Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 112

‫مناهج المحدثين‬

‫تأليف‬
‫الدكتور ‪ /‬سعد بن عبد هللا الحميد( حفظه هللا‬
‫)‬
‫اعتني به‬
‫أبو عبيدة ماهر صالح آل مبارك‬
‫دار علوم السنة‬

‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬


‫الحمد هلل رب العالمين والصالة والسالم على من ال نبي بعده وبعد ‪:‬‬

‫فقد فوضت األخ ماهر بن صالح آل مبارك بنسخ األشرطة التي ألقيتها في بعض الدروات العلمية والمتضمنة‬
‫لمناهج المحدثين والقيام على تصحيحها وطباعتها ‪ ،‬وهذا إذن مني له بذلك ‪ ،‬وصلي اهلل وسلم على نبينا‬
‫محمد ‪.‬‬

‫كتبه‬
‫سعد بن عبد اهلل الحميد‬

‫‪1‬‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‬
‫احلمد هلل وحده والصالة والسالم على من بعثه اهلل رمحة للعاملني وعلى آله وأصحابه الغر امليامني ‪ .‬ومحداً وشكراً هلل‬
‫على أن من علينا بقرب ووفرة هؤالء ‪ ،‬أساتذة العلم وطالبه ‪ ،‬ولوال نعمة اهلل علينا ألنفقنا النفس والنفيس للجلوس‬
‫معهم واإلستماع إليهم ‪ ،‬والتعلم على أيديهم ‪ ،‬فجزاهم اهلل خرياً ‪.‬‬
‫وبالنسبة هلذا الكتاب الذي يتعلق ( مبناهج احملدثني ) فهو عبارة عن موضوعات تتعلق ببعض كتب السنة والتعريف‬
‫هبا ‪ ،‬وبطرق مؤلفيها فيها ‪ ،‬ولذلك فهو يعترب مجعاً لشتات معلومات متوفرة هنا وهناك ‪ ،‬وإن كان احلديث عن‬
‫بعض الكتب قيد تكون مادته العلمية مستمدة من كتب نركز عليبها ‪ .‬ورمبا كان ذلك جمموعاً أكثر يف كتاب ـ كما‬
‫هو يف موضوعنا األول عن ( صحيح البخاري ) رمحه اهلل تعايل ـ ‪ ،‬فإن معظم مادته العلمية مـوجود يف ( هدي‬
‫الساري) الذي هو مقردمة لفتح الباري الذي شرح فيه احلافظ بن حجر ( صحيح البخاري ) ‪ .‬فالصيد كله يف‬
‫جوف الفراء ومل يدع احلافط ـ رمحه اهلل تعايل ـ ألحد بعده شيئاً ‪.‬‬
‫وأما ما عدا ذلك من الكتب اليت سيأيت احلديث عنها ‪ ،‬فسأحاول ـ إن شاء اهلل ـ جاهداً أن أشري اىل بعض املراجع‬
‫اليت تستمد مادهتا العلمية منها ‪.‬‬
‫ملحوظة ‪ :‬ـ‬
‫أعلم رمحك اهلل ‪:‬‬
‫أن النيب صلي اهلل عليه وسلم ملا إبتعثه اهلل ـ جل وعال ـ هلذه األمة أنزل معه نورين " الكتاب والسنة " ‪ .‬وحاجة‬
‫الكتاب اىل السنة ال ختفي على طالب علم ‪.‬‬
‫فالسنة هي املبينة للقرآن واملوضحة له ‪ .‬ولوال السنة ملا إستطاع أحد أن يعمل بكتاب اهلل ـ جل وعال ـ ألن هناك كثري‬
‫من األمور اجململة كلها فصلتها السنة ‪ ،‬كالصلوات ‪ ،‬والزكاة ‪ ،‬واحلج والصيام ‪ ،‬واحلدود ‪ ،‬وغري ذلك من األمور ‪.‬‬
‫فال جند أن عدد الصلوات املفروضة يف اليوم والليلة مخس صلوات يف كتاب اهلل ـ جل وعال ـ وإمنا فصلت ذلك وبينته‬
‫سنة النيي صلي اهلل عليه وسلم وكذلك الزكاة ‪ :‬عن صفتها وما فيها من التفصيل ‪ ،‬كل ذلك بينته السنة ‪ .‬واحلج‬
‫والصيام وغريذلك من األمور‪.‬‬
‫وملا كانت السنة يف هذه األمهية جند أن صحابة النيب صلي اهلل عليه وسلم حرصوا كل احلرص على تلقي هذه السنة‬
‫من النيب صلي اهلل عليه وسلم بكامل احلذر ـ فالواحد منهم يستشعر قيبول النيب صلي اهلل عليه وسلم " من كذب علي‬

‫‪2‬‬
‫متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " وقوله صلي اهلل عليه وسلم " من حدث عين حبديث يرى أنه كذب فهو أحد‬
‫الكاذبني " أو أحد الكاذبني ‪ ،‬أو " احد الكذابني " ـ على إختالف الروايات يف ذلك ‪.‬‬
‫مث إن هؤالء الصحب الكرام من بالغ حرصهم رمبا الواحد منهم الزم النيب صلي اهلل عليه وسلم هاجر األهل‬
‫واألوطان ‪ .‬كما صنع أبو هريرة رضي اهلل عنه ‪ ،‬وكان يلزم النيب صلي اهلل عليه وسلم على ملء بطنه فقط ‪.‬‬
‫وبعضهم رمبا كانت تشغله الدنيا وطلب املعيشة لكنه ال يريد أن يفوته من حديث النيب صلي اهلل عليه وسلم شيئ‬
‫فلذلك يتفق مع بعض الصحابة اآلخرين على التناوب على النيب نصلي اهلل عليه وسلم كما صنع عمر بن اخلطاب ‪،‬‬
‫وقصته كما هي معروفة يف صيحيح البخاري حينما كان يتناوب مع جار له أنصاري جمالس النيب صلي اهلل عليه‬
‫وسلم فيحدث هذا مبا غاب عنه ذاك والعكس ‪.‬‬
‫لكن هؤالء الصحابة كانوا يتعمدون يف الغالب على احلفظ ‪ ،‬فكانوا حيفظون حديث النيب صلي اهلل عليه وسلم كما‬
‫حيفظون السورة من القرآن ‪ ،‬وكانو أمة امية ال تعرف الكتابة وال احلساب ‪ ،‬وإمنا كمان الرتكيزعندهم على احلفظ ‪.‬‬
‫ووجدونفرحمص ورون ك انوا يكتب ون ألنفس هم كما ص نع عبد اهلل بن عمر وبن الع اص رضي اهلل عنهما ‪ ،‬ولس كن‬
‫ه ؤالء النفر ماك ان عن دهم من ح ديث النيب ص لي اهلل عليه وس لم الشئ الكثري حبيث يش كل مص نفات كما هو واقع‬
‫فيما بعد ذلك حينما دونت السنة ‪ ،‬ولكن كان الواحد منهم رمبا دون بعض األح اديث يف صيحيفة من الصحف أو‬
‫حنو ذلك ‪.‬‬
‫والتفصيل يف هذه املسألة ليس هذا موضعه ‪ ،‬ألن األمر يطول حينما نتكلم عن تدوين السنة ‪ ،‬والسبب يف أن النيب‬
‫صلي اهلل عليه وسلم منعهم من كتابة اجلديث ن وكيف كتبوه ‪ ،‬وما هي أقوال العلماء يف التوفيق بني أحاديث‬
‫اإلباحة ؟ وهلم جرا ‪ .‬هذا األمر يطول ‪.‬‬
‫ولكن املقصود اإلشارة اىل أن سنة النيب صلى اهلل عليه وسلم إمنا دونت تدويناً هبذه الصورة ـ يعين على شكل‬
‫مؤلفات ـ بعد ذلك بزمن ‪ .‬وكان اخلليفة الراشد عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه فكر يف تدوين السنة ‪ ،‬ولكنه‬
‫إستخار اهلل شهراً كامالً مث رأى أال تدون السنة ‪ .‬وكأنه خشي ـ رضي اهلل عنه ـ على الناس الداخلني يف االسالم‬
‫حديثاً أن ينصرفوا اىل السنة ويهملوا القرآن ‪ ،‬ورمبا دخل عليهم شيء من السنة يف القرآن وخباصة أن القرآن مل جيمع‬
‫اجلمع النهائي وإمنا كان ذلك يف عهد عثمان بن عفان رضي اهلل تعايل عنه ‪.‬‬
‫لكن ملا جاء عصراخلليفة الراشد عمر بن عبد العزيز ـ رمحه اهلل ـ رأى أن السنة خيشى عليها من الفوت ‪ ،‬وذلك بوفاة‬
‫حامليها ‪ ،‬فيكتب اىل اآلفاق يامرهم يف تلك الكتب اليت كتب إليهم هبا أن يدونوا ما عندهم من ستة النيب صلفي اهلل‬

‫‪3‬‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬وما يضاف اىل ذلك من آثارعن صحابته الكرام ـ رضي اهلل عنهم ـ ففعلوا وهنض بذلك بعض العلماء‬
‫األجالء ‪ ،‬كمحمد بن مسلم بن شهاب الزهري ـ رمحه اهلل تعاىل ـ ودونت السنة ‪ ،‬ولكنه ندوين مل يتخذ طابع‬
‫التصنيف على املوضوعات وإمنا هو سرد ‪ ،‬فقد جتد حديثاً يف الطهارة يتلوه حديث يف النكاح يتلوه حديث يف‬
‫التفسري ‪ ،‬وهلم جرا ‪ .‬وكانت أيضاً تلك األحاديث مشوبة وخملوطة مبا جاء عن الصحابة ـ رضي اهلل عنهم ـ من‬
‫أقوال أو أفعال ‪ ،‬حيت جاء عصر طبقة أخري بعد ذلك ـ وإن كان بعضها ملحقاً بصغار التابعني كأبن جريح رمحه‬
‫اهلل تعاىل‬
‫ملا جاء هذا العصر اختذ التدوين والتصنيف طابعاً آخر فرتبت هذه األحاديث على املوضوعات ‪ ،‬وبدأ التصنيف يتخذ‬
‫شكالً آخر ‪ .‬وهو من باب التفنن يف التأليف ‪.‬‬
‫فنجد كثرياً من علماء كانوا متعاصرين يف وقت واحد أهنم سلكوا هذا املسلك ‪ ،‬كابن جريح ‪ ،‬وحممد بن إ سحاق‬
‫‪ ،‬واإلمام مالك ‪ ،‬ومحاد بن سلمه ‪ ،‬وسعيد بن أيب عروبة ‪ ،‬وسفيان الثوري ‪ ،‬ومعمر بن راشد ‪ ،‬وغريهؤالء كثري ‪،‬‬
‫كلهم ممن صنف على املوضوعات ‪ .‬ولكن هذه التصانيف أيضاً كانت متزج اآلثار الواردة عن الصحابة ـ رضي اهلل‬
‫عنهم ـ باألحاديث املرفوعة إيل النيب صلي اهلل عليه وسلم ‪.‬‬
‫ولعلكم تلحظون يف موطأ اإلمام مالك ‪ ،‬ويف مصتف عبد الرزاق ‪ ،‬ويف مصنف ابن أيب شيبة ـ هذه الطريقة هي اليت‬
‫كانت سلكت يف ذلك العصر ‪ ،‬إىل أن جاءت سنة مائتني للهجرة ـ إبتدأ العلماء يركزون على فرز األحاديث عن‬
‫اآلثار الواردة عن الصحابة ـ رضي اهلل تعاىل عنهم ـ فبعضهم رأى أن هناك ما يسهل حفظ تلك األحاديث ‪ ،‬وذلك‬
‫جبمع أحاديث الصحايب يف موضع واحد غري مرتبة ‪ ،‬وهذا يسهل احلفظ ‪ ،‬ألن اإلسناد يتكرر ‪ ،‬واملتون خمتلفة ‪.‬‬
‫فإذن سريكز على حفظ املتون ‪ ،‬واإلسناد تقريباٌ واحد ‪ ،‬وإن اختلف فيختلف يف بعض الطبقات ‪ ،‬أما طبقة‬
‫الصحابة فهذا يقل فيه احلفظ اىل حد كبري ‪ ،‬وتتلوه طبقة التابعني ‪ ،‬فرمبا كان التابعي مكثراٌ عن صحايب معني ‪،‬‬
‫ولذلك يريح احلافظ نفسه من حفط هذا اإلسناد يف الطبقة العليا ‪ ،‬فالصحايب والتابعي يتكرر معه يف أحاديث عدة ‪،‬‬
‫ورمبا أيضاٌ نزل اىل طبقة أتباع التابعني ‪.‬‬
‫فإذا اإلختالف يكون أكثر يف طبقة املشايخ ( مشايخ أولئك املصنفني ) مث يف طبقة مشاخيهم أيضا ً ‪ .‬لكن هذا النوع‬
‫من التصنيف وهو الذي يسمي ( املسانيد ) ‪ ،‬كان فيه شيء من الصعوبة على طلبة العلم ‪ ،‬وأيضاً كان املقصود منه‬
‫حفظ السنة جمرد ة عن التفقه ‪ ،‬فرأي بعض األئمة أن يسلك مسلكاً آخر يف التصنيف مع الرتكيز على األحاديث‬

‫‪4‬‬
‫املرفوعة ‪ ،‬فرأوا إفراد أحاديث النيب صلي اله عليه وسلم وفرزها عن آثار الصحابة رضي اهلل عنهم واآلثار الواردة عن‬
‫التابعني ‪ ،‬مث ترتيب هذه األحاديث على املوضوعات الفقهية‪.‬‬
‫اإلمام البخاري رمحه اهلل تعاىل‪.‬‬
‫ومن هؤالء اإلمام البخاري رمحه اهلل تعايل ـ ولكن كان هذا املسلك ميكن أن جيمع أحاديث النيب صلي اهلل‬
‫عليه وسلم الواردة عنه بأسانيد صحيحة ثابتة إىل جانب تلك األحاديث اليت مل ترد بتلك األسانيد الصحيحة ‪.‬‬
‫فالبخاري سلك أيضاً املسلك الثاين وهو أن يفرد أحاديث النيب صلي اهلل عليه وسلم الصحيحة عن ما سواها ‪ ،‬وكان‬
‫لذلك سبب وهو ‪ :‬أنه كان جالساً يف جملس شيخه إسحاق بن إبراهيم احلنظلي املعروف بإبن راهويه ‪.‬‬
‫وكانت النفوس آنذاك تتشوف اىل هذه النقطة اليت أشرنا إليها ‪ ،‬زهي فرز صحيح سنة النيب صلي اهلل عليه وسلم عن‬
‫ما عداها ‪ .‬فرمبا كان هناك شيء من التذاكر هلذه املسألة ‪ :‬من ينهض هبذه املهمة ؟‬
‫فتكلم إسحاق يف جملسه هبذا الكالم ‪ .‬فقال ‪ :‬لو أفردمت صحيح سنة النيب صلي اهلل عليه وسلم بالتصنيف كان‬
‫البخاري ـ رمحه اهلل ـ قد وقع ذلك من نفسه قبل ذلك ‪ ،‬ورأى يف ذلك رؤيا ‪ ،‬رأى أنه أمام النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫وبيده مروحة وهو يذب الذباب عن وجه النيب صلي اهلل عليه وسلم فذكر ذلك ألحد املعربين ‪ ،‬فعرب ها له بأنه يذب‬
‫الكذب عن سنة النيب صلي اهلل عليه وسلم فلما ذكر شيخه إسحاق بن راهويه هذا الكالم قوي عزم البخاري ـ رمحه‬
‫اهلل تعايل ـ يف هذه املسألة ونشط يف التصنيف ‪.‬‬
‫وكان ـ رمحه اهلل ـ بلغ من احلفظ واإلتقان درجة حسد عليها يف عصره ‪ ،‬وكانت والدته ـ رمحه اهلل ـ يف سنة أربع‬
‫وتسعني ومائة ‪ ،‬وذلك يف الثالث عشر من شهر شوال يف تلك السنة ‪ ،‬وبالتحديد يف يوم اجلمعة بعد صالة اجلمعة ‪.‬‬
‫وابتدأ يسمع األحاديث على املشايخ الذين يف بلده ‪ ،‬وأخذ يرد عليهم ‪ ،‬وينتقد األخطاء يف سن مبكر ‪ ،‬حيت إنه‬
‫يذكر عن نفسه ـ رحبمه اهلل ـ أنه كان عند شيخ له يقال له ‪ :‬الداخلي ‪ ،‬فذكر الداخلي إسناداً ـ عن سفيان أو عن أيب‬
‫الزبري عن إبراهيم ـ فقال البخاري ‪ :‬هذا خطأ ‪ ،‬أو الزبري ال يروي عن إبراهيم ‪.‬‬
‫فأغلظ عليه العبارة شيخه هذا واسكته ‪ ،‬فأصر البخاري على مراجعة هذا الشيخ ألصوله ‪ .‬فدخل الشيخ ورأى‬
‫احلديث ‪ ،‬مث جاء للبخاري وقال ‪ :‬كيف هو ؟ قال ‪ :‬إمنا هو سفيان عن الزبري وهو ابن عدي عن إبراهيم وهو‬
‫النخعي ‪ ،‬فأبو الزبري الذي هو حممد بن يونس بن تادرس ال يروي عن إبراهيم ‪ .‬فأخذ شيخه هذا يصلح كتابة مما‬
‫أماله عليه البخاري ‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫ملا سئل البخاري ـ رمحه اهلل ـ عن عمره آنذاك حينما رد على شيخه كم كان ؟ أجاب بأن عمره كان إحدي عشرة‬
‫سنة ‪.‬‬
‫وهذا السن بال شك أنه يهيأ لإلنسان أن يصل إىل هذه الدرجة إال أن يكون نابغاً ‪ .‬وهكذا كان ـ رمحه اهلل تعايل ـ بل‬
‫إنه ال يكاد ترك بلداً من البلدان مل يرحل إليها يف طلب العلم ‪ ،‬ولكنه حينما كان جيلس عند الشيوخ مل يكن يكتب‬
‫‪ ،‬وكان بعض الطلبة رمبا انتقده على هذا الصنيع ‪ ،‬فإذا رآهم يلحون عليه حيت إهنم يف بعض األحيان يصلحون‬
‫كتبهم من حفظ البخاري ‪.‬‬

‫وهو الذي يقول عن نفسه " رب حديث مسعته يف البصرة وكتبته بالشام " ‪.‬‬
‫ال يتفرغ للكتابة إال بعد مدة مديدة‍‍اا فهو حيفظ مث يرتك الكتابة بعد ذلك ‪ ،‬ورمبا أجل الكتابة إىل أن يصل إىل بلده‬
‫" خبارى" ‪.‬‬
‫تنبيه ‪:‬‬
‫ومن القصص اليت أوردها ألجل التنبيه عليها ‪ ،‬تلك القصية اليت اشتهرت وانتشرت ‪ ،‬ويف احلقيقة الذهن يسابعدها ‪،‬‬
‫وقد نكون خمطئني يف االسبتبعاد بسبب قصور فهمنا ‪ ،‬وعدم وجود من هو هبذه الصفة فيما بيننا ‪ ،‬ولكن ـ على كل‬
‫ح ال ـ حيث اإلس ناد احلديثي هي ال تثبت ‪ ،‬ف إذا مل يثبت اإلس ناد ال نثبت املنت حيت يثبت اإلس ناد ذك روا أن ـ‬
‫البخ اري رمحه اهلل ـ ع زم على الرحيل إىل بغ داد ‪ ،‬وعلم به أهل بغ داد فحينما علم وا به اس تعدوا للقائه ‪ ،‬فش هرته‬
‫كانت قد بلغت اآلفاق ‪ ،‬وحفظه كان مضرب املثل ‪ ،‬فاستعدوا لرؤية البخاري هذا الذي يتحدث عنه ‪ ،‬ويذكر عنه‬
‫من احلفظ ماي ذكر ‪ ،‬فحينما ق دم عليهم ك ان بعض طلبة العلم اس تعدوا المتحانه ل ريوا هل هو حافظ كما ي ذكر عنه‬
‫أو ال ؟ ‪.‬‬
‫فجمعوا مائة حديث ووزعوها بني عشرة منهم ـ كل واحد عشرة أحاديث ـ لكن هذه العشرة األحاديث اليت عنده ال‬
‫يأخذها هكذا صحيحة سنداً ومتناً ولكن يأخذ متوهنا ‪ ،‬وأما األسانيد العشرة اليت عند التلميذ اآلخر ‪.‬‬
‫وتلميذ آخر مثله متاما ‪ :‬يأخذ متون أحاديث ويركب عليها أسانيد أحاديث عند تلميذ آخر ‪ ،‬وهلم جرا ‪ ،‬حىت قلبوا‬
‫عليه املائة حديث ‪ ،‬فحينما قدم أخذوا يلقيون عليه كأهنم يس ألونه سؤال التلميذ للع امل يلقون عليه ه ذه األح اديث‬
‫واحداً تلو اآلخر ‪ ،‬ويف كل حديث يقول رمحه اهلل ‪ :‬ال أعرفه ‪ ،‬والناس يتعجبون من هذا البخاري الذي يتحدث عن‬
‫حفظه إىل هذا احلد ‪ ،‬ومل يعرف حديثاً واحداً من هذه األحاديث ‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫فحينما فرغ وا من املائة أخذ يعيد عليهم ما أمل وه عليه من طريق اخلطأ ‪ ،‬مث ي رد اخلطأ إىل الص واب ‪ ،‬فيشري إىل كل‬
‫واحد فيق ول ‪ :‬أما ح ديثك األول ال ذي قلت فيه ‪ :‬ك ذا وك ذا ‪ ،‬فص وابه ك ذا وك ذا وك ذا ‪ ،‬فإس ناد ح ديثك هو‬
‫اإلسناد الذي عن فالن ‪ ،‬فرد املائة حديث اليت قلبوها عليه ـ ردها إىل الصواب ‪.‬‬
‫احلافظ الع راقي ـ رمحه اهلل ـ ملا أورد ه ذه احلكاية ق ال ‪ :‬أنا ال أعجب من رد البخ اري اخلطأ إىل الص واب ‪ ،‬ولكن‬
‫أعجب كيف أن البخاري حفظ اخلطأ من أول وهلة ‪.‬‬
‫فهذه القصة أوردها اخلطيب البغدادي يف تارخيه من طريق بن عدي صاحب الكامل عن أشياخ له ‪ ،‬وإبن عدي مل‬
‫يدرك البخاري ‪ ،‬وهؤالء األشياخ مبهمون ‪ ،‬واهلل أعلم هل هم ثقات أو ال ؟‬
‫وإن كانوا ثقات فهل مسعوه ‪ ،‬أو شاهدوا هذه القصة ‪ ،‬أو أخذوها عن غريهم ؟ وهذا الغري هل هو ثقة ؟ وهلم جرا‬
‫يتسلسل األمر ‪.‬‬
‫لذلك قلت ‪ :‬من حيث اإلسناد فهي ال تثبت ‪ ،‬وأما من حيث املنت فعندي أن فيهاا شيئاً من الغرابة ‪ ،‬وهو الذي دعا‬
‫احلافظ العراقي إىل إستغراب حفظ البخاري للخطأ من أول وهلة ‪ .‬وعلى كل حال مادام أنه حيفظ ـ رمحه اهلل ـ هبذه‬
‫الصورة إيل هذا احلد الذي نذكره ‪.‬‬
‫مث إنه رمحه اهلل ملا نشط على التأليف يف هذه املسألة وهي تدوين صحيح سنة النيب صلي اهلل عليه وسلم كان ـ رمحه‬
‫اهلل ـ يعتين بت دوين احلديث ال ذي ي ري أنه ص حيح ‪ ،‬ومع ذلك يس تعني باهلل جل وعال ويس تخري يف إثب ات ذلك‬
‫احلديث أو حذفه ‪ .‬في ذكر أنه ما دون ح ديثاً من األح اديث إال بعد أن يغتسل ويص لي ركع تني ‪ ،‬مث بعد ذلك ي دون‬
‫احلديث ‪.‬‬

‫عدد األحاديث يف صحيح البخاري ‪:‬‬


‫وملا دون هذه األحاديث يف كتابه ‪ ،‬وكما نرى أهنا باملكرر بلغت سبعة آالف ومائيت حديث وكسر ‪ ،‬وبغري املكرر‬
‫كما ي ذكر احلافظ بن حجر بلغت ألفني وس تمائة وح ديثني فقط ‪ ،‬وهن اك اختالف يف ع ّد األح اديث ‪ ،‬لكن ذكر‬
‫احلافظ هذا يف أحد أقواله ‪.‬‬
‫هذه األحاديث اليت سواء باملكرر أو غري املكرر انتقاها من ستمائة ألف حديث ‪ ،‬ولكن ليس املقصود هبذه الستمائة‬
‫أهنا ستمائة حديث مفردة ‪ ،‬كل حديث بإسناد وكل إسناد على منت اآلخر ‪ ،‬بل املقصود من الستمائة ألف حديث‬

‫‪7‬‬
‫أهنا أحاديث بالتكرار ‪ ،‬فاحلديث الواحد ـ أي املنت الواحد ـ قد يرد عن عدة من الصحابة ‪ ،‬نعتربه عنه حديثاً واحداُ ‪،‬‬
‫ويف احلقيقة أهنم يعتربون بعدد أولئك الصحابة ‪.‬‬
‫بل إن احلديث الواحد عن الص حايب الواحد قد ي رد من طريق ع دة من الت ابعني عن ذلك الص حايب ‪ ،‬وحنن نعت ربه‬
‫حديثاً واحداً ‪ ،‬وهم يعتربونه عدة أحاديث بعدد أؤلئك التابعني ‪ ،‬بل من بعد التابعني ومن بعدهم ‪ .‬فاحلديث الواحد‬
‫رمبا وصل إىل عشرين حديثاً أو أكثر من العشرين ‪.‬‬
‫مث أن هذه األحاديث ليست مرفوعة للنيب صلي اهلل عليه وسلم فقط ‪ ،‬بل خيالطها أيض اً اآلثار الواردة عن الصحابة ‪،‬‬
‫ورمبا التابعني ‪.‬‬
‫فإذن هم يقصدون باحلديث اإلسناد‪ ،‬واإلسناد قد يكون مروي اً به منت مرفوع للنيي صلي اهلل عليه وسلم أو أثر عن‬
‫صحايب ‪ ،‬أو تابعي ‪ ،‬فلذلك ال نستغرب هذا العدد حينما يرد ألن املقصود هو ماذكر فقط ‪.‬‬

‫وحينما خرج ـ رمحه اهلل ـ هذه األحاديث من الستمائة ألف حديث مل يكن مقصودة أنه مل يصح عن النيب سوى هذا‬
‫العدد ‪ ،‬ولكنه أراد أن يؤلف كتاباً خمتصر يف صحيح سنة النيب صلي اهلل عليه وسلم ‪.‬‬
‫ول ذلك ذكر أنه ت رك الص حاح أك ثر من ه ذا ‪ ،‬وت رك الص حاح حلال الط ول حيت ال يط ول الكت اب ‪ ،‬أي أنه انتقى‬
‫أصحة الصحيح عنده ‪ ،‬وإال فإنه رمحه اهلل يصحح أحاديث مل خيرجها يف كتابه ‪ ،‬والدليل على ذلك أننا حينما نطالع‬
‫ىفي سنن الرتمذي أو يف ( جامع الرتمذي ) ـ جند الرتمذي ـ رمحه اهلل ـ يقول ‪ :‬وسألت حممد بن إمساعيل البخاري عن‬
‫هذا احلديث فقال ‪ :‬هو حدسث عندي صحيح ‪ .‬أو حسن ‪ ،‬أو حنو هذه العبارات ‪.‬‬
‫فإذن البخاري ـ رمحه اهلل ـ تصح عنده وتثبت أحاديث غري األحاديث اليت دوهنا يف كتابه ـ اجلامع الصحيح ـ ولكنه مل‬
‫خيرج تلك األحاديث إما رغبة عن الطول ‪ ،‬أو لكون تلك األحاديث ليست على شرطه الشديد الذي اشرتطه على‬
‫نفسه يف كتابه اجلامع ‪.‬‬
‫وملا دون ه ذه األح اديث ك ان رمحه اهلل يركز كل الرتك يز على جتين األح اديث اليت ميكن أن خيالف فيها ‪ ،‬أي خيالفه‬
‫العلم اء فيها ‪ ،‬ولكنه قد ي ورد أح اديث معلولة فيخالفه بعض العلم اء فيها ‪ ،‬لكن بعد أن ي رتجح له أن تلك العلة غري‬
‫مؤثرة ‪.‬‬
‫ول ذلك ملا ص نف ه ذا الكت اب عرضه على بعض أئمة عص ره كاإلم ام امحد وعلى بن املديين ‪ ،‬وحييي بن معني كما‬
‫يذكر ذلك العقيلي ‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫وإن كنت ب ودي لو وج دت كلمة العقيلي ه ذه أين هي ‪ ،‬ف العقيلي تلميذ للبخ اري ‪ ،‬ولكن احلافظ ابن حجر ذكر‬
‫هذه املقولة عن العقيلي ‪ ،‬والعهدة عليه ‪.‬‬
‫يق ول إن البخ ارى ـ رمحه اهلل ـ ع رض كتابه على ه ؤالء األمة الثالثة وغ ريهم ـ فوافق وه على تلك األح اديث س وى‬
‫أربعة أحاديث خالفوه فيها ‪.‬‬
‫يقول العقيلي ‪ :‬والقول فيها قول البخاري ‪ ،‬وهي صحيحة ‪ .‬فهل فعالً مل ينتقد هؤالء األئمة املذكورين سوى هذه‬
‫األح اديث األربعة فقط ‪ ،‬مبعين أهنم وافق وا البخ اري على تلك األح اديث كلها ؟ ه ذا ما يقتض يه كالم العقيلي ‪،‬‬
‫والعلم عند اهلل ـ جل وعالـ ‪.‬‬
‫عرفنا يف هذا إن موضوع كتاب البخاري إفراد الصحيح الثابت من سنة النيب صلي اهلل عليه وسلم وفرزه عما سواه‬
‫من األح اديث اليت ال تثبت ‪ ،‬وه ذا ميكن يس تفاد من تس مية كتابه البخ اري ‪ ،‬فإنه مساه ( اجلامع الص حيح املس ند من‬
‫حديث رسول اهلل صلي اهلل عليه وسلم وسنته وأيامه ) هذا امسه الكامل ‪ .‬وإن كان اختصر إىل ( صحيح البخاري‬
‫) ‪ ،‬فهذه تسمية خمتصرة فقط ‪.‬‬
‫ملا ألف رمحه اهلل ه ذا الكت اب مل يكن ترك يزه علي الرواية ـ مبعىن أن ي ورد األح اديث الص حيحة فقط جمردة عن أي‬
‫ش يء آخر … ال ‪ ،‬وإمنا ك ان له هم غري ه ذا وهو التفقه ‪ ،‬ف رأى أن جيعل ه ذه األح اديث الص حيحة مبوبة على‬
‫األبواب الفقهية بطريقة فيها استنباطات دقيقة ‪ ،‬حبيث إهنا مبجموعها ميكن أن تشكل مذهباً للبخاري ـ رمحه اهلل ـ ‪.‬‬
‫وه ذا هو ال ذي ح دث ‪ ،‬فنجد بعض العلم اء حينما ين اقش مس ألة علمية من املس ائل يق ول ‪ :‬وه ذا م اذهب اليه‬
‫البخاري ‪ .‬من أين عرف أن البخاري ـ رمحه اهلل ـ ذهب هذا املذهب ؟ عرف ذلك من خالل تلك الرتاجم اليت يرتجم‬
‫هبا على تلك األحاديث اليت يوردها يف صحيحه ‪.‬‬
‫ومع ذلك أيض اً فإنه مل يقتصر على ه ذه األح اديث فقط ‪ ،‬ولكنه مبا أنه يريد التفقه فإنه مجع هلذه األح اديث غريها ‪،‬‬
‫فنجد أنه ي ورد اآلي ات ( آي ات األحك ام ) ويوزعها حبسب تناس بها مع تلك األب واب اليت يب وب هبا ‪ ،‬وبال شك أن‬
‫ثب وت الق رآن ال ن زاع فيه ‪ ،‬ف إذا كأنه جيعل اآلي ات ه ذه أص الً ‪ ،‬مث بعد ذلك ي ورد ما صح من األح اديث اليت على‬
‫ش رطه مث األح اديث اليت يوردها يف املتابع ات أو األح اديث اليت يوردها معلقة ‪ ،‬أو غري ذلك كاآلث ار ال واردة عن‬
‫الصحابة ـ رضي اهلل عنهم ‪.‬‬
‫فإذن هوـ رمحه اهلل ـ كان يعىن بالناحية الفقهية عناية شديدة حىت إننا لنجده يف بعض األحيان يورد باب اً من األبواب‬
‫واليورد حتته شيئاً من األحاديث ‪ ،‬ورمبا وجدنا يف الباب الواحد أحاديث كثريية ‪ ،‬ورمبا وجدنا أحاديث قليله ‪ ،‬بل‬

‫‪9‬‬
‫لرمبا ما وجدنا يف الباب الواحد سوى حديث واحد ‪ ،‬ورمبا ال جند يف الباب حديثاً إطالق اُ ‪ ،‬وهذا الباب الذي الجند‬
‫فيه آية من كت اب اهلل ‪ ،‬وقد ال جند فيه آية من كت اب اهلل ‪ ،‬وقد ال جند أيض اً آية من كت اب اهلل وإمنا يب وب جمرد‬
‫التبويب ‪ ،‬ورمبا أورد شيئاً من املعلقات ‪.‬‬
‫واملقصود باملعلق األحاديث أو اآلثار اليت حيذف أول سندها ورمبا كامل اإلسناد ‪ ،‬أي لو أن البخاري رمحه اهلل عنده‬
‫حديث من األحاديث يرويه بسنده عن شيخه وشيخ شيخه وهلم جرا ـ حيت يصل اىل النيب صلي اهلل عليه وسلم ـ ‪،‬‬
‫ولكنه الي رى أن ه ذا احلديث على ش رطه أى ليس بالدرجة اليت يري دها من الص حة ‪ ،‬فنجد البخ اري رمحه اهلل رمبا‬
‫حذف شيخه وعلق احلديث بشيخ شيخه ‪.‬‬
‫فيقول مثالً ‪ :‬قال سفيان بن عيينة مث يذكر باقي اإلسناد واحلديث ـ وهو مل يسمع من سفيان بن عيينة ـ ‪ ،‬فسفيان بن‬
‫عيينة بينه واسطة ‪ ،‬ورمبا كانت الواسطة على بن املديين أو احلميدي أو غريهم ‪.‬‬
‫ورمبا حذف من هو فوق شيخ شيخه حىت لرمبا مل يذكر إال الصحايب ‪ ،‬بل لرمبا حذف الصحايب أيض اً فيقول ‪ :‬قال‬
‫رسول اهلل صلي اهلل عليه وسلم ـ كذاً ـ‪ ،‬أو يؤثر عن رسول اهلل صلي اهلل عليه وسلم أو يؤثر عن رسول اهلل صلي اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ .‬هذا هو املقصود بالتعاليق ‪ .‬وسنأيت إن شاء اهلل للحديث عنها بعد قليل ‪.‬‬
‫فالشاهد أنه يف بعض األبواب يورد هذه األحاديث أو اآلثار املعلقة وخيلي الباب من األحاديث ‪ ،‬ملاذا يصنع البخاري‬
‫هذا الصنيع ؟ … هناك من رأى أنه يصنع ذلك عمداً لسبب آخر ‪.‬‬
‫فبعضهم يرى أن البخاري ـ رمحه اهلل ـ حينما ال يورد يف ذلك الباب حديثاً بالسند املتصل إمنا يصنع ذلك لإل شارة‬
‫إيل أن هذا الباب ال يثبت فيه شيء ـ هناك ـ من ذهب إىل هذا املذهب ـ أراد هذا ‪ ،‬ألن تلك األبواب قد يكون فيها‬
‫شيء ثابت وصحيح ‪ ،‬بل إن البخاري رمبا صححه يف خارج الصحيح ‪ ،‬فاجلزم بأن هذا هو مراد البخاري فيه شيء‬
‫من التعسف ‪ ،‬ولكن قد يصنع هذا أحياناً ‪.‬‬
‫وقد يك ون أخلى الب اب من األح اديث لكونه فقد األح اديث اليت على ش رطه أو األح اديث اليت مسعها مما ميكن أن‬
‫يستدل به يف ذلك الباب ‪ ،‬ولذلك رمبا اكتفى عن ذلك بآيه أو بأشياء معلقة ‪.‬‬
‫وحينما جند البخ اري ـ رمحه اهلل ـ يأيت ببعض األبواب هك ذا جمردة عن أي حديث وعن أي آية وعن أي آثار معلقة‬
‫أيضاً ‪ ،‬وإمنا يبوب باباً جمرداً فقط فيقول ‪ :‬بابا كذا وكذا‪ .‬ويذكر املسألة مث ينتقل اىل باب آخر ‪.‬‬
‫ذك روا أن بعض النس اخ حينما وجد ه ذه األب واب هك ذا ص نع ص نيعاً غري مستحسن ‪ ،‬فبعض األب واب اليت هبذه‬
‫الصورة يعقبها البخاري ‪ :‬باب حدثنا فالن ‪ ،‬قال ‪ :‬حدثنا فالن ‪ ،‬وهكذا يورد احلديث أي أنه عكس الصنيع السابق‬

‫‪10‬‬
‫‪ ،‬فهن اك ي ذكر ترمجة الب اب ‪ ،‬وهنا ال ي ذكر ترمجة ‪ ،‬وإمنا ي ذكر احلديث ‪ ،‬في أيت بعض النس اخ فيجعل ه ذا احلديث‬
‫حتت ذلك الباب ‪ ،‬وهنا يقع اإلشكال على كثري ممن يريد أن يذكر مناسبة احلديث للباب ‪.‬‬
‫فهناك طائفة من العلماء اعتنوا ـ وخباصة الشراح ـ حينما يأتون على الباب الذي يبوب له البخاري ـ يذكرون مناسبة‬
‫ذلك احلديث ل ذلك الب اب ‪ ،‬أي ألي ش يء أورد البخ اري ه ذا احلديث ‪ ،‬وي ذكرون تعلق احلديث بتلك املس ألة ‪،‬‬
‫ولكن يف بعض األحي ان يع ييهم ذلك احلديث ‪ ،‬فال جيدون له وجها من املناس بة لتلك الرتمجة ‪ ،‬فبعض هم يك ون ممن‬
‫برع يف علم الكالم ‪ ،‬فتجد عنده من التكليف يف التأويل ما جتد يف حماولة ذكر مناسبة ذلك احلديث بتلك الرتمجة ‪.‬‬
‫ولكن إذا عرفت هذه املسألة ـ كما يقول احلافظ بن حجر ـ ‪ :‬ميكن أن يفزع إليها عند احلاجة ‪ ،‬إذا أعيانا ذكر مناسبة‬
‫ذلك احلديث ل ذلك الب اب ميكن أن نق ول ‪ :‬لعل ه ذا من تص رف النس اخ ‪ .‬فلعلهم دجموا ترمجة حبديث ليس حتتها ‪.‬‬
‫وأذكر هبذه املناسبة ـ قبل عشر سنوات ـ إن مل يكن أكثر ـ أننا كنا عند شيخنا ـ الشيخ عبد العزيز بن باز ـ حفظه اهلل ـ‬
‫وك ان يق رأ عليه من ص حيح البخ اري ـ ولعلين إن مل ختطئين ال ذاكرة أذكر أنه يف اجمللد الس ادس من فتح الب اري ‪،‬‬
‫فالق ارئ ذكر الرتمجة ‪ ،‬وذكر ح ديثاً ‪ ،‬فس أل الش يخ عن مناس بة ذلك احلديث بتلك الرتمجة ـ ف أطرق ملي اً ‪ ،‬مث طلب‬
‫الرج وع إىل فتح الب اري لعل احلافظ بن حجر ي ذكر بتلك املناس بة ‪ ،‬ألن الش يخ مل يظهر له مناس بة ل ذلك احلديث‬
‫ب ذلك الب اب ‪ ،‬فحينما ق رأ كالم احلافظ ين حجر ‪ ،‬وإذا به إما أنه مل ي ذكر ش يئاً أو أنه ذكر أنه مل تظهر له مناس بة‬

‫ذلك احلديث بذلك الباب ‪ ،‬فطلب الشيخ الرجوع إىل عمدة القارئ " الذي هو شرح " العييين " وإذا بالعييين أيض اً‬
‫مبثل تلك الصورة اليت ظهر هبا احلافظ ابن حجر ‪ .‬فمثل هذا الذي يقول عنه احلافظ ابن حجر ميكن أن يفرع إليه عند‬
‫احلاجة ‪ ،‬فيقال ‪ :‬لعل بعض النساخ أدرج هذا احلديث حتت ذلك الباب الذي مل يكن مقصود البخاري ـ رمحه اهلل ـ‬
‫إدراجه حتته ‪.‬‬
‫مث إننا حينما جند تلك األح اديث اليت يوردها البخ اري ـ رمحه اهلل ـ حتت تلك األب واب جند أنه تنقسم اىل قس مني ‪:‬‬
‫فمنها أح اديث مناس بتها ظ اهرة كل واحد ي دركها ‪ ،‬فحينما يب وب البخ اري مثالً باب اً يف الطه ارة وي ورد ح ديثاً يف‬
‫الطه ارة ‪ ،‬فاملناس بة ظ اهرة وال حتت اج اىل تكلف ‪ ،‬ولكن يف بعض األحي ان تك ون املناس بة خفيفة ‪ ،‬ال ي دركها إال‬
‫احلداق ‪ ،‬ورمبا كان مقصود البخاري أمراً آخر ‪.‬‬
‫ولعلكم تلحظون أن أول حديث أودعه البخاري يف صحيحه هو حديث ‪ ":‬إمنا األعمال بالنيات " وأورده يف كتاب‬
‫بدء ال وحي ‪ .‬فأول كت اب استفتح به البخ اري كتابه هو بدء الوحي وأورد فيه هذا احلديث " إمنا األعم ال بالنيات‬
‫وإمنا لكل أمرئ ما نوى …" إىل آخر احلديث‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫فنجد أن احلديث ال تعلق به ظاهراً هبذا الباب ‪ ،‬فهل البخاري حينما أورد هذا احلديث مل يكن مستحضراً ألمر آخر‬
‫أورد هكذا جزافاً ؟‬
‫هن اك من تط اول على البخ اري وكما يق ول بعض الش راح ‪ :‬ص وب إليه س هام الل وم ـ إلي راده ه ذا احلديث يف ه ذا‬
‫الكتاب ولكنه غفل عن أمر أراده البخاري ـ رمحه اهلل تعاىل ـ‬
‫وهو أنه جعل هذا الكتاب مبثابة جملس العلم مثالً ‪ ،‬أو أي عبادة من العبادات اليت ميكن هبا اإلنسان ربه جل وعال‬
‫‪ ،‬والعلم عبادة ‪ .‬فرييد أن ينبه طالب العلم إىل مسألة مهمة جداً وهي ضرورة جتريد النية وإخالص النية يف طلب‬
‫العلم ‪.‬‬
‫فكأنه يقول لك ‪ :‬أنتبه ياطالب العلم ‪ ،‬فأنت حينما تقرأ يف كتايب هذا إمنا تقرأ يف حديث النيب صلي اهلل عليه وسلم‬
‫‪ ،‬وتتعبد اهلل جل وعال هبذه األحاديث ‪ ،‬وتريد العمل هبا أو إفتاء الناس هبا أو حتصيل العلم الذي هو يف حد ذاته‬
‫عبادة ‪ ،‬فهذه العبادات يشرتط فيها أمران ‪ :‬اإلخالص واملتابعة ‪.‬‬
‫فهو أراد أن يشري إىل الطرفاألول وهو اإلخالص فيقول لك ‪:‬‬
‫قبل أن تبدأ يف الطلب أخلص النية ‪ ،‬وجردها عن أي تعلق آخر ‪ .‬هذا هو الذي أراده البخاري ـ رمحه اهلل ـ حينما‬
‫أورد هذا احلديث ‪.‬‬
‫ولذلك كثر عند أهل العلم افتتاح كتبهم هبذا احلديث ‪ ،‬ومن املتأخرين السيوطي ـ رمحه اهلل ـ حينما أفتتح كتابه‬
‫اجلامع الصغري حبديث " إمنا األعمال بالنيات " ‪ ،‬برغم أنه حينما يفتتح هبذا احلديث سيدخل بالرتتيب األجبدي الذي‬
‫أخذه على نفسه ‪ ،‬ولكطنه صنع ذلك لنفس املقصد الذي أراده البخاري رمحه اهلل ‪.‬‬
‫وأحياناً جند البخاري ـ رمحه اهلل ـ يف ترمجته يشري إىل أشياء يريدها ‪ ،‬فرمبا أراد بتلك الرتمجة ختصيص عموم حديث ‪،‬‬
‫أو تقييد إطالقه ‪ ،‬أو اإلشارة إىل خالف يف تلك املسألة ‪ ،‬وخباصة حينما يورد الرتمجة بصيغة اإلستفهام ‪.‬‬
‫فحينما يقول ‪ :‬باب ‪ ،‬هل يقال ‪ :‬كذا وكذا ؟ " مثالً " هو ال يريد أن جيزم ‪ ،‬ولذلك ال تأخذ على البخاري أنه‬
‫جزم بشيء يف هذه ‪ ،‬ولكنه كأنه يقول لك ‪ :‬إن هذه املسألة خالفية ‪ ،‬وهو مل جيزم بأحد القولني ‪ ،‬بقوله ‪ " :‬بابا ‪:‬‬
‫هل يقال كذا وكذا " ؟ ‪.‬‬
‫فإذن ميكن أن تفهم أن هناك طائفة من العلماء رأت أن ذلك ميكن أن يقال ‪ ،‬وطائفة أخرى رأت غري ذلك ‪ ،‬لذلك‬
‫قال العلماء ‪ :‬إن فقه البخاري ـ رمحه اهلل ـ يف ترامجه ‪.‬‬
‫تقطيعه لألحاديث ‪:‬‬

‫‪12‬‬
‫وجنده ـ رمحه اهلل ـ يقطع احلديث يف كثري من األحيانفي مواضيع كثرية ‪ ،‬رمبا تربو على عشرين موضعاُ ‪ ،‬والسبب أن‬
‫هذا احلديث ميكن أن يستخدمه يف الباب الفالين من الكتاب الفالين ‪ ،‬ويف الباب الفالين من الكتاب الفالين ‪ ،‬ويف‬
‫الباب الفالين من الكتاب الفالين ‪ ،‬وهلم جرا‪ ،‬ينتزع منه انتزاعاً فقهية دقيقة رمبا كانت ظاهرة كما أشرت ‪ ،‬ورمبا‬
‫كمانت خفية حتتاج إىل من يربزها من الشراح والعلماء الذين غاصوا يف أعماق فقه البخاري رمحه اهلل تعاىل ‪.‬‬
‫الكالم على املعلقات يف صحيح البخاري ‪:‬‬
‫أما بالنسبة للكالم على املعلقات اليت يف صحيحه ‪ ،‬فهذه األحاديث املعلقة هناك من يسيء الفهم بطريقة البخاري يف‬
‫إيرادها ‪.‬‬
‫فبعضهم يرى أن احلديث املعلق يف صحيح البخاري على األقل ميكن أن يكون من األحاديث الصحيحة ‪ ،‬ولو مل‬
‫يكن كأحاديث اليت خيرجها باإلسناد املتصل ‪.‬‬
‫وبعضهم يطلق قوالً عاماً فيقول ‪ :‬ماجزم به البخاري فهو صحيح ‪ ،‬وما ذكره بصيغة التمريض فهو غري صحيح ‪،‬‬
‫هكذا على اإلطالق ‪ ،‬وكل هذا ليس بصحيح ‪.‬‬
‫ولكن ميكن أن ننظر إىل هذه األحاديث املعلقة يف صحيح البخاري على أهنا قسمان ‪:‬‬
‫فمنها املرفوع اىل النيب صلي اهلل عليه وسلم ومنها املوقوف ‪ ،‬فاملرفوع له شأن واملوقوف له شأن ‪ ،‬وألجل االختصار‬
‫يف الكالم يف املوقوف أقدامه ‪.‬‬
‫( فاملوقوف ) خف شرط البخاري فيه فنجده يف بعض األحيان جيزم بصحة ذلك‬
‫املوقوف وإن كان فيه شيء من الكالم لبعض أهل العلم ‪ ،‬وإن مل يبلغ يف الصحة مايريده البخاري ‪.‬فإذن نأخذ عندنا‬
‫قاعدة أن األشياء اليت ليست مرفوعة للنيب صلي اهلل عليه وسلم يف صحيح البخاري خف شرطه فيها ‪.‬‬
‫أما ( املرفوعة ) فنجده إما أن يوردها بصيغة اجلزم ‪ ،‬وإما ان يوردها بصيغة التمريض ‪ ،‬فاألشياء اليت يوردها بصيغة‬
‫اجلزم إما أن يكون أوردها يف صحيحه يف موضع آخر أو ال ‪ ،‬فإن كان أوردها يف صحيحه يف موضع آخر ‪ ،‬فإذن‬
‫هو حينما يأيت هبا معلقة يف موضع يدفعه إيل ذلك أحياناً بعض الدوافع ‪.‬‬
‫من هذه الدوافع أنه ـ رمحه اهلل ـ يكره أن يورد احلديث بنفس اإليراد سنداً ومتناً ‪ ،‬وهذا الذي يسميه العلماء‬
‫" ضيق املخرج " فيقول ‪ :‬يصنع هذا إذا ضاق خمرج احلديث عليه ‪ ،‬أي ليس عنده إسناد آخر له ‪ ،‬أما لو كان عنده‬
‫إسناد آخر ألورده يف هذا املوضع بذلك اإلسناد الثاين ‪ ،‬ولكن إذا مل يكن عنده سوى ذلك اإلسناد الذي أودعه يف‬
‫باب آخر فإنه هاهنا يورد احلديث معلقاً كأنه يقول ‪ :‬أنا ال أحب التكرار ‪ ،‬يصنع هذا أحياناً ‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫وأحياناً أخرى قد يكون احلديث ليس خمرجه ضيقاً عند البخاري ‪ ،‬ولكن كرره مبا يرى أن فيه كفاية ‪ ،‬فال حيب أن‬
‫يكرره أكثر من ذلك ‪.‬‬
‫ورمبا كان الدافع له اإلختصار ‪ ،‬فرمبا اختصر احلديث أو تصرف يف متنه ‪ ،‬فإذا صنع هذا ال يريد أن يورد ه كما‬
‫يورد احلديث باإلسناد املتصل ألجل ذلك التصرف احلاصل يف ذلك احلديث ‪ .‬فهذا بالنسبة لألحاديث اليت يوردها‬
‫بصيغة اجلزم ‪.‬‬
‫مثال لصيغة اجلزم ‪:‬‬
‫وصيغة اجلزم مثل " قال " كأن يقول ‪ :‬قال رسول اهلل او قال بن عباس ‪ :‬قال رسول اهلل كذا ‪ ،‬أو قال مسروق ‪:‬‬
‫عن عائشة عن النيب كذا ‪ .‬كل هذا يسمونه صيغة اجلزم أو قال ‪ ( :‬ذكر ) فالن كذا ‪ ،‬أو حنو هذه العبارات اليت‬
‫فيها اجلزم بثبوت ذلك عن ذلك الشخص الذي علقه عنه ـ سواء كان النيب ـ أو غريه ‪.‬‬
‫مثال لصيغة التمريض ‪:‬‬
‫أما صيغة التمريض فهي اليت تكون يف الغالب بصيغة املبين للمجهول ‪ ،‬مثل ‪ ( :‬يذكر )‬
‫عن رسول اهلل كذا …‪ .‬أو ( يروي ) عن رسول اهلل كذا ‪ ،‬أو ( حيكي ) عنه كذا ‪ ،‬وحنو هذه الصيغة اليت‬
‫يسموهنا صيغة التمريض ‪ ،‬هذه هي اليت ميكن أن نفصل يف تعاليق البخاري مبوجبها ‪.‬‬
‫التفصيل يف املعلقات بصيغة اجلزم ‪:‬‬
‫فما أورده بصيغة املعلقات منها ما أخؤرجه يف صحيحه ‪ ،‬ومكنها ما مل خيرجه ‪.‬‬
‫وما أخرجه يف صحيحه فالدافع له ما ذكرت ‪ ،‬ومامل خيرجه يف صحيحه رمبا كان صحيحاً عنده ‪ ،‬وعلى‬
‫شرطه أيضاً ‪ ،‬ولكن ألجل الطول والتكرار يتجنب ذكر ذلك احلديث ‪ .‬يصنع هذا أحياناً ولكنه قليل‪.‬‬
‫ورمبا كان ذلك احلديث عنده على شرطه ‪ ،‬ولكنه ال حيضره فيه إسناد تلقاه عن شيوخه ‪ ،‬أو رمبا ششك يف تلقي‬
‫احلديث عن شيوخه فنجد أنه يعلق احلديث وإن كان بإسناده من أصح الصحيح ‪.‬‬
‫مثال ‪:‬‬
‫وميثلون على هذا بذلك احلديث الذي رمبا تصورنا أن البخاري أخرجه يف صحيحه يالسند املتصل وليس كذلك ‪،‬‬
‫وهو قصة أيب هريرة مع الشيطان ‪ ،‬هذا احلديث الذي علم الشيطان فيه أبا هريرة فضل آية الكرسي ‪ ،‬وذكر أنه إن‬
‫قرأها يف ليل ال يقربه شيطان حيت يصبح ‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫جند أن هذا احلديث رمبا تصور كثري من طلبة العلم أن البخاري أخبرجه يف صحيحه باإلضافة إلخراج مسلم‬
‫له ‪ ،‬واحلقيقة أن البخاري إمنا أخرجه معلقاً ولكن الذي يوقع يف اإلشكال أنه علقه عن شيخه هو ‪.‬‬
‫وكيف علقه عن شيخه ؟‬
‫قال ـ رمحه اهلل ـ يف صحيحه ‪ :‬قال عثمان بن اهليثم ‪ :‬حدثنا عوف وهو األعرايب ‪ ،‬عن حممد بن سريين ‪ ،‬عن أيب‬
‫هريرة قال ‪ " :‬وكلين رسول اهلل حبفظ زكاة الفطر …" مث ذكر احلديث ‪.‬‬
‫فحينما قال ‪ :‬قال عثمان بن اهليثم مل يقل ‪ :‬حدثين أو حدثنا أو أخربين أو أخربنا عثمان بسن اهليثم ‪ ،‬مث أننا‬
‫جند أنه صنع هذا يف ثالثة مواضع يف صحيحه ‪ ،‬كلها يقول فيها ‪ :‬قال عثنان بن اهليثم ‪ ،‬فرأى العلماء أن هذا‬
‫احلديث مل جيزم البخاري بتلقيه هو له عن شيخه عثمان بن اهليثم ‪ ،‬ولكنه يعرف متاماً أن شيخه عثمان بن اهليثم‬
‫حدث هبذا احلديث ‪ ،‬رمبا عرفه بواسطة أقرانه من تالميذ الذين يشاركون يف الرواية عن شيخه عثمان بن اهليثم هذا‬
‫‪.‬قد يكون الدافع للبخاري أنه ما تلقاه فعالً عن عثمان بن اهليثم ‪ ،‬وقد يكون الدافع له أنه شك يف مساعه من عثمان‬
‫بن اهليثم ‪ ،‬وإال فاحلديث بإسناد من أصح الصحيح ‪ ،‬خيرج البخاري أحاديث هبذا اإلسناد ‪ ،‬وإمنا دفعه إىل ذلك هذا‬
‫األمر الذي أشرت إليه ‪.‬‬
‫ورمبا كاناحلديث أحياناً صحيحاً زلكنه على شرطه ‪ ،‬وميثلون على هذا حبديث عائشة رضي اهلل تعاىل عنها‬
‫‪ " :‬أن النيب كان يذكر اهلل على كل أحيانه " ‪.‬‬
‫والبخاري رمحه اهلل جزم هبذا احلديث عن عائشة ‪ ،‬فقال ‪ :‬قالت عائشة ‪ ( :‬كان النيب يذكر اهلل على كل أحيانه ) ‪.‬‬
‫ولكن هذا احلديث إمنا أخرجه بإسناد متصل " مسلم " يف صحيحه ‪ ،‬فالبخاري يرى أنه صحيح ولكنه ليس على‬
‫شرطه الذي اشرتطه على نفسه ‪.‬‬
‫فإذن هو جيزم به ألنه يرى أنه صحيح ولكنه ال يورده بإسناد متصل ‪ ،‬حيت ال جيعل ألحد جماال للقدح يف كتابه ‪.‬‬
‫وأحياناً رمبا كان ذلك احلديث صحيحاً ولكنه ليس من األحاديث الصحيحة اليت أخرجه " مسلم " يف صحيحه ‪،‬‬
‫ولكن رمبا نوزع يف صحة ذلك احلديث ‪ ،‬ورمبا كان احلديث دون ذلك فيكون من األحاديث احلسنة لذاهتا ‪.‬‬
‫ورمبا كان حسناً لغريه أي أن فيه ضعفاً ولكن له من الشواهد ماجيرب ذلك الضعف ‪ .‬ورمبا جزم البخاري رمحه اهلل‬
‫بذلك القول عن أحد من الناس ‪ ،‬ولكنه اليقتضي تصحيحه لذلك احلديث ‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫فإذن ال نستطيع أن نأخذ على أنفسنا بأن البخاري رمحه اهلل حينما يورد حديثاً من األحاديث باجلزم ـ معلقاً جمزوماً‬
‫به ـ أن ذلك احلديث صحيحاً على اإلطالق ‪ :‬فمنه ماهو صحيح وهو يف صحيحه ‪ ،‬ومنه ما هو صحيح وهو يف‬
‫خارج صحيحه كصحيح مسلم ‪ ،‬وماهو صحيح عند غريمها ‪ ،‬ومنه ماهو حسن ‪ ،‬ومنه ماهو ضعيف ‪.‬‬
‫ولكن البخاري ـ رمحه اهلل ـ حينما جيزم القول أو بذلك احلديث عن أحد فإنه يقول ‪ :‬أنا تكلفتت لك باإلسناد إىل‬
‫هذا الذي جزمت به عنه ‪ ،‬وأما من بعده ممن أبرزت لك وأظهرت فأنت خمري ‪ ،‬انظزر إن ثبت عندك فأنت وشأنك‬
‫‪ ،‬وإال فاألمانة تقتضي أن أبني لك املواضيع اليت ميكن أن يعل هبا ذلك احلديث ‪.‬‬
‫وميثلون على هذا بقوله ـ رمحه اهلل ـ يف كتاب " الزكاة " ‪:‬‬
‫قال طاوس ‪ :‬قال معاذ ألهل اليمن ‪ " :‬أئتوين بزكاتكم مخيص أو لبيس بدل الشعري والذرة فإنه أنفع ألصحاب النيب‬
‫يف املدينة وأرفق بكم " ‪ .‬أوكما جاء يف ذلك األثر ‪.‬‬
‫فالبخاري رمحه اهلل حينما قال ‪ :‬قال طاوس ‪ .‬يقول لك اإلسناد من عندي إىل طاوس صحيح تكلفت لك هبذا ‪،‬‬
‫ولكن من بعد طاوسانظر فيه أنت ـ فحينما نظرنا وإذا بطاوس يقول ‪ :‬قال معاذ ألهل اليمن … طاوس مياين ولكنه‬
‫مل يدرك معاذاً رضي اهلل عنه فإذن هناك انقطاع بينه وبني معاذ ‪ ،‬وهذا االتقطاع هو الذي دفع البخاري رمحه اهلل إيل‬
‫أن يقول مقولته هذه ‪ ،‬أو اىل ان يعلق احلديث اىل طاوس مث يظهر من بعد طاوس ‪ ،‬وكأنه يقول لك ‪ :‬أنتبه فهنا‬
‫مواطن العلة اليت ميكن ان يعل هبا ذلك احلديث ‪ .‬من العلماء من يتساهل يف احلديث املرسل ويقبله ‪ ،‬ورمبا بعضهم‬
‫اشرتط شروطاً يف ذلك ـ وليس هذا موضع التفصيل فيه ـ فيمكن أن يأخذ هبذا احلديث ‪.‬‬
‫ومن العلماء من يشدد واليقبل من احلديث إال ما كان بالسناد املتصل الصحيح الثابت ‪ ،‬فإذا هو يشدد فريد هذا‬
‫احلديث وال يبين عليه ناحية فقهيه ‪.‬‬
‫فهذا هو الذي يدفع البخاري ـ رمحه اهلل ـ ألن يعلق احلديث عن بعض الناس‪ ،‬فهذا بالنسبة لألحاديث اليت جيزم‬
‫البخاري هبا ‪.‬‬
‫التفصيل يف املعلقات بصيغة التمريض ‪:‬‬
‫أما األحاديث اليت يوردها بصيغة التمريض فليست القاعدة أيضاُ أهنا كلها ضعيفة أو مردودة ‪ ،‬أو أن البخاري يشري‬
‫هبذه العبارة إىل أن ذلك احلديث ال يثببت وال يصح ‪ ،‬بل جند تلك األحاديث اليت يوردها بصيغة التمريض منها ما‬
‫أخرجه هو يف صحيحه وذلك مثل ما قال ‪ :‬يف ( كتاب الطب ) ‪ " :‬ويذكر عن بن عباس عن النيب يف الرقية بفاحتة‬
‫الكتاب " ‪ .‬وهو يشري بذلك اىل قصة أيب سعيد اخلدري حينما كان مع نفر يف سرية وكانوا استضافوا حياً من أحياء‬

