خطبة دينية

You might also like

Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 6

‫الحمد هلل ربّ العالمين والصّالة والسّالم على أشرف المرسلين‪ ،‬سيّدنا مح ّمد وعلى آله وصحبه‬

‫وسلّم‪.‬‬

‫وبعد‪ .‬فقد عُرفت بين إخواني المؤمنين بخواطري‪ +‬حول القرآن الكريم‪ ،‬وخواطري‪ +‬حول القرآن‬
‫الكريم ال تعني تفسيراً للقرآن ‪ ،‬و إنّما هي هب ٌ‬
‫ّات صفائيةٌ تخطر على قلب المؤمن في آي ٍة أو بعد‬
‫آي ٍة ‪ ،‬ولو كان القرآن من الممكن أن يفسَّر لكان صلّى هللا عليه وسلّم أولى الناس بتفسير هذا‬
‫القرآن‪ ،‬ألنه عليه نزل و به انفعل‪ ،‬ولكن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم بين للناس على قدر‪+‬‬
‫حاجتهم في البيان ‪،‬فبين لهم الحاجات التكليفيّة التي يثاب عليها المرء إن فعلها و يعاقب إن تركها‪،‬‬
‫أما كل ما يتعلّق بكونيّات‪ +‬الوجود و أسرار القرآن حول ذلك الوجود‪ +‬فقد اكتفى رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم بما علم هو نفسه‪ ،‬واكتفى بأنّه علّم منها ما وجد عنده استشرافاً‪ +‬للفهم‪ ،‬لكنه لم يشع‬
‫ذلك و لم يع ّمم ألن العقول قد ال تتقبّله‪.‬‬

‫والقرآن لم يأت لكي يعلمنا كيف نجيد أسرار‪ +‬الوجود وإنّما جاء القرآن ليكنز أسرار الوجود‪،‬‬
‫حتى تجيء العقول ذوات االستعداد ألن تفهم السرّ‪ ،‬ألنّها حامت حوله بحركة الحياة‪ ،‬حينئ ٍذ يكون‬
‫ألن الذي يبحث فيه له نشاطٌ فكر ٌ‬
‫ي حوله‪ ،‬و لذلك ال نجد‬ ‫إعطاء القرآن للس ّر عطاء مجذوبا ً إليه‪ّ ،‬‬
‫أن صحابياً‪ +‬من صحابة رسول هللا سأله عن شي ٍء‪ ،‬كما لم يسأله عن ألف الم ميم‪ ،‬وال عن حاء‬
‫ّ‬
‫أن رسول‪ +‬هللا استقبل أناسا ً كثيرين يؤمنون بكتاب هللا‪ ،‬و استقبل أناسا ً‬
‫ميم عين سين قاف‪ ،‬مع ّ‬
‫كثيرين يكفرون بما أنزل هللا‪ ،‬و كانوا يريدون أن يقيموا الح ّجة على رسول هللا في أنّه أي بشي ٍء‬
‫بأن كافراً من الكفّار العتاه قال للقوم و هم بلغاء فصحاء يجيدون‬
‫هراء‪ ،‬كالم مجانين! فهل سمعنا ّ‬
‫العربيّة ملكةً ال صناعةً هل سمعنا واحداً من الكفّار قد قال ‪ :‬ماذا يعني ألف الم ميم ؟ و ماذا تعني‬
‫حاء ياء سين ميم قاف‪ ،‬كيف يم ّر على المكابر المنكر مثل هذه الفواتح للصّور‪ +‬و ال يجد فيها ماال‬
‫ينقض على رسول هللا شيئا ً من أمره ال ش ّ‬
‫ك أنّه انفعل لها و إن لم يؤمن بها و لم يجد فيها أ ّ‬
‫ي‬
‫شي ٍء يمكن أن ينقضّ به على رسول هللا ليهدم قرآنه‪ ،‬هذا إذا انفرد المؤمنون به سألوه عنها وال‬
‫الكافرون به سألوه عنها مع إنّهم كانوا حريصين على أن ينقضوا رسول هللا أل ّ‬
‫ي شي ٍء من‬
‫األشياء‪ ،‬فلو كان في ذلك شي ٌء م ّما يريدون لقالوا للناس ما هذا‪ ،‬ولكنّهم كانوا يقولون‪ :‬ال تسمعوا‬
‫لهذا القرآن‪ .‬ومعنى‪ +‬ال تسمعوا لهذا القرآن أنّهم يعتقدون مع أنّهم كافرون به‪ّ ،‬‬
‫أن الذي يسمع‬
‫القرآن سيجد له األخذ و سيجد له األسر و سيجد له الحالوة و سيجد له التّأثير‪ ،‬فالكفّار يخافون إن‬
‫سمع الكفّار القرآن أن يميلوا إلى القرآن‪ ،‬و لو كان القرآن ال يعطي شيئا ً من هذا لما ه ّمهم أن‬
‫يسمعوا‪ +‬هذا القرآن أم ال يسمعوا وال يكتفون بأن يمنعوا‪ +‬السّماع للقرآن بل يقولون ‪ :‬وإلغَوا فيه !‬
‫إلغَوا فيه أي شوشروا عليه ؛ ال يمكنهم أن يكون ذلك إاّل إذا كانوا أصحاب ملك ٍة يفهمون تأثير‬
‫القرآن في الملٌكة العربيّة ‪.‬الرّسول صلّى هللا عليه وسّلم ترك القرآن فيما يتعلّق بغير التّكليف زمن‬
‫ٌ‬
‫آيات يس ّميها‪ +‬هللا آيات‪ ،‬ومن آياته الليل‬ ‫لماذا؟ ّ‬
‫ألن القرآن كالم هللا والكون خلق هللا وفي الكون‬
‫والنّهار وال ّشمس والقمر ومن آياته أنّك ترى األرض خاشعةً‪ .‬ك ّل هذه آيات يس ّميها هللا آيات‬
‫ت‬ ‫ٌ‬
‫آيات‪ .‬الكون آياته تفسّر آيا ِ‬ ‫ٌ‬
‫آيات وفي‪ +‬القرآن‬ ‫ويس ّمي ما ينزل من القرآن آيات إذاً ففي الكون‬
‫القرآن‪ ،‬إذاً ما زاد عن األحكام المطلوبة فالّ ّزمن هو الكفيل بتفسيره‪ ،‬وك ّل ما يعطيه هللا لبعض‬
‫خلقه أن يعطيهم ال ّشفافية الستنباط الموجود‪ +‬في سرٍّ من أسرار القرآن عند استعداد الكون والعقول‬
‫لتقبّل ما في القرآن‪.‬‬

