Professional Documents
Culture Documents
ثوابت الجغرافية السياسية لروسيا
ثوابت الجغرافية السياسية لروسيا
ظلَّت نسب ُة المتعلمين الروس في أوائل القرن العشرين أقل من 33في المئة ،وهي نسب ٌة أقل مما كانت في
بريطانيا العظمى في القرن الثامن عشر ،وهذه المقارناتُ كانت معروف ًة جيدًا من جانب المؤسسة السياسية
كثير من األحيان ،ومقارنة بالدهم بقادة العالم (شي ٌء ما
ٍ الروسية ،بسبب سفر أعضائها إلى أوروبا في
صحيحٌ هذا اليوم).
لحظات عابرة من الهيمنة الروسية الجديرة بالذكر :األولى؛ انتصار بطرس األكبر
ٍ َ
ثالث يسجل التاريخ
على تشارلز الثاني عشر ،وتراجع السويد في أوائل السبعينيات من القرن الثامن عشر ،حيث رسّخ القوة
الروسية على بحر البلطيق وفي أوروبا ،والثانية؛ فوز ألكسندر األول على نابليون منهك القوى في العقد
الثاني من القرن التاسع عشر ،الفوز الذي جعل روسيا بالنسبة إلى باريس وسيطًا في شؤون القوى
العظمى ،والثالثة؛ نصر ستالين على المقامر المهووس أدولف هتلر في أربعينيّات القرن العشرين نصرً ا
أكسب روسيا برلين ،إمبراطوري ًة تابع ًة في أوروبا الشرقية ،ودورً ا محوريًا في تأليف نظام ما بعد الحرب
العالمية.
لنضع تلك اإلنجازات الكبرى جانبًا ،فعلى الرغم من ذلك ،كانت روسيا دائمًا قو ًة عظمى ،ولكنها ضعيف ًة
نسبيًا ،فقد خسرت حرب القرم من ،1856-1853وهي الهزيم ُة التي أنهت توهجَ ما بعد نابليون ،وأجبرت
تحرير متأخر لألقنان ،وخسرت في الحرب الروسية اليابانية بين عامي 1904و ،1905وهي ٍ على
الهزيمة األولى لدول ٍة أوروبية من جانب إحدى الدول اآلسيوية في العصر الحديث ،كما خسرت في الحرب
العالمية األولى ،وهي الهزيم ُة التي تسببت بانهيار النظام اإلمبراطوري e،وأخيرً ا خسرت الحرب الباردة،
وهي الهزيم ُة التي ساعدت في أسباب انهيار النظام اإلمبراطوري في االتحاد السوفياتي سابقًا.
نوبات
ِ الز َم البالد التخلّف النسبي طوا َل ذلك ،وال سيما في المجاالت العسكرية والصناعية ،وقد أدى إلى
ب متكررة من النشاط الحكومي e،تهدف إلى مساعدة البالد في اللحاق بالركب ،مع دور ٍة مألوفة منغض ٍ
النمو الصناعي القسري e،تقودها الدولة ،وتليها حال من الركود ،فقد افترض المحللّون معظمهم أنَّ هذا
النمط قد انتهى إلى األبد في التسعينيات من القرن العشرين ،مع التخلّي عن الماركسية اللينينية ،ووصول
االنتخابات التنافسية واالقتصاد الرأسمالي المغامر ،ولكن الدافع وراء االستراتيجية الكبرى الروسية لم
يتغيّر ،حيث عاد الرئيس الروسي فالديمير بوتين ،على مدى العقد الماضي إلى اتجا ِه االعتماد على الدولة،
إلدارة الهوّ ة بين روسيا والغرب األكثر قو ًة.
