Professional Documents
Culture Documents
مقياس الفكر الخلدوني- شعبة مكتبات
مقياس الفكر الخلدوني- شعبة مكتبات
يعرف ابن خلدون نفسه بأنه :عبدالرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن
جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خلدون ،يرجع نسبه إلى الصحابي وائل بن حجر ،
ولد ابن خلدون في هذا الحسب العظيم في تونس في غرة رمضان سنة 732ه الموافق للسابع
والعشرين من شهر مايو سنة 1332م ،كان يضيف صفة الحضرمي إلى اسمه ألن أسرته ترجع
إلى حضرموت ،من عرب اليمن ،وكان منذ صغره محبا للعلم الذي أخذه عن أبيه الذي كان
عالما ،وعن عدد من العلماء المعاصرين ألبيه في تونس" ،فدرس العلوم الشرعية ،واللغة
بعد وفاة أبيه وعدد كبير من العلماء بوباء الطاعون ،هاجر إلى المغرب األقصى ،حيث ترك العلم
واتجه إلى السياسة .توفي عن عمر يناهز السبعين عاما ،في 5رمضان سنة 808هـ ،الموافق لـ
1
وقد كان كثير من شيوخه قد جمعوا بين السياسة والعلم وهو ما يفسر انخراط ابن خلدون المبكر
في السياسة على غير طريقة والده الذي آثر هجرها خالفا لسلفه.
تكتسي دراسة الفكر الخلدوني أهمية قصوى ,وذلك ألنها تمنح الباحث القدرة علي فهم التطور
الفكري لإلنسان والعوامل المؤثرة في هذا التطور ،كما أنها تسمح له بتحديد أهم التوجهات
الفكرية التي أثرت في اإلنسان ،وصوال إلى معرفة أهم المعارف اإلنسانية التي أسهمت في
تطوير اإلنسان وتقدمه ،فاإلنسان من منظور ابن خلدون يتميز بأنه كائن مفكر لم يتوقف
لحظة عن التفكير في ذاته ,والبحث عن ماهيته ,وعن قضية وجوده ,وعن العناصر المحيطة به
وكيف يتعامل معها ،ولذلك فإن الفكر قديم قدم الوجود اإلنساني ،وقرين ذلك الوجود .
لقد أكد ابن خلدون بأن اإلنسان بحكم القدرة التي وضعت فيه تسنى له ترتيب وتنظيم أفعاله
الصادرة عنه ،عكس ما هو قائم عند الحيوان ،ألن بالفكر يدرك الترتيب بين الحوادث بالطبع
أو بالوضع ،فاإلنسان ال يستطيع أن يتأقلم مع الوسط الذي يعيش فيه إال بقدرة العقل الذي
مكنه من أن يؤسس نظامه المعيشي داخل نسق فكري منسجم منظم ،وإال انقرض ،وهذا هو
الفرق بينه وبين الحيوان العاجز عن إحداث هذا الترتيب واالتساق النعدام العقل ،لذلك
فالحيوانات إنما تدرك بالحواس ومدركاتها متفرقة خالية من الربط ألنه ال يكون إال بالعقل ،
2
بهذا استولى اإلنسان على هذا العالم وما فيه من الكائنات التي خلقت مسخرة لخدمته تابعة له
الفكر من منظور ابن خلدون هو فضيلة بشرية تميز بها اإلنسان عن الحيوان ،وعلى قدر حصول
