Professional Documents
Culture Documents
CL - Merged With Logo
CL - Merged With Logo
اﻟﻠـــﻴــﺒــــــــﺮاﻟـــــﻴــــﺔ
اﻟﻜـــــﻼﺳــــﻴـﻜــﻴــــﺔ
إﻳﻤﻮن ﺑﺎﺗﻠﺮ
مدخل إىل الليربالية الكالسيكية
تأليف
إميون باتلر
ترجمة
حبيب زريق حازم موس مريا جندي رزان حميدة
مراجعة
أحمد رضا
قامئة املحتويات
نبذة عن املؤلف1.....................................................................................
متهيد 4 ..............................................................................................................
ملخص 9.............................................................................................................
.1مقدمة12.........................................................................................................
يتوىل إميون باتلر منصب مدير معهد آدم سميث ،وهو مؤسسة فكرية رائدة يف
وضع السياسات .يحمل باتلر شهادات جامعية يف االقتصاد وعلم النفس ،وحصل
عىل شهادة الدكتوراه يف الفلسفة ،وشهادة الدكتوراه الفخرية يف اآلداب .يف
سبعينيات القرن العرشين ،عمل يف واشنطن لصالح مجلس النواب األمرييك،
ود ّرس الفلسفة يف كلية هيلزديل بوالية ميتشيغان ،ثم عاد إىل اململكة املتحدة
للمساعدة يف تأسيس معهد آدم سميث .حاز سابقًا عىل الجائزة الوطنية للمشاريع
الحرة يف اململكة املتحدة.
ألّف إميون كت ًبا عن االقتصاديني الرواد ميلتون فريدمان ،وفريدريش فون
هايك ،ولودفيغ فون ميزس ،وكتابًا متهيديًا عن املدرسة النمساوية يف االقتصاد
وكتاب ثروة األمم املخترص .كتب ملعهد الشؤون االقتصادية ( )IEAكت ًبا متهيدية
عن آدم سميث ولودفيغ فون ميزس ونظرية الخيار العام؛ حصل عىل جائزة فيرش
يف عام 2014عن كتابه التمهيدي أسس ملجتمع حر .شارك إميون يف تأليف تاريخ
عن ضوابط األجور واألسعار وسلسلة من الكتب عن نسبة الذكاء .اجتذبت
منشوراته الحديثة الرائجة ،وهي :أفضل كتاب عن السوق ،والحالة الفاسدة
لربيطانيا والبيان البديل ،اهتام ًما كب ً
ريا ،وله مساهامت كثرية يف اإلعالم املقروء
واملسموع.
1
2
شكر وتقدير
أكرر شكري ملادسن بريي عىل إسداء املشورة وتقديم املدخالت يف وقت مبكر،
ولزماليئ اآلخرين يف معهد آدم سميث عىل صربهم.
3
متهيد
4
وما تبدو عليه اآلن ،وما قد تؤول إليه .تكمن إحدى سامت الكتاب القيمة يف طريقة
عرضه لالختالفات والتنوع ضمن ما يظل رغم ذلك نه ًجا متامسكًا للتفكري
السيايس ومسائل السياسة العامة( .ميكن قول اليشء نفسه عن االشرتاكية
والسياسة املحافظة بالتأكيد) .من الجدير التفكري يف بعض من األسئلة التي يثريها
هذا الكتاب والطرق التي قد نستكشف من خاللها هذه األسئلة أكرث.
وكام تقول الرواية التاريخية ،للِّيربالية الكالسيكية جذورها وأصولها كحركة
سياسية يف فصول التاريخ اإلنجليزي وكطريقة للتفكري يف القانون والحكومة
ميكننا تقفي أثرها إىل القرن السابع عرش عىل األقل ،أو حتى قبل ذلك ،إىل الوثيقة
العظمى ودستورية القرون الوسطى .ومع ذلك ،كام هو واضح ،مثة أيضً ا منشأ لها
يف تاريخ أوروبا القارية ،وال سيام يف فرنسا (رغم وصف إف إيه هايك بأنها «أكرث
الدول امليؤوس منها يف الليربالية الكالسيكية») .يُنسب هذا إىل عرص التنوير
ومفكرين مثل كانط ،إال أنه ميكن أن يُنسب أيضً ا إىل فرتة أبعد تعود إىل عرص
النهضة واملفكرين يف أواخر العصور الوسطى كاملرتبطني مبدرسة سالمنكا ،وإىل
تقاليد القرون الوسطى للحكومة الدستورية والقيود املفروضة عىل السلطة امللكية
من شبه الجزيرة اإليبريية إىل إسكندنافيا وبولندا-ليتوانيا .ومع أن أصول
الليربالية الكالسيكية نشأت يف أوروبا ،ال يجعل ذلك منها طريقة تفكري أوروبية.
وال ينبغي اعتبارها أيديولوجية «غربية»؛ فهي منظور عاملي يف توجهه وميكن أن
يرتكز عىل التقاليد املتوافقة واملتعاطفة يف جميع ثقافات العامل وحضاراته.
باإلضافة إىل األفكار املهمة التي يعرضها هذا الكتاب برباعة ويرشحها
بوضوح ،ترتبط الليربالية الكالسيكية أيضً ا بعدد من املواقف وخصائص األسلوب.
5
من أهمها التفاؤل والثقة بإمكانية تحسن حال البرش وقد تحسن يف القرنني
املنرصمني .ومن املواقف األخرى ذات الصلة التطلع إىل األمام ،والتطلع إىل
املستقبل بدالً من املايض .وقد نستشف أيضً ا تركي ًزا عىل الفردية والحكم الذايت أو
االستقالل .رمبا يكون أهمها الكياسة وحسن الظن باملنافسني واملحاورين بدالً من
نسب أهداف ومخططات مغرضة إليهم – وهي ميزة تفتقر إليها خطابات معارصة
كثرية.
عمال متقنًا بوصف ماهية الليربالية الكالسيكية ببساطة
يؤدي هذا الكتاب ً
ووضوح ،ووصف ما هي ليست عليه باالستدالل .من الواضح أنها تختلف عن
االشرتاكية وغريها من أشكال الجامعية املساواتية كالدميقراطية االجتامعية
والليربالية االجتامعية أو «الجديدة» .كام أنها تختلف عن السياسة املحافظة ،فهي
عمو ًما أكرث تفاؤالً ،وأكرث ثقة بالعقل (مقارنة باإلميان أو النقل) ،وأقل احرتا ًما
للمؤسسات املوروثة أو التقليدية .من األفكار التي تتضح عند قراءة هذا الكتاب
حا عند االستزادة باملراجع اإلضافية املقرتحة ،هو أن الليربالية
وتصبح أشد وضو ً
ريا
الكالسيكية ،بعي ًدا عن اتصافها بنزعة محافظة ،تعد عقيدة راديكالية أحدثت تغي ً
هائال وعميقًا يف ظروف وأساليب حياة معظم الناس يف العامل ،وبذلك قضت عىل ً
الكثري من جوانب النظام القديم (وهي فكرة عرب عنها لودفيغ فون ميزس بوضوح
عىل سبيل املثال) .من األمثلة عىل هذا هو االرتباط التاريخي بني الليربالية
الكالسيكية والنسوية ،مع معظم نسويات «املوجة األوىل» والليرباليني
الكالسيكيني املتحمسني ومع أمثلة كثرية عىل ذلك املوقف يف يومنا الراهن.
6
لقد طرأت تغريات عديدة عىل الليرباليني الكالسيكيني كحركة وعىل
ريا ،ولكن كان هناك
الليربالية الكالسيكية كمجموعة من األفكار وأحرزا تحس ًنا كب ً
أيضً ا فرتة فتور كام يشري الكتاب ،وما يزال هناك الكثري للقيام به .حني ينىس
الليرباليون الكالسيكيون هذا ويتحولون إىل مدافعني عن الطريقة التي تسري عليها
األمور ،إنهم بذلك يخرسون زخمهم وجز ًءا جوهريًا من هويتهم .وكام يوضح
الكتاب أيضً ا من خالل مناقشته للتطورات الفكرية الجديدة التي طرأت عىل
التقاليد ،هذه ليست مبجموعة ثابتة وكاملة من األفكار مع نصوص مقدسة
واستنتاجات دامئة ال تتطلب إال الرشح والتعقيب .بل إنها حركة فكرية نابضة
بالحيوية والنشاط يُعاد فيها باستمرار تطبيق الرؤى األساسية الواردة هنا
والتفكري فيها ،مع صياغة أفكار وتحليالت ومقرتحات جديدة والقضاء عىل
األخطاء املتجددة كرؤوس الهيدرا.
ويف معهد الشؤون االقتصادية ،نحن ال ندعم فلسفة سياسية معينة بشكل
رصيح ،ناهيك عن موقف حزب أو حركة سياسية معينة .إال أن الرتكيز املستمر عىل
فهم املشاكل االجتامعية ومعالجتها بنجاعة يستبعد بعض املقاربات يف أثناء
االنفتاح عىل أخرى .فالليربالية الكالسيكية واحدة من الفلسفات والحركات
املتناغمة التي تجد طريقة متوافقة ومنسجمة للتفكري بالعامل وفهمه ،مع أنها
ليست الوحيدة .وبذلك ،يكون هذا الكتاب إضافة مرح ًبا بها إىل قامئة معهد
الشؤون االقتصادية ،فهو يقدم مساهمة كبرية لفهم إحدى الفلسفات التكوينية يف
العرص الحديث بشكل أفضل.
ستيفن ديفيز
7
مدير التعليم
معهد الشؤون االقتصادية
مايو 2015
إن اآلراء الواردة يف هذه األفرودة –كام يف جميع منشورات معهد الشؤون
االقتصادية– تخص املؤلف وال تعرب عن آراء املعهد (فهو ال يتبنى رأيًا مؤسس ًيا)،
أو أمناء إدارته ،أو أعضاء املجلس االستشاري األكادميي أو كبار املوظفني .تخضع
جميع أفرودات معهد الشؤون االقتصادية ،مع بعض االستثناءات كنرش
املحارضات ،ملراجعة النظراء العمياء عىل يد اثنني عىل األقل من األكادمييني أو
الباحثني الخرباء.
8
ملخص
يعتربون الفرد أهم من الجامعة ويطالبون بحكومة متثيلية محدودة تستمد •
يختلف الليرباليون الكالسيكيون حول الدور الدقيق للدولة ،لكنهم يأملون •
9
متداخلة ،بوالءات عديدة عائلية أو أخالقية أو دينية أو غريها .وإن مؤسسات
املجتمع املدين هذه حصن منيع ضد سلطة الدولة املركزية.
يُنظر إىل حرية التعبري والتسامح املتبادل عىل أنهام ركيزتان جوهريتان •
الحكومات ،بل التعاون املتبادل بني األفراد األحرار .ويتحقق االزدهار باألفراد
ويحدثون ويدخرون ويستثمرون ،ويف نهاية ِ األحرار الذين يبتكرون
املطاف ،يتبادلون السلع والخدمات طواعية لتحقيق مكاسب مشرتكة –
النظام التلقايئ القتصاد السوق الحر.
ميكن نسب الليربالية الكالسيكية إىل إنجلرتا األنجلوسكسونية وما بعدها، •
10
يقدم عدد من الليرباليني الكالسيكيني حج ًجا مختلفة للحرية .فبعضهم •
يقدم الليرباليون الكالسيكيون حج ًجا مختلفة للتسامح أيضً ا ،إذ يعتقد •
الكثريون أن إرغام الناس عىل القيام بأشياء ضد إرادتهم أمر مكلف ومؤذ
وينجم عنه عواقب وخيمة .ال يجد آخرون أي مربر للتدخل يف خيارات منط
حياة الناس ،رشيطة أال يترضر أحد منها .ويستشهد البعض بفوائد السامح
بتنوع األفكار واآلراء.
ليست الليربالية الكالسيكية أيديولوجية ثابتة ،بل طيفًا من اآلراء حول •
11
.1مقدمة
12
يتناول الفصل الرابع الحجج املؤيدة للحرية ،ويوضح وجهات النظر املختلفة
واملتضاربة أحيانًا لليرباليني الكالسيكيني من تقاليد مختلفة .ثم يسلط الفصل
الخامس الضوء عىل أفكار الليرباليني الكالسيكيني حول األخالق ،وأهميتها يف
تقليل اإلكراه ،سواء من جانب األفراد أو الدولة .ويلخص الفصل السادس الجدل
الشائك حول دور تلك الدولة الذي ينبغي أن يكون عليه وحدودها .يرشح الفصل
السابع سبب اعتقاد الليرباليني الكالسيكيني أن املجتمعات البرشية ذاتية التنظيم
إىل حد كبري وتحقق منفعة عامة دون الحاجة إىل أي سلطة مركزية كبرية للحفاظ
عليها .ويوضح الفصل الثامن أن هذا صحيح أيضً ا يف االقتصاد ،بفضل تطور
املؤسسات الطبيعية كاألسواق واألسعار.
يعرض الفصل التاسع اإلحياء األخري يف التفكري الليربايل الكالسييك،
وبعض املدارس الفكرية الجديدة التي نشأت ضمن التقاليد الليربالية الكالسيكية.
ويُختتم الكتاب مبخطط ملساهامت املفكرين الليرباليني الكالسيكيني
البارزين ،وبعض االقتباسات املهمة عن القضايا الليربالية الكالسيكية ،وجدول
زمني لتطور الليربالية الكالسيكية ،وبعض املراجع لالستزادة.
13
.2ما الليربالية الكالسيكية؟
إن أكرث ما مييز الليرباليني الكالسيكيني هو األهمية التي يولونها للحرية الفردية.
يحظى البرش أيضً ا بقيم أخرى بالتأكيد – كالصدق والوالء واألمن واألرسة وغريها
الكثري ،إال أنه عندما يتعلق األمر بحياتنا االجتامعية والسياسية واالقتصادية ،يعتقد
الليرباليون الكالسيكيون أنه ينبغي علينا أن نهدف إىل تحقيق أقىص قدر من
الحرية التي يتمتع بها األفراد.
يؤكد الليرباليون الكالسيكيون أنه ينبغي السامح للناس بأن يعيشوا حياتهم
وفقًا الختياراتهم ،مع قيام األفراد أو السلطات األخرى بفرض الحد األدىن من
القيود الرضورية .وهم يقبلون بأن الحرية ال ميكن أن تكون مطلقة أب ًدا ،ما دامت
حرية شخص ما قد تتعارض مع حرية شخص آخر :ميكننا أن نحظى جميعنا
بحرية الحركة ،لكننا مع ذلك ال نستطيع جمي ًعا االنتقال إىل ذات البقعة يف نفس
اللحظة .والحرية ال تعني أنك ح ٌّر يف سلب اآلخرين أو تهديدهم أو إكراههم أو
مهاجمتهم أو قتلهم ،ما يؤدي إىل انتهاك حريتهم.
إذن ،ما هي حدود الحرية الفردية؟ ليس لدى الليربالية الكالسيكية إجابة
واحدة ،فهي ليست مجموعة دوغامئية من القواعد .وال يتفق الليرباليون
الكالسيكيون متا ًما عىل نطاق حدود الفعل الشخيص (والحكومي) الذي ينبغي أن
يكون عليه ،لكنهم يتفقون عمو ًما عىل أن أي إجابة ينبغي أن تسعى إىل تعظيم
الحرية الفردية ،وأن أي شخص يريد تقليصها يجب أن يكون لديه سبب وجيه ج ًدا.
14
املبادئ العرشة للِّيربالية الكالسيكية
لفهم ماهية الليربالية الكالسيكية بشكل أفضل ،ميكننا ذكر عرشة مبادئ يتفق
عليها الليرباليون الكالسيكيون جميعهم.
.1افرتاض الحرية
لدى الليرباليني الكالسيكيني افرتاض يؤيد الحرية الفردية ( individual
freedomأو libertyيف اللغة اإلنجليزية) .إنهم يريدون تعظيم الحرية يف
حياتنا السياسية واالجتامعية واالقتصادية .ومع ذلك ،لديهم مسوغات مختلفة لهذا
االستنتاج.
بالنسبة للكثريين ،الحرية جيدة يف حد ذاتها .فهم يجادلون من وجهة نظر
خ ِّريوا– يفضلون دامئًا أن يكونوا أحرا ًرا عىل أن يكونوا
علم النفس بأن الناس –لو ُ
مك َرهني .ويقول آخرون ،من دعاة الحقوق الطبيعية ،إن الحرية يشء منحنا إياه
الله أو الطبيعة .يف حني يجادل البعض بأن الحرية مبنية عىل عقد اجتامعي يجب
أن يوافق عليه الناس يف «حالة الطبيعة» إذا أرادوا تفادي الفوىض والرصاع.
يقرتح كثريون أن الحرية مطلب جوهري للتقدم .ويشري البعض إىل وجهة
نظر إنسانية ،بأن الحرية جزء جوهري من معنى كون املرء إنسانًا :فالشخص الذي
ريا ،يقدر الليرباليون
كامال ،وإمنا مجرد نكرة .أخ ً
ً شخصا
ً يتحكم فيه اآلخرون ليس
15
الكالسيكيون النفعيون الحرية باعتبارها الطريقة الفضىل لتحقيق أقىص قدر من
رفاهية املجتمع ككل.
.2أسبقية الفرد
يرى الليرباليون الكالسيكيون أن الفرد أهم من الجامعة .وهم ال يضحون بحرية
الفرد من أجل منفعة جامعية ما – عىل األقل ،ال يضحون من دون تقديم بعض
املربرات الجيدة .ولديهم عدة أسباب مختلفة لهذا.
تقول إحدى وجهات النظر –تسمى الفردية املنهجية– إن الجامعة ال وجود
لها خارج األفراد الذين يشكلونها .ال شك أن املجتمع أكرث من مجرد مجموعة من
األفراد ،متا ًما كاملنزل الذي يكون أكرث من مجرد مجموعة من القراميد .لكن املجتمع
ال يحظى بعقل مستقل خاص به؛ إنهم األفراد الذين يفكرون ويق ّدرون ويختارون
ويقودون األحداث .فال توجد «مصلحة عامة» جامعية خارج مصالح األفراد الذين
يشكلون ذلك املجتمع.
ثان ًيا ،هؤالء األفراد يختلفون ،فام يصب يف مصلحة شخص ما قد يكون ضد
مصلحة اآلخرين .والتضحية بحرية الفرد لصالح «الجامعة» يعني أننا سنضحي
بها من أجل مجموعة محددة من املصالح ،وليس من أجل مصالح الجميع.
ويتجسد سبب آخر يف التجربة البسيطة .فالتاريخ يغص بأمثلة عن الرشور
التي لحقت بالشعوب عندما ضحوا بحريتهم من أجل فكرة خاطئة ألحد القادة عن
منفعة الجامعة .حتى يف اآلونة األخرية ،ليس عىل املرء إال أن ينظر إىل الفظائع
16
التي ارتكبها هتلر ،أو التجويع والتطهري تحت حكم ستالني ،أو القتل الجامعي
الذي أمر به بول بوت.
راب ًعا ،املجتمع معقد للغاية ويف حالة مستمرة من التغري .وال ميكن ألي
سلطة مبفردها أن تعرف ما هو األفضل للجميع يف هذا العامل املعقد والدينامييك.
واألفراد أقدر عىل اتخاذ القرارات بأنفسهم ،وينبغي تركهم أحرا ًرا للقيام بذلك.
.3التقليل من اإلكراه
يود الليرباليون الكالسيكيون تقليل اإلكراه ،فهم يريدون عامل ًا يتعايش فيه الناس
باالتفاق السلمي ،ال عامل ًا يستخدم فيه املرء القوة أو يهدد الستغالل اآلخرين أو
فرض إرادته عليهم.
وفقًا لذلك ،مينح الليرباليون الكالسيكيون احتكار استخدام القوة للحكومة
والسلطات القضائية ،إال أنهم يريدون إبقاء ذلك عند الحد األدىن الرضوري؛ فهم
يدركون مدى سهولة إساءة استخدام السلطة.
يؤكد الليرباليون الكالسيكيون أن أي استخدام للقوة لكبح أفعال الناس يجب
تربيره .ويقع العبء عىل عاتق الشخص الذي يريد تقييد الحرية يف توضيح سبب
كون ذلك رضوريًا ومفي ًدا مبا يكفي إلجازته.
عمو ًما ،يعتقد الليرباليون الكالسيكيون أن األفراد ينبغي أن يكونوا قادرين
عىل عيش حياتهم وفقًا الختيارهم ،دون الحاجة إىل طلب إذن أحد قبل أن يُقدموا
17
عىل فعل يشء ما .قد يكون هناك سبب وجيه وراء كبح أفعال الناس؛ ولكن إقامة
الدليل تقع عىل كاهل الذين يريدون فعل ذلك.
.4التسامح
يؤمن الليرباليون الكالسيكيون بأن السبب الوجيه الرئييس –أو رمبا الوحيد–
للتدخل يف حرية الناس هو ملنعهم من تهديد اآلخرين أو إلحاق أذى فعيل بهم.
وهم ال يعتقدون بأننا ينبغي أن نقيد أفعال األشخاص ملجرد أننا نستنكرها أو
نعتربها مسيئة.
عىل سبيل املثال ،يدافع الليرباليون الكالسيكيون عن حرية التعبري ،حتى لو
استخدم بعض الناس هذه الحرية للتفوه بكالم قد يراه آخرون –أو حتى الجميع–
بغيضً ا .وباملثل ،ينبغي أن يكون األفراد أحرا ًرا يف التجمع يف مجموعات كالنوادي
أو االتحادات أو األحزاب السياسية ،حتى لو اعترب آخرون أن أهدافهم وأنشطتهم
كريهة .وينبغي أن يكونوا أحرا ًرا يف املتاجرة بالسلع والخدمات ،وحتى األشياء
(مثل املخدرات والدعارة) التي قد ال يوافق عليها آخرون .وينبغي أن يحظوا بحرية
العيش ،وتبني اآلراء التي تعجبهم ،واعتناق الدين الذي يريدونه.