‫أن القرآن ساعة نزل تكلّم عن كرويّة األرض كالما ً واضحاً‪ ،‬في ٍ‬
‫أمر ال ينفع بل‬ ‫نريد أن نقول لو ّ‬
‫مرهون بأن أعلم أنّها كرويّة؟ ال‪ ،‬أنا ال أستفيد منها‬
‫ٌ‬ ‫قد يضرّ‪ .‬انتفاعي باألرض وبما على األرض‬
‫سواء علمت أنّها كرويّة أوغير كرويّة وال أستفيد من الدورة سواء سواء عرفت الدور أم لم‬
‫أستفد‪.‬‬

‫فاالستفادة من ال ّشيء ال تتوقّف‪ +‬على معرفة كنه الشيء‪ ،‬والكون موجود‪ +‬بكل خواصّه ليفيد الناّس‪.‬‬

‫ي ّ‬
‫الذي ال يعرف‪ +‬ثقافةً كهربائيّة يأتي ليشعل المصباح بضغطه‬ ‫أنا ضربت مثالً م ّرة فقلت القرو ّ‪+‬‬
‫على ز ٍّر خاصّ ‪ ،‬هو ينتفع بهذا لكنّه أيعلم لماذا تأتي الكهرباء؟ ال يعرف! فإذاً‪ ،‬عدم علمنا‬
‫بالكرويّة وعدم علمنا بالدورة ال ينقض شيئا ً من فائدتنا‪ +‬من هذه األرض‪ ،‬فلو ّ‬
‫أن النّبي تعرّض لهذه‬
‫المسألة تعريضاً‪ +‬ال يناسب استعداد‪ +‬العقول في شيء ربما صرفهم‪ +‬عن األصل الفكر ّ‬
‫ي للقرآن‬
‫والمنهج ّي ولما قالوا عمه تخريفا ً كالم جنا ٍن إلخ‬

