Professional Documents
Culture Documents
تفسير سورة التوبة آية 60
تفسير سورة التوبة آية 60
آية ٦٠
من كتب التفاسير المعتبرة
ام ِلينَ عَ لَ ْي َها َو ْالمُ َؤ َّل َف ِة ُق ُلوب ُُه ْم َو ِفي
اكين ِ َو ْالعَ ِ
اء َو ْال َم َس ِ
ات ِل ْل ُف َقرَ ِ
الص َد َق ُِإ َّن َما َّ
يض ًة ِمنَ اهَّلل ِ َواهَّلل ُ عَ لِيمٌ الس ِبيل ِ َف ِر َ ين َو ِفي َس ِبيل ِ اهَّلل ِ َوابْن ِ َّ اب َو ْال َغ ِ
ار ِم َ2 الر َق ِ
ِّ
َح ِكيمٌ
{ َو ْال ُمَؤ َّل َف ِة} كفار ومسلمون ،فالمسلمون منهم ضعيف النية في اإلسالم فيتألف تقوية لنيته كعيينة بن
ً
تألفا لعشيرته من بدر واألقرع بن حابس والعباس بن مرداس ،ومنهم من حسن إسالمه لكنه يعطى
ً
دفعا ألذاه كعامر المشركين كعدي بن حاتم ،والمشركون منهم من يقصد أذى المسلمين فيتألف بالعطاء
بن الطفيل ،ومنهم من يميل إلى اإلسالم فيتألف بالعطاء ليؤمن كصفوان بن أمية ،فهذه أربعة أصناف،
وكان الرسول صلى اهلل عليه وسلم يعطي هؤالء ،وبعد هل يعطون؟ فيه قوالن :ألن اهلل تعالى قد أعز
آء َف ْل َيكْ ُف ْر} [الكهف.]29 :
آء َف ْل ُيْؤ ِمن َو َمن َش َ
الدين { َف َمن َش َ
{الرِّ َق ِ
اب} المكاتبون ،أو عبيد يشترون ويعتقون.
نجومهم ،وقيل:
ِ عان المكا َتبون بشيء منها على أداء
وللصرف في فك الرقاب بأن يُ َ َّ { َو ِفي الرقاب} أي
ذكرهم ُ الرقاب فتُ عتقً ، بأن يُ فدَ ى اُألسارى وقيل :بأن يُ بتاع منها
وأيا ما كان فالعدول عن الالم لعدم ِ ُ
ملكهم فيما أعطوا كما في
قرار ِ
ِ مصححٍ للمالكية واالختصاص كالذين من قبلهم أو لإليذان بعدم ّ بعنوان
الصدقة
ِ رأسا كما في الوجه األخير أو لإلشعار برسوخهم في استحقاق ً الوجهين األولين أو بعدم ثبو ِته
َ
ومركزها. َّ
محلها المنبئة عن إحاطتهم بها وكو ِنهم
ِ لما أن {في} للظرفية
ٌ
فاضل عن ديونهم وكذلك نصاب
ٌ معصية إذا لم يكن لهمٍ والغارمين} أي الذين تداينوا ألنفسهم في غير
وإطفاء الثائرة بين القبيلتين وإن كانوا أغنياء
ِ ذات البين
رم إلصالح ِالشافعي رضي اهلل عنه ُغ ٍ
ِّ عند
والمنقط ِع بهم
َ الغزاة والحجيج
ِ فقراء
ِ { َو ِفى َس ِبيل ِ اهلل} أي
استحقاقهم
ِ ومراتب
ِ الناس
ِ يم} بأحوال
{واهلل عَ ِل ٌ
.3تفسير البيضاوي
ولهُ } ما أعطاهم الرسول من الغنيمة أو الصدقة ،وذكر اهلل للتعظيم { َولَ ْو َأ َّنهُ ْم َر ُض ْو ْا َما ءاتاهم اهلل َو َر ُس ُ
وا َح ْس ُبنَا اهلل} كفانا فضله وللتنبيه على أن ما فعله الرسول عليه الصالة والسالم كان بأمرهَ { .و َق ُال ْ
ولهُ } فيؤتينا أكثر مما آتاناِ{ .إ َّنا ِإ لَى اهلل { َس ُيْؤ ِتينَا اهلل ِمن َف ْض ِل ِه} صدقة أو غنيمة أخرىَ { .و َر ُس ُ
راغبون} في أن يغنينا من فضله ،واآلية بأسرها في حيز الشرط ،والجواب محذوف تقديره { َخ ْي ً
را
وتحقيقا لما فعله الرسول صلى اهلل عليه وسلم فقال: ً ً
تصويبا َّلهُ ْم} .ثم بين مصارف الصدقات
{ِإ َّن َما الصدقات ِل ْل ُف َق َر اء والمساكين} أي الزكوات لهؤالء المعدودين دون غيرهم ،وهو دليل على أن المراد
ً
موقعا من حاجته من باللمز لمزهم في قسم الزكوات دون الغنائم .والفقير من ال مال له وال كسب يقع
الفقار كأنه أصيب فقاره .والمسكين من له مال أو كسب ال يكفيه من السكون كأن العجز أسكنه ،ويدل
عليه قوله تعالى:
{َأ َّما السفينة َفكَا َن ْت لمساكين} وأنه صلى اهلل عليه وسلم كان يسأل المسكنة ويتعوذ من الفقر .وقيل
بالعكس لقوله تعالىِ { :م ْس ِك ً
ينا َذا َمتْ َرب ٍَة}
{والمؤلفة ُق ُلو ُبهُ ْم} قوم أسلموا ونيتهم ضعيفة فيه فيستأنف قلوبهم أو أشراف قد يترتب بإعطائهم
ومراعاتهم إسالم نظرائهم ،وقد أعطى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عيينة بن حصن واألقرع بن
حابس والعباس بن مرداس لذلك .وقيل أشراف يستألفون على أن يسلموا فإن النبي صلى اهلل عليه
وسلم كان يعطيهم واألصح أنه كان يعطيهم من خمس الخمس الذي كان خاص ماله وقد عد منهم من
يؤلف قلبه بشيء منها على قتال الكفار ومانعي الزكاة .وقيل كان سهم المؤلفة لتكثير سواد اإلسالم
فلما أعزه اهلل وأكثر أهله سقط.
{ َو ِف ي الرقاب} وللصرف في فك الرقاب بأن يعاون المكاتب بشيء منها على أداء النجوم .وقيل بأن
تبتاع الرقاب فتعتق وبه قال مالك وأحمد أو بأن يفدي األسارى .والعدول عن الالم إلى { ِفى} للداللة
على أن االستحقاق للجهة ال للرقاب .وقيل لاليذان بأنهم أحق بها.
{ والغارمين} والمديونين ألنفسهم في غير معصية ومن غير إسراف إذا لم يكن لهم وفاء ،أو ِإل صالح
لغاز في
ذات البين وإن كانوا أغنياء لقوله صلى اهلل عليه وسلم« :ال تحل الصدقة لغني إال لخمسةٍ :
سبيل اهلل أو لغارم ،أو لرجل اشتراها بماله ،أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى
المسكين للغني أو لعامل عليها»
{ َو ِفى َس ِبيل ِ اهلل} وللصرف في الجهاد باِإل نفاق على المتطوعة وابتياع الكراع والسالح .وقيل وفي بناء
القناطر والمصانع.
يض ًة ّم َن اهلل} مصدر لما دل عليه اآلية الكريمة أي فرض لهم اهلل الصدقات فريضة ،أو حال من { َف ِر َ
الضمير المستكن في { ِل ْل ُف َق َراء} .وقرئ بالرفع على تلك { َف ِر َ
يض ًة}.
يم} يضع األشياء في مواضعها ،وظاهر اآلية يقتضي تخصيص استحقاق الزكاة يم َح ِك ٌ
{واهلل عَ ِل ٌ
باألصناف الثمانية ووجوب الصرف إلى كل صنف وجد منهم ومراعاة التسوية بينهم قضية لالشتراك
وإليه ذهب الشافعي رضي اهلل تعالى عنه ،وعن عمر وحذيفة وابن عباس وغيرهم من الصحابة
والتابعين رضوان اهلل عليهم أجمعين جواز صرفها إلى صنف واحد وبه قال األئمة الثالثة واختاره بعض
أصحابنا ،وبه كان يفتي شيخي ووالدي رحمهما اهلل تعالى على أن اآلية بيان أن الصدقة ال تخرج منهم
ال إيجاب قسمها عليهم.
.4تفسير ابن عجيبة
الصدقات} الواجبة أي :الزكاة لهؤالء الثمانية ،وهذا يُ َر َّج ُح أن ُ قول الحق جل جاللهِ{ :إ نما} تدفع {
لَ ْم زهم كان في قسم الزكاة ال في الغنائم ،واختصاص دفع الزكاة بهؤالء الثمانية مجمع عليه ،واختلف:
هل يجب تعميمهم؟ فقال مالك :ذلك إلى اإلمام ،إن شاء عمم وإن شاء خصص ،وإن لم يلها اإلمام؛
فصاحب المال مخير ،وبه قال أبو حنيفة وأحمد ،وأفتى به بعض الشافعية ،وقال الشافعي :يجب أن
تقسم على هذه األصناف بالسواء ،إن وجدت.
أولها :الفقير :وهو من ال شيء له ،وثانيها :المسكين :وهو من له شيء ال يكفيه .فالفقير أحوج ،وهو
مشتق من فقار الظهر ،كأنه أصيب فقاره ،والمسكين من السكون ،كأن العجز أسكنه .ويدل على هذا قوله
ين} [الكهف .]79 :فسماهم مساكين مع ملكهم السفينة ،وأنه صلى اهلل الس ِفين َُة َفكَا َنت ِل َم َس ِك َ
أما َّ
تعالىَّ { :
سكينا َذا َمترب ٍَة} [البلد ]16 :وقيل :هما ً عليه وسلم سأل المسكنة؛ وقيل بالعكس ،لقوله تعالىً{ :أ و ِم
والعاملين عليها} أي :الساعين في تحصيلها وجمعها ،ويدخل فيهم الحاشر والكاتب والمفرق، َ سواء{ .
وال بأس أن يعلف خيلهم منها ،ويضافون منها بال َس رف{ .والمؤلفة قلوبهم} قال مالك :هم كفار ظهر
ترغيبا في اإلسالم .وقيل قوم أسلموا ونيتهم ضعيفة ،فيعطوا ليتمكن اإلسالم ً ميلهم لإلسالم ،فيعطوا
وحكمهم باق ،وقيل :أشراف يُ ترقب بإعطائهم إسالم نظائرهم. ُ في قلبهم،
مين} ،أيَ :م ْن عليهم دَ يْ ن ،فيعطى ار َ { وفي الرقاب} أي :في فك الرقاب ،يشترون ويعتقونَ { ،
والغ ِ
ليقضي دينه ،ويشرط أن يكون استدانة في غير فساد وال سرف ،وليس له ما يبيع في قضائه{ .وفي
سبيل اهلل} يعني :الجهاد ،فيعطى منها المجاهدون وإن كانوا أغنياء ،ويشتري منها آلة الحرب ،وال يبنى
مسلفا ،إن كانً منها سور وال مركب { .وابن السبيل} وهو الغريب المحتاج لما يوصله لبلده ،ولم يجد
ً
مطلقا. ملي َا ببلده ،وإال أعطي َّ
ً ً
فرض اهلل ذلك {فريضة من اهلل} أي :حقا محدودا عند اهلل .قال ابن جزي :ونصبه على المصدر يعني:
لفعل محذوف كما تقدم فإن قيلِ :ل َم ذكر مصرف الزكاة في تضاعيف ذكر المنافقين؟ فالجواب :أنه
خص مصرف الزكاة في تلك األصناف؛ ليقطع طمع المنافقين فيها ،فاتصلت هذه اآلية في المعنى بقوله:
عليم حكيم}؛ يضع األشياء في مواضعها. ٌ {ومنهم من يلمزك في الصدقات .}...اهـ{ .واهلل
السوى ،وسكنوا في حضرة شهود اإلشارة :إنما النفحات والمواهب للفقراء والمساكين ،الذين افتقروا من ِّ
المولى.
وفي الحكم :ورود الفاقات أعياد المريدين ،ربما وجدت من المزيد في الفاقة ما ال تجده في الصوم
بس ُط المواهب .إن أردت بسط المواهب عليك فصحح الفقر والفاقة لديك{ .إنما والصالة ،الفاقات ُ
الصدقات للفقراء والمساكين}.
ألذ ما يناله العارف ،لكونها تدخله على اهلل ،وتجلسه بين يدي وقال الهروي :الفقر صفة مهجورة ،وهو ُّ
حكما ؛ لقطع العوائق ،والتجرد من العالئق ،واشتغال القلب باهلل .وقيل :الفقير ً اهلل ،وهو أعم المقامات
الصادق ال يم ِلك وال يُ ملَك .وقال الشبلي :الفقير ال يستغني بشيء دون اهلل .وقال الشيخ ابن سبعين
رضي اهلل عنه :الفقير هو الذي ال يحصره الكون .اهـ .يعني :لخروج فكرته عن دائرة األكوان ،وقال
يشغله،
معلوم َِ أرض ُت ِق ُّله ،وال سهم يتناوله ،والالقشيري :الفقير الصادق عندهمَ :م ْن ال سماء ُت ِظله ،وال َ
فهو عبد اهلل باهلل .اهـ.
وقال السهروردي في عوارفه :الفقر أساس التصوف ،وبه قوامه ،ويلزم من وجود التصوف وجود الفقر؛
ً
زاهدا. ً
فقيرا ألن التصوف اسم جامع لمعاني الفقر والزهد ،مع زيادة أحوال ال بد منها للصوفي ،وإن كان
وقال بعضهم :نهاية الفقر بداية التصوف؛ ألن التصوف اسم جامع لكل خلق سني ،والخروج من كل خلق
دنيء ،لكنهم اتفقوا أالًّ دخول على اهلل إال من باب الفقر ،ومن لم يتحقق بالفقر لم يتحقق بشيء مما
أشار إليه القوم.
ً
سبعا على سبع ،فإن فليختر
ْ َ
الشرف كل الشرف؛ أيضا :من أراد ان يبلغ ً وقال أبو إسحاق الهروي
الصالحين اختاروا حتى بَلَ ُغ وا سنام الخير .واختاروا الفقر على الغنى ،والجوع على الشبع؛ والدُّ ون على
والذل على العز ،والتواضع على الكبر ،والحزن على الفرح ،والموت على الحياة .اهـ .وقال َّ المرتفع،
حذرا أن يدخله؛ فيفسد عليه فقره ،كما يحترز الغنى منً بعضهم :إن الفقير الصادق ليحترز من الغنى؛
ً
حذرا أن يفسد عليه غناه. الفقر؛
ً
جالسا منذ أيام ،وال يأكل وال يشرب وعليه ً
فقيرا في الحرم قال بعض الصالحين :كان لي مال ،فرأيت
أطمار رثة ،فقلتُ :أ عنيه بهذا المال؛ فألقيته في حجره ،وقلت :استعن بهذا على دنياك ،فنفض بها في
علي؟ ثم انصرف وتركني اشتريت هذه الجلسة مع ربي بما ملكت ،وأنت تفسدها َّ ُ الحصباء ،وقال لي:
َ ُ
ألقطها .فواهلل ما رأيت أعز منه ل َّما بَدَّ دَ ها ،وال أذل مني لما كنت ألقطها .اهـ.
ً
مسرورا ،فقيل ً
فرحا ً
حزينا ،وإذا لم يصبح عنده شيء؛ أصبح وكان بعضهم إذا أصبح عنده شيء؛ اصبح
له :إنما الناس بعكس هذا ،فقال :إني إذا لم يصبح عندي شيء فلي برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
ُأ سوة ،وإذا أصبح لي شيء لم يكن لي برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أسوة حسنة .اهـ .وجمهور
الصوفية :يفضلون الفقير الصابر على الغني الشاكر ،ويُ فضلون الفقر في الجملة على الغني؛ ألنه عليه
الصالة والسالم اختاره ،وما كان ليختار المفضول .وشذ منهم يحيى بن معاذ الواعظ وأحمد بن عطاء.
قال القشيري :كان ابن عطاء يُ فضل الغنى على الفقر ،فدعا عليه الجنيد فأصيب عقله ثالثين سنة ،فلما
رجع إليه عقله قال :إنما أصابني ما أصابني بدعاء الجنيد.
وتكلم يحيى بن معاذ ،ففضل الغنى على الفقر ،فأعطاه بعض األغنياء ثالثين ألف درهم ،فدعا بعض
المشايخ عليه ،فقال :ال بارك اهلل له فيها ،فخرج عليه اللص فنهبه إياها .اهـ .وحكي عن أبي يزيد
البسطامي :أنه قالً :أ سري بروحي ،فرأيت كأني واقف بين يدي اهلل ،فسمعت قائ ً
ال يقول :يا أبا يزيد ،إن
أردت القرب منا فأتنا بما ليس عندنا ،فقلت :يا موالي وأي شيء ليس عندك ،ولك خزائن السماوات
واألرض؟ فسمعت :يا أبا يزيد ،ليس عندي ذل وال فقر فمن أتاني بهما ّ
بلغته .اهـ.
وقال في اإلحياء :الفقر المستعاذ منه :فقر المضطر ،والمسؤول هو :االعتراف بالمسكنة والذلة واالفتقار
إلى اهلل عز وجل .اهـ .قلت :واألحسن أن المستعاذ منه هو :فقر القلوب من اليقين ،فيسكنها الجزع
والهلع ،والفقر المسؤول هو :التخفيف من الشواغل والعالئق ،واهلل تعالى أعلم.
خذ الزكاة المفروضةأن َأ َ
وقد تكلم القشيري هنا على أخذ الزكاة وتركها ،فقال :من أهل المعرفة من رأى َّ
لكا للفقير ،فهو أحل له من المتطوع به .ومنهم من قال :الزكاة َأ ولى ،قالوا :ألن اهلل سبحانه جعل ذلك ِم ً
المفروضة ألقوام مستحقة ،ورأوا اإليثار على اإلخوان أولى ،فلم يزاحموا أرباب السهمان ،وتحرجوا من
أخذ الزكاة ،ومنهم من قال :إن ذلك وسخ األموال ،وهو ألصحاب الضرورات .وقالوا :نحن آثرنا َ
الف ْق َر
ً
اختيارا ...فلم يأخذوا الزكاة المفروضة .اهـ.
وقوله تعالى { :والعاملين عليها} :هم المستعدون للمواهب بالتفرغ والتجريد ،و{المؤلفة قلوبهم} على
حضرة محبوبهم ،والجادُّ ون في فك الرقاب من الجهل والغفلة؛ وهم أهل التذكير ،الداعون إلى اهلل،
{ والغارمين} أي :الدافعون أموالهم ومهجهم في رضى محبوبهم ،فافتقروا فاستحقوا حظهم من
المواهب واألسرار ،و{ في سبيل اهلل} أي :المجاهدون أنفسهم في مرضاة اهلل{ .وابن السبيل}:
السائحين في طلب معرفة اهلل .واهلل تعالى أعلم.
.5تفسير البغوي
ولهُ } أي :قنعوا بما قسم لهم اهلل ورسوله { َو َق ُالوا َح ْس ُبنَا اهَّلل ُ } كافينا اه ُم اهَّلل ُ َو َر ُس ُ { َولَ ْو َأ َّنهُ ْم َر ُضوا َما آ َت ُ
ون} في أن يوسع علينا من ولهُ } ما نحتاج إليه {ِإ َّنا ِإ لَى اهَّلل ِ َر ِ
اغ ُب َ اهللَ ،س{ ُيْؤ ِتينَا اهَّلل ُ ِم ْن َف ْض ِل ِه َو َر ُس ُ
فضله ،فيغنينا عن الصدقة وغيرها من أموال الناس .وجواب لو محذوف أي :لكان خيرا لهم وأعود
عليهم.
اكين ِ} اآليةَّ ،بين اهلل تعالى في هذه اآلية أهل سهمان ْ ْ
ات ِلل ُف َق َر ِاء َوال َم َس ِالصدَ َق ُ قوله تعالىِ{ :إ َّن َما َّ
الصدائي قال :أتيت رسول اهلل صلى اهلل الصدقات وجعلها لثمانية أصناف .وروي عن زياد بن الحارث ُ
عليه وسلم فبايعته ،فأتاه رجل وقال :أعطني من الصدقة ،فقال له رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم:
«إن اهلل لم يرض بحكم نبي وال غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء ،فإن كنت
من تلك األجزاء أعطيتك حقك».
اكين ِ} فأحد أصناف الصدقة :الفقراء ،والثاني :المساكين. اء َو ْال َم َس ِ قوله تعالىِ { :ل ْل ُف َق َر ِ
واختلف العلماء في صفة الفقير والمسكين ،فقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وعكرمة
والزهري :الفقير الذي ال يسأل ،والمسكين :الذي يسأل.
وقال ابن عمر :ليس بفقير من جمع الدرهم إلى الدرهم والتمرة إلى التمرة ،ولكن من أنقى نفسه وثيابه
ال يقدر على شيء ،يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف.
الز ِم ُن ،والمسكين :الصحيح المحتاج. وقال قتادة :الفقير :المحتاج َّ
وروي عن عكرمة أنه قال :الفقراء من المسلمين ،والمساكين من أهل الكتاب.
وقال الشافعي :الفقير من ال مال له وال حرفة تقع منه موقعاَ ،ز ِمنا كان أو غير َز ِمن ،والمسكين من كال
له مال أو حرفة وال يغنيه ،سائال أو غير سائل .فالمسكين عنده أحسن حاال من الفقير ألن اهلل تعالى
قال{ :أما السفينة فكانت لمساكين} [الكهف ]79 -أثبت لهم ملكا مع اسم المسكنة.
وعند أصحاب الرأي :الفقير أحسن حاال من المسكين.
وقال القتيبي :الفقير :الذي له ال ُب ْل َغة من العيش ،والمسكين :الذي ال شيء له.
وقيل :الفقير من له المسكن والخادم ،والمسكين من ال ملك له .وقالوا :كل محتاج إلى شيء فهو مفتقر
إليه وإن كان غنيا عن غيره ،قال اهلل تعالى{ :أنتم الفقراء إلى اهلل} [غافر ،]15 -والمسكين المحتاج
حض على إطعامه ،وجعل طعام الكفارة له وال فاقة أشد من الحاجة إلى سدّ إلى كل شيء أال ترى كيف َّ
الجوعة.
وقال إبراهيم النخعي :الفقراء هم المهاجرون ،والمساكين من لم يهاجروا من المسلمين.
وفي الجملة :الفقر والمسكنة عبارتان عن الحاجة وضعف الحال ،فالفقير المحتاج الذي كسرت الحاجة
فقار ظهره ،والمسكين الذي ضعفت نفسه وسكنت عن الحركة في طلب القوت.
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ،حدثنا عبد العزيز بن أحمد الخالل ،حدثنا أبو العباس األصم،
حدثنا الربيع ،أنبأنا الشافعي ،أنبأنا سفيان بن عيينة عن هشام ،يعني :ابن عروة ،عن أبيه ،عن عبيد اهلل
وصوب
َّ بن عدي بن الخيار :أن رجلين أخبراه أنهما أتيا رسول اهلل فسأاله عن الصدقة فصعَّ د فيهما
والحظ فيها لغني وال لذي قوة مكتسب». ّ فقال« :إن شئتما أعطيتكما
واختلفوا في حد الغنى الذي يمنع أخذ الصدقة :فقال األكثرون :حدُّ ه أن يكون عنده ما يكفيه وعياله
سنة ،وهو قول مالك والشافعي.
وقال أصحاب الرأي :حدُّ ه أن يملك مائتي درهم.
وقال قوم :من ملك خمسين درهما ال تحل له الصدقة ،لما روينا عن عبد اهلل بن مسعود قال :قال رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو
خدوش أو كدوح» ،قيل :يا رسول اهلل وما يغنيه؟ قال« :خمسون درهما أو قيمتها من الذهب» .وهو
قول الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق .وقالوا ال يجوز أن يعطى الرجل من الزكاة أكثر من خمسين
درهما .وقيل :أربعون درهما لما روى أن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال« :من سأل وله أوقية أو عدلها
فقد سأل إلحافا».
ين عَ لَ ْيهَ ا} وهم السعاة الذين يتولون قبض الصدقات من أهلها ووضعها في حقها، ام ِل َ قوله تعالىَ { :و ْالعَ ِ
فيعطون من مال الصدقة ،فقراء كانوا أو أغنياء ،فيعطون أجر مثل عملهم.
وقال الضحاك ومجاهد :لهم الثمن من الصدقة.
{ َو ْال ُمَؤ َّل َف ِة ُق ُلو ُبهُ ْم} فالصنف الرابع من المستحقين للصدقة هم :المؤلفة قلوبهم ،وهم قسمان :قسم
مسلمون ،وقسم كفار .فأما المسلمون :فقسمان ،قسم دخلوا في اإلسالم ونيتهم ضعيفة فيه ،فكان النبي
تألف ا كما أعطى عيينة بن بدر ،واألقرع بن حابس ،والعباس بن مرداس ،أو صلى اهلل عليه وسلم يعطيهم ً
أسلموا ونيتهم قوية في اإلسالم ،وهم شرفاء في قومهم مثل :عدي بن حاتمِّ ،
والزب ِْرقان بن بدر ،فكان
تألفا لقومهم ،وترغي ًب ا ألمثالهم في اإلسالم ،فهؤالء يجوز لإلمام أن يعطيهم من خمس خمس يعطيهم ً
الغنيمة ،والفيء سهم النبي صلى اهلل عليه وسلم ،وكان النبي صلى اهلل عليه وسلم يعطيهم من ذلك وال
يعطيهم من الصدقات.
َاط ال
والقسم الثاني من مؤلفة المسلمين :أن يكون قوم من المسلمين بإزاء قوم كفار في موضع ُمتَ ن ٍ
تبلغهم جيوش المسلمين إال بمؤنة كثيرة وهم ال يجاهدون ،إما لضعف نيتهم أو لضعف حالهم ،فيجوز
لإلمام أن يعطيهم من سهم الغزاة من مال الصدقة .وقيل :من سهم المؤلفة .ومنهم قوم بإزاء جماعة من
مانعي الزكاة يأخذون منهم الزكاة يحملونها إلى اإلمام ،فيعطيهم اإلمام من سهم المؤلفة من الصدقات.
وقيل :من سهم سبيل اهلل.
روي أن عدي بن حاتم جاء أبا بكر الصديق بثالثمائة من اإلبل من صدقات قومه فأعطاه أبو بكر منها
ثالثين بعيرا.
وأما الكفار من المؤلفة :فهو َم ْن يُ خشى شره منهم ،أو يرجى إسالمه ،فيريد اإلمام أن يعطي هذا حذ ًرا
من شره ،أو يعطي ذلك ترغيبا له في اإلسالم فقد كان النبي صلى اهلل عليه وسلم يعطيهم من خمس
الخمس ،كما أعطى صفوان بن أمية ِل َما يرى من ميله إلى اإلسالم ،أما اليوم فقد َّ
أعز اهلل اإلسالم فله
تألفا بحال ،وقد قال بهذا كثير من أهل العلم أن الحمد ،وأغناه أن يُ تَ َأ َّلف عليه رجال ،فال يُ عطى مشرك ً
المؤلفة منقطعة وسهمهم ساقط .روي ذلك عن عكرمة ،وهو قول الشعبي ،وبه قال مالك والثوري،
وأصحاب الرأي ،وإسحاق بن راهويه.
وقال قوم :سهمهم ثابت ،يروى ذلك عن الحسن ،وهو قول الزهري ،وأبي جعفر محمد بن علي ،وأبي
ثور ،وقال أحمد :يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك.
اب} والصنف الخامس :هم الرقاب ،وهم المكاتبون ،لهم سهم من الصدقة ،هذا قوله تعالىَ { :و ِفي الرِّ َق ِ
قول أكثر الفقهاء ،وبه قال سعيد بن جبير ،والنخعي ،والزهري ،والليث بن سعد ،والشافعي .وقال
فيعتقون .وهذا قول الحسن ،وبه قال مالك وأحمد وإسحاق. جماعة :يشترى بسهم الرقاب عبيد ُ
ار ِم ين} الصنف السادس هم :الغارمون ،وهم قسمان :قسم دانوا ألنفسهم في غير قوله تعالىَ { :و ْال َغ ِ
معصيته ،فإنهم يُ عْ َط ون من الصدقة إذا لم يكن لهم من المال ما يفي بديونهم ،فإن كان عندهم وفاء فال
يُ عْ َط ون ،وقسم أدانوا في المعروف وإصالح ذات البين فإنهم يُ عْ َطون من مال الصدقة ما يقضون به
ديونهم ،وإن كانوا أغنياء.
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ،أنبأنا زاهر بن أحمد ،أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ،أخبرنا أبو مصعب عن
مالك عن زيد بن أسلم ،عن عطاء بن يسار أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :ال تحل الصدقة
لغني إال لخمسة :لغاز في سبيل اهلل ،أو لغارم ،أو لرجل اشتراها بماله ،أو لرجل له جار مسكين فتصدق
على المساكين فأهدى المسكين للغني ،أو لعامل عليها».
ورواه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى اهلل عليه وسلم
متصال بمعناه.
أما من كان دَ يْ نه في معصية فال يُ دفع إليه.
عطون إذا أرادوا الخروج إلى وقوله تعالىَ { :و ِفي َس ِبيل ِ اهَّلل ِ } أراد بها :الغزاة ،فلهم سهم من الصدقة ،يُ َ
الغزو ،وما يستعينون به على أمر الغزو من :النفقة ،والكسوة ،والسالح ،والحمولة ،وإن كانوا أغنياء ،وال
يُ عطى منه شيء في الحج عند أكثر أهل العلم.
وقال قوم :يجوز أن يصرف سهم في سبيل اهلل إلى الحج .ويُ روى ذلك عن ابن عباس ،وهو قول
الحسن ،وأحمد ،وإسحاق.
الس ِبيل ِ} الصنف الثامن :هم أبناء السبيل ،فكل من يريد سفرا مباحا ولم يكن له ما قوله تعالىَ { :وابْن ِ َّ
يقطع به المسافة يُ عطى من الصدقة بقدر ما يقطع به تلك المسافة ،سواء كان له في البلد المنتقل إليه
مال أو لم يكن.
وقال قتادة :ابن السبيل هو الضيف.
الحاج المنقطع.
ّ وقال فقهاء العراق :ابن السبيل:
واجبة { ِم َن اهَّلل ِ } وهو نصب على القطع ،وقيل :على المصدر ،أي :فرض اهلل ً يض ًة} أي: قوله تعالىَ { :ف ِر َ
يم}. هذه األشياء فريضةَ { .واهَّلل ُ عَ ِل ٌ
يم َح ِك ٌ
اختلف الفقهاء في كيفية قسم الصدقات ،وفي جواز صرفها إلى بعض األصناف:
فذهب جماعة إلى أنه ال يجوز صرفها كلها إلى بعضهم مع وجود سائر األصناف ،وهو قول عكرمة ،وبه
قال الشافعي ،قال :يجب أن تقسم زكاة كل صنف من ماله على الموجودين من األصناف الستة ،الذين
ُسهْ مانهم ثابتة قسمة على السواء ،ألن سهم المؤلفة ساقط ،وسهم العامل إذا قسم بنفسه ،ثم حصة كل
صنف منهم ال يجوز أن تصرف إلى أقل من ثالثة منهم إن وجد منهم ثالثة أو أكثر ،فلو فاوت بين أولئك
الثالث يجوز ،فإن لم يوجد من بعض األصناف إال واحد صرف حصة ذلك الصنف إليه ما لم يخرج عن
حد االستحقاق ،فإن انتهت حاجته وفضل شيء ردَّ ه إلى الباقين. ِّ
وذهب جماعة إلى أنه لو صرف الكل إلى صنف واحد من هذه األصناف ،أو إلى شخص واحد منهم
سم ى اهلل تعالى هذه األصناف الثمانية إعالما منه أن الصدقة ال تخرج عن هذه األصناف ،ال
يجوز ،وإنما َّ
إيجابا لقسمها بينهم جميعا .وهو قول عمر ،وابن عباس ،وبه قال سعيد بن جبير وعطاء ،وإليه ذهب
سفيان الثوري وأصحاب الرأي ،وبه قال أحمد ،قال :يجوز أن يضعها في صنف واحد وتفريقها أولى.