يرى الليرباليون الكالسيكيون أن مثل هذا التسامح ليس جي ًدا يف حد ذاته
فحسب ،فهم يعتربون التسامح واالحرتام املتبادل أساسني جوهريني للتعاون
السلمي وخلق مجتمع نافع وحسن األداء .االختالفات البرشية هي إحدى حقائق
حياتنا االجتامعية ،ولطاملا كانت كذلك .وال يعتقد الليرباليون أنه ميكن القضاء عىل
18
تلك االختالفات ،وهم مشككون بشدة يف املحاوالت اليوتوبية لفعل ذلك .يف ضوء
هذا ،سيظل التسامح دامئًا جز ًءا رضوريًا من سري الحياة االجتامعية.
19
املرشعني مسؤولني أمام الشعب .وليست االنتخابات الختيار قادة جيدين بقدر ما
تتمحور حول التخلص من القادة السيئني .فكلام كان الناخبون أكرث دراية ويقظة،
كان عملهم أفضل .ومع ذلك ،للدميقراطية حدودها :فهي قد تكون طريقة جيدة
التخاذ بعض القرارات ،ولكن هذه القرارات قليلة؛ من األفضل عادة أن نسمح
لألفراد باتخاذ قراراتهم بأنفسهم.
.6سيادة القانون
مثة مبدأ آخر يقيد السلطة ويخلق املزيد من األمن لعامة الشعب هو سيادة القانون.
هذه هي الفكرة بأننا يجب أن نُحكم بقوانني معروفة ،وليس بقرارات املسؤولني
الحكوميني التعسفية – ما أسامه السيايس األمرييك جون آدامز ()1826-1735
«حكومة القوانني ،وليست حكومة الرجال».
يرص الليرباليون الكالسيكيون عىل أن القانون ينبغي أن يُط َّبق عىل الجميع
عىل قدم املساواة ،بغض النظر عن الجنس أو العرق أو الدين أو اللغة أو األرسة أو
أي خصائص أخرى غري ذات صلة .وينبغي أن يُط َّبق عىل املسؤولني الحكوميني
متا ًما كام يُط َّبق عىل الناس العاديني؛ ال ينبغي ألحد أن يكون «فوق القانون».
يتطلب الحفاظ عىل سيادة القانون نظا ًما للعدالة ،مبحاكم مستقلة ال ميكن
لألفراد أو الحكومات التالعب بها .ويجب أن تكون هناك مبادئ قضائية أساسية
مثل األمر باملثول أمام القضاء ،واملحاكمة أمام هيئة املحلفني ،واملحاكمة العادلة ملنع
من هم يف السلطة من استخدام القانون ملصالحهم الشخصية.
20
لسيادة القانون عاقبة أخرى سعيدة – إنها تجعل الحياة أكرث قابلية للتنبؤ،
ألنها متكننا من توقع كيف سيترصف الناس (ومن بينهم املسؤولون) .وبذلك
نتمكن من وضع خطط طويلة األجل دون الخوف من إخفاقها بسبب نزوات
اآلخرين.
.7النظام التلقايئ
ريا ومعق ًدا يحتاج إىل حكومة كبرية وقوية إلدارته ،لكن
قد تظن أن مجتم ًعا كب ً
الليرباليني الكالسيكيني يعارضون هذا .إذ إنهم يعتقدون أن الحكومة ليست أساس
النظام االجتامعي .واملؤسسات االجتامعية املعقدة التي نراها حولنا غري مخطَّط لها
عمو ًما ،فهي نتيجة الفعل البرشي ،ال نتيجة التصميم البرشي.
عىل سبيل املثال ،مل تكن هناك حاجة إىل سلطة مركزية أو تخطيط وا ٍع
إلنتاج اللغة ،أو عاداتنا وثقافتنا ،أو أسواق السلع والخدمات .فمثل هذه املؤسسات
تنمو وتتطور ببساطة نتيجة التفاعالت التي ال تُحىص بني األفراد األحرار .إذا ثبتت
فائدتها عىل مر القرون ،فإنها تستمر؛ وإن مل تثبت نجاعتها ،فإنها تتغري أو تُهجر.
أطلق امل ُنظِّر االجتامعي النمساوي إف إيه هايك ( )1992-1899عىل
النتيجة اسم النظام التلقايئ .وميكن أن تكون األنظمة التلقائية معقدة بشدة ،فهي
تتطور من خالل اتباع األفراد لقواعد السلوك –مثل قواعد النحو– التي قد ال
يدركون حتى أنهم يتبعونها ،وبالكاد يستطيعون وصفها .إنها لحامقة بالغة لدى
21
السياسيني واملسؤولني أن يفرتضوا أن أي عقل مبفرده ميكنه استيعاب مثل هذه
األنظمة املعقدة ،ناهيك عن تحسينها.
22
.9املجتمع املدين
يؤمن الليرباليون الكالسيكيون بأن الجمعيات التطوعية أفضل من الحكومات يف
تلبية احتياجات األفراد .ومع أنهم يؤكدون عىل أولوية األفراد ،هم يدركون أن الناس
ليسوا كائنات منعزلة وفسيفسائية وأنانية .عىل العكس من ذلك ،إنهم حيوانات
اجتامعية ويعيشون ضمن العائالت واملجموعات واملجتمعات التي تشكل قيمهم
جزئ ًيا – كالنوادي والجمعيات والنقابات واألديان واملدارس واملجتمعات عرب
اإلنرتنت والحمالت ومجموعات املساعدة الذاتية والجمعيات الخريية وجميع
املؤسسات األخرى التي نسميها املجتمع املدين.
مهام من كيفية ارتباط الناس ببعضهم .فنظرتنا
وتعد هذه املؤسسات جز ًءا ً
وقيمنا وأفعالنا تتشكل داخلها .وهي توفر أساس التفاهم املتبادل الذي ميكن أن
مستحيال لوال حرية التنظيم بهذا
ً يقوم عليه التعاون .يف الحقيقة ،سيكون التعاون
الشكل.
يوفر املجتمع املدين أيضً ا عازالً بني األفراد والحكومات .فلو كنا جميعنا
أفرا ًدا منعزلني حقًا ،لقمعت الحكومات االستبدادية حرياتنا بسهولة .لكن الدوائر
املتقاطعة املعقدة يف املجتمع املدين ال تثبت فحسب أن بدائل أعامل الحكومة ممكنة
مثال ،بدالً من الرعاية االجتامعية الحكومية– بل
–الجمعيات الخريية الخاصة ً
متنحنا أيضً ا املصلحة املشرتكة والقوة لنقاوم بها.
23
يرغب الليرباليون الكالسيكيون يف تسخري إنسانيتنا املشرتكة من أجل املنفعة
املتبادلة .وهم يدعمون املبادئ األساسية للحياة والحرية وامللكية مبوجب القانون.
فتلك املبادئ ،يف اعتقادهم ،هي أسس النظام االجتامعي املزدهر والتلقايئ الذي
يقوم عىل االحرتام املتبادل والتسامح وعدم االعتداء والتعاون والتبادل الطوعي
بني األفراد األحرار.
من الناحية السياسية ،يفضل الليرباليون الكالسيكيون حرية التعبري ،وحرية
التنظيم ،وسيادة القانون وقيو ًدا تُفرض عىل الحكومة –مبا أن الحكام ليسوا أقدس
من سواهم– متنع َمن يف السلطة من إلحاق الكثري من األذى باآلخرين.
وهم يعرفون أن املجتمع الجيد ال ميكن أن يعتمد عىل اإلحسان البرشي فقط،
فهو يعتمد أكرث عىل التعاون السلمي بني األفراد املختلفني املهتمني مبصالحهم
الذاتية .لذلك إنهم يفضلون الحرية واملساواة مبوجب القانون ،مع نظام عدالة قوي
وجدير بالثقة مينعنا من إيذاء اآلخرين ،دون أن يحاول توجيه حياتنا.
ومن الناحية االقتصادية ،يفضل الليرباليون الكالسيكيون الحرية يف اإلنتاج
والتبادل ،وحرية تنقل األشخاص والسلع ورأس املال .وهم يدافعون عن امللكية
الخاصة ويرغبون يف إبقاء الرضائب عىل ما هو رضوري لتزويد عامة الناس
بالدفاع و«السلع العامة» األخرى التي يوفرها السوق دون الحد املطلوب.
هذا بعيد كل البعد عن التجسيد الكاريكاتوري الشائع للِّيربالية الكالسيكية
مثال ،مؤسسة
كدولة حارسة صغرية تعتمد مبدأ عدم التدخل .فالعدالة وحدهاً ،
24
معقدة بشدة تحتاج إىل بذل جهود كبرية ومتواصلة لحفظها .ويدرك الليرباليون
الكالسيكيون أن صون الحياة والحرية واملمتلكات ليست باملهام السهلة.
25
اإلطار 1مالحظة عن الليربالية األمريكية
_________________________________________
يقول الليرباليون األمريكيون إن الدولة يقع عىل عاتقها واجب حامية الناس من
أنفسهم ومن أوجه عدم املساواة املجحفة للسلطة التي غالبًا ما تنشأ عن حيازة
سخي لتعويض الفقراء ودعم
ّ املمتلكات .وهم يطالبون بنظام رعاية اجتامعية
العامل ضد أرباب العمل (األقوى) .ويشككون يف أن الحرية االقتصادية تعود
مثال) ويعتقدون أن الدولة ينبغي أن تتدخل من
مبنافع عامة (كالعاملة املرتفعة ً
أجل زيادة الفرص وتوفري السلع العامة وجعل األسواق تخدم املصلحة العامة.
يشعر الليرباليون الكالسيكيون بريبة شديدة من سياسات كهذه .فهم يخشون من
تنامي سلطة الحكومة بسهولة إىل ما هو أبعد من فائدتها؛ ويشريون إىل أنه حتى
السياسات حسنة النية غال ًبا ما ينجم عنها عواقب وخيمة وغري مقصودة.
26
.3الليربالية الكالسيكية :شجرة العائلة
األسالف األوائل
ترجع أصول أفكار بعض الليرباليني الكالسيكيني إىل الفيلسوف الصيني الو تسو
الذي دعا إىل االنضباط يف استعامل السلطة .وقبل عرشين قرنًا مضت ،دعا
اإلمرباطور الهندي أشوكا إىل الحرية والتسامح السياسيني .وقد تبنى اإلسالم
الحرية االقتصادية منذ أصوله األوىل يف القرن السادس.
ولكن تلك األمثلة متثل أبناء عمومة الليربالية الكالسيكية الحديثة البعيدة.
فهي تنحدر مبارش ًة من ساللة أوروبية ،وتحدي ًدا إنجليزية .فطبقًا للمفكر
والسيايس الليربايل الكالسييك دانيال هانان ( ،)–1971بدأت الليربالية
الكالسيكية باألنجلوسكسون الذين رشعوا يف استيطان ما ندعوه اآلن إنجلرتا قرابة
عام .400
إنجلرتا األنجلوسكسونية
متتعت إنجلرتا بدرجة أعىل من االستقرار مقارن ًة بأوروبا القارية لكونها دولة
جزرية يصعب غزوها ،ونشأ فيها نظام آمن لحيازة امللكية والعدالة .ومل يتحقق
ذلك بنا ًء عىل رغبة شخص ما – بل كان نتيجة تدريجية لألنجلوسكسون ذوي
27
التفكري املستقل الواقفني مثل الثريان يف أخاديدهم مدافعني عن حقوقهم ضد
املتطفلني.
والحقًا ،أدت الحاجة إىل التعايش مع الفايكنغ ،الذين استوطنوا إنجلرتا قرابة
عام ،800إىل نشوء لغة مشرتكة وترتيبات قانونية مشرتكة بشكل غري مقصود
أيضً ا .ويف غياب أي سلطة إقطاعية عىل الطراز األورويب ،فام خرج من تلك
البوتقة هو القانون العام – أي قانون األرض الذي تطور من خالل التعامالت بني
األفراد ،عوضً ا عن قانون األمراء الذي يضعه األقوياء وأصحاب النفوذ.
وال يزال القانون العام من بني أسس الليربالية الكالسيكية األساسية اليوم.
ذلك أنه مل يقم عىل أساس مليك ،بل حدده الناس ذات أنفسهم .واحرتم هذا القانون
امللكية الخاصة والعقود .واعرتف بالحرية يف ظل القانون .مل يضطر أحد إىل طلب
إذن قبل الترصف يف أي يشء :ذلك أن أي يشء غري ممنوع عىل وجه الخصوص
يعنرب قانون ًيا .وكان القانون يطال الجميع ،وخضع رجال القانون أنفسهم إىل
املساءلة .وحتى امللوك كانوا من اختيار مجلس من الشيوخ (الويتان ،أو الرجال
الحكامء) ،الذين كانوا يطلبون من امللوك أن يبدوا والءهم ،وليس العكس.
وصل ذلك الحال إىل نهاية مفاجئة يف 1066بغزو النورمان واالحتالل العسكري.
وأضحت إنجلرتا تحكمها صفوة أوروبية ذات لغة وطرق سلطوية منفصلة عن
28
الشعب اإلنجليزي .وفرضوا اإلقطاعية ،والقنانة ،والطبقية االجتامعية ،والترشيع
القانوين من األعىل إىل األسفل – أي النقيض التام للحريات والحكومة املحدودة
التي عهدها األنجلوسكسون.
وكانت نتيجة ذلك ،يف عام ،1215أن أجرب البارونات امللك عىل التوقيع عىل
امليثاق األعظم ( )Magna Cartaالذي يختص بالحقوق واالمتيازات.
يتعلق معظم محتوى امليثاق بالتأكيد عىل حقوق امللكية العتيقة للناس،
وحاميتها من االفرتاس العشوايئ من قبل طبقة كبار املوظفني – وهو نفس نوع
حقوق الحيازة اآلمنة التي يعتربها الليرباليون الكالسيكيون اليوم ذات أهمية
حيوية.
ولكن جز ًءا رئيس ًيا من امليثاق بلور الحقوق القدمية –حقوق الكنيسة،
وحقوق املدن ،وحقوق الشعب بصفة عامة– ومبادئ الليربالية الكالسيكية مثل
املحاكمة أمام هيئة محلفني وأصول املحاكمة العادلة .بل وأكد عىل أن امللك ،عىل
غرار أي فرد آخر ،سيكون ُملز ًما بقانون األرض .أي بعبارة أخرى ،ستكون الحكومة
خاضعة لـحكم القانون.
29
ورغم أن جون تنصل من امليثاق ،فقد مات بعدها بفرتة وجيزة .وجلس ابنه
هرني الثالث عىل العرش وهو قارص ،وتحولت القوة يف خفاء من امللكية إىل
جمعية من البارونات .وأعاد هرني إصدار امليثاق مبحض إرادته يف .1225لكن
صدامات أخرى مع البارونات ،يتعلق معظمها بالرضائب املفروضة لشن الحروب،
أدت إىل مبادرة ليربالية كالسيكية أخرى يف إنجلرتا – وهي إنشاء الربملان.
أدى كل ذلك إىل رفع مكانة وأهمية الفرد مقابل مؤسسات القوة القامئة.
ويف البالد التي ازدهرت فيها تلك الحرية الكربى ألقىص مدى ،ازدهرت فيها أيضً ا
الفنون ،والصناعة ،والعلم ،والتجارة.
ثورة سياسية
أخذت السياسة منحى مختلفًا أيضً ا .فقد اجتاحت الحركة الجامعية املؤيدة للحرية،
ذا ليفيلرز ،إنجلرتا يف خمسينات القرن السابع عرش .وقادها جون ليلربن
( )57–1614الذي أرص عىل أن حقوق الناس فطرة يولد بها كل الناس ،ال هبة
متنحها الحكومة أو القانون .ومثل أمام محكمة غرفة امللك سيئة السمعة ،بعد أن
تعرض لالعتقال لطباعة كتب غري ُمرصح بها (متحديًا بذلك االحتكار الحكومي)،
رصا عىل أنهم مساوون له) أو أن يقبل
ولكنه أىب أن ينحني أمام القضاة (م ً
إجراءاتهم .وحتى حني وضعوه عىل املشهرة ،ظل يدعو إىل الحرية والحقوق
31
املتساوية ،وانتهى به املطاف يف السجن لتحديه للسلطة – كام فعل بعدها بضع
مرات أخرى.
ولكن عالقة القوة بني امللك والربملان انقلبت بالفعل .إذ مل تكن دولة بريطانيا
العظمى الجزرية (كام كانت حينها) يف حاجة إىل جيش دائم يحميها من الغزوات
املتكررة .ولذا ،بخالف أوروبا القارية ،مل يكن للملك قوة ميكن له استخدامها يف
قمع واستغالل العامة .ولذا كان تشارلز يف حاجة إىل موافقة الربملان لزيادة
الرضائب لشن حروب خارجية.
32
وقد أصاب ذلك امللك الغيور باإلحباط وأدى إىل نزاعات عديدة .ومن بني
القرارات األخرى التي اتخذها إيقاف عمل الربملان ،ومحاولة فرض الرضائب دون
موافقته واعتقال خمسة من بني أبرز أعضائه عنوةً .وبذلك خرق العقد الضمني مع
الشعب الذي يضمن حقوقه.
الثورة املجيدة
ويف ،1689وقّع ويليام وماري عىل وثيقة الحقوق ،وهي مبثابة تأكيد عىل
حقوق وحريات الرعايا الربيطانيني وتربير لخلع جيمس الثاين عىل أسس انتهاك
تلك الحقوق والحريات .ودعت تلك الوثيقة إىل نظام قضايئ مستقل عن امللوك،
ووضع حد لجباية الرضائب دون موافقة الربملان ،والحق يف تقديم التامسات إىل
حكومة دون الخوف من العقاب ،وانتخابات حرة ،وحرية التعبري يف الربملان
ووضع حد لـ«العقوبات القاسية وغري العادية» .وألهمت تلك الوثيقة مبارش ًة
مبادرة ليربالية كالسيكية أخرى ،وهي وثيقة الحقوق األمريكية ،بعدها بقرن واحد.
33
جون لوك ()1704–1632
جمع جون لوك بني املبادئ األقدم لليربالية الكالسيكية يف جسد حديث ُمتعارف
عليه للفكر الليربايل الكالسييك .ومن بني أهدافه هو توضيح الكيفية التي صادر
بها جيمس الثاين عرشه بانتهاكه العقد االجتامعي .وأكد عىل أن جميع أشكال
السيادة مصدرها الشعب الذي يرضخ إىل تلك السيادة حتى يعزز أمنه ويوسع
حريته العامة فقط .وحني يُنتهك هذا العقد ،لدى األفراد كل الحق يف الثورة عىل
هذه السيادة.
طور جون لوك أيضً ا نظرية الحقوق الطبيعية ،وجادل بأن البرش لهم حقوق
أصيلة يسبق وجودها وجود الحكومة وال ميكن التضحية بها من أجلها.
والحكومات التي متس بتلك الحقوق غري رشعية.
ولكن ما كان يقع يف صميم أفكار لوك فكرة امللكية الخاصة ،التي ال تقترص
عىل املمتلكات املادية فقط .فقد أكد لوك عىل أن الناس لهم حقوق ملكية يف
حيواتهم ،وأجسامهم ،وعملهم – أي امللكية الذاتية .ومن منطلق هذا الفهم الحيوي،
أدرك لوك أن الناس لهم حق ملكية يف كل األشياء التي بذلوا فيها جه ًدا شخص ًيا
يف خلقها – أو أي يشء «خلطوا عملهم به» .وبالتايل يقتيض مبدأ امللكية الذاتية
أن من الرضوري أن تُؤمن تلك املمتلكات مبوجب القانون .وقد أرشدت تلك األفكار
العديد من املفكرين القامئني بالثورة األمريكية.
34
التنوير
شهد القرن الثامن عرش إعادة إحياء جديدة للتفكري الليربايل الكالسييك .ففي
فرنسا ،طور مونتيسيكو ( )1755–1689الفكرة التي تنطوي عىل أنه ،يف مجتمع
حر واقتصاد حر ،يجب عىل األفراد أن يترصفوا بطرق تحافظ عىل التعاون السلمي
بينهم – وأن يفعلوا ذلك دون الحاجة إىل اإلرشاد من جانب أي سلطة .ولهذا دعا
إىل نظام من الضوابط واملوازين املفروضة عىل سلطة الحكومة – وهي بدورها
فكرة أخرى أرشدت املفكرين األمريكيني.
ويف الوقت ذاته ،أدت ثورة فكرية متنامية عىل سلطوية الكنيسة مبفكرين
مثل فولتري ( )1778–1694إىل الدعوة إىل العقل والتسامح والتنوع الديني
والعدالة اإلنسانية .ويف االقتصاد أيضً ا ،دعا مفكرون مثل تريجو ()81–1727
إىل رفع الحواجز التجارية ،وتبسيط الرضائب ،وأسواق عمل وزراعة أكرث تنافسية.
35
وقد ثار سميث عىل االحتكارات الحكومية ،والرضائب املرتفعة ،واملحاباة
الخانقة بني الحكومة واألعامل التجارية .واعتقد أن األسواق الحرة التنافسية
ستحرر العامة ،ال سيام الفقراء العاملني .وقد أثرت أفكاره بدرجة كبرية يف
السياسة وأذنت ببدء فرتة طويلة من التجارة الحرة والنمو االقتصادي.
دولة العدل
ويف تلك األثناء ،يف القارة األوروبية ،طور مفكرون مثل الفيلسوف األملاين
إميانويل كانت ( )1804–1724مبادئ «دولة العدل» أو « »Rechtsstatالتي
أرشدت صياغة الدستور األمرييك والدستور الفرنيس يف أواخر القرن الثامن
عرش.
ودعا كانت إىل إنشاء دستور كتايب كوسيلة لضامن التعايش السلمي الدائم
بني األفراد املختلفني ،وهو ما رآه بدوره رشطًا أساس ًيا لسعادة اإلنسان ورخائه.
ورفض الفكرة اليوتوبية القائلة إن التعليم األخالقي من شأنه أن يحد من تلك
االختالفات ويجعل أهداف الجميع تتطابق .بل إن ما يجب عىل الدولة فعله هو
متكني األفراد املختلفني من االتفاق عىل املنفعة املتبادلة ،والدستور هو الذي يجعل
هذا النظام متامسكًا.
