Professional Documents
Culture Documents
مناهج المحدثين 3
مناهج المحدثين 3
تأليف
الدكتور /سعد بن عبد هللا الحميد( حفظه هللا
)
اعتني به
أبو عبيدة ماهر صالح آل مبارك
دار علوم السنة
فقد فوضت األخ ماهر بن صالح آل مبارك بنسخ األشرطة التي ألقيتها في بعض الدروات العلمية والمتضمنة
لمناهج المحدثين والقيام على تصحيحها وطباعتها ،وهذا إذن مني له بذلك ،وصلي اهلل وسلم على نبينا
محمد .
كتبه
سعد بن عبد اهلل الحميد
1
بسم اهلل الرمحن الرحيم
احلمد هلل وحده والصالة والسالم على من بعثه اهلل رمحة للعاملني وعلى آله وأصحابه الغر امليامني .ومحداً وشكراً هلل
على أن من علينا بقرب ووفرة هؤالء ،أساتذة العلم وطالبه ،ولوال نعمة اهلل علينا ألنفقنا النفس والنفيس للجلوس
معهم واإلستماع إليهم ،والتعلم على أيديهم ،فجزاهم اهلل خرياً .
وبالنسبة هلذا الكتاب الذي يتعلق ( مبناهج احملدثني ) فهو عبارة عن موضوعات تتعلق ببعض كتب السنة والتعريف
هبا ،وبطرق مؤلفيها فيها ،ولذلك فهو يعترب مجعاً لشتات معلومات متوفرة هنا وهناك ،وإن كان احلديث عن
بعض الكتب قيد تكون مادته العلمية مستمدة من كتب نركز عليبها .ورمبا كان ذلك جمموعاً أكثر يف كتاب ـ كما
هو يف موضوعنا األول عن ( صحيح البخاري ) رمحه اهلل تعايل ـ ،فإن معظم مادته العلمية مـوجود يف ( هدي
الساري) الذي هو مقردمة لفتح الباري الذي شرح فيه احلافظ بن حجر ( صحيح البخاري ) .فالصيد كله يف
جوف الفراء ومل يدع احلافط ـ رمحه اهلل تعايل ـ ألحد بعده شيئاً .
وأما ما عدا ذلك من الكتب اليت سيأيت احلديث عنها ،فسأحاول ـ إن شاء اهلل ـ جاهداً أن أشري اىل بعض املراجع
اليت تستمد مادهتا العلمية منها .
ملحوظة :ـ
أعلم رمحك اهلل :
أن النيب صلي اهلل عليه وسلم ملا إبتعثه اهلل ـ جل وعال ـ هلذه األمة أنزل معه نورين " الكتاب والسنة " .وحاجة
الكتاب اىل السنة ال ختفي على طالب علم .
فالسنة هي املبينة للقرآن واملوضحة له .ولوال السنة ملا إستطاع أحد أن يعمل بكتاب اهلل ـ جل وعال ـ ألن هناك كثري
من األمور اجململة كلها فصلتها السنة ،كالصلوات ،والزكاة ،واحلج والصيام ،واحلدود ،وغري ذلك من األمور .
فال جند أن عدد الصلوات املفروضة يف اليوم والليلة مخس صلوات يف كتاب اهلل ـ جل وعال ـ وإمنا فصلت ذلك وبينته
سنة النيي صلي اهلل عليه وسلم وكذلك الزكاة :عن صفتها وما فيها من التفصيل ،كل ذلك بينته السنة .واحلج
والصيام وغريذلك من األمور.
وملا كانت السنة يف هذه األمهية جند أن صحابة النيب صلي اهلل عليه وسلم حرصوا كل احلرص على تلقي هذه السنة
من النيب صلي اهلل عليه وسلم بكامل احلذر ـ فالواحد منهم يستشعر قيبول النيب صلي اهلل عليه وسلم " من كذب علي
2
متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " وقوله صلي اهلل عليه وسلم " من حدث عين حبديث يرى أنه كذب فهو أحد
الكاذبني " أو أحد الكاذبني ،أو " احد الكذابني " ـ على إختالف الروايات يف ذلك .
مث إن هؤالء الصحب الكرام من بالغ حرصهم رمبا الواحد منهم الزم النيب صلي اهلل عليه وسلم هاجر األهل
واألوطان .كما صنع أبو هريرة رضي اهلل عنه ،وكان يلزم النيب صلي اهلل عليه وسلم على ملء بطنه فقط .
وبعضهم رمبا كانت تشغله الدنيا وطلب املعيشة لكنه ال يريد أن يفوته من حديث النيب صلي اهلل عليه وسلم شيئ
فلذلك يتفق مع بعض الصحابة اآلخرين على التناوب على النيب نصلي اهلل عليه وسلم كما صنع عمر بن اخلطاب ،
وقصته كما هي معروفة يف صيحيح البخاري حينما كان يتناوب مع جار له أنصاري جمالس النيب صلي اهلل عليه
وسلم فيحدث هذا مبا غاب عنه ذاك والعكس .
لكن هؤالء الصحابة كانوا يتعمدون يف الغالب على احلفظ ،فكانوا حيفظون حديث النيب صلي اهلل عليه وسلم كما
حيفظون السورة من القرآن ،وكانو أمة امية ال تعرف الكتابة وال احلساب ،وإمنا كمان الرتكيزعندهم على احلفظ .
ووجدونفرحمص ورون ك انوا يكتب ون ألنفس هم كما ص نع عبد اهلل بن عمر وبن الع اص رضي اهلل عنهما ،ولس كن
ه ؤالء النفر ماك ان عن دهم من ح ديث النيب ص لي اهلل عليه وس لم الشئ الكثري حبيث يش كل مص نفات كما هو واقع
فيما بعد ذلك حينما دونت السنة ،ولكن كان الواحد منهم رمبا دون بعض األح اديث يف صيحيفة من الصحف أو
حنو ذلك .
والتفصيل يف هذه املسألة ليس هذا موضعه ،ألن األمر يطول حينما نتكلم عن تدوين السنة ،والسبب يف أن النيب
صلي اهلل عليه وسلم منعهم من كتابة اجلديث ن وكيف كتبوه ،وما هي أقوال العلماء يف التوفيق بني أحاديث
اإلباحة ؟ وهلم جرا .هذا األمر يطول .
ولكن املقصود اإلشارة اىل أن سنة النيب صلى اهلل عليه وسلم إمنا دونت تدويناً هبذه الصورة ـ يعين على شكل
مؤلفات ـ بعد ذلك بزمن .وكان اخلليفة الراشد عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه فكر يف تدوين السنة ،ولكنه
إستخار اهلل شهراً كامالً مث رأى أال تدون السنة .وكأنه خشي ـ رضي اهلل عنه ـ على الناس الداخلني يف االسالم
حديثاً أن ينصرفوا اىل السنة ويهملوا القرآن ،ورمبا دخل عليهم شيء من السنة يف القرآن وخباصة أن القرآن مل جيمع
اجلمع النهائي وإمنا كان ذلك يف عهد عثمان بن عفان رضي اهلل تعايل عنه .
لكن ملا جاء عصراخلليفة الراشد عمر بن عبد العزيز ـ رمحه اهلل ـ رأى أن السنة خيشى عليها من الفوت ،وذلك بوفاة
حامليها ،فيكتب اىل اآلفاق يامرهم يف تلك الكتب اليت كتب إليهم هبا أن يدونوا ما عندهم من ستة النيب صلفي اهلل
3
عليه وسلم ،وما يضاف اىل ذلك من آثارعن صحابته الكرام ـ رضي اهلل عنهم ـ ففعلوا وهنض بذلك بعض العلماء
األجالء ،كمحمد بن مسلم بن شهاب الزهري ـ رمحه اهلل تعاىل ـ ودونت السنة ،ولكنه ندوين مل يتخذ طابع
التصنيف على املوضوعات وإمنا هو سرد ،فقد جتد حديثاً يف الطهارة يتلوه حديث يف النكاح يتلوه حديث يف
التفسري ،وهلم جرا .وكانت أيضاً تلك األحاديث مشوبة وخملوطة مبا جاء عن الصحابة ـ رضي اهلل عنهم ـ من
أقوال أو أفعال ،حيت جاء عصر طبقة أخري بعد ذلك ـ وإن كان بعضها ملحقاً بصغار التابعني كأبن جريح رمحه
اهلل تعاىل
ملا جاء هذا العصر اختذ التدوين والتصنيف طابعاً آخر فرتبت هذه األحاديث على املوضوعات ،وبدأ التصنيف يتخذ
شكالً آخر .وهو من باب التفنن يف التأليف .
فنجد كثرياً من علماء كانوا متعاصرين يف وقت واحد أهنم سلكوا هذا املسلك ،كابن جريح ،وحممد بن إ سحاق
،واإلمام مالك ،ومحاد بن سلمه ،وسعيد بن أيب عروبة ،وسفيان الثوري ،ومعمر بن راشد ،وغريهؤالء كثري ،
كلهم ممن صنف على املوضوعات .ولكن هذه التصانيف أيضاً كانت متزج اآلثار الواردة عن الصحابة ـ رضي اهلل
عنهم ـ باألحاديث املرفوعة إيل النيب صلي اهلل عليه وسلم .
ولعلكم تلحظون يف موطأ اإلمام مالك ،ويف مصتف عبد الرزاق ،ويف مصنف ابن أيب شيبة ـ هذه الطريقة هي اليت
كانت سلكت يف ذلك العصر ،إىل أن جاءت سنة مائتني للهجرة ـ إبتدأ العلماء يركزون على فرز األحاديث عن
اآلثار الواردة عن الصحابة ـ رضي اهلل تعاىل عنهم ـ فبعضهم رأى أن هناك ما يسهل حفظ تلك األحاديث ،وذلك
جبمع أحاديث الصحايب يف موضع واحد غري مرتبة ،وهذا يسهل احلفظ ،ألن اإلسناد يتكرر ،واملتون خمتلفة .
فإذن سريكز على حفظ املتون ،واإلسناد تقريباٌ واحد ،وإن اختلف فيختلف يف بعض الطبقات ،أما طبقة
الصحابة فهذا يقل فيه احلفظ اىل حد كبري ،وتتلوه طبقة التابعني ،فرمبا كان التابعي مكثراٌ عن صحايب معني ،
ولذلك يريح احلافظ نفسه من حفط هذا اإلسناد يف الطبقة العليا ،فالصحايب والتابعي يتكرر معه يف أحاديث عدة ،
ورمبا أيضاٌ نزل اىل طبقة أتباع التابعني .
فإذا اإلختالف يكون أكثر يف طبقة املشايخ ( مشايخ أولئك املصنفني ) مث يف طبقة مشاخيهم أيضا ً .لكن هذا النوع
من التصنيف وهو الذي يسمي ( املسانيد ) ،كان فيه شيء من الصعوبة على طلبة العلم ،وأيضاً كان املقصود منه
حفظ السنة جمرد ة عن التفقه ،فرأي بعض األئمة أن يسلك مسلكاً آخر يف التصنيف مع الرتكيز على األحاديث
4
املرفوعة ،فرأوا إفراد أحاديث النيب صلي اله عليه وسلم وفرزها عن آثار الصحابة رضي اهلل عنهم واآلثار الواردة عن
التابعني ،مث ترتيب هذه األحاديث على املوضوعات الفقهية.
اإلمام البخاري رمحه اهلل تعاىل.
ومن هؤالء اإلمام البخاري رمحه اهلل تعايل ـ ولكن كان هذا املسلك ميكن أن جيمع أحاديث النيب صلي اهلل
عليه وسلم الواردة عنه بأسانيد صحيحة ثابتة إىل جانب تلك األحاديث اليت مل ترد بتلك األسانيد الصحيحة .
فالبخاري سلك أيضاً املسلك الثاين وهو أن يفرد أحاديث النيب صلي اهلل عليه وسلم الصحيحة عن ما سواها ،وكان
لذلك سبب وهو :أنه كان جالساً يف جملس شيخه إسحاق بن إبراهيم احلنظلي املعروف بإبن راهويه .
وكانت النفوس آنذاك تتشوف اىل هذه النقطة اليت أشرنا إليها ،زهي فرز صحيح سنة النيب صلي اهلل عليه وسلم عن
ما عداها .فرمبا كان هناك شيء من التذاكر هلذه املسألة :من ينهض هبذه املهمة ؟
فتكلم إسحاق يف جملسه هبذا الكالم .فقال :لو أفردمت صحيح سنة النيب صلي اهلل عليه وسلم بالتصنيف كان
البخاري ـ رمحه اهلل ـ قد وقع ذلك من نفسه قبل ذلك ،ورأى يف ذلك رؤيا ،رأى أنه أمام النيب صلى اهلل عليه وسلم
وبيده مروحة وهو يذب الذباب عن وجه النيب صلي اهلل عليه وسلم فذكر ذلك ألحد املعربين ،فعرب ها له بأنه يذب
الكذب عن سنة النيب صلي اهلل عليه وسلم فلما ذكر شيخه إسحاق بن راهويه هذا الكالم قوي عزم البخاري ـ رمحه
اهلل تعايل ـ يف هذه املسألة ونشط يف التصنيف .
وكان ـ رمحه اهلل ـ بلغ من احلفظ واإلتقان درجة حسد عليها يف عصره ،وكانت والدته ـ رمحه اهلل ـ يف سنة أربع
وتسعني ومائة ،وذلك يف الثالث عشر من شهر شوال يف تلك السنة ،وبالتحديد يف يوم اجلمعة بعد صالة اجلمعة .
وابتدأ يسمع األحاديث على املشايخ الذين يف بلده ،وأخذ يرد عليهم ،وينتقد األخطاء يف سن مبكر ،حيت إنه
يذكر عن نفسه ـ رحبمه اهلل ـ أنه كان عند شيخ له يقال له :الداخلي ،فذكر الداخلي إسناداً ـ عن سفيان أو عن أيب
الزبري عن إبراهيم ـ فقال البخاري :هذا خطأ ،أو الزبري ال يروي عن إبراهيم .
فأغلظ عليه العبارة شيخه هذا واسكته ،فأصر البخاري على مراجعة هذا الشيخ ألصوله .فدخل الشيخ ورأى
احلديث ،مث جاء للبخاري وقال :كيف هو ؟ قال :إمنا هو سفيان عن الزبري وهو ابن عدي عن إبراهيم وهو
النخعي ،فأبو الزبري الذي هو حممد بن يونس بن تادرس ال يروي عن إبراهيم .فأخذ شيخه هذا يصلح كتابة مما
أماله عليه البخاري .
5
ملا سئل البخاري ـ رمحه اهلل ـ عن عمره آنذاك حينما رد على شيخه كم كان ؟ أجاب بأن عمره كان إحدي عشرة
سنة .
وهذا السن بال شك أنه يهيأ لإلنسان أن يصل إىل هذه الدرجة إال أن يكون نابغاً .وهكذا كان ـ رمحه اهلل تعايل ـ بل
إنه ال يكاد ترك بلداً من البلدان مل يرحل إليها يف طلب العلم ،ولكنه حينما كان جيلس عند الشيوخ مل يكن يكتب
،وكان بعض الطلبة رمبا انتقده على هذا الصنيع ،فإذا رآهم يلحون عليه حيت إهنم يف بعض األحيان يصلحون
كتبهم من حفظ البخاري .
وهو الذي يقول عن نفسه " رب حديث مسعته يف البصرة وكتبته بالشام " .
ال يتفرغ للكتابة إال بعد مدة مديدةاا فهو حيفظ مث يرتك الكتابة بعد ذلك ،ورمبا أجل الكتابة إىل أن يصل إىل بلده
" خبارى" .
تنبيه :
ومن القصص اليت أوردها ألجل التنبيه عليها ،تلك القصية اليت اشتهرت وانتشرت ،ويف احلقيقة الذهن يسابعدها ،
وقد نكون خمطئني يف االسبتبعاد بسبب قصور فهمنا ،وعدم وجود من هو هبذه الصفة فيما بيننا ،ولكن ـ على كل
ح ال ـ حيث اإلس ناد احلديثي هي ال تثبت ،ف إذا مل يثبت اإلس ناد ال نثبت املنت حيت يثبت اإلس ناد ذك روا أن ـ
البخ اري رمحه اهلل ـ ع زم على الرحيل إىل بغ داد ،وعلم به أهل بغ داد فحينما علم وا به اس تعدوا للقائه ،فش هرته
كانت قد بلغت اآلفاق ،وحفظه كان مضرب املثل ،فاستعدوا لرؤية البخاري هذا الذي يتحدث عنه ،ويذكر عنه
من احلفظ ماي ذكر ،فحينما ق دم عليهم ك ان بعض طلبة العلم اس تعدوا المتحانه ل ريوا هل هو حافظ كما ي ذكر عنه
أو ال ؟ .
فجمعوا مائة حديث ووزعوها بني عشرة منهم ـ كل واحد عشرة أحاديث ـ لكن هذه العشرة األحاديث اليت عنده ال
يأخذها هكذا صحيحة سنداً ومتناً ولكن يأخذ متوهنا ،وأما األسانيد العشرة اليت عند التلميذ اآلخر .
وتلميذ آخر مثله متاما :يأخذ متون أحاديث ويركب عليها أسانيد أحاديث عند تلميذ آخر ،وهلم جرا ،حىت قلبوا
عليه املائة حديث ،فحينما قدم أخذوا يلقيون عليه كأهنم يس ألونه سؤال التلميذ للع امل يلقون عليه ه ذه األح اديث
واحداً تلو اآلخر ،ويف كل حديث يقول رمحه اهلل :ال أعرفه ،والناس يتعجبون من هذا البخاري الذي يتحدث عن
حفظه إىل هذا احلد ،ومل يعرف حديثاً واحداً من هذه األحاديث .
6
فحينما فرغ وا من املائة أخذ يعيد عليهم ما أمل وه عليه من طريق اخلطأ ،مث ي رد اخلطأ إىل الص واب ،فيشري إىل كل
واحد فيق ول :أما ح ديثك األول ال ذي قلت فيه :ك ذا وك ذا ،فص وابه ك ذا وك ذا وك ذا ،فإس ناد ح ديثك هو
اإلسناد الذي عن فالن ،فرد املائة حديث اليت قلبوها عليه ـ ردها إىل الصواب .
احلافظ الع راقي ـ رمحه اهلل ـ ملا أورد ه ذه احلكاية ق ال :أنا ال أعجب من رد البخ اري اخلطأ إىل الص واب ،ولكن
أعجب كيف أن البخاري حفظ اخلطأ من أول وهلة .
فهذه القصة أوردها اخلطيب البغدادي يف تارخيه من طريق بن عدي صاحب الكامل عن أشياخ له ،وإبن عدي مل
يدرك البخاري ،وهؤالء األشياخ مبهمون ،واهلل أعلم هل هم ثقات أو ال ؟
وإن كانوا ثقات فهل مسعوه ،أو شاهدوا هذه القصة ،أو أخذوها عن غريهم ؟ وهذا الغري هل هو ثقة ؟ وهلم جرا
يتسلسل األمر .
لذلك قلت :من حيث اإلسناد فهي ال تثبت ،وأما من حيث املنت فعندي أن فيهاا شيئاً من الغرابة ،وهو الذي دعا
احلافظ العراقي إىل إستغراب حفظ البخاري للخطأ من أول وهلة .وعلى كل حال مادام أنه حيفظ ـ رمحه اهلل ـ هبذه
الصورة إيل هذا احلد الذي نذكره .
مث إنه رمحه اهلل ملا نشط على التأليف يف هذه املسألة وهي تدوين صحيح سنة النيب صلي اهلل عليه وسلم كان ـ رمحه
اهلل ـ يعتين بت دوين احلديث ال ذي ي ري أنه ص حيح ،ومع ذلك يس تعني باهلل جل وعال ويس تخري يف إثب ات ذلك
احلديث أو حذفه .في ذكر أنه ما دون ح ديثاً من األح اديث إال بعد أن يغتسل ويص لي ركع تني ،مث بعد ذلك ي دون
احلديث .
7
أهنا أحاديث بالتكرار ،فاحلديث الواحد ـ أي املنت الواحد ـ قد يرد عن عدة من الصحابة ،نعتربه عنه حديثاً واحداُ ،
ويف احلقيقة أهنم يعتربون بعدد أولئك الصحابة .
بل إن احلديث الواحد عن الص حايب الواحد قد ي رد من طريق ع دة من الت ابعني عن ذلك الص حايب ،وحنن نعت ربه
حديثاً واحداً ،وهم يعتربونه عدة أحاديث بعدد أؤلئك التابعني ،بل من بعد التابعني ومن بعدهم .فاحلديث الواحد
رمبا وصل إىل عشرين حديثاً أو أكثر من العشرين .
مث أن هذه األحاديث ليست مرفوعة للنيب صلي اهلل عليه وسلم فقط ،بل خيالطها أيض اً اآلثار الواردة عن الصحابة ،
ورمبا التابعني .
فإذن هم يقصدون باحلديث اإلسناد ،واإلسناد قد يكون مروي اً به منت مرفوع للنيي صلي اهلل عليه وسلم أو أثر عن
صحايب ،أو تابعي ،فلذلك ال نستغرب هذا العدد حينما يرد ألن املقصود هو ماذكر فقط .
وحينما خرج ـ رمحه اهلل ـ هذه األحاديث من الستمائة ألف حديث مل يكن مقصودة أنه مل يصح عن النيب سوى هذا
العدد ،ولكنه أراد أن يؤلف كتاباً خمتصر يف صحيح سنة النيب صلي اهلل عليه وسلم .
ول ذلك ذكر أنه ت رك الص حاح أك ثر من ه ذا ،وت رك الص حاح حلال الط ول حيت ال يط ول الكت اب ،أي أنه انتقى
أصحة الصحيح عنده ،وإال فإنه رمحه اهلل يصحح أحاديث مل خيرجها يف كتابه ،والدليل على ذلك أننا حينما نطالع
ىفي سنن الرتمذي أو يف ( جامع الرتمذي ) ـ جند الرتمذي ـ رمحه اهلل ـ يقول :وسألت حممد بن إمساعيل البخاري عن
هذا احلديث فقال :هو حدسث عندي صحيح .أو حسن ،أو حنو هذه العبارات .
فإذن البخاري ـ رمحه اهلل ـ تصح عنده وتثبت أحاديث غري األحاديث اليت دوهنا يف كتابه ـ اجلامع الصحيح ـ ولكنه مل
خيرج تلك األحاديث إما رغبة عن الطول ،أو لكون تلك األحاديث ليست على شرطه الشديد الذي اشرتطه على
نفسه يف كتابه اجلامع .
وملا دون ه ذه األح اديث ك ان رمحه اهلل يركز كل الرتك يز على جتين األح اديث اليت ميكن أن خيالف فيها ،أي خيالفه
العلم اء فيها ،ولكنه قد ي ورد أح اديث معلولة فيخالفه بعض العلم اء فيها ،لكن بعد أن ي رتجح له أن تلك العلة غري
مؤثرة .
ول ذلك ملا ص نف ه ذا الكت اب عرضه على بعض أئمة عص ره كاإلم ام امحد وعلى بن املديين ،وحييي بن معني كما
يذكر ذلك العقيلي .
8
وإن كنت ب ودي لو وج دت كلمة العقيلي ه ذه أين هي ،ف العقيلي تلميذ للبخ اري ،ولكن احلافظ ابن حجر ذكر
هذه املقولة عن العقيلي ،والعهدة عليه .
يق ول إن البخ ارى ـ رمحه اهلل ـ ع رض كتابه على ه ؤالء األمة الثالثة وغ ريهم ـ فوافق وه على تلك األح اديث س وى
أربعة أحاديث خالفوه فيها .
يقول العقيلي :والقول فيها قول البخاري ،وهي صحيحة .فهل فعالً مل ينتقد هؤالء األئمة املذكورين سوى هذه
األح اديث األربعة فقط ،مبعين أهنم وافق وا البخ اري على تلك األح اديث كلها ؟ ه ذا ما يقتض يه كالم العقيلي ،
والعلم عند اهلل ـ جل وعالـ .
عرفنا يف هذا إن موضوع كتاب البخاري إفراد الصحيح الثابت من سنة النيب صلي اهلل عليه وسلم وفرزه عما سواه
من األح اديث اليت ال تثبت ،وه ذا ميكن يس تفاد من تس مية كتابه البخ اري ،فإنه مساه ( اجلامع الص حيح املس ند من
حديث رسول اهلل صلي اهلل عليه وسلم وسنته وأيامه ) هذا امسه الكامل .وإن كان اختصر إىل ( صحيح البخاري
) ،فهذه تسمية خمتصرة فقط .
ملا ألف رمحه اهلل ه ذا الكت اب مل يكن ترك يزه علي الرواية ـ مبعىن أن ي ورد األح اديث الص حيحة فقط جمردة عن أي
ش يء آخر … ال ،وإمنا ك ان له هم غري ه ذا وهو التفقه ،ف رأى أن جيعل ه ذه األح اديث الص حيحة مبوبة على
األبواب الفقهية بطريقة فيها استنباطات دقيقة ،حبيث إهنا مبجموعها ميكن أن تشكل مذهباً للبخاري ـ رمحه اهلل ـ .
وه ذا هو ال ذي ح دث ،فنجد بعض العلم اء حينما ين اقش مس ألة علمية من املس ائل يق ول :وه ذا م اذهب اليه
البخاري .من أين عرف أن البخاري ـ رمحه اهلل ـ ذهب هذا املذهب ؟ عرف ذلك من خالل تلك الرتاجم اليت يرتجم
هبا على تلك األحاديث اليت يوردها يف صحيحه .
ومع ذلك أيض اً فإنه مل يقتصر على ه ذه األح اديث فقط ،ولكنه مبا أنه يريد التفقه فإنه مجع هلذه األح اديث غريها ،
فنجد أنه ي ورد اآلي ات ( آي ات األحك ام ) ويوزعها حبسب تناس بها مع تلك األب واب اليت يب وب هبا ،وبال شك أن
ثب وت الق رآن ال ن زاع فيه ،ف إذا كأنه جيعل اآلي ات ه ذه أص الً ،مث بعد ذلك ي ورد ما صح من األح اديث اليت على
ش رطه مث األح اديث اليت يوردها يف املتابع ات أو األح اديث اليت يوردها معلقة ،أو غري ذلك كاآلث ار ال واردة عن
الصحابة ـ رضي اهلل عنهم .
فإذن هوـ رمحه اهلل ـ كان يعىن بالناحية الفقهية عناية شديدة حىت إننا لنجده يف بعض األحيان يورد باب اً من األبواب
واليورد حتته شيئاً من األحاديث ،ورمبا وجدنا يف الباب الواحد أحاديث كثريية ،ورمبا وجدنا أحاديث قليله ،بل
9
لرمبا ما وجدنا يف الباب الواحد سوى حديث واحد ،ورمبا ال جند يف الباب حديثاً إطالق اُ ،وهذا الباب الذي الجند
فيه آية من كت اب اهلل ،وقد ال جند فيه آية من كت اب اهلل ،وقد ال جند أيض اً آية من كت اب اهلل وإمنا يب وب جمرد
التبويب ،ورمبا أورد شيئاً من املعلقات .
واملقصود باملعلق األحاديث أو اآلثار اليت حيذف أول سندها ورمبا كامل اإلسناد ،أي لو أن البخاري رمحه اهلل عنده
حديث من األحاديث يرويه بسنده عن شيخه وشيخ شيخه وهلم جرا ـ حيت يصل اىل النيب صلي اهلل عليه وسلم ـ ،
ولكنه الي رى أن ه ذا احلديث على ش رطه أى ليس بالدرجة اليت يري دها من الص حة ،فنجد البخ اري رمحه اهلل رمبا
حذف شيخه وعلق احلديث بشيخ شيخه .
فيقول مثالً :قال سفيان بن عيينة مث يذكر باقي اإلسناد واحلديث ـ وهو مل يسمع من سفيان بن عيينة ـ ،فسفيان بن
عيينة بينه واسطة ،ورمبا كانت الواسطة على بن املديين أو احلميدي أو غريهم .
ورمبا حذف من هو فوق شيخ شيخه حىت لرمبا مل يذكر إال الصحايب ،بل لرمبا حذف الصحايب أيض اً فيقول :قال
رسول اهلل صلي اهلل عليه وسلم ـ كذاً ـ ،أو يؤثر عن رسول اهلل صلي اهلل عليه وسلم أو يؤثر عن رسول اهلل صلي اهلل
عليه وسلم .هذا هو املقصود بالتعاليق .وسنأيت إن شاء اهلل للحديث عنها بعد قليل .
فالشاهد أنه يف بعض األبواب يورد هذه األحاديث أو اآلثار املعلقة وخيلي الباب من األحاديث ،ملاذا يصنع البخاري
هذا الصنيع ؟ … هناك من رأى أنه يصنع ذلك عمداً لسبب آخر .
فبعضهم يرى أن البخاري ـ رمحه اهلل ـ حينما ال يورد يف ذلك الباب حديثاً بالسند املتصل إمنا يصنع ذلك لإل شارة
إيل أن هذا الباب ال يثبت فيه شيء ـ هناك ـ من ذهب إىل هذا املذهب ـ أراد هذا ،ألن تلك األبواب قد يكون فيها
شيء ثابت وصحيح ،بل إن البخاري رمبا صححه يف خارج الصحيح ،فاجلزم بأن هذا هو مراد البخاري فيه شيء
من التعسف ،ولكن قد يصنع هذا أحياناً .
وقد يك ون أخلى الب اب من األح اديث لكونه فقد األح اديث اليت على ش رطه أو األح اديث اليت مسعها مما ميكن أن
يستدل به يف ذلك الباب ،ولذلك رمبا اكتفى عن ذلك بآيه أو بأشياء معلقة .
وحينما جند البخ اري ـ رمحه اهلل ـ يأيت ببعض األبواب هك ذا جمردة عن أي حديث وعن أي آية وعن أي آثار معلقة
أيضاً ،وإمنا يبوب باباً جمرداً فقط فيقول :بابا كذا وكذا .ويذكر املسألة مث ينتقل اىل باب آخر .
ذك روا أن بعض النس اخ حينما وجد ه ذه األب واب هك ذا ص نع ص نيعاً غري مستحسن ،فبعض األب واب اليت هبذه
الصورة يعقبها البخاري :باب حدثنا فالن ،قال :حدثنا فالن ،وهكذا يورد احلديث أي أنه عكس الصنيع السابق
10
،فهن اك ي ذكر ترمجة الب اب ،وهنا ال ي ذكر ترمجة ،وإمنا ي ذكر احلديث ،في أيت بعض النس اخ فيجعل ه ذا احلديث
حتت ذلك الباب ،وهنا يقع اإلشكال على كثري ممن يريد أن يذكر مناسبة احلديث للباب .
فهناك طائفة من العلماء اعتنوا ـ وخباصة الشراح ـ حينما يأتون على الباب الذي يبوب له البخاري ـ يذكرون مناسبة
ذلك احلديث ل ذلك الب اب ،أي ألي ش يء أورد البخ اري ه ذا احلديث ،وي ذكرون تعلق احلديث بتلك املس ألة ،
ولكن يف بعض األحي ان يع ييهم ذلك احلديث ،فال جيدون له وجها من املناس بة لتلك الرتمجة ،فبعض هم يك ون ممن
برع يف علم الكالم ،فتجد عنده من التكليف يف التأويل ما جتد يف حماولة ذكر مناسبة ذلك احلديث بتلك الرتمجة .
ولكن إذا عرفت هذه املسألة ـ كما يقول احلافظ بن حجر ـ :ميكن أن يفزع إليها عند احلاجة ،إذا أعيانا ذكر مناسبة
ذلك احلديث ل ذلك الب اب ميكن أن نق ول :لعل ه ذا من تص رف النس اخ .فلعلهم دجموا ترمجة حبديث ليس حتتها .
وأذكر هبذه املناسبة ـ قبل عشر سنوات ـ إن مل يكن أكثر ـ أننا كنا عند شيخنا ـ الشيخ عبد العزيز بن باز ـ حفظه اهلل ـ
وك ان يق رأ عليه من ص حيح البخ اري ـ ولعلين إن مل ختطئين ال ذاكرة أذكر أنه يف اجمللد الس ادس من فتح الب اري ،
فالق ارئ ذكر الرتمجة ،وذكر ح ديثاً ،فس أل الش يخ عن مناس بة ذلك احلديث بتلك الرتمجة ـ ف أطرق ملي اً ،مث طلب
الرج وع إىل فتح الب اري لعل احلافظ بن حجر ي ذكر بتلك املناس بة ،ألن الش يخ مل يظهر له مناس بة ل ذلك احلديث
ب ذلك الب اب ،فحينما ق رأ كالم احلافظ ين حجر ،وإذا به إما أنه مل ي ذكر ش يئاً أو أنه ذكر أنه مل تظهر له مناس بة
ذلك احلديث بذلك الباب ،فطلب الشيخ الرجوع إىل عمدة القارئ " الذي هو شرح " العييين " وإذا بالعييين أيض اً
مبثل تلك الصورة اليت ظهر هبا احلافظ ابن حجر .فمثل هذا الذي يقول عنه احلافظ ابن حجر ميكن أن يفرع إليه عند
احلاجة ،فيقال :لعل بعض النساخ أدرج هذا احلديث حتت ذلك الباب الذي مل يكن مقصود البخاري ـ رمحه اهلل ـ
إدراجه حتته .
مث إننا حينما جند تلك األح اديث اليت يوردها البخ اري ـ رمحه اهلل ـ حتت تلك األب واب جند أنه تنقسم اىل قس مني :
فمنها أح اديث مناس بتها ظ اهرة كل واحد ي دركها ،فحينما يب وب البخ اري مثالً باب اً يف الطه ارة وي ورد ح ديثاً يف
الطه ارة ،فاملناس بة ظ اهرة وال حتت اج اىل تكلف ،ولكن يف بعض األحي ان تك ون املناس بة خفيفة ،ال ي دركها إال
احلداق ،ورمبا كان مقصود البخاري أمراً آخر .
ولعلكم تلحظون أن أول حديث أودعه البخاري يف صحيحه هو حديث ":إمنا األعمال بالنيات " وأورده يف كتاب
بدء ال وحي .فأول كت اب استفتح به البخ اري كتابه هو بدء الوحي وأورد فيه هذا احلديث " إمنا األعم ال بالنيات
وإمنا لكل أمرئ ما نوى …" إىل آخر احلديث.
11
فنجد أن احلديث ال تعلق به ظاهراً هبذا الباب ،فهل البخاري حينما أورد هذا احلديث مل يكن مستحضراً ألمر آخر
أورد هكذا جزافاً ؟
هن اك من تط اول على البخ اري وكما يق ول بعض الش راح :ص وب إليه س هام الل وم ـ إلي راده ه ذا احلديث يف ه ذا
الكتاب ولكنه غفل عن أمر أراده البخاري ـ رمحه اهلل تعاىل ـ
وهو أنه جعل هذا الكتاب مبثابة جملس العلم مثالً ،أو أي عبادة من العبادات اليت ميكن هبا اإلنسان ربه جل وعال
،والعلم عبادة .فرييد أن ينبه طالب العلم إىل مسألة مهمة جداً وهي ضرورة جتريد النية وإخالص النية يف طلب
العلم .