األسباب والمسببات في الفكر مرتبة تكون إنسانيته ،وهللا خلق اإلنسان وفضله على كثير مما
خلق تفضيال ،مادام عاجزا عن العيش بمفرده ،فهو في حاجة إلى التعاون واالحتكاك مع غيره
من بني البشر ،هذا التفاعل الذي يولد المنازعة والمشاجرة ،األلفة والعداوة وبالعقل الذي جعله
وهكذا حظي موضوع الفكر الخلدوني باهتمام العديد من الدارسين والباحثين في حقل العلوم
اإلنسانية و العلوم االجتماعية باعتباره ثورة معرفية تجاوز بها عصره ،حيث حاول توظيفه في
معالجة قضايا متعددة تمثلت أساسا في طرح نظرية إنسان الخالفة والتنظير لحركة الحضارة
وألجل ما لهذا الفكر من أهمية تركزت جهود الباحثين والدارسين في تتبع سمات عبقرية ابن
خالصة ما يمكن قوله في موضوع الفكر الخلدوني بأنه :ذلك الجهد الخالق الذي بذله ابن خلدون
لفهم كافة الظواهر و األحداث المحيطة به فهو نشاطه الذهني الذي تجلى في آرائه حول اإلنسان
و معتقداته و تصوراته و عواطفه و مفاهيمه وحول عناصر الواقع المحيطة به ،فمنذ أن ظهر
الفكر اإلنساني وهو يسعى إلى إبداع النظريات لترقية حياة الناس ،وعليه فإن أهمية التفكير في
3
-التجاوب مع المستجدات :إن عملية التفكير ترتبط بقدرة اإلنسان على التجاوب مع كافة
المستجدات التي تطرأ عليه في حياته ،وتجعله يتكيف مع الوضعيات الجديدة التي تحدث معه في
بيئة العمل أو البيئة األكاديمية ،من خالل تحديد أسلوب التعامل الذي يتناسب مع المستجدات،
-تطوير الذات :إن مجمل المعرفة اإلنسانية التي يتحصل عليها اإلنسان في حياته تتم بواسطة
تلقّيه للعلوم المختلفة من خالل عمليات التفكير المرتبطة بالتعلّم ،فمسألة تلقي المعلومات العلمية،
وربطها بالمعرفة السابقة ،وتذكرها في الوقت المناسب ،وتوظيفها في تحصيل المعرفة الجديدة
تتم من خالل عمليات التفكير في العقل البشري ومن هنا تبرز أهمية التفكير في حياة اإلنسان.
اإليديولوجي)
ل ّما أكمل ابن خلدون كتابة مؤلفه " المقدمة " أحس بأنه أسس علما جديدا أطلق عليه" علم
العمران ،وهو ما جعله يتباهى به وينتظر أن يكون له تأثير كبير في من يأتي بعده من
الدارسين والباحثين في مجال التاريخ ،ومما تجدر اإلشارة إليه ان تأسيس العلوم الجديدة لم
يكن باألمر النادر في اإلسالم ،فقد أرينا المفكرين المسلمين منذ بداية العهد العباسي يؤسسون
علوما مختلفة ،كما فعل الفراهيدي في علم العروض ،وسيبويه في علم النحو ،وابو يوسف
في علم الخراج ،والشافعي في علم أصول الفقه ،واألشعري في علم الكالم ،...والظاهر أن
ابن خلدون أراد أن يشتبه بهؤالء فيؤسس هو ايضا علمايعرف به ،و ينمو من بعده.