ويف دولة العدل ،تحظى مؤسسات املجتمع املدين –رابطات طوعية مثل
النوادي ،واملجتمعات ،والكنائس– بدور متسا ٍو يف تعزيز هذا الوئام االجتامعي.
36
وستتقيد قوى الحكومة بفصل السلطات ،وسيخضع القضاة والسياسيون إىل
القانون وسيتقيدون به .وال بد للقانون نفسه من أن يكون شفافًا ،و ُموض ًحا،
ومتناس ًبا .وسيقترص استعامل القوة عىل النظام القضايئ بحزم .وميثل محافظة
الحكومة عىل هذا النظام الدستوري العادل اختبا ًرا لها.
تبنى توماس بني العديد من أفكار لوك الليربالية الكالسيكية املتعلقة بالحقوق
الطبيعية والعقود االجتامعية ،وأن الحكومة رش ال بد منه قد يتحول إىل أمر ال
يُحتمل إذا تُركت بال مراقبة .ويف يناير ،1776نسج تلك األفكار يف دعوته لحمل
السالح ،املنطق السليم ،الذي أدان فيه بريطانيا بانتهاكها لعقدها مع املستعمرين.
ولذلك كان من الطبيعي ،بعد تلك العداوات ،أن يبحث األمريكيون عن عقد
ليربايل كالسييك بينهم وبني الحكومة التي كانوا يؤسسونها .وكان الدستور
ُمشب ًعا بأفكار لوك عن الحقوق الطبيعية غري القابلة للترصف ،وتقسيم سلطات
الحكومة باألسلوب الذي دعا إليه مونتيسيكو.
37
القرن التاسع عرش
ولكن أفكا ًرا ليربالية كالسيكية جديدة وجذرية عادت إىل بريطانيا .فبحلول
،1833أ ّمن ناشطون ليرباليون كالسيكيون إلغاء العبودية يف كل أنحاء
اإلمرباطورية الربيطانية تقريبًا ،وبحلول 1843اكتمل هذا اإلصالح.
وعىل صعيد االقتصاد ،تطورت العصبة املناهضة لقانون الذرة ،التي سعت
إىل إنهاء الرضائب الحامئية عىل القمح املستورد ،لتصبح مدرسة مانشسرت ،التي
دعت الشخصيات البارزة فيها مثل ريتشارد كوبدين ( )65–1804وجون برايت
( )89–1811إىل سياسات عدم التدخل فيام يخص التجارة والصناعة والعمل.
38
إعادة التقييم واالضمحالل
ورغم ذلك ،أىت التحول الصناعي الرسيع بعد منتصف القرن التاسع عرش بتحديات
أمام الليربالية الكالسيكية ،مثل أوضاع العمل الرديئة ،والطبقية االجتامعية،
والترشد والفقر الحرضي .وتزايدت مناشدات العامة للحكومة بوضع حد لتلك
الرشور من خالل التنظيامت.
ويف الوقت ذاته ،وعىل غرار مساعي علامء الطبيعة إىل تشكيل العامل املادي،
تخيل االقتصاديون وعلامء االجتامع أيضً ا أن بوسعهم تشكيل املجتمعات البرشية
علم ًيا .واعتربوا التخطيط املركزي عقالن ًيا أكرث من الفوىض الطبيعية املتأصلة يف
األسواق بكل مؤثراتها الخارجية وميلها االفرتايض إىل االحتكار أو البطالة .مل يعد
العبء واق ًعا عىل عاتق مؤيدي سياسات التدخل ،بل اآلن صار الليرباليون
الكالسيكيون من عليهم أن يربروا مطالبهم بجعل الحرية تسود.
39
إعادة اإلحياء الحديثة لليربالية الكالسيكية
مشاكل السياسات والرد الليربايل الكالسييك
لكن الثقة املتعالية التي اتسم بها مؤيدو سياسات التدخل كانت يف غري محلها.
فقد أُثقل كاهل االقتصادات بالبطالة والتضخم (اللذين كانا ،لسبب غري مفهوم
لديهم ،يحدثان يف نفس الوقت) ،والنمو املنخفض وأزمات اإلسكان ،والطاقة،
واإلقراض وأسواق العمالت األجنبية التي حددت فيها الحكومة األسعار أو تالعبت
بالعرض والطلب .واُبتليت دولة الرعاية املتنامية مبشاكل االعتامد وغياب الحوافز.
وقد بدا أن من املستحيل تقليص حجم الحكومة ،أو تقليل االحتياجات التي كانت
تفرضها عىل دافعي الرضائب.
40
التطورات الفكرية
أدرك اقتصاديو املدرسة النمساوية ،بد ًءا بكارل مينغر ( ،)1921–1840أن علم
علام بل مسألة قيم وأفعال فردية .وأدرك منساويون مثل لودفيج
االقتصاد ليس ً
فون ميزس ( )1973–1881وفريدريش فون هايك ( )1992–1899أن ضوابط
الدولة تشوه اإلشارات االقتصادية ،ما يؤدي إىل تبعات ال ميكن التنبؤ بها.
ويف ذات الوقت ،يف شيكاغو ،وضع فرانك نايت ( )1972–1885هو اآلخر
األفراد يف مركز علم االقتصاد ،مؤك ًدا عىل أن املجتمع مكون من مجموعة من األفراد
دون أن يكون له عقل انتقايئ خاص به .ودعا ميلتون فريدمان ()2006–1912
إىل حكومة يقترص دورها بحزم عىل خلق األوضاع (مثل االستقرار النقدي) التي
ميكن لألفراد أن يؤسسوا حياتهم االجتامعية واالقتصادية يف إطارها .واكتشف
رونالد كوس ( )2013–1910أن من شأن األسواق أن تحل مشكالت مثل التلوث،
يف حني أن تدخل الحكومة من شأنه ببساطة أن يجعل األمور أسوأ.
41
ومن تطورات ما بعد الحرب األخرى نشأة مدرسة االختيار العام ،التي برزت
تحت قيادة جيمس م .بوخانان ( )2013–1919وغوردن تولوك ()2014–1922
يف جامعة فريجينيا .وأظهرت أنه عىل الرغم من أن أنصار التيار السائد يف علم
االقتصاد تطرقوا إىل إخفاق السوق وطبّقوا تحليل التكاليف والفوائد لخلق سياسة
«عقالنية» من أجل «الصالح العام» ،فقد نسوا أمر إخفاق الحكومة .وقد يتجىل ذلك
يف نواقص العملية السياسية أو املصلحة الذاتية ألولئك املشاركني يف تلك العملية.
فاالنتخابات ،عىل سبيل املثال ،ليست معيا ًرا للحكم عىل «الصالح العام» بل
مسابقة بني املصالح املتنافسة؛ ذلك أن قاعدة األخذ برأي األغلبية البسيطة بنسبة
سهال للغاية .ويجب عىل السياسيني أن
ً 1+%50تجعل استغالل األقليات أم ًرا
يسرتضوا جامعات املصالح حتى يجري انتخابهم ،وتستغل جامعات الضغط ذلك
يف انتزاع الفوائد ألنفسهم .واملسؤولون القامئون بتنفيذ السياسات لهم مصالحهم
الخاصة أيضً ا .واالستنتاج ،كام كان يعلم الليرباليون الكالسيكيون بالفعل ،أن اتخاذ
القرارات الخاصة أفضل بصفة عامة من اتخاذ القرارات السياسية – وهو ما يجب
أن يقترص فقط عىل ما تقتيض الحاجة إليه من أجل حامية الحريات الفردية.
يتسم الليرباليون الكالسيكيون بنطاق واسع من اآلراء بخصوص دور الدولة ،بد ًءا
ريا من التدخل يف توفري الرعاية االجتامعية واملنافع
بأولئك الذين يولون لها قد ًرا كب ً
42
العامة ،وانتها ًء بأولئك ،الذين يتحلون بنظرة تحررية أكرث ،الذين يقيدون دورها
ريا
إىل أقىص مدى .ولكن الحكومة الصغرية ال تعني ضمن ًيا بالرضورة مجتم ًعا صغ ً
لئيام.
ً
فمثال ،دعا الفيلسوف األمرييك روبرت نوزيك ( )2002–1938إىل الحد
ً
األدىن من الدولة ،ألغراض الحامية فقط .ومثل هذا النوع من الدولة يوفر إطا ًرا
آم ًنا بوسع الناس داخله أن تنشئ اليوتوبيات املصغرة الخاصة بها ،مجتمعني سويًا
لتكوين مجتمعات تتعاون وتقرر أي حرية من الحريات قد يتحتم عليهم التخيل
عنها مقابل خدمات املجموعة املختارة .وقد يختلف الليرباليون الكالسيكيون األقل
تحر ًرا مع ذلك ،ولكنهم رغم ذلك يحتفلون جمي ًعا بتنوع ودينامية املجتمع الذي
يتصوره نوزيك.
43
.4الليربالية الكالسيكية والحرية
الدفاع عن الحرية
لدينا إذًا مجموعة متنوعة من اآلراء التي يؤمن بها الليرباليون الكالسيكيون فيام
يتعلق بدور الدولة .ومع هذا ،جميعها تويل الحرية األولوية يف حياتنا الشخصية
واالقتصادية واالجتامعية ،وتدافع عن حق كل فرد يف الحياة والحرية وامللكية
والسعي وراء السعادة .وعىل الرغم من ذلك ،لكل شخص أسبابه املختلفة التي
تدفعه إىل اإلميان مبثل هذه املبادئ.
الحقوق الطبيعية
44
من املوضوعات الراسخة يف أوساط العديد من الليرباليني الكالسيكيني ،بد ًءا بجون
لوك ،مرو ًرا باآلباء املؤسسني مثل توماس جيفرسون ( ،)1826-1743ووصوالً
إىل يومنا هذا ،هو القول إن األفراد ميتلكون حقوقًا طبيعي ًة معين ًة .وبحسب ما
يعتقدونه ،هي جزء متأصل من إنسانيتنا ،إذ ال ميكننا التخيل عنها ،وال تعتمد يف
وجودها عىل القوانني أو الحكومات.
وفقًا ملا يقولونه ،ال تستمد حقوقنا الطبيعية من القوانني أو العادات أو
األديان أو املعتقدات أو الثقافة أو الحكومة ،بل هي موجودة بشكل طبيعي بني
البرش .إنها قوانني عاملية بالنسبة لنا جمي ًعا ،وهي أصيلة – ال ميكننا بيعها أو
التخيل عنها أو إنكارها ،ألنها يف حد ذاتها جزء من إنسانيتنا.
تختلف اآلراء فيام يتعلق باملاهية الحقيقية لهذه الحقوق األساسية ،عىل
الرغم من أن لوك تحدث بالنيابة عن العديد حني تكلم عن الحياة والحرية وامللكية:
ميتلك الناس حقًا يف أن يعيشوا وأن يفعلوا ما يختارونه برشط أال ينتهكوا حقوق
اآلخرين يف ذلك ،وأن يتمتعوا بكل ما يصنعونه أو يكسبونه سوا ًء كان هدي ًة أو
تجار ًة – ولكن ليس بالقوة .وألنها جزء أسايس منا ،ال ميكننا التخيل عن هذه
الحقوق .ال نستطيع أن ندفع بأنفسنا نحو العبودية ،ألننا بذلك ننتهك حقوقنا
ونحاول التخيل عن يشء ال ميكن االستغناء عنه .وباإلضافة إىل ذلك ،ال ميكن أن
يسلب منا هذه الحقوق ال ترشيعات وال أشخاص.
45
إن فكرة الحقوق الطبيعية التي يتمتع بها الجميع من شأنها أن تتحدى الحق
اإللهي املزعوم الذي ميتلكه امللوك؛ إذ استشهد املستعمرون األمريكيون مبحاوالت
الحكومة الربيطانية لقمع حقوقهم األساسية باعتبارها مرب ًرا لتمردهم عليها.
إن هذا االتجاه الفكري يعطي الحرية قيم ًة أعىل من كل يشء آخر .إن وجود
أساسا يقتيض وجود الحرية أوالً ،فإن مل نكن أحرا ًرا يف
ً أي نوع من الحقوق
ترصفاتنا لن نتمكن من مامرسة أي حق من حقوقنا األخرى (بخالف حريتنا يف
التفكري التي ال ميكن ألحد أن مينعها) .إن الحرية هي الرشط األسايس الذي يسمح
لنا مبامرسة حقوقنا وواقع الحال الذي يسمح باحرتام تلك الحقوق.
العقد االجتامعي
بحسب ما يعتقد الفيلسوف السيايس اإلنجليزي توماس هوبز (،)1679–1588
تصبح قيمة أي حقوق أو حريات مفرتضة ضئيل ًة يف «حالة الطبيعة» إن مل تكبح
الوحشية؛ إذ علينا أن نتقبل فرض قيود عىل أنفسنا وخلق التزامات وحقوق مدنية
جديدة من أجل أن نعيش يف سالم .وعىل الرغم من أن هوبز ليس ليربال ًيا كالسيك ًيا
بنظر العديد من الناس ،اتبع لوك أسلوب العقد االجتامعي الخاص به ،بحجة أنه ال
يحق ألحد أن يحكم اآلخرين يف عامل طبيعي يعيش فيه أفراد أحرار ومستقلون؛
ولكن إذا وافق الناس عىل إيجاد واحرتام سلطة مدنية قادرة عىل كبح العنف،
سيتمكنون بذلك من إتاحة فرص جديدة وبالتايل توسيع نطاق حرياتهم .يف اآلونة
46
األخرية ،جادل الفيلسوف األمرييك جون رولز ( )2002–1921بأسلوب مشابه
أنه إذا ما أتيحت الفرصة إليجاد مجتمع جديد ومراع ألوجه الغموض يف الحياة،
سيختار الناس عق ًدا اجتامع ًيا ال يتسامح مع االختالفات يف النتائج إال إذ عملت هذه
االختالفات لصالح األسوأ.
مل يلمح أي من مؤلفي العقد االجتامعي إىل أننا قد شهدنا يف وقت ما لحظ ًة
تاريخي ًة وقع فيها أفراد أحرار ومستقلون بعض االتفاقات التعاقدية ً
فعال .إن
نظرياتهم مجرد «تجارب فكرية» لرشح املبادئ العقالنية التي ينبغي أن تقوم
الحكومة عليها.
وعىل الرغم من ذلك ،يبدو أنه دامئًا ما تربر النتائج وجهات نظرهم .إن عقد
هوبز االجتامعي ،عىل سبيل املثال ،يؤيد وجود نظام مليك قوي –الذي أثبت عدم
جدواه يف الحرب األهلية اإلنجليزية– يف حني بنى املفكر الثوري الفرنيس جان
جاك روسو ( )1778-1712عقده االجتامعي عىل الفضائل الجمهورية .وأما من
وجهة نظر لوك ،فال وجود للسلطة السياسية إال بعد موافقة املحكومني الذين
ميتلكون الحق يف التمرد إذا خرق «العقد» – وهو ما يربر اإلطاحة بجيمس الثاين.
وأما بالنسبة لنظام رولز ،فهو يعكس وجهات النظر السياسية األكرث مساواتية يف
عرصه.
تأثر التمرد األمرييك بنظرية عقد لوك ،يف حني استمدت وثيقة الحقوق
األمريكية الكثري من وجهة نظره املتعلقة بالحقوق الطبيعية .ولكن نظرية العقد
47
مثال
االجتامعي ال تقوم بالرضورة عىل وجود الحقوق الطبيعية :إن نظرية هوبز ً
هي مجرد وسيلة للتقليل من الرصاعات.
التاريخ والتقدم
إن الحرية ،من وجهة نظر عدد قليل من الليرباليني الكالسيكيني مثل ميل وعامل
السياسة األمريكية املعارص فرانسيس فوكوياما ( ،)-1952هي جزء من مسرية
التقدم – ففوائدها االقتصادية (السامح لألفراد باالبتكار ،واختيار عملهم ،وبناء
رأس املال ،وخلق الرثوة) ومنافعها املدنية (العدالة واألمن والحكومة التمثيلية)
حتام مرا ًرا وتكرا ًرا .ولكن عىل الرغم
شديدة الوضوح لدرجة أن البرشية ستتبناها ً
مهام؛ علينا أن نتذكر أن هناك نزعات قوية يف االتجاه املعاكس
من أن هذا األمر يبدو ً
أيضً ا.
48
املنفعة العامة
ما يزال الليرباليون الكالسيكيون اآلخرون ،مبن فيهم املفكران التنويريان
االسكتلنديان آدم سميث وديفيد هيوم ( ،)1776-1711يركزون عىل الفوائد
العامة التي تنتج عن الحرية .فبحسب ما يجادلون ،توسع الحرية الخيارات
املطروحة أمام األفراد إىل حد كبري ،فاألفراد أفضل بكثري يف إصدار أحكامهم
الخاصة حول الغايات والوسائل مقارن ًة بسلطة معزولة ما .ولذلك ،يعزز االختيار
من رفاهية األفراد ،وبالتايل رفاهية املجتمع ككل.
49
عىل ركائز متينة» .وباملثل ،جادل الحقوقي األمرييك أوليفر ويندل هوملز جونيور
( )1935-1841بأن الحقوق ،كام حرية التعبري ،تخلقها الحكومة وال تسمح بها
إال ألنها مفيدة للمجتمع ككل.
التعبري عن الفردية
يتحدث ميل وسميث وهيوم عن نقطة أخرى ،وهي أن الحرية تسمح للناس بالتعبري
عن شخصياتهم وتنوعهم .إنه أمر مفيد للمجتمع ككل ،إذ يفسح املجال أمام
التخصص والفرص .ولكن األهم من ذلك كله هو البعد األخالقي .ال ميكن للناس أن
رشا كاملني أو يظهروا أي حكم أو شعور برشي أو مسؤولية أخالقية إذا
يكونوا ب ً
وجه شخص آخر جميع أفعالهم.
50
الفردانية املنهجية
كام سبق ورأينا ،يعتقد الليرباليون الكالسيكيون أن الفرد أهم من الجامعة ،ألن
الجامعة ال تتمتع بحياة بعي ًدا عن حياة األفراد .لرمبا يكون البرش كائنات اجتامعية،
ولكنهم يفكرون ويترصفون كأفراد.
51
الحرية اإليجابية والسلبية
إن الحرية الليربالية الكالسيكية سلبية يف جوهرها .إنها متعلقة بعدم التقيد
بالتهديدات أو اإلكراه أو تدخل اآلخرين – أي األفراد اآلخرين أو املؤسسات التي
يخلقونها مثل الحكومة عىل وجه التحديد .إنها ال تتعلق بأي قيود جسدية – مثل
عدم قدرتنا عىل القفز عرش أقدام يف الهواء عىل حد تعبري الفيلسوف الربيطاين
أشعيا برلني (.)1997-1909
ولكن بعض املفكرين يؤيدون نه ًجا إيجابيًا حني يتعلق األمر بالحرية .إنهم
يعتقدون أنه ليك نكون أحرا ًرا بحق ،علينا أن منتلك القوة واملوارد الكافية ملامرسة
ريا ال تستطيع تحمل تكلفة رشاء سيارة رولز رويس ،فأنت ال
حرياتنا .إذا كنت فق ً
فعال .وبتعبري أوضح ،إن كنت مدمنًا فأنت ال متتلك
متتلك «حرية» امتالك واحدة ً
حرية أن تكون ح ًرا ،إذ ال ينبغي أن تكون أفعالك من اختيارك وحسب ،بل يجب أن
تكون تأملي ًة ومدروس ًة.
52
أردت القفز عرش أقدام يف الهواء –لن يحاول أحد الوقوف يف وجهك– ولكنك قد
ال متتلك القدرة الكافية يف عضالتك للقيام بذلك.
يشعر الليرباليون الكالسيكيون أيضً ا بالقلق إزاء نهج الحرية اإليجابية الذي
يثق يف عقالنية وموضوعية السلطات البرشية أكرث من الالزم .ففي كثري من
األحيان ،تدعي بعض الحكومات أو مجموعات من النخبة أننا ،متا ًما كام أولئك
الذين تفقدهم املخدرات وعيهم ،ال ميكننا «حقًا» أن نعرف مصلحتنا – لذا عليهم
أن يقرروا بالنيابة عنا .إنهم يقللون من شأن العامة ،الذين يعرفون عمو ًما أين تكمن
مصلحتهم أفضل من أي مسؤول منعزل؛ إنه النهج الذي استخدم لتربير جميع
أنواع املشاريع الهندسية االجتامعية التي أثبتت يف نهاية املطاف أنها كارثية.
الحقوق والحريات
إن الفرق بني الحقوق والحرية دقيق ،ورمبا يكون ملحوظًا بشكل أفضل حني ننظر
إىل أضاداهام .إن نقيض الحرية هو العبودية – أي أن تكون مقي ًدا من قبل اآلخرين.
أما عكس الحق فهو الواجب – أي التزام أو حق عىل اآلخرين .وبالتايل نحن نتحدث
عن حرية الضمري ،ألنه ما من أحد قادر عىل منعك من التفكري لوحدك وألن تفكريك
الحر ال يفرض أي التزامات عىل أي شخص آخر .وإننا نتحدث أيضً ا عن الحق يف
الحياة ،ألن وجودك املادي يفرض واجبًا قانون ًيا أو أخالق ًيا عىل اآلخرين باحرتامه
وعدم إلحاق األذى به وعدم إلغائه .وباملثل ،أنت حر يف اقتنائك للممتلكات من
53
خالل التجارة السلمية بينك وبني اآلخرين ،ولك الحق يف حيازة تلك املمتلكات
واالستمتاع بها دون أن يرسقها منك اآلخرون.
وعىل الرغم من ذلك ،ليس من السهل أن نحدد ماهية هذه الحقوق بالضبط.