فكأنه يقول لك :أنتبه ياطالب العلم ،فأنت حينما تقرأ يف كتايب هذا إمنا تقرأ يف حديث النيب صلي اهلل عليه وسلم
،وتتعبد اهلل جل وعال هبذه األحاديث ،وتريد العمل هبا أو إفتاء الناس هبا أو حتصيل العلم الذي هو يف حد ذاته
عبادة ،فهذه العبادات يشرتط فيها أمران :اإلخالص واملتابعة .
فهو أراد أن يشري إىل الطرفاألول وهو اإلخالص فيقول لك :
قبل أن تبدأ يف الطلب أخلص النية ،وجردها عن أي تعلق آخر .هذا هو الذي أراده البخاري ـ رمحه اهلل ـ حينما
أورد هذا احلديث .
ولذلك كثر عند أهل العلم افتتاح كتبهم هبذا احلديث ،ومن املتأخرين السيوطي ـ رمحه اهلل ـ حينما أفتتح كتابه
اجلامع الصغري حبديث " إمنا األعمال بالنيات " ،برغم أنه حينما يفتتح هبذا احلديث سيدخل بالرتتيب األجبدي الذي
أخذه على نفسه ،ولكطنه صنع ذلك لنفس املقصد الذي أراده البخاري رمحه اهلل .
وأحياناً جند البخاري ـ رمحه اهلل ـ يف ترمجته يشري إىل أشياء يريدها ،فرمبا أراد بتلك الرتمجة ختصيص عموم حديث ،
أو تقييد إطالقه ،أو اإلشارة إىل خالف يف تلك املسألة ،وخباصة حينما يورد الرتمجة بصيغة اإلستفهام .
فحينما يقول :باب ،هل يقال :كذا وكذا ؟ " مثالً " هو ال يريد أن جيزم ،ولذلك ال تأخذ على البخاري أنه
جزم بشيء يف هذه ،ولكنه كأنه يقول لك :إن هذه املسألة خالفية ،وهو مل جيزم بأحد القولني ،بقوله " :بابا :
هل يقال كذا وكذا " ؟ .
فإذن ميكن أن تفهم أن هناك طائفة من العلماء رأت أن ذلك ميكن أن يقال ،وطائفة أخرى رأت غري ذلك ،لذلك
قال العلماء :إن فقه البخاري ـ رمحه اهلل ـ يف ترامجه .
تقطيعه لألحاديث :
12
وجنده ـ رمحه اهلل ـ يقطع احلديث يف كثري من األحيانفي مواضيع كثرية ،رمبا تربو على عشرين موضعاُ ،والسبب أن
هذا احلديث ميكن أن يستخدمه يف الباب الفالين من الكتاب الفالين ،ويف الباب الفالين من الكتاب الفالين ،ويف
الباب الفالين من الكتاب الفالين ،وهلم جرا ،ينتزع منه انتزاعاً فقهية دقيقة رمبا كانت ظاهرة كما أشرت ،ورمبا
كمانت خفية حتتاج إىل من يربزها من الشراح والعلماء الذين غاصوا يف أعماق فقه البخاري رمحه اهلل تعاىل .
الكالم على املعلقات يف صحيح البخاري :
أما بالنسبة للكالم على املعلقات اليت يف صحيحه ،فهذه األحاديث املعلقة هناك من يسيء الفهم بطريقة البخاري يف
إيرادها .
فبعضهم يرى أن احلديث املعلق يف صحيح البخاري على األقل ميكن أن يكون من األحاديث الصحيحة ،ولو مل
يكن كأحاديث اليت خيرجها باإلسناد املتصل .
وبعضهم يطلق قوالً عاماً فيقول :ماجزم به البخاري فهو صحيح ،وما ذكره بصيغة التمريض فهو غري صحيح ،
هكذا على اإلطالق ،وكل هذا ليس بصحيح .
ولكن ميكن أن ننظر إىل هذه األحاديث املعلقة يف صحيح البخاري على أهنا قسمان :
فمنها املرفوع اىل النيب صلي اهلل عليه وسلم ومنها املوقوف ،فاملرفوع له شأن واملوقوف له شأن ،وألجل االختصار
يف الكالم يف املوقوف أقدامه .
( فاملوقوف ) خف شرط البخاري فيه فنجده يف بعض األحيان جيزم بصحة ذلك
املوقوف وإن كان فيه شيء من الكالم لبعض أهل العلم ،وإن مل يبلغ يف الصحة مايريده البخاري .فإذن نأخذ عندنا
قاعدة أن األشياء اليت ليست مرفوعة للنيب صلي اهلل عليه وسلم يف صحيح البخاري خف شرطه فيها .
أما ( املرفوعة ) فنجده إما أن يوردها بصيغة اجلزم ،وإما ان يوردها بصيغة التمريض ،فاألشياء اليت يوردها بصيغة
اجلزم إما أن يكون أوردها يف صحيحه يف موضع آخر أو ال ،فإن كان أوردها يف صحيحه يف موضع آخر ،فإذن
هو حينما يأيت هبا معلقة يف موضع يدفعه إيل ذلك أحياناً بعض الدوافع .
من هذه الدوافع أنه ـ رمحه اهلل ـ يكره أن يورد احلديث بنفس اإليراد سنداً ومتناً ،وهذا الذي يسميه العلماء
" ضيق املخرج " فيقول :يصنع هذا إذا ضاق خمرج احلديث عليه ،أي ليس عنده إسناد آخر له ،أما لو كان عنده
إسناد آخر ألورده يف هذا املوضع بذلك اإلسناد الثاين ،ولكن إذا مل يكن عنده سوى ذلك اإلسناد الذي أودعه يف
باب آخر فإنه هاهنا يورد احلديث معلقاً كأنه يقول :أنا ال أحب التكرار ،يصنع هذا أحياناً .
13
وأحياناً أخرى قد يكون احلديث ليس خمرجه ضيقاً عند البخاري ،ولكن كرره مبا يرى أن فيه كفاية ،فال حيب أن
يكرره أكثر من ذلك .
ورمبا كان الدافع له اإلختصار ،فرمبا اختصر احلديث أو تصرف يف متنه ،فإذا صنع هذا ال يريد أن يورد ه كما
يورد احلديث باإلسناد املتصل ألجل ذلك التصرف احلاصل يف ذلك احلديث .فهذا بالنسبة لألحاديث اليت يوردها
بصيغة اجلزم .
مثال لصيغة اجلزم :
وصيغة اجلزم مثل " قال " كأن يقول :قال رسول اهلل او قال بن عباس :قال رسول اهلل كذا ،أو قال مسروق :
عن عائشة عن النيب كذا .كل هذا يسمونه صيغة اجلزم أو قال ( :ذكر ) فالن كذا ،أو حنو هذه العبارات اليت
فيها اجلزم بثبوت ذلك عن ذلك الشخص الذي علقه عنه ـ سواء كان النيب ـ أو غريه .
مثال لصيغة التمريض :
أما صيغة التمريض فهي اليت تكون يف الغالب بصيغة املبين للمجهول ،مثل ( :يذكر )
عن رسول اهلل كذا … .أو ( يروي ) عن رسول اهلل كذا ،أو ( حيكي ) عنه كذا ،وحنو هذه الصيغة اليت
يسموهنا صيغة التمريض ،هذه هي اليت ميكن أن نفصل يف تعاليق البخاري مبوجبها .
التفصيل يف املعلقات بصيغة اجلزم :
فما أورده بصيغة املعلقات منها ما أخؤرجه يف صحيحه ،ومكنها ما مل خيرجه .
وما أخرجه يف صحيحه فالدافع له ما ذكرت ،ومامل خيرجه يف صحيحه رمبا كان صحيحاً عنده ،وعلى
شرطه أيضاً ،ولكن ألجل الطول والتكرار يتجنب ذكر ذلك احلديث .يصنع هذا أحياناً ولكنه قليل.
ورمبا كان ذلك احلديث عنده على شرطه ،ولكنه ال حيضره فيه إسناد تلقاه عن شيوخه ،أو رمبا ششك يف تلقي
احلديث عن شيوخه فنجد أنه يعلق احلديث وإن كان بإسناده من أصح الصحيح .
مثال :
وميثلون على هذا بذلك احلديث الذي رمبا تصورنا أن البخاري أخرجه يف صحيحه يالسند املتصل وليس كذلك ،
وهو قصة أيب هريرة مع الشيطان ،هذا احلديث الذي علم الشيطان فيه أبا هريرة فضل آية الكرسي ،وذكر أنه إن
قرأها يف ليل ال يقربه شيطان حيت يصبح .
14
جند أن هذا احلديث رمبا تصور كثري من طلبة العلم أن البخاري أخبرجه يف صحيحه باإلضافة إلخراج مسلم
له ،واحلقيقة أن البخاري إمنا أخرجه معلقاً ولكن الذي يوقع يف اإلشكال أنه علقه عن شيخه هو .
وكيف علقه عن شيخه ؟
قال ـ رمحه اهلل ـ يف صحيحه :قال عثمان بن اهليثم :حدثنا عوف وهو األعرايب ،عن حممد بن سريين ،عن أيب
هريرة قال " :وكلين رسول اهلل حبفظ زكاة الفطر …" مث ذكر احلديث .
فحينما قال :قال عثمان بن اهليثم مل يقل :حدثين أو حدثنا أو أخربين أو أخربنا عثمان بسن اهليثم ،مث أننا
جند أنه صنع هذا يف ثالثة مواضع يف صحيحه ،كلها يقول فيها :قال عثنان بن اهليثم ،فرأى العلماء أن هذا
احلديث مل جيزم البخاري بتلقيه هو له عن شيخه عثمان بن اهليثم ،ولكنه يعرف متاماً أن شيخه عثمان بن اهليثم
حدث هبذا احلديث ،رمبا عرفه بواسطة أقرانه من تالميذ الذين يشاركون يف الرواية عن شيخه عثمان بن اهليثم هذا
.قد يكون الدافع للبخاري أنه ما تلقاه فعالً عن عثمان بن اهليثم ،وقد يكون الدافع له أنه شك يف مساعه من عثمان
بن اهليثم ،وإال فاحلديث بإسناد من أصح الصحيح ،خيرج البخاري أحاديث هبذا اإلسناد ،وإمنا دفعه إىل ذلك هذا
األمر الذي أشرت إليه .
ورمبا كاناحلديث أحياناً صحيحاً زلكنه على شرطه ،وميثلون على هذا حبديث عائشة رضي اهلل تعاىل عنها
" :أن النيب كان يذكر اهلل على كل أحيانه " .
والبخاري رمحه اهلل جزم هبذا احلديث عن عائشة ،فقال :قالت عائشة ( :كان النيب يذكر اهلل على كل أحيانه ) .
ولكن هذا احلديث إمنا أخرجه بإسناد متصل " مسلم " يف صحيحه ،فالبخاري يرى أنه صحيح ولكنه ليس على
شرطه الذي اشرتطه على نفسه .
فإذن هو جيزم به ألنه يرى أنه صحيح ولكنه ال يورده بإسناد متصل ،حيت ال جيعل ألحد جماال للقدح يف كتابه .
وأحياناً رمبا كان ذلك احلديث صحيحاً ولكنه ليس من األحاديث الصحيحة اليت أخرجه " مسلم " يف صحيحه ،
ولكن رمبا نوزع يف صحة ذلك احلديث ،ورمبا كان احلديث دون ذلك فيكون من األحاديث احلسنة لذاهتا .
ورمبا كان حسناً لغريه أي أن فيه ضعفاً ولكن له من الشواهد ماجيرب ذلك الضعف .ورمبا جزم البخاري رمحه اهلل
بذلك القول عن أحد من الناس ،ولكنه اليقتضي تصحيحه لذلك احلديث .
15
فإذن ال نستطيع أن نأخذ على أنفسنا بأن البخاري رمحه اهلل حينما يورد حديثاً من األحاديث باجلزم ـ معلقاً جمزوماً
به ـ أن ذلك احلديث صحيحاً على اإلطالق :فمنه ماهو صحيح وهو يف صحيحه ،ومنه ما هو صحيح وهو يف
خارج صحيحه كصحيح مسلم ،وماهو صحيح عند غريمها ،ومنه ماهو حسن ،ومنه ماهو ضعيف .
ولكن البخاري ـ رمحه اهلل ـ حينما جيزم القول أو بذلك احلديث عن أحد فإنه يقول :أنا تكلفتت لك باإلسناد إىل
هذا الذي جزمت به عنه ،وأما من بعده ممن أبرزت لك وأظهرت فأنت خمري ،انظزر إن ثبت عندك فأنت وشأنك
،وإال فاألمانة تقتضي أن أبني لك املواضيع اليت ميكن أن يعل هبا ذلك احلديث .
وميثلون على هذا بقوله ـ رمحه اهلل ـ يف كتاب " الزكاة " :
قال طاوس :قال معاذ ألهل اليمن " :أئتوين بزكاتكم مخيص أو لبيس بدل الشعري والذرة فإنه أنفع ألصحاب النيب
يف املدينة وأرفق بكم " .أوكما جاء يف ذلك األثر .
فالبخاري رمحه اهلل حينما قال :قال طاوس .يقول لك اإلسناد من عندي إىل طاوس صحيح تكلفت لك هبذا ،
ولكن من بعد طاوسانظر فيه أنت ـ فحينما نظرنا وإذا بطاوس يقول :قال معاذ ألهل اليمن … طاوس مياين ولكنه
مل يدرك معاذاً رضي اهلل عنه فإذن هناك انقطاع بينه وبني معاذ ،وهذا االتقطاع هو الذي دفع البخاري رمحه اهلل إيل
أن يقول مقولته هذه ،أو اىل ان يعلق احلديث اىل طاوس مث يظهر من بعد طاوس ،وكأنه يقول لك :أنتبه فهنا
مواطن العلة اليت ميكن ان يعل هبا ذلك احلديث .من العلماء من يتساهل يف احلديث املرسل ويقبله ،ورمبا بعضهم
اشرتط شروطاً يف ذلك ـ وليس هذا موضع التفصيل فيه ـ فيمكن أن يأخذ هبذا احلديث .
ومن العلماء من يشدد واليقبل من احلديث إال ما كان بالسناد املتصل الصحيح الثابت ،فإذا هو يشدد فريد هذا
احلديث وال يبين عليه ناحية فقهيه .
فهذا هو الذي يدفع البخاري ـ رمحه اهلل ـ ألن يعلق احلديث عن بعض الناس ،فهذا بالنسبة لألحاديث اليت جيزم
البخاري هبا .
التفصيل يف املعلقات بصيغة التمريض :
أما األحاديث اليت يوردها بصيغة التمريض فليست القاعدة أيضاُ أهنا كلها ضعيفة أو مردودة ،أو أن البخاري يشري
هبذه العبارة إىل أن ذلك احلديث ال يثببت وال يصح ،بل جند تلك األحاديث اليت يوردها بصيغة التمريض منها ما
أخرجه هو يف صحيحه وذلك مثل ما قال :يف ( كتاب الطب ) " :ويذكر عن بن عباس عن النيب يف الرقية بفاحتة
الكتاب " .وهو يشري بذلك اىل قصة أيب سعيد اخلدري حينما كان مع نفر يف سرية وكانوا استضافوا حياً من أحياء
16
العرب فلم يضيفوهم ،فمكثوا قرهبم ولدغ سيد ذلك احلي وطلبوا له أحد يرقيه فلم تنفع فيه الرقي حيت جاءوا إيل
أصحاب النيب وقالوا هلم :هل فيكم من راق ؟ فقالوا :نعم ،ولكنكم مل تضيفونا ،فواهلل ال نرقيه حيت جتعلوا لنا
جعالً ،فجعلوا هلم قطيعاً من الغنم فرقاه أبو سعيد بفاحتة الكتاب ،فربئ سيد ذلك احلي ،مث اختلفوا فيما بينهم هل
جيوز أخذ مثل القطيع أوال ؟ … .فكأهنم خشوا أن يكونوا أخذوا على كتاب اهلل أجراٌ ،فحينما جاؤا ايل النيب
وذكروا له ذلك قال ( :ما يدريك أهنا رقيه ؟ خذوا واضربوا يل معكم بسهم ) فافرهم النيب على ذلك .
فمثل هذه القصة أخرجها البخاري يف صحيحه يف بعض املواضيع باإلسناد املتصل ولكنه يف املوضع تصرف يف املنت ،
فحينما تصرف يف املنت أراد أن يشري إيل أن التصرف منه اليقتضي أن يكون ذلك املنت مروياً هبذه الصورة ،ألن
احلديث مل يذكر فيه صراحة أن النيب علم أن الرقية بفاحتة الكتاب وأقرهم عليها ولكن جاء ذلك ضمناً يف احلديث .
فهذا التصرف من البخاري حينما قال " :ويذكر عن ابن عباس عن النيب يف رقيته بفاحتة الكتاب "جعله رمحه اهلل ـ
من أمانته ـ جيعل هذا احلديث معلقاً هبذه الصورة بصيغة التمريض إشارة منه اىل أن احلديث ليس مروراً هبذه الصورة
،وإن كان أصل القصة خمرجاً عنده يف الصحيح .
أحياناً جند أنه يورد احلديث بصيغة التمريض ،وجند احلديث يف صحيح مسلم ،ورمبا كان الدافع له اىل ذلك إما أنه
يرى أن احلديث غري صحيح ،أو أنه تصرف أيضاً بطريقة من الطرق اليت جتعل احلديث بصيغة التمريض ،أو ما اىل
ذلك .
ورمبا وجدنا احلديث الذي يورده البخاري بصيغة التمريض ،رمبا كان مروياً بإسناد ضعيف ،ولكن له ما جيربه من
طرق أخري أو ما يعضده من أثار وحنو ذلك .
ورمبا كان أيضاً ضعيفاً بشكل ال ميكن قبوله فهذا يف الغالب جند البخاري ـ رمحه اهلل ـ ينص عليه ،وميثلون على هذا
مبا ذكره رمحه اهلل تعايل يف كتاب الصالة " أنه يذكر عن أيب هريرة أن النيب قال " ال يتطوع اإلمام يف مكانه الذي
صلى فيه الفريضة " مث قال بعد ذلك :وال يصح .
هذا احلديث أخرجه أبو داود يف سننه ،ولكن فيه راو جمهول ،فالبخاري رمحه اهلل يشري اىل أن هذا احلديث ال يصح
وال يثبت عن النيب ونص على هذا صراحة ،ويرى أن احلديث ال ينهض ألن يكون له من الشوتاهد ما جيرب ضعفه ،
لذلك تصرف هذا التصرف .
خالصة ماسبق :
17
فإذن نفهم من خالل هذا أن إطالق القول بأن اجملزوم به عند البخاري صحيح وغري اجملزوم به ما يورده بصيغة
التمريض ضعيف ال ينبغي اال هبذا التفصيل الذي أشرنا إليه ،وإن كان تفصيال على وجه االختصار .
ولرياجع كالم احلافظ ابن حجر عن املتعلقات يف صحيح البخاري يف مقدمة الشرح الذي هو " هدي الساري " أو
يف كتاب " النكت " فإن الكالم هاهنا متقارب مع الكالم يف ذلك املوضع أيضاً
اإلمام مسلم ـ رمحه اهلل تعاىل ـ
امسه ونسبه ومولده :
هو مسلم بن احلجاج القشريي النيسابوري ،ينسب اىل بين قشري ،فهل كان مويل هلم ،أو منهم حقيقة ؟ هناك
خالف بني أهل العلم يف هذا ،ومل أجد ما يرجع أحد هذين القولني ،وال يضره ذلك ،فإن أشرف النسب هو هذا
العلم الذي خلد به ذكر مسلم رمحه اهلل ـ تعاىل ،منذ ذلك الوقت وإىل أن يشاء اهلل يف آخر هذه احلياة الدنيا .
مولده ـ رمحه اهلل تعايل ـ يف السنة اليت تويف فيها إمامان عظيمان زمها :الشافعي ،وأبو داود الطيالسي ،وذلك يف
السنة الرابعة بعد املئتني للهجرة .
ووفاته ـ رمحه اهلل ـ بعد وفاة البخاري بنحو مخس سنني ،فالبخاري تويف يف سنه ست ومخسني ومئتني ،ومسلم تويف
يف حنو سنة إحدي وستني ومئتني .
والبخاري ـ رمحه اهلل ـ من شيوخ مسلم ولكن مل يرو عنه مسلم يف الصحيح وال حديثاً واحدا ً والرتمذي صاحب
اجلامع الصحيح من تالميذ مسلم وجنده أنه يف كتاب اجلامع روي عن مسلم حديثاً واحداً ،وهو حديث أيب هريرة
عن النيب أنه قال " :أحصوا هالل شعبان لرمضان " .
طلبه للعلم ،وسبب وفاته :
طلب ـ رمحه اهلل ـ العلم من الصغر ،وأول مساعه كان ببلده نيسابور وذلك يف سنة مثان عشرة ومئتني مث حج بعد
ذلك ورحل اىل كثري من البلدان ولقي كثري من الشيوخ وكان رمحه اهلل ـ يتقوت ويتحري احلالل ،فكان له عقار ـ
وهو الذي يقال له الضياع ـ وكان أيضاً مع ذلك يتجر ،فكان يتقوت من ذلك .
ويذكر يف سبب وفاته أمر عجيب ـ ال أدري يصح أم ال ـ ،ولكنه مذكور يف ترمجته ،وهو أنه ـ رمحه اهلل ـ سئل عن
حديث أو مسئلة ،فمكث طول الليل وهويقلب ويراجع اىل أن أدركه الفجر ،وكان جبانبه مكتل ـ زنبيل ـ فيه متر
وكان يقلب يف الصفحات ويراجع ويأخذ من هذا التمر مترة مترة ،فما جاء الفجر اال وقد نفد ما يف ذلك الزنبيل ،
18
ووجد ـ رمحه اهلل ـ املسئلة اليت كان يبحث عنها ولكن أكله من التمر أضر به من حيث اليشعر ،فكان سبب وفاته ـ
رمحه اهلل ـ .؟
سبب تأليفه للصحيح :
مل يذكر هناك سبب وجيه أو حادثة تدل على سبب تأليف مسلم هلذا الكتاب ،كما حصل للبخاري من
تلك الرؤية اليت رآها ،ومن مساعه لكالم شيخه إسحاق بن راهويه ،فلعله تأثر بشيخه البخاري ،فنسج على أن
منواله يف هذا الصحيح ،ولكنه أشار اىل كالم يف مقدمة صحيحه يدل على أن هناك سبباً ،ولكنه ليس حبادثة كما
حصل للبخاري كما قلت ،ولكنه ذكر أن السبب الدافع له على تأليفه هذا الكتاب غريته على سنة النيب ،وذلك ملا
رأى يف عصره من بعض احملدثني الذين حيدثون العوام باألحاديث الباطلة واملنكرة واملوضوعة والضعيفة ،فأخذته
الغرية على سنة النيب فألف كتابه هذا ليكف الناس عما سوى الصحيح ،وحيثهم على رواية الصحيح .
عدد أحاديث صحيح مسلم :
ألف هذا الكتاب ،ومجع فيه من احلديث الصحيح حنو أربعة آالف حديث ،وهذا سوى املكرر ،وباملكرر كما
يقال قد يصل اىل اثين عشر ألف حديث ،وهذا العدد يعترب عدد تقريبياً ،ولذلك حرصنا على ان نقوم بعد أحاديث
عددا تقريبياً أثناء شرحنا ،ويتلخص ذلك يف جعل رقماٌ عاماً ورقماُ خاصاُ .
صحيح مسلم ً
فالعام هو األحاديث املكررة ،واخلاص لألحاديث سوى املكرر ،ولعلنا بعد ذلك إن أمد اهلل يف العمر ويسر مبنه
وفضله ،نستطيع أن نعد أحاديث صحيح مسلم لنرى هل بلغت فعالً أربعة آالف حديث أو أقل أو أكثر ،وكم
عدد ها باملكرر ،هل كما يقول تلميذه إهنا عشرة ألف حديث ،او اقل من ذلك ؟
مدة تأليفه للصحيح :
يقول تلميذه وقرينه أمحد بن سلمة إن مسلماً مكث يف تأليف هذا الكتاب مخس عشرة سنة ،وبال شك أن
هذا وقت طويل ولكن لعل الذي جعل مسلماً ـ رمحه اهلل ـ ميكث هذه املدة حتريه وانتقاؤه لألحاديث ،وهذا األمر
ليس باهلني ،وخباصة أنه أشار يف مقدمته أنه أقدم على عمل عظيم ليس باألمر اهلني ،ولوال غريته على سنة النيب ملا
أقدم على ما أقدم عليه
هل استوعب مسلم بن احلجاج كل الصحيح ؟
وفعالً جنده رمحه اهلل حينما ألف هذا الصحيح تكلم فيه بعض أهل العلم ألجل تأليفه هلذا الكتاب ،ولعل ذلك كان
ألسباب مما يقع بني األقران يف الغالب وإن كان يف الظاهر قد تأيت معه بعض عبارات اليت رمبا شكلت سببا يف نظر
19
ذلك املتكلم ولكنها يف احلقيقة ال تعرب أسبابا وجيهة ،فحينما كان مسلم رمحه اهلل عند أيب زرعة الرازي يذاكره مث
قام ،فقال له أحد اجللساء :هذا مجع أربعة آالف حديث يف الصحيح .
فقال أبو زرعة :وملن ترك الباقي ؟ مث ذكر بعد ذلك كالماً قال :إنه يطرق ألهل البدع علينا .يقصد أنه حينما
يفرد هذه األحاديث الصحيحة وجمموعها أربعة آالف حديثاُ ،كأنه يقول :ليس هناك من احلديث الصحيح سوى
هذه األربعة آالف .
واحلقيقة أن مسلماً رمحه اهلل مل يدع ذلك ـ ال هو ولتا شيخه البخاري ـ ،وذكرت أن البخاري ـ رمحه اهلل ـ ما ادعى
أنه حصر مجيع احلديث الصحيح ،بل إنه ليصحح أحاديث كثرية يف خارج الصحيح ينقلها عنه الرتمزي وغري
الرتمزي .
وكذلك مسلم ـ رمحه اهلل ـ ما أدعي أنه حصر مجيع األحاديث الصحيحة ،بل جنده يسئل احياناً عن بعض األحاديث
فيصححها ،كما ورد يف آخر كتاب الصالة أن أبا بكر ابن أخت أيب النضر سأله عن حديث أيب هريرة مرفوعاً اىل
النيب أنه قال " إذا قرأ اإلمام فأنصتوا " فقال مسلم :هو عندي حديث صحيح فقالوا له :ملا مل خترجه يف كتابك ؟
أو مل تضعه هاهنا ؟
فقال :ليس كل شيء عندي صحيح أودعته هاهنا ،إمنا أودعت هاهنا ما أمجعوا عليه … ولست أريد األن
اخلوض يف هذه العبارة ( :ماأمجعوا عليه ) وما يريد هبا مسلم ؟
ولكن املقصود أنه ـ رمحه اهلل ـ كان يصحح أحاديث خارج الصحيح والسبب الذي جيعله ال يودعها يف الصحيح :إما
لكوهنا من األحاديث اليت تكلم فيها ،فال يريد أن يكون هناك جمال للكالم يف صحيحه ،وإن كان قد يرد هاهنا
اعرتاض من يعرتض من طلبة العلم فيقول :بعض األحاديث اليت أخرجها مسلم يف صحيحه تكلم فيها وخمالف يف
تصحيحها ا
فنقول :مثل هذه األحاديث لعل مسلما ً ترجح له أهنا علل غري مؤثرة ،وأن تلك العلل اليت
يف األحاديث اليت اجتنبها قد تكون مؤثرة ،وإن كان يرتجح له أيضا أهنا أحاديث صحيحة ،ولكن قد يكون إعالهلا
أقوى .
مث إنه ـ رمحه اهلل ـ أشار اىل أنه انتقاه ـ أى االثنا عشر ألف حديث ـ من ثالمثائة ألف حديث ،والكالم يف هذا هو
نفس الكالم الذي ذكرته عن البخاري ـ رمحه اهلل ـ حينما انتقي صحيحه من ستمائة ألف حديث ،قاملقصود إذا مبا
يف ذلك املكرر بكثرة الطرق ،ومبا يف ذلك من املوقوف واملقطوع .
20
ووردت عنه ـ رمحه اهلل ـ عبارة أنه قال " :ما وضعت يف كتايب هذا شيئاً إال حبجة ،وما أسقطت منه شيئاً إال حبجة
" واملقصود باحلجة احلجج العلمية اليت جتعله يودع أو يذر .
مميزات صحيح مسلم :
جند كثري من أهل العلم أعجب بصحيح مسلم غاية اإلعجاب ،ذلك بسبب حسن ترتيبه وتلخيصه لطرق احلديث
بغري زيادة وال نقصان ،واحرتازه أيضاً من التحول يف األسانيد عند اتفاقها من غري زيادة وال نقصان ،وتنبيه على
ألفتاظ الرواة من اختالف يف منت أو اسناد ولو يف حرف .
جنده مثال ـ رمحه اهلل ـ يعين عناية تامة بالتنبيه على الروايات املصرحية بالسماع ،وينتقيها إنتقاء ،وذلك تالفياً منه
للكالم يف اإلسناد املعنعن ،سواء كان ذلك الراوي الذي ورد التصريح منه بالسماع مدلساً أم غري مدلس ،فإن
كان موصوفاً بالتدليس ،فال شك أن مسلماً رحيمه اهلل حيرص أكثر ،وحيرص أيضاً حيت لو مل يكن الراوي موصوفاً
بالتدليس .
وليس أدل على هذا من أول حديث يف صحيحه وهو حديث عبد اهلل بن عمر رضي اهلل عنهما يف جمئ جربيل إىل
النيب ،فإنه يف هذا احلديث ـ لو طالعتموه يف صحيح مسلم ـ جتدوه يقول " :قال فالن :حدثنا … " وانتقى هذه
الرواية ،جاء باحلديث من أكثر من إسناد ،مث انتقى ذلك اإلسناد الذي صرح قيه بالسماع .
حسن ترتيبه ـ رمحه اهلل تعاىل ـ :
وبالنسبة حلسن ترتيبه فإنه ـ رمحه اهلل ـ من جوانب التفضيل لكتابه على غريه من الكتب قالوا :إنه ليس فيه سوى
احلديث السرد ،أى أنه مل ميزج حديث النيب بغريه ،وكأهنم يشريون اىل صنيع البخاري رمحه اهلل ،حينما مزج مع
احلديث ما ورد عن الصحابة وعن التابعني وبعض الكالم الذي يذكره من عنده ،كل ذلك بسبب مايلجئه إليه فقه
احلديث ،ولكن مسلماً ـ رمحه اهلل ـ مل يصنع من ذلك شيئاً .
عدم تبويب اإلمام مسلم لكتابه :
بل إنه مل يبوب كتابه فهو ـ رمحه اهلل ـ ساق األحاديث بناء على الرتتيب الفقهي ،ابتداء بكتاب اإلميان مث
الطهارة ،ثيم الصالة ،وهكذا لكنه مل يبوب ،مل يقل :باب كذا وكذا ،بل هذا التبويب إمنا بوبه بعض الشراح
لصحيحه ،وبعض املستخرجني ،وبعض امللخصني .
21
فلو نظرنا إيل التبويب املوجود بني أيدينا ،وإذا به تبويب اإلمام النووي ـ رمحه اهلل ـ وال شك أنه تبويب فيه شيء من
الطول ،ويف نظري أن تبويب القرطيب يف شرحه لصحيح مسلم ،ويف تلخيصه لصحيح مسلم ،فإنه خلص صحيح
مسلم ،فإنه خلص صحيح مسلم يف كتاب جرد األحاديث من األسانيد وبوب عليها تبويباُ جيداً بديعاً وشرح هذا
التلخيص ـ ولو نظرنا يف هذا التبويب عند القرطيب جنده أجود من تبويب النووي ،ويف بعض األحيان جند أن القرطيب
ـ رمحه اهلل ـ يتأثر أحياناً بتبويب أيب نعيم يف مستنخرجه ،فإين يف أثناء املطالعة وجدت أن القرطيب يأخذ أحياناً
التبويب أليب نعيم يف املستخرج فيضعه عنواناً لذلك الباب الذي يبوب عليه أو الذي يبوب به .
أسباب تفضيل صحيح البخاري على مسلم عند اجلمهور :
حصل هناك إختالف يف تفضيل صحيح مسلم على البخاري او العكس ،ومجهور احملدثني يفضلون صحيح البخاري
على مسلم يف اجلملة لعدة أسباب منها:
1ـ صحة األحاديث عند البخاري ،فإهنا اصح من األحاديث عند مسلم ،وهذا من حيث العدد يف اجلملة ،وإال
هناك أحاديث يتفق البخاري ومسلم على إخراجها ،ولكنهم نظروا اىل شرط البخاري يف الصحة وإذا به أقوى من
شرط مسلم .
2ـ عدد األحاديث املتكلم فيها عند البخاري اقل من عدد األحاديث املتكلم فيها عند مسلم .
3ـ عدد الرجال الذين تكلم فيهم ممن أخرج هلم مسلم أكثر من عدد الرجال الذين تكلم فيهم ممن أخرج هلم مسلم
أكثر من عدد الرجال الذين تكلم فيهم ممن أخرج هلم البخاري .وهذا من حيث جوانب عامة دعت احملدثني اىل أن
يفضلوا صحيح البخاري على صحيح مسلم .
4ـ هذا باإلضافة اىل من يلتفت اىل الناحية الفقهية فإنه يرى أن صحيح البخاري أحسن من صحيح مسلم ،والسبب
أن البخاري ـ رمحه اهلل ـ مزج احلديث بالفقه فأصبح كتابة هذا حديثاً وفقها يف آن واحد.
تفضيل املغاربة لصحيح مسلم على البخاري :
لكن بعض املغاربة يفضل صحيح مسلم على صحيح البخاري ،وكذلك وردت عبارة عن أيب على النيسابوري ـ
رمحه اهلل ـ من املشارقة أنه فضل صحيح مسلم أيضاً ،ولكن هل هذا التفضيل يقتضي التفضيل يف األصحية أو التفضيل
يف أمور أخرى خارجة عن حيز الصحة ؟ بعضهم فهم أن التفضيل يشمل حىت األصحية ،وهذا الكالم هتافت ال
يشك إنسان له إملام بعلم احلديث يف أن أحاديث البخاري أصح من أحاديث مسلم ،وكما قلت :يف اجلملة .
22
ولكن من حيث اجلواين األخرى قد يفضل بعض الناس صحيح مسلم على صحيح البخاري بسببها ،فمن ذلك مثالً
ما ذكره التجيب عن ابن حزم ـ رمحه اهلل ـ أنه فضل صحيح مسلم على صحيح البخارى ،وذكر السبب فذكر :
أن مسلماً رمحه اهلل ليس يف كتابه سوى احلديث السرد ،بعد املقدمة ،قالوا :إذا هو ميزج أحاديث النيب بغريها .