4
كما كان ابن خلدون يريد ان يتشبه بأرسطو بصفة خاصة ،فهو قد أ رى ما كان لمنطق
أرسطو من منزلة رفيعة لدى المفكرين فظن أن علمه الجديد ستكون له مثل تلك المنزلة في
مستقبل األيام ،فهو يشير في مقدمته إلى أن مسائل المنطق كانت معروفة قبل أرسطو ولكنها
كانت متفرقة غير مهذبة ،فجاء أرسطو يرتبها ويهذبها ويؤلف منها علما قائما بذاته ،ولذلك
ويقول ابن خلدون عن علمه الجديد مثل ذلك ،فهو يذكر أن الفالسفة وأهل العلوم قبله جاؤوا
بمسائل من نوع تلك التي بحثها في مقدمته ،ولكنهم أوردوها في كتبهم متفرقة وغير
مقصورة لذاتها ،أما هو فقد جعلها أصال لعلمه الجديد ففصل إجمالها واستوفى بيانها وميزها
وكان ابن خلدون يأمل أن علمه الجديد سوف يتوسع وينظم و تصلح أخطاؤه على يد العلماء
الذين يأتون بعده ،كما حدث لجميع العلوم التي أسست من قبل ،ف يقول في هذا:
"فإن كنت قد استوفيت مسائله وميزت عن سائر الصنائع أنضاره وأنحاه ،فتوفيق من هللا
وهداية ،وإن فاتني شيء في إحصانه ،واشتبهت بغيره مسائله ،فللناظر المحقق إصالحه،
ولي الفضل ألني نهجت له السبيل واوضحت له الطريق .وهللا يهدي لنوره من يشاء" ،ولم
"وقد كدنا نخرج من الغرض ،ولذلك عزمنا ان نقبض العنان عن القول في هذا الكتاب
األول الذي هو طبيعة العمران وما يعرض فيه ،وقد استوفينا من مسائله ما حسبناه كفاية،
ولعل من يأتي بعدنا ممن يؤيده هللا بفكر صحيح وعلم مستنبط الفن إحصاء مسائله ،وانما
5
عليه تعيين موضع العلم وتنويع فصوله وما يتكلم فيه ،والمتأخرون يلحقون المسائل من بعده
إننا نعرف أن األفكار الجديدة تشبه إلى حد كبير البذور التي تلقى في األرض ،فهي تذوي
وتموت إذا لم تجد التربة الصالحة لها ،والظروف المساعدة على نموها ،أما إذا وجدت أرضا
-والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو :هل أن العلم الجديد الذي ابتكره ابن
يرى البعض أن منطلق الفكر الخلدوني في" المقدمة " هو منطلق علمي ألنه مادي ،وبالفكر
الخلدوني ابتدأ الفكر العلمي في تاريخ الفكر العربي ،ال سيما في حقل الفكر االجتماعي -أو
العمراني -وفي حقل الفكر التاريخي ،نبدأ باألول من هذين الحقلين ،ونورد هذا النص الذي
يحدد المعالم األساسية للقفزة العلمية التي قام بها الفكر الخلدوني في هذا الحقل ،يقول ابن
خلدون:
"وأما األخبار عن الواقعات فال بد في صدقها وصحبتها من اعتبار المطابقة ،واذا كان ذلك،
البشري الذي هو العمران ونميز ما يلحقه من األحوال لذاته وبمقتضى طبعه ،وما يكون
عارضا ال يعتد به وال يمكن أن يعرض له ،واذا فعلنا ذلك كان ذلك قانونا في تمييز الحق من
الباطل".
في حين يرى البعض أنه تم توظيف التراث الخلدوني توظيفا ايديولوجيا من طرف المفكرين
في عصرنا الحالي ،حيث أن غايتهم ليست دائما معرفية خالصة ،وابن خلدون ليس في
6
أعمالهم سوى ذريعة للدعوة إلى قيم جديدة والى ممارسات تقطع مع الماضي المتنكر من
وجوه عدة للديموقراطية و العقالنية والتقدم ،و ما إلى ذلك ،فالتحديث ال يقوم حقا على أسس
متينة إال إذا احترم دعاته مرامي األعالم مثل ابن خلدون الذين وفروا لهم المناسبة ،ولم
يقولوهم مالم يقولوا ،ألن الظروف الجغرافية والديموغرافية واالقتصادية والسياسية وغيرها
محددة لنوعية األفكار والقيم السائدة ،وأبلغ أثرا في تغيير األوضاع من التنظيرات
آمن ابن خلدون بأن المجتمع كائن تاريخي يتطور حسب قوانين خاصة يمكن مالحظتها
وتحديدها ،ورأى أن تلك القوانين يجب أن تستخلص من تاريخ موضوعي يعتمد الحتمية،
وقابل ألن يحلل مجموع الظواهر المجتمعية ،ثم أكد أنها هي الشروط التأسيسية للعلم الجديد،
علم )العمران البشري( ،علم يتعلق بقابلية اإلنسان على أن يحيا حياة مجتمعية.
