Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 10

‫الكالم على حديث الجارية‬

‫وهذا أوان الكالم على حديث الجارية الذي طالما اختلفت واضطربت روايا ُتهُ‪ ،‬وهو‬
‫الذي َعنو َّنا له في هذا الكتاب‪ ،‬وهذا الحديث الذي ينادي به حشويَّة زماننا إلثبات أنَّ‬
‫‪.‬هللا ج َّل جالله في السماء‪ ،‬تعالى هللا عمَّا يقولون‬
‫واعلم َّأوالً أ َّننا لسنا َّأو َل َمن تكلَّم على هذا الحديث و َبي ََّن ما فيه من االضطراب‪ ،‬فقد‬
‫حنبل حيث قال ‪( :‬ليس ك ُّل أحد يقول فيه‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫سبقنا إلى ذلك أئم ٌَّة؛ منهم اإلمام أحم ُد ابن‬
‫إ َّنها مؤمنة‪ ،‬يقولون‪ :‬أعتقها)(‪ ،)1‬فهذا نصٌّ من اإلمام أحمد باضطراب الحديث‪،‬‬
‫ومنهم أيضا ً اإلمام الفقيه األصوليُّ شمس األئمَّة الس ََّرخسِ يُّ حيث قال في كتابه‬
‫ي‪ :‬أنَّ‬ ‫الكبير «المبسوط»‪ ...( :‬مع أنَّ في صِ حَّ ة ذلك الحديثِ(‪ )2‬كالماً؛ فقد ر ُِو َ‬
‫ظنُّ برسول هللا‬ ‫النبيَّ صلَّى هللا عليه وسلَّم قال‪ :‬أين هللا؟ فأشارت إلى السماء‪ ،‬وال َن ُ‬
‫جهة وال مكاناً)(‪،)3‬‬ ‫ً‬ ‫صلَّى هللا عليه وسلَّم أ َّنه َيطلب مِن أح ٍد أن يُثبت هلل تعالى‬
‫‪.‬وسيأتي مزي ُد أقوال لألئمَّة في ذلك‬
‫ولو أنَّ الحشو َّي َة سبروا طرق هذا الحديث ومتو َنه‪ ،‬وأنصفوا‪ ،‬ووسَّعوا دائرة فهمهم‪-‬‬
‫إن لم يكن زيغا ً ‪ -‬لعلموا أ َّنه ال حجَّ ة في هذا الحديث أصالً‪ ،‬ال من قريب وال من‬
‫بعيد‪ ،‬ومن خالل ما َمرَّ بك من أنَّ اختالف األلفاظِ يؤ ِّدي إلى اختالف المعاني يتبيَّن‬
‫صبر بتتبُّع ما‬ ‫ٍ‬ ‫لك األمر نف ُس ُه في حديث الجارية‪ ،‬وأريد منك أيُّها القارئ الكريم قلي َل‬
‫صرفت فيه م َِن الوقت والتعب والبحث‬ ‫ُ‬ ‫سأذكره من تفصيل الكالم عليه؛ فإ َّنه ممَّا‬
‫حلية َيعرفُ قيم َتها أه ُل‬ ‫ً‬ ‫وال ِف ْكر والعناء مع معاناة المرض الشي َء الكثير‪ ،‬ووضع ُته‬
‫هداية لمن‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫التحقيق‬ ‫الفضل‪ ،‬وإ َّنما يعرفُ الفض َل ألهل الفضل أهلُهُ‪ ،‬فإن لم يكن هذا‬
‫‪.‬خالف و َش َّب َه‪َ ،‬ف َحسبُ أهل ال ُّس َّنة حجَّ ة لهم‪ ،‬وهللا المو ِّفق‬
‫‪:‬نبدأ َّأوالً ببيان الروايات وتفنيدها؛ لي َّتضح األم ُر جل ّيا ً بعون هللا سبحانه‬
‫روى اإلمام أحمد في «مسنده» بإسنا ٍد حسن قال‪( :‬حدثنا عبد الصمد‪ ،‬حدثنا حماد‬
‫ُ‬
‫بن سلمة‪ ،‬حدثنا محمد بن عمرو‪ ،‬عن أبي سلم َة‪ ،‬عن الشريد رضي هللا عنه‪ :‬أنَّ أ َّم ُه‬
‫ٌ‬
‫جارية‬ ‫رقبة مؤمنة‪ ،‬فسأل رسو َل هللا عن ذلك فقال‪ :‬عندي‬ ‫ٌ‬ ‫أوصت أن يُع َت َق عنها‬
‫سودا ُء نوبي ٌَّة‪ ،‬فأُع ِتقُ َها؟ فقال‪« :‬ائت بها»‪ ،‬فدعوتها‪ ،‬فجاءت‪ ،‬فقال لها‪َ « :‬من‬
‫َربُّكِ ؟»‪ ،‬قالت‪ :‬هللا‪ ،‬قال‪َ « :‬من أنا؟»‪ ،‬فقالت‪ :‬أنت رسول هللا‪ ،‬قال‪« :‬أعتقها؛ فإ َّنها‬
‫‪).‬مؤمنة»)(‪4‬‬
‫‪».‬فهذه الرواية قال فيها صلَّى هللا عليه وسلَّم‪َ «:‬من ربُّكِ ؟‬
‫وروى الدارميُّ بإسناد حسن قال‪( :‬أخبرنا أبو الوليد الطيالسيُّ ‪ ،‬حدثنا حماد بن‬
‫سلمة‪ ،‬عن محمد بن عمرو‪ ،‬عن أبي سلم َة‪ ،‬عن الشريد قال‪ :‬أتيت النبيَّ صلَّى هللا‬
‫جارية سودا َء نوبي ًَّة‪ ،‬أفتجزئ‬ ‫ً‬ ‫رقبة‪ ،‬وإنَّ عندي‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫فقلت‪ :‬إنَّ على أمي‬ ‫عليه وسلَّم‪،‬‬
‫عنها؟ قال‪« :‬ادع بها»‪ ،‬قال‪« :‬أتشهدين أن ال إله إالَّ هللا؟»‪ ،‬قالت‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪:‬‬
‫‪«).‬أعتقها؛ فإ َّنها مؤمنة»)(‪5‬‬
‫فهاتان روايتان عن الشريد بن سويد‪ ،‬والسن ُد من حماد إلى الشريد واح ٌد‪ ،‬واللفظ‬
‫‪:‬مختلفٌ‬
‫‪».‬ففي األول قال‪َ « :‬من ربُّكِ ؟»‪ ،‬ثم قال‪َ « :‬من أنا؟‬
