Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 64

‫تفسير سورة التوبة‬

‫آية ‪٦٠‬‬
‫من كتب التفاسير المعتبرة‬
‫ام ِلينَ عَ لَ ْي َها َو ْالمُ َؤ َّل َف ِة ُق ُلوب ُُه ْم َو ِفي‬
‫اكين ِ َو ْالعَ ِ‬
‫اء َو ْال َم َس ِ‬
‫ات ِل ْل ُف َقرَ ِ‬
‫الص َد َق ُ‬‫ِإ َّن َما َّ‬
‫يض ًة ِمنَ اهَّلل ِ َواهَّلل ُ عَ لِيمٌ‬ ‫الس ِبيل ِ َف ِر َ‬ ‫ين َو ِفي َس ِبيل ِ اهَّلل ِ َوابْن ِ َّ‬ ‫اب َو ْال َغ ِ‬
‫ار ِم َ‪2‬‬ ‫الر َق ِ‬
‫ِّ‬
‫َح ِكيمٌ‬

‫‪ .1‬تفسير ابن عبد السالم‬


‫اكين ِ} الفقير المحتاج العفيف عن السؤال‪ ،‬والمسكين المحتاج السائل «ع»‪ ،‬أو الفقير‬ ‫آء َو ْال َم َس ِ‬
‫{ ِل ْل ُف َق َر ِ‬
‫الز ِم ن‪ ،‬والمسكين المحتاج الصحيح‪ ،‬أو الفقراء هم المهاجرون‪ ،‬والمساكين غير المهاجرين‪ ،‬أو‬ ‫المحتاج َّ‬
‫الفقراء من المسلمين والمساكين من أهل الكتاب‪ ،‬أو الفقير الذي الشيء له النكسار فقاره بالحاجة‬
‫والمسكين له ما ال يكفيه لكن يسكن إليه‪ ،‬أو الفقير له ما ال يكفيه والمسكين ال شيء له يسكن إليه‪.‬‬

‫ين} السعاة لهم ُث ْمنها‪ ،‬أو أجر مثلهم‪.‬‬ ‫{ َو ْالعَ ِ‬


‫ام ِل َ‬

‫{ َو ْال ُمَؤ َّل َف ِة} كفار ومسلمون‪ ،‬فالمسلمون منهم ضعيف النية في اإلسالم فيتألف تقوية لنيته كعيينة بن‬
‫ً‬
‫تألفا لعشيرته من‬ ‫بدر واألقرع بن حابس والعباس بن مرداس‪ ،‬ومنهم من حسن إسالمه لكنه يعطى‬
‫ً‬
‫دفعا ألذاه كعامر‬ ‫المشركين كعدي بن حاتم‪ ،‬والمشركون منهم من يقصد أذى المسلمين فيتألف بالعطاء‬
‫بن الطفيل‪ ،‬ومنهم من يميل إلى اإلسالم فيتألف بالعطاء ليؤمن كصفوان بن أمية‪ ،‬فهذه أربعة أصناف‪،‬‬
‫وكان الرسول صلى اهلل عليه وسلم يعطي هؤالء‪ ،‬وبعد هل يعطون؟ فيه قوالن‪ :‬ألن اهلل تعالى قد أعز‬
‫آء َف ْل َيكْ ُف ْر} [الكهف‪.]29 :‬‬
‫آء َف ْل ُيْؤ ِمن َو َمن َش َ‬
‫الدين { َف َمن َش َ‬

‫{الرِّ َق ِ‬
‫اب} المكاتبون‪ ،‬أو عبيد يشترون ويعتقون‪.‬‬

‫ين} من لزمه غرم ديْ ن‪.‬‬ ‫{ َو ْال َغ ِ‬


‫ار ِم َ‬

‫{ َس ِبيل ِ اهَّلل ِ } الغزاة الفقراء واألغنياء‪.‬‬


‫ً‬
‫غنيا في بلده‪ ،‬قاله جمهور‪ ،‬أو الضيف‪.‬‬ ‫الس ِبيل ِ} المسافر ال يجد نفقة سفره وإن كان‬
‫{ َوابْن ِ َّ‬

‫‪ .2‬تفسير أبي السعود‬


‫ُ‬
‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم من القسمة ببيان‬ ‫ية ما صنعه‬ ‫شروع في تحقيق ِّ‬
‫حق ِ‬ ‫ٌ‬ ‫{ِإ َّن َما الصدقات}‬
‫الفاسد ببيان أنهم‬
‫ِ‬ ‫المبنية على زعمهم‬
‫ِ‬ ‫وحسم ألطماعهم الفارغة‬
‫ٌ‬ ‫القالة في ذلك‬
‫ِ‬ ‫المصارف وردٌّ لمقالة‬
‫ِ‬
‫المشتملة على األنواع المختلفة‬
‫ِ‬ ‫جنس الصدقات‬‫ُ‬ ‫بمعزل من االستحقاق‪ ،‬أي‬

‫الثمانية اآلتية ال تتجاوزهم إلى غيرهم‪ ،‬كأنه قيل‪:‬‬


‫ِ‬ ‫األصناف‬
‫ِ‬ ‫ٌ‬
‫مخصوصة بهؤالء‬ ‫{ ِل ْل ُف َق َراء والمساكين} أي‬
‫سوغ لهم أن يتكلموا‬ ‫َ‬
‫عالقة بينها وبينهم يقولون فيها ما يقولون وما ّ‬ ‫إنما هي لهم ال لغيرهم فما للذين ال‬
‫المروي عن أبي حنيفة رضي‬
‫ُّ‬ ‫والمسكين من ال شيء له هو‬
‫ُ‬ ‫شيء‬
‫ٍ‬ ‫والفقير من له أدنى‬
‫ُ‬ ‫فيها وفي قاسمها؟‬
‫اهلل عنه وقد قيل‪ :‬على العكس ولكل منهما وجهٌ يدل عليه‬

‫{والعاملين عَ لَ ْيهَ ا} الساعين في جمعها وتحصليها‬


‫أشراف من العرب كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يستألفهم‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫أصناف فمنهم‬ ‫{والمؤلفة ُق ُلو ُبهُ ْم} هم‬
‫َ‬
‫كعيينة بن ِ حصن‪،‬‬ ‫ّ‬
‫فيؤلف قلوبَهم بإجزال العطاء‬ ‫ٌ‬
‫ضعيفة‬ ‫ونيا ُتهم‬
‫فيرضخ لهم ومنهم قومٌ أسلموا ّ‬ ‫َ‬ ‫ُليسلموا‬
‫َ‬
‫الصنف‬ ‫والعباس بن مرداس‪ ،‬ومنهم من يُ َّ‬
‫ترقب بإعطائهم إسالمُ نظراِئ هم‪ ،‬ولعل‬ ‫ِ‬ ‫واألقرعِ بن حابس‪،‬‬
‫خالص مالَه‪ ،‬وقد عد منهم‬
‫ُ‬ ‫مس الذي هو‬ ‫ُ‬
‫األول كان يعطيهم الرسول صلى اهلل عليه وسلم من ُخمس ُ‬
‫الخ ِ‬ ‫َ‬
‫سهم هؤالء باإلجماع لما أن ذلك‬‫ُ‬ ‫يؤلف قل ُب ه بشيء منها على قتال الكفار وما نعي الزكاة وقد سقط‬ ‫من َّ‬
‫غني عن ذلك‬ ‫اإلسالم فلما ّ‬
‫أعزه اهلل عز وعال وأعلى كلمتَ ه استُ َ‬ ‫ِ‬ ‫سواد‬
‫ِ‬ ‫كان لتكثير‬

‫نجومهم‪ ،‬وقيل‪:‬‬
‫ِ‬ ‫عان المكا َتبون بشيء منها على أداء‬
‫وللصرف في فك الرقاب بأن يُ َ‬ ‫َّ‬ ‫{ َو ِفي الرقاب} أي‬
‫ذكرهم‬ ‫ُ‬ ‫الرقاب فتُ عتق‪ً ،‬‬ ‫بأن يُ فدَ ى اُألسارى وقيل‪ :‬بأن يُ بتاع منها‬
‫وأيا ما كان فالعدول عن الالم لعدم ِ‬ ‫ُ‬
‫ملكهم فيما أعطوا كما في‬
‫قرار ِ‬
‫ِ‬ ‫مصححٍ للمالكية واالختصاص كالذين من قبلهم أو لإليذان بعدم‬ ‫ّ‬ ‫بعنوان‬
‫الصدقة‬
‫ِ‬ ‫رأسا كما في الوجه األخير أو لإلشعار برسوخهم في استحقاق‬ ‫ً‬ ‫الوجهين األولين أو بعدم ثبو ِته‬
‫َ‬
‫ومركزها‪.‬‬ ‫َّ‬
‫محلها‬ ‫المنبئة عن إحاطتهم بها وكو ِنهم‬
‫ِ‬ ‫لما أن {في} للظرفية‬
‫ٌ‬
‫فاضل عن ديونهم وكذلك‬ ‫نصاب‬
‫ٌ‬ ‫معصية إذا لم يكن لهم‬‫ٍ‬ ‫والغارمين} أي الذين تداينوا ألنفسهم في غير‬
‫وإطفاء الثائرة بين القبيلتين وإن كانوا أغنياء‬
‫ِ‬ ‫ذات البين‬
‫رم إلصالح ِ‬‫الشافعي رضي اهلل عنه ُغ ٍ‬
‫ِّ‬ ‫عند‬
‫والمنقط ِع بهم‬
‫َ‬ ‫الغزاة والحجيج‬
‫ِ‬ ‫فقراء‬
‫ِ‬ ‫{ َو ِفى َس ِبيل ِ اهلل} أي‬

‫وتكرير الظرف في األخيرين لإليذان بزيادة فض ِلهما في‬


‫ُ‬ ‫المنقطع عن ماله‪،‬‬
‫ِ‬ ‫{وابن السبيل} أي المسافر‬
‫الصدقات‪،‬‬ ‫ُ‬
‫مصارف‬ ‫مصححٍ للمالكية واالختصاص فهذه‬ ‫غير‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫االستحقاق أو لما ذكر من إيرادهما بعنوان ِ‬
‫يقتصر على صنف منهم ألن الالم لبيان أنهم‬
‫َ‬ ‫واحد منهم وأن‬
‫ٍ‬ ‫فللمتصدق أن يدفع صدقتَ ه إلى كل‬
‫َ‬
‫وحذيفة رضي اهلل‬ ‫عمر وابن ِ عباس‬
‫تخرج عنهم ال إلثبات االستحقاق‪ ،‬وقد روي ذلك عن َ‬ ‫ُ‬
‫مصارف ال ُ‬
‫صرف إلى ثالثة من تلك األصناف‬ ‫الشافعي ال يجوز إال أن يُ َ‬
‫ِّ‬ ‫عنهم وعند‬
‫ً‬
‫فريضة‪ .‬و ُنقل عن‬ ‫الصدقات‬
‫ِ‬ ‫فر َض لهم‬ ‫{ َف ِر َ‬
‫يض ًة ّم َن اهلل} مصد ٌر مؤكدٌ لما دل عليه صدْ ُر اآلية أي َ‬
‫المستكن في قوله‪:‬‬
‫ّ‬ ‫فريضة أو ٌ‬
‫حال من الضمير‬ ‫ً‬ ‫فرض اهلل ذلك‬ ‫ً‬
‫مقدرا أي َ‬ ‫منصوب بفعله‬
‫ٌ‬ ‫سيبويه أنه‬
‫ً‬
‫فريضة أي مفروضة‬ ‫كائنة لهم َ‬
‫حال كونها‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫الصدقات‬ ‫للفقراء‪ ،‬أي إنما‬

‫استحقاقهم‬
‫ِ‬ ‫ومراتب‬
‫ِ‬ ‫الناس‬
‫ِ‬ ‫يم} بأحوال‬
‫{واهلل عَ ِل ٌ‬

‫الحسنة التي من جملتها َس ْو ُق الحقوق ِ إلى‬


‫ِ‬ ‫الح ُ‬
‫كمة من األمور‬ ‫ُ‬
‫يفعل إال ما تقتضيه ِ‬ ‫يم} ال‬‫{ َح ِك ٌ‬
‫ّ‬
‫مستحقيها‪.‬‬

‫‪ .3‬تفسير البيضاوي‬
‫ولهُ } ما أعطاهم الرسول من الغنيمة أو الصدقة‪ ،‬وذكر اهلل للتعظيم‬ ‫{ َولَ ْو َأ َّنهُ ْم َر ُض ْو ْا َما ءاتاهم اهلل َو َر ُس ُ‬
‫وا َح ْس ُبنَا اهلل} كفانا فضله‬ ‫وللتنبيه على أن ما فعله الرسول عليه الصالة والسالم كان بأمره‪َ { .‬و َق ُال ْ‬
‫ولهُ } فيؤتينا أكثر مما آتانا‪ِ{ .‬إ َّنا ِإ لَى اهلل‬ ‫{ َس ُيْؤ ِتينَا اهلل ِمن َف ْض ِل ِه} صدقة أو غنيمة أخرى‪َ { .‬و َر ُس ُ‬
‫راغبون} في أن يغنينا من فضله‪ ،‬واآلية بأسرها في حيز الشرط‪ ،‬والجواب محذوف تقديره { َخ ْي ً‬
‫را‬
‫وتحقيقا لما فعله الرسول صلى اهلل عليه وسلم فقال‪:‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫تصويبا‬ ‫َّلهُ ْم}‪ .‬ثم بين مصارف الصدقات‬
‫{ِإ َّن َما الصدقات ِل ْل ُف َق َر اء والمساكين} أي الزكوات لهؤالء المعدودين دون غيرهم‪ ،‬وهو دليل على أن المراد‬
‫ً‬
‫موقعا من حاجته من‬ ‫باللمز لمزهم في قسم الزكوات دون الغنائم‪ .‬والفقير من ال مال له وال كسب يقع‬
‫الفقار كأنه أصيب فقاره‪ .‬والمسكين من له مال أو كسب ال يكفيه من السكون كأن العجز أسكنه‪ ،‬ويدل‬
‫عليه قوله تعالى‪:‬‬

‫{َأ َّما السفينة َفكَا َن ْت لمساكين} وأنه صلى اهلل عليه وسلم كان يسأل المسكنة ويتعوذ من الفقر‪ .‬وقيل‬
‫بالعكس لقوله تعالى‪ِ { :‬م ْس ِك ً‬
‫ينا َذا َمتْ َرب ٍَة}‬

‫{والعاملين عَ لَ ْيهَ ا} الساعين في تحصيلها وجمعها‪.‬‬

‫{والمؤلفة ُق ُلو ُبهُ ْم} قوم أسلموا ونيتهم ضعيفة فيه فيستأنف قلوبهم أو أشراف قد يترتب بإعطائهم‬
‫ومراعاتهم إسالم نظرائهم‪ ،‬وقد أعطى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عيينة بن حصن واألقرع بن‬
‫حابس والعباس بن مرداس لذلك‪ .‬وقيل أشراف يستألفون على أن يسلموا فإن النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم كان يعطيهم واألصح أنه كان يعطيهم من خمس الخمس الذي كان خاص ماله وقد عد منهم من‬
‫يؤلف قلبه بشيء منها على قتال الكفار ومانعي الزكاة‪ .‬وقيل كان سهم المؤلفة لتكثير سواد اإلسالم‬
‫فلما أعزه اهلل وأكثر أهله سقط‪.‬‬

‫{ َو ِف ي الرقاب} وللصرف في فك الرقاب بأن يعاون المكاتب بشيء منها على أداء النجوم‪ .‬وقيل بأن‬
‫تبتاع الرقاب فتعتق وبه قال مالك وأحمد أو بأن يفدي األسارى‪ .‬والعدول عن الالم إلى { ِفى} للداللة‬
‫على أن االستحقاق للجهة ال للرقاب‪ .‬وقيل لاليذان بأنهم أحق بها‪.‬‬

‫{ والغارمين} والمديونين ألنفسهم في غير معصية ومن غير إسراف إذا لم يكن لهم وفاء‪ ،‬أو ِإل صالح‬
‫لغاز في‬
‫ذات البين وإن كانوا أغنياء لقوله صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ال تحل الصدقة لغني إال لخمسة‪ٍ :‬‬
‫سبيل اهلل أو لغارم‪ ،‬أو لرجل اشتراها بماله‪ ،‬أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى‬
‫المسكين للغني أو لعامل عليها»‬

‫{ َو ِفى َس ِبيل ِ اهلل} وللصرف في الجهاد باِإل نفاق على المتطوعة وابتياع الكراع والسالح‪ .‬وقيل وفي بناء‬
‫القناطر والمصانع‪.‬‬

‫{وابن السبيل} المسافر المنقطع عن ماله‪.‬‬

‫يض ًة ّم َن اهلل} مصدر لما دل عليه اآلية الكريمة أي فرض لهم اهلل الصدقات فريضة‪ ،‬أو حال من‬ ‫{ َف ِر َ‬
‫الضمير المستكن في { ِل ْل ُف َق َراء}‪ .‬وقرئ بالرفع على تلك { َف ِر َ‬
‫يض ًة}‪.‬‬

‫يم} يضع األشياء في مواضعها‪ ،‬وظاهر اآلية يقتضي تخصيص استحقاق الزكاة‬ ‫يم َح ِك ٌ‬
‫{واهلل عَ ِل ٌ‬
‫باألصناف الثمانية ووجوب الصرف إلى كل صنف وجد منهم ومراعاة التسوية بينهم قضية لالشتراك‬
‫وإليه ذهب الشافعي رضي اهلل تعالى عنه‪ ،‬وعن عمر وحذيفة وابن عباس وغيرهم من الصحابة‬
‫والتابعين رضوان اهلل عليهم أجمعين جواز صرفها إلى صنف واحد وبه قال األئمة الثالثة واختاره بعض‬
‫أصحابنا‪ ،‬وبه كان يفتي شيخي ووالدي رحمهما اهلل تعالى على أن اآلية بيان أن الصدقة ال تخرج منهم‬
‫ال إيجاب قسمها عليهم‪.‬‬
‫‪ .4‬تفسير ابن عجيبة‬
‫الصدقات} الواجبة أي‪ :‬الزكاة لهؤالء الثمانية‪ ،‬وهذا يُ َر َّج ُح أن‬ ‫ُ‬ ‫قول الحق جل جالله‪ِ{ :‬إ نما} تدفع {‬
‫لَ ْم زهم كان في قسم الزكاة ال في الغنائم‪ ،‬واختصاص دفع الزكاة بهؤالء الثمانية مجمع عليه‪ ،‬واختلف‪:‬‬
‫هل يجب تعميمهم؟ فقال مالك‪ :‬ذلك إلى اإلمام‪ ،‬إن شاء عمم وإن شاء خصص‪ ،‬وإن لم يلها اإلمام؛‬
‫فصاحب المال مخير‪ ،‬وبه قال أبو حنيفة وأحمد‪ ،‬وأفتى به بعض الشافعية‪ ،‬وقال الشافعي‪ :‬يجب أن‬
‫تقسم على هذه األصناف بالسواء‪ ،‬إن وجدت‪.‬‬
‫أولها‪ :‬الفقير‪ :‬وهو من ال شيء له‪ ،‬وثانيها‪ :‬المسكين‪ :‬وهو من له شيء ال يكفيه‪ .‬فالفقير أحوج‪ ،‬وهو‬
‫مشتق من فقار الظهر‪ ،‬كأنه أصيب فقاره‪ ،‬والمسكين من السكون‪ ،‬كأن العجز أسكنه‪ .‬ويدل على هذا قوله‬
‫ين} [الكهف‪ .]79 :‬فسماهم مساكين مع ملكهم السفينة‪ ،‬وأنه صلى اهلل‬ ‫الس ِفين َُة َفكَا َنت ِل َم َس ِك َ‬
‫أما َّ‬
‫تعالى‪َّ { :‬‬
‫سكينا َذا َمترب ٍَة} [البلد‪ ]16 :‬وقيل‪ :‬هما‬ ‫ً‬ ‫عليه وسلم سأل المسكنة؛ وقيل بالعكس‪ ،‬لقوله تعالى‪ً{ :‬أ و ِم‬
‫والعاملين عليها} أي‪ :‬الساعين في تحصيلها وجمعها‪ ،‬ويدخل فيهم الحاشر والكاتب والمفرق‪،‬‬ ‫َ‬ ‫سواء‪{ .‬‬
‫وال بأس أن يعلف خيلهم منها‪ ،‬ويضافون منها بال َس رف‪{ .‬والمؤلفة قلوبهم} قال مالك‪ :‬هم كفار ظهر‬
‫ترغيبا في اإلسالم‪ .‬وقيل قوم أسلموا ونيتهم ضعيفة‪ ،‬فيعطوا ليتمكن اإلسالم‬ ‫ً‬ ‫ميلهم لإلسالم‪ ،‬فيعطوا‬
‫وحكمهم باق‪ ،‬وقيل‪ :‬أشراف يُ ترقب بإعطائهم إسالم نظائرهم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫في قلبهم‪،‬‬
‫مين}‪ ،‬أي‪َ :‬م ْن عليهم دَ يْ ن‪ ،‬فيعطى‬ ‫ار َ‬ ‫{ وفي الرقاب} أي‪ :‬في فك الرقاب‪ ،‬يشترون ويعتقون‪َ { ،‬‬
‫والغ ِ‬
‫ليقضي دينه‪ ،‬ويشرط أن يكون استدانة في غير فساد وال سرف‪ ،‬وليس له ما يبيع في قضائه‪{ .‬وفي‬
‫سبيل اهلل} يعني‪ :‬الجهاد‪ ،‬فيعطى منها المجاهدون وإن كانوا أغنياء‪ ،‬ويشتري منها آلة الحرب‪ ،‬وال يبنى‬
‫مسلفا‪ ،‬إن كان‬‫ً‬ ‫منها سور وال مركب‪ { .‬وابن السبيل} وهو الغريب المحتاج لما يوصله لبلده‪ ،‬ولم يجد‬
‫ً‬
‫مطلقا‪.‬‬ ‫ملي َا ببلده‪ ،‬وإال أعطي‬ ‫َّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فرض اهلل ذلك {فريضة من اهلل} أي‪ :‬حقا محدودا عند اهلل‪ .‬قال ابن جزي‪ :‬ونصبه على المصدر يعني‪:‬‬
‫لفعل محذوف كما تقدم فإن قيل‪ِ :‬ل َم ذكر مصرف الزكاة في تضاعيف ذكر المنافقين؟ فالجواب‪ :‬أنه‬
‫خص مصرف الزكاة في تلك األصناف؛ ليقطع طمع المنافقين فيها‪ ،‬فاتصلت هذه اآلية في المعنى بقوله‪:‬‬
‫عليم حكيم}؛ يضع األشياء في مواضعها‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫{ومنهم من يلمزك في الصدقات‪ .}...‬اهـ‪{ .‬واهلل‬
‫السوى‪ ،‬وسكنوا في حضرة شهود‬ ‫اإلشارة‪ :‬إنما النفحات والمواهب للفقراء والمساكين‪ ،‬الذين افتقروا من ِّ‬
‫المولى‪.‬‬
‫وفي الحكم‪ :‬ورود الفاقات أعياد المريدين‪ ،‬ربما وجدت من المزيد في الفاقة ما ال تجده في الصوم‬
‫بس ُط المواهب‪ .‬إن أردت بسط المواهب عليك فصحح الفقر والفاقة لديك‪{ .‬إنما‬ ‫والصالة‪ ،‬الفاقات ُ‬
‫الصدقات للفقراء والمساكين}‪.‬‬
‫ألذ ما يناله العارف‪ ،‬لكونها تدخله على اهلل‪ ،‬وتجلسه بين يدي‬ ‫وقال الهروي‪ :‬الفقر صفة مهجورة‪ ،‬وهو ُّ‬
‫حكما ؛ لقطع العوائق‪ ،‬والتجرد من العالئق‪ ،‬واشتغال القلب باهلل‪ .‬وقيل‪ :‬الفقير‬ ‫ً‬ ‫اهلل‪ ،‬وهو أعم المقامات‬
‫الصادق ال يم ِلك وال يُ ملَك‪ .‬وقال الشبلي‪ :‬الفقير ال يستغني بشيء دون اهلل‪ .‬وقال الشيخ ابن سبعين‬
‫رضي اهلل عنه‪ :‬الفقير هو الذي ال يحصره الكون‪ .‬اهـ‪ .‬يعني‪ :‬لخروج فكرته عن دائرة األكوان‪ ،‬وقال‬
‫يشغله‪،‬‬
‫معلوم ِ‬‫َ‬ ‫أرض ُت ِق ُّله‪ ،‬وال سهم يتناوله‪ ،‬وال‬‫القشيري‪ :‬الفقير الصادق عندهم‪َ :‬م ْن ال سماء ُت ِظله‪ ،‬وال َ‬
‫فهو عبد اهلل باهلل‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫وقال السهروردي في عوارفه‪ :‬الفقر أساس التصوف‪ ،‬وبه قوامه‪ ،‬ويلزم من وجود التصوف وجود الفقر؛‬
‫ً‬
‫زاهدا‪.‬‬ ‫ً‬
‫فقيرا‬ ‫ألن التصوف اسم جامع لمعاني الفقر والزهد‪ ،‬مع زيادة أحوال ال بد منها للصوفي‪ ،‬وإن كان‬
‫وقال بعضهم‪ :‬نهاية الفقر بداية التصوف؛ ألن التصوف اسم جامع لكل خلق سني‪ ،‬والخروج من كل خلق‬
‫دنيء‪ ،‬لكنهم اتفقوا أالًّ دخول على اهلل إال من باب الفقر‪ ،‬ومن لم يتحقق بالفقر لم يتحقق بشيء مما‬
‫أشار إليه القوم‪.‬‬
‫ً‬
‫سبعا على سبع‪ ،‬فإن‬ ‫فليختر‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫الشرف كل الشرف؛‬ ‫أيضا‪ :‬من أراد ان يبلغ‬ ‫ً‬ ‫وقال أبو إسحاق الهروي‬
‫الصالحين اختاروا حتى بَلَ ُغ وا سنام الخير‪ .‬واختاروا الفقر على الغنى‪ ،‬والجوع على الشبع؛ والدُّ ون على‬
‫والذل على العز‪ ،‬والتواضع على الكبر‪ ،‬والحزن على الفرح‪ ،‬والموت على الحياة‪ .‬اهـ‪ .‬وقال‬ ‫َّ‬ ‫المرتفع‪،‬‬
‫حذرا أن يدخله؛ فيفسد عليه فقره‪ ،‬كما يحترز الغنى من‬‫ً‬ ‫بعضهم‪ :‬إن الفقير الصادق ليحترز من الغنى؛‬
‫ً‬
‫حذرا أن يفسد عليه غناه‪.‬‬ ‫الفقر؛‬
‫ً‬
‫جالسا منذ أيام‪ ،‬وال يأكل وال يشرب وعليه‬ ‫ً‬
‫فقيرا في الحرم‬ ‫قال بعض الصالحين‪ :‬كان لي مال‪ ،‬فرأيت‬
‫أطمار رثة‪ ،‬فقلت‪ُ :‬أ عنيه بهذا المال؛ فألقيته في حجره‪ ،‬وقلت‪ :‬استعن بهذا على دنياك‪ ،‬فنفض بها في‬
‫علي؟ ثم انصرف وتركني‬ ‫اشتريت هذه الجلسة مع ربي بما ملكت‪ ،‬وأنت تفسدها َّ‬ ‫ُ‬ ‫الحصباء‪ ،‬وقال لي‪:‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ألقطها‪ .‬فواهلل ما رأيت أعز منه ل َّما بَدَّ دَ ها‪ ،‬وال أذل مني لما كنت ألقطها‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫ً‬
‫مسرورا‪ ،‬فقيل‬ ‫ً‬
‫فرحا‬ ‫ً‬
‫حزينا‪ ،‬وإذا لم يصبح عنده شيء؛ أصبح‬ ‫وكان بعضهم إذا أصبح عنده شيء؛ اصبح‬
‫له‪ :‬إنما الناس بعكس هذا‪ ،‬فقال‪ :‬إني إذا لم يصبح عندي شيء فلي برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫ُأ سوة‪ ،‬وإذا أصبح لي شيء لم يكن لي برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أسوة حسنة‪ .‬اهـ‪ .‬وجمهور‬
‫الصوفية‪ :‬يفضلون الفقير الصابر على الغني الشاكر‪ ،‬ويُ فضلون الفقر في الجملة على الغني؛ ألنه عليه‬
‫الصالة والسالم اختاره‪ ،‬وما كان ليختار المفضول‪ .‬وشذ منهم يحيى بن معاذ الواعظ وأحمد بن عطاء‪.‬‬
‫قال القشيري‪ :‬كان ابن عطاء يُ فضل الغنى على الفقر‪ ،‬فدعا عليه الجنيد فأصيب عقله ثالثين سنة‪ ،‬فلما‬
‫رجع إليه عقله قال‪ :‬إنما أصابني ما أصابني بدعاء الجنيد‪.‬‬
‫وتكلم يحيى بن معاذ‪ ،‬ففضل الغنى على الفقر‪ ،‬فأعطاه بعض األغنياء ثالثين ألف درهم‪ ،‬فدعا بعض‬
‫المشايخ عليه‪ ،‬فقال‪ :‬ال بارك اهلل له فيها‪ ،‬فخرج عليه اللص فنهبه إياها‪ .‬اهـ‪ .‬وحكي عن أبي يزيد‬
‫البسطامي‪ :‬أنه قال‪ً :‬أ سري بروحي‪ ،‬فرأيت كأني واقف بين يدي اهلل‪ ،‬فسمعت قائ ً‬
‫ال يقول‪ :‬يا أبا يزيد‪ ،‬إن‬
‫أردت القرب منا فأتنا بما ليس عندنا‪ ،‬فقلت‪ :‬يا موالي وأي شيء ليس عندك‪ ،‬ولك خزائن السماوات‬
‫واألرض؟ فسمعت‪ :‬يا أبا يزيد‪ ،‬ليس عندي ذل وال فقر فمن أتاني بهما ّ‬
‫بلغته‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫وقال في اإلحياء‪ :‬الفقر المستعاذ منه‪ :‬فقر المضطر‪ ،‬والمسؤول هو‪ :‬االعتراف بالمسكنة والذلة واالفتقار‬
‫إلى اهلل عز وجل‪ .‬اهـ‪ .‬قلت‪ :‬واألحسن أن المستعاذ منه هو‪ :‬فقر القلوب من اليقين‪ ،‬فيسكنها الجزع‬
‫والهلع‪ ،‬والفقر المسؤول هو‪ :‬التخفيف من الشواغل والعالئق‪ ،‬واهلل تعالى أعلم‪.‬‬
‫خذ الزكاة المفروضة‬‫أن َأ َ‬
‫وقد تكلم القشيري هنا على أخذ الزكاة وتركها‪ ،‬فقال‪ :‬من أهل المعرفة من رأى َّ‬
‫لكا للفقير‪ ،‬فهو أحل له من المتطوع به‪ .‬ومنهم من قال‪ :‬الزكاة‬ ‫َأ ولى‪ ،‬قالوا‪ :‬ألن اهلل سبحانه جعل ذلك ِم ً‬
‫المفروضة ألقوام مستحقة‪ ،‬ورأوا اإليثار على اإلخوان أولى‪ ،‬فلم يزاحموا أرباب السهمان‪ ،‬وتحرجوا من‬
‫أخذ الزكاة‪ ،‬ومنهم من قال‪ :‬إن ذلك وسخ األموال‪ ،‬وهو ألصحاب الضرورات‪ .‬وقالوا‪ :‬نحن آثرنا َ‬
‫الف ْق َر‬
‫ً‬
‫اختيارا‪ ...‬فلم يأخذوا الزكاة المفروضة‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬والعاملين عليها} ‪ :‬هم المستعدون للمواهب بالتفرغ والتجريد‪ ،‬و{المؤلفة قلوبهم} على‬
‫حضرة محبوبهم‪ ،‬والجادُّ ون في فك الرقاب من الجهل والغفلة؛ وهم أهل التذكير‪ ،‬الداعون إلى اهلل‪،‬‬
‫{ والغارمين} أي‪ :‬الدافعون أموالهم ومهجهم في رضى محبوبهم‪ ،‬فافتقروا فاستحقوا حظهم من‬
‫المواهب واألسرار‪ ،‬و{ في سبيل اهلل} أي‪ :‬المجاهدون أنفسهم في مرضاة اهلل‪{ .‬وابن السبيل}‪:‬‬
‫السائحين في طلب معرفة اهلل‪ .‬واهلل تعالى أعلم‪.‬‬

‫‪ .5‬تفسير البغوي‬
‫ولهُ } أي‪ :‬قنعوا بما قسم لهم اهلل ورسوله { َو َق ُالوا َح ْس ُبنَا اهَّلل ُ } كافينا‬ ‫اه ُم اهَّلل ُ َو َر ُس ُ‬ ‫{ َولَ ْو َأ َّنهُ ْم َر ُضوا َما آ َت ُ‬
‫ون} في أن يوسع علينا من‬ ‫ولهُ } ما نحتاج إليه {ِإ َّنا ِإ لَى اهَّلل ِ َر ِ‬
‫اغ ُب َ‬ ‫اهلل‪َ ،‬س{ ُيْؤ ِتينَا اهَّلل ُ ِم ْن َف ْض ِل ِه َو َر ُس ُ‬
‫فضله‪ ،‬فيغنينا عن الصدقة وغيرها من أموال الناس‪ .‬وجواب لو محذوف أي‪ :‬لكان خيرا لهم وأعود‬
‫عليهم‪.‬‬
‫اكين ِ} اآلية‪َّ ،‬بين اهلل تعالى في هذه اآلية أهل سهمان‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ات ِلل ُف َق َر ِاء َوال َم َس ِ‬‫الصدَ َق ُ‬ ‫قوله تعالى‪ِ{ :‬إ َّن َما َّ‬
‫الصدائي قال‪ :‬أتيت رسول اهلل صلى اهلل‬ ‫الصدقات وجعلها لثمانية أصناف‪ .‬وروي عن زياد بن الحارث ُ‬
‫عليه وسلم فبايعته‪ ،‬فأتاه رجل وقال‪ :‬أعطني من الصدقة‪ ،‬فقال له رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫«إن اهلل لم يرض بحكم نبي وال غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء‪ ،‬فإن كنت‬
‫من تلك األجزاء أعطيتك حقك»‪.‬‬
‫اكين ِ} فأحد أصناف الصدقة‪ :‬الفقراء‪ ،‬والثاني‪ :‬المساكين‪.‬‬ ‫اء َو ْال َم َس ِ‬ ‫قوله تعالى‪ِ { :‬ل ْل ُف َق َر ِ‬
‫واختلف العلماء في صفة الفقير والمسكين‪ ،‬فقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وعكرمة‬
‫والزهري‪ :‬الفقير الذي ال يسأل‪ ،‬والمسكين‪ :‬الذي يسأل‪.‬‬
‫وقال ابن عمر‪ :‬ليس بفقير من جمع الدرهم إلى الدرهم والتمرة إلى التمرة‪ ،‬ولكن من أنقى نفسه وثيابه‬
‫ال يقدر على شيء‪ ،‬يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف‪.‬‬
‫الز ِم ُن‪ ،‬والمسكين‪ :‬الصحيح المحتاج‪.‬‬ ‫وقال قتادة‪ :‬الفقير‪ :‬المحتاج َّ‬
‫وروي عن عكرمة أنه قال‪ :‬الفقراء من المسلمين‪ ،‬والمساكين من أهل الكتاب‪.‬‬
‫وقال الشافعي‪ :‬الفقير من ال مال له وال حرفة تقع منه موقعا‪َ ،‬ز ِمنا كان أو غير َز ِمن‪ ،‬والمسكين من كال‬
‫له مال أو حرفة وال يغنيه‪ ،‬سائال أو غير سائل‪ .‬فالمسكين عنده أحسن حاال من الفقير ألن اهلل تعالى‬
‫قال‪{ :‬أما السفينة فكانت لمساكين} [الكهف‪ ]79 -‬أثبت لهم ملكا مع اسم المسكنة‪.‬‬
‫وعند أصحاب الرأي‪ :‬الفقير أحسن حاال من المسكين‪.‬‬
‫وقال القتيبي‪ :‬الفقير‪ :‬الذي له ال ُب ْل َغة من العيش‪ ،‬والمسكين‪ :‬الذي ال شيء له‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬الفقير من له المسكن والخادم‪ ،‬والمسكين من ال ملك له‪ .‬وقالوا‪ :‬كل محتاج إلى شيء فهو مفتقر‬
‫إليه وإن كان غنيا عن غيره‪ ،‬قال اهلل تعالى‪{ :‬أنتم الفقراء إلى اهلل} [غافر‪ ،]15 -‬والمسكين المحتاج‬
‫حض على إطعامه‪ ،‬وجعل طعام الكفارة له وال فاقة أشد من الحاجة إلى سدّ‬ ‫إلى كل شيء أال ترى كيف َّ‬
‫الجوعة‪.‬‬
‫وقال إبراهيم النخعي‪ :‬الفقراء هم المهاجرون‪ ،‬والمساكين من لم يهاجروا من المسلمين‪.‬‬
‫وفي الجملة‪ :‬الفقر والمسكنة عبارتان عن الحاجة وضعف الحال‪ ،‬فالفقير المحتاج الذي كسرت الحاجة‬
‫فقار ظهره‪ ،‬والمسكين الذي ضعفت نفسه وسكنت عن الحركة في طلب القوت‪.‬‬
‫أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب‪ ،‬حدثنا عبد العزيز بن أحمد الخالل‪ ،‬حدثنا أبو العباس األصم‪،‬‬
‫حدثنا الربيع‪ ،‬أنبأنا الشافعي‪ ،‬أنبأنا سفيان بن عيينة عن هشام‪ ،‬يعني‪ :‬ابن عروة‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن عبيد اهلل‬
‫وصوب‬
‫َّ‬ ‫بن عدي بن الخيار‪ :‬أن رجلين أخبراه أنهما أتيا رسول اهلل فسأاله عن الصدقة فصعَّ د فيهما‬
‫والحظ فيها لغني وال لذي قوة مكتسب»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فقال‪« :‬إن شئتما أعطيتكما‬
‫واختلفوا في حد الغنى الذي يمنع أخذ الصدقة‪ :‬فقال األكثرون‪ :‬حدُّ ه أن يكون عنده ما يكفيه وعياله‬
‫سنة‪ ،‬وهو قول مالك والشافعي‪.‬‬
‫وقال أصحاب الرأي‪ :‬حدُّ ه أن يملك مائتي درهم‪.‬‬
‫وقال قوم‪ :‬من ملك خمسين درهما ال تحل له الصدقة‪ ،‬لما روينا عن عبد اهلل بن مسعود قال‪ :‬قال رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو‬
‫خدوش أو كدوح»‪ ،‬قيل‪ :‬يا رسول اهلل وما يغنيه؟ قال‪« :‬خمسون درهما أو قيمتها من الذهب»‪ .‬وهو‬
‫قول الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق‪ .‬وقالوا ال يجوز أن يعطى الرجل من الزكاة أكثر من خمسين‬
‫درهما‪ .‬وقيل‪ :‬أربعون درهما لما روى أن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬من سأل وله أوقية أو عدلها‬
‫فقد سأل إلحافا»‪.‬‬
‫ين عَ لَ ْيهَ ا} وهم السعاة الذين يتولون قبض الصدقات من أهلها ووضعها في حقها‪،‬‬ ‫ام ِل َ‬ ‫قوله تعالى‪َ { :‬و ْالعَ ِ‬
‫فيعطون من مال الصدقة‪ ،‬فقراء كانوا أو أغنياء‪ ،‬فيعطون أجر مثل عملهم‪.‬‬
‫وقال الضحاك ومجاهد‪ :‬لهم الثمن من الصدقة‪.‬‬
‫{ َو ْال ُمَؤ َّل َف ِة ُق ُلو ُبهُ ْم} فالصنف الرابع من المستحقين للصدقة هم‪ :‬المؤلفة قلوبهم‪ ،‬وهم قسمان‪ :‬قسم‬
‫مسلمون‪ ،‬وقسم كفار‪ .‬فأما المسلمون‪ :‬فقسمان‪ ،‬قسم دخلوا في اإلسالم ونيتهم ضعيفة فيه‪ ،‬فكان النبي‬
‫تألف ا كما أعطى عيينة بن بدر‪ ،‬واألقرع بن حابس‪ ،‬والعباس بن مرداس‪ ،‬أو‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم يعطيهم ً‬
‫أسلموا ونيتهم قوية في اإلسالم‪ ،‬وهم شرفاء في قومهم مثل‪ :‬عدي بن حاتم‪ِّ ،‬‬
‫والزب ِْرقان بن بدر‪ ،‬فكان‬
‫تألفا لقومهم‪ ،‬وترغي ًب ا ألمثالهم في اإلسالم‪ ،‬فهؤالء يجوز لإلمام أن يعطيهم من خمس خمس‬ ‫يعطيهم ً‬
‫الغنيمة‪ ،‬والفيء سهم النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وكان النبي صلى اهلل عليه وسلم يعطيهم من ذلك وال‬
‫يعطيهم من الصدقات‪.‬‬
‫َاط ال‬
‫والقسم الثاني من مؤلفة المسلمين‪ :‬أن يكون قوم من المسلمين بإزاء قوم كفار في موضع ُمتَ ن ٍ‬
‫تبلغهم جيوش المسلمين إال بمؤنة كثيرة وهم ال يجاهدون‪ ،‬إما لضعف نيتهم أو لضعف حالهم‪ ،‬فيجوز‬
‫لإلمام أن يعطيهم من سهم الغزاة من مال الصدقة‪ .‬وقيل‪ :‬من سهم المؤلفة‪ .‬ومنهم قوم بإزاء جماعة من‬
‫مانعي الزكاة يأخذون منهم الزكاة يحملونها إلى اإلمام‪ ،‬فيعطيهم اإلمام من سهم المؤلفة من الصدقات‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬من سهم سبيل اهلل‪.‬‬
‫روي أن عدي بن حاتم جاء أبا بكر الصديق بثالثمائة من اإلبل من صدقات قومه فأعطاه أبو بكر منها‬
‫ثالثين بعيرا‪.‬‬
‫وأما الكفار من المؤلفة‪ :‬فهو َم ْن يُ خشى شره منهم‪ ،‬أو يرجى إسالمه‪ ،‬فيريد اإلمام أن يعطي هذا حذ ًرا‬
‫من شره‪ ،‬أو يعطي ذلك ترغيبا له في اإلسالم فقد كان النبي صلى اهلل عليه وسلم يعطيهم من خمس‬
‫الخمس‪ ،‬كما أعطى صفوان بن أمية ِل َما يرى من ميله إلى اإلسالم‪ ،‬أما اليوم فقد َّ‬
‫أعز اهلل اإلسالم فله‬
‫تألفا بحال‪ ،‬وقد قال بهذا كثير من أهل العلم أن‬ ‫الحمد‪ ،‬وأغناه أن يُ تَ َأ َّلف عليه رجال‪ ،‬فال يُ عطى مشرك ً‬
‫المؤلفة منقطعة وسهمهم ساقط‪ .‬روي ذلك عن عكرمة‪ ،‬وهو قول الشعبي‪ ،‬وبه قال مالك والثوري‪،‬‬
‫وأصحاب الرأي‪ ،‬وإسحاق بن راهويه‪.‬‬
‫وقال قوم‪ :‬سهمهم ثابت‪ ،‬يروى ذلك عن الحسن‪ ،‬وهو قول الزهري‪ ،‬وأبي جعفر محمد بن علي‪ ،‬وأبي‬
‫ثور‪ ،‬وقال أحمد‪ :‬يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك‪.‬‬
‫اب} والصنف الخامس‪ :‬هم الرقاب‪ ،‬وهم المكاتبون‪ ،‬لهم سهم من الصدقة‪ ،‬هذا‬ ‫قوله تعالى‪َ { :‬و ِفي الرِّ َق ِ‬
‫قول أكثر الفقهاء‪ ،‬وبه قال سعيد بن جبير‪ ،‬والنخعي‪ ،‬والزهري‪ ،‬والليث بن سعد‪ ،‬والشافعي‪ .‬وقال‬
‫فيعتقون‪ .‬وهذا قول الحسن‪ ،‬وبه قال مالك وأحمد وإسحاق‪.‬‬ ‫جماعة‪ :‬يشترى بسهم الرقاب عبيد ُ‬
‫ار ِم ين} الصنف السادس هم‪ :‬الغارمون‪ ،‬وهم قسمان‪ :‬قسم دانوا ألنفسهم في غير‬ ‫قوله تعالى‪َ { :‬و ْال َغ ِ‬
‫معصيته‪ ،‬فإنهم يُ عْ َط ون من الصدقة إذا لم يكن لهم من المال ما يفي بديونهم‪ ،‬فإن كان عندهم وفاء فال‬
‫يُ عْ َط ون‪ ،‬وقسم أدانوا في المعروف وإصالح ذات البين فإنهم يُ عْ َطون من مال الصدقة ما يقضون به‬
‫ديونهم‪ ،‬وإن كانوا أغنياء‪.‬‬
‫أخبرنا أبو الحسن السرخسي‪ ،‬أنبأنا زاهر بن أحمد‪ ،‬أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي‪ ،‬أخبرنا أبو مصعب عن‬
‫مالك عن زيد بن أسلم‪ ،‬عن عطاء بن يسار أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬ال تحل الصدقة‬
‫لغني إال لخمسة‪ :‬لغاز في سبيل اهلل‪ ،‬أو لغارم‪ ،‬أو لرجل اشتراها بماله‪ ،‬أو لرجل له جار مسكين فتصدق‬
‫على المساكين فأهدى المسكين للغني‪ ،‬أو لعامل عليها»‪.‬‬
‫ورواه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫متصال بمعناه‪.‬‬
‫أما من كان دَ يْ نه في معصية فال يُ دفع إليه‪.‬‬
‫عطون إذا أرادوا الخروج إلى‬ ‫وقوله تعالى‪َ { :‬و ِفي َس ِبيل ِ اهَّلل ِ } أراد بها‪ :‬الغزاة‪ ،‬فلهم سهم من الصدقة‪ ،‬يُ َ‬
‫الغزو‪ ،‬وما يستعينون به على أمر الغزو من‪ :‬النفقة‪ ،‬والكسوة‪ ،‬والسالح‪ ،‬والحمولة‪ ،‬وإن كانوا أغنياء‪ ،‬وال‬
‫يُ عطى منه شيء في الحج عند أكثر أهل العلم‪.‬‬
‫وقال قوم‪ :‬يجوز أن يصرف سهم في سبيل اهلل إلى الحج‪ .‬ويُ روى ذلك عن ابن عباس‪ ،‬وهو قول‬
‫الحسن‪ ،‬وأحمد‪ ،‬وإسحاق‪.‬‬
‫الس ِبيل ِ} الصنف الثامن‪ :‬هم أبناء السبيل‪ ،‬فكل من يريد سفرا مباحا ولم يكن له ما‬ ‫قوله تعالى‪َ { :‬وابْن ِ َّ‬
‫يقطع به المسافة يُ عطى من الصدقة بقدر ما يقطع به تلك المسافة‪ ،‬سواء كان له في البلد المنتقل إليه‬
‫مال أو لم يكن‪.‬‬
‫وقال قتادة‪ :‬ابن السبيل هو الضيف‪.‬‬
‫الحاج المنقطع‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وقال فقهاء العراق‪ :‬ابن السبيل‪:‬‬
‫واجبة { ِم َن اهَّلل ِ } وهو نصب على القطع‪ ،‬وقيل‪ :‬على المصدر‪ ،‬أي‪ :‬فرض اهلل‬ ‫ً‬ ‫يض ًة} أي‪:‬‬ ‫قوله تعالى‪َ { :‬ف ِر َ‬
‫يم}‪.‬‬ ‫هذه األشياء فريضة‪َ { .‬واهَّلل ُ عَ ِل ٌ‬
‫يم َح ِك ٌ‬
‫اختلف الفقهاء في كيفية قسم الصدقات‪ ،‬وفي جواز صرفها إلى بعض األصناف‪:‬‬
‫فذهب جماعة إلى أنه ال يجوز صرفها كلها إلى بعضهم مع وجود سائر األصناف‪ ،‬وهو قول عكرمة‪ ،‬وبه‬
‫قال الشافعي‪ ،‬قال‪ :‬يجب أن تقسم زكاة كل صنف من ماله على الموجودين من األصناف الستة‪ ،‬الذين‬
‫ُسهْ مانهم ثابتة قسمة على السواء‪ ،‬ألن سهم المؤلفة ساقط‪ ،‬وسهم العامل إذا قسم بنفسه‪ ،‬ثم حصة كل‬
‫صنف منهم ال يجوز أن تصرف إلى أقل من ثالثة منهم إن وجد منهم ثالثة أو أكثر‪ ،‬فلو فاوت بين أولئك‬
‫الثالث يجوز‪ ،‬فإن لم يوجد من بعض األصناف إال واحد صرف حصة ذلك الصنف إليه ما لم يخرج عن‬
‫حد االستحقاق‪ ،‬فإن انتهت حاجته وفضل شيء ردَّ ه إلى الباقين‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫وذهب جماعة إلى أنه لو صرف الكل إلى صنف واحد من هذه األصناف‪ ،‬أو إلى شخص واحد منهم‬
‫سم ى اهلل تعالى هذه األصناف الثمانية إعالما منه أن الصدقة ال تخرج عن هذه األصناف‪ ،‬ال‬
‫يجوز‪ ،‬وإنما َّ‬
‫إيجابا لقسمها بينهم جميعا‪ .‬وهو قول عمر‪ ،‬وابن عباس‪ ،‬وبه قال سعيد بن جبير وعطاء‪ ،‬وإليه ذهب‬
‫سفيان الثوري وأصحاب الرأي‪ ،‬وبه قال أحمد‪ ،‬قال‪ :‬يجوز أن يضعها في صنف واحد وتفريقها أولى‪.‬‬
‫قسمه على األصناف‪ ،‬وإن كان قليال جاز وضعه في‬ ‫وقال إبراهيم‪ :‬إن كان المال كثيرا يحتمل اإلجزاء َّ‬
‫صنف واحد‪.‬‬
‫الخ َّلة والحاجة‪ ،‬فإن رأى الخلة‬
‫فاألولَى من أهل ُ‬ ‫ْ‬ ‫وقال مالك‪ :‬يتحرى موضع الحاجة منهم‪ ،‬ويُ َقدَّ م ْ‬
‫األولى‬
‫في الفقراء في عام أكثر قدَّ مهم‪ ،‬وإن رآها في عام في صنف آخر حولها إليهم‪.‬‬
‫وكل من دُ ِفعَ إليه شيء من الصدقة ال يزيد على قدر االستحقاق‪ ،‬فال يزيد الفقير على قدر غناه‪ ،‬فإذا‬
‫حصل أدنى اسم الغنى ال يُ عطى بعده‪ ،‬فإن كان محترفا لكنه ال يجد آلة حرفته‪ :‬فيعطى قدر ما يحصل‬
‫والمكاتب على قدر ما يُ عتق به‪ ،‬وللغريم على قدر دينه‪،‬‬ ‫به آلة حرفته‪ ،‬وال يزاد العامل على أجر عمله‪ُ ،‬‬
‫وللغازي على قدر نفقته للذهاب والرجوع والمقام في مغزاه وما يحتاج إليه من الفرس والسالح‪ ،‬والبن‬
‫السبيل على قدر إتيانه مقصده أو مآله‪.‬‬
‫واختلفوا في نقل الصدقة عن بلد المال إلى موضع آخر‪ ،‬مع وجود المستحقين فيه‪ :‬فكرهه أكثر أهل‬
‫العلم‪ ،‬لما أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي‪ ،‬أنبأنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي‪،‬‬
‫حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي‪ ،‬حدثنا أبو عيسى الترمذي‪ ،‬حدثنا أبو كريب‪ ،‬حدثنا وكيع‪،‬‬
‫أن‬
‫حدثنا زكريا بن إسحاق المكي‪ ،‬حدثنا يحيى بن عبد اهلل بن الصيفي عن أبي معبد عن ابن عباس ّ‬
‫قوما أهل كتاب فادْ عُ هم إلى‬
‫معاذا إلى اليمن فقال‪« :‬إنك تأتي ً‬ ‫ً‬ ‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعث‬
‫شهادة أن ال إله إال اهلل وأن محمدً ا رسول اهلل‪ ،‬فإن هم أطاعوا لذلك َفَأ عْ ِل ْمهُ ْم أن اهلل فرض عليهم خمس‬
‫صلوات في اليوم والليلة‪ ،‬فإن هم أطاعوا لذلك َفَأ عْ ِل ْمهُ ْم أن اهلل قد فرض عليهم صدقة ُتؤخذ من‬
‫أغنيائهم فتردُّ على فقرائهم‪ ،‬فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم‪ ،‬واتق دعو َة المظلوم‪ ،‬فإنه ليس‬
‫بينه وبين اهلل حجاب»‪.‬‬
‫فهذا يدل على أن صدقة أغنياء كل قوم ُتردّ على فقراء ذلك القوم‪.‬‬
‫واتفقوا على أنه إذا نقل من بلد إلى بلد آخر ُأ ِّدي مع الكراهة‪ ،‬وسقط الفرض عن ذمته‪ ،‬إال ما ُحكي عن‬
‫عمر بن عبد العزيز رضي اهلل عنه أنه ردّ صدقة حملت من خراسان إلى الشام إلى مكانها من خراسان‪.‬‬

