار‪.‬‬
‫املعبود‪ ,‬املستحق إلفراده بالعبادة‪ ,‬ملا اتصف به من صفات‬
‫ين} املالك‪ :‬هو من اتصف بصفة امللك اليت من‬ ‫َ م ِّ‬ ‫َ‬ ‫ه مَ ه‬
‫{مال ِ ِك يومِ ادل ِ‬ ‫يم} اسمان داَلن‬
‫األلوهية ويه صفات الكمال‪{ .‬الرْح ِن الر ِح ِ‬
‫آثارها أنه يأمر وينىه‪ ,‬ويثيب ويعاقب‪ ,‬ويتِّصف بممايلكه‬ ‫ىلع أنه تعاىل ذو الرْحة الواسعة العظيمة اليت وسعت لك يشء‪,‬‬
‫جبميع أنواع اتلِّصفات‪ ,‬وأضاف امللك يلوم ادلين‪ ,‬وهو يوم‬ ‫وعمت لك يح‪ ,‬وكتبها للمتقني املتبعني ألنبيائه ورسله‪ .‬فهؤَلء‬
‫القيامة‪ ,‬يوم يدان انلاس فيه بأعماهلم‪ ,‬خريها ورشها‪ ,‬ألن يف‬ ‫هلم الرْحة املطلقة‪ ,‬ومن عداهم فلهم نصيب منها‪.‬‬
‫ذلك ايلوم‪ ,‬يظهر للخلق تمام الظهور‪ ,‬كمال ملكه وعدهل‬
‫واعلم أن من القواعد املتفق عليها بني سلف األمة وأئمتها‪,‬‬
‫وحكمته‪ ,‬وانقطاع أمالك اخلالئق‪ .‬حىت [إنه] يستوي يف ذلك‬
‫اإليمان بأسماء اهلل وصفاته‪ ,‬وأحاكم الصفات‪.‬‬
‫ايلوم‪ ,‬امللوك والراعيا والعبيد واألحرار‪.‬‬
‫فيؤمنون مثال‪ ,‬بأنه رْحن رحيم‪ ,‬ذو الرْحة اليت اتصف بها‪,‬‬
‫لكهم مذعنون لعظمته‪ ,‬خاضعون لعزته‪ ,‬منتظرون ملجازاته‪,‬‬
‫املتعلقة باملرحوم‪ .‬فانلعم لكها‪ ,‬أثر من آثار رْحته‪ ,‬وهكذا يف‬
‫راجون ثوابه‪ ,‬خائفون من عقابه‪ ,‬فذللك خصه باَّلكر‪ ,‬وإَل‪,‬‬
‫سائر األسماء‪ .‬يقال يف العليم‪ :‬إنه عليم ذو علم‪ ,‬يعلم [به] لك‬
‫فهو املالك يلوم ادلين ولغريه من األيام‪.‬‬
‫يشء‪ ,‬قدير‪ ,‬ذو قدرة يقدر ىلع لك يشء‪.‬‬
‫اك ن َ مستَع ُ‬
‫ني} أي‪ :‬خنصك وحدك بالعبادة‬ ‫اك َن معبُ ُد َوإيه َ‬
‫وقوهل {إيه َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫م م ُ ه‬
‫{اْلَمد ِ ِ‬
‫َّلل} [هو] اثلناء ىلع اهلل بصفات الكمال‪ ,‬وبأفعاهل‬
‫واَلستعانة‪ ,‬ألن تقديم املعمول يفيد اْلِّص‪ ,‬وهو إثبات‬ ‫ادلائرة بني الفضل والعدل‪ ,‬فله اْلمد الاكمل‪ ,‬جبميع الوجوه‪.‬‬
‫اْلكم للمذكور‪ ,‬ونفيه عما عداه‪ .‬فكأنه يقول‪ :‬نعبدك‪ ,‬وَل‬ ‫{ َر ِّب الم َعالَم َ‬
‫ني} الرب‪ ,‬هو املريب مجيع العاملني ‪-‬وهم من سوى‬ ‫ِ‬
‫نعبد غريك‪ ,‬ونستعني بك‪ ,‬وَل نستعني بغريك‪.‬‬ ‫اهلل‪ -‬خبلقه إياهم‪ ,‬وإعداده هلم اآلَلت‪ ,‬وإنعامه عليهم بانلعم‬
‫العظيمة‪ ,‬اليت لو فقدوها‪ ,‬لم يمكن هلم ابلقاء‪ .‬فما بهم من‬
‫وقدم العبادة ىلع اَلستعانة‪ ,‬من باب تقديم العام ىلع اخلاص‪,‬‬
‫نعمة‪ ,‬فمنه تعاىل‪.‬‬
‫واهتماما بتقديم حقه تعاىل ىلع حق عبده‪.‬‬
‫وتربيته تعاىل خللقه نواعن‪ :‬اعمة وخاصة‪.‬‬
‫و {العبادة} اسم جامع للك ما حيبه اهلل ويرضاه من األعمال‪,‬‬
‫واألقوال الظاهرة وابلاطنة‪ .‬و {اَلستعانة} يه اَلعتماد ىلع اهلل‬

‫‪3‬‬
‫من غري تعطيل وَل تمثيل وَل تشبيه‪ ,‬وقد دل ىلع ذلك لفظ‬ ‫تعاىل يف جلب املنافع‪ ,‬ودفع املضار‪ ,‬مع اثلقة به يف حتصيل‬
‫م َ‬ ‫م‬
‫{اْل َ مم ُد} كما تقدم‪ .‬وتضمنت إثبات انلبوة يف قوهل‪{ :‬اه ِدنا‬ ‫ذلك‪.‬‬
‫اط ال م ُم مستَق َ‬
‫يم} ألن ذلك ممتنع بدون الرسالة‪.‬‬ ‫ِّ َ‬
‫الِّص َ‬
‫ِ‬
‫والقيام بعبادة اهلل واَلستعانة به هو الوسيلة للسعادة األبدية‪,‬‬
‫ين} وأن‬ ‫َ م ِّ‬ ‫َ‬
‫وإثبات اجلزاء ىلع األعمال يف قوهل‪{ :‬مال ِ ِك يومِ ادل ِ‬ ‫وانلجاة من مجيع الرشور‪ ,‬فال سبيل إىل انلجاة إَل بالقيام بهما‪.‬‬
‫اجلزاء يكون بالعدل‪ ,‬ألن ادلين معناه اجلزاء بالعدل‪.‬‬ ‫وإنما تكون العبادة عبادة‪ ,‬إذا اكنت مأخوذة عن رسول اهلل‬
‫صىل اهلل عليه وسلم مقصودا بها وجه اهلل‪ .‬فبهذين األمرين‬
‫وتضمنت إثبات القدر‪ ,‬وأن العبد فاعل حقيقة‪ ,‬خالفا‬
‫تكون عبادة‪ ,‬وذكر {اَلستعانة} بعد {العبادة} مع دخوهلا فيها‪,‬‬
‫للقدرية واجلربية‪ .‬بل تضمنت الرد ىلع مجيع أهل ابلدع‬
‫اط ال م ُم مستَق َ‬ ‫م‬
‫اه ِدنَا ِّ َ‬
‫الِّص َ‬ ‫َلحتياج العبد يف مجيع عباداته إىل اَلستعانة باهلل تعاىل‪ .‬فإنه‬
‫يم} ألنه معرفة‬ ‫ِ‬ ‫[والضالل] يف قوهل‪{ :‬‬
‫إن لم يعنه اهلل‪ ,‬لم حيصل هل ما يريده من فعل األوامر‪,‬‬
‫اْلق والعمل به‪ .‬ولك مبتدع [وضال] فهو خمالف َّللك‪.‬‬
‫واجتناب انلوايه‪.‬‬
‫وتضمنت إخالص ادلين هلل تعاىل‪ ,‬عبادة واستعانة يف قوهل‪:‬‬ ‫اط ال م ُم مستَق َ‬ ‫م‬
‫اه ِدنَا ِّ َ‬
‫الِّص َ‬
‫اك ن َ مستَع ُ‬
‫اك َن معبُ ُد َوإيه َ‬
‫{ إي ه َ‬ ‫يم} أي‪ :‬دنلا وأرشدنا‪,‬‬ ‫ِ‬ ‫ثم قال تعاىل‪{ :‬‬
‫ني} فاْلمد هلل رب العاملني‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ووفقنا للِّصاط املستقيم‪ ,‬وهو الطريق الواضح املوصل إىل اهلل‪,‬‬
‫وإىل جنته‪ ,‬وهو معرفة اْلق والعمل به‪ ,‬فاهدنا إىل الِّصاط‬
‫واهدنا يف الِّصاط‪ .‬فاهلداية إىل الِّصاط‪ :‬لزوم دين اإلسالم‪,‬‬
‫تفسري سورة ابلقرة‬
‫وترك ما سواه من األديان‪ ,‬واهلداية يف الِّصاط‪ ,‬تشمل اهلداية‬
‫ويه مدنية‬ ‫جلميع اتلفاصيل ادلينية علما وعمال‪ .‬فهذا ادلاعء من أمجع‬
‫اب ََل َريم َ‬
‫ك المكتَ ُ‬‫َ َ‬ ‫ه‬ ‫{‪ِ{ }5 - 1‬مْسِب ه ه م َ‬ ‫األدعية وأنفعها للعبد وهلذا وجب ىلع اإلنسان أن يدعو اهلل‬
‫ب‬ ‫ِ‬ ‫يم الم * ذل ِ‬
‫اَّلل الرْح ِن الر ِح ِ‬‫ِ‬
‫َ‬
‫َ ُم ُ َ َم َُ ُ َ ه َ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫مُه َ‬ ‫ُ ً‬ ‫به يف لك ركعة من صالته‪ ,‬لرضورته إىل ذلك‪.‬‬
‫الصالة‬ ‫ب وي ِقيمون‬ ‫اَّلين يؤ ِمنون بِالغي ِ‬ ‫ِفي ِه هدى لِلمت ِقني * ِ‬
‫ُم َ َ َ‬ ‫َ ه ََمَ ُ م ُم ُ َ َ ه َ م َ‬ ‫َ َ ه َ َمَ م َ َ‬
‫ين يُؤ ِمنُون بِ َما أن ِزل ِإيلمك َو َما‬ ‫اَّل‬
‫و ِمما رزقناهم ين ِفقون * و ِ‬ ‫ت َعليم ِه مم} من‬ ‫اَّلين أنعم‬
‫وهذا الِّصاط املستقيم هو‪ِِ { :‬صاط ِ‬
‫َ َ َ ُ ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ م ُ ُ َ‬ ‫م‬ ‫ُم َ م َ م َ‬ ‫مَ‬
‫وَلك َىلع هدى ِم من‬ ‫أن ِزل ِمن قب ِلك َوبِاآل ِخ َر ِة هم يوقِنون * أ ِ‬ ‫ري} ِصاط‬ ‫انلبيني والصديقني والشهداء والصاْلني‪{ .‬غ ِ‬
‫َ ِّ م َ ُ َ َ ُ ُ م ُ م ُ َ‬ ‫َ‬ ‫مَ م ُ‬
‫حون}‬ ‫وَلك هم المف ِل‬
‫رب ِهم وأ ِ‬ ‫وب َعليم ِه مم} اَّلين عرفوا اْلق وتركوه اكيلهود وحنوهم‪.‬‬
‫{المغض ِ‬
‫ني} اَّلين تركوا اْلق ىلع جهل وضالل‪,‬‬ ‫الضالِّ َ‬
‫ه‬
‫وغري ِصاط {‬
‫تقدم الالكم ىلع البسملة‪ .‬وأما اْلروف املقطعة يف أوائل‬
‫اكنلصارى وحنوهم‪.‬‬
‫السور‪ ,‬فاألسلم فيها‪ ,‬السكوت عن اتلعرض ملعناها [من غري‬
‫مستند رشيع]‪ ,‬مع اجلزم بأن اهلل تعاىل لم يزنهلا عبثا بل‬ ‫فهذه السورة ىلع إجيازها‪ ,‬قد احتوت ىلع ما لم حتتو عليه سورة‬
‫ْلكمة َل نعلمها‪.‬‬ ‫من سور القرآن‪ ,‬فتضمنت أنواع اتلوحيد اثلالثة‪ :‬توحيد‬
‫الربوبية يؤخذ من قوهل‪َ { :‬ر ِّب الم َعالَم َ‬
‫ني}‬
‫ك المكتَ ُ‬
‫اب} أي هذا الكتاب العظيم اَّلي هو‬
‫َ َ‬ ‫ِ‬
‫ِ‬ ‫وقوهل {ذل ِ‬
‫الكتاب ىلع اْلقيقة‪ ,‬املشتمل ىلع ما لم تشتمل عليه كتب‬ ‫ه‬
‫اَّلل}‬
‫وتوحيد اإلهلية وهو إفراد اهلل بالعبادة‪ ,‬يؤخذ من لفظ‪ِ { :‬‬
‫ه َ َم‬
‫املتقدمني واملتأخرين من العلم العظيم‪,‬‬ ‫اك نعبُ ُد} وتوحيد األسماء والصفات‪ ,‬وهو إثبات‬ ‫ومن قوهل‪{ :‬إِي‬
‫صفات الكمال هلل تعاىل‪ ,‬اليت أثبتها نلفسه‪ ,‬وأثبتها هل رسوهل‬
‫‪4‬‬
‫حقيقة اإليمان‪ :‬هو اتلصديق اتلام بما أخربت به الرسل‪,‬‬ ‫واْلق املبني‪ .‬فـ { ََل َريم َ‬
‫ب ِفي ِه} وَل شك بوجه من الوجوه‪ ،‬ونيف‬
‫املتضمن َلنقياد اجلوارح‪ ،‬وليس الشأن يف اإليمان باألشياء‬ ‫الريب عنه‪ ,‬يستلزم ضده‪ ,‬إذ ضد الريب والشك ايلقني‪ ،‬فهذا‬
‫املشاهدة باْلس‪ ,‬فإنه َل يتمزي بها املسلم من الاكفر‪ .‬إنما‬ ‫الكتاب مشتمل ىلع علم ايلقني املزيل للشك والريب‪ .‬وهذه‬
‫الشأن يف اإليمان بالغيب‪ ,‬اَّلي لم نره ولم نشاهده‪ ,‬وإنما نؤمن‬ ‫قاعدة مفيدة‪ ,‬أن انليف املقصود به املدح‪َ ,‬ل بد أن يكون‬
‫به‪ ,‬خلرب اهلل وخرب رسوهل‪ .‬فهذا اإليمان اَّلي يمزي به املسلم من‬ ‫متضمنا لضدة‪ ,‬وهو الكمال‪ ,‬ألن انليف عدم‪ ,‬والعدم املحض‪,‬‬
‫الاكفر‪ ,‬ألنه تصديق جمرد هلل ورسله‪ .‬فاملؤمن يؤمن بكل ما‬ ‫َل مدح فيه‪.‬‬
‫أخرب اهلل به‪ ,‬أو أخرب به رسوهل‪ ,‬سواء شاهده‪ ,‬أو لم يشاهده‬
‫فلما اشتمل ىلع ايلقني واكنت اهلداية َل حتصل إَل بايلقني قال‪:‬‬
‫وسواء فهمه وعقله‪ ,‬أو لم يهتد إيله عقله وفهمه‪ .‬خبالف‬ ‫{ ُه ًدى للم ُم هتق َ‬
‫ني} واهلدى‪ :‬ما حتصل به اهلداية من الضاللة‬ ‫ِ ِ‬
‫الزنادقة واملكذبني باألمور الغيبية‪ ,‬ألن عقوهلم القاِصة‬ ‫ُ ً‬
‫والشبه‪ ،‬وما به اهلداية إىل سلوك الطرق انلافعة‪ .‬وقال {هدى}‬
‫املقِّصة لم تهتد إيلها فكذبوا بما لم حييطوا بعلمه ففسدت‬
‫وحذف املعمول‪ ,‬فلم يقل هدى للمصلحة الفالنية‪ ,‬وَل‬
‫عقوهلم‪ ,‬ومرجت أحالمهم‪ .‬وزكت عقول املؤمنني املصدقني‬
‫لليشء الفالين‪ ,‬إلرادة العموم‪ ,‬وأنه هدى جلميع مصالح‬
‫املهتدين بهدى اهلل‪.‬‬
‫ادلارين‪ ،‬فهو مرشد للعباد يف املسائل األصويلة والفروعية‪,‬‬
‫ويدخل يف اإليمان بالغيب‪[ ,‬اإليمان بـ] جبميع ما أخرب اهلل به‬ ‫ومبني للحق من ابلاطل‪ ,‬والصحيح من الضعيف‪ ,‬ومبني هلم‬
‫من الغيوب املاضية واملستقبلة‪ ,‬وأحوال اآلخرة‪ ,‬وحقائق‬ ‫كيف يسلكون الطرق انلافعة هلم‪ ,‬يف دنياهم وأخراهم‪.‬‬
‫أوصاف اهلل وكيفيتها‪[ ,‬وما أخربت به الرسل من ذلك]‬ ‫ه‬ ‫ُ ً‬
‫اس} فعمم‪ .‬ويف هذا املوضع‬
‫وقال يف موضع آخر‪{ :‬هدى لِلن ِ‬
‫فيؤمنون بصفات اهلل ووجودها‪ ,‬ويتيقنونها‪ ,‬وإن لم يفهموا‬ ‫وغريه { ُه ًدى للم ُم هتق َ‬
‫ني} ألنه يف نفسه هدى جلميع‬ ‫ِ ِ‬
‫كيفيتها‪.‬‬
‫اخللق‪.‬فاألشقياء لم يرفعوا به رأسا‪ .‬ولم يقبلوا هدى اهلل‪,‬‬
‫َُ ُ َ ه َ َ‬
‫الصالة} لم يقل‪ :‬يفعلون الصالة‪ ,‬أو يأتون‬ ‫ثم قال‪{ :‬وي ِقيمون‬ ‫فقامت عليهم به اْلجة‪ ,‬ولم ينتفعوا به لشقائهم‪ ،‬وأما املتقون‬
‫بالصالة‪ ,‬ألنه َل يكيف فيها جمرد اإلتيان بصورتها الظاهرة‪.‬‬ ‫اَّلين أتوا بالسبب األكرب‪ْ ,‬لصول اهلداية‪ ,‬وهو اتلقوى اليت‬
‫فإقامة الصالة‪ ,‬إقامتها ظاهرا‪ ,‬بإتمام أراكنها‪ ,‬وواجباتها‪,‬‬ ‫حقيقتها‪ :‬اختاذ ما ييق سخط اهلل وعذابه‪ ,‬بامتثال أوامره‪,‬‬
‫ورشوطها‪ .‬وإقامتها باطنا بإقامة روحها‪ ,‬وهو حضور القلب‬ ‫واجتناب انلوايه‪ ,‬فاهتدوا به‪ ,‬وانتفعوا اغية اَلنتفاع‪ .‬قال‬
‫هَ َم م َ ُ ُ َ ً‬ ‫م َ ُ‬ ‫َ َ ُّ َ ه‬
‫فيها‪ ,‬وتدبر ما يقوهل ويفعله منها‪ ،‬فهذه الصالة يه اليت قال‬ ‫اَّلل جي َعل لك مم ف مرقانا}‬ ‫آمنُوا ِإن ت هتقوا‬
‫ين َ‬
‫اَّل َ‬
‫تعاىل‪{ :‬يا أيها ِ‬
‫م م َ‬ ‫مَ م َ‬ ‫ه ه َ َ َمَ‬
‫الصالة تنىه َع ِن الفحشا ِء َوال ُمنك ِر} ويه اليت‬ ‫اهلل فيها‪ِ { :‬إن‬ ‫فاملتقون هم املنتفعون باآليات القرآنية‪ ,‬واآليات الكونية‪.‬‬
‫يرتتب عليها اثلواب‪ .‬فال ثواب لإلنسان من صالته‪ ,‬إَل ما‬
‫وألن اهلداية نواعن‪ :‬هداية ابليان‪ ,‬وهداية اتلوفيق‪ .‬فاملتقون‬
‫عقل منها‪ ،‬ويدخل يف الصالة فرائضها ونوافلها‪.‬‬
‫حصلت هلم اهلدايتان‪ ,‬وغريهم لم حتصل هلم هداية اتلوفيق‪.‬‬
‫مَ ُ ُم ُ َ‬
‫ثم قال‪َ { :‬و ِم هما َر َزقناه مم ين ِفقون} يدخل فيه انلفقات الواجبة‬ ‫وهداية ابليان بدون توفيق للعمل بها‪ ,‬ليست هداية حقيقية‬
‫اكلزاكة‪ ,‬وانلفقة ىلع الزوجات واألقارب‪ ,‬واملمايلك وحنو ذلك‪.‬‬ ‫[تامة]‪.‬‬
‫وانلفقات املستحبة جبميع طرق اخلري‪ .‬ولم يذكر املنفق عليهم‪,‬‬
‫ثم وصف املتقني بالعقائد واألعمال ابلاطنة‪ ,‬واألعمال‬
‫لكرثة أسبابه وتنوع أهله‪ ,‬وألن انلفقة من حيث يه‪ ,‬قربة إىل‬ ‫ه َ ُم ُ َ‬
‫ون بالم َغيم‬
‫ب}‬
‫ِ‬ ‫اَّلين يؤ ِمن ِ‬
‫الظاهرة‪ ,‬تلضمن اتلقوى َّللك فقال‪ِ { :‬‬
‫اهلل‪ ،‬وأىت بـ " من " ادلالة ىلع اتلبعيض‪ ,‬يلنبههم أنه لم يرد منهم‬
‫‪5‬‬
‫والعمل‪ ،‬و " ايلقني " هو العلم اتلام اَّلي ليس فيه أدىن شك‪,‬‬ ‫إَل جزءا يسريا من أمواهلم‪ ,‬غري ضار هلم وَل مثقل‪ ,‬بل‬
‫املوجب للعمل‪.‬‬ ‫ينتفعون هم بإنفاقه‪ ,‬وينتفع به إخوانهم‪.‬‬

‫َ ُ ً‬ ‫ُ َ َ‬ ‫مَ ُ‬
‫وَلك} أي‪ :‬املوصوفون بتلك الصفات اْلميدة { َىلع هدى‬ ‫{أ ِ‬ ‫ويف قوهل‪َ { :‬ر َزقناه مم} إشارة إىل أن هذه األموال اليت بني‬
‫ِم من َر ِّب ِه مم} أي‪ :‬ىلع هدى عظيم‪ ,‬ألن اتلنكري للتعظيم‪ ،‬وأي‬ ‫أيديكم‪ ,‬ليست حاصلة بقوتكم وملككم‪ ,‬وإنما يه رزق‬
‫هداية أعظم من تلك الصفات املذكورة املتضمنة للعقيدة‬ ‫اهلل اَّلي خولكم‪ ,‬وأنعم به عليكم‪ ،‬فكما أنعم عليكم‬
‫الصحيحة واألعمال املستقيمة‪ ،‬وهل اهلداية [اْلقيقية] إَل‬ ‫وفضلكم ىلع كثري من عباده‪ ,‬فاشكروه بإخراج بعض ما‬
‫هدايتهم‪ ،‬وما سواها [مما خالفها]‪ ،‬فهو ضاللة‪.‬‬ ‫أنعم به عليكم‪ ,‬وواسوا إخوانكم املعدمني‪.‬‬

‫وأىت بـ " ىلع " يف هذا املوضع‪ ,‬ادلالة ىلع اَلستعالء‪ ,‬ويف الضاللة‬ ‫وكثريا ما جيمع تعاىل بني الصالة والزاكة يف القرآن‪ ,‬ألن الصالة‬
‫ُ َ َ ُ ً َ‬ ‫ه َ‬
‫يأيت بـ " يف " كما يف قوهل‪َ { :‬و ِإنا أ مو إِيهاك مم ل َعىل هدى أ مو ِيف‬ ‫متضمنة لإلخالص للمعبود‪ ,‬والزاكة وانلفقة متضمنة لإلحسان‬
‫ني} ألن صاحب اهلدى مستعل باهلدى‪ ,‬مرتفع به‪,‬‬ ‫َ َ ُ‬
‫ضال ٍل م ِب ٍ‬ ‫ىلع عبيده‪ ،‬فعنوان سعادة العبد إخالصه للمعبود‪ ,‬وسعيه يف‬
‫وصاحب الضالل منغمس فيه حمتقر‪.‬‬ ‫نفع اخللق‪ ،‬كما أن عنوان شقاوة العبد عدم هذين األمرين‬

‫َُ َ َ ُ ُ مُ م ُ َ‬ ‫منه‪ ,‬فال إخالص وَل إحسان‪.‬‬


‫حون} والفالح [هو] الفوز‬ ‫وَلك هم المف ِل‬
‫ثم قال‪{ :‬وأ ِ‬
‫ُم َ َ َ‬ ‫َ ه َ م َ‬
‫باملطلوب وانلجاة من املرهوب‪ ،‬حِّص الفالح فيهم؛ ألنه َل‬ ‫ين يُؤ ِمنُون بِ َما أن ِزل ِإيلمك} وهو القرآن والسنة‪،‬‬ ‫اَّل‬
‫ثم قال‪{ :‬و ِ‬
‫م‬
‫َ مََ هُ َ َم َ م َ َ َ م َ‬ ‫َ‬
‫سبيل إىل الفالح إَل بسلوك سبيلهم‪ ,‬وما عدا تلك السبيل‪,‬‬ ‫اْلك َمة} فاملتقون‬
‫كتاب و ِ‬‫قال تعاىل‪{ :‬وأنزل اَّلل عليك ال ِ‬
‫فيه سبل الشقاء واهلالك واخلسار اليت تفيض بسالكها إىل‬ ‫يؤمنون جبميع ما جاء به الرسول‪ ,‬وَل يفرقون بني بعض ما‬
‫اهلالك‪.‬‬ ‫أنزل إيله‪ ,‬فيؤمنون ببعضه‪ ,‬وَل يؤمنون ببعضه‪ ,‬إما جبحده أو‬
‫ََم َ َ َ َ‬ ‫ه ه َ ََُ َ َ ٌ َ‬ ‫تأويله‪ ,‬ىلع غري مراد اهلل ورسوهل‪ ,‬كما يفعل ذلك من يفعله‬
‫اء َعليم ِه مم أأنذ مرت ُه مم أ مم ل مم‬ ‫اَّلين كفروا سو‬ ‫{‪ِ { }7 - 6‬إن ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُم مُ م َ ُم ُ َ َ ََ هُ َ ُ‬ ‫من املبتدعة‪ ,‬اَّلين يؤولون انلصوص ادلالة ىلع خالف قوهلم‪,‬‬
‫اَّلل َىلع قلوبِ ِه مم َو َىلع َس مم ِع ِه مم َو َىلع‬ ‫تن ِذرهم َل يؤ ِمنون * ختم‬
‫اب َعظ ٌ‬
‫يم}‬ ‫ِ‬ ‫أَبم َصار ِه مم ِغ َش َ‬
‫او ٌة َول َ ُه مم َع َذ ٌ‬ ‫بما حاصله عدم اتلصديق بمعناها‪ ,‬وإن صدقوا بلفظها‪ ,‬فلم‬
‫ِ‬
‫يؤمنوا بها إيمانا حقيقيا‪.‬‬
‫فلهذا ملا ذكر صفات املؤمنني حقا‪ ,‬ذكر صفات الكفار‬ ‫َ َ‬ ‫ُم َ‬
‫اَّل َ‬ ‫ه ه‬ ‫وقوهل‪َ { :‬و َما أن ِزل ِم من قبم ِلك} يشمل اإليمان بالكتب السابقة‪،‬‬
‫ين‬ ‫املظهرين لكفرهم‪ ،‬املعاندين للرسول فقال‪ِ { :‬إن ِ‬
‫ََم َ َ َ َ ُ م ُ َ م َ َ‬ ‫َ َُ َ َ ٌ َ‬ ‫ويتضمن اإليمان بالكتب اإليمان بالرسل وبما اشتملت عليه‪,‬‬
‫اء َعليم ِه مم أأنذ مرت ُه مم أ مم ل مم تن ِذ مره مم َل يُؤ ِمنُون ختَ َم‬‫كفروا سو‬
‫م َ ٌَ َ‬ ‫َ‬
‫هُ ََ ُُ م َ ََ َ م م َ ََ م َ‬ ‫خصوصا اتلوراة واإلجنيل والزبور‪ ،‬وهذه خاصية املؤمنني‬
‫اوة َول ُه مم‬‫ار ِهم ِغش‬ ‫اَّلل ىلع قلوبِ ِهم وىلع سم ِع ِهم وىلع أبص ِ‬
‫َع َذ ٌ‬
‫اب َعظ ٌ‬ ‫يؤمنون جبميع الكتب السماوية وجبميع الرسل فال يفرقون‬
‫يم} خيرب تعاىل أن اَّلين كفروا‪ ,‬أي‪ :‬اتصفوا‬ ‫ِ‬
‫بني أحد منهم‪.‬‬
‫بالكفر‪ ,‬وانصبغوا به‪ ,‬وصار وصفا هلم َلزما‪َ ,‬ل يردعهم عنه‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫م‬
‫رادع‪ ,‬وَل ينجع فيهم وعظ‪ ،‬إنهم مستمرون ىلع كفرهم‪,‬‬ ‫ثم قال‪َ { :‬وبِاآل ِخ َر ِة ه مم يُوقِنُون} و " اآلخرة " اسم ملا يكون بعد‬
‫فسواء عليهم أأنذرتهم‪ ,‬أم لم تنذرهم َل يؤمنون‪ ،‬وحقيقة‬ ‫املوت‪ ،‬وخصه [باَّلكر] بعد العموم‪ ,‬ألن اإليمان بايلوم اآلخر‪,‬‬
‫الكفر‪ :‬هو اجلحود ملا جاء به الرسول‪ ,‬أو جحد بعضه‪ ،‬فهؤَلء‬ ‫أحد أراكن اإليمان؛ وألنه أعظم باعث ىلع الرغبة والرهبة‬
‫الكفار َل تفيدهم ادلعوة إَل إقامة اْلجة‪ ,‬وكأن يف هذا قطعا‬
‫‪6‬‬
‫انلفاق موجودا قبل هجرة الرسول صىل اهلل عليه وسلم [من‬ ‫لطمع الرسول صىل اهلل عليه وسلم يف إيمانهم‪ ,‬وأنك َل تأس‬
‫مكة] إىل املدينة‪ ,‬وبعد أن هاجر‪ ,‬فلما اكنت وقعة " بدر‬ ‫عليهم‪ ,‬وَل تذهب نفسك عليهم حرسات‪.‬‬
‫" وأظهر اهلل املؤمنني وأعزهم‪ ،‬ذل من يف املدينة ممن لم يسلم‪,‬‬ ‫َ ََ هُ َ‬
‫اَّلل َىلع‬ ‫املوانع املانعة هلم من اإليمان فقال‪{ :‬ختم‬
‫ثم ذكر‬
‫فأظهر بعضهم اإلسالم خوفا وخمادعة‪ ,‬وتلحقن دماؤهم‪,‬‬ ‫َ‬ ‫ُُ‬
‫َو َىلع َس مم ِع ِه مم} أي‪ :‬طبع عليها بطابع َل يدخلها‬
‫قلوبِ ِه مم‬
‫وتسلم أمواهلم‪ ,‬فاكنوا بني أظهر املسلمني يف الظاهر أنهم منهم‪,‬‬
‫اإليمان‪ ,‬وَل ينفذ فيها‪ ،‬فال يعون ما ينفعهم‪ ,‬وَل يسمعون ما‬
‫ويف اْلقيقة ليسوا منهم‪.‬‬
‫يفيدهم‪.‬‬
‫فمن لطف اهلل باملؤمنني‪ ,‬أن جال أحواهلم ووصفهم بأوصاف‬ ‫م َ ٌَ‬
‫اوة} أي‪ :‬غشاء وغطاء وأكنة تمنعها عن‬‫ار ِهم ِغش‬ ‫ىلع أَبم َ‬
‫ص‬
‫َ ََ‬
‫{و‬
‫ِ‬
‫يتمزيون بها‪َ ,‬لال يغرت بهم املؤمنون‪ ,‬ويلنقمعوا أيضا عن كثري‬
‫َم َ ُ مُ َ ُ َ َ م َُه َ َ‬ ‫انلظر اَّلي ينفعهم‪ ,‬وهذه طرق العلم واخلري‪ ,‬قد سدت عليهم‪,‬‬
‫زنل َعليم ِه مم‬ ‫من فجورهم [قال تعاىل]‪{ :‬حيذر المنافِقون أن ت‬
‫ُُ‬ ‫ُ ٌَ َُ‬ ‫فال مطمع فيهم‪ ,‬وَل خري يرىج عندهم‪ ،‬وإنما منعوا ذلك‪,‬‬
‫ورة تنبِّئُ ُه مم بِ َما ِيف قلوبِ ِه مم} فوصفهم اهلل بأصل انلفاق فقال‪:‬‬ ‫س‬
‫ُ‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫َه‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫َ م ُ‬ ‫وسدت عنهم أبواب اإليمان بسبب كفرهم وجحودهم‬
‫اَّلل َوبِايلَ مومِ اآل ِخ ِر َو َما ه مم‬
‫اس من يقول آمنا بِ ِ‬
‫{ َو ِم َن ه‬
‫انل ِ‬ ‫ومعاندتهم بعد ما تبني هلم اْلق‪ ,‬كما قال تعاىل‪َ { :‬و ُن َقلِّ ُ‬
‫ب ُم مؤمن َ‬ ‫ب‬
‫ني} فإنهم يقولون بألسنتهم ما ليس يف قلوبهم‪ ،‬فأكذبهم‬ ‫ِ ِِ‬ ‫َ َ‬ ‫َم َ َ ُ م ََم َ َ ُ َ َ م‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫اهلل بقوهل‪َ { :‬و َما ه مم ب ُمؤمن َ‬ ‫اره مم ك َما ل مم يُؤ ِمنُوا بِ ِه أ هول َم هر ٍة} وهذا عقاب‬ ‫أف ِئدتهم وأبص‬
‫ني} ألن اإليمان اْلقييق‪ ,‬ما تواطأ‬ ‫ِ ِِ‬
‫اعجل‪.‬‬
‫عليه القلب واللسان‪ ,‬وإنما هذا خمادعة هلل ولعباده املؤمنني‪.‬‬
‫ثم ذكر العقاب اآلجل‪ ،‬فقال‪َ { :‬ول َ ُه مم َع َذ ٌ‬
‫اب َعظ ٌ‬
‫يم} وهو عذاب‬ ‫ِ‬
‫واملخادعة‪ :‬أن يظهر املخادع ملن خيادعه شيئا‪ ,‬ويبطن خالفه‬
‫انلار‪ ,‬وسخط اجلبار املستمر ادلائم‪.‬‬
‫ليك يتمكن من مقصوده ممن خيادع‪ ،‬فهؤَلء املنافقون‪ ,‬سلكوا‬
‫مع اهلل وعباده هذا املسلك‪ ,‬فعاد خداعهم ىلع أنفسهم‪،‬‬ ‫ثم قال تعاىل يف وصف املنافقني اَّلين ظاهرهم اإلسالم‬
‫فإن هذا من العجائب؛ ألن املخادع‪ ,‬إما أن ينتج خداعه‬ ‫وباطنهم الكفر فقال‪:‬‬
‫وحيصل هل ما يريد أو يسلم‪َ ,‬ل هل وَل عليه‪ ،‬وهؤَلء اعد‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫َ م َُ ُ َه ه‬
‫اَّلل َوبِايلَ مومِ اآل ِخ ِر َو َما‬
‫اس من يقول آمنا بِ ِ‬
‫{‪َ { }10 - 8‬و ِم َن ه‬
‫انل ِ‬
‫خداعهم عليهم‪ ,‬وكأنهم يعملون ما يعملون من املكر إلهالك‬ ‫َمَ َ ه‬ ‫ُ م ُ م َ َُ ُ َ هَ ه‬
‫آمنُوا َو َما خيد ُعون إَِل‬ ‫ين َ‬
‫اَّل َ‬
‫هم بِمؤ ِم ِنني * خيا ِدعون اَّلل َو ِ‬
‫أنفسهم وإرضارها وكيدها؛ ألن اهلل تعاىل َل يترضر خبداعهم‬ ‫ُُ م َ َ ٌ ََ َ ُ ُ هُ َ َ ً‬ ‫َمُ َ ُ م َ َ َم ُ ُ َ‬
‫أنفسهم وما يشعرون * ِيف قلوبِ ِهم مرض فزادهم اَّلل مرضا‬
‫[شيئا] وعباده املؤمنون‪َ ,‬ل يرضهم كيدهم شيئا‪ ،‬فال يرض‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫َ ُ‬ ‫ََُ م َ َ ٌ َ‬
‫اب أ ِيل ٌم بِ َما اكنوا يَك ِذبُون}‬ ‫ولهم عذ‬
‫املؤمنني أن أظهر املنافقون اإليمان‪ ,‬فسلمت بذلك أمواهلم‬
‫وحقنت دماؤهم‪ ,‬وصار كيدهم يف حنورهم‪ ,‬وحصل هلم بذلك‬ ‫واعلم أن انلفاق هو‪ :‬إظهار اخلري وإبطان الرش‪ ،‬ويدخل يف هذا‬
‫اخلزي والفضيحة يف ادلنيا‪ ,‬واْلزن املستمر بسبب ما حيصل‬ ‫اتلعريف انلفاق اَلعتقادي‪ ,‬وانلفاق العميل‪ ،‬اكَّلي ذكر انليب‬
‫للمؤمنني من القوة وانلِّصة‪.‬‬ ‫صىل اهلل عليه وسلم يف قوهل‪ " :‬آية املنافق ثالت‪ :‬إذا حدث‬
‫كذب‪ ,‬وإذا وعد أخلف‪ ,‬وإذا اؤتمن خان " ويف رواية‪ " :‬وإذا‬
‫ثم يف اآلخرة هلم العذاب األيلم املوجع املفجع‪ ,‬بسبب كذبهم‬
‫خاصم فجر "‬
‫وكفرهم وفجورهم‪ ,‬واْلال أنهم من جهلهم وْحاقتهم َل‬
‫يشعرون بذلك‪.‬‬ ‫وأما انلفاق اَلعتقادي املخرج عن دائرة اإلسالم‪ ,‬فهو اَّلي‬
‫وصف اهلل به املنافقني يف هذه السورة وغريها‪ ،‬ولم يكن‬
‫‪7‬‬
‫ٌ‬ ‫ُُ‬
‫قلب اهلل عليهم دعواهم بقوهل‪{ :‬أَل إنهم هم املفسدون} فإنه‬ ‫وقوهل‪ِ { :‬يف قلوبِ ِه مم َم َرض} واملراد باملرض هنا‪ :‬مرض الشك‬
‫َل أعظم فسادا ممن كفر بآيات اهلل‪ ,‬وصد عن سبيل اهلل‪،‬‬ ‫والشبهات وانلفاق‪ ،‬ألن القلب يعرض هل مرضان خيرجانه‬
‫وخادع اهلل وأويلاءه‪ ,‬وواىل املحاربني هلل ورسوهل‪ ,‬وزعم مع‬ ‫عن صحته واعتداهل‪ :‬مرض الشبهات ابلاطلة‪ ,‬ومرض‬
‫ذلك أن هذا إصالح‪ ,‬فهل بعد هذا الفساد فساد؟" ولكن َل‬ ‫الشهوات املردية‪ ،‬فالكفر وانلفاق والشكوك وابلدع‪ ,‬لكها من‬
‫يعلمون علما ينفعهم‪ ,‬وإن اكنوا قد علموا بذلك علما تقوم به‬ ‫مرض الشبهات‪ ،‬والزنا‪ ,‬وحمبة [الفواحش و]املعايص وفعلها‪,‬‬
‫َم‬ ‫ََم ََ ه‬
‫عليهم حجة اهلل‪ ،‬وإنما اكن العمل باملعايص يف األرض إفسادا‪,‬‬ ‫اَّلي ِيف قل ِب ِه‬
‫من مرض الشهوات ‪ ،‬كما قال تعاىل‪{ :‬فيطمع ِ‬
‫ٌ‬
‫ألنه يتضمن فساد ما ىلع وجه األرض من اْلبوب واثلمار‬ ‫َم َرض} ويه شهوة الزنا‪ ،‬واملعاىف من عويف من هذين املرضني‪,‬‬
‫حيصل فيها من اآلفات‬ ‫واألشجار‪ ,‬وانلبات‪ ,‬بما‬ ‫فحصل هل ايلقني واإليمان‪ ,‬والصرب عن لك معصية‪ ,‬فرفل يف‬
‫بسبب املعايص‪ ،‬وألن اإلصالح يف األرض أن تعمر بطاعة اهلل‬ ‫أثواب العافية‪.‬‬
‫واإليمان به‪ ,‬هلذا خلق اهلل اخللق‪ ,‬وأسكنهم يف األرض‪ ,‬وأدر‬ ‫ُُ م َ َ ٌ ََ َ ُ ُ هُ ً‬
‫اَّلل َم َرضا}‬ ‫ويف قوهل عن املنافقني‪ِ { :‬يف قلوبِ ِهم مرض فزادهم‬
‫هلم األرزاق‪ ,‬ليستعينوا بها ىلع طاعته [وعبادته]‪ ،‬فإذا عمل‬
‫بيان ْلكمته تعاىل يف تقدير املعايص ىلع العاصني‪ ,‬وأنه بسبب‬
‫فيها بضده‪ ,‬اكن سعيا فيها بالفساد فيها‪ ,‬وإخرابا هلا عما‬
‫ذنوبهم السابقة‪ ,‬يبتليهم باملعايص الالحقة املوجبة لعقوباتها‬
‫خلقت هل‪.‬‬ ‫َ ُ َ ِّ ُ َ م َ َ ُ م َ َ م َ َ ُ َ َ م‬
‫اره مم ك َما ل مم يُؤ ِمنُوا بِ ِه‬ ‫كما قال تعاىل‪{ :‬ونقلب أف ِئدتهم وأبص‬
‫اس قَالُوا أَنُ مؤم ُن َك َما َ‬
‫آم َن‬ ‫انل ُ‬ ‫يل ل َ ُه مم آمنُوا َك َما َ‬
‫آم َن ه‬ ‫َ َ َ‬
‫{‪{ }13‬و ِإذا ِق‬ ‫وب ُه مم} وقال‬ ‫اَّلل قُلُ َ‬
‫غ هُ‬ ‫ََه َ ُ ََ َ‬ ‫َ َ‬
‫أ هول َم هر ٍة} وقال تعاىل‪{ :‬فلما زاغوا أزا‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َمَ َ‬ ‫ُّ َ َ ُ َ َ ه ُ م ُ ُ ُّ َ َ ُ َ َ‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫ٌ َ َم‬ ‫ُُ‬ ‫َه ه‬
‫ك من َل يعل ُمون}‬ ‫اء ول ِ‬ ‫السفهاء أَل ِإنهم هم السفه‬ ‫ين ِيف قلوبِ ِه مم َم َرض ف َزادت ُه مم ِرج ًسا ِإىل‬ ‫اَّل َ‬
‫تعاىل‪َ { :‬وأما ِ‬
‫م‬
‫ِرج ِس ِه مم} فعقوبة املعصية‪ ,‬املعصية بعدها‪ ,‬كما أن من ثواب‬
‫أي‪ :‬إذا قيل للمنافقني آمنوا كما آمن انلاس‪ ,‬أي‪ :‬كإيمان‬ ‫ََ ُ هُ ه َ م َ‬
‫ين اهتَد موا‬ ‫اَّل‬
‫اْلسنة‪ ,‬اْلسنة بعدها‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬وي ِزيد اَّلل ِ‬
‫الصحابة ريض اهلل عنهم‪ ،‬وهو اإليمان بالقلب واللسان‪ ,‬قالوا‬ ‫ُ ً‬
‫هدى}‬
‫بزعمهم ابلاطل‪ :‬أنؤمن كما آمن السفهاء؟ يعنون ‪ -‬قبحهم اهلل‬
‫َ ُ ه َم‬ ‫مَ‬ ‫َ َ َ َ ُم‬
‫‪ -‬الصحابة ريض اهلل عنهم‪ ,‬بزعمهم أن سفههم أوجب هلم‬ ‫{‪َ { }12 - 11‬و ِإذا ِقيل ل ُه مم َل تف ِس ُدوا ِيف األ مر ِض قالوا إِن َما حن ُن‬
‫ُ م ُ َ ََ ه ُ م ُ ُ مُ م ُ َ َ َ م َ َ م ُ ُ َ‬
‫اإليمان‪ ,‬وترك األوطان‪ ,‬ومعاداة الكفار‪ ،‬والعقل عندهم‬ ‫كن َل يشعرون}‬ ‫مص ِلحون * أَل إِنهم هم المف ِسدون ول ِ‬
‫يقتيض ضد ذلك‪ ,‬فنسبوهم إىل السفه; ويف ضمنه أنهم هم‬
‫أي‪ :‬إذا نيه هؤَلء املنافقون عن اإلفساد يف األرض‪ ,‬وهو العمل‬
‫العقالء أرباب اْلىج وانلىه‪.‬‬
‫بالكفر واملعايص‪ ,‬ومنه إظهار رسائر املؤمنني لعدوهم‬
‫َ ُ ه َ َم ُ ُ م ُ َ‬
‫فرد اهلل ذلك عليهم‪ ,‬وأخرب أنهم هم السفهاء ىلع اْلقيقة‪ ,‬ألن‬ ‫حون} فجمعوا بني‬ ‫ومواَلتهم للاكفرين {قالوا ِإنما حنن مص ِل‬
‫حقيقة السفه جهل اإلنسان بمصالح نفسه‪ ,‬وسعيه فيما‬ ‫العمل بالفساد يف األرض‪ ,‬وإظهارهم أنه ليس بإفساد بل هو‬
‫يرضها‪ ,‬وهذه الصفة منطبقة عليهم وصادقة عليهم‪ ،‬كما أن‬ ‫إصالح‪ ,‬قلبا للحقائق‪ ,‬ومجعا بني فعل ابلاطل واعتقاده حقا‪،‬‬
‫العقل واْلجا‪ ,‬معرفة اإلنسان بمصالح نفسه‪ ,‬والسيع فيما‬ ‫وهذا أعظم جناية ممن يعمل باملعصية‪ ,‬مع اعتقاد أنها‬
‫ينفعه‪ ,‬و[يف] دفع ما يرضه‪ ،‬وهذه الصفة منطبقة ىلع [الصحابة‬ ‫معصية فهذا أقرب للسالمة‪ ,‬وأرىج لرجوعه‪.‬‬
‫و]املؤمنني وصادقة عليهم‪ ،‬فالعربة باألوصاف والربهان‪َ ,‬ل‬ ‫ه َ َم ُ ُ م ُ َ‬
‫حون} حِّص لإلصالح يف‬ ‫وملا اكن يف قوهلم‪{ :‬إِنما حنن مص ِل‬
‫بادلاعوى املجردة‪ ,‬واألقوال الفارغة‪.‬‬
‫جانبهم ‪ -‬ويف ضمنه أن املؤمنني ليسوا من أهل اإلصالح ‪-‬‬