‫‪».‬وفي الثاني قال‪« :‬أتشهدين أن ال إله إالَّ هللا؟‬
‫فهذا َّأول اضطراب لحديث الجارية‪ ،‬مع عدم اختالف القصة‪ ،‬ومِن هنا ترى كيف‬
‫يتصرَّ ف الرواة بالحديث‪ ،‬ومِن َث َّم فأيُّ اللفظين أقرب إلى اإليمان‪« :‬أين هللا؟»‪ ،‬أم‬
‫ما في هاتين الروايتين؟‬
‫ولماذا ترك الحشويَّة هاتين الروايتين‪ ،‬مع أنَّ سندَ هما حسنٌ ‪ ،‬وشي ُخه ُم األلبانيُّ قد‬
‫َح َك َم على إسناد روايةِ‪َ « :‬من ربُّكِ ؟» في كتابه «صحيح أبي داود» بأ َّنه حسن‬
‫ي خلف التجسيم؟‬ ‫صحيح(‪ ،)6‬فهل هذا إالَّ انتقا ٌء بال َّتشهِّي والهوى‪َ ،‬‬
‫وجرْ ٌ‬
‫وروى مسلم في «صحيحه» قال‪( :‬حدثنا أبو جعفر محمد بن الصباح‪ ،‬وأبو بكر بن‬
‫أبي شيبة‪ ،‬وتقاربا في لفظ الحديث‪ ،‬قاال‪ :‬حدثنا إسماعيل بن إبراهيم‪ ،‬عن حجاج‬
‫الصواف‪ ،‬عن يحيى بن أبي كثير‪ ،‬عن هالل بن أبي ميمونة‪ ،‬عن عطاء بن يسار‪،‬‬
‫عن معاوية بن الحكم السلمي قال‪ ...:‬وكانت لي جارية ترعى غنما ً لي ِق َب َل أ ُ ُح ٍد‬
‫والجوانية‪ ،‬فاطلعت ذات يوم‪ ،‬فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها‪ ،‬وأنا رجل من بني‬
‫آدم‪ ،‬آ َسفُ كما يأسفون‪ ،‬لك ِّني صكك ُتها ص َّك ًة‪ ،‬فأتيت رسول هللا صلَّى هللا عليه وسلَّم‪،‬‬
‫َف َع َّظ َم ذلك علي‪ ،‬قلت‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬أفال أعتقها؟ قال‪« :‬ائتني بها»‪ ،‬فأتي ُته بها‪ ،‬فقال‬
‫لها‪« :‬أين هللا؟»‪ ،‬قالت‪ :‬في السماء‪ ،‬قال‪« :‬من أنا؟»‪ ،‬قالت‪ :‬أنت رسول هللا‪ ،‬قال‪:‬‬
‫‪«).‬أعتقها؛ فإ َّنها مؤمنة»)(‪7‬‬
‫وروى ابن قانع في «معجم الصحابة» بإسنا ٍد حسن قال‪( :‬حدثنا محمد بن أحمد بن‬
‫البراء ‪ -‬هو العبديُّ ‪ -‬حدثنا معافى بن سليمان‪ ،‬حدثنا فليح‪ ،‬عن هالل‪ ،‬عن عطاء بن‬
‫يسار‪ ،‬عن معاوية بن الحكم‪ :‬أ َّنه أراد عتق أَ َم ٍة له سودا َء‪ ،‬فأتى بها النبيَّ صلَّى هللا‬
‫عليه وسلَّم‪ ،‬فقال لها‪َ « :‬من ربُّكِ ؟»‪ ،‬قالت‪ :‬الذي في السماء‪ ،‬فقال لها‪« :‬من أنا؟»‪،‬‬
‫‪).‬قالت‪ :‬رسول هللا‪ ،‬قال‪« :‬أعتقها؛ فإ َّنها مؤمنة»)(‪8‬‬
‫ثقات‪ ،‬ابنُ قانع وصفه الحافظ الذهبيُّ باإلمام الحافظ البارع‬ ‫ٌ‬ ‫وهذا سن ٌد رجالُه‬
‫الصدوق إن شاء هللا تعالى(‪ ،)9‬والكالم فيه من جهة البرقانيِّ مدفوعٌ‪ ،‬قال الحافظ‬ ‫ِ‬
‫الخطيب البغداديُّ ‪( :‬ال أدري لماذا ضعَّفه البرقاني‪ ،‬فقد كان من أهل العلم والدراية‬
‫يوثقو َنهُ)(‪ ،)10‬ومحمد بن أحمد بن البراء البغدادي‬ ‫ورأيت عا َّم َة مشاي ِخ َنا ِّ‬
‫ُ‬ ‫وال َفهم‪،‬‬
‫ثقة(‪ ،)11‬ومثل ُ ُه معافى بن‬ ‫العبدي‪ ،‬قال عنه الحافظ الخطيب في «تاريخه»‪ٌ :‬‬
‫سليمان‪ ،‬وأمَّا فليح؛ فمن رجال «الصحيحين»‪ ،‬وأنت ترى أنَّ هذه الرواية‪ ،‬ورواية‬
‫مسلم َس َن ُدها عن هالل بن أبي ميمون َة‪ ،‬عن عطاء بن يسار‪ ،‬عن معاوي َة بن الحكم‪،‬‬
‫ولفظ هذه الرواية يختلف عن لفظ مسلم‪ ،‬حيث قال هنا‪َ « :‬من َربُّكِ ؟»‪ ،‬ولم يقل لها‪:‬‬
‫أين هللا؟»‪ ،‬فهذا اضطراب في متن هذه الرواية‪ ،‬والقصَّة م َّتحدة‪ ،‬مع أن لفظ‪:‬‬ ‫« َ‬
‫ت بلسانها‪،‬‬ ‫«قالت‪ :‬في السماء» مُح َت ِم ٌل أ َّنها أشارت إلى السماء‪ ،‬فال تكونُ قد َت َكلَّ َم ْ‬
‫‪.‬وهو َمج َم ُع الروايات كما يأتي‬
‫ورواه مالك في «الموطأ»‪( :‬عن هالل بن أسامة‪ ،‬عن عطاء بن يسار‪ ،‬عن عمر بن‬
‫ً‬
‫جارية‬ ‫الحكم أ َّنه قال‪ :‬أتيت رسول هللا صلَّى هللا عليه وسلَّم فقلت‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬إنَّ‬
‫لي كانت ترعى غنما ً لي‪ ،‬فجئ ُتها وقد فقدت شاة من الغنم‪ ،‬فسأل ُتها عنها‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫ٌ‬
‫رقبة‪،‬‬ ‫فلطمت وجهها‪ ،‬و َعلَيَّ‬
‫ُ‬ ‫أكلَ َها الذئبُ ‪ ،‬فأسفت عليها‪ ،‬وكنت من بني آدم‪،‬‬