‫‪ .6‬تفسير السيوطي‬
‫ين َو ِفي َس ِبيل ِ‬ ‫اب َو ْال َغ ِ‬
‫ار ِم َ‬ ‫ين عَ لَ ْيهَ ا َو ْال ُمَؤ َّل َف ِة ُق ُلو ُبهُ ْم َو ِفي الرِّ َق ِ‬ ‫اكين ِ َو ْالعَ ِ‬
‫ام ِل َ‬ ‫اء َو ْال َم َس ِ‬
‫ات ِل ْل ُف َق َر ِ‬
‫الصدَ َق ُ‬
‫{ِإ َّن َما َّ‬
‫يم (‪})60‬‬ ‫يم َح ِك ٌ‬ ‫الس ِبيل ِ َف ِر َ‬
‫يض ًة ِم َن اهَّلل ِ َواهَّلل ُ عَ ِل ٌ‬ ‫اهَّلل ِ َوابْن ِ َّ‬
‫أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر قال‪« :‬جاء أعرابي إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم فسأله‬
‫قسما ‪ ،‬فأعرض عنه وجعل يقسم قال‪ :‬أتعطي رعاء الشاء؟ واهلل ما عدلت‪ .‬فقال‪ :‬ويحك‪! ...‬‬ ‫ً‬ ‫وهو يقسم‬
‫من يعدل إذا أنا لم أعدل؟ فأنزل اهلل هذه اآلية {إنما الصدقات للفقراء‪ }...‬اآلية»‪.‬‬
‫وأخرج أبو داود والبغوي في معجمه والطبراني والدارقطني وضعفه عن زياد بن الحارث الصدائي قال‪:‬‬
‫قال رجل يا رسول اهلل أعطني من الصدقة‪ .‬فقال‪« :‬إن اهلل لم يرض بحكم نبي وال غيره في الصدقات‬
‫حتى حكم هو فيها‪ ،‬فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك األجزاء أعطيتك حقك»‪.‬‬
‫وأخرج ابن سعد عن زياد بن الحرث الصدائي قال‪ :‬بينا أنا مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذ جاء‬
‫قوم يشكون عاملهم‪ ،‬ثم قالوا‪ :‬يا رسول اهلل آخذنا بشيء كان بيننا وبينه في الجاهلية‪ ،‬فقال رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ال خير للمؤمن في اِإل مارة‪ ،‬ثم قام رجل فقال‪ :‬يا رسول اهلل أعطني من الصدقة‪.‬‬
‫يك ل قسمها إلى ملك مقرب وال نبي مرسل حتى أجزأها ثمانية أجزاء‪ ،‬فإن كنت جزأ‬ ‫فقال‪ :‬إن اهلل لم ِ‬
‫ً‬
‫غنيا عنها فإنما هي صداع في الرأس وداء في البطن»‪.‬‬ ‫منها أعطيتك وإن كنت‬
‫وأخرج سعيد بن منصور والطبراني وابن مردويه عن موسى بن يزيد الكندي قال‪ :‬كان ابن مسعود‬
‫ال ‪ ،‬فقرأ { إنما الصدقات للفقراء والمساكين} مرسلة‪ ،‬فقال ابن مسعود‪ :‬ما هكذا أقرأنيها النبي‬ ‫يقرىء رج ً‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬فقال‪ :‬وكيف أقرأكها؟ قال‪ :‬أقرأنيها {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} فمدها‪.‬‬
‫وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال‪ :‬نسخت هذه اآلية كل صدقة في القرآن قوله‪{ :‬وآت ذا القربى‬
‫حقه والمسكين وابن السبيل} [ اِإل سراء‪ ]26 :‬وقوله‪{ :‬إن تبدوا الصدقات} [ البقرة‪ ]271 :‬وقوله‪:‬‬
‫{ وفي أموالهم حق للسائل والمحروم} [ الذاريات‪.]19 :‬‬
‫وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‪ { :‬إنما الصدقات للفقراء والمساكين‪ }...‬اآلية‪ .‬قال‪ :‬إنما هذا‬
‫ً‬
‫صنفا منها أجزاك‪.‬‬ ‫شيء أعلمه اهلل إياه لهم‪ ،‬فأيما أعطيت‬
‫وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وأبو الشيخ عن حذيفة في قوله‪{ :‬إنما الصدقات للفقراء‪ }...‬اآلية‪ .‬قال‪:‬‬
‫إن شئت جعلتها في صنف واحد من األصناف الثمانية الذين سمى اهلل أو صنفين أو ثالثة‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي العالية قال‪ :‬ال بأس أن تجعلها في صنف واحد مما قال اهلل‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي شيبة وأبو الشيخ عن الحسن وعطاء وإبراهيم وسعيد بن جبير‪ .‬مثله‪.‬‬
‫الطوافون‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وأخرج ابن المنذر والنحاس عن ابن عباس قال‪ :‬الفقراء فقراء المسلمين‪ ،‬والمساكين‬
‫وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس وأبو الشيخ عن قتادة قال‪ :‬الفقير الذي به‬
‫زمانة‪ ،‬والمسكين المحتاج الذي ليس به زمانة‪.‬‬
‫مر برجل من أهل الكتاب مطروح على‬ ‫وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب‪ .‬أنه َّ‬
‫علي بشيء‪ .‬فقال عمر‪ :‬ما‬ ‫باب فقال‪ :‬استكدوني وأخذوا مني الجزية حتى كف بصري‪ ،‬فليس أحد يعود َّ‬
‫إذا ‪ ،‬ثم قال‪ :‬هذا من الذين قال اهلل‪{ :‬إنما الصدقات للفقراء والمساكين} ثم أمر له أن يرزق‬ ‫أنصفنا ً‬
‫ويجري عليه‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي شيبة عن عمر في قوله‪{ :‬إنما الصدقات للفقراء والمساكين} قال‪ :‬هم َز ْمنى أهل الكتاب‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال‪ :‬ال يعطي المشركون من الزكاة وال من شيء من الكفارات‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال‪ :‬ليس بفقير من جمع الدرهم إلى الدرهم وال التمرة إلى التمرة‪،‬‬
‫إنما الفقير من انقى ثوبه ونفسه ال يقدر على غنى {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف} [ البقرة‪:‬‬
‫‪.]273‬‬
‫وأخرج ابن أبي شيبة عن جابر بن زيد قال‪ :‬الفقراء المتعففون‪ ،‬والمساكين الذين يسألون‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي شيبة عن الزهري‪ .‬أنه سئل عن هذه اآلية فقال‪ :‬الفقراء الذين في بيوتهم وال يسألون‪،‬‬
‫والمساكين الذي يخرجون فيسألون‪.‬‬
‫فقيرا وهو بين ظهري قومه وعشريته وذوي‬ ‫ً‬ ‫وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال‪ :‬الفقير‪ ،‬الرجل يكون‬
‫قرابته وليس له مال‪ ،‬والمسكين الذي ال عشيرة له وال قرابة وال رحم وليس له مال‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي شيبة عن الضحاك في اآلية قال‪ :‬الفقراء الذين هاجروا‪ ،‬والمساكين الذين لم يهاجروا‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير قال‪ :‬يعطي من الزكاة من له الدار والخادم والفرس‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي شيبة عن إبراهيم رضي اهلل عنه قال‪ :‬كانوا ال يمنعون الزكاة من له البيت والخادم‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي اهلل عنهما في قوله‪{ :‬والعاملين عليها} قال‪ :‬السعاة أصحاب‬
‫الصدقة‪.‬‬
‫وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن الضحاك رضي اهلل عنه قال‪ :‬يعطي كل عامل بقدر عمله‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي شيبة عن رافع بن خديج رضي اهلل عنه «سمعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪:‬‬
‫العامل على الصدقة بالحق كالغازي حتى يرجع إلى بيته»‪.‬‬
‫وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس رضي اهلل عنهما في قوله‪{ :‬والمؤلفة قلوبهم} قال‪ :‬هم‬
‫قوم كانوا يأتون رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد أسلموا‪ ،‬وكان يرضخ لهم من الصدقات‪ ،‬فإذا‬
‫ً‬
‫خيرا قالوا‪ :‬هذا دين صالح‪ ،‬وإن كان غير ذلك‪ ،‬عابوه وتركوه‪.‬‬ ‫أعطاهم من الصدقة فأصابوا منها‬
‫وأخرج البخاري وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري رضي اهلل عنه قال‪« :‬بعث علي بن‬
‫أبي طالب رضي اهلل عنه من اليمن إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم بذهيبة فيها تربتها‪ ،‬فقسمها بين‬
‫أربعة من المؤلفة‪ :‬األقرع بن حايس الحنظلي‪ ،‬وعلقمة بن عالثة العامري‪ ،‬وعينية بن بدر الفزاري‪ ،‬وزيد‬
‫الخيل الطائي‪ .‬فقالت قريش واألنصار‪ :‬أيقسم بين صناديد أهل نجد ويدعنا؟ فقال النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ :‬إنما أتالفهم»‪.‬‬
‫وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن يحيى بن أبي كثير رضي اهلل عنه قال‪:‬‬
‫«المؤلفة قلوبهم‪ :‬من بني هاشم أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ومن بني أمية أبو سفيان بن‬
‫حرب‪ ،‬ومن بني مخزوم الحارث بن هشام وعبد الرحمن بن يربوع‪ ،‬ومن بني أسد حكيم بن حزام‪ ،‬ومن‬
‫بني عامر سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزي‪ ،‬ومن بني جمح صفوان بن أمية‪ ،‬ومن بني سهم عدي‬
‫بن قيس‪ ،‬ومن ثقيف العالء بن حارثة أو حارثة‪ ،‬ومن بني فزارة عينية بن حصن‪ ،‬ومن بني تميم األقرع‬
‫بن حابس‪ ،‬ومن بني نصر مالك بن عوف‪ ،‬ومن بني سليم العباس بن مرداس‪ .‬أعطى النبي صلى اهلل‬
‫عليه وسلم كل رجل منهم مائة ناقة مائة ناقة إال عبد الرحمن بن يربوع وحويطب بن عبد العزى‪ ،‬فإنه‬
‫أعطى كل واحد منهما خمسين»‪.‬‬
‫وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن رضي اهلل عنه قال‪ :‬المؤلفة قلوبهم الذين‬
‫يدخلون في اِإل سالم إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك قال‪ :‬المؤلفة قلوبهم قوم من وجوه العرب‪ ،‬يقدمون عليه‬
‫فينفق عليهم منها ما داموا حتى يسلموا أو يرجعوا‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن جبير قال‪ :‬ليس اليوم مؤلفة‬
‫قلوبهم‪.‬‬
‫وأخرج البخاري في تاريخه وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الشعبي رضي اهلل عنه قال‪:‬‬
‫ليست اليوم مؤلفة قلوبهم‪ ،‬إنما كان رجال يتألفهم النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فلما أن كان أبو بكر‬
‫رضي اهلل عنه قطع الرشا في اِإل سالم‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي حاتم عن عبيدة السلماني قال‪ :‬جاء عينية بن حصن واألقرع بن حابس إلى أبي بكر‬
‫ً‬
‫أرضا سبخة ليس فيها كأل وال منفعة‪ ،‬فإن‬ ‫فقاال‪ :‬يا خليفة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ان عندنا‬
‫ً‬
‫كتابا‬ ‫رأيت أن تعطيناها لعلنا نحرثها ونزرعها ولعل اهلل أن ينفع بها‪ .‬فاقطعهما إياها وكتب لهما بذلك‬
‫واشهد لهما‪ ،‬فانطلقا إلى عمر ليشهداه على ما فيه‪ ،‬فلما قرآ على عمر ما في الكتاب تناوله من أيديهما‬
‫فتفل فيه فمجاه‪ ،‬فتذمرا وقاال له مقالة سيئة‪ ،‬فقال عمر‪ :‬إن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان‬
‫يتألفهما واِإل سالم يومئذ قليل‪ ،‬وإن اهلل قد أعز اِإل سالم فاذهبا فاجهد جهدكما ال أرعى اهلل عليكما إن‬
‫أرعيتما‪.‬‬
‫وأخرج ابن سعد عن أبي وائل‪ .‬أنه قيل له‪ :‬ما أصنع بنصيب المؤلفة؟ قال‪ :‬زده على اآلخرين‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله‪{ :‬وفي الرقاب} قال‪ :‬هم المكاتبون‪.‬‬
‫وأخرج ابن المنذر عن إبراهيم النخعي قال‪ :‬ال يعتق من الزكاة رقبة تامة ويعطى في رقبة‪ ،‬وال بأس بأن‬
‫ً‬
‫مكاتبا‪.‬‬ ‫يعين به‬
‫وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عمر بن عبد العزيز قال‪ :‬سهم الرقاب نصفان‪ ،‬نصف لكل مكاتب‬
‫ممن يدَّ عي اِإل سالم‪ ،‬والنصف الباقي يشتري به رقاب ممن صلى وصام وقدم إسالمه من ذكر أو أنثى‬
‫يعتقون هلل‪.‬‬
‫بأسا أن يعطي الرجل من زكاته في‬‫ً‬ ‫وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس‪ .‬أنه كان ال يرى‬
‫الحج‪ ،‬وأن يعتق منها رقبة‪.‬‬
‫وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن ابن عباس رضي اهلل عنهما قال‪ :‬أعتق من زكاة مالك‪.‬‬
‫ً‬
‫بأسا أن يشتري الرجل من زكاة ماله نسمة‬ ‫وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن الحسن‪ :‬أنه كان ال يرى‬
‫فيعتقها‪.‬‬
‫وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن المنذر عن إبراهيم النخعي قال‪ :‬يعان فيها الرقبة وال يعتق‬
‫منها‪.‬‬
‫وأخرج أبو عبيد وابن أبي شيبة وابن المنذر عن سعيد بن جبير رضي اهلل عنه قال‪ :‬ال تعتق من زكاة‬
‫مالك فإنه يجر الوالء‪ .‬قال أبو عبيد‪ :‬قول ابن عباس أعلى ما جاءنا في هذا الباب‪ ،‬وهو أولى باالتباع‬
‫وأعلم بالتأويل‪ ،‬وقد وافقه عليه كثير من أهل العلم‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي شيبة عن الزهري‪ .‬أنه سئل عن الغارمين‪ .‬قال‪ :‬أصحاب الدين‪ ،‬وابن السبيل وإن كان‬
‫ً‬
‫غنيا‪.‬‬
‫وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله‪{ :‬والغارمين} قال‪:‬‬
‫من احترق بيته‪ ،‬وذهب السيل بماله‪ ،‬وادّ ان على عياله‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي جعفر في قوله‪{ :‬والغارمين} قال‪:‬‬
‫المستدينين في غير فساد {وابن السبيل} قال‪ :‬المجتاز من أرض إلى أرض‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله‪ { :‬والغارمين} قال‪ :‬هو الذي يسأل في دم أو جائحة تصيبه‬
‫{ وفي سبيل اهلل} قال‪ :‬هم المجاهدون {وابن السبيل} قال‪ :‬المنقطع به يعطي قدر ما يبلغه‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله‪{ :‬وفي سبيل اهلل} قال‪ :‬الغازي في سبيل اهلل‬
‫{وابن السبيل} قال‪ :‬المسافر‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‪ :‬ابن السبيل هو قال‪ :‬الغازي في سبيل اهلل {وابن السبيل} قال‪:‬‬
‫المسافر‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‪ :‬ابن السبيل هو الضيف الفقير الذي ينزل بالمسلمين‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي شيبة عن الضحاك في رجل سافر وهو غني‪ ،‬فنفد ما معه في سفره فاحتاج قال‪ :‬يعطى‬
‫من الصدقة في سفره ألنه ابن سبيل‪.‬‬
‫وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‪{ :‬وفي سبيل اهلل} قال‪ :‬حمل‬
‫الرجل في سبيل اهلل من الصدقة { وابن السبيل} قال‪ :‬هو الضيف والمسافر إذا قطع به وليس له شيء‬
‫{ فريضة من اهلل واهلل عليم حكيم} قال‪ :‬ثمانية أسهم فرضهن اهلل وأعلمهن‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود وابن ماجة وابن المنذر وابن مردويه عن أبي سعيد قال‪ :‬قال رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ال تحل الصدقة لغني إال لخمسة‪ :‬لعامل عليها‪ ،‬أو رجل اشتراها بماله‪ ،‬أو غارم‪ ،‬أو‬
‫غاز في سبيل اهلل‪ ،‬أو مسكين تصدق عليه فأهدى منها الغني»‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجة والنحاس في ناسخه عن ابن مسعود قال‪:‬‬
‫ً‬
‫خموشا أو‬ ‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬من سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة‬
‫ً‬
‫درهما‪ ،‬أو قيمتها من الذهب»‪.‬‬ ‫ً‬
‫كدوحا‪ .‬قالوا‪ :‬يا رسول اهلل وماذا يغنيه؟ قال‪ :‬خمسون‬
‫وأخرج أبو الشيخ عن عبداهلل بن عمر‪ .‬أنه سئل عن مال الصدقة فقال‪ :‬شر مال‪ ،‬إنما هو مال الكسحان‬
‫حقا‪ ،‬وللمجاهدين في سبيل اهلل‪ .‬قال‪ :‬أما‬ ‫والعرجان والعميان وكل منقطع به‪ .‬قيل‪ :‬فإن للعاملين عليها ً‬
‫العاملون فلهم بقدر عمالتهم‪ ،‬وأما المجاهدون في سبيل اهلل فقوم أحل لهم أن الصدقة ال تحل لغني‪ ،‬وال‬
‫لذي مرة سوى‪.‬‬
‫وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي اهلل عنهما قال‪« :‬فرض رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الصدقة في ثمانية أسهم‪ .‬ففرض في الذهب‪ ،‬والورق‪ ،‬واِإل بل‪ ،‬والبقر‪ ،‬والغنم‪ ،‬والزرع‪ ،‬والكرم‪ ،‬والنخل‪،‬‬
‫ثم توضع في ثمانية أسهم‪ .‬في أهل هذه اآلية {إنما الصدقات للفقراء‪ }...‬اآلية كلها»‪.‬‬
‫وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬خففوا على المسلمين في‬
‫خرصكم فإن فيه العرايا‪ ،‬وفيه الوصايا‪ ،‬فأما العرايا فالنخلة والثالث واألربع وأقل من ذلك وأكثر‪،‬‬
‫يمنحها الرجل أخاه ثمرتها فيأكلها هو وعياله‪ ،‬وأما الوصايا فثمانية أسهم {إنما الصدقات للفقراء‬
‫والمساكين} إلى قوله‪{ :‬واهلل عليم حكيم}»‪.‬‬
‫وأخرج أحمد عن رجل من بني هالل قال‪ :‬سمعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪« :‬ال تحل‬
‫الصدقة لغني‪ ،‬وال ذي مرة سوى»‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي عن عبداهلل بن عمر عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬ال‬
‫تحل الصدقة لغني‪ ،‬وال لذي مرة سوى»‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي عن عبيداهلل بن عدي بن الخيار قال‪« :‬أخبرني رجالن أنهما‬
‫أتيا النبي صلى اهلل عليه وسلم في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة‪ ،‬فسأاله منها‪ .‬فرفع فينا البصر‬
‫حظ فيها لغني‪ ،‬وال لقوي مكتسب»‪.‬‬ ‫وخفضه فرآنا جلدين‪ ،‬فقال‪ :‬إن شئتما أعطيتكما وال َّ‬

‫‪ .7‬تفسير الثعالبي‬
‫{ ولو أنهم رضوا} يعني ولو أن المنافقين الذين عابوا عليك رضوا بما قسم اهلل لهم وقنعوا {ما آتاهم‬
‫اهلل ورسوله وقالوا حسبنا اهلل} أي كافينا اهلل { سيؤتينا اهلل من فضله ورسوله} يعني إليه {إنا إلى اهلل‬
‫راغبون} يعني في أن يوسع علينا من فضله فيغنينا عن الصدقة وعن غيرها من أموال الناس وجواب‬
‫ً‬
‫خيرا لهم وأعود عليهم‪.‬‬ ‫لو محذوف تقديره لكان‬
‫قوله عز وجل‪ { :‬إنما الصدقات للفقراء والمساكين} اآلية اعلم أن المنافقين لما لمزو رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم وعابوه في قسم الصدقات َّبين اهلل عز وجل في هذه اآلية إن المستحقين للصدقات هؤالء‬
‫األصناف الثمانية ومصرفها إليهم وال تعلن لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم منها بشيء ولم يأخذ لنفسه‬
‫شيئا فلم يلمزونه ويعيبون عليه فال مطعن لهم فيه بسبب قسم الصدقات‪ .‬عن زياد بن الحرث‬ ‫ً‬ ‫منها‬
‫الصدائي قال‪ :‬أتيت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فبايعته فأتاه رجل فقال أعطني من الصدقة فقال‬
‫له رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إن اهلل لم يرض بحكم نبي وال غيره في الصدقات حتى حكم فيها‬
‫هو فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك األجزاء أعطيتك حقك» أخرجه أبو داود‪.‬‬
‫فصل في بيان حكم هذه اآلية وفيه مسائل‪:‬‬
‫المسألة األولى‪ :‬في بيان وجه الحكمة في إيجاب الزكاة على اإلغنياء وصرفها إلى المحتاجين من الناس‬
‫وذلك من وجوه‪ ،‬الوجه األول أو المال محبوب بالطبع وسببه أن القدرة صفة من صفات الكمال محبوبة‬
‫ً‬
‫محبوبا بالطبع فإذا استغرق القلب في حب المال‬ ‫لذاتها والمال سبب لتحصيل تلك القدرة فكان المال‬
‫اشتغل به عن حب اهلل عز وجل وعن االشتغال بالطاعات المقربة إلى اهلل عز وجل فاقتضت الحكمة‬
‫سببا للقرب من اهلل عز وجل‬‫ً‬ ‫اإللهية إيجاب الزكاة في ذلك المال الذي هو سبب البعد عن اهلل فيصير‬
‫بإخراج الزكاة منه‪ .‬الوجه الثاني‪ :‬إن كثرة المال توجب قسوة القلب وحب الدنيا والميل إلى شهواتها‬
‫ولذاتها فأوجب اهلل سبحانه وتعالى الزكاة ليقل ذلك المال الذي هو سببب لقساوة القلب‪ .‬الوجه الثالث‬
‫سبب وجوب الزكاة امتحان العبد المؤمن ألن التكاليف البدنية غير شاقة على العبد وإخراج المال مشق‬
‫على النفس فأوجب اهلل عز وجل الزكاة على العباد ليمتحن بإخراج الزكاة أصحاب األموال لتميز بذلك‬
‫المطيع المخرج لها طيبة بها نفسه من العاصي المانع لها‪ .‬الوجه الرابع أن المال مال اهلل واألغنياء خزان‬
‫اهلل والفقراء عيال اهلل فأمر اهلل سبحانه وتعالى خزانه الذين هم أغنياء بدفع طائفة من ماله إلى عياله‬
‫فيثيب العبد المؤمن المطيع المسارع إلى امتثال المشفق على عياله ويعاقب العبد العاصي المانع لعياله‬
‫من ماله‪.‬‬
‫( ق) عن أبي موسى األشعري عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬إن الخازن المسلم األمين الذي ينفذ‬
‫ً‬
‫موفرا طيبة به نفسه فيدفعه إلى الذي أمر له به أحد‬ ‫وربما قال يعطي ما أمر به فيعطيه كام ً‬
‫ال‬
‫المتصدقين» الوجه الخامس أن الفقراء ربما تعلقت قلوبهم باألموال التي بأيدي األغنياء فأوجب اهلل عز‬
‫تطييبا لقلوبهم‪ .‬الوجه السادس أن المال الفاضل عن حاجة اإلنسان‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫نصيبا للفقراء في ذلك المال‬ ‫وجل‬
‫ال عن المقصود الذي ألجله خلق المال فأمر بدفع الزكاة إلى الفقراء حتى ال‬ ‫األصلية إذا أمسك بقي معط ً‬
‫يصير ذلك المال معط ً‬
‫ال بالكلية‪.‬‬
‫المسألة الثانية‪ :‬اآلية تدل على أنه ال حق ألحد في الصدقات إال هؤالء األصناف الثمانية وذلك مجمع‬
‫عليه ألن كلمتي إنما تفيدان الحصر وذلك ألنها مركبة من إن وما فكلمة إن لإلثبات وكلمة ما للنفي فعند‬
‫اجتماعهما يفيدان الحكم المذكور وصرفه عما عداه فدل ذلك على أن الصدقات ال تصرف إال إلى‬
‫األصناف الثمانية‪.‬‬
‫المسألة الثالثة‪ :‬في بيان األصناف الثمانية فالصنف األول للفقراء والثاني للمساكين وهم المحتاجون‬
‫الذين ال يفي خرجهم بدخلهم ثم اختلف العلماء في الفرق بين الفقير والمسكين فقال ابن عباس‬
‫والحسن ومجاهد وعكرمة والزهري‪ :‬الفقير الذي ال يسأل والمسكين السائل وقال ابن عمر‪ :‬ليس بفقير‬
‫من جمع الدرهم إلى الدرهم والتمر إلى التمرة ولكن الفقير من أنقى نفسه وثيابه وال يقدر على الشيء‬
‫يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف‪ .‬وقال قتادة‪ :‬الفقير المحتاج الزمن والمسكين الصحيح المحتاج‬
‫ً‬
‫زمنا كان أو غير زمن‬ ‫ً‬
‫موقعا‬ ‫وقال الشافعي رضي اهلل تعالى عنه‪ :‬الفقير من ال مال له وال حرفة تقع منه‬
‫ال كان أو غير سائل فالمكسين عنده‬ ‫ً‬
‫موقعا لكفايته سائ ً‬ ‫والمسكين من له مال أو حرفة ولكن ال تقع منه‬
‫أحسن حاالً من الفقير‪ .‬وقال أبو حنيفة‪ ،‬وأصحاب الرأي‪ :‬الفقير أحسن حاالً من المسكين ومن الناس من‬
‫قال ال فرق بين الفقير والمسكين حجة الشافعي ومن وافقه أن اهلل سبحانه وتعالى حكم بصرف‬
‫ال لمصلحتهم فبدأ بالفقر وإنما يبدأ فاألهم‬ ‫دفعا لحاجتهم وتحصي ً‬‫ً‬ ‫الصدقات إلى هؤالء األصناف الثمانية‬
‫فلو لم تكن حاجتهم أشد من حاجة المساكين لما بدأ بهم وأصل الفقير المكسور الفقار قال لبيد‪:‬‬
‫لما رأى لبد النسور تطايرت *** رفع القوادم كالفقير األعزل‬
‫ً‬
‫فقيرا لزمانته‬ ‫قال ابن األعرابي‪ :‬الفقير في هذا البيت المكسور الفقار فثبت بهذا أن الفقير إنما سمي‬
‫وحاجته الشديدة وتمنعه الزمانة من التقلب في الكسب وألن النبي صلى اهلل عليه وسلم كان يتعوذ من‬
‫مسكينا واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة» رواه‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مسكينا وأمتني‬ ‫الفقر وقال‪« :‬اللهم أحيني‬
‫الترمذي من حديث أنس فلو كان المسكين أسوأ حاالً من الفقير لما تعوذ من الفقر وسأل المسكنة فثبت‬
‫بهذا أن المسكين أحسن حاالً من الفقير وألن اهلل سبحانه وتعالى قال أما السفينة فكانت لمساكين‬
‫ملكا مع اسم المسكنة ألن السفينة من سفن البحر تساوي دنانير كثيرة‬ ‫ً‬ ‫يعملون في البحر فأثبت لهم‬
‫وألن الغنى والفقر ضدان والمسكنة قسم ثالث بينهما فثبت بهذا أن الفقير أسوأ حاالً من المسكين‬
‫ً‬
‫مسكينا ذا متربة وصف‬ ‫وحجة أبي حنيفة ومن وافقه على أن المسكين أسوأ حاالً من الفقير قوله أو‬
‫المسكين بكونه ذا متربة وهو الذي لصق جلده بالتراب وهذا يدل على غاية الضر والشدة وألن اهلل‬
‫ً‬
‫أيضا‬ ‫تعالى جعل الكفارات للمساكين فلو لم يكن المسكين أشد حاجة من غيره لما جعلها له واحتج‬
‫بقول الراعي‪:‬‬
‫أما الفقير الذي كانت حلوبته *** وفق العيال فلم يترك له سبد‬
‫أيضا بقول األصمعي وأبي عمرو بن العالء أن الفقير الذي له ما يأكل والمسكين الذي ال شيء له‬ ‫ً‬ ‫واحتج‬
‫وكذا قال القتيبي‪ :‬الفقير الذي له البلغة من العيش والمسكين الذي ال شيء له وقيل‪ :‬الفقير الذي له‬
‫ً‬
‫غنيا‬ ‫المسكن والخادم والمسكين الذي ال ملك له وقيل‪ :‬إن كل محتاج إلى شيء فهو مفتقر إليه وإن كان‬
‫عن غيره قال اهلل سبحانه وتعالى‪ { :‬أنتم الفقراء إلى اهلل} فأثبت لهم اسم الفقر مع وجدان المال‬
‫مسكينا ذا متربة فهو حجة لمذهب اإلمام الشافعي رضي اهلل‬ ‫ً‬ ‫والجواب عن هذه الحجج أما قوله أو‬
‫تعالى عنه ألنه قيد المسكين المذكور هنا بكونه ذا متربة فدل على أنه قد يوجد مسكين ال بهذه الصفة‬
‫وإال لم يبق لهذا القيد فائدة والجواب عن جعل الكفارات للمسكين أنه هو الفقير الذي لصق جلده‬
‫بالتراب من شدة المسكنة والجواب عن االستدالل ببيت الراعي إنه ذكر الفقير وجده فكل فقير أفرد‬
‫باالسم جاز إطالق المسكين عليه فسقط االستدالل به وأما الروايات المذكورة فهي معارضة بما تقدم‬
‫من الروايات عن ابن عباس وغيره من المفسرين‪ .‬وبالجملة أن الفقر والمسكنة عبارتان عن شدة الحاجة‬
‫وضعف الحال فالفقير هو الذي كسرت الحاجة فقار ظهره والمسكين هو الذي ضعفت نفسه وسكنت عن‬
‫الحركة في طلب القوت‪ .‬عن عبد اهلل بن عمرو بن العاص أن رسول اهلل صلى اهلل عيله وسلم قال‪« :‬ال‬
‫تحل الصدقة لغني وال لذي مرة سوي» أخرجه النسائي وأبو داود وله في رواية أخرى «وال لذي مرة‬
‫قوي» عن عبيد اهلل بن عدي بن الخيار قال‪« :‬أخبرني رجالن أنهما أتيا النبي صلى اهلل عليه وسلم وهو‬
‫في حجة الوداع وهو يقسم الصدقات فسأاله منها فرفع فينا النظر وخفضه فرآنا جلدين فقال إن شئتما‬
‫أعطيتكما وال حظ فيها لغني وال لقوي مكتسب» أخرجه أبو داود والنسائي وأخرجه الشافعي ولفظه‬
‫«أن رجلين أتيا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فسأاله عن الصدقة فقال‪ :‬إن شئتما أعطيتكما والحظ‬
‫فيها لغني وال لذي قوة مكتسب» واختلف العلماء في حد الغنى الذي يمنع من أخذ الصدقة فقال‬
‫األكثرون حده أن يكون عنده ما يكفيه وعياله سنة وهو قول مالك والشافعي‪ .‬وقال أصحاب الرأي‪:‬‬
‫درهما أو قيمتها ال تحل له الصدقة لما روي عن‬ ‫ً‬ ‫حده أن يملك مائتي درهم‪ .‬وقال قوم‪ :‬من ملك خمسين‬
‫ابن مسعود قال قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة‬
‫ً‬
‫درهما أو‬ ‫ومسألته في وجه خموش أو خدوش أو كدوح قيل يا رسول اهلل وما يغنيه قال‪ :‬خمسون‬
‫قيمتها من الذهب» أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وهذا قول الثوري وابن المبارك وأحمد‬
‫ً‬
‫درهما لما‬ ‫ً‬
‫درهما من الزكاة وقيل‪ :‬أربعين‬ ‫وإسحاق‪ .‬وقالوا‪ :‬ال يجوز أن يعطى الرجل أكثر من خمسين‬
‫روي عن أبي سعيد الخدري قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم «من سأل وله قيمة أوقية فقد‬
‫ً‬
‫درهما الصنف الثالث قوله سبحانه‬ ‫ألحف» أخرجه أبو داود وكانت األوقية في ذلك الزمان أربعين‬
‫وتعالى‪ { :‬والعالمين عليها} وهم السعاة الذين يتولون جباية الصدقات وقبضها من أهلها ووضعها في‬
‫جهتها فيعطون من مال الصدقات بقدر أجور أعمالهم سواء كانوا فقراء أو أغنياء وهذا قول ابن عمر‬
‫وبه‪ .‬قال الشافعي وقال مجاهد والضحاك‪ :‬يعطون الثمن من الصدقات‪ .‬وظاهر اللفظ مع مجاهد إال أن‬
‫الشافعي يقول‪ :‬هو وأجره عمل تقدر بقدر العمل والصحيح أن الهاشمي والمطلبي ال يجوز أن يكون‬
‫ال من بني‬‫ال على الصدقات لما روي عن أبي رافع أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم استعمل رج ً‬ ‫عام ً‬
‫مخزوم على الصدقة فأراد أبو رافع أن يتبعه فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ال تحل لنا الصدقة‬
‫وأن مولى القوم منهم» أخرجه الترمذي والنسائي الصنف الرابع قوله تعالى‪{ :‬والمؤلفة قلوبهم} وهم‬
‫قسمان‪ :‬قسم مسلمون وقسم كفار فأما قسم المسلمين فقسمان القسم األول هم قوم من أشراف العرب‬
‫كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يعطيهم من الصدقات يتألفهم بذلك كما أعطى عيينة بن حصن‬
‫واألقرع بن حابس والعباس بن مرداس السلمي فهؤالء أسلموا وكانت نيتهم ضعيفة فكان رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم يعطيهم لتقوى رغبتهم في اإلسالم وقوم أسلموا وكانت نيتهم قوية في اإلسالم‬
‫وهم أشراف قومهم مثل عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر فكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يعطيهم‬
‫ترغيبا ألمثالهم في اإلسالم فيجوز لإلمام أن يعطي أمثال هؤالء من خمس خمس الغنيمة‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫تألفا لقومهم‬
‫ً‬
‫أيضا‪.‬‬ ‫والفيء من سهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان يعطيهم من ذلك ومن الصدقات‬
‫القسم الثاني من مؤلفة المسلمين هم قوم من المسلمين يكونون بإزاء قوم كفار في موضع ال تبلغهم‬
‫جيوش المسلمين إال بكلفة كبيرة ومؤنة عظيمة وهؤالء الذين بإزائهم من المسلمين ال يجاهدونهم‬
‫لضعف نيتهم أو لضعف حالهم فيجوز لإلمام أن يعطيهم من سهم الغزاة من مال الصدقة وقيل من سهم‬
‫المؤلفة قلوبهم ومن هؤالء قوم بإزاء جماعة من مانعي الزكاة فيأخذون منهم الزكاة ويحملونها إلى‬
‫اإلمام فيعطيهم اإلمام من سهم المؤلفة من الصدقات وقيل من سهم سبيل اهلل‪ .‬روي أن عدي بن حاتم‬
‫ً‬
‫بعيرا وأما مؤلفة الكفار فهم‬ ‫جاء أبا بكر بثلثمائة من اإلبل من صدقات قومه فأعطاه أبو بكر منها ثالثين‬
‫قوم يخشى شرهم أو يرجى إسالمهم فيجوز لإلمام أن يعطي من يخاف شره أو يرجو إسالمه فقد كان‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يعطيهم من خمس الخمس كما أعطى صفوان بن أمية لما كان يرى من‬
‫ميله إلى اإلسالم أما اليوم فقد أعز اهلل اإلسالم وله الحمد على ذلك وأغناه عن أن يتألف عليه أحد من‬
‫ً‬
‫تألفا بحال وقد قال بهذا كثير من أهل العلم ورأوا أن المؤلفة منقطعة‬ ‫المشركين فال يعطى مشرك‬
‫وسهمهم ساقط يروى ذلك عن ابن عمر وعكرمة وهو قول الشعبي وبه قال مالك والثوري وأصحاب‬
‫الرأي وإسحاق بن راهويه‪ .‬وقال قوم‪ :‬سهمهم ثابت لم يسقط‪ .‬يروى ذلك عن الحسن وهو قول الزهري‬
‫وأبي جعفر محمد بن علي وأبي ثور وقال أحمد يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك الصنف الخامس‬
‫قوله سبحانه وتعالى‪ { :‬وفي الرقاب} قال الزجاج‪ :‬فيه حذف تقديره وفي فك الرقاب وفي تفسير‬
‫الرقاب أقوال األول أن سهم الرقاب موضوع في المكاتبين فيدفع إليهم ليعتقوا به وهذا مذهب‬
‫الشافعي رضي اهلل تعالى عنه وهو قول أكثر الفقهاء منهم سعيد بن جبير والنخعي والزهري والليث بن‬
‫ً‬
‫أيضا قوله تعالى وآتوهم من مال اهلل الذي آتاكم‪ ،‬القول الثاني وهو مذهب مالك‬ ‫سعد ويدل عليه‬
‫وأحمد وإسحاق أن سهم الرقاب موضوع لعتق الرقاب فيشترى به عبيد ويعتقون ويدل عليه ما روي‬
‫عن ابن عباس أنه قال ال بأس أن يعتق الرجل من الزكاة القول الثالث وهو قول أبي حنيفة وأصحابه‬
‫أنه ال يعتق من الزكاة رقبة كاملة لكن يعطي منها في عتق رقبة ويعان بها مكاتب ألن قوله في الرقاب‬
‫يقتضي التبعيض‪ .‬القول الرابع وهو قول الزهري أن سهم الرقاب نصفان نصف للمكاتبين ونصف يشترى‬
‫به عبيد ممن صلوا وصاموا وقدم إسالمهم فيعقتوا من الزكاة‪ .‬قال أصحابنا‪ :‬األحوط في سهم الرقاب‬
‫أن يدفع إلى السيد بإذن المكاتب ويدل عليه أنه سبحانه وتعالى أثبت الصدقات لألصناف األربعة‬
‫المتقدمة بالم الملك فقال‪ :‬إنما الصدقات للفقراء‪.‬‬
‫وقال‪ :‬في الصنف الخامس وفي الرقاب فال بد لهذا الفرق من فائدة وهي أن األصناف األربعة المتقدم‬
‫ذكرها يدفع إليهم نصيبهم من الصدقات فيصرفون ذلك فيما شاؤوا وأما الرقاب فيوضع نصيبهم في‬
‫تخليص رقابهم من الرق وال يدفع إليهم وال يمكنون من التصرف فيه وكذا القول في الغارمين فيصرف‬
‫نصيبهم في قضاء ديونهم وفي الغزاة يصرف نصيبهم فيما يحتاجون إليه في الغزو وكذا ابن السبيل‬
‫فيصرف إليه ما يحتاج إليه في سفره إلى بلوغ غرضه الصنف السادس قوله سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫ً‬
‫شاقا على اإلنسان‬ ‫ً‬
‫غرما لكونه‬ ‫{ والغارمين} أصل الغرم في اللغة لزوم ما يشق عليه النفس وسمى الدين‬
‫والمراد بالغارمين هنا المدينون وهم قسمان أدانوا ألنفسهم في غير معصية فيعطون من مال الصدقات‬
‫بقدر ديونهم إذا لم يكن لهم مال يفي بدينونهم فإن كان عندهم وفاء فال يعطون وقسم أدانوا في‬
‫المعروف وإصالح ذات البين فيعطون من مال الصدقات ما يقضون به دينهم وإن كانوا أغنياء لما روي‬
‫عن عطاء بن يسار أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬ال تحل الصدقة لغني إال لخمسة لغاز في‬
‫سبيل اهلل أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل أسير إعانة أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على‬
‫ال ألن عطاء بن يسار لم يدرك النبي صلى اهلل‬‫المسكين فأهدى المسكين للغني» أخرجه أبو داود مرس ً‬
‫عليه وسلم ورواه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى اهلل‬
‫ً‬
‫شيئا الصنف السابع قوله‬ ‫ال بمعناه أما من كان دينه في معصية فال يعطى من الصدقات‬ ‫عليه وسلم متص ً‬
‫تعالى‪ { :‬وفي سبيل اهلل} يعني وفي النفقة في سبيل اهلل وأراد به الغزاة فلهم سهم من مال الصدقات‬
‫فيعطون إذا أرادوا الخروج إلى الغزو ما يستعينون به على أمر الجهاد من النفقة والكسوة والسالح‬
‫فيعطون ذلك وإن كانوا أغنياء لما تقدم من حديث عطاء وأبي سعيد الخدري وال يعطى من سهم اهلل‬
‫لمن أراد الحج عند أكثر أهل العلم وقال قوم يجوز أن يصرف سهم سبيل اهلل إلى الحج يروى ذلك عن‬
‫ابن عباس وهو قول الحسن وإليه ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وقال بعضهم‪ :‬إن اللفظ عام‬
‫فال يجوز قصره على الغزاة فقط ولهذا أجاز بعض الفقهاء صرف سهم سبيل اهلل إلى جميع وجوه الخير‬
‫من تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد وغير ذلك قال ألن قوله وفي سبيل اهلل‬
‫عام في الكل فال يختص بصنف دون غيره والقول األول هو الصحيح إلجماع الجمهور عليه‪ .‬الصنف‬
‫الثامن قوله سبحانه وتعالى‪ { :‬وابن السبيل} يعني المسافر من بلد إلى بلد والسبيل الطريق سمي‬
‫المسافر ابن السبيل لمالزمته الطريق قال الشاعر‪:‬‬
‫وليدا *** إلى أن شبت واكتهلت لداتي‬‫ً‬ ‫أنا ابن الحرب ربتني‬
‫مباحا ولم يكن له ما يقطع به مسافة سفره يعطى من الصدقات ما يكفيه لمؤنة سفره‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫سفرا‬ ‫فكل مريد‬
‫سواء كان له مال في البلد الذي يقصده أو لم يكن له مال‪ ،‬وقال قتادة‪ :‬ابن السبيل هو الضيف وقال‬
‫فقهاء العراق‪ :‬ابن السبيل هو الحاج المنقطع‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬فريضة من اهلل} يعني أن هذه األحكام التي ذكرها في اآلية فريضة واجبة من اهلل وقيل‬
‫فرض اهلل هذه األشياء فريضة { واهلل عليم} يعني بمصالح عباده {حكيم} يعني فيما فرض لهم ال‬
‫يدخل في تدبيره وحكمه نقض وال خلل‪.‬‬
‫المسألة الرابعة‪ :‬في أحكام متفرقة تتعلق بالزكاة اتفق العلماء على أن المراد بقوله إنما الصدقات للفقراء‬
‫هي الزكاة المفروضة بدليل قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة واختلفوا في كيفية قسمتها وفي جواز‬
‫صرفها كلها إلى بعض األصناف دون بعض فذهب جماعة من الفقهاء إلى أنه ال يجوز صرفها كلها إلى‬
‫بعض األصناف مع وجود الباقين وهو قول عكرمة وإليه ذهب الشافعي قال‪ :‬يجب أن يقسم زكاة ماله‬
‫على الموجودين من األصناف الستة الذين سماهم ثمانية أقسام قسمة على السواء ألن سهم المؤلفة‬
‫ساقط وسهم العامل ساقط إذا قسم زكاته بنفسه ثم حصة كل صنف من األصناف الستة ال يجوز أن‬
‫تصرف إلى أقل من ثالثة منهم إن وجد منه ثالثة أو أكثر فلو فاوت بين أولئك الثالثة جاز فإن لم يجد‬
‫واحدا دفع حصة ذلك الصنف إليه ما لم يخرج من حد االستحقاق فإن انتهت‬ ‫ً‬ ‫من بعض األصناف إال‬
‫حاجة وفضل شيء رده إلى الباقين وذهب جماعة من العلماء إلى أنه لو صرف الكل إلى صنف واحد من‬
‫هذه األصناف أو إلى شخص واحد منهم جاز ألن اهلل سبحانه وتعالى إنما سمى هذه األصناف الثمانية‬
‫ً‬
‫جميعا وهذا قول عمر‬ ‫ً‬
‫إيجابا منه لقسمتها بينهم‬ ‫ً‬
‫إعالما منه أن الصدقة ال تخرج عن هذه الثمانية إال‬
‫وابن عباس وبه قال سعيد بن جبير وعطاء وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي وأحمد بن حنبل‪.‬‬
‫قال أحمد بن حنبل‪ :‬يجوز أن يضعها في صنف واحد وتفريقها أولى‪ .‬وقال إبراهيم النخعي‪ :‬إن كان‬
‫ال وضعه في صنف واحد‪ .‬وقال مالك‪:‬‬ ‫كثيرا يحتمل اإلجزاء قسمه على األصناف وإن كان قلي ً‬ ‫ً‬ ‫المال‬
‫يتحرى موضع الحاجة منهم ويقدم األولى فاألولى من أهل الخلة والحاجة فإن رأى الخلة في الفقراء‬
‫ً‬
‫شيئا من الصدقة فال‬ ‫في عام قدمهم وإن رآها في صنف آخر في عام حولها إليهم وكل من دفع غيله‬
‫محترفا لكنه ال يجد آلة حرفته فيعطي قدر ما يحصل به آلة حرفته فاالعتبار‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫شيئا وإن كان‬ ‫يعطي بعده‬
‫عند اإلمام الشافعي رضي اهلل عنه ما يدفع الحاجة من غير حد‪.‬‬
‫ً‬
‫درهما وقال أبو حنيفة‪ :‬أكره أن يعطى رجل‬ ‫وقال أحمد بن حنبل‪ :‬ال يعطي الفقير أكثر من خمسين‬
‫ً‬
‫فقيرا فبان أنه غني فهل يجزئ فيه‬ ‫واحد من الزكاة مائتي درهم فإن أعطيته أجزأ فإن أعطى من يظنه‬
‫قوالن وال يجوز أن يعطي صدقته لمن تلزمه نفقته وبه قال مالك والثوري وأحمد وقال أبو حنيفة‬
‫ولدا وإن سفل وال زوجة ويعطي من عداهم وتحرم الصدقة على‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫والدا وإن عال وال‬ ‫والشافعي‪ :‬ال يعطى‬
‫ذوي القربى وهم بنو هاشم وبنو المطلب فال يدفع إليهم من الزكاة شيء قوله صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫«إنا آل بيت ال تحل لنا الصدقة» وقال أبو حنيفة تحرم على بني هاشم وال تحرم على بني المطلب دليلنا‬
‫قوله صلى اهلل عليه وسلم «إنا وبنو المطلب شيء واحد لم يفارقونا في جاهلية وال إسالم» وتحرم‬
‫الصدقة على موالي بني هاشم وبني المطلب قوله صلى اهلل عليه وسلم «مولى القوم منهم» وقال مالك‬
‫ال تحرم واختلفوا في نقل الصدقة من بلد إلى بلد آخر مع وجود المستحقين في بلد المال فكرهه أكثر‬
‫أهل العلم لتعلق قلوب فقراء ذلك البلد بذلك المال ولقوله صلى اهلل عليه وسلم لمعاذ «وأعلمهم أن اهلل‬
‫سحبانه وتعالى افترض عليهم صدقة من أغنيائهم وترد على فقرائهم» الحديث بطوله في الصحيحين‬
‫واتفقوا على أنه إذا نقل المال إلى بلد آخر وأداه إلى فقراء ذلك البلد سقط عنه الفرض إال ما حكى عن‬
‫عمر بن عبد العزيز فإنه رد صدقة حملت من خرسان إلى الشام فردها إلى مكانها من خراسان واهلل‬
‫أعلم‪.‬‬

