Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 9

‫ثوابت الجغرافية السياسية لروسيا‪ ،‬بوتين يعود إلى النموذج التاريخي‬

‫عام بالطموحات العالية التي تجاوزت قدرات البالد‪،‬‬


‫اتسمت السياسة الخارجية الروسية لمد ِة خمسمئة ٍ‬
‫فبد ًءا من عهد إيفان‪ ‬‬
‫الرهيب في القرن السادس عشر‪ ،‬تمكنت روسيا من التوسع بمعدّل ‪ 50‬مياًل مربعًا يوميًا‪ ،‬ولمئات السنين‪،‬‬
‫لتشغ َل في نهاية المطاف سُدسَ مساحة اليابسة على األرض‪ ،‬وبحلو ِل عام ‪ ،1900‬كانت رابع أو خامس‬
‫ي في أوروبا‪ ،‬ولكن الناتج المحلي اإلجمالي للفرد الواحد لم‬‫منتج زراع ّ‬
‫ٍ‬ ‫أكبرَ قو ٍة صناعية في العالم‪ ،‬وأكبر‬
‫يصل إاّل إلى ‪ 20‬في المئة فقط من مثيله في المملكة المتحدة‪ ،‬و‪ 40‬في المئة من مثيله في ألمانيا‪ ،‬وكان‬
‫متوسط العمر في اإلمبراطورية الروسية في بدايتها حوالى ‪ 30‬عا ًما أعلى من الهند البريطانية (‪ 23‬عامًا)‪،‬‬
‫بكثير من المملكة المتحدة (‪ 52‬عامًا)‪ ،‬واليابان (‪51‬‬
‫ٍ‬ ‫ولكنه يماثل المعدّل ذاته في صين ساللة كينغ‪ ،‬وأق ُل‬
‫عا ًما)‪ ،‬وألمانيا (‪ 49‬عامًا)‪.‬‬

‫ظلَّت نسب ُة المتعلمين الروس في أوائل القرن العشرين أقل من ‪ 33‬في المئة‪ ،‬وهي نسب ٌة أقل مما كانت في‬
‫بريطانيا العظمى في القرن الثامن عشر‪ ،‬وهذه المقارناتُ كانت معروف ًة جيدًا من جانب المؤسسة السياسية‬
‫كثير من األحيان‪ ،‬ومقارنة بالدهم بقادة العالم (شي ٌء ما‬
‫ٍ‬ ‫الروسية‪ ،‬بسبب سفر أعضائها إلى أوروبا في‬
‫صحيحٌ هذا اليوم)‪.‬‬

‫لحظات عابرة من الهيمنة الروسية الجديرة بالذكر‪ :‬األولى؛ انتصار بطرس األكبر‬
‫ٍ‬ ‫َ‬
‫ثالث‬ ‫يسجل التاريخ‬
‫على تشارلز الثاني عشر‪ ،‬وتراجع السويد في أوائل السبعينيات من القرن الثامن عشر‪ ،‬حيث رسّخ القوة‬
‫الروسية على بحر البلطيق وفي أوروبا‪ ،‬والثانية؛ فوز ألكسندر األول على نابليون منهك القوى في العقد‬
‫الثاني من القرن التاسع عشر‪ ،‬الفوز الذي جعل روسيا بالنسبة إلى باريس وسيطًا في شؤون القوى‬
‫العظمى‪ ،‬والثالثة؛ نصر ستالين على المقامر المهووس أدولف هتلر في أربعينيّات القرن العشرين نصرً ا‬
‫أكسب روسيا برلين‪ ،‬إمبراطوري ًة تابع ًة في أوروبا الشرقية‪ ،‬ودورً ا محوريًا في تأليف نظام ما بعد الحرب‬
‫العالمية‪.‬‬

‫لنضع تلك اإلنجازات الكبرى جانبًا‪ ،‬فعلى الرغم من ذلك‪ ،‬كانت روسيا دائمًا قو ًة عظمى‪ ،‬ولكنها ضعيف ًة‬
‫نسبيًا‪ ،‬فقد خسرت حرب القرم من ‪ ،1856-1853‬وهي الهزيم ُة التي أنهت توهجَ ما بعد نابليون‪ ،‬وأجبرت‬
‫تحرير متأخر لألقنان‪ ،‬وخسرت في الحرب الروسية اليابانية بين عامي ‪ 1904‬و‪ ،1905‬وهي‬ ‫ٍ‬ ‫على‬
‫الهزيمة األولى لدول ٍة أوروبية من جانب إحدى الدول اآلسيوية في العصر الحديث‪ ،‬كما خسرت في الحرب‬
‫العالمية األولى‪ ،‬وهي الهزيم ُة التي تسببت بانهيار النظام اإلمبراطوري‪ e،‬وأخيرً ا خسرت الحرب الباردة‪،‬‬
‫وهي الهزيم ُة التي ساعدت في أسباب انهيار النظام اإلمبراطوري في االتحاد السوفياتي سابقًا‪.‬‬