قسمه على األصناف ،وإن كان قليال جاز وضعه في وقال إبراهيم :إن كان المال كثيرا يحتمل اإلجزاء َّ
صنف واحد.
الخ َّلة والحاجة ،فإن رأى الخلة
فاألولَى من أهل ُ ْ وقال مالك :يتحرى موضع الحاجة منهم ،ويُ َقدَّ م ْ
األولى
في الفقراء في عام أكثر قدَّ مهم ،وإن رآها في عام في صنف آخر حولها إليهم.
وكل من دُ ِفعَ إليه شيء من الصدقة ال يزيد على قدر االستحقاق ،فال يزيد الفقير على قدر غناه ،فإذا
حصل أدنى اسم الغنى ال يُ عطى بعده ،فإن كان محترفا لكنه ال يجد آلة حرفته :فيعطى قدر ما يحصل
والمكاتب على قدر ما يُ عتق به ،وللغريم على قدر دينه، به آلة حرفته ،وال يزاد العامل على أجر عملهُ ،
وللغازي على قدر نفقته للذهاب والرجوع والمقام في مغزاه وما يحتاج إليه من الفرس والسالح ،والبن
السبيل على قدر إتيانه مقصده أو مآله.
واختلفوا في نقل الصدقة عن بلد المال إلى موضع آخر ،مع وجود المستحقين فيه :فكرهه أكثر أهل
العلم ،لما أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ،أنبأنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي،
حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ،حدثنا أبو عيسى الترمذي ،حدثنا أبو كريب ،حدثنا وكيع،
أن
حدثنا زكريا بن إسحاق المكي ،حدثنا يحيى بن عبد اهلل بن الصيفي عن أبي معبد عن ابن عباس ّ
قوما أهل كتاب فادْ عُ هم إلى
معاذا إلى اليمن فقال« :إنك تأتي ً ً رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعث
شهادة أن ال إله إال اهلل وأن محمدً ا رسول اهلل ،فإن هم أطاعوا لذلك َفَأ عْ ِل ْمهُ ْم أن اهلل فرض عليهم خمس
صلوات في اليوم والليلة ،فإن هم أطاعوا لذلك َفَأ عْ ِل ْمهُ ْم أن اهلل قد فرض عليهم صدقة ُتؤخذ من
أغنيائهم فتردُّ على فقرائهم ،فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم ،واتق دعو َة المظلوم ،فإنه ليس
بينه وبين اهلل حجاب».
فهذا يدل على أن صدقة أغنياء كل قوم ُتردّ على فقراء ذلك القوم.
واتفقوا على أنه إذا نقل من بلد إلى بلد آخر ُأ ِّدي مع الكراهة ،وسقط الفرض عن ذمته ،إال ما ُحكي عن
عمر بن عبد العزيز رضي اهلل عنه أنه ردّ صدقة حملت من خراسان إلى الشام إلى مكانها من خراسان.
.6تفسير السيوطي
ين َو ِفي َس ِبيل ِ اب َو ْال َغ ِ
ار ِم َ ين عَ لَ ْيهَ ا َو ْال ُمَؤ َّل َف ِة ُق ُلو ُبهُ ْم َو ِفي الرِّ َق ِ اكين ِ َو ْالعَ ِ
ام ِل َ اء َو ْال َم َس ِ
ات ِل ْل ُف َق َر ِ
الصدَ َق ُ
{ِإ َّن َما َّ
يم (})60 يم َح ِك ٌ الس ِبيل ِ َف ِر َ
يض ًة ِم َن اهَّلل ِ َواهَّلل ُ عَ ِل ٌ اهَّلل ِ َوابْن ِ َّ
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر قال« :جاء أعرابي إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم فسأله
قسما ،فأعرض عنه وجعل يقسم قال :أتعطي رعاء الشاء؟ واهلل ما عدلت .فقال :ويحك! ... ً وهو يقسم
من يعدل إذا أنا لم أعدل؟ فأنزل اهلل هذه اآلية {إنما الصدقات للفقراء }...اآلية».
وأخرج أبو داود والبغوي في معجمه والطبراني والدارقطني وضعفه عن زياد بن الحارث الصدائي قال:
قال رجل يا رسول اهلل أعطني من الصدقة .فقال« :إن اهلل لم يرض بحكم نبي وال غيره في الصدقات
حتى حكم هو فيها ،فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك األجزاء أعطيتك حقك».
وأخرج ابن سعد عن زياد بن الحرث الصدائي قال :بينا أنا مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذ جاء
قوم يشكون عاملهم ،ثم قالوا :يا رسول اهلل آخذنا بشيء كان بيننا وبينه في الجاهلية ،فقال رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم« :ال خير للمؤمن في اِإل مارة ،ثم قام رجل فقال :يا رسول اهلل أعطني من الصدقة.
يك ل قسمها إلى ملك مقرب وال نبي مرسل حتى أجزأها ثمانية أجزاء ،فإن كنت جزأ فقال :إن اهلل لم ِ
ً
غنيا عنها فإنما هي صداع في الرأس وداء في البطن». منها أعطيتك وإن كنت
وأخرج سعيد بن منصور والطبراني وابن مردويه عن موسى بن يزيد الكندي قال :كان ابن مسعود
ال ،فقرأ { إنما الصدقات للفقراء والمساكين} مرسلة ،فقال ابن مسعود :ما هكذا أقرأنيها النبي يقرىء رج ً
صلى اهلل عليه وسلم .فقال :وكيف أقرأكها؟ قال :أقرأنيها {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} فمدها.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال :نسخت هذه اآلية كل صدقة في القرآن قوله{ :وآت ذا القربى
حقه والمسكين وابن السبيل} [ اِإل سراء ]26 :وقوله{ :إن تبدوا الصدقات} [ البقرة ]271 :وقوله:
{ وفي أموالهم حق للسائل والمحروم} [ الذاريات.]19 :
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { :إنما الصدقات للفقراء والمساكين }...اآلية .قال :إنما هذا
ً
صنفا منها أجزاك. شيء أعلمه اهلل إياه لهم ،فأيما أعطيت
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وأبو الشيخ عن حذيفة في قوله{ :إنما الصدقات للفقراء }...اآلية .قال:
إن شئت جعلتها في صنف واحد من األصناف الثمانية الذين سمى اهلل أو صنفين أو ثالثة.
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي العالية قال :ال بأس أن تجعلها في صنف واحد مما قال اهلل.
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو الشيخ عن الحسن وعطاء وإبراهيم وسعيد بن جبير .مثله.
الطوافون.
ّ وأخرج ابن المنذر والنحاس عن ابن عباس قال :الفقراء فقراء المسلمين ،والمساكين
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس وأبو الشيخ عن قتادة قال :الفقير الذي به
زمانة ،والمسكين المحتاج الذي ليس به زمانة.
مر برجل من أهل الكتاب مطروح على وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب .أنه َّ
علي بشيء .فقال عمر :ما باب فقال :استكدوني وأخذوا مني الجزية حتى كف بصري ،فليس أحد يعود َّ
إذا ،ثم قال :هذا من الذين قال اهلل{ :إنما الصدقات للفقراء والمساكين} ثم أمر له أن يرزق أنصفنا ً
ويجري عليه.
وأخرج ابن أبي شيبة عن عمر في قوله{ :إنما الصدقات للفقراء والمساكين} قال :هم َز ْمنى أهل الكتاب.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال :ال يعطي المشركون من الزكاة وال من شيء من الكفارات.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال :ليس بفقير من جمع الدرهم إلى الدرهم وال التمرة إلى التمرة،
إنما الفقير من انقى ثوبه ونفسه ال يقدر على غنى {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف} [ البقرة:
.]273
وأخرج ابن أبي شيبة عن جابر بن زيد قال :الفقراء المتعففون ،والمساكين الذين يسألون.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الزهري .أنه سئل عن هذه اآلية فقال :الفقراء الذين في بيوتهم وال يسألون،
والمساكين الذي يخرجون فيسألون.
فقيرا وهو بين ظهري قومه وعشريته وذوي ً وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال :الفقير ،الرجل يكون
قرابته وليس له مال ،والمسكين الذي ال عشيرة له وال قرابة وال رحم وليس له مال.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الضحاك في اآلية قال :الفقراء الذين هاجروا ،والمساكين الذين لم يهاجروا.
وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير قال :يعطي من الزكاة من له الدار والخادم والفرس.
وأخرج ابن أبي شيبة عن إبراهيم رضي اهلل عنه قال :كانوا ال يمنعون الزكاة من له البيت والخادم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي اهلل عنهما في قوله{ :والعاملين عليها} قال :السعاة أصحاب
الصدقة.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن الضحاك رضي اهلل عنه قال :يعطي كل عامل بقدر عمله.
وأخرج ابن أبي شيبة عن رافع بن خديج رضي اهلل عنه «سمعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول:
العامل على الصدقة بالحق كالغازي حتى يرجع إلى بيته».
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس رضي اهلل عنهما في قوله{ :والمؤلفة قلوبهم} قال :هم
قوم كانوا يأتون رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد أسلموا ،وكان يرضخ لهم من الصدقات ،فإذا
ً
خيرا قالوا :هذا دين صالح ،وإن كان غير ذلك ،عابوه وتركوه. أعطاهم من الصدقة فأصابوا منها
وأخرج البخاري وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري رضي اهلل عنه قال« :بعث علي بن
أبي طالب رضي اهلل عنه من اليمن إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم بذهيبة فيها تربتها ،فقسمها بين
أربعة من المؤلفة :األقرع بن حايس الحنظلي ،وعلقمة بن عالثة العامري ،وعينية بن بدر الفزاري ،وزيد
الخيل الطائي .فقالت قريش واألنصار :أيقسم بين صناديد أهل نجد ويدعنا؟ فقال النبي صلى اهلل عليه
وسلم :إنما أتالفهم».
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن يحيى بن أبي كثير رضي اهلل عنه قال:
«المؤلفة قلوبهم :من بني هاشم أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ومن بني أمية أبو سفيان بن
حرب ،ومن بني مخزوم الحارث بن هشام وعبد الرحمن بن يربوع ،ومن بني أسد حكيم بن حزام ،ومن
بني عامر سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزي ،ومن بني جمح صفوان بن أمية ،ومن بني سهم عدي
بن قيس ،ومن ثقيف العالء بن حارثة أو حارثة ،ومن بني فزارة عينية بن حصن ،ومن بني تميم األقرع
بن حابس ،ومن بني نصر مالك بن عوف ،ومن بني سليم العباس بن مرداس .أعطى النبي صلى اهلل
عليه وسلم كل رجل منهم مائة ناقة مائة ناقة إال عبد الرحمن بن يربوع وحويطب بن عبد العزى ،فإنه
أعطى كل واحد منهما خمسين».
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن رضي اهلل عنه قال :المؤلفة قلوبهم الذين
يدخلون في اِإل سالم إلى يوم القيامة.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك قال :المؤلفة قلوبهم قوم من وجوه العرب ،يقدمون عليه
فينفق عليهم منها ما داموا حتى يسلموا أو يرجعوا.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن جبير قال :ليس اليوم مؤلفة
قلوبهم.
وأخرج البخاري في تاريخه وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الشعبي رضي اهلل عنه قال:
ليست اليوم مؤلفة قلوبهم ،إنما كان رجال يتألفهم النبي صلى اهلل عليه وسلم ،فلما أن كان أبو بكر
رضي اهلل عنه قطع الرشا في اِإل سالم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عبيدة السلماني قال :جاء عينية بن حصن واألقرع بن حابس إلى أبي بكر
ً
أرضا سبخة ليس فيها كأل وال منفعة ،فإن فقاال :يا خليفة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ان عندنا
ً
كتابا رأيت أن تعطيناها لعلنا نحرثها ونزرعها ولعل اهلل أن ينفع بها .فاقطعهما إياها وكتب لهما بذلك
واشهد لهما ،فانطلقا إلى عمر ليشهداه على ما فيه ،فلما قرآ على عمر ما في الكتاب تناوله من أيديهما
فتفل فيه فمجاه ،فتذمرا وقاال له مقالة سيئة ،فقال عمر :إن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان
يتألفهما واِإل سالم يومئذ قليل ،وإن اهلل قد أعز اِإل سالم فاذهبا فاجهد جهدكما ال أرعى اهلل عليكما إن
أرعيتما.
وأخرج ابن سعد عن أبي وائل .أنه قيل له :ما أصنع بنصيب المؤلفة؟ قال :زده على اآلخرين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله{ :وفي الرقاب} قال :هم المكاتبون.
وأخرج ابن المنذر عن إبراهيم النخعي قال :ال يعتق من الزكاة رقبة تامة ويعطى في رقبة ،وال بأس بأن
ً
مكاتبا. يعين به
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عمر بن عبد العزيز قال :سهم الرقاب نصفان ،نصف لكل مكاتب
ممن يدَّ عي اِإل سالم ،والنصف الباقي يشتري به رقاب ممن صلى وصام وقدم إسالمه من ذكر أو أنثى
يعتقون هلل.
بأسا أن يعطي الرجل من زكاته فيً وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس .أنه كان ال يرى
الحج ،وأن يعتق منها رقبة.
وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن ابن عباس رضي اهلل عنهما قال :أعتق من زكاة مالك.
ً
بأسا أن يشتري الرجل من زكاة ماله نسمة وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن الحسن :أنه كان ال يرى
فيعتقها.
وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن المنذر عن إبراهيم النخعي قال :يعان فيها الرقبة وال يعتق
منها.
وأخرج أبو عبيد وابن أبي شيبة وابن المنذر عن سعيد بن جبير رضي اهلل عنه قال :ال تعتق من زكاة
مالك فإنه يجر الوالء .قال أبو عبيد :قول ابن عباس أعلى ما جاءنا في هذا الباب ،وهو أولى باالتباع
وأعلم بالتأويل ،وقد وافقه عليه كثير من أهل العلم.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الزهري .أنه سئل عن الغارمين .قال :أصحاب الدين ،وابن السبيل وإن كان
ً
غنيا.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله{ :والغارمين} قال:
من احترق بيته ،وذهب السيل بماله ،وادّ ان على عياله.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي جعفر في قوله{ :والغارمين} قال:
المستدينين في غير فساد {وابن السبيل} قال :المجتاز من أرض إلى أرض.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله { :والغارمين} قال :هو الذي يسأل في دم أو جائحة تصيبه
{ وفي سبيل اهلل} قال :هم المجاهدون {وابن السبيل} قال :المنقطع به يعطي قدر ما يبلغه.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله{ :وفي سبيل اهلل} قال :الغازي في سبيل اهلل
{وابن السبيل} قال :المسافر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال :ابن السبيل هو قال :الغازي في سبيل اهلل {وابن السبيل} قال:
المسافر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال :ابن السبيل هو الضيف الفقير الذي ينزل بالمسلمين.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الضحاك في رجل سافر وهو غني ،فنفد ما معه في سفره فاحتاج قال :يعطى
من الصدقة في سفره ألنه ابن سبيل.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله{ :وفي سبيل اهلل} قال :حمل
الرجل في سبيل اهلل من الصدقة { وابن السبيل} قال :هو الضيف والمسافر إذا قطع به وليس له شيء
{ فريضة من اهلل واهلل عليم حكيم} قال :ثمانية أسهم فرضهن اهلل وأعلمهن.
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود وابن ماجة وابن المنذر وابن مردويه عن أبي سعيد قال :قال رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم« :ال تحل الصدقة لغني إال لخمسة :لعامل عليها ،أو رجل اشتراها بماله ،أو غارم ،أو
غاز في سبيل اهلل ،أو مسكين تصدق عليه فأهدى منها الغني».
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجة والنحاس في ناسخه عن ابن مسعود قال:
ً
خموشا أو قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :من سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة
ً
درهما ،أو قيمتها من الذهب». ً
كدوحا .قالوا :يا رسول اهلل وماذا يغنيه؟ قال :خمسون
وأخرج أبو الشيخ عن عبداهلل بن عمر .أنه سئل عن مال الصدقة فقال :شر مال ،إنما هو مال الكسحان
حقا ،وللمجاهدين في سبيل اهلل .قال :أما والعرجان والعميان وكل منقطع به .قيل :فإن للعاملين عليها ً
العاملون فلهم بقدر عمالتهم ،وأما المجاهدون في سبيل اهلل فقوم أحل لهم أن الصدقة ال تحل لغني ،وال
لذي مرة سوى.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي اهلل عنهما قال« :فرض رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
الصدقة في ثمانية أسهم .ففرض في الذهب ،والورق ،واِإل بل ،والبقر ،والغنم ،والزرع ،والكرم ،والنخل،
ثم توضع في ثمانية أسهم .في أهل هذه اآلية {إنما الصدقات للفقراء }...اآلية كلها».
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :خففوا على المسلمين في
خرصكم فإن فيه العرايا ،وفيه الوصايا ،فأما العرايا فالنخلة والثالث واألربع وأقل من ذلك وأكثر،
يمنحها الرجل أخاه ثمرتها فيأكلها هو وعياله ،وأما الوصايا فثمانية أسهم {إنما الصدقات للفقراء
والمساكين} إلى قوله{ :واهلل عليم حكيم}».
وأخرج أحمد عن رجل من بني هالل قال :سمعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول« :ال تحل
الصدقة لغني ،وال ذي مرة سوى».
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي عن عبداهلل بن عمر عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال« :ال
تحل الصدقة لغني ،وال لذي مرة سوى».
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي عن عبيداهلل بن عدي بن الخيار قال« :أخبرني رجالن أنهما
أتيا النبي صلى اهلل عليه وسلم في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة ،فسأاله منها .فرفع فينا البصر
حظ فيها لغني ،وال لقوي مكتسب». وخفضه فرآنا جلدين ،فقال :إن شئتما أعطيتكما وال َّ
.7تفسير الثعالبي
{ ولو أنهم رضوا} يعني ولو أن المنافقين الذين عابوا عليك رضوا بما قسم اهلل لهم وقنعوا {ما آتاهم
اهلل ورسوله وقالوا حسبنا اهلل} أي كافينا اهلل { سيؤتينا اهلل من فضله ورسوله} يعني إليه {إنا إلى اهلل
راغبون} يعني في أن يوسع علينا من فضله فيغنينا عن الصدقة وعن غيرها من أموال الناس وجواب
ً
خيرا لهم وأعود عليهم. لو محذوف تقديره لكان
قوله عز وجل { :إنما الصدقات للفقراء والمساكين} اآلية اعلم أن المنافقين لما لمزو رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم وعابوه في قسم الصدقات َّبين اهلل عز وجل في هذه اآلية إن المستحقين للصدقات هؤالء
األصناف الثمانية ومصرفها إليهم وال تعلن لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم منها بشيء ولم يأخذ لنفسه
شيئا فلم يلمزونه ويعيبون عليه فال مطعن لهم فيه بسبب قسم الصدقات .عن زياد بن الحرث ً منها
الصدائي قال :أتيت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فبايعته فأتاه رجل فقال أعطني من الصدقة فقال
له رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :إن اهلل لم يرض بحكم نبي وال غيره في الصدقات حتى حكم فيها
هو فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك األجزاء أعطيتك حقك» أخرجه أبو داود.
فصل في بيان حكم هذه اآلية وفيه مسائل:
المسألة األولى :في بيان وجه الحكمة في إيجاب الزكاة على اإلغنياء وصرفها إلى المحتاجين من الناس
وذلك من وجوه ،الوجه األول أو المال محبوب بالطبع وسببه أن القدرة صفة من صفات الكمال محبوبة
ً
محبوبا بالطبع فإذا استغرق القلب في حب المال لذاتها والمال سبب لتحصيل تلك القدرة فكان المال
اشتغل به عن حب اهلل عز وجل وعن االشتغال بالطاعات المقربة إلى اهلل عز وجل فاقتضت الحكمة
سببا للقرب من اهلل عز وجلً اإللهية إيجاب الزكاة في ذلك المال الذي هو سبب البعد عن اهلل فيصير
بإخراج الزكاة منه .الوجه الثاني :إن كثرة المال توجب قسوة القلب وحب الدنيا والميل إلى شهواتها
ولذاتها فأوجب اهلل سبحانه وتعالى الزكاة ليقل ذلك المال الذي هو سببب لقساوة القلب .الوجه الثالث
سبب وجوب الزكاة امتحان العبد المؤمن ألن التكاليف البدنية غير شاقة على العبد وإخراج المال مشق
على النفس فأوجب اهلل عز وجل الزكاة على العباد ليمتحن بإخراج الزكاة أصحاب األموال لتميز بذلك
المطيع المخرج لها طيبة بها نفسه من العاصي المانع لها .الوجه الرابع أن المال مال اهلل واألغنياء خزان
اهلل والفقراء عيال اهلل فأمر اهلل سبحانه وتعالى خزانه الذين هم أغنياء بدفع طائفة من ماله إلى عياله
فيثيب العبد المؤمن المطيع المسارع إلى امتثال المشفق على عياله ويعاقب العبد العاصي المانع لعياله
من ماله.
( ق) عن أبي موسى األشعري عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال« :إن الخازن المسلم األمين الذي ينفذ
ً
موفرا طيبة به نفسه فيدفعه إلى الذي أمر له به أحد وربما قال يعطي ما أمر به فيعطيه كام ً
ال
المتصدقين» الوجه الخامس أن الفقراء ربما تعلقت قلوبهم باألموال التي بأيدي األغنياء فأوجب اهلل عز
تطييبا لقلوبهم .الوجه السادس أن المال الفاضل عن حاجة اإلنسان ً ً
نصيبا للفقراء في ذلك المال وجل
ال عن المقصود الذي ألجله خلق المال فأمر بدفع الزكاة إلى الفقراء حتى ال األصلية إذا أمسك بقي معط ً
يصير ذلك المال معط ً
ال بالكلية.
المسألة الثانية :اآلية تدل على أنه ال حق ألحد في الصدقات إال هؤالء األصناف الثمانية وذلك مجمع
عليه ألن كلمتي إنما تفيدان الحصر وذلك ألنها مركبة من إن وما فكلمة إن لإلثبات وكلمة ما للنفي فعند
اجتماعهما يفيدان الحكم المذكور وصرفه عما عداه فدل ذلك على أن الصدقات ال تصرف إال إلى
األصناف الثمانية.
المسألة الثالثة :في بيان األصناف الثمانية فالصنف األول للفقراء والثاني للمساكين وهم المحتاجون
الذين ال يفي خرجهم بدخلهم ثم اختلف العلماء في الفرق بين الفقير والمسكين فقال ابن عباس
والحسن ومجاهد وعكرمة والزهري :الفقير الذي ال يسأل والمسكين السائل وقال ابن عمر :ليس بفقير
من جمع الدرهم إلى الدرهم والتمر إلى التمرة ولكن الفقير من أنقى نفسه وثيابه وال يقدر على الشيء
يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف .وقال قتادة :الفقير المحتاج الزمن والمسكين الصحيح المحتاج
ً
زمنا كان أو غير زمن ً
موقعا وقال الشافعي رضي اهلل تعالى عنه :الفقير من ال مال له وال حرفة تقع منه
ال كان أو غير سائل فالمكسين عنده ً
موقعا لكفايته سائ ً والمسكين من له مال أو حرفة ولكن ال تقع منه
أحسن حاالً من الفقير .وقال أبو حنيفة ،وأصحاب الرأي :الفقير أحسن حاالً من المسكين ومن الناس من
قال ال فرق بين الفقير والمسكين حجة الشافعي ومن وافقه أن اهلل سبحانه وتعالى حكم بصرف
ال لمصلحتهم فبدأ بالفقر وإنما يبدأ فاألهم دفعا لحاجتهم وتحصي ًً الصدقات إلى هؤالء األصناف الثمانية
فلو لم تكن حاجتهم أشد من حاجة المساكين لما بدأ بهم وأصل الفقير المكسور الفقار قال لبيد:
لما رأى لبد النسور تطايرت *** رفع القوادم كالفقير األعزل
ً
فقيرا لزمانته قال ابن األعرابي :الفقير في هذا البيت المكسور الفقار فثبت بهذا أن الفقير إنما سمي
وحاجته الشديدة وتمنعه الزمانة من التقلب في الكسب وألن النبي صلى اهلل عليه وسلم كان يتعوذ من
مسكينا واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة» رواه ً ً
مسكينا وأمتني الفقر وقال« :اللهم أحيني
الترمذي من حديث أنس فلو كان المسكين أسوأ حاالً من الفقير لما تعوذ من الفقر وسأل المسكنة فثبت
بهذا أن المسكين أحسن حاالً من الفقير وألن اهلل سبحانه وتعالى قال أما السفينة فكانت لمساكين
ملكا مع اسم المسكنة ألن السفينة من سفن البحر تساوي دنانير كثيرة ً يعملون في البحر فأثبت لهم
وألن الغنى والفقر ضدان والمسكنة قسم ثالث بينهما فثبت بهذا أن الفقير أسوأ حاالً من المسكين
ً
مسكينا ذا متربة وصف وحجة أبي حنيفة ومن وافقه على أن المسكين أسوأ حاالً من الفقير قوله أو
المسكين بكونه ذا متربة وهو الذي لصق جلده بالتراب وهذا يدل على غاية الضر والشدة وألن اهلل
ً
أيضا تعالى جعل الكفارات للمساكين فلو لم يكن المسكين أشد حاجة من غيره لما جعلها له واحتج
بقول الراعي:
أما الفقير الذي كانت حلوبته *** وفق العيال فلم يترك له سبد
أيضا بقول األصمعي وأبي عمرو بن العالء أن الفقير الذي له ما يأكل والمسكين الذي ال شيء له ً واحتج
وكذا قال القتيبي :الفقير الذي له البلغة من العيش والمسكين الذي ال شيء له وقيل :الفقير الذي له
ً
غنيا المسكن والخادم والمسكين الذي ال ملك له وقيل :إن كل محتاج إلى شيء فهو مفتقر إليه وإن كان
عن غيره قال اهلل سبحانه وتعالى { :أنتم الفقراء إلى اهلل} فأثبت لهم اسم الفقر مع وجدان المال
مسكينا ذا متربة فهو حجة لمذهب اإلمام الشافعي رضي اهلل ً والجواب عن هذه الحجج أما قوله أو
تعالى عنه ألنه قيد المسكين المذكور هنا بكونه ذا متربة فدل على أنه قد يوجد مسكين ال بهذه الصفة
وإال لم يبق لهذا القيد فائدة والجواب عن جعل الكفارات للمسكين أنه هو الفقير الذي لصق جلده
بالتراب من شدة المسكنة والجواب عن االستدالل ببيت الراعي إنه ذكر الفقير وجده فكل فقير أفرد
باالسم جاز إطالق المسكين عليه فسقط االستدالل به وأما الروايات المذكورة فهي معارضة بما تقدم
من الروايات عن ابن عباس وغيره من المفسرين .وبالجملة أن الفقر والمسكنة عبارتان عن شدة الحاجة
وضعف الحال فالفقير هو الذي كسرت الحاجة فقار ظهره والمسكين هو الذي ضعفت نفسه وسكنت عن
الحركة في طلب القوت .عن عبد اهلل بن عمرو بن العاص أن رسول اهلل صلى اهلل عيله وسلم قال« :ال
تحل الصدقة لغني وال لذي مرة سوي» أخرجه النسائي وأبو داود وله في رواية أخرى «وال لذي مرة
قوي» عن عبيد اهلل بن عدي بن الخيار قال« :أخبرني رجالن أنهما أتيا النبي صلى اهلل عليه وسلم وهو
في حجة الوداع وهو يقسم الصدقات فسأاله منها فرفع فينا النظر وخفضه فرآنا جلدين فقال إن شئتما
أعطيتكما وال حظ فيها لغني وال لقوي مكتسب» أخرجه أبو داود والنسائي وأخرجه الشافعي ولفظه
«أن رجلين أتيا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فسأاله عن الصدقة فقال :إن شئتما أعطيتكما والحظ
فيها لغني وال لذي قوة مكتسب» واختلف العلماء في حد الغنى الذي يمنع من أخذ الصدقة فقال
األكثرون حده أن يكون عنده ما يكفيه وعياله سنة وهو قول مالك والشافعي .وقال أصحاب الرأي:
درهما أو قيمتها ال تحل له الصدقة لما روي عن ً حده أن يملك مائتي درهم .وقال قوم :من ملك خمسين
ابن مسعود قال قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة
ً
درهما أو ومسألته في وجه خموش أو خدوش أو كدوح قيل يا رسول اهلل وما يغنيه قال :خمسون
قيمتها من الذهب» أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وهذا قول الثوري وابن المبارك وأحمد
ً
درهما لما ً
درهما من الزكاة وقيل :أربعين وإسحاق .وقالوا :ال يجوز أن يعطى الرجل أكثر من خمسين
روي عن أبي سعيد الخدري قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم «من سأل وله قيمة أوقية فقد
ً
درهما الصنف الثالث قوله سبحانه ألحف» أخرجه أبو داود وكانت األوقية في ذلك الزمان أربعين
وتعالى { :والعالمين عليها} وهم السعاة الذين يتولون جباية الصدقات وقبضها من أهلها ووضعها في
جهتها فيعطون من مال الصدقات بقدر أجور أعمالهم سواء كانوا فقراء أو أغنياء وهذا قول ابن عمر
وبه .قال الشافعي وقال مجاهد والضحاك :يعطون الثمن من الصدقات .وظاهر اللفظ مع مجاهد إال أن
الشافعي يقول :هو وأجره عمل تقدر بقدر العمل والصحيح أن الهاشمي والمطلبي ال يجوز أن يكون
ال من بنيال على الصدقات لما روي عن أبي رافع أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم استعمل رج ً عام ً
مخزوم على الصدقة فأراد أبو رافع أن يتبعه فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :ال تحل لنا الصدقة
وأن مولى القوم منهم» أخرجه الترمذي والنسائي الصنف الرابع قوله تعالى{ :والمؤلفة قلوبهم} وهم
قسمان :قسم مسلمون وقسم كفار فأما قسم المسلمين فقسمان القسم األول هم قوم من أشراف العرب
كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يعطيهم من الصدقات يتألفهم بذلك كما أعطى عيينة بن حصن
واألقرع بن حابس والعباس بن مرداس السلمي فهؤالء أسلموا وكانت نيتهم ضعيفة فكان رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم يعطيهم لتقوى رغبتهم في اإلسالم وقوم أسلموا وكانت نيتهم قوية في اإلسالم
وهم أشراف قومهم مثل عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر فكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يعطيهم
ترغيبا ألمثالهم في اإلسالم فيجوز لإلمام أن يعطي أمثال هؤالء من خمس خمس الغنيمة ً ً
تألفا لقومهم
ً
أيضا. والفيء من سهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان يعطيهم من ذلك ومن الصدقات
القسم الثاني من مؤلفة المسلمين هم قوم من المسلمين يكونون بإزاء قوم كفار في موضع ال تبلغهم
جيوش المسلمين إال بكلفة كبيرة ومؤنة عظيمة وهؤالء الذين بإزائهم من المسلمين ال يجاهدونهم
لضعف نيتهم أو لضعف حالهم فيجوز لإلمام أن يعطيهم من سهم الغزاة من مال الصدقة وقيل من سهم
المؤلفة قلوبهم ومن هؤالء قوم بإزاء جماعة من مانعي الزكاة فيأخذون منهم الزكاة ويحملونها إلى
اإلمام فيعطيهم اإلمام من سهم المؤلفة من الصدقات وقيل من سهم سبيل اهلل .روي أن عدي بن حاتم
ً
بعيرا وأما مؤلفة الكفار فهم جاء أبا بكر بثلثمائة من اإلبل من صدقات قومه فأعطاه أبو بكر منها ثالثين
قوم يخشى شرهم أو يرجى إسالمهم فيجوز لإلمام أن يعطي من يخاف شره أو يرجو إسالمه فقد كان
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يعطيهم من خمس الخمس كما أعطى صفوان بن أمية لما كان يرى من
ميله إلى اإلسالم أما اليوم فقد أعز اهلل اإلسالم وله الحمد على ذلك وأغناه عن أن يتألف عليه أحد من
ً
تألفا بحال وقد قال بهذا كثير من أهل العلم ورأوا أن المؤلفة منقطعة المشركين فال يعطى مشرك
وسهمهم ساقط يروى ذلك عن ابن عمر وعكرمة وهو قول الشعبي وبه قال مالك والثوري وأصحاب
الرأي وإسحاق بن راهويه .وقال قوم :سهمهم ثابت لم يسقط .يروى ذلك عن الحسن وهو قول الزهري
وأبي جعفر محمد بن علي وأبي ثور وقال أحمد يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك الصنف الخامس
قوله سبحانه وتعالى { :وفي الرقاب} قال الزجاج :فيه حذف تقديره وفي فك الرقاب وفي تفسير
الرقاب أقوال األول أن سهم الرقاب موضوع في المكاتبين فيدفع إليهم ليعتقوا به وهذا مذهب
الشافعي رضي اهلل تعالى عنه وهو قول أكثر الفقهاء منهم سعيد بن جبير والنخعي والزهري والليث بن
ً
أيضا قوله تعالى وآتوهم من مال اهلل الذي آتاكم ،القول الثاني وهو مذهب مالك سعد ويدل عليه
وأحمد وإسحاق أن سهم الرقاب موضوع لعتق الرقاب فيشترى به عبيد ويعتقون ويدل عليه ما روي
عن ابن عباس أنه قال ال بأس أن يعتق الرجل من الزكاة القول الثالث وهو قول أبي حنيفة وأصحابه
أنه ال يعتق من الزكاة رقبة كاملة لكن يعطي منها في عتق رقبة ويعان بها مكاتب ألن قوله في الرقاب
يقتضي التبعيض .القول الرابع وهو قول الزهري أن سهم الرقاب نصفان نصف للمكاتبين ونصف يشترى
به عبيد ممن صلوا وصاموا وقدم إسالمهم فيعقتوا من الزكاة .قال أصحابنا :األحوط في سهم الرقاب
أن يدفع إلى السيد بإذن المكاتب ويدل عليه أنه سبحانه وتعالى أثبت الصدقات لألصناف األربعة
المتقدمة بالم الملك فقال :إنما الصدقات للفقراء.