‫فيترك الحق هلل سبحانه وتعالى منافذ لوثبات العقول في العلم ّ‬


‫حت إذا وثبت العقول في العلم‪،‬‬
‫أمكنها أن تجد الخيط الذي يمكن أن يربطها بالكون كما خلق‪ ،‬ويجعل للعقول المعاصرة لنزول‬
‫القرآن عطا ًء يفيدهم أيضاُ‪ ،‬فلو ّ‬
‫أن رسول هللا ف ّسر‪ +‬القرآن وأريد‪ +‬به الكونيّات فيه لج ّمد القرآن‪ّ ،‬‬
‫ألن‬
‫من منّا يستطيع أن يفسّر بعد أن يفسّر رسول‪ +‬هللا؟ سيقف األمر ومادام يقف األمر تأتي المعطيات‬
‫الجديدة وال تجد في القرآن عطا ًء لها‪.‬‬

‫إذاً فعدم تفسير رسول هللا لكونيّات القرآن هي التّفسير لكونيّات القرآن‪ ،‬ألنّه وسّع عطاء العقول‪،‬‬
‫وك ّل من يستطيع أن يأخذ شيئا ً من الممكن أن يقوله‪ .‬إذاً فقد يكون في المنع عين العطاء‪ .‬وكلمة‬
‫ألن كلمة "قرآن" مصدر‪ ،‬قرأ قرآناً‪ +‬مثل غفر غفراناً‪ ،‬وأصبح‬
‫"القرآن" تعني أن نفهم المقروء‪ّ ،‬‬
‫علما ً على الك ّمية الكالمية التي أنزلها هللا على سيّدنا مح ّمد بغرض التّحدي ‪.‬‬
‫ويس ّميه هللا كتاباً‪ ،‬فإن الحظت القراءة فهو‪ +‬قرآن‪ ،‬وإن الحظت الكتابة فهو كتاب‪ ،‬القراءة تستلزم‪+‬‬
‫حافظا ً يقرأ‪ ،‬إنّما الكتابة ال تستلزم حافظاً‪ +،‬وإنّما مستقبالً يسجّل فيه بالكتابة‪.‬‬

‫إذاً فالقرآن بتسميته قرآنا ً بتسميته كتابا ً ّ‬


‫ظن هللا بهذه التّسمية على ّ‬
‫أن القرآن له وسيلتان من وسائل‬
‫الحفظ‪ ،‬يحفظ في الصّدور‪ ،‬ويس ّجل‪ +‬في السّطور مثل ما قيل {أن تض ّل إحداهما فتذ ّكر‪ +‬إحداهما‬
‫األخرى} ولذلك حينما كتب القرآن‪ ،‬كان ال يكتب شيئا ً إاّل إذا وجده مكتوباً‪ +‬واثنين حافظين له‪ ،‬فلم‬
‫ّ‬
‫ستشذ‪ .‬وكاتب‬ ‫يجد إاّل آيةً واحدةً مكتوبةً ولكنّها كانت عند واح ٍد فقط وليس عند اثنين إذاً قاعدته‬
‫القرآن هذا لن يكتب إاّل ما يجده مكتوباً‪ +‬بين السّطور وأن يكون هناك إثنين م ّمن حفظوه بالصدور‪+‬‬