‫‪16‬‬
‫العرب فلم يضيفوهم ‪ ،‬فمكثوا قرهبم ولدغ سيد ذلك احلي وطلبوا له أحد يرقيه فلم تنفع فيه الرقي حيت جاءوا إيل‬
‫أصحاب النيب وقالوا هلم ‪ :‬هل فيكم من راق ؟ فقالوا ‪ :‬نعم ‪ ،‬ولكنكم مل تضيفونا ‪ ،‬فواهلل ال نرقيه حيت جتعلوا لنا‬
‫جعالً ‪ ،‬فجعلوا هلم قطيعاً من الغنم فرقاه أبو سعيد بفاحتة الكتاب ‪ ،‬فربئ سيد ذلك احلي ‪ ،‬مث اختلفوا فيما بينهم هل‬
‫جيوز أخذ مثل القطيع أوال ؟ …‪ .‬فكأهنم خشوا أن يكونوا أخذوا على كتاب اهلل أجراٌ ‪ ،‬فحينما جاؤا ايل النيب‬
‫وذكروا له ذلك قال ‪ ( :‬ما يدريك أهنا رقيه ؟ خذوا واضربوا يل معكم بسهم ) فافرهم النيب على ذلك ‪.‬‬
‫فمثل هذه القصة أخرجها البخاري يف صحيحه يف بعض املواضيع باإلسناد املتصل ولكنه يف املوضع تصرف يف املنت ‪،‬‬
‫فحينما تصرف يف املنت أراد أن يشري إيل أن التصرف منه اليقتضي أن يكون ذلك املنت مروياً هبذه الصورة ‪ ،‬ألن‬
‫احلديث مل يذكر فيه صراحة أن النيب علم أن الرقية بفاحتة الكتاب وأقرهم عليها ولكن جاء ذلك ضمناً يف احلديث ‪.‬‬
‫فهذا التصرف من البخاري حينما قال ‪ " :‬ويذكر عن ابن عباس عن النيب يف رقيته بفاحتة الكتاب "جعله رمحه اهلل ـ‬
‫من أمانته ـ جيعل هذا احلديث معلقاً هبذه الصورة بصيغة التمريض إشارة منه اىل أن احلديث ليس مروراً هبذه الصورة‬
‫‪ ،‬وإن كان أصل القصة خمرجاً عنده يف الصحيح ‪.‬‬
‫أحياناً جند أنه يورد احلديث بصيغة التمريض ‪ ،‬وجند احلديث يف صحيح مسلم ‪ ،‬ورمبا كان الدافع له اىل ذلك إما أنه‬
‫يرى أن احلديث غري صحيح ‪ ،‬أو أنه تصرف أيضاً بطريقة من الطرق اليت جتعل احلديث بصيغة التمريض ‪ ،‬أو ما اىل‬
‫ذلك ‪.‬‬
‫ورمبا وجدنا احلديث الذي يورده البخاري بصيغة التمريض ‪ ،‬رمبا كان مروياً بإسناد ضعيف ‪ ،‬ولكن له ما جيربه من‬
‫طرق أخري أو ما يعضده من أثار وحنو ذلك ‪.‬‬
‫ورمبا كان أيضاً ضعيفاً بشكل ال ميكن قبوله فهذا يف الغالب جند البخاري ـ رمحه اهلل ـ ينص عليه ‪ ،‬وميثلون على هذا‬
‫مبا ذكره رمحه اهلل تعايل يف كتاب الصالة " أنه يذكر عن أيب هريرة أن النيب قال " ال يتطوع اإلمام يف مكانه الذي‬
‫صلى فيه الفريضة " مث قال بعد ذلك ‪ :‬وال يصح ‪.‬‬
‫هذا احلديث أخرجه أبو داود يف سننه ‪ ،‬ولكن فيه راو جمهول ‪ ،‬فالبخاري رمحه اهلل يشري اىل أن هذا احلديث ال يصح‬
‫وال يثبت عن النيب ونص على هذا صراحة ‪ ،‬ويرى أن احلديث ال ينهض ألن يكون له من الشوتاهد ما جيرب ضعفه ‪،‬‬
‫لذلك تصرف هذا التصرف ‪.‬‬
‫خالصة ماسبق ‪:‬‬

‫‪17‬‬
‫فإذن نفهم من خالل هذا أن إطالق القول بأن اجملزوم به عند البخاري صحيح وغري اجملزوم به ما يورده بصيغة‬
‫التمريض ضعيف ال ينبغي اال هبذا التفصيل الذي أشرنا إليه ‪ ،‬وإن كان تفصيال على وجه االختصار ‪.‬‬
‫ولرياجع كالم احلافظ ابن حجر عن املتعلقات يف صحيح البخاري يف مقدمة الشرح الذي هو " هدي الساري " أو‬

‫يف كتاب " النكت " فإن الكالم هاهنا متقارب مع الكالم يف ذلك املوضع أيضاً‬
‫اإلمام مسلم ـ رمحه اهلل تعاىل ـ‬
‫امسه ونسبه ومولده ‪:‬‬
‫هو مسلم بن احلجاج القشريي النيسابوري ‪ ،‬ينسب اىل بين قشري ‪ ،‬فهل كان مويل هلم‪ ،‬أو منهم حقيقة ؟ هناك‬
‫خالف بني أهل العلم يف هذا ‪ ،‬ومل أجد ما يرجع أحد هذين القولني ‪ ،‬وال يضره ذلك ‪ ،‬فإن أشرف النسب هو هذا‬
‫العلم الذي خلد به ذكر مسلم رمحه اهلل ـ تعاىل ‪ ،‬منذ ذلك الوقت وإىل أن يشاء اهلل يف آخر هذه احلياة الدنيا ‪.‬‬
‫مولده ـ رمحه اهلل تعايل ـ يف السنة اليت تويف فيها إمامان عظيمان زمها ‪ :‬الشافعي ‪ ،‬وأبو داود الطيالسي ‪ ،‬وذلك يف‬
‫السنة الرابعة بعد املئتني للهجرة ‪.‬‬
‫ووفاته ـ رمحه اهلل ـ بعد وفاة البخاري بنحو مخس سنني ‪ ،‬فالبخاري تويف يف سنه ست ومخسني ومئتني ‪ ،‬ومسلم تويف‬
‫يف حنو سنة إحدي وستني ومئتني ‪.‬‬
‫والبخاري ـ رمحه اهلل ـ من شيوخ مسلم ولكن مل يرو عنه مسلم يف الصحيح وال حديثاً واحدا ً والرتمذي صاحب‬
‫اجلامع الصحيح من تالميذ مسلم وجنده أنه يف كتاب اجلامع روي عن مسلم حديثاً واحداً ‪ ،‬وهو حديث أيب هريرة‬
‫عن النيب أنه قال ‪ " :‬أحصوا هالل شعبان لرمضان " ‪.‬‬
‫طلبه للعلم ‪ ،‬وسبب وفاته ‪:‬‬
‫طلب ـ رمحه اهلل ـ العلم من الصغر ‪ ،‬وأول مساعه كان ببلده نيسابور وذلك يف سنة مثان عشرة ومئتني مث حج بعد‬
‫ذلك ورحل اىل كثري من البلدان ولقي كثري من الشيوخ وكان رمحه اهلل ـ يتقوت ويتحري احلالل ‪ ،‬فكان له عقار ـ‬
‫وهو الذي يقال له الضياع ـ وكان أيضاً مع ذلك يتجر ‪ ،‬فكان يتقوت من ذلك ‪.‬‬
‫ويذكر يف سبب وفاته أمر عجيب ـ ال أدري يصح أم ال ـ ‪ ،‬ولكنه مذكور يف ترمجته ‪ ،‬وهو أنه ـ رمحه اهلل ـ سئل عن‬
‫حديث أو مسئلة ‪ ،‬فمكث طول الليل وهويقلب ويراجع اىل أن أدركه الفجر ‪ ،‬وكان جبانبه مكتل ـ زنبيل ـ فيه متر‬
‫وكان يقلب يف الصفحات ويراجع ويأخذ من هذا التمر مترة مترة ‪ ،‬فما جاء الفجر اال وقد نفد ما يف ذلك الزنبيل ‪،‬‬

‫‪18‬‬
‫ووجد ـ رمحه اهلل ـ املسئلة اليت كان يبحث عنها ولكن أكله من التمر أضر به من حيث اليشعر ‪ ،‬فكان سبب وفاته ـ‬
‫رمحه اهلل ـ ‪.‬؟‬
‫سبب تأليفه للصحيح ‪:‬‬
‫مل يذكر هناك سبب وجيه أو حادثة تدل على سبب تأليف مسلم هلذا الكتاب ‪ ،‬كما حصل للبخاري من‬
‫تلك الرؤية اليت رآها ‪ ،‬ومن مساعه لكالم شيخه إسحاق بن راهويه ‪ ،‬فلعله تأثر بشيخه البخاري ‪ ،‬فنسج على أن‬
‫منواله يف هذا الصحيح ‪ ،‬ولكنه أشار اىل كالم يف مقدمة صحيحه يدل على أن هناك سبباً ‪ ،‬ولكنه ليس حبادثة كما‬
‫حصل للبخاري كما قلت ‪ ،‬ولكنه ذكر أن السبب الدافع له على تأليفه هذا الكتاب غريته على سنة النيب ‪ ،‬وذلك ملا‬
‫رأى يف عصره من بعض احملدثني الذين حيدثون العوام باألحاديث الباطلة واملنكرة واملوضوعة والضعيفة ‪ ،‬فأخذته‬
‫الغرية على سنة النيب فألف كتابه هذا ليكف الناس عما سوى الصحيح ‪ ،‬وحيثهم على رواية الصحيح ‪.‬‬
‫عدد أحاديث صحيح مسلم ‪:‬‬
‫ألف هذا الكتاب ‪ ،‬ومجع فيه من احلديث الصحيح حنو أربعة آالف حديث ‪ ،‬وهذا سوى املكرر ‪ ،‬وباملكرر كما‬
‫يقال قد يصل اىل اثين عشر ألف حديث ‪ ،‬وهذا العدد يعترب عدد تقريبياً ‪ ،‬ولذلك حرصنا على ان نقوم بعد أحاديث‬
‫عددا تقريبياً أثناء شرحنا ‪ ،‬ويتلخص ذلك يف جعل رقماٌ عاماً ورقماُ خاصاُ ‪.‬‬
‫صحيح مسلم ً‬
‫فالعام هو األحاديث املكررة ‪ ،‬واخلاص لألحاديث سوى املكرر ‪ ،‬ولعلنا بعد ذلك إن أمد اهلل يف العمر ويسر مبنه‬
‫وفضله ‪ ،‬نستطيع أن نعد أحاديث صحيح مسلم لنرى هل بلغت فعالً أربعة آالف حديث أو أقل أو أكثر ‪ ،‬وكم‬
‫عدد ها باملكرر ‪ ،‬هل كما يقول تلميذه إهنا عشرة ألف حديث ‪ ،‬او اقل من ذلك ؟‬
‫مدة تأليفه للصحيح ‪:‬‬
‫يقول تلميذه وقرينه أمحد بن سلمة إن مسلماً مكث يف تأليف هذا الكتاب مخس عشرة سنة ‪ ،‬وبال شك أن‬
‫هذا وقت طويل ولكن لعل الذي جعل مسلماً ـ رمحه اهلل ـ ميكث هذه املدة حتريه وانتقاؤه لألحاديث ‪ ،‬وهذا األمر‬
‫ليس باهلني ‪ ،‬وخباصة أنه أشار يف مقدمته أنه أقدم على عمل عظيم ليس باألمر اهلني ‪ ،‬ولوال غريته على سنة النيب ملا‬
‫أقدم على ما أقدم عليه‬
‫هل استوعب مسلم بن احلجاج كل الصحيح ؟‬
‫وفعالً جنده رمحه اهلل حينما ألف هذا الصحيح تكلم فيه بعض أهل العلم ألجل تأليفه هلذا الكتاب ‪ ،‬ولعل ذلك كان‬
‫ألسباب مما يقع بني األقران يف الغالب وإن كان يف الظاهر قد تأيت معه بعض عبارات اليت رمبا شكلت سببا يف نظر‬

‫‪19‬‬
‫ذلك املتكلم ولكنها يف احلقيقة ال تعرب أسبابا وجيهة ‪ ،‬فحينما كان مسلم رمحه اهلل عند أيب زرعة الرازي يذاكره مث‬
‫قام ‪ ،‬فقال له أحد اجللساء ‪ :‬هذا مجع أربعة آالف حديث يف الصحيح ‪.‬‬
‫فقال أبو زرعة ‪ :‬وملن ترك الباقي ؟ مث ذكر بعد ذلك كالماً قال ‪ :‬إنه يطرق ألهل البدع علينا ‪ .‬يقصد أنه حينما‬
‫يفرد هذه األحاديث الصحيحة وجمموعها أربعة آالف حديثاُ ‪ ،‬كأنه يقول ‪ :‬ليس هناك من احلديث الصحيح سوى‬
‫هذه األربعة آالف ‪.‬‬
‫واحلقيقة أن مسلماً رمحه اهلل مل يدع ذلك ـ ال هو ولتا شيخه البخاري ـ ‪ ،‬وذكرت أن البخاري ـ رمحه اهلل ـ ما ادعى‬
‫أنه حصر مجيع احلديث الصحيح ‪ ،‬بل إنه ليصحح أحاديث كثرية يف خارج الصحيح ينقلها عنه الرتمزي وغري‬
‫الرتمزي ‪.‬‬
‫وكذلك مسلم ـ رمحه اهلل ـ ما أدعي أنه حصر مجيع األحاديث الصحيحة ‪ ،‬بل جنده يسئل احياناً عن بعض األحاديث‬
‫فيصححها ‪ ،‬كما ورد يف آخر كتاب الصالة أن أبا بكر ابن أخت أيب النضر سأله عن حديث أيب هريرة مرفوعاً اىل‬
‫النيب أنه قال " إذا قرأ اإلمام فأنصتوا " فقال مسلم ‪ :‬هو عندي حديث صحيح فقالوا له ‪ :‬ملا مل خترجه يف كتابك ؟‬
‫أو مل تضعه هاهنا ؟‬
‫فقال ‪ :‬ليس كل شيء عندي صحيح أودعته هاهنا ‪ ،‬إمنا أودعت هاهنا ما أمجعوا عليه … ولست أريد األن‬
‫اخلوض يف هذه العبارة ‪ ( :‬ماأمجعوا عليه ) وما يريد هبا مسلم ؟‬
‫ولكن املقصود أنه ـ رمحه اهلل ـ كان يصحح أحاديث خارج الصحيح والسبب الذي جيعله ال يودعها يف الصحيح ‪ :‬إما‬
‫لكوهنا من األحاديث اليت تكلم فيها ‪ ،‬فال يريد أن يكون هناك جمال للكالم يف صحيحه ‪ ،‬وإن كان قد يرد هاهنا‬
‫اعرتاض من يعرتض من طلبة العلم فيقول ‪ :‬بعض األحاديث اليت أخرجها مسلم يف صحيحه تكلم فيها وخمالف يف‬
‫تصحيحها ا‬
‫فنقول ‪ :‬مثل هذه األحاديث لعل مسلما ً ترجح له أهنا علل غري مؤثرة ‪ ،‬وأن تلك العلل اليت‬
‫يف األحاديث اليت اجتنبها قد تكون مؤثرة ‪ ،‬وإن كان يرتجح له أيضا أهنا أحاديث صحيحة ‪ ،‬ولكن قد يكون إعالهلا‬
‫أقوى ‪.‬‬
‫مث إنه ـ رمحه اهلل ـ أشار اىل أنه انتقاه ـ أى االثنا عشر ألف حديث ـ من ثالمثائة ألف حديث ‪ ،‬والكالم يف هذا هو‬
‫نفس الكالم الذي ذكرته عن البخاري ـ رمحه اهلل ـ حينما انتقي صحيحه من ستمائة ألف حديث ‪ ،‬قاملقصود إذا مبا‬
‫يف ذلك املكرر بكثرة الطرق ‪ ،‬ومبا يف ذلك من املوقوف واملقطوع ‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫ووردت عنه ـ رمحه اهلل ـ عبارة أنه قال ‪ " :‬ما وضعت يف كتايب هذا شيئاً إال حبجة ‪ ،‬وما أسقطت منه شيئاً إال حبجة‬
‫" واملقصود باحلجة احلجج العلمية اليت جتعله يودع أو يذر ‪.‬‬
‫مميزات صحيح مسلم ‪:‬‬

‫جند كثري من أهل العلم أعجب بصحيح مسلم غاية اإلعجاب ‪ ،‬ذلك بسبب حسن ترتيبه وتلخيصه لطرق احلديث‬
‫بغري زيادة وال نقصان ‪ ،‬واحرتازه أيضاً من التحول يف األسانيد عند اتفاقها من غري زيادة وال نقصان ‪ ،‬وتنبيه على‬
‫ألفتاظ الرواة من اختالف يف منت أو اسناد ولو يف حرف ‪.‬‬

‫جنده مثال ـ رمحه اهلل ـ يعين عناية تامة بالتنبيه على الروايات املصرحية بالسماع ‪ ،‬وينتقيها إنتقاء ‪ ،‬وذلك تالفياً منه‬
‫للكالم يف اإلسناد املعنعن ‪ ،‬سواء كان ذلك الراوي الذي ورد التصريح منه بالسماع مدلساً أم غري مدلس ‪ ،‬فإن‬

‫كان موصوفاً بالتدليس ‪ ،‬فال شك أن مسلماً رحيمه اهلل حيرص أكثر ‪ ،‬وحيرص أيضاً حيت لو مل يكن الراوي موصوفاً‬
‫بالتدليس ‪.‬‬
‫وليس أدل على هذا من أول حديث يف صحيحه وهو حديث عبد اهلل بن عمر رضي اهلل عنهما يف جمئ جربيل إىل‬
‫النيب ‪ ،‬فإنه يف هذا احلديث ـ لو طالعتموه يف صحيح مسلم ـ جتدوه يقول ‪ " :‬قال فالن ‪ :‬حدثنا … " وانتقى هذه‬
‫الرواية ‪ ،‬جاء باحلديث من أكثر من إسناد ‪ ،‬مث انتقى ذلك اإلسناد الذي صرح قيه بالسماع ‪.‬‬
‫حسن ترتيبه ـ رمحه اهلل تعاىل ـ ‪:‬‬
‫وبالنسبة حلسن ترتيبه فإنه ـ رمحه اهلل ـ من جوانب التفضيل لكتابه على غريه من الكتب قالوا ‪ :‬إنه ليس فيه سوى‬
‫احلديث السرد ‪ ،‬أى أنه مل ميزج حديث النيب بغريه ‪ ،‬وكأهنم يشريون اىل صنيع البخاري رمحه اهلل ‪ ،‬حينما مزج مع‬
‫احلديث ما ورد عن الصحابة وعن التابعني وبعض الكالم الذي يذكره من عنده ‪ ،‬كل ذلك بسبب مايلجئه إليه فقه‬
‫احلديث ‪ ،‬ولكن مسلماً ـ رمحه اهلل ـ مل يصنع من ذلك شيئاً ‪.‬‬
‫عدم تبويب اإلمام مسلم لكتابه ‪:‬‬
‫بل إنه مل يبوب كتابه فهو ـ رمحه اهلل ـ ساق األحاديث بناء على الرتتيب الفقهي ‪ ،‬ابتداء بكتاب اإلميان مث‬
‫الطهارة ‪ ،‬ثيم الصالة ‪ ،‬وهكذا لكنه مل يبوب ‪ ،‬مل يقل ‪ :‬باب كذا وكذا ‪ ،‬بل هذا التبويب إمنا بوبه بعض الشراح‬
‫لصحيحه ‪ ،‬وبعض املستخرجني ‪ ،‬وبعض امللخصني ‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫فلو نظرنا إيل التبويب املوجود بني أيدينا ‪ ،‬وإذا به تبويب اإلمام النووي ـ رمحه اهلل ـ وال شك أنه تبويب فيه شيء من‬
‫الطول ‪ ،‬ويف نظري أن تبويب القرطيب يف شرحه لصحيح مسلم ‪ ،‬ويف تلخيصه لصحيح مسلم ‪ ،‬فإنه خلص صحيح‬
‫مسلم ‪ ،‬فإنه خلص صحيح مسلم يف كتاب جرد األحاديث من األسانيد وبوب عليها تبويباُ جيداً بديعاً وشرح هذا‬
‫التلخيص ـ ولو نظرنا يف هذا التبويب عند القرطيب جنده أجود من تبويب النووي ‪ ،‬ويف بعض األحيان جند أن القرطيب‬

‫ـ رمحه اهلل ـ يتأثر أحياناً بتبويب أيب نعيم يف مستنخرجه ‪ ،‬فإين يف أثناء املطالعة وجدت أن القرطيب يأخذ أحياناً‬
‫التبويب أليب نعيم يف املستخرج فيضعه عنواناً لذلك الباب الذي يبوب عليه أو الذي يبوب به ‪.‬‬
‫أسباب تفضيل صحيح البخاري على مسلم عند اجلمهور ‪:‬‬
‫حصل هناك إختالف يف تفضيل صحيح مسلم على البخاري او العكس ‪ ،‬ومجهور احملدثني يفضلون صحيح البخاري‬
‫على مسلم يف اجلملة لعدة أسباب منها‪:‬‬
‫‪1‬ـ صحة األحاديث عند البخاري ‪ ،‬فإهنا اصح من األحاديث عند مسلم ‪ ،‬وهذا من حيث العدد يف اجلملة ‪ ،‬وإال‬
‫هناك أحاديث يتفق البخاري ومسلم على إخراجها ‪ ،‬ولكنهم نظروا اىل شرط البخاري يف الصحة وإذا به أقوى من‬
‫شرط مسلم ‪.‬‬
‫‪2‬ـ عدد األحاديث املتكلم فيها عند البخاري اقل من عدد األحاديث املتكلم فيها عند مسلم ‪.‬‬
‫‪3‬ـ عدد الرجال الذين تكلم فيهم ممن أخرج هلم مسلم أكثر من عدد الرجال الذين تكلم فيهم ممن أخرج هلم مسلم‬
‫أكثر من عدد الرجال الذين تكلم فيهم ممن أخرج هلم البخاري ‪ .‬وهذا من حيث جوانب عامة دعت احملدثني اىل أن‬
‫يفضلوا صحيح البخاري على صحيح مسلم ‪.‬‬
‫‪4‬ـ هذا باإلضافة اىل من يلتفت اىل الناحية الفقهية فإنه يرى أن صحيح البخاري أحسن من صحيح مسلم ‪ ،‬والسبب‬
‫أن البخاري ـ رمحه اهلل ـ مزج احلديث بالفقه فأصبح كتابة هذا حديثاً وفقها يف آن واحد‪.‬‬
‫تفضيل املغاربة لصحيح مسلم على البخاري ‪:‬‬
‫لكن بعض املغاربة يفضل صحيح مسلم على صحيح البخاري ‪ ،‬وكذلك وردت عبارة عن أيب على النيسابوري ـ‬
‫رمحه اهلل ـ من املشارقة أنه فضل صحيح مسلم أيضاً‪ ،‬ولكن هل هذا التفضيل يقتضي التفضيل يف األصحية أو التفضيل‬
‫يف أمور أخرى خارجة عن حيز الصحة ؟ بعضهم فهم أن التفضيل يشمل حىت األصحية ‪ ،‬وهذا الكالم هتافت ال‬
‫يشك إنسان له إملام بعلم احلديث يف أن أحاديث البخاري أصح من أحاديث مسلم ‪ ،‬وكما قلت ‪ :‬يف اجلملة ‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫ولكن من حيث اجلواين األخرى قد يفضل بعض الناس صحيح مسلم على صحيح البخاري بسببها ‪ ،‬فمن ذلك مثالً‬
‫ما ذكره التجيب عن ابن حزم ـ رمحه اهلل ـ أنه فضل صحيح مسلم على صحيح البخارى ‪ ،‬وذكر السبب فذكر ‪:‬‬
‫أن مسلماً رمحه اهلل ليس يف كتابه سوى احلديث السرد ‪ ،‬بعد املقدمة ‪ ،‬قالوا ‪ :‬إذا هو ميزج أحاديث النيب بغريها ‪.‬‬
‫‪2‬ـ كما ان من جوانب التفضيل مجع مسلم رمحه اهلل لطرق احلديث مكان واحد ‪ ،‬وليس كالبخاري الذي‬
‫يفرق هذه الطرق يف أماكن متعددة وكما قلت سابقاً ‪ :‬إهنا قد تصل اىل أكثر من عشرين موضعاً بسبب ما ينتزعه‬
‫من ذلك احلديث من فقه ‪ ،‬فنجد أنه يقطع احلديث ‪ ،‬رمبا أورده يف الصالة مث الطهارة ‪ ،‬مث يف الزكاة ‪ ،‬مث يف احلج ‪،‬‬
‫مث يف الصيام ‪ ،‬مث يف غري ذلك من األبسواب ‪ ،‬ويف كل باب جنده يأخذ من احلديث ناحية فقهية ويودع ذلك‬
‫احلديث يف ذلك الباب هلذا السبب ‪.‬‬
‫أما مسلم فال يصنع ذلشسك يف الغالب جداً ‪ ،‬قد يقع عنده يف بعض األحيان حديث مكرر يف موضعني تقريباً مثل‬
‫حديث ابن عباس يف األشربة يف وفد عبد القيس حينما قدموا ‪ ،‬فإنه كرره يف موضع آخر ‪ ،‬ولكن هذا قليل جدا عند‬
‫مسلم ـ رمحه اهلل ـ والقلة النادرة ال يبين عليها شيء ‪ ،‬وال يقاس عليها ‪ ،‬وال يعترب هلا حكم ‪.‬‬
‫فإذا احلكم الغالب ملا يف صحيح مسلم من األحاديث ‪ :‬أن مسلماً ـ رمحه اهلل ـيجمع مجيع طرق احلديث وجيمعها‬
‫يف املكان األليق هبا ‪ ،‬فإذا وجد أن معظم مادة ذلسك احلديث ميكن أن جتعل يف كتاب الطهارة ‪ ،‬جعلها يف كتاب‬
‫الطهارة ‪ ،‬حيت وإن كان فيه بعض املواضع اليت ميكن أن يستفاد منها يف كتاب الصالة ‪ ،‬ويف غريذلك من األبواب ‪،‬‬
‫فال جنده يودعه يف تلك املواضيع ‪ ،‬وإمنا جيعلها يف أليق املواضيع بذلك احلديث ‪.‬‬
‫‪3‬ـ مث إنه يعىن بالطرق يف ترتيبها ‪ ،‬فنجد أنه يقدم الطريق اليت فيها أصحية ‪ ،‬ويقدم الطريق اليت فيها إمجال ‪،‬‬
‫مث يرد فها بالطريق املبينة هلا ‪ ،‬ويقدم الطريق املنسوخة مث يأيت بعد ذلك بالطريق الناسخة ‪ ،‬هلم جرا‪.‬‬
‫ومن حسن ترتيبه وطريقته يف السياق جعلت بيعض العلماء يفضلونه على كتاب البخاري ‪.‬‬
‫‪4‬ـ كما أن من جوانب التفضيل يف هذا املوضع ‪ :‬أنه ـ رمحه اهلل ـ يعين باملتون عناية فائقة ‪ ،‬فتجد أنه يتحرى ويتحرز‬
‫يف فروق األلفاظ ‪ ،‬فيقول ‪ :‬قال فالن كذا ‪ ،‬وقال فالن كذا ‪.‬‬
‫وحىت يف األسانيد جتد أنه أحياناً يقول ‪ :‬قال فالن ‪ :‬حدثنا ‪ ،‬وقال فالن أخربنا ‪ ،‬وذلك لتفريقه ـ رمحه اهلل ـ بني‬
‫حدثنا وأخربنا ‪ ،‬وأما البخاري رمحه اهلل فال يعىن هبذا ‪ ،‬ولعل البخاري يرى التسوية بني حديثنا وأخربنا ‪ ،‬وهذا فيما‬
‫يظهر من صنيعه يف كتاب العلم ‪ ،‬أما مسلم ـ رمحه اهلل ـ فريى التفريق بني حدثنا وأخربنا ‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫الفرق بني حدثنا وأخربنا ‪:‬‬
‫احملدثون يفرقون يف طريقة التلقي بني ماتلفظ به السيخ ‪ ،‬وبني ما قرئ على الشيخ ‪ ،‬فإذا كان الشيخ حيدث‬
‫سواء من حفظه ‪ ،‬أو من كتابه ‪ ،‬ويقرأ على التالميذ ‪ ،‬وهم ينسخون األحاديث اليت حيدثهم هبا ‪ .‬هذا يقال له ‪:‬‬
‫( السماع ) ‪ ،‬وهو الذي يعربون عنه ( حبدثنا أو حدثين ) ‪.‬‬
‫فإن كان الطالب تلقي ذلك احلديث يف جملس مثل هذا اجمللس فإنه يأيت بصيغة اجلمع ‪ ( :‬حدثنا ) لكونه تلقى‬
‫احلديث مع مجاعة آخرين ‪ .‬وإن كان تلقاه من الشيخ مبفرده قال ‪ ( :‬حدثين ) يعين على انفراد ‪.‬‬
‫وأما إذا كان احلديث يقرأ على الشيخ قراءة مثل مالك ـ رمحه اهلل ـ يدفع املوطأ ألحد التالميذ فيقرأ وهو يسمع ‪ ،‬فإن‬
‫أخطأ التلميذ رد عليه وصوب ذلك اخلطأ ‪ ،‬وإال مضى ‪ ،‬فهذا يسمونه ( العرض والقراءة على الشيخ ) ويعربون عنه‬
‫بتعبري دقيق حينما يريد اإلنسان أن حيدث يقول ‪ ( :‬أخربين ) وال يقول ‪ :‬حدثين ‪ :‬يشري اىل أنه تلقى احلديث ال من‬
‫لفظ الشيخ ولكن من التلميذ الذي يقراعلى الشيخ ‪ .‬هذا هو السبب الذي جيعلهم يفرقون بني ( حدثنا ) و( أخربنا )‬
‫‪ ،‬فبعض احملدثني يقولون ‪ :‬كالمها سواء أقرأ على الشيخ ‪ ،‬أو قرأ الشيخ فكل ذلك واحد ‪ ،‬لكن مسلم ـ رمحه اهلل ـ‬
‫اليرى ذلك واحد ‪ ،‬ولكنه يفرق بني هذا وذاك ‪ ،‬ولذلك جنده يف كثري من األحاديث ينص على ذلك ‪ ،‬قال فالن ‪:‬‬
‫حدثنا … وقال فالن ‪ :‬أخربنا ‪ ،‬وهلم جرا ‪.‬‬
‫‪5‬ـ كما أنه ـ رمحه اهلل ـ إذا كان يف املنت زيادة أو نقصان أو تغري يف األلفاظ ينص على ذلك أيضاً ‪ ،‬فتجده يورد‬
‫احلديث بادئ ذي بدء بالطريقة اليت ينتقيها وخيتارها ‪ ،‬مث بعد ذلك يأيت باملتابعات والشواهد ‪ .‬فإن كان يف املتابعة أو‬
‫الشاهد زيادة لفظ ‪ ،‬ذكره ونص عليه ‪ ،‬وإن كان فيه اختالف لفظ نص عليه أيضاً ‪ .‬وهكذا ‪ .‬فهذا الصنيع من‬
‫مسلم ـ رمحه اهلل جعل بعض العلماء يفضلونه على صحيح البخاري ‪.‬‬
‫فإذن نستفيد من هذا كله أن جانب التفضيل لصحيح مسلم على صحيح البخاري ال من حيث األصحية ‪ ،‬ولكن‬
‫بإعتبارات أخرى رآها بعض العلماء ‪ ،‬ورأى بعضهم خالفها ‪ ،‬واملسئلة اجتهادية وكل له وجهة هو موليها ‪.‬‬
‫عدم إهتمام اإلمام مسلم باألسانيد العالية‬
‫بقدر اهتمامه باألسانيد الصحيحة ‪:‬‬
‫من األمور اليت أحب التنبيه عليها أم مسلما رمحه اهلل مل يعن باحلديث العايل يف صحيحه ‪ ،‬واحلديث العايل‬
‫ضد النازل ‪ ،‬واملقصود بالعايل والنازل قلة العدد بني صحاب الكتاب وبني النيب أقصد فر الرواة ‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫فإذا كان مسلم ـ رمحه اهلل ـ عنده حديث مروي من عدة طرق ‪ ،‬بعض الطرق يكون بينه وبني النيب ستة رواة‬
‫‪ ،‬وبعض الطرق يكون بينه وبني النيب أربعة رواة ‪ ،‬فإهنم يقولون للطريق اليت بينه وبني النيب أربعة رواة ‪ :‬طريق عالية‬
‫‪ ،‬واألخرى نازلة ‪.‬‬
‫وقد عين احملدثون مبسئلة العلو ‪ ،‬والذين يف طبقة مسلم حيرصون على األحاديث العالية وبالذات يف ذلك‬
‫التاريخ ‪ ،‬بعضهم ظفر بأحاديث ثالثية اإلسناد يعين اليكون بني املؤلف وبني النيب أكثر من ثالثة رواة ‪ ،‬الصحايب ‪،‬‬
‫والتابعي ‪ ،‬مث شيخ صاحب الكتاب ‪ ،‬ووقع يف مسند اإلمام امحد ـ رمحه اهلل ـ عدد من األحاديث الثالثية بلغ حنو‬
‫ثالمثائة حديث ثالثيات ‪ ،‬أفردها السفاريين ـ رمحه اهلل ـ وشرحها أيضاً يف كتابه " شرح ثالثيات املسند " ‪.‬‬
‫كما أنه وقع لبعض املعاصرين ملسلسم بعض الثالثيات أيضاً ‪ ،‬فهناك ابن ماجه وهو متأخر عن مسلم نوعاً ما ‪ ،‬له‬
‫ثالثيات ‪ ،‬بل إن تلميذ مسلم وهو الرتمذي له ىحديث ثالثي يف كتابه ‪ ،‬وهو ما أخرجه يف كتابه عن شيخه امساعيل‬
‫بن موسي الفراري قال ‪ :‬حدثنا عمر بن شاكر عن أنس عن النيب أنه قال " يأيت على الناس زمان الصابر فيه على‬
‫دينه كالكابض فيه على اجلمر " هذا احلديث أخرجه الرتمذي بإسنادثالثي ليس بينه وبني النيب سوى ثالثة رواة ‪ ،‬وما‬
‫دام الرتمذي من تالميذ مسلم ‪ ،‬فمن باب أوىل أن يوجد عند مسلم أحاديث ثالثية اإلسناد ‪ .‬فلماذا ياترى مل خيرج‬
‫مسلم شيئاً من األحاديث الثالثية ؟ إمنا أعلى ما وجدنا عنده يف كتاب رباعي اإلسناد ـ يعين بينه وبني النيب أربعة رواة‬
‫ـ ملاذا مل يعن مسلم بالثالثي اإلسناد ؟‬
‫السبب انتقاؤه لألحاديث الصحيحة ‪ ،‬واتقاؤه للطرق الصحيحة ‪ ،‬فإنه لو أراد أن خيرج هذه الطرق الثالثية سيكون‬
‫ذلك اإلسناد الذي عنده ضعيفاً ‪ ،‬ولذلك بعضهم يقول ‪ :‬إن األحاديث الثالثية يف سنن ابن ماجة كلها ضعيفة ‪،‬‬
‫وأظن هذه العبارة وردت عن املزي ـ رمحه اهلل ـ فسلم إذا جتنب األحاديث العالية بسبب انتقائه لليحديث الصحيح‬
‫فقط ‪ ،‬وإال سيكون عنده أحاديث ثالثية اإلسناد ‪ .‬كما أن من منهج مسلم رمحه اهلل أنه ال يرى الرواية باملعىن‬
‫خبالف شيخه البخاري ‪ ،‬فالبخاري يرى الرواية باملعىن ‪ ،‬إذا تلقى احلديث بلفظ جوز لنفسه أن يرويه بلفظ آخر‬
‫بشرط أن يكون املعىن هو املعىن ‪ .‬وأما مسلم رمحه اهلل فإنه حيرتز كل اإلحرتاز عن أي لفظة يغريها ويبدهلا يف اإلسناد‬
‫‪.‬‬

‫وبعضهم ذكر أن هذا من جوانب التفضيل لصحيح مسلم علىالبخاري ‪ ،‬وبعضهم ذكر أن للبخاري عذراً أن مسلماً‬
‫حيق له أن يصنع هذا الصنيع ‪ .‬قالوا ‪ :‬البخاري ـ رمحه اهلل ـ مل يكن يدون احلديث أثناء تلقيه له عن الشيوخ ‪ ،‬فهو‬

‫‪25‬‬
‫الذي يقول ‪ :‬ب حديث مسعته بالشام وكتبته خبرسان ‪ ،‬فإذا هو ميلي من حفظه فيستحضر املعىن متاماً مث يعرب مبا‬
‫حيضره من ألفاظ ‪ ،‬إن استطاع أن يأيت باحلديث بنفس اللفظ فعل ‪ ،‬وإال جاء بألفاظ تؤدي نفس املعين الذي تلقاه به‬
‫‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬وأما مسلم رمحه اهلل فإنه ألف صحيحه يف بلده نيسابور ‪ ،‬بل حبضور مجيع كتبه حينما كان يكتب عن‬
‫الشيوخ ‪ ،‬فكتبه بني يديه ‪ ،‬بل إن بعض شيوخه كان حياً حينما ألف الصحيح ‪ ،‬فإذا أشكل عليه لفظ ذهب اىل‬
‫مراجعه ذلك الشيخ عن ذلك اللفظ الذي أشكل عليه ‪ ،‬فلذلك حق له أن حيرتز يف هذه األلفاظ ‪ ،‬وأن يأين باحلديث‬
‫على وجهه الذي مسعه ‪.‬‬

‫وألجل هذا وجدنا بعض املغاربة ـ بالذات ـ وإن كان يصنع هذا غريهم ممن يسوق املتون ـ متون األحاديث ـ كعبد‬
‫احلق اإلشبيلي يف كتابه األحكام ـ ينتقون رواية مسلم على رواية البخاري إذا كان احلديث متفق عليه ‪ ،‬جند أهنم‬
‫يأخيذون لفظ مسلم ويدعون لفظ البخاري ‪.‬‬
‫والسبب أهنم يرون أن لفظ مسلم أدق من لفظ البخاري ـ رمحه اهلل ـ وهذا فعالً موجود يف صحيح البخاري ‪ ،‬ورمبا‬
‫قال بعض الناس ‪ :‬ميكن أن يكون البخاري تلقى احلديث هكذا ‪ ،‬ألننا جند البخاري يورد احلديث يف أكثر من موضع‬
‫‪ ،‬فنجد يف بعض املواضيع اختالفا يف اللفظ عن ذلك املوضع السابق ‪ .‬مثال ذلك ‪ :‬أينه يورد احلديث يف كتاب‬
‫الطهارة بلفظ آخر ‪ ،‬وقد يقول قائل ‪ :‬إن هذا بسبب اختالف الرواية ‪ ،‬يكون تلقي احلديث عن شيخ بلفظ ‪ ،‬وعن‬
‫شيخ آخر بلفظ آخر ‪.‬‬
‫ولكن جوابنا على هذه املسئلة ‪ :‬أقول ‪ :‬إن البخاري ـ رمحه اهلل ـ يف بعض األحيان يأيت باحلديث عن نفس الشيخ يف‬
‫هذااملوضع ويف ذلك املوضع مع اختالف اللفظ فدل ذلك على أن اختالف اللفظ منه هو ال من ذلك الشيخ الذي‬
‫تلقى ذلك احلديث عنه ‪.‬‬
‫ومن األمور اليت فضلوا صحيح البخاري بسببه ‪ :‬أن مسلماً ـ رمحه اهلل ـ اقتصر على املرفوع دون املوقوف ‪ ،‬وعلى‬
‫املتصل دون املعلق ‪ ،‬وهذا يدفعنا اىل الكالم على املعلقات يف صحيح مسلم ‪.‬‬
‫املعلقات يف صحيح مسلم ‪.‬‬
‫بالنسبة للبخاري تقدم الكالم على املعلقات يف صحيح البيخاري مبا يغين عن اإلعارة ‪ ،‬وفهمنا من خـالل ذلك‬
‫العـرض أن البخاري ـ رمحه اهلل ـ أورد يف كتابـه كثريا" مـن األحاديث املعلقة ‪ ،‬وذكرت لكم أن املعلق ما حذف من‬

‫‪26‬‬
‫مبدأ إسناده راو فأكثر ‪ ،‬ولرمبا حذف كامل اإلسنادفقال ‪ :‬قال ‪ :‬النيب ورمبا ذكر الصحايب فقط فقال ‪ :‬قال بن عباس‬
‫‪ ،‬أو قال أبو هريرة ‪ ،‬وهلم جرا‪.‬‬
‫فهذه األحاديث املعلقة يودعها البخاري ـ رمحه اهلل ـ يف كتابه لسبب وهو استخدامه هلا يف الناحية الفقهية االستنباطية‬
‫‪ ،‬فهل ياترى يف صحيح مسلم شيء من هذه املعلقات ؟‪.‬‬
‫فنقول ‪ :‬إن املعلقات اليت يف صحيح مسلم وجدت ـ على إختالف بني العلماء يف عددها ـ ولكنها على أكثر عدد ال‬
‫تشكل نسبة إذا ما قورنت باملعلقات يف صحيح البخاري ‪.‬‬
‫فقد بلغ عدد األحاديث املعلقة يف صحيح البخاري مائة وتسعة ومخسون حديثاً كما يقول احلافظ بن حجر ‪ ،‬وعلى‬
‫أعلى نسبة عند مسلم قيل ‪ :‬إن عددها أربعة عشر حديثاً ‪.‬‬
‫فالفرق بني العددين ظاهر ‪ ،‬فإذا هذا من جوانب التفضيل لصحيح مسلم على صحيح البخاري ‪ ،‬أهنم قالوا ‪ :‬ليس‬
‫فيه شيء من املعلقات ‪.‬‬
‫مث إن هذه املعلقات اليت يف صحيح مسلم ـ وعددها كما قيل على أعلى حصر أربعة عشر حديثاً ـ ليس األمر فيها‬
‫كما ذكر بل إننا جند هذه األربعة عشر حديثاً ترجع اىل اثين عشر حديثاً ‪ ،‬والسبب أن أحدها مكرر ‪ ،‬واحلديث‬
‫األخر ليس يف احلقيقة مبعلق ‪ ،‬وهو احلديث الذي جاء يف كتاب الصالة يف باب الصالة على النيب ‪ ،‬حينما يقول‬
‫مسلم ‪ :‬حدثنا صاحب لنا عن إمساعيل بن زكريا عن األعمش ‪ ،‬وعن مسعر وعن بن مغول كلهم عن احلكم ـ يعين‬
‫ابن عتيبة عن ابن أيب ليلى عن كعب بن عجرة أهنم قالوا للنيب ‪ " :‬قد عرفنا كيف نسلم عليك ‪ ،‬فكيف نصلي عليك‬
‫؟ فقال عليه الصالة والسالم ‪ :‬قولوا ‪ :‬اللهم صل على حممد وعلى آل حممد …‪".‬‬
‫جند أن هذا احلديث هبذه الصورة ليس مبعلق ‪ ،‬وإمنا هذا إسناد متصل ليس فيه انقطاع ولكن يقال عن هذا احلديث ‪:‬‬
‫إن يف إسناده راوياً مبهماً ‪ ،‬وهو شيخ مسلم حينما قال ‪ :‬حدثنا صاحب لنا ‪ ،‬ومع ذلك فهذا احلديث إمنا جاء هبذه‬
‫الصورة يف رواية أيب العالء بن ماهان وهو أحد الرواة يف صحيح مسلم ‪.‬‬
‫وأما الرواية املعتمدة وهي رواية أيب امحد اجللودي النيسابوري فليس فيها هذا الراوي املبهم ‪ ،‬وإمنا فيها التصريح باسم‬
‫هذا الشيخ ‪ ،‬وهذه الرواية هي املعتمدة وهي املوجودة بني أيدينا ‪ ،‬أما رواية أيب العالء بن ماهان فال أعرف أهنا‬
‫موجودة يف هذا العصر ‪ ،‬ورواية اجللودي جاءت فيها الرواية هكذا ‪ :‬يقول مسلم ‪ :‬حدثنا حممد بن بكار ‪ ،‬قال‬
‫حدثنا إمساعيل بن ذكريا … مث ذكر احلديث ‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫فتبني هبذا أن هذا احلديث ليس مبعلق يف صحيح مسلم ‪ ،‬وإمنا هو إسناد متصل ‪ ،‬وتبني شيخ مسلم يف رواية اجللودي‬
‫‪.‬‬
‫أما األحاديث األثنا عشر اليت قيل إهنا معلقة ‪ ،‬ففي احلقيقة أن هذه األحباديث اإلثنا عشر اليت قيل أهنا معلقة ‪ ،‬ففي‬
‫احلقيقة أن هذه األحاديث اإلثىن عشر أيضاُ ‪ ،‬لو نظرنا إليها جند فيها أحاديث وصلها مسلم نفسه يف موضع آخر من‬
‫صحيحه ‪ ،‬وعدد هذه األحاديث اليت وصلها مسلم مخسة أحاديث ‪ ،‬فإذا اليقال عن هذه األحاديث إهنا كمعلقات‬
‫صحيح البخاري واليت كثريمنها يعلقها وال يصلها يف نفس الصحيح ‪ ،‬وإمنا هذه وصلها مسلم يف موضع آخر فهي ال‬
‫تعترب معلقة ‪.‬‬
‫هناك أحاديث عدها بعض العلماء معلقة وهي يف احلقيقة موصولة وعددها ستة أحاديث ‪ ،‬والسبب يف قولنا إهنا‬
‫موصولة أننا جندها بعد التتبع موصولة هكذا ‪ ،‬كاحلديث السابق فيها راو مبهم ‪ ،‬حينما يقول مسلم ـ رمحه اهلل ـ ‪:‬‬
‫حدثت ‪ ،‬أو حدثنا صاحب لنا ‪ ،‬أو حنو ذلك من العبارات مثل ما حصل يف رواية أيب العالء بن ماياها السابقة ‪،‬‬
‫وعددها ستة كما بينا ‪ ،‬فهذه يقال ‪ :‬يف إسنادها راو مبهم ‪ ،‬وليست أحاديث معلقة ‪ ،‬وجند أن هذه األحاديث بعد‬
‫التتبع موصولة عند غري مسلم يف خارج الصحيح ‪.‬‬
‫واعتىن بوصلها األخ الفاضل ( على حسن عبد احلميد حليب ) أحد تالميذ الشيخ األلباين يف كتاب له مساه "‬
‫تغليق التعليق " على هذه األحاديث املعلقة ‪ ،‬أو اليت قيل إهنا معلقة يف صحيح مسلم ‪ ،‬فبهذا ينهي كثرياً من ال كالم‬
‫عن األحاديث اليت هبا راو مبهم ‪.‬‬
‫يبقى بعد ذلك حديث واحد هو الذي نص عليه احلافظ العراقي ‪ ،‬فإنه يقول رمحه اهلل ‪ :‬إن عدد املعلقات يف صحيح‬
‫مسلم إمنا هو حديث واحد فقط ‪ ،‬وإذا كان عدد املعلقات حديثاً واحدا فقط ‪ ،‬فال شك أنه ال حكم له يف عدد‬
‫أحاديث كثري بغري املكرر تبلغ أربعة آالف ‪ ،‬وباملكرر تصل حنو اثىن عشر ألف حديث ‪ ،‬فال يشكل هذا العدد نسبة‬
‫يف مقابل ذلك العدد الضخم ‪.‬‬
‫املوقوف واملقطوع عند البخاري ومسلم ‪:‬‬
‫أما بالنسبة للموقوف واملقطوعات ‪ ،‬واملقصود باملوقوف ‪ :‬ماكان من كالم الصحايب ‪ ،‬واملقطوع ‪ :‬ما كان من كالم‬
‫التابعي فمن بعده‪.‬‬
‫البخاري ـ رمحه اهلل ـ يورد كثرياً من هذه املوقوفات واملقطوعات يف كتابه وباألخص يف التبويب ‪ ،‬يستعني هبا يف‬

‫تبويبه ويف االستشهاد هبا يف فقه احلديث ‪ .‬وأما مسلم ـ رمحه اهلل ـ فهذه املوقوفات واملقطوعات يف صحيحه قليلة جداً‬
‫‪28‬‬
‫ال تقارن مبا عند البخاري ‪ ،‬وإذا وجدت عند مسلم فإمنا توجد لغرض ومناسبة ‪ ،‬رمبا ظهرت لبعضنا ‪ ،‬ورمبا مل تظهر‬
‫‪.‬‬
‫أما بالنسبة للموقوف فإن مسلماً ـ رمحه اهلل ـ يستعني به يف فهم ذلك احلديث ‪ .‬وأول حديث عند مسلم ‪ ،‬وهو‬
‫حديث ابن عمر يف جمئ جربيل للنيب يف صورة أعرايب ‪ ،‬وسؤاله إياه عن الساعة ـ السبب الذي دعا ابن عمر إىل إيراد‬
‫ذلك احلديث ‪ :‬أن حييي بن عمر وصاحبا له جاء اىل عمر وذكر له القدرية الذين ظهروا وأصبحوا يقولون بالقدر ‪،‬‬
‫فقال ابن عمر رضي اهلل عنهما ‪ " :‬إذا لقيت أؤلئك فأخربهم أين برئ منهم وهم برءاء مين " فهذا يقال له ‪ :‬موقوف‬
‫‪ ،‬ألنه من كالم ابن عمر ‪ ،‬مث ذكر بعد ذلك حديث جربيل ‪ ،‬إذا كالم ابنت عمر هاهنا جاء عرضاً يف ضمن هذا‬
‫احلديث املرفوع ومل يقصد مسلم رمحه اهلل إفراده عن احلديث أو اجملئ به هكذا استقالالً ‪ ،‬خيرب عرضاً ‪ ،‬ومع ذلك‬
‫هو يعني يف فهم هذا احلديث ‪ ،‬فأين عمر رضي اهلل عنهما خيرب بكالمه هذا أن هؤالء الذين قالوا هبذه ااملقولة‬
‫يستحقون أن يتربأ منهم املسلمون بسبب شناعة هذه املقالة ‪.‬‬
‫أما بالنسبة للمقطوع وهو ما جاء عن التابعي فمن بعده ‪ ،‬فهو قليل جداً يف صحيح مسلم ‪ ،‬ومع هذا إمنا يورده‬
‫مسلم اسرتواحاً يف بعض املواضع ‪ ،‬وميثلون لذلك مبثل روايته ملقولة حييي بن أيب كثريـ رمحه اهلل تعاىل ـ حينما قال ‪" :‬‬
‫اليستطاع العلم براحة اجلسم " ‪ ،‬أو " براحة اجلسد " ـ على إختالف الروايات يف ذلك ـ ‪ ،‬فمسلم رمحه اهلل يف كتاب‬
‫املساجد يف باب الصلوات اخلمس أورد حديث عبد اهلل بن عمرو بن العاص أن النيب قال ‪ " :‬إذا صليتم الفجر فإنه‬
‫وقت إىل أن تطلع قرن الشمس األول ‪ ،‬مث صليتم الظهر فإنه وقت اىل أن حيضر العصر … " احلديث ‪ ،‬ملا أورد‬
‫مسلم هذا احلديث أورد بعد ذلك عن حييي بن أىب بكري عن حييي بن أيب كثري أنه قال ‪ " :‬ال يستطاع العلم براحة‬
‫اجلسم " ‪ .‬مث أورد بعد ذلك عدة أحاديث كالعادة ‪ ،‬فلماذا ياترى أورد مسلم هذا الكالم عن حييي بن أيب كثري ؟‬
‫السبب بعد التأمل جند أن هذا احلديث مداره على قتادة بن دعامة السدوسي يرويه عن أيب أيوب ـ حييي بن مالك ـ‬
‫عن عبد اهلل بن عمرو بن العاص رضي اهلل عنهما ‪ ،‬مث جند أن مسلماً أخرج هذا احلديث عن قتادة من أربع طرق ‪،‬‬
‫من مجلتها ‪:‬‬
‫طريق هشام الدستوائي وطريق شعبة ‪ ،‬كالمها يرويانه عن قتادة ‪ ،‬وأخبرجه من طريقني عن معاذ بن هشام الدستوائي‬
‫عن أبيه قتادة ‪ ،‬وأخرجه من ثالث طرق عن شعبة ‪.‬‬
‫فصار احلديث مبجموع هذه الطرق له سبعة طرق ‪ ،‬يعين بدال من أن يكون حديثاً واحداً صار سبعة أحاديث باملكرر‬
‫‪ ،‬فهذا التعب يف إخراج هذه الطرق جعل مسلماً رمحه اهلل يتذكر مقولة حييي بن أيب كثري هذه ‪ ،‬وأن العلم حيتاج اىل‬

‫‪29‬‬
‫نشاط نفسي وعلو مهة ‪ ،‬وال يليق بطالب العلم أن يكسل عن ختريج مثل هذه الطرق ‪ ،‬فأورد هذه املقولة شحذا‬
‫هلمم طلبة العلم وحثا هلم على عدم السآمة وامللل ‪ .‬فهذا هو السبب الذي جعل مسلماً رمحه اهلل يورد مثل هذه‬
‫املقولة عن حييي بن أيب كثري ‪.‬‬
‫ويف اجلملة ‪ ،‬فال يقارن ما يف صحيح مسلم مبا يف صحيح البخاري من املوقوف أو املقطوع أو املعلق ‪ ،‬فهذا من‬
‫جوانب التفضيل اليت فضل صحيح مسلم مبوجبها على صحيح اإلمام البخاري ـ رمحهما اهلل ‪.‬‬
‫ما حكم تدليس أيب الزبري يف صحيح مسلم وغريه من املدلسني ؟‬
‫بالنسبة أليب الزبري حممد بن مسلم بن تدرس ‪ ،‬وهو كثري الرواية عن جابر ابن عبد اهلل رضي اهلل عنهما ‪ ،‬وله يف‬
‫صحيح مسلم عدة أحاديث يرويها عن جابر باعنعنة ‪ ،‬يعين يقول ‪ :‬عن جابر وال يقول ‪ :‬مسعت جابراً ‪ ،‬أو حدثنا ‪،‬‬
‫أو حنو ذلك من العبارات املصرحة بتلقيه ذلك احلديث عن شيخه جابر ‪ ،‬وحممد بن مسلم بن تدرس ـ أبو الزبري هذا ـ‬
‫وصف بالتدليس ‪.‬‬
‫واستشهد يف ذلك على رواية الليث بن سعد حينما تلقى أحاديث من ايب الزبري مث سأله فقال ‪ :‬هذه األحاديث‬
‫مسعتها كلها من جابر ؟ فقال ال فقال ‪ :‬منه مسعت ‪ ،‬ومنه ما حدث عنه ‪ .‬فقال له ‪ :‬اعلم يل على الذي مسعت ـ أي‬
‫أشر على الذي مسعته يف الكتاب الذي نسخه منه ـ فأعلم له على بعض األحاديث ‪ ،‬قال الليث ‪ :‬فهي اليت أرويها ‪.‬‬
‫هذه احلكاية من الليث بن سعد ـ وهو إمام من األئمة ـ بال شك أهنا صرحية يف أن أبا الزبري مدلس ‪ ،‬واستدل عليها‬
‫من أستند ـ مثل النسائي ـ فوصفه بالتدليس ‪،‬‬
‫ومن جاء بعد ذلك كالذهيب ‪ ،‬وابن حجر ‪ ،‬وغريهم ‪ ،‬كلهم وصفوا أبا الزبري بالتدليس ‪ ،‬وبعضهم‪ 1‬بالغ مثل ابن‬
‫القطان الفاسي ‪ ،‬وكذلك ابن حزم يف رد حيت األحاديث اليت يف صحيح مسلم ‪،‬واليت مل يصرح فيها أبو الزبري‬
‫بالتحديث ‪.‬‬
‫وخالصة ما فصلوا فيه أهنم قالوا ‪ :‬رواية أيب الزبري مقبولة إذا صرح بالسماع ‪ ،‬وإن مل يصرح بالسماع فإهنا مردودة‬
‫إال إذا كانت من رواية الليث بن سعد عنه ‪ ،‬فإن أحاديث الليث بن سعد عن أيب الزبري مسموعة ‪ ،‬وما عدا ذلك‬
‫فنرد تلك األحاديث مامل يصرح أبو الزبري بالسماع ‪ ،‬فهل هذا الكالم ينطبق على ما يف صحيح مسلم ‪.‬‬
‫بعضهم عمم مثل ابن القطان ـ وأظن ابن حزم كذلك أيضاً ـ ‪.‬‬
‫وبعضهم قال ‪ :‬ال ‪ ،‬بل مايف صحيح مسلم ال يتعرض له ‪ ،‬وما كان يف خارج صحيح مسلم فهو الذي ميكن أن‬
‫ينقص هبذا النقض ‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫ويف إعتقادي أن هذا الرأي هو أوسط وأعدل األقوال ‪ ،‬ليس كالقول الذي يهدد قول الليث بن سعد ‪ ،‬ويقول ‪:‬‬
‫أبو الزبري غري مدلس ‪ ،‬فهذا فيه إهدار لكالم إمام من األئمة ‪ ،‬والعتماد أئمة آخرين عليه ـ كالنسائي وغريه ـ ‪ ،‬كما‬
‫أن التعرض لألحاديث اليت يف صحيح مسلم ليس بالئق ‪ ،‬والسبب يف ذلك عدة أمور هي ‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬أننا جند مسلماً ـ رمحه اهلل ـ من األئمة الذين هلم معرفة تامة بعلل األحاديث ‪ ،‬واختار هذه األحاديث وجتنب‬
‫أحاديث أخرى أليب الزبري ‪ ،‬فلماذا يا ترى أعرض عن تلك األحاديث اليت أليب الزبري وهي باسانيد صحيحة اىل أيب‬
‫الزبري ‪ ،‬ومل خيرجها يف صحيحه ‪ ،‬دل هذا على أنه انتقى بعض االحاديث اليت حتقق لديه بأنه صحيح حديث أيب‬
‫الزبري ‪.‬‬
‫ثانياً ‪ :‬أن مسلما ً ـ رمحه اهلل ـ صنع مثل صنيع البخاري يف عرضه كتابه على أئمة عصره ‪ ،‬فإنه عرض هذا الكتاب ـ‬
‫الذي هو الصحيح ـ على شيخه ابن واره ‪ ،‬وعلى أيب زرعة الرازي أيضاً وعلى أئمة آخرين يف عصره ‪ ،‬فهذا العرض‬
‫منه جعله ينظر اىل تلك األحاديث اليت نقدوها مثل نقدها أبو زرعة الرازي فأبعدها مسلم من صحيحه ‪ .‬إذا دل أن‬
‫هذه األحاديث املبقاة يف صحيح مسلم مما أقره أبو زرعة الرازي ـ وهو إمام ـ علىتصحيحها‪.‬‬
‫مث إننا جند أيضاً أن هذه األحاديث اليت من رواية أيب الزبري يف صحيح مسلم ‪ ،‬قد تعقب الدار قطين مسلماً يف كتابه‬
‫كله واجتنب نقص هذه األحاديث ‪،‬ومل ينقص الدارقطين من األحاديث اليت من رواية أيب الزبري سوى حديث واحد‬
‫فقط ‪ ،‬فهل ياترى نقضه عليه بسبب التدليس ؟‬
‫اجلواب ‪ :‬ال ‪ ،‬وإمنا نقضه عليه ألن الزبري شك يف احلديث ‪ ،‬هل هو مرفوع أم ال ؟ فجاء به على الظن والتخمني ‪،‬‬
‫فيقول ‪ :‬أحسبه رفعه اىل النيب ‪.‬‬
‫فإذا الدار قطين نقد مسلماً على إيراده هذا احلديث يف الصحيح مع العلم أن رواية ـ الذي هو أبو الزبري ـ مل جيزم‬
‫برفعه اىل النيب ‪ ،‬مث جتنب الدار قطين نقد تلك األحاديث اليت رواها أبو الزبري ‪ .‬ومن املعلوم أن الدار قطين إمام ‪،‬‬
‫وكتابه العلل أكرب شاهد على إمامته يف هذا الشأن ‪.‬‬
‫كذلك غري الدارقطين ممن نقد صحيح مسلم وهم ائمة ‪ ،‬وهؤالء هم ‪ ( :‬ابن عمار الشهيد ‪ ،‬وأبو مسعود الدمشقي ‪،‬‬
‫وأبو على اجلباين ) ‪ .‬وهؤالء نقدوا بعض األحاديث اليت هلا علل من العلل اليت اصطلح عليها أئمة احلديث ‪ ،‬نذكر‬
‫منها ‪:‬‬
‫‪1‬ـ كأن يكون الراجح يف احلديث أنه مرسل فيورده مسلم موصوال ً ‪.‬‬
‫‪2‬ـ أو يكون الراجح يف احلديث أنه موقوف ‪ ،‬ويورده مسلم مرفوعاً ‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫‪3‬ـ أو يكون فيه زيادة راو ‪ ،‬أو سقط راو ‪ ،‬أو حنو ذلك من العلل اليت يعلون هبا ‪.‬‬
‫وأما هذه العلل الظاهرة ‪ ،‬عنعنة أيب الزبري ‪ ،‬عنعنة األعمش ‪ ،‬وحنو ذلك من العلل ال يتعرضون هلا يف صحيح مسلم‬
‫لتيقنهم من أن هذه األحاديث من صحيح أحاديث هؤالء الرواه ‪ ،‬فنجد هؤالء األئمة الذين نقدوا صحيح مسلم ما‬
‫تعرضوا لألحاديث اليت رواها أبو الزبري بالعنعنة يف صحيح مسلم ‪.‬‬
‫فألجل هذا نقول ‪ :‬إن تلك أألحاديث اليت من رواية أيب الزبري يف صحيح مسلم ال تتعرض هلا ‪ ،‬وأما ما كان يف‬
‫خارج صحيح مسلم فلرمبا كان فيه شيء من األحاديث الصحيحة عند أهل العلم العارفني بالعلل ‪ ،‬ولكن بضاعتنا يف‬
‫العلم قليلة ومل يتحصل هلم من مجع الطرق ومعرفة صواب هذه الرواية من عدمها ‪.‬‬
‫فلدلك يلجئنا األمر والواقع الذي نعيشه اىل أن نقول يف هذه األحاديث ‪ :‬إننا نتوقف عن تصحيحها اال ما ورد‬
‫التصريح فيه بالسماع ‪ ،‬فليس عندنا ما عند هؤالء األئمة الفطاحل من املقدرة احلديثة اليت جتعلنا نقبل الرواية اليت‬
‫بالعنعة لتقينا من أن هذا الراوي أصاب فيها ‪ ،‬هذه ليست عندنا ‪ ،‬ولذلك ال نصنع مثل صنيعهم ‪ ،‬وإمنا نلجأ اىل‬
‫األخذ بظاهر الرواية‬
‫ذكر من أعل بعض أحاديث يف " صحيح مسلم " من املعاصرين ‪:‬‬
‫اقول ‪ :‬من كان من املشايخ املعروفني بسالمة املقصد ‪،‬وبالغرية على سنة النيب وبسالمة املنهج واملعتقد ‪ ،‬مث‬
‫اجتهد يف املسئلة ‪،‬فينبغي يف هذه احلال أن يعذر على اجتهاده مع عدم إقرارنا له عليه ‪ ،‬ولكن ال يشنع عليه ‪ ،‬وال‬
‫يوصف باخس األوصاف او أقبحها كما يفعل بعض املبتدعة يف هذا الزمان بالشيخ األلباين ـ حفظه اهلل ـ فإنه جمتهد يف‬
‫هذه املسئلة ‪ ،‬وبالنسبة ىل ال أقره على هذا الصنيع ‪ ،‬ولكن ال أصنع مثل مايصنعه هؤالء الذين يشنعون عليه هبذه‬
‫األمور وهم يهدفون اىل أمور أخرى ‪ ،‬فإن بعضهم له إمنا بسبب ماهو عليه من املعتقد والدعوة اىل تصحيح املعتقد ‪،‬‬
‫وخباصة يف بالد خيمت فيها اخلرافة وعششت ‪ ،‬ولذلك هم يصنعون هذا الصنيع هلدف آخر ‪ ،‬فال نغرت مبثل هذه‬
‫العبارات اليت تظهر أن عندهم غرية على سنةالنيب ‪ ،‬واألمر خبالف ذلك ‪.‬‬
‫من ذلك ماكتبه " حممود سعيد ممدوح " وغريه ‪ ،‬كأنه يظهر الغرية على الصحيحني ـ والغرية على الصحيحني طيبة ـ ‪،‬‬
‫ولكن يا "حممود سعيد ممدوح " أين غريتك هذه على الصحيحني حينما يتكلم عليها شيوخك الغماريون ‪ ،‬الذين‬
‫يفخر هبم ويأخذ عنهم ويتلقى عنهم ‪ ،‬وتريب على فكرهم ومنهجهم ؟ وهم ال يقدحون يف الصحيحني فقط ‪ ،‬بل‬
‫يقدحون يف أصحاب الصحيحني ‪ ،‬بل للغماريني كالم يف البخاري تنبو عنه األمساع ‪ ،‬فأين هذه الغرية ؟ا‬
‫ملاذا مل تظهر يف ذلك املوضع ؟ا‬