2ـ كما ان من جوانب التفضيل مجع مسلم رمحه اهلل لطرق احلديث مكان واحد ،وليس كالبخاري الذي
يفرق هذه الطرق يف أماكن متعددة وكما قلت سابقاً :إهنا قد تصل اىل أكثر من عشرين موضعاً بسبب ما ينتزعه
من ذلك احلديث من فقه ،فنجد أنه يقطع احلديث ،رمبا أورده يف الصالة مث الطهارة ،مث يف الزكاة ،مث يف احلج ،
مث يف الصيام ،مث يف غري ذلك من األبسواب ،ويف كل باب جنده يأخذ من احلديث ناحية فقهية ويودع ذلك
احلديث يف ذلك الباب هلذا السبب .
أما مسلم فال يصنع ذلشسك يف الغالب جداً ،قد يقع عنده يف بعض األحيان حديث مكرر يف موضعني تقريباً مثل
حديث ابن عباس يف األشربة يف وفد عبد القيس حينما قدموا ،فإنه كرره يف موضع آخر ،ولكن هذا قليل جدا عند
مسلم ـ رمحه اهلل ـ والقلة النادرة ال يبين عليها شيء ،وال يقاس عليها ،وال يعترب هلا حكم .
فإذا احلكم الغالب ملا يف صحيح مسلم من األحاديث :أن مسلماً ـ رمحه اهلل ـيجمع مجيع طرق احلديث وجيمعها
يف املكان األليق هبا ،فإذا وجد أن معظم مادة ذلسك احلديث ميكن أن جتعل يف كتاب الطهارة ،جعلها يف كتاب
الطهارة ،حيت وإن كان فيه بعض املواضع اليت ميكن أن يستفاد منها يف كتاب الصالة ،ويف غريذلك من األبواب ،
فال جنده يودعه يف تلك املواضيع ،وإمنا جيعلها يف أليق املواضيع بذلك احلديث .
3ـ مث إنه يعىن بالطرق يف ترتيبها ،فنجد أنه يقدم الطريق اليت فيها أصحية ،ويقدم الطريق اليت فيها إمجال ،
مث يرد فها بالطريق املبينة هلا ،ويقدم الطريق املنسوخة مث يأيت بعد ذلك بالطريق الناسخة ،هلم جرا.
ومن حسن ترتيبه وطريقته يف السياق جعلت بيعض العلماء يفضلونه على كتاب البخاري .
4ـ كما أن من جوانب التفضيل يف هذا املوضع :أنه ـ رمحه اهلل ـ يعين باملتون عناية فائقة ،فتجد أنه يتحرى ويتحرز
يف فروق األلفاظ ،فيقول :قال فالن كذا ،وقال فالن كذا .
وحىت يف األسانيد جتد أنه أحياناً يقول :قال فالن :حدثنا ،وقال فالن أخربنا ،وذلك لتفريقه ـ رمحه اهلل ـ بني
حدثنا وأخربنا ،وأما البخاري رمحه اهلل فال يعىن هبذا ،ولعل البخاري يرى التسوية بني حديثنا وأخربنا ،وهذا فيما
يظهر من صنيعه يف كتاب العلم ،أما مسلم ـ رمحه اهلل ـ فريى التفريق بني حدثنا وأخربنا .
23
الفرق بني حدثنا وأخربنا :
احملدثون يفرقون يف طريقة التلقي بني ماتلفظ به السيخ ،وبني ما قرئ على الشيخ ،فإذا كان الشيخ حيدث
سواء من حفظه ،أو من كتابه ،ويقرأ على التالميذ ،وهم ينسخون األحاديث اليت حيدثهم هبا .هذا يقال له :
( السماع ) ،وهو الذي يعربون عنه ( حبدثنا أو حدثين ) .
فإن كان الطالب تلقي ذلك احلديث يف جملس مثل هذا اجمللس فإنه يأيت بصيغة اجلمع ( :حدثنا ) لكونه تلقى
احلديث مع مجاعة آخرين .وإن كان تلقاه من الشيخ مبفرده قال ( :حدثين ) يعين على انفراد .
وأما إذا كان احلديث يقرأ على الشيخ قراءة مثل مالك ـ رمحه اهلل ـ يدفع املوطأ ألحد التالميذ فيقرأ وهو يسمع ،فإن
أخطأ التلميذ رد عليه وصوب ذلك اخلطأ ،وإال مضى ،فهذا يسمونه ( العرض والقراءة على الشيخ ) ويعربون عنه
بتعبري دقيق حينما يريد اإلنسان أن حيدث يقول ( :أخربين ) وال يقول :حدثين :يشري اىل أنه تلقى احلديث ال من
لفظ الشيخ ولكن من التلميذ الذي يقراعلى الشيخ .هذا هو السبب الذي جيعلهم يفرقون بني ( حدثنا ) و( أخربنا )
،فبعض احملدثني يقولون :كالمها سواء أقرأ على الشيخ ،أو قرأ الشيخ فكل ذلك واحد ،لكن مسلم ـ رمحه اهلل ـ
اليرى ذلك واحد ،ولكنه يفرق بني هذا وذاك ،ولذلك جنده يف كثري من األحاديث ينص على ذلك ،قال فالن :
حدثنا … وقال فالن :أخربنا ،وهلم جرا .
5ـ كما أنه ـ رمحه اهلل ـ إذا كان يف املنت زيادة أو نقصان أو تغري يف األلفاظ ينص على ذلك أيضاً ،فتجده يورد
احلديث بادئ ذي بدء بالطريقة اليت ينتقيها وخيتارها ،مث بعد ذلك يأيت باملتابعات والشواهد .فإن كان يف املتابعة أو
الشاهد زيادة لفظ ،ذكره ونص عليه ،وإن كان فيه اختالف لفظ نص عليه أيضاً .وهكذا .فهذا الصنيع من
مسلم ـ رمحه اهلل جعل بعض العلماء يفضلونه على صحيح البخاري .
فإذن نستفيد من هذا كله أن جانب التفضيل لصحيح مسلم على صحيح البخاري ال من حيث األصحية ،ولكن
بإعتبارات أخرى رآها بعض العلماء ،ورأى بعضهم خالفها ،واملسئلة اجتهادية وكل له وجهة هو موليها .
عدم إهتمام اإلمام مسلم باألسانيد العالية
بقدر اهتمامه باألسانيد الصحيحة :
من األمور اليت أحب التنبيه عليها أم مسلما رمحه اهلل مل يعن باحلديث العايل يف صحيحه ،واحلديث العايل
ضد النازل ،واملقصود بالعايل والنازل قلة العدد بني صحاب الكتاب وبني النيب أقصد فر الرواة .
24
فإذا كان مسلم ـ رمحه اهلل ـ عنده حديث مروي من عدة طرق ،بعض الطرق يكون بينه وبني النيب ستة رواة
،وبعض الطرق يكون بينه وبني النيب أربعة رواة ،فإهنم يقولون للطريق اليت بينه وبني النيب أربعة رواة :طريق عالية
،واألخرى نازلة .
وقد عين احملدثون مبسئلة العلو ،والذين يف طبقة مسلم حيرصون على األحاديث العالية وبالذات يف ذلك
التاريخ ،بعضهم ظفر بأحاديث ثالثية اإلسناد يعين اليكون بني املؤلف وبني النيب أكثر من ثالثة رواة ،الصحايب ،
والتابعي ،مث شيخ صاحب الكتاب ،ووقع يف مسند اإلمام امحد ـ رمحه اهلل ـ عدد من األحاديث الثالثية بلغ حنو
ثالمثائة حديث ثالثيات ،أفردها السفاريين ـ رمحه اهلل ـ وشرحها أيضاً يف كتابه " شرح ثالثيات املسند " .
كما أنه وقع لبعض املعاصرين ملسلسم بعض الثالثيات أيضاً ،فهناك ابن ماجه وهو متأخر عن مسلم نوعاً ما ،له
ثالثيات ،بل إن تلميذ مسلم وهو الرتمذي له ىحديث ثالثي يف كتابه ،وهو ما أخرجه يف كتابه عن شيخه امساعيل
بن موسي الفراري قال :حدثنا عمر بن شاكر عن أنس عن النيب أنه قال " يأيت على الناس زمان الصابر فيه على
دينه كالكابض فيه على اجلمر " هذا احلديث أخرجه الرتمذي بإسنادثالثي ليس بينه وبني النيب سوى ثالثة رواة ،وما
دام الرتمذي من تالميذ مسلم ،فمن باب أوىل أن يوجد عند مسلم أحاديث ثالثية اإلسناد .فلماذا ياترى مل خيرج
مسلم شيئاً من األحاديث الثالثية ؟ إمنا أعلى ما وجدنا عنده يف كتاب رباعي اإلسناد ـ يعين بينه وبني النيب أربعة رواة
ـ ملاذا مل يعن مسلم بالثالثي اإلسناد ؟
السبب انتقاؤه لألحاديث الصحيحة ،واتقاؤه للطرق الصحيحة ،فإنه لو أراد أن خيرج هذه الطرق الثالثية سيكون
ذلك اإلسناد الذي عنده ضعيفاً ،ولذلك بعضهم يقول :إن األحاديث الثالثية يف سنن ابن ماجة كلها ضعيفة ،
وأظن هذه العبارة وردت عن املزي ـ رمحه اهلل ـ فسلم إذا جتنب األحاديث العالية بسبب انتقائه لليحديث الصحيح
فقط ،وإال سيكون عنده أحاديث ثالثية اإلسناد .كما أن من منهج مسلم رمحه اهلل أنه ال يرى الرواية باملعىن
خبالف شيخه البخاري ،فالبخاري يرى الرواية باملعىن ،إذا تلقى احلديث بلفظ جوز لنفسه أن يرويه بلفظ آخر
بشرط أن يكون املعىن هو املعىن .وأما مسلم رمحه اهلل فإنه حيرتز كل اإلحرتاز عن أي لفظة يغريها ويبدهلا يف اإلسناد
.
وبعضهم ذكر أن هذا من جوانب التفضيل لصحيح مسلم علىالبخاري ،وبعضهم ذكر أن للبخاري عذراً أن مسلماً
حيق له أن يصنع هذا الصنيع .قالوا :البخاري ـ رمحه اهلل ـ مل يكن يدون احلديث أثناء تلقيه له عن الشيوخ ،فهو
25
الذي يقول :ب حديث مسعته بالشام وكتبته خبرسان ،فإذا هو ميلي من حفظه فيستحضر املعىن متاماً مث يعرب مبا
حيضره من ألفاظ ،إن استطاع أن يأيت باحلديث بنفس اللفظ فعل ،وإال جاء بألفاظ تؤدي نفس املعين الذي تلقاه به
.
قالوا :وأما مسلم رمحه اهلل فإنه ألف صحيحه يف بلده نيسابور ،بل حبضور مجيع كتبه حينما كان يكتب عن
الشيوخ ،فكتبه بني يديه ،بل إن بعض شيوخه كان حياً حينما ألف الصحيح ،فإذا أشكل عليه لفظ ذهب اىل
مراجعه ذلك الشيخ عن ذلك اللفظ الذي أشكل عليه ،فلذلك حق له أن حيرتز يف هذه األلفاظ ،وأن يأين باحلديث
على وجهه الذي مسعه .
وألجل هذا وجدنا بعض املغاربة ـ بالذات ـ وإن كان يصنع هذا غريهم ممن يسوق املتون ـ متون األحاديث ـ كعبد
احلق اإلشبيلي يف كتابه األحكام ـ ينتقون رواية مسلم على رواية البخاري إذا كان احلديث متفق عليه ،جند أهنم
يأخيذون لفظ مسلم ويدعون لفظ البخاري .
والسبب أهنم يرون أن لفظ مسلم أدق من لفظ البخاري ـ رمحه اهلل ـ وهذا فعالً موجود يف صحيح البخاري ،ورمبا
قال بعض الناس :ميكن أن يكون البخاري تلقى احلديث هكذا ،ألننا جند البخاري يورد احلديث يف أكثر من موضع
،فنجد يف بعض املواضيع اختالفا يف اللفظ عن ذلك املوضع السابق .مثال ذلك :أينه يورد احلديث يف كتاب
الطهارة بلفظ آخر ،وقد يقول قائل :إن هذا بسبب اختالف الرواية ،يكون تلقي احلديث عن شيخ بلفظ ،وعن
شيخ آخر بلفظ آخر .
ولكن جوابنا على هذه املسئلة :أقول :إن البخاري ـ رمحه اهلل ـ يف بعض األحيان يأيت باحلديث عن نفس الشيخ يف
هذااملوضع ويف ذلك املوضع مع اختالف اللفظ فدل ذلك على أن اختالف اللفظ منه هو ال من ذلك الشيخ الذي
تلقى ذلك احلديث عنه .
ومن األمور اليت فضلوا صحيح البخاري بسببه :أن مسلماً ـ رمحه اهلل ـ اقتصر على املرفوع دون املوقوف ،وعلى
املتصل دون املعلق ،وهذا يدفعنا اىل الكالم على املعلقات يف صحيح مسلم .
املعلقات يف صحيح مسلم .
بالنسبة للبخاري تقدم الكالم على املعلقات يف صحيح البيخاري مبا يغين عن اإلعارة ،وفهمنا من خـالل ذلك
العـرض أن البخاري ـ رمحه اهلل ـ أورد يف كتابـه كثريا" مـن األحاديث املعلقة ،وذكرت لكم أن املعلق ما حذف من
26
مبدأ إسناده راو فأكثر ،ولرمبا حذف كامل اإلسنادفقال :قال :النيب ورمبا ذكر الصحايب فقط فقال :قال بن عباس
،أو قال أبو هريرة ،وهلم جرا.
فهذه األحاديث املعلقة يودعها البخاري ـ رمحه اهلل ـ يف كتابه لسبب وهو استخدامه هلا يف الناحية الفقهية االستنباطية
،فهل ياترى يف صحيح مسلم شيء من هذه املعلقات ؟.
فنقول :إن املعلقات اليت يف صحيح مسلم وجدت ـ على إختالف بني العلماء يف عددها ـ ولكنها على أكثر عدد ال
تشكل نسبة إذا ما قورنت باملعلقات يف صحيح البخاري .
فقد بلغ عدد األحاديث املعلقة يف صحيح البخاري مائة وتسعة ومخسون حديثاً كما يقول احلافظ بن حجر ،وعلى
أعلى نسبة عند مسلم قيل :إن عددها أربعة عشر حديثاً .
فالفرق بني العددين ظاهر ،فإذا هذا من جوانب التفضيل لصحيح مسلم على صحيح البخاري ،أهنم قالوا :ليس
فيه شيء من املعلقات .
مث إن هذه املعلقات اليت يف صحيح مسلم ـ وعددها كما قيل على أعلى حصر أربعة عشر حديثاً ـ ليس األمر فيها
كما ذكر بل إننا جند هذه األربعة عشر حديثاً ترجع اىل اثين عشر حديثاً ،والسبب أن أحدها مكرر ،واحلديث
األخر ليس يف احلقيقة مبعلق ،وهو احلديث الذي جاء يف كتاب الصالة يف باب الصالة على النيب ،حينما يقول
مسلم :حدثنا صاحب لنا عن إمساعيل بن زكريا عن األعمش ،وعن مسعر وعن بن مغول كلهم عن احلكم ـ يعين
ابن عتيبة عن ابن أيب ليلى عن كعب بن عجرة أهنم قالوا للنيب " :قد عرفنا كيف نسلم عليك ،فكيف نصلي عليك
؟ فقال عليه الصالة والسالم :قولوا :اللهم صل على حممد وعلى آل حممد …".
جند أن هذا احلديث هبذه الصورة ليس مبعلق ،وإمنا هذا إسناد متصل ليس فيه انقطاع ولكن يقال عن هذا احلديث :
إن يف إسناده راوياً مبهماً ،وهو شيخ مسلم حينما قال :حدثنا صاحب لنا ،ومع ذلك فهذا احلديث إمنا جاء هبذه
الصورة يف رواية أيب العالء بن ماهان وهو أحد الرواة يف صحيح مسلم .
وأما الرواية املعتمدة وهي رواية أيب امحد اجللودي النيسابوري فليس فيها هذا الراوي املبهم ،وإمنا فيها التصريح باسم
هذا الشيخ ،وهذه الرواية هي املعتمدة وهي املوجودة بني أيدينا ،أما رواية أيب العالء بن ماهان فال أعرف أهنا
موجودة يف هذا العصر ،ورواية اجللودي جاءت فيها الرواية هكذا :يقول مسلم :حدثنا حممد بن بكار ،قال
حدثنا إمساعيل بن ذكريا … مث ذكر احلديث .
27
فتبني هبذا أن هذا احلديث ليس مبعلق يف صحيح مسلم ،وإمنا هو إسناد متصل ،وتبني شيخ مسلم يف رواية اجللودي
.
أما األحاديث األثنا عشر اليت قيل إهنا معلقة ،ففي احلقيقة أن هذه األحباديث اإلثنا عشر اليت قيل أهنا معلقة ،ففي
احلقيقة أن هذه األحاديث اإلثىن عشر أيضاُ ،لو نظرنا إليها جند فيها أحاديث وصلها مسلم نفسه يف موضع آخر من
صحيحه ،وعدد هذه األحاديث اليت وصلها مسلم مخسة أحاديث ،فإذا اليقال عن هذه األحاديث إهنا كمعلقات
صحيح البخاري واليت كثريمنها يعلقها وال يصلها يف نفس الصحيح ،وإمنا هذه وصلها مسلم يف موضع آخر فهي ال
تعترب معلقة .
هناك أحاديث عدها بعض العلماء معلقة وهي يف احلقيقة موصولة وعددها ستة أحاديث ،والسبب يف قولنا إهنا
موصولة أننا جندها بعد التتبع موصولة هكذا ،كاحلديث السابق فيها راو مبهم ،حينما يقول مسلم ـ رمحه اهلل ـ :
حدثت ،أو حدثنا صاحب لنا ،أو حنو ذلك من العبارات مثل ما حصل يف رواية أيب العالء بن ماياها السابقة ،
وعددها ستة كما بينا ،فهذه يقال :يف إسنادها راو مبهم ،وليست أحاديث معلقة ،وجند أن هذه األحاديث بعد
التتبع موصولة عند غري مسلم يف خارج الصحيح .
واعتىن بوصلها األخ الفاضل ( على حسن عبد احلميد حليب ) أحد تالميذ الشيخ األلباين يف كتاب له مساه "
تغليق التعليق " على هذه األحاديث املعلقة ،أو اليت قيل إهنا معلقة يف صحيح مسلم ،فبهذا ينهي كثرياً من ال كالم
عن األحاديث اليت هبا راو مبهم .
يبقى بعد ذلك حديث واحد هو الذي نص عليه احلافظ العراقي ،فإنه يقول رمحه اهلل :إن عدد املعلقات يف صحيح
مسلم إمنا هو حديث واحد فقط ،وإذا كان عدد املعلقات حديثاً واحدا فقط ،فال شك أنه ال حكم له يف عدد
أحاديث كثري بغري املكرر تبلغ أربعة آالف ،وباملكرر تصل حنو اثىن عشر ألف حديث ،فال يشكل هذا العدد نسبة
يف مقابل ذلك العدد الضخم .
املوقوف واملقطوع عند البخاري ومسلم :
أما بالنسبة للموقوف واملقطوعات ،واملقصود باملوقوف :ماكان من كالم الصحايب ،واملقطوع :ما كان من كالم
التابعي فمن بعده.
البخاري ـ رمحه اهلل ـ يورد كثرياً من هذه املوقوفات واملقطوعات يف كتابه وباألخص يف التبويب ،يستعني هبا يف
تبويبه ويف االستشهاد هبا يف فقه احلديث .وأما مسلم ـ رمحه اهلل ـ فهذه املوقوفات واملقطوعات يف صحيحه قليلة جداً
28
ال تقارن مبا عند البخاري ،وإذا وجدت عند مسلم فإمنا توجد لغرض ومناسبة ،رمبا ظهرت لبعضنا ،ورمبا مل تظهر
.
أما بالنسبة للموقوف فإن مسلماً ـ رمحه اهلل ـ يستعني به يف فهم ذلك احلديث .وأول حديث عند مسلم ،وهو
حديث ابن عمر يف جمئ جربيل للنيب يف صورة أعرايب ،وسؤاله إياه عن الساعة ـ السبب الذي دعا ابن عمر إىل إيراد
ذلك احلديث :أن حييي بن عمر وصاحبا له جاء اىل عمر وذكر له القدرية الذين ظهروا وأصبحوا يقولون بالقدر ،
فقال ابن عمر رضي اهلل عنهما " :إذا لقيت أؤلئك فأخربهم أين برئ منهم وهم برءاء مين " فهذا يقال له :موقوف
،ألنه من كالم ابن عمر ،مث ذكر بعد ذلك حديث جربيل ،إذا كالم ابنت عمر هاهنا جاء عرضاً يف ضمن هذا
احلديث املرفوع ومل يقصد مسلم رمحه اهلل إفراده عن احلديث أو اجملئ به هكذا استقالالً ،خيرب عرضاً ،ومع ذلك
هو يعني يف فهم هذا احلديث ،فأين عمر رضي اهلل عنهما خيرب بكالمه هذا أن هؤالء الذين قالوا هبذه ااملقولة
يستحقون أن يتربأ منهم املسلمون بسبب شناعة هذه املقالة .
أما بالنسبة للمقطوع وهو ما جاء عن التابعي فمن بعده ،فهو قليل جداً يف صحيح مسلم ،ومع هذا إمنا يورده
مسلم اسرتواحاً يف بعض املواضع ،وميثلون لذلك مبثل روايته ملقولة حييي بن أيب كثريـ رمحه اهلل تعاىل ـ حينما قال " :
اليستطاع العلم براحة اجلسم " ،أو " براحة اجلسد " ـ على إختالف الروايات يف ذلك ـ ،فمسلم رمحه اهلل يف كتاب
املساجد يف باب الصلوات اخلمس أورد حديث عبد اهلل بن عمرو بن العاص أن النيب قال " :إذا صليتم الفجر فإنه
وقت إىل أن تطلع قرن الشمس األول ،مث صليتم الظهر فإنه وقت اىل أن حيضر العصر … " احلديث ،ملا أورد
مسلم هذا احلديث أورد بعد ذلك عن حييي بن أىب بكري عن حييي بن أيب كثري أنه قال " :ال يستطاع العلم براحة
اجلسم " .مث أورد بعد ذلك عدة أحاديث كالعادة ،فلماذا ياترى أورد مسلم هذا الكالم عن حييي بن أيب كثري ؟
السبب بعد التأمل جند أن هذا احلديث مداره على قتادة بن دعامة السدوسي يرويه عن أيب أيوب ـ حييي بن مالك ـ
عن عبد اهلل بن عمرو بن العاص رضي اهلل عنهما ،مث جند أن مسلماً أخرج هذا احلديث عن قتادة من أربع طرق ،
من مجلتها :
طريق هشام الدستوائي وطريق شعبة ،كالمها يرويانه عن قتادة ،وأخبرجه من طريقني عن معاذ بن هشام الدستوائي
عن أبيه قتادة ،وأخرجه من ثالث طرق عن شعبة .
فصار احلديث مبجموع هذه الطرق له سبعة طرق ،يعين بدال من أن يكون حديثاً واحداً صار سبعة أحاديث باملكرر
،فهذا التعب يف إخراج هذه الطرق جعل مسلماً رمحه اهلل يتذكر مقولة حييي بن أيب كثري هذه ،وأن العلم حيتاج اىل
29
نشاط نفسي وعلو مهة ،وال يليق بطالب العلم أن يكسل عن ختريج مثل هذه الطرق ،فأورد هذه املقولة شحذا
هلمم طلبة العلم وحثا هلم على عدم السآمة وامللل .فهذا هو السبب الذي جعل مسلماً رمحه اهلل يورد مثل هذه
املقولة عن حييي بن أيب كثري .
ويف اجلملة ،فال يقارن ما يف صحيح مسلم مبا يف صحيح البخاري من املوقوف أو املقطوع أو املعلق ،فهذا من
جوانب التفضيل اليت فضل صحيح مسلم مبوجبها على صحيح اإلمام البخاري ـ رمحهما اهلل .
ما حكم تدليس أيب الزبري يف صحيح مسلم وغريه من املدلسني ؟
بالنسبة أليب الزبري حممد بن مسلم بن تدرس ،وهو كثري الرواية عن جابر ابن عبد اهلل رضي اهلل عنهما ،وله يف
صحيح مسلم عدة أحاديث يرويها عن جابر باعنعنة ،يعين يقول :عن جابر وال يقول :مسعت جابراً ،أو حدثنا ،
أو حنو ذلك من العبارات املصرحة بتلقيه ذلك احلديث عن شيخه جابر ،وحممد بن مسلم بن تدرس ـ أبو الزبري هذا ـ
وصف بالتدليس .
واستشهد يف ذلك على رواية الليث بن سعد حينما تلقى أحاديث من ايب الزبري مث سأله فقال :هذه األحاديث
مسعتها كلها من جابر ؟ فقال ال فقال :منه مسعت ،ومنه ما حدث عنه .فقال له :اعلم يل على الذي مسعت ـ أي
أشر على الذي مسعته يف الكتاب الذي نسخه منه ـ فأعلم له على بعض األحاديث ،قال الليث :فهي اليت أرويها .
هذه احلكاية من الليث بن سعد ـ وهو إمام من األئمة ـ بال شك أهنا صرحية يف أن أبا الزبري مدلس ،واستدل عليها
من أستند ـ مثل النسائي ـ فوصفه بالتدليس ،
ومن جاء بعد ذلك كالذهيب ،وابن حجر ،وغريهم ،كلهم وصفوا أبا الزبري بالتدليس ،وبعضهم 1بالغ مثل ابن
القطان الفاسي ،وكذلك ابن حزم يف رد حيت األحاديث اليت يف صحيح مسلم ،واليت مل يصرح فيها أبو الزبري
بالتحديث .
وخالصة ما فصلوا فيه أهنم قالوا :رواية أيب الزبري مقبولة إذا صرح بالسماع ،وإن مل يصرح بالسماع فإهنا مردودة
إال إذا كانت من رواية الليث بن سعد عنه ،فإن أحاديث الليث بن سعد عن أيب الزبري مسموعة ،وما عدا ذلك
فنرد تلك األحاديث مامل يصرح أبو الزبري بالسماع ،فهل هذا الكالم ينطبق على ما يف صحيح مسلم .
بعضهم عمم مثل ابن القطان ـ وأظن ابن حزم كذلك أيضاً ـ .
وبعضهم قال :ال ،بل مايف صحيح مسلم ال يتعرض له ،وما كان يف خارج صحيح مسلم فهو الذي ميكن أن
ينقص هبذا النقض .
30
ويف إعتقادي أن هذا الرأي هو أوسط وأعدل األقوال ،ليس كالقول الذي يهدد قول الليث بن سعد ،ويقول :
أبو الزبري غري مدلس ،فهذا فيه إهدار لكالم إمام من األئمة ،والعتماد أئمة آخرين عليه ـ كالنسائي وغريه ـ ،كما
أن التعرض لألحاديث اليت يف صحيح مسلم ليس بالئق ،والسبب يف ذلك عدة أمور هي :
أوال :أننا جند مسلماً ـ رمحه اهلل ـ من األئمة الذين هلم معرفة تامة بعلل األحاديث ،واختار هذه األحاديث وجتنب
أحاديث أخرى أليب الزبري ،فلماذا يا ترى أعرض عن تلك األحاديث اليت أليب الزبري وهي باسانيد صحيحة اىل أيب
الزبري ،ومل خيرجها يف صحيحه ،دل هذا على أنه انتقى بعض االحاديث اليت حتقق لديه بأنه صحيح حديث أيب
الزبري .
ثانياً :أن مسلما ً ـ رمحه اهلل ـ صنع مثل صنيع البخاري يف عرضه كتابه على أئمة عصره ،فإنه عرض هذا الكتاب ـ
الذي هو الصحيح ـ على شيخه ابن واره ،وعلى أيب زرعة الرازي أيضاً وعلى أئمة آخرين يف عصره ،فهذا العرض
منه جعله ينظر اىل تلك األحاديث اليت نقدوها مثل نقدها أبو زرعة الرازي فأبعدها مسلم من صحيحه .إذا دل أن
هذه األحاديث املبقاة يف صحيح مسلم مما أقره أبو زرعة الرازي ـ وهو إمام ـ علىتصحيحها.
مث إننا جند أيضاً أن هذه األحاديث اليت من رواية أيب الزبري يف صحيح مسلم ،قد تعقب الدار قطين مسلماً يف كتابه
كله واجتنب نقص هذه األحاديث ،ومل ينقص الدارقطين من األحاديث اليت من رواية أيب الزبري سوى حديث واحد
فقط ،فهل ياترى نقضه عليه بسبب التدليس ؟
اجلواب :ال ،وإمنا نقضه عليه ألن الزبري شك يف احلديث ،هل هو مرفوع أم ال ؟ فجاء به على الظن والتخمني ،
فيقول :أحسبه رفعه اىل النيب .
فإذا الدار قطين نقد مسلماً على إيراده هذا احلديث يف الصحيح مع العلم أن رواية ـ الذي هو أبو الزبري ـ مل جيزم
برفعه اىل النيب ،مث جتنب الدار قطين نقد تلك األحاديث اليت رواها أبو الزبري .ومن املعلوم أن الدار قطين إمام ،
وكتابه العلل أكرب شاهد على إمامته يف هذا الشأن .
كذلك غري الدارقطين ممن نقد صحيح مسلم وهم ائمة ،وهؤالء هم ( :ابن عمار الشهيد ،وأبو مسعود الدمشقي ،
وأبو على اجلباين ) .وهؤالء نقدوا بعض األحاديث اليت هلا علل من العلل اليت اصطلح عليها أئمة احلديث ،نذكر
منها :
1ـ كأن يكون الراجح يف احلديث أنه مرسل فيورده مسلم موصوال ً .
2ـ أو يكون الراجح يف احلديث أنه موقوف ،ويورده مسلم مرفوعاً .
31
3ـ أو يكون فيه زيادة راو ،أو سقط راو ،أو حنو ذلك من العلل اليت يعلون هبا .
وأما هذه العلل الظاهرة ،عنعنة أيب الزبري ،عنعنة األعمش ،وحنو ذلك من العلل ال يتعرضون هلا يف صحيح مسلم
لتيقنهم من أن هذه األحاديث من صحيح أحاديث هؤالء الرواه ،فنجد هؤالء األئمة الذين نقدوا صحيح مسلم ما
تعرضوا لألحاديث اليت رواها أبو الزبري بالعنعنة يف صحيح مسلم .
فألجل هذا نقول :إن تلك أألحاديث اليت من رواية أيب الزبري يف صحيح مسلم ال تتعرض هلا ،وأما ما كان يف
خارج صحيح مسلم فلرمبا كان فيه شيء من األحاديث الصحيحة عند أهل العلم العارفني بالعلل ،ولكن بضاعتنا يف
العلم قليلة ومل يتحصل هلم من مجع الطرق ومعرفة صواب هذه الرواية من عدمها .
فلدلك يلجئنا األمر والواقع الذي نعيشه اىل أن نقول يف هذه األحاديث :إننا نتوقف عن تصحيحها اال ما ورد
التصريح فيه بالسماع ،فليس عندنا ما عند هؤالء األئمة الفطاحل من املقدرة احلديثة اليت جتعلنا نقبل الرواية اليت
بالعنعة لتقينا من أن هذا الراوي أصاب فيها ،هذه ليست عندنا ،ولذلك ال نصنع مثل صنيعهم ،وإمنا نلجأ اىل
األخذ بظاهر الرواية
ذكر من أعل بعض أحاديث يف " صحيح مسلم " من املعاصرين :
اقول :من كان من املشايخ املعروفني بسالمة املقصد ،وبالغرية على سنة النيب وبسالمة املنهج واملعتقد ،مث
اجتهد يف املسئلة ،فينبغي يف هذه احلال أن يعذر على اجتهاده مع عدم إقرارنا له عليه ،ولكن ال يشنع عليه ،وال
يوصف باخس األوصاف او أقبحها كما يفعل بعض املبتدعة يف هذا الزمان بالشيخ األلباين ـ حفظه اهلل ـ فإنه جمتهد يف
هذه املسئلة ،وبالنسبة ىل ال أقره على هذا الصنيع ،ولكن ال أصنع مثل مايصنعه هؤالء الذين يشنعون عليه هبذه
األمور وهم يهدفون اىل أمور أخرى ،فإن بعضهم له إمنا بسبب ماهو عليه من املعتقد والدعوة اىل تصحيح املعتقد ،
وخباصة يف بالد خيمت فيها اخلرافة وعششت ،ولذلك هم يصنعون هذا الصنيع هلدف آخر ،فال نغرت مبثل هذه
العبارات اليت تظهر أن عندهم غرية على سنةالنيب ،واألمر خبالف ذلك .
من ذلك ماكتبه " حممود سعيد ممدوح " وغريه ،كأنه يظهر الغرية على الصحيحني ـ والغرية على الصحيحني طيبة ـ ،
ولكن يا "حممود سعيد ممدوح " أين غريتك هذه على الصحيحني حينما يتكلم عليها شيوخك الغماريون ،الذين
يفخر هبم ويأخذ عنهم ويتلقى عنهم ،وتريب على فكرهم ومنهجهم ؟ وهم ال يقدحون يف الصحيحني فقط ،بل
يقدحون يف أصحاب الصحيحني ،بل للغماريني كالم يف البخاري تنبو عنه األمساع ،فأين هذه الغرية ؟ا
ملاذا مل تظهر يف ذلك املوضع ؟ا
32
فإذن نتنبه هلذه الزالت ،ونعلم هؤالء حينما يتكلمون يف مثل هؤالء إمنا يتكلمون لغرض آخر .وحنن قد نكون
سذاجتنا تدفعنا اىل تلقي هذا الكالم هبذه الصورة الظاهرة كأهنا غرية على الصحيحني ،واألمر خبالف ذلك .
والشيخ األلباين ـ حفظه اهلل ـ معروف بغريته على السنة وخدمته هلا وهو بشر كبقية البشر ،وليس هو الذي تفرد هبذه
املسألة فقط ،فابن حزم كما ذكرت تكلم ،وابن القطان الفاسي تكلم وأكثر ،ويظهر أيضاً أن عبد احلق اإلشبيلي
ممن تكلم يف هذه املسألة .
فلماذا مل يتكلم عن أؤلئك األئمة كما تكلم هذا اإلمام الذي يف هذا العصر .
سنن أيب داود
()1
ترمجة االمام ابن خزمية
امسه ولقبه وكنيته:
شيخ اإلسالم وإمام األئمة يف عصره ،وفقيه اآلفاق ،أبوبكر حممد بن إسحاق بن خزمية بن املغرية بن صاحل
بن بكر السلمي النيسابوري ،احلافظ احلجة صاحب التصانيف.
مولده وشيوخه:
ولد – رمحه اهلل تعاىل – يف سنة ثالث وعشرين ومائتني ببلدة نيسابور ،واعتىن منذ صغره باحلديث والفقه
حىت صار يضرب به املثل يف سعة العلم واإلتقان.