وقال :في الصنف الخامس وفي الرقاب فال بد لهذا الفرق من فائدة وهي أن األصناف األربعة المتقدم
ذكرها يدفع إليهم نصيبهم من الصدقات فيصرفون ذلك فيما شاؤوا وأما الرقاب فيوضع نصيبهم في
تخليص رقابهم من الرق وال يدفع إليهم وال يمكنون من التصرف فيه وكذا القول في الغارمين فيصرف
نصيبهم في قضاء ديونهم وفي الغزاة يصرف نصيبهم فيما يحتاجون إليه في الغزو وكذا ابن السبيل
فيصرف إليه ما يحتاج إليه في سفره إلى بلوغ غرضه الصنف السادس قوله سبحانه وتعالى:
ً
شاقا على اإلنسان ً
غرما لكونه { والغارمين} أصل الغرم في اللغة لزوم ما يشق عليه النفس وسمى الدين
والمراد بالغارمين هنا المدينون وهم قسمان أدانوا ألنفسهم في غير معصية فيعطون من مال الصدقات
بقدر ديونهم إذا لم يكن لهم مال يفي بدينونهم فإن كان عندهم وفاء فال يعطون وقسم أدانوا في
المعروف وإصالح ذات البين فيعطون من مال الصدقات ما يقضون به دينهم وإن كانوا أغنياء لما روي
عن عطاء بن يسار أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :ال تحل الصدقة لغني إال لخمسة لغاز في
سبيل اهلل أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل أسير إعانة أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على
ال ألن عطاء بن يسار لم يدرك النبي صلى اهللالمسكين فأهدى المسكين للغني» أخرجه أبو داود مرس ً
عليه وسلم ورواه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى اهلل
ً
شيئا الصنف السابع قوله ال بمعناه أما من كان دينه في معصية فال يعطى من الصدقات عليه وسلم متص ً
تعالى { :وفي سبيل اهلل} يعني وفي النفقة في سبيل اهلل وأراد به الغزاة فلهم سهم من مال الصدقات
فيعطون إذا أرادوا الخروج إلى الغزو ما يستعينون به على أمر الجهاد من النفقة والكسوة والسالح
فيعطون ذلك وإن كانوا أغنياء لما تقدم من حديث عطاء وأبي سعيد الخدري وال يعطى من سهم اهلل
لمن أراد الحج عند أكثر أهل العلم وقال قوم يجوز أن يصرف سهم سبيل اهلل إلى الحج يروى ذلك عن
ابن عباس وهو قول الحسن وإليه ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وقال بعضهم :إن اللفظ عام
فال يجوز قصره على الغزاة فقط ولهذا أجاز بعض الفقهاء صرف سهم سبيل اهلل إلى جميع وجوه الخير
من تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد وغير ذلك قال ألن قوله وفي سبيل اهلل
عام في الكل فال يختص بصنف دون غيره والقول األول هو الصحيح إلجماع الجمهور عليه .الصنف
الثامن قوله سبحانه وتعالى { :وابن السبيل} يعني المسافر من بلد إلى بلد والسبيل الطريق سمي
المسافر ابن السبيل لمالزمته الطريق قال الشاعر:
وليدا *** إلى أن شبت واكتهلت لداتيً أنا ابن الحرب ربتني
مباحا ولم يكن له ما يقطع به مسافة سفره يعطى من الصدقات ما يكفيه لمؤنة سفره ً ً
سفرا فكل مريد
سواء كان له مال في البلد الذي يقصده أو لم يكن له مال ،وقال قتادة :ابن السبيل هو الضيف وقال
فقهاء العراق :ابن السبيل هو الحاج المنقطع.
وقوله تعالى { :فريضة من اهلل} يعني أن هذه األحكام التي ذكرها في اآلية فريضة واجبة من اهلل وقيل
فرض اهلل هذه األشياء فريضة { واهلل عليم} يعني بمصالح عباده {حكيم} يعني فيما فرض لهم ال
يدخل في تدبيره وحكمه نقض وال خلل.
المسألة الرابعة :في أحكام متفرقة تتعلق بالزكاة اتفق العلماء على أن المراد بقوله إنما الصدقات للفقراء
هي الزكاة المفروضة بدليل قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة واختلفوا في كيفية قسمتها وفي جواز
صرفها كلها إلى بعض األصناف دون بعض فذهب جماعة من الفقهاء إلى أنه ال يجوز صرفها كلها إلى
بعض األصناف مع وجود الباقين وهو قول عكرمة وإليه ذهب الشافعي قال :يجب أن يقسم زكاة ماله
على الموجودين من األصناف الستة الذين سماهم ثمانية أقسام قسمة على السواء ألن سهم المؤلفة
ساقط وسهم العامل ساقط إذا قسم زكاته بنفسه ثم حصة كل صنف من األصناف الستة ال يجوز أن
تصرف إلى أقل من ثالثة منهم إن وجد منه ثالثة أو أكثر فلو فاوت بين أولئك الثالثة جاز فإن لم يجد
واحدا دفع حصة ذلك الصنف إليه ما لم يخرج من حد االستحقاق فإن انتهت ً من بعض األصناف إال
حاجة وفضل شيء رده إلى الباقين وذهب جماعة من العلماء إلى أنه لو صرف الكل إلى صنف واحد من
هذه األصناف أو إلى شخص واحد منهم جاز ألن اهلل سبحانه وتعالى إنما سمى هذه األصناف الثمانية
ً
جميعا وهذا قول عمر ً
إيجابا منه لقسمتها بينهم ً
إعالما منه أن الصدقة ال تخرج عن هذه الثمانية إال
وابن عباس وبه قال سعيد بن جبير وعطاء وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي وأحمد بن حنبل.
قال أحمد بن حنبل :يجوز أن يضعها في صنف واحد وتفريقها أولى .وقال إبراهيم النخعي :إن كان
ال وضعه في صنف واحد .وقال مالك: كثيرا يحتمل اإلجزاء قسمه على األصناف وإن كان قلي ً ً المال
يتحرى موضع الحاجة منهم ويقدم األولى فاألولى من أهل الخلة والحاجة فإن رأى الخلة في الفقراء
ً
شيئا من الصدقة فال في عام قدمهم وإن رآها في صنف آخر في عام حولها إليهم وكل من دفع غيله
محترفا لكنه ال يجد آلة حرفته فيعطي قدر ما يحصل به آلة حرفته فاالعتبار ً ً
شيئا وإن كان يعطي بعده
عند اإلمام الشافعي رضي اهلل عنه ما يدفع الحاجة من غير حد.
ً
درهما وقال أبو حنيفة :أكره أن يعطى رجل وقال أحمد بن حنبل :ال يعطي الفقير أكثر من خمسين
ً
فقيرا فبان أنه غني فهل يجزئ فيه واحد من الزكاة مائتي درهم فإن أعطيته أجزأ فإن أعطى من يظنه
قوالن وال يجوز أن يعطي صدقته لمن تلزمه نفقته وبه قال مالك والثوري وأحمد وقال أبو حنيفة
ولدا وإن سفل وال زوجة ويعطي من عداهم وتحرم الصدقة على ً ً
والدا وإن عال وال والشافعي :ال يعطى
ذوي القربى وهم بنو هاشم وبنو المطلب فال يدفع إليهم من الزكاة شيء قوله صلى اهلل عليه وسلم:
«إنا آل بيت ال تحل لنا الصدقة» وقال أبو حنيفة تحرم على بني هاشم وال تحرم على بني المطلب دليلنا
قوله صلى اهلل عليه وسلم «إنا وبنو المطلب شيء واحد لم يفارقونا في جاهلية وال إسالم» وتحرم
الصدقة على موالي بني هاشم وبني المطلب قوله صلى اهلل عليه وسلم «مولى القوم منهم» وقال مالك
ال تحرم واختلفوا في نقل الصدقة من بلد إلى بلد آخر مع وجود المستحقين في بلد المال فكرهه أكثر
أهل العلم لتعلق قلوب فقراء ذلك البلد بذلك المال ولقوله صلى اهلل عليه وسلم لمعاذ «وأعلمهم أن اهلل
سحبانه وتعالى افترض عليهم صدقة من أغنيائهم وترد على فقرائهم» الحديث بطوله في الصحيحين
واتفقوا على أنه إذا نقل المال إلى بلد آخر وأداه إلى فقراء ذلك البلد سقط عنه الفرض إال ما حكى عن
عمر بن عبد العزيز فإنه رد صدقة حملت من خرسان إلى الشام فردها إلى مكانها من خراسان واهلل
أعلم.
.8تفسير الجاللين
ً
موقعا من كفايتهم {والمساكين} {ِإ َّن َما الصدقات} الزكوات مصروفة { ِل ْل ُف َق َرآء} الذين ال يجدون ما يقع
جاب وقاسم وكاتب وحاشر {والمؤلفة ٍ الذين ال يجدون ما يكفيهم {والعاملين عَ لَ ْيهَ ا} أي الصدقات من
ُق ُلو ُبهُ ْم} ليسلموا أو يثبت إسالمهم أو يُ سلم نظراؤهم أو يذبوا عن المسلمين أقسام واألول واألخير ال
لعز اِإل سالم ،بخالف اآلخرين فيعطيان على األصح يعطيان اليوم عند الشافعي رضي اهلل تعالى عنه ّ
{ َو ِف ى} فك { الرقاب} أي المكاتبين { والغارمين} أهل الدين إن استدانوا لغير معصية ،أو تابوا وليس
لهم وفاء أو ِإل صالح ذات البين ولو أغنياء { َو ِفى َس ِبيل ِ اهلل} أي القائمين بالجهاد ممن ال فيء لهم ولو
يم} بخلقهيض ًة} نصب بفعله المقدر {مِّ َن اهلل واهلل عَ ِل ٌ أغنياء {وابن السبيل} المنقطع في سفره { َف ِر َ
يم} في صنعه فال يجوز صرفها لغير هؤالء ،وال منعَ صنف منهم إذا وجد فيقسمها اِإل مام عليهم { َح ِك ٌ
على السواء وله تفضيل بعض آحاد الصنف على بعض ،وأفادت (الالم) وجوب استغراق أفراده لكن ال
يجب على صاحب المال إذا قسم لعسره ،بل يكفي إعطاء ثالثة من كل صنف وال يكفي دونها كما أفادته
المعطى منها اإلسالم وأن ال يكون هاشميا وال ُم َّط ِل ِب ّي ًا.َ صيغة الجمع وبينت السنة أن شرط
.9تفسير الخازن
{ ولو أنهم رضوا} يعني ولو أن المنافقين الذين عابوا عليك رضوا بما قسم اهلل لهم وقنعوا {ما آتاهم
اهلل ورسوله وقالوا حسبنا اهلل} أي كافينا اهلل { سيؤتينا اهلل من فضله ورسوله} يعني إليه {إنا إلى اهلل
راغبون} يعني في أن يوسع علينا من فضله فيغنينا عن الصدقة وعن غيرها من أموال الناس وجواب
ً
خيرا لهم وأعود عليهم. لو محذوف تقديره لكان
قوله عز وجل { :إنما الصدقات للفقراء والمساكين} اآلية اعلم أن المنافقين لما لمزو رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم وعابوه في قسم الصدقات َّبين اهلل عز وجل في هذه اآلية إن المستحقين للصدقات هؤالء
األصناف الثمانية ومصرفها إليهم وال تعلن لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم منها بشيء ولم يأخذ لنفسه
شيئا فلم يلمزونه ويعيبون عليه فال مطعن لهم فيه بسبب قسم الصدقات .عن زياد بن الحرث ً منها
الصدائي قال :أتيت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فبايعته فأتاه رجل فقال أعطني من الصدقة فقال
له رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :إن اهلل لم يرض بحكم نبي وال غيره في الصدقات حتى حكم فيها
هو فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك األجزاء أعطيتك حقك» أخرجه أبو داود.
فصل في بيان حكم هذه اآلية وفيه مسائل:
المسألة األولى :في بيان وجه الحكمة في إيجاب الزكاة على اإلغنياء وصرفها إلى المحتاجين من الناس
وذلك من وجوه ،الوجه األول أو المال محبوب بالطبع وسببه أن القدرة صفة من صفات الكمال محبوبة
ً
محبوبا بالطبع فإذا استغرق القلب في حب المال لذاتها والمال سبب لتحصيل تلك القدرة فكان المال
اشتغل به عن حب اهلل عز وجل وعن االشتغال بالطاعات المقربة إلى اهلل عز وجل فاقتضت الحكمة
ً
سببا للقرب من اهلل عز وجل اإللهية إيجاب الزكاة في ذلك المال الذي هو سبب البعد عن اهلل فيصير
بإخراج الزكاة منه .الوجه الثاني :إن كثرة المال توجب قسوة القلب وحب الدنيا والميل إلى شهواتها
ولذاتها فأوجب اهلل سبحانه وتعالى الزكاة ليقل ذلك المال الذي هو سببب لقساوة القلب .الوجه الثالث
سبب وجوب الزكاة امتحان العبد المؤمن ألن التكاليف البدنية غير شاقة على العبد وإخراج المال مشق
على النفس فأوجب اهلل عز وجل الزكاة على العباد ليمتحن بإخراج الزكاة أصحاب األموال لتميز بذلك
المطيع المخرج لها طيبة بها نفسه من العاصي المانع لها .الوجه الرابع أن المال مال اهلل واألغنياء خزان
اهلل والفقراء عيال اهلل فأمر اهلل سبحانه وتعالى خزانه الذين هم أغنياء بدفع طائفة من ماله إلى عياله
فيثيب العبد المؤمن المطيع المسارع إلى امتثال المشفق على عياله ويعاقب العبد العاصي المانع لعياله
من ماله.
( ق) عن أبي موسى األشعري عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال« :إن الخازن المسلم األمين الذي ينفذ
ً
موفرا طيبة به نفسه فيدفعه إلى الذي أمر له به أحد وربما قال يعطي ما أمر به فيعطيه كام ً
ال
المتصدقين» الوجه الخامس أن الفقراء ربما تعلقت قلوبهم باألموال التي بأيدي األغنياء فأوجب اهلل عز
تطييبا لقلوبهم .الوجه السادس أن المال الفاضل عن حاجة اإلنسان ً ً
نصيبا للفقراء في ذلك المال وجل
ال عن المقصود الذي ألجله خلق المال فأمر بدفع الزكاة إلى الفقراء حتى ال األصلية إذا أمسك بقي معط ً
يصير ذلك المال معط ً
ال بالكلية.
المسألة الثانية :اآلية تدل على أنه ال حق ألحد في الصدقات إال هؤالء األصناف الثمانية وذلك مجمع
عليه ألن كلمتي إنما تفيدان الحصر وذلك ألنها مركبة من إن وما فكلمة إن لإلثبات وكلمة ما للنفي فعند
اجتماعهما يفيدان الحكم المذكور وصرفه عما عداه فدل ذلك على أن الصدقات ال تصرف إال إلى
األصناف الثمانية.
المسألة الثالثة :في بيان األصناف الثمانية فالصنف األول للفقراء والثاني للمساكين وهم المحتاجون
الذين ال يفي خرجهم بدخلهم ثم اختلف العلماء في الفرق بين الفقير والمسكين فقال ابن عباس
والحسن ومجاهد وعكرمة والزهري :الفقير الذي ال يسأل والمسكين السائل وقال ابن عمر :ليس بفقير
من جمع الدرهم إلى الدرهم والتمر إلى التمرة ولكن الفقير من أنقى نفسه وثيابه وال يقدر على الشيء
يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف .وقال قتادة :الفقير المحتاج الزمن والمسكين الصحيح المحتاج
ً
زمنا كان أو غير زمن ً
موقعا وقال الشافعي رضي اهلل تعالى عنه :الفقير من ال مال له وال حرفة تقع منه
ال كان أو غير سائل فالمكسين عنده ً
موقعا لكفايته سائ ً والمسكين من له مال أو حرفة ولكن ال تقع منه
أحسن حاالً من الفقير .وقال أبو حنيفة ،وأصحاب الرأي :الفقير أحسن حاالً من المسكين ومن الناس من
قال ال فرق بين الفقير والمسكين حجة الشافعي ومن وافقه أن اهلل سبحانه وتعالى حكم بصرف
ال لمصلحتهم فبدأ بالفقر وإنما يبدأ فاألهم دفعا لحاجتهم وتحصي ًً الصدقات إلى هؤالء األصناف الثمانية
فلو لم تكن حاجتهم أشد من حاجة المساكين لما بدأ بهم وأصل الفقير المكسور الفقار قال لبيد:
لما رأى لبد النسور تطايرت *** رفع القوادم كالفقير األعزل
ً
فقيرا لزمانته قال ابن األعرابي :الفقير في هذا البيت المكسور الفقار فثبت بهذا أن الفقير إنما سمي
وحاجته الشديدة وتمنعه الزمانة من التقلب في الكسب وألن النبي صلى اهلل عليه وسلم كان يتعوذ من
مسكينا واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة» رواه ً ً
مسكينا وأمتني الفقر وقال« :اللهم أحيني
الترمذي من حديث أنس فلو كان المسكين أسوأ حاالً من الفقير لما تعوذ من الفقر وسأل المسكنة فثبت
بهذا أن المسكين أحسن حاالً من الفقير وألن اهلل سبحانه وتعالى قال أما السفينة فكانت لمساكين
ملكا مع اسم المسكنة ألن السفينة من سفن البحر تساوي دنانير كثيرة ً يعملون في البحر فأثبت لهم
وألن الغنى والفقر ضدان والمسكنة قسم ثالث بينهما فثبت بهذا أن الفقير أسوأ حاالً من المسكين
ً
مسكينا ذا متربة وصف وحجة أبي حنيفة ومن وافقه على أن المسكين أسوأ حاالً من الفقير قوله أو
المسكين بكونه ذا متربة وهو الذي لصق جلده بالتراب وهذا يدل على غاية الضر والشدة وألن اهلل
ً
أيضا تعالى جعل الكفارات للمساكين فلو لم يكن المسكين أشد حاجة من غيره لما جعلها له واحتج
بقول الراعي:
أما الفقير الذي كانت حلوبته *** وفق العيال فلم يترك له سبد
أيضا بقول األصمعي وأبي عمرو بن العالء أن الفقير الذي له ما يأكل والمسكين الذي ال شيء له ً واحتج
وكذا قال القتيبي :الفقير الذي له البلغة من العيش والمسكين الذي ال شيء له وقيل :الفقير الذي له
ً
غنيا المسكن والخادم والمسكين الذي ال ملك له وقيل :إن كل محتاج إلى شيء فهو مفتقر إليه وإن كان
عن غيره قال اهلل سبحانه وتعالى { :أنتم الفقراء إلى اهلل} فأثبت لهم اسم الفقر مع وجدان المال
مسكينا ذا متربة فهو حجة لمذهب اإلمام الشافعي رضي اهللً والجواب عن هذه الحجج أما قوله أو
تعالى عنه ألنه قيد المسكين المذكور هنا بكونه ذا متربة فدل على أنه قد يوجد مسكين ال بهذه الصفة
وإال لم يبق لهذا القيد فائدة والجواب عن جعل الكفارات للمسكين أنه هو الفقير الذي لصق جلده
بالتراب من شدة المسكنة والجواب عن االستدالل ببيت الراعي إنه ذكر الفقير وجده فكل فقير أفرد
باالسم جاز إطالق المسكين عليه فسقط االستدالل به وأما الروايات المذكورة فهي معارضة بما تقدم
من الروايات عن ابن عباس وغيره من المفسرين .وبالجملة أن الفقر والمسكنة عبارتان عن شدة الحاجة
وضعف الحال فالفقير هو الذي كسرت الحاجة فقار ظهره والمسكين هو الذي ضعفت نفسه وسكنت عن
الحركة في طلب القوت .عن عبد اهلل بن عمرو بن العاص أن رسول اهلل صلى اهلل عيله وسلم قال« :ال
تحل الصدقة لغني وال لذي مرة سوي» أخرجه النسائي وأبو داود وله في رواية أخرى «وال لذي مرة
قوي» عن عبيد اهلل بن عدي بن الخيار قال« :أخبرني رجالن أنهما أتيا النبي صلى اهلل عليه وسلم وهو
في حجة الوداع وهو يقسم الصدقات فسأاله منها فرفع فينا النظر وخفضه فرآنا جلدين فقال إن شئتما
أعطيتكما وال حظ فيها لغني وال لقوي مكتسب» أخرجه أبو داود والنسائي وأخرجه الشافعي ولفظه
«أن رجلين أتيا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فسأاله عن الصدقة فقال :إن شئتما أعطيتكما والحظ
فيها لغني وال لذي قوة مكتسب» واختلف العلماء في حد الغنى الذي يمنع من أخذ الصدقة فقال
األكثرون حده أن يكون عنده ما يكفيه وعياله سنة وهو قول مالك والشافعي .وقال أصحاب الرأي:
ً
درهما أو قيمتها ال تحل له الصدقة لما روي عن حده أن يملك مائتي درهم .وقال قوم :من ملك خمسين
ابن مسعود قال قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة
ً
درهما أو ومسألته في وجه خموش أو خدوش أو كدوح قيل يا رسول اهلل وما يغنيه قال :خمسون
قيمتها من الذهب» أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وهذا قول الثوري وابن المبارك وأحمد
ً
درهما لما ً
درهما من الزكاة وقيل :أربعين وإسحاق .وقالوا :ال يجوز أن يعطى الرجل أكثر من خمسين
روي عن أبي سعيد الخدري قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم «من سأل وله قيمة أوقية فقد
ً
درهما الصنف الثالث قوله سبحانه ألحف» أخرجه أبو داود وكانت األوقية في ذلك الزمان أربعين
وتعالى { :والعالمين عليها} وهم السعاة الذين يتولون جباية الصدقات وقبضها من أهلها ووضعها في
جهتها فيعطون من مال الصدقات بقدر أجور أعمالهم سواء كانوا فقراء أو أغنياء وهذا قول ابن عمر
وبه .قال الشافعي وقال مجاهد والضحاك :يعطون الثمن من الصدقات .وظاهر اللفظ مع مجاهد إال أن
الشافعي يقول :هو وأجره عمل تقدر بقدر العمل والصحيح أن الهاشمي والمطلبي ال يجوز أن يكون
ال من بني ال على الصدقات لما روي عن أبي رافع أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم استعمل رج ً عام ً
مخزوم على الصدقة فأراد أبو رافع أن يتبعه فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :ال تحل لنا الصدقة
وأن مولى القوم منهم» أخرجه الترمذي والنسائي الصنف الرابع قوله تعالى{ :والمؤلفة قلوبهم} وهم
قسمان :قسم مسلمون وقسم كفار فأما قسم المسلمين فقسمان القسم األول هم قوم من أشراف العرب
كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يعطيهم من الصدقات يتألفهم بذلك كما أعطى عيينة بن حصن
واألقرع بن حابس والعباس بن مرداس السلمي فهؤالء أسلموا وكانت نيتهم ضعيفة فكان رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم يعطيهم لتقوى رغبتهم في اإلسالم وقوم أسلموا وكانت نيتهم قوية في اإلسالم
وهم أشراف قومهم مثل عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر فكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يعطيهم
ترغيبا ألمثالهم في اإلسالم فيجوز لإلمام أن يعطي أمثال هؤالء من خمس خمس الغنيمة ً ً
تألفا لقومهم
ً
أيضا. والفيء من سهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان يعطيهم من ذلك ومن الصدقات
القسم الثاني من مؤلفة المسلمين هم قوم من المسلمين يكونون بإزاء قوم كفار في موضع ال تبلغهم
جيوش المسلمين إال بكلفة كبيرة ومؤنة عظيمة وهؤالء الذين بإزائهم من المسلمين ال يجاهدونهم
لضعف نيتهم أو لضعف حالهم فيجوز لإلمام أن يعطيهم من سهم الغزاة من مال الصدقة وقيل من سهم
المؤلفة قلوبهم ومن هؤالء قوم بإزاء جماعة من مانعي الزكاة فيأخذون منهم الزكاة ويحملونها إلى
اإلمام فيعطيهم اإلمام من سهم المؤلفة من الصدقات وقيل من سهم سبيل اهلل .روي أن عدي بن حاتم
ً
بعيرا وأما مؤلفة الكفار فهم جاء أبا بكر بثلثمائة من اإلبل من صدقات قومه فأعطاه أبو بكر منها ثالثين
قوم يخشى شرهم أو يرجى إسالمهم فيجوز لإلمام أن يعطي من يخاف شره أو يرجو إسالمه فقد كان
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يعطيهم من خمس الخمس كما أعطى صفوان بن أمية لما كان يرى من
ميله إلى اإلسالم أما اليوم فقد أعز اهلل اإلسالم وله الحمد على ذلك وأغناه عن أن يتألف عليه أحد من
ً
تألفا بحال وقد قال بهذا كثير من أهل العلم ورأوا أن المؤلفة منقطعة المشركين فال يعطى مشرك
وسهمهم ساقط يروى ذلك عن ابن عمر وعكرمة وهو قول الشعبي وبه قال مالك والثوري وأصحاب
الرأي وإسحاق بن راهويه .وقال قوم :سهمهم ثابت لم يسقط .يروى ذلك عن الحسن وهو قول الزهري
وأبي جعفر محمد بن علي وأبي ثور وقال أحمد يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك الصنف الخامس
قوله سبحانه وتعالى { :وفي الرقاب} قال الزجاج :فيه حذف تقديره وفي فك الرقاب وفي تفسير
الرقاب أقوال األول أن سهم الرقاب موضوع في المكاتبين فيدفع إليهم ليعتقوا به وهذا مذهب
الشافعي رضي اهلل تعالى عنه وهو قول أكثر الفقهاء منهم سعيد بن جبير والنخعي والزهري والليث بن
أيضا قوله تعالى وآتوهم من مال اهلل الذي آتاكم ،القول الثاني وهو مذهب مالكً سعد ويدل عليه
وأحمد وإسحاق أن سهم الرقاب موضوع لعتق الرقاب فيشترى به عبيد ويعتقون ويدل عليه ما روي
عن ابن عباس أنه قال ال بأس أن يعتق الرجل من الزكاة القول الثالث وهو قول أبي حنيفة وأصحابه
أنه ال يعتق من الزكاة رقبة كاملة لكن يعطي منها في عتق رقبة ويعان بها مكاتب ألن قوله في الرقاب
يقتضي التبعيض .القول الرابع وهو قول الزهري أن سهم الرقاب نصفان نصف للمكاتبين ونصف يشترى
به عبيد ممن صلوا وصاموا وقدم إسالمهم فيعقتوا من الزكاة .قال أصحابنا :األحوط في سهم الرقاب
أن يدفع إلى السيد بإذن المكاتب ويدل عليه أنه سبحانه وتعالى أثبت الصدقات لألصناف األربعة
المتقدمة بالم الملك فقال :إنما الصدقات للفقراء.
وقال :في الصنف الخامس وفي الرقاب فال بد لهذا الفرق من فائدة وهي أن األصناف األربعة المتقدم
ذكرها يدفع إليهم نصيبهم من الصدقات فيصرفون ذلك فيما شاؤوا وأما الرقاب فيوضع نصيبهم في
تخليص رقابهم من الرق وال يدفع إليهم وال يمكنون من التصرف فيه وكذا القول في الغارمين فيصرف
نصيبهم في قضاء ديونهم وفي الغزاة يصرف نصيبهم فيما يحتاجون إليه في الغزو وكذا ابن السبيل
فيصرف إليه ما يحتاج إليه في سفره إلى بلوغ غرضه الصنف السادس قوله سبحانه وتعالى:
ً
شاقا على اإلنسان ً
غرما لكونه { والغارمين} أصل الغرم في اللغة لزوم ما يشق عليه النفس وسمى الدين
والمراد بالغارمين هنا المدينون وهم قسمان أدانوا ألنفسهم في غير معصية فيعطون من مال الصدقات
بقدر ديونهم إذا لم يكن لهم مال يفي بدينونهم فإن كان عندهم وفاء فال يعطون وقسم أدانوا في
المعروف وإصالح ذات البين فيعطون من مال الصدقات ما يقضون به دينهم وإن كانوا أغنياء لما روي
عن عطاء بن يسار أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :ال تحل الصدقة لغني إال لخمسة لغاز في
سبيل اهلل أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل أسير إعانة أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على
ال ألن عطاء بن يسار لم يدرك النبي صلى اهلل المسكين فأهدى المسكين للغني» أخرجه أبو داود مرس ً
عليه وسلم ورواه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى اهلل
ً
شيئا الصنف السابع قوله ال بمعناه أما من كان دينه في معصية فال يعطى من الصدقات عليه وسلم متص ً
تعالى { :وفي سبيل اهلل} يعني وفي النفقة في سبيل اهلل وأراد به الغزاة فلهم سهم من مال الصدقات
فيعطون إذا أرادوا الخروج إلى الغزو ما يستعينون به على أمر الجهاد من النفقة والكسوة والسالح
فيعطون ذلك وإن كانوا أغنياء لما تقدم من حديث عطاء وأبي سعيد الخدري وال يعطى من سهم اهلل
لمن أراد الحج عند أكثر أهل العلم وقال قوم يجوز أن يصرف سهم سبيل اهلل إلى الحج يروى ذلك عن
ابن عباس وهو قول الحسن وإليه ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وقال بعضهم :إن اللفظ عام
فال يجوز قصره على الغزاة فقط ولهذا أجاز بعض الفقهاء صرف سهم سبيل اهلل إلى جميع وجوه الخير
من تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد وغير ذلك قال ألن قوله وفي سبيل اهلل
عام في الكل فال يختص بصنف دون غيره والقول األول هو الصحيح إلجماع الجمهور عليه .الصنف
الثامن قوله سبحانه وتعالى { :وابن السبيل} يعني المسافر من بلد إلى بلد والسبيل الطريق سمي
المسافر ابن السبيل لمالزمته الطريق قال الشاعر:
ً
وليدا *** إلى أن شبت واكتهلت لداتي أنا ابن الحرب ربتني
مباحا ولم يكن له ما يقطع به مسافة سفره يعطى من الصدقات ما يكفيه لمؤنة سفره ً ً
سفرا فكل مريد
سواء كان له مال في البلد الذي يقصده أو لم يكن له مال ،وقال قتادة :ابن السبيل هو الضيف وقال
فقهاء العراق :ابن السبيل هو الحاج المنقطع.
