Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 140

‫نماذج بشرية‬

‫أحمد رضـا حوحو‬


‫تقديم‪ :‬األستاذ الدكتور السعيد بوطاجين‬
‫‪39‬‬
‫يوزع مجانا ً مع العدد ‪ 83‬من مجلة الدوحة سبتمبر ‪2014‬‬

‫نماذج بشرية‬
‫أحمد رضا حوحو‬

‫تقديم‪:‬األستاذ الدكتور السعيد بوطاجين‬

‫الناشر ‪:‬‬
‫وزارة الثقافة والفنون والتراث ‪ -‬دولة قطر‬
‫رقم اإليداع بدار الكتب القطرية ‪:‬‬
‫الترقيم الدولي (ردمك) ‪:‬‬

‫العمل الفني للغالف‪ :‬سلمان املالك ‪ -‬قـطـر‬


‫اإلخراج والتصميم ‪ :‬عالء األلفي ‪ -‬مجلة الدوحة‬

‫المواد المنشورة في الكتاب ُتعبِّر عن آراء كتّابها وال ُتعبِّر بالضرورة عن رأي الوزارة أو المجلة‪.‬‬
‫فهرس الكتاب‬

‫‪5‬‬ ‫مقدمة‬

‫‪24‬‬ ‫الكتَّاب‬
‫إلى ُ‬

‫‪25‬‬ ‫إلى القُ رّاء‬

‫‪29‬‬ ‫الشيخ رزُّ وق‬

‫‪39‬‬ ‫عائشة‬

‫‪49‬‬ ‫العِصامي‬

‫‪59‬‬ ‫العمُّ نتيش‬

‫‪67‬‬ ‫الس ِ ّكير‬


‫ِّ‬

‫‪73‬‬ ‫رجل من الناس‬

‫‪81‬‬ ‫فقاقيع األدب‬

‫‪85‬‬ ‫الشخصيات المرتجلة‬

‫‪93‬‬ ‫األستاذ‬

‫‪105‬‬ ‫سيدي الحاج‬

‫‪111‬‬ ‫الضيف‬
‫يحيى َّ‬

‫‪119‬‬ ‫سي زعرور‬

‫‪129‬‬ ‫التلميذ‬
6
‫مقدمة‬

‫نبذة عن حياة الكاتب‬

‫اسمه الحقيقي أحمد حوحو‪ ،‬وقد أضيف له اسم رضا‪ ،‬في‬


‫الـحـجـاز‪ ،‬للتمـييز بيـنـه وبيـن أحــد أفــراد بنــي عمـومـتـه‪.‬‬
‫ُو ِلد رائــــد القـصة القصيرة الجزائرية المكتوبة بالعربية بتاريخ‬
‫‪ 1910-12-15‬في والية بسكرة‪ ،‬إحدى حواضر الحركة‬
‫اإلصالحية الوطنية الجزائرية‪ ،‬وتحديد ًا في قرية سيدي عقبة‬
‫حيث ينام الفاتح اإلسالمي الشهير عقبة بن نافع الذي ما زال‬
‫باب المسجد الذي يؤوي ضريحه يحمل عالمة من العالمات‬
‫المميزة‪ :‬الباب القديم الذي يعود تاريخه إلى فترة المع ّز لدين‬
‫ّ‬
‫الله الفاطمي‪.‬‬
‫سن مبكرة‪ ،‬شأنه شأن أطفال‬ ‫َأ َّم أحمد حوحو ُ‬
‫الك ّتاب في ّ‬
‫األرياف الجزائرية التي عوَدت األبناء على حفظ القرآن‬

‫‪7‬‬
‫وبعض التفسير ألسباب تربوية ودينية ولغوية وسياسية‪ .‬لقد‬
‫كانت فرنسا االستعمارية تعمل على محو الهوية والمرجعيات‬
‫األساسية التي ت ّتكئ عليها األمة حتى يتس ّنى لها تشتيتها‬
‫ُّ‬
‫التحكم فيها وفق مشيئتها‪ ،‬إذ إن‬ ‫وتبديد مقوماتها‪ ،‬ومن ثم‬
‫يسهل عليها فرض مرجعيات جديدة ِ ّ‬
‫تؤهلها‬ ‫تحييد المرجعيات ّ‬
‫لتوجيه الناس دون مقاومة مقاصدها ومفاسدها المتعاظمة‪.‬‬
‫وكان المرور على الكتاتيب نوع ًا من تحصين الذات‪.‬‬
‫في السادسة من عمره التحق بالمدرسة االبتدائية‪ ،‬والواقع أنه‬
‫كان محظوظ ًا مقارنة بأولئك األطفال الذين ُو ِلدوا في القرى‬
‫النائية وفي األرياف الفقيرة والصحاري الفقيرة التي اكتفت‬
‫بحفظ المصحف الكريم وتلقينه كمكسب كبير لذلك الجيل‪،‬‬
‫عصي ًا في حاالت ال حصر‬
‫ّ‬ ‫كما أن االلتحاق بالمدرسة ظل‬
‫ّ‬
‫السكان‪ ،‬إضافة‬ ‫لها بالنظر إلى انعدام المدارس القريبة من‬
‫ّ‬
‫السكان من الفرنسية نفسها كلغة استعمارية دخيلة‬ ‫إلى موقف‬
‫وجب االستغناء عنها ألنها لسان حال الغزاة الذين ال يؤتمنون‪.‬‬
‫سافر الشاب أحمد إلى مدينة سكيكدة بشرق الوطن عام‬
‫‪ 1928‬من أجل إكمال دراسته والحصول على األهلية‪ ،‬بيد أن‬
‫ذلك لم يكن سه ً‬
‫ال في ظل هيمنة السياسة الفرنسية التفاضلية‬
‫التي حرمت «األهالي» من الدراسة والمناصب العتبارات‬

‫‪8‬‬
‫عنصرية‪ .‬وهكذا ذهب إلى الحجاز عام ‪ .1935‬وكان ذلك‬
‫من المنافذ القليلة التي أنقذت كثير ًا من الجزائريين الذين‬
‫ساعدهم الحظ‪ ،‬مع ضرورة التأ كيد على الخدمات الجليلة‬
‫التي قدمها جامع الزيتونة بتونس لمجموعة من المواطنين‬
‫وك ّتاب ًا مرموقين‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫ومفكرين ومع ِّلمين ُ‬ ‫الذين أصبحوا سياسيين‬
‫بصرف النظر عن طبيعة الدروس وطريقة تقديمها‪.‬‬
‫ثم َس َّجل في كلية الشريعة سنة ‪ ،1937‬وألنه عرف النضال‬
‫والحركة اإلصالحية قبل سفره إلى الحجاز طالب ًا العلم‪ ،‬فقد‬
‫اهتم بالكتابة منذ البدايات األولى‪ ،‬ونشر أول مقال له في‬
‫َّ‬
‫مجلة الرابطة العربية يدين فيه الطرقية التي كانت‪ ،‬من منظور‬
‫فئة معتبرة من المثقفين ورجال الدين‪ ،‬فقيرة إلى الوعي‬
‫الالزم‪ ،‬وفاقدة لروح النضال الحقيقي الذي تحتاج إليه‬
‫تمس‪ ،‬في جزء من معتقداتها وممارساتها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الجزائر‪ .‬كما أنها‬
‫واقع العقيدة وجوهرها‪ ،‬وكان المقال بعنوان‪« :‬الطرقية في‬
‫خدمة االستعمار»‪ .‬والحال أن ذلك كان موقف رائد الحركة‬
‫شن عليها‬
‫اإلصالحية اإلمام عبد الحميد بن باديس الذي َّ‬
‫حرب ًا كادت تودي بحياته في إحدى مدن الغرب الجزائري‪،‬‬
‫في الثالثينيات من القرن الماضي‪.‬‬
‫تخ َّرج أحمد رضا حوحو في كلية الشريعة سنة ‪،1938‬‬

‫‪9‬‬
‫وألنه كان طالب ًا متف ِّوق ًا في دراساته فقد ُع ِ ّين أستاذ ًا بالكلية‬
‫مهمة أخرى تتمثَّل في سكرتاريا مجلة‬ ‫نفسها‪ ،‬كما ُأسندت له ّ‬
‫أهمية عن األولى‪ ،‬إال‬ ‫«المنهل»‪ ،‬وهي مسؤولية أخرى ال ّ‬
‫تقل ّ‬
‫ويمم شطر مكة ليلتحق بمصلحة‬
‫أنه استقال من منصبه ذلك‪َّ ،‬‬
‫البرق‪ ،‬الوظيفة ذاتها التي شغلها في مدينة بسكرة بداية‬
‫‪ .1928‬لكننا لم نجد مس ِّوغ ًا كافي ًا لذلك‪ ،‬فكان التخ ّلي عن‬
‫الك ّل ّية وااللتحاق بمصلحة البرق أمر ًا غامض ًا‪.‬‬
‫عاد إلى الجزائر بعد الحرب العالمية الثانية في ‪ ،1946‬وقد‬
‫شحذته التجربة بفعل اكتسابه معارف جديدة واحتكاكه بعلماء‬
‫وأساتذة وباحثين ِ ّ‬
‫واطالعه الواضح على كتب عربية وأجنبية‬
‫أهلته للنظر إلى واقعه وواقع بلده بعمق‪ ،‬وبمسؤولية من يشعر‬
‫َّ‬
‫بأن عليه المساهمة الفعلية في تغيير المسار العام للوضع في‬
‫الوطن األسير‪ .‬هكذا انخرط في جمعية العلماء المسلمين‬
‫تضم نخبة فاضلة من خيرة رجال ذلك‬
‫ّ‬ ‫الجزائريين التي كانت‬
‫الوقت‪ ،‬وما هي إال أعوام قليلة حتى أصبح عنصر ًا بارز ًا فيها‪،‬‬
‫وموازاة مع ذلك ظل قريب ًا من مجاله األصلي‪ .‬لقد ت ََّم تعيينه‬
‫مدير ًا لمدرسة التربية والتعليم‪ ،‬كما أدار مدرسة التهذيب‪ ،‬قبل‬
‫أن ي َُع َّين‪ -‬الحق ًا‪ -‬كاتب ًا عام ًا لمعهد ابن باديس‪.‬‬
‫نشر أول مقال له في جريدة «البصائر» في ‪ 25‬سبتمبر‪/‬أيلول‬

‫‪10‬‬
‫‪ ،1946‬وكان بادي ًا للعيان أن له اهتمامات صحافية مثيرة‪،‬‬
‫بالعودة إلى عددها وإلى طبيعتها وطريقة تعاملها مع‬
‫الموضوعات االجتماعية والسياسية والثقافية والدينية‪ ،‬وهي‪-‬‬
‫في مجملها‪ -‬ال تتجاور كثير ًا مع ما كان ينشر آنذاك‪ ،‬أسلوب ًا‬
‫ومعجم ًا وفكر ًا ورؤية‪ ،‬ولعل ذلك ّ‬
‫مرده طريقة تكوينه وقراءاته‬
‫يؤسس عليها في‬
‫وبصيرته والمرجعيات المختلفة التي كان ّ‬
‫ّ‬
‫تدل على ذلك بعض آرائه التي بدت مفارقة‬ ‫كتاباته‪ ،‬كما‬
‫لما كان قائم ًا وقتذاك‪ ،‬أو لما كان متداو ً‬
‫ال في جمعية العلماء‬
‫المسلمين الجزائريين‪.‬‬
‫َمثَّل الكاتب الساخر‪ ،‬والملتزم في آن واحد‪ ،‬بلده الجزائر في‬
‫مؤتمر باريس للسالم في مايو‪/‬أيار من سنة ‪ .1949‬وفي السابع‬
‫والعشرين من أ كتوبر أنشأ جمعية «المزهر القسنطيني» التي‬
‫كانت تعرض مسرحيات متن ِّوعة‪ ،‬ومنها‪ :‬ملكة غرناطة‪ ،‬بائعة‬
‫الورود‪ ،‬البخيل‪ .‬وفي الخامس عشر من ديسمبر‪/‬كانون األول‬
‫أسس جريدة «الشعلة» التي َّ‬
‫ترأس تحريرها‪ .‬وقد كان‬ ‫‪َّ 1949‬‬
‫يسعى دائم ًا إلى مهاجمة مكامن األلم والشر‪ ،‬ما سيتسبب له‬
‫جمة مع المستعمرين‪ ،‬ومع فئات أخرى مناوئة‬
‫في متاعب ّ‬
‫لموضوعاته ورؤاه‪.‬‬
‫كما زار االتحاد السوفياتي ويوغوسالفيا سنة ‪ 1950‬رفقة‬

‫‪11‬‬
‫الروائي والمسرحي كاتب ياسين‪ ،‬صاحب رائعة «نجمة» الذي‬
‫ذاع صيته في العالم كسارد كبير ويساري متم ِّرد‪ ،‬وقد مكث‬
‫ِّ‬
‫المشككين ي َّتهمونه بالشيوعية‬ ‫هناك شهرين‪ ،‬ما جعل بعض‬
‫رغم انتمائه إلى جمعية العلماء المسلمين‪ .‬والواقع أنه كان‬
‫متعاطف ًا مع األنظمة االشتراكية‪ ،‬مناوئ ًا لألنظمة الرأسمالية‬
‫والثقافة األحادية والخطاب المعياري‪ ،‬كما تشير إلى ذلك‬
‫مقاالته ومالحظاته التي ال تخلو من الدعوة إلى التجديد‬
‫ّ‬
‫واالطالع على مختلف الفنون واآلداب العالمية‪ .‬لقد كان‪،‬‬
‫يشكل مفارقة‪ ،‬ليس بأفكاره فحسب‪ ،‬بل‬ ‫ِّ‬ ‫في واقع األمر‪،‬‬
‫بهندامه وهزله وفكره وسيجارته وعزفه على العود واهتمامه‬
‫بالمسرح والفن والترجمة والشعر والقصة والرواية والموسيقى‪،‬‬
‫األمر الذي لم يكن معهود ًا في جمعية العلماء المسلمين التي‬
‫اتَّسمت بالصرامة واالستقامة‪.‬‬
‫كان أحمد رضا حوحو وراء تجنيد وتوعية عدد كبير من‬
‫الطلبة الجزائريين الذين سي ّتخذون موقف ًا صارم ًا ونهائي ًا من‬
‫االستعمار‪ ،‬كما عرف بمناهضة االحتالل والدعوة المستمرة‬
‫إلى محاربته‪ ،‬وكانت مقاالته سالح ًا ال يمكن إغفال مفعوله‬
‫التدريجي‪ ،‬شأنه شأن أشعار مفدي زكريا التي ستقوم بدور‬
‫مهم في الثورة التحريرية‪ .‬لكن النظام الفرنسي ظل يراقبه‬
‫ّ‬

‫‪12‬‬
‫ِّ‬
‫يشكل خطر ًا فعلي ًا على كيانه في الجزائر‬ ‫لوثوقه الكبير بأنه‬
‫المستعمرة‪ ،‬شأنه شأن َّ‬
‫مثقفين وك ّتاب آخرين‪ ،‬ومنهم الكاتب‬
‫المفرنس مولود فرعون الذي اغتالته منظمة الجيش السري‬
‫اإلرهابية بتاريخ ‪ 15‬مارس‪/‬آذار ‪.1962‬‬
‫اخ ُت ِطف الكاتب الساخر في التاسع عشر من مارس ‪ 1956‬من‬
‫ِق َبل منظمة «اليد الحمراء»‪ ،‬إحدى األذرع السرية للمستعمر‬
‫وس ِجن في حبس الكدية بقسنطينة‪ ،‬ثم ُح ِّول إلى‬
‫الفاشي‪ُ ،‬‬
‫جبل الوحش بأعالي المدينة حيث ُأ ِ‬
‫عدم هناك بشكل ظل‬
‫غامض ًا إلى اليوم‪ ،‬لكنه وحشي بالتأ كيد‪ ،‬إذ ُع ِثر على رفاته‬
‫مصادفة بعد ‪ ،1962‬تاريخ استقالل الجزائر عن استعمار‬
‫حاقد ومدمّر‪ ،‬وكان مدفون ًا في قبر جماعي بإحدى الثكنات‬
‫الفرنسية القديمة‪.‬‬
‫مهم للقارئ‬
‫ّ‬ ‫هكذا انطفأ نجم كان َي ِع ُد بتقديم منجز سردي‬
‫لو كتب له أن يعيش سنوات أخرى‪ ،‬لكن الفاشيين كانوا‬
‫ِّ‬
‫يخططون لمصير آخر مذ سطع نجمه‪ ،‬واتضحت مواقفه من‬
‫كيان غريب‪ .‬لقد َقوَّض وعيه طمأنينة المستعمرين‪ ،‬وكان‬
‫يجب التخ ُّلص منه‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫أعماله ومواقفه‬

‫عرف الكاتب الشهيد بكتاباته المتن ِّوعة‪ .‬ويمكن أن تكون‬


‫أدت إلى اختطافه‬
‫مقاالته الصحافية الحادة من األسباب التي ّ‬
‫وتصفيته‪ .‬لقد كانت له سلسلة من المقاالت تحمل عنوان‪:‬‬
‫«تحت السياط نغ ّني»‪ ،‬وسلسلة أخرى بعنوان‪« :‬مسامير»‬
‫كان ينشرها في جريدة الشعلة‪ ،‬إضافة إلى كتاباته األخرى في‬
‫جريدة البصائر‪ ،‬ومنها‪« :‬مع حمار الحكيم»‪ ،‬و«الميزان»‪،‬‬
‫وهي المقاالت الساخرة التي َأ ّلبت عليه مجموعة من‬
‫لخطه الذي كان مختلف ًا عن ّ‬
‫خط جمعية العلماء‬ ‫ِّ‬ ‫المعارضين‬
‫المسلمين الجزائريين‪ ،‬من حيث االنضباط والصرامة‪ ،‬ومن‬
‫حيث االستراتيجية والمعالجة‪ ،‬إضافة إلى ذلك فقد ظل نقده‬
‫الذع ًا رادع ًا‪ ،‬ما أثار حفيظة بعض المحافظين واالتّباعيين‬
‫أحسوا بأنهم موضوع كتاباته‪ ،‬أو مكمن الداء‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وأولئك الذين‬
‫ِّ‬
‫المتعددة‪ -‬بترجمة بعض‬ ‫قام أحمد حوحو‪ -‬إضافة إلى نشاطاته‬
‫األعمال إلى العربية‪ ،‬ومنها‪ :‬مالحظات مستشرق مسلم‪ ،‬حيوية‬
‫اهتم بالمسرح والموسيقى‬
‫ّ‬ ‫اللغة العربية‪ ،‬وأهرام مصر‪ ،‬كما‬
‫والنقد‪ ،‬إذ كان عازف ًا على آلة العود وعضو ًا في فرقة‪ .‬كما‬
‫كان لنقده الالذع أثر كبير‪ ،‬ما لم تستسغه فئة معتبرة من الوسط‬

‫‪14‬‬
‫الثقافي‪ ،‬إضافة إلى ذلك فقد كان من دعاة التجديد والثورة‬
‫على التقاليد األدبية الباهتة‪ ،‬مع إلحاحه الشديد على ضرورة‬
‫ترقية اللغة العربية بتخليصها من الشوائب والتبعية والخطاب‬
‫اليقيني والمعجم المتواتر الذي يحمل دالالت مك َّررة ال تفي‬
‫بغرض العصر ومشكالته الحقيقية‪.‬‬
‫كما ظل ينادي بضرورة االغتراف من اآلداب واألفكار الغيرية‬
‫التي تسهم في تغذية الموروث وتطويره حتى يصبح دا ّل ًا‬
‫ومعبر ًا عن روح العصر‪ .‬يقول في هذا الشأن‪« :‬هناك مذاهب‬
‫ِّ‬
‫عديدة جديدة في اآلداب والفنون من الواجب معالجتها‬
‫ودراستها والسير على غرارها‪ ،‬ومن العبث إهمالها ألنه لم‬
‫التعصب الذميم أن‬
‫ُّ‬ ‫يكن لنا حظ في إيجادها وخلقها‪ ،‬ومن‬
‫ننكر النافع الجيد من مذاهب الغير»‪ .‬لقد كان في صميم‬
‫مفاهيم االتّباع واإلبداع‪ ،‬أو النقل والعقل‪ ،‬كما سنجدها عند‬
‫أدونيس وبعض الحداثيين المعاصرين‪.‬‬
‫وكان الكاتب ينظر إلى األدب والفن نظرة جديدة بحكم‬
‫يحمل ُ‬
‫الك ّتاب مسؤولية المجتمع‬ ‫ّ‬ ‫ثقافته وتكوينه‪ ،‬إذ ما فتئ‬
‫وعوالم القيم المثلى التي وجب الدفاع عنها وترقيتها‪ ،‬ذلك أن‬
‫نظرته ارتبطت بالجانب المثالي‪ ،‬ولذلك َع َّد اآلداب والفنون‬
‫مرايا عاكسة لكيان األمة وجوانبها اإلنسانية والروحية التي‬

‫‪15‬‬
‫أهم قضية ظلت تشغله‪ ،‬من‬
‫تحصنها وتمثّلها أحسن تمثيل‪ .‬أما َ‬
‫ّ‬
‫الناحية األدبية‪ ،‬فتتمثّل في طبيعة الكتابة نفسها‪ .‬ربما الحظ‬
‫شيئ ًا من المحاكاة الساذجة في ما ينشر آنذاك‪ ،‬ولذا أعلنها‬
‫صراحة‪ ،‬وبجرأة لم يستسغها بعض معاصريه الذين نظروا إليه‬
‫ببعض الريب واالزدراء‪« :‬أمّا هذه الجثث الفاقدة الروح التي‬
‫اصطلح الناس على تسميتها أدب ًا وفن ًا‪ ،‬فيجب أن ننزل عليها‬
‫بمعاولنا دون شفقة وال رحمة‪ ،‬وننشئ بدلها أدب ًا وفن ًا َح َّي ْين»‪.‬‬
‫ويضيف بنوع من اليقين‪« :‬إن المرء ليزدهي بآدميته حين‬
‫يلقي بنفسه في غمار هذه اآلداب العالمية»‪ .‬ما يجعلنا نستنتج‬
‫أن قراءاته لآلداب األوروبية واألميركية هي التي جعلته ي ّتخذ‬
‫موقف ًا مماث ً‬
‫ال‪.‬‬
‫خ َّلف أحمد رضا حوحو أعما ً‬
‫ال أدبية اختلف حولها‬
‫ّ‬
‫النقاد والدارسون من حيث التصنيف والقيمة‪ ،‬بحسب‬
‫منطلقاتهم وأدواتهم ورؤاهم الجمالية والفنية‪ ،‬لكنه من الصعب‬
‫تجاهل مكانتها إن ُأ ِخذت في إطار سياق إنتاجها‪ ،‬وما َق َّدمته‬
‫من إضافات نوعية للتجارب السابقة‪ ،‬أو لما ُس ِ ّمي (إرهاصات‬
‫القصة)‪ ،‬ومن هذه العناوين النثرية‪:‬‬
‫‪ -‬غادة أم القرى (قصة طويلة) ــ‪ 1947‬ــ‬
‫‪ -‬مع حمار الحكيم (مقاالت قصصية) ‪ 1953‬ــ‬

‫‪16‬‬
‫‪ -‬صاحبة الوحي (قصص) ‪ 1954‬ـــ‬
‫‪ -‬نماذج بشرية (قصص) ‪ 1955‬ــ‬
‫كما ترك إرث ًا من المقاالت النقدية والصحافية‬
‫ومسرحيات لم تُجمع في كتب مستقلة رغم قيمتها وفائدتها‪،‬‬
‫مع أن هناك محاوالت لجمعها وطبعها من ِق َبل بعض األفراد‬
‫والمؤسسات‪ ،‬كما أوصت بذلك شخصيات أدبية وهيئات‬
‫َّ‬
‫علمية في مناسبات كثيرة‪ ،‬وقد تساهم هذه النصوص‪ -‬إن‬
‫ُك ِتب لها الظهور في وقت ما‪ -‬في إضاءة جوانب كثيرة من‬
‫حياة الكاتب ومواقفه السياسية والفنية‪ ،‬كما يمكن أن تضيف‬
‫قبس ًا للمرحلة التي عاش فيها جيل بأ كمله‪.‬‬

‫نماذج بشرية‬

‫ُك ِتبت هذه النصوص المتن ِّوعة منذ قرابة ستين سنة‪،‬‬
‫وهو وقت ٍ‬
‫كاف لتغ ُّير األذواق واألدوات النقدية والمقاربات‪،‬‬
‫لذلك من األنسب أن نأخذ في الحسبان نقاط ًا مفصلية قبل‬
‫تقديمها للقارئ الكريم‪ :‬زمان الكتابة وزمان القراءة‪ ،‬إضافة‬
‫والمقيس عليه‪ ،‬وذلك تفادي ًا‬
‫َ‬ ‫المقيس‬
‫إلى السياق وثنائية ُ‬
‫ألي إسقاط أو إجحاف قد يلحقان ضرر ًا بكتابة َع َّبرت عن‬
‫انشغاالت‪ ،‬باألدوات التي كانت متاحة في زمانها‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫كانت الجزائر في تلك الفترة المظلمة تحت حكم احتالل‬
‫عمل على تعميم الجهل ومحاولة محو اللغة العربية من‬
‫الخارطة الجغرافية للبلد؛ ومن ث ََّم كان ظهور كاتب يكتب‬
‫ّ‬
‫يتعذر أن تتك ّرر دائم ًا‪.‬‬ ‫بالعربية هبة من الخالق وسعادة مباركة‬
‫الكتابة نفسها لم تكن متاحة إ َ‬
‫ال لفئة قليلة ممن نجوا‪ -‬ولو‬
‫نسبي ًا ومرحلي ًا‪ -‬من الحصار الذي ُض ِرب على الجزائريين‪ .‬لذا‬
‫يمكن اعتبار نصوص «نماذج بشرية» كرامة من الكرامات‬
‫التي جاءت في وقتها‪ ،‬أو قبل الوقت بسنين‪ ،‬ورغم أننا قد‬
‫ننظر إليها اليوم من زوايا أخرى‪ ،‬ومن منطلقات جمالية مختلفة‬
‫للوصول إلى أحكام مختلفة‪ ،‬إ َ‬
‫ال أن ذلك لن يق ِ ّلل من ّ‬
‫أهميتها‬
‫التاريخية وريادتها في فترة كانت فيها الكتابة معجزة ّ‬
‫حقة‪.‬‬
‫مقدمة الكتاب مالحظات ثمينة أوردها الكاتب‬
‫ّ‬ ‫هناك في‬
‫نفسه‪ ،‬وقد ت َُع ّد بمثابة فواتح تشير إلى الكيفية السردية التي‬
‫أرادها أحمد رضا حوحو‪ .‬وبصرف النظر عن أي تقييم أو‬
‫استثمار لما ورد فيها من مواقف قد تكون مصدر خالف‬
‫مفسرة‬
‫ّ‬ ‫وجدال‪ ،‬فإن وجودها يظل ذا داللة من حيث إنها‬
‫ّ‬
‫للمتلقي‪ .‬يقول الكاتب‪« :‬لم أعمد‬ ‫وموجهة‬
‫ّ‬ ‫للكيفية السردية‬
‫في عرض هذه النماذج على الخيال فأستخدمه في التنميق‬
‫ِّ‬
‫فأسخره إلثبات فكرة أو‬ ‫والتزويق‪ ،‬أو إلى التحليل النفسي‬

‫‪18‬‬
‫إدحاض أخرى‪ ...‬أجل‪ ،‬إني لم ألجأ إلى كل ذلك‪ ،‬وإنما‬
‫التجأت إلى المجتمع‪ ،‬وانتزعت من مختلف طبقاته نماذج‬
‫عشت مع بعضها وسمعت عن بعضها»‪.‬‬
‫تعالج النصوص الواردة في الكتاب قضايا اجتماعية‬
‫وثقافية وسياسية ودينية متن ِّوعة تأسيس ًا على خيار سردي‬
‫يتراوح بين التمثيل والعرض‪ ،‬ويبدو أنها جاءت لتقوم بوظيفة‬
‫ما من حيث ابتعادها عن التنميق‪ ،‬أي أنها ملتزمة بقضايا‬
‫اجتماعية أ كثر من التزامها بالترف الذهني‪ .‬لهذا اتَّسم أغلب‬
‫السرد بالتسجيل والتبطئة ووضوح اللفظ والعبارة والمقصد‪،‬‬
‫على غرار السرد العربي الكالسيكي الذي ُع ِرف في التجارب‬
‫األولى‪ ،‬سواء مع محمود تيمور أو قبله‪ ،‬كحال المقامات التي‬
‫كانت من التجارب القصصية الرائدة التي ستؤ ِ ّثر الحق ًا في‬
‫المنجز السردي برمّته‪ ،‬رغم أنها سلكت طريق ًا مختلف ًا في‬
‫تعاملها مع الزخرفة‪.‬‬
‫كان الكاتب‪ -‬من وراء بعض حكاياته القريبة من‬
‫التقرير في حاالت كثيرة‪ -‬يريد اإلشارة إلى مظاهر سلبية‬
‫َم َّيزت محيطه في فترة ما‪ ،‬ومن ثم معالجتها بالطريقة المناسبة‪،‬‬
‫ومن هذه السلبيات المهيمنة التي كانت تحتاج إلى ضرورة‬
‫التنبيه إلى مخاطرها‪ :‬مسألة الدجل والشعوذة (الشيخ رزوق)‪،‬‬