وقد حدث عن خلق كثريين من الشيوخ منهم البخاري ومسلم وقد حدثا عنه أيضاً – أي البخاري ومسلم
– يف غري الصحيحني.
كذلك من أكابر شيوخ ابن خزمية :الفالس ،وأبوكريب" :حممد بن العالء" ،وحممد بن املثىن "الزمن" ،وحممد
بن بشار "بندار" ،وغري هؤالء كثري.
ثناء العلماء عليه وذكر مذهبه:
قال الدارقطين – رمحه اهلل " :-كان ابن خزمية إمماً ثبتاً معدوم النظري" ،وكان رمحه اهلل – متجرداً للحق
حىت وإن كان ينسب للمذهب الشافعي ،ولكن مل يكن باملتمذهب فيما يبدو لألذهان ،أو فيما صار عليه املتأخرون
( )1أنظر :الجرح والتعديل ( ،)7/196وتاريخ جرجان ،413 :سير أعالم النبالء ( ،)14/365وتذكرة الحفاظ ( 1
34
وفاته – رمحه اهلل – ومصنفاته:
تويف ابن خزمية – رمحه اهلل – يف ليلة السبت الثاين من ذي القعدة يف سنة إحدى عشرة وثالمثائة ،وقد
خلف آثاراً علمية كثرية ،يقول عنها تلميذه احلاكم أبوعبداهلل" :مصنفاته تزيد على املائة وأربعني كتاباً سوى
املسائل ،واملسائل املصنفة مائة جزء ،وله فقه حديث بريرة يف ثالثة أجزاء".
وهذه املؤلفات اليت أشار إليها احلاكم ال نعلم أنه بقي منها يف ذلك العصر سوى ثالثة كتب ،وهي:
أوالً :كتاب التوحيد ،وقد طبع عدة مرات ،وآخر طبعة تقع يف جملدين بتحقيق الشيخ عبدالعزيز الشهوان.
ثانياً :كتاب آخر ال يزال خمطوطاً حىت اآلن وعنوانه "شأن الدعاء وتفسري األدعية املأثورة عن رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم" ،وهو من حمفوظات املكتبة الظاهرية بدمشق.
ثالثاً :كتاب الصحيح املعروف بـ (صحيح ابن خزمية) ،وهو موضوع دراستنا.
اسم كتابه الصحيح ،وسبب التسمية بذلك:
ولقد اشتهر الكتاب هبذا االسم – "صحيح ابن خزمية" – بني العلماء مع أن امسه احلقيقي ليس كذلك،
وهذا أمر طبيعي ،فشأنه كشأن كثري من الكتب احلديثية اليت عناوينها تتسم بالطول ولكنها ختتصر مثلما اختصر
كتاب ابن خزمية ،فسمى بصحيح ابن خزمية ،فإننا جند مثالً أن اسم "صحيح البخاري"" :اجلامع املسند الصحيح
املختصر من أمور رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وسننه وأيامه".
وكذلك "صحيح ابن حبان" – كما سيأيت – امسه" :املسند الصحيح على التقاسيم واألنواع".
وكذلك "صحيح ابن خزمية" اسم كتابه احلقيقي هو" :خمتصر املختصر من املسند الصحيح عن النيب صلى اهلل
عليه وسلم".
فواضح من هذا العنوان أن هذا الكتاب خمتصر من كتاب آخر وهذا هو الواقع ،فإن ابن خزمية – رمحه اهلل
– اختصر هذا الصحيح من كتاب امسه املسند الكبري.
ذكر بعض األمثلة على ذلك:
وقد أشار ابن خزمية إىل ذلك األختصار عدة مرات يف ثنايا كتابه هذا ويف غريه ،فمن ذلك قوله يف
املقدمة(" :)3كتاب الوضوء خمتصر املختصر من املسند الصحيح عن النيب صلى اهلل عليه وسلم".
ويقول يف كتاب التوحيد(" :)4قد أمليت طرق هذا اخلرب يف كتاب املختصر من كتاب الصالة".
وأشار إىل املسند الكبري يف كتاب التوحيد فقال" :خرجته بطوله يف كتاب الصدقات من كتاب الكبري".
35
بل ذكر هذا "املسند الكبري" يف الصحيح( )5نفسه عدة مرات ،فقال" :وسأبني هذه املسئلة بتمامها يف كتاب
الصالة يف "املسند الكبري" ال املختصر".
ويقول(" :)6قد خرجت هذا الباب بتمامه يف كتاب الصالة من الكتاب الكبري".
ذكر طريقته يف اختصار األحاديث:
ويتضح من طريقة ابن خزمية – رمحه اهلل – يف سياقه لألحاديث اختصاره لألحاديث ،وخباصة األحاديث
الطويلة ،وهذا يدل على أنه أراد االختصار يف كتابه هذا ومل يرد التطويل ،فنجده يقتصر على موضع الشاهد ،مث
يقول" :وذكر احلديث" ،فال يتم احلديث.
مثال ذلك:
مثل ما جاء يف اجمللد األول ص 79حينما قال" :مث أخذ بيمينه – يعين املاء – وصك هبا وجهه ...وذكر
احلديث".
وحديث النيب صلى اهلل عليه وسلم أنه قال" :أال أدلكم على ما يكفر اهلل به اخلطايا ويزيد يف احلسنان؟ قالوا:
بلى يا رسول اهلل ،قال :إسباغ الوضوء على املكاره ،وانتظار الصالة بعد الصالة( .)7وأخرج من احلديث هذا املقدار
مث قال بعد ذلك :مث ذكر احلديث.
وقال بعده :وهذا خرب طويل قد خرجته يف أبواب ذوات عدد.
وقد خيتصر احلديث من وسطه كما فعل يف حديث عمران بن حصني يف سفره مع النيب صلى اهلل عليه وسلم
حيث ناموا عن صالة الفجر ،واحلديث مشهور ،ويف هذا احلديث يقول عمران – رضي اهلل عنه " : -فما أيقظنا إال
حر الشمس".
قال ابن خزمية يف هذه األثناء" :فذكر بعض احلديث مث نادى بالصالة" ،مث ذكر ابن خزمية باقي احلديث.
فجميع هذا يدل على أنه أراد االختصار يف كتابه هذا.
تعهده كتبه بالزيادة والتنقيح:
وكعادة كثري من العلماء حينما يصنف الواحد منهم الكتاب جنده اليزال يتعهد كتابه هذا بالزيادة واحلذف،
والتنسيق ،وما إىل ذلك ،فنجد ابن خزمية – رمحه اهلل – يصنع هذا الصنيع.
( )1أخرجه ابن خزيمة ( ،)1/90( )177وأعاده ( ،)357وقد أخرجه أيضاً أحمد ( ،)3/3وابن ماجه،)427( g 7
37
ويقول ابن كثري – رمحه اهلل تعاىل " :)9(-قد التزم ابن خزمية وابن حبان الصحة ومها خري من املستدرك
بكثري ،وأنظف أسانيد ومتوناً".
ويدل على مكانة هذا الكتاب مكانة مؤلفه عند العلماء ،وشدة حتريه يف األسانيد ،فإنه كما يقول السيوطي:
"يتوقف يف التصحيح ألدىن كالم يف اإلسناد" ،ويقول – أي ابن خزمية " :-إن صح اخلرب ،أو إن ثبت ،وحنو ذلك".
ذكر بعض األمثلة:
ومن األمثلة اليت تدل على ما ذكرنا احلديث الذي أخرجه من طريق األعمش عن أيب وائل شقيق بن سلمة
مث قال بعده" :هذا اخلرب له علة مل يسمعه األعمش من شقيق ،مل أكن فهمته يف الوقت"(.)10
يعين يف وقت تدوينه هلذا احلديث مل يكن فهم هذه العلة ،يدل عليها أنه اطلع عليها بعد ذلك مث أحلق هذا
الكالم إحلاقاً ،فهذا يدل على شدة حتريه – رمحه اهلل .-
وكذلك احلديث الذي رواه من طريق ابن إسحاق ،مث قال بعد ذلك" :أنا استثنيت صحة هذا اخلرب"(.)11
يقول :هذا ليس على شرطي ،فهذا يعترب من األحاديث املستثناة – أي ال أحكم عليه بالصحة – ملاذا؟
قال" :ألين خائف أن يكون حممد بن إسحاق( )12مل يسمع من حممد بن مسلم وإمنا دله عنه" .وابن إسحاق
كما هو معروف لكثري من طلبة العلم ممن عرف بالتدليس.
وكذلك أخرج حديثاً( )13من طريق عبداهلل بن هليعة ،وجابر بن إمساعيل ،مث قال بعد إخراجه هلذا احلديث:
"ابن هليعة( )14ليس ممن أخرج حديثه يف هذا الكتاب إذا تفرد برواية ،وإمنا أخرجت هذا اخلرب ألن جابر بن
إمساعيل( )15معه يف اإلسناد"أهـ.
( )2انظر" :اختصار علوم الحديث" للحافظ ابن كثير ص (.)27 9
( )3محمد بن إسحاق بن يسار ،أبوبكر المطلي موالهم ،المدني ،نزيل العراق ،إمام المغازي ،صدوق يدلس ورمي 12
بالتشيع والقدر ،من صغار الخامسة ،مات سنة ،150ويقال بعدها ،روى له البخاري تعليقاً وباقي السنة .تقريب ت:
.6424
( )4انظر" :صحيح ابن خزيمة" (.)1/75 13
( )1عبداهلل بن لهيعة ابن عقية ،أبوعبدالرحمن المصري ،القاضي ،صدوق ،من السابعة ،خلط بعد احتراق كتبه ،ورواية 14
ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما ،وله في مسلم بعض شيء مقرون g،مات سنة ،74وقد ناف على الثمانين،
روى له مسلم ،وأصحاب السنن عدا النسائي ،تقريب ت.)3945( :
( )1جابر بن اسماعيل الخضرمي ،أبوعباد المصري ،مقبول ،من الثامنة ،روى له البخاري في األدب المفرد وباقي السنة 15
39
"ومسي ابن خزمية كتابه املسند الصحيح املتصل بنقل العدل عن العدل من غري قطع يف السند وال جرح يف
النقلة ،وهذه الشروط مثل شروط ابن حبان سواء؛ ألن ابن حبان تابع البن خزمية مغرتف من حبره ،ناسج على
منواله ،وبال شك ألنه شيخه ،ومما يعضد ما ذكرنا احتجاج ابن خزمية وابن حبان بأحاديث أهل الطبقة الثانية الذين
خيرج مسلم أحاديثهم يف املتابعات – كابن إسحاق ،وأسامة ابن زيد الليثي ،وحممد بن عجالن ،وحممد بن عمرو بن
علقمة ،وغري هؤالء.
فإذا تقرر ذلك عرفت أن حكم األحاديث اليت يف كتاب ابن خزمية ويف كتاب ابن حبان – صالحية
االحتجاج هبا لكوهنا دائرة بني الصحيح واحلسن – مث استثىن ابن حجر فقال :-ما مل يظهر يف بعضها علة قادحة.
وأما أن يكون مراد من يسميها صحيحة أهنا مجعت الشروط املذكورة يف حد الصحيح ،فال ،واهلل أعلم" .انتهى كالم
ابن حجر.
ويقول احلافظ ابن كثري يف "خمتصر علوم احلديث":
"وقد التزم ابن خزمية وابن حبان الصحة ،ومها خري من املستدرك بكثري ،وأنظف أسانيد ومتوناً ،وعلى كل
حال فالبد من النظر للتمييز ،وكم يف كتاب ابن خزمية أيضاً من حديث حمكوم منه بصحته ،وهو ال يرتقي عن رتبة
احلسن"أهـ.
نستفيد مما تقدم أن األحاديث اليت يف صحيح ابن خزمية أحسن حاالً من األحاديث فيما عداه سوى
الصحيحني؛ لكن ال يصل إىل درجة الصحيحني حبيث ميكن القول :بأن كل ما فيه صحيح ،بل فيه الصحيح،
واحلسن ،والضعيف أيضاً ،وهذا يتضح ملن سرب الكتاب ،لكن نسبة الضعيف به ضئيلة جداً إذا ما قورنت بالصحيح
واحلسن.
خالصة ما سبق:
ومجلة القول :أنه ال يسلم لكل ما يف صحيح ابن خزمية بالصحة بل البد من النظر يف أحاديثه لتمييزها كما
قال ابن كثري ،وال يكتفي احلكم على احلديث بالصحة لكونه معزواً إىل صحيح ابن خزمية.
قال الدكتور حممد مصطفى األعظمى – وهو الذي حقق صحيح ابن خزمية – قال يف مقدمة حتقيقه هلذا
الصحيح ما نصه:
"أقول :إن صحيح ابن خزمية ليس كالصحيحني ،حبيث ميكن القول بأن كل ما فيه صحيح ،بل فيه
الصحيح ،واحلسن ،والضعيف أيضاً ،وهذا يتضح ملن سرب الكتاب ،لكن نسبة الضعيف به ضئيلة جداً إذا ما قورنت
بالصحيح واحلسن .ما هو دون درجة الصحيح ،وليس مشتمالً على األحاديث الصحيحة واحلسنة فحسب ،بل
40
يشتمل على أحاديث ضعيفة أيضاً ،إال أن نسبتها ضئيلة جداً إذا قورنت باألحاديث الصحيحة واحلسنة ،وتكاد ال
توجد األحاديث الواهية أو اليت فيها ضعف شديد إال نادراً ،كما يتبني من مراجعة التعلقيات"أهـ.
تنبيه:
أحب أن أبني أنه يوجد أحياناً بعض األحاديث شديدة الضعف مثل ذلك احلديث الذي أخرجه ابن خزمية
يف صحيحه يف كتاب الصيام من رواية الصحايب سلمان الفارسي – رضي اهلل عنه ،-وهو احلديث الطويل الذي
يسند إليه من يذكر فضائل شهر رمضان ،والذي فيه إن شهر رمضان "أوله رمحة ،وأوسطه مغفرة ،وآخره عتق من
النار"(.)18
( )1أخرجه ابن خزيمة ( ،)1887وترجم له" :باب فضائل شهر رمضان إن صح الخبر" ،والمحاملي في "أماليه" ()293 18
من طريق علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب عن سلمان رضي اهلل عنه.
-وهذا إسناد ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان التيمي البصري.
-قال ابن سعد" :كان كثير الحديث" فيه ضعف ،وال يحتج به".
-وقال أحمد" :ليس بالقوي".
-وقال عثمان الدارمي" :ليس بذلك القوي".
-وقال الجوزجاني" :واهي الحديث ضعيف".
-وقال ابن أبي خيثمة" :ضعيف في كل شيء".
-وقال ابن خزيمة" :ال أحتج به لسوء حفظه"g.
-وقال الحافظ في التقريب" :ضعيف".
-ونل ابن أبي حاتم عن أبيه في "علل الحديث (" :)1/249حديث منكر".
تنبيه هام :قال ابن خزيمة في الترجمة" g:إن صح الخبر" ،ثم سقطت (إن) من بعض المراجع مثل "الترغيب والترهيب" للحافظ
المنذري ( )2/95وغيره ،وعلى ذلك فسد المعنى ،واغتر به بعض الوعاظ والمدرسين.
-ومثله حديث" :لو يعلم العباد ما في رمضان لتمنت أمتي أن يكون رمضان السنة كلها...الخ" الحديث.
-رواه ابن خزيمة ( )1886من وجهين عن جرير وقال :إن صح الخبر ،فإن في القلب من جرير ابن أيوب البجلي ،ورواه
ابن الجوزي في (الموضوعات) )549 – 2/547( gمن طريق جرير بن أيوب البجلي ،عن الشعبي ،عن نافع بن بردة ،عن
أبي مسعود الغفاري .وقال ابن الجوزي :هذا حديث موضوع على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،والمتهم به :جرير بن
أيوب.
-قال يحيى" :ليس بشيء" ،وقال الفضل بن دكين" :كان يضع الحديث" .وقال النسائي والدارقطني" :متروك".
-وقال د /مصطفى األعظمي المحقق البن خزيمة" :إسناده ضعيف بل موضوع g،جرير بن أيوب البجلي قال عنه البخاري:
منكر الحديث" أهـ.
41
هذا احلديث الطويل ضعيف شديد الضعف ،مع العلم بأن بعض الناس يغرت بإخراج ابن خزمية له يف
الصحيح ،كما أنه – رمحه اهلل – قد خيرج أحاديث ضعيفة ،ولكنه خيرجها لغرض من األغراض وينبه على ذلك،
وبعضها يتوقف يف احلكم عليه بالصحة ،كما سيأيت معنا باألمثلة إن شاء اهلل تعاىل.
أما بالنسبة للنقطة الثانية وهي:
هل صحيح ابن خزمية مقدم على صحيح ابن حبان؟
فالذي يظهر من نظرة العلماء املتقدمني للكتابني أهنم يقدمون صحيح ابن خزمية على صحيح ابن حبان،
وبذلك صرح السيوطي صراحة وعليه درج الشيخ أمحد شاكر – رمحه اهلل – كما سبق ذكره عنه.
تقدمي الشيخ شعيب األرناؤوط البن حبان على صحيح ابن خزمية:
وقد خالف يف ذلك الشيخ شعيب األرناؤوط حمقق صحيح ابن حبان ،وذكر يف مقدمة حتقيقه هلذا
الصحيح( )19كالماً مقتضاه أنه يقدم صحيح ابن حبان على صحيح ابن خزمية ،وأنا ال أعلم أحداً سبقه إىل هذا.
فيقول ما نصه:
"إن ما ذهب إليه السيوطي ال يسلم له ،إذ إن صنيع ابن خزمية هذا يدل على أنه أدرج يف صحيحه أحاديث
ال تصح عنده ونبه على بعضها ومل ينبه على بعضها اآلخر ،ويتبني ذلك جبالء من مراجعة القسم املطبوع من
صحيحه ،ففيه عدد غري قليل من األسانيد الضعيفة ،باإلضافة إىل أن عدداً ال بأس به من أحاديثه ال يرتقي عن رتبة
احلسن ،فأين هو من صحيح ابن حبان الذي غالب أحاديثه على شرط الصحيح."...
مث أخذ يسهب يف الكالم إىل أن قال:
"إن صحيح ابن حبان أعلى مرتبة من صحيح شيخه ابن خزمية ،بل إنه ليزاحم بعض الكتب الستة وينافس
بعضها يف درجاته"أهـ.
التعليق على كالم الشيخ شعيب األرناؤوط:
واحلقيقة أن موقفنا من هاتني النظرتني – سواء تقدمي ابن حبان أو تقدمي ابن خزمية – ينبغي أن يكون موقف
الناقد املتبصرل ،فالشيح شعيب األرناؤوط عنده تساهل يف التصحيح ،ويعرف ذلك من سري منهجه ،فحكمه على
غالب أحاديث ابن حبان أهنا على شرط الصحيح ،هذا حكم فيه نظر ،ومن الظلم البن خزمية – رمحه اهلل – أن
حيكم على كتابه هبذا احلكم ،وليس يف أيدينا منه سوى الربع فقط ،أما الباقي فإنه مفقود.
فاألوىل أن يكون هناك دراسة فيها مقارنة بني هذا املوجود من صحيح ابن خزمية وما يقابله من نفس
األبواب من صحيح ابن حبان ،فيستبعد ما اتفقا على إخراجه من احلديث وينظر فيما زاده كل منهما على اآلخر،
( )1انظر" :صحيح ابن حبان" تحقيق الشيخ شعيب األرناؤوط (.)43 ،1/42 19
42
وفق قواعد أهل االصطالح ،مع األخذ بعني االعتبار بأن ابن خزمية – رمحه اهلل – يذهب إىل عدم تصحيح حديث
الراوي الذي ال يعرف بعدالة وال جرح ،وأما ابن حبان فإنه يصحح حديث الراوي الذي هبذه الصفة ويوافقه عليه
شعيب األرناؤوط ،فهذا يعترب تغرياً منهجياً عندهم.
فابن خزمية استبعد أحاديث ميكن أن خيرجها يف صحيحه ،لو خرجها ألصبحت مجلة الصحيح – بناء على
نظرة ابن حبان وشعيب األرناؤوط – كبرية ،ولكن ابن خزمية يستبعدها ألنه ال يرى تصحيح حديث من ال يعرف
بعدالة وال جرح وإذا خرج شيئاً من هذه األحاديث على قلتها فإنه ينص على التوقف عن احلكم على هذه
األحاديث بالصحة.
ومن مث ننظر يف عدد األحاديث املنتقدة على كل منهما – على ابن خزمية وعلى ابن حبان ،-ومن خالل
ذلك حنكم أي الكتابني أرجح ،وأيهما أصح حديثاً.
تنبيه هام حول األحاديث املنتقدة على ابن خزمية:
مع التنبيه أيضاً إىل أن بعض األحاديث املنتقدة عن ابن خزمية ال يلزم ابن خزمية فيها الزم؛ ألن منها أحاديث
يتوقف يف احلكم عليها بالصحة ،ويبني السبب ،وبعضها يظهر له فيها علة فيما بعد ،مل يتنبه هلا حال إخراجه
للحديث ،وبعضها يعرف هو ضعفها وإمنا أخرجها لكون هذا احلديث صح لديه من غري هذا الطريق ،وبعضها
يوردها قصداً لكوهنا معارضة بعض ما يذهب إليه مث يعلها.
أمثلة لألحاديث اليت توقف فيها عن احلكم بالصحة وبيان السبب:
فمن أمثلة ما توقف عن احلكم عليه بالصحة وبني السبب :أنه أخرج حديثا يف صحيحه( )20من طريق عاصم
بن عبيد اهلل مث قال" :أنا بريء من عهدة عاصم" ،مث نقل عدة أقوال للعلماء فيه.
وأخرج حديثاً( )21من طريق معمر بن حممد بن عبيد اهلل بن أيب رافع* .مث قال" :أنا أبرأ من عهدة هذا
اإلسناد ملعمر".
* معمر بن عبيداهلل بن أبي رافع ،الهاشمي موالهم المدني ،منكر الحديث ،من كبار العاشرة ،روى له ابن ماجه .تقريب ت:
.7676
43
()22
من طريق كليب بن ذهل احلضرمي عن عبيد بن جبري ،مث قال" :لست أعرف كليب بن وأخرج حديثاً
ذهل** وال عبيد بن جبري*** ،وال أقبل دين من ال أعرفه بعدالة".
واألمثلة على هذا كبرية جداً يف كتابه.
أمثلة لألحاديث اليت أخرجها وظهرت له علته فيما بعد:
ومن أمثلة األحاديث األخرى اليت ظهرت له علتها فيما بعد:
احلديث الذي أوردته قبل قليل من رواية األعمش عن أيب وائل شقيق بن سلمة :نبه ابن خزمية على أنه مل
يكن تنبه لعلة هذا احلديث حينما أورده ،وبني بعد ذلك أن هناك واسطة بني األعمش وأيب وائل.
ومن أمثلة ذلك أخرج حديثاً( )23من طريق موسى بن أيب عثمان عن أيب هريرة مث قال" :غلطنا يف إخراج
هذا احلديث ألن هذا مرسل؛ موسى بن أيب عثمان مل يسمع من أيب هريرة ،أبوه أبوعثمان التبان عن أيب هريرة أخباراً
مسعها منه".
فبني أنه غلط حينما أخرج حديث االبن وإمنا الذي مسع من أيب هريرة هو أبوه.
أمثلة لألحاديث اليت أخرجها لصحة متنها وهو يعلم ضعفها:
وأما ما عرف ضعفه هو ،وأخرجه لكون املنت صحيحاً من غري هذا الطريق ،أنه أخرج حديث" :أفطر
احلاجم واحملجوم"( ،)24أخرجه من طريق ثوبان – رضي اهلل عنه ،-مث أخرج عقبه من طريق احلسن البصري عن ثوبان
مث قال" :احلسن مل يسمع من ثوبان" ،مث قال :هذا اخلرب – خرب ثوبان – عندي صحيح يف هذا اإلسناد – مبعىن أنه
أخرج هذا احلديث من طريق احلسن البصري عن ثوبان ،-مع العلم بأن احلسن مل يسمع من ثوبان؛ ألن هذا احلديث
صحيح من الطريق األوىل ،فهذه الطريق تعترب متابعة ،وال يعترب هذا احلديث الزماً الن خزمية ،على أنه أخرج حديثا
يف سنده انقطاع.
أمثلة لألحاديث اليت أخرجها لكوهنا عارضت ما ذهب إليه:
** كليب بن ذهل الحضرمي المصري ،مقبول g،من السادسة ،روى له أبوداود .تقريب ت.6355 :
*** عبيد بن جبير ،بالجيم الموحدة ،القبطي ،مولى أبي بصرة ،يقال :كان ممن بعث به المقوقس مع مارية ،فعلى هذا :فله
صحبة ،قد ذكره يعقوب gبن سفيان في الثقات ،وقال ابن خزيمة :ال أعرفه .روى له أبوداود .تقريب ت.4908 :
( )3انظر :صحيح ابن خزيمة (.)3/115 23
( )1انظر :صحيح ابن خزيمة ( .)3/236وقد أخرجه من الطريق األولى الموصولة gطريق أبي أسماء الرحبي عن ثوبان: 24
أخرجه أبوداود ( ،)2371 ،2370 ،2367وابن ماجه ( ،)1680وابن حبان ( ،)3532والحاكم ( ،)1/427وغيرهم.
44
وأما ما يورده قاصداً لكونه عارض بعض ما يذهب إليه ،فمن أمثلته أنه بوب يف كتاب الصيام يف صحيحه
باباً فقال فيه" :باب ذكر البيان أن احلجامة تفطر احلاجم واحملجوم مجيعاً"( .)25مث أورد ما لديه من أدلة يف ذلك،
وأخذ يناقش القائلني خبالف هذا القول ،ويورد أدلتهم ويتكلم عنها.
ومن مجلة األدلة اليت أوردها للمخالفني له حديث" :ثالث ال يفطرن الصائم :احلجامة ،والقيء ،واحللم"(.)26
أورده من طريق عبدالرمحن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أيب سعيد اخلدري عن النيب صلى اهلل
عليه وسلم ،مث أعله فقال :هذا اإلسناد غلط ليس فيه عطاء بن يسار وال أبوسعيد ،وعبدالرمحن بن زيد* ليس هو ممن
حيتج أهل التثبيت حبديثه لسوء حفظه لألسانيد ،وهو رجل صناعته العبادة والتقشف واملوعظة والزهد ،ليس من
حفاظ أحالس احلديث الذي حيفظ األسانيد ...إىل آخر كالمه – رمحه اهلل .-
فهذا احلديث مل يورده ابن خزمية ألجل أنه صحيح حمتج به ،وإمنا أورده إلعالله وإبطال حجة املخالف.
فاحلاصل أن ابن خزمية – رمحه اهلل – غلط عليه بعض الناس غلطاً كبرياً وألزمه مبا ال يلزم.
غلط احلافظ ابن حجر على ابن خزمية:
ومن أمثلة غلطهم عليه أنه أخرج حديثاً من طريق ابن املطوس عن أبيه عن أيب هريرة – رضي اهلل عنه –
قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم" :من أفطر يوماً من رمضان يف غري رخصة رخصها اهلل ،مل يقضه عنه صوم
الدهر"(.)27
احلافظ ابن حجر – رمحه اهلل – ذكر هذا احلديث يف الفتح( ،)28وقال :صححه ابن خزمية ،مث أخذ يذكر
علل هذا احلديث.
وهذا غلط من احلافظ على ابن خزمية ،فإن ابن خزمية مل يصحح احلديث ،وإمنا قال" :إن صح اخلرب فإين ال
أعرف ابن املطوس وال أباه" .هو إذا متوقف عن احلكم على هذا احلديث بالصحة حينما قال" :إن صح اخلرب".
( )3أخرجه ابن خزيمة ( ،)1972وهو عند الترمذي ( ،)719وقال الترمذي :غير محفوظ. 26
* عبدالرحمن بن زيد بن أسلم العدوي موالهم ،ضعيف ،من الثامنة ،مات سنة ،82روى له الترمذي وابن ماجه g.تقريب :ت:
.4312
( )1انظر :صحيح ابن خزيمة ( .)3/238والحديث أخرجه أيضاً أبوداود ( ،)2397 ،2396والترمذي ( ،)723وابن 27
ماجه ( ،)1672وغيرهم.
( )2انظر :فتح الباري شرح صحيح البخاري (.)4/161 28
45
ومع هذا فلسنا نربيء ابن خزمية من الوقوع يف الوهم واخلطأ ،بل كل خيطيء ،لكن ليس األمر كما ذكر
عنه ،وإال فالوهم يقع له كما يقع لغريه من البشر؛ ألهنم غري معصومني ،ولكن من نظر إىل كالمه وشرطه وحتريه
علم أنه – رمحه اهلل – كان حريصاً على أن ال يقع له شيء من التساهل أو الوهم.
ثناء احلافظ الذهيب عليه(:)29
قال الذهيب يف سري أعالم النبالء" :كان هذا اإلمام جهبذاً بصرياً بالرجال ،فقال فيما رواه عنه أبوبكر حممد
بن جعفر شيخ احلاكم :لست أحتج بشهر بن حوشب وال حبريز بن عثمان ملذهبه(،)30وال بعبد اهلل بن عمر – ليس
الصحايب وإمنا أحد الرواة املضعفني - ،وال ببقية – يعين ابن الوليد ،-وال مبقاتل بن حبان ،وال بأشعث بن سوار،
وال بعلي بن جدعان لسوء حفظه ،وال بعاصم بن عبيد اهلل ،وال بابن عقيل ،وال بابن يزيد بن أيب زياد ،وال مبجالد،
وال حبجاج بن أرطأة إذا قال :عن ،وال بأيب حذيفة النهدي ،وال جبعفر بن برقان ،وال بأيب معشر جنيح – يعين
السعدي ،-وال بعمر بن أيب سلمة ،وال بقابوس بن أيب ظبيان ...مث مسى خلفاً دون هؤالء يف العدالة ،فإن
املذكورين احتج هبم غري واحد"أهـ.
كأنه يبني أن هؤالء الذين احتج هبم غري واحد واجتنب ابن خزمية ختريج حديثهم يف صحيحه – هذا يدل
على شدة حتريه.
ملخص منهج ابن خزمية يف صحيحه:
وقد قال ابن خزمية – رمحه اهلل – يف صحيحه(" )31املختصر من املختصر من املسند -عن النيب صلى اهلل عليه
وسلم ،على الشرط الذي ذكرنا بنقل العدل عن العدل موصوالً إليه صلى اهلل عليه وسلم من غري قطع يف اإلسناد وال
جرح يف ناقلي األخبار ،إال ما نذكر أن يف القلب من بعض األخبار شيئاً( ،)32إما لشك يف مساع راو ممن فوقه خرباً،
أو راو ال نعرفه بعدالة وال جرح ،فنبني أن يف القلب من ذلك اخلرب ،فإنا ال نستحل التمويه على طلبة العلم بذكر
خرب غري صحيح ال نبني علته فيغرت به بعض من يسمعه ،فاهلل املوفق للصواب"أهـ.
فهذا الكالم من ابن خزمية – رمحه اهلل – ميثل منهجه يف هذا الكتاب ،وبه يتضح غلط من زعم أن ابن
خزمية كابن حبان يصحح ملن ال يعرف بعدالة وال جرح؛ فابن خزمية يتوقف عن ذلك كما هو ظاهر من منهجه يف
( )4ألن حريز بن عثمان ناصبي ،والنواصب هم الذين يغضون أهل البيت. 30
46
هذا الكتاب يف مواضع عديدة ،حيث يقول" :إن صح اخلرب فإين ال أعرف فالناً بعدالة وال جرح" ،وهذه يف احلقيقة
تعترب ميزة عظيمة لكتابه على كتاب ابن حبان.
دقته – رمحه اهلل – يف تعقبه لألحاديث:
ومن دقته – رمحه اهلل – تعقبه لألحاديث مبا يزيل اللبس على املطلع على كتابه ،فمثالً حني أخذ يف ذكر
األدلة اليت تتعلق باحلجامة للصائم ،وحىت ال يقال :إنه ذكر احلديث يف كتابه فهو صحيح إذا على شرطه – نبه على
ذلك فقال(" :)33فكل ما مل أقل إىل آخر هذا الباب :إن هذا صحيح؛ فليس من شرطنا يف هذا الكتاب".
وقد يورد ابن خزمية إسناداً فيه راو يعلم هو أنه ثقة ،ولكنه خيشى أن يقف عليه من ال يعرف ثقته فيتهمه
بالتساهل ،فنجده – رمحه اهلل – يورد بإسناده عن بعض األئمة ما يفيد ثقة ذلك الراوي.
فمن أمثلة ذلك أنه أخرج حديثاً( )34من طريق عبداهلل بن أيب جعفر ،مث ذكر بإسناده عن الليث بن سعد –
رمحه اهلل – أنه قال" :مسعت يزيد بن أيب حبيب وعبيد اهلل بن أيب جعفر – ومها جوهرتا البلد – يقوالن :فتحت
مصر صلحاً".
فابن خزمية حينما أورد هذا النقل إمنا أورده ألجل تعديل الليث لعبيد اهلل بن أيب جعفر ،فهذه مناذج وأمثلة
تدل على أن ابن خزمية – رمحه اهلل – حباجة إىل من يقوم بدراسة حياته دراسة وافية ،ودراسة كتابه الصحيح وإعطاء
صورة واضحة عنه ال أن حيكم عليه حبكم متسرع ،واملوجود من كتابه إمنا هو قدر الربع فقط على هناية كتاب
احلج ،وباقي الكتاب مفقود منذ زمن طويل.
قول الدمياطي واحلافظ ابن حجر يف بيان أن صحيح ابن خزمية أكثره مفقود ومل يوجد منه إال الربع:
يقول الدمياطي – رمحه اهلل – املتوىف يف سنة سبعمائة ومخس للهجرة" :إن كتاب صحيح ابن خزمية مل يقع
له منه إال ربعه األول فقط".
وكذلك احلافظ ابن حجر – رمحه اهلل – ملا ذكر الكتب اليت اشتمل عليها كتابه "إحتاف املهرة بأطراف
العشرة" ذكر من ضمنها صحيح ابن خزمية ،لكن إذا أخذنا نعد هذه الكتب جندها أحد عشر كتاباً ،فبني السبب
تلميذه ابن فهد املكي فقال:
"إمنا زاد العدد واحداً ،ألن صحيح ابن خزمية مل يوجد منه سوى قدر ربعه فقط( ،)35مبعىن أنه مل حيتسب هذا
الكتاب لنقصه يف العدد ،وإمنا اعترب العشرة اليت وجدها كاملة.
47
أمهية صحيح ابن خزمية وفائدته(:)36
لصحيح ابن خزمية فوائد عديدة جداً ،من مجلة هذه الفوائد:
أنه حفل باستنباطات فقهية دقيقة يعنون هبا على كل باب ،أي أن فيه شبهاً من صنيع البخاري – رمحه اهلل
– يف أبوابه ،ويتبع ابن خزمية هذه األبواب باألحاديث .فكتابه هذا يعد كتاباً فقهياً ذا أمهية بالغة ،ألن هذه
االستنباطات من ابن خزمية مبنية على أدلتها ،مستندة إىل نصوص خيرجها يف نفس الكتاب.