فقدت روسيا بتفكك االتحاد السوفياتي في عام 1991حوالى مليوني مي ٍل مربع من األراضي السيادية ،بما
يعادل االتحاد األوروبي بأكمله ( 1.7مليون ميل مربع) أو الهند ( 1.3مليون) ،كما خسرت روسيا تقاسم
ألمانيا التي كانت قد احتلتها في الحرب العالمية الثانية ،وغيرها من الدول التابعة في أوروبا الشرقية (باتت
جميعها اآلن داخل التحالف العسكري الغربي) جنبًا إلى جنب مع بعض المناطق السابقة المتقدمة من
االتحاد السوفياتي من مثل دول البلطيق ،وتتعاون ممتلكاتٌ سوفياتية سابقة أخرى ،من مثل أذربيجان
وجورجيا وأوكرانيا ،بصور ٍة وثيقة مع الغرب بشأن المسائل األمنية ،وعلى الرغم من الض ّم القسر ّ
ي لـ
شبه جزيرة القرم ،والحرب في شرقي أوكرانيا ،وبحكم األمر الواقع في احتالل أبخازيا وأوسيتا الجنوبية،
كان يتعين على روسيا أن تتخلّى عن ما يُس ّم ى روسيا الجديدة معظمها -روسيا كاترين العظمى -عن
السهوب الجنوبية ،والقوقاز ،وبصرف النظر عن عد ٍد قليل من القواعد العسكرية ،فروسيا هي خارج آسيا
الوسطى أيضً ا.
بكثير مما كانت عليه ،ومدى أراضي البالد يق ُّل أهمي ًة
ٍ ما تزا ُل روسيا أكبرَ دول ٍة في العالم ،إال أنَّها أصغرُ
عن أحوال قو ٍة عظمى في هذه األيام أكثر من (الديناميّة) االقتصادية والرأسمال البشري -وهي المجاالت
التي تراجعت فيها روسيا أيضً ا -حيث بلغت ذروة الناتج المحلي اإلجمالي الروسي بما يعادل الدوالر في
عام 2013أكثر قليال من تريليوني دوالر ،وانخفض اآلن إلى حوالى 1.2تريليون دوالر ،بسبب انخفاض
أسعار النفط وأسعار صرف الروبل.
لنكن متأ ّكدين ،فإنَّ االنكماش مقاسًا في تعادل القوة الشرائية ،كان أقل إثار ًة بكثير ،ولكن من حيث المقارنة
بما يعادل الدوالر؛ ال يُعاد ُل االقتصاد الروسي إاّل 1.5في المئة من الناتج المحلّي اإلجمالي العالمي،
ويشكل من 1إلى 15في المئة من حجم االقتصاد األميركي ،كما تُعاني روسيا أيضً ا التمييز المشبوه
بوصفها الدول َة األكثر تطويرً ا للفساد في العالم ،حيث وص َل نظامها االقتصادي الريعي في استخراج
طريق مسدود.
ٍ الموارد إلى
وفي الوقت نفسه ،أصبحت البيئة الجيوسياسية أكثر صعوب ًة بمرور الوقت ،مع استمرار التفوق العالمي
للواليات المتحدة ،والصعود (الدراماتيكي) للصين ،وانتشار هموم اإلسالم السياسي الراديكالي ومتاعبَه،
حيث إنَّ 15في المئة من 142مليون مواطن روسي هم مسلمون ،وبعض المناطق ذات األغلبية المسلمة
في البالد تغلي من االضطرابات والفوضى ،وبما يخص النخب الروسية فتفترض أنَّ وضع بالدها ،بما في
ذلك بقاءهم على قيد الحياة؛ يتوقف على التالؤم مع الغرب ،حيث يجب أن تكون حدود المسار الحالي
واضح ًة.
ضروريات الدب
يملك الروس دائمًا شعورً ا مستمرً ا بأنَّهم يعيشون في بل ٍد ترعاه العناية اإللهية ،وله مهم ٌة خاصة -وهو
موقفٌ كثيرً ا ما يشير إلى بيزنطة التي تدعي روسيا أنَّها وريثتها .في الحقيقة ،أبدت أكثر القوى العظمى
تكليف سماوية ،كما فعلت إنكلترا
ٍ مشاعرَ مماثلة ،حيث أعلنت ك ّل من الصين والواليات المتحدة استثنائي َة
أوقات كثيرة من تاريخهما ،كما تلقت ك ٌّل من ألمانيا واليابان قصفًا استثنائيًا وصواًل لسحقهما.