‫نوبات‬
‫ِ‬ ‫الز َم البالد التخلّف النسبي طوا َل ذلك‪ ،‬وال سيما في المجاالت العسكرية والصناعية‪ ،‬وقد أدى إلى‬
‫ب متكررة من النشاط الحكومي‪ e،‬تهدف إلى مساعدة البالد في اللحاق بالركب‪ ،‬مع دور ٍة مألوفة من‬‫غض ٍ‬
‫النمو الصناعي القسري‪ e،‬تقودها الدولة‪ ،‬وتليها حال من الركود‪ ،‬فقد افترض المحللّون معظمهم أنَّ هذا‬
‫النمط قد انتهى إلى األبد في التسعينيات من القرن العشرين‪ ،‬مع التخلّي عن الماركسية اللينينية‪ ،‬ووصول‬
‫االنتخابات التنافسية واالقتصاد الرأسمالي المغامر‪ ،‬ولكن الدافع وراء االستراتيجية الكبرى الروسية لم‬
‫يتغيّر‪ ،‬حيث عاد الرئيس الروسي فالديمير بوتين‪ ،‬على مدى العقد الماضي إلى اتجا ِه االعتماد على الدولة‪،‬‬
‫إلدارة الهوّ ة بين روسيا والغرب األكثر قو ًة‪.‬‬

‫فقدت روسيا بتفكك االتحاد السوفياتي في عام ‪ 1991‬حوالى مليوني مي ٍل مربع من األراضي السيادية‪ ،‬بما‬
‫يعادل االتحاد األوروبي بأكمله (‪ 1.7‬مليون ميل مربع) أو الهند (‪ 1.3‬مليون)‪ ،‬كما خسرت روسيا تقاسم‬
‫ألمانيا التي كانت قد احتلتها في الحرب العالمية الثانية‪ ،‬وغيرها من الدول التابعة في أوروبا الشرقية (باتت‬
‫جميعها اآلن داخل التحالف العسكري الغربي) جنبًا إلى جنب مع بعض المناطق السابقة المتقدمة من‬
‫االتحاد السوفياتي من مثل دول البلطيق‪ ،‬وتتعاون ممتلكاتٌ سوفياتية سابقة أخرى‪ ،‬من مثل أذربيجان‬
‫وجورجيا وأوكرانيا‪ ،‬بصور ٍة وثيقة مع الغرب بشأن المسائل األمنية‪ ،‬وعلى الرغم من الض ّم القسر ّ‬
‫ي لـ‬
‫شبه جزيرة القرم‪ ،‬والحرب في شرقي أوكرانيا‪ ،‬وبحكم األمر الواقع في احتالل أبخازيا وأوسيتا الجنوبية‪،‬‬
‫كان يتعين على روسيا أن تتخلّى عن ما يُس ّم ى روسيا الجديدة معظمها ‪-‬روسيا كاترين العظمى‪ -‬عن‬
‫السهوب الجنوبية‪ ،‬والقوقاز‪ ،‬وبصرف النظر عن عد ٍد قليل من القواعد العسكرية‪ ،‬فروسيا هي خارج آسيا‬
‫الوسطى أيضً ا‪.‬‬

‫بكثير مما كانت عليه‪ ،‬ومدى أراضي البالد يق ُّل أهمي ًة‬
‫ٍ‬ ‫ما تزا ُل روسيا أكبرَ دول ٍة في العالم‪ ،‬إال أنَّها أصغرُ‬
‫عن أحوال قو ٍة عظمى في هذه األيام أكثر من (الديناميّة) االقتصادية والرأسمال البشري ‪-‬وهي المجاالت‬
‫التي تراجعت فيها روسيا أيضً ا‪ -‬حيث بلغت ذروة الناتج المحلي اإلجمالي الروسي بما يعادل الدوالر في‬
‫عام ‪ 2013‬أكثر قليال من تريليوني دوالر‪ ،‬وانخفض اآلن إلى حوالى ‪ 1.2‬تريليون دوالر‪ ،‬بسبب انخفاض‬
‫أسعار النفط وأسعار صرف الروبل‪.‬‬

‫لنكن متأ ّكدين‪ ،‬فإنَّ االنكماش مقاسًا في تعادل القوة الشرائية‪ ،‬كان أقل إثار ًة بكثير‪ ،‬ولكن من حيث المقارنة‬
‫بما يعادل الدوالر؛ ال يُعاد ُل االقتصاد الروسي إاّل ‪ 1.5‬في المئة من الناتج المحلّي اإلجمالي العالمي‪،‬‬
‫ويشكل من ‪ 1‬إلى‪ 15‬في المئة من حجم االقتصاد األميركي‪ ،‬كما تُعاني روسيا أيضً ا التمييز المشبوه‬
‫بوصفها الدول َة األكثر تطويرً ا للفساد في العالم‪ ،‬حيث وص َل نظامها االقتصادي الريعي في استخراج‬
‫طريق مسدود‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫الموارد إلى‬

‫وفي الوقت نفسه‪ ،‬أصبحت البيئة الجيوسياسية أكثر صعوب ًة بمرور الوقت‪ ،‬مع استمرار التفوق العالمي‬
‫للواليات المتحدة‪ ،‬والصعود (الدراماتيكي) للصين‪ ،‬وانتشار هموم اإلسالم السياسي الراديكالي ومتاعبَه‪،‬‬
‫حيث إنَّ ‪ 15‬في المئة من ‪ 142‬مليون مواطن روسي هم مسلمون‪ ،‬وبعض المناطق ذات األغلبية المسلمة‬
‫في البالد تغلي من االضطرابات والفوضى‪ ،‬وبما يخص النخب الروسية فتفترض أنَّ وضع بالدها‪ ،‬بما في‬
‫ذلك بقاءهم على قيد الحياة؛ يتوقف على التالؤم مع الغرب‪ ،‬حيث يجب أن تكون حدود المسار الحالي‬
‫واضح ًة‪.‬‬