يضاف إىل ذلك التعليقات املهمة على كثري من األحاديث ،إما يفسر فيها لفظاً غريباً ،أو يوضح معىن
مستغلقاً ،أو يرفع إشكاالً ،أو يزيل إهباماً ،أو جيمع بني روايتني ظاهرمها التعارض ،أو يذكر اسم رجل بتمامه إذا ذكر
يف اإلسناد بالكنية أو اللقب ،أو ذكر امسه دون نسبه.
ويتكلم يف بعض الرجال جرحاً وتعديالً ،ويرد رواية املدلس إذا كانت بالعنعنة ممن ال حيتمل تدليسه عنده،
وكذا رواية بعض الضعفاء املختلطني وإن كانت من االختالط.
ونصه كذلك على عدم مساع بعض الرواة من شيوخهم ،وبيانه لعلل األحاديث اخلفية على اختالف أنواع
هذه العلل ،إما لسقط يف اإلسناد غري ظاهر ،أو لقلب يف املنت أو السند ،أو غري ذلك من أنواع العلل.
أمثلة على استنباطاته الفقهية:
ونورد بعض األمثلة على ما ِأشرنا إليه:
ومن أمثلة أستنباطاته الفقهية قوله(" :)37باب ذكر إسقاط فرض اجلمعة على النساء ،والدليل على أن اهلل عز
وجل خاطب باألمر بالسعي إىل اجلمعة ،عند النداء هبا يف قوله{ :يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصالة من يوم
اجلمعة} الرجال دون النساء( ،)38إن ثبت هذا ا خلرب من جهة النقل .وإن مل يثبت فاتفاق العلماء على إسقاط فرض
اجلمعة على النساء كاف من نقل خرب اخلاص فيه"أهـ.
فإذاً واضح من هذه الرتمجة وهذا العنوان عند ابن خزمية أنه يريد أن يستخرج معىن فقهياً أو استنباطاً فقيهاً،
وهو أن قول اهلل جل وعال{ :يا أيها الذين آمنوا }..خطاب للرجال دون النساء ،وهو يستدل حبديث سيورده ،لكن
هل هذا احلديث صحيح على شرطه؟ يقول :إن ثبت هذا اخلرب من جهة النقل ،وإن مل يثبت ،يقول :ال يضر شيء؛
فاتفاق العلماء جار على أن هذا اخلطاب موجه للرجال دون النساء.
( )1هذا عدا عن فائدته الظاهرة من اشتماله على أحاديث صحيحة زائدة على ما في الصحيحين ،واالعتماد على رأيه في 36
48
وقد يتكلم على احلديث من الناحية الفقهية املصحوبة بالرتجيح واملوازنة بني الروايات وبيان عللها يف حنو من
أربع صفحات()39؛ ففي أربع صفحات تكلم من الناحية الفقهية عن حديث أورده.
أمثلة على تفسريه لغريب احلديث:
وأما أمثلة تعليقاته اليت يفسر فيها لفظاً غريباً أو يوضح هبا معىن مستغلقاً أو يرفع أشكاالً ويزيل إهباماً – ما
ذكره عن سهل بن سعد "أن منرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من أثل الغابة"( ،)40مث قال ابن خزمية" :األثل هو
الطرفاء".
وذكر كذلك احلديث الذي فيه "أن اجلذع حن إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حنني الواله"( ،)41مث قال:
الواله يريد به املرأة إذا مات هلا ولد.
ومن روائع كالمه – رمحه اهلل – أن ذكر( )42حديثاً رواه عن شيخه بندار حممد بن بشار – وهو ثقة حافظ
،-وحممد بن بشار ،رواه عن حيىي بن سعيد ،عن ابن عجالن ،عن سعيد بن أيب سعيد املقربي ،عن أبيه ،عن عبداهلل
بن وديعة ،عن أيب ذر يف الغسل يوم اجلمعة ،مث قال" :ال أعلم أحداً تابع بنداراً يف هذا ،واجلواد قد يفرت يف بعض
األوقات".
فهو هبذا يشري إىل أن الثقة قد يهم ،كما أن اجلواد قد يفرت ،وإمنا قال هذا ألجل إن هذا احلديث روي على
غري هذا الوجه ،فالبخاري أخرجه يف صحيحه( )43من طريق ابن أيب ذئب عن سعيد املقربي ،قال :أخربين أيب عن ابن
وديعة عن سلمان الفارسي...
أما حممد بن بشار ذكر أنه عن أيب ذر بدل سلمان الفارسي ،فذكر هذا احلديث البخاري على أنه من
حديث سلمان ال من حديث أيب ذر .فإذاً البن خزمية احلق أن يذكر هذا الكالم عن شيخه بندار.
أمثلة إزالته للمشكل ورفعه للتعارض:
ومن أمثلة إزالته للمشكل ورفعه للتعارض :ما ذكره( )44بقوله" :باب ذكر أبواب ليلة القدر والتأليف بني
األخبار املأثورة عن النيب صلى اهلل عليه وسلم ،فيها ما حيسب كثري من محلة العلم ممن ال يفهم صناعة العلم أهنا
49
متهاترة متنافية ،وليس كذلك هي عندنا حبمد اهلل ونعمته ،بل هي خمتلفة األلفاظ متفقة املعىن على ما سنبينه إن شاء
اهلل".
مث أخذ – رمحه اهلل – يف ذكر األخبار الواردة يف ليلة القدر ،فرجح أوالً أهنا ليست يف مجيع العام ،كما ظنه
بعض العلماء ،بل هي يف رمضان ،مث أخذ يقرر أهنا يف العشر األواخر من رمضان ،مث انتقل إىل ترجيح أهنا يف الوتر
من العشر األواخر من رمضان ال يف الشفع.
مث رجح يف اآلخر أن األخبار غري متعارضة وأن الصواب فيها أهنا تنتقل من ليلة إىل أخرى يف الوتر من
العشر األواخر ،وأهنا جائز أن تكون يف عام ليلة إحدى وعشرين ،ويف عام آخر ليلة تسع وعشرين.
أمثلة إزالة االلتباس بني أمساء الرواة ،وبيان اسم الرجل املذكور بكنيته أو لقبه:
ومن أمثلة إزالته اللتباس اسم راو باسم راو آخر ،وذكره اسم الرجل بتمامه إن ذكر يف اإلسناد بكنية أو
لقب أو حنو ذلك :أنه ذكر( )45حديثاً من طريق عبدالرمحن ابن إسحاق عن النعمان بن سعد عن علي – رضي اهلل
عنه – فهناك راويان يشتبه كل منهما باآلخر ،ومها عبدالرمحن بن إسحاق أبو شيبة الكويف وهذا ضعيف،
وعبدالرمحن بن إسحاق امللقب بـ "عباد" وهو صاحل احلديث.
فبني ابن خزمية أن الذي فيه احلديث هو الضعيف ،ال اآلخر فقال" :باب ذكر ما أعد اهلل – جل وعال – يف
اجلنة من الغرف ملداوم صيام التطوع – إن صح اخلرب – فإن يف القلب من عبدالرمحن بن إسحاق أيب شيبة الكويف،
وليس هو بعبد الرمحن ابن إسحاق امللقب بـ "عباد" الذي روى عن سعيد املقربي والزهري وغريمها ،وهو صاحل
احلديث مدين سكن واسط ،مث انتقل إىل البصرة".
وأخرج( )46حديثاً من طريق أيب القاسم اجلديل ،عن النعمان بن البشري يف احلث على إقامة الصف ،مث قال:
"أبوالقاسم اجلديل هذا هو حسن بن احلارث من جديلة قيس ،روى عنه زكريا بن أيب زائدة ،وأبومالك األشعري،
وحجاج ابن أرطأة ،وعطاء بن السائب ،عداده يف الكوفيني".
وأخرج( )47حديثاً من طريق أيب حازم عن أيب هريرة – رضي اهلل عنه ،-مث قال" :أبوحازم مدين امسه سلمة
بن دينار الذي روى عن سهل بن سعد ،والذي روى عن أيب هريرة سلمان األشجعي".
فهو هبذا يبني أن من يكىن أبا حازم يف هذه الطبقة اثنان.
أحدمها :أبوحازم األعرج الذي يروي عن سهل بن سعد وامسه سلمة بن دينار.
50
واآلخر :هو الذي يروي عن أيب هريرة وهو املقصود يف هذا احلديث وامسه سلمان األشجعي.
أمثلة كالمه على الرجال جرحاً وتعديالً:
ومن أمثلة كالمه يف الرجال جرحاً وتعديالً ،قوله كما سبق عن عبدالرمحن ابن إسحاق امللقب بـ "عباد" :هو
صاحل احلديث .فهذا تعديل.
وقوله(" :)48عاصم العنزي وعباد بن عاصم جمهوالن ال يدري من مها؟"؛ فهذا جرح منه – رمحه اهلل .-
أمثلة رده لرواية املدلسني:
ومن أمثلة رده لرواية بعض املدلسني قوله(" :)49أما خرب أيب إسحاق عن األسود عن عائشة ،فإن فيه نظراً؛
ألين ال أقف على مساع أيب إسحاق هذا اخلرب من األسود".
وأبوإسحاق هذا هو السبيعي ،وهو مذكور وموصوف بالتدليس ،وبعض العلماء حيتمل تدليسه ،فبني ابن
خزمية أن منهجه رد تدليسه ،وهذا من شدة حتريه – رمحه اهلل .-
وقال أيضاً(" :)50ومل أقف على مساع حبيب بن أيب ثابت هذا اخلرب من ابن عمر ،وال هل مسع قتادة خربه من
مورق عن أيب األحوص أم ال؟".
وحبيب وقتادة كالمها مدلس ،وبعض العلماء قد يتساهلون فيحتمل عنعنتهما .أما ابن خزمية فهو ممن ال
حيتمل ذلك.
تضعيفه لرواية ابن هليعة:
ومن فوائد كتابه تضعيفه لرواية بعض الضعفاء واملختلطني ،وإن كانت من طريق بعض الثقات الذين مسعوا
منهم قدمياً باعتبار أن الراوي يف أصله ضعيف مثل ابن هليعة؛ إذ الصواب يف حاله أنه ضعيف أصالً .وازداد ضعفه
بسبب احرتاق كتبه ،حيث اختلط فساءت حاله ،ورمبا لغري ذلك من األمور ،فرواية الذين مسعوا منه قبل اختالطه
أعدل من غريها.
ونقول" :أعدل" ،وال نقول" :إهنا صحيحة" .فغلط أناس يف ذلك وظنوا أهنا صحيحة ،ومن هؤالء الذين
مسعوا منه قبل اختالطه العبادلة األربعة :عبداهلل بن وهب ،وعبداهلل بن املبارك ،وعبداهلل بن يزيد املقريء ،وعبداهلل بن
مسلمة القعنيب.
51
فاستفدنا من كتاب ابن خزمية عدم التفاته – رمحه اهلل – لرواية ابن هليعة ،وإن كانت من طريق أحد
العبادلة.
فمن ذلك أنه أخرج( - )51كما سبق أن ذكرته – حديثاً من طريق عبداهلل بن وهب – وهو أحد هؤالء
العبادلة ،-قال :أخربين ابن هليعة ،وجابر بن إمساعيل احلضرمي ،عن عقيل بن خالد .مث ذكر احلديث.
قال ابن خزمية بعد ذلك" :ابن هليعة ليس ممن أخرج حديثه يف هذا الكتاب إذ انفرد برواية ،وإمنا أخرجت
هذا اخلرب ألن جابر بن إمساعيل معه يف اإلسناد".
أمثلة نصه على عدم مساع بعض الرواة من آخرين:
ومن أمثلة نصه على عدم مساع بعض الرواة من رواة آخرين قوله(" :)52عبدالرمحن ابن أيب ليلى مل يسمع من
معاذ بن جبل ،وال من عبداهلل بن زيد بن عبدربه صاحب األذان ،فغري جائز أن حيتج خبرب غري ثابت على أخبار
ثابته".
أمثلة بيانه للعلل اخلفية يف األحاديث:
ومن أمثلة بيانه للعلل اخلفية يف األحاديث :حديث رواه خالد احلذاء ،عن رجل ،عن أيب العالية ،عن عائشة
– رضي اهلل عنها – يف دعائه صلى اهلل عليه وسلم يف سجود التالوة الذي فيه" :اللهم إين لك سجدت ،وبك
آمنت ،وعليك توكلت ،سجد وجهي هلل الذي خلقه "...إىل أخر احلديث.
قال ابن خزمية" :هكذا رواه إمساعيل بن إبراهيم بن علية عن خالد – يعين خالد احلذاء ،-ورواه عبدالوهاب
بن عبداجمليد الثقفي ،وخالد بن عبداهلل الواسطي ،كالمها عن خالد احلذاء عن أيب العالية عن عائشة ،بإسقاط الراوي
بني خالد احلذاء وبني أيب العالية".
فبني ابن خزمية هذه العلة اليت قد ال يفطن هلا ،وذكر أهنا السبب يف عدم إخراجه للحديث .فقال(" :)53إمنا
تركت إمالء خرب أيب العالية عن عائشة أن النيب صلى اهلل عليه وسلم كان يقول يف سجود القرآن بالليل" :سجد
وجهي للذي خلقه وشق مسعه وبصره حبوله وقوته"؛ ألن بني خالد احلذاء وبني أيب العالية رجالً مسمى ،مل يذكر
الرجل عبدالوهاب بن عبداجمليد وخالد بن عبداهلل الواسطي".
52
وبني أن الذي ذكره إمنا هو ابن علية ،مث أخرج مجيع الروايات الثالث مث قال" :وإمنا أمليت هذا اخلرب وبينت
علته يف هذا الوقت ،خمافة أن يفنت بعض طالب العلم برواية الثقفي وخالد بن عبداهلل ،فيتوهم أن رواية عبدالوهاب
وخالد بن عبداهلل صحيحة" .فهذا مثال للعلة اليت بسبب سقط يف اإلسناد.
ومن أمثلة ذلك أنه أخرج( )54حديثاً من طريق حيىي بن سعيد القطان – وهو إمام – عن عبيد اهلل بن عمر،
عن خبيب بن عبدالرمحن ،عن حفص بن عاصم ،عن أيب هريرة ،عن النيب صلى اهلل عليه وسلم يف السبعة الذين
يظلهم اهلل يف ظله يوم ال ظل إال ظله ،وفيه قال" :ورجل تصدق بصدقة أخفاها حىت ال تعلم ميينه ما تنفق مشاله".
هذا احلديث أخرجه مسلم يف صحيحه هبذه الصورة ،فبني ابن خزمية – رمحه اهلل – أن هذه اللفظة مقلوبة،
وأن الصواب" :حىت ال تعلم مشاله ما تنفق ميينه" ،فقال" :هذه اللفظة" :ال تعلم ميينه ما تنفق مشاله" قد خولف فيها
حيىي بن سعيد ،فقال من روى هذا اخلرب غري حيىي" :ال تعلم مشاله ما تنفق ميينه"(.)55
فابن خزمية – رمحه اهلل – يبني أن حيىي بن سعيد – برغم أنه إمام جنبل وثقة وحافظ ومتقن – أخطأ يف هذا
احلديث ،فانقلب عليه املنت ،وهو على الصواب خمرج عند البخاري يف صحيحه يف عدة أبواب( .)56فهذا مثال
ملقلوب املنت.
مثال ملقلوب السند:
وأما مقلوب السند ،فمن أمثلته حديث يرويه سعيد بن أيب سعيد املقربي ،ورواه عنه – يعين عن ابن سعيد:
داود بن قيس ،وأنس بن عياض ،وحممد بن عجالن ،وابن أيب ذئب ،على اختالف فيما بينهم.
فبني ابن خزمية علل هذا احلديث ،وأنه انقلب سنده على بعض الرواة واحتاط هو يف روايته ،فقال( - )57بعد
أن ذكر علل هذا احلديث:-
"وال أحل ألحد أن يروي عين هذا اخلرب إال على هذه الصيغة؛ فإن هذا إسناد مقلوب ،فيشبه أن يكون
الصحيح ما رواه أنس بن عياض؛ ألن داود بن قيس أسقط من هذا اإلسناد أبا سعيد املقربي ،فقال :عن سعد بن
إسحاق عن أيب مثامة.
وأما ابن عجالن فقد وهم يف اإلسناد وخلط فيه ،فمرة يقول :عن أيب هريرة ،ومرة يرسله ،ومرة يقول :عن
سعيد ،عن كعب.
53
وابن أيب ذئب قد بني أن املقربي سعيد بن أيب سعيد إمنا رواه عن رجل من بين سامل ،وهو عندي سعد بن
إسحاق ،إال أنه غلط على سعد بن إسحاق ،فقال :عن أبيه عن جده ،عن جده كعب.
وداود بن قيس وأنس بن عياض قد اتفقا على أن اخلرب إمنا هو عن أي متامة" .وبيانه – رمحه اهلل – للعلل يف
كتابه كثري ،وفيما مضى – إن شاء اهلل – كفاية.
أمثلة ورعه – رمحه اهلل – وحتريه يف النقل:
ومن مسات كتابه ما يف كالمه على األحاديث وتعاليقه عليها من فوائد تنيبء عن عامل متورع ذي منهج
أصويل ،داع للمنهج السوي ومرغب فيه.
فمن ذلك أنه ذكر( )58أن مسدد بن مسرهد – رمحه اهلل – سأله عن حدثث عمار ابن ياسر" :أمرنا بصوم
عاشوراء قبل ان ينزل رمضان "...إىل آخر احلديث ،فذكر أنه أجابه – يعين أجاب مسدداً – بقوله" :قلت له جميباً:
إن النيب صلى اهلل عليه وسلم إذا أمر أمته بأمر "...إىل آخر كالمه ،مث قال يف آخر كالمه" :ولعلي زدت يف الشرح
يف هذا املوضع على ما أجبت السائل يف ذلك الوقت".
فهذا يدل على أنه – رمحه اهلل – ورع ،وهذا الورع دفعه إىل أن يبني للقاريء أنه ذكر هنا معىن ما أجاب
به مسدداً فقط ،وليس هذا هو نص الكالم الذي أجاب به مسدداً يف ذلك الوقت.
أمثلة أصالة منهجه واعتداله:
ومن أمثلة أصالة منهجه واعتداله أنه ذكر( )59حديث وصاله صلى اهلل عليه وسلم للصيام ،مث قال" :باب
الدليل على أن الوصال منهي عنه؛ إذ ذلك يشق على املرء ،خالف ما يتأوله بعض املتصوفة ممن يفطر على النقمة أو
اجلرعة من املاء ،فيعذب نفسه ليايل وأياماً".
أمثلة دعوته للخري والفضيلة يف كتابه:
ومن أمثلة دعوته للخري والفضيلة يف كتابه :أنه ذكر( )60حديث املؤذن الذي استمع إليه النيب صلى اهلل عليه
وسلم ،فلما قال" :اهلل أكرب ،اهلل أكرب" ،قال عليه الصالة والسالم" :على الفطرة" .فلما قال املؤذن" :أشهد أن ال إله
إال اهلل" ،قال صلى اهلل عليه وسلم" :خرجت من النار".
عند ذلك قال ابن خزمية بعد هذا الكالم:
54
"فإذا كان املرء يطمع بالشهادة بالتوحيد هلل يف األذان وهو أن خيلصه اهلل من النار بالشهادة باهلل يف التوحيد
يف أذانه ،فينبغي لكل مؤمن أن يسارع إىل هذه الفضيلة طمعاً يف أن خيلصه اهلل من النار ...يف منزله ،أو بادية ،أو
قرية ،أو مدينة ،طلباً هلذه الفضيلة" .يقصد فضيلة األذان.
املؤلفات حول صحيح ابن خزمية:
هناك بعض املؤلفات اليت ألفت حول صحيح ابن خزمية ،وهناك مؤلفات أخرى ذكر أهنا مما ألف حوله ،وال
يصح ذلك .فمما ال تصح نسبته إىل أنه مما ألف حول صحيح ابن خزمية:
املنتقى البن اجلارود ،وصحيح ابن حبان.
أما املنتقى البن اجلارود ،فقال الكتاين(:)61
"كتاب املنتقى – أي املختار – من السنن املسندة عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف األحكام أليب حممد
بن عبداهلل بن علي بن اجلارود النيسابوري احلافظ اجملاور مبكة - ،املتوىف سنة ست – أو سبع – وثالمثائة ،وهو
كاملستخرج على صحيح ابن خزمية ،يف جملد لطيف".
قال الشيخ حممد مصطفى األعظمي(:)62
"لكن املقارنة بني الكتابني املذكورين ال تفيد هذا االستنتاج".
وأما صحيح ابن حيان ،فقال ابن امللقن يف البدر املنري(:)63
"غالب صحيح ابن حبان منتزع من صحيح شيخه إمام األئمة حممد بن خزمية".
ودفع ذلك الشيخ أمحد شاكر – رمحه اهلل – بقوله(:)64
"وهو فيما رأينا من كتابه قد أخرج كتابه مستقالً مل يبنه على الصحيحني ،وال على غريمها؛ إمنا أخرج كتاباً
كامالً ،وصوب ذلك الشيخ األعظمي(.)65
وممن رد قول ابن امللقن :الشيخ شعيب األرناؤوط(.)66
وأما الكتب اليت ألفت حول صحيح ابن خزمية مما تصح نسبته إليه فهي:
أوالً :حول رجاله:
( )3انظر :الرسالة المستطرقة ص.25 61
55
قام ابن امللقن باختصار هتذيب الكمال للحافظ املزي ،وذيل عليه برجال ستة كتب أخرى ،وهي" :مسند
أمحد ،وصحيح ابن خزمية ،وابن حبان ،ومستدرك احلاكم ،وسنن الدارقطين ،وسنن البيهقي" ،ولعله مسى الذيل هذا:
"إكمال هتذيب الكمال" ،كما نقله السخاوي( )67عن شيخه احلافظ ابن حجر ،ونقل عنه أنه مل يقف عليه ،مث قال
السخاوي" :قد رأيت منه جملداً ،وأمره فيه سهل".
ثانياً :حول أطراف:
صنف احلافظ ابن حجر كتاباً مساه "إحتاف املهرة بأطراف العشرة"( ،)68ذكر فيه أطراف أحاديث عشرة
كتب من كتب السنة ،ومنها صحيح ابن خزمية ،وبالتتبع وجد أن عددها أحد عشر كتاباً ،وإمنا زاد العدد واحداً
ألنه مل يعتد بصحيح ابن خزمية لكونه مل يوجد منه سوى قدر ربعه فقط(.)69
ثالثاً :فهرسته
قام األخ حممد أمين بن عبداهلل الشرباوي بصنع فهرس لصحيح ابن خزمية بعنوان" :فهارس صحيح ابن
خزمية" ،ويعترب مفتاحاً للكتاب ،حيث رتب أحاديثه على احلروف اهلجائية اليت تسهل على الطالب الوقوف على
احلديث يف وقت وجيز إذا كان حيفظ طرفه األول ،وهذا يأيت امتداداً لنشاط حركة الفهرسة يف هذه األيام.
رابعاً :تصحيح أغالطه:
مل يطبع صحيح ابن خزمية سوى هذه الطبعة اليت بتحقيق الشيخ حممد مصطفى األعظمى ،وعليها تعليقات
للشيخ األلباين ،لكن هذه الطبعة مليئة باألخطاء املطبعية والتصحيفات والسقط وما إىل ذلك ،وعندها قام الشيخ
عبدالعزيز بن عبدالرمحن العثيم – األستاذ املساعد بكلية الدعوة وأصول الدين جبامعة أم القرى – بتتبع الكتاب
واستخراج ما وقف عليه فيه من تصحيف وسقط ،ومجع ذلك يف كتاب مساه" :النقط ملا وقع يف أسانيد صحيح ابن
خزمية من التصحيف والسقط" ،وواضح من العنوان أنه يقوم بتتبع األسانيد فقط ،وبيان اخلطأ فيها ووجه الصواب.
ويف آخر هذا املطاف ،هناك بعض األجتهادات مين ومن بعض طلبة العلم ،ثبتنا اهلل وإياهم على احلق – يف
حماولة مقابلة صحيح ابن خزمية مع أصل خطي ،والغرض من هذا هو عمل مقارنة وهي اليت أشرت إليها بني صحيح
ابن حبان وصحيح ابن خزمية لنخرج بالنتيجة اليت أشرت إليها ،وهي :هل صحيح ابن خزمية يقدم على صحيح ابن
حبان أو العكس؟ وذلك لنبين كالمنا على منهج علمي بالدليل الذي ال يدع جماالً للشك والتخمني والظن.
( )7انظر :ذيل تذكرة الحفاظ البن فهد المكي ص.333 68
( )1راجع قول الدمياطي والحافظ ابن حجر في بيان أن صحيح ابن خزيمة أكثره مفقود ،ولم يوجد منه اآلن إال الربع. 69
ص(.)130
56
وختاماً ،نسأله سبحانه أن ييسر احلصول على الكتاب كامالً ،وأن يقبض له من خيدمه ويعتين به العناية
املطلوبة .واهلل أعلم.
57
()70
الكالم على كتاب صحيح ابن حبان
الكتاب الذي سنتناوله بالدراسة اآلن هو ثاين الكتب اليت ألفت يف الصحيح اجملرد بعد الصحيحني .وهو
صحيح ابن حبان – رمحه اهلل تعاىل ،-وكالعادة نبدأ بالتعريف بصاحب هذا الكتاب مث نتناول الكتاب بالدراسة.
امسه ونسبه(:)71
أما صاحب هذا الكتاب فهو :حممد بن حبان بن أمحد بن حبان أبوحامت التميمي البسيت السجستاين.
يعترب ابن حبان – رمحه اهلل تعاىل – عريب النسب ،فهو من قبيلة بين متيم من صلبهم ،ينسب إىل مدينة بست
حينما يقال له البسيت ،ألنه ولد فيها وتويف فيها أيضاً ،ويقال له :السجستاين ،ألن هذه املدينة – بست – من أعمال
السجستان .فالسجستان إقليم واسع يضم عدة مدن وقرى ،تعترب بست إحدى هذه املدن ،ويقع هذا اإلقليم –
وبالذات مدينة بست – يف هذا العصر يف البلد املعروفة بافغانستان.
مولده ووفاته:
ولد ابن حبان – رمحه اهلل تعاىل – على التخمني – يف عشر الثمانني ومائتني ،ألنه – رمحه اهلل – تويف يف
سنة أربع ومخسني وثلثمائة ،وله من العمر حنو مثانني عاماً ،فاستنبطوا أن مولده يف عشر الثمانني ومائتني.
رحالته يف طلب العلم:
وطلب العلم ن -رمحه اهلل – كما يقول الذهيب :-على رأس الثالمثائة ،فرحل إىل بالد عديدة سواء يف
إقليمه السجستان ،أو يف إقليم نيسابور ،وكذلك العراق ،والشام ،ومصر ،واحلجاز ،وغريها .حىت إن شيوخه يف هذه
الرحلة بلغوا أكثر من ألفي شيخ ،كما صرح هو بذلك بنفسه يف مقدمة صحيحه( )72حينما قال" :لعلنا كتبنا عن
أكثر من ألفي شيخ من الشاش إىل اإلسكندرية".
مث انتقى – رمحه اهلل – من هذا العدد اجلم حوايل 150شيخاً ،هؤالء هم الذين أخرج هلم يف الصحيح،
وليس هذا فقط ،بل إنه إمنا أخرج ألكثر هذا العدد النزر اليسري جداً من األحاديث ،وأما الذين أكثر عنهم واعتمد
عليهم يف الرواية فإمنا هم حوايل عشرين شيخاً فقط ،وهؤالء هم أضبط شيوخ ابن حبان.
( )1انظر :األنساب ( ،)2/209ومعجم البلدان ( ،)1/415والكامل البن األثير ( ،)8/566وسير أعالم النبالء ( 70
( )1وكذلك نقله عنه الحافظ الذهبي في سير أعالم النبالء (.)16/94 72
58
يقول ابن حبان يف مقدمة صحيحه" :ومل نرو يف كتابنا هذا إال عن مئة ومخسني شيخاً ،أقل أو أكثر ،ولعل
معول كتابنا هذا يكون على حنو من عشرين شيخاً ممن أدرنا السنن عليهم ،واقتنعنا برواياهتم عن رواية غريهم".
ذكر بعض من أكثر عنهم من الشيوخ:
وعلى سبيل املثال ،فمن هؤالء الشيوخ الذين أكثر عنهم :أبويعلى املوصلي "صاحب املسند املشهور" ،وابن
خزمية "صاحب الصحيح" ،واحلسن بن سفيان "صاحب املسند" ،وأبوعروبة احلراين وهو أحد األئمة املتكلمني يف
الرجال" ،إمام مشهور".
قصته مع شيخه ابن خزمية:
وكان – رمحه اهلل – ذا مهة عالية يف الطلب واجلد فيه ،ولعل من أبرز ما يدل على ذلك قصته مع شيخه ابن
خزمية؛ فإنه – رمحه اهلل – كان يلح على الشيخ ليستخرج ما عنده من علم ،ففي ذلك يوم كان يسري مع شيخه ابن
خزمية وكان معه أيضاً بعض الناس اآلخرين ،فأخذ يكثر من سؤال ابن خزمية ،ويبدو أن ابن خزمية – رمحه اهلل – قد
مل وضجر وأدركته السآمة من كثرة إحلاح ابن حبان ،فقال له" :تنحى عين يا بارد" – أو كلمة حنو هذه ،-فكتبها
ابن حبان ،فقال له أحد الواقفني معهم أو السائلني :تكتب عنه مثل هذه الكلمة ،قال :نعم ،أكتب عن هذا اإلمام –
واهلل – كل شيء.
ختصصه يف احلديث وتوليه للقضاء:
وقد ختصص – رمحه اهلل – يف علم احلديث أكثر وتضلع فيه ،ولكنه مل يقتصر عليه فقط ،بل إنه يعد من
الفقهاء املشهورين ،ولذلك توىل القضاء يف عدة بلدان ،مثل مدينة نسا ،ومسرقند ،وغريمها.
منازعته مع األحناف ،وقدحه يف اإلمام أيب حنيفة:
وكان بينه وبني فقهاء احلنفية آنذاك منازعات وخصومات ،محلت هذه املنازعات واخلصومات ابن حبان
على الطعن يف أيب حنيفة – رمحه اهلل – فألف كتاباً يف علل مناقبه يقع يف عشرة أجزاء ،أي إذا كان أليب حنيفة
فضيلة ومنقبة ،فإن ابن حبان يردها فيعلها .فهذا الكتاب يف علل مناقب أيب حنيفة ،ومل يكتفه هبذا ،بل ألف كتاباً
آخر يف مثالب أيب حنيفة يقع يف عشرة أجزاء .واملثالب" :ضد املناقب والفضائل ،أي :العيوب .وكتاباً ثالثاً يف علل
ما استند عليه أبوحنيفة يقع يف عشرة أجزاء أيضاً.
براعته ونبوغه يف علوم شىت:
ومل يقتصر على الفقه واحلديث فقط ،بل إنه برع يف عدة علوم أخرى كالطب والفلك ،حىت إهنم وصفوه
بأنه كان عاملاً بالطب والنجوم ،ومن مجلة ما برع فيه ابن حبان :علم العربية ،أي :اللغة ،حىت إنه كان ميهد
الستنباطاته بذكر القاعدة اللغوية املتعارف عليها عند العرب .بل إنه جاوز ذلك إىل علم الكالم ،حىت برع فيه وتأثر
59
به ،فأثر يف أسلوبه وطريقته وخباصة يف كتابه الصحيح الذي نتناوله بالدراسة ،فإنه رتبه على التقاسيم واألنواع –
كما سيأيت إن شاء اهلل .-وهي طريقة كالمية حبتة ،ويظهر هذا األثر الكالمي مشوباً بالناحية الفقهية عند ابن حبان
.-يظهر يف استنباطاته للمسائل من األدلة.
أمثلة لبعض استنباطاته الكالمية:
ولو أردنا أن منثل على هذا ميكن أن نأخذ حديث النيب صلى اهلل عليه وسلم" :يتقارب الزمان وينقص
العلم"(.)73
يقول ابن حبان يف استنباطاته من هذا احلديث" :وقد أخرب املصطفى صلى اهلل عليه وسلم أن العلم ينقص يف
آخر الزمان ،وأرى العلوم كلها تزداد إال هذه الصناعة الوحيدة؛ فإهنا كل يوم يف النقص – يقصد علم احلديث
والسنن ،-فكأن العلم الذي خاطب النيب صلى اهلل عليه وسلم أمته بنقصه يف آخر الزمان هو معرفة السنن ،وال
سبيل إىل معرفتها إال مبعرفة الضعفاء واملرتوكني".
ومن استنباطاته أيضاً قوله يف قول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حلسان بن ثابت – رضي اهلل عنه – ملا
أمره بالرد على املشركني واملنافحة عنه بقوله صلى اهلل عليه وسلم" :أجب عين"(.)74
يقول ابن حبان" :يف هذا اخلرب كالدليل على األمر جبرح الضعفاء ،ألن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال حلسان
بن ثابت" :أجب عين" ،وإمنا أمر أن يذب عنه ما كان يتقول عليه املشركون .فإذا كان يف تقول املشركني على
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يأمر أن يذب عنه ،ومل يضر كذهبم املسلمني ،وال أحلوا به احلرام وال حرموا به
احلالل؛ كان من كذب على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من املسلمني الذي حيل احلرام وحيرم احلالل بروايتهم –
أحرى أن يؤمر بذب ذلك الكذب عنه صلى اهلل عليه وسلم.
يعين :جيعل ذلك من قياس األوىل ،يقول :إذا كان املشركون يتكلمون يف النيب صلى اهلل عليه وسلم ،وأمر
عليه الصالة والسالم حسان بن ثابت أن يذب عنه ،مع العلم أن كذب املشركني هذا ليس فيه حتليل حرام أو حترمي
حالل .فمن باب أوىل أن يؤمر اإلنسان بالذب عن سنة النيب صلى اهلل عليه وسلم؛ ألنه يعترب ذاباً للكذب عن النيب
صلى اهلل عليه وسلم ،وخباصة أن هذا الكذب حيل به احلرام وحيرم به احلالل.
إغرابه يف بعض االستنباطات ،ومثال ذلك:
60
ولكن هذه االستنباطات الدقيقة الرائعة من ابن حبان مل يكن موفقاً فيها يف مجيع أحواله ،بل إننا لنجده
أحياناً يستنبط فيغرب جداً يف استنباطاته حىت إن هذه االستنباطات تدفعه أحياناً إىل إنكار معىن صحيح ثابت بالدليل
الصحيح عن النيب صلى اهلل عليه وسلم.