‫‪ .8‬تفسير الجاللين‬
‫ً‬
‫موقعا من كفايتهم {والمساكين}‬ ‫{ِإ َّن َما الصدقات} الزكوات مصروفة { ِل ْل ُف َق َرآء} الذين ال يجدون ما يقع‬
‫جاب وقاسم وكاتب وحاشر {والمؤلفة‬ ‫ٍ‬ ‫الذين ال يجدون ما يكفيهم {والعاملين عَ لَ ْيهَ ا} أي الصدقات من‬
‫ُق ُلو ُبهُ ْم} ليسلموا أو يثبت إسالمهم أو يُ سلم نظراؤهم أو يذبوا عن المسلمين أقسام واألول واألخير ال‬
‫لعز اِإل سالم‪ ،‬بخالف اآلخرين فيعطيان على األصح‬ ‫يعطيان اليوم عند الشافعي رضي اهلل تعالى عنه ّ‬
‫{ َو ِف ى} فك { الرقاب} أي المكاتبين { والغارمين} أهل الدين إن استدانوا لغير معصية‪ ،‬أو تابوا وليس‬
‫لهم وفاء أو ِإل صالح ذات البين ولو أغنياء { َو ِفى َس ِبيل ِ اهلل} أي القائمين بالجهاد ممن ال فيء لهم ولو‬
‫يم} بخلقه‬‫يض ًة} نصب بفعله المقدر {مِّ َن اهلل واهلل عَ ِل ٌ‬ ‫أغنياء {وابن السبيل} المنقطع في سفره { َف ِر َ‬
‫يم} في صنعه فال يجوز صرفها لغير هؤالء‪ ،‬وال منعَ صنف منهم إذا وجد فيقسمها اِإل مام عليهم‬ ‫{ َح ِك ٌ‬
‫على السواء وله تفضيل بعض آحاد الصنف على بعض‪ ،‬وأفادت (الالم) وجوب استغراق أفراده لكن ال‬
‫يجب على صاحب المال إذا قسم لعسره‪ ،‬بل يكفي إعطاء ثالثة من كل صنف وال يكفي دونها كما أفادته‬
‫المعطى منها اإلسالم وأن ال يكون هاشميا وال ُم َّط ِل ِب ّي ًا‪.‬‬‫َ‬ ‫صيغة الجمع وبينت السنة أن شرط‬

‫‪ .9‬تفسير الخازن‬
‫{ ولو أنهم رضوا} يعني ولو أن المنافقين الذين عابوا عليك رضوا بما قسم اهلل لهم وقنعوا {ما آتاهم‬
‫اهلل ورسوله وقالوا حسبنا اهلل} أي كافينا اهلل { سيؤتينا اهلل من فضله ورسوله} يعني إليه {إنا إلى اهلل‬
‫راغبون} يعني في أن يوسع علينا من فضله فيغنينا عن الصدقة وعن غيرها من أموال الناس وجواب‬
‫ً‬
‫خيرا لهم وأعود عليهم‪.‬‬ ‫لو محذوف تقديره لكان‬
‫قوله عز وجل‪ { :‬إنما الصدقات للفقراء والمساكين} اآلية اعلم أن المنافقين لما لمزو رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم وعابوه في قسم الصدقات َّبين اهلل عز وجل في هذه اآلية إن المستحقين للصدقات هؤالء‬
‫األصناف الثمانية ومصرفها إليهم وال تعلن لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم منها بشيء ولم يأخذ لنفسه‬
‫شيئا فلم يلمزونه ويعيبون عليه فال مطعن لهم فيه بسبب قسم الصدقات‪ .‬عن زياد بن الحرث‬ ‫ً‬ ‫منها‬
‫الصدائي قال‪ :‬أتيت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فبايعته فأتاه رجل فقال أعطني من الصدقة فقال‬
‫له رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إن اهلل لم يرض بحكم نبي وال غيره في الصدقات حتى حكم فيها‬
‫هو فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك األجزاء أعطيتك حقك» أخرجه أبو داود‪.‬‬
‫فصل في بيان حكم هذه اآلية وفيه مسائل‪:‬‬
‫المسألة األولى‪ :‬في بيان وجه الحكمة في إيجاب الزكاة على اإلغنياء وصرفها إلى المحتاجين من الناس‬
‫وذلك من وجوه‪ ،‬الوجه األول أو المال محبوب بالطبع وسببه أن القدرة صفة من صفات الكمال محبوبة‬
‫ً‬
‫محبوبا بالطبع فإذا استغرق القلب في حب المال‬ ‫لذاتها والمال سبب لتحصيل تلك القدرة فكان المال‬
‫اشتغل به عن حب اهلل عز وجل وعن االشتغال بالطاعات المقربة إلى اهلل عز وجل فاقتضت الحكمة‬
‫ً‬
‫سببا للقرب من اهلل عز وجل‬ ‫اإللهية إيجاب الزكاة في ذلك المال الذي هو سبب البعد عن اهلل فيصير‬
‫بإخراج الزكاة منه‪ .‬الوجه الثاني‪ :‬إن كثرة المال توجب قسوة القلب وحب الدنيا والميل إلى شهواتها‬
‫ولذاتها فأوجب اهلل سبحانه وتعالى الزكاة ليقل ذلك المال الذي هو سببب لقساوة القلب‪ .‬الوجه الثالث‬
‫سبب وجوب الزكاة امتحان العبد المؤمن ألن التكاليف البدنية غير شاقة على العبد وإخراج المال مشق‬
‫على النفس فأوجب اهلل عز وجل الزكاة على العباد ليمتحن بإخراج الزكاة أصحاب األموال لتميز بذلك‬
‫المطيع المخرج لها طيبة بها نفسه من العاصي المانع لها‪ .‬الوجه الرابع أن المال مال اهلل واألغنياء خزان‬
‫اهلل والفقراء عيال اهلل فأمر اهلل سبحانه وتعالى خزانه الذين هم أغنياء بدفع طائفة من ماله إلى عياله‬
‫فيثيب العبد المؤمن المطيع المسارع إلى امتثال المشفق على عياله ويعاقب العبد العاصي المانع لعياله‬
‫من ماله‪.‬‬
‫( ق) عن أبي موسى األشعري عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬إن الخازن المسلم األمين الذي ينفذ‬
‫ً‬
‫موفرا طيبة به نفسه فيدفعه إلى الذي أمر له به أحد‬ ‫وربما قال يعطي ما أمر به فيعطيه كام ً‬
‫ال‬
‫المتصدقين» الوجه الخامس أن الفقراء ربما تعلقت قلوبهم باألموال التي بأيدي األغنياء فأوجب اهلل عز‬
‫تطييبا لقلوبهم‪ .‬الوجه السادس أن المال الفاضل عن حاجة اإلنسان‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫نصيبا للفقراء في ذلك المال‬ ‫وجل‬
‫ال عن المقصود الذي ألجله خلق المال فأمر بدفع الزكاة إلى الفقراء حتى ال‬ ‫األصلية إذا أمسك بقي معط ً‬
‫يصير ذلك المال معط ً‬
‫ال بالكلية‪.‬‬
‫المسألة الثانية‪ :‬اآلية تدل على أنه ال حق ألحد في الصدقات إال هؤالء األصناف الثمانية وذلك مجمع‬
‫عليه ألن كلمتي إنما تفيدان الحصر وذلك ألنها مركبة من إن وما فكلمة إن لإلثبات وكلمة ما للنفي فعند‬
‫اجتماعهما يفيدان الحكم المذكور وصرفه عما عداه فدل ذلك على أن الصدقات ال تصرف إال إلى‬
‫األصناف الثمانية‪.‬‬
‫المسألة الثالثة‪ :‬في بيان األصناف الثمانية فالصنف األول للفقراء والثاني للمساكين وهم المحتاجون‬
‫الذين ال يفي خرجهم بدخلهم ثم اختلف العلماء في الفرق بين الفقير والمسكين فقال ابن عباس‬
‫والحسن ومجاهد وعكرمة والزهري‪ :‬الفقير الذي ال يسأل والمسكين السائل وقال ابن عمر‪ :‬ليس بفقير‬
‫من جمع الدرهم إلى الدرهم والتمر إلى التمرة ولكن الفقير من أنقى نفسه وثيابه وال يقدر على الشيء‬
‫يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف‪ .‬وقال قتادة‪ :‬الفقير المحتاج الزمن والمسكين الصحيح المحتاج‬
‫ً‬
‫زمنا كان أو غير زمن‬ ‫ً‬
‫موقعا‬ ‫وقال الشافعي رضي اهلل تعالى عنه‪ :‬الفقير من ال مال له وال حرفة تقع منه‬
‫ال كان أو غير سائل فالمكسين عنده‬ ‫ً‬
‫موقعا لكفايته سائ ً‬ ‫والمسكين من له مال أو حرفة ولكن ال تقع منه‬
‫أحسن حاالً من الفقير‪ .‬وقال أبو حنيفة‪ ،‬وأصحاب الرأي‪ :‬الفقير أحسن حاالً من المسكين ومن الناس من‬
‫قال ال فرق بين الفقير والمسكين حجة الشافعي ومن وافقه أن اهلل سبحانه وتعالى حكم بصرف‬
‫ال لمصلحتهم فبدأ بالفقر وإنما يبدأ فاألهم‬ ‫دفعا لحاجتهم وتحصي ً‬‫ً‬ ‫الصدقات إلى هؤالء األصناف الثمانية‬
‫فلو لم تكن حاجتهم أشد من حاجة المساكين لما بدأ بهم وأصل الفقير المكسور الفقار قال لبيد‪:‬‬
‫لما رأى لبد النسور تطايرت *** رفع القوادم كالفقير األعزل‬
‫ً‬
‫فقيرا لزمانته‬ ‫قال ابن األعرابي‪ :‬الفقير في هذا البيت المكسور الفقار فثبت بهذا أن الفقير إنما سمي‬
‫وحاجته الشديدة وتمنعه الزمانة من التقلب في الكسب وألن النبي صلى اهلل عليه وسلم كان يتعوذ من‬
‫مسكينا واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة» رواه‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مسكينا وأمتني‬ ‫الفقر وقال‪« :‬اللهم أحيني‬
‫الترمذي من حديث أنس فلو كان المسكين أسوأ حاالً من الفقير لما تعوذ من الفقر وسأل المسكنة فثبت‬
‫بهذا أن المسكين أحسن حاالً من الفقير وألن اهلل سبحانه وتعالى قال أما السفينة فكانت لمساكين‬
‫ملكا مع اسم المسكنة ألن السفينة من سفن البحر تساوي دنانير كثيرة‬ ‫ً‬ ‫يعملون في البحر فأثبت لهم‬
‫وألن الغنى والفقر ضدان والمسكنة قسم ثالث بينهما فثبت بهذا أن الفقير أسوأ حاالً من المسكين‬
‫ً‬
‫مسكينا ذا متربة وصف‬ ‫وحجة أبي حنيفة ومن وافقه على أن المسكين أسوأ حاالً من الفقير قوله أو‬
‫المسكين بكونه ذا متربة وهو الذي لصق جلده بالتراب وهذا يدل على غاية الضر والشدة وألن اهلل‬
‫ً‬
‫أيضا‬ ‫تعالى جعل الكفارات للمساكين فلو لم يكن المسكين أشد حاجة من غيره لما جعلها له واحتج‬
‫بقول الراعي‪:‬‬
‫أما الفقير الذي كانت حلوبته *** وفق العيال فلم يترك له سبد‬
‫أيضا بقول األصمعي وأبي عمرو بن العالء أن الفقير الذي له ما يأكل والمسكين الذي ال شيء له‬ ‫ً‬ ‫واحتج‬
‫وكذا قال القتيبي‪ :‬الفقير الذي له البلغة من العيش والمسكين الذي ال شيء له وقيل‪ :‬الفقير الذي له‬
‫ً‬
‫غنيا‬ ‫المسكن والخادم والمسكين الذي ال ملك له وقيل‪ :‬إن كل محتاج إلى شيء فهو مفتقر إليه وإن كان‬
‫عن غيره قال اهلل سبحانه وتعالى‪ { :‬أنتم الفقراء إلى اهلل} فأثبت لهم اسم الفقر مع وجدان المال‬
‫مسكينا ذا متربة فهو حجة لمذهب اإلمام الشافعي رضي اهلل‬‫ً‬ ‫والجواب عن هذه الحجج أما قوله أو‬
‫تعالى عنه ألنه قيد المسكين المذكور هنا بكونه ذا متربة فدل على أنه قد يوجد مسكين ال بهذه الصفة‬
‫وإال لم يبق لهذا القيد فائدة والجواب عن جعل الكفارات للمسكين أنه هو الفقير الذي لصق جلده‬
‫بالتراب من شدة المسكنة والجواب عن االستدالل ببيت الراعي إنه ذكر الفقير وجده فكل فقير أفرد‬
‫باالسم جاز إطالق المسكين عليه فسقط االستدالل به وأما الروايات المذكورة فهي معارضة بما تقدم‬
‫من الروايات عن ابن عباس وغيره من المفسرين‪ .‬وبالجملة أن الفقر والمسكنة عبارتان عن شدة الحاجة‬
‫وضعف الحال فالفقير هو الذي كسرت الحاجة فقار ظهره والمسكين هو الذي ضعفت نفسه وسكنت عن‬
‫الحركة في طلب القوت‪ .‬عن عبد اهلل بن عمرو بن العاص أن رسول اهلل صلى اهلل عيله وسلم قال‪« :‬ال‬
‫تحل الصدقة لغني وال لذي مرة سوي» أخرجه النسائي وأبو داود وله في رواية أخرى «وال لذي مرة‬
‫قوي» عن عبيد اهلل بن عدي بن الخيار قال‪« :‬أخبرني رجالن أنهما أتيا النبي صلى اهلل عليه وسلم وهو‬
‫في حجة الوداع وهو يقسم الصدقات فسأاله منها فرفع فينا النظر وخفضه فرآنا جلدين فقال إن شئتما‬
‫أعطيتكما وال حظ فيها لغني وال لقوي مكتسب» أخرجه أبو داود والنسائي وأخرجه الشافعي ولفظه‬
‫«أن رجلين أتيا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فسأاله عن الصدقة فقال‪ :‬إن شئتما أعطيتكما والحظ‬
‫فيها لغني وال لذي قوة مكتسب» واختلف العلماء في حد الغنى الذي يمنع من أخذ الصدقة فقال‬
‫األكثرون حده أن يكون عنده ما يكفيه وعياله سنة وهو قول مالك والشافعي‪ .‬وقال أصحاب الرأي‪:‬‬
‫ً‬
‫درهما أو قيمتها ال تحل له الصدقة لما روي عن‬ ‫حده أن يملك مائتي درهم‪ .‬وقال قوم‪ :‬من ملك خمسين‬
‫ابن مسعود قال قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة‬
‫ً‬
‫درهما أو‬ ‫ومسألته في وجه خموش أو خدوش أو كدوح قيل يا رسول اهلل وما يغنيه قال‪ :‬خمسون‬
‫قيمتها من الذهب» أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وهذا قول الثوري وابن المبارك وأحمد‬
‫ً‬
‫درهما لما‬ ‫ً‬
‫درهما من الزكاة وقيل‪ :‬أربعين‬ ‫وإسحاق‪ .‬وقالوا‪ :‬ال يجوز أن يعطى الرجل أكثر من خمسين‬
‫روي عن أبي سعيد الخدري قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم «من سأل وله قيمة أوقية فقد‬
‫ً‬
‫درهما الصنف الثالث قوله سبحانه‬ ‫ألحف» أخرجه أبو داود وكانت األوقية في ذلك الزمان أربعين‬
‫وتعالى‪ { :‬والعالمين عليها} وهم السعاة الذين يتولون جباية الصدقات وقبضها من أهلها ووضعها في‬
‫جهتها فيعطون من مال الصدقات بقدر أجور أعمالهم سواء كانوا فقراء أو أغنياء وهذا قول ابن عمر‬
‫وبه‪ .‬قال الشافعي وقال مجاهد والضحاك‪ :‬يعطون الثمن من الصدقات‪ .‬وظاهر اللفظ مع مجاهد إال أن‬
‫الشافعي يقول‪ :‬هو وأجره عمل تقدر بقدر العمل والصحيح أن الهاشمي والمطلبي ال يجوز أن يكون‬
‫ال من بني‬ ‫ال على الصدقات لما روي عن أبي رافع أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم استعمل رج ً‬ ‫عام ً‬
‫مخزوم على الصدقة فأراد أبو رافع أن يتبعه فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ال تحل لنا الصدقة‬
‫وأن مولى القوم منهم» أخرجه الترمذي والنسائي الصنف الرابع قوله تعالى‪{ :‬والمؤلفة قلوبهم} وهم‬
‫قسمان‪ :‬قسم مسلمون وقسم كفار فأما قسم المسلمين فقسمان القسم األول هم قوم من أشراف العرب‬
‫كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يعطيهم من الصدقات يتألفهم بذلك كما أعطى عيينة بن حصن‬
‫واألقرع بن حابس والعباس بن مرداس السلمي فهؤالء أسلموا وكانت نيتهم ضعيفة فكان رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم يعطيهم لتقوى رغبتهم في اإلسالم وقوم أسلموا وكانت نيتهم قوية في اإلسالم‬
‫وهم أشراف قومهم مثل عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر فكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يعطيهم‬
‫ترغيبا ألمثالهم في اإلسالم فيجوز لإلمام أن يعطي أمثال هؤالء من خمس خمس الغنيمة‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫تألفا لقومهم‬
‫ً‬
‫أيضا‪.‬‬ ‫والفيء من سهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان يعطيهم من ذلك ومن الصدقات‬
‫القسم الثاني من مؤلفة المسلمين هم قوم من المسلمين يكونون بإزاء قوم كفار في موضع ال تبلغهم‬
‫جيوش المسلمين إال بكلفة كبيرة ومؤنة عظيمة وهؤالء الذين بإزائهم من المسلمين ال يجاهدونهم‬
‫لضعف نيتهم أو لضعف حالهم فيجوز لإلمام أن يعطيهم من سهم الغزاة من مال الصدقة وقيل من سهم‬
‫المؤلفة قلوبهم ومن هؤالء قوم بإزاء جماعة من مانعي الزكاة فيأخذون منهم الزكاة ويحملونها إلى‬
‫اإلمام فيعطيهم اإلمام من سهم المؤلفة من الصدقات وقيل من سهم سبيل اهلل‪ .‬روي أن عدي بن حاتم‬
‫ً‬
‫بعيرا وأما مؤلفة الكفار فهم‬ ‫جاء أبا بكر بثلثمائة من اإلبل من صدقات قومه فأعطاه أبو بكر منها ثالثين‬
‫قوم يخشى شرهم أو يرجى إسالمهم فيجوز لإلمام أن يعطي من يخاف شره أو يرجو إسالمه فقد كان‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يعطيهم من خمس الخمس كما أعطى صفوان بن أمية لما كان يرى من‬
‫ميله إلى اإلسالم أما اليوم فقد أعز اهلل اإلسالم وله الحمد على ذلك وأغناه عن أن يتألف عليه أحد من‬
‫ً‬
‫تألفا بحال وقد قال بهذا كثير من أهل العلم ورأوا أن المؤلفة منقطعة‬ ‫المشركين فال يعطى مشرك‬
‫وسهمهم ساقط يروى ذلك عن ابن عمر وعكرمة وهو قول الشعبي وبه قال مالك والثوري وأصحاب‬
‫الرأي وإسحاق بن راهويه‪ .‬وقال قوم‪ :‬سهمهم ثابت لم يسقط‪ .‬يروى ذلك عن الحسن وهو قول الزهري‬
‫وأبي جعفر محمد بن علي وأبي ثور وقال أحمد يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك الصنف الخامس‬
‫قوله سبحانه وتعالى‪ { :‬وفي الرقاب} قال الزجاج‪ :‬فيه حذف تقديره وفي فك الرقاب وفي تفسير‬
‫الرقاب أقوال األول أن سهم الرقاب موضوع في المكاتبين فيدفع إليهم ليعتقوا به وهذا مذهب‬
‫الشافعي رضي اهلل تعالى عنه وهو قول أكثر الفقهاء منهم سعيد بن جبير والنخعي والزهري والليث بن‬
‫أيضا قوله تعالى وآتوهم من مال اهلل الذي آتاكم‪ ،‬القول الثاني وهو مذهب مالك‬‫ً‬ ‫سعد ويدل عليه‬
‫وأحمد وإسحاق أن سهم الرقاب موضوع لعتق الرقاب فيشترى به عبيد ويعتقون ويدل عليه ما روي‬
‫عن ابن عباس أنه قال ال بأس أن يعتق الرجل من الزكاة القول الثالث وهو قول أبي حنيفة وأصحابه‬
‫أنه ال يعتق من الزكاة رقبة كاملة لكن يعطي منها في عتق رقبة ويعان بها مكاتب ألن قوله في الرقاب‬
‫يقتضي التبعيض‪ .‬القول الرابع وهو قول الزهري أن سهم الرقاب نصفان نصف للمكاتبين ونصف يشترى‬
‫به عبيد ممن صلوا وصاموا وقدم إسالمهم فيعقتوا من الزكاة‪ .‬قال أصحابنا‪ :‬األحوط في سهم الرقاب‬
‫أن يدفع إلى السيد بإذن المكاتب ويدل عليه أنه سبحانه وتعالى أثبت الصدقات لألصناف األربعة‬
‫المتقدمة بالم الملك فقال‪ :‬إنما الصدقات للفقراء‪.‬‬
‫وقال‪ :‬في الصنف الخامس وفي الرقاب فال بد لهذا الفرق من فائدة وهي أن األصناف األربعة المتقدم‬
‫ذكرها يدفع إليهم نصيبهم من الصدقات فيصرفون ذلك فيما شاؤوا وأما الرقاب فيوضع نصيبهم في‬
‫تخليص رقابهم من الرق وال يدفع إليهم وال يمكنون من التصرف فيه وكذا القول في الغارمين فيصرف‬
‫نصيبهم في قضاء ديونهم وفي الغزاة يصرف نصيبهم فيما يحتاجون إليه في الغزو وكذا ابن السبيل‬
‫فيصرف إليه ما يحتاج إليه في سفره إلى بلوغ غرضه الصنف السادس قوله سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫ً‬
‫شاقا على اإلنسان‬ ‫ً‬
‫غرما لكونه‬ ‫{ والغارمين} أصل الغرم في اللغة لزوم ما يشق عليه النفس وسمى الدين‬
‫والمراد بالغارمين هنا المدينون وهم قسمان أدانوا ألنفسهم في غير معصية فيعطون من مال الصدقات‬
‫بقدر ديونهم إذا لم يكن لهم مال يفي بدينونهم فإن كان عندهم وفاء فال يعطون وقسم أدانوا في‬
‫المعروف وإصالح ذات البين فيعطون من مال الصدقات ما يقضون به دينهم وإن كانوا أغنياء لما روي‬
‫عن عطاء بن يسار أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬ال تحل الصدقة لغني إال لخمسة لغاز في‬
‫سبيل اهلل أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل أسير إعانة أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على‬
‫ال ألن عطاء بن يسار لم يدرك النبي صلى اهلل‬ ‫المسكين فأهدى المسكين للغني» أخرجه أبو داود مرس ً‬
‫عليه وسلم ورواه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى اهلل‬
‫ً‬
‫شيئا الصنف السابع قوله‬ ‫ال بمعناه أما من كان دينه في معصية فال يعطى من الصدقات‬ ‫عليه وسلم متص ً‬
‫تعالى‪ { :‬وفي سبيل اهلل} يعني وفي النفقة في سبيل اهلل وأراد به الغزاة فلهم سهم من مال الصدقات‬
‫فيعطون إذا أرادوا الخروج إلى الغزو ما يستعينون به على أمر الجهاد من النفقة والكسوة والسالح‬
‫فيعطون ذلك وإن كانوا أغنياء لما تقدم من حديث عطاء وأبي سعيد الخدري وال يعطى من سهم اهلل‬
‫لمن أراد الحج عند أكثر أهل العلم وقال قوم يجوز أن يصرف سهم سبيل اهلل إلى الحج يروى ذلك عن‬
‫ابن عباس وهو قول الحسن وإليه ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وقال بعضهم‪ :‬إن اللفظ عام‬
‫فال يجوز قصره على الغزاة فقط ولهذا أجاز بعض الفقهاء صرف سهم سبيل اهلل إلى جميع وجوه الخير‬
‫من تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد وغير ذلك قال ألن قوله وفي سبيل اهلل‬
‫عام في الكل فال يختص بصنف دون غيره والقول األول هو الصحيح إلجماع الجمهور عليه‪ .‬الصنف‬
‫الثامن قوله سبحانه وتعالى‪ { :‬وابن السبيل} يعني المسافر من بلد إلى بلد والسبيل الطريق سمي‬
‫المسافر ابن السبيل لمالزمته الطريق قال الشاعر‪:‬‬
‫ً‬
‫وليدا *** إلى أن شبت واكتهلت لداتي‬ ‫أنا ابن الحرب ربتني‬
‫مباحا ولم يكن له ما يقطع به مسافة سفره يعطى من الصدقات ما يكفيه لمؤنة سفره‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫سفرا‬ ‫فكل مريد‬
‫سواء كان له مال في البلد الذي يقصده أو لم يكن له مال‪ ،‬وقال قتادة‪ :‬ابن السبيل هو الضيف وقال‬
‫فقهاء العراق‪ :‬ابن السبيل هو الحاج المنقطع‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬فريضة من اهلل} يعني أن هذه األحكام التي ذكرها في اآلية فريضة واجبة من اهلل وقيل‬
‫فرض اهلل هذه األشياء فريضة { واهلل عليم} يعني بمصالح عباده {حكيم} يعني فيما فرض لهم ال‬
‫يدخل في تدبيره وحكمه نقض وال خلل‪.‬‬
‫المسألة الرابعة‪ :‬في أحكام متفرقة تتعلق بالزكاة اتفق العلماء على أن المراد بقوله إنما الصدقات للفقراء‬
‫هي الزكاة المفروضة بدليل قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة واختلفوا في كيفية قسمتها وفي جواز‬
‫صرفها كلها إلى بعض األصناف دون بعض فذهب جماعة من الفقهاء إلى أنه ال يجوز صرفها كلها إلى‬
‫بعض األصناف مع وجود الباقين وهو قول عكرمة وإليه ذهب الشافعي قال‪ :‬يجب أن يقسم زكاة ماله‬
‫على الموجودين من األصناف الستة الذين سماهم ثمانية أقسام قسمة على السواء ألن سهم المؤلفة‬
‫ساقط وسهم العامل ساقط إذا قسم زكاته بنفسه ثم حصة كل صنف من األصناف الستة ال يجوز أن‬
‫تصرف إلى أقل من ثالثة منهم إن وجد منه ثالثة أو أكثر فلو فاوت بين أولئك الثالثة جاز فإن لم يجد‬
‫واحدا دفع حصة ذلك الصنف إليه ما لم يخرج من حد االستحقاق فإن انتهت‬ ‫ً‬ ‫من بعض األصناف إال‬
‫حاجة وفضل شيء رده إلى الباقين وذهب جماعة من العلماء إلى أنه لو صرف الكل إلى صنف واحد من‬
‫هذه األصناف أو إلى شخص واحد منهم جاز ألن اهلل سبحانه وتعالى إنما سمى هذه األصناف الثمانية‬
‫ً‬
‫جميعا وهذا قول عمر‬ ‫ً‬
‫إيجابا منه لقسمتها بينهم‬ ‫ً‬
‫إعالما منه أن الصدقة ال تخرج عن هذه الثمانية إال‬
‫وابن عباس وبه قال سعيد بن جبير وعطاء وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي وأحمد بن حنبل‪.‬‬
‫قال أحمد بن حنبل‪ :‬يجوز أن يضعها في صنف واحد وتفريقها أولى‪ .‬وقال إبراهيم النخعي‪ :‬إن كان‬
‫ال وضعه في صنف واحد‪ .‬وقال مالك‪:‬‬ ‫كثيرا يحتمل اإلجزاء قسمه على األصناف وإن كان قلي ً‬ ‫ً‬ ‫المال‬
‫يتحرى موضع الحاجة منهم ويقدم األولى فاألولى من أهل الخلة والحاجة فإن رأى الخلة في الفقراء‬
‫ً‬
‫شيئا من الصدقة فال‬ ‫في عام قدمهم وإن رآها في صنف آخر في عام حولها إليهم وكل من دفع غيله‬
‫ً‬
‫محترفا لكنه ال يجد آلة حرفته فيعطي قدر ما يحصل به آلة حرفته فاالعتبار‬ ‫ً‬
‫شيئا وإن كان‬ ‫يعطي بعده‬
‫عند اإلمام الشافعي رضي اهلل عنه ما يدفع الحاجة من غير حد‪.‬‬
‫ً‬
‫درهما وقال أبو حنيفة‪ :‬أكره أن يعطى رجل‬ ‫وقال أحمد بن حنبل‪ :‬ال يعطي الفقير أكثر من خمسين‬
‫ً‬
‫فقيرا فبان أنه غني فهل يجزئ فيه‬ ‫واحد من الزكاة مائتي درهم فإن أعطيته أجزأ فإن أعطى من يظنه‬
‫قوالن وال يجوز أن يعطي صدقته لمن تلزمه نفقته وبه قال مالك والثوري وأحمد وقال أبو حنيفة‬
‫ولدا وإن سفل وال زوجة ويعطي من عداهم وتحرم الصدقة على‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫والدا وإن عال وال‬ ‫والشافعي‪ :‬ال يعطى‬
‫ذوي القربى وهم بنو هاشم وبنو المطلب فال يدفع إليهم من الزكاة شيء قوله صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫«إنا آل بيت ال تحل لنا الصدقة» وقال أبو حنيفة تحرم على بني هاشم وال تحرم على بني المطلب دليلنا‬
‫قوله صلى اهلل عليه وسلم «إنا وبنو المطلب شيء واحد لم يفارقونا في جاهلية وال إسالم» وتحرم‬
‫الصدقة على موالي بني هاشم وبني المطلب قوله صلى اهلل عليه وسلم «مولى القوم منهم» وقال مالك‬
‫ال تحرم واختلفوا في نقل الصدقة من بلد إلى بلد آخر مع وجود المستحقين في بلد المال فكرهه أكثر‬
‫أهل العلم لتعلق قلوب فقراء ذلك البلد بذلك المال ولقوله صلى اهلل عليه وسلم لمعاذ «وأعلمهم أن اهلل‬
‫سحبانه وتعالى افترض عليهم صدقة من أغنيائهم وترد على فقرائهم» الحديث بطوله في الصحيحين‬
‫واتفقوا على أنه إذا نقل المال إلى بلد آخر وأداه إلى فقراء ذلك البلد سقط عنه الفرض إال ما حكى عن‬
‫عمر بن عبد العزيز فإنه رد صدقة حملت من خرسان إلى الشام فردها إلى مكانها من خراسان واهلل‬
‫أعلم‪.‬‬

