Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 181

‫جلسة عالج‬

‫جلسة عالج‬

‫إهداء‬

‫إلى كل صراع داخلي لم يحل بعد‪..‬‬

‫‪5‬‬
‫جلسة عالج‬

‫الفهرس‬

‫إهداء ‪5..........................................................................................................‬‬
‫مقدمة ‪7........................................................................................................‬‬
‫تجربة االبتعاث ‪13.....................................................................................‬‬
‫قوة اآلن‪18....................................................................................................‬‬
‫الصدمة (الجزء األول) ‪23.....................................................................‬‬
‫اكتئاب حاد (الجزء الثاني) ‪30.............................................................‬‬
‫جلسة عالج (الجزء الثالث)‪36 ............................................................‬‬
‫ذكريات مدرسية ‪43..................................................................................‬‬
‫تجربة أكل العنكبوت (الجزء األول) ‪53 .............................................‬‬
‫صراع مع الموت (الجزء الثاني) ‪60 ..................................................‬‬
‫حب الذات ‪66.............................................................................................‬‬
‫الر ْبع ‪73 .........................................................................................‬‬
‫خسارة َّ‬
‫جسر الثقة‪78 .............................................................................................‬‬
‫انضباط ذاتي ‪84.......................................................................................‬‬
‫خوارزميات اليوتيوب ‪89 .........................................................................‬‬

‫‪185‬‬
‫جلسة عالج‬

‫قصة أول فلوق ‪99.....................................................................................‬‬


‫دموع أمي ‪104 ............................................................................................‬‬
‫أنا ُ‬
‫وأخوتي ‪110 ...........................................................................................‬‬
‫أنا واليوتيوب ‪117 ......................................................................................‬‬
‫إعالنات اليوتيوب ‪127 ............................................................................‬‬
‫الشهرة والمال ‪136....................................................................................‬‬
‫عقد احتكاري ‪142 ....................................................................................‬‬
‫فضول زائد ‪147 ........................................................................................‬‬
‫يوم في حياة مشهور‪152 ........................................................................‬‬
‫قنابل متفجرة ‪158.....................................................................................‬‬
‫رحلة شبابية ‪164 .......................................................................................‬‬
‫أصوات غريبة ‪171 ....................................................................................‬‬
‫تاريخ انتهاء‪177 .........................................................................................‬‬
‫الخاتمة ‪181 .................................................................................................‬‬

‫‪186‬‬
‫جلسة عالج‬

‫مقدمة‬

‫علــى مدى الســنوات الخمس الماضيــة؛ من بداية ابتعاثي‬


‫وحتــى اليــوم‪ ،‬تعلمــت الكثير‪ ،‬لدرجــة أنه لــو كان باإلمكان أن‬
‫تتمثــل شــخصيتي القديمــة في إنســان آخــر‪ ،‬لمــا تمكنت من‬
‫مصاحبتــه لكميــة الجهــل التي تحتويه‪ .‬ســكنت في نيويورك‪،‬‬
‫مدينــة الزحــام‪ ،‬وعشــت في لــوس أنجلــوس‪ ،‬مدينــة الحرية‪،‬‬
‫وقضيــت ســنوات في ألباما‪ ،‬بلد العنصريــة ‪-‬كما يقال عنها‪-‬‬
‫ورأيت كيف أن كل مجتمع يفكر في نفسه ومع نفسه‪ ،‬وبالرغم‬
‫ً‬
‫عاديا كأي شــاب من بيئــة عربية‪ ،‬إال أن‬ ‫ً‬
‫إنســانا‬ ‫مــن أني كنت‬
‫ً‬
‫بعيدا عن أهلي مسافة‬ ‫الوحدة لسنوات‪ ،‬والغربة التي قذفتني‬
‫‪ 21‬ســاعة بالطائرة‪ ،‬ومخالطة الناس الذين لم أكن أعرف أن‬
‫لهم وجود في األساس‪ ،‬كل هذا جعلني أفهم العالم من منظور‬
‫آخر‪ ،‬وأســتوعب أنه ليس فقط "ســلمان" ومجتمعة ومعتقداته‬
‫موجوديــن‪ ،‬بــل أن العالــم ملــيء باالختالفــات والتناقضــات‪،‬‬
‫وأن هنالــك مــن النــاس مــا تذهلــك تضحياتهــم‪ ،‬ومــن الناس‬
‫مــا يصدمــك مقــدار غدرهــم وفجرهم‪ ،‬في هــذا العالم أناس‬
‫تحاول أن تســعدك بصدق‪ ،‬وأخرين يصعب عليك أن تنســاهم‬

‫‪7‬‬
‫جلسة عالج‬

‫طيلة حياتك‪ ،‬أطياف عديدة من البشــر ســتقرأ عنهم في هذا‬


‫الكتاب‪ .‬خليط "الغربة" مع "الشــهرة" جعلني أفهم أشــياء كان‬
‫من المستحيل أن يستوعبها "سلمان" العادي إن هو مكث مكانة‬
‫ولــم َي ُخــض معركــة الحيــاة‪ ،‬وكما أن شــخصيتي قــد تطورت؛‬
‫ً‬
‫أيضا مع األيام والسنين‪ ،‬وخاصة حين‬ ‫جميع الناس يتطورون‬
‫نقــرأ ونطلع على تجارب اآلخريــن‪ ،‬ونرى الحياة عبر عيونهم‪،‬‬
‫ومــا هــذا الكتــاب إال نافذة صغيرة يرى عبرهــا القارئ عالما‬
‫ً‬
‫‪-‬شــعوريا‪ -‬تجــارب حياتية قد ال‬ ‫مختلفــا عــن عالمه‪ ،‬ويعيش‬
‫يتسنى له عيشها بنفسه عبر مسار حياته‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫جلسة عالج‬

‫صديق صديقي‪ ،‬وأحد المبتعثين للدراســة في أمريكا‪ :‬إنه‬


‫يوسف‪.‬‬
‫قبــل أن يعــود إلى وطنه وبعد حفلة التخرج‪ ،‬قرر أن يقضي‬
‫بعــض الوقــت فــي التجــول داخــل مدينــة فيالدلفيــا‪ ،‬المدينة‬
‫التــي خــاض فيهــا مغامرة االبتعــاث‪ ،‬وقضى فيها ســنوات من‬
‫االنغماس وسط الكتب واألبحاث‪.‬‬
‫بعد ذلك بأيام‪ ،‬جاء الوقت الموعود‪ ،‬يوم السفر ولقاء األهل‪،‬‬
‫ً‬
‫مبكرا‬ ‫تجهز وأعد حقائبه ثم انطلق صوب المطار‪ ،‬كان الوقت‬
‫ً‬
‫قليال‪ ،‬فقرر تناول وجبة سريعة في أحد المطاعم القريبة‪.‬‬
‫وهــو يجلــس في انتظــار وجبته‪ ،‬مرت بقربــه فتاة وتحدثت‬
‫إليه بهدوء‪:‬‬
‫‪ -‬هل تسمح لي بالجلوس معك على الطاولة؟‬
‫تلعثم يوسف وأجاب على استحياء‪:‬‬
‫‪ -‬بالطبع‪.‬‬
‫جلست ممتنة‪ ،‬ثم أردفت قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬اسمح لي أن يكون مشروبك على حسابي‪.‬‬
‫ودون أن تنتظــر الموافقــة؛ قامــت إلحضــار المشــروب‪،‬‬
‫وواحد لها‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫واحد له‬
‫ٌ‬ ‫وعادت وبيدها كوبان من البالستيك‪،‬‬

‫‪9‬‬
‫جلسة عالج‬

‫ً‬
‫شــيئا‬ ‫شــكرها ثم أخذ رشــفة من العصير‪ ،‬ثم‪ ...‬لم يتذكر‬
‫بعد ذلك‪.‬‬
‫…‪...‬‬
‫فــي مــكان مجهــول ووقــت غيــر معلــوم‪ ،‬يســتيقظ يوســف‬
‫ورأســه يئــن من الصــداع‪ ،‬يحــاول أن يتذكر فال يســعفه عقله‬
‫إال بمشــهد شــرب العصيــر‪ ،‬هــو آخر مــا يتذكر‪ ،‬يتســاءل في‬
‫نفسه عن ماذا حدث بعد ذلك‪ ،‬أو كيف وصل إلى هذا المكان‬
‫الغريب‪ ،‬لكن‪ ...‬ال جواب‪.‬‬
‫المكان‪ :‬حمام أحد األجنحة الفاخرة في أحد الفنادق‬
‫الزمان‪ :‬الصباح الباكر‪ ،‬بعد شروق الشمس بقليل‬
‫المشــهد‪ :‬شــاب ملقى داخل حوض اســتحمام مليء بقطع‬
‫الثلج‪.‬‬
‫ً‬
‫ونظيفا‪ ،‬ال يوجد‬ ‫ً‬
‫مرتبا‬ ‫يتلفت يوسف حوله فيرى كل شيء‬
‫شــيء غيــر اعتيادي ســوى طاولــة صغيرة كانت بقربــه‪ ،‬عليها‬
‫ً‬
‫مكتوبا فيها‪:‬‬ ‫ورقة صغيرة وهاتف‪ ،‬يمسك الورقة فيجد‬
‫‪Don’t Move, call 911 -‬‬

‫‪« -‬ال تتحرك‪ ،‬اتصل بـ‪»911‬‬


‫يمسك الهاتف بعد مشقة‪ ،‬ينقر على األزرار بحركة بطيئة‬

‫‪10‬‬
‫جلسة عالج‬

‫وأصابع مخدرة‪( 1...1 ...9 ،‬رقم النجدة)‪.‬‬


‫تجيــب موظفة النجدة في الطــرف اآلخر‪ ،‬يحاول التحدث‬
‫وشرح الوضع‪ ،‬وقبل أن يكمل تقاطعه في الكالم‪ ،‬تتحدث إليه‬
‫بطريقة توحي بأنها تعرف ما حدث‪:‬‬
‫‪ -‬يوســف‪ ،‬أريــدك أن تحــرك يــدك ببــطء وحــذر وتلمــس‬
‫ظهرك السفلي ! هل هناك أنبوب خارج من جسمك؟‬
‫ً‬
‫وفعال هنالك‬ ‫يحــرك يوســف يده في قلــق ويتلمس ظهــره‪،‬‬
‫أنبوب‪.‬‬
‫بصوت قلق ونبرة باهتة‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫يجيب‬
‫‪ -‬نعم‬
‫‪ -‬ال تخــف‪ ،‬أنــت فــي أمــان‪ ،‬لكــن إحــدى كليتيــك قــد تــم‬
‫اســتئصالها‪ ،‬هنالــك مجموعــة كبيــرة مــن مجرمــي األعضاء‬
‫البشــرية فــي هــذه المدينــة‪ ،‬يبــدو أنهم قــد وصلــوا إليك‪ ،‬ال‬
‫تتحرك من مكانك‪ ،‬المسعفون في طريقهم إليك‪.‬‬
‫…‪.‬‬
‫مــا قرأتــه فــي األعلــى؛ كان مجرد قصة من نســج الخيال‪،‬‬
‫حكاية تروى للطالب قبل ســفرهم لالبتعاث بهدف تحذيرهم‬
‫مــن عالمهــم الجديــد وما هم مقبلون عليه‪ ،‬قد تكون ســمعتها‬

‫‪11‬‬
‫جلسة عالج‬

‫مــن قبــل أو أن أحداثها مألوفة لديك‪ ،‬وإن كانت جديدة عليك‬


‫فبالتأكيــد أثــارت انتباهــك‪ ،‬وفي كلتــا الحالتين أقــول لك‪ :‬ما‬
‫ســتق َر ُؤه بيــن دفتــي هــذا الكتاب هــي قصص حقيقية ســوف‬
‫تســمعها ألول مــرة‪ ،‬ومع ذلك؛ هي أقــوى من الخيالية‪ ،‬بعضها‬
‫سيشــد انتباهــك حــد االنبهــار‪ ،‬والبعض اآلخر ســيغنيك عن‬
‫مشاهدة األفالم‪.‬‬
‫يحتوي هذا الكتاب على قصص حدثت لي في أمريكا أثناء‬
‫فترة االبتعاث‪ ،‬أو حدثت لبعض األصدقاء واألشــخاص الذين‬
‫قابلتهم وسمعت منهم مباشرة‪ ،‬كل ما ستقرؤه هنا هي أحداث‬
‫عشتها‪ ،‬أو عاشها من حكاها لي بنفسه‪ ،‬وقد أحببت أن أدونها‬
‫بيــن دفتــي هذا الكتاب قبــل أن ُتفلت من زمــام الذاكرة‪ ،‬وكلي‬
‫ٌ‬
‫أمل أن تكون هذه القصص خفيفة سريعة الهضم‪ ،‬يسهل على‬
‫العقل امتصاصها‪ ،‬حتى تصل العبرة والفائدة‪ ،‬ثم تثمر‪ ...‬ولو‬
‫بعد حين‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫جلسة عالج‬

‫تجربة االبتعاث‬

‫ال أعتقــد أن ذلــك المشــهد يمكــن أن ينمحي مــن مخيلتي‬


‫بسهولة‪ ،‬كيف ال وهو الذي حدد مصيري في السنوات التالية‪،‬‬
‫ً‬
‫إنسانا آخر‪ ،‬أن أكون أنا الذي تقرأ كالمه‬ ‫وساهم في أن أصبح‬
‫اآلن‪ ،‬والذي ‪-‬ربما‪ -‬تشــاهد فيديوهاته عبر منصة اليوتيوب‪،‬‬
‫ً‬
‫عالما آخر لم يكن‬ ‫تلــك المنصة التي فتحت لــي ‪-‬وللكثيرين‪-‬‬
‫في الحسبان‪.‬‬
‫اجتماع‬
‫ٌ‬ ‫يتم اســتدعائي من غرفتي في الطابق العلوي‪ ،‬إنه‬
‫مغلــق يحضــره أبي وأمي وأنا ثالثهما‪ ،‬يبدو أن األمر جدي‪ ،‬أو‬
‫خطيــر‪ ،‬وبــدون مقدمــات أو مداعبات كالميــة‪ ،‬يطرح أبي لي‬
‫األمــر‪ ،‬يخبرنــي أنهم عازمون على تحقيق حلمي الذي عشــت‬
‫ً‬
‫طيــارا‪ ،‬وأن أدخــل الكلية التي‬ ‫معــه ســنوات طويلــة‪ ،‬أن أكــون‬
‫توصلني إلى ذلك‪.‬‬
‫كان ذلك بعد أن قامت وزارة التعليم العالي بإلغاء تخصص‬
‫الطيران من قائمة االبتعاث‪.‬‬
‫قــررا االســتمرار فــي التضحية‪ ،‬وهذه المرة ليس بالســهر‬
‫والرعايــة أو النصــح واإلرشــاد‪ ،‬بل بالمال‪ ،‬وليــس المال الذي‬

‫‪13‬‬
‫جلسة عالج‬

‫يملكانه‪ ،‬بل المال الذي يقترضانه‪.‬‬


‫اســتعداد ألخــذ قــرض مــن البنك كي أســافر‬
‫ٍ‬ ‫إنهمــا علــى‬
‫وأدرس مجــال الطيــران فــي الواليــات المتحــدة األمريكيــة‪،‬‬
‫ومــن لديــه معرفة بتكاليــف الدراســات الجامعية فــي أمريكا‬
‫وخاصة في هذه التخصصات‪ ،‬يعلم أن المبلغ قد يفوق المائة‬
‫ألف دوالر كرســوم دراســية لكل ســتة أشــهر‪ ،‬وعلى الرغم من‬
‫ضخامــة المبلــغ‪ ،‬إال أنهما كانا يقدمان على مجازفة مضمونة‬
‫النتائــج‪ ،‬يعلمــان أنهما يســتثمران في أعظــم طاقة في الكون‪،‬‬
‫إنه اإلنســان‪ ،‬ذلك المخلوق الذي ال ُيع َرف ‪-‬فقط‪ -‬بأنه كائن‬
‫ً‬
‫‪-‬أيضا‪ -‬روح تمتلئ باألحالم والمشاعر‪،‬‬ ‫يفكر ويبدع‪ ،‬بل بأنه‬
‫ً‬
‫جيــدا ما هو الحلم الذي لــم يفارق خاطري‬ ‫وقــد كانــا يعلمان‬
‫منذ سنوات‪ ،‬وفي تلك اللحظة الحاسمة‪ ،‬قررا أن يساهما في‬
‫تحقيقه‪ ،‬وإن كلفهما ذلك الكثير‪.‬‬
‫ً‬
‫طفال لم يراوده حلم الطيران‪ ،‬أن يصبح‬ ‫ال أعتقد أن هنالك‬
‫ً‬
‫طيــارا يجوب العالــم ويقطــع الفيافي والبحــار‪ ،‬لكن‬ ‫ً‬
‫يومــا مــا‬
‫القليــل مــن تلك األحالم تمكن مــن الصمود والوصول لمرحلة‬
‫التنفيذ والتحقيق‪ ،‬القليل منها نما مع األيام ً‬
‫بدال من أن يذبل‬
‫حلم آخر‪ ،‬أو ُيصدَم بعقبات الحياة والواقع‪ ،‬ففي‬
‫ليحــل مكانه ٌ‬

‫‪14‬‬
‫جلسة عالج‬

‫نهايــة المطــاف؛ يحتــاج العالم لألطباء والمهندســين أكثر من‬


‫احتياجــه للطيارين‪ ،‬لكن وعلى عكــس تلك األحالم الطفولية‪،‬‬
‫ً‬
‫هدفا أكثر منه‬ ‫بدأ حلمي بالنمو منذ المرحلة المتوسطة‪ ،‬كان‬
‫ً‬
‫حلمــا يداعب الخيال‪ ،‬ولقد أثر ذلك على مســتواي الدراســي‬
‫بشــكل إيجابــي‪ ،‬فقد كانــت درجاتي الدراســية مرتفعة‪ ،‬وكنت‬
‫بخطــى ثابتة نحــو حلمي المنشــود‪ ،‬حتــى تخرجت من‬
‫ً‬ ‫أســير‬
‫ً‬
‫إنجازا‬ ‫الثانويــة بحمــد اهلل وحصلت على نســبة ‪ ،% 96‬فــكان‬
‫يستحق الفرح واالحتفال‪.‬‬
‫في الحفلة العائلية التي أقيمت لي بمناسبة التخرج‪ ،‬كانت‬
‫الكيكــة مصنوعــة على صورتــي وأنا أقود الطائــرة‪ ،‬حتى إنهم‬
‫كانوا ينادونني بالكابتن داخل المنزل‪ ،‬بدا وكأن األمر سيتحقق‪،‬‬
‫وكأن األهــداف أصبحت قريبة‪ ،‬لــم َ‬
‫يتبق إلى الخطوة األخيرة‬
‫حتى أركب طائرة االبتعاث‪ ،‬فأذهب على الدرجة السياحية ثم‬
‫أعود وأنا في قمرة القيادة‪.‬‬
‫بأيام معدودة‪ -‬صدر القرار (قرار‬
‫لكــن ‪-‬وبعد هذه الحفلة ٍ‬
‫حــذف تخصــص الطيران من برنامج االبتعــاث)‪ ،‬القرار الذي‬
‫قلــب الطاولــة علــى رأســها‪ ،‬والذي علــى إثره قــرر والداي أن‬
‫يدعمانــي بــكل قوة‪ ،‬لكــن ‪-‬وعلى غير المتوقــع‪ -‬كانت إجابتي‬

‫‪15‬‬
‫جلسة عالج‬

‫على عرضهما السخي بـ (ال)‪:‬‬


‫> ال أريــد أن أحملكمــا فــوق مــا تطيقان‪ ،‬أريــد أن أتحمل‬
‫ً‬
‫فصاعــدا‪ ،‬حتــى لو كلفنــي ذلك أن‬ ‫مســؤولية نفســي مــن اآلن‬
‫أتخلى عن حلمي‪.‬‬
‫هــذا صحيــح‪ ،‬لم أوافق على تلك التضحية‪ ،‬وال أكتب إليك‬
‫اآلن من قمرة قيادة إحدى طائرات البوينج أو اإليرباص‪ ،‬لكني‬
‫رغم ذلك سعيد بما أنا عليه اآلن‪ ،‬بل يغمرني شعور باالمتنان‬
‫علي وبالرحلة التي قادني إليها‪ ،‬صحيح أني لم‬
‫بما أنعمه اهلل ّ‬
‫أدخل مجال الطيران‪ ،‬لكني سافرت‪ ،‬امتطيت طائرة االبتعاث‬
‫ً‬
‫بعيدا عن موطنــي‪ ،‬لم يعد‬ ‫وحلقــت فــي ســماء الدنيا ورحلــت‬
‫هنالــك فــرق كبيــر فــي نظــري اآلن بيــن أن أقــود الطائــرة أو‬
‫ً‬
‫مسافرا‪،‬‬ ‫أجلس في مقعد الدرجة السياحية‪ ،‬المهم أن أنطلق‬
‫أال أركد‪ ،‬فالماء الراكد يأسن ويصيبه التلف‪.‬‬
‫اآلن‪ ،‬وبعد أربع سنوات من االبتعاث والدراسة في الواليات‬
‫المتحدة األمريكية‪ ،‬بعد سنوات من العيش في أكثر من مدينة‬
‫أمريكيــة والتعــرف علــى الكثيــر من الشــخصيات؛ أشــخاص‬
‫وروايات‪ ،‬بعد‬
‫ٍ‬ ‫َ‬
‫مواقف‬ ‫وحكايات‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ً‬
‫قصصا‬ ‫يحملــون في جعبتهــم‬
‫أن دخلت مجال النشــر المرئي وباتت قناتي اليوتيوبية تســعى‬

‫‪16‬‬
‫جلسة عالج‬

‫زمن أصبح من يمتلك فيه قناة‬


‫بجد نحو المليون مشترك‪ ،‬في ٍ‬
‫يتابعها مئات اآلالف يقال عنه «مشــهور»‪ ،‬قرر ذلك المشهور‪-‬‬
‫ً‬
‫جانبا‪ ،‬ويبدأ بفتح قلبه وســرد‬ ‫أو كما يقال‪ -‬أن يضع الكاميرا‬
‫بعض قصصه وأفكاره على الورق‪.‬‬
‫إنهــا تجربــة حيــاة في بدايتها‪ ،‬أهديها لــك اليوم عبر بريد‬
‫الكلمــات‪ ،‬وأنــا على يقيــن أن التجارب يصعب أن تنتقل بكامل‬
‫حيويتها عبر الكتابة فقط‪ ،‬لكنها محاولة متواضعة لنقل بعض‬
‫مما عشــته‪ ،‬أو قصص بعض الرفاق‪ ،‬مما يمكن أن نســتخلص‬
‫منه العبرة والفائدة‪ ،‬أو حتى ألجل صنع ابتسامة عابرة ترتسم‬
‫على وجهك وأنت ُ‬
‫تقرؤها‪ ،‬ويكفي أن يكون شرف هذا الكتاب‬
‫هــو توثيــق مرحلــة هامة فــي حياتي‪ ،‬كان لها األثــر الكبير في‬
‫تغيير أفكار وآراء‪ ،‬وصناعة شــخصية أخرى تزدهر مع األيام‪،‬‬
‫بشــكل مختلف‪ ،‬تتأثر به‪ ،‬وتحاول التأثير‪ ،‬أو ترك‬
‫ٍ‬ ‫لترى العالم‬
‫بصمة‪ ...‬قبل الرحيل‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫جلسة عالج‬

‫قوة اآلن‬

‫فــي العــادة يتحكم عقلنــا الباطن في يومنا دون أن نشــعر‪،‬‬


‫يتحكــم مــن خــالل الماضــي‪ ،‬بمعنــى أن أي قــرار اتخذته في‬
‫الماضــي فعقلــك الباطــن يظهــره حتــى اليــوم ويجعلــك تتخذ‬
‫قرارات جديدة‪.‬‬
‫هذا يعني أن كل قراراتك التي ستتخذها في المستقبل قد‬
‫تكون مبنية على ماضيك السيئ‪ ،‬وهذا أمر غير جيد‪ ،‬لدرجة‬
‫أننــا وصلنــا لزمن يقال فيه للشــخص «مطفي مخــه» من باب‬
‫المدح‪ ،‬بينما األمر هو عكس ذلك‪ ،‬األصل أن يســتخدم المرء‬
‫مخه كي يتخذ القرارات عن نفسه‪.‬‬
‫ً‬
‫مثــال‪ :‬حيــن يمــر اإلنســان بحالة نفســية معينــة‪ ،‬والتي قد‬
‫ً‬
‫تماما‪ ،‬لكنه يســمح لتلك الفترة‬ ‫تســتمر معــه لفترة ثــم يتعافى‬
‫التــي حدثــت فــي الماضي بــأن تؤثر على ما تبقــى من حياته‪،‬‬
‫فقد يحكم على نفســه بالفشــل‪ ،‬أو يقنع نفســه بأنه ال يستحق‬
‫الحيــاة‪ ،‬وكلهــا مجــرد قــرارات اتخذهــا عقلــه الباطن بســبب‬
‫أحداث الماضي‪.‬‬
‫إذا ماضينــا لــم يعــد له تأثيــر على حاضرنا فلماذا نســمح‬

‫‪18‬‬
‫جلسة عالج‬

‫لــه بــأن يتخــذ القــرارات ً‬


‫بــدال عنــا؟ مــا علينــا فعلــه اآلن هو‬
‫االستسالم‪ ،‬االستسالم لكل شيء جاء في حياتنا‪.‬‬
‫قد تسأل‪ :‬كيف أستسلم لألشياء التي من حولي؟‬
‫تخيل أنك وقعت في بركة من الطين أو الرمال المتحركة‪،‬‬
‫وعلقــت قدمــاك فــي الرمــال‪ ،‬حينهــا لــن يكــون الغضــب فــي‬
‫صالحك‪ ،‬ألن المشــاعر الســلبية لن تســاهم في الحل‪ ،‬بل قد‬
‫ً‬
‫ســوءا وتســاهم فــي غرقك أكثر فأكثــر‪ ،‬ألن الحل‬ ‫تزيــد األمر‬
‫حينهــا يكمــن في الهــدوء والتفكير بروية‪ ،‬يكمن في اســتيعاب‬
‫الحاضر وتقبل الوضع ثم التفكير في الحلول الممكنة‪ ،‬حينها‬
‫ستدرك أن أول خطوة صائبة قمت بها كانت «التقبل»‪.‬‬
‫المشاعر السلبية لن تساعدك للخروج من وضعك السيئ‪،‬‬
‫أو تحســن مــن وضعــك الحالي‪ ،‬لكــن في المقابــل؛ يمكنك أن‬
‫تستثمرها لصالحك في النهوض وتغيير واقعك‪ ،‬لكن فقط إن‬
‫أنت تمكنت من التحكم في عقلك الباطن‪.‬‬
‫لكن كيف أتحكم بعقلي الباطن؟‬
‫تتحكم بعقلك الباطن بأن تبدأ باستيعاب المشاعر السلبية‬
‫التــي تخــرج منــك ومالحظتها‪ ،‬ولكــي أوضح لك األمــر أكثر‪،‬‬
‫دعني أضرب لك ً‬
‫مثاال‪:‬‬

‫‪19‬‬
‫جلسة عالج‬

‫ً‬
‫دائما‬ ‫ً‬
‫فالنا من الناس في حياتك يحاول‬ ‫لنفرض أن هنالك‬
‫أن يســتفزك‪ ،‬جرب أن تغير أســلوبك في التعامل مع الموقف‪،‬‬
‫حــاول أن تراقــب مشــاعرك حيــن يتحدث إليــك بطريقة تثير‬
‫ً‬
‫هادئا‪ ،‬تقبــل كالمه كما هو‪ ،‬حــاول التركيز على‬ ‫غضبــك‪ ،‬كــن‬
‫المشاعر السلبية؛ مشاعر الغضب التي تحاول الخروج بشكل‬
‫متدرج‪ ،‬وكيف أن ذلك الغضب يؤثر على ردة فعلك‪ ،‬وستعرف‬
‫حينها كيف يتحكم عقلك الباطن فيك وفي تصرفاتك‪.‬‬
‫ً‬
‫تدريجيا باســتيعاب دور المشــاعر الســلبية في‬ ‫فإذا بدأت‬
‫اتخــاذ القرارات‪ ،‬وعرفت كيف أنها ال ّ‬
‫تحســن من موقفك في‬
‫مثل تلك الحاالت‪ ،‬حينها ســتبدأ بالتخلص من تلك المشاعر‪،‬‬
‫ً‬
‫وأيضا في مالمح‬ ‫وسينعكس ذلك على ردة فعلك وكالمك‪ ،‬بل‬
‫وجهك التي ســتعبر عن الهدوء وعدم الغضب‪ ،‬وحينها ســيبدأ‬
‫الوضــع بالتغيــر‪ ،‬ألن الشــخص اآلخــر ســيتوقف عــن أفعالــه‬
‫يأت إليك ويســمعك ذلك الكالم‬
‫وكالمه‪ ،‬فهو في األســاس لم ِ‬
‫إال ليحصــل علــى ردة فعــل معينة‪ ،‬وحين تحرمه منها؛ ســيبدأ‬
‫بالتوقف واإلعراض عن تلك التصرفات وذلك الكالم‪.‬‬
‫إن الشــخص الــذي يحــاول التالعــب بــك والتأثيــر علــى‬
‫مشــاعرك‪ ،‬هو في حقيقة األمر ُم ّ‬
‫ســير بواسطة عقله الباطن‬

‫‪20‬‬
‫جلسة عالج‬

‫هــو اآلخــر‪ ،‬والــذي يتحكــم بــه دون أن يشــعر‪ ،‬ألنه مستســلم‬


‫للطاقــة الســلبية التي تخرج منه عبــر كالمه وتصرفاته‪ ،‬وتلك‬
‫الطاقة تؤثر فيمن حوله‪ ،‬وقد تكون أنت أحد الضحايا‪.‬‬
‫تخــرج المشــاعر منا في الغالب بطريقــة غريزية‪ ،‬لكن في‬
‫بعــض األحيــان تكون هــذه الغريزة في غير مكانها المناســب‪،‬‬
‫والدليل على ذلك هو عندما تسمع صوت إنذار أي سيارة في‬
‫الشــارع‪ ،‬فرغــم كونه مجرد صوت عــادي كأي صوت آخر‪ ،‬إال‬
‫أنه قد يصيبك ببعض التوتر والقلق‪ ،‬فهل سألت نفسك ً‬
‫يوما‪:‬‬
‫ً‬
‫‪-‬سلبا‪-‬على مزاجك؟‬ ‫ما سبب هذا القلق؟ ولماذا يؤثر ذلك‬
‫يجــب عليــك أن تفرق بين المشــاعر التي تفيــدك من تلك‬
‫التــي ال تجلــب لــك إال الهم والحزن‪ ،‬فإذا نجحــت في التحكم‬
‫بتلك المشــاعر وتمكنت من ضبط نفســك بعدم التأثر‪ ،‬فأنت‬
‫ً‬
‫فعال قد نجحت في استغالل «قوة اآلن»‪.‬‬
‫لكن هذا ال يعني أنك إن مررت بموقف سيئ أو فقدت أحد‬
‫ً‬
‫أحيانا يحتاج‬ ‫أحبابك؛ أن ال تســمح لتلك المشــاعر بالظهور‪،‬‬
‫اإلنســان بــأن ُيخــرج الطاقة الســلبية كي يســتمر في مشــوار‬
‫الحياة‪ ،‬وحياة اإلنســان بشــكل عام هي عبارة عن خط متعرج‬
‫يحتوي على الكثير من منحنيات الصعود والهبوط‪ ،‬ولو دققت‬

‫‪21‬‬
‫جلسة عالج‬

‫النظــر بداخــل كل منحنــى ســتجد أنــه يحتوي علــى منحنيات‬


‫ً‬
‫وأحيانا يســتمر النــزول ‪-‬أو الصعود‪ -‬لســاعات‪،‬‬ ‫أصغــر منه‪،‬‬
‫بينما قد يطول في أحيان أخرى لسنوات‪.‬‬
‫أنا أؤمن أن كل شــخص مر بموقف ســيئ للغاية‪ ،‬أو حادث‬
‫مؤلم‪ ،‬مثل موت شــخص عزيز على قلبه‪ ،‬أو مرض شــديد ّ‬
‫ألم‬
‫به‪ ،‬أو حتى اغتصاب تعرض له في صغره‪ً ،‬‬
‫أيا كانت األحداث‬
‫الســيئة التــي مــروا بها‪ ،‬أنــا أؤمن أن هؤالء األشــخاص لديهم‬
‫ميزة يتقدمون بها عن البقية‪.‬‬
‫قــوة الطاقــة الســلبية تفــوق الطاقــة اإليجابيــة بمالييــن‬
‫المــرات‪ ،‬يمكــن أن يســتثمرها صاحبهــا في تحقيــق نجاحات‬
‫كبيــرة تفــوق نجاحــات النــاس العاديين‪ ،‬وأنا هنــا أتحدث عن‬
‫تجربة شخصية وعن معرفة بأشخاص آخرين‪ ،‬وسوف تعرف‬
‫‪-‬عزيزي القارئ‪ -‬عبر صفحات هذا الكتاب‪ ،‬كيف تمكنت من‬
‫تخطي حدث سلبي كبير في حياتي‪ ،‬وكيف تمكنت من تحويله‬
‫إلى طاقة إيجابية‪ ،‬طاقة أوصلتني للمكان الذي أنا فيه اآلن‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫جلسة عالج‬

‫الصدمة‬
‫(الجزء األول)‬

‫علــي فــي حياتي‪،‬‬


‫ســأحكي لــك اآلن عــن أهــم حــدث مــر َّ‬
‫القصــة التــي مــن أجلها قــررت كتابة هــذا الكتاب‪ ،‬ما ســوف‬
‫تقــرؤه في هــذه الصفحة والصفحات التاليــة هو مما ال أحب‬ ‫ُ‬
‫التحدث عنه وال أريد حتى تذكره‪ ،‬لكني قررت أن أخرجه من‬
‫صــدري لمــرة أخيرة‪ ،‬ســأقوم بتحويل تلك الذكريــات المريرة‬
‫إلى حروف وكلمات‪ ،‬ثم أنقلها بســالم من خلجات الصدر إلى‬
‫مجموعــة مــن األوراق وأقفــل عليهــا رف الكتــب‪ ،‬ســأدع لتلك‬
‫األرفف تولي المهمة ً‬
‫بدال من تحميل قلبي ما ال يطيق‪.‬‬
‫حين رجعت إلى الكويت في صيف ‪ ،2017‬وبعد أن قضيت‬
‫ً‬
‫بعيدا عن األهل واألصحاب‪ ،‬تفاجأت بأن الجمي َع قد‬ ‫ســنتين‬
‫تغيــر‪ ،‬أَ َبــ َو َّي‪ ،‬إخواني‪ ،‬وحتــى األصدقاء‪ ،‬أخبرتــك كيف ّ‬
‫تخلى‬
‫األصدقــاء عنــي فــي قصة ســابقة‪ ،‬لكن هــذا ال يقــارن بتغير‬
‫أهلك واختالف معاملتهم لك‪.‬‬
‫الجميــع يتغيــر مــع األيام‪ ،‬هذه هي ُس ّــنة الحيــاة‪ ،‬قد يكون‬
‫منظوري أنا لألمور هو الذي تغير‪ ،‬اهلل أعلم‪ ،‬لكن ال شــك أن‬

‫‪23‬‬
‫جلسة عالج‬

‫الشــخص حيــن يهاجــر ويترك أحبابــه لفترة طويلــة هو يترك‬


‫مساحة فارغة في قلوب من حوله‪ .‬المشكلة أن تلك المساحة‬
‫تبدأ باالنكماش مع األيام‪ ،‬الحياة ال تســمح بترك أي فراغات‬
‫في قلوب البشر‪ ،‬وعندما ترجع بعد طول غياب؛ ستجد نفسك‬
‫ً‬
‫غريبــا ليــس لك مــكان بينهم‪ ،‬فإمــا أن تتقبل واقعــك الجديد‬
‫ً‬
‫مطرقا رأســك إلى‬ ‫وتبدأ بصنع مســاحتك بينهم‪ ،‬أو أن ترجع‬
‫حياتك األخرى‪ ،‬حياة الغربة‪ ،‬وأنت بين الغربتين غريب!‬
‫كانــت عودتي في صيــف ‪ 2017‬هي بداية الصدمة‪ ،‬رجعت‬
‫وإذا بأشــياء كثيــرة قــد تغيــرت دون علمــي‪ ،‬تخيــل أن تضــع‬
‫لنفســك صــورة معينــة ثــم تأتي علــى واقع مختلــف‪ ،‬أن تتلقى‬
‫أخبار ســنة كاملة في دقائق معدودة‪ ،‬أشــخاص رحلوا وأطفال‬
‫ولــدوا وتغييــرات كثيرة تتلقاها دفعــة واحدة‪ ،‬فمن جهتهم كان‬
‫األفضــل أال يشــغلوني بتلــك األمــور واألحداث كــي أركز على‬
‫الدراســة‪ ،‬ومن جهتي فقد كان األفضل أن أتلقى األخبار على‬
‫ً‬
‫بــدال من تلــك الصدمة التي‬ ‫جرعــات صغيــرة وقــت حدوثها‪،‬‬
‫واجهتها والشــعور بأني قد انفصلت عن األســرة ولم أعد أحد‬
‫مكوناتها‪ ،‬ويا له من شعور مرير!‬
‫المهــم أن األيــام مضت وقضيت فتــرة اإلجازة في الكويت‪،‬‬

‫‪24‬‬
‫جلسة عالج‬

‫ثــم عــدت إلى حياتي الجديدة في أمريكا‪ ،‬وهذه المرة لم أعد‬


‫إلــى المســتقر األول (نيويــورك) لكني ذهبت إلــى والية ألباما‬
‫في الجنوب‪ ،‬لبداية أول سنة دراسية في الجامعة التي عزمت‬
‫على إكمال المشــوار التعليمي فيها‪ ،‬أما ســبب تركي لنيويورك‬
‫وانتقالي أللباما‪ ،‬فقد كان من ورائه قصة‪:‬‬
‫نيويــورك هــي أغلى مدينة فــي أمريكا‪ ،‬ولــو اعتمدت على‬
‫المنحــة فقــط لمــا كفتني‪ ،‬وبســبب غــالء المعيشــة؛ فقد كان‬
‫ً‬
‫شــهرا بعد شهر‪ ،‬وكان يلح علي باالنتقال‬ ‫أبي يرســل لي المال‬
‫والدراســة فــي والية أرخــص‪ ،‬ونتيجة لذلك؛ فكــرت باالنتقال‬
‫إلــى لــوس أنجلــوس‪ ،‬وقد قدمــت على عدة جامعــات في عدة‬
‫ً‬
‫احتياطا‪ ،‬لكن في نهاية‬ ‫واليــات (منهــا لوس أنجلوس وميامي)‬
‫المطاف لم تقبلني إال جامعتان‪ ،‬األولى في ألباما والثانية في‬
‫تكســاس‪ ،‬أمــا الجامعــة التي في ألباما فقــد كانت في منطقة‬
‫نائية أشبه بالقرية‪ ،‬وأنا بطبعي أحب الخلطة مع الناس وأحب‬
‫زحمة المدن؛ لذلك اخترت تكساس‪.‬‬
‫لكن ‪-‬وعلى غير المتوقع‪ -‬تفاجأت في اليوم التالي بخبر‬
‫وفــاة ثالثــة طلبة نتيجة إطالق نار داخل حــرم الجامعة التي‬
‫نويت الدراســة فيها (جامعة تكســاس)‪ ،‬ثم أخبار عن ســحب‬

‫‪25‬‬
‫جلسة عالج‬

‫الطلبــة الكويتييــن مــن الجامعــة نتيجــة ما يتعرضــون له من‬


‫تهديــدات ومضايقــات عنصريــة‪ ،‬حينهــا لــم يعــد أمامــي إال‬
‫واليــة ألبامــا‪ ،‬فقد باتــت المالذ الوحيد‪ ،‬وإال ضاعت الســنة‬
‫الدراسية‪.‬‬
‫وفي ألباما كان ال بد من التأقلم مع الحياة الجديدة‪ ،‬والتي‬
‫اختلفت كثيرا عن حياة نيويورك الصاخبة‪ ،‬فهنا عقارب الساعة‬
‫تتحرك ببطء‪ ،‬والحياة هادئة رتيبة‪ ،‬وفي تلك المناطق النائية؛‬
‫كنت أحاول شــق طريقي والتغلب على الصعوبات والمعوقات‪،‬‬
‫والتي منها‪ُ :‬بعد المسافات وقلة المواصالت‪.‬‬
‫قررت شــراء ســيارة‪ ،‬أو بعبارة أخرى؛ قررت أن أطلب من‬
‫أبــي أن يشــتريها لــي‪ ،‬فقــد وعدني بشــراء الســيارة في وقت‬
‫سابق‪ ،‬اتصلت به ودارت بيننا مكالمة هاتفية كان لها أثر كبير‬
‫في نفســي‪ ،‬كانت القشــة التــي قصمت ظهر البعير‪ ،‬الشــرارة‬
‫التي أذنت بانطالق الرحلة؛ رحلتي المريرة مع االكتئاب‪.‬‬
‫ُ‬
‫لضحكت‬ ‫أنا على يقين أني لو استمعت لتلك المكالمة اآلن‬
‫على نفســي‪ ،‬والســبب أني أســتمع إليها اآلن في غير ســياقها‬
‫األصلي‪ ،‬وخارج إطار األحداث‪.‬‬
‫ً‬
‫جــدا‪ ،‬ضغوطــات كثيــرة لم يكن‬ ‫كانــت تلــك الفتــرة صعبــة‬

‫‪26‬‬
‫جلسة عالج‬

‫ً‬
‫تائهــا ال أرى‬ ‫بمقــدوري آنــذاك أن أتحملهــا بمفــردي‪ ،‬كنــت‬
‫بشــكل واضح‪ ،‬الراتب مقطوع بســبب إهمال‬
‫ٍ‬ ‫معالم المســتقبل‬
‫المستشــار األكاديمــي‪ ،‬ولم أكن قد وجدت الســكن المناســب‬
‫حينها‪ ،‬وحتى الجامعة لم تكن قد قبلتني بشكل رسمي‪ ،‬وفوق‬
‫هــذا كله؛ ضاعت محفظتي قبلهــا بأيام وفيها جميع بطاقاتي‬
‫وأوراقي‪.‬‬
‫كانــت الصورة معتمة‪ ،‬أحسســت للحظــة أني لن أتمكن من‬
‫إكمــال المشــوار‪ ،‬اجتاحني شــعور االنهــزام المريــر‪ ،‬اعتقدت‬
‫بأني سأجر ذيول الخيبة وأعود أدراجي إلى الكويت‪ ،‬وهذا ما‬
‫كنت أهرب منه وأخشاه‪ ،‬لم أكن أريد الرجوع لحياتي السابقة‬
‫ألســباب شــخصية‪ ،‬أســباب جعلتني أعلق اآلمــال على حياتي‬
‫الجديــدة فــي أمريــكا والتي ســأنطلق منهــا لبناء المســتقبل‪،‬‬
‫المســتقبل الــذي كنــت أراه ينهــار طوبــة طوبة في تلــك األيام‬
‫العصيبة‪ ،‬حتى بلغ األمر ذروته‪.‬‬
‫اتصلــت بوالــدي وحالتــي النفســية شــبه منهــارة‪ ،‬كانــت‬
‫الثانيــة بعــد منتصــف الليل فــي أمريــكا‪ ،‬وكنت أســكن حينها‬
‫فــي فندق معروف فــي المنطقة بخطورته وســمعته المرتبطة‬
‫بتجــار المخــدرات (اضطــررت للســكن فيــه حتــى أجد شــقة‬