‫‪32‬‬
‫فإذن نتنبه هلذه الزالت ‪ ،‬ونعلم هؤالء حينما يتكلمون يف مثل هؤالء إمنا يتكلمون لغرض آخر ‪ .‬وحنن قد نكون‬
‫سذاجتنا تدفعنا اىل تلقي هذا الكالم هبذه الصورة الظاهرة كأهنا غرية على الصحيحني ‪ ،‬واألمر خبالف ذلك ‪.‬‬
‫والشيخ األلباين ـ حفظه اهلل ـ معروف بغريته على السنة وخدمته هلا وهو بشر كبقية البشر ‪ ،‬وليس هو الذي تفرد هبذه‬
‫املسألة فقط ‪ ،‬فابن حزم كما ذكرت تكلم ‪ ،‬وابن القطان الفاسي تكلم وأكثر ‪ ،‬ويظهر أيضاً أن عبد احلق اإلشبيلي‬
‫ممن تكلم يف هذه املسألة ‪.‬‬
‫فلماذا مل يتكلم عن أؤلئك األئمة كما تكلم هذا اإلمام الذي يف هذا العصر ‪.‬‬
‫سنن أيب داود‬

‫(‪)1‬‬
‫ترمجة االمام ابن خزمية‬
‫امسه ولقبه وكنيته‪:‬‬
‫شيخ اإلسالم وإمام األئمة يف عصره‪ ،‬وفقيه اآلفاق‪ ،‬أبوبكر حممد بن إسحاق بن خزمية بن املغرية بن صاحل‬
‫بن بكر السلمي النيسابوري‪ ،‬احلافظ احلجة صاحب التصانيف‪.‬‬
‫مولده وشيوخه‪:‬‬
‫ولد – رمحه اهلل تعاىل – يف سنة ثالث وعشرين ومائتني ببلدة نيسابور‪ ،‬واعتىن منذ صغره باحلديث والفقه‬
‫حىت صار يضرب به املثل يف سعة العلم واإلتقان‪.‬‬
‫وقد حدث عن خلق كثريين من الشيوخ منهم البخاري ومسلم وقد حدثا عنه أيضاً – أي البخاري ومسلم‬
‫– يف غري الصحيحني‪.‬‬
‫كذلك من أكابر شيوخ ابن خزمية‪ :‬الفالس‪ ،‬وأبوكريب‪" :‬حممد بن العالء"‪ ،‬وحممد بن املثىن "الزمن"‪ ،‬وحممد‬
‫بن بشار "بندار"‪ ،‬وغري هؤالء كثري‪.‬‬
‫ثناء العلماء عليه وذكر مذهبه‪:‬‬
‫قال الدارقطين – رمحه اهلل ‪" :-‬كان ابن خزمية إمماً ثبتاً معدوم النظري"‪ ،‬وكان رمحه اهلل – متجرداً للحق‬
‫حىت وإن كان ينسب للمذهب الشافعي‪ ،‬ولكن مل يكن باملتمذهب فيما يبدو لألذهان‪ ،‬أو فيما صار عليه املتأخرون‬

‫(‪ )1‬أنظر‪ :‬الجرح والتعديل (‪ ،)7/196‬وتاريخ جرجان‪ ،413 :‬سير أعالم النبالء (‪ ،)14/365‬وتذكرة الحفاظ (‬ ‫‪1‬‬

‫‪ ،)2/720‬وطبقات الشافعية (‪ ،)3/109‬والبداية والنهاية (‪ ،)11/149‬وشذرات الذهب (‪.)2/262‬‬


‫‪33‬‬
‫الذين يتعصبون للمذهب‪ ،‬بل كان – رمحه اهلل تعاىل – يقول‪" :‬ليس ألحد مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قول‬
‫إذا صح اخلرب"؛ فهذا دليل على جترده – رمحه اهلل – للحق وعلى تعظيمه للسنة‪.‬‬
‫يقول أبوبشري القطان‪" :‬رأى جار البن خزمية من أهل العلم كأن لوحاً عليه صورة نبينا صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وابن خزمية يصقله‪ ,‬فقال املعرب حينما ذكرت له هذه الرؤيا‪ :‬هذا رجل حيىي سنة رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم"‪.‬‬
‫ويقول تلميذه ابن حبان‪" :‬ما ريت على وجه األرض من حيفظ صناعة السنن‪ ،‬وحيفظ ألفاظها الصحاح‬
‫وزياداهتا حىت كأن السنن كلها بني عينيه – إال حممد بن إسحاق بن خزمية فقط" أهـ‪.‬‬
‫شجاعته وجرأته يف احلق‪:‬‬
‫وكان – رمحه اهلل – جريئاً يف احلق ال خياف يف اهلل لومة الئم‪ ،‬يقول هو عن نفسه‪" :‬كنت عند األمري‬
‫إمساعيل بن أمحد؛ فحدث عن أبيه حبديث وهم يف إسناده‪ ،‬فرددته عليه‪ ،‬فلما خرجت من عنده قال أبوذر القاضي‪:‬‬
‫قد كنا نعرف أن هذا احلديث خطأ منذ عشرين سنة‪ ،‬فلم يقدر واحد منا أن يرده عليه‪ ،‬قال ابن خزمية‪ :‬فقلت له‪ :‬ال‬
‫حيل يل أن أمسع حديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فيه خطأ أو حتريف فال أرده"‪.‬‬
‫ذكر كرامة حدثت له يف إحدى رحالته للعلم‪:‬‬
‫وقد كان حريصاً على التلقي منذ الصغر‪ ،‬والرحلة يف طلب العلم‪ ،‬فقد رحل إىل كثري من البلدان ورافق يف‬
‫بعض رحالته حممد بن جرير الطربي صاحب التفسري وهو قرين له‪ ،‬وكذلك حممد بن نصر املروزي صاحب كتاب‬
‫"تعظيم قدر الصالة"‪ ،‬وحممد بن هارون الروياين صاحب املسند‪ ،‬فهؤالء األربعة مجعتهم الرحلة مبصر‪ ،‬فأصابتهم‬
‫خممصة‪ ،‬فنفد ما معهم من املال والزاد‪ ،‬ومل يبق عندهم ما يقوهتم وأضرهبم اجلوع‪.‬‬
‫فاجتمعوا ليلة يف منزل كانوا يأوون إليه‪ ،‬فتشاوروا يف أمرهم‪ ،‬فاتفق رأيهم على أن يستهموا ويضربوا‬
‫القرعة‪ ،‬فمن خرجت عليه القرعة‪ ،‬سأل ألصحابه الطعام‪ ،‬فخرجت القرعة على ابن خزمية‪ ،‬واألمر ثقيل على النفس‪،‬‬
‫فقال ألصحابه‪ :‬أمهلوين حىت أصلي صالة اخلرية – صالة االستخارة – فاندفع يف الصالة‪ ،‬فبينما هم كذلك فإذا هم‬
‫بالشموع وخادم من قبل الوايل يدق الباب‪ ،‬ففتحوا فقال‪ :‬أيكم حممد بن نصر؟ قيل‪ :‬هو ذا‪ ،‬فأخرج صرة فيها‬
‫مخسون ديناراً فدفعها إليه‪ ،‬مث قال‪ :‬وأيكم حممد بن جرير؟ فأعطاه مخسني ديناراً أيضاً‪ ،‬وكذلك الروياين وابن خزمية‪.‬‬
‫مث قال‪ :‬إن األمري كان قائالً(‪ )2‬فرأى يف املنام أن احملامد جياع قد طووا كشحهم‪ ،‬فأنفذ إليكم هذه الصرر‪،‬‬
‫وأقسم عليكم إذا نفدت فابعثوا إيل أحدكم‪ .‬فهذه احلكاية – إن صحت – فإهنا تعترب كرامة من اهلل تعاىل هلؤالء‬
‫العلماء األجالء حينما رحلوا هذه الرحلة يف سبيل اهلل – جل وعال ‪ ،-‬وناهلم ما ناهلم من اجلوع والعناء واملشقة‪.‬‬
‫(‪ )1‬قائالً‪ :‬من القيلولة‪ ،‬وهو نوم الظهيرة‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪34‬‬
‫وفاته – رمحه اهلل – ومصنفاته‪:‬‬
‫تويف ابن خزمية – رمحه اهلل – يف ليلة السبت الثاين من ذي القعدة يف سنة إحدى عشرة وثالمثائة‪ ،‬وقد‬
‫خلف آثاراً علمية كثرية‪ ،‬يقول عنها تلميذه احلاكم أبوعبداهلل‪" :‬مصنفاته تزيد على املائة وأربعني كتاباً سوى‬
‫املسائل‪ ،‬واملسائل املصنفة مائة جزء‪ ،‬وله فقه حديث بريرة يف ثالثة أجزاء"‪.‬‬
‫وهذه املؤلفات اليت أشار إليها احلاكم ال نعلم أنه بقي منها يف ذلك العصر سوى ثالثة كتب‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬كتاب التوحيد‪ ،‬وقد طبع عدة مرات‪ ،‬وآخر طبعة تقع يف جملدين بتحقيق الشيخ عبدالعزيز الشهوان‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬كتاب آخر ال يزال خمطوطاً حىت اآلن وعنوانه "شأن الدعاء وتفسري األدعية املأثورة عن رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم"‪ ،‬وهو من حمفوظات املكتبة الظاهرية بدمشق‪.‬‬
‫ثالثاً‪ :‬كتاب الصحيح املعروف بـ (صحيح ابن خزمية)‪ ،‬وهو موضوع دراستنا‪.‬‬
‫اسم كتابه الصحيح‪ ،‬وسبب التسمية بذلك‪:‬‬
‫ولقد اشتهر الكتاب هبذا االسم – "صحيح ابن خزمية" – بني العلماء مع أن امسه احلقيقي ليس كذلك‪،‬‬
‫وهذا أمر طبيعي‪ ،‬فشأنه كشأن كثري من الكتب احلديثية اليت عناوينها تتسم بالطول ولكنها ختتصر مثلما اختصر‬
‫كتاب ابن خزمية‪ ،‬فسمى بصحيح ابن خزمية‪ ،‬فإننا جند مثالً أن اسم "صحيح البخاري"‪" :‬اجلامع املسند الصحيح‬
‫املختصر من أمور رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وسننه وأيامه"‪.‬‬
‫وكذلك "صحيح ابن حبان" – كما سيأيت – امسه‪" :‬املسند الصحيح على التقاسيم واألنواع"‪.‬‬
‫وكذلك "صحيح ابن خزمية" اسم كتابه احلقيقي هو‪" :‬خمتصر املختصر من املسند الصحيح عن النيب صلى اهلل‬
‫عليه وسلم"‪.‬‬
‫فواضح من هذا العنوان أن هذا الكتاب خمتصر من كتاب آخر وهذا هو الواقع‪ ،‬فإن ابن خزمية – رمحه اهلل‬
‫– اختصر هذا الصحيح من كتاب امسه املسند الكبري‪.‬‬
‫ذكر بعض األمثلة على ذلك‪:‬‬
‫وقد أشار ابن خزمية إىل ذلك األختصار عدة مرات يف ثنايا كتابه هذا ويف غريه‪ ،‬فمن ذلك قوله يف‬
‫املقدمة(‪" :)3‬كتاب الوضوء خمتصر املختصر من املسند الصحيح عن النيب صلى اهلل عليه وسلم"‪.‬‬
‫ويقول يف كتاب التوحيد(‪" :)4‬قد أمليت طرق هذا اخلرب يف كتاب املختصر من كتاب الصالة"‪.‬‬
‫وأشار إىل املسند الكبري يف كتاب التوحيد فقال‪" :‬خرجته بطوله يف كتاب الصدقات من كتاب الكبري"‪.‬‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬مقدمة "صحيح ابن خزيمة" ص(‪.)3‬‬ ‫‪3‬‬

‫(‪ )2‬انظر‪" :‬صحيح ابن خزيمة" ص(‪.)227‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪35‬‬
‫بل ذكر هذا "املسند الكبري" يف الصحيح(‪ )5‬نفسه عدة مرات‪ ،‬فقال‪" :‬وسأبني هذه املسئلة بتمامها يف كتاب‬
‫الصالة يف "املسند الكبري" ال املختصر"‪.‬‬
‫ويقول(‪" :)6‬قد خرجت هذا الباب بتمامه يف كتاب الصالة من الكتاب الكبري"‪.‬‬
‫ذكر طريقته يف اختصار األحاديث‪:‬‬
‫ويتضح من طريقة ابن خزمية – رمحه اهلل – يف سياقه لألحاديث اختصاره لألحاديث‪ ،‬وخباصة األحاديث‬
‫الطويلة‪ ،‬وهذا يدل على أنه أراد االختصار يف كتابه هذا ومل يرد التطويل‪ ،‬فنجده يقتصر على موضع الشاهد‪ ،‬مث‬
‫يقول‪" :‬وذكر احلديث"‪ ،‬فال يتم احلديث‪.‬‬
‫مثال ذلك‪:‬‬
‫مثل ما جاء يف اجمللد األول ص‪ 79‬حينما قال‪" :‬مث أخذ بيمينه – يعين املاء – وصك هبا وجهه ‪ ...‬وذكر‬
‫احلديث"‪.‬‬
‫وحديث النيب صلى اهلل عليه وسلم أنه قال‪" :‬أال أدلكم على ما يكفر اهلل به اخلطايا ويزيد يف احلسنان؟ قالوا‪:‬‬
‫بلى يا رسول اهلل‪ ،‬قال‪ :‬إسباغ الوضوء على املكاره‪ ،‬وانتظار الصالة بعد الصالة(‪ .)7‬وأخرج من احلديث هذا املقدار‬
‫مث قال بعد ذلك‪ :‬مث ذكر احلديث‪.‬‬
‫وقال بعده‪ :‬وهذا خرب طويل قد خرجته يف أبواب ذوات عدد‪.‬‬
‫وقد خيتصر احلديث من وسطه كما فعل يف حديث عمران بن حصني يف سفره مع النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫حيث ناموا عن صالة الفجر‪ ،‬واحلديث مشهور‪ ،‬ويف هذا احلديث يقول عمران – رضي اهلل عنه ‪" : -‬فما أيقظنا إال‬
‫حر الشمس"‪.‬‬
‫قال ابن خزمية يف هذه األثناء‪" :‬فذكر بعض احلديث مث نادى بالصالة"‪ ،‬مث ذكر ابن خزمية باقي احلديث‪.‬‬
‫فجميع هذا يدل على أنه أراد االختصار يف كتابه هذا‪.‬‬
‫تعهده كتبه بالزيادة والتنقيح‪:‬‬
‫وكعادة كثري من العلماء حينما يصنف الواحد منهم الكتاب جنده اليزال يتعهد كتابه هذا بالزيادة واحلذف‪،‬‬
‫والتنسيق‪ ،‬وما إىل ذلك‪ ،‬فنجد ابن خزمية – رمحه اهلل – يصنع هذا الصنيع‪.‬‬

‫(‪ )3‬انظر‪" :‬صحيح ابن خزيمة" (‪.)1/200‬‬ ‫‪5‬‬

‫(‪ )4‬المصدر السابق (‪.)1/312‬‬ ‫‪6‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه ابن خزيمة (‪ ،)1/90( )177‬وأعاده (‪ ،)357‬وقد أخرجه أيضاً أحمد (‪ ،)3/3‬وابن ماجه‪،)427( g‬‬ ‫‪7‬‬

‫والدارمي (‪ ،)1/178‬وابن حبان (‪ ،)402‬وغيرهم‪.‬‬


‫‪36‬‬
‫يدل عليه ما يظهر من كالمه عن "املسند الكبري" حينما يقول مرة – كما سبق منذ قليل ‪" :-‬قد خرجت‬
‫هذا الباب بتمامه يف كتاب الصالة يف كتاب الكبري"‪ ،‬وهذا يدل على أنه صنفه قبل ذلك‪ ،‬مث يعود مرة أخرى فيقول‪:‬‬
‫"سأبني هذه املسئلة بتمامها يف كتاب الصالة يف "املسند الكبري" ال "املختصر"‪ .‬وهذا يدل على أنه استدرك وسيلحق‬
‫ذلك‪.‬‬
‫إمالؤه لكتبه ودليل ذلك‪:‬‬
‫وعادته أيضاً كعادة كثري من علماء تلك العصور حينما يصنف الواحد منهم املصنف‪ ،‬مث ميليه على تالميذه‬
‫إمالء‪ ،‬يدل على ذلك كثري من عباراته يف ثنايا كتابه الصحيح(‪ ،)8‬قال‪" :‬وقد أمليت هذا الباب من كتاب األميان‬
‫والنذور"‪ ،‬فيدل على أنه ميلي احلديث إمالء‪.‬‬
‫مكانة صحيح ابن خزمية‪ ،‬ومنزلته عند العلماء‪:‬‬
‫أما بالنسبة ملكانة كتابه الصحيح‪ ،‬ومنزلته عند العلماء‪ ،‬فتقدم قبل قليل ذكر بعض العلماء هلذا الكتاب‪،‬‬
‫وثناؤهم عليه‪ ،‬واعتباره من الكتب اليت يؤخذ منها الصحيح الزائد على ما يف الصحيحني‪ ،‬بل قدموه على سائر‬
‫الكتب اليت ألفت يف الصحيح اجملرد – سوى الصحيحني‪ ،-‬ومن هؤالء‪ :‬ابن الصالح‪ ،‬والعراقي‪ ،‬والسيوطي‪ ،‬وأمحد‬
‫شاكر – رمحهم اهلل تعاىل ‪.-‬‬
‫وقد ذكر اخلطيب البغدادي – رمحه اهلل – يف كتابه "اجلامع ألخالق الراوي وأداب السامع" ذكر يف معرض‬
‫النصيحة لطلبة العلم‪ ،‬ذكر أحق الكتب بالتقدمي بالسماع – يعين ما ينبغي لطالب العلم أن يقدمه حينما يريد أن‬
‫يسمع احلديث‪ ،-‬فقال‪" :‬أحقها بالتقدمي كتاب اجلامع واملسند الصحيحني‪ ،‬حملمد بن إمساعيل‪ ،‬ومسلم بن احلجاج‬
‫النيسابوري"‪ .‬مث أخذ يذكر بعض الكتب األخرى‪ ،‬مث قال‪" :‬وكتاب حممد بن إسحاق بن خزمية النيسابوري‪ ،‬الذي‬
‫اشرتط فيه على نفسه إخراج ما اتصل سنده بنقل العدل عن العدل إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم"‪.‬‬
‫والسيوطي يف مقدمة كتابه "مجع اجلوامع" ذكر الكتب اليت إذا عزى احلديث إليها‪ ،‬فمجرد عزوه إىل أحد‬
‫هذا الكتب معلم بالصحة – أي ال حيتاج األمر إىل التنصيص على هذا احلديث صحيح – هذا عند السيوطي ‪،-‬‬
‫يقول‪ :‬جمرد ما أعزو احلديث هلذه الكتب؛ فإن احلديث صحيح‪.‬‬
‫من مجلة ما قال يف مقدمة كتابه "مجع اجلوامع" – وهو اليزال خمطوطاً – قال‪" :‬وكذا ما يف موطأ مالك‬
‫وصحيح ابن خزمية وأيب عوانة‪ ،‬فالعزو إليها معلم بالصحة"‪.‬‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬صحيح ابن خزيمة (‪.)1/232‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪37‬‬
‫ويقول ابن كثري – رمحه اهلل تعاىل ‪" :)9(-‬قد التزم ابن خزمية وابن حبان الصحة ومها خري من املستدرك‬
‫بكثري‪ ،‬وأنظف أسانيد ومتوناً"‪.‬‬
‫ويدل على مكانة هذا الكتاب مكانة مؤلفه عند العلماء‪ ،‬وشدة حتريه يف األسانيد‪ ،‬فإنه كما يقول السيوطي‪:‬‬
‫"يتوقف يف التصحيح ألدىن كالم يف اإلسناد"‪ ،‬ويقول – أي ابن خزمية ‪" :-‬إن صح اخلرب‪ ،‬أو إن ثبت‪ ،‬وحنو ذلك"‪.‬‬
‫ذكر بعض األمثلة‪:‬‬
‫ومن األمثلة اليت تدل على ما ذكرنا احلديث الذي أخرجه من طريق األعمش عن أيب وائل شقيق بن سلمة‬
‫مث قال بعده‪" :‬هذا اخلرب له علة مل يسمعه األعمش من شقيق‪ ،‬مل أكن فهمته يف الوقت"(‪.)10‬‬
‫يعين يف وقت تدوينه هلذا احلديث مل يكن فهم هذه العلة‪ ،‬يدل عليها أنه اطلع عليها بعد ذلك مث أحلق هذا‬
‫الكالم إحلاقاً‪ ،‬فهذا يدل على شدة حتريه – رمحه اهلل ‪.-‬‬
‫وكذلك احلديث الذي رواه من طريق ابن إسحاق‪ ،‬مث قال بعد ذلك‪" :‬أنا استثنيت صحة هذا اخلرب"(‪.)11‬‬
‫يقول‪ :‬هذا ليس على شرطي‪ ،‬فهذا يعترب من األحاديث املستثناة – أي ال أحكم عليه بالصحة – ملاذا؟‬
‫قال‪" :‬ألين خائف أن يكون حممد بن إسحاق(‪ )12‬مل يسمع من حممد بن مسلم وإمنا دله عنه"‪ .‬وابن إسحاق‬
‫كما هو معروف لكثري من طلبة العلم ممن عرف بالتدليس‪.‬‬
‫وكذلك أخرج حديثاً(‪ )13‬من طريق عبداهلل بن هليعة‪ ،‬وجابر بن إمساعيل‪ ،‬مث قال بعد إخراجه هلذا احلديث‪:‬‬
‫"ابن هليعة(‪ )14‬ليس ممن أخرج حديثه يف هذا الكتاب إذا تفرد برواية‪ ،‬وإمنا أخرجت هذا اخلرب ألن جابر بن‬
‫إمساعيل(‪ )15‬معه يف اإلسناد"أهـ‪.‬‬

‫(‪ )2‬انظر‪" :‬اختصار علوم الحديث" للحافظ ابن كثير ص (‪.)27‬‬ ‫‪9‬‬

‫(‪ )1‬انظر‪" :‬صحيح ابن خزيمة"‪.)26 ،1/25( :‬‬ ‫‪10‬‬

‫(‪ )2‬المصدر السابق ‪.)1/71( :‬‬ ‫‪11‬‬

‫(‪ )3‬محمد بن إسحاق بن يسار‪ ،‬أبوبكر المطلي موالهم‪ ،‬المدني‪ ،‬نزيل العراق‪ ،‬إمام المغازي‪ ،‬صدوق يدلس ورمي‬ ‫‪12‬‬

‫بالتشيع والقدر‪ ،‬من صغار الخامسة‪ ،‬مات سنة ‪ ،150‬ويقال بعدها‪ ،‬روى له البخاري تعليقاً وباقي السنة‪ .‬تقريب ت‪:‬‬
‫‪.6424‬‬
‫(‪ )4‬انظر‪" :‬صحيح ابن خزيمة" (‪.)1/75‬‬ ‫‪13‬‬

‫(‪ )1‬عبداهلل بن لهيعة ابن عقية‪ ،‬أبوعبدالرحمن المصري‪ ،‬القاضي‪ ،‬صدوق‪ ،‬من السابعة‪ ،‬خلط بعد احتراق كتبه‪ ،‬ورواية‬ ‫‪14‬‬

‫ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما‪ ،‬وله في مسلم بعض شيء مقرون‪ g،‬مات سنة ‪ ،74‬وقد ناف على الثمانين‪،‬‬
‫روى له مسلم‪ ،‬وأصحاب السنن عدا النسائي‪ ،‬تقريب ت‪.)3945( :‬‬
‫(‪ )1‬جابر بن اسماعيل الخضرمي‪ ،‬أبوعباد المصري‪ ،‬مقبول‪ ،‬من الثامنة‪ ،‬روى له البخاري في األدب المفرد وباقي السنة‬ ‫‪15‬‬

‫عدا الترمذي‪ .‬التقريب ت‪.961 :‬‬


‫‪38‬‬
‫هذا مع العلم بأن هذا احلديث الذي أخرجه من طريق ابن هليعة من رواية عبداهلل ابن وهب عنه‪ .‬ورواية‬
‫عبداهلل بن وهب يعتربها بعض العلماء وطلبة العلم من الروايات الصحيحة ألنه مسع من ابن هليعة قبل االختالط‪ ،‬لكن‬
‫ابن خزمية يعترب أن ابن هليعة ضعيف يف مجيع أحواله قبل وبعد االختالط‪ ،‬والشك يف أن حاله بعد االختالط أشد‪،‬‬
‫فهو هنا يقول‪" :‬إنه مل خيرج حديث ابن هليعة‪ ،‬إال ألنه انضم معه يف اخلرب جابر بن إمساعيل"‪.‬‬
‫وكذلك أخرج حديثاً من طريق حممد بن جعفر – املعروف بغندر – عن معمر عن الزهري قال‪ :‬أخربين‬
‫سهل بن سعد مث ذكر حديثاً(‪ ،)16‬مث قال بعده‪:‬‬
‫"يف القلب من هذه اللفظة اليت ذكرها حممد بن جعفر – أعين قوله‪ :‬أخربين سهل بن سعد ‪ ،-‬وأهاب أن‬
‫يكون هذا ومهاً من حممد بن جعفر أو ممن دونه"أهـ‪.‬‬
‫فهذه جمرد أمثلة – وهي مبجموعها – وغريها من األمثلة – تعطي دليالً واضحاً بالشك على شدة حتري‬
‫هذا اإلمام – رمحه اهلل تعاىل – يف احلديث‪ ،‬وتدل داللة واضحة على مكانة كتابه‪.‬‬
‫ويرد على ما سبق ذكره أمران‪:‬‬
‫األول‪ :‬هل يسلم جلميع ما يف صحيح ابن خزمية بالصحة‪ ،‬كما يظهر من كالم ابن الصالح والعراقي‬
‫وغريمها؟‬
‫الثاين‪ :‬هل صحيح ابن خزمية مقدم على صحيح ابن حبان؟‬
‫فأما بالنسبة لألول‪:‬‬
‫ملا قال ابن الصالح‪" :‬ويكفي جمرد كونه – أي احلديث – يف كتب من اشرتط منهم الصحيح فيما مجعه يف‬
‫كتاب ابن خزمية" – جند احلافظ ابن حجر – رمحه اهلل – تعقب ابن الصالح بقوله‪:‬‬
‫"مقتضى هذا أن يؤخذ ما يوجد يف كتاب ابن خزمية وابن حبان وغريمها ممن اشرتط الصحيح بالتسليم‪،‬‬
‫وكذا ما يوجد يف الكتب املخرجة على الصحيحني‪ ،‬ويف كل ذلك نظر‪ .‬أما األول‪ :‬فلم يلتزم ابن خزمية وابن حبان‬
‫يف كتابيهما أن خيرجا الصحيح الذي اجتمعت فيه الشروط اليت ذكرها املؤلف – يعين ابن الصالح –؛ ألهنما ممن ال‬
‫يرى التفرقة بني الصحيح واحلسن بل عندمها أن احلسن قسم من أقسام الصحيح‪)17( "...‬أهـ‪.‬‬
‫لذلك قد جند يف "صحيح ابن خزمية وابن حبان" أحاديث ميكن أن حيكم عليها باحلسن وهي مدرجة على‬
‫أهنا من الصحيح‪ ،‬والسبب يف ذلك أهنما ال يفرقان بني احلسن والصحيح‪ ،‬بل احلسن عندمها داخل يف الصحيح‪.‬‬

‫(‪ )1‬انظر‪" :‬صحيح ابن خزيمة" ‪.)1/113( :‬‬ ‫‪16‬‬

‫(‪ )1‬انظر‪" :‬النكت"‪.)1/290( :‬‬ ‫‪17‬‬

‫‪39‬‬
‫"ومسي ابن خزمية كتابه املسند الصحيح املتصل بنقل العدل عن العدل من غري قطع يف السند وال جرح يف‬
‫النقلة‪ ،‬وهذه الشروط مثل شروط ابن حبان سواء؛ ألن ابن حبان تابع البن خزمية مغرتف من حبره‪ ،‬ناسج على‬
‫منواله‪ ،‬وبال شك ألنه شيخه‪ ،‬ومما يعضد ما ذكرنا احتجاج ابن خزمية وابن حبان بأحاديث أهل الطبقة الثانية الذين‬
‫خيرج مسلم أحاديثهم يف املتابعات – كابن إسحاق‪ ،‬وأسامة ابن زيد الليثي‪ ،‬وحممد بن عجالن‪ ،‬وحممد بن عمرو بن‬
‫علقمة‪ ،‬وغري هؤالء‪.‬‬
‫فإذا تقرر ذلك عرفت أن حكم األحاديث اليت يف كتاب ابن خزمية ويف كتاب ابن حبان – صالحية‬
‫االحتجاج هبا لكوهنا دائرة بني الصحيح واحلسن – مث استثىن ابن حجر فقال ‪ :-‬ما مل يظهر يف بعضها علة قادحة‪.‬‬
‫وأما أن يكون مراد من يسميها صحيحة أهنا مجعت الشروط املذكورة يف حد الصحيح‪ ،‬فال‪ ،‬واهلل أعلم"‪ .‬انتهى كالم‬
‫ابن حجر‪.‬‬
‫ويقول احلافظ ابن كثري يف "خمتصر علوم احلديث"‪:‬‬
‫"وقد التزم ابن خزمية وابن حبان الصحة‪ ،‬ومها خري من املستدرك بكثري‪ ،‬وأنظف أسانيد ومتوناً‪ ،‬وعلى كل‬
‫حال فالبد من النظر للتمييز‪ ،‬وكم يف كتاب ابن خزمية أيضاً من حديث حمكوم منه بصحته‪ ،‬وهو ال يرتقي عن رتبة‬
‫احلسن"أهـ‪.‬‬
‫نستفيد مما تقدم أن األحاديث اليت يف صحيح ابن خزمية أحسن حاالً من األحاديث فيما عداه سوى‬
‫الصحيحني؛ لكن ال يصل إىل درجة الصحيحني حبيث ميكن القول‪ :‬بأن كل ما فيه صحيح‪ ،‬بل فيه الصحيح‪،‬‬
‫واحلسن‪ ،‬والضعيف أيضاً‪ ،‬وهذا يتضح ملن سرب الكتاب‪ ،‬لكن نسبة الضعيف به ضئيلة جداً إذا ما قورنت بالصحيح‬
‫واحلسن‪.‬‬
‫خالصة ما سبق‪:‬‬
‫ومجلة القول‪ :‬أنه ال يسلم لكل ما يف صحيح ابن خزمية بالصحة بل البد من النظر يف أحاديثه لتمييزها كما‬
‫قال ابن كثري‪ ،‬وال يكتفي احلكم على احلديث بالصحة لكونه معزواً إىل صحيح ابن خزمية‪.‬‬
‫قال الدكتور حممد مصطفى األعظمى – وهو الذي حقق صحيح ابن خزمية – قال يف مقدمة حتقيقه هلذا‬
‫الصحيح ما نصه‪:‬‬
‫"أقول‪ :‬إن صحيح ابن خزمية ليس كالصحيحني‪ ،‬حبيث ميكن القول بأن كل ما فيه صحيح‪ ،‬بل فيه‬
‫الصحيح‪ ،‬واحلسن‪ ،‬والضعيف أيضاً‪ ،‬وهذا يتضح ملن سرب الكتاب‪ ،‬لكن نسبة الضعيف به ضئيلة جداً إذا ما قورنت‬
‫بالصحيح واحلسن‪ .‬ما هو دون درجة الصحيح‪ ،‬وليس مشتمالً على األحاديث الصحيحة واحلسنة فحسب‪ ،‬بل‬

‫‪40‬‬
‫يشتمل على أحاديث ضعيفة أيضاً‪ ،‬إال أن نسبتها ضئيلة جداً إذا قورنت باألحاديث الصحيحة واحلسنة‪ ،‬وتكاد ال‬
‫توجد األحاديث الواهية أو اليت فيها ضعف شديد إال نادراً‪ ،‬كما يتبني من مراجعة التعلقيات"أهـ‪.‬‬
‫تنبيه‪:‬‬
‫أحب أن أبني أنه يوجد أحياناً بعض األحاديث شديدة الضعف مثل ذلك احلديث الذي أخرجه ابن خزمية‬
‫يف صحيحه يف كتاب الصيام من رواية الصحايب سلمان الفارسي – رضي اهلل عنه ‪ ،-‬وهو احلديث الطويل الذي‬
‫يسند إليه من يذكر فضائل شهر رمضان‪ ،‬والذي فيه إن شهر رمضان "أوله رمحة‪ ،‬وأوسطه مغفرة‪ ،‬وآخره عتق من‬
‫النار"(‪.)18‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه ابن خزيمة (‪ ،)1887‬وترجم له‪" :‬باب فضائل شهر رمضان إن صح الخبر"‪ ،‬والمحاملي في "أماليه" (‪)293‬‬ ‫‪18‬‬

‫من طريق علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب عن سلمان رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫‪ -‬وهذا إسناد ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان التيمي البصري‪.‬‬
‫‪ -‬قال ابن سعد‪" :‬كان كثير الحديث" فيه ضعف‪ ،‬وال يحتج به"‪.‬‬
‫‪ -‬وقال أحمد‪" :‬ليس بالقوي"‪.‬‬
‫‪ -‬وقال عثمان الدارمي‪" :‬ليس بذلك القوي"‪.‬‬
‫‪ -‬وقال الجوزجاني‪" :‬واهي الحديث ضعيف"‪.‬‬
‫‪ -‬وقال ابن أبي خيثمة‪" :‬ضعيف في كل شيء"‪.‬‬
‫‪ -‬وقال ابن خزيمة‪" :‬ال أحتج به لسوء حفظه"‪g.‬‬
‫‪ -‬وقال الحافظ في التقريب‪" :‬ضعيف"‪.‬‬
‫‪ -‬ونل ابن أبي حاتم عن أبيه في "علل الحديث (‪" :)1/249‬حديث منكر"‪.‬‬
‫تنبيه هام‪ :‬قال ابن خزيمة في الترجمة‪" g:‬إن صح الخبر"‪ ،‬ثم سقطت (إن) من بعض المراجع مثل "الترغيب والترهيب" للحافظ‬
‫المنذري (‪ )2/95‬وغيره‪ ،‬وعلى ذلك فسد المعنى‪ ،‬واغتر به بعض الوعاظ والمدرسين‪.‬‬
‫‪ -‬ومثله حديث‪" :‬لو يعلم العباد ما في رمضان لتمنت أمتي أن يكون رمضان السنة كلها‪...‬الخ" الحديث‪.‬‬
‫‪ -‬رواه ابن خزيمة (‪ )1886‬من وجهين عن جرير وقال‪ :‬إن صح الخبر‪ ،‬فإن في القلب من جرير ابن أيوب البجلي‪ ،‬ورواه‬
‫ابن الجوزي في (الموضوعات)‪ )549 – 2/547( g‬من طريق جرير بن أيوب البجلي‪ ،‬عن الشعبي‪ ،‬عن نافع بن بردة‪ ،‬عن‬
‫أبي مسعود الغفاري‪ .‬وقال ابن الجوزي‪ :‬هذا حديث موضوع على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬والمتهم به‪ :‬جرير بن‬
‫أيوب‪.‬‬
‫‪ -‬قال يحيى‪" :‬ليس بشيء"‪ ،‬وقال الفضل بن دكين‪" :‬كان يضع الحديث"‪ .‬وقال النسائي والدارقطني‪" :‬متروك"‪.‬‬
‫‪ -‬وقال د‪ /‬مصطفى األعظمي المحقق البن خزيمة‪" :‬إسناده ضعيف بل موضوع‪ g،‬جرير بن أيوب البجلي قال عنه البخاري‪:‬‬
‫منكر الحديث" أهـ‪.‬‬
‫‪41‬‬
‫هذا احلديث الطويل ضعيف شديد الضعف‪ ،‬مع العلم بأن بعض الناس يغرت بإخراج ابن خزمية له يف‬
‫الصحيح‪ ،‬كما أنه – رمحه اهلل – قد خيرج أحاديث ضعيفة‪ ،‬ولكنه خيرجها لغرض من األغراض وينبه على ذلك‪،‬‬
‫وبعضها يتوقف يف احلكم عليه بالصحة‪ ،‬كما سيأيت معنا باألمثلة إن شاء اهلل تعاىل‪.‬‬
‫أما بالنسبة للنقطة الثانية وهي‪:‬‬
‫هل صحيح ابن خزمية مقدم على صحيح ابن حبان؟‬
‫فالذي يظهر من نظرة العلماء املتقدمني للكتابني أهنم يقدمون صحيح ابن خزمية على صحيح ابن حبان‪،‬‬
‫وبذلك صرح السيوطي صراحة وعليه درج الشيخ أمحد شاكر – رمحه اهلل – كما سبق ذكره عنه‪.‬‬
‫تقدمي الشيخ شعيب األرناؤوط البن حبان على صحيح ابن خزمية‪:‬‬
‫وقد خالف يف ذلك الشيخ شعيب األرناؤوط حمقق صحيح ابن حبان‪ ،‬وذكر يف مقدمة حتقيقه هلذا‬
‫الصحيح(‪ )19‬كالماً مقتضاه أنه يقدم صحيح ابن حبان على صحيح ابن خزمية‪ ،‬وأنا ال أعلم أحداً سبقه إىل هذا‪.‬‬
‫فيقول ما نصه‪:‬‬
‫"إن ما ذهب إليه السيوطي ال يسلم له‪ ،‬إذ إن صنيع ابن خزمية هذا يدل على أنه أدرج يف صحيحه أحاديث‬
‫ال تصح عنده ونبه على بعضها ومل ينبه على بعضها اآلخر‪ ،‬ويتبني ذلك جبالء من مراجعة القسم املطبوع من‬
‫صحيحه‪ ،‬ففيه عدد غري قليل من األسانيد الضعيفة‪ ،‬باإلضافة إىل أن عدداً ال بأس به من أحاديثه ال يرتقي عن رتبة‬
‫احلسن‪ ،‬فأين هو من صحيح ابن حبان الذي غالب أحاديثه على شرط الصحيح‪."...‬‬
‫مث أخذ يسهب يف الكالم إىل أن قال‪:‬‬
‫"إن صحيح ابن حبان أعلى مرتبة من صحيح شيخه ابن خزمية‪ ،‬بل إنه ليزاحم بعض الكتب الستة وينافس‬
‫بعضها يف درجاته"أهـ‪.‬‬
‫التعليق على كالم الشيخ شعيب األرناؤوط‪:‬‬
‫واحلقيقة أن موقفنا من هاتني النظرتني – سواء تقدمي ابن حبان أو تقدمي ابن خزمية – ينبغي أن يكون موقف‬
‫الناقد املتبصرل‪ ،‬فالشيح شعيب األرناؤوط عنده تساهل يف التصحيح‪ ،‬ويعرف ذلك من سري منهجه‪ ،‬فحكمه على‬
‫غالب أحاديث ابن حبان أهنا على شرط الصحيح‪ ،‬هذا حكم فيه نظر‪ ،‬ومن الظلم البن خزمية – رمحه اهلل – أن‬
‫حيكم على كتابه هبذا احلكم‪ ،‬وليس يف أيدينا منه سوى الربع فقط‪ ،‬أما الباقي فإنه مفقود‪.‬‬
‫فاألوىل أن يكون هناك دراسة فيها مقارنة بني هذا املوجود من صحيح ابن خزمية وما يقابله من نفس‬
‫األبواب من صحيح ابن حبان‪ ،‬فيستبعد ما اتفقا على إخراجه من احلديث وينظر فيما زاده كل منهما على اآلخر‪،‬‬
‫(‪ )1‬انظر‪" :‬صحيح ابن حبان" تحقيق الشيخ شعيب األرناؤوط (‪.)43 ،1/42‬‬ ‫‪19‬‬

‫‪42‬‬
‫وفق قواعد أهل االصطالح‪ ،‬مع األخذ بعني االعتبار بأن ابن خزمية – رمحه اهلل – يذهب إىل عدم تصحيح حديث‬
‫الراوي الذي ال يعرف بعدالة وال جرح‪ ،‬وأما ابن حبان فإنه يصحح حديث الراوي الذي هبذه الصفة ويوافقه عليه‬
‫شعيب األرناؤوط‪ ،‬فهذا يعترب تغرياً منهجياً عندهم‪.‬‬
‫فابن خزمية استبعد أحاديث ميكن أن خيرجها يف صحيحه‪ ،‬لو خرجها ألصبحت مجلة الصحيح – بناء على‬
‫نظرة ابن حبان وشعيب األرناؤوط – كبرية‪ ،‬ولكن ابن خزمية يستبعدها ألنه ال يرى تصحيح حديث من ال يعرف‬
‫بعدالة وال جرح وإذا خرج شيئاً من هذه األحاديث على قلتها فإنه ينص على التوقف عن احلكم على هذه‬
‫األحاديث بالصحة‪.‬‬
‫ومن مث ننظر يف عدد األحاديث املنتقدة على كل منهما – على ابن خزمية وعلى ابن حبان‪ ،-‬ومن خالل‬
‫ذلك حنكم أي الكتابني أرجح‪ ،‬وأيهما أصح حديثاً‪.‬‬
‫تنبيه هام حول األحاديث املنتقدة على ابن خزمية‪:‬‬
‫مع التنبيه أيضاً إىل أن بعض األحاديث املنتقدة عن ابن خزمية ال يلزم ابن خزمية فيها الزم؛ ألن منها أحاديث‬
‫يتوقف يف احلكم عليها بالصحة‪ ،‬ويبني السبب‪ ،‬وبعضها يظهر له فيها علة فيما بعد‪ ،‬مل يتنبه هلا حال إخراجه‬
‫للحديث‪ ،‬وبعضها يعرف هو ضعفها وإمنا أخرجها لكون هذا احلديث صح لديه من غري هذا الطريق‪ ،‬وبعضها‬
‫يوردها قصداً لكوهنا معارضة بعض ما يذهب إليه مث يعلها‪.‬‬
‫أمثلة لألحاديث اليت توقف فيها عن احلكم بالصحة وبيان السبب‪:‬‬
‫فمن أمثلة ما توقف عن احلكم عليه بالصحة وبني السبب‪ :‬أنه أخرج حديثا يف صحيحه(‪ )20‬من طريق عاصم‬
‫بن عبيد اهلل مث قال‪" :‬أنا بريء من عهدة عاصم"‪ ،‬مث نقل عدة أقوال للعلماء فيه‪.‬‬
‫وأخرج حديثاً(‪ )21‬من طريق معمر بن حممد بن عبيد اهلل بن أيب رافع*‪ .‬مث قال‪" :‬أنا أبرأ من عهدة هذا‬
‫اإلسناد ملعمر"‪.‬‬

‫(‪ )1‬انظر‪" :‬صحيح ابن خزيمة" (‪.)3/248‬‬ ‫‪20‬‬

‫(‪ )1‬انظر‪" :‬صحيح ابن خزيمة " (‪.)3/249‬‬ ‫‪21‬‬

‫* معمر بن عبيداهلل بن أبي رافع‪ ،‬الهاشمي موالهم المدني‪ ،‬منكر الحديث‪ ،‬من كبار العاشرة‪ ،‬روى له ابن ماجه‪ .‬تقريب ت‪:‬‬
‫‪.7676‬‬
‫‪43‬‬
‫(‪)22‬‬
‫من طريق كليب بن ذهل احلضرمي عن عبيد بن جبري‪ ،‬مث قال‪" :‬لست أعرف كليب بن‬ ‫وأخرج حديثاً‬
‫ذهل** وال عبيد بن جبري***‪ ،‬وال أقبل دين من ال أعرفه بعدالة"‪.‬‬
‫واألمثلة على هذا كبرية جداً يف كتابه‪.‬‬
‫أمثلة لألحاديث اليت أخرجها وظهرت له علته فيما بعد‪:‬‬
‫ومن أمثلة األحاديث األخرى اليت ظهرت له علتها فيما بعد‪:‬‬
‫احلديث الذي أوردته قبل قليل من رواية األعمش عن أيب وائل شقيق بن سلمة‪ :‬نبه ابن خزمية على أنه مل‬
‫يكن تنبه لعلة هذا احلديث حينما أورده‪ ،‬وبني بعد ذلك أن هناك واسطة بني األعمش وأيب وائل‪.‬‬
‫ومن أمثلة ذلك أخرج حديثاً(‪ )23‬من طريق موسى بن أيب عثمان عن أيب هريرة مث قال‪" :‬غلطنا يف إخراج‬
‫هذا احلديث ألن هذا مرسل؛ موسى بن أيب عثمان مل يسمع من أيب هريرة‪ ،‬أبوه أبوعثمان التبان عن أيب هريرة أخباراً‬
‫مسعها منه"‪.‬‬
‫فبني أنه غلط حينما أخرج حديث االبن وإمنا الذي مسع من أيب هريرة هو أبوه‪.‬‬
‫أمثلة لألحاديث اليت أخرجها لصحة متنها وهو يعلم ضعفها‪:‬‬
‫وأما ما عرف ضعفه هو‪ ،‬وأخرجه لكون املنت صحيحاً من غري هذا الطريق‪ ،‬أنه أخرج حديث‪" :‬أفطر‬
‫احلاجم واحملجوم"(‪ ،)24‬أخرجه من طريق ثوبان – رضي اهلل عنه‪ ،-‬مث أخرج عقبه من طريق احلسن البصري عن ثوبان‬
‫مث قال‪" :‬احلسن مل يسمع من ثوبان"‪ ،‬مث قال‪ :‬هذا اخلرب – خرب ثوبان – عندي صحيح يف هذا اإلسناد – مبعىن أنه‬
‫أخرج هذا احلديث من طريق احلسن البصري عن ثوبان‪ ،-‬مع العلم بأن احلسن مل يسمع من ثوبان؛ ألن هذا احلديث‬
‫صحيح من الطريق األوىل‪ ،‬فهذه الطريق تعترب متابعة‪ ،‬وال يعترب هذا احلديث الزماً الن خزمية‪ ،‬على أنه أخرج حديثا‬
‫يف سنده انقطاع‪.‬‬
‫أمثلة لألحاديث اليت أخرجها لكوهنا عارضت ما ذهب إليه‪:‬‬

‫(‪ )2‬انظر‪ :‬صحيح ابن خزيمة (‪.)3/266‬‬ ‫‪22‬‬

‫** كليب بن ذهل الحضرمي المصري‪ ،‬مقبول‪ g،‬من السادسة‪ ،‬روى له أبوداود‪ .‬تقريب ت‪.6355 :‬‬
‫*** عبيد بن جبير‪ ،‬بالجيم الموحدة‪ ،‬القبطي‪ ،‬مولى أبي بصرة‪ ،‬يقال‪ :‬كان ممن بعث به المقوقس مع مارية‪ ،‬فعلى هذا‪ :‬فله‬
‫صحبة‪ ،‬قد ذكره يعقوب‪ g‬بن سفيان في الثقات‪ ،‬وقال ابن خزيمة‪ :‬ال أعرفه‪ .‬روى له أبوداود‪ .‬تقريب ت‪.4908 :‬‬
‫(‪ )3‬انظر‪ :‬صحيح ابن خزيمة (‪.)3/115‬‬ ‫‪23‬‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬صحيح ابن خزيمة (‪ .)3/236‬وقد أخرجه من الطريق األولى الموصولة‪ g‬طريق أبي أسماء الرحبي عن ثوبان‪:‬‬ ‫‪24‬‬

‫أخرجه أبوداود (‪ ،)2371 ،2370 ،2367‬وابن ماجه (‪ ،)1680‬وابن حبان (‪ ،)3532‬والحاكم (‪ ،)1/427‬وغيرهم‪.‬‬
‫‪44‬‬
‫وأما ما يورده قاصداً لكونه عارض بعض ما يذهب إليه‪ ،‬فمن أمثلته أنه بوب يف كتاب الصيام يف صحيحه‬
‫باباً فقال فيه‪" :‬باب ذكر البيان أن احلجامة تفطر احلاجم واحملجوم مجيعاً"(‪ .)25‬مث أورد ما لديه من أدلة يف ذلك‪،‬‬
‫وأخذ يناقش القائلني خبالف هذا القول‪ ،‬ويورد أدلتهم ويتكلم عنها‪.‬‬
‫ومن مجلة األدلة اليت أوردها للمخالفني له حديث‪" :‬ثالث ال يفطرن الصائم‪ :‬احلجامة‪ ،‬والقيء‪ ،‬واحللم"(‪.)26‬‬
‫أورده من طريق عبدالرمحن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أيب سعيد اخلدري عن النيب صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ ،‬مث أعله فقال‪ :‬هذا اإلسناد غلط ليس فيه عطاء بن يسار وال أبوسعيد‪ ،‬وعبدالرمحن بن زيد* ليس هو ممن‬
‫حيتج أهل التثبيت حبديثه لسوء حفظه لألسانيد‪ ،‬وهو رجل صناعته العبادة والتقشف واملوعظة والزهد‪ ،‬ليس من‬
‫حفاظ أحالس احلديث الذي حيفظ األسانيد‪ ...‬إىل آخر كالمه – رمحه اهلل ‪.-‬‬
‫فهذا احلديث مل يورده ابن خزمية ألجل أنه صحيح حمتج به‪ ،‬وإمنا أورده إلعالله وإبطال حجة املخالف‪.‬‬
‫فاحلاصل أن ابن خزمية – رمحه اهلل – غلط عليه بعض الناس غلطاً كبرياً وألزمه مبا ال يلزم‪.‬‬
‫غلط احلافظ ابن حجر على ابن خزمية‪:‬‬
‫ومن أمثلة غلطهم عليه أنه أخرج حديثاً من طريق ابن املطوس عن أبيه عن أيب هريرة – رضي اهلل عنه –‬
‫قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬من أفطر يوماً من رمضان يف غري رخصة رخصها اهلل‪ ،‬مل يقضه عنه صوم‬
‫الدهر"(‪.)27‬‬
‫احلافظ ابن حجر – رمحه اهلل – ذكر هذا احلديث يف الفتح(‪ ،)28‬وقال‪ :‬صححه ابن خزمية‪ ،‬مث أخذ يذكر‬
‫علل هذا احلديث‪.‬‬
‫وهذا غلط من احلافظ على ابن خزمية‪ ،‬فإن ابن خزمية مل يصحح احلديث‪ ،‬وإمنا قال‪" :‬إن صح اخلرب فإين ال‬
‫أعرف ابن املطوس وال أباه"‪ .‬هو إذا متوقف عن احلكم على هذا احلديث بالصحة حينما قال‪" :‬إن صح اخلرب"‪.‬‬

‫(‪ )2‬انظر‪ :‬حيح ابن خزيمة (‪.)3/226‬‬ ‫‪25‬‬

‫(‪ )3‬أخرجه ابن خزيمة (‪ ،)1972‬وهو عند الترمذي (‪ ،)719‬وقال الترمذي‪ :‬غير محفوظ‪.‬‬ ‫‪26‬‬

‫* عبدالرحمن بن زيد بن أسلم العدوي موالهم‪ ،‬ضعيف‪ ،‬من الثامنة‪ ،‬مات سنة ‪ ،82‬روى له الترمذي وابن ماجه‪ g.‬تقريب‪ :‬ت‪:‬‬
‫‪.4312‬‬
‫(‪ )1‬انظر‪ :‬صحيح ابن خزيمة (‪ .)3/238‬والحديث أخرجه أيضاً أبوداود (‪ ،)2397 ،2396‬والترمذي (‪ ،)723‬وابن‬ ‫‪27‬‬

‫ماجه (‪ ،)1672‬وغيرهم‪.‬‬
‫(‪ )2‬انظر‪ :‬فتح الباري شرح صحيح البخاري (‪.)4/161‬‬ ‫‪28‬‬

‫‪45‬‬
‫ومع هذا فلسنا نربيء ابن خزمية من الوقوع يف الوهم واخلطأ‪ ،‬بل كل خيطيء‪ ،‬لكن ليس األمر كما ذكر‬
‫عنه‪ ،‬وإال فالوهم يقع له كما يقع لغريه من البشر؛ ألهنم غري معصومني‪ ،‬ولكن من نظر إىل كالمه وشرطه وحتريه‬
‫علم أنه – رمحه اهلل – كان حريصاً على أن ال يقع له شيء من التساهل أو الوهم‪.‬‬
‫ثناء احلافظ الذهيب عليه(‪:)29‬‬
‫قال الذهيب يف سري أعالم النبالء‪" :‬كان هذا اإلمام جهبذاً بصرياً بالرجال‪ ،‬فقال فيما رواه عنه أبوبكر حممد‬
‫بن جعفر شيخ احلاكم‪ :‬لست أحتج بشهر بن حوشب وال حبريز بن عثمان ملذهبه(‪،)30‬وال بعبد اهلل بن عمر – ليس‬
‫الصحايب وإمنا أحد الرواة املضعفني‪ - ،‬وال ببقية – يعين ابن الوليد‪ ،-‬وال مبقاتل بن حبان‪ ،‬وال بأشعث بن سوار‪،‬‬
‫وال بعلي بن جدعان لسوء حفظه‪ ،‬وال بعاصم بن عبيد اهلل‪ ،‬وال بابن عقيل‪ ،‬وال بابن يزيد بن أيب زياد‪ ،‬وال مبجالد‪،‬‬
‫وال حبجاج بن أرطأة إذا قال‪ :‬عن‪ ،‬وال بأيب حذيفة النهدي‪ ،‬وال جبعفر بن برقان‪ ،‬وال بأيب معشر جنيح – يعين‬
‫السعدي ‪ ،-‬وال بعمر بن أيب سلمة‪ ،‬وال بقابوس بن أيب ظبيان‪ ...‬مث مسى خلفاً دون هؤالء يف العدالة‪ ،‬فإن‬
‫املذكورين احتج هبم غري واحد"أهـ‪.‬‬
‫كأنه يبني أن هؤالء الذين احتج هبم غري واحد واجتنب ابن خزمية ختريج حديثهم يف صحيحه – هذا يدل‬
‫على شدة حتريه‪.‬‬
‫ملخص منهج ابن خزمية يف صحيحه‪:‬‬
‫وقد قال ابن خزمية – رمحه اهلل – يف صحيحه(‪" )31‬املختصر من املختصر من املسند‪ -‬عن النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬على الشرط الذي ذكرنا بنقل العدل عن العدل موصوالً إليه صلى اهلل عليه وسلم من غري قطع يف اإلسناد وال‬
‫جرح يف ناقلي األخبار‪ ،‬إال ما نذكر أن يف القلب من بعض األخبار شيئاً(‪ ،)32‬إما لشك يف مساع راو ممن فوقه خرباً‪،‬‬
‫أو راو ال نعرفه بعدالة وال جرح‪ ،‬فنبني أن يف القلب من ذلك اخلرب‪ ،‬فإنا ال نستحل التمويه على طلبة العلم بذكر‬
‫خرب غري صحيح ال نبني علته فيغرت به بعض من يسمعه‪ ،‬فاهلل املوفق للصواب"أهـ‪.‬‬
‫فهذا الكالم من ابن خزمية – رمحه اهلل – ميثل منهجه يف هذا الكتاب‪ ،‬وبه يتضح غلط من زعم أن ابن‬
‫خزمية كابن حبان يصحح ملن ال يعرف بعدالة وال جرح؛ فابن خزمية يتوقف عن ذلك كما هو ظاهر من منهجه يف‬

‫(‪ )3‬انظر‪ :‬سير أعالم النبالء (‪.)14/373‬‬ ‫‪29‬‬

‫(‪ )4‬ألن حريز بن عثمان ناصبي‪ ،‬والنواصب هم الذين يغضون أهل البيت‪.‬‬ ‫‪30‬‬

‫(‪ )1‬قال ذلك في أول كتاب الصيام (‪.)3/186‬‬ ‫‪31‬‬

‫(‪ )2‬في األصل‪ :‬شيء‪.‬‬ ‫‪32‬‬

‫‪46‬‬
‫هذا الكتاب يف مواضع عديدة‪ ،‬حيث يقول‪" :‬إن صح اخلرب فإين ال أعرف فالناً بعدالة وال جرح"‪ ،‬وهذه يف احلقيقة‬
‫تعترب ميزة عظيمة لكتابه على كتاب ابن حبان‪.‬‬
‫دقته – رمحه اهلل – يف تعقبه لألحاديث‪:‬‬
‫ومن دقته – رمحه اهلل – تعقبه لألحاديث مبا يزيل اللبس على املطلع على كتابه‪ ،‬فمثالً حني أخذ يف ذكر‬
‫األدلة اليت تتعلق باحلجامة للصائم‪ ،‬وحىت ال يقال‪ :‬إنه ذكر احلديث يف كتابه فهو صحيح إذا على شرطه – نبه على‬
‫ذلك فقال(‪" :)33‬فكل ما مل أقل إىل آخر هذا الباب‪ :‬إن هذا صحيح؛ فليس من شرطنا يف هذا الكتاب"‪.‬‬
‫وقد يورد ابن خزمية إسناداً فيه راو يعلم هو أنه ثقة‪ ،‬ولكنه خيشى أن يقف عليه من ال يعرف ثقته فيتهمه‬
‫بالتساهل‪ ،‬فنجده – رمحه اهلل – يورد بإسناده عن بعض األئمة ما يفيد ثقة ذلك الراوي‪.‬‬
‫فمن أمثلة ذلك أنه أخرج حديثاً(‪ )34‬من طريق عبداهلل بن أيب جعفر‪ ،‬مث ذكر بإسناده عن الليث بن سعد –‬
‫رمحه اهلل – أنه قال‪" :‬مسعت يزيد بن أيب حبيب وعبيد اهلل بن أيب جعفر – ومها جوهرتا البلد – يقوالن‪ :‬فتحت‬
‫مصر صلحاً"‪.‬‬
‫فابن خزمية حينما أورد هذا النقل إمنا أورده ألجل تعديل الليث لعبيد اهلل بن أيب جعفر‪ ،‬فهذه مناذج وأمثلة‬
‫تدل على أن ابن خزمية – رمحه اهلل – حباجة إىل من يقوم بدراسة حياته دراسة وافية‪ ،‬ودراسة كتابه الصحيح وإعطاء‬
‫صورة واضحة عنه ال أن حيكم عليه حبكم متسرع‪ ،‬واملوجود من كتابه إمنا هو قدر الربع فقط على هناية كتاب‬
‫احلج‪ ،‬وباقي الكتاب مفقود منذ زمن طويل‪.‬‬
‫قول الدمياطي واحلافظ ابن حجر يف بيان أن صحيح ابن خزمية أكثره مفقود ومل يوجد منه إال الربع‪:‬‬
‫يقول الدمياطي – رمحه اهلل – املتوىف يف سنة سبعمائة ومخس للهجرة‪" :‬إن كتاب صحيح ابن خزمية مل يقع‬
‫له منه إال ربعه األول فقط"‪.‬‬
‫وكذلك احلافظ ابن حجر – رمحه اهلل – ملا ذكر الكتب اليت اشتمل عليها كتابه "إحتاف املهرة بأطراف‬
‫العشرة" ذكر من ضمنها صحيح ابن خزمية‪ ،‬لكن إذا أخذنا نعد هذه الكتب جندها أحد عشر كتاباً‪ ،‬فبني السبب‬
‫تلميذه ابن فهد املكي فقال‪:‬‬
‫"إمنا زاد العدد واحداً‪ ،‬ألن صحيح ابن خزمية مل يوجد منه سوى قدر ربعه فقط(‪ ،)35‬مبعىن أنه مل حيتسب هذا‬
‫الكتاب لنقصه يف العدد‪ ،‬وإمنا اعترب العشرة اليت وجدها كاملة‪.‬‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬صحيح ابن خزيمة (‪.)3/236‬‬ ‫‪33‬‬

‫(‪ )2‬انظر‪ :‬صحيح ابن خزيمة (‪.)3/270‬‬ ‫‪34‬‬

‫(‪ )3‬انظر‪ :‬لحظ األلحاظ البن فهد (ص‪.)333‬‬ ‫‪35‬‬

‫‪47‬‬
‫أمهية صحيح ابن خزمية وفائدته(‪:)36‬‬
‫لصحيح ابن خزمية فوائد عديدة جداً‪ ،‬من مجلة هذه الفوائد‪:‬‬
‫أنه حفل باستنباطات فقهية دقيقة يعنون هبا على كل باب‪ ،‬أي أن فيه شبهاً من صنيع البخاري – رمحه اهلل‬
‫– يف أبوابه‪ ،‬ويتبع ابن خزمية هذه األبواب باألحاديث‪ .‬فكتابه هذا يعد كتاباً فقهياً ذا أمهية بالغة‪ ،‬ألن هذه‬
‫االستنباطات من ابن خزمية مبنية على أدلتها‪ ،‬مستندة إىل نصوص خيرجها يف نفس الكتاب‪.‬‬
‫يضاف إىل ذلك التعليقات املهمة على كثري من األحاديث‪ ،‬إما يفسر فيها لفظاً غريباً‪ ،‬أو يوضح معىن‬
‫مستغلقاً‪ ،‬أو يرفع إشكاالً‪ ،‬أو يزيل إهباماً‪ ،‬أو جيمع بني روايتني ظاهرمها التعارض‪ ،‬أو يذكر اسم رجل بتمامه إذا ذكر‬
‫يف اإلسناد بالكنية أو اللقب‪ ،‬أو ذكر امسه دون نسبه‪.‬‬
‫ويتكلم يف بعض الرجال جرحاً وتعديالً‪ ،‬ويرد رواية املدلس إذا كانت بالعنعنة ممن ال حيتمل تدليسه عنده‪،‬‬
‫وكذا رواية بعض الضعفاء املختلطني وإن كانت من االختالط‪.‬‬
‫ونصه كذلك على عدم مساع بعض الرواة من شيوخهم‪ ،‬وبيانه لعلل األحاديث اخلفية على اختالف أنواع‬
‫هذه العلل‪ ،‬إما لسقط يف اإلسناد غري ظاهر‪ ،‬أو لقلب يف املنت أو السند‪ ،‬أو غري ذلك من أنواع العلل‪.‬‬
‫أمثلة على استنباطاته الفقهية‪:‬‬
‫ونورد بعض األمثلة على ما ِأشرنا إليه‪:‬‬
‫ومن أمثلة أستنباطاته الفقهية قوله(‪" :)37‬باب ذكر إسقاط فرض اجلمعة على النساء‪ ،‬والدليل على أن اهلل عز‬
‫وجل خاطب باألمر بالسعي إىل اجلمعة‪ ،‬عند النداء هبا يف قوله‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصالة من يوم‬
‫اجلمعة} الرجال دون النساء(‪ ،)38‬إن ثبت هذا ا خلرب من جهة النقل‪ .‬وإن مل يثبت فاتفاق العلماء على إسقاط فرض‬
‫اجلمعة على النساء كاف من نقل خرب اخلاص فيه"أهـ‪.‬‬
‫فإذاً واضح من هذه الرتمجة وهذا العنوان عند ابن خزمية أنه يريد أن يستخرج معىن فقهياً أو استنباطاً فقيهاً‪،‬‬
‫وهو أن قول اهلل جل وعال‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا‪ }..‬خطاب للرجال دون النساء‪ ،‬وهو يستدل حبديث سيورده‪ ،‬لكن‬
‫هل هذا احلديث صحيح على شرطه؟ يقول‪ :‬إن ثبت هذا اخلرب من جهة النقل‪ ،‬وإن مل يثبت‪ ،‬يقول‪ :‬ال يضر شيء؛‬
‫فاتفاق العلماء جار على أن هذا اخلطاب موجه للرجال دون النساء‪.‬‬