مفهوم عمران هو مفهوم قاعدي في الفكر الخلدوني ،يمكن أن يعبر عنه بحياة مجتمعية -
مجتمعي في معنى أوسع من االستعمال العادي ، -أي كل ما يوطد الوجود المادي والفكري
يعطي ابن خلدون للفظ عمران معاني أخرى مختلفة ،ال يربطها سوى ما بينها من تقارب
لفظي ناتج عن اإلشتراك في الجذر اللغوي ،و يظل مصطلحا مفتاحا يأتي دائما مربوطا
بلفظة بشري حيث يقول " :االجتماع اإلنساني ضروري ،و يعبر الحكماء عن هذا بقولهم
7
اإلنسان مدني بالطبع أي ال بد له من االجتماع " ،فاالجتماع البشري هو موضوع التاريخ ،
والتأريخ يهتم بدراسة ماضي األفراد والشعوب من جهة ،كما يدرس العمران ،و هو يتحين
،أي يدرسه في وضعه الحاضر ،كما ينسج عالقات بتراث المجتمع و ينميه.
العمران البدوي :و هو الذي يمثل بداية كل حياة مجتمعية طبيعية. -1
العمران الحضري أو المدني :وهو الذي ينشأ وينمو في المدينة الحضرية ،أي -2
المكان الذي نعمل فيه وبه نستقر ،وفيه نجد ما نحن بحاجة إليه ،إذ اإلقامة على
الدوام بمكان ما تخلق احتياجا للراحة والرفاهية ،فتتوالد الحرف والفنون الجميلة
وتقام البنايات والمشاريع الكبرى ،أي كل األشياء التي تظل قائمة –حاضرة ،-في
حين نالحظ أن البدو الرحل الذين تفرض عليهم نوعية حياتهم التنقل باستمرار،
يكتفون بخيمة متنقلة ،ألنها أنفع لهم وأكثر صالحية من السكن القار.
ابن خلدون وان ميز بين نوعين من العمران ،فهو ال يرى بينهما تعارضا ،بل على العكس،
إنهما شكالن متكامالن للحياة :يشمل ميدان العمران البشري كل حركة تنتج داخل مجتمع
انساني ما ،وكل ما له تعلق بالدين والسكن والسلطة وتناقص السكان وتزايدهم وانقسامهم،
كما يشمل نشاطات العلوم والحرف )بما فيها التقليدية والفنية) ،بيد أن طبيعة العمران
الحضري تتميز بتوتر داخلي يدفع باألمصار والقرى والمدن والمدائن لالعتصام بها
والتحصن بجدرانها ،فالعمران الحضري يختص بنمو الحرف والفنون الزخرفية ،وبالتفنن
في طرق العيش ورهافة الذوق ،إال أن شدة شغف الحضريين برغد العيش والبذخ ،وولعهم
بالمغامرات من أجل الكسب ترمي بهم إلى االنحالل الخلقي وتفسخ القيم ،فبقدر ما يمثل
8
التحضر أعلى درجة في الرقي العمراني ،بقدر ما يوقع في أسفل درجات االنحطاط
يسعى العمران إلى تحقيق أسمى درجات الحضارة والبذخ ،ومتى بلغ الناس هذا الهدف شرع
العمران في االنزالق إلى الفساد )الفساد في المعنى األرسطي( ،وأصيب بالشيخوخة ،مثله
في ذلك مثل ما يحصل للوجود الطبيعي لمختلف أجناس الحيوان" :إن غاية العمران هي
الحضارة والترف ،وانه إذا بلغ غايته انقلب إلى الفساد وأخذ في الهرم كاألعمار الطبيعية
للحيوانات ".وال تمثل حضارة بهذا المعنى الضيق سوى الجانب المادي من المدنية والتمدن،
ومتى انتصر هذا الجانب على الجانب األخالقي ،يختل التوازن المجتمعي ويصبح اإلنسان
غير قادر على مراقبة سلوكه واالحتفاظ بإيمانه ،فيركن إلى الراحة والترف وبالتالي تفسد
انسانيته ،ويصبح عديم القيمة ،فالحضارة تعتبر وضعا حاسما وخطيرا يهدد على الدوام
العمران الحضري.