ٍ وفرنسا في
عبرت روسيا عن مرونة ملحوظة بصور مختلفة مع مرور الوقت (روما الثالثة ،مملكة عموم السالف،
المقر العالمي لألممية الشيوعية) ،وتنطوي eنسخة اليوم على األوراسية ،Eurasianismوهي حرك ٌة بدأت
بين المهاجرين الروس في عام ،1921وينظر العالم إلى روسيا أنّها ال أوروبية وال آسيوية ،ولكنها
انصهارٌ فريد بينهما.
وقد أسهم معنى أنَّ لها مهم ًة خاصة في ندر ِة التحالفات الرسمية لروسيا ،وعدم الرغبة في االنضمام إلى
فخر
الهيئات الدولية ،باستثناء أن تكون عضوً ا استثنائيًا أو مهيمنًا ،فهي تُقدّم للشعب الروسي والقادة ك َّل ٍ
واعتزاز ،لكنها تزيد أيضً ا من االستياء تجاه الغرب ألنَّه على ما يُظن لم يُقدّر جيدًا تميز روسيا وعظمتها،
ومن ث ّم فقد أضاف اغترابًا نفسيًا إضافة إلى التباعد المؤسّسي الذي يقوده التخلف االقتصادي النسبي،
عالقات أوثق مع الغرب ،والعزوف
ٍ ونتيجة ذلك ،فقد تأرجحت الحكومات الروسية عمو ًما بين السعي إلى
ازدراءت متخيل ٍة أو محسوسة ،من دون قابلية على أن تسود بصورة دائمة.
ٍ ب عن
بغض ٍ
وعلى الرغم من ذلك ،ثمة عام ٌل آخر ش َّك ل دور روسيا في العالم ،وهو جغرافيا البلد الفريدة من نوعها،
فليس لديها حدو ٌد طبيعية ،باستثناء المحيط الهادي والمحيط المتجمد الشمالي (وهذا األخير أصبح اآلن
كثير من
ٍ مساح َة مُتنازع عليها أيضً ا) .فعلى الرغم من أنّها طوال تاريخها المليء بالتطورات المضطربة في
األحيان في شرق آسيا وأوروبا والشرق األوسط ،فقد شعرت روسيا أنَّها عرض ٌة للهجوم بصورة دائمة،
وكثيرً ا ما أظهرت نوعً ا من العدوانية الدفاعية ،ومهما كانت األسبابُ األصلية وراء بداية التوسعية -كثير
مخطط له -توصل عدد من الطبقة السياسية في البالد إلى الظن -بمرور الوقت -أنَّه ليس
ٍ منها كان غير
هناك إاّل مزيد من التوسع الذي يُمكن أن يؤمّن عمليات االستحواذ السابقة ،وهكذا جرت العادة مؤ ّكد ًة أنَّ
هجوم خارجي.
ٍ استباق
ِ األمن الروسي جزئيًا يعني الزحف إلى الخارج ،تحت اسم
جسر
ٍ يُنظَر اليوم أيضً ا إلى البلدان الصغيرة على حدود روسيا بوصف الصديق المحتمل أقل من رأس
محتمل لألعداء ،وفي الواقع ،تَعزّ ز هذا الشعور منذ االنهيار السوفياتي ،لكن بخالف ستالين ،ال يعترف
بوتين بوجود دول ٍة أوكرانية منفصلة عن الدولة الروسية ،لكنه من جهة أخرى كما ستالين؛ يرى الدول
سالحا في أيدي القوى الغربية وعازم ًة
ً الحدودية جميعها مستقلّة اسميًا ،بما في ذلك أوكرانيا اآلن ،بوصفها
على استخدامه ض َّد روسيا.