‫‪19‬‬
‫واالنحرافات األخالقية (عائشة)‪( ،‬السكير)‪ ،‬والحيلة (العم‬
‫نتيش)‪ ،‬والجهل (سيدي الحاج)‪ ،‬والهذيان (األستاذ)‪،‬‬
‫والتدهور (سي زعرور)‪ ،‬والكنود (رجل من الناس)‪ ،‬والغرور‬
‫(فقاقيع األدب)‪ ،‬والزعامة المغشوشة (الشخصيات المرتجلة)‪،‬‬
‫وعبقرية الشارع (يحيى الضيف)‪ ،‬واإلرادة (التلميذ)‪.‬‬
‫وهي موضوعات يمكن أن تكون متواترة ومشتركة بين الك ّتاب‬
‫في كل زمان ومكان‪ ،‬بيد أن شكل معالجتها يظل نواة أساسية‪،‬‬
‫من حيث إن الكيفية مسألة جوهرية في تعزيز الفرادة وتقوية‬
‫االستثناء‪ .‬لذلك يمكن القول إن قيمة «نماذج بشرية»‪ -‬إن‬
‫احتكمنا إلى تاريخ وسياق إنتاجها‪ -‬تكمن في الخيارات‬
‫والمتغيرات السردية الجديدة التي راهن عليها‬
‫ِّ‬ ‫الموضوعاتية‬
‫الكاتب‪ ،‬إضافة إلى خاصية قاعدية تتمثَّل في الرؤية المفارقة‬
‫للنموذج المتواتر آنذاك‪.‬‬
‫ال يمكن القول‪ -‬بطبيعة الحال‪ -‬إن نصوص أحمد‬
‫رضا حوحو استثنائية من ناحية الشكل‪ ،‬جديدة كلها وخارقة‪،‬‬
‫ذلك أن هناك نصوص ًا عربية سبقتها إلى التحديث والتثوير‬
‫الستفادتها من الكتابة المح ّلية والغيرية‪ ،‬وخاصة في التجربة‬
‫المشرقية مع الكاتب محمود تيمور الذي اقتبس زاد ًا معتبر ًا‬
‫من التقنيات القصصية للكاتب الفرنسي موباسان‪ ،‬محاو ً‬
‫ال‬

‫‪20‬‬
‫بذلك تطعيم السرد القائم في المنجز القصصي السابق‪ .‬غير‬
‫أن تجربة حوحو ت َُع ّد‪ ،‬بدورها‪ ،‬إضافة نوعية للجهد السردي‬
‫الجزائري‪ ،‬ولبعض ما ُك ِتب في البالد العربية كذلك‪.‬‬
‫تمفصل‬
‫ّ‬ ‫نشير في سياق هذا التقديم إلى أن دراسة كيفيات‬
‫المعنى في مختلف النصوص تستدعي مراعاة اعتبارات كثيرة‬
‫َجه إلى تجربته‪،‬‬ ‫ال يمكن دونها أن َن ِف َي الكاتب ّ‬
‫حقه‪ .‬قد ُتو َّ‬
‫القصيرة نوع ًا ما‪ ،‬تأسيس ًا على الذائقة والمسارات السردية‬
‫تخص مسائل تتع ّلق بالرومانسية والواقعية‬
‫ّ‬ ‫الحالية‪ ،‬مالحظات‬
‫اإلمالئية التي م َّيزت بعض القصص والمقاالت القصصية‪،‬‬
‫أو بعض المقدمات التوضيحية غير الضرورية للمتن الحكائي‬
‫الذي يستطيع تجاوزها دون المساس بالبنية والمتون‪ ،‬إن نحن‬
‫انطلقنا من منظورات نقدية جديدة‪ ،‬الشيء نفسه يتع َّلق ببعض‬
‫الخواتم المفاجئة التي لم ت ُْب َن على حبكة مكتملة النسيج‪ ،‬أو‬
‫على عالقات سببية منطقية تسوَغ النهايات السريعة التي توحي‬
‫ّ‬
‫بأقل التكاليف السردية‬ ‫بأنه كان يريد التخ ُّلص من القصة‬
‫الممكنة‪ ،‬إن لم يكن بعض التقليد األدبي هو الذي فرض‬
‫عليه تلك الخيارات التي قد ال يستسيغها الموقف النقدي‪.‬‬
‫مؤسسة‬
‫ّ‬ ‫لكن هذه المواقف من نصوص عمرها ستون سنة‪،‬‬
‫للقصة القصيرة في الجزائر‪ ،‬مؤثّثة ثقافي ًا ومعرفي ًا‪ ،‬كما تعكسه‬

‫‪21‬‬
‫تتبدد عند مراعاة‬
‫َّ‬ ‫التناصات الخارجية الكثيرة‪ ،‬سرعان ما‬
‫الجهد الذي بذله الكاتب في فترة تم َّيزت بالجهل وانتشار‬
‫المد‬
‫ّ‬ ‫األ ّم ّية في بلد شهيد كانت فيه العربية تنحسر باستمرار أمام‬
‫اللساني الفرنسي‪ ،‬وأمام تراجع لغة المواطن‪ .‬ثم إن اإلضافات‬
‫التي جاء بها في تلك الفترة ليست باله ِ ّينة أو الباهتة بحيث‬
‫يمكن القفز عليها أو تجاهلها‪ .‬لقد أحدث الكاتب الشاب‬
‫ثورة حقيقية على األساليب المتوارثة الغارقة في الوعظ‪ ،‬كما‬
‫نصب عداء لألساليب المستهلكة‪ ،‬كما يشير إلى ذلك‪ ،‬وكما‬
‫ِّ‬
‫يؤكد النقاد واأل كاديميون الذين بنوا آراءهم على الموازنة‬
‫مهمة تعمل على إبراز الجوانب التفاضلية‪.‬‬
‫كآلية ّ‬
‫ّ‬
‫إضافة إلى ذلك فقد أعاد النظر في البناء القصصي الكالسيكي‬
‫الذي كان مهيمن ًا على بعض اإلرهاصات األولى‪ ،‬كما تعامل‬
‫مع اللغة من زاوية أ كثر وعي ًا بحقيقتها ووظيفتها األدبية‬
‫والحضارية‪ ،‬إذ اعتبرها عنصر ًا نووي ًا وجب خرقه من الداخل‬
‫من أجل فسح مجال أوسع للدالالت واألفكار التي ال تنبني‬
‫بالضرورة على حقل معجمي مُ َح َّدد محدود‪ ،‬نقلي ويقيني‪،‬‬
‫مع ما ينج ّر عن ذلك من استنساخ آلي وغير ضروري للمرحلة‪،‬‬
‫وللتجارب الماضية التي وجب غربلتها‪ .‬لقد كانت رؤيته تلك‬
‫متقدمة من حيث إن اللغة كانت عائق ًا فعلي ًا أمام التنويعات‬
‫ِّ‬

‫‪22‬‬
‫والمتخ َّيل الذي ظل حبيس االستعماالت الثابتة والمعاودات‬
‫التي غدت قاعدة ومرجع ًا يقيني ًا‪ ،‬ما جعل العناصر الفنية‬
‫تتقهقر أمام النقل والنموذج المتوارث عبر العصور‪ .‬إضافة‬
‫تقدم فإن الكاتب يكون قد ارتقى بالسرد إلى درجة‬
‫إلى ما َّ‬
‫أعلى مقارنة بسابقيه‪ ،‬وربما كان أ كثر إدراك ًا ألنواعه ووظائفه‪،‬‬
‫رغم غلبة السرد التمثيلي‪.‬‬
‫«نماذج بشرية»‪ ،‬في واقع األمر‪ ،‬هي تحيين ملموس‬
‫لمنظورات أحمد رضا حوحو النقدية ومواقفه الفعلية من مسائل‬
‫آمن بها أيّما إيمان‪ ،‬وكتب عنها مقاالت صحافية نشرها هنا‬
‫وهناك في فترات متباعدة‪ ،‬سواء أكانت مواقف من المجتمع‬
‫أم كانت من الثقافة والكتابة والفن واللغة والرؤى واألشكال‬
‫التعبيرية المهيمنة على تقليد أدبي‪ ،‬كان بحاجة إلى تحديث‬
‫جذري لتطعيمه وتقوية كيانه درء ًا ألي تبديه أو فجاجة‪ ،‬أم‬
‫من العقيدة نفسها كمرجعية استثمرت في سياقات تاريخية‬
‫ضيق ذي عالقة بالجانب النفعي الصرف‪،‬‬
‫لمقاصد ذات بعد ِ ّ‬
‫أدى إلى ظهور الشعوذة والدجل والخرافات والسحر‪ ،‬وهي‬
‫ما ّ‬
‫عناصر أفسدت النص بتأويالت ال عالقة لها به‪ .‬وكان أن‬
‫أعلن الكاتب حرب ًا على تلك الفئة المنتفعة من ممارسات‬
‫تش ِّوه العقيدة‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫يجب التنبيه‪ -‬أخير ًا‪ -‬إلى أن ما ورد في كتاب «نماذج بشرية»‬
‫لألديب الشهيد أحمد رضا حوحو ال ينتمي كله إلى فن القصة‬
‫القصيرة كنوع له خصوصياته وهويته ولغته وتقنياته‪ .‬هناك‪،‬‬
‫في حقيقة األمر‪ ،‬عدة أنواع متفاوتة‪ :‬فصل من مسرحية‪:‬‬
‫(األستاذ)‪ ،‬مقال قصصي (يحيى الضيف)‪ ،‬التلميذ (مقال‬
‫توفيقي)‪ ،‬فقاقيع األدب (مقال نقدي)‪ ،‬الشخصيات المرتجلة‬
‫(مقال نقدي)‪ ،‬سيدي الحاج (مقال قصصي)‪ ،‬وأما المواد‬
‫األخرى فيتوافر أغلبها على تقنيات القصة المتعارف عليها‬
‫عربي ًا وعالمي ًا‪ ،‬بصرف النظر عن طبيعة السرد وبنائه وكيفياته‬
‫ّ‬
‫التلقي وبالخلفيات‬ ‫ومستواه‪ ،‬ألن ذلك يرتبط بمستويات‬
‫يتم التأسيس عليها في المقاربات النقدية‪ ،‬وهي‬
‫الجمالية التي ّ‬
‫كثيرة ومتفاوتة بالنظر إلى مرجعياتها‪.‬‬
‫ّ‬
‫يستحق أن يُقرأ بسبب مجموعة‬ ‫«نماذج بشرية» كتاب‬
‫المميزة له‪ ،‬ذلك أن الكاتب قام بجهود‬
‫ِّ‬ ‫كبيرة من أفضاله‬
‫مضاعفة لمراجعة جماليات القصة وجوانبها اللغوية كما‬
‫عرفت في الجزائر‪ .‬وهناك‪ -‬إضافة إلى تجاوز المتواتر‪-‬‬
‫رغبته في خدمة قضيته النضالية التي تبوّأت انشغاالته مذ كان‬
‫صغير ًا‪ :‬هناك‪ ،‬عبر العصور واألمصار‪ ،‬أدباء على المستوى‬
‫ضحوا ببعض القيم الفنية لإلعالء من شأن قضاياهم‬
‫ّ‬ ‫الدولي‬

‫‪24‬‬
‫االجتماعية والسياسية والوطنية واإلنسانية‪ ،‬وهم كثيرون‪ .‬لذا‪،‬‬
‫المهم أن نولي اهتمام ًا خاص ًا لهذه االعتبارات‪ ،‬ثم إن‬
‫ّ‬ ‫من‬
‫المؤ ِّلف عاش في فترة َق َّل فيها من يعرف القراءة والكتابة‪.‬‬
‫والمتخيل والترف البالغي‬
‫ّ‬ ‫وإذا كانت هناك تضحية باالستعارة‬
‫والذهني فلهذا النهج السردي أسبابه السياقية المشار إليها‪،‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فإن لهذا الكتاب منافعه الكثيرة كمدوّنة عكست‬
‫تقليد ًا أدبي ًا ظهر في شمال إفريقيا في الخمسينيات‪ ،‬وفي ظل‬
‫حصار استعماري كاد يقضي على مقوّمات األمة بعد احتالل‬
‫دام ‪ 132‬سنة من التعذيب والتقتيل والتدمير والمحو‪ :‬الكتابة‬
‫في ذلك الوقت المؤلم هي‪ -‬في َح ّد ذاتها‪ -‬إنجاز وانتصار‬
‫كبيران ليس من السهل تحقيقهما‪ ،‬وهنا مكمن قوة األديب‬
‫الشهيد رضا حوحو رحمه الله‪ ،‬وكل الذين كتبوا عن قضيتهم‪،‬‬
‫ّ‬
‫المحتل تنتظر الوقت المناسب لتنتزع الحياة منهم‪ .‬أمَا‬ ‫وعيون‬
‫الكتابة باللغة العربية‪ ،‬وبذلك الوقار‪ ،‬وبتلك المعرفة والملكة‪،‬‬
‫فلم تكن سوى حلم بعيد‪ ،‬أو ما يشبه الكرامة والمعجزة‪.‬‬

‫األستاذ الدكتور‪ :‬السعيد بوطاجين‬

‫الجزائر‪ ،‬أوغسطس‪/‬آب ‪2014‬‬

‫‪25‬‬
‫إلى ُ‬
‫الكتَّاب‬

‫يجب أن نتك َّلم كالم ًا صادق ًا‪ ،‬وأن ِ ّ‬


‫نفكر تفكير ًا صائب ًا‪ ،‬دون أن‬
‫نحاول جلب اآلخرين إلى أذواقنا وعواطفنا‪...‬‬
‫إن ذلك َل ُه َو العمل الجليل‪...‬‬

‫البرويار‬

‫‪26‬‬
‫القراء‬
‫ّ‬ ‫إلى‬

‫يقول بعض الفالسفة‪ :‬إن العقول سواء من حيث الخلقة‪ ،‬وإنما‬


‫يمتاز بعضها عن بعض بالتك ُّيف والتوجيه‪ ،‬فيسمو البعض‬
‫منها إلى أن يصل ذرى الرفعة والسمو‪ ،‬وينحدر البعض إلى أن‬
‫يصل الدرك األسفل من الجمود واالنحطاط‪ .‬ونحن ال تعنينا‬
‫هذه العقول‪ ،‬أ كانت سواسية أم لم تكن؛ ألننا لسنا بصدد‬
‫تحليل العقول وإثبات مقاييسها‪ ،‬وإنما الذي يعنينا هنا هو‬
‫عرض وتصوير مجموعة من الطباع البشرية‪ ،‬في مجموعة من‬
‫البشر منتقاة من صميم المجتمع‪.‬‬
‫ّ‬
‫نشك في أن هذه الطباع ليست سواء‪ ،‬وإال لكانت‬ ‫وإننا ال‬
‫خاضعة خضوع ًا أعمى لتأثيرات البيئة والنشأة والتعليم‪ ،‬ت ِ ّ‬
‫ُسيرها‬
‫طبق ًا لهذه التأثيرات‪ ،‬وتتك َّيف وفق ًا لهذه النشأة التي فرضها‬

‫‪27‬‬
‫عليها المجتمع‪ .‬وإننا ال نجد هذه الطباع تَسير في طريق‬
‫مفروض من بيئة‪ ،‬أو ت ّتجه ا ِ ّتجاه ًا مفروض ًا من نشأة‪ ،‬إال بقدر‬
‫ما توجبه الضرورة‪ .‬وكثير ًا ما تتم َّرد فتكسر القيود‪ ،‬وتنطلق في‬
‫أجواء رحبة ال تلوي على شيء‪ ،‬تدفعها غرائزها إلى تحقيق‬
‫أمانيها المختلفة غير مبالية بقوانين البيئة وتعاليم النشأة‪ .‬ولو‬
‫لم تكن هذه الطباع متباينة بعض التباين تتمتع بشيء من‬
‫الح ّرية‪ ،‬لخال المجتمع من هذه النماذج النادرة الطريفة‪ ،‬ولما‬
‫وجدنا هذه الضحية من ضحايا المجتمع تكسرقيود بيئتها‪،‬‬
‫وت ّتخذ من الوطنية دين ًا يهديها سواء السبيل‪ ،‬و َلما تع ّرفنا إلى‬
‫السن الذي ي ّتخذ من شرع الله حانوت ًا‬
‫ّ‬ ‫هذا الفقيه الطاعن في‬
‫لبيع الجرائم‪ ،‬ولما كانت هذه النماذج البشرية التي ِ ّ‬
‫نقدمها‬
‫للقراء‪.‬‬
‫ثم ماذا؟ ثم إني لم أعمد‪ -‬في عرض هذه النماذج‪ -‬إلى‬
‫الخيال فأستخدمه في التنميق والتزويق‪ ،‬أو إلى التحليل‬
‫ِّ‬
‫فأسخره إلثبات فكرة أو إدحاض أخرى‪ .‬أجل‪ ،‬إني‬ ‫النفساني‬
‫لم ألجأ إلى كل ذلك‪ ،‬وإنما التجأت إلى المجتمع‪ ،‬وانتزعت‬
‫من مختلف طبقاته نماذج عشت مع بعضها‪ ،‬وسمعت عن‬
‫تفهم‬
‫يتوصل بها إلى ُّ‬
‫ّ‬ ‫أقدمها للقارئ لعله‬
‫حية ّ‬
‫بعضها‪ .‬نماذج ّ‬
‫بعض طباع مجتمعه‪ ،‬فيلمس أنبل نفس في أحقر شخصية‪،‬‬

‫‪28‬‬
‫ّ‬
‫الضال‪ ،‬والزيغ واإللحاد‬ ‫ويلمس اإليمان القوي في قلب الرجل‬
‫تحت عمامة رجل الشرع‪ .‬إن المجتمع البسيط هو خير من‬
‫يص ِّور الطباع على فطرتها؛ ألنه خاضع للطبيعة‪ ،‬والطبيعة‬
‫يسيره ناموس الفطرة وحده‪ ،‬ال يعرف التوجيه المقعد‬
‫وحدها‪ّ ِ ،‬‬
‫َّ‬
‫المهذب‪.‬‬ ‫وال التسيير‬
‫ولهذا سنجد شخصيات نماذجنا يفهمون بعض الحقائق على‬
‫طريقتهم الخاصة‪ ،‬ويستنتجون بعض النتائج على أسلوبهم‬
‫تفهمهم للحقائق خاطئ ًا واستنتاجهم‬
‫الخاص أيض ًا‪ ،‬وقد يبدو لنا ُّ‬
‫تفهمهم واستنتاجهم‬
‫ُّ‬ ‫للنتائج ضعيف ًا؛ وذلك ألننا سنقيس‬
‫َّ‬
‫المهذب‪ ،‬وسنحكم عليهم حكم ًا‬ ‫بمقاييس العلم والعقل‬
‫خاطئ ًا ألننا سنخضع في حكمنا إلى قواعد وأصول تع َّلمناها‪،‬‬
‫َّ‬
‫المثقف‪ ،‬مع أن هذه الشخصيات‬ ‫وفرضها علينا العلم والعقل‬
‫توصلت إليه على ضوء فطرتها‪ ،‬وهضمته بجهاز‬
‫توصلت إلى ما َّ‬
‫َّ‬
‫طبيعتها في محيطها الضيق وبيئتها المحدودة‪ ،‬مدفوعة بدافع‬
‫الغريزة إلى إبراز البكر من كوامن النفوس وألوان الطباع‪.‬‬

‫أحمد رضا حوحو‬


‫قسنطينة في ‪1955/9/30‬‬

‫‪29‬‬
‫رزوق‬
‫الشيخ ُّ‬

‫الشيخ رزُّ وق رجل في العقد السادس من عمره‪ ،‬ضخم الجثّة‪،‬‬


‫كثيف اللحية‪ ،‬أسمر اللون‪ ،‬ذو مهابة ووقار‪ ،‬يخشاه الناس‬
‫ويحترمونه‪ ،‬تدور حول سيرته شبهات لم يصدقها إال نفر قليل؛‬
‫حيث ي ّتهمونه بالقيام بأعمال مالية غير مشروعة‪ ،‬ويقولون إن‬
‫قدم له مبلغ‬
‫في استطاعته أن يحرم االبن من إرث أبيه إذا ما ّ‬
‫من األوراق المالية‪ ...‬ولكن أغلبية مواطنيه تعتقد أنها مُ َج ّرد‬
‫إشاعات كاذبة ير ِّوجها ُح ّساد الشيخ وناكرو فضله‪ ،‬فهو ال‬
‫يعرف سوى داره‪ ،‬والمسجد‪ ،‬والطريق بينهما‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫تناول الشيخ طعام إفطاره على عجل وهو ال يزال يتمتم بالبقية‬
‫يومي ًا عقب‬
‫ّ‬ ‫الباقية من تسابيح ِورْد الصباح الذي اعتاد أن يتلوه‬
‫صالة الصبح‪ .‬ثم أحضرله الخادم فنجان ًا من القهوة الساخنة‬
‫ّ‬
‫يحث الخادم على إحضار بقية‬ ‫أخذ يحسوه بسرعة‪ ،‬وهو‬
‫وسجادة الصالة التي ال تفارقه في ِح ّله وفي ترحاله‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مالبسه‬
‫وأخذ يستعد لمبارحة المنزل وقد تناول عصاه ومسبحته‪ ،‬وما‬
‫كاد يبارح غرفته حتى أدركته زوجته متذ ِ ّمرة‪ :‬ما هذا! أال‬
‫تستطيع حتى أن تتناول طعام إفطارك في راحة؟ أدائم ًا أعمال‬
‫الناس؟ ال أدري أية فائدة تجنيها من وراء هذه المتاعب كلها‬
‫صدتك عن العناية بأهلك وأوالدك؟!‬
‫التي ّ‬
‫حادة‪ ،‬وأجابها والغضب‬
‫وما كان من الشيخ إال أن رمقها بنظرة ّ‬
‫ٍ‬
‫باد على قسمات وجهه‪ :‬أي شيء أستفيده من الناس؟! أتخالين‬
‫زوجك مثل أولئك الغافلين الذين ألهتهم أوضار المادة الدنسة‬
‫عن أعمالهم الربانية‪ ،‬وأشغلتهم بطونهم عن اآلخرة؟ أنا ِ‬
‫أخدم‬
‫الناس لوجه الله‪ِ :‬‬
‫أخدم الحق الضائع‪ ،‬وأحاول جهدي إرجاعه‬
‫إلى نصابه‪.‬‬
‫ثم حوقل الشيخ واستغفر ربه واسترسل يقول‪ :‬ال ت ُْد ِخ ِلي على‬
‫نفسي الرياء أيتها المرأة‪ ،‬اتقي الله‪ ،‬أتريدين أن تضيعي أجر‬

‫‪32‬‬
‫تبدلي ثوابي عقاب ًا بأحاديثك هذه؟‬
‫عملي‪ ،‬وأن ّ‬
‫وما كادت زوجه الساذج تعي هذه المواعظ حتى تأثرت‬
‫صدت هذا الرجل الصالح‬
‫وخشيت بطش ر ِ ّبها ونقمه إذا ما َّ‬
‫تقبلها وهي‬
‫عن القيام بأعماله الربّانية‪ ،‬وانهالت على يده ِ ّ‬
‫حق ًا إن هذه‬‫تردد‪ :‬ربنا يبقيك ويحيطك بعنايته يا سيدي‪ّ ،‬‬ ‫ِّ‬
‫واطمأن‬
‫ّ‬ ‫الدنيا ال تساوي جناح بعوضة‪ .‬وكأن الشيخ استراح‬
‫وتوجه‬
‫َّ‬ ‫قلبه إلى هذه النتيجة فأبدل قطوبه بابتسامة عريضة‪،‬‬
‫حبات مسبحته التي ال تفارقه‬
‫لفوره إلى الشارع وهو يداعب ّ‬
‫لحظة واحدة في غدوه وفي رواحه‪ ،‬وذهب يتأرجح في مشيته‬
‫يسميه‬
‫ّ‬ ‫وهو في طريقه إلى ركنه المنعزل في المسجد الذي‬
‫مكتب أعماله الخيرية‪ ،‬والناس تقصده من كل جانب مُ ّ‬
‫نكبة‬
‫على تقبيل يده التي يجود عليهم بها بكل سخاء‪ ،‬طالبين‬
‫منه الدعوات الصالحات‪ ،‬والنساء يرمقنه من وراء شبابيكهن‬
‫الضيقة مبتهالت إلى الله أن يقضي حوائجهن ببركة هذا‬
‫الرجل الصالح الذي يقضي ّ‬
‫جل حياته في المسجد ما بين‬
‫العبادة وإرشاد الناس إلى ما فيه الخير والصالح‪.‬‬
‫سجادته بعد ما قام ببعض الصلوات‪،‬‬
‫تربَّع الشيخ رزُّ وق على ّ‬
‫شاب في ربيع‬
‫ّ‬ ‫تقدم نحوه‬
‫َّ‬ ‫وما كاد يستق ّر به المقام حتى‬

‫‪33‬‬
‫وانكب الشاب على يده يلثمها‪ ،‬وفي‬
‫ّ‬ ‫رحب به الشيخ‪،‬‬
‫الحياة‪َّ ،‬‬
‫دس فيها شيئ ًا‪ ،‬رمقه الشيخ بنظرة فاحصة حتى‬
‫الوقت نفسه َّ‬
‫إذا ما تأ َّكد من ارتفاع قيمته أسرع إلى إخفائه في ّ‬
‫طيات‬
‫جبته الفضفاضة‪ ،‬وقابل هذه التحية بابتسامة لطيفة‪ ،‬وأقبل‬
‫ّ‬
‫يتوسم الخير العميم من ورائه‪،‬‬
‫َّ‬ ‫على الزائر يسأله ويمازحه وهو‬
‫وبادره قائ ً‬
‫ال‪ :‬خير إن شاء الله يا ابني‪ ،‬ماذا تريد؟‬
‫‪ -‬المسألة األولى نفسها يا سيدي‪ ،‬التي أخبرتك عنها سابق ًا‪.‬‬
‫ّ‬
‫قطب الشيخ جبينه كعادته كلما انتقل من الدعابة والمزاح‬
‫الجدي وقال‪ :‬إن أشغالي كثيرة يا ابني‪ ،‬وأجدني‬
‫ّ‬ ‫إلى العمل‬
‫حدثَتني به سابق ًا‪ ،‬فهل تسمح وتعيد‬
‫معذور ًا إذا ما نسيت ما َّ‬
‫على مسامعي حديثك دون أن تهمل أدنى تفصيل‪ ،‬فإنه كثير ًا‬
‫أهم ّية كبرى ال ِ‬
‫يدرك كنهها إال‬ ‫ّ‬ ‫ما يكون للتفصيل الضئيل‬
‫ملي ًا‪ ،‬ثم تك َّلم بصوت‬
‫الراسخون في المعرفة‪ .‬سكت الشاب ّ‬
‫تشوبه رجفة‪ :‬كنت أخبرتك‪ -‬يا سيدي‪ -‬أن ألختي طف ً‬
‫ال من‬
‫زوج أجنبي عن أسرتنا‪ّ ِ ،‬‬
‫توفي والده منذ زمن‪ ،‬ولم يترك له‬
‫شيئ ًا يُذكر من متاع الدنيا‪ ،‬مع أن المرحوم والدي ترك ثروة‬
‫كبيرة تعرفونها جيد ًا‪.‬‬
‫‪ -‬أجل‪ ...‬إني أعرف المرحوم والدك ّ‬
‫حق المعرفة‪ ،‬وأعرف‬

‫‪34‬‬
‫جيد ًا ثروته‪ ،‬رحمه الله فقد كان رج ً‬
‫ال صالح ًا‪ ،‬وكان من أع ّز‬
‫أصدقائي‪ .‬استمِ َّر في حديثك‪ .‬ثم ماذا؟ واستم ّر الشاب يقول‪:‬‬
‫ورثت أختي قسط ًا وافر ًا من مخ َّلفات الوالد‪ ،‬وهي اآلن تنفق‬
‫من ريعها على ابنها‪ .‬وال مانع لدي في ذلك‪ ،‬ولكن إذا ما‬
‫أدركتها الوفاة يوم ًا ‪ -‬وهي مصابة بمرض خطير استعصى‬
‫عالجه على األطباء ‪ -‬فإن ابنها يرثها؟‬
‫‪ -‬ما في ذلك شك‪ ،‬يرثها‪ّ ،‬‬
‫حقه يا بني‪ ،‬ال يمنعه مانع‪.‬‬
‫‪ -‬وبهذا يستولي هذا األجنبي على جانب كبير من ثروتنا‬
‫ومخ َّلفات والدنا‪ .‬وسكت الشاب‪ ،‬فقد اختنق صوته من ّ‬
‫شدة‬
‫تشجع أخير ًا وقال‪ :‬إني أريد منع هذا الولد‬
‫َّ‬ ‫االضطراب‪ ،‬ولكنه‬
‫لجة من التفكير دامت بعض‬
‫من إرثنا‪ ...‬استغرق الشيخ في ّ‬
‫ثوان‪ ،‬ثم قال‪ :‬إنك مقدم على عمل خطير‪ .‬إنك مقدم على‬
‫ٍ‬
‫منع وارث شرعي من إرثه الشرعي!‬
‫مستعد‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬نعم يا سيدي‪ ،‬أنا أعرف جيد ًا ما أنا قادم عليه‪ ،‬وإني‬
‫لدفع الالزم‪ ،‬لذلك‪...‬‬
‫أجنبي ًا دخي ً‬
‫ال على أسرتكم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ -‬الحقيقة أن هذا الطفل ي َُع ّد‬
‫‪ -‬نعم يا سيدي إنه كذلك‪...‬‬
‫‪ -‬لقد افتكرتك اآلن‪ .‬إنك حدثتني منذ أيام في هذا الموضوع‪،‬‬