‫فوجد آي ٍة لم تكن محفوظةً إاّل عند واحد‪ ،‬فعلى قياسه لم تكن لتكتب‪ ،‬ولكن انظروا إلى الخواطر‪+‬‬
‫أن اآلية إنّما وجدتها عند‬
‫اإليمانيّة التي يقذفها هللا الستكمال منهجها‪ .‬يقول هذا الكاتب‪ ،‬فذكرت‪ّ +‬‬
‫كأن النّبي أعطى خزيمة‬
‫خزيمة‪ ،‬فذكرت كلمة رسول هللا في قوله‪{ :‬من شهد له خزيمة فحسبه} ّ‬
‫أن رسول‪ +‬هللا قد استدان منه ديناً‪ ،‬فجاء ليقاضي رسول‪ +‬هللا‬
‫أن رجالً ّ‬
‫ث ّ‬‫نصاب شهاد ٍة‪ ،‬وبال حد ٍ‬
‫على ال ّدين‪ ،‬فقال الرّسول‪ :‬لقد أعطيتك! فقال‪ :‬أعطني شاهداً! لم يكن أح ٌد مع رسول هللا فجاء‬
‫خزيمة وقال‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬أنا كنت حاضراً وأنت تعطيه هذا المال(ال ّدين) فسكت ال ّدائن‪ّ ،‬‬
‫لكن‬
‫رسول هللا قال‪ :‬يا خزيمة لم تكن حاضراً‪ +‬حينما أ ّديت ال ّدين لصاحبه فكيف‪ +‬تقول أنّك كنت معي؟‬
‫فقال‪ :‬يا رسول‪ +‬هللا أأص ّدقك في ك ّل ما جئت به ث ّم ّ‬
‫أكذبك في كذا درهم؟ إذاً ففقه الرّجل أثبت ّ‬
‫أن‬
‫كذبناه في كلّه‪ ،‬استنباط‪ ،‬ف ُس ّر رسول‪+‬‬
‫رسول هللا الب ّد أن يكون صادقا ّ ً‪ ،‬إن كذبناه في هذه نكون قد ّ‬
‫هللا من االستنباط‪ ،‬و ُس ّر من النفسيّة الصّفائية التي استطاعت أن تأخذ الح ّجة فقال‪ :‬مثل هذا‪ ،‬ال‬
‫يجب أن يُم ّر عليه م ّراً‪ ،‬بل الب ّد أ‪ ،‬يكرّم لهذا الفهم فكرّم هذا الفهم ّ‬
‫بأن من شهد خزيمة‪ ،‬فحسبه!‬
‫ألنه أحسن الفقه وأحسن االستنباط‪ +،‬فسجّلت اآلية‪.‬‬

‫قرآن ألنّه يقرأ وكتابٌ ألنّه يكتب‪ .‬إذا أردنا أن نعرّفه التّعريف‪ +‬الحقيق ّي الفرآن هو‪{ :‬أعوذ‬
‫ٌ‬ ‫فالقرآن‬
‫باهلل من ال ّشيطان الرّجيم‪ ،‬بسم هللا الرّحمن الّرحيم‪ ،‬الحمد هلل ربّ العالمين ‪.........‬من الجنّة‬
‫أن القرآن كتاب هللا من ّزل على مح ّمد صلّى هللا عليه‬ ‫والنّاس}‪ّ ،‬‬
‫لكن العلماء اختصروا ذلك بقولهم ّ‬
‫ي كتاب منزل من هللا كالتّوراة‬ ‫وسلّم بقصد التّحدي واإلعجاز‪ .‬صحيح ّ‬
‫أن القرآن مثله مثل أ ّ‬
‫واإلنجيل ّ‬
‫لكن هذه الكتب كان المقصود‪ +‬بها المنهج فقط‪ ،‬أ ّما القرآن كان المقصود‪ +‬به شيئين إثنين‬
‫هما المنهج والمعجزة دالّة على صدق الرّسول‪ .‬أ ّما التوراة كان منهجا ً فقط أ ّما المعجزة فكانت‬
‫العصا‪ ،‬وكذلك اإلنجيل كان منهجا ً فقط والمعجزة كانت إبراء األجمة واألبرس‪.‬‬
‫لكن القرآن تميّز بأنّه المنهج والمعجزة معا ً لماذا؟ ّ‬
‫ألن‬ ‫إذاً المعجزة شيء والمنهج شي ٌء آخر ّ‬
‫المناهج أنزلها هللا على نيّة التغيير لها والقرآن أنزله هللا على نيّة الثبات حتّى تقوم السّاعة‪ ،‬فال ب ّد‬
‫أن يؤيّد دائما ً بالمعجزة وأن تكون المعجزة معه بحيث يستطيع أ ّ‬
‫ي واح ٍد من أـباع سيّدنا مح ّمد أن‬
‫يقول‪ :‬مح ّمد رسول هللا وتلك هي معجزته‪.‬‬

‫أن تلك هي معجزته‪ّ ،‬‬


‫ألن معجزته كعود‬ ‫واح ٌد يقول‪ :‬عيسى رسول‪ +‬هللا‪ ،‬لن يستطيع أن يشير إلى ّ‬
‫الثّقاب الذي اشتعل وخبا‪ ،‬فمن رأى الثّقاب مشتعالً آمن به كمن رأى معجزة عيسى‪ ،‬العصا‪.‬‬