رغم أن تعاقب العمران أمر ال مفر منه ،إال أن إبن خلدون يركز على عنصر الضرورة ،
ألنها مالزمة لطبيعة التاريخ و العمران البشري ،فإذا كان المؤرخ يثبت األعمال واألحداث
الماضية داخل النص ،فإن العمراني يضيف إلى ذلك مالحظاته الخاصة ،ويؤول المادة
األولى التي يستقيها من نصوص المؤرخين ،ويشحن الخطابات التاريخية بحيوية الحدث،
ألنه يربط مهامه بصيرورة اإلنسان انطالقا من ماض تم بعثه من جديد ،ومن حاضر يتحقق،
فالعمراني ال يتموضع على مستوى األحداث كمواد خام ،وال على مستوى المؤرخين الذين
يبحثون عن أسباب الحوادث الفردية وشروطها العامة ،بل إنه و إن تأمل كالمؤرخ األحداث
التاريخية كي يتعمق في شرحها ،يسير بالبحث إلى أبعد مدى ،ويجهد نفسه ليشرح
9
السيرورة العامة لمستقبل الدولة وللتطور المجتمعي ،فابن خلدون ال يؤمن بأحادية العلة ألن
الحدث التاريخي ال يقع أبدا في انعزال عما حوله ،و إنما يدخل ضمن سياق مجتمعي
وسياسي ،وينتج عن نسق من العلل ،فاألحداث التاريخية كالكائنات تصدر عن أشياء ممكنة
يعرف ابن خلدون الدولة بأنها " كائن حي له طبيعته الخاصة به ،ويحكمها قانون السببية ،
وهي مؤسسة بشرية طبيعية وضرورية ،وهي أيضا وحدة سياسية واجتماعية ال يمكن أن
تقوم الحضارة إال بها" ،وقانون السببية عند ابن خلدون مفاده أن الوقائع االجتماعية
بالمسببات،كما يرى ابن خلدون ضرورة وجود الدولة ألن حاجة اإلنسان للغذاء والكساء
والمأوى والدفاع عن النفس هي التي تدفعه إلى االنتظام في مجتمع إنساني ،فاإلنسان ال
يستطيع أن يسد حاجته للغذاء بمفرده ،ألن ذلك يتطلب أعماال كثيرة ال يستطيع أن يقوم بها
بمفرده ،فالبد من تعاونه مع رفاقه ،واإلنسان معرض للخطر ليس من جانب الحيوانات
المفترسة فحسب ،بل من جانب أخيه اإلنسان ،لذا البد من وجود سلطة تحول دون اعتداء
الناس بعضهم على البعض اآلخر ،وهذا ما أسماه ابن خلدون ب " الوازع".
10
يرى ابن خلدون أن الدولة ال تقوم إال على أساسين أولهما :الشوكة والعصبية المعبر عنهما
ب :الجند ،وثانيهما :المال الذي هو قوام أولئك الجند ،واقامة ما يحتاج إليه الملك من
األحوال ،فالدولة في أولها تكون بدوية ،حيث يكون اإلنفاق معقوال ،ولذا يكون هناك إمعان
في الجباية واإلسراف ،واذا عظم المال انتشر الترف الذي يؤدي إلى انهيار الدولة ،ألن
نفقات السلطان وأصحاب الدولة تتضاعف ،وينتشر اإلسراف بين الرعايا ،وتمتد أيديهم إلى
أموال الدولة من جهة ،ومن جهة أخرى يبدأ الجند في التجاسر على السلطة ،فيضطر
السلطان إلى مضاعفة الضرائب ،فيختل اقتصاد البالد ،ولكن الجباية مقدارها محدود ،كما
ال يستطيع رفع الضرائب إلى ما ال نهاية ،ولذا يضطر إلى االستغناء عن عدد من الجند حتى
يوفر مرتباتهم ،فتضعف حمايته ،وتتجاسر عليه الدول المجاورة أو القبائل التي ما تزال
محتفظة بعصبيتها.