‫‪8‬‬
‫َ َ َُ ه َ َُ َ ُ َه َ‬
‫الرش‪ ,‬اكلسلعة‪ ،‬وجعل اهلدى اَّلي هو اغية الصالح بمزنلة‬ ‫آمنا َو ِإذا‬ ‫اَّلين آمنوا قالوا‬
‫ثم قال تعاىل‪{ }15 - 14{ :‬و ِإذا لقوا ِ‬
‫ون * ه ُ‬ ‫َ‬
‫م َ ُ ه ََ ُ م هَ مُ ُ م َم َ‬
‫ُ‬ ‫َ َم َ َ َ‬
‫اثلمن‪ ،‬فبذلوا اهلدى رغبة عنه بالضاللة رغبة فيها‪ ،‬فهذه‬ ‫اَّلل‬ ‫اطي ِن ِهم قالوا ِإنا معكم ِإنما حنن مسته ِزئ‬ ‫خلوا ِإىل شي ِ‬
‫َ‬ ‫َم‬ ‫م‬ ‫ُّ ُ‬ ‫م ُ‬
‫ِتارتهم‪ ,‬فبئس اتلجارة‪ ,‬وبئس الصفقة صفقتهم‬ ‫ي َ مستَه ِزئ بِ ِه مم َو َي ُمده مم ِيف ُطغيَانِ ِه مم يع َم ُهون}‬

‫وإذا اكن من بذل دينارا يف مقابلة درهم خارسا‪ ,‬فكيف من‬ ‫هذا من قوهلم بألسنتهم ما ليس يف قلوبهم‪ ،‬و[ذلك] أنهم إذا‬
‫بذل جوهرة وأخذ عنها درهما؟" فكيف من بذل اهلدى يف‬ ‫اجتمعوا باملؤمنني‪ ,‬أظهروا أنهم ىلع طريقتهم وأنهم معهم‪ ,‬فإذا‬
‫مقابلة الضاللة‪ ,‬واختار الشقاء ىلع السعادة‪ ,‬ورغب يف سافل‬ ‫خلوا إىل شياطينهم ‪ -‬أي‪ :‬رؤسائهم وكربائهم يف الرش ‪ -‬قالوا‪:‬‬
‫األمور عن اعيلها ؟" فما رِبت ِتارته‪ ,‬بل خرس فيها أعظم‬ ‫إنا معكم يف اْلقيقة‪ ,‬وإنما حنن مستهزءون باملؤمنني‬
‫َ ه َ َ ُ َمُ َ ُ م ََ م‬ ‫ُم ه م‬
‫اخل َ‬
‫يه مم يَ مو َم‬
‫ِ‬ ‫ل‬‫ِ‬ ‫ه‬ ‫أ‬‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫س‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫وا‬‫رس‬
‫ِ‬ ‫خ‬ ‫ين‬ ‫اَّل‬
‫ِ‬ ‫ين‬ ‫ارس‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫خسارة‪{ .‬قل إِن‬ ‫بإظهارنا هلم‪ ,‬أنا ىلع طريقتهم‪ ،‬فهذه حاهلم ابلاطنة والظاهرة‪,‬‬
‫م‬ ‫م َ َ ََ َ َ ُ َ ُ م َ ُ‬
‫ان ال ُمب ُ‬ ‫م‬
‫ني}‬ ‫ِ‬ ‫ال ِقيام ِة أَل ذلِك هو اخلرس‬ ‫وَل حييق املكر السيئ إَل بأهله‪.‬‬

‫وقوهل‪َ { :‬و َما َاكنُوا ُم مهتَد َ‬


‫ين} حتقيق لضالهلم‪ ,‬وأنهم لم حيصل‬
‫َ‬ ‫َم‬ ‫م‬ ‫ُّ ُ‬ ‫م ُ‬ ‫قال تعاىل‪ { :‬ه ُ‬
‫اَّلل ي َ مستَه ِزئ بِ ِه مم َو َي ُمده مم ِيف ُطغيَانِ ِه مم يع َم ُهون}‬
‫ِ‬
‫هلم من اهلداية يشء‪ ,‬فهذه أوصافهم القبيحة‪.‬‬ ‫وهذا جزاء هلم‪ ,‬ىلع استهزائهم بعباده‪ ،‬فمن استهزائه بهم أن‬
‫زين هلم ما اكنوا فيه من الشقاء واْلالة اخلبيثة‪ ,‬حىت ظنوا أنهم‬
‫ثم ذكر مثلهم الاكشف هلا اغية الكشف‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫مع املؤمنني‪ ,‬ملا لم يسلط اهلل املؤمنني عليهم‪ ،‬ومن استهزائه‬
‫م َمََ َ ً ََه َ َ َ م‬ ‫ََُُ م َ ََ ه‬
‫اءت َما‬ ‫اَّلي استوقد نارا فلما أض‬ ‫{‪{ }20 - 17‬مثلهم كمث ِل ِ‬ ‫بهم يوم القيامة‪ ,‬أنه يعطيهم مع املؤمنني نورا ظاهرا‪ ,‬فإذا ميش‬
‫َ ُم ُ َ‬ ‫اَّلل بنُ م َ َ َ َ ُ م ُ ُ َ‬ ‫ب هُ‬ ‫َح مو َ ُهل َذ َه َ‬
‫ِّصون * ُص ٌّم‬ ‫ات َل يب ِ‬ ‫ور ِهم وتركهم ِيف ظلم ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫املؤمنون بنورهم‪ ,‬طفئ نور املنافقني‪ ,‬وبقوا يف الظلمة بعد‬
‫ون * أَ مو َك َصيِّب م َن ه‬ ‫ُ م ٌ ُ مٌ َُ م َ َم ُ َ‬ ‫ُ َ ُ َ ََ‬
‫الس َما ِء ِفي ِه‬ ‫ٍ ِ‬ ‫بكم عْم فهم َل ير ِجع‬ ‫انلور متحريين‪ ,‬فما أعظم ايلأس بعد الطمع‪{ ،‬ينادون ُه مم أل مم‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م ٌ َ ٌ َمَُ َ َ َُ م‬ ‫ُ َُ ٌ‬ ‫ُ َ م‬ ‫َ ُ م َ َ ُ م َ ُ ََ ََ ه ُ َ م َمُ‬
‫الص َوا ِع ِق‬‫آذانه مم م َن ه‬
‫ظلمات َو َرعد َوب مرق جيعلون أصابِعهم ِيف ِ ِ ِ‬ ‫كنك مم فتَنتُ مم أنف َسك مم َوت َر هبصتُ مم‬
‫نكن معكم قالوا بىل ول ِ‬
‫َ َ َ ُ مَ م ُ َ م ُ‬ ‫مَ‬ ‫هُ ُ‬ ‫َ َ مَ م‬ ‫َ مَم‬
‫ربق خي َطف‬ ‫يط بِالاكفِ ِرين * يكاد ال‬ ‫حم ٌ‬
‫حذ َر المو ِت َواَّلل ِ‬ ‫ارتبتُ مم} اآلية‪.‬‬‫و‬
‫َ َ َم ََ َ َم م َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َم َ َ ُ م ُه َ َ َ َ َ‬
‫اموا َول مو‬ ‫اء ل ُه مم َمش موا ِفي ِه و ِإذا أظلم علي ِهم ق‬ ‫أبصارهم لكما أض‬ ‫م‬ ‫ُّ ُ‬
‫يش ٍء قَ ِد ٌ‬‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫م ه هَ ََ‬ ‫َ‬
‫ب ب َس ممعه مم َوأبم َ‬ ‫َ َ هُ ََ‬
‫َّل َه َ‬ ‫قوهل‪َ { :‬و َي ُمده مم} أي‪ :‬يزيدهم { ِيف ُطغيَانِ ِه مم} أي‪ :‬فجورهم‬
‫ير}‬ ‫ىلع لك م‬ ‫ار ِهم إِن اَّلل‬ ‫ص‬ ‫ِ‬ ‫شاء اَّلل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َم‬
‫وكفرهم‪{ ،‬يع َم ُهون} أي‪ :‬حائرون مرتددون‪ ,‬وهذا من استهزائه‬
‫أي‪ :‬مثلهم املطابق ملا اكنوا عليه كمثل اَّلي استوقد نارا‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫تعاىل بهم‪.‬‬
‫اكن يف ظلمة عظيمة‪ ,‬وحاجة إىل انلار شديدة فاستوقدها من‬
‫ثم قال تعاىل اكشفا عن حقيقة أحواهلم‪:‬‬
‫غريه‪ ,‬ولم تكن عنده معدة‪ ,‬بل يه خارجة عنه‪ ،‬فلما أضاءت‬
‫الض َاللَ َة بال م ُه َدى َف َما َرِبَ م‬
‫ه‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ َ ه َ م‬
‫اش َ َ‬
‫انلار ما حوهل‪ ,‬ونظر املحل اَّلي هو فيه‪ ,‬وما فيه من املخاوف‬ ‫ت‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ا‬‫و‬ ‫رت‬ ‫اَّلين‬‫وَلك ِ‬ ‫{‪{ }16‬أ ِ‬
‫وأمنها‪ ,‬وانتفع بتلك انلار‪ ,‬وقرت بها عينه‪ ,‬وظن أنه قادر‬ ‫ين}‬‫ار ُت ُه مم َو َما َاكنُوا ُم مهتَد َ‬
‫ِِتَ َ‬
‫ِ‬
‫عليها‪ ,‬فبينما هو كذلك‪ ,‬إذ ذهب اهلل بنوره‪ ,‬فذهب عنه انلور‪,‬‬ ‫ه َ م‬
‫اش َ َ‬
‫رت ُوا‬ ‫اَّلين‬
‫أوَلك‪ ,‬أي‪ :‬املنافقون املوصوفون بتلك الصفات { ِ‬
‫وذهب معه الرسور‪ ,‬وبيق يف الظلمة العظيمة وانلار املحرقة‪,‬‬ ‫ه َ ََ م َ‬
‫الضاللة بِال ُهدى} أي‪ :‬رغبوا يف الضاللة‪ ,‬رغبة املشرتي‬
‫فذهب ما فيها من اإلرشاق‪ ,‬وبيق ما فيها من اإلحراق‪ ،‬فبيق‬
‫بالسلعة‪ ,‬اليت من رغبته فيها يبذل فيها األثمان انلفيسة‪.‬‬
‫يف ظلمات متعددة‪ :‬ظلمة الليل‪ ,‬وظلمة السحاب‪ ,‬وظلمة‬
‫وهذا من أحسن األمثلة‪ ,‬فإنه جعل الضاللة‪ ,‬اليت يه اغية‬
‫املطر‪ ,‬والظلمة اْلاصلة بعد انلور‪ ,‬فكيف يكون حال هذا‬
‫‪9‬‬
‫وملا اكنوا مبتلني بالصمم‪ ,‬وابلكم‪ ,‬والعىم املعنوي‪ ,‬ومسدودة‬ ‫املوصوف؟ فكذلك هؤَلء املنافقون‪ ,‬استوقدوا نار اإليمان من‬
‫ََم َ َ هُ ََ‬
‫َّل َه َ‬
‫ب ب ِ َس مم ِع ِه مم‬ ‫عليهم طرق اإليمان‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬ولو شاء اَّلل‬ ‫املؤمنني‪ ,‬ولم تكن صفة هلم‪ ,‬فانتفعوا بها وحقنت بذلك‬
‫ار ِه مم} أي‪ :‬اْلسية‪ ,‬ففيه حتذير هلم وختويف بالعقوبة‬ ‫ص‬‫َوأَبم َ‬ ‫دماؤهم‪ ,‬وسلمت أمواهلم‪ ,‬وحصل هلم نوع من األمن يف ادلنيا‪،‬‬
‫ِ‬
‫ه‬
‫ادلنيوية‪ ,‬يلحذروا‪ ,‬فريتدعوا عن بعض رشهم ونفاقهم‪ِ { ،‬إن‬ ‫فبينما هم ىلع ذلك إذ هجم عليهم املوت‪ ,‬فسلبهم اَلنتفاع‬
‫ه َ َ َ ُ ِّ‬
‫لك َ م‬
‫يش ٍء قَ ِد ٌ‬
‫ير} فال يعجزه يشء‪ ،‬ومن قدرته أنه إذا‬ ‫اَّلل ىلع‬ ‫بذلك انلور‪ ,‬وحصل هلم لك هم وغم وعذاب‪ ,‬وحصل هلم ظلمة‬
‫شاء شيئا فعله من غري ممانع وَل معارض‪.‬‬ ‫القرب‪ ,‬وظلمة الكفر‪ ,‬وظلمة انلفاق‪ ,‬وظلم املعايص ىلع‬
‫اختالف أنواعها‪ ,‬وبعد ذلك ظلمة انلار [وبئس القرار]‪.‬‬
‫ويف هذه اآلية وما أشبهها‪ ,‬رد ىلع القدرية القائلني بأن أفعاهلم‬
‫م‬
‫غري داخلة يف قدرة اهلل تعاىل‪ ,‬ألن أفعاهلم من مجلة األشياء‬ ‫فلهذا قال تعاىل [عنهم]‪ُ { :‬ص ٌّم} أي‪ :‬عن سماع اخلري‪{ ،‬بُك ٌم}‬
‫ه ه َ َ َ ُ ِّ‬
‫لك َ م‬
‫يش ٍء قَ ِد ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ير}‬ ‫ادلاخلة يف قوهل‪{ :‬إِن اَّلل ىلع‬ ‫[أي]‪ :‬عن انلطق به‪ُ { ،‬ع م ٌ‬
‫ْم} عن رؤية اْلق‪{ ،‬ف ُه مم َل يَ مر ِج ُعون}‬

‫كمم‬‫َ ََ ُ‬ ‫مُُ َه ُ ُ ه‬ ‫ُ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُّ‬ ‫ألنهم تركوا اْلق بعد أن عرفوه‪ ,‬فال يرجعون إيله‪ ،‬خبالف من‬
‫اَّلي خلق‬ ‫{‪{ }22 - 21‬يا أيها انلاس اعبدوا ربكم ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ه َ م َم ُ م ََ ه ُ م َهُ َ ه‬ ‫ترك اْلق عن جهل وضالل‪ ,‬فإنه َل يعقل‪ ,‬وهو أقرب رجواع‬
‫اَّلي َج َعل لك ُم األ مرض‬ ‫ين ِمن قب ِلكم لعلكم تتقون * ِ‬ ‫اَّل‬
‫و ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫َ ً َ ه َ َ َ ً َ مََ َ ه َ َ ً َ م‬ ‫منهم‪.‬‬
‫اء فأخ َر َج بِ ِه ِم َن‬ ‫ِفراشا والسماء بِناء وأنزل ِمن السما ِء م‬
‫م ً َ ُ م ََ َمَ ُ ه َم َ ً م َ م َ َ‬
‫َ‬
‫َّلل أندادا َوأنتُ مم تعل ُمون}‬ ‫هََ‬ ‫ثم قال تعاىل‪{ :‬أَ مو َك َصيِّب م َن ه‬
‫الس َما ِء} يعين‪ :‬أو مثلهم كصيب‪،‬‬
‫ات ِرزقا لكم فال ِتعلوا ِ ِ‬
‫اثلمر ِ‬ ‫ٍ ِ‬
‫أي‪ :‬كصاحب صيب من السماء‪ ،‬وهو املطر اَّلي يصوب‪ ,‬أي‪:‬‬
‫هذا أمر اعم للك انلاس‪ ,‬بأمر اعم‪ ,‬وهو العبادة اجلامعة‪,‬‬ ‫ُ ُ ٌ‬
‫يزنل بكرثة‪ِ { ،‬في ِه ظل َمات} ظلمة الليل‪ ,‬وظلمة السحاب‪,‬‬
‫َلمتثال أوامر اهلل‪ ,‬واجتناب نواهيه‪ ,‬وتصديق خربه‪ ,‬فأمرهم‬ ‫م ٌ‬
‫ََ َ َم ُ م ه َ م م ه‬ ‫وظلمات املطر‪َ { ،‬و َرعد} وهو الصوت اَّلي يسمع من السحاب‪،‬‬
‫اإلن َس ِإَل‬
‫اجلن و ِ‬
‫تعاىل بما خلقهم هل‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬وما خلقت ِ‬ ‫ٌ‬
‫َمُُ‬ ‫{ َو َب مرق} وهو الضوء [الالمع] املشاهد مع السحاب‪.‬‬
‫ون}‬
‫ِيلعبد ِ‬
‫َ َم َ‬ ‫َ‬ ‫ُه َ َ َ َ َ‬
‫اء ل ُه مم} الربق يف تلك الظلمات { َمش موا ِفي ِه َو ِإذا أظل َم‬ ‫{لكما أض‬
‫ثم استدل ىلع وجوب عبادته وحده‪ ,‬بأنه ربكم اَّلي رباكم‬ ‫َعلَيمه مم قَ ُ‬
‫اموا} أي‪ :‬وقفوا‪.‬‬ ‫ِ‬
‫بأصناف انلعم‪ ,‬فخلقكم بعد العدم‪ ,‬وخلق اَّلين من‬
‫قبلكم‪ ,‬وأنعم عليكم بانلعم الظاهرة وابلاطنة‪ ,‬فجعل لكم‬ ‫فهكذا حال املنافقني‪ ,‬إذا سمعوا القرآن وأوامره ونواهيه‬
‫األرض فراشا تستقرون عليها‪ ,‬وتنتفعون باألبنية‪ ,‬والزراعة‪,‬‬ ‫ووعده ووعيده‪ ,‬جعلوا أصابعهم يف آذانهم‪ ,‬وأعرضوا عن أمره‬
‫واْلراثة‪ ,‬والسلوك من حمل إىل حمل‪ ,‬وغري ذلك من‬ ‫ونهيه ووعده ووعيده‪ ,‬فريوعهم وعيده وتزعجهم وعوده‪ ،‬فهم‬
‫أنواع اَلنتفاع بها‪ ،‬وجعل السماء بناء ملسكنكم‪ ,‬وأودع فيها‬ ‫يعرضون عنها اغية ما يمكنهم‪ ,‬ويكرهونها كراهة صاحب‬
‫من املنافع ما هو من رضوراتكم وحاجاتكم‪ ,‬اكلشمس‪,‬‬ ‫الصيب اَّلي يسمع الرعد‪ ,‬وجيعل أصابعه يف أذنيه خشية‬
‫والقمر‪ ,‬وانلجوم‪.‬‬ ‫املوت‪ ,‬فهذا تمكن هل السالمة‪ .‬وأما املنافقون فأىن هلم‬

‫{ َوأَنم َز َل م َن ه‬
‫الس َما ِء َم ً‬
‫اء} والسماء‪[ :‬هو] لك ما عال فوقك فهو‬
‫السالمة‪ ,‬وهو تعاىل حميط بهم‪ ,‬قدرة وعلما فال يفوتونه وَل‬
‫ِ‬
‫يعجزونه‪ ,‬بل حيفظ عليهم أعماهلم‪ ,‬وجيازيهم عليها أتم‬
‫سماء‪ ,‬وهلذا قال املفرسون‪ :‬املراد بالسماء هاهنا‪ :‬السحاب‪،‬‬
‫ات} اكْلبوب‪,‬‬ ‫َ هََ‬ ‫ََ م َ َ‬ ‫اجلزاء‪.‬‬
‫فأنزل منه تعاىل ماء‪{ ،‬فأخرج بِ ِه ِمن اثلمر ِ‬

‫‪10‬‬
‫ً َ ُ‬
‫وهذا ديلل عقيل ىلع صدق رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم‪,‬‬ ‫واثلمار‪ ,‬من خنيل‪ ,‬وفواكه‪[ ,‬وزروع] وغريها { ِر مزقا لك مم} به‬
‫وصحة ما جاء به‪ ،‬فقال‪{ :‬وإن كنتم} معرش املعاندين للرسول‪,‬‬ ‫ترتزقون‪ ,‬وتقوتون وتعيشون وتفكهون‪.‬‬
‫الرادين دعوته‪ ,‬الزاعمني كذبه يف شك واشتباه‪ ,‬مما نزنلا ىلع‬ ‫َ َ َمَ ُ ه َم َ ً‬
‫َّلل أندادا} أي‪ :‬نظراء وأشباها من املخلوقني‪,‬‬
‫{فال ِتعلوا ِ ِ‬
‫عبدنا‪ ,‬هل هو حق أو غريه ؟ فهاهنا أمر نصف‪ ،‬فيه الفيصلة‬
‫فتعبدونهم كما تعبدون اهلل‪ ,‬وحتبونهم كما حتبون اهلل‪ ,‬وهم‬
‫بينكم وبينه‪ ،‬وهو أنه برش مثلكم‪ ,‬ليس بأفصحكم وَل‬
‫مثلكم‪ ,‬خملوقون‪ ,‬مرزوقون مدبرون‪َ ,‬ل يملكون مثقال ذرة‬
‫بأعلمكم وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم‪َ ,‬ل يكتب وَل‬ ‫َم‬
‫يف السماء وَل يف األرض‪ ،‬وَل ينفعونكم وَل يرضون‪َ { ،‬وأنتُ مم‬
‫يقرأ‪ ،‬فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند اهلل‪ ,‬وقلتم أنتم أنه‬ ‫َمَ َ‬
‫ه‬ ‫تعل ُمون} أن اهلل ليس هل رشيك‪ ,‬وَل نظري‪َ ,‬ل يف اخللق‪,‬‬
‫تقوهل وافرتاه‪ ،‬فإن اكن األمر كما تقولون‪ ,‬فأتوا بسورة من مثله‪,‬‬
‫والرزق‪ ,‬واتلدبري‪ ,‬وَل يف العبادة فكيف تعبدون معه آهلة‬
‫واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم‪ ,‬فإن‬
‫أخرى مع علمكم بذلك؟ هذا من أعجب العجب‪ ,‬وأسفه‬
‫هذا أمر يسري عليكم‪ ،‬خصوصا وأنتم أهل الفصاحة‬
‫السفه‪.‬‬
‫واخلطابة‪ ,‬والعداوة العظيمة للرسول‪ ،‬فإن جئتم بسورة من‬
‫مثله‪ ,‬فهو كما زعمتم‪ ,‬وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم‬ ‫وهذه اآلية مجعت بني األمر بعبادة اهلل وحده‪ ,‬وانليه عن‬
‫اغية العجز‪ ,‬ولن تأتوا بسورة من مثله‪ ،‬ولكن هذا‬ ‫عبادة ما سواه‪ ,‬وبيان ادليلل ابلاهر ىلع وجوب عبادته‪,‬‬
‫اتلقييم ىلع وجه اإلنصاف واتلزنل معكم‪ ،‬فهذا آية كربى‪,‬‬ ‫وبطالن عبادة من سواه‪ ,‬وهو [ذكر] توحيد الربوبية‪ ,‬املتضمن‬
‫وديلل واضح [جيل] ىلع صدقه وصدق ما جاء به‪ ,‬فيتعني‬ ‫َلنفراده باخللق والرزق واتلدبري‪ ،‬فإذا اكن لك أحد مقرا بأنه‬
‫عليكم اتباعه‪ ,‬واتقاء انلار اليت بلغت يف اْلرارة العظيمة‬ ‫ليس هل رشيك يف ذلك‪ ,‬فكذلك فليكن إقراره بأن [اهلل] َل‬
‫[والشدة]‪ ,‬أن اكنت وقودها انلاس واْلجارة‪ ,‬ليست كنار‬ ‫رشيك هل يف العبادة‪ ,‬وهذا أوضح ديلل عقيل ىلع وحدانية‬
‫ادلنيا اليت إنما تتقد باْلطب‪ ,‬وهذه انلار املوصوفة معدة‬ ‫ابلاري‪ ،‬وبطالن الرشك‪.‬‬
‫ومهيأة للاكفرين باهلل ورسله‪ .‬فاحذروا الكفر برسوهل‪ ,‬بعد ما‬ ‫َ ه ُ َ ُ َ‬
‫وقوهل تعاىل‪{ :‬ل َعلك مم ت هتقون} حيتمل أن املعىن‪ :‬أنكم إذا‬
‫تبني لكم أنه رسول اهلل‪.‬‬
‫عبدتم اهلل وحده‪ ,‬اتقيتم بذلك سخطه وعذابه‪ ,‬ألنكم أتيتم‬
‫وهذه اآلية وحنوها يسمونها آيات اتلحدي‪ ,‬وهو تعجزي اخللق‬ ‫بالسبب ادلافع َّللك‪ ،‬وحيتمل أن يكون املعىن‪ :‬أنكم إذا‬
‫مَََ م م‬ ‫ُم َ‬
‫اإلن ُس‬
‫ت ِ‬ ‫ِئ اجتمع ِ‬ ‫أن يأتوا بمثل هذا القرآن‪ ،‬قال تعاىل {قل ل ِ ِ‬ ‫عبدتم اهلل‪ِ ,‬صتم من املتقني املوصوفني باتلقوى‪ ,‬والك املعنيني‬
‫َ َ َ‬ ‫م َ َ مُ م َ مُ َ م‬ ‫َ م ُّ َ َ َ م َ م ُ‬
‫آن َل يَأتون بِ ِمث ِل ِه َول مو اكن‬
‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ق‬ ‫ال‬ ‫ا‬ ‫ذ‬ ‫ه‬ ‫ل‬
‫اجلن ىلع أن يأت ِ ِ ِ‬
‫ث‬‫م‬ ‫ب‬ ‫وا‬ ‫و ِ‬ ‫صحيح‪ ,‬وهما متالزمان‪ ،‬فمن أىت بالعبادة اكملة‪ ,‬اكن من‬
‫ريا}‬‫َب مع ُض ُه مم ِ َبل معض َظه ً‬ ‫املتقني‪ ،‬ومن اكن من املتقني‪ ,‬حصلت هل انلجاة من عذاب اهلل‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫وسخطه‪ .‬ثم قال تعاىل‪:‬‬
‫وكيف يقدر املخلوق من تراب‪ ,‬أن يكون الكمه كالكم رب‬
‫َ َ َ َمُ‬ ‫َ م‬ ‫َ م ُ مُ م‬
‫األرباب؟ أم كيف يقدر انلاقص الفقري من لك الوجوه‪ ,‬أن يأيت‬ ‫ب ِم هما ن هزنلَا َىلع عبم ِدنا فأتوا‬ ‫َم‬
‫{‪{ }24 - 23‬و ِإن كنتم ِيف ري ٍ‬
‫ه م ُم‬ ‫ُ َ م م َ م ُ ُ َ َ َ ُ م م ُ‬
‫بكالم كالكم الاكمل‪ ,‬اَّلي هل الكمال املطلق‪ ,‬والغىن الواسع‬ ‫اَّلل ِإن كنتُ مم‬
‫ون ِ‬ ‫بِسور ٍة ِمن ِمث ِل ِه وادعوا شهداءكم ِمن د ِ‬
‫ُ ُ َ‬ ‫ه َ ه‬ ‫َ َ م َ َم ُ َ َم ُ َ هُ‬
‫من لك الوجوه؟ هذا ليس يف اإلماكن‪ ,‬وَل يف قدرة اإلنسان‪،‬‬ ‫ار ال ِيت َوقودها‬ ‫ني * ف ِإن ل مم تف َعلوا َول من تف َعلوا فاتقوا انل‬ ‫َ‬
‫صا ِدقِ‬
‫ت لِلم َاكفِر َ‬ ‫ه ُ َ م َ َُ ُ ه م‬
‫ولك من هل أدىن ذوق ومعرفة [بأنواع] الالكم‪ ,‬إذا وزن هذا‬ ‫ين}‬ ‫ِ‬ ‫اْلجارة أ ِعد‬
‫انلاس و ِ‬
‫القرآن العظيم بغريه من الكم ابللغاء‪ ,‬ظهر هل الفرق العظيم‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫ملا ذكر جزاء الاكفرين‪ ,‬ذكر جزاء املؤمنني‪ ,‬أهل األعمال‬ ‫ب} إىل آخره‪ ,‬ديلل ىلع أن اَّلي‬ ‫َم‬ ‫َ م ُ مُ م‬
‫ويف قوهل‪{ :‬و ِإن كنتم ِيف ري ٍ‬
‫الصاْلات‪ ,‬ىلع طريقته تعاىل يف القرآن جيمع بني الرتغيب‬ ‫يرىج هل اهلداية من الضاللة‪[ :‬هو] الشاك اْلائر اَّلي لم يعرف‬
‫والرتهيب‪ ,‬يلكون العبد راغبا راهبا‪ ,‬خائفا راجيا فقال‪:‬‬ ‫اْلق من الضالل‪ ،‬فهذا إذا بني هل اْلق فهو حري باتلوفيق إن‬
‫ه‬ ‫َ َ ِّ‬
‫آمنُوا}‬
‫ين َ‬
‫اَّل َ‬
‫رش} أي‪[ :‬يا أيها الرسول ومن قام مقامه] { ِ‬ ‫{ وب ِ‬ ‫اكن صادقا يف طلب اْلق‪.‬‬
‫ه‬ ‫َ ُ‬
‫ات} جبوارحهم‪ ,‬فصدقوا إيمانهم‬ ‫بقلوبهم { َوع ِملوا الص ِ‬
‫اْل َ ِ‬
‫وأما املعاند اَّلي يعرف اْلق ويرتكه‪ ,‬فهذا َل يمكن رجوعه‪,‬‬
‫بأعماهلم الصاْلة‪.‬‬
‫ألنه ترك اْلق بعد ما تبني هل‪ ,‬لم يرتكه عن جهل‪ ,‬فال حيلة‬
‫ووصفت أعمال اخلري بالصاْلات‪ ,‬ألن بها تصلح أحوال العبد‪,‬‬ ‫فيه‪.‬‬
‫وأمور دينه ودنياه‪ ,‬وحياته ادلنيوية واألخروية‪ ,‬ويزول بها عنه‬
‫وكذلك الشاك غري الصادق يف طلب اْلق‪ ,‬بل هو معرض غري‬
‫فساد األحوال‪ ,‬فيكون بذلك من الصاْلني‪ ,‬اَّلين يصلحون‬
‫جمتهد يف طلبه‪ ,‬فهذا يف الغالب أنه َل يوفق‪.‬‬
‫ملجاورة الرْحن يف جنته‪.‬‬

‫َ ه َُ م َ ه‬ ‫ويف وصف الرسول بالعبودية يف هذا املقام العظيم‪ ,‬ديلل ىلع‬


‫ات} أي‪ :‬بساتني جامعة من األشجار‬
‫فبرشهم {أن لهم ج ٍ‬
‫ن‬
‫أن أعظم أوصافه صىل اهلل عليه وسلم‪ ,‬قيامه بالعبودية‪ ,‬اليت‬
‫العجيبة‪ ,‬واثلمار األنيقة‪ ,‬والظل املديد‪[ ,‬واألغصان واألفنان‬
‫َل يلحقه فيها أحد من األولني واآلخرين‪.‬‬
‫وبذلك] صارت جنة جينت بها داخلها‪ ,‬وينعم فيها ساكنها‪.‬‬
‫ُ م َ َ ه‬
‫م َم َ مَ‬
‫األ من َه ُ‬ ‫َم‬ ‫اَّلي‬
‫كما وصفه بالعبودية يف مقام اإلرساء‪ ،‬فقال‪{ :‬سبحان ِ‬
‫ار} أي‪ :‬أنهار املاء‪ ,‬واللنب‪ ,‬والعسل‪,‬‬ ‫{ِت ِري ِمن حت ِتها‬ ‫َ َ‬ ‫ََ َ َ ه‬
‫اَّلي ن هزل‬
‫ارك ِ‬ ‫أَ م َ‬
‫رسى بِ َعبم ِدهِ} ويف مقام اإلنزال‪ ،‬فقال‪{ :‬تب‬
‫واخلمر‪ ،‬يفجرونها كيف شاءوا‪ ,‬ويِّصفونها أين أرادوا‪,‬‬ ‫مُ َ َ َ َ‬
‫الف مرقان َىلع عبم ِدهِ}‬
‫وترشب منها تلك األشجار فتنبت أصناف اثلمار‪.‬‬
‫ُ ه م‬
‫ت لِلم َاكفِر َ‬
‫َ ُ‬ ‫مَ‬ ‫مً َ ُ َ َ ه‬ ‫ُ مَ م ََ‬ ‫ُه َ‬ ‫ين} وحنوها من اآليات‪ ,‬ديلل ملذهب‬ ‫ِ‬ ‫ويف قوهل‪{ :‬أ ِعد‬
‫اَّلي ُر ِزقنا ِم من قبمل}‬
‫{لكما ُر ِزقوا ِمنها ِمن ثم َر ٍة ِرزقا قالوا هذا ِ‬
‫أهل السنة واجلماعة‪ ,‬أن اجلنة وانلار خملوقتان خالفا‬
‫أي‪ :‬هذا من جنسه‪ ,‬وىلع وصفه‪ ,‬لكها متشابهة يف اْلسن‬
‫للمعزتلة‪ ،‬وفيها أيضا‪ ,‬أن املوحدين وإن ارتكبوا بعض‬
‫والذلة‪ ،‬ليس فيها ثمرة خاصة‪ ,‬وليس هلم وقت خال من الذلة‪,‬‬ ‫ُ ه م‬
‫ت لِلم َاكفِر َ‬
‫ين} فلو‬ ‫ِ‬ ‫الكبائر َل خيدلون يف انلار‪ ,‬ألنه قال‪{ :‬أ ِعد‬
‫فهم دائما متذلذون بأكلها‪.‬‬
‫اكن [عصاة املوحدين] خيدلون فيها‪ ,‬لم تكن معدة للاكفرين‬
‫َ َ‬ ‫ُُ‬
‫وقوهل‪َ { :‬وأتوا بِ ِه ُمتشابِ ًها} قيل‪ :‬متشابها يف اَلسم‪ ,‬خمتلف‬ ‫وحدهم‪ ،‬خالفا للخوارج واملعزتلة‪.‬‬
‫الطعوم وقيل‪ :‬متشابها يف اللون‪ ,‬خمتلفا يف اَلسم‪ ،‬وقيل‪ :‬يشبه‬
‫وفيها دَللة ىلع أن العذاب مستحق بأسبابه‪ ,‬وهو الكفر‪,‬‬
‫بعضه بعضا‪ ,‬يف اْلسن‪ ,‬والذلة‪ ,‬والفاكهة‪ ,‬ولعل هذا الصحيح‬
‫وأنواع املعايص ىلع اختالفها‪.‬‬
‫ثم ملا ذكر مسكنهم‪ ,‬وأقواتهم من الطعام والرشاب وفواكههم‪,‬‬ ‫َ ه َُ م َ ه‬ ‫َ‬ ‫آمنُوا َو َعملُوا ه‬ ‫ين َ‬ ‫اَّل َ‬ ‫َ َ ِّ ه‬
‫ات‬‫ٍ‬ ‫ن‬ ‫ج‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ات‬
‫ِ‬ ‫اْل‬
‫ِ‬ ‫الص‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫رش‬
‫{‪{ }25‬وب ِ‬
‫ذكر أزواجهم‪ ,‬فوصفهن بأكمل وصف وأوجزه‪ ,‬وأوضحه فقال‪:‬‬ ‫ً َ ُ‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫م َ ُ ُه‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫َم‬ ‫َم‬
‫ٌ‬ ‫يها أَ مز َو ٌ‬
‫{ َول َ ُه مم ف َ‬ ‫ار لك َما ُر ِزقوا ِمن َها ِم من ث َم َر ٍة ِر مزقا قالوا‬ ‫ِت ِري ِم من حت ِت َها األنه‬
‫اج ُم َط هه َرة} فلم يقل " مطهرة من العيب الفالين‬ ‫ِ‬ ‫يها أَ مز َو ٌ‬
‫َه َذا هاَّلي ُرز مقنَا م من َقبم ُل َوأُتُوا به ُمتَ َشاب ًها َول َ ُه مم ف َ‬
‫اج‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫" ليشمل مجيع أنواع اتلطهري‪ ،‬فهن مطهرات األخالق‪,‬‬ ‫َُ هٌَ َُ م َ َ ُ َ‬
‫ادلون}‬ ‫مطهرة وهم ِفيها خ ِ‬
‫مطهرات اخللق‪ ,‬مطهرات اللسان‪ ,‬مطهرات األبصار‪،‬‬

‫‪12‬‬
‫يف ذلك‪ .‬فليس يف ذلك حمل اعرتاض‪ .‬بل هو من تعليم اهلل‬ ‫فأخالقهن‪ ,‬أنهن عرب متحببات إىل أزواجهن باخللق اْلسن‪,‬‬
‫لعباده ورْحته بهم‪ .‬فيجب أن تتلىق بالقبول والشكر‪ .‬وهلذا‬ ‫وحسن اتلبعل‪ ,‬واألدب القويل والفعيل‪ ,‬ومطهر خلقهن من‬
‫َ م َ َ َه ُ م‬ ‫ََه ه‬
‫آمنُوا فيَعل ُمون أنه اْل َ ُّق ِم من َر ِّب ِه مم}‬
‫ين َ‬
‫اَّل َ‬
‫قال‪{ :‬فأما ِ‬ ‫اْليض وانلفاس واملين‪ ,‬وابلول والغائط‪ ,‬واملخاط وابلصاق‪,‬‬
‫فيتفهمونها‪ ،‬ويتفكرون فيها‪.‬‬ ‫والراحئة الكريهة‪ ،‬ومطهرات اخللق أيضا‪ ,‬بكمال اجلمال‪,‬‬
‫فليس فيهن عيب‪ ,‬وَل دمامة خلق‪ ,‬بل هن خريات حسان‪,‬‬
‫فإن علموا ما اشتملت عليه ىلع وجه اتلفصيل‪ ،‬ازداد بذلك‬
‫مطهرات اللسان والطرف‪ ،‬قاِصات طرفهن ىلع أزواجهن‪,‬‬
‫علمهم وإيمانهم‪ ،‬وإَل علموا أنها حق‪ ،‬وما اشتملت عليه حق‪،‬‬
‫وقاِصات ألسنتهن عن لك الكم قبيح‪.‬‬
‫وإن خيف عليهم وجه اْلق فيها لعلمهم بأن اهلل لم يرضبها‬
‫عبثا‪ ،‬بل ْلكمة بالغة‪ ،‬ونعمة سابغة‪.‬‬ ‫ه ُ‬
‫واملبرش به‪,‬‬
‫ه‬ ‫ِّ‬
‫فيف هذه اآلية الكريمة‪ ,‬ذكر املبرش واملبرش‪,‬‬
‫ِّ‬
‫َ ًَ‬ ‫ََُ ََُ ُ َ َ َ ََ َ‬
‫اد ه ُ‬ ‫َه ه‬ ‫والسبب املوصل هلذه البشارة‪ ،‬فاملبرش‪ :‬هو الرسول صىل اهلل‬
‫اَّلل بِ َهذا َمثال}‬ ‫ين كفروا فيقولون ماذا أر‬ ‫اَّل َ‬
‫{ َوأما ِ‬ ‫ه‬
‫عليه وسلم ومن قام مقامه من أمته‪ ،‬واملبرش‪ :‬هم املؤمنون‬
‫فيعرتضون ويتحريون‪ ،‬فزيدادون كفرا إىل كفرهم‪ ،‬كما‬ ‫ه‬
‫ازداد املؤمنون إيمانا ىلع إيمانهم‪ ،‬وهلذا قال‪{ :‬يُض ُّل به َكث ً‬ ‫العاملون الصاْلات‪ ،‬واملبرش به‪ :‬يه اجلنات املوصوفات بتلك‬
‫ريا‬ ‫ِ ِِ ِ‬
‫َو َي مهدي به َكث ً‬ ‫الصفات‪ ،‬والسبب املوصل َّللك‪ ,‬هو اإليمان والعمل الصالح‪،‬‬
‫ريا} فهذه حال املؤمنني والاكفرين عند نزول‬ ‫ِ ِِ ِ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫اآليات القرآنية‪ .‬قال تعاىل‪َ { :‬وإذا َما أنزل م‬ ‫فال سبيل إىل الوصول إىل هذه البشارة‪ ,‬إَل بهما‪ ،‬وهذا أعظم‬
‫ورة ف ِمن ُه مم َم من‬
‫ت ُس َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ً ََه ه َ َُ ََ َمُ م َ ً‬ ‫َ ُ ُ َ ُّ ُ م َ َ م ُ َ‬ ‫بشارة حاصلة‪ ,‬ىلع يد أفضل اخللق‪ ,‬بأفضل األسباب‪.‬‬
‫اَّلين آمنوا فزادتهم ِإيمانا‬ ‫يقول أيكم زادته ه ِذهِ ِإيمانا فأما ِ‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫ٌ َ َم‬ ‫َ ُ م َ م َم ُ َ ََه ه َ ُُ‬
‫ين ِيف قلوبِ ِه مم َم َرض ف َزادت ُه مم ِرج ًسا ِإىل‬ ‫اَّل‬
‫وهم يستب ِرشون وأما ِ‬ ‫وفيه استحباب بشارة املؤمنني‪ ,‬وتنشيطهم ىلع األعمال بذكر‬
‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫م‬
‫ِرج ِس ِه مم َو َماتوا َوه مم اكفِ ُرون} فال أعظم نعمة ىلع العباد من‬ ‫جزائها [وثمراتها]‪ ,‬فإنها بذلك ختف وتسهل‪ ،‬وأعظم برشى‬
‫نزول اآليات القرآنية‪ ،‬ومع هذا تكون لقوم حمنة وحرية‬ ‫حاصلة لإلنسان‪ ,‬توفيقه لإليمان والعمل الصالح‪ ،‬فذلك أول‬
‫[وضاللة] وزيادة رش إىل رشهم‪ ،‬ولقوم منحة [ورْحة] وزيادة‬ ‫البشارة وأصلها‪ ،‬ومن بعده البرشى عند املوت‪ ،‬ومن بعده‬
‫خري إىل خريهم‪ ،‬فسبحان من فاوت بني عباده‪ ،‬وانفرد باهلداية‬ ‫الوصول إىل هذا انلعيم املقيم‪ ،‬نسأل اهلل أن جيعلنا منهم‬
‫واإلضالل‪.‬‬ ‫وض ًة َفماَ‬ ‫ه هَ َ َم َ م َ م َ م َ ًََ َ َُ َ‬
‫رضب مثال ما بع‬ ‫{‪{ }27َ - 26‬إِن اَّلل َل يستح ِِي أ َن ي ِ‬
‫ه‬ ‫َ‬
‫فَ مو َق َها فَأ هما هاَّل َ َ ُ َ َ م َ ُ َ ه ُ م ُّ م ِّ م ه‬
‫ثم ذكر حكمته يف إضالل من يضلهم وأن ذلك عدل منه‬ ‫ين‬ ‫اَّل َ‬‫ين آمنوا فيعلمون أنه اْلَق ِمن َرب ِهم َوأما ِ‬ ‫ِ‬
‫تعاىل فقال‪َ { :‬و َما يُض ُّل به إ هَل الم َفاسق َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫اَّلل ب َهذا َمثال يُضل به كث ً‬ ‫َ‬ ‫اد ه ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫َ ُ َ‬ ‫َ َ‬
‫ني} أي‪ :‬اخلارجني عن‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِِ ِ‬ ‫ريا‬ ‫ِ ِِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫كف ُروا فيَقولون َماذا أر‬
‫َ‬ ‫َ ه َ َمُ‬ ‫ه مَ‬ ‫َ ً َ ُ ُّ‬ ‫َم‬
‫طاعة اهلل; املعاندين لرسل اهلل; اَّلين صار الفسق وصفهم; فال‬ ‫ين ينق ُضون‬ ‫اَّل‬
‫اس ِقني * ِ‬ ‫َويه ِدي بِ ِه ك ِثريا َوما ي ِضل بِ ِه ِإَل الف ِ‬
‫ََم َ ُ َ َ ََ َ هُ َ م ُ َ َ‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫َ م َ ه‬
‫يبغون به بدَل‪ ،‬فاقتضت حكمته تعاىل إضالهلم لعدم‬ ‫وصل‬ ‫اَّلل ِم من َبع ِد ِميثاقِ ِه ويقطعون ما أمر اَّلل بِ ِه أن ي‬ ‫عهد ِ‬
‫م َ م ُ َ َ ُ ُ مَ ُ َ‬ ‫ُم ُ َ‬
‫صالحيتهم للهدى‪ ،‬كما اقتضت حكمته وفضله هداية من‬ ‫ارسون}‬ ‫وَلك هم اخل ِ‬ ‫َويف ِسدون ِيف األر ِض أ ِ‬
‫اتصف باإليمان وحتىل باألعمال الصاْلة‪.‬‬
‫أي‬ ‫حِي أَ من يَ مرض َب َمثَ ًال َما} أي‪ :‬ه‬ ‫ه هَ َ َم َ م‬
‫ِ‬ ‫يقول تعاىل { ِإن اَّلل َل يست ِ‬
‫َ ً َ َ َ‬
‫والفسق نواعن‪ :‬نوع خمرج من ادلين‪ ،‬وهو الفسق املقتيض‬ ‫مثل اكن { َب ُعوضة ف َما ف موق َها} َلشتمال األمثال ىلع اْلكمة‪,‬‬
‫للخروج من اإليمان; اكملذكور يف هذه اآلية وحنوها‪ ،‬ونوع غري‬ ‫وإيضاح اْلق‪ ,‬واهلل َل يستحِي من اْلق‪ ،‬وكأن يف هذا‪ ,‬جوابا‬
‫ملن أنكر رضب األمثال يف األشياء اْلقرية‪ ،‬واعرتض ىلع اهلل‬