‫(‪ )1‬هذا عدا عن فائدته الظاهرة من اشتماله على أحاديث صحيحة زائدة على ما في الصحيحين‪ ،‬واالعتماد على رأيه في‬ ‫‪36‬‬

‫بعض األحاديث التي يصححها‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬


‫(‪ )2‬انظر‪ :‬صحيح ابن خزيمة (‪.)112-3/111‬‬ ‫‪37‬‬

‫(‪ )3‬يعني‪ :‬خاطب الرجال دون النساء‪.‬‬ ‫‪38‬‬

‫‪48‬‬
‫وقد يتكلم على احلديث من الناحية الفقهية املصحوبة بالرتجيح واملوازنة بني الروايات وبيان عللها يف حنو من‬
‫أربع صفحات(‪)39‬؛ ففي أربع صفحات تكلم من الناحية الفقهية عن حديث أورده‪.‬‬
‫أمثلة على تفسريه لغريب احلديث‪:‬‬
‫وأما أمثلة تعليقاته اليت يفسر فيها لفظاً غريباً أو يوضح هبا معىن مستغلقاً أو يرفع أشكاالً ويزيل إهباماً – ما‬
‫ذكره عن سهل بن سعد "أن منرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من أثل الغابة"(‪ ،)40‬مث قال ابن خزمية‪" :‬األثل هو‬
‫الطرفاء"‪.‬‬
‫وذكر كذلك احلديث الذي فيه "أن اجلذع حن إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حنني الواله"(‪ ،)41‬مث قال‪:‬‬
‫الواله يريد به املرأة إذا مات هلا ولد‪.‬‬
‫ومن روائع كالمه – رمحه اهلل – أن ذكر(‪ )42‬حديثاً رواه عن شيخه بندار حممد بن بشار – وهو ثقة حافظ‬
‫‪ ،-‬وحممد بن بشار‪ ،‬رواه عن حيىي بن سعيد‪ ،‬عن ابن عجالن‪ ،‬عن سعيد بن أيب سعيد املقربي‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن عبداهلل‬
‫بن وديعة‪ ،‬عن أيب ذر يف الغسل يوم اجلمعة‪ ،‬مث قال‪" :‬ال أعلم أحداً تابع بنداراً يف هذا‪ ،‬واجلواد قد يفرت يف بعض‬
‫األوقات"‪.‬‬
‫فهو هبذا يشري إىل أن الثقة قد يهم‪ ،‬كما أن اجلواد قد يفرت‪ ،‬وإمنا قال هذا ألجل إن هذا احلديث روي على‬
‫غري هذا الوجه‪ ،‬فالبخاري أخرجه يف صحيحه(‪ )43‬من طريق ابن أيب ذئب عن سعيد املقربي‪ ،‬قال‪ :‬أخربين أيب عن ابن‬
‫وديعة عن سلمان الفارسي‪...‬‬
‫أما حممد بن بشار ذكر أنه عن أيب ذر بدل سلمان الفارسي‪ ،‬فذكر هذا احلديث البخاري على أنه من‬
‫حديث سلمان ال من حديث أيب ذر‪ .‬فإذاً البن خزمية احلق أن يذكر هذا الكالم عن شيخه بندار‪.‬‬
‫أمثلة إزالته للمشكل ورفعه للتعارض‪:‬‬
‫ومن أمثلة إزالته للمشكل ورفعه للتعارض‪ :‬ما ذكره(‪ )44‬بقوله‪" :‬باب ذكر أبواب ليلة القدر والتأليف بني‬
‫األخبار املأثورة عن النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فيها ما حيسب كثري من محلة العلم ممن ال يفهم صناعة العلم أهنا‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬صحبح ابن خزيمة (‪.)57-3/54‬‬ ‫‪39‬‬

‫(‪ )2‬انظر‪ :‬صحيح ابن خزيمة (‪.)3/141‬‬ ‫‪40‬‬

‫(‪ )3‬انظر‪ :‬صحيح ابن خزيمة (‪.)3/139‬‬ ‫‪41‬‬

‫(‪ )4‬انظر‪ :‬صحيح ابن خزيمة (‪.)3/157‬‬ ‫‪42‬‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬فتح الباري شرح صحيح البخاري (‪.)2/370‬‬ ‫‪43‬‬

‫(‪ )2‬انظر‪ :‬صحيح ابن خزيمة (‪.)3/319‬‬ ‫‪44‬‬

‫‪49‬‬
‫متهاترة متنافية‪ ،‬وليس كذلك هي عندنا حبمد اهلل ونعمته‪ ،‬بل هي خمتلفة األلفاظ متفقة املعىن على ما سنبينه إن شاء‬
‫اهلل"‪.‬‬
‫مث أخذ – رمحه اهلل – يف ذكر األخبار الواردة يف ليلة القدر‪ ،‬فرجح أوالً أهنا ليست يف مجيع العام‪ ،‬كما ظنه‬
‫بعض العلماء‪ ،‬بل هي يف رمضان‪ ،‬مث أخذ يقرر أهنا يف العشر األواخر من رمضان‪ ،‬مث انتقل إىل ترجيح أهنا يف الوتر‬
‫من العشر األواخر من رمضان ال يف الشفع‪.‬‬
‫مث رجح يف اآلخر أن األخبار غري متعارضة وأن الصواب فيها أهنا تنتقل من ليلة إىل أخرى يف الوتر من‬
‫العشر األواخر‪ ،‬وأهنا جائز أن تكون يف عام ليلة إحدى وعشرين‪ ،‬ويف عام آخر ليلة تسع وعشرين‪.‬‬
‫أمثلة إزالة االلتباس بني أمساء الرواة‪ ،‬وبيان اسم الرجل املذكور بكنيته أو لقبه‪:‬‬
‫ومن أمثلة إزالته اللتباس اسم راو باسم راو آخر‪ ،‬وذكره اسم الرجل بتمامه إن ذكر يف اإلسناد بكنية أو‬
‫لقب أو حنو ذلك‪ :‬أنه ذكر(‪ )45‬حديثاً من طريق عبدالرمحن ابن إسحاق عن النعمان بن سعد عن علي – رضي اهلل‬
‫عنه – فهناك راويان يشتبه كل منهما باآلخر‪ ،‬ومها عبدالرمحن بن إسحاق أبو شيبة الكويف وهذا ضعيف‪،‬‬
‫وعبدالرمحن بن إسحاق امللقب بـ "عباد" وهو صاحل احلديث‪.‬‬
‫فبني ابن خزمية أن الذي فيه احلديث هو الضعيف‪ ،‬ال اآلخر فقال‪" :‬باب ذكر ما أعد اهلل – جل وعال – يف‬
‫اجلنة من الغرف ملداوم صيام التطوع – إن صح اخلرب – فإن يف القلب من عبدالرمحن بن إسحاق أيب شيبة الكويف‪،‬‬
‫وليس هو بعبد الرمحن ابن إسحاق امللقب بـ "عباد" الذي روى عن سعيد املقربي والزهري وغريمها‪ ،‬وهو صاحل‬
‫احلديث مدين سكن واسط‪ ،‬مث انتقل إىل البصرة"‪.‬‬
‫وأخرج(‪ )46‬حديثاً من طريق أيب القاسم اجلديل‪ ،‬عن النعمان بن البشري يف احلث على إقامة الصف‪ ،‬مث قال‪:‬‬
‫"أبوالقاسم اجلديل هذا هو حسن بن احلارث من جديلة قيس‪ ،‬روى عنه زكريا بن أيب زائدة‪ ،‬وأبومالك األشعري‪،‬‬
‫وحجاج ابن أرطأة‪ ،‬وعطاء بن السائب‪ ،‬عداده يف الكوفيني"‪.‬‬
‫وأخرج(‪ )47‬حديثاً من طريق أيب حازم عن أيب هريرة – رضي اهلل عنه ‪ ،-‬مث قال‪" :‬أبوحازم مدين امسه سلمة‬
‫بن دينار الذي روى عن سهل بن سعد‪ ،‬والذي روى عن أيب هريرة سلمان األشجعي"‪.‬‬
‫فهو هبذا يبني أن من يكىن أبا حازم يف هذه الطبقة اثنان‪.‬‬
‫أحدمها‪ :‬أبوحازم األعرج الذي يروي عن سهل بن سعد وامسه سلمة بن دينار‪.‬‬

‫(‪ )3‬انظر‪ :‬صحيح ابن خزيمة (‪.)3/306‬‬ ‫‪45‬‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬صحيح ابن خزيمة (‪.)83 ،1/82‬‬ ‫‪46‬‬

‫(‪ )2‬انظر‪ :‬صحيح ابن خزيمة (‪.)376-1/375‬‬ ‫‪47‬‬

‫‪50‬‬
‫واآلخر‪ :‬هو الذي يروي عن أيب هريرة وهو املقصود يف هذا احلديث وامسه سلمان األشجعي‪.‬‬
‫أمثلة كالمه على الرجال جرحاً وتعديالً‪:‬‬
‫ومن أمثلة كالمه يف الرجال جرحاً وتعديالً‪ ،‬قوله كما سبق عن عبدالرمحن ابن إسحاق امللقب بـ "عباد"‪ :‬هو‬
‫صاحل احلديث‪ .‬فهذا تعديل‪.‬‬
‫وقوله(‪" :)48‬عاصم العنزي وعباد بن عاصم جمهوالن ال يدري من مها؟"؛ فهذا جرح منه – رمحه اهلل ‪.-‬‬
‫أمثلة رده لرواية املدلسني‪:‬‬
‫ومن أمثلة رده لرواية بعض املدلسني قوله(‪" :)49‬أما خرب أيب إسحاق عن األسود عن عائشة‪ ،‬فإن فيه نظراً؛‬
‫ألين ال أقف على مساع أيب إسحاق هذا اخلرب من األسود"‪.‬‬
‫وأبوإسحاق هذا هو السبيعي‪ ،‬وهو مذكور وموصوف بالتدليس‪ ،‬وبعض العلماء حيتمل تدليسه‪ ،‬فبني ابن‬
‫خزمية أن منهجه رد تدليسه‪ ،‬وهذا من شدة حتريه – رمحه اهلل ‪.-‬‬
‫وقال أيضاً(‪" :)50‬ومل أقف على مساع حبيب بن أيب ثابت هذا اخلرب من ابن عمر‪ ،‬وال هل مسع قتادة خربه من‬
‫مورق عن أيب األحوص أم ال؟"‪.‬‬
‫وحبيب وقتادة كالمها مدلس‪ ،‬وبعض العلماء قد يتساهلون فيحتمل عنعنتهما‪ .‬أما ابن خزمية فهو ممن ال‬
‫حيتمل ذلك‪.‬‬
‫تضعيفه لرواية ابن هليعة‪:‬‬
‫ومن فوائد كتابه تضعيفه لرواية بعض الضعفاء واملختلطني‪ ،‬وإن كانت من طريق بعض الثقات الذين مسعوا‬
‫منهم قدمياً باعتبار أن الراوي يف أصله ضعيف مثل ابن هليعة؛ إذ الصواب يف حاله أنه ضعيف أصالً‪ .‬وازداد ضعفه‬
‫بسبب احرتاق كتبه‪ ،‬حيث اختلط فساءت حاله‪ ،‬ورمبا لغري ذلك من األمور‪ ،‬فرواية الذين مسعوا منه قبل اختالطه‬
‫أعدل من غريها‪.‬‬
‫ونقول‪" :‬أعدل"‪ ،‬وال نقول‪" :‬إهنا صحيحة"‪ .‬فغلط أناس يف ذلك وظنوا أهنا صحيحة‪ ،‬ومن هؤالء الذين‬
‫مسعوا منه قبل اختالطه العبادلة األربعة‪ :‬عبداهلل بن وهب‪ ،‬وعبداهلل بن املبارك‪ ،‬وعبداهلل بن يزيد املقريء‪ ،‬وعبداهلل بن‬
‫مسلمة القعنيب‪.‬‬

‫(‪ )3‬انظر‪ :‬صحيح ابن خزيمة (‪.)1/239‬‬ ‫‪48‬‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬صحيح ابن خزيمة (‪.)1/212‬‬ ‫‪49‬‬

‫(‪ )2‬انظر‪ :‬صحيح ابن خزيمة (‪.)1/92‬‬ ‫‪50‬‬

‫‪51‬‬
‫فاستفدنا من كتاب ابن خزمية عدم التفاته – رمحه اهلل – لرواية ابن هليعة‪ ،‬وإن كانت من طريق أحد‬
‫العبادلة‪.‬‬
‫فمن ذلك أنه أخرج(‪ - )51‬كما سبق أن ذكرته – حديثاً من طريق عبداهلل بن وهب – وهو أحد هؤالء‬
‫العبادلة ‪ ،-‬قال‪ :‬أخربين ابن هليعة‪ ،‬وجابر بن إمساعيل احلضرمي‪ ،‬عن عقيل بن خالد‪ .‬مث ذكر احلديث‪.‬‬
‫قال ابن خزمية بعد ذلك‪" :‬ابن هليعة ليس ممن أخرج حديثه يف هذا الكتاب إذ انفرد برواية‪ ،‬وإمنا أخرجت‬
‫هذا اخلرب ألن جابر بن إمساعيل معه يف اإلسناد"‪.‬‬
‫أمثلة نصه على عدم مساع بعض الرواة من آخرين‪:‬‬
‫ومن أمثلة نصه على عدم مساع بعض الرواة من رواة آخرين قوله(‪" :)52‬عبدالرمحن ابن أيب ليلى مل يسمع من‬
‫معاذ بن جبل‪ ،‬وال من عبداهلل بن زيد بن عبدربه صاحب األذان‪ ،‬فغري جائز أن حيتج خبرب غري ثابت على أخبار‬
‫ثابته"‪.‬‬
‫أمثلة بيانه للعلل اخلفية يف األحاديث‪:‬‬
‫ومن أمثلة بيانه للعلل اخلفية يف األحاديث‪ :‬حديث رواه خالد احلذاء‪ ،‬عن رجل‪ ،‬عن أيب العالية‪ ،‬عن عائشة‬
‫– رضي اهلل عنها – يف دعائه صلى اهلل عليه وسلم يف سجود التالوة الذي فيه‪" :‬اللهم إين لك سجدت‪ ،‬وبك‬
‫آمنت‪ ،‬وعليك توكلت‪ ،‬سجد وجهي هلل الذي خلقه‪ "...‬إىل أخر احلديث‪.‬‬
‫قال ابن خزمية‪" :‬هكذا رواه إمساعيل بن إبراهيم بن علية عن خالد – يعين خالد احلذاء‪ ،-‬ورواه عبدالوهاب‬
‫بن عبداجمليد الثقفي‪ ،‬وخالد بن عبداهلل الواسطي‪ ،‬كالمها عن خالد احلذاء عن أيب العالية عن عائشة‪ ،‬بإسقاط الراوي‬
‫بني خالد احلذاء وبني أيب العالية"‪.‬‬
‫فبني ابن خزمية هذه العلة اليت قد ال يفطن هلا‪ ،‬وذكر أهنا السبب يف عدم إخراجه للحديث‪ .‬فقال(‪" :)53‬إمنا‬
‫تركت إمالء خرب أيب العالية عن عائشة أن النيب صلى اهلل عليه وسلم كان يقول يف سجود القرآن بالليل‪" :‬سجد‬
‫وجهي للذي خلقه وشق مسعه وبصره حبوله وقوته"؛ ألن بني خالد احلذاء وبني أيب العالية رجالً مسمى‪ ،‬مل يذكر‬
‫الرجل عبدالوهاب بن عبداجمليد وخالد بن عبداهلل الواسطي"‪.‬‬

‫‪ )31‬انظر‪ :‬صحيح ابن خزيمة (‪.)1/75‬‬ ‫‪51‬‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬صحيح ابن خزيمة (‪.)1/200‬‬ ‫‪52‬‬

‫(‪ )2‬انظر‪ :‬صحيح ابن خزيمة (‪.)284 ،1/283‬‬ ‫‪53‬‬

‫‪52‬‬
‫وبني أن الذي ذكره إمنا هو ابن علية‪ ،‬مث أخرج مجيع الروايات الثالث مث قال‪" :‬وإمنا أمليت هذا اخلرب وبينت‬
‫علته يف هذا الوقت‪ ،‬خمافة أن يفنت بعض طالب العلم برواية الثقفي وخالد بن عبداهلل‪ ،‬فيتوهم أن رواية عبدالوهاب‬
‫وخالد بن عبداهلل صحيحة"‪ .‬فهذا مثال للعلة اليت بسبب سقط يف اإلسناد‪.‬‬
‫ومن أمثلة ذلك أنه أخرج(‪ )54‬حديثاً من طريق حيىي بن سعيد القطان – وهو إمام – عن عبيد اهلل بن عمر‪،‬‬
‫عن خبيب بن عبدالرمحن‪ ،‬عن حفص بن عاصم‪ ،‬عن أيب هريرة‪ ،‬عن النيب صلى اهلل عليه وسلم يف السبعة الذين‬
‫يظلهم اهلل يف ظله يوم ال ظل إال ظله‪ ،‬وفيه قال‪" :‬ورجل تصدق بصدقة أخفاها حىت ال تعلم ميينه ما تنفق مشاله"‪.‬‬
‫هذا احلديث أخرجه مسلم يف صحيحه هبذه الصورة‪ ،‬فبني ابن خزمية – رمحه اهلل – أن هذه اللفظة مقلوبة‪،‬‬
‫وأن الصواب‪" :‬حىت ال تعلم مشاله ما تنفق ميينه"‪ ،‬فقال‪" :‬هذه اللفظة‪" :‬ال تعلم ميينه ما تنفق مشاله" قد خولف فيها‬
‫حيىي بن سعيد‪ ،‬فقال من روى هذا اخلرب غري حيىي‪" :‬ال تعلم مشاله ما تنفق ميينه"(‪.)55‬‬
‫فابن خزمية – رمحه اهلل – يبني أن حيىي بن سعيد – برغم أنه إمام جنبل وثقة وحافظ ومتقن – أخطأ يف هذا‬
‫احلديث‪ ،‬فانقلب عليه املنت‪ ،‬وهو على الصواب خمرج عند البخاري يف صحيحه يف عدة أبواب(‪ .)56‬فهذا مثال‬
‫ملقلوب املنت‪.‬‬
‫مثال ملقلوب السند‪:‬‬
‫وأما مقلوب السند‪ ،‬فمن أمثلته حديث يرويه سعيد بن أيب سعيد املقربي‪ ،‬ورواه عنه – يعين عن ابن سعيد‪:‬‬
‫داود بن قيس‪ ،‬وأنس بن عياض‪ ،‬وحممد بن عجالن‪ ،‬وابن أيب ذئب‪ ،‬على اختالف فيما بينهم‪.‬‬
‫فبني ابن خزمية علل هذا احلديث‪ ،‬وأنه انقلب سنده على بعض الرواة واحتاط هو يف روايته‪ ،‬فقال(‪ - )57‬بعد‬
‫أن ذكر علل هذا احلديث‪:-‬‬
‫"وال أحل ألحد أن يروي عين هذا اخلرب إال على هذه الصيغة؛ فإن هذا إسناد مقلوب‪ ،‬فيشبه أن يكون‬
‫الصحيح ما رواه أنس بن عياض؛ ألن داود بن قيس أسقط من هذا اإلسناد أبا سعيد املقربي‪ ،‬فقال‪ :‬عن سعد بن‬
‫إسحاق عن أيب مثامة‪.‬‬
‫وأما ابن عجالن فقد وهم يف اإلسناد وخلط فيه‪ ،‬فمرة يقول‪ :‬عن أيب هريرة‪ ،‬ومرة يرسله ‪ ،‬ومرة يقول‪ :‬عن‬
‫سعيد‪ ،‬عن كعب‪.‬‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬صحيح ابن خزيمة (‪.)186-1/185‬‬ ‫‪54‬‬

‫(‪ )2‬انظر‪ :‬صحيح ابن خزيمة (‪.)1/186‬‬ ‫‪55‬‬

‫(‪ )3‬أخرجه البخاري (‪ ،)6806 ،1423 ،660‬ومسلم (‪.)1031‬‬ ‫‪56‬‬

‫(‪ )4‬انظر‪ :‬صحيح ابن خزيمة (‪.)1/228‬‬ ‫‪57‬‬

‫‪53‬‬
‫وابن أيب ذئب قد بني أن املقربي سعيد بن أيب سعيد إمنا رواه عن رجل من بين سامل‪ ،‬وهو عندي سعد بن‬
‫إسحاق‪ ،‬إال أنه غلط على سعد بن إسحاق‪ ،‬فقال‪ :‬عن أبيه عن جده‪ ،‬عن جده كعب‪.‬‬
‫وداود بن قيس وأنس بن عياض قد اتفقا على أن اخلرب إمنا هو عن أي متامة"‪ .‬وبيانه – رمحه اهلل – للعلل يف‬
‫كتابه كثري‪ ،‬وفيما مضى – إن شاء اهلل – كفاية‪.‬‬
‫أمثلة ورعه – رمحه اهلل – وحتريه يف النقل‪:‬‬
‫ومن مسات كتابه ما يف كالمه على األحاديث وتعاليقه عليها من فوائد تنيبء عن عامل متورع ذي منهج‬
‫أصويل‪ ،‬داع للمنهج السوي ومرغب فيه‪.‬‬
‫فمن ذلك أنه ذكر(‪ )58‬أن مسدد بن مسرهد – رمحه اهلل – سأله عن حدثث عمار ابن ياسر‪" :‬أمرنا بصوم‬
‫عاشوراء قبل ان ينزل رمضان‪ "...‬إىل آخر احلديث‪ ،‬فذكر أنه أجابه – يعين أجاب مسدداً – بقوله‪" :‬قلت له جميباً‪:‬‬
‫إن النيب صلى اهلل عليه وسلم إذا أمر أمته بأمر‪ "...‬إىل آخر كالمه‪ ،‬مث قال يف آخر كالمه‪" :‬ولعلي زدت يف الشرح‬
‫يف هذا املوضع على ما أجبت السائل يف ذلك الوقت"‪.‬‬
‫فهذا يدل على أنه – رمحه اهلل – ورع‪ ،‬وهذا الورع دفعه إىل أن يبني للقاريء أنه ذكر هنا معىن ما أجاب‬
‫به مسدداً فقط‪ ،‬وليس هذا هو نص الكالم الذي أجاب به مسدداً يف ذلك الوقت‪.‬‬
‫أمثلة أصالة منهجه واعتداله‪:‬‬
‫ومن أمثلة أصالة منهجه واعتداله أنه ذكر(‪ )59‬حديث وصاله صلى اهلل عليه وسلم للصيام‪ ،‬مث قال‪" :‬باب‬
‫الدليل على أن الوصال منهي عنه؛ إذ ذلك يشق على املرء‪ ،‬خالف ما يتأوله بعض املتصوفة ممن يفطر على النقمة أو‬
‫اجلرعة من املاء‪ ،‬فيعذب نفسه ليايل وأياماً"‪.‬‬
‫أمثلة دعوته للخري والفضيلة يف كتابه‪:‬‬
‫ومن أمثلة دعوته للخري والفضيلة يف كتابه‪ :‬أنه ذكر(‪ )60‬حديث املؤذن الذي استمع إليه النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬فلما قال‪" :‬اهلل أكرب‪ ،‬اهلل أكرب"‪ ،‬قال عليه الصالة والسالم‪" :‬على الفطرة"‪ .‬فلما قال املؤذن‪" :‬أشهد أن ال إله‬
‫إال اهلل"‪ ،‬قال صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬خرجت من النار"‪.‬‬
‫عند ذلك قال ابن خزمية بعد هذا الكالم‪:‬‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬صحيح ابن خزيمة (‪.)3/285‬‬ ‫‪58‬‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬صحيح ابن خزيمة (‪.)3/280‬‬ ‫‪59‬‬

‫(‪ )2‬انظر‪ :‬صحيح ابن خزيمة (‪.)3/208‬‬ ‫‪60‬‬

‫‪54‬‬
‫"فإذا كان املرء يطمع بالشهادة بالتوحيد هلل يف األذان وهو أن خيلصه اهلل من النار بالشهادة باهلل يف التوحيد‬
‫يف أذانه‪ ،‬فينبغي لكل مؤمن أن يسارع إىل هذه الفضيلة طمعاً يف أن خيلصه اهلل من النار‪ ...‬يف منزله‪ ،‬أو بادية‪ ،‬أو‬
‫قرية‪ ،‬أو مدينة‪ ،‬طلباً هلذه الفضيلة"‪ .‬يقصد فضيلة األذان‪.‬‬
‫املؤلفات حول صحيح ابن خزمية‪:‬‬
‫هناك بعض املؤلفات اليت ألفت حول صحيح ابن خزمية‪ ،‬وهناك مؤلفات أخرى ذكر أهنا مما ألف حوله‪ ،‬وال‬
‫يصح ذلك‪ .‬فمما ال تصح نسبته إىل أنه مما ألف حول صحيح ابن خزمية‪:‬‬
‫املنتقى البن اجلارود‪ ،‬وصحيح ابن حبان‪.‬‬
‫أما املنتقى البن اجلارود‪ ،‬فقال الكتاين(‪:)61‬‬
‫"كتاب املنتقى – أي املختار – من السنن املسندة عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف األحكام أليب حممد‬
‫بن عبداهلل بن علي بن اجلارود النيسابوري احلافظ اجملاور مبكة‪ - ،‬املتوىف سنة ست – أو سبع – وثالمثائة‪ ،‬وهو‬
‫كاملستخرج على صحيح ابن خزمية‪ ،‬يف جملد لطيف"‪.‬‬
‫قال الشيخ حممد مصطفى األعظمي(‪:)62‬‬
‫"لكن املقارنة بني الكتابني املذكورين ال تفيد هذا االستنتاج"‪.‬‬
‫وأما صحيح ابن حيان‪ ،‬فقال ابن امللقن يف البدر املنري(‪:)63‬‬
‫"غالب صحيح ابن حبان منتزع من صحيح شيخه إمام األئمة حممد بن خزمية"‪.‬‬
‫ودفع ذلك الشيخ أمحد شاكر – رمحه اهلل – بقوله(‪:)64‬‬
‫"وهو فيما رأينا من كتابه قد أخرج كتابه مستقالً مل يبنه على الصحيحني‪ ،‬وال على غريمها؛ إمنا أخرج كتاباً‬
‫كامالً‪ ،‬وصوب ذلك الشيخ األعظمي(‪.)65‬‬
‫وممن رد قول ابن امللقن‪ :‬الشيخ شعيب األرناؤوط(‪.)66‬‬
‫وأما الكتب اليت ألفت حول صحيح ابن خزمية مما تصح نسبته إليه فهي‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬حول رجاله‪:‬‬
‫(‪ )3‬انظر‪ :‬الرسالة المستطرقة ص‪.25‬‬ ‫‪61‬‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬مقدمة صحيح ابن خزيمة ص‪23‬‬ ‫‪62‬‬

‫(‪ )2‬نقال عن توضيح األفكار للصنعاني (‪.)1/64‬‬ ‫‪63‬‬

‫(‪ )3‬انظر‪ :‬مقدمة صحيح ابن حبان ص‪.15‬‬ ‫‪64‬‬

‫(‪ )4‬انظر‪ :‬مقدمة صحيح ابن خزيمة ص‪.22‬‬ ‫‪65‬‬

‫(‪ )5‬انظر‪ :‬مقدمة صحيح ابن حبان ص‪.43‬‬ ‫‪66‬‬

‫‪55‬‬
‫قام ابن امللقن باختصار هتذيب الكمال للحافظ املزي‪ ،‬وذيل عليه برجال ستة كتب أخرى‪ ،‬وهي‪" :‬مسند‬
‫أمحد‪ ،‬وصحيح ابن خزمية‪ ،‬وابن حبان‪ ،‬ومستدرك احلاكم‪ ،‬وسنن الدارقطين‪ ،‬وسنن البيهقي"‪ ،‬ولعله مسى الذيل هذا‪:‬‬
‫"إكمال هتذيب الكمال"‪ ،‬كما نقله السخاوي(‪ )67‬عن شيخه احلافظ ابن حجر‪ ،‬ونقل عنه أنه مل يقف عليه‪ ،‬مث قال‬
‫السخاوي‪" :‬قد رأيت منه جملداً‪ ،‬وأمره فيه سهل"‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬حول أطراف‪:‬‬
‫صنف احلافظ ابن حجر كتاباً مساه "إحتاف املهرة بأطراف العشرة"(‪ ،)68‬ذكر فيه أطراف أحاديث عشرة‬
‫كتب من كتب السنة‪ ،‬ومنها صحيح ابن خزمية‪ ،‬وبالتتبع وجد أن عددها أحد عشر كتاباً‪ ،‬وإمنا زاد العدد واحداً‬
‫ألنه مل يعتد بصحيح ابن خزمية لكونه مل يوجد منه سوى قدر ربعه فقط(‪.)69‬‬
‫ثالثاً‪ :‬فهرسته‬
‫قام األخ حممد أمين بن عبداهلل الشرباوي بصنع فهرس لصحيح ابن خزمية بعنوان‪" :‬فهارس صحيح ابن‬
‫خزمية"‪ ،‬ويعترب مفتاحاً للكتاب‪ ،‬حيث رتب أحاديثه على احلروف اهلجائية اليت تسهل على الطالب الوقوف على‬
‫احلديث يف وقت وجيز إذا كان حيفظ طرفه األول‪ ،‬وهذا يأيت امتداداً لنشاط حركة الفهرسة يف هذه األيام‪.‬‬
‫رابعاً‪ :‬تصحيح أغالطه‪:‬‬
‫مل يطبع صحيح ابن خزمية سوى هذه الطبعة اليت بتحقيق الشيخ حممد مصطفى األعظمى‪ ،‬وعليها تعليقات‬
‫للشيخ األلباين‪ ،‬لكن هذه الطبعة مليئة باألخطاء املطبعية والتصحيفات والسقط وما إىل ذلك‪ ،‬وعندها قام الشيخ‬
‫عبدالعزيز بن عبدالرمحن العثيم – األستاذ املساعد بكلية الدعوة وأصول الدين جبامعة أم القرى – بتتبع الكتاب‬
‫واستخراج ما وقف عليه فيه من تصحيف وسقط‪ ،‬ومجع ذلك يف كتاب مساه‪" :‬النقط ملا وقع يف أسانيد صحيح ابن‬
‫خزمية من التصحيف والسقط"‪ ،‬وواضح من العنوان أنه يقوم بتتبع األسانيد فقط‪ ،‬وبيان اخلطأ فيها ووجه الصواب‪.‬‬
‫ويف آخر هذا املطاف‪ ،‬هناك بعض األجتهادات مين ومن بعض طلبة العلم‪ ،‬ثبتنا اهلل وإياهم على احلق – يف‬
‫حماولة مقابلة صحيح ابن خزمية مع أصل خطي‪ ،‬والغرض من هذا هو عمل مقارنة وهي اليت أشرت إليها بني صحيح‬
‫ابن حبان وصحيح ابن خزمية لنخرج بالنتيجة اليت أشرت إليها‪ ،‬وهي‪ :‬هل صحيح ابن خزمية يقدم على صحيح ابن‬
‫حبان أو العكس؟ وذلك لنبين كالمنا على منهج علمي بالدليل الذي ال يدع جماالً للشك والتخمني والظن‪.‬‬

‫(‪ )6‬انظر‪ :‬الضوء الالمع (‪.)6/102‬‬ ‫‪67‬‬

‫(‪ )7‬انظر‪ :‬ذيل تذكرة الحفاظ البن فهد المكي ص‪.333‬‬ ‫‪68‬‬

‫(‪ )1‬راجع قول الدمياطي والحافظ ابن حجر في بيان أن صحيح ابن خزيمة أكثره مفقود‪ ،‬ولم يوجد منه اآلن إال الربع‪.‬‬ ‫‪69‬‬

‫ص(‪.)130‬‬
‫‪56‬‬
‫وختاماً‪ ،‬نسأله سبحانه أن ييسر احلصول على الكتاب كامالً‪ ،‬وأن يقبض له من خيدمه ويعتين به العناية‬
‫املطلوبة‪ .‬واهلل أعلم‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫(‪)70‬‬
‫الكالم على كتاب صحيح ابن حبان‬
‫الكتاب الذي سنتناوله بالدراسة اآلن هو ثاين الكتب اليت ألفت يف الصحيح اجملرد بعد الصحيحني‪ .‬وهو‬
‫صحيح ابن حبان – رمحه اهلل تعاىل ‪ ،-‬وكالعادة نبدأ بالتعريف بصاحب هذا الكتاب مث نتناول الكتاب بالدراسة‪.‬‬
‫امسه ونسبه(‪:)71‬‬
‫أما صاحب هذا الكتاب فهو‪ :‬حممد بن حبان بن أمحد بن حبان أبوحامت التميمي البسيت السجستاين‪.‬‬
‫يعترب ابن حبان – رمحه اهلل تعاىل – عريب النسب‪ ،‬فهو من قبيلة بين متيم من صلبهم‪ ،‬ينسب إىل مدينة بست‬
‫حينما يقال له البسيت‪ ،‬ألنه ولد فيها وتويف فيها أيضاً‪ ،‬ويقال له‪ :‬السجستاين‪ ،‬ألن هذه املدينة – بست – من أعمال‬
‫السجستان‪ .‬فالسجستان إقليم واسع يضم عدة مدن وقرى‪ ،‬تعترب بست إحدى هذه املدن‪ ،‬ويقع هذا اإلقليم –‬
‫وبالذات مدينة بست – يف هذا العصر يف البلد املعروفة بافغانستان‪.‬‬
‫مولده ووفاته‪:‬‬
‫ولد ابن حبان – رمحه اهلل تعاىل – على التخمني – يف عشر الثمانني ومائتني‪ ،‬ألنه – رمحه اهلل – تويف يف‬
‫سنة أربع ومخسني وثلثمائة‪ ،‬وله من العمر حنو مثانني عاماً‪ ،‬فاستنبطوا أن مولده يف عشر الثمانني ومائتني‪.‬‬
‫رحالته يف طلب العلم‪:‬‬
‫وطلب العلم ن‪ -‬رمحه اهلل – كما يقول الذهيب ‪ :-‬على رأس الثالمثائة‪ ،‬فرحل إىل بالد عديدة سواء يف‬
‫إقليمه السجستان‪ ،‬أو يف إقليم نيسابور‪ ،‬وكذلك العراق‪ ،‬والشام‪ ،‬ومصر‪ ،‬واحلجاز‪ ،‬وغريها‪ .‬حىت إن شيوخه يف هذه‬
‫الرحلة بلغوا أكثر من ألفي شيخ‪ ،‬كما صرح هو بذلك بنفسه يف مقدمة صحيحه(‪ )72‬حينما قال‪" :‬لعلنا كتبنا عن‬
‫أكثر من ألفي شيخ من الشاش إىل اإلسكندرية"‪.‬‬
‫مث انتقى – رمحه اهلل – من هذا العدد اجلم حوايل ‪ 150‬شيخاً‪ ،‬هؤالء هم الذين أخرج هلم يف الصحيح‪،‬‬
‫وليس هذا فقط‪ ،‬بل إنه إمنا أخرج ألكثر هذا العدد النزر اليسري جداً من األحاديث‪ ،‬وأما الذين أكثر عنهم واعتمد‬
‫عليهم يف الرواية فإمنا هم حوايل عشرين شيخاً فقط‪ ،‬وهؤالء هم أضبط شيوخ ابن حبان‪.‬‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬األنساب (‪ ،)2/209‬ومعجم البلدان (‪ ،)1/415‬والكامل البن األثير (‪ ،)8/566‬وسير أعالم النبالء (‬ ‫‪70‬‬

‫‪ ،)16/92‬وتذكرة الحفاظ (‪ ،)3/920‬وميزان االعتدال (‪ ،)3/506‬وطبقات الشافعية (‪ ،)3/131‬والبداية والنهاية (‬


‫‪ ،)11/259‬ولسان الميزان (‪ ،)5/112‬وشذرات الذهب (‪.)3/16‬‬
‫(‪ )2‬انظر‪ :‬الرسالة المستطرقة ص(‪.)25‬‬ ‫‪71‬‬

‫(‪ )1‬وكذلك نقله عنه الحافظ الذهبي في سير أعالم النبالء (‪.)16/94‬‬ ‫‪72‬‬

‫‪58‬‬
‫يقول ابن حبان يف مقدمة صحيحه‪" :‬ومل نرو يف كتابنا هذا إال عن مئة ومخسني شيخاً‪ ،‬أقل أو أكثر‪ ،‬ولعل‬
‫معول كتابنا هذا يكون على حنو من عشرين شيخاً ممن أدرنا السنن عليهم‪ ،‬واقتنعنا برواياهتم عن رواية غريهم"‪.‬‬
‫ذكر بعض من أكثر عنهم من الشيوخ‪:‬‬
‫وعلى سبيل املثال‪ ،‬فمن هؤالء الشيوخ الذين أكثر عنهم‪ :‬أبويعلى املوصلي "صاحب املسند املشهور"‪ ،‬وابن‬
‫خزمية "صاحب الصحيح"‪ ،‬واحلسن بن سفيان "صاحب املسند"‪ ،‬وأبوعروبة احلراين وهو أحد األئمة املتكلمني يف‬
‫الرجال‪" ،‬إمام مشهور"‪.‬‬
‫قصته مع شيخه ابن خزمية‪:‬‬
‫وكان – رمحه اهلل – ذا مهة عالية يف الطلب واجلد فيه‪ ،‬ولعل من أبرز ما يدل على ذلك قصته مع شيخه ابن‬
‫خزمية؛ فإنه – رمحه اهلل – كان يلح على الشيخ ليستخرج ما عنده من علم‪ ،‬ففي ذلك يوم كان يسري مع شيخه ابن‬
‫خزمية وكان معه أيضاً بعض الناس اآلخرين‪ ،‬فأخذ يكثر من سؤال ابن خزمية‪ ،‬ويبدو أن ابن خزمية – رمحه اهلل – قد‬
‫مل وضجر وأدركته السآمة من كثرة إحلاح ابن حبان‪ ،‬فقال له‪" :‬تنحى عين يا بارد" – أو كلمة حنو هذه ‪ ،-‬فكتبها‬
‫ابن حبان‪ ،‬فقال له أحد الواقفني معهم أو السائلني‪ :‬تكتب عنه مثل هذه الكلمة‪ ،‬قال‪ :‬نعم‪ ،‬أكتب عن هذا اإلمام –‬
‫واهلل – كل شيء‪.‬‬
‫ختصصه يف احلديث وتوليه للقضاء‪:‬‬
‫وقد ختصص – رمحه اهلل – يف علم احلديث أكثر وتضلع فيه‪ ،‬ولكنه مل يقتصر عليه فقط‪ ،‬بل إنه يعد من‬
‫الفقهاء املشهورين‪ ،‬ولذلك توىل القضاء يف عدة بلدان‪ ،‬مثل مدينة نسا‪ ،‬ومسرقند‪ ،‬وغريمها‪.‬‬
‫منازعته مع األحناف‪ ،‬وقدحه يف اإلمام أيب حنيفة‪:‬‬
‫وكان بينه وبني فقهاء احلنفية آنذاك منازعات وخصومات‪ ،‬محلت هذه املنازعات واخلصومات ابن حبان‬
‫على الطعن يف أيب حنيفة – رمحه اهلل – فألف كتاباً يف علل مناقبه يقع يف عشرة أجزاء‪ ،‬أي إذا كان أليب حنيفة‬
‫فضيلة ومنقبة‪ ،‬فإن ابن حبان يردها فيعلها‪ .‬فهذا الكتاب يف علل مناقب أيب حنيفة‪ ،‬ومل يكتفه هبذا‪ ،‬بل ألف كتاباً‬
‫آخر يف مثالب أيب حنيفة يقع يف عشرة أجزاء‪ .‬واملثالب‪" :‬ضد املناقب والفضائل‪ ،‬أي‪ :‬العيوب‪ .‬وكتاباً ثالثاً يف علل‬
‫ما استند عليه أبوحنيفة يقع يف عشرة أجزاء أيضاً‪.‬‬
‫براعته ونبوغه يف علوم شىت‪:‬‬
‫ومل يقتصر على الفقه واحلديث فقط‪ ،‬بل إنه برع يف عدة علوم أخرى كالطب والفلك‪ ،‬حىت إهنم وصفوه‬
‫بأنه كان عاملاً بالطب والنجوم‪ ،‬ومن مجلة ما برع فيه ابن حبان‪ :‬علم العربية‪ ،‬أي‪ :‬اللغة‪ ،‬حىت إنه كان ميهد‬
‫الستنباطاته بذكر القاعدة اللغوية املتعارف عليها عند العرب‪ .‬بل إنه جاوز ذلك إىل علم الكالم‪ ،‬حىت برع فيه وتأثر‬
‫‪59‬‬
‫به‪ ،‬فأثر يف أسلوبه وطريقته وخباصة يف كتابه الصحيح الذي نتناوله بالدراسة‪ ،‬فإنه رتبه على التقاسيم واألنواع –‬
‫كما سيأيت إن شاء اهلل ‪ .-‬وهي طريقة كالمية حبتة‪ ،‬ويظهر هذا األثر الكالمي مشوباً بالناحية الفقهية عند ابن حبان‬
‫‪ .-‬يظهر يف استنباطاته للمسائل من األدلة‪.‬‬
‫أمثلة لبعض استنباطاته الكالمية‪:‬‬
‫ولو أردنا أن منثل على هذا ميكن أن نأخذ حديث النيب صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬يتقارب الزمان وينقص‬
‫العلم"(‪.)73‬‬
‫يقول ابن حبان يف استنباطاته من هذا احلديث‪" :‬وقد أخرب املصطفى صلى اهلل عليه وسلم أن العلم ينقص يف‬
‫آخر الزمان‪ ،‬وأرى العلوم كلها تزداد إال هذه الصناعة الوحيدة؛ فإهنا كل يوم يف النقص – يقصد علم احلديث‬
‫والسنن ‪ ،-‬فكأن العلم الذي خاطب النيب صلى اهلل عليه وسلم أمته بنقصه يف آخر الزمان هو معرفة السنن‪ ،‬وال‬
‫سبيل إىل معرفتها إال مبعرفة الضعفاء واملرتوكني"‪.‬‬
‫ومن استنباطاته أيضاً قوله يف قول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حلسان بن ثابت – رضي اهلل عنه – ملا‬
‫أمره بالرد على املشركني واملنافحة عنه بقوله صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬أجب عين"(‪.)74‬‬
‫يقول ابن حبان‪" :‬يف هذا اخلرب كالدليل على األمر جبرح الضعفاء‪ ،‬ألن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال حلسان‬
‫بن ثابت‪" :‬أجب عين"‪ ،‬وإمنا أمر أن يذب عنه ما كان يتقول عليه املشركون‪ .‬فإذا كان يف تقول املشركني على‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يأمر أن يذب عنه‪ ،‬ومل يضر كذهبم املسلمني‪ ،‬وال أحلوا به احلرام وال حرموا به‬
‫احلالل؛ كان من كذب على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من املسلمني الذي حيل احلرام وحيرم احلالل بروايتهم –‬
‫أحرى أن يؤمر بذب ذلك الكذب عنه صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫يعين‪ :‬جيعل ذلك من قياس األوىل‪ ،‬يقول‪ :‬إذا كان املشركون يتكلمون يف النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وأمر‬
‫عليه الصالة والسالم حسان بن ثابت أن يذب عنه‪ ،‬مع العلم أن كذب املشركني هذا ليس فيه حتليل حرام أو حترمي‬
‫حالل‪ .‬فمن باب أوىل أن يؤمر اإلنسان بالذب عن سنة النيب صلى اهلل عليه وسلم؛ ألنه يعترب ذاباً للكذب عن النيب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وخباصة أن هذا الكذب حيل به احلرام وحيرم به احلالل‪.‬‬
‫إغرابه يف بعض االستنباطات‪ ،‬ومثال ذلك‪:‬‬

‫(‪ )1‬جزء من حديث رواه البخاري (‪ ،)6652( ،)5690‬ومسلم (‪.)2672‬‬ ‫‪73‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه مسلم (‪ ،)2485‬وأبوداود (‪ ،)2/316‬وأحمد (‪.)5/222 ،2/269‬‬ ‫‪74‬‬

‫‪60‬‬
‫ولكن هذه االستنباطات الدقيقة الرائعة من ابن حبان مل يكن موفقاً فيها يف مجيع أحواله‪ ،‬بل إننا لنجده‬
‫أحياناً يستنبط فيغرب جداً يف استنباطاته حىت إن هذه االستنباطات تدفعه أحياناً إىل إنكار معىن صحيح ثابت بالدليل‬
‫الصحيح عن النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫وإذا أردنا أن نتناول مثاالً على هذه اجلزئية‪ ،‬فمن أمثلة ذلك حديث أنس بن مالك يف وصال النيب صلى اهلل‬
‫عليه وسلم بالصوم‪ ،‬فإنه عليه الصالة والسالم كان يواصل الصوم اليوم واليومني(‪.)75‬‬
‫استنبط ابن حبان من هذا استنباطاً دعاء إىل إنكار احلديث الذي فيه أن النيب صلى اهلل عليه وسلم وضع‬
‫احلجر على بطنه‪ ،‬أي إنه عارض هذا احلديث – حديث وصال النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،-‬وقوله عليه الصالة‬
‫والسالم يف هذا احلديث‪" :‬إين أبيت يطعمين ريب ويسقيين"‪ ،‬قال‪ :‬هذا يدل على ضعف أو وهاء ذلك اخلرب الذي فيه‬
‫أن النيب صلى اهلل عليه وسلم "شد احلجر على بطنه من اجلوع"(‪.)76‬‬
‫فابن حبان هبذا ال يعترب مسدداً يف هذا االستنباط‪ ،‬ألنه كما أن هذا احلديث ثابت بالسند الصحيح‪ ،‬فكذلك‬
‫أيضاً حديث شده عليه الصالة والسالم احلجر على بطنه ثابت بالسند الصحيح أيضاً‪ ،‬ولذلك الذهيب – رمحه اهلل –‬
‫ملا ذكر مثل هذا عن ابن حبان استدل عليه حبديث أخرجه هو يف نفس صحيحه‪ ،‬وهو حديث خروجه عليه الصالة‬
‫والسالم ذات يوم‪ ،‬وملا خرج وجد أبا بكر وعمر – رضي اهلل عنهما ‪ ،-‬فقال هلما‪" :‬ما أخرجكما هذه الساعة؟"‪.‬‬
‫قاال‪ :‬اجلوع يا رسول اهلل‪ ،‬قال‪" :‬وأنا والذي نفسي بيده ألخرجين الذي أخرجكما"(‪.)77‬‬
‫هذا احلديث أخرجه ابن حبان يف نفس صحيحه‪ ،‬ولكنه ذهل عن إخراجه له أو عن املعىن الذي تضمنه ذلك‬
‫احلديث‪ ،‬فإنه عليه الصالة والسالم خيرج من بيته يف مثل هذه الساعات احملرجة‪ ،‬كل ذلك من أثر اجلوع‪.‬‬
‫وقد بني الذهيب – رمحه اهلل – أن املقصود حبديث الوصال خمصوص حبال الصوم فقط‪ ،‬وأما يف سائر‬
‫األحوال‪ ،‬فالنيب صلى اهلل عليه وسلم بشر كبقية البشر‪ ،‬جيوع ويشبع‪ ،‬ويقوم وينام‪ ،‬وغري ذلك من أمور حياته‪.‬‬
‫لعل مثل هذه االستنباطات اليت يف غري موضعها عند ابن حبان هي اليت دعت أبا عمرو بن الصالح – رمحه‬
‫اهلل – إىل أن يقول عنه(‪" :)78‬ورمبا غلط يف تصرفه الغلط الفاحش على ما وجدته"‪ .‬ويصدقه الذهيب – رمحه اهلل –‬
‫بقوله‪" :‬صدق أبوعمرو"‪.‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه مسلم (‪ )1104‬عن أنس‪.‬‬ ‫‪75‬‬

‫(‪ )2‬هذا قاله عقب إخراجه لحديث أنس (‪ .)3579‬وقد ورد شده صلى اهلل عليه وسلم الحجر في عدة أحاديث منها‪:‬‬ ‫‪76‬‬

‫حديث جابر عند البخاري (‪ ،)4101‬وحديث أبي طلحة عند الترمذي (‪ ،)2371‬وحديث ابن بجير أخرجه ابن أبي الدنيا‬
‫والخطيب وابن منده كما في االصابة (‪.)2/486‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه ابن حبان (‪.)16/98‬‬ ‫‪77‬‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬سير أعالم النبالء (‪.)16/94‬‬ ‫‪78‬‬

‫‪61‬‬
‫قوله لبعض العبارات املومهة اليت أدت إىل احلكم بقتله‪:‬‬
‫بل إن أسلوب ابن حبان هذا حدا به – مع تاثره بعلم الكالم – إىل ارتكاب أخطاء أدت به إىل امتحانه بل‬
‫كادت تؤدي إىل مقتله‪ ،‬ومن ذلك أنه أصدر عبارة مومهة جعلت الناس يف حرية منها‪ ،‬حينما قال‪" :‬النبوة‪ :‬العلم‬
‫والعمل"‪ ،‬فحكموا عليه بالزندقة‪ ،‬وهجر‪ ،‬وكتب فيه إىل اخلليفة‪ ،‬فكتب بقتله‪ ،‬فالذي يظهر أنه هرب واختفى وجناه‬
‫اهلل‪.‬‬
‫وقد ال يكون البعض يدرك مدى خطورة هذه العبارة حىت أوضحها مبا يلي‪:‬‬
‫الفالسفة يرون أن النبوة مكتسبة وليست موهبة من اهلل – جل وعال – للعبد‪ ،‬بل ميكن لإلنسان أن يكون‬
‫نبياً‪ ،‬وذلك برتويض نفسه برياضة معينة مع العلم والعمل بذلك العلم‪ ،‬هذا رأي الفالسفة‪.‬‬
‫أما أهل السنة‪ :‬فريون أن النبوة موهبة من اهلل – جل وعال – ألنبيائه عليهم السالم‪ ،‬وأنه ليس مبقدور العبد‬
‫إطالقا أن يكون نبياً مهماً حاول ومهما روض نفسه‪.‬‬
‫فهذه العبارة من ابن حبان فهم منها بعضهم أنه يقول مبقالة الفالسفة وذلك زندقة‪ ،‬فثار عليه أهل عصره‬
‫وخباصة من كان يف قلبه عليه شيء‪ ،‬إما من جراء عصبية مذهبية كما جرى مع احلنفية الذين كانوا يساكنونه يف‬
‫ذلك البلد‪.‬‬
‫أو رمبا من جراء املشاحنة بينه وبني بعض علماء عصره كما جيري غالباً بني األقران‪.‬‬
‫أو رمبا من بعض املتحمسني الذين يغارون على دين اهلل – جل وعال ‪ ،-‬فريون من ابن حبان يف إصداره‬
‫هلذه العبارة أنه أخطأ خطأ فاحشاً يؤدي به إىل الزندقة واملروق من الدين‪ ،‬نعوذ باهلل من ذلك‪.‬‬
‫اعتذار احلافظ الذهيب عنه فيما قال‪:‬‬
‫لكن العلماء الذين حيسنون الظن بأمثال ابن حبان وغريه‪ ،‬جند أهنم حياولون أن يأولوا هذه العبارة وحيملوها‬
‫معىن صحيحاً اعتذاراً عن ابن حبان مع اعرتافهم بأن األوىل أن ال يؤتى مبثل هذه األلفاظ املومهة‪.‬‬
‫فنجد الذهيب(‪ - )79‬رمحه اهلل – ملا مر على هذه العبارة‪ ،‬ذكر أن هذا نفس فلسفي‪ ،‬وأن األوىل بابن حبان أن‬
‫ال يورد مثل هذه العبارات‪ ،‬وال يأيت هبا إطالقاً‪ ،‬ولكن ما دامت أهنا صدرت من مثل ابن حبان وهو إمام معروف ال‬
‫يشك فيه‪ ،‬فينبغي أن حتمل على معىن صحيح‪.‬‬
‫يقول الذهيب عن هذا املعىن الصحيح‪ :‬إن ابن حبان – رمحه اهلل – مل يقصد حصر املبتدأ يف اخلرب‪ ،‬وإمنا قصد‬
‫ذكر مهمات النبوة‪ .‬يقول‪ :‬مثاله قول النيب صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬احلج عرفة"(‪ ،)80‬فالنيب صلى اهلل عليه وسلم مل‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬سير أعالم النبالء (‪.)16/96‬‬ ‫‪79‬‬

‫(‪ )2‬أخرجه أبوداود (‪ ،)1949‬والترمذي (‪ ،)889‬والنسائي (‪ ،)5/264‬وابن ماجه‪ ،)3015( g‬وغيرهم‪ ،‬وهو صحيح‪.‬‬ ‫‪80‬‬

‫‪62‬‬
‫يقصد حصر احلج يف عرفة‪ ،‬بدليل أن من وقف بعرفة ومل يأت بباقي أركان وواجبات احلج؛ ال يعترب حاجاً‪ ،‬وال‬
‫يصح حجه حينذاك‪ ،‬فكذلك أيضاً هاهنا ابن حبان مل يقصد حصر النبوة يف "العلم والعمل"‪ ،‬فالنيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم حينما قال‪" :‬احلج عرفة" ذكر أهم مهمات احلج‪ ،‬وهو الوقوف بعرفة‪.‬‬
‫يقول‪ :‬فابن حبان ذكر أهم مهمات النبوة وهي "العلم والعمل" ومل يقصد أن من أتى بالعلم والعمل يعترب‬
‫نبياً‪ .‬وهذا اعتذار جيد من احلافظ الذهيب – رمحه اهلل – البن حبان‪.‬‬
‫طرده من سجستان وسبب ذلك‪:‬‬
‫ومن هذه األخطاء اليت جاءت منه وكادت تودي به‪ ،‬أنه صدرت منه عبارة‪ ،‬وهذه العبارة ولألسف‬
‫موجودة يف مقدمة كتابه الثقات‪ ،‬وهي "إنكاره احلد هلل"‪ ،‬ومسألة إنكار احلد هلل هذه عبارة ينبغي أن ال ترد‪ ،‬ال نفياً‬
‫وال إثباتاً‪ ،‬وإذا أطلقت باإلثبات أو النفي‪ ،‬ينبغي أن يسأل املطلق هلا عن مراده منها‪ .‬فإن كان يقصد نفي بعض‬
‫صفات اهلل – جال وعال – الثابتة بالكتاب والسنة‪ ،‬فهو خمطيء بإطالقه هذه العبارة‪.‬‬
‫وإن كان يقصد تنزيه اهلل – جل وعال – عن مشاهبة املخلوق‪ ،‬وما إىل ذلك‪ ،‬يقال له‪ :‬نعم اهلل جل وعال‬
‫منزه عن مشاهبة املخلوق‪ ،‬ولكن هذه العبارة مبا أهنا مل ترد عن السلف ومبا أهنا عبارة مومهة؛ فاألوىل أن ال تطلق‪،‬‬
‫وأن ال تورد إطالقاً‪.‬‬
‫فابن حبان أنكر احلد هلل‪ ،‬فهل يقصد نفي بعض الصفات‪ ،‬كمسألة العلو أو االستواء أو ما إىل ذلك؟ أو‬
‫يقصد غري ذلك؟ اهلل أعلم مبراده‪ ،‬ولكنه حينما أطلقها ثار عليه بعض علماء عصره ووعاظه مثل ذلك الواعظ حيىي بن‬
‫عمار‪ ،‬ويبدو أنه كان من أهل السنة‪ ،‬ورمبا كان يف نفسه على ابن حبان شيء‪ ،‬واهلل أعلم‪ ،‬واخلالصة أهنم ثاروا عليه‬
‫فطردوه وأخرجوه من البلد بسبب إطالقه هذه العبارة‪.‬‬
‫سأل أحدهم (‪ )81‬حيىي بن عمار‪ ،‬فقال له‪ :‬هل رأيت ابن حبان؟ ‪ -‬يعين‪ :‬هل أدركته؟ ‪ -‬فقال‪ :‬كيف مل أره‬
‫وحنن أخرجناه من سجستان ملا قال‪ :‬كذا وكذا‪ ،‬وذكر أنه أطلق هذه العبارة‪.‬‬
‫فعلى كل حال‪ ،‬أكثر من يطلق هذه العبارة‪" :‬إنكار احلد هلل" من ينفون بعض صفات اهلل‪ ،‬جل وعال‪ ،‬عنه‬
‫وخباصة العلو‪ ÷،‬وهذا بالشك أنه مزلق خطري‪ ،‬ولذلك جند بعض الذين جاءوا بعد ذلك كالسبكي وابن حجر –‬
‫رمحهما اهلل – يصوبون ابن حبان وخيطئون من ثار على ابن حبان‪ ،‬فيقول بعضهم‪ :‬ليت شعري‪ ،‬من املخطيء؟ هل‬
‫هو املنكر للحد هلل أو املثبت للحد هلل؟‬
‫نقول‪ :‬كالمها على طريف نقيض‪ ،‬ولكن السبكي معروف عقيدته‪ ،‬وابن حجر زلق أيضاً هذا املزلق‪ ،‬ألنه يف‬
‫بعض األحيان خيطيء – رمحه اهلل – بسبب تأثره مبنهج بعض شيوخه الذين هم من األشاعرة‪.‬‬
‫(‪ )1‬هو أبو إسماعيل األنصاري كما في السير (‪.)16/97‬‬ ‫‪81‬‬