وقوله تعالى { :فريضة من اهلل} يعني أن هذه األحكام التي ذكرها في اآلية فريضة واجبة من اهلل وقيل
فرض اهلل هذه األشياء فريضة { واهلل عليم} يعني بمصالح عباده {حكيم} يعني فيما فرض لهم ال
يدخل في تدبيره وحكمه نقض وال خلل.
المسألة الرابعة :في أحكام متفرقة تتعلق بالزكاة اتفق العلماء على أن المراد بقوله إنما الصدقات للفقراء
هي الزكاة المفروضة بدليل قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة واختلفوا في كيفية قسمتها وفي جواز
صرفها كلها إلى بعض األصناف دون بعض فذهب جماعة من الفقهاء إلى أنه ال يجوز صرفها كلها إلى
بعض األصناف مع وجود الباقين وهو قول عكرمة وإليه ذهب الشافعي قال :يجب أن يقسم زكاة ماله
على الموجودين من األصناف الستة الذين سماهم ثمانية أقسام قسمة على السواء ألن سهم المؤلفة
ساقط وسهم العامل ساقط إذا قسم زكاته بنفسه ثم حصة كل صنف من األصناف الستة ال يجوز أن
تصرف إلى أقل من ثالثة منهم إن وجد منه ثالثة أو أكثر فلو فاوت بين أولئك الثالثة جاز فإن لم يجد
واحدا دفع حصة ذلك الصنف إليه ما لم يخرج من حد االستحقاق فإن انتهت ً من بعض األصناف إال
حاجة وفضل شيء رده إلى الباقين وذهب جماعة من العلماء إلى أنه لو صرف الكل إلى صنف واحد من
هذه األصناف أو إلى شخص واحد منهم جاز ألن اهلل سبحانه وتعالى إنما سمى هذه األصناف الثمانية
ً
جميعا وهذا قول عمر ً
إيجابا منه لقسمتها بينهم ً
إعالما منه أن الصدقة ال تخرج عن هذه الثمانية إال
وابن عباس وبه قال سعيد بن جبير وعطاء وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي وأحمد بن حنبل.
قال أحمد بن حنبل :يجوز أن يضعها في صنف واحد وتفريقها أولى .وقال إبراهيم النخعي :إن كان
ال وضعه في صنف واحد .وقال مالك: كثيرا يحتمل اإلجزاء قسمه على األصناف وإن كان قلي ً ً المال
يتحرى موضع الحاجة منهم ويقدم األولى فاألولى من أهل الخلة والحاجة فإن رأى الخلة في الفقراء
ً
شيئا من الصدقة فال في عام قدمهم وإن رآها في صنف آخر في عام حولها إليهم وكل من دفع غيله
ً
محترفا لكنه ال يجد آلة حرفته فيعطي قدر ما يحصل به آلة حرفته فاالعتبار ً
شيئا وإن كان يعطي بعده
عند اإلمام الشافعي رضي اهلل عنه ما يدفع الحاجة من غير حد.
ً
درهما وقال أبو حنيفة :أكره أن يعطى رجل وقال أحمد بن حنبل :ال يعطي الفقير أكثر من خمسين
ً
فقيرا فبان أنه غني فهل يجزئ فيه واحد من الزكاة مائتي درهم فإن أعطيته أجزأ فإن أعطى من يظنه
قوالن وال يجوز أن يعطي صدقته لمن تلزمه نفقته وبه قال مالك والثوري وأحمد وقال أبو حنيفة
ولدا وإن سفل وال زوجة ويعطي من عداهم وتحرم الصدقة على ً ً
والدا وإن عال وال والشافعي :ال يعطى
ذوي القربى وهم بنو هاشم وبنو المطلب فال يدفع إليهم من الزكاة شيء قوله صلى اهلل عليه وسلم:
«إنا آل بيت ال تحل لنا الصدقة» وقال أبو حنيفة تحرم على بني هاشم وال تحرم على بني المطلب دليلنا
قوله صلى اهلل عليه وسلم «إنا وبنو المطلب شيء واحد لم يفارقونا في جاهلية وال إسالم» وتحرم
الصدقة على موالي بني هاشم وبني المطلب قوله صلى اهلل عليه وسلم «مولى القوم منهم» وقال مالك
ال تحرم واختلفوا في نقل الصدقة من بلد إلى بلد آخر مع وجود المستحقين في بلد المال فكرهه أكثر
أهل العلم لتعلق قلوب فقراء ذلك البلد بذلك المال ولقوله صلى اهلل عليه وسلم لمعاذ «وأعلمهم أن اهلل
سحبانه وتعالى افترض عليهم صدقة من أغنيائهم وترد على فقرائهم» الحديث بطوله في الصحيحين
واتفقوا على أنه إذا نقل المال إلى بلد آخر وأداه إلى فقراء ذلك البلد سقط عنه الفرض إال ما حكى عن
عمر بن عبد العزيز فإنه رد صدقة حملت من خرسان إلى الشام فردها إلى مكانها من خراسان واهلل
أعلم.
.10تفسير الرازي
ين َو ِفي َس ِبيل ِ
ار ِم َ ين عَ لَ ْيهَ ا َو ْال ُمَؤ َّل َف ِة ُق ُلو ُبهُ ْم َو ِفي الرِّ َق ِ
اب َو ْال َغ ِ اكين ِ َو ْالعَ ِ
ام ِل َ اء َو ْال َم َس ِ
ات ِل ْل ُف َق َر ِ
الصدَ َق ُ
{ِإ َّن َما َّ
يم (})60 يم َح ِك ٌ الس ِبيل ِ َف ِر َ
يض ًة ِم َن اهَّلل ِ َواهَّلل ُ عَ ِل ٌ اهَّلل ِ َوابْن ِ َّ
اعلم أن المنافقين لما لمزوا الرسول صلى اهلل عليه وسلم في الصدقات ،بين لهم أن مصرف الصدقات
نصيبا منها ،فلم يبق لهم طعن في الرسول بسبب أخذ الصدقات. ً هؤالء ،وال تعلق لي بها ،وال آخذ لنفسي
وهاهنا مقامات:
المقام األول :بيان الحكمة في أخذ القليل من أموال األغنياء ،وصرفها إلى المحتاجين من الناس.
والمقام الثاني :بيان حال هؤالء األصناف الثمانية المذكورين في هذه اآلية.
أما المقام األول :فنقول :الحكمة في إيجاب الزكاة أمور ،بعضها مصالح عائدة إلى معطى الزكاة .وبعضها
عائدة إلى آخذ الزكاة.
أما القسم األول :فهو أمور:
األول :أن المال محبوب بالطبع ،والسبب فيه أن القدرة صفة من صفات الكمال محبوبة لذاتها ،ولعينها ال
لغيرها ألنه ال يمكن أن يقال :إن كل شيء فهو محبوب لمعنى آخر وإال لزم ،إما التسلسل وإما الدور،
محبوبا لذاته .والكمال محبوب لذاته، ً وهما محاالن ،فوجب االنتهاء في األشياء المحبوبة إلى ما يكون
والنقصان مكروه لذاته فلما كانت القدرة صفة كمال ،وصفة الكمال محبوبة لذاتها ،كانت القدرة محبوبة
لذاتها .والمال سبب لحصول تلك القدرة ،ولكمالها في حق البشر فكان أقوى أسباب القدرة في حق البشر
محبوبا ،فهذا هو السبب في كونه ً هو المال ،والذي يتوقف عليه المحبوب فهو محبوب ،فكان المال
محبوبا إال أن االستغراق في حبه يذهل النفس عن حب اهلل وعن التأهب لآلخرة فاقتضت حكمة الشرع ً
ً
ومنعا كسرا من شدة الميل إلى المال، ً تكليف مالك المال بإخراج طائفة منه من يده ،ليصير ذلك اإلخراج
وتنبيها لها على أن سعادة اإلنسان ال تحصل عند االشتغال بطلب المال ً من انصراف النفس بالكلية إليها
وإنما تحصل بإنفاق المال في طلب مرضاة اهلل تعالى فإيجاب الزكاة عالج صالح متعين إلزالة مرض
حب الدنيا عن القلب ،فاهلل سبحانه أوجب الزكاة لهذه الحكمة .وهو المراد من قولهُ :خ{ ْذ ِم ْن أموالهم
يه ْم ِبهَ ا} [التوبة ]103 :أي تطهرهم وتزكيهم عن االستغراق في طلب الدنيا. َصدَ َق ًة ُت َط ِّه ُر ُه ْم َو ُت َزكِّ ِ
والوجه الثاني :وهو أن كثرة المال ،توجب شدة القوة وكمال القدرة ،وتزايد المال يوجب تزايد القدرة،
وتزايد القدرة يوجب تزايد االلتذاذ بتلك القدرة ،وتزايد تلك اللذات ،يدعو اإلنسان إلى أن يسعى في
سببا لحصول هذه اللذات المتزايدة ،وبهذا الطريق تصير المسألة مسألة الدور، ً تحصيل المال الذي صار
ألنه إذا بالغ في السعي ازداد المال وذلك يوجب ازدياد القدرة ،وهو يوجب ازدياد اللذة وهو يحمل
اإلنسان على أن يزيد في طلب المال ،ولما صارت المسألة مسألة الدور ،لم يظهر لها مقطع وال آخر،
وآخرا وهو أنه أوجب على صاحبه صرف طائفة من تلك األموال إلى اإلنفاق ً ً
مقطعا فأثبت الشرع لها
في طلب مرضاة اهلل تعالى ليصرف النفس عن ذلك الطريق الظلماني الذي ال آخر له ويتوجه إلى عالم
عبودية اهلل وطلب رضوانه.
والوجه الثالث :أن كثرة المال سبب لحصول الطغيان والقسوة في القلب ،وسببه ما ذكرنا من أن كثرة
المال سبب لحصول القدرة ،والقدرة محبوبة لذاتها ،والعاشق إذا وصل لمعشوقه استغرق فيه ،فاإلنسان
غرقا في طلب المال ،فإن عرض له مانع يمنعه عن طلبه استعان بماله وقدرته على دفع ذلك ً يصير
المانع ،وهذا هو المراد بالطغيان ،وإليه اإلشارة بقوله سبحانه وتعالىِ{ :إ َّن اإلنسان ليطغى * َأ ن َّرءا ُه
استغنى} [العلق ]7 ،6 :فإيجاب الزكاة يقلل الطغيان ويرد القلب إلى طلب رضوان الرحمن.
والوجه الرابع :أن النفس الناطقة لها قوتان ،نظرية وعملية ،فالقوة النظرية كمالها في التعظيم ألمر اهلل،
والقوة العملية كمالها في الشفقة على خلق اهلل ،فأوجب اهلل الزكاة ليحصل لجوهر الروح هذا الكمال
دافعا لآلفات عنهم ،ولهذا السر ً ً
ساعيا في إيصال الخيرات إليهم ً
محسنا إلى الخلق وهو اتصافه بكونه
قال عليه الصالة والسالم« :تخلقوا بأخالق اهلل».
ساعيا في إيصال الخيرات إليهم ،وفي دفع ً والوجه الخامس :أن الخلق إذا علموا في اإلنسان كونه
اآلفات عنهم أحبوه بالطبع ومالت نفوسهم إليه ال محالة ،على ما قاله عليه الصالة والسالم« :جبلت
القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها».
فالفقراء إذا علموا أن الرجل الغني يصرف إليهم طائفة من ماله ،وأنه كلما كان ماله أكثر كان الذي
يصرفه إليهم من ذلك المال أكثر ،أمدوه بالدعاء والهمة ،وللقلوب آثار ولألرواح حرارة فصارت تلك
يَنفعُ الناسسببا لبقاء ذلك اإلنسان في الخير والخصب ،وإليه اإلشارة بقوله تعالىَ { :وَأ َّما َما َ ً الدعوات
َف َي ْمكُ ُث ِفي األرض} [الرعد ]17 :وبقوله عليه الصالة والسالم« :حصنوا أموالكم بالزكاة».
والوجه السادس :أن االستغناء عن الشيء أعظم من االستغناء بالشيء ،فإن االستغناء بالشيء يوجب
االحتياج إليه ،إال أنه يتوسل به إلى االستغناء عن غيره ،فأما االستغناء عن الشيء فهو الغنى التام،
ولذلك فإن االستغناء عن الشيء صفة الحق ،واالستغناء بالشيء صفة الخلق ،فاهلل سبحانه لما أعطى
ً
وافرا من باب االستغناء بالشيء .فإذا أمره بالزكاة كان ً
نصيبا بعض عبيده أمواالً كثيرة فقد رزقه
المقصود أن ينقله من درجة االستغناء بالشيء ،إلى المقام الذي هو أعلى منه ،وأشرف منه وهو
االستغناء عن الشيء.
والوجه السابع :أن المال سمي ماالً لكثرة ميل كل أحد إليه ،فهو غاد ورائح ،وهو سريع الزوال مشرف
على التفرق ،فما دام يبقى في يده كان كالمشرف على الهالك والتفرق .فإذا أنفقه اإلنسان في وجوه البر
والخير والمصالح بقي بقاء ال يمكن زواله ،فإنه يوجب المدح الدائم في الدنيا والثواب الدائم في
واحدا يقول :اإلنسان ال يقدر أن يذهب بذهبه إلى القبر ،فقلت بل يمكنه ذلك فإنه إذا ً اآلخرة ،وسمعت
أنفقه في طلب الرضوان األكبر فقد ذهب به إلى القبر وإلى القيامة.
والوجه الثامن :وهو أن بذل المال تشبه بالمالئكة واألنبياء ،وإمساكه تشبه بالبخالء المذمومين ،فكان
البذل أولى.
والوجه التاسع :أن إفاضة الخير والرحمة من صفات الحق سبحانه وتعالى ،والسعي في تحصيل هذه
الصفة بقدر القدرة تخلق بأخالق اهلل ،وذلك منتهى كماالت اإلنسانية.
والوجه العاشر :أن اإلنسان ليس له إال ثالثة أشياء :الروح والبدن والمال .فإذا أمر باإليمان فقد صار
ً
مستغرقا بالذكر والقراءة، ً
مستغرقا في هذا التكليف .ولما أمر بالصالة فقد صار اللسان جوهر الروح
ً
مصروفا إلى أوجه البر والخير لزم أن ً
مستغرقا في تلك األعمال ،بقي المال؛ فلو لم يصر المال والبدن
يكون شح اإلنسان بماله فوق شحه بروحه وبدنه ،وذلك جهل ،ألن مراتب السعادات ثالثة :أولها:
السعادات الروحانية.
وثانيها :السعادات البدنية وهي المرتبة الوسطى.
وثالثها :السعادات الخارجية وهي المال والجاه .فهذه المراتب تجري مجرى خادم السعادات النفسانية،
فإذا صار الروح مبذوالً في مقام العبودية ،ثم حصل الشح ببذل المال لزم جعل الخادم في مرتبة أعلى
أيضا بذل المال في طلب مرضاة اهللً من المخدوم األصلي ،وذلك جهل .فثبت أنه يجب على العاقل
تعالى.
والوجه الحادي عشر :أن العلماء قالوا :شكر النعمة عبارة عن صرفها إلى طلب مرضاة المنعم ،والزكاة
شكر النعمة ،فوجب القول بوجوبها لما ثبت أن شكر المنعم واجب.
والوجه الثاني عشر :أن إيجاب الزكاة يوجب حصول اإللف بالمودة بين المسلمين ،وزوال الحقد
والحسد عنهم ،وكل ذلك من المهمات ،فهذه وجوه معتبرة في بيان الحكمة الناشئة من إيجاب الزكاة
العائدة إلى معطي الزكاة ،فأما المصالح العائدة من إيجاب الزكاة إلى من يأخذ الزكاة فهي كثيرة ،األول:
أن اهلل تعالى خلق األموال ،وليس المطلوب منها أعيانها وذواتها .فإن الذهب والفضة ال يمكن االنتفاع
بهما في أعيانهما إال في األمر القليل ،بل المقصود من خلقهما أن يتوسل بهما إلى تحصيل المنافع ودفع
المفاسد ،فاإلنسان إذا حصل له من المال بقدر حاجته كان هو أولى بإمساكه ألنه يشاركه سائر
ساعيا في تحصيل ذلك المال ،فكان اختصاصه ً المحتاجين في صفة الحاجة ،وهو ممتاز عنهم بكونه
بذلك المال أولى من اختصاص غيره ،وأما إذا فضل المال على قدر الحاجة ،وحضر إنسان آخر محتاج،
فهاهنا حصل سببان كل واحد منهما يوجب تملك ذلك المال.
ً
أيضا ً
وأيضا شدة تعلق قلبه به ،فإن ذلك التعلق أما في حق المالك ،فهو أنه سعى في اكتسابه وتحصيله،
نوع من أنواع الحاجة.
وأما في حق الفقير ،فاحتياجه إلى ذلك المال يوجب تعلقه به ،فلما وجد هذان السببان المتدافعان
اقتضت الحكمة اإللهية رعاية كل واحد من هذين السببين بقدر اإلمكان .فيقال حصل للمالك حق
االكتساب وحق تعلق قلبه به ،وحصل للفقير حق االحتياج ،فرجحنا جانب المالك ،وأبقينا عليه الكثير
ً
توفيقا بين الدالئل بقدر اإلمكان. ً
يسيرا منه وصرفنا إلى الفقير
ال عن المقصود الثاني :أن المال الفاضل عن الحاجات األصلية إذا أمسكه اإلنسان في بيته بقي معط ً
الذي ألجله خلق المال ،وذلك سعي في المنع من ظهور حكمة اهلل تعالى ،وهو غير جائز ،فأمر اهلل
بصرف طائفة منه إلى الفقير حتى ال تصير تلك الحكمة معطلة بالكلية.
الثالث :أن الفقراء عيال اهلل لقوله تعالىَ { :و َما ِمن دَ اب ٍَّة ِفي األرض ِإ الَّ عَ لَى اهلل ِر ْز ُقهَ ا} [هود]6 :
واألغنياء خزان اهلل ألن األموال التي في أيديهم أموال اهلل ،ولوال أن اهلل تعالى ألقاها في أيديهم وإال
ً
طعاما ،وكم من أبله لما ملكوا منها حبة ،فكم من عاقل ذكي يسعى أشد السعي ،وال يملك ملء بطنه
ً
صفوا. ً
عفوا جلف تأتيه الدنيا
إذا ثبت هذا فليس بمستبعد أن يقول الملك لخازنه :اصرف طائفة مما في تلك الخزانة إلى المحتاجين
من عبيدي.
الوجه الرابع :أن يقال :المال بالكلية في يد الغني مع أنه غير محتاج إليه ،وإهمال جانب الفقير العاجز
عن الكسب بالكلية؛ ال يليق بحكمة الحكيم الرحيم ،فوجب أن يجب على الغني صرف طائفة من ذلك
المال إلى الفقير.
الوجه الخامس :أن الشرع لما أبقى في يد المالك أكثر ذلك المال وصرف إلى الفقير منه جزأ قلي ً
ال ،تمكن
المالك من جبر ذلك النقصان بسبب أن يتجر بما بقي في يده من ذلك المال ويربح ويزول ذلك النقصان.
ال وليس له ما ال ،فلو لم يصرف إليه طائفة من أموال األغنياء لبقي معط ً أما الفقير ليس له شيء أص ً
يجبره ،فكان ذلك أولى.
الوجه السادس :أن األغنياء لو لم يقوموا بإصالح مهمات الفقراء فربما حملهم شدة الحاجة ومضرة
المسكنة على االلتحاق بأعداء المسلمين ،أو على اإلقدام على األفعال المنكرة كالسرقة وغيرها فكان
إيجاب الزكاة يفيد هذه الفائدة فوجب القول بوجوبها.
الوجه السابع :قال عليه الصالة والسالم« :اإليمان نصفان ،نصف صبر ونصف شكر».
والمال محبوب بالطبع ،فوجدانه يوجب الشكر وفقدانه يوجب الصبر ،وكأنه قيل :أيها الغني أعطيتك
نصيبا منه حتى تصبر على فقدان ذلك المقدار ً المال فشكرت فصرت من الشاكرين ،فأخرج من يدك
فتصير بسببه من الصابرين ،وأيها الفقير ما أعطيتك األموال الكثيرة فصبرت فصرت من الصابرين،
ولكني أوجب على الغني أن يصرف إليك طائفة من ذلك المال حتى إذا دخل ذلك المقدار في ملكك
سببا في جعل جميع المكلفين موصوفين بصفة ً شكرتني ،فصرت من الشاكرين ،فكان إيجاب الزكاة
الصبر والشكر ً
معا.
ً
مديونا الوجه الثامن :كأنه سبحانه يقول للفقير إن كنت قد منعتك األموال الكثيرة ،ولكني جعلت نفسي
من قبلك ،وإن كنت قد أعطيت الغني أمواالً كثيرة لكني كلفته أن يعدوا خلفك ،وأن يتضرع إليك حتى
تأخذ ذلك القدر منه ،فتكون كالمنعم عليه بأن خلصته من النار.
فإن قال الغني :قد أنعمت عليك بهذا الدينار ،فقل أيها الفقير بل أنا المنعم عليك حيث خلصتك في
الدنيا من الذم والعار ،وفي اآلخرة من عذاب النار ،فهذه جملة من الوجوه في حكمة إيجاب الزكاة
بعضها يقينية ،وبعضها إقناعية ،والعالم بأسرار حكم اهلل وحكمته ليس إال اهلل ،واهلل أعلم.
المقام الثاني :في تفسير هذه اآلية وفيه مسائل:
المسألة األولى :قولهِ{ :إ َّن َما الصدقات ِل ْل ُف َق َر اء} اآلية تدل على أنه ال حق في الصدقات ألحد إال لهذه
وأيضا فلفظة {ِإ َّن َما} تفيد الحصر ويدل عليه وجوه: ً األصناف الثمانية ،وذلك مجمع عليه،
األول :أن كلمة {ِإ َّن َم ا} مركبة من إن وما وكلمة إن لإلثبات وكلمة ما للنفي ،فعند اجتماعهما وجب
بقاؤهما على هذا المفهوم ،فوجب أن يفيدا ثبوت المذكور ،وعدم ما يغايره.
الثاني :أن ابن عباس تمسك في نفي ربا الفضل بقوله عليه الصالة والسالم« :إنما الربا في النسيئة»
وأيضا تمسك بعض الصحابة في أن اإلكسال ال ً ولوال أن هذا اللفظ يفيد الحصر ،وإال لما كان األمر كذلك،
يوجب االغتسال بقوله عليه الصالة والسالم« :إنما الماء من الماء» ولوال أن هذه الكلمة تفيد الحصر وإال
لما كان كذلك.
وقال تعالىِ{ :إ َّن َما اهلل إله واحد} [النساء ]171 :والمقصود بيان نفي اإللهية للغير والثالث :الشعر.
قال األعشى:
ولست باألكثر منهم حصى *** وإنما العزة للكاثر
وقال الفرزدق:
أنا الذائد الحامي الذمار وإنما *** يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي
فثبت بهذه الوجوه أن كلمة {ِإ َّن َم ا} للحصر ،ومما يدل على أن الصدقات ال تصرف إال لهذه األصناف
الثمانية أنه عليه الصالة والسالم قال لرجل« :إن كنت من األصناف الثمانية فلك فيها حق وإال فهو
صداع في الرأس ،وداء في البطن» وقال« :ال تحل الصدقة لغني وال لذي مرة سوي».
المسألة الثانية :اعلم أنه تعالى لما أخبر عن المنافقين أنهم يلمزون الرسول عليه السالم في أخذ
الصدقات ،بين تعالى أنه إنما يأخذها لهؤالء األصناف الثمانية ،وال يأخذها لنفسه وال ألقاربه ومتصليه،
وقد بينا أن أخذ القليل من مال الغني ليصرف إلى الفقير في دفع حاجته هو الحكمة المعينة ،والمصلحة
الالزمة ،وإذا كان األمر كذلك كان همز المنافقين ولمزهم عين السفه والجهالة .فكان عليه الصالة
شيئا وال أمنعكم ،إنما أنا خازن أضع حيث أمرت». ً والسالم يقول« :ما أوتيكم
المسألة الثالثة :مذهب أبي حنيفة رحمه اهلل :أنه يجوز صرف الصدقة إلى بعض هؤالء األصناف فقط،
وهو قول عمر وحذيفة وابن عباس وسعيد بن جبير وأبي العالية والنخعي ،وعن سعيد بن جبير لو
نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فحبوتهم بها كان أحب إلي ،وقال الشافعي رحمه اهلل:
البد من صرفها إلى األصناف الثمانية ،وهو قول عكرمة والزهري وعمر ابن عبد العزيز :واحتج بأنه
يض ًة ّم َن اهلل} قال :وال بد في كل صنف من تعالى ذكر هذه القسمة في نص الكتاب .ثم أكدها بقولهَ { :ف ِر َ
ثالثة ،ألن أقل الجمع ثالثة ،فإن دفع سهم الفقراء إلى فقيرين ضمن نصيب الثالث وهو ثلث سهم
الفقراء .قال :وال بد من التسوية في أنصباء هذه األصناف الثمانية ،مثل أنك إن وجدت خمسة أصناف
ولزمك أن تتصدق بعشرة دراهم ،جعلت العشرة خمسة أسهم كل سهم درهمان ،وال يجوز التفاضل .ثم
يلزمك أن تدفع إلى كل صنف درهمين وأقل عددهم ثالثة ،وال يلزمك التسوية بينهم ،فلك أن تعطي
وفقيرا سدس درهم ،هذه صفة قسمة الصدقات على مذهب ً وفقيرا خمسة أسداس درهم ً ً
درهما ً
فقيرا
الشافعي رحمه اهلل.
قال المصنف الداعي إلى اهلل رضي اهلل عنه :اآلية ال داللة فيها على قول الشافعي رحمه اهلل ،ألنه تعالى
جعل جملة الصدقات لهؤالء األصناف الثمانية ،وذلك ال يقتضي في صدقة زيد بعينه أن تكون لجملة
هؤالء الثمانية .والدليل عليه العقل والنقل.
أما النقل :فقوله تعالى{ :واعلموا َأ َّن َما َغ ِن ْمتُ م ّمن َشيء َفَأ َّن هَّلل ِ ُخ ُم َسهُ َو ِل َّ
لر ُسول ِ} [األنفال ]41 :اآلية،
فأثبت خمس الغنيمة لهؤالء الطوائف الخمس ،ثم لم يقل أحد إن كل شيء يغنم بعينه فإنه يحب
تفرقته على هذه الطوائف ،بل اتفقوا على أن المراد إثبات مجموع الغنيمة لهؤالء األصناف ،فإما أن
موزعا على كل هؤالء فال ،فكذا هاهنا مجموع الصدقات تكون لمجموع ً يكون كل جزء من أجزاء الغنيمة
هذه األصناف الثمانية .فإما أن يقال :إن صدقة زيد بعينها يجب توزيعها على هذه األصناف الثمانية،
فاللفظ ال يدل عليه ألبتة.
وأما العقل :فهو أن الحكم الثابت في مجموع ال يوجب ثبوته في كل جزء من أجزاء ذلك المجموع ،وال
يلزم أن ال يبقى فرق بين الكل وبين الجزء .فثبت بما ذكرنا أن لفظ اآلية ال داللة فيه على ما ذكره،
والذي يدل على صحة قولنا وجوه:
دينارا لما وجب عليه إخراج نصف دينار ،فلو كلفناه أن نجعله ً األول :أن الرجل الذي ال يملك إال عشرين
ً
صغيرا غير منتفع به في مهم معتبر. ً
حقيرا قسما لصار كل واحد من تلك األقسام ً على أربعة وعشرين
ً
معتبرا لكان أولى الناس برعايته أكابر الصحابة ،ولو كان األمر كذلك الثاني :أن هذا التوقيف لو كان
لوصل هذا الخبر إلى عمر بن الخطاب وإلى ابن عباس وحذيفة وسائر األكابر ،ولو كان كذلك لما خالفوا
فيه ،وحيث خالفوا فيه علمنا أنه غير معتبر.
الثالث :وهو أن الشافعي رحمه اهلل له اختالف رأي في جواز نقل الصدقات أما لم يقل أحد بوجوب نقل
الصدقات ،فاإلنسان إذا كان في بعض القرى وال يكون هناك مكاتب وال مجاهد غاز وال عامل وال أحد من
ً
مديونا فكيف تكليفه؟ المؤلفة ،وال يمر به أحد من الغرباء ،واتفق أنه لم يحضر في تلك القرية من كان
فإن قلنا :وجب عليه أن يسافر بما وجب عليه من الزكاة إلى بلد يجد هذه األصناف فيه ،فذاك قول لم
يقل به أحد! وإذا أسقطنا عنه ذلك فحينئذ يصح قولنا فهذا ما نقوله في هذا الباب ،واهلل أعلم.
المسألة الرابعة :في تعريف األصناف الثمانية ،فاألول والثاني هم الفقراء والمساكين ،وال شك أنهم هم
المحتاجون الذي ال يفي خرجهم بدخلهم .ثم اختلفوا فقال بعضهم :الذي يكون أشد حاجة هو الفقير؛
وهو قول الشافعي رحمه اهلل وأصحابه.
وقال آخرون :الذي أشد حاجة هو المسكين ،وهو قول أبي حنيفة وأصحابه رحمهم اهلل ،ومن الناس من
قال :ال فرق بين الفقراء والمساكين ،واهلل تعالى وصفهم بهذين الوصفين ،والمقصود شيء واحد وهو
قول أبي يوسف ومحمد رحمهما اهلل ،واختيار أبي علي الجبائي ،وفائدته تظهر في هذه المسألة ،وهو
أنه لو أوصى لفالن وللفقراء والمساكين ،فالذين قالوا :الفقراء غير المساكين قالوا لفالن الثلث ،والذين
قالوا :الفقراء هم المساكين قالوا لفالن النصف.
وقال الجبائي :إنه تعالى ذكرهم باسمين لتوكيد أمرهم في الصدقات ألنهم هم األصول في األصناف
وأيضا الفائدة فيه أن يصرف إليهم من الصدقات سهمان ال كسائرهم. ً الثمانية.
ال لو قال:واعلم أن فائدة هذا االختالف ال تظهر في تفرقة الصدقات وإنما تظهر في الوصايا ،وهو أن رج ً
أوصيت للفقراء بمائتين وللمساكين بخمسين ،وجب دفع المائتين عند الشافعي رحمه اهلل من كان أشد
حاجة ،وعند أبي حنيفة رحمه اهلل إلى من كان أقل حاجة ،وحجة الشافعي رحمه اهلل وجوه:
ال لمصلحتهم ،وهذا دفعا لحاجتهم وتحصي ً ً الوجه األول :أنه تعالى إنما أثبت الصدقات لهؤالء األصناف
يدل عى أن الذي وقع االبتداء بذكره يكون أشد حاجة ،ألن الظاهر وجوب تقديم األهم على المهم أال
ترى أنه يقال :أبو بكر وعمر ومن فضل عثمان على علي عليه السالم قال في ذكرهما عثمان وعلي ،ومن
عليا على عثمان يقول علي وعثمان ،وأنشد عمر قول الشاعر: ً فضل
ً
ناهيا *** كفى الشيب واإلسالم للمرء
فقال هال قدم اإلسالم على الشيب؟ فلما وقع االبتداء بذكر الفقراء وجب أن تكون حاجتهم أشد من
حاجة المساكين.