وإذا أردنا أن نتناول مثاالً على هذه اجلزئية ،فمن أمثلة ذلك حديث أنس بن مالك يف وصال النيب صلى اهلل
عليه وسلم بالصوم ،فإنه عليه الصالة والسالم كان يواصل الصوم اليوم واليومني(.)75
استنبط ابن حبان من هذا استنباطاً دعاء إىل إنكار احلديث الذي فيه أن النيب صلى اهلل عليه وسلم وضع
احلجر على بطنه ،أي إنه عارض هذا احلديث – حديث وصال النيب صلى اهلل عليه وسلم ،-وقوله عليه الصالة
والسالم يف هذا احلديث" :إين أبيت يطعمين ريب ويسقيين" ،قال :هذا يدل على ضعف أو وهاء ذلك اخلرب الذي فيه
أن النيب صلى اهلل عليه وسلم "شد احلجر على بطنه من اجلوع"(.)76
فابن حبان هبذا ال يعترب مسدداً يف هذا االستنباط ،ألنه كما أن هذا احلديث ثابت بالسند الصحيح ،فكذلك
أيضاً حديث شده عليه الصالة والسالم احلجر على بطنه ثابت بالسند الصحيح أيضاً ،ولذلك الذهيب – رمحه اهلل –
ملا ذكر مثل هذا عن ابن حبان استدل عليه حبديث أخرجه هو يف نفس صحيحه ،وهو حديث خروجه عليه الصالة
والسالم ذات يوم ،وملا خرج وجد أبا بكر وعمر – رضي اهلل عنهما ،-فقال هلما" :ما أخرجكما هذه الساعة؟".
قاال :اجلوع يا رسول اهلل ،قال" :وأنا والذي نفسي بيده ألخرجين الذي أخرجكما"(.)77
هذا احلديث أخرجه ابن حبان يف نفس صحيحه ،ولكنه ذهل عن إخراجه له أو عن املعىن الذي تضمنه ذلك
احلديث ،فإنه عليه الصالة والسالم خيرج من بيته يف مثل هذه الساعات احملرجة ،كل ذلك من أثر اجلوع.
وقد بني الذهيب – رمحه اهلل – أن املقصود حبديث الوصال خمصوص حبال الصوم فقط ،وأما يف سائر
األحوال ،فالنيب صلى اهلل عليه وسلم بشر كبقية البشر ،جيوع ويشبع ،ويقوم وينام ،وغري ذلك من أمور حياته.
لعل مثل هذه االستنباطات اليت يف غري موضعها عند ابن حبان هي اليت دعت أبا عمرو بن الصالح – رمحه
اهلل – إىل أن يقول عنه(" :)78ورمبا غلط يف تصرفه الغلط الفاحش على ما وجدته" .ويصدقه الذهيب – رمحه اهلل –
بقوله" :صدق أبوعمرو".
( )1أخرجه مسلم ( )1104عن أنس. 75
( )2هذا قاله عقب إخراجه لحديث أنس ( .)3579وقد ورد شده صلى اهلل عليه وسلم الحجر في عدة أحاديث منها: 76
حديث جابر عند البخاري ( ،)4101وحديث أبي طلحة عند الترمذي ( ،)2371وحديث ابن بجير أخرجه ابن أبي الدنيا
والخطيب وابن منده كما في االصابة (.)2/486
( )3أخرجه ابن حبان (.)16/98 77
61
قوله لبعض العبارات املومهة اليت أدت إىل احلكم بقتله:
بل إن أسلوب ابن حبان هذا حدا به – مع تاثره بعلم الكالم – إىل ارتكاب أخطاء أدت به إىل امتحانه بل
كادت تؤدي إىل مقتله ،ومن ذلك أنه أصدر عبارة مومهة جعلت الناس يف حرية منها ،حينما قال" :النبوة :العلم
والعمل" ،فحكموا عليه بالزندقة ،وهجر ،وكتب فيه إىل اخلليفة ،فكتب بقتله ،فالذي يظهر أنه هرب واختفى وجناه
اهلل.
وقد ال يكون البعض يدرك مدى خطورة هذه العبارة حىت أوضحها مبا يلي:
الفالسفة يرون أن النبوة مكتسبة وليست موهبة من اهلل – جل وعال – للعبد ،بل ميكن لإلنسان أن يكون
نبياً ،وذلك برتويض نفسه برياضة معينة مع العلم والعمل بذلك العلم ،هذا رأي الفالسفة.
أما أهل السنة :فريون أن النبوة موهبة من اهلل – جل وعال – ألنبيائه عليهم السالم ،وأنه ليس مبقدور العبد
إطالقا أن يكون نبياً مهماً حاول ومهما روض نفسه.
فهذه العبارة من ابن حبان فهم منها بعضهم أنه يقول مبقالة الفالسفة وذلك زندقة ،فثار عليه أهل عصره
وخباصة من كان يف قلبه عليه شيء ،إما من جراء عصبية مذهبية كما جرى مع احلنفية الذين كانوا يساكنونه يف
ذلك البلد.
أو رمبا من جراء املشاحنة بينه وبني بعض علماء عصره كما جيري غالباً بني األقران.
أو رمبا من بعض املتحمسني الذين يغارون على دين اهلل – جل وعال ،-فريون من ابن حبان يف إصداره
هلذه العبارة أنه أخطأ خطأ فاحشاً يؤدي به إىل الزندقة واملروق من الدين ،نعوذ باهلل من ذلك.
اعتذار احلافظ الذهيب عنه فيما قال:
لكن العلماء الذين حيسنون الظن بأمثال ابن حبان وغريه ،جند أهنم حياولون أن يأولوا هذه العبارة وحيملوها
معىن صحيحاً اعتذاراً عن ابن حبان مع اعرتافهم بأن األوىل أن ال يؤتى مبثل هذه األلفاظ املومهة.
فنجد الذهيب( - )79رمحه اهلل – ملا مر على هذه العبارة ،ذكر أن هذا نفس فلسفي ،وأن األوىل بابن حبان أن
ال يورد مثل هذه العبارات ،وال يأيت هبا إطالقاً ،ولكن ما دامت أهنا صدرت من مثل ابن حبان وهو إمام معروف ال
يشك فيه ،فينبغي أن حتمل على معىن صحيح.
يقول الذهيب عن هذا املعىن الصحيح :إن ابن حبان – رمحه اهلل – مل يقصد حصر املبتدأ يف اخلرب ،وإمنا قصد
ذكر مهمات النبوة .يقول :مثاله قول النيب صلى اهلل عليه وسلم" :احلج عرفة"( ،)80فالنيب صلى اهلل عليه وسلم مل
( )2أخرجه أبوداود ( ،)1949والترمذي ( ،)889والنسائي ( ،)5/264وابن ماجه ،)3015( gوغيرهم ،وهو صحيح. 80
62
يقصد حصر احلج يف عرفة ،بدليل أن من وقف بعرفة ومل يأت بباقي أركان وواجبات احلج؛ ال يعترب حاجاً ،وال
يصح حجه حينذاك ،فكذلك أيضاً هاهنا ابن حبان مل يقصد حصر النبوة يف "العلم والعمل" ،فالنيب صلى اهلل عليه
وسلم حينما قال" :احلج عرفة" ذكر أهم مهمات احلج ،وهو الوقوف بعرفة.
يقول :فابن حبان ذكر أهم مهمات النبوة وهي "العلم والعمل" ومل يقصد أن من أتى بالعلم والعمل يعترب
نبياً .وهذا اعتذار جيد من احلافظ الذهيب – رمحه اهلل – البن حبان.
طرده من سجستان وسبب ذلك:
ومن هذه األخطاء اليت جاءت منه وكادت تودي به ،أنه صدرت منه عبارة ،وهذه العبارة ولألسف
موجودة يف مقدمة كتابه الثقات ،وهي "إنكاره احلد هلل" ،ومسألة إنكار احلد هلل هذه عبارة ينبغي أن ال ترد ،ال نفياً
وال إثباتاً ،وإذا أطلقت باإلثبات أو النفي ،ينبغي أن يسأل املطلق هلا عن مراده منها .فإن كان يقصد نفي بعض
صفات اهلل – جال وعال – الثابتة بالكتاب والسنة ،فهو خمطيء بإطالقه هذه العبارة.
وإن كان يقصد تنزيه اهلل – جل وعال – عن مشاهبة املخلوق ،وما إىل ذلك ،يقال له :نعم اهلل جل وعال
منزه عن مشاهبة املخلوق ،ولكن هذه العبارة مبا أهنا مل ترد عن السلف ومبا أهنا عبارة مومهة؛ فاألوىل أن ال تطلق،
وأن ال تورد إطالقاً.
فابن حبان أنكر احلد هلل ،فهل يقصد نفي بعض الصفات ،كمسألة العلو أو االستواء أو ما إىل ذلك؟ أو
يقصد غري ذلك؟ اهلل أعلم مبراده ،ولكنه حينما أطلقها ثار عليه بعض علماء عصره ووعاظه مثل ذلك الواعظ حيىي بن
عمار ،ويبدو أنه كان من أهل السنة ،ورمبا كان يف نفسه على ابن حبان شيء ،واهلل أعلم ،واخلالصة أهنم ثاروا عليه
فطردوه وأخرجوه من البلد بسبب إطالقه هذه العبارة.
سأل أحدهم ( )81حيىي بن عمار ،فقال له :هل رأيت ابن حبان؟ -يعين :هل أدركته؟ -فقال :كيف مل أره
وحنن أخرجناه من سجستان ملا قال :كذا وكذا ،وذكر أنه أطلق هذه العبارة.
فعلى كل حال ،أكثر من يطلق هذه العبارة" :إنكار احلد هلل" من ينفون بعض صفات اهلل ،جل وعال ،عنه
وخباصة العلو ÷،وهذا بالشك أنه مزلق خطري ،ولذلك جند بعض الذين جاءوا بعد ذلك كالسبكي وابن حجر –
رمحهما اهلل – يصوبون ابن حبان وخيطئون من ثار على ابن حبان ،فيقول بعضهم :ليت شعري ،من املخطيء؟ هل
هو املنكر للحد هلل أو املثبت للحد هلل؟
نقول :كالمها على طريف نقيض ،ولكن السبكي معروف عقيدته ،وابن حجر زلق أيضاً هذا املزلق ،ألنه يف
بعض األحيان خيطيء – رمحه اهلل – بسبب تأثره مبنهج بعض شيوخه الذين هم من األشاعرة.
( )1هو أبو إسماعيل األنصاري كما في السير (.)16/97 81
63
وعلى كل حال ،فمثل هذه األخطاء اليت صدرت من ابن حبان ال ميكن لبشر أن يبلغ درجة الكمال ،وابن
حبان من مجلة العلماء الذي خيطئون ويضيبون ،ولكن جانب االصابة عنده ال يقارن جبانب اخلطأ .وكما قيل" :املاء
إذا بلغ القلتني مل حيمل اخلبث".
ذكر بعض من تتلمذ على يديه من كبار العلماء:
وألجل ما له من املكانة وألجل تضلعه يف العلوم ،وبالذات علم احلديث ،حرص بعض كبار العلماء على
التتلمذ عليه ،ولذلك جند بعض أكابر العلماء من تالميذ ابن حبان مثل :الدارقطين ،وهو إمام مشهور ،فإنه ممن تتلمذ
على ابن حبان ،وكذلك احلاكم ،صاحب املستدرك ،-وهو إمام مشهور ،هو أيضاً من تالميذ ابن حبان ،وكذلك
ابن منده – صاحب كتاب معرفة الصحابة وغريه من الكتب – هو أيضاً من تالميذ ابن حبان ،وغريهم كثري.
وقفه جلميع كتبه على طلبة العلم ،وبيان سبب ضياعها:
من اآلثار اليت خلفها ابن حبان – رمحه اهلل ،-أنه ميتلك ثروة ضخمة من الكتب ،سواء الكتب اليت ألفها
علماء غريه ،أو الكتب اليت ألفها هو ،وما أكثرها وما أحسنها وما أجودها ،فقام – رمحه اهلل – بعمل – يبدو أنه مل
يسبق إليه ،وبالذات بعض جزئيات هذا العمل قطعاً مل يسبق إليه .هذا العمل هو أنه أوقف هذه الكتب وسبلها،
فجعلها يف مكتبة أوقفها على طلبة العلم ومجعها وأوصى بأن حتول هذه الدار أيضاً اليت فيها تلك املكتبة إىل مدرسة
ألصحابه ،بل وتستوعب طلبة العلم الغرباء الذين يأتون من أماكن شىت لطلب العلم فجعلها سكناً هلم.
ومل يكتف هبذا فقط ،فإنه يرى أن هؤالء الطلبة القادمني من أماكن شىت حيتاجون إىل معيشة ورزق ،فأوقف
أيضاً عليهم جرايات للنفقة عليهم ،وذلك ليتفرغوا لطلب العلم .فبهذا يعترب ابن حبان – رمحه اهلل – أول من بىن
مدرسة للحديث ،وليس كما قيل :إن أول من بىن ذلك بعض املماليك الذين جاءوا يف حوايل القرن السادس.
مث إنه حينما أوقف هذه املكتبة اشرتط – رمحه اهلل – أن ال خيرج منها وال كتاب ،ال بإعارة وال بغريها،
والشك أن الذي دفعه هلذا :اخلوف من ضياع هذه الكتب ،ولكن لألسف أن هذا التصرف من ابن حبان اعتربه
بعض العلماء من األسباب اليت أدت إىل ضياع وفقدان الكثري من كتبه ،ألنه حينما حسبها يف مثل هذا املكان منع
من انتشارها ،و مع تقادم الزمن ،والعبث ،وقلة أهل العلم يف ذلك البلد بعد رحيل ابن حبان – رمحه اهلل – ضاعت
هذه الكتب وفقدت ،ولذلك اخلطيب البغدادي يسأل مسعوداً السجزي الذي هو أحد شيوخه عن كتب ابن حبان
وهل رأها ،فأخرب بأنه رأى بعض هذه الكتب وبعضها يعترب مفقوداً.
64
فيحدث مسعود السجزي اخلطيب البغدادي حبرقة ،فيقول( :)82فكان السبب يف ذهاهبا مع تطاول الزمان
ضعف أمر السلطان واستيالء ذوي احليف والفساد على أهل تلك البالد .مث إن اخلطيب البغدادي ملا رأى مثل هذه
الكتب وضياعها حتسر ،فيقول يف عبارة له:
مثل هذه الكتب كان جيب ان يكثر هبا النسخ ،فيتنافس فيها أهل العلم ،ويكتبوها وجيلدوها إحرارزاً هلا،
وال أحسب املانع من ذلك كان إال قلة معرفة تلك البالد مبحل العلم وفضله ،وزهدهم فيه ،ورغبتهم عنه ،وعدم
بصريهتم به.
وفاته – رمحه اهلل تعاىل :-
توىف ابنحبان – رمحه اهلل – يف ليلة اجلمعة لثماين ليال بقني من شهر شوال ،وذلك يف سنة أربع ومخسني
وثالمثائة ،ودفن من الغد بعد صالة اجلمعة ،وذلك بسجستان مبدينة بست – رمحه اهلل – رمحة واسعة.
ثناء العلماء على تصانيفه ،وبيان منهجه يف بعضها:
ترك ابن حبان عدة مؤلفات – كما أشرت إىل ذلك – منها املفقود وبعضها موجود .وكانت تصانيفه هذه
حمط إعجاب العلماء به .يقول تلميذه احلاكم :صنف فخرج له من التصنيف يف احلديث ما مل يسبق له.
ويقول ياقوت احلموي صاحب معجم البلدان :أخرج من علوم احلديث ما عجز عنه غريه.
فمن هذه الكتب اليت ال جند هلا أثراً اآلن ،ويظهر أهنا هي اليت يتحسر اخلطيب البغدادي على مثلها – برغم
قرب عصره من عصر ابن حبان – من هذه الكتب كتاب "اهلداية إىل علم السنن" ،فيصفون أنه كتاب ضخم ورائع
يف تأليفه ،وذلك أن ابن حبان – رمحه اهلل – مزج بني الفقه واحلديث يف هذا الكتاب ،فيأيت للمسألة فيبوب عليها،
ويورد حتتها ما يورد من األحاديث ،وإذا أورد احلديث أخذ يرتجم لرجاله رجالً رجالً من صحابة النيب صلى اهلل
عليه وسلم إىل طبقة شيوخه ،ويتكلم عن كل واحد مبا فيه من كالم ،فيعترب هذا الكالم أيضاً كتاباً يف الرجال،
وخباصة إذا كان هذا الكالم صادراً من مثل ابن حبان ،فإنه مفيد للغاية.
مث بعد ذلك يتطرق ملا ميكن أن يكون معارضاً هلذا احلديث من األحاديث األخرى ،أو املعاين املوجودة يف
أحاديث أخرى ،فيأيت بتلك األحاديث ويبدأ يتكلم عليها من ناحية فقهية ،فيجمع بينها إن أمكن اجلمع ،أو يبني ما
هو ن اسخ وما هو منسوخ ،أو حياول أن يوضح املشكل ويبني علل ما فيه علة ،إىل غري ذلك من الصناعة احلديثة
املمزوجة بالناحية الفقهية ،مما جعل هذا الكتاب يكون حمل إعجاب كثري من العلماء به.
65
كذلك كتابه اآلخر يف "شعب اإلميان" ،وفلسفة ابن حبان يف هذا الكتاب أنه تأمل حديث النيب صلى اهلل
عليه وسلم – كما يقول هو – تأمل حديث النيب صلى اهلل عليه وسلم" :اإلميان بضع وسبعون شعبة"(.)83
قال :عددت الطاعات فوجدت أهنا تربو على مائة ،قال :فرجعت إىل السنة فعددت ما ورد يف السنة مما
ذكر بأنه من خصال اإلميان ،قال :فوجدهتا تنقص عن البضع والسبعني مقداراً ،مث ذهب إىل القرآن فاستعرضه من
أوله إىل آخره فوجد أن هناك مجلة من اخلصال اليت وصفت بأهنا من خصال اإلميان فدوهنا أيضاً ،ومجع هذه اخلصال
بعضها مع بعض ،وحذف املكرر فوجد أهنا يعين بتكميل السنة بالقرآن – تسعاً وسبعني شعبة بالضبط.
فقال :هذا يدل على أن حديث النيب صلى اهلل عليه وسلم" :اإلميان بضع وسبعون شعبة ،فعالً يراد به هذا
اللفظ ،لن اللفظ خمتلف فيه" :بضع وستون" أو "بضع وسبعون" .فهو يذهب إىل أن العدد بالضبط تسع وسبعون
شعبة ،مث أخذ يتكلم عن هذه الشعب ،فيعترب ابن حبان سابقاً للبيهقي بتأليفه لكتاب شعب اإلميان.
ذكر بعض كتبه املفقودة( )84واملطبوعة اآلن:
كذلك من كتبه الرائعة كتب أخرىمثل" :علل أوهام املؤرخني" يقع يف عشرة أجزاء ،و"علل حديث
الزهري" يقع يف عشرين جزءاً ،و"علل حديث مالك" يقع يف عشرة أجزاء ،و"كتاب وصف العلوم وأنواعها" يف
ثالثني جزءاً ،وغري ذلك من الكتب الكثرية اليت فقدت واليت ال نعرف عنها شيئاً اآلن.
أما كتبه املوجودة فإهنا كلها مطبوعة ،فمنها "كتاب الثقات" ،و"كتاب اجملروحني من الضعفاء واملرتوكني من
الرواة" .هذان الكتابان يعتربان يف الرجال ،أحدمها خمتص بالثقات ،واآلخر خمتص بالضعفاء .يعترب هذان الكتابان
خمتصرين من كتاب أصل ،وهو "كتاب التاريخ" له – رمحه اهلل ،-فمن الواضح أن كتاب التاريخ هذا كتاب كبري
جداً ،اختصر منه هذين الكتابني وجعل أحدمها خمتصاً بالثقات واآلخر خمتصاً بالضعفاء .فكم يكون يا ترى حجم
ذلك الكتاب "كتاب التاريخ"؛ مادام أن "كتاب الثقات" اآلن مطبوع يف تسعة جملدات ،و"كتاب اجملروحني" مطبوع
يف ثالثة أجزاء ضخمة؟! الشك أنه كبري.
كذلك من كتبه املوجودة – وهومطبوع – كتاب "مشاهري علماء األمصار" جزء لطيف أورد فيه 1600ترمجة
تقريباً ،ركز على املشاهري ،وخباصة من العلماء على اختالف أنواع العلوم اليت ختصصوا فيها ،ورتبهم على الطبقات،
أي :على التسلسل الزمين.
( )1أخرجه البخاري ( )9عن أبي هريرة ،وهو عند مسلم ( ،)35/57وأخرجه ( )35/58بالشك .وقد أخرجه ابن حبان 83
66
ومن كتبه املوجودة كتاب "روضة العقالء ونزهة الفضالء" وهو مطبوع أيضاً يف جملد لطيف ،ويعترب هذا كتاباً ميكن
أن يكون من كتب األدب أو من كتب السلوك ،مشوب هباتني الناحيتني.
بيان االسم الكامل لكتابه:
هذه هي الكتب اليت وجدت مطبوعة البن حبان عدا الكتاب الذي نتناوله بالدراسة وهو كتاب الصحيح،
وهذا الكتاب اشتهر بتسمية "صحيح ابن حبان" ،وإال فإن امسه الكامل كما مساه مؤلفه نفسه "املسند الصحيح على
التقاسيم واألنواع من غري وجود قطع يف سندها وال ثبوت جرح يف ناقلها".
وهذا العنوان قريب من عنوان صحيح ابن خزمية الذي مساه مؤلفه "املسند الصحيح املتصل بنقل العدل عن العدل بغري
قطع يف السند وال جرح يف النقلة" ,وليس ذلك بغريب ،فإن ابن حبان يعترب من أكابر تالميذ ابن خزمية ،بل ممن تأثر
بابن خزمية تأثراً ظاهراً ،حىت إن العلماء قالوا :إن ابن حبان ناسج على منوال ابن خزمية مغرتف من حبره.
سبب تأليفه للكتاب:
ذكر ابن حبان – رمحه اهلل – يف مقدمته السبب الذي دعاه لتأليف هذا الكتاب ،وهو ما رآه من انصراف الناس عن
صحاح السنن ،وإيرادهم للغث والضعيف من األحاديث واملناكري والبواطيل ،فغرية منه على سنة النيب صلى اهلل عليه
وسلم ألف هذا الصحيح ،وليس هذا فقط ،قال :هذا ال يكفي بل البد أن نأطر الناس وحنملهم على حفظ السنن،
والبد أن نرجعهم للمنهج الصحيح الذي كان عليه العلماء السابقون.
فكيف يا ترى يستطيع ابن حبان أن حيمل هؤالء الناس على حفظ السنن ،قال :هذا الكتاب أنا سأتقنه
إتقاناً ،ولكين سأجعل للعثور على احلديث فيه صعوبة بالغة ،ال يستطيع أحد أن يعثر على احلديث الذي يريده يف هذا
الكتاب إال بأحد أمرين:
األمر األول" :إما أن يقرأ الكتاب من أوله إىل آخره" ،ويف هذا من الصعوبة ما فيه ،كلما أراد اإلنسان حديثاً واحداً
استعرض الكتاب من أوله إىل آخره.
األمر الثاين :قال" :أو حيفظ هذا الكتاب ،فإذا حفظه استطاع أن يستحضر احلديث الذي يريده".
واستنبط هذا أو قاس هذا على كتاب اهلل – جل وعال ،-قال :إن الذي يريد أن يصل إىل آية من كتاب اهلل ال
يستطيع إال أما أن يقرأ القرآن من أوله إىل آخره ،أو يكون حافظاً للقرآن ،فالقرآن وجده مقسماً إىل أجزاء ،وكل
جزء من هذه األجزاء حتته سورة ،وكل سورة حتتها آيات.
قال :فكذلك أنا أصنع ،سأقسم كتايب هذا إىل أقسام ،وحتت كل قسم أورد عدة أنواع ،فالقسم مثل اجلزء ،والنوع
مثل السورة ،وحتت كل نوع أورد عدداً من األحاديث .وهذه األحاديث مثل اآليات ...قال :فالذي يريد أن
يستخرج حديثاً البد أن يكون حافظاً للكتاب حىت يكون احلديث نصب عينيه ،كما أن من أراد أن يستخرج آية
67
من كتاب اهلل البد أن يكون حافظاً لكتاب اهلل حىت تكون اآلية نصب عينيه ،وما مل يكن كذلك فإنه ال يستطيع
االستفادة من هذا الكتاب .هذا هو اهلدف الذي أراده ابن حبان.
68
حكم العلماء على صنيع ابن حبان ومنهجه يف كتابه :
رأى العلماء أن ابن حبان أخطأ يف صنيعه هذا ،فال هو بالذي سهل الكتاب حىت يكون يف متناول طلبة
العلم ،وال هو بالذي حتقق له ما أراد ،بل إن الناس انصرفوا عن كتابه فلم ينتفعوا به حىت جاء عالء الدين الفارسي
ورتب هذا الكتاب – كما سنذكره – على األبواب الفقهية .
املراد بالتقاسيم واألنواع اليت رتب عليها الصحيح :
مث إننا إذا أردنا أن نتأمل هذا التقسيم على وجه اإلمجال ألن كتابه أمسه التقاسيم واألنواع ،هكذا يوردونه
خمتصراً ،وأما هو فسماه " :املسند الصحيح على التقاسيم واألنواع ، "...فما هي هذه األقسام ؟ وما هي هذه
األنواع ؟ وكما سبق أهنا مشوبة بناحية كالمية ،مع ناحية فقهية أصولية جعلت ابن حبان يؤلف كتابه على هذا
النمط .
رأى – رمحه اهلل – أن السنن تنقسم إىل مخسة أقسام :
القسم األول :األوامر اليت أمر اهلل عباده هبا .
القسم الثاين :النواهي اليت هنى اهلل عباده عنها .
والقسم الثالث :األخبار أي :إخباره – جل وعال – وعما احتيج إىل معرفته .
والقسم الرابع :اإلباحات اليت أبيح ارتكاهبا .
والقسم اخلامس :أفعال النيب صلى اهلل عليه وسلم اليت انفرد بفعلها ،يعين عن سائر األمة .
وجد أن السنن ال خترج عن هذا األقسام مخسة أقسام ،مث جعل حتت كل قسم عدة أنواع ،فبالنسبة لألوامر اليت أمر اهلل
عباده هبا جعل حتتها مائة وعشرة أنواع يعين " مثل األبواب" ،وحتت كل نوع يورد عدداً من األحاديث .
وكذلك النواهي اليت هنى اهلل عباده عنها جعل حتته مائة وعشرة أنواع .
أما األخبار أي " إخباره جل وعال عما احتياج إىل معرفته " فجعل حتته مثانني نوعاً.
أما األخبار أي " إخباره جعل وعال عما احتيج إىل معرفته " فجعل حتته مثانني نوعاً .
وأما اإلباحات وأفعال النيب صلى اهلل عليه وسلم ،فجعل حتت كل قسم منهما مخسني نوعاً .
يبلغ جمم وع ه ذه األن واع برمتها أربعمائة ن وع ،فهل يا ت رى قصد ابن حب ان احلصر ؟ يق ول :ال ،لو أردنا املزيد ألتينا
باملزيد ،ولكنه وجد أن ه ذه األربعمائة تكفي وأن ما ع داها يعترب من التكلف ،وإال لو تكلف الس تطاع أن ي أيت باملزيد من ه ذه
األنواع اليت ذكرها .
مث إنه ملا ألف هذا الكتاب جعل لنفسه منهج اً وانضبط – إىل حد كبري – يف حتقيق هذا املنهج ،ولذلك يوازن العلماء بينه
وبني احلاكم صاحب املستدرك ،فيقولون :إن ابن حب ان ويف بش رطه ،وأما احلاكم فما ويف بش رطه ألن احلاكم وجد عليه كثري من
املآخذ ؛ ولذلك تكلم فيه ويف كتابه .وأما ابن حب ان أنه اش رتط على نفسه ش رطاً – بغض النظر عن هذا الشرط يف ذاته فقد يكون
خمالفاً يف هذا الشرط ، -ولكنه ويف هبذا الشرط طبق هذا الشرط الذي اشرتطه على نفسه .
شروط ابن حبان فيمن روى هلم :
69
فمن مجلة شروطه أنه شرط يف الراوي الذي خيرج له يف هذا الصحيح عدة شروط تبلغ مخسة شروط(: )85
الشرط األول :العدالة يف الدين بالسرت اجلميل .
الثاين :الصدق يف احلديث بالشهرة فيه .
الثالث :العقل مبا حيدث من احلديث .
الرابع :العلم مبا حييل من معاين ما يروي .
اخلامس :تعري خربه عن التدليس .
يقول :فكل من اجتمع فيه هذه اخلصال اخلمس احتججنا حبديثه ،وبيننا الكتاب على روايته ,وكل من تعرى عن خصلة
من هذه اخلصال اخلمس مل حنتج به ،مث أخذ يبسط الكالم عن هذه الشروط .
مناقشة هذه الشروط وبيان ما فيها :
لو رجعنا هلذه الش روط ،بالنس بة للش رط األول ق ال :العدالة يف ال دين بالسرت اجلميل .قوله " :بالسرت اجلميل " يوضح
مقصود ابن حبان بالعدالة ،وهذا املقصود خيالفه فيه بعض العلماء وهو الرأي الراجح .فابن حبان يرى أن الراوي الذي يعترب جمهول
احلال " حاله جمهولة ال يع رف بعدالة وال ج رح " يعترب أن األصل فيه العدالة .وال يش رتط أن يك ون هن اك من عدله " أي وثقه من
بعض من اعتمدوا على توثيقه " ؛ فهو ال يشرتط هذا ،بل ما دام أن الراوي ال يُعرف فيه جرح فإنه يعترب عدالً عنده ،ولذلك يقول
" :بالسرت اجلميل " ،يعترب أن هذا سرت على الراوي حينما ال جيد فيها جرحاً .
وليس هذا فقط بل إنه يضم إىل هذا عدة شروط ،يقول :إن الراوي قد يكون معروف اً بالعدالة ،ولكنه ال يعترب صادقاً يف
حديثه ،أي أنه خيطئ يف احلديث ،فكأنه يقصد بالصدق ها هنا احلفظ أي ال بد من توفر احلفظ مع العدالة .
ولكن هل يا ترى ابن حبان حينما يشرتط يقصد أن الراوي الذي يعترب جمهول احلال البد أن ينص على أنه ضابط ؟
ال ،هو يعترب من ًُجهلت حاله ما مل ي رد فيه جرح ف إن أصل أمره على قبول الرواية أي أنه ثقة عنده ،لكنه من عرف عنه
اجلرح من قدح يف ضبطه وحنو ذلك ،فهذا هو الذي خيرج عن هذا الشرط الذي شرطه .
كذلك أيضاً الشرط الثالث :
يشرتط (أن يكون الراوي يعقل مبا حيدث من احلديث) ،أي ال جيوز ابن حبان رواية من يكون كالببغاء ،ينقل احلديث وال
يدري عن املعىن الذي حيمله ؛ ألنه يرى أنه لو أخذ احلديث عن مثل هذا الصنف فإنه قد تفوت عليه كلمة أو يفوت عليه معىن يقلب
داللة احلديث رأساً على عقب .
إذا هو يشرتط أن يكون ممن يعقل ما حيدث به من احلديث ،أي يكون عارفاً مبا حيدث به من احلديث .
كذلك أيض اً الشرط الرابع ( :أن يكون عاملاً مبا حييل من معاين ما يروي) ،يقول :إن الرواة ال يستطيع الواحد منهم أن
يؤدي احلديث بنفس األلفاظ اليت مسعها ،فيمكن أن يعرب الراوي باملعىن ،والرواية باملعىن أجازها كثري من العلماء وعليها استقر العمل
فيما بعد ،فما دامت الرواية ب املعىن ج ائزة اش رتط العلم اء أن يك ون ال راوي ال ذي ي ووي ب املعىن عارف اً أو عاملاً مبا حييل املع اين من
األلفاظ ؟ فهذا هو الشرط الذي اشرتطه ابن حبان .
الشرط اخلامس ( :تعري خرب الراوي عن التدليس) :يشرتط ابن حبان أن يكون هذا اخلرب إذا ورد من طريق راو موصوف
بالتدليس أن يكون هذا اخلرب مما صرح فيه الراوي صراحة بالسماع أو طلع هو على تصرحيه بالسماع يف موضعه آخر .
هو في مقدمة gاإلحسان ( ، )1/151ونقله عن الذهبي في سير أعالم النباء (. )16/97 85
()2
70
وقد نص يف مقدمته ،وبسط هذا الكالم مبا مؤداه أنه إذا أخرج حديثاً لراو موصوف بالتدليس فالبد أن يكون هذا ا لراوي
صرح بالتحديث لذلك اخلرب ،أو يكون صرح به يف غري ذلك املوضع ،وليس شرطاً أن خيرجه ابن حبان ولكنه اشرتط على نفسه أن
يكون مطلعاً على تصرحيه بالسماع .
فهل يا ت رى يس لم البن حب ان مبثل ه ذا ،فيق ال عن ح ديث ج اء من طريق بعض املوص وفني بالت دليس ورواه بالعنعنة يف
صحيح ابن حبان :إن هذا مما ميكن أن حيتمل ؟
نق ول :ه ذه هي القاع دة العامة ،لكن البد من االلتف اف إىل مس ألة ،وهي :أن يك ون ابن حب ان ممن وصف ه ذا ال راوي
بالتدليس ،وإال قد يكون ال يعرف أن هذا الراوي مدلس ،أو ال يرى أنه مدلس وخيالفه غريه .
أقول هذا ألين وقفت مرة من املرات على خرب عرف أن هذا الراوي دلسه صراحة حينما ورد يف بعض الطرق بزيادة راو ،
فتيقنا أن ه ذا ال راوي دلس ه ذا اخلرب ،فكيف أخرجه ابن حب ان بإس قاط الواس طة بني ذلك املدلس وبني ش يخه ؟ أي أن احلديث
مدلس عند ابن حبان .
أق ول :ال أس تطيع أن أتص ور الس بب إال ه ذا ،قد يك ون ابن حب ان ممن ال ي رى أن ه ذا ال راوي م دلس ،أو ال يع رف أنه
مدلس أصال ،أو قد يكون وقع يف خطأ ال يعرو منه بشر ،العلم عند اهلل .
كذلك أيض اً من الشروط ا ليت اشرتطها أن ال خيرج حديث الراوي الذي عُ رف باالختالط إال من طريق من روى عنه قبل
االختالط ،ولذلك أيضاً هذه املسألة ميكن أن يطمأن إليها حد كبري مثل مسألة التدليس اليت أشرنا إليها .
71
تساهله يف التوثيق وتشدده يف اجلرح :
وابن حب ان حينما يش رتط مثل ه ذه الش روط جند أن ينطلق من منهج ع رف عنه فهو من املوص وفني بالتس اهل يف التوثيق ،
وبالتش دد يف التج ريح ،فل ذلك ه ؤالء ال رواة ال ذين ي وثقهم ممن ع رف أهنم ال يعرف ون بعدالة وال ج رح – ينبغي االحتي اط يف قب ول
أحاديثهم عند ابن حبان .