‫‪35‬‬
‫وكنت طلبت منك تأخيره إلى أن تحين الفرصة المناسبة‪.‬‬
‫‪ -‬لقد حانت الفرصة يا سيدي‪ ،‬وسا َفرت أختي مع طفلها إلى‬
‫زيارة بعض األقارب‪ ،‬وستمكث شهر ًا كام ً‬
‫ال‪.‬‬
‫حق ًا؟‬
‫‪ -‬أسافرت ّ‬
‫‪ -‬نعم‪ -‬يا سيدي‪ -‬سافرت‪.‬‬
‫واستغرق الشيخ مرة ثانية في تفكير عميق‪ ،‬وهو يقوم ببعض‬
‫اطمأن قلبه إلى‬
‫ّ‬ ‫بحبات مسبحته‪ ،‬إلى أن‬
‫ّ‬ ‫يسجلها‬
‫ّ‬ ‫الحسابات‬
‫النتيجة‪ .‬رفع رأسه وقال بصوت خافت‪ :‬خمسمئة ألف فرنك‪.‬‬
‫وعموم المصاريف الالزمة عليك‪ ،‬وهذا التخفيض من أجل‬
‫علي أن أرى شخص ًا‬
‫ّ‬ ‫المرحوم والدك‪ ،‬فقد كان صديقي‪ ،‬ويع ّز‬
‫أجنبي ًا يتم َّتع بمال تعب عليه ليتركه ألوالده خاصة‪ ،‬ال يشاركهم‬
‫ّ‬
‫فيه مشارك‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن المبلغ كبير يا سيدي!‬
‫‪ -‬أبد ًا‪ ...‬أبد ًا‪( ...‬صرخ الشيخ) أنسيت ما ستجنيه من ذلك؟‬
‫فإنني س ُأملكك مناب أختك الذي ورثته من أبيك بهذا المبلغ‪.‬‬
‫‪ -‬حسن ًا يا سيدي َق ِب ْل ُت‪.‬‬
‫قبلت‪ ،‬إذن‪ ،‬أحضرلي النقود وافية‪ ،‬فأنا دائم ًا‬
‫َ‬ ‫‪ -‬أحسنت إذ‬

‫‪36‬‬
‫تنس ما قاله الرسول (صلى الله‬
‫َ‬ ‫مقدم ًا‪ .‬ثم ال‬
‫َّ‬ ‫أستوفي أجري‬
‫عليه وسلم)‪« :‬استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان»‪.‬‬
‫‪ -‬هذا حق‪ ...‬وإني مستعد بالمبلغ‪ ،‬ولكن‪...‬‬
‫‪ -‬لكن ماذا؟ تك َّلم‪.‬‬
‫‪ -‬أقصد إذا ما كنت واثق ًا من النجاح‪...‬‬
‫‪ -‬النجاح! هذا أمر ليس فيه أدنى ّ‬
‫شك وال ريب‪ ،‬أنا ال ُ‬
‫أقدم‬
‫إال على القضايا الناجحة‪ .‬لم أع ِّود عمالئي الفشل ولو مرة‬
‫واحدة‪ .‬فأنا‪ ،‬في هذه األيام القريبة‪ ،‬م َّلكت زوج ًا من ثروة‬
‫زوجته بعملية بسيطة‪ ،‬ثم ط ّلقتها منه‪ ،‬وهو اليوم ينعم بالمال‬
‫والح ّرية‪ ،‬ولكنه دفع لي ضعف ما طلبت منك تقريب ًا‪ ،‬والحديث‬
‫بيننا طبع ًا‪ ...‬فأنا‪ -‬يا ّ‬
‫بني‪ -‬أعمالي مُ تقنة والحمد لله‪...‬‬
‫غاب الشاب لحظة‪ ،‬ثم عاد يحمل رزمة من األوراق المالية‬
‫ناولها للشيخ بيد مرتجفة‪ ،‬وأخفاها هذا في لمح البصر تحت‬
‫يتحدث‪ .‬وللشيخ مقدرة عجيبة‬
‫ّ‬ ‫يعدها وهو‬
‫ّ‬ ‫جبته‪ ،‬وأخذ‬
‫ّ‬
‫بمهمة الحساب والمحادثة في آن واحد؛ فقد‬
‫ّ‬ ‫على القيام‬
‫كان أعجوبة زمانه في اتّقاد الفكر‪ ،‬وسعة العقل‪ .‬وبعد ما‬
‫صحة عددها ألقى عليها نظرة فاحصة‪ ،‬سرى‬
‫ّ‬ ‫استوثق من‬

‫‪37‬‬
‫تيارها السحري في نفسه‪ ،‬ولم يستطع إخفاء سروره‪ ،‬وعلت‬
‫ّ‬
‫شفتيه ابتسامة د ّلت على غبطته ورضاه‪ ،‬وللمال س ّر عجيب في‬
‫نفس الشيخ‪ .‬ثم ما كان منه إال أن جذب الشاب من طرف‬
‫وأخ ِل‬ ‫ثوبه وهمس في أذنه‪ :‬اسمع‪ ...‬اذهب حا ً‬
‫ال إلى منزلك ْ‬
‫حي‪ .‬أسامع! ال أريد كائن ًا من كان‪ ،‬أرسل‬
‫الدار من كل كائن ّ‬
‫والدتك عند بعض األقارب‪ ،‬وسآتي بجهازي التام المكوَّن‬
‫من والدتك وأختك والشهود المعروفين‪.‬‬
‫‪ -‬والدتي وأختي؟‬
‫‪ -‬أجل ‪،‬ال أعني والدتك وأختك الحقيقيتين‪ ،‬بل أعني اللتين‬
‫تقومان بدور الوالدة واألخت أمام القاضي‪ ،‬وستبيع لك أختك‬
‫منابها‪ ،‬وتعترف أنها تس َّلمت النقود كاملة‪ ،‬وسيشهد الشهود‪،‬‬
‫وينتهي كل شيء‪ ،‬وحينما ينتقالن إلى دار البقاء يمكنك إبراز‬
‫حججك واالستيالء على أمالكك دون أن يعارضك معارض‪.‬‬
‫أفهمت؟ انهض‪ ،‬وأسرع إلى عملك‪ ،‬سألحق بك بعد صالة‬
‫العصر‪ ...‬نهض الشاب متأ ِ ّلم ًا مضطرب ًا‪ ،‬وبقي الشيخ مسرور ًا‬
‫يعد نقوده مرة ثانية‪ ،‬وما كاد ينتهي‬ ‫ِّ‬
‫ويوحده‪ ،‬ثم قام ّ‬ ‫يذكر الله‬
‫حتى دوّى في المسجد صوت أذان الظهر‪ ،‬فأسرع الشيخ في‬

‫‪38‬‬
‫يستعد‬
‫ّ‬ ‫إخفاء تلك الرزمة من األوراق في جيب محكم‪ ،‬وقام‬
‫ِّ‬
‫ويقدر‪-‬‬ ‫ّ‬
‫يتذكر ما بقي لديه من المعامالت‬ ‫لصالة الظهر‪ ،‬وهو‬
‫في الوقت نفسه‪ -‬ما ستد ّر عليه من األرباح‪...‬‬

‫***‬

‫‪39‬‬
40
‫عائشة‬

‫عائشة امرأة ككل النساء الجزائريات‪ ،‬واحدة من آالف النساء‬


‫الالئي يموج بهن المجتمع الجزائري المظلم‪ ،‬لم تتخ ّرج في‬
‫َّ‬
‫تتلق أية تربية خاصة أو نشأة‬ ‫مدرسة الشرقية وال غربية‪ ،‬ولم‬
‫معينة‪ ،‬عدا التربية الفطرية والنشأة المحافظة المفروضتين من‬
‫هذه البيئة الجزائرية الوحيدة التي ال تعرف التطوُّر وال التغ ُّير‪.‬‬
‫وعاشت عائشة في محيطها الضيق المظلم ال تعرف عن العالم‬
‫الخارجي شيئ ًا‪ ،‬وال تعرف عن نفسها إال أنها عورة يستحي‬
‫وعمتها‪ ،‬فهن جميع ًا‬
‫ّ‬ ‫واسم ْي والدتها‬
‫َ‬ ‫ذووها من ذكر اسمها‬
‫خاص ًا من المخلوقات لم تفهم كنهه‪ ،‬ولم تحاول‬
‫ّ‬ ‫يك ِّو َّن نوع ًا‬

‫‪41‬‬
‫أن تدرك كنهه‪ ،‬ولكنها تعلم ّ‬
‫حق العلم أن والدها وغيره من‬
‫رجال األسرة ال يتلفظون بهذا االسم إال مقرون ًا بكلمة اعتذار‪،‬‬
‫«العباد» يطلقون عليهن جميع ًا اسم يقصد جميع نساء‬
‫يتحدث مع جاره‬
‫ّ‬ ‫«عبادي حشاك»‪ .‬وكثير ًا ما سمعت والدها‬
‫فيقول‪ :‬األسرة‪ ،‬فيعتذر عن ذكر أسمائهن كما يعتذر حينما‬
‫ّ‬
‫يتلفظ بلفظ قذر أمام شخص محترم‪.‬‬
‫تعودت عائشة هذه النشأة‪ ،‬وألفت هذه المكانة الخاصة في‬
‫المجتمع‪ ،‬أو ُق ْل إنها ورثت هذه المكانة كما ورثتها والدتها‬
‫عن السابقات من النساء منذ عهد قديم‪ .‬هي‪ -‬إذ ًا‪ -‬كائن‬
‫تافه ال مسؤولية له في الحياة‪ ،‬بل إنها أتفه من أي حيوان‬
‫من الحيوانات التي يملكها والدها الذي ال يستحي من ذكر‬
‫حماره أمام الناس‪ ،‬ويفتخر بذكر حصانه والحديث عنه‪ ،‬ولكل‬
‫منهما مسؤوليته في الحياة‪ ،‬وبعض الحرية في تصرفاته وشؤونه‬
‫الخاصة‪ .‬أما عائشة فإنها دوالب بشري تديره يد ذويها‪ ،‬فال‬
‫تتح ّرك وال تسكن إال بإرادتهم ووفق ًا لرغباتهم‪ ،‬وكل هذا‬
‫ال يعنيها‪ ،‬ولم تفكر فيه‪ ،‬بل إنها ال تملك ّ‬
‫حق التفكير فيه‪،‬‬
‫فهي تسير في طريق مرسوم محدود‪ ،‬كما سارت وستسير بنات‬
‫بجدتها في الماضي والحاضر والمستقبل‪ ،‬ال يعرفن الجديد‬

‫‪42‬‬
‫وال القديم‪ ،‬وإنما يعرفن حياة يومية متشابهة ال يختلف فيها‬
‫يوم عن يوم‪.‬‬
‫وهكذا تتابعت أيام عائشة في قريتها إلى أن حدث الحادث‬
‫الجليل الذي خرج بها عن المألوف‪ ،‬وجعل من حياتها صورة‬
‫تختلف عن صور بنات جنسها‪ .‬وما الحادث إال شاب من‬
‫َّ‬
‫وحل‬ ‫أبناء القرية عاد من أوروبا التي قضى فيها سنين طوا ً‬
‫ال‪،‬‬
‫بين سكان البلدة كالنجم المتأ ِ ّلق في ح ّلته اإلفرنجية األنيقة‪،‬‬
‫ّ‬
‫المصفف الب ّراق‪ ،‬وحذائه األسود الالمع‪ .‬وسمعت به‬ ‫وشعره‬
‫عائشة كما سمعت به بقية الفتيات‪ ،‬وطرق أذنها الكثير مما‬
‫يتحدث به من غرائب األحاديث عن أشياء لم تسمع بها من‬
‫ّ‬
‫قبل‪ ،‬ولم يهضمها عقلها اآلن‪ ،‬وما برحت هذه األحاديث‬
‫حتى أصبحت مبعث العجب بهذا الشاب‪ ،‬واالفتخار بحفظ‬
‫ُّ‬
‫التلفظ بكلمة من ألفاظه الغريبة‪،‬‬ ‫شيء من حديثه العذب‪ ،‬أو‬
‫حدث به الكبار فنقلوه إلى الصغار‪،‬‬
‫أو رواية حادثة غريبة مما َّ‬
‫ورواه إلى الرجال فنقلوه إلى النساء‪ .‬و ُأعجبت الفتاة‪ ،‬كما‬
‫ُأعجبت غيرها‪ ،‬بهذا الشاب‪ ،‬أو بهذا الحادث الجديد الذي‬
‫وتحدثت عنه‪ ،‬وحفظت شيئ ًا من أحاديثه أسوة‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫حل بالقرية‪،‬‬
‫باألخريات‪ ،‬واكتفت بهذا الحديث‪ ،‬فلم ِ ّ‬
‫تفكر في أ كثر من‬

‫‪43‬‬
‫ذلك؛ ألنها ال تملك ّ‬
‫حق التفكير أ كثر من ذلك‪ .‬فحتى خيالها‬
‫يبدو أنه محجوز عنها ال تستطيع االنطالق في أجوائه الرحبة‬
‫الجميلة‪.‬‬
‫توجهت عائشة ذات يوم إلى منزل خالتها ألن والدها وذويها‬
‫ّ‬
‫تتوجه إلى ذلك المنزل‪ .‬فهي مُ َس َّي َرة في كل‬
‫ّ‬ ‫أرادوا منها أن‬
‫شيء‪ ،‬ال تعرف االستقالل في قليل أو في كثير من حياتها‬
‫العامة والخاصة على السواء‪ ،‬وصادف أن قابلت ذلك الشاب‬
‫ٍ‬
‫خال‪ ،‬وهو يتأرجح في مشيته‪ ،‬والتقت نظرتها‬ ‫في طريق‬
‫الحسن‬
‫بنظرته‪ ،‬وراقت للشاب‪ ،‬وهي تتم َّتع بشيء غير قليل من ُ‬
‫والجمال‪ ،‬فابتسم لها ولكنها لم تفهم لماذا ابتسم‪ ،‬ولم ِ‬
‫تدر أن‬
‫موجهة لها محمل زيادة على معنى اإلعجاب‬
‫ّ‬ ‫هذه االبتسامة‬
‫بحسنها‪ ،‬معاني أخرى لم تفهم حقائقها إال بعد أن دفعت‬
‫الثمن غالي ًا غالء فاحش ًا‪ .‬ونظرت هي بدورها إليه‪ ،‬ولكن نظرة‬
‫بريئة‪ ،‬نظرة كتلك التي تعوَّدت أن ترسلها إلى القمر الساطع‬
‫في السماء‪ ،‬أو النجم المتأ ِّلق في األفق‪ .‬نظرة وكفى‪ ،‬ال تحمل‬
‫ِ‬
‫يكتف‬ ‫أي معنى‪ ،‬وال تنطوي على ّ‬
‫أي مقصد‪ .‬ولكن الشاب لم‬
‫الح ّد‪ ،‬بل حاول اال ِ ّتصال بها‪.‬‬ ‫ّ‬
‫الحل‪ ،‬ولم يقف عند هذا َ‬ ‫بهذا‬
‫وت ََّم له ذلك بواسطة عجوز استأجرها لهذا الغرض‪ ،‬لم تعوزها‬

‫‪44‬‬
‫الحيل لالستيالء على عقل هذه المخلوقة العجماء‪ .‬وما كاد‬
‫ي ّتصل بها حتى فتح لها‪ ،‬بأحاديثه المعسولة‪ ،‬أبواب ًا كانت‬
‫فحدثها عن بنات أوروبا وح ّريّتهن‪ .‬كما َّ‬
‫وضح‬ ‫َّ‬ ‫موصودة دونها‪.‬‬
‫ينس ِذكر ما ّ‬
‫ادخره لها القانون‬ ‫َ‬ ‫لها حقوقها في الحياة‪ ،‬ولم‬
‫من الحقوق والمحافظة على رغبتها‪ .‬ثم عرض عليها أن تف ّر‬
‫معه لتعيش صحبته في عيش رغد محفوفة بالحرية والحب‬
‫والسعادة‪ ،‬وأفهمها أن هذه حقوقها الشرعية ال ينازعها فيها‬
‫منازع‪ ...‬انخدعت عائشة بحديث فتاها‪ ،‬وانقادت لرغباته‬
‫بثقة عمياء‪ ،‬ففارقت منزل والدها خلسة في ليلة ظلماء‪،‬‬
‫وس َرها‪ -‬أول األمر‪ -‬أن‬
‫الشاب إلى مدينة بعيدة‪َ ،‬‬
‫ّ‬ ‫وسافرت مع‬
‫ترى نفسها ح ّرة تركب القطار‪ ،‬وتعيش في المدن في أحضان‬
‫يدم طوي ً‬
‫ال‬ ‫شاب أنيق لم تكن تحلم به‪ .‬ولكن هذا السرور لم ُ‬
‫َ‬
‫وهتك ِستر شرفها حتى‬ ‫ألن الفتى ما إن ستولى على عفافها‪،‬‬
‫تركها و َف َّر قاف ً‬
‫ال إلى أوروبا من حيث أتى‪...‬‬
‫هامت الفتاة على وجهها في هذه المدينة المترامية األطراف‪.‬‬
‫َّ‬
‫تتعقب خطاها‪ ،‬فاصطادوها‬ ‫وكانت ذئاب البشرية لها بالمرصاد‬
‫في رمشة عين‪ ،‬ودفعوا بها إلى طريق الغواية‪ ،‬فاحترفتها‪ ،‬وقد‬
‫وجدت مثيالتها في بؤرتها يبعن أجسادهن مقابل لقمة من‬

‫‪45‬‬
‫الخبز‪ .‬انتقلت عائشة من بلد إلى بلد ومن بؤرة إلى أخرى‪،‬‬
‫المسكرات‬
‫ُ‬ ‫واندفعت بحكم المهنة الشائنة إلى تعاطي‬
‫والمخدرات‪ ،‬وتفوَّقت في هذا الميدان حتى أصبحت قطب ًا‬
‫فيه ال يباريها فيه رجل وال امرأة‪ ،‬وبعث ذلك التفوُّق في‬
‫نفسها شيئ ًا من الغرور‪ ،‬فأخذت ترى نفسها أسمى مقام ًا من‬
‫وتتخيل نفسها من طينة تخالف طينتهن‪ ،‬ولهذا‬
‫ّ‬ ‫زميالتها‪،‬‬
‫يجب أن تسمو بأفكارها عنهن‪ ،‬يجب أن تكون لها فكرة أوسع‬
‫من أفكارهن وأحاديث تختلف عن هذه األحاديث البسيطة‬
‫الضيق الذي‬
‫ِّ‬ ‫المتك ِّررة‪ .‬فخرجت بفكرها من ذلك المحيط‬
‫تعيش فيه إلى محيط أوسع تبحث عن شيء ما‪ ،‬أي شيء‬
‫كان يم ِ ّيزها عن األخريات‪ ،‬شيء جديد وكفى‪ .‬وشاء القدر‬
‫أن تطرق سمعها أحاديث سياسية وأفكار وطنية‪ ،‬وشاعت‬
‫أحاديث السياسة والوطن في تلك األيام حتى عمت األوساط‬
‫المختلفة ووصلت إلى بيئتها‪ ،‬فرحبت بها واعتنقتها مدفوعة‬
‫حب السموّ‪ ،‬ورغبة في أن تكون لها أفكار وأحاديث‬
‫ّ‬ ‫بدافع‬
‫ترتفع عما ِ ّ‬
‫تفكر فيه‪ ،‬وتتحدث به األخريات‪ .‬اشتهرت عائشة‬
‫بأفكارها الوطنية‪ ،‬وسخر منها الناس‪ ،‬فزادها ذلك إصرار ًا‬
‫وتمسك ًا بالفكرة‪ ،‬وحاولت مرار ًا أن تشارك بدريهماتها‬
‫ُّ‬ ‫وعناد ًا‬

‫‪46‬‬
‫القليلة في مساعدة هذه الفكرة التي تعرف عنها أنها ترمي‬
‫إلى الوطنية والتحرير‪ .‬والتحرير في فهمها هو خروجها من‬
‫هذا الماخور العفن إلى عالم رحب تجد فيه لقمة عيشها دون‬
‫االضطرار إلى بيع جسدها‪ .‬والوطنية عندها هي أن يكون لها‬
‫فتمسكت‬
‫َّ‬ ‫منزل وبعل محترمان‪ .‬استولت عليها هذه األفكار‬
‫يتمسك الغريق بحبل النجاة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بها بشدة كما‬
‫قالت عائشة عن نفسها إنها وطنية‪ ،‬وآمنت بذلك إيمان ًا راسخ ًا‪،‬‬
‫واعتقدت اعتقاد ًا قو ّي ًا أنها ال بد من أن تجني ثمرة ذلك‬
‫ال‪ .‬وشاء ربّك أال تنتظر طوي ً‬
‫ال‪ ،‬فقد انتشلتها هذه العقيدة‬ ‫عاج ً‬
‫المقدسة من خضم رذائلها‪ ،‬فأقلعت‪ -‬أو ً‬
‫ال‪ -‬عن تعاطي‬ ‫َّ‬
‫المخدرات ألن عقلها أوحى لها أن من يتح ّلى بهذه األفكار‬
‫ِّ‬
‫يجب أن يقلع عن ذلك‪ ،‬ثم أعقبت المخدرات باالنقطاع عن‬
‫ضج منها محيطها الموبوء‪،‬‬
‫الم ْسكرات‪ ،‬ولم تكد تفعل حتى ّ‬
‫ُ‬
‫يتحملها‪ ،‬وال يقوى على احتمال نزعتها الجديدة‬
‫ّ‬ ‫وأصبح ال‬
‫التي تتضارب ومصلحة العمل الذي تصادمت رغباته بإرادتها‪،‬‬
‫فلم يشأ أن يتساهل معها ويخضع إلرادتها‪ ،‬ولم تشأ هي أن‬
‫تنثني عن فكرتها وتتخ ّلى عما اعتقدته منقذها األوحد‪ .‬وكثر‬
‫واشتد الخصام‪ ،‬ولم تنتبه عائشة إلى نفسها إال وهي‬
‫َّ‬ ‫الجدل‬

‫‪47‬‬
‫في الشارع تبحث عن عمل ح ّر طاهر تتعيش منه‪ ،‬ولم ي ْ‬
‫ُخفها‬
‫الم ّرة خبرة‪ ،‬ولم يطل بها‬
‫الشارع‪ ،‬فقد أكسبتها التجارب ُ‬
‫فتحصلت على عمل (خادم) في فندق محترم‪ ،‬ثم‬
‫َّ‬ ‫البحث‪،‬‬
‫ُو ِّفقت في االهتداء إلى زوج متواضع صالح‪ ،‬بنى بها دون‬
‫أن يسألها عن ماضيها‪ ،‬ولم تشأ أن تسأله عن مستقبله‪ ،‬وإنما‬
‫اكتفت بالعيش البسيط في أحضانه راضية وهي صامتة كالقبر‪،‬‬
‫تدفن في نفسها ذكريات أليمة تبعث في نفسها الرعب‪ ،‬وفي‬
‫وجهها الخجل‪ ،‬كلما تقهقرت بها الذاكرة إلى الوراء‪ .‬ولكنه‬
‫مرهم النسيان سريع ًا ما فعل مفعوله‪ ،‬فاندمل الجرح‪ ،‬وانمحى‬
‫ُ‬
‫الرسم‪ ،‬ولم َ‬
‫يبق من تلك اإلحن والمحن إال بصيص ضئيل من‬
‫الذكريات المريرة‪.‬‬

‫***‬

‫‪48‬‬
49
50
‫العصامي‬
‫ِ‬

‫ال تنتظر مني‪ -‬أيها القارئ‪ -‬أن أعرض عليك هنا شخصية من‬
‫الشخصيات البارزة التي ساعدها الحظ‪ ،‬فارتفعت إلى الذرى‬
‫في ميادين المال واألعمال‪ ،‬وأقول لك‪ -‬أيها القارئ‪ :-‬ال‬
‫تنتظر مني ذلك ألني أعرف أنك تعوَّدت أن ترى مجتمعك‬
‫ال يصف بالعصامية إال هذا الصنف من الرجال‪ ،‬فكل فقير‬
‫أثرى‪ ،‬وكل وضيع ارتفع (ولو نزلت عليهما الثروة والجاه من‬
‫ّ‬
‫يستحقان منا كل‬ ‫السماء دون َك ّد أو ّ‬
‫جد) هما عصاميان عندنا‪،‬‬
‫التبجيل واالحترام‪ .‬وانحرفت هذه الكلمة عن مدلولها حتى‬
‫تختص بهذه الطائفة الخاصة من الشخصيات المرتجلة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كادت‬

‫‪51‬‬
‫أعم وأشمل‪ ،‬وهي اإلرادة الحديدية والعزم‬
‫مع أن العصامية ّ‬
‫القوي واالعتماد على النفس‪ ،‬وعدم االستسالم لإلخفاق‪ ،‬وما‬
‫يج ّره من يأس‪ ،‬والمثابرة على العمل إلى بلوغ النجاح الذي‬
‫ينشده‪ ،‬والمثل األعلى الذي يأمله‪ ،‬مهما كان نوع هذا العمل‪،‬‬
‫عصامينا هذا لم يصل إلى‬
‫ّ‬ ‫ومهما كان كنه هذا النجاح‪ .‬إن‬
‫توصل إلى ما اعتقده مث ً‬
‫ال‬ ‫الثروة‪ ،‬ولم يصل إلى الزعامة‪ ،‬وإنما ّ‬
‫وتوصل إلى ما أراده وتم ّناه باذ ً‬
‫ال جهود ًا جبارة وعزيمة‬ ‫َّ‬ ‫أعلى‪،‬‬
‫فوالذية ال تق ّلان عن عزيمة وجهود ّ‬
‫أي من عظماء العالم‪ .‬كان‬
‫صاحبنا‪ -‬واسمه عبد الباقي‪ -‬عام ً‬
‫ال فالح ّي ًا بسيط ًا‪ ،‬يستأجره‬
‫أصحاب الحقول والبساتين لخدمة األشجار‪ ،‬ويكاد ال يعرف‬
‫البطالة طيلة السنة‪ ،‬وذلك لما ُعرف به من النصح في العمل‪،‬‬
‫وصحة الجسم والعقل‪ .‬التحق‬
‫ّ‬ ‫و ِلما منحه الله من قوّة البنية‬
‫عبد الباقي في صباه بمكتب قرآني تع َّلم فيه الكتابة والقراءة‪،‬‬
‫وحفظ أجزاء قليلة من القرآن‪ ،‬ولم يستطع مواصلة التعليم؛‬
‫ألن والده انتقل إلى رحمة الله‪ ،‬واضطرته لوازم العيش إلى‬
‫احتراف العمل في الحقول والمزارع مقابل أجر يومي زهيد‪.‬‬
‫عصامي ًا‪ ،‬له مَثل أعلى في الحياة يريد أن‬
‫ّ‬ ‫ولكن الرجل ُخلق‬
‫يود تحقيقها مهما ك َّلفه‬
‫يصل إليه‪ ،‬وله رغبات نفسانية شريفة ُّ‬

‫‪52‬‬
‫ٍ‬
‫مبال بالعوائق الكثيرة التي تعترض طريقه‪.‬‬ ‫من الجهد‪ ،‬غير‬
‫يسميه مواطنوه‪-‬‬
‫ّ‬ ‫كان لعبد الباقي ‪ -‬أو للشيخ عبد الباقي كما‬
‫فكرة تُخامر ذهنه منذ الصغر‪ :‬وهي أن يتزعم حركة التربية‬
‫والتعليم القرآني في بلدته‪ .‬وشيخ ُ‬
‫الك ّتاب في بلدته هو كل‬
‫لح ّل مشاكلهم‪،‬‬
‫ويلجأون إليه َ‬
‫َ‬ ‫ِّ‬
‫ويبجلونه‪،‬‬ ‫شيء‪ ،‬يحترمه السكان‬
‫يعيش في شرف وعزّ‪ ،‬تقف دونهما سلطة القضاء والحكم‬
‫خاضعة ذليلة‪...‬‬
‫استولت على أفكاره هذه الرغبة فعمل على تنفيذها‪ ،‬ولم يقف‬
‫الفقر وال حاجته إلى العمل َح َجر عثرة في طريقه‪ ،‬فاشترى‬
‫انكب على‬
‫َّ‬ ‫خشبي ًا وقلم ًا ودواة‪ ،‬ثم‬
‫ّ‬ ‫مصحف ًا‪ ،‬واشترى لوح ًا‬
‫حفظ القرآن مع مواصلته العمل‪ ،‬فيعمل شطر ًا من الليل في‬
‫إعداد لوحه وكتابته‪ ،‬حتى إذا ما أصبح الصباح حمله معه‬
‫مرتق أعلى األشجار‬‫ٍ‬ ‫يشاهد وهو‬
‫َ‬ ‫وانكب على حفظه‪ .‬وكان‬
‫َّ‬
‫ولوحه مربوط إلى حزامه يلجأ إليه كلما‬
‫ُ‬ ‫أو عام ً‬
‫ال في الحقول‬
‫ألزمه األمر إلى مراجعته‪ .‬قضى سنين وهو على هذه الحالة‪،‬‬
‫فأع ِجب به قوم‪ ،‬وهزئ به آخرون‪ ،‬ولكن‬
‫إلى أن شاع أمره ُ‬
‫ُعن له إعجاب المعجبين وال سخرية الساخرين‬
‫الرجل لم ي ِ‬
‫شيئ ًا‪ ،‬بل استم ّر قدم ًا يتابع سبيله‪ ،‬ويواصل العمل بالعمل‬