إن الليرباليني الكالسيكيني مدافعون رشسون عن حقوق امللكية؛ ولكن ،لنستعري
مثاالً من االقتصادي األمرييك ميلتون فريدمان ( ،)2006-1912هل ستمنعني
ملكيتك لقطعة أرض ما من الطريان فوقها؟ (أو ميكننا أيضً ا أن نقول اليوم :هل
سيمنع ذلك رشكة تنقيب من الحفر أسفلها؟) .يف حقيقة األمر ،ينبغي أن تنقح
هذه الحقوق يف النقاش العام وأن تعرف يف املحاكم.
من الواضح أن بعض الحقوق تتفوق عىل غريها .وعىل حد تعبري ميل ،إن
حقك يف التلويح بقبضتك يتوقف عند أنفي؛ متا ًما كام ال يعني حقك يف حرية
التعبري أن تعرض سالمة اآلخرين للخطر كأن ترصخ كاذبًا« :حريق!» يف مرسح
مزدحم .ولكن من جهة أخرى ،وكام سأل حايك ،هل يسمح لك حقك يف ملكية برئ
يف الصحراء بحرمان شخص ميوت عطشً ا من رشب املاء؟ – أم أن ذلك ينتهك حقه
54
يف الحياة؟ يبدو أنها مسألة رأي :ولكن الليرباليني الكالسيكيني سيعتقدون أن
تحديد «حقوقنا» وفقًا لرأي األغلبية أمر خطري ج ًدا.
إن السؤال األسايس بالنسبة لليرباليني الكالسيكيني إذًا هو :ما هو املربر ،إن وجد،
لتقييد حرية الترصف لدى الناس؟ – باإلضافة إىل أسئلة إضافية حول من يقرر
وكيف.
55
من أن نضع حقوقنا وحرياتنا تحت رحمة سياسيني منعزلني وغري مطلعني
وانتهازيني وسطحيني.
56
.5األخالقيات الليربالية الكالسيكية
اإلكراه والتقبل
يتفق الليرباليون الكالسيكيون عىل أن اإلكراه غري مرغوب بشكل عام .ال يؤدي
السامح للناس بفرض إرادتهم عىل اآلخرين من خالل االعتداء ،أو التهديد ،أو
الرتهيب ،أو العنف إىل مجتمع صالح .بغض النظر عام إذا كانت الحكومة هي التي
تستخدم القوة أم أفراد آخرون :إذا استطعنا تجنبها ،فيجب علينا ذلك.
ولكن ،سيكون هناك دامئًا نزاعات بني الناس األحرار .سيختلفون بشأن
مسائل امللكية ،وقد تؤدي أفعال شخص إىل إيذاء غريه .لذا فألجل الحفاظ عىل
السالم والحد من العنف ،نحن بحاجة نظام عدالة محايد يفض هذه النزاعات
ويكافح االعتداءات .ولكننا ال ميكن أن نعتمد عىل التزام الجميع بهذه األحكام
والقوانني طو ًعا :للحفاظ عىل السالم سنحتاج ال محالة إىل استخدام يشء من
ريا.
القوة القرسية التي يكرهها الليرباليون الكالسيكيون كث ً
يحل الليرباليون الكالسيكيون هذه املعضلة بإيكال الحق الحرصي الستخدام
القوة إىل الدولة – مؤسسة يتحفظون عليها ،ولكن يأملون أنها ستكون أقل انفعاالً
يف استخدام القوة من الناس العاديني ،إذا تركوا ألنفسهم.
57
أذى ،ال استنكار
إذن فالعدالة تتطلب القوة؛ ولكن استخدام القوة يتطلب التربير .وبالنسبة
لليرباليني الكالسيكيني ،فإن االستخدام الصحيح لهذه القوة املؤسسية محدد
للغاية :ملنع الناس من إيذاء وتهديد اآلخرين – أي ،لخفض استخدام العنف واإلكراه
أذى حقيق ًيا ،أو تهدي ًدا بأذى حقيقي لآلخرين.
بشكل عام .ولكن يجب أن يكون ً
يصمم الليرباليون الكالسيكيون عىل أن اإلكراه يجب أال يستخدم ضد األفراد
ببساطة ألننا نستنكرهم أو نستنكر أفعالهم.
ميكننا أن نبغض دين أشخاص آخرين ،وأن نرفض آراءهم السياسية ،وأن
منقت أسلوبهم يف الحياة ،وأن نحتقر سلوكهم ونشمئز من عاداتهم .قد تصدمنا
أفكارهم وآراؤهم .وقد نقلق حتى من كونهم يرضون بصحتهم الخاصة من خالل
املخدرات أو بأفق تحصيلهم الخاصة من خالل سلوكهم املعادي للمجتمع .ولكن
ليس أي من هذه األشياء سب ًبا يربر استخدام القوة ملحاولة جعلهم يترصفون
بطريقة مختلفة .يقول الليرباليون الكالسيكيون إن معتقدات الناس ،وسلوكهم،
وأساليب حياتهم ،وخياراتهم األخالقية ال تستحق املنع باستخدام القوة القرسية
الحازمة التي متتلكها الدولة .نحن أحرار إن أردنا أن نحاول مساعدتهم – بتجاوز
مثال – ولكن إذا مل تكن ألفعالهم ضحايا سوى
مشكلة اإلدمان عىل املخدراتً ،
أنفسهم ،فال ميكننا تربير استخدام القوة.
58
ولكن الليرباليني الكالسيكيني يشككون بالحجة القائلة إن الناس يجب أن
حا ،فإن الناس
«يُعلّموا» ليستطيعوا اتخاذ قرارات «هادفة» أو «صحيحة» .وضو ً
الذين ميتلكون معلومات أفضل – كالعلم باملخاطر املحتملة للمخدرات ،أو عدد
السعرات الحرارية يف األطعمة – يذهبون لخيارات مبنية عىل اطالع أفضل .ولكن
الليرباليني الكالسيكيني يتمسكون بأن معظم الناس أكرث اطال ًعا مام يتصوره
معظم املؤيدين لسياسة التدخل .هم بالتأكيد أكرث اطال ًعا فيام يخص أهدافهم
وفرصهم وظروفهم الخاصة مام ميكن ألي سيايس أن يكونه عىل اإلطالق .ومهام
يكن مقدار ما ميتلكونه من معلومات ،فإن خياراتهم النهائية تبقى مسألة حكم
شخيص ،ال شي ًئا «صائ ًبا» أو «غري صائب» بشكل موضوعي .يخاف الليرباليون
الكالسيكيون من أن حجة «التعليم» تطرح أكرث من الالزم من قبل املنادين
بسياسات التدخل كطريقة لفرض قيمهم الخاصة عىل خيارات اآلخرين.
59
الكلفة والرضر
أول األسباب الكلفة الهائلة ملحاولة إقناع الناس بتغيري مامرساتهم ومعتقداتهم
العزيزة عىل قلوبهم .قد تكون الكلفة مادية ،كالنفقات الضخمة لتدريب الجيوش،
والدفاعات ،والرضائب التي تدفع لها خالل الحمالت الدينية الصليبية يف العصور
الوسطة .أو ميكن أن تكون كلفة برشية ،كمضايقات السلطات الرومانية
للمسيحيني األوائل ،واضطهادات الربوتستانت يف زمن اإلصالح ،وقتل املسلمني
من قبل املسيحيني الرصبيني يف تسعينيات القرن العرشين.
هل أمثرت هذه الكلفة عن أي مكتسبات؟ بينام ميكن بالتأكيد إرهاب الناس،
يبقى من شبه املستحيل تغيري معتقداتهم الراسخة .وكيف سنعلم إن فعلنا؟ بكلامت
إليزابيث األوىل ملكة إنجلرتا ( ،)1603–1533ال ميكننا «فتح نوافذ عىل أرواح
البرش» .وليس علينا أن نضيع وقتنا يف املحاولة .وفقًا لجيفرسون ،مبا أن الخالفات
60
أذى« :متتد القوى الرشعية للحكومة لهذه األفعال فقط مبقدار ما
الدينية ال تسبب ً
أذى لآلخرين .ولكن ال أذى يلحقني إذا قال جاري إن هناك عرشين إل ًها ،أو
تسبب ً
ال إله .فذلك ال يرسق جيبي وال يكرس رجيل».
مصالح متنوعة
تقول حجة ليربالية كالسيكية أخرى يف االستدالل عىل التقبل إننا ال ميكن أن نربر
استخدام القوة لتغيري معتقدات اآلخرين ،أو أساليب حياتهم ،أو توجهاتهم
األخالقية ،عندما ال ميكننا ببساطة أن نتفق عىل ما هو مقبول ،أو غري مقبول،
ريا عام هو مسموح،
ومسموح ،أو غري مسموح .كام احتج كانط ،عندما يختلف كث ً
فعال أن نحاول تربير وجهات نظرنا لآلخرين ،بدالً من أن نحاول فرضها
نحتاج ً
وحسب.
رشح إشعيا برلني ،يف وقت أقرب ،أن لكل من األفراد وجهات نظرهم العديدة
كال منهم يرتب
املختلفة – كاألمان ،واالستقالل ،والعائلة ،والرثوة ،والراحة – وأن ً
هذه األمور بشكل مختلف أيضً ا من حيث األولوية .لذا فقد يكون منطق ًيا متا ًما
بالنسبة لهم أن يختاروا طرقًا مختلفة للحياة .ال توجد طريقة موضوعية لتقرير ما
إذا كانت قيم الناس املختلفني أجدر أو أقل جدارة ،أو إذا ما كان ترتيبهم لألولويات
أفضل أو أسوأ .يعود األمر ببساطة للرأي فيام إذا كانت الرثوة أفضل أم الراحة ،أو
61
إذا كانت العائلة أهم من األمان .يف عامل تتنوع فيه أهداف الناس بكل هذا القدر،
ال ميكن ألحد اتخاذ خيارات تصلح للجميع.
فوائد التنوع
جادل جون ستيوارت ِمل بأن التربير الوحيد للتدخل باآلخرين هو منع الرضر أو
التهديد بإلحاق الرضر؛ ولكن اختالفات الرأي ال ترض الناس الذين يتقبلونها .ألجل
الحق ،رأى ميل أن هناك الكثري من األسباب اإليجابية التي تدفعنا بالفعل للرتحيب
بهذه االختالفات يف الرأي ،بدل أن نحاول إخضاعها للرقابة .الفردية ،واألصالة،
واالبتكار ،واألفكار املتنوعة ،حسب ما رأى ،تشكل وقود تطور التقدم البرشي.
وحتى لو عرب أحد ما عن رأي خاطئ بتجرد برأي معظم الناس اآلخرين ،فقد
رصا ما من
ينفعنا مع ذلك .قد يتضح ،بإعادة النظر ،أنه صائب ،أو أنه ميتلك عن ً
الحقيقة والحكمة قد يساعد يف تقدم الفهم العام .حتى لو كانت وجهة النظر
خاطئة بالكامل ،فقد تشكل مع ذلك تحديًا مفي ًدا ملنع رأي قد يرتدى ،إذا أخذ عىل
62
محمل الحقيقة ،إىل أن يصبح مبدأً اعتقاديًا فارغًا .كام الحظ أوليفر ويندل هوملز،
فإن أفضل اختبار للحقيقة سوق األفكار.
كان ملِل رأي أخالقي مشابه .التدخل بترصفات الناس ،كام رأى ،يحد تطورهم
ككائنات برشية أخالقية .لن ميكنهم أب ًدا التعلم والتطور من تحمل مسؤولية
فعال اختياراتهم الخاصة .ال ميكننا احرتامهم ككائنات
خياراتهم ما مل يختاروا ً
برشية أخالقية أو آهلة للمدح إذا كان شخص آخر مييل عليهم كل أفعالهم؛
سيكونون أقرب للروبوتات منهم للبرش.
63
نتائج عكسية
نقطة أخرى أن السياسات غري املتقبلة ال تعمل بشكل عام ،أو يكون لها عواقب غري
محمودة ،أو فعل ًيا تحقق عكس ما يرمي إليه مؤلفوها.
من األمثلة الصارخة عىل الحالة الثانية العواقب غري املحمودة ملنطقة الحظر
يف الواليات املتحدة ( .)1933–1920املدفوعة بشكل كبري باالعرتاض األخالقي
عىل ثقافة الكحول والصالونات .أدى الحظر إىل انتقال التجارة إىل الخفاء ،تاركة
إياها ألولئك الذين ال يأبهون بخرق القوانني .كانت النتيجة تصاعد عنف العصابات،
والفساد يف الرشطة وبني املسؤولني الرسميني ،واالنتشار الواسع لعدم احرتام
القانون الذي مل يكن مطبقًا بشكل صحيح.
64
بالقانون عاد ًة إىل مجرمني ،مضطرين للتعامل مع مجرمني ،ومعرضني للخطر
لغياب أي مراقبة للجودة أو حامية للمستهلك التي قد يحصلون عليها يف األسواق
القانونية .من جهة أخرى ،تحولت موارد أجهزة تطبيق العدال عن األنشطة التي
تلحق بالفعل رض ًرا حقيقيًا باآلخرين.
ثالثًا ،هناك العديد من األمثلة عىل تسبب السياسات غري الليربالية بآثار
مثال ،أدت محاوالت منع التمييز يف مكان العمل والتأكيد
معاكسة لآلثار املقصودةً .
عىل التقدير املالئم للكفاءات إىل «متييز إيجايب» ،من خالل توظيف الناس ألنهم
يكملون النسب املفروضة ،بدالً من توظيفهم تب ًعا للكفاءة .أصبح تعليم الدولة،
املصمم ملنع املجموعات السياسية أو الدينية من السيطرة عىل عقول اليافعني،
تعليام احتكاريًا ال مفر فيه من التعاليم الدينية السائدة عىل اإلطالق أو إىل حد
ً
كبري .كذلك ،فقد أدى القمع السيايس أو الديني ببساطة إىل إشعال األضغان التي
تنفجر يف النهاية عىل شكل عنف ضد القامعني .وبالحد األسوأ ،ميكن للتعاليم
األيديولوجية التي تفرضها دولة مفرطة يف القوة كاالتحاد السوفيايت سابقًا أن
تؤخر التطور الشخيص واالجتامعي والعلمي لعقود.
أخالقية أو آهلة للمدح إذا كان شخص آخر مييل عليهم كل أفعالهم؛ سيكونون أقرب
للروبوتات منهم للبرش.
65
املنحدر الزلق
عندما نستخدم القوة القرسية للدولة لقمع األفكار ،والتوجهات ،والسلوكيات التي
ال نوافق عليها ،فليس من حد واضح نقف عنده .يحذر ِمل من «طغيان الرأي
رسا بأن حتى لو كان الجميع يرون أن آرا ًء محددة أو أفعاالً محددة يجب
السائد» ،مف ً
قمعها ،فإن هذا ليس تربي ًرا كاف ًيا لفعل ذلك .يجب أن يبقى «محيط شخيص» من
األفعال واآلراء التي ال ميكن للدولة التدخل فيها.
يعود هذا جزئ ًيا فقط إىل أن الناس مييلون إىل اتخاذ قرارات أفضل ألنفسهم
مام ميكن للمرشعني البعيدين واملسؤولني أن يتخذوه – يف النهاية ،هم أدرى
بظروفهم الشخصية الدقيقة .السبب اآلخر أنه يصبح من السهل ج ًدا لألغلبية أن
يفرتضوا بأن لديهم الحق للتدخل يف حيوات الناس ،ببساطة ألن األرقام لصالحهم.
ولكن هذه الثقة املتساهلة تسمح لألغلبية ،مسلح ًة بأدوات القوة القرسية للدولة،
مبد تدخلهم ملسافات كبرية ج ًدا وملصادرة حريات الناس األساسية.
إنه منحدر زلق .التدخل يف جزء من حيوات الناس يستخدم لتربير التدخالت
املوازية يف األجزاء األخرى .غال ًبا ،تفشل تدخالت الدولة أو يكون لها نتائج عكسية،
ينظر إليها بعدها كحجة للمزيد من التدخل .تستخدم العواقب غري املقصودة
مثال ،كأسباب لزيادة تضييق الخناق أكرث،
لسياسات املخدرات وعدم فعاليتهاً ،
وتجعل املشاكل الناتجة أسوأ حتى.
66
رسم الحد الفاصل
إذن أين يجب أن نرسم الحد الفاصل؟ ما هي حدود تدخل الدولة؟ ما هي النشاطات
التي يجب تقبلها ،والنشاطات التي ال يجب تقبلها؟ ما هي الحقوق التي عىل اآلباء
مثال؟ ألديهم حق رضبهم ،وختانهم ،أو حتى رشب
واألمهات امتالكها تجاه أبنائهمً ،
الكحول وتناول املخدرات وهم يف األرحام؟ أو بشكل أكرث عمو ًما ،أيجب أن يتاح
للكوميديني ورسامي الكرتون حق حرية التعبري للسخرية من دين ،إذا كانت هذه
األفعال ستثري العنف الذي قد يؤدي إىل إيذاء األبرياء؟
ال توجد إجابات واضحة لهذه األسئلة :للناس املختلفني آراء مختلفة .حرص
اإلجابات أكرث مهمة حرجة لليرباليني الكالسيكيني .هم يريدون القوة القرسية
فعال
للدولة أن تكون مركزة يف أضيق نطاق ممكن ،بحيث متنع األفعال املؤذية ً
وتعاقب عليها .يجب أن يكون املكان الدقيق لهذا الحد مسألة مناظرة ونقاش عام:
ليس من الحكمة أن نسمح لقادتنا السياسيني باتخاذ القرارات عنا .ولكن الكم
األكرب من األفعال التي قد ال تسبب سوى أضأل قدر من اإلزعاج لآلخرين يجب أن
يكون مسألة قابلة للنقاش واإلقناع بدالً من إخضاعه للقبضة الحديدية للدولة.
التقبل والدولة
67
مل تكن لإلغريق القدماء هكذا هواجس .فقد آمن أفالطون (نحو 347–427ق.م).
ريا ،عىل الدولة إلزام الناس
مثال ،أنه إذا كان يشء خ ً
وأرسطو ( 322–384ق.مً ،).
به .وحتى اليوم ،يعتقد العديد من الناس أن القانون يجب أن مينع األشياء التي
نعتربها غري أخالقية.
68
الخطر واستخدام القوة
ولكن أنصار التدخل يحتجون بأن كل فعل له عىل األقل بعض العواقب التي يحتمل
أن تكون ضارة لألشخاص اآلخرين ،لذا يجب التعاطي مع كل قضية حسب
مثال ،مينع التدخني يف املساحات املغلقة كاملطاعم
حيثياتها .يف العديد من الدولً ،
ودور عرض السينام .التربير املعتاد لهذا ليس أنها ترض املدخن ،بل أن اآلخرين قد
يتعرضون لعوارض مرضية بسبب استنشاق الدخان كمدخنني سلبيني .حديثًا ،منع
التدخني أيضً ا يف الحدائق العامة ،حيث خطر استنشاق الدخان من اآلخرين ميكن
إهامله؛ ولكن الحجة اآلن أنه يف الحدائق ،قد يرى األطفال الناس يدخنون وقد
يحاولون تقليدهم ،ما يؤدي إىل معاناتهم من مشاكل صحية كنتيجة لذلك.
يجب أن يكون التقبل إراديًا .هو موجود لسبب :أي أن احرتام اآلخرين
ككائنات أخالقية ،واحرتام حرياتهم ،هو أساس التعاون السلمي يف مجتمع حر.
69
ريا ما يكون سياسيونا ومسؤولونا الرسميون غري مدركني للحظة
ومع ذلك كث ً
ريا ما ينادون
تخطيهم ذلك الحد املفصيل .العامة أيضً ا ،عندما تحدث املشكالت ،كث ً
الحكومة حتى «تفعل شي ًئا» ،حتى عندما يكون تدخل الدولة اعتدا ًء غري مربر عىل
الحرية الشخصية .ونحن أيضً ا مستعدون بشكل مفرط إلجبار الناس «ألجل
صالحهم» – بينام يف الحقيقة نحن نجربهم فقط ليخضعوا لقيمنا وانحيازاتنا
الخاصة.
«مع أننا مل نعد ندعي إجبار الناس لصالحهم الروحي» ،كتب الفيلسوف
وعامل األنرثوبولوجيا اإلنجليزي هربرت سبنرس (« ،)1903–1820ما زلنا نظن
أننا مدعوون إلجبارهم ألجل صالحهم املادي :دون أن نرى أن كال األمرين بنفس
املقدار من عدم الجدوى وانعدام املربرات» .هذا سبب واحد فقط مام يدفع
الليرباليني الكالسيكيني للمناداة بوضع حدود للحكومات.
70
.6السياسات الليربالية الكالسيكية
وظائف الحكومة
لكن أليست هذه النظرة للحكومة ضيقة للغاية؟ غالبًا ما يصور الليرباليني
ريا عىل أنهم يؤمنون بعدم التدخل أو بدولة حارسة مصغرة
الكالسيكيني كاريكات ً
أثارية .ويقول النقاد إنه لو كان عىل الجميع أن يتفقوا عىل سبب وجود الحكومات،
فلن يجدوا الكثري ليتفقوا عليه ،وسيبقون عالقني يف الفوىض.
72
اعتقد آدم سميث نفسه أنه باإلضافة إىل حامية العامة عن طريق الدفاع
ونظام العدالة ،يجب عىل الحكومة توفري األشغال العامة مثل الجسور واملوانئ،
واملساهمة يف التعليم العام.
رغم أن هناك بعض األشياء املفيدة التي يفضل القيام بها جامعيًا ،لكن
السؤال هو أين الخط الفاصل .ال تساعد يف هذا حقيقة أنه غال ًبا ما يصعب تحديد
متى يحدث رضر حقيقي أو يهدد به ،أو ما هي الفوائد الدقيقة للتدخل.
فمثال ،رغم أن ميل كان مداف ًعا عن حرية التعبري ،فقد اعتقد أن مبدأ عدم
ً
اإليذاء قد يربر الرقابة .دعا أيضً ا إىل فرض واجبات مختلفة عىل األفراد ملساعدة
تعليام مناس ًبا .ورأى
ً اآلخرين -مثل الشهادة يف املحكمة ،وضامن تعليم أطفالك
دو ًرا للحكومة يف تنظيم التجارة ،وساعات العمل ،واألجور ومزايا مكان العمل.