خطرٍ،
عالم ِي الدائم للبالد إلى أن تكونَ دول ًة قوية .في ٍ
الحافز األخير للسياسة الخارجية الروسية هو السع ُ
مع قلي ٍل من الدفاعات الطبيعية ،يعمل التفكير ،حيث الضامن الوحيد ألمن روسيا أن تكون دول ًة قوي ًة
مستعد ًة ،وقادر ًة على التصرّ ف بعدواني ٍة من أجل مصالحها الخاصة ،كذلك إن الدولة القوية هي ضامنٌ
للنظام الداخلي ،وكانت النتيجة وجو َد اتجا ٍه ضمني لدى مؤرخ القرن التاسع عشر فاسيلي كلوتشيفسي الذي
س ِم َن ْ
ت الدولة ،ولكن الشعب ضَ عُفَ )). بسطر واحدَ (( :
ٍ عام لروسيا
لخّ ص تاريخ ألفَ ٍ
ظاهريًّا ،يبدو هذا ما كان يحدث في التسعينيات ،قبل تولّي بوتين سدة الحكم ،حيث تشكلت في روسيا قصة
((طعنة في الظهر)) قوية حول كيفية رفض الغرب المتغطرس مبادرات روسيا خالل العقدين الماضيين،
وليس العكس ،ولكنَّ هذا الرأ َّ
ي يقلل من الحيوية داخل روسيا.
استغلّت واشنطن بالتأكيد ضعفَ روسيا في عهد الرئيس الروسي بوريس يلتسين ،وأكثر ،ولكن ليس من
الضروري eأن تدعم جوانب السياسة الغربية كلها في العقود األخيرة ،لمعرفة موقف بوتين األقل تطورً اe،
لنمط متكرر عميق مدفوعً ا بعوامل داخلية .ما
ٍ بوص ِفه ر َّد فع ٍل على التحركات الخارجية ،من المثال األحدث
يمنع روسيا بعد االتحاد السوفياتي من االنضمام إلى أوروبا بصفته بلدًا آخر فحسب ،أو تشكيل شراك ٍة
((حتمية)) غير متكافئة مع الواليات المتحدة؛ كان االلتزام بكرامة القوة العظمى في البالد ،واإلحساس
بالمهمة الخاصة ،حتى تالئم روسيا تطلعاتها مع قدراتها الفعلية ،فإنه ال يمكن أن تصبح بلدا ((طبيعيًا))،
بغضّ النظر عن ارتفاع الناتج المحلي ال دعونا نكن واضحين؛ روسيا حضار ٌة رائعة ذات عمق مهول،
صعوبات في تحقيق االستقرار
ٍ وهي ليست الملكية المطلقة (الموناركية) السابقة الوحيدة التي واجهت
السياسي أو التي تحتفظ بعدم نزاهة دولية (ف ّكر في فرنسا ،على سبيل المثال) ،وروسيا هي محق ٌة في
التفكير بأنَّ تسوية ما بعد الحرب الباردة كانت غيرَ متوازن ٍة ،وغير عادلة أيضً ا ،ولكن ذلك لم يكن بسبب
أ ّ
ي إذال ٍل متعم ٍد أو خيانة ،إنه النتيجة الحتمية النتصار الغرب الحاسم في التسابق مع االتحاد السوفياتي،
تنافس عالمي متعدد األبعاد -سياسية واقتصادية وثقافية وتكنولوجية وعسكرية -حيث خسر االتحاد
ٍ في
السوفياتي في المجاالت جميعها ،واختار الكرملين ميخائيل غورباتشوف ألن يخرج برشاقة بداًل من أن
يجرَّ العالم برفق ِة روسيا ،ولكن نهاية اللعبة الطوعية االستثنائية ال تغير من طبيعة النتيجة أو أسبابها ،وهو
شي ٌء لم تقبل به روسيا ما بعد االتحاد السوفياتي تمامًا.
ال يمكن للعالم الخارجي أن يُقحم مثل هذا اإلدراك النفسي ،أو ما يُطلق عليه األلمان
(( -Vergangenheitsbewältigungالتصالح مع الماضي)) ،ولكن ليس ثمة سبب في عدم إمكان
حدوثه عضويًا بين الروس أنفسهم.