‫‪53‬‬
‫والليل بالنهار إلى أن حفظ القرآن حفظ ًا متقن ًا‪ ،‬وص ّلى به صالة‬
‫قرآني ًا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫احتل حجرة في المسجد‪ ،‬وفتح ُك ّتاب ًا‬ ‫التراويح‪ ،‬ثم‬
‫وأخذ يُعلم القرآن‪ ،‬يع ِ ّلمه بشدة وقوة محاو ً‬
‫ال دائم ًا ابتكار طرق‬
‫جديدة لتعليمه‪ ،‬وأخذ يُع ِ ّلم الصبيان في النهار‪ ،‬والكبار في‬
‫الليل‪ ،‬ولم يعهدوا في قريته تعليم الكبار فضرب لهم مث ً‬
‫ال‬
‫وتوصل إلى أن‬
‫َّ‬ ‫حي ًا ناطق ًا‪ ،‬فكثر اإلقبال عليه‪،‬‬ ‫بنفسه‪ ،‬مث ً‬
‫ال ّ‬
‫تزعم حركة التعليم في القرية ال ينازعه فيها منازع‪ .‬ارتاح‬
‫َّ‬
‫التقدم العلمي ج َّرف‬
‫ُّ‬ ‫الشيخ بعض الشيء إلى ذلك‪ ،‬ولكن‬
‫القرية‪ ،‬فقد نزل بها شبان أتوا يحملون ف ّن ًا جديد ًا تع َّلموه في‬
‫َّ‬
‫واحتل بعضهم سواري‬ ‫جامع الزيتونة بتونس‪ ،‬اسمه النحو‪،‬‬
‫وتصدوا إللقاء دروس فيه‪ ،‬وتعليم مباديه لمن يرغب‬
‫ّ‬ ‫المسجد‪،‬‬
‫تحدث الناس بهم‪ ،‬ولهجوا بذكر فنهم الجديد‪،‬‬
‫َّ‬ ‫في ذلك‪.‬‬
‫وقالوا إن الشيخ عبد الباقي ال يحسن النحو‪ ...‬علم الشيخ‬
‫بذلك وأغاظه أن تُنتزع منه الزعامة العلمية‪ ،‬ينتزعها منه شبان‬
‫سن األطفال الذين يتو ّلى تعليمهم‪ ،‬وص َّرح في مجمع كبير‬
‫في ّ‬
‫يتحدى خصومه لتدريسه دون االلتجاء‬
‫ّ‬ ‫أنه يحسن النحو‪ ،‬وهو‬
‫إلى كتاب ما‪ ،‬وضرب لهم موعد ًا لذلك‪ ،‬وبادر بالتحصيل على‬
‫نسخة منشرح الشيخ خالد على اآلجرومية؛ ألن اآلجرومية متن ًا‬

‫‪54‬‬
‫وانكب على الشيخ‬
‫ّ‬ ‫وشرح ًا هي البضاعة الوحيدة لخصومه‪.‬‬
‫خالد يحفظ ما فيه من متن وشرح غير عابئ بفهم عباراته‬
‫َّ‬
‫وحل الموعد‪ ،‬ونزل الشيخ إلى المسجد الذي َض َّم‬ ‫ومعانيه‪،‬‬
‫جمع ًا غفير ًا من المعجبين والفضوليين‪ ،‬وألقى الشيخ درسه‬
‫بصوت جهوري د َّوى له المسجد‪ ،‬فكان يسرد الفقرات من‬
‫المتن‪ ،‬ثم يتبعها بما يليه من الشرح‪ ،‬كل ذلك دون االلتجاء‬
‫إلى كتاب‪ ،‬ونجح في االختبار‪ ،‬واستولى من جديد على زمام‬
‫الزعامة العلمية‪ ،‬وكان هذا الحادث فاتح ًا جديد ًا له‪ ،‬ففتح‬
‫له أبواب ًا كانت موصودة دونه‪ ،‬وعرف أن حفظ القرآن ليس‬
‫هو كل العلم‪ ،‬بل هناك علوم وفنون أخرى عليه أن يخوض‬
‫غمارها‪ .‬ولم ينتظر طوي ً‬
‫ال‪ ،‬فبادر‪ -‬لحينه‪ -‬إلى دراسة النحو‬
‫انكب على الفقه المالكي فحفظ خلي ً‬
‫ال‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫دراسة متقنة‪ ،‬ثم‬
‫وطالع‪ ،‬مرار ًا‪ُ ،‬ش ّراحه وحواشيه‪ ،‬كما درس التجويد والقرآن‬
‫والفرائض ومعلومات عديدة‪ ،‬واستعان على ذلك بشيخ ضرير‬
‫ال يدري أهل القرية من أين أتى به‪ ،‬أنزله عنده‪ ،‬وخدمه‪ ،‬وقام‬
‫ّ‬
‫يتخل يوم ًا عن عمله في الك َّتاب‪،‬‬ ‫بجميع لوازمه‪ .‬كل ذلك ولم‬
‫ِ‬
‫يكتف‬ ‫ّ‬
‫يختل يوم ًا برنامجه‪ .‬واتَّسعت دائرة عمله؛ حيث لم‬ ‫أو‬
‫بتعليم القرآن‪ ،‬بل أخذ يُع ِّلم مبادئ شتى العلوم والفنون التي‬

‫‪55‬‬
‫تع َّلمها‪ ،‬وللرجل قدرة غريبة على هضم ما يتع ّلم‪ ،‬وقدرة أغرب‬
‫مبسطة لتعليمه‪ .‬كان الشيخ عبد‬
‫ّ‬ ‫على ابتكار طرق جديدة‬
‫التحدي وال يرضخ لهزيمة مهما كانت قوة‬
‫ّ‬ ‫الباقي ال يقبل‬
‫وع َظم الهزيمة‪ .‬وله في ذلك نوادر عديدة‪ ،‬منها أن‬
‫التحدي‪ِ ،‬‬
‫ّ‬
‫كبار تالميذه في مكتبه القرآني يحلو لهم في بعض األحيان‬
‫أن يتخ ّلفوا عن ُ‬
‫الك ّتاب لقضاء يومهم في لهو ولعب‪ ،‬ولكن‬
‫الشيخ كان دائم ًا يحرمهم من متعهم؛ حيث يأتي بهم ولو كانوا‬
‫في أقصى الحقول والبساتين‪ ،‬وهو يعرفها معرفة جيدة‪ ،‬وقد‬
‫خطة مُ َ‬
‫حكمة‪،‬‬ ‫قضى ع ّز شبابه عام ً‬
‫ال فيها‪ .‬فدبَّروا هذه المرة ّ‬
‫وهي السفر إلى قرية مجاورة في الحافلة الوحيدة التي تقوم‬
‫بنقل الركاب صباح ًا لتعود في المساء مارّة بتلك القرية التي‬
‫تدخل‬
‫ُّ‬ ‫تبعد عن قريتهم خمسة عشر مي ً‬
‫ال‪ ،‬وبهذا فقط يأمنون‬
‫الشيخ في إفساد راحتهم المغتصبة‪.‬‬
‫ن ََّف َذ التالميذ َّ‬
‫خطتهم‪ ،‬وحان موعد القراءة‪ ،‬وتب َّين الشيخ غياب‬
‫التالميذ‪ .‬وبعد البحث واالستقصاء استجلى الخبر‪ ،‬وعرف‬
‫التفاصيل‪ ،‬وتهامس الحاضرون من التالميذ باستسالم الشيخ‬
‫لألمر الواقع‪ ،‬وقالوا إنه ال يجد ح ّل ًا للقضية إال أن ينتظر الغد‬
‫يتخيلون العقاب‪ ،‬ويبتسمون ابتسامات خبيثة‬
‫ّ‬ ‫لعقابهم‪ ،‬وذهبوا‬

‫‪56‬‬
‫التحدي‬
‫ّ‬ ‫َف ِه َم الشيخ معناها‪ ،‬ولكن هذا الرجل الذي ال يقبل‬
‫فاجأهم بما لم يتو َّقعوه‪ ،‬فقام‪ ،‬لحينه‪ ،‬بتكليف أ كبر التالميذ‬
‫وتوجه إلى القرية المجاورة ماشي ًا على‬
‫ّ‬ ‫بمراقبة ُ‬
‫الك ّتاب‪،‬‬
‫قدميه‪ ،‬وعاد بالتالميذ في حالة يرثى لها من التعب والخذالن‪.‬‬
‫كان الشيخ عبد الباقي يقول إنه الوحيد الذي كسب من التعليم‪،‬‬
‫تمكن من شراء بساتين ودار لسكناه‪ ،‬وتز َّوج‬‫َّ‬ ‫وفع ً‬
‫ال‪ ،‬فقد‬
‫وأنجب أطفا ً‬
‫ال‪ ،‬ولكنه رغم كل ذلك لم ينقطع عن األعمال‬
‫اليدوية‪ ،‬فال زال يباشر خدمة بستانه بيده دون االلتجاء إلى‬
‫مساعدة أحد‪ ،‬والرجل يتم َّتع بقوة‪ ،‬ويتم َّتع بصحة‪ .‬وكان ذات‬
‫يوم يقوم ببناء جدار في بستانه بمساعدة بعض المحظوظين‬
‫من تالميذه؛ ألن المحظوظ هو الذي يختاره الشيخ لمساعدته‬
‫ّ‬
‫يحل المساء حتى ارتفع الجدار‪ ،‬وكان‬ ‫في أعماله‪ .‬وما كاد‬
‫الشيخ ال يحسن البناء‪ ،‬ولهذا لم يلبث هذا الجدار أن انهار‪،‬‬
‫الجبار عارضه بصدره العريض وساعديه المفتولين‬
‫ّ‬ ‫لكن الشيخ‬
‫يحاول إمساكه‪ ،‬وأغاظه أن ينهار عمله بين يديه‪ ،‬ولكن قوة‬
‫ّ‬
‫وانقض الجدار فوقه‪ ،‬فألزمه الفراش‬ ‫البناء تغ َّلبت على قوته‪،‬‬
‫أيام ًا‪ .‬وكانت آالم الهزيمة في نفسه أقوى من آالمه الجسمانية‬
‫ورضوضه الجسدية‪ ،‬ولهذا ما كاد يتماثل إلى الشفاء حتى َك َّلف‬

‫‪57‬‬
‫مساعده بالك ّتاب القرآني‪ ،‬وانقطع لتع ُّلم البناء حتى حذقه‪،‬‬
‫تخص بعض البنايات في‬
‫ّ‬ ‫بعدة مقاوالت‬
‫وأتقن فنونه‪ ،‬وقام ّ‬
‫القرية وخارجها إلى أن قهر البناء‪ ،‬وانتقم من الجدار الذي‬
‫ألزمه الفراش أيام ًا‪ ،‬ثم عاد إلى أعماله العلمية وابتسامة النصر‬
‫تعلو شفتيه‪.‬‬
‫تخ َّرج على يد الشيخ عدد وافر‪ ،‬نجحوا ك ّلهم في مختلف‬
‫ميادين الحياة‪ ،‬واستفادوا من عزيمته الحديدية وإرادته‬
‫الفوالذية أ كثر من استفادتهم من معلوماته‪ ،‬وكانوا جميع ًا‬
‫يحبونه ويحترمونه‪ ،‬ويخضعون له‪ ،‬كما كانوا في عهدة التلمذة‬
‫ّ‬
‫والطفولة‪ ،‬فلم يتغ َّير شيخهم في نظرهم‪ ،‬ولم يتغ َّيروا هم كذلك‬
‫في نظره رغم المناصب المختلفة التي أحرزوها‪ .‬كان الشيخ‬
‫وتحدث بها‬
‫ّ‬ ‫جد ًا‪ ،‬اش ُت ِهر بها‪،‬‬
‫عبد الباقي يتم َّتع بنفسية عالية ّ‬
‫همته ألحد‪ ،‬وال يلتجئ إلى كائن‬ ‫ّ‬
‫يحط ّ‬ ‫العام والخاص‪ ،‬فهو ال‬
‫من كان في قضاء حاجة أو طلب شيء مهما كانت حاجته‬
‫التوصل إليه بنفسه‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫شديدة إلى ذلك‪ ،‬فكل شيء ال يستطيع‬
‫وكل قضية تستدعي الوساطة (ولو وساطة أقرب الناس إليه)‬
‫ويعدها من الكماليات التي ال‬
‫ّ‬ ‫يلغيها‪ ،‬ويحكم بعدم لزومها‬

‫‪58‬‬
‫لزوم لها‪ ،‬ويحذفها من برنامج حياته مهما كانت ضرورية‪،‬‬
‫وحاجته إليها ماسة‪ ،‬وعاش بذلك عزيز ًا مُ َك َّرم ًا شامخ ًا بأنفه‬
‫إلى السماء‪ ،‬وال أدري بماذا كان ِ ّ‬
‫يفكر حينما أدركه الموت‪،‬‬
‫تحدي عزرائيل‪ .‬ولكن الذين شاهدوه في لحظاته‬ ‫ّ‬ ‫وكيف قابل‬
‫ّ‬
‫تدل على الرضا‬ ‫التحدي بابتسامة‬
‫ّ‬ ‫األخيرة‪ ،‬قالوا إنه َق ِب َل‬
‫واالطمئنان‪ ،‬ولسان حاله يقول‪ :‬اآلن أخضع وأنحني باحترام؛‬
‫حق ًا من يقهرني‪.‬‬
‫فقد القيت ّ‬

‫***‬

‫‪59‬‬
60
‫العم «نتيش»‬
‫ُّ‬

‫عرفت العم «نتيش» وكنت حينذاك أتم َّتع بريعان الشباب‪.‬‬


‫ّ‬
‫احتل مكاني بين زمرة من شباب القرية؛ حيث كنا نقضي‬
‫أيام عطلتنا المدرسية في اللهو واللعب والعبث البريء‪ ،‬وكان‬
‫ّ‬
‫تخطى عتبة الشباب‬ ‫العم الذي ال يتخ َّلف عن مجالسنا قد‬
‫بأعوام‪ ،‬وأخذ ينحدر مع السنين في منعرجات عقده الخامس‪،‬‬
‫فتي التفكير كثير المرح‪ ،‬ال يعبأ بمسؤوليات الحياة‬
‫ولكنه كان َّ‬
‫يفكر في غده‪ ،‬رغم أنه‬‫وتكاليفها الثقيلة‪ ،‬يقضي يومه وال ِ ّ‬

‫كان متز ِّوج ًا وله أطفال يطلبون منه التفكير في حاضرهم وفي‬
‫مستقبلهم‪.‬‬
‫كان رج ً‬
‫ال بدو ّي ًا‪ ،‬نشأ في البادية‪ ،‬وتربّى فيها‪ ،‬يكره المدن‪،‬‬

‫‪61‬‬
‫المعقدة‪ ،‬بل يكره كل شيء مُ َع َّقد في‬
‫ُّ‬ ‫ويمقت تكاليفها‬
‫الحياة‪ ،‬يهوى العيش البسيط‪ ،‬ويقنع منه بأتفه الزاد‪ ،‬يميل‬
‫الجد والعمل‪ ،‬فقد كان كسو ً‬
‫ال‬ ‫ّ‬ ‫إلى المرح واللهو‪ ،‬ويتب َّرم من‬
‫موهوب ًا‪ ،‬يعيش في أ كناف َع ّمه الذي استوطن الحاضرة منذ‬
‫متوسطة من عقار ومزارع‪ ،‬حاول عبث ًا‬
‫ِّ‬ ‫عهد طويل‪ ،‬وكوَّن ثروة‬
‫استغالل مزارعه وسير أعماله‪ ،‬مقابل ما يقوم به من تكاليف‬
‫عيشه وعيش عائلته‪ ،‬فكان يعيش معه في مشاكل ومعارك‬
‫عمه ذا حزم وعزم ونشاط‬
‫ال تعرف االنتهاء‪ ،‬فبقدر ما كان ّ‬
‫يستوجبها ثراؤه وأعمال مزارعه‪ ،‬كان نتيش كسو ً‬
‫ال ب َِرم ًا بكل‬
‫جدي مثمر‪ .‬يحلو له أن يقضي يومه في المقهى في لعب‬
‫عمل ّ‬
‫الورق و«الدومنة» في ج ّو من المرح والمزاح‪ .‬كان نتيش‬
‫نحبه ونستأنس به‬
‫ّ‬ ‫تقدم سنه‪ ،‬وكنا‬ ‫ّ‬
‫يحتل مكانته الفتية رغم ُّ‬
‫ِّ‬
‫نشجعه على التم ُّرد على‬ ‫للطفه وظرفه‪« .‬نتيش» كان وكنا‬
‫عمه‪ ،‬ونحثّه على عدم القيام بأي عمل يك ِّلفه به‪ ،‬وكم كان‬ ‫ِّ‬
‫يس ّره ذلك منا‪ ،‬ولهذا كان يلجأ إلينا ك ّلما ك ِّلفه ّ‬
‫عمه بإنجاز‬
‫عمل‪ ،‬وسريع ًا ما نجد له ح ّل ًا لمشكله (ح ّل ًا يرضيه طبع ًا)‪،‬‬
‫يتقدم به إلى ِ ّ‬
‫عمه‪ ،‬وينتهي كل شيء في رمشة‬ ‫َّ‬ ‫ونجد له عذر ًا‬
‫يقص علينا‬
‫ّ‬ ‫عين‪ ،‬وننتقل فور ًا إلى المزاح واللعب‪ ،‬ويروح‬

‫‪62‬‬
‫يقصها علينا بأسلوبه الساذج ولهجته‬
‫عمه‪ّ ،‬‬
‫مغامراته الكثيرة مع ّ‬
‫ِّ‬
‫ونشجعه على االستمرار‬ ‫البدوية‪ ،‬فكنا نضحك لها‪ ،‬ونطرب‪،‬‬
‫في مناوءة عمه والتم ُّرد على أوامره‪.‬‬
‫إنه الشباب سامحه الله وغفر ذنبه‪ ...‬وذات صباح‪ ،‬بينما‬
‫ك َّنا جالسين في مقهانا المعتاد نتجاذب أطراف األحاديث‬
‫والنكات‪ ،‬إذ قدم علينا العم نتيش بقامته فارعة الطول وهيكله‬
‫الم َج َّرد من اللحم‪ ،‬وما كاد يأخذ مجلسه بيننا حتى‬
‫النحيل ُ‬
‫ابتدرناه بالسؤال عن مشاكله ومغامراته مع ِ ّ‬
‫عمه‪ ،‬وابتسم‬
‫«نتيش»‪ :‬ابتسامة عريضة وقال‪« :‬الدعوة مط ّينة يالوالد‪.»..‬‬
‫«المطينة» فقال‬
‫ّ‬ ‫وألححنا عليه في محادثتنا عن هذه المسألة‬
‫بهدوء وبساطة‪ :‬زارني البارحة جماعة نصف الليل! وجماعة‬
‫العم هم اللصوص‪ ،‬قال‪ :‬كنت البارحة‬
‫ّ‬ ‫نصف الليل في لغة‬
‫وحدي في المنزل‪ ،‬حيث قضت زوجتي واألطفال ليلتهم عند‬
‫عمي‪ ،‬كنت مستلقي ًا في فراشي أتص َّيد الكرى‪ ،‬إذ الحظت في‬
‫عما غال ثمنه‪،‬‬
‫لص ْي ِن يتجوّالن في غرفتي باحث َْين ّ‬
‫غسق الليل َّ‬
‫وخ ّ‬
‫ف وزنه‪ .‬ولكن‪ ،‬مع األسف ماذا يملك نتيش سوى قدر‬ ‫َ‬
‫من الطين وقصعة من خشب‪ ،‬والمؤونة تأتينا يوم ًا بعد يوم‬
‫من دار عمي موزونة بميزان الذهب‪ ،‬ال تزيد درهم ًا واحد ًا‬

‫‪63‬‬
‫عن حاجتنا‪ .‬وكنت أنظر إليهما ‪ -‬وضوء المنور ساطع على‬
‫وجهيهما ‪ -‬فقد كانا مطمئنين يظنان المنزل خالي ًا‪ ،‬ولكن‬
‫عالمات الحسرة كانت بادية عليهما بوضوح‪ ،‬وأغاظني أن‬
‫بخ ّفي حنين‪ ،‬فن َّبهتهما إلى ملحفة جديدة‬
‫يعودا من حيث أتيا ُ‬
‫من الصوف كانت في ركن خفي من أركان الغرفة لم ينتبها‬
‫ُ‬
‫وطلبت منهما أال يعودا إلى أمثال هذه المنازل الفقيرة‬ ‫إليها‪،‬‬
‫الخالية‪ ،‬ومنزل عمي‪ ،‬على مقربة من هنا‪ ،‬زاخر بمختلف‬
‫لص ْين‬
‫األرزاق والخيرات‪ ...‬قلنا له‪ :‬كيف تفعل ذلك وتُناول ّ‬
‫عمي استعرته‬
‫غطاءك وغطاء أهلك؟ فضحك وقال‪ :‬إنه ملك ّ‬
‫منه‪ ،‬وما يضيره أن يصير في يد غيره‪ ،‬وألي شيء تنفع أمواله!‬
‫عمه تعلو شفتيه‪.‬‬
‫قالها بكل بساطة‪ ،‬وابتسامة االنتصار على ّ‬
‫كان لنتيش غريم اسمه زيان‪ ،‬يكرهه كل الكره‪ ،‬ال لسبب أو‬
‫داع‪ ،‬وإنما كان يكرهه لوجه الله‪ ،‬كما يقول حينما نسأله عن‬
‫ٍ‬
‫األسباب والدواعي‪ .‬كانت إحدى سا َق ْي زيان مستعارة من‬
‫خشب؛ إذ فقد ساقه األصلية في حادث اعتداء لصوص على‬
‫مزرعة لعم نتيش كان يقوم بحراستها‪ ،‬وكان السبب الحقيقي‬
‫لكره نتيش له‪ ،‬أنه أضاع ساقه من أجل أموال عمه‪ ،‬ولهذا‬
‫ينتقده‪ ،‬ويصفه بال َب َله‪ ،‬ويقول‪ :‬إني‪ -‬والله‪ -‬ال أسمح بضياع‬

‫‪64‬‬
‫شعرة من رأسي من أجل أموال الدنيا كلها‪ .‬ويستم ّر في انتقاد‬
‫زيان فيقول‪ :‬أتظنوني مثل ذلك األبله الذي فقد ساقه من‬
‫أجل كيس من الشعير ينتفع به غيره؟ فماذا كانت فائدته‪،‬‬
‫سوى ساق من الخشب‪ ،‬يكسر بها بالط المساجد‪ ،‬ويزعج بها‬
‫عباد الله اآلمنين؟! قلنا‪ :‬لو كنت مكانه‪ ،‬أال تفعل مثله؟ قال‪:‬‬
‫هيهات! وال أذهب بكم بعيد ًا‪ ،‬فقد أرغمني ّ‬
‫عمي‪ -‬في السنة‬
‫عماله في حراسة الحبوب في البيدر‪،‬‬
‫الماضية‪ -‬على مشاركة ّ‬
‫وكان بعضها صافي ًا نق ّي ًا‪ ،‬ينتظر نقله إلى المخازن‪ ،‬والبعض‬
‫مختلط ًا ِب ِت ْب ِنه ينتظر هبوب الرياح المواتية لتصفيته‪ .‬وكنا نتناوب‬
‫الحراسة‪ .‬وجاء دوري‪ ،‬وكأن اللص لم يكن ينتظر إال ذلك‪.‬‬
‫قلنا مقاطعين‪ :‬إن اللصوص يعرفون‪ -‬من دون شك‪ -‬تقديرك‬
‫لهم وعطفك عليهم؟ ابتسم واسترسل يقول‪ :‬وما كاد يستغرق‬
‫لص ًا‬
‫اآلخرون في النوم حتى شاهدت ‪ -‬على ضوء النجوم ‪ّ -‬‬
‫يتقدم بخطوات بطيئة نحو البيدر‪ ،‬ولبالهته ترك القمح النقي‬
‫ّ‬
‫المصفى‪ ،‬وقصد كوم ًا من الشعير المختلط بالتبن‪ ،‬فقلت له‪:‬‬
‫ّ‬
‫ال تنزعج! دونك القمح النقي‪ ،‬امأل منه كيسك واذهب بسالم‪.‬‬
‫وال أدري كيف انتبه أحد النائمين إلى ذلك‪ ،‬فأيقظ اآلخرين‬
‫واضط ّر المسكين إلى الفرار خالي الوفاض‪ .‬قلنا‪ :‬وكيف كان‬

‫‪65‬‬
‫علي‪ ،‬ولكني أجبته‬
‫ّ‬ ‫عمك من عملك هذا؟ قال‪ :‬سخط‬
‫موقف ّ‬
‫إني ال أريد أن أشارك زيان األبله في إزعاج خلق الله بساق‬
‫من الخشب‪ ،‬أجني لعنات الناس من أجل كيس من القمح‬
‫ينفع هذا المسكين‪ ،‬وال يؤ ِ ّثر على ثروته شيئ ًا‪ .‬قلنا له‪ :‬إنك‬
‫ِّ‬
‫وتشجعهم على أعمالهم الشائنة‪ ،‬وهذا‬ ‫تعطف على اللصوص‪،‬‬
‫ال يليق بك‪ .‬وكان جوابه‪ :‬إن اللصوص مخلوقات مثلنا‪ ،‬لهم‬
‫ّ‬
‫الحق في الحياة والعيش‪ ،‬جعل الله رزقهم من أموال الذين ال‬
‫حق الله من الزكاة‪ .‬وكان نتيش يعتقد اعتقاد ًا جازم ًا‬
‫يدفعون ّ‬
‫أنه ال يُس َرق إال الذي ال يدفع ّ‬
‫حق لله من ماله‪ .‬قلنا له‪ :‬لكنها‬
‫مهنة غيرشريفة وغير مشروعة‪ .‬قال‪ :‬وما ذنبهم؟ إن الله خلقهم‬
‫وخلقها وجمع بينهم‪ .‬قلنا‪ :‬ستستم ّر‪ -‬إذ ًا‪ -‬في الدفاع عنهم‬
‫ِّ‬
‫سأشجعهم على‬ ‫والعطف عليهم وتشجيعهم؟ قال ضاحك ًا‪:‬‬
‫عمي كلها‪ ،‬ما دام ال يحسن االنتفاع بها‪.‬‬
‫نهب أموال ّ‬
‫عمه قادر ًا على‬
‫عمه‪ ،‬فلم يعد ّ‬
‫وساءت األحوال بينه وبين ّ‬
‫احتماله‪ ،‬ففارقه‪ ،‬وعاد نتيش إلى باديته يعيش بين عشيرته‬
‫كما يحلو له أن يعيش تارك ًا لنا فراغ ًا عظيم ًا‪ ،‬وذكريات عذبة‪.‬‬

‫***‬
‫‪66‬‬
67
68
‫الس ِّكير‬
‫ِّ‬

‫إنه َل ِس ّكير عجيب‪ ،‬ال يشبه غيره من مدمني الخمور؛ ألن الخمر‬
‫ال تبعث في نفسه الغبطة والسرور‪ ،‬كما تفعله عادة في نفوس‬
‫ّ‬
‫السكيرين‪ ،‬بل تثير في نفسه الحسرة والندم‪ ،‬فيغدو‬ ‫غيره من‬
‫يتوجع وينتحب‪ ،‬ودمعه منهمر على خديه كالطفل المذنب‪.‬‬
‫ّ‬
‫تع ّرفت إلى هذا الرجل بعد هذه الحرب األخيرة‪ ،‬وقد كنت‬
‫أهلية‪ ،‬وكانت صلة الوصل‪ ،‬بيني وبينه‪ ،‬ابنته‬
‫ّ‬ ‫مدير ًا لمدرسة‬
‫التي كانت تتع َّلم في مدرستي‪ .‬كان الرجل والد ًا‪ ،‬والد ًا‬
‫رحيم ًا‪ ،‬إذ كانت له طفلة جميلة في الثامن من عمرها‪ ،‬كأنها‬
‫يحبها‬
‫ّ‬ ‫مالك‪ ،‬يفيض وجهها الصبوح بأنوار الطهر والبراءة‪،‬‬

‫‪69‬‬
‫حب ًا عنيف ًا طاغي ًا‪ّ ،‬‬
‫يحبها َح ّد العبادة‪ ،‬ولهذا كانت سبب‬ ‫والدها ّ‬
‫سعادته وسبب شقائه في الوقت نفسه‪ .‬كانت تلك الطفلة ‪-‬‬
‫واسمها حورية ‪ -‬سبب سعادة لوالدها؛ ألنه كان يعيش لها‬
‫وحدها‪ ،‬يعيش من أجلها‪ ،‬يحيا لها وبها‪ ،‬ال يشاركها في قلبه‬
‫وعواطفه شريك ال بعيد وال قريب‪ ،‬فهي كل آماله وأمانيه‬
‫في الحياة‪ .‬فقدت حورية والدتها وهي صبية في المهد‪،‬‬
‫فقام والدها مقام األم واألب‪ ،‬فأحاطها بح ّبه وعطفه وحن ِّوه‪،‬‬
‫البنية كل جزء من قلبه وروحه‪ ،‬فأصبحت تشغل كل‬
‫ّ‬ ‫واحت َّلت‬
‫َّ‬
‫ويتعذب ألقل ألم يصيبها‪ ،‬كانت تمأل‬ ‫حياته‪ ،‬ي َُس ّر البتسامتها‪،‬‬
‫دنياه بالسعادة والسرور‪ .‬يقودها كل يوم بنفسه إلى المدرسة‪،‬‬
‫ويعود بها عقب الدرس صباح ًا ومساء في مواعيد محدودة‬
‫دقيقة ال يتخ َّلف عنها أبد ًا‪ ،‬وال يعوقه عائق‪ -‬مهما كان‬
‫جسيم ًا‪ -‬عن مرافقتها في غدوّها وفي رواحها‪ .‬كان هذا الوالد‬
‫بحب ابنته ّ‬
‫سكير ًا مدمن ًا على شرب الخمور‪ ،‬ال‬ ‫ّ‬ ‫الرحيم المد ّله‬
‫يكاد يفارق عمله مساء كل يوم حتى تقوده رجاله إلى أقرب‬
‫فيعب من الخمر إلى أن تمتلئ بطنه‪ ،‬ويغيب عقله‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫خمارة‪،‬‬
‫ويفتكر حينئذ بنته وهي في مدرستها تنتظر قدومه ليعود بها‬
‫إلى المنزل‪ ،‬فيثور ضميره مؤنّب ًا‪ ،‬ويستعظم جرمه‪ ،‬ويصير‪ -‬وهو‬