‫‪13‬‬
‫َ َ ُّ َ ه َ َ ُ م‬
‫هذا استفهام بمعىن اتلعجب واتلوبيخ واإلنكار‪ ،‬أي‪ :‬كيف‬ ‫اَّلين آمنوا إِن‬
‫خمرج من اإليمان كما يف قوهل تعاىل‪{ :‬يا أيها ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ َ ُ م َ‬
‫حيصل منكم الكفر باهلل; اَّلي خلقكم من العدم; وأنعم‬ ‫اس ٌق بِنبَ ٍإ فتَبَ هينُوا} [اآلية]‪.‬‬
‫اءكم ف ِ‬ ‫ج‬
‫عليكم بأصناف انلعم; ثم يميتكم عند استكمال‬ ‫م‬ ‫ه َ َمُ ُ َ َ م َ ه‬
‫اَّلل ِم من َبع ِد‬
‫اَّلين ينقضون عهد ِ‬ ‫ثم وصف الفاسقني فقال‪ِ { :‬‬
‫آجالكم; وجيازيكم يف القبور; ثم حيييكم بعد ابلعث‬ ‫َ‬
‫ِميثاقِ ِه} وهذا يعم العهد اَّلي بينهم وبينه واَّلي بينهم وبني‬
‫والنشور; ثم إيله ترجعون; فيجازيكم اجلزاء األوىف‪ ،‬فإذا‬
‫عباده اَّلي أكده عليهم باملواثيق اثلقيلة واإللزامات‪ ،‬فال‬
‫كنتم يف تِّصفه; وتدبريه; وبره; وحتت أوامره ادلينية; ومن بعد‬
‫يبالون بتلك املواثيق; بل ينقضونها ويرتكون أوامره‬
‫ذلك حتت دينه اجلزايئ; أفيليق بكم أن تكفروا به; وهل هذا‬
‫ويرتكبون نواهيه; وينقضون العهود اليت بينهم وبني اخللق‪.‬‬
‫إَل جهل عظيم وسفه وْحاقة ؟ بل اَّلي يليق بكم أن تؤمنوا‬
‫ََم َ ُ َ َ ََ َ هُ َ م ُ َ َ‬
‫به وتتقوه وتشكروه وختافوا عذابه; وترجوا ثوابه‪.‬‬ ‫وصل} وهذا يدخل فيه أشياء‬ ‫{ويقطعون ما أمر اَّلل بِ ِه أن ي‬
‫َ ً ُه م ََ َ‬ ‫م‬ ‫مَ‬ ‫َ ََ َ ُ م َ‬ ‫ُ ه‬ ‫كثرية‪ ،‬فإن اهلل أمرنا أن نصل ما بيننا وبينه باإليمان به‬
‫مجيعا ثم استوى إِىل‬ ‫اَّلي خلق لكم ما ِيف األر ِض ِ‬ ‫{‪{ }29‬ه َو ِ‬
‫ك ِّل َ م‬
‫يش ٍء َعل ٌ‬ ‫ََُ ُ‬ ‫ه َ َ َ ه ُ ه َ مَ َ َ َ‬ ‫والقيام بعبوديته‪ ،‬وما بيننا وبني رسوهل باإليمان به وحمبته‬
‫يم}‬ ‫ِ‬ ‫ات وهو بِ‬
‫السما ِء فسواهن سبع سماو ٍ‬
‫وتعزيره والقيام ِبقوقه‪ ،‬وما بيننا وبني الوادلين واألقارب‬
‫َ‬ ‫مَ‬ ‫َ َ َ ُ‬ ‫ُ ه‬
‫مجي ًعا} أي‪ :‬خلق لكم‪,‬‬
‫ِ‬ ‫ض‬‫ِ‬
‫األ م‬
‫ر‬ ‫اَّلي خل َق لك مم َما ِيف‬
‫{ه َو ِ‬ ‫واألصحاب; وسائر اخللق بالقيام بتلك اْلقوق اليت أمر اهلل‬
‫برا بكم ورْحة‪ ,‬مجيع ما ىلع األرض‪ ,‬لالنتفاع واَلستمتاع‬ ‫أن نصلها‪.‬‬
‫واَلعتبار‪.‬‬
‫فأما املؤمنون فوصلوا ما أمر اهلل به أن يوصل من هذه اْلقوق‪،‬‬
‫ويف هذه اآلية العظيمة ديلل ىلع أن األصل يف األشياء اإلباحة‬ ‫وقاموا بها أتم القيام‪ ،‬وأما الفاسقون‪ ،‬فقطعوها‪ ،‬ونبذوها وراء‬
‫والطهارة‪ ,‬ألنها سيقت يف معرض اَلمتنان‪ ،‬خيرج بذلك‬ ‫ظهورهم; معتاضني عنها بالفسق والقطيعة; والعمل باملعايص;‬
‫اخلبائث‪ ,‬فإن [حتريمها أيضا] يؤخذ من فحوى اآلية‪ ,‬ومعرفة‬ ‫وهو‪ :‬اإلفساد يف األرض‪.‬‬
‫املقصود منها‪ ,‬وأنه خلقها نلفعنا‪ ,‬فما فيه رضر‪ ,‬فهو خارج من‬ ‫ُ ُ مَ ُ َ‬ ‫َُ َ َ‬
‫ارسون} يف ادلنيا‬
‫وَلك} أي‪ :‬من هذه صفته {هم اخل ِ‬
‫فـ {فأ ِ‬
‫ذلك‪ ،‬ومن تمام نعمته‪ ,‬منعنا من اخلبائث‪ ,‬تزنيها نلا‪.‬‬
‫واآلخرة‪ ،‬فحِّص اخلسارة فيهم; ألن خرسانهم اعم يف لك‬
‫ُ‬ ‫ه َ َ َ ه ُ ه َ مَ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُه م ََ‬
‫ات َوه َو‬
‫وقوهل‪{ :‬ثم استوى ِإىل السما ِء فسواهن سبع سماو ٍ‬ ‫أحواهلم; ليس هلم نوع من الربح؛ ألن لك عمل صالح رشطه‬
‫ك ِّل َ م‬
‫يش ٍء َعل ٌ‬
‫يم}‬
‫ُ‬ ‫اإليمان; فمن َل إيمان هل َل عمل هل; وهذا اخلسار هو خسار‬
‫ِ‬ ‫بِ‬
‫{ م‬ ‫الكفر‪ ،‬وأما اخلسار اَّلي قد يكون كفرا; وقد يكون‬
‫استَ َوى} ترد يف القرآن ىلع ثالثة معاين‪ :‬فتارة َل تعدى‬
‫معصية; وقد يكون تفريطا يف ترك مستحب‪ ،‬املذكور يف قوهل‬
‫باْلرف‪ ،‬فيكون معناها‪ ,‬الكمال واتلمام‪ ,‬كما يف قوهل عن‬ ‫ُ م‬ ‫ه م مَ َ َ‬
‫موىس‪َ { :‬ول َ هما بَلَ َغ أَ ُش هد ُه َو م‬
‫استَ َوى} وتارة تكون بمعىن " عال "‬
‫رس} فهذا اعم للك خملوق; إَل من‬
‫ٍ‬ ‫خ‬ ‫يف‬
‫اإلنسان ل ِ‬
‫تعاىل‪ِ { :‬إن ِ‬
‫اتصف باإليمان والعمل الصالح; واتلوايص باْلق; واتلوايص‬
‫و " ارتفع " وذلك إذا عديت بـ " ىلع " كما يف قوهل تعاىل‪{ :‬ثم‬
‫َ م َُ ََ ُ ُ‬ ‫بالصرب; وحقيقة فوات اخلري; اَّلي [اكن] العبد بصدد حتصيله‬
‫ورهِ} وتارة تكون‬ ‫استوى ىلع العرش} { ِلتستووا ىلع ظه ِ‬
‫وهو حتت إماكنه‪.‬‬
‫بمعىن " قصد " كما إذا عديت بـ " إىل " كما يف هذه اآلية‪ ،‬أي‪:‬‬
‫ه ُم َم ً‬ ‫َمَ َ مُُ َ‬
‫ملا خلق تعاىل األرض‪ ,‬قصد إىل خلق السماوات {فسواهن سبع‬ ‫اَّلل َوكنتُ مم أم َواتا‬
‫{‪ }28‬ثم قال تعاىل‪{ :‬كيف تكفرون بِ ِ‬
‫ََ م َ ُ م ُ ه ُ ُ ُ م ُ ه ُم ُ م ُ ه َم ُم َ ُ َ‬
‫سماوات} فخلقها وأحكمها‪ ,‬وأتقنها‪{ ,‬وهو بكل يشء عليم}‬ ‫فأحياكم ثم ي ِميتكم ثم حي ِييكم ثم إِيل ِه ترجعون}‬
‫‪14‬‬
‫باألخالق اجلميلة‪ ,‬كمحبة اهلل وخشيته وتعظيمه‪ ,‬ونطهرها‬ ‫فـ {يعلم ما يلج يف األرض وما خيرج منها وما يزنل من السماء‬
‫ُم َ‬ ‫َ م َ ُ َ ُ ُّ َ‬
‫من األخالق الرذيلة‪.‬‬ ‫رسون َو َما تع ِلنُون} يعلم الرس‬ ‫وما يعرج فيها} و {يعلم ما ت ِ‬
‫َ‬ ‫ِّ َ م َ‬ ‫وأخىف‪.‬‬
‫قال اهلل تعاىل للمالئكة‪ِ { :‬إين أعل ُم} من هذا اخلليفة { َما َل‬
‫َمَ َ‬
‫تعل ُمون} ؛ ألن الكمكم ِبسب ما ظننتم‪ ,‬وأنا اعلم بالظواهر‬ ‫وكثريا ما يقرن بني خلقه للخلق وإثبات علمه كما يف هذه‬
‫ُ ه ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ َ م َ‬
‫والرسائر‪ ,‬وأعلم أن اخلري اْلاصل خبلق هذا اخلليفة‪ ,‬أضعاف‬ ‫اآلية‪ ,‬وكما يف قوهل تعاىل‪{ :‬أَل يعل ُم َم من خل َق َوه َو الل ِطيف‬
‫م‬
‫اخلَب ُ‬
‫أضعاف ما يف ضمن ذلك من الرش فلو لم يكن يف ذلك‪ ,‬إَل‬ ‫ري} ألن خلقه للمخلوقات‪ ,‬أدل ديلل ىلع علمه‪ ,‬وحكمته‪,‬‬ ‫ِ‬
‫أن اهلل تعاىل أراد أن جيتيب منهم األنبياء والصديقني‪,‬‬ ‫وقدرته‪.‬‬
‫والشهداء والصاْلني‪ ,‬وتلظهر آياته للخلق‪ ,‬وحيصل من‬ ‫مَ‬ ‫ٌ‬ ‫َ م َ َ ِّ‬ ‫م َ َ‬
‫{‪َ { }34 - 30‬و ِإذ قال َر ُّبك لِل َمالئِك ِة إِين َجا ِعل ِيف األ مر ِض‬
‫العبوديات اليت لم تكن حتصل بدون خلق هذا اخلليفة‪,‬‬ ‫َ َ ً َ ُ َ َ م َ ُ َ َ م ُ م ُ َ َ َ م ُ ِّ َ َ َ م‬
‫اء َوحن ُن‬ ‫خ ِليفة قالوا أِتعل ِفيها من يف ِسد ِفيها ويس ِفك ادلم‬
‫اكجلهاد وغريه‪ ,‬ويلظهر ما كمن يف غرائز بين آدم من اخلري‬ ‫ُ َ ِّ ُ َ م َ َ ُ َ ِّ ُ َ َ َ َ ِّ َ م َ ُ َ َ َ م َ ُ َ َ َ َه‬
‫نسبح ِِبم ِدك ونقدس لك قال إِين أعلم ما َل تعلمون * وعلم‬
‫والرش باَلمتحان‪ ,‬ويلتبني عدوه من ويله‪ ,‬وحزبه من حربه‪,‬‬
‫وِن‬ ‫كة َف َق َال أَنمبئُ‬ ‫َ َ م َ م َ َ ُهَ ُ ه َ َ َ ُ م ََ مَ َ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫آدم األسماء لكها ثم عرضهم ىلع المالئِ ِ‬
‫ويلظهر ما كمن يف نفس إبليس من الرش اَّلي انطوى عليه‪,‬‬ ‫َ َ ُ ُ م َ َ َ َ م َ ه‬ ‫َ َ م ُم‬ ‫َ‬
‫حانك َل ِعل َم نلَا ِإَل‬ ‫بِأ مس َما ِء ه ُؤَل ِء ِإن كنتُ مم َصا ِد ِقني * قالوا سب‬
‫واتصف به‪ ,‬فهذه حكم عظيمة‪ ,‬يكيف بعضها يف ذلك‪.‬‬ ‫َ َم م َ‬ ‫َ َ ه م َ َ ه َ َ م َ م َ ُ مَ ُ َ َ‬
‫يم * قال يَا آد ُم أن ِبئ ُه مم بِأ مس َمائِ ِه مم‬ ‫ك‬
‫ما علمتنا ِإنك أنت الع ِليم اْل ِ‬
‫َ‬
‫ك مم إ ِّين أ معلَ ُم َغيم َ‬ ‫َ َ ه َم ََ ُ م َ م َ م َ َ ََ م ُ م َ ُ‬
‫َ‬
‫ثم ملا اكن قول املالئكة عليهم السالم‪ ,‬فيه إشارة إىل فضلهم‬ ‫ب‬ ‫ِ‬ ‫فلما أنبأهم بِأسمائِ ِهم قال ألم أقل ل‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫ُم َ م‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ مَ‬ ‫مَ‬
‫ىلع اخلليفة اَّلي جيعله اهلل يف األرض‪ ,‬أراد اهلل تعاىل‪ ,‬أن يبني‬ ‫ات َواأل مر ِض َوأعل ُم َما تبم ُدون َو َما كنتُ مم تكتُ ُمون * َو ِإذ‬ ‫ه َ َ‬
‫السماو ِ‬
‫ه م َ ََ‬ ‫ج ُدوا آل َد َم فَ َس َ‬ ‫ُمَ مَ َ َ‬
‫هلم من فضل آدم‪ ,‬ما يعرفون به فضله‪ ,‬وكمال حكمة اهلل‬ ‫يس أَب‬ ‫ج ُدوا ِإَل ِإب ِل‬ ‫ِ‬
‫اس ُ‬‫كة م‬
‫قلنا لِلمالئِ ِ‬
‫َ ه َ َ َ م َ م َ َ ُه‬ ‫رب َو َاك َن ِم َن الم َاكفِر َ‬ ‫َ م َ م‬
‫اء لك َها} أي‪ :‬أسماء األشياء‪ ,‬وما هو‬ ‫وعلمه فـ {علم آدم األسم‬ ‫ين}‬ ‫ِ‬
‫كََ‬ ‫واست‬
‫مسىم بها‪ ،‬فعلمه اَلسم واملسىم‪ ,‬أي‪ :‬األلفاظ واملعاين‪ ,‬حىت‬
‫هذا رشوع يف ذكر فضل آدم عليه السالم أيب البرش أن اهلل‬
‫املكرب من األسماء اكلقصعة‪ ،‬واملصغر اكلقصيعة‪.‬‬
‫حني أراد خلقه أخرب املالئكة بذلك‪ ,‬وأن اهلل مستخلفه يف‬
‫َ‬ ‫َ م َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫{ث هم َع َرض ُه مم} أي‪ :‬عرض املسميات { َىلع ال َمالئِك ِة} امتحانا‬ ‫األرض‪.‬‬
‫هلم‪ ,‬هل يعرفونها أم َل؟‪.‬‬ ‫فقالت املالئكة عليهم السالم‪{ :‬أَ َِتم َع ُل ف َ‬
‫يها َم من ُي مفس ُد ف َ‬
‫يها}‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫{ َف َق َال أَنمبئُوِن بأَ مس َما ِء َه ُؤ ََل ِء إ من ُكنمتُ مم َصادق َ‬
‫ني} يف قولكم‬ ‫اء} [و]هذا ختصيص بعد تعميم‪ ,‬بليان‬ ‫ادل َم َ‬
‫ك ِّ‬‫ََم ُ‬
‫باملعايص {ويس ِف‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫وظنكم‪ ,‬أنكم أفضل من هذا اخلليفة‪.‬‬ ‫[شدة] مفسدة القتل‪ ،‬وهذا ِبسب ظنهم أن اخلليفة املجعول‬
‫َ ُ ُ م َ َ َ‬ ‫يف األرض سيحدث منه ذلك‪ ,‬فزنهوا ابلاري عن ذلك‪,‬‬
‫حانك} أي‪ :‬نزنهك من اَلعرتاض منا عليك‪,‬‬ ‫{قالوا سب‬
‫ه َ‬ ‫ه‬ ‫م َ‬ ‫َ‬ ‫وعظموه‪ ,‬وأخربوا أنهم قائمون بعبادة اهلل ىلع وجه خال من‬
‫وخمالفة أمرك‪َ{ .‬ل ِعل َم نلَا} بوجه من الوجوه { ِإَل َما َعل ممتَنا}‬ ‫َم ُ‬
‫ك ُ‬ ‫ه َ َم َ مَ ُ م‬ ‫املفسدة فقالوا‪َ { :‬وحن ُن ن َسبِّ ُح ِِبَ مم ِد َك} أي‪ :‬نزنهك اتلزنيه‬
‫يم} العليم‬ ‫يم اْل َ ِ‬‫إياه‪ ,‬فضال منك وجودا‪ِ { ،‬إنك أنت الع ِل‬ ‫َ َ‬ ‫ُ َ ِّ‬
‫الالئق ِبمدك وجاللك‪َ { ،‬ونقد ُس لك} حيتمل أن معناها‪:‬‬
‫اَّلي أحاط علما بكل يشء‪ ,‬فال يغيب عنه وَل يعزب مثقال‬
‫ونقدسك‪ ,‬فتكون الالم مفيدة للتخصيص واإلخالص‪،‬‬
‫ذرة يف السماوات واألرض‪ ,‬وَل أصغر من ذلك وَل أكرب‪.‬‬
‫وحيتمل أن يكون‪ :‬ونقدس لك أنفسنا‪ ،‬أي‪ :‬نطهرها‬

‫‪15‬‬
‫ثم عرفه صاحب الفضيلة; فهو أكمل مما عرفه ابتداء‪ ،‬ومنها‪:‬‬ ‫اْلكيم‪ :‬من هل اْلكمة اتلامة اليت َل خيرج عنها خملوق‪ ,‬وَل‬
‫اَلعتبار ِبال أبوي اإلنس واجلن; وبيان فضل آدم; وأفضال‬ ‫يشذ عنها مأمور‪ ،‬فما خلق شيئا إَل ْلكمة‪ :‬وَل أمر بيشء إَل‬
‫اهلل عليه; وعداوة إبليس هل; إىل غري ذلك من العرب‪.‬‬ ‫ْلكمة‪ ،‬واْلكمة‪ :‬وضع اليشء يف موضعه الالئق به‪ ،‬فأقروا‪,‬‬
‫َ م هَ َُ م‬
‫ت َو َز مو ُجك اجلَنة َوالك ِمن َها‬ ‫ك من أَنم َ‬
‫َ ُ مَ َ َ ُ م ُ‬
‫{‪{ }36 - 35‬وقلنا يا آدم اس‬
‫واعرتفوا بعلم اهلل وحكمته‪ ,‬وقصورهم عن معرفة أدىن يشء‪،‬‬

‫ه َ ََ ََ ُ َ َ ه‬ ‫َ َم َ‬ ‫ُ م‬ ‫َ ً‬ ‫واعرتافهم بفضل اهلل عليهم; وتعليمه إياهم ما َل يعلمون‪.‬‬


‫الظالم َ‬
‫ني‬ ‫ِِ‬ ‫َرغدا َحيمث ِشئتُ َما َوَل تق َر َبا ه ِذهِ الشجرة فتكونا ِمن‬
‫ُمَ م‬ ‫َ َ‬ ‫ُ َ م ََ م‬ ‫ه‬ ‫ََ ه‬ ‫َ‬ ‫َ َم م‬
‫* فأ َزل ُه َما الشيم َطان عن َها فأخ َر َج ُه َما ِم هما اكنا ِفي ِه َوقلنا اه ِب ُطوا‬ ‫فحينئذ قال اهلل‪{ :‬يَا آد ُم أن ِبئ ُه مم بِأ مس َمائِ ِه مم} أي‪ :‬أسماء‬
‫ٌ َ‬ ‫َ‬ ‫مَ‬ ‫َ ُ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫م‬ ‫ََ‬
‫َبع ُضك مم ِ َبلع ٍض َع ُد ٌّو َولك مم ِيف األ مر ِض ُم مستَق ٌّر َو َمتَاع ِإىل‬ ‫املسميات اليت عرضها اهلل ىلع املالئكة; فعجزوا عنها‪{ ،‬فل هما‬
‫َم َ ُ َ‬
‫ني}‬ ‫ِح ٍ‬ ‫أنبَأه مم بِأ مس َمائِ ِه مم} تبني للمالئكة فضل آدم عليهم; وحكمة‬
‫َ َ ََ َُ م َ ُ‬
‫ابلاري وعلمه يف استخالف هذا اخلليفة‪{ ،‬قال أل مم أقل لك مم‬
‫ملا خلق اهلل آدم وفضله; أتم نعمته عليه; بأن خلق منه زوجة‬ ‫م‬ ‫َ مَ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫ِّ َ م َ ُ َ‬
‫ات واألر ِض} وهو ما اغب عنا; فلم‬ ‫إِين أعلم غيب السماو ِ‬
‫ليسكن إيلها; ويستأنس بها; وأمرهما بسكىن اجلنة; واألكل‬ ‫َ َ م َُ‬
‫ُ م‬ ‫نشاهده‪ ،‬فإذا اكن اعملا بالغيب; فالشهادة من باب أوىل‪{ ،‬وأعلم‬
‫منها رغدا; أي‪ :‬واسعا هنيئا‪َ { ،‬حيمث ِشئتُ َما} أي‪ :‬من أصناف‬ ‫َ‬ ‫ُم َ م‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ه َ َ َه َُ َ َ َ َ م‬ ‫َما تبم ُدون} أي‪ :‬تظهرون { َو َما كنتُ مم تكتُ ُمون}‬
‫يها َوَل تع َرى‬‫اثلمار والفواكه; وقال اهلل هل‪ِ { :‬إن لك أَل ِتوع ِف‬
‫ََه َ َ َ م َ ُ َ َ َ م‬
‫يها َوَل تض َح}‬ ‫وأنك َل تظمأ ِف‬ ‫ثم أمرهم تعاىل بالسجود آلدم; إكراما هل وتعظيما; وعبودية هلل‬
‫يس‬‫تعاىل‪ ،‬فامتثلوا أمر اهلل; وبادروا لكهم بالسجود‪{ ،‬إ هَل إبمل َ‬
‫ه َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َم‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ج َرة} نوع من أنواع شجر اجلنة; اهلل أعلم‬‫{ َوَل تق َر َبا ه ِذهِ الش‬ ‫ََ‬
‫أَب} امتنع عن السجود; واستكرب عن أمر اهلل وىلع آدم‪ ،‬قال‪:‬‬
‫بها‪ ،‬وإنما نهاهما عنها امتحانا وابتالء [أو ْلكمة غري معلومة‬ ‫ََ م ُ ُ َ م َ َ م َ ً‬
‫ََ ُ َ َ ه‬
‫الظالم َ‬ ‫ت ِطينا} وهذا اإلباء منه واَلستكبار; نتيجة‬ ‫{أأسجد لِمن خلق‬
‫ني} دل ىلع أن انليه للتحريم; ألنه‬ ‫ِِ‬ ‫نلا] {فتكونا ِمن‬
‫الكفر اَّلي هو منطو عليه; فتبينت حينئذ عداوته هلل وآلدم‬
‫رتب عليه الظلم‪.‬‬
‫وكفره واستكباره‪.‬‬
‫فلم يزل عدوهما يوسوس هلما ويزين هلما تناول ما نهيا عنه;‬
‫حىت أزهلما‪ ،‬أي‪ْ :‬حلهما ىلع الزلل بزتيينه‪َ { .‬وقَ َ‬ ‫ويف هذه اآليات من العرب واآليات; إثبات الالكم هلل تعاىل; وأنه‬
‫اس َم ُه َما} باهلل‬
‫ِّ َ ُ‬
‫ك َما ل َ ِم َن ه‬
‫انلاصح َ‬ ‫لم يزل متلكما; يقول ما شاء; ويتلكم بما شاء; وأنه عليم‬
‫ني} فاغرتا به وأطااعه; فأخرجهما مما‬ ‫ِ ِ‬ ‫{إِين ل‬
‫حكيم‪ ،‬وفيه أن العبد إذا خفيت عليه حكمة اهلل يف بعض‬
‫اكنا فيه من انلعيم والرغد; وأهبطوا إىل دار اتلعب وانلصب‬
‫املخلوقات واملأمورات فالوجب عليه; التسليم; واتهام عقله;‬
‫واملجاهدة‪.‬‬
‫واإلقرار هلل باْلكمة‪ ،‬وفيه اعتناء اهلل بشأن املالئكة;‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫م‬
‫{ َبع ُضك مم ِ َبلع ٍض َع ُد ٌّو} أي‪ :‬آدم وذريته; أعداء إلبليس‬ ‫وإحسانه بهم; بتعليمهم ما جهلوا; وتنبيههم ىلع ما لم يعلموه‪.‬‬
‫وذريته‪ ،‬ومن املعلوم أن العدو; جيد وجيتهد يف رضر عدوه‬
‫وفيه فضيلة العلم من وجوه‪:‬‬
‫وإيصال الرش إيله بكل طريق; وحرمانه اخلري بكل طريق‪،‬‬
‫ه‬
‫فيف ضمن هذا‪ ,‬حتذير بين آدم من الشيطان كما قال تعاىل { ِإن‬ ‫منها‪ :‬أن اهلل تعرف ملالئكته; بعلمه وحكمته ‪ ،‬ومنها‪ :‬أن اهلل‬
‫ُ ُ ُ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ه مَ َ َ ُ م َ ُ َ ه‬
‫اخت ُذ ُ‬
‫وه َع ُد ًّوا ِإن َما يَد ُعو ِح مز َبه ِيلَكونوا‬ ‫الشيطان لكم عد ٌّو ف ِ‬ ‫عرفهم فضل آدم بالعلم; وأنه أفضل صفة تكون يف العبد‪،‬‬
‫ُ‬ ‫َ َ َ ه ُ َ ُ َ ُ ِّ ه َ ُ َ م َ َ م ُ‬ ‫م من أَ مص َ‬
‫وِن َوه مم‬
‫ِ‬ ‫د‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫اء‬ ‫يل‬
‫ِ‬ ‫و‬ ‫أ‬ ‫ه‬‫ت‬‫ي‬ ‫ر‬ ‫ذ‬‫و‬ ‫ه‬ ‫ون‬ ‫ذ‬ ‫خ‬
‫ِ‬ ‫ت‬‫ت‬ ‫ف‬ ‫أ‬ ‫{‬ ‫}‬ ‫ري‬
‫ِ‬ ‫ع‬‫ِ‬
‫حاب ه‬
‫الس‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ومنها‪ :‬أن اهلل أمرهم بالسجود آلدم; إكراما هل; ملا بان فضل‬
‫َ ًََ‬ ‫ه‬ ‫م‬ ‫َ ُ‬
‫لك مم َع ُد ٌّو بِئ َس لِلظال ِ ِمني بدَل}‬ ‫علمه‪ ،‬ومنها‪ :‬أن اَلمتحان للغري; إذا عجزوا عما امتحنوا به;‬
‫‪16‬‬
‫م‬ ‫مَ‬ ‫َ ُ‬
‫نيف اخلوف واْلزن والفرق بينهما‪ ,‬أن املكروه إن اكن قد مىض‪,‬‬ ‫ثم ذكر منتىه اإلهباط إىل األرض‪ ،‬فقال‪َ { :‬ولك مم ِيف األر ِض‬
‫َََ ٌ َ‬ ‫ُ م َ َ ٌّ‬
‫أحدث اْلزن‪ ,‬وإن اكن منتظرا‪ ,‬أحدث اخلوف‪ ،‬فنفاهما عمن‬ ‫ني} انقضاء‬ ‫مستقر} أي‪ :‬مسكن وقرار‪{ ،‬ومتاع ِإىل ِح ٍ‬
‫اتبع هداه وإذا انتفيا‪ ,‬حصل ضدهما‪ ,‬وهو األمن اتلام‪ ،‬وكذلك‬ ‫آجالكم‪ ,‬ثم تنتقلون منها لدلار اليت خلقتم هلا‪ ,‬وخلقت‬
‫نيف الضالل والشقاء عمن اتبع هداه وإذا انتفيا ثبت ضدهما‪،‬‬ ‫لكم‪ ،‬ففيها أن مدة هذه اْلياة‪ ,‬مؤقتة اعرضة‪ ,‬ليست مسكنا‬
‫وهو اهلدى والسعادة‪ ،‬فمن اتبع هداه‪ ,‬حصل هل األمن والسعادة‬ ‫حقيقيا‪ ,‬وإنما يه معرب يزتود منها تللك ادلار‪ ,‬وَل تعمر‬
‫ادلنيوية واألخروية واهلدى‪ ،‬وانتىف عنه لك مكروه‪ ,‬من‬ ‫لالستقرار‪.‬‬
‫اخلوف‪ ,‬واْلزن‪ ,‬والضالل‪ ,‬والشقاء‪ ،‬فحصل هل املرغوب‪,‬‬ ‫َ َه َ‬
‫{‪{ }37‬فتَلىق آد ُم}‬
‫واندفع عنه املرهوب‪ ،‬وهذا عكس من لم يتبع هداه‪ ,‬فكفر‬
‫به‪ ,‬وكذب بآياته‪.‬‬ ‫ات}‬ ‫{ َفتَلَ هىق آ َد ُم} أي‪ :‬تلقف وتلقن‪ ,‬وأهلمه اهلل {م من َر ِّبه َ َ‬
‫لكم ٍ‬‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ َ َ َمُ َ‬
‫ويه قوهل‪َ { :‬ر هبنا ظل ممنا أنف َسنا} اآلية‪ ،‬فاعرتف بذنبه وسأل اهلل‬
‫فـ {أوَلك أصحاب انلار} أي‪ :‬املالزمون هلا‪ ,‬مالزمة‬ ‫اب} اهلل { َعلَيم ِه} ورْحه {إنه ُه ُه َو ه‬
‫اتل هو ُ‬ ‫مغفرته { َفتَ َ‬
‫ُ م َ َ ُ َ‬ ‫اب} ملن تاب‬ ‫ِ‬
‫ادلون} َل‬
‫الصاحب لصاحبه‪ ,‬والغريم لغريمه‪{ ،‬هم ِفيها خ ِ‬
‫إيله وأناب‪.‬‬
‫خيرجون منها‪ ،‬وَل يفرت عنهم العذاب وَل هم ينِّصون‪.‬‬
‫وتوبته نواعن‪ :‬توفيقه أوَل‪ ,‬ثم قبوهل للتوبة إذا اجتمعت‬
‫ويف هذه اآليات وما أشبهها‪ ,‬انقسام اخللق من اجلن واإلنس‪,‬‬
‫رشوطها ثانيا‪.‬‬
‫إىل أهل السعادة‪ ,‬وأهل الشقاوة‪ ,‬وفيها صفات الفريقني‬
‫واألعمال املوجبة َّللك‪ ،‬وأن اجلن اكإلنس يف اثلواب والعقاب‪,‬‬ ‫يم} بعباده‪ ,‬ومن رْحته بهم‪ ,‬أن وفقهم للتوبة‪ ,‬وعفا عنهم‬ ‫ه‬
‫{الر ِح ِ‬
‫كما أنهم مثلهم‪ ,‬يف األمر وانليه‪.‬‬ ‫وصفح‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ُ ً‬ ‫م ه ُ‬ ‫مَ َ ً َ‬ ‫ُ مَ م ُ‬
‫ثم رشع تعاىل يذكر بين إرسائيل نعمه عليهم وإحسانه فقال‪:‬‬ ‫يعا ف ِإ هما يَأتِيَنك مم ِم ِّين هدى‬‫مج‬
‫{‪{ }39 - 38‬قلنا اه ِبطوا ِمنها ِ‬
‫ه‬
‫اَّل َ‬ ‫َ َ م َ َ ُ َ َ ََ َ مٌ َ َم م َ ُ م َم ُ َ‬
‫يت الهيت أَ من َع مم ُ‬ ‫ين‬ ‫اي فال خوف علي ِهم َوَل هم حي َزنون * َو ِ‬ ‫فمن ت ِبع هد‬
‫ت‬ ‫اذ ُك ُروا نِ مع َم َ‬
‫م َ َ م‬
‫{‪{ }43 - 40‬يَا بَ ِين إِرسا ِئيل‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ م َ ُ ه ُ م َ َ ُ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ك َف ُروا َو َك هذبُ‬
‫َ‬
‫َم ُ م َ ه َ َ مَُ‬ ‫ُ‬ ‫َم‬ ‫َ َم ُ م َمُ‬ ‫ادلون}‬ ‫ار هم ِفيها خ ِ‬ ‫ِ‬ ‫انل‬ ‫اب‬ ‫ح‬ ‫ص‬ ‫أ‬ ‫ك‬ ‫وَل‬
‫ِ‬ ‫أ‬ ‫ا‬ ‫ن‬‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ا‬ ‫آي‬‫ِ‬ ‫ب‬ ‫وا‬
‫ون *‬ ‫وف بِعه ِدكم و ِإياي فارهب ِ‬ ‫عليكم َوأوفوا بِعه ِدي أ ِ‬
‫َ ُ َ َ م َ م ُ ُ َ ِّ ً َ َ َ ُ م َ َ َ ُ ُ َ ه َ َ‬
‫وآ ِمنوا بِما أنزلت مصدقا لِما معكم وَل تكونوا أول اكفِ ٍر بِ ِه‬ ‫كمم‬‫َ ه َم َه ُ‬
‫كرر اإلهباط‪ ,‬لريتب عليه ما ذكر وهو قوهل‪{ :‬ف ِإما يأتِين‬
‫م‬ ‫َ َم‬ ‫َ ًََ َ ً َ ه َ َ هُ‬ ‫ََ َم َُ‬ ‫م ِّين ُه ًدى} أي‪ :‬ه‬
‫ون * َوَل تل ِب ُسوا اْل َ هق‬ ‫وَل تشرتوا بِآي ِايت ثمنا ق ِليال و ِإياي فاتق ِ‬ ‫أي وقت وزمان جاءكم مين ‪-‬يا معرش‬ ‫ِ‬
‫ه َ َ ُ‬
‫الصالة َوآتوا‬ ‫ون * َوأَق ُ‬
‫يموا‬
‫مَ ه َ َ م ُ م َ م َ ُ َ‬ ‫َ م‬
‫اط ِل َوتكتُ ُموا اْلق وأنتم تعلم‬ ‫ب مَ‬
‫ِ‬ ‫ابل ِ‬ ‫ِ‬ ‫اثلقلني‪ -‬هدى‪ ,‬أي‪ :‬رسول وكتاب يهديكم ملا يقربكم مين‪,‬‬
‫الراكع َ‬ ‫َ‬
‫م ُ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ه‬
‫ني}‬ ‫الزاكة َواركعوا مع ه ِ ِ‬ ‫ويدنيكم مين; ويدنيكم من رضايئ‪{ ،‬فمن تبع هداي}‬
‫م َ َ‬ ‫منكم‪ ,‬بأن آمن برسيل وكتيب‪ ,‬واهتدى بهم‪ ,‬وذلك بتصديق‬
‫رسا ِئيل} املراد بإرسائيل‪ :‬يعقوب عليه السالم‪،‬‬ ‫{يَا بَ ِين ِإ‬
‫مجيع أخبار الرسل والكتب‪ ,‬واَلمتثال لألمر واَلجتناب‬
‫واخلطاب مع فرق بين إرسائيل‪ ,‬اَّلين باملدينة وما حوهلا‪,‬‬ ‫َ ُ َم ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ َ ٌ‬
‫للنيه‪{ ،‬فال خ موف َعليم ِه مم َوَل ه مم حي َزنون}‬
‫ويدخل فيهم من أىت من بعدهم‪ ,‬فأمرهم بأمر اعم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫م ُ ُ م َ َ ه َمَ م ُ َ ُ‬ ‫ُّ َ م َ‬ ‫ََ هََ ُ َ َ ََ‬
‫ت َعليمك مم} وهو يشمل سائر انلعم‬‫{اذكروا نِعم ِيت ال ِيت أنعم‬ ‫اي فال يَ ِضل َوَل يَشىق}‬ ‫ويف اآلية األخرى‪{ :‬فم ِن اتبع هد‬
‫اليت سيذكر يف هذه السورة بعضها‪ ،‬واملراد بذكرها بالقلب‬
‫فرتب ىلع اتباع هداه أربعة أشياء‪:‬‬

‫‪17‬‬
‫أنزل إيلكم‪ ,‬ومن كذب ببعض ما أنزل إيله‪ ,‬فقد كذب‬ ‫اعرتافا‪ ,‬وباللسان ثناء‪ ,‬وباجلوارح باستعماهلا فيما حيبه‬
‫جبميعه‪ ،‬كما أن من كفر برسول‪ ,‬فقد كذب الرسل مجيعهم‪.‬‬ ‫ويرضيه‪.‬‬

‫م‬ ‫َ ُ‬
‫فلما أمرهم باإليمان به‪ ,‬نهاهم وحذرهم من ضده وهو الكفر‬ ‫{ َوأ موفوا بِ َعه ِدي} وهو ما عهده إيلهم من اإليمان به‪ ,‬وبرسله‬
‫َ َ ُ ُ َ َ َ‬
‫به فقال‪َ { :‬وَل تكونوا أ هول اكفِ ٍر بِ ِه} أي‪ :‬بالرسول والقرآن‪.‬‬ ‫وإقامة رشعه‪.‬‬
‫َ َ َ‬ ‫م ُ‬ ‫ُ‬
‫ويف قوهل‪{ :‬أ هول اكفِ ٍر بِ ِه} أبلغ من قوهل‪{ :‬وَل تكفروا به} ألنهم‬ ‫وف بِ َعه ِدك مم} وهو املجازاة ىلع ذلك‪.‬‬
‫{أ ِ‬
‫إذا اكنوا أول اكفر به‪ ,‬اكن فيه مبادرتهم إىل الكفر به‪ ,‬عكس‬ ‫َََ م َ َ َ هُ َ َ‬
‫اَّلل ِميثاق بَ ِين‬ ‫واملراد بذلك‪ :‬ما ذكره اهلل يف قوهل‪{ :‬ولقد أخذ‬
‫ما ينبيغ منهم‪ ,‬وصار عليهم إثمهم وإثم من اقتدى بهم من‬ ‫َ‬
‫ك مم ل م‬‫ََ ُ‬ ‫ِّ‬ ‫رش نَقيبًا َوقَ َال ه ُ‬‫م َ َ َََمَ مُ ُ مَم َ َ‬
‫ِئ‬ ‫ِ‬ ‫اَّلل ِإين مع‬ ‫ين ع َ ِ‬ ‫ِإرسا ِئيل وبعثنا ِمنهم اث‬
‫بعدهم‪.‬‬ ‫ََ م‬ ‫ََ م ُ ُ ه َ َ َ َمُ ُ ه َ َ َ َ م‬
‫آمنتُ مم بِ ُر ُس ِيل]} إىل قوهل‪{ :‬فقد‬ ‫أقمتم الصالة [وآتيتم الزاكة و‬
‫ثم ذكر املانع هلم من اإليمان‪ ,‬وهو اختيار العرض األدىن ىلع‬ ‫يل}‬ ‫َ ه َ َ َ ه‬
‫ضل سواء الس ِب ِ‬
‫َ ً َ ً‬ ‫السعادة األبدية‪ ،‬فقال‪َ { :‬و ََل ت َ مش َ ُ‬
‫رتوا بِآيَ ِايت ث َمنا ق ِليال} وهو ما‬
‫ثم أمرهم بالسبب اْلامل هلم ىلع الوفاء بعهده‪ ,‬وهو الرهبة منه‬
‫حيصل هلم من املناصب واملآلك‪ ,‬اليت يتوهمون انقطاعها‪ ,‬إن‬ ‫َ م‬
‫خشيَه أوجبت هل خشيته امتثال‬ ‫تعاىل‪ ,‬وخشيته وحده‪ ,‬فإن من ِ‬
‫آمنوا باهلل ورسوهل‪ ,‬فاشرتوها بآيات اهلل واستحبوها‪ ,‬وآثروها‪.‬‬
‫أمره واجتناب نهيه‪.‬‬
‫َ هُ‬ ‫َ ه َ‬
‫ون} فإنكم إذا اتقيتم اهلل وحده‪,‬‬
‫{و ِإياي} أي‪َ :‬ل غريي {فاتق ِ‬
‫ثم أمرهم باألمر اخلاص‪ ,‬اَّلي َل يتم إيمانهم‪ ,‬وَل يصح إَل به‬
‫أوجبت لكم تقواه‪ ,‬تقديم اإليمان بآياته ىلع اثلمن القليل‪،‬‬
‫ت} وهو القرآن اَّلي أنزهل ىلع عبده‬ ‫فقال‪َ { :‬وآمنُوا ب َما أَنم َزلم ُ‬
‫ِ ِ‬
‫كما أنكم إذا اخرتتم اثلمن القليل‪ ,‬فهو ديلل ىلع ترحل‬
‫ورسوهل حممد صىل اهلل عليه وسلم‪ ،‬فأمرهم باإليمان به‪,‬‬
‫اتلقوى من قلوبكم‪.‬‬
‫واتباعه‪ ,‬ويستلزم ذلك‪ ,‬اإليمان بمن أنزل عليه‪ ،‬وذكر ادلايع‬
‫َ م‬ ‫م‬
‫اْل َ هق ب م َ‬ ‫ثم قال‪َ { :‬و ََل تَلمب ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ ً‬
‫اط ِل َوتكتُ ُموا‬
‫ابل ِ‬ ‫ِ‬ ‫{‬ ‫ختلطوا‬ ‫أي‪:‬‬ ‫}‬‫وا‬‫س‬ ‫ِ‬ ‫إليمانهم به‪ ،‬فقال‪ُ { :‬م َصدقا ل ِ َما َم َعك مم} أي‪ :‬موافقا هل َل‬
‫م‬
‫اْل َ هق} فنهاهم عن شيئني‪ ,‬عن خلط اْلق بابلاطل‪ ,‬وكتمان‬ ‫خمالفا وَل مناقضا‪ ،‬فإذا اكن موافقا ملا معكم من الكتب‪ ,‬غري‬
‫اْلق؛ ألن املقصود من أهل الكتب والعلم‪ ,‬تميزي اْلق‪ ,‬وإظهار‬ ‫خمالف هلا; فال مانع لكم من اإليمان به‪ ,‬ألنه جاء بما جاءت‬
‫اْلق‪ ,‬يلهتدي بذلك املهتدون‪ ,‬ويرجع الضالون‪ ,‬وتقوم اْلجة‬ ‫به املرسلون‪ ,‬فأنتم أوىل من آمن به وصدق به‪ ,‬لكونكم أهل‬
‫ىلع املعاندين؛ ألن اهلل فصل آياته وأوضح بيناته‪ ,‬يلمزي اْلق‬ ‫الكتب والعلم‪.‬‬
‫من ابلاطل‪ ,‬ولتستبني سبيل املهتدين من سبيل املجرمني‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ِّ ً‬
‫وأيضا فإن يف قوهل‪ُ { :‬م َصدقا ل ِ َما َم َعك مم} إشارة إىل أنكم إن‬
‫فمن عمل بهذا من أهل العلم‪ ,‬فهو من خلفاء الرسل وهداة‬
‫لم تؤمنوا به‪ ,‬اعد ذلك عليكم‪ ,‬بتكذيب ما معكم‪ ,‬ألن ما‬
‫األمم‪.‬‬
‫جاء به هو اَّلي جاء به موىس وعيىس وغريهما من األنبياء‪،‬‬
‫ومن لبس اْلق بابلاطل‪ ,‬فلم يمزي هذا من هذا‪ ,‬مع علمه‬ ‫فتكذيبكم هل تكذيب ملا معكم‪.‬‬
‫بذلك‪ ,‬وكتم اْلق اَّلي يعلمه‪ ,‬وأمر بإظهاره‪ ,‬فهو من داعة‬
‫وأيضا‪ ,‬فإن يف الكتب اليت بأيدكم‪ ,‬صفة هذا انليب اَّلي جاء‬
‫جهنم‪ ,‬ألن انلاس َل يقتدون يف أمر دينهم بغري علمائهم‪,‬‬
‫بهذا القرآن والبشارة به‪ ،‬فإن لم تؤمنوا به‪ ,‬كذبتم ببعض ما‬
‫فاختاروا ألنفسكم إحدى اْلاتلني‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫ه َ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ه َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ََ‬
‫عدم اَلنقياد ملن خيالف قوهل فعله‪ ،‬فاقتداؤهم باألفعال أبلغ‬ ‫ثم قال‪{ :‬وأ ِقيموا الصالة} أي‪ :‬ظاهرا وباطنا {وآتوا الزاكة}‬
‫الراكع َ‬ ‫م َُ َ َ‬
‫من اقتدائهم باألقوال املجردة‪.‬‬ ‫ني} أي‪ :‬صلوا مع املصلني‪،‬‬ ‫مستحقيها‪َ { ،‬واركعوا مع ه ِ ِ‬
‫ه م َ ه َ َ هَ َ َ ٌَ ه َ‬ ‫فإنكم إذا فعلتم ذلك مع اإليمان برسل اهلل وآيات اهلل‪ ,‬فقد‬
‫رية ِإَل َىلع‬ ‫رب والصال ِة و ِإنها لك ِب‬ ‫ِ‬ ‫استَ ِعينُوا بِالص‬ ‫{‪َ { }48 - 45‬و م‬
‫َ‬
‫اج ُعون‬ ‫ون أَ هن ُه مم ُم َالقُو َر ِّبه مم َوأَ هن ُه مم إ َيلمه َ‬
‫ر‬
‫َ ه َ َ ُ ُّ َ‬
‫ن‬‫ظ‬ ‫ي‬ ‫ين‬ ‫اَّل‬
‫ِ‬ ‫*‬ ‫ني‬ ‫ع‬ ‫اش‬
‫م‬
‫اخل َ‬ ‫مجعتم بني األعمال الظاهرة وابلاطنة‪ ,‬وبني اإلخالص للمعبود‪,‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫م َ َ ه َ م َ م ُ َ َ م ُ م َ َ ِّ‬ ‫م َ َ م ُُ‬ ‫واإلحسان إىل عبيده‪ ،‬وبني العبادات القلبية ابلدنية واملايلة‪.‬‬
‫* يَا بَ ِين ِإرسا ِئيل اذكروا نِعم ِيت ال ِيت أنعمت عليكم وأين‬
‫َ َم‬ ‫َ َم َم‬ ‫هُ‬ ‫ىلع الم َعالَم َ‬‫َ ه مُ ُ م ََ‬ ‫م َُ َ َ‬
‫ني * َواتقوا يَ مو ًما َل ِت ِزي نف ٌس ع من نف ٍس‬ ‫ِ‬ ‫فضلتكم‬ ‫الراكع َ‬
‫ني} أي‪ :‬صلوا مع املصلني‪ ,‬ففيه‬ ‫وقوهل‪َ { :‬واركعوا مع ه ِ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫م‬ ‫م َ ُ م‬ ‫َ‬ ‫َ مً ََ ُ م َُ مَ َ َ َ ٌ‬
‫اعة َوَل يُؤخذ ِمن َها َعدل َوَل ه مم‬ ‫شيئا وَل يقبل ِمنها شف‬ ‫األمر باجلماعة للصالة ووجوبها‪ ،‬وفيه أن الركوع ركن من‬
‫ُم َ ُ َ‬ ‫أراكن الصالة ألنه ر‬
‫ِّصون}‬ ‫ين‬ ‫عرب عن الصالة بالركوع‪ ،‬واتلعبري عن‬
‫العبادة جبزئها يدل ىلع فرضيته فيها‪.‬‬
‫أمرهم اهلل أن يستعينوا يف أمورهم لكها بالصرب جبميع أنواعه‪،‬‬
‫اس بالمرب}ِّ‬ ‫انل َ‬
‫ون ه‬‫ََمُ ُ َ‬
‫وهو الصرب ىلع طاعة اهلل حىت يؤديها‪ ،‬والصرب عن معصية اهلل‬ ‫ِ ِ‬ ‫{‪{ }44‬أتأمر‬
‫حىت يرتكها‪ ,‬والصرب ىلع أقدار اهلل املؤملة فال يتسخطها‪،‬‬ ‫َم َ‬ ‫اس بال م ِّ‬‫انل َ‬ ‫ََمُ ُ َ‬
‫رب} أي‪ :‬باإليمان واخلري { َوتن َس مون‬ ‫ِ ِ‬
‫ون ه‬ ‫{أتأمر‬
‫فبالصرب وحبس انلفس ىلع ما أمر اهلل بالصرب عليه معونة‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َمُ‬
‫أنف َسك مم} أي‪ :‬ترتكونها عن أمرها بذلك‪ ،‬واْلال‪َ { :‬وأنتُ مم‬
‫عظيمة ىلع لك أمر من األمور‪ ,‬ومن يتصرب يصربه اهلل‪ ،‬وكذلك‬ ‫َمُ َ م َ َ َََ َم ُ َ‬
‫اب أفال تع ِقلون} وأسىم العقل عقال ألنه يعقل‬ ‫كت‬
‫تتلون ال ِ‬
‫الصالة اليت يه مزيان اإليمان‪ ,‬وتنىه عن الفحشاء واملنكر‪,‬‬
‫ه‬ ‫به ما ينفعه من اخلري‪ ,‬وينعقل به عما يرضه‪ ،‬وذلك أن العقل‬
‫يستعان بها ىلع لك أمر من األمور { َو ِإن َها} أي‪ :‬الصالة‬
‫ه ََ م‬
‫اخلَاشع َ‬ ‫َ َ ٌَ‬ ‫حيث صاحبه أن يكون أول فاعل ملا يأمر به‪ ,‬وأول تارك ملا‬
‫ني} فإنها سهلة عليهم‬ ‫ِ ِ‬ ‫رية} أي‪ :‬شاقة { ِإَل ىلع‬‫{لك ِب‬
‫ينىه عنه‪ ،‬فمن أمر غريه باخلري ولم يفعله‪ ,‬أو نهاه عن الرش‬
‫خفيفة؛ ألن اخلشوع‪ ,‬وخشية اهلل‪ ,‬ورجاء ما عنده يوجب هل‬
‫فلم يرتكه‪ ,‬دل ىلع عدم عقله وجهله‪ ,‬خصوصا إذا اكن اعملا‬
‫فعلها‪ ,‬منرشحا صدره لرتقبه للثواب‪ ,‬وخشيته من العقاب‪،‬‬
‫بذلك‪ ,‬قد قامت عليه اْلجة‪.‬‬
‫خبالف من لم يكن كذلك‪ ,‬فإنه َل دايع هل يدعوه إيلها‪ ,‬وإذا‬
‫فعلها صارت من أثقل األشياء عليه‪.‬‬ ‫وهذه اآلية‪ ,‬وإن اكنت نزلت يف سبب بين إرسائيل‪ ,‬فيه اعمة‬
‫َ َ ُّ َ ه َ َ ُ َ َ ُ ُ َ َ َ‬
‫اَّلين آمنوا لِم تقولون ما َل‬‫للك أحد لقوهل تعاىل‪{ :‬يا أيها ِ‬
‫واخلشوع هو‪ :‬خضوع القلب وطمأنينته‪ ,‬وسكونه هلل تعاىل‪,‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َم َ ُ َ ََُ َ مً مَ ه َ م َُ‬
‫اَّلل أن تقولوا َما َل تف َعلون} وليس يف‬
‫تفعلون كرب مقتا ِعند ِ‬
‫وانكساره بني يديه‪ ,‬ذَل وافتقارا‪ ,‬وإيمانا به وبلقائه‪.‬‬
‫اآلية أن اإلنسان إذا لم يقم بما أمر به أنه يرتك األمر باملعروف‪,‬‬
‫َ ُ‬ ‫َه‬ ‫ه َ َ ُ ُّ َ‬
‫ين يظنون} أي‪ :‬يستيقنون {أن ُه مم ُمالقو َر ِّب ِه مم}‬ ‫اَّل‬
‫وهلذا قال‪ِ { :‬‬ ‫وانليه عن املنكر‪ ,‬ألنها دلت ىلع اتلوبيخ بالنسبة إىل‬
‫َ‬ ‫َ هُ م َم َ‬ ‫َ‬
‫اج ُعون} فهذا اَّلي خفف‬ ‫فيجازيهم بأعماهلم {وأنهم ِإيل ِه ر ِ‬ ‫الواجبني‪ ،‬وإَل فمن املعلوم أن ىلع اإلنسان واجبني‪ :‬أمر غريه‬
‫عليهم العبادات وأوجب هلم التسيل يف املصيبات‪ ,‬ونفس‬ ‫ونهيه‪ ,‬وأمر نفسه ونهيها‪ ،‬فرتك أحدهما‪َ ,‬ل يكون رخصة يف‬
‫عنهم الكربات‪ ,‬وزجرهم عن فعل السيئات‪ ،‬فهؤَلء هلم انلعيم‬ ‫ترك اآلخر‪ ،‬فإن الكمال أن يقوم اإلنسان بالواجبني‪ ,‬وانلقص‬
‫املقيم يف الغرفات العايلات‪ ،‬وأما من لم يؤمن بلقاء ربه‪ ,‬اكنت‬ ‫الاكمل أن يرتكهما‪ ،‬وأما قيامه بأحدهما دون اآلخر‪ ,‬فليس يف‬
‫الصالة وغريها من العبادات من أشق يشء عليه‪.‬‬ ‫رتبة األول‪ ,‬وهو دون األخري‪ ،‬وأيضا فإن انلفوس جمبولة ىلع‬