‫ضروريات الدب‬
‫يملك الروس دائمًا شعورً ا مستمرً ا بأنَّهم يعيشون في بل ٍد ترعاه العناية اإللهية‪ ،‬وله مهم ٌة خاصة ‪-‬وهو‬
‫موقفٌ كثيرً ا ما يشير إلى بيزنطة التي تدعي روسيا أنَّها وريثتها‪ .‬في الحقيقة‪ ،‬أبدت أكثر القوى العظمى‬
‫تكليف سماوية‪ ،‬كما فعلت إنكلترا‬
‫ٍ‬ ‫مشاعرَ مماثلة‪ ،‬حيث أعلنت ك ّل من الصين والواليات المتحدة استثنائي َة‬
‫أوقات كثيرة من تاريخهما‪ ،‬كما تلقت ك ٌّل من ألمانيا واليابان قصفًا استثنائيًا وصواًل لسحقهما‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫وفرنسا في‬

‫عبرت روسيا عن مرونة ملحوظة بصور مختلفة مع مرور الوقت (روما الثالثة‪ ،‬مملكة عموم السالف‪،‬‬
‫المقر العالمي لألممية الشيوعية)‪ ،‬وتنطوي‪ e‬نسخة اليوم على األوراسية ‪ ،Eurasianism‬وهي حرك ٌة بدأت‬
‫بين المهاجرين الروس في عام ‪ ،1921‬وينظر العالم إلى روسيا أنّها ال أوروبية وال آسيوية‪ ،‬ولكنها‬
‫انصهارٌ فريد بينهما‪.‬‬

‫وقد أسهم معنى أنَّ لها مهم ًة خاصة في ندر ِة التحالفات الرسمية لروسيا‪ ،‬وعدم الرغبة في االنضمام إلى‬
‫فخر‬
‫الهيئات الدولية‪ ،‬باستثناء أن تكون عضوً ا استثنائيًا أو مهيمنًا‪ ،‬فهي تُقدّم للشعب الروسي والقادة ك َّل ٍ‬
‫واعتزاز‪ ،‬لكنها تزيد أيضً ا من االستياء تجاه الغرب ألنَّه على ما يُظن لم يُقدّر جيدًا تميز روسيا وعظمتها‪،‬‬
‫ومن ث ّم فقد أضاف اغترابًا نفسيًا إضافة إلى التباعد المؤسّسي الذي يقوده التخلف االقتصادي النسبي‪،‬‬
‫عالقات أوثق مع الغرب‪ ،‬والعزوف‬
‫ٍ‬ ‫ونتيجة ذلك‪ ،‬فقد تأرجحت الحكومات الروسية عمو ًما بين السعي إلى‬
‫ازدراءت متخيل ٍة أو محسوسة‪ ،‬من دون قابلية على أن تسود بصورة دائمة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ب عن‬
‫بغض ٍ‬

‫وعلى الرغم من ذلك‪ ،‬ثمة عام ٌل آخر ش َّك ل دور روسيا في العالم‪ ،‬وهو جغرافيا البلد الفريدة من نوعها‪،‬‬
‫فليس لديها حدو ٌد طبيعية‪ ،‬باستثناء المحيط الهادي والمحيط المتجمد الشمالي (وهذا األخير أصبح اآلن‬
‫كثير من‬
‫ٍ‬ ‫مساح َة مُتنازع عليها أيضً ا)‪ .‬فعلى الرغم من أنّها طوال تاريخها المليء بالتطورات المضطربة في‬
‫األحيان في شرق آسيا وأوروبا والشرق األوسط‪ ،‬فقد شعرت روسيا أنَّها عرض ٌة للهجوم بصورة دائمة‪،‬‬
‫وكثيرً ا ما أظهرت نوعً ا من العدوانية الدفاعية‪ ،‬ومهما كانت األسبابُ األصلية وراء بداية التوسعية‪ -‬كثير‬
‫مخطط له‪ -‬توصل عدد من الطبقة السياسية في البالد إلى الظن ‪-‬بمرور الوقت‪ -‬أنَّه ليس‬
‫ٍ‬ ‫منها كان غير‬
‫هناك إاّل مزيد من التوسع الذي يُمكن أن يؤمّن عمليات االستحواذ السابقة‪ ،‬وهكذا جرت العادة مؤ ّكد ًة أنَّ‬
‫هجوم خارجي‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫استباق‬
‫ِ‬ ‫األمن الروسي جزئيًا يعني الزحف إلى الخارج‪ ،‬تحت اسم‬

‫جسر‬
‫ٍ‬ ‫يُنظَر اليوم أيضً ا إلى البلدان الصغيرة على حدود روسيا بوصف الصديق المحتمل أقل من رأس‬
‫محتمل لألعداء‪ ،‬وفي الواقع‪ ،‬تَعزّ ز هذا الشعور منذ االنهيار السوفياتي‪ ،‬لكن بخالف ستالين‪ ،‬ال يعترف‬
‫بوتين بوجود دول ٍة أوكرانية منفصلة عن الدولة الروسية‪ ،‬لكنه من جهة أخرى كما ستالين؛ يرى الدول‬
‫سالحا في أيدي القوى الغربية وعازم ًة‬
‫ً‬ ‫الحدودية جميعها مستقلّة اسميًا‪ ،‬بما في ذلك أوكرانيا اآلن‪ ،‬بوصفها‬
‫على استخدامه ض َّد روسيا‪.‬‬