‫أفأعتقها؟ فقال لها رسول هللا صلَّى هللا عليه وسلَّم‪« :‬أين هللا؟»‪ ،‬فقالت‪ :‬في السماء‪،‬‬
‫فقال‪َ « :‬من أنا؟»‪ ،‬فقالت‪ :‬أنت رسول هللا‪ ،‬فقال رسول هللا صلَّى هللا عليه وسلَّم‪:‬‬
‫‪«).‬أعتقها»)(‪12‬‬
‫ث َّم ال ُب َّد لنا من الوقوف عند هاتين الروايتين‪ :‬رواية مسلم‪ ،‬ورواي ِة مالك؛ كي ال‬
‫ت ال ِف ْكرُ‪ ،‬ث َّم ننظر في السند لنرى أنَّ في سند هاتين‬ ‫يطو َل بنا الفص ُل ويتش َّت َ‬
‫بن أبي كثير‪ ،‬وقد َت َفرَّ َد عطاء بن يسار في ك ِّل‬ ‫بن يسار‪ ،‬ويحيى َ‬ ‫الروايتين عطا َء َ‬
‫الروايات بالرواية عن معاوية بن الحكم‪ ،‬فاحفظ هذا؛ ألنَّ له شأنا ً سيأتي إن شاء هللا‬
‫‪.‬تعالى‬
‫أما الكالم من جهة السند فإن مالكا يرويه عن عمر بن الحكم و ال يوجد في الصحابة‬
‫من اسمه عمر بن الحكم تص على ذلك ابن عبد البر في التمهيد (‪ )13‬و باقي رواته‬
‫يروونه عن معاوية ابن الحكم فإذا أردنا أن ند ِّقق نقول‪ :‬هذا اضطراب في السند؛‬
‫بن الحكم صحابيٌّ ‪،‬‬ ‫بن الحكم تابعيٌّ أنصاريٌّ مدنيٌّ معروف‪ ،‬ومعاوي َة َ‬ ‫ألنَّ عمر َ‬
‫ك مُصِ رٌّ على أ َّنه عمر بن الحكم‪ ،‬ولم ُيقِرَّ أ َّنه سها أو أخطأ‪ ،‬ي ُد ُّل لذلك ما‬ ‫ومال ٌ‬
‫أخرجه أبو الفضل السليماني‪ ،‬أنَّ معن بن عيسى قال لمالك‪ :‬الناس يقولون‪ :‬إ َّنك‬
‫ُتخطئ في أسامي الرجال‪ ،‬تقول‪ :‬عمر بن الحكم‪ ،‬وإ َّنما هو معاوية‪ ،‬فقال مالك‪ :‬هذا‬
‫ِفظ َنا‪ ،‬وهكذا وقع في كتابي(‪14‬‬ ‫‪).‬ح ُ‬
‫وقال اإلمام الشافعيُّ ‪( :‬وهو ‪ -‬أي‪ :‬راوي الحديث ‪ -‬معاوية بن الحكم‪ ،‬وكذلك رواه‬
‫‪).‬غي ُر مالكٍ ‪ ،‬وأظنُّ مالكا ً لم يحفظِ اس َمه)(‪15‬‬
‫إذاً االضطراب واق ٌع ال يُد َفع؛ إذ ال يمكن أن تكون الرواية عن عمر بن الحكم‬
‫التابعيِّ ؛ أل َّنه مصرِّ ٌح بالصالة مع رسول هللا صلَّى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬ويروي القص َة‬
‫عن نفسه أ َّنه أتى رسو َل هللا صلَّى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬وال يقال‪ :‬إنَّ مالكا ً أخطأ أو سها؛‬
‫إذ قد مرَّ إصرا ُرهُ أ َّنه عمر بن الحكم‪ ،‬هذا من حيث السن ُد‪ ،‬أمَّا من حيث المتنُ ؛ فبين‬
‫رواية مسلم ورواية مالك اختالف في المعنى‪ ،‬إذ في رواية مالك يقول‪( :‬و َعلَيَّ‬
‫رقبة‪ ،‬أفأعتقها؟)‪ ،‬وهذا يفيد أنَّ عليه نذراً سابقاً‪ ،‬وعند مسلم يقول‪( :‬فعظم ذلك عليَّ ‪،‬‬
‫تبرئة لذمَّته مِن‬ ‫ً‬ ‫قلت‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬أفال أعتقها؟)‪ ،‬فهذه الرواية تفيد أ َّنه إ َّنما أعتقها‬ ‫ُ‬
‫الضرب بالعتق‬
‫َ‬ ‫‪.‬ضربها ليكافئ‬
‫وربَّما تقول ما الفرق؟‬
‫ُ‬
‫والجواب‪ :‬أ َّنه إن كان إ َّنما أعتقها براءة لذمَّته بسبب لطمها‪ ،‬فال يُش َت َرط فيها اإليمان؛‬
‫ألنَّ النبي صلَّى هللا عليه وسلَّم قال‪َ ( :‬من لَ َط َم مملو َكه أو َ‬
‫ض َر َب ُه فك َّفار ُت ُه أن‬
‫يُعت َقهُ)(‪ .)16‬فما وجه الجواب في رواية مسلم بـ‪« :‬فإ َّنها مؤمنة»؟!! مع أنَّ هذا‬
‫اللف َظ لم يُذ َكر في أكثر الروايات‪ ،‬بل في رواية عبد الرزاق اآلتية قال له صلَّى هللا‬
‫عليه وسلَّم‪« :‬أعتق أو أمسك»‪ ،‬وهذا اضطرابٌ في المتن الختالف اللفظِ ‪ ،‬ال يُنكره‬
‫إالَّ معاند؛ ألنَّ الحكم أيضا ً يختلف كما ال يخفى‪ ،‬ففي رواية مالك‪ :‬قال الصحابيُّ ‪:‬‬
‫رقبة مؤمنة)‪ ،‬فأجابه صلَّى هللا عليه وسلَّم بقوله‪« :‬أعتقها»‪ ،‬ولم يقل‪«:‬فإ َّنها‬ ‫ٌ‬ ‫( َعلَيَّ‬
‫مؤمنة»‪ ،‬مع أ َّنه موضعها‪ ،‬وفي رواية مسلم‪ :‬أ َّنه جاء يستشيره في عتقها‪ ،‬فكان‬
‫الجواب‪« :‬فإ َّنها مؤمنة»‪ ،‬وأيضا ً رواية الدارمي حيث قال الصحابي‪« :‬إنَّ على أمِّي‬
‫رقبة»‪ ،‬ولم يقيِّدها باإليمان‪ ،‬ثم كان الجواب ‪« :‬فإ َّنها مؤمنة»‪ ،‬وهذا فيه مخالفة‬ ‫ً‬
