Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 22

‫مجلة املقدمة للدراسات إلانسانية والاجتماعية املجلد (‪ ،)07‬العدد (‪( ،)01‬جوان ‪ ،)2022-‬ص ‪788-767‬‬

‫‪ISSN: 2602-5566‬‬ ‫‪EISSN:2716-8999‬‬

‫آليات إنتاج الوالية والصالح ‪-‬البناء السوسيوثقافي لظاهرة ألاوليائية‪-‬‬


‫‪Mechanisms production of holiness: Socio-cultural building of shrines‬‬
‫‪phenomenon‬‬

‫‪*1‬‬ ‫عبد الرحيم العطري‬

‫‪ 1‬جامعة محمد الخامس‪ ،‬الرباط‪( ،‬املغرب) ‪aelatri2020@gmail.com‬‬


‫تاريخ القبول‪2022/04/04 :‬‬ ‫تاريخ إلارسال‪2022/01/28 :‬‬
‫ملخص‪:‬‬
‫غالبا ما يقترن الحديث عن الضرائحية بالشعوذة وتدوير كثير من الصور النمطية‪ ،‬الش يء الذي‬
‫يلغي إمكانية التفكير في أبعاد هذه املمارسات ومدلواللتها ألانثروبولوجية‪ ،‬من هنا تتقدم هذه املساهمة‪،‬‬
‫بتواضع كبير‪ ،‬مقترحة الفهم أوال‪ ،‬لالقتراب من آليات البناء السوسيوثقافي لألوليائية‪ ،‬واكتشاف شروط‬
‫إنتاجها في ظل أنساق اجتماعية تتوزع على الصراع والتفاوض مع الواقع‪.‬‬
‫يندرج البحث في ألاوليائية ضمن مطمح فكري منفتح‪ ،‬يمتح من نمط تفكير عالئقي ‪mode de‬‬
‫‪ penser relationnel‬هدفه الرئيس إنجاز قراءة ممكنة للزمن الضرائحي‪ ،‬كتاريخ وجغرافيا وثقافة متجذرة‪،‬‬
‫ليس بهدف إعادة إنتاج إجابات جاهزة ونمطية‪ ،‬وإنما من أجل توسيع دوائر النقاش حول املقدس‪ ،‬والحفر‬
‫العميق في امتداداته وممارساته ورموزه وطقوسه‪ ،‬بعيدا عن أي نظرة تحقيرية أو احتفائية للتدين الشعبي‪.‬‬
‫الكلمات املفتاحية‪ :‬مقدس‪ ،‬والية‪ ،‬مريد‪ ،‬شيخ‪ ،‬ضرائحية‬
‫‪Abstract‬‬
‫‪The research focused on shedding light on the Mechanisms production of‬‬
‫‪holiness in Society and identifying the Socio-cultural buillding of shrines‬‬
‫‪phenomenon, by thinking the history life of some examples in islamic context.‬‬
‫‪Especially, The problem of the research lies in the fact that holiness is a‬‬
‫‪production of religion, space and humain with social structures. It also aims to‬‬
‫‪highlight the role of ritual and symbolic world that make a sens in this context, which‬‬
‫‪reflected in research at multiple levels.‬‬
‫‪Keywords : sacred, holiness, shrine, Master, Disciple‬‬

‫*املؤلف املرسل‬
‫‪767‬‬
‫آليات إنتاج الوالية والصالح‪ :‬البناء السوسيوثقافي لظاهرة ألاوليائية‬

‫‪-1‬مقدمة‬
‫إن الانشغال باملقدس ألاوليائي له ما يبرره واقعيا‪ ،‬فبالرغم من كل التحوالت التي عرفتها‬
‫املجتمعات العربية إلاسالمية‪ ،‬فإن الاعتقاد في بركة ألاولياء‪ ،‬مترسخ بقوة في املخيال‪ ،‬وناتئ جدا‬
‫في املجال‪ ،‬ومؤثر أيضا في بناء وتسويغ كثير من الاستراتيجيات الفردية والجماعية‪ ،‬وعليه فإن ما‬
‫يلوح في مظان هذه املساهمة‪ ،‬يأتي ممهورا بتوقيع املالحظ‪/‬املراقب‪ ،‬ملا يعتمل في ديناميات هذا‬
‫الحقل‪ ،‬دونما إعالن ممكن للتعاطف أو الرفض للممارسات والخطابات التي تلوح أحيانا "ميتا‬
‫واقعية"‪.‬‬
‫ليست مهمتنا البحث عن"عقلنة" ممكنة لهذه املمارسات‪ ،‬وال التأكد من وجاهتها أو‬
‫ومباركة‪ .‬ذلك‬
‫ٍ‬ ‫وتيسير‬
‫ٍ‬ ‫عادة و إبر ٍاء‬
‫محدوديتها‪ ،‬وأساسا في جوانب الكرامة وما يتصل بها من انخر ِاق ٍ‬
‫أن الانهمام بحقل إلانتاج والتدبير الرمزي لحياة املجتمع يندرج في إطار فهم يعتبر أن رهانات الصراع‬
‫والتدافع الاجتماعي ليست دائما‪ ،‬وبالضرورة‪ ،‬اقتصادية‪ ،‬فهناك جانب مهم من الحياة الرمزية‬
‫يكون محور صراع وتنافس شديدين‪ ،‬فعالقات القوة ال تشتغل بعيدا عن عالقات املعنى‪ .‬وإن‬
‫السؤال عن الكيفيات التي ُيعاش بها املقدس ُويستثمر ُويستنزل‪ ،‬يعد ضروريا إلدراك وتمثل‬
‫ُ‬
‫مفهومه‪ ،‬فالتجربة التي تختبر فيها العالقة بين املقدس والدنيوي‪ ،‬تصير مدخال لفهم ألابعاد‬
‫الاجتماعية لتدبير عالقات القوة و املعنى‪.‬‬
‫ومنه يصير كل اشتغال على املقدس‪ ،‬حائزا لفائق ألاهمية في مجتمعات تتكثف فيها الرموز‬
‫والطقوس‪ ،‬وتتواشج فيها عالقات املعنى بعالقات القوة‪ ،‬إلى الدرجة التي يغدو فيها صعبا إدراك‬
‫الخيط الرفيع القائم بين الثنائيات وألاضداد‪ ،‬فالرموز داخل مجتمعات الندرة وانبناءات املقدس‪،‬‬
‫حاسمة ومؤثرة في صناعة الوضعيات الاجتماعية‪" ،‬فالرموز تتوفر فيها حد التخمة"‪ ،‬فكل فعل‪،‬‬
‫ُ‬
‫مهما بدا بسيطا أو مركبا‪ ،‬في هذه املجتمعات إال ويكثف رمزية ما‪ ،‬تصنع معنى ما‪ُ ،‬يقرأ و تفك‬
‫شفراته‪ ،‬ويقود بالتالي إلى إنتاج وقائع و تمثالت ما‪ .‬فهل يمكن اعتبار ظاهرة الصالح كرد فعل ديني‬
‫يسائل ما هو سياس ي؟ وهل يمكن التعاطي معها كتموقفات من السائد محليا على مستوى التدبير‬
‫السلطوي؟ فهل الصالح جواب على الالصالح أو باألحرى "الال إنصالح"؟‬
‫أوال‪ :‬املقدس الضرائحي‬
‫ثمة تعريفات عدة تنطرح كمرادفات للمقدس‪ ،‬وهي تعريفات تستند في الغالب إلى ثقافة‬
‫ألازواج التقابلية‪ ،‬بحيث يتم تعريف املقدس من خالل مقابله وليس مرادفه‪ ،‬وفي هذا إلاطار نجد‬
‫أن املقدس يأتي في مقابل املدنس ‪ ،Profane‬أو كمقابل للدنيوي‪ .‬فيما تشير تعريفات أخرى إلى‬
‫اعتباره دالا على ما هو ديني وطقوس ي‪ ،‬أو متعلقا بالرمزي في مقابل املادي‪ ،‬واملتعالي في مقابل‬
‫السفلي‪ ،‬وهو ما يؤكد أن التعريف في مختلف هذه الحاالت يطرح سؤال العالقة مع نسق ما أو‬
‫مقابل ما‪ ،‬ويطرح أساسا سؤال املفارقية والتعالي املميزة لفكرة املقدس‪ .‬ففي كل حين يحضر‬

‫‪768‬‬
‫عبد الرحيم العطري‬

‫وكمحايث أيضا‪ ،‬ويحتل مكانة عليا في النسق الرمزي للوقائع والتمثالت‪،‬‬


‫ٍ‬ ‫كمتعال وكمفار ٍق‬
‫ٍ‬ ‫املقدس‬
‫إنه الحد الكامل في مقابل الحد املشوه‪ ،‬تبعا لتصور العالم القديم‪ ،‬بل إنه يصير دالا على إلالهي‪،‬‬
‫في مقابل البشري والدنيوي‪.‬‬
‫بالرجوع إلى إيميل دوركهايم‪ ،‬وتحديدا في مساءلته لألشكال ألاولية للحياة الدينية‪ ،‬نجده‬
‫يقترح زوجا تقابليا يتكون من املقدس واملدنس للفهم والتفسير‪ ،‬وأن الدين هو املؤسسة التي‬
‫تفصل بين املقدس واملدنس (‪.)Durkheim,1968, p.37.‬إذ يعتبر دوركهايم بأن املقدس هو السمة‬
‫ألاساسية لتعريف الظاهرة الدينية‪ ،‬علما بأن القداسة في ذاتها تنتج عن املجتمع نفسه‪ ،‬وال تقف‬
‫بالتالي عند حدود الديني إلى تمتد إلى مجاالت أخرى (‪ .)Durkheim,1968, p.37.‬لكن هل باإلمكان‬
‫معرفة أين ينتهي املقدس؟ وأين يبدأ املدنس؟ فاملقدس أو املدنس هما إنتاجان خالصان لكل‬
‫مجتمع‪ ،‬وما يعد مقدسا في هذا السجل الثقافي‪ ،‬قد يصير مدنسا في سجل آخر‪.‬‬
‫يرى إميل دوركهايم بأن "كل املعتقدات الدينية املعروفة بسيطة كانت أو معقدة تفترض‬
‫تصنيفا لألشياء الواقعية أو املثالية عبر مستويين متقابلين يتم إلاشارة إليهما بمصطلحين متميزين‬
‫وهما‪ :‬املقدس واملدنس")‪ ،(Durkheim,1968, p.37‬إنه الحضور املتجدد "لألزواج التاريخية"‪ .‬لكن‬
‫وبالرغم من هذه الصعوبات التي يطرحها التعالق‪ ،‬على مستوى التعريف‪ ،‬بين املقدس واملدنس‪،‬‬
‫املقدس والدنيوي‪ ،‬إلالهي والبشري‪ ،‬والديني والال ديني‪ ،‬فإن هذا كله لم يمنع من استحضار كل‬
‫هذه التقابالت‪ ،‬في كل محاولة مفترضة لتعريف املقدس‪ ،‬ألنه يحيل على هذه التقابالت بشكل أو‬
‫بآخر‪ ،‬قليال أو كثيرا‪ ،‬في تأشير على تعقيد ُ‬
‫و"ع ْسر املعنى" الذي يكتنفه‪.‬‬
‫لقد أكد مرسيا إلياد‪ ،‬على وجوب الخروج من فخ التعارض هذا‪ ،‬باعتبار املقدس غير‬
‫متماثل مع إلالهي‪ ،‬وال مقابل فقط للدنيوي‪ ،‬ذلك أن املقدس هو ٍ‬
‫"تجل لإللهي في الزمان واملكان‪،‬‬
‫والطقوس بالطبع هي التي تضمن إمكان العبور من الزمن العادي إلى الزمن القدس ي"( ‪Mircea,‬‬
‫‪ ،)1965,p.61‬فالطقس والرمز‪ ،‬والحالة هاته‪ ،‬هو الذي يعطي للفعل والتمثل‪ ،‬طابع القداسة أو‬
‫تجل ما‪" ،‬تجلي ش يء ذي حقيقة ال تنتمي إلى عاملنا في‬ ‫يسحبها منهما‪ ،‬فاملقدس حسب إلياد هو ٍ‬
‫تجل يلوح في خطابات‬ ‫أشياء هي جزء مكمل في عاملنا الطبيعي")‪ ،) Mircea, 1965,p.61‬وهو ٍ‬
‫وممارسات وتصورات وقيم ومعتقدات‪ ،‬وهو ما يجعل مساحاته تضيق وتتسع تبعا للنسق‬
‫الاجتماعي والثقافي العام الذي يتأسس فيه هذا املقدس‪ .‬فالتجلي في املكان والزمان هو ما يمنح‬
‫املقدس حقيقته‪ ،‬وهو ما يؤسس للعبور إليه عن طريق الطقس والرمز‪ ،‬فهناك "تزامن بين ميالد‬
‫القدس ي واملجالي‪ ،‬على اعتبار أن املجال كنظام وكون ال يوجد إال بتجسد املقدس فيه" ‪Mircea,‬‬
‫)‪ ،)1965,p.65‬فاملجال يصير مثال بأضرحته ومساجده ومزاراته وكنائسه ِود َيره ِوب َيعه‬
‫ومعابده‪...‬عالمة على حضور املقدس وتجلياته‪.‬‬