‫خطر‪ٍ،‬‬
‫عالم ِ‬‫ي الدائم للبالد إلى أن تكونَ دول ًة قوية‪ .‬في ٍ‬
‫الحافز األخير للسياسة الخارجية الروسية هو السع ُ‬
‫مع قلي ٍل من الدفاعات الطبيعية‪ ،‬يعمل التفكير‪ ،‬حيث الضامن الوحيد ألمن روسيا أن تكون دول ًة قوي ًة‬
‫مستعد ًة‪ ،‬وقادر ًة على التصرّ ف بعدواني ٍة من أجل مصالحها الخاصة‪ ،‬كذلك إن الدولة القوية هي ضامنٌ‬
‫للنظام الداخلي‪ ،‬وكانت النتيجة وجو َد اتجا ٍه ضمني لدى مؤرخ القرن التاسع عشر فاسيلي كلوتشيفسي الذي‬
‫س ِم َن ْ‬
‫ت الدولة‪ ،‬ولكن الشعب ضَ عُفَ ))‪.‬‬ ‫بسطر واحد‪َ (( :‬‬
‫ٍ‬ ‫عام لروسيا‬
‫لخّ ص تاريخ ألفَ ٍ‬

‫وحكم شخصاني دائمًا‪،‬‬


‫ٍ‬ ‫مؤسسات مدمرة‬
‫ٍ‬ ‫ومن المفارقات أيضً ا‪ ،‬أن الجهود المبذولة لبناء دول ٍة قوية أدت إلى‬
‫إذ أضعف بطرس األكبر الباني األساس للدولة القوية؛ المبادرة الفردية‪ ،‬وزاد من عدم الثقة الفطرية بين‬
‫الصناعات الجديدة التي ال غنى عنها‪ ،‬ولكنَّ‬
‫ِ‬ ‫نزعات المحسوبية‪ ،‬فجلب تحديثه القسري‬
‫ِ‬ ‫المسؤولين‪ ،‬ودعَّ م‬
‫مشروعه من أجل إقامة دول ٍة قوية رسَّخ في الواقع نزو ًة شخصية‪ .‬تميز هذه المتالزمة عهود المستبدين من‬
‫ساللة رومانوف ومن أتباع لينين‪ ،‬وخاص ًة ستالين‪ ،‬وما تزال قائم ًة حتى يومنا هذا‪ .‬وتميل الشخصاني ُة‬
‫وفق االستراتيجية الروسية الكبرى مبهم ًة‪ ،‬ويُحتمل أن تكون متقلب ًة‪،‬‬ ‫الجامحة إلى جعل عملي ِة صنع القرار َ‬
‫لشخص واحد‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ألنها تنتهي بالخلط بين مصالح الدولة والمستقبل السياسي‬

‫هل يجب أن يكون الماضي تمهيدًا؟‬


‫واضحا بصورة خاصة في شخصية بوتين‬ ‫ً‬ ‫يظهر ك ٌّل من االستياء المعادي للغرب والوطنية الروسية‬
‫وتجارب حياته‪ ،‬ولكن ما تزال تواجه حكوم ًة روسي ًة مختلف ًة‪ ،‬ال تديرها نماذج سابقة من أمن الدولة (‬
‫دور خاص في العالم‪ ،‬يبقى تكيف‬
‫‪ ،)KGB‬التحدي المتمثل في ضعف المواجهة مع الغرب‪ ،‬والرغبة في ٍ‬
‫السياسة الخارجية الروسية‪ ،‬وبعبارة أخرى؛ بقدر ما هو شرط أكثر مما هو خيار‪ ،‬ولكن إذا تمكنت النخب‬
‫الروسية من أن تُعيد بطريق ٍة أو بأخرى تعريف قصدهم باالستثنائية‪ ،‬ووضع منافستهم الخاسرة مع الغرب‬
‫جانبًا‪ ،‬فإنهم يمكن أن يضعوا البالد على مسار أق َّل كلف ًة‪ ،‬وأكثر وعدًا‪.‬‬

‫ظاهريًّا‪ ،‬يبدو هذا ما كان يحدث في التسعينيات‪ ،‬قبل تولّي بوتين سدة الحكم‪ ،‬حيث تشكلت في روسيا قصة‬
‫((طعنة في الظهر)) قوية حول كيفية رفض الغرب المتغطرس مبادرات روسيا خالل العقدين الماضيين‪،‬‬
‫وليس العكس‪ ،‬ولكنَّ هذا الرأ َّ‬
‫ي يقلل من الحيوية داخل روسيا‪.‬‬