‫‪63‬‬
‫وعلى كل حال‪ ،‬فمثل هذه األخطاء اليت صدرت من ابن حبان ال ميكن لبشر أن يبلغ درجة الكمال‪ ،‬وابن‬
‫حبان من مجلة العلماء الذي خيطئون ويضيبون‪ ،‬ولكن جانب االصابة عنده ال يقارن جبانب اخلطأ‪ .‬وكما قيل‪" :‬املاء‬
‫إذا بلغ القلتني مل حيمل اخلبث"‪.‬‬
‫ذكر بعض من تتلمذ على يديه من كبار العلماء‪:‬‬
‫وألجل ما له من املكانة وألجل تضلعه يف العلوم‪ ،‬وبالذات علم احلديث‪ ،‬حرص بعض كبار العلماء على‬
‫التتلمذ عليه‪ ،‬ولذلك جند بعض أكابر العلماء من تالميذ ابن حبان مثل‪ :‬الدارقطين‪ ،‬وهو إمام مشهور‪ ،‬فإنه ممن تتلمذ‬
‫على ابن حبان‪ ،‬وكذلك احلاكم‪ ،‬صاحب املستدرك ‪ ،-‬وهو إمام مشهور‪ ،‬هو أيضاً من تالميذ ابن حبان‪ ،‬وكذلك‬
‫ابن منده – صاحب كتاب معرفة الصحابة وغريه من الكتب – هو أيضاً من تالميذ ابن حبان‪ ،‬وغريهم كثري‪.‬‬
‫وقفه جلميع كتبه على طلبة العلم‪ ،‬وبيان سبب ضياعها‪:‬‬
‫من اآلثار اليت خلفها ابن حبان – رمحه اهلل ‪ ،-‬أنه ميتلك ثروة ضخمة من الكتب‪ ،‬سواء الكتب اليت ألفها‬
‫علماء غريه‪ ،‬أو الكتب اليت ألفها هو‪ ،‬وما أكثرها وما أحسنها وما أجودها‪ ،‬فقام – رمحه اهلل – بعمل – يبدو أنه مل‬
‫يسبق إليه‪ ،‬وبالذات بعض جزئيات هذا العمل قطعاً مل يسبق إليه‪ .‬هذا العمل هو أنه أوقف هذه الكتب وسبلها‪،‬‬
‫فجعلها يف مكتبة أوقفها على طلبة العلم ومجعها وأوصى بأن حتول هذه الدار أيضاً اليت فيها تلك املكتبة إىل مدرسة‬
‫ألصحابه‪ ،‬بل وتستوعب طلبة العلم الغرباء الذين يأتون من أماكن شىت لطلب العلم فجعلها سكناً هلم‪.‬‬
‫ومل يكتف هبذا فقط‪ ،‬فإنه يرى أن هؤالء الطلبة القادمني من أماكن شىت حيتاجون إىل معيشة ورزق‪ ،‬فأوقف‬
‫أيضاً عليهم جرايات للنفقة عليهم‪ ،‬وذلك ليتفرغوا لطلب العلم‪ .‬فبهذا يعترب ابن حبان – رمحه اهلل – أول من بىن‬
‫مدرسة للحديث‪ ،‬وليس كما قيل‪ :‬إن أول من بىن ذلك بعض املماليك الذين جاءوا يف حوايل القرن السادس‪.‬‬
‫مث إنه حينما أوقف هذه املكتبة اشرتط – رمحه اهلل – أن ال خيرج منها وال كتاب‪ ،‬ال بإعارة وال بغريها‪،‬‬
‫والشك أن الذي دفعه هلذا‪ :‬اخلوف من ضياع هذه الكتب‪ ،‬ولكن لألسف أن هذا التصرف من ابن حبان اعتربه‬
‫بعض العلماء من األسباب اليت أدت إىل ضياع وفقدان الكثري من كتبه‪ ،‬ألنه حينما حسبها يف مثل هذا املكان منع‬
‫من انتشارها‪ ،‬و مع تقادم الزمن‪ ،‬والعبث‪ ،‬وقلة أهل العلم يف ذلك البلد بعد رحيل ابن حبان – رمحه اهلل – ضاعت‬
‫هذه الكتب وفقدت‪ ،‬ولذلك اخلطيب البغدادي يسأل مسعوداً السجزي الذي هو أحد شيوخه عن كتب ابن حبان‬
‫وهل رأها‪ ،‬فأخرب بأنه رأى بعض هذه الكتب وبعضها يعترب مفقوداً‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫فيحدث مسعود السجزي اخلطيب البغدادي حبرقة‪ ،‬فيقول(‪ :)82‬فكان السبب يف ذهاهبا مع تطاول الزمان‬
‫ضعف أمر السلطان واستيالء ذوي احليف والفساد على أهل تلك البالد‪ .‬مث إن اخلطيب البغدادي ملا رأى مثل هذه‬
‫الكتب وضياعها حتسر‪ ،‬فيقول يف عبارة له‪:‬‬
‫مثل هذه الكتب كان جيب ان يكثر هبا النسخ‪ ،‬فيتنافس فيها أهل العلم‪ ،‬ويكتبوها وجيلدوها إحرارزاً هلا‪،‬‬
‫وال أحسب املانع من ذلك كان إال قلة معرفة تلك البالد مبحل العلم وفضله‪ ،‬وزهدهم فيه‪ ،‬ورغبتهم عنه‪ ،‬وعدم‬
‫بصريهتم به‪.‬‬
‫وفاته – رمحه اهلل تعاىل ‪:-‬‬
‫توىف ابنحبان – رمحه اهلل – يف ليلة اجلمعة لثماين ليال بقني من شهر شوال‪ ،‬وذلك يف سنة أربع ومخسني‬
‫وثالمثائة‪ ،‬ودفن من الغد بعد صالة اجلمعة‪ ،‬وذلك بسجستان مبدينة بست – رمحه اهلل – رمحة واسعة‪.‬‬
‫ثناء العلماء على تصانيفه‪ ،‬وبيان منهجه يف بعضها‪:‬‬
‫ترك ابن حبان عدة مؤلفات – كما أشرت إىل ذلك – منها املفقود وبعضها موجود‪ .‬وكانت تصانيفه هذه‬
‫حمط إعجاب العلماء به‪ .‬يقول تلميذه احلاكم‪ :‬صنف فخرج له من التصنيف يف احلديث ما مل يسبق له‪.‬‬
‫ويقول ياقوت احلموي صاحب معجم البلدان‪ :‬أخرج من علوم احلديث ما عجز عنه غريه‪.‬‬
‫فمن هذه الكتب اليت ال جند هلا أثراً اآلن‪ ،‬ويظهر أهنا هي اليت يتحسر اخلطيب البغدادي على مثلها – برغم‬
‫قرب عصره من عصر ابن حبان – من هذه الكتب كتاب "اهلداية إىل علم السنن"‪ ،‬فيصفون أنه كتاب ضخم ورائع‬
‫يف تأليفه‪ ،‬وذلك أن ابن حبان – رمحه اهلل – مزج بني الفقه واحلديث يف هذا الكتاب‪ ،‬فيأيت للمسألة فيبوب عليها‪،‬‬
‫ويورد حتتها ما يورد من األحاديث‪ ،‬وإذا أورد احلديث أخذ يرتجم لرجاله رجالً رجالً من صحابة النيب صلى اهلل‬
‫عليه وسلم إىل طبقة شيوخه‪ ،‬ويتكلم عن كل واحد مبا فيه من كالم‪ ،‬فيعترب هذا الكالم أيضاً كتاباً يف الرجال‪،‬‬
‫وخباصة إذا كان هذا الكالم صادراً من مثل ابن حبان‪ ،‬فإنه مفيد للغاية‪.‬‬
‫مث بعد ذلك يتطرق ملا ميكن أن يكون معارضاً هلذا احلديث من األحاديث األخرى‪ ،‬أو املعاين املوجودة يف‬
‫أحاديث أخرى‪ ،‬فيأيت بتلك األحاديث ويبدأ يتكلم عليها من ناحية فقهية‪ ،‬فيجمع بينها إن أمكن اجلمع‪ ،‬أو يبني ما‬
‫هو ن اسخ وما هو منسوخ‪ ،‬أو حياول أن يوضح املشكل ويبني علل ما فيه علة‪ ،‬إىل غري ذلك من الصناعة احلديثة‬
‫املمزوجة بالناحية الفقهية‪ ،‬مما جعل هذا الكتاب يكون حمل إعجاب كثري من العلماء به‪.‬‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬سير أعالم النبالء (‪.)16/95‬‬ ‫‪82‬‬

‫‪65‬‬
‫كذلك كتابه اآلخر يف "شعب اإلميان"‪ ،‬وفلسفة ابن حبان يف هذا الكتاب أنه تأمل حديث النيب صلى اهلل‬
‫عليه وسلم – كما يقول هو – تأمل حديث النيب صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬اإلميان بضع وسبعون شعبة"(‪.)83‬‬
‫قال‪ :‬عددت الطاعات فوجدت أهنا تربو على مائة‪ ،‬قال‪ :‬فرجعت إىل السنة فعددت ما ورد يف السنة مما‬
‫ذكر بأنه من خصال اإلميان‪ ،‬قال‪ :‬فوجدهتا تنقص عن البضع والسبعني مقداراً‪ ،‬مث ذهب إىل القرآن فاستعرضه من‬
‫أوله إىل آخره فوجد أن هناك مجلة من اخلصال اليت وصفت بأهنا من خصال اإلميان فدوهنا أيضاً‪ ،‬ومجع هذه اخلصال‬
‫بعضها مع بعض‪ ،‬وحذف املكرر فوجد أهنا يعين بتكميل السنة بالقرآن – تسعاً وسبعني شعبة بالضبط‪.‬‬
‫فقال‪ :‬هذا يدل على أن حديث النيب صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬اإلميان بضع وسبعون شعبة‪ ،‬فعالً يراد به هذا‬
‫اللفظ‪ ،‬لن اللفظ خمتلف فيه‪" :‬بضع وستون" أو "بضع وسبعون"‪ .‬فهو يذهب إىل أن العدد بالضبط تسع وسبعون‬
‫شعبة‪ ،‬مث أخذ يتكلم عن هذه الشعب‪ ،‬فيعترب ابن حبان سابقاً للبيهقي بتأليفه لكتاب شعب اإلميان‪.‬‬
‫ذكر بعض كتبه املفقودة(‪ )84‬واملطبوعة اآلن‪:‬‬
‫كذلك من كتبه الرائعة كتب أخرىمثل‪" :‬علل أوهام املؤرخني" يقع يف عشرة أجزاء‪ ،‬و"علل حديث‬
‫الزهري" يقع يف عشرين جزءاً‪ ،‬و"علل حديث مالك" يقع يف عشرة أجزاء‪ ،‬و"كتاب وصف العلوم وأنواعها" يف‬
‫ثالثني جزءاً‪ ،‬وغري ذلك من الكتب الكثرية اليت فقدت واليت ال نعرف عنها شيئاً اآلن‪.‬‬
‫أما كتبه املوجودة فإهنا كلها مطبوعة‪ ،‬فمنها "كتاب الثقات"‪ ،‬و"كتاب اجملروحني من الضعفاء واملرتوكني من‬
‫الرواة"‪ .‬هذان الكتابان يعتربان يف الرجال‪ ،‬أحدمها خمتص بالثقات‪ ،‬واآلخر خمتص بالضعفاء‪ .‬يعترب هذان الكتابان‬
‫خمتصرين من كتاب أصل‪ ،‬وهو "كتاب التاريخ" له – رمحه اهلل ‪ ،-‬فمن الواضح أن كتاب التاريخ هذا كتاب كبري‬
‫جداً‪ ،‬اختصر منه هذين الكتابني وجعل أحدمها خمتصاً بالثقات واآلخر خمتصاً بالضعفاء‪ .‬فكم يكون يا ترى حجم‬
‫ذلك الكتاب "كتاب التاريخ"؛ مادام أن "كتاب الثقات" اآلن مطبوع يف تسعة جملدات‪ ،‬و"كتاب اجملروحني" مطبوع‬
‫يف ثالثة أجزاء ضخمة؟! الشك أنه كبري‪.‬‬
‫كذلك من كتبه املوجودة – وهومطبوع – كتاب "مشاهري علماء األمصار" جزء لطيف أورد فيه ‪ 1600‬ترمجة‬
‫تقريباً‪ ،‬ركز على املشاهري‪ ،‬وخباصة من العلماء على اختالف أنواع العلوم اليت ختصصوا فيها‪ ،‬ورتبهم على الطبقات‪،‬‬
‫أي‪ :‬على التسلسل الزمين‪.‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه البخاري (‪ )9‬عن أبي هريرة‪ ،‬وهو عند مسلم (‪ ،)35/57‬وأخرجه (‪ )35/58‬بالشك‪ .‬وقد أخرجه ابن حبان‬ ‫‪83‬‬

‫(‪.)191 ،190 ،166‬‬


‫(‪ )2‬انظر غيرها في سير أعالم النبالء (‪.)16/95‬‬ ‫‪84‬‬

‫‪66‬‬
‫ومن كتبه املوجودة كتاب "روضة العقالء ونزهة الفضالء" وهو مطبوع أيضاً يف جملد لطيف‪ ،‬ويعترب هذا كتاباً ميكن‬
‫أن يكون من كتب األدب أو من كتب السلوك‪ ،‬مشوب هباتني الناحيتني‪.‬‬
‫بيان االسم الكامل لكتابه‪:‬‬
‫هذه هي الكتب اليت وجدت مطبوعة البن حبان عدا الكتاب الذي نتناوله بالدراسة وهو كتاب الصحيح‪،‬‬
‫وهذا الكتاب اشتهر بتسمية "صحيح ابن حبان"‪ ،‬وإال فإن امسه الكامل كما مساه مؤلفه نفسه "املسند الصحيح على‬
‫التقاسيم واألنواع من غري وجود قطع يف سندها وال ثبوت جرح يف ناقلها"‪.‬‬
‫وهذا العنوان قريب من عنوان صحيح ابن خزمية الذي مساه مؤلفه "املسند الصحيح املتصل بنقل العدل عن العدل بغري‬
‫قطع يف السند وال جرح يف النقلة"‪ ,‬وليس ذلك بغريب‪ ،‬فإن ابن حبان يعترب من أكابر تالميذ ابن خزمية‪ ،‬بل ممن تأثر‬
‫بابن خزمية تأثراً ظاهراً‪ ،‬حىت إن العلماء قالوا‪ :‬إن ابن حبان ناسج على منوال ابن خزمية مغرتف من حبره‪.‬‬
‫سبب تأليفه للكتاب‪:‬‬
‫ذكر ابن حبان – رمحه اهلل – يف مقدمته السبب الذي دعاه لتأليف هذا الكتاب‪ ،‬وهو ما رآه من انصراف الناس عن‬
‫صحاح السنن‪ ،‬وإيرادهم للغث والضعيف من األحاديث واملناكري والبواطيل‪ ،‬فغرية منه على سنة النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ألف هذا الصحيح‪ ،‬وليس هذا فقط‪ ،‬قال‪ :‬هذا ال يكفي بل البد أن نأطر الناس وحنملهم على حفظ السنن‪،‬‬
‫والبد أن نرجعهم للمنهج الصحيح الذي كان عليه العلماء السابقون‪.‬‬
‫فكيف يا ترى يستطيع ابن حبان أن حيمل هؤالء الناس على حفظ السنن‪ ،‬قال‪ :‬هذا الكتاب أنا سأتقنه‬
‫إتقاناً‪ ،‬ولكين سأجعل للعثور على احلديث فيه صعوبة بالغة‪ ،‬ال يستطيع أحد أن يعثر على احلديث الذي يريده يف هذا‬
‫الكتاب إال بأحد أمرين‪:‬‬
‫األمر األول‪" :‬إما أن يقرأ الكتاب من أوله إىل آخره"‪ ،‬ويف هذا من الصعوبة ما فيه‪ ،‬كلما أراد اإلنسان حديثاً واحداً‬
‫استعرض الكتاب من أوله إىل آخره‪.‬‬
‫األمر الثاين‪ :‬قال‪" :‬أو حيفظ هذا الكتاب‪ ،‬فإذا حفظه استطاع أن يستحضر احلديث الذي يريده"‪.‬‬
‫واستنبط هذا أو قاس هذا على كتاب اهلل – جل وعال ‪ ،-‬قال‪ :‬إن الذي يريد أن يصل إىل آية من كتاب اهلل ال‬
‫يستطيع إال أما أن يقرأ القرآن من أوله إىل آخره‪ ،‬أو يكون حافظاً للقرآن‪ ،‬فالقرآن وجده مقسماً إىل أجزاء‪ ،‬وكل‬
‫جزء من هذه األجزاء حتته سورة‪ ،‬وكل سورة حتتها آيات‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكذلك أنا أصنع‪ ،‬سأقسم كتايب هذا إىل أقسام‪ ،‬وحتت كل قسم أورد عدة أنواع‪ ،‬فالقسم مثل اجلزء‪ ،‬والنوع‬
‫مثل السورة‪ ،‬وحتت كل نوع أورد عدداً من األحاديث‪ .‬وهذه األحاديث مثل اآليات‪ ...‬قال‪ :‬فالذي يريد أن‬
‫يستخرج حديثاً البد أن يكون حافظاً للكتاب حىت يكون احلديث نصب عينيه‪ ،‬كما أن من أراد أن يستخرج آية‬
‫‪67‬‬
‫من كتاب اهلل البد أن يكون حافظاً لكتاب اهلل حىت تكون اآلية نصب عينيه‪ ،‬وما مل يكن كذلك فإنه ال يستطيع‬
‫االستفادة من هذا الكتاب‪ .‬هذا هو اهلدف الذي أراده ابن حبان‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫حكم العلماء على صنيع ابن حبان ومنهجه يف كتابه ‪:‬‬
‫رأى العلماء أن ابن حبان أخطأ يف صنيعه هذا ‪ ،‬فال هو بالذي سهل الكتاب حىت يكون يف متناول طلبة‬
‫العلم ‪ ،‬وال هو بالذي حتقق له ما أراد ‪ ،‬بل إن الناس انصرفوا عن كتابه فلم ينتفعوا به حىت جاء عالء الدين الفارسي‬
‫ورتب هذا الكتاب – كما سنذكره – على األبواب الفقهية ‪.‬‬
‫املراد بالتقاسيم واألنواع اليت رتب عليها الصحيح ‪:‬‬
‫مث إننا إذا أردنا أن نتأمل هذا التقسيم على وجه اإلمجال ألن كتابه أمسه التقاسيم واألنواع ‪ ،‬هكذا يوردونه‬
‫خمتصراً ‪ ،‬وأما هو فسماه ‪ " :‬املسند الصحيح على التقاسيم واألنواع ‪ ، "...‬فما هي هذه األقسام ؟ وما هي هذه‬
‫األنواع ؟ وكما سبق أهنا مشوبة بناحية كالمية ‪ ،‬مع ناحية فقهية أصولية جعلت ابن حبان يؤلف كتابه على هذا‬
‫النمط ‪.‬‬
‫رأى – رمحه اهلل – أن السنن تنقسم إىل مخسة أقسام ‪:‬‬
‫القسم األول ‪ :‬األوامر اليت أمر اهلل عباده هبا ‪.‬‬
‫القسم الثاين ‪ :‬النواهي اليت هنى اهلل عباده عنها ‪.‬‬
‫والقسم الثالث ‪ :‬األخبار أي ‪ :‬إخباره – جل وعال – وعما احتيج إىل معرفته ‪.‬‬
‫والقسم الرابع ‪ :‬اإلباحات اليت أبيح ارتكاهبا ‪.‬‬
‫والقسم اخلامس ‪ :‬أفعال النيب صلى اهلل عليه وسلم اليت انفرد بفعلها ‪ ،‬يعين عن سائر األمة ‪.‬‬
‫وجد أن السنن ال خترج عن هذا األقسام مخسة أقسام ‪ ،‬مث جعل حتت كل قسم عدة أنواع ‪ ،‬فبالنسبة لألوامر اليت أمر اهلل‬
‫عباده هبا جعل حتتها مائة وعشرة أنواع يعين " مثل األبواب" ‪ ،‬وحتت كل نوع يورد عدداً من األحاديث ‪.‬‬
‫وكذلك النواهي اليت هنى اهلل عباده عنها جعل حتته مائة وعشرة أنواع ‪.‬‬
‫أما األخبار أي " إخباره جل وعال عما احتياج إىل معرفته " فجعل حتته مثانني نوعاً‪.‬‬
‫أما األخبار أي " إخباره جعل وعال عما احتيج إىل معرفته " فجعل حتته مثانني نوعاً ‪.‬‬
‫وأما اإلباحات وأفعال النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فجعل حتت كل قسم منهما مخسني نوعاً ‪.‬‬
‫يبلغ جمم وع ه ذه األن واع برمتها أربعمائة ن وع ‪ ،‬فهل يا ت رى قصد ابن حب ان احلصر ؟ يق ول ‪ :‬ال ‪ ،‬لو أردنا املزيد ألتينا‬
‫باملزيد ‪ ،‬ولكنه وجد أن ه ذه األربعمائة تكفي وأن ما ع داها يعترب من التكلف ‪ ،‬وإال لو تكلف الس تطاع أن ي أيت باملزيد من ه ذه‬
‫األنواع اليت ذكرها ‪.‬‬
‫مث إنه ملا ألف هذا الكتاب جعل لنفسه منهج اً وانضبط – إىل حد كبري – يف حتقيق هذا املنهج ‪ ،‬ولذلك يوازن العلماء بينه‬
‫وبني احلاكم صاحب املستدرك ‪ ،‬فيقولون ‪ :‬إن ابن حب ان ويف بش رطه ‪ ،‬وأما احلاكم فما ويف بش رطه ألن احلاكم وجد عليه كثري من‬
‫املآخذ ؛ ولذلك تكلم فيه ويف كتابه ‪ .‬وأما ابن حب ان أنه اش رتط على نفسه ش رطاً – بغض النظر عن هذا الشرط يف ذاته فقد يكون‬
‫خمالفاً يف هذا الشرط ‪ ، -‬ولكنه ويف هبذا الشرط طبق هذا الشرط الذي اشرتطه على نفسه ‪.‬‬
‫شروط ابن حبان فيمن روى هلم ‪:‬‬

‫‪69‬‬
‫فمن مجلة شروطه أنه شرط يف الراوي الذي خيرج له يف هذا الصحيح عدة شروط تبلغ مخسة شروط(‪: )85‬‬
‫الشرط األول ‪ :‬العدالة يف الدين بالسرت اجلميل ‪.‬‬
‫الثاين ‪ :‬الصدق يف احلديث بالشهرة فيه ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬العقل مبا حيدث من احلديث ‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬العلم مبا حييل من معاين ما يروي ‪.‬‬
‫اخلامس ‪ :‬تعري خربه عن التدليس ‪.‬‬
‫يقول ‪ :‬فكل من اجتمع فيه هذه اخلصال اخلمس احتججنا حبديثه ‪ ،‬وبيننا الكتاب على روايته ‪ ,‬وكل من تعرى عن خصلة‬
‫من هذه اخلصال اخلمس مل حنتج به ‪ ،‬مث أخذ يبسط الكالم عن هذه الشروط ‪.‬‬
‫مناقشة هذه الشروط وبيان ما فيها ‪:‬‬
‫لو رجعنا هلذه الش روط ‪ ،‬بالنس بة للش رط األول ق ال ‪ :‬العدالة يف ال دين بالسرت اجلميل ‪ .‬قوله ‪ " :‬بالسرت اجلميل " يوضح‬
‫مقصود ابن حبان بالعدالة ‪ ،‬وهذا املقصود خيالفه فيه بعض العلماء وهو الرأي الراجح ‪ .‬فابن حبان يرى أن الراوي الذي يعترب جمهول‬
‫احلال " حاله جمهولة ال يع رف بعدالة وال ج رح " يعترب أن األصل فيه العدالة ‪ .‬وال يش رتط أن يك ون هن اك من عدله " أي وثقه من‬
‫بعض من اعتمدوا على توثيقه " ؛ فهو ال يشرتط هذا ‪ ،‬بل ما دام أن الراوي ال يُعرف فيه جرح فإنه يعترب عدالً عنده ‪ ،‬ولذلك يقول‬
‫‪ " :‬بالسرت اجلميل " ‪ ،‬يعترب أن هذا سرت على الراوي حينما ال جيد فيها جرحاً ‪.‬‬
‫وليس هذا فقط بل إنه يضم إىل هذا عدة شروط ‪ ،‬يقول ‪ :‬إن الراوي قد يكون معروف اً بالعدالة ‪ ،‬ولكنه ال يعترب صادقاً يف‬
‫حديثه ‪ ،‬أي أنه خيطئ يف احلديث ‪ ،‬فكأنه يقصد بالصدق ها هنا احلفظ أي ال بد من توفر احلفظ مع العدالة ‪.‬‬
‫ولكن هل يا ترى ابن حبان حينما يشرتط يقصد أن الراوي الذي يعترب جمهول احلال البد أن ينص على أنه ضابط ؟‬
‫ال ‪ ،‬هو يعترب من ًُجهلت حاله ما مل ي رد فيه جرح ف إن أصل أمره على قبول الرواية أي أنه ثقة عنده ‪ ،‬لكنه من عرف عنه‬
‫اجلرح من قدح يف ضبطه وحنو ذلك ‪ ،‬فهذا هو الذي خيرج عن هذا الشرط الذي شرطه ‪.‬‬
‫كذلك أيضاً الشرط الثالث ‪:‬‬
‫يشرتط (أن يكون الراوي يعقل مبا حيدث من احلديث) ‪ ،‬أي ال جيوز ابن حبان رواية من يكون كالببغاء ‪ ،‬ينقل احلديث وال‬
‫يدري عن املعىن الذي حيمله ؛ ألنه يرى أنه لو أخذ احلديث عن مثل هذا الصنف فإنه قد تفوت عليه كلمة أو يفوت عليه معىن يقلب‬
‫داللة احلديث رأساً على عقب ‪.‬‬
‫إذا هو يشرتط أن يكون ممن يعقل ما حيدث به من احلديث ‪ ،‬أي يكون عارفاً مبا حيدث به من احلديث ‪.‬‬
‫كذلك أيض اً الشرط الرابع ‪ ( :‬أن يكون عاملاً مبا حييل من معاين ما يروي) ‪ ،‬يقول ‪ :‬إن الرواة ال يستطيع الواحد منهم أن‬
‫يؤدي احلديث بنفس األلفاظ اليت مسعها ‪ ،‬فيمكن أن يعرب الراوي باملعىن ‪ ،‬والرواية باملعىن أجازها كثري من العلماء وعليها استقر العمل‬
‫فيما بعد ‪ ،‬فما دامت الرواية ب املعىن ج ائزة اش رتط العلم اء أن يك ون ال راوي ال ذي ي ووي ب املعىن عارف اً أو عاملاً مبا حييل املع اين من‬
‫األلفاظ ؟ فهذا هو الشرط الذي اشرتطه ابن حبان ‪.‬‬
‫الشرط اخلامس ‪( :‬تعري خرب الراوي عن التدليس) ‪ :‬يشرتط ابن حبان أن يكون هذا اخلرب إذا ورد من طريق راو موصوف‬
‫بالتدليس أن يكون هذا اخلرب مما صرح فيه الراوي صراحة بالسماع أو طلع هو على تصرحيه بالسماع يف موضعه آخر ‪.‬‬

‫هو في مقدمة‪ g‬اإلحسان (‪ ، )1/151‬ونقله عن الذهبي في سير أعالم النباء (‪. )16/97‬‬ ‫‪85‬‬

‫(‪)2‬‬
‫‪70‬‬
‫وقد نص يف مقدمته ‪ ،‬وبسط هذا الكالم مبا مؤداه أنه إذا أخرج حديثاً لراو موصوف بالتدليس فالبد أن يكون هذا ا لراوي‬
‫صرح بالتحديث لذلك اخلرب ‪ ،‬أو يكون صرح به يف غري ذلك املوضع ‪ ،‬وليس شرطاً أن خيرجه ابن حبان ولكنه اشرتط على نفسه أن‬
‫يكون مطلعاً على تصرحيه بالسماع ‪.‬‬
‫فهل يا ت رى يس لم البن حب ان مبثل ه ذا ‪ ،‬فيق ال عن ح ديث ج اء من طريق بعض املوص وفني بالت دليس ورواه بالعنعنة يف‬
‫صحيح ابن حبان ‪ :‬إن هذا مما ميكن أن حيتمل ؟‬
‫نق ول ‪ :‬ه ذه هي القاع دة العامة ‪ ،‬لكن البد من االلتف اف إىل مس ألة ‪ ،‬وهي ‪ :‬أن يك ون ابن حب ان ممن وصف ه ذا ال راوي‬
‫بالتدليس ‪ ،‬وإال قد يكون ال يعرف أن هذا الراوي مدلس ‪ ،‬أو ال يرى أنه مدلس وخيالفه غريه ‪.‬‬
‫أقول هذا ألين وقفت مرة من املرات على خرب عرف أن هذا الراوي دلسه صراحة حينما ورد يف بعض الطرق بزيادة راو ‪،‬‬
‫فتيقنا أن ه ذا ال راوي دلس ه ذا اخلرب ‪ ،‬فكيف أخرجه ابن حب ان بإس قاط الواس طة بني ذلك املدلس وبني ش يخه ؟ أي أن احلديث‬
‫مدلس عند ابن حبان ‪.‬‬
‫أق ول ‪ :‬ال أس تطيع أن أتص ور الس بب إال ه ذا ‪ ،‬قد يك ون ابن حب ان ممن ال ي رى أن ه ذا ال راوي م دلس ‪ ،‬أو ال يع رف أنه‬
‫مدلس أصال ‪ ،‬أو قد يكون وقع يف خطأ ال يعرو منه بشر ‪ ،‬العلم عند اهلل ‪.‬‬
‫كذلك أيض اً من الشروط ا ليت اشرتطها أن ال خيرج حديث الراوي الذي عُ رف باالختالط إال من طريق من روى عنه قبل‬
‫االختالط ‪ ،‬ولذلك أيضاً هذه املسألة ميكن أن يطمأن إليها حد كبري مثل مسألة التدليس اليت أشرنا إليها ‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫تساهله يف التوثيق وتشدده يف اجلرح ‪:‬‬
‫وابن حب ان حينما يش رتط مثل ه ذه الش روط جند أن ينطلق من منهج ع رف عنه فهو من املوص وفني بالتس اهل يف التوثيق ‪،‬‬
‫وبالتش دد يف التج ريح ‪ ،‬فل ذلك ه ؤالء ال رواة ال ذين ي وثقهم ممن ع رف أهنم ال يعرف ون بعدالة وال ج رح – ينبغي االحتي اط يف قب ول‬
‫أحاديثهم عند ابن حبان ‪.‬‬
‫ك ذلك األح اديث اليت اجتنبها ابن حب ان – أي اجتنب إخ راج ح ديث بعض ال رواة ‪ .‬ال ينبغي أن نقطع على أن ه ذه‬
‫األحاديث غري صحيحة ؛ ألن ابن حبان أمهلها وتركها ‪ ،‬ألن ابن حبان من املتشددين يف اجلرح ‪ ،‬فقد جيرح بعض الرواة الذين هم يف‬
‫أنفسهم ثقات ‪ ،‬مثل جرحه حملمد بن الفضل السدوسي امللقب بـ " عارم"(‪ ، )86‬فهو إمام جبل ثقة ‪ ،‬ولكن ابن حبان تسرع فجرحه مبا‬
‫ال يُعد جرحاً ‪.‬‬
‫تقدمي العلماء لصحيح ابن خزمية على صحيح ابن حبان ومستدرك احلاكم ‪:‬‬
‫يعترب كتاب ابن حبان عند العلماء يف املنزلة الثانية بعد صحيح ابن خزمية ‪ ،‬وهذا بالنسبة للكتب اليت ألفت يف الصحيح اجملرد‬
‫فأوهلا صحيح البخاري ‪ ،‬مث صحيح مسلم ‪ ،‬مث صحيح ابن خزمية ‪ ،‬مث صحيح ابن حبان ‪ ،‬هذا ظاهر صنيع العلماء املتقدمني ‪ .‬وخالف‬
‫يف ذلك ش عيب األرن اؤوط ‪ ،‬حيث ق دم – أي ش عيب األرن اؤوط – ص حيح ابن حب ان على ص حيح ابن خزمية ‪ ،‬وذك رت أن ه ذه‬
‫املسألة حتتاج إىل دراسة(‪ ، )87‬وهي جارية إن شاء اهلل تعاىل ‪.‬‬
‫لكن من املتيقن واملقطوع به أن كتابه هذا مقدم على مستدرك احلاكم ألن هذه املسألة وضحت وظهرت بشكل واضح ‪،‬‬
‫يوف بشرطه ‪ ،‬وأما ابن حبان فقد ويف بشرطه ‪ ،‬ولذلك األحاديث املنتقدة عند ابن حبان ال تقارب‬ ‫فاحلاكم – رمحه ا هلل – ممن مل ُ‬
‫وال تداين إطالقاً األحاديث املنتقدة عند احلاكم ‪.‬‬
‫عدم تفريقه بني احلديث الصحيح واحلسن ‪:‬‬
‫وكذلك ابن حبان مثل شيخه ابن خزمية ممن ال يرى التفريق بني احلديث الصحيح واحلديث احلسن ‪ ،‬فعنده أن احلسن قسم‬
‫من الصحيح وهو داخل فيه ‪.‬‬
‫اعتناء العلماء بصحيح ابن حبان ‪ ،‬وذكر بعض خدماهتم له ‪:‬‬
‫ألجل أمهية ص حيح ابن حب ان جند أن العلم اء اعتن وا هبذا الكت اب عناية فائقة ‪ ،‬فمن ذلك حرص هم على روايته ومدارس ته‬
‫وقراءته ‪ ،‬وعلى هذا حرص أصحاب الكتب اليت تسمى بت "الربامج واملشيخات" ‪ ،‬مثل الوادي آشي التونسي املتوىف يف سنة ‪، 749‬‬
‫فإنه ي ذكر يف برناجمه يف ص فحة ‪ 202 ، 201‬أنه ق رأ مجيع ح ديث ص حيح ابن حب ان بس نده حبرم اهلل تع اىل اجتاه الكعبة على رضي‬
‫الدين أيب إسحاق إبراهيم الطربي أحد شيوخه ‪ .‬وغري الوادي آشي كثري ‪.‬‬
‫كذلك أيض اً عين العلماء بالكالم على رج ال ابن حبان ‪ ،‬فنجد (ابن امللقن) أودع كتاب ابن حبان يف ضمن خمتصره لـ "‬
‫هتذيب الكمال والذيل عليه" ‪ ،‬وهذه املسألة سبق أن أشرت إليها من الكالم على صحيح ابن خزمية ‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬إن ابن امللقن اختصر كتاب " هتذيب الكمال " للمزي وزاد عليه زيادات ‪ ،‬الزيادات هذه تسمى " ذيالً " ‪ ،‬وهذه‬
‫الزيادات أخذها من عدة كتب وهي ‪" :‬مسند اإلمام أمحد‪ ،‬وصحيح ابن خزمية ‪ ،‬وسنن الدار قطين ‪ ،‬ومستدرك احلاكم ‪ ،‬وصحيح‬
‫ابن حبان " ‪.‬‬
‫كذلك أيض اً جند احلافظ العراقي – رمحه اهلل – ألف كتاب اً بعنوان " رجال ابن حبان" ‪ ،‬وهذا الكتاب يذكره عنه ابن فهد‬
‫املكي يف كتابه " حلظ األحلاظ" ‪ ،‬لكن هذا الكتاب ال تعرف عنه شيئاً ‪.‬‬

‫(‪ )1‬هو محمد بن الفضل السدوسي ‪ ،‬أبو الفضل البصري ‪ ،‬لقبه عارم ‪ ،‬ثقة ثبت ‪ ،‬تغير في آخر عمره ‪ ،‬من صغار‬ ‫‪86‬‬

‫التاسعة‪ ، g‬مات سنة ‪ 223‬أو ‪ . 224‬روى له أصحاب الستة ‪ .‬تقريب ت ‪. 7011 :‬‬
‫(‪ )1‬راجع الفقرة السابقة ‪ " :‬هل يقدم صحيح ابن خزيمة على صحيح ابن حبان ‪.‬‬ ‫‪87‬‬

‫‪72‬‬
‫كذلك أيض اً من اجلهود اليت بُذلت يف كتاب ابن حبان " ختريج زوائده" ‪ ،‬فنجد احلافظ مغلطاي ألف كتاب اً يف استخراج‬
‫زوائد ابن حب ان ‪ ،‬ولكن ه ذا الكت اب مل يصل إلينا ‪ ،‬وإمنا ال ذي وصل إلينا كت اب اهليثمي ال ذي أمسه " م وارد الظم آن إىل زوائد ابن‬
‫حبان " ‪ ،‬والكتاب مطبوع ومعروف ‪.‬‬
‫واملقصود بزوائد ابن حبان هاهنا ليست زوائده على الكتب الستة ‪ ،‬وإمنا زوائده على الصحيحني فقط ؛ ألن ما دام أنه من‬
‫الكتب اليت ألفت يف الص حيح اجملرد "أي ‪ :‬ال ذي ال خيالطه الض عيف " ‪ ،‬فك ذلك أيض اً ينبغي أن تك ون الزوائد على كتب اش رتطت‬
‫هذا الشرط ‪ ،‬ولذلك جعلوا الزوائد خاصة بزوائده على الصحيحني ‪.‬‬
‫كذلك أيضاً جند بعض العلماء عين باالنتخاب من هذا الكتاب ‪ ،‬فمن أن ذلك احلافظ العراقي انتخب من كتاب ابن حبان‬
‫أربعني حديثاً مساه " أربعون بلدانية " ‪ ،‬ذكر هذا عنه تلميذه ابن فهد املكي يف كتابه " حلظ األحلاظ" أيضاً ‪.‬‬
‫وجند أيض اً هناك من فهرس هذا الكتاب على األطراف ومن مجلتهم احلافظ ابن حجر يف كتابه "إحتاف املهرة" ؛ فإنه جعل‬
‫كتاب ابن حبان من الكتب العشرة اليت ألف كتابه هذا بناء عليها ‪.‬‬
‫واملقصود باألطراف ليست فهرسة كالفهرسة املعتادة ‪ ،‬فيؤتى بطرف احلديث فقط ‪ ،‬وإمنا يأتون بالسند أو جيمعون أسانيد ا‬
‫حلديث يف موضع واحد ‪ ،‬مع اإلشارة إىل طرف احلديث الذي يدل على أن املقصود هبذا اإلسناد على ذلك املنت املذكور ‪.‬‬
‫الكالم على كتاب " اإلحسان " ومؤلفه ‪ ،‬وطريقته يف ترتيب ابن حبان ‪:‬‬
‫كذلك أيض اً من اخلدمات اليت قدمت البن حبان ترتيب كتابه هذا على األبواب الفقهية‪ ،‬وهناك من سعى لرتتيبه ‪ ،‬ولكن‬
‫ال ذي وصل إلينا من ه ذا اجله ود اليت ب ذلت يف ت رتيب ابن حب ان هو كت اب " اإلحس ان " ال ذي ألفه عالء ال دين الفارسي املع روف‬
‫باألمري ‪.‬‬
‫ه ذا الرجل ك ان حمتك اً ب األمراء املماليك ويب دو أنه ك ان منهم ‪ ،‬وهو حنفي املذهب وجد الن اس انص رفوا عن كت اب ابن‬
‫حبان ‪ ،‬وكما يقول هو ‪ :‬إن ابنه حبان لبديع صنعه ومنيع وضعه حينما ألف هذا الكتاب قد عز جانبه – يعين أن جانب هذا الكتاب‬
‫أصبح عزيزاً – فكثر جمانبه‪ -‬أي كثر الذين تركوا هذا الكتاب وأمهلوه بسبب صعوبة العصور على احلديث فيه ‪.‬‬
‫وعالء ال دين الفارسي ه ذا مول ود يف س نة ‪675‬هـ ‪ ،‬ومت وىف يف س نة ‪ ، 739‬وقد أحسن إحس اناً ب ديعاً حينما رتب ه ذا‬
‫الكتاب وجعله على األبواب املعهودة ؛ "األبواب الفقهية ‪ :‬كتاب الطهارة ‪ ،‬الصالة ‪ ،‬الزكاة ‪ ،‬احلج إىل آخر أبواب الفقه " ‪.‬‬
‫مث إنه حينما ألف هذا الكتاب هبذه الصورة احتفظ بعناوين ابن حبان ‪ ،‬وهي عناوين مهمة جداً ألن فيها استنباطات فقهية‬
‫وتقعي دات أص ولية مهمة ‪ ،‬فأبقاها يف مكاهنا ‪ ،‬ما اختلف منها ش يء ‪ ،‬بل حىت تعليق ات ابن حب ان على األح اديث جند أنه يوردها‬
‫بتمامها من غري نقصان ‪.‬‬
‫وليس ه ذا فقط ‪ ،‬بل ال ذي يريد أن يرجع الكت اب إىل أص له إىل ت رتيب ابن حب ان – فإنه ميكنه ذلك ؛ ألن عالء ال دين‬
‫الفارسي جعل بعد كل ح ديث ال رقم ال ذي جعل ابن حب ان ذلك احلديث حتته – رقم الن وع ‪ ،‬ورقم القسم ؛ ف إذا ك ان احلديث مثالً‬
‫عند ابن حبان يف قسم األوامر يف النوع اخلمسني ‪ ،‬فنجد عالء الدين الفارسي يضع " ‪ ، "50 ، 1‬أي القسم األول والنوع اخلمسني‬
‫من ذلك القسم ‪ ،‬وبإمكانك لو أرجعت هذه األحاديث إىل نفس األرقام أن تعيد الكتاب إىل أصله الذي هو برتتيب ابن حبان نفسه‬
‫‪.‬‬
‫لكن من الذي يريد أن يعود إىل مشقة بعد أن أنقذه اهلل منها ؟‍‍ال أحد ‪ ،‬ولذلك ال جند أن أحداً حاول أن يُعيد الكتاب إىل‬
‫ترتيبه األصلي ‪ ،‬والرتتيب األصلي ال يوجد منه نسخة كاملة يف هذا الزمن ‪ ،‬وإمنا توجد منه قطعة يسرية جداً ‪.‬‬
‫وه ذا الكت اب هو ال ذي طُبع بتحقيق الش يخ ش عيب األرن اؤوط ‪ ،‬وهي الطباعة الكاملة ‪ ،‬مع العلم أنه طبع غري ذلك من‬
‫الطبع ات ‪ ،‬فالش يخ أمحد ش اكر – رمحه اهلل – اول أن يق وم بطباعة ه ذا الكت اب ف أخرج جمل داً منه ‪ ،‬ولكن أدركته املنية قبل أن يتم‬
‫هذا ا لكتاب ‪ ،‬جاء بعده عبد الرمحن عثمان فأضاف هلذا اجمللد جملدين آخرين فأصبحت ثالثة جملدات خرجت من صحيح ابن حبان‬

‫‪73‬‬
‫اهلل – يوافق ابن حبان على شروطه اليت‬ ‫‪ ،‬ولكن البون شاسع بني منهج عبد الرمحن عثمان وبني منهج الشيخ أمحد شاكر – رمحه‬
‫اشرتطها يف احلديث الصحيح ‪.‬‬
‫كذلك أيضاً قام " حسني أسد " باملشاركة مع " شعيب األرناؤوط " فأصدراً بعض اجمللدات – جملد أو جملدين ‪ ، -‬ولكن‬
‫توقف العمل وواصل " شعيب األرناؤوط" العمل فأخرج الكتاب إخراج اً كامالً ‪ ،‬واحلقيقة – واحلق يقال – أنه إخراج بديع جداً ‪،‬‬
‫من حيث ض بط النص ‪ ،‬ومن حيث التخ ريج واألحك ام على األح اديث ‪ ،‬يعترب خترجياً ب ديعاً إىل حد كبري ‪ ،‬وإن ك انت هن اك بعض‬
‫االجته ادات اليت قد خيالف فيها ش عيب األرن اؤوط ‪ ،‬مثل األحك ام على بعض األح اديث‪ ،‬وه ذه مس ألة ال طائل حتتها فقد جيد من‬
‫يوافقه وقد جيد من خيالفه ‪ ،‬واملسألة كلها حمل اجتهاد ‪.‬‬
‫لكن على كل حال هذا اإلخراج مع الفهارس اليت صاحبت الكتاب يُعترب خدمة جليلة قدمت هلذا الكتاب ‪ ،‬واحلمد هلل أوالً‬
‫وآخراً ‪.‬‬
‫تعليقاته املفيدة على بعض األحاديث ‪ ،‬ومثال ذلك ‪:‬‬
‫مث إن ابن حب ان – رمحه اهلل – يتبع األح اديث بكالم ب ديع ج داً يف كثري من األحي ان ‪ ،‬حيث إنه يوضح بعض املع اين اليت‬
‫حيت اج إليها يف فقه احلديث ‪ ،‬ولعل من األمثلة على ه ذا –بغض النظر عن موافقته على قوله أو ال – حماولته اجلمع بني ح ديثي بس رة‬
‫وطلق بن علي يف مس الذكر‪.‬‬
‫حديثي بسرة أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال ‪ " :‬من مس ذكره فليتوضأ"(‪. )88‬‬
‫وحديث طلق بن علي أنه سأل النيب صلى اهلل عليه وسلم مس الذكر فقال ‪" :‬هل هو إال بضعة منك "(‪. )89‬‬
‫فمثل هذين احلديثني ظاهر مها التعارض ‪ ،‬وابن حبان ملا أخرج هذين احلديثني يف صحيحه حكم عليهما كليهما بالصحة ‪،‬‬
‫مث وفق بينهما بقوله ‪ :‬إن ح ديث بس رة يعترب ناس خاً حلديث طلق بن علي ‪ ،‬واستش هد على ذلك ب أن ق دوم طلق بن علي على النيب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم كان يف أول هجرة النيب صلى اهلل عليه وسلم إىل املدينة ألنه شارك النيب صلى اهلل عليه وسلم يف بناء املسجد ‪،‬‬
‫وأن ح ديث بس رة بعد ذلك ألهنا إما ك انت يف احلبشة وأهنا ه اجرت بعد ذلك ‪ ،‬فح ديثها يعترب مت أخراً عن ح ديث طلق بن علي ‪،‬‬
‫واملتأخر ينسخ التقدم ‪ ،‬فبني أن العمل وفق حديث بُسرة ‪ ،‬وأن حديث طلق بن علي صحيح ولكنه منسوخ ‪.‬‬
‫فهذه من تعقيباته على بعض األحاديث ‪ ،‬وهي تعقيبات جيدة وأمثلتها كثرية ‪.‬‬
‫كما أنه – رمحه اهلل – حينما خيرج حديثاً يبني أحياناً أن البعض يتوهم أن هذا احلديث ال يُعترب حديثاً صحيحاً ألجل فالن‬
‫بن فالن ‪ ،‬مثالً ‪ :‬أخ رج ح ديثاً من طريق س هيل بن أيب ص احل(‪ )90‬عن أبيه ‪ ،‬مث ذكر أن بعض الن اس ق ديطعن يف ه ذا احلديث ألجل‬
‫تفرد سهيل بن أيب صاحل به ‪ ،‬مث بني أن ُس هيالً مل يتفرد باحلديث فأخرجه من طريق أخرى ‪ ،‬فهو إذاًُ يعين جبمع طرق احلديث ويقطع‬
‫الدابر على من ميكن أن يُعل احلديث ‪ ،‬وهذا من براعته يف علم احلديث ‪.‬‬
‫وصل احلديث واآلخر أرس له ‪ ،‬يق ول ‪ :‬فأنا أقبل رواية الواصل ‪ ،‬ورواية الرافع ‪ ،‬وال أعل الرواية األخ رى هبا ألهنما ثقت ان‬
‫" ‪ .‬وعنده أن الثقة خربة مقبول ‪ ،‬فهذه قاعدة يسري عليها‪.‬‬
‫قد خُي الف يف مثل هذه القاعدة من مثل الدار قطين وغريه حينما حيكمون لألحفظ يف هذا احلال إذا خالف من هو أحفظ منه‬
‫‪ ،‬ويعتربون الرواية املخالفة شاذة ‪ ،‬كما هو مقرر يف مصطلح احلديث ‪ .‬لكن ابن حبان يسر على هذا ‪.‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه ابن حبان (‪ )112‬فما بعده ‪ ،‬وقد أخرجه أبو داود (‪ ، )181‬والترمذي (‪ )82‬فما بعده ‪ ،‬والنسائي (‬ ‫‪88‬‬

‫‪ ، )216 ،1/100‬وابن ماجه‪ )479( g‬فما بعده ‪ ،‬والحاكم (‪ )1/138‬وغيرهم ‪.‬‬


‫(‪، )1/101‬‬ ‫(‪ )1‬أخرجه ابن حبان (‪ )119‬فما بعده ‪ ،‬وقد أخرجه ابو داود (‪ ، )182‬والترمذي (‪ ، )85‬والنسائي‬ ‫‪89‬‬

‫وابن ماجه‪ ، )783( g‬وابن خزيمة (‪ ، )33‬وغيرهم ‪.‬‬


‫ُسهيل بن أبي صالح ‪ ،‬ذكوان السمان ‪ ،‬أبو يزيد المدني ‪ ،‬صدوق ‪ ،‬تغير حفظه‪ g‬بآخره ‪ ،‬روى له البخاري ‪ ،‬مقروناً‬
‫‪90‬‬

‫وتعليقاً ‪ .‬من السادسة ‪ ،‬روى له أصحاب الكتب الستة ‪ .‬تقريب ‪. 2962 :‬‬
‫قال أبو حاتم ‪ .‬يُكتب حديثه ‪ ،‬ذكره ابن حبان في الثقات ‪ .‬بالجرح والتعديل ‪ ، )4/246( :‬الثقات ‪. )6/417( :‬‬
‫‪74‬‬
‫لكن ابن حبان يستثىن فيما لو كان هناك عدد جم من الرواة رووا احلديث مرس الً ‪ ،‬وخالفهم را ٍو أو روايان فرويا احلديث‬
‫موصوالً ؛ فإنه يف هذا احلال ينظر نظرة أخرى ‪.‬‬
‫مثال ذلك ‪:‬‬
‫ميثل هلذا حبديث يرويه ن افع عن ابن عمر ‪ ،‬يق ول ‪ " :‬لو ج اء من أرسل احلديث فجعله عن ن افع عن النيب ص لى اهلل عليه‬
‫وس لم ب دون ذكر البن عمر ‪ ،‬يق ول ‪ :‬فأنا يف ه ذه احلال ال أحكم مباش رة ‪ ،‬ولكن أنظر هل هلذا احلديث أصل عن ابن عمر ؟ " ؛‬
‫فيخ رج احلديث من ط رق أخ رى ‪ ،‬فلنف رض أنه رواه عن ابن عمر غري ن افع ‪ ،‬فنجد ابن حب ان حيكم هلذه الرواية بالص حة ‪ ،‬وأيض اً‬
‫رواية من جعل احلديث من رواية ن افع عن ابن عمر وال يلتفت للمخالفة – يق ول ‪" :‬ألن احلديث ثبت أن له أص الً عن ابن عمر " ‪،‬‬
‫وهكذا هو يف منهج ابن حبان ‪.‬‬
‫وهذا املنهج الذي يسري عليه هو قاعدة قعدها لنفسه وسار مبوجبها ‪ ،‬فال ينبغي يف هذا احلال أن يتكلم يف ابن حبان من هذا‬
‫اجلانب ألن ه ذا اجته اد منه ‪ ،‬وه ذا االجته اد أيض اً يسري عليه كثري من العلم اء ‪ ،‬وإن كنا قد خنالف يف بعض األحي ان ‪ ،‬ون رى أن‬
‫هناك بعض األحاديث املعلولة عن ابن حبان هلذا املوجب ‪ -‬ألجل املخالفة وما إىل ذلك‬
‫ولكن كما قلت – وكما قال العلماء السابقون ‪ : -‬إن ابن حبان اشرتط لنفسه شرطاً وقد ويف بشرطه وما حاد عنه ‪.‬‬
‫تصحيحه لبعض األحاديث املنكرة ومثال ذلك ‪:‬‬
‫هن اك أيض اً بعض األح اديث اليت فيها أحيان اً نك ارة ‪ ،‬ولكن ابن حب ان ألجل املنهج ال ذي يسري عليه فإنه خيرج بعض ه ذه‬
‫األحاديث ‪ ،‬ولذلك قد حيكم عليها بالضعف أو بالنكارة ‪.‬‬
‫مثال ذلك ‪:‬‬
‫قصة ‪ " :‬ه اروت وم اروت "(‪ ، )91‬والقصة تكلم عليها كثري من العلم اء ‪ ،‬واس تنكرها كثري من العلم اء مثل اإلم ام أمحد ‪،‬‬
‫وأيب حامت الرازي ‪ ،‬وغريمها ‪ ،‬وحقيقة ليس هلا إسناد صحيح يثبت ‪ ،‬اهلل إال على منهج ابن حبان حينما يوثق من ال يعرف بعدالة وال‬
‫جرح ‪ ،‬وحينما يرى أيض اً أن مثل هذه املخالفة من هذا الراوي هبذه الصورة ال تُعل احلديث ‪ ،‬لذلك أخرج هذه القصة وحكم عليه‬
‫بالص حة حينما أخرجها يف "ص حيحه" ‪ ،‬ولكن احلديث منكر وال يصح رفعه إىل النيب ص لى اهلل عليه وس لم ‪ ،‬وإمنا هو من احلكاي ات‬
‫اإلسرائيلية ‪.‬‬
‫وقد تكلمت عن ه ذا احلديث يف " س نن س عيد بن منص ور "(‪ ، )92‬فمن ش اء أن يراجعه فلرياجعه يف تفسري ق ول اهلل – جال‬
‫وعال ‪{ : -‬ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حىت يقوال إمنا حنن فتنة فال تكفر}(‪. )93‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه ابن حبان (‪ ، )6186‬وقد أخرجه أيضاً أحمد (‪ ، )2/134‬والبزار (‪ ، )2938‬والبيهقي (‪. )5-10/4‬‬ ‫‪91‬‬

‫(‪ )1‬أنظر ‪" :‬سنن سعيد بن منصور " للدكتور سعد بن عبد اهلل آل حميد (‪. )594-1/575‬‬ ‫‪92‬‬

‫(‪ )1‬سورة البقرة ‪ :‬اآلية ‪. 102 :‬‬ ‫‪93‬‬

‫‪75‬‬
‫مستدرك أيب عبد اهلل احلاكم‬
‫نبذة عن احلاكم ‪:‬‬
‫هو أبو عبد اهلل ‪ ،‬وأمسه حممد بن عبد اهلل بن محدوية بن نعيم املعروف بابن البيع الضيب الشافعي النيسابوري ‪ ،‬واشتهر بأيب‬
‫عبد اهلل احلاكم ‪.‬‬
‫ولقب باحلاكم إما لتوليه القض اء ف رتة من ال زمن ‪ ،‬وإما أهنا رتبة له يف العلم باحلديث ‪ ،‬وه ذه الرتبة هي الثانية اليت تلي أمري‬
‫املؤمنني يف احلديث ‪.‬‬
‫ولقب أيض اً باحلافظ لق وة حفظه – رمحه اهلل ‪ ، -‬ول ذلك إذا ق ال ال بيهقي ‪" :‬ح دثنا أبو عبد اهلل احلاف ظ" فإنه يعين ش يخه‬
‫احلاكم ‪.‬‬
‫مولده وطلبه للعلم ‪:‬‬
‫ولد – رمحه اهلل – س نة ‪321‬هـ بنيس ابور ‪ ،‬وطلب العلم من الص غر وك ان أول مساعه –رمحه اهلل‪ -‬يف س نة ‪330‬هـ ‪ ،‬أي‬
‫وعمره ‪ 9‬سنوات ‪ ، -‬واستملى على يد شيخه ابن حبان سنة ‪334‬هـ ‪ ،‬وقد ابتدأ بالرحلة وهو صغري السن ‪ ،‬فكان عمره حينذاك –‬
‫كما يق ول ال ذهيب‪ -‬عش رين س نة ‪ ،‬فرحل إىل الع راق وحج وج ال يف بالد خراس ان وما وراء النهر طلب اً علو اإلس ناد‪ .‬ومسع من حنو‬
‫ألفي شيخ بنيسابور وغريها ‪.‬‬
‫ومن أهم هؤالء الشيوخ ‪:‬‬
‫(‪)94‬‬

‫(‪ ، )95‬فأنكر عليه أصحاب احلديث ذلك‪،‬ومل يلتفتوا إيل قوله وال صوبوه يف فعله"‪.‬‬
‫ونقل الذهيب عن ابن طاهر املقدسي ‪،‬أنه سأل أبا إمساعيل اهلوري‪،‬عن أيب عبد اهلل احلاكم‪،‬فقال ‪":‬أنه ثق ةٌ يف احلديث رافضي‬
‫خبيث"‪.‬‬
‫ووجه احلق يف هذه املسألة‪:‬‬
‫هو ما رد به ال ذهيب على املقولة الس ابقة حيث ق ال‪":‬كال‪،‬ليس هو رافض ياً بل يتش يع"‪،‬وق ال أيض اً‪":‬وأما احنرافه عن خص وم علي‬
‫فظاهر‪،‬وأما الشيخان‪-‬أبوبكر وعمر‪-‬فمعظم هلما بكل حال ‪ ،‬فهو شيعي ال رافضي " ‪.‬‬
‫ويقول ابن السبكي ‪" :‬فغاية ما قيل فيه اإلفراط يف والء على –رضي اهلل عنه‪ ، -‬ومقام احلاكم عندنا أجل من ذلك"‪.‬‬
‫ويقول ابن السبكي أيضاً ‪":‬إن الرجل كان عنده ميل إيل علي‪-‬رضي اهلل عنه‪،-‬يزيد على امليل الذي يطلب شرعاً " ‪.‬‬
‫وق ال أيض اًَ "وال أق ول ‪ :‬إنه ينتهي إىل أن يضع من أيب بكر وعمر –رضي اهلل عنهم ا‪ ،-‬ف إين رأيته يف كتابه "األربعني" عقد‬
‫باب اً لتفص يل أيب بكر وعمر وعثم ان رضي اهلل عنهم ‪ ،‬واختصهم من بني الص حابة ‪ .‬وقدم يف املستدرك ذكر عثم ان على علي رضي‬
‫اهلل عنهما" ‪.‬‬
‫أهم األسباب اليت دعت بعض العلماء إىل وصف احلاكم بالتشيع أو الرفض ‪:‬‬
‫من أهم األسباب ‪:‬‬
‫‪ -1‬ع دم ذك ره لبعض خص وم علي من الص حابة رض وان اهلل عليهم أمجعني يف كت اب "معرفة من اقب الص حابة" من كت اب‬
‫املستدرك ‪ ،‬كمعاوية وعمرو بن العاص –رضي اهلل عنهما‪ ،-‬بل إنه أو ذي بسبب ذلك ‪ ،‬فقيل له – من باب املشورة ‪ : -‬لو أمليت‬
‫يف فضائل هذا الرجل‪-‬أي معاوية ‪ -‬؟ فقال ‪" :‬ال يطاوعين قليب" ‪.‬‬

‫(‪ )1‬انظر ‪" :‬مستدرك الحاكم" (‪. )131 ، 3/130‬‬ ‫‪94‬‬

‫(‪ )1‬انظر ‪ :‬سير أعالم النبالء (‪. )1/168‬‬ ‫‪95‬‬

‫‪76‬‬
‫‪ -2‬إخراجه لبعض األح اديث اليت فيها نص رة للش يعة وتس اهله يف تص حيحها مثل ‪" :‬ح ديث الط ري"(‪ ، )96‬وح ديث ‪" :‬أنا‬
‫مدينة العلم وعلى باهبا"(‪ ، )97‬وحديث ‪" :‬النظر إىل علي عبادة"(‪ ، )98‬وغري ذلك من األحاديث ‪.‬‬
‫فهذان السببان مها من أهم األسباب اليت دعت إىل وصف احلاكم بالتشيع أو الرفض‪.‬‬
‫وميكن مناقشة هذه األسباب على الوجه اآليت ‪:‬‬
‫‪ -1‬أما موقفه من خص وم علي من الص حابة – رضي اهلل عنهم – فليس على إطالقه ‪ ،‬وإمنا ه ذا خمتص مبعاوية – رضي اهلل‬
‫عنه ‪ ، -‬وإال فإنه قد أفرد لطلحة والزبري وعائشة –رضي اهلل عنهم‪ ، -‬ومل ينتقصهم حبرف ‪.‬‬
‫فدل هذا على أن الرجل متبع لألثر ‪ ،‬ولعله مل حيضره شيء من األحاديث اليت يرى أهنا تصح ي فضل معاوية – رضي اهلل‬
‫عنه ‪ ، -‬وإال فإن طلحة والزبري ممن قاتال علياً –رضي اهلل عنه – كما قاتله معاوية ‪.‬‬
‫وه ذا مثل ما حصل للنس ائي ‪ ،‬ف إن له موقف اً ش بيهاً مبوقف أيب عبد اهلل احلاكم ‪ ،‬فحينما س ئل ‪ :‬ملاذا ال خيرج يف فض ائل‬
‫معاوية كما خرج يف فضائل علي وسائر السحابة ‪ .‬قال ‪ :‬وأي شيء أخرج يف فضائل معاوية حديث ‪" :‬ال أشبع اهلل بطنه" ؟‍‪.‬‬
‫كأنه قال ‪ :‬مل يصح عندي من احلديث إال هذا احلديث ‪ ،‬وهو ليس يف فضائله ومناقبه‪ ،‬وإن كان بعض العلماء قد تكلف يف‬
‫جعل هذا احلديث يعد من مناقب معاوية‪-‬رضي اهلل عنه‪.-‬‬
‫ولو أخ ذنا من موقفه ملعاوية – رضي اهلل عنه – حكم اً ملا أمكن أن يتج اوز ووص فه بالتش يع القليل ال ذي ك ان عند طائفة‬
‫من أهل الس نة كما هو احلال عند متق دمي أهل الكوفة ‪ ،‬بل هو أحسن ح االً من كثري ممن نُسب إىل التش يع القليل من أهل الس نة ‪،‬‬
‫ف إن أولئك ك انوا يق دمون علي اً على عثم ان – رضي اهلل عنهما ‪ ، -‬وأما احلاكم فإنه ق دم عثم ان على علي ‪ ،‬ف ذكر أوالً فض ائل أيب‬
‫بكر مث عمر مث عثمان مث علي – رضوان اهلل عليهم أمجعني ‪. -‬‬
‫‪ -2‬وأما بالنس بة لألح اديث اليت تس اهل يف تص حيحها يف فض ائل علي –رضي اهلل عن ه‪ -‬كحديث الطري وغ ريه ؛ فال ميكن‬
‫أن يوصف احلاكم من خالهلا بأنه رافضي ‪.‬‬
‫وميكن النظر يف هذه األحاديث من جهتني ‪ ،‬ومها ‪:‬‬
‫أ‪ -‬كما أنه تس اهل يف تص حيح ه ذه األح اديث ‪ ،‬فإنه يف املقابل تس اهل يف تص حيح أح اديث موض وعة يف فضل أيب بكر‬
‫وعمر وعثمان – رضوان اهلل عليهم ‪ ،-‬فهذه مثلها‪.‬‬
‫بل هو متساهل يف تصحيح بعض األحاديث املوضوعة يف سائر الكتاب كما سيأيت معنا إن شاء اهلل ‪.‬‬
‫ب‪ -‬بالنس بة هلذه األح اديث اليت أش تهر عن احلاكم تص حيحها كح ديث الطري ‪ ،‬وح ديث ‪" :‬أنا مدينة العلم وعلى باهبا" ؛‬
‫ف إن احلاكم جمتهد ‪ ،‬وهذا االجته اد مع املنهج املتس اهل ّأدى إىل تص حيح مثل هذه األح اديث اليت ص ححها أئمة آخ رون ‪ ،‬وبعضهم‬
‫توقف فيها وأصابته احلرية والدهشة من كثرة طرقها ‪.‬‬
‫الكالم على بعض األحاديث املنتقدة على احلاكم ‪:‬‬
‫ونأخذ مثاالً على ذلك ‪:‬‬
‫حديث الطري(‪ : )99‬الذي هو من أب رز األح اديث اليت تُكلم يف احلاكم بس ببها ؛ فهذا احلديث خالص ته أن أنس بن مالك –‬
‫رضي اهلل عنه – تذكر أن النيب صلى اهلل عليه وسلم أهدي له طري مشوي ‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم ‪ " :‬اللهم أئتين بأحب خلقك‬

‫(‪ )1‬قد تكلم عليه الشيخ سعد آل حميد – حفظه‪ g‬اهلل – في مختصر المستدرك برقم (‪ )563‬كما سيأتي ‪ ،‬وقد أطال‬ ‫‪96‬‬

‫تخريجه ‪ ،‬وشبهه الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق ‪.‬‬


‫(‪ )1‬راجع تاريخ ابن عساكر ‪ ،‬ومختصر المستدرك (‪. )552‬‬ ‫‪97‬‬

‫(‪ )1‬راجع تاريخ ابن عساكر ‪ ،‬ومختصر المستدرك (‪. )573‬‬ ‫‪98‬‬

‫(‪ )1‬انتظر ‪" :‬مستدرك الحاكم " (‪ ، )131 ، 2/130‬و "سير أعالم النبالء " (‪. )17/168‬‬ ‫‪99‬‬