‫‪769‬‬
‫آليات إنتاج الوالية والصالح‪ :‬البناء السوسيوثقافي لظاهرة ألاوليائية‬

‫فاملقدس بالنسبة ملارسيا إلياد يحل ويتمظهر في أية لحظة‪ ،‬إال أن أولى أشكال هذا التمظهر‬
‫تلوح في زمن البدء ألاسطوري‪ ،‬الذي ينطرح "كزمن قدس ي ودائري ونموذجي بالنسبة لكل ألازمنة‬
‫القدسية سواء تلك الحاضرة في الطقوس أو ألاساطير")‪ .) Mircea, 1963,p.16‬والتي تمثل عنده مجاال‬
‫رمزيا لتجلي املقدس‪ ،‬فبفضلها يتم الحكي عن الكيفيات ألاولى التي أتت بها املوجودات إلى الوجود‪،‬‬
‫إنها حكاية عن عمليات الخلق ألاولى وألاصلية‪ ،‬وذلك في صيغة دائرية تسترجع باستمرار البدء‬
‫القدس ي ألاول)‪.) Mircea, 1963,p.17‬‬
‫مع مارسيا إلياد يغدو املقدس تجليا يحل في املكان والزمان‪ ،‬يتأتى العبور منه وإليه عن‬
‫ً‬
‫طريق الطقس وآلية البدء ألاسطوري‪ ،‬إال أنه مع روجي كايوا سيصير دالا على خاصية ثابتة أو عابرة‬
‫ترتبط باألزمنة وألامكنة‪ ،‬لهذا يرى كايوا بأن "املقدس في صورته ألاولية البسيطة‪ ،‬يشكل طاقة‬
‫خطرة‪ ،‬خفية على الفهم‪ ،‬عصية على الترويض‪ ،‬شديدة الفعالية"‪ ،‬إنه يدل على "مقولة شديدة‬
‫الحساسية‪ ،‬تعتبر ركيزة و أساس إلاحساس الذي يغمر املؤمن‪ ،‬إنها الفكرة ألام بالنسبة لكل ديانة‪،‬‬
‫فالديانة هي إدارة املقدس" )‪.(Caillois, 1950, p.40‬‬
‫إن املقدس برأي كايوا يحيل على خاصية ثابتة أو عابرة‪ ،‬تتمظهر في "بعض ألاشياء ( أدوات‬
‫العبادة) أو الكائنات( امللك و الكاهن) أو ألامكنة( املعبد‪ ،‬الكنيسة‪ ،‬املزار) أو ألازمنة( أيام الجمعة‬
‫والسبت وألاحد‪ ،‬تبعا الختالف الديانات‪،‬عيد الفصح‪ ،‬عيد امليالد‪، (Caillois, 1950, p.37)")..‬‬
‫فاملقدس حسب كايوا ليس صفة تملكها ألاشياء في حد ذاتها‪ ،‬بل هو "هبة سرية متى فاضت على‬
‫ألاشياء والكائنات‪ ،‬أسبغت عليها تلك الصفة")‪ .(Caillois, 1950, p.37‬يضيف كايوا قائال بأن‬
‫تعريف املقدس يستلزم استحضار املدنس‪ ،‬فمن خالل املقابل واملفارق يتأتى التعريف‪ ،‬فمن‬
‫الضروري‪ ،‬برأيه‪" ،‬الجمع بين املقدس واملدنس‪ ،‬ملعرفة كنه كل واحد منهما‪ ،‬فعالمي املقدس‬
‫واملدنس ال يمكن تعريفهما بشكل دقيق إال في عالقة أحدهما باآلخر‪ ،‬فهما يتنافيان ويستلزم‬
‫أحدهما آلاخر")‪.(Caillois, 1950, p.24‬‬
‫يدل املقدس عند كايوا على طاقة أو قوة داخلية غامضة ال يمكن تعريفها بذاتها فقط‪،‬‬
‫بل في عالقتها بالدنيوي‪ ،‬فالقداسة ال تختبر واقعيا إال في إطار املمارسات الطقوسية للدنيوي‪،‬‬
‫فاملقدس يشتكل من قوى وطاقات‪ ،‬فيما الدنيوي مشكل من مواد وأدوات‪ ،‬لكنهما ضروريان معا‬
‫الستمرار الحياة وتطورها‪ ،‬فكل واحد يمنح معنى الحضور لآلخر‪ ،‬عن طريق الطقس والرمز‪ .‬فال‬
‫حدود للمقدس إذا‪ ،‬وال إمكان لتأطيره بدقة متناهية في شرط زماني أو مكاني محدد‪ ،‬إنه يحل في‬
‫ألاشياء ويمنحها معنى القداسة أو يسحبها عنها‪ ،‬وهو بذلك يؤسس للتمييز بين ما هو مقدس‪ ،‬وما‬
‫هو غير ذلك‪ ،‬وتحديدا بين املقدس والدنيوي‪ .‬ومن أجل ضبط العالقة بين العاملين فإن كايوا يرى‬
‫بأن الطقوس هي التي تتولى تنظيم العالقة بينهما‪ ،‬عن طريق دينامية الدخول والخروج‪ ،‬ذلك أن‬

‫‪770‬‬
‫عبد الرحيم العطري‬

‫هناك طقوسا للتقديس تعمل على إدخال الكائنات وألاشياء إلى عالم املقدس‪ ،‬فضال عن طقوس‬
‫إبطال التقديس الذي تخرج الكائنات وألاشياء إلى العالم الدنيوي‪.‬‬
‫إن املقدس وفقا لهذا الطرح يتعلق ببنية وممارسات مقننة‪ ،‬تنسحب على مجال معين‪،‬‬
‫في مقابل بنيات وممارسات تصنف داخل دائرة الدنيوي (غير املقدس‪ ،‬املتغير والقابل للتصرف)‪.‬‬
‫وال يعني ذلك أن الدنيوي هو مجال لـ "الال نظام" والانفصال‪ ،‬وإنما يتعلق ألامر بمجالين يؤسس‬
‫أحدهما لآلخر باستمرار‪ ،‬قد يؤدي إلى انتقال ما هو مقدس إلى ما هو دنيوي والعكس صحيح‪.‬‬
‫فاملقدس يحيل على ما هو ديني في كثير من جوانبه‪ ،‬باعتباره قوة خفية تحقق "فيضها" القدس ي‬
‫على ألازمنة وألامكنة‪ ،‬حيث يتجلى في كثير من الفضاءات ويمتد إلى عدد من ألافراد والتفاعالت‬
‫الاجتماعية‪ ،‬فاملقدس يتجلى بواسطة البركة في العالم بصفته هبة إلهية وقوة يختص بها أناس‬
‫دون غيرهم‪ ،‬وقد ينبثق من الانحدار النسبي من الرسول أيضا (‪ .)Geertz, p.24‬وبذلك يتجلى‬
‫املقدس في مجاالت طبيعية (أمكنة‪ ،‬أنهار‪ ،‬أشجار‪ )..‬وما فوق طبيعية (كائنات سماوية‪ ،‬آلهة‪ )..‬كما‬
‫يتجلى في الزمان (أيام أعياد‪ ،‬دورات فصول‪ )..‬وفي ألاشخاص (أنبياء‪ ،‬صلحاء‪ ،‬أولياء‪ ،‬شرفاء‪،)..‬‬
‫وكذا في اللغة وألاساطير والشعائر والطقوس‪ ،‬وغير ذلك من أشكال تنظيم إلانسان لعالقته مع‬
‫العالم‪ ،‬وفق اعتبارات املعنى والقوة‪ .‬ومنه تغدو الضرائحية وألاوليائية تجسيدا واختبارا عملياتيا‬
‫لتصريفات ومعاني املقدس‪.‬‬
‫يعد الضريح مؤسسة "دينية" مركزية في املجتمع املغربي‪ ،‬لم تلغها ضروب الزمن‪ ،‬وال صيغ‬
‫الانتماء إلى سجل ثقافي مغاير ينتصر للتقنية والطرق السريعة لإلعالم واملعلومات‪ .‬فعبارة "بلد‬
‫ألالف ولي" التي تحدث عنها بول باسكون (باسكون‪ ،1986 ،‬صفحة ‪ ،)96‬ما زالت تصدق‪ ،‬وإلى حد‬
‫بعيد على ما يعتمل في هذا الهنا‪ ،‬من حضورية دائمة للضرائحية في تدبير كثير من فعاليات‬
‫وحساسيات املشترك الجمعي‪ .‬فإذا كان الشرق بلد ألانبياء‪ ،‬فإن املغرب يعد بلد ألاولياء‪ ،‬هذا ما‬
‫يتردد أكثر في عدد من املصادر املناقبية التي اهتمت بترجمة الصلحاء والزهاد الذين ال تخلو منهم‬
‫مدينة أو بادية ما‪" ،‬فمن بين كل البلدان إلاسالمية يعتبر املغرب البلد الذي يبجل أكبر عدد من‬
‫ألاولياء‪ ،‬فال وجود مطلقا لهضاب ال يتوجها مزار‪ ،‬وقليلة هي القرى أو املقابر التي ال يوجد فيها‬
‫ضريح يمجد وليا أو أكثر" (باسكون‪ ،1986 ،‬صفحة ‪ .)96‬لهذا نالحظ في بلد ألاولياء أن عبارات‬
‫من قبيل "طلب التسليم" و"مسلمين أ رجال البالد" و"شاياله" (بمعنى ش يء هلل)‪" ،‬أ مول قبة‬
‫خضراء" تدعونا في كل حين إلى الانتباه إلى مغبة الاستهانة بالقدرات الاستثنائية لهؤالء الصلحاء‪،‬‬
‫وتنصحنا في آلان ذاته بضرورة طلب "أمانهم" لالحتماء بهم (العطري‪ ،2000 ،‬صفحة ‪ ،)89‬ما يبرز‬
‫السلطة الرمزية للمقدس الولوي‪ .‬فالضريح كبناء محتضن ومؤسس لبركة الولي الصالح‪ ،‬يعد‬
‫"الشاهد املعماري" على امتدادات املقدس في ألارض‪ ،‬كما أنه الدعامة الوسيطية بين ألارض‬

‫‪771‬‬
‫آليات إنتاج الوالية والصالح‪ :‬البناء السوسيوثقافي لظاهرة ألاوليائية‬

‫والسماء‪ ،‬فالقبة املتجهة إلى ألاعلى‪ ،‬تبرر هذه العالقة الوسيطية وتدعمها معماريا‪ ،‬إن ألامر يتعلق‬
‫بخزانات أرضية للقداسة السماوية كما ذهب إلى ذلك درمنعن‪(Dermenghem,1954,p11) .‬‬
‫إن املقدس الولوي يقوي من قدسيته عن طريق املعمار‪ ،‬فالعمارة ليست مجرد أبنية‬
‫خالية من السلطة‪ ،‬إنها "سياج احتوائي" يتضمن رسائل ورموزا‪ ،‬إنها تنطق بمكنون سلطاتها‬
‫الرمزية واملادية‪ ،‬وتعبر عن انتماءاتها ألانطولوجية‪ ،‬فقباب ألاضرحة املتجهة إلى السماء تعبر عن‬
‫داللة التوسط بين الدنيوي والقدس ي‪ ،‬كما ترمز إلى الرفعة والتسامي‪ ،‬إنها تترجم املقدس معماريا‬
‫وتعيد صياغته من داخل الدنيوي‪ .‬كما تتم استعادة أشكال املقدس الديني املركزية (الكعبة‬
‫أساسا) في بناء وتطقيس الضريح‪ ،‬سواء من حيث شكله املربع‪ ،‬أو استحضار عملية الطواف‬
‫بالدربوز أو تغطيته بالكساء ألاخضر‪ ،‬في محاوالت لتحيين املقدس وإسباغه على مختلف نواحي‬
‫املتن الضرائحي‪ .‬فاملقدس بحسب درمنغن ال يمكن أن يوجد في هذا العالم دون شهادة أو عالمة أو‬
‫أيقونة دالة عليه‪ ،‬فاألماكن وألاشياء ألارضية ال تستمد قداستها إال من كونها ذات عالقة معينة‬
‫مع السماء"‪ ،‬ومنه تغدو ألاضرحة وبعض ألاحجار وألاشجار بمثابة "خزانات أرضية للقداسة‬
‫السماوية" )‪.(Dermenghem,1954,p34‬‬
‫أمال في تنزيل وتوصيف املقدس‪ ،‬نعمد إلى اعتباره دالا على أزمنة وأمكنة وممارسات‬
‫وخطابات‪ ،‬رمزية ومادية‪ ،‬يتم تمثلها على نحو متعال ومفارق‪ ،‬يأتي فوق املدنس والدنيوي‪ ،‬يستند‬
‫إلى إلالهي والديني في تفسيره واكتساب قوته التأثيرية‪ .‬فاملقدس يشير إلى الانتماءات الشريفية‬
‫وألامكنة الدينية كاملسجد واملسيد والضريح والزاوية‪ ،‬وكذا املمارسات والطقوس واملعتقدات ذات‬
‫الصلة‪ ،‬في مستوى ألاشكال الشعبية للممارسات الدينية‪ ،‬وما يرتبط بها من اعتقادات في البركة‬
‫والشرف والكرامة‪ ،‬وما ينجم عن هذه الاعتقادات من ممارسات وتمثالت تتوزع على تقديس‬
‫ألامكنة وزيارة ألاضرحة والاحتفال بمواسمها‪ .‬فالبركة تعني النماء والزيادة والعلو واليمن‪ ،‬وهي‬
‫تحيل على "عطاء" وقدرة استثنائية ذات مصر إلهي تتوفر لبعض ألاشخاص( هاذاك راه مبارك أو‬
‫مبروك‪ ،‬هللا ينفعنا ببراكتو‪ ،)..‬فروجيه باستيد يعتبر البركة كـ"سائل مقدس يفيض من املرابط‬
‫ويمتد إلى كل ما يمس هذا الولي من ثياب وماء‪ ..‬وبعد املوت تظل جثته محتفظة بالبركة وتظل‬
‫عالقة بقبره"(باستيد‪ ،1951 ،‬صفحة‪.)65 .‬‬
‫يقول جاك بيرك بأن هناك "تداخال بين الاقتصادي والقداس ي")‪،( Berque, 1989,p.19‬‬
‫ولهذا يتوجب الانتباه دوما إلى العملية التي تتحول فيها رمزية القداسة إلى مصدر لتبرير وتوسيع‬
‫حقل سيادة الشرف ومعه حقل امللكية الخاصة‪ .‬فبناء املقدس وصيانته يندرج في إطار سلوك‬
‫قصدي وعفوي‪ ،‬واع وغير واع في آلان ذاته‪ ،‬يدبره الفاعل في ظل مجتمع مفتوح على الحراك‬
‫والتنافس‪ ،‬ما يجعل ألامر متصال ببنية متحركة تنكشف حركيتها في جغرافية املقدس وتغيراته‬
‫املستمرة‪ ،‬من حيث البناء والفعل والفاعل‪ .‬إذ يمر املقدس دوما من واقعة الاستثمار الرمزي إلى‬