‫‪70‬‬
‫تحت تأثير الخمر‪ -‬ينتحب كالطفل الصغير‪ ...‬كيف يقابل‬
‫ابنته المحبوبة ومالكه الطاهر وهو على ما هو عليه من الخزي‬
‫والعار؟‬
‫شاهدته ألول مرة وقد كان جالس ًا على مقربة من مديري إدارة‬
‫المدرسة‪ ،‬جالس ًا في هدوء وسكون‪ ،‬وعيناه تذرفان الدموع‪،‬‬
‫فأدهشني أمره‪ ،‬وكأنه انتبه لما أنا فيه من الدهشة والحيرة‪،‬‬
‫فابتدرني قائ ً‬
‫ال‪ :‬أنا والد حورية‪ .‬قلت‪ :‬نعم‪ ،‬مرحب ًا بك‪ .‬قال‪،‬‬
‫وهو مسترسل في البكاء‪ :‬هل يجوز لمن كانت له ابنة مثل‬
‫ُ‬
‫حرت في‬ ‫حورية تدرس العلم الشريف‪ ،‬أن يشرب الخمر؟‬
‫الجواب‪ ،‬وعلمت أني أمام رجل مخمور‪ .‬ولم ينتظر جوابي‪،‬‬
‫ِّ‬
‫متقطع يشوبه البكاء والنحيب‪:‬‬ ‫بل استرسل يتك َّلم بصوت‬
‫كيف أقابلها؟ هل أجرؤ على رؤيتها ومقابلتها وأنا على هذه‬
‫الحالة اللعينة؟ ال‪ ...‬ال أستطيع أن ألمس يدها الطاهرة بيدي‬
‫تحمل‬
‫ُّ‬ ‫النجسة‪ .‬ما أشقاني‪ ،‬وما أتعسني! إني ال أقوى على‬
‫المقدسة‪ ،‬وأنا كالخنزير تفوح رائحة الخمور‬
‫َّ‬ ‫نظرتها الطاهرة‬
‫ِّ‬
‫أخفف عنه آالمه‪ ،‬وأه ِّون عليه خطبه‪،‬‬ ‫من فمي‪ .‬أخذت‬
‫ودعوته لالنصراف إلى منزله ما دام ال يرغب في رؤية ابنته‬
‫وهو على هذه الحالة‪ ،‬ووعدته بتكليف أحد التالميذ الكبار‬

‫‪71‬‬
‫بمرافقتها‪ ،‬فما عليه إال أن يك ّلف من يستقبلها من جيرته‬
‫أطمئن عليها‬
‫ّ‬ ‫وذويه‪ ،‬وصاح الرجل قائ ً‬
‫ال‪ :‬ال‪ ...‬ال‪ ...‬إني ال‬
‫وهي برفقة تلميذ‪ ،‬إني أخشى عليها من السيارات‪ .‬وما كان‬
‫مني إال أن طمأنته‪ ،‬ووعدته بمرافقتها بنفسي إلى المنزل‪.‬‬
‫فرح الرجل‪ ،‬وأخذ يهذي بخليط من كلمات الشكر والحمد‪،‬‬
‫وانصرف يتأرجح في مشيته‪.‬‬
‫استم ّر الرجل على هذه الحالة جاع ً‬
‫ال من نفسه ميدان ًا لمعركة‬
‫فتشن‪ ،‬تارة‪ ،‬جيوش الخير‬
‫ّ‬ ‫عنيفة بين عوامل الخير والشر‪،‬‬
‫ّ‬
‫ويكف الرجل عن‬ ‫البنية‪ ،‬فتنتصر‬
‫ّ‬ ‫حب هذه‬
‫ّ‬ ‫غارتها يقودها‬
‫تناول الخمر أيام ًا يقضيها سعيد ًا بابنته راضي ًا عن نفسه‪ ،‬ثم‬
‫ِّ‬
‫المتمكن‬ ‫تعيد جيوش الشر غارتها‪ ،‬يناصرها جرثوم الخمر‬
‫ويشجعها رفقة السوء من روّاد الحانات وعشّ اق‬
‫ّ‬ ‫من نفسه‪،‬‬
‫الس ْكر‪ ،‬ويعود إلى البكاء والنحيب‪ ،‬ويعود‬
‫الرحيق‪ ،‬فيعود إلى ُّ‬
‫يحبها‬
‫ّ‬ ‫ضميره إلى التأنيب‪ ،‬وكل ذلك من أجل ابنته التي‬
‫إلى َح ّد العبادة‪ ،‬ويسوءه أن تنتسب إلى والد ّ‬
‫سكير قذر‪ ،‬إنه‬
‫الس ْكر‪ ،‬ال خوف ًا من الله‪ ،‬وال حياء‬
‫يريد أن يقلع عن رذيلة ُّ‬
‫ّ‬
‫يحط من‬ ‫البنية؛ ألن ذلك‬
‫ّ‬ ‫من المجتمع‪ ،‬ولكن من أجل هذه‬
‫كرامتها‪ ،‬ويُنقص من قيمتها‪ .‬وهو يريدها كاملة ال تشوبها‬

‫‪72‬‬
‫شائبة نقص‪.‬‬
‫ّ‬
‫السكير في‬ ‫ُ‬
‫وتركت‬ ‫ُ‬
‫تركت المدرسة في نهاية السنة الدراسية‬
‫صراعه العنيف مع نفسه‪ ،‬وإني ال أدري إذا ما تغ َّلب جانب‬
‫تشعه من أنوراها في‬
‫ّ‬ ‫الفضيلة الذي تحميه ابنته حورية بما‬
‫دنياه المظلمة‪ ،‬أو تغ ّلب جانب الرذيلة الذي تناصره شهوة‬
‫النفس وإغراء رفقة السوء‪.‬‬

‫***‬

‫‪73‬‬
74
‫رجل من الناس‬

‫يسمون أنفسهم ‪ -‬هم عبارة عن نفر‬


‫ّ‬ ‫«زمرة األصدقاء» كما‬
‫وحدت بينهم فضائلهم‪ ،‬ألن‬
‫من الشبان من أوساط الشعب‪َّ ،‬‬
‫الفضائل‪ -‬وحدها‪ -‬هي التي تستطيع أن ِ ّ‬
‫توحد بين القلوب‬
‫توحيد ًا متين ًا ال يقوى االنفصام على زعزعة أركانه‪ ،‬وجمعهم‬
‫اتّحاد مشاربهم ونبل مقاصدهم‪ ،‬وآخى بينهم صفاء قلوبهم‬
‫ورقة عواطفهم‪ ،‬فأصبحوا مث ً‬
‫ال لألخوّة الصادقة‪ ،‬والصداقة‬ ‫ّ‬
‫الخالصة‪ ،‬ورمز ًا عظيم ًا للمحبة والوفاء‪ ،‬تجمعهم كل يوم بعد‬
‫انتهاء أعمالهم‪ ،‬مجالس األنس والسرور‪ ،‬ال يكاد يغيب واحد‬
‫ّ‬
‫وتفقدوه‪ .‬كان خالد ‪ -‬الذي ال يفارقهم‬ ‫منهم إال افتقدوه‬

‫‪75‬‬
‫أبد ًا‪ ،‬وال يتخلف عن مجلسهم ‪ -‬رج ً‬
‫ال غريب الديار يعرفون‬
‫أنه نزح إلى هذه البالد منذ سنين بمفرده‪ ،‬وكل ما يعرفون‬
‫ِّ‬
‫يحدثهم عنها‬ ‫عنه أنه أعزب‪ ،‬وجاء من بالد نائية لم يشأ أن‬
‫طيلة ا ِ ّتصاله بهم‪ ،‬وأنه «رجل من الناس» ال أكثر وال أقل‪،‬‬
‫كما يقول عن نفسه‪ ،‬كلما سأله أحد عن أصله وموطنه‪ .‬ولم‬
‫يخطر يوم ًا على بال أحدهم أن ّ‬
‫يلح عليه في الكشف عن‬
‫ماضيه‪ ،‬مكتفي ًا بحاضره‪ ،‬وقد ملك الرجل عليهم مشاعرهم‬
‫بلطفه وأدبه وعطفه وكرمه‪ ،‬وأنه «رجل من الناس»‪ ،‬وحس ُبهم‬
‫ذلك‪ ،‬ويعلمون‪ -‬فوق ذلك‪ -‬أنه عامل مثلهم‪ ،‬يشتغل بالكتابة‬
‫عند تاجر جشع بمرتَّب زهيد‪ ،‬رغم سعة معلوماته وكرم أخالقه‬
‫ويحس الجميع بتأ ّلمه من حقارة‬
‫ّ‬ ‫وإخالصه في عمله الكثير‪،‬‬
‫مركزه وضآلة مرتبه الذي يوزِّ ع ج ّله على الفقراء والمساكين‪،‬‬
‫ولم يعرفوه يوم ًا ر ََّد سائ ً‬
‫ال‪ ،‬أو اشتكى لهم الفاقة واالحتياج‪،‬‬
‫فاالبتسامة ال تكاد تفارق شفتيه‪ ،‬فهو دائم ًا في مرح وسرور‪،‬‬
‫يمازح هذا‪ ،‬ويحادث هذا‪ ،‬يسأل ذا‪ ،‬ويجيب اآلخر‪ .‬وهكذا‬
‫ّ‬
‫يلتفون حوله كل مساء‬ ‫كان نزهة مجلسهم وأنس حياتهم‪،‬‬
‫ّ‬
‫ويظل يحادثهم ويباسطهم‪ ،‬والجميع سابحون‬ ‫فيتصدر جمعهم‪،‬‬
‫َّ‬
‫في ج ّو مرح‪ ،‬كله غبطة وسرور‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫كان الناس ينظرون إلى هذا النفر من األصدقاء نظرات مختلفة؛‬
‫فمنهم المعجب بهذه الصداقة وهذا االئتالف‪ ،‬ومنهم الحاسد‬
‫المودة‪ ،‬وكم حاولت جيوش الحسد‪-‬‬
‫ّ‬ ‫على هذا الصفا وهذه‬
‫بغارتها الشعواء‪ -‬أن ِ ّ‬
‫تفكك عرى صداقتهم! وكم حاولت ألسنة‬
‫السوء أن تش ِ ّتت جمعهم دون جدوى! ولم يزدهم كالم الناس‬
‫إال ابتعاد ًا عن الناس وصحب ًة وارتباط ًا‪ ،‬ولم تزدهم محاوالت‬
‫والمودة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الحساد إال توطيد ًا لدعائم الصداقة‬
‫شاب في العقد الثالث من عمره‪ ،‬يتم َّتع بثقافة‬
‫ّ‬ ‫«خالد»‬
‫حظ ًا وافر ًا‪ ،‬سليم الطبع‪ ،‬حلو‬
‫متوسطة جامعة‪ ،‬أخذ من كل فن ّ‬
‫ّ‬
‫همة عالية وأخالق فاضلة‪ ،‬تعلو‬
‫الفكاهة‪ ،‬كريم النفس‪ ،‬ذو ّ‬
‫شفتيه ابتسامة عذبة ال تكاد تفارقه إال إذا خال إلى نفسه‪،‬‬
‫وتعمق في بحور أفكاره‪ ،‬فتغمره سحابة من الكآبة والحزن‬
‫َّ‬
‫أشد حاالت‬
‫ّ‬ ‫ال يعرف أحد مصدرها‪ .‬وكثير ًا ما تجده في‬
‫السرور‪ ،‬إذا به ينتقل فجأة إلى حالة حزن وكآبة‪ ،‬ويغيب‬
‫بفكره عن جماعته‪ ،‬فينتبهون لذلك‪ ،‬ويصيح الجميع مازحين‪:‬‬
‫كم عدد البواخر التي غرقت لك في البحار يا خالد؟ َع ّلها‬
‫كانت تحمل بضاعة كثيرة؟ وينتبه خالد من غفوته‪ ،‬ويعود‬
‫فيرد على النكتة بأحسن منها‪ ،‬ثم تسمع‬
‫ّ‬ ‫إلى نفسه ومجلسه‪،‬‬

‫‪77‬‬
‫ّ‬
‫«صفارة‬ ‫سعلته الخفيفة المعتادة‪ ،‬التي يسميها جماعته‬
‫اإلنذار» يرسلها كلما أراد الخوض في أمر معهم‪ ،‬فينقلب‬
‫الجد‪ ،‬ويفتح الجميع قلوبهم‬
‫ّ‬ ‫المجلس بغتة من المزاح إلى‬
‫وآذانهم كأنهم تالميذ ُس ّذج‪ ،‬ويبتدرهم خالد بقوله‪ :‬إني ال‬
‫وأهتم بأموري الخاصة‬
‫ّ‬ ‫أفكر في نفسي‪ -‬يا إخواني‪-‬‬ ‫أ كاد ّ‬

‫بقدر ما أفكر في مصائب الغير وأحوالهم التعيسة‪ ،‬فكل شيء‬


‫في هذه الدنيا ينسيني أحزاني وآالمي‪ ،‬تحزنني هذه الفضيلة‬
‫لب‪ ،‬مظهر ًا دون مخبر‪ ،‬أصبحت ز ّي ًا‬
‫التي أصبحت قشور ًا دون ّ‬
‫يتزيّن به اإلنسان أمام الناس‪ ،‬ويخلعه إذا ما خال إلى نفسه‪،‬‬
‫وبذلك أضاف اإلنسان رذيلة النفاق إلى رذائله العديدة؛‬
‫أصبحت الفضيلة أثاث ًا ماد ّي ًا يرثه االبن عن أبيه‪ ،‬ويشتريه ذو‬
‫المال بثمن زهيد‪ ،‬فلم تعد الفضيلة شعار ًا سامي ًا ِ ّ‬
‫يردده كل‬
‫من عصمه الله من الرذائل‪ ،‬فمسخت الفضيلة غير الفضيلة‬
‫وانتزعت روحها‪ ،‬فلم َ‬
‫يبق سوى جثمانها جثة هامدة ال روح‬
‫لها وال إحساس‪ ...‬وهكذا يسترسل خالد في تحليل مساوئ‬
‫المجتمع ونقده‪ ،‬وإبداء نظرته إلى الحياة‪ ،‬وجماعته يؤمنون‬
‫شاذ ًا عن هذه البيئة التي ُق ِ ّدر له أن يعيش‬
‫بقوله‪ ،‬وبدا‪ ،‬بذلك‪ّ ،‬‬
‫فيها‪ ،‬وزد على ذلك صراحته التي ُعرف بها‪ ،‬والتي كثير ًا ما‬

‫‪78‬‬
‫تحرج قلوب بعض الناس الذين تجمعه الظروف بهم‪ ،‬رغم‬
‫محاوالته‪ -‬دائم ًا‪ -‬االبتعاد عن هذه الطائفة من العباد الذين‬
‫ال تحلو لهم الحياة إال في َج ّو من النفاق والكذب‪ ،‬وربما‬
‫خرجت به هذه الصراحة إلى َح ّد أنها سببت له متاعب مادية‬
‫وأدبية ال يُح َتفل بها وال يُل َت َفت إليها‪ .‬هكذا عاش هذا «الرجل‬
‫من الناس» مع الناس وشاع خبره بينهم‪ ،‬فرغب البعض في‬
‫التعرف إليه واالتصال به‪ ،‬بينما زهد آخرون في االجتماع‬
‫به مكتفين بما يشاع عنه من خير وشر‪ ،‬أما هو فقد اكتفى‬
‫بجماعته البسيطة ال يريد عنهم بدي ً‬
‫ال‪ ،‬ولكن كل ذلك لم يمنع‬
‫الناس من التساؤل عن أصل هذا الرجل العجيب‪ ،‬مدفوعين‬
‫بدافع الفضول‪ ،‬فمن أين أتى؟ وإلى ّ‬
‫أي عائلة ينتمي؟ وفي‬
‫حدة‬ ‫ّ‬
‫أي بلد نشأ؟ ولم يجرؤ أحد منهم على سؤاله‪ ،‬فإن ّ‬
‫وحدة أعصابه أخرستا ألسنة الفضوليين‪ .‬وعاش خالد‬
‫ّ‬ ‫لسانه‬
‫في أ كناف هذا الغموض كما أراد واشتهى‪ ،‬واستمرت حياته‬
‫متتالية متشابهة ال يكاد يختلف يومه عن غده‪ ،‬راضي ًا بمصيره‬
‫ال يتب َّرم وال يشتكي‪ ،‬قانع ًا بمدخوله الزهيد وحجرته المتواضعة‬
‫ومجتمعه البسيط‪ .‬وذات يوم زار زائر أجنبي خالد ًا‪ ،‬علم به‬
‫كل من في البلدة‪ ،‬رغم أن زيارة الرجل القريب كانت حقيقة‬

‫‪79‬‬
‫مقتضبة وفي ليلة حالكة الظالم‪ ،‬أشاع خبرها جار لخالد‪ ،‬لم‬
‫يتعوّد منه استقبال زوار في حجرته ال لي ً‬
‫ال وال نهار ًا‪ ،‬وذهب‬
‫الناس يتساءلون عن هذا الزائر وعن أسباب زيارته‪ ،‬ولزم خالد‬
‫الصمت فلم يذكر شيئ ًا قلي ً‬
‫ال أو كثير ًا عن هذه الزيارة‪ ،‬ولم‬
‫يشأ الخاصة من أصدقائه أن يستوضحوه أمره ما دام رغب هو‬
‫في الكتمان‪ ،‬ثم إنهم لم يتعوَّدوا منه أن يدخلهم في شؤونه‬
‫الخاصة‪ .‬رغم أنهم الحظوا عليه تبدي ً‬
‫ال واضح ًا‪ ،‬حيث أصبح‬
‫الرجل في وجوم متواصل‪ ،‬يتك َّلف االبتسام والدعابة‪ .‬وبدأ‬
‫جلي ًا‪ ،‬مما يدل على أنه يقاسي‬
‫الشحوب على قسمات وجهه ّ‬
‫أزمة شديدة يخفي أمرها على الجميع‪ ،‬ولكن‪ ،‬راعهم منه أنه‬
‫يغير من عاداته ومجالسه وأحاديثه شيئ ًا‪ ،‬واستم ّر على هذه‬
‫لم ِ ّ‬
‫الحالة أيام ًا عديدة كانت بالنسبة له قرون ًا طويلة ال نهاية لها‪،‬‬
‫يعد دقائقها وثوانيها‪ .‬وذات صباح علمت البلدة كلها بخبر‬
‫ّ‬
‫الشرطي الس ّري الذي ألقى القبض على خالد‪ ،‬ونقله معه في‬
‫يتكهنون‬
‫َّ‬ ‫سيارته إلى حيث ال يدرون‪ .‬وغدا الناس أيام ًا‪ ،‬وهم‬
‫محاولين كشف السر ومعرفة جرمه‪ :‬فمن قائل إنه جاسوس‬
‫يعمل لحساب دولة أجنبية‪ ،‬وأجاب آخرون‪ :‬إن الجاسوس‬
‫ال يلزم بلدة صغيرة سنوات عديدة‪ ،‬لم يُعرف عنه أنه فارقها‬

‫‪80‬‬
‫منذ استوطنها‪ .‬وقال آخرون إنه مجرم أثيم‪ ،‬يتس َّتر تحت رداء‬
‫الفضيلة وحمايتها‪ .‬غير أن الذين عرفوه واتَّصلوا به عن كثب‬
‫ردوا عنه هذه التهمة‪ ،‬واستبعدوا منه صدور الجريمة‪ ،‬وذلك‬
‫لما يعرفون فيه من األخالق الفاضلة والعواطف السامية‪.‬‬
‫التكهنات والتخ ُّيالت‪ ،‬ولكن أحد ًا لم يستطع أن‬
‫ُّ‬ ‫وهكذا كثرت‬
‫وتوصل إلى معرفة الس ّر الخفي‪.‬‬
‫َّ‬ ‫يجزم أنه أصاب كبد الحقيقة‪،‬‬
‫ومرت األيام‪ ،‬و َأ َ‬
‫سدل النسيان ستائره على حادث خالد‪ ،‬فنسيه‬
‫الناس‪ ،‬حتى الخاصة من أصدقائه وجلسائه‪ ،‬وانتقل الجميع‬
‫جدة وطرافة‪ .‬وهكذا‬
‫من الحديث عنه إلى أحاديث أخرى أ كثر ّ‬
‫عاش «رجل من الناس» بينهم لغز ًا غامض ًا دون أن يترك لهم‬
‫لح ّل طلسمه الغامض الخفي‪.‬‬
‫مفتاح ًا َ‬

‫***‬

‫‪81‬‬
82
‫فقاقيع األدب‬

‫من نكد العربية واألدب العربي في هذه البالد أن ن ََك َبهما‬


‫المتطفلين المغرورين‪ ،‬وجدوا الميدان خالي ًا‬
‫ِّ‬ ‫الزمان ببعض‬
‫ال حسيب وال رقيب‪ ،‬واتَّسعت لهم أعمدة الصحف تشجيع ًا‬
‫لهم‪ ،‬فغ َّرهم هذا التشجيع وظ ّنوها عروش األدب وقد اعتلوها‪،‬‬
‫فتنكبوا عن جادة األدب الصحيح‪ ،‬وانحرفوا عن صراطه‬ ‫َّ‬
‫َّ‬
‫وعكروا منهله الصافي‪ .‬حيث ذهبوا يف ّلون قمامات‬ ‫المبين‪،‬‬
‫الصحف والمجالت‪ ،‬يلتقطون منها بعض التعاريف الشاذة‪،‬‬
‫والرطانات النابية‪ ،‬يتشدقون بها في مجالسهم ثم يقحمونها‬
‫في مقاالت يش ِّوهون بها صحائف األدب الناصعة‪ ،‬وينكبون‬

‫‪83‬‬
‫بها القراء‪ ،‬ويأخذ القارئ البسيط يقرأ ويعيد‪ ،‬وهو ال يفهم‬
‫شيئ ًا‪ ،‬في ّتهم فهمه‪ ،‬وي ّتهم ذوقه وهو ال يدري أن هؤالء الك َّتاب‬
‫أنفسهم ال يفهمون مما يكتبون شيئ ًا‪ ،‬وال يوجد في ّ‬
‫طياتها ما‬
‫يتط َّلب الفهم‪.‬‬
‫األدب العربي أدب األسلوب السلس والمعنى المتين‪ ،‬أدب‬
‫صلة إلى هذه الشقشقة الغامضة‬ ‫ّ‬
‫يمت ِب ِ‬ ‫البيان والتبيين‪ ،‬ال‬
‫ِّ‬
‫وأقدم إلى‬ ‫المخ َّنثة التي ُأغرم بها هؤالء الفقاقيع أيّما غرام‪.‬‬
‫القارئ أنموذج ًا من هذا اللون من األدب الملتوي‪ .‬وال تحاول‬
‫أيها القارئ أن تفهم منه شيئ ًا‪ ،‬فهو فارغ ال يحتوي على مادة‬
‫ُفهم‪.‬‬ ‫ت َ‬
‫ُهضم أو معنى ي َ‬
‫قال أحد فقاقيع األدب لزميله‪ ،‬وقد جمعتهما ندوة ندية‪،‬‬
‫كتشدقه‬
‫ُّ‬ ‫يتشدق بمضغها‬
‫ّ‬ ‫وكان كل منهما يلوك ِلبانة أميركية‬
‫بمضغ كلماته‪ :‬ما قولك في السم ّو الفني يا عزيزي؟ فأجابه‬
‫عزيزه قائ ً‬
‫ال‪ :‬ال يستقيم السم ّو الفني في خمائله الفينانة إال‬
‫إذا كان نتيجة إيجابية مشرقة الجانب التصويري‪ ،‬تمتاز بروح‬
‫التعمق‪ ،‬بعيدة عن طابع السطحية‪ ،‬ال سيما إذا كان الصدق‬
‫ُّ‬
‫العاطفي أبرز معانيه‪ ،‬والطابع النفسي هو مقياس الجمال‬
‫في فلسفته الماورائية‪ .‬أما التج ّلي الالمع الذي تبدو طقوسه‬

‫‪84‬‬
‫جلية في معبد الجمال فال تستقيم قدسيته إال إذا اتّصل‬
‫الب ّراقة ّ‬
‫طرفه بالذوق الذاتي‪ ،‬وإن كان هذا األخير إكالسيكية حديثة‬
‫من أبرز معاني «الرصيد الفني» الذي ي َُع ّد اليوم من أخصب‬
‫عناصر األدب الحديث وخصائصه األصلية‪ .‬ورفع الثاني طرف‬
‫جبته‪ ،‬واستوى في مقعده وقال‪ :‬هذا ّ‬
‫حق يا عزيزي‪ ،‬ولكن‬ ‫ّ‬
‫الرومنتيكية التي تتج ّلى بوضوح في نفثات بعض ك ّتابنا‪ ،‬يبدو‬
‫لي أن الجانب الرمزي فيها ينقصه محراب الفن ليتب َّرز في‬
‫إطار روحي‪ ،‬أبدعته ريشة الفنان المطبوع‪ ،‬هذا وحده هو‬
‫التعمق في البحث إذا ما أردنا أن تستقيم لنا ذاتية‬
‫ُّ‬ ‫جانب‬
‫التعمق الفكري‬
‫ُّ‬ ‫الهيكل‪ ،‬وتنسجم لنا ألوان الرسم‪ ،‬ويخضع لنا‬
‫تشع أحالمه الذهبية في منعرجات‬
‫ّ‬ ‫في معانيه البارزة حيث‬
‫أنغامه الموسيقية فيبدو في إشراقة الفجر‪ ،‬وقد تخ َّلص من‬
‫ّ‬
‫الندي في‬ ‫الجفاف الفكري‪ ،‬وتح ّلى بطابع السمو والمعنى‬
‫أعماق التجربة الشعورية‪.‬‬
‫تنس أن األصالة في اإلشعاع‬
‫أنا أوافقك إلى َح ّد يا أستاذ‪ ،‬ولكن ال َ‬
‫الذوقي فرع من الالشعورية القارّة‪ ،‬وذاتية األدب ال تقوم جوانبها‬
‫وتحككت بموضوعية العلم‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫إال إذا اعتمدت على تركيز النقد‪،‬‬
‫ولو من بعيد‪ ،‬دون أن تخلو من أشعة األداء النفسي‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫التعمق في البحث الحديث يجب‬ ‫ُّ‬ ‫حق ًا‪ ،‬تلك هي أسس‬ ‫‪ّ -‬‬
‫على ُ‬
‫الك ّتاب أال يهملوها إذا ما أرادوا التحليق في أجواء‬
‫اإلبداع الفني‪ ،‬وأرادوا أن يستقيم لهم التجاوب الفعال ذو‬
‫األصداء الحالمة في صفته االنطوائية الصاخبة بالحيوية‬
‫العارمة المنسابة من ينابيع العبقرية الجامحة‪ ،‬التي ال تخضع‬
‫إال لألسلوب الحديث المتم ِّرد عن األوضاع البيئية‪ ،‬المتع ِّلقة‪،‬‬
‫دوم ًا‪ ،‬بالمه ّية الك ّل ّية‪.‬‬
‫سطحيون‪ ،‬ابتعدوا كل البعد عن‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬فإن كتابنا يا أستاذي‪،‬‬
‫األدب الوجداني الملتزم الذي ِ ّ‬
‫تبدد أنواره الالهوتية تلك‬
‫ِّ‬
‫الحسية‪ ،‬فتفقدها‬ ‫الظلمة الكثيفة التي تكشف الروحانية‬
‫المستم ّدة من قبس اإلبداع الفني الرائع‪.‬‬
‫َ‬ ‫الحرارة األثيرية‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬نعم‪ ...‬أنا ال أشك في أن هذا‪ -‬وحده‪ -‬هو الطرف‬
‫سطحي ال يستند‬
‫ّ‬ ‫اإليجابي في السم ّو الفني‪ ،‬وما عداه فك ّله‬
‫التعمق المرتكز‪ ،‬وال يرتكز على السم ّو العميق‪ .‬ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫إلى‬
‫وبعد‪ ،‬فهذا أنموذج من أدب «السونيق» الحديث وقد راجت‬
‫سوقه بين أدباء المظهر في الشرق قبل سنوات‪ ،‬ولكن الشرق‬
‫تخ َّلص منه بعض الشيء‪ ،‬بعد الضربات القاسية التي َّ‬
‫وجهها‬
‫له الزيات وحسين شفيق المصري وغيرهما‪ ،‬وكنا نظن أن‬