‫‪ .10‬تفسير الرازي‬
‫ين َو ِفي َس ِبيل ِ‬
‫ار ِم َ‬ ‫ين عَ لَ ْيهَ ا َو ْال ُمَؤ َّل َف ِة ُق ُلو ُبهُ ْم َو ِفي الرِّ َق ِ‬
‫اب َو ْال َغ ِ‬ ‫اكين ِ َو ْالعَ ِ‬
‫ام ِل َ‬ ‫اء َو ْال َم َس ِ‬
‫ات ِل ْل ُف َق َر ِ‬
‫الصدَ َق ُ‬
‫{ِإ َّن َما َّ‬
‫يم (‪})60‬‬ ‫يم َح ِك ٌ‬ ‫الس ِبيل ِ َف ِر َ‬
‫يض ًة ِم َن اهَّلل ِ َواهَّلل ُ عَ ِل ٌ‬ ‫اهَّلل ِ َوابْن ِ َّ‬
‫اعلم أن المنافقين لما لمزوا الرسول صلى اهلل عليه وسلم في الصدقات‪ ،‬بين لهم أن مصرف الصدقات‬
‫نصيبا منها‪ ،‬فلم يبق لهم طعن في الرسول بسبب أخذ الصدقات‪.‬‬ ‫ً‬ ‫هؤالء‪ ،‬وال تعلق لي بها‪ ،‬وال آخذ لنفسي‬
‫وهاهنا مقامات‪:‬‬
‫المقام األول‪ :‬بيان الحكمة في أخذ القليل من أموال األغنياء‪ ،‬وصرفها إلى المحتاجين من الناس‪.‬‬
‫والمقام الثاني‪ :‬بيان حال هؤالء األصناف الثمانية المذكورين في هذه اآلية‪.‬‬
‫أما المقام األول‪ :‬فنقول‪ :‬الحكمة في إيجاب الزكاة أمور‪ ،‬بعضها مصالح عائدة إلى معطى الزكاة‪ .‬وبعضها‬
‫عائدة إلى آخذ الزكاة‪.‬‬
‫أما القسم األول‪ :‬فهو أمور‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن المال محبوب بالطبع‪ ،‬والسبب فيه أن القدرة صفة من صفات الكمال محبوبة لذاتها‪ ،‬ولعينها ال‬
‫لغيرها ألنه ال يمكن أن يقال‪ :‬إن كل شيء فهو محبوب لمعنى آخر وإال لزم‪ ،‬إما التسلسل وإما الدور‪،‬‬
‫محبوبا لذاته‪ .‬والكمال محبوب لذاته‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وهما محاالن‪ ،‬فوجب االنتهاء في األشياء المحبوبة إلى ما يكون‬
‫والنقصان مكروه لذاته فلما كانت القدرة صفة كمال‪ ،‬وصفة الكمال محبوبة لذاتها‪ ،‬كانت القدرة محبوبة‬
‫لذاتها‪ .‬والمال سبب لحصول تلك القدرة‪ ،‬ولكمالها في حق البشر فكان أقوى أسباب القدرة في حق البشر‬
‫محبوبا‪ ،‬فهذا هو السبب في كونه‬ ‫ً‬ ‫هو المال‪ ،‬والذي يتوقف عليه المحبوب فهو محبوب‪ ،‬فكان المال‬
‫محبوبا إال أن االستغراق في حبه يذهل النفس عن حب اهلل وعن التأهب لآلخرة فاقتضت حكمة الشرع‬ ‫ً‬
‫ً‬
‫ومنعا‬ ‫كسرا من شدة الميل إلى المال‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تكليف مالك المال بإخراج طائفة منه من يده‪ ،‬ليصير ذلك اإلخراج‬
‫وتنبيها لها على أن سعادة اإلنسان ال تحصل عند االشتغال بطلب المال‬ ‫ً‬ ‫من انصراف النفس بالكلية إليها‬
‫وإنما تحصل بإنفاق المال في طلب مرضاة اهلل تعالى فإيجاب الزكاة عالج صالح متعين إلزالة مرض‬
‫حب الدنيا عن القلب‪ ،‬فاهلل سبحانه أوجب الزكاة لهذه الحكمة‪ .‬وهو المراد من قوله‪ُ :‬خ{ ْذ ِم ْن أموالهم‬
‫يه ْم ِبهَ ا} [التوبة‪ ]103 :‬أي تطهرهم وتزكيهم عن االستغراق في طلب الدنيا‪.‬‬ ‫َصدَ َق ًة ُت َط ِّه ُر ُه ْم َو ُت َزكِّ ِ‬
‫والوجه الثاني‪ :‬وهو أن كثرة المال‪ ،‬توجب شدة القوة وكمال القدرة‪ ،‬وتزايد المال يوجب تزايد القدرة‪،‬‬
‫وتزايد القدرة يوجب تزايد االلتذاذ بتلك القدرة‪ ،‬وتزايد تلك اللذات‪ ،‬يدعو اإلنسان إلى أن يسعى في‬
‫سببا لحصول هذه اللذات المتزايدة‪ ،‬وبهذا الطريق تصير المسألة مسألة الدور‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تحصيل المال الذي صار‬
‫ألنه إذا بالغ في السعي ازداد المال وذلك يوجب ازدياد القدرة‪ ،‬وهو يوجب ازدياد اللذة وهو يحمل‬
‫اإلنسان على أن يزيد في طلب المال‪ ،‬ولما صارت المسألة مسألة الدور‪ ،‬لم يظهر لها مقطع وال آخر‪،‬‬
‫وآخرا وهو أنه أوجب على صاحبه صرف طائفة من تلك األموال إلى اإلنفاق‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مقطعا‬ ‫فأثبت الشرع لها‬
‫في طلب مرضاة اهلل تعالى ليصرف النفس عن ذلك الطريق الظلماني الذي ال آخر له ويتوجه إلى عالم‬
‫عبودية اهلل وطلب رضوانه‪.‬‬
‫والوجه الثالث‪ :‬أن كثرة المال سبب لحصول الطغيان والقسوة في القلب‪ ،‬وسببه ما ذكرنا من أن كثرة‬
‫المال سبب لحصول القدرة‪ ،‬والقدرة محبوبة لذاتها‪ ،‬والعاشق إذا وصل لمعشوقه استغرق فيه‪ ،‬فاإلنسان‬
‫غرقا في طلب المال‪ ،‬فإن عرض له مانع يمنعه عن طلبه استعان بماله وقدرته على دفع ذلك‬ ‫ً‬ ‫يصير‬
‫المانع‪ ،‬وهذا هو المراد بالطغيان‪ ،‬وإليه اإلشارة بقوله سبحانه وتعالى‪ِ{ :‬إ َّن اإلنسان ليطغى * َأ ن َّرءا ُه‬
‫استغنى} [العلق‪ ]7 ،6 :‬فإيجاب الزكاة يقلل الطغيان ويرد القلب إلى طلب رضوان الرحمن‪.‬‬
‫والوجه الرابع‪ :‬أن النفس الناطقة لها قوتان‪ ،‬نظرية وعملية‪ ،‬فالقوة النظرية كمالها في التعظيم ألمر اهلل‪،‬‬
‫والقوة العملية كمالها في الشفقة على خلق اهلل‪ ،‬فأوجب اهلل الزكاة ليحصل لجوهر الروح هذا الكمال‬
‫دافعا لآلفات عنهم‪ ،‬ولهذا السر‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ساعيا في إيصال الخيرات إليهم‬ ‫ً‬
‫محسنا إلى الخلق‬ ‫وهو اتصافه بكونه‬
‫قال عليه الصالة والسالم‪« :‬تخلقوا بأخالق اهلل»‪.‬‬
‫ساعيا في إيصال الخيرات إليهم‪ ،‬وفي دفع‬ ‫ً‬ ‫والوجه الخامس‪ :‬أن الخلق إذا علموا في اإلنسان كونه‬
‫اآلفات عنهم أحبوه بالطبع ومالت نفوسهم إليه ال محالة‪ ،‬على ما قاله عليه الصالة والسالم‪« :‬جبلت‬
‫القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها»‪.‬‬
‫فالفقراء إذا علموا أن الرجل الغني يصرف إليهم طائفة من ماله‪ ،‬وأنه كلما كان ماله أكثر كان الذي‬
‫يصرفه إليهم من ذلك المال أكثر‪ ،‬أمدوه بالدعاء والهمة‪ ،‬وللقلوب آثار ولألرواح حرارة فصارت تلك‬
‫يَنفعُ الناس‬‫سببا لبقاء ذلك اإلنسان في الخير والخصب‪ ،‬وإليه اإلشارة بقوله تعالى‪َ { :‬وَأ َّما َما َ‬ ‫ً‬ ‫الدعوات‬
‫َف َي ْمكُ ُث ِفي األرض} [الرعد‪ ]17 :‬وبقوله عليه الصالة والسالم‪« :‬حصنوا أموالكم بالزكاة»‪.‬‬
‫والوجه السادس‪ :‬أن االستغناء عن الشيء أعظم من االستغناء بالشيء‪ ،‬فإن االستغناء بالشيء يوجب‬
‫االحتياج إليه‪ ،‬إال أنه يتوسل به إلى االستغناء عن غيره‪ ،‬فأما االستغناء عن الشيء فهو الغنى التام‪،‬‬
‫ولذلك فإن االستغناء عن الشيء صفة الحق‪ ،‬واالستغناء بالشيء صفة الخلق‪ ،‬فاهلل سبحانه لما أعطى‬
‫ً‬
‫وافرا من باب االستغناء بالشيء‪ .‬فإذا أمره بالزكاة كان‬ ‫ً‬
‫نصيبا‬ ‫بعض عبيده أمواالً كثيرة فقد رزقه‬
‫المقصود أن ينقله من درجة االستغناء بالشيء‪ ،‬إلى المقام الذي هو أعلى منه‪ ،‬وأشرف منه وهو‬
‫االستغناء عن الشيء‪.‬‬
‫والوجه السابع‪ :‬أن المال سمي ماالً لكثرة ميل كل أحد إليه‪ ،‬فهو غاد ورائح‪ ،‬وهو سريع الزوال مشرف‬
‫على التفرق‪ ،‬فما دام يبقى في يده كان كالمشرف على الهالك والتفرق‪ .‬فإذا أنفقه اإلنسان في وجوه البر‬
‫والخير والمصالح بقي بقاء ال يمكن زواله‪ ،‬فإنه يوجب المدح الدائم في الدنيا والثواب الدائم في‬
‫واحدا يقول‪ :‬اإلنسان ال يقدر أن يذهب بذهبه إلى القبر‪ ،‬فقلت بل يمكنه ذلك فإنه إذا‬ ‫ً‬ ‫اآلخرة‪ ،‬وسمعت‬
‫أنفقه في طلب الرضوان األكبر فقد ذهب به إلى القبر وإلى القيامة‪.‬‬
‫والوجه الثامن‪ :‬وهو أن بذل المال تشبه بالمالئكة واألنبياء‪ ،‬وإمساكه تشبه بالبخالء المذمومين‪ ،‬فكان‬
‫البذل أولى‪.‬‬
‫والوجه التاسع‪ :‬أن إفاضة الخير والرحمة من صفات الحق سبحانه وتعالى‪ ،‬والسعي في تحصيل هذه‬
‫الصفة بقدر القدرة تخلق بأخالق اهلل‪ ،‬وذلك منتهى كماالت اإلنسانية‪.‬‬
‫والوجه العاشر‪ :‬أن اإلنسان ليس له إال ثالثة أشياء‪ :‬الروح والبدن والمال‪ .‬فإذا أمر باإليمان فقد صار‬
‫ً‬
‫مستغرقا بالذكر والقراءة‪،‬‬ ‫ً‬
‫مستغرقا في هذا التكليف‪ .‬ولما أمر بالصالة فقد صار اللسان‬ ‫جوهر الروح‬
‫ً‬
‫مصروفا إلى أوجه البر والخير لزم أن‬ ‫ً‬
‫مستغرقا في تلك األعمال‪ ،‬بقي المال؛ فلو لم يصر المال‬ ‫والبدن‬
‫يكون شح اإلنسان بماله فوق شحه بروحه وبدنه‪ ،‬وذلك جهل‪ ،‬ألن مراتب السعادات ثالثة‪ :‬أولها‪:‬‬
‫السعادات الروحانية‪.‬‬
‫وثانيها‪ :‬السعادات البدنية وهي المرتبة الوسطى‪.‬‬
‫وثالثها‪ :‬السعادات الخارجية وهي المال والجاه‪ .‬فهذه المراتب تجري مجرى خادم السعادات النفسانية‪،‬‬
‫فإذا صار الروح مبذوالً في مقام العبودية‪ ،‬ثم حصل الشح ببذل المال لزم جعل الخادم في مرتبة أعلى‬
‫أيضا بذل المال في طلب مرضاة اهلل‬‫ً‬ ‫من المخدوم األصلي‪ ،‬وذلك جهل‪ .‬فثبت أنه يجب على العاقل‬
‫تعالى‪.‬‬
‫والوجه الحادي عشر‪ :‬أن العلماء قالوا‪ :‬شكر النعمة عبارة عن صرفها إلى طلب مرضاة المنعم‪ ،‬والزكاة‬
‫شكر النعمة‪ ،‬فوجب القول بوجوبها لما ثبت أن شكر المنعم واجب‪.‬‬
‫والوجه الثاني عشر‪ :‬أن إيجاب الزكاة يوجب حصول اإللف بالمودة بين المسلمين‪ ،‬وزوال الحقد‬
‫والحسد عنهم‪ ،‬وكل ذلك من المهمات‪ ،‬فهذه وجوه معتبرة في بيان الحكمة الناشئة من إيجاب الزكاة‬
‫العائدة إلى معطي الزكاة‪ ،‬فأما المصالح العائدة من إيجاب الزكاة إلى من يأخذ الزكاة فهي كثيرة‪ ،‬األول‪:‬‬
‫أن اهلل تعالى خلق األموال‪ ،‬وليس المطلوب منها أعيانها وذواتها‪ .‬فإن الذهب والفضة ال يمكن االنتفاع‬
‫بهما في أعيانهما إال في األمر القليل‪ ،‬بل المقصود من خلقهما أن يتوسل بهما إلى تحصيل المنافع ودفع‬
‫المفاسد‪ ،‬فاإلنسان إذا حصل له من المال بقدر حاجته كان هو أولى بإمساكه ألنه يشاركه سائر‬
‫ساعيا في تحصيل ذلك المال‪ ،‬فكان اختصاصه‬ ‫ً‬ ‫المحتاجين في صفة الحاجة‪ ،‬وهو ممتاز عنهم بكونه‬
‫بذلك المال أولى من اختصاص غيره‪ ،‬وأما إذا فضل المال على قدر الحاجة‪ ،‬وحضر إنسان آخر محتاج‪،‬‬
‫فهاهنا حصل سببان كل واحد منهما يوجب تملك ذلك المال‪.‬‬
‫ً‬
‫أيضا‬ ‫ً‬
‫وأيضا شدة تعلق قلبه به‪ ،‬فإن ذلك التعلق‬ ‫أما في حق المالك‪ ،‬فهو أنه سعى في اكتسابه وتحصيله‪،‬‬
‫نوع من أنواع الحاجة‪.‬‬
‫وأما في حق الفقير‪ ،‬فاحتياجه إلى ذلك المال يوجب تعلقه به‪ ،‬فلما وجد هذان السببان المتدافعان‬
‫اقتضت الحكمة اإللهية رعاية كل واحد من هذين السببين بقدر اإلمكان‪ .‬فيقال حصل للمالك حق‬
‫االكتساب وحق تعلق قلبه به‪ ،‬وحصل للفقير حق االحتياج‪ ،‬فرجحنا جانب المالك‪ ،‬وأبقينا عليه الكثير‬
‫ً‬
‫توفيقا بين الدالئل بقدر اإلمكان‪.‬‬ ‫ً‬
‫يسيرا منه‬ ‫وصرفنا إلى الفقير‬
‫ال عن المقصود‬ ‫الثاني‪ :‬أن المال الفاضل عن الحاجات األصلية إذا أمسكه اإلنسان في بيته بقي معط ً‬
‫الذي ألجله خلق المال‪ ،‬وذلك سعي في المنع من ظهور حكمة اهلل تعالى‪ ،‬وهو غير جائز‪ ،‬فأمر اهلل‬
‫بصرف طائفة منه إلى الفقير حتى ال تصير تلك الحكمة معطلة بالكلية‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن الفقراء عيال اهلل لقوله تعالى‪َ { :‬و َما ِمن دَ اب ٍَّة ِفي األرض ِإ الَّ عَ لَى اهلل ِر ْز ُقهَ ا} [هود‪]6 :‬‬
‫واألغنياء خزان اهلل ألن األموال التي في أيديهم أموال اهلل‪ ،‬ولوال أن اهلل تعالى ألقاها في أيديهم وإال‬
‫ً‬
‫طعاما‪ ،‬وكم من أبله‬ ‫لما ملكوا منها حبة‪ ،‬فكم من عاقل ذكي يسعى أشد السعي‪ ،‬وال يملك ملء بطنه‬
‫ً‬
‫صفوا‪.‬‬ ‫ً‬
‫عفوا‬ ‫جلف تأتيه الدنيا‬
‫إذا ثبت هذا فليس بمستبعد أن يقول الملك لخازنه‪ :‬اصرف طائفة مما في تلك الخزانة إلى المحتاجين‬
‫من عبيدي‪.‬‬
‫الوجه الرابع‪ :‬أن يقال‪ :‬المال بالكلية في يد الغني مع أنه غير محتاج إليه‪ ،‬وإهمال جانب الفقير العاجز‬
‫عن الكسب بالكلية؛ ال يليق بحكمة الحكيم الرحيم‪ ،‬فوجب أن يجب على الغني صرف طائفة من ذلك‬
‫المال إلى الفقير‪.‬‬
‫الوجه الخامس‪ :‬أن الشرع لما أبقى في يد المالك أكثر ذلك المال وصرف إلى الفقير منه جزأ قلي ً‬
‫ال‪ ،‬تمكن‬
‫المالك من جبر ذلك النقصان بسبب أن يتجر بما بقي في يده من ذلك المال ويربح ويزول ذلك النقصان‪.‬‬
‫ال وليس له ما‬ ‫ال ‪ ،‬فلو لم يصرف إليه طائفة من أموال األغنياء لبقي معط ً‬ ‫أما الفقير ليس له شيء أص ً‬
‫يجبره‪ ،‬فكان ذلك أولى‪.‬‬
‫الوجه السادس‪ :‬أن األغنياء لو لم يقوموا بإصالح مهمات الفقراء فربما حملهم شدة الحاجة ومضرة‬
‫المسكنة على االلتحاق بأعداء المسلمين‪ ،‬أو على اإلقدام على األفعال المنكرة كالسرقة وغيرها فكان‬
‫إيجاب الزكاة يفيد هذه الفائدة فوجب القول بوجوبها‪.‬‬
‫الوجه السابع‪ :‬قال عليه الصالة والسالم‪« :‬اإليمان نصفان‪ ،‬نصف صبر ونصف شكر»‪.‬‬
‫والمال محبوب بالطبع‪ ،‬فوجدانه يوجب الشكر وفقدانه يوجب الصبر‪ ،‬وكأنه قيل‪ :‬أيها الغني أعطيتك‬
‫نصيبا منه حتى تصبر على فقدان ذلك المقدار‬ ‫ً‬ ‫المال فشكرت فصرت من الشاكرين‪ ،‬فأخرج من يدك‬
‫فتصير بسببه من الصابرين‪ ،‬وأيها الفقير ما أعطيتك األموال الكثيرة فصبرت فصرت من الصابرين‪،‬‬
‫ولكني أوجب على الغني أن يصرف إليك طائفة من ذلك المال حتى إذا دخل ذلك المقدار في ملكك‬
‫سببا في جعل جميع المكلفين موصوفين بصفة‬ ‫ً‬ ‫شكرتني‪ ،‬فصرت من الشاكرين‪ ،‬فكان إيجاب الزكاة‬
‫الصبر والشكر ً‬
‫معا‪.‬‬
‫ً‬
‫مديونا‬ ‫الوجه الثامن‪ :‬كأنه سبحانه يقول للفقير إن كنت قد منعتك األموال الكثيرة‪ ،‬ولكني جعلت نفسي‬
‫من قبلك‪ ،‬وإن كنت قد أعطيت الغني أمواالً كثيرة لكني كلفته أن يعدوا خلفك‪ ،‬وأن يتضرع إليك حتى‬
‫تأخذ ذلك القدر منه‪ ،‬فتكون كالمنعم عليه بأن خلصته من النار‪.‬‬
‫فإن قال الغني‪ :‬قد أنعمت عليك بهذا الدينار‪ ،‬فقل أيها الفقير بل أنا المنعم عليك حيث خلصتك في‬
‫الدنيا من الذم والعار‪ ،‬وفي اآلخرة من عذاب النار‪ ،‬فهذه جملة من الوجوه في حكمة إيجاب الزكاة‬
‫بعضها يقينية‪ ،‬وبعضها إقناعية‪ ،‬والعالم بأسرار حكم اهلل وحكمته ليس إال اهلل‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫المقام الثاني‪ :‬في تفسير هذه اآلية وفيه مسائل‪:‬‬
‫المسألة األولى‪ :‬قوله‪ِ{ :‬إ َّن َما الصدقات ِل ْل ُف َق َر اء} اآلية تدل على أنه ال حق في الصدقات ألحد إال لهذه‬
‫وأيضا فلفظة {ِإ َّن َما} تفيد الحصر ويدل عليه وجوه‪:‬‬ ‫ً‬ ‫األصناف الثمانية‪ ،‬وذلك مجمع عليه‪،‬‬
‫األول‪ :‬أن كلمة {ِإ َّن َم ا} مركبة من إن وما وكلمة إن لإلثبات وكلمة ما للنفي‪ ،‬فعند اجتماعهما وجب‬
‫بقاؤهما على هذا المفهوم‪ ،‬فوجب أن يفيدا ثبوت المذكور‪ ،‬وعدم ما يغايره‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن ابن عباس تمسك في نفي ربا الفضل بقوله عليه الصالة والسالم‪« :‬إنما الربا في النسيئة»‬
‫وأيضا تمسك بعض الصحابة في أن اإلكسال ال‬ ‫ً‬ ‫ولوال أن هذا اللفظ يفيد الحصر‪ ،‬وإال لما كان األمر كذلك‪،‬‬
‫يوجب االغتسال بقوله عليه الصالة والسالم‪« :‬إنما الماء من الماء» ولوال أن هذه الكلمة تفيد الحصر وإال‬
‫لما كان كذلك‪.‬‬
‫وقال تعالى‪ِ{ :‬إ َّن َما اهلل إله واحد} [النساء‪ ]171 :‬والمقصود بيان نفي اإللهية للغير والثالث‪ :‬الشعر‪.‬‬
‫قال األعشى‪:‬‬
‫ولست باألكثر منهم حصى *** وإنما العزة للكاثر‬
‫وقال الفرزدق‪:‬‬
‫أنا الذائد الحامي الذمار وإنما *** يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي‬
‫فثبت بهذه الوجوه أن كلمة {ِإ َّن َم ا} للحصر‪ ،‬ومما يدل على أن الصدقات ال تصرف إال لهذه األصناف‬
‫الثمانية أنه عليه الصالة والسالم قال لرجل‪« :‬إن كنت من األصناف الثمانية فلك فيها حق وإال فهو‬
‫صداع في الرأس‪ ،‬وداء في البطن» وقال‪« :‬ال تحل الصدقة لغني وال لذي مرة سوي»‪.‬‬
‫المسألة الثانية‪ :‬اعلم أنه تعالى لما أخبر عن المنافقين أنهم يلمزون الرسول عليه السالم في أخذ‬
‫الصدقات‪ ،‬بين تعالى أنه إنما يأخذها لهؤالء األصناف الثمانية‪ ،‬وال يأخذها لنفسه وال ألقاربه ومتصليه‪،‬‬
‫وقد بينا أن أخذ القليل من مال الغني ليصرف إلى الفقير في دفع حاجته هو الحكمة المعينة‪ ،‬والمصلحة‬
‫الالزمة‪ ،‬وإذا كان األمر كذلك كان همز المنافقين ولمزهم عين السفه والجهالة‪ .‬فكان عليه الصالة‬
‫شيئا وال أمنعكم‪ ،‬إنما أنا خازن أضع حيث أمرت»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫والسالم يقول‪« :‬ما أوتيكم‬
‫المسألة الثالثة‪ :‬مذهب أبي حنيفة رحمه اهلل‪ :‬أنه يجوز صرف الصدقة إلى بعض هؤالء األصناف فقط‪،‬‬
‫وهو قول عمر وحذيفة وابن عباس وسعيد بن جبير وأبي العالية والنخعي‪ ،‬وعن سعيد بن جبير لو‬
‫نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فحبوتهم بها كان أحب إلي‪ ،‬وقال الشافعي رحمه اهلل‪:‬‬
‫البد من صرفها إلى األصناف الثمانية‪ ،‬وهو قول عكرمة والزهري وعمر ابن عبد العزيز‪ :‬واحتج بأنه‬
‫يض ًة ّم َن اهلل} قال‪ :‬وال بد في كل صنف من‬ ‫تعالى ذكر هذه القسمة في نص الكتاب‪ .‬ثم أكدها بقوله‪َ { :‬ف ِر َ‬
‫ثالثة‪ ،‬ألن أقل الجمع ثالثة‪ ،‬فإن دفع سهم الفقراء إلى فقيرين ضمن نصيب الثالث وهو ثلث سهم‬
‫الفقراء‪ .‬قال‪ :‬وال بد من التسوية في أنصباء هذه األصناف الثمانية‪ ،‬مثل أنك إن وجدت خمسة أصناف‬
‫ولزمك أن تتصدق بعشرة دراهم‪ ،‬جعلت العشرة خمسة أسهم كل سهم درهمان‪ ،‬وال يجوز التفاضل‪ .‬ثم‬
‫يلزمك أن تدفع إلى كل صنف درهمين وأقل عددهم ثالثة‪ ،‬وال يلزمك التسوية بينهم‪ ،‬فلك أن تعطي‬
‫وفقيرا سدس درهم‪ ،‬هذه صفة قسمة الصدقات على مذهب‬ ‫ً‬ ‫وفقيرا خمسة أسداس درهم‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫درهما‬ ‫ً‬
‫فقيرا‬
‫الشافعي رحمه اهلل‪.‬‬
‫قال المصنف الداعي إلى اهلل رضي اهلل عنه‪ :‬اآلية ال داللة فيها على قول الشافعي رحمه اهلل‪ ،‬ألنه تعالى‬
‫جعل جملة الصدقات لهؤالء األصناف الثمانية‪ ،‬وذلك ال يقتضي في صدقة زيد بعينه أن تكون لجملة‬
‫هؤالء الثمانية‪ .‬والدليل عليه العقل والنقل‪.‬‬
‫أما النقل‪ :‬فقوله تعالى‪{ :‬واعلموا َأ َّن َما َغ ِن ْمتُ م ّمن َشيء َفَأ َّن هَّلل ِ ُخ ُم َسهُ َو ِل َّ‬
‫لر ُسول ِ} [األنفال‪ ]41 :‬اآلية‪،‬‬
‫فأثبت خمس الغنيمة لهؤالء الطوائف الخمس‪ ،‬ثم لم يقل أحد إن كل شيء يغنم بعينه فإنه يحب‬
‫تفرقته على هذه الطوائف‪ ،‬بل اتفقوا على أن المراد إثبات مجموع الغنيمة لهؤالء األصناف‪ ،‬فإما أن‬
‫موزعا على كل هؤالء فال‪ ،‬فكذا هاهنا مجموع الصدقات تكون لمجموع‬ ‫ً‬ ‫يكون كل جزء من أجزاء الغنيمة‬
‫هذه األصناف الثمانية‪ .‬فإما أن يقال‪ :‬إن صدقة زيد بعينها يجب توزيعها على هذه األصناف الثمانية‪،‬‬
‫فاللفظ ال يدل عليه ألبتة‪.‬‬
‫وأما العقل‪ :‬فهو أن الحكم الثابت في مجموع ال يوجب ثبوته في كل جزء من أجزاء ذلك المجموع‪ ،‬وال‬
‫يلزم أن ال يبقى فرق بين الكل وبين الجزء‪ .‬فثبت بما ذكرنا أن لفظ اآلية ال داللة فيه على ما ذكره‪،‬‬
‫والذي يدل على صحة قولنا وجوه‪:‬‬
‫دينارا لما وجب عليه إخراج نصف دينار‪ ،‬فلو كلفناه أن نجعله‬ ‫ً‬ ‫األول‪ :‬أن الرجل الذي ال يملك إال عشرين‬
‫ً‬
‫صغيرا غير منتفع به في مهم معتبر‪.‬‬ ‫ً‬
‫حقيرا‬ ‫قسما لصار كل واحد من تلك األقسام‬ ‫ً‬ ‫على أربعة وعشرين‬
‫ً‬
‫معتبرا لكان أولى الناس برعايته أكابر الصحابة‪ ،‬ولو كان األمر كذلك‬ ‫الثاني‪ :‬أن هذا التوقيف لو كان‬
‫لوصل هذا الخبر إلى عمر بن الخطاب وإلى ابن عباس وحذيفة وسائر األكابر‪ ،‬ولو كان كذلك لما خالفوا‬
‫فيه‪ ،‬وحيث خالفوا فيه علمنا أنه غير معتبر‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬وهو أن الشافعي رحمه اهلل له اختالف رأي في جواز نقل الصدقات أما لم يقل أحد بوجوب نقل‬
‫الصدقات‪ ،‬فاإلنسان إذا كان في بعض القرى وال يكون هناك مكاتب وال مجاهد غاز وال عامل وال أحد من‬
‫ً‬
‫مديونا فكيف تكليفه؟‬ ‫المؤلفة‪ ،‬وال يمر به أحد من الغرباء‪ ،‬واتفق أنه لم يحضر في تلك القرية من كان‬
‫فإن قلنا‪ :‬وجب عليه أن يسافر بما وجب عليه من الزكاة إلى بلد يجد هذه األصناف فيه‪ ،‬فذاك قول لم‬
‫يقل به أحد! وإذا أسقطنا عنه ذلك فحينئذ يصح قولنا فهذا ما نقوله في هذا الباب‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫المسألة الرابعة‪ :‬في تعريف األصناف الثمانية‪ ،‬فاألول والثاني هم الفقراء والمساكين‪ ،‬وال شك أنهم هم‬
‫المحتاجون الذي ال يفي خرجهم بدخلهم‪ .‬ثم اختلفوا فقال بعضهم‪ :‬الذي يكون أشد حاجة هو الفقير؛‬
‫وهو قول الشافعي رحمه اهلل وأصحابه‪.‬‬
‫وقال آخرون‪ :‬الذي أشد حاجة هو المسكين‪ ،‬وهو قول أبي حنيفة وأصحابه رحمهم اهلل‪ ،‬ومن الناس من‬
‫قال‪ :‬ال فرق بين الفقراء والمساكين‪ ،‬واهلل تعالى وصفهم بهذين الوصفين‪ ،‬والمقصود شيء واحد وهو‬
‫قول أبي يوسف ومحمد رحمهما اهلل‪ ،‬واختيار أبي علي الجبائي‪ ،‬وفائدته تظهر في هذه المسألة‪ ،‬وهو‬
‫أنه لو أوصى لفالن وللفقراء والمساكين‪ ،‬فالذين قالوا‪ :‬الفقراء غير المساكين قالوا لفالن الثلث‪ ،‬والذين‬
‫قالوا‪ :‬الفقراء هم المساكين قالوا لفالن النصف‪.‬‬
‫وقال الجبائي‪ :‬إنه تعالى ذكرهم باسمين لتوكيد أمرهم في الصدقات ألنهم هم األصول في األصناف‬
‫وأيضا الفائدة فيه أن يصرف إليهم من الصدقات سهمان ال كسائرهم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الثمانية‪.‬‬
‫ال لو قال‪:‬‬‫واعلم أن فائدة هذا االختالف ال تظهر في تفرقة الصدقات وإنما تظهر في الوصايا‪ ،‬وهو أن رج ً‬
‫أوصيت للفقراء بمائتين وللمساكين بخمسين‪ ،‬وجب دفع المائتين عند الشافعي رحمه اهلل من كان أشد‬
‫حاجة‪ ،‬وعند أبي حنيفة رحمه اهلل إلى من كان أقل حاجة‪ ،‬وحجة الشافعي رحمه اهلل وجوه‪:‬‬
‫ال لمصلحتهم‪ ،‬وهذا‬ ‫دفعا لحاجتهم وتحصي ً‬ ‫ً‬ ‫الوجه األول‪ :‬أنه تعالى إنما أثبت الصدقات لهؤالء األصناف‬
‫يدل عى أن الذي وقع االبتداء بذكره يكون أشد حاجة‪ ،‬ألن الظاهر وجوب تقديم األهم على المهم أال‬
‫ترى أنه يقال‪ :‬أبو بكر وعمر ومن فضل عثمان على علي عليه السالم قال في ذكرهما عثمان وعلي‪ ،‬ومن‬
‫عليا على عثمان يقول علي وعثمان‪ ،‬وأنشد عمر قول الشاعر‪:‬‬ ‫ً‬ ‫فضل‬
‫ً‬
‫ناهيا ***‬ ‫كفى الشيب واإلسالم للمرء‬
‫فقال هال قدم اإلسالم على الشيب؟ فلما وقع االبتداء بذكر الفقراء وجب أن تكون حاجتهم أشد من‬
‫حاجة المساكين‪.‬‬
‫الوجه الثاني‪ :‬قال أحمد بن عبيد الفقير أسوأ حاالً من المسكين‪ ،‬ألن الفقير أصله في اللغة المفقور الذي‬
‫نزعت فقرة من فقار ظهره‪ ،‬فصرف عن مفقور إلى فقير كما قيل‪ :‬مطبوخ وطبيخ‪ ،‬ومجروح وجريح‪،‬‬
‫فقيرا لزمانته مع حاجته الشديدة وتمنعه الزمانة من التقلب في الكسب‬ ‫ً‬ ‫فثبت أن الفقير إنما سمي‬
‫ومعلوم أنه ال حال في اإلقالل والبؤس آكد من هذه الحال وأنشدوا للبيد‪:‬‬
‫لما رأى لبد النسور تطايرت *** رفع القوادم كالفقير األعزل‬
‫ال لكل ضعيف ال يتقلب في األمور‪،‬‬ ‫قال ابن األعرابي في هذا البيت الفقير المكسور الفقار‪ ،‬يضرب مث ً‬
‫َاس َر ٌة * َت ُظ ُّن َأ ن يُ ْفعَ َل ِبهَ ا‬
‫ومما يدل على إشعار لفظ الفقير بالشدة العظيمة قوله تعالى‪ُ { :‬و ُجو ٌه يَ ْو َمِئ ٍذ ب ِ‬
‫اق َر ٌة} [القيامة‪ ]25 ،24 :‬جعل لفظ الفاقرة كناية عن أعظم أنواع الشر والدواهي‪.‬‬ ‫َف ِ‬
‫كفرا ثم‬‫ً‬ ‫الوجه الثالث‪ :‬ما روي أنه عليه الصالة والسالم‪ ،‬كان يتعوذ من الفقر‪ ،‬وقال‪ :‬كاد الفقر أن يكون‬
‫مسكينا واحشرني في زمرة المساكين فلو كان المسكين أسوأ حاالً من‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مسكينا وأمتني‬ ‫قال‪ :‬اللهم أحيني‬
‫الفقير لتناقض الحديثان‪ ،‬ألنه تعوذ من الفقر‪ ،‬ثم سأل حاالً أسوأ منه‪ ،‬أما إذا قلنا الفقر أشد من المسكنة‬
‫فال تناقض ألبتة‪.‬‬
‫مالكا للمال بدليل قوله تعالى‪َ{ :‬أ َّما السفينة َفكَا َن ْت‬ ‫ً‬ ‫مسكينا‪ ،‬ال ينافي كونه‬ ‫ً‬ ‫الوجه الرابع‪ :‬أن كونه‬
‫لمساكين} [الكهف‪ ]79 :‬فوصف بالمسكنة من له سفينة من سفن البحر تساوي جملة من الدنانير‪ ،‬ولم‬
‫شيئا‪.‬‬‫ً‬ ‫فقيرا مع أنه يملك‬ ‫ً‬ ‫نجد في كتاب اهلل ما يدل على أن اإلنسان سمي‬
‫فإن قالوا‪ :‬الدليل عليه قوله تعالى‪{ :‬واهلل الغنى َوَأ نتُ ُم الفقراء} [محمد‪ ]38 :‬فوصف الكل بالفقر مع‬
‫أنهم يملكون أشياء‪.‬‬
‫أحدا سوى اهلل تعالى‬ ‫ً‬ ‫قلنا‪ :‬هذا بالضد أولى ألنه تعالى وصفهم بكونهم فقراء بالنسبة إلى اهلل تعالى‪ ،‬فإن‬
‫شيئا بالنسبة إلى اهلل فصح قولنا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ال يملك ألبتة‬
‫يما َذا َم ْق َرب ٍَة * َأ ْو ِم ْس ِك ً‬
‫ينا َذا َمتْ َرب ٍَة}‬ ‫الوجه الخامس‪ :‬قوله تعالى‪َ{ :‬أ ْو ِإ ْطعَ امٌ ِفي يَ ْو ٍم ِذى َم ْس َغ َب ٍة * يَ ِت ً‬
‫[البلد‪ ]16 14 :‬والمراد منه المسكين ذي المتربة الفقير الذي قد ألصق بالتراب من شدة الفقر‪ ،‬فتقييد‬
‫المسكين بهذا القيد يدل على أنه قد يحصل مسكين خال عن وصف كونه { َذا َمتْ َرب ٍَة} وإنما يكون كذلك‬
‫مالكا لبعض األشياء‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مسكينا ال ينافي كونه‬ ‫ً‬ ‫شيئا‪ ،‬فهذا يدل على أن كونه‬ ‫ً‬ ‫بتقدير أن يملك‬
‫شيئا‪ ،‬قال‪ :‬وهم أهل‬ ‫ً‬ ‫الوجه السادس‪ :‬قال ابن عباس رضي اهلل عنهما‪ ،‬الفقير هو المحتاج الذي ال يجد‬
‫الصفة‪ ،‬صفة مسجد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وكانوا نحو أربعمائة رجل ال منزل لهم‪ ،‬فمن كان‬
‫من المسلمين عنده فضل أتاهم به إذا أمسوا‪ ،‬والمساكين هم الطوافون الذين يسألون الناس‪.‬‬
‫وجه االستدالل‪ :‬أن شدة فقر أهل الصفة معلومة بالتواتر‪ ،‬فلما فسر ابن عباس الفقراء بهم وفسر‬
‫شيئا أشد من أحوال من يحتاج‪ ،‬ثم‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أحدا‬ ‫المساكين بالطوافين‪ ،‬ثم ثبت أن أحوال المحتاج الذي ال يسأل‬
‫يسأل الناس ويطوف عليهم‪ ،‬ظهر أن الفقير يجب أن يكون أسوأ حاالً من المسكين‪.‬‬

‫الوجه السابع‪ :‬أن المسكنة لفظ مأخوذ من السكون‪ ،‬فالفقير إذا سأل الناس وتضرع إليهم وعلم أنه متى‬
‫شيئا فقد سكن قلبه‪ ،‬وزال عنه الخوف والقلق‪ ،‬ويحتمل أنه سمي بهذا االسم؛ ألنه‬ ‫ً‬ ‫تضرع إليهم أعطوه‬
‫إذا أجيب بالرد ومنع سكن ولم يضطرب وأعاد السؤال‪ ،‬فلهذا السبب جعل التمسكن كناية عن السؤال‬
‫والتضرع عند الغير‪ ،‬ويقال‪ :‬تمسكن الرجل إذا الن وتواضع‪ ،‬ومنه قوله عليه الصالة والسالم للمصلي‪:‬‬
‫تأن وتمسكن يريد تواضع وتخشع‪ ،‬فدل هذا على أن المسكين هو السائل‪.‬‬
‫إذا ثبت هذا فنقول‪ :‬إنه تعالى قال في آية أخرى‪َ { :‬و ِفى أموالهم َح ٌّق َّل َّ‬
‫لساِئ ل ِ والمحروم} [الذاريات‪]19 :‬‬
‫فلما ثبت بما ذكرنا هاهنا أن المسكين هو السائل‪ ،‬وجب أن يكون المحروم هو الفقير‪ ،‬وال شك أن‬
‫المحروم مبالغة في تقرير أمر الحرمان‪ ،‬فثبت أن الفقير أسوأ حاالً من المسكين‪.‬‬
‫مسكينا الحديث‪ ،‬والظاهر أنه تعالى أجاب دعاءه‬ ‫ً‬ ‫الوجه الثامن‪ :‬أنه عليه الصالة والسالم قال‪ :‬أحيني‬
‫مسكينا ‪ ،‬وهو عليه الصالة والسالم حين توفي كان يملك أشياء كثيرة فدل هذا على أن كونه‬ ‫ً‬ ‫فأماته‬
‫مالكا لبعض األشياء‪ ،‬أما الفقير فإنه يدل على الحاجة الشديدة لقوله عليه الصالة‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مسكينا ال ينافي كونه‬
‫ً‬
‫كفرا»‪.‬‬ ‫والسالم‪« :‬كاد الفقر أن يكون‬
‫فثبت بهذا أن الفقر أشد حاالً من المسكنة‪.‬‬
‫الوجه التاسع‪ :‬أن الناس اتفقوا على أن الفقر والغنى ضدان‪ ،‬كما أن السواد والبياض ضدان ولم يقل أحد‬
‫ً‬
‫خائفا منهم‬ ‫ً‬
‫منقادا لكل أحد‬ ‫إن الغنى والمسكنة ضدان بل قالوا‪ :‬الترفع والتمسكن ضدان؛ فمن كان‬
‫ً‬
‫متضرعا إليهم‪.‬‬ ‫ساكتا عن جوابهم‬ ‫ً‬ ‫ال لشرهم‬ ‫متحم ً‬
‫فالنا يظهر الذل والمسكنة‪ ،‬وقالوا‪ :‬إنه مسكين عاجز‪ ،‬وأما الفقير فجعلوه عبارة عن ضد الغنى‪،‬‬ ‫ً‬ ‫قالوا‪ :‬إن‬
‫مسكينا‪ ،‬إذا كان يظهر من نفسه الخضوع والطاعة وترك‬ ‫ً‬ ‫وعلى هذا فقد يصفون الرجل الغني بكونه‬
‫ً‬
‫المعارضة‪ ،‬وقد يصفون الرجل الفقير بكونه مترفعا عن التواضع والمسكنة‪ ،‬فثبت أن الفقر عبارة عن‬
‫عدم المال والمسكنة عبارة عن إظهار التواضع‪ ،‬واألول ينافي حصول المال‪ ،‬والثاني ال ينافي حصوله‪.‬‬
‫الوجه العاشر‪ :‬قوله عليه الصالة والسالم لمعاذ في الزكاة‪ :‬خذها من أغنيائهم‪ ،‬وردها على فقرائهم ولو‬
‫كانت الحاجة في المساكين أشد‪ ،‬لوجب أن يقول‪ :‬وردها على مساكينهم‪ ،‬ألن ذكر األهم أولى‪ ،‬فهذه‬
‫الوجوه التي ذكرناها تدل على أن الفقير أسوأ حاالً من المسكين‪ ،‬واحتج القائلون بأن المسكين أسوأ‬
‫حاالً من الفقير بوجوه‪:‬‬
‫ينا َذا َمتْ َرب ٍَة} [البلد‪ ]16 :‬وصف المسكين بكونه ذا متربة‪ ،‬وذلك‬‫األول‪ :‬احتجوا بقوله تعالى‪َ{ :‬أ ْو ِم ْس ِك ً‬
‫وأيضا أنه تعالى جعل الكفارات من األطعمة له‪ ،‬وال فاقة أعظم من الحاجة‬ ‫ً‬ ‫يدل على نهاية الضر والشدة‪،‬‬
‫إلى إزالة الجوع‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬احتجوا بقول الراعي‪:‬‬
‫أما الفقير الذي كانت حلوبته *** وفق العيال فلم يترك له َس َبدُ‬
‫ً‬
‫فقيرا وله حلوبة‪.‬‬ ‫سماه‬
‫الثالث‪ :‬قالوا المسكين هو الذي يسكن حيث يحضر ألجل أنه ليس له بيت يسكن فيه وذلك يدل على‬
‫نهاية الضر والبؤس‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬نقلوا عن األصمعي وعن أبي عمرو بن العالء أنهما قاال‪ :‬الفقير الذي له ما يأكل‪ .‬والمسكين الذي ال‬
‫شيء له‪ ،‬وقال يونس‪ :‬الفقير قد يكون له بعض ما يكفيه والمسكين هو الذي ال شيء له‪ ،‬وقلت ألعرابي‬
‫أفقير أنت؟ قال‪ :‬ال واهلل بل مسكين‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬عن تمسكهم باآلية أنا بينا أن هذه اآلية حجة لنا‪ ،‬فإنه لما قيد المسكين المذكور هاهنا بكونه‬
‫ذا متربة دل ذلك على أنه قد يوجد مسكين ال بهذه الصفة وإال لم يبق لهذا القيد فائدة قوله‪ :‬أنه صرف‬
‫الطعام الواجب في الكفارات إليه‪ ،‬قلنا‪ :‬نعم إنه أوجب صرفه إلى المسكين المقيد بقيد كونه ذا متربة‪،‬‬
‫وهذا ال يدل على أنه أوجب الصرف إلى مطلق المسكين‪.‬‬
‫ً‬
‫فقيرا فقد كانت له‬ ‫والجواب عن استداللهم ببيت الراعي أنه ذكر أن هذا الذي هو اآلن موصوف بكونه‬
‫شيئا ‪ ،‬فلم ال يجوز أن يقال كانت له حلوبة ثم لما لم يترك له شيء وصف‬ ‫ً‬ ‫حلوبه ثم السيد لم يترك له‬
‫ً‬
‫فقيرا؟‬ ‫بكونه‬
‫والجواب عن قولهم‪ :‬المسكين هو الذي يسكن حيث يحضر ألجل أنه ليس له بيت‪.‬‬
‫ً‬
‫مسكينا إما لسكونه‬ ‫قلنا‪ :‬بل المسكين هو الطواف على الناس الذي يكثر إقدامه على السؤال‪ ،‬وسمي‬
‫عندما ينتهرونه ويردونه‪ ،‬وإما لسكون قلبه بسبب علمه أن الناس ال يضيعونه مع كثرة سؤاله إياهم‪،‬‬
‫وأما الروايات التي ذكروها عن أبي عمرو ويونس فهذا معارض بقول الشافعي وابن األنباري رحمهما‬
‫وأيضا نقل القفال في تفسيره عن جابر بن عبد اهلل أنه قال‪ :‬الفقراء فقراء المهاجرين‪ ،‬والمساكين‬ ‫ً‬ ‫اهلل‪،‬‬
‫الذين لم يهاجروا‪ ،‬وعن الحسن الفقير الجالس في بيته‪ ،‬والمسكين الذي يسعى وعن مجاهد الفقير الذي‬
‫ال يسأل‪ ،‬والمسكين الذي يسأل‪ ،‬وعن الزهري الفقراء هم المتعففون الذين ال يخرجون‪ ،‬والمساكين الذين‬
‫يسألون‪ ،‬قال موالنا الداعي إلى اهلل‪ :‬هذه األقوال كلها متوافقة على أن الفقير ال يسأل‪ ،‬والمسكين يسأل‪،‬‬
‫ومن سأل وجد‪ ،‬فكان المسكين أسهل وأقل حاجة‪.‬‬
‫الصنف الثالث‪ :‬قوله تعالى‪{ :‬والعاملين عَ لَ ْيهَ ا} وهم السعاة لجباية الصدقة‪ ،‬وهؤالء يعطون من‬
‫الصدقات بقدر أجور أعمالهم‪ ،‬وهو قول الشافعي رحمه اهلل‪ ،‬وقول عبد اهلل بن عمر وابن زيد‪ ،‬وقال‬
‫مجاهد والضحاك‪ :‬يعطون الثمن من الصدقات‪ ،‬وظاهر اللفظ مع مجاهد إال أن الشافعي رحمه اهلل يقول‬
‫ال على‬ ‫هذا أجرة العمل فيتقدر بقدر العمل‪ ،‬والصحيح أن مولى الهاشمي والمطلبي ال يجوز أن يكون عام ً‬
‫ال على الصدقات‪،‬‬ ‫الصدقات ليناله منها‪ ،‬ألن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أبى أن يبعث أبا رافع عام ً‬
‫وقال‪ :‬أما علمت أن مولى القوم منهم‪.‬‬
‫ً‬
‫واليا عليه‪.‬‬ ‫وإنما قال‪{ :‬والعاملين عَ لَ ْيهَ ا} ألن كلمة على تفيد الوالية كما يقال فالن على بلد كذا إذا كان‬
‫الصنف الرابع‪ :‬قوله تعالى‪{ :‬والمؤلفة ُق ُلو ُبهُ ْم} قال ابن عباس‪ :‬هم قوم أشراف من األحياء أعطاهم‬
‫ال‪ ،‬أبو سفيان‪ ،‬واألقرع بن حابس‪،‬‬ ‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يوم حنين وكانوا خمسة عشر رج ً‬
‫وعيينة بن حصن‪ ،‬وحويطب بن عبد العزى‪ ،‬وسهل بن عمرو من بني عامر‪ ،‬والحرث بن هشام‪ ،‬وسهيل‬
‫بن عمرو الجهني‪ ،‬وأبو السنابل‪ ،‬وحكيم بن حزام‪ .‬ومالك بن عوف‪ ،‬وصفوان بن أمية‪ ،‬وعبد الرحمن بن‬
‫يربوع‪ ،‬والجد بن قيس‪ ،‬وعمرو بن مرداس‪ .‬والعالء بن الحرث أعطى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫كل رجل منهم مائة من اإلبل ورغبهم في اإلسالم‪ ،‬إال عبد الرحمن بن يربوع أعطاه خمسين من اإلبل‬
‫أحدا من الناس أحق‬‫ً‬ ‫وأعطى حكيم بن حزام سبعين من اإلبل‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول اهلل ما كنت أرى أن‬
‫بعطائك مني فزاده عشرة‪ ،‬ثم سأله فزاده عشرة‪ ،‬وهكذا حتى بلغ مائة‪ ،‬ثم قال حكيم‪ :‬يا رسول اهلل‬
‫أعطيتك األولى التي رغبت عنها خير أم هذه التي قنعت بها؟ فقال عليه الصالة والسالم‪« :‬بل التي‬
‫رغبت عنها» فقال‪ :‬واهلل ال آخذ غيرها‪ :‬فقيل مات حكيم وهو أكثر قريش ماالً وشق على رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم تلك العطايا لكن ألفهم بذلك‪.‬‬
‫قال المصنف رحمه اهلل‪ :‬هذه العطايا إنما كانت يوم حنين وال تعلق لها بالصدقات‪ ،‬وال أدري ألي سبب‬
‫ذكر ابن عباس رضي اهلل عنهما هذه القصة في تفسير هذه اآلية‪ ،‬ولعل المراد بيان أنه ال يمتنع في‬
‫تفسيرا لصرف الزكاة إليهم فال يليق بابن عباس‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الجملة صرف األموال إلى المؤلفة‪ ،‬فأما أن يجعل ذلك‬
‫ونقل القفال أن أبا بكر رضي اهلل عنه أعطى عدي بن حاتم لما جاءه بصدقاته وصدقات قومه أيام الردة‪،‬‬
‫وقال المقصود أن يستعين اإلمام بهم على استخراج الصدقات من المالك‪.‬‬
‫قال الواحدي‪ :‬إن اهلل تعالى أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين‪ ،‬فإن رأى اإلمام أن يؤلف قلوب‬
‫قوم لبعض المصالح التي يعود نفعها على المسلمين إذا كانوا مسلمين جاز إذ ال يجوز صرف شيء من‬
‫زكوات األموال إلى المشركين‪ ،‬فأما المؤلفة من المشركين فإنما يعطون من مال الفيء ال من الصدقات‬
‫وأقول إن قول الواحدي إن اهلل أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين بناء على أنه ربما يوهم أنه‬
‫ً‬
‫وأيضا فليس في اآلية‬ ‫ً‬
‫قسما من الزكاة إليهم لكنا بينا أن هذا لم يحصل ألبتة‪،‬‬ ‫عليه الصالة والسالم دفع‬
‫ما يدل على كون المؤلفة مشركين بل قال‪{ :‬والمؤلفة ُق ُلو ُبهُ ْم} وهذا عام في المسلم وغيره‪ ،‬والصحيح‬
‫قوما على هذا الوصف ويدفع إليهم سهم المؤلفة ألنه ال‬ ‫ً‬ ‫أن هذا الحكم غير منسوخ وأن لإلمام أن يتألف‬
‫دليل على نسخه ألبتة‪.‬‬
‫الصنف الخامس‪ :‬قوله‪َ { :‬و ِف ي الرقاب} قال الزجاج‪ :‬وفيه محذوف‪ ،‬والتقدير‪ :‬وفي فك الرقاب وقد‬
‫مضى االستقصاء في تفسيره في سورة البقرة في قوله‪{ :‬والسائلين َو ِفي الرقاب} [البقرة‪ ]177 :‬ثم‬
‫في تفسير الرقاب أقوال‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬إن سهم الرقاب موضوع في المكاتبين ليعتقوا به‪ ،‬وهذا مذهب الشافعي رحمه اهلل‪،‬‬
‫والليث بن سعد‪ ،‬واحتجوا بما روي عن ابن عباس رضي اهلل عنهما أنه قال‪ :‬قوله‪َ :‬و{ ِفي الرقاب} يريد‬
‫المكاتب وتأكد هذا بقوله تعالى‪{ :‬وآتوهم من مال اهلل الذي آتاكم} [النور‪.]33 :‬‬