‫‪.‬واضطرابٌ بين السؤال والجواب كما ال يخفى‪ ،‬وسيأتي لهذا االختالف فائدة فانتظر‬
‫وقلت‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫بن يسار‪،‬‬ ‫وكالمنا اآلن يجب أن يُتنبَّه له‪ ،‬قد أشرت له عندما ذكرت عطاء َ‬
‫‪:‬إنَّ لنا معه شأناً‪ ،‬وهذا هو‬
‫روى عبد الرزاق عن ابن جريج قال‪( :‬أخبرني عطاء ‪ -‬وهو راوي حديث معاوية‬
‫بن الحكم ‪ -‬أنَّ رجالً كانت له جارية في غنم ترعاها‪ ،‬وكانت شاة صفي ‪ -‬يعني‪:‬‬
‫غزيرة في غنمه تلك ‪ -‬فأراد أن يعط َيها نبيَّ هللا صلَّى هللا عليه وسلَّم‪ ،‬فجاء الس ُب ُع‬
‫ك وجه جاريته‪ ،‬فجاء نبيَّ هللا صلَّى هللا عليه‬ ‫فانتزع ضرعها‪ ،‬فغضب الرجل‪ ،‬فص َّ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫فذكر ذلك له‪ ،‬وذكر أ َّنها كانت عليه رقبة مؤمنة وافية‪ ،‬قد َه َّم أن يجعلَها إيَّاها‬ ‫َ‬ ‫وسلَّم‪،‬‬
‫حين ص َّكها‪ ،‬فقال له النبيُّ صلَّى هللا عليه وسلَّم‪« :‬إيتيني بها»‪ ،‬فسألها النبيُّ صلَّى‬
‫هللا عليه وسلَّم‪« :‬أتشهدين أن ال إله إال هللا؟»‪ ،‬قالت‪ :‬نعم‪« ،‬وأن محمَّداً عبد هللا‬
‫حق؟»‪ ،‬قالت‪ :‬نعم‪« ،‬وأن الجنة‬ ‫َ‬
‫والبعث ٌّ‬ ‫ورسوله؟»‪ ،‬قالت‪ :‬نعم‪« ،‬وأنَّ الموت‬
‫حق؟»‪ ،‬قالت‪ :‬نعم‪ ،‬فلمَّا فرغ قال‪« :‬أعتق أو أمسك»)(‪17‬‬ ‫‪).‬والنار ٌّ‬
‫وأنا أريد منك أن تحكم اآلن‪ :‬ما الفرق بين هذه القصة والقصة التي عند مالك؟‬
‫أليست عي َنها؟ فإ َّنه قال في رواية مالك‪( :‬و َعلَيَّ رقبة)‪ ،‬وهذه مثلها‪ ،‬وفي رواية مالك‬
‫قال‪« :‬أين هللا؟»‪ ،‬وفي هذه الرواية قال‪« :‬أتشهدين أن ال إله إال هللا»‪ ،‬وعطاء بن‬
‫يسار هو الذي روى القصة نف َسها عن معاوية بن الحكم‪ ،‬لك َّنه هنا أبهمه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫«رجالً»‪ ،‬ومسلم قال‪« :‬معاوية بن الحكم»‪ ،‬وانظر ماذا سألها النبيُّ صلَّى هللا عليه‬
‫ك كثي ٌر‬ ‫وسلَّم َتعرفْ كيف يتصرَّ فُ الرواة بألفاظ الحديث‪ ،‬فتق ُع َّ‬
‫الطامَّة‪ ،‬ومن هنا َت َر َ‬
‫من األئ َّم ِة ال َّنحْ ويِّين االحتجا َج بالحديث؛ لتصرُّ ف الرواة بألفاظه‪ ،‬علما ً أ َّنه ال يُسلَّم‬
‫لهم ما ذهبوا إليه‪ ،‬فما تصرَّ ف فيه الرواة واضح جليّ ‪ ،‬وأكثر النقلة من أهل الثقة‬
‫واألمانة ينقلون الحديث مع الضبط واإلتقان كما روي مع بيان مواضع الشك إن‬
‫‪.‬وجدت‪ ،‬ولهذا تفصيل وبيا ن ليس محله ههنا‬
‫ث َّم شأننا اآلن مع الراوي الثاني‪ ،‬وهو يحيى بن أبي كثير‪ ،‬وبيان كيف يتصرَّ ف‬
‫الراوي بالرواية‪ ،‬فقد روى عبد الرزاق في «مصنفه»‪( :‬عن معمر‪ ،‬عن يحيى بن‬
‫جارية له‪ ،‬فجاء بها النبيَّ صلَّى هللا عليه وسلَّم يستشيره‬ ‫ً‬ ‫ك رج ٌل‬‫أبي كثير‪ ،‬قال‪ :‬ص َّ‬
‫في عتقها‪ ،‬فقال لها النبيُّ صلَّى هللا عليه وسلَّم‪« :‬أين ربك؟»‪ ،‬فأشارت إلى السماء‪،‬‬
‫ت‬‫البعث بعد المو ِ‬ ‫َ‬ ‫قال‪« :‬من أنا؟»‪ ،‬قالت‪ :‬أنت رسول هللا‪ ،‬قال‪ :‬أحسبه أيضا ً ذكر‬
‫‪).‬والج َّنة والنار‪ ،‬ثم قال‪« :‬أعتقها؛ فإ َّنها مؤمنة»)(‪18‬‬
‫عين القصة التي عند مسلم؟ حيث قال هنا‪( :‬فجاء‪ ...‬يستشيره)‪ ،‬ولم يقل‪:‬‬ ‫أليست هذه َ‬
‫رقبة مؤمنة)‪ ،‬وقال هنا‪«( :‬أين َربُّكِ ؟»‪ ،‬فأشارت إلى السماء)‪ ،‬ورواية مسلم‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫( َعلَيَّ‬
‫(قالت‪ :‬في السماء)‪ ،‬ويحيى بنُ أبي كثير هو نف ُس ُه راوي القصة التي عند مسلم وعب ِد‬
‫‪.‬الرزاق‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫ص َة واحدةٌ واأللفاظ مختلفة‪ ،‬ث َّم أيُّ األلفاظ ُتوافق اإليمان؟ وهل‬ ‫ك أنَّ الق َّ‬
‫هل بقي ش ٌّ‬
‫عن النبيِّ صلَّى هللا عليه وسلَّم أ َّنه حكم على أحد باإليمان بمجرَّ ِد اعتقاده أنَّ هللا‬ ‫ورد ِ‬