‫‪19‬‬
‫كمم‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ م َ مُُ َمُ َ ُ م َ ُ م َ مٌ َ ُ م م َ‬ ‫َ‬
‫ارئِ‬
‫ارئِكم فاقتلوا أنفسكم ذ ِلكم خري لكم ِعند ب ِ‬ ‫ب ِ‬ ‫ثم كرر ىلع بين إرسائيل اتلذكري بنعمته‪ ,‬وعظا هلم‪ ,‬وحتذيرا‬
‫َ َ‬ ‫م ُم‬ ‫ََ َ َ َم ُ‬
‫ك مم إنه ُه ُه َو ه‬
‫يم * َو ِإذ قلتُ مم يَا ُموىس ل من‬ ‫الر ِح ُ‬
‫اب ه‬ ‫اتل هو ُ‬
‫ِ‬ ‫فتاب علي‬ ‫وحثا‪.‬‬
‫َ‬
‫هَ َ مًَ َ َ َم ُ ُ ه َ ُ م‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُم‬
‫الصا ِعقة َوأنتُ مم‬ ‫نؤ ِم َن لك َح هىت ن َرى اَّلل جهرة فأخذتكم‬ ‫َ َم‬
‫ُ َ ه ُ َم ُ َ‬ ‫م‬ ‫مَ ُ‬ ‫َمُ َ ُ‬ ‫وخوفهم بيوم القيامة اَّلي {َل ِت ِزي} فيه‪ ،‬أي‪َ :‬ل تغين‬
‫تنظ ُرون * ث هم َب َعثناك مم ِم من َبع ِد َم موتِك مم ل َعلك مم تشك ُرون *‬ ‫َم‬
‫ُُ‬ ‫َ َ ه مَ َ َم ُ ُ مَ َ َ ََمَ مَ َ َم ُ ُ مَ ه َ ه م‬ ‫{نف ٌس} ولو اكنت من األنفس الكريمة اكألنبياء والصاْلني‬
‫السل َوى لكوا‬ ‫وظللنا عليكم الغمام وأنزنلا عليكم المن و‬ ‫َ م‬ ‫َ َم‬
‫َ‬
‫َ ُ مُ‬ ‫َ ََمَ ُ م ََ َ َُ َ ََ‬ ‫{ع من نف ٍس} ولو اكنت من العشرية األقربني {شيئًا} َل كبريا‬
‫ك من اكنوا أنف َس ُه مم‬ ‫ات ما رزقناكم وما ظلمونا ول ِ‬
‫م َ ِّ َ‬
‫ِمن طيب ِ‬
‫َ‬ ‫َم‬ ‫وَل صغريا وإنما ينفع اإلنسان عمله اَّلي قدمه‪.‬‬
‫يظ ِل ُمون}‬
‫َ ُم ُ م‬
‫{ َوَل يقبَل ِمن َها} أي‪ :‬انلفس‪ ,‬شفاعة ألحد بدون إذن اهلل‬
‫هذا رشوع يف تعداد نعمه ىلع بين إرسائيل ىلع وجه اتلفصيل‬
‫َ‬ ‫َ م َهمَ ُ م م‬ ‫ورضاه عن املشفوع هل‪ ,‬وَل يرىض من العمل إَل ما أريد به‬
‫آل فِ مر َع مون} أي‪ :‬من فرعون وملئه‬
‫فقال‪{ :‬و ِإذ جنيناكم ِمن ِ‬ ‫مٌ‬ ‫َ م َ ُ م‬
‫َُ ُ َ ُ‬ ‫وجهه‪ ،‬واكن ىلع السبيل والسنة‪َ { ،‬وَل يُؤخذ ِمن َها َعدل} أي‪:‬‬
‫ومونك مم} أي‪ :‬يولونهم‬ ‫وجنوده واكنوا قبل ذلك {يس‬
‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ مَ َ‬ ‫فداء {ولو أن لذلين ظلموا ما يف األرض مجيعا ومثله معه‬
‫اب} أي‪ :‬أشده بأن اكنوا {يُذِبُون‬ ‫ويستعملونهم‪{ ،‬سوء العذ ِ‬ ‫َ ُ‬
‫ََم َ مُ َ َ َ ُ‬ ‫َمَ َ ُ‬ ‫َلفتدوا به من سوء العذاب} وَل يقبل منهم ذلك { َوَل ه مم‬
‫اءك مم} أي‪ :‬فال‬ ‫اءك مم} خشية نموكم‪{ ،‬ويستحيون نِس‬ ‫أبن‬ ‫ُم َ ُ َ‬
‫ِّصون} أي‪ :‬يدفع عنهم املكروه‪ ،‬فنىف اَلنتفاع من اخللق‬ ‫ين‬
‫يقتلونهن‪ ،‬فأنتم بني قتيل ومذلل باألعمال الشاقة‪ ،‬مستحِي‬ ‫َ م‬ ‫َ َم‬ ‫َ َم َم‬
‫بوجه من الوجوه‪ ،‬فقوهل‪َ{ :‬ل ِت ِزي نف ٌس ع من نف ٍس شيئًا} هذا‬
‫ىلع وجه املنة عليه واَلستعالء عليه فهذا اغية اإلهانة‪ ،‬فمن‬ ‫ََ ُ م ُم َ ُ َ‬
‫ِّصون} هذا يف دفع املضار‪ ,‬فهذا‬ ‫يف حتصيل املنافع‪{ ،‬وَل هم ين‬
‫اهلل عليهم بانلجاة اتلامة وإغراق عدوهم وهم ينظرون تلقر‬
‫انليف لألمر املستقل به انلافع‪.‬‬
‫أعينهم‪.‬‬

‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫{وَل يقبل منها شفاعة وَل يؤخذ منها عدل} هذا نيف للنفع‬
‫{ َو ِيف ذ ِلكم} أي‪ :‬اإلجناء {بَال ٌء} أي‪ :‬إحسان { ِم من َر ِّبك مم‬
‫َعظ ٌ‬ ‫اَّلي يطلب ممن يملكه بعوض‪ ,‬اكلعدل‪ ,‬أو بغريه‪ ,‬اكلشفاعة‪،‬‬
‫يم} فهذا مما يوجب عليكم الشكر والقيام‪.‬‬ ‫ِ‬
‫فهذا يوجب للعبد أن ينقطع قلبه من اتلعلق باملخلوقني‪,‬‬
‫ثم ذكر منته عليهم بوعده ملوىس أربعني يللة يلزنل عليهم‬ ‫لعلمه أنهم َل يملكون هل مثقال ذرة من انلفع‪ ,‬وأن يعلقه باهلل‬
‫اتلوراة املتضمنة للنعم العظيمة واملصالح العميمة‪ ،‬ثم إنهم لم‬ ‫اَّلي جيلب املنافع‪ ,‬ويدفع املضار‪ ,‬فيعبده وحده َل رشيك هل‬
‫يصربوا قبل استكمال امليعاد حىت عبدوا العجل من بعده‪ ,‬أي‪:‬‬ ‫ويستعينه ىلع عبادته‪.‬‬
‫ذهابه‪.‬‬ ‫ك مم ُس َ‬ ‫م َم َ َُ ُ َ ُ‬ ‫َ م َهمَ ُ م م‬
‫وء‬ ‫آل ِفرعون يسومون‬ ‫{‪{ }57 - 49‬و ِإذ جنيناكم ِمن ِ‬
‫َ‬ ‫َم َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ َ ِّ ُ َ َ م َ َ ُ م َ َ م َ م ُ َ َ َ ُ‬ ‫مَ َ‬
‫{ َوأنتُ مم ظال ِ ُمون} اعملون بظلمكم‪ ,‬قد قامت عليكم اْلجة‪,‬‬ ‫اءك مم َو ِيف ذ ِلك مم‬ ‫اب يذِبون أبناءكم ويستحيون نِس‬ ‫العذ ِ‬
‫ُ ُ مَ م ََ م َ ُ‬ ‫م َ مَ‬ ‫َ َ ٌ م َ ِّ ُ‬
‫فهو أعظم جرما وأكرب إثما‪.‬‬ ‫ابلح َر فأجنَيمناك مم‬ ‫ك مم َعظ ٌ‬
‫يم * َو ِإذ ف َرقنا بِكم‬ ‫ِ‬ ‫بالء ِمن رب‬
‫َ‬
‫وىس أ مر َبع َ‬ ‫ََ م َ مَ َ م َ م َ َ مُ م َمُ ُ َ َ م َ َ م َ ُ َ‬
‫َ‬
‫ني‬ ‫ِ‬ ‫وأغرقنا آل فِرعون وأنتم تنظرون * و ِإذ واعدنا م‬
‫ثم إنه أمركم باتلوبة ىلع لسان نبيه موىس بأن يقتل بعضكم‬ ‫َ ُ ََ َ‬ ‫َم َ‬ ‫م‬ ‫َ ًَ ُ هَ م ُ م م َ‬
‫َ ه ُ َم ُ َ‬ ‫يلملة ث هم اختذت ُم ال ِعجل ِم من َبع ِدهِ َوأنتُ مم ظال ِ ُمون * ث هم عف مونا‬
‫بعضا فعفا اهلل عنكم بسبب ذلك {ل َعلك مم تشك ُرون} اهلل‪.‬‬ ‫َ‬ ‫م َمَ‬ ‫م َ َ َ ه ُ َم ُ َ‬ ‫َم ُ‬
‫عنك مم ِم من َبع ِد ذلِك ل َعلك مم تشك ُرون * َو ِإذ آتينا ُموىس‬
‫َ َ ُم َ َ‬ ‫م ُم‬ ‫َ َ‬ ‫م َ َ‬ ‫َ‬ ‫م َ َ مُ َ َ َ ه ُ َم‬
‫هَ م ً‬
‫اَّلل َجه َرة} وهذا‬
‫َ‬
‫{ َو ِإذ قلتُ مم يَا ُموىس ل من نؤ ِم َن لك َح هىت ن َرى‬ ‫اب َوالف مرقان ل َعلك مم تهتَ ُدون * َو ِإذ قال ُموىس ِلق مو ِم ِه يَا‬ ‫كت‬ ‫ال ِ‬
‫ََ َ َ م ُ‬ ‫َ م ه ُ م َ َ م ُ م َ م ُ َ ُ م ِّ َ ُ ُ م م َ َ ُ ُ َ‬
‫اغية الظلم واجلراءة ىلع اهلل وىلع رسوهل‪{ ،‬فأخذتك ُم‬ ‫قومِ إِنكم ظلمتم أنفسكم بِاختا ِذكم ال ِعجل فتوبوا إِىل‬

‫‪20‬‬
‫ََهَ ه َ َ َ‬ ‫ََمُ م َمُ ُ َ‬ ‫ه َُ‬
‫ين ظل ُموا} منهم‪ ,‬ولم يقل فبدلوا ألنهم لم يكونوا‬ ‫اَّل‬
‫{فبدل ِ‬ ‫الصا ِعقة} إما املوت أو الغشية العظيمة‪{ ،‬وأنتم تنظرون}‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫لكهم بدلوا {ق موَل غ م َ‬ ‫م‬ ‫مَ ُ‬ ‫ُ‬
‫اَّلي ِقيل ل ُه مم} فقالوا بدل حطة‪ :‬حبة يف‬
‫ري ِ‬ ‫وقوع ذلك‪ ,‬لك ينظر إىل صاحبه‪{ ،‬ث هم َب َعثناك مم ِم من َبع ِد‬
‫ُ َ ه ُ َم ُ َ‬
‫حنطة‪ ،‬استهانة بأمر اهلل‪ ,‬واستهزاء وإذا بدلوا القول مع خفته‬ ‫َم موتِك مم ل َعلك مم تشك ُرون}‬
‫فتبديلهم للفعل من باب أوىل وأحرى‪ ،‬وهلذا دخلوا يزحفون‬
‫ثم ذكر نعمته عليكم يف اتليه والربية اخلايلة من الظالل‬
‫ىلع أدبارهم‪ ,‬وملا اكن هذا الطغيان أكرب سبب لوقوع عقوبة‬ ‫َ َ ه مَ َ َم ُ ُ مَ َ َ َم م َ ُ‬
‫م‬ ‫ََمَ مَ ََ ه َ َ َ‬ ‫ام َوأن َزنلَا َعليمك ُم‬ ‫وسعة األرزاق‪ ،‬فقال‪{ :‬وظللنا عليكم الغم‬
‫ين ظل ُموا} منهم { ِرج ًزا} أي‪:‬‬ ‫اَّل‬
‫اهلل بهم‪ ،‬قال‪{ :‬فأنزنلا ىلع ِ‬ ‫م‬
‫ال َم هن} وهو اسم جامع للك رزق حسن حيصل بال تعب‪ ،‬ومنه‬
‫الس َما ِء} بسبب فسقهم وبغيهم‪.‬‬
‫عذابا {م َن ه‬
‫ِ‬
‫الزجنبيل والكمأة واخلزب وغري ذلك‪.‬‬
‫َ م َ م َ ُ َ َ م َ ُ مَ م م َ َ َ م‬
‫اْل َ َ‬
‫ج َر‬ ‫ارضب بِعصاك‬ ‫{‪{ }60‬و ِإ ِذ استسىق موىس ِلقو ِم ِه فقلنا ِ‬ ‫َ ه م‬
‫َ م َ َُ م ُُ‬ ‫َ م َ َ َ م م ُ م َ َ َ م َ َ َ م ً َ م َ ُ ُّ ُ َ‬ ‫السل َوى} طائر صغري يقال هل السماين‪ ،‬طيب اللحم‪ ،‬فاكن‬ ‫{و‬
‫اس مرشبهم لكوا‬ ‫رشة عينا قد ع ِل َم لك أن ٍ‬ ‫فانفجرت ِمنه اثنتا ع‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫َ‬
‫اَّلل َوَل َت معثَ موا يف األ مر ِض ُمفسد َ‬
‫م م ه‬ ‫َ م َُ‬ ‫يزنل عليهم من املن والسلوى ما يكفيهم ويقيتهم {لكوا ِم من‬
‫ين}‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫وارشبوا ِمن ِرز ِق ِ‬ ‫مَ ُ‬
‫ات َما َر َزقناك مم} أي‪ :‬رزقا َل حيصل نظريه ألهل املدن‬ ‫َ ِّ َ‬
‫طيب ِ‬
‫استسىق‪ ,‬أي‪ :‬طلب هلم ماء يرشبون منه‪.‬‬ ‫املرتفهني‪ ,‬فلم يشكروا هذه انلعمة‪ ,‬واستمروا ىلع قساوة‬
‫َ ُ مَ م م َ َ َ م‬
‫اْل َ َ‬ ‫القلوب وكرثة اَّلنوب‪.‬‬
‫ج َر} إما حجر خمصوص معلوم عنده‪,‬‬ ‫ارضب بِعصاك‬
‫{فقلنا ِ‬
‫َ مَ َ َ م مُ مََ َ م َ َ َ ً‬ ‫َ َ َ‬
‫رشة عيمنا} وقبائل بين‬ ‫وإما اسم جنس‪{ ،‬فانفجرت ِمنه اثنتا ع‬ ‫{ َو َما ظل ُمونا} يعين بتلك األفعال املخالفة ألوامرنا ألن اهلل َل‬
‫َ م َ َ ُ ُّ َُ‬
‫اس} منهم‬ ‫إرسائيل اثنتا عرشة قبيلة‪{ ،‬قد ع ِلم لك أن ٍ‬ ‫ترضه معصية العاصني‪ ,‬كما َل تنفعه طااعت الطائعني‪،‬‬
‫{ َم م َ‬ ‫َ‬ ‫َم‬ ‫َ ُ َمُ‬ ‫ََ‬
‫رش َب ُه مم} أي‪ :‬حملهم اَّلي يرشبون عليه من هذه األعني‪ ,‬فال‬ ‫ك من اكنوا أنف َس ُه مم يظ ِل ُمون} فيعود رضره عليهم‪.‬‬
‫{ ول ِ‬
‫يزاحم بعضهم بعضا‪ ,‬بل يرشبونه متهنئني َل متكدرين‪ ,‬وهلذا‬ ‫ُ‬ ‫م‬ ‫مَ َ َ ُُ‬ ‫م ُمَ م ُ ُ َ‬
‫ه‬ ‫م م‬ ‫ُُ َ م َ ُ‬ ‫{‪َ { }59 - 58‬و ِإذ قلنا ادخلوا ه ِذهِ الق مر َية فلكوا ِمن َها َحيمث‬
‫اَّلل} أي‪ :‬اَّلي آتاكم من غري‬‫قال‪{ :‬لكوا وارشبوا ِمن ِرز ِق ِ‬ ‫ٌ َم َ ُ‬ ‫ً ُ ُ‬ ‫اد ُخلُوا م َ‬‫مُ م َ َ ً َ م‬
‫مَ‬ ‫َ َمَ‬ ‫اب ُس هجدا َوقولوا ِح هطة نغ ِف مر لك مم‬ ‫ابل َ‬ ‫ِشئتم رغدا و‬
‫سيع وَل تعب‪َ { ،‬وَل تعث موا ِيف األ مر ِض} أي‪ :‬ختربوا ىلع وجه‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫ين َظل ُموا قَ موَل َغ م َ‬ ‫اَّل َ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫َ ََه‬ ‫م‬
‫َ َ َ ُ م ََ َ ُ ُ م‬
‫ري‬ ‫زنيد المح ِس ِنني * فبدل ِ‬ ‫خطاياكم وس ِ‬
‫اإلفساد‪.‬‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ه‬ ‫ََ‬ ‫م‬ ‫َ‬
‫َ َُ م َ م‬ ‫ه‬
‫الس َما ِء بِ َما‬
‫ج ًزا م َن ه‬
‫ِ‬ ‫ين ظل ُموا ِر‬ ‫اَّلي ِقيل لهم فأن َزنلَا ىلع ِ‬
‫اَّل‬ ‫ِ‬
‫َ م ُ َ‬ ‫م ُ مُ م َ ُ َ َ م َ م َ ََ َ َ‬ ‫َ ُ َم ُ َ‬
‫اح ٍد فادع نلَا‬ ‫{‪َ { }61‬و ِإذ قلتم يا موىس لن نص ِرب ىلع طعامٍ َو ِ‬ ‫اكنوا يف ُسقون}‬
‫ُ‬ ‫ه‬ ‫م‬ ‫َه َ ُم م ََ ه ُم ُ مَ ُ‬
‫ت األ مرض ِم من َبق ِل َها َو ِقثائِ َها َوفو ِم َها‬ ‫ربك خي ِرج نلا ِمما تن ِب‬
‫اَّلي ُه َو َخ م ٌ‬ ‫َُ مَ ه‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ ََ َ َ َ َ ََ م َم ُ َ ه‬ ‫وهذا أيضا من نعمته عليهم بعد معصيتهم إياه‪ ,‬فأمرهم‬
‫ري‬ ‫ِ ِ‬ ‫ب‬ ‫ىن‬ ‫د‬ ‫أ‬ ‫و‬‫ه‬ ‫ي‬ ‫اَّل‬
‫وعد ِسها وبص ِلها قال أتستب ِدلون ِ‬
‫ِّ ه ُ‬ ‫َ‬
‫ت َعليم ِه ُم اَّللة‬ ‫ك مم َما َسأَ م ُتل مم َو ُرض َب م‬‫م ً َ ه َ ُ‬ ‫م‬
‫اه ِب ُطوا ِمِّصا ف ِإن ل‬
‫بدخول قرية تكون هلم عزا ووطنا ومسكنا‪ ,‬وحيصل هلم فيها‬
‫َ ِ‬
‫مُ َ‬ ‫َ ه َ َ ه َ ُ‬ ‫َ مَ م َ َُ ََ ُ َ َ‬ ‫الرزق الرغد‪ ،‬وأن يكون دخوهلم ىلع وجه خاضعني هلل فيه‬
‫اَّلل ذلِك بِأن ُه مم اكنوا يَكف ُرون‬ ‫ب ِمن ِ‬ ‫والمسكنة وباءوا بِغض ٍ‬
‫َ ُ‬ ‫ه َ َ م ُ ُ َ ه ِّ َ َ م م َ َ‬ ‫بالفعل‪ ,‬وهو دخول ابلاب {سجدا} أي‪ :‬خاضعني ذيللني‪،‬‬
‫ري اْل َ ِّق ذلِك بِ َما َع َص موا َواكنوا‬ ‫اَّلل ويقتلون انل ِبيني بِغ ِ‬‫ات ِ‬
‫َ‬
‫بِآي ِ‬ ‫ٌ‬
‫َ‬ ‫َم‬ ‫وبالقول وهو أن يقولوا‪ِ { :‬ح هطة} أي أن حيط عنهم خطاياهم‬
‫يعتَ ُدون}‬
‫بسؤاهلم إياه مغفرته‪.‬‬
‫أي‪ :‬واذكروا‪ ,‬إذ قلتم ملوىس‪ ,‬ىلع وجه اتلملل نلعم اهلل‬ ‫َم م َ ُ م َ َ َ ُ‬
‫اك مم} بسؤالكم املغفرة‪َ { ،‬و َس َزن ُ‬
‫َ م َ م َ ََ َ َ‬ ‫يد‬ ‫ِ‬ ‫{نغ ِفر لكم خطاي‬
‫اح ٍد} أي‪ :‬جنس من‬ ‫واَلحتقار هلا‪{ ،‬لن نص ِرب ىلع طعامٍ َو ِ‬ ‫حسن َ‬ ‫مُ م‬
‫َ م ُ َ‬ ‫ني} بأعماهلم‪ ,‬أي‪ :‬جزاء اعجل وآجال‪.‬‬ ‫الم ِ ِ‬
‫الطعام‪ ,‬وإن اكن كما تقدم أنوااع‪ ,‬لكنها َل تتغري‪{ ،‬فادع نلَا‬
‫‪21‬‬
‫َ‬ ‫م َم‬ ‫َه َ ُم م ََ ه ُم ُ مَم ُ‬
‫اكنوا يتمدحون ويزكون أنفسهم‪ ,‬ويزعمون فضلهم ىلع حممد‬ ‫ربك خي ِرج نلا ِمما تن ِبت األرض ِمن بق ِلها} أي‪ :‬نباتها اَّلي‬
‫ُ‬ ‫ه‬
‫ومن آمن به‪ ،‬فبني اهلل من أحوال سلفهم اليت قد تقررت‬ ‫ليس بشجر يقوم ىلع ساقه‪َ { ،‬و ِقثائِ َها} وهو اخليار { َوفو ِم َها}‬
‫عندهم‪ ,‬ما يبني به للك أحد [منهم] أنهم ليسوا من أهل الصرب‬ ‫أي‪ :‬ثومها‪ ،‬والعدس وابلصل معروف‪ ،‬قال هلم مويس‬
‫ُ‬ ‫ه‬ ‫ُ َمَ‬ ‫ََ م َم ُ َ ه‬
‫وماكرم األخالق‪ ,‬ومعايل األعمال‪ ،‬فإذا اكنت هذه حالة‬ ‫اَّلي ه َو‬
‫اَّلي ه َو أدىن} وهو األطعمة املذكورة‪{ ،‬بِ ِ‬
‫{أتستب ِدلون ِ‬
‫سلفهم‪ ،‬مع أن املظنة أنهم أوىل وأرفع حالة ممن بعدهم فكيف‬ ‫ري} وهو املن والسلوى‪ ,‬فهذا غري َلئق بكم‪ ،‬فإن هذه‬ ‫َخ م ٌ‬

‫الظن باملخاطبني؟"‪.‬‬ ‫األطعمة اليت طلبتم‪ ,‬أي مِّص هبطتموه وجدتموها‪ ،‬وأما‬
‫طعامكم اَّلي من اهلل به عليكم‪ ,‬فهو خري األطعمة‬
‫ومنها‪ :‬أن نعمة اهلل ىلع املتقدمني منهم‪ ,‬نعمة واصلة إىل‬
‫وأرشفها‪ ,‬فكيف تطلبون به بدَل؟‬
‫املتأخرين‪ ,‬وانلعمة ىلع اآلباء‪ ,‬نعمة ىلع األبناء‪ ،‬فخوطبوا بها‪,‬‬
‫ألنها نعم تشملهم وتعمهم‪.‬‬ ‫وملا اكن اَّلي جرى منهم فيه أكرب ديلل ىلع قلة صربهم‬
‫واحتقارهم ألوامر اهلل ونعمه‪ ,‬جازاهم من جنس عملهم‬
‫ومنها‪ :‬أن اخلطاب هلم بأفعال غريهم‪ ,‬مما يدل ىلع أن األمة‬ ‫ِّ ه ُ‬ ‫َ ُ َ م َ‬
‫ت َعليم ِه ُم اَّللة} اليت تشاهد ىلع ظاهر أبدانهم‬‫رضب‬
‫فقال‪{ :‬و ِ‬
‫املجتمعة ىلع دين تتاكفل وتتساعد ىلع مصاْلها‪ ,‬حىت اكن‬ ‫م ََُ‬
‫{ َوال َم مسكنة} بقلوبهم‪ ،‬فلم تكن أنفسهم عزيزة‪ ,‬وَل هلم همم‬
‫متقدمهم ومتأخرهم يف وقت واحد‪ ,‬واكن اْلادث من بعضهم‬ ‫اعيلة‪ ,‬بل أنفسهم أنفس مهينة‪ ,‬وهممهم أردأ اهلمم‪َ { ،‬و َب ُ‬
‫اءوا‬
‫حادثا من اجلميع‪.‬‬ ‫َ ه‬ ‫َ َ‬
‫اَّلل} أي‪ :‬لم تكن غنيمتهم اليت رجعوا بها وفازوا‪,‬‬
‫ب ِمن ِ‬‫بِغض ٍ‬
‫ألن ما يعمله بعضهم من اخلري يعود بمصلحة اجلميع‪ ,‬وما‬ ‫إَل أن رجعوا بسخطه عليهم‪ ,‬فبئست الغنيمة غنيمتهم‪,‬‬
‫يعمله من الرش يعود برضر اجلميع‪.‬‬ ‫وبئست اْلالة حاتلهم‪.‬‬

‫َه ُ م َ ُ َ م ُ َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ومنها‪ :‬أن أفعاهلم أكرثها لم ينكروها‪ ,‬والرايض باملعصية‬ ‫{ذلِك} اَّلي استحقوا به غضبه {بِأنهم اكنوا يكف ُرون بِآي ِ‬
‫ات‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ْلكم اليت َل يعلمها إَل‬
‫رشيك للعايص‪ ،‬إىل غري ذلك من ا ِ‬ ‫اَّلل} ادلاَلت ىلع اْلق املوضحة هلم‪ ,‬فلما كفروا بها اعقبهم‬ ‫ِ‬
‫َ م ُ ُ َ ه ِّ َ َ م م‬
‫اهلل‪.‬‬ ‫ري اْل َ ِّق}‬
‫بغضبه عليهم‪ ,‬وبما اكنوا {يقتلون انل ِبيني بِغ ِ‬
‫ه ه‬ ‫َم م‬
‫آمنُوا‬‫ين َ‬ ‫اَّل َ‬
‫{‪ }62‬ثم قال تعاىل حاكما بني الفرق الكتابية‪{ :‬إِن ِ‬ ‫ري اْل َ ِّق} زيادة شناعة‪ ,‬وإَل فمن املعلوم أن قتل انليب‬ ‫وقوهل‪{ :‬بِغ ِ‬
‫م‬ ‫َ َ م َ َ ه م‬ ‫َو ه َ َ ُ َ ه َ َ َ ه‬
‫اَّلل َوايلَ مومِ اآل ِخ ِر‬
‫اَّلين هادوا وانلصارى والصابِئِني من آمن بِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َل يكون ِبق‪ ,‬لكن َلال يظن جهلهم وعدم علمهم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫م ُ مَ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اْلًا فل ُه مم أج ُره مم ِعند َر ِّب ِه مم َوَل خ موف َعليم ِه مم َوَل ه مم‬ ‫َ‬
‫َوع ِمل ص ِ‬
‫َ‬
‫َ‬ ‫َ ُ َم‬ ‫َ َ‬
‫َم ُ َ‬ ‫{ذلِك بِ َما َع َص موا} بأن ارتكبوا معايص اهلل { َواكنوا يعتَ ُدون}‬
‫حي َزنون}‬
‫ىلع عباد اهلل‪ ,‬فإن املعايص جير بعضها بعضا‪ ،‬فالغفلة ينشأ‬
‫وهذا اْلكم ىلع أهل الكتاب خاصة‪ ,‬ألن الصابئني‪ ,‬الصحيح‬ ‫عنها اَّلنب الصغري‪ ,‬ثم ينشأ عنه اَّلنب الكبري‪ ,‬ثم ينشأ عنها‬
‫أنهم من مجلة فرق انلصارى‪ ،‬فأخرب اهلل أن املؤمنني من هذه‬ ‫أنواع ابلدع والكفر وغري ذلك‪ ,‬فنسأل اهلل العافية من لك‬
‫األمة‪ ,‬وايلهود وانلصارى‪ ,‬والصابئني من آمن باهلل وايلوم‬ ‫بالء‪.‬‬
‫اآلخر‪ ,‬وصدقوا رسلهم‪ ,‬فإن هلم األجر العظيم واألمن‪ ,‬وَل‬
‫واعلم أن اخلطاب يف هذه اآليات ألمة بين إرسائيل اَّلين اكنوا‬
‫خوف عليهم وَل هم حيزنون‪ ،‬وأما من كفر منهم باهلل ورسله‬
‫موجودين وقت نزول القرآن‪ ,‬وهذه األفعال املذكورة خوطبوا‬
‫وايلوم اآلخر‪ ,‬فهو بضد هذه اْلال‪ ,‬فعليه اخلوف واْلزن‪.‬‬
‫بها ويه فعل أسالفهم‪ ,‬ونسبت هلم لفوائد عديدة‪ ،‬منها‪ :‬أنهم‬
‫‪22‬‬
‫ت‬ ‫ه م‬ ‫{‪َ { }66-65‬ولَ َق مد َعل ممتُ ُم ه َ م َ َ م م ُ م‬
‫اَّلين اعتدوا ِمنكم ِيف السب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫والصحيح أن هذا اْلكم بني هذه الطوائف‪ ,‬من حيث هم‪,‬‬
‫َ َ َ َ م َ َ َ َ ً َ َ م َ َ َ َم‬ ‫ًَ َ‬ ‫َ ُ مَ َُ م ُ ُ‬
‫اس ِئني * فجعلناها نكاَل لِما بني يديها‬ ‫فقلنا لهم كونوا ِق َردة خ ِ‬ ‫َل بالنسبة إىل اإليمان بمحمد‪ ,‬فإن هذا إخبار عنهم قبل بعثة‬
‫َو َما َخلم َف َها َو َم موع َظ ًة للم ُم هتق َ‬
‫ني}‬ ‫حممد صىل اهلل عليه وسلم وأن هذا مضمون أحواهلم‪ ،‬وهذه‬
‫ِ ِ ِ‬
‫م ُ‬ ‫ه َ م َ‬ ‫طريقة القرآن إذا وقع يف بعض انلفوس عند سياق اآليات‬
‫ين اعتَد موا ِمنك مم ِيف‬‫اَّل‬
‫أي‪ :‬ولقد تقرر عندكم حالة { ِ‬
‫ه م‬ ‫بعض األوهام‪ ,‬فال بد أن ِتد ما يزيل ذلك الوهم‪ ,‬ألنه تزنيل‬
‫ت} وهم اَّلين ذكر اهلل قصتهم مبسوطة يف سورة‬ ‫السب ِ‬ ‫َم من يعلم األشياء قبل وجودها‪َ ,‬‬
‫َ م َمُ م َ مَ م َ ه َ َ م َ َ َ‬ ‫وم من رْحته وسعت لك يشء‪.‬‬
‫ارضة‬ ‫األعراف يف قوهل‪{ :‬واسألهم ع ِن القري ِة ال ِيت اكنت ح ِ‬
‫ه م‬ ‫مَ م م َ م ُ َ‬
‫ت} اآليات‪.‬‬
‫ابلح ِر ِإذ يعدون ِيف السب ِ‬ ‫وذلك واهلل أعلم ‪ -‬أنه ملا ذكر بين إرسائيل وذمهم‪ ,‬وذكر‬
‫معاصيهم وقباحئهم‪ ,‬ربما وقع يف بعض انلفوس أنهم لكهم‬
‫فأوجب هلم هذا اَّلنب العظيم‪ ,‬أن غضب اهلل عليهم وجعلهم‬
‫{ق َر َد ًة َخاسئ َ‬ ‫يشملهم اَّلم‪ ،‬فأراد ابلاري تعاىل أن يبني من لم يلحقه اَّلم‬
‫ني} حقريين ذيللني‪.‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫منهم بوصفه‪ ،‬وملا اكن أيضا ذكر بين إرسائيل خاصة يوهم‬
‫َ َ ً َ َم َ َ م‬
‫ني يَدي َها} أي‪ :‬ملن‬ ‫وجعل اهلل هذه العقوبة {نكاَل لِما ب‬ ‫اَلختصاص بهم‪ .‬ذكر تعاىل حكما اعما يشمل الطوائف لكها‪,‬‬
‫حرضها من األمم‪ ,‬وبلغه خربها‪ ,‬ممن هو يف وقتهم‪َ { .‬و َما‬ ‫يلتضح اْلق‪ ,‬ويزول اتلوهم واإلشاكل‪ ،‬فسبحان من أودع يف‬
‫َ مَ‬
‫خلف َها} أي‪ :‬من بعدهم‪ ,‬فتقوم ىلع العباد حجة اهلل‪ ,‬ولريتدعوا‬ ‫كتابه ما يبهر عقول العاملني‪.‬‬
‫عن معاصيه‪ ,‬ولكنها َل تكون موعظة نافعة إَل للمتقني‪ ،‬وأما‬
‫ثم اعد تبارك وتعاىل يوبخ بين إرسائيل بما فعل سلفهم‪:‬‬
‫من عداهم فال ينتفعون باآليات‪.‬‬
‫َ م َ َ م َ َ َ ُ م َ َ َ م َ َ م َ ُ ُ ُّ َ ُ ُ‬
‫ُ َم َم َ‬ ‫ه هَ م‬ ‫م َ َ َ َ‬ ‫ور خذوا‬ ‫{‪{ }64-63‬و ِإذ أخذنا ِميثاقكم ورفعنا فوقكم الط‬
‫اَّلل يَأ ُم ُرك مم أن تذِبُوا‬ ‫{‪َ { }74 - 67‬و ِإذ قال ُموىس ِلق مو ِم ِه ِإن‬ ‫ه‬ ‫َ ه ُ َ ُ َ ُ َ‬ ‫م ُ‬ ‫َمَ ُ ُ‬
‫اجلَاهل َ‬ ‫َ َ َ ً َ ُ ََه ُ َ ُ ُ ً َ َ َ ُ ُ ه َ م َ ُ َ َ م‬ ‫َما آتيناك مم بِق هو ٍة َواذك ُروا َما ِفي ِه ل َعلك مم ت هتقون * ث هم ت َويلمتُ مم‬
‫ني‬ ‫ِِ‬ ‫اَّلل أن أكون ِمن‬ ‫بقرة قالوا أتت ِخذنا هزوا قال أعوذ بِ ِ‬ ‫م َ م َ َ ََمَ َ م ُ ه َ َم ُ م َ َ مَ ُ َ ُ م‬
‫َ ُ م ُ َ َ َ ه َ ُ َ ِّ م َ َ َ َ َ َ ه ُ َ ُ ُ ه َ َ َ َ ٌ َ‬ ‫ْحتُه لكنتُ مم ِم َن‬ ‫اَّلل عليكم ور‬ ‫ِمن بع ِد ذلِك فلوَل فضل ِ‬
‫* قالوا ادع نلا ربك يبني نلا ما ِيه قال ِإنه يقول ِإنها بقرة َل‬ ‫م‬
‫اخلَارس َ‬
‫َ َ ُ م ُ‬ ‫ُم‬ ‫م ٌ َ َ ٌ َمَ َ َ َ م ُ‬ ‫َ ٌ َ‬ ‫ين}‬ ‫ِِ‬
‫ني ذلِك فاف َعلوا َما تؤ َم ُرون * قالوا ادع‬ ‫ارض َوَل بِكر عوان ب‬ ‫ف ِ‬
‫هَ ٌَََ َ مَ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ هُ َُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك ُيبَ ِّ م‬ ‫ََ َه َ‬ ‫م َ َ مَ َ َ ُ‬
‫اء فاقِ ٌع‬ ‫ني نلَا َما ل مون َها قال إِنه يقول إِنها بقرة صفر‬ ‫نلا رب‬ ‫أي‪ :‬واذكروا {إِذ أخذنا ِميثاقك مم} وهو العهد اثلقيل املؤكد‬
‫م‬ ‫َ‬
‫م ُ َ َ ه َ ُ َ ِّ م َ َ َ ه َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ل َ مو ُن َها ت ُ ُّ‬
‫َ‬ ‫ُ ُ‬
‫ابلق َر‬ ‫ين * قالوا ادع نلا ربك يبني نلا ما ِيه إِن‬ ‫اظر َ‬ ‫رس ه‬
‫انل ِِ‬ ‫باتلخويف هلم‪ ,‬برفع الطور فوقهم وقيل هلم‪{ :‬خذوا َما‬
‫َ َ َ هُ َُ ُ ه َ ٌ‬ ‫ََ ََ َ َمَ َ ه م َ َ هُ َ م‬ ‫ُ‬ ‫َمَ ُ‬
‫اَّلل ل ُمهتَ ُدون * قال ِإنه يقول ِإن َها َبق َرة‬ ‫تشابه علينا و ِإنا ِإن شاء‬ ‫آتيناك مم} من اتلوراة {بِق هو ٍة} أي‪ :‬جبد واجتهاد‪ ,‬وصرب ىلع‬
‫مَ م َ ُ َ ه َ ٌ َ َ َ َ َ ُ‬ ‫َ َُ ٌ ُ ُ مَ َ َ َ‬ ‫م ُ‬
‫يها قالوا‬ ‫ري األ مرض َوَل ت مس ِيق اْلرث مسلمة َل ِشية ِف‬ ‫َل ذلول ت ِث‬ ‫أوامر اهلل‪َ { ،‬واذك ُروا َما ِفي ِه} أي‪ :‬ما يف كتابكم بأن تتلوه‬
‫م َ م َم‬ ‫َ ُ َم ُ َ‬ ‫م َ م َ م ََ َ َ‬ ‫َ ه ُ َ ُ َ‬
‫ت بِاْل َ ِّق فذِبُوها َو َما اكدوا يف َعلون * َو ِإذ قتَلتُ مم نف ًسا‬ ‫اآلن ِجئ‬ ‫وتتعلموه‪{ ،‬ل َعلك مم ت هتقون} عذاب اهلل وسخطه‪ ,‬أو تلكونوا‬
‫ارض ُب ُ‬ ‫َ ه َمُ م َ َ هُ ُم ٌ َ ُ مُ م َ م ُ ُ َ َ ُ مَ م‬
‫وه‬ ‫فادارأتم ِفيها واَّلل خم ِرج ما كنتم تكتمون * فقلنا ِ‬ ‫من أهل اتلقوى‪.‬‬
‫َ ه ُ‬ ‫ُ‬ ‫هُ م َ‬ ‫َ َ َ ُم‬ ‫م‬
‫اَّلل ال َم موَت َو ُي ِريك مم آيَاتِ ِه ل َعلك مم‬ ‫بِبَع ِض َها كذلِك حي ِِي‬ ‫َ ه‬
‫َ م َ َ َ‬ ‫َم ُ َ ُه َ َ م ُُ ُ ُ م م َم َ َ‬ ‫فبعد هذا اتلأكيد ابلليغ {ت َويلمتُ مم} وأعرضتم‪ ,‬واكن ذلك موجبا‬
‫ار ِة أ مو‬ ‫ْلج‬ ‫ك فَ ِ َ‬
‫يه اك ِ‬ ‫تع ِقلون * ثم قست قلوبكم ِمن بع ِد ذل ِ‬ ‫َمَ َ م ُ ه‬
‫َ َ ُّ َ م َ ً َ ه َ م َ َ َ َ َ َ َ ه ُ م ُ م َ ُ ه م‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫اَّلل‬
‫ألن حيل بكم أعظم العقوبات‪ ،‬ولكن {لوَل فضل ِ‬
‫ار َو ِإن ِمن َها‬ ‫اْلجار ِة لما يتفجر ِمنه األنه‬ ‫أشد قسوة و ِإن ِمن ِ‬ ‫اخلَارس َ‬‫َ َم ُ م َ َ مَُُ َ ُ مُ م َ م‬
‫ََ َه ه ُ ََ م ُ ُ مُ َ ُ َ ه مَ َ َ م ُ م َ م َ ه‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫ين}‬ ‫ِِ‬ ‫عليكم ورْحته لكنتم ِمن‬
‫اَّلل‬
‫لما يشقق فيخرج ِمنه الماء و ِإن ِمنها لما يه ِبط ِمن خشي ِة ِ‬
‫َ َم ُ َ‬ ‫َ َ هُ َ‬
‫اَّلل بِغافِ ٍل ع هما تع َملون}‬ ‫وما‬