‫‪27‬‬
‫جلسة عالج‬

‫مناســبة)‪ ،‬كنت أحدثهم وأنا في الشــارع قــرب الفندق‪ ،‬طلبت‬


‫أبــي فرفض‪ ،‬وأمي بجواره تضحك وتقول «أتفكر ً‬
‫حقا بشــراء‬
‫ســيارة»‪ ،‬أحسســت حينهــا أنهم قد تخلوا عنــي‪ ،‬بعد أن تخلت‬
‫الحيــاة برمتها عني‪ ،‬أحسســت بالخــوف‪ ،‬بالضعف‪ ،‬بالغضب‪،‬‬
‫أحسســت بأشــياء جديــدة لــم تكــن قــد أضيفت إلــى قاموس‬
‫األحاسيس والمشاعر الداخلي‪.‬‬
‫أنــا ال ألــوم والــد ََّي ‪-‬حفظهما اهلل‪ -‬على هــذا األمر‪ ،‬فمن‬
‫الطبيعي أن يعد األب ابنه بشــيء ثم يغير رأيه في المســتقبل‪،‬‬
‫قــد أكــون أنا المالم في هذا‪ ،‬أو ربما الظــروف‪ً ،‬‬
‫أيا كان‪ ،‬فأنا‬
‫ال أحاول هنا أن ألقي اللوم على أي طرف‪ ،‬لكني أسرد فقط‪،‬‬
‫وأتذكر ما يمكن لعقلي أن يتذكره‪.‬‬
‫بعد انتهاء المكالمة كسرت الهاتف بطريقة ال إرادية‪ ،‬رميته‬
‫بكامل قوتي على الحائط فتحول إلى خردة عديمة النفع‪ ،‬ذلك‬
‫التصرف كان بغير وعي مني أو تفكير‪ ،‬وكأنه شخص آخر فعل‬
‫ذلك‪.‬‬
‫كان كســري للهاتــف بمثابــة إعــالن لبداية مرحلــة جديدة‪،‬‬
‫ً‬
‫عالما آخ َر‬ ‫مرحلــة االكتئاب الحاد‪ ،‬المرحلة التــي دخلت فيها‬
‫ً‬
‫مختلفــا‪ ،‬ال يعلمــه الكثيــر مــن البشــر‪ ،‬فقــط قلــة قليلــة ممن‬

‫‪28‬‬
‫جلسة عالج‬

‫يعيشــون بيننا ويتعذبون وحدهم‪ ،‬دون أن نتمكن من فهمهم أو‬


‫إدراك مشاعرهم‪ ،‬ومن هنا بدأت الرحلة‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫جلسة عالج‬

‫اكتئاب حاد‬
‫(الجزء الثاني)‬

‫ً‬
‫طويــال‪،‬‬ ‫ال أدري لمــاذا ظللــت أحــدق فــي ذلــك الحائــط‬
‫ً‬
‫أيضا‬ ‫ً‬
‫قتيال‪ ،‬وال أدري‬ ‫الحائــط الذي اســتقبل هاتفي ثــم أرداه‬
‫كيف مضى الوقت كله حتى طلع الصباح وأنا في الخارج‪ ،‬تائه‬
‫غيــر مســتوعب لمــا قمــت به‪ ،‬لم أكــن أعرف ما هــي الخطوة‬
‫ً‬
‫غريبا على شــخص يبالغ في تنظيم‬ ‫التاليــة‪ ،‬األمــر الــذي كان‬
‫وقته وفي التخطيط لحياته‪ ،‬شــخص ال ينام ليلته حتى يحدد‬
‫أعماله في غده‪ ،‬لم أكن أعرف ما سأقوم به في اليوم التالي‪،‬‬
‫ً‬
‫عمليــا مرحلة جديــدة‪ ،‬المرحلة‬ ‫ً‬
‫أيضا أنــي بدأت‬ ‫ولــم أعــرف‬
‫ً‬
‫مريرا‪.‬‬ ‫ً‬
‫داخليا‬ ‫ً‬
‫صراعا‬ ‫التي عشت فيها‬
‫كأنك مسجون في غرفة بال جدران‪ ،‬رغم الظالم الدامس؛‬
‫تــرى كل شــيء‪ ،‬رغــم الحريــة الكاملة أنت مقيد عــن الحركة‪،‬‬
‫مســجون بداخــل روحــك وال أحد يشــعر بك‪ ،‬تريــد أن تصرخ‬
‫بأعلــى صوتــك لكــن صوتــك مبحــوح وقوتك خائرة‪ ،‬تستســلم‬
‫لألمر الواقع وتعيش في سجنك الصغير‪.‬‬
‫األشــياء الممتعــة لــم تعــد تبهجك‪ ،‬الحيــاة برمتهــا لم تعد‬

‫‪30‬‬
‫جلسة عالج‬

‫تثيــر حماســك‪ ،‬النــاس من حولــك يضحكون ويمرحــون وأنت‬


‫ٌ‬
‫غــارق في أحزانك‪ ،‬في داخلــك رغبة جامحة لالنطالق معهم‬
‫ومشــاركتهم حياتهــم‪ ،‬لكنــك مكبل بقيود ليس لهــا وجود‪ ،‬هي‬
‫مــن نســج خيالــك وعقلــك التائه‪ ،‬تحــاول أن تمســكها أو تجد‬
‫ً‬
‫مفتاحــا تفك بــه أقفالها‪ ،‬تتعب روحك مــن البحث‪ ،‬فتعود‬ ‫لهــا‬
‫إلــى عالمك المظلم وتستســلم لذلك الشــعور الغريب‪ ،‬شــعور‬
‫االكتئاب‪.‬‬
‫أمــر بحالــة اكتئاب حــادة‪ ،‬لم‬
‫لــم أكــن أعــرف حينهــا أنني ُّ‬
‫ً‬
‫مستقال بذاته‪ ،‬وهذه‬ ‫ً‬
‫مرضا‬ ‫ً‬
‫أصال بكون االكتئاب‬ ‫أكن أعترف‬
‫‪-‬لألســف‪ -‬بســبب الثقافة التي تربيت عليها‪ ،‬فلم يكن هنالك‬
‫مــا يســمى بـــ «األمــراض النفســية» فــي قاموســي‪ ،‬وأي حالة‬
‫ً‬
‫دائما للســحر والعين واألشياء‬ ‫غريبة من تلك الحاالت نحيلها‬
‫الميتافيزيقية (ما وراء الطبيعة)‪ً ،‬‬
‫طبعا أنا ال أنكر وجود العين‬
‫ً‬
‫أيضا وجود األمراض النفسية‬ ‫والسحر‪ ،‬لكن ال يجب أن ننكر‬
‫التــي اعتــرف بها العالم وصار لها فــرع كبير من فروع الطب‪،‬‬
‫ً‬
‫غالبا ما يعتبرونه مجرد حزن شديد‪.‬‬ ‫أما االكتئاب فالناس‬
‫ال يــا صديقــي‪ ،‬ال يعتبر االكتئاب أحد أنــواع الحزن‪ ،‬فكما‬
‫أن الفــرح شــعور مســتقل‪ ،‬والحزن شــعور مســتقل‪ ،‬كذلك هو‬

‫‪31‬‬
‫جلسة عالج‬

‫االكتئــاب‪ ،‬الفــرق أن معظــم النــاس لــم تجرب هــذا النوع من‬


‫المشاعر‪ ،‬متوفر بكميات محدودة في العالم‪ ،‬ال تتاح الفرصة‬
‫بتجربته إال لقلة قليلة من الناس‪ ،‬ولألسف فقد كنت أحدهم‪،‬‬
‫ودخلــت عالمهم المظلــم‪ ،‬والحمد هلل الــذي عافاني‪ ،‬وأمدني‬
‫بالقــوة والطاقــة لتجــاوز تلــك المحنــة‪ ،‬ثــم الكتابــة عــن هذه‬
‫التجربة‪.‬‬
‫مــرت األيــام وتــم قبولي فــي الجامعــة‪ ،‬ثم بدأت الدراســة‬
‫ً‬
‫أيضا تمكنت من اســتئجار شــقة مناسبة‪ ،‬كل هذا‬ ‫والمواظبة‪،‬‬
‫مــع اســتمرار حالــة االكتئاب التــي أطالت البقــاء‪ ،‬فقد تطلب‬
‫األمر أكثر من ذلك‪ ،‬يمكن للمتغيرات الخارجية أن تساعد في‬
‫العــالج‪ ،‬لكــن التغيير يجــب أن يبدأ من الداخل‪ ،‬ولألســف لم‬
‫يكن هنالك من يرشدني‪ ،‬أو يخبرني بما كنت ّ‬
‫أمر به‪ ،‬فمعرفة‬
‫الداء هو نصف الدواء‪.‬‬
‫اســتمرت القطيعة مع أســرتي عدة أســابيع‪ ،‬ال أتصل بهم‬
‫وال يعرفــون كيــف يتواصلــون معــي‪ ،‬ال أدري مــا الــذي دفعني‬
‫لــكل ذلــك االنقطــاع‪ ،‬في حين أن األســرة هي أكثــر ما يحتاج‬
‫إليــه المــرء في األوقات الصعبة‪ ،‬أبواك وإخوانك هم أكثر من‬
‫سيشــعر بــك ويعطيــك بال مقابل‪ ،‬قد يكون الســبب هو العند‪،‬‬

‫‪32‬‬
‫جلسة عالج‬

‫أو لرغبتــي فــي أن أثبــت لهــم عــدم احتياجي لهم‪ً ،‬‬


‫وأيــا كانت‬
‫ً‬
‫معذورا ألنــي كنت أتصرف خــارج إطار‬ ‫األســباب‪ ،‬فقــد كنــت‬
‫شخصيتي المعتادة‪.‬‬
‫تمــر األيــام تلــو األيام وأنــا ال أتحدث مع أحــد‪ ،‬أعيش في‬
‫عالــم معــزول أبنيه لنفســي ً‬
‫يوما بعد آخــر‪ ،‬وكلما توالت األيام‬
‫ً‬
‫ســوءا‪ ،‬فمعالم شــخصيتي تتغير‪ ،‬واألسوأ من ذلك‬ ‫ازداد األمر‬
‫أنــي بــدأت أقتنــع بتلــك الشــخصية الجديــدة وأتكيــف معها‪،‬‬
‫حتــى إن مالمحهــا كانت قد بــدأت باالنعكاس علــى المحتوى‬
‫الــذي أنشــره فــي اليوتيوب آنــذاك‪ ،‬فكيف لشــخص عادي أن‬
‫يفكــر فــي أن يمتنــع عن الطعام لمــدة ثالثة أيــام‪ ،‬أو أن يبقى‬
‫ً‬
‫مســتيقظا لخمســة أيام على التوالي‪ ،‬هذه كانت بعض عناوين‬
‫الفيديوهــات التــي نشــرتها فــي تلــك الفترة‪ ،‬لقــد وجدت في‬
‫اليوتيــوب ‪-‬حينها‪ -‬المتنفس الوحيد إلخراج الطاقة الســلبية‬
‫التي امتألت بها روحي‪.‬‬
‫البعض يقولون إن «الضحك بال سبب قلة أدب»‪ ،‬طيب فما‬
‫هو حكم «البكاء بال سبب»؟‬
‫كان هــذا هــو الوضع أيام االكتئاب‪ ،‬أقوم من النوم الســاعة‬
‫ً‬
‫فجــرا ثم أبــدأ بالبكاء‪ ،‬ال تســألني لمــاذا‪ ،‬فلم يكن‬ ‫الخامســة‬

‫‪33‬‬
‫جلسة عالج‬

‫هنالك سبب‪ ،‬ولم تكن مجرد دمعات بسيطة يكابر المرء على‬
‫إخفائها‪ ،‬بل إنه بكاء شــديد من داخل القلب‪ ،‬كأنها الروح تئن‬
‫من جراحها‪.‬‬
‫مضــت أيــام عديدة وأنا أحــاول إنكار كل تلــك المتغيرات‪،‬‬
‫كنت أخاف أن أعترف لنفسي‪ ،‬أن أعترف بضعفي واحتياجي‬
‫للمساعدة من شخص ما‪ ،‬في حين أني كنت ً‬
‫فعال بحاجة ألي‬
‫يد تمتد‪ ،‬لتنتشلني مما كنت فيه وتعيدني للحياة من جديد‪.‬‬
‫تســاءلت في نفســي‪ :‬هل أنا مســحور؟ هل أصابتني عين؟‬
‫بــدأت بااللتــزام باألذكار وعمل الرقية الشــرعية‪ ،‬لكن لم أجد‬
‫ً‬
‫كبيرا‪ ،‬حينها قررت أن أتصل بأختي التي تكبرني بخمس‬ ‫ً‬
‫تغيرا‬
‫ســنوات‪ ،‬فقد كانت األقرب لي‪ ،‬اتصلت بها من هاتف رخيص‬
‫كنت قد اشتريته في تلك الفترة؛ لغرض التواصل مع الجامعة‬
‫وطلب سيارات األجرة‪.‬‬
‫بنبــرة تملؤها الدهشــة‪ ،‬وبصوت يحمــل الكثير من العتاب‪،‬‬
‫ردت أختي على الهاتف‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا بك؟ ما الذي دفعك لفعل هذا؟ شهران ونحن نحاول‬
‫االتصــال بــك دون فائــدة‪ ،‬لقــد اعتقدنا أنك مــت أو جرى لك‬
‫شيء!‬

‫‪34‬‬
‫جلسة عالج‬

‫وحينهــا لم أتمالك نفســي‪ ،‬أجبتها بالدموع بــدل الكلمات‪،‬‬


‫عجــزت عــن أن أحكــي فنطقت الــروح بلغتهــا الخاصة‪ ،‬بكيت‬
‫وبكيت‪ ،‬سألتني بحرقة وألم «ماذا بك؟ لماذا تبكي؟» فأجيبها‬
‫بـــ»ال أدري»‪ ،‬أعلنــت لها عن ضعفي واستســالمي‪ ،‬طلبت منها‬
‫المســاعدة‪ ،‬أخبرتها بأنــي ال أدري ما جرى ويجري لي‪ ،‬كانت‬
‫الدمــوع تنهمــر بطريقة ال إرادية‪ ،‬كما التنفس وضربات القلب‬
‫التــي ال تتحكــم بها‪ ،‬كنت أبكي وأخــاف من هذا البكاء‪ ،‬أخاف‬
‫ً‬
‫جيدا‪.‬‬ ‫من نفسي التي لم أعد أعرفها‬
‫لقد كانت أختي هي اليد الحانية التي امتدت لي وأرشدتني‬
‫ألول الطريق‪ ،‬طريق العودة إلى الحياة‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫‪ -‬سأرسل لك بعض المال كي تذهب للطبيب النفسي‪ ،‬لكن‬
‫ً‬
‫أحدا بذلك‪.‬‬ ‫ال تخبر‬
‫كانــت وصيــة أختــي األخيرة‪ :‬أال أتحدث ً‬
‫أبــدا عن موضوع‬
‫الطبيب النفســي‪ ،‬وال حتى ألبي أو ألمي‪ ،‬وافقت على ذلك ثم‬
‫بدأت بالبحث عن طبيب قريب من منطقة سكني‪.‬‬
‫وهنا وعند هذه النقطة‪ُ :‬يسدل الستار‪ ،‬ويبدأ فصل جديد‪،‬‬
‫فصل العودة إلى الحياة‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫جلسة عالج‬

‫جلسة عالج‬
‫(الجزء الثالث)‬

‫ليس من السهل أن تحدث الناس بنقاط ضعفك وتفاصيل‬


‫أيامــك الســيئة‪ ،‬وال أعتقــد أنــي كنت ســأكمل الكتابــة لو أني‬
‫بــدأت بقصــة االكتئــاب مــن أول صفحــة‪ ،‬لكــن مــا دمــت قــد‬
‫خيــار للتراجع‪ ،‬فقد‬
‫ٌ‬ ‫وصلــت لمنتصــف الطريــق‪ ،‬فلم يعــد ثمة‬
‫ً‬
‫كثيــرا‪ ،‬والفكرة تراودني منذ ســنوات‪( ،‬بــدأت الكتابة‬ ‫تــرددت‬
‫أخــذ ور ٍّد مع النفس؛ قــررت أن أترك ً‬
‫أثرا‪،‬‬ ‫فــي ‪ ،)2017‬وبعــد ٍ‬
‫وأحكي ِع َب ًرا‪ً ،‬‬
‫أيا كانت النتائج‪ ،‬ومهما قال الناس‪.‬‬
‫قررت أن أكتب عن هذه التجربة كي أساهم في تغيير ثقافة‬
‫باليــة؛ الثقافــة التــي جعلتنا ننظر بدونية لمــن يذهب للطبيب‬
‫النفســي‪ ،‬فــي حيــن أن أكثــر مــن نصــف المجتمــع يعانــي من‬
‫مشاكل نفسية بطريقة أو بأخرى‪ ،‬لكن تختلف األنواع وتتفاوت‬
‫الدرجــات‪ ،‬لذلــك أنــا مؤمن أن مجال الطب النفســي من أهم‬
‫المجــاالت التــي نحتاجها اليوم‪ ،‬في هــذا العصر بالذات؛ ألن‬
‫ً‬
‫تعقيدا‬ ‫نمط الحياة يتغير بسرعات فلكية‪ ،‬والحياة تصبح أكثر‬
‫ً‬
‫يوما بعد آخر‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫جلسة عالج‬

‫بعــد مكالمتــي الهاتفيــة مع أختــي؛ بدأت بالذهــاب لعيادة‬


‫الطبيب النفسي‪ ،‬أقولها بدون خجل أو حياء‪ ،‬بل أقولها بفخر‬
‫واعتــزاز بأنــي ‪-‬بفضــل اهلل‪ -‬تمكنــت من تجاوز تلــك المحنة‬
‫وعبــرت ّ‬
‫لبــر األمــان‪ ،‬والحمد هلل الذي أعطانــي القوة لتجاوز‬
‫تلــك المرحلــة‪ ،‬فهنالــك الكثيــر مــن الشــباب ممــن ال يزالــون‬
‫مسجونين بين أسوار ذلك العالم الكئيب‪.‬‬
‫يحدثنــي أحــد األصدقــاء عــن قريبــه الــذي كان يعاني من‬
‫االكتئــاب‪ ،‬وكيف أنهم ذهبوا به للطبيب النفســي أكثر من مرة‬
‫وســافروا به إلحــدى الدول المجاورة لتلقــي العالج‪ ،‬لكن رغم‬
‫ذلك كله لم يتغير شيء‪ ،‬قال إن السبب كان من الشخص نفسه‪،‬‬
‫ً‬
‫مستسلما لعالمه الجديد وشخصيته التي تغيرت مع‬ ‫فقد كان‬
‫األيــام فــي ظل االكتئاب‪ ،‬حتى أصبح مــن الصعب ً‬
‫جدا تحويل‬
‫قناعاته ‪-‬والتي أصبحت راسخة‪ -‬عن نفسه وحياته‪.‬‬
‫أقول هذا الكالم كي أشدد على مسألة أن الطبيب النفسي‬
‫مــا هــو إال شــخص يســاعدك لعبــور الطريق‪ ،‬يرشــدك وينير‬
‫ً‬
‫قدمــا مســؤولية المرء‪ ،‬لن‬ ‫لــك الــدرب فقط‪ ،‬ويبقــى المضي‬
‫يحملك أي إنسان فوق رأسه ويوصلك للضفة األخرى‪ ،‬فإن لم‬
‫يكــن لديك العــزم واإلصرار لتجاوز العقبــات في حياتك‪ ،‬فلن‬

‫‪37‬‬
‫جلسة عالج‬

‫يتمكــن أي شــخص من فعل ذلك نيابة عنــك‪ ،‬ولو امتلك أعلى‬


‫الشهادات‪.‬‬
‫كان اختياري للطبيب النفسي بمساعدة العم قوقل وشبكة‬
‫ً‬
‫تقريبا‪ ،‬وقد‬ ‫ً‬
‫طبيبا يبعد عني ساعة بالسيارة‬ ‫االنترنت‪ ،‬اخترت‬
‫بنــاء على عــدد التقييمــات اإليجابيــة الحاصل عليها‬
‫اخترتــه ً‬
‫ً‬
‫ماهرا بحمد اهلل (هذا ما اكتشفته‬ ‫ً‬
‫طبيبا‬ ‫ً‬
‫وفعال كان‬ ‫أونالين‪،‬‬
‫مع األيام)‪.‬‬
‫ً‬
‫(طبيبا‬ ‫لم أكن أعرف ‪-‬حينها‪ -‬كيف يمكن لشخص يسمونه‬
‫ً‬
‫نفسيا) أن يساعدني‪ ،‬إن كنت ال أعرف أنا ما الذي يجري لي؛‬
‫فكيــف ســيعرف شــخص آخر هذا األمر‪ ،‬لذلــك فقد كان أول‬
‫سؤال وجهته للدكتور حين لقائي به هو‪:‬‬
‫> كيف يمكن أن تساعدني؟‬
‫> سنأخذ األمر بشكل مبسط‪.‬‬
‫هكذا أجاب وأخبرني باآللية التي سنتبعها‪ :‬سأقوم بزيارته‬
‫مرة واحدة كل أسبوع‪ ،‬كل جلسة مدتها ‪ 3‬ساعات‪ ،‬خالل تلك‬
‫الســاعات ســأقوم بالتحدث عن كل شــيء مررت به في األيام‬
‫إلي بعض األســئلة وأنا أجيبــه‪ ،‬ثم يعطيني‬
‫الســابقة‪ ،‬ســيوجه ّ‬
‫ً‬
‫واجبــا ألدائــه حتــى موعــد الجلســة القادمة‪ ،‬وقــد كان واجب‬

‫‪38‬‬
‫جلسة عالج‬

‫األســبوع األول هو كتابة أكثر ‪ 5‬أشــياء أعاني منها أو أرى أنها‬


‫سببت لي مشاكل في حياتي‪.‬‬
‫وبهــذه الطريقــة جــرت األمــور؛ أذهــب إليــه كل يــوم إثنين‬
‫ً‬
‫صباحــا (بعــد أن أنهــي محاضراتي‬ ‫الســاعة الحاديــة عشــرة‬
‫في الجامعة)‪ ،‬وخالل الجلســات األولى كنت أتحدث والطبيب‬
‫يســتمع ثــم يوجــه لي األســئلة‪ ،‬إلى أن أتت اللحظــة التي بدت‬
‫فيها تباشــير الصباح الباســم‪ ،‬وأحسســت عندها أني وجدت‬
‫مفتاح تلك األغالل‪.‬‬
‫تلــك اللحظــة كانت عندمــا عرفت نوع الحالــة وتفاصيلها‪،‬‬
‫لســبب ما شــعرت بالفرحــة الغامرة رغم عدم وجــود ما يفرح‬
‫في كالمه‪ ،‬فقد قال إني أعاني من اكتئاب شــديد وإن درجته‬
‫أعلى ما تكون‪ ،‬وإنها من الحاالت النادرة التي قابلها‪ ،‬أخبرني‬
‫أنــه فــي العادة ال يتعامل بنفســه مع هذه الحــاالت‪ ،‬بل يحيلها‬
‫لمختصين آخرين كي تتم جلسات العالج في بيئة آمنة تحمي‬
‫الشخص من إيذاء نفسه أو االنتحار؛ لشدة حالته وخطورتها‪.‬‬
‫«االنتحار» !!!‬
‫الحمــد هلل أن إيمانــي حماني من تلك الهاوية‪ ،‬والحمد هلل‬
‫على نعمة اإلسالم‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫جلسة عالج‬

‫بالطبــع لــم تكن تلك إال البداية‪ ،‬معرفــة الداء أصل الدواء‬
‫كمــا يقــال‪ ،‬أمــا الخطوة التالية فقد كانــت تحديد نوع العالج‪،‬‬
‫خيرنــي بيــن العــالج بالعقاقيــر أو العالج النفســي بــدون تلك‬
‫األدويــة‪ ،‬فاختــرت الطريقة الثانية‪ ،‬لــم أتمكن من هضم فكرة‬
‫عالج حالة نفســية بأدوية طبية‪ ،‬والحمد هلل أني اخترت هذا‬
‫الخيار‪ ،‬ألنها طريقة تنمي لديك قوة اإلرادة‪.‬‬
‫ً‬
‫شخصا يقرؤها‬ ‫سأذكر هنا بعض التفاصيل عن العالج‪ّ ،‬‬
‫عل‬
‫فيستفيد منها‪ ،‬فليس كل الناس قادرين على الذهاب للطبيب‬
‫النفسي‪ ،‬أو مقتنعين بدوره المهم في عالج مثل هذه الحاالت‪:‬‬
‫ً‬
‫جميال‬ ‫ً‬
‫مثــاال‬ ‫فــي البدايــة بــدأ بشــرح الحالــة‪ ،‬ضــرب لــي‬
‫لخــص الموضــوع‪ ،‬أخبرني بأني مثل شــخص علقت رجله في‬
‫ً‬
‫فشيئا‪،‬‬ ‫اإلســمنت‪ ،‬والحل هو في التحرك بشــكل متدرج‪ً ،‬‬
‫شيئا‬
‫ومع كل خطوة ستخف الحمولة وتسهل الحركة‪ ،‬حتى يتخلص‬
‫ً‬
‫تمامــا من تلك الكتلة التي أعاقته عن االســتمتاع بالحياة‪ ،‬أما‬
‫الخطــوات التــي طلب مني اتباعها في ســبيل ذلك‪ ،‬فقد كانت‬
‫كالتالي‪:‬‬
‫ً‬
‫جيدا‪ ،‬ثم‬ ‫طلــب منــي فــي البداية أن أهتم بغذائــي وأن آكل‬
‫طلــب منــي أن أتحدث لشــخص مــا كل يوم لعشــر دقائق على‬

‫‪40‬‬
‫جلسة عالج‬

‫األقــل‪ ،‬شــخص حقيقي يجلس أمامي وليــس عبر االنترنت أو‬


‫شــبكات التواصل‪ ،‬وبالفعل تعرفت على شــاب أمريكي اســمه‬
‫«ســتيفن»‪ ،‬وصار صديقي في تلك الفترة‪ ،‬حتى إنه ظهر معي‬
‫في بعض الفيديوهات التي نشرتها آنذاك‪.‬‬
‫باإلضافــة إلــى األكل الجيــد والتحدث مــع اآلخرين‪ ،‬طلب‬
‫منــي التخفيــف مــن الحمولــة الثقيلة‪ ،‬قــال إني مثل الســفينة‬
‫التــي تحتــوي علــى شــحنات (صناديــق) كثيــرة تفــوق طاقتها‬
‫ً‬
‫تدريجيا بسبب تلك الحمولة‬ ‫االســتيعابية‪ ،‬هذه السفينة تغرق‬
‫الزائدة‪ ،‬تلك الصناديق ترمز إلى المسؤوليات وااللتزامات في‬
‫حياتي‪ ،‬فهنالك الجامعة والســكن واليوتيوب واألهل وتفاصيل‬
‫حياتية كثيرة‪.‬‬
‫ً‬
‫تدريجيا ‪-‬بحمد اهلل‪-‬‬ ‫مضت فترة العالج واألمور تتحســن‬
‫حتــى تخطيــت المرحلــة بالكامل خــالل ثالثة أو أربعة أشــهر‬
‫ً‬
‫تقريبا‪.‬‬
‫وهكــذا تمــت األحــداث‪ ،‬وانتهــت القصة‪ ،‬ووصلــت لقناعة‬
‫مفادهــا أن الطــب النفســي هــو مــن المجــاالت المهمــة فــي‬
‫ً‬
‫منجذبــا لهذا العلم ولغور أســرار‬ ‫الحيــاة‪ ،‬حتــى إنــي أصبحت‬
‫النفــس البشــرية واستكشــاف أبعادهــا‪ ،‬ورســالتي موجهــة‬

‫‪41‬‬
‫جلسة عالج‬

‫لألهالــي قبل أن تكون للشــباب؛ إن الذهاب للطبيب النفســي‬


‫ً‬
‫معيبــا‪ ،‬وإنــه ال ينبغــي أن ننتظر حتــى يصل االبن‬ ‫ً‬
‫أمــرا‬ ‫ليــس‬
‫أو البنــت لمرحلــة االكتئــاب الحــاد ثم نقــرر أن نأخذهم لتلك‬
‫العيادات‪ ،‬فالكثير من الحاالت النفسية تحتاج ألولئك األطباء‬
‫الذين درســوا ســنوات عديدة واكتسبوا خبرات كبيرة في هذا‬
‫المجــال‪ ،‬ليســوا مجرد «بياعيــن كالم»‪ ،‬والكالم فــي حد ذاته‬
‫هينا‪ ،‬فكم من كلمة أوصلت صاحبها ُ‬
‫للعال‪ ،‬وكم من‬ ‫أمرا ً‬
‫ليس ً‬
‫كلمة هبطت بقائلها لمهاوي الردى‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫جلسة عالج‬

‫ذكريات مدرسية‬

‫«المعلم هو الشخص الذي لن تنساه ما حييت»‬


‫ً‬
‫مقتنعا بتلــك العبارة‪ ،‬أمــا اآلن فليس‬ ‫فــي الســابق لــم أكــن‬
‫لــي خيار ســوى التصديق بها‪ ،‬فبعد ســنوات من فــراق الحياة‬
‫المدرسية‪ ،‬ال يزال سديم الذاكرة يحمل في جعبته الكثير من‬
‫القصــص والحكايــات‪ ،‬ذكريات لمدرســين تركــوا بصمتهم في‬
‫ســواء بالخيــر أو الشــر‪ ،‬وإن كنت أعتقــد أن المدرس‬
‫ً‬ ‫حياتــي‬
‫السيء يترك بصمة أقوى بكثير مما يفعله المدرس الجيد‪.‬‬
‫ً‬
‫موقفا حصل مع أحد المدرسين مما يصعب‬ ‫ســأحكي لكم‬
‫علي نســيانه‪ ،‬فكيف أنســاه وبطل القصة (المدرس) مســتمر‬
‫ّ‬
‫في متابعتي عبر انســتقرام وســناب شــات حتى هذه اللحظة‪،‬‬
‫هذا المدرس لم يكن صاحب ذكرى حميدة‪ ،‬بل إنه تســبب لي‬
‫ً‬
‫عزيزا علــى قلبي وعلى‬ ‫بموقــف محــرج مع مــدرس آخــر كان‬
‫قلوب كل الطلبة‪ ،‬إليكم الحكاية ومختصر الرواية‪:‬‬
‫ً‬
‫طيبــا لدرجة أن‬ ‫كان لدينــا معلــم للرياضــة واأللعاب‪ ،‬وكان‬
‫واحد منهم‪ ،‬وفي أحد األيام غاب‬
‫ٌ‬ ‫جميــع الطالب أحبــوه‪ ،‬وأنا‬
‫معلم آخر‪ ،‬وبدون ســابق إنذار طلب‬
‫هــذا المدرس ونــاب عنه ٌ‬

‫‪43‬‬
‫جلسة عالج‬

‫منــي المعلم الجديد بأن أقف وســط الفصــل ليراني الجميع‪،‬‬


‫ثم توجه للطالب بهذا السؤال‪:‬‬
‫‪ -‬من هو صاحب أقبح وجه في الفصل ؟‬
‫ســكت الجميــع وعلــى وجوههــم مالمــح االســتغراب‪ ،‬أمــا‬
‫ً‬
‫قائال‪:‬‬ ‫المدرس فلم يطل صمته‪ ،‬بل بادر باإلجابة‬
‫‪ -‬إنه سلمان‬
‫‪ -‬أال ترون كيف يبدو وجهه؟‬
‫لم تكن بيني وبينه أي مواقف سابقة‪ ،‬ال أدري ما هو سبب‬
‫تلك السخرية والتعامل السيء الذي واجهني به في ذلك اليوم‬
‫تنته هنا‪ ،‬الحدث األهم هو‬
‫واأليام التالية‪ ،‬المهم أن القصة لم ِ‬
‫بعد أن عاد إلينا مدرسنا األصلي الذي نحبه‪ ،‬وحينها تنفسنا‬
‫الصعداء‪ ،‬وبدأنا نتجاذب أطراف الحديث في الفســحة‪ ،‬كنت‬
‫مــع صديقــي أحدثه عن المدرس اآلخر‪ ،‬أخبرته بأني ال أحبه‬
‫وال أطيــق وجــوده معنــا‪ ،‬ولســوء الحــظ كان المــدرس الطيب‬
‫المعني‬
‫ّ‬ ‫وراءنــا ونحــن ال ندري‪ ،‬واســتمع للمحادثة ً‬
‫ظنا منه أنه‬
‫ً‬
‫طبعــا لم أعرف ذلك األمر إال فــي اليوم التالي حين‬ ‫بالــكالم‪،‬‬
‫إلي هذا السؤال‪:‬‬
‫طلب مني الحضور لغرفة المدرسين‪ ،‬ووجه ّ‬
‫‪ -‬لماذا قلت عني كذا وكذا‪...‬؟‬

‫‪44‬‬
‫جلسة عالج‬

‫ً‬
‫متسمرا ال أدري ماذا أقول أو كيف أدافع عن نفسي‪،‬‬ ‫وقفت‬
‫فقــد كان المــدرس اآلخــر ‪-‬الــذي كنــت أقصده فــي الكالم‪-‬‬
‫يجلــس في الغرفة نفســها‪ ،‬ولألســف كان قــد زرع الخوف في‬
‫قلبــي لدرجة أني لــم أتمكن من االعتراف وقولها صريحة في‬
‫المعنــي بالكالم‪ ،‬لــم أجد إال الصمت ثــم الخروج‬
‫ّ‬ ‫وجهــه بأنــه‬
‫ً‬
‫موقفا مني ولم‬ ‫ً‬
‫مطرقا رأســي‪ ،‬أما المدرس الطيب فقد أخذ‬
‫يعد يعاملني كما في السابق‪.‬‬
‫مــرت األيــام والســنون دون أن أجــد الفرصــة لمصارحتــه‬
‫ً‬
‫تقريبا‪ ،‬بعد أن فارقت المدرسة‬ ‫بالحقيقة‪ ،‬وبعد ســبع سنوات‬
‫ودخلــت حيــاة الجامعــة‪ ،‬قــررت أن أبعــث لــه برســالة اعتذار‬
‫وتوضيــح عبــر وســائل التواصــل االجتماعــي‪ ،‬وحيــن وصلــت‬
‫ً‬
‫مســتغربا بأنــه ال يتذكــر ذلــك الموقــف‪،‬‬ ‫رســالتي إليــه‪ ،‬رد‬
‫ً‬
‫ومتسائال كيف أني ال زلت أتذكر‪.‬‬
‫قــد يصــل هــذا الكتــاب ليد المــدرس الــذي أهاننــي أمام‬
‫التالميذ فيقرأ كالمي ويكتشف أن مثل تلك المواقف يصعب‬
‫نســيانها‪ ،‬وأن مهنــة التدريس هي مهنة عظيمــة‪ ،‬وإن كان ثمة‬
‫رســالة أوجهها إليه‪ ،‬فهي أنه اآلن أب ولديه أوالد ســيذهبون‬
‫ً‬
‫ســعيدا عندمــا يأتــي مــدرس‬ ‫ً‬
‫يومــا للمدرســة‪ ،‬فهــل ســيكون‬

‫‪45‬‬
‫جلسة عالج‬

‫ويتصرف مع فلذة كبده بمثل ذلك التصرف؟‬


‫لــم يكن ذلــك هو المعلم الوحيد والذكرى الســيئة‪ ،‬فهنالك‬
‫نمــاذج أخرى مرت علي‪ ،‬منها مدرس اللغة العربية المســتجد‬
‫الــذي أتانــا من دولــة عربية أخرى‪ ،‬ويبدو أن العنف والقســوة‬
‫ً‬
‫عاديــا في المكان الــذي أتى منه‪ ،‬وحين أتحدث عن‬ ‫ً‬
‫أمــرا‬ ‫كان‬
‫القســوة هنــا‪ ،‬فأنا ال أقصد الضرب على اليــد أو التوبيخ‪ ،‬بل‬
‫الكسر وإحداث النزيف‪.‬‬
‫في أول حصة له‪ ،‬تحدث إلينا بلهجة صارمة وقال‪:‬‬
‫‪ -‬افتحوا الكتب ورددوا ورائي‬
‫ً‬
‫واحدا‪ ،‬وحيــن رآه المدرس توجه‬ ‫ً‬
‫جميعــا الكتــب إال‬ ‫فتحنــا‬
‫إليه ودار من خلفه ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬لماذا لم تفتح كتابك؟‬
‫‪ -‬نسيته في البيت‬
‫وفجأة وبدون سابق إنذار؛ َل َك َم المدرس الطالب في وجهه‪،‬‬
‫وكان فــي إصبعــه خاتــم‪ ،‬ممــا أدى إلــى خــروج الــدم من أنف‬
‫الطالــب‪ ،‬صمــت الجميــع في رهبة وخوف‪ ،‬ومــن تلك اللحظة‬
‫عرفنا أن هذا المدرس ليس كمن عرفنا من مدرسين آخرين‪،‬‬
‫ً‬
‫عنيفــا يغضــب ألتفه‬ ‫وأثبتــت األيــام صــدق توقعنــا‪ ،‬فقــد كان‬

‫‪46‬‬
‫جلسة عالج‬

‫األمور‪ ،‬حتى إنه رمى أحد الطالب بكرســي كان أمامه فكســر‬
‫ّ‬
‫الممر‬ ‫وس ِــم َعنا نتحــدث وهو في‬
‫يــد الطالــب‪ ،‬وكان إذا حضر َ‬
‫يعاقــب الفصــل بأكملــه‪ ،‬وغيرها من المواقــف التي اضطرتنا‬
‫ألن نشــتكيه أكثر من مرة‪ ،‬لكن ال حياة لمن تنادي‪ ،‬ففي نهاية‬
‫ً‬
‫دائما على حــق والطالب على خطأ‪ ،‬وهذه‬ ‫المطــاف المــدرس‬
‫لألسف إحدى سلبيات النظام التعليمي‪.‬‬
‫مــن محاســن الصــدف أني كنت أفضــل طالب عنــده‪ ،‬كان‬
‫ً‬
‫راضيا‬ ‫يعاملني بطريقة أفضل من البقية‪ ،‬في حين أني لم أكن‬
‫عمــا يحــدث لزمالئي‪ ،‬وخاصة زميلنا الــذي تلقى أول ضربة‪،‬‬
‫فقــد أدى به الموقــف ألن يعاند أكثر وأكثر حتى أصبح األكثر‬
‫ً‬
‫جميعا‪.‬‬ ‫ً‬
‫تضررا من بيننا‬
‫فــي نهايــة المطاف؛ كانــت نهاية المدرس علــى يدي‪ ،‬رغم‬
‫كوني المفضل لديه‪.‬‬
‫كان ذلــك بعــد أن زاد األمــر عــن حــده وقــررت أن أكتــب‬
‫ورقــة أطالــب فيها بتبديل المدرس‪ ،‬ثم جمعت توقيعات جميع‬
‫الطــالب في الفصــل وقدمتها إلدارة المدرســة‪ ،‬لم أكن أتوقع‬
‫ً‬
‫ســريعا‪ ،‬الرد العملي أقصد ال النظري‪ ،‬حيث لم‬ ‫أن يأتي الرد‬
‫يمر يوم حتى تم ُفصل المدرس من المدرســة بأكملها‪ ،‬فرحل‬

‫‪47‬‬
‫جلسة عالج‬

‫ذلك الكابوس واختفى من حياتنا لألبد‪.‬‬


‫بالطبع لم تكن كل ذكرياتي مع المدرســين ســيئة‪ ،‬فكم من‬
‫أثــرا ً‬
‫طيبا فــي قلوبنا‪ ،‬لكن‬ ‫مــدرس طبــع ذكرى حميــدة وترك ً‬
‫ً‬
‫ســابقا‪ -‬المدرس الســيئ يبقى في الذاكرة أكثر‬ ‫‪-‬وكما ذكرت‬
‫من الطيب‪.‬‬
‫ً‬
‫إيجابيا وذكرى طيبة فقد‬ ‫ً‬
‫تأثيرا‬ ‫في‬
‫أما أعظم مدرس ترك ّ‬
‫كان األستاذ صابر (مصري الجنسية)‪ ،‬مدرس اللغة االنجليزية‬
‫فــي ســنوات المتوســطة‪ ،‬كان يحبنــي ويعتبرني مثــل ابنه‪ ،‬كان‬
‫سواء‬
‫دائم الســؤال عني ولم يكن يتوانى في مد يد المســاعدة ً‬
‫فيمــا يخص مادته الدراســية أو في أي شــيء آخــر‪ ،‬ولعله من‬
‫جعلني أحب اللغة االنجليزية حتى يومنا هذا‪.‬‬
‫مما أتذكر؛ أن الطالب اجتمعوا في أحد األيام وطلبوا مني‬
‫أن أطلب من األستاذ صابر أن يأخذنا في رحلة‪ ،‬كوني األقرب‬
‫ً‬
‫وطبعا وافق بدون تردد ثم ذهبنا في األسبوع التالي‪ ،‬وقد‬ ‫إليه‪،‬‬
‫كانت رحلة جميلة قربت المســافات‪ ،‬حتى أصبح بالنســبة لي‬
‫مثل األب الحنون الحريص على مصلحة ابنه‪.‬‬
‫لألســف كان األســتاذ صابر يعاني من مشكلة صحية‪ ،‬فقد‬
‫ً‬
‫بدينا‪،‬‬ ‫ً‬
‫نحيال بينما النصف األســفل‬ ‫كان نصف جســمه العلوي‬

‫‪48‬‬
‫جلسة عالج‬

‫وهذا ما جعل بعض التالميذ يطلقون عليه كنية (القبقب)‪ ،‬كم‬


‫أتألم عندما أتذكر هذا األمر وخاصة أن اهلل قد قبض روحه‬
‫بعدها بسنوات‪ ،‬كانت الصدمة شديدة على نفسي حين عرفت‬
‫ذلــك‪ ،‬فحيــن انتقلت لمدرســة أخرى (في المرحلــة الثانوية)‪،‬‬
‫ً‬
‫حامال معي هدية له‪،‬‬ ‫عدت بعدها بفترة لزيارة األستاذ صابر‬
‫عبارة عن عطر كان قد أثنى عليه في أحد األيام حين وصلت‬
‫رائحته إلى أنفه‪ ،‬فأحببت أن أهديه زجاجة العطر تلك كتعبير‬
‫بسيط عن شكري وامتناني لكل الطيبة والتعامل الحسن الذي‬
‫فاح منه طوال الســنوات الســابقة‪ ،‬وحين وصلت وســألت عنه‬
‫أخبروني أنه قد غادر دنيانا وانتقل لعالم البرزخ‪ ،‬بعدها بقيت‬
‫ً‬
‫كامــال في المنــزل ال أتحدث مع أحد بســبب الحزن‬ ‫ً‬
‫أســبوعا‬
‫الذي ألم بي‪.‬‬
‫البعــض ال يتذكــر المدرســة بخيــر‪ ،‬ويحمــد اهلل أن نجــاه‬
‫منها‪ ،‬لكني على العكس من ذلك؛ ذكريات المدرسة في أغلبها‬
‫جميلــة وحياتي فيها كانت ســعيدة‪ ،‬صحيــح أني كنت األفضل‬
‫ً‬
‫دائما (رغم أنــي لم أكن‬ ‫فــي الفصــل ودرجاتــي كانت مرتفعــة‬
‫أذاكــر إال ليلــة االختبــار‪ ،‬وحتــى الواجبــات كنــت أكتبها داخل‬
‫الفصــل قبــل الطابور)‪ ،‬لكن رغم ذلك؛ كان الســبب الرئيســي‬

‫‪49‬‬
‫جلسة عالج‬

‫ً‬
‫منــزال والزمالء كانوا‬ ‫لتعلقــي بالمدرســة هــو ألن الفصــل كان‬
‫ً‬
‫بعضا‪ ،‬لدرجة أننا‬ ‫ً‬
‫إخوانا‪ ،‬كنا مجتمعين متآلفين نحب بعضنا‬
‫ً‬
‫واحدا كل‬ ‫ً‬
‫دينــارا‬ ‫ً‬
‫ماليــا يضع فيــه كل طالب‬ ‫ً‬
‫صندوقــا‬ ‫أنشــأنا‬
‫معطــرا ً‬
‫آليا وأريكــة وثالجة‬ ‫ً‬ ‫شــهر‪ ،‬ومــن ذلك المال اشــتريت‬
‫ً‬
‫جميعا أســرة‬ ‫للفصل‪ ،‬فكنا نشــعر حينها بأننا في منازلنا وأننا‬
‫واحدة‪.‬‬
‫دعني عزيزي القارئ أختم بهذه القصة الطريفة كي أترك‬
‫ابتسامة عابرة على محياك …‬
‫متثاقال َ‬
‫ض ِج ًرا من المدرسة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫في أحد األيام التي كنت فيها‬
‫ً‬
‫ماكرا‪ ،‬أن نقوم بالهروب بشــكل‬ ‫ً‬
‫مقترحا‬ ‫طرحــت على زمالئي‬
‫جماعــي‪ ،‬فحيــن يقدم أحد الطالب على الهرب فســيعاقب ال‬
‫ً‬
‫شــيئا حيال‬ ‫محالــة‪ ،‬لكــن إن هــرب الفصــل بأكمله فلن يفعلوا‬
‫ذلك‪.‬‬
‫دخلنا المســجد أثناء الفسحة وانتظرنا حتى غادر الجميع‬
‫ً‬
‫ســريعا (التي كانت تطل على‬ ‫ودخلوا فصولهم‪ ،‬فتحنا النافذة‬
‫ً‬
‫حديثا‪،‬‬ ‫خــارج المدرســة) وإذا بنا نفاجأ بوجود ســور تــم بناؤه‬
‫حينهــا وقعنــا في الحيرة‪ ،‬كنا عالقين هنــاك غير قادرين على‬
‫الخروج أو العودة‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫جلسة عالج‬

‫لم يكن لدينا خطة بديلة‪ ،‬لكن كان هنالك جزء من الســور‬
‫ً‬
‫ملعبــا يفصل‬ ‫قصيــر يمكــن القفــز منــه‪ ،‬المعضلــة أن هنالــك‬
‫بيننــا وبيــن ذلك الســور‪ ،‬والملعب مكشــوف على نافــذة ناظر‬
‫المدرســة‪ ،‬وكان مــن المرجــح أن يرانــا ونحن نعبــر من خالل‬
‫ً‬
‫جميعا‬ ‫الملعــب‪ ،‬لكن ‪-‬وعلى الرغم من ذلك‪ -‬قررنا أن نركض‬
‫بأقصى ســرعة دفعة واحدة ونعبر الملعب حتى نصل للســور‪،‬‬
‫ً‬
‫وفعال انطلق الجميع في مشهد حماسي يشبه مشهد مسابقات‬
‫الجري العالمية‪.‬‬
‫وصلنا إلى الســور ثم تســلقنا وقفزنا‪ ،‬وقبل أن أنطلق نحو‬
‫ً‬
‫صوتا من خلفــي يقول (ثلمــان ثلمان)‪،‬‬ ‫الحريــة إذا بــي أســمع‬
‫لقــد كان صديقــي المصاب بلثغة في نطقه (ينطق حرف الثاء‬
‫ً‬
‫عالقا‪ ،‬وفي الوقت‬ ‫ً‬
‫بدال من السين) نظرت إلى الخلف فأجده‬
‫ً‬
‫مســرعا مــن الجهة األخرى في‬ ‫ذاتــه رأيــت الوكيل وقد انطلق‬
‫الملعب باتجاهنا‪ ،‬حينها أمسكت بيد صديقي وحاولت سحبه‬
‫نحــوي بــكل مــا أوتيت من قــوة‪ ،‬ولم أكن أعــرف أن يده عالقة‬
‫في المثلث الحديدي أعلى السور‪ ،‬فأدى ذلك ألن ُتجرح راحة‬
‫ً‬
‫بليغــا‪ ،‬وبعــد أن ركضنــا ووصلنا إلــى منطقة آمنة‬ ‫ً‬
‫جرحــا‬ ‫يــده‬
‫تفحصــت يــده وإذا بالدمــاء تنــزف منها‪ ،‬فلم يكــن مني إال أن‬

‫‪51‬‬
‫جلسة عالج‬

‫اتصلت بالســائق وذهبت به للمستشــفى‪ ،‬وهناك قاموا بترقيع‬


‫يده ثم بقيت مضمدة أكثر من شهرين‪.‬‬
‫كانــت تلك بعــض الذكريات والمواقف التــي أحببت ذكرها‬
‫هنا‪ ،‬حتى نخفف من عناء الرحلة (رحلة القراءة) ونلطف أجواء‬
‫الكتــاب‪ ،‬فالعقل يحتاج للترويح بيــن الفينة واألخرى‪ ،‬وطريقة‬
‫الترويح هنا هي أن أسرد لك بعض القصص الخفيفة‪ ،‬لتتزود‬
‫منها بوقود االبتسامة‪ ،‬حتى تكمل الطريق وتصل للنهاية‪ ،‬آلخر‬
‫ورقة في هذا الكتاب‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫جلسة عالج‬

‫تجربة أكل العنكبوت‬


‫(الجزء األول)‬

‫هنالــك مواقــف وأحــداث فارقة فــي حياة اإلنســان‪ ،‬يمكن‬


‫اعتبارها األعمدة الرئيســية التي ُتب َنى بها الشــخصية‪ ،‬تخيل‬
‫معــي أن شــخصيات النــاس تتفــاوت مثــل البنايــات المتفاوتة‬
‫فــي االرتفــاع‪ ،‬فهنالــك مــن يمتلكون شــخصيات قويــة تناطح‬
‫الســحاب‪ ،‬ولقــد تطلبــت ناطحــات الســحاب تلــك للكثيــر من‬
‫الجهــد والتضحيــة من أجل بناء أعمدة قوية راســخة‪ ،‬والفرق‬
‫هنا أن أعمدة شخصية اإلنسان ال تبنى ‪-‬غالبا‪ -‬عن قصد‪ ،‬بل‬
‫ُتبنى عبر المواقف واألحداث‪ ،‬وخاصة تلك التي تهز اإلنسان‬
‫عنيفــا‪ ،‬فتترك ُعوده وقد ازداد صالبة‪ ،‬وشــخصيته وقد‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫هــزا‬
‫ً‬
‫عمقا‪.‬‬ ‫ازدادت‬
‫علي نسيانها‪ ،‬حادثة‬
‫من المواقف التي مررت بها ويصعب ّ‬
‫أكل العنكبــوت‪ ،‬نعــم هــذا صحيــح‪ ،‬أكل عنكبــوت‪ ،‬وأنــا هنا ال‬
‫أتحــدث عــن مشــهد رأيتــه في فيلــم رعب أو قرأتــه في قصة‬
‫ً‬
‫جزءا من عنكبوت‬ ‫خيالية‪ ،‬فبطل القصة هو أنا‪ ،‬وبالفعل أكلت‬
‫تهور طائشة‪.‬‬
‫في لحظة ٍ‬

‫‪53‬‬
‫جلسة عالج‬

‫حدث األمر نهاية عام ‪ ،2017‬وفي بداية أحد األشتية(جمع‬


‫شتاء) األمريكية الباردة‪ ،‬بعد خروجي من الحالة النفسية التي‬
‫ً‬
‫متحمسا للنشر عبر‬ ‫ً‬
‫نشيطا‬ ‫ً‬
‫سابقا‪ ،‬وفي فترة كنت فيها‬ ‫ذكرتها‬
‫اليوتيــوب‪ ،‬فمن له خلفية بالنشــر وصناعــة المحتوى المرئي‪،‬‬
‫يعلــم أن أحــد مفاتيح النجاح في اليوتيوب هو االســتمرار في‬
‫النشــر دون توقف أو انقطاع‪ ،‬ولقد عزمت قبل الحادثة بأكثر‬
‫ً‬
‫أسبوعيا وأال أسمح لنفسي بالتغيب‬ ‫من شهر؛ أن أنشر فيديو‬
‫أو االعتــذار‪ ،‬مهمــا تعكــر المزاج أو تغيرت النفســية‪ ،‬حيث إن‬
‫ً‬
‫ارتباطا‬ ‫النشر المرئي ‪-‬بالنسبة لي‪ -‬مرتبط بالحالة النفسية‬
‫ً‬
‫وثيقا‪.‬‬
‫لقد قررت أن أعاقب نفسي إن أنا انقطعت عن النشر بأن‬
‫ً‬
‫حقيقيا‪.‬‬ ‫ً‬
‫عنكبوتا‬ ‫آكل‬
‫ســارت األمــور علــى ما يرام فــي األســبوع األول‪ ،‬ثم الثاني‬
‫والثالث والرابع‪ ،‬وبعد قرابة الشهر‪ ،‬حدث وأن ّ‬
‫مر أسبوع كامل‬
‫دون نشــر‪ ،‬وهنا عزمت على تنفيذ الخطة‪ ،‬وبعد بحث ســريع‬
‫عبــر موقــع «أمــازون»‪ ،‬وجدت بالفعــل أحد المنتجــات القابلة‬
‫ً‬
‫نســبيا داخل علبــة صغيرة‬ ‫لــألكل‪ ،‬عبــارة عــن عنكبوت كبيــر‬
‫تشــبه علبة التونة‪ ،‬تفتح العلبة ثم تأكله مباشــرة دون طهي أو‬

‫‪54‬‬
‫جلسة عالج‬

‫تعــب‪ ،‬لــم يكن هنالك الكثير مــن التقييمات علــى المنتج‪ ،‬ولم‬
‫ً‬
‫مهتمــا بقراءتها أو البحث عــن منتجات أخرى‪ ،‬فقد كنت‬ ‫أكــن‬
‫أعتقد ‪-‬كما يعتقد الكثير‪ -‬أن موقع أمازون بشــهرته الواســعة‬
‫لن يقبل بإدراج أي منتج إال وهو مضمون وموثوق‪.‬‬
‫وصل المنتج‪ ،‬جهزت الكاميرا‪ ،‬اســتدعيت صديقي «ســام»‬
‫كابوس‬
‫ٍ‬ ‫كي يســاعدني في التصوير‪ ،‬وبدأ العد التنازلي ألســوأ‬
‫في حياتي‪.‬‬
‫ً‬
‫أيضا صنع فيديو مشــوق‬ ‫الهــدف كان معاقبة نفســي‪ ،‬لكن‬
‫ونشــره فــي القناة‪ ،‬حتى أعــوض القناة بفيديو جديد ً‬
‫بدال مما‬
‫فاتها في األسبوع الماضي‪.‬‬
‫بــدأت التصوير وبــدأت محاوالتي لالقتراب من العنكبوت‪،‬‬
‫لم يوافق صديقي «ســام» على مشاركتي تلك الوجبة الدسمة‪،‬‬
‫ً‬
‫عازما على تنفيذ األمر‪ ،‬وفي نهاية المطاف‬ ‫أمــا أنــا فقد كنت‬
‫ً‬
‫مقبوال‬ ‫تمكنت من أكل ِرجل العنكبوت‪ِ ،‬الرجل فقط‪ ،‬كان طعمه‬
‫ً‬
‫نوعا ما‪ ،‬أكلته ولم أشعر بألم في المعدة أو غثيان أو أي شيء‬
‫مما يستدعي القلق‪.‬‬
‫نمــت تلــك الليلــة قرير العين بعد أن غذيــت معدتي ّ‬
‫وأمنت‬
‫غــذاء قناتي‪ ،‬فغــذاء القنوات هي الفيديوهات‪ ،‬وقد كانت تلك‬

‫‪55‬‬
‫جلسة عالج‬

‫أطــول ليلــة نمتها فــي حياتي‪ ،‬وكان من الممكــن أن تكون آخر‬


‫نومة‪ ،‬كان من الممكن أن أكون اآلن في عالم البرزخ‪ ،‬لكن اهلل‬
‫ً‬
‫جديدا‪ ،‬وفرصــة أخرى حتى أصــل لمثل هذا‬ ‫ً‬
‫عمــرا‬ ‫كتــب لــي‬
‫اليــوم وأحكــي لكــم فيها ما عشــته وكيف غيرت تلــك الحادثة‬
‫نظرتي للحياة‪.‬‬
‫بعــد ‪ 12‬ســاعة متواصلــة مــن النــوم (أو اإلغمــاء)‪ ،‬فتحت‬
‫ً‬
‫صباحا‪ ،‬بالكاد تمكنت من النظر‬ ‫عيني على الســاعة العاشــرة‬
‫َّ‬
‫إلى الســاعة‪ ،‬ثم نمت بعدها ‪-‬أو أغمي علي‪ -‬ولم أفق إال في‬
‫مســاء‪ ،‬وحينها صحوت على وقع ألم فظيع‬
‫ً‬ ‫الســاعة الســابعة‬
‫ً‬
‫مثيــال‪ ،‬وكأن شــاحنة كبيرة مرت على جســمي‬ ‫لــم أعــرف لــه‬
‫عيني المثقلتيــن وعلمت أن هنالك‬
‫َّ‬ ‫فحولتــه إلــى ركام‪ ،‬فتحــت‬
‫ً‬
‫مستسلما وأضعف من أن أقوم من‬ ‫ً‬
‫أمرا غير عادي‪ ،‬لكني كنت‬
‫فوق السرير‪ ،‬كانت الحرارة تفتك بجسمي‪ ،‬أما فمي فقد كان‬
‫ً‬
‫متعطشــا لقطــرات الماء‪ ،‬ووســط هذا األلم والعــذاب‪ ،‬أغمي‬
‫ً‬
‫تقريبا في العاشرة‬ ‫علي مرة أخرى ثم أفقت بعدها بساعات؛‬
‫مساء‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ 24‬ســاعة وأنــا فيهــا أصــارع المــوت‪ ،‬لــم أكــن أعــرف ما‬
‫ً‬
‫فعليــا‪ ،‬ولــم يتمكن أحد من معرفــة األمر كي يخبرني‪،‬‬ ‫يحــدث‬

‫‪56‬‬
‫جلسة عالج‬

‫فقد كنت أعيش ‪-‬وال زلت‪ -‬في شقة صغيرة تتكون من غرفة‬
‫ســكن‬
‫ٍ‬ ‫نــوم وصالــة مفتوحــة علــى المطبــخ‪ ،‬أعيش وحدي في‬
‫حي ال يعــرف الجيران‬
‫قريــب مــن غابة كثيفة األشــجار‪ ،‬وفي ٍ‬
‫ً‬
‫بعضا‪.‬‬ ‫فيه بعضهم‬
‫عيني وأفتحهما فإذا بســاعات قد مرت كلمح‬
‫َّ‬ ‫كنت أغمض‬
‫البصر‪ِ ،‬خ ُ‬
‫فت أن أغمضهما مرة أخرى فتكون األخيرة‪ ،‬فحملت‬
‫ذراعــي وأمســكت الهاتــف المحمول‪ ،‬ثم تمكنــت ‪-‬بالكاد‪ -‬من‬
‫إرســال كلمات معدودة البن خالي «بدر» الذي كان يســكن في‬
‫الحي نفسه‪:‬‬
‫‪« -‬بدر‪ ،‬تعال الحين»‪.‬‬
‫ً‬
‫متاحــا (أوناليــن) لكــن لســوئه كان‬ ‫ولحســن الحــظ كان‬
‫علي برســالة اعتذار ً‬
‫ظنا منه أني أدعوه لزيارتي‬ ‫ً‬
‫مشــغوال‪ ،‬رد ّ‬
‫ً‬
‫عاجزا عن االستمرار في الكتابة‬ ‫والسهر عندي‪ ،‬وحينها كنت‬
‫والتوضيــح‪ ،‬فحاولــت االتصــال بــه‪ ،‬فلم يــرد‪ ،‬ثــم حاولت مرة‬
‫ً‬
‫أيضا‪ ،‬عذره كان معه‪ ،‬فلم يكن يدري أو يتخيل‬ ‫أخرى فلم يرد‬
‫أني كنت أموت‪ ،‬وأن اتصالي له كان لطلب النجدة‪.‬‬
‫هل هو الموت يطرق بابي؟ هل هي سكراته ُت َق ّطع أمعائي؟‬
‫هل هناك سبب لكل هذا األلم؟‬

‫‪57‬‬
‫جلسة عالج‬

‫لــم تكــن لتلك األســئلة من إجابات حينها‪ ،‬ولــم أتذكر حتى‬


‫قصــة العنكبــوت‪ ،‬وبدافع من غريزة البقاء والتشــبث بالحياة‪،‬‬
‫قدمي‬
‫ّ‬ ‫بدأت بالزحف نحو الصالة‪ ،‬لم أتمكن من النهوض على‬
‫كــي ألمــس مفتــاح اإلنــارة‪ ،‬زحفت فــي ظالم نحــو األريكة‪ ،‬ثم‬
‫ً‬
‫ناظــرا نحــو المطبخ‪ ،‬ثــم بدأت حالــة غريبة‬ ‫اســتلقيت عليهــا‬
‫وفترة طويلة من الصمت واالنتظار‪ ،‬في هدوء الليل وتحت وقع‬
‫األلم الشديد‪ ،‬في ظالم ال يشقه سوى ضوء خافت يصدر من‬
‫نبتــة صناعيــة ال يكاد يضــيء بقدر ما يضفي ً‬
‫نوعا من الرهبة‬
‫على المشهد‪.‬‬
‫شعور بالوحدة‬
‫ٌ‬ ‫كنت أنظر للفراغ في صمت وأفكر‪ ،‬يغمرني‬
‫والضعــف‪ ،‬أيــن مئــات اآلالف ممــن يتابعني فــي اليوتيوب‪ ،‬يا‬
‫لهــا مــن حياة زائفة! تظن في لحظــة أن لديك الكثير لكن في‬
‫الحقيقــة ليــس لديــك إال الوهــم‪ ،‬ال تمــر دقيقــة إال ويزورنــي‬
‫عشــرات األشــخاص من مختلف الدول‪ ،‬ال يأتون إلى منزلي‪،‬‬
‫بــل يمــرون علــى نســختي الرقميــة المنتشــرة فــي عشــرات‬
‫الفيديوهــات‪ ،‬مشــاهدات وتفاعــل وتعليقــات بالمــدح والــذم‪،‬‬
‫عالــم مزدحــم بالنــاس‪ ،‬بينما في الحقيقة‪ ،‬هأنــذا هنا وحدي‬
‫أموت ببطء‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫جلسة عالج‬

‫ً‬
‫فعال شــهرة «السوشــال ميديا» ال تسمن وال تغني من جوع‪،‬‬
‫كلهــم لــن ينفعــوك أو يضروك‪ ،‬النافع والضــار هو واحد أحد‪،‬‬
‫إنه اهلل جل في عليائه‪.‬‬
‫عاجال أو ً‬
‫آجال‪ ،‬سيكتشــف اإلنســان أنه ضعيف‪ ،‬ال يمكنه‬ ‫ً‬
‫االســتغناء عن خالقه‪ ،‬مهما كبر جمهوره وزادت شــهرته‪ ،‬مهما‬
‫كثر ماله وتعددت مناصبه‪ ،‬مهما افتخر بشــبابه وقوة جســمه‪،‬‬
‫ســيأتي يوم ويدرك ً‬
‫فعال أنه محتاج لمن يعلم ســره وعالنيته‪،‬‬
‫ً‬
‫مشغوال عنك‪ ،‬أعظم قلب يحبك سيكون‬ ‫أقرب شخص سيكون‬
‫ً‬
‫بعيدا عنك‪ ،‬أكثر من مدحك سيعتذر لك‪ ،‬فقط من بيده أمرك‬
‫وأبدا‪ ،‬هو من يمكن ً‬
‫فعال االعتماد عليه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫دائما‬ ‫ومــن هو معــك‬
‫واللجــوء إليــه وقت الضيق‪ ،‬هو الوحيــد الذي يجيب المضطر‬
‫إذا دعاه‪ ،‬ويكشف السوء‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫جلسة عالج‬

‫صراع مع الموت‬
‫(الجزء الثاني)‬

‫شــقتي فــي «ألبامــا» مكونــة مــن غرفة نــوم بحمــام داخلي‬


‫صغيــر‪ ،‬وبــاب ناحيــة المطبخ‪ ،‬المطبــخ مفتوح علــى الصالة‪،‬‬
‫وهنالــك شــرفة صغيــرة وحمام آخــر للضيوف‪ ،‬وفــي الصالة‬
‫ً‬
‫مســتلقا فوق األريكة‪ ،‬يذوق طعم العجز‪،‬‬ ‫كان جســدي المنهك‬
‫ويختبر مقدار األلم‪ ،‬عينان شــاردتان ووجه شــاحب‪ ،‬حالة من‬
‫اإلغماء الواعي‪ ،‬بين اليقظة والســبات‪ ،‬ســاعات متواصلة من‬
‫النظر إلى الفراغ‪ ،‬موقف لن أنساه ما حييت‪.‬‬
‫يتشــارك اإلنســان مــع الحيــوان في غريــزة البقــاء‪ ،‬غريزة‬
‫ضــت بداخلــي تلك الغريزة وشــقت‬‫التشــبث بالحيــاة‪ ،‬وقــد َن َه ْ‬
‫جــدار الصمت واالنتظــار‪ ،‬فزحفت مرة أخــرى باتجاه الغرفة‬
‫ً‬
‫شــيئا في حلقي وأني‬ ‫ً‬
‫قاصدا الحمام‪ ،‬فقد شــعرت بأن هنالك‬
‫أريد االستفراغ‪.‬‬
‫ثوان معدودة اســتغرق عدة‬
‫المشــوار الذي ال يتطلب ســوى ٍ‬
‫بقدمــي أو أن لي قدرة على‬
‫ّ‬ ‫دقائــق‪ ،‬ال أعتقــد أني كنت أشــعر‬
‫التحكــم بهمــا‪ ،‬واصلت الزحــف حتى وصلت بــاب الحمام‪ ،‬ثم‬

‫‪60‬‬
‫جلسة عالج‬

‫اســتفرغت أشــياء غريبة مختلطة بالــدم (عافاكم اهلل)‪ ،‬وكأن‬


‫ً‬
‫قطعــا من أحشــائي قد تقطعــت وخرجت‪ ،‬ثــم تراجعت للوراء‬
‫إعياء شديد‪.‬‬
‫وأسندت ظهري إلى مغسلة الحمام وأنا في ٍ‬
‫«جثــة شــاب فــي مقتبل حياتــه وجدت فــي حمام شــقته»‪،‬‬
‫هكــذا ‪-‬ربمــا‪ -‬كان ســ ُيكتب عني إن أنا ُّ‬
‫مــت على تلك الحالة‪،‬‬
‫يــا لهــا من نهاية مخزيــة لم أكن أريد حدوثهــا! لم يكن أمامي‬
‫ً‬
‫شــيئا‪ ،‬وحينها‬ ‫‪-‬إن أردت النجاة‪ -‬إال أن أغالب نفســي وأفعل‬
‫قاومــت ومشــيت حتــى وصلــت للهاتــف‪ ،‬ثم اتصلــت بصديقي‬
‫ســيف العنزي وطلبت منه القدوم‪ ،‬كان يتحدث وأنا صامت ال‬
‫تمض سوى‬ ‫خطبا ً‬
‫جلال‪ ،‬فلم ِ‬ ‫ً‬ ‫أقوى على الرد‪ ،‬فعرف أن هنالك‬
‫ً‬
‫مفتوحا‪-‬‬ ‫دقائــق معدودة حتى وصل لباب الشــقة ‪-‬الــذي كان‬
‫ودخــل فوجدنــي فــي ذلك المنظــر‪ُ ،‬‬
‫فصدم وبــدت على وجهه‬
‫مالمح الدهشة والروع‪.‬‬
‫وصول األخ ســيف كان نهاية المشــوار بالنســبة لي‪ ،‬مشوار‬
‫ً‬
‫‪-‬حرفيــا‪ -‬تولي األمــر بعد ذلك‪،‬‬ ‫الكفــاح والنضــال‪ ،‬تركــت له‬
‫لدرجــة أني لم أســاعده في حمل جســدي إلى الســيارة‪ ،‬وفي‬
‫الســيارة وأثنــاء الذهــاب للمستشــفى‪ ،‬لــم يتوقــف ســيف عن‬
‫توجيــه األســئلة‪« :‬ماذا بــك؟»‪« ،‬ماذا جرى؟»‪ ،‬فــي حين أني لم‬

‫‪61‬‬
‫جلسة عالج‬

‫أتوقف عن النظر إلى الفراغ في صمت وشرود‪.‬‬


‫بــدأت رحلــة عــذاب أخرى داخــل المستشــفى‪ ،‬اإلجراءات‬
‫الروتينيــة واالنتظــار الــذي دام ألكثــر من ســاعة فوق كرســي‬
‫محيط بارد‪ ،‬ثم إصرار الموظــف على أن أتحدث‬
‫ٍ‬ ‫جــاف وفــي‬
‫معه بنفسي وأن أصف له حالتي ومواطن ألمي‪ ،‬وحين عجزت‬
‫عن الكالم ووصف المشكلة‪ ،‬قدم لي بعض األوراق التي تفيد‬
‫إخالء مســؤوليتهم عما ســيحدث لي‪ ،‬كي أوقع عليها‪ ،‬وعندما‬
‫عجزت عن إمســاك القلم؛ أمســك بيدي وســاعدني حتى أتم‬
‫األمــر‪ ،‬فالنظــام هــو النظام هنا في أمريــكا‪ ،‬حتى وإن تصادم‬
‫مع القيم اإلنسانية مثل قيمة الرحمة‪.‬‬
‫بعــد فحوصــات ســريعة‪ ،‬أعطوني إبــرة مهدئة قويــة‪ ،‬ربما‬
‫هــي أقــوى صنف عندهــم‪ ،‬وحينها هــدأت وزال جزء كبير من‬
‫األلــم‪ ،‬لدرجــة أنــي لم أكن أشــعر بجســمي في تلــك اللحظة‪،‬‬
‫مــن قــوة ذلك الدواء المهدئ ‪-‬أو المخدر‪ ،-‬وبحمد اهلل بدأت‬
‫بالتحــدث وإخبارهــم بمــا جــرى‪ ،‬وإلــى تلــك اللحظة لــم يكن‬
‫موضوع العنكبوت في ذهني ولم أكن أتخيل أنه سبب ما جرى‬
‫لي‪.‬‬
‫ً‬
‫صادقا‬ ‫ً‬
‫وتـأسفا‬ ‫ً‬
‫مغلظا‬ ‫ً‬
‫اعتذارا‬ ‫وصل ابن خالي «بدر» ّ‬
‫وقدم‬

‫‪62‬‬
‫جلسة عالج‬

‫لعــدم الــرد على المكالمات‪ ،‬ثم لم يفارقنــي بعدها حتى اليوم‬


‫التالي‪ُ .‬عدت إلى المنزل مع «بدر» وبدأت أســترجع األحداث‬
‫وأتذكــر تلــك اللحظــات المرعبــة‪ ،‬فحمدت اهلل علــى العافية‬
‫وعلى هذه الفرصة األخرى للعيش والعودة للحياة‪.‬‬
‫العجيب أني لم أربط الحادثة بأكل العنكبوت إال بعد أيام‪،‬‬
‫أضاءت اللمبة في عقلي أثناء ذهابي للجامعة‪ ،‬قلت في نفسي‬
‫ً‬
‫مندهشــا‪ :‬كيــف لــم أعــرف ذلــك منــذ البداية؟ ثم عــدت إلى‬
‫المنــزل وأخــذت التقرير الطبي وأرســلته إلى شــركة أمازون‪،‬‬
‫أرســلت لهم رســالة لوم وعتاب شديدة اللهجة‪ ،‬ثم اتصلت بهم‬
‫ً‬
‫هاتفيا وحكيت لهم القصة‪ ،‬وقد كان من الممكن أن أرفع عليهم‬
‫قضية أكســب من ورائها الماليين‪ ،‬فلم يكن ذلك باألمر الذي‬
‫قدم لي الموظف اعتذاره الحار‪ّ ،‬‬
‫حولني‬ ‫يمكن تفويته‪ ،‬وبعد أن ّ‬
‫إلى مديره‪ ،‬ثم مدير المنطقة‪ ،‬ثم كبرت المسألة وتطور األمر‬
‫حتى وصل إلى مســتويات رفيعة في الشــركة‪ ،‬لكن المضحك‬
‫أنه ‪-‬وفي نهاية المطاف‪ -‬أرســلوا لي قســيمة «كوبون» بقيمة‬
‫ً‬
‫دوالرا‪ ،‬كنوع من التعويض‪ ،‬وكأن حياتي عندهم ال تساوي‬ ‫‪25‬‬
‫أكثر من ذلك المبلغ‪.‬‬
‫لقــد كانــت األيام التي تلت تلك الحادثة اســتثنائية‪ ،‬شــعور‬

‫‪63‬‬
‫جلسة عالج‬

‫مفرط بالبهجة‪ ،‬ســعادة غامرة يصعــب وصفها‪ ،‬روحي وكأنها‬


‫طائر يحلق في السماء وينظر للحياة وللناس من فوق الغمام‪،‬‬
‫تعجبــت كيــف أن المشــكالت الصغيرة تبئســنا‪ ،‬كيــف تأخذنا‬
‫ً‬
‫بشــرا في هذه‬ ‫دروب الحيــاة وننســى فيهــا أن نســتمتع بكوننا‬
‫األرض‪ ،‬حتــى إن أصدقائــي أبدوا اســتغرابهم من تلك البهجة‬
‫المفاجئة‪ ،‬ومهما شرحت فلن يكون من السهل أن أنقل التجربة‬
‫ً‬
‫(شعورا ال يوصف)‪.‬‬ ‫والشعور عبر الكلمات‪ ،‬ومثلما قيل كان‬
‫بعدهــا نشــرت فيديــو العنكبــوت وحولته من مجــرد فيديو‬
‫للتســلية‪ ،‬إلــى توعيــة وتحذيــر بعــدم اإلقــدام علــى مثــل تلك‬
‫األعمال‪ ،‬فلقد تعلمت الدرس وأحببت أن أعلمه اآلخرين‪ ،‬وأن‬
‫أحذرهــم مــن عدم التســاهل في مثل تلك األمــور‪ ،‬ثم تحدثت‬
‫عبر سناب تشات وحكيت للمتابعين ما حدث باختصار‪ ،‬وعدت‬
‫بعدها للحياة الطبيعية‪ ،‬حياة الدراسة والتصوير والنشر‪.‬‬
‫ً‬
‫ســالما بحمد‬ ‫وهكــذا‪ ،‬انتهــت تلــك التجربــة وخرجت منها‬
‫فــي ً‬
‫آثارا صحيــة‪ ،‬لكنها تركت في شــخصيتي‬ ‫اهلل‪ ،‬لــم تتــرك ّ‬
‫أثــرا ال يســتهان بــه‪ ،‬لقد ّ‬
‫غيرت نظرتي للحيــاة وجعلتني أعيد‬ ‫ً‬
‫التفكيــر بأشــياء كثيــرة‪ ،‬يمكــن تشــبيهها بــزر إعادة التشــغيل‬
‫«‪ »Reset‬الــذي يقلــع بعــده الكمبيوتر وقد تخفــف من برامجه‬

‫‪64‬‬
‫جلسة عالج‬

‫ً‬
‫منطلقا‪ ،‬وقد كانت روحي كذلك‪ ،‬عادت‬ ‫ً‬
‫سريعا‬ ‫الثقيلة‪ ،‬فيعود‬
‫‪-‬بشغف‪ -‬لتكمل تجربة الحياة الدنيا ومشوارها‪.‬‬
‫هنالــك فوائــد كثيــرة يمكن ســردها من هــذه القصة‪ ،‬لكن‬
‫أهم عبرة هي استشعار نعمة الوجود‪ ،‬أنه تم اختيارك لخوض‬
‫مغامــرة الحيــاة‪ ،‬أنك هنــا‪ ،‬تقرأ الكلمــات‪ ،‬وتتــذوق العبارات‪،‬‬
‫تستمتع بنسمات الصباح وتنعم بالنوم أثناء المساء‪ ،‬أنك ‪-‬ومع‬
‫كل إشــراقة يــوم جديــد‪ -‬تعطى فرصــة أخرى لرؤيــة الجمال‬
‫فيمــا حولــك والتأمــل فيمــا غاب عــن ناظريك‪ ،‬حتــى لو كنت‬
‫ً‬
‫فقيــرا‪ ،‬فالفقــراء لديهم عينان ولســان وشــفتان‪ ،‬لديهم أرجل‬
‫تمكنهــم من الســير والســعي في دروب الحياة‪ ،‬ثــم تذوق طعم‬
‫النجــاح‪ ،‬أو حتــى طعــم الخســارة‪ ،‬فلكل شــيء مــذاق مختلف‪،‬‬
‫حي ترزق قادر على التذوق‪.‬‬
‫ولحسن الحظ؛ أنت ٌ‬

‫‪65‬‬
‫جلسة عالج‬

‫حب الذات‬

‫عندمــا نتحــدث عن حب الــذات‪ ،‬فهذا ال يعنــي بالضرورة‬


‫أننــا نشــير إلــى «الغــرور» أو «األنانية»‪ ،‬حب الــذات من وجهة‬
‫ً‬
‫محبا لشــخصيتك‬ ‫ً‬
‫متصالحا مع نفســك‬ ‫نظــري هــو أن تعيش‬
‫ً‬
‫ومقدرا إلنجازاتك‪ ،‬أن يكون منبع طاقتك التي تحركك هو من‬
‫الداخــل‪ ،‬غيــر مرتبط بمدح الناس أو تشــجيعهم‪ ،‬وهذا األمر‬
‫ال تحصــل عليــه بيــن ليلة وضحاهــا‪ ،‬بل ينمو فيــك مع األيام‪،‬‬
‫ولــكل إنســان طريقتــه الخاصــة في اكتســاب حبه لذاتــه‪ ،‬أما‬
‫عني‪ :‬فإن مصدره األساســي هي تلك اإلنجازات التي حققتها‬
‫في حياتي‪.‬‬
‫كمــا تعلــم؛ أنا شــاب مبتعــث أدرس الهندســة فــي أمريكا‪،‬‬
‫والدراســة عند معظم الناس هي مهمة عمل بدوام كامل‪ ،‬لكن‬
‫رغــم ذلــك؛ قررت أال يكون إنجازي الوحيد في نهاية المرحلة‬
‫هو شــهادة كرتونية فحســب‪ ،‬أردت أن أنجز ً‬
‫شيئا‪ ،‬أو باألحرى‬
‫(أشياء) أخرى‪.‬‬
‫اآلن وبعــد أن مضــت عــدة ســنوات‪ ،‬هأنــذا ألتفــت خلفــي‬
‫وأشاهد ما بنيته وحققته؛ فأشعر بالرضا والسعادة‪ ،‬وأستمد‬

‫‪66‬‬
‫جلسة عالج‬

‫مــن هذا الشــعور ثقتي بنفســي وحبــي لذاتي‪ ،‬أمــا كيف بنيت‬
‫هذا الشــعور وهذا الحب‪ ،‬فهو كما ســأخبرك به عبر األسطر‬
‫التالية‪.‬‬
‫حيــن تســكن وحــدك تجد الوقت لفعل أشــياء كثيــرة‪ ،‬تبدأ‬
‫ً‬
‫وأيضــا‪:‬‬ ‫باستكشــاف نفســك ومعرفــة قدراتــك وإمكانياتــك‪،‬‬
‫ً‬
‫كثيرا‪.‬‬ ‫تتحدث مع نفسك‪ ،‬تتحدث معها‬
‫فــي البدايــة كنــت أشــعر بالغرابة مــن هذا األمــر‪ ،‬لكن مع‬
‫ً‬
‫فعليا‬ ‫ً‬
‫عاديا‪ ،‬فحين تتحدث مع نفسك؛ أنت‬ ‫األيام أصبح األمر‬
‫تتحــدث مع عقلــك الباطن‪ ،‬وهذا العقل يصبح وكأنه شــخص‬
‫آخر منفصل عنك‪ ،‬ويغدو أفضل صديق لك‪ ،‬تتعرف عليه أكثر‬
‫من األيام‪ ،‬وأنت ‪-‬بذلك‪ -‬إنما تتعرف على نفسك‪ ،‬النفس التي‬
‫هي أعظم ألغاز حياتك‪ ،‬وأقربها منك‪!..‬‬
‫أن تســامر نفسك وتتجاذب أطراف الحديث مع عقلك له َو‬
‫أمر ممتع‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫ٌ‬
‫ال تتســرع‪ ،‬هــو ممتــع لكــن مرهق فــي الوقت نفســه‪ ،‬ألنك‬
‫ً‬
‫محملقا في الســقف‬ ‫ً‬
‫ســاهرا‬ ‫حينها ســتقضي الليالي الطويلة‬
‫أو فــي الفــراغ‪ ،‬تــدور األفكار في عقلــك دون توقف‪ ،‬تبالغ في‬
‫التفكيــر وال تهمــل حتــى التفاصيــل‪ ،‬وهذا ما كنــت أعاني منه‬

‫‪67‬‬
‫جلسة عالج‬

‫في البداية‪ ،‬األمر الذي تســبب لي بما يمكن تســميته بـ (فقر‬


‫النــوم)‪ ،‬فقــد كانــت تأتــي علي أيــام ال أنام فيها ســوى ‪ 3‬أو ‪4‬‬
‫ســاعات فقط‪ ،‬حتى إني بدأت في اســتخدام الحبوب المنومة‬
‫لحل هذه المشكلة‪ ،‬ثم نصحني أحد األصدقاء بأن االستمرار‬
‫ً‬
‫جيدا‪ ،‬بعد ذلك وصلــت لحل فعال لمواجهة‬ ‫عليهــا ليــس ً‬
‫أمرا‬
‫مشكلة السهر وشح النوم‪.‬‬
‫الوصفــة البســيطة التــي أنصــح بهــا مــن يشــكو مــن عدم‬
‫القــدرة على النوم بســبب التفكيــر الزائــد (‪)Over Thinking‬‬
‫هــو أن يشــاهد (على التلفــاز أو الموبايل) بعــض الفيديوهات‬
‫التحفيزية أو األفالم الوثائقية أو أي مواد أخرى يحبها‪ ،‬وذلك‬
‫مــن أجل إشــغال العقل بالمشــاهدة ً‬
‫بدال مــن التفكير‪ ،‬حينها؛‬
‫ً‬
‫طويال‪ ،‬وســيطغى عليك النوم‬ ‫لــن تتمكــن العينان من الصمود‬
‫علي أن أحذرك من فاتورة الكهرباء التي‬
‫في وقت سريع‪ ،‬لكن َّ‬
‫ســترتفع بشــكل ملحوظ‪ ،‬ألن التلفاز في الغالب ســيعمل حتى‬
‫ً‬
‫منخفضا‬ ‫الصبــاح‪ ،‬ومــن أجل هذا أنا أنصح بأن يكــون صوته‬
‫كي تنعم بالنوم الهانئ‪.‬‬
‫حيــن طلــب مني الطبيب النفســي أن أتخفــف من الحمولة‬
‫(كمــا هــو مذكــور فــي قصــة‪ :‬جلســة عــالج) أخبرتــه أنــي ال‬

‫‪68‬‬
‫جلسة عالج‬

‫أســتطيع‪ ،‬فهنالــك أمور أصبحت من األساســيات في حياتي‪،‬‬


‫مســيرة نجاح رســمت معالمها خطوة فخطوة حتى أصبح من‬
‫الصعب أن أتخلى عنها‪ ،‬من هذه األمور‪ :‬الجمهور الذي بنيته‬
‫عبــر شــبكات التواصــل االجتماعي (السوشــال ميديــا) والتي‬
‫ُيعد اليوتيوب أهمها‪ ،‬فأنا ملتزم ‪-‬منذ ســنوات‪ -‬بنشــر فيديو‬
‫جديــد كل أســبوع فــي قناتي فــي اليوتيوب‪ ،‬ولقــد كانت ثمرة‬
‫هــذا الجهد وااللتــزام الذاتي أن القناة اليــوم أصبحت زاخرة‬
‫بالمحتوى الشيق وبعدد كبير من المشتركين‪.‬‬
‫جدولــي اليومــي مزدحم‪ ،‬فااللتزام بالنشــر األســبوعي في‬
‫ً‬
‫وأحيانا أســافر لمدن‬ ‫ً‬
‫وجهــدا كبيرين‪،‬‬ ‫اليوتيــوب يتطلــب ً‬
‫وقتا‬
‫أخرى ألصور بعض المقاطع (كما حدث في سلســلة‪ :‬يوم في‬
‫حياة مشهور)‪ ،‬باإلضافة لدوام الجامعة الذي يبدأ من الساعة‬
‫ً‬
‫‪-‬أحيانا‪ -‬في الخامســة بعد العصر‪،‬‬ ‫ً‬
‫صباحــا وينتهــي‬ ‫الثامنــة‬
‫ً‬
‫وأيضــا ألتــزم بالذهــاب للصالــة الرياضية (الجــم) مرتين كل‬
‫ً‬
‫صباحا وأمــارس الجري أو‬ ‫يوم‪ ،‬أســتيقظ الســاعة الخامســة‬
‫ً‬
‫مجددا ألداء تمارين األثقال‪.‬‬ ‫الهرولة‪ ،‬وقبل النوم أذهب‬
‫بجانــب الجامعــة واليوتيــوب‪ :‬أديــر شــركتي الصغيــرة‬
‫المتخصصــة بتصميــم المالبــس الجاهــزة وبيعهــا‪ ،‬والتــي‬

‫‪69‬‬
‫جلسة عالج‬

‫بدأتهــا مــن الصفــر وبنيتهــا خالل ثــالث الســنوات الماضية‪،‬‬


‫كل أســبوع هنالــك يــوم كامــل مخصــص إلدارة شــؤونها؛ مــن‬
‫ّ‬
‫بالمصنعين ومتابعة للمصممين وإنجاز لألمور المالية‬ ‫تواصل‬
‫والحســابية‪ ،‬وغيرهــا مــن المهــام‪ ،‬والحمــد هلل الموديــالت‬
‫القديمــة تــم بيعهــا بالكامــل‪ ،‬وكل موســم أقوم بإنتــاج مالبس‬
‫جديدة ذات تصاميم حديثة ومواكبة للعصر‪.‬‬
‫هنالــك أمــر آخر أهتم بــه؛ هو تعلم اللغــات األجنبية‪ ،‬فأنا‬
‫اليوم ‪-‬بحمد اهلل‪ -‬قادر على فهم ‪ 6‬لغات مختلفة؛ اللغة التركية‬
‫التي درســتها لمدة ســنة كاملــة‪ ،‬واللغة اإليطالية واإلســبانية‪،‬‬
‫بجانــب العربيــة (لغتــي األم) واإلنجليزية (لغــة الحياة اليومية‬
‫ً‬
‫وأخيرا لغة اإلشــارة (‪ ،)ASL‬وقــد بدأ هذا‬ ‫هنــا فــي أمريــكا)‪،‬‬
‫الشغف الجديد منذ فترة‪ ،‬وخاصة حين تعرفت على أصدقاء‬
‫ُجــدد يتحدثــون بألســنة مختلفــة‪ ،‬فشــعرت برغبــة قوية لفهم‬
‫كالمهم والدخول إلى عوالمهم الخاصة‪ ،‬ثم اكتشفت بعد ذلك‬
‫أن تعلم لغة أخرى هو بمثابة اكتساب شخصية جديدة مختلفة‬
‫عن السابقة‪ ،‬وهذا ما جذبني أكثر لتعلم اللغات‪.‬‬
‫ليس من الســهل أن تنجز كل هذا وتوازن بين الجميع دون‬
‫تضحيــات‪ ،‬ولتوضيــح األمــر أكثــر؛ ســأذكر لك هــذا الموقف‬

‫‪70‬‬
‫جلسة عالج‬

‫الذي حصل لي قبل فترة‪:‬‬


‫ً‬
‫اســتعدادا الختبــار كان‬ ‫قضيــت أحــد األيــام فــي المذاكرة‬
‫ً‬
‫مقررا علينا في الجامعة‪ ،‬لكن في اليوم نفسه كان علي أن أنهي‬
‫تجهيز الفيديو ألنشره في اليوم التالي‪ ،‬فسهرت إلى الفجر‪ ،‬ثم‬
‫أحسست بصداع شديد لم أتمكن معه من المواصلة‪ ،‬حتى إني‬
‫ً‬
‫أصواتا غريبة‬ ‫ً‬
‫مرغما‪ ،‬ثم إذا بي أســمع‬ ‫ارتميت فوق الســرير‬
‫تخرج مني دون شــعور؛ أصوات تشــبه األنين‪ ،‬كان الجسم ِيئ ّن‬
‫مــن وطأة اإلرهاق واأللم‪ ،‬ذهبت مباشــرة إلى الطوارئ وكانت‬
‫الســاعة الثانية بعد منتصف الليل‪ ،‬وحين شــرحت للدكتور ما‬
‫أره ُق نفســي بشــكل مبالغ فيه‪ ،‬لدرجة أن‬
‫بي من ألم‪ ،‬قال إني ِ‬
‫الصــداع قــد أثر علــى منطقة الظهر‪ ،‬ثم طلــب مني التخفيف‬
‫وأخــذ اســتراحة لعــدة أيام‪ ،‬األمر الذي لم يكــن من الخيارات‬
‫المتاحة أمامي‪.‬‬
‫ليس المقصود هنا هو أن أسرد لك لحظات األلم والمعاناة‪،‬‬
‫كل ما أريد قوله هو أن اآلخرين غير عابئين بك وبتضحياتك‪،‬‬
‫لــن ُي ّ‬
‫قــدروا ما عانيتــه حتى وصلت لما أنت عليــه اآلن‪ ،‬بل إن‬
‫ً‬
‫‪-‬معنويــا‪ -‬وتثبيطك بكلماته‬ ‫بعضهــم لــن يتوانى في تحطيمك‬
‫ً‬
‫شــيئا في حياته فيقول‬ ‫الجارحة‪ ،‬قد يأتيك شــخص لم ينجز‬