‫والقول الثاني‪ :‬وهو مذهب مالك وأحمد وإسحاق أنه موضوع لعتق الرقاب يشتري به عبيد فيعتقون‪.‬‬
‫والقول الثالث‪ :‬قول أبي حنيفة وأصحابه وقول سعيد بن جبير والنخعي‪ ،‬أنه ال يعتق من الزكاة رقبة‬
‫كاملة ولكنه يعطي منها في رقبة ويعان بها مكاتب ألن قوله‪َ { :‬و ِفي الرقاب} يقتضي أن يكون له فيه‬
‫مدخل وذلك ينافي كونه ً‬
‫تاما فيه‪.‬‬
‫والقول الرابع‪ :‬قول الزهري‪ :‬قال سهم الرقاب نصفان‪ ،‬نصف للمكاتبين من المسلمين‪ ،‬ونصف يشتري به‬
‫رقاب ممن صلوا وصاموا‪ ،‬وقدم إسالمهم فيعتقون من الزكاة‪ ،‬قال أصحابنا‪ :‬واالحتياط في سهم الرقاب‬
‫دفعه إلى السيد بإذن المكاتب‪ ،‬والدليل عليه أنه تعالى أثبت الصدقات لألصناف األربعة الذين تقدم‬
‫ذكرهم بالم التمليك وهو قوله‪ِ{ :‬إ َّن َما الصدقات ِل ْل ُف َق َراء} ولما ذكر الرقاب أبدل حرف الالم بحرف في‬
‫فقال‪َ { :‬و ِف ي الرقاب} فالبد لهذا الفرق من فائدة‪ ،‬وتلك الفائدة هي أن تلك األصناف األربعة المتقدمة‬
‫يدفع إليهم نصيبهم من الصدقات حتى يتصرفوا فيها كما شاؤوا وأما { ِفى الرقاب} فيوضع نصيبهم‬
‫في تخليص رقبتهم عن الرق‪ ،‬وال يدفع إليهم وال يمكنوا من التصرف في ذلك النصيب كيف شاؤوا‪ ،‬بل‬
‫يوضع في الرقاب بأن يؤدي عنهم‪ ،‬وكذا القول في الغارمين يصرف المال في قضاء ديونهم‪ ،‬وفي الغزاة‬
‫يصرف المال إلى إعداد ما يحتاجون إليه في الغزو وابن السبيل كذلك‪ .‬والحاصل‪ :‬أن في األصناف‬
‫األربعة األول‪ ،‬يصرف المال إليهم حتى يتصرفوا فيه كما شاؤوا‪ ،‬وفي األربعة األخيرة ال يصرف المال‬
‫إليهم‪ ،‬بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي ألجلها استحقوا سهم الزكاة‪.‬‬
‫الصنف السادس‪ :‬قوله تعالى‪ { :‬والغارمين} قال الزجاج‪ :‬أصل الغرم في اللغة لزوم ما يشق والغرام‬
‫ً‬
‫مولعا بهن‪،‬‬ ‫ً‬
‫والزما‪ ،‬ومنه‪ :‬فالن مغرم بالنساء إذا كان‬ ‫ً‬
‫شاقا‬ ‫غراما لكونه ً‬
‫أمرا‬ ‫ً‬ ‫العذاب الالزم‪ ،‬وسمي العشق‬
‫ً‬
‫والزما له‪ ،‬فالمراد بالغارمين المديونون‪ ،‬ونقول‪ :‬الدين إن‬ ‫شاقا على اإلنسان‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫غراما لكونه‬ ‫وسمي الدين‬
‫حصل بسبب معصية ال يدخل في اآلية‪ ،‬ألن المقصود من صرف المال المذكور في اآلية اإلعانة‪،‬‬
‫والمعصية ال تستوجب اإلعانة‪ ،‬وإن حصل ال بسبب معصية فهو قسمان‪ :‬دين حصل بسبب نفقات‬
‫ضرورية أو في مصلحة‪ ،‬ودين حصل بسبب حماالت وإصالح ذات بين‪ ،‬والكل داخل في اآلية‪ ،‬وروى‬
‫األصم في تفسيره أن النبي صلى اهلل عليه وسلم لما قضى بالغرة في الجنين‪ ،‬قال العاقلة‪ :‬ال نملك الغرة‬
‫يا رسول اهلل قال لحمد بن مالك بن النابغة‪« :‬أعنهم بغرة من صدقاتهم» وكان حمد على الصدقة يومئذ‪.‬‬
‫الصنف السابع‪ :‬قوله تعالى‪َ { :‬و ِفى َس ِبيل ِ اهلل} قال المفسرون‪ :‬يعني الغزاة‪.‬‬
‫غنيا وهو مذهب مالك وإسحاق وأبي‬ ‫ً‬ ‫قال الشافعي رحمه اهلل‪ :‬يجوز له أن يأخذ من مال الزكاة وإن كان‬
‫عبيد‪.‬‬
‫ً‬
‫محتاجا‪.‬‬ ‫وقال أبو حنيفة وصاحباه رحمهم اهلل‪ :‬ال يعطى الغازي إال إذا كان‬
‫واعلم أن ظاهر اللفظ في قوله‪َ { :‬و ِفى َس ِبيل ِ اهلل} ال يوجب القصر على كل الغزاة‪ ،‬فلهذا المعنى نقل‬
‫القفال في تفسيره عن بعض الفقهاء أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين‬
‫الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد‪ ،‬ألن قوله‪َ :‬و{ ِفى َس ِبيل ِ اهلل} عام في الكل‪.‬‬
‫والصنف الثامن‪ :‬ابن السبيل قال الشافعي رحمه اهلل‪ :‬ابن السبيل المستحق للصدقة وهو الذي يريد‬
‫السفر في غير معصية فيعجز عن بلوغ سفره إال بمعونة‪.‬‬
‫قال األصحاب‪ :‬ومن أنشأ السفر من بلده لحاجة‪ ،‬جاز أن يدفع إليه سهم ابن السبيل‪ ،‬فهذا هو الكالم في‬
‫شرح هذه األصناف الثمانية‪.‬‬
‫المسألة الخامسة‪ :‬في أحكام هذه األقسام‪.‬‬
‫الحكم األول‪:‬‬
‫اتفقوا على أن قوله‪ِ{ :‬إ َّن َم ا الصدقات} دخل فيه الزكاة الواجبة‪ ،‬ألن الزكاة الواجبة مسماة بالصدقة‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪ُ :‬خ{ ْذ ِم ْن أموالهم َصدَ َق ًة} [التوبة‪ ]103 :‬وقال عليه الصالة والسالم‪« :‬ليس فيما دون خمسة ذود‬
‫وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» واختلفوا في أنه هل تدخل فيها الصدقة المندوبة فمنهم من‬
‫قال‪ :‬تدخل فيها ألن لفظ الصدقة مختص بالمندوبة فإذا أدخلنا فيه الزكاة الواجبة فال أقل من أن تدخل‬
‫أيضا الصدقة المندوبة وتكون الفائدة أن مصارف جميع الصدقات ليس إال هؤالء‪ ،‬واألقرب أن المراد‬ ‫ً‬ ‫فيه‬
‫من لفظ الصدقات هاهنا هو الزكوات الواجبة ويدل عليه وجوه‪:‬‬
‫األول‪ :‬أنه تعالى أثبت هذه الصدقات بالم التمليك لألصناف الثمانية‪ ،‬والصدقة المملوكة لهم ليست إال‬
‫الزكاة الواجبة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن ظاهر هذه اآلية يدل على أن مصرف الصدقات ليس إال لهؤالء الثمانية‪ ،‬وهذا الحصر إنما‬
‫يصح لو حملنا هذه الصدقات على الزكوات الواجبة‪ ،‬أما لو أدخلنا فيها المندوبات لم يصح هذا الحصر‪،‬‬
‫ألن الصدقات المندوبة يجوز صرفها إلى بناء المساجد‪ ،‬والرباطات‪ ،‬والمدارس‪ ،‬وتكفين الموتى‬
‫وتجهيزهم وسائر الوجوه‪.‬‬
‫اء} إنما يحسن ذكره لوكان قد سبق بيان تلك الصدقات‬ ‫الثالث‪ :‬أن قوله تعالى‪ِ{ :‬إ َّن َما الصدقات ِل ْل ُف َق َر ِ‬
‫وأقسامها حتى ينصرف هذا الكالم إليه‪ ،‬والصدقات التي سبق بيانها وتفصيلها هي الصدقات الواجبة‬
‫فوجب انصراف هذا الكالم إليها‪.‬‬
‫الحكم الثاني‪:‬‬
‫دلت هذه اآلية على أن هذه الزكاة يتولى أخذها وتفرقتها اإلمام ومن يلي من قبله‪ ،‬والدليل عليه أن اهلل‬
‫سهما فيها‪ ،‬وذلك يدل على أنه البد في أداء هذه الزكوات من عامل والعامل هو‬ ‫ً‬ ‫تعالى جعل للعاملين‬
‫الذي نصبه اإلمام ألخذ الزكوات‪ ،‬فدل هذا النص على أن اإلمام هو الذي يأخذ هذه الزكوات‪ ،‬وتأكد هذا‬
‫النص بقوله تعالى‪ُ :‬خ{ ْذ ِم ْن أموالهم َصدَ َق ًة} فالقول بأن المالك يجوز له إخراج زكاة األموال الباطنة‬
‫بنفسه إنما يعرف بدليل آخر‪ ،‬ويمكن أن يتمسك في إثباته بقوله تعالى‪َ :‬و{ ِفى أموالهم َح ٌّق َّل َّ‬
‫لساِئ ل ِ‬
‫حقا للسائل والمحروم وجب أن يجوز له دفعه إليه‬ ‫والمحروم} [الذاريات‪ ]19 :‬فإذا كان ذلك الحق ً‬
‫ابتداء‪.‬‬
‫الحكم الثالث‪:‬‬
‫نص القرآن يدل على أن العامل له في مال الزكاة حق‪ ،‬واختلفوا في أن اإلمام هل له فيه حق؟ فمنهم‬
‫من أثبته قال‪ :‬ألن العامل إنما قدر على ذلك العمل بتقويته وإمارته‪ ،‬فالعامل في الحقيقة هو اإلمام‪،‬‬
‫ومنهم من منعه وقال‪ :‬اآلية دلت على حصر مال الزكاة في هؤالء الثمانية‪ ،‬واإلمام خارج عنهم فال‬
‫يصرف هذا المال إليه‪.‬‬
‫الحكم الرابع‪:‬‬
‫غنيا هل يأخذ النصيب؟ قال الحسن‪ :‬ال يأخذ إال مع الحاجة وقال‬ ‫ً‬ ‫اختلفوا في هذا العامل إذا كان‬
‫غنيا ألنه يأخذه أجرة على العمل‪ ،‬ثم اختلفوا فقال بعضهم‪ :‬للعامل في مال‬ ‫ً‬ ‫الباقون‪ :‬يأخذ وإن كان‬
‫الزكاة الثمن‪ ،‬ألن اهلل تعالى قسم الزكاة على ثمانية أصناف فوجب أن يحصل له الثمن‪ ،‬كما أن من‬
‫أوصى بمال لثمانية أنفس حصل لكل واحد منهم ثمنه‪ ،‬وقال األكثرون‪ :‬بل حقه بقدر مؤنته عند الجباية‬
‫والجمع‪.‬‬
‫الحكم الخامس‪:‬‬
‫اتفقوا على أن مال الزكاة ال يخرج عن هذه الثمانية واختلفوا أنه هل يجوز وضعه في بعض األصناف‬
‫فقط؟ وقد سبق ذكر دالئل هاتين المسألتين‪ ،‬إال أنا إذا قلنا يجوز وضعه في بعض األصناف فقط فهذا‬
‫إنما يجوز في غير العامل‪ ،‬وأما وضعه بالكلية في العالم فذلك غير جائز باالتفاق‪.‬‬
‫الحكم السادس‪:‬‬
‫أن العامل والمؤلفة مفقودان في هذا الزمان‪ ،‬ففيه األصناف الستة واألولى صرف الزكاة إلى هذه‬
‫األصناف الستة على ما يقوله الشافعي‪ ،‬ألنه الغاية في االحتياط‪ ،‬أما إن لم يفعل ذلك أجزأه على ما‬
‫بيناه‪.‬‬
‫الحكم السابع‪:‬‬
‫اء والمساكين} يتناول الكافر والمسلم إال أن األخبار دلت على أنه ال يجوز صرف‬ ‫عموم قوله‪ِ { :‬ل ْل ُف َق َر ِ‬
‫الزكاة إلى الفقراء والمساكين وغيرهم إال إذا كانوا مسلمين‪.‬‬
‫واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه األصناف الثمانية وشرح أحوالهم‪ .‬قال‪َ { :‬ف ِر َ‬
‫يض ًة ّم َن اهلل} قال الزجاج‪:‬‬
‫يض ًة} منصوب على التوكيد‪ ،‬ألن قوله‪ِ{ :‬إ َّن َما الصدقات} لهؤالء جار مجرى قوله‪ :‬فرض اهلل‬ ‫{ َف ِر َ‬
‫الصدقات لهؤالء فريضة‪ ،‬وذلك كالزجر عن مخالفة هذا الظاهر‪ ،‬وعن النبي صلى اهلل عليه وسلم أنه قال‪:‬‬
‫«إن اهلل تعالى لم يرض بقسمة الزكاة أن يتوالها ملك مقرب وال نبي مرسل حتى تولى قسمتها بنفسه»‪.‬‬
‫والمقصود من هذه التأكيدات تحريم إخراج الزكاة عن هذه األصناف‪.‬‬
‫يم} ال يشرع إال ما هو األصوب األصلح‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬ ‫يم} أي أعلم بمقادير المصالح { َح ِك ٌ‬
‫ثم قال‪{ :‬واهلل عَ ِل ٌ‬

‫‪ .11‬تفسير القشيري‬
‫المَؤ َّل َف ِة ُق ُلو ُبهُ ْم َو ِفى الرِّ َق ِ‬
‫اب}‪.‬‬ ‫ين عَ لَ ْيهَ ا َو ُ‬
‫ام ِل َ‬
‫اكين ِ َوالعَ ِ‬
‫ألم َس ِ‬ ‫ات ِل ْل ُف َق َر ِ‬
‫آء َو َ‬ ‫الصدَ َق ُ‬ ‫قوله ّ‬
‫جل ذكره‪ِ{ :‬إ َّن َما َ‬
‫الفقير‪ ،‬والفرق ِ بينه وبين المسكين لما احتاجوا إليه في قسمة الزكاة المفروضة‪..‬‬ ‫صفة‬
‫ِ‬ ‫الفقهاء في‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫تكلم‬
‫ِ‬
‫والفقير الذي له ب ُْل َغ ٌة من العيش‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫المسكين الذي ال شيء له‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫فأبو حنيفة رحمة اهلل عليه‪ -‬يقول‪:‬‬
‫ويقول الشافعي رحمة اهلل عليه‪ :‬الفقير الذي ال شيء له‪ ،‬والمسكين الذي له ب ُْل َغ ٌة من العيش‪ -‬أي‬
‫بالعكس‪.‬‬
‫وأهل المعرفة اختلفوا فيه؛ فمنهم من قال باألول‪ ،‬ومنهم من قال بالقول الثاني‪ ،‬واختالفهم ليس‬
‫واحد منهم أشار إلى ما هو حاله ووقته ووجوده وشربه ومقامه‪َ .‬ف ِم ْن‬ ‫ٍ‬ ‫كاختالف الفقهاء؛ وذلك ألن َّ‬
‫كل‬
‫الزكاة حاله ووقته ووجوده وشربه ومقامه‪َ .‬ف ِم ْن أهل المعرفة َم ْن رأى َأ َّن‬ ‫ِ‬ ‫أهل المعرفة َم ْن رأى َأ َّن َأ ْخ َذ‬
‫الزكاة المفروضة َأ ْولى‪ ،‬قالوا إلى اهلل تعالى جعل ذلك ِم ْلكا للفقير‪ ،‬فهو َأ َح ُّل له مما يُ تَ َط َّو ُع به عليه‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َأ ْخ َذ‬
‫أولى من أن يزاحموا أرباب‬ ‫ومنهم من قال‪ :‬الزكاة المفروضة مستحقة ألقوام‪ ،‬ورأوا اإليثار على اإلخوان ْ‬
‫ً‬
‫اختيارا‪َ ..‬ف ِل َم نأخذ الزكاة المفروضة؟‬ ‫السهمان‪ -‬مع احتياجهم أخذ الزكاة‪ -‬وقالوا‪ :‬نحن آثرنا َ‬
‫الف ْق َر‬
‫ثم على مقتضى أصولهم في الجملة‪ -‬ال في أخذ الزكاة‪ -‬للفقر مراتب‪:‬‬
‫فقره‪ ،‬والفقير َم ْن يكتفي‬ ‫المسكنة؛ فذو الحاجة َم ْن يرضى بدنياه وتسدُّ الدنيا َ‬ ‫ُ‬ ‫الفقر ثم‬
‫ُ‬ ‫الحاجة ثم‬ ‫ُ‬ ‫أو ُلها‬‫َّ‬
‫فقره‪ .‬والمسكين َم ْن ال يرضى بغير مواله؛ ال إلى الدنيا يلتفت‪ ،‬وال باآلخرة يشتغل‪،‬‬ ‫بعقباه وتج ُب ُر الجنة ُ‬
‫ً‬
‫سكينا‪،‬‬ ‫مسكينا وأمتني‬‫ً‬ ‫وال بغير مواله يكتفي؛ قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم «اللهم أحيني‬
‫واحشرني في زمرة المساكين» وقال صلى اهلل عليه وسلم «أعوذ بك من الفقر» ألن عليه بقية؛ فهو‬
‫محجوب عن ر ِّبه‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ببقيته‬
‫ويحسن أن يقال إن الفقر الذي استعاذ منه أال يكون له منه شيء‪ ،‬والمسكنة المطلوبة أن تكون له ب ُْل َغ ٌة‬
‫حقه‪ ،‬ولذلك استعاذ‬ ‫ليتفر َغ بوجود تلك البلغة إلى العبادة؛ ألنه إذا لم تكن له بلغة َش َغلَه َف ْق ُره عن أداء ِّ‬ ‫َّ‬
‫منه‪.‬‬
‫سماء ُت ِظله وال‬ ‫َ‬ ‫وقوم َس َم ْت ِه َممهُ م عن هذا االعتبار‪ -‬وهذا َأ ْولى بأصولهم‪ -‬فالفقير الصادق عندهم َم ْن ال‬
‫معلوم يشغله‪ ،‬فهو عبدٌ باهلل هلل‪ ،‬يردُّ ه إلى التمييز في أوان العبودية‪ ،‬وفي غير هذا الوقت‬ ‫َ‬ ‫أرض ُت ِق ُّله وال‬ ‫َ‬
‫صطلَم عن شواهده‪ِ ،‬‬
‫واق ٌف بر ِّبه‪ُ ،‬من َْش ٌّق عن جملته‪.‬‬ ‫فهو ُم َ‬
‫ير من كُ ِس َر ْت فقاره‪ -‬هذا في العربية‪.‬‬ ‫ويقال َ‬
‫الف ِق ُ‬
‫آثاره‪ ،‬فكأنه‬ ‫لمه‪ُ -‬‬
‫اص َط َ‬ ‫والفقير‪ -‬عندهم‪َ -‬م ْن َس َق َط اختياره‪ ،‬وتعطلت عنه دياره‪ ،‬واندرست‪ -‬الستيالء َم ْن ْ‬
‫أخباره‪ ،‬وأنشدوا‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫تبق منه إال‬ ‫لم َ‬
‫حاله بباب مقصوده‪ ،‬ال يبرح عن‬ ‫قريبا‪ ،‬ويقال المسكين هو الذي أسكنه ُ‬ ‫ً‬ ‫رت أنهم رحلوا‬ ‫َأ َّما الرسومُ َف َخ َّب ْ‬
‫ً‬
‫لحظة عن ر ِّبه‪.‬‬ ‫ُسدَّ ِته‪ ،‬فهو ُمعْ تَ ِك ٌف بقلبه‪ ،‬وال يغفل‬
‫ين عَ لَ ْيهَ ا} فعلى لسان العلم‪َ :‬م ْن يتولى جمع الزكاة على شرائطها المعلومة‪ .‬وعلى لسان‬ ‫وأما { َوالعَ الَ ِم َ‬ ‫َّ‬
‫اإلشارة‪َ :‬أ ْولَى الناس بالتصاون عن أخذ الزكاة َم ْن َصدَ َق في أعماله هلل‪ ،‬فإنهم ال يرجون على أعمالهم‬
‫ضا‪ ،‬وال يتطلبون في مقابلة أحوالهم عَ َرضا‪ ،‬وأنشدوا‪:‬‬ ‫ِع َو ً‬
‫رجى عليه ثواب‬ ‫هوى يُ َ‬
‫ً‬ ‫قبيح‬
‫ٌ‬ ‫وما أنا بالباغي على الحب ِر ْش َو ٌة ***‬
‫ُ‬
‫نشاطه؛‬ ‫َّ‬
‫ليتوفر في الدين‬ ‫ال قلبه بنوع إرفاق ٍ معه‪،‬‬ ‫فم ْن يُ ْستَ َم ُ‬
‫المؤلفة قلوبهم‪ -‬على لسان العلم‪َ -‬‬ ‫َّ‬ ‫وأما‬
‫ّ‬
‫استعطافا لهم‪ ،‬وبيان ذلك مشهو ٌر في مسائل الفقه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫سهم‬
‫ٌ‬ ‫فلهم من الزكاة‬
‫ثواب أو لرؤية مقام أو الطالع حال‪..‬‬
‫ٍ‬ ‫حضوره بسبب َط َمع أو لن َْيل‬ ‫ُ‬ ‫وحاشا أن يكون في القوم َم ْن يكون‬
‫فذلك في صفة العوام‪ ،‬فأما الخواص فكما قالوا‪.‬‬
‫فانيا عن حظه *** وعن الهوى واإل ْن ِس واألحباب‬ ‫ً‬ ‫من لم يكن بك‬
‫مفترقا من األسباب‬ ‫ً‬ ‫أو تيمته صبابة جمعت له *** ما كان‬
‫مآب‬ ‫واقف *** ِل َمنَال ٍّ‬ ‫ٌ‬
‫الح ْسن ِ ِ‬ ‫حظ أو ُ‬ ‫ِ‬ ‫فألن بين المراتب‬
‫َّ‬
‫اب}‪.‬‬ ‫جل ذكره‪َ { :‬و ِفى الرِّ َق ِ‬ ‫قوله ّ‬
‫وهم على لسان العلم‪ :‬المكا َت ُبون‪ ،‬وشرحه في مسائل الفقه معلوم‪.‬‬
‫يستفزهم طلب‪َ ،‬ف َم ْن‬
‫ُّ‬ ‫وهؤالء ال يتحررون ولهم تعريج على سبب‪ ،‬أو لهم في الدنيا والعقبى أرب‪ ،‬فهم ال‬
‫كان به بقية من هذه الجملة فهو عبدٌ لم يتحرر‪ ،‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وعلى آله‪:‬‬
‫«المكا َت ُب عَ ْبدٌ ما بقي عليه درهم» وأنشد بعضهم‪:‬‬
‫أتمنى على الزمان ُم َحاالً *** َأ ْن ترى مقلتاي َط ْلعَ َة ُحرِّ‬
‫ين}‪.‬‬
‫ار ِم َ‬ ‫جل ذكره‪َ { :‬و َ‬‫قوله ّ‬
‫الغ ِ‬
‫وهم على لسان العلم‪َ :‬م ْن عليهم دَ يْ ٌن في غير معصية‪.‬‬
‫وهؤالء القوم ال يقضى عنهم ما لزمهم امتالك الحق‪ ،‬ولهذا قيل المعرفة غريم ال يُ ْق َضى دَ يْ نُه‪.‬‬
‫اهلل}‪.‬‬
‫جل ذكره‪َ { :‬و ِفى َس ِبيل ِ ِ‬ ‫قوله ّ‬
‫سهم على ما جاء بيا ُنه في مسائل الفقه‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫جب له في الزكاة‬ ‫سبيل اهلل َو َ‬ ‫َ‬ ‫وعلى لسان العلم‪َ :‬م ْن سلك‬
‫تتوج ُب عليه المطالبات؛ فيبذل أوالً مالَه ثم جاهَه ثم َن ْفسه ثم‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫سبيل اهلل‬ ‫وفي هذه الطريقة‪َ :‬م ْن سلك‬
‫روحه‪ ..‬وهذه أول َقدَ ٍم في الطريق‪.‬‬ ‫َ‬
‫الس ِبيل ِ}‪.‬‬
‫جل ذكره‪َ { :‬وابْن ِ َّ‬ ‫قوله ّ‬
‫وطنه على أوصاف مخصوصة‪.‬‬ ‫الغربة‪ ،‬وفا َر َق َ‬ ‫وهو على لسان العلم‪َ :‬م ْن وقع في ُ‬
‫مجلسه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫والخلوة‬ ‫طعامه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فالجوع‬ ‫ِّ‬
‫الحق؛‬ ‫وعند القوم‪ :‬إذا َت َغ َّر َب العَ بدُ عن مألوفات أوطانه فهو في ِق َرى‬
‫والحق‪ -‬تعالى‪ -‬مشهودُ ه‪ .‬قال تعالى‪َ { :‬و َس َق ُ‬
‫اه ْم َر ُّبهُ ْم َش َرابًا َطهُ ً‬
‫ورا}‬ ‫ُّ‬ ‫والمحبة شرابُه‪ ،‬واُأل ْن ُس شهوده‪،‬‬‫ُ‬
‫وغدا شراب الثواب‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬
‫المحاب‬ ‫شراب‬
‫ُ‬ ‫[اإلنسان‪ :]21 :‬لقوم َوعْ دٌ في الجنة‪ ،‬وآلخرين َن ْقدٌ في الوقت؛ اليوم‬
‫وفي معناه أنشدوا‪:‬‬
‫ً‬
‫ثالثا فَأ ب َ‬
‫ْص َرا‬ ‫قوم قد مشى من شرابنا *** وأعمى سقيناه‬ ‫قعد ٍ‬ ‫َو ُم ِ‬
‫يوما فأخبرا‬ ‫ً‬ ‫الكأس‬
‫َ‬ ‫ينط ْق ثالثين ِح َّج ًة *** َأ ِد ْرنا عليه‬ ‫وأخرس لم ِ‬ ‫َ‬