‫‪86‬‬
‫العربية تخ َّلصت منه إلى األبد‪ ،‬وإذا بنا نرى بوادره في أدبنا‬
‫وأشد غموض ًا‪ ،‬ولكننا له‬
‫ّ‬ ‫وقد بدت في صور أ كثر انحال ً‬
‫ال‬
‫بالمرصاد‪ ،‬وسنقضي على بذوره قبل استفحالها‪ ،‬وال نقبل في‬
‫عربي ًا مبين ًا‪ ،‬أخذ من الماضي متانته‪،‬‬
‫ّ‬ ‫شمالنا اإلفريقي إال أدب ًا‬
‫شعبي ًا مفيد ًا‪ .‬وليذهب الرصيد‬
‫ّ‬ ‫ومن الحاضر سالسته‪ ،‬أدب ًا‬
‫الفني والشعورية القارّة وفقاقيع األدب إلى الجحيم‪.‬‬

‫***‬

‫‪87‬‬
88
‫المرتجلة‬
‫َ‬ ‫الشخصيات‬

‫جاء في معجم اللغة‪ :‬ارتجل الطعام أي‪ :‬طبخه في المرجل‪،‬‬


‫وارتجل الكالم أي‪ :‬ألقاه دون رويّة أو تحضير‪ .‬أما الشخصية‬
‫المرتجلة في معجم الحقيقة المرة‪ ،‬فقد جمعت بين المعنيين‬
‫لهذه الكلمة‪ :‬الطبخ‪ ،‬وعدم اإلعداد والتحضير‪ .‬وإذا أمعنت‬
‫النظر‪ ،‬ود َّققت الفهم في الطبخ واالرتجال‪ ،‬ي ّتضح لك‪ ،‬بجالء‪،‬‬
‫أنهما متقاربان في المعنى‪ ،‬حتى أننا نجد كثير ًا من الك َّتاب‬
‫يطلقون كلمة (الطبخ) على معنى االرتجال‪ ،‬فيقولون‪ :‬طبخ‬
‫ّ‬
‫مشقة‬ ‫فالن كتابه‪ ،‬أي أ ّلفه بسرعة دون عناء في التدقيق أو‬
‫بأتم معناه‪ .‬أما الشخصية‬
‫ّ‬ ‫في البحث‪ ،‬وذلك هو االرتجال‬
‫المرتجلة‪ ،‬فهي تلك الشخصية التي تُط َبخ على عجل في‬

‫‪89‬‬
‫وحب الذات‪ ،‬فلم ينضج منها إال ظاهرها‪ ،‬ثم‬
‫ّ‬ ‫مرجل األنانية‬
‫تغمس في سائل كيمياوي عجيب ر ِ ُّكب من الدجل والغرور‬
‫والشهوات الجائعة‪ ،‬فهو يشبه العسل في مظهره‪ ،‬ولكنه يخالفه‬
‫في مخبره‪ .‬وبعد هذا الطبخ السريع‪ ،‬والطالء الزائف تنزل‬
‫المرتجلة‪ ،‬على المجتمع كجنود المظالت‬
‫َ‬ ‫هذه الشخصيات‬
‫تحب‬
‫ّ‬ ‫دون سابق إنذار‪ ،‬لتفرض نفسهاضريبة ثقيلة على األمة‪،‬‬
‫الرئاسة وتريد القيادة‪ ،‬وتهيم بالزعامة‪ ،‬ولكن‪ ،‬ليس لديها من‬
‫المؤهالت سوى ذلك الطالء الزائف الذي ال يوجد تحته‬
‫ّ‬
‫سوى مطامع دنيئة ودعوى خاوية‪.‬‬
‫المرتجلة تتبختر في مظاهرها الزاهية‬
‫َ‬ ‫وتغدو هذه الشخصيات‬
‫ومخابرها القاتمة‪ ،‬وهي تصرخ بوقاحة في وجه األمة‪ :‬س ِّلميني‬
‫زمام القيادة! ّ‬
‫رقيني إلى منبر الزعامة! أجلسيني على عرش‬
‫العظمة!‬
‫واألمم‪ -‬وإن اختلفت في درجات الثقافة والجهل‪ ،‬وتفاوتت‬
‫في مقدار الرقي واالنحطاط‪ -‬لم تختلف أبد ًا في فهم‬
‫الزعيم الحق‪ ،‬ولم تخطئ أبد ًا في اختيار القائد الصالح‪.‬‬
‫فهي كلها تحسن اختيار القائد‪ ،‬وتصيب في تزعيم الزعيم‪،‬‬
‫وتدرك إلى من تنقاد وتطيع‪ ،‬وذلك عائد إلى حواس فطرية‬

‫‪90‬‬
‫ضد االنحالل واالنحدار‪،‬‬
‫وإدراك طبيعي‪ ،‬وهو عنصر المناعة ّ‬
‫خلقه الله في جسم األمة‪ ،‬ال دخل للعلم واالكتساب فيه‪.‬‬
‫ولم نجد أمة انخدعت في اختيار زعيم‪ ،‬ولم نجدها كذلك‬
‫يستحق الخذالن‪ ،‬ولهذا كان حكمها دائم ًا‬
‫ّ‬ ‫خذلت شخص ًا ال‬
‫التقدم‬
‫ُّ‬ ‫هو أصدق األحكام‪ .‬وبينما نجد األمة تتس ُّلق درجات‬
‫تطن في سمائها‬
‫المرتجلة ّ‬
‫َ‬ ‫بصعوبة وعناء‪ ،‬إذا بهذه الشخصيات‬
‫كالذباب‪ ،‬فال تلتفت إليها حتى إذا ما أزعجتها وأقلقتها‪،‬‬
‫أعارتها التفاتة بسيطة‪ ،‬ال لتسمع إلى دعوتها‪ ،‬أو تنخدع إلى‬
‫حيلها‪ ،‬وإنما لتلقي بها في مهاوي الحضيض‪ ،‬لتتخ َّلص من‬
‫وقاحتها وعرقلتها‪ ،‬ثم تمضي ُق ُدم ًا في طريقها‪ ،‬ال تلوي على‬
‫شيء‪ .‬يظلم بعض الناس هذه الشخصيات‪ ،‬فيقولون عنها‪:‬‬
‫«إنها مصابة بداء العظمة»‪ .‬وكما أنني ذكرت هنا ما على‬
‫هذه الشخصيات‪ ،‬يجمل بي أن أذكر ما لها‪ ،‬فأعترف أنها‬
‫مظلومة في هذه الوصمة كل الظلم‪ .‬فإن داء العظمة‪ ،‬هو ذلك‬
‫الداء الخطير الذي أصيب به المتنبي شاعر العربية وفيلسوفها‪،‬‬
‫وأصيب به قرينه «فولتير» شاعر الفرنسية وفيلسوفها‪ ،‬وأصيب‬
‫به كثيرون غيرهم في مختلف العصور والبيئات‪ ،‬فجميعهم‬
‫يختلفون كل االختالف عن هذه الشخصيات المرتجلة‪،‬‬

‫‪91‬‬
‫والبون بينهما بعيد‪ ،‬والفارق شاسع كبير؛ فهما يجتمعان في‬
‫حب العظمة‪ ،‬ولكن دافعه عند أولئك طموح سام‪ ،‬وعلم غزير‪،‬‬
‫ّ‬
‫وبيان قوي‪ ،‬ونفس عزيزة‪ ،‬وشجاعة جبارة‪ ،‬وتضحية غالية‪.‬‬
‫ويع ِ ّززها عند هؤالء غرور سافل‪ ،‬وجهل َّ‬
‫مركب‪ ،‬ووعي قبيح‪،‬‬
‫ونفس وضيعة‪ ،‬ومطمع دنيء‪.‬‬
‫أما زعيم األمة وقائدها فيختلف كل االختالف عن هؤالء‬
‫مدجج ًا‬
‫َّ‬ ‫جميع ًا‪ ،‬فهو يخلقه الله متح ِ ّلي ًا بصفات الزعامة‪،‬‬
‫بسالح القيادة‪ :‬صفات ال يراها هو في نفسه‪ ،‬ولكنها تُرى من‬
‫يتبينها هو في نفسه‪ ،‬ولكن‪ ،‬تلمسها‬
‫ِق َبل األمة فيه‪ ،‬وخصال ال ّ‬
‫األمة فيه‪ .‬يقوم بأعمال جليلة سامية‪ ،‬يقوده إليها إلهام من‬
‫يقدر هو سموّها‪ ،‬بل يراها أعما ً‬
‫ال عادية‪ ،‬ولكن األمة‬ ‫الله ال ِ ّ‬
‫سموها‪ ،‬وتدرك عظيم فائدتها‪ ،‬ومن دون أن يشعر يجد‬ ‫ِّ‬
‫تقدر َّ‬
‫نفسه مساق ًا قهر ًا‪ ،‬واألمة من ورائه تدفعه إلى قمة الزعامة‪،‬‬
‫ِ‬
‫ارتق! وتأتيه‬ ‫حيث تضع له ُس َّلم ًا من قلوبها وأفئدتها وتقول‪:‬‬
‫بزمام القيادة مصنوع ًا من أمانيها الغالية وتقول له‪ :‬أمسك‪.‬‬
‫المرتجلة التي ال يُع َرف لها‬
‫َ‬ ‫أما هذه اإلمَّعات من الشخصيات‬
‫ماض‪ ،‬وال حاضر‪ ،‬وال حتى المراجل التي ُطبخت فيها‪ ،‬ف َت ْنبت‬
‫ٍ‬
‫بسرعة كالفقاقيع‪ ،‬وتأتي تنفخ أوداجها وهي تحاول التس ُّلق‬

‫‪92‬‬
‫بمنابر الزعامة الخطيرة‪ ،‬والتشبث بقمم العظمة‪ ،‬حتى إذا ما‬
‫حاولت األمة إبعادها في رفق ولين صرخوا في وجهها‪ ،‬وذهبوا‬
‫يشتمونها ويصمونها بالجهل واالنحطاط ألنها لم تنخدع لهم‬
‫ولدجلهم‪.‬‬
‫وهناك تغضب األمة غضبتها‪ ،‬فتلقي بهم في الدرك السافل‪،‬‬
‫مرتجلة في كلتا‬
‫َ‬ ‫فتنطفئ هذه الشخصيات بسرعة‪ ،‬وهي‬
‫الحالتين‪ ،‬وتُطوى‪ ،‬هذه الشخصيات وصحائفها إلى األبد‬
‫مُ َك َّللة بالخزي والعار‪ ،‬إكليل كل امرئ ال يعرف قدر نفسه‪.‬‬

‫***‬

‫‪93‬‬
94
‫األستاذ‬

‫مرسحية يف فصل واحد‬

‫َّ‬
‫يتلق‬ ‫«كان عبد الحق عام ً‬
‫ال بسيط ًا من عامة الناس‪ ،‬أم ّّي ًا‪ ،‬لم‬
‫ال وال كثير ًا‪ .‬ال يعرفه أحد سوى زمالئه‬ ‫من العلوم شيئ ًا‪ ،‬ال قلي ً‬
‫في العمل وبعض جيرانه في الحي المتواضع الذي يسكنه‬
‫بالكد في‬
‫ّ‬ ‫لضآلة مركزه االجتماعي‪ ،‬والنصرافه عن الناس‬
‫سبيل العيش‪.‬‬
‫عمه الثري ‪ -‬وكان وارثه الوحيد ‪ -‬فاستولى‬
‫توفي ّ‬ ‫وذات يوم ِّ‬
‫على جميع أمواله وثروته الطائلة‪ ،‬وأصبح من كبار األثرياء‪،‬‬
‫يُشار له بالبنان‪ ،‬وما كاد يشيع الخبر حتى تجمهر الزوار على‬
‫باب داره من مه ِ ّنئين‪ ،‬ومتس ِّولين‪ ،‬وفضوليين»‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫(املنظر‪ :‬قاعة فسيحة يف دار ع ّمه التي ورثها‪ ،‬مؤ ّثثة بأثاث رشقي‬
‫من زرايب وأرائك‪ .‬يبدو عبد الحق يف صدر القاعة‪ ،‬وهو رجل‬
‫يف العقد الخامس من عمره ضخم الجثة يرتدي أثواباً جديدة‬
‫فضفاضة‪ ،‬لبسها عىل عجل دون ترتيب أو نظام‪.).‬‬
‫(عبدالحق‪« -‬سلامن الخادم»)‬
‫عبد الحق‪ :‬سلمان!‪ ...‬سلمان‪.‬‬
‫سلمان‪ :‬نعم ّ‬
‫سيدي‪ ...‬أمرك؟‬
‫عبد الحق (وحده)‪ :‬نعم ِ ّ‬
‫سيدي‪ ...‬أمرك‪ ...‬ما أعذبها من‬
‫كلمات! (لسلمان)‪ :‬سلمان‪ ،‬أنت الذي قضيت ّ‬
‫جل حياتك‬
‫علي‬
‫َّ‬ ‫مع عمي‪ -‬رحمه الله‪ ،-‬وفي خدمته‪ ،‬أرشدني لما يجب‬
‫عمله من لباس وأحاديث وغير ذلك‪ ،‬فإني ال أريد أن أظهر‬
‫بمظهر الغباء أمام الناس‪ ،‬وأنت‪ -‬على كل حال‪ -‬لك خبرة‬
‫بحياة القصور وحياة كبار األثرياء مثلي‪ ،‬وال يخفى عنك هذه‬
‫الجموع الغفيرة من الزوّار!‬
‫سلمان‪ :‬ما دمت قد لجأت َّ‬
‫إلي يا سيدي‪ ،‬واسترشدتني‪ ،‬فإن‬
‫نصيحتي إليك هي أن تغلق بابك في وجوه هؤالء الزوّار‪ ،‬وال‬
‫حاجة لك بهم‪ ،‬فإنك لن تستفيد منهم شيئ ًا يعود عليك بالنفع‪.‬‬
‫عبد الحق‪ :‬ال‪ ...‬ال‪ ...‬ال داعي إلى ر ِ َّدهم‪ ،‬فإنهم لن يكلفوني‬

‫‪96‬‬
‫أ كثر من فنجان من القهوة وقطعة من الحلوى‪ ،‬ثم إن الخير‬
‫كثير‪ ...‬إني ال أوافقك على ذلك‪ .‬ال تغلق الباب‪ ،‬دعهم‬
‫يأتون‪ ،‬فإني في حاجة إليهم‪ ،‬أتع َّلم عليهم الحياة الجديدة‪،‬‬
‫حياة األثرياء وخيرة الناس‪.‬‬
‫سلمان‪ :‬إن خيرة الناس يا سيدي عبد الحق‪ ،‬ال يأتون إليك‪،‬‬
‫يهتم بك إال ذوو‬
‫ّ‬ ‫وال يعبؤون بك وال بمالك‪ ،‬و ِث ْق بأنه ال‬
‫المطامع المختلفة في أموالك‪.‬‬
‫( ُيسمع طرق عىل الباب)‬
‫عبد الحق (يعتدل يف جلسته ويصلح من هندامه)‪ :‬سلمان!‪...‬‬
‫وأعد لهم القهوة‬
‫ّ‬ ‫أسرع‪ ...‬افتح الباب لهؤالء الزوار‪،‬‬
‫والحلويات‪ .‬أسرع‪.‬‬
‫شبان)‪:‬‬ ‫(يخرج ويعود صحبة ثالثة‬ ‫سلمان‪ :‬أمرك يا سيدي‬
‫السالم عليكم؛ هذا وفد األدب والفن يا حضرة األستاذ‪،‬‬
‫جاءك زائر ًا ومه ِ ّنئ ًا‪.‬‬
‫ّ‬
‫تفضلوا‪ .‬سلمان‪ ،‬أحضرالقهوة‬ ‫عبد الحق‪ :‬أه ً‬
‫ال ومرحب ًا بكم‪.‬‬
‫والحلويات للسادة‪( .‬سلامن يخرج)‪.‬‬
‫عبدالحق‪ :‬ما مهنتكم؟‬
‫زكي‪ :‬نحن أدباء يا حضرة األستاذ الجليل‪...‬‬

‫‪97‬‬
‫عبد الحق‪ :‬إنكم تجهلون اسمي على ما أظن‪ ،‬فإن اسمي‬
‫«عبدالحق»‪ ،‬وليس اسمي «األستاذ»‪.‬‬
‫وخاصتهم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫زكي‪ :‬إن اسمكم مشهور عند عامّة الناس‬
‫عبد الحق (يلمس رأسه)‪ :‬يا لطيف! في رأسي نار!‬
‫المبجل‪،‬‬
‫َّ‬ ‫زكي‪ :‬وإنما لفظة األستاذ‪ ،‬تعبير األدباء ولقبهم‬
‫َّ‬
‫والمثقفين‪ ،‬وال ريب عندنا‬ ‫يلقبون به من شاؤوا من األفاضل‬
‫في أنكم من كبارهم‪.‬‬
‫عبد الحق‪ :‬من كبارهم! هيه‪ ..‬من كبارهم‪ .‬الخير كثير‪ .‬هيه‪،‬‬
‫وما معنى أدباء هذه؟‬
‫ام)‪ :‬أدباء؟ يعني‪ ...‬أدباء! يعني أناس ًا كبار ًا‪...‬‬
‫زكي (متلعث ً‬
‫عبد الحق‪ :‬ما ألطفكم! وما أعذب كالمكم من كالم! وهل‬
‫لدي ما ً‬
‫ال كثير ًا!‬ ‫َّ‬ ‫يمكنكم أن تجعلوا مني أديب ًا مثلكم؟ إن‬
‫زكي‪ :‬يا سالم‪ ...‬مال كثير! نتش ّرف‪ ...‬نتش ّرف‪ -‬يا سعادة‬
‫األستاذ الجليل‪ -‬أن نجعلكم رئيس ًا علينا‪ ،‬وإن اآلداب والفنون‬
‫تتشرف وتفتخر اليوم بسعادتكم‪ .‬ومن ذا الذي ينهض بها‬
‫غيركم؟‬
‫علي‪ .‬يكون‬
‫ّ‬ ‫عبد الحق‪ :‬الخير كثير‪ .‬تستطيعون أن تعتمدوا‬
‫خير ًا إن شاء الله‪ .‬وماذا أعمل؟‬

‫‪98‬‬
‫زكي‪ :‬يا سالم! السؤال الجميل‪ ...‬أو ً‬
‫ال‪ :‬بلغنا يا حضرة‬
‫األستاذ‪ ،‬أنكم تنوون ‪ -‬في هذه األيام ‪ -‬زفاف ابنتكم على‬
‫صلة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫يمت لألدب والفن ِب ِ‬ ‫شخص من عامّة الناس‪ ،‬ال‬
‫عبد الحق‪ :‬هذا صحيح‪ .‬إنه قريبي‪ ،‬يدعى ناصر‪ ،‬سيتخرج‬
‫قريب ًا في مدرسة الصنائع‪ .‬إنه قريبي وليس من عامة الناس‪.‬‬
‫زكي‪ :‬مدرسة الصنائع! رجل عمل! رجل غليظ! رجال‬
‫األعمال‪ -‬يا سعادة األستاذ‪ -‬ال يصلحون لألدب‪ .‬وال يخفى‬
‫عنك أن بنت األديب ال تتزوج إال أديب ًا مثله‪.‬‬
‫عبد الحق‪ :‬عجيب‪ ،‬بنت األديب ال تتزوج إال أديب ًا؟!‬
‫أحد الشبان‪ :‬أجل‪ ،‬ذلك هو قانون األدب كما ال يخفى عنك!‬
‫عبد الحق‪ :‬فاتني ذلك‪ .‬وكيف العمل اآلن؟‬
‫أحد الشبان‪ :‬األولى أن تعدلوا عن هذا الزواج‪ ،‬وتبحثوا‬
‫البنتكم َع َّمن يليق بها من رجال اآلداب البارزين‪.‬‬
‫عبد الحق‪ :‬هذا حق‪ .‬أبحث لها عمن يليق بها من رجال‬
‫اآلداب البارزين‪ .‬سأفعل ذلك‪.‬‬
‫أحد الحاضرين‪ :‬إن األستاذ زكي َل َأوْلى بها من غيره‪ ،‬وهو‬
‫أديب بارز‪ ،‬فاضل‪ ،‬ذو مركز اجتماعي عظيم‪ ،‬يش ِّرفها‪ ،‬ويرفع‬
‫من مقامها‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫غني ًا‪ ،‬وال أظن نفسي‬
‫زكي (يف تواضع)‪ :‬أستغفر الله‪ .‬أنا لست ّ‬
‫كفئ ًا لها‪ ،‬ألن هذا العصر عصر المادة والمال‪.‬‬
‫أحد الحاضرين‪ :‬وأي شيء يكون المال بالنسبة لثروتكم‬
‫األدبية الطائلة يا أستاذ زكي؟‬
‫زكي‪ :‬أنا ال أقول شيئ ًا الكلمة لألستاذ عبد الحق‪.‬‬
‫يهمك المال‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عبد الحق‪ :‬الحق مع السيد‪ .‬الخير كثير‪ .‬ال‬
‫الخير كثير‪.‬‬
‫زكي‪ :‬الخير كثير‪ .‬ما أحلى هذا الكالم من فمك يا سيدي‬
‫األستاذ! الخير كثير‪ .‬كلمة عذبة‪ ،‬وعليه فإنني أشكركم على‬
‫ّ‬
‫أجل المساعدات‬ ‫حسن ظنكم بي‪ ،‬وإن هذا ‪ -‬لعمري ‪ -‬لمن‬
‫برقي رجاله‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يترقى إال‬ ‫لآلداب والفنون! ألن األدب لن‬
‫وال يسعنا إال أن نستأذنكم في االنصراف‪ ،‬ونحن منتظرون‬
‫إشارتكم لعقد القران‪.‬‬
‫عبد الحق‪ :‬بارك الله فيكم‪ .‬سأخبركم بذلك في الوقت‬
‫المناسب‪( .‬يس ِّلمون عليه وينرصفون)‬
‫عبد الحق‪ :‬سلمان يا سلمان!‬
‫سلمان (يظهر)‪ :‬نعم سيدي‪ ،‬ماذا تريد؟‬
‫تعاظم)‪ :‬ماذا أريد؟ قبل أي شيء‪ ،‬ال أسمح‬ ‫عبد الحق (يف‬

‫‪100‬‬
‫تلقبني بهذه األلقاب البالية! ألقاب عامة‬ ‫لك من اليوم أن ِّ‬
‫الناس‪.‬‬
‫سلمان‪ :‬حسن ًا يا سيدي‪ّ ،‬‬
‫بأي اسم تريد أن أدعوك؟‬
‫عبدالحق‪« :‬باألستاذ» ادعني باألستاذ‪ .‬قل «ماذا يريد‬
‫األستاذ»‪ ،‬هذا هو لقبي‪ ،‬لقب كبار الناس‪.‬‬
‫سلمان‪ :‬أستاذ‪ .‬لقب جديد‪ ،‬إني لم أفهم يا سيدي‪ ،‬ماذا‬
‫تعني؟‬
‫عبد الحق‪ :‬أجل إنك ال تفهم‪ .‬وقد قضيت طول حياتك‬
‫خادم ًا‪ ...‬لقد كان وفد األدباء ‪ -‬كبار الناس ‪ -‬عندي هنا‪،‬‬
‫لقبوني بهذا اللقب‪ ،‬وجعلوني رئيس ًا لهم‪.‬‬
‫وقد َّ‬
‫سلمان (ضاحكاً)‪ :‬أولئك المحتالون النصابون‪ ...‬إني أعرفهم‬
‫جيد ًا ياسيدي‪ ،‬وأعرف أعمالهم‪.‬‬
‫عبد الحق (صارخاً)‪ :‬اخرس! أيها الوقح‪ ،‬تصف األدباء كبار‬
‫الناس باالحتيال؟ إذ ًا‪ ،‬أنا محتال مثلهم ما دمت رئيس ًا لهم؟‬
‫سلمان (يف حرية)‪ :‬عفوك يا سيدي‪ .‬سامحني أخطأت‪.‬‬
‫عبد الحق (هازئاً)‪ :‬عفوك يا سيدي! ألم أمنعك اآلن من‬
‫تلقيبي بهذا االسم؟‪ .‬قل «عفوك يا أستاذ»‪.‬‬
‫سلمان‪ :‬نعم‪ ...‬نعم‪ ...‬نسيت‪ ،‬عفوك يا أستاذ! سامحني يا‬

‫‪101‬‬
‫أستاذ‪.‬‬
‫عبد الحق‪ :‬أحسنت‪ ،‬لقد سامحتك هذه المرة‪ ،‬على أال تعود‬
‫إلى مثله‪.‬‬
‫سلمان‪ :‬ثم ماذا؟ يا‪ ...‬يا أستاذ‪!...‬‬
‫عبد الحق‪ :‬ثم إني سأزُ ِّوج زينب باألستاذ زكي؛ ألن بنت‬
‫األديب ال تتز َّوج إال أديب ًا مثله‪ ،‬هذا هو قانون األدب‪.‬‬
‫سلمان‪ :‬لكن‪ ،‬يا سيدي‪...‬‬
‫عبد الحق‪ :‬لكن‪ ...‬ماذا؟!‬
‫سلمان‪ :‬لكن يا أستاذ! و«ناصر» قريبك وخطيبها؟‬
‫عبد الحق‪ :‬ناصر‪ .‬رجل أعمال‪ .‬قانون األدب يمنعه من‬
‫التزوُّج بها‪ .‬ذلك هو قانون األدب‪.‬‬
‫سلمان‪ :‬إنك مخطئ‪ -‬يا سيدي‪ -‬فيما عزمت عليه‪ ،‬وستندم‪.‬‬
‫علي‪ -‬أيها‬
‫ّ‬ ‫عبد الحق‪ :‬يا للوقاحة! يا لق ّلة األدب! أتجرؤ‬
‫الخادم‪ -‬وتقول مثل هذا الكالم في حضرتي‪ ،‬أنا األستاذ؟‬
‫اغ ُرب عن وجهي‪.‬‬
‫(زوجته «رتيبة» تسمع الصياح والضوضاء‪ ،‬فتدخل مستفرسة‪).‬‬
‫رتيبة‪ :‬ما هذا الصياح؟ ماذا جرى؟‬
‫سلمان‪ :‬تعالي‪ -‬يا سيدتي‪ -‬لتسمعي العجائب! أظن أن‬

‫‪102‬‬
‫سيدي ُأصيب في عقله! إنه يهذي منذ لحظة‪ ،‬يقول‪ :‬إنه‬
‫أستاذ‪ ،‬وأديب‪ ،‬وقال إنه يريد أن يز ِّوج زينب من رجل محتال‪،‬‬
‫أعرفه جيد ًا‪ ،‬يقول عنه سيدي إنه أديب كبير‪ ،‬وال أدري ما لنا‬
‫ولهؤالء األدباء!‪.‬‬
‫عبد الحق‪ :‬أما تنتهي‪ -‬أيها الوقح‪ -‬من إهانتي‪ ،‬وجرح‬
‫تدعني بغير لقب األستاذ؟ ثم بأي‬
‫كرامتي‪ ،‬ألم آمرك بأن ال ُ‬
‫حق تتطاول بكالمك هذا على رجال األدب؟‬
‫رتيبة (لزوجها)‪ :‬ماذا يا عبد الحق؟ أصحيح ما قاله سلمان؟‬
‫عبد الحق‪ :‬ال تقولي عبد الحق‪ ،‬أيتها المرأة‪ ،‬قليلة األدب!‬
‫قولي «األستاذ»‪.‬‬
‫حق ًا‪ ،‬لقد ُأصيب الرجل في‬
‫رتيبة (صارخة باكية)‪ :‬وا مصيبتاه! ّ‬
‫عقله!‬
‫(تظهر ابنتها زينب‪).‬‬
‫زينب‪ :‬ماذا جرى يا أمّاه؟ َأ ُأصيب أبي بمكروه؟‬
‫عبد الحق‪ :‬لماذا تقولين أبي‪ -‬أيتها الشقية‪ -‬وال تقولين‬
‫المبجل‪،‬‬
‫َّ‬ ‫«األستاذ»؟ اتفقتم ك ّلكم على تجريدي من لقبي‬
‫لقب األدباء وكبار الناس‪.‬‬
‫زينب‪ :‬أدباء؟ ّ‬
‫أي شيء «أدباء» هذه؟‬

‫‪103‬‬
‫عبد الحق‪ :‬أدباء‪ ...‬ال تعرفين األدباء!؟ هم الذين أريد أن‬
‫أز ِّوجك أحدهم؛ ألن بنت األديب ال تتز َّوج إال بأديب؛ هذا‬
‫هو قانون األدب‪.‬‬
‫(يدخل نارصخطيب زينب‪ ،‬فترسع رتيبة نحوه باكية)‬
‫رتيبة‪ :‬الحقنا يا ناصر‪ ،‬يا ابني‪ ،‬إن عمك ُأصيب في عقله‪،‬‬
‫فإنه لم يفتر عن الهذيان منذ ساعة‪ ،‬يقول عن نفسه إنه من‬
‫رجال األدب‪ ،‬وإنه يريد تزويج زينب من أديب مثله‪ ،‬ويأبى أن‬
‫ندعوه بغير «األستاذ »‪.‬‬
‫ناصر (يطمنئ ع ّمته‪ ،‬ويتقدّم من عبد الحق)‪ :‬ما هذا يا سيدي‬
‫األستاذ؟ هل من جديد؟‬
‫زفرة)‪ :‬الحمد لله‪ ...‬ها قد أتى أخير ًا من‬ ‫عبد الحق (مرس ًال‬
‫َ‬
‫تعال‪ -‬يا ابني‪ -‬انظر إلى هؤالء‬ ‫ِّ‬
‫يقدرني‪ ،‬ويعرف مقامي‪.‬‬
‫الجهالء! جعلوني مصاب ًا في عقلي ألني منعتهم من إهانتي‪،‬‬
‫وأرغمتهم على احترام لقبي المش ّرف الذي أهداني إياه وفد‬
‫األدباء هذا الصباح!‬
‫ناصر‪ :‬اعذرهم يا أستاذ‪ ،‬إنهم ال يعرفون قيمة األدب‪ ،‬وال‬
‫يعرف قيمة األدب إال أهله!‬
‫عبد الحق‪ :‬وهل أنت أديب يا ناصر؟‬