‫‪71‬‬
‫جلسة عالج‬

‫فــي وجهــك‪« :‬أنت تافه وما تقوم به تفاهة!» أو يرميك بســهام‬


‫كلماته الجارحة من وراء جدر عبر تعليقات يرسلها في الفضاء‬
‫السيبيري‪.‬‬
‫بحمد اهلل لم تعد الكلمات الجارحة أو التعليقات المسيئة‬
‫تهز ثقتي بنفسي أو حبي لذاتي‪ ،‬ألن الثقة بالنفس منبعها من‬
‫الداخل ال من الخارج‪.‬‬
‫لــن تجد أي شــخص يمكن أن ّ‬
‫يقــدر ما تقوم به مثلك أنت‪،‬‬
‫فأنت من سهر الليالي وتجرع األلم‪ ،‬ومهما حكيت لن يستوعب‬
‫الناس كالمك؛ ألنهم ببساطة لم يجربوا‪ ،‬ومن سمع ليس كمن‬
‫جرب‪ ،‬وهذا ما تعلمته عبر األيام والسنين‪ ،‬أال أستمد الطاقة‬
‫مــن تشــجيع اآلخريــن أو مدحهــم وثنائهــم‪ ،‬تعلمــت أن أحــب‬
‫وأقدر إنجازاتي‪ ،‬وبهذا يمكن أن أكمل المشــوار بحماس‬ ‫ذاتي ّ‬
‫وبطاقة تنبع من الداخل‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫جلسة عالج‬

‫الر ْبع‬
‫خسارة َّ‬

‫الوصــول لألحــالم صعب‪ ،‬لكنــي لم أكن أعــرف أن العيش‬


‫في تلك األحالم هو األصعب‪ ،‬على األقل؛ ســتكون في حماس‬
‫ً‬
‫بعيــدا عنها‪ ،‬لكن‬ ‫دائــم وشــوق للوصــول لتلك األحالم ما دمت‬
‫حيــن تصل وتكتشــف الواقع‪ ،‬تبدأ المعانــاة الفعلية للتأقلم مع‬
‫الحيــاة الجديــدة‪ ،‬والتأقلــم يا ســادة يا كرام؛ هو أمــر إلزامي‬
‫عزلة أو ُع َق ً‬
‫دا نفســية‪ ،‬أو‬ ‫ليــس دونــه خيار‪ ،‬فالبديل قد يكون ً‬
‫أسوأ من ذلك‪.‬‬
‫من ضرائب الشهرة غير المعلنة‪ :‬خسارة األصدقاء‪ ،‬وربما‬
‫ً‬
‫أيضــا‪ ،‬الحمــد هلل أنــي لم أصــل لمرحلة األهــل‪ ،‬لكني‬ ‫األهــل‬
‫خســرت أصدقائــي المقربيــن ( َر ْبعي)‪ ،‬أولئــك الذين جمعتني‬
‫ســنوات من الهزل والجد‪ ،‬ومضينا ً‬
‫معــا في رحلة ممتعة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫بهــم‬
‫حتى قرروا هم ‪-‬في أحد األيام‪-‬أن ينهوا آخر فصولها‪.‬‬
‫اجتماع مغلق حضره الجميع وغبت عنه أنا‪ ،‬قرر َر ْبعي‬
‫ٍ‬ ‫في‬
‫التخلي عني وتركي‪ ،‬كان المبرر الوحيد هو أني قد أتركهم في‬
‫ً‬
‫مشــهورا‪ ،‬لذا فاألفضل أن ينســوني قبل‬ ‫يوم ما بعد أن أصبح‬
‫ٍ‬
‫أن أنســاهم‪ ،‬هكذا وضعوا االحتمــاالت وبنوا عليها القرارات‪،‬‬

‫‪73‬‬
‫جلسة عالج‬

‫اتخــذوا ذلــك القــرار الجائــر فــي يوم كنــت فيه أحــوج الناس‬
‫لألصدقاء‪ ،‬فالشهرة ليست كلها خير‪ ،‬الشهرة تأخذ كثيرا من‬
‫صحة اإلنســان النفسية وسعادته الشــخصية‪ ،‬الشهرة تتطلب‬
‫أن يكــون لديــك خط دفاع خلفي مكــون من أصدقاء حقيقيين‬
‫يقفون بجانبك ويدعمونك وقت ضعفك‪.‬‬
‫لقد اتخذوا ذلك القرار بمبرر ما ســيحدث في المستقبل‪،‬‬
‫وكأنهم عرفوا الغيب واطلعوا عليه‪ ،‬كأنهم لم يعرفوني من قبل‬
‫ً‬
‫مســبقا هل سأكون ذلكم الشــخص الذي قد يخون‬ ‫ويكتشــفوا‬
‫عهــد الصداقــة وينقض ميثاق األخوة‪ ،‬لكني اكتشــفت أني أنا‬
‫الــذي لــم أكن أعرفهم حق المعرفة‪ ،‬فاألصدقاء الحقيقيون ال‬
‫يتخلون عن صديقهم بهذه البساطة وبمبررات متهافتة‪.‬‬
‫الشــهرة تصنــع المال‪ ،‬لكنها ال تصنــع األصدقاء‪ ،‬بالعكس‪،‬‬
‫الشهرة قد تساهم في خسرانك ألصدقائك المقربين‪ ،‬واألسوأ‬
‫مــن ذلــك أنها قد تجلب لــك أصدقا َء مزيفين ال يتقربون منك‬
‫إال لمصلحة‪.‬‬
‫حيــن قمت بصنع أول «فلوق» وعرضته عليهم ‪-‬كما حكيت‬
‫في قصة ســابقة‪ -‬كانوا أول من ضحك واســتهزأ‪ ،‬ظنوا ‪-‬وهم‬
‫ً‬
‫تكســيرا‬ ‫مخطئــون‪ -‬أن ذلــك ً‬
‫نوعا من النقد‪ ،‬بينما النقد ليس‬

‫‪74‬‬
‫جلسة عالج‬

‫للمجاديــف‪ ،‬النقــد يكــون بدافــع التصحيح والتقويــم من أجل‬


‫ً‬
‫وتقعيدا عن‬ ‫ً‬
‫تثبيطا‬ ‫اســتمرار العمل بشــكل أفضل‪ ،‬ال أن يكون‬
‫ً‬
‫قدمــا‪ ،‬لقد كانت هنالك عالمات منذ البداية أن هذه‬ ‫المضــي‬
‫الصحبة ربما ال تناسبني‪ ،‬وأن طريقهم غير طريقي‪.‬‬
‫علي‬
‫سافرت إلى أمريكا وأنا على اتصال بهم‪ ،‬لم يكن يمر ّ‬
‫يــوم إال وأنــا أتحــدث معهــم أو أشــاركهم أخباري عبر وســائل‬
‫التواصل‪ ،‬مجموعتنا «الواتســبية» تعج بالمحادثات‪ ،‬اتصاالتنا‬
‫الصوتيــة كانت تمتد بالســاعات‪ ،‬ثم بدأ األمــر بالتغير‪ ،‬حدث‬
‫ذلك بعد أن أطلقت قناتي وبدأت النشــر‪ ،‬وأصبح لدي بضعة‬
‫آالف مــن المشــتركين‪ ،‬فجــأة تغير أســلوب تواصلهم‪ ،‬ثم حين‬
‫ســألت‪ :‬لمــاذا؟ لــم يجبنــي أحد‪ ،‬وعرفــت بعدها مــن أحدهم‬
‫أن كبيرهــم قــد أدلــى عليهــم بهذه الفكــرة العبقريــة‪ :‬إن هذا‬
‫ً‬
‫مقدما‪،‬‬ ‫الشخص قد بدأ طريق الشهرة‪ ،‬واألصلح لنا أن ننساه‬
‫قبل أن ينسانا‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬مخطئا‪ -‬أن اإلنســان ال يحتاج لألصدقاء‪،‬‬ ‫لقد كنت أظن‬
‫وأنــه قــادر علــى العيش بمفرده فــي هذا العالــم‪ ،‬وقد وضعت‬
‫تلــك الفرضيــة محــل التجربــة واالختبــار‪ ،‬فبعــد أن انقطعــوا‬
‫بمعزل عن أي صديــق‪ ،‬وتفرغت لحياتي‬
‫ٍ‬ ‫عنــي‪ ،‬قررت العيــش‬

‫‪75‬‬
‫جلسة عالج‬

‫الجديــدة‪ ،‬وأصبــح جمهور قناتــي هم َر ْبعــي وأصدقائي‪ ،‬كنت‬


‫أفتح الكاميرا فإذا بي أحظى بآالف األصدقاء‪ ،‬وحين أغلقها‬
‫ً‬
‫وحيدا وهم‬ ‫أعود للعزلة من جديد‪ ،‬يســتغرب الناس من كوني‬
‫ال يعلمون أني من قررت ذلك بنفسي‪.‬‬
‫بعد فترة من الزمن ‪-‬وبحمد اهلل‪ -‬حظيت بأصدقاء ُج ُدد‪،‬‬
‫وهأنذا أكمل مشوار الحياة بعد أن تعلمت الدرس‪ :‬درس اختيار‬
‫األصدقاء والوثوق بهم‪ ،‬فاختيار الصديق المقرب والسماح له‬
‫بالدخــول إلــى دائــرة حياتك هو أمــر مهم وحســاس‪ ،‬وله دور‬
‫كبيــر فــي نجــاح اإلنســان أو فشــله‪ ،‬بــل حتى فــي بنــاء معالم‬
‫شــخصيته‪ ،‬فكمــا يقــول علماء النفس‪ :‬إن شــخصية اإلنســان‬
‫هــي مجموعــة المواقــف والتجــارب التي مر بها خــالل حياته‬
‫كلها‪ ،‬كل موقف وكل لقاء وكل عالقة مع إنســان آخر تؤثر في‬
‫شخصيته‪ ،‬وبالتالي تحدد مساره ومصيره‪.‬‬
‫كل شــيء فــي حياتنــا يحتــاج لتنظيــم‪ ،‬حتــى العالقــات‬
‫الشــخصية‪ ،‬ومن الوســائل التنظيمية الفعالة هي أن تبني لك‬
‫دوائــر ‪-‬افتراضية‪ -‬تضع فيها األشــخاص الذيــن تقابلهم في‬
‫حياتــك‪ ،‬الدائــرة األقرب تحتوي على عدد قليل من األصدقاء‬
‫وهــم األكثــر ً‬
‫قربا ومن تقضي معهم أكثــر األوقات‪ ،‬ثم الدائرة‬

‫‪76‬‬
‫جلسة عالج‬

‫التي تليها والتي تتسع لعدد أكبر‪ ،‬حتى تصل آلخر دائرة والتي‬
‫تحتــوي علــى أكبر عدد (قــد يصل لآلالف) وهــم من تجمعك‬
‫بهم عالقات ســطحية أو مصالح مؤقتة‪ ،‬فمن تعرفه ألول مرة‬
‫تضعه في الدائرة العامة البعيدة‪ ،‬ثم يمكن له أن يتدرج ويتقدم‬
‫في ّ‬
‫ســلم الدوائر حتى يســتقر في المكان المناســب له‪ ،‬وأنت‬
‫من تتحكم بذلك‪ ،‬أنت من يجب أن يختار األصدقاء المقربين‬
‫بحرص وعناية‪ ،‬فمعهم وبهم يمكن أن تصعد أو تهبط‪ ،‬والمرء‬
‫على دين خليله كما قال رسول اهلل عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫كم سمعنا من قصص عن غدر األصدقاء‪ ،‬لم أكن أتوقع أن‬
‫أعيــش أنا التجربة‪ ،‬لكن الواقــع أثبت عكس ذلك‪ ،‬وهي فائدة‬
‫يمكــن لنــا أن نســتخلصها من هــذه القصة؛ ليس أي شــخص‬
‫يمكن أن تثق به‪ ،‬وأن َر ْبعك هم أحد أســباب ّ‬
‫تكون شــخصيتك‬
‫ســواء أكانت داكنة أم‬
‫ً‬ ‫بهذا الشــكل ّ‬
‫وتلون حياتك بتلك األلوان‪،‬‬
‫فاتحة‪ ،‬وأول خطوة لتغيير الواقع‪ ،‬هي إعادة النظر في الدائرة‬
‫ربا‪ ،‬وإحداث تغييرات جذرية فيها إن تطلب األمر‪.‬‬‫األكثر ُق ً‬

‫‪77‬‬
‫جلسة عالج‬

‫جسر الثقة‬

‫يتغيــر مفهــوم الصداقة مع تقدم اإلنســان في العمر‪ ،‬حيث‬


‫يتطور الشاب وينتقل من طور إلى طور‪ ،‬فبعد العزوبية يقترن‬
‫برفيقــة دربه التي ســتمأل عليه نصف حياتــه‪ ،‬ثم يأتي األوالد‬
‫ً‬
‫ثانويا‪ ،‬مع‬ ‫ويملؤون ما تبقى‪ ،‬فيصبح االحتياج لألصدقاء ً‬
‫أمرا‬
‫اعتبــار اختــالف الناس وتباين طبائعهــم‪ ،‬فهنالك االنطوائيون‬
‫وهنالــك األشــخاص االجتماعيــون مــن ال تكفيهــم األســرة‬
‫وحدهــا‪ ،‬بــل تتطلب صحتهم النفســية أن يكــون لديهم الكثير‬
‫من العالقات والعديد من األصدقاء‪.‬‬
‫لكــن ال يــكاد يختلــف اثنــان على أن الشــاب العــزب يحتاج‬
‫ً‬
‫بعيدا عن‬ ‫ً‬
‫وحيدا في الغربة‬ ‫لألصدقــاء‪ ،‬وخاصــة عندما يكون‬
‫أهلــه‪ ،‬قد يختــزل الصديق الحق مفهوم األســرة بأكملها‪ ،‬لكن‬
‫المشــكلة‪ ،‬وأكبــر مشــكلة هــي عندمــا تتلقى طعنة غــادرة في‬
‫ظهــرك مــن ذلك الصديق المقرب‪ ،‬وهذا ما ســأحكيه لك في‬
‫هذه القصة‪.‬‬
‫الر ْبــع» كما في قصة ســابقة‪ ،‬بــدأت صفحة‬
‫بعــد «خســارة َّ‬
‫جديــدة مــع أنــاس آخرين فــي حياتــي‪ ،‬تعرفت علــى أمريكان‬

‫‪78‬‬
‫جلسة عالج‬

‫وأجانب من ثقافات مختلفة‪ ،‬لكن ومع وصولي واستقراري في‬


‫والية ألباما‪ ،‬بدأت بالتعرف على أشخاص آخرين أصبحوا هم‬
‫ً‬
‫كبيرا من وقتي‪ ،‬وأشــاركهم‬ ‫ً‬
‫جزءا‬ ‫« َر ْبعــي» الذيــن أقضي معهم‬
‫أجمــل اللحظــات‪ ،‬وقــد كنــا ‪-‬مجتمعيــن‪ -‬نصــوم ونفطــر في‬
‫رمضــان‪ ،‬ونخرج ونمرح‪ ،‬ونســافر إلى المــدن البعيدة للترويح‬
‫عن النفس‪ ،‬لم يكن يمر يوم دون أن ألتقي بهم‪.‬‬
‫مــرت األيــام‪ ،‬وكان كل يــوم بمثابة طوبة جديــدة أبنيها في‬
‫جســر الثقة‪ ،‬ذلك الجســر الذي انهدم بعد خســارة أصدقائي‬
‫الســابقين‪ ،‬كنــت أبنــي الجســر رغــم صعوبــة البنــاء‪ ،‬فلم تكن‬
‫الر ْبع) باألمر اليسير‪.‬‬
‫حادثة (تخلي َّ‬
‫ً‬
‫فخورا بما قام به أصدقائي السابقون‪،‬‬ ‫ال أدري لماذا لم أكن‬
‫ً‬
‫أحدا وكأني أنا من اقترف الذنب‪،‬‬ ‫لقد كتمت األمر ولم ُأحدِّ ث‬
‫لقــد كان مــن الصعب علي بناء الثقة مــرة أخرى‪ ،‬وإني لممتن‬
‫ً‬
‫واحدا‬ ‫لمــن ســاعدني فــي بنائها مــن جديــد‪ ،‬وأخص بالذكــر‬
‫منهم‪ ،‬من تجمعني به عالقة متينة وصداقة حميمة حتى هذه‬
‫اللحظة‪.‬‬
‫قريب مني‪ ،‬حين أسترجع الذكريات‬
‫ٌ‬ ‫شخص‬
‫ٌ‬ ‫كان من بينهم‬
‫ً‬
‫وفيــا معــه‪ ،‬كنــا نتقاســم الفرحــة ونواســي‬ ‫اآلن أجدنــي كنــت‬

‫‪79‬‬
‫جلسة عالج‬

‫ً‬
‫بعضــا عند األلم وفي أوقــات الضيق‪ ،‬ومما أتذكر أني‬ ‫بعضنــا‬
‫في أحد األيام الســابقة في شــهر رمضان؛ اتصلت به وطلبت‬
‫منــه أن نفطــر ً‬
‫معــا‪ ،‬اعتــذر لــي وكان مبرر اعتــذاره أنه يجهز‬
‫أصررت عليه وعزمت على أن أخرج من بيتي‬ ‫ُ‬ ‫أوراق الجامعة‪،‬‬
‫وأشتري الطعام ثم أذهب إليه ألفطر معه وأساعده في ترتيب‬
‫األوراق‪ ،‬رغم أن المسافة بيني وبينه كانت كبيرة‪.‬‬
‫حــدث ذلــك الموقف بعــد فترة من االنقطــاع والـ»تطنيش»‬
‫الــذي تفاجــأت به مــن ِق ِ َبله‪ ،‬كنت أتصل بــه وال يجيب وأبحث‬
‫ً‬
‫عاديــا‪ ،‬فقد يحدث‬ ‫عنــه وال أجــده‪ ،‬ورغــم أن األمــر قد يبــدو‬
‫هذا التصرف من صديقك المقرب بين الفينة واألخرى‪ ،‬لكن‬
‫من غير العادي أن يبدر منه هذا التصرف بعد أن يأخذ منك‬
‫المصلحة التي كان يريدها‪ ،‬حينها تبدأ بالشك في صدق هذه‬
‫العالقة ومتانة الصداقة‪.‬‬
‫قبــل فتــرة الغيــاب تلــك حدثــت قصــة معينــة ال أريــد ذكر‬
‫تفاصيلها ألســباب شــخصية‪ ،‬الخالصة منها أنــه كان بحاجة‬
‫لمساعدتي في أمر من األمور؛ مبلغ من المال لقضاء مصلحة‬
‫معينــة‪ ،‬طلــب مني المبلــغ فاقترحت عليــه أن أعطيه النصف‬
‫فقط‪ ،‬وتم األمر وقضينا المصلحة ثم قاطعني دون سبب‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫جلسة عالج‬

‫ليســت هنــا المشــكلة‪ ،‬بــل هي فيما ســترويه لك األســطر‬


‫التالية‪:‬‬
‫كانت نهاية العالقة فيما بيننا بسبب مكالمة هاتفية كشفت‬
‫لي حقيقته‪ ،‬لم تكن مكالمة عادية مثل تلك التي يتخاصم فيها‬
‫الطرفــان‪ ،‬ال ال‪ ،‬فقــد يتخاصم األصدقــاء ثم يعودون لبعضهم‬
‫ً‬
‫بعضــا‪ ،‬لكنهــا كانــت مكالمــة كشــفت لــي الوجه اآلخــر لذلك‬
‫ً‬
‫مقربــا‪ ،‬كانت بمثابــة صدمة‬ ‫ً‬
‫صديقــا‬ ‫الشــخص الــذي ظننتــه‬
‫شديدة على النفس حين اكتشفت أنه يطعنني في الظهر دون‬
‫أن أدري‪.‬‬
‫دارت المكالمة بشــكل عــادي‪ ،‬طلبت منه أن نلتقي فاعتذر‬
‫ٌ‬
‫مشــغول مع َر ْبعــه‪ ،‬تفهمت األمر وقبــل أن أنهي المكالمة‬ ‫بأنــه‬
‫توقفت في اللحظة األخيرة‪ ،‬فقد نســي هو أن ينهي المكالمة‬
‫وبــدأ بالتحــدث مــع من حولــه‪ ،‬وكان الحديث عنــي‪ ،‬بدا األمر‬
‫قناعا آخ َر ً‬
‫مليئا‬ ‫ً‬ ‫إنســان آخر ال أعرفه‪ ،‬أو شــخص لبس‬
‫ٌ‬ ‫وكأنه‬
‫بالحقــد والكراهية‪ ،‬اســتمعت ولم أكد أصدق ما كنت أســتمع‬
‫إليه‪ ،‬كمية شــتائم وســباب لشــخصي أمام أصدقائه الذين ال‬
‫جيدا‪ ،‬لقد َن َعتني بأشياء أستحي أن أكتبها ووصفني‬
‫ً‬ ‫يعرفونني‬
‫بأوصاف خسيسة ال يفتخر بها أي إنسان‪ ،‬اتهمني بأني عملت‬

‫‪81‬‬
‫جلسة عالج‬

‫له كذا وكذا‪ ،‬وهو يكذب ويفتري علي دون وجه حق‪.‬‬
‫بعد تلك المكالمة‪ ،‬أو ِ ل َن ُق ْل (تلك الصدمة)‪ ،‬ندمت على كل‬
‫األوقات التي قضيتها معه‪ ،‬ندمت على كل شيء عملته ألجله‪،‬‬
‫ً‬
‫وشــرخا في جســر الصداقة‪ ،‬ذلك‬ ‫لقد كانت طعنة في القلب‬
‫ً‬
‫سابقا‪.‬‬ ‫الجسر الذي لم يكد يبرأ مما حل به‬
‫المشــكلة الكبــرى أنه جعلني أفقد الثقــة فيمن حولي‪ ،‬لقد‬
‫أصبحت الثقة عملة نادرة ال يمكن أن أضعها في أي شــخص‬
‫ً‬
‫موقفا آخر حدث لصديق‬ ‫أقابله أو صديق أصادقه‪ ،‬وخاصة أن‬
‫لــي بعــد هــذه القصة‪ ،‬حيث غدر به من هو أقــرب الناس إليه‬
‫وطعنه في ظهره‪ ،‬وقد كنت ممن شــهد تلك الواقعة وتأثر بها‪،‬‬
‫ً‬
‫متوجســا مــن كل صديق جديد‪ ،‬أطيــل التفكير في‬ ‫فأصبحــت‬
‫ً‬
‫دائما‪ :‬يا ترى ماذا يقولون عني‬ ‫النوايا والخفايا‪ ،‬أسأل نفسي‬
‫وراء ظهــري؟ تجدنــي ال أقوم من مجلــس حتى ينفض الجميع‬
‫كــي أتأكــد أن ال أحد يتحدث عني بســوء وأنــا غائب‪ ،‬وغيرها‬
‫من األشياء المرهقة للعقل والنفس‪.‬‬
‫ً‬
‫ترحيبا بك حين تقدم‬ ‫عجيــب أن تجــد من هو أكثر النــاس‬
‫ً‬
‫وكرمــا لــك حين تتحدث إليــه‪ ،‬هو أول مــن يخون عهد‬ ‫عليــه‪،‬‬
‫الصداقة بينكم‪ ،‬لكن سيزول العجب حين تكتشف أن كل ذلك‬

‫‪82‬‬
‫جلسة عالج‬

‫ورياء‪ ،‬فلم يكن ســوى أحد أولئك الذين يوصفون‬


‫ً‬ ‫ً‬
‫تظاهرا‬ ‫كان‬
‫بأنهم «أصدقاء المصلحة»‪ ،‬كانت هنالك عالمات منذ البداية‬
‫لكنــك لــم تنتبه إليها‪ ،‬ألم يكن (أبو وجهين)؛ ُيظهر االســتقامة‬
‫والصــالح والحقيقــة غيــر ذلــك‪ ،‬ورغم ذلك أكملــت صداقتك‬
‫شأن داخلي بين اإلنسان وربه‪ ،‬لكن‬ ‫ً‬
‫مقنعا نفسك أن ذلك ٌ‬ ‫معه‬
‫اســمح لــي يــا صديقي أن أخبــرك أنك كنت علــى خطأ؛ فأبو‬
‫وجهيــن ال ُيؤ َمــن جانبــه‪ ،‬وال ُي َع ّــد ً‬
‫أهال لنيل شــرف الصداقة‪،‬‬
‫وال أن يبنى معه جسر الثقة‪ ،‬ذلك الجسر الذي يتطلب الكثير‬
‫لتشييده‪ ،‬وال يتطلب سوى مكالمة هاتفية لهدمه‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫جلسة عالج‬

‫انضباط ذاتي‬

‫لــدي نظريــة فيما يخص ضبــط النفس وااللتــزام الذاتي‪،‬‬


‫يمكن أن نطلق عليها تسمية «الخيار الوحيد»‪.‬‬
‫فــي الســابق كنــت األســوأ فيمــا يخــص االنضبــاط‪ ،‬فعلى‬
‫الصعيد الصحي؛ لم أكن أهتم بنوعية األكل‪ ،‬كنت ألبي لنفسي‬
‫ً‬
‫«ساندويتشــا»‬ ‫جميــع طلباتها‪ ،‬لدرجة أني كنت أصنع لنفســي‬
‫ً‬
‫«مليئا» فأنــا ال أعني‬ ‫ً‬
‫مليئــا بالمايونيــز والســكر‪ ،‬وحين أقــول‬
‫ملعقة أو ملعقتين‪ ،‬بل ما يعادل كوب شاي (استكانة)‪ ،‬نعم لقد‬
‫قرأتها بشكل صحيح‪ ،‬كوب كامل مليء بالسكر‪.‬‬
‫حيــن كنت فــي الكويت‪ ،‬كنت أعتمد على الخادمة إليقاظي‬
‫في الصباح من أجل الذهاب إلى المدرسة‪ ،‬لو أخبرتني آنذاك‬
‫بأني سأبتعث وأدرس في الخارج‪ ،‬لكان أول سؤال يخطر على‬
‫بالي هو‪ :‬من ســيوقظني في الصباح‪ ،‬لم أكن أتخيل أني قادر‬
‫علــى االعتمــاد علــى نفســي في هــذا األمــر‪ ،‬أو أي أمــر آخر‬
‫يتطلب االلتزام‪.‬‬
‫كنت أعاني من مسألة االنضباط‪ ،‬في األكل‪ ،‬في النوم‪ ،‬في‬
‫الرياضة وغيرها من أمور الحياة‪ ،‬إلى أن تعلمت طريقة فعالة‬

‫‪84‬‬
‫جلسة عالج‬

‫لالنضباط الذاتي‪ ،‬هي كالتالي‪:‬‬


‫إن كنت تريد أن تحافظ على األكل الصحي‪ ،‬فأفرغ ثالجتك‬
‫من كل شــيء غير صحي‪ ،‬وال تبقي فيها إال ما يدعم جســمك‬
‫ويفيد صحتك‪ ،‬وإن كنت تريد أن تمنع نفسك من السكر‪ ،‬فال‬
‫تــدع فــي مطبخــك أي حبة ســكر‪ ،‬هــذه هي الفكرة ببســاطة‪،‬‬
‫وهذه هي طريقة «الخيار الوحيد»‪.‬‬
‫طريقــة «الخيــار الوحيــد» يمكــن تطبيقهــا فــي مســألة‬
‫ً‬
‫أيضــا‪ ،‬فعندمــا تضــع المنبــه بالقــرب منــك‪ ،‬في‬ ‫االســتيقاظ‬
‫العــادة ســوف تمــد يدك إليه حيــن يرن (أو تركلــه برجلك) ثم‬
‫تعــود للنــوم بدون حتــى أن تفتح عينيك‪ ،‬لكني تغلبت على هذه‬
‫المشــكلة بــأن وضعــت المنبه خــارج الغرفة (ورفعــت صوته)‪،‬‬
‫ً‬
‫مشوارا حتى الصالة ثم تقوم‬ ‫فعندما تقوم من نومك وتضرب‬
‫بإيقافه‪ ،‬حينها ســتكون المســافة بينك وبين الحمام أقرب من‬
‫ً‬
‫سهال أن تكمل المشوار‬ ‫المســافة إلى السرير‪ ،‬وســتجد األمر‬
‫ً‬
‫باكرا‪.‬‬ ‫إلى الحمام ثم تبدأ يومك‬
‫ً‬
‫واحدا ال‬ ‫ً‬
‫خيارا‬ ‫بهذه الطريقة أضبط نفسي‪ ،‬أضع لنفسي‬
‫مفر منه‪.‬‬
‫ً‬
‫حريصا على األكل الصحي‪،‬‬ ‫في الوقت الحاضر‪ ،‬أصبحت‬

‫‪85‬‬
‫جلسة عالج‬

‫لي أكثر من أربع سنوات وأنا ال أستهلك السكر إال بقدر ضئيل‬
‫ً‬
‫جدا‪ ،‬ال آكل الحلويات وال أتناول الســكر مع القهوة‪ ،‬حتى إني‬
‫علــي حيــن تذوقــت بعــض الحلويــات‬
‫أصبــت بهبــوط وأغمــي ّ‬
‫المنزلية أثناء زيارتي األخيرة للكويت‪ ،‬لقد تعود جســمي على‬
‫نمــط األكل الجديــد‪ ،‬ولم يعد بمقدوره العودة للوضع الســابق‬
‫بشكل مفاجئ‪.‬‬
‫رغم بساطة الفكرة‪ ،‬إال أنها فعالة لضبط النفس في الكثير‬
‫ً‬
‫ثقيال‬ ‫من األمور‪ ،‬وخاصة في بداية المشوار؛ حين يكون األمر‬
‫ً‬
‫فمثــال عندما تجــوع وتذهب للثالجــة فال تجد‬ ‫علــى النفــس‪،‬‬
‫إال الفواكــه والخضروات‪ ،‬حينها لن تصبر حتى تخرج وتســير‬
‫ً‬
‫شــيئا تأكله‪ ،‬بل ستبادر وتأكل‬ ‫مســافة طويلة لتشــتري لنفسك‬
‫ما هو موجود أمامك‪.‬‬
‫من األمثلة التي يمكن استخدام هذه الطريقة عليها‪ :‬غسل‬
‫ً‬
‫مبتعثا للدراســة في الخارج)‪،‬‬ ‫المالبس (وخاصة عندما تكون‬
‫فالطالب ليس لديه فرصة ليغسل مالبسه إال يوم األحد (يوم‬
‫ً‬
‫أســبوعيا‪ ،‬يمكنه أن‬ ‫اإلجــازة)‪ ،‬ولكــي ينضبــط في هــذا األمر‬
‫يفــرغ دوالبــه وال يبقــي فيــه إال ما يكفي ألســبوع واحد فقط‪،‬‬
‫ً‬
‫مضطــرا للقيــام بمهمة‬ ‫وحيــن ينتهي األســبوع ســيجد نفســه‬

‫‪86‬‬
‫جلسة عالج‬

‫الغسيل‪.‬‬
‫مثــال آخر يتعلق باإلنفاق المالي‪ ،‬وخاصة من يســتخدمون‬
‫بطاقات الصراف اآللي (أو الكريدت كارد) للشــراء والتسوق‪،‬‬
‫فالمشكلة في تلك البطاقات أنها تغريك لشراء أي شيء يخطر‬
‫ببالك دون حتى التفكير في مدى احتياجك له‪ ،‬وبالتالي إنفاق‬
‫ً‬
‫الحقا‪ ،‬الحل ببســاطة هو أن تترك‬ ‫الكثيــر مــن المال ثم الندم‬
‫ً‬
‫محدودا‪ ،‬وحينها‬ ‫ً‬
‫مبلغا‬ ‫تلــك البطاقــة في المنزل‪ ،‬وتأخذ معك‬
‫‪-‬وعندما يعجبك شــيء ما‪ -‬لــن يكون بمقدورك االختيار‪ ،‬ألن‬
‫ً‬
‫قدما‪ ،‬فأنت ال تمتلك ثمنه‪.‬‬ ‫خيارك الوحيد هو المضي‬
‫ً‬
‫أيضــا‪ ،‬هي االلتزام‬ ‫ومــن األشــياء التي أطبقهــا في حياتي‬
‫ً‬
‫يوميا‪ ،‬فمن المعروف‬ ‫بالمشــي في الصباح لمدة نصف ســاعة‬
‫أن أفضــل فتــرة تحــرق فيهــا دهون جســمك هي فــي الصباح‬
‫الباكر قبل أن تأكل أي شيء (تشرب الماء فقط)‪ ،‬ألن المعدة‬
‫تكون فارغة‪ ،‬وجســمك يحتاج للطاقة كي تســتمر في المشي‪،‬‬
‫حينها ال يجد سوى الدهون كي يحرقها ليحصل على الطاقة‪،‬‬
‫المهم أني ‪-‬ومن أجل االلتزام بذلك‪ -‬منعت نفسي من تصفح‬
‫الهاتف والتواصل عبر التطبيقات االجتماعية إال أثناء المشي‬
‫في الصباح‪ ،‬فليس لي خيار آخر‪ ،‬خياري الوحيد هو أن أمشي‬

‫‪87‬‬
‫جلسة عالج‬

‫كل صباح كي أتصفح الهاتف‪.‬‬


‫لــم َ‬
‫يبــق إال أن أنبــه على نقطــة مهمة‪ ،‬وهي عــدم المبالغة‬
‫فــي تطبيــق هــذا األمــر‪ ،‬فعلــى الصعيد الشــخصي اكتشــفت‬
‫بأني أمنع نفســي من أشــياء كثيرة بحجة االنضباط وااللتزام‪،‬‬
‫ً‬
‫‪-‬أحيانا‪ -‬أســحب من أمامي جميع الخيارات فال أترك‬ ‫وبأني‬
‫ً‬
‫واحدا‪ ،‬فأضيق على نفسي ما يمكن التوسع‬ ‫ً‬
‫خيارا‬ ‫لنفسي إال‬
‫فيــه‪ ،‬فمثــال كنــت في فترة ســابقة أتأخر في تعديــل المقاطع‬
‫ومونتاجها حتى الليل‪ ،‬وحينها ال يصبح أمامي إال خيار واحد‬
‫هــو الســهر حتى أنجــز العمل‪ ،‬ألنــي ملتزم بنشــر الفيديو في‬
‫اليــوم التالــي‪ ،‬فكنت أرهق نفســي وأحملها فــوق طاقتها‪ ،‬لكن‬
‫الوضــع قد تغير اآلن‪ ،‬فقد أصبح أمامي متســع من الخيارات‬
‫وعدد من األوقات إلنجاز العمل‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫جلسة عالج‬

‫خوارزميات اليوتيوب‬

‫هــل تمتلــك هاتف آيفــون؟ إذا كانت اإلجابــة (نعم) فجرب‬


‫هذه الحركة‪:‬‬
‫افتح تطبيق الصور (األســتديو) ثم استخدم شريط البحث‬
‫فــي األعلــى واكتــب أي كلمــة عامــة باللغــة اإلنجليزيــة‪ً ،‬‬
‫مثال‪:‬‬
‫شجرة (‪ )tree‬أو سيارة (‪ ،)car‬ثم ُعد بعد ذلك وأكمل القراءة‪.‬‬
‫قــد ُتصــدَم حيــن تجد أن النظام قد تعــرف على كل صورة‬
‫تحتــوي علــى شــجرة أو أشــجار بداخلها‪ ،‬وخاصــة إن لم تكن‬
‫ً‬
‫‪-‬مسبقا‪ -‬أن التطبيق يحتوي على خاصية التعرف على‬ ‫تعرف‬
‫الصــور والتي تتم بمســاعدة الــذكاء االصطناعي (يبحث فيما‬
‫داخل الصور‪ ،‬ليس فقط في أسمائها)‪.‬‬
‫هــذا يقودنــا إلــى موضوعنــا الرئيســي‪ ،‬وهــو خوارزميــات‬
‫اليوتيــوب (‪ ،)You tube Algorithms‬فهــي مــن تقــوم بتحليل‬
‫مــا بداخــل الفيديوهات ثم التعرف عليها وتقييمها‪ ،‬وهي التي‬
‫تســاهم في نشــر المحتوى أو تهميشــه‪ ،‬وبســببها يغتني أناس‬
‫أنــاس آخــرون‪ ،‬هــي ما يشــغل بــال معظم‬
‫ٌ‬ ‫ويصــاب باالكتئــاب‬
‫صناع المحتوى داخل المنصة‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫جلسة عالج‬

‫لكــن‪ ،‬وقبــل أن نخــوض في هــذا الموضوع أريــد أن أطرح‬


‫ً‬
‫سؤاال‪ :‬هل تعرف كم هو حجم المحتوى الذي يتم رفعه‬ ‫عليك‬
‫ً‬
‫يوميا؟‬ ‫لمنصة اليوتيوب‬
‫تشــير اإلحصائيــات إلــى أن أكثــر مــن ‪ 20‬ألف ســاعة من‬
‫المحتوى المرئي (الفيديو) يتم رفعه كل يوم في اليوتيوب‪ ،‬أي‬
‫أنك بحاجة ألكثر من ســنتين كي تشــاهد ما تم نشــره في يوم‬
‫واحد فقط‪ ،‬تخيل !‬
‫وبســبب هــذا الكــم الكبير مــن المحتوى‪ ،‬تــم تطوير تلك‬
‫الخوارزميــات‪ ،‬كــي َي ُ‬
‫ســهل فــرزه‪ ،‬ثــم تحديــد الجيــد منــه‬
‫والمميز‪.‬‬
‫يشغل موضوع الخوارزميات بال الكثير من ُص ّناع المحتوى‪،‬‬
‫كيف ال وهو من بسببه تصعد قنوات وتهبط قنوات‪ ،‬والصعود‬
‫يعني كسب مال أكثر‪ ،‬ففي هذا العالم؛ يتم تحويل المشاهدات‬
‫إلى دوالرات‪ ،‬فالمليون مشاهدة تساوي ما بين ‪ 400‬إلى ‪800‬‬
‫دوالر في المتوسط (للمحتوى العربي)‪ ،‬لذلك فمن يدخل هذا‬
‫العالم بهدف كسب المال‪ ،‬سوف يتأثر من تلك الخوارزميات‪،‬‬
‫ً‬
‫أحيانا كثيرة‪.‬‬ ‫ً‬
‫أحيانا وتبكيه‬ ‫سوف تفرحه‬
‫لكن ما هي الخوارزميات؟‬

‫‪90‬‬
‫جلسة عالج‬

‫معظــم أصحاب القنوات يعرفــون تأثير تلك الخوارزميات‪،‬‬


‫لكن ال أحد يعرف بالضبط آلية عملها‪ ،‬هنالك بعض المعلومات‬
‫القليلة عنها‪ ،‬أما ما يجب أن تعرفه أنت عنها؛ أنها مجرد أكواد‬
‫برمجيــة تعمل بشــكل تلقائــي‪ ،‬فليس هنالك أي عامل بشــري‬
‫يقــف خلفهــا‪ ،‬فــي حقيقة األمر‪ ،‬لــو أراد اليوتيــوب أن يوظف‬
‫ً‬
‫أشــخاصا لفحــص كل فيديو يتم نشــره ثم تقييمــه‪ ،‬حينها قد‬
‫تضطر الشــركة لتوظيف جميع من في الكرة األرضية ‪-‬وربما‬
‫ال يكفون‪ -‬للقيام بهذا العمل‪.‬‬
‫يبدأ عمل الخوارزميات من بعد رفع الفيديو مباشرة‪ ،‬حيث‬
‫ً‬
‫جاهزا للنشــر‪ ،‬وفي تلك‬ ‫تتــم معالجــة المقطع قبــل أن يصبح‬
‫الفتــرة؛ تقــوم الخوارزميــات بالتعــرف علــى تفاصيــل الفيديو‬
‫ومحتوياته‪ ،‬وتســتمر الخوارزميــات بمراقبة الفيديو حتى بعد‬
‫نشره‪ ،‬تقيس مدى استجابة المشاهدين وإقبالهم عليه‪ ،‬ومدى‬
‫تفاعلهــم معــه (بالتعليق واإلعجاب)‪ ،‬كمــا أنها تقيس أمر مهم‬
‫لــه دور كبيــر في الحكــم على الفيديــو‪ ،‬يدعــى «المقدرة على‬
‫االحتفــاظ بالجمهــور» أو (‪ ،)Audience retention‬والتــي لها‬
‫عالقة بمعيار «مدة المشاهدة»‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫كيفية عمل الخوارزميات بالضبط هو ســر المهنة بالنسبة‬

‫‪91‬‬
‫جلسة عالج‬

‫لليوتيــوب‪ ،‬ســوف تجدهم فــي بعض المصــادر يطلعونك على‬


‫بعــض الخطــوط العريضــة والنصائــح العامة لتحســين قابلية‬
‫وصول فيديوهاتك‪ ،‬لكن هنالك الكثير من األسرار التي ال يتم‬
‫الكشــف عنها‪ ،‬لماذا؟ لكي ال يتم اســتغالل تلك الخوارزميات‬
‫بطريقة مخادعة‪ ،‬وخاصة من أولئك األشخاص الذين يسعون‬
‫ً‬
‫دائما وراء الـ«ترند»‪.‬‬
‫لكن ما هو «الترند»؟‬
‫لــو فتحت تطبيق اليوتيــوب في هاتفك‪ ،‬لوجدت تبويب في‬
‫األسفل معنون بـ «‪ »Trending‬وحين تقوم بفتح تلك الصفحة‪،‬‬
‫ستجد أنها تحتوي على فيديوهات وصلت لماليين المشاهدات‬
‫‪-‬فــي الغالــب‪ -‬وفــي الوقت نفســه هــي فيديوهــات حديثة لم‬
‫يمض على نشــرها ســوى أيام أو ساعات‪ ،‬إن تلك القائمة هي‬
‫ِ‬
‫حلــم كل ناشــر وصانــع محتوى داخــل المنصة‪ ،‬المــكان الذي‬
‫ً‬
‫جاهدا للوصول إليه‪ ،‬ألنه يعني الشهرة السريعة‬ ‫يسعى‬
‫«الترند» هي تلك المواضيع الساخنة التي تجذب الجماهير‬
‫في الوقت الحاضر‪ ،‬قد يتمثل بحدث كبير حصل في المنطقة‪،‬‬
‫أو خطأ فادح ارتكبته شخصية مشهورة أو أي شيء آخر يمكن‬
‫ً‬
‫حاليا‪ ،‬وألن األمر كذلك؛ يقوم الكثير‬ ‫اعتباره موضوع الساحة‬

‫‪92‬‬
‫جلسة عالج‬

‫من الناس بالبحث في اليوتيوب عن فيديوهات حول الموضوع‬


‫نفسه‪.‬‬
‫ً‬
‫واقعيا؛ لنفــرض أن حادثة تصادم‬ ‫دعنــي أضــرب لك ً‬
‫مثاال‬
‫ً‬
‫سريعا‪،‬‬ ‫قطارات وقعت في دولة معينة‪ ،‬بالطبع الخبر سينتشر‬
‫ســيدخل الناس (من تلك الدولــة) على اليوتيوب ويبحثون عن‬
‫فيديوهــات متعلقــة بالموضــوع‪ ،‬ولنفرض أن أحد األشــخاص‬
‫تمكــن مــن تصويــر الحادث ونشــر الفيديــو فــي اليوتيوب في‬
‫اليــوم نفســه‪ ،‬حينها قد يحصل المقطع الخــاص به على أكثر‬
‫من مليون مشــاهدة في أقل من ‪ 24‬ســاعة‪ ،‬ليس بســبب عدد‬
‫الواصلين إليه عبر البحث فقط‪ ،‬بل ألن خوارزميات اليوتيوب‬
‫ســوف تتبناه وتســاهم في نشره وإيصاله لبقية الناس التي لم‬
‫تبحث عنه ولم تعرف بالموضوع‪.‬‬
‫نأتــي اآلن إلــى طــرق خــداع تلــك الخوارزميــات‪ ،‬وخاصــة‬
‫عندما يكون الهدف هو الوصول لقائمة «الترند»‪.‬‬
‫في المثال السابق؛ قد يقوم أحد األشخاص بتصوير فيديو‬
‫يتحــدث فيــه عــن تصادم القطــارات‪ ،‬وقــد يضع فــي الفيديو‬
‫ً‬
‫صــورا لبعض القطارات العشــوائية والتــي ال ترتبط بالحدث‪،‬‬
‫ً‬
‫مطابقا لما يبحث عنه الناس‪ ،‬وكذلك‬ ‫ً‬
‫اســما للفيديو‬ ‫ثم يضع‬

