Professional Documents
Culture Documents
بوتين والانتصار الأوراسي
بوتين والانتصار الأوراسي
يرى الكثير من الباحثين والخبراء أن النظام العالمي يتحول من نظام أحادي القطبية الذي تحكمه الواليات
المتحدة (القطب األطلسي) اقتصاديا وسياسيا وعسكريا ،إلى التعددية القطبية ،حيث ظهرت قوى عالمية
فاعلة ومؤثرة مثل روسيا والصين ،ويمكن أن نقول هنا العودة الروسية.
انتقل النظام الدولي إلى مرحلة "األحادية القطبية" بنهاية الحرب الباردة وسقوط االتحاد السوفييتي عام
، 1991حيث تولى القطب األطلسي الغربي بقيادة الواليات المتحدة القيادة االقتصادية للعالم ،وحاول
الهيمنة في المجال السياسي ،وهذا القطب في علم الجيوبوليتيكا يمثل اإلمبراطورية "البحرية" األطلسية
(التاالسوكراتيا) أو ما يسمى "العالم االنجلو ساكسوني" ،الحضارة التجارية" ،في مواجهة القوة األوراسية
"التيلوروكراتيا" ( ،) heartlandأو ما يعرف بقوى اليابسة "القارية" ،حيث يمثل هذان القطبان
الجيوبوليتيكيان الثنائية الكونية التاريخية للنظام العالمي ،وفقا للكاتب والفيلسوف االستراتيجي الروسي
ألكسندر دوغين.
روسيا التي تمثل مركز القوة األوراسية ،انشغلت في تسعينيات القرن الماضي في ترتيب بيتها الداخلي،
فيما كانت الواليات المتحدة آخذة في التمدد بعد حرب الخليج األولى وترسخ المزيد من سيطرتها العسكرية
واالقتصادية واإلعالمية في العالم ،والتفرد بالقرارات الدولية ،وبالرغم من انتهاء الحرب الباردة ،إال أن
األطلسي استمر في تهديد األمن القومي الروسي ،ومحاولة احتواء روسيا ،والتقليل من قوة روسيا في
أوروبا الشرقية والجنوبية ،وتهديد استراتيجية األمن الروسي من خالل تقويض الروابط لألشقاء السالف،
مثل أوكرانيا وبيالروسيا وجورجيا وأرمينيا .ومحاولة الغرب (بقيادة الواليات المتحدة) التدخل في السياسة
األوكرانية ،واالستمرار في محاصرة مناطق النفوذ الروسي.
في آذار عام 2000استلم فالديمير بوتين مقاليد الرئاسة في روسيا ،وبدأ بإعادة هيكلة القوة الروسية ،ليبدأ
عصر جديد في التاريخ الروسي ،اتسمت سنواته األولى بترتيب أوراق البيت الداخلي الروسي وما رافق
ذلك من صعوبات ،ثم لينتقل في المرحلة الثانية إلى إعادة ألق القوة الروسية على الصعيد الدولي في
سنوات الحقة ،وباعتبار روسيا هي مركز القطب األوراسي ،فبعودتها بدأت عملية إعادة التوازن للنظام
الدولي تعود بشكل تدريجي.
وبعد الفشل األمريكي في القضاء على اإلرهاب من خالل غزو أفغانستان ،شكلت الهزيمة األمريكية في
العراق على يد المقاومة العراقية التي أدت إلى انسحاب القوات األمريكية من العراق في عام ،2011
الخطوة األولى في انهيار األحادية القطبية ،ترافق ذلك مع صعود نجم التنين الصيني على الصعيد الدولي
اقتصاديا لتصبح مؤثرا والعبا فاعال في النظام الدولي ،وبعد ذلك فشلت الواليات المتحدة من كبح جماح
التطور التكنولوجي اإليراني ومشروعها "الطاقوي" حيث عجزت أمريكا كليا عن منع التقدم اإليراني.