‫‪ .12‬تفسير األلوسي‬
‫ين َو ِفي َس ِبيل ِ‬
‫ار ِم َ‬ ‫ين عَ لَ ْيهَ ا َو ْال ُمَؤ َّل َف ِة ُق ُلو ُبهُ ْم َو ِفي الرِّ َق ِ‬
‫اب َو ْال َغ ِ‬ ‫اكين ِ َو ْالعَ ِ‬
‫ام ِل َ‬ ‫اء َو ْال َم َس ِ‬
‫ات ِل ْل ُف َق َر ِ‬
‫الصدَ َق ُ‬
‫{ِإ َّن َما َّ‬
‫يم (‪})60‬‬ ‫يم َح ِك ٌ‬ ‫الس ِبيل ِ َف ِر َ‬
‫يض ًة ِم َن اهَّلل ِ َواهَّلل ُ عَ ِل ٌ‬ ‫اهَّلل ِ َوابْن ِ َّ‬
‫{إ َّن َما الصدقات ْلل ُف َق َر اء والمساكين} إلخ يعني أن الذي ينبغي أن يقسم مال اهلل عليه من اتصف باحدى‬
‫هذه الصفات دون غيره إذ القصد الصالح والمنافقون ليس فيهم سوى الفساد فال يستحقونه وفي ذلك‬
‫حسم ألطماعهم الفارغة ورد لمقالتهم الباطلة‪ ،‬والمراد من الصدقات الزكوات فيخرج غيرها من التطوع‪،‬‬
‫والفقير على ما روي عن اإلمام أبي حنيفة رضي اهلل تعالى عنه من له أدنى شيء وهو ما دون النصاب‬
‫أو قدر نصاب غير نام وهو مستغرق في الحاجة‪ ،‬والمسكين من ال شيء له فيحتاج للمسألة لقوته وما‬
‫يوراى بدنه ويحل له ذلك بخالف األول حيث ال تحل له المسألة فإنها ال تحل لمن يملك قوت يومه بعد‬
‫ستر بدنه‪ ،‬وعند بعضهم ال تحل لمن كان كسوبًا أو يملك خمسين درهما‪ .‬فقد أخرج أبو داود‪ .‬والترمذي‬
‫والنسائي عن ابن مسعود قال‪« :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من سألنا وله ما يغنيه جاء يوم‬
‫القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح قيل‪ :‬يا رسول اهلل وما يغنيه؟ قال‪ :‬خمسون‬
‫درهم ا أو قيمتها من الذهب» وإلى هذا ذهب الثوري‪ .‬وابن المبارك‪ .‬وأحمد واسحق‪ ،‬وقيل‪ :‬من ملك‬ ‫ً‬
‫درهم ا حرم عليه السؤال لما أخرج أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال‪« :‬قال رسول اهلل صلى‬ ‫ً‬ ‫أربعين‬
‫درهما‪.‬‬
‫ً‬ ‫اهلل عليه وسلم من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف» وكان األوقية في ذلك الزمان أربعين‬
‫فقيرا‪ ،‬وال يخرجه عن الفقر ملك نصب كثيرة غير‬ ‫ً‬ ‫ويجوز صرف الزكاة لمن ال تحل له المسألة بعد كونه‬
‫نامية إذا كانت مستغرقة للحاجة‪ ،‬ولذا قالوا‪ :‬يجوز للعالم وإن كانت له كتب تساوي نص ًبا كثيرة إذا كان‬
‫محتاج ا إليها للتدريس ونحوه أخذ الزكاة بخالف العامي وعلى هذا جميع آالت المحترفين‪.‬‬ ‫ً‬
‫أو ِم ْس ِكينًا َذا‬‫وعلى ما نقل عن اإلمام يكون المسكين أسوأ حااًل من الفقير‪ ،‬واستدل بقوله تعالى‪ْ { :‬‬
‫َمتْ َربَة} [البلد‪ ]16 :‬إلخ يعني أن الذي ينبغي أن يقسم مال اهلل عليه من اتصف باحدى هذه الصفات‬
‫دون غيره إذ القصد الصالح والمنافقون ليس فيهم سوى الفساد فال يستحقونه وفي ذلك حسم‬
‫ألطماعهم الفارغة ورد لمقالتهم الباطلة‪ ،‬والمراد من الصدقات الزكوات فيخرج غيرها من التطوع‪،‬‬
‫والفقير على ما روي عن اإلمام أبي حنيفة رضي اهلل تعالى عنه من له أدنى شيء وهو ما دون النصاب‬
‫أو قدر نصاب غير نام وهو مستغرق في الحاجة‪ ،‬والمسكين من ال شيء له فيحتاج للمسألة لقوته وما‬
‫يوراى بدنه ويحل له ذلك بخالف األول حيث ال تحل له المسألة فإنها ال تحل لمن يملك قوت يومه بعد‬
‫ستر بدنه‪ ،‬وعند بعضهم ال تحل لمن كان كسوبًا أو يملك خمسين درهما‪.‬‬
‫فقد أخرج أبو داود‪ .‬والترمذي والنسائي عن ابن مسعود قال‪« :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من‬
‫سألنا وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح قيل‪ :‬يا رسول اهلل‬
‫درهم ا أو قيمتها من الذهب» وإلى هذا ذهب الثوري‪ .‬وابن المبارك‪ .‬وأحمد‬ ‫ً‬ ‫وما يغنيه؟ قال‪ :‬خمسون‬
‫درهم ا حرم عليه السؤال لما أخرج أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال‪:‬‬ ‫ً‬ ‫واسحق‪ ،‬وقيل‪ :‬من ملك أربعين‬
‫«قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف» وكان األوقية في ذلك‬
‫فقيرا‪ ،‬وال يخرجه عن الفقر‬ ‫ً‬ ‫درهم ا‪ .‬ويجوز صرف الزكاة لمن ال تحل له المسألة بعد كونه‬
‫ً‬ ‫الزمان أربعين‬
‫ملك نصب كثيرة غير نامية إذا كانت مستغرقة للحاجة‪ ،‬ولذا قالوا‪ :‬يجوز للعالم وإن كانت له كتب‬
‫محتاجا إليها للتدريس ونحوه أخذ الزكاة بخالف العامي وعلى هذا جميع‬ ‫ً‬ ‫تساوي نص ًبا كثيرة إذا كان‬
‫آالت المحترفين‪.‬‬
‫وعلى ما نقل عن اإلمام يكون المسكين أسوأ حااًل من الفقير‪ ،‬واستدل بقوله تعالى‪َ{ :‬أ ْو ِم ْس ِكينًا َذا‬
‫َمتْ َرب ٍَة} [البلد‪ ]61 :‬أي ألصق جلده بالتراب في حفرة استتر بها مكان اإلزار وألصق بطنه به لفرط الجوع‬
‫فإنه يدل على غاية الضرر والشدة ولم يوصف الفقير بذلك‪ ،‬وبأن األصمعي‪ .‬وأبا عمرو بن العالء‬
‫وغيرهما من أهل اللغة فسروا المسكين ن ال شيء له‪ ،‬والفقير ن له بلغة من العيش‪ .‬وأجيب بأن تمام‬
‫االستدالل باآلية موقوف على أن الصفة كاشفة وهو خالف الظاهر‪ ،‬وأن النقل عن بعض أهل اللغة‬
‫معارض بالنقل عن البعض اآلخر‪ .‬وقال الشافعي عليه الرحمة‪ :‬الفقير من ال مال له وال كسب يقع موقعً ا‬
‫من حاجته‪ ،‬والمسكين من له مال أو كسب ال يكفيه‪ ،‬فالفقير عنده أسوأ حااًل من المسكين‪ ،‬واستدل له‬
‫بقوله تعالى‪َ { :‬وَأ َّما السفينة َفكَا َن ْت لمساكين} [الكهف‪ ]79 :‬فأثبت للمسكين سفينة‪ ،‬وا رواه الترمذي عن‬
‫أنس‪ .‬وابن ماجه‪ .‬والحاكم عن أبي سعيد قاال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم «اللهم أحيني‬
‫مسكينًا وأمتني مسكي ًن ا واحشرني في زمرة المساكين» مع ما رواه أبو داود عن أبي بكرة أنه عليه‬
‫الصالة والسالم كان يدعو بقوله‪« :‬اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر» وخبر «الفقر فخري» كذب ال‬
‫أصل له‪ .‬وبأن اهلل تعالى قدم الفقير في اآلية ولو لم تكن حاجته أشد لما بدأ به‪ ،‬وبأن الفقير عنى‬
‫المفقور أي مكسور الفقار أي عظام الصلب فكان أسوأ‪ .‬وأجيب عن األول بأن السفينة لم تكن ملكًا لهم‬
‫ترحما كما في الحديث‪« :‬مساكين أهل‬ ‫ً‬ ‫بل هم أجراء فيها أو كانت عارية معهم أو قيل لهم مساكين‬
‫النار»‪.‬‬
‫وقوله‪:‬‬
‫مساكين أهل الحب حتى قبورهم *** عليها تراب الذل بين المقابر‬
‫وهذا أولى‪ ،‬وعن الثاني بأن الفقر المتعوذ منه ليس إال فقر النفس لما روي أنه صلى اهلل عليه وسلم كان‬
‫يسأل العفاف والغنى والمراد به غنى النفس ال كثرة الدنيا‪ ،‬وعن الثالث بأن التقديم ال دليل فيه إذ له‬
‫اعتبارات كثيرة في كالمهم‪ ،‬وعن الرابع بأنا ال نسلم أن الفقير مأخوذ من الفقار لجواز كونه من فقرت له‬
‫فقرة من مالي إذا قطعتها فيكون له شيء‪ ،‬وأيً ا ما كان فهما صنفان‪ ،‬وقال الجبائي‪ :‬إنهما صنف واحد‬
‫والعطف لالختالف في المفهوم‪ ،‬وروي ذلك عن محمد‪ .‬وأبي يوسف‪ ،‬وفائدة الخالف تظهر فيما إذا‬
‫أوصى بثلث ماله مثال لفالن وللفقراء والمساكين فمن قال‪ :‬إنهما صنف واحد جعل لفالن النصف ومن‬
‫قال‪ :‬إنهما صنفان جعل له الثلث من ذلك {والعاملين عَ لَ ْيهَ ا} وهم الذين يبعثهم اإلمام لجبايتها‪ ،‬وفي‬
‫البحر أن العامل يشمل العاشر والساعي‪ .‬واألول من نصبه اإلمام على الطريق ليأخذ الصدقات من التجار‬
‫المارين بأموالهم عليه‪.‬‬
‫والثاني هو الذي يسعى في القبائل ليأخذ صدقة المواشي في أماكنها‪ ،‬ويعطي العامل ما يكفيه وأعوانه‬
‫باقي ا إال إذا استغرقت كفايته الزكاة فال يزاد على النصف ألن‬ ‫بالوسط مدة ذهابهم وإيابهم ما دام المال ً‬
‫التصنيف عين اإلنصاف‪.‬‬
‫وعن الشافعي أنه يعطي الثمن ألن القسمة تقتضيه وفيه نظر‪ ،‬وقيد بالوسط ال يجوز أن يتبع شهوته في‬
‫محضا‪ ،‬وعلى اإلمام أن يبعث من يرضي بالوسط من غير‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫إسرافا‬ ‫المأكل والمشرب والملبس لكونه‬
‫إسراف وال تقتير‪ ،‬وببقاء المال ألنه لو أخذ الصدقة وضاعت من يده بطلت عمالته وال يعطي من بين‬
‫المال شيًئ ا وما يأخذه صدقة‪ ،‬ومن هنا قالوا‪ :‬ال تحل العمالة لهاشمي لشرفه‪ ،‬وإنما حلت للغني مع حرمة‬
‫الصدقة عليه ألنه فرغ نفسه لهذا العمل فيحتاج إلى الكفاية‪ ،‬والغنى ال يمنع من تناولها عند الحاجة‬
‫كابن السبيل كذا في البدائع‪ ،‬والتحقيق أن في ذلك شبهً ا باالجرة وشبهً ا بالصدقة‪ ،‬فباالعتبار األول حلت‬
‫للغنى ولذا ال يعطى لو أداها صاحب المال إلى اإلمام‪ ،‬وباالعتبار الثاني ال تحل للهاشمي‪ .‬وفي النهاية‬
‫رجل من بني هاشم استعمل على الصدقة فأجرى له منها رزق فإنه ال ينبغى له أن يأخذ من ذلك‪ ،‬وإن‬
‫عمل فيها ورزق من غيرها فال بأس به‪ ،‬وهو يفيد صحة توليته وأن أخذه منها مكروه إلحرام‪ ،‬وصرح‬
‫كافرا‪ ،‬ومنه يعلم حرمة تولية اليهود على بعض‬ ‫ً‬ ‫هاشميا أو عبدً ا أو‬
‫ً‬ ‫في الغاية بعدم صحة كون العامل‬
‫األعمال وقد تقدمت نبذة من الكالم على ذلك {والمؤلفة ُق ُلو ُبهُ ْم} وهم كانوا ثالثة أصناف‪ .‬صنف كان‬
‫يؤلفهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ليسلموا‪ .‬وصنف أسلموا لكن على ضعف كعيينة بن حصن‪.‬‬
‫واألقرع بن حابس‪ .‬والعباس بن مرداس السلمي فكان عليه الصالة والسالم يعطيهم لتقوى نيتهم في‬
‫اإلسالم‪ .‬وصنف كانوا يعطون لدفع شرهم عن المؤمنين‪ ،‬وعد منهم من يؤلف قلبه بإعطاء شيء من‬
‫الصدقات على قتال الكفار ومانعي الكاة‪ .‬وفي الهداية أن هذا الصنف من األصناف الثمانية قد سقط‬
‫وانعقد إجماع الصحابة على ذلك في خالفة الصديق رضي اهلل تعالى عنه‪ .‬روي أن عيينة واألقرع جاءا‬
‫خطا فمزقه عمر رضي اهلل تعالى عنه وقال‪ :‬هذا شيء يعطيكموه‬ ‫أرض ا من أبي بكر فكتب بذلك ً‬ ‫يطلبان ً‬
‫تأليف ا لكم فأما اليوم فقد أغز اهلل تعالى اإلسالم وأغني عنكم فإن ثبتم‬ ‫ً‬ ‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫على اإلسالم وإال فبيننا وبينكم السيف‪ .‬فرجعوا إلى أبي بكر فقالوا‪ :‬أنت الخليفة أم عمر؟ بذلت لنا‬
‫الخط ومزقه عمر‪ ،‬فقال رضي اهلل تعالى عنه‪ :‬هو إن شاء ووافقه‪ ،‬ولم ينكر عليه أحد من الصحابة‬
‫رضي اهلل تعالى عنهم مع احتمال أن فيه مفسدة كارتداد بعض منهم وإثارة ثائرة‪ .‬واختلف كالم القوم‬
‫في وجه سقوطه بعد النبي صلى اهلل عليه وسلم بعد ثبوته بالكتاب إلى حين وفاته بأبي هو وأمي عليه‬
‫الصالة والسالم فمنهم من ارتكب جواز نسخ ما ثبت بالكتاب باإلجماع بناء على أن اإلجماع حجة‬
‫قطعية كالكتاب وليس بصحيح من المذهب؛ ومنهم من قال‪ :‬هو من قبيل انتهاء الحكم بانتهاء علته‬
‫كانتهاء جواز الصوم بانتهاء وقته وهو النهار‪ .‬ورد بأن الحكم في البقاء ال يحتاج إلى علة كما في الرمل‬
‫واالضطباع في الطواف فانتهاؤها ال يستلزم انتهاءه وفيه بحث‪ .‬وقال عالء الدين عبد العزيز‪ :‬واألحسن‬
‫أن يقال‪ :‬هذا تقرير لما كان في زمن النبي صلى اهلل عليه وسلم من حيث المعنى‪ ،‬وذلك أن المقصود‬
‫بالدفع إليهم كان إعزاز اإلسالم لضعفه في ذلك الوقت لغلبة أهل الكفر وكان اإلعزاز بالدفع‪ ،‬ولما تبدلت‬
‫الحال بغلبة أهل اإلسالم صار اإلعزاز في المنع‪ ،‬وكان اإلعطاء في ذلك الزمان والمنع في هذا الزمان نزلة‬
‫نسخا‪ ،‬كالمتيمم وجب عليه‬ ‫ً‬ ‫اآللة إلعزاز الدين واإلعزاز هو المقصود وهو باق على حاله فلم يكن ذلك‬
‫استعمال التراب للتطهير ألنه آلة متعينة لحصول التطهير عند عدم المار فإذا تبدلت حاله فوجد الماء‬
‫نسخا لألول فكذا هذا‬ ‫ً‬ ‫سقط األول ووجب استعمال الماء ألنه صار متعينًا لحصول المقصود ال يكون هذا‬
‫وهو نظير إيجاب الدية على العاقلة فإنها كانت واجبة على العشيرة في زمن النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وبعده على أهل الديوان ألن اإليجاب على العاقلة بسبب النصرة واالستنصار في زمنه صلى اهلل‬
‫ً‬
‫نسخا بل‬ ‫عليه وسلم كان بالعشيرة وبعده عليه الصالة والسالم بأهل الديوان‪ ،‬فإيجابها عليهم لم يكن‬
‫تقرير ا للمعنى الذي وجبت الدية ألجله وهو االستنصار اه‪.‬‬
‫ً‬ ‫كان‬
‫واستحسنه في النهاية‪.‬‬
‫وتعقبه ابن الهمام بأن هذا ال ينفي النسخ ألن إباحة الدفع إليهم حكم شرعي كان ثابتً ا وقد ارتفع‪ ،‬وقال‬
‫بعض المحققين‪ :‬إن ذلك نسخ وال يقال‪ :‬نسخ الكتاب باإلجماع ال يجوز على الصحيح ألن الناسخ دليل‬
‫اإلجماع ال هو بناء على أنه ال إجماع إال عن مستند فإن ظهر وإال وجب الحكم بأنه ثابت‪ ،‬على أن اآلية‬
‫التي أشار إليها عمر رضي اهلل تعالى عنه وهي قوله سبحانه‪َ { :‬و ُقل ِ الحق ِمن َّر ّبكُ ْم َف َمن َشاء َف ْل ُيْؤ ِمن‬
‫َو َمن َشاء َف ْل َيكْ ُف ْر} [الكهف‪ ]29 :‬يصلح لذلك وفيه نظر‪ ،‬فإنه إنما يتم لو ثبت نزول هذه اآلية بعد هذه‬
‫ولم يثبت‪ ،‬وقال قوم‪ :‬لم يسقط سهم هذا الصنف‪ ،‬وهو قول الزهري وأبي جعفر محمد بن علي‪ .‬وأبي‬
‫ثور‪ ،‬وروي ذلك عن الحسن‪ ،‬وقال أحمد‪ :‬يعطون أن احتاج المسلمون إلى ذلك‪.‬‬
‫وقال البعض‪ :‬إن المؤلفة قلوبهم مسلمون وكفار والساقط سهم الكفار فقط‪ .‬وصحح أنه عليه الصالة‬
‫والسالم كان يعطيهم من خمس الخمس الذي كان خاص ماله صلى اهلل عليه وسلم { َو ِفي الرقاب} أي‬
‫للصرف في فك الرقاب بأن يعان المكاتبون بشيء منها على أدار نجومهم‪ ،‬وقيل‪ :‬بأن يبتاع منها الرقاب‬
‫فتعتق‪ ،‬وقيل‪ :‬بأن يفدي األساري‪ ،‬وإلى األول ذهب النخعي‪ .‬والليث‪ .‬والزهري‪ .‬والشافعي‪ ،‬وهو المروى‬
‫عن سعيد بن جبير وعليه أكثر الفقهاء‪ ،‬وإلى الثاني ذهب مالك‪ .‬وأحمد‪ .‬وإسحق‪ ،‬وعزاه الطيبي إلى‬
‫الحسن‪ ،‬وفي تفسير الطبري أن األول هو المنقول عنه {والغارمين} أي الذين عليهم دين‪ ،‬والدفع إليهم‬
‫كما في الظهيرية أولى من الدفع إلى الفقير وقيدوا الدين بكونه في غير معصية كالخمر واإلسراف فيما‬
‫ال يعنيه‪ ،‬لكن قال النووي في المنهاج قلت‪ :‬واألصح أن من استدان للمعصية يعطي إذا تاب وصححه‬
‫مطلق ا قال‪ :‬إنه قد يظهر التوبة لألخذ‪ ،‬واشترط أن ال يكون لهم ما يوفون به دينهم‬ ‫ً‬ ‫في الروضة‪ ،‬والمانع‬
‫فاضاًل عن حوائجهم ومن يعولونه‪ ،‬وإال فمجرد الوفاء ال يمنع من االستحقاق‪ ،‬وهو أحد قولين عند‬
‫الشافعية وهو األظهر‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬ال يشترط لعموم اآلية‪ .‬وأطاق القدوري‪ .‬وصاحب الكنز من أصحابنا المديون في باب المصرف‪،‬‬
‫وقيده في الكافي بأن ال يملك نصابًا فضاًل عن دينه ووذكر في البحر أنه المراد بالغارم في اآلية إذ هو‬
‫في اللغة من عليه دين وال يجد قضاء كما ذكره العتبي‪ .‬واعتذر عن عدم التقييد بأن الفقر شرط في‬
‫األصناف كلها إال العامل وابن السبيل إذا كان له في وطنه مال فهو نزلة الفقير‪ ،‬وهل يشترط حلول‬
‫الدين أوال قوالن للشافعية‪ .‬ويعطي عندهم من استدان إلصالح ذات البين كأن يخاف فتنة بين قبيلتين‬
‫ً‬
‫مطلقا‪ ،‬وقيل‪ :‬إن‬ ‫تنازعتا في قتيل لم يظهر قاتله أو ظهر فأعطي الدية تسكينًا للفتنة‪ ،‬ويعطى مع الغنى‬
‫غنيا بنقد ال يعطى { َو ِفى َس ِبيل ِ اهلل}‪.‬‬
‫كان ً‬
‫أريد بذلك عند أبي يوسف منقطعوا الغزاة‪ ،‬وعند محمد منقطعوا الحجيج‪ .‬وقيل‪ :‬المراد طلبة العلم‬
‫واقتصر عليه في الفتاوي الظهيرية‪ ،‬وفسره في البدائع بجميع القرب فيدخل فيه كل من سعي في‬
‫طاعة اهلل تعالى وسبل الخيرات‪ .‬قال في البحر‪ :‬وال يخفى أن قيد الفقر البد منه على الوجوه كلها‬
‫فحينئد ال تظهر ثمرته في الزكاة‪ .‬وإنما تظهر في الوصايا واألوقاف انتهى‪ .‬وفي النهاية فإن قيل‪ :‬إن‬
‫قوله سبحانه‪َ { :‬و ِفى َس ِبيل ِ اهلل} مكرر سواء أريد منقطع الغزاة أو غيره ألنه إما أن يكون له في وطنه‬
‫مال أم ال فإن كان فهو ابن السبيل وإن لم يكن فهو فقير‪ ،‬فمن أين يكون العدد سبعة على ما يقول‬
‫األصحاب أو ثمانية على ما يقول غيرهم‪ .‬وأجيب بأنه فقير إال أنه ازداد فيه شيء آخر سوى الفقر وهو‬
‫االنقطاع في عبادة اهلل تعالى من جهاد أو حج فلذا غاير الفقير المطلق فإن المقيد يغاير المطلق ال‬
‫أيض ا وهو زيادة التحريض والترغيب في رعاية جانبه وإذا كان‬ ‫محالة‪ ،‬ويظهر أثر التغاير في حكم آخر ً‬
‫كذلك لم تنقص المصارف عن سبعة وفيه تأمل انتهى‪ ،‬وال يخفي وجهه‪ .‬وذكر بعضهم أن التحقيق ما‬
‫غني ا في بلده بداره وخدمه وفرسه وله فضل دراهم حتى ال‬ ‫ذكره الجصاص في األحكام أن من كان ً‬
‫محتاجا له في إقامته فيجوز أن‬‫ً‬ ‫تحل له الصدقة فإذا عزم على سفر جهاد احتاج لعدة وسالح لم يكن‬
‫غني ا في مصره وهذا معنى قوله صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬الصدقة تحل‬ ‫يعطي من الصدقة وإن كان ً‬
‫للغازي الغني» فافهم وال تغفل { وابن السبيل} وهو المسافر المنقطع عن ماله‪ ،‬واالستقراض له خير من‬
‫قبول الصدقة على ما في الظهيرية‪ .‬وفي فتح القدير أنه ال يحل له أن يأخذ أكثر من حاجته‪ ،‬وألحق به‬
‫تاجرا له دين على الناس ال يقدر‬‫ً‬ ‫كل من هو غائب عن ماله وان كان في بلده‪ .‬وفي المحيط وإن كان‬
‫على أخذه وال يجد شيًئا يحل له أخذ الزكاة ألنه فقير يدً ا كابن السبيل‪ .‬وفي الخانية تفصيل في هذا‬
‫المقام قال‪ :‬والذي له دين مؤجل على إنسان إذا احتاج إلى النفقة يجوز له أن يأخذ من الزكاة قدر‬
‫معسرا يجوز له أن يأخذ‬
‫ً‬ ‫كفايته إلى حلول األجل‪ ،‬وإن كان الدين غير مؤجل فإن كان من عليه الدين‬
‫ً‬
‫معترفا ال يحل له أخذ الزكاة‬ ‫موسرا‬
‫ً‬ ‫الزكاة في أصح األقاويل ألنه يمنزلة ابن السبيل‪ ،‬وإن كان المديون‬
‫أيضا ما لم يرفع األمر إلى‬ ‫وكذا إذا كان جاحدً ا وله عليه بينة عادلة‪ ،‬وإن لم تكن عادلة ال يحل له األخذ ً‬
‫القاضي فيحلفه فإذا حلفه يحل له األخذ بعد ذلك اه‪ ،‬والمراد من الدين ما يبلغ نصابًا كما ال يخفي‪.‬‬
‫وفي فتح القدير ولو دفع إلى فقيره لها مهر دين على زوجها يبلغ نصابًا وهو موسر بحيث لو طلبت‬
‫أعطاها ال يجوز‪ ،‬وإن كان بحيث ال يعطى لو طلبت جاز اه‪ .‬وهو مقيد لعموم ما في الخانية‪ ،‬والمراد من‬
‫المهر ما تعورف تعجيله ألن ما تعورف تأجيله فهو دين مؤجل ال يمنع أخذ الزكاة‪ ،‬ويكون في األول عدم‬
‫إعطائه نزلة إعساره‪ ،‬ويفرق بينه وبين سائر الديون بأن رفع الزوج للقاضي مما ال ينبغي للمرأة بخالف‬
‫غيره‪ ،‬لكن في البزازية دفع الزكاة إلى أخته وهي تحت زوج إن كان مهرها المعجل أقل من النصاب أو‬
‫موسرا والمعجل قدر النصاب ال يجوز عندهما وبه‬ ‫ً‬ ‫أكثر لكن الزوج معسر له أن يدفع إليها الزكاة وإن كان‬
‫مطلقا هذا‪ ،‬والعدول عن الالم إلى { ِفى} في األربعة األخيرة على ما‬ ‫ً‬ ‫يفتي لالختياط‪ ،‬وعند اإلمام يجوز‬
‫قال الزمخشري لإليذان بأنهم أرسخ في استحقاق الصدقة ممن سبق ذكره لما أن { ِفى} للظرفية المنبئة‬
‫عن إحاطتهم بها وكونهم محلها ومركزها وعليه فالالم لمجرد االختصاص‪ ،‬وفي االنتصاف أن ثم سرا‬
‫آخر هو أظهر وأقرب وذلك أن األصناف األوائل مالك لما عساه أن يدفع إليهم وإنما يأخذونه تملكًا فكان‬
‫دخول الالم الئقابهم‪ ،‬وأما األربعة األواخر فال يملكون لما يصرف نحوهم بل وال يصرف إليهم ولكن‬
‫يصرف في مصالح تتعلق بهم‪ ،‬فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة المكاتبون أو البائعون‬
‫مصروف ا إلى أيديهم حتى يعبر عن ذلك بالالم المشعرة لكهم لما يصرف نحوهم وإنما هم‬ ‫ً‬ ‫فليس نصيبهم‬
‫تخليصا‬
‫ً‬ ‫محال لهذا الصرف ولمصالحه المتعلقة به‪ ،‬وكذلك الغارمون إنما يصرف نصيبهم ألرباب ديونهم‬
‫مندرجا في سبيل اهلل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫لذممهم ال لهم‪ ،‬وأما في سبيل اهلل فواضح فيه ذلك‪ ،‬وأما ابن السبيل فكأنه كان‬
‫وإنما أفرد بالذكر تنبيهً ا على خصوصيته مع أنه مجرد من الحرفين جميعً ا‪.‬‬
‫وعطفه على المجرور بالالم ممكن ولكن عطفه على القريب أقرب‪ ،‬وما أشار إليه من أن المكاتب ال يملك‬
‫وإنما يملك المكاتب هو الذي أشار إليه بعض أصحابنا‪ .‬ففي المحيط قالوا‪ :‬إنه ال يجوز إعطاء الزكاة‬
‫لمكاتب هاشمي ألن الملك يقع للمولى من وجه والشبهة ملحقة بالحقيقة في حقهم وفي البدائع ما هو‬
‫ظاهر في أن الملك يقع للمكاتب وحينئذ فبقية األربعة بالطريق األولى‪.‬‬
‫والمشهور أن الالم للملك عند الشافعية وهو الذي يقتضيه مذهبهم حيث قالوا‪ :‬البد من صرف الزكاة إلى‬
‫جميع األصناف إذا وجدت وال تصرف إلى صنف مثال وال إلى أقل من ثالثة من كل صنف بل إلى ثالثة‬
‫أو أكثر إذا وجد ذلك‪ ،‬وعندنا يجوز للمالك أن يدفع الزكاة إلى كل واحد منهم وله أن يقتصر على صنف‬
‫واحد ألن المراد باآلية بيان األصناف التي يجوز الدفع إليهم ال تعيين الدفع لهم‪ ،‬ويدل له قوله تعالى‪:‬‬
‫{ َوِإ ن ُت ْخ ُفوهَا َوتُْؤ ُتو َها الفقراء َفهُ َو َخ ْي ٌر َّلكُ ْم} [البقرة‪ ]271 :‬وأنه صلى اهلل عليه وسلم أتاه مال من‬
‫الصدقة فجعله في صنف واحد وهو المؤلفة قلوبهم ثم أتاه مال آخر فجعله في الغارمين فدل ذلك على‬
‫أنه يجوز االقتصار على صنف واحد‪ ،‬ودليل جواز االقتصار على شخص واحد منه أن الجمع المعرف بال‬
‫مجاز عن الجنس‪ ،‬فلو حلف ال يتزوج النساء وال يشتري العبيد يحنث بالواحد؛ فالمعنى في اآلية أن‬
‫جنس الصدقة لجنس الفقير‪ ،‬فيجوز الصرف إلى واحد ألن االستغراق ليس ستقيم‪ ،‬إذ يصير المعنى إن‬
‫كل صدقة لكل فقير وهو ظاهر الفساد‪ ،‬وليس هناك معهود ليرتكب العهد‪ ،‬وال يرد خالعني على ما في‬
‫يدي من الدراهم وال شيء في يدها فإنه يلزمها ثالثة‪ ،‬ولو حلف ال يكلمه األيام أو الشهور فإنه يقع على‬
‫العشرة عند اإلمام وعلى األسبوع والسنة عند اإلمامين ألنه أمكن العهد فال يحمل على الجنس‪.‬‬
‫فالحاصل أن حمل الجمع على الجنس مجاز وعلى العهد أو االستغراق حقيقة‪ ،‬وال مساغ للخلف إال عند‬
‫تعذر األصل‪ ،‬وعلى هذا ينصف الموصى به لزيد والفقراء كالوصية لزيد وفقير‪.‬‬
‫وما ذهبنا إليه هو المروى عن عمر‪ .‬وابن عباس رضي اهلل تعالى عنهم‪ ،‬وبه قال سعيد بن جبير‪ .‬وعطاء‪.‬‬
‫وسفيان الثوري‪ .‬وأحمد بن حنبل‪ .‬ومالك علليهم الرحمة‪ .‬وذكر ابن المنير أن جده أبا العباس أحمد بن‬
‫فارس كان يستنبط من تغاير الحرفين المذكورين دلياًل على أن الغرض بيان المصرف والالم لذلك‬
‫محذوفا فإما أن يكون التقدير إنما الصدقات مصروفة‬ ‫ً‬ ‫خبرا عن الصدقات‬ ‫فيقول‪ :‬متعلق الجار الواقع ً‬
‫للفقراء كما يقول مالك ومن معه أو مملوكة للفقراء كما يقول الشافعي لكن األول متعين ألنه تقدير‬
‫يكتفي به في الحرفين جميعً ا ويصح تعلق الالم { َو ِفى} معً ا به فيصح أن يقال‪ :‬هذا الشيء مصروف‬
‫في كذا ولكذا بخالف تقدير مملوكة فإنه إنما يلتئم مع الالم وعند االنتهاء إلى { ِفى} يحتاج إلى تقدير‬
‫مصروفة ليلتئم بها فتقديره من األول عام التعلق شامل الصحة متعين اه‪ .‬وبالجملة ال يخفى قوة منزع‬
‫األئمة الثالثة في األخذ‪.‬‬
‫ولذا اختار بعض الشافعية ما ذهبوا إليه‪ ،‬وكان والد العالمة البيضاوي عمر بن محمد وهو مفتي‬
‫يض ًة ّم َن اهلل} مصدر مؤكد لمقدر مأخوذ من معنى الكالم أي فرض‬ ‫الشافعية في عصره يفتى به َف{ ِر َ‬
‫لهم الصدقات فريضة‪ ،‬ونقل عن سيبويه أنه منصوب بفعله مقد ًرا أي فرض اهلل تعالى ذلك فريضة‪،‬‬
‫واختار أبو البقاء كونه حاال من الضمير المسكن في قوله تعالى‪ِ { :‬ل ْل ُف َق َراء} أي إنما الصدقات كائنة لهم‬
‫يم} بأحوال‬‫حال كونها فريضة أي مفروضة‪ ،‬قيل‪ :‬ودخلته التاء إللحاقه باألسماء كنطيحة {واهلل عَ ِل ٌ‬
‫يم} ال يفعل إال ما تقتضيه الحكمة من األمور الحسنة التي من جملتها‬
‫الناس ومراتب استحقاقهم { َح ِك ٌ‬
‫سوق الحقوق إلى مستحقيها‪.‬‬

‫‪ .13‬تفسير ابن الجوزي‬


‫قوله تعالى‪ { :‬ولو أنهم رضوا ما آتاهم اهلل ورسوله} أي‪ :‬قنعوا بما ُأ عطوا {إنا إلى اهلل راغبون} في‬
‫خيرا لهم‪ ،‬وهذا جواب {لو}‪ ،‬وهو محذوف في اللفظ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الزيادة‪ ،‬أي‪ :‬لكان‬
‫ثم َّبي ن المستحق للصدقات بقوله‪ { :‬إنما الصدقات للفقراء والمساكين} اختلفوا في صفة الفقير‬
‫والمسكين على ستة أقوال‪.‬‬
‫أحدها‪ :‬أن الفقير‪ :‬المتعفف عن السؤال‪ .‬والمسكين الذي يسأل وبه َر َمق‪ ،‬قاله ابن عباس‪ ،‬والحسن‪،‬‬
‫ومجاهد‪ ،‬وجابر بن زيد‪ ،‬والزهري‪ ،‬والحكم‪ ،‬وابن زيد‪ ،‬ومقاتل‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أن الفقير‪ :‬المحتاج الذي به زمانة‪ .‬والمسكين‪ :‬المحتاج الذي ال زمانة به‪ ،‬قاله قتادة‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬الفقير‪ :‬المهاجر‪ ،‬والمسكين‪ :‬الذي لم يهاجر‪ ،‬قاله الضحاك بن مزاحم‪ ،‬والنخعي‪.‬‬
‫والرابع‪ :‬الفقير‪ :‬فقير المسلمين‪ ،‬والمسكين‪ :‬من أهل الكتاب‪ ،‬قاله عكرمة‪.‬‬
‫والخامس‪ :‬أن الفقير‪ :‬من له ال ُب ْل َغ ة من الشيء‪ ،‬والمسكين الذي ليس له شيء‪ ،‬قاله أبو حنيفة‪ ،‬ويونس بن‬
‫حبيب‪ ،‬ويعقوب بن السكّيت‪ ،‬وابن قتيبة‪ .‬واحتجوا بقول الراعي‪:‬‬
‫وفق العيال فلم يُ تْ َركْ له َس َبدُ‬ ‫كانت َح ُلوبَتُ ه *** َ‬ ‫ْ‬ ‫الفقير الذي‬
‫ُ‬ ‫أما‬
‫َّ‬
‫فقيرا‪ ،‬وله َح لوبة تكفيه وعياله‪ .‬وقال يونس‪ :‬قلت ألعرابي‪ :‬أفقير أنت؟ قال ال واهلل‪ ،‬بل مسكين؛‬ ‫ً‬ ‫فسماه‬
‫يريد أنا أسوأ حاالً من الفقير‪.‬‬
‫حاجة من المسكين‪ ،‬وهذا مذهب أحمد‪ ،‬ألن الفقير مأخوذ من انكسار َ‬
‫الفقار‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أمس‬
‫والسادس‪ :‬أن الفقير ُّ‬
‫والمسكنة مأخوذة من السكون والخشوع‪ ،‬وذلك أبلغ‪ .‬قال ابن األنباري‪ :‬ويروى عن األصمعي أنه قال‪:‬‬
‫المسكين أحسن حاالً من الفقير‪ .‬وقال أحمد بن عبيد‪ :‬المسكين أحسن حاالً من الفقير‪ ،‬ألن الفقير أصله‬
‫فصرف عن مفقور‬ ‫في اللغة‪ :‬المفقور الذي نزعت َفقره من ِف َق ِر ظهره‪ ،‬فكأنه انقطع ظهره من شدة الفقر؛ ُ‬
‫إلى فقير‪ ،‬كما قيل‪ :‬مجروح وجريح‪ ،‬ومطبوخ وطبيخ‪ ،‬قال الشاعر‪:‬‬
‫ُ‬
‫كالفقير األعْ َزل ِ‬
‫ِ‬ ‫واد َم‬
‫الق ِ‬‫ور َت َطايَ َر ْت *** َر َفعَ َ‬ ‫لَ ّما رأى ل َبدَ الن ُُّس ِ‬
‫قال‪ :‬ومن الحجة لهذا القول قوله‪{ :‬وأما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر} [الكهف‪]79 :‬‬
‫فوصف بالمسكنة من له سفينة تساوي ماالً‪ ،‬قال‪ :‬وهو الصحيح عندنا‪.‬‬
‫قوله تعالى‪ { :‬والعاملين عليها} وهم السعاة لجباية الصدقة‪ ،‬يُ عْ َط ْو َن منها بقدر ُأ ُجور أمثالهم‪ ،‬وليس ما‬
‫يأخذونه بزكاة‪.‬‬
‫يتألفهم على اإلسالم بما‬‫والمؤل ِف ة قلوبهم} وهم قوم كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم َّ‬ ‫َّ‬ ‫قوله تعالى‪{ :‬‬
‫يعطيهم‪ ،‬وكانوا ذوي شرف‪ ،‬وهم صنفان‪ :‬مسلمون‪ ،‬وكافرون‪ .‬فأما المسلمون‪ ،‬فصنفان‪ :‬صنف كانت‬
‫نياتهم‪ ،‬كعُ َي ْينة بن حصن‪ ،‬واألقرع؛ وصنف كانت نياتهم‬ ‫ً‬
‫تقوية ِل َّ‬ ‫فتألفهم‬ ‫ِن َّيا ُتهم في اإلسالم ضعيفة‪َّ ،‬‬
‫فا لعشائرهم من المشركين‪ ،‬مثل عدي بن حاتم‪ .‬وأما المشركون‪ ،‬فصنفان‪ :‬صنف‬ ‫تأل ً‬ ‫حسنة‪ ،‬فُأ عطوا ُّ‬
‫دفعا ألذاهم‪ ،‬مثل عامر بن الطفيل؛ وصنف كان لهم ميل إلى‬ ‫ً‬ ‫فتألفهم‬ ‫يقصدون المسلمين باألذى‪َّ ،‬‬
‫تألفهم بالعطية ليؤمنوا‪ ،‬كصفوان بن ُأ مية‪ .‬وقد ذكرت عدد المؤلفة في كتاب التلقيح‪.‬‬ ‫اإلسالم‪َّ ،‬‬
‫وحكمهم باق ٍ عند أحمد في رواية‪ ،‬وقال أبو حنيفة‪ ،‬والشافعي‪ ،‬حكمهم منسوخ‪ .‬قال الزهري‪ :‬ال أعلم‬
‫َّ‬
‫المؤلفة قلوبهم‪.‬‬ ‫َ‬
‫نسخ حكم‬ ‫شيئا‬
‫قوله تعالى‪{ :‬وفي الرقاب} قد ذكرناه في سورة [البقرة‪.]177 :‬‬
‫قوله تعالى‪{ :‬والغارمين} وهم الذين لزمهم الدَّ ين وال يجدون القضاء‪ .‬قال قتادة‪ :‬هم ناس عليهم دَ يْ ٌن‬
‫يؤمن في حق المفسد إذا ُق ِض َي دَ يْ نُه أن يعود‬‫من غير فساد وال ِإ سراف وال تبذير‪ ،‬وإنما قال هذا‪ ،‬ألنه ال َ‬
‫إلى االستدانة لذلك؛ وال خالف في جواز قضاء دينه ودفع الزكاة إليه‪ ،‬ولكن قتادة قاله على وجه‬
‫الكراهية‪.‬‬
‫قوله تعالى‪ { :‬وفي سبيل اهلل} يعني‪ :‬الغزاة والمرابطين‪ .‬ويجوز عندنا أن يعطى األغنياء منهم والفقراء‪،‬‬
‫وهو قول الشافعي‪ .‬وقال أبو حنيفة‪ :‬ال يعطى إال الفقير منهم‪ .‬وهل يجوز أن يصرف من الزكاة إلى‬
‫الحج‪ ،‬أم ال؟ فيه عن أحمد روايتان‪.‬‬
‫قوله تعالى‪ { :‬وابن السبيل} هو المسافر المنقطع به‪ ،‬وإن كان له مال في بلده‪ ،‬قاله مجاهد‪ ،‬وقتادة‪ ،‬وأبو‬
‫سفرا ‪ ،‬فهل يجوز أن يعطى؟ قال الشافعي‪ :‬يجوز‪ ،‬وعن أحمد‬ ‫ً‬ ‫حنيفة‪ ،‬وأحمد‪ .‬فأما إذا أراد أن ينشئ‬
‫مثله؛ وقد ذكرنا في سورة [البقرة‪ ]177 :‬فيه أقواالً عن المفسرين‪.‬‬
‫قوله تعالى‪{ :‬فريضة من اهلل} يعني‪ :‬أن اهلل افترض هذا‪.‬‬
‫فصل‪:‬‬
‫ً‬
‫درهما‪ ،‬أو ِعدلها من‬ ‫ً‬
‫مالكا لخمسين‬ ‫وحدُّ الغنى الذي يمنع أخذ الزكاة عند أصحابنا بأحد شيئين‪ :‬أن يكون‬
‫الذهب‪ ،‬سواء كان ذلك يقوم بكفايته‪ ،‬أو ال يقوم‪ .‬والثاني‪ :‬أن يكون له كفاية‪ِ ،‬إ ما من صناعة‪ ،‬أو أجرة‬
‫ً‬
‫مالكا لنصاب‬ ‫عقار‪ ،‬أو عروض للتجارة يقوم ربحها بكفايته‪ .‬وقال أبو حنيفة‪ :‬االعتبار في ذلك أن يكون‬
‫تجب عليه فيه الزكاة‪ .‬فأما ذوو القربى الذين تحرم عليه الصدقة‪ ،‬فهم بنو هاشم‪ ،‬وبنو المطلب‪ .‬وقال‬
‫أبو حنيفة‪ :‬تحرم على ولد هاشم‪ ،‬وال تحرم على ولد المطلب‪ .‬ويجوز أن يعمل على الصدقة من بني‬
‫خالفا ألبي حنيفة‪ .‬فأما موالي بني هاشم وبني المطلب‪ ،‬فتحرم‬ ‫ً‬ ‫هاشم وبني المطلب ويأخذ عمالته منها‪،‬‬
‫يعطي صدقته َم ْن تلزمه نفقتُ ه؛ وبه قال مالك‪ ،‬والثوري‪ .‬وقال‬ ‫ً‬
‫خالفا لمالك‪ .‬وال يجوز أن‬ ‫عليهم الصدقة‪،‬‬
‫َ‬
‫ولدا وإن سفل‪ ،‬وال زوجه‪ ،‬ويعطي َم ْن عَ داهم‪ .‬فأما‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫والدا وإن عال‪ ،‬وال‬ ‫أبو حنيفة‪ ،‬والشافعي‪ :‬ال يعطي‬
‫مسلما‪ ،‬أعطي الذمي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الذمي ؛ فاألكثرون على أنه ال يجوز إعطاؤه‪ .‬وقال عبيد اهلل بن الحسن‪ :‬إذا لم يجد‬ ‫ُّ‬
‫وال يجب استيعاب األصناف‪ ،‬وال اعتبار عدد من كل صنف؛ وهو قول أبي حنيفة‪ ،‬ومالك؛ وقال‬
‫الشافعي‪ :‬يجب االستيعاب من كل صنف ثالثة‪.‬‬
‫فأما إذا أراد نقل الصدقة من بلد المال إلى موضع ُتقصر فيه الصالة‪ ،‬فال يجوز له ذلك‪ ،‬فان نقلها لم‬
‫يُ جزئه؛ وهو قول مالك‪ ،‬والشافعي‪ .‬وقال أبو حنيفة‪ :‬يكره نقلها‪ ،‬وتجزئه‪ .‬قال أحمد‪ :‬وال يعطي الفقير‬
‫درهما ‪ .‬وقال أبو حنيفة‪ :‬أكره أن يعطي رجل واحد من الزكاة مائتي درهم‪ .‬وإن‬ ‫ً‬ ‫أكثر من خمسين‬
‫ً‬
‫فقيرا‪ ،‬فبان أنه‬ ‫الحاجة من غير حدّ ‪ .‬فان أعطى من يظنه‬‫َ‬ ‫أعطيته أجزأك‪ .‬فأما الشافعي‪ ،‬فاعتبر ما يدفع‬
‫غني‪ ،‬فهل يجزئ؟ فيه عن أحمد روايتان‪.‬‬

‫‪ .14‬تفسير الزمخشري‬
‫ين َو ِفي َس ِبيل ِ‬
‫ار ِم َ‬ ‫ين عَ لَ ْيهَ ا َو ْال ُمَؤ َّل َف ِة ُق ُلو ُبهُ ْم َو ِفي الرِّ َق ِ‬
‫اب َو ْال َغ ِ‬ ‫اكين ِ َو ْالعَ ِ‬
‫ام ِل َ‬ ‫اء َو ْال َم َس ِ‬
‫ات ِل ْل ُف َق َر ِ‬
‫الصدَ َق ُ‬
‫{ِإ َّن َما َّ‬
‫يم (‪})60‬‬ ‫يم َح ِك ٌ‬ ‫الس ِبيل ِ َف ِر َ‬
‫يض ًة ِم َن اهَّلل ِ َواهَّلل ُ عَ ِل ٌ‬ ‫اهَّلل ِ َوابْن ِ َّ‬
‫{ِإ َّن َما الصدقات ِل ْل ُف َق َر اء} قصر لجنس الصدقات على األصناف المعدودة وأنها مختصة بها‪ ،‬ال تتجاوزها‬
‫إلى غيرها‪ ،‬كأنه قيل‪ :‬إنما هي لهم ال لغيرهم‪ .‬ونحوه قولك‪ :‬إنما الخالفة لقريش‪ ،‬تريد ال تتعداهم وال‬
‫تكون لغيرهم فيحتمل أن تصرف إلى األصناف كلها وأن تصرف إلى بعضها‪ ،‬وعليه مذهب أبي حنيفة‬
‫رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫وعن حذيفة وابن عباس وغيرهما من الصحابة والتابعين رضي اهلل عنهم أنهم قالوا‪ :‬في أي صنف منها‬
‫وضعتها أجزاك‪.‬‬
‫وعن سعيد بن جبير رضي اهلل عنه‪ :‬لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فجبرتهم بها‬
‫الشافعي رضي اهلل عنه‪ ،‬البد من صرفها إلى األصناف الثمانية وعن عكرمة رضي‬ ‫ّ‬ ‫إلي‪ .‬وعند‬
‫أحب ّ‬
‫ّ‬ ‫كان‬
‫اهلل عنه أنها تفرق في األصناف الثمانية‪.‬‬
‫وعن الزهري أنه كتب لعمر بن عبد العزيز تفريق الصدقات على األصناف الثمانية {والعاملين عَ لَ ْيهَ ا}‬
‫السعاة الذين يقبضونها {والمؤلفة ُق ُلو ُبهُ ْم} أشراف من العرب كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫شيئا منها حين كان في المسلمين قلة‪ .‬والرقاب‪ :‬المكاتبون يعانون‬ ‫ً‬ ‫يستألفهم على أن يسلموا فيرضخ لهم‬
‫منها‪ .‬وقيل‪ :‬األسارى‪ .‬وقيل‪ :‬تبتاع الرقاب فتعتق { والغارمين} الذين ركبتهم الديون وال يملكون بعدها‬
‫ما يبلغ النصاب‪ .‬وقيل‪ :‬الذين تحملوا الحماالت فتداينوا فيها وغرموا { َو ِفى َس ِبيل ِ اهلل} فقراء الغزاة‬
‫غني حيث ماله‬ ‫والحجيج المنقطع بهم { وابن السبيل} المسافر المنقطع عن ماله فهو فقير حيث هو ّ‬
‫يض ًة ّم َن اهلل} في معنى المصدر المؤكد‪ ،‬ألن قوله إنما الصدقات للفقراء معناه فرض اهلل الصدقات‬ ‫{ َف ِر َ‬
‫لهم‪ .‬وقرئ‪{ :‬فريضة} بالرفع على‪ :‬تلك فريضة‪.‬‬
‫فإن قلت‪ :‬لم عدل عن الالم إلى (في) في األربعة األخيرة؟ قلت‪ :‬لإليذان بأنهم أرسخ في استحقاق‬
‫التصدق عليهم ممن سبق ذكره‪ ،‬ألن ( في) للوعاء‪ ،‬فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات‬
‫فك الغارمين من‬ ‫الرق أو األسر‪ ،‬وفي ّ‬ ‫فك الرقاب من الكتابة أو ّ‬ ‫ً‬
‫ومصبا‪ ،‬وذلك لما في ّ‬ ‫ويجعلوا مظنة لها‬
‫الغرم من التخليص واإلنقاذ‪ ،‬ولجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة‪ ،‬وكذلك ابن‬
‫السبيل جامع بين الفقر والغربة عن األهل والمال‪ ،‬وتكرير (في) في قوله‪َ { :‬و ِفى َس ِبيل ِ اهلل وابن‬
‫السبيل} فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين‪.‬‬
‫دل بكون هذه األصناف‬ ‫فإن قلت‪ :‬فكيف وقعت هذه اآلية في تضاعف ذكر المنافقين ومكايدهم؟ قلت‪ّ :‬‬
‫وإشعارا باستيجابهم‬‫ً‬ ‫حسما ألطماعهم‬ ‫ً‬ ‫مصارف الصدقات خاصة دون غيرهم على أنهم ليسوا منهم‪،‬‬
‫الحرمان‪ ،‬وأنهم بعداء عنها وعن مصارفها‪ ،‬فما لهم وما لها؟ وما سلطهم على التكلم فيها ولمز قاسمها‬
‫صلوات اهلل عليه وسالمه؟‪.‬‬