‫استغلّت واشنطن بالتأكيد ضعفَ روسيا في عهد الرئيس الروسي بوريس يلتسين‪ ،‬وأكثر‪ ،‬ولكن ليس من‬
‫الضروري‪ e‬أن تدعم جوانب السياسة الغربية كلها في العقود األخيرة‪ ،‬لمعرفة موقف بوتين األقل تطورً ا‪e،‬‬
‫لنمط متكرر عميق مدفوعً ا بعوامل داخلية‪ .‬ما‬
‫ٍ‬ ‫بوص ِفه ر َّد فع ٍل على التحركات الخارجية‪ ،‬من المثال األحدث‬
‫يمنع روسيا بعد االتحاد السوفياتي من االنضمام إلى أوروبا بصفته بلدًا آخر فحسب‪ ،‬أو تشكيل شراك ٍة‬
‫((حتمية)) غير متكافئة مع الواليات المتحدة؛ كان االلتزام بكرامة القوة العظمى في البالد‪ ،‬واإلحساس‬
‫بالمهمة الخاصة‪ ،‬حتى تالئم روسيا تطلعاتها مع قدراتها الفعلية‪ ،‬فإنه ال يمكن أن تصبح بلدا ((طبيعيًا))‪،‬‬
‫بغضّ النظر عن ارتفاع الناتج المحلي ال دعونا نكن واضحين؛ روسيا حضار ٌة رائعة ذات عمق مهول‪،‬‬
‫صعوبات في تحقيق االستقرار‬
‫ٍ‬ ‫وهي ليست الملكية المطلقة (الموناركية) السابقة الوحيدة التي واجهت‬
‫السياسي أو التي تحتفظ بعدم نزاهة دولية (ف ّكر في فرنسا‪ ،‬على سبيل المثال)‪ ،‬وروسيا هي محق ٌة في‬
‫التفكير بأنَّ تسوية ما بعد الحرب الباردة كانت غيرَ متوازن ٍة‪ ،‬وغير عادلة أيضً ا‪ ،‬ولكن ذلك لم يكن بسبب‬
‫أ ّ‬
‫ي إذال ٍل متعم ٍد أو خيانة‪ ،‬إنه النتيجة الحتمية النتصار الغرب الحاسم في التسابق مع االتحاد السوفياتي‪،‬‬
‫تنافس عالمي متعدد األبعاد ‪-‬سياسية واقتصادية وثقافية وتكنولوجية وعسكرية‪ -‬حيث خسر االتحاد‬
‫ٍ‬ ‫في‬
‫السوفياتي في المجاالت جميعها‪ ،‬واختار الكرملين ميخائيل غورباتشوف ألن يخرج برشاقة بداًل من أن‬
‫يجرَّ العالم برفق ِة روسيا‪ ،‬ولكن نهاية اللعبة الطوعية االستثنائية ال تغير من طبيعة النتيجة أو أسبابها‪ ،‬وهو‬
‫شي ٌء لم تقبل به روسيا ما بعد االتحاد السوفياتي تمامًا‪.‬‬

‫ال يمكن للعالم الخارجي أن يُقحم مثل هذا اإلدراك النفسي‪ ،‬أو ما يُطلق عليه األلمان‬
‫‪(( -Vergangenheitsbewältigung‬التصالح مع الماضي))‪ ،‬ولكن ليس ثمة سبب في عدم إمكان‬
‫حدوثه عضويًا بين الروس أنفسهم‪.‬‬

‫دائم من‬
‫في نهاية المطاف‪ ،‬يمكن للبلد أن يعمل على اتباع شي ٍء من قبيل مسار فرنسا التي تحتفظ بمعنى ٍ‬
‫االستثناء‪ ،‬على الرغم من صنعها السالم بعد خسارتها اإلمبراطورية الخارجية ومهمتها الخاصة في العالم‪،‬‬
‫معيد ًة ضبط فكرة الوطنية‪ ،‬لتتناسب مع انخفاض دورها‪ ،‬وتنضم إلى القوى األصغر مع البلدان الصغيرة‬
‫في أوروبا على قدم المساواة‪.‬‬

‫وإذا سيتم قبول روسيا المتحولة‪ ،‬ودمجها جيدًا بأوروبا‪ ،‬فهو مسأل ٌة مفتوحة‪ ،‬ولكن ستحتاج بداية العملية إلى‬
‫أن تكون القيادة الروسية قادر ًة على الحصول على موافقة شعبها على التقشف الدائم‪ ،‬وتوافق على‬
‫الشروع في إعادة الهيكلة الداخلية الشاقة‪ ،‬وينبغي أن يكون األجنبيون متواضعين ألنهم يفكرون كم سيكون‬
‫هذا التعديل موجعًا‪ ،‬وال سيما من دون هزيم ٍة حربية ساخنة واحتال ٍل عسكري‪.‬‬

‫أخذ ذلك من فرنسا المتحدة عقودًا للتخلي عن معانيهم الخاصة االستثنائية ومسؤوليتهم العالمية‪ ،‬وسيزعم‬
‫بعضهم أن نُخبها( نخب فرنسا والمملكة المتحدة) ما زالت متمسّكة بهذه الميزة تمامًا‪ ،‬ولم تتخ ّل عنها‪ ،‬ولكن‬
‫كان لديهم ناتجٌ محلّي إجمالي مرتفع‪ ،‬وجامعاتٌ ذات تصنيف عال‪ ،‬وقوة مالية ولغات عالمية‪ ،‬بينما ليس‬
‫ي شي ٍء من ذلك‪ ،‬سوى أنها تمتلك حق النقض الدائم في مجلس األمن‪ ،‬فضاًل عن امتالكها‬ ‫ي روسيا أ ُّ‬
‫لد ّ‬
‫واحدة من ترسانات يوم القيامة (إشارة إلى ترسانتها النووية) قبل ك ِ ّل شي ٍء في العالم‪ ،‬وقدرات الحرب‬
‫األلكترونية على مستوى العالم‪ ،‬إضافة إلى جغرافيتها الفريدة من نوعها‪ ،‬التي تعطيها نوعً ا من االمتداد‬
‫العالمي‪.‬‬