‫‪77‬‬
‫إليك بأكل معي من ه ذا الطري " ‪ ،‬ق ال أنس ‪ " :‬فقت ‪ :‬اللهم اجعله ام رأ من األنص ار – ألنه أنص اري – ق ال ‪ :‬ف إذا بالب اب يُط رق‬
‫ففتحت الب اب ‪ ،‬ف إذا هو علي بن أيب ط الب –رضي اهلل عن ه‪ ، -‬فقلت له ‪ :‬النيب على حاجة فانص رف ‪ ،‬ف دعا النيب ص لى اهلل عليه‬
‫وسلم مرة ثانية فقال ‪" :‬اللهم أئتين بأحب خلقك إليك بأكل معي من هذا الطري " ‪ ،‬فقال أنس نفس مقولته ‪ .‬فطرق الباب فإذا هو‬
‫علي –رضي اهلل عنه ‪ ، -‬فقال له أنس مثلما قال سابقاً ‪.‬‬
‫ويف املرة الثالثة أو الرابعة دفع علي يف ص در أنس ‪ ،‬مث دخل فق ال له النيب ص لى اهلل عليه وسم " ما ال ذي أبطأ بك يا علي ؟‬
‫" ‪ ،‬فق ال ‪ :‬يا رسول اهلل ‪ ،‬هذه هي املرة الثالثة أو الرابعة اليت ي ردين فيها أنس ‪ .‬فق ال ل ه‪-‬عليه الس الم ‪ ،‬فق ال أنس ‪ :‬يا رس ول اهلل ‪،‬‬
‫دعوت بدعائك الذي دعوت به فرجوت أن يكون امرأ من األنصار ‪ .‬فقال له النيب الكرمي – عليه السالم ‪" : -‬إن الرجل قد حيب‬
‫قومه " أي فعذره ‪.‬‬
‫فقوله صلى اهلل عليه سلم ‪" :‬اللهم ائتين بأحب خلقك إليك" ظاهره أنه أحب من سائل األنبياء ‪ ،‬بل من النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪،‬‬
‫فضالً عن كونه أحب من أيب بكر وعمر وعثمان ومن سائر صاحبة النيب – رضي اهلل عنهم أمجعني ‪. -‬‬
‫فهذا احلديث هو من األح اديث اليت يتقوى هبا الش يعة وأهل ال رفض ‪ ،‬ولكن الذي حري بعض األئمة أن هذا احلديث ط رق‬
‫كثري جداً عن أنس – رضي اهلل عنه ‪ ، -‬وقد صححه ابن جرير الطربي – رمحه اهلل – وله فيه مؤلف ‪.‬‬
‫ومن احت ار يف ه ذا احلديث ‪ :‬ال ذهيب – رمحه اهلل – حيث ق ال ‪" :‬وأما ح ديث الطري فله ط رق كث رية ج داً قد أفردهتا يف‬
‫مصنف ‪ ،‬وجمموعها يوجب أن يكون احلديث له أصل‪ .‬وأما حديث ‪ " :‬من كنت مواله فعلى مواله " فله طرق جيدة وقد أفرد ذلك‬
‫أيضاً مبصنف" اهـ‪.‬‬
‫ويق ول ابن الس بكي ‪" :‬وأما احلكم على ح ديث الطري بالوضع فغري جيد ‪ ،‬ورأيت من ص احبنا احلافظ ص الح ال دين ابن‬
‫كيكل دي العالئي عليه كالم اً ق ال فيه ‪ :‬إن احلق يف احلديث أنه ينتهي إىل درجة احلسن أو يك ون ض عيفاً حيتمل ض عفه ‪ ،‬فأما كونه‬
‫ينتهي إىل درجة املوضوع من مجيع طرقه فال " اهـ ‪.‬‬
‫والسبب يف توقف الذهيب – الذي سبقت اإلشارة إليه ‪ ، -‬وتصحيح أو حتسني بعض العلماء هلذا احلديث أن له عن أنس –‬
‫رضي اهلل عنه – أكثر من تسعني طريقاً حريت العلماء وأدهشتهم ‪.‬‬
‫ومع ه ذا فبعض املتمك نني من علم احلديث كاحلافظ ابن كثري – رمحه اهلل – ومل ت ؤثر فيه ك ثرة الط رق ولو بلغت امللي ون ‪،‬‬
‫فإنه قد تكلم عن هذا احلديث يف البداية والنهاية(‪ ، )100‬وأثبت أنه منكر وانتقد طرق احلديث كلها ‪.‬‬
‫ق ال – رمحه اهلل ‪" : -‬ق ال ش يخنا أبو عبد اهلل ال ذهيب يف ج زء مجعه يف ه ذا احلديث‪ ،‬بع دما أورد طرق اً متع ددة حنواً مما‬
‫ذكرناه ‪ .‬قال ‪ :‬ويروى هذا احلديث من وجوه باطلة عن حجاج بن يوسف وأيب عصام خالد بن عبيد" ‪ .‬وذكر خلق اً ممن رواه ‪ ،‬مث‬
‫قال بعد أن ذكر اجلميع ‪" :‬اجلميع بضع وتسعون نفساً أقرهبا غرائب ضعيفة ‪ ،‬وأردؤها طرق خمتلفة مفتعلة ‪ ،‬وغالبها طرق واهية"‪.‬‬
‫مث ذكر احلافظ ابن كثري مجلة من هذه الطرق يف املوضع السابق وقال ‪" :‬فهذه طرق متعددة عن أنس بن مالك ‪ ،‬وكل منها‬
‫فيه ضعف ومقال" ‪.‬‬
‫أما بالنس بة لكالم ال ذهيب يف تعقبه على احلاكم يف املس تدرك فهو جيد ‪ ،‬ومن مجلة ما ذك ره – ألن احلاكم أورده يف ع دة‬
‫أم اكن بع دة ط رق – قوله ‪" :‬قلت ‪ :‬فيه ابن عي اض ال أعرفه –أي يف نق ده للح ديث ‪ ، -‬ولقد كنت زمان اً ط ويالً أظن أن ح ديث‬
‫الطري مل جيسر احلاكم أن يودعه مستدركه ‪ ،‬فلما علقت هذا الكتاب رأيت اهلول من املوضوعات اليت فيه ‪ ،‬فإذا حديث الطري بالنسبة‬
‫إليها مساء " ‪ .‬أي ال شيء بالنسبة ملا ذكره من سائر املوضوعات ‪.‬‬

‫(‪ )1‬انظر ‪" :‬البداية والنهاية " (‪. )377-7/375‬‬ ‫‪100‬‬

‫‪78‬‬
‫لكن تغري اجته اد ال ذهيب يف ح ديث الطري ‪ ،‬فهو يف ت ذكرة احلف اظ ذكر أنه اطلع على ح ديث الطري ال ذي انتقد احلاكم من‬
‫أجله ‪ ،‬فقال ‪" :‬وجدت له بضعاً وتسعني طريقاً" ‪ ،‬مث قال بعد ذلك ‪" :‬ومع ذلك فال أنا مبثبته وال مبعتقد بطالنه" ‪ ،‬أي انه متوقف فيه‬
‫‪.‬‬
‫فإذا كان األمر هكذا بالنسبة للذهيب فإننا جند هناك طائفة من العلماء – وهم كثر ‪-‬؛ كان موقفهم من هذا احلديث موقف‬
‫الذي تلق اه بالقبول ‪ ،‬ومل جيد يف متنه نك ارة مما جيعله يع زف على احلكم على هذا احلديث بالص حة أو باحلسن ‪ ،‬ومن ه ؤالء العلم اء‬
‫ابن جرير الطربي ‪ ،‬وابن جرير له جملد يف مجع طرق وألفاظ هذا احلديث ‪.‬‬
‫وليس هذا هو موضع التفصيل يف بيان علل هذا احلديث ‪ ،‬وإمنا املقصود اإلشارة إىل أنه مع كونه ال يصح ‪ ،‬إال أنه ينبغي أن‬
‫يُعذر احلاكم يف تصحيحه كما عذرنا ابن جرير الطربي والعالئي والذهيب وغريهم من العلماء ‪.‬‬
‫‪ -2‬وأما ح ديث "أنا الش جرة ‪ ،‬وفاطمة فرعها ‪ ،‬وعلى لقاحها ‪ ،‬واحلسن واحلسني مثرهتا‪ ،‬وش يعتنا ورقها ‪ ،‬وأصل الش جرة‬
‫يف جنة عندن ‪ ،‬وسائر ذلك يف سائر اجلنة"(‪. )101‬‬
‫(‪)102‬‬
‫هذا احلديث أخرجه احلاكم‬
‫من طريق شيخه حممد بن حيويه اهلمذاين (‪ ،)103‬عن الدبري ‪ ،‬عن عبد الرزاق صاحب املصنف‪،‬عن أبيه‪،‬عن ميناء موىل عبد الرمحن بن‬
‫عوف ‪.‬‬
‫قال احلاكم بعدما أخرج هذا احلديث ‪" :‬هذا منت شاذ‪،‬وأن كان كذلك فأن إسحاق الدبري صدوق‪،‬وعبد الرزاق وأبوه وجده ثقات‪،‬‬
‫وميناء قد أذرك النيب صلي اهلل عليه وسلم ومسع منه"‪.‬‬
‫واحلقيقة أن هذا احلديث ملا أخرجه احلاكم أغاط الذهيب يف تلخيصه‪،‬فعقب عليه الذهيب بالكالم األيت‪:‬‬
‫"قلت‪ :‬ما ق ال ه ذا بشر س وى احلاكم – أى ال زعم ب أن مين اء ه ذا من ص احبة النيب ص لي اهلل عليه وس لم‪-‬وأمنا هو ت ابعي‬
‫ساقط‪.‬‬
‫قال أبو حامت‪ :‬كذب يكذب ‪ .‬وقال ابن معني‪ :‬ليس بثقة‪.‬ولكن أظن أن هذا وضع على الربي‪ -‬يقصد إسحاق بن إبراهيم‬
‫الربي راوي مصنف عبد الرزاق وراي هذا احلديث أيضاً‪-‬؛فإن ابن حيويه متهم بالكذب"‪.‬‬
‫مث ق ال بعد ذلك عب ارة مل يكن ينبغي له أن يطلقها يف حق احلاكم –ق ال ‪ ":‬أفما اس حييت أيها املؤلف أن ت ورد ه ذه‬
‫األخلوقات من أقوال الطرقية فيما يستدرك علي الشيخني" ا هـ‪.‬‬

‫أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات"‪ ، )2/234( g‬وقال ‪ :‬هذا حديث موضوع‪ ، g‬وقد اتهموا بوضعه‪" g‬مينا" وكان غالباً‬
‫‪101‬‬

‫في التشيع ‪ .‬قال يحي ‪ :‬ليس بشيء ‪ ،‬وقال الدار قطني ‪ :‬متروك ‪ .‬وقال ابن حبان ‪ :‬ال تحل الرواية عنه إال اعتباراً ‪ ،‬وال‬
‫تحل الرواية عن الحسن بن علي األزدي ‪ ،‬فإنه يضع الحديث على الثقات‪.‬‬
‫وأقره على ذلك الشوكاني في "الفوائد المجموعة‪ g‬في األحاديث الموضوعة"ص(‪)330‬رقم(‪)1125‬وقال بعده ‪:‬‬
‫وقد أخرج هذا الحديث ‪ :‬الحاكم في "المستدرك"وقال ‪:‬متن شاذ‪ ،‬وتعقب‪:‬بأن في إسناده من يكذب وأن هذا الحديث‬
‫موضوع"اهـ‪. .‬‬

‫(‪ )1‬انظر ‪" :‬مستدرك الحاكم " (‪. )3/160‬‬ ‫‪102‬‬

‫(‪ )1‬النحوي‪،‬نزل همذان ‪ ،‬قال الخطيب كان غير موثق عندهم ‪.‬‬ ‫‪103‬‬

‫ا)انظر ‪":‬سلسلة األحاديث الصحيحة"رقم(‪.)1750‬‬

‫‪79‬‬
‫فه ذا من األح اديث اليت ميكن أن يؤخذ علي احلاكم – رمحه اهلل – تص حيحها ‪ ،‬وال جند له ع ذراً ما دام أن ش يخه ك ذاباً‬
‫والراوي األعلى هلذا احلديث كذاباً‪.‬‬
‫‪ -3‬وأما ح ديث ‪ ":‬من كنت م واله فعلي م واله " فهو ح ديث ص حيح ‪ ،‬بل مت واتر ‪ ،‬وال جيوز أن ينتقد احلاكم على ه ذا‬
‫احلديث ‪ ،‬بل ال ذي ينبغي أن ينتقد هو املنتق د‪،‬ومن أراد مطالعته فل رياجع ختريج الش يخ ناصر ال دين األلب اين‪ -‬حفظه اهلل‪ -‬هلذا‬
‫(‪.)104‬‬
‫احلديث‬
‫فعلي‪-‬رضي اهلل عن ه‪-‬ينبغي أن يواليه كل م ؤمن‪ ،‬كما‬‫وه ذا احلديث ليس فيه أي مستمسك علي احلاكم للش يعة والرافض ة؛ ٌ‬
‫ينبغي أن يوايل غريه من الصاحبة‪-‬رضي اهلل عنهم‪.-‬‬
‫ولو ُع رف سبب ورود احلديث لزال اإلشكال الذي من أجله خص النيب صلي اهلل عليه وسلم علي اً –رضي اهلل عنه‪ -‬بقوله‬
‫هذا ‪ .‬وخالصة ذلك ‪:‬‬
‫أنه قدم على الرسول صلى اهلل عليه وسلم من اليمن ‪ ،‬والنيب صلى اهلل عليه وسلم يف احلج ‪ ،‬فاستأذن من أصحابه أن يتعجل‬
‫إىل النيب ص لى اهلل عليه وس لم يف مكة ‪ ،‬وقد حصل يف الطريق بني اليمن ومكة بعض األم ور اليت جعلت من مك ان مع علي يتكلم ون‬
‫فيه ‪ .‬فبعد أن انصرف النيب صلى اهلل عليه وسلم من مكة أحس بالكالم يدور على علي ؛ فأراد صلى اهلل عليه وسلم أن يسكت من‬
‫يثري مثل ذلك ؛ فقال هذه املقولة ‪.‬‬
‫ف إن النيب ص لى اهلل عليه وس لم قاهلا لس بب ‪ ،‬وإال فإنه ص لى اهلل عليه وس لم ذكر أن هن اك من الص حابة من هم أولي اء له ‪،‬‬
‫مثل ما ورد عنه صلى اهلل عليه وسلم من فضل للمهاجرين واألنصار ‪ ،‬بل إنه صلى اهلل عليه وسلم قال عن األنصار ‪ :‬إنه "ال حيبهم إال‬
‫مؤمن وال يبغضهم إال منافق"(‪. )105‬‬
‫وه ذا الفضل أيض اً ورد لعلي – رضي اهلل عنه – كما يف ص حيح مس لم ‪ ،-‬يف قوله –رضي اهلل عنه ‪ " :‬وال ذي فلق احلبة‬
‫وبرأ النسمة ‪ ،‬إنه لعهد النيب األمي صلى اهلل عليه وسلم إىل ‪ :‬أن ال حيبين إال مؤمن ‪ ،‬وال يبغضين إال منافق "(‪. )106‬‬
‫والفضل ال وارد لعلي وارد أيض اً لص حابة آخ رين ‪ ،‬بل إن فض ائل الش يخني أيب بكر وعمر أك ثر بكثري من فض ائل علي –‬
‫رضي اهلل عنه ‪. -‬‬
‫تساهل احلاكم يف التصحيح وأوهامه يف املستدرك وما أجيب به عن ذلك ‪:‬‬
‫إن من يُلقي نظ رة على مس تدرك أيب عبد اهلل احلاكم يع رف تس اهله ال ذي جعله يص حح ع دداً من األح اديث املوض وعة‬
‫والض عيفة ‪ ،‬وه ذا ما جعل نكري العلم اء يش تد عليه ‪ ،‬باإلض افة إىل ما أخ ذوه عليه من ذك ره جلماعة من ال رواة يف كتابه "الض عفاء" ‪،‬‬
‫وجزمه برتك الرواية عنهم وترك االحتجاج هبم ‪ ،‬مث خُي رج بعد ذلك أحاديث بعضهم يف املستدرك ويصححها ؛ ولذلك أنتقد العلماء‬
‫تصحيحه ‪.‬‬
‫يقول اخلطيب البغدادي – رمحه اهلل – ‪" :‬أنكر الناس على احلاكم أحاديث زعم أهنا على شرط الشيخني" ‪.‬‬
‫ويقول ابن الصاحل ‪ " :‬وهو واسع اخلطو يف شرط الصحيح ‪ ،‬متساهل يف القضاء الفن من شيخه احلاكم " ‪.‬‬

‫(‪ )1‬اتنظر ‪" :‬مستدرك الحاكم " (‪ ، )131 ، 2/130‬و "سير أعالم النبالء " (‪. )17/168‬‬ ‫‪104‬‬

‫(‪ )1‬رواه البخ ‪gg‬اري (‪ )7/87‬في فض ‪gg‬ائل أص ‪gg‬حاب الن ‪gg‬بي ص ‪gg‬لى اهلل عليه وس ‪gg‬لم ‪ ،‬ب ‪gg‬اب حب األنص ‪gg‬ار ‪ ،‬ومس ‪gg‬لم (‪ )75‬في‬ ‫‪105‬‬

‫(‪ )3896‬في المن‪gg‬اقب‬ ‫اإليمان ‪ ،‬ب‪gg‬اب ال‪gg‬دليل على أن حب األنص‪gg‬ار وعلي رضي اهلل عنهم من اإليم‪gg‬ان ‪ ،‬والترم‪gg‬ذي‬
‫‪ ،‬باب مناقب األنصار وقريش ‪ ،‬وباقي الحديث ‪( :‬فمن أحبهم أحبه اهلل ‪ ،‬ومن أبغضهم أبغضه اهلل) ‪.‬‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم (‪ )78‬في اإليمان ‪ ،‬باب الدليل على أن حب األنصار وعلي رضي اهلل عنهم من اإليمان وعالمته ‪،‬‬ ‫‪106‬‬

‫وبغضهم من عالمات النفاق ‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫ويقول الذهيب عنه ‪" :‬إنه إما صدوق ‪ ،‬ولكنه يصحح يف مستدركه أحاديث ساقطة‪ ،‬ويكثر من ذلك" ‪.‬‬
‫ومن هن اك ج اء االس تدراك والتعقب على تص حيحه لبعض األح اديث يف املس تدرك ‪ ،‬كما فعل ال ذهيب يف تلخيصه ‪ ،‬وابن‬
‫امللقن يف خمتصر التلخيص ‪.‬‬
‫وقد اعتذر عن احلاكم بعض األئمة ‪:‬‬
‫فقال السيوطي ‪" :‬إن احلاكم مظلوم يف كثري مما نسب إليه من التساهل" ‪.‬‬
‫وقال السخاوي ‪ " :‬بل يُقال ‪ :‬إن السبب يف إدخال احلاكم املوضوعات والضعيفات يف مستدركه أنه صنفه يف أواخر عمره‬
‫‪ ،‬وقد حص لت له غفلة وتغري ‪ .‬أو أنه مل يتيسر له حتري ره وتنقيحه ‪ ،‬وي دل على ذلك أن تس اهله يف ق در اخلمس األول منه قليل ج داً‬
‫بالنسبة لباقيه" ‪.‬‬
‫ويؤيد ه ذا الق ول ال ذي ذك ره الس خاوي أن اجمللد األول من املس تدرك يقل فيه تعقب الذهيب عن اجملل دات األخ رى بش كل‬
‫كبري وواضح ‪.‬‬
‫اعتذار احلافظ على احلاكم ‪:‬‬
‫وهذا االعتذار الذي ذكره السخاوي أخذه عن شيخه احلافظ ابن حجر –رمحهما اهلل‪ ،-‬فإنه قال يف "النكت" ‪:‬‬
‫" قليل يف االعتذار عنه ‪ :‬إنه عند تصنيفه للمستدرك كان يف أواخر عمره ‪ ،‬وذكر بعضهم أنه حصل له تغري وغفلة يف آخر‬
‫عمره ‪ ،‬ويدل على ذلك أنه ذكر مجاعة يف كتاب الضعفاء له وقطع برتك الرواية عنهم ومنع من االحتجاج هبم ‪ ،‬مث أخرج أحاديث‬
‫بعضهم يف مستدركه وصححها ‪ ،‬ومن ذلك ‪ :‬أنه أخرج حديثاً لعبد الرمحن بن زيد بن أسلم ‪ ،‬وكان قد ذكره يف الضعفاء ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫"إنه روى عن أبيه أحاديث موضوعة ال ختفى على من تأملها من أهل الصنعة أن احلمل فيها عليه " اهـ‪.‬‬
‫ولكن الس بب األوجه هو ما ذك ره احلافظ أيض اً ‪ ،‬وهو أن احلاكم – رمحه اهلل‪ -‬ألف الكت اب يف البداية وجعله مس وداً ‪.‬‬
‫وع ادة أي إنس ان يؤلف التس امح يف أي ش يء ي رد عليه ‪ ،‬مث بعد ذلك يرجع فينقح وي بيض تلك املس ودة ‪ ،‬والكت اب بعد التنقيح هو‬
‫الذي يؤاخذ عليه املؤلف‪.‬‬
‫فقد ذكر ابن َحجر أن املس تدرك جمزء إىل س تة أج زاء ‪ ، ،‬وقد جند يف ح وايل النصف الث اين من هناية النصف األول وبداية‬
‫النصف الثاين من اجمللد الثاين القول بأنه إىل هنا انتهى ما أماله علينا أبو عبد اهلل احلاكم ‪.‬‬
‫واملستدرك اآلن مطبوع يف أربعة جملدات ‪ ،‬واجمللد األول هو الذي ينطبق عليه كالم احلافظ ابن حجر ؛ أي هو الذي أماله‬
‫احلاكم ‪ ،‬وأما اجمللدات الثالثة الباقية فال ‪.‬‬
‫يقول ابن حجر ‪ :‬إن هذه املوضوعات من األحاديث اليت انتقدت على احلاكم إمنا تأيت يف القدر الذي مل ميله ‪.‬‬
‫مث يستدرك ابن حجر على هذا بصنيع البيهقي ‪ ،‬ويقول ‪ :‬إن البيهقي إذا روى عن شيخه احلاكم حديثاً من األحاديث اليت‬
‫يف الربع األول يف القدر الذي أماله يصرح بالتحديث ‪ ،‬فيقول‪ :‬حدثنا أبو عبد اهلل احلافظ ‪ ،‬لكن إذا روى حديثاً من األجزاء الباقية‬
‫– الثالثة األرباع الباقية – ال يصرح بالتحديث ‪ ،‬وإمنا أخذ ذلك بطريق اإلجازة ‪.‬‬
‫يق ول ‪ :‬إن احلاكم – رمحه اهلل – أدركته املنية ومل ينقح إال مق دار الربع فقط ‪ ،‬فك ان –رمحه اهلل – كلما نقح أح اديث‬
‫وحذف منها ما أراد أن حيذفه جاء جملالس التحديث ف أملى هذه األح اديث عليهم ‪ ،‬وملا أملى الربع األول أدركته املنية فتويف ومل ميل‬
‫األرباع الثالثة الباقية ‪.‬‬
‫وحقيقة أنا اعترب هذا الكالم يف حد ذاته صحيحاً ؛ ألنين وجدت – فعالً – أن البيهقي ال يصرح بالتحديث إال فيما أخذه‬
‫عن احلاكم يف الربع األول فقط ‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫وكذلك أيض اً واقع الكتاب يدلنا على هذا ‪ ،‬فإن عدد األحاديث اليت انتقدها الذهيب يف الربع األول حوايل مائتني حديثاً‬
‫فقط ‪ ،‬وأما يف األرباع الثالثة الباقية فإهنا تقرب من األلف تقريباً‪ ،‬فهذا العدد األخري يعترب كثرياً إذا قورن بالعدد الذي يف الربع األول‬
‫‪.‬‬
‫على كل ح ال ما دام أن احلاكم – رمحه اهلل – ع رف عنه أنه أملى الربع األول ‪ ،‬ومل ميل األرب اع الثالثة الباقية فإهنا تق رب‬
‫من األلف تقريباً ‪ ،‬فهذا العدد األخري يعترب كثرياً إذا قورن بالعدد الذي يف الربع األول ‪.‬‬
‫على كل ح ال ما دام أن احلاكم – رمحه اهلل – ع رف عنه أنه أملى الربع األول ‪ ،‬ومل ميل األرب اع الثالثة ‪ ،‬وأن األح اديث‬
‫املنتقدة يف الربع األول ال تصل إىل درجة الوضع ‪ ،‬وإمنا أحاديث مما ميكن أن جيتهد فيه اإلنسان ‪ ،‬ويعذر – على األقل – يف اجتهاده‬
‫‪ .‬فهذا هو الذي ميكن أن يعتذر عن احلاكم به ‪ ،‬وهذا ما أراه أجود هذه االعتذارات ‪.‬‬
‫ه ذا باإلض افة إىل أننا إذا أخ ذنا يف أذهاننا أن احلاكم – رمحه اهلل – مع روف من منهجه التس اهل ‪ ،‬مثل ما ن رى عند ابن‬
‫خزمية وابن حبان ‪ ،‬فهما ليسا كالبخاري ومسلم يف تنقيح األحاديث واحلرص على انتقاء احلديث الذي ال ينازع فيه من صحح ذلك‬
‫احلديث ‪.‬‬
‫وبرغم أن البخاري ومسلماً – رمحهما اهلل – احرتزا واحتاطا هذا االحتياط ‪ ،‬جند أن هناك من ينتقدمها ‪ ،‬فما بالنا مبن كان‬
‫أكثر تساهالً منهما كابن خزمية وابن حبان ؟! بل ما بالنا مبن هو أشد تساهالً منهما كاحلاكم ؟! ‪.‬‬
‫ال شك أنه إذا أضيف املنهج املتساهل مع كرب السن الذي ذكر – إن صح ‪ ، -‬مع مسألة تنقيح الكتاب – ميكن أن يعتذر‬
‫عن احلاكم هبذا االعتذار ‪.‬‬
‫ومع ذلك ال ندعي له العصمة ‪ ،‬بل نقول ‪ :‬إنه أخطأ حقيقة حينما صحح بعض األحاديث اليت الضعف فيها ظاهر ‪ .‬بل أن‬
‫تعقباته بعض األح اديث أحيان اً ال حتتمل ‪ ،‬فإنه رمبا ذكر رواي اً من ال رواة يف بعض كتبه األخ رى يف الرج ال مث خيرج له بعض‬
‫األحاديث ‪ ،‬وهذا مثل مات حدث يف كتابه "تاريخ نيسابور" فإنه قال فيه عن سهل بن عمار التعكي ‪" :‬إنه كذاب يضع احلديث" ‪،‬‬
‫مث بعد ذلك أخرج له بعض األحاديث يف املستدرك ‪ ،‬وحكم عليها بالصحة على شرط الشيخني ‪.‬‬
‫وقد لزم من تساهله يف التصحيح تساهله يف توثيق الرواة ‪ ،‬فإن حكمه بصحة إسناد احلديث مع وجود بعض الرواة الضعفاء‬
‫يف ذلك اإلسناد يفيد تساهله يف توثيق بعضهم ‪.‬‬
‫وقد صرح احلاكم نفسه يف بعض كتب املستدرك بتساهله يف بعض ما يرويه ‪:‬‬
‫فمن ذلك ‪ :‬أنه أخ رج يف اجمللد الث اين ص‪ 13‬س تة أح اديث يف كت اب ال بيوع ‪ ،‬مث ق ال ‪" :‬وه ذه األح اديث الس تة طلبتها‬
‫وخرجتها يف موضعها من هذا الكتاب إحتساباً ملا فيه الناس من الضيق ‪ ،‬واهلل يكشفها ‪ ،‬وإن مل تكن من شرط هذا الكتاب" ‪.‬‬
‫وأيضاً فإن هناك بعض الرواة الذين سرح احلاكم بتوثيقهم عند حكمه على بعض األحاديث ‪ ،‬وبعد البحث جند أن الراجح‬
‫من حاهلم خالف ذلك ‪.‬‬
‫فه ذه املس ألة وما تق دم من ذك ره جلماعة من الض عفاء يف كتابه " الض عفاء" ‪ ،‬وتص حيحه ألح اديثهم يف املس تدرك – ميكن‬
‫االعتذار فيهما عن احلاكم بأنه صنف كتابه يف آخر عمره بعد أن ضعفت قواه وأصابه شيء من النسيان والغفلة ‪ ،‬وقد يكون يرى من‬
‫نفسه أنه بلغ درجة االجتهاد يف احلكم على بعض الرجال خبالف ما حكم به غريه من األئمة ؛ بسبب بلوغه مرتبة االجتهاد‪.‬‬
‫التعريف مبستدرك احلاكم على الصحيحني ‪:‬‬
‫‪ -1‬سبب تأليفه للمستدرك ‪:‬‬
‫ذكر احلاكم يف مقدمة املستدرك السبب الدافع له على تأليفه هلذا الكتاب ‪ ،‬وميكن أن جنمل ذلك فيما يلي ‪:‬‬
‫أ‪ -‬أن البخ اري ومس لماً ص نفا يف الص حيح كت ابني مه ذبني ‪ ،‬ولكنهما مل حيكمها وال أحد منهما بأنه مل يصح من احلديث‬
‫غري ما أخرجاه ‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫أي كأنه يق ول ‪ :‬أنا ميكن أن أؤلف كتاب اً يف الص حيح زائ داً على ما بالص حيحني ؛ ألن البخ اري ومس لماً مل ي دعيا حصر‬
‫احلديث الصحيح فيما أخرجاه ‪.‬‬
‫ب‪ -‬أنه ظهر يف عصره مجاعة من املبتدعة يشمتون برواة اآلثار ويدعون أن مجيع ما يصح من احلديث ال يبلغ عشرة آالف‬
‫حديث اليت هي جمموع أحاديث الصحيحني تقريباً ‪.‬‬
‫فأحل عليه أهل العلم يف عصره للرد على هؤالء املتبدعة ؛ ألهنم يرون للحاكم مكانة عظيمة يف نفوسهم ‪ ،‬ومشهود له بقوة‬
‫احلافظة وباإلتقان ومبعرفة علم احلديث بشكل تدل عليه عبارات العلماء الذين أطروه وأثنوا عليه ‪.‬‬
‫ولعل من األمثلة الطريفة يف ه ذا أن أبا الفضل اهلم ذاين ق دم نيس ابور وك ان آية يف احلف ظ‪ ،‬وك ان يفتخر على الن اس حبفظه‬
‫ه ذا ‪ ،‬فك ان حيفظ القص يدة اليت من مائة بيت من أول ما تلقى عليه ‪ ،‬فك ان يه زأ بأهل احلديث ويق ول ‪ :‬ما ه ذه الكتب ما دمت‬
‫أحفظ القصيدة اليت هبذا الطول من خالل إلقائها على مرة واحدة ‪ ،‬فأنتم بادعائكم احلفظ واإلتقان ال تبلغون شأين وال تقاربوين‪.‬‬
‫فبلغ ذلك احلاكم ف ألقى إليه ج زءاً ح ديثاً وق ال ‪ :‬أنا ال أريد منك أن حتفظه من أول م رة ‪ ،‬بل أمهلك أس بوعاً لتحفظ ه ذا‬
‫اجلزء ‪ ،‬مث بعد ذلك نرى ما تصنع ‪.‬‬
‫وبعد أسبوع جاء هذا الرجل ورمى هذا اجلزء احلديثي على احلاكم ‪ ،‬وقال ‪ :‬ما هذا؟ فالن عن فالن ‪ ،‬وفالن قال ‪ :‬حدثنا‬
‫فالن ‪ .‬وكأنه قال ‪ :‬إهنا رقية ‪ ،‬أو ما إىل ذلك ‪.‬‬
‫فقال له احلاكم ‪ :‬فاعرف قدرك ‪ ،‬فهذه األبيات اليت حتفظها كل واحد يستطيع أن حيفظها ‪ ،‬ولكن هذا هو الذي يدل على‬
‫قوة احلفظ واإلتقان ‪.‬‬
‫جـ‪ -‬أن مجاعة من أعي ان أهل العلم بنيس ابور س ألوه أن جيمع كتاب اً يش تمل على أح اديث مروية بأس انيد حيتج البخ اري‬
‫ومسلم مبثلها ‪.‬‬
‫فهذه األسباب الثالثة مبجموعها اليت دفعت احلاكم – رمحه اهلل – تعاىل إىل تأليف كتابه "املستدرك" ‪.‬‬
‫‪ -2‬موضوع كتاب املستدرك ‪:‬‬
‫الكتاب يذكر بعض األحاديث مرتبة على ترتيب اجلوامع ؛ أي أنه يضم أحاديث األحكام وغري أحاديث األحكام ‪ ،‬ورتبه‬
‫على نفس ال رتتيب الفقهي املع روف عموم اً ‪ ،‬وي رى أهنا ص حيحة على ش رط الش يخني أو على ش رط أح دمها ‪ ،‬ومل خيرجاها يف‬
‫كتابيهما ‪ .‬وأحاديث أخرى يرى أهنا مستوفية للشروط العامة للصحة من اتصال السند وثقة الرواة وعدم الشذوذ وعدم العلة ‪.‬‬
‫ورمبا أورد يف كتابه بعض األح اديث اليت ال ي رى أهنا ص حيحة ‪ ،‬ولكنه أوردها لبعض االعتب ارات ‪ ،‬كاألح اديث الس تة اليت‬
‫أوردها يف البيوع وصرح خبروجها عن شرط الكتاب كما تقدم ‪.‬‬
‫‪ -3‬جممل منهج احلاكم يف املستدرك وبيانه لدرجة األحاديث وأنواعها عنده ‪:‬‬
‫مقصودة بشرط الشيخني أو أحدمها ‪:‬‬
‫اختلف العلم اء يف ُم راد احلاكم بش رط الش يخني أو أح دمها يف كت اب "املس تدرك" ‪ ،‬ومرجع ه ذا االختالف يع ود إىل فهم‬
‫كالمه يف مقدمة املس تدرك حيث ق ال ‪" :‬وقد س ألين مجاعة من أعي ان أهل العلم هبذه املدينة وغريها أن أمجع كتاب اً يش تمل على‬
‫األحاديث املروية بأسانيد حيتج حممد بن إمساعيل ومسلم بن احلجاج مبثلها" ‪.‬‬
‫مث قال بعد ذلك ‪" :‬وإنا أستعني باهلل على إخراج أحاديث رواهتا ثقات قد احتج مبثلها الشيخان أو أحدمها ‪ ،‬وهذا هو شرط‬
‫الص حيح عند كافة فقه اء أهل اإلس الم ‪ :‬أن الزي ادة يف األس انيد واملت ون من الثق ات مقبولة ‪ ،‬واهلل املعني على ما قص دته وهو حسيب‬
‫ونعم الوكيل" ‪.‬‬
‫فقول احلاكم يف املوضعني ‪" :‬مبثلها" اختلف العلماء يف مراده هبا ‪:‬‬

‫‪83‬‬
‫فمنهم من قال ‪ :‬إن املقصود مبراده باملثلية ‪ :‬هو نفس الرواة الذين أخرج هلم الشيخان أو أحدمها ‪ ،‬ويعرب عن ذلك بأنه أراد‬
‫املثلية احلرفية ‪.‬‬
‫قال النووي ‪" :‬إن املراد بقوهلم ‪ :‬على شرطهما ‪ :‬أن يكون رجال إسناده يف كتابيهما؛ ألنه ليس هلما شرط يف كتابيهما" ‪.‬‬
‫وقال العراقي ‪" :‬وهذا الكالم قد أخذه من ابن الصالح حيث قال يف شأن املستدرك ‪ :‬أودعه ما رآه على شرط الشيخني قد‬
‫أخرج عن رواته يف كتابيهما" ‪.‬‬
‫وقال العراقي أيض اً ‪" :‬وعلى هذا عمل ابن دقيق العيد ‪ ،‬فإنه ينقل عن احلاكم تصحيحه حلديث على شرط البخاري مثالً ‪،‬‬
‫مث يعرتض عليه ألن فيه فالناً ومل خيرج له البخاري ‪ ،‬وكذلك فعل الذهيب يف تلخيص املستدرك " ‪.‬‬
‫ومن أمثلة املثلية احلرفية قول احلاكم ‪ :‬أخربنا أبو حممد عبد اهلل بن حممد بن إسحاق اخلزاعي مبكة ‪ ،‬قال ‪ :‬حدثنا عبد اهلل بن‬
‫حممد بن أيب مسرة ‪ ،‬قال ‪ :‬حدثنا عبد اهلل بن يزيد املقرئ‪ ،‬قال ‪ :‬حدثنا سعيد بن أيب أيوب ‪ ،‬قال ‪ :‬حدثين ابن عجالن عن القعقاع‬
‫بن حكيم ‪ ،‬عن أيب صاحل ‪ ،‬عن أيب هريرة ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬أكمل املؤمنني إمياناً أحسنهم خلقاً"(‪. )107‬‬
‫فلو فرض نا أن احلاكم ق ال ‪ :‬إن ه ذا احلديث ص حيح على ش رط الش يخني – مع العلم أنه مل يص ححه على ش رط الش يخني‬
‫‪ -‬؛ فمقصوده باملثلية احلرفية أن يكون أبو صاحل الراوي عن الصحايب قد أخرج له الشيخان يف صحيحيهما ‪ ،‬وأن يكون الراوي عنه‬
‫ك ذلك – القعق اع بن حكيم – أخ رج له الش يخان ‪ ،‬وك ذلك ابن عجالن يك ون أخ رج له الش يخان ‪ ،‬وس يعد بن أيب أي وب يك ون‬
‫أخ رج له الش يخان ‪ ،‬وعبد اهلل بن يزيد املق رئ يك ون أخ رج له الش يخان ‪ ،‬ومن طبقة عبد اهلل بن يزيد املق رئ – كما س نذكر ‪، -‬‬
‫هؤالء هم الذين أخرج هلم الشيخان ‪ .‬أما من بعد ذلك فهم بعد البخاري ومسلم ؛ فهؤالء ال يشملهم احلكم ‪.‬‬
‫على كل حال ‪ :‬يكون احلكم من هذه الطبقة من الطبقة الثالثة ؛ ألن أبا حممد عبد اهلل بن حممد هذا شيخ احلاكم ‪ ،‬وابن أيب‬
‫مس رة ش يخ ش يخه ‪ ،‬وهات ان الطبقت ان مس تثنيتان عند احلاكم ‪ ،‬لكن من بع دمها هم ال ذين يش ملهم احلكم ‪ ،‬فالبد أن يك ون ه ؤالء‬
‫الرجال كلهم قد أخرج هلم البخاري ومسلم أنفسهم ‪ ،‬فهذه هي املثلية احلرفية ‪.‬‬
‫ومنهم من ق ال ‪ " :‬بل املراد باملثلية ‪ :‬املثلية اجملازية ‪ ،‬ويعن ون هبا أن املقص ود وصف ال رواة ال ذين احتج هبم الش يخان أو‬
‫أح دمها ‪ ،‬وه ذا يعين أن احلاكم خيرج ل رواة مل ي رو هلم الش يخان أو أح دمها ‪ ،‬ولكنهم موص وفون بتوثيق مياثل يف درجته درجة من‬
‫أخرج هلم الشيخان "‪.‬‬
‫وقد ق ال الع راقي رداً على ابن الص التح وابن دقيق العيد وال ذهيب يف ق وهلم الس ابق ‪" :‬وليس ذلك منهم جبيد ؛ ف إن احلاكم‬
‫صرح يف خطبة املستدرك خبالف ما فهموه عنه ‪ ،‬فقال ‪":‬وأنا أستعني اهلل تعاىل على إخراجي أحاديث رواهتا ثقات ‪ ،‬قد احتج مبثلها‬
‫الش يخان أو أح دمها"‪ .‬فقوله ‪" :‬مبثله ا" أي مبثل رواهتا ال مبهم أنفس هم ‪ ،‬وحيتمل أن ي راد مبثل تلك األح اديث‪ ،‬وإمنا تك ون مثلها إذا‬
‫كانت بنفس رواهتا ‪ ،‬وفيه نظر "‪.‬‬
‫ومن هنا نفهم أن الع راقي يرجع أن م راد احلاكم أوص اف رواة الش يخني أو أح دمها ال نفس ال رواة ‪ ،‬وعلى رأي الع راقي‬
‫يكون احلاكم قد أص اب يف مجلة كب رية من األح اديث ما دام ال راوي ليس مض عفاً وال متكلم اً فيه ‪ ،‬بل هو ثقة ‪ ،‬فال يضر حىت لو مل‬
‫خيرج له الشيخان ‪ ،‬ويعترب هذا احلديث على شرط الشيخني ‪.‬‬
‫وقد عارض احلافظ ابن حجر شيخه العراقي يف هذا ‪ ،‬وقرر أن احلاكم يف تصرفه يف "املستدرك" يريد نفس الرواة ‪.‬‬
‫فق ال ابن حجر ‪" :‬ولكن تص رف احلاكم يق وي أحد االحتم الني ال ذين ذكرمها ش يخنا –رمحه اهلل‪ ، -‬فإنه إذا ك ان عن ده‬
‫احلديث قد أخرجا أو أحدمها لرواته – قال ‪ :‬صحيح على شرط الشيخني أو على شرط أحدمها ‪ .‬وإذا كان بعض رواته مل خيرجا له‬
‫– قال ‪ :‬صحيح اإلسناد فحسب" ‪.‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه مسلم (‪ )2604‬عن ابن عباس ‪.‬‬ ‫‪107‬‬

‫‪84‬‬
‫وق ال ابن حجر أيض اً ‪" :‬ويضح ذلك قوله يف ب اب التوبة ملا أورد ح ديث أيب عثم ان عن أيب هري رة – رضي اهلل عنه –‬
‫مرفوعاً ‪" :‬ال تنزع الرمحة إال من شقي"(‪ ، )108‬قال ‪ :‬هذا حديث صحيح ‪ ،‬وأبو عثمان هذا ليس هو النهدي ‪ ،‬ولو كان هو النهدي‬
‫حلكمت باحلديث على شرط الشيخني " ‪.‬‬
‫فدل هذا على أنه إذا مل خيرج البخاري ومسلم ألحد رواة احلديث فال حيكم به على شرطهما ‪ ،‬وهو عني ما ادعى ابن دقيق‬
‫العيد وغريه ‪.‬‬
‫وقد قال أيضاً ‪" :‬إن املراد بشرطهما ‪ :‬رواهتما مع باقي شروط الصحة " ‪.‬‬
‫ولكن ابن حجر وجد أيضاً أن هناك أحاديث متعددة يف "املستدرك" قرر احلاكم تصحيحها على شرط الشيخني أو أحدمها‬
‫‪ .‬ويف رواهتا من مل خيرج له الش يخان أو أح دمها ‪ ،‬فلم يس عه إال أن حيمل ذلك على الس هو والنس يان من احلاكم ؛ حيث ق ال ‪" :‬وإن‬
‫ك ان احلاكم يغفل عن ه ذا يف بعض األحي ان ‪ ،‬فيص حح على ش رطهما بعض م امل خيرجا لبعض رواته ‪ ،‬فيحمل ذلك على الس هو‬
‫والنسيان ‪ ،‬ويتوجه به حينئذ عليه االعرتاض" ‪.‬‬
‫مث إن ابن حجر اس تدل على ذلك ب دليل ق وي ج داً حيث ق ال فيما معن اه ‪" :‬إن مما يؤيد أن احلاكم أراد نفس ال رواة وليس‬
‫من مياثلهم – أننا جنده أحيان اً يقول ‪ :‬هذا حديث صحيح على شرط البخاري ومل خيرجاه فلو أراد املثلية اجملازية لقال ‪ :‬على شرط‬
‫الشيخني ؛ ألن شرط البخاري أقوى من شرط مسلم ‪ ،‬وشرط مسلم داخل فيه ‪ ،‬ولكنه مل وجد يف بعض رجال اإلسناد من أخرج له‬
‫البخاري ومل خيرج له مسلم صححه على شرط البخاري ؛ ألنه يرى أن احلاكم منصب على نفس الرواة " ‪.‬‬

‫(‪ )1‬انظر ‪ :‬المستدرك (‪ ، )3/160‬والكالم عليه في مختصر المستدرك (‪. )601‬‬ ‫‪108‬‬

‫‪85‬‬
‫أقسام احلديث يف مستدرك أيب عبد اهلل احلاكم‬
‫القسم األول ‪:‬‬
‫أحاديث أخرجها احلاكم بأسانيد احتاج البخاري ومسلم برواهتا يف صحيحهما ‪ ،‬وهذا هو الذي يقول عنه احلاكم ‪" :‬إنه‬
‫على شرط الشيخني" ويكون احلاكم قد أصاب يف حكمه‪.‬‬
‫القسم الثاين ‪:‬‬
‫أح اديث أخرجها احلاكم ‪ ،‬وحكم عليها بأهنا ص حيحة على ش رط البخ اري ‪ ،‬وبعد البحث جند أن رواة ه ذا اإلس ناد ممن‬
‫احتج هبم البخاري ؛ فيكون احلاكم قد أصاب يف حكمه أيضاً ‪.‬‬
‫القسم الثالث ‪:‬‬
‫ال ذي ق ول فيه احلاكم ‪ " :‬ص حيح على ش رط مس لم " ‪ ،‬وبعد البحث والنظر يف رواته جند أن س نده ص حيح على ش رط‬
‫مسلم قد احتاج مسلم جبميع رواته ؛ فيكون احلاكم هنا قد أصاب يف حكمه أيضاً‪.‬‬
‫القسم الرابع ‪:‬‬
‫أحاديث خيرجها احلاكم وحيكم عليها بالصحة على شرط الشيخني ‪ ،‬وجند أن بعض رواهتا مل خيرج هلم الشيخان احتجاج اً‬
‫‪ ،‬وإمنا أخرجا هلم يف الشواهد واملتابعات واملعلقات ؛ فيكون احلاكم قد أخطأ يف حكمه على هذه األحاديث ‪.‬‬
‫القسم اخلامس ‪:‬‬
‫أحاديث خيرجها احلاكم ويصححها على شرط البخاري ‪ ،‬فنجد يف رواهتا مل خيرج هلم البخاري احتجاجاً ‪ ،‬وإمنا أخرج هلم‬
‫يف الشواهد واملتابعات ؛ فيكون قد أخطأ يف حكمه على هذه األحاديث أيضاً ‪.‬‬
‫القسم السادس ‪:‬‬
‫أحاديث خيرجها احلاكم ويصححها على شرط مسلم ‪ ،‬فنجد يف رواهتا من مل حيتج هبم مسلم ‪ ،‬وإمنا أخرج هلم يف الشواهد‬
‫واملتابعات ‪ .‬ويكون قد أخطأ كذلك يف حكمه على هذه األحاديث ‪.‬‬
‫القسم السابع‪:‬‬
‫أح اديث خيرجها احلاكم ويص ححها على ش رط الش يخني ‪ ،‬وبعد النظر يف أس انيدها جند الش يخني مل خيرجا لرواهتا على‬
‫صورة االجتماع ‪.‬‬
‫ك أن يك ون احلديث من رواية هش يم بن بشري عن الزه ري ‪ ،‬فكل من الزه ري وهش يم قد أخ رج هلما البخ اري ومس لم ‪،‬‬
‫ولكنهما مل خيرجا هلما هبذه الصورة – أي من رواية هشيم عن الزهري‪. -‬‬
‫والس بب يف ذلك أن رواية هش يم عن الزه ري ض عيفة ؛ فيك ون البخ اري ومس لم قد أخرجا للزه ري لكن من رواية غري‬
‫هشيم عنه ‪ ،‬وأخرجا كذلك هلشيم لكن من روايته عن غري الزهري ‪ .‬وهذا هو املقصود بصورة االجتماع أي أن يكون الراوي قد‬
‫أخذ عن ش يخه عند البخ اري ومس لم ‪ ،‬فيك ون احلاكم هنا قد أخطأ ؛ ألن الش يخني مل خيرجا هلؤالء ال رواة هبذه الص ورة عند احلاكم‬
‫يف املستدرك ‪.‬‬
‫القسم الثامن ‪:‬‬
‫أح اديث يص ححها احلاكم على ش رط البخ اري ن وبعد النظر يف أس انيدها جند أن البخ اري قد أخ رج لرواهتا حمتج اً هبم ‪،‬‬
‫لكن ليس بصورة االجتماع هذه اليت أخرجها احلاكم‪.‬‬
‫ك أن ي روي داود حصني ح ديثاً عن عكرمة ‪ ،‬ف إن كالً من عكرمة وداود بن حصني قد أخ رج هلما البخ اري ‪ ،‬ولكنه مل‬
‫خيرج هلما هبذه الصورة ‪ ،‬وإمنا أخرج لعكرمة من رواية غري داود غري داود عنه ‪ ،‬وأخرج لداود من روايته عن غري عكرمة ‪ .‬والسبب‬
‫يف ذلك أن رواية داود بن احلصني عن عكرمة رواية منكرة ‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫القسم التاسع ‪:‬‬
‫أن خيرج احلاكم حديثاً ويصححه على شرط مسلم ‪ ،‬وبعد النظر يف سنده جند مسلماً قد أخرج جلميع رواته ‪ ،‬ولكن ليس‬
‫على صورة االجتماع ‪ ،‬وإمنا أخرج هلم بغري هذه الصورة ‪.‬‬
‫ومثاله كاملثال السابق بالنسبة لشرط البخاري مع اختالف الرجال ‪.‬‬
‫ومثاله ‪ :‬أن ي روي احلاكم ح ديثاً من طريق محاد بن س لمة عن محيد الطويل ‪ .‬فكل من محاد بن س لمة ومحيد الطويل قد‬
‫احتج به مس لم ‪ ،‬ولكنه مل حيتج باإلس ناد على ه ذه الص ورة ‪ ،‬فإنه إمنا احتج حبم اد بن س لمة يف روايته عن ث ابت البن اين ‪ ،‬وأما روايته‬
‫عن غري ثابت فلم حيتج هبا مسلم ‪.‬‬
‫القسم العاشر ‪:‬‬
‫أن خيرج احلاكم أح اديث ويص ححها ‪ ،‬ولكن ليس على ش رط الش يخني وال أح دمها‪ ،‬وبعد النظر جند أن احلديث ص حيح‬
‫اإلسناد كما قال احلاكم – رمحه اهلل ‪. -‬‬
‫القسم احلادي عشر ‪:‬‬
‫أح اديث خيرجها احلاكم ويص ححها على ش رط الش يخني وي ذكر أهنما مل خيرجا تلك األح اديث ‪ ،‬وبعد النظر والبحث جند‬
‫الشيخني قد أخرجا تلك األحاديث يف صحيحيهما ‪ ،‬وأن احلاكم واهم يف حكمة ‪.‬‬
‫القسم الثاين عشر ‪:‬‬
‫أح اديث خيرجها احلاكم ويص ححها على ش رط البخ اري ‪ ،‬وي ذكر أنه مل خيرج تلك األح اديث ‪ ،‬وبعد النظر والبحث جند‬
‫البخاري قد أخرج تلك األحاديث ‪.‬‬
‫القسم الثالث عشر ‪:‬‬
‫أح اديث يص ححها احلاكم على ش رط مس لم ‪ ،‬وي ذكر أنه مل خيرجها ‪ ،‬وبعد النظر والبحث جند مس لماً قد أخ رج تلك‬
‫األحاديث ‪.‬‬
‫القسم الرابع عشر ‪:‬‬
‫أح اديث خيرجها احلاكم وي ذكر أهنا ص حيحة على ش رط الش يخني أو أح دمها ‪ ،‬وبعد البحث جند يف رواهتا من مل خيرج له‬
‫الشيخان وال أحدمها ‪.‬‬
‫القسم اخلامس عشر ‪:‬‬
‫أحاديث خيرجها احلاكم ويصححها على شرط الشيخني أو أحدمها أو يصححها فقط دون أن يذكر شرط الشيخني ‪ ،‬وبعد‬
‫البحث جند أهنا حسنة اإلسناد فقط ‪ .‬والسبب يف ذلك أن احلاكم – رمحه اهلل – ال يفرق بني الصحيح واحلسن ‪.‬‬
‫القسم السادس عشر ‪:‬‬
‫أح اديث خيرجها احلاكم ويص ححها على ش رط الش يخني أو أح دمها أو يص ححها فقط ‪ ،‬وجند ‪ ،‬أهنا ض عيفة اإلس ناد ‪،‬‬
‫ولكنها ارتقت إىل احلسن لغريه مبجموع طرقها ‪ ،‬سواء أخرج احلاكم تلك الطرق أو مل خيرجها ‪.‬‬
‫القسم السابع عشر ‪:‬‬
‫أحاديث خيرجها احلاكم ويصححها على شرط الشيخني أو أحدمها أو يصححها فقط وهي ضعيفة ‪ ،‬ليس هناك ما يشهد‬
‫هلا ‪.‬‬
‫القسم الثامن عشر ‪:‬‬
‫أحاديث خيرجها احلاكم ويصححها على شرط الشيخني أو أحدمها أو يصححها فقط‪ ،‬وهي شديدة الضعف ‪.‬‬
‫القسم التاسع عشر ‪:‬‬

‫‪87‬‬
‫أح اديث خيرجها احلاكم ويص ححها على ش رط الش يخني أو أح دمها أو يص ححها فق ط‪ ،‬وهي موض وعة ‪ ،‬ويف "املس تدرك"‬
‫من هذا الصنف حنو مائة حديث ‪ .‬وقد ذكر الذهيب يف "سري أعالم النبالء" أنه أفرادها يف مؤلف مجع فيه هذه األحاديث املائة ‪.‬‬
‫ما ألف حول املستدرك ‪:‬‬
‫هناك عدة مؤلفات من الكتب اليت ألفت حول مستدرك احلاكم ‪ ،‬ومن أمهها كتاب "التخليص" للذهيب ‪.‬‬
‫وهذا الكتاب ألفه الذهيب يف مقتبل عمره ‪ ،‬واستغرقت مدة تتأليفه ثالثة أشهر وأحد عشرة يوم اً ‪ ،‬وهي فرتة وجيزة بالنظر‬
‫إىل عدد أحاديث مستدرك احلاكم اليت تقرب من تسعة آالف ومخسمائة (‪ )9500‬حديث ‪.‬‬
‫منهج الذهيب يف كتابه " التخليص " ‪:‬‬
‫جند ال ذهيب يف " التخليص " حيذف بعض اإلس ناد وي ذكر بعضه ‪ ،‬وي ذكر املنت ‪ ،‬وقد خيتص ره أو يتص رف فيه أحيان اً ‪ ،‬مث‬
‫يذكر كالم احلاكم ‪ /‬فيتعقبه ‪ ،‬أو يقره ‪ ،‬وقد يسكب عنه‪.‬‬
‫منهج الذهيب يف كتابه " التخليص " ‪:‬‬
‫جند ال ذهيب يف " التخليص " حيذف بعض اإلس ناد وي ذكر بعضه ‪ ،‬وي ذكر املنت ‪ ،‬وقد خيتص ره أو يتص رف فهي أحيان اً ‪ ،‬مث‬
‫يذكر كالم احلاكم ‪ ،‬فيتعقبه ‪ ،‬أو يقره ‪ ،‬وقد يسكت عنه‪.‬‬
‫وعندما حيذف الذهيب بعض اإلسناد إمنا حيذف الرواة الذين ال كالم له فيهم ‪ ،‬ويبقي يف اإلسناد الرجل الذي يريد أن يتكلم‬
‫عنه ‪ ،‬أو على األقل الرجل الذي اختلفت فيه عبارات األئمة‪.‬‬
‫أوالً ‪ -‬باألمثلة اليت ذكرها يتضح منهج الذهيب ‪:‬‬
‫ف إذا ق ال احلاكم مثالً ‪ " :‬ه ذا ح ديث ص حيح على ش رط الش يخني ومل خيرج اه" ‪ ،‬ووجد ال ذهيب أن كالم احلاكم ص حيح‬
‫حكاه وذكره ومل يتعقبه بشيء ‪ .‬فيقول بعد االنتهاء من احلديث ‪" :‬خ‪-‬م" ‪ ،‬أي على شرط البخاري ومسلم ‪.‬‬
‫وإذا صححها احلاكم على شرط البخاري فقط ‪ ،‬ورأى الذهيب أن ذلك صواب قال ‪" :‬خ" ؛ أي على شرط البخاري ‪.‬‬
‫وإذا صححه احلاكم على شرط مسلم ‪ ،‬ورأى الذهيب أن ذلك صواب قال ‪" :‬م"؛ أي على شرط مسلم ‪.‬‬
‫وإذا صححها احلاكم فقط ‪ ،‬ومل يذكر أنه على شرط الشيخني أو أحدمها ‪ ،‬قال الذهيب ‪" :‬صحيح" ‪.‬‬
‫فهذه صور من أنواع موافقة الذهيب للحاكم على تصحيحه ‪.‬‬
‫ثانياً ‪ :‬وأما تعقب الذهيب للحاكم فهو على صور أيضاً ومنها ‪:‬‬
‫أن احلاكم قد يصحح احلديث على شرط الشيخني ‪.‬‬
‫فيقول الذهيب " قلت ‪ :‬خ" ‪.‬‬
‫فإذا جاء ي التخليص كلمة "قلت " فهي تعين تعقب الذهيب للحاكم ‪.‬‬
‫فإذا قال ‪ " :‬قلت ‪ :‬خ " ‪ ،‬أي ليس احلديث على شرط الشيخني ‪ ،‬وإمنا هو على شرط البخاري فقط ‪.‬‬
‫وإذا قال ‪ " :‬قلت ‪ :‬صحيح ‪ ، :‬فهو يعين أن احلديث ليس على شرط الشيخني وال أحدمها ‪ ،‬ولكنه صحيح فقط ‪.‬‬
‫وإذا ق ال ‪" :‬قلت ‪ :‬فيه فالن مل خيرجا له " ‪ ،‬فهو يعين أن احلديث ليس على ش رط الش يخني ؛ ألنه فيه فالن اً ومل خيرج له‬
‫الشيخان ‪.‬‬
‫ومثله إذا ق ال ‪ " :‬فيه فالن مل خيرج له البخ اري " أو مس لم " ‪ ،‬ومثله إذا ق ال احلاكم ‪" :‬ص حيح على ش رط البخ اري" أو‬
‫"على شرط مسلم" ‪.‬‬
‫وتعقبه الذهيب بأحد هذه التعقبات ‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫وقد يك ون تعقب ال ذهيب ب النص على الش يخني أو أح دمها قد أخرجا احلديث ‪ ، ،‬ف إذا ق ال احلاكم ‪" :‬ه ذا ح ديث ص حيح‬
‫على ش رط الش يخني ومل خيرج اه" ‪ ،‬وك ان قد أخرجه الش يخان‪ ،‬جند ال ذهيب يف "التلخيص" حيكي كالم احلاكم فيق ول ‪" :‬خ‪-‬م" ‪ ،‬مث‬
‫يقول ‪" :‬قلت ‪ :‬قد أخرجاه" ‪ ،‬أو أخرجه "خ" أي البخاري ‪ ،‬أو أخرجه "م" أي مسلم ‪.‬‬
‫وقد يكون تعقب الذهيب للحكم بتضعيف احلديث ‪ ،‬فيحكم احلاكم على احلديث بالص حة على ش رط الش يخني أو أح دمها‬
‫أو بالصحة فقط ‪ ،‬مث يقول الذهيب ‪" :‬فيه فالن وهو ضعيف" أو "وهو واه" أو "له مناكري" ‪ ،‬أو حيكي الذهيب كالم العلماء فيه فيقول‬
‫مثالً‪:‬‬
‫" فيه فالن ‪ ،‬ضعفه أبو حامت ‪ ،‬وقال النسائي ‪ :‬ليس بثقة" ‪.‬‬
‫وقد يك ون تض عيفه للح ديث بس بب انقط اع يف س نده ‪ ،‬فيق ول ‪" :‬قلت ‪ :‬مرس ل" ‪ ،‬وهو يعين ب ذلك – يف الغ الب – أن‬
‫التابعي مل يسمع من ذلك الصحايب الذي روى احلديث ‪ .‬فهذا بالنسبة لبعض صورة تعقب الذهيب ‪.‬‬
‫ثالثاً‪ -‬وأما سكوت الذهيب ‪:‬‬
‫فهو قليل يف "املستدرك " ‪ ،‬وصورته أن يرتك كالم احلاكم ؛ فال يذكره وال يتعقبه بشيء ‪ ، :‬وإمنا يذكر احلديث فقط ‪ .‬وهكذا يكون‬
‫سكوت الذهيب ‪.‬‬
‫أوهام الذهيب يف التلخيص ‪:‬‬
‫ومما ينبغي لنا أن نعلمه أن ال ذهيب قد وقع يف أوه ام كث رية يف "التخليص" ‪ ،‬ومنها يف موافقاته للح اكم ‪ ،‬وأحيان اً يف كالمه‬
‫على بعض الرواة ‪ ،‬وعُذره يف ذلك أنه ألفه يف مقتبل العمر‪ .‬ومعلوم بأن صغري السن مل ينضج علمياً ‪ ،‬ويتضح هذا يف اختالف رأيه يف‬
‫بعض املسائل ويف بعض الرجال بني كتابه "التخليص" وبني كتبه املتأخرة كـ " ميزان االعتدال" ‪.‬‬
‫وقد اعرتف الذهيب يف ترمجة احلاكم يف " سري أعالم النبالء" بأن عمله هذا حيتاج إىل إعادة نظر وحترير ‪.‬‬
‫تعقب اإلمام الذهيب للحاكم ‪:‬‬
‫وأحيان اً قد يعلق احلاكم احلديث عن رواه مش هور مثل ش عبة بن احلج اج ؛ والس بب أنه ي رى أن ه ذا ال راوي هو خمرج‬
‫احلديث ‪.‬‬
‫فحينما يكون له على اإلسناد كالم يعلق احلديث على الراوي الذي تدور عليه أسانيد احلديث مثل قوله ‪ :‬شعبة عن أيب بلج حيي مسع‬
‫عمرو بن ميمون األزدي ‪ ..‬إخل ‪.‬‬
‫والبد أن ي ربز ال راوي ال ذي يريد أن يتكلم فيه ‪ ،‬مثل قوله ‪ :‬ش عبة عن أيب بلج ق ال ‪" :‬م"؛ أي أن احلاكم ص ححها على‬
‫شرط مسلم ‪ ،‬قال احلاكم ‪ " :‬هذا حديث صحيح مل خيرج يف الصحيحني ‪ ،‬وهو على شرط مسلم بن احلجاج" ‪.‬‬
‫وطريقة الذهيب أن خيتصر هذا الكالم كله ‪ ،‬فبدالً من أن يقول ‪" :‬قال احلاكم ‪ :‬هذا حديث صحيح على شرط مسلم ومل‬
‫خيرجاه" ‪ ،‬بدالً من ذل حيذف كل هذا الكالم ويعرب برمز صغري فقط هو "م" ‪ ،‬ومعناه أن احلاكم صححها على شرط مسلم ‪.‬‬
‫وعندما قال ‪" :‬م" قال ‪ :‬قلت ‪ :‬احتج "م" بأيب بلج ‪ .‬قلت –أي الذهيب‪ : -‬ال حيتج به ‪ ،‬ووثق ‪ ،‬وقال البخاري ‪ :‬فيه نظر ‪.‬‬
‫أي أن ال ذهيب تعقب احلاكم على ه ذا احلديث ‪ ،‬فقد رأى احلاكم أن مس لماً احتج ب أيب بلج ه ذا ‪ ،‬وتعقبه ال ذهيب بقوله ‪:‬‬
‫"قلت ‪ :‬ال حيتج به ‪ ،‬وقد وثق" ‪ ،‬أي يتهم من وثقه ويتهم من ضعفه ‪.‬‬
‫فالذهيب إما أن يقر احلاكم أن يتعقبه ؛ فإذا تعقبه فإمنا يتعقبه بتصحيح أو بتضعيف أو بيان أمر من األمور ‪.‬‬
‫فإذاقال احلاكم ‪ :‬هذا صحيح على شرط البخاري ‪ ،‬وحكى الذهيب كالم احلاكم مث تركه ومل يعلق عليه ‪ ،‬قيل ‪ :‬إن الذهيب‬
‫أقر احلاكم على تص حيحها هلذا احلديث ‪ ،‬وذلك مثل ق ول ال ذهيب ‪" :‬ي ونس عن ابن ش هاب عن ابن املس يب أن أبا بكر ملا بعث‬
‫اجليوش حنو الشام مشى معهم حىت بلغ ثنية الوداع ‪ ،‬قالوا ‪ :‬يا خليفة رسول اهلل متشي وحنن ر ُكب "خ‪-‬م"‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫ويقصد ال ذهيب بـ "خ – م" أن ه ذا كالم احلاكم ؛ أي أن احلاكم ص ححه على ش رط البخ اري ومس لم ‪ ،‬فيختصر ال ذهيب‬
‫كل هذا الكالم بقوله بني قوسني ‪" :‬خ‪-‬م" ‪.‬‬
‫وإذا مل يتعقب الذهيب احلاكم فيقال ‪ :‬إن الذهيب قد وافق احلاكم ‪.‬‬
‫أما إذا تعقبه ‪ ،‬ك أن يك ون احلاكم قد ق ال على احلديث ‪" :‬إنه ص حيح على ش رط "البخ اري ومس لم" ‪ ،‬فيق ول ال ذهيب ‪:‬‬
‫"مرسل" ‪.‬‬
‫أي ليس احلديث على شرط البخاري ومسلم ‪ ،‬فهذا احلديث ضعيف ؛ ألنه مرسل‪.‬‬
‫وقد أخرج احلاكم حديث "أكمل املؤمنني إميان اً أحسنهم خلق اً"(‪ .)109‬ومل يصححه على شرط البخاري ومسلم ‪ ،‬وال على‬
‫ش رط واحد منهما ‪ ،‬وإمنا س كت عنه ‪ ،‬فق ال ال ذهيب ‪" :‬قلت ‪ :‬مل يتكلم عليه املؤلف ‪ ،‬وإمنا س كت عنه وهو ص حيح ‪ ،‬ل ذلك مل أره‬
‫يتكلم على أحاديث مجة بعضها جيد ‪ ،‬وبعضها ٍ‬
‫واه ‪ ...‬إخل" ‪ ،‬فقد تعقب الذهيب احلاكم يف هذا احلديث بالتصحيح‪.‬‬
‫ومن أمثلة ذلك أيضاً حديث عاصم عن زر بن حبيش قال(‪: )110‬‬
‫" خ رجت مع أهل املدينة يف يوم عيد ‪ ،‬ف رأيت عمر بن اخلط اب ميشي حافي اً ش يخاً أصلع آدم أعسر أيسر ‪ ،‬ط واالً مش رفاً‬
‫على الن اس كأنه على دابة ب ربد قط ري يق ول ‪ :‬عب اد اهلل ‪ ،‬ه اجروا وال هتج روا ‪ ،‬وليتق أح دكم األرنب خيذفها باحلصى أو يرميها‬
‫باحلجر فأكلها ‪ ،‬ولكن ليذك لكم األسل والرماح والنيل" ‪.‬‬
‫فقد أخرج احلاكم هذا احلديث وسكت عنه ‪ ،‬فتعقبه الذهيب بقوله ‪" :‬قلت " صحيح"‪.‬‬
‫فإذا أورد الذهيب كالم احلاكم خمتصراً ومل يذكر بعده ‪" :‬قلت" ‪ ،‬وال ذكر كالماً‪ ،‬فهذا يعين أنه يوافق احلاكم ‪.‬‬
‫وإذا قال ‪" :‬قلت" ‪ ،‬فهذا يعين أن تعقب احلاكم ‪.‬‬
‫الكالم على ما سكت عليه الذهيب وتوضيح اإلشكال يف ذلك ‪:‬‬
‫وأما إذا مل يذكر شيئاً ‪ ،‬ال كالم احلاكم وال شيئاً من قبل نفسه ؛ فهذه هو الذي يُقال عليه "سكوت الذهيب" ‪.‬‬
‫ومن ذلك ح ديث زي اد بن لبيد األنص اري ق ال ‪ :‬أتيت النيب ص لى اهلل عليه وسلم وهو حُي دث أص حابه ‪ ،‬وهو يق ول ‪ " :‬قد‬
‫ذهب أوان العلم" قلت ‪ :‬ب أيب وأمي ‪ ،‬وكيف ي ذهب أوان العلم وحنن نق رأ الق رآن ونعلمه أبناءنا ويعلمه أبناؤنا أبن اؤهم إىل أن تق وم‬
‫الساعة ؟ فقال ‪" :‬ثكلتك أمك يا ابن لبيد ‪ ،‬إن كنت ألراك من أفقه أهل املدينة ‪ ،‬وليس اليهودي والنصارى يقرءون التوراة واإلجنيل‬
‫وال ينتفعون منهما شيء؟! ‪.‬‬
‫قال احلاكم ‪ :‬هذا حديث على شرط الشيخني ومل خيرجاه"(‪. )111‬‬
‫ومل يذكر الذهيب كالم احلاكم يف اهلامشي ‪ ،‬ومل يعلق عليه ‪ .‬فمثل هذا يقال عنه ‪ :‬سكت الذهيب عنه ‪.‬‬
‫وهذه املسألة من املسائل اليت خُي طئ فيها كثري من طالب العلم يف هذا الزمان ‪ .‬وأقول ‪ :‬يف هذا الزمان ؛ ألهنا مل تكن واردة‬
‫من قبل ‪.‬‬
‫فبعض طلبة العلم يف احلديث – وبعضهم كتب هذا يف بعض املؤلفات – يقول ‪:‬‬
‫ال تق ول ‪ :‬إن ال ذهيب يُوافق احلاكم ‪ ،‬فه ذا الكالم غري ص حيح ؛ ألن ال ذهيب ال مُي كن أن خيفى عليه مثل ه ذا الكالم ‪ ،‬وحنن‬
‫جند أن الذهيب إمنا حيكي كالم احلاكم فقط ‪ ،‬فكيف تقولون إنه أقر احلاكم ؟‬