إن العصبية عند ابن خلدون ال تشمل أبناء األسرة الواحدة الذين تربطهم بعضهم بالبعض
اآلخر صلة الرحم فحسب ،بل هي تتسع لتشمل أهل الوالء والحلف ،وفي مواقع أخرى نجد
ابن خلدون يضم الرق والمرتزقة ،وهم من يطلق عليهم اسم :المصطنعين إلى العصبية ،أما
النسب فيعتبره أمر وهمي فائدته هو الترابط الذي يوجده ،ومنه يكون معنى العصبية عند ابن
خلدون مرادف لمفهوم العصبية ،وبهذا لم يخرج عن المفهوم اإلسالمي الذي نبذ
العصبية القبلية.
سياسة عقلية ،وهي تضطلع بمصالح الدنيا فقط ،مثال :دولة الفرس. -2
11
سياسة مدنية مثالية مفترضة مثل المدن الفاضلة عند الفالسفة ،وهي بعيدة الوقوع. -3
ويقرر ابن خلدون في صراحة كاملة أن الحكومة التي يجب أن تسوس شؤون مجتمع
العمران ،هي الحكومة اإلسالمية لما فيها من حفاظ على مصالح الناس في دنياهم وسالمة
مصيرهم في آخرتهم ،فيقول " :والخالفة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي على
مصالحهم اآلخروية والدنيوية الراجعة إليها ،إذ ترجع أحوال الدنيا كلها عند الشارع إلى
اعتبارها بمصالح اآلخرة ،فهي في الحقيقة خالفة عند صاحب الشرع في حراسة الدين
ويبين ابن خلدون أن وظيفة الخالفة دينية اجتماعية سياسية ،وذم الملك القائم على العصبية
،ألنه يؤدي إلى القهر ،ورفض الملك القائم على السياسة وحدها ألنه مجرد من الصبغة
الدينية التي نظمتها شريعة السماء في حراسة نور هللا ،ويستشهد ابن خلدون بالقرآن الكريم
-النور :آية ،-40وقوله صلى هللا عليه وسلم " :إنَّما هي أعمالكم ترد إليكم".
وبين ابن خلدون سبب تسمية الخليفة بذلك بأنه خليفة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،وأن
اإلنسان خليفة هللا في األرض لقوله تعالى" :إني َجاعل في األَرض َخليفة" –البقرة :آية
،-30فاهلل جعل الخليفة نائبا عنه في القيام بأمور عباده لكي يقودهم إلى ما فيه صالحهم ،و
يحميهم مما يضر بهم و بمصالحهم ،وبذلك يتفق مع اإلمام الماوردي في توصيف الخالفة
بأنها موضوعة لخالفة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا ،وعقدها لمن يقوم بها في األمة
واجب باإلجماع.
12
يرى ابن خلدون أن الدولة مثل الكائن الحي الذي يولد وينمو ،ثم يهرم ليفنى ،فللدولة عمر
مثلها مثل الكائن الحي تمامما ،وقد حدد ابن خلدون عمر الدولة بمائة وعشرين عاما ،ألنه
يرى أن العمر الطبيعي لألشخاص كما زعم األطباء والمنجمون مائة وعشرين عاما ،وال
تعدو الدول في الغالب هذا العمر إال إن عرض لها عارض آخر من فقدان المطالب ،وذكر
أنها تتكون من ثالثة أجيال كل جيل عمره أربعون سنة ،وذلك ألنه اعتبر متوسط عمر
الشخص أربعين سنة ،حيث يبلغ النضج إلى غايته ،ولهذا بين أن متوسط عمر الشخص
الواحد هو عمر الجيل ،ويؤيد ذلك في حكمة التيه الذي وقع لبني إسرائيل في أربعين سنة ،
والمقصود باألربعين سنة فيه فناء جيل األحياء ونشأة جيل آخر لم يعهد الذل وال عرفه.