‫معجزة مح ّمد صلّى هللا عليه وسلّم تميّزت بأنّها كانت عين المنهج والمنهج كان عين المعجزة‬
‫وهذه مسألةٌ مفقودة في جميع الرّساالت‪ ،‬وأيضا ً تمثّلت بأنها أم ٌر موجو ٌ‪+‬د يمكن أن يشار إليها في‬
‫ك ّل األوقات أ ّما المعجزات السّابقة فكانت على قدر أزمانها التي جاءت لها وانتهت! فمن ص ّدقها‬
‫ص ّدقها ومن لم يص ّدقها‪ +‬فهو حرّ! أما الرّسالة القرآنيّة فمعجزتها‪ +‬موجودة حتّى تقوم السّاعة‬
‫وبالتّالي عطاء القرآن يزداد و فيه إعجاز ك ّل يوم‪ ،‬ولو صبّ القرآن عطائه وإعجازه في قرن‪ ،‬ث ّم‬
‫قرن آخر أيستقبله القرن اآلخر بدون إعجاز؟ لن يستقبله‪ ،‬لذلك يبقى إعجاز القرآن مستم ّراً‬
‫جاء ٌ‬
‫حتّى قيام‪ +‬السّاعة‪ ،‬ولذلك يربطها الح ّ‬
‫ق سبحانه وتعالى‪ +‬فيقول {سنريهم آياتنا في اآلفاق وفي‪+‬‬
‫لكن المؤمن على يقين بأنّه الح ّ‬
‫ق‪.‬‬ ‫أنفسهم حتّى يتبيّن لهم أنّه الح ّ‬
‫ق}‪ّ ،‬‬

‫عندما نزل القرآن إنّما هللا سبحانه وتعالى‪ +‬أراده إعجازاً‪ ،‬ألنّه ال يمكن أن يأتي بمعجزة‪ ،‬الخلق‬
‫نفسهم ال يعرفون عنها شيء‪ ،‬تح ّدي القرآن للعرب شهادةٌ لهم بأنّهم متفوّقون في الكلمة وبالتّالي‪+‬‬
‫المطرب‬
‫ِ‬ ‫عندما يغلبهم القرآن فهذه حجّة ّ‬
‫أن عندهم نبوغ الكلمة‪ ،‬أي لديهم األداء الجيّد المعبّر‬
‫المعجب‪ ،‬المألوف عند العرب شعراً ونثراً‪ +‬وخطابةً‪.‬‬
‫ِ‬

‫سن األربعين وما عُهد إليه إاّل كالم عاد ّ‬


‫ي ليس‬ ‫انظروا لموقع مح ّمد منه‪ ،‬عاش رسول‪ +‬هللا إلى ّ‬
‫مثل كالم البلغاء كـ قسّ بن ساعدة أوأكثم بن صيفي‪ ،‬فيقول أحدهم‪ :‬يريد مح ّمد أن يتح ّدى‬
‫المرتادين في البالغة وهو أنسان لم يشهد له أن قال شيئا ً في البالغة؟‬

‫ما هو العقد الذي تأتي فيه العبقريّات األدبيّة والمواهب الموجودة في البشر؟ وجدنا أنه في نهاية‬
‫ٌ‬
‫إنسان نبوغته وعبقريّته لم‬ ‫العقد الثّاني وبداية الثّالث تنشأ الموهبة والعبقريّة والنّبوغ‪ّ +.‬‬
‫لكن ثمة‬
‫ت‬
‫سن األربعين‪{ ،‬وإذا تتلى عليه آياتنا بيّنات قال الذين ال يرجون لقائنا‪ ،‬إئ ِ‬ ‫تنشأ وتتفجر إاّل في ّ‬
‫بقرآن غير هذا أو ب ّدله‪ ،‬قل ما يكون لي أن أب ّدله من تلقاء نفسي‪ ،‬إنّي أتبّع إال ما يوحى‪ +‬إل ّي‪ ،‬إن‬
‫يوم عظيم}‪ ،‬فأنا لم أقله كي أب ّدله‪{ .‬لو شاء هللا ما تلوته عليكم وال‬
‫أخاف إن عصيت ربّي عذاب ٍ‬
‫أدراكم به فقد لبثت فيكم عمراً من قبله‪ ،‬أفال تعقلون}‪.‬‬
‫ث ّم نجد رسول هللا صلى هللا عليه وسلّم يأتي ليقول أنّه قرآن وهذا حديث قدسي وذاك حديث‬
‫ي عبقري في هذه الدنيا يأتي بثالثة أساليب؟ ولك ّل أسلوب طابع مميّز ال يشترك‪ +‬فيه‬
‫نبويّ‪ .‬أ ّ‬
‫أن القرآن من عند هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬والتش ّخص األسلوبي الذي جاء‬
‫بغيره‪ ،‬إنّما هو دليل على ّ‬
‫به مح ّمد صلّى هللا عليه وسلّم بالمنهج‪ ،‬إنّما هو شهادة على أنها أساليب متميزة‪ ،‬ليس أسلوب واحد‬
‫ينفعل مرّة فيصبح انفعاله قرآنا ً وينفعل مرّة ثانية فيصبح انفعاله أحاديث قدسيّة وثالثة ليصبح‬
‫ق سبحانه وتعالى ساعة أرسل مح ّمد صلى هللا عليه وسلّم‪ +‬وفاجأ النّاس‬
‫انفعاله حديثا ً نبويّاً‪ +.‬إذاً الح ّ‬
‫بهذا البيان‪ ،‬ارتبكوا‪ +‬فقالوا إنّه ساحر بمنتهى البساطة!‬