‫‪93‬‬
‫جلسة عالج‬

‫ً‬
‫وصفا يحتــوي على كلمــة (قطارات) بشــكل متكرر‪،‬‬ ‫يكتــب لــه‬
‫ثم ينشــر الفيديو‪ ،‬وفجــأة‪ ،‬أصبح في قائمة الترند (إن حالفه‬
‫ً‬
‫طبعا ألن األمر ليس بهذه السهولة)‪.‬‬ ‫الحظ‬
‫ً‬
‫ســابقا‪ -‬تقــوم بتحليل‬ ‫خوارزميــات اليوتيــوب ‪-‬كمــا ذكرنا‬
‫الفيديــو واكتشــاف مــا بداخله‪ ،‬تتعــرف على األمــور الظاهرة‬
‫والباطنــة‪ ،‬فاألمــور الظاهــرة هنــا هــي‪ :‬العنــوان ‪ -‬الوصف ‪-‬‬
‫الكلمــات المفتاحيــة ‪ -‬الصــورة الرمزية‪ ،‬وغيرهــا‪ ،‬أما األمور‬
‫الباطنــة فهــي ما بداخل الفيديو مــن صوت وصورة‪ ،‬حيث يتم‬
‫تحليــل الفيديو واكتشــاف أن كلمة (قطــار) و(قطارات) قد تم‬
‫ً‬
‫أيضا ســتجد الخوارزميــات أن هنالك‬ ‫ذكرهــا بشــكل متكــرر‪،‬‬
‫ً‬
‫صورا متعددة للقطارات‪ ،‬وألن الخوارزميات هي مجموعة من‬
‫األكــواد البرمجيــة غيــر العاقلة‪ ،‬فقــد يتم خداعهــا في بعض‬
‫األحيــان‪ ،‬وبالتالــي تقــوم بتصنيــف الفيديــو علــى أنــه متعلــق‬
‫بالموضوع الســاخن‪ ،‬والنتيجة هي أن تقوم تلك الخوارزميات‬
‫بنفسها بإشهار الفيديو ونشره بين عموم المستخدمين‪.‬‬
‫لقــد وصلــت التقنيــة اليــوم إلــى مراحــل متقدمــة‪ ،‬لقــد‬
‫جربــت بنفســك خاصيــة التعــرف علــى محتويــات الصور في‬
‫هاتفــك‪ ،‬ويمكــن أن تجرب خاصية التعــرف على الصوت عبر‬

‫‪94‬‬
‫جلسة عالج‬

‫المساعدات الرقمية (مثل «أليكسا» أو «هوم بود» أو «سيري»‬


‫علــى هاتفك) تلك األجهزة التي تضعها في منزلك ثم تتحدث‬
‫إليهــا وتطلــب منهــا مــا تريد‪ ،‬في البداية تســألك عن اســمك‬
‫فتجيبهــا‪ ،‬ثــم تتعــرف عليــك وعلى صوتــك وتصبــح خادمتك‬
‫ً‬
‫ومنتشــرا‪،‬‬ ‫ً‬
‫معروفا‬ ‫المطيعة‪ ،‬التعرف على الصوت أصبح ً‬
‫أمرا‬
‫ً‬
‫واقعا‪،‬‬ ‫كما أن التعرف على الصور ومحتوياتها قد أصبح ً‬
‫أمرا‬
‫ومــا الفيديــو إال مجموعــة من الصــور الثابتة والتــي تمر أمام‬
‫عينيك بسرعة كبيرة (‪ 24‬صورة كل ثانية أو أكثر)‪.‬‬
‫لكن كيف يتم التعرف على الفيديو؟‬
‫ً‬
‫حسنا‪ ،‬األمر قد يطول شرحه‪ ،‬وأنا ال أريد أن أدخلك هنا‬
‫فــي متاهات البرمجيــات والرياضيات‪ ،‬لكن ســأعطيك لمحة‬
‫سريعة بطريقة مبسطة‪.‬‬
‫الفيديــو ما هو إال مجموعة مــن الصور الثابتة (‪،)Frames‬‬
‫فــكل دقيقــة فيديو هي عبارة عــن ‪ 24‬أو ‪ 30‬صورة أو «فريم»‬
‫(فــي الغالــب)‪ ،‬أمــا الصورة فتتكــون من نقاط صغيرة تســمى‬
‫«‪ »Pixles‬أو «بكســل»‪ ،‬وكلمــا زاد عــدد البكســالت زادت جودة‬
‫الفيديو‪ ،‬فعلى سبيل المثال؛ عندما تقرأ أن جودة الفيديو هي‬
‫(‪ )720‬فهذا يعني أن كل صورة فيه تتكون من (‪ )1280‬بكســل‬

‫‪95‬‬
‫جلسة عالج‬

‫عرض و(‪ )720‬بكسل ارتفاع‪.‬‬


‫تقــوم الخوارزميــات بتحليل تلك البكســالت عبر اكتشــاف‬
‫األكــواد اللونيــة الخاصــة بهــا‪ ،‬فلكل لــون كود معيــن‪ ،‬وعندما‬
‫تجتمــع بعــض البكســالت بجانــب بعــض وتكون صــورة معينة‬
‫(صورة قطار ً‬
‫مثال) حينها يتم مقارنة تلك األكواد بأكواد كثيرة‬
‫ً‬
‫مســبقا في النظام (أكواد تمثل جميع األشــياء التي‬ ‫محفوظة‬
‫تتخيلهــا والتــي ال تتخيلهــا)‪ ،‬وبالتالي تكتشــف الخوارزمية أن‬
‫هنالك صورة شجرة أو رجل على سبيل المثال‪ ،‬بل إنها تتعرف‬
‫علــى هويــة الشــخصية الــذي يظهر‪ ،‬فتعــرف أنــه «اليوتيوبر»‬
‫فالن‪ ،‬أو أي شخصية معروفة أخرى‪.‬‬
‫األمر مخيف‪ ،‬أليس كذلك؟ لكن هذا هو الحال‪ ،‬فما تنشره‬
‫ً‬
‫مرئيــا‪ ،‬هو‬ ‫ً‬
‫صوتيــا أم‬ ‫ً‬
‫نصيــا أم‬ ‫ســواء أكان‬
‫ً‬ ‫أنــت مــن محتــوى‬
‫عرضــة ألنظمة الذكاء االصطناعي‪ ،‬عرضة ألن يتم اكتشــافه‬
‫وتحليله ثم استخدامه في أشياء قد ال تعلمها‪.‬‬
‫لكن المخيف أكثر هو في إمكانية خداع تلك الخوارزميات‬
‫بهدف التالعب بالعقول‪ ،‬نعم لقد قرأت العبارة بشكل صحيح‪.‬‬
‫يمكــن أن نقســم الناس ممن يســعى إلرضــاء الخوارزميات‬
‫(أو خداعهــا) إلــى نوعيــن‪ :‬الفئــة األولــى هــي التــي تســعى‬

‫‪96‬‬
‫جلسة عالج‬

‫للمكســب المــادي‪ ،‬أما الفئــة الثانية فهم أنــاس (أو جهات) ال‬
‫يهمهم المال‪ ،‬بل هم مستعدون لدفع الكثير من األموال بهدف‬
‫الحصول على مكاسب أخرى‪ ،‬قد تكون في غرس أفكار معينة‬
‫فــي عقــول النــاس‪ ،‬أو إقنــاع الجماهيــر الغفيرة باتجــاه معين‬
‫(وخاصة في المجال السياسي)‪ ،‬والصادم في األمر أن هنالك‬
‫شــركات ومواقــع رقمية تقــدم خدمات من هــذا القبيل‪ ،‬حيث‬
‫تقــوم بإنتــاج عدد كبير من الفيديوهات بطرق آلية وتزرع فيها‬
‫تلك األفكار ثم تنشرها بشكل منظم في اليوتيوب‪.‬‬
‫بالطبع يطور مهندسو اليوتيوب تلك الخوارزميات ً‬
‫يوما بعد‬
‫ذكاء ويصعب التالعب بها‪ ،‬والخوارزميات‬
‫يــوم‪ ،‬كي تكون أكثر ً‬
‫في العموم هي من حســنات اليوتيوب‪ ،‬ألنها تســاهم في نشــر‬
‫المحتوى الجيد والمميز‪ ،‬لكنها ‪-‬في الوقت نفسه ‪ -‬مما يسبب‬
‫الصــداع لصنــاع المحتــوى داخل المنصة‪ ،‬بل ويؤدي لمشــاكل‬
‫نفســية عند البعض منهم‪ ،‬فقد تجد «اليوتيوبر» يجهد نفســه‬
‫ً‬
‫مميزا (من وجهة نظره على األقل) وفي نهاية‬ ‫كي يصنع فيديو‬
‫ً‬
‫أصال في‬ ‫المطــاف ال يصــل إال لفئة قليلة ممن هم مشــتركون‬
‫قناته‪ ،‬والسبب‪ :‬الخوارزميات‪ ،‬ومرة بعد مرة‪ ،‬فيديو بعد آخر‪،‬‬
‫حتى يصاب «اليوتيوبر» باالكتئاب في أسوأ األحوال‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫جلسة عالج‬

‫ً‬
‫أيضا يساهم في تخصيص‬ ‫يجدر القول هنا بأن المستخدم‬
‫المحتوى الذي يظهر له‪ ،‬فهو يساعد الخوارزميات في معرفة‬
‫مــا يحــب ومــا يكــره‪ ،‬فالخوارزميــات تراقب تحركاتــك داخل‬
‫المنصة وعبارات بحثك‪ ،‬تكتشف ما يهمك وما يجذبك‪ ،‬فتتعلم‬
‫ً‬
‫مهتما‬ ‫منــك ثــم ترمي لــك بالمحتوى الذي يالئمك‪ ،‬فــإن كنت‬
‫بالرياضة ً‬
‫مثال‪ ،‬فستجد أن معظم االقتراحات هي فيديوهات‬
‫ً‬
‫مهتمــا باأللعاب والـ ‪ Gaming‬فســتجد أن‬ ‫رياضيــة‪ ،‬وإن كنــت‬
‫واجهــة التطبيــق قــد امتألت بتلــك النوعية مــن الفيديوهات‪،‬‬
‫وهكذا‪.‬‬
‫كانــت هــذه نظــرة مختصرة عــن هــذا األمر الشــائك‪ ،‬كي‬
‫يعــرف القــارئ كيف تصل إليه بعض الفيديوهات دون غيرها‪،‬‬
‫وكــي يطلــع علــى بعــض ما يجــري خلــف الكواليــس من حرب‬
‫مشــتعلة بيــن ّ‬
‫صناع المحتوى من جهة‪ ،‬وبيــن تلك األكواد غير‬
‫العاقلة (الخوارزميات) من جهة أخرى‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫جلسة عالج‬

‫قصة أول فلوق‬

‫لــم تكــن البدايــة عبــر نافــذة اليوتيــوب‪ ،‬فقد ُكنــت ‪-‬ومنذ‬


‫ســنوات الثانوية‪ -‬أصور نفســي وأتحدث للكاميرا‪ ،‬لدي آالف‬
‫ً‬
‫أفكارا‬ ‫لحظــات عشــتها أو‬
‫ٍ‬ ‫المقاطــع المرئيــة التــي وثقــت بها‬
‫قلتهــا فــي يوم من األيام‪ ،‬كنــت أقوم بهذا العمــل بدافع المرح‬
‫والتســلية‪ ،‬أو ربمــا بدافــع الشــغف والحــب‪ ،‬الشــغف الــذي‬
‫ظهــر بعــد ذلك بصــورة جلية حيــن خرجت من ضيــق المنزل‬
‫إلــى رحابــة االبتعــاث‪ ،‬وحيــن خرجــت الفيديوهــات من أســر‬
‫الهاتــف إلى انفتــاح اإلنترنت ومنصــات التواصل االجتماعية‪،‬‬
‫والتــي فتحت البــاب على مصرعيه؛ للنشــر واإلبداع وصناعة‬
‫منحنى آخر ليرســم معالم‬
‫ً‬ ‫المحتوى‪ ،‬وحينها؛ بدأ األمر يأخذ‬
‫حياتي الجديدة‪.‬‬
‫لقــد أحببــت التحــدث أمــام الكاميــرا‪ ،‬أحببــت أن أوثــق‬
‫حياتي عبر الوســائط التقنية والنشــر عبر الشبكة العنكبوتية‬
‫(اإلنترنــت)‪ ،‬بدأ األمر عبر ســناب تشــات من قبــل فتح قناتي‬
‫ً‬
‫تقريبا قبل ابتعاثي ألمريكا‬ ‫في اليوتيوب بفترة ليســت يسيرة؛‬
‫بسنة واحدة‪ ،‬في البدء كان هنالك حوالي ‪ 400‬متابع‪ ،‬نصفهم‬

‫‪99‬‬
‫جلسة عالج‬

‫كان األهــل واألصدقاء‪ ،‬والنصف اآلخر أشــخاص ال أعرفهم‪،‬‬


‫ً‬
‫تحديثــا‬ ‫وكل يــوم أظهــر عليهــم بصوتــي وصورتــي وأعطيهــم‬
‫ً‬
‫سريعا بما يحدث‪ ،‬أو ما سيحدث‪.‬‬
‫مصطلــح (فلــوق) هــو تعريــب للكلمــة اإلنجليزيــة (‪)Vlog‬‬
‫والتــي هــي اختصــار لـــ (‪ )Video Blog‬أو (تدوينــة مرئيــة)‪،‬‬
‫السمة األساسية لمثل تلك الفيديوهات هو التسلسل الزمني‪،‬‬
‫ً‬
‫غالبــا ما تكــون مرتبطة‬ ‫واألحــداث التــي يتــم عرضهــا والتي‬
‫بحيــاة ناشــر الفيديــو (الفلوقــر)‪ ،‬وقــد اخترت تســمية قناتي‬
‫بهذا االســم (كويتي فلوقر) ألني أردتها في األســاس أن تكون‬
‫وســيلة لتوثيــق جانــب مــن حياتي الجديــدة‪ ،‬تلك التــي بدأتها‬
‫منــذ ابتعاثــي ألمريــكا‪ ،‬وهــذا يفســر أن أول فيديو فــي القناة‬
‫ً‬
‫عرضــا لمغامــرة االنتظــار في طابور شــراء جهاز اآليفون‬ ‫كان‬
‫الجديد آنذاك‪.‬‬
‫فيديــو (طابــور شــراء اآليفون) لم يكــن أول فلوق فعلي في‬
‫حياتــي‪ ،‬صحيــح أنه األول في القناة‪ ،‬لكــن الفلوق األول لم ي َر‬
‫النــور ولم ينشــر عبــر أي منصة‪ ،‬فحينها لم يكــن هنالك قناة‪،‬‬
‫ولــم يكــن لــدي جمهور‪ ،‬كان جمهــوري هم أهلــي و َر ْبعي (كلمة‬
‫« َر ْبــع» فــي اللهجــة الكويتية تعني األصدقــاء المقربين)‪ ،‬ربعي‬

‫‪100‬‬
‫جلسة عالج‬

‫الذيــن قابلونــي بالضحك واالســتهزاء عند مشــاهدة الفيديو‪،‬‬


‫ومــن المؤســف أن تكــون تلــك الكلمــات المثبطــة هــي أحــد‬
‫األســباب التــي جعلتنــي أتأخر في إطالق القنــاة‪ ،‬فمن يدري‪،‬‬
‫ً‬
‫متقدما‬ ‫ً‬
‫كافيا من التشــجيع لكنت اليوم‬ ‫ً‬
‫قســطا‬ ‫ربما لو وجدت‬
‫بسنة أو سنتين‪.‬‬
‫دعوني أحكي لكم قصة ذلك الفيديو؛ فيديو أول فلوق‪.‬‬
‫فــي أحــد األيــام‪ ،‬اجتمعت مع َربعــي واتفقنا علــى أن يقوم‬
‫كل شــخص فينا بتســجيل «فلوق» (أو تدوينة مرئية)‪ ،‬كنوع من‬
‫ً‬
‫وجزءا من‬ ‫ً‬
‫جانبا من حياتــه‬ ‫كل ّ‬
‫منــا‬ ‫التجربــة والتســلية‪ ،‬يوثــق ٌ‬
‫يومياتــه‪ ،‬وفــي نهايــة المطــاف كنت أنــا الوحيد الــذي جئتهم‬
‫بالفيديو‪.‬‬
‫علي اختبار أحياء …»‬
‫‪« -‬صباح الخير‪ ،‬اليوم َّ‬
‫ً‬
‫«أهال‪ ،‬مســاكم اهلل بالخير‪ ،‬للتو قمت من النوم‪ ،‬الوالدة‬ ‫‪-‬‬
‫صحتني ويجب أن أدرس اآلن كي أستعد لالختبار …»‬
‫مشــهد مــن المنزل‪ ،‬وآخر فــي المقهى‪ ،‬مقطــع وأنا أذاكر‪،‬‬
‫وآخــر مــع ربعي بعــد انتهاء االختبار‪ ،‬بهذه المشــاهد العفوية‪،‬‬
‫وعبر كاميرا الهاتف األمامية‪ ،‬تم تشكيل أول فلوق‪ ،‬ثم جمعت‬
‫تلك المقاطع وصنعت الفيديو وشعرت بسعادة غامرة‪ ،‬سعادة‬

‫‪101‬‬
‫جلسة عالج‬

‫لم تكن متعلقة بعدد الاليكات والمشاهدات‪ ،‬لم ترتبط بكمية‬


‫األرباح والمكاســب‪ ،‬كانت ســعادة أصلية نابعة من حب للعمل‬
‫الــذي قمــت به‪ ،‬وهــذا ‪-‬في اعتقادي‪ -‬هو ســبب دخولي عالم‬
‫اليوتيــوب فيمــا بعد‪ ،‬وتحقيقي للنجــاح الذي وصلت إليه‪ ،‬بعد‬
‫فضل اهلل وكرمه‪.‬‬
‫لــم يفتــح ذلك الفيديو األول شــهيتي للنشــر فــي اليوتيوب‬
‫بقــدر مــا فعلــت الحياة الجديــدة في أمريكا‪ ،‬فقــد كانت حياة‬
‫مليئــة بالتجــارب والمغامــرات الصغيــرة‪ ،‬وفــي تلــك البيئــة‬
‫المختلفة عما كنت أعيشه في بلدي وبين أهلي‪ ،‬بدأت الرغبة‬
‫فــي صناعــة الفيديوهــات ونشــرها تنبــت في قلبــي كما ينبت‬
‫الــزرع بعــد المطر‪ ،‬وفــي الســنة الثانية لالبتعاث نشــرت أول‬
‫فيديــو‪ ،‬والــذي كان اإلعــالن الرســمي لحيــاة جديــدة ال زلت‬
‫أعيش فصولها حتى اآلن‪.‬‬
‫في بداية األمر‪ ،‬كان هنالك القليل من المشاهدات‪ ،‬بضعة‬
‫آالف من المشــتركين ومئات من المشاهدات لكل فيديو‪ ،‬لكن‬
‫لــم يشــكل هذا أهميــة كبيرة بالنســبة لي‪ ،‬كنت أكتفــي بتعليق‬
‫واحــد أو اثنيــن‪ ،‬كنــت أشــعر بالســعادة والفخر حين يســتمتع‬
‫أحدهم أو يستفيد من قناتي‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫جلسة عالج‬

‫تطــور األمــر بعــد ذلــك؛ بعــد أن اشــتهرت القنــاة وأصبــح‬


‫هنالك جمهور ضخم يشاهد ويتفاعل‪ ،‬أصبحت هنالك عالقة‬
‫بينــي وبيــن الجمهــور؛ ارتبــاط روحــي وعالقــة صداقــة غيــر‬
‫مباشرة‪ ،‬فقد أصبحوا بعد ذلك هم ربعي الذين أستأنس بهم‪،‬‬
‫وأصدقائي الذين أتحدث إليهم‪.‬‬
‫وهكــذا دخلــت عالم اليوتيوب من باب الشــغف‪ ،‬ألني أقوم‬
‫بعمــل يشــعرني بالســعادة والرضــى‪ ،‬وليــس من بــاب الربح أو‬
‫ً‬
‫الحقا‪ ،‬المال ســيبحث عنك إن‬ ‫الكســب المــادي‪ ،‬المال يأتــي‬
‫توقفــت أنــت عن البحث عنه‪ ،‬وهذه القاعدة ال تنســحب فقط‬
‫على اليوتيوب‪ ،‬بل على الحياة بأكملها‪ ،‬ويكفي أن نقول‪:‬‬
‫ابحث عن شغفك‪ ،‬عن صوتك الداخلي‪ ،‬عما تحب فعله في‬
‫هذه الحياة‪ ،‬وسيبحث النجاح عنك ويطرق بابك‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫جلسة عالج‬

‫دموع أمي‬

‫أثنــاء زيارتــي األخيرة للكويت؛ َش ِــهدْ ُت دمــوع أمي مرتين‪،‬‬


‫والسبب هو أنا‪.‬‬
‫أمر إيجابي‪،‬‬
‫االنشــغال بشــيء نافع أثناء فترة االبتعاث هو ٌ‬
‫أسوأ شيء هو الفراغ في الغربة‪ ،‬وأفضل ما يمكن أن تستثمر‬
‫فيه وقتك بجانب الدراســة؛ هو مهارة تكتسبها أو عمل خاص‬
‫تؤسسه‪ ،‬ولقد كان توجهي نحو النشر الرقمي‪ ،‬وكان اليوتيوب‬
‫هــو عملــي الخــاص الــذي أصبــح اليوم أحــد مصــادر الدخل‬
‫بالنسبة لي‪.‬‬
‫عندما تكبر قناتك تبدأ الفرص َّ‬
‫بالطرق على بابك‪.‬‬
‫ً‬
‫جيدا في اليوتيــوب عام ‪،2018‬‬ ‫ً‬
‫نجاحا‬ ‫بحمــد اهلل حققــت‬
‫تعاقــدت مع عدة شــركات ونشــرت عدة إعالنــات‪ ،‬وقد تطلب‬
‫أحــد تلك اإلعالنات أن أســافر إلى دولــة عربية وأقضي فيها‬
‫خمسة أيام‪ ،‬تم االتفاق على التفاصيل وخططت للسفر إليهم‬
‫قبل زيارتي للكويت‪.‬‬
‫كان المقــرر أن أقضــي عنــد األهــل فــي الكويــت ‪ً 20‬‬
‫يوما‬
‫فقــط‪ ،‬ألن اإلجــازة لم تكن أطول من ذلك‪ ،‬ثم بعد التعاقد مع‬

‫‪104‬‬
‫جلسة عالج‬

‫الشركة نقصت المدة إلى ‪ً 15‬‬


‫يوما‪ ،‬بحيث أسافر لتلك الدولة‬
‫ً‬
‫أوال وأقضــي خمســة أيام فيها ثم أتوجــه للكويت لقضاء بقية‬
‫ً‬
‫طبعا لم تكن أمي وأبي يعرفان ذلك‪ ،‬كانا يتوقعان أن‬ ‫اإلجازة‪،‬‬
‫أقضي في الكويت عشرين ً‬
‫يوما كما هي عادتي كل سنة (أثناء‬
‫إجازة رأس السنة الميالدية)‪.‬‬
‫اتصلت وشــرحت لهما الموقف‪ ،‬كنت أخاف أن تحزن أمي‬
‫لهذا الخبر‪.‬‬
‫«ما يسعدك يسعدنا‪ ،‬ومصلحتك تهمنا»‬
‫بهــذا المعنــى جــاء الرد منهمــا‪ ،‬فرحت وبدأت االســتعداد‬
‫للســفر‪ ،‬اشــتريت ألبــ َو َّي وإخوتــي الهدايا ثم حزمــت حقائبي‬
‫ً‬
‫مســافرا نحو الشــرق األوســط‪ ،‬وبعد انقضــاء أيام‬ ‫وانطلقــت‬
‫العمل حان الوقت أليام الراحة مع أفراد األسرة الذين اشتقت‬
‫فــردا ً‬
‫فردا‪ ،‬لقد كانت ســنة مزدحمة‪ ،‬دراســة ويوتيوب‪،‬‬ ‫ً‬ ‫إليهــم‬
‫شــركات وإعالنات‪ ،‬ناهيك عن العمل الذي أديره وغيرها من‬
‫األنشطة‪ ،‬لقد رأيت في تلك األيام فرصة حقيقية ألخذ طاقة‬
‫تعينني على بدء سنة جديدة مليئة بالنشاط واإلنجاز‪.‬‬
‫ً‬
‫واحدا‪ ،‬لقد كانت‬ ‫ً‬
‫فــردا‬ ‫أبلغــت أهلــي بموعد وصولي ما عدا‬
‫متقدمــا بيــوم‪ ،‬كــي أفاجئهــا ب َم ْقدمــي‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تاريخــا‬ ‫أمــي‪ ،‬أعطيتهــا‬

‫‪105‬‬
‫جلسة عالج‬

‫وحيــن وصلــت للمطــار كان معظم أفراد األســرة في اســتقبالي‪،‬‬


‫ً‬
‫حافــال والفرحة غامــرة‪ ،‬أخذوني وذهبوا بي إلى‬ ‫كان االســتقبال‬
‫المنزل‪ ،‬وفي الطابق العلوي كانت أمي تجهز المنزل وتنشر رائحة‬
‫ً‬
‫استعدادا لوصولي في اليوم التالي (حسب اعتقادها)‪.‬‬ ‫البخور‬
‫دخل أخي األكبر لغرفة أمي وقال‪:‬‬
‫‪ -‬لقد وصل أخي‬
‫‪ -‬هال محمـ‪.....‬‬
‫ً‬
‫مســافرا في تلك األيام‪ ،‬فظنت أمي أنه‬ ‫كان أخي «محمد»‬
‫الواصل‪ ،‬لكن حين استدارت ورأتني؛ تفاجأت وأغمي عليها‪.‬‬
‫كانــت إغمــاءة بســيطة خفيفة علــى القلب‪ ،‬وكأنهــا غمامة‬
‫لطيفــة أتــت بالخير والمطر‪ ،‬فســرعان ما أفاقــت ثم ابتهجت‬
‫وفرحت‪ ،‬ولم تتمكن حينها من مقاومة دموع الفرح‪.‬‬
‫تلك هي الدمعة األولى‪.‬‬
‫انقضــى اليوم األول ‪-‬يوم االســتقبال‪ -‬وتــرك عالمة بارزة‬
‫في القلب‪ ،‬السعادة التي كنت فيها ال توصف‪ ،‬يكاد قلبي يطير‬
‫من شــدة الشــوق إليهــم كلما تذكرت تلك اللحظــات‪ً ،‬‬
‫فعال لذة‬
‫الوصال ‪-‬كما قيل‪ -‬ال تضاهيها لذة‪.‬‬
‫فــي اليــوم التالــي بدأت االنشــغاالت‪ ،‬كان أمامــي الكثير من‬

‫‪106‬‬
‫جلسة عالج‬

‫المهــام والقليل مــن الوقت‪ :‬زيارات ولقاءات مع يوتيوبرز آخرين‬


‫‪ -‬عقــود وشــركات ‪ -‬إعالنــات والتزامــات ‪ -‬هــذا كلــه بجانــب‬
‫االســتمرار فــي تعديــل الفيديوهــات ومونتاجهــا‪ ،‬وغيرهــا مــن‬
‫المهام التي كانت تشغلني طوال اليوم‪ ،‬كنت أخرج من المنزل في‬
‫ً‬
‫متأخرا بعد نومهم‪،‬‬ ‫الصباح الباكر قبل استيقاظ الجميع‪ ،‬وأرجع‬
‫ً‬
‫شديدا تلك األيام‪ ،‬لم أكن أريد تفويت فرصة ببناء‬ ‫كان الضغط‬
‫العالقــات وخاصــة أني عما قريب ســأتخرج في الجامعة‪ ،‬وبعد‬
‫مدة وجيزة سأرجع للكويت وأبدأ حياتي الجديدة‪.‬‬
‫إلــى هنــا ولم أكن قد أخبرت أمي بما ســيحزن قلبها‪ ،‬خبر‬
‫سفري المبكر قبل انتهاء المدة‪.‬‬
‫العشرون ً‬
‫يوما أصبحت خمسة عشر‪ ،‬وها هي اآلن تتحول‬
‫لعشرة‪.‬‬
‫الذي استجد أنني قررت السفر قبل الوقت المحدد لقضاء‬
‫عــدة أيــام في المملكــة المتحدة (بريطانيا) وذلــك قبل العودة‬
‫لمــكان إقامتــي في أمريكا‪ ،‬أما الســبب في ذلــك فهو التزامي‬
‫بأحد التعاقدات‪ ،‬والتي تتضمن تصوير عدة فيديوهات ضمن‬
‫سلســلة (يوم في حياة مشــهور)‪ ،‬لم يكن أمامي إال تلك الفترة‬
‫بسبب ظروف الشخصيات التي أنوي التصوير معها‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫جلسة عالج‬

‫في اليوم الثامن أخبرت أمي أني مسافر بعد يومين‪ ،‬تلقت‬
‫الخبــر ثــم صمتــت‪ ،‬كان صمتهــا أبلــغ مــن الــكالم‪ ،‬حاو َل ْت أن‬
‫تظهــر عــدم تأثرهــا بالخبر وأن األمر عــادي‪ ،‬لكن الحزن كان‬
‫ً‬
‫باديا على وجهها‪ ،‬كنا في الخارج في زيارة للبنك‪ ،‬وبعد خروج‬
‫أمي منه؛ عدنا ً‬
‫معا إلى المنزل‪ ،‬عدنا وفي القلب تنهيدة وألم‬
‫فراق مبكر‪.‬‬
‫في مساء ذلك اليوم؛ تم استدعائي لغرفة المعيشة‪ ،‬وما إن‬
‫وصلت حتى انهمرت التهاني والتبريكات بدخول سنة جديدة‪،‬‬
‫لقــد كانــت ذكرى ميــالدي الـ‪ ،٢١‬وكانت األســرة قد أعدت لي‬
‫حفلة صغيرة دون علمي‪.‬‬
‫لســنا معتادين علــى حفالت عيد الميــالد‪ ،‬لكنهم وجدوها‬
‫مناســبة جميلــة لالحتفــال وقضــاء وقت ممتع قبل أن أســافر‬
‫وأغادرهــم مــن جديد‪ ،‬وكما هــي عادة الحفــالت‪ ،‬كان هنالك‬
‫كعــك وعصائــر والكثير من الهدايا‪ ،‬كل فرد من أفراد األســرة‬
‫ً‬
‫معينا‪ ،‬إال أمي‪ ،‬فقد سألتني وقالت‪:‬‬ ‫أهداني ً‬
‫شيئا‬
‫‪ -‬كم أعطوك في اإلعالن األخير الذي غبت عنا بسببه؟‬
‫اســتغربت مــن الســؤال‪ ،‬لكنــي بادرتهــا باإلجابــة‪ ،‬وبعد أن‬
‫َع َر َفــت؛ غابــت لعدة دقائق ثم عادت وفي يدها ظرف‪ ،‬أعطته‬

‫‪108‬‬
‫جلسة عالج‬

‫بيدي‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫َّ‬ ‫لي وأمسكت‬
‫‪ -‬هذا مبلغ يساوي مبلغ اإلعالن‪ ،‬إنه هديتي لك‪.‬‬
‫ثم أردفت والدمعة بادية في عينها‪:‬‬
‫‪ -‬ال أريــدك فــي أي يــوم من األيام أن تقدم أي إعالن على‬
‫أمك‪.‬‬
‫تلك هي الدمعة الثانية‪.‬‬
‫ً‬
‫أيمانا‬ ‫حاولت أن أرفض المبلغ‪ ،‬لكنها أصرت بشدة وحلفت‬
‫ً‬
‫شــديدا علــي‪ ،‬كنــت أتمنــى أن تبتلعنــي‬ ‫مغلظــة‪ ،‬كان الموقــف‬
‫األرض قبل أن أعيش تلك اللحظة‪.‬‬
‫اتضح لي فيما بعد أن مشــوار البنك الذي َذهَ ُبت ُه مع أمي‪،‬‬
‫ً‬
‫كبيرا‬ ‫ً‬
‫مبلغا‬ ‫كان ألجل سحب المبلغ الذي أهدته لي‪ ،‬ولقد كان‬
‫بحق‪ ،‬كانت رســالة قوية ومؤثرة‪ ،‬لقد ســكتت أمي حين علمت‬
‫ً‬
‫أيضا حين علمت بانشغالي الثاني‪،‬‬ ‫بانشغالي األول‪ ،‬ثم سكتت‬
‫ً‬
‫عمليا وتربيــة واقعية‪ ،‬وكأنه تنبيه شــديد‬ ‫ً‬
‫فعــال‬ ‫فــكان كالمهــا‬
‫اللهجــة علــى أن القيم المعنوية أكبر وأهم مــن القيم المادية‪،‬‬
‫ً‬
‫دائما فــي المقدمة‪ ،‬مهما انشــغل‬ ‫رســالة مفادهــا أن األســرة‬
‫اإلنسان في أعماله‪ ،‬وتعددت في الحياة أدواره‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫جلسة عالج‬

‫أنا ُوأخوتي‬

‫أعظم ما يطلبه اإلنســان في هذه الحياة هو الســعادة‪ ،‬قد‬


‫يكــون المــال أحد الوســائل لبلوغها‪ ،‬لكن هنالك أشــياء أخرى‬
‫ً‬
‫تقريبــا‪ ،‬مــن أهمها؛ األســرة‬ ‫مجانيــة ومتوفــرة لــدى الجميــع‬
‫الدافئة واألخوة الصادقة‪ ،‬ولقد كانت عالقتي بأخوتي كذلك‪،‬‬
‫فكانت السعادة ال تغادر دارنا‪.‬‬
‫أســرتنا مكونــة من أبوين وســتة أبنــاء‪ ،‬ثالثــة أوالد وثالث‬
‫ً‬
‫أوقاتا جميلة‬ ‫بنات‪ ،‬أما أنا فترتيبي الخامس بينهم‪ ،‬لقد عشنا‬
‫مجتمعيــن فــي منزلنا القديــم‪ ،‬لم يكن ذلك المنــزل الكبير أو‬
‫الفخم‪ ،‬في حقيقة األمر؛ كنا نعيش في الطابق األول من منزل‬
‫ً‬
‫واسعا كفاية‪ ،‬إال أن قلوبنا كانت تتسع‬ ‫جدي‪ ،‬ورغم أنه لم يكن‬
‫ً‬
‫بعضا‪ ،‬فقــد كنا ‪-‬أنا وأخوتي‪ -‬ننام في غرفة واحدة‪،‬‬ ‫لبعضنــا‬
‫لــكل واحــد منا ســريره الخــاص‪ ،‬وحيــن أتت أختــي الصغرى‬
‫للحيــاة‪ ،‬اضطــر أخــي األكبر أن ينقل ســريره إلــى الصالة كي‬
‫يوسع لها المكان‪.‬‬
‫ممــا أتذكــره من مغامرات طفولية قمنا بها أنا وأخوتي في‬
‫بيتنــا القديــم‪ ،‬تلــك الليالي التي كنا نســهر فيها أمــام التلفاز‪،‬‬

‫‪110‬‬
‫جلسة عالج‬

‫كانــت الخطــة هــي أن نوهــم والدينــا بأننا قد غصنــا في نوم‬


‫عميــق‪ ،‬ثــم ننتظــر حتى ُتطفأ األنــوار وتغلق األبواب‪ ،‬فنتســلل‬
‫خلســة إلى الصالة وننقل تلفاز البيت الكبير إلى غرفة نومنا‪،‬‬
‫ثم نقضي سهرة ممتعة تطول لما بعد منتصف الليل‪.‬‬
‫ال زلت أتذكر مشهد التعاون والعمل كفريق واحد‪ ،‬فقد كنا‬
‫نحن (األوالد) من يقوم بنقل التلفاز الكبير‪ ،‬فكما تعلم؛ كان من‬
‫النوع القديم غير المســطح‪ ،‬كانت له انبعاجة كبيرة من خلفه‬
‫تصعب علينا مهمة النقل‪ ،‬وما إن ُن ِ‬
‫وصل التلفاز للغرفة بسالم‪،‬‬
‫حتى يبدأ أخي األكبر بإصالح األسالك وتجهيز التوصيالت‪،‬‬
‫أمــا أخواتي ّ‬
‫فكن مشــغوالت في المطبــخ إلعداد وجبة خفيفة‬
‫وأحيانا كنــا نطلب ً‬
‫أكال‬ ‫ً‬ ‫نغــذي بها أجســادنا أثناء المشــاهدة‪،‬‬
‫ً‬
‫جاهــزا مــن مطعــم «هارديز» ألنــه يقدم هديــة مجانية مع كل‬
‫وجبة؛ عبارة عن قرص (‪ )DVD‬يحتوي على فيلم أجنبي‪ ،‬وكل‬
‫مــرة نشــاهد الفيلــم نفســه‪ ،‬حتى حفظنــا كل دقيقــة فيه‪ ،‬ولو‬
‫سألتني اآلن عنه لشرحته لك بكل تفاصيله‪.‬‬
‫لكــن لــم ُ‬
‫تخل تلك الليالــي من بعض األحــداث الغريبة‪ ،‬بل‬
‫والمخيفة‪...‬‬
‫في إحدى تلك الليالي الدافئة‪ ،‬صادف أن كنت في الغرفة‬

‫‪111‬‬
‫جلسة عالج‬

‫وحــدي‪ ،‬حيــث تأخــرت أخواتــي فــي المطبخ فذهــب إخواني‬


‫أيضا‪ ،‬فشعرت بالخوف‪...‬‬ ‫ً‬ ‫لالطمئنان عليهن‪ ،‬ثم تأخروا هم‬
‫ظــالم وهدوء وســاعة حائط ُتصدر أصواتهــا الرتيبة (تك‬
‫تك تك)!‬
‫توجهت صوب المطبخ والذي كان يقع في الناحية األخرى‬
‫مــن المنــزل‪ ،‬كانت جميع األنوار مطفأة ما عــدا المطبخ‪ ،‬وما‬
‫ً‬
‫غريبا من خلف زجاج الباب‬ ‫إن اقتربت منه إال وأشــاهد ً‬
‫ظال‬
‫المموه‪ ،‬هنالك شــخص (أو شيء) غير مألوف داخل المطبخ‪،‬‬
‫لــم يكن يشــبه ظــل أي فرد من أفــراد العائلة‪ ،‬ناديت بأســماء‬
‫إخوتــي لكــن لــم يرد أحــد‪ ،‬زاد الخوف في نفســي وتســارعت‬
‫نبضات قلبي‪.‬‬
‫فجأة … اختفى الظل‪ ،‬وبعدها بلحظات ُفتح الباب الرئيسي‬
‫للمنزل‪.‬‬
‫دخــل جــدي وجدتــي مســرعين‪ ،‬ومعهما بقيــة إخوتي‪ ،‬كان‬
‫جدي يحمل بندقية الصيد التي كان يســتخدمها في رحالته‪،‬‬
‫ثــم توجــه الجميع للمطبــخ وفتحوا بابه‪ ،‬لم يكــن هنالك أحد‪،‬‬
‫الجد بعد‬
‫أمــا إخوتــي فقد كانوا مرعوبين‪ ،‬فهم من اســتدعوا َ‬
‫ً‬
‫غريبا في مخزن المطبخ‪.‬‬ ‫أن رأوا ً‬
‫شيئا‬

‫‪112‬‬
‫جلسة عالج‬

‫المهــم أننــا كنا فــي حالة طوارئ تلك الليلــة‪ ،‬ال زلت أتذكر‬
‫ذلــك المشــهد المهيــب‪ ،‬جــدي الذي يحمــل البندقيــة ويفتش‬
‫ً‬
‫مفزوعا مــن نومه‬ ‫بحــذر أرجــاء المنــزل‪ ،‬أبــي وهــو يســتيقظ‬
‫الهانــئ‪ ،‬أختــي الصغيرة وهــي تبكي‪ ،‬وحالة الخــوف والترقب‬
‫التــي كانــت تســود األجــواء‪ ،‬ولقد انتهــت الليلــة دون الوصول‬
‫ً‬
‫حدثا غريبا يضاف لبقية األحداث الغريبة‬ ‫لشيء محدد‪ ،‬كان‬
‫التي كانت تحدث في منزلنا القديم‪.‬‬
‫تمر األيام‪ ...‬يكبر األطفال‪ ...‬يتفرق اإلخوان‬
‫منا من تزوج وبدأ حياته الجديدة‪ ،‬ومنا من سافر للدراسة‬
‫وغيــر بيئته القديمة‪ ،‬تعددت المســارات وتفرقت الطرق‪ ،‬لكن‬
‫بقــي شــيء واحد مشــترك بين جميــع أفراد األســرة (ما عدا‬
‫أمــي) إنــه التواجــد في شــبكات التواصل (السوشــال ميديا)‪،‬‬
‫فلكل فرد منا جمهوره الذي يتابعه‪ ،‬ومحتواه الذي ينشره‪.‬‬
‫أبي مهتم بالسيارات القديمة‪ ،‬لديه حساب انستقرام يتابعه‬
‫فيه أكثر من مائة ألف شخص مهتم‪ ،‬وشهرته في هذا المجال‬
‫ً‬
‫كثيرا لحضــور مهرجانات ومعارض للســيارات‬ ‫جعلتــه يســافر‬
‫القديمة‪ ،‬ويتم استدعاؤه من دول مجاورة لتغطية المهرجانات‬
‫والمساهمة في ترتيبها وتنظيمها‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫جلسة عالج‬

‫ً‬
‫أيضا‪ ،‬لكن علــى العكس من‬ ‫أحــد إخوانــي يحب الســيارات‬
‫أبــي‪ ،‬هــو مهتــم بالســيارات الحديثــة والســريعة‪ ،‬يهوى ســباق‬
‫السيارات وينشر محتوى وتغطيات في هذا المجال عبر حسابه‬
‫في سناب شات‪ ،‬لديه جمهور كبير يتابعه ويتابع يومياته‪.‬‬
‫ً‬
‫أيضــا هنالــك أخ آخر ينشــط عبر تطبيق انســتقرام‪ ،‬يقوم‬
‫بنشر مسابقات وجوائز ويتفاعل مع جمهوره ويصور لهم بعض‬
‫يومياته‪.‬‬
‫أما أختي الكبيرة فأنا فخور بنشاطها عبر شبكات التواصل‬
‫ومــا تقدمه مــن محتوى هادف ومفيد‪ ،‬فقــد خصصت حياتها‬
‫ّ‬
‫التوحــد‪ ،‬دخلــت هــذا المجال‬ ‫الرقميــة للتوعيــة حــول مــرض‬
‫بسبب ابنها الذي اكتشفت بالصدفة أنه مصاب بهذا المرض‪،‬‬
‫فبــدأت بتوثيــق حياتها الجديدة ونشــر الكثير مــن المعلومات‬
‫والخبرات‪ ،‬وبحمد اهلل أفادت أمهات ُ‬
‫وأ َس ً‬
‫ــرا كثيرة في الوطن‬
‫ً‬
‫وأيضا‬ ‫العربي‪ ،‬لقد ســاهمت بنشــر التوعية بهذا المرض‪ ،‬بل‬
‫في إحداث تغييرات إيجابية على أرض الواقع‪.‬‬
‫ممــا ســاهمت به أختي عبر نشــاطها الرقمــي‪ ،‬أنها دفعت‬
‫بشــركة «آيكيــا» ‪-‬المعروفــة فــي مجــال بيع األثــاث المنزلي‪-‬‬
‫لتوظيف أشخاص لديهم خبرة ومقدرة في التعامل مع األطفال‬