دعا إىل قوانني الرعاية االجتامعية لتوفري العمل لألشخاص األصحاء وتوفري الحد
األدىن من مستويات املعيشة لآلخرين .اعتقد أنه يجب عىل الحكومات إنشاء البنى
التحتية مثل الطرق والرصف الصحي .ودعا إىل دعم عام للبحث العلمي والفنون.
إذ ميكن للمنافع العامة الصغرية حتى ،حسب اعتقاده ،أن تربر مثل هذه التدخالت.
قد يختلف العديد من الليرباليني الكالسيكيني مع هذا كله.
ويف اآلونة األخرية ،رسد ف .أ .هايك أيضً ا ،وحتى يف كتاب عن سلطة الدولة
املفرطة (الطريق إىل العبودية) ،بعض الوظائف التي اعتقد أنه ميكن للحكومات
توليها رشعيًا .وشملت تزويد الناس بالحد األدىن من الغذاء واملأوى وامللبس ،مبا
73
يكفي للحفاظ عىل صحتهم وقدرتهم عىل العمل؛ ونظام تأمني االجتامعي شامل
للمصائب التي يصعب التأمني ضدها؛ واملساعدة بعد الكوارث الطبيعية ،التي ال
يستطيع األفراد االستعداد لها أيضً ا؛ والسياسة االقتصادية ملكافحة دورات األعامل
والبطالة التي تخلقها.
74
امللكية هي أحد األشياء التي توجد الحكومة لحاميتها ،صعوب ًة يف تربير هذا .يريد
اآلخرون ببساطة التأكيد عىل أن املنفعة العامة -مهام كان تعريفها -كبري ًة كفاي ًة
لتربير التطفل عىل حقوق األفراد وحرياتهم.
يتمثل الخطر الواقعي يف «زحف املهمة» -بدء الحكومات بعض األشياء التي
يتضح أنها مسؤوليات جامعية ،ثم توسع صالحياتها ووظائفها ،دون نقطة نهاية
واضحة .رمبا يكون الليرباليون الكالسيكيون مؤهلني أفضل من غريهم لوضع
الحدود ،ألنهم يدركون الحاجة إىل حكومة مقيدة ومخاطر ازدهار سلطة الحكومة.
ويدركون ملا يجب أال توفر الحكومة بعض األشياء بنفسها ،رغم أنه قد يكون لها
دور يف ضامن توفرها مثل اإلغاثة الطارئة .ويفهمون أيضً ا ملاذا يجب أن تظل
حكام وأال تصبح العبًا يف السوق ،رغم أنها قد تنظم السوق؛ وملَ ال ينبغي
الحكومة ً
أن تتوسع املساعدة التي تقودها الحكومة ألشخاص ومجموعات معينني منكوبني
إىل إعادة توزيع الدخل عىل األمد الطويل وعىل نطاق واسع.
ويف املقابل ،يعتقد «الليرباليون الجدد» أن إعادة توزيع الدخل هو بالضبط ما يجب
أن تفعله الحكومات .يرون عدم املساواة والفقر كنتيجة للسلطة غري املتكافئة
وقوانني امللكية غري العادلة التي تعود بالنفع عىل أرباب العمل واألغنياء ولكنها
ترض بالعاملني والفقراء .وبالتايل ،لتعزيز «العدالة االجتامعية» يجب عىل
75
الحكومة تصحيح اختالل ميزان السلطة وإعادة توجيه الرثوة والدخل من
األشخاص األفضل حاالً إىل األسوأ.
إذن ،تركز العدالة الحقيقية عىل كيفية ترصف الناس تجاه بعضهم فحسب.
فالرسقة غري عادلة؛ بينام اإلصابة باألنفلونزا محنة لكنها ليست ظلم ،ألنه مل يظلم
أحد .من ناحية أخرى ،تعد العدالة التوزيعية أو االجتامعية مختلفة متا ًما .تتعلق
بتوزيع األشياء بني أعضاء مجموعة مختلفني .وتسعى إىل تغيري هذا التوزيع -
نحو مزيد من املساواة عمو ًما -حتى لو كان التوزيع القائم نتيجة لألحداث
ببساطة ،ومل يترصف فيه أي شخص بشكل يسء أو غري عادل.
76
نوزيك ،سيتطلب األمر إكرا ًها مستمرًا ومتكر ًرا للحفاظ عىل هذه املساواة طوال
املستقبل.
هناك مشاكل عملية أيضً ا .إذ تعد املساواة الكاملة يف الدخل مستحيلة :فلامذا
يكلف الناس عناء العمل الجاد ،أو العمل أيًا كان ،إذا كانوا يتقاضون نفس رواتب
الذين ال يعملون؟ لذلك تركز «العدالة االجتامعية» أكرث عىل إعادة التوزيع وفقًا
للحاجة ،أو مبا يتناسب مع القيمة التي يقدمها الناس للمجتمع .ولكن من يقرر
ريا بسبب الكسل املطلق
من هو املحتاج ،ومن قيمته أعظم؟ وهل يعترب من يصبح فق ً
جا» ممن يدمر منزله وعمله بفعل إعصار؟ هل يساهم املمرض يف
أقل «احتيا ً
املجتمع أكرث من عازف الكامن؟ ال توجد طريقة موضوعية للحكم :إن القرار
شخيص متا ًما .ومع ذلك ،وعىل خلفية مثل هذه األحكام التعسفية ،يستويل دعاة
«العدالة االجتامعية» عىل ممتلكات الناس وحريتهم.
ليس هذا فحسب ،بل إن «العدالة االجتامعية» تعامل الناس بشكل مختلف:
إذ يدفع الناس مبالغ مختلفة من الرضائب ،أو يتلقون مبالغ مختلفة من دعم الدولة،
اعتام ًدا عىل مدى ثرائهم أو فقرهم .وهذا ينتهك سيادة القانون -مبدأ أن القانون
يجب أن يعامل الناس عىل قدم املساواة وأنه ال ينبغي مساعدة أي شخص أو إلحاق
األذى به بأحكام السلطات التعسفية.
77
أي شخص يف الحصول عىل دعم اجتامعي طويل األمد -ألن ذلك يعني أن اآلخرين
ملزمون بدعمهم ،باإلكراه إن لزم األمر ،رغم أنهم ال يالمون أب ًدا عىل ظروف
إخوانهم املواطنني املؤسفة.
ال يعني هذا أن حال الفقراء سيئ يف مجتمع ليربايل كالسييك .متيل
ريا يف بلد غني
املجتمعات الحرة إىل أن تكون أكرث ثرا ًء ،ومن األفضل أن تكون فق ً
بدالً من بلد فقري .مييل الناس يف البلدان الغنية أيضً ا إىل املساهمة أكرث عن طريق
العطاء الخريي واألعامل الخريية؛ رغم أنه ال يقع عليهم أي التزام قانوين ملساعدة
اآلخرين املحتاجني ،لكنهم ميتلكون املوارد لدعم االلتزام األخالقي الذي يشعرون
به تجاههم.
لطاملا تحدث عموم «اقتصاديو الرفاه» عن فشل السوق والحاجة إىل اتخاذ
إجراء حكومي لتصحيحه .ما نسوه هو أن هناك فشل حكومي أيضً ا .فالسياسيون
78
واملسؤولون ليسوا مالئكة :هناك الكثري من املصالح الذاتية يف النظام الدميقراطي
كام هو الحال يف السوق الخاصة.
79
أخرى مصالحها الخاصة – رمبا تزيد من حجم وتعقيد الربامج لتوسيع
إمرباطورياتها.
باإلضافة إىل تقييد العملية الدميقراطية -السياسية -يف تحديد القضايا التي
يجب البت فيها وال ميكن ذلك إال جامع ًيا ،يسعى الليرباليون الكالسيكيون أيضً ا إىل
حامية حقوق وحريات جميع األفراد عن طريق فرض قيود عىل كيفية سري العملية
وكيفية اتخاذ مثل هذه القرارات.
الدساتري والحرية
الدستور هو إحدى طرق تحديد تلك القيود ،ومنحها قوة ال ميكن أن يتجاوزها
بسهولة أولئك الذين يصادف أنهم يف األغلبية ويف السلطة آنذاك .ال ينجح هذا
81
دامئًا :فحتى البلدان التي تبدو ذات دساتري ليربالية قوية ليست محصنة ضد
الزيادات الرسيعة يف حجم الحكومة ومن تقويض األغلبيات للحقوق والحريات
الفردية .يصعب حامية الحريات الدستورية إذا فقد عامة الشعب فهمهم ألهميتها
وعزمها عىل حاميتهم .يصعب حامية الحريات الدستورية إذا فقد عامة الشعب
فهمهم ألهميتها وعزمها عىل حاميتهم.
لكن يعتقد الليرباليني الكالسيكيني عمو ًما أن وضع قيود دستورية مينحنا أفضل
فرصة لحامية الحقوق والحريات الفردية.
ومن خالل قواعد مثل فصل السلطات والضوابط واملوازين -مثل الحكومة
املتعددة الغرف ،والنظام الفيدرايل ،واملراجعة القضائية -ميكننا أن نحاول منع
جامعات املصالح املكتسبة من السيطرة عىل عملية صنع القرار بأكملها.
قد يعني هذا الدستور أيضً ا حدود سلطة الدولة بتحديد الحقوق األساسية
لألفراد ،والتي ال متلك الدولة أي سلطة عليها (ألنه ال ميكن أن ينقل مواطنيه
املؤسسني سلطة إىل الدولة لإلرضار بحقوق اآلخرين والتي ال ميلكونها هم
أنفسهم) .ويف حني أن وثيقة الحقوق هذه قد تذكر الجميع بشكل مفيد بالحقوق
82
األساسية مثل الحياة ،والحرية ،وامللكية ،وحرية التعاقد ،والفكر والكالم ،لكن ال
ميكنها تعديد كل حق وحرية .وكام يقول هوبز ،يجب أن نكون أحرا ًرا يف فعل أي
يشء ضمن «صمت القانون» -لكن سيكون النظام القانوين الذي يحاول رسد كل
طويال،
ً ما ميكننا القيام به ،بدالً من األشياء القليلة التي ال ميكننا القيام بها،
ومعق ًدا ،ومعي ًبا ومقيد عىل نحو مؤمل.
بل ينبغي أن يكون هناك افرتاض عام بأن الناس أحرار يف السعي لتحقيق
غاياتهم بأية وسيلة سلمية ،مع مراعاة بعض االستثناءات املنصوص عليها يف
القانون .وال حاجة إىل توضيح حرياتنا العديدة ،الوارد ذكر معظمها ضمنًا يف
االفرتاض العام للحرية.
رشعية الحكومة
يجب أن يبقي ذلك الحكومة محدودة ،وكام ذكّرنا فرانك نايت :لن نتمكن أب ًدا
من االتفاق عىل أي مجموعة واسعة من السلطات .لكن الحكومات مقيدة أيضً ا
بخطر التمرد -وهو محق متا ًما أيضً ا ،بحسب رأي لوك وبني.
83
ظلام
ومع ذلك ،نظ ًرا للقوة القرسية املتاحة لها ،يظل بإمكان أكرث الحكومات ً
البقاء لفرتة طويلة ج ًدا .تعد االنتخابات ،بكل عيوبها ،أكرث طريقة سلمية لعزل
الحكومات .وهي ،مثل الدساتري ،ليست موجودة الختيار قادتنا ،بل لتقييدهم .إن
صامم األمان هذا مهم للغاية :فكام يرص الليرباليون الكالسيكيون ،ال ينبغي أن
يخضع األفراد للقرارات التعسفية التي يتخذها اآلخرون ،حتى لو كانت حكومة ذات
شعبية كبرية.
84
.7املجتمع الليربايل الكالسييك
أنظمة عفوية
إن فكرة النظام العفوي قدمية العهد ،ومن املؤكد أنها تعود إىل زمن الفيلسوف
الفرنيس مونتسكيو ( ،)1755–1689الذي رشح كيف يستطيع األفراد
الوصوليون الحريصون عىل مصلحتهم الذاتية ،عن غري قصد ،خلق نظام اجتامعي
مفيد عمو ًما .وصف عامل التنوير اإلسكتلندي آدم فريغسون ()1816–1723
املؤسسات االجتامعية بأنها «نتيجة عمل برشي ،وليست نتيجة تصميم برشي» –
وهي فكرة أسامها آدم سميث «اليد الخفية».
يف اآلونة األخرية ،عمل هايك عىل تحديث الفكرة .ون ّوه مبيلنا إىل تقسيم العامل
إىل طبيعي واصطناعي – أي تص ّور األشياء الطبيعية عىل أنها برية ،وغري
عقالنية ،وتفتقر إىل الهيكلية والتنظيم ،بينام تكون االصطناعية مخطط ًة،
وعقالني ًة ،ومنظم ًة ومنهجي ًة – وعليه نفرتض ببساطة أنها األفضل.
85
لكن هايك يرى فئة أخرى من األشياء املنظمة ،لكنها ليست مخططة أو متعمدة.
ومن أمثلتها أرساب اإلوز املهاجرة عىل شكل حرف ،Vأو املجتمعات املعقدة للنحل
أو النمل األبيض .مل تُصمم هذه الهياكل االجتامعية نتيجة وعي املخلوقات املعنية،
لكنها نتيجة منظمة لسلوكها الفردي.
مثال مل
تظهر مثل هذه األنظمة العفوية يف املجتمع البرشي أيضً ا .فلغتنا املعقدة ً
تُصمم وقواعدها عم ًدا من قبل أي شخص ،بل منت ببساطة ألنها أظهرت فائدتها.
(من املثري لالهتامم أن لغة اإلسربانتو ،املصممة عم ًدا لتكون لغ ًة أوروبي ًة شامل ًة ،مل
تحصل عىل أي شعبية تُذكر ،بينام ازدهار اللغات األخرى العفوية يف أوروبا ما
يزال مستم ًرا).
وباملثل ،مل يُخلق القانون العام عن قصد ،مثلام نشأ قانون نابليون الترشيعي؛
علام أن األسواق
انبثق ببساطة من آالف األحكام الصادرة يف قضايا فرديةً .
واألسعار واملال تطورت أيضً ا بسبب فوائدها ،ال ألن أح ًدا اخرتعها بوعي.
نستنتج أن األنظمة االجتامعية ال تحتاج إىل حكومة ،أو تخطيط ،لتكون وظيفية
أو فعالة أو حتى عقالنية .إنها تظهر من طريق تفاعل األفراد الحر ،إذ يسعى كل
منهم إىل تحقيق أهدافه الخاصة ،مع احرتام حقوق اآلخرين وحرياتهم .ومن
املرجح أن يؤدي تدخل الحكومة إىل تحويل هذا النظام إىل فوىض.
قد ال تتكيف األنظمة تكيفًا مثال ًيا طوال الوقت ،لكن ما يتأقلم منها بصورة جيدة
يستمر وجوده ويزدهر متفوقًا عىل بقيتها .وسيكون هذا التقدم التطوري القائم
عىل التجربة والخطأ أرسع بكثري عندما ميتلك األفراد حرية إنتاج أفكارهم الخاصة
بك ّم أكرب مام يكون عليه الحال يف ظل سيادة أفكار أصحاب السلطة فقط.
من األمثلة عىل ذلك يُذكر حشد من الناس يف محطة قطارات مزدحمة؛ يندفعون
نحو قطارات مختلفة وعرب مخارجها ومداخلها .بطريقة ما ،يصل الجميع إىل
وجهاتهم دون االصطدام ببعضهم .وهذا ألن كل واحد منهم يعدل اتجاهه آخذًا يف
االعتبار أن اآلخرين يعرتضون طريقه .قد يكون طريقهم النهايئ بني القطار
مستقيام ،لكنهم يصلون إىل وجهتهم برسعة
ً واملدخل بعي ًدا ج ًدا عن كونه خطًا
عمو ًما ودون وقوع حوادث .وإذا بحثنا عن البديل – توجيه هؤالء اآلالف عرب
كابوسا إداريًا.
ً السؤال عن وجهتهم ثم رسم أكرث الطرق كفاءة عرب املحطة – سنجد
لكن ومن حسن الحظ ،تحل املشكلة نفسها بتلقائية مطلقة.
القواعد والنظام
87
تحل املشكالت آنفة الذكر نفسها ألننا نتكيف مع اآلخرين بطرائق ميكن التنبؤ بها
– يف حالة املحطة ،نحاول تجنب االصطدامات من طريق اإلشارة إىل املكان الذي
نتجه إليه مبهارة والتكيف مع إشارات اآلخرين أيضً ا .مثل هذه القواعد السلوكية،
أو «اآلداب العامة» ،تعطي نتيج ًة تلقائي ًة ومفيدةً .يف سيناريو معاكس متا ًما ،إذا
ترصفنا جمي ًعا بصورة غري متوقعة ،لن ينتج عن ترصفنا سوى االرتباك والرصاع.
بالنظر إىل واقع األنظمة العفوية ،قد ال تُس َّجل هذه «اآلداب» ،وقد تكون
معقد ًة للغاية .فالنحل ،عىل سبيل املثال ،ال ميلك مهارة الكتابة وال البنية اآلمرة،
ومع ذلك يحافظ عىل مستعمرات مزدهرة من 50,000نحلة أو أكرث ،ببساطة عرب
العمل املنظم لكل فرد.
فيام يتعلق باألنظمة البرشية ،يؤكد تالميذ املدارس أن قواعد النحو ،التي
بُنيت عليها لغتنا ،صعبة الوصف ،رغم أننا نستخدمها دون تفكري كل يوم .وينطبق
اليشء نفسه عىل قواعد العدالة ،أو املعاملة العادلة ،أو األخالقيات؛ ميكننا إدراك
حدوث خلل يف القواعد عند حدوثه ،رغم أننا ال نستطيع دامئًا رشح ماهيتها.
بعدها تطورت هذه القواعد الداعمة للنظام ألنها مفيدة وتكيفية ،ال ألننا
صممناها بوعي .تضع قيو ًدا طوعية عىل أفعالنا ،ما يجعلها متوقع ًة بصورة
أوضح ،وعليه تسهل الحياة االجتامعية .تشكل القواعد مثل حقوق امللكية والتقاليد
والعادات واألخالق والصدق واالحرتام والعادة موقد النار الحاوي عىل نار الحرية
88
الفردية .مل يخرتعها أحد ،ومع ذلك تشتمل عىل «حكمة» غري واعية حول كيفية
الترصف يف سبيل تعزيز التفاعل االجتامعي السلس.
مستحيال
ً إن النظام العفوي هكذا يكون معتم ًدا عىل السلوك الفردي املتوقع ويغدو
التخيل عنه .وأساس نظامنا االجتامعي أو السيايس ،كام يرى الليرباليون
الكالسيكيون ،هو قواعد العدالة.
مثل النحو ،ال تُصمم قواعد العدالة بوعي ،بل تتطور ألنها نافعة؛ ونتبعها
عىل نطاق واسع ،مع أننا غري قادرين دامئًا عىل رشح ماهيتها بدقة .نحاول بكل
تأكيد تدوينها وتأطريها يف كتب القانون .وهنا لسنا من يخلق قواعد العدالة ،بل
من يحاول اكتشاف ماهيتها.
فمثال
ً يستطيع املرشعون مترير «القوانني» ،لكنها قد ال تكون مجرد قوانني.
قد تؤدي إىل أثر رجعي (معاقبة األشخاص عىل أفعال مل تكن إجرامية وقتها) ،أو
رمبا يتعذر تنفيذها (االمتثال لها مستحيل) ،أو تكون غري مفهومة (متناقضة أو
تعقيدها يفوق الفهم) ،أو مطبقة تطبيقًا غري عادل – وكلها حاالت تيسء إىل فكرة
العدالة التي نشأنا عليها ،أو كام يقول بعض الليرباليني الكالسيكيني ،تيسء إىل
القانون الطبيعي .وعليه فإن مثل هذه الترشيعات ال تستحق اسم «قانون».
89
سيادة القانون
نظ ًرا إىل عجز معظمنا عن رشح قواعد النحو ،ناهيك عن قواعد الحياة
االجتامعية ،يغدو منطق ًيا إبقاء األمور بسيطة .إن وجود قواعد عامة ومستقرة
يعني أن الجميع يعرف املتوقع منها ،ما يرفع بدوره قابلية توقع أفعالنا ،ويعزز
ثقتنا عند وضع الخطط .واألمر نفسه ينطبق عىل القواعد العاملية – مع امليزة
الجوهرية اإلضافية التي تجعل تفضيل أشخاص أو مجموعات معينة أو استغاللها
مستحيال.
ً أم ًرا
هذا حكم القانون ،عىل عكس الحكم التعسفي ألصحاب السلطة .يؤكد
الليرباليون الكالسيكيون عىل دوره يف منع السياسيني والرشطة واملحاكم
واملسؤولني اآلخرين من إساءة استخدام سلطتهم القرسية .دون إغفال أنه يعفينا
من رشور شائعة عديدة :االعتقال التعسفي ،والسجن دون محاكمة ،والخطر
املزدوج (املحاكمة مرات عدة عن الجرمية نفسها) ،واملحاكامت الجائرة ،وانحياز
القضاة ،وتزوير االنتخابات ،والترشيعات غري العادلة.
90
حامية سيادة القانون
91
إن كل هذا بعيد ج ًدا عن وجهة نظر العديد من املرشعني اليوم ،الذين يبتغون إذعان
املحاكم لألغلبية املنتخبة ،التي ،كام يقولون ،عىل اتصال أوثق بالشواغل العامة
مقارن ًة بالقضاة .إنهم يتجاهلون القيود الدستورية ،بحجة فهمهم الظروف الحالية
فهام أفضل من واضعي الدستور منذ عقود أو قرون .وال يرون وجود الحقوق أم ًرا
ً
ومقدسا ،بل امتيازات متنحها لنا الهيئة الترشيعية .وعليه يجب أن يعزز
ً طبيع ًيا
الترشيع «املصلحة العامة» باعتقادهم ،حتى عىل حساب الحرية الفردية.