ك ذلك األح اديث اليت اجتنبها ابن حب ان – أي اجتنب إخ راج ح ديث بعض ال رواة .ال ينبغي أن نقطع على أن ه ذه
األحاديث غري صحيحة ؛ ألن ابن حبان أمهلها وتركها ،ألن ابن حبان من املتشددين يف اجلرح ،فقد جيرح بعض الرواة الذين هم يف
أنفسهم ثقات ،مثل جرحه حملمد بن الفضل السدوسي امللقب بـ " عارم"( ، )86فهو إمام جبل ثقة ،ولكن ابن حبان تسرع فجرحه مبا
ال يُعد جرحاً .
تقدمي العلماء لصحيح ابن خزمية على صحيح ابن حبان ومستدرك احلاكم :
يعترب كتاب ابن حبان عند العلماء يف املنزلة الثانية بعد صحيح ابن خزمية ،وهذا بالنسبة للكتب اليت ألفت يف الصحيح اجملرد
فأوهلا صحيح البخاري ،مث صحيح مسلم ،مث صحيح ابن خزمية ،مث صحيح ابن حبان ،هذا ظاهر صنيع العلماء املتقدمني .وخالف
يف ذلك ش عيب األرن اؤوط ،حيث ق دم – أي ش عيب األرن اؤوط – ص حيح ابن حب ان على ص حيح ابن خزمية ،وذك رت أن ه ذه
املسألة حتتاج إىل دراسة( ، )87وهي جارية إن شاء اهلل تعاىل .
لكن من املتيقن واملقطوع به أن كتابه هذا مقدم على مستدرك احلاكم ألن هذه املسألة وضحت وظهرت بشكل واضح ،
يوف بشرطه ،وأما ابن حبان فقد ويف بشرطه ،ولذلك األحاديث املنتقدة عند ابن حبان ال تقارب فاحلاكم – رمحه ا هلل – ممن مل ُ
وال تداين إطالقاً األحاديث املنتقدة عند احلاكم .
عدم تفريقه بني احلديث الصحيح واحلسن :
وكذلك ابن حبان مثل شيخه ابن خزمية ممن ال يرى التفريق بني احلديث الصحيح واحلديث احلسن ،فعنده أن احلسن قسم
من الصحيح وهو داخل فيه .
اعتناء العلماء بصحيح ابن حبان ،وذكر بعض خدماهتم له :
ألجل أمهية ص حيح ابن حب ان جند أن العلم اء اعتن وا هبذا الكت اب عناية فائقة ،فمن ذلك حرص هم على روايته ومدارس ته
وقراءته ،وعلى هذا حرص أصحاب الكتب اليت تسمى بت "الربامج واملشيخات" ،مثل الوادي آشي التونسي املتوىف يف سنة ، 749
فإنه ي ذكر يف برناجمه يف ص فحة 202 ، 201أنه ق رأ مجيع ح ديث ص حيح ابن حب ان بس نده حبرم اهلل تع اىل اجتاه الكعبة على رضي
الدين أيب إسحاق إبراهيم الطربي أحد شيوخه .وغري الوادي آشي كثري .
كذلك أيض اً عين العلماء بالكالم على رج ال ابن حبان ،فنجد (ابن امللقن) أودع كتاب ابن حبان يف ضمن خمتصره لـ "
هتذيب الكمال والذيل عليه" ،وهذه املسألة سبق أن أشرت إليها من الكالم على صحيح ابن خزمية .
قلت :إن ابن امللقن اختصر كتاب " هتذيب الكمال " للمزي وزاد عليه زيادات ،الزيادات هذه تسمى " ذيالً " ،وهذه
الزيادات أخذها من عدة كتب وهي " :مسند اإلمام أمحد ،وصحيح ابن خزمية ،وسنن الدار قطين ،ومستدرك احلاكم ،وصحيح
ابن حبان " .
كذلك أيض اً جند احلافظ العراقي – رمحه اهلل – ألف كتاب اً بعنوان " رجال ابن حبان" ،وهذا الكتاب يذكره عنه ابن فهد
املكي يف كتابه " حلظ األحلاظ" ،لكن هذا الكتاب ال تعرف عنه شيئاً .
( )1هو محمد بن الفضل السدوسي ،أبو الفضل البصري ،لقبه عارم ،ثقة ثبت ،تغير في آخر عمره ،من صغار 86
التاسعة ، gمات سنة 223أو . 224روى له أصحاب الستة .تقريب ت . 7011 :
( )1راجع الفقرة السابقة " :هل يقدم صحيح ابن خزيمة على صحيح ابن حبان . 87
72
كذلك أيض اً من اجلهود اليت بُذلت يف كتاب ابن حبان " ختريج زوائده" ،فنجد احلافظ مغلطاي ألف كتاب اً يف استخراج
زوائد ابن حب ان ،ولكن ه ذا الكت اب مل يصل إلينا ،وإمنا ال ذي وصل إلينا كت اب اهليثمي ال ذي أمسه " م وارد الظم آن إىل زوائد ابن
حبان " ،والكتاب مطبوع ومعروف .
واملقصود بزوائد ابن حبان هاهنا ليست زوائده على الكتب الستة ،وإمنا زوائده على الصحيحني فقط ؛ ألن ما دام أنه من
الكتب اليت ألفت يف الص حيح اجملرد "أي :ال ذي ال خيالطه الض عيف " ،فك ذلك أيض اً ينبغي أن تك ون الزوائد على كتب اش رتطت
هذا الشرط ،ولذلك جعلوا الزوائد خاصة بزوائده على الصحيحني .
كذلك أيضاً جند بعض العلماء عين باالنتخاب من هذا الكتاب ،فمن أن ذلك احلافظ العراقي انتخب من كتاب ابن حبان
أربعني حديثاً مساه " أربعون بلدانية " ،ذكر هذا عنه تلميذه ابن فهد املكي يف كتابه " حلظ األحلاظ" أيضاً .
وجند أيض اً هناك من فهرس هذا الكتاب على األطراف ومن مجلتهم احلافظ ابن حجر يف كتابه "إحتاف املهرة" ؛ فإنه جعل
كتاب ابن حبان من الكتب العشرة اليت ألف كتابه هذا بناء عليها .
واملقصود باألطراف ليست فهرسة كالفهرسة املعتادة ،فيؤتى بطرف احلديث فقط ،وإمنا يأتون بالسند أو جيمعون أسانيد ا
حلديث يف موضع واحد ،مع اإلشارة إىل طرف احلديث الذي يدل على أن املقصود هبذا اإلسناد على ذلك املنت املذكور .
الكالم على كتاب " اإلحسان " ومؤلفه ،وطريقته يف ترتيب ابن حبان :
كذلك أيض اً من اخلدمات اليت قدمت البن حبان ترتيب كتابه هذا على األبواب الفقهية ،وهناك من سعى لرتتيبه ،ولكن
ال ذي وصل إلينا من ه ذا اجله ود اليت ب ذلت يف ت رتيب ابن حب ان هو كت اب " اإلحس ان " ال ذي ألفه عالء ال دين الفارسي املع روف
باألمري .
ه ذا الرجل ك ان حمتك اً ب األمراء املماليك ويب دو أنه ك ان منهم ،وهو حنفي املذهب وجد الن اس انص رفوا عن كت اب ابن
حبان ،وكما يقول هو :إن ابنه حبان لبديع صنعه ومنيع وضعه حينما ألف هذا الكتاب قد عز جانبه – يعين أن جانب هذا الكتاب
أصبح عزيزاً – فكثر جمانبه -أي كثر الذين تركوا هذا الكتاب وأمهلوه بسبب صعوبة العصور على احلديث فيه .
وعالء ال دين الفارسي ه ذا مول ود يف س نة 675هـ ،ومت وىف يف س نة ، 739وقد أحسن إحس اناً ب ديعاً حينما رتب ه ذا
الكتاب وجعله على األبواب املعهودة ؛ "األبواب الفقهية :كتاب الطهارة ،الصالة ،الزكاة ،احلج إىل آخر أبواب الفقه " .
مث إنه حينما ألف هذا الكتاب هبذه الصورة احتفظ بعناوين ابن حبان ،وهي عناوين مهمة جداً ألن فيها استنباطات فقهية
وتقعي دات أص ولية مهمة ،فأبقاها يف مكاهنا ،ما اختلف منها ش يء ،بل حىت تعليق ات ابن حب ان على األح اديث جند أنه يوردها
بتمامها من غري نقصان .
وليس ه ذا فقط ،بل ال ذي يريد أن يرجع الكت اب إىل أص له إىل ت رتيب ابن حب ان – فإنه ميكنه ذلك ؛ ألن عالء ال دين
الفارسي جعل بعد كل ح ديث ال رقم ال ذي جعل ابن حب ان ذلك احلديث حتته – رقم الن وع ،ورقم القسم ؛ ف إذا ك ان احلديث مثالً
عند ابن حبان يف قسم األوامر يف النوع اخلمسني ،فنجد عالء الدين الفارسي يضع " ، "50 ، 1أي القسم األول والنوع اخلمسني
من ذلك القسم ،وبإمكانك لو أرجعت هذه األحاديث إىل نفس األرقام أن تعيد الكتاب إىل أصله الذي هو برتتيب ابن حبان نفسه
.
لكن من الذي يريد أن يعود إىل مشقة بعد أن أنقذه اهلل منها ؟ال أحد ،ولذلك ال جند أن أحداً حاول أن يُعيد الكتاب إىل
ترتيبه األصلي ،والرتتيب األصلي ال يوجد منه نسخة كاملة يف هذا الزمن ،وإمنا توجد منه قطعة يسرية جداً .
وه ذا الكت اب هو ال ذي طُبع بتحقيق الش يخ ش عيب األرن اؤوط ،وهي الطباعة الكاملة ،مع العلم أنه طبع غري ذلك من
الطبع ات ،فالش يخ أمحد ش اكر – رمحه اهلل – اول أن يق وم بطباعة ه ذا الكت اب ف أخرج جمل داً منه ،ولكن أدركته املنية قبل أن يتم
هذا ا لكتاب ،جاء بعده عبد الرمحن عثمان فأضاف هلذا اجمللد جملدين آخرين فأصبحت ثالثة جملدات خرجت من صحيح ابن حبان
73
اهلل – يوافق ابن حبان على شروطه اليت ،ولكن البون شاسع بني منهج عبد الرمحن عثمان وبني منهج الشيخ أمحد شاكر – رمحه
اشرتطها يف احلديث الصحيح .
كذلك أيضاً قام " حسني أسد " باملشاركة مع " شعيب األرناؤوط " فأصدراً بعض اجمللدات – جملد أو جملدين ، -ولكن
توقف العمل وواصل " شعيب األرناؤوط" العمل فأخرج الكتاب إخراج اً كامالً ،واحلقيقة – واحلق يقال – أنه إخراج بديع جداً ،
من حيث ض بط النص ،ومن حيث التخ ريج واألحك ام على األح اديث ،يعترب خترجياً ب ديعاً إىل حد كبري ،وإن ك انت هن اك بعض
االجته ادات اليت قد خيالف فيها ش عيب األرن اؤوط ،مثل األحك ام على بعض األح اديث ،وه ذه مس ألة ال طائل حتتها فقد جيد من
يوافقه وقد جيد من خيالفه ،واملسألة كلها حمل اجتهاد .
لكن على كل حال هذا اإلخراج مع الفهارس اليت صاحبت الكتاب يُعترب خدمة جليلة قدمت هلذا الكتاب ،واحلمد هلل أوالً
وآخراً .
تعليقاته املفيدة على بعض األحاديث ،ومثال ذلك :
مث إن ابن حب ان – رمحه اهلل – يتبع األح اديث بكالم ب ديع ج داً يف كثري من األحي ان ،حيث إنه يوضح بعض املع اين اليت
حيت اج إليها يف فقه احلديث ،ولعل من األمثلة على ه ذا –بغض النظر عن موافقته على قوله أو ال – حماولته اجلمع بني ح ديثي بس رة
وطلق بن علي يف مس الذكر.
حديثي بسرة أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال " :من مس ذكره فليتوضأ"(. )88
وحديث طلق بن علي أنه سأل النيب صلى اهلل عليه وسلم مس الذكر فقال " :هل هو إال بضعة منك "(. )89
فمثل هذين احلديثني ظاهر مها التعارض ،وابن حبان ملا أخرج هذين احلديثني يف صحيحه حكم عليهما كليهما بالصحة ،
مث وفق بينهما بقوله :إن ح ديث بس رة يعترب ناس خاً حلديث طلق بن علي ،واستش هد على ذلك ب أن ق دوم طلق بن علي على النيب
صلى اهلل عليه وسلم كان يف أول هجرة النيب صلى اهلل عليه وسلم إىل املدينة ألنه شارك النيب صلى اهلل عليه وسلم يف بناء املسجد ،
وأن ح ديث بس رة بعد ذلك ألهنا إما ك انت يف احلبشة وأهنا ه اجرت بعد ذلك ،فح ديثها يعترب مت أخراً عن ح ديث طلق بن علي ،
واملتأخر ينسخ التقدم ،فبني أن العمل وفق حديث بُسرة ،وأن حديث طلق بن علي صحيح ولكنه منسوخ .
فهذه من تعقيباته على بعض األحاديث ،وهي تعقيبات جيدة وأمثلتها كثرية .
كما أنه – رمحه اهلل – حينما خيرج حديثاً يبني أحياناً أن البعض يتوهم أن هذا احلديث ال يُعترب حديثاً صحيحاً ألجل فالن
بن فالن ،مثالً :أخ رج ح ديثاً من طريق س هيل بن أيب ص احل( )90عن أبيه ،مث ذكر أن بعض الن اس ق ديطعن يف ه ذا احلديث ألجل
تفرد سهيل بن أيب صاحل به ،مث بني أن ُس هيالً مل يتفرد باحلديث فأخرجه من طريق أخرى ،فهو إذاًُ يعين جبمع طرق احلديث ويقطع
الدابر على من ميكن أن يُعل احلديث ،وهذا من براعته يف علم احلديث .
وصل احلديث واآلخر أرس له ،يق ول :فأنا أقبل رواية الواصل ،ورواية الرافع ،وال أعل الرواية األخ رى هبا ألهنما ثقت ان
" .وعنده أن الثقة خربة مقبول ،فهذه قاعدة يسري عليها.
قد خُي الف يف مثل هذه القاعدة من مثل الدار قطين وغريه حينما حيكمون لألحفظ يف هذا احلال إذا خالف من هو أحفظ منه
،ويعتربون الرواية املخالفة شاذة ،كما هو مقرر يف مصطلح احلديث .لكن ابن حبان يسر على هذا .
( )1أخرجه ابن حبان ( )112فما بعده ،وقد أخرجه أبو داود ( ، )181والترمذي ( )82فما بعده ،والنسائي ( 88
وتعليقاً .من السادسة ،روى له أصحاب الكتب الستة .تقريب . 2962 :
قال أبو حاتم .يُكتب حديثه ،ذكره ابن حبان في الثقات .بالجرح والتعديل ، )4/246( :الثقات . )6/417( :
74
لكن ابن حبان يستثىن فيما لو كان هناك عدد جم من الرواة رووا احلديث مرس الً ،وخالفهم را ٍو أو روايان فرويا احلديث
موصوالً ؛ فإنه يف هذا احلال ينظر نظرة أخرى .
مثال ذلك :
ميثل هلذا حبديث يرويه ن افع عن ابن عمر ،يق ول " :لو ج اء من أرسل احلديث فجعله عن ن افع عن النيب ص لى اهلل عليه
وس لم ب دون ذكر البن عمر ،يق ول :فأنا يف ه ذه احلال ال أحكم مباش رة ،ولكن أنظر هل هلذا احلديث أصل عن ابن عمر ؟ " ؛
فيخ رج احلديث من ط رق أخ رى ،فلنف رض أنه رواه عن ابن عمر غري ن افع ،فنجد ابن حب ان حيكم هلذه الرواية بالص حة ،وأيض اً
رواية من جعل احلديث من رواية ن افع عن ابن عمر وال يلتفت للمخالفة – يق ول " :ألن احلديث ثبت أن له أص الً عن ابن عمر " ،
وهكذا هو يف منهج ابن حبان .
وهذا املنهج الذي يسري عليه هو قاعدة قعدها لنفسه وسار مبوجبها ،فال ينبغي يف هذا احلال أن يتكلم يف ابن حبان من هذا
اجلانب ألن ه ذا اجته اد منه ،وه ذا االجته اد أيض اً يسري عليه كثري من العلم اء ،وإن كنا قد خنالف يف بعض األحي ان ،ون رى أن
هناك بعض األحاديث املعلولة عن ابن حبان هلذا املوجب -ألجل املخالفة وما إىل ذلك
ولكن كما قلت – وكما قال العلماء السابقون : -إن ابن حبان اشرتط لنفسه شرطاً وقد ويف بشرطه وما حاد عنه .
تصحيحه لبعض األحاديث املنكرة ومثال ذلك :
هن اك أيض اً بعض األح اديث اليت فيها أحيان اً نك ارة ،ولكن ابن حب ان ألجل املنهج ال ذي يسري عليه فإنه خيرج بعض ه ذه
األحاديث ،ولذلك قد حيكم عليها بالضعف أو بالنكارة .
مثال ذلك :
قصة " :ه اروت وم اروت "( ، )91والقصة تكلم عليها كثري من العلم اء ،واس تنكرها كثري من العلم اء مثل اإلم ام أمحد ،
وأيب حامت الرازي ،وغريمها ،وحقيقة ليس هلا إسناد صحيح يثبت ،اهلل إال على منهج ابن حبان حينما يوثق من ال يعرف بعدالة وال
جرح ،وحينما يرى أيض اً أن مثل هذه املخالفة من هذا الراوي هبذه الصورة ال تُعل احلديث ،لذلك أخرج هذه القصة وحكم عليه
بالص حة حينما أخرجها يف "ص حيحه" ،ولكن احلديث منكر وال يصح رفعه إىل النيب ص لى اهلل عليه وس لم ،وإمنا هو من احلكاي ات
اإلسرائيلية .
وقد تكلمت عن ه ذا احلديث يف " س نن س عيد بن منص ور "( ، )92فمن ش اء أن يراجعه فلرياجعه يف تفسري ق ول اهلل – جال
وعال { : -ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حىت يقوال إمنا حنن فتنة فال تكفر}(. )93
( )1أخرجه ابن حبان ( ، )6186وقد أخرجه أيضاً أحمد ( ، )2/134والبزار ( ، )2938والبيهقي (. )5-10/4 91
( )1أنظر " :سنن سعيد بن منصور " للدكتور سعد بن عبد اهلل آل حميد (. )594-1/575 92
75
مستدرك أيب عبد اهلل احلاكم
نبذة عن احلاكم :
هو أبو عبد اهلل ،وأمسه حممد بن عبد اهلل بن محدوية بن نعيم املعروف بابن البيع الضيب الشافعي النيسابوري ،واشتهر بأيب
عبد اهلل احلاكم .
ولقب باحلاكم إما لتوليه القض اء ف رتة من ال زمن ،وإما أهنا رتبة له يف العلم باحلديث ،وه ذه الرتبة هي الثانية اليت تلي أمري
املؤمنني يف احلديث .
ولقب أيض اً باحلافظ لق وة حفظه – رمحه اهلل ، -ول ذلك إذا ق ال ال بيهقي " :ح دثنا أبو عبد اهلل احلاف ظ" فإنه يعين ش يخه
احلاكم .
مولده وطلبه للعلم :
ولد – رمحه اهلل – س نة 321هـ بنيس ابور ،وطلب العلم من الص غر وك ان أول مساعه –رمحه اهلل -يف س نة 330هـ ،أي
وعمره 9سنوات ، -واستملى على يد شيخه ابن حبان سنة 334هـ ،وقد ابتدأ بالرحلة وهو صغري السن ،فكان عمره حينذاك –
كما يق ول ال ذهيب -عش رين س نة ،فرحل إىل الع راق وحج وج ال يف بالد خراس ان وما وراء النهر طلب اً علو اإلس ناد .ومسع من حنو
ألفي شيخ بنيسابور وغريها .
ومن أهم هؤالء الشيوخ :
()94
( ، )95فأنكر عليه أصحاب احلديث ذلك،ومل يلتفتوا إيل قوله وال صوبوه يف فعله".
ونقل الذهيب عن ابن طاهر املقدسي ،أنه سأل أبا إمساعيل اهلوري،عن أيب عبد اهلل احلاكم،فقال ":أنه ثق ةٌ يف احلديث رافضي
خبيث".
ووجه احلق يف هذه املسألة:
هو ما رد به ال ذهيب على املقولة الس ابقة حيث ق ال":كال،ليس هو رافض ياً بل يتش يع"،وق ال أيض اً":وأما احنرافه عن خص وم علي
فظاهر،وأما الشيخان-أبوبكر وعمر-فمعظم هلما بكل حال ،فهو شيعي ال رافضي " .
ويقول ابن السبكي " :فغاية ما قيل فيه اإلفراط يف والء على –رضي اهلل عنه ، -ومقام احلاكم عندنا أجل من ذلك".
ويقول ابن السبكي أيضاً ":إن الرجل كان عنده ميل إيل علي-رضي اهلل عنه،-يزيد على امليل الذي يطلب شرعاً " .
وق ال أيض اًَ "وال أق ول :إنه ينتهي إىل أن يضع من أيب بكر وعمر –رضي اهلل عنهم ا ،-ف إين رأيته يف كتابه "األربعني" عقد
باب اً لتفص يل أيب بكر وعمر وعثم ان رضي اهلل عنهم ،واختصهم من بني الص حابة .وقدم يف املستدرك ذكر عثم ان على علي رضي
اهلل عنهما" .
أهم األسباب اليت دعت بعض العلماء إىل وصف احلاكم بالتشيع أو الرفض :
من أهم األسباب :
-1ع دم ذك ره لبعض خص وم علي من الص حابة رض وان اهلل عليهم أمجعني يف كت اب "معرفة من اقب الص حابة" من كت اب
املستدرك ،كمعاوية وعمرو بن العاص –رضي اهلل عنهما ،-بل إنه أو ذي بسبب ذلك ،فقيل له – من باب املشورة : -لو أمليت
يف فضائل هذا الرجل-أي معاوية -؟ فقال " :ال يطاوعين قليب" .
76
-2إخراجه لبعض األح اديث اليت فيها نص رة للش يعة وتس اهله يف تص حيحها مثل " :ح ديث الط ري"( ، )96وح ديث " :أنا
مدينة العلم وعلى باهبا"( ، )97وحديث " :النظر إىل علي عبادة"( ، )98وغري ذلك من األحاديث .
فهذان السببان مها من أهم األسباب اليت دعت إىل وصف احلاكم بالتشيع أو الرفض.
وميكن مناقشة هذه األسباب على الوجه اآليت :
-1أما موقفه من خص وم علي من الص حابة – رضي اهلل عنهم – فليس على إطالقه ،وإمنا ه ذا خمتص مبعاوية – رضي اهلل
عنه ، -وإال فإنه قد أفرد لطلحة والزبري وعائشة –رضي اهلل عنهم ، -ومل ينتقصهم حبرف .
فدل هذا على أن الرجل متبع لألثر ،ولعله مل حيضره شيء من األحاديث اليت يرى أهنا تصح ي فضل معاوية – رضي اهلل
عنه ، -وإال فإن طلحة والزبري ممن قاتال علياً –رضي اهلل عنه – كما قاتله معاوية .
وه ذا مثل ما حصل للنس ائي ،ف إن له موقف اً ش بيهاً مبوقف أيب عبد اهلل احلاكم ،فحينما س ئل :ملاذا ال خيرج يف فض ائل
معاوية كما خرج يف فضائل علي وسائر السحابة .قال :وأي شيء أخرج يف فضائل معاوية حديث " :ال أشبع اهلل بطنه" ؟.
كأنه قال :مل يصح عندي من احلديث إال هذا احلديث ،وهو ليس يف فضائله ومناقبه ،وإن كان بعض العلماء قد تكلف يف
جعل هذا احلديث يعد من مناقب معاوية-رضي اهلل عنه.-
ولو أخ ذنا من موقفه ملعاوية – رضي اهلل عنه – حكم اً ملا أمكن أن يتج اوز ووص فه بالتش يع القليل ال ذي ك ان عند طائفة
من أهل الس نة كما هو احلال عند متق دمي أهل الكوفة ،بل هو أحسن ح االً من كثري ممن نُسب إىل التش يع القليل من أهل الس نة ،
ف إن أولئك ك انوا يق دمون علي اً على عثم ان – رضي اهلل عنهما ، -وأما احلاكم فإنه ق دم عثم ان على علي ،ف ذكر أوالً فض ائل أيب
بكر مث عمر مث عثمان مث علي – رضوان اهلل عليهم أمجعني . -
-2وأما بالنس بة لألح اديث اليت تس اهل يف تص حيحها يف فض ائل علي –رضي اهلل عن ه -كحديث الطري وغ ريه ؛ فال ميكن
أن يوصف احلاكم من خالهلا بأنه رافضي .
وميكن النظر يف هذه األحاديث من جهتني ،ومها :
أ -كما أنه تس اهل يف تص حيح ه ذه األح اديث ،فإنه يف املقابل تس اهل يف تص حيح أح اديث موض وعة يف فضل أيب بكر
وعمر وعثمان – رضوان اهلل عليهم ،-فهذه مثلها.
بل هو متساهل يف تصحيح بعض األحاديث املوضوعة يف سائر الكتاب كما سيأيت معنا إن شاء اهلل .
ب -بالنس بة هلذه األح اديث اليت أش تهر عن احلاكم تص حيحها كح ديث الطري ،وح ديث " :أنا مدينة العلم وعلى باهبا" ؛
ف إن احلاكم جمتهد ،وهذا االجته اد مع املنهج املتس اهل ّأدى إىل تص حيح مثل هذه األح اديث اليت ص ححها أئمة آخ رون ،وبعضهم
توقف فيها وأصابته احلرية والدهشة من كثرة طرقها .
الكالم على بعض األحاديث املنتقدة على احلاكم :
ونأخذ مثاالً على ذلك :
حديث الطري( : )99الذي هو من أب رز األح اديث اليت تُكلم يف احلاكم بس ببها ؛ فهذا احلديث خالص ته أن أنس بن مالك –
رضي اهلل عنه – تذكر أن النيب صلى اهلل عليه وسلم أهدي له طري مشوي ،فقال عليه الصالة والسالم " :اللهم أئتين بأحب خلقك
( )1قد تكلم عليه الشيخ سعد آل حميد – حفظه gاهلل – في مختصر المستدرك برقم ( )563كما سيأتي ،وقد أطال 96
( )1راجع تاريخ ابن عساكر ،ومختصر المستدرك (. )573 98
( )1انتظر " :مستدرك الحاكم " ( ، )131 ، 2/130و "سير أعالم النبالء " (. )17/168 99
77
إليك بأكل معي من ه ذا الطري " ،ق ال أنس " :فقت :اللهم اجعله ام رأ من األنص ار – ألنه أنص اري – ق ال :ف إذا بالب اب يُط رق
ففتحت الب اب ،ف إذا هو علي بن أيب ط الب –رضي اهلل عن ه ، -فقلت له :النيب على حاجة فانص رف ،ف دعا النيب ص لى اهلل عليه
وسلم مرة ثانية فقال " :اللهم أئتين بأحب خلقك إليك بأكل معي من هذا الطري " ،فقال أنس نفس مقولته .فطرق الباب فإذا هو
علي –رضي اهلل عنه ، -فقال له أنس مثلما قال سابقاً .
ويف املرة الثالثة أو الرابعة دفع علي يف ص در أنس ،مث دخل فق ال له النيب ص لى اهلل عليه وسم " ما ال ذي أبطأ بك يا علي ؟
" ،فق ال :يا رسول اهلل ،هذه هي املرة الثالثة أو الرابعة اليت ي ردين فيها أنس .فق ال ل ه-عليه الس الم ،فق ال أنس :يا رس ول اهلل ،
دعوت بدعائك الذي دعوت به فرجوت أن يكون امرأ من األنصار .فقال له النيب الكرمي – عليه السالم " : -إن الرجل قد حيب
قومه " أي فعذره .
فقوله صلى اهلل عليه سلم " :اللهم ائتين بأحب خلقك إليك" ظاهره أنه أحب من سائل األنبياء ،بل من النيب صلى اهلل عليه وسلم ،
فضالً عن كونه أحب من أيب بكر وعمر وعثمان ومن سائر صاحبة النيب – رضي اهلل عنهم أمجعني . -
فهذا احلديث هو من األح اديث اليت يتقوى هبا الش يعة وأهل ال رفض ،ولكن الذي حري بعض األئمة أن هذا احلديث ط رق
كثري جداً عن أنس – رضي اهلل عنه ، -وقد صححه ابن جرير الطربي – رمحه اهلل – وله فيه مؤلف .
ومن احت ار يف ه ذا احلديث :ال ذهيب – رمحه اهلل – حيث ق ال " :وأما ح ديث الطري فله ط رق كث رية ج داً قد أفردهتا يف
مصنف ،وجمموعها يوجب أن يكون احلديث له أصل .وأما حديث " :من كنت مواله فعلى مواله " فله طرق جيدة وقد أفرد ذلك
أيضاً مبصنف" اهـ.
ويق ول ابن الس بكي " :وأما احلكم على ح ديث الطري بالوضع فغري جيد ،ورأيت من ص احبنا احلافظ ص الح ال دين ابن
كيكل دي العالئي عليه كالم اً ق ال فيه :إن احلق يف احلديث أنه ينتهي إىل درجة احلسن أو يك ون ض عيفاً حيتمل ض عفه ،فأما كونه
ينتهي إىل درجة املوضوع من مجيع طرقه فال " اهـ .
والسبب يف توقف الذهيب – الذي سبقت اإلشارة إليه ، -وتصحيح أو حتسني بعض العلماء هلذا احلديث أن له عن أنس –
رضي اهلل عنه – أكثر من تسعني طريقاً حريت العلماء وأدهشتهم .
ومع ه ذا فبعض املتمك نني من علم احلديث كاحلافظ ابن كثري – رمحه اهلل – ومل ت ؤثر فيه ك ثرة الط رق ولو بلغت امللي ون ،
فإنه قد تكلم عن هذا احلديث يف البداية والنهاية( ، )100وأثبت أنه منكر وانتقد طرق احلديث كلها .
ق ال – رمحه اهلل " : -ق ال ش يخنا أبو عبد اهلل ال ذهيب يف ج زء مجعه يف ه ذا احلديث ،بع دما أورد طرق اً متع ددة حنواً مما
ذكرناه .قال :ويروى هذا احلديث من وجوه باطلة عن حجاج بن يوسف وأيب عصام خالد بن عبيد" .وذكر خلق اً ممن رواه ،مث
قال بعد أن ذكر اجلميع " :اجلميع بضع وتسعون نفساً أقرهبا غرائب ضعيفة ،وأردؤها طرق خمتلفة مفتعلة ،وغالبها طرق واهية".
مث ذكر احلافظ ابن كثري مجلة من هذه الطرق يف املوضع السابق وقال " :فهذه طرق متعددة عن أنس بن مالك ،وكل منها
فيه ضعف ومقال" .
أما بالنس بة لكالم ال ذهيب يف تعقبه على احلاكم يف املس تدرك فهو جيد ،ومن مجلة ما ذك ره – ألن احلاكم أورده يف ع دة
أم اكن بع دة ط رق – قوله " :قلت :فيه ابن عي اض ال أعرفه –أي يف نق ده للح ديث ، -ولقد كنت زمان اً ط ويالً أظن أن ح ديث
الطري مل جيسر احلاكم أن يودعه مستدركه ،فلما علقت هذا الكتاب رأيت اهلول من املوضوعات اليت فيه ،فإذا حديث الطري بالنسبة
إليها مساء " .أي ال شيء بالنسبة ملا ذكره من سائر املوضوعات .
78
لكن تغري اجته اد ال ذهيب يف ح ديث الطري ،فهو يف ت ذكرة احلف اظ ذكر أنه اطلع على ح ديث الطري ال ذي انتقد احلاكم من
أجله ،فقال " :وجدت له بضعاً وتسعني طريقاً" ،مث قال بعد ذلك " :ومع ذلك فال أنا مبثبته وال مبعتقد بطالنه" ،أي انه متوقف فيه
.
فإذا كان األمر هكذا بالنسبة للذهيب فإننا جند هناك طائفة من العلماء – وهم كثر -؛ كان موقفهم من هذا احلديث موقف
الذي تلق اه بالقبول ،ومل جيد يف متنه نك ارة مما جيعله يع زف على احلكم على هذا احلديث بالص حة أو باحلسن ،ومن ه ؤالء العلم اء
ابن جرير الطربي ،وابن جرير له جملد يف مجع طرق وألفاظ هذا احلديث .
وليس هذا هو موضع التفصيل يف بيان علل هذا احلديث ،وإمنا املقصود اإلشارة إىل أنه مع كونه ال يصح ،إال أنه ينبغي أن
يُعذر احلاكم يف تصحيحه كما عذرنا ابن جرير الطربي والعالئي والذهيب وغريهم من العلماء .
-2وأما ح ديث "أنا الش جرة ،وفاطمة فرعها ،وعلى لقاحها ،واحلسن واحلسني مثرهتا ،وش يعتنا ورقها ،وأصل الش جرة
يف جنة عندن ،وسائر ذلك يف سائر اجلنة"(. )101
()102
هذا احلديث أخرجه احلاكم
من طريق شيخه حممد بن حيويه اهلمذاين ( ،)103عن الدبري ،عن عبد الرزاق صاحب املصنف،عن أبيه،عن ميناء موىل عبد الرمحن بن
عوف .
قال احلاكم بعدما أخرج هذا احلديث " :هذا منت شاذ،وأن كان كذلك فأن إسحاق الدبري صدوق،وعبد الرزاق وأبوه وجده ثقات،
وميناء قد أذرك النيب صلي اهلل عليه وسلم ومسع منه".
واحلقيقة أن هذا احلديث ملا أخرجه احلاكم أغاط الذهيب يف تلخيصه،فعقب عليه الذهيب بالكالم األيت:
"قلت :ما ق ال ه ذا بشر س وى احلاكم – أى ال زعم ب أن مين اء ه ذا من ص احبة النيب ص لي اهلل عليه وس لم-وأمنا هو ت ابعي
ساقط.
قال أبو حامت :كذب يكذب .وقال ابن معني :ليس بثقة.ولكن أظن أن هذا وضع على الربي -يقصد إسحاق بن إبراهيم
الربي راوي مصنف عبد الرزاق وراي هذا احلديث أيضاً-؛فإن ابن حيويه متهم بالكذب".
مث ق ال بعد ذلك عب ارة مل يكن ينبغي له أن يطلقها يف حق احلاكم –ق ال ":أفما اس حييت أيها املؤلف أن ت ورد ه ذه
األخلوقات من أقوال الطرقية فيما يستدرك علي الشيخني" ا هـ.
أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" ، )2/234( gوقال :هذا حديث موضوع ، gوقد اتهموا بوضعه" gمينا" وكان غالباً
101
في التشيع .قال يحي :ليس بشيء ،وقال الدار قطني :متروك .وقال ابن حبان :ال تحل الرواية عنه إال اعتباراً ،وال
تحل الرواية عن الحسن بن علي األزدي ،فإنه يضع الحديث على الثقات.