‫‪23‬‬
‫ََ َ َ‬
‫إيلها‪{ ،‬فذِبُوها} أي‪ :‬ابلقرة اليت وصفت بتلك الصفات‪َ { ،‬و َما‬ ‫أي‪ :‬واذكروا ما جرى لكم مع موىس‪ ,‬حني قتلتم قتيال‪,‬‬
‫َ ُ َم ُ َ‬
‫اكدوا يف َعلون} بسبب اتلعنت اَّلي جرى منهم‪.‬‬ ‫وادارأتم فيه‪ ,‬أي‪ :‬تدافعتم واختلفتم يف قاتله‪ ,‬حىت تفاقم األمر‬
‫بينكم واكد ‪ -‬لوَل تبيني اهلل لكم ‪ -‬حيدث بينكم رش كبري‪،‬‬
‫فلما ذِبوها‪ ,‬قلنا هلم ارضبوا القتيل ببعضها‪ ,‬أي‪ :‬بعضو منها‪,‬‬
‫فقال لكم موىس يف تبيني القاتل‪ :‬اذِبوا بقرة‪ ،‬واكن من‬
‫إما معني‪ ,‬أو أي عضو منها‪ ,‬فليس يف تعيينه فائدة‪ ,‬فرضبوه‬
‫الواجب املبادرة إىل امتثال أمره‪ ,‬وعدم اَلعرتاض عليه‪،‬‬
‫ببعضها فأحياه اهلل‪ ,‬وأخرج ما اكنوا يكتمون‪ ,‬فأخرب بقاتله‪،‬‬ ‫ََ ُ َ ُ‬
‫ولكنهم أبوا إَل اَلعرتاض‪ ,‬فقالوا‪{ :‬أت هت ِخذنا ه ُز ًوا} فقال نيب‬
‫واكن يف إحيائه وهم يشاهدون ما يدل ىلع إحياء اهلل املوَت‪،‬‬ ‫َ ُ ُ ه َم َ ُ َ َ م‬
‫اجلَاهل َ‬
‫ني} فإن اجلاهل هو اَّلي‬ ‫ِِ‬ ‫اَّلل أن أكون ِمن‬
‫اهلل‪{ :‬أعوذ بِ ِ‬
‫{لعلكم تعقلون} فتزنجرون عن ما يرضكم‪.‬‬
‫يتلكم بالالكم اَّلي َل فائدة فيه‪ ,‬وهو اَّلي يستهزئ بانلاس‪،‬‬
‫ُه َ َ م ُُ ُ ُ‬
‫وبك مم} أي‪ :‬اشتدت وغلظت‪ ,‬فلم تؤثر فيها‬ ‫{ثم قست قل‬ ‫وأما العاقل فريى أن من أكرب العيوب املزرية بادلين والعقل‪,‬‬
‫م َ َ‬
‫املوعظة‪ِ { ،‬م من َبع ِد ذلِك} أي‪ :‬من بعد ما أنعم عليكم بانلعم‬ ‫استهزاءه بمن هو آديم مثله‪ ،‬وإن اكن قد فضل عليه‪ ,‬فتفضيله‬
‫العظيمة وأراكم اآليات‪ ،‬ولم يكن ينبيغ أن تقسو قلوبكم‪,‬‬ ‫يقتيض منه الشكر لربه‪ ,‬والرْحة لعباده‪ .‬فلما قال هلم موىس‬
‫م ُ َ َ َ ه َ ُ َ ِّ م َ‬
‫ألن ما شاهدتم‪ ,‬مما يوجب رقة القلب وانقياده‪ ،‬ثم وصف‬ ‫ني نلَا َما‬ ‫ذلك‪ ,‬علموا أن ذلك صدق فقالوا‪{ :‬ادع نلا ربك يب‬
‫ج َ‬ ‫َ م‬
‫ْل َ‬ ‫ِ َ‬
‫ار ِة} اليت يه أشد قسوة من اْلديد‪ ،‬ألن‬ ‫قسوتها بأنها {اك ِ‬ ‫يه}‬
‫اْلديد والرصاص إذا أذيب يف انلار‪ ,‬ذاب خبالف األحجار‪.‬‬ ‫َ َ هُ َُ ُ هَ ٌَََ َ َ ٌ‬
‫ارض} أي‪ :‬كبرية‬ ‫أي‪ :‬ما سنها؟ {قال ِإنه يقول ِإنها بقرة َل ف ِ‬
‫َ َ َ ُّ َ ً‬ ‫َ‬ ‫ُم‬ ‫َ َ ٌ َمَ َ َ َ م ُ‬
‫ني ذلِك فاف َعلوا َما تؤ َم ُرون}‬
‫م‬ ‫َ‬
‫وقوهل‪{ :‬أ مو أشد ق مس َوة} أي‪ :‬إنها َل تقِّص عن قساوة األحجار‪،‬‬ ‫{ َوَل بِك ٌر} أي‪ :‬صغرية {عوان ب‬
‫وليست " أو " بمعىن " بل " ثم ذكر فضيلة األحجار ىلع قلوبهم‪،‬‬ ‫واتركوا التشديد واتلعنت‪.‬‬
‫َ ه َ م َ َ ََ َََ ه ُ مُ مَمَ ُ ه م َ‬
‫ار َو ِإن ِمن َها ل َما‬ ‫اْلجار ِة لما يتفجر ِمنه األنه‬
‫فقال‪{ :‬و ِإن ِمن ِ‬ ‫َ ُ َ َ هُ َُ ُ ه َ ٌ‬ ‫َ ُ م ُ َ َ َ ه َ ُ َ ِّ م َ‬
‫َ‬ ‫م‬
‫َه ه ُ ََ م ُ ُ مُ َ ُ َ ه مَ َ َم ُ م َ م َ ه‬ ‫ني نلَا َما ل مون َها قال ِإنه يقول ِإن َها َبق َرة‬ ‫{قالوا ادع نلا ربك يب‬
‫اَّلل}‬
‫يشقق فيخرج ِمنه الماء و ِإن ِمنها لما يه ِبط ِمن خشي ِة ِ‬ ‫اظر َ‬ ‫رس ه‬ ‫اء فَاقِ ٌع ل َ مو ُن َها} أي‪ :‬شديد {ت َ ُ ُّ‬
‫َص مف َر ُ‬
‫ين} من حسنها‪.‬‬ ‫انل ِِ‬
‫فبهذه األمور فضلت قلوبكم‪ .‬ثم توعدهم تعاىل أشد الوعيد‬
‫َ َم ُ َ‬ ‫َ َ هُ َ‬ ‫َ ُ م ُ َ َ َ ه َ ُ َ ِّ م َ َ َ َ ه م َ َ َ َ َ َ َ‬
‫اَّلل بِغافِ ٍل ع هما تع َملون} بل هو اعلم بها حافظ‬ ‫فقال‪{ :‬وما‬ ‫ابلق َر تشابَه َعليمنا} فلم‬ ‫{قالوا ادع نلا ربك يبني نلا ما ِيه إِن‬
‫َ‬ ‫َ ه م َ َ هُ َ م‬
‫لصغريها وكبريها‪ ,‬وسيجازيكم ىلع ذلك أتم اجلزاء وأوفاه‪.‬‬ ‫اَّلل ل ُمهتَ ُدون}‬ ‫نهتد إىل ما تريد {و ِإنا إِن شاء‬

‫ول} أي‪ :‬مذللة بالعمل‪{ ،‬تُث ُ‬ ‫َ َ هُ َ ُ ُ هَ ََ ٌَ َ َُ ٌ‬


‫واعلم أن كثريا من املفرسين رْحهم اهلل‪ ,‬قد أكرثوا يف حشو‬ ‫ري‬ ‫ِ‬ ‫{قال ِإنه يقول ِإنها بقرة َل ذل‬
‫م َ‬ ‫َ َ‬ ‫مَ َ‬
‫تفاسريهم من قصص بين إرسائيل‪ ,‬ونزلوا عليها اآليات‬ ‫األ مرض} باْلراثة { َوَل ت مس ِيق اْل َ مرث} أي‪ :‬ليست بساقية‪،‬‬
‫القرآنية‪ ,‬وجعلوها تفسريا لكتاب اهلل‪ ,‬حمتجني بقوهل صىل اهلل‬ ‫يها} أي‪َ :‬ل لون‬ ‫{ ُم َسله َم ٌة} من العيوب أو من العمل { ََل شيَ َة ف َ‬
‫ِ ِ‬
‫عليه وسلم‪ " :‬حدثوا عن بين إرسائيل وَل حرج "‬ ‫فيها غري لونها املوصوف املتقدم‪.‬‬
‫م‬ ‫{قَالُوا ماآل َن جئم َ‬
‫واَّلي أرى أنه وإن جاز نقل أحاديثهم ىلع وجه تكون مفردة‬ ‫ت بِاْل َ ِّق} أي‪ :‬بابليان الواضح‪ ،‬وهذا من‬ ‫ِ‬
‫غري مقرونة‪ ,‬وَل مزنلة ىلع كتاب اهلل‪ ,‬فإنه َل جيوز جعلها‬ ‫جهلهم‪ ,‬وإَل فقد جاءهم باْلق أول مرة‪ ،‬فلو أنهم اعرتضوا‬
‫تفسريا لكتاب اهلل قطعا إذا لم تصح عن رسول اهلل صىل اهلل‬ ‫أي‪ :‬بقرة ْلصل املقصود‪ ,‬ولكنهم شددوا بكرثة األسئلة‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وذلك أن مرتبتها كما قال صىل اهلل عليه وسلم‪" :‬‬ ‫فشدد اهلل عليهم‪ ,‬ولو لم يقولوا " إن شاء اهلل " لم يهتدوا أيضا‬
‫َل تصدقوا أهل الكتاب وَل تكذبوهم " فإذا اكنت مرتبتها أن‬
‫‪24‬‬
‫أي‪ :‬أفال يكون لكم عقل‪ ,‬فترتكون ما هو حجة عليكم؟‬ ‫تكون مشكواك فيها‪ ,‬واكن من املعلوم بالرضورة من دين‬
‫هذا يقوهل بعضهم بلعض‪.‬‬ ‫اإلسالم أن القرآن جيب اإليمان به والقطع بألفاظه ومعانيه‪،‬‬

‫ُم َ‬ ‫َ َ َ َ م َ ُ َ َ ه ه َ َ م َ ُ َ ُ ُّ َ‬ ‫فال جيوز أن ِتعل تلك القصص املنقولة بالروايات املجهولة‪,‬‬


‫رسون َو َما يع ِلنُون} فهم وإن‬ ‫{أوَل يعلمون أن اَّلل يعلم ما ي ِ‬
‫اليت يغلب ىلع الظن كذبها أو كذب أكرثها‪ ,‬معاين لكتاب‬
‫أرسوا ما يعتقدونه فيما بينهم‪ ,‬وزعموا أنهم بإرسارهم َل‬
‫اهلل‪ ,‬مقطواع بها وَل يسرتيب بهذا أحد‪ ،‬ولكن بسبب الغفلة‬
‫يتطرق عليهم حجة للمؤمنني‪ ,‬فإن هذا غلط منهم وجهل‬
‫عن هذا حصل ما حصل‪ ،‬واهلل املوفق‪.‬‬
‫كبري‪ ,‬فإن اهلل يعلم رسهم وعلنهم‪ ,‬فيظهر لعباده ما أنتم عليه‪.‬‬
‫َََم َ ُ َ َ م ُم ُ َ ُ م ََم َ َ َ ٌ م‬
‫ُ َ‬ ‫م‬ ‫يق ِمن ُه مم‬ ‫{‪{ }78 - 75‬أفتطمعون أن يؤ ِمنوا لكم وقد اكن ف ِر‬
‫{ َو ِمن ُه مم} أي‪ :‬من أهل الكتاب {أ ِّم ُّيون} أي‪ :‬عوام‪ ,‬ليسوا من‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ م َ ُ َ َ َ َ ه ُ ه ُ َ ِّ ُ َ ُ م َ م َ َ َ ُ ُ ُ َ م‬
‫َ‬ ‫وه َوه مم يعل ُمون‬ ‫اَّلل ثم حيرفونه ِمن بع ِد ما عقل‬‫يسمعون الكم ِ‬
‫اب إِ هَل أ َم ِ ه‬
‫اين} أي‪ :‬ليس هلم حظ‬
‫َ َمَُ َ‬
‫ون المكتَ َ‬‫أهل العلم‪َ{ ،‬ل يعلم‬
‫ِ‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫َه َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َُ ه َ َ َ‬
‫آمنا َو ِإذا خال َبع ُض ُه مم إِىل َبع ٍض‬ ‫آمنُوا قالوا‬ ‫اَّلين‬
‫* و ِإذا لقوا ِ‬
‫من كتاب اهلل إَل اتلالوة فقط‪ ,‬وليس عندهم خرب بما عند‬ ‫مَ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫م‬ ‫َ ُ َ ُ َ ِّ ُ َ ُ م َ َ َ ه ُ َ م ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫قالوا أحتدثونهم بِما فتح اَّلل عليكم ِيلحاجوكم بِ ِه ِعند‬
‫األولني اَّلين يعلمون حق املعرفة حاهلم‪ ,‬وهؤَلء إنما معهم‬ ‫َ ِّ ُ م َ َ َ َ م ُ َ‬
‫ربكم أفال تع ِقلون *‬
‫ظنون وتقايلد ألهل العلم منهم‪.‬‬
‫م‬ ‫ُم َ‬ ‫َ َ َ َ م َ ُ َ َ ه ه َ َ م َ ُ َ ُ ُّ َ‬
‫رسون َو َما يع ِلنُون * َو ِمن ُه مم‬ ‫أوَل يعلمون أن اَّلل يعلم ما ي ِ‬
‫فذكر يف هذه اآليات علماءهم‪ ,‬وعوامهم‪ ,‬ومنافقيهم‪ ,‬ومن لم‬ ‫ُ ِّ ُّ َ َ َ م َ ُ َ م َ َ ه َ َ ه م ُ ه َ ُ ُّ َ‬
‫اين َو ِإن ه مم ِإَل يظنون}‬
‫كتاب ِإَل أم ِ‬
‫أميون َل يعلمون ال ِ‬
‫ينافق منهم‪ ,‬فالعلماء منهم متمسكون بما هم عليه من‬
‫الضالل‪ ،‬والعوام مقدلون هلم‪َ ,‬ل بصرية عندهم فال مطمع‬ ‫هذا قطع ألطماع املؤمنني من إيمان أهل الكتاب‪ ,‬أي‪ :‬فال‬
‫لكم يف الطائفتني‪.‬‬ ‫تطمعوا يف إيمانهم وحاتلهم َل تقتيض الطمع فيهم‪ ,‬فإنهم اكنوا‬
‫ُ َُ ُ َ َ َ‬
‫يه مم ث هم يقولون هذا‬ ‫د‬ ‫اب بأَيم‬
‫ون المكتَ َ‬
‫ََمٌ ه َ َ م ُُ َ‬
‫ذلين يكتب‬
‫حيرفون الكم اهلل من بعد ما عقلوه وعلموه‪ ,‬فيضعون هل معاين‬
‫ِ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫{‪{ }79‬فويل ل ِ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ََمٌ ُ م ه ََ م م‬ ‫ً‬ ‫ًََ َ‬ ‫ِم من ِعنمد ه َ م َ ُ‬ ‫ما أرادها اهلل‪ ,‬يلوهموا انلاس أنها من عند اهلل‪ ,‬وما يه من‬
‫يه مم‬
‫اَّلل ِليشرتوا بِ ِه ثمنا ق ِليال فويل لهم ِمما كتبت أي ِد ِ‬‫ِ ِ‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫ٌ َ‬ ‫عند اهلل‪ ،‬فإذا اكنت هذه حاهلم يف كتابهم اَّلي يرونه رشفهم‬
‫َو َويمل ل ُه مم ِم هما يَك ِسبُون}‬
‫ودينهم يصدون به انلاس عن سبيل اهلل‪ ,‬فكيف يرىج منهم‬
‫توعد تعاىل املحرفني للكتاب‪ ,‬اَّلين يقولون تلحريفهم وما‬ ‫إيمان لكم؟! فهذا من أبعد األشياء‪.‬‬
‫َ َ م م ه‬
‫اَّلل} وهذا فيه إظهار ابلاطل وكتم‬ ‫يكتبون‪{ :‬هذا ِمن ِعن ِد ِ‬ ‫َ َُ ه‬
‫َ ً َ ً‬ ‫اْلق‪ ,‬وإنما فعلوا ذلك مع علمهم { ِليَ مش َ ُ‬ ‫آمنُوا‬ ‫ين َ‬
‫اَّل َ‬
‫ثم ذكر حال منافيق أهل الكتاب فقال‪َ { :‬و ِإذا لقوا ِ‬
‫رتوا بِ ِه ث َمنا ق ِليال}‬ ‫َ ُ َه‬
‫آمنا} فأظهروا هلم اإليمان قوَل بألسنتهم‪ ,‬ما ليس يف‬ ‫قالوا‬
‫وادلنيا لكها من أوهلا إىل آخرها ثمن قليل‪ ،‬فجعلوا باطلهم رشاك‬ ‫َ م‬ ‫َ َ َ م‬
‫قلوبهم‪َ { ،‬و ِإذا خال َبع ُض ُه مم ِإىل َبع ٍض} فلم يكن عندهم أحد‬
‫يصطادون به ما يف أيدي انلاس‪ ,‬فظلموهم من وجهني‪ :‬من‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ِّ ُ َ‬
‫من غري أهل دينهم‪ ،‬قال بعضهم بلعض‪{ :‬أحتَدثون ُه مم بِ َما فتَ َح‬
‫جهة تلبيس دينهم عليهم‪ ,‬ومن جهة أخذ أمواهلم بغري حق‪,‬‬ ‫هُ َ ُ‬
‫اَّلل َعليمك مم} أي‪ :‬أتظهرون هلم اإليمان وختربوهم أنكم‬
‫بل بأبطل ابلاطل‪ ,‬وذلك أعظم ممن يأخذها غصبا ورسقة‬
‫َ ٌ َ‬ ‫مثلهم‪ ,‬فيكون ذلك حجة هلم عليكم؟‬
‫وحنوهما‪ ،‬وهلذا توعدهم بهذين األمرين فقال‪{ :‬ف َويمل ل ُه مم ِم هما‬
‫ٌ َ‬
‫يه مم} أي‪ :‬من اتلحريف وابلاطل { َو َويمل ل ُه مم ِم هما‬ ‫د‬ ‫ت أَيم‬
‫َكتَبَ م‬ ‫يقولون‪ :‬إنهم قد أقروا بأن ما حنن عليه حق‪ ,‬وما هم عليه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫َََ َم ُ َ‬
‫يَك ِسبُون} من األموال‪ ،‬والويل‪ :‬شدة العذاب واْلرسة‪ ,‬ويف‬ ‫باطل‪ ,‬فيحتجون عليكم بذلك عند ربكم {أفال تع ِقلون}‬
‫ضمنها الوعيد الشديد‪.‬‬
‫‪25‬‬
‫َََم َ ُ َ‬
‫هلما‪ :‬إما أن يكونوا قد اختذوا عند اهلل عهدا‪ ,‬فتكون دعواهم‬ ‫قال شيخ اإلسالم ملا ذكر هذه اآليات من قوهل‪{ :‬أفتطمعون}‬
‫َ‬ ‫م‬
‫صحيحة‪.‬‬ ‫إىل {يَك ِسبُون} فإن اهلل ذم اَّلين حيرفون اللكم عن مواضعه‪,‬‬
‫وهو متناول ملن ْحل الكتاب والسنة‪ ,‬ىلع ما أصله من ابلدع‬
‫وإما أن يكونوا متقولني عليه فتكون اكذبة‪ ,‬فيكون أبلغ‬
‫ابلاطلة‪.‬‬
‫خلزيهم وعذابهم‪ ،‬وقد علم من حاهلم أنهم لم يتخذوا عند اهلل‬
‫عهدا‪ ,‬تلكذيبهم كثريا من األنبياء‪ ,‬حىت وصلت بهم اْلال إىل‬ ‫وذم اَّلين َل يعلمون الكتاب إَل أماين‪ ,‬وهو متناول ملن ترك‬
‫أن قتلوا طائفة منهم‪ ,‬ونلكوهلم عن طاعة اهلل ونقضهم‬ ‫تدبر القرآن ولم يعلم إَل جمرد تالوة حروفه‪ ،‬ومتناول ملن‬
‫املواثيق‪ ،‬فتعني بذلك أنهم متقولون خمتلقون‪ ,‬قائلون عليه ما‬ ‫كتب كتابا بيده خمالفا لكتاب اهلل‪ ,‬يلنال به دنيا وقال‪ :‬إنه من‬
‫َل يعلمون‪ ،‬والقول عليه بال علم‪ ,‬من أعظم املحرمات‪ ,‬وأشنع‬ ‫عند اهلل‪ ,‬مثل أن يقول‪ :‬هذا هو الرشع وادلين‪ ,‬وهذا معىن‬
‫القبيحات‪.‬‬ ‫الكتاب والسنة‪ ,‬وهذا معقول السلف واألئمة‪ ,‬وهذا هو أصول‬
‫ادلين‪ ,‬اَّلي جيب اعتقاده ىلع األعيان والكفاية‪ ،‬ومتناول ملن‬
‫ثم ذكر تعاىل حكما اعما للك أحد‪ ,‬يدخل به بنو إرسائيل‬
‫كتم ما عنده من الكتاب والسنة‪َ ,‬لال حيتج به خمالفه يف اْلق‬
‫وغريهم‪ ,‬وهو اْلكم اَّلي َل حكم غريه‪َ ,‬ل أمانيهم‬
‫َ‬ ‫اَّلي يقوهل‪.‬‬
‫وداعويهم بصفة اهلالكني وانلاجني‪ ،‬فقال‪{ :‬بَىل} أي‪ :‬ليس‬
‫ب‬‫األمر كما ذكرتم‪ ,‬فإنه قول َل حقيقة هل‪ ،‬ولكن { َم من َك َس َ‬ ‫وهذه األمور كثرية جدا يف أهل األهواء مجلة‪ ,‬اكلرافضة‪,‬‬
‫ً‬
‫َسيِّئَة} وهو نكرة يف سياق الرشط‪ ,‬فيعم الرشك فما دونه‪،‬‬ ‫وتفصيال مثل كثري من املنتسبني إىل الفقهاء‪.‬‬
‫َ َ ُ‬ ‫واملراد به هنا الرشك‪ ,‬بديلل قوهل‪َ { :‬وأَ َح َ‬
‫اط م‬
‫ت بِ ِه خ ِطيئتُه} أي‪:‬‬ ‫َ َ ُ َ م َ َ ه َ ه ُ ه َه ً م ًَ ُم َ هَ م ُ‬
‫اما َمع ُدودة قل أختذت مم‬ ‫{‪{ }82 - 80‬وقالوا لن تمسنا انلار ِإَل أي‬
‫أحاطت بعاملها‪ ,‬فلم تدع هل منفذا‪ ,‬وهذا َل يكون إَل‬ ‫م َ ه َ م ً ََ م ُم َ هُ َ م َ ُ َم َُ ُ َ ََ ه َ َ‬
‫اَّلل ما َل‬ ‫اَّلل عهدا فلن خي ِلف اَّلل عهده أم تقولون ىلع ِ‬ ‫ِعند ِ‬
‫الرشك‪ ,‬فإن من معه اإليمان َل حتيط به خطيئته‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َُُ َ‬ ‫َ‬
‫ب َسيِّئَ ًة َوأ َح َ م‬ ‫َ‬ ‫َمَُ َ‬
‫ون * بَ َىل َم من ك َس َ‬
‫وَلك‬ ‫اطت بِ ِه خ ِطيئته فأ ِ‬ ‫تعلم‬
‫َُ َ َ َ م َ ُ ه ُ م َ َ ُ َ‬ ‫َ ه َ َُ َ َ ُ‬ ‫َ م َ ُ ه ُ م َ َ ُ َ‬
‫ادلون} وقد احتج بها‬
‫ار هم ِفيها خ ِ‬
‫وَلك أصحاب انل ِ‬
‫{ف أ ِ‬ ‫اَّلين آمنوا وع ِملوا‬ ‫ادلون * و ِ‬ ‫ار هم ِفيها خ ِ‬ ‫أصحاب ُانل ِ‬
‫م‬
‫َ َ م َ ُ َه ُ م َ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ه‬
‫اخلوارج ىلع كفر صاحب املعصية‪ ,‬ويه حجة عليهم كما‬ ‫ادلون}‬
‫وَلك أصحاب اجلن ِة هم ِفيها خ ِ‬ ‫ات أ ِ‬ ‫اْل َ ِ‬
‫الص ِ‬
‫ترى‪ ,‬فإنها ظاهرة يف الرشك‪ ,‬وهكذا لك مبطل حيتج بآية‪ ,‬أو‬
‫ذكر أفعاهلم القبيحة‪ ,‬ثم ذكر مع هذا أنهم يزكون أنفسهم‪,‬‬
‫حديث صحيح ىلع قوهل ابلاطل فال بد أن يكون فيما احتج‬
‫ويشهدون هلا بانلجاة من عذاب اهلل‪ ,‬والفوز بثوابه‪ ,‬وأنهم لن‬
‫به حجة عليه‪.‬‬
‫تمسهم انلار إَل أياما معدودة‪ ,‬أي‪ :‬قليلة تعد باألصابع‪,‬‬
‫ه‬
‫آمنُوا} باهلل ومالئكته‪ ,‬وكتبه‪ ,‬ورسله‪ ,‬وايلوم اآلخر‪،‬‬
‫ين َ‬
‫اَّل َ‬
‫{ َو ِ‬ ‫فجمعوا بني اإلساءة واألمن‪.‬‬
‫ه‬ ‫َ ُ‬
‫ات} وَل تكون األعمال صاْلة إَل برشطني‪:‬‬ ‫{ َوع ِملوا الص ِ‬
‫اْل َ ِ‬ ‫ُم‬
‫وملا اكن هذا جمرد دعوى‪ ,‬رد اهلل تعاىل عليهم فقال‪{ :‬قل} هلم‬
‫أن تكون خالصة لوجه اهلل‪ ,‬متبعا بها سنة رسوهل‪.‬‬ ‫َهَ م ُ م م َ ه َ م ً‬
‫اَّلل عهدا} أي باإليمان به وبرسله‬
‫يا أيها الرسول {أختذتم ِعند ِ‬
‫فحاصل هاتني اآليتني‪ ,‬أن أهل انلجاة والفوز‪ ,‬هم أهل اإليمان‬ ‫وبطاعته‪ ,‬فهذا الوعد املوجب نلجاة صاحبه اَّلي َل يتغري وَل‬
‫َ َمَ َ‬ ‫َم َُ ُ َ ََ ه‬
‫والعمل الصالح‪ ،‬واهلالكون أهل انلار املرشكون باهلل‪ ,‬الاكفرون‬ ‫اَّلل َما َل تعل ُمون} ؟ فأخرب تعاىل أن‬
‫يتبدل‪{ .‬أم تقولون ىلع ِ‬
‫به‪.‬‬ ‫صدق دعواهم متوقفة ىلع أحد هذين األمرين الذلين َل ثالث‬

‫‪26‬‬
‫م َ َ َ َمُُ َ ه ه‬
‫اَّللَ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ م َ َ مَ‬
‫ومن أدب اإلنسان اَّلي أدب اهلل به عباده‪ ,‬أن يكون‬ ‫{‪{ }83‬و ِإذ أخذنا ِميثاق ب ِين إِرسا ِئيل َل تعبدون إَِل‬
‫اإلنسان نزيها يف أقواهل وأفعاهل‪ ,‬غري فاحش وَل بذيء‪ ,‬وَل‬
‫َُ ُ‬
‫ني وقولوا‬ ‫مُ م َ َ مََ َ َ مَ َ‬ ‫م َ ً َ‬ ‫َ مَ َ م‬
‫وبِالو ِادلي ِن ِإحسانا و ِذي القرَب وايلتاَم والمسا ِك ِ‬
‫شاتم‪ ,‬وَل خماصم‪ ،‬بل يكون حسن اخللق‪ ,‬واسع اْللم‪ ,‬جمامال‬
‫ه َ ً‬ ‫ه َ َ َ ُ ه َ َ ُ َ ه‬
‫الزاكة ث هم ت َويلمتُ مم ِإَل ق ِليال‬ ‫يموا الصالة وآتوا‬‫لناس ُح مسنًا َوأَق ُ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫لِ ِ‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫م ُ َم‬
‫للك أحد‪ ,‬صبورا ىلع ما يناهل من أذى اخللق‪ ,‬امتثاَل ألمر اهلل‪,‬‬ ‫ِمنك مم َوأنتُ مم ُمع ِر ُضون}‬
‫ورجاء ثلوابه‪.‬‬
‫وهذه الرشائع من أصول ادلين‪ ,‬اليت أمر اهلل بها يف لك رشيعة‪,‬‬
‫ثم أمرهم بإقامة الصالة‪ ,‬وإيتاء الزاكة‪ ,‬ملا تقدم أن الصالة‬ ‫َلشتماهلا ىلع املصالح العامة‪ ,‬يف لك زمان وماكن‪ ,‬فال يدخلها‬
‫هَ َ‬ ‫م‬
‫متضمنة لإلخالص للمعبود‪ ,‬والزاكة متضمنة لإلحسان إىل‬ ‫اَّلل َوَل‬ ‫نسخ‪ ,‬كأصل ادلين‪ ،‬وهلذا أمرنا بها يف قوهل‪َ { :‬واعبُ ُدوا‬
‫َ م‬ ‫ُم ُ‬
‫العبيد‪.‬‬ ‫رشكوا بِ ِه شيئًا} إىل آخر اآلية‪.‬‬‫ت ِ‬
‫ُ‬ ‫َ م َ َ مَ َ َ َ م َ َ‬
‫{ث هم} بعد هذا األمر لكم بهذه األوامر اْلسنة اليت إذا نظر‬ ‫رسا ِئيل} هذا من قسوتهم أن لك‬ ‫فقوهل‪{ :‬و ِإذ أخذنا ِميثاق ب ِين إِ‬
‫إيلها ابلصري العاقل‪ ,‬عرف أن من إحسان اهلل ىلع عباده أن‬ ‫أمر أمروا به‪ ,‬استعصوا؛ فال يقبلونه إَل باأليمان الغليظة‪,‬‬
‫أمرهم بها‪ ,,‬وتفضل بها عليهم وأخذ املواثيق عليكم‬ ‫اَّلل} هذا أمر بعبادة اهلل وحده‪,‬‬ ‫ون إ هَل ه َ‬
‫َ َمُُ َ‬
‫والعهود املوثقة {َل تعبد ِ‬
‫َ ه‬
‫{ت َويلمتُ مم} ىلع وجه اإلعراض‪ ،‬ألن املتويل قد يتوىل‪ ,‬وهل نية‬ ‫ونىه عن الرشك به‪ ،‬وهذا أصل ادلين‪ ,‬فال تقبل األعمال لكها‬
‫رجوع إىل ما توىل عنه‪ ،‬وهؤَلء ليس هلم رغبة وَل رجوع يف‬ ‫إن لم يكن هذا أساسها‪ ,‬فهذا حق اهلل تعاىل ىلع عباده‪ ,‬ثم‬
‫هذه األوامر‪ ،‬فنعوذ باهلل من اخلذَلن‪.‬‬
‫م ً‬ ‫قال‪َ { :‬وبال م َو َ‬
‫ادليم ِن ِإح َسانا} أي‪ :‬أحسنوا بالوادلين إحسانا‪ ،‬وهذا‬
‫ِ ِ‬
‫ه َ ً م ُ‬ ‫يعم لك إحسان قويل وفعيل مما هو إحسان إيلهم‪ ،‬وفيه انليه‬
‫وقوهل‪ِ { :‬إَل ق ِليال ِمنك مم} هذا استثناء‪َ ,‬لال يوهم أنهم تولوا‬
‫عن اإلساءة إىل الوادلين‪ ,‬أو عدم اإلحسان واإلساءة‪ ،‬ألن‬
‫لكهم‪ ،‬فأخرب أن قليال منهم‪ ,‬عصمهم اهلل وثبتهم‪.‬‬
‫الواجب اإلحسان‪ ,‬واألمر باليشء نيه عن ضده‪.‬‬
‫َ م َ َ مَ َ َ ُ م َ َم ُ َ َ َ ُ َ‬
‫اءك مم َوَل‬ ‫{‪{ }86 - 84‬و ِإذ أخذنا ِميثاقكم َل تس ِفكون ِدم‬
‫َ ُ‬ ‫ُم ُ َ َمُ َ ُ م م َ ُ ُ َم ُ َم َم‬ ‫ولإلحسان ضدان‪ :‬اإلساءة‪ ,‬ويه أعظم جرما‪ ،‬وترك اإلحسان‬
‫ارك مم ث هم أق َر مرت مم َوأنتُ مم تش َه ُدون * ث هم‬ ‫َخت ِرجون أنفسكم ِم َن ِدي ِ‬
‫َ َ ً م ُ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫م َ َ َم ُ َ مُ‬ ‫بدون إساءة‪ ,‬وهذا حمرم‪ ,‬لكن َل جيب أن يلحق باألول‪ ،‬وكذا‬
‫أنتُ مم ه ُؤَل ِء تقتُلون أنف َسك مم َوخت ِر ُجون ف ِريقا ِمنك مم ِم من‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ م َ َ َ ُ َ َ َم م م م َ مُ م َ َ م َمُ ُ م ُ‬ ‫يقال يف صلة األقارب وايلتاَم‪ ,‬واملساكني‪ ،‬وتفاصيل اإلحسان‬
‫ان و ِإن يأتوكم أسارى‬ ‫اإلث ِم والعدو ِ‬ ‫ار ِهم تظاهرون علي ِهم بِ ِ‬ ‫ِدي ِ‬
‫م َ م‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫َ‬
‫َُ ُ ُ م َ ُ َ َه ٌ َ م ُ‬
‫ُ‬ ‫َل تنحِّص بالعد‪ ,‬بل تكون باْلد‪ ,‬كما تقدم‪.‬‬
‫اج ُه مم أفتُؤ ِمنُون بِبَع ِض‬ ‫ك مم إخ َر ُ‬
‫ِ‬ ‫تفادوهم وهو حمرم علي‬
‫َم ُ َ َ م ُ‬
‫اء َم من يف َعل ذلِك ِمنك مم‬ ‫ون ببَ معض َف َما َج َز ُ‬ ‫ََ مُُ َ‬ ‫الم َ‬ ‫ه‬ ‫ُ ُ‬
‫اب وتكفر ِ ٍ‬ ‫كت ِ‬‫ِ‬ ‫ثم أمر باإلحسان إىل انلاس عموما فقال‪َ { :‬وقولوا لِلن ِ‬
‫اس‬
‫م َ َ ُّ م َ َ َ م َ م َ َ ُ َ ُّ َ َ َ َ ِّ م َ َ‬ ‫ه م ٌ‬ ‫ً‬
‫اب‬ ‫ِإَل ِخزي ِيف اْليا ِة ادلنيا ويوم ال ِقيام ِة يردون ِإىل أشد العذ ِ‬ ‫ُح مسنا} ومن القول اْلسن أمرهم باملعروف‪ ,‬ونهيهم عن‬
‫َ ه َ م َ ُ َ ُ َ َ ه َ م َ َ ُ م َ َ َ ُّ م‬ ‫َ هُ َ‬
‫ادلنيَا‬ ‫اَّلين اشرتوا اْلياة‬‫وَلك ِ‬ ‫َوما اَّلل بِغافِ ٍل عما تعملون * أ ِ‬ ‫املنكر‪ ,‬وتعليمهم العلم‪ ,‬وبذل السالم‪ ,‬والبشاشة وغري ذلك‬
‫م َ ََ َُه ُ َ مُ ُ مَ َ ُ ََ ُ م ُم َ ُ َ‬
‫ِّصون}‬ ‫بِاآل ِخر ِة فال خيفف عنهم العذاب وَل هم ين‬ ‫من لك الكم طيب‪.‬‬

‫وهذا الفعل املذكور يف هذه اآلية‪ ,‬فعل لذلين اكنوا يف زمن‬ ‫وملا اكن اإلنسان َل يسع انلاس بماهل‪ ,‬أمر بأمر يقدر به ىلع‬
‫الويح باملدينة‪ ،‬وذلك أن األوس واخلزرج ‪ -‬وهم األنصار ‪-‬‬ ‫اإلحسان إىل لك خملوق‪ ,‬وهو اإلحسان بالقول‪ ,‬فيكون يف‬
‫اكنوا قبل مبعث انليب صىل اهلل عليه وسلم مرشكني‪ ,‬واكنوا‬ ‫ضمن ذلك انليه عن الالكم القبيح للناس حىت للكفار‪ ,‬وهلذا‬
‫َ َ م‬ ‫ه ه‬ ‫قال تعاىل‪َ { :‬و ََل ُِتَادلُوا أَ مه َل المكتَ‬
‫يقتتلون ىلع اعدة اجلاهلية‪ ،‬فزنلت عليهم الفرق اثلالث من‬ ‫يه أح َس ُن}‬ ‫اب إَِل بِال ِيت ِ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫‪27‬‬
‫َ َ ُ م َ ُ ٌ َ َ َم َ َمُ ُ ُ ُ م َ مَمُ م َ َ ً‬
‫جاءكم رسول بِما َل تهوى أنفسكم استكربتم فف ِريقا‬ ‫فرق ايلهود‪ ,‬بنو قريظة‪ ,‬وبنو انلضري‪ ,‬وبنو قينقاع‪ ،‬فلك فرقة‬
‫َ ً َم ُ َ‬ ‫َ ه‬
‫كذ مبتُ مم َوف ِريقا تقتُلون}‬ ‫منهم حالفت فرقة من أهل املدينة‪.‬‬

‫يمنت تعاىل ىلع بين إرسائيل أن أرسل هلم لكيمه موىس‪ ,‬وآتاه‬ ‫فاكنوا إذا اقتتلوا أاعن ايلهودي حليفه ىلع مقاتليه اَّلين‬
‫اتلوراة‪ ,‬ثم تابع من بعده بالرسل اَّلين حيكمون باتلوراة‪ ,‬إىل أن‬ ‫تعينهم الفرقة األخرى من ايلهود‪ ,‬فيقتل ايلهودي ايلهودي‪,‬‬
‫ختم أنبياءهم بعيىس ابن مريم عليه السالم‪ ،‬وآتاه من اآليات‬ ‫وخيرجه من دياره إذا حصل جالء ونهب‪ ،‬ثم إذا وضعت اْلرب‬
‫مُ‬ ‫َ مَ‬
‫وح الق ُد ِس} أي‪:‬‬
‫ابلينات ما يؤمن ىلع مثله البرش‪َ { ،‬وأيهدن ُاه بِ ُر ِ‬ ‫أوزارها‪ ,‬واكن قد حصل أسارى بني الطائفتني فدى بعضهم‬
‫قواه اهلل بروح القدس‪.‬‬ ‫بعضا‪.‬‬

‫قال أكرث املفرسين‪ :‬إنه جربيل عليه السالم‪ ,‬وقيل‪ :‬إنه اإليمان‬ ‫واألمور اثلالثة لكها قد فرضت عليهم‪ ،‬ففرض عليهم أن َل‬
‫اَّلي يؤيد اهلل به عباده‪.‬‬ ‫يسفك بعضهم دم بعض‪ ,‬وَل خيرج بعضهم بعضا‪ ،‬وإذا وجدوا‬

‫َ َم‬ ‫أسريا منهم‪ ,‬وجب عليهم فداؤه‪ ،‬فعملوا باألخري وتركوا‬


‫ثم مع هذه انلعم اليت َل يقدر قدرها‪ ,‬ملا أتوكم {بِ َما َل ته َوى‬ ‫ََ م َ م‬
‫ََ ً‬ ‫َمُ ُ ُ ُ م َ مَمُ‬ ‫األولني‪ ,‬فأنكر اهلل عليهم ذلك فقال‪{ :‬أفتُؤ ِمنُون بِبَع ِض‬
‫ربت مم} عن اإليمان بهم‪{ ،‬فف ِريقا} منهم‬ ‫أنفسكم استك‬ ‫َ مُ َ م‬ ‫الم َ‬
‫َ ً َم ُ َ‬ ‫َ ه‬ ‫اب} وهو فداء األسري { َوتكف ُرون بِبَع ٍض} وهو القتل‬
‫كت ِ‬
‫ِ‬
‫{كذ مبتُ مم َوف ِريقا تقتُلون} فقدمتم اهلوى ىلع اهلدى‪ ,‬وآثرتم‬
‫واإلخراج‪.‬‬
‫ادلنيا ىلع اآلخرة‪ ،‬وفيها من اتلوبيخ والتشديد ما َل خيىف‪.‬‬
‫ََ ً‬ ‫ََ ُ ُُ َُ ُ مٌ َم َََُ ُ هُ ُ م‬ ‫وفيها أكرب ديلل ىلع أن اإليمان يقتيض فعل األوامر واجتناب‬
‫اَّلل بِكف ِر ِه مم فق ِليال َما‬ ‫{‪{ }88‬وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم‬ ‫انلوايه‪ ،‬وأن املأمورات من اإليمان‪ ،‬قال تعاىل‪َ { :‬ف َما َج َز ُ‬
‫م َ‬ ‫اء َم من‬
‫يُؤ ِمنُون}‬ ‫م َ َ ُّ م‬ ‫َم ُ َ َ م ُ ه‬
‫ادلنيَا} وقد وقع ذلك‬ ‫يف َعل ذلِك ِمنك مم ِإَل ِخ مز ٌي ِيف اْليا ِة‬
‫أي‪ :‬اعتذروا عن اإليمان ملا دعوتهم إيله‪ ,‬يا أيها الرسول‪ ,‬بأن‬ ‫فأخزاهم اهلل‪ ,‬وسلط رسوهل عليهم‪ ,‬فقتل من قتل‪ ,‬وسىب من‬
‫قلوبهم غلف‪ ,‬أي‪ :‬عليها غالف وأغطية‪ ,‬فال تفقه ما تقول‪،‬‬ ‫سىب منهم‪ ,‬وأجىل من أجىل‪.‬‬
‫يعين فيكون هلم ‪ -‬بزعمهم ‪ -‬عذر لعدم العلم‪ ,‬وهذا كذب‬ ‫ون إ َىل أَ َش ِّد الم َع َذاب} أي‪ :‬أعظمه { َو َما ه ُ‬
‫اَّلل‬
‫َ َ م َ م َ َ ُ َ ُّ َ‬
‫{ويوم ال ِقيام ِة يرد‬
‫َم َََُ ُ هُ ُ م‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اَّلل بِكف ِر ِه مم} أي‪ :‬أنهم‬ ‫منهم‪ ،‬فلهذا قال تعاىل‪{ :‬بل لعنهم‬ ‫َ َم ُ َ‬ ‫َ‬
‫بِغافِ ٍل ع هما تع َملون}‬
‫مطرودون ملعونون‪ ,‬بسبب كفرهم‪ ،‬فقليال املؤمن منهم‪ ,‬أو‬
‫قليال إيمانهم‪ ،‬وكفرهم هو الكثري‪.‬‬ ‫ثم أخرب تعاىل عن السبب اَّلي أوجب هلم الكفر ببعض‬
‫م َ‬ ‫ُ َ َ ه َ م‬
‫اش َ َ‬
‫ِّ ٌ‬ ‫ََه َ َ ُ م َ ٌ م م ه‬ ‫رت ُوا اْلَيَاة‬ ‫اَّلين‬
‫وَلك ِ‬
‫الكتاب‪ ,‬واإليمان ببعضه فقال‪{ :‬أ ِ‬
‫اَّلل ُم َصدق ل ِ َما َم َع ُه مم‬ ‫{‪{ }90 - 89‬ولما جاءهم ِكتاب ِمن ِعن ِد ِ‬ ‫ُّ م م‬
‫م َمُ َ م َم ُ َ ََ ه َ َ َ ُ ََه َ َ ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ادلنيَا بِاآل ِخ َر ِة} توهموا أنهم إن لم يعينوا حلفاءهم حصل هلم‬
‫اءه مم َما‬ ‫اَّلين كفروا فلما ج‬ ‫َواكنوا ِمن قبل يستف ِتحون ىلع ِ‬ ‫ََ َُه ُ َ م‬
‫اش َ َ‬‫َ م َ َ م‬ ‫ََمَُ ه َ مَ‬ ‫ََُ‬ ‫ََُ‬ ‫اعر‪ ,‬فاختاروا انلار ىلع العار‪ ،‬فلهذا قال‪{ :‬فال خيفف عن ُه ُم‬
‫رت موا بِ ِه‬ ‫اَّلل َىلع الاكفِ ِرين * بِئسما‬ ‫عرفوا كفروا بِ ِه فلعنة ِ‬ ‫الم َع َذ ُ‬
‫َ م‬
‫اَّلل ِم من فض ِل ِه‬ ‫اَّلل َب مغيًا أَ من يُ َ ِّ‬
‫زن َل ه ُ‬ ‫ك ُف ُروا ب َما أَنم َز َل ه ُ‬
‫َمُ َ ُ م َ م َ م‬
‫أنفسهم أن ي‬
‫اب} بل هو باق ىلع شدته‪ ,‬وَل حيصل هلم راحة بوقت من‬
‫ِ‬ ‫ََ ُ م ُم َ ُ َ‬
‫م‬
‫ىلع َغ َضب َولِل َاكفِر َ‬ ‫ََ‬ ‫ََ َ م ََ ُ م َ ََ ُ َ َ‬ ‫ِّصون} أي‪ :‬يدفع عنهم مكروه‪.‬‬ ‫األوقات‪{ ،‬وَل هم ين‬
‫ين‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ب‬‫ىلع من يشاء ِمن ِعبا ِدهِ فباءوا بِغض ٍ‬
‫َع َذ ٌ‬
‫اب ُمه ٌ‬
‫ني}‬ ‫اب َو َق هفيمنَا ِم من َب مع ِدهِ ب ُّ‬
‫الر ُس ِل‬ ‫وىس المكتَ َ‬ ‫َ ََ م َمَ ُ َ‬
‫{‪{ }87‬ولقد آتينا م‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫م ُ ُ َ َ ُ َه‬ ‫مَ‬ ‫َ‬ ‫م‬
‫َ م َ َ م َ َ َ ِّ َ‬ ‫َمَ‬
‫وح القد ِس أفلكما‬ ‫ات َوأيهدن ُاه بِ ُر ِ‬‫ابلين ِ‬ ‫َوآتينا ِعيىس ابن مريم‬