وترافق ذلك مع خسارة المشروع األمريكي في لبنان المتجسد في القضاء على "حزب هللا" ووضع نظام
حليف ألمريكا ،كل هذه المعطيات تدل على انخفاض نسبة السيطرة والتحكم األمريكي في الشرق األوسط
بنسبة مئوية ليست بالقليلة ،ويضاف إلى كل ما ذكرناه ،الفشل األمريكي في منع تطوير كوريا الشمالية
للصواريخ البالستيى العابرة للقارات ،حيث أعلنت كوريا الشمالية مؤخرا تصنيعها لصاروخ يطال كل
القارة األمريكية ،وهذا ما سنشهد تبعاته في مرحلة الحقة ستضطر فيها الواليات المتحدة الستيعاب القوة
الكورية.
ظهرت أولى دالئل العودة إلى التعددية القطبية من خالل الحرب في سوريا التي بدأت عام ،2011حيث
دعم المحور أحادي القطبية األطلسي بكل ما أمكنه القوى التي تريد تفتيت الدولة السورية ووضع نظام في
سوريا موالي للغرب األطلسي لتمرير خططه في والسيطرة على شرق المتوسط وذلك وفقا لمبدأ
"األناكوندا" الذي نقله المفكر والسياسي األطلسي ألفريد ماهان ويتجسد هذا المبدأ في حصار األراضي
األوراسية من البحر وعبر الخطوط الساحلية وهو ما يؤدي تدريجيا إلى االستنزاف التدريجي للخصم،
وهنا كانت مهمة المحور األوراسي بقيادة روسيا للحفاظ على اآلماد الشاطئية المحيطة بأوراسيا القارية،
باإلضافة إلى موقع سوريا الذي يربط بين القارات الثالث آسيا وأوروبا وأفريقيا ،حيث تقع على تقاطع
خطوط aالتبادل والتجارة بين هذه القارات ،إال أن الرئيس فالديمير بوتين الذي كان قد أسس القوة الروسية
لتكون بحجم هكذا تحديات ،وقف في وجه الموجة األطلسية في سوريا ،وبعد طلب رسمي من الجمهورية
العربية السوري أرسل القوات الروسية إلى سوريا السورية في أيلول عام 2015لمواجهة اإلرهاب ودعم
الحليف السوري ،وقلب الطاولة على خطط األطلسي ،الذي كان يقول إنه "أسقط بدون قصد أسلحة إلى
"داعش" بالمظالت" وقصف "بدون قصد" الجيش السوري أ:ثر من مرة وهو يحارب تنظيم "داعش
اإلرهابي ،ليأتي سالح الجو الروسي وصواريخ كالينبر والبارجة كوزنيتسوف ويبدأ القضاء على تنظيم
داعش بهذا التحالف الروسي السوري باإلضافة إلى حلفاء المحور من إيران والعراق ولبنان.
وبعد التقدم االستراتيجي للمحور األوراسي في سوريا على حساب تراجع المحور األطلسي ،تمكن بوتين
بما يمتلكه من هدوء القوة وقوة الهدوء أن أن يقلب الخالف بين تركيا وروسيا حول سوريا إلى اتفاق
استراتيجي أدى إلى انزياح كبير في التوجه التركي باتجاه المحور األوراسي ،وكان هذا خرقا استراتيجيا
كبيرا لألطلسي لم تتحدد معالمه النهائية بعد ولكن النتائج األولى بدأت بالظهور أهمها فقدان أمريكا
السيطرة على حليفها التركي وخاصة بعد فشلب محاولة االنقالب في تموز عام ،2015وثانيها التفاهمات
حول الميدان السوري نحو إيجاد تسوية تنهي الحرب وترضي جميع األطراف.