‫‪ .15‬تفسير الشوكاني‪2‬‬
‫قوله‪َ { :‬و ِمنْهُ ْم َّمن َي ْل ِم ُزكَ } هذا ذكر نوع آخر قبائحهم‪ ،‬يقال‪ :‬لمزه يلمزه‪ :‬إذا عابه‪ .‬قال الجوهري‪ :‬اللمز‪:‬‬
‫العيب‪ ،‬وأصله اإلشارة بالعين ونحوها‪ ،‬وقد لمزه يلمزه ويلمزه‪ ،‬ورجل لماز‪ ،‬ولمزة‪ :‬أي عياب‪ .‬قال الزجاج‪:‬‬
‫لمزت الرجل أ ِلمزه وُأ لمزه‪ ،‬بكسر الميم وضمها‪ :‬إذا عبته‪ ،‬وكذا همزته‪ .‬ومعنى اآلية‪ :‬ومن المنافقين من‬
‫يعيبك في الصدقات‪ ،‬أي في تفريقها وقسمتها‪.‬‬
‫وروى عن مجاهد أنه قال‪ :‬معنى { ْ‬
‫يَل ِم ُزكَ } ‪ :‬يرزؤك ويسألك‪ ،‬والقول عند أهل اللغة هو ّ‬
‫األول‪ ،‬كما قال‬
‫النحاس‪ .‬وقرئ‪ { :‬يلمزك} بضم الميم‪ ،‬و{يلمزك} بكسرها مع التشديد‪ .‬وقرأ الجمهور بكسرها مخففة‬
‫وا} بما وقع من رسول اهلل صلى اهلل عليه‬ ‫وا ِمنْهَ ا} أي‪ :‬من الصدقات بقدر ما يريدون { َر ُض ْ‬ ‫{ َفِإ ْن ُأ عْ ُط ْ‬
‫وسلم ولم يعيبوه‪ ،‬وذلك ألنه ال مقصد لهم إال حطام الدنيا‪ ،‬وليسوا من الدين في شيء { َوِإ ن َّل ْم يُ عْ َط ْو ْا‬
‫ون} أي‪ :‬وإن لم يعطوا فاجئوا السخط‪،‬‬ ‫يَس َخ ُط َ‬‫ِمنهَ ا} أي‪ :‬من الصدقات ما يريدونه ويطلبونه {ِإ َذا ُه ْم ْ‬
‫وفائدة إذا الفجائية‪ :‬أن الشرط مفاجئ للجزاء وهاجم عليه‪.‬‬
‫ُ‬
‫وقد نابت إذا الفجائية مناب فاء الجزاء‪َ .‬و{لَ ْو َأ َّنهُ ْم َر ُض ْو ْا َما ءاتاهم اهلل َو َر ُسولهُ } أي‪ :‬ما فرضه اهلل لهم‬
‫خيرا لهم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وما أعطاهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من الصدقات‪ ،‬وجوب {لو} محذوف‪ :‬أي لكان‬
‫ولهُ } أي‪ :‬قالوا‬ ‫وا َح ْس ُبنَا اهلل َس ُيْؤ ِتينَا اهلل ِمن َف ْض ِل ِه َو َر ُس ُ‬
‫فإن فيما أعطاهم الخير العاجل واآلجل { َو َق ُال ْ‬
‫هذه المقالة عند أن أعطاهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ما هو لهم‪ :‬أي كفانا اهلل‪ ،‬سيعطينا من‬
‫فضله‪ ،‬ويعطينا رسوله بعد هذا ما نرجوه ونؤمله {ِإ َّنا ِإ لَى اهلل راغبون} في أن يعطينا من فضله ما‬
‫نرجوه‪.‬‬
‫قوله‪ِ{ :‬إ َّن َما الصدقات ِل ْل ُف َق َر اء} لما لمز المنافقون رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في قسمة الصدقات‬
‫وقطعا لشغبهم‪ ،‬و{ِإ َّن َما} من صيغ القصر‪ ،‬وتعريف الصدقات للجنس‪:‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫دفعا لطعنهم‪،‬‬ ‫ّبين اهلل لهم مصرفها‬
‫أي جنس هذه الصدقات مقصور على هذه األصناف المذكورة ال يتجاوزها‪ ،‬بل هي لهم ال لغيرهم‪.‬‬
‫وقد اختلف أهل العلم هل يجب تقسيط الصدقات على هذه األصناف الثمانية‪ ،‬أو يجوز صرفها إلى‬
‫األول الشافعي وجماعة‬ ‫البعض دون البعض على حسب ما يراه اإلمام أو صاحب الصدقة؟ فذهب إلى ّ‬
‫من أهل العلم‪ ،‬وذهب إلى الثاني‪ :‬مالك وأبو حنيفة‪ ،‬وبه قال عمر‪ ،‬وحذيفة‪ ،‬وابن عباس‪ ،‬وأبو العالية‪،‬‬
‫األولون بما في‬ ‫وسعيد بن جبير‪ ،‬وميمون بن مهران‪ .‬قال ابن جرير وهو قول عامة أهل العلم‪ :‬احتج ّ‬
‫اآلية من القصر‪ ،‬وبحديث زياد بن الحرث الصدائي عند أبي داود والدارقطني قال‪ :‬أتيت النبي صلى اهلل‬
‫نبي وال‬ ‫عليه وسلم فبايعته‪ ،‬فأتى رجل فقال‪ :‬أعطني من الصدقة‪ ،‬فقال له‪« :‬إن اهلل لم يرض بحكم ّ‬
‫غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو‪ ،‬فجزأها ثمانية أصناف‪ ،‬فإن كنت من تلك األجزاء أعطيتك»‬
‫وأجاب اآلخرون بأن ما في اآلية من القصر إنما هو لبيان الصرف والمصرف‪ ،‬ال لوجوب استيعاب‬
‫األصناف‪ ،‬وبأن في إسناد الحديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم اإلفريقي وهو ضعيف‪ .‬ومما يؤيد ما‬
‫وا الصدقات َف ِن ِع َّما ِه َى َوِإ ن ُت ْخ ُفوهَا َوتُْؤ ُتو َها الفقراء َفهُ َو َخ ْي ٌر‬ ‫ذهب إليه اآلخرون قوله تعالى‪ِ{ :‬إ ن ُت ْبدُ ْ‬
‫َّلكُ ْم} [البقرة‪ ]271 :‬والصدقة تطلق على الواجبة كما تطلق على المندوبة‪ .‬وصح عنه صلى اهلل عليه‬
‫وسلم أنه قال‪« :‬أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردّ ها في فقرائكم» وقد ادّ عى مالك اإلجماع على‬
‫مخالفا منهم‪.‬‬‫ً‬ ‫البر‪ :‬يريد إجماع الصحابة‪ ،‬فإنه ال يعلم له‬ ‫القبول اآلخر‪ .‬قال ابن عبد ّ‬
‫قوله‪ِ { :‬ل ْل ُف َق َر اء} قدمهم‪ ،‬ألنهم أحوج من البقية على المشهور لشدّ ة فاقتهم وحاجتهم‪.‬‬
‫وقد اختلف أهل العلم في الفرق بين الفقير والمسكين على أقوال‪ :‬فقال يعقوب بن السكيت‪ ،‬والقتيبي‪،‬‬
‫ويونس ابن حبيب‪ :‬إن الفقير أحسن حاالً من المسكين‪ ،‬قالوا‪ :‬ألن الفقير هو الذي له بعض ما يكفيه‬
‫ويقيمه‪ .‬والمسكين الذي ال شيء له‪ ،‬وذهب إلى هذا قوم من أهل الفقه منهم أبو حنيفة‪.‬‬
‫وقال آخرون بالعكس‪ ،‬فجعلوا المسكين أحسن حاالً من الفقير‪ ،‬واحتجوا بقوله تعالى‪َ{ :‬أ َّما السفينة‬
‫َفكَا َن ْت لمساكين} [الكهف‪ .]79 :‬فأخبر أن لهم سفينة من سفن البحر‪ .‬وربما ساوت جملة من المال‪،‬‬
‫ً‬
‫مسكينا»‬ ‫مسكينا وأمتني‬ ‫ً‬ ‫النبي صلى اهلل عليه وسلم من الفقر مع قوله‪« :‬اللهم أحيني‬ ‫تعوذ‬
‫ويؤيده ّ‬
‫ّ‬
‫وإلى هذا ذهب األصمعي وغيره من أهل اللغة‪ .‬وحكاه الطحاوي عن الكوفيين‪ ،‬وهو أحد قولي الشافعي‬
‫وأكثر أصحابه‪.‬‬
‫وقال قوم‪ :‬إن الفقير والمسكين سواء ال فرق بينهما وهو أحد قولي الشافعي‪ ،‬وإليه ذهب ابن القاسم‬
‫وسائر أصحاب مالك‪ ،‬وبه قال أبو يوسف‪.‬‬
‫مروي‬
‫ّ‬ ‫وقال قوم‪ :‬الفقير المحتاج المتعفف‪ ،‬والمسكين‪ :‬السائل‪ .‬قاله األزهري‪ ،‬واختاره ابن شعبان‪ ،‬وهو‬
‫عن ابن عباس‪.‬‬
‫وقد قيل غير هذه األقوال مما ال يأتي االستكثار منه بفائدة يعتدّ بها‪ .‬واألولى في بيان ماهية المسكين‪:‬‬
‫ما ثبت عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عند البخاري ومسلم‪ ،‬وغيرهما‪ ،‬من حديث أبي هريرة‪ ،‬أن‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس فتردّ ه‬
‫اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان»‪ ،‬قالوا‪ :‬فما المسكين يا رسول اهلل؟ قال‪« :‬الذي ال يجد غنى يغنيه‪،‬‬
‫شيئا» قوله‪{ :‬والعاملين عَ لَ ْيهَ ا} أي‪ :‬السعاة والجباة الذين‬ ‫ً‬ ‫وال يفطن له فيتصدّ ق عليه‪ ،‬وال يسأل الناس‬
‫ً‬
‫قسطا‪.‬‬ ‫يبعثهم اإلمام لتحصيل الزكاة‪ ،‬فإنهم يستحقون منها‬
‫وقد اختلف في القدر الذي يأخذونه منها‪ ،‬فقيل‪ :‬الثمن‪ .‬روي ذلك عن مجاهد والشافعي‪ .‬وقيل‪ :‬على قدر‬
‫أعمالهم من األجرة‪ ،‬روي ذلك عن أبي حنيفة وأصحابه‪ .‬وقيل‪ :‬يعطون من بيت المال قدر أجرتهم‪ .‬روي‬
‫نصيبا من الصدقة فكيف يمنعون منها ويعطون‬ ‫ً‬ ‫ذلك عن مالك‪ ،‬وال وجه لهذا‪ ،‬فإن اهلل قد أخبر بأن لهم‬
‫ً‬
‫هاشميا أم ال؟ فمنعه قوم‪ ،‬وأجازه آخرون‪ .‬قالوا‪:‬‬ ‫من غيرها؟ واختلفوا هل يجوز أن يكون العامل‬
‫ويعطى من غير الصدقة‪.‬‬
‫النبي صلى اهلل‬ ‫ّ‬ ‫قوله‪{ :‬والمؤلفة ُق ُلو ُبهُ ْم} هم قوم كانوا في صدر اإلسالم‪ ،‬فقيل‪ :‬هم الكفار الذين كان‬
‫عليه وسلم يتألفهم ليسلموا‪ .‬وكانوا ال يدخلون في اإلسالم بالقهر والسيف‪ ،‬بل بالعطاء‪ .‬وقيل‪ :‬هم قوم‬
‫أسلموا في الظاهر ولم يحسن إسالمهم‪ ،‬فكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يتألفهم بالعطاء؛ وقيل‪:‬‬
‫هم من أسلم من اليهود والنصارى‪ ،‬وقيل‪ :‬هم قوم من عظماء المشركين لهم أتباع‪ ،‬أعطاهم النبي صلى‬
‫اهلل عليه وسلم ليتألفوا أتباعهم على اإلسالم‪.‬‬
‫ظاهرا كأبي سفيان بن حرب‪ ،‬والحرث بن‬ ‫ً‬ ‫النبي صلى اهلل عليه وسلم جماعة ممن أسلم‬ ‫وقد أعطى‬
‫ّ‬
‫هشام‪ ،‬وسهيل بن عمرو‪ ،‬وحويطب بن عبد العزى‪ ،‬أعطى كل واحد منهم مائة من اإلبل تألفهم بذلك‪،‬‬
‫وأعطى آخرين دونهم‪.‬‬
‫وقد اختلف العلماء هل سهم المؤلفة قلوبهم باق بعد ظهور اإلسالم أم ال؟ فقال عمر‪ ،‬والحسن‪ ،‬والشعبي‪:‬‬
‫بعز ة اإلسالم وظهوره‪ ،‬وهذا مشهور من مذهب مالك وأصحاب الرأي‪ :‬وقد ادّ عى‬ ‫قد انقطع هذا الصنف ّ‬
‫بعض الحنفية أن الصحابة أجمعت على ذلك‪.‬‬
‫وقال جماعة من العلماء‪ :‬سهمهم باق ألن اإلمام ربما احتاج أن يتألف على اإلسالم‪ .‬وإنما قطعهم عمر لما‬
‫رأى من إعزاز الدين‪ .‬قال يونس‪ :‬سألت الزهري عنهم فقال‪ :‬ال أعلم نسخ ذلك‪ ،‬وعلى القول األول يرجع‬
‫سهمهم لسائر األصناف‪.‬‬
‫رقابا ثم يعتقها‪ .‬روي ذلك عن ابن عباس‪ ،‬وابن عمر‪،‬‬ ‫ً‬ ‫قوله‪َ { :‬و ِفي الرقاب} أي في فك الرقاب بأن يشتري‬
‫وبه قال مالك‪ ،‬وأحمد بن حنبل‪ ،‬وإسحاق وأبو عبيد‪.‬‬
‫وقال الحسن البصري‪ ،‬ومقاتل ابن حيان‪ ،‬وعمر بن عبد العزيز‪ ،‬وسعيد بن جبير‪ ،‬والنخعي‪ ،‬والزهري‪،‬‬
‫وابن زيد‪ :‬إنهم المكاتبون يعانون من الصدقة على مال الكتابة‪ ،‬وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي‪،‬‬
‫جميعا لصدق الرقاب على شراء العبد وإعتاقه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ورواية عن مالك‪ ،‬واألولى حمل ما في اآلية على القولين‬
‫وعلى إعانة المكاتب على مال الكتابة‪ .‬قوله‪ { :‬والغارمين} هم‪ :‬الذين ركبتهم الديون وال وفاء عندهم بها‪،‬‬
‫وال خالف في ذلك إال من لزمه دين في سفاهة فإنه ال يعطى منها وال من غيرها إال أن يتوب‪.‬‬
‫النبي صلى اهلل عليه وسلم من الصدقة من تحمل حمالة وأرشد إلى إعانته منها‪ .‬قوله‪َ :‬و{ ِفى‬ ‫ّ‬ ‫وقد أعان‬
‫َس ِبيل ِ اهلل} هم الغزاة والمرابطون‪ ،‬يعطون من الصدقة ما ينفقون في غزوهم ومرابطتهم وإن كانوا‬
‫أغنياء‪ ،‬وهذا قول أكثر العلماء‪.‬‬
‫وقال ابن عمر‪ :‬هم الحجاج والعمار‪ ،‬وروي عن أحمد وإسحاق أنهما جعال الحج من سبيل اهلل‪.‬‬
‫ً‬
‫منقطعا به‪.‬‬ ‫ً‬
‫فقيرا‬ ‫وقال أبو حنيفة وصاحباه‪ :‬ال يعطى الغازي إال إذا كان‬
‫قوله‪ { :‬وابن السبيل} هو‪ :‬المسافر‪ ،‬والسبيل الطريق‪ ،‬ونسب إليها المسافر لمالزمته إياها‪ ،‬والمراد الذي‬
‫غنيا في بلده‪ ،‬وإن وجد من‬ ‫ً‬ ‫ومستقره‪ ،‬فإنه يعطى منها وإن كان‬ ‫ّ‬ ‫انقطعت به األسباب في سفره عن بلده‬
‫يسلفه‪.‬‬
‫يض ًة ّم َن اهلل} مصدر مؤكد؛ ألن قوله‪ِ{ :‬إ َّن َما‬ ‫وقال مالك‪ :‬إذا وجد من يسلفه فال يعطى‪ .‬قوله‪َ { :‬ف ِر َ‬
‫الصدقات ِل ْل ُف َق َر اء} معناه‪ :‬فرض اهلل الصدقات لهم‪ .‬والمعنى‪ :‬أن كون الصدقات مقصورة على هذه‬
‫يم} بأحوال عباده‬ ‫األصناف هو حكم الزم فرضه اهلل على عباده ونهاهم عن مجاوزته {واهلل عَ ِل ٌ‬
‫يم} في أفعاله؛ وقيل‪ :‬إن { فريضة} منتصبة بفعل مقدّ ر‪ ،‬أي فرض اهلل ذلك فريضة‪ .‬قال في‬ ‫{ َح ِك ٌ‬
‫الكشاف‪ :‬فإن قلت‪ :‬لم عدل عن الالم إلى { في} في األربعة اآلخرة؟ قلت‪ :‬لإليذان بأنها أرسخ في‬
‫استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره؛ وقيل‪ :‬النكتة في العدول أن األصناف األربعة األول يصرف‬
‫المال إليهم حتى ينصرفوا به كما شاءوا‪ ،‬وفي األربعة األخيرة ال يصرف المال إليهم‪ ،‬بل يصرف إلى‬
‫جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي ألجلها استحقوا سهم الزكاة‪ ،‬كذا قيل‪.‬‬
‫وقد أخرج البخاري‪ ،‬والنسائي‪ ،‬وابن جرير‪ ،‬وابن المنذر‪ ،‬وابن أبي حاتم‪ ،‬وأبو الشيخ‪ ،‬وابن مردويه‪ ،‬عن‬
‫قسما إذ جاءه ابن ذي الخويصرة‬ ‫ً‬ ‫أبي سعيد الخدري قال‪ :‬بينما رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقسم‬
‫التيمي فقال‪ :‬اعدل يا رسول اهلل‪ ،‬فقال‪« :‬ويحك‪ ،‬ومن يعدل إذا لم أعدل؟» فقال عمر بن الخطاب‪ :‬ائذن‬
‫أصحابا يحقر أحدكم صالته مع‬ ‫ً‬ ‫لي فأضرب عنقه فقال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬دعه‪ ،‬فإن له‬
‫صالتهم‪ ،‬وصيامه مع صيامهم‪ ،‬يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» الحديث حتى قال‪:‬‬
‫وفيهم نزلت‪َ { :‬و ِمنْهُ ْم َّمن يَ ْل ِم ُزكَ ِفي الصدقات}‪.‬‬
‫وأخرج ابن المنذر‪ ،‬وابن أبي حاتم‪ ،‬وأبو الشيخ‪ ،‬عن مجاهد في قوله‪َ { :‬و ِمنْهُ ْم َّمن يَ ْل ِم ُزكَ } قال‪ :‬يرزؤك‬
‫ويسألك‪.‬‬
‫وأخرج ابن المنذر‪ ،‬عن قتادة قال‪ :‬يطعن عليك‪.‬‬
‫النبي صلى اهلل عليه وسلم غنائم حنين‪ ،‬سمعت رج ً‬
‫ال‬ ‫ّ‬ ‫وأخرج ابن مردويه‪ ،‬عن ابن مسعود قال‪ :‬لما قسم‬
‫النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وذكرت ذلك له‪ ،‬فقال‪« :‬رحمة‬ ‫ّ‬ ‫يقول‪ :‬إن هذه لقسمة ما أريد بها اهلل‪ ،‬فأتيت‬
‫اهلل على موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر»‪ ،‬ونزل‪َ { :‬و ِمنْهُ ْم َّمن يَ ْل ِم ُزكَ ِفي الصدقات}‪.‬‬
‫وأخرج ابن مردويه‪ ،‬عن ابن عباس‪ ،‬قال‪ :‬نسخت هذه اآلية كل صدقة في القرآن {ِإ َّن َما الصدقات‬
‫ِل ْل ُف َق َراء} اآلية‪.‬‬
‫وأخرج ابن المنذر‪ ،‬عن ابن جريج‪ ،‬نحوه‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي شيبة‪ ،‬وابن جرير‪ ،‬وأبو الشيخ‪ ،‬عن حذيفة‪ ،‬في قوله‪ِ{ :‬إ َّن َما الصدقات ِل ْل ُف َق َراء} اآلية قال‪:‬‬
‫إن شئت جعلتها في صنف واحد من األصناف الثمانية التي سمى اهلل أو صنفين أو ثالثة‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي شيبة‪ ،‬عن أبي العالية‪ ،‬والحسن‪ ،‬وعطاء‪ ،‬وإبراهيم‪ ،‬وسعيد بن جبير‪ ،‬نحوه‪.‬‬
‫وأخرج ابن المنذر‪ ،‬والنحاس‪ ،‬وأبو الشيخ‪ ،‬عن قتادة‪ ،‬قال‪ :‬الفقير الذي به زمانة‪ ،‬والمسكين‪ :‬المحتاج‬
‫الذي ليس به زمانة‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي شيبة‪ ،‬عن عمر‪ ،‬في قوله‪ِ{ :‬إ َّن َما الصدقات ِل ْل ُف َق َراء} قال‪ :‬هم زمني أهل الكتاب‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي حاتم‪ ،‬عن ابن عباس‪ ،‬في قوله‪{ :‬والعاملين عَ لَ ْيهَ ا} قال‪ :‬السعاة أصحاب الصدقة‪.‬‬
‫وأخرج ابن جرير‪ ،‬وابن مردويه‪ ،‬عن ابن عباس‪ ،‬في قوله‪{ :‬والمؤلفة ُق ُلو ُبهُ ْم} قال‪ :‬هم قوم كانوا يأتون‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد أسلموا‪ ،‬وكان يرضخ لهم من الصدقات‪ ،‬فإذا أعطاهم من الصدقة‬
‫خيرا قالوا‪ :‬هذا دين صالح‪ ،‬وإن كان غير ذلك عابوه وتركوه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫فأصابوا منها‬
‫علي بن أبي طالب من اليمن‬ ‫وأخرج البخاري‪ ،‬وابن أبي حاتم‪ ،‬وابن مردويه‪ ،‬عن أبي سعيد‪ ،‬قال‪ :‬بعث ّ‬
‫النبي صلى اهلل عليه وسلم بذهيبة فيها تربتها‪ ،‬فقسمها بين أربعة من المؤلفة‪ :‬األقرع بن حابس‬ ‫ّ‬ ‫إلى‬
‫الحنظلي وعلقمة بن عالثة العامري‪ ،‬وعيينة بن بدر الفزاري‪ ،‬وزيد الخيل الطائي؛ فقالت قريش‬
‫النبي صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إنما أتألفهم‪.».‬‬ ‫ّ‬ ‫واألنصار‪ :‬يقسم بين صناديد أهل نجد ويدعنا؟ فقال‬
‫وأخرج ابن أبي شيبة‪ ،‬وابن المنذر‪ ،‬وابن أبي حاتم‪ ،‬وأبو الشيخ‪ ،‬عن الزهري أنه سئل عن المؤلفة قلوبهم‬
‫ً‬
‫موسرا‪.‬‬ ‫ً‬
‫موسرا؟ قال‪ :‬وإن كان‬ ‫نصراني‪ ،‬قلت‪ :‬وإن كان‬ ‫قال‪ :‬من أسلم من يهودي أو‬
‫ّ‬
‫وأخرج هؤالء عن أبي جعفر قال‪ :‬ليس اليوم مؤلفة قلوبهم‪.‬‬
‫ً‬
‫أيضا عن الشعبي مثله‪.‬‬ ‫وأخرج هؤالء‬
‫وأخرج ابن أبي حاتم‪ ،‬عن مقاتل‪ ،‬في قوله‪َ { :‬و ِفي الرقاب} قال‪ :‬هم المكاتبون‪.‬‬
‫وأخرج ابن المنذر‪ ،‬عن النخعي‪ ،‬نحوه‪.‬‬
‫أيضا عن عمر بن عبد اهلل قال‪ :‬سهم الرقاب نصفان‪ :‬نصف لكل مكاتب ممن يدّ عي اإلسالم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وأخرج‬
‫والنصف اآلخر يشتري به رقاب ممن صلى وصام‪ ،‬وقدم إسالمه من ذكر وأنثى‪ ،‬يعتقون هلل‪.‬‬
‫بأسا أن يعطى الرجل من‬ ‫ً‬ ‫وأخرج ابن أبي شيبة‪ ،‬وأبو عبيد‪ ،‬وابن المنذر‪ ،‬عن ابن عباس‪ ،‬أنه كان ال يرى‬
‫زكاته في الحج‪ ،‬وأن يعتق منها رقبة‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي شيبة‪ ،‬عن الزهري‪ ،‬أنه سئل عن الغارمين قال‪ :‬أصحاب الدين‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي شيبة‪ ،‬وابن المنذر‪ ،‬وابن أبي حاتم‪ ،‬وأبو الشيخ‪ ،‬عن أبي جعفر‪ ،‬في قوله‪{ :‬والغارمين}‬
‫قال‪ :‬هو الذي يسأل في دم أو جائحه تصيبه { َو ِفى َس ِبيل ِ اهلل} قال‪ :‬هم المجاهدون {وابن السبيل}‬
‫قال‪ :‬المنقطع به يعطى قدر ما يبلغه‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي حاتم‪ ،‬عن ابن عباس قال‪ :‬ابن السبيل هو الضيف الفقير الذي ينزل بالمسلمين‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي شيبة‪ ،‬وأبو داود‪ ،‬وابن ماجه‪ ،‬وابن المنذر‪ ،‬وابن مردويه‪ ،‬عن أبي سعيد الخدري‪ ،‬قال‪:‬‬
‫لغني إال لخمسة‪ :‬العامل عليها‪ ،‬أو الرجل اشتراها‬ ‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ال ّ‬
‫تحل الصدقة‬
‫ّ‬
‫لغني»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بماله‪ ،‬أو غارم‪ ،‬أو غاز في سبيل اهلل‪ ،‬أو مسكين تصدّ ق عليه فأهدى منها‬
‫وأخرج ابن أبي شيبة‪ ،‬وأبو داود‪ ،‬والترمذي‪ ،‬عن عبد اهلل بن عمر‪ ،‬عن النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬قال‪:‬‬
‫لغني وال لذي مرة سوى»‪.‬‬ ‫«ال ّ‬
‫تحل الصدقة‬
‫ّ‬
‫وأخرج أحمد‪ ،‬عن رجل من بني هالل‪ ،‬قال‪ :‬سمعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فذكر مثله‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي شيبة‪ ،‬وأبو داود‪ ،‬والنسائي عن عبد اهلل بن عدي بن الجيار‪ ،‬قال‪ :‬أخبرني رجالن أنهما‬
‫أتيا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في حجة الوداع‪ ،‬وهو يقسم الصدقة فسأاله منها‪ ،‬فرفع فينا البصر‬
‫لقوي مكتسب»‬ ‫ّ‬ ‫لغني وال‬
‫ّ‬ ‫حظ فيها‬ ‫وخفضه فرآنا جلدين‪ ،‬فقال‪« :‬إن شئتما أعطيتكما وال ّ‬
‫‪ .16‬تفسير في ظالل القرآن‬
‫من هنا يبدأ الحديث عن الطوائف التي ظهرت عليها أعراض الضعف في الصف‪ .‬وبخاصة جماعة‬
‫المنافقين‪ ،‬الذين اندسوا في صفوف المسلمين باسم اإلسالم‪ ،‬بعد أن غلب وظهر‪ ،‬فرأى هؤالء أن‬
‫حب السالمة وحب الكسب يقتضيانـ أن يحنوا رؤوسهم لإلسالم‪ ،‬وأن يكيدوا له داخل الصفوف‬
‫‪.‬بعد أن عز عليهم أن يكيدوا له خارج الصفوف‬
‫وسنرى في هذا المقطع كل الظواهر التي تحدثنا عنها في تقديم السورة كما يصورها السياق‬
‫‪.‬القرآني‪ .‬ونحسب أنها ستكون مفهومة واضحة في ضوء ذلك التقديم الذي أسفلنا‬
‫قاصدا التبعوك‪ ،‬ولكن بعدت عليهم الشقة؛ وسيحلفون باهلل لو{‬‫ً‬ ‫ً‬
‫وسفرا‬ ‫ً‬
‫قريبا‬ ‫ً‬
‫عرضا‬ ‫لو كان‬
‫استطعنا لخرجنا معكم‪ ،‬يهلكون أنفسهم‪ ،‬واهلل يعلم إنهم لكاذبون‪ .‬عفا اهلل عنك لم أذنت لهم‬
‫حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين؟ ال يستأذنك الذين يؤمنون باهلل واليوم اآلخر أن‬
‫يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم واهلل عليم بالمتقين‪ .‬إنما يستأذنك الذين ال يؤمنون باهلل واليوم‬
‫اآلخر‪ ،‬وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون؛ ولو أرادوا الخروج ألعدوا له عدة ولكن كره اهلل‬
‫انبعاثهم‪ ،‬فثبطهم‪ ،‬وقيل‪ :‬اقعدوا مع القاعدين‪ .‬لو خرجوا فيكم ما زادوكم إال خباالً وألوضعوا‬
‫خاللكم يبغونكم الفتنة‪ ،‬وفيكم سماعون لهم‪ ،‬واهلل عليم بالظالمين‪ .‬لقد ابتغوا الفتنة من قبل‬
‫‪}..‬وقلبوا لك األمور حتى جاء الحق وظهر أمر اهلل وهم كارهون‬
‫لو كان األمر أمر عرض قريب من أعراض هذه األرض‪ ،‬وأمر سفر قصير األمد مأمون العاقبة‬
‫التبعوك ولكنها الشقة البعيدة التي تتقاصر دونها الهمم الساقطة والعزائم الضعيفة‪ .‬ولكنه الجهد‬
‫الخطر الذي تجزع منه األرواح الهزيلة والقلوب المنخوبة‪ .‬ولكنه األفق العالي الذي تتخاذل دونه‬
‫‪.‬النفوس الصغيرة والبنية المهزولة‬
‫‪:‬وإنه لنموذج مكرور في البشرية ذلك الذي ترسمه تلك الكلمات الخالدة‬
‫ً‬
‫وسفرا قاصدا التبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة{‬ ‫ً‬
‫قريبا‬ ‫ً‬
‫عرضا‬ ‫‪}..‬لو كان‬
‫فكثيرون هم أولئك الذين يتهاوون في الطريق الصاعد إلى اآلفاق الكريمة‪ .‬كثيرون أولئك الذين‬
‫يجهدون لطول الطريق فيتخلفون عن الركب ويميلون إلى عرض تافه أو مطلب رخيص‪.‬‬
‫كثيرون تعرفهم البشرية في كل زمان وفي كل مكان‪ ،‬فما هي قلة عارضة‪ ،‬إنما هي النموذج‬
‫المكرور‪ .‬وإنهم ليعيشون على حاشية الحياة‪ ،‬وإن خيل إليهم أنهم بلغوا منافع ونالوا مطالب‪،‬‬
‫!واجتنبوا أداء الثمن الغالي‪ ،‬فالثمن القليل ال يشتري سوى التافه الرخيص‬
‫‪}..‬وسيحلفون باهلل لو استطعنا لخرجنا معكم{‬
‫أبدا ‪ .‬وما يكذب إال الضعفاء‪ .‬أجل ما يكذب إال ضعيف ولو بدا في‬ ‫فهو الكذب المصاحب للضعف ً‬
‫صورة األقوياء الجبارين في بعض األحايين‪ .‬فالقوي يواجه والضعيف يداور‪ .‬وما تتخلف هذه‬
‫‪..‬القاعدة في موقف من المواقف وال في يوم من األيامـ‬
‫‪}..‬يهلكون أنفسهم{‬
‫بهذا الحلف وبهذا الكذب‪ ،‬الذي يخيل إليهم أنه سبيل النجاة عند الناس‪ ،‬واهلل يعلم الحق‪،‬‬
‫‪.‬ويكشفه للناس‪ ،‬فيهلك الكاذب في الدنيا بكذبه‪ ،‬ويهلك في اآلخرة يوم ال يجدي النكران‬
‫‪}..‬واهلل يعلم ِإ نهم لكاذبون{‬
‫‪ }..‬عفا اهلل عنك‪ .‬لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين{‬
‫إنه لطف اهلل برسوله‪ ،‬فهو يعجل له بالعفو قبل العتاب‪ .‬فلقد تدارى المتخلفون خلف إذن الرسول‬
‫صلى اهلل عليه وسلم لهم بالقعود حين قدموا له المعاذير‪ .‬وقبل أن ينكشف صدقهم من كذبهم‬
‫في هذه المعاذير وكانوا سيتخلفون عن الركب حتى ولو لم يأذن لهم‪ .‬فعندئذ تتكشف حقيقتهم‪،‬‬
‫‪.‬ويسقط عنهم ثوب النفاق‪ ،‬ويظهرون للناس على طبيعتهم‪ ،‬وال يتوارون خلف إذن الرسول‬
‫‪.‬وإذا لم يكن ذلك فإن القرآن يتولى كشفهم‪ ،‬ويقرر القواعد التي يمتاز بها المؤمنون والمنافقون‬
‫ال يستأذنك الذين يؤمنون باهلل واليوم اآلخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم واهلل عليم{‬
‫بالمتقين‪ .‬إنما يستأذنك الذين ال يؤمنون باهلل واليوم اآلخر وارتابت قلوبهم‪ ،‬فهم في ريبهم‬
‫‪}.‬يترددون‬
‫وهذه هي القاعدة التي ال تخطئ‪ .‬فالذين يؤمنون باهلل‪ ،‬ويعتقدون بيوم الجزاء‪ ،‬ال ينتظرون أن‬
‫يؤذن لهم في أداء فريضة الجهاد؛ وال يتلكأون في تلبية داعي النفرة في سبيل اهلل باألموال‬
‫ً‬
‫ويقينا بلقائه‪ ،‬وثقة‬ ‫ً‬
‫خفافا وثقاالً كما أمرهم اهلل‪ ،‬طاعة ألمره‪،‬‬ ‫واألرواح؛ بل يسارعون إليها‬
‫تطوعا فال يحتاجون إلى من يستحثهم‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن‬ ‫ً‬ ‫بجزائه‪ ،‬وابتغاء لرضاه‪ .‬وإنهم ليتطوعون‬
‫اإلذن لهم‪ .‬إنما يستأذن أولئك الذين خلت قلوبهم من اليقين فهم يتلكأونـ ويتلمسون المعاذير‪،‬‬
‫عائقا من العوائق يحول بينهم وبين النهوض بتكاليف العقيدة التي يتظاهرون بها‪ ،‬وهم‬ ‫ً‬ ‫لعل‬
‫‪.‬يرتابون فيها ويترددون‬
‫إن الطريق إلى اهلل واضحة مستقيمة‪ ،‬فما يتردد ويتلكأ إال الذي ال يعرف الطريق‪ ،‬أو الذي يعرفها‬
‫!ويتنكبهاـ اتقاء لمتاعب الطريق‬
‫‪:‬ولقد كان أولئك المتخلفون ذوي قدرة على الخروج‪ ،‬لديهم وسائله‪ ،‬وعندهم عدته‬
‫‪}..‬ولو أرادوا الخروج ألعدوا له عدة{‬
‫ً‬
‫أشرافا في‬ ‫وقد كان فيهم عبد اهلل بن أبي بن أبي سلول‪ ،‬وكان فيهم الجد بن قيس‪ ،‬وكانوا‬
‫‪.‬قومهم أثرياء‬
‫‪}..‬ولكن كره اهلل انبعاثهم{‬
‫‪.‬لما يعلمه من طبيعتهم ونفاقهم‪ ،‬ونواياهم المنطوية على السوء للمسلمين كما سيجيء‬
‫‪}..‬فثبطهم{‬
‫‪.‬ولم يبعث فيهم الهمة للخروج‬
‫‪}..‬وقيل‪ :‬اقعدوا مع القاعدين{‬
‫وتخلفوا مع العجائز والنساء واألطفالـ الذين ال يستطيعون الغزو‪ ،‬وال ينبعثون للجهاد‪ .‬فهذا‬
‫‪.‬مكانكم الالئق بالهمم الساقطة والقلوب المرتابة والنفوس الخاوية من اليقين‬
‫ً‬
‫وخيرا للمسلمين‬ ‫ً‬
‫خيرا للدعوة‬ ‫‪:‬وكان ذلك‬
‫لو خرجوا فيكم ما زادوكم إال خباال وألوضعوا خاللكم يبغونكم الفتنة‪ ،‬وفيكم سماعون لهم‪{،‬‬
‫‪}..‬واهلل عليم بالظالمين‬
‫والقلوب الحائرة تبث الخور والضعف في الصفوف‪ ،‬والنفوس الخائنة خطر على الجيوش؛ ولو‬
‫ً‬
‫اضطرابا وفوضى‪.‬‬ ‫خرج أولئك المنافقون ما زادوا المسلمين قوة بخروجهم بل لزادوهم‬
‫وألسرعوا بينهم بالوقيعة والفتنة والتفرقة والتخذيل‪ .‬وفي المسلمين من يسمع لهم في ذلك‬
‫‪.‬الحين‬
‫ولكن اهلل الذي يرعى دعوته ويكأل رجالها المخلصين‪ ،‬كفى المؤمنين الفتنة‪ ،‬فترك المنافقين‬
‫‪:‬المتخاذلين قاعدين‬
‫‪}..‬واهلل عليم بالظالمين{‬
‫!والظالمون هنا معناهم المشركون فقد ضمهم كذلك إلى زمرة المشركين‬
‫وإن ماضيهم ليشهد بدخل نفوسهم‪ ،‬وسوء طويتهم‪ ،‬فلقد وقفوا في وجه الرسول صلى اهلل‬
‫‪:‬عليه وسلم وبذلوا ما في طوقهم‪ ،‬حتى غلبوا على أمرهم فاستسلموا وفي القلب ما فيه‬
‫‪ }..‬لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك األمور حتى جاء الحق وظهر أمر اهلل وهم كارهون{‬
‫وكان ذلك عند مقدم الرسول صلى اهلل عليه وسلم إلى المدينة‪ ،‬قبل أن يظهره اهلل على أعدائه‪.‬‬
‫ثم جاء الحق وانتصرت كلمة اهلل فحنوا لها رؤوسهم وهم كارهون‪ ،‬وظلوا يتربصون الدوائر‬
‫‪.‬باإلسالم والمسلمين‬
‫ثم يأخذ السياق في عرض نماذج منهم ومن معاذيرهم المفتراة؛ ثم يكشف عما تنطوي عليه‬
‫‪:‬صدورهم من التربص بالرسول صلى اهلل عليه وسلم والمسلمين‬
‫ومنهم من يقول‪ :‬ائذن لي وال تفتني‪ .‬أال في الفتنة سقطوا‪ ،‬وإن جهنم لمحيطة بالكافرين‪ .‬إن{‬
‫تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا‪ :‬قد أخذنا أمرنا من قبل‪ ،‬ويتولوا وهم فرحون‪.‬‬
‫قل‪ :‬لن يصيبنا إال ما كتب اهلل لنا هو موالنا وعلى اهلل فليتوكل المؤمنون‪ .‬قل‪ :‬هل تربصون بنا‬
‫إال إحدى الحسنيين؟ ونحن نتربص بكم أن يصيبكم اهلل بعذاب من عنده أو بأيدينا‪ .‬فتربصوا إنا‬
‫‪}.‬معكم متربصون‬
‫روى محمد بن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد اهلل بن أبي بكر وعاصم بن قتادة قالوا‪:‬‬
‫«قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ذات يوم‪ ،‬وهو في جهازه (أي لغزوة تبوك) للجد بن قيس‬
‫أخي بني سلمة‪ :‬هل لك يا جد في جالد بني األصفر؟» (يعني الروم) فقال‪ :‬يا رسول اهلل أو تأذن‬
‫ً‬
‫عجبا بالنساء مني‪ ،‬وإني أخشى إن رأيت‬ ‫لي وال تفتني؟ فواهلل لقد عرف قومي ما رجل أشد‬
‫نساء بني األصفر أال أصبر عنهن‪ .‬فأعرض عنه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وقال‪« :‬قد أذنت‬
‫‪.‬لك» ففي الجد بن قيس نزلت هذه اآلية‬
‫‪:‬بمثل هذه المعاذير كان المنافقون يعتذرون‪ .‬والرد عليهم‬
‫‪}..‬أال في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين{‬
‫مشهدا كأن الفتنة فيه هاوية يسقط فيها المفتونون؛ وكأن جهنم من ورائهم‬‫ً‬ ‫والتعبير يرسم‬
‫تحيط بهم‪ ،‬وتأخذ عليهم المنافذ والمتجهات فال يفلتون‪ .‬كناية عن مقارفتهم للخطيئة كاملة‬
‫حتما ‪ ،‬جزاء الكذب والتخلف والهبوط إلى هذا المستوى المنحط من‬ ‫ً‬ ‫وعن انتظار العقاب عليها‬
‫ً‬
‫وتقريرا لكفرهم وإن كانوا يتظاهرون باإلسالم وهم فيه منافقون‬ ‫‪.‬المعاذير‪.‬‬
‫ً‬
‫خيرا‬ ‫خيرا وال بالمسلمين؛ وإنهم ليسؤوهم أن يجد الرسول والمسلمون‬ ‫ً‬ ‫‪:‬إنهم ال يريدون بالرسول‬
‫‪}..‬إن تصبك حسنة تسؤهم{‬
‫‪:‬وإنهم ليفرحون لما يحل بالمسلمين من مصائب وما ينزل بهم من مشقة‬
‫‪}.‬وإن تصبك مصيبة يقولوا‪ :‬قد أخذنا أمرنا من قبل{‬
‫بشر‪ ،‬وتخلفنا عن الكفاح والغزو‬
‫!واحتطنا أال نصاب مع المسلمين ّ‬
‫‪}..‬ويتولوا وهم فرحون{‬
‫‪.‬بالنجاة وبما أصاب المسلمين من بالء‬
‫شرا في كل حال‪ ،‬ويظنون أنهم يحققون‬ ‫ذلك أنهم يأخذون بظواهر األمور‪ ،‬ويحسبون البالء ً‬
‫ألنفسهم الخير بالتخلف والقعود‪ .‬وقد خلت قلوبهم من التسليم هلل‪ ،‬والرضى بقدره‪ ،‬واعتقاد‬
‫ً‬
‫اعتقادا بأن ما يصيبه من خير أو شر‬ ‫الخير فيه‪ .‬والمسلم الصادق يبذل جهده ويقدم ال يخشى‪،‬‬
‫‪:‬معقود بإرادة اهلل‪ ،‬وأن اهلل ناصر له ومعين‬
‫‪ }..‬قل‪ :‬لن يصيبنا إال ما كتب اهلل لنا هو موالنا وعلى اهلل فليتوكل المؤمنون{‬
‫واهلل قد كتب للمؤمنين النصر‪ ،‬ووعدهم به في النهاية‪ ،‬فمهما يصبهم من شدة‪ ،‬ومهما يالقوا من‬
‫ابتالء؛ فهو إعداد للنصر الموعود‪ ،‬ليناله المؤمنون عن بينة‪ ،‬وبعد تمحيص‪ ،‬وبوسائله التي‬
‫رخيصا ‪ ،‬وعزة تحميها نفوس عزيزة مستعدة لكل ابتالء‪ ،‬صابرة‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫عزيزا ال‬ ‫ً‬
‫نصرا‬ ‫اقتضتها سنة اهلل‪،‬‬
‫‪:‬على كل تضحية‪ .‬واهلل هو الناصر وهو المعين‬
‫‪}..‬وعلى اهلل فليتوكل المؤمنون{‬
‫واالعتقاد بقدر اهلل‪ ،‬والتوكل الكامل على اهلل‪ ،‬ال ينفيان اتخاذ العدة بما في الطوق‪ .‬فذلك أمر‬
‫‪:‬اهلل الصريح‬
‫وما يتكل على اهلل حق االتكال من ال ينفذ أمر اهلل‪ ،‬ومن ال }‪...‬وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة{‬
‫ً‬
‫أحدا‪ ،‬وال تراعي خاطر إنسان‬ ‫!يأخذ باألسباب‪ ،‬ومن ال يدرك سنة اهلل الجارية التي ال تحابي‬
‫على أن المؤمن أمره كله خير‪ .‬سواء نال النصر أو نال الشهادة‪ .‬والكافر أمره كله شر سواء أصابه‬
‫‪:‬عذاب اهلل المباشر أو على أيدي المؤمنين‬
‫قل‪ :‬هل تربصون بنا إال إحدى الحسنيين‪ ،‬ونحن نتربص بكم أن يصيبكم اهلل بعذاب من عنده{‬
‫‪}..‬أو بأيدينا‪ .‬فتربصوا إنا معكم متربصون‬
‫فماذا يتربص المنافقون بالمؤمنين؟ إنها الحسنى على كل حال‪ .‬النصر الذي تعلو به كلمة اهلل‪،‬‬
‫فهو جزاؤهم في هذه األرض‪ .‬أو الشهادة في سبيل الحق عليا الدرجات عند اهلل‪ .‬وماذا يتربص‬
‫المؤمنون بالمنافقين؟ إنه عذاب اهلل يأخذهم كما أخذ من قبلهم من المكذبين؛ أو ببطش‬
‫المؤمنين بهم كما وقع من قبل للمشركين‪ { ..‬فتربصوا إنا معكم متربصون} والعاقبة معروفة‪..‬‬
‫‪.‬والعاقبة للمؤمنين‬
‫ولقد كان بعض هؤالء المعتذرين المتخلفين المتربصين‪ ،‬قد عرض ماله‪ ،‬وهو يعتذر عن الجهاد‪،‬‬
‫ذلك ليمسك العصا من الوسط على طريقة المنافقين في كل زمان ومكان‪ .‬فرد اهلل عليهم‬
‫مناورتهم‪ ،‬وكلف رسوله أن يعلن أن إنفاقهم غير مقبول عند اهلل‪ ،‬ألنهم إنما ينفقونه عن رياء‬
‫وخوف‪ ،‬ال عن إيمان وثقة‪ ،‬وسواء بذلوه عن رضا منهم بوصفه ذريعة يخدعون بها المسلمين‪ ،‬أو‬
‫خوفا من انكشاف أمرهم‪ ،‬فهو في الحالتين مردود‪ ،‬ال ثواب له وال يحسب لهم عند اهلل‬ ‫ً‬ ‫‪:‬عن كره‬
‫قوما فاسقين{‬‫ً‬ ‫كرها لن يتقبل منكم‪ ،‬إنكم كنتم‬‫ً‬ ‫ً‬
‫طوعا أو‬ ‫‪.‬قل‪ :‬أنفقوا‬
‫وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إال أنهم كفروا باهلل ورسوله‪ ،‬وال يأتون الصالة إلى وهم كسالى‪،‬‬
‫‪}..‬وال ينفقون إال وهم كارهون‬
‫إنها صورة المنافقين في كل آن‪ .‬خوف ومداراة‪ ،‬وقلب منحرف وضمير مدخول‪ .‬ومظاهر خالية‬
‫‪.‬من الروح‪ ،‬وتظاهر بغير ما يكنه الضمير‬
‫‪:‬والتعبير القرآني الدقيق‬
‫‪}..‬وال يأتون الصالة إال وهم كسالى{‬
‫مظهرا بال حقيقة‪ ،‬وال يقيمونها إقامة واستقامة‪ .‬يأتونها كسالى ألن الباعث عليها ال‬‫ً‬ ‫فهم يأتونها‬
‫دفعا‪ ،‬فيحسون أنهم عليها مسخرون! وكذلك ينفقون‬ ‫ً‬ ‫ينبثق من أعماق الضمير‪ ،‬إنما يدفعون إليهاـ‬
‫‪.‬ما ينفقون كارهين مكرهين‬
‫وما كان اهلل ليقبل هذه الحركات الظاهرة التي ال تحدو إليهاـ عقيدة‪ ،‬وال يصاحبها شعور دافع‪.‬‬
‫‪.‬فالباعث هو عمدة العمل والنية هي مقياسهـ الصحيح‬
‫ولقد كان هؤالء المنفقون وهم كارهون ذوي مال وذوي أوالد‪ ،‬وذوي جاه في قومهم وشرف‪.‬‬
‫شيئا عند الرسول والمؤمنين‪ .‬فما هي‬ ‫ً‬ ‫ولكن هذا كله ليس بشيء عند اهلل‪ .‬وكذلك يجب أال يكون‬
‫‪:‬بنعمة يسبغها اهلل عليهم ليهنأوا بها‪ ،‬إنما هي الفتنة يسوقها اهلل إليهم ويعذبهم بها‬
‫فال تعجبك أموالهم وال أوالدهم‪ ،‬إنما يريد اهلل ليعذبهم بها في الحياةـ الدنيا‪ ،‬وتزهق أنفسهم{‬
‫‪}.‬وهم كافرون‬
‫إن األموال واألوالد قد تكون نعمة يسبغها اهلل على عبد من عباده‪ ،‬حين يوفقه إلى الشكر على‬
‫النعمة‪ ،‬واإلصالح بها في األرض‪ ،‬والتوجه بها إلى اهلل‪ ،‬فإذا هو مطمئن الضمير‪ ،‬ساكن النفس‪،‬‬
‫ذخرا‪ ،‬وكلما أصيب في ماله أو بنيه‬ ‫ً‬ ‫واثق من المصير‪ .‬كلما أنفق احتسب وشعر أنه قدم لنفسه‬
‫احتسب‪ ،‬فإذا السكينة النفسية تغمره‪ .‬واألمل في اهلل يسري عنه‪ ..‬وقد تكون نقمة يصيب اهلل‬
‫عبدا من عباده‪ ،‬ألنه يعلم من أمره الفساد والدخل‪ ،‬فإذا القلق على األموال واألوالد يحول‬ ‫ً‬ ‫بها‬
‫جحيما‪ ،‬وإذا الحرص عليهاـ يؤرقه ويتلف أعصابه‪ ،‬وإذا هو ينفق المال حين ينفقه فيما‬ ‫ً‬ ‫حياته‬
‫يتلفه ويعود عليه باألذى‪ ،‬وإذا هو يشقى بأبنائه إذا مرضوا ويشقى بهم إذا صحوا‪ ،‬وكم من‬
‫!الناس يعذبون بأبنائهم لسبب من األسبابـ‬
‫وهؤالء الذين كانوا على عهد الرسول صلى اهلل عليه وسلم وأمثالهم في كل زمان‪ ،‬يملكون‬
‫األموال ويرزقون األوالد‪ ،‬يعجب الناس ظاهرها‪ ،‬وهي لهم عذاب على نحو من األنحاء‪ .‬عذاب‬
‫في الحياة الدنيا‪ ،‬وهم‪ -‬بما علم اهلل من دخيلتهم‪ -‬صائرون إلى الهاوية‪ .‬هاوية الموت على الكفر‬
‫‪.‬والعياذ باهلل من هذا المصير‬
‫ً‬
‫مزعجا ال هدوء فيه وال‬ ‫والتعبير {وتزهق أنفسهم} يلقي ظل الفرار لهذه النفوس أو الهالك‪ .‬ظ ً‬
‫ال‬
‫اطمئنان‪ ،‬فيتسق هذا الظل مع ظل العذاب في الحياة الدنيا باألموال واألوالد‪ .‬فهو القلق والكرب‬
‫!في الدنيا واآلخرة‪ .‬وما يحسد أحد على هذه المظاهر التي تحمل في طياتها البالء‬
‫ولقد كان أولئك المنافقون يدسون أنفسهم في الصف‪ ،‬ال عن إيمان واعتقاد‪ ،‬ولكن عن خوف‬
‫‪.‬وتقية‪ ،‬وعن طمع ورهب‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ثم يحلفون أنهم من المسلمين‪ ،‬أسلموا اقتناعا‪ ،‬وآمنوا اعتقادا‪ ..‬فهذه السورة تفضحهم وتكشفهم‬
‫‪:‬على حقيقتهم‪ ،‬فهي الفاضحة التي تكشف رداء المداورة وتمزق ثوب النفاق‬
‫ويحلفون باهلل إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون‪ .‬لو يجدون ملجأ أو مغارات أو{‬
‫ال لولوا إليه وهم يجمحون‬‫‪}.‬مدخ ً‬
‫مشهدا ويجسمه في حركة‪ .‬حركة النفس والقلب‪ ،‬يبرزها‬ ‫ً‬ ‫إنهم جبناء‪ .‬والتعبير يرسم لهذا الجبن‬
‫‪:‬في حركة جسد وعيان‬
‫ال لولوا إليه وهم يجمحون{‬ ‫‪}..‬لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخ ً‬
‫نفقا‪ .‬إنهم مذعورون‬ ‫حصنا أو مغارة أو ً‬
‫ً‬ ‫فهم متطلعون ً‬
‫أبدا إلى مخبأ يحتمون به‪ ،‬ويأمنون فيه‪.‬‬
‫‪:‬مطاردون‪ .‬يطاردهم الفزع الداخلي والجبن الروحي‪ .‬ومن هنا‬
‫‪}..‬يحلفون باهلل إنهم لمنكم{‬
‫بكل أدوات التوكيد‪ ،‬ليداروا ما في نفوسهم‪ ،‬وليتقوا انكشاف طويتهم‪ ،‬وليأمنوا على ذواتهم‪..‬‬
‫وإنها لصورة زرية للجبن والخوف والملق والرياء‪ .‬ال يرسمها إال هذا االسلوب القرآني العجيب‪.‬‬
‫‪.‬الذي يبرز حركات النفس شاخصة للحس على طريقة التصوير الفني الموحي العميق‬
‫ثم يستمر سياق السورة في الحديث عن المنافقين‪ ،‬وما يند منهم من أقوال وأعمال‪ ،‬تكشف عن‬
‫نواياهم التي يحاولون سترها‪ ،‬فال يستطيعون‪ .‬فمنهم من يلمز النبي صلى اهلل عليه وسلم في‬
‫توزيع الصدقات‪ ،‬ويتهم عدالته في التوزيع‪ ،‬وهو المعصوم ذو الخلق العظيم‪ ،‬ومنهم من يقول‪:‬‬
‫هو اذن يستمع لكل قائل‪ ،‬ويصدق كل ما يقال‪ ،‬وهو النبي الفطن البصير‪ ،‬المفكر المدبر الحكيم‪.‬‬
‫ومنهم من يتخفى بالقولة الفاجرة الكافرة‪ ،‬حتى إذا انكشف أمره استعان بالكذب والحلف ليبرئ‬
‫نفسه من تبعة ما قال‪ .‬ومنهم من يخشى أن ينزل اهلل على رسوله سورة تفضح نفاقهم وتكشفهم‬
‫‪.‬للمسلمين‬
‫ويعقب على استعراض هذه الصنوف من المنافقين‪ ،‬ببيان طبيعة النفاق والمنافقين‪ ،‬ويربط‬
‫بينهم وبين الكفار الذين خلوا من قبل‪ ،‬فأهلكهم اهلل بعد ما استمتعوا بنصيبهم إلى أجل معلوم‪.‬‬
‫ذلك ليكشف عن الفوارق بين طبيعتهم هذه وطبيعة المؤمنين الصادقين‪ ،‬الذين يخلصون‬
‫‪.‬العقيدة وال ينافقون‬
‫ومنهم من يلمزك في الصدقات‪ ،‬فإن أعطوا منها رضوا‪ ،‬وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون‪{.‬‬
‫ولو أنهم رضوا ما آتاهم اهلل ورسوله‪ ،‬وقالوا‪ :‬حسبنا اهلل‪ ،‬سيؤتينا اهلل من فضله ورسوله‪ ،‬إنا إلى‬
‫اهلل راغبون‪ .‬إنما الصدقات للفقراء والمساكين‪ ،‬والعاملين عليها‪ ،‬والمؤلفة قلوبهم‪ ،‬وفي الرقاب‪،‬‬
‫‪ }..‬والغارمين‪ ،‬وفي سبيل اهلل وابن السبيل‪ ،‬فريضة من اهلل واهلل عليم حكيم‬
‫من المنافقين من يغمزك بالقول‪ ،‬ويعيب عدالتك في توزيع الصدقات‪ ،‬ويدعي أنك تحابي في‬
‫ً‬
‫غضبا للعدل‪ ،‬وال حماسة للحق‪ ،‬وال غيرة على الدين‪ ،‬إنما يقولونه‬ ‫قسمتها‪ .‬وهم ال يقولون ذلك‬
‫‪:‬لحساب ذواتهم وأطماعهم‪ ،‬وحماسة لمنفعتهم وأنانيتهم‬
‫!ولم يبالوا الحق والعدل والدين }فإن أعطوا منها رضوا{‬
‫!}وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون{‬
‫وقد وردت روايات متعددة عن سبب نزول اآلية‪ ،‬تقص حوادث معينة عن أشخاص بأعيانهم‬
‫‪.‬لمزوا الرسول صلى اهلل عليه وسلم في عدالة التوزيع‬
‫روى البخاري والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي اهلل عنه قال‪ :‬بينما النبي صلى اهلل عليه‬
‫قسما إذ جاءه ذو الخويصر التميمي‪ ،‬فقال‪ :‬أعدل يا رسول اهلل‪ .‬فقال‪« :‬ويلك! ومن‬ ‫ً‬ ‫وسلم يقسم‬
‫يعدل إذا لم أعدل؟» فقال عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه ائذن لي فأضرب عنقه‪ .‬فقال رسول‬
‫أصحابا يحقر أحدكم صالته مع صالتهم‪ ،‬وصيامه مع‬ ‫ً‬ ‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم «دعه فإن له‬
‫صيامهم‪ ،‬يمرقون من الدين كما يمرق السهم في الرمية‪ »...‬قال أبو سعيد‪ ،‬فنزلت فيهم‪{ :‬ومنهم‬
‫‪.‬من يلمزك في الصدقات}‬
‫وروى ابن مردويه عن ابن مسعود رضي اهلل عنه قال‪ :‬لما قسم النبي صلى اهلل عليه وسلم غنائم‬
‫ال يقول‪ :‬إن هذه قسمة ما أريد بها وجه اهلل‪ .‬فأتيت النبي صلى اهلل عليه وسلم‬ ‫حنين سمعت رج ً‬
‫فذكرت له ذلك فقال‪« :‬رحمة اهلل على موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» ونزل {ومنهم من‬
‫‪.‬يلمزك في الصدقات}‬
‫وروى سنيد وابن جرير عن داود بن أبي عاصم قال‪ :‬أتي النبي صلى اهلل عليه وسلم بصدقة‬
‫فقسمها ها هنا وها هنا حتى ذهبت‪ ،‬ورآه رجل من األنصار فقال‪ :‬ما هذا بالعدل‪ .‬فنزلت هذه‬
‫‪.‬اآلية‬
‫وقال قتادة في قوله‪ { :‬ومنهم من يلمزك في الصدقات} يقول‪ :‬ومنهم من يطعن عليك في‬
‫ال من أهل البادية حديث عهد بأعرابية أتى النبي صلى اهلل عليه وسلم‬ ‫الصدقات‪ .‬وذكر لنا أن رج ً‬
‫ذهبا وفضة‪ ،‬فقال‪ :‬يا محمد واهلل لئن كان اهلل أمرك أن تعدل ما عدلت‪ ،‬فقال نبي اهلل‬ ‫ً‬ ‫وهو يقسم‬
‫»!صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ويلك فمن ذا الذي يعدل عليك بعدي؟‬
‫وعلى أية حال فالنص القرآني يقرر أن القولة قولة فريق من المنافقين‪ .‬يقولونها ال غيرة على‬
‫وغيظا أن لم يكن لهم نصيب‪ ..‬وهي آية نفاقهم الصريحة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫غضبا على حظ أنفسهم‪،‬‬ ‫الدين‪ ،‬ولكن‬
‫فما يشك في خلق الرسول صلى اهلل عليه وسلم مؤمن بهذا الدين‪ ،‬وهو المعروف حتى قبل‬
‫ال على نبي‬‫الرسالة بأنه الصادق األمين‪ ،‬والعدل فرع من أمانات اهلل التي ناطها بالمؤمنين فض ً‬
‫المؤمنين‪ .‬وواضح أن هذه النصوص تحكي وقائع وظواهر وقعت من قبل‪ ،‬ولكنها تتحدث عنها‬
‫‪.‬في ثنايا الغزوة لتصوير أحوال المنافقين الدائمة المتصلة قبل الغزوة وفي ثناياهاـ‬
‫‪:‬وبهذه المناسبة يرسم السياق الطريق الالئق بالمؤمنين الصادقي اإليمانـ‬
‫‪.‬ولو أنهم رضوا ما آتاهم اهلل ورسوله‪ ،‬وقالوا‪ :‬حسبنا اهلل‪ ،‬سيؤتينا اهلل من فضله ورسوله{‬
‫‪}..‬إنا إلى اهلل راغبون‬
‫فهذا هو أدب النفس وأدب اللسان‪ ،‬وأدب اإليمان‪ :‬الرضا بقسمة اهلل ورسوله‪ ،‬رضا التسليم‬
‫واالقتناع ال رضا القهر والغلب‪ .‬واالكتفاء باهلل‪ ،‬واهلل كاف عبده‪ .‬والرجاء في فضل اهلل ورسوله‬
‫والرغبة في اهلل خالصة من كل كسب مادي‪ ،‬ومن كل طمع دنيوي‪ ..‬ذلك أدب اإليمانـ الصحيح‬
‫الذي ينضح به قلب المؤمن‪ .‬وإن كانت ال تعرفه قلوب المنافقين‪ ،‬الذين لم تخالط بشاشة اإليمان‬
‫‪.‬أرواحهم‪ ،‬ولم يشرق في قلوبهم نور اليقين‬
‫ً‬
‫وإسالما‪ ،‬يقرر أن األمر‪ -‬مع‬ ‫ً‬
‫تطوعا ورضا‬ ‫وبعد بيان هذا األدب الالئق في حق اهلل وحق رسوله‪،‬‬
‫ذلك‪ -‬ليس أمر الرسول؛ إنما هو أمر اهلل وفريضته وقسمته‪ ،‬وما الرسول فيها إال منفذ للفريضة‬
‫المقسومة من رب العالمين‪ .‬فهذه الصدقات‪ -‬أي الزكاة‪ -‬تؤخذ من األغنياء فريضة من اهلل‪ ،‬وترد‬
‫على الفقراء فريضة من اهلل‪ .‬وهي محصورة في طوائف من الناس يعينهم القرآن‪ ،‬وليست‬
‫‪:‬متروكة الختيار أحد‪ ،‬حتى ال اختيارـ الرسول‬
‫إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي{‬
‫‪}..‬سبيل اهلل وابن السبيل‪ .‬فريضة من اهلل واهلل عليم حكيم‬
‫ال ممن‬ ‫ً‬
‫تطوعا وال تفض ً‬ ‫وبذلك تأخذ الزكاة مكانها في شريعة اهلل‪ ،‬ومكانها في النظام اإلسالمي‪ ،‬ال‬
‫جزافا من القاسم الموزع‪ .‬فهي فريضة‬ ‫ً‬ ‫فرضت عليهم‪ .‬فهي فريضة محتمة‪ .‬وال منحة وال‬
‫معلومة‪ .‬إنها إحدى فرائض اإلسالمـ تجمعها الدولة المسلمة بنظام معين لتؤدي بها خدمة‬
‫إحسانا من المعطي وليست شحاذة من اآلخذ‪ ..‬كال فما قام‬ ‫ً‬ ‫اجتماعية محددة‪ .‬وهي ليست‬
‫!النظام االجتماعي في اإلسالم على التسول‪ ،‬ولن يقوم‬
‫إن قوام الحياة في النظام اإلسالمي هو العمل‪ -‬بكل صنوفه وألوانه‪ -‬وعلى الدولة المسلمة أن‬
‫توفر العمل لكل قادر عليه‪ ،‬وأن تمكنه منه باإلعداد له‪ ،‬وبتوفير وسائله‪ ،‬وبضمان الجزاء األوفى‬
‫عليه‪ ،‬وليس للقادرين على العمل من حق في الزكاة‪ ،‬فالزكاة ضريبة تكافل اجتماعي بين‬
‫القادرين والعاجزين‪ ،‬تنظمها الدولة وتتوالها في الجمع والتوزيع؛ متى قام المجتمع على أساس‬
‫ً‬
‫منهجا سواه‬ ‫ً‬
‫شرعا وال‬ ‫ً‬
‫منفذا شريعة اهلل‪ ،‬ال يبتغي له‬ ‫‪.‬اإلسالم الصحيح‪،‬‬
‫عن ابن عمر‪ -‬رضي اهلل عنهما‪ -‬قال‪ :‬قال رسول اهلل‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ال تحل الصدقة‬
‫‪».‬لغني وال لذي مرة سوي‬
‫وعن عبد اهلل بن عدي بن الخيار أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي صلى اهلل عليه وسلم يسأالنه‬
‫من الصدقة‪ ،‬فقلب فيهما البصر‪ ،‬فرآهما جلدين‪ ،‬فقال‪« :‬إن شئتما أعطيتكما‪ .‬وال حظ فيها لغني‬
‫‪».‬وال لقوي مكتسب‬
‫ً‬
‫كثيرا‬ ‫إن الزكاة فرع من فروع نظام التكافل االجتماعي في اإلسالم‪ .‬وهذا النظام أشمل وأوسع‬
‫من الزكاة؛ ألنه يتمثل في عدة خطوط تشمل فروع الحياة كلها‪ ،‬ونواحي االرتباطات البشرية‬
‫‪.‬بأكملها‪ ،‬والزكاة خط أساسي من هذه الخطوط‬
‫والزكاة تجمع بنسبة العشر ونصف العشر وربع العشر من أصل المال حسب أنواع األموال‪ .‬وهي‬
‫جنيها فائضة عن حاجتهـ يحول عليها الحول‪ .‬وبذلك‬ ‫ً‬ ‫تجمع من كل من يملك حوالي عشرين‬
‫يشترك في حصيلتها معظم أفراد األمة‪ .‬ثم تنفق في المصارف التي بينتها اآلية هنا‪ ،‬وأول‬
‫المستحق لها هم الفقراء والمساكين‪ .‬والفقراء هم الذين يجدون دون الكفاية‪ ،‬والمساكين مثلهم‬
‫‪.‬ولكنهم هم الذين يتجملون فال يبدون حاجتهم وال يسألون‬
‫كثيرا ممن يؤدون الزكاة في عام‪ ،‬قد يكونون في العام التالي مستحقينـ للزكاة‪ .‬بنقص ما‬ ‫ً‬ ‫وإن‬
‫في أيديهم عن الوفاء بحاجاتهم‪ .‬فهي من هذه الناحية تأمين اجتماعي‪ .‬وبعضهم يكون لم يؤد‬
‫شيئا في حصيلة الزكاة ولكنه يستحقها‪ .‬فهي من هذه الناحيةـ ضمان اجتماعي‪ ..‬وهي قبل هذا‬ ‫ً‬
‫وذاك فريضة من اهلل‪ ،‬تزكو النفس بأدائها وهي إنما تعبد بها اهلل‪ ،‬وتخلص من الشح وتستعلي‬
‫‪.‬عليه في هذا األداء‬
‫‪.‬وقد سبق بيانهما ‪}..‬إنما الصدقات للفقراء والمساكين{‬
‫‪.‬أي الذين يقومون على تحصيلها ‪}..‬والعاملين عليها{‬
‫ًـ‬
‫حديثا في اإلسالمـ ويراد تثبيتهم عليه‪}.. .‬والمؤلفة قلوبهم{‬ ‫وهم طوائف‪ ،‬منهم الذين دخلوا‬
‫ومنهم الذين يرجى أن تتألف قلوبهم فيسلموا‪ .‬ومنهم الذين أسلموا وثبتوا ويرجى تأليف قلوب‬
‫أمثالهم في قومهم ليثوبوا إلى اإلسالم حين يرون إخوانهم يرزقون ويزادون‪ ..‬وهناك خالف‬
‫فقهي حول سقوط سهم هؤالء المؤلفة قلوبهم بعد غلبة اإلسالم‪ ..‬ولكن المنهج الحركي لهذا‬
‫كثيرا من الحاالت‪ ،‬تحتاج إلى إعطاء جماعة من الناس‬ ‫ً‬ ‫الدين سيظل يواجه في مراحله المتعددة‬
‫على هذا الوجه؛ إما إعانة لهم على الثبات على اإلسالم إن كانوا يحاربون في أرزاقهم إلسالمهم‪،‬‬
‫تقريبا لهم من اإلسالم كبعض الشخصيات غير المسلمة التي يرجى أن تنفع اإلسالمـ بالدعوة‬ ‫ً‬ ‫وإما‬
‫ً‬
‫مظهرا لكمال حكمة اهلل في تدبيره ألمر‬ ‫له والذب عنه هنا وهناك‪ .‬ندرك هذه الحقيقة‪ ،‬فنرى‬
‫‪.‬المسلمين على اختالف الظروف واألحوال‬
‫ً‬
‫عالميا‪ ،‬تجري المعاملة فيه على المثل في استرقاق ‪}..‬وفي الرقاب{‬ ‫ً‬
‫نظاما‬ ‫ذلك حين كان الرق‬
‫األسرى بين المسلمين وأعدائهم‪ .‬ولم يكن لإلسالم بد من المعاملة بالمثل حتى يتعارف العالم‬
‫على نظام آخر غير االسترقاق‪ ..‬وهذا السهم كان يستخدم في إعانة من يكاتب سيده على‬
‫الحرية في نظير مبلغ يؤديه له‪ ،‬ليحصل على حريته بمساعدة قسطه من الزكاة‪ .‬أو بشراء رقيق‬
‫‪.‬وإعتاقهم بمعرفة الدولة من هذا المال‬
‫وهم المدينون في غير معصية‪ .‬يعطون من الزكاة ليوفوا ديونهم‪ .‬بدالً من إعالن ‪}..‬والغارمين{‬
‫إفالسهم كما تصنع الحضارة المادية بالمدينين من التجارة مهما تكن األسباب! فاإلسالم نظام‬
‫بعضا في صورة‬‫ً‬ ‫تكافلي‪ ،‬ال يسقط فيه الشريف‪ ،‬وال يضيع فيه األمين‪ ،‬وال يأكل الناس بعضهم‬
‫!قوانين نظامية‪ ،‬كما يقع في شرائع األرض أو شرائع الغاب‬
‫‪}.‬وفي سبيل اهلل{‬
‫‪.‬وذلك باب واسع يشمل كل مصلحة للجماعة‪ ،‬تحقق كلمة اهلل‬
‫ً‬
‫غنيا في بلده ‪}..‬وابن السبيل{‬ ‫‪.‬وهو المسافر المنقطع عن ماله‪ ،‬ولو كان‬
‫هذه هي الزكاة التي يتقول عليها المتقولون في هذا الزمان‪ ،‬ويلمزونها بأنها نظام تسول‬
‫وإحسان‪ ..‬هذه هي فريضة اجتماعية‪ ،‬تؤدى في صورة عبادة إسالمية‪ .‬ذلك ليطهر اهلل بها‬
‫القلوب من الشح؛ وليجعلها وشيجة تراحم وتضامن بين أفراد األمة المسلمة‪ .‬تندّ ي جو الحياة‬
‫اإلنسانية‪ ،‬وتمسح على جراح البشرية؛ وتحقق في الوقت ذاته التأمين االجتماعي والضمان‬
‫االجتماعي في أوسع الحدود‪ .‬وتبقى لها صفة العبادة التي تربط بين القلب البشري وخالقه‪ ،‬كما‬
‫‪:‬تربط بينه وبين الناس‬
‫‪:‬الذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية‪ ،‬ويدبر أمرها بالحكمة }فريضة من اهلل{‬
‫‪}.‬واهلل عليم حكيم{‬
‫وبعد بيان قواعد الصدقات‪ ،‬التي يرجع إليها التوزيع والتقسيم‪ .‬ذلك البيان الذي يكشف عن جهل‬
‫الذين يلمزون الرسول صلى اهلل عليه وسلم فوق سوء أدبهم حين يلمزون الرسول األمين‪ .‬بعد‬
‫‪:‬هذا يمضي السياق يعرض صنوف المنافقين‪ ،‬وما يقولون وما يفعلون‬
‫ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون‪ :‬هو أذن‪ .‬قل‪ :‬أذن خير لكم يؤمن باهلل ويؤمن للمؤمنين‪{،‬‬
‫ورحمة للذين آمنوا منكم‪ ،‬والذين يؤذون رسول اهلل لهم عذاب أليم‪ .‬يحلفون باهلل لكم ليرضوكم‪،‬‬
‫واهلل ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين‪ .‬ألم يعلموا أنه من يحادد اهلل ورسوله فإن له نار‬
‫خالدا فيها‪ .‬ذلك الخزي العظيم‪ .‬يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في‬ ‫ً‬ ‫جهنم‬
‫قلوبهم‪ .‬قل‪ :‬استهزئوا إن اهلل مخرج ما تحذرون‪ .‬ولئن سألتهم ليقولن‪ :‬إنما كنا نخوض ونلعب‪.‬‬
‫قال‪ :‬أباهلل وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟ ال تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم؛ إن نعف عن طائفة‬
‫‪}..‬منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين‬
‫إنه سوء األدب في حق الرسول‪ ،‬يبدو في صورة أخرى غير صورة اللمز في الصدقات‪ .‬إنهم‬
‫رفيعا في االستماع إلى الناس بإقبال وسماحة؛‬ ‫ً‬ ‫يجدون من النبي صلى اهلل عليه وسلم ً‬
‫أدبا‬
‫ويعاملهم بظاهرهم حسب أصول شريعته؛ ويهش لهم ويفسح لهم من صدره‪ .‬فيسمون هذا‬
‫األدب العظيم بغير اسمه‪ ،‬ويصفونه بغير حقيقته‪ ،‬ويقولون عن النبي صلى اهلل عليه وسلم {هو‬
‫أذن} أي سماع لكل قول‪ ،‬يجوز عليه الكذب والخداع والبراعة‪ ،‬وال يفطن إلى غش القول وزوره‪.‬‬
‫ً‬
‫تطمينا ألنفسهم أن‬ ‫من حلف له صدقه‪ ،‬ومن دس عليه قوالً قبله‪ .‬يقولون هذا بعضهم لبعض‬
‫ً‬
‫طعنا على‬ ‫يكشف النبي صلى اهلل عليه وسلم حقيقةـ أمرهم‪ ،‬أو يفطن إلى نفاقهم‪ .‬أو يقولونه‬
‫النبي في تصديقه للمؤمنين الخلص الذين ينقلون له ما يطلعون عليه من شؤون المنافقين‬
‫وأعمالهم وأقوالهم عن الرسول وعن المسلمين‪ .‬وقد وردت الروايات بهذا وذلك في سبب نزول‬
‫‪.‬اآلية‬
‫‪.‬وكالهما يدخل في عمومها‪ .‬وكالهما يقع من المنافقين‬
‫ردا عليهم‬‫‪:‬ويأخذ القرآن الكريم كالمهم ليجعل منه ً‬
‫‪}..‬ويقولون‪ :‬هو أذن{‬
‫‪.‬نعم‪ ..‬ولكن‬
‫‪}..‬قل‪ :‬أذن خير لكم{‬
‫أذن خير يستمع إلى الوحي ثم يبلغه لكم وفيه خيركم وصالحكم‪ .‬وأذن خير يستمع إليكم في‬
‫‪.‬أدب وال يجبهكم بنفاقكم‪ ،‬وال يرميكم بخداعكم‪ ،‬وال يأخذكم بريائكم‬
‫‪}.‬يؤمن باهلل{‬
‫‪.‬فيصدق كل ما يخبره به عنكم وعن سواكم‬
‫‪}..‬ويؤمن للمؤمنين{‬
‫فيطمئن إليهم ويثق بهم‪ ،‬ألنه يعلم منهم صدق اإليمانـ الذي يعصمهم من الكذب وااللتواء‬
‫‪.‬والرياء‬
‫‪}..‬ورحمة للذين آمنوا منكم{‬
‫‪.‬يأخذ بيدهم إلى الخير‬
‫‪}..‬والذين يؤذون رسول اهلل لهم عذاب أليم{‬
‫‪.‬من اهلل غيرة على الرسول أن يؤذى وهو رسول اهلل‬
‫‪}.‬يحلفون باهلل لكم ليرضوكم واهلل ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين{‬
‫يحلفون باهلل لكم ليرضوكم‪ ،‬على طريقة المنافقين في كل زمان‪ ،‬الذين يقولون ما يقولون‬
‫ويفعلون ما يفعلون من وراء الظهور؛ ثم يجبنون عن المواجهة‪ ،‬ويضعفون عن المصارحة‪،‬‬
‫‪.‬فيتضاءلون ويتخاذلون للناس ليرضوهم‬
‫‪}..‬واهلل ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين{‬
‫فماذا يكون الناس؟ وماذا تبلغ قوتهم؟ ولكن الذي ال يؤمن باهلل عادة وال يعنو له‪ ،‬يعنو إلنسان‬
‫ً‬
‫خيرا أن يعنو هلل الذي يتساوى أمامه الجميع‪ ،‬وال يذل من يخضع له‬ ‫‪،‬مثله ويخشاه؛ ولقد كان‬