‫ي على أنَّ القوة الصلبة تبقى هش ًة من دون أبعا ٍد أخرى للقوة العظمى‪ ،‬فمهما‬
‫وبعد؛ فإن روسيا دلي ٌل ح ّ‬
‫قدم المساواة مع الواليات المتحدة‪ ،‬واالتحاد األوروبي أو حتى‬
‫أصرَّ ت روسيا على أن يُعترف بها على ِ‬
‫الصين‪ ،‬فلن يكون لها ذلك‪ ،‬حيث ال يظهر في المدى القريب وال المتوسط احتما ُل أن تُصبحَ واحد ًة من تلك‬
‫الدول‪.‬‬

‫واآلن من أجل شيء ما مختلف تمامًا‬


‫ما هي خياراتُ روسيا الملموسة إلعادة الهيكلة والتوجه إلى النمط األوروبي؟ على الرغم من أنه لديها‬
‫تاريخ طويل جدًا من موقعها على المحيط الهادئ؛ لكنها أخفقت في أن تُصبح قو ًة آسيوية‪ ،‬وما يمكن أن‬
‫ٌ‬
‫تدّعيه هو سيطر ٌة في منطقتها‪ ،‬فليس ثمة نظيرٌ لقواتها العسكرية التقليدية بين الدول األخرى التي خلفت‬
‫بدرجات‬
‫ٍ‬ ‫االتحاد السوفياتي‪ ،‬وهذه األخيرة (باستثناء دول البلطيق) تعتمد أيضً ا اقتصاديًا على روسيا‬
‫متفاوتة‪ ،‬ولكن التفوق العسكري اإلقليمي والنفوذ االقتصادي في أوراسيا ال يمكن أن يضمنا حال َة قو ٍة‬
‫عظمى دائمة‪.‬‬

‫ناجحا‪ ،‬ولكن حتى لو انض ّم األعضاء المحتملون‬


‫ً‬ ‫لقد فشل بوتين في جعل االتحاد االقتصادي األوراسي‬
‫جميعهم‪ ،‬وعملوا في آن معًا‪ ،‬فإن اإلمكانات االقتصادية مجتمع ًة ما تزال صغيرة نسبيًا‪ .‬روسيا سوقٌ كبيرة‪،‬‬
‫ويمكن أن تكونَ ج ّذاب ًة ‪ ،‬ولكن الدول المجاورة ترى المخاطر وكذلك المكافآت في التجارة الثنائية مع هذا‬
‫البلد‪ ،‬فأستونيا وجورجيا وأوكرانيا على سبيل المثال‪ ،‬مستعدة عمو ًما للتعامل التجاري مع روسيا شريط َة‬
‫أن يكون لديهم سن ٌد أو دع ٌم في الغرب‪ ،‬والدول األخرى التي تعتمد ‪-‬أكثر منها‪ -‬اقتصاديًا على روسيا‪ ،‬من‬
‫مثل روسيا البيضاء وكازاخستان‪ ،‬ترى مخاطر في إطار الشراكة مع البلد الذي ال يفتقر إلى نموذج التنمية‬
‫المستدامة‪ ،‬فحسب‪ ،‬ولكن أيضً ا‪ ،‬في أعقاب ض ّمها شبه جزيرة القرم‪ ،‬قد يكون لها مطامعَ إقليمي ٍة تجاههم‪.‬‬

‫وفي الوقت نفسه‪ ،‬لم تُوَّ ل َد ((شراك ٌة استراتيجية)) ذات ضجيج مع الصين‪ ،‬إاّل القليل من التمويل المتوقع‪ ،‬أو‬
‫استثمار صيني للتعويض عن العقوبات الغربية‪ ،‬وفي الوقت كله‪ ،‬تبني الصين علنًا وبقوة أوراسيا الخاصة‬
‫بها‪ ،‬من بحر الصين الجنوبي مرورً ا بآسيا الداخلية إلى أوروبا‪ ،‬على حساب روسيا‪ ،‬وبالتعاون معها‪.‬‬

‫انحدار بنيوي‪ ،‬وإجراءات بوتين أسفرت عن غير قصد في جعل‬‫ٍ‬ ‫روسيا القوية اليوم هي في الواقع في حال‬
‫توج ًها نحو الغرب‪ ،‬فموسكو لديها عالقاتٌ متوترة‬
‫أوكرانيا أكثرَ تجانسًا عرقيًا من أي وقت مضى‪ ،‬وأكثر ُّ‬
‫مع ما يقرب من جيرانها كلهم‪ ،‬وحتى مع أكبر شركائها التجاريين‪ ،‬بما في ذلك آخرها تركيا‪ ،‬وحتى ألمانيا‪،‬‬
‫نظيرتها األكثر أهمي ًة في السياسة الخارجية‪ ،‬وواحدًا من الشركاء االقتصاديين األكثر أهمية‪ ،‬قد أيدَّوا كثيرً ا‬
‫عقوبات مكلف ٍة على الوضع الداخلي الروسي‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫فرض‬

‫((يبدو أنَّ ما يُسمّى بـ (الفائزين) في الحرب الباردة عازمون على أن يمتلكوا ك َّل شي ٍء‪ ،‬ويعيدوا تشكيل‬
‫نحو أفضل مصالحهم وحدهم))‪ ،‬هذا ما حاضر بوتين به في تجمع فالداي‬ ‫العال َم بصور ٍة يُمكن أن تخد َم على ٍ‬
‫السنوي للنقاش في تشرين األول‪ /‬أكتوبر ‪ ،2014‬بعد أن ض َّم القرم‪ ،‬ولكن ما يشكل تهديدًا وجوديًا لروسيا‬
‫ليس نظام الناتو أو الغرب‪ ،‬ولكن روسيا نفسها‪.‬‬

‫ساعد بوتين في إنقاذ الدولة الروسية‪ ،‬ولكن وضعها مر ًة أخرى على مسار الركود‪ ،‬واحتمال الفشل أيضً ا‪،‬‬
‫فقد أ ّكد الرئيس وزمرته مرارً ا وتكرارً ا على الضرورة الماسّة إلى تحديد أولويات التنمية االقتصادية‬
‫والبشرية‪ ،‬التي تتقلص إلى إعادة هيكل ٍة داخلية بعيدة المدى‪ ،‬الزمة لتحقيق ذلك بداًل من صبّ الموارد في‬
‫ي‪ e،‬فما تحتاجه روسيا حقًا حتى تُنافسَ بفاعلي ٍة‪ ،‬وتّؤ منَ مكانًا ثابتًا في النظام الدولي هو‬
‫التحديث العسكر ّ‬
‫الشفافية والكفاءة‪ ،‬وحكومة تخضع للمساءلة‪ ،‬وخدم ٌة مدنية حقيقية‪ ،‬وبرلمان حقيقيّ‪ ،‬وقضا ٌء مهن ّ‬
‫ي ونزيه‪،‬‬
‫إعالم حرة ومهنية وقويّة‪ ،‬وحمل ٌة غيرُ سياسيّة على الفساد‪.‬إجمالي للفرد الواحد‪ ،‬أو المؤشّرات‬
‫ٍ‬ ‫ووسائ ُل‬
‫الكمية األخرى‪.‬‬

‫كيفية تجنب اصطياد الدب‬


‫تواصل القيادة الروسية الحالية تحميل البالد أعبا َء السياسة الخارجية المشاكسة والمستقلة التي تتجاوز‬
‫قدرة البالد‪ ،‬والتي أنتجت بعض النتائج اإليجابية‪ ،‬فالموقع البارز المو ّقت الذي توفره سياس ٌة ماكرة وقاسية‬
‫في الحرب األهلية السورية يجب أاّل يخفي المأزق االستراتيجي المتكرر بشدة‪ ،‬وهو مأزقٌ يندمج فيه‬
‫ضعفُ روسيا وعظمتها إلنتاج مستب ٍد يحاول أن يقفز إلى األمام من خالل مركزة السلطة‪ ،‬ما يؤدي الى‬
‫تفاقم معضلة استراتيجية جدًا من المفترض أن تُحل‪.‬‬

‫ما اآلثار المترتبة لهذه السياسة على السياسة الغربية؟ كيف يجب على واشنطن إدارة العالقات مع دول ٍة‬
‫نووية‪ ،‬وقدرة فضائية ألكترونية تسعى الستعادة هيمنتها المفقودة‪ ،‬وإن كانت من نموذج أق ّل من الوحدة‬
‫األوروبية الضعيفة‪ ،‬وتجعل البالد (على عالقة) بما قد يأتي؟‪.‬‬

‫في هذا السياق‪ ،‬من المفيد أن ندرك أنَّه لم تكن هناك فعاًل مرحلة من العالقات الطيبة الدائمة بين روسيا‬
‫والواليات المتحدة‪( .‬تكشف وثائق رُ فعت عنها السرية أنَّه حتى تحالف الحرب العالمية الثانية كان محفو ًفا‬
‫بعدم ثق ٍة أعمق‪ ،‬وأنَّه كان نتيجة تقاطع مصالح أكبر‪ ،‬ما كان مفهو ًما بصورة عامة)‪ .‬لم يكن هذا بسبب سوء‬
‫لتباين في القيم األساسية وفي مصالح الدولة‪ ،‬وفق‬
‫ٍ‬ ‫الفهم‪ ،‬وسوء االتصال‪ ،‬أو ضررً ا بالمشاعر‪ ،‬وإنما نتيجة‬
‫ما حددها كل بلد‪ .‬بالنسبة لروسيا‪ ،‬القيمة العليا هي الدولة‪ .‬وبالنسبة إلى الواليات المتحدة‪ ،‬هي الحرية‬
‫الفردية والملكية الخاصة وحقوق اإلنسان التي تنطلق عادة في معارضة الدولة‪ ،‬لذلك يجب أن تبقى‬
‫التوقعات قيد االختبار‪ ،‬وبالقدر نفسه من األهمية‪ ،‬ال ينبغي للواليات المتحدة أن تبالغ في التهديد الروسي‪،‬‬
‫وأن تقلل من مزاياها الكثيرة‪.‬‬
‫روسيا اليوم ليست قو ًة ثورية تهدد بقلب النظام الدولي‪ ،‬فموسكو تعمل داخل مدرس ِة القوى العظمى‬
‫المألوفة في العالقات الدولية‪ ،‬دول ٌة تعطي األولوية للمناورة على األخالق‪ ،‬وتفترض حتمي َة الصراع‪،‬‬
‫وسيادة القوة الصلبة والسخرية من دوافع اآلخرين‪ ،‬ولدى روسيا في أماكن معينة وحول قضايا معينة؛‬
‫القدرة على إحباط مصالح الواليات المتحدة‪ ،‬ولكن ال تقترب ولو من بعي ٍد إلى حجم التهديد الذي كان يشكله‬
‫االتحاد السوفياتي‪ ،‬لذلك ليس هناك حاج ٌة للر ّد عليها بحر ٍ‬
‫ب باردة جديدة‪.‬‬