‫‪772‬‬
‫عبد الرحيم العطري‬

‫مستوى الاستثمار الاقتصادي والسياس ي‪ ،‬مثلما يحدث مع الزوايا‪ ،‬حيث يكون البدء دينيا وروحيا‪،‬‬
‫لكنه سرعان ما يتحول إلى نفوذ اقتصادي وسياس ي ينافس السلط ألاخرى في تدبير املجال وتقرير‬
‫مصائره‪.‬‬
‫إن جغرافية املقدس في املجال التداولي العربي إلاسالمي‪ ،‬لم تكن يوما ما ثابتة‪ ،‬ففي ظل‬
‫مجال عرف تاريخيا بالتوتر والندرة‪ ،‬يصير املقدس آلية بناء وإعادة إنتاج‪ ،‬بل إنه يغدو عامال محركا‬
‫للفعل والفاعلين‪ ،‬فاملجتمع‪ ،‬أي مجتمع‪ ،‬برأي كورنيليوس كاستورياديس "ال يمكن اختزال صراعاته‬
‫وحركيته في الصراعات ذات ألاساس الاقتصادي فقط‪ ،‬بل إن املجتمع بقدر ما تسوده عالقات‬
‫القوة املبنية على أنماط إدارة وتوجيه املصالح الاقتصادية‪ ،‬تسوده وبنفس القوة‪ ،‬عالقات املعنى‪،‬‬
‫مثلما أن رهانات الصراع الاجتماعي ال تستهدف املصالح الاقتصادية فقط‪ ،‬بل أنماط‬
‫الشرعية"(كاستورياديس‪ ،2003 ،‬صفحة‪ ،)7 .‬ولهذا فإن الصراع حول "الرمزي" يظل أكثر تأثيرا في‬
‫صياغة الحال واملآل‪ ،‬في ظل مجتمعات ينتصر فيها "الطقوس ي" و"الرمزي" بشكل واضح‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬الوالية والكرامة‬
‫تدل الوالية لغة على إلامارة والسلطان‪ ،‬كما تحيل على القرب والنصرة‪ ،‬فالولي في قواميس‬
‫اللغة هو املحب والصديق والنصير والكفيل(الكيالي‪ ،2010 ،‬صفحة ‪ ،)19.‬أما الولي اصطالحا فهو‬
‫العارف باهلل تعالى‪ ،‬املواظب على الطاعة املجتنب للمعاص ي‪ ،‬املعرض عن الانهماك في اللذات‪،‬‬
‫ويسمى وليا ألن هللا تعالى تولى أمره‪ ،‬فال يكله إلى نفسه وال إلى غيره لحظة(الكيالي‪،2010 ،‬‬
‫صفحة‪ .)18.‬تماما كما جاء في عدد من آلايات البينات من الذكر الحكيم‪ ،‬مثل قوله تعالى "هللا ولي‬
‫الذين آمنوا" (سورة البقرة‪ :‬آلاية ‪ ،)257‬وقوله تعالى "وهو يتولى الصالحين" (سورة ألاعراف‪ :‬آلاية‬
‫‪ ،)196‬وقوله تعالى "إنما وليكم هللا ورسوله" (سورة املائدة‪ :‬آلاية ‪ .)55‬فالولي الصالح تبعا ملا نحتته‬
‫الكتابات املناقبية هو "من توالت طاعاته من غير تحلل معصية‪ ،‬وهو من تولى الحق حفظه‪ ،‬فأولياء‬
‫ُ‬
‫هللا هم أحباء هللا وأعداء نفوسهم‪ ،‬فهم خلص املؤمنين لقربهم من هللا سبحانه وتعالى"(الكيالي‪،‬‬
‫‪ ،2010‬صفحة‪.)19.‬‬
‫يتوجب التأكيد على أن الوالية هي درجة عليا تتحصل لصاحبها وطالبها بعد كثير مجاهدة‬
‫ومكابدة‪ ،‬فأول الطريق "إلارادة ومعها املجاهدات‪ ،‬وأوسط الطريق املحبة ومعها الكرامات وآخر‬
‫الطريق املعرفة ومعها املشاهدات‪ ،‬فإذا تمكن في هذه املراتب وال يجري عليه أحكام التلوين‪ ،‬وصار‬
‫سباحا في بحار التوحيد وسر التفريد‪ ،‬يكون وليا نائبا لألنبياء وصادقا من ألاصفياء"(القشيري‪،‬‬
‫‪ ،2001‬صفحة‪ ،)55 .‬يسري عليه قول هللا تعالى "أال إن أولياء هللا ال خوف عليهم وال هم‬
‫يحزنون"(سورة يونس‪ :‬آلاية ‪.)62‬‬
‫إن الوالية درجات تبتدئ بالسالك وتنتهي بقطب ألاقطاب‪ ،‬فقد بين محي الدين ابن عربي‬
‫في "أهل املراتب و ألاحوال" كيف أن أولياء هللا هم مراتب وأحوال‪ ،‬فهم على "طبقات كثيرة وأحوال‬

‫‪773‬‬
‫آليات إنتاج الوالية والصالح‪ :‬البناء السوسيوثقافي لظاهرة ألاوليائية‬

‫مختلفة‪ ،‬فمنهم من يجتمع له الحاالت واملقامات كلها والطبقات‪ ،‬ومنهم من يحصل من ذلك ما‬
‫شاء هللا‪ ،‬وما من طبقة إال لها لقب خاص من أهل ألاحوال التي يظهر عليها‪ ،‬وهم من يحصره عدد‬
‫في كل زمان‪ ،‬ومنهم من ال عدد له الزم‪ ،‬يقلون ويكثرون"(ابن عربي‪ ،2009 ،‬صفحة‪ .)20 .‬فهناك‬
‫السالك واملجذوب والبهلول والوتد والجرس والبدل والنقيب والنجيب والبهالي والصالح واملالمتي‬
‫والغوث والقطب‪ ،‬وقطب ألاقطاب في قمة الوالية‪ ،‬وهي درجة عليا ال تتحقق إال للجامعين ألاحوال‬
‫واملقامات‪ ،‬فالقطب يسمى غوثا باعتبار التجاء امللهوف إليه‪ ،‬وهي درجة ال تتحقق إال بعد طول‬
‫مجاهدة وعمق عرفان(ابن عربي‪ ،2009 ،‬صفحة‪.)20 .‬‬
‫ال والية إال بكرامة‪ ،‬فالكرامة هي ما يبرر الوالية ويمنحها شرعية الانوجاد‪ ،‬فاألولياء‬
‫الصالحون‪ ،‬كما قال التليدي‪ ،‬هم أصناف من الناس‪ ،‬يوجد منهم العلماء والفقهاء وألامراء‬
‫والضقاة والتجار والفالحون وأصحاب املهن والحرف وأهل الثروات‪ ،‬وفيهم العباد والزهاد والعقالء‬
‫السالكون وأرباب ألاحوال واملجاذيب"(التليدي‪ ،1987 ،‬صفحة ‪ ،)19‬ممن تتأكد واليتهم عن طريق‬
‫البركة و الكرامة و الخارق للعادة‪ ،‬مما يتحقق على أيديهم‪ ،‬و بفضل "بركتهم" املستمرة حتى بعد‬
‫رحيلهم‪.‬‬
‫يورد صاحب التشوف تأكيدا للكرامة من توقيع إمام املتكلمين القاض ي أبو بكر بن الطيب‬
‫البصري الباقالني‪ ،‬الذي قال بأن "املعجزات يختص بها ألانبياء‪ ،‬والكرامات تكون لألولياء"‪،‬‬
‫ويضيف في ذات السياق الشهرستاني قائال‪" :‬أما كرامات ألاولياء فجائزة عقال و واردة سمعا‪ ،‬و من‬
‫أعظم كرامات هللا تيسير أسباب الخير وإجراؤه على أيديهم وتعسير أسباب الشر عليهم‪ ،‬وحيث كان‬
‫التيسير أكثر كانت الكرامات أوفر" (ابن الزيات‪ ،2010 ،‬ص‪.)54.‬‬
‫جاء في التشوف أن الكرامة تتحقق ملن تعمق في الزهد والعبادة‪ ،‬عارضا عن ملذات الدنيا‬
‫وأهوائها (ابن الزيات‪ ،2010 ،‬صفحة‪ .)75 .‬فالكرامة تتخذ صيغا شتى‪ ،‬تنبني على انخراق العادة‬
‫ومفارقتها للواقع و املعتاد‪ ،‬تماما كما هو ألامر بالنسبة النفالق البحر وجفافه‪ ،‬واملش ي على املاء‪،‬‬
‫وطي الطريق وانزواء ألارض‪ ،‬وكالم الجمادات والحيوانات‪ ،‬وإبراء العلل والصبر على الجوع‪ ،‬ورؤية‬
‫املكان البعيد‪("..‬النبهاني‪ ،2001 ،‬صفحة‪. )47 .‬فالولي الصالح هو ألاقدر على خرق العادي‪ ،‬وفقا ملا‬
‫تؤسسه الكرامة‪ ،‬وما يتقعد تاريخيا عن طريق التواتر‪ ،‬فكل استعصاء لألمور يجد طريقه إلى الحل‬
‫والتيسير على عتبات الضريح‪ ،‬بل إن كل ما يحدث يمكن أن يتم "التدخل" فيه عن طريق سلطة‬
‫الوالية وتأثيرات الكرامة‪ ،‬فاألولياء "يقدرون على تغيير مجرى الحوادث وألاشياء‪ ،‬يشفون ألامراض‬
‫املستعصية التي ال ينفع معها عالج طبي‪ ،‬ويروضون الحيوانات املفترسة ويصاحبون الجن"‬
‫(شغموم‪ ،1991 ،‬صفحة ‪.)27‬‬

‫‪774‬‬
‫عبد الرحيم العطري‬

‫ثالثا‪ :‬من الاستبعاد إلى ألاوليائية‬


‫إن الولي الصالح يقدم نفسه‪/‬مشروعه‪ ،‬كبديل ثقافي‪/‬سياس ي‪ ،‬ملا ينكتب في الواقع‪ ،‬إنه‬
‫ُ‬
‫نتم بالضرورة إلى سجل‬ ‫يقترح نموذجا آخر‪ ،‬يكون في الغالب مضادا‪ ،‬ملا يقترحه السياس ي‪ ،‬فهو م ٍ‬
‫العلماء الذي يواجه ضديا سجل السلطة‪ ،‬كما أنه يحيل على السماوي وألاخروي في مقابل‬
‫الدنيوي‪ .‬فالوالية تحتمل بعدا احتجاجيا في غالب ألاحيان‪ ،‬يظهر ذلك من خالل "اختيارها املجالي"‬
‫الذي ينحصر في الهامش ي والعلوي‪ ،‬وكل ما يدير له الناس ظهورهم‪ ،‬أو يبدون تخوفا من الاقتراب‬
‫منه‪ ،‬وبذلك فهذا "الاختيار املجالي" أو باألحرى الاستبعاد املجالي الطوعي‪ ،‬يؤدي وظائف عديدة‬
‫نذكر منها أربع على ألاقل‪:‬‬
‫أ‪ -‬الرفض‪ :‬عندما يختار الولي الصالح قمة الجبل أو هامش املدينة أو مقابرها املطلة‬
‫على البحر‪ ،‬فكأنه يريد تأكيد رفضه للقائم في املركز‪ ،‬وهجرته لخيراته الرمزية‬
‫واملادية‪ ،‬موثرا الانتماء إلى عالم الكفاف والندرة‪ ،‬فالصالح يناقض الفساد‪ ،‬والرفض‬
‫له يكون "اختيارا مجاليا" يلوح في "املنفى" والابتعاد عن مواطن الفساد‪ .‬فأغلب‬
‫الصلحاء في املغرب واملشرق اختاروا "البعد" و "الغربة" جوابا على ما عرفته‬
‫مجتمعاتهم من سوء أحوال سياسية‪.‬‬
‫ب‪ -‬املخاض‪ُ :‬يقرأ هذا "املنفى املجالي" كرحم للمخاض وإعالن الوالدة‪ ،‬فكل تجربة‬
‫صالح‪ ،‬تتأسس في البدء على وجوب القطيعة‪ ،‬فاالنفصال يثمر الاتصال‪ ،‬ذلك أن‬
‫الانفصال عن الدنيوي‪ ،‬هو ما ُيمهد لالتصال بالقدس ي‪ ،‬فالطريق إلى الوالية تمر‬
‫بمخاضات الانفصال‪ ،‬ولهذا تصير املغارة في الجبل‪ ،‬أشبه ما تكون بــ"رحم" مجالي‪،‬‬
‫يولد منه الولي‪ ،‬بعد "حمل" افتراض ي‪ ،‬يتأسس على مجاهدة النفس وترويضها‪ ،‬بل‬
‫وتعذيبها أحيانا‪ ،‬حتى تتطهر‪ ،‬وتتفوق على "اللذوي" فيها‪.‬‬
‫ت‪ -‬التعالي‪ :‬الوالية مراتب تتجه صعودا‪ ،‬والطريق إليها مراتب أيضا تفترض التعالي‬
‫والتجاوز‪ ،‬ومنه يصير املجال واختياره دالا على رغبة أثيرة في الانتقال من ألارض ي إلى‬
‫السماوي‪ .‬فقمم الجبال ومغاراتها العميقة‪ ،‬وشواطئ البحر تحيل كلها على البعيد‬
‫وتعال‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫واملتعالي عن املشدودين إلى الدنيوي‪ ،‬إنه إعالن لالختالف‪ ،‬وطموح انفصال‬
‫لالقتراب من السماء‪ ،‬حيث الوصل والكشف والامتالء‪.‬‬
‫ث‪ -‬اللقاء‪ :‬في هذا "الاختيار املجالي" نقرأ الهجرة واللقاء أيضا‪ ،‬فالولي الصالح عندما‬
‫يهاجر إلى ألاطراف والنهايات‪ ،‬فكأنه يريد بذلك تحقيق البدايات‪ ،‬الجبل في قمته‪ ،‬هو‬
‫نهاية لألرض ي صعودا نحو السماء‪ ،‬وهو ما تؤديه الصوامع أيضا من حيث الداللة‪،‬‬
‫فهي آخر نقطة أرضية علوية أو آخر عالمة مجالية في اتجاه السماء‪ ،‬وبها يتحقق‬
‫اللقاء مع القدس ي‪.‬‬