‫(‪ )1‬انظر ‪ :‬المستدرك (‪. )3/8‬‬ ‫‪109‬‬

‫(‪ )1‬انظر ‪ :‬المستدرك (‪ ، )3/160‬والكالم عليه في مختصر المستدرك (‪. )601‬‬ ‫‪110‬‬

‫(‪ )1‬انظر ‪ :‬المستدرك (‪ ، )3/590‬وهو عند الترمذي (‪ ، )2653‬وابن ماجه (‪ ، )4048‬وأحمد (‪، )219 ، 4/160‬‬ ‫‪111‬‬

‫وغيرهم ‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫وللج واب على ذلك نق ول ‪ :‬ختتلف أح وال ال ذهيب مع احلاكم ؛ فال ذهيب أحيان اً يتعقب احلاكم ‪ ،‬وقد أوردت بعض أمثلة‬
‫التعقب ‪ ،‬وأحيان اً حيكي كالم حكم فقط ‪ ،‬ف إذا حك اه يق ال له ‪ :‬إق رار وموافقة ‪ ،‬وقد بينت مثاله ‪ ،‬وأما أنه ال ي ذكر كالم احلاكم‬
‫إطالقاً وال يتعقبه بشيء ‪ ،‬فإن هذا سكون ‪ .‬فهي إذن ثالثة أحوال ‪ :‬تعقب ‪ ،‬وإقرار ‪ ،‬وسكوت ‪.‬‬
‫جند أن الذهيب سكت عن حديث عمارة بن حزم قال ‪ :‬رآين رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على قرب ‪ ،‬فقال ‪" :‬أنزل من‬
‫القرب ؛ ال تؤذي صاحبه وال يؤذيك "(‪. )112‬‬
‫فهذا احلديث سكت عنه احلاكم وسكت عنه الذهيب أيض اً ‪ ،‬ولكن الذهيب حينما سكت عنه ‪ ،‬مل يسكت عنه فيما يظهر ‪،‬‬
‫ألنه ال حيوره(‪ )113‬فيه الكالم ‪ ،‬بل إنه علق احلديث عن ابن هليعة ‪ ،‬وكأنه يشر إىل من يقف على احلديث إين أب رزت لك ابن هليعة‬
‫فاعرف أنه هو الذي يعترب علة هذا احلديث ‪.‬‬
‫فأحياناً قد يصنع الذهيب هذا الصنيع ‪ ،‬ويشر للعلة جمرد إشارة بطريقة تعليقه للحديث هبذه الصورة ‪ ،‬وأحياناً ال يصنع هذا ‪.‬‬
‫وبعض طلبة العلم الذين أشرت إليهم ‪ ،‬وبعض املؤلفني يرون ‪ ،‬أننا حني نقول عن حديث من األحاديث ‪ :‬إن الذهيب وافق‬
‫احلاكم وأقره عليه ‪ ،‬كأن يقول احلاكم ‪" :‬هذا حديث صحيح على شرط الشيخني ‪ ،‬ومل خيرجاه" ‪ ،‬فيذكر الذهيب هذا احلديث يف‬
‫"التخليص" ويقول ‪" :‬خ‪،‬م"‪ ،‬أي أن احلاكم قال ‪ :‬على شرط البخاري ومسلم ‪ ،‬مث ال يتعقبه بشيء – هم يقولون حينذاك ‪ :‬ال جيوز‬
‫لكم أن تقولوا ‪ :‬إن الذهيب وافق احلاكم ‪ .‬وحنن نقول ‪ :‬إن الذهيب وافق احلاكم يف هذه احلالة ‪.‬‬
‫ومنشأ ال نزاع أهنم يقول ون ‪ :‬ال ذهيب مل يص رح مبوافقة احلاكم ‪ ،‬فهو مل يقل ‪ :‬أص اب احلاكم ‪ ،‬أو ‪ :‬إنين أوافق احلاكم ‪ ،‬ومل‬
‫ينص يف املقدمة على إنين إذا قلت كذا فأنا موافق للحاكم‪ ،‬فكيف تنسبون للذهيب ما مل يقله ؟! ‪.‬‬
‫نقول هلم ‪ :‬أوالً عرف دائماً أن اإلنسان حني حيكي كالم عامل من العلماء فيم قام من املقامات وال ينتقده وال يتعقبه بشيء‬
‫هو مقر له ‪.‬‬
‫ومثاله ‪ :‬لو أن أح دكم س ألين يف مس ألة من املس ائل ‪ ،‬ولتكن مس ألة الطالق ثالث اً ‪ ،‬فق ال يل ‪ :‬ما تق ول يف الطالق ثالث اً ؟‬
‫فقلت له ‪ :‬الشيخ عبد العزيز بن باز يرى أنه يقع واحدة ‪.‬‬
‫فأنا حينما أذكر كالم الش يخ ابن ب از وال أتعقبه بش يء يك ون مقص ودي موافقته على مثل ه ذا ‪ ،‬ولو مل يكن األمر ك ذلك‬
‫لقلت ‪ :‬الشيخ عبد العزيز يرى كذا ‪ ،‬وأنا أرى كذا ‪ ،‬هذا من الناحية اللغوية والناحية املنهجية عند العلماء ‪.‬‬
‫مث إننا إذا نظرنا لص نيع األئمة من قبل ال ذهيب حىت ه ذا العصر ال ذي خ رج فيه ‪ ،‬ف إذا بنا جند أن أح داً منهم مل خيالف ه ذا‬
‫املنهج ‪ ،‬بل إن ال زيلعي يف " نصب الراية " – وهو تلميذ ال ذهيب – حينما ينتقل تص حيح احلاكم يق ول يف بعض األحي ان ‪ " :‬ووافقه‬
‫الذهيب"‪.‬‬
‫وق ريب من ه ذا ص نيع ابن امللقن‪ ،‬يف طبقة ال زيلعي ‪ ،‬ولكن لست أدري هل تتلمذ على ال ذهيب أم ال ‪ .‬يق ول ابن امللقن يف‬
‫اختصاره(‪ )114‬لكتاب الذهيب بعد أن ذكر حديث النيب صلي اهلل عليه وسلم أنه قال ‪ ":‬كل سبب منقطع يوم القيامة غري سبيب ونسيب‬
‫"‪.‬‬
‫ق ال ‪ :‬أخ رج احلاكم ه ذا احلديث وص ححه وتُعقب عليه ‪ .‬مث بعد ذلك ب أوراق يف ترمجة فاطمة – رضي اهلل عنها – من‬
‫ح ديث املس ور بن خمرمة مرفوع اً ‪" :‬إن األنس اب تنقطع ي وم القيامة غري نسيب وس بيب وص هري" ‪ ،‬مث ق ال احلاكم ‪ :‬ص حيح ‪ ،‬وأق ره‬
‫الذهيب عليه ‪.‬‬

‫(‪ )1‬أنظر ‪ :‬المستدرك (‪. )3/590‬‬ ‫‪112‬‬

‫(‪ )1‬من الحيرة ‪.‬‬ ‫‪113‬‬

‫(‪ )1‬انظر ‪ :‬مختصر المستدرك(رقم‪ ،)576‬وهو أيضاً في المسند(‪. )4/323‬‬ ‫‪114‬‬

‫‪91‬‬
‫هذا الكالم ابن امللقن ‪ ،‬وهو يف طبقة تالميذ الذهيب ‪ ،‬فهم كانوا عارفني فأن صنيع الذهيب هذا يعين إقراره للحاكم على هذا‬
‫التصحيح على هذه الصورة ؛ ألننا حني نرجع إىل احلديث الذي ذكره جند احلاكم قال ‪" :‬حديث صحيح اإلسناد" ‪ ،‬مث حكى الذهيب‬
‫كالمه فقال ‪ :‬صحيح ‪ ،‬أي أنه كالم احلاكم ومل يتعقبه بشيء ‪ ،‬فاعترب ابن امللقن هذا إقراراً من الذهيب ‪.‬‬
‫مث إن ب اقي األئمة ك ذلك ‪ ،‬مثل الش يخ أمحد ش اكر والش يخ األلب اين وأمث ال ه ؤالء‪ ،‬بل حىت ابن حجر(‪ )115‬والس يوطي ‪،‬‬
‫ولكن ال أس تطيع أن أنسب ش يئاً ليس فيه مستمسك ‪ ،‬لكن من نظر يف خترجياهتم وجد من ه ذا مجلة ‪ ،‬وه ذا هو ال ذي أردت التنبيه‬
‫عليه يف هذه املسألة ‪.‬‬
‫تفسري خاطئ لعدم إيراد الذهيب احلديث يف االختصار ‪:‬‬
‫يق ول بعض هم ‪ :‬يعترب س كوت ال ذهيب عن احلديث حينما ال ي ورد ال ذهيب احلديث إطالق اً‪ ،‬فه ذا هو ال ذي نعت ربه س كوتاً‬
‫للذهيب ‪ ،‬فيبدو أهنم ما ظفروا مبثل هذه األمثلة اليت ذكرهتا من "املس تدرك" ‪ ،‬وميكن ملن تتبع الكتاب أن يعلم أن سكوت الذهيب هو‬
‫هبذه الصورة ‪.‬‬
‫أسباب عدم إيراده للحديث إطالقاً ‪:‬‬
‫والذهيب قد ال يورد احلديث إطالقاً لسبب من األسباب اآلتية ‪:‬‬
‫السبب األول ‪:‬‬
‫ال يكون احلديث يف نسخة الذهيب من "املستدرك" ‪ ،‬وهذا وارد ؛ ألن املستدرك الذي بني أيدينا اآلن طبع على بعض النسخ‬
‫اليت س قط منها أح اديث ‪ ،‬وبعض األح اديث حمقق مس تدرك احلاكم ال يس تطيع أن يثبته إال من "التخليص" ‪ ،‬و "التخليص" حيذف‬
‫بعض اإلسناد ‪ ،‬إال أن يثبته من " التخليص"(‪. )116‬‬
‫فإذن بعض النسخ تسقط منها بعض األحاديث ‪ ،‬فقد يكون احلديث سقط من نسخة الذهيب ‪.‬‬
‫السبب الثاين ‪:‬‬
‫أن ال ذهيب قد حيذف احلديث ؛ ألنه ي رى أنه مك رر ‪ ،‬ويص رح ب ذلك ‪ ،‬فيق ول ‪" :‬وقد أع اده احلاكم يف املوضع الفالين" ‪،‬‬
‫فتأيت للموضع الفالين ‪ ،‬فتجد الذهيب مل يأت باحلديث اختصاراً منه ‪ ،‬فال داعي لتكرار احلديث ‪.‬‬
‫السبب الثالث ‪:‬‬
‫وقد يكون احلديث سقط من نفس ختليص الذهيب ‪ ،‬فإن هذه النسخة اليت طبعت سواء املستدرك أو تلخيص الذهيب نسخة‬
‫سقيمة ‪ ،‬وحتتاج إىل إعادة حتقيق وإعادة نظر وضبط على أصول خطية جيدة ‪ .‬وعندي أمثلة كثرية على سقط مهم جداً ‪ ،‬فأحيان اً يف‬
‫تعقيبات الذهيب لألحاديث جند الكالم سقط من هذه النسخة املطبوعة ‪ ،‬ولكنين أجده يف النسخ اخلطية ابن امللقن‪ ،‬فإذن هذه األمور‬
‫كلها تكشف هذا الكتاب ‪.‬‬
‫وبذلك أكون قد انتهيت من الكالم باختصار على مستدرك احلاكم ‪ ،‬وأرجو أن يكون قد وضح ولو بعض الشيء ‪.‬‬
‫وعلى كل حال ‪ :‬هذا منهج ليس علمي اً ‪ ،‬لكن الص واب أن يتكلم عن املن اهج أنفسها‪ ،‬فيقال ‪ :‬من يتساهل يف األحاديث‬
‫ويعترب أن جمرد مجع الط رق الض عيفة ‪ ،‬أنه يكفي جلعل احلديث حس ناً لغ ريه ‪ ،‬ويعتمد عليه ‪ ،‬فيمكن أن ينقد ه ذا املنهج كـ "منهج" ‪،‬‬
‫لكن ال جنعل هناك قضية القضايا هي ‪ :‬منهج املتقدمني ومنهج املتأخرين !!‬
‫إذن إطالق العبارة هبذه الصورة خطأ ‪ ،‬ولكن ميكن أن يتكلم عن الشخص ‪ ،‬فالسيوطي إذا تناولته بالنقد أستطيع أن أقول ‪:‬‬
‫إن السيوطي متساهل ‪ ،‬بل له منهج غري جيد ‪ ،‬فحينما يرى حديثاً فيه ضعيف شديد – وهو الذي فيه رو مرتوك ‪ ،‬وما إىل ذلك –‬
‫يقول ‪ :‬ميكن أن يرتفع ضعفه بتعدد طرقه ‪ ،‬وهذا منهج عند السيوطي ‪ ،‬وقد صرح به يف ألفيته ويف "التدريب"‪.‬‬

‫(‪ )1‬انظر كالم ابن حجر في لسان الميزان (‪/2/434‬ث ‪. )1781‬‬ ‫‪115‬‬

‫(‪ )1‬انظر كالم ابن حجر في لسان الميزان (‪ /2/434‬ت ‪. )1781‬‬ ‫‪116‬‬

‫‪92‬‬
‫نقول ‪ :‬هذا املنهج عند السيوطي منهج خطأ ‪ ،‬فننقد منهج السيوطي نفسه ‪.‬‬
‫ولو جئنا إىل ابن حجر ‪ ،‬نقول ‪ :‬ابن حجر يف كالمه على الرواة يف "التقريب" جيد‪ ،‬ويف نقده لألحاديث يف "فتح الباري"‬
‫ال بأس به ‪ ،‬ولكننا جنده يف أجوبته عن "مشكاة املصابيح" يف بعض األماكن عنده شيء من التساهل ‪.‬‬
‫فيمكن أن حيدد كل إنس ان مبنهجه ال ذي يسري عليه ‪ ،‬أما أن نعمم ‪ ،‬فنجعل الس يوطي مثل ابن حجر مثل ال ذهيب مثل ابن‬
‫كثري مثل ابن تيمية مثل ابن القيم ؛ فهذا خطأ ‪ ،‬وهم ال يستوون ‪ ،‬وليس كلهم واحداً يف مناهجهم ‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫(‪)117‬‬
‫سنن ابن ماجه‬
‫أمسه ونسبه ومولده ‪:‬‬
‫هو أبو عبد اهلل حممد بن زيد الربعي موالهم – أي موىل ربيعة – ابن ماجة القزويين احلافظ ‪.‬‬
‫يقال له ‪ :‬ابن ماجة بإسكان اهلاء ‪ ،‬وهو أول من نطقها ‪ ،‬فال يقال يف حال الوصل ‪ :‬ابن ماجة ‪ ،‬أو حنو ذلك ‪.‬‬
‫واختلف وا يف ه ذه النس بة ‪ ،‬فمنهم من ق ال ‪ :‬إن والده يزيد يلقب مباجة ‪ ،‬ومنهم من ق ال إنه لقب أو اسم المه ‪ ،‬ومنهم من‬
‫قال ‪ :‬بل هو جده ‪ ،‬فينبغي أن يقال ‪ :‬حممد بن يزيد بن ماجه‪.‬‬
‫ولكن األول الذي ذكرناه – وهو ان ابن ماجه لقب لوالده يزيد – هو األثبت ‪ ،‬كما صرح بذلك بلدية الرافعي يف كتابه "‬
‫التدوين يف ذكر أخبار قزوين"(‪. )118‬‬
‫مولده – رمحه اهلل – يف سنة تسع ومائتني للهجرة ؛ ولذلك هو من قدماء من ولد من أصحاب الكتب الستة ؛ وألجل هذا‬
‫قدم على النسائي يف الذكر ‪ ،‬وإال فكتاب النسائي أوىل من كتابه ‪.‬‬
‫رحلته يف طلب العلم وأهم شيوخه ‪:‬‬
‫رحل – رمحه اهلل – يف طلب العلم إىل خرسان والعراق واحلجاز ومصر والشام وغريها ن البالد ‪ ،‬كعادة بقية احملدثني الذين‬
‫حيرصون على الرحلة يف طلب احلديث ‪.‬‬
‫ويف رحلته هذه مسع من العديد من املشايخ منهم ‪:‬‬
‫ابناأيب شيبة ‪ ،‬ومها عبد اهلل وعثمان ‪ ،‬ولكنه أكثر من الرواية عن عبد اهلل بن أيب شيبة الذي هو صاحب "املصنف" ‪ ،‬وكثراً‬
‫ما يروي عنه ‪.‬‬
‫وروى كذلك عن أيب خيثمة زهري بن حرب‪ ،‬وهو أحد األئمة املشهورين ‪.‬‬
‫وروى عن أيب مصعب الزهري الذي هو أحد رواة "املوطأ" عن اإلمام مالك ‪.‬‬
‫وقد الزم احلافظ علي بن حممد الطنافسي فأكثر عنه ‪.‬‬
‫ومن قدماء شيوخ ابن ماجه راو يقال له ‪ُ :‬جبارة بن ُمغلس ‪ ،‬وهذا راو ضعيف(‪ ،)119‬ولوا ضعفه لكان البن ماجه شرف‬
‫كبري ؛ ألنه يروى أحاديث ثالثية اإلسناد من طريق هذا الشيخ ‪.‬‬
‫وع دد األح اديث الثالثية يف س ننه من طريق ه ذا الش يخ مخسة أح اديث ‪ ،‬وليس يف س ننه أح اديث ثالثية من غري طريق ه ذا‬
‫الشيخ ‪ ،‬ولكن هذه األحاديث ضعيفة ‪.‬‬
‫واحلديث الثالثي هو ال ذي يك ون بني ابن ماجه وبني النيب ص لى اهلل عليه وس لم فيه – ثالثة رج ال هم ‪ :‬ش يخه جب ارة ‪،‬‬
‫وشيخ شيخه ‪ ،‬والصحايب الذي هو أنس بن مالك ؛ ححألن كل هذه األحاديث – تقريباً – جاءت من طريقه ‪.‬‬
‫تالميذه ورواة السنن عنه ‪:‬‬

‫أبو احلسن علي بن إبراهيم القطان ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫(‪ )1‬انظر ‪ :‬السابق والالحق ‪ ، 118 :‬وتهذيب الكمال (‪ ، )27/40‬وسير أعالم النبالء (‪ ، )13/277‬وتذكرة الحافظ (‬ ‫‪117‬‬

‫‪ ، )2/636‬وتهذيب التهذيب (‪ ، )9/530‬والبداية والنهاية (‪ ، )11/52‬وتاريخ دمشق (‪/16/63‬ب) ‪ ،‬ووفيات األعيان‬


‫(‪ ، )4/479‬وشذرات الذهب (‪. )2/64‬‬
‫(‪ )1‬تاريخ قزوين (‪. )2/49‬‬ ‫‪118‬‬

‫(‪ )1‬جبارة بن المغلس ‪ ،‬الحماني ‪ ،‬أبو محمد الكوفي ‪ ،‬ضعيف ‪ ،‬من العاشرة ‪ ،‬مات سنة ‪ . 241‬روى له ابن ماجه‪. g‬‬ ‫‪119‬‬

‫تقريب ت ‪. 988 :‬‬


‫‪94‬‬
‫سليمان بن يزيد ‪ ،‬وكالمها من بلدة قزوين ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫أبو جعفر حممد بن عيسى املطوعي ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪ -‬أبو بكر حامد األهبري ‪.‬‬


‫وه ؤالء األربعة هم رواة الس نن عن ابن ماجه ‪ ،‬ولكن مل تص لنا الس نن إال من رواية أيب احلسن بن القط ان فقط ‪ ،‬وأما بقية‬
‫الروايات فال نعلم عنها شيئاً ‪.‬‬
‫عرضه لكتابه السنن على أيب زرعة الرازي ومدى صحة ذلك ‪:‬‬
‫ملا ألف – رمحه اهلل – ه ذه الس نن ق ال ‪ :‬عرضت الس نن على أيب زرعة ال رازي ‪ ،‬فنظر فيها فق ال ‪ " :‬أظن إن وقع ه ذا يف‬
‫أيدي الناس تعطلك هذه اجلوامع وأكثرها" ‪ ،‬مث قال ‪" :‬لعل ال يكون فيه متام ثالثني حديثاً مما يف إسناده ضعف" ‪ ،‬وحنو ذلك ‪.‬‬
‫وهذه العبارة غريبة جداً من مثل أيب زرعة الرازي – رمحه اهلل تعاىل – وذلك قال الذهيب يف سر أعالم النبالء(‪ )120‬يف ترمجة ابن‬
‫ماجه ‪:‬‬
‫" كان ابن ماجه حافظاً ناقداً صادقاً واسع العلم ‪ ،‬وإمنا غض من رتبه سننه ما يف الكتاب من املناكري وقليل من املوضوعات‬
‫‪ ،‬وق ول أيب زرعة – إن صح – (ومعىن ذلك أن ال ذهيب يش كك يف ص حة نس بة ه ذا الق ول إىل أيب زرع ة) فإمنا عىن ب ذلك – بثالثني‬
‫حديثاً‪ -‬األحاديث املطروحة الساقطة ‪ ،‬وأما األحاديث اليت ال تقوم هبا حجة فكرية ‪ ،‬ولعلها حنو األلف" ‪.‬‬
‫وفاته – رمحه اهلل ‪: -‬‬
‫كانت وفاة ابن ماجه – رمحه اهلل تعاىل – يوم األثنني ‪ ،‬ودفن يف يوم الثالثاء لثمان بقني من رمضان يف سنة ثالث وسبعني‬
‫ومائتني للهجرة ‪.‬‬
‫وقيل إنه تويف يف سنة مخس وسبعني ومائتني للهجرة ‪ ،‬ولكن األول هو األصح ‪ ،‬وله من العمر أربع وستون سنة ‪.‬‬
‫حصر ما يف سنن ابن ماجه من الكتب واألبواب واألحاديث ‪:‬‬
‫ذكر الذهيب – رمحه اهلل – أن عدة كتب سنن ابن ماجه اثنان وثالثون كتاباً ‪ ،‬ونقل عن أيب احلسن القطان قوله ‪ :‬يف السنن‬
‫ألف ومخسمائة باب ‪.‬‬
‫واحلقيقة أننا إذا نظرنا إىل ع دد الكتب يف الطبعة اليت بتحقيق حممد ف ؤاد عبد الب اقي –رمحه اهلل‪ -‬وإذا بع دد الكتب س بعة‬
‫وثالثون كتاباً عدا املقدمة ‪ ،‬وباملقدمة يكون مثانية وثالثني كتاباً‪.‬‬
‫وأما عدد األبواب فألف ومخسمائة ومخسة عشر باباً ‪ ،‬وأما عدد األحاديث فأربعة آالف وثالمثائة وواحد وأربعون حديثاً ‪،‬‬
‫ولذلك يكون العدد الذي ذكر عدداً تقريباً أو بسبب اختالف النسخ ‪.‬‬
‫وهذه األحاديث اليت تزيد عن األربعة آالف وثالمثائة وواحد وأربعني حديثاً منها ‪:‬‬
‫ثالثة آالف واثنان خمرجة عند بقية اخلمسة – البخاري ومسلم وأبو داود والرتمذي والنسائي ‪ ، -‬أو عند بعضهم ‪.‬‬
‫ومنها ألف وثالمثائة وتسعة وثالثون حديثاً زادها ابن ماجه على اخلمسة ‪ ،‬وهذه األحاديث اليت تربو على أل فوثالمثائة منها‬
‫أربعمائة ومثانية وعش رون ح ديثاً اعتربوها ص حيحة ‪ ،‬وس تمائة وثالثة عشر ح ديثاً ض عيفة ‪ ،‬ومنها تس عة وتس عون ح ديقاً ما بني واه‬
‫ومنكر ومكذوب‪.‬‬
‫وهذا فيما يظهر أنه حبسب تصحيح البوصريي هلذه األحاديث ‪ ،‬فإن احلافظ البوصريي ألف كتاب اً مساه " مصباح الزجاجة‬
‫يف زوائد ابن ماج ه" ‪ ،‬وأورد األح اديث اليت زادها ابن ماجه على بقية اخلمسة وحكم عليها ‪ ،‬فبن اء على أحكامه ج اءت ه ذه‬
‫اإلحصائية ‪.‬‬

‫(‪ )1‬انظر ‪ :‬سير أعالم النبالء (‪. )13/278‬‬ ‫‪120‬‬

‫‪95‬‬
‫أما ىالش يخ األلب اين ‪ ،‬فإنه أف رد الص حيح عن الض عيف يف س نن ابن ماجه ‪ ،‬وحبسب ح اكم األلب اين يك ون ع دد األح اديث‬
‫الضعيفة يف سنن ابن ماجه ال يزيد على مثامنائة حديثاً ‪ ،‬ومن هذه األحاديث املوضوعة حديث ال يشك يف وضعه ‪ ،‬وهو حديث يف‬
‫فضل قزوين(‪ ، )121‬أورده ابن ماجه – ركمه اهلل ‪ -‬؛ ألن بلده قزوين ‪.‬‬
‫مميزات الكتاب ‪:‬‬
‫هذا الكتاب من مميزاته اليت ذكرت ومحدت له أنه حسن الرتتيب ‪ ،‬وسرد األحاديث فيه باختصار من غري تكرار ‪.‬‬
‫يقول صديق حسن خان يف كتابه " احلطة" ‪.‬‬
‫وهذا ليس يف شيء من الكتب الستة هبذه الصورة ‪ .‬أي حتفظه على تكرار األحاديث ‪ ،‬حيث إنه ال يكررها يف الغالب ‪، -‬‬
‫وإن ك ان مس لم – رمحه اهلل – ميكن أن يك ون قريب اً من ه ذا ‪ ،‬ف إن مس لماً ال يك رر احلديث يف مواضع ‪ ،‬وأما تك راره للح ديث يف‬
‫موضع واحد ‪ ،‬إن كان هذا هو مقصد صديق حسن خان ‪ ،‬فنعم ‪.‬‬
‫وللمزي مقولة بالنسبة هلذه األحاديث الزوائد – أي اليت يتفرد هبا ابن ماجه عن بقية اخلمسة – اتكأ عليها كثري من العلماء‬
‫‪ ،‬حينما ذكر أن الغالب على ما ينفرد به ابن ماجه الضعف ‪.‬‬
‫وأيضاً نقل هذا القول احلافظ ابن القيم – رمحه اهلل – يف كتابه "زاد املعاد"(‪ )122‬نقله عن ايب العباس ابن تيمية – رمحه اهلل –‬
‫ونقل أيض اً يف نفس املوضع عن املزي قوله ‪" :‬وكت اب ابن ماجه إمنا تداولته ش يوخ مل يتن وا به ‪ ،‬خبالف ص حيحي ‪ " .‬البخ اري‬
‫ومسلم" ‪ ،‬فإن احلفاظ تداولومها واعتنوا بضبطهما وتصحيحهما ‪ .‬قال ‪ :‬ولذلك وقع فيه أغالط و تصحيف"‪.‬‬
‫وسبب إيراد ابن القيم هلذه العبارة أن هناك حديثاً أشكل على ابن القيم فأخذ ابن القيم يناقش هذه القضية ‪ ،‬ويشكك يف أن احلديث‬
‫جاءت عبارته هكذا صحيحة مستقيمة ‪ ،‬بل يقول‪ :‬إن اخلطأ فيما يظهر من نفس رواة السنن البن ماجه ‪.‬‬

‫انظر ‪ :‬سنن ابن ماجه‪ ، )2780( g‬كتاب الجهاد ‪ ،‬باب ذكر الديلم وفضل قزوين ‪ ،‬وهو عن أنس ابن مالك ‪ ،‬قال رسول‬ ‫‪121‬‬

‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم " ستفتح عليكم اآلفاق ‪ ،‬وستفتح عليكم مدينة قال لها قزوين ‪ .‬من رابط فيها أربعين يوماً أو‬
‫ليلة ‪ ،‬كان له في الجنة عمود من ذهب ‪ .‬عليه زبر جدة خضراء ‪ .‬عليها قبة من ياقوته حمراء ‪ "...‬الحديث ‪.‬‬
‫إخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات"‪ )884( )2/316( g‬وقال ‪ :‬هذا حديث موضوع‪ g‬ال شك فيه ‪ ،‬فأول من فيه من‬
‫الضعفاء "يزيد بن أبان" ‪ :‬قال شعبة ‪ :‬ألن أزني أحب إلي من أن أحدث عنه ‪ .‬وقال أحمد ‪ :‬ال يكتب عنه شيء ‪ .‬وقال‬
‫النسائي ‪ :‬متروك الحديث ‪ .‬وقال ابن حبان ‪ :‬ال يحل الرواية عنه ‪.‬‬
‫والثاني ‪" :‬الربيع بن صبيح" ‪ ،‬قال عفان ‪ :‬أحاديثه كلها مقلوبة‪ ، g‬وضعفه‪ g‬يحي ‪ ...‬إلخ ‪.‬‬
‫والثالث ‪" :‬داود بن المحبر" ‪ .‬قال أحمد والبخاري ‪ :‬هو شبه ال شيء ‪ .‬وقال ابن المديني ‪ :‬ذهب حديثه ‪ .‬وقال حاتم‬
‫الرازي ‪ :‬غير ثقة ‪ .‬وقال الدار قطني ‪ :‬متروك ‪.‬‬
‫ثم قال ابن الجوزي وال أتهم بوضع هذا الحديث غيره ‪ .‬والعجب من ابن ماجه‪ g‬مع علمه كيف استحل أن يذكر هذا في‬
‫كتابه السنن ‪ .‬وال يتكلم ؟! اهـ‪.‬‬
‫وفي الزوائد ‪ :‬هذا إسناده ضعيف ‪ ،‬لضعف " يزيد بن أبان الرقاشي ‪ ،‬والربيع بن صبيح ‪ ،‬وداود ابن المحبر " ‪ ،‬فهو‬
‫مسلسل بالضعفاء ‪.‬‬
‫وانظر ‪" :‬تنزيه الشريعة " (‪ ، )2/50‬و "الآللي" (‪ ، )1/463‬و "الفوائد المجموعة"‪ g‬ص (‪ )374‬رقم (‪ ، )1237‬و "‬
‫السلسلة الضعيفة" (‪. )371‬‬
‫(‪ )1‬انظر ‪ :‬زاد المعاد (‪. )436 ، 1/435‬‬ ‫‪122‬‬

‫‪96‬‬
‫وأما ما ذكره عن املزي وأيب العباس ابن تيمية من أن الغالب على ما ينفرد به ابن ماجه الضعف؛ فهذا مؤداه إىل أن كثرياً‬
‫من األحاديث اليت يتفردهبا ابن ماجه ضعيفة ؛ وهذا صحيح ‪ ،‬فكون هناك مجلة تصل إىل حنو ستمائة حديث أو أكثر من هذا بقليل ‪،‬‬
‫فهذا وال شك عدد غري قليل‪.‬‬
‫ولكن ال يعين هذا أن مجيع األحاديث اليت يتفرد هبا ابن ماحه ليس فيها صحيح ؛ ألن هناك من غلط وحكم على إطالقه‪ ،‬وقد تعقب‬
‫اه‪:‬‬ ‫ال ما معن‬ ‫ذه املقولة ‪ ،‬وق‬ ‫اىل – ه‬ ‫ابن حجر – رمحه اهلل تع‬
‫" بل هناك أحاديث نبهت عليها وهي صحيحة‪ ،‬وهي مما تفرد هبا ابن ماجه – رمحه اهلل "‪.‬‬
‫وقد بينت قبل قليل يف األحص ائية أن ه ذه األح اديث الزائ دة ح وايل أربعمائة ومثانية وعش رين ح ديثاً ص حيحاً‪ ،‬وذلك بن اء‬
‫على قول البوصريي ‪ ،‬وإن كان هناك جمال لألنتقاد‪.‬‬
‫تنبيه‪:‬‬
‫ومن األمور اليت حيسن التنبيه عليها بالنسبة لسنن ابن ماجه أن بعض الناس يظن أن مجيع األحاديث املروية قي هذا الكتاب‬
‫املطبوع املتذاول بأيدي الناس من رواية ابن ماجه ‪ ،‬واحلقيقة أن هناك بعض الذيادات اليت زداها أبو احلسن القطان الذي هو الراوي‬
‫للسنن عن ابن كاجه ‪ ،‬فقد زاد على كتاب ابن ماجه ‪.‬‬
‫وه ذا حيصل يف بعض كت الس نن؛ فبعض الن اس أيض اً خيطىء حينما يظن أن كل ح ديث م روى يف مس ند اإلم ام أمحد –‬
‫رمحه اهلل – من رواية اإلمام أمحد ؛ فيقول ‪ :‬أخرجه اإلمام أمحد يف املسند ‪ ،‬وإمنا هذا احلديث ال يكون رواه اإلمام أمحد إطالق اً ؛ ألن‬
‫هناك زيادات لعبد اهلل ابن اإلمام أمحد ‪ ،‬وهناك زيادات قليلة للقطيعي ‪ ،‬ولكن غالب الزيادات لعبد اهلل ابن اإلمام أمحد ‪.‬‬
‫فال بد إذن من التـركيز والنظر يف اإلسناد ‪ ،‬فإذا جىء باإلسناد يف املسند املطبوع هكذا ‪ ":‬حدثتا عبد اهلل قال ‪:‬حدثين أيب‬
‫‪ "......‬فهذا هو الذي يكون من املسند‪.‬‬
‫وأما إذا قال ‪ ":‬حدثنا عبد اهلل قال ‪ :‬حدثنا فالن " ومسى شيخاً غري أبيه ‪ ،‬فهذا يعترب من زيادات عبد اهلل ابن اإلمام أمحد ‪.‬‬
‫وك ذلك البد حني التطلع ي س نن ابن ماجه من التنبيه إيل أن زي ادات أيب احلسن القط ان ال تنسب البن ماجه ‪ ،‬فقد ألف‬
‫ال دكتور مس هر ال ديين – حفظه اهلل – رس الة يف مجع ه ذه الزي ادات والتـنبيه عليها ‪ ،‬والرس الة مطبوعة بعن وان " زي ادات أيب احلسن‬
‫القطان علي سنن ابن ماجه "‪ ،‬وعدد هذه الزيادات أربع وأربعون زيادة ‪.‬‬
‫ولكن ليس كلها أحاديث مرفوعة إيل النيب صلي اهلل عليه وسلم ‪ ،‬بل إحدى هذه الزيادات من كالم الشافعي –رمحه اهلل –‬
‫يف توجيه سؤال وجه إليه عن السبب من كون بول الغالم يرش منه وبول اجلارية يغسل ‪ ،‬فنبه الشافعي – رمحه اهلل – إيل أن األصل‬
‫يع ود إيل أن الغالم عب ارة عن ذكر ‪ ،‬وال ذكر خلق من طني ‪ ،‬وأن اجلارية خلقت من حلم ودم ‪ ،‬ألهنا خلقت من آدم كما ق ال اهلل –‬
‫جال وعال ‪ : -‬جعل منها زوجها }(‪.)123‬‬
‫ك ذلك أيض اً من ه ذه الزي ادات زي ادة من احلسن القط ان يف تفسري لفظة غربية ‪ ،‬وهي قول ه‪ " :‬ق ال أبو احلسن القط ان ‪:‬‬
‫العالدي ‪ :‬العصا"‪-.‬‬
‫وهذه الزيادة طفيفة ‪ ،‬وباقي هذه الزيادات يوردها يف الغالب ‪ ،‬ألن هذا احلديث حتصل له بعلو ‪ ،‬أي مثله مثل املستخرجات‬
‫متام اً ‪ ،‬فنجد – مثالً – مثل املستخرجات متام اً ‪ ،‬فنجد – مثالً – حينما يأيت أبو عوانة الذي تويف بعد وفاة مسلم بن احلجاج بنحو‬
‫بستني عاماً ‪ ،‬يفروي حديثاً شرتك مع مسلم يف شيخه ‪ ،‬فهذا يعترب علو إسناد ‪.‬‬
‫فأبو احلسن القطان حينما جيد حديثاً يرويه ابن ماجه عن شعبة بواسطة راو ‪ ،‬وحيصل له هو أيض اً احلديث بواسطة راو غري‬
‫شيخ ابن ماجه ‪ ،‬فنجد أنه يأيت هبذا احلديث أيضاً هبذه الصورة ليدلل على أن هذا احلديث حتصل له بعلو إسناد ‪ ،‬برغم أنه من تالميذ‬
‫ابن ماجه ‪ ،‬فإنه ساوى شيخه ابن ماجه يف علو هذا اإلسناد ‪.‬‬

‫(‪ )1‬سورة األعراف ‪ :‬اآلية ‪.189 ،‬‬ ‫‪123‬‬

‫‪97‬‬
‫إضافة سنن ابن ماجه للكتب اخلمسة ‪:‬‬
‫مل خيالف أحد من العلماء يف كون الكتب اخلمسة هي دواوين اإلسالم املشهورة ‪ ،‬ولكن اختلفوا يف سادس هذه الكتب ‪،‬‬
‫فنجد أن أول من أضاف س نن ابن ماجه هلذه اخلمسة ليص بح سادس ها هو أبو الفضل حممد بن ط اهر بن الفيس راين ‪ ،‬وهذا يف كت ابني‬
‫من كتبه ؛ األول ‪ :‬هو ال ذي ألفه يف أط راف الكتب الس تة ‪ ،‬وجعل س ادس هذه الكتب س نن ابن ماجه ‪ ،‬والث اين ‪ :‬رس الة يف ش روط‬
‫األئمة الستة ‪ ،‬وجعل سادسها ابن ماجه ؛ فيعترب هو أول من أضاف سنن ابن ماجه ‪-‬رمحه اهلل – للكتب الستة ‪.‬‬
‫مث تبع أبا الفضل على ذلك من ج اء بع ده ‪ ،‬فتبعه ابن عس اكر حينما ألف كتاب اً يف "أط راف الس نن األربع ة" ‪ ،‬وهو ال ذي‬
‫ضمه املزي إىل زيادات خلف الواسطي ‪ ،‬وأيب مسعود الدمشقي ليصبح كتاب " حتفة األشراف" ‪.‬‬
‫كذلك احلافظ ابن عساكر له كتاب يف شيوخ األئمة الستة ‪ ،‬وهو "املعجم املسند"‪ ،‬وقد ذكر فيه سادس هؤالء األئمة ابن‬
‫ماجه رمحه اهلل ‪.‬‬
‫مث تبعها أيض اً احلافظ عبد الغين املقدسي حينما ألف كتابه املشهور " اإلكمال يف أمساء الرجال" الذي أصبح عمدة لرجال‬
‫الكتب الس تة ‪ ،‬وهو الكت اب ال ذي هذبه املزي –رمحه اهلل‪ -‬يف كتابه " هتذيب الكم ال" ‪ ،‬ويعترب املزي أيض اً ممن ج رى على نفس‬
‫الوترية ‪ ،‬فتبع هؤالء يف اعتبار سنن ابن ماجه سادس الكتب الستة ‪.‬‬
‫أول من أخرج ابن ماجه من الكتب الستة ‪:‬‬
‫وأما من خ الف ‪ ،‬ف أول من نعرفه خ الف يف ه ذا هو رزين بن معاوية العب دري يف كتابه "جتريد الص حاح والس نن " ‪ ،‬وهو‬
‫األصل لكتاب "جامع األصول" البن األثري ‪ ،‬فرزين وابن األثري عدا سادس الكتب الستة "املوطأ" لإلمام مالك ال سنن ابن ماجه ‪.‬‬
‫وإمنا ق دم من ق دم س نن ابن ماجه على موطأ اإلم ام مالك لك ثرة زوائد ابن ماجه على الكتب اخلمسة ‪ ،‬خبالف موطأ اإلم ام‬
‫مالك ‪ ،‬فإنه ليس كثري زوائده ‪ ،‬بل قد يكون ليس له زوائد على الكتب اخلمسة ‪.‬‬
‫واملقص ود بالزوائد ‪ :‬األح اديث املرفوعة ‪ ،‬أما بالنس بة لآلث ار فه ذا أيض اً جعل وه من ج وانب التفض يل لس نن ابن ماجه على‬
‫موطأ اإلمام مالك ؛ ألن موطأ اإلمام مالك يشتمل على موقوفات على الصحابة ‪ ،‬ومقطوعات على التابعني ‪ ،‬وعلى باغات ؛ وهي‬
‫األح اديث اليت يق ول فيها ملك ‪ :‬بلغين عن رس ول اهلل ص لى اهلل عليه وس لم ك ذا ‪ ،‬أو عن ايب بكر ك ذا ‪ ،‬أي أنه ي ذكر احلديث بال‬
‫إسناد ‪ ،‬وكذلك املراسيل ‪ ،‬فإهنا كثرية أيض اً يف موطأ اإلمام مالك ‪ ،‬فلهذا السبب ‪ ،‬وللسبب السابق ‪ ،‬وهو وجود الزيادات عن ابن‬
‫ماجه – قدم من قدم سنن ابن ماجه على موطأ اإلمام مالك ‪.‬‬
‫أما من خالف فاعترب موطأ اإلمام مالك هو سادس الكتب الستة ‪ ،‬فألجل أن غالب ما ينفرد به ابن ماجه هو من األحاديث‬
‫الضعيفة ‪ ،‬فلهذا غضوا الطرف عن سنن ابن ماجه ‪ ،‬واعتربوا موطأ اإلمام مالك هو سادس هذه الكتب ‪.‬‬
‫مع العلم ب أن ه ذا أيض اً ليس حمل اخلالف ؛ بل هن اك من خ الف واعترب س ادس الكتب الس تة هو س نن ال درامي أو مس ند‬
‫الدرامي ‪ ،‬وهذا أول من أثاره مغلطاي ‪ ،‬وتبعه على ذلك العالئي ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬ينبغي أن يكون سادس الكتب الستة مسند الدرامي أو‬
‫س نن ال درامي ‪ ،‬ولكن مغلط اي زاد على ذلك ‪ ،‬ف زعم أن ال درامي من ألف يف الص حيح ‪ ،‬وأنه ممن س بق البخ اري إىل الت أليف يف‬
‫الصحيح ‪ ،‬فهو يقول ‪ :‬ليس البخاري هو أول من ألف يف الصحيح اجملرد ‪ .‬وانتقده على ذلك احلافظ ابن حجر ‪ ،‬ومن أراد أن يطلع‬
‫هذا فليطالعه يف كتاب "النكت" ‪.‬‬
‫وقد دلل ابن حجر على أن س نن ال درامي ميكن أن تعترب ص حيحة ‪ ،‬وأن مغلط اي حينما أث ار ه ذه ال دعوى إمنا اعتمد على‬
‫عبارة جاءت على طرة نسخة من سنن الدرامي ‪ ،‬فقد ظن مغلطاي أهنا خبط احلافظ املنذري ‪ ،‬وإمنا هي خبط راو آخر ليس من أهل‬
‫العلم الذين يعتمد على أقواهلم ‪ ،‬ولكن خط يشبه خط احلافظ املنذري ؛ لذلك مل يعد أحد سنن الدرامي مما ألف يف الصحيح اجملرد ‪.‬‬
‫فلذلك خطأ احلافظ ابن حجر مغلطاي على مقولته هذه ‪ ،‬مع اعرتاف احلافظ ابن حجر بان سنن الدرامي أوىل بالتقدمي من‬
‫سنن ابن ماجه ؛ ألن الضعيف يف سنن الدرامي أقل بكثري من الضعيف يف سنن ابن ماجه ‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫ولكن ال ذي يظهر أن مثل ابن ط اهر املقدسي مل يتلفت إىل س نن ال درامي ألجل احتوائها على اآلث ار املوقوفة واملقطوعة ؛‬
‫لذلك غض الطرف عنها ‪.‬‬
‫وإمنا ق دموا س نن ابن ماجه ؛ ألهنا متض منة للح ديث املرف وع وجلودة ترتيبها وجلودة س ياقه لألح اديث واختص اره للمت ون ‪،‬‬
‫ولبعض اجلوانب ق دمت س نن ابن ماجه مع ما فيه من األح اديث الض عيفة ‪ ،‬بل حىت املوض وعة ‪ ،‬وي ذكر احلافظ ال ذهيب أن ه ذا هو‬
‫ط قيمة سنن ابن ماجه عن بقية الكتب الستة ‪ ،‬وإال ففيها جوانب ميكن أن تفضل هبا هذه السنن على غريها‪.‬‬ ‫الذي ح ّ‬
‫طبعات سنن ابن ماجه ‪:‬‬
‫وأختم كالمي ه ذا ب الكالم عن طبع ات س نن ابن ماجه ‪ ،‬ف أقول ‪ :‬طبعت س نن ابن ماجه ع دة م رات ‪ ،‬من أمهها طبعة مع‬
‫شرح السندي ‪ ،‬وهي طبعة قدمية ‪.‬‬
‫والطبعة املش هورة هي اليت بتحقيق حممد ف ؤاد عبد الب اقي ‪ ،‬وإمنا اش تهرت ؛ ألهنا تتالقى مع ت رقيم املستش رقني يف املعجم‬
‫املفرس ‪.‬‬
‫وك ذلك هن اك طبعة أخ رية ‪ ،‬وهي اليت حققها ال دكتور حممد مص طفى األعظمي ‪ ،‬ولكن ه ذه الطبعة تنقص ح وايل م ائيت‬
‫حديث عن الطبعة اليت حققها حممد فؤاد عبد الباقي ‪ ،‬وكنت قد سألته عن هذا ‪ ،‬فقال ‪ :‬أنا أخذت رواية من روايات سنن ابن ماجه‬
‫‪ ،‬وهي رواية معتم دة على نس خة موثقة ص حيحة ‪ ،‬ف أردت أن يك ون ه ذا منوذج اً من األعم دة التوثيقية لبعض كتب الس نة ؛ ألنه‬
‫ك انت هن اك مناقشة مع بعض الن اس يف ض رورة إع ادة النظر يف كتب الس نة ‪ ،‬وض رورة توثيق أص وهلا وض بط نصوص ها ‪ ،‬فك أن من‬
‫تن اقش معه أث ار عليه دع وى ‪ ،‬وق ال ‪ :‬أنت تريد أن تش كك يف أص ول الس نة وما إىل ذلك ‪ ،‬فق ال ‪ :‬إنين أردت أن أق دم منوذج اً من‬
‫الفكرة اليت دعوت إليها‪ ،‬فاخرتت أصغر الكتب ‪ ،‬وهي سنن ابن ماجه ‪ ،‬وأخذت نسخة موثقة فنشرهتا ‪.‬‬
‫وقد ذكر أن هذه النسخة كوهنا تنقص عن النسخة املطبوعة حوايل مائيت حديث أو حنو ذلك ‪ ،‬فلست أنفي أن تكون تلك‬
‫األحاديث الزائدة من سنن ابن ماجه ‪ ،‬ولكين قلت ‪ :‬هذه نسخة من نسخ سنن ابن ماجه ‪ ،‬أما من أراد أن يضيف األحاديث الباقية‬
‫فعليه توثيقها‪ .‬هذا موجز ما ذكرها يل ‪.‬‬
‫شروح سنن ابن ماجه ‪:‬‬
‫بالنسبة للشروح لسنن ابن ماجه ‪ ،‬فتعترب أكثر من الشروح على سنن النسائي ‪ ،‬فقد اعتىن هبا الكثري من األئمة ‪ ،‬ولكن من‬
‫أمههم شرح البن امللقن ‪ ،‬وشرح للسيوطي أمسه "مصاحب الزجاجة" وشرح للسندي ‪.‬‬
‫وهناك ما يشبه التعليقات بعنوان ‪" :‬ما تسمى إليه احلاجة ملن يطالع سنن ابن ماجه" ألحد اهلنود ‪.‬‬
‫وهذا تقريب اً أبرز ما هناك ‪ ،‬مع اإلشارة إىل تلك الزوائد اليت أخرجها البوصريي – رمحه اهلل‪ -‬يف كتابه " مصباح الزجاجة‬
‫يف زوائدة سنن ابن ماجه" وهذا ما يتعلق بالكالم على سنن ابن ماجه ‪.‬‬
‫أسأل اهلل – جعل وعال – التوفيق واهلداية ‪ .‬وصل اللهم وسلم على نبينا حممد صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫سنن النسائي‬
‫سنن النسائي إحدى الكتب الستة اليت أشتهرت عند القاصي والداين ‪.‬‬
‫أمسه ومولده ‪:‬‬
‫مؤلف هذا الكتاب هو أبو عبد الرمحن أمحد بن شعيب بن علي بن سنان بن حبر اخلرساين النسائي القاضي ‪.‬‬
‫ولد – رمحه اهلل – يف مدينة نسا يف عام مخسة عشر ومائتني ‪ ،‬وقيل يف عام أربعة عشر ومائتني للهجرة ‪.‬‬
‫واالختالف ج اء بس بب وراية رويت عنه ‪ ،‬وبس بب كالم لتلمي ذه أيب س عيد بن ي ونس ص احب ت اريخ مصر ؛ ف أبو س عيد‬
‫ذكر أن مولده يف عام مخسة عشر أو أربعة عشر ‪ ،‬والنسائي نفسه ملا سئل عن مولده مىت ‪ ،‬قال ‪ :‬يشبه أن يكون يف عام مخسة عشر‬
‫ومائتني ‪ ،‬فهو إذن مل يقطعه ومل جيزم هبذا ؛ ألنه مل يضبط تاريخ مولده ‪ ،‬لكنه استدل على ذلك بأنه رحل إىل قتيبة بن سعيد يف عام‬
‫ثالثني ومائتني ‪ ،‬وكأنه يستشف أن عمره إذ ذاك كان مخسة عشر عاماً ‪ ،‬فيكون مولده تقريباً يف حدود عام مخسة عشر ومائتني ‪.‬‬
‫طلبه للعلم ‪:‬‬
‫طلب – رمحه اهلل – العلم منذ الص غر ‪ ،‬وه ذا أف اده كثري ج داً ‪ ،‬كما سنشري إلي ه‪ .‬فنج ده رحل إىل قتيبة بن س عيد يف س نة‬
‫ثالثني ومائتني ‪ ،‬وأقام عنده والزمه أكثر من سنة ؛ ولذلك يعترب إسناد النسائي عالي اً يف بعض الشيوخ ‪ ،‬ومن مجلتهم قتيبة بن سعيد‬
‫الذي كان مولده يف عصر مبكر ‪ ،‬فقتيبة بن سعيد كان مولده يف سنة تسع وأربعني ومائة ‪ ،‬فهو عاش تقريب اً حوايل مائة عام‪ ،‬فظفر‬
‫النسائي بأسانيد عالية من هذا الباب ‪ ،‬ومن مجلتها أحاديث ابن ليعهة اليت يرويها عنه تقيبة بن سعيد كما سنشري إىل ذلك أيضاً ‪.‬‬
‫مث إنه مل يقتصر يف الس ماع على قتيبة بن س عيد ‪ ،‬بل مسع من أئمة آخ رين ‪ ،‬مثل إس حاق بن راهويه ‪ ،‬وأمحد بن م نيع ‪،‬‬
‫وعلي بن حجر الس عدي ‪ ،‬ومن أيب داود ‪ ،‬والرتم ذي ‪ ،‬ومن أيب ح امت ‪ ،‬وأيب زرعة ال رازيني ‪ ،‬ومن حممد بن حيىي بش ار ‪ ،‬وحممد بن‬
‫املثىن ‪ ،‬وهناد بن السرى ‪ ،‬وأمثال هؤالء الشيوخ الذين أدركم وروى عنهم ‪ ،‬ومعظمهم من شيوخ أصحاب الكتب الستة ‪ ،‬وخباصة‬
‫البخاري ومسلم ‪ .‬فإذن هو شارك البخاري ومسلم يف كثري من شيوخهم ؛ ولذلك ظفر باألسانيد العالية ‪.‬‬
‫روايته عن البخاري ‪:‬‬
‫اختلف هل مسع النسائي من البخاري وروى عنه أم ال ؟ فنجد املزي يف هتذيب الكمال قطع بأنه مل يرو عن البخ اري ‪ ،‬وأن‬
‫ال ذي وقع يف الس نن حينما ق ال ‪ :‬ح دثنا حممد بن إمساعيل‪ ،‬وقيل عنه البخ اري ‪ ،‬أن ه ذا من تص رف بعض ال رواة ‪ ،‬واحلقيقة أنه مل‬
‫يسمع من البخاري ‪ ،‬وهذه وجهة نظر املزي ‪.‬‬
‫لكن بعد التتبع وجد أن فعالً روى عن البخاري ‪ ،‬ومن أراد اإلفاضة يف هذه املسألة فلريجع كتاب " بغية الراغب املتمين يف‬
‫ختم النس ائي برواية ابن السين " للس خاوي ‪ ،‬فإنه بني ه ذه املس ألة ‪ ،‬وأظن ك ذلك أن " بش ار مع روف" يف تعليقه على "هتذيب‬
‫الكمال" وضح هذا أيضاًَ‪.‬‬
‫وك ان من أدب الطلب عن دهم يف ذلك العصر الرحلة يف طلب احلديث ‪ ،‬وه ذا ال ذي ح رص عليه وص نعه النس ائي ‪ ،‬وهو‬
‫الذي أفاده يف احلصول على األسانيد العالية ‪ ،‬فإنه –رمحه اهلل‪ -‬رحل إىل عدة بلدان منها خراسان واحلجاز ومصر والعراق واجلزيرة‬
‫والشام ‪ ،‬ومسع من كثري من الشيوخ ‪ ،‬وكان حريصاً على التلقي ‪ ،‬حىت وإن كان يصاحب ذلك شيء من العناء بل رمبا املذلة ‪.‬‬
‫روايته عن احلارث بن مسكني من وراء الستار ‪:‬‬
‫ق دم – رمحه اهلل – على احلارث بن مس كني ‪ ،‬ومسع منه ‪ ،‬ولكنه مل يس تطع الس ماع منه مباش رة – أي حبض ور احللقة كما‬
‫حيض رها بقية التالميذ ‪ ، -‬وإمنا ك ان يس تمع من وراء س تار؛ ول ذلك جند النس ائي يف س ننه إذا روى عن احلارث بن مس كني يق ول ‪:‬‬
‫قرئ على احلارث بن مسكني وأنا أمسع ‪ ،‬أو يأيت بصيغة مثالً ‪ :‬أخربنا احلارث بن مسكني قراءة عليه وأنا أمسع‪.‬‬
‫فهو يشري هبذا الص نيع إىل أنه مل يأخذ عن احلارث بن مس كني ‪ ،‬كما أخذ عن بقية الش يوخ ال ذين ال يقيد ذلك ب القراءة‬
‫عليهم حال مساعهم ‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫وقيل يف السبب الذي دعى النسائي إىل عدم السماع من احلارث بن مسكني مباش رة‪ ،‬أهنما كان قاش يني ‪ ،‬وحصل بينهما‬
‫شيء من اخلالف الذي حيصل فيه الغالب بني األقران ؛ ولذلك مل يستطيع النسائي احلضور إىل حلقة احلارث بن مسكني ملا بينهما من‬
‫الشحناء ‪.‬‬
‫وقيل س بب غري ذلك ‪ ،‬وهو أن احلارث بن مس كني – رمحه اهلل – ك ان مؤاخ ذاً من قبل الس لطان يف عص ره ‪ ،‬ويب دو أنه‬
‫كان متخوف اً من السلطان ‪ ،‬فدخل عليه النسائي بزي أنكره‪ ،‬ومل يكن يعرفه ‪ ،‬فقد كان النسائي البس اً لقلنسوة وثياب تشبه ثياب‬
‫أعوان السلطان ‪ ،‬فخشي احلارث بن مسكني أن يكون السنائي من أعوان السلطان ‪ ،‬فخشي أن يكون قد ُدس عليه لينقل كالمه إىل‬
‫السلطان ‪ ،‬فمنعه من احلضور إىل احللقة ؛ فأصبح حيضر من رواء الستار ويسمع ويقيد‪.‬‬
‫ذكر الوقيعة اليت بينه وبني أمحد بن صاحل املصري ‪:‬‬
‫مسع – رمحه اهلل – يف رحلته إىل مصر من أمحد بن ص احل املص ري ال ذي هو أحد األئمة ال ذين يف طبقة اإلم ام أمحد ‪ ،‬وهو‬
‫إمام مشهور كثرت عبارات العلماء يف الثناء عليه ‪ ،‬إال أن النسائي بدالً من الرواية عن ذلك اإلمام والثناء عليه ‪ ،‬انقلب على الضد ‪،‬‬
‫فأصبح ينال من أ؛مد بن صاحل املصري ‪ ،‬ويتكلم فيه ‪ ،‬ويتهمه بالكذب ‪ ،‬إىل غري ذلك من العبارات اليت وردت عن النسائي يف حق‬
‫هذا اإلمام ‪.‬‬
‫وقبل أن أذكر الس بب يف ذلك أذكر بقصة أيب داود عن دما ك ان حريص اً على الس ماع ‪ ،‬بل حىت على إمساع أبنائه من‬
‫الشيوخ الذين يستطيع أن يسمعهم منهم ‪ ،‬ومن ذلك أنه رحل بابنه عبد اهلل إىل أمحد بن صاحل املصري وأحضره معه يف احللقة ‪ ،‬وقد‬
‫وضع أبو داود البنه عبد اهلل حلية مستعارة ؛ ألن أمحد بن صاحل مل يكن يسمح للمردان باحلضور إىل حلقته ‪.‬‬
‫وقد وردت القصة بلفظ آخر ‪ ،‬ولعله من هو األص وب ‪ ،‬وهو أنه قيل ‪ :‬إن أبا داود أحضر ابنه وهو أم رد ‪ ،‬ومل يكن وضع‬
‫له ه ذه اللحية اليت قيل إنه وض عها له ‪ ،‬وحينما أحض ره رفض أمحد بن ص احل أن حيدث حىت خيرج أبو داود ابنه ‪ ،‬فق ال له أبو داود ‪:‬‬
‫إنه أحفظ وأذكى من امللتحني فامتحنه ‪ ،‬فامتحنه أمحد بن صاحل فوجده أهالً للتحمل ‪ ،‬فسمح له باستثناء ‪.‬‬
‫وقد قيل إن أمحد بن صاحل كان عسراً وشديداً يف اإلمساع ‪ ،‬ال يسمع أحداً حىت يأتيه برجلني يزكيانه ‪ ،‬فيحتاج أن يأيت قبل‬
‫ذلك فيستأذن ويأيت مبن يزكيه ‪ ،‬وكان ال يسمح للمردان أيضاً ؛ ومع ذلك قالوا فيه عسر وشدة يف خلقه ‪ ،‬بل وصف – رمحه اهلل –‬
‫بشيء من العجب والتيه ؛ كل هذا يبدو أنه كان عامالً يف الوقيعة اليت وقعت بينه وبني النسائي ‪.‬‬
‫فيقال ‪ :‬إن النسائي جاء وحضر على اعتبار أهنا كبقية حلقات الشيوخ ‪ ،‬فلما جاء رفض أمحد بن صاحل املصري إمساعه ‪،‬‬
‫ألنه يعترب دخل البيوت من غري أبواهبا يف نظر أمحد بن صاحل املصري ‪ ،‬فطرده من حلقته ‪ ،‬فوقع هذا يف نفس السنائي ‪ ،‬فأصبح يتكلم‬
‫يف أمحد بن صاحل املصري ؛ ولذلك قال العلماء ‪ :‬إنه ال يسمع كالم النسائي يف أمحد بن صاحل املصري هلذا السبب‪.‬‬
‫مث إنه – رمحه اهلل – يف حال الرحلة يبدو أنه راق له املقام يف مصر ؛ فأقام فيها واستوطنها حىت توفاه اهلل ‪.‬‬
‫ولقد عمر النسائي – رمحه اهلل – حيث عاش قريباً من تسعني عاماً ‪ ،‬وقد توفاه اهلل يف سنة ثالمثائة وثالثة للهجرة ‪.‬‬
‫وكان النسائي قد ظفر بأسانيد عالية مما جعل التالميذ حيرصون على السماع من النسائي وعلى لقيه ‪.‬‬
‫أي أن هناك عاملني أساسيني ‪:‬‬
‫العامل األول ‪ :‬أن النسائي عمر فعاش مدة تقرب من تسعني عاماً ‪.‬‬
‫العامل الثاين ‪ :‬أنه طلب العلم يف الصغر ‪ ،‬أي ليس كالرتمذي الذي أشرنا إىل أنه تأخر طلبه للعلم ؛ فالنسائي طلب العلم يف‬
‫الصغر ‪ ،‬ومل طلب العلم ظفر بأسانيد عالية مثل قتيبة بن سعيد ‪ ،‬وإسحاق بن راهويه ‪ ،‬وأمثاهلم ؛ فهذه األسانيد العالية اليت حصلت‬
‫للنسائي جعلت طلبة العلم حيرصون على السماع منه ؛ ألهنم سيظفرون أيضاً بعلو اإلسناد ‪.‬‬
‫تالميذه ‪:‬‬