‫‪28‬‬
‫َُ ُ َ َم‬ ‫م‬ ‫َ مُ‬ ‫م‬ ‫ُ ُ َ ُم‬
‫َو ُر ُس ِل ِه َو َيقولون نؤ ِم ُن بِبَع ٍض َونكف ُر بِبَع ٍض وي ِريدون أن‬ ‫أي‪ :‬وملا جاءهم كتاب من عند اهلل ىلع يد أفضل اخللق وخاتم‬
‫َ ًّ‬ ‫َه ُ َمَ َ َ َ ً ُ َ َ ُ م َ‬
‫وَلك ه ُم الاك ِف ُرون َحقا}‬
‫يت ِخذوا بني ذلِك س ِبيال أ ِ‬ ‫األنبياء‪ ,‬املشتمل ىلع تصديق ما معهم من اتلوراة‪ ,‬وقد علموا‬
‫به‪ ,‬وتيقنوه حىت إنهم اكنوا إذا وقع بينهم وبني املرشكني يف‬
‫وهلذا رد عليهم تبارك وتعاىل هنا ردا شافيا‪ ,‬وألزمهم إلزاما َل‬
‫اجلاهلية حروب‪ ,‬استنِّصوا بهذا انليب‪ ,‬وتوعدوهم خبروجه‪,‬‬
‫حميد هلم عنه‪ ,‬فرد عليهم بكفرهم بالقرآن بأمرين فقال‪:‬‬
‫ُ م‬ ‫وأنهم يقاتلون املرشكني معه‪ ،‬فلما جاءهم هذا الكتاب وانليب‬
‫{ َوه َو اْل َ ُّق} فإذا اكن هو اْلق يف مجيع ما اشتمل عليه من‬
‫اَّلي عرفوا‪ ,‬كفروا به‪ ,‬بغيا وحسدا‪ ,‬أن يزنل اهلل من فضله‬
‫اإلخبارات‪ ,‬واألوامر وانلوايه‪ ,‬وهو من عند ربهم‪ ,‬فالكفر به‬
‫ىلع من يشاء من عباده‪ ،‬فلعنهم اهلل‪ ,‬وغضب عليهم غضبا‬
‫بعد ذلك كفر باهلل‪ ,‬وكفر باْلق اَّلي أنزهل‪.‬‬
‫بعد غضب‪ ,‬لكرثة كفرهم وتواىل شكهم ورشكهم‪.‬‬
‫ِّ ً‬
‫ثم قال‪ُ { :‬م َصدقا ل ِ َما َم َع ُه مم} أي‪ :‬موافقا هل يف لك ما دل عليه‬
‫{وللاكفرين عذاب مهني} أي‪ :‬مؤلم موجع‪ ,‬وهو صيل اجلحيم‪,‬‬
‫من اْلق ومهيمنا عليه‪.‬‬
‫وفوت انلعيم املقيم‪ ،‬فبئس اْلال حاهلم‪ ,‬وبئس ما استعاضوا‬
‫فلم تؤمنون بما أنزل عليكم‪ ,‬وتكفرون بنظريه؟ هل هذا إَل‬ ‫واستبدلوا من اإليمان باهلل وكتبه ورسله‪ ,‬الكفر به‪ ,‬وبكتبه‪,‬‬
‫تعصب واتباع للهوى َل للهدى؟‬ ‫وبرسله‪ ,‬مع علمهم وتيقنهم‪ ,‬فيكون أعظم لعذابهم‪.‬‬
‫َ َ َ َُ م ُ َ َمَ َ هُ َ ُ ُم‬
‫وأيضا‪ ,‬فإن كون القرآن مصدقا ملا معهم‪ ,‬يقتيض أنه حجة هلم‬ ‫اَّلل قالوا نؤ ِم ُن بِ َما‬ ‫{‪{ }93 - 91‬و ِإذا ِقيل لهم آ ِمنوا بِما أنزل‬
‫ِّ ً‬ ‫ُم َ َ َمَ ََ م ُ ُ َ َ َ َ َ ُ م‬
‫ىلع صدق ما يف أيديهم من الكتب‪ ,‬قال سبيل هلم إىل إثباتها‬ ‫اء ُه َوه َو اْل َ ُّق ُم َصدقا ل ِ َما َم َع ُه مم‬ ‫أن ِزل علينا ويكفرون بِما ور‬
‫ََ م‬ ‫اَّلل م من َقبم ُل إ من ُكنمتُ مم ُم مؤمن َ‬ ‫ُم َ َ َ م ُ ُ َ َم َ َ ه‬
‫إَل به‪ ،‬فإذا كفروا به وجحدوه‪ ,‬صاروا بمزنلة من ادىع دعوى‬ ‫ني * َولقد‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫قل ف ِلم تقتلون أن ِبياء‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫م َ‬ ‫م‬ ‫َ مُ‬ ‫ه‬ ‫ُ‬ ‫م َ ِّ َ‬ ‫َ َ ُ م ُ َ‬
‫ِبجة وبينة ليس هل غريها‪ ,‬وَل تتم دعواه إَل بسالمة بينته‪ ,‬ثم‬ ‫ات ث هم اختذت ُم ال ِعجل ِم من َبع ِدهِ َوأنتُ مم‬ ‫ابلين ِ‬ ‫جاءكم موىس بِ‬
‫َ ُ َ َ م َ َ م َ َ َ ُ م َ َ َ م َ َ م َ ُ ُ ُّ َ ُ ُ‬
‫يأيت هو بلينته وحجته‪ ,‬فيقدح فيها ويكذب بها; أليس هذا‬ ‫ور خذوا َما‬ ‫ظالِمون * و ِإذ أخذنا ِميثاقكم ورفعنا فوقكم الط‬
‫ُ‬
‫َمَ ُ م ُ ه َ م َ ُ َ ُ َ مَ َ َ َ مَ َ م‬
‫من اْلماقة واجلنون؟ فاكن كفرهم بالقرآن‪ ,‬كفرا بما يف‬ ‫رش ُبوا ِيف‬ ‫آتيناكم بِقو ٍة واسمعوا قالوا س ِمع منا وعصينا وأ ِ‬
‫َ ُ ُ م‬ ‫ُ م م ُم م َ َ َ ُُ ُ م‬ ‫ُُ ُ م م َ‬
‫أيديهم ونقضا هل‪.‬‬ ‫يمانك مم إِن‬ ‫قلوبِ ِهم ال ِعجل بِكف ِر ِهم قل بِئسما يأمركم بِ ِه إِ‬
‫ني}‬‫ُكنمتُ مم ُم مؤمن َ‬
‫ِِ‬
‫ثم نقض عليهم تعاىل دعواهم اإليمان بما أنزل إيلهم بقوهل‪:‬‬
‫َ َ َ م ُ ُ َ َم َ َ ه‬
‫اَّلل م من َقبم ُل إ من ُكنمتُ مم ُم مؤمننيَ‬ ‫ُم‬
‫أي‪ :‬وإذا أمر ايلهود باإليمان بما أنزل اهلل ىلع رسوهل‪ ,‬وهو‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫{قل} هلم‪{ :‬ف ِلم تقتلون أن ِبياء ِ ِ‬
‫م َ ِّ َ‬ ‫َََ م َ َ ُ م ُ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُم َ‬ ‫َ ُ ُم‬
‫ات}‬
‫ابلين ِ‬ ‫ولقد جاءكم موىس بِ‬ ‫القرآن استكربوا وعتوا‪ ,‬و {قالوا نؤ ِم ُن بِ َما أن ِزل َعليمنا‬
‫ََ مُُ َ‬
‫ون ب َما َو َر َ‬
‫ُ هَ م ُ م م َ‬ ‫اء ُه} أي‪ :‬بما سواه من الكتب‪ ،‬مع أن‬ ‫ِ‬ ‫و ي ك فر‬
‫أي‪ :‬باألدلة الواضحات املبينة للحق‪{ ،‬ث هم اختذت ُم ال ِعجل ِم من‬
‫َ‬ ‫َم َ‬ ‫م‬ ‫الواجب أن يؤمن بما أنزل اهلل مطلقا‪ ,‬سواء أنزل عليهم‪ ,‬أو‬
‫َبع ِد ِه} أي‪ :‬بعد جميئه { َوأنتُ مم ظال ِ ُمون} يف ذلك ليس لكم‬
‫ىلع غريهم‪ ,‬وهذا هو اإليمان انلافع‪ ,‬اإليمان بما أنزل اهلل ىلع‬
‫عذر‪.‬‬
‫مجيع رسل اهلل‪.‬‬
‫َ َ ُ م َ َ َ م َ َ م َ ُ ُ ُّ َ ُ ُ‬ ‫م َ َ مَ‬
‫ور خذوا َما‬ ‫{ َو ِإذ أخذنا ِميثاقكم ورفعنا فوقكم الط‬
‫اك مم ب ُق هوة َو م‬
‫َمَ ُ‬ ‫وأما اتلفريق بني الرسل والكتب‪ ,‬وزعم اإليمان ببعضها دون‬
‫اس َم ُعوا} أي‪ :‬سماع قبول وطاعة واستجابة‪،‬‬ ‫ِ ٍ‬ ‫آتين‬
‫ُ‬
‫َ م‬ ‫َ مَ َ َ َ مَ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫بعض‪ ,‬فهذا ليس بإيمان‪ ,‬بل هو الكفر بعينه‪ ,‬وهلذا قال تعاىل‪:‬‬
‫رش ُبوا ِيف‬
‫{قالوا س ِمعنا وعصينا} أي‪ :‬صارت هذه حاتلهم {وأ ِ‬ ‫ه ه َ َ م ُ ُ َ ه َ ُ ُ َ ُ ُ َ َ م ُ َ ِّ ُ َ م َ ه‬
‫م م َ‬ ‫ُُ‬ ‫اَّلل‬
‫اَّلل ورس ِل ِه وي ِريدون أن يفرقوا بني ِ‬
‫اَّلين يكفرون بِ ِ‬
‫{إِن ِ‬
‫قلوبِ ِه ُم ال ِعجل} بسبب كفرهم‪.‬‬
‫‪29‬‬
‫َ‬ ‫َ ُ ُ م م ُ مُ م ُ م‬ ‫م‬ ‫ُم م َ َ َمُ ُ ُ‬
‫املجازاة بأعماهلم اخلبيثة‪ ،‬فاملوت أكره يشء إيلهم‪ ,‬وهم أحرص‬ ‫{قل بِئسما يأمركم بِ ِه إِيمانكم إِن كنتم مؤ ِم ِنني} أي‪ :‬أنتم‬
‫ىلع اْلياة من لك أحد من انلاس‪ ,‬حىت من املرشكني اَّلين َل‬ ‫تدعون اإليمان وتتمدحون بادلين اْلق‪ ,‬وأنتم قتلتم أنبياء‬
‫يؤمنون بأحد من الرسل والكتب‪.‬‬ ‫اهلل‪ ,‬واختذتم العجل إهلا من دون اهلل‪ ,‬ملا اغب عنكم موىس‪,‬‬
‫َمَ‬ ‫ُّ َ ُ َ ُ‬ ‫نيب اهلل‪ ,‬ولم تقبلوا أوامره ونواهيه إَل بعد اتلهديد ورفع الطور‬
‫ثم ذكر شدة حمبتهم لدلنيا فقال‪{ :‬يَ َود أ َح ُده مم ل مو ي َع هم ُر ألف‬
‫َ‬ ‫فوقكم‪ ,‬فالزتمتم بالقول‪ ,‬ونقضتم بالفعل‪ ،‬فما هذا اإليمان‬
‫َسن ٍة} وهذا أبلغ ما يكون من اْلرص‪ ,‬تمنوا حالة يه من‬
‫اَّلي ادعيتم‪ ,‬وما هذا ادلين؟‪.‬‬
‫املحاَلت‪ ،‬واْلال أنهم لو عمروا العمر املذكور‪ ,‬لم يغن عنهم‬
‫شيئا وَل دفع عنهم من العذاب شيئا‪.‬‬ ‫فإن اكن هذا إيمانا ىلع زعمكم‪ ,‬فبئس اإليمان ادلايع‬

‫َم ُ َ‬ ‫{ َو ه ُ‬ ‫صاحبه إىل الطغيان‪ ,‬والكفر برسل اهلل‪ ,‬وكرثة العصيان‪ ،‬وقد‬
‫ري بِ َما يع َملون} تهديد هلم ىلع املجازاة بأعماهلم‪.‬‬
‫اَّلل بَص ٌ‬
‫ِ‬
‫عهد أن اإليمان الصحيح‪ ,‬يأمر صاحبه بكل خري‪ ,‬وينهاه عن‬
‫ُ م َ م َ َ َ ُ ًّ م َ َ ه ُ َ َ َ َ م َ‬
‫ربيل ف ِإنه ن هز ُهل َىلع قل ِبك‬ ‫جل ِ‬
‫{‪{ }98 - 97‬قل من اكن عدوا ِ ِ‬ ‫لك رش‪ ،‬فوضح بهذا كذبهم‪ ,‬وتبني تناقضهم‪.‬‬
‫م‬
‫رشى لل ُم مؤمن َ‬ ‫ُم‬ ‫م ه ُ َ ِّ ً َ َ م َ َ َ م ُ ً‬
‫ني * َم من‬ ‫اَّلل مصدقا لِما بني يدي ِه َوهدى َوب َ ِ ِ ِ‬ ‫بِإِذ ِن ِ‬ ‫ً‬ ‫ُم م َ َ م َ ُ ُ ه ُ م َُ مَ ه َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫كته َو ُر ُسله َوج مربيل َومياكل فإ هن ه َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َاك َن َع ُد ًّوا هَّلل َو َ‬ ‫اَّلل خال ِ َصة‬ ‫{‪{ }96 - 94‬قل ِإن اكنت لكم ادلار اآل ِخرة ِعند ِ‬
‫اَّلل َع ُد ٌّو‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬‫ال‬ ‫م‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ َ ه‬ ‫ت إ من ُكنمتُ مم َصادق َ‬ ‫َََهُ مَ م َ‬ ‫ِم من ُدون ه‬
‫لِلم َاك ِفر َ‬ ‫ني * َول من يتَ َمن مو ُه‬ ‫ِِ‬ ‫اس فتمنوا المو ِ‬ ‫انل ِ‬ ‫ِ‬
‫ين}‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ه‬ ‫اَّلل َعل ٌ‬ ‫ه‬ ‫َ‬
‫ت أيمديه مم َو ُ‬ ‫أَبَ ًدا ب َما قد َم م‬
‫ه‬ ‫َ‬
‫ني * َو َتل ِجدن ُه مم‬ ‫يم بالظالم َ‬
‫ِ ِ ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ م‬
‫أي‪ :‬قل هلؤَلء ايلهود‪ ,‬اَّلين زعموا أن اَّلي منعهم من اإليمان‬
‫َ‬
‫رشكوا يَ َود أحده مم ل مو يع هم ُر‬ ‫ين أ َ‬ ‫اَّل َ‬ ‫َ‬
‫اس ىلع حيا ٍة َو ِم َن ِ‬
‫َ‬
‫انل ِ‬ ‫ح َر َص ه‬ ‫أ‬
‫اَّلل بَص ٌ‬ ‫َ‬
‫حزحه م َن الم َع َذاب أ من ُي َع هم َر َو ه ُ‬ ‫مَ َ َ َ ُ ُ م‬ ‫َ‬
‫بك‪ ,‬أن ويلك جربيل عليه السالم‪ ,‬ولو اكن غريه من مالئكة‬ ‫ري‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ألف سن ٍة َوما ه َو بِم َز ِ ِ ِ ِ‬
‫َم ُ َ‬
‫اهلل‪ ,‬آلمنوا بك وصدقوا‪ ،‬إن هذا الزعم منكم تناقض‬ ‫بِ َما يع َملون}‬
‫وتهافت‪ ,‬وتكرب ىلع اهلل‪ ،‬فإن جربيل عليه السالم هو اَّلي‬ ‫م َ َ م َ ُ‬
‫ك ُم ه‬
‫ادل ُ‬ ‫ُم‬
‫ار‬ ‫أي‪{ :‬قل} هلم ىلع وجه تصحيح دعواهم‪ِ { :‬إن اكنت ل‬
‫نزل بالقرآن من عند اهلل ىلع قلبك‪ ,‬وهو اَّلي يزنل ىلع‬ ‫ماآل ِخ َر ُة} يعين اجلنة { َخال ِ َص ًة ِم من ُدون ه‬
‫اس} كما زعمتم‪ ,‬أنه‬ ‫انل ِ‬ ‫ِ‬
‫األنبياء قبلك‪ ,‬واهلل هو اَّلي أمره‪ ,‬وأرسله بذلك‪ ,‬فهو رسول‬
‫لن يدخل اجلنة إَل من اكن هودا أو نصارى‪ ,‬وأن انلار لن‬
‫حمض‪.‬‬
‫تمسهم إَل أياما معدودة‪ ،‬فإن كنتم صادقني بهذه ادلعوى‬
‫َ ه م َ‬
‫مع أن هذا الكتاب اَّلي نزل به جربيل مصدقا ملا تقدمه من‬ ‫{فتَ َمن ُوا ال َم موت} وهذا نوع مباهلة بينهم وبني رسول اهلل صىل‬
‫الكتب غري خمالف هلا وَل مناقض‪ ,‬وفيه اهلداية اتلامة من‬ ‫اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫أنواع الضالَلت‪ ,‬والبشارة باخلري ادلنيوي واألخروي‪ ,‬ملن آمن‬
‫وليس بعد هذا اإلجلاء واملضايقة هلم بعد العناد منهم‪ ,‬إَل أحد‬
‫به‪ ،‬فالعداوة جلربيل املوصوف بذلك‪ ,‬كفر باهلل وآياته‪,‬‬
‫أمرين‪ :‬إما أن يؤمنوا باهلل ورسوهل‪ ،‬وإما أن يباهلوا ىلع ما هم‬
‫وعداوة هلل ولرسله ومالئكته‪ ،‬فإن عداوتهم جلربيل‪َ ,‬ل َّلاته‬
‫عليه بأمر يسري عليهم‪ ,‬وهو تمين املوت اَّلي يوصلهم إىل ادلار‬
‫بل ملا يزنل به من عند اهلل من اْلق ىلع رسل اهلل‪.‬‬
‫اليت يه خالصة هلم‪ ,‬فامتنعوا من ذلك‪.‬‬
‫فيتضمن الكفر والعداوة لذلي أنزهل وأرسله‪ ,‬واَّلي أرسل به‪,‬‬
‫فعلم لك أحد أنهم يف اغية املعاندة واملحادة هلل ولرسوهل‪ ,‬مع‬
‫واَّلي أرسل إيله‪ ,‬فهذا وجه ذلك‪.‬‬
‫ت‬‫علمهم بذلك‪ ،‬وهلذا قال تعاىل { َولَ من َيتَ َم هن مو ُه أَبَ ًدا ب َما قَ هد َم م‬
‫ِ‬
‫يه مم} من الكفر واملعايص‪ ,‬ألنهم يعلمون أنه طريق هلم إىل‬ ‫د‬ ‫أَيم‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪30‬‬
‫ََ َ مُُ َ ه‬ ‫َ ِّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ََ م َمَ مَ َم َ‬
‫أي‪ :‬وملا جاءهم هذا الرسول الكريم بالكتاب العظيم باْلق‬ ‫ات وما يكفر بِها إَِل‬
‫ات بين ٍ‬ ‫{‪{ }99‬ولقد أنزنلا إِيلك آي ٍ‬
‫مَ ُ َ‬
‫املوافق ملا معهم‪ ،‬واكنوا يزعمون أنهم متمسكون بكتابهم‪,‬‬ ‫اسقون}‬
‫الف ِ‬
‫ه‬
‫اَّل َ‬ ‫ََ َ َ ٌ‬
‫ين‬ ‫فلما كفروا بهذا الرسول وبما جاء به‪{ ،‬نبذ ف ِريق ِم َن ِ‬ ‫َ ََ م َمَ مَ َم َ‬
‫ك آيَ‬
‫ُ ُ م َ َ َ َ ه‬ ‫ات‬
‫ٍ‬ ‫يقول نلبيه صىل اهلل عليه وسلم‪{ :‬ولقد أنزنلا ِإيل‬
‫اَّلل} اَّلي أنزل إيلهم أي‪ :‬طرحوه رغبة‬
‫كتاب ِكتاب ِ‬ ‫أوتوا ال ِ‬ ‫َ ِّ َ‬
‫ََ َ ُ ُ‬ ‫ات} حتصل بها اهلداية ملن استهدى‪ ,‬وإقامة اْلجة ىلع من‬‫بين ٍ‬
‫ور ِه مم} وهذا أبلغ يف اإلعراض كأنهم يف فعلهم‬‫عنه {وراء ظه ِ‬
‫اعند‪ ,‬ويه يف الوضوح وادلَللة ىلع اْلق‪ ,‬قد بلغت مبلغا‬
‫هذا من اجلاهلني وهم يعلمون صدقه‪ ،‬وحقيرة ما جاء به‪.‬‬
‫عظيما ووصلت إىل حالة َل يمتنع من قبوهلا إَل من فسق عن‬
‫تبني بهذا أن هذا الفريق من أهل الكتاب لم يبق يف أيديهم‬ ‫أمر اهلل‪ ,‬وخرج عن طاعة اهلل‪ ,‬واستكرب اغية اتلكرب‪.‬‬
‫يشء حيث لم يؤمنوا بهذا الرسول‪ ,‬فصار كفرهم به كفرا‬ ‫َ َ ُه َ َ َ ُ َ م ً َ َ َ ُ َ ٌ م ُ م َ م َ م َُ ُ َ‬
‫رثه مم َل‬‫{‪{ }100‬أوُكما اعهدوا عهدا نبذه ف ِريق ِمنهم بل أك‬
‫بكتابهم من حيث َل يشعرون‪.‬‬ ‫م َ‬
‫يُؤ ِمنُون}‬
‫وملا اكن من العوائد القدرية واْلكمة اإلهلية أن من ترك ما‬
‫وهذا فيه اتلعجيب من كرثة معاهداتهم‪ ,‬وعدم صربهم ىلع‬
‫ينفعه‪ ،‬وأمكنه اَلنتفاع به فلم ينتفع‪ ,‬ابتيل باَلشتغال بما‬
‫الوفاء بها‪.‬‬
‫يرضه‪ ,‬فمن ترك عبادة الرْحن‪ ,‬ابتيل بعبادة األوثان‪ ,‬ومن ترك‬
‫ُه‬
‫حمبة اهلل وخوفه ورجاءه‪ ,‬ابتيل بمحبة غري اهلل وخوفه ورجائه‪,‬‬ ‫فـ " لك َما " تفيد اتلكرار‪ ,‬فلكما وجد العهد ترتب عليه انلقض‪،‬‬
‫ومن لم ينفق ماهل يف طاعة اهلل أنفقه يف طاعة الشيطان‪ ,‬ومن‬ ‫ما السبب يف ذلك؟ السبب أن أكرثهم َل يؤمنون‪ ،‬فعدم‬
‫ترك اَّلل لربه‪ ,‬ابتيل باَّلل للعبيد‪ ،‬ومن ترك اْلق ابتيل بابلاطل‪.‬‬ ‫إيمانهم هو اَّلي أوجب هلم نقض العهود‪ ،‬ولو صدق إيمانهم‪,‬‬
‫َ ُ‬ ‫ٌ‬ ‫لاكنوا مثل من قال اهلل فيهم‪{ :‬م َن ال م ُم مؤمن َ‬
‫ني ِر َجال َصدقوا َما‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫كذلك هؤَلء ايلهود ملا نبذوا كتاب اهلل اتبعوا ما تتلوا‬ ‫هَ َ‬ ‫َ‬
‫اَّلل َعليم ِه}‬ ‫َاعه ُدوا‬
‫الشياطني وختتلق من السحر ىلع ملك سليمان حيث أخرجت‬
‫ِّ ٌ‬ ‫ََه َ َ ُ م َُ ٌ م م ه‬
‫الشياطني للناس السحر‪ ،‬وزعموا أن سليمان عليه السالم اكن‬ ‫اَّلل ُم َصدق ل ِ َما‬ ‫{‪{ }103 - 101‬ولما جاءهم رسول ِمن ِعن ِد ِ‬
‫يستعمله وبه حصل هل امللك العظيم‪.‬‬ ‫اَّلل َو َر َ‬ ‫َ َُ م َََ َ ٌ َ ه َ ُ ُ م َ َ َ َ ه‬
‫اء‬ ‫كتاب ِكتاب ِ‬ ‫اَّلين أوتوا ال ِ‬ ‫معهم نبذ ف ِريق ِمن ِ‬
‫ه َ ُ ََ‬ ‫ُ‬ ‫م َ َه ُ م َ َ م َ ُ َ َ ه َ ُ َ َم‬ ‫ُ ُ‬
‫اطني ىلع‬ ‫ور ِهم كأنهم َل يعلمون * واتبعوا ما تتلو الشي ِ‬ ‫ظه ِ‬
‫وهم كذبة يف ذلك‪ ،‬فلم يستعمله سليمان‪ ،‬بل نزهه الصادق يف‬ ‫ُ م ُ َمَ َ َ َ َ َ َ ُ َمَ ُ ََ ه ه َ َ َ َ‬
‫َ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ني كف ُروا‬ ‫اط‬
‫كن الشي ِ‬ ‫مل ِك سليمان وما كفر سليمان ول ِ‬
‫قيله‪َ { :‬و َما كف َر ُسليم َمان} أي‪ :‬بتعلم السحر‪ ,‬فلم يتعلمه‪،‬‬ ‫َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ِّ م َ َ َ ُ م َ َ َ َ م‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫ُ َ ِّ ُ َ ه َ‬
‫ََ ه ه َ َ ََ‬ ‫اروت‬ ‫ني بِبَابِل ه‬ ‫يعلمون انلاس السحر وما أن ِزل ىلع الملك ِ‬
‫ني كف ُروا} بذلك‪.‬‬ ‫اط‬
‫كن الشي ِ‬ ‫{و ل ِ‬ ‫َ ُ َ ه َم مٌَ ََ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ َ َ َ ُ َ ِّ َ‬
‫ان ِم من أ َح ٍد َح هىت يقوَل ِإن َما حن ُن ِفتنة فال‬ ‫وماروت وما يعلم ِ‬
‫ُ َ ِّ ُ َ ه َ ِّ م‬ ‫َمَ م‬ ‫َُ ُ َ‬ ‫َ مُ َ ه َ م‬
‫السح َر} من إضالهلم وحرصهم ىلع إغواء بين‬ ‫{يعلمون انلاس‬ ‫ني ال َم مر ِء َو َز مو ِج ِه َو َما‬ ‫تكف مر فيَتَ َعل ُمون ِمن ُه َما َما يف ِّرقون بِ ِه ب‬
‫م َ َ ه م ه َ َ َ َ ه ُ َ َ َ ُ ُّ ُ َ‬ ‫ُ م َ ِّ َ‬
‫آدم‪ ،‬وكذلك اتبع ايلهود السحر اَّلي أنزل ىلع امللكني الاكئنني‬ ‫رضه مم َوَل‬ ‫اَّلل ويتعلمون ما ي‬ ‫هم بِضارين بِ ِه ِمن أح ٍد ِإَل بِ ِإذ ِن ِ‬
‫َ َ‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫م‬
‫اش َ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ م‬ ‫َمَ‬
‫بأرض بابل من أرض العراق‪ ،‬أنزل عليهما السحر امتحانا‬ ‫رت ُاه َما ُهل ِيف اآل ِخ َر ِة ِم من خال ٍق‬ ‫ينف ُع ُه مم َولقد َع ِل ُموا ل َم ِن‬
‫وابتالء من اهلل لعباده فيعلمانهم السحر‪.‬‬ ‫آمنُوا‬ ‫ون * َول َ مو أَ هن ُه مم َ‬ ‫َم ُ َ ُ م َم َ ُ َ م َ ُ َ‬
‫رش موا بِ ِه أنفسهم لو اكنوا يعلم‬ ‫َو َبلئم َس َما َ َ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ ه َ م ََ ُ ٌَ م م ه َ مٌ َم َ ُ َ م َ ُ َ‬
‫َ ُ َ ه َم مٌَ‬ ‫{ َو َما ُي َعلِّ َ‬ ‫اَّلل خري لو اكنوا يعلمون}‬ ‫واتقوا لمثوبة ِمن ِعن ِد ِ‬
‫ان ِم من أ َح ٍد َح هىت} ينصحاه‪ ,‬و {يقوَل ِإن َما حن ُن فِتنة‬
‫ِ‬ ‫م‬
‫ََ َ مُ‬
‫فال تكف مر} أي‪َ :‬ل تتعلم السحر فإنه كفر‪ ،‬فينهيانه عن‬

‫‪31‬‬
‫َ َ‬ ‫م‬ ‫َ‬
‫{ َما ُهل ِيف اآل ِخ َر ِة ِم من خال ٍق} أي‪ :‬نصيب‪ ,‬بل هو موجب‬ ‫السحر‪ ،‬وخيربانه عن مرتبته‪ ,‬فتعليم الشياطني للسحر ىلع‬
‫للعقوبة‪ ,‬فلم يكن فعلهم إياه جهال‪ ,‬ولكنهم استحبوا اْلياة‬ ‫وجه اتلدليس واإلضالل‪ ،‬ونسبته وتروجيه إىل من برأه اهلل منه‬
‫ادلنيا ىلع اآلخرة‪.‬‬ ‫وهو سليمان عليه السالم‪ ،‬وتعليم امللكني امتحانا مع‬

‫َ َ ُ َمَ َ‬ ‫َمُ‬ ‫{ َو َبلئم َس َما َ َ‬ ‫نصحهما َلال يكون هلم حجة‪.‬‬


‫رش موا بِ ِه أنف َس ُه مم ل مو اكنوا يعل ُمون} علما يثمر‬ ‫ِ‬
‫العمل ما فعلوه‪.‬‬ ‫فهؤَلء ايلهود يتبعون السحر اَّلي تعلمه الشياطني‪ ,‬والسحر‬
‫َ ُ ُ‬ ‫َ َُ ُ‬ ‫َ َ ُّ َ ه‬ ‫اَّلي يعلمه امللاكن‪ ,‬فرتكوا علم األنبياء واملرسلني وأقبلوا ىلع‬
‫آمنُوا َل تقولوا َرا ِعنا َوقولوا‬ ‫ين َ‬‫اَّل َ‬‫{‪{ }105 - 104‬يا أيها ِ‬
‫َ َ َ ٌ َ ٌ َ َ َ ُّ ه َ َ َ‬ ‫مَ‬ ‫مُ َ م َُ‬ ‫علم الشياطني‪ ,‬ولك يصبو إىل ما يناسبه‪.‬‬
‫ين كف ُروا‬ ‫انظ مرنا َواسمعوا َولِلاكفِ ِرين عذاب أ ِيلم * ما يود ِ‬
‫اَّل‬
‫ك مم م من َخ م‬ ‫ََ مُ م َ َ م َُه َ َ َم ُ‬ ‫م من أَ مهل المكتَ‬ ‫َُ ُ َ‬ ‫َ ه َ م‬
‫ري ِم من‬‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ي‬‫ل‬‫ع‬ ‫ل‬‫زن‬‫ي‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ني‬‫ك‬‫ِ‬ ‫رش‬
‫ِ‬ ‫م‬ ‫ال‬ ‫َل‬ ‫و‬ ‫اب‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ثم ذكر مفاسد السحر فقال‪{ :‬فيَتَ َعل ُمون ِمن ُه َما َما يف ِّرقون بِ ِه‬
‫َم‬ ‫م‬
‫َ ِّ ُ م َ ه ُ َ م َ ُّ َ م َ َ م َ َ ُ َ ه ُ ُ َ م‬ ‫َمَ م‬
‫يم}‬ ‫ربكم واَّلل خيتص بِرْح ِت ِه من يشاء واَّلل ذو الفض ِل الع ِظ ِ‬ ‫ني ال َم مر ِء َو َز مو ِج ِه} مع أن حمبة الزوجني َل تقاس بمحبة‬ ‫ب‬
‫َ َ َ َ َمَ ُ م َ َهً َ َ مًَ‬
‫غريهما‪ ,‬ألن اهلل قال يف حقهما‪{ :‬وجعل بينكم مودة ورْحة}‬
‫اكن املسلمون يقولون حني خطابهم للرسول عند تعلمهم أمر‬
‫َ‬ ‫ويف هذا ديلل ىلع أن السحر هل حقيقة‪ ،‬وأنه يرض بإذن اهلل‪،‬‬
‫ادلين‪َ { :‬را ِعنا} أي‪ :‬راع أحوانلا‪ ,‬فيقصدون بها معىن صحيحا‪،‬‬
‫أي‪ :‬بإرادة اهلل‪ ،‬واإلذن نواعن‪ :‬إذن قدري‪ ،‬وهو املتعلق بمشيئة‬
‫واكن ايلهود يريدون بها معىن فاسدا‪ ,‬فانتهزوا الفرصة‪ ,‬فصاروا‬
‫اهلل‪ ,‬كما يف هذه اآلية‪ ،‬وإذن رشيع كما يف قوهل تعاىل يف اآلية‬
‫خياطبون الرسول بذلك‪ ,‬ويقصدون املعىن الفاسد‪ ،‬فنىه اهلل‬ ‫ه‬ ‫َ ه ُ َه َُ ََ َ م َ م‬
‫اَّلل} ويف هذه اآلية وما‬
‫السابقة‪{ :‬ف ِإنه نزهل ىلع قل ِبك بِ ِإذ ِن ِ‬
‫املؤمنني عن هذه اللكمة‪ ,‬سدا هلذا ابلاب‪ ،‬ففيه انليه عن‬
‫أشبهها أن األسباب مهما بلغت يف قوة اتلأثري‪ ،‬فإنها تابعة‬
‫اجلائز‪ ,‬إذا اكن وسيلة إىل حمرم‪ ،‬وفيه األدب‪ ,‬واستعمال‬
‫للقضاء والقدر ليست مستقلة يف اتلأثري‪ ,‬ولم خيالف يف هذا‬
‫األلفاظ‪ ,‬اليت َل حتتمل إَل اْلسن‪ ,‬وعدم الفحش‪ ,‬وترك‬
‫األصل من فرق األمة غري القدرية يف أفعال العباد‪ ،‬زعموا أنها‬
‫األلفاظ القبيحة‪ ,‬أو اليت فيها نوع تشويش أو احتمال ألمر‬
‫ُ ُ‬ ‫مستقلة غري تابعة للمشيئة‪ ,‬فأخرجوها عن قدرة اهلل‪ ،‬فخالفوا‬
‫غري َلئق‪ ،‬فأمرهم بلفظة َل حتتمل إَل اْلسن فقال‪َ { :‬وقولوا‬
‫مُ َ‬ ‫كتاب اهلل وسنة رسوهل وإمجاع الصحابة واتلابعني‪.‬‬
‫انظ مرنا} فإنها اكفية حيصل بها املقصود من غري حمذور‪،‬‬
‫{ َو م‬
‫اس َم ُعوا} لم يذكر املسموع‪ ,‬يلعم ما أمر باستماعه‪ ،‬فيدخل‬ ‫ثم ذكر أن علم السحر مرضة حمضة‪ ,‬ليس فيه منفعة َل دينية‬
‫فيه سماع القرآن‪ ,‬وسماع السنة اليت يه اْلكمة‪ ,‬لفظا ومعىن‬ ‫وَل دنيوية كما يوجد بعض املنافع ادلنيوية يف بعض املعايص‪،‬‬
‫َ مٌ َ ٌ َ‬ ‫ُم‬
‫واستجابة‪ ،‬ففيه األدب والطاعة‪.‬‬ ‫ري َو َمنا ِف ُع‬‫يهما ِإثم ك ِب‬
‫كما قال تعاىل يف اخلمر وامليرس‪{ :‬قل ِف ِ‬
‫َم‬
‫رب ِم من نف ِع ِه َما} فهذا السحر مرضة حمضة‪,‬‬ ‫اس َوإ مث ُم ُه َما أَ مك َ ُ‬ ‫ه‬
‫لِلن ِ ِ‬
‫ثم توعد الاكفرين بالعذاب املؤلم املوجع‪ ,‬وأخرب عن عداوة‬
‫َ م َُه َ َ ُ‬ ‫فليس هل داع أصال‪ ,‬فاملنهيات لكها إما مرضة حمضة‪ ,‬أو رشها‬
‫زنل َعليمك مم‬‫ايلهود واملرشكني للمؤمنني‪ ,‬أنهم ما يودون {أن ي‬
‫ُ‬ ‫م َم‬ ‫أكرب من خريها‪.‬‬
‫ري} أي‪َ :‬ل قليال وَل كثريا { ِم من َر ِّبك مم} حسدا منهم‪,‬‬
‫ِمن خ ٍ‬
‫يم}‬ ‫ُ مَ م مَ‬
‫وبغضا لكم أن خيتصكم بفضله فإنه {ذو الفض ِل الع ِظ ِ‬ ‫كما أن املأمورات إما مصلحة حمضة أو خريها أكرث من رشها‪.‬‬
‫ومن فضله عليكم‪ ,‬إنزال الكتاب ىلع رسولكم‪ ,‬لزيكيكم‬ ‫ََ م‬
‫اش َ َ‬ ‫ََ م‬
‫رت ُاه} أي‪ :‬رغب يف السحر‬ ‫{ َولقد َع ِل ُموا} أي‪ :‬ايلهود {لم ِن‬
‫ويعلمكم الكتاب واْلكمة‪ ,‬ويعلمكم ما لم تكونوا‬
‫رغبة املشرتي يف السلعة‪.‬‬
‫تعلمون‪ ,‬فله اْلمد واملنة‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫َ َم م م َ َ ُم َ َم‬
‫خب مري ِمنم َها أَوم‬‫َ‬ ‫م‬ ‫َ‬
‫{‪َ { }107 -َ 106‬ما ننسخ ِمن آي ٍة أو نن ِسها َنأ ِت ِ ٍَ‬
‫َ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫َ م ُ ُ َ َ م َ َُ‬ ‫م َ َ م َ م َ م ه ه َ َ َ ُ ِّ َ م َ ٌ َ م َ م َ م ه ه َ َ‬
‫يدون أن ت مسألوا َر ُسولك مم ك َما ُس ِئل‬ ‫{‪{ }110 - 108‬أم ت ِر‬ ‫اَّلل ُهل‬ ‫ِمث ِلها ألم تعلم أن اَّلل ىلع لك يش ٍء ق ِدير * ألم تعلم أن‬
‫يمان َف َق مد َض هل َس َو َ‬ ‫ك مف َر ب م َ‬ ‫م َ مُ َ َ م َََ ه م ُ‬ ‫َ‬ ‫ه م َ ٍّ َ‬ ‫ََ َ ُ م م ُ‬ ‫َ مَ‬ ‫ُ م ُ‬
‫اء‬ ‫اإل ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ُموىس ِمن قبل ومن يتبد ِل ال‬ ‫يل َوَل‬ ‫ِ‬ ‫و‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫اَّلل‬
‫ِ‬ ‫ون‬
‫ِ‬ ‫د‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬‫و‬ ‫ض‬‫ِ‬
‫األ م‬
‫ر‬ ‫و‬ ‫ات‬
‫ِ‬
‫الس َم َ‬
‫او‬ ‫ك ه‬ ‫مل‬
‫م‬ ‫ُّ َ ُ‬
‫اب ل مو يَ ُردونك مم ِم من َبع ِد‬
‫َ‬ ‫ري م من أَ مهل المكتَ‬ ‫ه َ‬ ‫ه‬ ‫َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫يل * َود ك ِث ٌ ِ‬ ‫ِ‬ ‫الس ِب‬ ‫ري}‬
‫ن ِص ٍ‬
‫َ ُ م ُ ه ً َ َ ً م م َمُ م م َ م َ ََه َ َ‬
‫ني ل ُه ُم‬ ‫ِإيمانِكم كفارا حسدا ِمن ِعن ِد أنف ِس ِهم ِمن بع ِد ما تب‬
‫لك َ م‬ ‫م َ ُّ َ م ُ َ م َ ُ َ ه َ م َ ه ُ َ م ه ه َ َ َ ُ ِّ‬ ‫النسخ‪ :‬هو انلقل‪ ,‬فحقيقة النسخ نقل امللكفني من حكم‬
‫يش ٍء‬ ‫اْلق فاعفوا واصفحوا حىت يأ ِيت اَّلل بِأم ِرهِ ِإن اَّلل ىلع‬
‫ُ‬ ‫َمُ‬ ‫ُ َ ِّ‬ ‫ه َ َ َ ُ ه َ َ‬ ‫ير * َوأَق ُ‬
‫قَ ِد ٌ‬ ‫مرشوع‪ ,‬إىل حكم آخر‪ ,‬أو إىل إسقاطه‪ ،‬واكن ايلهود ينكرون‬
‫الزاكة َو َما تقد ُموا ِألنف ِسك مم ِم من‬ ‫يموا الصالة وآتوا‬ ‫ِ‬
‫ون بَص ٌ‬ ‫َ م َ ُ ُ مَ ه ه هَ َ َم َ ُ َ‬ ‫النسخ‪ ,‬ويزعمون أنه َل جيوز‪ ,‬وهو مذكور عندهم يف اتلوراة‪,‬‬
‫ري}‬ ‫ِ‬ ‫اَّلل إِن اَّلل بِما تعمل‬
‫ِتدوه ِعند ِ‬ ‫ري ِ‬ ‫خ ٍ‬
‫فإنكارهم هل كفر وهوى حمض‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ينىه اهلل املؤمنني‪ ,‬أو ايلهود‪ ,‬بأن يسألوا رسوهلم {ك َما ُس ِئل‬
‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫فأخرب اهلل تعاىل عن حكمته يف النسخ‪ ،‬وأنه ما ينسخ من آية‬
‫ُموىس ِم من قبمل} واملراد بذلك‪ ,‬أسئلة اتلعنت واَلعرتاض‪ ,‬كما‬ ‫َ‬
‫خبريم‬ ‫َم‬ ‫َ‬ ‫َم ُم‬
‫َ م ُ َ ِّ َ َ‬ ‫ك أَ مه ُل المكتَ‬‫َ م َُ َ‬ ‫ننسها العباد‪ ,‬فزنيلها من قلوبهم‪{ ،‬نأ ِت ِ ٍ‬ ‫{أو نن ِسها} أي‪:‬‬
‫زنل َعليم ِه مم ِكتَابًا ِم َن‬ ‫اب أن ت‬
‫ِ ِ‬ ‫قال تعاىل‪{ :‬يسأل‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫م‬
‫َ هَ م ً‬ ‫َ‬ ‫َ َ ََ ُ‬ ‫َ‬ ‫ه َ َ َ م َ َُ ُ َ‬
‫وىس أ مك َ َ‬ ‫ِمن َها} وأنفع لكم {أ مو ِمث ِل َها}‬
‫اَّلل َجه َرة}‬ ‫رب ِم من ذلِك فقالوا أ ِرنا‬ ‫السما ِء فقد سألوا م‬

‫َ َ ُّ َ ه َ َ ُ َ َ م َ ُ َ م َ م َ َ م ُ َ‬ ‫فدل ىلع أن النسخ َل يكون ألقل مصلحة لكم من األول؛‬