‫‪ .17‬تفسير ابن عطية‬


‫{ إنما} في هذه اآلية حاصرة تقتضي وقوف {الصدقات} على الثمانية األصناف‪ ،‬وإنما اختلف في‬
‫صورة القسمة فقال مالك وغيره‪ :‬ذلك على قدر اجتهاد اإلمام وبحسب أهل الحاجة‪ ،‬وقال الشافعي‪ :‬هي‬
‫ثمانية أقسام على ثمانية أصناف ال يخل بواحد منها إال أن {المؤلفة} انقطعوا‪.‬‬
‫قال القاضي أبو محمد‪ :‬ويقول صاحب هذا القول‪ :‬إنه ال يجزئ المتصدق والقاسم من كل صنف أقل من‬
‫ثالثة‪ ،‬وأما الفقير والمسكين فقال األصمعي وغيره‪ :‬الفقير أبلغ فاقه وقال غيرهم‪ :‬المسكين أبلغ فاقه‪.‬‬
‫قال القاضي أبو محمد‪ :‬وال طريق إلى هذا االختالف وال إلى الترجيح إال النظر النظر في شواهد القرآن‬
‫والنظر في كالم العرب وأشعارها‪ ،‬فمن حجة األولين قول اهلل عز وجل {أما السفينة فكانت لمساكين‬
‫يعملون في البحر} [الكهف‪ ]79 :‬واعترض هذا الشاهد بوجوه منها‪ ،‬أن يكون سماهم {مساكين}‬
‫باإلضافة إلى الغاصب وإن كانوا أغنياء على جهة الشفقة كما تقول في جماعة تظلم مساكين ال حيلة‬
‫لمساكين} بشد السين بمعنى‪ :‬دباغين يعملون المسوك قاله‬ ‫لهم وربما كانوا مياسير ومنها‪ :‬أنه قرئ { ّ‬
‫النقاش وغيره ومنها‪ :‬أن تكون إضافتها إليهم ليست بإضافة ملك بل كانوا عاملين بها فهي كما تقول‪:‬‬
‫سرج الفرس‪ ،‬ومن حجة اآلخرين قول الراعي‪[ :‬البسيط]‬
‫أما الفقير الذي كانت حلوبته *** وفق العيال فلم يترك له سبد‬
‫ً‬
‫فقيرا بعد أن صار ال حلوبة له‪ ،‬وإنما ذكر الحلوبة بأنها كانت‪،‬‬ ‫وقد اعترض هذا الشاهد بأنه إنما سماه‬
‫وهذا اعتراض يرده معنى القصيدة ومقصد الشاعر بأنه إنما يصف سعاية أتت على مال الحي بأجمعه‪،‬‬
‫فقال أما الفقير فاستؤصل ماله فكيف بالغني مع هذه الحال‪ ،‬وذهب من يقول إن المسكين أبلغ فاقه إلى‬
‫أنه مشتق من السكون‪ ،‬وأن الفقير مشتق من فقار الظهر كأنه أصيب فقارة فيه ال محالة حركة‪ ،‬وذهب‬
‫من يقول إن الفقير أبلغ فاقه‪ :‬إلى أنه مشتق من فقرت البئر إذا نزعت جميع ما فيها‪ ،‬وأن المسكين من‬
‫السكن‪.‬‬
‫قال القاضي أبو محمد‪ :‬ومع هذا االختالف فإنهما صنفان يعمهما اإلقالل والفاقه‪ ،‬فينبغي أن يبحث على‬
‫الوجه الذي من أجله جعلهما اهلل اثنين‪ ،‬والمعنى فيهما واحد‪ ،‬وقد اضطرب الناس في هذا‪ ،‬فقال‬
‫الضحاك بن مزاحم‪ { :‬الفقراء} هم من المهاجرين {والمساكين} من لم يهاجر‪ ،‬وقال النخعي نحوه‪ ،‬قال‬
‫ً‬
‫شيئا‪.‬‬ ‫سفيان‪ :‬يعني ال يعطى فقراء األعراب منها‬
‫قال القاضي أبو محمد‪ :‬والمسكين السائل يعطى في المدينة وغيرها‪ ،‬وهذا القول هو حكاية الحال وقت‬
‫نزول اآلية‪ ،‬وأما منذ زالت الهجرة فاستوى الناس‪ ،‬وتعطى الزكاة لكل متصف بفقر‪ ،‬وقال عكرمة‪:‬‬
‫{ الفقراء} من المسلمين‪ { ،‬والمساكين} من أهل الذمة‪ ،‬وال تقولوا لفقراء المسلمين مساكين‪ ،‬وقال‬
‫ً‬
‫متعففا والمسكين الذي له‬ ‫الشافعي في كتاب ابن المنذر الفقير من ال مال له وال حرفة سائ ُ‬
‫ال كان أو‬
‫ال كان أو غير سائل‪ ،‬وقال قتادة بن دعامة‪ :‬الفقير الزمن المحتاج‪،‬‬ ‫حرفة أو مال ولكن ال يغنيه ذلك سائ ً‬
‫والمسكين الصحيح المحتاج‪ ،‬وقال ابن عباس والحسن ومجاهد والزهري وابن زيد وجابر بن زيد‬
‫ومحمد بن مسلمة‪ { :‬المساكين} الذين يسعون ويسألون‪ ،‬و{الفقراء} هم الذين يتصاونون‪ ،‬وهذا القول‬
‫األخير إذا لخص وحرر أحسن ما يقال في هذا‪ ،‬وتحريره‪ :‬أن الفقير هو الذي ال مال له إال أنه لم يذل وال‬
‫بذل وجهه‪ ،‬وذلك إما لتعفف مفرط وإما لبلغة تكون له كالحلوبة وما أشبهها‪ ،‬والمسكين هو الذي يقترن‬
‫ً‬
‫مسكينا‪،‬‬ ‫بفقره تذلل وخضوع وسؤال‪ ،‬فهذه هي المسكنة‪ ،‬فعلى هذا كل مسكين فقير وليس كل فقير‬
‫ويقوي هذا أن اهلل تعالى قد وصف بني إسرائيل بالمسكنة وقرنها بالذلة مع غناهم‪ ،‬وإذا تأملت ما قلناه‬
‫بان أنهما صنفان موجودان في المسلمين‪ ،‬ويقوي هذا قوله تعالى‪:‬‬
‫ضربا في األرض يحسبهم الجاهل أغنياء من‬ ‫ً‬ ‫{للفقراء الذين أحصروا في سبيل اهلل ال يستطيعون‬
‫التعفف} [البقرة‪ ]273 :‬وقيل ألعرابي‪ :‬أفقير أنت فقال‪ :‬إني واهلل مسكين‪ ،‬وقال النبي صلى اهلل عليه‬
‫الطو اف الذي ترده اللقمة واللقمتان‪ ،‬ولكن المسكين هو الذي ال يجد غنى‬ ‫ّ‬ ‫وسلم‪« :‬وليس المسكين بهذا‬
‫إلحافا} [البقرة‪ ،]273 :‬فدل هذا‬ ‫ً‬ ‫يغنيه وال يفطن له فيتصدق عليه»‪ ،‬اقرأوا إن شئتم {ال يسألون الناس‬
‫الحديث على أن المسكين في اللغة هو الطواف‪ ،‬وجرى تنبيه النبي صلى اهلل عليه وسلم في هذا‬
‫الحديث على المتصاون مجرى تقديم { الفقراء} في اآلية لمعنى االهتمام إذ هم بحيث إن لم يتهمم بهم‬
‫هلكوا‪ ،‬والمسكين يلح ويذكر بنفسه‪ ،‬وأما العامل فهو الرجل الذي يستنيبه اإلمام في السعي على الناس‬
‫وجمع صدقاتهم‪ ،‬وكل من يصرف من عون ال يستغنى عنه فهو من {العاملين} ألنه يحشر الناس على‬
‫السعي‪ ،‬وقال الضحاك‪ :‬للعاملين ثمن ما عملوا على قسمة القرآن‪ ،‬وقال الجمهور‪ :‬لهم قدر تعبهم ومؤنتهم‬
‫قاله مالك والشافعي في كتاب ابن المنذر‪ ،‬فإن تجاوز ذلك ثمن الصدقة فاختلف‪ ،‬فقيل يتم لهم ذلك من‬
‫سائر األنصباء وقيل‪ ،‬بل يتم لهم ذلك من خمس الغنيمة‪ ،‬واختلف إذا عمل في الصدقات هاشمي فقيل‪:‬‬
‫يعطى منها عمالته وقيل‪ :‬بل يعطاها الخمس‪ ،‬وال يجوز للعامل قبول الهدية والمصانعة ممن يسعى عليه‬
‫وذلك إن فعله رد في بيت المال كنا فعل النيبي صلى اهلل عليه وسلم بابن اللتبية حتى استعمله على‬
‫الصدقة فقال‪ ،‬هذا لكم وهذا ما أهدي لي‪ ،‬فقال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫«هال قعدت في بيت أبيك وأمك حتى تعلم ما يهدى إليك» وأخذ الجميع منه‪.‬‬
‫قال القاضي أبو محمد‪ :‬وتأمل عمالة الساعي هل يأخذها قبل العمل أو بعده‪ ،‬وهل هي إجازة أو هي‬
‫جعل وهل العمل معلوم أو هو يتتبع وإنما يعرف قدره بعد الفراغ‪ ،‬وأما {المؤلفة قلوبهم} فكانوا‬
‫صنفين‪ ،‬مسلمين وكافرين مساترين‪ ،‬قال يحيى بن أبي كثير‪ ،‬كان منهم أبو سفيان بن حرب بن أمية‬
‫والحارث بن هشام وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام وأبو سفيان بن الحارث بن عبد‬
‫المطلب وعيينة واألقرع ومالك بن عوف والعباس بن مرداس والعالء بن جارية الثقفي‪.‬‬
‫قال القاضي أبو محمد‪ :‬وأكثر هؤالء من الطلقاء الذين ظاهر أمرهم يوم الفتح الكفر‪ ،‬ثم بقوا مظهرين‬
‫اإلسالم حتى وثقه االستئالف في أكثرهم واستئالفهم إنما كان لتجلب إلى اإلسالم منفعة أو تدفع عنه‬
‫مضرة‪ ،‬وقال عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه والحسن والشعبي وجماعة من أهل العلم‪ :‬انقطع هذا‬
‫الصنف بعزة اإلسالم وظهوره‪ ،‬وهذا مشهور مذهب مالك رحمه اهلل‪ ،‬قال عبد الوهاب‪ :‬إن احتيج إليهم‬
‫في بعض األوقات أعطوا من الصدقة‪.‬‬
‫قال القاضي أبو محمد‪ :‬وقول عمر عندي إنما هو لمعنيين‪ ،‬فإنه قال ألبي سفيان حين أراد أخذ عطائه‬
‫القديم‪ :‬إنما تأخذ كرجل من المسلمين فإن اهلل قد أغنى عنك وعن ضربائك‪ ،‬يريد في االستئالف‪ ،‬وأما‬
‫أن ينكر عمر االستئالف جملة وفي ثغور اإلسالم فبعيد‪ ،‬وقال كثير من أهل العلم‪{ :‬المؤلفة قلوبهم}‬
‫موجودون إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫قال القاضي أبو محمد‪ :‬وإذا تأملت الثغور وجد فيها الحاجة إلى االستئالف‪ ،‬وقال الزهري‪{ :‬المؤلفة}‬
‫ً‬
‫غنيا‪.‬‬ ‫من أسلم من يهودي أو نصراني وإن كان‬
‫قال القاضي أبو محمد‪ :‬يريد لتبسط نفسه ويحبب دين اإلسالم إليه‪ ،‬وأما {الرقاب} فقال ابن عباس‬
‫والحسن ومالك وغيره‪ :‬هو ابتداء العتق وعون المكاتب بما يأتي على حريته‪ ،‬واختلف هل يعان بها‬
‫المكاتب في أثناء نجومه بالمنع واإلباحة‪ ،‬واختلف على القول بإباحة ذلك إن عجز فقيل يرد ذلك من‬
‫عند السيد‪ ،‬وقيل يمضي ألنه كان يوم دفعه بوجه مترتب‪ ،‬وقال الشافعي‪ :‬معنى {وفي الرقاب} في‬
‫المكاتبين وال يبتدأ منها عتق عبد‪ ،‬وقاله الليث وإبراهيم النخعي وابن جبير‪ ،‬وذلك أن هذه األصناف إنما‬
‫تعطى لمنفعة المسلمين أو لحاجة في أنفسها‪ ،‬والعبد ليس له واحدة من هاتين العلتين‪ ،‬والمكاتب قد‬
‫صار من ذوي الحاجة وقال الزهري‪ :‬سهم الرقاب نصفان‪ ،‬نصف للمكاتبين ونصف يعتق منه رقاب‬
‫مسلمون ممن صلى‪ ،‬قال ابن حبيب‪ :‬ويفدى منه أسارى المسلمين ومنع ذلك غيره‪ ،‬وأما الغارم فهو‬
‫الرجل يركبه دين في غير معصية وال سفه‪ ،‬قال العلماء‪ :‬فهذا يؤدى عنه وإن كانت له عروض تقيم رمقه‬
‫وتكفي عياله‪ ،‬وكذلك الرجل يتحمل بحمالة في ديارات أو إصالح بين القبائل ونحو هذا‪ ،‬وهو أحد‬
‫الخمسة الذين قال فيهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫«وال تحل الصدقة لغني إال لخمسة العامل عليها أو غاز في سبيل اهلل أو رجل تحمل بحمالة أو من‬
‫أهديت له أو من اشتراها بماله»‪.‬‬
‫قال القاضي أبو محمد‪ :‬وقد سقط { المؤلفة} من هذا الحديث‪ ،‬وال يؤدى من الصدقة دين ميت وال‬
‫يعطى منها من عليه كفارة ونحو ذلك من حقوق اهلل‪ ،‬وإنما الغارم من عليه دين يسجن فيه‪ ،‬وقد قيل‬
‫في مذهبنا وغيره‪ :‬يؤدى دين الميت من الصدقات قاله أبو ثور‪ ،‬وأما {في سبيل اهلل} فهو المجاهد‬
‫غنيا قال ابن حبيب‪ :‬وال يعطى منها الحاج إال أن‬‫ً‬ ‫يجوز أن يأخذ من الصدقة لينفقها في غزوه وإن كان‬
‫ً‬
‫غنيا‪،‬‬ ‫فقيرا فيعطى لفقره‪ ،‬وقال ابن عباس وابن عمر وأحمد وإسحاق‪ :‬يعطى منها الحاج وإن كان‬ ‫ً‬ ‫يكون‬
‫والحج سبيل اهلل‪ ،‬وال يعطى منها في بناء مسجد وال قنطرة وال شراء مصحف ونحو هذا‪ ،‬وأما {ابن‬
‫ً‬
‫غنيا في بلده‪ ،‬وسمي‬ ‫السبيل} فهو الرجل في السفر والغربة يعدم فإنه يعطى من الزكاة وإن كان‬
‫المسافر ابن السبيل لمالزمته السبيل كما يقال للطائر‪ :‬ابن ماء لمالزمته له ومنه عندي قولهم‪ :‬ابن جال‬
‫وقد قيل فيه غير هذا ومنه قولهم‪ :‬بنو الحرب وبنو المجد وال يعطى بنو هاشم من الصدقة المفروضة‪،‬‬
‫قال ابن الماجشون ومطرف وأصبغ وابن حبيب‪ :‬وال من التطوع وال يعطى مواليهم ألن مولى القوم‬
‫منهم‪ ،‬قال ابن القاسم‪ :‬يعطى بنو هاشم من صدقة التطوع ويعطى مواليهم من الصدقتين‪ ،‬ومن سأل‬
‫من الصدقة وقال إنه فقير‪ ،‬فقالت فرقة يعطى دون أن يكلف بينة على فقره بخالف حقوق اآلدميين‬
‫وأيضا فالناس إذا تعلقت بهم‬ ‫ً‬ ‫يدعي معها الفقر فإنه يكلف البينة ألنها حقوق الناس يؤخذ لها باألحوط‪،‬‬
‫حقوق آدمي محمولون على الغني حتى يثبت العدم ويظهر ذلك من قوله تعالى‬
‫{وإن كان ذو عسرة} [البقرة‪ ]280 :‬أي ان وقع فيعطي هذا أن األصل الغنى فإن وقع ذو عسرة فنظرة‪،‬‬
‫وقالت فرقة‪ :‬الرجل الصحيح الذي ال يعلم فقره ال يعطى إال أن يعلم فقره‪ ،‬وأما إن ادعى أنه غارم أو‬
‫ً‬
‫واحدا‪ ،‬وقد‬ ‫مكاتب أو ابن سبيل أو في سبيل اهلل أو نحو ذلك مما لم يعلم منه فال يعطى إال ببينة قوالً‬
‫قيل في الغارم‪ :‬تباع عروضه وجميع ما يملك ثم يعطى بالفقر‪ ،‬ويعطى الرجل قرابته الفقراء وهم أحق‬
‫غائبا في موضع تقصر إليه الصالة فجاره الفقير أولى‪ ،‬وإن كان في غيبة ال‬ ‫ً‬ ‫من غيرهم فإن كان قريبه‬
‫تقصر إليه الصالة فقيل هو أولى من الجار الفقير‪ ،‬وقيل الجار أولى ويعطى الرجل قرابته الذين ال تلزمه‬
‫نفقتهم‪ ،‬وتعطى المرأة زوجها‪ ،‬وقال بعض الناس ما لم ينفق عليها‪ ،‬ويعطي الرجل زوجته إذا كانت من‬
‫الغارمين‪ ،‬واختلف في والء الذي يعتق من الصدقة‪ ،‬فقال مالك‪ :‬والؤه لجماعة المسلمين وقال أبو عبيد‪:‬‬
‫والؤه للمعتق وقال عبيد اهلل بن الحسن‪ :‬يجعل ماله في بيت الصدقات‪ ،‬وقال الحسن وأحمد وإسحاق‪:‬‬
‫ويعتق من ماله رقاب‪ ،‬وإذا كان لرجل على معسر دين فقيل يتركه له ويقطع ذلك من صدقته وقيل ال‬
‫يجوز ذلك جملة‪ ،‬وقيل إن كان ممن لو رفعه للحاكم أمكن أن يؤديه جاز ذلك وإال لم يجز ألنه قد توي‬
‫غنيا‪ ،‬وقال أصحاب الرأي ال يعطى‬ ‫ً‬ ‫وأما السبيل‪ :‬فهو الذي قدمنا ذكره يعطى الرجل الغازي وإن كان‬
‫منقطعا به‪ ،‬قال ابن المنذر؟ وهذا خالف ظاهر القرآن وحديث رسول‬ ‫ً‬ ‫الغازي في سبيل اهلل إال أن يكون‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫أما القرآن فقوله { وفي سبيل اهلل} ‪ ،‬وأما الحديث فقوله «إال لخمسة لعامل عليها أو غاز في سبيل اهلل»‪،‬‬
‫وأما صورة التفريق فقال مالك وغيره‪ :‬على قدر الحاجة ونظر اإلمام يضعها في أي صنف رأى وكذلك‬
‫المتصدق‪ ،‬وقاله حذيفة بن اليمان وسعيد بن جبير وإبراهيم وأبو العالية‪ ،‬قال الطبري‪ :‬وقال بعض‬
‫المتأخرين‪ :‬إذا قسم المتصدق قسم في ستة أصناف ألنه ليس ثم عامل وألن المؤلفة قد انقطعوا فإن‬
‫قسم اإلمام ففي سبعة أصناف‪ ،‬قال الشافعي وعكرمة والزهري‪ :‬هي ثمانية أقسام لثمانية أصناف ال‬
‫يخل بواحد منها واحتج الشافعي بقوله رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم للرجل الذي سأله‪« :‬إن اهلل‬
‫تعالى لم يرض في الصدقات بقسم نبي وال غيره حتى قسمها بنفسه فجعلها ثمانية أقسام لثمانية‬
‫ً‬
‫واحدا منها أعطيتك»‪.‬‬ ‫أصناف فإن كنت‬
‫قال القاضي أبو محمد‪ :‬والحديث في مصنف أبي داود‪ ،‬وقال أبو ثور‪ :‬إذا قسمها اإلمام لم يخل بصنف‬
‫كثيرا قسم على‬ ‫ً‬ ‫صنفا دون صنف أجزأه ذلك وقال النخعي‪ :‬إذا كان المال‬ ‫ً‬ ‫منها وإن أعطى الرجل صدقته‬
‫ً‬
‫درهما فال‬ ‫ً‬
‫واحدا‪ .‬وقالت فرقة من العلماء‪ :‬من له خمسون‬ ‫ً‬
‫صنفا‬ ‫األصناف كلها وإذا كان قلي ً‬
‫ال أعطاه‬
‫ً‬
‫درهما‪ ،‬قال الحسن‪ :‬وهو‬ ‫يعطى من الزكاة‪ ،‬وقال الحسن وأبو عبيد‪ ،‬ال يعطى من له أوقية وهي أربعون‬
‫غنيا بالدرهم مع سعيه وتحيله‪ ،‬وقد يكون الرجل له‬ ‫ً‬ ‫غني وقال الشافعي‪ :‬قد يكون الرجل الذي ال قدر له‬
‫القدر والعيال ضعيف النفس والحيلة فال تغنيه آالف‪ ،‬وقال أبو حنيفة‪ :‬ال يأخذ الصدقة من ال مائتا درهم‬
‫ومن كان له أقل فال بأس أن يأخذ‪ ،‬قال سفيان الثوري‪ :‬ال يدفع إلى أحد من الزكاة أكثر من خمسين‬
‫غارما وقال أصحاب الرأي‪ ،‬إن أعطي ً‬
‫ألفا وهو محتاج أجزأ ذلك‪ ،‬وقال أبو ثور‪:‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫درهما‪ ،‬إال أن يكون‬
‫يعطى من الصدقة حتى يغنى ويزول عنه اسم المسكنة وال بأس أن يعطى الفقير األلف وأكثر من ذلك‪،‬‬
‫وقال ابن المنذر‪ :‬أجمع أكثر من يحفظ عنه من أهل العلم أن من له دار وخادم ال يستغني عنهما أن يأخذ‬
‫من الزكاة وللمعطي أن يعطيه‪ ،‬وقال مالك‪ :‬إن لم يكن في ثمن الدار والخادم فضلة على ما يحتاج إليه‬
‫ً‬
‫فقيرا فإذا هو غني‪ ،‬فإنه إن كان‬ ‫منهما جاز له األخذ وإال لم يجزه‪ ،‬وأما الرجل يعطي اآلخر وهو يظنه‬
‫ً‬
‫غنيا وأخذها مع علمه بأنها ال تحل له ضمنها على‬ ‫بفور ذلك أخذها منه فإن فاتت نظر‪ ،‬فإن كان اآلخذ‬
‫كل وجه‪ ،‬وإن كان لم يغر بل اعتقد أنها تجوز له‪ ،‬أو لم يتحقق مقصد المعطي نظر‪ ،‬فقال الحسن وأبو‬
‫عبيدة‪ :‬تجزيه‪ ،‬وقال الثوري وغيره‪ :‬ال تجزيه‪ ،‬وأهل بلد الصدقة أحق بها إال أن تفضل فتنقل إلى غيرها‬
‫بحسب نظر اإلمام‪ ،‬قال ابن حبيب في الواضحة‪ :‬أما {المؤلفة} فانقطع سهمهم‪ ،‬وأما سبيل اهلل فال بأس‬
‫أن يعطى اإلمام الغزاة إذا قل الفيء في بيت المال‪.‬‬
‫قال القاضي أبو محمد‪ :‬وهذا الشرط فيه نظر‪ ،‬قال ابن حبيب‪ :‬وينبغي لإلمام أن يأمر السعاة بتفريقها‬
‫بالمواضع التي جبيت فيها وال يحمل منه شيء إلى اإلمام إال أن يرى ذلك لحاجة أو فاقة نزلت بقوم‪،‬‬
‫قال مالك‪ :‬ومن له مزرعة أو شيء في ثمنه إذا باعه ما يغنيه لم يجز له أخذ الصدقة‪ ،‬وهذه جملة من‬
‫فقه اآلية كافية على شرطنا في اإليجاز واهلل الموفق برحمته‪ ،‬وقال تعالى‪{ :‬فريضة من اهلل} أي‬
‫موجبة محدودة وهو مأخوذ من الفرض في الشيء بمعنى الحز والقطع ثبوت ذلك ودوامه‪ ،‬شبه ما‬
‫يفرض من األحكام‪ ،‬ونصب { فريضة} على المصدر‪ ،‬ثم وصف نفسه تعالى بصفتين مناسبتين لحكم‬
‫هذه اآلية ألنه صدر عن علم منه بخلقه وحكمة منه في القسمة بينهم‪.‬‬

You might also like