‫‪104‬‬
‫ناصر‪ :‬بالتأ كيد‪ ...‬ومن الكبار‪.‬‬
‫عبد الحق‪ :‬حمد ًا لله‪ .‬كنت أظنك غير ذلك‪ ،‬ولهذا عزمت‬
‫على أن أز ِّوج زينب من غيرك؛ ألن قانون األدب ‪ -‬كما ال‬
‫يخفى عنك ‪ -‬يمنع أن تتز َّوج بنت األديب بغير األديب‪.‬‬
‫حق‪ ...‬إني أعرف ذلك‪ ،‬ودرسته جيد ًا‪.‬‬
‫ناصر‪ :‬هذا ّ‬
‫ثم هل يمكن أن يكون قريب األديب‪ ،‬أو زوجه‪ ،‬أو ابنته وحتى‬
‫خادمه قليلي األدب؟‬
‫عبد الحق‪ :‬صحيح‪ ،‬لقد فاتني ذلك‪ .‬إذ ًا‪ ،‬كلنا أدباء؟‬
‫ّ‬
‫يشك في ذلك؟ كلنا أدباء وأنت السبب في ذلك‪.‬‬ ‫ناصر‪ :‬ومن‬
‫عبد الحق‪ :‬أنا السبب‪ ...‬أجل أنا السبب‪ ...‬اذهب‪-‬إذ ًا‪-‬‬
‫وادع القاضي ليعقد قرانكما‪ ،‬وليبارك الله فيكما وفي‬
‫ُ‬
‫أبنائكما‪ ،‬ويجعلهم من كبار األدباء واألساتذة‪.‬‬

‫***‬

‫‪105‬‬
106
‫الحاج‬
‫ّ‬ ‫س ّيدي‬

‫كان ذلك إبان الحرب العالمية األخيرة‪ ،‬وكنت يومئذ مستق ّر ًا‬
‫في مكة المك َّرمة‪ ،‬أعاني شوق ًا ِ ّ‬
‫مبرح ًا‪ ،‬وحنين ًا عارم ًا إلى الوطن‬
‫واألهل واألصحاب‪ .‬كانت أخبار الشمال األفريقي شحيحة‬
‫جد ًا؛ الرسائل نادرة‪ ،‬وحركة الحجيج منقطعة تمام ًا عدا وفود‬
‫ّ‬
‫صغيرة كانت تأتي على نفقة الحكومة في طائرة خاصة‪،‬‬
‫وكانت هذه الوفود تجمع خليط ًا عجيب ًا من مختلف الطبقات‬
‫تضم الطبيب‪ ،‬والمفتي‪ ،‬والتاجر‪ ،‬والقائد‪ ،‬تجمع‬
‫ّ‬ ‫والهيئات‪،‬‬
‫العا ِلم والجاهل‪ ،‬الشباب والشيوخ‪ ،‬كما كانت هذه الرحلة‬
‫يهمهم اإلسالم‬
‫ّ‬ ‫المجانية تغري بعض الفضوليين الذي ال‬
‫ّ‬

‫‪107‬‬
‫وال مناسك الحج‪ ،‬وإنما يأتون للسياحة والتف ُّرج على أرض‬
‫الحجاز‪ .‬وكنت أبذل كل الجهود لالتّصال بهم‪ ،‬وهم الصلة‬
‫أتنسم من أحاديثهم رائحة‬
‫َّ‬ ‫الوحيدة بيني وبين أرض الوطن‪،‬‬
‫البالد وعبير األهل واألصحاب‪ ،‬ولذلك كنت أستأنس بهم‬
‫رغم التباين الكبير بيننا؛ تباين في النشأة والتفكير‪ ،‬في الثقافة‬
‫واالتجاه‪ ،‬ولكن رابطة الوطن كانت كافية لجمعنا وإزالة‬
‫الفوارق بيننا‪.‬‬
‫ّ‬
‫يحتل‬ ‫بحاج من هؤالء الحجيج‪ ،‬وكان الرجل‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫اتصلت ذات يوم‬
‫أمي ًا ال يحسن‬
‫مكان ًا مرموق ًا في اإلدارة الحكومية رغم أنه كان ّ‬
‫العربية وال الفرنسية‪ ،‬أما اإلسالم وقواعده األولية فلم يسمع‬
‫ِّ‬
‫المتقدمة‪ ،‬وإن كانت لحيته الكثيفة‬ ‫بها طيلة حياته رغم س ّنه‬
‫وهندامه العربي يخدعان الناظر إليه‪ ،‬فيظنه شخصية إسالمية‬
‫ممتازة من كبار رجاالت الدين في المغرب العربي‪.‬‬
‫زرته يوم ًا في منزله فرغب أن أرافقه في جولة قصيرة في أسواق‬
‫ّ‬
‫يتوضأ استعداد ًا لصالة المغرب‪ ،‬حتى‬ ‫أم القرى‪ ،‬وطلبت منه أن‬
‫إذا ما أدركنا وقتها أخذنا سبيلنا إلى الحرم دون أن نضط ّر إلى‬
‫العودة إلى المنزل‪ ،‬وطلب الحاج إبريق ًا من الماء‪ ،‬وجلس‬
‫للوضوء‪ ،‬وبدأ يغسل رجليه‪ ،‬وكنت أنظر إليه مشدوه ًا‪ ،‬لم ِ‬
‫أدر‬

‫‪108‬‬
‫كيف أجعله يالحظ خطأه‪ ،‬ولكن الخادم الذي كان مك َّلف ًا‬
‫بخدمته‪ ،‬والذي كان معتاد ًا ‪ -‬دون شك ‪ -‬على هذا النوع‬
‫من الحجيج‪ ،‬ابتدره قائ ً‬
‫ال‪ :‬ما هذا الوضوء يا سيدي الحاج؟‬
‫ّ‬
‫أتتوضأ من رجليك؟‬
‫وأجابه سيدي الحاج بكل بساطة‪ ،‬وهو مسترسل في غسل‬
‫بقية أعضائه بالجملة والتفصيل دون ترتيب‪ :‬ماذا نعمل هكذا‬
‫ع َّلمنا سادتنا!‬
‫َ‬
‫وسكت الخادم‪ ،‬ولعله ظن أن مذهبه الفقهي يجيز هذا الوضوء‬
‫وسكت أنا أيض ًا‪ ،‬وانتهى صاحبي‬
‫ُّ‬ ‫الذي يبتدئ من الرجلين‪.‬‬
‫من وضوئه‪ ،‬ثم ارتدى مالبسه وخرجنا إلى األسواق‪.‬‬
‫كان منظرنا مضحك ًا‪ :‬صاحبي بجثّته الضخمة‪ ،‬وعمامته‬
‫الكبيرة‪ ،‬وقامته فارعة الطول‪ ،‬ولباسه الجزائري العتيق‪ ،‬وأنا‬
‫إلى جنبه بلباسي الحجازي وجسمي النحيل‪ ،‬ولذلك كنا عرضة‬
‫أتحمل كل ذلك في سبيل‬
‫َّ‬ ‫لتنكيت المارة وروّاد السوق‪ .‬وكنت‬
‫علي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫النزر اليسير من أخبار البالد التي كان صاحبي يجود بها‬
‫كانت جولتنا حافلة بالمشاكل والمعارك مع مختلف الباعة‬
‫والتجار؛ ألن صاحبي كان حديد األعصاب‪ ،‬كلمة ونصفها‪،‬‬
‫تيسر من الشتائم‬
‫ثم يلجأ إلى قاموسه الخاص يُخرج منه ما َّ‬

‫‪109‬‬
‫والسباب‪ .‬ولم ينقذنا من مشاكلنا سوى أذان المغرب الذي‬
‫أخذ يدوّي في الفضاء‪ ،‬ورجال األمر بالمعروف يصيحون‪:‬‬
‫الصالة‪ ...‬الصالة‪ ...‬وهم يسوقون الناس إلى المسجد‪.‬‬
‫علي صاحبي‪ ،‬ونحن في‬
‫َّ‬ ‫توجهنا لفورنا إلى المسجد‪ ،‬وانحنى‬
‫َّ‬
‫طريقنا‪ ،‬وسألني قائ ً‬
‫ال‪ :‬موالنا! وهذه آش حال فيها؟‬
‫قلت‪ :‬كم فيها؟ في أي شيء؟‬
‫قال‪ :‬هذه الصالة‪ ،‬التي سنص ّليها اآلن! كم عدد ركعاتها؟‬
‫وفهمت‪ ...‬فإن الرجل يجهل عدد ركعات الصالة‪ ،‬وخاف أن‬
‫فتشجع واسترشدني‪َ ،‬س َّرني منه ذلك‪ ،‬وألقيت‬
‫َّ‬ ‫يقع في خطئها‪،‬‬
‫عليه درس ًا مختصر ًا في عدد ركعات كل صالة‪ ،‬ومتى يجلس‬
‫ومتى يقوم‪ ،‬ولكن ذلك لم يمنعه من سؤالي عن عدد الركعات‬
‫توجهنا إلى الصالة‪ ...‬ووجد صاحبي صالة العشاء طويلة‬
‫كلما َّ‬
‫جد ًا‪ ،‬ولهذا ق َّرر حذفها من برنامجه وإبدالها براحة في المنزل‪.‬‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫المكي‬ ‫وانتهينا من صالة المغرب‪ ،‬وأخذنا نتجوَّل في الحرم‬
‫الذي كان حاف ً‬
‫ال بحلقات الدروس المختلفة‪ ،‬ووقف صاحبي‬
‫أمام شاب شنقيطي كان يُد ِّرس مبادئ اآلجرومية لنفر من‬
‫الصبيان‪ ،‬وما كاد المد ِّرس الشاب يشاهد صاحبي يقف عند‬
‫رأسه حتى اعتراه اضطراب‪ ،‬وقد ظنه عالم ًا جلي ً‬
‫ال من كبار‬

‫‪110‬‬
‫علماء المغرب العربي‪ ،‬فتلعثم في تقريره‪ ،‬وأخذ ِ ّ‬
‫يردد لتالميذه‬
‫هذه الجملة‪ :‬قام زيد‪ ...‬قلنا‪ :‬قام زيد‪ ...‬قام زيد‪.‬‬
‫وقاطعه صاحبي قائ ً‬
‫ال‪ :‬يا شيخ!‪ ...‬وإذا كانت امرأة تقول‬
‫«قامت زيدة؟»‬
‫تبسم المد ِّرس‪ ،‬واستغرق تالميذه في الضحك‪ ،‬ولكن صاحبي‬
‫َّ‬
‫لم يعجبه موقفهم فقال لي‪ :‬لماذا يضحكون؟ ألم يُع ِّلمهم‬
‫شيخهم قوله تعالى‪« :‬اسأل عن دينك حتى يقولوا‪ :‬بهلول»؟‬
‫قلت لنفسي‪ :‬أال في سبيل أخبار الوطن ما أنا متحمل‪.‬‬
‫الحاج إلى بالده‬
‫ّ‬ ‫سيدي‬
‫الحج بسالم‪ ،‬ورجع ّ‬ ‫ّ‬ ‫انقضت أيام‬
‫ال معه مختلف التحف‬ ‫بحجه المبرور وذنبه المغفور‪ ،‬حام ً‬
‫ّ‬
‫والهدايا لألهل والخ ّلان‪ ،‬متوّج ًا اسمه بلقب «الحاج»‪ ،‬تارك ًا‬
‫هذه الذكريات الطريفة التي خ َّلدته في ذاكرتي‪ ،‬وجعلت منه‬
‫أنموذج ًا بشر ّي ًا ممتاز ًا‪.‬‬

‫***‬

‫‪111‬‬
112
‫يحيى َّ‬
‫الضيف‬

‫«لو قرأ يحيى في صغره ألتعبنا في كبره‪».‬‬


‫الشيخ اإلبراهيمي‬

‫يوم أزمعت أن أدرج «يحيى الضيف» في سلسلة مقاالت‬


‫الميزان التي كنت أنشرها في جريدة البصائر‪ .‬تساءل بعض‬
‫قيم‬
‫الناس من الخاصة والعامة قائلين‪ :‬ما شأن يحيى الضيف‪ّ ِ ،‬‬
‫مركز جمعية العلماء وهذه السلسلة من المقاالت في رجال‬
‫العلم واألدب‪ ،‬وليس هو بعالم من العلماء‪ ،‬وال هو أديب من‬
‫األدباء؟‬

‫‪113‬‬
‫وقلت لهؤالء‪ :‬إن لم يكن يحيى عالم ًا يحمل فوق رأسه عمامة‬
‫وتحت إبطه كتاب ًا‪ ،‬وهو إن لم يكن خطيب ًا في المنابر وال‬
‫واعظ ًا في المجالس وال كاتب ًا في الجرائد‪ ،‬فإن له قيمته في‬
‫المجتمع‪ ،‬وله مركزه في دنيا العلم واألدب‪ ،‬ألنه فيلسوف‪...‬‬
‫علي بالالئمة يومئذ‪،‬‬
‫َّ‬ ‫سيضحك مني أولئك الذين أنحوا‬
‫وسيقولون! أين درس يحيى الضيف الفلسفة؟ وفي أية جامعة‬
‫ّ‬
‫الحقة ال تُدرَّس‪ ،‬وأن جامعتها‬ ‫تخ َّرج؟ والجواب أن الفلسفة‬
‫تعمقوا‬
‫الحياة‪ ،‬وأستاذها الزمن‪ ،‬فهو من أولئك الفالسفة الذين َّ‬
‫في درس أنفسهم‪ ،‬ووقفوا على نواحي الضعف والقوة فيها‪،‬‬
‫ولمسوا فيها نواحي الخير والشر‪ ،‬والنفس البشرية واحدة‪ ،‬وإن‬
‫اختلفت الهياكل التي تحملها واألسماء التي تعرفها‪ .‬ثم‪ ،‬ألم‬
‫يجد المرحوم الرافعي في أشيب زبّال أعظم فيلسوف ينقل‬
‫الح َكم؟‬
‫عنه بدائع الفلسفة وروائع ِ‬
‫حاول أن تسأل يحيى الضيف عن حياته‪ ،‬واستمع إليه بإمعان‬
‫وهو يح ِّلل لك حياته بفلسفة عميقة‪ ،‬وسوف تجده ال َّ‬
‫يتردد في‬
‫ذكر الحقيقة عن نفسه‪ ،‬ولو كانت مُ ّرة جارحة؛ ألن الحقيقة‬
‫عنده جوهرة ثمينة يجب أن تبرز‪ ،‬ونفسه شيء تافه‪ ،‬ال حق لها‬
‫في أن تقف حجر عثرة في طريق الحقيقة‪ .‬ومن منا يستطيع‬

‫‪114‬‬
‫أن يح ِّلل نفسه‪ ،‬ويذكر خيرها وشرها وعيوبها ومحاسنها؟ إننا‬
‫ال نستطيع‪ ،‬ألننا نعيش في إطار المظاهر واألنانية؛ وذلك ألننا‬
‫لسنا فالسفة! أما يحيى الفيلسوف فإنه ال يشعر بهذه األنانية‪،‬‬
‫وشخصيته ال تساوي في نظره طمس حقيقة من الحقائق مهما‬
‫مستعد أن يذكر لك عن نفسه‬
‫ّ‬ ‫كانت هذه الحقيقة صغيرة‪ .‬وهو‬
‫كل ما يعرف عنها‪ .‬وهو دوم ًا مشغول بالبحث عن عيوب نفسه‬
‫وتحليل هذه العيوب‪ ،‬وما نفسه إال أنموذج لكل نفس بشرية‬
‫نوجه إليه سؤا ً‬
‫ال‪ ،‬ولنستمع إلى‬ ‫يُجري عليها تجاربه‪ .‬دعنا ِ ّ‬
‫جوابه‪ ،‬ها هو أمامنا بجثّته الضخمة وابتسامته العريضة التي‬
‫تشبه ابتسامة حمار الحكيم ومكنسته في يده‪.‬‬
‫‪ -‬كيف جئت إلى هذه الدنيا يا يحيى؟‬
‫‪ -‬ال أذكر كيف جئت إلى هذه الدنيا ألنني كنت صغير ًا‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬سمعت والدتي تقول‪ :‬إني جئت إليها والشمس في‬
‫علي أشعتها منعكسة في سعدية المشتري‬
‫ّ‬ ‫برج القوس ترسل‬
‫ونحسية عطارد‪ ،‬ولهذا فال غرابة‪ -‬إذ ًا‪ -‬في أن تبدو لكم‬
‫حياتي كلها سلسلة من المتناقضات‪ :‬عالم مع العلماء‪ ،‬وأديب‬
‫مع األدباء‪ ،‬جاهل مع الجهالء‪ ،‬فنان في أوساط الفنانين‪،‬‬
‫الجهال‪ ،‬وجاهل بين العباقرة تواضع ًا‪ ،‬وأنا‬
‫ّ‬ ‫عبقري في دنيا‬

‫‪115‬‬
‫مع كل ذلك فيلسوف بطبعي‪ .‬وكل هذه الصفات تغمرها‬
‫لطافة في نوع من الدهاء يحيط به نفاق كبير‪ ،‬أفهم المجتمع‪،‬‬
‫وأعرف أن ش َّره أ كثر من خيره‪ ،‬أعرف أن الحياة كلها آالم‬
‫وآثام‪ ،‬ولهذا تجدني دائم ًا أضحك منها‪ ،‬وأضحك من الذين‬
‫ينظرون إليها بعين االهتمام واإلجالل‪.‬‬
‫‪ -‬إنك تفهم الحياة على حقيقتها‪.‬‬
‫‪ -‬نعم أفهم باطنها وظاهرها مع أن درجتي ال تعدو درجة‬
‫ك ّناس من الدرجة الثالثة‪.‬‬
‫‪ -‬إنك كثير التواضع يا حضرة الفيلسوف!‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬ال يا موالي‪ ،‬ليس هناك تواضع‪ ،‬وإنما هذه هي الحقيقة‪.‬‬
‫‪ -‬هل أنت سعيد في الحياة؟‬
‫‪ -‬وهل في الحياة سعادة؟ وإنما أستطيع أن أقول لكم إن أسعد‬
‫أيامي هي التي أقضيها في معاشرة العلماء وخدمة جمعيتهم‪،‬‬
‫وال سيما الشيخ عبد اللطيف سلطاني رئيس المركز الذي‬
‫أخشاه أ كثر من عذاب النار‪.‬‬
‫‪ -‬وهل استفدت من مصاحبتك للعلماء شيئ ًا يُذكر؟‬
‫‪ -‬أجل‪ ،‬فقد استفدت من الشيخ البشير حكمته وتواضعه‬
‫وتفانيه في كل ما يباشر من األعمال‪ ،‬واستفدت من الشيخ‬

‫‪116‬‬
‫ّ‬
‫ودقة مالحظته‪ ،‬ونلت من الشيخ‬ ‫خير الدين فراسته ودهاءه‬
‫عبد اللطيف حسابه العسير لحركات وسكنات العاملين معه‪،‬‬
‫يعينه «أ كسبيرا» لتصفية حساباتي يوم‬
‫حتى إني أرجو الله أال ِ ّ‬
‫القيامة‪ ،‬وقد أصبحت بطني وعاء لكل هذه الفوائد‪ ،‬وتستطيع‬
‫أن ِ ّ‬
‫تفسر ضخامتها بعدم هضم ما استفدت؛ ألن معدتي ال‬
‫تقوى على الهضم وإن كانت تهضم «شخشوخة ‪ -‬شكشوكة»‬
‫عثمان بوقطاية المذيع المشهور‪ ،‬التي أحبها إلى َح ّد أني أبيع‬
‫ديني ودنياي في سبيلها‪.‬‬
‫وإذا سألت يحيى الضيف عن هذه السرعة التي يعيش فيها‬
‫وعن هذه الحركة الدائمة التي تغمره‪ ،‬أجابك أن مبعثها القلق‪،‬‬
‫وأنه يتعب نفسه كثير ًا ليلحق بركب المعالي‪ ،‬ولهذا تجده يقرأ‬
‫ويعيد‪ ،‬ويقرأ‪ ،‬ويعيد‪ ،‬إلى أن يتب َّلد ذهنه‪ ،‬فال يحسن كيف‬
‫يقرأ‪ ،‬وال يستفيد مما يقرأ‪ ،‬ثم يبتسم لك ابتسامته المعروفة‬
‫ويقول لك‪ :‬إني أريد أن أعرف كل شيء‪ ،‬وأنا مع ذلك ال‬
‫أعرف شيئ ًا‪ ،‬وإني إلى اآلن عاجز عن كتابة رسالة ولو قصيرة‪،‬‬
‫وقادر على تأليف كتاب بأ كمله من حيث ال أشعر‪.‬‬
‫لقد قضت على صاحبنا فلسفته‪ ،‬فأنكر نفسه‪ ،‬وأنكر معارفه‪،‬‬
‫وهو محتاج إلى قليل من اإليمان بنفسه وعقله ل ُيخرج للناس‬

‫‪117‬‬
‫روائع ستبقى خالدة ألنها ستكون مطبوعة بطابع الصدق وطابع‬
‫الصراحة‪ ،‬ذلك الطابع الذي يمتاز به يحيى عن غيره‪ ،‬والذي‬
‫جعله محبوب ًا من الجميع ال يكره أحد ًا‪ ،‬وال يكرهه أحد‪ .‬يعرف‬
‫بعض الناس يحيى َق ِ ّيم مركز جمعية العلماء؛ ألنهم ال يرونه‬
‫إال دائب ًا على تنظيف قاعات المركز ومكاتبه‪ ،‬ويعرفه آخرون‬
‫مم ِ ّث ً‬
‫ال موهوب ًا ألنهم ال يشاهدونه إال على خشبة المسرح‪ ،‬أو‬
‫يسمعونه على أمواج األثير يم ِ ّثل بالعامية والفصحى‪ ،‬ينتقل‬
‫من شخصية إلى شخصية‪ ،‬فيحسن االنتقال‪ ،‬ويحسن التمثيل‪.‬‬
‫ويعرفه آخرون مؤ ِّلف روايات مسرحية وطرائف أدبية وناقد ًا‬
‫حصيف ًا‪ ،‬وأعرفه أنا فيلسوف ًا عميق ًا وكاتب ًا مجيد ًا‪ ،‬تعجبني‬
‫فلسفته‪ ،‬ويعجبني نثره الفصيح وشعره الملحون‪ ،‬ويعجبني‪-‬‬
‫تفهمه للحياة ورضاؤه بنصيبه الضئيل منها دون‬
‫فوق كل ذلك‪ُّ -‬‬
‫ٍّ‬
‫تشك‪ ،‬وتلك‪ -‬لعمري‪ -‬الفلسفة‪ ،‬وكذلك حقيقتها‪.‬‬ ‫تب ُّرم أو‬
‫هذا هو يحيى الضيف الذي بلغت ضخامة جثته وزن الفيل‪،‬‬
‫وبلغت ّ‬
‫خفة روحه وزن الريشة‪ .‬وإذا أردت أيها القارئ أن‬
‫تعرفه عن كثب فما عليك إال أن تقوم بزيارة لمركز جمعية‬
‫العلماء بمدينة الجزائر قبل حضور المدير أو بعد انصرافه‪،‬‬

‫‪118‬‬
‫اقترب منه وال‬
‫ْ‬ ‫وستجد يحيى الضيف يزأر كأنه أسد في قفص‪.‬‬
‫مستعد ًا الستدعائك إلى صالونه الجميل ِ ّ‬
‫ليقدم‬ ‫ّ‬ ‫تخ ْ‬
‫ف فستجده‬ ‫َ‬
‫لك فنجان ًا من القهوة وقطعة من الحلوى وطرائف من األدب‬
‫والفلسفة‪ ،‬وإذا لم يستدعك بنفسه اطلب ذلك منه فسيس ّره‬
‫ذلك كثير ًا‪ ،‬ألنه رجل كريم مفتون بهذا الكرم إلى َح ّد العبادة‪.‬‬

‫***‬

‫‪119‬‬
120
‫سي زعرور‬

‫(مالحظة‪ :‬اقتبست هذه الشخصية من الفرنسية‪ ،‬وأثب ُّتها هنا‬


‫حي ًا خالد ًا يوجد في كل مكان‬
‫ألني وجدت فيها أنموذج ًا ّ‬
‫وفي كل زمان‪ .‬كما أخرجت منها مسرحية في ثالثة فصول‬
‫تحت عنوان «النائب المحترم»)‪.‬‬

‫يسميه زمالؤه‪ ،‬مع ِ ّلم ًا‬


‫ّ‬ ‫كان الشيخ زعرور‪ ،‬أو سي زعرور‪ ،‬كما‬
‫بسيط ًا في مدرسة ابتدائية حرة‪ ،‬قانع ًا بالحياة‪ ،‬وبنصيبه منها‪،‬‬
‫ال تق ّي ًا فاض ً‬
‫ال نزيه ًا‪،‬‬ ‫راضي ًا عن نفسه وعن عمله؛ ألنه كان رج ً‬
‫يعتقد الخير في الدنيا‪ ،‬ويعتقد الصالح في البشر‪ ،‬ال يعرف‬

‫‪121‬‬
‫الش ّر‪ ،‬وال يتصوّر صدوره من الناس‪ .‬كان يعيش في برجه‬
‫العاجي‪ ،‬في دنيا فاضلة ال تطرق أبوابها الرذيلة‪ ،‬وال يطأ‬
‫طيبة من‬
‫أرضها الفساد‪ .‬وكان يعيش‪ ،‬مع سي زعرور‪ ،‬رفقة ِ ّ‬
‫الزمالء يشاركونه عمله‪ ،‬ويقاسمونه بؤسه‪ ،‬ولكنهم ال يشاركونه‬
‫نظرته إلى الحياة‪ ،‬وال يعتقدون عقيدته في البشرية‪.‬‬
‫كانت تلك المدرسة التي يع ِ ّلم بهاسي زعرور ِملك ًا لمديرها‬
‫يومي ًا عن تنمية‬
‫ّ‬ ‫الجشع‪ ،‬يستغ ّلها استغال ً‬
‫ال ماد ّي ًا فظيع ًا‪ ،‬يبحث‬
‫موارده بشتى الوسائل والطرق؛ فقد كان على طرف نقيض من‬
‫سي زعرور الذي يرى المادة عرض ًا زائ ً‬
‫ال من أعراض الدنيا‪ ،‬ال‬
‫ّ‬
‫يستحق العناية واالهتمام‪.‬‬
‫وذات يوم‪ ،‬بينما كان سي زعرور يقوم ‪ -‬قبل حلول موعد‬
‫ِّ‬
‫المتأخرين‪ ،‬إذ دخل عليه‬ ‫الدرس‪ -‬بتسبيق درس ألحد تالميذه‬
‫المدير ببطنه المنتفخة‪ ،‬وسمة الغضب تعلو وجهه‪ ،‬وابتدره‬
‫بسرد المادة السابعة والعشرين من الئحة المدرسة الداخلية‪،‬‬
‫التي توجب على كل مع ِ ّلم من مع ِّلمي المدرسة‪ ،‬يقوم بإعطاء‬
‫دروس خاصة‪ ،‬أن يدفع للمدير ُخمس مدخول هذه الدروس‪.‬‬
‫واتهم المدير سي زعرور بإخفائه أمر هذه الدروس الخاصة‬
‫واستغالله لمدخولها وحده دون سواه‪ ...‬وعبث ًا حاول سي‬
‫مجانية ّ‬
‫مؤقتة يروم منها إلحاق‬ ‫زعرور إفهامه أنها دروس خاصة ّ‬

‫‪122‬‬
‫التلميذ بزمالئه في فن متأخر فيه؛ ألن الرجل ال يفهم غير‬
‫«المجانية» أثر ًا في قاموسه‪ .‬ولهذا‬
‫ّ‬ ‫المادة‪ ،‬وال يعرف لكلمة‬
‫اشتد به الغضب‪ ،‬واتَّهم المعلم ّ‬
‫ببث روح التم ُّرد في التالميذ‬ ‫ّ‬
‫ومحاوالته إفالس صندوق المدرسة‪ ،‬وما كان منه إال أن ألزمه‬
‫وقدر له مدخولها الخيالي‬
‫َّ‬ ‫بدفع ُخمس أجرة هذه الدروس‪،‬‬
‫بنفسه‪ .‬وأراد زعرور استعطاف مديره‪ ،‬وهو يعرف جيد ًا أنه‬
‫ي َُس ُّر كثير ًا النخراط تالميذ جدد في مدرسته‪ ،‬فقال له‪ :‬سيدي‬
‫دخل تلميذ ًا جديد ًا في مدرستنا‪.‬‬
‫المدير‪ ،‬أظن أني س ُأ ِ‬
‫وكان لهذا النبأ سحره الفعال في نفس المدير‪ ،‬فانفرجت شفتاه‬
‫عن ابتسامة عريضة مسحت عقد الغضب من فوق جبينه‪،‬‬
‫أحق ًا؟ أرجو أال يكون من نوع تلميذك هذا‬
‫ّ‬ ‫وابتدره صارخ ًا‪:‬‬
‫تلقنه درس ًا دون مقابل؟‬
‫الذي َّ‬
‫‪ -‬ال يا سيدي المدير‪ ،‬إنه تلميذ ذكي مجتهد‪.‬‬
‫غني ًا وأهله‬
‫‪ -‬ال‪ ...‬ال‪ ...‬ال أقصد ذلك‪ ،‬وإنما أقصد إذا ما كان ّ‬
‫يقبلون شروط المدرسة‪.‬‬
‫‪ -‬طبع ًا‪ ،‬يا سيدي المدير‪ ،‬ما في ذلك شك‪.‬‬
‫‪ -‬اكتب‪ -‬إذ ًا‪ -‬الشروط‪ ،‬سأمليها عليك‪ ،‬وإنني أعتمد على‬
‫لباقتك في عرضها عليهم‪ :‬خمسمئة فرنك للشهر الدراسي‪،‬‬
‫علي أنا دروس ًا خاصة‪ ،‬وأجرة‬ ‫مقدم ًا‪ .‬وطبع ًا ّ‬
‫يتلقى ّ‬ ‫وثالثة أشهر ّ‬