دائم من
في نهاية المطاف ،يمكن للبلد أن يعمل على اتباع شي ٍء من قبيل مسار فرنسا التي تحتفظ بمعنى ٍ
االستثناء ،على الرغم من صنعها السالم بعد خسارتها اإلمبراطورية الخارجية ومهمتها الخاصة في العالم،
معيد ًة ضبط فكرة الوطنية ،لتتناسب مع انخفاض دورها ،وتنضم إلى القوى األصغر مع البلدان الصغيرة
في أوروبا على قدم المساواة.
وإذا سيتم قبول روسيا المتحولة ،ودمجها جيدًا بأوروبا ،فهو مسأل ٌة مفتوحة ،ولكن ستحتاج بداية العملية إلى
أن تكون القيادة الروسية قادر ًة على الحصول على موافقة شعبها على التقشف الدائم ،وتوافق على
الشروع في إعادة الهيكلة الداخلية الشاقة ،وينبغي أن يكون األجنبيون متواضعين ألنهم يفكرون كم سيكون
هذا التعديل موجعًا ،وال سيما من دون هزيم ٍة حربية ساخنة واحتال ٍل عسكري.
أخذ ذلك من فرنسا المتحدة عقودًا للتخلي عن معانيهم الخاصة االستثنائية ومسؤوليتهم العالمية ،وسيزعم
بعضهم أن نُخبها( نخب فرنسا والمملكة المتحدة) ما زالت متمسّكة بهذه الميزة تمامًا ،ولم تتخ ّل عنها ،ولكن
كان لديهم ناتجٌ محلّي إجمالي مرتفع ،وجامعاتٌ ذات تصنيف عال ،وقوة مالية ولغات عالمية ،بينما ليس
ي شي ٍء من ذلك ،سوى أنها تمتلك حق النقض الدائم في مجلس األمن ،فضاًل عن امتالكها ي روسيا أ ُّ
لد ّ
واحدة من ترسانات يوم القيامة (إشارة إلى ترسانتها النووية) قبل ك ِ ّل شي ٍء في العالم ،وقدرات الحرب
األلكترونية على مستوى العالم ،إضافة إلى جغرافيتها الفريدة من نوعها ،التي تعطيها نوعً ا من االمتداد
العالمي.
ي على أنَّ القوة الصلبة تبقى هش ًة من دون أبعا ٍد أخرى للقوة العظمى ،فمهما
وبعد؛ فإن روسيا دلي ٌل ح ّ
قدم المساواة مع الواليات المتحدة ،واالتحاد األوروبي أو حتى
أصرَّ ت روسيا على أن يُعترف بها على ِ
الصين ،فلن يكون لها ذلك ،حيث ال يظهر في المدى القريب وال المتوسط احتما ُل أن تُصبحَ واحد ًة من تلك
الدول.
وفي الوقت نفسه ،لم تُوَّ ل َد ((شراك ٌة استراتيجية)) ذات ضجيج مع الصين ،إاّل القليل من التمويل المتوقع ،أو
استثمار صيني للتعويض عن العقوبات الغربية ،وفي الوقت كله ،تبني الصين علنًا وبقوة أوراسيا الخاصة
بها ،من بحر الصين الجنوبي مرورً ا بآسيا الداخلية إلى أوروبا ،على حساب روسيا ،وبالتعاون معها.
انحدار بنيوي ،وإجراءات بوتين أسفرت عن غير قصد في جعلٍ روسيا القوية اليوم هي في الواقع في حال
توج ًها نحو الغرب ،فموسكو لديها عالقاتٌ متوترة
أوكرانيا أكثرَ تجانسًا عرقيًا من أي وقت مضى ،وأكثر ُّ
مع ما يقرب من جيرانها كلهم ،وحتى مع أكبر شركائها التجاريين ،بما في ذلك آخرها تركيا ،وحتى ألمانيا،
نظيرتها األكثر أهمي ًة في السياسة الخارجية ،وواحدًا من الشركاء االقتصاديين األكثر أهمية ،قد أيدَّوا كثيرً ا
عقوبات مكلف ٍة على الوضع الداخلي الروسي.