‫‪775‬‬
‫آليات إنتاج الوالية والصالح‪ :‬البناء السوسيوثقافي لظاهرة ألاوليائية‬

‫وعليه‪ ،‬فمجال الوالية هو "حمال أوجه" متعددة‪ ،‬إنه "مجال ناطق" يعلن "مواقف"‬
‫وتمثالت للفعل ألاوليائي والتفاعل مع املحيط‪ ،‬كما أنه‪ ،‬وهذا هو املهم‪ ،‬يؤسس ملراتب الوالية‬
‫وامتداداتها الطقوسية نحو املقدس واملتعالي عن املدنس والدنيوي‪ .‬ليست الوالية مجرد "هجرة"‬
‫باتجاه السماء‪ ،‬إنها موقف مما يعتمل في ألارض‪ ،‬فبركة ألاولياء تنشأ من فخ التناقضات القائم‬
‫بين الكائن واملمكن دنيويا‪ ،‬ففي اللحظة التي تتواتر فيها ألازمات َوي ِعز فيها الانصالح‪ ،‬يبرز الصالح‬
‫كجواب تعبدي‪/‬صوفي‪ ،‬على عسر الفهم والتكيف مع املحيط‪ .‬ولهذا نالحظ أن رد الفعل تجاه‬
‫الطبيعة (كوارث‪ ،‬جوائح‪ ،)... ،‬أو تجاه السلطة (استغالل‪ ،‬تسلط‪ ،)... ،‬ال يخرج في كثير من ألاحيان‪،‬‬
‫عن مقترب الهجرة إلى السماء‪ ،‬فاألفراد يبحثون عن مالجئ مادية أو معنوية ملواجهة الواقع املأزوم‪،‬‬
‫والديني بما يكتنزه من قيم التفاوض مع الواقع و إمكان تجاوزه‪ ،‬يصير حال إيجابيا للكثيرين‪.‬‬
‫إن الولي‪ ،‬في انقطاعه ومنفاه الاختياري‪/‬استبعاده الطوعي‪ ،‬يعلن "رفضا" واضحا للدنيوي‬
‫والسياس ي‪ ،‬كي يؤسس ويغذي بركته ويثمر كراماته‪ ،‬فهو يتفرغ لبناء "شرعية" ألاوليائية‪ ،‬و التي ال‬
‫تتأكد إال بعد طول اشتغال‪ ،‬و َع ِد ِيد مقدمات ومبررات‪ .‬فعليه أن "تفيض" بركته على من حوله‪،‬‬
‫وأن تلوح كراماته التي تبرر الاعتراف به وتشرعن لقب الوالية والصالح‪ ،‬وإال فإنه لن يحظى إال‬
‫ُْ َ‬
‫بألقاب محدودة الفعالية واملكانة في سوق التبادالت الرمزية‪ .‬فكلما فاضت البركة وأث ِبت ِت الكرامة‪،‬‬
‫كلما كان توصيف "سيدي" دالا عليه‪ ،‬وإن تعالت أكثر استبدلت "سيدي" بـ ـ "موالي"‪ ،‬خصوصا إذا‬
‫كان السند الشرفاوي حاضرا‪ ،‬أو كان خرق العادة فوق املتوقع واملعاش‪ .‬وباملقابل‪ ،‬فإن محدودية‬
‫الفعل وألاثر ال توجب إال ألقابا من قبيل "الفقير"‪" ،‬العابد"‪" ،‬الفقيه"‪ ،‬فالعالمات ال تمنح اعتباطيا‬
‫في حقل القداسة‪ ،‬وإنما ينبغي أن تكون مبررة بعميق البركة والكرامة‪ .‬فكيف يولد الولي ؟ كيف‬
‫تنتج بركة الوالية؟ وكيف تتوطد في سياق اجتماعي ثقافي معين؟ بأي سند تحافظ على استمراريتها‬
‫و"وجاهتها" الدينية‪« la notabilité religieuse » ،‬؟‬
‫إن البركة كفعل رمزي هو ما يغذي الوالية ويؤسس الاعتراف بها‪" ،‬هذاك بجوادو‪ ،‬ببركتو"‬
‫‪ ،‬فحضور البركة وتواشجها بالكرامة وخرق العادة‪ ،‬هو ما يعطي للولي "سلطته" و"مكانته" في‬
‫املجتمع املحلي‪ ،‬وبالطبع فإن "فيض" البركة والكرامة بدرجة أعلى‪ ،‬قد ينقل الولي من "نفوذ روحي"‬
‫محلي محدود‪ ،‬إلى نفوذ جهوي أو إقليمي‪ ،‬ومنه وجب التمييز بين أولياء لهم إشعاع محلي وآخرين‬
‫تتسع دوائر نفوذهم إلى مناطق بعيدة‪« Les saints patrons et les saints locaux » .‬‬
‫ُ‬
‫هناك عناصر متعددة تسهم‪ ،‬بعد طول مخاض ومجاهدة مع النفس في إنتاج الوالية‬
‫وكسب الاعتراف بها‪ .‬وهي في الغالب تحضر مجتمعة أو متفرقة في ِس َير عدد من ألاولياء‪ ،‬فهناك‬
‫العلم والصالح والشرف والفعل‪ ،‬علما بأن هذه املكونات‪ ،‬ليست بالضرورة هي املسالك الوحيدة‬
‫واملمكنة إلنتاج وتخصيب الوالية‪ ،‬إنها عناصر ضمن أخرى‪ ،‬تنضمر وتنجلي‪ ،‬تجتمع وتتفرق في‬
‫السير ألاوليائية‪.‬‬

‫‪776‬‬
‫عبد الرحيم العطري‬

‫العلم‪ :‬وإن كان حاضرا بقوة في تفسير نماذج في مراتب وسير الوالية‪ ،‬فإنه قد ال يحضر في‬
‫َح َيوات وتجارب أخرى‪ ،‬ذلك أن بعض ألاولياء لم تتحدث املصادر عن ُعلو شأنهم في العلم‪ ،‬ومع‬
‫ذلك فإنهم ارتقوا عاليا في مسالك الكرامة والبركة‪ .‬وعموما فالعلم والهجرة إليه تظل حاسمة في‬
‫صناعة الولي‪ ،‬وتمهيد طريقه إلى مراتب القرب والاتصال بالقدس ي‪ .‬فموالي عبد السالم بن مشيش‬
‫"الذي كانت والدته سنة (‪559‬هـ‪1198 /‬م) أو تزيد بنحو أربع سنوات على خالف املؤرخين‪ ،‬تعلم في‬
‫الكتاب‪ ،‬فحفظ القرآن الكريم وسنه ال يتجاوز الثانية عشرة‪ ،‬ثم أخذ في طلب العلم‪ ،‬فنال منه‬
‫حظا وافرا‪ ،‬وفتح هللا عليه باألخذ عن شيوخ املعرفة وأقطاب الحقيقة"(العشاب‪ ،2012 ،‬صفحة‪.‬‬
‫‪ ،)13‬فالعلم والنهل منه بحظ وافر‪ُ ،‬يعبد الطريق نحو القرب والاتصال‪ ،‬وهو ما يصدق أيضا على‬
‫سيدي بنعاشر الذي ُعرف بالتبحر في الطب والشعر واملنطق‪.‬‬
‫إال أنه ينبغي التأكيد على أن شرط العلم لم يكن حاسما في صناعة الوالية لدى أولياء‬
‫آخرين‪ ،‬عرفوا بأميتهم "أحيانا" تماما كما هو ألامر بالنسبة ملوالي بوعزة (أبو يعزى يلنور)‪ ،‬فبالرغم‬
‫من طول سياحته و اتصاله و خدمته لنحو ألاربعين وليا (من أمثال أبي شعيب أيوب السارية‪ ،‬ابن‬
‫عبد هللا أمغار‪ ،‬أبي موس ى عيس ى ايغور‪ ،‬أبو النور عبد الجليل ‪ )...‬فإنه لم يتعلم العربية‪ ،‬بحيث‬
‫ظل أميا ال يعرف الكتابة والقراءة"(الصومعي‪ ،‬صفحة‪.)122 .‬‬
‫إن الوالية تبنى وتستمر‪ ،‬وإن كانت تتأسس في اشتغالها على نقص وجودي ‪manque‬‬
‫‪ d’être‬وليس نقص امتالك ‪ ،manque d’avoir‬فالراغب في تسلق مراتب الوالية عندما َيختار أو‬
‫ُيختار له السفر(ابن عربي‪ ،1997 ،‬صفحة‪ ،)457 .‬فهو ال يرجو من وراء زهده كماال دنيويا يتأسس‬
‫على امتالك الغائب واملادي‪ ،‬وإنما يهفو‪ ،‬باملقصد والوسيلة‪ ،‬إلى تحقيق الوجود من خالل السفر‬
‫في وجود املقدس‪ ،‬وهو ما يتحقق أكثر‪ ،‬وليس حصرا‪ ،‬عن طريق العلم‪.‬‬
‫َْ‬
‫املجاهدة‪ :‬الطريق إلى الوالية تن َس ِل ُك عبر مجاهدة النفس وقهرها‪ ،‬إنه تمرين صعب‬
‫ينخرط فيه الراغب في الوصل‪ ،‬لتطهير النفس من نوازعها اللذوية الدنيوية‪ ،‬فالطعام وامللبس‬
‫واملأكل واملرقد‪ ،‬وكل ما يحيل على الغرائزي‪ ،‬يصير ثانويا وغير ذي أهمية بالنسبة للسالك واملمتشق‬
‫ََ‬
‫والجلد والقناعة‬ ‫لدروب الوالية والصالح‪.‬و لهذا فقد كانت الكتابة املناقبية تعج بأخبار التقشف‬
‫والعزلة التي امتازت بها حياة ألاولياء‪ ،‬فقد عرف عن موالي بوعزة بأنه كان ال يقتات من نبات‬
‫ألارض سوى الدفلى والخبيز والبلوط‪ ،‬وكان دائم الصوم‪ ،‬وال يلبس سوى حصيرا "تليسا" وبرنوسا‬
‫مرقعا وشاشية من عزف"(الصومعي‪ ،‬صفحة‪.)122 .‬‬
‫ُ‬
‫وإذا كنا قد أوضحنا قبال أن الانعزالية تتضمن أبعادا متعددة‪ ،‬فإنها تعد أيضا من‬
‫مؤسسات الوالية‪" ،‬فبقدر ما تبعد عن شواغلك بين أهلك ومعاريفك تبتعد عما يحول بينك وبين‬ ‫ِ‬
‫ما يقرب من ربك‪ ،‬والذكر يالئم الصمت‪ ،‬فكالهما يطرد عدو املجاهدة‪ ،‬أال وهو الحس‪ .‬ألن كثرة‬
‫الحس تمنع كثرة املعنى‪ ،‬مهما تقوى الحس‪ ،‬يضعف املعنى"(السوس ي‪ ،‬صفحة‪. )32 .‬فالبعد انقطاع‬