لكن أي ترشيع تقري ًبا ،مهام كان جائ ًرا أو قرسيًا ،ميكن تربئته بحجة
حتام .وبعي ًدا عن كونهم غري
«املصلحة العامة» – التي يحددها املرشعون أنفسهم ً
واقعيني ،فإن الليرباليني الكالسيكيني يرون أن املحاكم متثل الويص الرئييس عىل
الحق الفردي والحريات ،مع الحرص عىل تحقيق أهداف املرشعني قصرية املدى
ومصالحهم الراسخة ،وإلغاء الترشيعات الجائرة والتأكد من إطاعة الجميع
للقوانني فقط ،حتى أصحاب السلطة.
ولهذا السبب دافع هايك بقوة عن فكرة أن القانون العام ،الذي نتج عن
النزاعات التي عولجت يف املحاكم ،يضمن إحقاق العدالة بصورة أفضل من القوانني
التي يقرها السياسيون – وهذا ما يؤيده معظم الليرباليني الكالسيكيني .بالنسبة
إليهم ،تتطلب سيادة القانون تطبيق القواعد القانونية تطبيقًا عادالً وموح ًدا عىل
الجميع .يف حني أن القانون العام ينطبق عىل هذا الوصف عمو ًما ،غال ًبا ما تظهر
القوانني التي وضعها السياسيون مصمم ًة لتفضيل (أو ازدراء) مجموعات معينة
92
– وهذا أحد األسباب التي تجعل الليرباليني الكالسيكيني يشككون يف مثل هذا
الترشيع.
حتام بربريًا
رغم تصور الكثريين أن املجتمع املجرد من التوجيه املركزي سيكون ً
وغري عقالين ،يؤمن الليرباليون الكالسيكيون أن األنظمة العفوية أكرث عقالنية .إذ
تفوق قدرتها عىل معالجة املعلومات وتوظيفها قدرة املجتمعات املركزية بكثري ،ما
يفيض إىل اتخاذ قرارات أفضل ،وتالؤم أرسع مع الظروف املتغرية ،وإحراز تقدم
أكرب( .للتوضيح ،يُذكر التخلف االقتصادي للكتلة السوفيتية القدمية ذات التوجه
املركزي ،مقارن ًة بجريانها الغربيني األقل مركزية).
جل
يرى هايك أن السبب ،الذي رسم تفاصيل هذا الخط الفكري ،هو كون ّ
املعرفة التي يعتمد عليها التقدم االجتامعي معرف ًة مشتت ًة .إذ إنها محلية وشخصية
ومجزأة وجزئية وال ميكن جعلها مركزية.
عىل أي حال ،فإن املشكلة ليست يف الحوسبة بل يف الفهم .وبكل تأكيد لن
تقدم أي سلطة مركزية حكومية معالجة أفضل للبيانات .ولن تنجح بالتنبؤ بطلب
العمالء سيارات األجرة (إذ يتغري الطلب باستمرار بسبب حاالت الطوارئ العائلية
أو الطقس أو تأخريات النقل العام أو غريها) .ال ميكننا أيضً ا توقع امتالك
املخططني املركزيني املعرفة املفصلة نفسها التي ميتلكها سائقو سيارات األجرة
حول عوامل مثل الطقس املحيل ،وإغالق الطرق املؤقت والطرق البديلة ،واألحداث
املحلية التي تجذب حشو ًدا كبرية ،وعوامل أخرى ال حرص لها تؤثر يف السوق.
حا بالتكيف
يف السياق ذاته ،يُعنى املوردون املحليون بصورة أكرث إلحا ً
الرسيع مع الطلب املحيل ،أكرث من املخططني املركزيني .فدوافعهم هي التي تقود
94
التقدم :مع وجود آالف املوردين الذين يتنافسون جمي ًعا عىل األعامل التجارية،
ستزداد وترية االبتكار بصورة أرسع مام سيكون عليه الحال إذا تُركت لهيئة مركزية
واحدة .وحتى فشل االبتكارات عىل الصعيد الفردي يدعم أحقيتهم به ،إذ ميكن
التخيل عنها بخسائر محلية متواضعة؛ يف حني أن االبتكار عىل الصعيد الوطني
تحت إرشاف وكالة التخطيط املركزية يخاطر بكارثة عىل مستوى اقتصاد البالد.
ال يعني ما سبق أن املجتمع العفوي قائم بال تخطيط :بل عىل العكس ،يعتمد
عىل خطط ماليني األفراد ،واملعرفة التخصصية لكل منهم ،بدالً من اعتامد هيئة
تخطيط واحدة .مثل هذا املجتمع ،املبني عىل كم هائل من املعرفة الفردية املشتتة،
معقد ج ًدا لدرجة يعجز فيها أي عقل مركزي عن فهمه .وهذا ما يفرس جزئ ًيا شكوك
الليرباليني الكالسيكيني يف سلطة الحكومة ،ال سيام محاوالت إعادة تصميم
فهام تا ًما ،فمن غري
املجتمع ككل .إذا مل نتمكن من فهم مؤسساتنا االجتامعية ً
املرجح نجاحنا يف إعادة تصميمها.
املجتمع املدين
ال يتخيل الليرباليون الكالسيكيون أعضاء املجتمع العفوي أفرا ًدا منعزلني ومتفرقني
(رغم وجود تلميحات عىل ذلك بني منظري العقد االجتامعي األوائل ،ومؤخ ًرا يف
مفاهيم االقتصاديني عن التوقعات العقالنية واإلنسان االقتصادي العقالين
يل) .إنهم يعون أنهم ليسوا آليني أو منسلخني عن العامل الحقيقي.
الوصو ّ
95
بدالً من ذلك ،إما باالختيار أو منذ الوالدة ،يكون األفراد أعضا ًء يف مجموعات
مختلفة ومتداخلة ،ذات والءات عائلية وأخالقية ودينية وثقافية وأخرى .تتأثر
قيمهم بهذه الوالءات ،ويعولون عىل والء أقرانهم املتبادل .يسعون إىل طموحاتهم
من طريق العملية السياسية بقدر أقل من سعيهم إليها عرب مؤسسات املجتمع
املدين هذه – الجمعيات الخريية والنقابات وجامعات املساعدة الذاتية والحمالت
واألديان والعديد من التجمعات األخرى.
ينتقد الشيوعيون والفاشيون املجتمع املدين بشدة ألنه برأيهم يرصف والء
األفراد بعي ًدا عن الدولة .يعتز الليرباليون الكالسيكيون بفكرة املجتمع املدين للسبب
نفسه بالضبط .بالنسبة إليهم ،ميكّن املجتمع املدين األفراد من متابعة أهدافهم
الخاصة دون الخضوع لسلطة سياسية مركزية فعالة .وبكل تأكيد ،بوسع مختلف
األفراد السعي خلف تحقيق أهداف متناقضة عىل نحو متبادل ،دون االضطرار إىل
التضحية بطموحاتهم لصالح رأي األغلبية .عالو ًة عىل ذلك ،تصبح حجة الحكومات
لتويل سلطات إضافية أضعف إذا كان املجتمع املدين قويًا .فوجود قطاع خريي
مثال يعكس حاجة أقل إىل إنشاء نظام رعاية حكومية – أمر يريح الليرباليني
نشط ً
الكالسيكيني ،ألنهم يخشون منو السلطة املركزية واحتامل إساءة استخدامها .ومن
املنطقي تنفيذ املهام محل ًيا وبأساليب مختلفة ،بدالً من محاولة تنفيذها بيد سلطة
مركزية بعيدة.
96
يرحب بعض الليرباليني الكالسيكيني باملجتمع املدين ألنه يحمينا ،ال من
فمثال انتقد
ً مخاطر املركزية املفرطة فحسب ،بل أيضً ا من مخاطر الفردية املفرطة.
املفكر السيايس الفرنيس واملؤرخ ألكسيس دو توكفيل ( )1859–1805الفردانية
األمريكية ألنها تخنق الفضيلة املدنية وضبط النفس ،ما يفتح الباب أمام استبداد
الجامهري ،بدعم من سلطة الدولة.
قد تجدر اإلشارة إىل الرصاع بني أفكار النظام العفوي والحقوق الطبيعية .إذا
تطور املجتمع عفويًا ،فال حاجة إىل عقد اجتامعي بني األفراد املنعزلني األحرار
جا للتفاوض العقالين ،لكنه النتيجة التطورية غري
لتفسري ذلك .وهذا ليس نتا ً
املقصودة بتاتًا لألفراد املتكيفني مع ترصفات بعضهم.
بالنسبة إىل العديد من الليرباليني الكالسيكيني ،يقرتح هذا نه ًجا أقل راديكالي ًة
وأكرث تحفظًا للقضايا االجتامعية مقارن ًة بنهج الحقوق الطبيعية .من االنتقادات
املوجهة ملنهج الحقوق الطبيعية يُذكر إنتاجها املحتمل شي ًئا شبي ًها باألناركية ،نظ ًرا
إىل االتفاق الضئيل بني األفراد املتفردين ،والحريصني عىل حامية حقوقهم
الطبيعيةُ ،ملغني بذلك تقري ًبا أي دور للحكومة .عىل النقيض من ذلك ،يقرتح نهج
النظام العفوي أن االتفاق املتني ممكن وحقيقي فعل ًيا – حتى لو كان اتفاقنا غري
وا ِع ومفهو ًما بصعوبة.
97
98
.8االقتصاد الليربايل الكالسييك
إن القوانني التي تنشئ هذا النظام العفوي هي قوانني امللكية والتعاقد
والصدق والعدل .بني هذه القوانني ينمو نظام اقتصادي ال يُحاط بحجمه أو
مام يستطيع فهمه العقالء ،يشمل العامل أجمع.
تعقيده– نظام أكرب وأعقد ّ
«معجزة» األسعار العفوية
إ ّن ما يحافظ عىل سهولة التك ّيف بني األنشطة االقتصادية ملاليني األفراد هو ما
سامه هايك «معجزة» نظام األسعار .مل نبتكر هذه املعجزة– بل نشأت عف ًوا ،من
ّ
99
تلقاء نفسها .ومع ذلك ،يقود هذا النظام إنشاء القيمة ونرش االزدهار يف املجتمع
اإلنساين.
ليست األسعار إالّ ِن َسبًا يقبل الناس أن يتبادلوا األشياء عىل أساسهاَّ .
يعرب عن
األسعار عاد ًة بالنقد– ولكن ذلك ألن النقد نشأ يف السوق سلع ًة نافعة ميكن
الحالقني ال َج ْوعى أن
مبادلتها بأشياء أخرى .بعبارة ميلتون فريدمان ،من مصلحة ّ
يبحثوا عن خ ّبازين يحتاجون إىل حالقة– وهو ما يجعل التبادل أسهل وأيرس.
الحظ أن األسعار ال تقيس القيمة .القيمة ،مثل الجامل ،يف عني الناظر،
والناس ينسبون لليشء الواحد ق َي ًام مختلفة .ومن أجل ذلك يتتاجرون .فلنئ كان
الحالق الجائع يرى يف الخبز قيمة أكرب من مقدار النقد الذي سيطلبه الخ ّباز ،فإن
ّ
الخ ّباز يرى يف النقد قيمة أكرب من الخبز .يتّفق الطرفان عىل سعر ،ولكن كل واحد
منهام ينسب قي َ ًام مختلفة لألشياء ،وكل واحد يرى أنه استفاد من هذه التجرة.
100
تنتج فيها املوارد قيم ًة ،وتدفع هذه املوارد إىل تلك املجاالت ،وتبعدها عن املجاالت
األقل قيمة.
خالفًا ملا تراه يف مخططات «التوازن» يف كتب الجامعة ،التي تعرب عن التوازن
املستمر يف األسواق ،يرى الليرباليون الكالسيكيون أن األسواق عملية ديناميكية،
مثل السيل ال يستقر يف مكان واحد .ال يرى الليرباليون الكالسيكيون «االقتصاد»
نظا ًما مج ّر ًدا ميكانيك ًّيا ،بل هو عندهم ظاهرة هي نتيجة غري متوقعة وال مخطط
لها ،للتكيفات املتبادلة املستمرة من ماليني األفراد ،الذين لكل منهم أهدافه وقيمه.
101
هذا النظام االقتصادي العفوي ،كغريه ،نتيجة لقوانني ترصف متوقعة بني
األفراد الذين يشكلونه .إنه نظام تدفعه املصلحة الذاتية والربح ،ولكن تنظمه عوامل
منها التنافس والتعاقد وحقوق التملّك والعدل– املبادئ التي يعتقد الليرباليون
الكالسيكيون أن عىل الدولة أن تفرضها لتحافظ عىل نفع نظام السوق.
القوانني وامللكية
حقوق امللكية أساسية يف عمل هذا النظام النافع .يستطيع أصحاب األمالك اآلمنة
أن يتاجروا بأشياء من أمالكهم مع من يرى يف هذه األشياء قيمة أكرب– ليستفيد
بذلك الطرفان .بل إن امللكية اآلمنة تعني أن للناس أن ينتجوا ما يجيدون إنتاجه
ويبيعوه للناس ليشرتوا به ما يجيد الناس إنتاجه .هذا التخصص ،أو تقسيم العمل،
يجعل الجميع أكرث إنتاج ّية ،مقارنة بأن يحاول كل فرد أن ينتج كل يشء لنفسه.
تتيح امللكية اآلمنة للناس أيضً ا أن يبنوا رأس مال ،ويستثمروا يف أدوات
ومعدات تتيح لهم أن ينتجوا أكرث ،وأرسع ،وأفضل .وتتيح لهم أن يقاوموا استغالل
األغلبيات السياسية ،إذ تعطيهم ما يحتاجون إليه ملقاومة الحكومات الطاغية.
قوانني امللكية
متكّن حقوق امللكية الناس من امتالك األشياء واستعاملها ،ومن منع غريهم من
مثال) ،ومن نقلها إىل غريهم بالبيع
استعاملها ،ومن اكتساب دخل منها (بتأجريها ً
أو اإلهداء .هذه الحقوق يفرضها نظام عدل.
102
ولكن رشعية امللكية تعتمد عىل اكتسابها من غري إكراه .ميكن اكتساب امللكية
بالتجارة أو الهديّة .أو رمبا بأخذ يشء ال يريده أحد غري آخذه ،كأخذ قطعة من
أرض قفرة– ال يرض هذا األمر أح ًدا ،حتى إذا استطاع املالك الجديد أن يرتبّح منها.
ال تقترص امللكية عىل األرض واألبنية واألمالك املنقولة .بل ميكن أن تشمل
أشياء مج ّردة كالحصص واألسهم ،أو امللكية الفكرية كالتصاميم أو املوسيقا
املحمية بحقوق النسخ– وبال شك ،األمالك التي منلكها نحن جمي ًعا يف حياتنا.
مثال)
ميكن أن يكون املالك فر ًدا أو منظمة أو حكومة ،أو ال أحد (كمصايد األسامك ً
الخاصني أفضل من الحكومة
ّ املالك
– وإن كان الليرباليون الكالسيكيون يرون أن ّ
يف إدارة األمالك ،وأن اليشء إذا مل يكن ملكه ألحد فهو مع َّرض لـ«مأساة املشاع»،
إذ يستغله الناس أكرث من طاقته ألنهم ليس لهم مصلحة يف الحفاظ عليه ،خالفًا
للاملك لو كان له مالك.
قد تكون قوانني امللكية معقدة ،ولكنها متكن أعدا ًدا كبرية من الناس من
التعاون السلمي بالتخصص واملتاجرة الطوعية .لقد تطورت هذه القوانني
خصوصا إلتاحة هذا التعاون املفيد.
ً
عندما يكون بني الناس حقوق ملكية واضحة وثابتة ،يزداد احتامل أن
يتملّكوا شيئًا ليستثمروه ويحافظوا عليه ،ويصونوا استعامله اإلنتاجي .هذا األمر
حتام ،ولكنه يفيد الناس أيضً ا .ألن مقتضاه أن مثار هذا االستثامر
ً يفيد املالك
ستكون متاحة للتجارة .وهذه التجارة بدورها تزيد التخصص واإلنتاجية وانتشار
103
القيمة .قارن هذا بالبلدان التي تعاين الحرب أو انعدام النظام ،حيث ال يجد
املزارعون جدوى من زرع محاصيلهم أو رعايتها خوفًا من أن ترسقها أو تدمرها
والرساق.
ُّ ّ الجيوش الناهبة
يف الحقيقة ،إن يف هذا املسلك حكم ًة أكرب من مسلك االقتصاد املخطط واملصمم
واملدروس ،ذلك أن النظام االقتصادي الحر ميلك معلومات أكرث –وأهم– ليعمل
عىل أساسها.
إن ماليني األفراد هؤالء عندهم من املعرفة ما ليس عند أي كيان يخطط
االقتصاد ،فهم يعرفون ظروفهم املحلية وقيمهم وأولويات مستهلكيهم ومنتجيهم.
ال يستطيع املخططون جمع هذه املعلومات .ال ألنها كبرية الحجم ،وال ألنها
متناثرة وجزئية ،بل وألنها شخصية .املهارات ،والخربات ،وفهم السوق ،والشعور
برغبات املستهلكني– كل هذه معارف أساسية تقود الحياة االقتصادية ،ولكن
104
يستحيل نقلها إىل املخططني املركزيني .هل يجب أن ننتج زيتًا أم نبيذًا؟ ليست
املسألة مسألة حساب .السبب الوحيد الذي يدفعنا إىل إنتاج يشء ما هو أننا
سنستهلكه ،وما يستهلكه الناس يعتمد عىل حاجاتهم وقيمهم– عىل مشاعرهم التي
ال ميكن جمعها وال طرحها ،مشاعرهم الذاتية ،التي تختلف من لحظة إىل لحظة
حسب عوامل كثرية ال نعلمها.
ولكن النظام االقتصادي العفوي ليس خال ًيا من الخطط .بل العكس ،هو
نتيجة تخطيط مستمر يقوم به ماليني األفراد ،إذ يستعمل كل منهم معرفته املتناثرة
الجزئية الشخصية ليتوقع رغبات اآلخرين وحاجاتهم ويخطط لتوجيه موارده
لتلبية هذه الرغبات.
التنافس
تُجدي الحرية االقتصادي لسبب ،هو أنه يف غياب اإلكراه ،ما من طريقة لتحصيل
املصلحة الذاتية سوى تلبية حاجات ومصالح اآلخرين .يرى الليرباليون
الكالسيكيون أن التنافس املفتوح عنرص أسايس يف هذا األمر ،ألن إتاحة عدة
خيارات أمام املستهلكني تدفع املنتجني إىل تلبية حاجات املستهلكني بأفضل سعر
ممكن .التنافس الحقيقي ليس ما يصفه كتاب الجامعة من تطابق املنتجني
املختلفني واملنتجات املختلفة واملستهلكني املختلفني .إنه عملية ديناميكية وإنسانية
يسعى فيها املنتجون املتنوعون إىل متييز منتجاتهم إلغراء املستهلكني املتنوعني
مبظاهر مختلفة.
105
هذه «العيوب» هي التي تعطي األسواق ديناميكيتها وتدفع االبتكار والفعالية
والتحسني .إن العجز والرغبات غري املحققة –التي تظهر يف ارتفاع األرسار– تن ّبه
املنتجني إىل تلبيتها .والفوائض هي التي تدل املستهلكني أن املوارد املنتجة تُه َدر.
إن تنوع السلع واختالفها يتيح تلبية أذواق املستهلكني املختلفة –واملتناقضة أحيانًا.
املرافق العامة
يوفّق االقتصاد الحر بني األفراد الذين تختلف قيمهم .يستطيع الباعة واملشرتون
بتوسط النقد ،نستطيع
ّ التعاون ألنهم يختلفون يف تقييم السلعة أو الخدمة املبيعة.
أن نتاجر مع أناس عىل الجهة األخرى من الكوكب ،قد تختلف قيمهم عن قيمنا،
ودينهم عن ديننا ،وأخالقهم ونظرتهم الكونية عن أخالقنا ونظرتنا الكونية .وقد
يُقال إن اعتامد األمم بعضها عىل بعض اقتصاديًّا هو أكرب قوة سالم يف تاريخ
اإلنسان.
قد تكون املصلحة الذاتية هي التي تح ّرك األفراد ،ولكن حقوق امللكية
والتخصص واألسواق والتجارة تس ّخر هذه املصلحة الذاتية للفائدة العامة .تنتَج
األشياء بأسعار أفضل ،يُخ َدم املستهلكون خدمة أفضل بسبب الدفع املستمر إىل
تحسني جودة الخدمة وتقليل السعر ،تنتج ملكيات جديدة وتزداد قيمتها ،تُل ّبى
وتوسع الخيارات ،ويحتفَل بالتنوع اإلنساين والفردية.
ّ الرغبات،
106
وحتى إذا كان األفراد مدفوعني باإلحسان ،فإن لهم مصلحة يف الحفاظ عىل
هذا النظام ،ألنه يتيح لهم أن يزيدوا قيمة ما يستطيعون إنتاجه وتوزيعه عىل
غريهم.
الحرية االقتصادية مهمة عندنا ،ال ملجرد أن نشاطنا االقتصادي يشغل معظم
ساعات يقظتنا .بل وألنها مؤسسة لحرياتنا االجتامعية واالقتصادية .فعىل سبيل
ُخرتق حرية التعبري عندما يتحكم أصحاب السلطة بالصحف والقنوات املثال ،ت َ َ
ُخرتق حرية االرتباط إذا امتلكت
التلفزيونية واإلذاعية ووسائل اإلعالم اإللكرتوين .ت َ َ
السلطات العامة كل غرف االجتامع .ما كنا لنستمتع بثامر أعاملنا لو أن الحكومة
تدير مكاتبنا ومصانعنا .من أجل ذلك يرى الليرباليون الكالسيكيون أن الحرية
االقتصادية وامللكية الخاصة أمران أساس ّيان لص ّد قوى الدولة الزائدة عن ح ّدها.