‫ت المضطربة‪ ،‬ث َّم انظر كيف صرَّ ح الراوي بش ِّكه‬ ‫في السماء في غير هذه الروايا ِ‬
‫في رواية عبد الرزاق عن يحيى‪ ،‬فقال‪« :‬أحسبه أيضا ً ذكر البعث بعد الموت‪،»...‬‬
‫مع أ َّنه في رواية عبد الرزاق السابق ِة عن عطاء قد جزم بذلك‪ ،‬وانتظر ما يُوضِّح لك‬
‫‪.‬األمر أكثر‬
‫َ‬
‫حديث الجارية عن معاوية بن الحكم‪ ،‬ثم‬ ‫َ‬ ‫روى الحافظ المزيُّ في «تحفة األشراف»‬
‫عن عمر بن الحكم كما عند مالك‪ ،‬إلى أن قال‪ ...( :‬ورواه سعيد بن زيد أخو حماد‬
‫بن سلمة‪ ،‬عن توبة العنبري‪ ،‬عن عطاء بن يسار‪ ،‬قال‪ :‬حدثني صاحب هذه الجارية‬
‫لفظ ُه كما ساقه الحافظ الذهبيُّ بإسناده إلى سعيد‬ ‫نف ُسهُ‪ ،‬ولم يس ِّم اس َمهُ)(‪ ،)19‬وهذا ُ‬
‫بن زيد‪ ...( :‬نا سعيد بن زيد‪ ،‬نا توبة العنبري‪ ،‬حدثني عطاء بن يسار‪ ،‬حدثني‬
‫صاحب الجارية نف ُسهُ‪ ،‬قال‪ :‬كانت لي جارية ترعى‪ ...‬الحديث‪ ،‬وفيه‪ :‬فم َّد النبيُّ‬
‫صلَّى هللا عليه وسلَّم ي َده إليها‪ ،‬وأشار إليها مستفهماً‪َ :‬من في السماء؟ قالت‪ :‬هللا‪،‬‬
‫‪).‬قال‪«:‬ف َمن أنا؟»‪ ،‬قالت‪ :‬أنت رسول هللا‪ ،‬قال‪«:‬أعتقها؛ فإ َّنها مسلمة»)(‪20‬‬
‫ُ‬
‫واللفظ‬ ‫ورواية الحافظِ الم ِِّزيِّ إسنا ُدها إلى صاحب الجارية نفسِ ِه حسنٌ كما ترى‪،‬‬
‫مختلِفٌ تماماً؛ فإ َّنه صلَّى هللا عليه وسلَّم أشار إليها مستفهماً‪ ،‬ولم يسألها قوالً‪ ،‬ثم‬
‫انظر رواية عبد الرزاق عن يحيى‪( :‬فأشارت إلى السماء) لي َّتضح لك األمرُ‪ ،‬وي ُدلَّك‬
‫‪.‬أنَّ الراوي تصرَّ ف به‪ ،‬ففعل بالمعنى ما تراه من االضطراب‬
‫ضعِّفُ راويه‬ ‫الحسن يهد ُم عليه فسا َد معتقده راح ُي َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الحديث‬ ‫واأللبانيُّ لما رأى هذا‬
‫حديث عطاء عن صاحب الجارية نفسِ ِه ال‬ ‫َ‬ ‫بن زيد‪ ،‬فقال‪( :‬وإذا َعل َ‬
‫ِمت أنَّ‬ ‫سعي َد َ‬
‫يص ُّح مِن ِق َب ِل إسناده؛ أل َّنه من رواية سعيد بن زيد‪ ،‬فهو وإن كان في نفسه صدوقاً‪،‬‬
‫فليس قويَّ الحفظ‪ ،‬ولذلك ضعَّفه جمعٌ‪ ،‬بل كان يحيى بن سعيد يضعفه ج ّداً‪ ،‬وقد‬
‫‪).‬أشار الحافظ في «التقريب» إلى هذا فقال‪ :‬صدوق له أوهام‪21()...‬‬
‫وصف األلبانيَّ بقوله‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ث ال ِّديار المغربيَّة عبد العزيز الغماريَّ حيث‬ ‫رحم هللا مح ِّد َ‬
‫(يختر ُع القواعد على حسب ما يظهر له ويري ُده فهمُه‪ ،‬ولهذا تجده في كالمه على‬
‫ُثبت‪ ،‬ويُبط ُل بما يخالفُ هو نف َس ُه إذا اقتضى نظ ُرهُ‪،‬‬ ‫األحاديث يصحِّ حُ‪ ،‬ويضعِّفُ ‪ ،‬وي ُ‬
‫وجدالُهُ‪ ،‬وخصا ُمهُ‪ ،‬ولَ َد ُدهُ ذلك؛ ألنَّ قواع َدهُ مبعثرةٌ‪ ،‬فال هي تابعة ألهل الحديث‪ ،‬وال‬
‫ض ُه بذلك الهربُ من الوقوع في يد خصمه؛ إذ وقع‬ ‫ألهل األصول‪ ،‬وال للفقهاء‪ ،‬وغر ُ‬
‫ألخرج منها كتابا ً‬ ‫َ‬ ‫من األقوال الشاذة الواهية وهي كثيرة‪ ...‬بحيث لو تتبَّعها اإلنسانُ‬
‫الشاق‪ ،‬يصلح أن يكون ذيالً لكتاب «أخبار‬ ‫ّ‬ ‫وقت االستراحة من العمل‬ ‫َ‬ ‫مفيداً للفُكاهة‬
‫‪).‬الحمقى والمغفلين» البن الجوزيِّ رحمه هللا تعالى)(‪22‬‬
‫كتاب األلبانيِّ‬‫َ‬ ‫َ‬
‫أخذت‬ ‫والحق أنَّ األمر أكثر ممَّا قاله المح ِّد ُ‬
‫ث الغماريُّ ؛ أل َّنك لو‬ ‫ُّ‬
‫«إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل» ونظرت في الجزء الخامس منه‪،‬‬
‫لرأيت تناقضه كما هو شأنه‪ ،‬حيث قال عند الكالم على حديث‬ ‫َ‬ ‫في الصفحة (‪،)338‬‬
‫(قلت ‪ -‬أي‪ :‬األلبانيُّ ‪ :-‬وهذا إسنا ٌد حسنٌ ‪ ،‬رجال ُ ُه كلُّهُم‬ ‫ُ‬ ‫ابن عمر في سبق الخيل‪:‬‬
‫حديث ُه عن‬ ‫ُ‬ ‫ثقات‪ ،‬وفي سعيد بن زيد ‪ -‬وهو أخو حماد بن زيد ‪ -‬كال ٌم ال ينزل به‬
‫ٌ‬
‫حديث‬ ‫رتبة الحسن إن شاء هللا‪ ،‬وقال ابن القيم في «الفروسية» (ص‪«:)20‬وهو‬
‫‪َ ).‬ج ِّي ُد اإلسناد»‪23()...‬‬