‫‪777‬‬
‫آليات إنتاج الوالية والصالح‪ :‬البناء السوسيوثقافي لظاهرة ألاوليائية‬

‫عن الحس ي‪ ،‬عن الدنيوي‪ ،‬عن املدنس‪ ،‬والعزلة مجاهدة للنفس وانتصار عليها‪ ،‬باعتبارها مائلة‬
‫وراغبة أبدا في التعلق بالحس ي واملتعوي‪ .‬والسالك إلى مراتب الوالية يتوجب عليه إحداث القطيعة‬
‫والانتصار على اللذوي‪ ،‬أمال في اكتناز املعنى‪ ،‬وفي ذلك كله مجاهدة للنفس وقهر لها‪ .‬بل إن هذا‬
‫ألاس َّرة الوثيرة‪ ،‬ولبس املرقع والخشن من‬ ‫ََ‬
‫القهر يظهر في ِسير أخرى باختيار حفرة القبر مرقدا بدل ِ‬
‫اللباس‪ ،‬إمعانا في تمريغ الجسد في تراب الوضاعة والاحتقارية‪ ،‬تمرينا له على مجابهة اللذة‬
‫وتجاوزها‪.‬‬
‫الصحبة‪ :‬الوالية ال تصدق وال تنكتب إال باملثال والنموذج‪ ،‬فاألخذ عن السلف والابتداء‬
‫باملريدية‪ ،‬هو ما ينتج الاعتراف بعدا‪" ،‬فمن ال شيخ له فالشيطان شيخه‪ ،‬ومن لم يمت تحت بيعة‬
‫شيخ‪ ،‬مات في الترهات والظالل‪ ،‬وكل سالك للطريق‪ ،‬يحتاج فيه إلى دليل مرشد عارف‬
‫ناصح"(الشاذلي‪ ،1989 ،‬صفحة ‪ .)121‬إن الصحبة واملريدية‪ ،‬هي فترة امتحان وتعلم‪ ،‬في انتظار‬
‫بلوغ الكرامة‪ ،‬وإثبات الصالح‪ ،‬فاملريد‪ ،‬وكما يدل على ذلك توصيفه‪ ،‬هو من يريد بلوغ املنتهى‪،‬‬
‫فاملريدية إرادة وانقياد في آلان ذاته‪ ،‬إنها إرادة لجني البركة وبلوغ الوصل وإدراك الخالفة واملشيخة‪،‬‬
‫كما أنها انقياد وإعالن للخضوع في سبيل التعلم والبناء‪ .‬ولهذا نالحظ في سير كثير من ألاولياء‪،‬‬
‫كيف كانت الصحبة واملريدية هي مرحلة خضوع وخدمة لفائدة شيخ ما‪ ،‬بل تصل أحيانا إلى حد‬
‫اختبار الوالء‪ ،‬ولو كان هذا الاختبار مفتوحا على التضحية بالنفس‪ ،‬والتخلي عن املتع وضرورات‬
‫الحياة‪ ،‬فالطريق إلى التصوف تستلزم ثالث عتبات وهي التخلي والتحلي والتجلي‪ .‬وفي هذا السياق‬
‫فقد كان موالي بوعزة مالزما وخديما ملوالي بوشعيب‪ ،‬كما كان عبد هللا الغزواني مالزما لسيدي‬
‫عبد العزيز التباع‪ ،‬هذا ألاخير الذي كان بدوره مالزما و تابعا لسيدي محمد السهلي‪.‬‬
‫إن الصحبة و املريدية مرحلة تعلم واختبار على إمكان الانفصال والاتصال‪ ،‬وإنها ال تنتهي‬
‫َ‬
‫بتقدير ِوبإش َار ٍة من الشيخ‪ ،‬فال يجوز للمريد أن يترك شيخه قبل أن يبدي الشيخ‬
‫ٍ‬ ‫بإرادة املريد‪ ،‬بل‬
‫رأيه في استقالله عنه أو عدم استقالله‪ ،‬وإال صار كالطفل الذي يفطم قبل ألاوان(الشاذلي‪،1989 ،‬‬
‫صفحة ‪ ،)121‬وإال بات بال بركة ال تثمر كرامة بعدا‪ .‬فالصحبة مدرسة واملريدية امتحان وجواز‬
‫مرور إلى املشيخة‪ ،‬وبذلك فهما معا تفترضان سلوكا بل وتقعيدا للممارسة والعالئقية مع الصاحب‬
‫واملرشد‪ ،‬فهناك نحو العشرين نوعا من آلاداب و"ديونتولوجيا" املريدية‪ ،‬يستجمعها محمد املهدي‬
‫الفاس ي في آلاتي‪":‬خمسة في حالة الجلوس‪ ،‬وخمسة في حالة الغيبة‪ ،‬وخمسة في حال ذكره‪ ،‬وخمسة‬
‫في حال صحبته‪ ،‬فأما الخمسة في حال الجلوس‪ ،‬فهي السكينة والوقار والهيبة والحياء والخوف‪،‬‬
‫والخمسة التي في حال الغيبة عنه‪ ،‬فهي املراقبة نحوه‪ ،‬والافتقار إليه والتواضع والاستمساك‬
‫بعنايته‪ ،‬واملداومة على ذكر فضائله في قلبه بالتعظيم‪ .‬والخمسة التي في حال ذكره‪ ،‬فهي النظر‬
‫إليه والرجاء فيه والاستنصار ببركته والنظر فيما بينهما من العقيدة‪ .‬والخمسة التي في حال‬

‫‪778‬‬
‫عبد الرحيم العطري‬

‫الصحبة‪ ،‬فهي مداومة الحب‪ ،‬ومداومة الشوق والحمق نحوه‪ ،‬والهيج والانذهال من الاشتياق‬
‫إليه"(الفاس ي‪ ،2005 ،‬صفحة ‪.)55‬‬
‫السفر‪ :‬ألامر يتعلق بسفر وهجرة فضلى إلى السماء‪ ،‬كما يشير إلى ذلك كثير من آل املراتب‬
‫وألاحوال‪ ،‬ففي رسائل ابن عربي وابن سبعين والقشيري وابن القيم وغيرهم‪ ،‬نالحظ باستمرار‬
‫حضورية السفر والهجرة في الاشتغال على طقس املرور إلى املشيخة والوالية‪ ،‬فالبد من الفصل كي‬
‫يتحقق الوصل‪ ،‬والفصل هنا يكون باالنتقال رمزيا وماديا‪ ،‬من الدنيوي إلى القدس ي‪ .‬وبما أن لكل‬
‫سفر زاد‪ ،‬فالزاد هنا خطاب وممارسة‪ ،‬إنه فعل وأداء تعبدي وسلوكي‪ ،‬يكون ممكنا عبر تجاوز وعثاء‬
‫السفر وعقباته‪ ،‬فالسفر إلى القدس ي‪ ،‬يستلزم املجاهدة والاجتهاد‪ ،‬فما يروى عن الشيخ علي بن‬
‫ً‬
‫إبراهيم البوزيدي‪ ،‬أنه بلغ من عبادته وتوصله للصيام وتركه الطعام إلى أن تركه ُجملة‪ ،‬ويقال أن‬
‫ورده كان كل ليلة أربعمائة ركعة"(جالب‪ ،2011 ،‬صفحة‪ ،)45.‬فالسفر إلى أزمنة القدس ي يفترض‬
‫الانقطاع عن غيره من شواغل النفس والدنيوي‪ .‬من هنا يلوح الفناء كهدف مركزي للهجرة إلى‬
‫القدس ي‪ ،‬على اعتبار أن "الفناء بقاء" كما يقول ابن عجيبة‪" ،‬فمن صح فناؤه صح بقاؤه‪ ،‬واعلم‬
‫أن الفناء يوجب الغيبة عما سوى هللا"(ابن عجيبة‪ ،‬صفحة‪ ،)34.‬وهو ما يقود إلى منازل القربة‬
‫التي تعلن ميالد الكرامة وجني البركة و توزيع ثمارها على آلاخر‪ .‬إن السفر ألاوليائي يخلص بسالكه‬
‫إلى "كماالت" مطلوبة‪ ،‬تكمل صفاء الروح ورسوخ أقدامها في معرفة الحق‪ ،‬وهو ما يجمله ابن‬
‫عجيبة في إحدى عشرة خصلة حميدة تغني عن إحدى عشرة صفة دونها‪ ،‬فالسفر ارتقاء و شموخ‬
‫عرفاني يثمر‪ :‬الحرية‪ ،‬الفوز‪ ،‬الجمع ألاتم‪ ،‬الصحو‪ ،‬التحقيق‪ ،‬البسط‪ ،‬التلبيس‪ ،‬البقاء‪ ،‬السر‪،‬‬
‫الاتصال و الحكمة"(الكيالي‪ ،2010 ،‬صفحة ‪.)110.‬‬
‫البناء‪ :‬خالل مسار الوالية يتأكد أن ألامر يتعلق بهدم وبناء متواصل‪ ،‬هدم للمدنس وبناء‬
‫للمقدس‪ ،‬ففي أول خطوات التشييد‪ ،‬توضع اللبنات على امتداد الصحبة واملريدية‪ ،‬وخالل السفر‬
‫والقربة يتواصل تقديم الدليل تلو الدليل‪ ،‬على إمكان بلوغ مراتب الوالية والاتصال‪ .‬فاألداء‬
‫والسلوك يتوجب فيه أن يكون دالا على ممكنات التفوق الرمزي على القائم من أوضاع في الدنيوي‪،‬‬
‫والتفوق هنا يكون غالبا بإتيان خوارق العادات‪ ،‬وتدشين الكرامات‪" ،‬فاألمر الخارق للعادة‪ ،‬والذي‬
‫يظهره هللا عز وجل على يد عبد مؤمن صالح غير مقرون بالسوء"(التليدي‪ ،1987 ،‬صفحة‪،)15.‬‬
‫ذلكم هو ما يدعم البناء ويعمل على تنضيده وإخراجه من مرتبة املريدية إلى املشيخة وألاوليائية‪،‬‬
‫إنه أمارة الوصل والقربة‪ ،‬فالكرامة تحتمل بدورها انقالبا على السائد واحتجاجا عليه‪.‬‬
‫إن مقاومة الجوع تنتسب إلى سجل زمني ُعرف بتعاقب الجائحة واملسغبة‪ ،‬كما أن‬
‫الوقوف في وجه جور الحكام‪ ،‬تأكيد على انفساد ألاحوال وسوء العالقة بين السلطة واملجتمع‪،‬‬
‫وعليه نجد أن الكتابات املناقبية قد أغرقت في توصيف انخراق العادة وإثبات الكرامة‪ ،‬وفي ذلك‬
‫َ َ‬
‫كله تعرية للواقع وإدانة له‪ ،‬بل وطرح لبديل مختلف لتجاوز ألازمة‪ ،‬فط ُّي الطريق يغدو بديال لطول‬

‫‪779‬‬
‫آليات إنتاج الوالية والصالح‪ :‬البناء السوسيوثقافي لظاهرة ألاوليائية‬

‫املسافات بين املمكن واملستحيل‪ ،‬وكرامة القناعة والكفاف تغدو رسالة مشفرة ضدا على البذخ‬
‫والثراء الفاحش‪ ،‬كما أن كرامة الشجاعة وإلايثار والقيم إلانسانية النبيلة تصير "انتقادا" مباشرا‬
‫للبؤس القيمي والالتصالح مع أزمنة القدس ي‪ ،‬ففي الكتابة املناقبية نجد تصورا إصالحيا‪ ،‬مضمرا‬
‫ومعلنا‪ ،‬على اعتبار أن كتابها لم يكونوا منفصلين عن أزمات عصورهم‪ .‬إال أن ما يهم آلان هو‬
‫التأكيد على أن الكرامة كإعالن عن بلوغ املقصد‪ ،‬تعد من أهم آليات إنتاج بركة ألاولياء‪ ،‬ومن‬
‫أهم مبررات شهرتها وتحقيق الاعتراف بها‪ ،‬وبالطبع فكلما كانت الكرامة أكثر خرقا للعادة‪ ،‬كلما‬
‫اتسعت دائرة النفوذ الروحي للوالية‪.‬‬
‫يمكن القول بأن عملية بناء الوالية مغربيا في ظل سياق اجتماعي وسياس ي ينبصم بثالث‬
‫معطيات على ألاقل‪ ،‬أولها يتصل بالصراع على أنماط التدين والصراع على الكالم باسم هللا‪ ،‬وهو‬
‫ما يستمر إلى آلان وبصيغ متفاوتة‪ ،‬فدائما هناك صراع وتنافس حول النظام الرمزي للمجتمع‪،‬‬
‫بحيث يصير املقدس وتدبيره من أهم مراكز الاهتمام التي يتنافس حولها وفيها الفاعلون في املجتمع‪.‬‬
‫وفي مستوى املعطى الثاني‪ ،‬فإن الوالية تنبني في ظل عالقات متوترة بين السلطة واملجتمع‪ ،‬بحيث‬
‫تستحيل رفضا للتدبير السلطوي وخروجا عليه و مواجهة له‪ ،‬بطريقة أو بأخرى‪ ،‬بدءا من اختيار‬
‫املنفى املجالي إلى إنتاج الخطاب املضاد واملمارسة املناقضة للسائد محليا‪ .‬أما املعطى الثالث‬
‫فيتصل بالجوائح وألاوبئة واملجاعات والقحوط التي كانت تحصد ألارواح‪ ،‬وتدخل البالد في حروب‬
‫وصراعات مستمرة حول املاء والكأل وألارض وصنوف املعاش‪ .‬لهذا كله تقدم الوالية متنها واشتغالها‬
‫كخالص دنيوي‪/‬سماوي‪ ،‬عبر قيمها و ممارساتها القائمة على السفر و الهجرة إلى منازل القربة‬
‫والوصل‪.‬‬
‫إن الوالية بهذا املعنى‪ ،‬تقدم نفسها كرد فعل ديني‪ ،‬يسائل ما هو سياس ي‪ ،‬وتقدم‬
‫"طروحاتها" كبديل‪/‬خالص‪ ،‬لواقع موغل في الرداءة‪ ،‬وبذلك فالبناء يتوطد بتقديم النموذج املغاير‪،‬‬
‫الداعي‪ ،‬خفية وعلنا إلى تغيير الواقع و تجاوزه‪ .‬فالولي‪ ،‬وفي سياق مأزوم تحديدا‪ ،‬يتحول إلى "مالذ"‬
‫يتم اللجوء إليه‪ ،‬تماما كما حدث مع سيدي موس ى الدكالي عند انحباس املطر‪ ،‬أو مع سيدي بن‬
‫عاشر عند املرض‪ ،‬وما يتواصل أيضا من استحرام باألولياء خالل مطاردة املخزن‪ ،‬فحتى في حال‬
‫رحيل الولي إلى دار البقاء‪ ،‬فإن ضريحه يغدو "ملجأ" لكل من انظلم أو دارت به الدوائر‪ ،‬وهو اللجوء‬
‫الذي تتم شرعنته بمنطق "الحرم"‪ ،‬الذي يمنح الحماية القصوى‪ ،‬فإليه يكون اللجوء السياس ي‬
‫والاجتماعي والصحي والنفس ي‪ ،...‬فالولي يقدم مشروعه‪/‬كرامته‪/‬بركته‪ ،‬كبديل تعبدي‪/‬سلوكي ملا‬
‫تعذر حله وتدبيره إيجابيا في سجل العسر وألازمة والانحباس‪.‬‬
‫إن البناء ألاوليائي يتواصل عبر الكرامة ويشيد من مداخل أخرى تتوزع على السلوك‬
‫اليومي الذي يحمل إلابهار والاختالف‪ ،‬فخرق العادة يكون أيضا في املأكل (الاكتفاء بتمرة في اليوم)‪،‬‬
‫واملشرب ( الصبر على العطش أليام)‪ ،‬واملرقد ( النوم في قبر مثال)‪ ،‬والعبادة (قيام الليل‪ ،‬الصوم‪،‬‬