‫‪114‬‬
‫جلسة عالج‬

‫ذوي االحتياجات الخاصة‪ ،‬وذلك في قســم األلعاب ومنتجات‬


‫األطفــال‪ ،‬وكان الســبب في ذلك أن أحــد الموظفين تعامل مع‬
‫ابنها بطريقة خاطئة بســبب جهله وعدم خبرته بهذا المرض‪،‬‬
‫ً‬
‫ووصوال لشــريحة واســعة فــي المجتمع‪ ،‬فقد‬ ‫ً‬
‫تأثيرا‬ ‫وألن لهــا‬
‫دعت إلى وقفة احتجاجية‪ ،‬وكانت االستجابة كبيرة‪ ،‬وعلى إثر‬
‫ذلك استجابت إدارة الشركة لمطالب الجمهور‪.‬‬
‫مــرض التوحــد يا ســادة يا كــرام ليس ً‬
‫نوعا مــن الجنون أو‬
‫التخلــف العقلي‪ ،‬بل إن المصاب بهذا المرض لديه ذكاء يفوق‬
‫ذكاء أي شخص آخر‪ ،‬هل تعرف أن آينشتاين كان فيه توحد!‪،‬‬
‫ً‬
‫مشــهورا يتابعــه جمهــور كبير (قد‬ ‫ً‬
‫شــخصا‬ ‫كمــا أننــي أعــرف‬
‫ً‬
‫مصابا بالتوحد واآلن يعيش حياته‬ ‫تكون أنت ممن يتابعه) كان‬
‫الطبيعيــة المليئــة بالنجــاح ( لقد أخبرني ذلك بنفســه وطلب‬
‫مني عدم اإلفصاح عن اسمه)‪.‬‬
‫بــدأ األمــر مــع أختــي في أحــد األيــام بينما كانت تشــاهد‬
‫ً‬
‫وثائقيــا عن مرض التوحد‪ ،‬وقبلهــا كانت تالحظ بعض‬ ‫ً‬
‫فيلمــا‬
‫األمــور الغريبــة فــي طفلها‪ ،‬وحيــن كانت تخبر أهلهــا بأنه قد‬
‫ً‬
‫(توحــدا) كانــوا يزجرونهــا ويطلبون منهــا أن «تتعوذ من‬ ‫يكــون‬
‫الشــيطان»‪ ،‬وقــد عــرض الفيلم حالة ُأ ّم اكتشــفت المرض في‬

‫‪115‬‬
‫جلسة عالج‬

‫طفلهــا عبــر إحــداث صــوت مزعــج من خلفــه بواســطة طرق‬


‫أوانــي المطبــخ‪ ،‬وحيــن لــم يلتفــت الطفــل خلفــه عرفــت أنــه‬
‫مصــاب بالتوحــد‪ ،‬فقامــت أختــي بتطبيــق هــذه التجربة على‬
‫طفلهــا‪ ،‬وبالفعــل لــم يلتفت تجاه الصوت‪ ،‬فذهبــت به للطبيب‬
‫وتــم الفحص واكتشــفت أنه يعاني من هــذا المرض‪ ،‬ثم بدأت‬
‫بعدها بتوثيق حياتها وحياة طفلها‪ ،‬ونشرت ‪-‬وال زالت تنشر‪-‬‬
‫الكثير من المحتوى التعليمي الذي ُيرشد كل ّأم لطرق التعامل‬
‫الصحيحة مع طفلها المصاب بالتوحد‪.‬‬
‫ً‬
‫قديما‪،‬‬ ‫هــذا أنا‪ ،‬وهؤالء هم إخوتي‪ ،‬جمعنا منزلنا الصغير‬
‫ً‬
‫حديثــا‪ ،‬لقــد فرقــت توجهاتنا لكن‬ ‫وفرقتنــا وســائل التواصــل‬
‫القلوب ال زالت مجتمعة على الحب واإلخاء‪.‬‬
‫رغم أن شبكات التواصل قد سهلت على الناس «التواصل»‬
‫فيمــا بينهــم‪ ،‬إال أنهــا ال تغني عــن التواصــل الحقيقي؛ والذي‬
‫ً‬
‫وجهــا لوجــه‪ ،‬وخاصة بين أفراد األســرة الواحــدة أو بين‬ ‫يتــم‬
‫األقربــاء واألصدقاء‪ ،‬لكن إن لم يتيســر لــك األمر‪ ،‬ولم تتمكن‬
‫إال أن تتواصــل بهــم عبر تلك التطبيقــات‪ ،‬فعلى األقل؛ أبلغهم‬
‫سالمك بصوتك وصورتك ً‬
‫بدال من أن تبعث لهم برسائل معلبة‬
‫تم نسخها آالف المرات‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫جلسة عالج‬

‫أنا واليوتيوب‬

‫من األسباب المهمة التي دفعتني لتأليف الكتاب؛ هو ألجل‬


‫توثيــق أحــداث وأفكار ال تــزال محفوظة في الذاكــرة‪ ،‬قبل أن‬
‫ً‬
‫حاليا‬ ‫يمضــي قطــار العمر وتضيع فــي دهاليز النســيان‪ ،‬فأنا‬
‫ّ‬
‫أمــر بمرحلــة وســطية وانتقــال ما بيــن حياتين؛ حياة ســلمان‬
‫الشــاب البســيط الذي خرج من وطنه للدراســة‪ ،‬وبين ســلمان‬
‫الشخص المشهور الذي شوهدت صورته ماليين المرات‪.‬‬
‫ســتجدني أتحدث إليك من وجهة نظر الشــخص المشهور‬
‫في بعض المواضع (كما في قصة «تاريخ انتهاء») ليس بسبب‬
‫ً‬
‫مشــهورا‪ ،‬لكن ألنــي بالفعل بدأت‬ ‫ادعائــي بأنــي قــد أصبحت‬
‫بتجربــة هــذا النمــط الجديــد للحياة‪ ،‬وبــدأت بتجربــة الكثير‬
‫مــن األشــياء التــي ال تحدث إال للمشــاهير‪ ،‬فأحببــت أن أنقل‬
‫لــك ولجميــع القــراء بعــض خفايا هــذا العالم الذي لم يتســنَ‬
‫للكثيرين تجربته‪.‬‬
‫لم يعد اليوتيوب عالم «اليوتيوبر» فقط‪ ،‬بل إنه ‪-‬كما يبدو‪-‬‬
‫قــد أصبــح عالــم الجميع‪ ،‬يكفــي أن تعــرف أن التطبيق قد تم‬
‫تحميله أكثر من خمسة مليارات مرة على متجر» قوقل بالي»‬

‫‪117‬‬
‫جلسة عالج‬

‫فقــط‪ ،‬فــي حيــن أن تعــداد ســكان الكــرة األرضية لــم يتجاوز‬


‫ثمانية المليارات نسمة حتى إعداد هذا الكتاب‪.‬‬
‫كنــت ‪-‬قبــل أن أفتح القنــاة‪ -‬أتابع الكثير مــن الفيديوهات‬
‫األجنبيــة (وهــذا كان أحــد أســباب تعلمــي لإلنجليزيــة وحبي‬
‫لها)‪ ،‬وخاصة فيديوهات الفلوقات (‪ ،)Vlogs‬تلك التي تعرض‬
‫ً‬
‫شغوفا بمتابعتها‪ ،‬ألنها فتحت لي‬ ‫الحياة بعيون اليوتيوبر‪ ،‬كنت‬
‫نافذة للتعرف على حياتهم ويومياتهم‪ ،‬وكنت أفكر في نفســي‬
‫وأقــول؛ كيــف ســيكون الوضع لو ولدت في تلــك العائلة أو في‬
‫ذلك المجتمع؟‬
‫ً‬
‫خجوال‬ ‫قد تستغرب حين أخبرك أني كنت ‪-‬قبل اليوتيوب‪-‬‬
‫ً‬
‫جدا وال أحب الظهور أمام الكاميرا‪ ،‬لدرجة أني كنت أتصبب‬
‫ً‬
‫عرقا لو صادف وصور أحدهم صورة وظهرت أنا في الخلفية‬
‫ولــو مــن بعيد‪ ،‬لكن ‪-‬وعلى الرغم من ذلــك‪ -‬كانت الرغبة في‬
‫صناعة المحتوى المرئي متأصلة في نفسي منذ فترة طويلة‪،‬‬
‫ثم أتت الفرصة ونشرت أول فيديو‪ ،‬ثم الثاني فالثالث وهكذا‬
‫دخلت دوامة النشر في اليوتيوب‪.‬‬
‫يبــدأ األمــر كهواية‪ ،‬طريقة مســلية للتعبير عــن النفس‪ ،‬أو‬
‫لقتل الوقت‪ ،‬تغريك عدســة الكاميرا لتصوير يومياتك‪ ،‬تصور‬

‫‪118‬‬
‫جلسة عالج‬

‫بعض المشــاهد المتفرقة هنا وهناك‪ ،‬ثم تقضي ســاعة أمام‬


‫برنامــج المونتــاج‪ ،‬وينتهــي بــك المطاف بالرفع ثم النشــر في‬
‫القنــاة‪ ،‬تخبــر مــن تعرف ‪-‬ومن ال تعرف‪ -‬بأنك نشــرت فيديو‬
‫ً‬
‫جديدا‪ ،‬تفرح بكل مشاهد يصل إليك وتهتم بكل تعليق‪ ،‬وتبدأ‬
‫باالســتمتاع باألمــر‪ ،‬ثــم يبــدأ اإلدمــان‪ .‬تشــاهد األرقــام وهي‬
‫ً‬
‫رويدا‪ ،‬وكأنه األدرينالين الذي يرتفع في جسمك‬ ‫ً‬
‫رويدا‬ ‫ترتفع‬
‫فيشــعرك بالنشــوة‪ ،‬تزداد شــهيتك للنشــر أكثر وأكثر‪ ،‬وتعيش‬
‫حينها فترتك الذهبية‪.‬‬
‫دون سابق إنذار؛ تصحو الصبح وقد حصلت على عدد كبير‬
‫مــن المشــاهدين بشــكل مفاجــئ‪ ،‬تعطيك األرقــام والتعليقات‬
‫اإليجابيــة طاقــة هائلــة للتفكير واإلنتاج‪ ،‬ثم يبــدأ األمر بأخذ‬
‫منحنى آخر‪ ،‬حينها تصبح األرقام مهمة‪ ،‬ويصبح جزء كبير من‬
‫ً‬
‫اهتمامك ُم ّ‬
‫نص ًبا على زيادة عدد المشــاهدات واالشــتراكات‪،‬‬
‫ً‬
‫وأحيانا‬ ‫الهوس بتلك األرقام يدفعك لنشــر فيديوهات غريبة‪،‬‬
‫جنونية (كما حصل معي في الفيديو الذي جربت فيه أن أدفن‬
‫نفسي)‪.‬‬
‫ً‬
‫جاهدا وراء األرقام‪ ،‬عدد المشاهدات واالشتراكات‪،‬‬ ‫تسعى‬
‫ويكون الدافع األساسي وراء ذلك هو لنشر قناتك أكثر وأكثر‪،‬‬

‫‪119‬‬
‫جلسة عالج‬

‫ً‬
‫مميزا‪ ،‬وتريد له االنتشار وأن يستفيد منه‬ ‫محتوى‬
‫ً‬ ‫فأنت تنشر‬
‫أكبر عدد ممكن‪ ،‬والمحتوى الجيد ال يحصل على انتشار جيد‬
‫في الغالب‪ ،‬لذلك فقد ينشر اليوتيوبر ‪-‬بين الفينة واألخرى‪-‬‬
‫بعــض الفيديوهــات الغريبــة التــي تجلــب له األرقــام‪ ،‬لتحقيق‬
‫هدف االنتشار لقناته‪.‬‬
‫ً‬
‫طويــال‪ ،‬فمعادلــة‬ ‫تلــك الســعادة وذلــك الشــغف لــن يــدوم‬
‫االســتمرارية قــد توصلك لمرحلة تســمى في عالــم اليوتيوب‬
‫(‪ )burn-out‬وحينهــا ســتعاني مــن شــح األفــكار‪ ،‬أو من شــح‬
‫الطاقــة التــي هــي وقــود االســتمرارية‪ ،‬أو قــد تمــر بظــروف‬
‫صعبة في حياتك الواقعية تمنعك من االســتمرار في النشــر‪،‬‬
‫وحينها ستدخل تحت ضغط نفسي شديد‪ ،‬ما بين الرغبة في‬
‫االســتمرار أو التوقف‪ ،‬أفكار تتصادم في عقلك قد تؤدي بك‬
‫فــي أســوأ األحوال لالكتئاب‪ ،‬وهــذا ما يحدث للكثير ممن هم‬
‫في هذا المجال‪.‬‬
‫النشــر فــي اليوتيــوب يعنــي أن تعــرض نفســك وحياتــك‬
‫أمــام الجمهــور وتتلقــى انتقاداتهــم الالذعة أو حتى شــتائمهم‬
‫الجارحة‪ ،‬كلمات تنطلق كسهام مسمومة عبر تعليقات تختفي‬
‫خلف أسماء وهمية تعطي لصاحبها األمان‪ ،‬أما أنت؛ فتحاول‬

‫‪120‬‬
‫جلسة عالج‬

‫نشــر الشــيء اإليجابي وكل ما هو بعيد عن أي اختالفات كي‬


‫ً‬
‫رغما عنك‪ ،‬كلمة تقولها بدون‬ ‫ال تثير المشــاكل‪ ،‬لكنها تحصل‬
‫تفكيــر أو بحســن نية فيحصل ما ال يســر‪ ،‬وكــي أوضح األمر؛‬
‫سأذكر لك موقفين اثنين‪.‬‬
‫قبــل فتــرة نشــرت سلســلة فيديوهــات تعــرض ردة فعــل‬
‫األمريــكان علــى الثقافة العربيــة‪ ،‬والتي صورتهــا بالتعاون مع‬
‫بعــض األصدقــاء األمريــكان‪ ،‬الفكــرة تمثلت في تســجيل ردة‬
‫فعلهــم وتعليقاتهــم العفوية على بعض األمــور المتعلقة بالعالم‬
‫العربــي‪ ،‬منهــا ردة فعلهم على األعــالم العربية‪ ،‬وأحد األعالم‬
‫كان لدولــة ُعمــان والــذي يحتــوي علــى رمــز الخنجــر‪ ،‬فأحد‬
‫األمريــكان علــق عليه وقال إنه يشــبه مضرب لعبــة «الهوكي»‪،‬‬
‫وبعد ثالث ساعات فقط من نشر الفيديو تفاجأت بأن القناة‬
‫قد فقدت خمســة آالف مشــترك أو يزيد‪ ،‬بســبب كلمة واحدة‬
‫قيلت في الفيديو‪.‬‬
‫من المواقف األخرى‪ ،‬والتي حدثت في ســناب تشــات؛ هي‬
‫عندما ســمحت السلطات الســعودية للنساء بقيادة السيارات‪،‬‬
‫حينهــا تحدثت أمــام كاميــرا الهاتف وباركت للســعوديين هذا‬
‫األمــر وأخبرتهــم أنه أمر عادي‪ ،‬وقلت «حتــى إن والدتي تقود‬

‫‪121‬‬
‫جلسة عالج‬

‫الســيارة في الكويت»‪ ،‬وبسبب تلك الكلمات تلقيت كمية كبيرة‬


‫مــن الشــتائم وخســرت مــا يقــرب مــن ثمانيــة آالف متابع في‬
‫سناب شات‪.‬‬
‫ال يعــرف معظــم النــاس حجــم المعاناة التــي تحدث خلف‬
‫الكواليــس‪ ،‬وطــول المشــوار الذي كافــح فيه صانــع المحتوى‬
‫حتــى وصــل إلــى ما وصل إليــه‪ ،‬قد يبــدو عالــم اليوتيوب من‬
‫ً‬
‫جميال‪ ،‬وطريق النجاح فيه ســهلة يســيرة‪ ،‬لكن‬ ‫ً‬
‫ورديــا‬ ‫الخــارج‬
‫الوضــع مختلــف مــن الداخل‪ ،‬صحيح أن األمــر ممتع وخاصة‬
‫ً‬
‫شــغفا بهــذا المجال‪ ،‬لكنه مرهــق ومتعب ويتطلب‬ ‫لمــن يمتلك‬
‫التزاما ً‬
‫ذاتيا وجدية كبيرة للوصول وتحقيق األهداف‪.‬‬ ‫ً‬
‫رحلــة حيــاة اليوتيوبر تبــدأ بمقاطع عفويــة أو غير متعوب‬
‫عليهــا‪ ،‬لكــن المحتــوى يتطــور مع األيــام‪ ،‬عني أنــا؛ أحاول أن‬
‫أصعد بدرجة الجودة لتلبية توقعات المتابعين‪ ،‬والفيديو الذي‬
‫ً‬
‫ســابقا‪ ،‬أصبحت اليوم‬ ‫كنت أقضي في مونتاجه ســاعة واحدة‬
‫أســهر ليالــي متواصلــة حتــى أخرجــه بطريقة جيــدة‪ ،‬وبعض‬
‫الفيديوهــات (مثــل سلســلة «يــوم في حيــاة مشــهور») تطلبت‬
‫منــي الســفر لمــدن أو حتــى دول بعيــدة كي أقابل األشــخاص‬
‫وأصور معهم‪ ،‬وكل ذلك من أجل صناعة محتوى مميز يستحق‬

‫‪122‬‬
‫جلسة عالج‬

‫االنتشار‪.‬‬
‫أن يكــون لــك صــوت مســموع فــي عالــم اليوتيوب لــم يعد‬
‫باألمر السهل‪ ،‬وخاصة أن الخوارزميات (‪ )Algorithms‬داخل‬
‫المنصة تتطور ً‬
‫يوما بعد يوم‪ ،‬ففي الســابق كانت الفيديوهات‬
‫القصيــرة (‪ 7-5‬دقائــق) هــي األفضــل‪ ،‬أمــا اليــوم فالمقاطــع‬
‫المتوسطة (‪ 25-20‬دقيقة) والمشوقة في الوقت نفسه ؛ هي‬
‫التي تجد طريقها لالنتشار‪ ،‬وأنت في هذا العالم يجب عليك‬
‫المنافسة بأفضل ما لديك‪ ،‬ومحاولة إرضاء تلك الخوارزميات‬
‫حتــى تصــل فيديوهاتــك لجميع المشــتركين فــي قناتك‪ ،‬فقد‬
‫تجد قنوات كبيرة يتابعها الماليين‪ ،‬لكن المحتوى المنشــور ال‬
‫يصل إال لـ ‪ % 1‬فقط من مشتركي القناة‪.‬‬
‫إن طريــق النجــاح في هذا العالم يتطلــب التميز والمثابرة‪،‬‬
‫وأن يكون لك بصمتك الخاصة التي تميزك وسط الزحام‪.‬‬
‫التميــز والمثابرة ال يأتيان بالمجــان‪ ،‬أنت تضحي براحتك‬
‫ووقتــك وحتــى نومــك‪ ،‬كل ذلــك فــي ســبيل االلتــزام بالنشــر‬
‫المســتمر في القنــاة وفق معايير عالية‪ .‬بالنســبة لي‪ :‬االلتزام‬
‫في اليوتيوب يأتي مع االلتزام بالدراســة‪ ،‬باإلضافة لالنشغال‬
‫ً‬
‫شــديدا جعلنــي‬ ‫ً‬
‫ضغطــا‬ ‫بالمشــروع الخــاص‪ ،‬كل ذلــك يشــكل‬

‫‪123‬‬
‫جلسة عالج‬

‫ً‬
‫مدمنا على شــرب القهوة (أســتهلك كافيين بما يعادل ‪ 12‬كوب‬
‫ً‬
‫يوميا)‪ ،‬إن هوس اليوتيوب قد تســبب لي بمشــاكل كثيرة‬ ‫قهوة‬
‫ً‬
‫وأحيانــا أرهق‬ ‫(قصــة «أكل العنكبــوت» علــى ســبيل المثــال)‪،‬‬
‫نفسي لدرجة تستدعي زيارة الطبيب‪ ،‬وحتى البصر عندي لم‬
‫يسلم‪ ،‬فقد أصبح يتدهور أكثر فأكثر‪.‬‬
‫الدخول في عالم الشهرة يتطلب أن يبدأ الشخص بتوظيف‬
‫مــن يســاعده فــي بعض األمــور (ال مفر من هــذا اإلجراء ألي‬
‫شــخص لديــه قنــاة مشــهورة) فمــا إن تبــدأ بقطع المســافات‬
‫وتجــاوز مئــات اآلالف مــن المشــتركين إال وتبــدأ الشــركات‬
‫بالتواصــل معك وطلب التعاون واإلعــالن‪ ،‬حينها يصبح المال‬
‫ً‬
‫متوفرا‪ ،‬وتسمح الميزانية بتطبيق أفكار وإنتاج فيديوهات أكثر‬
‫كلفة‪ ،‬لكن المشــكلة هي في الوقت‪ ،‬يشــتد الضغط أكثر وأكثر‬
‫ً‬
‫أشخاصا يعملون‬ ‫على صانع المحتوى حتى يضطر ألن يوظف‬
‫لصالحــه‪ ،‬منهــم الســكرتيرة لترتيــب المهام واألفــكار‪ ،‬ومدير‬
‫األعمــال الذي يتواصل مع الشــركات ويبرم معهم االتفاقيات‪،‬‬
‫كي يتمكن «اليوتيوبر» من االستمرار في المشوار‪.‬‬
‫ً‬
‫مشــهورا فــي شــبكات التواصــل هــو أمر لــه ميزاته‬ ‫كونــك‬
‫وعيوبه‪ ،‬قد يتسبب فيديو واحد بمشاكل لم تكن في الحسبان‪،‬‬

‫‪124‬‬
‫جلسة عالج‬

‫أو أن تتلقــى انتقــادات واســعة بســبب مقطــع نشــرته بحســن‬


‫ً‬
‫فمثــال؛ عندما نشــرت تجربة دفن نفســي تحت األرض؛‬ ‫نيــة‪،‬‬
‫انتشــر الفيديو بطريقة فيروســية وكان أحد أســباب شــهرتي‬
‫ً‬
‫كثيــرا من األقرباء اكتشــفوا قناتي عبر‬ ‫فــي الكويــت‪ ،‬حتى إن‬
‫ذلــك المقطــع‪ ،‬ووصــل ألصدقاء أبي وصديقــات أمي وحصل‬
‫على انتقاد واســع‪ ،‬وكم أحزنني أنهم تجاهلوا كل الفيديوهات‬
‫الجيدة‪ ،‬وركزوا فقط على ذلك المقطع‪.‬‬
‫ً‬
‫مشــهورا يتحدث عن هــذه األمور أو عن‬ ‫ً‬
‫شــخصا‬ ‫لــن تجد‬
‫المشاكل التي تحصل في الخفاء‪ ،‬وال أحد ‪-‬في الغالب‪ -‬يحب‬
‫أن تحصــل لــه هذه المشــاكل‪ ،‬إال لــو كان ممــن يتعمدون فعل‬
‫ذلــك بهــدف نيل الشــهرة عبر نشــر األمور المثيــرة للجدل أو‬
‫المستفزة لآلخرين‪.‬‬
‫أمــا إيجابيــات العمل في اليوتيوب فهــي كثيرة بحمد اهلل‪،‬‬
‫فأنت تقوم بشــيء تســتمتع به وفي الوقت نفســه تجني بعض‬
‫ً‬
‫وأيضا الشهرة التي تكسبك احترام اآلخرين‪،‬‬ ‫المال على ذلك‪،‬‬
‫ومن اإليجابيات أنني اليوم أكتب هذا الكتاب‪ ،‬فلو لم أصل لما‬
‫وصلــت إليــه بســبب القناة‪ ،‬لما فكرت في هــذه الخطوة‪ ،‬ولما‬
‫وصلت إليك هذه الكلمات‪ ...‬في هذه الصفحات‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫جلسة عالج‬

‫ً‬
‫‪-‬جزئيا‪-‬‬ ‫مــن ســلبيات العمل علــى اليوتيوب‪ ،‬هو االنعــزال‬
‫عــن الحيــاة االجتماعية‪ ،‬فلو أتيحت لــك الفرصة للدخول في‬
‫حياة من تتابعهم من مشــاهير الشــبكات االجتماعية‪ ،‬ســتجد‬
‫أن الكثيــر منهــم ال يمتلكون أصدقاء مثل اآلخرين (ســتتعرف‬
‫على تجربتي الشخصية حول هذه النقطة في قصص قادمة)‪،‬‬
‫يظهرون على الدوام بمفردهم أمام الكاميرا‪ ،‬فتلك الشــبكات‬
‫ً‬
‫اجتماعيا‪،‬‬ ‫ً‬
‫إنسانا‬ ‫حين تستحوذ عليك ال تترك لك فرصة لتكون‬
‫إن وســائل التواصل االجتماعي بشــكل عام تسلب منك أشياء‬
‫مهمة مقابل الشــهرة‪ .‬فكر في أي شــخصية مشــهورة تتابعها‪،‬‬
‫ً‬
‫وحيدا أم مع‬ ‫وتأمــل؛ هــل يظهر ‪-‬في الغالــب‪ -‬أمام الكاميــرا‬
‫أصدقائه؟‬

‫‪126‬‬
‫جلسة عالج‬

‫إعالنات اليوتيوب‬

‫مــن الصعــب أن تســأل أحــد مشــاهير «السوشــال ميديا»‬


‫عــن مكاســبه مــن اإلعالنــات ويجيبــك بــكل شــفافية‪ ،‬هنالك‬
‫ً‬
‫شــخصيا ال‬ ‫ً‬
‫الحقا‪ ،‬لكني‬ ‫عــدة أســباب لهذا األمــر ســأذكرها‬
‫ً‬
‫مقنعــا يدفعنــي للتكتــم وإخفــاء مثــل‬ ‫ً‬
‫ســببا‬ ‫أرى فــي أي منهــا‬
‫هــذه المعلومات‪ ،‬وخاصة أنــي أردت ‪-‬ومنذ البداية‪ -‬أن أكون‬
‫ً‬
‫صادقــا أخــرج مــا في قلبــي في طيات هــذا الكتاب‪،‬‬ ‫ً‬
‫صريحــا‬
‫وبأنــي أريــد أن أوصل إليك ‪-‬عزيزي القــارئ‪ -‬فائدة حقيقية‬
‫ومعلومــات واقعيــة عن عالم لم يتســنَ للكثيريــن أن يدخلوه أو‬
‫يكتشفوا أسراره‪.‬‬
‫مــن له علم ودراية بالنشــر في اليوتيــوب؛ يعرف أن هنالك‬
‫عدة طرق لتحقيق المكاسب المالية عبر القنوات‪ ،‬ولعل أشهر‬
‫طريقة هي الكسب عبر نظام اليوتيوب اإلعالني‪ ،‬أو ما يسمى‬
‫بـ (‪ ،)Google Adeses‬والذي هو البرنامج التابع لشركة قوقل‪،‬‬
‫النظــام الــذي يفتح بابه ألي صانع محتوى ‪-‬ســواء أكان داخل‬
‫اليوتيوب أم خارجه‪ -‬ألن يســجل فيه ويبدأ بكســب المال عبر‬
‫الســماح بظهــور اإلعالنــات على فيديوهاتــه (أو في صفحات‬

‫‪127‬‬
‫جلسة عالج‬

‫موقعــه)‪ ،‬وتقــوم قوقــل عبــر نظامها بــإدارة ظهــور اإلعالنات‬


‫وتقاســم األرباح بينها وبين المشــتركين‪ ،‬ثم إرســالها إليهم كل‬
‫نهاية شهر‪.‬‬
‫ال أريد أن يكون حديثي هنا هو عن كسب المال عبر نظام‬
‫اليوتيــوب اإلعالنــي (قوقل أدســنس)‪ ،‬فمكاســبها ال تزيد عن‬
‫‪ % 10‬من إجمالي المكاســب التي يمكن لمشــاهير الشــبكات‬
‫االجتماعية تحقيقها‪ ،‬بل أريد التركيز على ما ليس بمعروف أو‬
‫مشهور عند الناس‪ ،‬سأخبركم بالمبالغ التي يكسبها الشخص‬
‫المشــهور من الحمــالت اإلعالنية والتي يتــم التعاقد فيها مع‬
‫الشــركات المعلنة بشكل مباشــر‪ ،‬وذلك عندما يقوم الشخص‬
‫(المؤثــر) بنفســه بالترويــج للمنتــج أو الخدمــة‪ ،‬أو يصــرح أن‬
‫الحلقــة بأكملهــا برعاية من الشــركة (الفالنية)‪ ،‬أو أي وســيلة‬
‫أخرى يتفق عليها الطرفان‪.‬‬
‫وقبــل أن أذكــر لكم األرقام‪ ،‬يجب التنويه هنا إلى أن ســعر‬
‫اإلعالن يختلف بشــكل كبير من قناة لقناة ومن شــخص آلخر‪،‬‬
‫فهنالك عدة عوامل تؤثر في أسعار اإلعالنات‪ ،‬أهمها المنطقة‬
‫الجغرافية لجمهور القناة‪ ،‬وبشكل عام فإن كلفة اإلعالن عند‬
‫ً‬
‫ســعرا من غيره‪،‬‬ ‫أحــد المشــاهير مــن دول الخليج؛ هــو أعلى‬

‫‪128‬‬
‫جلسة عالج‬

‫ً‬
‫وأيضــا تخصــص القناة ونوعية المحتوى‪ ،‬وشــخصية صاحب‬
‫القنــاة وطريقــة صناعتــه للفيديوهات‪ ،‬وال ننســى أهم عامل‪،‬‬
‫والذي هو عدد المشــتركين (حجم الجمهور) ومقدار التفاعل‬
‫وكميــة المشــاهدات التي تحصل عليهــا الفيديوهات‪ ،‬وهنالك‬
‫عوامل أخرى ال يتسع المقام لذكرها‪.‬‬
‫بنــاء علــى عــدد‬
‫فيمــا يلــي؛ متوســط أســعار اإلعالنــات ً‬
‫المشتركين في القناة‪ ،‬وهذا ال يعني أن من لديه هذه األعداد‬
‫يتقاضــى تلــك المبالــغ‪ ،‬فما ســأكتبه هنا هو نابــع من خبرتي‬
‫الشــخصية‪ ،‬ومن معرفتي ببعض المشــاهير اآلخرين في هذا‬
‫المجال‪:‬‬
‫متوسط سعر اإلعالن‬ ‫عدد المشتركين‬
‫‪1000$‬‬ ‫‪ 200 - 100‬ألف‬
‫‪2500$‬‬ ‫‪ 300 - 200‬ألف‬
‫‪3000$‬‬ ‫‪ 400 - 300‬ألف‬
‫‪4000$‬‬ ‫‪ 500 - 400‬ألف‬
‫‪9000$ - 4000$‬‬ ‫فوق ‪ 500‬ألف‬
‫‪ 10‬آالف دوالر‬ ‫مليون مشترك‬
‫يصل إلى ‪ 20‬ألف دوالر‬ ‫‪ 2‬مليون مشترك‬

‫‪129‬‬
‫جلسة عالج‬

‫أعرف أن هذه األرقام كفيلة بأن تبهر بعض الناس‪ ،‬وتحفز‬


‫آخريــن لفتــح قنــوات‪ ،‬لكــن صدقنــي؛ محرك المال هو أســوأ‬
‫محــرك‪ ،‬فأنــا ‪-‬والكثيــر ممن أعــرف‪ -‬قد بدأنا هــذا المجال‬
‫بدافع الحب والشــغف‪ ،‬بل إني لم أكن أعرف أنه يمكن كســب‬
‫المــال مــن قنــوات اليوتيــوب‪ ،‬لقد أحببــت التصوير والنشــر‪،‬‬
‫أحببــت صناعــة «الفلوجــات» وتوثيــق اللحظــات‪ ،‬وأتذكر أول‬
‫إعالن نشرته في القناة والقصة الطريفة التي حدثت آنذاك‪،‬‬
‫ولعلي أذكرها لك هنا كي أزرع على محياك ابتسامة خفيفة‪.‬‬
‫تواصلَت‬
‫َ‬ ‫حيــن وصلــت قناتي حاجز الـــ ‪ 80‬ألف مشــترك‪،‬‬
‫معــي شــركة بهــدف نشــر إعالن لهــا في القنــاة‪ ،‬فــي البداية‬
‫ســألوني عــدة أســئلة مــن قبيــل (مــن أي دولــة يتركــز أغلــب‬
‫المشــتركين؟ كــم نســبة الذكــور إلــى اإلنــاث؟ ما هو متوســط‬
‫أعمارهم؟‪....‬إلخ) ثم سألوني كم سعر اإلعالن‪ ،‬ولقلة خبرتي‬
‫فــي هــذا المجال؛ أجبتهــم بأن الســعر (‪ 200‬دوالر أمريكي)‪،‬‬
‫صفرا ً‬
‫ثالثا فأصبح المبلغ‬ ‫ً‬ ‫لكني أخطأت في الرسالة وأضفت‬
‫(ألفــي دوالر)‪ ،‬ثــم ردوا بأن المبلغ كبير وأن أقصى ما يمكنهم‬
‫دفعــه هــو (‪ )1200$‬فقط‪ ،‬وبحســن نية أخبرتهــم أني أقصد‬
‫ً‬
‫سريعا بالموافقة‪ ،‬وبهذا تم‬ ‫‪ 200‬دوالر فقط‪ ،‬حينها جاء الرد‬

‫‪130‬‬
‫جلسة عالج‬

‫االتفاق وهذه كانت قصة أول إعالن‪.‬‬


‫إن كنــت تعتقــد اآلن أنــه قــد ُض ِح َ‬
‫ــك علــي‪ ،‬فدعني أوضح‬
‫لــك أن األمــر متعلق ببناء العالقات وصناعــة الثقة‪ ،‬وهذا هو‬
‫أحــد الــدروس المهمة في عالم المــال واألعمال‪ ،‬والنتيجة أن‬
‫الشــركة نفســها عادت إلي مرة أخرى حين وصلت القناة ‪150‬‬
‫ألف مشترك وتم االتفاق على إعالن آخر‪.‬‬
‫لكــن الســؤال الذي يطــرح نفســه‪ ،‬لماذا ال نتحــدث ‪-‬نحن‬
‫المشاهير‪ -‬عن أسعار اإلعالنات وكمية األرباح؟‬
‫السبب األول هو أن الشخص المشهور ّ‬
‫تعود من المشاهير‬
‫اآلخريــن عــدم تحدثهــم عن هــذا األمر‪ ،‬فهــم ال يخرجون أية‬
‫معلومات عن المكاســب واألرباح‪ ،‬فهو على آثارهم يسير وبهم‬
‫يقتــدي‪ ،‬أمــا الســبب األهــم فهــو طريقــة تعامل مــن هم حول‬
‫الشخص المشهور معه بعد أن يعرفوا تلك المعلومات‪ ،‬فتختلف‬
‫نظرتهم له‪ ،‬ويرتفع حجم توقعاتهم منه‪ ،‬وهذا لألســف منتشر‬
‫فــي المجتمعات العربية أكثر من غيرها من المجتمعات‪ ،‬وقد‬
‫يؤدي هذا األمر لمشاكل عديدة كان من الممكن تفاديها بعدم‬
‫ذكر مثل تلك المعلومات‪.‬‬
‫ســبب آخــر يدفع المشــاهير لعــدم ذكر مكاســبهم؛ هو من‬

‫‪131‬‬
‫جلسة عالج‬

‫أجــل الحفــاظ علــى عالقتهم مــع الجمهور‪ ،‬فلو أن الشــخص‬


‫المشــهور بــدأ بالتحــدث أمــام المتابعيــن عــن األمــوال التــي‬
‫يتقاضاهــا نظيــر نشــر اإلعالنات‪ ،‬حينها ســيتحول جزء كبير‬
‫ً‬
‫بــدال عنك‪ ،‬وحينها ســيعتقدون‬ ‫مــن المتابعين إلى محاســبين‬
‫أنهم مجرد وســيلة وجســر يحقق بهم المشهور أهدافه‪ ،‬ويعبر‬
‫بهــم للوصول إلى مصالحه الشــخصية واألنانية‪ ،‬وعلى الرغم‬
‫مــن أن هــذا األمــر قد ينســحب على بعض المشــاهير‪ ،‬إال أن‬
‫األغلبيــة لديهــم ضمير ومبــادئ ويصعب عليهــم التخلي عنها‬
‫مقابل المال‪.‬‬
‫هــذا يقودنــا إلــى أحــد المواضيــع الحساســة فــي هــذا‬
‫الباب‪ ،‬وهو المســألة األخالقية‪ ،‬طريقة تعامل المشــاهير مع‬
‫اإلعالنــات والشــركات المعلنــة‪ ،‬فهل يوافقــون على أي إعالن‬
‫ً‬
‫جيدا؟ وهل يمكن للمشهور أن يكذب أو يبيع‬ ‫حتى وإن لم يكن‬
‫ضميره لمن يدفع أكثر؟ واإلجابة أن معظمهم ال يفعلون ذلك‪،‬‬
‫ً‬
‫جيدا‪ ،‬وحتى‬ ‫أقول هذا ألني محتك بمشاهير آخرين وأعرفهم‬
‫األشــخاص غيــر الجيديــن ال تجدهــم ينشــرون إعالنات غير‬
‫جيــدة أو يســوقون لمنتجــات رديئة‪ ،‬والســبب ببســاطة هو أن‬
‫ذلك الفعل سيؤدي ألن يخسروا جماهيرهم الوفية‪ ،‬فالمتابعون‬

‫‪132‬‬
‫جلسة عالج‬

‫أذكياء ويمكنهم ببساطة معرفة الصادق من الكاذب‪ ،‬كما أنهم‬


‫يحبون من يحبهم ويهتم بمصلحتهم‪.‬‬
‫لكن ‪-‬ومن جهة أخرى‪ -‬قد تجد بعض التصرفات السلبية‬
‫بداخل مجتمع المشاهير‪ ،‬منها الغيرة والمنافسة لكسب رضى‬
‫الشــركات ُ‬
‫المعلنــة‪ ،‬حتــى إني أتذكــر أن أحــد األصدقاء ممن‬
‫حضورا ً‬
‫قويا في اليوتيوب‪ ،‬قد ابتعد عني وأحسست‬ ‫ً‬ ‫يمتلكون‬
‫مبلغا ً‬
‫ماليا‬ ‫ً‬ ‫بنوع من الجفاء منه‪ ،‬وذلك حين علم أني أتقاضى‬
‫ً‬
‫مقاربا لما يتقاضاه نظير اإلعالن الواحد‪ ،‬رغم أن قناتي أقل‬
‫ً‬
‫عددا في المشتركين من قناته‪.‬‬
‫ال أعتقــد أن مســألة اإلعالنــات في شــبكات التواصل من‬
‫األمور الضارة‪ ،‬يمكن أن ننظر إليها من باب الفائدة المتبادلة‪،‬‬
‫ً‬
‫رابحــا مــن الدائــرة‪ ،‬الجماهيــر تســتفيد من‬ ‫فالجميــع يخــرج‬
‫ً‬
‫ماديا عبر اإلعالنات‪،‬‬ ‫المحتوى المنشــور والمشــهور يســتفيد‬
‫والشــركات تســتفيد من تســويق منتجاتها بطريقة فعالة عبر‬
‫أولئك المشاهير‪.‬‬
‫أما من جهة الشــركات ُ‬
‫الم ِعلنة‪ ،‬فقد يســأل ســائل ويقول‪:‬‬
‫هل تجد الشركات بعد كل تلك المبالغ التي تدفعها أي فائدة؟‬
‫والجــواب هــو‪ :‬نعــم بــكل تأكيــد‪ ،‬إن كانــوا ينفقــون آالف‬

‫‪133‬‬
‫جلسة عالج‬

‫الدوالرات فهم يكسبون من وراء ذلك عشرات اآلالف‪ ،‬ولست‬


‫ً‬
‫جزافا‪ ،‬بل إني علمت من أحد األشخاص في‬ ‫أقول هذا الكالم‬
‫إحدى الشــركات التي تعاونت معهم وأعلنت لهم‪ ،‬أخبرني أني‬
‫‪-‬وخــالل أســبوع واحد‪ -‬قد جلبــت لهم مشــتريات بما يقارب‬
‫ستين ألف دوالر‪ ،‬أنا أعرف أنه مبلغ كبير وقد يصدم البعض‪،‬‬
‫فحتــى أنــا ُص ِدمت من هــذا الرقم وعرفت مــن بعدها قيمتي‬
‫كشخص مشهور‪ ،‬وأدركت لماذا تدفع الشركات كل تلك المبالغ‬
‫مقابل اإلعالنات وهي في أتم الرضى‪.‬‬
‫ً‬
‫ختامــا‪ ...‬إعالنــات اليوتيــوب هــي رزق مــن اهلل‪ ،‬يرزق بها‬
‫من يشــاء‪ ،‬فكم من شــخص ســعى للشــهرة دون أن يفلح‪ ،‬وكم‬
‫من شخص زرع اهلل محبته في قلوب الناس‪ ،‬فكانت الشبكات‬
‫االجتماعيــة هــي باب الرزق الذي يفتــح أمامه‪ ،‬أما اإلعالنات‬
‫فهي من األمور المتعارف عليها منذ عشــرات الســنين‪ ،‬فنحن‬
‫نتعرض لها في كل مكان من حولنا‪ ،‬في التلفاز والشوارع وعبر‬
‫اإلذاعات والمجالت‪ ،‬وال أحد يعيب عليهم ذلك‪.‬‬
‫لقــد بــدأت قناتــي فــي اليوتيــوب ولم أكــن أعلم أي شــيء‬
‫عــن عالــم األرقام هذا‪ ،‬مضيت فــي الطريق حتى وجدت هذا‬
‫البــاب؛ بــاب الــرزق الجميــل‪ ،‬ففعلت مــا كان ألي شــخص أن‬

‫‪134‬‬
‫جلسة عالج‬

‫يفعلــه‪ ،‬يمكــن للمرء أن يرفض إعالنــات بعينها‪ ،‬لكن ال أعتقد‬


‫أن أي عاقل ســيقوم بإغالق هذا الباب بخيره وشــره‪ ،‬والحمد‬
‫هلل؛ أنا اليوم فخور بنفســي وبما وصلت إليه‪ ،‬ورغم أن معظم‬
‫مكاسب اإلعالنات تذهب لمصاريف الجامعة والحياة هنا في‬
‫أمريكا‪ ،‬إال أني ‪-‬ومنذ شهور عديدة‪ -‬لم أعد أحتاج ألي دعم‬
‫والدي‪ ،‬فلقد أثمرت جهود الســنوات الماضية وآتت‬
‫َّ‬ ‫مادي من‬
‫ً‬
‫وأيضا معنوية تمثلت في اكتســاب احترام‬ ‫ً‬
‫ثمارا مادية‪،‬‬ ‫أكلهــا؛‬
‫من حولي من األهل واألصدقاء‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫جلسة عالج‬

‫الشهرة والمال‬

‫قبل أيام قليلة من كتابتي لهذه القصة؛ خرجت من الشــقة‬


‫ً‬
‫متوجها للســيارة‪ ،‬تفاجأت بأن اإلطار مشقوق بطريقة غريبة‪،‬‬
‫ً‬
‫أيضا وأخبرني أن‬ ‫وحين ذهبت بها للمختص أبدى اســتغرابه‬
‫شــيء مــن القلق‪ ،‬فأنا‬
‫ٌ‬ ‫هــذا الشــق بفعــل فاعل‪ ،‬حينها انتابني‬
‫أصــور حياتــي عبر «ســناب تشــات» وأظهــر للنــاس معلومات‬
‫كثيرة عني‪ ،‬يعرفون أين أسكن وأين أذهب‪ ،‬يعرفون متى أخرج‬
‫ومتــى أدخــل‪ ،‬وقــد يســتفيد من يكرهنــي من تلــك المعلومات‬
‫إللحاق الضرر بي أو مضايقتي‪.‬‬
‫تلــك يــا صديقــي إحدى ســلبيات الشــهرة‪ ،‬لكــن رغم ذلك‬
‫هنالك إيجابيات عديدة لها‪ ،‬منها ما سأحكيه لك ً‬
‫تاليا‪:‬‬
‫ً‬
‫حسنا‪ ،‬دعني أوصل لك المعنى‬ ‫هل سمعت بتأثير الفراشة؟‬
‫عبر مثال واقعي‪.‬‬
‫قبل فترة نشرت فيديو عن الرياضة وإنقاص الوزن‪ ،‬البعض‬
‫ً‬
‫فعليا بالتغيــر نحو األفضل‬ ‫راســلني بعدهــا وأخبرني أنه بــدأ‬
‫واستعادة وزنه المثالي‪ ،‬بدأ باستعادة حياته السابقة‪ ،‬ومع تلك‬
‫البدايــة هنالــك أشــياء كثيرة ســوف تتغير في حياته‪ ،‬مشــاكل‬