الوجه الثاني :قال أحمد بن عبيد الفقير أسوأ حاالً من المسكين ،ألن الفقير أصله في اللغة المفقور الذي
نزعت فقرة من فقار ظهره ،فصرف عن مفقور إلى فقير كما قيل :مطبوخ وطبيخ ،ومجروح وجريح،
فقيرا لزمانته مع حاجته الشديدة وتمنعه الزمانة من التقلب في الكسب ً فثبت أن الفقير إنما سمي
ومعلوم أنه ال حال في اإلقالل والبؤس آكد من هذه الحال وأنشدوا للبيد:
لما رأى لبد النسور تطايرت *** رفع القوادم كالفقير األعزل
ال لكل ضعيف ال يتقلب في األمور، قال ابن األعرابي في هذا البيت الفقير المكسور الفقار ،يضرب مث ً
َاس َر ٌة * َت ُظ ُّن َأ ن يُ ْفعَ َل ِبهَ ا
ومما يدل على إشعار لفظ الفقير بالشدة العظيمة قوله تعالىُ { :و ُجو ٌه يَ ْو َمِئ ٍذ ب ِ
اق َر ٌة} [القيامة ]25 ،24 :جعل لفظ الفاقرة كناية عن أعظم أنواع الشر والدواهي. َف ِ
كفرا ثمً الوجه الثالث :ما روي أنه عليه الصالة والسالم ،كان يتعوذ من الفقر ،وقال :كاد الفقر أن يكون
مسكينا واحشرني في زمرة المساكين فلو كان المسكين أسوأ حاالً من ً ً
مسكينا وأمتني قال :اللهم أحيني
الفقير لتناقض الحديثان ،ألنه تعوذ من الفقر ،ثم سأل حاالً أسوأ منه ،أما إذا قلنا الفقر أشد من المسكنة
فال تناقض ألبتة.
مالكا للمال بدليل قوله تعالىَ{ :أ َّما السفينة َفكَا َن ْت ً مسكينا ،ال ينافي كونه ً الوجه الرابع :أن كونه
لمساكين} [الكهف ]79 :فوصف بالمسكنة من له سفينة من سفن البحر تساوي جملة من الدنانير ،ولم
شيئا.ً فقيرا مع أنه يملك ً نجد في كتاب اهلل ما يدل على أن اإلنسان سمي
فإن قالوا :الدليل عليه قوله تعالى{ :واهلل الغنى َوَأ نتُ ُم الفقراء} [محمد ]38 :فوصف الكل بالفقر مع
أنهم يملكون أشياء.
أحدا سوى اهلل تعالى ً قلنا :هذا بالضد أولى ألنه تعالى وصفهم بكونهم فقراء بالنسبة إلى اهلل تعالى ،فإن
شيئا بالنسبة إلى اهلل فصح قولنا. ً ال يملك ألبتة
يما َذا َم ْق َرب ٍَة * َأ ْو ِم ْس ِك ً
ينا َذا َمتْ َرب ٍَة} الوجه الخامس :قوله تعالىَ{ :أ ْو ِإ ْطعَ امٌ ِفي يَ ْو ٍم ِذى َم ْس َغ َب ٍة * يَ ِت ً
[البلد ]16 14 :والمراد منه المسكين ذي المتربة الفقير الذي قد ألصق بالتراب من شدة الفقر ،فتقييد
المسكين بهذا القيد يدل على أنه قد يحصل مسكين خال عن وصف كونه { َذا َمتْ َرب ٍَة} وإنما يكون كذلك
مالكا لبعض األشياء. ً مسكينا ال ينافي كونه ً شيئا ،فهذا يدل على أن كونه ً بتقدير أن يملك
شيئا ،قال :وهم أهل ً الوجه السادس :قال ابن عباس رضي اهلل عنهما ،الفقير هو المحتاج الذي ال يجد
الصفة ،صفة مسجد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وكانوا نحو أربعمائة رجل ال منزل لهم ،فمن كان
من المسلمين عنده فضل أتاهم به إذا أمسوا ،والمساكين هم الطوافون الذين يسألون الناس.
وجه االستدالل :أن شدة فقر أهل الصفة معلومة بالتواتر ،فلما فسر ابن عباس الفقراء بهم وفسر
شيئا أشد من أحوال من يحتاج ،ثم ً ً
أحدا المساكين بالطوافين ،ثم ثبت أن أحوال المحتاج الذي ال يسأل
يسأل الناس ويطوف عليهم ،ظهر أن الفقير يجب أن يكون أسوأ حاالً من المسكين.
الوجه السابع :أن المسكنة لفظ مأخوذ من السكون ،فالفقير إذا سأل الناس وتضرع إليهم وعلم أنه متى
شيئا فقد سكن قلبه ،وزال عنه الخوف والقلق ،ويحتمل أنه سمي بهذا االسم؛ ألنه ً تضرع إليهم أعطوه
إذا أجيب بالرد ومنع سكن ولم يضطرب وأعاد السؤال ،فلهذا السبب جعل التمسكن كناية عن السؤال
والتضرع عند الغير ،ويقال :تمسكن الرجل إذا الن وتواضع ،ومنه قوله عليه الصالة والسالم للمصلي:
تأن وتمسكن يريد تواضع وتخشع ،فدل هذا على أن المسكين هو السائل.
إذا ثبت هذا فنقول :إنه تعالى قال في آية أخرىَ { :و ِفى أموالهم َح ٌّق َّل َّ
لساِئ ل ِ والمحروم} [الذاريات]19 :
فلما ثبت بما ذكرنا هاهنا أن المسكين هو السائل ،وجب أن يكون المحروم هو الفقير ،وال شك أن
المحروم مبالغة في تقرير أمر الحرمان ،فثبت أن الفقير أسوأ حاالً من المسكين.
مسكينا الحديث ،والظاهر أنه تعالى أجاب دعاءه ً الوجه الثامن :أنه عليه الصالة والسالم قال :أحيني
مسكينا ،وهو عليه الصالة والسالم حين توفي كان يملك أشياء كثيرة فدل هذا على أن كونه ً فأماته
مالكا لبعض األشياء ،أما الفقير فإنه يدل على الحاجة الشديدة لقوله عليه الصالة ً ً
مسكينا ال ينافي كونه
ً
كفرا». والسالم« :كاد الفقر أن يكون
فثبت بهذا أن الفقر أشد حاالً من المسكنة.
الوجه التاسع :أن الناس اتفقوا على أن الفقر والغنى ضدان ،كما أن السواد والبياض ضدان ولم يقل أحد
ً
خائفا منهم ً
منقادا لكل أحد إن الغنى والمسكنة ضدان بل قالوا :الترفع والتمسكن ضدان؛ فمن كان
ً
متضرعا إليهم. ساكتا عن جوابهم ً ال لشرهم متحم ً
فالنا يظهر الذل والمسكنة ،وقالوا :إنه مسكين عاجز ،وأما الفقير فجعلوه عبارة عن ضد الغنى، ً قالوا :إن
مسكينا ،إذا كان يظهر من نفسه الخضوع والطاعة وترك ً وعلى هذا فقد يصفون الرجل الغني بكونه
ً
المعارضة ،وقد يصفون الرجل الفقير بكونه مترفعا عن التواضع والمسكنة ،فثبت أن الفقر عبارة عن
عدم المال والمسكنة عبارة عن إظهار التواضع ،واألول ينافي حصول المال ،والثاني ال ينافي حصوله.
الوجه العاشر :قوله عليه الصالة والسالم لمعاذ في الزكاة :خذها من أغنيائهم ،وردها على فقرائهم ولو
كانت الحاجة في المساكين أشد ،لوجب أن يقول :وردها على مساكينهم ،ألن ذكر األهم أولى ،فهذه
الوجوه التي ذكرناها تدل على أن الفقير أسوأ حاالً من المسكين ،واحتج القائلون بأن المسكين أسوأ
حاالً من الفقير بوجوه:
ينا َذا َمتْ َرب ٍَة} [البلد ]16 :وصف المسكين بكونه ذا متربة ،وذلكاألول :احتجوا بقوله تعالىَ{ :أ ْو ِم ْس ِك ً
وأيضا أنه تعالى جعل الكفارات من األطعمة له ،وال فاقة أعظم من الحاجة ً يدل على نهاية الضر والشدة،
إلى إزالة الجوع.
الثاني :احتجوا بقول الراعي:
أما الفقير الذي كانت حلوبته *** وفق العيال فلم يترك له َس َبدُ
ً
فقيرا وله حلوبة. سماه
الثالث :قالوا المسكين هو الذي يسكن حيث يحضر ألجل أنه ليس له بيت يسكن فيه وذلك يدل على
نهاية الضر والبؤس.
الرابع :نقلوا عن األصمعي وعن أبي عمرو بن العالء أنهما قاال :الفقير الذي له ما يأكل .والمسكين الذي ال
شيء له ،وقال يونس :الفقير قد يكون له بعض ما يكفيه والمسكين هو الذي ال شيء له ،وقلت ألعرابي
أفقير أنت؟ قال :ال واهلل بل مسكين.
والجواب :عن تمسكهم باآلية أنا بينا أن هذه اآلية حجة لنا ،فإنه لما قيد المسكين المذكور هاهنا بكونه
ذا متربة دل ذلك على أنه قد يوجد مسكين ال بهذه الصفة وإال لم يبق لهذا القيد فائدة قوله :أنه صرف
الطعام الواجب في الكفارات إليه ،قلنا :نعم إنه أوجب صرفه إلى المسكين المقيد بقيد كونه ذا متربة،
وهذا ال يدل على أنه أوجب الصرف إلى مطلق المسكين.
ً
فقيرا فقد كانت له والجواب عن استداللهم ببيت الراعي أنه ذكر أن هذا الذي هو اآلن موصوف بكونه
شيئا ،فلم ال يجوز أن يقال كانت له حلوبة ثم لما لم يترك له شيء وصف ً حلوبه ثم السيد لم يترك له
ً
فقيرا؟ بكونه
والجواب عن قولهم :المسكين هو الذي يسكن حيث يحضر ألجل أنه ليس له بيت.
ً
مسكينا إما لسكونه قلنا :بل المسكين هو الطواف على الناس الذي يكثر إقدامه على السؤال ،وسمي
عندما ينتهرونه ويردونه ،وإما لسكون قلبه بسبب علمه أن الناس ال يضيعونه مع كثرة سؤاله إياهم،
وأما الروايات التي ذكروها عن أبي عمرو ويونس فهذا معارض بقول الشافعي وابن األنباري رحمهما
وأيضا نقل القفال في تفسيره عن جابر بن عبد اهلل أنه قال :الفقراء فقراء المهاجرين ،والمساكين ً اهلل،
الذين لم يهاجروا ،وعن الحسن الفقير الجالس في بيته ،والمسكين الذي يسعى وعن مجاهد الفقير الذي
ال يسأل ،والمسكين الذي يسأل ،وعن الزهري الفقراء هم المتعففون الذين ال يخرجون ،والمساكين الذين
يسألون ،قال موالنا الداعي إلى اهلل :هذه األقوال كلها متوافقة على أن الفقير ال يسأل ،والمسكين يسأل،
ومن سأل وجد ،فكان المسكين أسهل وأقل حاجة.
الصنف الثالث :قوله تعالى{ :والعاملين عَ لَ ْيهَ ا} وهم السعاة لجباية الصدقة ،وهؤالء يعطون من
الصدقات بقدر أجور أعمالهم ،وهو قول الشافعي رحمه اهلل ،وقول عبد اهلل بن عمر وابن زيد ،وقال
مجاهد والضحاك :يعطون الثمن من الصدقات ،وظاهر اللفظ مع مجاهد إال أن الشافعي رحمه اهلل يقول
ال على هذا أجرة العمل فيتقدر بقدر العمل ،والصحيح أن مولى الهاشمي والمطلبي ال يجوز أن يكون عام ً
ال على الصدقات، الصدقات ليناله منها ،ألن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أبى أن يبعث أبا رافع عام ً
وقال :أما علمت أن مولى القوم منهم.
ً
واليا عليه. وإنما قال{ :والعاملين عَ لَ ْيهَ ا} ألن كلمة على تفيد الوالية كما يقال فالن على بلد كذا إذا كان
الصنف الرابع :قوله تعالى{ :والمؤلفة ُق ُلو ُبهُ ْم} قال ابن عباس :هم قوم أشراف من األحياء أعطاهم
ال ،أبو سفيان ،واألقرع بن حابس، رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يوم حنين وكانوا خمسة عشر رج ً
وعيينة بن حصن ،وحويطب بن عبد العزى ،وسهل بن عمرو من بني عامر ،والحرث بن هشام ،وسهيل
بن عمرو الجهني ،وأبو السنابل ،وحكيم بن حزام .ومالك بن عوف ،وصفوان بن أمية ،وعبد الرحمن بن
يربوع ،والجد بن قيس ،وعمرو بن مرداس .والعالء بن الحرث أعطى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
كل رجل منهم مائة من اإلبل ورغبهم في اإلسالم ،إال عبد الرحمن بن يربوع أعطاه خمسين من اإلبل
أحدا من الناس أحقً وأعطى حكيم بن حزام سبعين من اإلبل ،فقال :يا رسول اهلل ما كنت أرى أن
بعطائك مني فزاده عشرة ،ثم سأله فزاده عشرة ،وهكذا حتى بلغ مائة ،ثم قال حكيم :يا رسول اهلل
أعطيتك األولى التي رغبت عنها خير أم هذه التي قنعت بها؟ فقال عليه الصالة والسالم« :بل التي
رغبت عنها» فقال :واهلل ال آخذ غيرها :فقيل مات حكيم وهو أكثر قريش ماالً وشق على رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم تلك العطايا لكن ألفهم بذلك.
قال المصنف رحمه اهلل :هذه العطايا إنما كانت يوم حنين وال تعلق لها بالصدقات ،وال أدري ألي سبب
ذكر ابن عباس رضي اهلل عنهما هذه القصة في تفسير هذه اآلية ،ولعل المراد بيان أنه ال يمتنع في
تفسيرا لصرف الزكاة إليهم فال يليق بابن عباس، ً الجملة صرف األموال إلى المؤلفة ،فأما أن يجعل ذلك
ونقل القفال أن أبا بكر رضي اهلل عنه أعطى عدي بن حاتم لما جاءه بصدقاته وصدقات قومه أيام الردة،
وقال المقصود أن يستعين اإلمام بهم على استخراج الصدقات من المالك.
قال الواحدي :إن اهلل تعالى أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين ،فإن رأى اإلمام أن يؤلف قلوب
قوم لبعض المصالح التي يعود نفعها على المسلمين إذا كانوا مسلمين جاز إذ ال يجوز صرف شيء من
زكوات األموال إلى المشركين ،فأما المؤلفة من المشركين فإنما يعطون من مال الفيء ال من الصدقات
وأقول إن قول الواحدي إن اهلل أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين بناء على أنه ربما يوهم أنه
ً
وأيضا فليس في اآلية ً
قسما من الزكاة إليهم لكنا بينا أن هذا لم يحصل ألبتة، عليه الصالة والسالم دفع
ما يدل على كون المؤلفة مشركين بل قال{ :والمؤلفة ُق ُلو ُبهُ ْم} وهذا عام في المسلم وغيره ،والصحيح
قوما على هذا الوصف ويدفع إليهم سهم المؤلفة ألنه ال ً أن هذا الحكم غير منسوخ وأن لإلمام أن يتألف
دليل على نسخه ألبتة.
الصنف الخامس :قولهَ { :و ِف ي الرقاب} قال الزجاج :وفيه محذوف ،والتقدير :وفي فك الرقاب وقد
مضى االستقصاء في تفسيره في سورة البقرة في قوله{ :والسائلين َو ِفي الرقاب} [البقرة ]177 :ثم
في تفسير الرقاب أقوال:
القول األول :إن سهم الرقاب موضوع في المكاتبين ليعتقوا به ،وهذا مذهب الشافعي رحمه اهلل،
والليث بن سعد ،واحتجوا بما روي عن ابن عباس رضي اهلل عنهما أنه قال :قولهَ :و{ ِفي الرقاب} يريد
المكاتب وتأكد هذا بقوله تعالى{ :وآتوهم من مال اهلل الذي آتاكم} [النور.]33 :
والقول الثاني :وهو مذهب مالك وأحمد وإسحاق أنه موضوع لعتق الرقاب يشتري به عبيد فيعتقون.
والقول الثالث :قول أبي حنيفة وأصحابه وقول سعيد بن جبير والنخعي ،أنه ال يعتق من الزكاة رقبة
كاملة ولكنه يعطي منها في رقبة ويعان بها مكاتب ألن قولهَ { :و ِفي الرقاب} يقتضي أن يكون له فيه
مدخل وذلك ينافي كونه ً
تاما فيه.
والقول الرابع :قول الزهري :قال سهم الرقاب نصفان ،نصف للمكاتبين من المسلمين ،ونصف يشتري به
رقاب ممن صلوا وصاموا ،وقدم إسالمهم فيعتقون من الزكاة ،قال أصحابنا :واالحتياط في سهم الرقاب
دفعه إلى السيد بإذن المكاتب ،والدليل عليه أنه تعالى أثبت الصدقات لألصناف األربعة الذين تقدم
ذكرهم بالم التمليك وهو قولهِ{ :إ َّن َما الصدقات ِل ْل ُف َق َراء} ولما ذكر الرقاب أبدل حرف الالم بحرف في
فقالَ { :و ِف ي الرقاب} فالبد لهذا الفرق من فائدة ،وتلك الفائدة هي أن تلك األصناف األربعة المتقدمة
يدفع إليهم نصيبهم من الصدقات حتى يتصرفوا فيها كما شاؤوا وأما { ِفى الرقاب} فيوضع نصيبهم
في تخليص رقبتهم عن الرق ،وال يدفع إليهم وال يمكنوا من التصرف في ذلك النصيب كيف شاؤوا ،بل
يوضع في الرقاب بأن يؤدي عنهم ،وكذا القول في الغارمين يصرف المال في قضاء ديونهم ،وفي الغزاة
يصرف المال إلى إعداد ما يحتاجون إليه في الغزو وابن السبيل كذلك .والحاصل :أن في األصناف
األربعة األول ،يصرف المال إليهم حتى يتصرفوا فيه كما شاؤوا ،وفي األربعة األخيرة ال يصرف المال
إليهم ،بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي ألجلها استحقوا سهم الزكاة.
الصنف السادس :قوله تعالى { :والغارمين} قال الزجاج :أصل الغرم في اللغة لزوم ما يشق والغرام
ً
مولعا بهن، ً
والزما ،ومنه :فالن مغرم بالنساء إذا كان ً
شاقا غراما لكونه ً
أمرا ً العذاب الالزم ،وسمي العشق
ً
والزما له ،فالمراد بالغارمين المديونون ،ونقول :الدين إن شاقا على اإلنسان ً ً
غراما لكونه وسمي الدين
حصل بسبب معصية ال يدخل في اآلية ،ألن المقصود من صرف المال المذكور في اآلية اإلعانة،
والمعصية ال تستوجب اإلعانة ،وإن حصل ال بسبب معصية فهو قسمان :دين حصل بسبب نفقات
ضرورية أو في مصلحة ،ودين حصل بسبب حماالت وإصالح ذات بين ،والكل داخل في اآلية ،وروى
األصم في تفسيره أن النبي صلى اهلل عليه وسلم لما قضى بالغرة في الجنين ،قال العاقلة :ال نملك الغرة
يا رسول اهلل قال لحمد بن مالك بن النابغة« :أعنهم بغرة من صدقاتهم» وكان حمد على الصدقة يومئذ.
الصنف السابع :قوله تعالىَ { :و ِفى َس ِبيل ِ اهلل} قال المفسرون :يعني الغزاة.
غنيا وهو مذهب مالك وإسحاق وأبي ً قال الشافعي رحمه اهلل :يجوز له أن يأخذ من مال الزكاة وإن كان
عبيد.
ً
محتاجا. وقال أبو حنيفة وصاحباه رحمهم اهلل :ال يعطى الغازي إال إذا كان
واعلم أن ظاهر اللفظ في قولهَ { :و ِفى َس ِبيل ِ اهلل} ال يوجب القصر على كل الغزاة ،فلهذا المعنى نقل
القفال في تفسيره عن بعض الفقهاء أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين
الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد ،ألن قولهَ :و{ ِفى َس ِبيل ِ اهلل} عام في الكل.
والصنف الثامن :ابن السبيل قال الشافعي رحمه اهلل :ابن السبيل المستحق للصدقة وهو الذي يريد
السفر في غير معصية فيعجز عن بلوغ سفره إال بمعونة.
قال األصحاب :ومن أنشأ السفر من بلده لحاجة ،جاز أن يدفع إليه سهم ابن السبيل ،فهذا هو الكالم في
شرح هذه األصناف الثمانية.
المسألة الخامسة :في أحكام هذه األقسام.
الحكم األول:
اتفقوا على أن قولهِ{ :إ َّن َم ا الصدقات} دخل فيه الزكاة الواجبة ،ألن الزكاة الواجبة مسماة بالصدقة ،قال
تعالىُ :خ{ ْذ ِم ْن أموالهم َصدَ َق ًة} [التوبة ]103 :وقال عليه الصالة والسالم« :ليس فيما دون خمسة ذود
وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» واختلفوا في أنه هل تدخل فيها الصدقة المندوبة فمنهم من
قال :تدخل فيها ألن لفظ الصدقة مختص بالمندوبة فإذا أدخلنا فيه الزكاة الواجبة فال أقل من أن تدخل
أيضا الصدقة المندوبة وتكون الفائدة أن مصارف جميع الصدقات ليس إال هؤالء ،واألقرب أن المراد ً فيه
من لفظ الصدقات هاهنا هو الزكوات الواجبة ويدل عليه وجوه:
األول :أنه تعالى أثبت هذه الصدقات بالم التمليك لألصناف الثمانية ،والصدقة المملوكة لهم ليست إال
الزكاة الواجبة.
الثاني :أن ظاهر هذه اآلية يدل على أن مصرف الصدقات ليس إال لهؤالء الثمانية ،وهذا الحصر إنما
يصح لو حملنا هذه الصدقات على الزكوات الواجبة ،أما لو أدخلنا فيها المندوبات لم يصح هذا الحصر،
ألن الصدقات المندوبة يجوز صرفها إلى بناء المساجد ،والرباطات ،والمدارس ،وتكفين الموتى
وتجهيزهم وسائر الوجوه.
اء} إنما يحسن ذكره لوكان قد سبق بيان تلك الصدقات الثالث :أن قوله تعالىِ{ :إ َّن َما الصدقات ِل ْل ُف َق َر ِ
وأقسامها حتى ينصرف هذا الكالم إليه ،والصدقات التي سبق بيانها وتفصيلها هي الصدقات الواجبة
فوجب انصراف هذا الكالم إليها.
الحكم الثاني:
دلت هذه اآلية على أن هذه الزكاة يتولى أخذها وتفرقتها اإلمام ومن يلي من قبله ،والدليل عليه أن اهلل
سهما فيها ،وذلك يدل على أنه البد في أداء هذه الزكوات من عامل والعامل هو ً تعالى جعل للعاملين
الذي نصبه اإلمام ألخذ الزكوات ،فدل هذا النص على أن اإلمام هو الذي يأخذ هذه الزكوات ،وتأكد هذا
النص بقوله تعالىُ :خ{ ْذ ِم ْن أموالهم َصدَ َق ًة} فالقول بأن المالك يجوز له إخراج زكاة األموال الباطنة
بنفسه إنما يعرف بدليل آخر ،ويمكن أن يتمسك في إثباته بقوله تعالىَ :و{ ِفى أموالهم َح ٌّق َّل َّ
لساِئ ل ِ
حقا للسائل والمحروم وجب أن يجوز له دفعه إليه والمحروم} [الذاريات ]19 :فإذا كان ذلك الحق ً
ابتداء.
الحكم الثالث:
نص القرآن يدل على أن العامل له في مال الزكاة حق ،واختلفوا في أن اإلمام هل له فيه حق؟ فمنهم
من أثبته قال :ألن العامل إنما قدر على ذلك العمل بتقويته وإمارته ،فالعامل في الحقيقة هو اإلمام،
ومنهم من منعه وقال :اآلية دلت على حصر مال الزكاة في هؤالء الثمانية ،واإلمام خارج عنهم فال
يصرف هذا المال إليه.
الحكم الرابع:
غنيا هل يأخذ النصيب؟ قال الحسن :ال يأخذ إال مع الحاجة وقال ً اختلفوا في هذا العامل إذا كان
غنيا ألنه يأخذه أجرة على العمل ،ثم اختلفوا فقال بعضهم :للعامل في مال ً الباقون :يأخذ وإن كان
الزكاة الثمن ،ألن اهلل تعالى قسم الزكاة على ثمانية أصناف فوجب أن يحصل له الثمن ،كما أن من
أوصى بمال لثمانية أنفس حصل لكل واحد منهم ثمنه ،وقال األكثرون :بل حقه بقدر مؤنته عند الجباية
والجمع.
الحكم الخامس:
اتفقوا على أن مال الزكاة ال يخرج عن هذه الثمانية واختلفوا أنه هل يجوز وضعه في بعض األصناف
فقط؟ وقد سبق ذكر دالئل هاتين المسألتين ،إال أنا إذا قلنا يجوز وضعه في بعض األصناف فقط فهذا
إنما يجوز في غير العامل ،وأما وضعه بالكلية في العالم فذلك غير جائز باالتفاق.
الحكم السادس:
أن العامل والمؤلفة مفقودان في هذا الزمان ،ففيه األصناف الستة واألولى صرف الزكاة إلى هذه
األصناف الستة على ما يقوله الشافعي ،ألنه الغاية في االحتياط ،أما إن لم يفعل ذلك أجزأه على ما
بيناه.
الحكم السابع:
اء والمساكين} يتناول الكافر والمسلم إال أن األخبار دلت على أنه ال يجوز صرف عموم قولهِ { :ل ْل ُف َق َر ِ
الزكاة إلى الفقراء والمساكين وغيرهم إال إذا كانوا مسلمين.
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه األصناف الثمانية وشرح أحوالهم .قالَ { :ف ِر َ
يض ًة ّم َن اهلل} قال الزجاج:
يض ًة} منصوب على التوكيد ،ألن قولهِ{ :إ َّن َما الصدقات} لهؤالء جار مجرى قوله :فرض اهلل { َف ِر َ
الصدقات لهؤالء فريضة ،وذلك كالزجر عن مخالفة هذا الظاهر ،وعن النبي صلى اهلل عليه وسلم أنه قال:
«إن اهلل تعالى لم يرض بقسمة الزكاة أن يتوالها ملك مقرب وال نبي مرسل حتى تولى قسمتها بنفسه».
والمقصود من هذه التأكيدات تحريم إخراج الزكاة عن هذه األصناف.
يم} ال يشرع إال ما هو األصوب األصلح ،واهلل أعلم. يم} أي أعلم بمقادير المصالح { َح ِك ٌ
ثم قال{ :واهلل عَ ِل ٌ
.11تفسير القشيري
المَؤ َّل َف ِة ُق ُلو ُبهُ ْم َو ِفى الرِّ َق ِ
اب}. ين عَ لَ ْيهَ ا َو ُ
ام ِل َ
اكين ِ َوالعَ ِ
ألم َس ِ ات ِل ْل ُف َق َر ِ
آء َو َ الصدَ َق ُ قوله ّ
جل ذكرهِ{ :إ َّن َما َ
الفقير ،والفرق ِ بينه وبين المسكين لما احتاجوا إليه في قسمة الزكاة المفروضة.. صفة
ِ الفقهاء في
ُ َّ
تكلم
ِ
والفقير الذي له ب ُْل َغ ٌة من العيش. ُ المسكين الذي ال شيء له. ُ فأبو حنيفة رحمة اهلل عليه -يقول:
ويقول الشافعي رحمة اهلل عليه :الفقير الذي ال شيء له ،والمسكين الذي له ب ُْل َغ ٌة من العيش -أي
بالعكس.
وأهل المعرفة اختلفوا فيه؛ فمنهم من قال باألول ،ومنهم من قال بالقول الثاني ،واختالفهم ليس
واحد منهم أشار إلى ما هو حاله ووقته ووجوده وشربه ومقامهَ .ف ِم ْن ٍ كاختالف الفقهاء؛ وذلك ألن َّ
كل
الزكاة حاله ووقته ووجوده وشربه ومقامهَ .ف ِم ْن أهل المعرفة َم ْن رأى َأ َّن ِ أهل المعرفة َم ْن رأى َأ َّن َأ ْخ َذ
الزكاة المفروضة َأ ْولى ،قالوا إلى اهلل تعالى جعل ذلك ِم ْلكا للفقير ،فهو َأ َح ُّل له مما يُ تَ َط َّو ُع به عليه. ِ َأ ْخ َذ
أولى من أن يزاحموا أرباب ومنهم من قال :الزكاة المفروضة مستحقة ألقوام ،ورأوا اإليثار على اإلخوان ْ
ً
اختياراَ ..ف ِل َم نأخذ الزكاة المفروضة؟ السهمان -مع احتياجهم أخذ الزكاة -وقالوا :نحن آثرنا َ
الف ْق َر
ثم على مقتضى أصولهم في الجملة -ال في أخذ الزكاة -للفقر مراتب:
فقره ،والفقير َم ْن يكتفي المسكنة؛ فذو الحاجة َم ْن يرضى بدنياه وتسدُّ الدنيا َ ُ الفقر ثم
ُ الحاجة ثم ُ أو ُلهاَّ
فقره .والمسكين َم ْن ال يرضى بغير مواله؛ ال إلى الدنيا يلتفت ،وال باآلخرة يشتغل، بعقباه وتج ُب ُر الجنة ُ
ً
سكينا، مسكينا وأمتنيً وال بغير مواله يكتفي؛ قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم «اللهم أحيني
واحشرني في زمرة المساكين» وقال صلى اهلل عليه وسلم «أعوذ بك من الفقر» ألن عليه بقية؛ فهو
محجوب عن ر ِّبه. ٌ ببقيته
ويحسن أن يقال إن الفقر الذي استعاذ منه أال يكون له منه شيء ،والمسكنة المطلوبة أن تكون له ب ُْل َغ ٌة
حقه ،ولذلك استعاذ ليتفر َغ بوجود تلك البلغة إلى العبادة؛ ألنه إذا لم تكن له بلغة َش َغلَه َف ْق ُره عن أداء ِّ َّ
منه.
سماء ُت ِظله وال َ وقوم َس َم ْت ِه َممهُ م عن هذا االعتبار -وهذا َأ ْولى بأصولهم -فالفقير الصادق عندهم َم ْن ال
معلوم يشغله ،فهو عبدٌ باهلل هلل ،يردُّ ه إلى التمييز في أوان العبودية ،وفي غير هذا الوقت َ أرض ُت ِق ُّله وال َ
صطلَم عن شواهدهِ ،
واق ٌف بر ِّبهُ ،من َْش ٌّق عن جملته. فهو ُم َ
ير من كُ ِس َر ْت فقاره -هذا في العربية. ويقال َ
الف ِق ُ
آثاره ،فكأنه لمهُ -
اص َط َ والفقير -عندهمَ -م ْن َس َق َط اختياره ،وتعطلت عنه دياره ،واندرست -الستيالء َم ْن ْ
أخباره ،وأنشدوا: ُ تبق منه إال لم َ
حاله بباب مقصوده ،ال يبرح عن قريبا ،ويقال المسكين هو الذي أسكنه ُ ً رت أنهم رحلوا َأ َّما الرسومُ َف َخ َّب ْ
ً
لحظة عن ر ِّبه. ُسدَّ ِته ،فهو ُمعْ تَ ِك ٌف بقلبه ،وال يغفل
ين عَ لَ ْيهَ ا} فعلى لسان العلمَ :م ْن يتولى جمع الزكاة على شرائطها المعلومة .وعلى لسان وأما { َوالعَ الَ ِم َ َّ
اإلشارةَ :أ ْولَى الناس بالتصاون عن أخذ الزكاة َم ْن َصدَ َق في أعماله هلل ،فإنهم ال يرجون على أعمالهم
ضا ،وال يتطلبون في مقابلة أحوالهم عَ َرضا ،وأنشدوا: ِع َو ً
رجى عليه ثواب هوى يُ َ
ً قبيح
ٌ وما أنا بالباغي على الحب ِر ْش َو ٌة ***
ُ
نشاطه؛ َّ
ليتوفر في الدين ال قلبه بنوع إرفاق ٍ معه، فم ْن يُ ْستَ َم ُ
المؤلفة قلوبهم -على لسان العلمَ - َّ وأما
ّ
استعطافا لهم ،وبيان ذلك مشهو ٌر في مسائل الفقه. ً سهم
ٌ فلهم من الزكاة
ثواب أو لرؤية مقام أو الطالع حال..