-الجيل األول :يعيش في الريف والبوادي حياة بدوية خشنة بعيدة عن الترف ،وتتميز
بقوة العصبية والبسالة واالفتراس واالشتراك في المجد ،ويكون جانبهم مرهوب ،
-الجيل الثاني :هو الذي يتحقق على يديه الملك ويؤسس الدولة ،وفيه ينتقل من البداوة
إلى الحضارة ،ومن سكنى البوادي والريف إلى المدن ،ومن شظف العيش إلى ترفه
،ومن االشتراك في المجد إلى اإلنفراد الواحد به وكسل الباقين عن السعي فيه ،ومن
عز االستطالة إلى ذل االستكانة ،وتنكسر فيه سورة العصبية بعض الشيء ،ويعيش
-الجيل الثالث :ينسون عهد البداوة والخشونة كأنها لم تكن ،ويفقدون حالوة العز
والعصبية ،بما فيهم من ملكه القهر ،ويبلغ فيهم الترف غايته ،ويصيرون فيه عياال
13
على الدولة ،وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة ،وتسقط العصبية تماما ،ويضطر
-الطور األول :هو طور التأسيس ،وفيه يكون السلطان جديد العهد بالملك ،لذا فهو ال
يستغني عن العصبية ،وانما يعتمد عليها إلرساء قواعد ملكه ،فيكون الحكم في هذه
المرحلة مشتركا نوعا ما بين الملك وبين قومه وعشيرته ،ويتميز هذا الطور ببداوة
المعيشة وبانخفاض مستواها ،فلم يعرف الغزاة الجدد بعد الترف ،ويشترك الجميع في
-الطور الثاني :هو اإلنفراد بالملك ،ويرى ابن خلدون أن اإلنفراد بالسلطة ميل طبيعي
وفطري لدى البشر ،ولذا فإن السلطان عندما يرى ملكه قد استقر يعمل على قمع
العصبية ،كما يعمل على اإلنفراد بالحكم واستبعاد أهل عصبيته من ممارسة الحكم ،
وعندئذ يتحول من رئيس عصبية إلى ملك ،وقد يفعل ذلك أول من أسس الدولة ،وقد
ال يفعل ،فال تدخل الدولة في هذا الطور الثاني إال مع ثاني زعيم أو ثالث ،ويتوقف
ذلك على قوة صمود العصبية ،ويضطر السلطان إلى االستعانة بالموالي للتغلب على
أصحاب العصبية ،أي أنه يبدأ في هذه المرحلة االعتماد على جيش منظم من أجل
-الطور الثالث :وهو طور الفراغ والدعة ،وفي هذا الطور يتم تحصيل ثمرات الملك
وتخليد اآلثار وبعد الصيت ،فالدولة في هذا الطور تبلغ قمة قوتها ،ويتفرغ السلطان
14
لشؤون الجباية ،واحصاء النفقات والقصد فيها ،ولتخليد ملكه يبني المباني العظيمة
الشاهدة على عظمته ،وفي هذه المرحلة يستمتع الجميع مع السلطان بمجده ،وحاشيته
-الطور الرابع :هو طور القنوع والمسالمة ،وفي هذا الطور يكون صاحب الدولة قانعا
بما بناه أسالفه مقلدا لهم قدر ما يستطيع ،والدولة في هذه المرحلة تكون في حالة
تجمد فال شيء جديد يحدث ،وال تغير يطرأ ،كأن الدولة تنتظر بداية النهاية.
-الطور الخامس :هو طور اإلسراف والتبذير ،ويكون صاحب الدولة في هذا الدور
متلفا لما جمعه أسالفه في سبيل الشهوات والمالذ والكرم على بطانته ،فيكون مخربا
لما كان سلفه يؤسسون ،وهادما لما كانوا يبنون ،وفي هذا الطور تحصل في الدولة
طبيعة الهرم ،ويستولي عليها المرض المزمن الذي ال شفاء منه إلى أن تنقرض،
ويرى ابن خلدون أن بداية انحالل الدولة يرجع إلى عنصرين هما :انحالل العصبية
،واالنحالل المالي نتيجة تبذير السلطان ،ولهذا تنهار الدولة سياسيا واقتصادي .
15