عندما اغتنت دول مثل اململكة املتحدة أو الواليات املتحدة ،مل تكن حكوماتها
كبرية كام هي اليوم ،بل كانت أصغر بكثري .اليوم ،نجد يف كل الدول تقري ًبا
منظومات حكومية كبرية تتطلب رضائب عالية للحفاظ عليها .يرى الليرباليون
الكالسيكيون أن هذه الرضائب اعتداء عىل حقوق امللكية .قد تكون الرضائب
املتواضعة أم ًرا ال بد منه لتقديم الوظائف الحكومية األساسية كالدفاع والعدل.
ولكن الرضائب العالية تث ّبط العمل واال ّدخار ،وتطفئ اآللية اإلبداعية لألسواق،
107
وتبعد املوارد عن استخداماتها القيّمة إىل استخداماتها التي تفضّ لها السلطات
تعرب عن الناس).
ريا ما ال ّ
السياسية (التي كث ً
قد يكون تقنني األسواق كذلك رضوريًّا للحفاظ عىل حريتها– كالحفاظ عىل
التنافس املفتوح ومواجهة االستغالل .ولكن تقييد االتفاقات التجارية يقلّص القيمة
ريا من القوانني إمنا ُس ّن
التي تنشئها التجارة الطوعية .وعىل كل حال ،فإن كث ً
لخدمة املصالح السياسية ،ال لخدمة العامة.
108
ال يثق الليرباليون الكالسيكيون يف تدخل الحكومات يف خدمات كالصحة والتعليم
والرفاهية ،إذ يرون أن هذا التدخل يستهلك معظم ميزانية الحكومات يف الدول
املتطورة.
الصحة كذلك ،مجال تقدمه الحكومة عادة أو تفرض عليه قوانني كثرية،
فترتك الناس بال خيار بني موفري هذه الخدمة أو مؤمنيها .ويتساءل الليرباليون
الكالسيكيون ،إذا كان التنافس يبيل حس ًنا يف األسواق األخرى ،فل َم ال ينفع بني
ريا
املستشفيات؟ يرفع التنافس الجودة ويخفض السعر – ويفيد الفقري ،الذي كث ً
109
ما يعجز عن رشاء هذه الخدمات اليوم ،أكرب إفادة .هذا وإن التنافس الحقيقي بني
رشكات التأمني يجعل الناس واعني بالتكلفة املحتملة للمعايش غري الصحية ،من
دون الحاجة إىل حمالت التوعية الحكومية.
التجارة والحامئية
يرى الليرباليون الكالسيكيون أن التجارة الدولية يجب أن تكون ح ّرة كام أن التجارة
الداخلية حرة .يتيح هذا للدول أن تتخصص فيام تجيد فعله ،ويتيح للمستهلكني أن
يتن ّعموا بسلع من شتى أنحاء العامل .تاريخ ًّيا ،يُالحظ أن الدول التي كانت أشد
حا عىل التجارة ،كانت أرسع من ًّوا ،مثل هونغ كونغ ،هذا وإن االنفتاح الحديث
انفتا ً
لدول كالصني والهند أخرج مليارات الناس من الفقر املدقع.
110
ج ًّدا حامية منتجيها بفرض حدود عىل االسترياد وفرض تعرفات جمركية .مينع هذا
األمر املستوردين املحتملني من االستفادة من مثار أعاملهم ،ويؤدي إىل تقلص
الخيار أمام املستهلكني ،وتقلص التخصص ،وانخفاض فعالية استعامل املوارد،
وخرسان كثري من القيمة .يؤدي هذا األمر أيضً ا إىل القصاص واملعاملة باملثل،
وحروب التجارة والتوتر العاملي .ولكن هذا ال يحدث إال ألن الحكومات ال ترتدد يف
االعتداء عىل األنشطة االقتصادية الحرة.
111
.9الليربالية الكالسيكية اليوم
الكسوف واإلحياء
يف ذلك الوقت ،كانت هناك أيضً ا ثقة أكرب يف فهمنا االقتصادي .اعتقد
االقتصاديون أنهم ميلكون املعرفة واألدوات للتحكم يف التوظيف واإلنتاج ،وأن
التخطيط املركزي سيثبت تفوقه عىل «الالعقالنية» املفرتضة للسوق دون عناء.
112
اإلجامع املتفكك
رغم أن وجهة النظر هذه بدت عتيقة حينها ،لكنها رسعان ما شوهت نفسها .فقد
أظهر تحسني السفر واالتصاالت أوجه القصور االقتصادية واالجتامعية والسياسية
للكتلة الشيوعية .ازدهرت أملانيا الغربية بعد «شعلة الضوابط» التي أشعلها لودفيغ
إرهارت يف صباح يوم أحد يف عام – 1948بينام أصبحت أملانيا الرشقية ،عىل
الجانب اآلخر من جدار برلني الشائن ،أكرث قتامة باطراد .وحدث اليشء نفسه يف
الكوريتني مبجرد تقسيم شبه الجزيرة إىل جزئني حر وشيوعي .فأصبح سكان
تعليام واستنارة ال ينظرون إىل العسكرة كحامية لهم بل كتهديد
ً العامل األكرث
لرتابطهم االقتصادي املتزايد.
كانت السياسة االقتصادية ملرحلة ما بعد الحرب تتداعى أيضً ا .وقد أدت
السياسات التوسعية لالقتصادي الربيطاين جون مينارد كينز (،)1946–1883
املصممة لفرتة الكساد ،إىل تحويل عائد السالم إىل توسع مزدهر للحكومة وتضخم
عارم – مصحوبني لسبب غري مفهوم ،بالنسبة للكينزيني ،بالبطالة والركود.
113
بالنسبة لليرباليني الكالسيكيني ،كان كل هذا بعي ًدا عن الغموض .وكام أوضح
هايك ،لقد كشف عن «الوهم القاتل» لتخيل أنه ميكننا التالعب بالنظام التلقايئ
للحياة االجتامعية واالقتصادية عىل نحو يرضينا.
فاز العديد من األعضاء ،مبن فيهم هايك نفسه ،بجوائز نوبل ملساهمتهم يف
النهضة االقتصادية الليربالية الكالسيكية :وأصبح الفائزون جورج ستيغلر
( ،)1991–1911وميلتون فريدمان ( )2006–1912وجاري بيكر (–1930
مثال ،شخصيات رائدة يف مدرسة شيكاغو لالقتصاد ،التي تركز عىل املال
ً ،)2014
السليم والحكومة املقيدة وحرية السوق؛ بينام قاد زميلهم الحائز عىل جائزة نوبل
جيمس م .بوكانان ( )2013–1919هجوم مدرسة االختيار العام عىل العقالنية
املفرتضة التخاذ القرار الحكومي .وبنهاية القرن العرشين ،كانت أفكارهم تحفز
الحكومات الرائدة يف العامل.
114
معنى الليربالية الكالسيكية
عىل أية حال ،كان اليشء الوحيد الذي فشل فيه الليرباليون الكالسيكيون
املعارصون هو العثور عىل اسم جيد ألنفسهم .يعود النعت «كالسييك» إىل عرص
لوك وسميث :ورغم الحكمة بالغة يف أفكارهام ،فقد تغري العامل ،وطور الليرباليون
الكالسيكيون املعارصون تفكريهم بطرق جديدة للتعامل مع املواقف والحجج
الحالية.
ولكن مع ذلك ،ومن سوء حظهم ،جرى االستيالء عىل مصطلح «ليربايل»
الواضح (عىل األقل يف أمريكا ،رغم انتشار االلتباس من هناك) ،من قبل أولئك
املدافعون عن الحقوق املدنية والحرية السياسية ،لكن املشككون يف الحرية
االقتصادية وامللكية الخاصة ،والذين يعتقدون أن للدولة دور كبري يف تصحيح
أخطاء املايض وتعزيز املساواة .وقد أرفق املصطلحان «الليربالية الجديدة»
و«الليربالية الحديثة» أيضً ا.
رمبا كانت كلمة «الليربالية الجديدة» لتصلح ،لوال أنها أصبحت مجرد
مصطلح ميسء يستخدمه نقاد الليربالية الكالسيكية املعارصة .نشأت الكلمة بني
املروجني «األوردو–ليرباليني» لـ«اقتصاد السوق االجتامعي» يف أملانيا الغربية بعد
الحرب .ولكن استخدمت مؤخ ًرا إلنشاء صورة كاريكاتورية ،يُنظر فيها إىل
الليرباليني الكالسيكيني عىل أنهم متعصبون اقتصاديون عنيدون ،دون ضمري أو
115
فكر اجتامعي للمحتاجني ،مدافعون عن كل إجراءات األعامل التجارية ،ومطالبون
بعدم التدخل ودولة حارسة – إن وجدت .من السهل ج ًدا مهاجمة رجل القش هذا،
فعال.
لكن ،كام رأينا ،كل هذا بعيد ج ًدا عام يعتقده الليرباليون الكالسيكيون ً
لكن رغم تنوع وجهات نظرهم ،يتفق الليرباليون الكالسيكيون عىل املبادئ
األساسية .يعتقدون أن الهدف الرئييس للدولة هو حامية حقوقنا يف الحياة،
والحرية ،وامللكية والسعي إىل السعادة .ونظ ًرا ألهمية هذه وظيفة ،فقد يتعذر
تصغري الدولة ج ًدا ،ولكن إن أردنا حامية حرياتنا من إساءة استخدام سلطة الدولة،
فيجب أن تكون مقيدة يف النطاق .يؤمن الليرباليون الكالسيكيون بأن التبادل
الطوعي هو أفضل طريقة إلضافة القيمة ونرشها ،وإطالق العنان لروحنا اإلبداعية
واالحتفاء بتنوعنا وتعبرينا عن الذات .لديهم كراهية لالستبداد يف الحياة السياسية
أو االقتصادية أو االجتامعية ،ولكن يؤكدون أننا نحتاج إىل بعض القواعد األخالقية
والقانونية للحفاظ عىل األداء السلس لألنظمة االجتامعية واالقتصادية التلقائية.
إنهم يعتقدون أنه يجب عىل األفراد تحمل املسؤولية عن أفعالهم :فرغم أننا أحرار
يف مساعدة اآلخرين ،وهذا ما نفعله غال ًبا ،فال ميلك أحد أي حق يف طلب الدعم من
أي شخص آخر .ومينحون جميع األفراد مكانة أخالقية متساوية ،ومعاملة متساوية
مبوجب القانون.
117
األممية الليربالية الكالسيكية
118
عىل أي حال ،هناك مشكلة تثري اهتامم الليرباليني الكالسيكيني تتمثل يف كيفية
التعامل مع الجامعات والدول غري الليربالية إىل حد كبري .وقد أصبحت املشكلة
حا .لطاملا كان هناك أصوليون دينيون وسياسيون يرفضون أي فكرة عن
أكرث إلحا ً
الحرية السياسية واالجتامعية واالقتصادية ويسعدون بإخامد حرياتنا إن كان
لديهم القدرة لفعل ذلك .ولكن اآلن ،مع سهولة السفر البالغة وتوفر التقنيات
املدمرة بكرثة ،أصبح التهديد املحتمل أكرث خطورة.
فضل الليرباليون الكالسيكيون عمو ًما التسامح عىل التدخل ،الذي يرونه
متعارضً ا مع حقوق الشعب يف تقرير املصري .لكن إذا حددت مجموعات أو دول
أخرى هدفها عىل أنه تدمري الحرية والتسامح نفسه ،فالسؤال هو إىل أي مدى
ميكن لليرباليني الكالسيكيني تحمل التعصب .زعم ميل ،يف القرن التاسع عرش،
أننا منلك كل الحق يف التدخل يف الدول «الرببرية» ،ولكن ليس يف الدول
«املتحرضة» ،ألن الدول «املتحرضة» فقط متساوية معنا أخالق ًيا؛ وعىل أي حال،
محتمال أن يؤدي التدخل يف شؤون الدول «املتحرضة» إىل تغيريها .يف اآلونة
ً ليس
األخرية ،استخدم جون رولز حجة مامثلة ،مفادها أنه ميكننا التسامح مع الدول
«الالئقة» ولكن ليس «الخارجة عن القانون».
119
للناس؛ ويزعم آخرون أنه يجب علينا التدخل للدفاع عن أنفسنا .تثري اإلسرتاتيجية
األخرية سؤاالً آخر ،حول كيفية تحديد متى تكون جامعة أو أمة غري ليربالية حقًا
مثال ،عدمية الحرية السياسية وقليلة الحرية االجتامعية،
ومدى تهديدها .فالصنيً ،
ولكنها متلك تدابري عادلة للحرية االقتصادية؛ رغم أن قوتها االقتصادية والعسكرية
تثري أعصاب الكثريين .هل يجعلها هذا تهدي ًدا للدول الليربالية الكالسيكية؟
تظهر قضايا مامثلة حول مسألة كيفية التعامل مع الجامعات غري الليربالية يف
الداخل .يخىش الليرباليون الكالسيكيون أن التدخل (مثل حظر مجموعات دينية
أو سياسية معينة) يتعارض مع مبادئهم األساسية ،ويقوض االستقالل الذايت
والتعبري عن الذات لآلخرين .ومييلون غال ًبا إىل التسامح مع الجامعات الدينية
والسياسية ،رغم أنهم قد يرغبون يف بعض الحاالت (صعود االشرتاكية القومية
مثال) يف أال يفعلوا ذلك.
يف أملانياً ،
120
ليس لدى الليرباليني الكالسيكيني إجابة شافية لهذه األسئلة .لكنهم يتبنون
عمو ًما وجهة النظر القائلة بأن عمل الدولة يجب أن يظل يف حده األدىن .ويتبنى
البعض وجهة النظر القائلة أننا نعيش يف عرص تعددي ،وأننا ناضجون كفاي ًة
لتحمل السلوكيات والعادات املختلفة ،لذا يعد التدخل عمو ًما غري مربر ما مل تكن
هناك حالة «عامة» دامغة لفعله .يؤكد آخرون أن اإلقناع والنقاش أكرث فاعلية يف
مثال،
تغيري العقول عىل األمد الطويل .فقد يكون وضع قانون ضد ختان اإلناثً ،
أقل فعالية يف إنهاء هذه املامرسة من حرية النساء الاليت خضعن له يف اتخاذ
قرار بعدم إلحاقه بأطفالهن .هذه هي الحرية التي يجب أن يدافع عنها القانون.
ليس لدى الليرباليني الكالسيكيني أوهام حول العامل .فالبرش ليسوا كاملني؛ ال
ميكن تفسري عاملهم مببادئ رصفة ،وال ميكن إدارته بواسطة معادالت بسيطة.
وعاد ًة ما تكون األحداث نتائج غري املتوقعة ألفعال ،ولكن ليس النوايا دامئًا ،البرش
121
الذين غالبًا ما يكونون أقل عقالنية وأبعد عن النفع .وأفضل سياسة لدينا هي
االعرتاف بكل هذا ،وتسخري الضعف البرشي بطرق تعزز املنفعة البرشية ،مثل
األسواق الحرة.
إن الليربالية الكالسيكية ،كام رأينا يف البداية ،فكرة إنسانية .تقبل الناس
عىل أنهم برش متنوعون .وتسعى إىل تعظيم املجال والفرص املتاحة لهم ملتابعة
أهدافهم املختلفة .وتبحث عن طرق ميكن من خاللها ملواطني هذا العامل املتنوع
التعاون م ًعا سلم ًيا.
يريدون فرض قيود عىل السلطة ،إذ يرون يف قوة الحكومات سب ًبا للرصاع
الدويل والقمع الداخيل .ويطالبون بسيادة القانون التي تحد من السلطة التعسفية
وتجعل حكامنا يخضعون لنفس القوانني التي يخضع لها الجميع .يدعمون حرية
الجميع يف التفكري ،والتحدث ،والعمل ومتابعة أهدافهم الخاصة ،رشيطة أال يؤذوا
اآلخرين يف هذه العملية ،ويؤكدون عىل أهمية وجود نظام قضايئ مستقل للحفاظ
عىل هذا النظام .ويدعمون حرية الناس يف السعي وراء غاياتهم الخاصة بطرقهم
122
الخاصة ،حتى لو كانت مدمرة للذات ،وال يريدون أن يطلب أي شخص اإلذن من
بعض السلطات قبل القيام بيشء ما .واألهم أنهم يريدون تحديد مجال شخيص ال
يحق للسلطات السياسية التدخل فيه عىل اإلطالق.
123
هل نعيش بالفعل يف هذا العامل؟ بالكاد :ففي عرص التعقيد ،واالرتياب ،والتقلب
والتنوع ،ما يزال الكثري من الناس ينتظرون من الحكومات الحامية واألمن
االقتصادي .ومع منو الحكومات ،تزداد مشكلة االختيار العام .وكلام زادت املوارد
التي تتحكم فيها الحكومات ،يصبح طلب خدمات مجديًا لجامعات املصالح ،وتزداد
أهمية اسرتضاء السياسيني لها.
124
.10أهم مفكري الليربالية الكالسيكية
يرى كثريون أن لوك هو األب املؤسس لليربالية الكالسيكية .بعد أن نُفي إىل فرنسا
واحتج
ّ بسبب عدائه ململكة ستوارت ،كتب رسالتيه يف الحكومة املدنية (،)1690
فيه لخلع جيمس الثاين ،رافضً ا «الحق اإللهي» للملوك ومؤك ًدا عىل أن الحكومة
الرشعية إمنا تقوم عىل عقد مع الشعب ،ال عىل «القوة والعنف» .يرى جون أنه يف
الحالة الطبيعية ،للناس حق يف الحفاظ عىل حياتهم وصحتهم وأمالكهم – التي
يتملكونها بـ‹مزج عملهم› باملوارد الطبيعية ،من اعتداء اآلخرين .مل ّا أراد الناس أن
يحموا هذه الحقوق الطبيعية بسالم ،تعاقدوا عىل تأسيس حكومة يدعمونها
لتحميها .تستمد الحكومة رشعيتها إذن من رضا املحكومني ،فإذا أخفقت يف حامية
ريا قويًّا يف
حقوقهم ،فلهم الحق يف خلعها والخروج عليها .أثرت هذه األفكار تأث ً
الثورتني األمريكية والفرنسية ،ويف املفكرين الدستوريني ومنهم توماس جفرسون
(.)1826–1743
بعد أن نفَته من فرنسا القوانني األرستقراطية ،ذهب فولتري إىل إنكلرتا وأعجبته
الحريات املدنية فيها ،وأعجبته حكومتها الدستورية وفكرها الليربايل الكالسييك.
125
قرر بعد ذلك أن يك ّرس حياته لنرش هذه الحريات األساسية ،والتسامح وحرية
التعبري والتجارة .نقد فولتري يف كتابه رسائل فلسفية عن اإلنجليز ( )1734انعدام
الليربالية يف فرنسا ،ودعا إىل الخروج عىل السلطات األرستقراطية وانتقد قلّة
التسامح يف الكنيسة .ومع أنه ُسجن يف الباستيل ،فقد استمرت حركته ضد القمع
رشا آنذاك يف أوروبا القارية.
الذي كان منت ً
انترص فريغسن للمذهب القائل إن سعي البرش لسعادتهم ينتج عامل ًا من التنوع
الخالق ،ومن الفعالية التي تتجىل يف تقسيم العمل ،ومن االبتكار الذي يقود
ّ
التقدم .رشح فريغسن الطبيعة العفوية للمؤسسات االجتامعية ،وكتب« :تقوم األمم
عىل املؤسسات ،التي هي نتيجة للسلوك اإلنساين بال شك ،ولكنها ليست نتيجة أي
تصميم إنساين» .أثرت هذه األفكار يف معارصه آدم سميث (.)90–1723
ذكر آدم سميث عبارة «اليد الخفية» مرة واحدة فقط يف كتابه ثروة األمم (،)1776
ولكن الكتاب كله مصبوغ بهذه الفكرة القوية .شارك سميث معارصه فريغسن يف
مالحظة من ّو املؤسسات اإلنسانية من دون نية من أحد .مل ير سميث أن الناس
ريا،
بطبيعتهم أنانيون أو ناكرون للجميل ،إذ إنهم يحبون أن يرى الناس فيهم خ ً
ولكنهم يسعون إىل مصلحة ذاتهم ،وعندهم اتجاه قوي (ورشعي) إىل مصلحة
126
ذاتهم .يف غياب اإلكراه ،يدرك األفراد أن مصلحة النفس ال تتحقق إال بخدمة
بني
اآلخرين ،فبمساعدة أنفسهم ،يساعدون غريهم أيضً ا .هذا التبادل الطوعي ،كام ّ
سميث ،ينشئ قيمة للطرفني م ًعا ،ولو مل يكن كذلك ملا كان التبادل ً
أصال .أكد سميث
أن التخصص وتقسيم العمل ،الذي تتيحه عملية التبادل ،دافع كبري من دوافع
الفعالية واالزدهار ،يف الدولة الواحدة وبني الدول املختلفة كذلك .ساعدت أفكار
سميث املؤثرة يف إنشاء عرص التجارة الحرة العظيم يف القرن التاسع عرش .كانت
تريبه رأساملية املحاسيب كام تريبه الحكومة الكبرية .وكان يف رأيه أن «رجل
النظام» (أي املخطط االجتامعي) ال يستطيع أن يتحكم بدوافع اإلنسانية املختلفة،
يل البسيط» أساس أمنت للمجتمع.
وأن «نظام الحرية الطبيعية الج ّ
اعتقد جفرسون أن الله وهب لنا جمي ًعا حقوقًا طبيع ّية ال سبيل إىل نزعها م ّنا ،منها
«الحياة والحرية وطلب السعادة» .اعتقد جفرسون أن الناس بطبيعتهم أحرار يف
ترصفاتهم ،ما مل يعتدوا عىل حرية غريهم .تأثر جفرسون بأفكار جون لوك
( ،)1704–1632وكان يرى أن رشعية الحكومة تقوم عىل تعاقدها مع الناس
وممثليهم املختارين .مل يثق جفرسون مبركزيات السلطة الكبرية ،سواء يف
الحكومة أو يف القطاع الخاص .عارض جفرسون كذلك التعصب الديني ،والحكم
املطلق يف السياسة.