جاء التفكير االستراتيجي الروسي في عهد الرئيس بوتين في انتهاج التوجه األوراسي الجديد لرسم
مشروع بناء نمط دولي جديد يواجه نموذج الهيمنة األورو أطلسية الذي تسيره الواليات المتحدة األمريكية
من خالل بناء شبكة من التحالفات في كل من أوروبا وآسيا ،باإلضافة للجهود الروسية في بناء نموذج
بريكس BRICSالذي يتكون من خمسة دول صاعدة بقوة "اقتصاديا" وهي :البرازيل ،روسيا ،الهند،
الصين ،جنوب إفريقيا .ومنظمة شنغهاي التي تضم العديد من دول آسيا الوسطى إضافة لروسيا والصين
وفتح المجال أمام كل من تركيا إيران وأذربيجان لالنضمام لهذا المشروع االقتصادي الواعد.
بالنسبة للتحدي لمحاولة محاصرة القوة الروسية في أوكرانيا من قبل األطلسي ،فقد وضعت الواليات
المتحدة كل الدعم لمناهضي روسيا في أوكرانيا ،ومنهم زعماء "الثورة البرتقالية" الموالية للغرب (عام
،) 2004الذين طرحوا مرارا مسألة إنهاء بقاء األسطول الروسي في شبه جزيرة القرم .لكن االتفاقية التي
وقعها رئيسا البلدين في مدينة خاركوف األوكرانية عام 2010مددت مدة مرابطة األسطول الروسي حتى
عام ،2042مقابل دفع روسيا مبلغا مقداره 100مليون دوالر سنويا كأجرة لقواعدها البحرية في
سيفاستوبول ،ولكن االنقالب األوكراني األخير الذي أوصل للخكم في كييف قوى ال تخفي عداءها لروسيا
هدد من جديد بقاء األسطول الروسي في شبه الجزيرة ،األمر الذي أثار قلقا مشروعا في موسكو وكان من
أبرز دوافع دعمها لحراك شعب القرم ضد االنقالب وتعبيره عن إرادته االنضمام إلى روسيا ،إلى جانب
دافع حماية الروس من هجمات القوميين المتشددين .وال شك أن قبول انضمام القرم إلى روسيا سمح لها
بإزالة الخطر المحدق بوجودها العسكري في منطقة ذات أهمية استراتيجية بالغة بالنسبة لها .لتبدأ بعد ذلك
موجة عقوبات اقتصادية من قبل المحور األطلسي بقيادة واشنطن ضد روسيا ،ولكن استطاعت إدارة
الرئيس بوتين من صد هذه الموجة من العقوبات وتجاوز تبعاتها ،فلم يتوقف االقتصاد والصناعة الروسية
عن التطور بعد فرض هذه العقوبات.
عودة القوة الروسية كالعب رئيسي على الساحة الدولية ،نتيج عنه رغبة كثير من الدول إعادة تفعيل
وتطوير aعالقاتها مع موسكو ومنها ما وصل إلى الرغبة ببناء تحالف معها ،وازداد عدد الدول التي ترغب
بشراء السالح الروسي الجوي والصاروخي والبري الفريد والرائد على مستوى العالم ،فارتفع عدد الدول
التي تريد بناء تحالفات مع موسكو التي تتبع سياسة االحترام المتبادل في العالقات الدبلوماسية واحترام
سيادة الدول ،وااللتزام بنهج متوازن بين األطراف في مختلف الصراعات اإلقليمية والدولية ،وقد أعلنت
السودان استعدادها إلقامة قواعد عسكرية روسية على ساحل البحر األحمر السوداني ،وأيضا مصر
رفعت من درجة عالقاتها مع روسيا في عهد بوتين إلى مستوى غير مسبوق ،باإلضافة تعزيز العالقات
الروسية الخليجية ،وكذلك العالقات الروسية الجزائرية ،إلى مستوى عقد صفقات شراء سالح وتعاون
استراتيجي اقتصادي ،كل هذا ياتي في وقت يتراجع فيه الدور األمريكي ويتعزز فيه باإلضافة إلى الدور
الروسي دور التنين الصيني األمر الذي يدخل النظام العالمي في مرحلة التحول من األحادية القطبية إلى
التعددية القطبية من جديد.