‫‪780‬‬
‫عبد الرحيم العطري‬

‫السجود الطويل‪ ،)...‬ومختلف مناحي التدبير اليومي‪ ،‬وذلك على مستوى العالقة مع الذات وآلاخر‬
‫و الكون‪ .‬في كل هذه التواصالت تبنى الوالية وتستثمر وتستزيد حضورا وامتدادا‪ ،‬وتتأكد الحاجة‬
‫إليها ويتم الاعتراف بها‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬آليات البناء السوسيوثقافي‬
‫نؤكد في البدء على أن هذه آلاليات املار ذكرها‪ ،‬ليست بوصفة خطية‪/‬نمطية إلنتاج‬
‫الوالية‪ ،‬فقد تجتمع في بعض السير‪ ،‬وقد تتفرق و تختفي في أخريات‪ ،‬بل وقد تنضاف إليها‬
‫ُمخصبات متنوعة من قبيل الانتماء الشرفاوي الذي يعضد الوالية‪ ،‬وينتقل بها من لقب "سيدي"‬
‫إلى "موالي"‪ ،‬مثلما هو ألامر بالنسبة ملوالي عبد السالم بن مشيش‪ ،‬الذي يحوز الصالح والعلم‬
‫والنسب النبوي الشريف‪ .‬ومع ذلك فكل العناصر املؤسسة للوالية تحتاج إلى شرط الاعتراف‬
‫بالوجاهة الدينية والفاعلية الصالحية‪ ،‬فالولي‪ ،‬ولكي تتأكد قوته الرمزية‪ ،‬عليه أن يقدم ما يبرر‪،‬‬
‫ما يدعو إليه أو ما يمارسه‪ .‬فانعزاله ورفضه للواقع‪ ،‬ينبغي أن ُيثمر شواهد وخوارق‪ ،‬وإال صار‬
‫مجذوبا ال وليا صالحا‪ ،‬فاملجتمع يمنح العالمات والاعترافات بناء على ألادلة والشواهد‪ ،‬وهو ما‬
‫يتواصل حتى بعد رحيل الولي‪ ،‬حيث يتم استدعاء قاعدة قياس الشاهد على الغائب‪.‬‬
‫هنا يصير إلابراء من ألامراض وشق الصدر وتعلم القرآن وحفظه‪ ،‬واملش ي فوق املاء وطي‬
‫الطريق وتظليلها‪ ،‬والطيران في الجو‪ ،‬وتحويل الرمل ذهبا‪ ،‬وما إلى ذلك من الخوارق التي عجت بها‬
‫كتب املناقب‪ ،‬يصير هذا الكل الكراماتي‪ ،‬موجبا لالعتراف بالفعالية الرمزية للوالية‪ ،‬مع ما يستتبع‬
‫هذا الاعتراف من اعترافات أخرى بالنفوذ الروحي الذي يؤسس سلطا وعالقات وأتباع‪ .‬فكل سلطة‪،‬‬
‫ومهما كانت مصادرها‪ ،‬إال وتفترض ميالد عالقات تراتبية بين من يملك السلطة ومن تقع عليه‬
‫مفاعيلها إلاخضاعية‪.‬‬
‫سلطان البركة‪ :‬سبق وأن أشرنا إلى أن البركة‪ ،‬تعني فيما تعنيه‪ ،‬النماء واليمن و الوفرة‬
‫والزيادة‪ ،‬وبذلك فإن "سلطانها" ومفعولها الرمزي يقود إلى الاعتراف بوالية صاحبها‪ ،‬فعندما تفيض‬
‫البركة ضدا على الندرة وتخرج املجتمع من أزماته‪ ،‬فإن الاعتراف يصبح مسلما به‪ .‬نذكر في هذا‬
‫الصدد أن الشيخ سيدي أحمد الركيبي املعروف بالليث‪ ،‬على اعتبار أنه كان يتحول إلى أسد في‬
‫بعض ألاحيان‪ ،‬أنقذ قومه من بطش السلطان ألاكحل الذي كان يطارد عرب معقل في الصحراء‪،‬‬
‫باقتراح العفو عنهم مقابل فدية يدفعها عنهم‪ ،‬وكذلك كان‪ ،‬فقد أمر سيدي أحمد الركيبي خدام‬
‫السلطان بملء جراب الخيل بالرمال‪ ،‬والتي تحولت إلى ذهب خالص بلغ مقدار ستون‬
‫قنطارا"(الناقوري‪ ،2007 ،‬صفحة ‪.)35‬‬
‫نورد أيضا إحدى كرامات الولي الصالح أبي املحاسن الذي كان في زيارة أحد ألاولياء برفقة‬
‫بعض من أصحابه‪ ،‬فوصلوا إلى دكالة فخرج عليهم جماعة من اللصوص‪ ،‬فلما دنوا منهم‪َ ،‬ع َموا‬

‫‪781‬‬
‫آليات إنتاج الوالية والصالح‪ :‬البناء السوسيوثقافي لظاهرة ألاوليائية‬
‫عنهم‪ ،‬فلم يبق إال فرس الشيخ‪ ،‬وكانت أنثى‪ ،‬فانقلبت صخرة‪ ،‬فجعل اللصوص يتساءلون‪ ،‬فيقول‬
‫بعضهم‪ ،‬ها هنا كانوا عند هذه الصخرة‪ ،‬ثم ذهبوا"(التليدي‪ ،1987 ،‬صفحة‪.)35.‬‬
‫وكلما كانت النتائج أوفر حظا وأقرب من املأمول‪ ،‬كلما تقوى "سلطان البركة" وتجذر‬
‫الاعتراف بالنفوذ الروحي للوالية‪ ،‬إال أنها في حال املحدودية‪ ،‬فإنها تقلل من دوائر النفوذ أو تسحبه‬
‫ً‬
‫نهاية‪ ،‬فالبركة تفيض وتتراكم‪ ،‬لكنها قد تتعرض للتآكل‪ ،‬مع ألاحفاد وألاتباع‪ ،‬لينشأ منطق‬
‫التشكيك في قدرة هذا الولي أو ذاك‪ ،‬على قضاء بعض ألاغراض‪ ،‬ومن ثمة نفهم كيف يتم تحجيم‬
‫الفاعلية ألادائية لبعض ألاولياء‪ ،‬وكيف يقر املجتمع بالقدرة العجائبية لقضاء كل الحوائج ألولياء‬
‫آخرين‪ .‬فالنجاح في الفعل وإلانماء الحقيقي‪ ،‬هو الفيصل الحاسم في إنتاج الاعتراف الكلي أو‬
‫الجزئي‪.‬‬
‫فاعلية الغرابة‪ :‬نتذكر دوما أن الغريب يستجمع حدي الانتماء والالانتماء‪ ،‬كما نتذكر‬
‫أيضا أن الاعتراف بسلطان الوالية يتوقف على القدرة على العطاء‪ ،‬والذهاب بعيدا في شأن‬
‫الانخراق والتمايز‪ ،‬فال سلطان للمألوف والاعتيادي‪ .‬فعندما يصير الاختيار املجالي محيال على‬
‫الغرابة‪ ،‬فاالنقطاع عن الناس واللذوي‪ ،‬واختيار املغارة أو قمة الجبل أو نهاية اليابسة في مواجهة‬
‫البحر‪ ،‬يصير‪ ،‬فعال غريبا وغرائبيا‪ ،‬طبعا يريد من خالله الولي تحقيق الوصل‪ ،‬خصوصا وأن‬
‫الاتصال يكون في آخر نقطة انفصال‪ ،‬فالغرابة هنا تفيد في استخراج "وثيقة اعتراف" رمزية من‬
‫لدن املجتمع‪.‬‬
‫غرابة الاشتغال على الجسد بتعذيبه وترويضه‪ ،‬تفيد في تجذير النفوذ واملكانة الرمزية‪،‬‬
‫بل إن إلامعان في تعذيب الجسد‪ ،‬والصبر على التنكيل به‪ ،‬يعد كرامة تحسب للولي‪ ،‬وتزيد من‬
‫حظوته وحضوره في سجل التنافسات الكراموية‪ .‬وبذلك فابن الزيات في عمله املناقبي لم ينس‬
‫التطرق إلى أوصاف ألاجساد املهترئة‪ ،‬فأبو محمد عبد هللا "صار جسده كالسفود املحترق من كثرة‬
‫التقشف"‪ ،‬وأبو يعقوب "صلى حتى تفطرت قدماه"‪ ،‬وآخر "كان من كثرة العبادة نحيال كالخيال‪،‬‬
‫حتى لصق جلده بعظمه"‪ ،‬وآخر "كان يواصل خمسة عشرة يوما حتى أنحلته العبادة"‪ ،‬وولي آخر‬
‫"محلوق الرأس‪ ،‬نحيل البدن‪ ،‬قد لصق جلده بعظمه"(بوبريك‪ ،2010 ،‬صفحة‪.)56.‬‬
‫ض إلى الاعتراف بالكرامة‬ ‫ُْ‬
‫إن الجسد املعذب والصبر على التنكيل به‪ ،‬موجب للغرابة‪ ،‬ومف ٍ‬
‫والبركة‪ ،‬باعتباره مدشنا لالختالف وخالقا للتميز عن آلاخر‪ ،‬ولهذا يالحظ أن ألاتباع وأتباع ألاتباع‬
‫الذين يفتقرون إلى كثير من الرساميل الرمزية‪ ،‬التي قد تضعهم في منزلة الوالية ألاولى‪ ،‬ال يجدون‬
‫بدا من تعذيب الجسد‪ ،‬أمال في "كسب" الاعتراف و"تحيين" الاعتراف أساسا ببركة الولي‪،‬‬
‫واستمراريتهما في الزمان واملكان‪ .‬يصدق هذا تحديدا على حفدة سيدي الهادي بنعيس ى أو بويا‬
‫رحال الذين يقدمون ويشهرون بركتهم عبر أجساد خارقة تستطيع تحمل لدغات الثعابين وألافاعي‪،‬‬
‫وتقدر على شرب املاء الساخن وتحمل الانجراحات بواسطة الزجاج و السكاكين‪.‬‬