127
فردريك باستيا ( ،)50–1801منظّر سيايس فرنيس
فيام كان نابليون يق ّيد التجارة يف «نظامه القا ّري» ،كان باستيا يدعو إىل الحرية
الفردية واألسواق الحرة .رأى باستيا أن الحكومة ال فعالة وال يعتمد عليها ،وأن
مصالح املنتجني تسودها بسهولة ،وهو ما يجعلها «الخيال الكبري الذي يريد فيه
الجميع أن يعيش عىل حساب الجميع» .اشتهر استهزاؤه بالحامئية بتشبيهها
بعريضة كتبها صنّاع الشموع ،يطالبون فيها الحكومة أن تواجه التنافس الذي
تنافسهم إياه الشمس .يرى باستيا أن الحكومات ُوجدت لتدافع عن الحرية وامللكية
– وهام حقّان سابقان عليها .سبق باستيا املدرسة النمساوية يف االقتصاد ،ومن
مفكريها فردريك هايك ( ،)1992–1899إذ قال إن األسواق املدفوعة باملصالح
الذاتية تنظّم النشاط االقتصادي وتدفع املوارد نحو أفضل استخداماتها.
إىل جانب جون برايت ( ،)89–1811كان كوبدن قائد مدرسة مانشسرت التي
تابعت آدم سميث ( )90–1723يف القول بأن التجارة الحرة تتيح السلع األساسية
للجميع وتنشئ مجتم ًعا أقرب إىل العدل .يف عام ،1838أنشأ القائدان العصبة
املناوئة لقانون الذرة ،التي دعت (ونجحت) إىل إلغاء التعارف الجمركية املفروضة
عىل القمح املستورد ،التي كانت ترفع أسعار الخبز وتسبب العجز مرة بعد أخرى.
128
أنشأ الرجالن كذلك حملة للسعي إىل فهم أفضل وسالم أعمق بني األمم ،إذ كانا
يعتقدان أن من شأن التجارة الحرة أن تحقق هذا .عندما عمل ريتشارد سياس ًّيا،
ساعد يف فتح التجارة بني بريطانيا وفرنسا.
رأى سبنرس أن الحرية تزيد التنوع واالبتكار ،وهو ما يتيح للمجتمعات أن تتطور
أرسع إىل هيئات أنفع.
أظهرت أعامل هايك يف ثالثينيات القرن العرشين ،التي عمل فيها مع معلمه لودفيغ
فون ميسس ،كيف أن دورات االزدهار والركود ناتجة عن التالعب الحكومي
السخيف باالئتامن .كان هايك أهم منتقدي الجمعية والتخطيط املركزي والتدخل
حاج بأن هذه
التوسعي الذي دعا إليه جون مينارد كينز ( ،)1946–1883وقد ّ
األمور تقود إىل التضخم والفساد االقتصادي .جذبت الحرب العاملية الثانية اهتاممه
إىل العلوم السياسية ،وتتبع يف كتابه الطريق إىل العبودية ( )1944جذور
قائال إن التخطيط املركزي يأيت بنتائج عكسية ،ومن أجل ذلك ال بد من
الشموليةً ،
إكراه متزايد للحفاظ عليه .يف كتابه دستور الحرية ( ،)1960كتب هايك أفكا ًرا عن
130
النظام االجتامعي واالقتصادي الحر .ح ّدث هايك الفكرة الليربالية الكالسيكية
القائلة بالنظام االجتامعي العفوي املنظم لنفسه ،وقال إن هذا النظام ينشأ من
الترصفات العادية (أو «القوانني») التي يتبعها األفراد .قال هايك إن هذه األنظمة
ضخام من املعلومات –التي
ً وإن كانت غري مخطَّط لها ،تستطيع أن تعالج مقدا ًرا
ميلكها األفراد ولكنها متناثرة وجزئية وشخصية وقصرية املدى عاد ًة– مقدا ًرا أكرب
مام تستطيع معالجته أي وكالة تخطيط ،حتى إذا استطاعت الوصول إليه .يف
كتابه الغرور القاتل ( ،)1988قال هايك إنه من الوهم أن نتخيل أن يف استطاعتنا
أن نشكّل أنظمة معقدة باستعامل أدوات العلوم املادية ،وأن املحاوالت الواعية
لتغيري هذه األنظمة تؤدي إىل زعزعة استقرارها وإىل كوارث اجتامعية واقتصادية.
أسس هايك كذلك جمعية مونت بيلريين ،التي أصبحت منت ًدى عامليا للفكر الليربايل
الكالسييك.
انترصت راند يف رواياتها للفردانية األصولية ،التي تقع عىل الطرف اللربتاري من
الطيف الليربايل الكالسييك .رأت راند أن الحياة وتحقيق الذات هام مقياس
األخالق ،وأن العقل ،الذي يقوم عليه هذان األمران ،يجب أن يسود كل أفعالنا ،وأن
عىل الناس أن يركزوا عىل مصالحهم الذاتية طويلة املدى .رأت راند أن األفراد
يستحقون مثار أفعالهم ،وأنه ال يجوز أن يؤخذ يشء منهم بالعنف ،الذي ميقته
131
العقل العقالين .ال ميكن أن ينشأ أي نزاع بني األفراد املهتمني مبصالح ذاتهم
اهتام ًما عقالن ًّيا ،وال حاجة إىل التضحية بالنفس ،ألن الناس سريون قيمة أنفسهم
يف احرتام حقوق اآلخرين .وإذا كان للحكومة دور ،أو للقوانني املنظمة للنشاط
االقتصادي ،فهو حامية هذه الحقوق.
133
املؤلفان يف عقالنية القرارات الدميقراطية ،وأشارا إىل أن مصالح بعض الناخبني،
وبعض مجموعات الضغط والسياسيني واملسؤولني تفسد هذه العملية .ولنئ كان
اقتصاديو «الرعاية االجتامعية» أشاروا إىل إخفاق السوق ،فإن الحقيقة هي أن
للحكومة إخفاقًا أيضً ا .اهتم املؤلفان بقدرة األغلبيات –أو حتى التحالفات الصغرية
بني مجموعات الضغط– عىل استعامل قوة الدولة الستغالل األقليات ،برفع
مثال عىل مجموعات معينة من الناس .اعتقد بيوكانان أن أفضل طريقة
الرضائب ً
ملواجهة هذا هو التسوية الدستورية التي وضعت القوانني التي يجب أن تلتزم بها
القرارات السياسية الالحقة .األمثل أن تكون هذه القوانني الدستورية مقررة
باإلجامع إلغالق كل األبواب أمام استبداد األغلبية.
يف كتابه األناركية والدولة واليوتوبيا ( ،)1974دافع نوزيك دفا ًعا أخالق ًّيا عن
الحرية .بدأ دفاعه مبفهوم األمر املطلق عند إمانويل كانط ( ،)1804–1724أنه ال
بد أن نعامل الناس عىل أنهم غايات يف أنفسهم ،ال عىل أنهم أدوات تساعدنا عىل
بلوغ غاياتنا ،ومن ثم يجب أن نترصف عىل نحو متسق مع مبدأ عام .أكد نوزيك
أن اإلنسان ميلك جسمه ومواهبه وكدحه ،وأنه ليس ألحد الحق يف أخذ هذه األشياء
حق إذن يف رضائب توزيع الرثوة .فالرثوة مل توجد ليك توزَّع «بعدل»،
بالقوة .ال ّ
إمنا وجدت بفضل مواهب األفراد وريادتهم وجهودهم .إذا اكتُسبت الرثوة ونُقلت
134
بالعدل ،من دون إكراه ،فالتوزيع الناتج توزيع عادل ،وإن مل يكن متساويًا .تنحرص
وظيفة الدولة يف حامية األفراد من العنف والرسقة واالحتيال وخرق العقود .يف
هذه الحالة ،يكون الناس أحرا ًرا يف اتباع أهدافهم وآمالهم الخاصة .دولة الحرس
هذه لن تؤدي إىل الفوىض –كام حذّر كثريون بعد الثورة الفرنسية– ألن الناس
مثال.
سيتجمعون م ًعا لحامية حقوقهم ،بإنشاء وكاالت خاصة لحل النزاعات ً
135
.11اقتباسات ليربالية كالسيكية
الوثيقة العظمى
وقد منحنا أيضً ا لكل الرجال األحرار يف مملكتنا ،نحن وورثتنا من بعدنا إىل األبد،
كل الحقوق املكتوبة باألسفل ،وسيحظون بها ويحتفظون بها هم وورثتهم ،منا
ومن ورثتنا إىل األبد ...لن تُفرض أي رضائب أو مساعدات عىل مملكتنا إال
باالستشارة العامة ململكتنا ...ولن يُقبض عىل رجل حر ،أو يُسجن ،أو يُجرد من
ممتلكاته أو حقوقه ،أو يُنفى من موطنه ،أو يُحرم من منزلته بأي شكل من األشكال،
ولن نتخذ إجراءات ضده أو نحاكمه إال من خالل حكم أقرانه أو بقانون األرض...
ولن نبيع ألي أحد حقًا أو عدالً ،ولن نحرم أحد منهام أو نؤخرهام عن أحد ...يحق
لكل التجار الخروج اآلمن واملضمون من إنجلرتا ،والدخول إليها ،ويحق لهم البقاء
هناك وأن يتحركوا أينام يشاؤون عرب الرب والبحر للرشاء والبيع مبوجب التقاليد
القدمية املرشوعة ،يف مأمن من كل أعامل االبتزاز الرشيرة...
136
الحقوق الطبيعية
إن الحق الطبيعي ...هو حرية كل إنسان يف أن يستخدم ق ّوته كام يشاء للحفاظ
عىل طبيعته ،أو بعبارة أخرى ،الحفاظ عىل حياته.
137
لألفراد حقوق ،ومثة أمور ال ميكن لفرد أو جامعة أن يفعلوها لهم (دون أن ينتهكوا
حقوقهم) .وتلك الحقوق قوية وبعيدة املدى للغاية لدرجة أنها تجعلنا نشكك فيام
ميكن للدولة ومسؤوليها أن يفعلوه ،إن كان هناك يشء ميكن لهم فعله من األساس.
الحكومة املحدودة
إن من أقىص درجات الوقاحة والعجرفة ...أن يتظاهر امللوك والوزراء بحراسة
اقتصاد األفراد ،وأن يقيدوا إنفاقهم ...ذلك أنهم أنفسهم ،دون أي استثناء ،أكرب
مرسفني يف املجتمع بأكمله .دعهم يعتنون بإنفاقهم جي ًدا ،ولهم أن يستأمنوا األفراد
بإنفاقهم بأمان .فإذا مل يدمر بذخهم الدولة ،فلن يفعل ذلك رعاياهم أب ًدا.
139
النظام التلقايئ...
كل خطوة وكل حركة للجموع ،حتى يف العصور التي تُسمى العصور املتنورة،
تحدثان دون علم باملستقبل .واألمم تتعرث يف املؤسسات التي هي نتيجة عمل
اإلنسان ،وليست تنفيذًا ألي تصميم إنساين.
140
...اإلرشاد الحميد...
ومن هنا قال الحكيم «لن أقوم بأي فعل (عن عمد) ،وسينصلح الناس .سألتزم
أبدي
السكينة ،وسيستقيم الناس .لن أقلق بشأن أمرهم ،وسيغدو الناس أغنياء .لن ّ
أي رغبة ،وسيعود الناس إىل حياة البساطة البدائية».
الليربالية ...تقيد التحكم املتعمد لنظام املجتمع الشامل بحيث ينحرص يف بعض
القواعد العامة الرضورية لتكوين النظام التلقايئ الذي ال نقدر عىل التنبؤ
بتفاصيله.
ريا ما يكون
إن رجل النظام ...بارع ج ًدا يف الظهور مبظهر الحكيم بغرور بالغ .وكث ً
متيام بالجامل االفرتايض الذي تتسم به خطته املثالية للحكومة ،لدرجة أنه ال
ً
ريا عنها ...ويبدو أنه يتخيل أن بوسعه تنسيق
يتحمل أي انحراف ولو كان صغ ً
أعضاء مختلفني ملجتمع عظيم بنفس سهولة ترتيب قطع الشطرنج عىل الطاولة.
141
وهو ال يفكر يف أن ،يف طاولة شطرنج املجتمع اإلنساين العظيمة ،كل قطعة لها
مبدأ حركة خاص بها ،وهو مختلف متا ًما عام قد يختار الجهاز الترشيعي أن
يفرضه عليها.
قبل أن نحاول إعادة تشكيل املجتمع بذكاء ،علينا أوالً أن نفهم سري عمله .علينا أن
ندرك أننا ،حتى إن اعتقدنا أننا نفهمه ،قد نكون مخطئني .وما علينا تعلمه للفهم
هو أن حضارة اإلنسان لها حياة خاصة بها ،وأن كل الجهود التي نبذلها لتحسني
142
األمور ال بد من أن تعمل داخل نظام عامل ال ميكننا أن نتحكم به بالكامل ،وجل ما
ميكن أن نأمله هو تسهيل ومساعدة تشغيل قواه حتى نتمكن من فهمها.
ما ليس عدالً ،ليس قانونًا .وما ليس قانونًا ال تنبغي طاعته.
143
يخىش من أن يضع امللك ذاته أو مجلس الشيوخ ذاته قوانني جائرة لينفذها تنفيذًا
جائ ًرا.
الحرية االقتصادية
لطاملا كانت الحكومة تعني اإلكراه واإللزام ،وهي بحكم الرضورة النقيض التام
للحرية .الحكومة كفيل للحرية ،وهي متوافقة مع الحرية فقط إذا كان نطاقها
مقصو ًرا بالقدر الكايف عىل الحفاظ عىل ما يُدعى الحرية االقتصادية .وحيث ال
تقوم القتصاد السوق قامئة ،فستظل أفضل أحكام الدساتري والقوانني من حيث
النية مجرد حرب عىل ورق.
145
– ميلتون فريدمان ( )2006–1912وروز د .فريدمان (،)2009–1910
حرية االختيار
لن تجد تدابري أفضل مبقدورنا أن نتخذها لتعزيز قضية الحرية يف الوطن ويف
الخارج أفضل من التجارة الحرة الكاملة إال القليل.
الحرية الشخصية
ال أحد ميتلك الحق يف إجباري عىل أن أكون سعي ًدا بطريقته الخاصة التي يفكر
بها يف منفعة اآلخرين .ولكن يحق لكل فرد أن يسعى إىل تحقيق سعادته بأفضل
طريقة يراها مناسبة ،إذا مل تنطو عىل انتهاك حرية اآلخرين يف السعي إىل هدف
مشابه ألجل أنفسهم حني تكون حريتهم متامشية مع حق الحرية يف جميع
الحاالت األخرى وفقًا لقوانني عاملية ممكنة.
ال يتكئ إمياننا بالحرية عىل النتائج التي ميكن توقعها يف ظروف معينة ،بل عىل
االعتقاد بأنها ،مع أخذ كل األمور يف االعتبار ،ستطلق العنان لقوى تخدم الخري
أكرث مام تخدم الرش.
147
املجتمع الذي يجعل املساواة أهم من الحرية لن يحصل عىل أي منهام .واملجتمع
الذي يجعل الحرية أهم من املساواة سيحصل عىل قدر كبري من كليهام.
أنا أؤيد تقنني املخدرات .فطبقًا لنظام القيم الخاص يب ،إذا أراد الناس أن يقتلوا
أنفسهم ،فلهم كل الحق يف فعل ذلك .إن سبب معظم األذى الذي ينشأ من املخدرات
هو أنها غري قانونية.
148
الحرية السياسية
لقد أقر املؤلفون السياسيون أن من املسلامت أن ،عند نسج أي نظام حكومة
وإصالح الفحوصات والضوابط العديدة يف الدستور ،ال بد من افرتاض أن كل رجل
مخادع ،وأن ال هدف له ،يف ترصفاته ،سوى تحقيق مصالحه الخاصة.
الدولة هي الخيال العظيم الذي يسعى الجميع من خالله أن يعيش عىل حساب كل
شخص آخر.
151
1767يصف كتاب آدم فريغسن تاريخ املجتمع املدين املؤسسات بأنها
«نتيجة الفعل اإلنساين ،ال نتيجة تنفيذ أي تصميم إنساين».
1776ينرش آدم سميث كتابه ثروة األمم ،ويظهر فيه أن التقدم
االقتصادي تقوده املصلحة الذاتية والتبادل الطوعي والتجارة
الحرة وتقسيم العمل.
1776تعلن أمريكا استقاللها عن الحكومة الربيطانية ألنها اعتدت عىل
«الحقوق الراسخة» ملواطنيها.
فصل 1780يت ّوج دستور ماستشوستس الذي كتبه جون آدمز
السلطات« ،يجب أن تكون حكومة قوانني ،ال حكومة أناس».
1785يف كتابه أسس غيبيات األخالق ،يقدم إمانويل كانط مفهومه عن
«األمر املطلق» ،وهو وجوب معاملة اآلخرين عىل أنهم غايات يف
أنفسهم ،ال عىل أنهم وسائل.
1789يدخل دستور الواليات املتحدة حيز التنفيذ ،وينص عىل فصل
السلطات والحكومة املحدودة.
1789تنرش حكومة فرنسا الثورية إعالن حقوق اإلنسان واملواطن،
وتؤكد فيه عىل مبدأ الالعنف ،والقضاء العادل ،وحقوق امللكية
وحرية الضمري ،ولكن هذه املبادئ ال تلبث أن تُلغى.
1791إقرار قانون الحقوق يف الواليات املتحدة ،الذي يعدد الحقوق
األساسية كحرية الدين والتعبري واالجتامع والصحافة وحمل
األسلحة والحرية من االعتقال الجائر والتملك الجائر.
152
1833تؤدي ضغوط الليرباليني الكالسيكيني إىل إلغاء العبودية يف
معظم اإلمرباطورية الربيطانية.
1838يشكل ريتشارد كوبدن وجون برايت العصبة املناوئة لقانون
الذرة ،التي تسعى إىل إلغاء التعارف الجمركية الحامئية الضارة
املفروضة عىل القمح.
1843تربز صحيفة ذا إكونومست ،التي أسسها جيمس ولسون،
لنرصتها للتجارة الحرة وعدم تدخل الحكومة.
1843تلغى العبودية يف جميع أنحاء اإلمرباطورية الربيطانية.
1846تلغى قوانني الذرة.
1849ينرش فردريك باستيا كتابه القانون ،الذي يؤكد فيه عىل حقوق
األفراد اإللهية يف الدفاع عن أنفسهم وعن حريتهم وأمالكهم،
ويقول فيه إن الحكومة والقانون كالهام فاقد للرشعية إذا اعتدى
عىل هذه الحقوق.
1851يف إحصائياته االجتامعية ،يقدم هربرت سبنرس ُ
ح ّجة تطورية
إلقامة دولة محدودة بالدفاع عن أشخاص مواطنيها وأمالكهم.
1859ينرش جون ستوارت مل دفاعه الكالسييك عن الحرية ،عن الحرية.
1927يؤكد لودفيغ فون ميسس مرة أخرى عىل املبادئ الليربالية
الكالسيكية يف كتابه ،ليرباليات ،وإن كان مل يرتجم إىل اإلنكليزية
حتى عام .1962
153
1943تنرش آين راند روايتها الفلسفية املنبع ،وفيها دفاع قوي عن
تحقيق الذات.
1944ينرش فردريك هايك الطريق إىل العبودية ،كتابه الذي أظهر فيه
أن جذور الشمولية كامنة يف التخطيط املركزي واإلكراه الالزم
لتنفيذه.
1945يقيم كارل بوبر يف كتابه ،املجتمع املفتوح وأعداؤه ،حجة ضد
الهندسة االجتامعية اليوتوبية ويقدم فكرة «املجتمع املفتوح»،
وآرا ًء متعددة أخرى ،ويدعو إىل التغيري التدريجي.
1947يجتمع العلامء الليرباليون الكالسيكيون من أنحاء أوروبا وأمريكا
يف سويرسا ألول مرة يف أول اجتامع لجمعية مونت بيلريين.
1957تنرش آين راند روايتها الشهرية واملؤثرة عندما هز أطلس كتفيه،
وتؤكد فيها عىل األهمية الشديدة للجهود الفردية يف إنشاء
االزدهار.
1958يف كتابه مفهومان للحرية ،يف ّرق أشعيا برلني بني الحرية السلبية
واإليجابية ،ويقول إن الحرية اإليجابية معرضة لسوء االستخدام
من جهة املؤدلجني.
1960ينرش فردريك هايك دستور الحرية ،الذي يبني فيه جذور املجتمع
الليربايل الكالسييك ومبادئه ومؤسساته.
1962يف كتابهام رياضيات الرتايض ،يشري جيمس بيوكانان وغوردون
تولوك إىل مشكالت املصلحة الذاتية يف اتخاذ القرار السيايس.
154
1962ينرش ملتون فريدمان الرأساملية والحرية ،ويدعو فيه إىل األسواق
الحرة والعمالت العامئة والرضيبة السلبية عىل الدخل ،وقسائم
التعليم وغريها من األفكار الراديكالية يف زمانه.
1973ينرش موري روثبارد كتابه نحو حرية جديدة ،وفيه تطبيق متني
للرتاث الليربايل الكالسييك عىل املشكالت االجتامعية والسياسية
الحديثة.
1974يعارض روبرت نوزيك يف كتابه األناركية ،والدولة ،واليوتوبيا،
الرضائب التوزيعية ويعدها اعتداء عىل امللكية الشخصية ،ويدافع
دفا ًعا متينا عن الحرية.
1980تقدم سلسلة حرية االختيار التلفزيونية التي أداها ملتون فريدمان
الحجج الليربالية الكالسيكية إىل جمهور جديد أوسع.
1988ينرش فردريك هايك كتابه الغرور القاتل ،الذي يبني فيه أن النظام
العفوي للمجتمع اإلنساين معقد إىل درجة ال يستطيع معها أي
مخطط أن يفهمه أو يوجهه.
1989يظهر سقوط جدار برلني التخلف االقتصادي واملشكالت
االجتامعية يف الكتلة السوفييتية املخططة مركزيًّا.
155
A translation of “Classical Liberalism: A Primer” © [2015] Eamonn Butler.