‫أليس هذا عجباً!! فإ َّنه لمَّا كانت رواية سعيد بن زيد في سبق الخيل ولم تتعلَّق بما‬
‫يخالف هواه َج َع َل حدي َثه ال ينزل عن رتبة الحسن‪ ،‬ولكن لما وُ ِج َد في حديث الجارية‬
‫الحديث بهِ‪ ،‬فتعجَّ ب ما بدا لك أن تعجب‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫!!ما يخالف عقيد َته َ‬
‫ض َّع َ‬
‫ث سعي ِد بن زيد حسنا ً هو الصوابُ عند َمن يخاف مواله ويخالف هواه‪،‬‬ ‫وكونُ حدي ِ‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫فقد ذكر سعي َد بن زيد هذا الحافظ الذهبيُّ في كتابه « َمن ُت ُكل َم فيه وقد وُ ثق»‪ ،‬وقد‬
‫حديثهُم في أعلى مراتب الصِ حَّ ة‪ ،‬فال ينزل عن‬ ‫ُ‬ ‫قال في أَ َّولِهِ‪( :‬فهؤالء إن لم يكن‬
‫‪).‬رتبة الحسن)(‪24‬‬
‫ثم هو من رجال مسلم‪ ،‬فقد احت َّج به في «صحيحه»‪ ،‬واستشهد به البخاريُّ أيضاً‪،‬‬
‫َف َعلَّ َق له في مواضع من «صحيحه»(‪ ،)25‬قال الحافظ الذهبي في كتابه «الموقظة‬
‫في علم مصطلح الحديث»‪( :‬فما في الكتابين رج ٌل احت َّج به البخاريُّ أو مسل ٌم في‬
‫حة)(‪26‬‬ ‫حسنة أو صحي ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫ضعيفة‪ ،‬بل‬ ‫‪).‬األصول‪ ،‬ورواي ُت ُه‬
‫بن حربٍ‪،‬‬ ‫وسليمان ِ‬
‫َ‬ ‫وابن سعد‪،‬‬‫ِ‬ ‫ِين‪،‬‬
‫توثيق األئمَّة له؛ كابن َمع ٍ‬ ‫َ‬ ‫زد على ذلك‬
‫والعِجليِّ (‪ ،)27‬أمَّا اإلما ُم البخاريُّ ؛ فقد قال فيه‪ :‬صدوق حافظ‪ ،‬ورضيه عبد‬
‫الرحمن بن مهدي(‪ ،)28‬وقال فيه ابن عدي بعد أن ساق عنه جملة أحاديث له‪:‬‬
‫ولسعيد بن زيد غير ما ذكرت أحاديث حسان‪ ،‬وليس له متنٌ مُنك ٌر ال يأتي به غيره‪،‬‬
‫‪).‬وهو عندي في جملة َمن ينسب إلى الصدق(‪29‬‬
‫حسنة شأ ُنها شأنُ رواية اإلمام مسلم كما يأتي‪ ،‬وهي تفيد‬ ‫ٌ‬ ‫فرواية الحافظِ الم ِِّزيِّ إذاً‬
‫أنَّ السؤا َل إ َّنما وقع باإلشارة‪ ،‬دون قوله‪« :‬أين هللا؟»؛ ألنَّ القول يُطلق على الفعل‬
‫‪.‬واإلشارة كما سيأتي‬
‫وروى اإلمام مالك في «الموطأ»‪( :‬عن ابن شهاب‪ ،‬عن عبيد هللا بن عبد هللا بن‬
‫عتبة بن مسعود‪ :‬أن رجالً من األنصار جاء إلى رسول هللا صلَّى هللا عليه وسلَّم‬
‫كنت تراها مؤمنة‬ ‫بجارية له سوداء‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول هللا‪ :‬إنَّ عليَّ رقبة مؤمنة‪ ،‬فإن َ‬
‫أعتقها‪ ،‬فقال لها رسول هللا صلَّى هللا عليه وسلَّم‪« :‬أتشهدين أن ال إله إال هللا؟»‪،‬‬
‫قالت‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪« :‬أتشهدين أن محمداً رسول هللا؟»‪ ،‬قالت‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪« :‬أتوقنين‬
‫بالبعث بعد الموت؟»‪ ،‬قالت‪ :‬نعم‪ ،‬فقال رسول هللا صلَّى هللا عليه وسلَّم‪:‬‬
‫‪«).‬أعتقها»)(‪30‬‬
‫‪.‬فهذه الرواية هي التي توافق األصول‪ ،‬فقد أقرَّ ت باإليمان‬
‫ثم ُن َن ِّب ُه هنا أنَّ الكال َم في بيان أنَّ الحديث إ َّنما يكون مضطربا ً إذا تساوت الروايات‬
‫أحفظ‪ ،‬فينتفي االضطراب‪ ،‬وي َ‬
‫ُؤخذ‬ ‫َ‬ ‫صِ حَّ ًة ولم ُت َرجَّ ح إحداها‪ ،‬أمَّا إذا كان أح ُد الرواة‬
‫ك الرواي ُة األضعفُ‬ ‫تر ُ‬‫‪.‬بالرواية األصحِّ‪ ،‬و ُت َ‬
‫قال اإلمام النوويُّ في «التقريب»‪( :‬المضطرب هو الذي يروى على أوجه مختلفة‬
‫متقاربة‪ ،‬فإن رجحت إحدى الروايتين بحفظ رُواتها‪ ،‬أو كثر ِة صحبته المروي عنه‪،‬‬
‫ضعف‬
‫َ‬ ‫غير ذلك؛ فالحكم للراجحة‪ ،‬وال يكون مضطرباً‪ ،‬واالضطراب يُوجب‬ ‫أو ِ‬
‫الحديث؛ إلشعاره بعدم الضبط‪ ،‬ويقع في اإلسناد تارة‪ ،‬وفي المتن أخرى‪ ،‬وفيهما‪،‬‬
‫راو‪ ،‬أو جماعة)(‪31‬‬ ‫‪).‬مِن ٍ‬
‫فال ريب أنَّ رواية اإلمام عبد الرزاق الصنعانيِّ عن عطاء أص ُّح من رواية اإلمام‬
‫مسلم سنداً ومتناً‪ ،‬ف ُت َق َّدم عليها‪ ،‬و ُتترك رواية مسلم‪ ،‬و َمن أبى الترجي َح فقد أبقى‬
‫‪.‬االضطراب ال محالة‬