ٍ حضوره بسبب َط َمع أو لن َْيل ُ وحاشا أن يكون في القوم َم ْن يكون
فذلك في صفة العوام ،فأما الخواص فكما قالوا.
فانيا عن حظه *** وعن الهوى واإل ْن ِس واألحباب ً من لم يكن بك
مفترقا من األسباب ً أو تيمته صبابة جمعت له *** ما كان
مآب واقف *** ِل َمنَال ٍّ ٌ
الح ْسن ِ ِ حظ أو ُ ِ فألن بين المراتب
َّ
اب}. جل ذكرهَ { :و ِفى الرِّ َق ِ قوله ّ
وهم على لسان العلم :المكا َت ُبون ،وشرحه في مسائل الفقه معلوم.
يستفزهم طلبَ ،ف َم ْن
ُّ وهؤالء ال يتحررون ولهم تعريج على سبب ،أو لهم في الدنيا والعقبى أرب ،فهم ال
كان به بقية من هذه الجملة فهو عبدٌ لم يتحرر ،قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وعلى آله:
«المكا َت ُب عَ ْبدٌ ما بقي عليه درهم» وأنشد بعضهم:
أتمنى على الزمان ُم َحاالً *** َأ ْن ترى مقلتاي َط ْلعَ َة ُحرِّ
ين}.
ار ِم َ جل ذكرهَ { :و َقوله ّ
الغ ِ
وهم على لسان العلمَ :م ْن عليهم دَ يْ ٌن في غير معصية.
وهؤالء القوم ال يقضى عنهم ما لزمهم امتالك الحق ،ولهذا قيل المعرفة غريم ال يُ ْق َضى دَ يْ نُه.
اهلل}.
جل ذكرهَ { :و ِفى َس ِبيل ِ ِ قوله ّ
سهم على ما جاء بيا ُنه في مسائل الفقه. ٌ جب له في الزكاة سبيل اهلل َو َ َ وعلى لسان العلمَ :م ْن سلك
تتوج ُب عليه المطالبات؛ فيبذل أوالً مالَه ثم جاهَه ثم َن ْفسه ثم َّ َ
سبيل اهلل وفي هذه الطريقةَ :م ْن سلك
روحه ..وهذه أول َقدَ ٍم في الطريق. َ
الس ِبيل ِ}.
جل ذكرهَ { :وابْن ِ َّ قوله ّ
وطنه على أوصاف مخصوصة. الغربة ،وفا َر َق َ وهو على لسان العلمَ :م ْن وقع في ُ
مجلسه،
ُ ُ
والخلوة طعامه،
ُ ُ
فالجوع ِّ
الحق؛ وعند القوم :إذا َت َغ َّر َب العَ بدُ عن مألوفات أوطانه فهو في ِق َرى
والحق -تعالى -مشهودُ ه .قال تعالىَ { :و َس َق ُ
اه ْم َر ُّبهُ ْم َش َرابًا َطهُ ً
ورا} ُّ والمحبة شرابُه ،واُأل ْن ُس شهوده،ُ
وغدا شراب الثواب، ً ِّ
المحاب شراب
ُ [اإلنسان :]21 :لقوم َوعْ دٌ في الجنة ،وآلخرين َن ْقدٌ في الوقت؛ اليوم
وفي معناه أنشدوا:
ً
ثالثا فَأ ب َ
ْص َرا قوم قد مشى من شرابنا *** وأعمى سقيناه قعد ٍ َو ُم ِ
يوما فأخبرا ً الكأس
َ ينط ْق ثالثين ِح َّج ًة *** َأ ِد ْرنا عليه وأخرس لم ِ َ
.12تفسير األلوسي
ين َو ِفي َس ِبيل ِ
ار ِم َ ين عَ لَ ْيهَ ا َو ْال ُمَؤ َّل َف ِة ُق ُلو ُبهُ ْم َو ِفي الرِّ َق ِ
اب َو ْال َغ ِ اكين ِ َو ْالعَ ِ
ام ِل َ اء َو ْال َم َس ِ
ات ِل ْل ُف َق َر ِ
الصدَ َق ُ
{ِإ َّن َما َّ
يم (})60 يم َح ِك ٌ الس ِبيل ِ َف ِر َ
يض ًة ِم َن اهَّلل ِ َواهَّلل ُ عَ ِل ٌ اهَّلل ِ َوابْن ِ َّ
{إ َّن َما الصدقات ْلل ُف َق َر اء والمساكين} إلخ يعني أن الذي ينبغي أن يقسم مال اهلل عليه من اتصف باحدى
هذه الصفات دون غيره إذ القصد الصالح والمنافقون ليس فيهم سوى الفساد فال يستحقونه وفي ذلك
حسم ألطماعهم الفارغة ورد لمقالتهم الباطلة ،والمراد من الصدقات الزكوات فيخرج غيرها من التطوع،
والفقير على ما روي عن اإلمام أبي حنيفة رضي اهلل تعالى عنه من له أدنى شيء وهو ما دون النصاب
أو قدر نصاب غير نام وهو مستغرق في الحاجة ،والمسكين من ال شيء له فيحتاج للمسألة لقوته وما
يوراى بدنه ويحل له ذلك بخالف األول حيث ال تحل له المسألة فإنها ال تحل لمن يملك قوت يومه بعد
ستر بدنه ،وعند بعضهم ال تحل لمن كان كسوبًا أو يملك خمسين درهما .فقد أخرج أبو داود .والترمذي
والنسائي عن ابن مسعود قال« :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من سألنا وله ما يغنيه جاء يوم
القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح قيل :يا رسول اهلل وما يغنيه؟ قال :خمسون
درهم ا أو قيمتها من الذهب» وإلى هذا ذهب الثوري .وابن المبارك .وأحمد واسحق ،وقيل :من ملك ً
درهم ا حرم عليه السؤال لما أخرج أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال« :قال رسول اهلل صلى ً أربعين
درهما.
ً اهلل عليه وسلم من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف» وكان األوقية في ذلك الزمان أربعين
فقيرا ،وال يخرجه عن الفقر ملك نصب كثيرة غير ً ويجوز صرف الزكاة لمن ال تحل له المسألة بعد كونه
نامية إذا كانت مستغرقة للحاجة ،ولذا قالوا :يجوز للعالم وإن كانت له كتب تساوي نص ًبا كثيرة إذا كان
محتاج ا إليها للتدريس ونحوه أخذ الزكاة بخالف العامي وعلى هذا جميع آالت المحترفين. ً
أو ِم ْس ِكينًا َذاوعلى ما نقل عن اإلمام يكون المسكين أسوأ حااًل من الفقير ،واستدل بقوله تعالىْ { :
َمتْ َربَة} [البلد ]16 :إلخ يعني أن الذي ينبغي أن يقسم مال اهلل عليه من اتصف باحدى هذه الصفات
دون غيره إذ القصد الصالح والمنافقون ليس فيهم سوى الفساد فال يستحقونه وفي ذلك حسم
ألطماعهم الفارغة ورد لمقالتهم الباطلة ،والمراد من الصدقات الزكوات فيخرج غيرها من التطوع،
والفقير على ما روي عن اإلمام أبي حنيفة رضي اهلل تعالى عنه من له أدنى شيء وهو ما دون النصاب
أو قدر نصاب غير نام وهو مستغرق في الحاجة ،والمسكين من ال شيء له فيحتاج للمسألة لقوته وما
يوراى بدنه ويحل له ذلك بخالف األول حيث ال تحل له المسألة فإنها ال تحل لمن يملك قوت يومه بعد
ستر بدنه ،وعند بعضهم ال تحل لمن كان كسوبًا أو يملك خمسين درهما.
فقد أخرج أبو داود .والترمذي والنسائي عن ابن مسعود قال« :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من
سألنا وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح قيل :يا رسول اهلل
درهم ا أو قيمتها من الذهب» وإلى هذا ذهب الثوري .وابن المبارك .وأحمد ً وما يغنيه؟ قال :خمسون
درهم ا حرم عليه السؤال لما أخرج أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: ً واسحق ،وقيل :من ملك أربعين
«قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف» وكان األوقية في ذلك
فقيرا ،وال يخرجه عن الفقر ً درهم ا .ويجوز صرف الزكاة لمن ال تحل له المسألة بعد كونه
ً الزمان أربعين
ملك نصب كثيرة غير نامية إذا كانت مستغرقة للحاجة ،ولذا قالوا :يجوز للعالم وإن كانت له كتب
محتاجا إليها للتدريس ونحوه أخذ الزكاة بخالف العامي وعلى هذا جميع ً تساوي نص ًبا كثيرة إذا كان
آالت المحترفين.
وعلى ما نقل عن اإلمام يكون المسكين أسوأ حااًل من الفقير ،واستدل بقوله تعالىَ{ :أ ْو ِم ْس ِكينًا َذا
َمتْ َرب ٍَة} [البلد ]61 :أي ألصق جلده بالتراب في حفرة استتر بها مكان اإلزار وألصق بطنه به لفرط الجوع
فإنه يدل على غاية الضرر والشدة ولم يوصف الفقير بذلك ،وبأن األصمعي .وأبا عمرو بن العالء
وغيرهما من أهل اللغة فسروا المسكين ن ال شيء له ،والفقير ن له بلغة من العيش .وأجيب بأن تمام
االستدالل باآلية موقوف على أن الصفة كاشفة وهو خالف الظاهر ،وأن النقل عن بعض أهل اللغة
معارض بالنقل عن البعض اآلخر .وقال الشافعي عليه الرحمة :الفقير من ال مال له وال كسب يقع موقعً ا
من حاجته ،والمسكين من له مال أو كسب ال يكفيه ،فالفقير عنده أسوأ حااًل من المسكين ،واستدل له
بقوله تعالىَ { :وَأ َّما السفينة َفكَا َن ْت لمساكين} [الكهف ]79 :فأثبت للمسكين سفينة ،وا رواه الترمذي عن
أنس .وابن ماجه .والحاكم عن أبي سعيد قاال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم «اللهم أحيني
مسكينًا وأمتني مسكي ًن ا واحشرني في زمرة المساكين» مع ما رواه أبو داود عن أبي بكرة أنه عليه
الصالة والسالم كان يدعو بقوله« :اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر» وخبر «الفقر فخري» كذب ال
أصل له .وبأن اهلل تعالى قدم الفقير في اآلية ولو لم تكن حاجته أشد لما بدأ به ،وبأن الفقير عنى
المفقور أي مكسور الفقار أي عظام الصلب فكان أسوأ .وأجيب عن األول بأن السفينة لم تكن ملكًا لهم
ترحما كما في الحديث« :مساكين أهل ً بل هم أجراء فيها أو كانت عارية معهم أو قيل لهم مساكين
النار».
وقوله:
مساكين أهل الحب حتى قبورهم *** عليها تراب الذل بين المقابر
وهذا أولى ،وعن الثاني بأن الفقر المتعوذ منه ليس إال فقر النفس لما روي أنه صلى اهلل عليه وسلم كان
يسأل العفاف والغنى والمراد به غنى النفس ال كثرة الدنيا ،وعن الثالث بأن التقديم ال دليل فيه إذ له
اعتبارات كثيرة في كالمهم ،وعن الرابع بأنا ال نسلم أن الفقير مأخوذ من الفقار لجواز كونه من فقرت له
فقرة من مالي إذا قطعتها فيكون له شيء ،وأيً ا ما كان فهما صنفان ،وقال الجبائي :إنهما صنف واحد
والعطف لالختالف في المفهوم ،وروي ذلك عن محمد .وأبي يوسف ،وفائدة الخالف تظهر فيما إذا
أوصى بثلث ماله مثال لفالن وللفقراء والمساكين فمن قال :إنهما صنف واحد جعل لفالن النصف ومن
قال :إنهما صنفان جعل له الثلث من ذلك {والعاملين عَ لَ ْيهَ ا} وهم الذين يبعثهم اإلمام لجبايتها ،وفي
البحر أن العامل يشمل العاشر والساعي .واألول من نصبه اإلمام على الطريق ليأخذ الصدقات من التجار
المارين بأموالهم عليه.
والثاني هو الذي يسعى في القبائل ليأخذ صدقة المواشي في أماكنها ،ويعطي العامل ما يكفيه وأعوانه
باقي ا إال إذا استغرقت كفايته الزكاة فال يزاد على النصف ألن بالوسط مدة ذهابهم وإيابهم ما دام المال ً
التصنيف عين اإلنصاف.
وعن الشافعي أنه يعطي الثمن ألن القسمة تقتضيه وفيه نظر ،وقيد بالوسط ال يجوز أن يتبع شهوته في
محضا ،وعلى اإلمام أن يبعث من يرضي بالوسط من غير ً ً
إسرافا المأكل والمشرب والملبس لكونه
إسراف وال تقتير ،وببقاء المال ألنه لو أخذ الصدقة وضاعت من يده بطلت عمالته وال يعطي من بين
المال شيًئ ا وما يأخذه صدقة ،ومن هنا قالوا :ال تحل العمالة لهاشمي لشرفه ،وإنما حلت للغني مع حرمة
الصدقة عليه ألنه فرغ نفسه لهذا العمل فيحتاج إلى الكفاية ،والغنى ال يمنع من تناولها عند الحاجة
كابن السبيل كذا في البدائع ،والتحقيق أن في ذلك شبهً ا باالجرة وشبهً ا بالصدقة ،فباالعتبار األول حلت
للغنى ولذا ال يعطى لو أداها صاحب المال إلى اإلمام ،وباالعتبار الثاني ال تحل للهاشمي .وفي النهاية
رجل من بني هاشم استعمل على الصدقة فأجرى له منها رزق فإنه ال ينبغى له أن يأخذ من ذلك ،وإن
عمل فيها ورزق من غيرها فال بأس به ،وهو يفيد صحة توليته وأن أخذه منها مكروه إلحرام ،وصرح
كافرا ،ومنه يعلم حرمة تولية اليهود على بعض ً هاشميا أو عبدً ا أو
ً في الغاية بعدم صحة كون العامل
األعمال وقد تقدمت نبذة من الكالم على ذلك {والمؤلفة ُق ُلو ُبهُ ْم} وهم كانوا ثالثة أصناف .صنف كان
يؤلفهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ليسلموا .وصنف أسلموا لكن على ضعف كعيينة بن حصن.
واألقرع بن حابس .والعباس بن مرداس السلمي فكان عليه الصالة والسالم يعطيهم لتقوى نيتهم في
اإلسالم .وصنف كانوا يعطون لدفع شرهم عن المؤمنين ،وعد منهم من يؤلف قلبه بإعطاء شيء من
الصدقات على قتال الكفار ومانعي الكاة .وفي الهداية أن هذا الصنف من األصناف الثمانية قد سقط
وانعقد إجماع الصحابة على ذلك في خالفة الصديق رضي اهلل تعالى عنه .روي أن عيينة واألقرع جاءا
خطا فمزقه عمر رضي اهلل تعالى عنه وقال :هذا شيء يعطيكموه أرض ا من أبي بكر فكتب بذلك ً يطلبان ً
تأليف ا لكم فأما اليوم فقد أغز اهلل تعالى اإلسالم وأغني عنكم فإن ثبتم ً رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
على اإلسالم وإال فبيننا وبينكم السيف .فرجعوا إلى أبي بكر فقالوا :أنت الخليفة أم عمر؟ بذلت لنا
الخط ومزقه عمر ،فقال رضي اهلل تعالى عنه :هو إن شاء ووافقه ،ولم ينكر عليه أحد من الصحابة
رضي اهلل تعالى عنهم مع احتمال أن فيه مفسدة كارتداد بعض منهم وإثارة ثائرة .واختلف كالم القوم
في وجه سقوطه بعد النبي صلى اهلل عليه وسلم بعد ثبوته بالكتاب إلى حين وفاته بأبي هو وأمي عليه
الصالة والسالم فمنهم من ارتكب جواز نسخ ما ثبت بالكتاب باإلجماع بناء على أن اإلجماع حجة
قطعية كالكتاب وليس بصحيح من المذهب؛ ومنهم من قال :هو من قبيل انتهاء الحكم بانتهاء علته
كانتهاء جواز الصوم بانتهاء وقته وهو النهار .ورد بأن الحكم في البقاء ال يحتاج إلى علة كما في الرمل
واالضطباع في الطواف فانتهاؤها ال يستلزم انتهاءه وفيه بحث .وقال عالء الدين عبد العزيز :واألحسن
أن يقال :هذا تقرير لما كان في زمن النبي صلى اهلل عليه وسلم من حيث المعنى ،وذلك أن المقصود
بالدفع إليهم كان إعزاز اإلسالم لضعفه في ذلك الوقت لغلبة أهل الكفر وكان اإلعزاز بالدفع ،ولما تبدلت
الحال بغلبة أهل اإلسالم صار اإلعزاز في المنع ،وكان اإلعطاء في ذلك الزمان والمنع في هذا الزمان نزلة
نسخا ،كالمتيمم وجب عليه ً اآللة إلعزاز الدين واإلعزاز هو المقصود وهو باق على حاله فلم يكن ذلك
استعمال التراب للتطهير ألنه آلة متعينة لحصول التطهير عند عدم المار فإذا تبدلت حاله فوجد الماء
نسخا لألول فكذا هذا ً سقط األول ووجب استعمال الماء ألنه صار متعينًا لحصول المقصود ال يكون هذا
وهو نظير إيجاب الدية على العاقلة فإنها كانت واجبة على العشيرة في زمن النبي صلى اهلل عليه
وسلم ،وبعده على أهل الديوان ألن اإليجاب على العاقلة بسبب النصرة واالستنصار في زمنه صلى اهلل
ً
نسخا بل عليه وسلم كان بالعشيرة وبعده عليه الصالة والسالم بأهل الديوان ،فإيجابها عليهم لم يكن
تقرير ا للمعنى الذي وجبت الدية ألجله وهو االستنصار اه.
ً كان
واستحسنه في النهاية.
وتعقبه ابن الهمام بأن هذا ال ينفي النسخ ألن إباحة الدفع إليهم حكم شرعي كان ثابتً ا وقد ارتفع ،وقال
بعض المحققين :إن ذلك نسخ وال يقال :نسخ الكتاب باإلجماع ال يجوز على الصحيح ألن الناسخ دليل
اإلجماع ال هو بناء على أنه ال إجماع إال عن مستند فإن ظهر وإال وجب الحكم بأنه ثابت ،على أن اآلية
التي أشار إليها عمر رضي اهلل تعالى عنه وهي قوله سبحانهَ { :و ُقل ِ الحق ِمن َّر ّبكُ ْم َف َمن َشاء َف ْل ُيْؤ ِمن
َو َمن َشاء َف ْل َيكْ ُف ْر} [الكهف ]29 :يصلح لذلك وفيه نظر ،فإنه إنما يتم لو ثبت نزول هذه اآلية بعد هذه
ولم يثبت ،وقال قوم :لم يسقط سهم هذا الصنف ،وهو قول الزهري وأبي جعفر محمد بن علي .وأبي
ثور ،وروي ذلك عن الحسن ،وقال أحمد :يعطون أن احتاج المسلمون إلى ذلك.
وقال البعض :إن المؤلفة قلوبهم مسلمون وكفار والساقط سهم الكفار فقط .وصحح أنه عليه الصالة
والسالم كان يعطيهم من خمس الخمس الذي كان خاص ماله صلى اهلل عليه وسلم { َو ِفي الرقاب} أي
للصرف في فك الرقاب بأن يعان المكاتبون بشيء منها على أدار نجومهم ،وقيل :بأن يبتاع منها الرقاب
فتعتق ،وقيل :بأن يفدي األساري ،وإلى األول ذهب النخعي .والليث .والزهري .والشافعي ،وهو المروى
عن سعيد بن جبير وعليه أكثر الفقهاء ،وإلى الثاني ذهب مالك .وأحمد .وإسحق ،وعزاه الطيبي إلى
الحسن ،وفي تفسير الطبري أن األول هو المنقول عنه {والغارمين} أي الذين عليهم دين ،والدفع إليهم
كما في الظهيرية أولى من الدفع إلى الفقير وقيدوا الدين بكونه في غير معصية كالخمر واإلسراف فيما
ال يعنيه ،لكن قال النووي في المنهاج قلت :واألصح أن من استدان للمعصية يعطي إذا تاب وصححه
مطلق ا قال :إنه قد يظهر التوبة لألخذ ،واشترط أن ال يكون لهم ما يوفون به دينهم ً في الروضة ،والمانع
فاضاًل عن حوائجهم ومن يعولونه ،وإال فمجرد الوفاء ال يمنع من االستحقاق ،وهو أحد قولين عند
الشافعية وهو األظهر.
وقيل :ال يشترط لعموم اآلية .وأطاق القدوري .وصاحب الكنز من أصحابنا المديون في باب المصرف،
وقيده في الكافي بأن ال يملك نصابًا فضاًل عن دينه ووذكر في البحر أنه المراد بالغارم في اآلية إذ هو
في اللغة من عليه دين وال يجد قضاء كما ذكره العتبي .واعتذر عن عدم التقييد بأن الفقر شرط في
األصناف كلها إال العامل وابن السبيل إذا كان له في وطنه مال فهو نزلة الفقير ،وهل يشترط حلول
الدين أوال قوالن للشافعية .ويعطي عندهم من استدان إلصالح ذات البين كأن يخاف فتنة بين قبيلتين
ً
مطلقا ،وقيل :إن تنازعتا في قتيل لم يظهر قاتله أو ظهر فأعطي الدية تسكينًا للفتنة ،ويعطى مع الغنى
غنيا بنقد ال يعطى { َو ِفى َس ِبيل ِ اهلل}.
كان ً
أريد بذلك عند أبي يوسف منقطعوا الغزاة ،وعند محمد منقطعوا الحجيج .وقيل :المراد طلبة العلم
واقتصر عليه في الفتاوي الظهيرية ،وفسره في البدائع بجميع القرب فيدخل فيه كل من سعي في
طاعة اهلل تعالى وسبل الخيرات .قال في البحر :وال يخفى أن قيد الفقر البد منه على الوجوه كلها
فحينئد ال تظهر ثمرته في الزكاة .وإنما تظهر في الوصايا واألوقاف انتهى .وفي النهاية فإن قيل :إن
قوله سبحانهَ { :و ِفى َس ِبيل ِ اهلل} مكرر سواء أريد منقطع الغزاة أو غيره ألنه إما أن يكون له في وطنه
مال أم ال فإن كان فهو ابن السبيل وإن لم يكن فهو فقير ،فمن أين يكون العدد سبعة على ما يقول
األصحاب أو ثمانية على ما يقول غيرهم .وأجيب بأنه فقير إال أنه ازداد فيه شيء آخر سوى الفقر وهو
االنقطاع في عبادة اهلل تعالى من جهاد أو حج فلذا غاير الفقير المطلق فإن المقيد يغاير المطلق ال
أيض ا وهو زيادة التحريض والترغيب في رعاية جانبه وإذا كان محالة ،ويظهر أثر التغاير في حكم آخر ً
كذلك لم تنقص المصارف عن سبعة وفيه تأمل انتهى ،وال يخفي وجهه .وذكر بعضهم أن التحقيق ما
غني ا في بلده بداره وخدمه وفرسه وله فضل دراهم حتى ال ذكره الجصاص في األحكام أن من كان ً
محتاجا له في إقامته فيجوز أنً تحل له الصدقة فإذا عزم على سفر جهاد احتاج لعدة وسالح لم يكن
غني ا في مصره وهذا معنى قوله صلى اهلل عليه وسلم« :الصدقة تحل يعطي من الصدقة وإن كان ً
للغازي الغني» فافهم وال تغفل { وابن السبيل} وهو المسافر المنقطع عن ماله ،واالستقراض له خير من
قبول الصدقة على ما في الظهيرية .وفي فتح القدير أنه ال يحل له أن يأخذ أكثر من حاجته ،وألحق به
تاجرا له دين على الناس ال يقدرً كل من هو غائب عن ماله وان كان في بلده .وفي المحيط وإن كان
على أخذه وال يجد شيًئا يحل له أخذ الزكاة ألنه فقير يدً ا كابن السبيل .وفي الخانية تفصيل في هذا
المقام قال :والذي له دين مؤجل على إنسان إذا احتاج إلى النفقة يجوز له أن يأخذ من الزكاة قدر
معسرا يجوز له أن يأخذ
ً كفايته إلى حلول األجل ،وإن كان الدين غير مؤجل فإن كان من عليه الدين
ً
معترفا ال يحل له أخذ الزكاة موسرا
ً الزكاة في أصح األقاويل ألنه يمنزلة ابن السبيل ،وإن كان المديون
أيضا ما لم يرفع األمر إلى وكذا إذا كان جاحدً ا وله عليه بينة عادلة ،وإن لم تكن عادلة ال يحل له األخذ ً
القاضي فيحلفه فإذا حلفه يحل له األخذ بعد ذلك اه ،والمراد من الدين ما يبلغ نصابًا كما ال يخفي.
وفي فتح القدير ولو دفع إلى فقيره لها مهر دين على زوجها يبلغ نصابًا وهو موسر بحيث لو طلبت
أعطاها ال يجوز ،وإن كان بحيث ال يعطى لو طلبت جاز اه .وهو مقيد لعموم ما في الخانية ،والمراد من
المهر ما تعورف تعجيله ألن ما تعورف تأجيله فهو دين مؤجل ال يمنع أخذ الزكاة ،ويكون في األول عدم
إعطائه نزلة إعساره ،ويفرق بينه وبين سائر الديون بأن رفع الزوج للقاضي مما ال ينبغي للمرأة بخالف
غيره ،لكن في البزازية دفع الزكاة إلى أخته وهي تحت زوج إن كان مهرها المعجل أقل من النصاب أو
موسرا والمعجل قدر النصاب ال يجوز عندهما وبه ً أكثر لكن الزوج معسر له أن يدفع إليها الزكاة وإن كان
مطلقا هذا ،والعدول عن الالم إلى { ِفى} في األربعة األخيرة على ما ً يفتي لالختياط ،وعند اإلمام يجوز
قال الزمخشري لإليذان بأنهم أرسخ في استحقاق الصدقة ممن سبق ذكره لما أن { ِفى} للظرفية المنبئة
عن إحاطتهم بها وكونهم محلها ومركزها وعليه فالالم لمجرد االختصاص ،وفي االنتصاف أن ثم سرا
آخر هو أظهر وأقرب وذلك أن األصناف األوائل مالك لما عساه أن يدفع إليهم وإنما يأخذونه تملكًا فكان
دخول الالم الئقابهم ،وأما األربعة األواخر فال يملكون لما يصرف نحوهم بل وال يصرف إليهم ولكن
يصرف في مصالح تتعلق بهم ،فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة المكاتبون أو البائعون
مصروف ا إلى أيديهم حتى يعبر عن ذلك بالالم المشعرة لكهم لما يصرف نحوهم وإنما هم ً فليس نصيبهم
تخليصا
ً محال لهذا الصرف ولمصالحه المتعلقة به ،وكذلك الغارمون إنما يصرف نصيبهم ألرباب ديونهم
مندرجا في سبيل اهلل، ً لذممهم ال لهم ،وأما في سبيل اهلل فواضح فيه ذلك ،وأما ابن السبيل فكأنه كان
وإنما أفرد بالذكر تنبيهً ا على خصوصيته مع أنه مجرد من الحرفين جميعً ا.
وعطفه على المجرور بالالم ممكن ولكن عطفه على القريب أقرب ،وما أشار إليه من أن المكاتب ال يملك
وإنما يملك المكاتب هو الذي أشار إليه بعض أصحابنا .ففي المحيط قالوا :إنه ال يجوز إعطاء الزكاة
لمكاتب هاشمي ألن الملك يقع للمولى من وجه والشبهة ملحقة بالحقيقة في حقهم وفي البدائع ما هو
ظاهر في أن الملك يقع للمكاتب وحينئذ فبقية األربعة بالطريق األولى.
والمشهور أن الالم للملك عند الشافعية وهو الذي يقتضيه مذهبهم حيث قالوا :البد من صرف الزكاة إلى
جميع األصناف إذا وجدت وال تصرف إلى صنف مثال وال إلى أقل من ثالثة من كل صنف بل إلى ثالثة
أو أكثر إذا وجد ذلك ،وعندنا يجوز للمالك أن يدفع الزكاة إلى كل واحد منهم وله أن يقتصر على صنف
واحد ألن المراد باآلية بيان األصناف التي يجوز الدفع إليهم ال تعيين الدفع لهم ،ويدل له قوله تعالى:
{ َوِإ ن ُت ْخ ُفوهَا َوتُْؤ ُتو َها الفقراء َفهُ َو َخ ْي ٌر َّلكُ ْم} [البقرة ]271 :وأنه صلى اهلل عليه وسلم أتاه مال من
الصدقة فجعله في صنف واحد وهو المؤلفة قلوبهم ثم أتاه مال آخر فجعله في الغارمين فدل ذلك على
أنه يجوز االقتصار على صنف واحد ،ودليل جواز االقتصار على شخص واحد منه أن الجمع المعرف بال
مجاز عن الجنس ،فلو حلف ال يتزوج النساء وال يشتري العبيد يحنث بالواحد؛ فالمعنى في اآلية أن
جنس الصدقة لجنس الفقير ،فيجوز الصرف إلى واحد ألن االستغراق ليس ستقيم ،إذ يصير المعنى إن
كل صدقة لكل فقير وهو ظاهر الفساد ،وليس هناك معهود ليرتكب العهد ،وال يرد خالعني على ما في
يدي من الدراهم وال شيء في يدها فإنه يلزمها ثالثة ،ولو حلف ال يكلمه األيام أو الشهور فإنه يقع على
العشرة عند اإلمام وعلى األسبوع والسنة عند اإلمامين ألنه أمكن العهد فال يحمل على الجنس.
فالحاصل أن حمل الجمع على الجنس مجاز وعلى العهد أو االستغراق حقيقة ،وال مساغ للخلف إال عند
تعذر األصل ،وعلى هذا ينصف الموصى به لزيد والفقراء كالوصية لزيد وفقير.
وما ذهبنا إليه هو المروى عن عمر .وابن عباس رضي اهلل تعالى عنهم ،وبه قال سعيد بن جبير .وعطاء.
وسفيان الثوري .وأحمد بن حنبل .ومالك علليهم الرحمة .وذكر ابن المنير أن جده أبا العباس أحمد بن
فارس كان يستنبط من تغاير الحرفين المذكورين دلياًل على أن الغرض بيان المصرف والالم لذلك
محذوفا فإما أن يكون التقدير إنما الصدقات مصروفة ً خبرا عن الصدقات فيقول :متعلق الجار الواقع ً
للفقراء كما يقول مالك ومن معه أو مملوكة للفقراء كما يقول الشافعي لكن األول متعين ألنه تقدير
يكتفي به في الحرفين جميعً ا ويصح تعلق الالم { َو ِفى} معً ا به فيصح أن يقال :هذا الشيء مصروف
في كذا ولكذا بخالف تقدير مملوكة فإنه إنما يلتئم مع الالم وعند االنتهاء إلى { ِفى} يحتاج إلى تقدير
مصروفة ليلتئم بها فتقديره من األول عام التعلق شامل الصحة متعين اه .وبالجملة ال يخفى قوة منزع
األئمة الثالثة في األخذ.