‫إن كان ساحراً كما تقولون فلماذا لم يسحركم لتؤمنوا‪ +‬به كما تظنون؟ إذاً فهو ليس بساحر‪ +‬إنّما أنتم‬
‫الدجّالون‪.‬‬
‫لكن عمل رسول هللا إنّما على خلق‪.‬‬
‫تقولون أنّه مجنون! الجنون هو العمل على غير رتابة‪ّ ،‬‬
‫والخلق تلك الصّفة الرّاسخة في النّفس والتي يصدر عنها الفعل بكل يسر وسهولة‪ ،‬يقولون فالن‬
‫خلقه الصّدق‪ ،‬فالصّدق‪ +‬فيما يتكلم إنّما طبيع ّي وال دخل للفكر به فهو‪ +‬يحصل بشكل آلي بيسر دون‬
‫ٌ‬
‫فالن خلقه‬ ‫تعب‪ .‬الخلق انطباع النفس على السّلوك انطباعا ً ييسّر الحركة فيه دون فكر‪ ،‬فيقال‬
‫الكرم أو الصدق أو ال ّشهامة‪ ..‬إذاً مح ّمد على خلق‪ ،‬ملكة ثابتة راسخة في نفسه‪ ،‬فإذاً ليس مجنون‪.‬‬

‫ق عظيم}‪ .‬كانوا كافرين به ولكن لم يجدوا أمينا ً على‬


‫ما أنت بنعمة ربّك بمجنون {وإنّك لعلى خل ٍ‬
‫حوائجهم إاّل ه‪ ،‬ما هذا التّناقض! لدرجة أنهم قالوا اللهم إن كان هذا الح ّ‬
‫ق من عندك فأمطر علينا‬
‫حجارةً من السّماء عوضا ً عن قولهم‪ +‬اهدنا إليه‪ ،‬ما هذا الحنق! أتكرهون الح ّ‬
‫ق؟‬