‫‪782‬‬
‫عبد الرحيم العطري‬

‫يصير الجسد املعذب واملنكل به في هذه الحالة مدخال لكسب الاعتراف وتأكيد الكرامة‬
‫والبركة‪ ،‬فهذا الوسيط املادي الذي يجسر عالقة الفهم والقبول بين الرمزي واملادي‪ ،‬إنه العالمة‬
‫الدالة التي تتوسط وتزيل الالتباس القائم بين عاملين‪ :‬ألاول واقعي يمكن إدراكه وتلمسه‪ ،‬والثاني‬
‫رمزي تتكثف فيه املعاني وال تكاد تبين إال بمفتاح الكشف والبرهان‪.‬‬
‫قوة ألاثر‪ :‬البقاء لألثر‪ ،‬والفناء بقاء‪ ،‬وما يؤسس البقاء فعال هو ألاثر الدال على صاحبه‪،‬‬
‫وعليه فالوالية بال آثار‪ ،‬هي والية منقوصة‪ ،‬أو على ألاقل لن يكون مقدورها الصمود طويال‪ ،‬ولن‬
‫تستطيع الامتداد طوال وعرضا في النسيج املجتمعي‪ ،‬وأساسا في املخيال الاجتماعي‪ .‬ذلك أنه يفترض‬
‫في ألاثر ألاوليائي أن يكون حائزا على درجة عليا من إلاقناعية‪ ،‬فاألثر هو ما ينتج الاعتراف ويوسع‬
‫أمداء الوالية وينقلها من املحلي إلى الوطني‪ ،‬بل أحيانا إلى العالمي‪ .‬كما يفترض فيه أن يكون متجاوبا‬
‫مع املطامح والغايات وقادرا على منافسة "العروض ألاوليائية" املطروحة في سوق التبادالت‬
‫الرمزية‪ ،‬فالتنافس على أشده ‪ -‬على ألاقل بين ألاتباع ومسوقي فاعلية البركة‪ -‬بين مكونات النسق‬
‫الديني‪ ،‬والنتيجة تحسب في الغالب‪ ،‬ليس ملن يقدم العرض ألاجود‪ ،‬ولكن ملن يقدم العرض ألاكثر‬
‫تلبية لالنتظارات‪.‬‬
‫فمن يساعد على الاستمطار في سنوات الجفاف هو ألاجدر باالعتراف‪ ،‬والذي يتغير إسمه‬
‫وينادى عليه بأبي الشتاء‪ ،‬كما في حالة موالي بوشتى الخمار‪ ،‬مثلما يكون القادر على إلابراء أو توفير‬
‫ألاقوات خالل أزمنة ألاوبئة والقحوط‪ ،‬هو صاحب ألاثر الفعال‪ ،‬الذي يثمر اعترافا نكتشفه في‬
‫توصيفات "طلبو التسليم‪ ،‬التسليم أ رجال البالد" أو "هاذا باراكتو تا تهرس الحجر" أو "دعوتهم"‬
‫الدالة على أتباعه وأحفاده "تا تجبر وال تا تهرس"‪ ،‬أو "دعوتهم واصلة"‪ .‬وفي هذا الصدد يورد ابن‬
‫الزيات إحدى كرامات سيدي بوزكري (أبو زكرياء يحيى بن محمد الجراوي‪ ،‬دفين القصبة الزيدانية‬
‫بتادلة) قائال بأنه‪" :‬اجتمع الناس لالستسقاء‪ ،‬فدعوا وتضرعوا و السماء صاحية ال غيم فيها‪،‬‬
‫فقالوا يا أبا زكرياء استسق لنا‪ ،‬فقام أبو زكرياء ورمى بقلنسوته عن رأسه إلى ألارض‪ ،‬وكان أقرعا‪،‬‬
‫وقال‪ :‬يا رب‪ ،‬هذا ألاقرع يسألك الغيث‪ ،‬فوهللا ما نزل الناس عن ذلك‪ ،‬حتى مطروا مطرا غزيرا"(ابن‬
‫الزيات‪ ،2010 ،‬صفحة‪.)138 .‬‬
‫إن البناء السوسيوثقافي يثمر في النهاية "ميالدا للولي"‪ ،‬إال أن هذه الوالدة‪ ،‬تأتي أحيانا‬
‫مفارقة في املشهد ألاوليائي‪ ،‬فقد تكون بعض املمات والانقبار‪ ،‬ليعلن امليالد مجددا في شكل‬
‫ضرائحي ينشد الاستدامة والجني املستمر للبركة والكرامة‪ ،‬فاألضرحة وألاحواش والقبور‪ ،‬في حال‬
‫تفخيمها والاعتناء بها‪ ،‬يراد منها تأبيد البركة وتوكيد الخلود‪ ،‬إنها نوع من الشهود املادي الذي‬
‫يستبدل املوت بحياة جديدة يحافظ على امتدادها ألاحفاد وألاتباع واملريدين‪ ،‬على اعتبار أن البركة‬
‫ُ‬
‫ال تموت‪ ،‬قد تتضاءل‪ ،‬قد تستنزف‪ ،‬ولكنها تتواصل بصيغ متعددة‪ ،‬ما دامت هناك حاجة إلى‬
‫الصالح ضدا على انفساد ألاحوال وسوئها‪.‬‬

‫‪783‬‬
‫آليات إنتاج الوالية والصالح‪ :‬البناء السوسيوثقافي لظاهرة ألاوليائية‬

‫يمكن القول بأن الوالية في رحلتها ما بين الحياة واملوت تعيش ثالث واليات على ألاقل‪،‬‬
‫ألاولى جنينية‪/‬مخاضية تعلن عن احتمال الوالية وظهور ألامارة املؤكدة للصالح والنبوغ‪ ،‬وهو ما‬
‫نالحظه في كثير من ألاعمال املناقبية‪ ،‬التي كانت تلح في الغالب‪ ،‬على أن بركة الولي الفالني‪ ،‬الحت‬
‫منذ نعومة أظافره‪ ،‬أو في مراحل متقدمة من عمره‪ .‬أما الوالدة الثانية فتكون عند الاستقالل عن‬
‫سلطة الشيخ وبداية تشكل النفوذ الذاتي الذي قد ينافس الشيخ‪ /‬املعلم‪ ،‬وقد يتجاوزه أحيانا‪،‬‬
‫فيما الوالدة ألاخيرة هي التي تسمى انبعاثا وتحدث بعد إلاقبار‪ ،‬والتي يمارسها "املؤمنون" بالبركة‬
‫والراغبون في إلافادة من ثمراتها‪.‬‬
‫يستحيل املكان والش يء مقدسا بسبب مرور الولي منه أو اندفانه فيه‪ ،‬تنتقل القداسة‬
‫من الجسد الفاني إلى ألاحجار وألاشجار وألاتربة واملياه‪ ،‬وتفيض البركة على الدائرين في فلك‬
‫القداسة‪ .‬لكن لنعترف أن ألامكنة وألاشياء‪ ،‬هي ثابتة ومتشابهة‪ ،‬فما الذي يجعلنا نميزها بالقداسة‬
‫وفيض البركة والكرامة‪ ،‬أو ال نلقي لها باال‪ ،‬هل هو تاريخها؟ أم هي تمثالتنا التي يجري تنضيدها‬
‫وفق رواسب ثقافية تاريخية أيضا؟‬
‫أي نعم لكل مكان ذاكرته‪ ،‬و لكل ش يء "رائحته" وداللته‪ ،‬واملجتمع هو الذي يمنح العالمات‬
‫أو يلغيها‪ ،‬بل إنه يقود الاحتماالت إلى أقصاها مبررا إمكان تحول املدنس إلى مقدس‪ ،‬ذلك أن إطالق‬
‫صفة القداسة على الضريح والسبحة والعكاز وسائر ألاماكن وألاشياء‪ ،‬بل وحتى ألاشخاص الذين‬
‫فاضت عليهم بركة الولي‪ ،‬يندرج ضمن مطلب الخلود والاستدامة‪ ،‬إنه رفض سيكولوجي مبطن‬
‫ومعلن‪ ،‬لكل تشكيك في ديمومة الوالية (طلب التسليم‪ ،‬البالد راه بجوادها)‪ .‬هناك إبداعية‬
‫واجتهادية متواصلة من طرف ألاتباع للحفاظ على هذه القداسة العابرة لألزمنة‪ ،‬ال ينبغي أن يفسر‬
‫ألامر دوما بإطالة إلافادة من الخيرات املادية‪ ،‬وإن كان هذا ألامر صحيحا‪ ،‬ولكن ينبغي النظر أيضا‬
‫إلى حاجة املجتمع إلى "مالذاته الروحية"‪. les refuges spirituels‬‬
‫وإذا كانت والدتا الولي ألاولى والثانية (أمارة البدء والاستقالل عن الشيخ) تكون ممهورتين‬
‫فكل ر ٌ‬
‫اغب‬ ‫بتوقيعه هو‪ ،‬فإن الوالدة التالية بعد املوت‪ ،‬تكون في الغالب موضوع تنافس شديد‪ٌ ،‬‬
‫في اكتناز "الخبزة"‪ٌ ،‬‬
‫وكل ر ٍاء لنفسه ألاجدر بضمان إدامة البركة‪ ،‬ولو في شكل بناء قبة أو توفير غطاء‪.‬‬
‫ففي حالة سيدي موس ى ينكشف جزء من هذا التنافس حول بركة الولي‪ ،‬حيث يقول صاحب‬
‫إلاتحاف الوجيز أنه‪" :‬ملا مات تنافس الناس في دفنه‪ ،‬فكل يريد دفنه بروضته"(الدكالي‪ ،‬ص‪ ،)85‬و‬
‫يضيف صاحب التشوف موضحا‪" :‬فطائفة تحمله إلى هذه الجهة‪ ،‬وأخرى تحمله إلى جهة أخرى‪،‬‬
‫وطال ذلك بينهم‪ ،‬من أول وقت الظهر إلى وقت العشاء آلاخرة‪ ،‬وكان الوالي بسال شديد البؤس‪،‬‬
‫فقيل له في ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬ما عندي في هذا عمل‪ ،‬ولوال أن هللا تعالى يحب هذا إلانسان ما جعل‪ ،‬في‬
‫قلوب الناس "حبه""(ابن الزيات‪ ،2010 ،‬صفحة‪ .)29 .‬إال أن هذا التنافس حول "امتالك" أو‬
‫بدفن أول وكفى‪ ،‬فالدكالي في إتحافه يشير إلى أن سيدي موس ى "دفن أوال‬ ‫توريث البركة لم ينته ٍ‬

‫‪784‬‬
‫عبد الرحيم العطري‬

‫بروضة بني القاسم بن عشرة‪ ،‬ثم نقل منها بعد سبعة أيام إلى قبره الذي هو به اليوم‪ ،‬نقلته ماللة‬
‫بنت زيادة هللا‪ ،‬وبنت عليه قبة‪ ،‬صرفت عليها خمسمائة دينار‪ ،‬وليست هي القبة التي عليه آلان‪،‬‬
‫فإنها مجددة في زمان السلطان موالنا إسماعيل العلوي"(الدكالي‪ ،‬صفحة ‪ .)85‬ويستمر هذا التنافس‬
‫آنا من مداخل أخرى كالترميم والتجديد وتغيير كسوة الضريح‪ ،‬وإلانفاق و إلاطعام‪ ،‬أمال في‬
‫الاحتفاظ بلقب "خديم السيد"‪ ،‬وتأمين الانتفاع ببركته‪.‬‬
‫وبما أن القداسة تتجلى في املكان كما أسلفنا قبال‪ ،‬فإن الدخول إلى الضريح يتيح املرور‬
‫إلى السماء‪ ،‬فاملالحظ أن القباب والكوات املفتوحة باتجاه السماء‪ ،‬يحرص واضعوها تدخل ضوءا‬
‫محدودا يحيل على ألانوار املنهرقة من أعلى في شكل رسائل ورؤى يحتاجها الزائر لتجاوز غمته‪ ،‬وهي‬
‫بذلك تتضمن وتضمن فعل التوسط بين ألارض والسماء‪ ،‬فكل مكونات الضريح تؤدي وظيفة‬
‫إلابهار العلني‪ ،‬ووظيفة التوسط الخفية‪ ،‬فالقبة دليل على تعالي وسمو صاحب البركة‪ ،‬لكنها توسط‬
‫ومعراج إلى السماء‪ ،‬والكساء توقير واحترام له‪ ،‬لكنه أمل في التغطية والحماية‪ ،‬والشموع والقناديل‬
‫والثريات أدوات إضاءة‪ ،‬وهي في آلان ذاته بحث عن ضوء في زمن إلاظالم والظلم (هللا يشعل ضوك)‪.‬‬
‫حيث تفيض البركة على كل ألامكنة و ألاشياء‪ ،‬وبذلك يصير ماء الضريح مطهرا وشافيا وترابه‬
‫معالجا ورادا لكل سوء‪ ،‬واملطلوب في كل حين هو الوصول إلى "معنى املعنى" حتى يظفر الزائر‬
‫بـ"الخبزة"‪ ،‬و"تكتمل الزيارة وينال املقصود"‪ ،‬تبعا ملا تنحته الثقافة الشعبية من مسكوكات‬
‫ُ‬
‫لفظية‪/‬دعائية بصدد الزيارة امليمونة والناجحة‪.‬‬
‫على سبيل الختام‪:‬‬
‫لنخلص أخيرا إلى القول بأن إنتاج وإعادة إنتاج بركة ألاولياء‪ ،‬مسار فائق الصعوبة ال‬
‫يتأتى إال ملن توفرت له ألاسباب وتحققت له ألامارات‪ ،‬وعانق التجربة بكل امتالء‪ ،‬فليس سهال أن‬
‫يكون املرء وليا‪ .‬هناك مسار وأداء طويل يستلزم الكثير من املجاهدة والصحبة والتعلم واملراس‪،‬‬
‫إنه تمرين تعبدي ال تعرف بدايته وال نهايته‪ .‬وبالرغم من محاولة التذكير بأهم مالمح مشروع‬
‫ألاوليائية فإنه ال يمكن القول بإمكان اتباع هذه القواعد و املحتذيات‪ ،‬وصوال إلى النهايات‪/‬البدايات‪.‬‬
‫فكل ولي يصنع واليته‪ ،‬كما أن املجتمع في سياقات معينة يحتاج كرامات مخصوصة‪ ،‬ما‬
‫يجعله يعلي من شأن البعض وال يهتم إال قليال بأولياء آخرين‪ ،‬وهنا يكون الاعتراف بالفاعلية‬
‫والفعالية ويتسع بذلك النفوذ الروحي وتتواتر الخيرات الرمزية واملادية لوارثي البركة‪ ،‬أو على العكس‬
‫من ذلك‪ ،‬تنحد ممكنات الشيوع و يتوقف املشروع ألاوليائي عند حدود ضيقة‪ ،‬وما يصنع هذا‬
‫املآل أو ذاك هو املفارقية وإلابهارية التي تلوح في الكرامة‪/‬ألامارة‪ ،‬وتتواصل في البركة التي تجذر‬
‫الاعتراف وتحدد احتماالت الامتداد بعد الانقبار‪.‬‬
‫إن البقاء يستوجب الفناء‪ ،‬والوصل يتطلب الفصل‪ ،‬وذلك ما يجيده الولي‪ ،‬وهو يؤسس‬
‫بركته ويقوي من حضوره في سياقات اجتماعية وسياسية فائقة الصعوبة والعسر‪ ،‬إنه يفنى‬