ولذا اختار بعض الشافعية ما ذهبوا إليه ،وكان والد العالمة البيضاوي عمر بن محمد وهو مفتي
يض ًة ّم َن اهلل} مصدر مؤكد لمقدر مأخوذ من معنى الكالم أي فرض الشافعية في عصره يفتى به َف{ ِر َ
لهم الصدقات فريضة ،ونقل عن سيبويه أنه منصوب بفعله مقد ًرا أي فرض اهلل تعالى ذلك فريضة،
واختار أبو البقاء كونه حاال من الضمير المسكن في قوله تعالىِ { :ل ْل ُف َق َراء} أي إنما الصدقات كائنة لهم
يم} بأحوالحال كونها فريضة أي مفروضة ،قيل :ودخلته التاء إللحاقه باألسماء كنطيحة {واهلل عَ ِل ٌ
يم} ال يفعل إال ما تقتضيه الحكمة من األمور الحسنة التي من جملتها
الناس ومراتب استحقاقهم { َح ِك ٌ
سوق الحقوق إلى مستحقيها.
.14تفسير الزمخشري
ين َو ِفي َس ِبيل ِ
ار ِم َ ين عَ لَ ْيهَ ا َو ْال ُمَؤ َّل َف ِة ُق ُلو ُبهُ ْم َو ِفي الرِّ َق ِ
اب َو ْال َغ ِ اكين ِ َو ْالعَ ِ
ام ِل َ اء َو ْال َم َس ِ
ات ِل ْل ُف َق َر ِ
الصدَ َق ُ
{ِإ َّن َما َّ
يم (})60 يم َح ِك ٌ الس ِبيل ِ َف ِر َ
يض ًة ِم َن اهَّلل ِ َواهَّلل ُ عَ ِل ٌ اهَّلل ِ َوابْن ِ َّ
{ِإ َّن َما الصدقات ِل ْل ُف َق َر اء} قصر لجنس الصدقات على األصناف المعدودة وأنها مختصة بها ،ال تتجاوزها
إلى غيرها ،كأنه قيل :إنما هي لهم ال لغيرهم .ونحوه قولك :إنما الخالفة لقريش ،تريد ال تتعداهم وال
تكون لغيرهم فيحتمل أن تصرف إلى األصناف كلها وأن تصرف إلى بعضها ،وعليه مذهب أبي حنيفة
رضي اهلل عنه.
وعن حذيفة وابن عباس وغيرهما من الصحابة والتابعين رضي اهلل عنهم أنهم قالوا :في أي صنف منها
وضعتها أجزاك.
وعن سعيد بن جبير رضي اهلل عنه :لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فجبرتهم بها
الشافعي رضي اهلل عنه ،البد من صرفها إلى األصناف الثمانية وعن عكرمة رضي ّ إلي .وعند
أحب ّ
ّ كان
اهلل عنه أنها تفرق في األصناف الثمانية.
وعن الزهري أنه كتب لعمر بن عبد العزيز تفريق الصدقات على األصناف الثمانية {والعاملين عَ لَ ْيهَ ا}
السعاة الذين يقبضونها {والمؤلفة ُق ُلو ُبهُ ْم} أشراف من العرب كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
شيئا منها حين كان في المسلمين قلة .والرقاب :المكاتبون يعانون ً يستألفهم على أن يسلموا فيرضخ لهم
منها .وقيل :األسارى .وقيل :تبتاع الرقاب فتعتق { والغارمين} الذين ركبتهم الديون وال يملكون بعدها
ما يبلغ النصاب .وقيل :الذين تحملوا الحماالت فتداينوا فيها وغرموا { َو ِفى َس ِبيل ِ اهلل} فقراء الغزاة
غني حيث ماله والحجيج المنقطع بهم { وابن السبيل} المسافر المنقطع عن ماله فهو فقير حيث هو ّ
يض ًة ّم َن اهلل} في معنى المصدر المؤكد ،ألن قوله إنما الصدقات للفقراء معناه فرض اهلل الصدقات { َف ِر َ
لهم .وقرئ{ :فريضة} بالرفع على :تلك فريضة.
فإن قلت :لم عدل عن الالم إلى (في) في األربعة األخيرة؟ قلت :لإليذان بأنهم أرسخ في استحقاق
التصدق عليهم ممن سبق ذكره ،ألن ( في) للوعاء ،فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات
فك الغارمين من الرق أو األسر ،وفي ّ فك الرقاب من الكتابة أو ّ ً
ومصبا ،وذلك لما في ّ ويجعلوا مظنة لها
الغرم من التخليص واإلنقاذ ،ولجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة ،وكذلك ابن
السبيل جامع بين الفقر والغربة عن األهل والمال ،وتكرير (في) في قولهَ { :و ِفى َس ِبيل ِ اهلل وابن
السبيل} فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين.
دل بكون هذه األصناف فإن قلت :فكيف وقعت هذه اآلية في تضاعف ذكر المنافقين ومكايدهم؟ قلتّ :
وإشعارا باستيجابهمً حسما ألطماعهم ً مصارف الصدقات خاصة دون غيرهم على أنهم ليسوا منهم،
الحرمان ،وأنهم بعداء عنها وعن مصارفها ،فما لهم وما لها؟ وما سلطهم على التكلم فيها ولمز قاسمها
صلوات اهلل عليه وسالمه؟.
.15تفسير الشوكاني2
قولهَ { :و ِمنْهُ ْم َّمن َي ْل ِم ُزكَ } هذا ذكر نوع آخر قبائحهم ،يقال :لمزه يلمزه :إذا عابه .قال الجوهري :اللمز:
العيب ،وأصله اإلشارة بالعين ونحوها ،وقد لمزه يلمزه ويلمزه ،ورجل لماز ،ولمزة :أي عياب .قال الزجاج:
لمزت الرجل أ ِلمزه وُأ لمزه ،بكسر الميم وضمها :إذا عبته ،وكذا همزته .ومعنى اآلية :ومن المنافقين من
يعيبك في الصدقات ،أي في تفريقها وقسمتها.
وروى عن مجاهد أنه قال :معنى { ْ
يَل ِم ُزكَ } :يرزؤك ويسألك ،والقول عند أهل اللغة هو ّ
األول ،كما قال
النحاس .وقرئ { :يلمزك} بضم الميم ،و{يلمزك} بكسرها مع التشديد .وقرأ الجمهور بكسرها مخففة
وا} بما وقع من رسول اهلل صلى اهلل عليه وا ِمنْهَ ا} أي :من الصدقات بقدر ما يريدون { َر ُض ْ { َفِإ ْن ُأ عْ ُط ْ
وسلم ولم يعيبوه ،وذلك ألنه ال مقصد لهم إال حطام الدنيا ،وليسوا من الدين في شيء { َوِإ ن َّل ْم يُ عْ َط ْو ْا
ون} أي :وإن لم يعطوا فاجئوا السخط، يَس َخ ُط َِمنهَ ا} أي :من الصدقات ما يريدونه ويطلبونه {ِإ َذا ُه ْم ْ
وفائدة إذا الفجائية :أن الشرط مفاجئ للجزاء وهاجم عليه.
ُ
وقد نابت إذا الفجائية مناب فاء الجزاءَ .و{لَ ْو َأ َّنهُ ْم َر ُض ْو ْا َما ءاتاهم اهلل َو َر ُسولهُ } أي :ما فرضه اهلل لهم
خيرا لهم، ً وما أعطاهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من الصدقات ،وجوب {لو} محذوف :أي لكان
ولهُ } أي :قالوا وا َح ْس ُبنَا اهلل َس ُيْؤ ِتينَا اهلل ِمن َف ْض ِل ِه َو َر ُس ُ
فإن فيما أعطاهم الخير العاجل واآلجل { َو َق ُال ْ
هذه المقالة عند أن أعطاهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ما هو لهم :أي كفانا اهلل ،سيعطينا من
فضله ،ويعطينا رسوله بعد هذا ما نرجوه ونؤمله {ِإ َّنا ِإ لَى اهلل راغبون} في أن يعطينا من فضله ما
نرجوه.
قولهِ{ :إ َّن َما الصدقات ِل ْل ُف َق َر اء} لما لمز المنافقون رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في قسمة الصدقات
وقطعا لشغبهم ،و{ِإ َّن َما} من صيغ القصر ،وتعريف الصدقات للجنس: ً ً
دفعا لطعنهم، ّبين اهلل لهم مصرفها
أي جنس هذه الصدقات مقصور على هذه األصناف المذكورة ال يتجاوزها ،بل هي لهم ال لغيرهم.
وقد اختلف أهل العلم هل يجب تقسيط الصدقات على هذه األصناف الثمانية ،أو يجوز صرفها إلى
األول الشافعي وجماعة البعض دون البعض على حسب ما يراه اإلمام أو صاحب الصدقة؟ فذهب إلى ّ
من أهل العلم ،وذهب إلى الثاني :مالك وأبو حنيفة ،وبه قال عمر ،وحذيفة ،وابن عباس ،وأبو العالية،
األولون بما في وسعيد بن جبير ،وميمون بن مهران .قال ابن جرير وهو قول عامة أهل العلم :احتج ّ
اآلية من القصر ،وبحديث زياد بن الحرث الصدائي عند أبي داود والدارقطني قال :أتيت النبي صلى اهلل
نبي وال عليه وسلم فبايعته ،فأتى رجل فقال :أعطني من الصدقة ،فقال له« :إن اهلل لم يرض بحكم ّ
غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو ،فجزأها ثمانية أصناف ،فإن كنت من تلك األجزاء أعطيتك»
وأجاب اآلخرون بأن ما في اآلية من القصر إنما هو لبيان الصرف والمصرف ،ال لوجوب استيعاب
األصناف ،وبأن في إسناد الحديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم اإلفريقي وهو ضعيف .ومما يؤيد ما
وا الصدقات َف ِن ِع َّما ِه َى َوِإ ن ُت ْخ ُفوهَا َوتُْؤ ُتو َها الفقراء َفهُ َو َخ ْي ٌر ذهب إليه اآلخرون قوله تعالىِ{ :إ ن ُت ْبدُ ْ
َّلكُ ْم} [البقرة ]271 :والصدقة تطلق على الواجبة كما تطلق على المندوبة .وصح عنه صلى اهلل عليه
وسلم أنه قال« :أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردّ ها في فقرائكم» وقد ادّ عى مالك اإلجماع على
مخالفا منهم.ً البر :يريد إجماع الصحابة ،فإنه ال يعلم له القبول اآلخر .قال ابن عبد ّ
قولهِ { :ل ْل ُف َق َر اء} قدمهم ،ألنهم أحوج من البقية على المشهور لشدّ ة فاقتهم وحاجتهم.
وقد اختلف أهل العلم في الفرق بين الفقير والمسكين على أقوال :فقال يعقوب بن السكيت ،والقتيبي،
ويونس ابن حبيب :إن الفقير أحسن حاالً من المسكين ،قالوا :ألن الفقير هو الذي له بعض ما يكفيه
ويقيمه .والمسكين الذي ال شيء له ،وذهب إلى هذا قوم من أهل الفقه منهم أبو حنيفة.
وقال آخرون بالعكس ،فجعلوا المسكين أحسن حاالً من الفقير ،واحتجوا بقوله تعالىَ{ :أ َّما السفينة
َفكَا َن ْت لمساكين} [الكهف .]79 :فأخبر أن لهم سفينة من سفن البحر .وربما ساوت جملة من المال،
ً
مسكينا» مسكينا وأمتني ً النبي صلى اهلل عليه وسلم من الفقر مع قوله« :اللهم أحيني تعوذ
ويؤيده ّ
ّ
وإلى هذا ذهب األصمعي وغيره من أهل اللغة .وحكاه الطحاوي عن الكوفيين ،وهو أحد قولي الشافعي
وأكثر أصحابه.
وقال قوم :إن الفقير والمسكين سواء ال فرق بينهما وهو أحد قولي الشافعي ،وإليه ذهب ابن القاسم
وسائر أصحاب مالك ،وبه قال أبو يوسف.
مروي
ّ وقال قوم :الفقير المحتاج المتعفف ،والمسكين :السائل .قاله األزهري ،واختاره ابن شعبان ،وهو
عن ابن عباس.
وقد قيل غير هذه األقوال مما ال يأتي االستكثار منه بفائدة يعتدّ بها .واألولى في بيان ماهية المسكين:
ما ثبت عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عند البخاري ومسلم ،وغيرهما ،من حديث أبي هريرة ،أن
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس فتردّ ه
اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان» ،قالوا :فما المسكين يا رسول اهلل؟ قال« :الذي ال يجد غنى يغنيه،
شيئا» قوله{ :والعاملين عَ لَ ْيهَ ا} أي :السعاة والجباة الذين ً وال يفطن له فيتصدّ ق عليه ،وال يسأل الناس
ً
قسطا. يبعثهم اإلمام لتحصيل الزكاة ،فإنهم يستحقون منها
وقد اختلف في القدر الذي يأخذونه منها ،فقيل :الثمن .روي ذلك عن مجاهد والشافعي .وقيل :على قدر
أعمالهم من األجرة ،روي ذلك عن أبي حنيفة وأصحابه .وقيل :يعطون من بيت المال قدر أجرتهم .روي
نصيبا من الصدقة فكيف يمنعون منها ويعطون ً ذلك عن مالك ،وال وجه لهذا ،فإن اهلل قد أخبر بأن لهم
ً
هاشميا أم ال؟ فمنعه قوم ،وأجازه آخرون .قالوا: من غيرها؟ واختلفوا هل يجوز أن يكون العامل
ويعطى من غير الصدقة.
النبي صلى اهلل ّ قوله{ :والمؤلفة ُق ُلو ُبهُ ْم} هم قوم كانوا في صدر اإلسالم ،فقيل :هم الكفار الذين كان
عليه وسلم يتألفهم ليسلموا .وكانوا ال يدخلون في اإلسالم بالقهر والسيف ،بل بالعطاء .وقيل :هم قوم
أسلموا في الظاهر ولم يحسن إسالمهم ،فكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يتألفهم بالعطاء؛ وقيل:
هم من أسلم من اليهود والنصارى ،وقيل :هم قوم من عظماء المشركين لهم أتباع ،أعطاهم النبي صلى
اهلل عليه وسلم ليتألفوا أتباعهم على اإلسالم.
ظاهرا كأبي سفيان بن حرب ،والحرث بن ً النبي صلى اهلل عليه وسلم جماعة ممن أسلم وقد أعطى
ّ
هشام ،وسهيل بن عمرو ،وحويطب بن عبد العزى ،أعطى كل واحد منهم مائة من اإلبل تألفهم بذلك،
وأعطى آخرين دونهم.
وقد اختلف العلماء هل سهم المؤلفة قلوبهم باق بعد ظهور اإلسالم أم ال؟ فقال عمر ،والحسن ،والشعبي:
بعز ة اإلسالم وظهوره ،وهذا مشهور من مذهب مالك وأصحاب الرأي :وقد ادّ عى قد انقطع هذا الصنف ّ
بعض الحنفية أن الصحابة أجمعت على ذلك.
وقال جماعة من العلماء :سهمهم باق ألن اإلمام ربما احتاج أن يتألف على اإلسالم .وإنما قطعهم عمر لما
رأى من إعزاز الدين .قال يونس :سألت الزهري عنهم فقال :ال أعلم نسخ ذلك ،وعلى القول األول يرجع
سهمهم لسائر األصناف.
رقابا ثم يعتقها .روي ذلك عن ابن عباس ،وابن عمر، ً قولهَ { :و ِفي الرقاب} أي في فك الرقاب بأن يشتري
وبه قال مالك ،وأحمد بن حنبل ،وإسحاق وأبو عبيد.
وقال الحسن البصري ،ومقاتل ابن حيان ،وعمر بن عبد العزيز ،وسعيد بن جبير ،والنخعي ،والزهري،
وابن زيد :إنهم المكاتبون يعانون من الصدقة على مال الكتابة ،وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي،
جميعا لصدق الرقاب على شراء العبد وإعتاقه، ً ورواية عن مالك ،واألولى حمل ما في اآلية على القولين
وعلى إعانة المكاتب على مال الكتابة .قوله { :والغارمين} هم :الذين ركبتهم الديون وال وفاء عندهم بها،
وال خالف في ذلك إال من لزمه دين في سفاهة فإنه ال يعطى منها وال من غيرها إال أن يتوب.
النبي صلى اهلل عليه وسلم من الصدقة من تحمل حمالة وأرشد إلى إعانته منها .قولهَ :و{ ِفى ّ وقد أعان
َس ِبيل ِ اهلل} هم الغزاة والمرابطون ،يعطون من الصدقة ما ينفقون في غزوهم ومرابطتهم وإن كانوا
أغنياء ،وهذا قول أكثر العلماء.
وقال ابن عمر :هم الحجاج والعمار ،وروي عن أحمد وإسحاق أنهما جعال الحج من سبيل اهلل.
ً
منقطعا به. ً
فقيرا وقال أبو حنيفة وصاحباه :ال يعطى الغازي إال إذا كان
قوله { :وابن السبيل} هو :المسافر ،والسبيل الطريق ،ونسب إليها المسافر لمالزمته إياها ،والمراد الذي
غنيا في بلده ،وإن وجد من ً ومستقره ،فإنه يعطى منها وإن كان ّ انقطعت به األسباب في سفره عن بلده
يسلفه.
يض ًة ّم َن اهلل} مصدر مؤكد؛ ألن قولهِ{ :إ َّن َما وقال مالك :إذا وجد من يسلفه فال يعطى .قولهَ { :ف ِر َ
الصدقات ِل ْل ُف َق َر اء} معناه :فرض اهلل الصدقات لهم .والمعنى :أن كون الصدقات مقصورة على هذه
يم} بأحوال عباده األصناف هو حكم الزم فرضه اهلل على عباده ونهاهم عن مجاوزته {واهلل عَ ِل ٌ
يم} في أفعاله؛ وقيل :إن { فريضة} منتصبة بفعل مقدّ ر ،أي فرض اهلل ذلك فريضة .قال في { َح ِك ٌ
الكشاف :فإن قلت :لم عدل عن الالم إلى { في} في األربعة اآلخرة؟ قلت :لإليذان بأنها أرسخ في
استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره؛ وقيل :النكتة في العدول أن األصناف األربعة األول يصرف
المال إليهم حتى ينصرفوا به كما شاءوا ،وفي األربعة األخيرة ال يصرف المال إليهم ،بل يصرف إلى
جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي ألجلها استحقوا سهم الزكاة ،كذا قيل.
وقد أخرج البخاري ،والنسائي ،وابن جرير ،وابن المنذر ،وابن أبي حاتم ،وأبو الشيخ ،وابن مردويه ،عن
قسما إذ جاءه ابن ذي الخويصرة ً أبي سعيد الخدري قال :بينما رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقسم
التيمي فقال :اعدل يا رسول اهلل ،فقال« :ويحك ،ومن يعدل إذا لم أعدل؟» فقال عمر بن الخطاب :ائذن
أصحابا يحقر أحدكم صالته مع ً لي فأضرب عنقه فقال النبي صلى اهلل عليه وسلم« :دعه ،فإن له
صالتهم ،وصيامه مع صيامهم ،يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» الحديث حتى قال:
وفيهم نزلتَ { :و ِمنْهُ ْم َّمن يَ ْل ِم ُزكَ ِفي الصدقات}.
وأخرج ابن المنذر ،وابن أبي حاتم ،وأبو الشيخ ،عن مجاهد في قولهَ { :و ِمنْهُ ْم َّمن يَ ْل ِم ُزكَ } قال :يرزؤك
ويسألك.
وأخرج ابن المنذر ،عن قتادة قال :يطعن عليك.
النبي صلى اهلل عليه وسلم غنائم حنين ،سمعت رج ً
ال ّ وأخرج ابن مردويه ،عن ابن مسعود قال :لما قسم
النبي صلى اهلل عليه وسلم ،وذكرت ذلك له ،فقال« :رحمة ّ يقول :إن هذه لقسمة ما أريد بها اهلل ،فأتيت
اهلل على موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» ،ونزلَ { :و ِمنْهُ ْم َّمن يَ ْل ِم ُزكَ ِفي الصدقات}.
وأخرج ابن مردويه ،عن ابن عباس ،قال :نسخت هذه اآلية كل صدقة في القرآن {ِإ َّن َما الصدقات
ِل ْل ُف َق َراء} اآلية.
وأخرج ابن المنذر ،عن ابن جريج ،نحوه.
وأخرج ابن أبي شيبة ،وابن جرير ،وأبو الشيخ ،عن حذيفة ،في قولهِ{ :إ َّن َما الصدقات ِل ْل ُف َق َراء} اآلية قال:
إن شئت جعلتها في صنف واحد من األصناف الثمانية التي سمى اهلل أو صنفين أو ثالثة.
وأخرج ابن أبي شيبة ،عن أبي العالية ،والحسن ،وعطاء ،وإبراهيم ،وسعيد بن جبير ،نحوه.
وأخرج ابن المنذر ،والنحاس ،وأبو الشيخ ،عن قتادة ،قال :الفقير الذي به زمانة ،والمسكين :المحتاج
الذي ليس به زمانة.
وأخرج ابن أبي شيبة ،عن عمر ،في قولهِ{ :إ َّن َما الصدقات ِل ْل ُف َق َراء} قال :هم زمني أهل الكتاب.
وأخرج ابن أبي حاتم ،عن ابن عباس ،في قوله{ :والعاملين عَ لَ ْيهَ ا} قال :السعاة أصحاب الصدقة.
وأخرج ابن جرير ،وابن مردويه ،عن ابن عباس ،في قوله{ :والمؤلفة ُق ُلو ُبهُ ْم} قال :هم قوم كانوا يأتون
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد أسلموا ،وكان يرضخ لهم من الصدقات ،فإذا أعطاهم من الصدقة
خيرا قالوا :هذا دين صالح ،وإن كان غير ذلك عابوه وتركوه. ً فأصابوا منها
علي بن أبي طالب من اليمن وأخرج البخاري ،وابن أبي حاتم ،وابن مردويه ،عن أبي سعيد ،قال :بعث ّ
النبي صلى اهلل عليه وسلم بذهيبة فيها تربتها ،فقسمها بين أربعة من المؤلفة :األقرع بن حابس ّ إلى
الحنظلي وعلقمة بن عالثة العامري ،وعيينة بن بدر الفزاري ،وزيد الخيل الطائي؛ فقالت قريش
النبي صلى اهلل عليه وسلم« :إنما أتألفهم.». ّ واألنصار :يقسم بين صناديد أهل نجد ويدعنا؟ فقال
وأخرج ابن أبي شيبة ،وابن المنذر ،وابن أبي حاتم ،وأبو الشيخ ،عن الزهري أنه سئل عن المؤلفة قلوبهم
ً
موسرا. ً
موسرا؟ قال :وإن كان نصراني ،قلت :وإن كان قال :من أسلم من يهودي أو
ّ
وأخرج هؤالء عن أبي جعفر قال :ليس اليوم مؤلفة قلوبهم.
ً
أيضا عن الشعبي مثله. وأخرج هؤالء
وأخرج ابن أبي حاتم ،عن مقاتل ،في قولهَ { :و ِفي الرقاب} قال :هم المكاتبون.
وأخرج ابن المنذر ،عن النخعي ،نحوه.
أيضا عن عمر بن عبد اهلل قال :سهم الرقاب نصفان :نصف لكل مكاتب ممن يدّ عي اإلسالم، ً وأخرج
والنصف اآلخر يشتري به رقاب ممن صلى وصام ،وقدم إسالمه من ذكر وأنثى ،يعتقون هلل.
بأسا أن يعطى الرجل من ً وأخرج ابن أبي شيبة ،وأبو عبيد ،وابن المنذر ،عن ابن عباس ،أنه كان ال يرى
زكاته في الحج ،وأن يعتق منها رقبة.
وأخرج ابن أبي شيبة ،عن الزهري ،أنه سئل عن الغارمين قال :أصحاب الدين.
وأخرج ابن أبي شيبة ،وابن المنذر ،وابن أبي حاتم ،وأبو الشيخ ،عن أبي جعفر ،في قوله{ :والغارمين}
قال :هو الذي يسأل في دم أو جائحه تصيبه { َو ِفى َس ِبيل ِ اهلل} قال :هم المجاهدون {وابن السبيل}
قال :المنقطع به يعطى قدر ما يبلغه.
وأخرج ابن أبي حاتم ،عن ابن عباس قال :ابن السبيل هو الضيف الفقير الذي ينزل بالمسلمين.
وأخرج ابن أبي شيبة ،وأبو داود ،وابن ماجه ،وابن المنذر ،وابن مردويه ،عن أبي سعيد الخدري ،قال:
لغني إال لخمسة :العامل عليها ،أو الرجل اشتراها قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :ال ّ
تحل الصدقة
ّ
لغني».
ّ بماله ،أو غارم ،أو غاز في سبيل اهلل ،أو مسكين تصدّ ق عليه فأهدى منها
وأخرج ابن أبي شيبة ،وأبو داود ،والترمذي ،عن عبد اهلل بن عمر ،عن النبي صلى اهلل عليه وسلم ،قال:
لغني وال لذي مرة سوى». «ال ّ
تحل الصدقة
ّ
وأخرج أحمد ،عن رجل من بني هالل ،قال :سمعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فذكر مثله.
وأخرج ابن أبي شيبة ،وأبو داود ،والنسائي عن عبد اهلل بن عدي بن الجيار ،قال :أخبرني رجالن أنهما
أتيا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في حجة الوداع ،وهو يقسم الصدقة فسأاله منها ،فرفع فينا البصر
لقوي مكتسب» ّ لغني وال
ّ حظ فيها وخفضه فرآنا جلدين ،فقال« :إن شئتما أعطيتكما وال ّ
.16تفسير في ظالل القرآن
من هنا يبدأ الحديث عن الطوائف التي ظهرت عليها أعراض الضعف في الصف .وبخاصة جماعة
المنافقين ،الذين اندسوا في صفوف المسلمين باسم اإلسالم ،بعد أن غلب وظهر ،فرأى هؤالء أن
حب السالمة وحب الكسب يقتضيانـ أن يحنوا رؤوسهم لإلسالم ،وأن يكيدوا له داخل الصفوف
.بعد أن عز عليهم أن يكيدوا له خارج الصفوف
وسنرى في هذا المقطع كل الظواهر التي تحدثنا عنها في تقديم السورة كما يصورها السياق
.القرآني .ونحسب أنها ستكون مفهومة واضحة في ضوء ذلك التقديم الذي أسفلنا
قاصدا التبعوك ،ولكن بعدت عليهم الشقة؛ وسيحلفون باهلل لو{ً ً
وسفرا ً
قريبا ً
عرضا لو كان
استطعنا لخرجنا معكم ،يهلكون أنفسهم ،واهلل يعلم إنهم لكاذبون .عفا اهلل عنك لم أذنت لهم
حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين؟ ال يستأذنك الذين يؤمنون باهلل واليوم اآلخر أن
يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم واهلل عليم بالمتقين .إنما يستأذنك الذين ال يؤمنون باهلل واليوم
اآلخر ،وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون؛ ولو أرادوا الخروج ألعدوا له عدة ولكن كره اهلل
انبعاثهم ،فثبطهم ،وقيل :اقعدوا مع القاعدين .لو خرجوا فيكم ما زادوكم إال خباالً وألوضعوا
خاللكم يبغونكم الفتنة ،وفيكم سماعون لهم ،واهلل عليم بالظالمين .لقد ابتغوا الفتنة من قبل
}..وقلبوا لك األمور حتى جاء الحق وظهر أمر اهلل وهم كارهون
لو كان األمر أمر عرض قريب من أعراض هذه األرض ،وأمر سفر قصير األمد مأمون العاقبة
التبعوك ولكنها الشقة البعيدة التي تتقاصر دونها الهمم الساقطة والعزائم الضعيفة .ولكنه الجهد
الخطر الذي تجزع منه األرواح الهزيلة والقلوب المنخوبة .ولكنه األفق العالي الذي تتخاذل دونه
.النفوس الصغيرة والبنية المهزولة
:وإنه لنموذج مكرور في البشرية ذلك الذي ترسمه تلك الكلمات الخالدة
ً
وسفرا قاصدا التبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة{ ً
قريبا ً
عرضا }..لو كان
فكثيرون هم أولئك الذين يتهاوون في الطريق الصاعد إلى اآلفاق الكريمة .كثيرون أولئك الذين
يجهدون لطول الطريق فيتخلفون عن الركب ويميلون إلى عرض تافه أو مطلب رخيص.
كثيرون تعرفهم البشرية في كل زمان وفي كل مكان ،فما هي قلة عارضة ،إنما هي النموذج
المكرور .وإنهم ليعيشون على حاشية الحياة ،وإن خيل إليهم أنهم بلغوا منافع ونالوا مطالب،
!واجتنبوا أداء الثمن الغالي ،فالثمن القليل ال يشتري سوى التافه الرخيص
}..وسيحلفون باهلل لو استطعنا لخرجنا معكم{
أبدا .وما يكذب إال الضعفاء .أجل ما يكذب إال ضعيف ولو بدا في فهو الكذب المصاحب للضعف ً
صورة األقوياء الجبارين في بعض األحايين .فالقوي يواجه والضعيف يداور .وما تتخلف هذه
..القاعدة في موقف من المواقف وال في يوم من األيامـ
}..يهلكون أنفسهم{
بهذا الحلف وبهذا الكذب ،الذي يخيل إليهم أنه سبيل النجاة عند الناس ،واهلل يعلم الحق،
.ويكشفه للناس ،فيهلك الكاذب في الدنيا بكذبه ،ويهلك في اآلخرة يوم ال يجدي النكران
}..واهلل يعلم ِإ نهم لكاذبون{
}..عفا اهلل عنك .لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين{
إنه لطف اهلل برسوله ،فهو يعجل له بالعفو قبل العتاب .فلقد تدارى المتخلفون خلف إذن الرسول
صلى اهلل عليه وسلم لهم بالقعود حين قدموا له المعاذير .وقبل أن ينكشف صدقهم من كذبهم
في هذه المعاذير وكانوا سيتخلفون عن الركب حتى ولو لم يأذن لهم .فعندئذ تتكشف حقيقتهم،
.ويسقط عنهم ثوب النفاق ،ويظهرون للناس على طبيعتهم ،وال يتوارون خلف إذن الرسول
.وإذا لم يكن ذلك فإن القرآن يتولى كشفهم ،ويقرر القواعد التي يمتاز بها المؤمنون والمنافقون
ال يستأذنك الذين يؤمنون باهلل واليوم اآلخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم واهلل عليم{
بالمتقين .إنما يستأذنك الذين ال يؤمنون باهلل واليوم اآلخر وارتابت قلوبهم ،فهم في ريبهم
}.يترددون
وهذه هي القاعدة التي ال تخطئ .فالذين يؤمنون باهلل ،ويعتقدون بيوم الجزاء ،ال ينتظرون أن
يؤذن لهم في أداء فريضة الجهاد؛ وال يتلكأون في تلبية داعي النفرة في سبيل اهلل باألموال
ً
ويقينا بلقائه ،وثقة ً
خفافا وثقاالً كما أمرهم اهلل ،طاعة ألمره، واألرواح؛ بل يسارعون إليها
تطوعا فال يحتاجون إلى من يستحثهم ،فض ً
ال عن ً بجزائه ،وابتغاء لرضاه .وإنهم ليتطوعون
اإلذن لهم .إنما يستأذن أولئك الذين خلت قلوبهم من اليقين فهم يتلكأونـ ويتلمسون المعاذير،
عائقا من العوائق يحول بينهم وبين النهوض بتكاليف العقيدة التي يتظاهرون بها ،وهم ً لعل
.يرتابون فيها ويترددون
إن الطريق إلى اهلل واضحة مستقيمة ،فما يتردد ويتلكأ إال الذي ال يعرف الطريق ،أو الذي يعرفها
!ويتنكبهاـ اتقاء لمتاعب الطريق
:ولقد كان أولئك المتخلفون ذوي قدرة على الخروج ،لديهم وسائله ،وعندهم عدته
}..ولو أرادوا الخروج ألعدوا له عدة{
ً
أشرافا في وقد كان فيهم عبد اهلل بن أبي بن أبي سلول ،وكان فيهم الجد بن قيس ،وكانوا
.قومهم أثرياء
}..ولكن كره اهلل انبعاثهم{
.لما يعلمه من طبيعتهم ونفاقهم ،ونواياهم المنطوية على السوء للمسلمين كما سيجيء
}..فثبطهم{
.ولم يبعث فيهم الهمة للخروج
}..وقيل :اقعدوا مع القاعدين{
وتخلفوا مع العجائز والنساء واألطفالـ الذين ال يستطيعون الغزو ،وال ينبعثون للجهاد .فهذا
.مكانكم الالئق بالهمم الساقطة والقلوب المرتابة والنفوس الخاوية من اليقين
ً
وخيرا للمسلمين ً
خيرا للدعوة :وكان ذلك
لو خرجوا فيكم ما زادوكم إال خباال وألوضعوا خاللكم يبغونكم الفتنة ،وفيكم سماعون لهم{،
}..واهلل عليم بالظالمين
والقلوب الحائرة تبث الخور والضعف في الصفوف ،والنفوس الخائنة خطر على الجيوش؛ ولو
ً
اضطرابا وفوضى. خرج أولئك المنافقون ما زادوا المسلمين قوة بخروجهم بل لزادوهم
وألسرعوا بينهم بالوقيعة والفتنة والتفرقة والتخذيل .وفي المسلمين من يسمع لهم في ذلك
.الحين
ولكن اهلل الذي يرعى دعوته ويكأل رجالها المخلصين ،كفى المؤمنين الفتنة ،فترك المنافقين
:المتخاذلين قاعدين
}..واهلل عليم بالظالمين{
!والظالمون هنا معناهم المشركون فقد ضمهم كذلك إلى زمرة المشركين
وإن ماضيهم ليشهد بدخل نفوسهم ،وسوء طويتهم ،فلقد وقفوا في وجه الرسول صلى اهلل
:عليه وسلم وبذلوا ما في طوقهم ،حتى غلبوا على أمرهم فاستسلموا وفي القلب ما فيه
}..لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك األمور حتى جاء الحق وظهر أمر اهلل وهم كارهون{
وكان ذلك عند مقدم الرسول صلى اهلل عليه وسلم إلى المدينة ،قبل أن يظهره اهلل على أعدائه.