‫‪136‬‬
‫جلسة عالج‬

‫صحيــة أقــل وإنجازات أكثــر‪ ،‬إنجاز قد يــؤدي إلى نجاحه في‬


‫مشروعه‪ ،‬ومع النجاح سوف تزدهر حياته وحياة أسرته‪.‬‬
‫لقد قرأت لتوك أبسط مثال لنظرية «تأثير الفراشة»‪.‬‬
‫لكن هل يمكن لفيديو صغير أن يؤدي لتغيير كبير؟‬
‫لــم أذكــر لك ســوى مثال افتراضي لما يمكــن أن تؤول إليه‬
‫األمــور‪ ،‬فحيــن يقوم اإلنســان بــأداء العمل‪ ،‬أي عمــل‪ ،‬هو في‬
‫حقيقة األمر ال يعلم كيف سيكون تأثيره في الحياة وفي واقع‬
‫الناس‪ ،‬وإلى أين سيصل مداه‪ ،‬اهلل من يعلم ذلك بشكل دقيق‪،‬‬
‫لكن ال شــك أنه كلما توســعت دائرة تأثير الشخص‪ ،‬وكلما كبر‬
‫ســواء بالســلب أم‬
‫ً‬ ‫حجــم جمهــوره؛ كان لمــا يقــوم به أثر أكبر‪،‬‬
‫باإليجاب‪.‬‬
‫ً‬
‫مشــهورا يعنــي أن تتلقــى الكثير من الرســائل من‬ ‫أن تكــون‬
‫الجمهــور‪ ،‬رســائل إيجابية تحمــل معاني المحبة واإلنســانية‪،‬‬
‫ً‬
‫كبيــرا يدفــع الشــخص المشــهور أو صانع‬ ‫ً‬
‫وقــودا‬ ‫وهــذا ُي َعــدُّ‬
‫المحتوى بأن يستمر وينشر أكثر‪ ،‬ألن النشر هو وسيلة التواصل‬
‫الرئيســية بينــه وبين جمهوره‪ ،‬ويكفي الشــخص المشــهور أنه‬
‫ً‬
‫دائمــا لــكل من يريد اســتدعاءه بنقــرة زر‪ ،‬كلماته التي‬ ‫متوفــر‬
‫قالها وحكاياتها التي ّ‬
‫قصها؛ كلها مؤرشــفة في قواعد بيانات‬

‫‪137‬‬
‫جلسة عالج‬

‫اليوتيوب لكل من يريد االستفادة أو المتعة‪.‬‬


‫ومــن النعــم التــي تجلبهــا الشــهرة‪ :‬المــال‪ ،‬فالــرزق الوفير‬
‫يعطيــك الفرصــة كــي تكرم من تحــب‪ ،‬وهل هنالــك حب أكبر‬
‫مــن أمــك وأبيــك‪ ،‬كم هو عظيــم أن يكون لديــك المال الكافي‬
‫ً‬
‫شــيئا يحتاجــه! تلك‬ ‫لتشــتري ألمــك هديــة تحبهــا‪ ،‬أو ألبيــك‬
‫االبتســامة التــي ترتســم بعفويــة على شــفتي أمك فــي لحظة‬
‫امتنان صادقة؛ تسوى الدنيا وما فيها‪.‬‬
‫ً‬
‫أيضا‪.‬‬ ‫لكن الشهرة والمال يجلبان المشاكل‬
‫مــن المشــاكل التــي يجلبها لــك المال‪ ،‬هي ارتفــاع توقعات‬
‫اآلخريــن عنــك‪ ،‬فحين يعرفون بأنك ميســور الحــال؛ يتوقعون‬
‫بأنــك ســتدفع عنهــم تكاليــف الوجبــات‪ ،‬أو ســتتكفل بنفقات‬
‫ً‬
‫شــيئا يتوقعون منك أن تشــتريه لهم‪،‬‬ ‫الرحالت‪ ،‬وحين يتمنون‬
‫وعندمــا تخيــب توقعاتهــم تلــك‪ ،‬يبــدؤون بأخــذ موقــف منك‪،‬‬
‫لألســف هكــذا يفكــر البعــض مــن الناس‪ ،‬وبســبب هــذا تجد‬
‫الكثيرين ‪-‬وخاصة في العالم العربي‪ -‬يخفون مصادر رزقهم‪،‬‬
‫ومقدار أمواله‪.‬‬
‫هنالــك مواقــف كثيــرة حصلت وتحصل بســبب هذا األمر‪،‬‬
‫ً‬
‫مناسبا لذكرها‪ ،‬لكن ‪-‬وبشكل عام‪ -‬هذه هي‬ ‫ليس المقام هنا‬

‫‪138‬‬
‫جلسة عالج‬

‫أحد األسباب الرئيسية للكثير من اإلشكاليات التي تحصل في‬


‫العالقــات االجتماعيــة‪ ،‬إنها «ارتفاع التوقعــات عن اآلخرين»‪،‬‬
‫ً‬
‫دائمــا‪ ،‬وهؤالء في الغالب‬ ‫فبعــض األشــخاص توقعاته مرتفعة‬
‫يعيشــون عالة على المجتمع‪ ،‬ال يشــقون طريقهم نحو النجاح‬
‫والتميز‪ ،‬ألنه يتطلب الكثير من الجهد الذاتي والعمل الدؤوب‪،‬‬
‫فهم يتوقعون من المجتمع أن يعطيهم كل شيء‪.‬‬
‫من سلبيات المال كذلك؛ أنه يجلب إليك أصدقاء المصلحة‪،‬‬
‫وقد يبعد عنك أصدقاء الطفولة‪ ،‬ألن مشكلة اإلنسان أنه يحب‬
‫أن يصاحب من هو في مستواه‪ ،‬ففي الوضع الطبيعي؛ يستمر‬
‫األصدقاء في عالقتهم مع مرور الزمن‪ ،‬ألن المســتوى المالي‬
‫يصعد مع الجميع بطريقة متقاربة‪ ،‬يتخرجون في الجامعة ثم‬
‫يبحثــون عــن عمــل ويبدأ كل واحد منهم بشــق طريقه وكســب‬
‫المال والتوفير‪ ،‬الجميع يســير بشــكل متقارب‪ ،‬ولذلك تستمر‬
‫الصداقة ً‬
‫يوما بعد يوم وسنة بعد أخرى‪.‬‬
‫أمــا اليــوم فنحــن نعيــش فــي عصــر التقنية‪ ،‬لــو تفقدت‬
‫ً‬
‫كبيــرا منهــم‬ ‫ً‬
‫عــددا‬ ‫قائمــة األغنيــاء فــي العالــم لوجــدت أن‬
‫هــم شــباب لــم يصلوا لســن األربعيــن‪ ،‬األمر الــذي كان من‬
‫المســتحيالت فــي الســابق‪ ،‬فالمــال والثــروة لــم تكــن تصل‬

‫‪139‬‬
‫جلسة عالج‬

‫للمــرء إال فــي ّ‬


‫ســن متقدم‪ ،‬يتطلب األمر مشــوار حياة طويل‬
‫ً‬
‫تطبيقا‬ ‫من العمل واالســتثمار‪ ،‬أما اليوم فقد يصنع الشــاب‬
‫وبعــد شــهر يبيعــه بماليين الدوالرات إلحدى الشــركات‪ ،‬أو‬
‫قد يصور الشــخص ابنه بعد خروجه من عيادة األســنان‪ ،‬ثم‬
‫ينشــر الفيديو وينام‪ ،‬وفي الصباح يكتشــف أن مليون إنسان‬
‫قــد شــاهد الفيديو‪ ،‬ثم ما يلبث حتــى يصبح الفيديو والقناة‬
‫ً‬
‫ناجحا‪.‬‬ ‫ً‬
‫اســتثماريا‬ ‫ً‬
‫مشروعا‬
‫حيــن تتغيــر الحالة المادية للشــاب بشــكل مفاجــئ‪ ،‬يتغير‬
‫معهــا أســلوب حياتــه‪ ،‬وقد ال يناســب هــذا األســلوب الجديد‬
‫ً‬
‫رويدا رويدا‪،‬‬ ‫أصدقــاءه القدامى‪ ،‬وهنا يبــدؤون باالبتعاد عنه‪،‬‬
‫فيكون بذلك قد كسب المال‪ ،‬لكنه خسر األصدقاء‪.‬‬
‫المال ال يصنع الســعادة‪ ،‬بل طريقة اســتخدامك له هي ما‬
‫يمكن أن تسعدك‪ ،‬أو تشقيك‪ ،‬المال يعطيك إمكانية أن تشتري‬
‫ألمــك هديــة‪ ،‬ومن هنــا تحصل على الســعادة‪ ،‬المــال يعطيك‬
‫القدرة أن تســاعد صديقك في محنته‪ ،‬ومن هنا تحصل على‬
‫الســعادة‪ ،‬وعلــى كل حــال‪ ،‬ليــس المال ســوى برهــان وصولك‬
‫للنجــاح‪ ،‬دليــل علــى أنك قد كافحت في شــق الطريق ووصلت‬
‫للقمــة‪ ،‬وال زال هنالــك الكثير من القمم في األعلى‪ ،‬الســعادة‬

‫‪140‬‬
‫جلسة عالج‬

‫هي عندما تلتفت فترى آثار أقدامك ومسيرة كفاحك‪ ،‬هي في‬
‫متعة اإلنجاز ولذة االنتصار‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫جلسة عالج‬

‫عقد احتكاري‬

‫ً‬
‫عقدا عندما تســتأجر شــقة أو تبدأ‬ ‫من الطبيعي أن تكتب‬
‫ً‬
‫جديدا في شــركة‪ ،‬العقد هو اختراع بشــري يســهل على‬ ‫ً‬
‫عمال‬
‫النــاس حياتهــم‪ ،‬فهــو يحفظ حقوق الجميع‪ ،‬فــكل طرف عليه‬
‫واجبــات ولــه حقــوق‪ ،‬إلى هنــا واألمر عادي والحيــاة طبيعية‪،‬‬
‫توقع عقد استئجار شقة وفيه بند يحظر عليك‬ ‫لكن تخيل أن ّ‬
‫اســتقبال الضيــوف في منزلك‪ ،‬فأي نوع مــن العقود هو هذا؟‬
‫ومن قد يوافق على التوقيع عليه؟‬
‫فــي بدايــة مشــواري «اليوتيوبــي»‪ ،‬وحيــن وصلــت قناتي لـ‬
‫تواصلَــت معي شــركة مشــهورة فــي مجال‬
‫َ‬ ‫‪ 80‬ألــف مشــترك‪،‬‬
‫الشــبكات االجتماعيــة (والتــي ســأرمز لهــا بالحــرف «د»)‪،‬‬
‫وعرضــت علــي االنضمام لقافلة قنواتها‪ ،‬لقد وعدوني بتقديم‬
‫خدمــات مــن شــأنها أن تطور القنــاة وتحميهــا‪ ،‬باإلضافة إلى‬
‫جلــب معلنيــن مصطحبين معهــم ُرزم الــدوالرات‪ ،‬والكثير من‬
‫الوعــود الورديــة‪ ،‬وفــي المقابــل يريــدون مني فقط «شــخطة‬
‫ً‬
‫احتكاريا لمدة سنتين كاملتين‪ ،‬يتحكمون‬ ‫ً‬
‫عقدا‬ ‫قلم»‪ ،‬لقد كان‬
‫هــم ‪-‬بموجبــه‪ -‬بالجانب المالي للقنــاة‪ ،‬فال تصلني أية أموال‬

‫‪142‬‬
‫جلسة عالج‬

‫(عبر اإلعالنات) إال عن طريقهم وبعد أن يأخذوا نسبتهم‪.‬‬


‫وافقت وتم التوقيع‪.‬‬
‫لألســف تبخــرت الوعــود بمجــرد أن ّ‬
‫جف الحبــر من على‬
‫الــورق‪ ،‬ولألســف تغيرت المعاملــة بعد التوقيع وقــل التواصل‬
‫ولــم يتــم تحقيــق معظم ما كتب في بنود العقد‪ ،‬لكن المشــكلة‬
‫الكبرى هي عدم إمكانية االتفاق مع أي شركات أخرى بهدف‬
‫التعاون واإلعالن لهم في القناة‪ ،‬بل حتى اإلعالنات التي كانت‬
‫تأتي عبر القناة‪ ،‬لم نكن نحصل منها إال على جزء من المبلغ‪،‬‬
‫ً‬
‫متفقا عليه‪.‬‬ ‫ً‬
‫خالفا لما كان‬ ‫والبقية تذهب إليهم‬
‫مــع األيام اكتشــفت أني وقعت فريســة لشــركة عمالقة لم‬
‫تكن ترى قناتي ســوى رقم على الهامش‪ ،‬فهنالك قنوات كبيرة‬
‫(فــي عــدد المشــتركين) تحصــل علــى االهتمــام األكبر بغض‬
‫النظر عن المحتوى التي تنشــره‪ ،‬كل ما يهم الشــركة هو عدد‬
‫المشتركين وحجم المشاهدات‪ ،‬وبالتالي‪ :‬كمية األرباح‪.‬‬
‫تلك الشــركة ‪-‬وغيرها من الشــركات‪ -‬تم إنشــاؤها بهدف‬
‫تقاســم الكعكة مع «مؤثري السوشــال ميديا»‪ ،‬فهم يعرفون أن‬
‫هؤالء األشخاص ينامون على مناجم من الذهب دون أن يعرفوا‬
‫ذلــك‪ ،‬والبعــض منهم ليســت لديه خبرة كافيــة أو مقدرة على‬

‫‪143‬‬
‫جلسة عالج‬

‫التواصــل مع الشــركات وإبــرام االتفاقيات والعقــود‪ ،‬وهم هنا‬


‫يستغلون هذه النقطة‪ ،‬يبحثون عن الوجوه الجديدة والواعدة‪،‬‬
‫ثم يحتكرونهم بعقود جائرة‪.‬‬
‫في العادة؛ تتواصل الشــركة (د) مع شــركات أخرى كبيرة‪،‬‬
‫مثل شركة سامسونج أو هواوي‪ ،‬وتتفق معهم على نشر حمالت‬
‫إعالنيــة فــي عدة قنــوات ممن هي تحت مظلتهــم مقابل مبلغ‬
‫ً‬
‫مثــال‪ 10 :‬مليــون دوالر)‪ ،‬ثــم تقوم الشــركة‬ ‫مالــي كبيــر (لنقــل‬
‫بتوزيــع جزء يســير من ذلك المبلــغ على أصحاب القنوات بعد‬
‫إتمــام الحملــة اإلعالنية‪ ،‬وهكــذا تحصل الشــركة على الجزء‬
‫األكبــر من الكعكة‪ ،‬أما ُص ّناع المحتوى والذين يقومون بالعمل‬
‫بأكمله فيحصلون على الفتات‪.‬‬
‫بالطبــع تواصلــت مع المســؤولين وأوصلت لهــم اعتراضي‬
‫وامتعاضــي‪ ،‬أخبرتهم أن كل الكالم الذي في العقد بخصوص‬
‫تطويــر القنــاة والمحتــوى ما هــو إال حبر علــى ورق‪ ،‬ثم طلبت‬
‫ً‬
‫ســيئا معي‪ ،‬وفي‬ ‫منهــم إنهــاء التعاقد‪ ،‬لم يوافقوا‪ ،‬وكان ردهم‬
‫نهاية المطاف تمكنت من التفاوض معهم على السماح بالتعاون‬
‫مــع شــركات من جهتي لنشــر إعالناتهم‪ ،‬ثم حيــن أكملت مدة‬
‫ً‬
‫سالما ال رجعة فيه‪.‬‬ ‫العقد‪ ،‬تنفست الصعداء وسلمت عليهم‬

‫‪144‬‬
‫جلسة عالج‬

‫فــي وقــت الحــق؛ وبعــد أن خرجــت مــن ســجن االحتــكار‪،‬‬


‫تواصلــت معــي شــركة أخرى بهــدف التعاون‪ ،‬وبعــد أن أتممنا‬
‫ً‬
‫عقدا‬ ‫علي االنضمام إليهم‪ ،‬لقد كان‬
‫الحملة اإلعالنية عرضوا ّ‬
‫ً‬
‫جديــدا‪ ،‬وقد كنت على وشــك الموافقة‪ ،‬وخاصة أن‬ ‫ً‬
‫احتكاريــا‬
‫أكبــر مشــاهير الشــبكات االجتماعيــة فــي الكويــت كانــوا في‬
‫قائمتهم‪ ،‬كنت سأوافق ليس ألجل المال لكن ألجل التسهيالت‬
‫علي‪ ،‬والتي من أهمها التواصل مع المشــاهير‬
‫التي عرضوها ّ‬
‫اآلخريــن‪ ،‬وعمــل فيديوهــات عن حياتهم لنشــرها فــي قناتي‬
‫ضمن سلسلة «يوم في حياة مشهور»‪.‬‬
‫لكــن وقبــل أن أتــورط معهــم في عقــد جديد‪ ،‬ســمعت من‬
‫المســؤول كلمــة أوقفتنــي وأعــادت إلــي الذكــرى المريــرة مع‬
‫الشــركة الســابقة‪ ،‬لقــد قــال في نهايــة كالمه‪« :‬لو نشــرت أي‬
‫إعــالن فســنأخذ عليه نســبة؛ حتى لو كان لخادمتــك»‪ ،‬حينها‬
‫طلبــت منــه التفكير في األمر‪ ،‬وبعد أيام ‪-‬بعد أن فكرت ً‬
‫مليا‪-‬‬
‫اعتذرت لهم ‪-‬بلطف‪ -‬عن عدم رغبتي في ذلك‪.‬‬
‫وهكذا خرجت من هذه التجربة بهذا الدرس المهم‪ ،‬الدرس‬
‫الذي أود إيصاله لكل شــخص مشــهور أو في طريقه للشــهرة‪،‬‬
‫أن يفكر بدل المرة ً‬
‫ألفا؛ قبل أن يوقع على أي عقد احتكاري‪،‬‬

‫‪145‬‬
‫جلسة عالج‬

‫ً‬
‫متخصصــا في هذه األمور‪ ،‬ألنه ‪-‬كما‬ ‫ً‬
‫محاميا‬ ‫أو أن يستشــير‬
‫قيل‪ -‬ما خاب من استشار‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫جلسة عالج‬

‫فضول زائد‬

‫ً‬
‫أناسا كثيرين يحاولون لفت انتباهك‪،‬‬ ‫ستجد ‪-‬في حياتك‪-‬‬
‫قــد يكــون عبــر لباســهم‪ ،‬طريقــة مشــيهم‪ ،‬أو حتــى صبغــة‬
‫شــعرهم‪ ،‬ليســت المشكلة هنا‪ ،‬المشــكلة هي عندما نستجيب‬
‫نحن ونضيع بعض أوقاتنا الثمينة في مشاهدتهم أو مالحظة‬
‫ً‬
‫ســلبيا في‬ ‫أفعالهــم‪ ،‬وأكبــر مــن ذلــك؛ عندما يتــرك ذلك ً‬
‫أثرا‬
‫نفسيتك فيؤثر ذلك على حياتك‪.‬‬
‫يوم لي بأمريكا‪،‬‬
‫دعوني أحكي لكم قصة حدثت لي في أول ٍ‬
‫كمثال عملي يوضح ما أود التركيز عليه‪.‬‬
‫بعــد رحلــة شــاقة‪ ،‬وبعد أكثر من ‪ 15‬ســاعة من الســهر في‬
‫الطائــرة‪ ،‬وصلــت مدينــة نيوجيرســي‪ ،‬فــي حيــن أن وجهتــي‬
‫الرئيســية كانــت نيويــورك‪ ،‬ركبــت القطار الذاهــب إلى هناك‬
‫ونزلــت فــي محطة ِ بن ستيشــن «‪ ،»Penn Station‬والتي تعتبر‬
‫المحطة الرئيســية في نيويــورك‪ ،‬ومنها تتفرع بقية الخطوط‪،‬‬
‫هذه المحطة هي وجهة القادمين من خارج المدينة‪ ،‬وبالقرب‬
‫منهــا يقــع أحــد الفنــادق المشــهورة‪ ،‬ليــس ألنــه يقــدم خدمة‬
‫ً‬
‫أسعارا منافسة (على العكس من ذلك‪ :‬كانت أسعاره‬ ‫راقية أو‬

‫‪147‬‬
‫جلسة عالج‬

‫مرتفعة)‪ ،‬بل ألنه األقرب للمحطة‪ ،‬ولسوء الحظ فقد حجزت‬


‫فيه (أونالين) قبل أن أصل إليه‪.‬‬
‫طويل أمامــي‪ ،‬كان يجب علي‬
‫بطابــور ٍ‬
‫ٍ‬ ‫وصلــت الفنــدق وإذا‬
‫ً‬
‫طويال حتى‬ ‫أن ألتحــم بــه ألشــكل حلقتــه األخيرة‪ ،‬ثــم أنتظــر‬
‫أصل لموظف االستقبال‪ ،‬لكن حين وصلت‪ ،‬لم يكن االستقبال‬
‫ً‬
‫حافال‪ ،‬فمن المعروف أن الفنادق الغالية تعتني بالنزالء وتقدم‬
‫لهــم ‪-‬علــى األقل‪ -‬طريقة راقية في التعامل‪ ،‬أما هذا الفندق؛‬
‫ً‬
‫عموما لم يكن لتلك األشــياء أي أهمية عندي‬ ‫فلم يكن كذلك‪،‬‬
‫ً‬
‫مرهقــا أريــد الوصول للســرير‬ ‫فــي تلــك اللحظــة‪ ،‬فقــد كنت‬
‫بأسرع ما يمكن‪.‬‬
‫حيــن وصلت الفندق كانت الســاعة تشــير إلــى الثانية بعد‬
‫منتصــف الليــل‪ ،‬ثم اســتغرق الطابور ســاعة كاملة حتى وصل‬
‫دوري‪ ،‬أعطيت الموظف جواز الســفر‪ ،‬أدخل االســم في جهاز‬
‫الكمبيوتــر‪ ،‬وإذا بــه يقــول لــي إن االســم غيــر موجــود‪ ،‬أجبته‬
‫ً‬
‫متعجبا‪« :‬ماذا‪ !..‬لكني حجزت منذ أســبوع»‪ ،‬يلقي نظرة ثانية‬
‫فيكتشــف أن هنالك خطأ في أحد حروف اســمي‪ ،‬المفروض‬
‫أن هــذا األمــر عــادي‪ ،‬خطــأ قــد يحصــل فــي أي وقــت وألي‬
‫شــخص‪ ،‬لكن يبدو أنه لم يكن من األخطاء المســموح بها في‬

‫‪148‬‬
‫جلسة عالج‬

‫ذلــك الفنــدق بالــذات‪ ،‬أو ربما كانت حيلــة منهم لعدم توفر ما‬
‫يكفي من الغرف للجميع‪.‬‬
‫المهــم ‪-‬وبغــض النظــر عن الســبب‪ -‬لم ُيســ َمح لــي بحجز‬
‫الغرفة‪ ،‬ولم يكن بيدي أي شيء ألفعله‪.‬‬
‫ً‬
‫وبدال من أن أنشــغل بمشكلتي‬ ‫ً‬
‫مشــدوها على جنب‪،‬‬ ‫وقفت‬
‫وأبــدأ فــي البحث عــن فندق آخر‪ ،‬تســمرت مكاني وانشــغلت‬
‫بمشــاهدة شــخص آخر‪ ،‬كان لديه المشــكلة نفســها‪ ،‬لكن ردة‬
‫ً‬
‫تماما‪.‬‬ ‫فعله كانت مختلفة‬
‫ٌ‬
‫رجــل ســمين فــي الســتينيات مــن عمــره‪ ،‬تبــدو عليــه آثار‬
‫ٌ‬
‫مليئة بالنقود محفظته؛ عرفت ذلك‬ ‫مهندم في لباسه‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫النعمة‪،‬‬
‫ألنــه ألقاها علــى األرض وتطايرت منها األمــوال والبطاقات‪،‬‬
‫وبدأ بعض األشخاص ‪-‬ممن يقفون في الطابور‪ -‬بجمع نقوده‬
‫ومحاولة تهدئته‪.‬‬
‫ال زالت مالمح الغضب المتطايرة من وجه الرجل راســخة‬
‫فــي ذاكرتــي‪ ،‬صوتــه المرتفع وهو يــردد عبارة «أســتطيع فعل‬
‫هذا» ال تزال ترن في أذني‪ ،‬لم يكن يتوقع أن يقف في طريقه‬
‫شيء‪ ،‬فهو مليونير ‪-‬على ما يبدو‪ -‬ولديه الكثير من المال‪ ،‬ثم‬
‫يأتي موظف بسيط ويحرمه من غرفته الفارهة وسريره المريح‬

‫‪149‬‬
‫جلسة عالج‬

‫بســبب خطــأ في أحد حروف اســمه‪ ،‬هكذا ‪-‬لألســف‪ -‬يفكر‬


‫بعــض األغنياء وأصحــاب الماليين‪ ،‬ومثل أولئك األشــخاص؛‬
‫ً‬
‫طبعا)‪.‬‬ ‫ال أرتاح لهم وال أحب التعامل معهم (ليس كل األغنياء‬
‫شبع‬ ‫ُ‬
‫اتخذت ‪-‬مع بقية الحضور‪ -‬وضعية المشاهد‪ ،‬وقفت أ ِ‬
‫خرجني‬ ‫فضولــي وأشــاهد الموقف من أوله حتــى النهاية‪ ،‬لم ُي ِ‬
‫من تلك الوضعية إال نور الفجر الذي بدأ بالتســلل خلســة في‬
‫أرجــاء المكان‪ ،‬وإذا بالصبح يريد أن يطلع‪ ،‬ويوم جديد ُيبشــر‬
‫العالم بمجيئه‪ ،‬وأنا لم أنم بعد‪ ،‬ولم أودع يومي السابق‪ ،‬حينها‬
‫ً‬
‫مهروال وركبت سيارة أجرة وتوجهت لفندق آخر ‪-‬بعيد‬ ‫خرجت‬
‫ً‬
‫عميقا‪.‬‬ ‫بعض الشيء‪ -‬ثم استأجرت غرفة فيه ونمت ً‬
‫نوما‬
‫كان مــن الطبيعــي أن أتصــرف بذلــك الشــكل؛ أن أنشــغل‬
‫وأضيــع وقتــي في مراقبة النــاس‪ ،‬فقد أتيت مــن بيئة عربية‪،‬‬
‫عهد بذلك البلد وبثقافته‪ ،‬لكن مع األيام تعودت‬ ‫َ‬
‫حديث ٍ‬ ‫وكنت‬
‫على النمط الغربي وطريقة األمريكان في التعامل مع الفضول‬
‫الزائــد‪ ،‬فهــم فــي الغالــب منهمكون فــي حياتهــم‪ ،‬ال يضيعون‬
‫أوقاتهــم فــي تتبع أخطاء الناس ومالحظة أفعالهم‪ ،‬تجد ‪-‬في‬
‫الشارع األمريكي‪ -‬كل شخص يفعل ما يحلو له وال أحد يلتفت‬
‫إليه‪ ،‬الكل يمضي في حال سبيله‪ ،‬الكل منشغل بشؤون حياته‪،‬‬

‫‪150‬‬
‫جلسة عالج‬

‫الوقت هنا له ثمن أكبر مما هو عليه في عالمنا العربي‪.‬‬


‫جميــل أن ُنتقــن فــن «التطنيــش» فــي بعــض المواقــف‪ ،‬أن‬
‫ننشــغل بعيوبنــا ونتــرك الناس وشــأنهم‪ ،‬جميل أن تمشــي في‬
‫الشــارع دون أن تحاصــرك أعيــن النــاس‪ ،‬ويكفينــا أن نطبــق‬
‫توجيــه رســولنا الكريم (عليــه أفضل الصالة والتســليم) حين‬
‫الم ا ْل َم ْ ِرء‪َ ،‬ت ْر ُك ُه َما َال َي ْ ِعن ِيه‪.‬‬‫َ‬
‫قال‪ِ :‬منْ ُح ْس ِن ِ إ ْس ِ‬

‫‪151‬‬
‫جلسة عالج‬

‫يوم في حياة مشهور‬

‫فــي أحــد األيــام؛ فتحــت تطبيــق ســناب تشــات وتوجهــت‬


‫بالحديث للمتابعين‪:‬‬
‫ً‬
‫شــيئا له قيمة‪ ،‬أرســل‬ ‫«لو أنت مبتعث وتحس أنك أنجزت‬
‫ً‬
‫مختصــرا تعلمني فيه عن حياتــك وإنجازاتك‪ ،‬وقد‬ ‫لــي فيديو‬
‫يتــم اختيــارك وأســافر لــك‪ ،‬لتصوير يــوم في حياتــك وإتاحة‬
‫الفرصة لعرض الذي عندك»‪.‬‬
‫بهذه الطريقة بدأت الفكرة‪ ،‬والتي تحولت فيما بعد لسلسلة‬
‫أعتبرها من أقوى السالسل التي أقوم بنشرها في القناة‪.‬‬
‫لــم أتوقــع أن أتلقى الكثير من الــردود‪ ،‬لكني ُص ِدمت حين‬
‫وصلتني العديد من الرسائل المرئية ألشخاص مبتعثين لديهم‬
‫إنجــازات تســتحق الذكــر واإلشــادة‪ ،‬لــم أتوقــع أن أجــد ِم ّمن‬
‫ً‬
‫أشــخاصا تعــدت أعمارهــم الثالثين ولديهم مســيرة‬ ‫يتابعنــي‬
‫حافلة بالنجاح‪ ،‬فعلى ســبيل المثال؛ تواصل معي شــخص قام‬
‫باكتشــاف طريقــة لتحويــل الخاليــا الجذعيــة مــن أجل عالج‬
‫مــرض «الباركينســون»‪ ،‬وشــخص آخــر اختــرع آلــة لتجفيــف‬
‫المالبــس تعمــل بــدون كهرباء‪ ،‬كي يســتفيد منها مــن ال تتوفر‬

‫‪152‬‬
‫جلسة عالج‬

‫لديهم مصادر الطاقة ومن يعيشون في المناطق النائية‪ ،‬وآخر‬


‫اختــرع طريقة تســاعد الســائق لحســاب المســافة بينــه وبين‬
‫السيارات القادمة في االتجاه المعاكس‪ ،‬ثم تحديد ما إذا كان‬
‫المرور من أمامها ً‬
‫آمنا أم غير آمن‪.‬‬
‫لقــد تفاجأت من كمية األشــخاص الذيــن يمتلكون األفكار‬
‫واإلنجــازات التي تســهل على الناس حياتهــم‪ ،‬أولئك الذين لم‬
‫يتمكنــوا مــن إظهــار إنجازاتهم ولــم يعطهم المجتمــع الفرصة‬
‫للظهور وإبراز ما لديهم‪.‬‬
‫بــدأت أول فيديــو فــي السلســلة بالشــخص الذي اكتشــف‬
‫لقاء‬
‫العــالج بالخاليــا الجذعيــة‪ ،‬ســافرت إليــه وصورت معــه ً‬
‫ً‬
‫كامــال ثــم نشــرت الفيديــو‪ ،‬صحيــح أن الفيديــو لــم يظهــر‬
‫بالطريقــة التــي كنــت أريدها (ألنهــا كانت الحلقــة األولى ولم‬
‫أكن أعرف كيف ســتجري األمور بالضبط)‪ ،‬إال أنني استفدت‬
‫ً‬
‫‪-‬حرفيــا‪ -‬من كل‬ ‫ً‬
‫فعــال مــن تلــك التجربــة‪ ،‬بل إنــي اســتفدت‬
‫لقــاء أجريتــه وكل حلقة نشــرتها‪ ،‬ال أتحدث هنا عن اســتفادة‬
‫القنــاة بحجــم التفاعــل واالنتشــار‪ ،‬بل أتحدث عن االســتفادة‬
‫الشخصية والمعرفية‪.‬‬
‫أنــا ممــن يهتم بحكايــات اآلخرين‪ ،‬بتجاربهــم ومغامراتهم‪،‬‬

‫‪153‬‬
‫جلسة عالج‬

‫عندما أستمع إليهم أستمع باهتمام وشوق لمعرفة التفاصيل‪،‬‬


‫ومع كل شــخص جديد تتعرف عليه‪ ،‬وكل حكاية تســتمع إليها؛‬
‫ً‬
‫دروســا من الصعب أن تجدها‬ ‫أنت تثري حياتك‪ ،‬وتتعلم منهم‬
‫فــي أي كتــاب‪ ،‬والتعلــم هنــا ليس فقــط من النــاس الناجحين‬
‫والبارزيــن‪ ،‬بــل وحتى البســطاء والعاديين‪ ،‬فلــكل روح في هذا‬
‫الوجــود وزن‪ ،‬ولــكل إنســان تجربــة خاصة لن تجــد مثيلها في‬
‫الكون‪.‬‬
‫تطــورت الفكــرة مــن «يــوم في حيــاة مبتعث» إلــى «يوم في‬
‫حيــاة مشــهور»‪ ،‬فاختــرت أول شــخصية بأن تكون «كريســتين‬
‫أوليفــرز»؛ الشــخص الــذي ينشــر مقاطــع قصيــرة مضحكــة‬
‫ويقلــد فيهــا العرب‪ ،‬فتــم التواصل مع مديــر أعماله وعرضت‬
‫عليــه األمــر‪ ،‬وحين تمت الموافقة؛ حجــزت تذكرة الطائرة ثم‬
‫ســافرت لمقابلته وتصوير أجزاء مــن حياته في والية فلوريدا‬
‫‪ -‬ميامي؛ واستمر األمر وأكملت السلسلة مع أشخاص آخرين‬
‫مــن جنســيات مختلفــة‪ ،‬منهم «طالل ســام» الكويتــي و«محمد‬
‫فلود» األمريكي والتوأم العماني‪.‬‬
‫خلــف كواليــس التصويــر تختبــئ الكثيــر مــن التفاصيــل‪،‬‬
‫ً‬
‫وأحيانا أتلقى بعض النقد‬ ‫وهنالك أمور ال يعرفها المشــاهد‪،‬‬

‫‪154‬‬
‫جلسة عالج‬

‫مــن المتابعيــن علــى خوضي في تفاصيل حيــاة الضيوف‪ ،‬كما‬


‫حدث في الجزء الثاني من حلقة «التوأم العماني»‪ ،‬فقد اعتقد‬
‫بعــض المشــاهدين بأنــي تماديــت فــي التدخــل فــي شــؤونهم‬
‫ً‬
‫فمثال؛ عندما ســألتهم عن جنسياتهم‬ ‫ً‬
‫رغما عنهم‪،‬‬ ‫الشــخصية‬
‫األصليــة وطلبــت منهــم رؤيــة جــوازات ســفرهم‪ ،‬كان القصد‬
‫حينها أن أصل لنقطة أخرى في الحوار‪ ،‬ولفتح موضوع جديد‬
‫ثم النقاش حوله‪.‬‬
‫أمــر آخــر قــد يغيــب عــن المشــاهد‪ ،‬وهــو أنــه فــي بعض‬
‫األحيــان يتــم االتفــاق مع ضيــوف الحلقات علــى مواضيع يتم‬
‫ً‬
‫وأحيانــا يقرر الضيف عدم التحدث عنها أثناء‬ ‫التطــرق إليها‪،‬‬
‫التصوير‪ ،‬وهذا أمر قد يحدث وال مشكلة في ذلك‪ ،‬لكن عندما‬
‫يكــون الموضــوع الذي تم إلغــاؤه هو أحد العناصر األساســية‬
‫فــي اللقاء‪ ،‬حينهــا أكتفي بعرض بعــض المقاطع والتي توصل‬
‫للمشاهد بأني حاولت التطرق لتلك المواضيع ‪-‬والتي يتشوق‬
‫بعض المتابعين لمعرفتها‪ -‬لكني لم أفلح‪.‬‬
‫بعــد نشــر حلقات «طالل ســام» اتصل بي طالل وشــكرني‬
‫على نشر الفيديو‪ ،‬فطالل كان قد تحدث عن وفاة والدته في‬
‫الحلقة الثانية‪ ،‬وحين شــاهدها بعد التعديل ثم قرأ التعليقات‬

‫‪155‬‬
‫جلسة عالج‬

‫الكثيــرة والتــي كانت تترحم علــى والدته؛ تأثــر وبكى‪ ،‬حدثني‬


‫ً‬
‫قائال‪« :‬ما توقعــت أن يأتي اليوم الذي‬ ‫فــي المكالمــة الهاتفية‬
‫أرى فيه كل هذا العدد من الناس وهم يترحمون على والدتي»‪،‬‬
‫ّ‬
‫واقشعر بدني‪ ،‬فلم أتخيل أنني قادر ‪-‬بعد توفيق‬ ‫وحينها تأثرت‬
‫اهلل‪ -‬على التأثير في حياة األشخاص بهذا الشكل وعبر قناة‬
‫في اليوتيوب‪.‬‬
‫أمــر عظيــم أن تمتلــك القدرة على إظهار حياة شــخص ما‬
‫بطريقة يمكن لآلخرين فهمها أو التعاطف معها‪ ،‬فعلى ســبيل‬
‫المثــال «كريســتين» ُيقــال عنه بأنــه أحمق‪ ،‬ويتلقــى الكثير من‬
‫التعليقــات الســلبية‪ ،‬لكــن حيــن صورتــه وعرضــت أجــزاء من‬
‫حياتــه‪ ،‬حينهــا بدأت تلــك الصورة الســلبية في عقــول الناس‬
‫بالتغيــر‪ ،‬ألنهــم عرفوا اإلنســان الذي بداخل «كريســتين»‪ ،‬فلم‬
‫يكــن أحــد يعــرف ‪-‬على ســبيل المثــال‪ -‬أنه ذهب لمستشــفى‬
‫األمراض النفسية أربع مرات!‬
‫ما تم كشفه للجمهور عن حياة أولئك األشخاص أقل بكثير‬
‫ممــا عرفته أنــا عنهم‪ ،‬فهنالك أشــياء تحدثنا عنهــا واعترفوا‬
‫لــي بهــا‪ ،‬لكنهــا بقيــت بيننــا فقط‪ ،‬لقــد تعلمت مــن قصصهم‬
‫أيضــا ّأثــرت فيهــم وســاعدتهم‬
‫ً‬ ‫واســتفدت الكثيــر‪ ،‬كمــا أنــي‬

‫‪156‬‬
‫جلسة عالج‬

‫فــي إظهــار صورتهــم الحقيقية للعلن‪ ،‬وال يــزال التواصل بيننا‬


‫ً‬
‫مستمرا حتى بعد التصوير وبعد نشر الحلقات‪.‬‬
‫هذه السلســلة ليســت مجــرد فيديوهات مــن قبيل «عملت‬
‫مسبح نوتيال»‪ ،‬لقد قطعت المسافات الطويلة وسهرت الليالي‬
‫الطويلــة إلعــداد تلك الفيديوهات وإخراجهــا بأفضل طريقة‪،‬‬
‫ألنــي مؤمــن أن هــذا النــوع من المحتــوى هو مما يســتحق أن‬
‫يتعب المرء ألجله‪ ،‬كما أعتقد أن هذه السلسلة ستحصل على‬
‫عاجال أم ً‬
‫آجال‪.‬‬ ‫ً‬ ‫االهتمام الالئق بها‬

‫‪157‬‬
‫جلسة عالج‬

‫قنابل متفجرة‬

‫أفراد من الشرطة منتشرون في شقتي الصغيرة‪ ،‬متأهبين‬


‫ومســتعدين ألي حركــة أو هــروب مباغــت‪ ،‬بينهــم أحــد أفراد‬
‫‪ )Home‬الذيــن ال يأتــون إال فــي المصائــب‬ ‫(‪Security‬‬ ‫الـــ‬
‫الكبيــرة‪ ،‬بعــض عمال الســكن يراقبون المشــهد بعيــون قلقة‪،‬‬
‫ومديرتهــم تقــف في أحــد الجوانــب؛ ترميني بنظــرات حادة‪،‬‬
‫ٌ‬
‫صندوق كرتوني بحجم متوســط‪،‬‬ ‫وأنــا فــي المنتصــف‪ ،‬أمامي‬
‫ٌ‬
‫ملصق أحمر مكتوب عليه بالخط العريض (‪)Explosive‬‬ ‫عليه‬
‫ً‬
‫ســكينا في يدي وأســتعد لفتح‬ ‫والتــي تعنــي (متفجــر)‪ ،‬أحمــل‬
‫الصندوق…‬
‫متأهبــون‪ ،‬قلقــون‪ ،‬تدور األفكار في عقولهم‪ ،‬في ترقب لما‬
‫سيخرج من داخل الصندوق‪.‬‬
‫لكــن‪ ،‬كيــف وصلنــا لهــذا المشــهد؟ لنرجــع بالزمــن بعض‬
‫َ‬
‫ونعرف أصل الحكاية‪.‬‬ ‫الشيء حتى نفهم القصة‬
‫بــدأ األمــر حيــن اشــتريت أحد المنتجــات عبــر االنترنت‪،‬‬
‫عبارة عن قنابل دخانية ملونة (‪ُ )smoke bomb‬تستخدَم أثناء‬
‫التصويــر أو فــي الحفالت‪ ،‬اإلشــكالية أنها تحمل هذا االســم‬

‫‪158‬‬
‫جلسة عالج‬

‫المخيــف (قنابــل)‪ ،‬رغــم أن اســتخدامها محصــور فــي أجواء‬


‫الفــرح والمــرح‪ ،‬علــى عكس القنابــل الحقيقية التــي ال تجلب‬
‫معها إال الخراب والدمار‪.‬‬
‫وصــل ُ‬
‫المن َتج وأنا فــي الخارج‪ ،‬وضعه المندوب عند الباب‬
‫ثــم رحــل‪ ،‬كنت في الجامعة ذلك اليوم‪ ،‬أنهيت الدوام وخرجت‬
‫صــوب المطعــم‪ ،‬وفــي األثنــاء كنــت أتحــدث مع أحدهــم عبر‬
‫الهاتــف‪ ،‬وإذا بمكالمــة قادمة من إدارة الســكن‪ ،‬لم أجب عنها‬
‫ألنــي مشــغول‪ ،‬محاولــة ثانيــة ثم ثالثــة‪ ،‬يبــدو أن األمر جدي‪،‬‬
‫أنهيت مكالمتي األولى وفتحت الثانية‪:‬‬
‫> «خير … ماذا هناك؟»‪.‬‬
‫كانت المكالمة بيني وبين مديرة الســكن‪ ،‬تحدثت بخشــونة‬
‫عــن الطــرد البريدي القابع أمام شــقتي‪ ،‬ســأ َلت عما بداخله‪،‬‬
‫أجبتهــا بــأن هذه خصوصيــة وليس من حقهــا أن تعرف‪ ،‬لكن‬
‫نبرتها كانت حادة وحازمة‪ ،‬عرفت أن هنالك مشكلة ما أو ً‬
‫شيئا‬
‫غير متوقع‪ ،‬أخبرتها أنها عبارة عن قنابل دخانية أســتخدمها‬
‫للتصويــر‪ ،‬ثــم طلبــت منــي الحضور في أســرع وقــت دون ذكر‬
‫السبب‪.‬‬
‫لكتاب بأكملــه‪ ،‬فكم من موقف‬
‫ٍ‬ ‫تحتــاج مديرة الســكن منــي‬

‫‪159‬‬
‫جلسة عالج‬

‫وكم من مشــكلة ســببتها لي‪ ،‬وســأذكر لكم هنا باختصار أحد‬


‫تلك المواقف ثم أعود لسياق القصة‪.‬‬
‫في إحدى السفريات التي غبت عنها ألكثر من شهر‪ُ ،‬عدت‬
‫إلى الســكن وإذا بي ُأفاجأ بأن الســيارة غير موجودة‪ ،‬تركتها‬
‫فــي موقف الســكن وحين عــدت لم أجدها فــي مكانها‪ ،‬خفت‬
‫وبلغــت الشــرطة‪ ،‬ســين وجيــم وفي نهايــة المطــاف اتضح أن‬
‫إدارة السكن أمرت بسحبها وإخراجها‪ ،‬سألت مديرة السكن‪:‬‬
‫> لماذا؟‬
‫> لقد أطالت السيارة الوقوف!‬
‫> لكنهــا تحمــل الملصــق الذي يســمح لــي بإيقافها في أي‬
‫ً‬
‫ســنويا‬ ‫ً‬
‫اشــتراكا‬ ‫وقــت وألي مــدة‪ ،‬الملصــق الــذي أدفــع عليه‬
‫ً‬
‫محترما‪.‬‬
‫> لكن السيارة مصدومة!‬
‫> وما عالقة ذلك باألمر؟‬
‫> ألن شكلها غير جيد وهي مصدومة!‬
‫وهكذا استمر الحوار العقيم بيني وبينها‪ ،‬تحاول أن تتهرب‬
‫مــن المســؤولية وعن الغلطــة التي تريدني أن أدفــع أنا ثمنها‪،‬‬
‫الثمن الذي كان قرابة األلف دوالر‪ ،‬أجور السحب واالستضافة‬