‫‪785‬‬
‫آليات إنتاج الوالية والصالح‪ :‬البناء السوسيوثقافي لظاهرة ألاوليائية‬

‫ويهاجر ويتعذب من أجل البقاء في املخيال الاجتماعي‪ ،‬كما أنه ينقطع ويتعالي ويسمو كي يحقق‬
‫الاتصال بالقدس ي ويحوز البركة و القداسة التي تنسحب على أمكنته وأشيائه توكيدا لالستمرارية‬
‫التي يستقل بها املقدس‪.‬‬
‫إن املجموعة البشرية‪ ،‬هي في حاجة دائما للمقدس ألاوليائي‪ ،‬ليس من أجل تدبير حياتها‬
‫الدينية‪ ،‬بل‪ ،‬وهذا هو ألاهم‪ ،‬من أجل إثراء عالقاتها وتقوية حظوظ مواجهتها للسلطة املتوزعة‬
‫طوال وعرضا في املجتمع (مخزن‪ ،‬أعيان‪ ،‬قبائل ‪ ،)...‬فالزاوية أو الضريح يتوفران‪ ،‬في غالب ألاحيان‬
‫على رأسمال رمزي تعددي يتكون من الشرف والعلم والصالح والكرامة‪ ،‬ويتوفران أيضا على رأسمال‬
‫مادي يتمظهر في امللكية العقارية وألاموال وإلاعفاءات من الكلف املخزنية‪ ،‬بمعنى أن ألامر يؤسس‬
‫ماه مع املخزن في امتالكاته وسلطاته‪ ،‬فاألسس الرمزية للزاوية تبدو منافسة لتلك التي يستند‬ ‫َ‬
‫ِلت ٍ‬
‫عليها املخزن‪.‬‬
‫ولهذا يظل الاعتماد عليها روحيا واقتصاديا وحتى سياسيا‪ ،‬من الشروط الضرورية لتأمين‬
‫الاستمرارية في ظل نسق مفتوح على التوتر والاحتقان‪ .‬ففي هذه الحركية املتعددة ألابعاد‬
‫والانتماءات‪ ،‬ثمة ارتكان إلى املقدس في التدبير والتفاعل‪ ،‬فإعادة إلانتاج تظل محكومة في كثير من‬
‫ألاحيان بالقدرة على استثمار املقدس وتوظيفه‪ ،‬ولهذا ال يبدو غريبا أن يكون الاعتماد على املقدس‬
‫الولوي فعال أثيرا لدى املنتمين إلى النسق‪ ،‬وإن اختلفت انتماءاتهم املراتبية لذات النسق‪ ،‬فالكل‪،‬‬
‫يفيد‪ ،‬أو يستثمر ويستزيد من الخيرات الرمزية لحقل املقدس‪.‬‬
‫قائمة املراجع‪:‬‬
‫أوال‪ :‬املراجع باللغة العربية‬
‫‪ -‬ابن الزيات (أبو يعقوب يوسـ ــف بن يحيى التادلي)‪ ،‬التشـ ــوف إلى رجال التصـ ــوف و أخبار أبي العباس‬
‫الس ـ ـ ــبتي‪ ،‬تحقيق‪ :‬أحمد التوفيق‪ ،‬منش ـ ـ ــورات كلية آلاداب و العلوم إلانس ـ ـ ــانية بالرباط‪ ،‬س ـ ـ ــلس ـ ـ ــلة‬
‫نصوص و وثائق رقم ‪ ،4‬الطبعة الثالثة‪ ،‬الرباط‪.2010،‬‬
‫‪ -‬ابن زيــدان (عبــد الرحمن) ‪ ،‬إتحــاف أعالم النــاس بجمــال حــاض ـ ـ ـ ــرة مكنــاس‪ ،‬الجزء الرابع‪ ،‬الربــاط‪،‬‬
‫الخزانة امللكية‪ ،‬الطبعة الثانية‪.1990 ،‬‬
‫‪ -‬ابن عجيبة‪ ،‬إيقاظ الهمم في شرح متن الحكم‪ ،‬دار ابن الوراق‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪ -‬ابن عربي (محي الدين)‪ ،‬أهل املراتب و ألاحوال‪ ،‬تحقيق محمد عبد الرحمن الش ـ ـ ـ ــاغول‪ ،‬دار جوامع‬
‫الكلم‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة ألاولى‪.2009.‬‬
‫‪ -‬ابن عربي(محي الدين)‪ ،‬رسـ ـ ـ ــائل ابن عربي‪ :‬كتاب إلاسـ ـ ـ ــفار عن نتائج ألاسـ ـ ـ ــفار‪ ،‬دار صـ ـ ـ ــادر‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫الطبعة ألاولى‪.1997 ،‬‬
‫‪ -‬التليدي (عبد هللا)‪ ،‬املطرب في مشـ ــاهير أولياء املغرب‪ ،‬مؤس ـ ـسـ ــة الشـ ــمال للطباعة‪ ،‬طنجة‪ ،‬الطبعة‬
‫الثانية‪.1987.‬‬

‫‪786‬‬
‫عبد الرحيم العطري‬

‫‪ -‬الدكالي(محمد بن علي)‪ ،‬إلاتحاف الوجيز‪ :‬تاريخ العدوتين‪ ،‬تحقيق‪ :‬مصـ ـ ــطفى بوشـ ـ ــعراء‪ ،‬منشـ ـ ــورات‬
‫الخزانة الصبيحية‪ ،‬سال‪.1986 ،‬‬
‫‪ -‬السـ ـ ـ ــوس ـ ـ ـ ـ ي (املختار) ‪ ،‬الترياق املداوي في أخبار الشـ ـ ـ ــيخ سـ ـ ـ ــيدي الحاج علي السـ ـ ـ ــوس ـ ـ ـ ـ ي الدرقاوي‪،‬‬
‫منشورات املعهد امللكي للثقافة ألامازيغية‪ ،‬الرباط‪.2014 ،‬‬
‫‪ -‬الشاذلي (عبد اللطيف)‪ ،‬التصوف و املجتمع‪ :‬نماذج من القرن العاشر الهجري‪ ،‬سال‪.1989 ،‬‬
‫‪ -‬العش ـ ـ ــاب (عبد الص ـ ـ ــمد)‪ ،‬موالي عبد الس ـ ـ ــالم بن مش ـ ـ ــيش‪ ،‬منش ـ ـ ــورات الرابطة املحمدية للعلماء‪،‬‬
‫الرباط‪ ،‬الطبعة ألاولى‪.2012 ،‬‬
‫‪ -‬العطري(عبد الرحيم)‪ ،‬دفاعا عن الس ـ ـ ـ ــوس ـ ـ ـ ــيولوجيا‪ ،‬دار بابل للطباعة و النش ـ ـ ـ ــر‪ ،‬الرباط‪ ،‬الطبعة‬
‫ألاولى‪.2000 ،‬‬
‫‪ -‬العمراني (محمد)‪ ،‬كتب املناقب وترس ـ ـ ـ ــيخ الاعتقاد في الكرامات الص ـ ـ ـ ــوفية‪ ،‬مجلة أمل‪ ،‬العدد ‪،35‬‬
‫السنة السادسة عشرة‪.2009 ،‬‬
‫‪ -‬الفــاس ـ ـ ـ ـ ي (محمــد املهــدي)‪ ،‬ممتع ألاس ـ ـ ـ ـمــاع في أخبــار الجزولي و التبــاع‪ ،‬دار الكتــب العلميــة‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫الطبعة ألاولى‪.2005 ،‬‬
‫‪ -‬القش ــيري (عبد الكريم بن هوزان)‪ ،‬الرس ــالة القش ــيرية‪ ،‬تحقيق‪ :‬مص ــطفى زريق‪ ،‬املكتبة العص ــرية‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬الطبعة الثانية‪.2001 ،‬‬
‫‪ -‬الص ـ ــومعي (أحمد التادلي)‪ ،‬املعزى في مناقب الش ـ ــيخ أبي يعزى‪ ،‬املعزى في مناقب الش ـ ــيخ أبي يعزى‪،‬‬
‫تحقيق محمد الجاوي‪ ،‬منشورات كلية آلاداب و العلوم إلانسانية أكادير‪.1996 ،‬‬
‫‪ -‬الكيالي (عاص ــم إبراهيم) ‪ ،‬الوالية و الولي عند الس ــادة الص ــوفية في الش ــريعة و الطريقة و الحقيقة‪،‬‬
‫دار كتب ناشرون‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة ألاولى‪.2010 .‬‬
‫‪ -‬الناقوري (إدريس)‪ ،‬أيت لحسن‪ :‬القبيلة‪ ،‬التاريخ و املواقف‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬البيضاء‪.2007 ،‬‬
‫‪ -‬الناص ــري (أحمد بن خالد)‪،‬كتاب الاس ــتقص ــا ألخبار دول املغرب ألاقأـ ـ ى‪ ،‬تحقيق‪ :‬أحمد الناص ــري‪،‬‬
‫أشـ ـ ــرف عليه‪ :‬محمد حهي‪ ،‬إبراهيم بوطالب‪ ،‬أحمد التوفيق‪ ،‬منشـ ـ ــورات وزارة الثقافة والاتصـ ـ ــال‪،‬‬
‫الرباط‪ ،‬الطبعة ألاولى‪.2001،‬‬
‫‪ -‬النبه ــاني (يوس ـ ـ ـ ــف بن إس ـ ـ ـ ـم ــاعي ــل)‪ ،‬ج ــامع كرام ــات ألاولي ــاء‪ ،‬املكتب ــة العص ـ ـ ـ ــري ــة‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبع ــة‬
‫ألاولى‪.2001.‬‬
‫‪ -‬إلياد (مرسيا)‪ ،‬املقدس و العادي‪ ،‬ترجمة عادل العوا‪ ،‬دار التنوير‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة ألاولى‪.2009.‬‬
‫‪ -‬باس ــتيد (روجيه)‪ ،‬مبادئ علم الاجتماع الديني‪ ،‬ترجمة‪ :‬محمود قاس ــم‪ ،‬املكتبة ألانجلوس ــاكس ــونية‪ ،‬الطبعة‬
‫ألاولى‪.‬ص‪.1951.‬‬
‫‪ -‬باسـ ـ ــكون (بول)‪ ،‬ألاسـ ـ ــاطير و املعتقدات باملغرب‪ ،‬ترجمة‪ :‬مصـ ـ ــطفى املسـ ـ ــناوي‪ ،‬مجلة بيت الحكمة‪،‬‬
‫العدد ‪ ،3‬السنة ألاولى‪ .‬الرباط‪.1986.‬‬

‫‪787‬‬
‫ البناء السوسيوثقافي لظاهرة ألاوليائية‬:‫آليات إنتاج الوالية والصالح‬

‫ الطبعة‬،‫ الدار البيضـ ـ ــاء‬،‫ دار أفريقيا الشـ ـ ــرق‬،‫ الدين بصـ ـ ــيغة املؤنث‬:‫ بركة النسـ ـ ــاء‬،)‫ بوبريك (رحال‬-
.2010.‫ألاولى‬
،‫ الطبعة الثالثة‬،‫ مراكش‬،‫ منتدى ابن تاشـ ـ ـ ــفين للمجتمع و املجال‬،‫ سـ ـ ـ ــبعة رجال‬،) ‫ جالب (حسـ ـ ـ ــن‬-
.2011
،‫ مطبعة فض ـ ـ ــالة‬،‫ الحكاية و البركة‬:‫ املتخيل و القدس في التص ـ ـ ــوف إلاس ـ ـ ــالمي‬،)‫ ش ـ ـ ــغموم (امليلودي‬-
.1991.‫ الطبعة ألاولى‬،‫املحمدية‬
،‫ منشورات دار املدى‬،‫ ماهر الشريف‬:‫ ترجمة‬،‫ تأسيس املجتمع تخيليا‬، )‫ كاستورياديس (كورنيليوس‬-
.2003.‫ الطبعة ألاولى‬،‫دمشق‬
‫ املراجع باللغة العربية‬:‫ثانيا‬
- Berque )Jacques(, Ulémas, fondateurs, insurges du Maghreb, Editions Sindibad,
Paris.1982.
- Caillois (Roger), L'homme et le sacré, Editions Gallimard, Paris.1950.
- Dermenghem )Emile(, Le culte des saints dans l'islam Maghrébin, Editions
Gallimard, Paris.1954.
- Durkheim (Émile), Les formes élémentaires de la vie religieuse. Editions PUF,
Paris, 1968.
- Eliade (Mircea), Aspects du mythe, Editions Gallimard, Paris.1963.
- Eliade (Mircea), Le sacré el le profane, Editions Gallimard, Paris.1965.
- Geertz (Gliford), Observer l’Islam : changement religieux au Maroc et en
Indonésie, La Découverte, Paris.1992.

788

You might also like