ٍ فرض
((يبدو أنَّ ما يُسمّى بـ (الفائزين) في الحرب الباردة عازمون على أن يمتلكوا ك َّل شي ٍء ،ويعيدوا تشكيل
نحو أفضل مصالحهم وحدهم)) ،هذا ما حاضر بوتين به في تجمع فالداي العال َم بصور ٍة يُمكن أن تخد َم على ٍ
السنوي للنقاش في تشرين األول /أكتوبر ،2014بعد أن ض َّم القرم ،ولكن ما يشكل تهديدًا وجوديًا لروسيا
ليس نظام الناتو أو الغرب ،ولكن روسيا نفسها.
ساعد بوتين في إنقاذ الدولة الروسية ،ولكن وضعها مر ًة أخرى على مسار الركود ،واحتمال الفشل أيضً ا،
فقد أ ّكد الرئيس وزمرته مرارً ا وتكرارً ا على الضرورة الماسّة إلى تحديد أولويات التنمية االقتصادية
والبشرية ،التي تتقلص إلى إعادة هيكل ٍة داخلية بعيدة المدى ،الزمة لتحقيق ذلك بداًل من صبّ الموارد في
ي e،فما تحتاجه روسيا حقًا حتى تُنافسَ بفاعلي ٍة ،وتّؤ منَ مكانًا ثابتًا في النظام الدولي هو
التحديث العسكر ّ
الشفافية والكفاءة ،وحكومة تخضع للمساءلة ،وخدم ٌة مدنية حقيقية ،وبرلمان حقيقيّ ،وقضا ٌء مهن ّ
ي ونزيه،
إعالم حرة ومهنية وقويّة ،وحمل ٌة غيرُ سياسيّة على الفساد.إجمالي للفرد الواحد ،أو المؤشّرات
ٍ ووسائ ُل
الكمية األخرى.
ما اآلثار المترتبة لهذه السياسة على السياسة الغربية؟ كيف يجب على واشنطن إدارة العالقات مع دول ٍة
نووية ،وقدرة فضائية ألكترونية تسعى الستعادة هيمنتها المفقودة ،وإن كانت من نموذج أق ّل من الوحدة
األوروبية الضعيفة ،وتجعل البالد (على عالقة) بما قد يأتي؟.
في هذا السياق ،من المفيد أن ندرك أنَّه لم تكن هناك فعاًل مرحلة من العالقات الطيبة الدائمة بين روسيا
والواليات المتحدة( .تكشف وثائق رُ فعت عنها السرية أنَّه حتى تحالف الحرب العالمية الثانية كان محفو ًفا
بعدم ثق ٍة أعمق ،وأنَّه كان نتيجة تقاطع مصالح أكبر ،ما كان مفهو ًما بصورة عامة) .لم يكن هذا بسبب سوء
لتباين في القيم األساسية وفي مصالح الدولة ،وفق
ٍ الفهم ،وسوء االتصال ،أو ضررً ا بالمشاعر ،وإنما نتيجة
ما حددها كل بلد .بالنسبة لروسيا ،القيمة العليا هي الدولة .وبالنسبة إلى الواليات المتحدة ،هي الحرية
الفردية والملكية الخاصة وحقوق اإلنسان التي تنطلق عادة في معارضة الدولة ،لذلك يجب أن تبقى
التوقعات قيد االختبار ،وبالقدر نفسه من األهمية ،ال ينبغي للواليات المتحدة أن تبالغ في التهديد الروسي،
وأن تقلل من مزاياها الكثيرة.
روسيا اليوم ليست قو ًة ثورية تهدد بقلب النظام الدولي ،فموسكو تعمل داخل مدرس ِة القوى العظمى
المألوفة في العالقات الدولية ،دول ٌة تعطي األولوية للمناورة على األخالق ،وتفترض حتمي َة الصراع،
وسيادة القوة الصلبة والسخرية من دوافع اآلخرين ،ولدى روسيا في أماكن معينة وحول قضايا معينة؛
القدرة على إحباط مصالح الواليات المتحدة ،ولكن ال تقترب ولو من بعي ٍد إلى حجم التهديد الذي كان يشكله
االتحاد السوفياتي ،لذلك ليس هناك حاج ٌة للر ّد عليها بحر ٍ
ب باردة جديدة.