‫وقالوا لوال نُ ّزل هذا القرآن على رج ٍل من القريتين‪ ،‬إذاً اعتراضهم ليس على القرآن وإنّما‬
‫اعتراضهم‪ +‬أن يكون على يد مح ّمد‪ ،‬أين الموضوعيّة في الحكم؟ لذلك كلّما زادت الضجّة‬
‫ق سبحانه وتعالى حين يعطي رسله منهجا ً عندها‬
‫بخصوص القرآن ازداد المؤمنون إيماناً‪ .‬الح ّ‬
‫لبشر أن يكلّمه هللا إاّل وحياً}‪ +‬طبيعة التّكوين البشري ال‬
‫ٍ‬ ‫الح ّ‬
‫ق غيبٌ ‪ ،‬عندها العطاء غيب {وما كان‬
‫تسمح لها أن تستقبل عن هللا مباشرةً‪ ،‬إذاً ث ّمة هنالك وحي يستقبل عن البشر بخفاء‪ ،‬اإلعالم بخفاء‬
‫وهذا يقتضي موحياً‪ +‬وموح ًى إليه ويقتضي موح ًى‪ +.‬الوحي إعال ٌم من هللا لرسوله‪ ،‬وما دام هللا حين‬
‫يكلّم بشراً يوحي‪ +‬إليه فهناك ثالثة طرق‪ +‬إ ّما عن طريق الوحي أي اإللهام‪ ،‬أو من خلف الحجاب‬
‫كما مع موسى‪ ،‬أو يرسل رسوالً كجبريل مثالً‪ .‬وكلمة وحي تعني اإللهام‪ ،‬حين تجد التّسليم‬
‫معارض للعقل ومع ذلك ال تعارضه {وأوحينا إلى‬
‫ٍ‬ ‫المطلق لملكات نفسك وقد يأتي الخاطر بأمر‬
‫أ ّم موسى أن أرضعيه فإذا خفتي عليه فألقيه في الي ّم} من يقبل برمي نعمة في البحر؟ هل تنجيه‬
‫ت محقق؟ ّ‬
‫لكن أ ّم موسى‪ +‬قد قذف هللا في خاطرها‪ +‬اإللهام كما أوحى‬ ‫ت مظنو ٍن إلى مو ٍ‬
‫من مو ٍ‬
‫للنحل {أن اتخذي من الجبال بيوتاً} والوارد‪ +‬األعلى اليمكن أن تصدمه ملكةٌ أدنى‪ ،‬فقد أصدر هللا‬
‫األمر إلى الي ّم بأن يلقيه إلى السّاحل وقد أسمعها أمره للي ّم‪.‬‬

‫ولكن نفُس القدس‬


‫ّ‬ ‫ك ّل الرّساالت تالزمها إ ّما اإليحاء بخاطر أو من خلف حجاب أو يرسل رسوالً‬
‫ق واحد‪،‬‬ ‫نفَس في روحها‪ ،‬وك ّل أعمال التّكليف تصدر بثالث طرق‪ّ ،‬‬
‫لكن القرآن ال يثبت إال بطري ٍ‬
‫لم يجئ القرآن نفسا ً في الخاطر ولم يجئ القرآن كالما ً من وراء حجاب وإنّما جاء القرآن بواسطة‬
‫لكن النب ّي اشتاق له‪ ،‬ال ّشوق للعمل يزيل‬
‫إرسال رسول‪ .‬ثقل الوحي على رسول هللا أوّل األمر‪ّ ،‬‬
‫تبعات التّكلّف فيه‪ ،‬وال تدرك حالوة المأخوذ إال بعد المشقّة فإذا اشتقت إلى المعطي فهذا الشوق‬
‫يمنحك طاقة لتح ّمل المتاعب {ورفعنا‪ +‬عنك وزرك الذي أنقض ظهرك}‪ +‬فك ّل آيات القرآن ثبتت‬
‫بالطّريق‪ +‬الثّالث وهو إرسال رسول‪.‬‬

‫الرّسول صلى هللا عليه وسلّم حين يستقبل القرآن إنّما قد يطول استقباله للسورة الطويلة‪ ،‬فانظروا‪+‬‬
‫إلى ال ّدقة‪ ،‬فعنما تأتي السّورة طويلة ويتلوها‪ +‬قرآنا ً في الصّالة ليكتب ورائه الصّحابة‪ ،‬ومن هنا‬
‫جاءت المتشابهات لتدلّك على ال ّدقة والصّعوبة في الكتابة {إنّما ذلك لمن عزم األمور}‪ +‬إنّما تد ّل‬
‫وأن المسألة ليست مجرّد رتابة كلمات‪ ،‬ك ّل كلمة ربا في القرآن مكتوبة بالواو‪ +‬إاّل آية‬
‫على القداسة ّ‬
‫واحدة مكتوبة باأللف‪" ،‬اقرأ‪ +‬بسم ربّك" تجدها محذوفة األلف إنّما ك ّل كلمة من ّزلة من الوحي‬
‫ب خاصّ ‪ ،‬وال تختلط الجلسة بالجلسة وبالتّالي‪ +‬ليس لمح ّم ٍد تصر ٌ‬
‫ّف له في‬ ‫بشك ٍل خاصّ وأسلو ٍ‪+‬‬
‫ي يوحى علّمه شديد القوى} نسأل هللا سبحانه و تعالى أن‬ ‫شيء {وما ينطقه عن هوى إنّما هو وح ُ‬
‫يوفّقنا إلى ما يحبه‪.‬‬

You might also like