‫َ‬
‫مرسلة لعدم ذِكر الصحابي؟‬ ‫ٌ‬ ‫قلت‪ :‬رواية عطا ٍء‬ ‫فإن َ‬
‫فالجواب‪ :‬أنَّ عطا ًء رواه عن صاحب الجارية نفسِ هِ‪ ،‬وقد لَ ِق َي ُه كما في رواية الحافظِ‬
‫‪.‬الم ِِّزيِّ ‪ ،‬حيث قال‪( :‬حدثني صاحبُ الجاري ِة نف ُسهُ)‪ ،‬فال تغفل‬
‫فق على صِ حَّ تها(‪)32‬؛ فإنَّ الرجل‬ ‫ٌ‬
‫ثابتة م َّت ٌ‬ ‫وال يهول َّنك زعْ ُم األلبانيِّ أنَّ رواية مسلم‬
‫والتدليس والتناقض‪ ،‬خصوصا ً عندما يريد‬ ‫ِ‬ ‫علم معروفٌ عند أهل العلم بالكذب‬ ‫دَعِ يُّ ٍ‬
‫ودفع كالم الغير‪ ،‬وبيانُ ذلك أن نقول‬ ‫َ‬ ‫‪:‬تأيي َد مشربه‪،‬‬
‫والحافظ ابنُ عبد البَّر يقول في كتابه‬ ‫ُ‬ ‫فق على صِ حَّ تها‪،‬‬ ‫كيف ُي َّدعى أنَّ رواية مسلم م َّت ٌ‬
‫ٌ‬
‫حديث واح ٌد‬ ‫عن النبيِّ صلَّى هللا عليه وسلَّم‬ ‫«االستيعاب»‪( :‬معاوية بن الحكم له ِ‬
‫‪).‬حسنٌ في الكهانة‪ ...‬وفي عتق الجارية)(‪33‬‬
‫ويقول الحافظ ال َفسويُّ في كتابه «المعرفة والتاريخ» عند الكالم عن هالل بن أبي‬
‫ثقة َح َسنُ الحديث‪،‬‬ ‫حديث الجارية‪( :‬هال ٌل ٌ‬ ‫َ‬ ‫ميمون َة الذي يروي في مسلم عن عطا ٍء‬
‫أحاديث حِساناً)(‪34‬‬
‫َ‬ ‫بن يسار‬ ‫‪).‬يروي عن عطاء ِ‬
‫ُسن الذي هو الوصف‪ ،‬وليس الحك َم‬ ‫‪.‬فإن ا َّدعى ُم َّد ٍع أنَّ المراد بقوله‪( :‬حِساناً) الح َ‬
‫حديثهُ(‪،)35‬‬ ‫ُ‬ ‫فالجواب‪ :‬أنَّ هالل بن أبي ميمون َة قد قال فيه أبو حاتم الرازيُّ ‪ :‬يُكتب‬
‫وهو شي ٌخ(‪ ،)36‬وقال فيه النسائي‪ :‬ليس به بأس(‪ ،)37‬وهذا مِن أدنى ألفاظ التعديل؛‬
‫فحديث ُه يكون حسنا ً ال صحيحا ً‬ ‫ُ‬ ‫‪.‬و َمن كان هذا حاله‬
‫ِين على تصحيحه؟ هذا من حيث السند‪ ،‬وأمَّا من‬ ‫فأين دعوى األلبانيِّ ا ِّت َ‬
‫فاق الم َُح ِّدث َ‬
‫البيان‬
‫َ‬ ‫‪:‬حيث المتنُ ؛ فإليك‬
‫َّس األلبانيُّ وغشَّ وخان إذ أسقط من كالم الحافظ البيهقي ما يخالف هواه عند‬ ‫قد لَب َ‬
‫حديث الجارية الحاف َظ‬ ‫َ‬ ‫ذكر حديث مسلم في «مختصر العلو»‪ ،‬فزعم أنَّ ِممَّن صحَّ ح‬
‫ص ُه بحروفه‪ ،‬حيث قال‪( :‬والبيهقيُّ في «األسماء»‪ ،‬قال عقبه ‪ -‬أي‪:‬‬ ‫البيهقيَّ ‪ ،‬وهذا ن ُّ‬
‫ث الجارية ‪( -‬ص‪ :)422‬وهذا صحيح قد أخرجه مسلم)(‪38‬‬ ‫‪).‬عقب حدي ِ‬
‫ُّ‬
‫الحق‬ ‫لكن كالم الحافظ البيهقي خالف هذا تماماً‪ ،‬وإليك نصَّه بحروفه لي َّتض َح لك‬
‫ويظهر تلبيسُ هذه الطائفة‪ ،‬قال الحافظ البيهقيُّ رحمه هللا تعالى‪( :‬وهذا صحيحٌ‪ ،‬قد‬ ‫َ‬
‫أخرجه مسلم مقطعا ً من حديث األوزاعي‪ ،‬وح ّجاج الصواف‪ ،‬عن يحيى بن أبي‬
‫كثير‪ ،‬دون قصة الجارية‪ ،‬وأظ ُّنه ‪ -‬مُسلِما ً ‪ -‬إ َّنما تركها من الحديث الختالف الرواة‬
‫في لفظه‪ ،‬وقد ذكرت في كتاب الظهار من «السنن» مخالفة من خالف معاوية بن‬
‫)الحكم في لفظ الحديث‬
‫من كتاب رفع الغاشية‬
‫للشيخ العالمة‬
‫نضال إبراهيم آله رشي‬

‫الهوامش ‪:‬‬
‫‪---------------------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه الخالل في السنة ‪993 - 991‬‬
‫(‪ )2‬يريد حديث الجارية‬
‫(‪ )3‬المبسوط ‪ 4 / 7‬باب العتق في الظهار‬
‫(‪ )4‬رواه اإلمام أحمد في مواضع من " مسنده " منها ‪ 465/29 :‬برقم ‪ 7945‬و‬
‫أخرجه النسائي في السنن الكبرى ‪163/6‬‬
‫و أبو داود في سننه ص ‪ 477‬برقم ‪ 3283‬و ابن حبان ‪ 418/1‬كتاب األيمان و‬
‫النذور برقم ‪. 189‬‬
‫(‪ )5‬سنن الدارمي كتاب النذور و األيمان باب (إذا كان على الرجل رقبة مؤمنة)‬
‫ص ‪ 325‬برقم ‪. 2384‬‬
‫(‪ )6‬صحيح أبي داود ‪ 322/2‬الرقم ‪. 3283‬‬
‫(‪ )7‬رواه اإلمام مسلم في صحيحه ‪ 20/5‬بشرح اإلمام النووي كتاب الصالة باب‬
‫تحريم الكالم في الصالة برقم ‪. 537‬‬
‫(‪ )8‬معجم الصحابة ‪ 73/3‬برقم ‪ 1027‬ترجمة الصحابي معاوية بن الحكم ‪.‬‬
‫(‪ )9‬سير أعالم النبالء ‪. 256/15‬‬