‫‪123‬‬
‫الحصة الواحدة من هذه الدروس مئتان من الفرنكات‪ ،‬مئة‬
‫فرنك شهر ّي ًا مقابل ما يستهلكه من الماء للشرب وخالفه‪ ،‬ومئة‬
‫أخرى مقابل األدوية التي ربما احتجنا إلى إسعافه بها»‪.‬‬
‫أظن أن هذه الشروط مقبولة‪.‬‬
‫‪ -‬دون ّ‬
‫شك يا سيدي المدير‪.‬‬
‫سأعد له أحسن البقاع في مدرستي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬أسرع به‪ -‬إذ ًا‪ّ -‬‬
‫إلي‪،‬‬
‫وكان سي زعرور قد َق َّدم مطلب ًا منذ عهد بعيد‪ ،‬يطلب فيه‬
‫ّ‬
‫يستحقه عن جدارة‪ ،‬وبقي‬ ‫وسام المعارف الذي يرى نفسه‬
‫مطلبه دون جواب‪ ،‬وكان مديره على علم بذلك‪ ،‬وأراد أن‬
‫يبادله جمي ً‬
‫ال بجميل‪ ،‬وم ّنة بأختها‪ ،‬فقال له‪ :‬لقد قابلت‬
‫وحدثته في شأن طلبك لوسام المعارف‪،‬‬
‫ّ‬ ‫شخص ًا عظيم ًا اليوم‪،‬‬
‫وأفادني أنهم منحوك الوسام‪.‬‬
‫أحق ًا منحوني الوسام؟‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬ماذا تقول؟‬
‫حقيقي ًا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬نعم‪ ...‬لكنهم ال يستطيعون أن يمنحوك وسام ًا‬
‫ولهذا فقد منحوك وسام ًا معنو ّي ًا‪ .‬وحا َر سي زعرور في هذه‬
‫العبارة‪ ،‬ولم يدرك كنه هذا الوسام المعنوي‪ ،‬ولكن مديره‬
‫أسعفه بالشرح والتحليل وأفاده بقوله‪ :‬معنو ّي ًا‪ ،‬يعني أنهم‬
‫منحوك هذا الوسام دون أن يمنحوك إياه‪ .‬هل فهمت؟‬
‫‪ -‬أجل فهمت‪ .‬منحوني دون أن يمنحوني‪ ،‬فهو عندي في‬

‫‪124‬‬
‫المعنى دون أن يكون عندي في الحقيقة‪.‬‬
‫‪ -‬أحسنت‪ ...‬وهذا شرف عظيم يعود فضله إلى الجهود التي‬
‫بذلتها أنا في هذا الشأن‪.‬‬
‫َش َكر سي زعرور مديره‪َّ ،‬‬
‫وودعه إلى الباب‪ ،‬وبقي وحده تغمره‬
‫نشوة السرور والبهجة بوسامه المعنوي الجديد‪ .‬وسارت‬
‫األيام تباع ًا‪ ،‬وساءت األحوال بين المدير وزعرور؛ ألن هذا‬
‫األخير لم يب ّر بوعده‪ ،‬ولم يدخل التلميذ الجديد الذي وعد‬
‫وأس َّر المدير في نفسه‪ ،‬وبقي يتربَّص الفرص‬
‫به إلى المدرسة‪َ ،‬‬
‫لالنتقام منه‪.‬‬
‫كان المدير في مكتبه ذات صباح إذ دخل عليه والد تلميذ‪،‬‬
‫وبيده ورقة اختبار ابنه‪ ،‬وهو يُرغي ويُزبد ساخط ًا على النتائج‬
‫السيئة التي أحرزها ابنه في اختباره الثالثي‪ ،‬وخشي المدير‬
‫أن تخسر ‪ -‬من جراء ذلك ‪ -‬مدرسته تلميذ ًا‪ ،‬أو باألحرى أن‬
‫يخسر جيبه مورد ًا‪َ ،‬‬
‫فخ َّفف من ّ‬
‫حدة غضب الرجل‪ ،‬وأفاده أن‬
‫ابنه من خيرة تالميذ المدرسة وأذكاهم‪ ،‬يمثل المكانة األولى‬
‫من قسمه‪ ،‬وإنما أخطأ الكاتب في نقل النتيجة عن السجل‬
‫توجه االثنان‬
‫َّ‬ ‫األساسي‪ ،‬ووعده بإصالح هذا الخطأ حا ً‬
‫ال‪.‬‬
‫إلى قسم سي زعرور‪ ،‬وحاول المدير‪ -‬بلباقته‪ -‬أن يُفهم هذا‬
‫األخير الغرض من زيارته‪ ،‬ولكنه خ َّيب ظنه وفاجأه بقوله‪ :‬إن‬

‫‪125‬‬
‫التأخر‪ ،‬قليل العمل‪ ،‬ولهذا فال غرابة إذا‬
‫ُّ‬ ‫هذا التلميذ بليد‪ ،‬كثير‬
‫ما أحرز هذه النتيجة السيئة‪.‬‬
‫فقاطعه مديره قائ ً‬
‫ال‪ :‬ال‪ ...‬ال‪ ...‬إنك مخطئ‪ ،‬فمن دون شك‬
‫أن الكاتب أخطأ في نقل النتيجة عن السجل‪ ،‬وال بد أن‬
‫هذه األصفار عشرات‪ ،‬وغمزه بعينه‪ ،‬ولكن زعرور الساذج لم‬
‫يفهم مراده‪ ،‬وأفاده أنه ال يعرف هذا الكاتب الذي يعنيه‪ ،‬وأنه‬
‫ّ‬
‫السجل الذي كان فوق‬ ‫ينقل النتائج بنفسه‪ ،‬وأطلع الوالد على‬
‫مكتبه وأراه األصفار المثبتة بالحبر األحمر أمام اسم التلميذ‪،‬‬
‫حدة هذا الوالد المفجوع في ابنه‪ ،‬ورفع من‬
‫األمر الذي أعاد ّ‬
‫درجة حرارة غضبه‪ ،‬فتب َّرع للمعلم والمدير والمدرسة بنصيب‬
‫وافر من الشتائم‪ ،‬وأقسم بأغلظ األيمان أال يعود ابنه إلى هذه‬
‫المدرسة‪ .‬وطبع ًا‪ ،‬ما كان من حضرة المدير إال أن طرد سي‬
‫زعرور من عمله وهو يقسم‪ -‬أيض ًا‪ -‬بأغلظ األيمان أال تطأ‬
‫رجاله مدرسته بعد اآلن‪.‬‬
‫خاصة لطفل‬
‫ّ‬ ‫كان سي زعرور يقوم بإعطاء دروس باللغة العربية‬
‫أوروبي كان يعيش مع خالته‪ ،‬وكانت هذه السيدة تعيش مع‬
‫نائب تساعده في نصب «أصيل» من نوّاب المجلس البلدي‬
‫تساعده في نصب حبائله القتناص أموال الشعب وخزينة‬
‫البلدية‪ ،‬وتقاسمه األرباح دون المسؤوليات‪ .‬كان االثنان‬

‫‪126‬‬
‫يتوسمان من ورائه أرباح ًا‬
‫َّ‬ ‫جالسين في خلوة يد ِ ّبران أمر ًا‬
‫يتقدم إلبرام‬
‫َّ‬ ‫جزيلة‪ ،‬واحتاج األمر إلى شخص ثالث‪ ،‬شخص‬
‫الصفقة بناء على تزكية النائب المحترم‪ .‬حار االثنان في إيجاد‬
‫الشخص‪ ،‬وقد طلب منهما عمالؤهم السابقون أجور ًا باهظة‬
‫َ‬
‫يرض العمالء غيرها‪.‬‬ ‫لم يرضيا بها‪ ،‬ولم‬
‫كان النائب وزميلته في حيرة من أمرهما إذ دخل سي زعرور‬
‫يج ّر أذياله قاصد ًا حجرة الطفل لتلقينه درسه المعتاد‪ ،‬وما‬
‫كادت السيدة تشاهده حتى هبط عليها الوحي‪ ،‬وعرضت على‬
‫صديقها استخدامه لهذا الغرض وسواه من األمور واألعمال‪،‬‬
‫وذهبت تطري سذاجته‪ ،‬وتثني على جهله بالحياة ودقائقها‪.‬‬
‫واس ُتدعي المع ِّلم الساذج إلى حظيرة الذئاب‪ ،‬وعرضا عليه‬
‫العمل معهما‪ ،‬وأغرياه براتب شهري مضاعف عما كان‬
‫يتقاضاه سابق ًا في مدرسته‪ُ .‬س َّر سي زعرور لألمر‪ ،‬وحمد الله‬
‫الذي عوَّضه بدل درهمه دينار ًا‪ ،‬واستفسر عن نوع العمل‬
‫فأفاداه أنه عمل إداري بسيط ال يعدو توقيع العقود التجارية‬
‫وتس ُّلم المبالغ المالية من إدارة البلدية والشركات التجارية‪.‬‬
‫وتمت الصفقة التي كان‬
‫ّ‬ ‫و َّقع سي زعرور على أول عقد‪،‬‬
‫النائب وزميلته ينتظران إنهاءها بفارغ الصبر‪ .‬توالت األعمال‬
‫وتبعتها األرباح‪ ،‬وشاء القدر أن ّ‬
‫يطلع زعرور على أسرار القوم‪،‬‬

‫‪127‬‬
‫وأن يعرف كنه العمل الشائن الذي هو قائم به‪ ،‬فثار ضميره‬
‫مؤ ِ ّنب ًا‪ ،‬وحرمه ّ‬
‫لذة العيش‪ ،‬وأغاظه أن يفقد شرفه‪ ،‬ويخسر فضله‬
‫وتحمل من أجلهما الفاقة‬
‫َّ‬ ‫ضحى في سبيلهما بكل شيء‪،‬‬
‫وقد ّ‬
‫واالحتياج‪ .‬وعاد بذاكرته إلى مدرسته‪ ،‬فبدت له جنة‪ ،‬وإلى‬
‫وهددهما‬
‫َّ‬ ‫مديره وزمالئه فبدوا له مالئكة‪ ،‬فثار على رفيقيه‪،‬‬
‫ّ‬
‫فكل‬ ‫هدداه بإلقائه في غياهب السجن‪،‬‬
‫بالفضيحة‪ ،‬ولكنهما َّ‬
‫شيء باسمه حتى الرصيد المالي المودع في المصرف‪.‬‬
‫وه ّم َ‬
‫وغ ّم عظيمين‪،‬‬ ‫عاش سي زعرور في اضطراب متواصل َ‬
‫كادت كلها تذهب به إلى الجنون‪ ،‬وق َّرر أخير ًا أن يشرب الكأس‬
‫إلى الثمالة‪ ،‬فاستولى على المكتب‪ ،‬واستولى على األموال‪،‬‬
‫وأعلن انفصاله عنهما‪ ،‬وكل شيء باسمه وتحت مسؤوليته‪.‬‬
‫وانقلب الحمل الوديع ذئب ًا خطير ًا‪ ،‬فكشَّ ر عن أنيابه‪ ،‬وطرد‬
‫وح َّرم عليهما دخوله غير عابئ‬
‫النائب وصديقته من مكتبه‪َ ،‬‬
‫بالتهديد والوعيد‪.‬‬
‫سارت أمور زعرور في مجراها المادي المعتاد على خير ما‬
‫وص َهرته األيام في بوتقتها‪،‬‬
‫يرام‪ ،‬وقد اكتسب خبرة وتجربة‪َ ،‬‬
‫وص َّبته في قالب الحياة‪ ،‬فخرج إنسان ًا جديد ًا ال يشبه َخ َلفه‬
‫َ‬
‫في شيء إال في االسم أو بقية ضمير مثقل بالذنوب وشرف‬
‫َّ‬
‫يتصفح‬ ‫مدنَّس بالرذائل‪ .‬كان زعرور جالس ًا في مكتبه ذات يوم‬

‫‪128‬‬
‫بريده إذ لفتت نظره علبة صغيرة كانت ضمن الرسائل والرزم‪،‬‬
‫ففتحها قبل سواها‪ ،‬وإذا به يجد داخلها وسام ًا بنفسجي اللون‬
‫يحمل إشارة المعارف‪ ،‬تصحبه رسالة رقيقة تثني على معارفه‬
‫وشرفه‪ ،‬وتطري أخالقه وفضله‪ ،‬ومع الرسالة تقرير يمنحه وسام‬
‫المعارف‪.‬‬
‫ّ‬
‫يتصفح بريده‪ ،‬وإذا‬ ‫ألقى وسامه في درج مهمل‪ ،‬واستم َّر‬
‫يتقدم نحوه في خشوع وإذالل‬
‫ّ‬ ‫بالباب يُفتح‪ ،‬وبمديره السابق‬
‫راجي ًا منه أن يش ِّرف المدرسة برئاسة حفلتها السنوية‪.‬‬
‫ّ‬
‫يستحق الوسام‪،‬‬ ‫عبث ًا حاول زعرور أن ي ِ‬
‫ُفهم الناس أنه ال‬
‫ّ‬
‫يستحق مجالس الشرف التي يعرضونها عليه بين الفينة‬ ‫وال‬
‫والفينة؛ ألنه سارق محتال ينهب أموال األمة والدولة بشتى‬
‫عدوه‬
‫طرق االحتيال‪ .‬ولكن الناس لم يعبؤوا بقوله‪ ،‬بل ّ‬
‫وسجلوه في جملة مناقبه الفاضلة‪ ،‬وحسبهم منه أن‬
‫ّ‬ ‫تواضع ًا‪،‬‬
‫يربح كثير ًا‪ ،‬ورصيده في المصرف يتضاعف كل يوم‪ ،‬والمال‬
‫في عرف البشر هو الفضيلة‪ ،‬وهو الشرف‪ ،‬وهو العلم واألدب‪.‬‬

‫***‬

‫‪129‬‬
130
‫التلميذ‬

‫«دروت» الذي كان قائد ًا عظيم ًا في جيش نابليون األول‪ ،‬كان‬


‫خباز فقير في مدينة «نانسي» بفرنسا‪ ،‬اجتاز‬
‫في طفولته ابن ّ‬
‫أطواره المدرسية في ظروف قاسية وأيام شديدة‪ ،‬حيث كان‬
‫أبواه في غاية الفاقة وشدة االحتياج‪ ،‬فلم يسمحا له بالذهاب‬
‫إلى المدرسة إال على شرط أن يقوم بجميع أعماله اليومية خير‬
‫قيام عند عودته منها‪ .‬ولهذا فقد كان حتم ًا عليه‪ ،‬بعد الرجوع‬
‫من المدرسة‪ ،‬أن يقوم بتوزيع الخبز على عمالء أبويه‪ ،‬وأن‬
‫يساعدهما في بقية األعمال‪ ،‬وكان يقضي بقية يومه وشطر ًا‬
‫من ليله في إنجاز أعمال كثيرة ّ‬
‫شاقة‪ ،‬وال يجد فرصة ألعماله‬
‫يشاهد فيها‬
‫َ‬ ‫ِّ‬
‫متأخرة من الليل‪،‬‬ ‫المدرسية‪ ،‬سوى بضع سويعات‬

‫‪131‬‬
‫منكب على دروسه‪ ،‬يلتهمها على ضوء‬
‫ّ‬ ‫الفتى «دروت» وهو‬
‫نور الموقد‪ .‬ولكن هذه العقبات وهذه العراقيل لم تستطع أن‬
‫تعوّق هذا الفتى عن النجاح‪ ،‬أو تقف في طريقه إلى بلوغ‬
‫ّ‬
‫الفذ‪ ،‬وقوة‬ ‫ِّ‬
‫المتوقد‪ ،‬وحزمه‬ ‫المعالي‪ ،‬فقد تغلب عليها بذكائه‬
‫إرادته النادرة‪ ،‬واستطاع هذا الفتى القروي الفقير‪ ،‬الذي َع ِدم‬
‫ّ‬
‫يشق طريقه الوعر‪ ،‬وأن يصل إلى هدفه‬ ‫وسائل التعليم كلها‪ ،‬أن‬
‫ال بالنجاح‪...‬‬ ‫َ‬
‫مك َّل ً‬
‫دعونا نستمع إليه يحدثنا بنفسه عن أول اختبار شارك فيه‪ ،‬وهو‬
‫مهدت له‬
‫مسابقة االنخراط في سلك المدرسة العسكرية التي َّ‬
‫السبيل إلى المجد حتى أصبح قائد ًا عظيم ًا من قوّاد نابليون‬
‫َخ َّل َد ذكره التاريخ‪.‬‬
‫قال‪ :‬حينما كنت ذات يوم‪ ،‬ما ّر ًا في شوارع نانسي ُأوزِّ ع‬
‫الخبز على عمالئنا‪ ،‬لفت نظري منشور كبير مثبت على جدار‬
‫أحد المباني‪ ،‬يحتوي على إعالن للمدرسة الحربية تعلن فيه‬
‫موعد مسابقة االلتحاق بها‪ ،‬الذي س ُيجرى في مدينة «ميتز»‪.‬‬
‫حدثتني نفسي باالشتراك في هذه المسابقة‪ ،‬وااللتحاق بهذه‬
‫المدرسة الحربية‪ ،‬ولكن كيف يمكن ذلك وقد كان أبواي في‬
‫غاية الفاقة واالحتياج؟! فلم يكن مدخولها اليومي يقوم ِ ّ‬
‫بسد‬
‫تحصلت‪ -‬مع ذلك‪ -‬على ترخيص‬
‫َّ‬ ‫حاجاتنا الضرورية‪ ،‬ولكني‬

‫‪132‬‬
‫وتحصلت كذلك على مبلغ عشرة‬
‫َّ‬ ‫منهم بالسفر لتأدية االختبار‪،‬‬
‫جد ًا ال‬
‫المد َخر عندنا‪ .‬وكان المبلغ زهيد ًا ّ‬
‫َّ‬ ‫فرنكات‪ ،‬وهو كل‬
‫يكفي ألجرة الركوب‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن المصاريف الثانوية األخرى‪،‬‬
‫قدمي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بد ًا من السفر ماشي ًا على‬
‫ولم أجد ّ‬
‫وتوجهت لفوري‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫وصلت مدينة «ميتز» يوم المسابقة نفسها‪،‬‬
‫إلى قاعة االختبار‪ ،‬وما كدت أبدو في القاعة التي كانت‬
‫حافلة بعدد كبير من التالميذ واألساتذة‪ ،‬حتى ّ‬
‫تلقاني هذا‬
‫الجمع الغفير بعاصفة شديدة من الضحك والسخرية‪ .‬والحق‬
‫أن حالتي كانت تدعو إلى أ كثر من ذلك‪ ،‬فقد كنت نحيف ًا‬
‫ضعيف ًا‪ ،‬تكسو مالبسي الريفية المر َّقعة طبقة كثيفة من غبار‬
‫الطريق‪ ،‬أحمل في يميني عصا غليظة‪ ،‬منت ِع ً‬
‫ال حذا ًء ريفي ًا‬
‫خشن ًا تحيط به طبقة من األوحال‪.‬‬
‫وقفت مضطرب ًا في وسط القاعة بين ضجيج الضحك والسخرية‪،‬‬
‫ردت‬ ‫ولم أنتبه إال على أحد المختبرين يخاطبني ّ‬
‫برقة وشفقة‪َّ ،‬‬
‫إلي بعض جأشي‪ :‬ضللت سبيلك‪ ،‬من دون شك يا صديقي!‬
‫َّ‬
‫ماذا تريد؟ قال لي الرجل طيب القلب هذا الكالم‪ ،‬فأجبته‬
‫على الفور‪ :‬أريد أن أشارك في المسابقة يا سيدي! وما كدت‬
‫أنطق بهذه الكلمات حتى ارتفع ضجيج الضحك والسخرية‬
‫من جديد في جميع أركان القاعة‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫‪ -‬ولكن‪ ،‬هل تدري أنها مسابقة المدرسة الحربية؟ (قال‬
‫المختبر بلطف) وأنت على علم بدون ريب‪ ،‬بالشروط والمواد‬
‫ِ‬
‫المعلنة في البرنامج‪.‬‬
‫‪ -‬سيدي‪ ،‬درستها كلها! (أجبته متلعثم ًا)‪.‬‬
‫بني وانتظر‪ ،‬فعندما‬
‫وأجابني السيد‪ :‬إذن‪ ،‬تفضل اجلس‪ ،‬يا ّ‬
‫يأتي دورك أدعوك!‬
‫ذهبت أنزوي بعيد ًا في أحد األركان‪ ،‬ولكن الضحك‬
‫والسخرية الالذعة كانا يالحقاني أينما حللت‪ ،‬ورغم ما كنت‬
‫فيه من الخجل واالضطراب أخذت أنصت بإمعان إلى أسئلة‬
‫المختب ِرين وأجوبة الطلبة‪ ،‬وما هي إال لحظة حتى أحسست‬
‫ِ‬
‫تدب في جسمي النحيل‪ ،‬حيث تب َّين لي أنه‬
‫ّ‬ ‫بروح جديدة‬
‫في استطاعتي اإلجابة على هذه األسئلة كلها‪ .‬وأخير ًا جاء‬
‫المختبر ينطق باسمي‪ ،‬وما كدت أقف أمام‬
‫ِ‬ ‫دوري‪ ،‬وسمعت‬
‫لجنة االختبار‪ ،‬حتى امتألت القاعة بالفضوليين الذين أتوا من‬
‫المختبر‬
‫ِ‬ ‫هنا وهناك لمشاهدة اختبار الفتى القروي‪ .‬ابتدرني‬
‫يسألني في قواعد الحساب‪ ،‬وكانت أجوبتي متتابعة‪ ،‬بدون‬
‫متعجب ًا‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫المختبر وسألني‬
‫ِ‬ ‫انقطاع وال اضطراب‪ ،‬حتى سكت‬
‫أين درست الحساب؟‬
‫‪ -‬درسته منفرد ًا يا سيدي! على ضوء موقد مخبزنا‪ ،‬وإذا‬

‫‪134‬‬
‫مستعد ًا‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫تفضلتم بسؤالي في بقية البرنامج‪ ،‬سوف تجدوني‬
‫لإلجابة!‬
‫وامتد اختباري ما يقرب من الساعتين‪ ،‬وما كدت أنتهي حتى‬
‫َّ‬
‫ضمني إلى صدره‬
‫وتوجه نحوي حيث َّ‬
‫َّ‬ ‫قام الرجل من مقعده‪،‬‬
‫بني! وأعتقد تمام ًا‬ ‫يردد‪ّ ِ :‬‬
‫أقدم إليك تهنئتي وإعجابي يا ّ‬ ‫وهو ّ‬
‫أنك ستكون أحد طلبة المدرسة الحربية النجباء!‬
‫ال يستطيع أحد أن يتصوَّر السرور الذي غمر قلبي في تلك‬
‫الساعة! ولكن سرور ًا أعظم منه كان ينتظرني‪ ،‬وشرف ًا لم‬
‫مستعد ًا للقائي‪ :‬وهو أن جميع الطلبة الذين‬
‫ّ‬ ‫أ كن أتو َّقعه كان‬
‫تقدموا نحوي‪ ،‬وحملوني على أعناقهم‬
‫ضحكوا وسخروا مني‪َّ ،‬‬
‫في موكب مهيب‪ ،‬حيث طافوا بي مدينة «ميتز» كلها هاتفين‬
‫باسمي‪ .‬كان ذلك اليوم أسعد يوم في حياتي!‬

‫***‬

‫‪135‬‬
‫صدر يف سلسلة كتاب الدوحة‬
‫عبد الرحمن الكواكبي‬ ‫طبائع االستبداد‬ ‫‪1‬‬
‫غسان كنفاين‬ ‫برقوق نيسان‬ ‫‪2‬‬
‫سليامن فياض‬ ‫األمئة األربعة‬ ‫‪3‬‬
‫عمر فاخوري‬ ‫الفصول األربعة‬ ‫‪4‬‬
‫عيل عبدالرازق‬ ‫اإلسالم وأصول الحكم ‪ -‬بحث يف الخالفة والحكومة يف اإلسالم‬ ‫‪5‬‬
‫نبي‬
‫مالك بن ّ‬ ‫رشوط النهضة‬ ‫‪6‬‬
‫محمد بغدادي‬ ‫صالح جاهني ‪ -‬أمري شعراء العامية‬ ‫‪7‬‬
‫أبو القاسم الشايب‬ ‫نداء الحياة ‪ -‬مختارات شعرية ‪ -‬الخيال الشعري عند العرب‬ ‫‪8‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫حرية الفكر وأبطالها يف التاريخ‬ ‫‪9‬‬
‫ميخائيل نعيمة‬ ‫الغربال‬ ‫‪10‬‬
‫الشيخ محمد عبده‬ ‫اإلسالم بني العلم واملدنية‬ ‫‪11‬‬
‫بدر شاكر السياب‬ ‫أصوات الشاعر املرتجم ‪ -‬مختارات من قصائده وترجامته‬ ‫‪12‬‬
‫ترجمة‪ :‬غادة حلواين‬ ‫• فتنة الحكاية جون أيديك ‪ -‬سينثيا أوزيك ‪ -‬جيل ماكوركل ‪ -‬باتريشيا هامبل‬
‫الطاهر الحداد‬ ‫امرأتنا يف الرشيعة واملجتمع‬ ‫‪13‬‬
‫طه حسني‬ ‫الشيخان‬ ‫‪14‬‬
‫محمود درويش‬ ‫ورد أكرث ‪ -‬مختارات شعرية ونرثية‬ ‫‪15‬‬
‫توفيق الحكيم‬ ‫يوميات نائب يف األرياف‬ ‫‪16‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية عمر‬ ‫‪17‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية الصدّيق‬ ‫‪18‬‬
‫عيل أحمد الجرجاوي‪/‬صربي حافظ‬ ‫رحلتان إىل اليابان‬ ‫‪19‬‬
‫ميخائيل الصقال‬ ‫لطائف السمر يف سكان الزُّهرة والقمر أو (الغاية يف البداءة والنهاية)‬ ‫‪20‬‬
‫د‪ .‬محمد حسني هيكل‬ ‫ثورة األدب‬ ‫‪21‬‬
‫ريجيس دوبريه‬ ‫يف مديح الحدود‬ ‫‪22‬‬
‫اإلمام محمد عبده‬ ‫الكتابات السياسية‬ ‫‪23‬‬
‫عبد الكبري الخطيبي‬ ‫نحو فكر مغاير‬ ‫‪24‬‬
‫روحي الخالدي‬ ‫تاريخ علم األدب‬ ‫‪25‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية خالد‬ ‫‪26‬‬
‫خمسون قصيدة من الشعر العاملي‬ ‫أصوات الضمري‬ ‫‪27‬‬
‫يحيى حقي‬ ‫مرايا يحيى حقي‬ ‫‪28‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية محمد‬ ‫‪29‬‬
‫حوار أجراه محمد الداهي‬ ‫عبدالله العروي من التاريخ إىل الحب‬ ‫‪30‬‬
‫فتاوى كبار الكتّاب واألدباء يف مستقبل اللغة العربية‬ ‫‪31‬‬
‫ترجمة‪ :‬رشف الدين شكري‬ ‫عام جديد بلون الكرز (مختارات من أشعار ونصوص مالك حداد)‬ ‫‪32‬‬
‫خالد النجار‬ ‫ِساج ال ُّرعاة (حوارات مع ُكتاب عامل ّيني)‬ ‫‪33‬‬
‫ترجمة‪ :‬مصطفى صفوان‬ ‫مقالة يف العبودية املختارة (إيتيان دي البويسيه)‬ ‫‪34‬‬
‫د‪.‬بنسامل حِ ّميش‬ ‫سريت ابن بطوطة وابن خلدون‬ ‫عن َ‬ ‫‪35‬‬
‫ابن طفيل‬ ‫حي بن يقظان ‪ -‬تحقيق‪ :‬أحمد أمني‬ ‫‪36‬‬
‫ميشال سار‬ ‫اإلصبع الصغرية ‪ -‬ترجمة‪ :‬د‪.‬عبدالرحمن بوعيل‬ ‫‪37‬‬
‫محمد إقبال‬ ‫محمد إقبال ‪ -‬مختارات شعرية‬ ‫‪38‬‬
‫ترجمة‪ :‬محمد الجرطي‬ ‫تزفيتان تودوروف (تأ ُّمالت يف الحضارة‪ ،‬والدميوقراطية‪ ،‬والغريية)‬ ‫‪39‬‬

‫‪136‬‬
137
138

You might also like