يتلخّ ص التحدي الحقيقي اليوم في رغبة موسكو في اعتراف الغرب بنفوذ روسيا في
الفضاء السوفياتي السابق (باستثناء دول البلطيق) .هذا هو الثمن للوصول إلى تسوية مع
تعاون
ٍ بوتين من يدافع عن مثل هذه التسوية ال يعترف دائ ًما بصراحة .كانت نقطة الخالف التي حالت دون
دائم بعد ،11/99وما تزال ،وهي تنازل ال ينبغي للغرب أن يمنحه أبدًا .ومع ذلك ،فالغرب ليس قادرً ا حقًا
على حماية السالمة اإلقليمية للدول داخل مجال موسكو المرغوب ،ولن يجدي التحايل ،ولذلك ما الذي
ينبغي القيام به؟
سيُبقي
يستدعي بعضهم جورج كينان[ ]1ويدعو إلى إحياء سياسة االحتواء ،بحج ِة أنَّ الضغط الخارجي َ
روسيا بعيدًا حتى تحرير نظامها السلطوي أو انهياره ،وبالتأكيد ،فإنَّ كثيرً ا من أفكار كينان تظل وثيقة
الصلة ،مثل تأكيده في ((البرقية الطويلة)) التي أرسلها من موسكو قبل 70عامًا حول انعدام األمن العميق
الذي قاد السلوك السوفياتي[ .]2إنَّ تبني هذا التفكير اآلن يتطلب المحافظة على العقوبات أو تكثيفها ر ًّدا
على االنتهاكات الروسية للقانون الدولي ،وحشد التحالفات الغربية سياسيًا ،ورفع مستوى االستعداد
العسكري لحلف الناتو ،ولكن االحتواء الجديد يمكن أن يُصبح فخً ا ،يعيد رفع روسيا لوضع القوة العظمى
المنافسة ،وهو ما تسعى روسيا إليه ،وساعدت ألجله في إحداث المواجهة الحالية.
مر ًة أخرى e،تصميم المريض هو المفتاح ،وليس من الواضح كم من الوقت يمكن أن تلعب روسيا دورها
ضعيف ًة في مواجهة الواليات المتحدة واالتحاد األوروبي e،ومخيف ًة جيرانها ،ومستعدي ًة شركاءها التجاريين
األكثر أهمية ،ومدمر ًة مناخ األعمال الخاصة بها ،ومسهمة بنزف المواهب .في مرحل ٍة ما ،سيتم إبعاد جس
النبض لنوع من التقارب ،كما سينتهي التعب من العقوبات في نهاية المطاف تمامًا ،وخلق إمكان لنوع من
وقت قريب ،ألن السعي
ٍ يالصفقة .ذاك ما يقال ،فمن الممكن أيضا أنَّ المواجهة الحالية قد ال تنتهي في أ ّ
الروسي للنفوذ في المجال األوراسي هو مسألة هوي ٍة وطنية ،وليس عرض ًة سهل ًة لحسابات التكاليف
والمنافع المادية.
ستكون للمقدرة على اللعب أن تقيم خطًا ثابتًا عند الضرورة بمثل رفض االعتراف بمجال روسي متميز
حتى عندما تكون موسكو قادر ًة على فرض مجا ٍل عسكري e،في حين إنّ عرض المفاوضات من موقع قوة
فحسب ،وتجنّب انزالق التعثر إلى مواجهات ال لزوم لها ،يأتيان بنتائجَ عكسية أخرى في أغلب األحوال.
يوم من األيام ،قد يتصالح قادة روسيا مع الحدود الصارخة للوقوف في وجه الغرب ويسعون للهيمنة
في ٍ
على أوراسيا ،وحتى ذلك الحين ،لن تظل روسيا إاّل حملة هادفة ضرورية أخرى ،إلى أن يتحقق النصر.
لكن إدارتها هي المشكلة.