‫اء ِإن تبمد‬ ‫اَّلين آمنوا َل تسألوا عن أشي‬
‫وقال تعاىل‪{ :‬يا أيها ِ‬
‫َ ُ َ م ُ‬ ‫ألن فضله تعاىل يزداد خصوصا ىلع هذه األمة‪ ,‬اليت سهل‬
‫لك مم ت ُسؤك مم} فهذه وحنوها‪ ,‬يه املنيه عنها‪.‬‬
‫عليها دينها اغية التسهيل‪.‬‬
‫وأما سؤال اَلسرتشاد واتلعلم‪ ,‬فهذا حممود قد أمر اهلل به كما‬
‫َ َمَ َ‬ ‫م ُم‬ ‫ِّ م‬ ‫َ م َُ َ م َ‬ ‫وأخرب أن من قدح يف النسخ فقد قدح يف ملكه وقدرته فقال‪:‬‬
‫اسألوا أهل اَّلك ِر ِإن كنتُ مم َل تعل ُمون}‬ ‫قال تعاىل {ف‬ ‫َ َ م َ م َ م َ ه ه َ َ َ ُ ِّ َ م َ ٌ َ َ م َ م َ م َ ه ه َ َ م ُ‬
‫م‬
‫َم َ َم‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫َم َ َ َ‬ ‫اَّلل ُهل ُملك‬ ‫{ألم تعلم أن اَّلل ىلع لك يش ٍء ق ِدير ألم تعلم أن‬
‫رس} و‬
‫ويقررهم عليه‪ ,‬كما يف قوهل {يسألونك ع ِن اخلم ِر والمي ِ ِ‬ ‫مَ‬
‫َ م َُ َ َ‬
‫ك َعن مايلَتَ َ‬ ‫ات َواأل مر ِض}‬ ‫ه َ َ‬
‫السماو ِ‬
‫اَم} وحنو ذلك‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫{يسألون‬
‫فإذا اكن مالاك لكم‪ ,‬متِّصفا فيكم‪ ,‬تِّصف املالك الرب الرحيم‬
‫وملا اكنت املسائل املنيه عنها مذمومة‪ ,‬قد تصل بصاحبها إىل‬
‫ك مف َر ب م َ‬
‫يمان َف َق مد َض هل َس َو َ‬ ‫َ َ م َََ ه م ُ‬ ‫يف أقداره وأوامره ونواهيه‪ ,‬فكما أنه َل حجر عليه يف تقدير ما‬
‫اء‬ ‫اإل ِ‬‫ِ ِ‬ ‫الكفر‪ ،‬قال‪{ :‬ومن يتبد ِل ال‬
‫ه‬ ‫يقدره ىلع عباده من أنواع اتلقادير‪ ,‬كذلك َل يعرتض عليه‬
‫يل}‬
‫الس ِب ِ‬
‫فيما يرشعه لعباده من األحاكم‪ .‬فالعبد مدبر مسخر حتت‬
‫ثم أخرب عن حسد كثري من أهل الكتاب‪ ,‬وأنهم بلغت بهم‬ ‫أوامر ربه ادلينية والقدرية‪ ,‬فما هل واَلعرتاض؟‬
‫ك مم ُك هف ً‬
‫َ ُ‬ ‫َ م َ ُّ َ ُ م م َ م‬
‫ارا}‬ ‫اْلال‪ ,‬أنهم ودوا {لو ي ُردونكم ِمن بع ِد ِإيمانِ‬
‫وهو أيضا‪ ,‬ويل عباده‪ ,‬ونصريهم‪ ،‬فيتوَلهم يف حتصيل منافعهم‪,‬‬
‫وسعوا يف ذلك‪ ,‬وأعملوا املاكيد‪ ,‬وكيدهم راجع عليهم [كما]‬
‫ه ُم َ‬
‫اَّلي أن ِزل‬ ‫ُ‬ ‫ت َطائ َف ٌة م من أَ مهل المكتَ‬ ‫قال تعاىل‪َ { :‬وقَالَ م‬ ‫وينِّصهم يف دفع مضارهم‪ ،‬فمن وَليته هلم‪ ,‬أن يرشع هلم من‬
‫اب آ ِمنوا بِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َ‬ ‫َ ه‬ ‫مُ‬ ‫ج َه ه‬
‫انل َ‬ ‫ََ ه َ َُ َ م‬ ‫األحاكم‪ ,‬ما تقتضيه حكمته ورْحته بهم‪.‬‬
‫آخ َر ُه ل َعل ُه مم يَ مر ِج ُعون}‬
‫ار َواكف ُروا ِ‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫اَّلين آمنوا و‬‫ىلع ِ‬
‫وهذا من حسدهم الصادر من عند أنفسهم‪.‬‬ ‫ومن تأمل ما وقع يف القرآن والسنة من النسخ‪ ,‬عرف بذلك‬
‫حكمة اهلل ورْحته عباده‪ ,‬وإيصاهلم إىل مصاْلهم‪ ,‬من حيث‬
‫َل يشعرون بلطفه‪.‬‬
‫‪33‬‬
‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ََُ َ م ُُ مَ‬
‫{فله أجره ِعند رب ِه} وهو اجلنة بما اشتملت عليه من انلعيم‪،‬‬ ‫فأمرهم اهلل بمقابلة من أساء إيلهم اغية اإلساءة بالعفو عنهم‬
‫َ ُ َم ُ َ‬ ‫َ َ ٌ َ‬
‫{ َوَل خ موف َعليم ِه مم َوَل ه مم حي َزنون} فحصل هلم املرغوب‪ ,‬وجنوا‬ ‫والصفح حىت يأيت اهلل بأمره‪.‬‬
‫من املرهوب‪.‬‬
‫ثم بعد ذلك‪ ,‬أىت اهلل بأمره إياهم باجلهاد‪ ,‬فشىف اهلل أنفس‬
‫ويفهم منها‪ ,‬أن من ليس كذلك‪ ,‬فهو من أهل انلار اهلالكني‪،‬‬ ‫املؤمنني منهم‪ ,‬فقتلوا من قتلوا‪ ,‬واسرتقوا من اسرتقوا‪ ,‬وأجلوا‬
‫ه ه َ َ َ ُ ِّ‬
‫لك َ م‬
‫يش ٍء قَ ِد ٌ‬
‫فال جناة إَل ألهل اإلخالص للمعبود‪ ,‬واملتابعة للرسول‪.‬‬ ‫ير}‬ ‫من أجلوا { ِإن اَّلل ىلع‬
‫َ َ‬ ‫ىلع َ م‬ ‫ََ‬ ‫انل َص َ‬ ‫م ُ ُ َم َ‬ ‫َ َ‬
‫ت‬ ‫يش ٍء َوقال ِ‬ ‫ارى‬ ‫ت ه‬ ‫ت ايلَهود ليس ِ‬ ‫{‪َ { }113‬وقال ِ‬ ‫ثم أمرهم [اهلل] باَلشتغال يف الوقت اْلارض‪ ,‬بإقامة الصالة‪,‬‬
‫مَُ ُ ََ َ م َ ُ م َ مُ َ م َ َ َ َ َ‬ ‫ه َ َ َم َ‬
‫اب كذلِك‬ ‫كت‬ ‫ت ايلهود ىلع يش ٍء وهم يتلون ال ِ‬ ‫انلصارى ليس ِ‬ ‫وإيتاء الزاكة وفعل لك القربات‪ ،‬ووعدهم أنهم مهما فعلوا من‬
‫َ َ ه َ َ َ م َُ َ مَ َم م َ هُ َم ُ‬
‫ك ُم بَيمنَ ُه مم يَ مو َم المقيَ َ‬
‫ام ِة‬ ‫ِ‬ ‫اَّلين َل يعلمون ِمثل قول ِ ِهم فاَّلل حي‬ ‫قال ِ‬ ‫خري‪ ,‬فإنه َل يضيع عند اهلل‪ ,‬بل جيدونه عنده وافرا موفرا قد‬
‫َم ُ َ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫ه هَ َ َم َ ُ َ‬
‫يما اكنوا ِفي ِه خيتَ ِلفون}‬‫ِف‬ ‫ون بَص ٌ‬
‫ري}‬ ‫ِ‬ ‫حفظه {إِن اَّلل بِما تعمل‬

‫وذلك أنه بلغ بأهل الكتاب اهلوى واْلسد‪ ,‬إىل أن بعضهم‬ ‫ودا أَوم‬
‫َ َ ُ َ م َ م ُ َ مَ ه َ ه َ م َ َ ُ ً‬
‫{‪{ }112 - 111‬وقالوا لن يدخل اجلنة إَِل من اكن ه‬
‫ك مم إ من ُكنمتُ مم َصادق َ‬ ‫َ َ َ م َ َ َ ُّ ُ م ُ م َ ُ ُ م َ َ ُ‬
‫ضلل بعضا‪ ,‬وكفر بعضهم بعضا‪ ,‬كما فعل األميون من مرشيك‬ ‫ني *‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫نصارى تِلك أما ِنيهم قل هاتوا برهان‬
‫َ َ ٌ‬ ‫مَ‬ ‫َ‬
‫ََُ م‬ ‫ََ َ م َ م ََ َ م َ ُ ه ُ ُم‬
‫العرب وغريهم‪.‬‬ ‫َّلل َوه َو حم ِس ٌن فله أج ُر ُه ِعند َر ِّب ِه َوَل خ موف‬
‫بىل من أسلم وجهه ِ ِ‬
‫َ ُ َم ُ َ‬ ‫َ‬
‫َعليم ِه مم َوَل ه مم حي َزنون}‬
‫فلك فرقة تضلل الفرقة األخرى‪ ,‬وحيكم اهلل يف اآلخرة بني‬
‫املختلفني ِبكمه العدل‪ ,‬اَّلي أخرب به عباده‪ ,‬فإنه َل فوز وَل‬ ‫أي‪ :‬قال ايلهود‪ :‬لن يدخل اجلنة إَل من اكن هودا‪ ،‬وقالت‬
‫جناة إَل ملن صدق مجيع األنبياء واملرسلني‪ ,‬وامتثل أوامر ربه‪,‬‬ ‫انلصارى‪ :‬لن يدخل اجلنة إَل من اكن نصارى‪ ،‬فحكموا‬
‫واجتنب نواهيه‪ ,‬ومن عداهم‪ ,‬فهو هالك‪.‬‬ ‫ألنفسهم باجلنة وحدهم‪ ,‬وهذا جمرد أماين غري مقبولة‪ ,‬إَل‬

‫ََ م َم َُ ه م َََ َ َ َ ه َم ُم ََ َ م ُ‬ ‫ِبجة وبرهان‪ ,‬فأتوا بها إن كنتم صادقني‪ ،‬وهكذا لك من ادىع‬
‫اس ُمه‬ ‫اَّلل أن يذكر ِفيها‬
‫اجد ِ‬ ‫{‪{ }114‬ومن أظلم ِممن منع مس ِ‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫وها إَل َخائف َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫َ َ َ ُ َ َ َ َ َ َُ م م َ م ُ َ‬ ‫دعوى‪َ ,‬ل بد أن يقيم الربهان ىلع صحة دعواه‪ ،‬وإَل‪ ,‬فلو قلبت‬
‫ني ل ُه مم‬ ‫ِِ‬ ‫وَلك ما اكن لهم أن يدخل ِ‬ ‫َوس ََع ِيف خرابِها أ ِ‬
‫َ‬
‫ادل منيَا خ مز ٌي َول َ ُه مم يف ماآلخ َرة َع َذ ٌ‬
‫اب َعظ ٌ‬ ‫يف ُّ‬ ‫عليه دعواه‪ ,‬وادىع مدع عكس ما ادىع بال برهان لاكن َل‬
‫يم}‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فرق بينهما‪ ،‬فالربهان هو اَّلي يصدق ادلاعوى أو يكذبها‪،‬‬
‫أي‪َ :‬ل أحد أظلم وأشد جرما‪ ,‬ممن منع مساجد اهلل‪ ,‬عن ذكر‬ ‫وملا لم يكن بأيديهم برهان‪ ,‬علم كذبهم بتلك ادلعوى‪.‬‬
‫اهلل فيها‪ ,‬وإقامة الصالة وغريها من الطااعت‪.‬‬ ‫َ‬
‫ثم ذكر تعاىل الربهان اجليل العام للك أحد‪ ,‬فقال‪{ :‬بَىل} أي‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ م َم ََ َ م َُ ه‬
‫{ َو َس ََع} أي‪ :‬اجتهد وبذل وسعه { ِيف خ َرابِ َها} اْليس واملعنوي‪،‬‬ ‫َّلل}‬
‫ليس بأمانيكم وداعويكم‪ ,‬ولكن {من أسلم وجهه ِ ِ‬
‫ُ‬
‫فاخلراب اْليس‪ :‬هدمها وختريبها‪ ,‬وتقذيرها‪ ،‬واخلراب‬ ‫أي‪ :‬أخلص هلل أعماهل‪ ,‬متوجها إيله بقلبه‪َ { ،‬وه َو} مع إخالصه‬
‫ُم‬
‫املعنوي‪ :‬منع اَّلاكرين َلسم اهلل فيها‪ ،‬وهذا اعم‪ ,‬للك من‬ ‫{حم ِس ٌن} يف عبادة ربه‪ ,‬بأن عبده برشعه‪ ,‬فأوَلك هم أهل اجلنة‬
‫اتصف بهذه الصفة‪ ,‬فيدخل يف ذلك أصحاب الفيل‪ ,‬وقريش‪,‬‬ ‫وحدهم‪.‬‬
‫حني صدوا رسول اهلل عنها اعم اْلديبية‪ ,‬وانلصارى حني‬
‫أخربوا بيت املقدس‪ ,‬وغريهم من أنواع الظلمة‪ ,‬الساعني يف‬
‫خرابها‪ ,‬حمادة هلل‪ ,‬ومشاقة‪ ،‬فجازاهم اهلل‪ ,‬بأن منعهم دخوهلا‬
‫‪34‬‬
‫َ َ م َ َ ُ َ ُّ‬
‫{فأينما تولوا} وجوهكم من اجلهات‪ ,‬إذا اكن تويلكم إياها‬ ‫رشاع وقدرا‪ ,‬إَل خائفني ذيللني‪ ,‬فلما أخافوا عباد اهلل‪ ,‬أخافهم‬
‫بأمره‪ ,‬إما أن يأمركم باستقبال الكعبة بعد أن كنتم مأمورين‬ ‫اهلل‪ ،‬فاملرشكون اَّلين صدوا رسوهل‪ ,‬لم يلبث رسول اهلل صىل‬
‫باستقبال بيت املقدس‪ ,‬أو تؤمرون بالصالة يف السفر ىلع‬ ‫اهلل عليه وسلم إَل يسريا‪ ,‬حىت أذن اهلل هل يف فتح مكة‪ ،‬ومنع‬
‫ه‬ ‫َ َ ُّ َ ه‬
‫الراحلة وحنوها‪ ,‬فإن القبلة حيثما توجه العبد أو تشتبه القبلة‪,‬‬ ‫آمنُوا ِإن َما‬
‫ين َ‬
‫اَّل َ‬
‫املرشكني من قربان بيته‪ ,‬فقال تعاىل‪{ :‬يا أيها ِ‬
‫َ َ‬ ‫م ُ م ُ َ َ َ ٌ َ َ َ م َ ُ م َ م َ مَ َ َ م َ‬
‫فيتحرى الصالة إيلها‪ ,‬ثم يتبني هل اخلطأ‪ ,‬أو يكون معذورا‬ ‫ام َبعد َاع ِم ِه مم هذا}‬ ‫رشكون جنس فال يقربوا المس ِجد اْلر‬
‫الم ِ‬
‫بصلب أو مرض وحنو ذلك‪ ،‬فهذه األمور‪ ,‬إما أن يكون العبد‬
‫وأصحاب الفيل‪ ,‬قد ذكر اهلل ما جرى عليهم‪ ،‬وانلصارى‪,‬‬
‫فيها معذورا أو مأمورا‪.‬‬
‫سلط اهلل عليهم املؤمنني‪ ,‬فأجلوهم عنه‪.‬‬
‫وبكل حال‪ ,‬فما استقبل جهة من اجلهات‪ ,‬خارجة عن ملك‬
‫وهكذا لك من اتصف بوصفهم‪ ,‬فال بد أن يناهل قسطه‪ ,‬وهذا‬
‫ربه‪.‬‬
‫من اآليات العظيمة‪ ,‬أخرب بها ابلاري قبل وقوعها‪ ,‬فوقعت كما‬
‫ََه َ م ُ ه‬
‫اَّلل إ هن ه َ‬
‫اَّلل َواس ٌع َعل ٌ‬
‫يم} فيه إثبات الوجه هلل تعاىل‪,‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫{فثم وجه ِ ِ‬ ‫أخرب‪.‬‬
‫ىلع الوجه الالئق به تعاىل‪ ,‬وأن هلل وجها َل تشبهه الوجوه‪ ,‬وهو‬
‫واستدل العلماء باآلية الكريمة‪ ,‬ىلع أنه َل جيوز تمكني الكفار‬
‫‪ -‬تعاىل ‪ -‬واسع الفضل والصفات عظيمها‪ ,‬عليم برسائركم‬
‫من دخول املساجد‪.‬‬
‫ونياتكم‪.‬‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫ُّ م‬ ‫َ‬
‫ادلنيَا ِخ مز ٌي} أي‪ :‬فضيحة كما تقدم { َول ُه مم ِيف اآل ِخ َر ِة‬ ‫{ل ُه مم ِيف‬
‫فمن سعته وعلمه‪ ,‬وسع لكم األمر‪ ,‬وقبل منكم املأمور‪ ,‬فله‬ ‫اب َعظ ٌ‬ ‫َع َذ ٌ‬
‫يم}‬ ‫ِ‬
‫اْلمد والشكر‪.‬‬
‫َ َ ُ هَ َ هُ َ ًَ ُ م َ َ ُ م َ‬ ‫وإذا اكن َل أظلم ممن منع مساجد اهلل أن يذكر فيها اسمه‪ ,‬فال‬
‫حانه بَل ُهل َما ِيف‬ ‫{‪{ }117 - 116‬وقالوا اختذ اَّلل ودلا سب‬
‫َ م مَ‬ ‫ُ ٌّ َ ُ َ ُ َ َ ُ ه َ َ‬ ‫َ مَم‬ ‫ه َ َ‬ ‫أعظم إيمانا ممن سَع يف عمارة املساجد بالعمارة اْلسية‬
‫ات واألر ِض‬ ‫ات واألر ِض لك هل قانِتون * ب ِديع السماو ِ‬ ‫السماو ِ‬ ‫هَ َمُُ َ َ َ ه َ م َ َ ه‬
‫َ َ َ َم َ ه َُ ُ َ ُ َ ُ ُ‬ ‫اَّلل‬
‫اَّلل من آمن بِ ِ‬
‫اجد ِ‬ ‫واملعنوية‪ ,‬كما قال تعاىل‪ِ { :‬إنما يعمر مس ِ‬
‫َو ِإذا قىض أم ًرا ف ِإن َما يقول ُهل ك من فيَكون}‬ ‫م‬ ‫م‬
‫َوايلَ مومِ اآل ِخ ِر}‬
‫َ ُ‬
‫{ َوقالوا} أي‪ :‬ايلهود وانلصارى واملرشكون‪ ,‬ولك من قال ذلك‪:‬‬
‫هَ َ هُ َ‬ ‫بل قد أمر اهلل تعاىل برفع بيوته وتعظيمها وتكريمها‪ ,‬فقال‬
‫اَّلل َو ًدلا} فنسبوه إىل ما َل يليق جبالهل‪ ,‬وأساءوا لك‬ ‫{اختذ‬ ‫ُُ َ َ هُ َ م ُم َ َ َُ م َ َ َ م ُ ُ‬
‫وت أ ِذن اَّلل أن ترفع ويذكر ِفيها اسمه}‬
‫تعاىل‪ِ { :‬يف بي ٍ‬
‫اإلساءة‪ ,‬وظلموا أنفسهم‪.‬‬
‫وللمساجد أحاكم كثرية‪ ,‬يرجع حاصلها إىل مضون هذه‬
‫وهو ‪ -‬تعاىل ‪ -‬صابر ىلع ذلك منهم‪ ,‬قد حلم عليهم‪ ,‬واعفاهم‪,‬‬
‫اآليات الكريمة‪.‬‬
‫ورزقهم مع تنقصهم إياه‪.‬‬
‫َ ه م َ م ُ َ م َ م ُ َ َ م َ َ ُ َ ُّ َ َ ه َ م ُ ه ه‬
‫ُ م َ َُ‬ ‫اَّلل ِإن‬
‫رشق والمغ ِرب فأينما تولوا فثم وجه ِ‬ ‫َّلل الم ِ‬
‫{‪{ }115‬و ِ ِ‬
‫حانه} أي‪ :‬تزنه وتقدس عن لك ما وصفه به املرشكون‬ ‫{سب‬ ‫هَ‬
‫اَّلل َواس ٌع َعل ٌ‬
‫يم}‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫والظاملون مما َل يليق جبالهل‪ ،‬فسبحان من هل الكمال املطلق‪,‬‬
‫َ ه مَ م ُ م م‬
‫من مجيع الوجوه‪ ,‬اَّلي َل يعرتيه نقص بوجه من الوجوه‪.‬‬ ‫رشق َوال َمغ ِر ُب} خصهما باَّلكر‪ ,‬ألنهما حمل‬
‫َّلل الم ِ‬
‫أي‪{ :‬و ِ ِ‬
‫اآليات العظيمة‪ ,‬فهما مطالع األنوار ومغاربها‪ ،‬فإذا اكن مالاك‬
‫هلا‪ ,‬اكن مالاك للك اجلهات‪.‬‬
‫‪35‬‬
‫ََ ُ َم ُم َ َ َ َ ه َم ُ َ‬ ‫َ هٌ‬
‫ج َر نلَا ِم َن‬ ‫ُهل َجنة} اآليات وقوهل‪{ :‬وقالوا لن نؤ ِمن لك حىت تف‬ ‫ومع رده لقوهلم‪ ,‬أقام اْلجة والربهان ىلع تزنيهه عن ذلك‬
‫مَ‬
‫األ مرض يَنمبُ ً‬ ‫مَ‬ ‫َم َُ َ‬
‫واع} اآليات‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ات َواأل مر ِض} أي‪ :‬مجيعهم ملكه‬ ‫ه َ َ‬
‫فقال‪{ :‬بل هل ما ِيف السماو ِ‬
‫وعبيده‪ ,‬يتِّصف فيهم تِّصف املالك باملمايلك‪ ,‬وهم قانتون هل‬
‫فهذا دأبهم مع رسلهم‪ ,‬يطلبون آيات اتلعنت‪َ ,‬ل آيات‬
‫مسخرون حتت تدبريه‪ ،‬فإذا اكنوا لكهم عبيده‪ ,‬مفتقرين إيله‪,‬‬
‫اَلسرتشاد‪ ,‬ولم يكن قصدهم تبني اْلق‪ ،‬فإن الرسل‪ ,‬قد جاءوا‬
‫َم ه‬ ‫وهو غين عنهم‪ ,‬فكيف يكون منهم أحد‪ ,‬يكون هل ودلا‪,‬‬
‫من اآليات‪ ,‬بما يؤمن بمثله البرش‪ ,‬وهلذا قال تعاىل‪{ :‬قد بَيهنا‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫م َ‬ ‫والودل َل بد أن يكون من جنس وادله‪ ,‬ألنه جزء منه‪.‬‬
‫ات ِلق مومٍ يُوقِنُون} فلك موقن‪ ,‬فقد عرف من آيات اهلل‬ ‫اآلي ِ‬
‫ابلاهرة‪ ,‬وبراهينه الظاهرة‪ ,‬ما حصل هل به ايلقني‪ ,‬واندفع عنه‬ ‫واهلل تعاىل املالك القاهر‪ ,‬وأنتم اململوكون املقهورون‪ ,‬وهو‬
‫لك شك وريب‪.‬‬ ‫الغين وأنتم الفقراء‪ ،‬فكيف مع هذا‪ ,‬يكون هل ودل؟ هذا من‬
‫أبطل ابلاطل وأسمجه‪.‬‬
‫ثم ذكر تعاىل بعض آية موجزة خمتِّصة جامعة لآليات ادلالة‬
‫ه‬
‫ىلع صدقه صىل اهلل عليه وسلم وصحة ما جاء به فقال‪{ :‬إِنا‬ ‫والقنوت نواعن‪ :‬قنوت اعم‪ :‬وهو قنوت اخللق لكهم‪ ,‬حتت تدبري‬
‫ريا َونَ ِذ ً‬ ‫َم َ مَ َ م‬
‫اْل َ ِّق بَش ً‬
‫يرا} فهذا مشتمل ىلع اآليات اليت‬ ‫ِ‬ ‫أرسلناك بِ‬ ‫اخلالق‪ ،‬وخاص‪ :‬وهو قنوت العبادة‪.‬‬
‫جاء بها‪ ,‬ويه ترجع إىل ثالثة أمور‪:‬‬
‫فانلوع األول كما يف هذه اآلية‪ ،‬وانلوع اثلاين‪ :‬كما يف قوهل‬
‫األول‪ :‬يف نفس إرساهل‪ ,‬واثلاين‪ :‬يف سريته وهديه ودهل‪ ،‬واثلالث‪:‬‬ ‫وموا هَّلل قَانت َ‬
‫ني}‬ ‫تعاىل‪َ { :‬وقُ ُ‬
‫ِ ِ ِِ‬
‫يف معرفة ما جاء به من القرآن والسنة‪.‬‬ ‫مَ‬
‫ات َواأل مر ِض} أي‪ :‬خالقهما ىلع وجه قد‬ ‫َ ُ ه َ َ‬
‫ثم قال‪{ :‬ب ِديع السماو ِ‬
‫فاألول واثلاين‪ ,‬قد دخال يف قوهل‪{ :‬إنها أَ مر َسلمنَ َ‬
‫اك} واثلالث دخل‬ ‫أتقنهما وأحسنهما ىلع غري مثال سبق‪.‬‬
‫ِ‬
‫م‬
‫يف قوهل‪{ :‬بِاْل َ ِّق}‬ ‫َ َ َ َم َ ه َُ ُ َ ُ َ ُ ُ‬
‫{ َو ِإذا قىض أم ًرا ف ِإن َما يقول ُهل ك من فيَكون} فال يستعىص‬
‫وبيان األمر األول وهو ‪ -‬نفس إرساهل ‪ -‬أنه قد علم حالة أهل‬ ‫عليه‪ ,‬وَل يمتنع منه‪.‬‬
‫األرض قبل بعثته صىل اهلل عليه وسلم وما اكنوا عليه من‬ ‫َ َ َ ه َ َ َ م َ ُ َ َ م َ ُ َ ِّ ُ َ ه ُ َ‬
‫اَّلل أ مو‬ ‫اَّلين َل يعلمون لوَل يكلمنا‬ ‫{‪{ }119 - 118‬وقال ِ‬
‫عبادة األوثان وانلريان‪ ,‬والصلبان‪ ,‬وتبديلهم لألديان‪ ,‬حىت‬ ‫اب َهتم‬ ‫َ‬
‫ين م من َقبمله مم مثم َل قَ موله مم ت َش َ‬ ‫َ‬ ‫ه‬ ‫َم َ ٌَ َ َ َ َ َ‬
‫ِِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫اَّل ِ‬ ‫تأتِينا آية كذلِك قال ِ‬
‫اكنوا يف ظلمة من الكفر‪ ,‬قد عمتهم وشملتهم‪ ,‬إَل بقايا من‬ ‫م‬
‫اك باْل َ ِّق بَش ً‬ ‫م‬ ‫َ‬
‫َم ُ ُ َ ه مَ َ َ‬ ‫ُُ ُُ م َ م َهه م َ‬
‫ريا‬ ‫ِ‬ ‫ات ِلقومٍ يوقِنون * إِنا أرسلن ِ‬ ‫قلوبهم قد بينا اآلي ِ‬
‫أهل الكتاب‪ ,‬قد انقرضوا قبيل ابلعثة‪.‬‬
‫يم}‬ ‫ح‬ ‫َ‬ ‫م‬
‫اجل‬ ‫اب‬ ‫يرا َو ََل ت ُ مسأَ ُل َع من أَ مص َ‬
‫ح‬ ‫َونَ ِذ ً‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫وقد علم أن اهلل تعاىل لم خيلق خلقه سدى‪ ,‬ولم يرتكهم همال‪,‬‬
‫أي‪ :‬قال اجلهلة من أهل الكتاب وغريهم‪ :‬هال يكلمنا‪ ,‬كما‬
‫ألنه حكيم عليم‪ ,‬قدير رحيم‪ ،‬فمن حكمته ورْحته بعباده‪ ,‬أن‬ ‫ٌ‬ ‫َ َم َ‬
‫لكم الرسل‪{ ،‬أ مو تأتِينا آيَة} يعنون آيات اَلقرتاح‪ ,‬اليت‬
‫أرسل إيلهم هذا الرسول العظيم‪ ,‬يأمرهم بعبادة الرْحن وحده‬
‫يقرتحونها بعقوهلم الفاسدة‪ ,‬وآرائهم الاكسدة‪ ,‬اليت ِترأوا بها‬
‫َل رشيك هل‪ ,‬فبمجرد رساتله يعرف العاقل صدقه‪ ,‬وهو آية‬ ‫َ ُم َ َ‬
‫ىلع اخلالق‪ ,‬واستكربوا ىلع رسله كقوهلم‪{ :‬ل من نؤ ِم َن لك َح هىت‬
‫كبرية ىلع أنه رسول اهلل‪ ،‬وأما اثلاين‪ :‬فمن عرف انليب صىل اهلل‬ ‫ه َ َ م َ ً َ م َ ُ َ َ م ُ م َ َ م ُ َ ِّ َ َ‬ ‫َ‬
‫زنل َعليم ِه مم ِكتَابًا‬ ‫اب أن ت‬‫كت ِ‬ ‫ن َرى اَّلل جهرة} {يسألك أهل ال ِ‬
‫عليه وسلم معرفة تامة‪ ,‬وعرف سريته وهديه قبل ابلعثة‪,‬‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ه َ َ َ م َ َُ ُ َ‬
‫وىس أَ مك َ َ‬
‫رب ِم من ذلِك} اآلية‪ ،‬وقالوا‪{ :‬ل موَل‬ ‫ِمن السما ِء فقد سألوا م‬
‫ونشوءه ىلع أكمل اخلصال‪ ,‬ثم من بعد ذلك‪,‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫َ‬
‫ُم َ َم َ َ ٌ َ َ ُ َ َ َ ُ َ ً م ُ َ م مٌ َ ُ ُ‬
‫زن أ مو تكون‬ ‫أن ِزل إِيل ِه ملك فيكون معه ن ِذيرا أو يلىق إِيل ِه ك‬
‫‪36‬‬
‫ه َ َمَ ُ ُ م َ َ َ مُ َُ َ ه َ َ ُ َ َ‬
‫وَلك‬ ‫كتاب يتلونه حق تِالوتِ ِه أ ِ‬ ‫اَّلين آتيناهم ال ِ‬‫ثم قال‪ِ { :‬‬ ‫قد ازدادت ماكرمه وأخالقه العظيمة ابلاهرة للناظرين‪ ,‬فمن‬
‫م‬
‫ُ ُ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫م‬ ‫َ م َ‬ ‫ُم ُ َ‬
‫ارسون * يَا بَ ِين‬ ‫وَلك هم اخل ِ‬‫يؤ ِمنون بِ ِه َومن يكف مر بِ ِه فأ ِ‬ ‫عرفها‪ ,‬وسرب أحواهل‪ ,‬عرف أنها َل تكون إَل أخالق األنبياء‬
‫م َ َ م ُ ُ م َ َ ه َ م َ م ُ َ ُ َ ِّ َ ه م ُ‬
‫ت َعليمك مم َوأين فضلتُك مم‬ ‫ِإرسا ِئيل اذكروا نِعم ِيت ال ِيت أنعم‬ ‫الاكملني‪ ,‬ألن اهلل تعاىل جعل األوصاف أكرب ديلل ىلع معرفة‬
‫َ م َ‬ ‫َ َم‬ ‫َ َم َم‬ ‫هُ‬ ‫ىلع الم َعالَم َ‬
‫ََ‬
‫ني * َواتقوا يَ مو ًما َل ِت ِزي نف ٌس ع من نف ٍس شيئًا َوَل‬ ‫ِ‬ ‫أصحابها وصدقهم وكذبهم‪.‬‬
‫ُمَُ مَ َ مٌ ََ َمَ َُ َ َ ٌَ ََ ُ م ُم َ ُ َ‬
‫ِّصون *}‬ ‫يقبل ِمنها عدل وَل تنفعها شفاعة وَل هم ين‬
‫وأما اثلالث‪ :‬فهو معرفة ما جاء به صىل اهلل عليه وسلم من‬
‫خيرب تعاىل أن اَّلين آتاهم الكتاب‪ ,‬ه‬
‫ومن عليهم به منة مطلقة‪,‬‬ ‫الرشع العظيم‪ ,‬والقرآن الكريم‪ ,‬املشتمل ىلع اإلخبارات‬
‫َ‬ ‫َمُ َُ‬
‫أنهم {يتلونه َح هق تِال َوتِ ِه} أي‪ :‬يتبعونه حق اتباعه‪ ,‬واتلالوة‪:‬‬ ‫الصادقة‪ ,‬واألوامر اْلسنة‪ ,‬وانليه عن لك قبيح‪ ,‬واملعجزات‬
‫اَلتباع‪ ،‬فيحلون حالهل‪ ,‬وحيرمون حرامه‪ ,‬ويعملون بمحكمه‪,‬‬ ‫ابلاهرة‪ ,‬فجميع اآليات تدخل يف هذه اثلالثة‪.‬‬
‫ويؤمنون بمتشابهه‪ ،‬وهؤَلء هم السعداء من أهل الكتاب‪,‬‬ ‫قوهل‪{ :‬بَش ً‬
‫ريا} أي ملن أطاعك بالسعادة ادلنيوية واألخروية‪،‬‬ ‫ِ‬
‫اَّلين عرفوا نعمة اهلل وشكروها‪,‬‬ ‫{نَ ِذ ً‬
‫يرا} ملن عصاك بالشقاوة واهلالك ادلنيوي واألخروي‪.‬‬
‫وآمنوا بكل الرسل‪ ,‬ولم يفرقوا بني أحد منهم‪.‬‬
‫يم} أي‪ :‬لست مسئوَل عنهم‪,‬‬‫ح‬ ‫َ‬ ‫م‬
‫اجل‬ ‫اب‬‫ح‬‫{ َو ََل ت ُ مسأَ ُل َع من أَ مص َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫فهؤَلء‪ ,‬هم املؤمنون حقا‪َ ,‬ل من قال منهم‪{ :‬نؤمن بما أنزل‬ ‫إنما عليك ابلالغ‪ ,‬وعلينا اْلساب‪.‬‬
‫علينا ويكفرون بما وراءه}‬ ‫َه‬ ‫ود َو ََل ه‬ ‫َ م َ مَُ ُ‬ ‫َ َ َ‬
‫ارى َح هىت تت ِب َع‬ ‫انل َص َ‬ ‫{‪َ { }120‬ول من ت مرىض عنك ايله‬
‫َ َ م َ م ُ م َ ُ َ َ ُ ُ مَ ُ َ‬ ‫ه ُ َ مُ َ َ َ ه َ م َ َ م َ َ ُ م َ‬ ‫هَُ م ُم ه ُ َ‬
‫ارسون}‬
‫وَلك هم اخل ِ‬
‫وهلذا توعدهم بقوهل {ومن يكفر بِ ِه فأ ِ‬ ‫اءه مم َبعد‬ ‫ِئ اتبعت أهو‬ ‫اَّلل هو الهدى ول ِ ِ‬‫ِملتهم قل ِإن هدى ِ‬
‫َ َ َ َ م م َ َ َ َ ه م َ ٍّ َ َ َ‬ ‫ه‬
‫وقد تقدم تفسري اآلية اليت بعدها‪.‬‬ ‫ري *}‬
‫ٍ‬ ‫ص‬
‫ِ‬ ‫ن‬ ‫َل‬‫و‬ ‫يل‬
‫ِ‬ ‫و‬ ‫ن‬ ‫م‬‫ِ‬ ‫اَّلل‬
‫ِ‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ل‬‫ع‬‫ِ‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ك‬‫اء‬ ‫ج‬ ‫ي‬ ‫اَّل‬
‫ِ‬
‫َ َ‬ ‫َََ‬ ‫َ م َ َ م َ َ َ ُّ ُ َ َ‬
‫ات فأت هم ُه هن قال‬ ‫{‪{ }125 - 124‬و ِإ ِذ ابتىل ِإبرا ِهيم ربه بِك ِلم ٍ‬ ‫خيرب تعاىل رسوهل‪ ,‬أنه َل يرىض منه ايلهود وَل انلصارى‪ ,‬إَل‬
‫َ َ َ ََ ُ َ م‬ ‫ُ‬ ‫َ ً َ َ‬ ‫ِّ َ ُ َ ه‬
‫اما قال َو ِم من ذ ِّر هي ِيت قال َل ينال عه ِدي‬ ‫اس ِإم‬ ‫ِإين جا ِعلك لِلن ِ‬ ‫باتباعه دينهم‪ ,‬ألنهم داعة إىل ادلين اَّلي هم عليه‪ ,‬ويزعمون‬
‫ََم ً َ ه ُ‬ ‫َ َ م َ َ مَ مَم َ َ َ ًَ ه‬ ‫ه‬ ‫ُ‬ ‫ه‬ ‫ه ُ َ‬
‫اختذوا ِم من‬ ‫اس وأمنا و ِ‬ ‫ابليت مثابة لِلن ِ‬ ‫الظال ِ ِمني * و ِإذ جعلنا‬ ‫اَّلل} اَّلي أرسلت به {ه َو‬
‫أنه اهلدى‪ ،‬فقل هلم‪{ :‬إِن هدى ِ‬
‫َ َم‬ ‫يم ُم َص ًّىل َو َعه مدنَا إ َىل إبم َراه َ‬‫َم َقامِ إبم َراه َ‬ ‫م َ‬
‫يم َو ِإ مس َما ِعيل أن َط ِّه َرا‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ال ُهدى}‬
‫الس ُ‬ ‫ه‬
‫الركع ُّ‬ ‫ني َو ُّ‬ ‫م‬
‫ني َوال َعاكف َ‬ ‫لطائف َ‬ ‫َبيم َ ه‬
‫جو ِد}‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫يت ل ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫اء ُهمم‬‫ت أَ مه َو َ‬ ‫وأما ما أنتم عليه‪ ,‬فهو اهلوى بديلل قوهل { َولَِئ هاتبَ مع َ‬
‫ِِ‬
‫َ‬
‫َ َ َ َ م م َ َ َ َ ه م َ ٍّ َ َ‬ ‫َم َ ه‬
‫خيرب تعاىل‪ ,‬عن عبده وخليله‪ ,‬إبراهيم عليه السالم‪ ,‬املتفق ىلع‬ ‫ري}‬‫ٍ‬ ‫ص‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫َل‬ ‫و‬ ‫يل‬ ‫ِ‬ ‫و‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫اَّلل‬
‫ِ‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ل‬‫ع‬‫ِ‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ك‬ ‫اء‬‫ج‬ ‫ي‬ ‫اَّل‬
‫ِ‬ ‫بعد‬
‫إمامته وجالتله‪ ,‬اَّلي لك من طوائف أهل الكتاب تدعيه‪ ,‬بل‬
‫فهذا فيه انليه العظيم‪ ,‬عن اتباع أهواء ايلهود وانلصارى‪,‬‬
‫وكذلك املرشكون‪ :‬أن اهلل ابتاله وامتحنه بكلمات‪ ,‬أي‪:‬‬
‫والتشبه بهم فيما خيتص به دينهم‪ ،‬واخلطاب وإن اكن لرسول‬
‫بأوامر ونوايه‪ ,‬كما يه اعدة اهلل يف ابتالئه لعباده‪ ,‬يلتبني‬
‫اهلل صىل اهلل عليه وسلم فإن أمته داخلة يف ذلك‪ ،‬ألن اَلعتبار‬
‫الاكذب اَّلي َل يثبت عند اَلبتالء‪ ,‬واَلمتحان من الصادق‪,‬‬
‫بعموم املعىن َل خبصوص املخاطب‪ ،‬كما أن العربة بعموم‬
‫اَّلي ترتفع درجته‪ ,‬ويزيد قدره‪ ,‬ويزكو عمله‪ ,‬وخيلص ذهبه‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫اللفظ‪َ ,‬ل خبصوص السبب‪.‬‬
‫واكن من أجلهم يف هذا املقام‪ ,‬اخلليل عليه السالم‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫َمً‬
‫وَل يقضون منه وطرا‪{ ،‬و} جعله {أمنا} يأمن به لك أحد‪ ,‬حىت‬ ‫فأتم ما ابتاله اهلل به‪ ,‬وأكمله ووفاه‪ ,‬فشكر اهلل هل ذلك‪ ,‬ولم‬
‫ِّ َ ُ َ ه‬
‫لناس إ َم ً‬
‫الوحش‪ ,‬وحىت اجلمادات اكألشجار‪.‬‬ ‫اما} أي‪ :‬يقتدون‬ ‫يزل اهلل شكورا فقال‪ِ { :‬إين جا ِعلك ل ِ ِ ِ‬
‫بك يف اهلدى‪ ,‬ويمشون خلفك إىل سعادتهم األبدية‪ ,‬وحيصل‬
‫وهلذا اكنوا يف اجلاهلية ‪ -‬ىلع رشكهم ‪ -‬حيرتمونه أشد اَلحرتام‪,‬‬
‫لك اثلناء ادلائم‪ ,‬واألجر اجلزيل‪ ,‬واتلعظيم من لك أحد‪.‬‬
‫وجيد أحدهم قاتل أبيه يف اْلرم‪ ,‬فال يهيجه‪ ،‬فلما جاء‬
‫اإلسالم‪ ,‬زاده حرمة وتعظيما‪ ,‬وترشيفا وتكريما‪.‬‬ ‫وهذه ‪ -‬لعمر اهلل ‪ -‬أفضل درجة‪ ,‬تنافس فيها املتنافسون‪ ,‬وأىلع‬
‫ًّ‬ ‫ه‬
‫اخت ُذوا ِم من َم َقامِ إبم َراه َ‬ ‫مقام‪ ,‬شمر إيله العاملون‪ ,‬وأكمل حالة حصلها أولو العزم من‬
‫يم ُم َصىل} حيتمل أن يكون املراد‬ ‫ِ ِ‬ ‫{ َو ِ‬
‫املرسلني وأتباعهم‪ ,‬من لك صديق متبع هلم‪ ,‬داع إىل اهلل وإىل‬
‫بذلك‪ ,‬املقام املعروف اَّلي قد جعل اآلن‪ ,‬مقابل باب الكعبة‪،‬‬
‫سبيله‪.‬‬
‫وأن املراد بهذا‪ ,‬ركعتا الطواف‪ ,‬يستحب أن تكونا خلف‬
‫مقام إبراهيم‪ ,‬وعليه مجهور املفرسين‪ ،‬وحيتمل أن يكون‬ ‫فلما اغتبط إبراهيم بهذا املقام‪ ,‬وأدرك هذا‪ ,‬طلب ذلك َّلريته‪,‬‬
‫املقام مفردا مضافا‪ ,‬فيعم مجيع مقامات إبراهيم يف اْلج‪ ،‬ويه‬ ‫تلعلو درجته ودرجة ذريته‪ ،‬وهذا أيضا من إمامته‪ ,‬ونصحه‬
‫املشاعر لكها‪ :‬من الطواف‪ ,‬والسيع‪ ,‬والوقوف بعرفة‪ ,‬ومزدلفة‬ ‫لعباد اهلل‪ ,‬وحمبته أن يكرث فيهم املرشدون‪ ،‬فلله عظمة هذه‬
‫وريم اجلمار وانلحر‪ ,‬وغري ذلك من أفعال اْلج‪.‬‬ ‫اهلمم العايلة‪ ,‬واملقامات السامية‪.‬‬
‫ًّ‬
‫فيكون معىن قوهل‪ُ { :‬م َصىل} أي‪ :‬معبدا‪ ,‬أي‪ :‬اقتدوا به يف شعائر‬ ‫فأجابه الرحيم اللطيف‪ ,‬وأخرب باملانع من نيل هذا املقام فقال‪:‬‬
‫ه‬
‫الظالم َ‬ ‫َ ََ ُ َ م‬
‫اْلج‪ ،‬ولعل هذا املعىن أوىل‪ ,‬دلخول املعىن األول فيه‪ ,‬واحتمال‬ ‫ني} أي‪َ :‬ل ينال اإلمامة يف ادلين‪ ,‬من‬ ‫ِِ‬ ‫{َل ينال عه ِدي‬
‫اللفظ هل‪.‬‬ ‫ظلم نفسه ورضها‪ ,‬وحط قدرها‪ ,‬ملنافاة الظلم هلذا املقام‪ ,‬فإنه‬
‫َ‬ ‫{ َو َعه مدنَا إ َىل إبم َراه َ‬ ‫مقام آتله الصرب وايلقني‪ ،‬ونتيجته أن يكون صاحبه ىلع‬
‫يم َو ِإ مس َما ِعيل} أي‪ :‬أوحينا إيلهما‪ ,‬وأمرناهما‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬
‫جانب عظيم من اإليمان واألعمال الصاْلة‪ ,‬واألخالق‬
‫بتطهري بيت اهلل من الرشك‪ ,‬والكفر واملعايص‪ ,‬ومن الرجس‬
‫ني} فيه { َوالم َعاكف َ‬
‫لطائف َ‬‫ه‬ ‫اجلميلة‪ ,‬والشمائل السديدة‪ ,‬واملحبة اتلامة‪ ,‬واخلشية واإلنابة‪،‬‬
‫ني‬ ‫ِِ‬ ‫وانلجاسات واألقذار‪ ,‬يلكون {ل ِ ِ ِ‬
‫الر هكع ُّ‬
‫الس ُ‬ ‫َو ُّ‬ ‫فأين الظلم وهذا املقام؟‬
‫جو ِد} أي‪ :‬املصلني‪ ،‬قدم الطواف‪َ ,‬لختصاصه‬ ‫ِ‬
‫باملسجد [اْلرام]‪ ،‬ثم اَلعتاكف‪ ,‬ألن من رشطه املسجد‬ ‫ودل مفهوم اآلية‪ ,‬أن غري الظالم‪ ,‬سينال اإلمامة‪ ,‬ولكن مع‬
‫مطلقا‪ ،‬ثم الصالة‪ ,‬مع أنها أفضل‪ ,‬هلذا املعىن‪.‬‬ ‫إتيانه بأسبابها‪.‬‬

‫وأضاف ابلاري ابليت إيله لفوائد‪ ،‬منها‪ :‬أن ذلك يقتيض شدة‬ ‫ثم ذكر تعاىل‪ ,‬نموذجا باقيا داَل ىلع إمامة إبراهيم‪ ,‬وهو هذا‬
‫اهتمام إبراهيم وإسماعيل بتطهريه‪ ,‬لكونه بيت اهلل‪ ،‬فيبذَلن‬ ‫ابليت اْلرام اَّلي جعل قصده‪ ,‬ركنا من أراكن اإلسالم‪ ,‬حاطا‬
‫جهدهما‪ ,‬ويستفراغن وسعهما يف ذلك‪.‬‬ ‫لذلنوب واآلثام‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن اإلضافة تقتيض الترشيف واإلكرام‪ ،‬فيف ضمنها أمر‬ ‫وفيه من آثار اخلليل وذريته‪ ,‬ما عرف به إمامته‪ ,‬وتذكرت به‬
‫َ م َ َ مَ مَم َ َ َ ًَ ه‬
‫عباده بتعظيمه وتكريمه‪.‬‬ ‫اس} أي‪ :‬مرجعا‬ ‫ابليت مثابة لِلن ِ‬ ‫حاتله فقال‪{ :‬و ِإذ جعلنا‬
‫يثوبون إيله‪ْ ,‬لصول منافعهم ادلينية وادلنيوية‪ ,‬يرتددون إيله‪,‬‬
‫ومنها‪ :‬أن هذه اإلضافة يه السبب اجلاذب للقلوب إيله‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫َ م َ َ م َ ُ َ ِّ م َ م َ َ َ َ ً ً َ م ُ م َ م َ ُ‬
‫من ذلك وهو ادلين لكه‪ ,‬والعبادات لكها‪ ,‬كما يدل عليه عموم‬ ‫{‪{ }126‬و ِإذ قال إِبرا ِهيم رب اجعل هذا بدلا آ ِمنا وارزق أهله‬
‫ََ‬ ‫َ َ‬ ‫م‬ ‫َ م َ َ مُ م ه م‬
‫اللفظ‪ ,‬ألن النسك‪ :‬اتلعبد‪ ,‬ولكن غلب ىلع متعبدات اْلج‪,‬‬ ‫اَّلل َوايلَ مومِ اآل ِخ ِر قال َو َم من كف َر‬
‫ات من آمن ِمنهم بِ ِ‬
‫َ هََ‬
‫ِمن اثلمر ِ‬
‫انلار َوبئم َس ال م َمص ُ‬
‫ه‬ ‫َ ُ َ ِّ ُ ُ َ ً ُ ه َ م َ ُّ ُ َ َ َ‬
‫تغليبا عرفيا‪ ،‬فيكون حاصل داعئهما‪ ,‬يرجع إىل اتلوفيق للعلم‬ ‫ري}‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫اب‬ ‫فأمتعه ق ِليال ثم أضطره ِإىل ع ِ‬
‫ذ‬
‫انلافع‪ ,‬والعمل الصالح‪ ،‬وملا اكن العبد ‪ -‬مهما اكن ‪َ -‬ل بد أن‬
‫ك أَنم َ‬
‫ت‬
‫َُ م َ َمَ ه َ‬
‫يعرتيه اتلقصري‪ ,‬وحيتاج إىل اتلوبة قاَل‪{ :‬وتب علينا ِإن‬
‫أي‪ :‬وإذ داع إبراهيم هلذا ابليت‪ ,‬أن جيعله اهلل بدلا آمنا‪ ,‬ويرزق‬