‫‪101‬‬
‫جند كبار األئمة تتلمذوا على النسائي ‪ ،‬ومن هؤالء ‪ :‬ابن حبان صاحب "الصحيح" ‪ ،‬والعقيلي صاحب "الضعفاء" ‪ ،‬وابن‬
‫عدي صاحب "الكامل" ‪ ،‬والدواليب – ومع العلم بأنه يعترب من أقران النسائي ولكنه مسع منه – وهو صاحب كتاب األمساء والكىن "‬
‫‪ ،‬والطحاوي صاحب "شرح معاين اآلثار" و "مشاكل اآلثار" وصاحب "الطحاوية" ‪ ،‬وأبو عوانة صاحب "املستخرج على صحيح‬
‫مسلم" ‪ ،‬وأبو سعيد بن يونس صاحب " تاريخ مصر " ‪ ،‬والطرباين ‪ ،‬اإلمام املشهور‪ -‬صاحب "املعاجم الثالثة" ‪ ،‬وابن السين صاحب‬
‫"عمل اليوم والليلة" وكتاب القناعة ‪ ،‬والذي هو أحد رواة السنن ‪ ،‬كما سيأيت إن شاء اهلل ‪ ،‬وغري هؤالء كثري ‪.‬‬
‫كتابه " خصائص علي " ‪:‬‬
‫وذات مرة دخل النسائي – رمحه اهلل – دمشق ‪ ،‬فرأى كثرياً من أهلها منحرفاً – كما يقال – عن علي ‪ ،‬أي ليس لعلي بن‬
‫أيب طالب – رضي اهلل عنه – مكانه عندهم ‪ ،‬بل رمبا تناوله بعضهم بالوقيعة ؛ فألف كتاب " خصائص علي " فذكر فيه فضائل علي‬
‫– رضي اهلل عنه – رجاء أن يهديهم اهلل ‪.‬‬
‫وقد أنكر عليه بعض الن اس ؛ ألنه ت رك الش يخني – أبا بكر وعمر – وص نف يف علي ؛ ف ألف بعد ذلك كت اب " فض ائل‬
‫الصحابة " ‪ ،‬ولكنه مل خيرج يف فضل معاوية بن أيب سفيان – رضي اهلل عنه – شيئاً ‪ ،‬والسبب أنه مل جيد يف فضله شيئاً على شرطه ‪،‬‬
‫بل األحاديث اليت وردت يف فضل معاوية – رضي اهلل عنه – ال تصح ‪.‬‬
‫فقيل ‪ :‬إنه تكلم بكالم عن معاوية أخذ عليه هذا الكالم ؛ فتناوله أهل دمشق بالضرب ‪ ،‬فأخذوا يدفعون يف جنبيه ‪ ،‬ويبدو‬
‫أهنم أيضاً ضربوه يف خصيتيه حىت أخرجوه من املسجد الذي كان فيه ‪ ،‬فأثر فيه هذا الصنيع ؛ فقال ‪ :‬امحلوين إىل مكة ‪ ،‬فحمل وتويف‬
‫رمحه اهلل ‪.‬‬
‫وفاته ‪:‬‬
‫قيل ‪ :‬إنه ت ويف بالرملة يف فلس طني ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إنه ت ويف مبكة ‪ ،‬واخلالف ج اء بني أيب س عيد بن ي ونس ال ذي هو أحد تالميذ‬
‫النس ائي ‪ ،‬وبني ال دار قطين ‪ ،‬فال دار قطين ي رى أنه ت ويف مبكة ‪ ،‬وأبو س عيد ي رى أنه ت ويف بالرملة ‪ .‬وبعض العلم اء – مثل ال ذهيب –‬
‫رجح قول ابن يونس ؛ ألنه تلميذ للنسائي ‪ ،‬أما الدار قطين فلم يدرك النسائي ‪.‬‬
‫كان وفاته – رمحه اهلل – يف سنة ثالث وثالمثائة للهجرة ‪ ،‬وذلك يف يوم االثنني لثالث عشرة ليلة خلت من شهر صفر ‪.‬‬
‫تقدميه على مسلم صاحب الصحيح ‪:‬‬
‫ع رف النس ائي باحلفظ واإلتق ان حىت إن ال ذهيب قدمه على مس لم ‪ ،‬وي رى ال ذهيب أن النس ائي أحفظ من مس لم ص احب‬
‫الصحيح ‪.‬‬
‫وكما قلت ‪ :‬إنه ظفر بأسانيد عالية ؛ فحرص طلبة العلم على التلقي عنه ‪.‬‬
‫ويظهر أنه – رمحه اهلل – كان موسر احلال ‪ ،‬ونقل عنه أ‪،‬ه كان متزوج اً بأربع نسوة‪ ،‬ويضيف إليهن يف الغالب سرية من‬
‫السرايا ‪ ،‬فكان يقسم خلمس ‪ ،‬وذكروا كالماً يف هذا ال داعي لذكره يف هذا املوضع ‪.‬‬
‫عبادته واحرتازه من السلطان ‪:‬‬
‫وكان مع هذا صاحب عبادة ‪ ،‬وقد ذكر وأنه خرج مرة مع أمري مصر لفداء بعض املسلمني الذين وقعوا يف األسر ‪ ،‬فوصفوا‬
‫من شهامته – رمحه اهلل – وحرصه على إقامته لسنن املأثورة واحرتازه عن جمالس السلطان الذي خرج معه ما جعل العلماء يُعجبون‬
‫به ويثنون عليه ‪.‬‬
‫وك ان – رمحه اهلل – يص وم مثل ص يام داود عليه الس الم ؛ يص وم يوم اً ويُفطر يوم اً ‪ ،‬ومع ه ذا ك ان يف وجهه ش يء من‬
‫البهاء والنضرة ‪ ،‬حىت إ‪ ،‬بعضهم كان يظن أن النسائي يشرب النبيذ؛ ألن النبيذ يُعطي اإلنسان عافية وصحة يف جسمه ‪ ،‬ألجل نسبة‬
‫احلايل اليت فيه ‪ ،‬لكن ملا سئل النسائي أجاب بأنه يرى ُحرمة النبيذ ‪ ،‬وليس ممن يتوسع يف ذلك ‪.‬‬
‫توليه القضاء ‪:‬‬

‫‪102‬‬
‫وكان – رمحه اهلل – قد توىل القضاء يف مصر ويف محص ‪.‬‬
‫مؤلفاته ‪:‬‬
‫توىف – رمحه اهلل – بعد أن ألف مؤلفات عديدة مهمة جداً ‪ ،‬منها ‪:‬‬

‫كتاب " الكىن " ‪ ،‬وهذا الكتاب مل يصل إلينا ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫كتاب " الضعفاء واملرتوكني " وهو مطبوع ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫كت اب " ح ديث مالك بن أنس " ‪ ،‬وقد جعل املزي أح اديث ه ذا الكت اب من ض من األح اديث اليت ذكرها يف " حتفة‬ ‫‪-‬‬

‫األشراف" ‪ ،‬ورجال أسانيده من ضمن الرجال الذين تطرق إليهم يف كتابه " هتذيب الكمال " ‪.‬‬
‫ويبدو أن النسائي كان حريصاً على تتبع أحاديث هؤالء األئمة املشهورين املكثرين ‪ ،‬فنجده ألف ‪:‬‬

‫مسنداً حلديث مالك بن أنس ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫مسنداً حلديث الزهري ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫مسنداً حلديث شعبة ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫مسنداً حلديث الثوري ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫مسنداً حلديث ابن جريج ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫مسنداً حلديث القطان ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫مسنداً حلديث الفضيل بن عياض ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪ -‬مسنداً حلديث علي بن أيب طالب رضي اهلل عنه ‪.‬‬


‫وقد ألف غري ذلك من املؤلف ات الكث رية اليت بعض ها تعترب من كتب الس نن له ‪ ،‬مثل كت اب "التفس ري" ‪ ،‬وكت اب " عش رة‬
‫النساء" ‪ ،‬وكتاب " عمر اليوم والليلة" وكتاب "اجلمعة"‪ ،‬فهذه اعتربوها داخلة يف كتاب " السنن الكبري" له ‪.‬‬
‫كتابه ا لسنن ‪:‬‬
‫وأشهر هذه الكتب اليت وصلت إلينا كتاب " السنن " ‪ ،‬وهذا الكتاب كتاب كبري جداً‪ ،‬له عدة روايات ‪ ،‬جند يف كل رواية‬
‫ما ليس يف اآلخرى من الكتب ويظهر أن السبب هو أن كرب حجم الكتاب جعل بعض هذه الكتب يفوت مساعها بعض أولئك الرواة‬
‫الذين رووا السنن عن النسائي ‪ ،‬لكن مبجموع هذه الروايات ميكن أن يضم بعضها إىل بعض لتشكل كتاب اً كبرياً هو كتاب السنن‬
‫الكربى للنسائي ‪.‬‬
‫رواية كتاب السنن عنه ‪:‬‬
‫ه ذا الكت اب جند ال ذين رووه عن النس ائي ك ثرة ‪ ،‬من مجلتهم – كما ذكر احلافظ ابن حجر – عبد الك رمي ال ذي هو ابن‬
‫النسائي ‪.‬‬

‫ومنهم ابن السين أبو بكر أمحد بن حممد الذي اشتهرت روايته ‪ ،‬وسيأيت احلديث عنها إىل شاء اهلل ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫ومن هؤالء أبو علي احلسن بن األخضر األسيوطي ‪ ،‬أو ابن اخلضر األسيوطي ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫وكذلك احلسن بن رشيق العسكري ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪103‬‬
‫وأبو احلسن حممد بن عبد اهلل بن حيويه ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫وحممد بن معاوية املشهور بابن األمحر األندلسي ‪ ،‬وروايته مشهورة ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫وحممد بن قاسم بن سيار القرطيب ‪ ،‬ورواية ابن سيار القرطيب أيضاً مشهورة ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫وعلي بن أيب جعفر الطحاوي ‪ ،‬وليس هو الطحاوي صاحب "شرح معاين اآلثار" ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪ -‬وأبو بكر أمحد بن حممد بن املهندس ‪.‬‬


‫وغري هؤالء أيضاً قد رووا السنن عن النسائي ‪.‬‬
‫إطالق لفظ الصحة على سنن النسائي ‪:‬‬
‫وألمهية سنن السنائي وإعجاب العلماء هبا جند أن هناك من أطلق عليها الصحة ‪ ،‬فسماها باسم " الصحيح " ‪ ،‬من هؤالء –‬
‫كما قيل – أبو عبد اهلل بن منده ‪ ،‬وابن السكن ‪ ،‬وأبو علي النيسابوري ‪ ،‬والدار قطين ‪ ،‬وابن عدي ‪ ،‬واخلطب البغدادي ‪.‬‬
‫ولكن هذا حيتاج أوالً التثبيت من إطالق العلماء لفظ الصحة على سنن النسائي ‪ ،‬فإن صح عنهم أو عن بعضهم أنه أطلق‬
‫الصحة عليه ‪ ،‬فلعله يعين ما أخرجه من املقدار الكبري من احلديث الصحيح ‪ ،‬مع تنبيه على احلديث الضعيف ‪.‬‬
‫وأما أن يكون مجيع ما يف سنن النسائي كله صحيح ‪ ،‬فهذا ليس بصحيح كما سوف أبني إن شاء اهلل ‪.‬‬
‫ثناء العلماء على كتابه السنن ‪:‬‬
‫من العب ارات اليت ميكن أن تفي دنا يف معرفة مكانة س نن النس ائي ق ول ابن الرش يد ‪" :‬كت اب النس ائي أب دع الكتب املص نفة‬
‫للسنن تصنيفاً وأحسنها ترصيفاً " ‪.‬‬
‫ويق ول عبد ال رحيم املكي ال ذي هو أحد ش يوخ ابن األمحر ال ذي هو أحد رواة الس نن ‪ ،‬يق ول عن س نن النس ائي ‪ " :‬إنه‬
‫أش رف املص نفات كلها ‪ ،‬وما وضع يف اإلس الم مثل ه" ‪ ،‬وه ذه العب ارة قد يك ون فيها ش يء من املبالغة ‪ ،‬ولكنها ج اءت من قبيل‬
‫إعجاهبم بسنن النسائي ‪ ،‬وإال فالصحيحان أحسن مكانة منه ‪.‬‬
‫تشدده يف اجلرح والتعديل ‪:‬‬
‫وقد ع رف النس ائي بتش دده يف اجلرح ‪ ،‬وه ذا التش دد أف اده يف انتق اء األح اديث يف س ننه الك ربى ؛ أي أنه ليس كالرتمذي‬
‫الذي خرج أحاديث انتقدت عليه ‪ ،‬وخرج عن بعض الرواة الذين تسمح يف اإلخراج هلم ‪ ،‬بل إن النسائي عرف بالتشدد يف اجلرح ‪.‬‬
‫وهذا التشدد هو الذي دع اه إىل ت رك مثل حديث ابن هليعة ‪ ،‬فنجد بعض العلم اء مثل الدار قطين وغريه انبهروا من صنيع‬
‫النس ائي ؛ ألن الواحد منهم ك ان يفخر بعلو اإلس ناد ‪ ،‬وقد حصل للنس ائي علو إس ناد ال مثيل له ‪ ،‬لكن من طريق ابن هليعة حينما‬
‫خيرج حديثاً عن شيخه قتيبة بن سعيد ‪ ،‬وقتيبة يروي عن ابن هليعة ‪ ،‬وابن هليعة يعترب من قدماء شيوخ قتيبة بن سعيد ؛ فيصبح عنده‬
‫أسانيد علية من هذا الباب ‪ ،‬فكون النسائي يرتك مجيع هذه األسانيد وال خيرج البن هليعة شيئاً ‪ ،‬فيعتربون هذا من باب الصرب الذي‬
‫قد ال حيتمله بعض الشيوخ آنذاك ؛ فيقولون ‪ :‬من يصرب على ما صرب عليه النسائي ‪ ،‬كان عنده حديث ابن هليعة حديثاً حديثاً ‪ ،‬فرتك‬
‫حديث ابن هليعة ‪ ،‬ومل يرتكه النسائي إال ألجل الكالم الذي فيه ‪.‬‬
‫أقسام األحاديث اليت يف السنن ‪:‬‬
‫وجند ابن طاهر املقدسي – رمحه اهلل – هو الذي تكلم عن شروط األئمة الستة ‪ ،‬فهو يقسم أحاديث سنن النسائي إىل ثالثة‬
‫أقسام ‪.‬‬
‫القسم األول ‪:‬‬
‫أحاديث خمرجة يف الصحيحني ‪ ،‬وأكثر الكتاب من هذا الباب ‪.‬‬
‫القسم الثاين ‪:‬‬

‫‪104‬‬
‫أحاديث صحيحة على شرط الشيخني ‪.‬‬
‫القسم الثالث ‪:‬‬
‫أح اديث أخرجها النس ائي ‪ ،‬وأوضح علتها بطريقة يفهمها أهل الص نعة ؛ أي أنه قد يشري إىل علة احلديث إش ارة واض حة ‪،‬‬
‫وقد ال يشري إش ارة واض حة ‪ ،‬ولكنها إش ارة يفهمها أهل الص نعة‪ ،‬وذلك ك أن يُ ورد احلديث مثالً ‪ ،‬مث يق ول ‪ :‬ذكر اختالف الن اقلني‬
‫هلذا اخلرب عن فالن ‪-‬الذي هو أحد الرواة الذين تدور عليهم أسانيد هذا احلديث ‪ ، -‬مث يبدأ يف بيان اختالف يف هذا احلديث مبا‬
‫يشري إىل أن ه ذا احلديث من األح اديث املعلولة بس بب ذلك االختالف ال وارد فيه ‪ .‬فبعض الن اس قد ال يفهم ص نيع النس ائي ه ذا ‪،‬‬
‫ولكنه يفهمه أهل الصنعة ‪.‬‬
‫منهج النسائي ‪:‬‬
‫ومنهجه – رمحه اهلل – صرح به يف إخراج بعض الرواة ‪ ،‬فإنه صرح أنه ال يرتك حديث الراوي حىت جيمع األئمة على تركه‬
‫‪ ،‬ولعل مقصده – رمحه اهلل – يف إمجاع األئمة هو إمجاع أئمة طبقة معينة ‪.‬‬
‫فمثالً إذا جئنا لراو حدث عنه عبد الرمحن بن مهدي وتركه حيي بن سعيد القطان ‪ ،‬يُعترب النسائي مثالً هذا الصنيع من باب‬
‫االختالف يف ذلك الراوي ‪ ،‬فيقول ‪ :‬إنه ما دام مل جيمع حيىي بن القطان وعبد الرمحن بن مهدي على ترك ذلك الراوي فأنا ال أتركه‬
‫هبذه الصورة ‪ ،‬ألننا جنده أحياناً يرتك أحاديث بعض الرواة الذين ليسوا هبذه الصفة مثل ابن هليعة ‪ ،‬فلم جيمع األئمة على ترك حديثه ‪،‬‬
‫بل األمر فيه خمتلف ‪ ،‬ولكن النسائي ترك حديثه ؛ ألنه ترجح لديه جرح ابن هليعة‪.‬‬
‫وال ذي ي دل على ه ذا ذلك احلديث ال ذي أخرجه النس ائي من طريق عبد اهلل بن عثم ان بن خ ثيم ‪ ،‬وعبد اهلل بن عثم ان بن‬
‫خثيم خمتلف فيه ‪ ،‬والراجح يف حالة أنه صدوق حسن احلديث إن شاء اهلل(‪. )124‬‬
‫وقد روى عبد اهلل بن عثم ان بن خ ثيم ح ديثاً أخرجه عنه النس ائي يف الس نن ‪ ،‬وهو ح ديث ج ابر بن عبد اهلل – رضي اهلل‬
‫عنهما – يف إرسال النيب صلى اهلل عليه وسلم علي بن أيب طالب إىل موسم احلج ليقرأ عليهم سورة براءة(‪ ، )125‬واحلديث معروف ‪.‬‬
‫فإذن هو حينما أخرج حديث هذا الراوي بني أن هذا الراوي من الرواة الذين اختلف أئمة احلديث فيهم ‪ ،‬فعلي بن املديين‬
‫جيرحه ‪ ،‬وعبد ال رمحن بن مه دي وحيىي بن س عيد القط ان روايا عنه ؛ أي أهنما ع داله ‪ .‬فه ذا ي دل على اختالفهم يف ه ذا ال راوي ‪،‬‬
‫ولذلك خرج حديثه ‪ ،‬فهذا الصنيع منه يدل على صدق العبارة اليت ذكرت عنه ‪.‬‬
‫وجند أنه من شدته يف اجلرح جتنب إخراج أحاديث مجاعة ممن أخرج هلم البخاري ومسلم يف صحيحهما ‪ ،‬مثل إمساعيل بن‬
‫أيب أويس(‪ )126‬الذي هو ابن أخت اإلمام مالك ‪ ،‬وهو أحد شيوخ البخاري ومسلم ‪.‬‬
‫فه ذا ال راوي متكلم فيه ‪ ،‬وقد اجتهد البخ اري ومس لم فأخرجا من حديثه ما انتقي اه ‪ ،‬وأما النس ائي – رمحه اهلل – فإنه‬
‫أعرض عن حديث هذا الراوي ‪.‬‬
‫بل إننا لنجد ال دار قطين – رمحه اهلل – أف راد مص نفاً مجع فيه أمساء ال رواة ال ذين ض عفهم النس ائي وأخ رج هلم الش يخان يف‬
‫صحيحيهما ‪.‬‬

‫(‪ )1‬عبد اهلل بن عثمان بن خثيم ‪ ،‬القارئ المكي ‪ ،‬أبو عثمان ‪ ،‬صدوق ‪ ،‬من الخامسة ‪ ،‬مات سنة ‪ .132‬أخرج له‬ ‫‪124‬‬

‫البخاري تعليقاً وباقي الستة ‪ .‬تقريب ت ‪. 3836 :‬‬


‫(‪ )1‬أخرجه السنائي (‪. )5/247‬‬ ‫‪125‬‬

‫(‪ )1‬إس ‪gg‬ماعيل بن عبد اهلل بن أويس بن مالك بن أبي ع ‪gg‬امر األص ‪gg‬بحي ‪ ،‬أبو عبد اهلل بن أبي أويس الم ‪gg‬دني ‪ ،‬ص ‪gg‬دوق أخطأ‬ ‫‪126‬‬

‫في أحاديث من حفظه‪ ، g‬من العاشرة ‪ ،‬مات سنة ‪ ، 226‬أخرج له الجماعة إال النسائي ‪ .‬تقريب ت‪. 527:‬‬
‫‪105‬‬
‫ول ذلك فإننا جند أن من منهج النس ائي – رمحه اهلل – يف كتابه ه ذا أنه حيرص كل احلرص يف الب اب الواحد على إخ راج‬
‫احلديث الص حيح إذا وج ده ‪ ،‬ف إن مل جيد أخ رج بعض األح اديث الض عيفة اليت ي رى أن رواهتا املض عفني ممن مل جيمع األئمة على‬
‫ضعفهم وترك أحاديثهم ‪.‬‬
‫ولرمبا وجد النسائي يف الباب حديثاً صحيحاً ‪ ،‬وأخرج معه بعض األحاديث الضعيفة‪ ،‬والسب يف ذلك كون ذلك احلديث‬
‫الضعيف تضمن زيادة مل ترد يف احلديث الصحيح ‪.‬‬
‫ومثاله ‪:‬‬
‫ذلك احلديث الذي رواه من طريق سعيد بن سلمة ‪ ،‬عن عمرو بن أيب عمرو موىل املطلب ‪ ،‬عن أنس بن مالك – رضي اهلل‬
‫عنه – أنه ق ال ‪ " :‬ك ان رس ول اهلل ص لى اهلل عليه وس لم إذا دعا ق ال ‪ :‬اللهم إين أع وذ بك من اهلم واحلزن ‪ ،‬والعجز والكسل ‪،‬‬
‫والبخل واجلنب ‪ ،‬وضلع الدين وغلبة الرجال"(‪. )127‬‬
‫ق ال النس ائي ملا أخ رج ه ذا احلديث ‪" :‬س عيد بن س لمة ش يخ ض عيف"(‪ ، )128‬وإمنا أخرجن اه للزي ادة يف احلديث" ‪ .‬فه ذا‬
‫احلديث جاءت فيه زيادة مل تكن موجودة يف األحاديث اليت أخرجها هو من غري طريق سعيد بن سلمة ‪.‬‬
‫عناية بالناحية الفقهية يف كتابه السنن ‪:‬‬
‫جند كت اب النس ائي – رمحه اهلل – من الكتب اليت ُع نيت بالناحية الفقهية ‪ ،‬مع ما تض منته من الناحية احلديثية اليت سنشري‬
‫لبعضها ‪.‬‬
‫فنجد كتاب اً فقهي اً ؛ لكونه رتب األح اديث ترتيب اً فقهي اً مص احباً التب ويب والرتمجة على تلك األح اديث مبا تض منته تلك‬
‫األحاديث من معان فقهية ‪.‬‬
‫فهو إذن مثل الرتمذي – رمحه اهلل – الذي سبق الكالم عن صنيعه ‪ ،‬فالرتمذي –كما قلنا‪ -‬مجع بني طرقيت شيخية البخاري‬
‫ومسلم ‪ ،‬وكذلك النسائي مجع بني طريقيت البخاري ومسلم ‪ ،‬أي بني الصناعة احلديثية وبني الصناعة الفقهية ‪.‬‬
‫لكن الرتم ذي أك ثر إيض احاً لفقه احلديث من النس ائي ؛ فالرتم ذي جنده يُعين عناية فائقة ب إيراد آراء الفقه اء ‪ ،‬بينما ميت از‬
‫كتاب النسائي عن كتاب الرتمذي بأنه أقل إخراج اً لألحاديث الضعيفة ‪ ،‬فهو أنقى من جامع الرتمذي ‪ .‬فلكل من الكتابني ميزة عن‬
‫اآلخر ‪ ،‬وليس معىن هذا أنه ال يورد بعض اآلراء الفقهية ‪ ،‬بل يوردها كما سأمثل ‪.‬‬
‫األدلة على عناية بالناحية الفقهية ‪:‬‬
‫ومن األدلة على عناية النس ائي بالناحية الفقهية تك راره للح ديث ‪ ،‬فإنه يك رر احلديث كث رياً ‪ ،‬وه ذه اعت ربت م يزة لكت اب‬
‫السنائي على كتاب الرتمذي ‪ ،‬فنجده يكرر األحاديث يف مواضع متعددة حىت قيل ‪ :‬إنه أكثر الكتب تكراراً لألحاديث ‪ ،‬من األمثلة‬
‫على ذلك حديث ‪" :‬إمنا األعمال بالنيات ‪ ،‬وإمنا لكل امرئ ما نوى" ‪ ،‬جند النسائي – رمحه اهلل – كرر هذا احلديث ست عشر مرة‬
‫‪ ،‬وهذا مقدار كثري بال شك ‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬إن كت اب الرتم ذي يتم يز على كتابه ب إيراد الرتم ذي آلراء الفقه اء ‪ ،‬ولكن ليس معىن ه ذا أن النس ائي ال ينقل عن‬
‫الفقه اء آراءهم ‪ ،‬بل ينقلها ‪ ،‬ولكنها قليلة ‪ ،‬ومن أمثلة ذلك ‪ :‬نقل عن مس روق – رمحه اهلل – فت وى له يف اهلدية والرش وة(‪. )129‬‬
‫وهناك أمثلة غري هذا ‪.‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه النسائي (‪. )8/258‬‬ ‫‪127‬‬

‫(‪ )1‬س ‪gg‬عيد بن س ‪gg‬لمة بن أبي الحس ‪gg‬ام الع ‪gg‬دوي م ‪gg‬والهم ‪ ،‬أبو عم ‪gg‬رو الم ‪gg‬دني ‪ ،‬وهو أبو عم ‪gg‬رو السدوسي ال ‪gg‬ذي روى عنه‬ ‫‪128‬‬

‫العقدي ‪ ،‬صدوق صحيح الكتاب يخطئ من حفظه‪ ، g‬من السابعة ‪ ،‬أخرج له البخاري تعليقاً ‪ ،‬ومس‪gg‬لم وأبو داود والنس‪gg‬ائي‬
‫‪ ،‬تقريب ت ‪. 2566 :‬‬
‫(‪ )1‬انظر ‪ :‬سنن النسائي (‪. )8/314‬‬ ‫‪129‬‬

‫‪106‬‬
‫ومن األدلة على اعتنائه بفقه احلديث أنه يف أحي ان كث رية يقتصر على موضع الش اهد من احلديث ‪ ،‬وخيتصر املنت حينما ال‬
‫يهمه يقيته يف ذلك املوضع ‪.‬‬
‫ومن أمثلة عنايته بالناحية الفقهية أنه أحياناً يورد كالماً من عنده يدل على فقه احلديث‪ ،‬وقد يكون هذا الكالم طويالً ‪ ،‬قد‬
‫يصل حنو الصفحتني ‪.‬‬
‫ومن أمثلة عنايته بالناحية الفقهية أنه أحيان اً يورد كالم اً من عنده يدل على فقه احلديث ‪ ،‬وقد يكون هذا الكالم طويالً ‪،‬‬
‫قد يصل حنو الصفحتني ‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك أنه ق ال يف كت اب املزارعة ‪ " :‬كتابة مزارع ة" ‪ ،‬مث س رد كالم اً ط ويالً (‪ ،)130‬ويف ه ذا الكالم ص نع‬
‫منوذج اً يف كتاب املزارعة أشبه ما يكون يف العقد بني االثنني اللذين يعقدان بينهما عقداً على مزارعة أرض ‪ ،‬وهذا يدل على توسعه‬
‫يف الكالم على فقه احلديث ‪.‬‬
‫ك ذلك أيض اً جند أنه ي ورد يف بعض األحي ان األح اديث املتعارضة يف الب اب الواحد ‪ ،‬وه ذه األح اديث املتعارضة يف معناها‬
‫ميكن أن يس تخلص منها أن النس ائي – رمحه اهلل – ي رى العمل هبذا وذاك ‪ ،‬وميثل ون هلذا ب إيراده ألح اديث اجلهة بالبس ملة ‪ ،‬وع دم‬
‫رج‬ ‫اجلهر هبا ‪ ،‬فقد أخ‬
‫"أحاديث اجلهر وأحاديث عدم اجلهر"(‪ ، )131‬فكأنه يشري إىل أنه يُعمل هبذه وهبذه ‪ ،‬ومل يرجع شيئاً من هذا األحاديث على األخرى ‪.‬‬
‫هذا بالنسبة لفقه احلديث ‪.‬‬
‫عنايته بالناحية احلديثية يف كتابه السنن ‪:‬‬
‫أما بالنس بة للناحية احلديثية أو الص ناعة احلديثية ‪ ،‬فنج ده – رمحه اهلل – يف كثري من األحي ان يُعين بعلل األح اديث ‪ ،‬في ورد‬
‫احلديث من ط رق متع ددة على اختالف الن اقلني هلذا احلديث ‪ ،‬لكنه يف البداية ي ورد احلديث من طريق ‪ ،‬مث يب وب بعد ذلك باب اً ‪،‬‬
‫فيقول ‪" :‬باب بيان اختالف الناقلني للحديث عن فالن " – مثالً عن األوزاعي ‪ ،‬مث يبدأ يذكر اختالف على األوزاعي ‪ ،‬مما يدل على‬
‫أن كتابه هذا يعترب من كتب العلل ‪.‬‬
‫أو أن النس ائي – رمحه اهلل – عين بإبراز علل احلديث ‪ ،‬مثله مثل الدار قطين يف كتاب "العل ل" حينما يورد علل األحاديث‬
‫واختالف الناقلني هلا ‪.‬‬
‫فجمع النسائي – رمحه اهلل – بني اجلودة احلديثية وبني الصناعة احلديثية وبني فقه احلديث‪ ،‬كما أشرنا سابقاً ‪.‬‬
‫بعض فوائد كتاب السنائي (السنن) ‪:‬‬
‫كما أن كتابه تضمن فوائد عديدة مثل ‪ :‬تسميته لبعض املكنيني – أي املعروفني بالكين ‪ ، -‬وتكنيته لبعض املتسمني الذين‬
‫عرفوا بأمسائهم ‪ ،‬مثل قوله ‪ :‬أبو عمار ‪ : -‬أمسه علي بن محيد‪.‬‬
‫كذلك أيضاً من الفوائد اجلليلة يف كتاب النسائي حكمه على األحاديث ‪ ،‬فنجده يف كثري من األماكن يقول ‪ :‬هذا حديث‬
‫منكر ‪ ،‬أو هذا حديث غري حمفوظ ‪ ،‬أو هذا حديث ليس بثابت ‪ ،‬أو هذا حديث صحيح ‪.‬‬
‫فهذه األحك ام من النس ائي تفيد – بال شك – طلبة العلم والب احثني والعلم اء بعد ذلك ؛ ألهنا ص درت من إم ام مطلع مثل‬
‫النسائي املشهود له بطول الباع يف هذا الفن ‪.‬‬
‫كما أن من الفوائد اليت تضمنها كتابه كالمه – رمحه اهلل – يف الرواة جراح اً وتعديالً ‪ ،‬وهذا كثري يف كتابه ‪ ،‬بل إن بعض‬
‫طلبة العلم يف ه ذا الزم ان ذهب ليجمع كالم النس ائي –رمحه اهلل – يف س ننه وجعله يف كت اب خ رج باسم "املس تخرج من مص نفات‬
‫النسائي يف اجلرح والتعديل" فأورد كالم النسائي من السنن يف الرواة جرحاً وتعديالً ‪.‬‬

‫(‪ )1‬انظر ‪ :‬سنن النسائي (‪ ،54 ،521 – 67/50‬فما بعدها) ‪.‬‬ ‫‪130‬‬

‫(‪ )1‬انظر ‪ :‬سنن النسائي (‪ 2/134‬فما بعدها) ‪.‬‬ ‫‪131‬‬

‫‪107‬‬
‫وكالم النسائي هذا وإن كان منثوراً يف سننه إال أن العلماء السابقني عُنوا أيضاً جبمعه ‪ ،‬ومل يهملوه ‪ ،‬ولكن هذا األخ الذي‬
‫مجعه مجعه يف م وطن واحد ‪ ،‬إال أننا لو رجعنا إىل مثل "هتذيب الته ذيب" للحافظ ابن حجر يف ترجيحه كل راو يك ون الس نائي قد‬
‫تكلم عنه جند ابن حجر ي ورد كالم النس ائي ‪ ،‬وقد يك ون كالم الس نائي ه ذا موج ودًأ يف كتابه " الض عفاء واملرتوكني" ‪ ،‬وقد يك ون‬
‫موجوداً يف كتابه "السنن" ‪ ،‬كل هذا مما مجع عن النسائي رمحه اهلل ‪.‬‬
‫وجند أن األح اديث اليت أوردها النس ائي يف س ننه كلها – تقريب اً – مس ندة ‪ ،‬أي مروية باإلس ناد املتصل إىل النيب ص لى اهلل‬
‫عليه وس لم ‪ ،‬أو من دونه من الص حابة ‪ ،‬وال ي ورد النس ائي ش يئاً من األح اديث املعلقة كما حصل عند البخ اري أو عند مس لم على‬
‫قلته وندرته ‪ ،‬أو عند الرتمذي أيضاً على قلته ‪ ،‬وإمنا وجد الذي صورته صورة املعلق يف موضعني أثنني علق فيهما النسائي حديثني ‪.‬‬
‫وهذا الكالم أذكره بناء على ما يقوله فقاروق محادة الذي حقق " عمل اليوم والليلة" للنسائي ‪ ،‬وتكلم يف مقدمة هذا الكتاب بكالم‬
‫جيد عن السنائي وعن منهجه يف كتابه "السنن" ‪ ،‬وهو من الكتب اليت رجعت إليها واعتمدت عليها يف حتضري هذا املادة اليت أطرحها‬
‫اآلن ‪.‬‬
‫عدم اعنائه باألحاديث العالية لكوهنا غري صحيحة عنده ‪:‬‬
‫أما بالنس بة لألح اديث العالية والنازلة عند الس نائي ‪ ،‬ف أعلى ما عند النس ائي األح اديث الرباعية ‪ ،‬أي أننا ال جند ش يئاً من‬
‫األحاديث الثالثية عند النسائي ؛ والسبب أنه – رمحه اهلل‪ -‬كان يُعين بانتقاء األحاديث ‪.‬‬
‫ولو تطلب إخراج حديثاً ثالثي اً ألخرجه ؛ ألن الذين يف طبقته مثل الرتمذي أو ابن ماجه ليس عندهم من األحاديث الثالثية‬
‫ص حيحة اإلس ناد ش يء ‪ ،‬فاألح اديث الثالثية يف ج امع الرتم ذي إمنا هي ح ديث واحد ‪ ،‬وس بق أن ذكرته لكم(‪ ، )132‬وقلت ‪ :‬إن فيه‬
‫عمر بن شاكر ‪ ،‬وهو راو] مضعف ‪ ،‬فاحلديث ليس بصحيح ‪.‬‬
‫أما األح اديث اليت عند ابن ماجه الثالثية فهي أك ثر من ه ذا الع دد ‪ ،‬ولكنها مجيع اً من طريق جب ارة بن مغلس ‪ ،‬وهو أيض اً‬
‫ضعيف إن مل يكن ضعيفاً جداً(‪. )133‬‬
‫فإذا الرتمذي وابن ماجه مل خيرجا حديثاً صحيحاً ثالثياً ‪.‬‬
‫فالنسائي أعرض عن هذه األحاديث اليت قد يكون ظفر هبا ‪ ،‬وهي ثالثية اإلسناد ‪ ،‬ولذلك مل خيرج من األحاديث العالية إال‬
‫رباعية اإلسناد ‪ ،‬وهذا كثري عنده ‪.‬‬
‫أما بالنسبة لألحاديث النازلة عنده ‪ ،‬فهي عشارية اإلسناد ؛ أي أن بينه وبني النيب صلى اهلل عليه وسلم عشرة رواة ‪ ،‬واليت‬
‫أخرج منها الرتمذي حديثاً واحداً – تقريباً ‪ ، -‬أما ابن ماجه فقد أخرج أحاديث من هذا القبيل ولكنها قليلة ‪.‬‬
‫ومن تلك األح اديث العش ارية اليت خرجها النس ائي ح ديث أيب أي وب – رضي اهلل عنه – وهو يف فضل ق راءة {قل هو اهلل‬
‫أحد }(‪. )134‬‬
‫وملا أخرجه النسائي قال ‪ " :‬ال أعرف يف الدنيا إسناداً أطول من هذا اإلسناد" ؛ والسبب أنه رواه ستة أو سبعة من التابعني‬
‫‪ ،‬بعضهم يرويه عن بعض ؛ فطبقة التابعني تعترب نازلة حينما يكونون ستة أو سبعة فما بالك مبن بعد التابعني ‪.‬‬
‫هل تنسب السنن الصغرى للنسائي ‪ ،‬أم لتلميذه ابن السين ؟‬
‫هذه مسألة من املسائل اليت كثر الكالم فيها ‪.‬‬
‫أقول ‪ :‬سنن النسائي املوجودة نوعان ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬السنن الكربى ‪.‬‬

‫(‪ )1‬تقدم عند الكالم على الترمذي ‪.‬‬ ‫‪132‬‬

‫(‪ )1‬تقدم عند الكالم على ابن ماجه‪. g‬‬ ‫‪133‬‬

‫(‪ )1‬انظر ‪ :‬سنن النسائي (‪. )2/172‬‬ ‫‪134‬‬

‫‪108‬‬
‫الثاين ‪ :‬السنن الصغرى ‪ ،‬واملساة بـ " اجملتيب" أو " اجملتين" ‪.‬‬
‫واالختالف واقع حول الذي صنف اجملتىب – السنن الصغرى – هل هو النسائي أم غري النسائي ‪ .‬ويف هذا االختالف وقع‬
‫جدل طويل ينتصر فيه كل فريق لرأيه ‪.‬‬
‫الرأي األول ‪:‬‬
‫هن اك من ي رى أن ال ذي ألف ه ذا اجملتىب هو ابن السين ال راوي هلا ‪ ،‬وه ذا هو راي ال ذهيب‪ ،‬وابن ناصر ال دين الدمش قي‬
‫رمحهما اهلل تعاىل ‪.‬‬
‫والذي يظهر من صنيع املنذري واملزي أهنما يريان هذا وإن مل يكونا قاال ذلك صراحة ؛ ألننا جند املنذري – رمحه اهلل – يف‬
‫ش رحه لس نن أيب داود إذا ع زى احلديث للنس ائي يع زوه للس نن الك ربى ‪ ،‬واملزي – رمحه اهلل – حينما أخ رج األح اديث – أح اديث‬
‫النسائي – يف "حتفة األشراف" أخرج أحاديث الكربى ‪ ،‬وحينما تكلم عن الرجال يف "هتذيب الكمال" تكلم عن الرجال املوجودين‬
‫يف الكربى ‪ ،‬والكربى متضمنة للصغرى يف األعم األغلب ‪ . ،‬فكأن هذا يشكل رأيا للمنذري واملزي ‪ ،‬وأن كان يف ذلك شيء من‬
‫التكلفة بالنسبة هلذا الرأي هلما ‪ .‬فعلى كل حال ‪ :‬الذي نص على هذا صراحة هو الذهيب وابن ناصر الدين ‪.‬‬
‫الرأي الثاين ‪:‬‬
‫وهن اك فريق آخر – وهم ك ثر – ك ابن األثري ‪ ،‬وابن كثري ‪ ،‬والع راقي ‪ ،‬والس خاوي ‪ ،‬وغ ريهم – ي رون أن ه ذه الس نن‬
‫الصغرى من تصنيف النسائي نفسه ‪.‬‬
‫وعم دة أص حاب ه ذا ال رأي حكاية ج اءت بإس ناد منقطع ال تصح ‪ ،‬ويبعد أن تصح عن النس ائي حىت لو وردت بإس ناد‬
‫متصل ؛ ألن واقع السنن خيالف مقتضى هذه احلكاية ‪.‬‬
‫يقولون ‪ :‬إن أمري الرملة ملا اطلع على السنن الكربى للنسائي ‪ ،‬سأل النسائي فقال ‪ :‬هل كل ما يف هذا الكتاب صحيح ؟‬
‫فقال ‪" :‬ال" ‪ .‬قال ‪ :‬فأخرج يل الصحيح منه ؛ فانتقى هذا اجملتىب املسمى بالسنن الصغرى ‪،‬ـ وهو املطبوع واملشهور بأيدي طلبة العلم‬
‫يف هذا الزمان‪.‬‬
‫أقول ‪ :‬هذه احلكاية بإسنادها منطقع ؛ فهي إذن ال تثبت من حيث اإلسناد ‪ ،‬كما أهنا من حيث التضمني – ما تضمنته من‬
‫معىن – جند أن هذا املعىن غري صحيح ؛ ألننا جند هذه األحاديث املودعة يف اجملتىب فيها كثري من األحاديث اليت ليست بصحيحة ‪ ،‬بل‬
‫أحاديث أعلها النسائي نفسه‪ ،‬فكيف ميكن أن يقال ‪ :‬إنه انتقى الصحيح ألجل أمري الرملة ؟‬
‫ه ذا بعيد ج داً كما يتضح ملن يط الع س نن الس نائي ؛ وألجل ه ذا قلت ‪ :‬إن من حكم على س نن الس نائي بأهنا مما ألف يف‬
‫الصحيح ‪ ،‬كما نقل عن الدار قطين واخلطيب البغدادي وابن عدي يبعد أن تكون هذه النسبة إليهم صحيحة ‪ ،‬ولو صحت – ولرمبا‬
‫ص حت وه ذا ال يهمنا ‪ ، -‬فقد يك ون م رادهم ما تض منته من أح اديث ص حيحة كث رية وال يك ون م رادهم القطع عليها بأهنا كلها‬
‫صحيحة ‪ ،‬فهذا ال ميكن أن يكون ؛ ألن هذه السنن تضمنت أحاديث كثرية أعلها النسائي نفسه‪.‬‬
‫كما أهنم اعتمدوا يف قوهلم بأن هذا الكتاب – السنن الصغرى – من تصنيف النسائي نفسه – على أنه جاء من رواية ابن‬
‫السين عن النسائي ‪ ،‬فيقول ابن السين ‪ :‬هذا ما حدثنا أبو عبد الرمحن النسائي ‪ ،‬وينص على ذلك يف مواضع ‪.‬‬
‫أقول ‪ :‬هذا ال يعترب دليالً ؛ جند أن كثرياً من الكتب احلديثة اليت هلا أكثر من رواية عن املصنف حيصل فيها زيادة ونقص بني‬
‫تلك الروايات – وهذا كثري ‪ ، -‬وموطأ اإلمام مالك من أبرز األمثلة على هذا ‪.‬‬
‫فموطأ اإلم ام مالك رواه مجع عنه ‪ ،‬من مجلتهم حيىي بن حيىي اللي ثي ‪ ،‬وي ونس بن بك ري‪ ،‬والقعنيب ‪ ،‬وأبو مص عب الزه ري ‪،‬‬
‫وابن وهب ‪ ،‬والشافعي ‪ ،‬وحممد بن احلسن الشيباين ‪ ،‬وغري هؤالء كثري ‪ .‬فبعض هذه الروايات موجودة ومطبوعة ‪ ،‬فتحار يف املوطأ‬
‫برواية حممد بن احلسن الشيباين ‪ ،‬وبني املوطأ برواية حيي الليثي ‪ ،‬وبني املوطأ برواية أيب مصعب الزهري ‪ ،‬وكل هذه الروايات مطبوعة‬
‫‪ ،‬وجتد يف كل رواية من األحاديث زيادة عن الرواية األخرى ‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫كذلك أيضاًَ جامع الرتمذي فيه بعض األحاديث املوجودة يف بعض الروايات ‪ ،‬وليست موجودة يف الروايات األخرى ‪.‬‬
‫وسبق أن حتدثت عن سنن أيب داود ‪ ،‬وقلت ‪ :‬إن ما كان من رواية ابن العبد أو ابن األعرايب أو ابن داسة ؛ يف كل رواية ما‬
‫ليس يف األخرى ‪ ،‬وإن كانت رواية ابن داسة هي اليت انتقيت ‪ ،‬ولكن يف بقية الروايات أحاديث أخرى ليست موجودة يف الروايات‬
‫األخرى ‪ ،‬فهذا أمر طبيعي جداً ‪.‬‬
‫وما دام أن سنن النسائي كثر ناقلوها والراوون هلا عن النسائي ؛ فمن الطبيعي جداً أن جند يف كل رواية ما ليس يف األخرى‬
‫‪ ،‬فمن األمر اجملمع عليه أن كل ال رواة ال ذين ذك رت بعض هم – ما ع دا ابن السين – كلهم من ال ذين روا الس نن الك ربى للنس ائي ‪،‬‬
‫وهذه السنن الكربى يف كل رواية ما ليس يف األخرى ‪.‬‬
‫وهذا يظهر واضحاً يف صنيع املزي يف "حتفة األشراف" حينما يقول ‪:‬‬
‫هذا ليس يف رواية ابن األمحر ‪ ،‬وهذا من رواية ابن سيار ‪ ... ،‬إخل ‪.‬‬
‫فتجد مثالً يف رواية ابن األمحر األحاديث – أو كتباً بأكملها – ليست يف رواية ابن سيار‪ ،‬وجتد يف رواية ابن املهندس كتاباً‬
‫أو أحاديث ليست يف رواية ابن األمحر ‪ ،‬وهم متفقون على أهنا كلها تسمى بالسنن الكربى ‪.‬‬
‫فإذا كان األمر هكذا ‪ ،‬فليس ببعيد إذن أن يكون ابن السين – رمحه اهلل – روى السنن عن النسائي يف هذه الرواية ‪ ،‬وهذه‬
‫رواية تض منت أح اديث معينة ‪ ،‬وت ركت أح اديث أو كتب اً معينة قد يك ون ابن السين مل يس معها ‪ ،‬وقد يك ون هو ال ذي اجتباها‬
‫واختصرها عمداً كما يقول الذهيب ‪.‬‬
‫ومن أراد أن ينظر إىل من نصر ه ذا ال رأي أو ال رأي املخ الف من ال ذين تكلم وا عنه اآلونة األخ رية – جيد أن يف حاش ية‬
‫شعيب األرناؤوط على "هتذيب الكمال" للمزي يف ترمجة أمحد بن شعيب النسائي – جيد كالم اً لشعيب عن هذا االختالف الوارد ‪،‬‬
‫وقد نصر فيه رأي الذهيب‪.‬‬
‫كما أننا جند عبد الصمد شرف الدين الذي حقق "حتفة األشراف" ‪ ،‬وفاروق محادة الذي حقق "عمل اليوم والليلة" للنسائي‬
‫نصر الرأي اآلخر القائل بأن النسائي هو الذي انتقى هذه السنن الصغرى ‪.‬‬
‫ومن األدلة اليت ميكن أن ندلل هبا على أن هذه السنن الصغرى قد تكون من زاوية ابن السين ‪ ،‬وأنا أقول ‪" :‬قد" ؛ ألنين ال‬
‫أج زم ‪ ،‬بل أق ول ‪ :‬إن ال ذين قطع وا يف هذه املس ألة قطع اً تكلف وا ‪ ،‬وخباصة من قطع بأهنا من رواية النس ائي ؛ ألنه ليس له مستمسك‬
‫سوى ما ذكرته م نتلك احلكاية وهي ال تصح ‪ ،‬ومن كون ابن السين يروي هذا عن النسائي ‪.‬‬
‫وجمرد الرواية معروف ‪ ،‬فمعروف أن هذه األحاديث يرويها النسائي ‪ ،‬وهذه الكتب واألبواب يرويها النسائي ‪ ،‬فهذا أمر‬
‫طبيعي ‪ ،‬لكن السؤال الذي ينبغي أن يورد عليهم هو ‪ :‬هل صرح ابن السين بأن النسائي هو الذي انتقى هذا الكتاب ‪ ،‬وهو الذي‬
‫اختصره ‪ ،‬وهو الذي اجتباه؟‬
‫هل ورد عن النسائي ما يدل على ذلك صراحة بإسناد صحيح ؟‬
‫هذا الذي ينبغي أن يوردوه حىت يتكئ قائل هذا القول على قاعدة صحيحة سليمة ‪ ،‬أما ما عدا ذلك فال يدل على هذا ‪.‬‬
‫بل الذي يدل على ضعفه أن هذا االجتباء واالختصار الوارد يف السنن الصغرى ‪ ،‬جند أنه على غري قاعدة وبال رابط ‪.‬‬
‫وإمنا أق ول ‪ :‬ال يس تند على قاع دة ‪ ،‬وليس بني ذلك االنتق اء واألب واب اليت تركها راب ط‪ ،‬ألننا جند كتب اً كث رية بأكملها ال‬
‫توجد يف اجملتىب إطالقاً ‪.‬‬
‫فمثالً ‪ :‬كتاب التفسري – أحد كتب السنن الكربى – مل يرد يف السنن الصغرى إطالق اً‪ ،‬مع العلم أن هذا الكتاب ورد فيه‬
‫أح اديث ص حيحة كث رية جداً ‪ ،‬بل كثري منها خمرج يف الص حيحني ‪ ،‬ف إذا ك ان املقص ود انتق اء الص حي ‪ ،‬فلم اذا يُهمل النس ائي ه ذه‬
‫األحاديث الصحيحة؟ بل ملاذا يُهمل هذا الكتاب بأكمله ؟‬

‫‪110‬‬
‫بل حىت كتاب فضائل القرآن ‪ ،‬وكتاب فضائل الصحابة ‪ ،‬وكتاب خصائص علي ‪ ،‬وكتاب الطب ‪ ،‬وغري ذلك من الكتب‬
‫الكثرية كلها مل ترد يف هذا اجملين ‪ ،‬فلماذا يرتكها النسائي مع أن فيها مجلة من األحاديث املخرجة يف الصحيحني ؟‬
‫كما أن ه ذه الكتب اليت توجد يف اجملتىب – يعين توجد يف اجملتىب وتوجد يف الس نن الك ربى‪ -‬جند يف الك ربى أح اديث‬
‫ص حيحة جند أهنا ح ذفت من الص غرى ‪ ،‬ف إذا ك ان النس ائي أراد اختص ار ه ذه الس نن الك ربى لتك ون ص حيحة فلم اذا أمهل ه ذه‬
‫األحاديث املذكورة يف الكربى ؟! وملاذا أتى بأحاديث ضعيفة ؟! ‪.‬‬
‫هذا عكس ما يُفهم من تلك احلكاية متاماً ؛ ألن هذا ال يدل على أن النسائي أراد اختيار احلديث الصحيح ‪ ،‬وجعله يف هذا‬
‫الكتاب ‪.‬‬
‫كما أننا جند يف هذه السنن الصغرى املسماة باجملتىب كتب اً بأكملها ليست يف الكربى ‪ ،‬منها كتاب الصاحل ‪ ،‬وكتاب اإلميان‬
‫وشرائعه ‪ ،‬فهذان الكتابان ال يوجدان يف الكربى ‪ ،‬وهذا يدل على أن السنن الصغرى هذه – املسماة باجملتىب – رواية من الروايات ‪،‬‬
‫فكما أن رواية ابن األمحر فيها ما ليس يف رواية ابن سيار ‪ ،‬وفيها ما ليس فيها من رواية ابن املهندس إىل غري ذلك من الروايات ‪.‬‬
‫كذلك أيضاً يف رواية ابن السين أحاديث وكتب ال توجد يف الروايات األخرى ‪ ،‬فيمكن أن تضم هذه الروايات بعضها مع‬
‫بعض لتشكل مقداراً كبرياً يسمى السنن الكربى للنسائي ‪ ،‬سواء أكان من رواية ابن السين أو من رواية غري ابن السين ‪.‬‬
‫أما أن يقال ‪ :‬إن رواية ابن السين وحدها هي اليت اختارها النسائي ‪ ،‬فهذا خطأ وإمنا هذه رواية من مجلة الروايات ‪.‬‬
‫كما أن هذه السنن الصغرى املسماة باجملتىب فيها أحاديث وألفاظ زائدة يف اإلسناد أو يف املنت ‪ ،‬وهي ليست يف الكربى ‪،‬‬
‫وكذلك فيها زيادة يف بعض الرتاجم واألبواب واالستنباطات اليت ليست يف الكربى ‪.‬‬
‫فمثالً ‪ :‬يف كت اب الطه ارة زاد يف الص غرى باب اً ليس موج وداً يف الك ربى ‪ ،‬وهو ب اب النهي عن اس تقبال القبلة عند‬
‫احلاجة(‪. )135‬‬
‫كما أننا جند يف السنن الصغرى املسماة باجملتىب أحاديث كثرية ضعيفة ‪ ،‬بل ضعيفة جداً ‪ ،‬بل يضعفها النسائي نفسه ‪.‬‬
‫فكما أن النس ائي – رمحه اهلل – ممن ع رف بتش دده يف الرج ال إال أننا جنده خيرج أح اديث رواة حكم عليهم هو ب أهنم‬
‫مرتوكون ‪ ،‬واملرتوك حديثه ضعيف جداً ‪.‬‬
‫فمثالً ‪ :‬أيوب بن سويد الرملي ‪ .‬قال عنه السنائي ‪" :‬مرتوك احلديث" ومع ذلك أخرج حديثه(‪ ، )136‬وهذا من القوادح فيما‬
‫ذكر عن أن النسائي اختار الصحيح ‪.‬‬
‫كذلك سليمان بن أرقم ‪ ،‬وهو راو معروف بأنه مرتوك احلديث ‪ ،‬بل حكم عليه النسائي بأنه " مرتوك احلديث " ‪.‬‬
‫وكذلك إمساعيل بن مسلم ‪ ،‬قال عنه النسائي ‪" :‬مرتوك احلديث"(‪. )137‬‬
‫وكذلك إمساعيل بن مسلم ‪ ،‬قال عنه النسائي ‪" :‬مرتوك احلديث"(‪. )138‬‬
‫علي بن املديين ‪ ،‬قال عنه النسائي ‪" :‬مرتوك احلديث"(‪. )139‬‬
‫وكذلك عبد اهلل بن جعفر الذي هو والد ّ‬
‫كما أن هناك بعض الرواة الذين أخرج هلم ‪ ،‬وهو ال يعرفهم ؛ أي أهنم جمهولون عنده ‪ ،‬مثل ‪ :‬أيب ميمون ‪ ،‬قال عنه ‪" :‬ال‬
‫أعرفه"(‪. )140‬‬

‫(‪ )1‬انظر ‪ :‬سنن النسائي (‪. )1/20‬‬ ‫‪135‬‬

‫(‪ )1‬انظر ‪ :‬سنن النسائي (‪. )3/116‬‬ ‫‪136‬‬

‫(‪ )1‬انظر ‪ :‬سنن النسائي (‪. )8/59( ، )7/27‬‬ ‫‪137‬‬

‫(‪ )1‬انظر ‪ :‬سنن النسائي (‪. )5/150‬‬ ‫‪138‬‬

‫(‪ )1‬انظر ‪ :‬سنن النسائي (‪. )3/61‬‬ ‫‪139‬‬

‫(‪ )1‬انظر ‪ :‬سنن النسائي (‪. )8/88‬‬ ‫‪140‬‬

‫‪111‬‬
‫ومثل ‪ :‬قرصافة – امرأة – قال ‪" :‬ال ندري من هي "(‪. )141‬‬
‫وهناك راو امسه مصعب بن شيبة قال عنه النسائي ‪ " :‬منكر احلديث "(‪. )142‬‬
‫خالصة ما سبق ‪:‬‬
‫هذه بعض األمثلة فقط اليت تُدلل لنا على أن هذه السنن الصغرى – فض الً عن السنن الكربى – إمنا ألفها النسائي – رمحه‬
‫اهلل تعاىل – لتضمن مجلة كبرية من األحاديث الصحيحة اليت ظفر هبا ‪.‬‬
‫وقد خيرج النسائي – رمحه اهلل – أحاديث ضعيفة ينبه يف كثري من األحيان على ضعفها ‪ ،‬وقد يفوته أو يسكت عن الكالم‬
‫عن ضعفها ‪.‬‬
‫وما قيل عن أن السنن الصغرى هي اليت اختارها النسائي واختصرها من السنن الكربى لتضم احلديث الصحيح ‪ ،‬هذا ليس‬
‫بصحيح ‪.‬‬
‫وما قيل من إطالق الصحة على سنن النسائي سواء الكربى أو الصغرى ‪ ،‬هذا ليس بصحيح ‪ ،‬بدليل واقع السنن ‪ ،‬بل إن‬
‫النسائي نفسه هو الذي يُعل هذه األحاديث ويضعفها ‪ ،‬وهذا يقدح يف هذه املقولة ‪.‬‬
‫وما قبل عن بعض العلم اء أهنم حكم وا عليها بالص حة ‪ ،‬ميكن أن ي أول ه ذا الكالم على أهنم أرادوا أهنا تض منت مق داراً‬
‫كب رياً من األح اديث اليت تربو عن أي كت اب آخر ‪ ،‬وجتنبت األح اديث املوض وعة واملنك رة ‪ ،‬وإن ورد فيها ش يء من ذلك فهي قلة ‪،‬‬
‫والقليل يعترب من الشاذ الذي ال يبىن عليه حكم ‪.‬‬
‫إذن س نن النس ائي تعترب من الكتب احلديثية اليت حتت اج إىل النظر يف أس انيد األح اديث اليت فيها – اليت ليست يف الص حيحني‬
‫– فيمكن أن يكون احلديث صحيحاً ‪ ،‬وميكن أن يكون غري صحيح ‪ ،‬وميكن أن يكون هذا الذي ليس بصحيح قد تكلم عنه السنائي‬
‫نفسه وأعله وبني ضعفه ‪ ،‬وميكن أال يكون النسائي قد بني ضعفه ‪.‬‬
‫ول ذلك ال ينبغي لط الب العلم أن يتكئ على جمرد إخ راج النس ائي للح ديث ليحكم عليه بالص حة ‪ ،‬بل ميكن أن يس تأنس‬
‫بص نيع النس ائي جمرد اس تئناس إن مل يعل احلديث ‪ ،‬وميكن أن يطمئن ط الب العلم إذا حبث ووجد اإلس ناد ص حيحاً والنس ائي مل ي بني‬
‫علته ‪ ،‬فعلى أقل األ؛وال ‪ ،‬يق ول ‪ :‬لو ك ان للح ديث علة لبينها النس ائي مع اجته ادي يف طلب احلديث ومجع طرقه واحلكم عليه‬
‫بالصحة ‪.‬‬
‫واهلل أعلم ‪ ،‬وصلى اهلل وسلم على نبينا حممد ‪.‬‬

‫(‪ )1‬انظر ‪ :‬سنن النسائي (‪. )8/320‬‬ ‫‪141‬‬

‫(‪ )1‬انظر ‪ :‬سنن النسائي (‪. )8/128‬‬ ‫‪142‬‬

‫‪112‬‬

You might also like