ثم جاء الحق وانتصرت كلمة اهلل فحنوا لها رؤوسهم وهم كارهون ،وظلوا يتربصون الدوائر
.باإلسالم والمسلمين
ثم يأخذ السياق في عرض نماذج منهم ومن معاذيرهم المفتراة؛ ثم يكشف عما تنطوي عليه
:صدورهم من التربص بالرسول صلى اهلل عليه وسلم والمسلمين
ومنهم من يقول :ائذن لي وال تفتني .أال في الفتنة سقطوا ،وإن جهنم لمحيطة بالكافرين .إن{
تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا :قد أخذنا أمرنا من قبل ،ويتولوا وهم فرحون.
قل :لن يصيبنا إال ما كتب اهلل لنا هو موالنا وعلى اهلل فليتوكل المؤمنون .قل :هل تربصون بنا
إال إحدى الحسنيين؟ ونحن نتربص بكم أن يصيبكم اهلل بعذاب من عنده أو بأيدينا .فتربصوا إنا
}.معكم متربصون
روى محمد بن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد اهلل بن أبي بكر وعاصم بن قتادة قالوا:
«قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ذات يوم ،وهو في جهازه (أي لغزوة تبوك) للجد بن قيس
أخي بني سلمة :هل لك يا جد في جالد بني األصفر؟» (يعني الروم) فقال :يا رسول اهلل أو تأذن
ً
عجبا بالنساء مني ،وإني أخشى إن رأيت لي وال تفتني؟ فواهلل لقد عرف قومي ما رجل أشد
نساء بني األصفر أال أصبر عنهن .فأعرض عنه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وقال« :قد أذنت
.لك» ففي الجد بن قيس نزلت هذه اآلية
:بمثل هذه المعاذير كان المنافقون يعتذرون .والرد عليهم
}..أال في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين{
مشهدا كأن الفتنة فيه هاوية يسقط فيها المفتونون؛ وكأن جهنم من ورائهمً والتعبير يرسم
تحيط بهم ،وتأخذ عليهم المنافذ والمتجهات فال يفلتون .كناية عن مقارفتهم للخطيئة كاملة
حتما ،جزاء الكذب والتخلف والهبوط إلى هذا المستوى المنحط من ً وعن انتظار العقاب عليها
ً
وتقريرا لكفرهم وإن كانوا يتظاهرون باإلسالم وهم فيه منافقون .المعاذير.
ً
خيرا خيرا وال بالمسلمين؛ وإنهم ليسؤوهم أن يجد الرسول والمسلمون ً :إنهم ال يريدون بالرسول
}..إن تصبك حسنة تسؤهم{
:وإنهم ليفرحون لما يحل بالمسلمين من مصائب وما ينزل بهم من مشقة
}.وإن تصبك مصيبة يقولوا :قد أخذنا أمرنا من قبل{
بشر ،وتخلفنا عن الكفاح والغزو
!واحتطنا أال نصاب مع المسلمين ّ
}..ويتولوا وهم فرحون{
.بالنجاة وبما أصاب المسلمين من بالء
شرا في كل حال ،ويظنون أنهم يحققون ذلك أنهم يأخذون بظواهر األمور ،ويحسبون البالء ً
ألنفسهم الخير بالتخلف والقعود .وقد خلت قلوبهم من التسليم هلل ،والرضى بقدره ،واعتقاد
ً
اعتقادا بأن ما يصيبه من خير أو شر الخير فيه .والمسلم الصادق يبذل جهده ويقدم ال يخشى،
:معقود بإرادة اهلل ،وأن اهلل ناصر له ومعين
}..قل :لن يصيبنا إال ما كتب اهلل لنا هو موالنا وعلى اهلل فليتوكل المؤمنون{
واهلل قد كتب للمؤمنين النصر ،ووعدهم به في النهاية ،فمهما يصبهم من شدة ،ومهما يالقوا من
ابتالء؛ فهو إعداد للنصر الموعود ،ليناله المؤمنون عن بينة ،وبعد تمحيص ،وبوسائله التي
رخيصا ،وعزة تحميها نفوس عزيزة مستعدة لكل ابتالء ،صابرة ً ً
عزيزا ال ً
نصرا اقتضتها سنة اهلل،
:على كل تضحية .واهلل هو الناصر وهو المعين
}..وعلى اهلل فليتوكل المؤمنون{
واالعتقاد بقدر اهلل ،والتوكل الكامل على اهلل ،ال ينفيان اتخاذ العدة بما في الطوق .فذلك أمر
:اهلل الصريح
وما يتكل على اهلل حق االتكال من ال ينفذ أمر اهلل ،ومن ال }...وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة{
ً
أحدا ،وال تراعي خاطر إنسان !يأخذ باألسباب ،ومن ال يدرك سنة اهلل الجارية التي ال تحابي
على أن المؤمن أمره كله خير .سواء نال النصر أو نال الشهادة .والكافر أمره كله شر سواء أصابه
:عذاب اهلل المباشر أو على أيدي المؤمنين
قل :هل تربصون بنا إال إحدى الحسنيين ،ونحن نتربص بكم أن يصيبكم اهلل بعذاب من عنده{
}..أو بأيدينا .فتربصوا إنا معكم متربصون
فماذا يتربص المنافقون بالمؤمنين؟ إنها الحسنى على كل حال .النصر الذي تعلو به كلمة اهلل،
فهو جزاؤهم في هذه األرض .أو الشهادة في سبيل الحق عليا الدرجات عند اهلل .وماذا يتربص
المؤمنون بالمنافقين؟ إنه عذاب اهلل يأخذهم كما أخذ من قبلهم من المكذبين؛ أو ببطش
المؤمنين بهم كما وقع من قبل للمشركين { ..فتربصوا إنا معكم متربصون} والعاقبة معروفة..
.والعاقبة للمؤمنين
ولقد كان بعض هؤالء المعتذرين المتخلفين المتربصين ،قد عرض ماله ،وهو يعتذر عن الجهاد،
ذلك ليمسك العصا من الوسط على طريقة المنافقين في كل زمان ومكان .فرد اهلل عليهم
مناورتهم ،وكلف رسوله أن يعلن أن إنفاقهم غير مقبول عند اهلل ،ألنهم إنما ينفقونه عن رياء
وخوف ،ال عن إيمان وثقة ،وسواء بذلوه عن رضا منهم بوصفه ذريعة يخدعون بها المسلمين ،أو
خوفا من انكشاف أمرهم ،فهو في الحالتين مردود ،ال ثواب له وال يحسب لهم عند اهلل ً :عن كره
قوما فاسقين{ً كرها لن يتقبل منكم ،إنكم كنتمً ً
طوعا أو .قل :أنفقوا
وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إال أنهم كفروا باهلل ورسوله ،وال يأتون الصالة إلى وهم كسالى،
}..وال ينفقون إال وهم كارهون
إنها صورة المنافقين في كل آن .خوف ومداراة ،وقلب منحرف وضمير مدخول .ومظاهر خالية
.من الروح ،وتظاهر بغير ما يكنه الضمير
:والتعبير القرآني الدقيق
}..وال يأتون الصالة إال وهم كسالى{
مظهرا بال حقيقة ،وال يقيمونها إقامة واستقامة .يأتونها كسالى ألن الباعث عليها الً فهم يأتونها
دفعا ،فيحسون أنهم عليها مسخرون! وكذلك ينفقون ً ينبثق من أعماق الضمير ،إنما يدفعون إليهاـ
.ما ينفقون كارهين مكرهين
وما كان اهلل ليقبل هذه الحركات الظاهرة التي ال تحدو إليهاـ عقيدة ،وال يصاحبها شعور دافع.
.فالباعث هو عمدة العمل والنية هي مقياسهـ الصحيح
ولقد كان هؤالء المنفقون وهم كارهون ذوي مال وذوي أوالد ،وذوي جاه في قومهم وشرف.
شيئا عند الرسول والمؤمنين .فما هي ً ولكن هذا كله ليس بشيء عند اهلل .وكذلك يجب أال يكون
:بنعمة يسبغها اهلل عليهم ليهنأوا بها ،إنما هي الفتنة يسوقها اهلل إليهم ويعذبهم بها
فال تعجبك أموالهم وال أوالدهم ،إنما يريد اهلل ليعذبهم بها في الحياةـ الدنيا ،وتزهق أنفسهم{
}.وهم كافرون
إن األموال واألوالد قد تكون نعمة يسبغها اهلل على عبد من عباده ،حين يوفقه إلى الشكر على
النعمة ،واإلصالح بها في األرض ،والتوجه بها إلى اهلل ،فإذا هو مطمئن الضمير ،ساكن النفس،
ذخرا ،وكلما أصيب في ماله أو بنيه ً واثق من المصير .كلما أنفق احتسب وشعر أنه قدم لنفسه
احتسب ،فإذا السكينة النفسية تغمره .واألمل في اهلل يسري عنه ..وقد تكون نقمة يصيب اهلل
عبدا من عباده ،ألنه يعلم من أمره الفساد والدخل ،فإذا القلق على األموال واألوالد يحول ً بها
جحيما ،وإذا الحرص عليهاـ يؤرقه ويتلف أعصابه ،وإذا هو ينفق المال حين ينفقه فيما ً حياته
يتلفه ويعود عليه باألذى ،وإذا هو يشقى بأبنائه إذا مرضوا ويشقى بهم إذا صحوا ،وكم من
!الناس يعذبون بأبنائهم لسبب من األسبابـ
وهؤالء الذين كانوا على عهد الرسول صلى اهلل عليه وسلم وأمثالهم في كل زمان ،يملكون
األموال ويرزقون األوالد ،يعجب الناس ظاهرها ،وهي لهم عذاب على نحو من األنحاء .عذاب
في الحياة الدنيا ،وهم -بما علم اهلل من دخيلتهم -صائرون إلى الهاوية .هاوية الموت على الكفر
.والعياذ باهلل من هذا المصير
ً
مزعجا ال هدوء فيه وال والتعبير {وتزهق أنفسهم} يلقي ظل الفرار لهذه النفوس أو الهالك .ظ ً
ال
اطمئنان ،فيتسق هذا الظل مع ظل العذاب في الحياة الدنيا باألموال واألوالد .فهو القلق والكرب
!في الدنيا واآلخرة .وما يحسد أحد على هذه المظاهر التي تحمل في طياتها البالء
ولقد كان أولئك المنافقون يدسون أنفسهم في الصف ،ال عن إيمان واعتقاد ،ولكن عن خوف
.وتقية ،وعن طمع ورهب
ً ً
ثم يحلفون أنهم من المسلمين ،أسلموا اقتناعا ،وآمنوا اعتقادا ..فهذه السورة تفضحهم وتكشفهم
:على حقيقتهم ،فهي الفاضحة التي تكشف رداء المداورة وتمزق ثوب النفاق
ويحلفون باهلل إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون .لو يجدون ملجأ أو مغارات أو{
ال لولوا إليه وهم يجمحون}.مدخ ً
مشهدا ويجسمه في حركة .حركة النفس والقلب ،يبرزها ً إنهم جبناء .والتعبير يرسم لهذا الجبن
:في حركة جسد وعيان
ال لولوا إليه وهم يجمحون{ }..لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخ ً
نفقا .إنهم مذعورون حصنا أو مغارة أو ً
ً فهم متطلعون ً
أبدا إلى مخبأ يحتمون به ،ويأمنون فيه.
:مطاردون .يطاردهم الفزع الداخلي والجبن الروحي .ومن هنا
}..يحلفون باهلل إنهم لمنكم{
بكل أدوات التوكيد ،ليداروا ما في نفوسهم ،وليتقوا انكشاف طويتهم ،وليأمنوا على ذواتهم..
وإنها لصورة زرية للجبن والخوف والملق والرياء .ال يرسمها إال هذا االسلوب القرآني العجيب.
.الذي يبرز حركات النفس شاخصة للحس على طريقة التصوير الفني الموحي العميق
ثم يستمر سياق السورة في الحديث عن المنافقين ،وما يند منهم من أقوال وأعمال ،تكشف عن
نواياهم التي يحاولون سترها ،فال يستطيعون .فمنهم من يلمز النبي صلى اهلل عليه وسلم في
توزيع الصدقات ،ويتهم عدالته في التوزيع ،وهو المعصوم ذو الخلق العظيم ،ومنهم من يقول:
هو اذن يستمع لكل قائل ،ويصدق كل ما يقال ،وهو النبي الفطن البصير ،المفكر المدبر الحكيم.
ومنهم من يتخفى بالقولة الفاجرة الكافرة ،حتى إذا انكشف أمره استعان بالكذب والحلف ليبرئ
نفسه من تبعة ما قال .ومنهم من يخشى أن ينزل اهلل على رسوله سورة تفضح نفاقهم وتكشفهم
.للمسلمين
ويعقب على استعراض هذه الصنوف من المنافقين ،ببيان طبيعة النفاق والمنافقين ،ويربط
بينهم وبين الكفار الذين خلوا من قبل ،فأهلكهم اهلل بعد ما استمتعوا بنصيبهم إلى أجل معلوم.
ذلك ليكشف عن الفوارق بين طبيعتهم هذه وطبيعة المؤمنين الصادقين ،الذين يخلصون
.العقيدة وال ينافقون
ومنهم من يلمزك في الصدقات ،فإن أعطوا منها رضوا ،وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون{.
ولو أنهم رضوا ما آتاهم اهلل ورسوله ،وقالوا :حسبنا اهلل ،سيؤتينا اهلل من فضله ورسوله ،إنا إلى
اهلل راغبون .إنما الصدقات للفقراء والمساكين ،والعاملين عليها ،والمؤلفة قلوبهم ،وفي الرقاب،
}..والغارمين ،وفي سبيل اهلل وابن السبيل ،فريضة من اهلل واهلل عليم حكيم
من المنافقين من يغمزك بالقول ،ويعيب عدالتك في توزيع الصدقات ،ويدعي أنك تحابي في
ً
غضبا للعدل ،وال حماسة للحق ،وال غيرة على الدين ،إنما يقولونه قسمتها .وهم ال يقولون ذلك
:لحساب ذواتهم وأطماعهم ،وحماسة لمنفعتهم وأنانيتهم
!ولم يبالوا الحق والعدل والدين }فإن أعطوا منها رضوا{
!}وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون{
وقد وردت روايات متعددة عن سبب نزول اآلية ،تقص حوادث معينة عن أشخاص بأعيانهم
.لمزوا الرسول صلى اهلل عليه وسلم في عدالة التوزيع
روى البخاري والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي اهلل عنه قال :بينما النبي صلى اهلل عليه
قسما إذ جاءه ذو الخويصر التميمي ،فقال :أعدل يا رسول اهلل .فقال« :ويلك! ومن ً وسلم يقسم
يعدل إذا لم أعدل؟» فقال عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه ائذن لي فأضرب عنقه .فقال رسول
أصحابا يحقر أحدكم صالته مع صالتهم ،وصيامه مع ً اهلل صلى اهلل عليه وسلم «دعه فإن له
صيامهم ،يمرقون من الدين كما يمرق السهم في الرمية »...قال أبو سعيد ،فنزلت فيهم{ :ومنهم
.من يلمزك في الصدقات}
وروى ابن مردويه عن ابن مسعود رضي اهلل عنه قال :لما قسم النبي صلى اهلل عليه وسلم غنائم
ال يقول :إن هذه قسمة ما أريد بها وجه اهلل .فأتيت النبي صلى اهلل عليه وسلم حنين سمعت رج ً
فذكرت له ذلك فقال« :رحمة اهلل على موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» ونزل {ومنهم من
.يلمزك في الصدقات}
وروى سنيد وابن جرير عن داود بن أبي عاصم قال :أتي النبي صلى اهلل عليه وسلم بصدقة
فقسمها ها هنا وها هنا حتى ذهبت ،ورآه رجل من األنصار فقال :ما هذا بالعدل .فنزلت هذه
.اآلية
وقال قتادة في قوله { :ومنهم من يلمزك في الصدقات} يقول :ومنهم من يطعن عليك في
ال من أهل البادية حديث عهد بأعرابية أتى النبي صلى اهلل عليه وسلم الصدقات .وذكر لنا أن رج ً
ذهبا وفضة ،فقال :يا محمد واهلل لئن كان اهلل أمرك أن تعدل ما عدلت ،فقال نبي اهلل ً وهو يقسم
»!صلى اهلل عليه وسلم« :ويلك فمن ذا الذي يعدل عليك بعدي؟
وعلى أية حال فالنص القرآني يقرر أن القولة قولة فريق من المنافقين .يقولونها ال غيرة على
وغيظا أن لم يكن لهم نصيب ..وهي آية نفاقهم الصريحة. ً ً
غضبا على حظ أنفسهم، الدين ،ولكن
فما يشك في خلق الرسول صلى اهلل عليه وسلم مؤمن بهذا الدين ،وهو المعروف حتى قبل
ال على نبيالرسالة بأنه الصادق األمين ،والعدل فرع من أمانات اهلل التي ناطها بالمؤمنين فض ً
المؤمنين .وواضح أن هذه النصوص تحكي وقائع وظواهر وقعت من قبل ،ولكنها تتحدث عنها
.في ثنايا الغزوة لتصوير أحوال المنافقين الدائمة المتصلة قبل الغزوة وفي ثناياهاـ
:وبهذه المناسبة يرسم السياق الطريق الالئق بالمؤمنين الصادقي اإليمانـ
.ولو أنهم رضوا ما آتاهم اهلل ورسوله ،وقالوا :حسبنا اهلل ،سيؤتينا اهلل من فضله ورسوله{
}..إنا إلى اهلل راغبون
فهذا هو أدب النفس وأدب اللسان ،وأدب اإليمان :الرضا بقسمة اهلل ورسوله ،رضا التسليم
واالقتناع ال رضا القهر والغلب .واالكتفاء باهلل ،واهلل كاف عبده .والرجاء في فضل اهلل ورسوله
والرغبة في اهلل خالصة من كل كسب مادي ،ومن كل طمع دنيوي ..ذلك أدب اإليمانـ الصحيح
الذي ينضح به قلب المؤمن .وإن كانت ال تعرفه قلوب المنافقين ،الذين لم تخالط بشاشة اإليمان
.أرواحهم ،ولم يشرق في قلوبهم نور اليقين
ً
وإسالما ،يقرر أن األمر -مع ً
تطوعا ورضا وبعد بيان هذا األدب الالئق في حق اهلل وحق رسوله،
ذلك -ليس أمر الرسول؛ إنما هو أمر اهلل وفريضته وقسمته ،وما الرسول فيها إال منفذ للفريضة
المقسومة من رب العالمين .فهذه الصدقات -أي الزكاة -تؤخذ من األغنياء فريضة من اهلل ،وترد
على الفقراء فريضة من اهلل .وهي محصورة في طوائف من الناس يعينهم القرآن ،وليست
:متروكة الختيار أحد ،حتى ال اختيارـ الرسول
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي{
}..سبيل اهلل وابن السبيل .فريضة من اهلل واهلل عليم حكيم
ال ممن ً
تطوعا وال تفض ً وبذلك تأخذ الزكاة مكانها في شريعة اهلل ،ومكانها في النظام اإلسالمي ،ال
جزافا من القاسم الموزع .فهي فريضة ً فرضت عليهم .فهي فريضة محتمة .وال منحة وال
معلومة .إنها إحدى فرائض اإلسالمـ تجمعها الدولة المسلمة بنظام معين لتؤدي بها خدمة
إحسانا من المعطي وليست شحاذة من اآلخذ ..كال فما قام ً اجتماعية محددة .وهي ليست
!النظام االجتماعي في اإلسالم على التسول ،ولن يقوم
إن قوام الحياة في النظام اإلسالمي هو العمل -بكل صنوفه وألوانه -وعلى الدولة المسلمة أن
توفر العمل لكل قادر عليه ،وأن تمكنه منه باإلعداد له ،وبتوفير وسائله ،وبضمان الجزاء األوفى
عليه ،وليس للقادرين على العمل من حق في الزكاة ،فالزكاة ضريبة تكافل اجتماعي بين
القادرين والعاجزين ،تنظمها الدولة وتتوالها في الجمع والتوزيع؛ متى قام المجتمع على أساس
ً
منهجا سواه ً
شرعا وال ً
منفذا شريعة اهلل ،ال يبتغي له .اإلسالم الصحيح،
عن ابن عمر -رضي اهلل عنهما -قال :قال رسول اهلل -صلى اهلل عليه وسلم« :ال تحل الصدقة
».لغني وال لذي مرة سوي
وعن عبد اهلل بن عدي بن الخيار أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي صلى اهلل عليه وسلم يسأالنه
من الصدقة ،فقلب فيهما البصر ،فرآهما جلدين ،فقال« :إن شئتما أعطيتكما .وال حظ فيها لغني
».وال لقوي مكتسب
ً
كثيرا إن الزكاة فرع من فروع نظام التكافل االجتماعي في اإلسالم .وهذا النظام أشمل وأوسع
من الزكاة؛ ألنه يتمثل في عدة خطوط تشمل فروع الحياة كلها ،ونواحي االرتباطات البشرية
.بأكملها ،والزكاة خط أساسي من هذه الخطوط
والزكاة تجمع بنسبة العشر ونصف العشر وربع العشر من أصل المال حسب أنواع األموال .وهي
جنيها فائضة عن حاجتهـ يحول عليها الحول .وبذلك ً تجمع من كل من يملك حوالي عشرين
يشترك في حصيلتها معظم أفراد األمة .ثم تنفق في المصارف التي بينتها اآلية هنا ،وأول
المستحق لها هم الفقراء والمساكين .والفقراء هم الذين يجدون دون الكفاية ،والمساكين مثلهم
.ولكنهم هم الذين يتجملون فال يبدون حاجتهم وال يسألون
كثيرا ممن يؤدون الزكاة في عام ،قد يكونون في العام التالي مستحقينـ للزكاة .بنقص ما ً وإن
في أيديهم عن الوفاء بحاجاتهم .فهي من هذه الناحية تأمين اجتماعي .وبعضهم يكون لم يؤد
شيئا في حصيلة الزكاة ولكنه يستحقها .فهي من هذه الناحيةـ ضمان اجتماعي ..وهي قبل هذا ً
وذاك فريضة من اهلل ،تزكو النفس بأدائها وهي إنما تعبد بها اهلل ،وتخلص من الشح وتستعلي
.عليه في هذا األداء
.وقد سبق بيانهما }..إنما الصدقات للفقراء والمساكين{
.أي الذين يقومون على تحصيلها }..والعاملين عليها{
ًـ
حديثا في اإلسالمـ ويراد تثبيتهم عليه}.. .والمؤلفة قلوبهم{ وهم طوائف ،منهم الذين دخلوا
ومنهم الذين يرجى أن تتألف قلوبهم فيسلموا .ومنهم الذين أسلموا وثبتوا ويرجى تأليف قلوب
أمثالهم في قومهم ليثوبوا إلى اإلسالم حين يرون إخوانهم يرزقون ويزادون ..وهناك خالف
فقهي حول سقوط سهم هؤالء المؤلفة قلوبهم بعد غلبة اإلسالم ..ولكن المنهج الحركي لهذا
كثيرا من الحاالت ،تحتاج إلى إعطاء جماعة من الناس ً الدين سيظل يواجه في مراحله المتعددة
على هذا الوجه؛ إما إعانة لهم على الثبات على اإلسالم إن كانوا يحاربون في أرزاقهم إلسالمهم،
تقريبا لهم من اإلسالم كبعض الشخصيات غير المسلمة التي يرجى أن تنفع اإلسالمـ بالدعوة ً وإما
ً
مظهرا لكمال حكمة اهلل في تدبيره ألمر له والذب عنه هنا وهناك .ندرك هذه الحقيقة ،فنرى
.المسلمين على اختالف الظروف واألحوال
ً
عالميا ،تجري المعاملة فيه على المثل في استرقاق }..وفي الرقاب{ ً
نظاما ذلك حين كان الرق
األسرى بين المسلمين وأعدائهم .ولم يكن لإلسالم بد من المعاملة بالمثل حتى يتعارف العالم
على نظام آخر غير االسترقاق ..وهذا السهم كان يستخدم في إعانة من يكاتب سيده على
الحرية في نظير مبلغ يؤديه له ،ليحصل على حريته بمساعدة قسطه من الزكاة .أو بشراء رقيق
.وإعتاقهم بمعرفة الدولة من هذا المال
وهم المدينون في غير معصية .يعطون من الزكاة ليوفوا ديونهم .بدالً من إعالن }..والغارمين{
إفالسهم كما تصنع الحضارة المادية بالمدينين من التجارة مهما تكن األسباب! فاإلسالم نظام
بعضا في صورةً تكافلي ،ال يسقط فيه الشريف ،وال يضيع فيه األمين ،وال يأكل الناس بعضهم
!قوانين نظامية ،كما يقع في شرائع األرض أو شرائع الغاب
}.وفي سبيل اهلل{
.وذلك باب واسع يشمل كل مصلحة للجماعة ،تحقق كلمة اهلل
ً
غنيا في بلده }..وابن السبيل{ .وهو المسافر المنقطع عن ماله ،ولو كان
هذه هي الزكاة التي يتقول عليها المتقولون في هذا الزمان ،ويلمزونها بأنها نظام تسول
وإحسان ..هذه هي فريضة اجتماعية ،تؤدى في صورة عبادة إسالمية .ذلك ليطهر اهلل بها
القلوب من الشح؛ وليجعلها وشيجة تراحم وتضامن بين أفراد األمة المسلمة .تندّ ي جو الحياة
اإلنسانية ،وتمسح على جراح البشرية؛ وتحقق في الوقت ذاته التأمين االجتماعي والضمان
االجتماعي في أوسع الحدود .وتبقى لها صفة العبادة التي تربط بين القلب البشري وخالقه ،كما
:تربط بينه وبين الناس
:الذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية ،ويدبر أمرها بالحكمة }فريضة من اهلل{
}.واهلل عليم حكيم{
وبعد بيان قواعد الصدقات ،التي يرجع إليها التوزيع والتقسيم .ذلك البيان الذي يكشف عن جهل
الذين يلمزون الرسول صلى اهلل عليه وسلم فوق سوء أدبهم حين يلمزون الرسول األمين .بعد
:هذا يمضي السياق يعرض صنوف المنافقين ،وما يقولون وما يفعلون
ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون :هو أذن .قل :أذن خير لكم يؤمن باهلل ويؤمن للمؤمنين{،
ورحمة للذين آمنوا منكم ،والذين يؤذون رسول اهلل لهم عذاب أليم .يحلفون باهلل لكم ليرضوكم،
واهلل ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين .ألم يعلموا أنه من يحادد اهلل ورسوله فإن له نار
خالدا فيها .ذلك الخزي العظيم .يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في ً جهنم
قلوبهم .قل :استهزئوا إن اهلل مخرج ما تحذرون .ولئن سألتهم ليقولن :إنما كنا نخوض ونلعب.
قال :أباهلل وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟ ال تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم؛ إن نعف عن طائفة
}..منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين
إنه سوء األدب في حق الرسول ،يبدو في صورة أخرى غير صورة اللمز في الصدقات .إنهم
رفيعا في االستماع إلى الناس بإقبال وسماحة؛ ً يجدون من النبي صلى اهلل عليه وسلم ً
أدبا
ويعاملهم بظاهرهم حسب أصول شريعته؛ ويهش لهم ويفسح لهم من صدره .فيسمون هذا
األدب العظيم بغير اسمه ،ويصفونه بغير حقيقته ،ويقولون عن النبي صلى اهلل عليه وسلم {هو
أذن} أي سماع لكل قول ،يجوز عليه الكذب والخداع والبراعة ،وال يفطن إلى غش القول وزوره.
ً
تطمينا ألنفسهم أن من حلف له صدقه ،ومن دس عليه قوالً قبله .يقولون هذا بعضهم لبعض
ً
طعنا على يكشف النبي صلى اهلل عليه وسلم حقيقةـ أمرهم ،أو يفطن إلى نفاقهم .أو يقولونه
النبي في تصديقه للمؤمنين الخلص الذين ينقلون له ما يطلعون عليه من شؤون المنافقين
وأعمالهم وأقوالهم عن الرسول وعن المسلمين .وقد وردت الروايات بهذا وذلك في سبب نزول
.اآلية
.وكالهما يدخل في عمومها .وكالهما يقع من المنافقين
ردا عليهم:ويأخذ القرآن الكريم كالمهم ليجعل منه ً
}..ويقولون :هو أذن{
.نعم ..ولكن
}..قل :أذن خير لكم{
أذن خير يستمع إلى الوحي ثم يبلغه لكم وفيه خيركم وصالحكم .وأذن خير يستمع إليكم في
.أدب وال يجبهكم بنفاقكم ،وال يرميكم بخداعكم ،وال يأخذكم بريائكم
}.يؤمن باهلل{
.فيصدق كل ما يخبره به عنكم وعن سواكم
}..ويؤمن للمؤمنين{
فيطمئن إليهم ويثق بهم ،ألنه يعلم منهم صدق اإليمانـ الذي يعصمهم من الكذب وااللتواء
.والرياء
}..ورحمة للذين آمنوا منكم{
.يأخذ بيدهم إلى الخير
}..والذين يؤذون رسول اهلل لهم عذاب أليم{
.من اهلل غيرة على الرسول أن يؤذى وهو رسول اهلل
}.يحلفون باهلل لكم ليرضوكم واهلل ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين{
يحلفون باهلل لكم ليرضوكم ،على طريقة المنافقين في كل زمان ،الذين يقولون ما يقولون
ويفعلون ما يفعلون من وراء الظهور؛ ثم يجبنون عن المواجهة ،ويضعفون عن المصارحة،
.فيتضاءلون ويتخاذلون للناس ليرضوهم
}..واهلل ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين{
فماذا يكون الناس؟ وماذا تبلغ قوتهم؟ ولكن الذي ال يؤمن باهلل عادة وال يعنو له ،يعنو إلنسان
ً
خيرا أن يعنو هلل الذي يتساوى أمامه الجميع ،وال يذل من يخضع له ،مثله ويخشاه؛ ولقد كان