‫(‪ )10‬تاريخ بغداد ‪ 88/11‬و انظر لسان الميزان ‪ 50/5‬برقم ‪ 4538‬ترجمة عبد‬
‫الباقي بن قانع أبي الحسين الحافظ ‪.‬‬
‫(‪ )11‬تاريخ بغداد ‪ 281/1‬و ذكره اإلمام ابن الجزري في غاية النهاية في طبقات‬
‫القراء و قال عنه ‪ :‬القاضي مقري ثقة مشهور و نقل توثيقه عن الخطيب البغدادي و‬
‫غيره ‪.‬‬
‫(‪ )12‬موطأ مالك كتاب العتق و الوالء باب ما يجوز من العتق في الرقاب الواجبة‬
‫ص ‪. 555‬‬
‫(‪ )13‬التمهيد ‪. 76/22‬‬
‫(‪ )14‬ذكر ذلك اإلمام الزرقاني في شرحه على الموطأ ‪ 107/4‬كتاب العتق و‬
‫الوالء باب ما يجوز من العتق في الرقاب الواجبة رقم ‪. 1550‬‬
‫(‪ )15‬الرسالة لإلمام الشافعي ص ‪ 76‬رقم ‪. 243‬‬
‫(‪ )16‬رواه اإلمام مسلم في صحيحه ‪ 126/11‬بشرح النووي كتاب األيمان باب‬
‫صحبة المماليك رقم ‪. 1657‬‬
‫(‪ )17‬مصنف عبد الرزاق ‪ 175/9‬رقم ‪ 16815‬باب ما يجوز من الرقاب ‪.‬‬
‫(‪ )18‬مصنف عبد الرزاق ‪ 176/9‬رقم ‪ 16816‬باب ما يجوز من الرقاب ‪.‬‬
‫(‪ )19‬تحفة األشراف ‪ 216/10‬رقم ‪. 11378‬‬
‫(‪ )20‬العلو للعلي الغفار ص ‪ 120‬رقم ‪ 5‬و إذا أمعنت النظر تجد أن حديث مسلم‬
‫و مالك و عبد الرزاق و المزي واحد و تكون الجارية خرساء لكن الرواة ذكروا‬
‫القول بدل اإلشارة و هذا مستعمل في اللغة كما سيأتي ‪.‬‬
‫(‪ )21‬مختصر العلو ص ‪ 82‬في أثناء رده على اإلمام الزاهد الكوثري ‪.‬‬
‫(‪ )22‬بيان نكث الناكث ص ‪. 52‬‬
‫(‪ )23‬إرواء الغليل ‪ 338/5‬برقم ‪. 1507‬‬
‫(‪ )24‬من تكلم فيه و قد وُ ثق ص ‪. 65‬‬
‫(‪ )25‬يقول اإلمام ابن التركماني في كتابه الجوهر النقي ‪ : 112/6‬استشهد به ‪ -‬أي‬
‫سعيد بن زيد ‪ -‬البخاري و مسلم ‪.‬‬
‫و وثقه الحافظ الهيثمي في كتابه مجمع الزوائد ‪ 482/1‬برقم ‪ 996‬فكيف يُلتفت بعد‬
‫ذلك إلى دعوى تضعيف األلباني له هذا مع تناقضه فيه ؟!!‬
‫(‪ )26‬الموقظة في علم مصطلح الحديث ص ‪. 80‬‬
‫(‪ )27‬معرفة الثقات ‪ 399/1‬رقم ‪ 590‬و انظر تهذيب التهذيب ‪. 32/4‬‬
‫(‪ )28‬تهذيب التهذيب ‪. 32/4‬‬
‫(‪ )29‬الكامل في الضعفاء ‪ 425/4‬رقم ‪ 406‬و به يتبين لك مدى صحة ما ذكره‬
‫األلباني في مختصر العلو ص ‪ 82‬حيث قال ‪:‬‬
‫ما جاء في روايته ‪ -‬أي سعيد بن زيد ‪ -‬من ذكر اليد و االستفهام هو مما تفرد به‬
‫دون كل من روى هذا الحديث من الرواة الحفاظ و من دونهم فتفرده بذلك يعده أهل‬
‫العلم بالحديث منكرا بال ريب ؟! و ما ندري من هم أهل العلم الذين عناهم ؟!!‬
‫(‪ )30‬موطأ مالك كتاب العتق و الوالء باب ما يجوز من العتق في الرقاب الواجبة‬
‫ص ‪. 555‬‬
‫(‪ )31‬التقريب مع شرحه تدريب الراوي ‪. 220/1‬‬
‫(‪ )32‬و ذلك في كتابه مختصر العلو ص ‪ 82‬عند الكالم على حديث سعيد بن زيد ‪:‬‬
‫" فمد النبي صلى هللا عليه و سلم يده إليها و أشار مستفهما ‪ :‬من في السماء ؟ "‬
‫حيث تعرض لإلمام الكبير المحدث الزاهد الكوثري بالذم و اتهمه بمحاولة التشكيك‬
‫و قد بينا صحة ما ذهب إليه الكوثري من تحسين الحديث و بطالن ما ادعاه هذا‬
‫اللصيق و تناقضه في الحكم على سند الحديث و هنا نتابع الرد عليه فيما بقي من‬
‫تخبطاته و تدليساته المكشوفة التي أودعها ص ‪ 82‬من مختصره ‪.‬‬
‫(‪ )33‬االستيعاب في معرفة االصحاب ‪. 1414/3‬‬
‫(‪ )34‬المعرفة و التاريخ ‪. 270/2‬‬
‫(‪ )35‬يقول الذهبي في سيره ‪ : 360/6‬قد علمت باالستقراء التام أن أبا حاتم‬
‫الرازي إذا قال في رجل ‪ :‬يكتب حديثه أنه عنده ليس بحجة ‪.‬‬
‫(‪ )36‬انظر الجرح و التعديل البن أبي حاتم ‪ 76/9‬رقم ‪ 300‬وقول أبي حاتم ‪:‬‬
‫شيخ يراد بالشيخ الضعيف كما في الجرح و التعديل ‪ 109/6‬و عند الذهبي قولهم‬
‫شيخ ليس بجرح و ال تعديل و قول ثالث ‪ :‬أنه من أدنى ألفاظ التعديل ‪.‬‬
‫(‪ )37‬انظر تهذيب الكمال ‪ 344/30‬رقم ‪. 6626‬‬
‫(‪ )38‬مختصر العلو ص ‪. 82‬‬

You might also like