‫الر ِح ُ‬
‫اب ه‬‫اتل هو ُ‬
‫ه‬ ‫أهله من أنواع اثلمرات‪ ،‬ثم قيد عليه السالم هذا ادلاعء‬
‫يم}‬
‫للمؤمنني‪ ,‬تأدبا مع اهلل‪ ,‬إذ اكن داعؤه األول‪ ,‬فيه اإلطالق‪,‬‬
‫ً م‬ ‫َهَ َ مَ م‬
‫يه مم} أي‪ :‬يف ذريتنا { َر ُسوَل ِمن ُه مم} يلكون أرفع‬
‫{ربنا وابعث ِف ِ‬ ‫فجاء اجلواب فيه مقيدا بغري الظالم‪.‬‬
‫َمُ َ‬
‫دلرجتهما‪ ,‬ويلنقادوا هل‪ ,‬ويلعرفوه حقيقة املعرفة‪{ .‬يتلو َعليم ِه مم‬
‫َ ُ َ ِّ ُ ُ ُ م َ َ َ م م َ‬ ‫َ َ‬ ‫فلما داع هلم بالرزق‪ ,‬وقيده باملؤمن‪ ,‬واكن رزق اهلل شامال‬
‫اْلك َمة}‬ ‫كتاب و ِ‬ ‫آياتِك} لفظا‪ ,‬وحفظا‪ ,‬وحتفيظا {ويعلمهم ال ِ‬ ‫َ َ‬
‫للمؤمن والاكفر‪ ,‬والعايص والطائع‪ ,‬قال تعاىل‪َ { :‬و َم من كف َر}‬
‫معىن‪.‬‬
‫أي‪ :‬أرزقهم لكهم‪ ,‬مسلمهم واكفرهم‪ ،‬أما املسلم فيستعني‬
‫َ ُ َ ِّ‬
‫يه مم} بالرتبية ىلع األعمال الصاْلة واتلربي من األعمال‬ ‫{ويزك ِ‬ ‫بالرزق ىلع عبادة اهلل‪ ,‬ثم ينتقل منه إىل نعيم اجلنة‪ ،‬وأما الاكفر‪,‬‬
‫يز} أي‪:‬‬‫ت الم َعز ُ‬ ‫ك أَنم َ‬
‫ه َ‬
‫الردية‪ ,‬اليت َل تزيك انلفوس معها‪ِ { .‬إن‬
‫َ‬ ‫ُ َ م‬
‫فيتمتع فيها قليال {ث هم أض َط ُّر ُه} أي‪ :‬أجلئه وأخرجه مكرها { ِإىل‬
‫ِ‬
‫ك ُ‬ ‫م‬ ‫انلار َوبئم َس ال م َمص ُ‬
‫ه‬ ‫َ َ‬
‫يم} اَّلي‬ ‫القاهر للك يشء‪ ,‬اَّلي َل يمتنع ىلع قوته يشء‪{ .‬اْل َ ِ‬ ‫ري}‬ ‫ِ‬ ‫اب ِ ِ‬ ‫عذ ِ‬
‫يضع األشياء مواضعها‪ ،‬فبعزتك وحكمتك‪ ,‬ابعث فيهم هذا‬ ‫يم الم َق َواع َد م َن م َ م‬ ‫{‪َ { }129 - 127‬وإ مذ يَ مر َف ُع إبم َرا ِه ُ‬
‫ت‬ ‫ابلي ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الرسول‪ .‬فاستجاب اهلل هلما‪ ,‬فبعث اهلل هذا الرسول الكريم‪,‬‬ ‫َ م َ ُ َهَ َ َ هم ه ه َ َم َ ه ُ مَ ُ َهَ‬
‫و ِإسما ِعيل ربنا تقبل ِمنا ِإنك أنت الس ِميع الع ِليم * ربنا‬
‫اَّلي رحم اهلل به ذريتهما خاصة‪ ,‬وسائر اخللق اعمة‪ ،‬وهلذا قال‬ ‫ً َ َ َ َ‬ ‫ُ َ ُ ً‬ ‫َ م َ مَ ُ م َ م َ َ‬
‫ني لك َو ِم من ذ ِّر هيتِنا أ همة ُم مس ِل َمة لك َوأ ِرنا‬ ‫واجعلنا مس ِلم ِ‬
‫عليه الصالة والسالم‪ " :‬أنا دعوة أيب إبراهيم "‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ك أن م َ‬ ‫َ‬
‫ََ َ َ َُ م َ مَ ه َ‬
‫يم * َر هبنا َو ماب َعث‬ ‫الر ِح ُ‬‫اب ه‬ ‫اتل هو ُ‬‫ت ه‬ ‫اسكنا وتب علينا ِإن‬ ‫من ِ‬
‫م‬ ‫ِّ‬
‫ك َو ُي َعل ُم ُه ُم الكتَ َ‬ ‫َ م م َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫مُ م َم‬ ‫ً‬ ‫ف م َُ‬
‫وملا عظم اهلل إبراهيم هذا اتلعظيم‪ ,‬وأخرب عن صفاته الاكملة‬ ‫اب‬ ‫ِ‬ ‫يهم رسوَل ِمنهم يتلو علي ِهم آياتِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ك ُ‬ ‫م‬ ‫ت ال َعز ُ‬‫م‬ ‫َ‬
‫ك أن م َ‬ ‫َ ََُ م ه َ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫م‬
‫قال تعاىل‪:‬‬ ‫يم}‬ ‫يز اْل َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫يهم إِن‬‫اْلكمة ويزك ِ‬ ‫َو ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ م َم َ ُ َ م ه مَ َ ه‬
‫يم إَِل َم من َس ِفه‬ ‫{‪{ }134 - 130‬ومن يرغب عن ِمل ِة إِبرا ِه‬ ‫أي‪ :‬واذكر إبراهيم وإسماعيل‪ ,‬يف حالة رفعهما القواعد من‬
‫ني *‬ ‫الصاْل َ‬ ‫ادل منيَا َوإنه ُه يف ماآلخ َرة لم َن ه‬
‫َ‬ ‫َن مف َس ُه َولَ َقد م‬
‫اص َط َفيمنَ ُاه يف ُّ‬ ‫ابليت األساس‪ ,‬واستمرارهما ىلع هذا العمل العظيم‪ ،‬وكيف‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ه‬ ‫َ‬ ‫م‬
‫ت ل َر ِّب ال َعالم َ‬ ‫م م ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م َ َ َ َ ُّ ُ م م‬
‫ني * َو َوَّص بِ َها‬ ‫ِ‬ ‫ِإذ قال ُهل ربه أس ِلم قال أسلم ِ‬ ‫اكنت حاهلما من اخلوف والرجاء‪ ,‬حىت إنهما مع هذا العمل‬
‫م َ ُ َ َ َ م ُ ُ َ َ ه ه ه َ م َ َ َ ُ ُ ِّ َ َ َ‬
‫ين فال‬ ‫ِإبرا ِهيم ب ِني ِه ويعقوب يا ب ِين ِإن اَّلل اصطىف لكم ادل‬ ‫دعوا اهلل أن يتقبل منهما عملهما‪ ,‬حىت حيصل فيه انلفع‬
‫وب‬ ‫رض َي مع ُق َ‬ ‫اء إ مذ َح َ َ‬ ‫ون * أَ مم ُكنمتُ مم ُش َه َد َ‬ ‫َ ُ ُ ه ه ََمُ م ُ م ُ َ‬
‫تموتن ِإَل وأنتم مس ِلم‬ ‫العميم‪.‬‬
‫ِ‬
‫َ ُ َ م ُ ُ َ َ َ َ ََ‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫َم‬ ‫م ُ م َ َ‬
‫ال َم موت ِإذ قال ِ َبلنِي ِه َما تعبُ ُدون ِم من َبع ِدي قالوا نعبد ِإلهك و ِإهل‬
‫َم َ‬ ‫َ َ مَ َ َ م َ َ َ م َ َ ًَ َ ً‬ ‫ودعوا ألنفسهما‪ ,‬وذريتهما باإلسالم‪ ,‬اَّلي حقيقته‪ ,‬خضوع‬
‫احدا َوحن ُن ُهل‬ ‫آبائِك ِإبرا ِهيم و ِإسما ِعيل و ِإسحاق ِإلها و ِ‬ ‫َ َ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫ُ م ُ َ م َ ُه ٌ َ م َ َ م ََ َ َ َ َ م َ ُ‬ ‫القلب‪ ,‬وانقياده لربه املتضمن َلنقياد اجلوارح‪َ { .‬وأ ِرنا‬
‫ت َولك مم َما ك َسبتُ مم‬ ‫مس ِلمون * تِلك أمة قد خلت لها ما كسب‬ ‫ََ ََ‬
‫َ ُ َُ َ َ َ ُ َ م ُ َ‬ ‫اسكنا} أي‪ :‬علمناها ىلع وجه اإلراءة واملشاهدة‪ ,‬يلكون‬ ‫من ِ‬
‫َوَل ت مسألون ع هما اكنوا يع َملون}‬
‫أبلغ‪ .‬حيتمل أن يكون املراد باملناسك‪ :‬أعمال اْلج لكها‪ ,‬كما‬
‫يدل عليه السياق واملقام‪ ،‬وحيتمل أن يكون املراد ما هو أعم‬
‫‪39‬‬
‫ه‬ ‫أي‪ :‬ما يرغب { َع من ِمله ِة إبم َراه َ‬
‫ومن املعلوم أنهم لم حيرضوا يعقوب‪ ,‬ألنهم لم يوجدوا بعد‪ ،‬فإذا‬ ‫يم} بعد ما عرف من فضله {إَِل‬ ‫ِ ِ‬
‫َ َم ُ‬
‫لم حيرضوا‪ ,‬فقد أخرب اهلل عنه أنه وَّص بنيه باْلنيفية‪َ ,‬ل‬ ‫َم من َس ِفه نف َسه} أي‪ :‬جهلها وامتهنها‪ ,‬وريض هلا بادلون‪ ,‬وباعها‬
‫بايلهودية‪.‬‬ ‫بصفقة املغبون‪ ،‬كما أنه َل أرشد وأكمل‪ ,‬ممن رغب يف ملة‬
‫ََ‬
‫ك أُ هم ٌة قَ مد َخلَ م‬
‫ت} أي‪ :‬مضت {ل َ َها َما َك َسبَ م‬ ‫م َ‬ ‫إبراهيم‪ ،‬ثم أخرب عن حاتله يف ادلنيا واآلخرة فقال‪َ { :‬ولق ِد‬
‫ت‬ ‫ثم قال تعاىل‪{ :‬تِل‬ ‫ُّ م‬ ‫م َ َ‬
‫َ م‬ ‫َ ُ‬ ‫ادلنيَا} أي‪ :‬اخرتناه ووفقناه لألعمال‪ ,‬اليت صار‬ ‫اص َطفيمن ُاه ِيف‬
‫َولك مم َما ك َسبتُ مم} أي‪ :‬لك هل عمله‪ ,‬ولك سيجازى بما فعله‪,‬‬
‫بها من املصطفني األخيار‪.‬‬
‫َل يؤخذ أحد بذنب أحد وَل ينفع أحدا إَل إيمانه وتقواه‬
‫فاشتغالكم بهم واداعؤكم‪ ,‬أنكم ىلع ملتهم‪ ,‬والرضا بمجرد‬ ‫ني} اَّلين هلم أىلع ادلرجات‪.‬‬ ‫{ َوإنه ُه يف ماآلخ َرة لَم َن ه‬
‫الصاْل َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫القول‪ ,‬أمر فارغ َل حقيقة هل‪ ،‬بل الواجب عليكم‪ ,‬أن تنظروا‬ ‫َم َم ُ‬
‫ت ل َر ِّب الم َعالَم َ‬ ‫م َ َ َ َ ُّ ُ َ م م َ َ‬
‫ني}‬ ‫ِ‬ ‫{إِذ قال ُهل ربه أس ِلم قال} امتثاَل لربه {أسلم ِ‬
‫حاتلكم اليت أنتم عليها‪ ,‬هل تصلح للنجاة أم َل؟‬
‫إخالصا وتوحيدا‪ ,‬وحمبة‪ ,‬وإنابة فاكن اتلوحيد هلل نعته‪.‬‬
‫ََ ُ ُ ُ ُ ً َم َ َ َ َمَُ ُم َم هَ‬
‫{‪{ }135‬وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ِملة‬
‫يفا َو َما َاك َن م َن ال م ُم مرشك َ‬
‫مَ َ َ ً‬ ‫ثم ورثه يف ذريته‪ ,‬ووصاهم به‪ ,‬وجعلها لكمة باقية يف عقبه‪,‬‬
‫ني}‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫إِبرا ِهيم ح ِن‬
‫وتوارثت فيهم‪ ,‬حىت وصلت يلعقوب فوَّص بها بنيه‪.‬‬
‫أي‪ :‬داع لك من ايلهود وانلصارى املسلمني إىل ادلخول يف‬
‫فأنتم ‪ -‬يا بين يعقوب ‪ -‬قد وصاكم أبوكم باخلصوص‪ ,‬فيجب‬
‫دينهم‪ ,‬زاعمني أنهم هم املهتدون وغريهم ضال‪.‬‬ ‫َ َ ه ه‬
‫ين ِإن‬
‫عليكم كمال اَلنقياد‪ ,‬واتباع خاتم األنبياء قال‪{ :‬يا ب ِ‬
‫ً‬ ‫قل هل جميبا جوابا شافيا‪{ :‬بَ مل} نتبع { ِمله َة إبم َراه َ‬
‫يم َح ِنيفا} أي‪:‬‬ ‫ين} أي‪ :‬اختاره وختريه لكم‪ ,‬رْحة‬
‫هَ م َ َ َ ُ‬
‫ك ُم ِّ‬
‫ادل َ‬ ‫اَّلل اصطىف ل‬
‫ِ ِ‬
‫مقبال ىلع اهلل‪ ,‬معرضا عما سواه‪ ,‬قائما باتلوحيد‪ ,‬تاراك للرشك‬ ‫بكم‪ ,‬وإحسانا إيلكم‪ ,‬فقوموا به‪ ,‬واتصفوا برشائعه‪,‬‬
‫واتلنديد‪.‬‬ ‫وانصبغوا بأخالقه‪ ,‬حىت تستمروا ىلع ذلك فال يأتيكم املوت‬
‫إَل وأنتم عليه‪ ,‬ألن من اعش ىلع يشء‪ ,‬مات عليه‪ ,‬ومن مات‬
‫فهذا اَّلي يف اتباعه اهلداية‪ ,‬ويف اإلعراض عن ملته الكفر‬
‫ىلع يشء‪ ,‬بعث عليه‪.‬‬
‫والغواية‪.‬‬

‫اَّلل َو َما أُنمز َل إ َيلمنَا َو َما أُنمز َل إ َىل إبم َراه َ‬


‫ُ ُ َه ه‬ ‫إبراهيم‪ ,‬ومن بعده‬ ‫وملا اكن ايلهود يزعمون أنهم ىلع ملة‬
‫يم‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫{‪{ }136‬قولوا آمنا بِ ِ‬
‫َ م َ َ َ م َ َ ََمُ َ َ مَ‬ ‫ُكنمتُ مم ُش َه َد َ‬‫يعقوب‪ ,‬قال تعاىل منكرا عليهم‪{ :‬أَمم‬
‫ََ ُ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫اء} أي‪:‬‬
‫وِت موىس‬ ‫اط وما أ َ ِ‬ ‫و ِإسما ِعيل و ِإسحاق ويعقوب واألسب ِ‬ ‫م َ َ َ َمُ َ م ُ‬
‫م‬ ‫ون م من َر ِّبه مم ََل ُنف ِّرق بَ م َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ ُ َ ه ُّ َ‬ ‫وب ال َم موت} أي‪ :‬مقدماته وأسبابه‪ ،‬فقال‬ ‫حضورا { ِإذ حرض يعق‬
‫ني أ َح ٍد ِمن ُه مم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وِت انل ِبي‬
‫و ِعيىس وما أ ِ‬
‫َ‬ ‫َم َ‬ ‫بلنيه ىلع وجه اَلختبار‪ ,‬وتلقر عينه يف حياته بامتثاهلم ما‬
‫َوحن ُن ُهل ُم مس ِل ُمون}‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫َم‬
‫وصاهم به‪َ { :‬ما تعبُ ُدون ِم من َبع ِدي} ؟ فأجابوه بما قرت به عينه‬
‫َ م ُ ُ ََ َ َ ََ َ َ مَ َ َ م َ َ َ م َ َ َ‬
‫هذه اآلية الكريمة‪ ,‬قد اشتملت ىلع مجيع ما جيب اإليمان به‪.‬‬ ‫حاق ِإل ًها‬‫فقالوا‪{ :‬نعبد ِإلهك و ِإهل آبائِك ِإبرا ِهيم و ِإسما ِعيل و ِإس‬
‫َ َ م ُ َُ‬ ‫َ ً‬
‫احدا} فال نرشك به شيئا‪ ,‬وَل نعدل به أحدا‪{ ،‬وحنن هل‬ ‫و ِ‬
‫واعلم أن اإليمان اَّلي هو تصديق القلب اتلام‪ ,‬بهذه األصول‪,‬‬ ‫َ‬
‫ُم مس ِل ُمون} فجمعوا بني اتلوحيد والعمل‪.‬‬
‫وإقراره املتضمن ألعمال القلوب واجلوارح‪ ،‬وهو بهذا اَلعتبار‬
‫يدخل فيه اإلسالم‪ ,‬وتدخل فيه األعمال الصاْلة لكها‪ ،‬فيه‬
‫من اإليمان‪ ,‬وأثر من آثاره‪ ،‬فحيث أطلق اإليمان‪ ,‬دخل فيه ما‬

‫‪40‬‬
‫تضمنه ذلك من األحاكم الرشعية األمرية‪ ,‬وأحاكم اجلزاء وغري‬ ‫ذكر‪ ،‬وكذلك اإلسالم‪ ,‬إذا أطلق دخل فيه اإليمان‪ ،‬فإذا قرن‬
‫ذلك‪.‬‬ ‫بينهما‪ ,‬اكن اإليمان اسما ملا يف القلب من اإلقرار واتلصديق‪،‬‬

‫يم} إىل آخر اآلية‪ ،‬فيه اإليمان جبميع‬‫{ َو َما أُنمز َل إ َىل إبم َراه َ‬ ‫واإلسالم‪ ,‬اسما لألعمال الظاهرة وكذلك إذا مجع بني اإليمان‬
‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ُ ُ‬
‫واألعمال الصاْلة‪ ،‬فقوهل تعاىل‪{ :‬قولوا} أي‪ :‬بألسنتكم‪,‬‬
‫الكتب املزنلة ىلع مجيع األنبياء‪ ،‬واإليمان باألنبياء عموما‬
‫متواطئة عليها قلوبكم‪ ،‬وهذا هو القول اتلام‪ ,‬املرتتب عليه‬
‫وخصوصا‪ ,‬ما نص عليه يف اآلية‪ ,‬لرشفهم وإلتيانهم بالرشائع‬
‫اثلواب واجلزاء‪ ،‬فكما أن انلطق باللسان‪ ,‬بدون اعتقاد القلب‪,‬‬
‫الكبار‪ .‬فالواجب يف اإليمان باألنبياء والكتب‪ ,‬أن يؤمن بهم‬
‫نفاق وكفر‪ ،‬فالقول اخلايل من العمل عمل القلب‪ ,‬عديم‬
‫ىلع وجه العموم والشمول‪ ،‬ثم ما عرف منهم باتلفصيل‪ ,‬وجب‬
‫اتلأثري‪ ,‬قليل الفائدة‪ ,‬وإن اكن العبد يؤجر عليه‪ ,‬إذا اكن خريا‬
‫اإليمان به مفصال‪.‬‬
‫ومعه أصل اإليمان‪ ،‬لكن فرق بني القول املجرد‪ ,‬واملقرتن به‬
‫م‬ ‫َ ُ َ ِّ ُ َ م َ َ‬
‫ني أ َح ٍد ِمن ُه مم} أي‪ :‬بل نؤمن بهم لكهم‪ ،‬هذه‬ ‫وقوهل‪َ{ :‬ل نفرق ب‬ ‫عمل القلب‪.‬‬
‫خاصية املسلمني‪ ,‬اليت انفردوا بها عن لك من يديع أنه ىلع‬ ‫ُ ُ‬
‫ويف قوهل‪{ :‬قولوا} إشارة إىل اإلعالن بالعقيدة‪ ,‬والصدع بها‪,‬‬
‫دين‪.‬‬
‫وادلعوة هلا‪ ,‬إذ يه أصل ادلين وأساسه‪.‬‬
‫فايلهود وانلصارى والصابئون وغريهم ‪ -‬وإن زعموا أنهم‬ ‫َه‬
‫آمنا} وحنوه مما فيه صدور الفعل‪ ,‬منسوبا إىل مجيع‬ ‫ويف قوهل‪{ :‬‬
‫يؤمنون بما يؤمنون به من الرسل والكتب ‪ -‬فإنهم يكفرون‬
‫األمة‪ ,‬إشارة إىل أنه جيب ىلع األمة‪ ,‬اَلعتصام ِببل اهلل مجيعا‪,‬‬
‫بغريه‪ ،‬فيفرقون بني الرسل والكتب‪ ,‬بعضها يؤمنون به وبعضها‬
‫واْلث ىلع اَلئتالف حىت يكون داعيهم واحدا‪ ,‬وعملهم‬
‫يكفرون به‪ ،‬وينقض تكذيبهم تصديقهم‪ ،‬فإن الرسول اَّلي‬
‫متحدا‪ ,‬ويف ضمنه انليه عن اَلفرتاق‪ ،‬وفيه‪ :‬أن املؤمنني‬
‫زعموا‪ ,‬أنهم قد آمنوا به‪ ,‬قد صدق سائر الرسل وخصوصا حممد‬
‫اكجلسد الواحد‪.‬‬
‫صىل اهلل عليه وسلم‪ ،‬فإذا كذبوا حممدا‪ ,‬فقد كذبوا رسوهلم‬
‫ُ ُ َه ه‬
‫فيما أخربهم به‪ ,‬فيكون كفرا برسوهلم‪.‬‬ ‫اَّلل} إلخ دَللة ىلع جواز إضافة اإلنسان‬
‫ويف قوهل‪{ :‬قولوا آمنا بِ ِ‬
‫ََ ُ َ ه َ‬ ‫إىل نفسه اإليمان‪ ,‬ىلع وجه اتلقييد‪ ,‬بل ىلع وجوب ذلك‪،‬‬
‫انل ِب ُّيون ِم من َر ِّب ِه مم} دَللة ىلع أن عطية‬ ‫وِت‬
‫ويف قوهل‪{ :‬وما أ ِ‬
‫خبالف قوهل‪" :‬أنا مؤمن" وحنوه‪ ,‬فإنه َل يقال إَل مقرونا‬
‫ادلين‪ ,‬يه العطية اْلقيقية املتصلة بالسعادة ادلنيوية‬
‫باَلستثناء باملشيئة‪ ,‬ملا فيه من تزكية انلفس‪ ,‬والشهادة ىلع‬
‫واألخروية‪ .‬لم يأمرنا أن نؤمن بما أوِت األنبياء من امللك واملال‬
‫نفسه باإليمان‪.‬‬
‫وحنو ذلك‪ ،‬بل أمرنا أن نؤمن بما أعطوا من الكتب والرشائع‪.‬‬
‫َه ه‬
‫اَّلل} أي‪ :‬بأنه موجود‪ ,‬واحد أحد‪ ,‬متصف بكل‬
‫فقوهل‪{ :‬آمنا بِ ِ‬
‫وفيه أن األنبياء مبلغون عن اهلل‪ ,‬ووسائط بني اهلل وبني خلقه‬
‫صفة كمال‪ ,‬مزنه عن لك نقص وعيب‪ ,‬مستحق إلفراده‬
‫يف تبليغ دينه‪ ,‬ليس هلم من األمر يشء‪.‬‬
‫بالعبادة لكها‪ ,‬وعدم اإلرشاك به يف يشء منها‪ ,‬بوجه من الوجوه‪.‬‬
‫ويف قوهل‪ِ { :‬م من َر ِّب ِه مم} إشارة إىل أنه من كمال ربوبيته لعباده‪,‬‬ ‫{ َو َما أُنمز َل إ َيلمنَا} يشمل القرآن والسنة لقوهل تعاىل‪َ { :‬وأَنم َز َل ه ُ‬
‫اَّلل‬ ‫ِ ِ‬
‫أن يزنل عليهم الكتب‪ ,‬ويرسل إيلهم الرسل‪ ,‬فال تقتيض‬ ‫َ َم َ م َ َ َ م م َ َ‬
‫اْلكمة} فيدخل فيه اإليمان بما تضمنه‬ ‫كتاب و ِ‬ ‫عليك ال ِ‬
‫ربوبيته‪ ,‬تركهم سدى وَل همال‪.‬‬
‫كتاب اهلل وسنة رسوهل‪ ,‬من صفات ابلاري‪ ,‬وصفات رسله‪,‬‬
‫وايلوم اآلخر‪ ,‬والغيوب املاضية واملستقبلة‪ ,‬واإليمان بما‬
‫‪41‬‬
‫والقرآن‪ ,‬وأسلموا هلل وحده‪ ,‬ولم يفرقوا بني أحد من رسل اهلل‬ ‫وإذا اكن ما أوِت انلبيون‪ ,‬إنما هو من ربهم‪ ,‬ففيه الفرق بني‬
‫ََ م َ‬
‫{فق ِد اهتَد موا} للِّصاط املستقيم‪ ,‬املوصل جلنات انلعيم‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫األنبياء وبني من يديع انلبوة‪ ,‬وأنه حيصل الفرق بينهم بمجرد‬
‫فال سبيل هلم إىل اهلداية‪ ,‬إَل بهذا اإليمان‪َ ،‬ل كما زعموا‬ ‫معرفة ما يدعون إيله‪ ،‬فالرسل َل يدعون إَل إىل خلري‪ ,‬وَل‬
‫بقوهلم‪ " :‬كونوا هودا أو نصارى تهتدوا " فزعموا أن اهلداية‬ ‫ينهون إَل عن لك رش‪ ،‬ولك واحد منهم‪ ,‬يصدق اآلخر‪ ,‬ويشهد‬
‫َ‬
‫خاصة بما اكنوا عليه‪ ،‬و " اهلدى " هو العلم باْلق‪ ,‬والعمل به‪,‬‬ ‫هل باْلق‪ ,‬من غري ختالف وَل تناقض لكونه من عند ربهم { َول مو‬
‫وضده الضالل عن العلم والضالل عن العمل بعد العلم‪ ,‬وهو‬ ‫اخت َالفًا َكث ً‬
‫ريا}‬
‫م‬ ‫َاك َن م من عنمد َغ مري ه َ َ َ ُ‬
‫ِ‬ ‫اَّلل لوجدوا ِفي ِه ِ‬
‫ِ ِ ِ ِ ِ‬
‫الشقاق اَّلي اكنوا عليه‪ ,‬ملا تولوا وأعرضوا‪ ،‬فاملشاق‪ :‬هو اَّلي‬
‫وهذا خبالف من ادىع انلبوة‪ ,‬فال بد أن يتناقضوا يف أخبارهم‬
‫يكون يف شق واهلل ورسوهل يف شق‪ ،‬ويلزم من املشاقة املحادة‪,‬‬
‫وأوامرهم ونواهيهم‪ ,‬كما يعلم ذلك من سرب أحوال اجلميع‪,‬‬
‫والعداوة ابلليغة‪ ,‬اليت من لوازمها‪ ,‬بذل ما يقدرون عليه من‬
‫وعرف ما يدعون إيله‪.‬‬
‫أذية الرسول‪ ،‬فلهذا وعد اهلل رسوهل‪ ,‬أن يكفيه إياهم‪ ,‬ألنه‬
‫السميع جلميع األصوات‪ ,‬باختالف اللغات‪ ,‬ىلع تفنن‬ ‫بني تعاىل مجيع ما يؤمن به‪ ,‬عموما وخصوصا‪ ,‬واكن القول‬ ‫فلما ه‬
‫َ‬ ‫َم َ‬
‫اْلاجات‪ ,‬العليم بما بني أيديهم وما خلفهم‪ ,‬بالغيب والشهادة‪,‬‬ ‫َل يغين عن العمل قال‪َ { :‬وحن ُن ُهل ُم مس ِل ُمون} أي‪ :‬خاضعون‬
‫بالظواهر وابلواطن‪ ،‬فإذا اكن كذلك‪ ,‬كفاك اهلل رشهم‪.‬‬ ‫لعظمته‪ ,‬منقادون لعبادته‪ ,‬بباطننا وظاهرنا‪ ,‬خملصون هل‬
‫َ‬
‫العبادة بديلل تقديم املعمول‪ ,‬وهو { ُهل} ىلع العامل وهو‬
‫وقد أجنز اهلل لرسوهل وعده‪ ,‬وسلطه عليهم حىت قتل بعضهم‪,‬‬ ‫َ‬
‫{ ُم مس ِل ُمون}‬
‫وسىب بعضهم‪ ,‬وأجىل بعضهم‪ ,‬ورشدهم لك مرشد‪.‬‬
‫فقد اشتملت هذه اآلية الكريمة ‪ -‬ىلع إجيازها واختصارها ‪-‬‬
‫ففيه معجزة من معجزات القرآن‪ ,‬وهو اإلخبار باليشء قبل‬
‫ىلع أنواع اتلوحيد اثلالثة‪ :‬توحيد الربوبية‪ ,‬وتوحيد األلوهية‪,‬‬
‫وقوعه‪ ,‬فوقع طبق ما أخرب‪.‬‬
‫وتوحيد األسماء والصفات‪ ،‬واشتملت ىلع اإليمان جبميع‬
‫َ ً َم َ‬ ‫مََ ه ََ م َ م َ ُ َ ه‬
‫اَّلل ِصبمغة َوحن ُن ُهل‬
‫اَّلل ومن أحسن ِمن ِ‬
‫{‪ِ { }138‬صبغة ِ‬ ‫الرسل‪ ,‬ومجيع الكتب‪ ،‬وىلع اتلخصيص ادلال ىلع الفضل بعد‬
‫َ‬
‫َاعبِ ُدون}‬ ‫اتلعميم‪ ،‬وىلع اتلصديق بالقلب واللسان واجلوارح‬
‫واإلخالص هلل يف ذلك‪ ،‬وىلع الفرق بني الرسل الصادقني‪ ,‬ومن‬
‫أي‪ :‬الزموا صبغة اهلل‪ ,‬وهو دينه‪ ,‬وقوموا به قياما تاما‪ ,‬جبميع‬
‫ادىع انلبوة من الاكذبني‪ ،‬وىلع تعليم ابلاري عباده‪ ,‬كيف‬
‫أعماهل الظاهرة وابلاطنة‪ ,‬ومجيع عقائده يف مجيع األوقات‪ ,‬حىت‬
‫يقولون‪ ,‬ورْحته وإحسانه عليهم بانلعم ادلينية املتصلة بسعادة‬
‫يكون لكم صبغة‪ ,‬وصفة من صفاتكم‪ ،‬فإذا اكن صفة من‬
‫ادلنيا واآلخرة‪ ،‬فسبحان من جعل كتابه تبيانا للك يشء‪,‬‬
‫صفاتكم‪ ,‬أوجب ذلك لكم اَلنقياد ألوامره‪ ,‬طواع واختيارا‬
‫وهدى ورْحة لقوم يؤمنون‪.‬‬
‫وحمبة‪ ,‬وصار ادلين طبيعة لكم بمزنلة الصبغ اتلام للثوب‬
‫م َ ه‬ ‫ََ م َ‬ ‫م َ َم‬ ‫{‪{ }137‬فَإ من َ‬
‫اَّلي صار هل صفة‪ ,‬فحصلت لكم السعادة ادلنيوية‬ ‫آمنتُ مم بِ ِه فق ِد اهتَد موا َو ِإن ت َول موا‬ ‫آمنُوا بِ ِمث ِل ما‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ه‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫م‬
‫فَإ هن َما ُه مم يف شقاق فسيكفيكه ُم اَّلل َوهو السميع العل ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫واألخروية‪ْ ,‬لث ادلين ىلع ماكرم األخالق‪ ,‬وحماسن األعمال‪,‬‬ ‫يم}‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫ومعايل األمور‪ ،‬فلهذا قال ‪ -‬ىلع سبيل اتلعجب املتقرر للعقول‬
‫ًَ‬ ‫ََ م َ م َ ُ َ ه‬ ‫أي‪ :‬فإن آمن أهل الكتاب {بمثل ما آمنتم به} ‪ -‬يا معرش‬
‫اَّلل ِصبمغة} أي‪َ :‬ل أحسن صبغة من‬
‫الزكية‪{ :-‬ومن أحسن ِمن ِ‬
‫املؤمنني ‪ -‬من مجيع الرسل‪ ,‬ومجيع الكتب‪ ,‬اَّلين أول من دخل‬
‫صبغته‬
‫فيهم‪ ,‬وأوىل خاتمهم وأفضلهم حممد صىل اهلل عليه وسلم‬
‫‪42‬‬
‫وإبطال قول خصمه‪ ،‬فلك واحد منهما‪ ,‬جيتهد يف إقامة اْلجة‬ ‫وإذا أردت أن تعرف نموذجا يبني لك الفرق بني صبغة اهلل‬
‫ىلع ذلك‪ ،‬واملطلوب منها‪ ,‬أن تكون باليت يه أحسن‪ ,‬بأقرب‬ ‫وبني غريها من الصبغ‪ ,‬فقس اليشء بضده‪ ،‬فكيف ترى يف‬
‫طريق يرد الضال إىل اْلق‪ ,‬ويقيم اْلجة ىلع املعاند‪ ,‬ويوضح‬ ‫عبد آمن بربه إيمانا صحيحا‪ ,‬أثر معه خضوع القلب وانقياد‬
‫اْلق‪ ,‬ويبني ابلاطل‪ ،‬فإن خرجت عن هذه األمور‪ ,‬اكنت مماراة‪,‬‬ ‫اجلوارح‪ ،‬فلم يزل يتحىل بكل وصف حسن‪ ,‬وفعل مجيل‪,‬‬
‫وخماصمة َل خري فيها‪,‬‬ ‫وخلق اكمل‪ ,‬ونعت جليل‪ ،‬ويتخىل من لك وصف قبيح‪ ,‬ورذيلة‬
‫وعيب‪ ،‬فوصفه‪ :‬الصدق يف قوهل وفعله‪ ,‬والصرب واْللم‪ ,‬والعفة‪,‬‬
‫وأحدثت من الرش ما أحدثت‪ ،‬فاكن أهل الكتاب‪ ,‬يزعمون‬
‫والشجاعة‪ ,‬واإلحسان القويل والفعيل‪ ,‬وحمبة اهلل وخشيته‪,‬‬
‫أنهم أوىل باهلل من املسلمني‪ ,‬وهذا جمرد دعوى‪ ,‬تفتقر إىل‬
‫وخوفه‪ ,‬ورجاؤه‪ ،‬فحاهل اإلخالص للمعبود‪ ,‬واإلحسان لعبيده‪،‬‬
‫برهان وديلل‪ .‬فإذا اكن رب اجلميع واحدا‪ ,‬ليس ربا لكم‬
‫فقسه بعبد كفر بربه‪ ,‬ورشد عنه‪ ,‬وأقبل ىلع غريه من‬
‫دوننا‪ ,‬ولك منا ومنكم هل عمله‪ ,‬فاستوينا حنن وإياكم بذلك‪.‬‬
‫املخلوقني فاتصف بالصفات القبيحة‪ ,‬من الكفر‪ ,‬والرشك‬
‫فهذا َل يوجب أن يكون أحد الفريقني أوىل باهلل من غريه؛‬
‫والكذب‪ ,‬واخليانة‪ ,‬واملكر‪ ,‬واخلداع‪ ,‬وعدم العفة‪ ,‬واإلساءة إىل‬
‫ألن اتلفريق مع اَلشرتاك يف اليشء‪ ,‬من غري فرق مؤثر‪ ,‬دعوى‬
‫اخللق‪ ,‬يف أقواهل‪ ,‬وأفعاهل‪ ،‬فال إخالص للمعبود‪ ,‬وَل إحسان إىل‬
‫باطلة‪ ,‬وتفريق بني متماثلني‪ ,‬وماكبرة ظاهرة‪ .‬وإنما حيصل‬
‫عبيده‪.‬‬
‫اتلفضيل‪ ,‬بإخالص األعمال الصاْلة هلل وحده‪ ،‬وهذه اْلالة‪,‬‬
‫وصف املؤمنني وحدهم‪ ,‬فتعني أنهم أوىل باهلل من غريهم؛ ألن‬ ‫فإنه يظهر لك الفرق العظيم بينهما‪ ,‬ويتبني لك أنه َل أحسن‬
‫اإلخالص‪ ,‬هو الطريق إىل اخلالص‪ ،‬فهذا هو الفرق بني أويلاء‬ ‫صبغة من صبغة اهلل‪ ,‬ويف ضمنه أنه َل أقبح صبغة ممن انصبغ‬
‫الرْحن وأويلاء الشيطان‪ ,‬باألوصاف اْلقيقية اليت يسلمها أهل‬ ‫بغري دينه‪.‬‬
‫العقول‪ ,‬وَل ينازع فيها إَل لك ماكبر جهول‪ ،‬فيف هذه اآلية‪,‬‬ ‫َ‬ ‫َم َ‬
‫ويف قوهل‪َ { :‬وحن ُن ُهل َاعبِ ُدون} بيان هلذه الصبغة‪ ,‬ويه القيام‬
‫إرشاد لطيف لطريق املحاجة‪ ,‬وأن األمور مبنية ىلع اجلمع بني‬
‫بهذين األصلني‪ :‬اإلخالص واملتابعة‪ ,‬ألن " العبادة " اسم جامع‬
‫املتماثلني‪ ,‬والفرق بني املختلفني‪.‬‬
‫للك ما حيبه اهلل ويرضاه من األعمال‪ ,‬واألقوال الظاهرة‬
‫َم َُ ُ َ ه مَ َ َ م َ َ َ م َ َ‬
‫اق َو َي مع ُقوبَ‬ ‫{‪{ }140‬أم تقولون إِن إِبرا ِهيم و ِإسما ِعيل و ِإسح‬ ‫وابلاطنة‪ ،‬وَل تكون كذلك‪ ,‬حىت يرشعها اهلل ىلع لسان‬
‫ارى قُ مل أَأَ منتُ مم أَ معلَ ُم أمِ ه ُ‬
‫اَّلل َو َم من‬
‫َ‬ ‫ودا أَ مو نَ َص َ‬
‫َ مَم َ َ َ ُ ُ ً‬
‫واألسباط اكنوا ه‬ ‫رسوهل‪ ،‬واإلخالص‪ :‬أن يقصد العبد وجه اهلل وحده‪ ,‬يف تلك‬
‫َ‬ ‫َم َُ ه م َََ َ َ ًَ مَُ َ ه َ َ هُ َ‬
‫اَّلل بِغا ِف ٍل ع هما‬ ‫اَّلل وما‬ ‫أظلم ِممن كتم شهادة ِعنده ِمن ِ‬ ‫األعمال‪ ،‬فتقديم املعمول‪ ,‬يؤذن باْلِّص‪.‬‬
‫َم ُ َ‬
‫تع َملون}‬ ‫َ‬ ‫َم َ‬
‫وقال‪َ { :‬وحن ُن ُهل َاعبِ ُدون} فوصفهم باسم الفاعل ادلال ىلع‬
‫وهذه دعوى أخرى منهم‪ ,‬وحماجة يف رسل اهلل‪ ,‬زعموا أنهم أوىل‬ ‫اثلبوت واَلستقرار‪ ,‬يلدل ىلع اتصافهم بذلك وكونه صار‬
‫بهؤَلء الرسل املذكورين من املسلمني‪.‬‬ ‫صبغة هلم مالزما‪.‬‬

‫َ َ‬
‫اَّلل} فاهلل يقول‪َ { :‬ما اكن‬ ‫فرد اهلل عليهم بقوهل‪{ :‬أَأَ منتُ مم أَ معلَ ُم أَمِ ه ُ‬ ‫ُ َ َ م ُ‬ ‫َ‬ ‫ه ُ‬
‫اَّلل َوه َو َر ُّبنا َو َر ُّبك مم َونلَا أع َمانلَا‬
‫ُ م َ ُ َ ُّ َ َ‬
‫{‪{ }139‬قل أحتاجوننا ِيف ِ‬
‫َ َ‬ ‫ً‬ ‫َ َ‬ ‫م َ ُ َ ُ ًّ َ َ َ م َ ًّ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َ م ُ ُ َم َ ُم‬
‫ك من اكن َح ِنيفا ُم مس ِل ًما َو َما اكن‬ ‫ِإبرا ِهيم يهو ِديا وَل نِّصا ِنيا ول ِ‬ ‫َولك مم أع َمالك مم َوحن ُن ُهل خم ِل ُصون}‬
‫ني} وهم يقولون‪ :‬بل اكن يهوديا أو نِّصانيا‪.‬‬ ‫م َن ال م ُم مرشك َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫املحاجة يه‪ :‬املجادلة بني اثنني فأكرث‪ ,‬تتعلق باملسائل‬
‫اخلالفية‪ ,‬حىت يكون لك من اخلصمني يريد نِّصة قوهل‪,‬‬
‫‪43‬‬
‫فإما أن يكونوا‪ ,‬هم الصادقني العاملني‪ ,‬أو يكون اهلل تعاىل‬
‫هو الصادق العالم بذلك‪ ,‬فأحد األمرين متعني َل حمالة‪،‬‬
‫وصورة اجلواب مبهم‪ ,‬وهو يف اغية الوضوح وابليان‪ ،‬حىت إنه ‪-‬‬
‫من وضوحه ‪ -‬لم حيتج أن يقول بل اهلل أعلم وهو أصدق‪ ,‬وحنو‬
‫ذلك‪َ ,‬لجنالئه للك أحد‪ ،‬كما إذا قيل‪ :‬الليل أنور‪ ,‬أم انلهار؟‬
‫وانلار أحر أم املاء؟ والرشك أحسن أم اتلوحيد؟ وحنو ذلك‪.‬‬

‫وهذا يعرفه لك من هل أدىن عقل حىت إنهم بأنفسهم يعرفون‬


‫ذلك‪ ,‬ويعرفون أن إبراهيم وغريه من األنبياء‪ ,‬لم يكونوا هودا‬
‫وَل نصارى‪ ,‬فكتموا هذا العلم وهذه الشهادة‪ ,‬فلهذا اكن‬
‫ظلمهم أعظم الظلم‪ .‬وهلذا قال تعاىل‪َ { :‬و َم من أَ مظلَ ُم ِم هم من َكتَمَ‬
‫َ َ ًَ مَُ َ ه‬
‫اَّلل} فيه شهادة عندهم‪ ,‬مودعة من اهلل‪َ ,‬ل‬ ‫شهادة ِعنده ِمن ِ‬
‫من اخللق‪ ,‬فيقتيض اَلهتمام بإقامتها‪ ,‬فكتموها‪ ,‬وأظهروا‬
‫ضدها‪ ،‬مجعوا بني كتم اْلق‪ ,‬وعدم انلطق به‪ ,‬وإظهار ابلاطل‪,‬‬
‫وادلعوة إيله‪ ،‬أليس هذا أعظم الظلم؟ بىل واهلل‪ ,‬وسيعاقبهم‬
‫َ َم ُ َ‬ ‫َ َ هُ َ‬
‫اَّلل بِغافِ ٍل ع هما تع َملون}‬ ‫عليه أشد العقوبة‪ ،‬فلهذا قال‪{ :‬وما‬
‫بل قد أحىص أعماهلم‪ ,‬وعدها وادخر هلم جزاءها‪ ,‬فبئس‬
‫اجلزاء جزاؤهم‪ ,‬وبئست انلار‪ ,‬مثوى للظاملني‪ ،‬وهذه طريقة‬
‫القرآن يف ذكر العلم والقدرة‪ ,‬عقب اآليات املتضمنة لألعمال‬
‫اليت جيازى عليها‪.‬‬

‫فيفيد ذلك الوعد والوعيد‪ ,‬والرتغيب والرتهيب‪ ،‬ويفيد أيضا‬


‫ذكر األسماء اْلسىن بعد األحاكم‪ ,‬أن األمر ادليين واجلزايئ‪,‬‬
‫أثر من آثارها‪ ,‬وموجب من موجباتها‪ ,‬ويه مقتضية هل‪.‬‬

‫م َ ُه ٌ َ م َ َ م ََ َ َ َ َ م َ ُ‬
‫ت َولك مم‬ ‫{‪ }141‬ثم قال تعاىل‪{ :‬تِلك أمة قد خلت لها ما كسب‬
‫َ م َ ُ َُ َ َ َ ُ َ م ُ َ‬
‫َما ك َسبتُ مم َوَل ت مسألون ع هما اكنوا يع َملون}‬

‫تقدم تفسريها‪ ,‬وكررها‪ ,‬لقطع اتلعلق باملخلوقني‪ ,‬وأن املعول‬


‫عليه ما اتصف به اإلنسان‪َ ,‬ل عمل أسالفه وآبائه‪ ،‬فانلفع‬
‫اْلقييق باألعمال‪َ ,‬ل باَلنتساب املجرد للرجال‪.‬‬

‫‪44‬‬

You might also like