‫‪160‬‬
‫جلسة عالج‬

‫التي دامت عدة أســابيع‪ ،‬وفي نهاية المطاف‪ ،‬وبعد أخذ ورد‪،‬‬
‫ً‬
‫مضطرا‪.‬‬ ‫دفعت المبلغ‬
‫هنالك الكثير من القصص والمشــاكل التي صدعت رأسي‬
‫ً‬
‫مناســبا لذكرها‪،‬‬ ‫بســبب مديرة الســكن‪ ،‬لكن ليس المقام هنا‬
‫نحــن نتحــدث عن أمــر أهم وأخطر‪ ،‬أمر قد يدخلني الســجن‬
‫في أسوأ األحوال …‬
‫دعونا نكمل قصتنا الرئيسية‪.‬‬
‫ً‬
‫مهيبــا‪،‬‬ ‫كان الموكــب الــذي اســتقبلني بجــوار الســكن‬
‫أربــع ســيارات شــرطة‪ ،‬وعــدد غير يســير من أفراد الشــرطة‬
‫المنتشــرين بالقــرب من الســكن‪ ،‬ســألوني عــن هويتي‪ ،‬أجبت‬
‫وأعطيتهــم بطاقة التعريف‪ ،‬ثم ســألوني عــن الطرد‪ ،‬أخبرتهم‬
‫أنــه من َتــج عــادي اشــتريته عبــر االنترنــت‪ ،‬لكــن حيــن رأيــت‬
‫الكرتــون ُص ِدمــت‪ ،‬التحذير المكتوب بالخــط العريض والرقم‬
‫معنى إال أن يعبر عــن قوة المتفجرات‬
‫الغريــب الــذي ليس لــه ً‬
‫ودرجتها‪ ،‬ذلك ما ســبب لي الصدمة‪ ،‬وتســبب في حضور كل‬
‫ً‬
‫مدبــرا‪ ،‬أن يكــون أحدهم‬ ‫هــذا الفــوج‪ ،‬خفــت أن يكــون األمــر‬
‫قــد أرســل لي متفجــرات أو قنابل كي يوقع بــي‪ ،‬لكني حاولت‬
‫التماســك والتظاهــر بعدم االنزعاج‪ ،‬وأن األمــر عادي‪ ،‬مجرد‬

‫‪161‬‬
‫جلسة عالج‬

‫طرد بريدي وبعض أدوات التسلية والترفيه‪.‬‬


‫ً‬
‫مدنيا‪ ،‬سألني بعض األسئلة‬ ‫ً‬
‫لباسا‬ ‫إلي شرطي يرتدي‬
‫تقدم ّ‬
‫ثــم طلــب مني فتح الصندوق‪ ،‬وحينها بــدأ العد التنازلي‪ ،‬وبدأ‬
‫أحــد مشــاهد هوليــود‪ ،‬وكأننا في فيلم أكشــن مشــوق‪ ،‬يطلب‬
‫ً‬
‫ســكينا لفتــح الطــرد‪ ،‬يقــف الجميــع في تأهــب وقلق‪،‬‬ ‫البطــل‬
‫ويقــف موظفو الســكن ومعهم مديرتهم علــى جنب‪ ،‬أقوم بفتح‬
‫الصندوق‪ ،‬الهدوء يعم المكان‪ ،‬الجو يزداد ً‬
‫توترا‪ ،‬ثم …‪ .‬يضحك‬
‫الجميع‪.‬‬
‫وجــدت كــرت تخفيض لعملية الشــراء التالية بقيمة ‪،% 10‬‬
‫سألتهم‪ :‬من يريد البطاقة؟ يضحك الحضور‪ ،‬وتبدأ األحداث‬
‫بالتغير نحو األفضل‪ ،‬ثم أكمل فتح الصندوق وأخرج لهم المن َتج‬
‫األصلي‪ ،‬والذي ‪-‬بحمد اهلل‪ -‬كان هو نفسه الذي اشتريته‪.‬‬
‫بــدأت األحــداث بالتغيــر نحــو األفضــل‪ ،‬وبــدأت األجــواء‬
‫المشحونة بالتالشي‪.‬‬
‫ً‬
‫غريبا‪ ،‬وكأنه‬ ‫ً‬
‫جهازا‬ ‫تأتي ســيارة شــرطة أخرى و ُيحضرون‬
‫من المســتقبل‪ ،‬عبارة عن حقيبة كبيرة تبدو وكأنها مخصصة‬
‫للكشــف عــن المــواد المتفجــرة‪ ،‬وبينمــا يتم الكشــف عن تلك‬
‫القنابل‪ ،‬يأخذني أحد رجال الشــرطة على جنب ويجري معي‬

‫‪162‬‬
‫جلسة عالج‬

‫ً‬
‫هادئا‪ ،‬شــرحت له طبيعة نشــاطي ووضحت له دواعي‬ ‫ً‬
‫حديثا‬
‫استخدامي لتلك األدوات‪ ،‬ولحسن الحظ؛ تفهم األمر‪.‬‬
‫باعتذارات متبادلة‪ ،‬ويذهب كل شــخص‬
‫ٍ‬ ‫ثم ينتهي الموقف‬
‫في حال سبيله‪.‬‬
‫جميــل أن يتحلــى المــرء بحــس الفكاهة‪ ،‬أن يأخــذ األمور‬
‫ببســاطة‪ ،‬أن يتقــن فــن تلطيف األجــواء‪ ،‬فقد ســاعدتني هذه‬
‫المهــارة فــي صنع ابتســامة صادقة في وجوه رجال الشــرطة‪،‬‬
‫بتلــك الدعابــة الخفيفــة التي صنعتها حيــن فتحت الصندوق‪،‬‬
‫ً‬
‫وعمومــا‪ ،‬ومــع التقــدم فــي العمــر‪ ،‬وخــوض غمــار التجــارب‬
‫المختلفــة‪ ،‬تصغــر فــي عينــي المــرء المصاعــب والمصائــب‪،‬‬
‫ويكتسب مع األيام القدرة على التعامل معها بسالسة‪ ،‬والمرور‬
‫من فوقها ببساطة‪ ،‬ثم … يكمل مشوار الحياة‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫جلسة عالج‬

‫رحلة شبابية‬

‫ســيف العنزي هو صديق تعرفت عليه أثناء فترة االبتعاث‪،‬‬


‫ســكن في شــقتي ألســبوع أثنــاء انتقالــه للمنطقة التي أســكن‬
‫فيهــا‪ ،‬وقــد تشــاركنا خــالل تلــك األيــام العديد مــن القصص‬
‫والحكايات‪ ،‬منها قصة مؤثرة حدثت له مع صديقه وانتشــرت‬
‫بشــكل واسع‪ ،‬وصلت تلك القصة لمسامع الكثير من الطالب‪،‬‬
‫ً‬
‫شــخصيا‪ ،‬وهأنذا‬ ‫لكنهــا لــم تكن قــد وصلتني‪ ،‬فســمعتها منه‬
‫أحكيها لك اآلن‪.‬‬
‫ً‬
‫وتحديدا في‬ ‫في أحد أيام الصيف الدافئة من سنة ‪،2015‬‬
‫أول أيام شهر رمضان المبارك‪ ،‬خرج سيف مع صديقه باتجاه‬
‫أحــد األنهــار القريبة مــن بلدتهم‪ ،‬كان اليوم هــو الجمعة وكان‬
‫ً‬
‫مناســبا للســباحة‪ ،‬انطلق االثنان وهما مفعمان بالطاقة‬ ‫الجو‬
‫والحمــاس لخوض غمار تلــك التجربة والغوص في مياه النهر‬
‫الهادئ‪.‬‬
‫مــا إن وصــال للمنطقــة المحــددة‪ ،‬إال وبــدأ الهــواء العليــل‬
‫يدخل رئتيهما‪ ،‬والعصافير الصغيرة تطرب أذنيهما‪ ،‬كان الجو‬
‫ً‬
‫ســاحرا والطبيعــة تســلب العقــول بجمالهــا وروعتهــا‪ ،‬لم يكن‬

‫‪164‬‬
‫جلسة عالج‬

‫هنالك أحد بالمنطقة‪ ،‬فقط هما والنهر من أمامهما‪.‬‬


‫ً‬
‫كثيرا على رؤية المشــهد‪ ،‬وخاصة أن النهر كان‬ ‫لــم يصبــرا‬
‫يغريهما بمائه الصافي‪ ،‬وجماله الرفيع؛ فلبســا عدة السباحة‬
‫ثم قفزا في الماء‪.‬‬
‫ً‬
‫ســريعا‪ ،‬كانــت األرض ملكهم ال يشــاركهم فيها‬ ‫مــر الوقــت‬
‫أحــد‪ ،‬فالمنطقــة معزولــة بعيدة ال تســمع فيها صوت إنســان‪،‬‬
‫أصواتهما هي وحدها التي تصدح في األرجاء‪.‬‬
‫يســتلقي ســيف على ظهــره ويطفو بخفة فــوق الماء‪ ،‬يأخذ‬
‫ً‬
‫قســطا مــن الراحــة ويتأمل زرقة الســماء من فوقــه‪ ،‬يهيم في‬
‫ســحر الطبيعة وينســى نفســه لبضــع دقائق‪ ،‬وبعــد قليل يعود‬
‫إلى وعيه‪ ،‬يتلفت يمنة ويســرة فال يجد غير الماء الممتد من‬
‫حوله …‬
‫لقد اختفى صديقه فجأة !‬
‫ً‬
‫متوجســا‪ ،‬يحاول اصطيــاد أي همهمــة أو غمغمة‬ ‫يصمــت‬
‫لتدله على مكانه‪ ،‬كان يعلم أنها مزحة ثقيلة‪ ،‬وأنه يختبئ عنه‬
‫مكان ما‪ ،‬بهذا كان ُي َط ِمئن نفسه ويهدئ من روعه‪.‬‬
‫في ٍ‬
‫تمــر الدقائــق ببــطء كأنهــا ســاعات‪ ،‬يبــدأ ســيف بالنــداء‬
‫والبحث وفي نفســه اســتياء من هذا المزاح الثقيل‪ ،‬يمر على‬

‫‪165‬‬
‫جلسة عالج‬

‫ضفــاف النهــر ويحــاول البحث خلف األشــجار‪ ،‬يســترق نظرة‬


‫ً‬
‫محاوال نفي احتمالية غرقــه‪ ،‬فكيف يغرق وهو‬ ‫للنهــر العظيــم‬
‫سباح ماهر والنهر هادئ وآمن‪.‬‬
‫ٌ‬
‫أمر‬ ‫ً‬
‫فشــيئا‪ ،‬يبدو أنــه ٌ‬ ‫ً‬
‫شــيئا‬ ‫يتســرب الخــوف لقلب ســيف‬
‫جــدي‪ ،‬وأنهــا ليســت بمزحــة‪ ،‬حينها أمســك الهاتف مباشــرة‬
‫واتصــل بالنجــدة (‪ ،)911‬أخبرهم ‪-‬بنبرة قلقة‪ -‬أن صديقه قد‬
‫بشــكل مفاجئ‪ ،‬دار حــوار قصير أخــذوا فيه تفاصيل‬
‫ٍ‬ ‫اختفــى‬
‫الموقــع وطلبــوا منــه االنتظار حتــى وصولهم‪ ،‬ينهــي المكالمة‬
‫ويعود للبحث بوجه شــاحب وبرجلين عاريتين‪ ،‬يســتمر يوسف‬
‫ً‬
‫غريبــا‪ ،‬فمياه‬ ‫بالبحــث والتنقــل بيــن ضفتي النهــر‪ ،‬كان األمر‬
‫النهــر صافيــة ورؤيــة القــاع واضحــة‪ ،‬النهــر متوســط العمق‪،‬‬
‫واحتمالية الغرق فيه ضعيفة‪ ،‬فأين هو يا ترى ؟‬
‫وقــت طويــل حتــى وصل الشــرطي للموقــع‪ ،‬بدأ‬
‫يمــض ٌ‬
‫لــم ِ‬
‫سيف بالتحدث معه وشرح القصة‪:‬‬
‫> لقد اختفى صديقي‪!..‬‬
‫يجيبه الشرطي ببرود مستفز‪:‬‬
‫> كيف اختفى؟‬
‫> ال أدري‪ ،‬كنــا نســبح فــي هــذا النهــر‪ ،‬ثــم اختفــى فجأة‪،‬‬

‫‪166‬‬
‫جلسة عالج‬

‫ً‬
‫شــيئا‪،‬‬ ‫بحثــت عنــه في األرجاء لكــن دون فائدة‪ ،‬أرجوك افعل‬
‫استدع مساعدين أو أي شيء‪.‬‬
‫ِ‬ ‫اتصل بالغواصين أو‬
‫ً‬
‫قائال‪:‬‬ ‫استمر الشرطي في بروده والمباالته‪ ،‬وأردف‬
‫> أين اختفى بالضبط؟‬
‫حوار قصير‪ ،‬أمســك الشــرطي جهاز اإلرســال وبدأ‬
‫وبعــد ٍ‬
‫بالتحدث وطلب المساعدة‪.‬‬
‫كان القلق والتوتر ينهش روح سيف‪ ،‬بالطبع لم ينتظر حتى‬
‫وصول الغواصين‪ ،‬بل اســتمر فــي البحث والتنقل بين ضفاف‬
‫النهــر‪ ،‬ثــم صعــد علــى تلة صغيــرة كانت في الضفــة األخرى‪،‬‬
‫وبــدأ بإطــالق َن َظِره في أرجاء النهر مــن األعلى‪ ،‬عله يجد أي‬
‫دليل أو إشارة‪.‬‬
‫ثم‪ ....‬فجأة‪ ...‬رأى ً‬
‫شيئا يشبه جسد إنسان‪.‬‬
‫انطلــق يوســف للشــرطي وصاح بأنــه قد يكون رأى جســد‬
‫صديقــه‪ ،‬ثــم أشــار بإصبعــه باتجــاه النهــر‪ ،‬أجابــه الشــرطي‬
‫‪-‬ببروده السابق‪ -‬بأن عليه االنتظار وعدم فعل أي شيء‪ ،‬حتى‬
‫يأتي فريق الغواصين وبقية المحققين‪ ،‬لكن سيف لم يستجب‬
‫ألمــره‪ ،‬بل قفز بنفســه وســبح للمنطقة ثم غــاص تحت الماء‪،‬‬
‫فوجــد جســد صديقــه وهو عالــق بصخرة في األســفل‪ ،‬وبعد‬

‫‪167‬‬
‫جلسة عالج‬

‫جهد تمكن من تحريره‪ ،‬ثم صعد به لألعلى‪.‬‬


‫ً‬
‫جسدا بال روح!‬ ‫كانت جثة هامدة‪،‬‬
‫إما أن تكون دوامات غير مرئية سحبته لألسفل ثم علق في‬
‫الصخرة‪ ،‬أو أن هنالك ً‬
‫سببا آخر‪ ،‬المهم أن النتيجة الصادمة‬
‫هي أن صديقه العزيز؛ قد فارق الحياة‪.‬‬
‫حمل الجثة لألعلى وهو في غير وعيه من هول الصدمة‪.‬‬
‫ً‬
‫ســريعا‪ ،‬وكأنهــا كابــوس ثقيــل يجثو على‬ ‫توالــت األحــداث‬
‫القلب‪ ،‬أو مشــاهد متتالية من فيلم رعب بائس‪ ،‬انتظر ســيف‬
‫ً‬
‫شــخصا يمــد يده ليوقظــه من نومته‪ ،‬أو أن يرى الشاشــة‬ ‫َّ‬
‫عــل‬
‫أيا من ذلك لم يحدث‪،‬‬ ‫السوداء التي تظهر نهاية األفالم‪ ،‬لكن ً‬
‫بــل اســتمرت عقارب الســاعة في التحرك ُلتؤكــد له أن كل ما‬
‫يمر به؛ هو أحداث واقعية‪ ،‬وقصة حقيقية‪.‬‬
‫بعــد انتهــاء التحقيقــات واإلجــراءات‪ ،‬قــاد ســيف ســيارته‬
‫ً‬
‫متوجها لمنزل أصدقائه المقيمين في مدينة أخرى‪ ،‬قاد أربع‬
‫ســاعات كاملــة حتــى وصل إليهــم‪ ،‬وحين قابلــوه؛ عرفوا ‪-‬من‬
‫خطبــا مــا‪ ،‬لــم ُيفاتحوه فــي األمر‪،‬‬
‫ً‬ ‫تعابيــر وجهــه‪ -‬أن هنالــك‬
‫بــل تركــوه على راحته‪ ،‬وبعد ســاعات من الشــرود والنظر إلى‬
‫وقــت متأخــر مــن الليــل‪ ،‬أخبرهم ســيف بما‬
‫الالشــيء‪ ،‬وفــي ٍ‬

‫‪168‬‬
‫جلسة عالج‬

‫حصل‪.‬‬
‫في اليوم التالي؛ تم إرســال جثة الشــاب إلى موطنه‪ ،‬سيف‬
‫ً‬
‫أيضا كان يريد العودة للكويت‪ ،‬لكن أهله أقنعوه بالبقاء في بلد‬
‫الدراســة‪ ،‬فمــن يغيــب أربعة أيام متتالية يفصــل من الجامعة‪،‬‬
‫هكذا كان نظام الجامعة التي كان يدرس فيها‪.‬‬
‫استمر سيف في ضيافة أصدقائه‪ ،‬لم تكن حالته النفسية‬
‫تسمح له بالعودة للشقة نفسها والعيش فيها بمفرده‪ ،‬كان يقطع‬
‫مسافة طويلة كل يوم في ذهابه وعودته من وإلى الجامعة‪ ،‬أما‬
‫الكوابيس فقد استمرت بزياراتها المتكررة لسيف في المنام‪،‬‬
‫يصحو في بعض الليالي وقد تبلل جسمه من العرق‪ ،‬الذكريات‬
‫تالحق مخيلته‪ ،‬مشهد صديقه وهو جثة هامدة‪ ،‬غرقه بالقرب‬
‫منــه‪ ،‬آه لــو أنه عرف مكانه منذ اللحظات األولى‪ ،‬لربما تمكن‬
‫من إنقاذه قبل فوات األوان‪...‬‬
‫وساوس كثيرة ظلت تدور وتدور في عقل سيف بعد الحادثة‬
‫أليــام وأســابيع‪ ،‬لكنه في نهاية المطــاف؛ تجاوزها‪ ،‬وأصبحت‬
‫بعد ذلك واقعة حزينة وذكرى أليمة‪.‬‬
‫ً‬
‫منطلقا في درب‬ ‫رحمك اهلل أيها الشاب الفتي‪ ،‬يا من كنت‬
‫الحياة‪ ،‬فأتتك المنية دون سابق إنذار‪ ،‬غادرت بصمت وهدوء‪،‬‬

‫‪169‬‬
‫جلسة عالج‬

‫كصمــت ذلــك النهر العظيم وهدوئه‪ ،‬الذي أبى إال أن يحتضن‬


‫جســدك في باطنه‪ ،‬لينال شــرف الصعود‪ ...‬صعود الروح إلى‬
‫بارئها‪.‬‬
‫لعــل الــدرس األبلــغ مــن هــذه القصة‪ ،‬هــو أن زائــر الموت‬
‫يمكن أن يظهر في أي لحظة‪ ،‬والسؤال هنا هو‪ :‬لو علمت أنك‬
‫ســتموت ً‬
‫غــدا‪ ،‬فماذا ســتقول ‪-‬أو تفعل‪ -‬لمن هــم في حياتك‬
‫اليوم؟‬

‫‪170‬‬
‫جلسة عالج‬

‫أصوات غريبة‬

‫يحكــي لــي أحد األصدقــاء المقيمين في واليــة فيالدلفيا؛‬


‫عــن قصته مع أول ســكن لــه في المدينة‪ ،‬فحيــن وصلها ألول‬
‫مــرة؛ لــم يكن لديه أي خبــرة أو أصدقاء يعينونــه في موضوع‬
‫الســكن‪ ،‬وبعد بحث ســريع وجد شقة صغيرة في الدور الثاني‬
‫عشــر فــي عمــارة كبيــرة‪ ،‬وانتهى بــه المطاف بكتابــة عقد مع‬
‫إدارة السكن ثم االستقرار فيها‪.‬‬
‫ً‬
‫جيدا‪ ،‬فهي شــقة صغيرة‬ ‫كان انطباعــه األولي عن الســكن‬
‫ً‬
‫ســريعا في اليوم‬ ‫مرتبة‪ ،‬وهو يســكن فيها وحده‪ ،‬مضى الوقت‬
‫األول‪ ،‬ترتيبــات هنــا وتجهيــزات هناك‪ ،‬حتى أصبحت الشــقة‬
‫نوم عميق‪.‬‬
‫جاهزة‪ ،‬وفي المساء غاص في ٍ‬
‫في مســاء اليوم التالي‪ ،‬وحين توجه لســريره بعد أن أطفأ‬
‫األنــوار‪ ،‬بــدأ يفكــر فــي الترتيبات األوليــة في الجامعــة‪ ،‬ماذا‬
‫ً‬
‫صوتا ما قطــع تفكيره‬ ‫ســيفعل وبــأي الخطوات ســيبدأ‪ ،‬لكــنَّ‬
‫ً‬
‫أيضا‪ ،‬صوت يشبه‬ ‫ً‬
‫خفيفا لكنه قريب‬ ‫ً‬
‫صوتا‬ ‫ولفت انتباهه‪ ،‬كان‬
‫الكشكشــة‪ ،‬وكأنه شــخص يجلس في الصالة يرتب أغراضه‪،‬‬
‫ً‬
‫جيدا‪ ،‬الصوت يأتي ويذهب‪ ،‬فما كان منه إال‬ ‫حــاول اإلنصــات‬

‫‪171‬‬
‫جلسة عالج‬

‫أن قام وأضاء األنوار ثم ذهب للصالة للتأكد‪.‬‬


‫ليــس هنالك أحد‪ ،‬وكل شــيء في مكانــه الطبيعي‪ ،‬يفحص‬
‫ً‬
‫مغلقا بإحكام‪ ،‬يســتغرب من تلك األصوات‬ ‫باب الشــقة فيجده‬
‫الغريبة‪ ،‬فالشــقة وســط عمارة مأهولة بالســكان‪ ،‬فكيف ألي‬
‫لص أن يتجرأ بالدخول إلى مثل هذه الوحدات السكنية‪.‬‬
‫جلــس علــى األريكــة فــي الصالــة لخمــس أو عشــر دقائق‬
‫ً‬
‫محاوال التقــاط الصوت‬ ‫واألضــواء منــارة‪ ،‬صمت في توجــس‬
‫ً‬
‫شــيئا هذه المرة‪ ،‬وبعد أن يئس من‬ ‫من جديد‪ ،‬لكن لم يســمع‬
‫راشــه‪ ،‬ثم ما لبث أن غاص‬ ‫ً‬
‫مجددا‪ ،‬عاد إلى ِف ِ‬ ‫ســماع الصوت‬
‫نوم عميق‪.‬‬
‫في ٍ‬
‫فــي الليلــة التالية عــاد الصوت من جديد! هــذه المرة كان‬
‫ً‬
‫مجــددا‪ ،‬قام من النوم‬ ‫ً‬
‫متكررا‪ ،‬عاد القلق‬ ‫ً‬
‫ونقرا‬ ‫ً‬
‫خفيفــا‬ ‫ً‬
‫طرقــا‬
‫وحــاول البحــث في الشــقة عن أي دليل أو شــيء غريب‪ ،‬لكنه‬
‫لــم يجد‪ ،‬اســتغرب مــن الوضع وبدأ الخوف يــراود قلبه‪ ،‬ليس‬
‫الج ّــن‪ ،‬فهل تكون هذه الشــقة‬
‫مــن اإلنــس هذه المــرة‪ ،‬بل من ِ‬
‫مســكونة؟ هــل ً‬
‫فعال يمكــن للجان أن يكون لهــم حضور وتأثير‬
‫على حواســنا وواقعنا؟ بدأت األفكار والوســاوس تتســرب إلى‬
‫ً‬
‫أيضا‪ ،‬فاألصوات‬ ‫ليال‬
‫عقله أكثر فأكثر‪ ،‬تلك الليلة وما تلتها من ٍ‬

‫‪172‬‬
‫جلسة عالج‬

‫لم تنقطع بل استمرت في الظهور‪ ،‬وبأشكال متعددة‪.‬‬


‫بالطبــع لم يقــف مكتوف اليد‪ ،‬بل حاول البحث عن مصدر‬
‫ً‬
‫شــيئا‬ ‫تلــك األصــوات بنفســه‪ ،‬واســتمر على ذلك إلى أن وجد‬
‫ً‬
‫غريبا‪.‬‬
‫عبــارة عــن حفــرة صغيــرة فــي الجــدار‪ ،‬وبعض الشــوائب‬
‫ً‬
‫‪-‬الحقا‪ -‬أنها من‬ ‫الصغيرة الملطخة بالســواد‪ ،‬والتي اكتشــف‬
‫آثار الفئران!‬
‫أعــرف أنــك تبتســم اآلن ‪-‬عزيــزي القــارئ‪ -‬فالقصة التي‬
‫بــدأت بأجــواء مرعبــة هــا هــي تتحــول لقصة مضحكــة‪ ،‬لكن‬
‫تنتــه القصــة هنــا‪ ،‬بل هنالــك أحــداث أخرى هي‬
‫تمهــل‪ ،‬فلــم ِ‬
‫أساس الحكاية‪ ،‬فصحيح أن معرفة السبب يبطل العجب‪ ،‬لكن‬
‫المعرفــة وحدها لن تحل المشــكلة‪ ،‬ولــن تطرد الفئران‪ ،‬فتلك‬
‫الفئــران الصغيــرة بــدأت ‪-‬مــع األيام‪ -‬بالتشــجع أكثــر فأكثر‪،‬‬
‫ً‬
‫وبــدال مــن خروجها في الليل فقط‪ ،‬بــدأت بالخروج في وضح‬
‫النهــار‪ ،‬وأصبــح هم صديقي األكبر هو كيف يحافظ على أكله‬
‫ومتاعه‪ ،‬من أسنان تلك الفئران التي ال ترحم‪.‬‬
‫تخيــل لــو أنــت مكانــه‪ ،‬مــاذا كنــت ســتفعل؟ بالطبــع كنــت‬
‫ّ‬
‫ســتبلغ إدارة الســكن‪ ،‬وهــذا بالضبــط مــا فعلــه صاحبنا‪ ،‬لكن‬

‫‪173‬‬
‫جلسة عالج‬

‫‪-‬ولألســف‪ -‬كانــت اإلجابة منهم بـ(تمــام)‪ ،‬تلك الكلمة التي ال‬


‫تعني ً‬
‫شيئا على أرض الواقع‪ ،‬بل إنها وسيلة سهلة ‪-‬عند بعض‬
‫الناس‪ -‬للهروب من المسؤولية‪.‬‬
‫مــر أســبوع علــى هــذا الحــال‪ ،‬صاحبنــا يخــوض معركتــه‬
‫المصيريــة مــع جيش الفئران‪ ،‬وإدارة الســكن ال تكترث‪ ،‬كانت‬
‫أعداد الفئران كبيرة للدرجة التي كانت تشــعره بالغربة وســط‬
‫منزله‪ ،‬تشعره بأنه دخيل على هذه القبيلة المنتشرة في أرجاء‬
‫المنزل‪.‬‬
‫لــم يكــن بمقــدوره مغــادرة الســكن ألنــه ملتــزم بعقــد‪ ،‬أما‬
‫ً‬
‫جميعا‬ ‫الفئــران؛ فقــد كان مــن الصعــب عليــه التخلــص منهــا‬
‫بمفرده وبمجهوده الفردي‪ ،‬فخطرت له فكرة عبقرية‪.‬‬
‫ً‬
‫كبيــرا من مصائــد الفئران‪،‬‬ ‫ً‬
‫عددا‬ ‫توجــه للمتجــر واشــترى‬
‫تلك التي تمسك الفأر دون قتله‪ ،‬وزعها في أماكن متفرقة في‬
‫الشــقة‪ ،‬ثــم أطفأ األنوار وتســلل تحت البطانيــة‪ ،‬لم تمر بضع‬
‫دقائق حتى سمع صوت أول مصيدة وهي تغلق بابها‪ ،‬وحينها‪،‬‬
‫ارتســمت ابتســامة ماكــرة على شــفتيه‪ ،‬واطمــأن أن رزقه في‬
‫ً‬
‫دسما‪.‬‬ ‫الصباح سيكون‬
‫بــدأ يومــه بتجميــع الفئران التي وقعت فــي الفخاخ ‪-‬والتي‬

‫‪174‬‬
‫جلسة عالج‬

‫كانــت كثيــرة‪ -‬ووضعهــا داخل كيس قماشــي‪ ،‬ثــم توجه صوب‬


‫ً‬
‫جميعا عند‬ ‫إدارة الســكن فــي الــدور األرضي وأطلق ســراحها‬
‫ً‬
‫مفتوحا‪ ،-‬ثم غادر قبل أن يراه أحد‪.‬‬ ‫الباب ‪-‬الذي كان‬
‫كــرر هــذا األمر فــي األيام التالية‪ ،‬كل يــوم يجمع ما حصل‬
‫عليه من فئران‪ ،‬ثم يتبرع بها ألصدقائه في إدارة السكن‪ ،‬كنوع‬
‫من رد الجميل على أسلوبهم في التعامل مع المشكلة‪.‬‬
‫مر أســبوع وهو مســتمر على هذا النهج‪ ،‬دون أن يكتشــفه‬
‫ً‬
‫حريصا على أن يتجنب العيون البشــرية‪ ،‬لكنه‬ ‫أحــد‪ ،‬فقد كان‬
‫ً‬
‫واحدا كان سبب وقوعه وانكشاف أمره‪ ،‬هو إهماله‬ ‫أهمل ً‬
‫شيئا‬
‫لتلك العيون اإللكترونية؛ إنها كاميرات المراقبة المنتشرة في‬
‫كل مــكان‪ ،‬لــم ينتبــه لهــا ولــم يكن يعــرف أنها تراقبــه بصمت‬
‫وتسجل كل تحركاته‪.‬‬
‫بعــد أســبوع‪ ،‬جــاءه أحد األشــخاص‪ ،‬وطلب منــه الحضور‬
‫إلدارة الســكن‪ ،‬وهنــاك؛ عرضــوا عليــه المشــاهد المســجلة‪،‬‬
‫ّ‬
‫تسمر في مكانه ولم ينطق بشيء‪ ،‬واستمر في مشاهدة نفسه‬
‫وهــو يرمــي تلك الفئران عند البــاب‪ ،‬واألكثر طرافة من ذلك؛‬
‫هو عندما شاهد نفسه وهو يركل أحد الفئران برجله للداخل‪،‬‬
‫عندما حاول الفأر الهروب للخارج‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫جلسة عالج‬

‫انتهت القصة بخروج صاحبنا من السكن‪ ،‬إدارة السكن هي‬


‫ً‬
‫انتصارا بالنسبة‬ ‫من طلبت ذلك‪ ،‬كان األمر في صالحه‪ ،‬وكان‬
‫ً‬
‫درســا بنكهة الفئران‬ ‫ً‬
‫درســا تعلمته إدارة الســكن؛‬ ‫له‪ ،‬لقد كان‬
‫الطازجة‪.‬‬
‫وهنا فائدة نخرج بها من هذه القصة‪ ،‬هي أن يحرص المرء‬
‫‪-‬قبل اســتئجار أي ســكن جديد‪ -‬على أن يسأل الجيران ومن‬
‫ً‬
‫ســابقا عن الشــقة وعن نظافتها‪ ،‬وأن يتأكد من تقييم‬ ‫ســكنوا‬
‫الســكن على شــبكة االنترنت‪ ،‬فما يحدث ‪-‬في العادة‪ -‬هو أن‬
‫تجد السكن غير مرتب وغير نظيف طوال أيام السنة‪ ،‬ثم يقوم‬
‫أصحــاب الســكن بتنظيــف الوحدات قبيل موســم االســتئجار‬
‫وتوقيع العقود‪ ،‬كي تبرق في عين المســتأجر الجديد وينخدع‬
‫بها‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫جلسة عالج‬

‫تاريخ انتهاء‬

‫المدون على العلبة‪!..‬‬


‫َّ‬ ‫تأكد من تاريخ االنتهاء‬
‫عبارة تجدها واضحة في أي من َتج تشــتريه‪ ،‬لكن ماذا عن‬
‫ذلك الشخص الذي تتابعه عبر شبكات التواصل االجتماعي؟‬
‫هل تعرف متى تاريخ انتهائه؟‬
‫كالم غريب‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫كثير‬
‫لكن لألســف هذا هو الواقع الصادم والذي يغيب عن ٍ‬
‫مــن الناس؛ من يتابعون شــخصياتهم المحببــة عبر يوتيوب أو‬
‫أي منصة أخرى‪ ،‬تلك الوجوه التي أصبحت مألوفة وأصبحت‬
‫الجماهيــر متعلقــة بهــا‪ ،‬ســيأتي ذلك اليــوم الــذي يخبت فيه‬
‫نجمهم الساطع‪ ،‬إن لهم تاريخ نهاية مثلما كان لبدايتهم تاريخ‪،‬‬
‫فشــهرة «السوشــال ميديا» ال تدوم‪ ،‬ال تستمر ألكثر من خمس‬
‫ً‬
‫حاليا فــي الغالب‬ ‫ســنوات فــي أغلــب األحوال‪ ،‬ومــن تتابعهــم‬
‫بدأوا مشاوير شهرتهم منذ مدة ال تتجاوز خمس السنوات‪.‬‬
‫عندما أقلب صفحات حياتي‪ ،‬وأعود بالذكريات إلى الوراء‬
‫ً‬
‫عاديا‪،‬‬ ‫ً‬
‫شــخصا‬ ‫وإلــى مــا قبــل عامين بالتحديــد‪ ،‬أجدني كنت‬
‫شــاب مبتعــث للدراســة في الخــارج كحال أي مبتعــث آخر‪ ،‬ال‬

‫‪177‬‬
‫جلسة عالج‬

‫أمتلك سيارة وليس لدي القدرة على تأثيث شقة كاملة‪ ،‬وكنت‬
‫إضافيا من والد َّي‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫دعما‬ ‫‪-‬كما الكثيرين‪ -‬أتلقى‬
‫لقد بدأت االعتياد على حياة الشهرة‪ ،‬تعودت أن يستوقفني‬
‫أشــخاص في الشارع وفي األماكن العامة‪ ،‬ومن المواقف التي‬
‫ال أنســاها أن إحــدى األمهــات اســتوقفتني وأخبرتنــي بأن ما‬
‫أقوم به هو شيء جميل وإيجابي‪ ،‬وأردفت قائلة‪« :‬أنا ال أسمح‬
‫ألوالدي بمتابعة أي شــخص في الشــبكات االجتماعية غيرك‬
‫أنــت‪ ،‬لقــد شــجعت ولــدي علــى االجتهــاد فــي دراســته وكنتَ‬
‫السبب في أن يحصل على المركز األول في فصله» ثم ختمت‬
‫كالمها بهذه العبارة‪« :‬أنت مختلف عن البقية‪ ،‬عن أولئك الذين‬
‫ينشرون األشياء التافهة وال يهتمون إال ّ‬
‫بعداد المشاهدات»‪.‬‬
‫هنالك اختالف كبير بين أن يخبرني أحدهم بأنه يتابعني‪،‬‬
‫وبيــن أن تخبرنــي ُأ ّم بأنهــا تشــجع أوالدها علــى متابعة قناتي‬
‫واالســتفادة ممــا أقــوم بنشــره‪ ،‬والحقيقــة أن تلــك الكلمــات‬
‫جعلتني أشــعر بالفخر وأستشــعر حجم اإلنجاز الذي أقوم به‬
‫والدور الذي أؤديه‪.‬‬
‫«يجب أن يحمل كل فيديو فائدة أو قيمة»‬
‫ً‬
‫دائما‪ ،‬قد تكــون واحدة من‬ ‫هــذه الجملــة تتــردد في عقلــي‬

‫‪178‬‬
‫جلسة عالج‬

‫أسباب محبة الناس‪ ،‬لكنها في الوقت نفسه جملة عقدتني في‬


‫حياتي‪ ،‬ألنها تشــعرني بالمســؤولية دائما‪ ،‬فأنا ال أريد تضييع‬
‫وقــت الجمهور‪ ،‬جمهور يتكون مــن مئات اآلالف من المتابعين‬
‫مــن مختلــف األقطار‪ ،‬وغيرهــم الماليين ممن يصلون بشــكل‬
‫عشــوائي‪ ،‬ففي عالم اليوتيوب؛ المحتوى يســتمر في االنتشار‬
‫بــدون تدخــل مــن صاحــب القنــاة‪ ،‬قــد يغيــب أو يســافر لكــن‬
‫صوتــه وصورته يســتمران فــي الظهور مــع كل ضغطة زر وكل‬
‫مشــاهدة‪ ،‬واآلن وبينما تقرأ أنت هذه الفقرة؛ هنالك أكثر من‬
‫ً‬
‫(تقريبا) يشــاهدون المحتوى في القناة (حسب‬ ‫أَ ْل َفي شــخص‬
‫سواء أكانت فيديوهات حديثة نشرتها‬
‫ً‬ ‫إحصائيات اليوتيوب)‪،‬‬
‫ً‬
‫مؤخرا‪ ،‬أم مما تم نشره‪.‬‬
‫ً‬
‫طبعــا ذلــك الرقم هو بناء على اإلحصائيــات الحالية أثناء‬
‫إعــداد هــذا الكتاب‪ ،‬لكن ال أدري ما ســيكون عليه الوضع في‬
‫المســتقبل‪ ،‬قد تقرأ هذه الكلمات بعد ســنوات من اآلن‪ ،‬وقد‬
‫يختلف األمر حينها‪ ،‬قد يتغير الوضع لألحســن وتتســع دائرة‬
‫التأثير وحجم الجمهور‪ ،‬وقد يكون األمر عكس ذلك‪ ،‬قد أصل‬
‫حينها لذلك التاريخ؛ تاريخ االنتهاء‪.‬‬
‫لــن تجــد أي مشــهور يتحدث عن هذا األمــر‪ ،‬ال أحد يحب‬

‫‪179‬‬
‫جلسة عالج‬

‫الحديــث عــن النهايــات‪ ،‬رغم أنهــا حقيقة ال مفــر منها‪ ،‬فلكل‬


‫شيء نهاية‪.‬‬
‫الكــون محكــوم بهذا المبدأ‪ ،‬ال مفر مــن تاريخ االنتهاء لكل‬
‫ما حولك‪ ،‬ذلك الصديق الوفي‪ ،‬ســيأتي يوم ويمضي في حال‬
‫ســبيله‪ ،‬ســتأتي مشــاغل الحياة لتفرق بينكم‪ ،‬وحتى من تحب‬
‫أبا أم ّأم ًا أو حتى زوجة‪ ،‬فأكثر‬
‫سواء أكان ً‬
‫ً‬ ‫من أهلك وأقاربك‪،‬‬
‫شــخص أنــت مرتبــط به ســيأتي اليوم الذي يصــل فيه لتاريخ‬
‫انتهائه‪ ،‬فيرحل عنك بهدوء‪ ،‬أو قد يكون الرحيل من نصيبك‪،‬‬
‫إن كان يومك قبل يومه‪.‬‬

‫‪180‬‬
‫جلسة عالج‬

‫الخاتمة‬

‫حاولت أن أركز في هذا الكتاب على الجانب النفسي أكثر‬


‫مــن غيــره‪ ،‬ألن الكثيــر من الناس هم غيــر مؤمنين بوجود مثل‬
‫تلــك األشــياء‪ ،‬وقد حاولت ‪-‬بقــدر اإلمــكان‪ -‬أن أوضح بعض‬
‫األمور التي مررت بها‪ ،‬فليس كل شــخص ّ‬
‫مر بالتجربة نفســها‬
‫هــو قــادر علــى التحدث وإخبــار اآلخريــن‪ ،‬فالمجتمــع أصبح‬
‫ً‬
‫قائمــا علــى الجهل؛ يعتبــر الحاالت النفســية بأنها ضعف في‬
‫اإلنســان أو ضعــف في دينــه‪ ،‬المجتمع لم يعتــرف بعد بوجود‬
‫ً‬
‫فرعا من فروع العلم اليوم‪.‬‬ ‫الطب النفسي والذي أصبح‬
‫وبســبب ذلك‪ ،‬فإن هنالك الكثير ِمن الناس ممن هم خلف‬
‫األبــواب ولديهم حاالت نفســية كثيرة فــي وطننا العربي‪ ،‬ومن‬
‫أكثر هذه الحاالت‪ :‬االنهيارات العصبية ‪ -‬الوسواس القهري ‪-‬‬
‫االكتئاب‪ ،‬وقد يكون أحد أفراد عائلتك ممن يتعاطى العقاقير‬
‫لعــالج حالــة مــن تلك الحاالت النفســية وأنــت ال تدري‪ ،‬فقط‬
‫بسبب نظرة المجتمع السلبية لمثل تلك األمور‪.‬‬
‫خلف كل شــخصية عظيمة هنالك حالة نفســية مر بها في‬
‫الغالب‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫جلسة عالج‬

‫هنالــك عــدد كبيــر مــن المشــاهير ممــن جلســت معهــم‬


‫وتحدثــت إليهــم؛ وحين عرضت عليهم فكرة الكتابة؛ أخبروني‬
‫بأنهم مروا بحالة اكتئاب في مرحلة من حياتهم‪ ،‬البعض منهم‬
‫تعاطــى العقاقير والبعض لم يســتخدمها‪ ،‬بعضهم شــفي منها‬
‫والبعض ال زال يعاني‪.‬‬
‫العيــن حــق والحســد حــق‪ ،‬لكــن هــذا ال ينفــي وجــود تلك‬
‫الحاالت النفســية‪ ،‬فبحســب منظمة الصحة العالمية؛ هنالك‬
‫شــخص مــن كل خمســة أشــخاص يعانــي مــن حالــة نفســية‪،‬‬
‫ً‬
‫شــخصا يعاني من حالة نفســية شــديدة‪،‬‬ ‫وشــخص من كل ‪25‬‬
‫ً‬
‫صغيرا‬ ‫ً‬
‫طفال‬ ‫ً‬
‫حكرا على البالغين فقط‪ ،‬بل قد تجد‬ ‫وليس هذا‬
‫يمــر بواحــدة مــن تلك الحاالت النفســية‪ ،‬وبســبب جهل أهله؛‬
‫فقــد ينتهــي به المطاف باالنتحار‪ ،‬أو بتأثر شــخصيته بشــكل‬
‫بالــغ وانعــكاس ذلك على حياته في المســتقبل‪ ،‬يكفي أن نعلم‬
‫ً‬
‫طفال من كل عشــرة‬ ‫ً‬
‫أيضــا‪ -‬أن هنالك‬ ‫‪-‬حســب اإلحصائيــات‬
‫أطفال يعاني من حالة نفسية معينة‪.‬‬
‫أمر‬
‫تغييــر فكــر مجتمــع كامــل أو حتى مجرد أســرتك؛ هو ٌ‬
‫بالــغ الصعوبــة‪ ،‬ألن األفــكار تســتمد قوتهــا مــن عدد الســنين‬
‫التي أمضتها وهي مزروعة في عقول أصحابها‪ ،‬فالعقل الذي‬

‫‪182‬‬
‫جلسة عالج‬

‫يحتضن فكرة ما لعشــرين ســنة أو أكثر؛ لن يكون من الســهل‬


‫عليك أن تأتي اليوم وتقتلعها عبر محادثة مدتها عشر دقائق‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬فإن هدفي من هذا الكتاب هو إيصال رسالة لجيلنا‬
‫الحالي‪ ،‬فكرتها األساســية تق ُّبل تلك الحاالت ومعرفة الطرق‬
‫الصحيحة للتعامل معها‪.‬‬
‫إن حالتي النفســية هي من كونت شــخصيتي اليوم‪ ،‬لذلك‪،‬‬
‫ً‬
‫دائما باألمر السلبي‪،‬‬ ‫تأكد أن المرور بمثل تلك الحاالت ليس‬
‫بل قد يكون عالمة فارقة في حياة اإلنسان‪.‬‬

‫‪183‬‬

You might also like