‫يتلخّ ص التحدي الحقيقي اليوم في رغبة موسكو في اعتراف الغرب بنفوذ روسيا في‬
‫الفضاء السوفياتي السابق (باستثناء دول البلطيق)‪ .‬هذا هو الثمن للوصول إلى تسوية مع‬
‫تعاون‬
‫ٍ‬ ‫بوتين‪ ‬من يدافع عن مثل هذه التسوية ال يعترف دائ ًما بصراحة‪ .‬كانت نقطة الخالف التي حالت دون‬
‫دائم بعد ‪ ،11/99‬وما تزال‪ ،‬وهي تنازل ال ينبغي للغرب أن يمنحه أبدًا‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فالغرب ليس قادرً ا حقًا‬
‫على حماية السالمة اإلقليمية للدول داخل مجال موسكو المرغوب‪ ،‬ولن يجدي التحايل‪ ،‬ولذلك ما الذي‬
‫ينبغي القيام به؟‬

‫سيُبقي‬
‫يستدعي بعضهم جورج كينان[‪ ]1‬ويدعو إلى إحياء سياسة االحتواء‪ ،‬بحج ِة أنَّ الضغط الخارجي َ‬
‫روسيا بعيدًا حتى تحرير نظامها السلطوي أو انهياره‪ ،‬وبالتأكيد‪ ،‬فإنَّ كثيرً ا من أفكار كينان تظل وثيقة‬
‫الصلة‪ ،‬مثل تأكيده في ((البرقية الطويلة)) التي أرسلها من موسكو قبل ‪ 70‬عامًا حول انعدام األمن العميق‬
‫الذي قاد السلوك السوفياتي[‪ .]2‬إنَّ تبني هذا التفكير اآلن يتطلب المحافظة على العقوبات أو تكثيفها ر ًّدا‬
‫على االنتهاكات الروسية للقانون الدولي‪ ،‬وحشد التحالفات الغربية سياسيًا‪ ،‬ورفع مستوى االستعداد‬
‫العسكري لحلف الناتو‪ ،‬ولكن االحتواء الجديد يمكن أن يُصبح فخً ا‪ ،‬يعيد رفع روسيا لوضع القوة العظمى‬
‫المنافسة‪ ،‬وهو ما تسعى روسيا إليه‪ ،‬وساعدت ألجله في إحداث المواجهة الحالية‪.‬‬

‫مر ًة أخرى‪ e،‬تصميم المريض هو المفتاح‪ ،‬وليس من الواضح كم من الوقت يمكن أن تلعب روسيا دورها‬
‫ضعيف ًة في مواجهة الواليات المتحدة واالتحاد األوروبي‪ e،‬ومخيف ًة جيرانها‪ ،‬ومستعدي ًة شركاءها التجاريين‬
‫األكثر أهمية‪ ،‬ومدمر ًة مناخ األعمال الخاصة بها‪ ،‬ومسهمة بنزف المواهب‪ .‬في مرحل ٍة ما‪ ،‬سيتم إبعاد جس‬
‫النبض لنوع من التقارب‪ ،‬كما سينتهي التعب من العقوبات في نهاية المطاف تمامًا‪ ،‬وخلق إمكان لنوع من‬
‫وقت قريب‪ ،‬ألن السعي‬
‫ٍ‬ ‫ي‬‫الصفقة‪ .‬ذاك ما يقال‪ ،‬فمن الممكن أيضا أنَّ المواجهة الحالية قد ال تنتهي في أ ّ‬
‫الروسي للنفوذ في المجال األوراسي هو مسألة هوي ٍة وطنية‪ ،‬وليس عرض ًة سهل ًة لحسابات التكاليف‬
‫والمنافع المادية‪.‬‬

‫ستكون للمقدرة على اللعب أن تقيم خطًا ثابتًا عند الضرورة بمثل رفض االعتراف بمجال روسي متميز‬
‫حتى عندما تكون موسكو قادر ًة على فرض مجا ٍل عسكري‪ e،‬في حين إنّ عرض المفاوضات من موقع قوة‬
‫فحسب‪ ،‬وتجنّب انزالق التعثر إلى مواجهات ال لزوم لها‪ ،‬يأتيان بنتائجَ عكسية أخرى في أغلب األحوال‪.‬‬
‫يوم من األيام‪ ،‬قد يتصالح قادة روسيا مع الحدود الصارخة للوقوف في وجه الغرب ويسعون للهيمنة‬
‫في ٍ‬
‫على أوراسيا‪ ،‬وحتى ذلك الحين‪ ،‬لن تظل روسيا إاّل حملة هادفة ضرورية أخرى‪ ،‬إلى أن يتحقق النصر‪.‬‬
‫لكن إدارتها هي المشكلة‪.‬‬

You might also like