وأقره على ذلك الشوكاني في "الفوائد المجموعة gفي األحاديث الموضوعة"ص()330رقم()1125وقال بعده :
وقد أخرج هذا الحديث :الحاكم في "المستدرك"وقال :متن شاذ ،وتعقب:بأن في إسناده من يكذب وأن هذا الحديث
موضوع"اهـ. .
( )1النحوي،نزل همذان ،قال الخطيب كان غير موثق عندهم . 103
79
فه ذا من األح اديث اليت ميكن أن يؤخذ علي احلاكم – رمحه اهلل – تص حيحها ،وال جند له ع ذراً ما دام أن ش يخه ك ذاباً
والراوي األعلى هلذا احلديث كذاباً.
-3وأما ح ديث ":من كنت م واله فعلي م واله " فهو ح ديث ص حيح ،بل مت واتر ،وال جيوز أن ينتقد احلاكم على ه ذا
احلديث ،بل ال ذي ينبغي أن ينتقد هو املنتق د،ومن أراد مطالعته فل رياجع ختريج الش يخ ناصر ال دين األلب اين -حفظه اهلل -هلذا
(.)104
احلديث
فعلي-رضي اهلل عن ه-ينبغي أن يواليه كل م ؤمن ،كماوه ذا احلديث ليس فيه أي مستمسك علي احلاكم للش يعة والرافض ة؛ ٌ
ينبغي أن يوايل غريه من الصاحبة-رضي اهلل عنهم.-
ولو ُع رف سبب ورود احلديث لزال اإلشكال الذي من أجله خص النيب صلي اهلل عليه وسلم علي اً –رضي اهلل عنه -بقوله
هذا .وخالصة ذلك :
أنه قدم على الرسول صلى اهلل عليه وسلم من اليمن ،والنيب صلى اهلل عليه وسلم يف احلج ،فاستأذن من أصحابه أن يتعجل
إىل النيب ص لى اهلل عليه وس لم يف مكة ،وقد حصل يف الطريق بني اليمن ومكة بعض األم ور اليت جعلت من مك ان مع علي يتكلم ون
فيه .فبعد أن انصرف النيب صلى اهلل عليه وسلم من مكة أحس بالكالم يدور على علي ؛ فأراد صلى اهلل عليه وسلم أن يسكت من
يثري مثل ذلك ؛ فقال هذه املقولة .
ف إن النيب ص لى اهلل عليه وس لم قاهلا لس بب ،وإال فإنه ص لى اهلل عليه وس لم ذكر أن هن اك من الص حابة من هم أولي اء له ،
مثل ما ورد عنه صلى اهلل عليه وسلم من فضل للمهاجرين واألنصار ،بل إنه صلى اهلل عليه وسلم قال عن األنصار :إنه "ال حيبهم إال
مؤمن وال يبغضهم إال منافق"(. )105
وه ذا الفضل أيض اً ورد لعلي – رضي اهلل عنه – كما يف ص حيح مس لم ،-يف قوله –رضي اهلل عنه " :وال ذي فلق احلبة
وبرأ النسمة ،إنه لعهد النيب األمي صلى اهلل عليه وسلم إىل :أن ال حيبين إال مؤمن ،وال يبغضين إال منافق "(. )106
والفضل ال وارد لعلي وارد أيض اً لص حابة آخ رين ،بل إن فض ائل الش يخني أيب بكر وعمر أك ثر بكثري من فض ائل علي –
رضي اهلل عنه . -
تساهل احلاكم يف التصحيح وأوهامه يف املستدرك وما أجيب به عن ذلك :
إن من يُلقي نظ رة على مس تدرك أيب عبد اهلل احلاكم يع رف تس اهله ال ذي جعله يص حح ع دداً من األح اديث املوض وعة
والض عيفة ،وه ذا ما جعل نكري العلم اء يش تد عليه ،باإلض افة إىل ما أخ ذوه عليه من ذك ره جلماعة من ال رواة يف كتابه "الض عفاء" ،
وجزمه برتك الرواية عنهم وترك االحتجاج هبم ،مث خُي رج بعد ذلك أحاديث بعضهم يف املستدرك ويصححها ؛ ولذلك أنتقد العلماء
تصحيحه .
يقول اخلطيب البغدادي – رمحه اهلل – " :أنكر الناس على احلاكم أحاديث زعم أهنا على شرط الشيخني" .
ويقول ابن الصاحل " :وهو واسع اخلطو يف شرط الصحيح ،متساهل يف القضاء الفن من شيخه احلاكم " .
( )1اتنظر " :مستدرك الحاكم " ( ، )131 ، 2/130و "سير أعالم النبالء " (. )17/168 104
( )1رواه البخ ggاري ( )7/87في فض ggائل أص ggحاب الن ggبي ص ggلى اهلل عليه وس ggلم ،ب ggاب حب األنص ggار ،ومس ggلم ( )75في 105
( )3896في المنggاقب اإليمان ،بggاب الggدليل على أن حب األنصggار وعلي رضي اهلل عنهم من اإليمggان ،والترمggذي
،باب مناقب األنصار وقريش ،وباقي الحديث ( :فمن أحبهم أحبه اهلل ،ومن أبغضهم أبغضه اهلل) .
( )1رواه مسلم ( )78في اإليمان ،باب الدليل على أن حب األنصار وعلي رضي اهلل عنهم من اإليمان وعالمته ، 106
80
ويقول الذهيب عنه " :إنه إما صدوق ،ولكنه يصحح يف مستدركه أحاديث ساقطة ،ويكثر من ذلك" .
ومن هن اك ج اء االس تدراك والتعقب على تص حيحه لبعض األح اديث يف املس تدرك ،كما فعل ال ذهيب يف تلخيصه ،وابن
امللقن يف خمتصر التلخيص .
وقد اعتذر عن احلاكم بعض األئمة :
فقال السيوطي " :إن احلاكم مظلوم يف كثري مما نسب إليه من التساهل" .
وقال السخاوي " :بل يُقال :إن السبب يف إدخال احلاكم املوضوعات والضعيفات يف مستدركه أنه صنفه يف أواخر عمره
،وقد حص لت له غفلة وتغري .أو أنه مل يتيسر له حتري ره وتنقيحه ،وي دل على ذلك أن تس اهله يف ق در اخلمس األول منه قليل ج داً
بالنسبة لباقيه" .
ويؤيد ه ذا الق ول ال ذي ذك ره الس خاوي أن اجمللد األول من املس تدرك يقل فيه تعقب الذهيب عن اجملل دات األخ رى بش كل
كبري وواضح .
اعتذار احلافظ على احلاكم :
وهذا االعتذار الذي ذكره السخاوي أخذه عن شيخه احلافظ ابن حجر –رمحهما اهلل ،-فإنه قال يف "النكت" :
" قليل يف االعتذار عنه :إنه عند تصنيفه للمستدرك كان يف أواخر عمره ،وذكر بعضهم أنه حصل له تغري وغفلة يف آخر
عمره ،ويدل على ذلك أنه ذكر مجاعة يف كتاب الضعفاء له وقطع برتك الرواية عنهم ومنع من االحتجاج هبم ،مث أخرج أحاديث
بعضهم يف مستدركه وصححها ،ومن ذلك :أنه أخرج حديثاً لعبد الرمحن بن زيد بن أسلم ،وكان قد ذكره يف الضعفاء ،فقال :
"إنه روى عن أبيه أحاديث موضوعة ال ختفى على من تأملها من أهل الصنعة أن احلمل فيها عليه " اهـ.
ولكن الس بب األوجه هو ما ذك ره احلافظ أيض اً ،وهو أن احلاكم – رمحه اهلل -ألف الكت اب يف البداية وجعله مس وداً .
وع ادة أي إنس ان يؤلف التس امح يف أي ش يء ي رد عليه ،مث بعد ذلك يرجع فينقح وي بيض تلك املس ودة ،والكت اب بعد التنقيح هو
الذي يؤاخذ عليه املؤلف.
فقد ذكر ابن َحجر أن املس تدرك جمزء إىل س تة أج زاء ، ،وقد جند يف ح وايل النصف الث اين من هناية النصف األول وبداية
النصف الثاين من اجمللد الثاين القول بأنه إىل هنا انتهى ما أماله علينا أبو عبد اهلل احلاكم .
واملستدرك اآلن مطبوع يف أربعة جملدات ،واجمللد األول هو الذي ينطبق عليه كالم احلافظ ابن حجر ؛ أي هو الذي أماله
احلاكم ،وأما اجمللدات الثالثة الباقية فال .
يقول ابن حجر :إن هذه املوضوعات من األحاديث اليت انتقدت على احلاكم إمنا تأيت يف القدر الذي مل ميله .
مث يستدرك ابن حجر على هذا بصنيع البيهقي ،ويقول :إن البيهقي إذا روى عن شيخه احلاكم حديثاً من األحاديث اليت
يف الربع األول يف القدر الذي أماله يصرح بالتحديث ،فيقول :حدثنا أبو عبد اهلل احلافظ ،لكن إذا روى حديثاً من األجزاء الباقية
– الثالثة األرباع الباقية – ال يصرح بالتحديث ،وإمنا أخذ ذلك بطريق اإلجازة .
يق ول :إن احلاكم – رمحه اهلل – أدركته املنية ومل ينقح إال مق دار الربع فقط ،فك ان –رمحه اهلل – كلما نقح أح اديث
وحذف منها ما أراد أن حيذفه جاء جملالس التحديث ف أملى هذه األح اديث عليهم ،وملا أملى الربع األول أدركته املنية فتويف ومل ميل
األرباع الثالثة الباقية .
وحقيقة أنا اعترب هذا الكالم يف حد ذاته صحيحاً ؛ ألنين وجدت – فعالً – أن البيهقي ال يصرح بالتحديث إال فيما أخذه
عن احلاكم يف الربع األول فقط .
81
وكذلك أيض اً واقع الكتاب يدلنا على هذا ،فإن عدد األحاديث اليت انتقدها الذهيب يف الربع األول حوايل مائتني حديثاً
فقط ،وأما يف األرباع الثالثة الباقية فإهنا تقرب من األلف تقريباً ،فهذا العدد األخري يعترب كثرياً إذا قورن بالعدد الذي يف الربع األول
.
على كل ح ال ما دام أن احلاكم – رمحه اهلل – ع رف عنه أنه أملى الربع األول ،ومل ميل األرب اع الثالثة الباقية فإهنا تق رب
من األلف تقريباً ،فهذا العدد األخري يعترب كثرياً إذا قورن بالعدد الذي يف الربع األول .
على كل ح ال ما دام أن احلاكم – رمحه اهلل – ع رف عنه أنه أملى الربع األول ،ومل ميل األرب اع الثالثة ،وأن األح اديث
املنتقدة يف الربع األول ال تصل إىل درجة الوضع ،وإمنا أحاديث مما ميكن أن جيتهد فيه اإلنسان ،ويعذر – على األقل – يف اجتهاده
.فهذا هو الذي ميكن أن يعتذر عن احلاكم به ،وهذا ما أراه أجود هذه االعتذارات .
ه ذا باإلض افة إىل أننا إذا أخ ذنا يف أذهاننا أن احلاكم – رمحه اهلل – مع روف من منهجه التس اهل ،مثل ما ن رى عند ابن
خزمية وابن حبان ،فهما ليسا كالبخاري ومسلم يف تنقيح األحاديث واحلرص على انتقاء احلديث الذي ال ينازع فيه من صحح ذلك
احلديث .
وبرغم أن البخاري ومسلماً – رمحهما اهلل – احرتزا واحتاطا هذا االحتياط ،جند أن هناك من ينتقدمها ،فما بالنا مبن كان
أكثر تساهالً منهما كابن خزمية وابن حبان ؟! بل ما بالنا مبن هو أشد تساهالً منهما كاحلاكم ؟! .
ال شك أنه إذا أضيف املنهج املتساهل مع كرب السن الذي ذكر – إن صح ، -مع مسألة تنقيح الكتاب – ميكن أن يعتذر
عن احلاكم هبذا االعتذار .
ومع ذلك ال ندعي له العصمة ،بل نقول :إنه أخطأ حقيقة حينما صحح بعض األحاديث اليت الضعف فيها ظاهر .بل أن
تعقباته بعض األح اديث أحيان اً ال حتتمل ،فإنه رمبا ذكر رواي اً من ال رواة يف بعض كتبه األخ رى يف الرج ال مث خيرج له بعض
األحاديث ،وهذا مثل مات حدث يف كتابه "تاريخ نيسابور" فإنه قال فيه عن سهل بن عمار التعكي " :إنه كذاب يضع احلديث" ،
مث بعد ذلك أخرج له بعض األحاديث يف املستدرك ،وحكم عليها بالصحة على شرط الشيخني .
وقد لزم من تساهله يف التصحيح تساهله يف توثيق الرواة ،فإن حكمه بصحة إسناد احلديث مع وجود بعض الرواة الضعفاء
يف ذلك اإلسناد يفيد تساهله يف توثيق بعضهم .
وقد صرح احلاكم نفسه يف بعض كتب املستدرك بتساهله يف بعض ما يرويه :
فمن ذلك :أنه أخ رج يف اجمللد الث اين ص 13س تة أح اديث يف كت اب ال بيوع ،مث ق ال " :وه ذه األح اديث الس تة طلبتها
وخرجتها يف موضعها من هذا الكتاب إحتساباً ملا فيه الناس من الضيق ،واهلل يكشفها ،وإن مل تكن من شرط هذا الكتاب" .
وأيضاً فإن هناك بعض الرواة الذين سرح احلاكم بتوثيقهم عند حكمه على بعض األحاديث ،وبعد البحث جند أن الراجح
من حاهلم خالف ذلك .
فه ذه املس ألة وما تق دم من ذك ره جلماعة من الض عفاء يف كتابه " الض عفاء" ،وتص حيحه ألح اديثهم يف املس تدرك – ميكن
االعتذار فيهما عن احلاكم بأنه صنف كتابه يف آخر عمره بعد أن ضعفت قواه وأصابه شيء من النسيان والغفلة ،وقد يكون يرى من
نفسه أنه بلغ درجة االجتهاد يف احلكم على بعض الرجال خبالف ما حكم به غريه من األئمة ؛ بسبب بلوغه مرتبة االجتهاد.
التعريف مبستدرك احلاكم على الصحيحني :
-1سبب تأليفه للمستدرك :
ذكر احلاكم يف مقدمة املستدرك السبب الدافع له على تأليفه هلذا الكتاب ،وميكن أن جنمل ذلك فيما يلي :
أ -أن البخ اري ومس لماً ص نفا يف الص حيح كت ابني مه ذبني ،ولكنهما مل حيكمها وال أحد منهما بأنه مل يصح من احلديث
غري ما أخرجاه .
82
أي كأنه يق ول :أنا ميكن أن أؤلف كتاب اً يف الص حيح زائ داً على ما بالص حيحني ؛ ألن البخ اري ومس لماً مل ي دعيا حصر
احلديث الصحيح فيما أخرجاه .
ب -أنه ظهر يف عصره مجاعة من املبتدعة يشمتون برواة اآلثار ويدعون أن مجيع ما يصح من احلديث ال يبلغ عشرة آالف
حديث اليت هي جمموع أحاديث الصحيحني تقريباً .
فأحل عليه أهل العلم يف عصره للرد على هؤالء املتبدعة ؛ ألهنم يرون للحاكم مكانة عظيمة يف نفوسهم ،ومشهود له بقوة
احلافظة وباإلتقان ومبعرفة علم احلديث بشكل تدل عليه عبارات العلماء الذين أطروه وأثنوا عليه .
ولعل من األمثلة الطريفة يف ه ذا أن أبا الفضل اهلم ذاين ق دم نيس ابور وك ان آية يف احلف ظ ،وك ان يفتخر على الن اس حبفظه
ه ذا ،فك ان حيفظ القص يدة اليت من مائة بيت من أول ما تلقى عليه ،فك ان يه زأ بأهل احلديث ويق ول :ما ه ذه الكتب ما دمت
أحفظ القصيدة اليت هبذا الطول من خالل إلقائها على مرة واحدة ،فأنتم بادعائكم احلفظ واإلتقان ال تبلغون شأين وال تقاربوين.
فبلغ ذلك احلاكم ف ألقى إليه ج زءاً ح ديثاً وق ال :أنا ال أريد منك أن حتفظه من أول م رة ،بل أمهلك أس بوعاً لتحفظ ه ذا
اجلزء ،مث بعد ذلك نرى ما تصنع .
وبعد أسبوع جاء هذا الرجل ورمى هذا اجلزء احلديثي على احلاكم ،وقال :ما هذا؟ فالن عن فالن ،وفالن قال :حدثنا
فالن .وكأنه قال :إهنا رقية ،أو ما إىل ذلك .
فقال له احلاكم :فاعرف قدرك ،فهذه األبيات اليت حتفظها كل واحد يستطيع أن حيفظها ،ولكن هذا هو الذي يدل على
قوة احلفظ واإلتقان .
جـ -أن مجاعة من أعي ان أهل العلم بنيس ابور س ألوه أن جيمع كتاب اً يش تمل على أح اديث مروية بأس انيد حيتج البخ اري
ومسلم مبثلها .
فهذه األسباب الثالثة مبجموعها اليت دفعت احلاكم – رمحه اهلل – تعاىل إىل تأليف كتابه "املستدرك" .
-2موضوع كتاب املستدرك :
الكتاب يذكر بعض األحاديث مرتبة على ترتيب اجلوامع ؛ أي أنه يضم أحاديث األحكام وغري أحاديث األحكام ،ورتبه
على نفس ال رتتيب الفقهي املع روف عموم اً ،وي رى أهنا ص حيحة على ش رط الش يخني أو على ش رط أح دمها ،ومل خيرجاها يف
كتابيهما .وأحاديث أخرى يرى أهنا مستوفية للشروط العامة للصحة من اتصال السند وثقة الرواة وعدم الشذوذ وعدم العلة .
ورمبا أورد يف كتابه بعض األح اديث اليت ال ي رى أهنا ص حيحة ،ولكنه أوردها لبعض االعتب ارات ،كاألح اديث الس تة اليت
أوردها يف البيوع وصرح خبروجها عن شرط الكتاب كما تقدم .
-3جممل منهج احلاكم يف املستدرك وبيانه لدرجة األحاديث وأنواعها عنده :
مقصودة بشرط الشيخني أو أحدمها :
اختلف العلم اء يف ُم راد احلاكم بش رط الش يخني أو أح دمها يف كت اب "املس تدرك" ،ومرجع ه ذا االختالف يع ود إىل فهم
كالمه يف مقدمة املس تدرك حيث ق ال " :وقد س ألين مجاعة من أعي ان أهل العلم هبذه املدينة وغريها أن أمجع كتاب اً يش تمل على
األحاديث املروية بأسانيد حيتج حممد بن إمساعيل ومسلم بن احلجاج مبثلها" .
مث قال بعد ذلك " :وإنا أستعني باهلل على إخراج أحاديث رواهتا ثقات قد احتج مبثلها الشيخان أو أحدمها ،وهذا هو شرط
الص حيح عند كافة فقه اء أهل اإلس الم :أن الزي ادة يف األس انيد واملت ون من الثق ات مقبولة ،واهلل املعني على ما قص دته وهو حسيب
ونعم الوكيل" .
فقول احلاكم يف املوضعني " :مبثلها" اختلف العلماء يف مراده هبا :
83
فمنهم من قال :إن املقصود مبراده باملثلية :هو نفس الرواة الذين أخرج هلم الشيخان أو أحدمها ،ويعرب عن ذلك بأنه أراد
املثلية احلرفية .
قال النووي " :إن املراد بقوهلم :على شرطهما :أن يكون رجال إسناده يف كتابيهما؛ ألنه ليس هلما شرط يف كتابيهما" .
وقال العراقي " :وهذا الكالم قد أخذه من ابن الصالح حيث قال يف شأن املستدرك :أودعه ما رآه على شرط الشيخني قد
أخرج عن رواته يف كتابيهما" .
وقال العراقي أيض اً " :وعلى هذا عمل ابن دقيق العيد ،فإنه ينقل عن احلاكم تصحيحه حلديث على شرط البخاري مثالً ،
مث يعرتض عليه ألن فيه فالناً ومل خيرج له البخاري ،وكذلك فعل الذهيب يف تلخيص املستدرك " .
ومن أمثلة املثلية احلرفية قول احلاكم :أخربنا أبو حممد عبد اهلل بن حممد بن إسحاق اخلزاعي مبكة ،قال :حدثنا عبد اهلل بن
حممد بن أيب مسرة ،قال :حدثنا عبد اهلل بن يزيد املقرئ ،قال :حدثنا سعيد بن أيب أيوب ،قال :حدثين ابن عجالن عن القعقاع
بن حكيم ،عن أيب صاحل ،عن أيب هريرة ،قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم " :أكمل املؤمنني إمياناً أحسنهم خلقاً"(. )107
فلو فرض نا أن احلاكم ق ال :إن ه ذا احلديث ص حيح على ش رط الش يخني – مع العلم أنه مل يص ححه على ش رط الش يخني
-؛ فمقصوده باملثلية احلرفية أن يكون أبو صاحل الراوي عن الصحايب قد أخرج له الشيخان يف صحيحيهما ،وأن يكون الراوي عنه
ك ذلك – القعق اع بن حكيم – أخ رج له الش يخان ،وك ذلك ابن عجالن يك ون أخ رج له الش يخان ،وس يعد بن أيب أي وب يك ون
أخ رج له الش يخان ،وعبد اهلل بن يزيد املق رئ يك ون أخ رج له الش يخان ،ومن طبقة عبد اهلل بن يزيد املق رئ – كما س نذكر ، -
هؤالء هم الذين أخرج هلم الشيخان .أما من بعد ذلك فهم بعد البخاري ومسلم ؛ فهؤالء ال يشملهم احلكم .
على كل حال :يكون احلكم من هذه الطبقة من الطبقة الثالثة ؛ ألن أبا حممد عبد اهلل بن حممد هذا شيخ احلاكم ،وابن أيب
مس رة ش يخ ش يخه ،وهات ان الطبقت ان مس تثنيتان عند احلاكم ،لكن من بع دمها هم ال ذين يش ملهم احلكم ،فالبد أن يك ون ه ؤالء
الرجال كلهم قد أخرج هلم البخاري ومسلم أنفسهم ،فهذه هي املثلية احلرفية .
ومنهم من ق ال " :بل املراد باملثلية :املثلية اجملازية ،ويعن ون هبا أن املقص ود وصف ال رواة ال ذين احتج هبم الش يخان أو
أح دمها ،وه ذا يعين أن احلاكم خيرج ل رواة مل ي رو هلم الش يخان أو أح دمها ،ولكنهم موص وفون بتوثيق مياثل يف درجته درجة من
أخرج هلم الشيخان ".
وقد ق ال الع راقي رداً على ابن الص التح وابن دقيق العيد وال ذهيب يف ق وهلم الس ابق " :وليس ذلك منهم جبيد ؛ ف إن احلاكم
صرح يف خطبة املستدرك خبالف ما فهموه عنه ،فقال ":وأنا أستعني اهلل تعاىل على إخراجي أحاديث رواهتا ثقات ،قد احتج مبثلها
الش يخان أو أح دمها" .فقوله " :مبثله ا" أي مبثل رواهتا ال مبهم أنفس هم ،وحيتمل أن ي راد مبثل تلك األح اديث ،وإمنا تك ون مثلها إذا
كانت بنفس رواهتا ،وفيه نظر ".
ومن هنا نفهم أن الع راقي يرجع أن م راد احلاكم أوص اف رواة الش يخني أو أح دمها ال نفس ال رواة ،وعلى رأي الع راقي
يكون احلاكم قد أص اب يف مجلة كب رية من األح اديث ما دام ال راوي ليس مض عفاً وال متكلم اً فيه ،بل هو ثقة ،فال يضر حىت لو مل
خيرج له الشيخان ،ويعترب هذا احلديث على شرط الشيخني .
وقد عارض احلافظ ابن حجر شيخه العراقي يف هذا ،وقرر أن احلاكم يف تصرفه يف "املستدرك" يريد نفس الرواة .
فق ال ابن حجر " :ولكن تص رف احلاكم يق وي أحد االحتم الني ال ذين ذكرمها ش يخنا –رمحه اهلل ، -فإنه إذا ك ان عن ده
احلديث قد أخرجا أو أحدمها لرواته – قال :صحيح على شرط الشيخني أو على شرط أحدمها .وإذا كان بعض رواته مل خيرجا له
– قال :صحيح اإلسناد فحسب" .
84
وق ال ابن حجر أيض اً " :ويضح ذلك قوله يف ب اب التوبة ملا أورد ح ديث أيب عثم ان عن أيب هري رة – رضي اهلل عنه –
مرفوعاً " :ال تنزع الرمحة إال من شقي"( ، )108قال :هذا حديث صحيح ،وأبو عثمان هذا ليس هو النهدي ،ولو كان هو النهدي
حلكمت باحلديث على شرط الشيخني " .
فدل هذا على أنه إذا مل خيرج البخاري ومسلم ألحد رواة احلديث فال حيكم به على شرطهما ،وهو عني ما ادعى ابن دقيق
العيد وغريه .
وقد قال أيضاً " :إن املراد بشرطهما :رواهتما مع باقي شروط الصحة " .
ولكن ابن حجر وجد أيضاً أن هناك أحاديث متعددة يف "املستدرك" قرر احلاكم تصحيحها على شرط الشيخني أو أحدمها
.ويف رواهتا من مل خيرج له الش يخان أو أح دمها ،فلم يس عه إال أن حيمل ذلك على الس هو والنس يان من احلاكم ؛ حيث ق ال " :وإن
ك ان احلاكم يغفل عن ه ذا يف بعض األحي ان ،فيص حح على ش رطهما بعض م امل خيرجا لبعض رواته ،فيحمل ذلك على الس هو
والنسيان ،ويتوجه به حينئذ عليه االعرتاض" .
مث إن ابن حجر اس تدل على ذلك ب دليل ق وي ج داً حيث ق ال فيما معن اه " :إن مما يؤيد أن احلاكم أراد نفس ال رواة وليس
من مياثلهم – أننا جنده أحيان اً يقول :هذا حديث صحيح على شرط البخاري ومل خيرجاه فلو أراد املثلية اجملازية لقال :على شرط
الشيخني ؛ ألن شرط البخاري أقوى من شرط مسلم ،وشرط مسلم داخل فيه ،ولكنه مل وجد يف بعض رجال اإلسناد من أخرج له
البخاري ومل خيرج له مسلم صححه على شرط البخاري ؛ ألنه يرى أن احلاكم منصب على نفس الرواة " .
( )1انظر :المستدرك ( ، )3/160والكالم عليه في مختصر المستدرك (. )601 108
85
أقسام احلديث يف مستدرك أيب عبد اهلل احلاكم
القسم األول :
أحاديث أخرجها احلاكم بأسانيد احتاج البخاري ومسلم برواهتا يف صحيحهما ،وهذا هو الذي يقول عنه احلاكم " :إنه
على شرط الشيخني" ويكون احلاكم قد أصاب يف حكمه.
القسم الثاين :
أح اديث أخرجها احلاكم ،وحكم عليها بأهنا ص حيحة على ش رط البخ اري ،وبعد البحث جند أن رواة ه ذا اإلس ناد ممن
احتج هبم البخاري ؛ فيكون احلاكم قد أصاب يف حكمه أيضاً .
القسم الثالث :
ال ذي ق ول فيه احلاكم " :ص حيح على ش رط مس لم " ،وبعد البحث والنظر يف رواته جند أن س نده ص حيح على ش رط
مسلم قد احتاج مسلم جبميع رواته ؛ فيكون احلاكم هنا قد أصاب يف حكمه أيضاً.
القسم الرابع :
أحاديث خيرجها احلاكم وحيكم عليها بالصحة على شرط الشيخني ،وجند أن بعض رواهتا مل خيرج هلم الشيخان احتجاج اً
،وإمنا أخرجا هلم يف الشواهد واملتابعات واملعلقات ؛ فيكون احلاكم قد أخطأ يف حكمه على هذه األحاديث .
القسم اخلامس :
أحاديث خيرجها احلاكم ويصححها على شرط البخاري ،فنجد يف رواهتا مل خيرج هلم البخاري احتجاجاً ،وإمنا أخرج هلم
يف الشواهد واملتابعات ؛ فيكون قد أخطأ يف حكمه على هذه األحاديث أيضاً .
القسم السادس :
أحاديث خيرجها احلاكم ويصححها على شرط مسلم ،فنجد يف رواهتا من مل حيتج هبم مسلم ،وإمنا أخرج هلم يف الشواهد
واملتابعات .ويكون قد أخطأ كذلك يف حكمه على هذه األحاديث .
القسم السابع:
أح اديث خيرجها احلاكم ويص ححها على ش رط الش يخني ،وبعد النظر يف أس انيدها جند الش يخني مل خيرجا لرواهتا على
صورة االجتماع .
ك أن يك ون احلديث من رواية هش يم بن بشري عن الزه ري ،فكل من الزه ري وهش يم قد أخ رج هلما البخ اري ومس لم ،
ولكنهما مل خيرجا هلما هبذه الصورة – أي من رواية هشيم عن الزهري. -
والس بب يف ذلك أن رواية هش يم عن الزه ري ض عيفة ؛ فيك ون البخ اري ومس لم قد أخرجا للزه ري لكن من رواية غري
هشيم عنه ،وأخرجا كذلك هلشيم لكن من روايته عن غري الزهري .وهذا هو املقصود بصورة االجتماع أي أن يكون الراوي قد
أخذ عن ش يخه عند البخ اري ومس لم ،فيك ون احلاكم هنا قد أخطأ ؛ ألن الش يخني مل خيرجا هلؤالء ال رواة هبذه الص ورة عند احلاكم
يف املستدرك .
القسم الثامن :
أح اديث يص ححها احلاكم على ش رط البخ اري ن وبعد النظر يف أس انيدها جند أن البخ اري قد أخ رج لرواهتا حمتج اً هبم ،
لكن ليس بصورة االجتماع هذه اليت أخرجها احلاكم.
ك أن ي روي داود حصني ح ديثاً عن عكرمة ،ف إن كالً من عكرمة وداود بن حصني قد أخ رج هلما البخ اري ،ولكنه مل
خيرج هلما هبذه الصورة ،وإمنا أخرج لعكرمة من رواية غري داود غري داود عنه ،وأخرج لداود من روايته عن غري عكرمة .والسبب
يف ذلك أن رواية داود بن احلصني عن عكرمة رواية منكرة .
86
القسم التاسع :
أن خيرج احلاكم حديثاً ويصححه على شرط مسلم ،وبعد النظر يف سنده جند مسلماً قد أخرج جلميع رواته ،ولكن ليس
على صورة االجتماع ،وإمنا أخرج هلم بغري هذه الصورة .
ومثاله كاملثال السابق بالنسبة لشرط البخاري مع اختالف الرجال .
ومثاله :أن ي روي احلاكم ح ديثاً من طريق محاد بن س لمة عن محيد الطويل .فكل من محاد بن س لمة ومحيد الطويل قد
احتج به مس لم ،ولكنه مل حيتج باإلس ناد على ه ذه الص ورة ،فإنه إمنا احتج حبم اد بن س لمة يف روايته عن ث ابت البن اين ،وأما روايته
عن غري ثابت فلم حيتج هبا مسلم .
القسم العاشر :
أن خيرج احلاكم أح اديث ويص ححها ،ولكن ليس على ش رط الش يخني وال أح دمها ،وبعد النظر جند أن احلديث ص حيح
اإلسناد كما قال احلاكم – رمحه اهلل . -
القسم احلادي عشر :
أح اديث خيرجها احلاكم ويص ححها على ش رط الش يخني وي ذكر أهنما مل خيرجا تلك األح اديث ،وبعد النظر والبحث جند
الشيخني قد أخرجا تلك األحاديث يف صحيحيهما ،وأن احلاكم واهم يف حكمة .
القسم الثاين عشر :
أح اديث خيرجها احلاكم ويص ححها على ش رط البخ اري ،وي ذكر أنه مل خيرج تلك األح اديث ،وبعد النظر والبحث جند
البخاري قد أخرج تلك األحاديث .
القسم الثالث عشر :
أح اديث يص ححها احلاكم على ش رط مس لم ،وي ذكر أنه مل خيرجها ،وبعد النظر والبحث جند مس لماً قد أخ رج تلك
األحاديث .
القسم الرابع عشر :
أح اديث خيرجها احلاكم وي ذكر أهنا ص حيحة على ش رط الش يخني أو أح دمها ،وبعد البحث جند يف رواهتا من مل خيرج له
الشيخان وال أحدمها .
القسم اخلامس عشر :
أحاديث خيرجها احلاكم ويصححها على شرط الشيخني أو أحدمها أو يصححها فقط دون أن يذكر شرط الشيخني ،وبعد
البحث جند أهنا حسنة اإلسناد فقط .والسبب يف ذلك أن احلاكم – رمحه اهلل – ال يفرق بني الصحيح واحلسن .
القسم السادس عشر :
أح اديث خيرجها احلاكم ويص ححها على ش رط الش يخني أو أح دمها أو يص ححها فقط ،وجند ،أهنا ض عيفة اإلس ناد ،
ولكنها ارتقت إىل احلسن لغريه مبجموع طرقها ،سواء أخرج احلاكم تلك الطرق أو مل خيرجها .
القسم السابع عشر :
أحاديث خيرجها احلاكم ويصححها على شرط الشيخني أو أحدمها أو يصححها فقط وهي ضعيفة ،ليس هناك ما يشهد
هلا .
القسم الثامن عشر :
أحاديث خيرجها احلاكم ويصححها على شرط الشيخني أو أحدمها أو يصححها فقط ،وهي شديدة الضعف .
القسم التاسع عشر :
87
أح اديث خيرجها احلاكم ويص ححها على ش رط الش يخني أو أح دمها أو يص ححها فق ط ،وهي موض وعة ،ويف "املس تدرك"
من هذا الصنف حنو مائة حديث .وقد ذكر الذهيب يف "سري أعالم النبالء" أنه أفرادها يف مؤلف مجع فيه هذه األحاديث املائة .
ما ألف حول املستدرك :
هناك عدة مؤلفات من الكتب اليت ألفت حول مستدرك احلاكم ،ومن أمهها كتاب "التخليص" للذهيب .
وهذا الكتاب ألفه الذهيب يف مقتبل عمره ،واستغرقت مدة تتأليفه ثالثة أشهر وأحد عشرة يوم اً ،وهي فرتة وجيزة بالنظر
إىل عدد أحاديث مستدرك احلاكم اليت تقرب من تسعة آالف ومخسمائة ( )9500حديث .
منهج الذهيب يف كتابه " التخليص " :
جند ال ذهيب يف " التخليص " حيذف بعض اإلس ناد وي ذكر بعضه ،وي ذكر املنت ،وقد خيتص ره أو يتص رف فيه أحيان اً ،مث
يذكر كالم احلاكم /فيتعقبه ،أو يقره ،وقد يسكب عنه.
منهج الذهيب يف كتابه " التخليص " :
جند ال ذهيب يف " التخليص " حيذف بعض اإلس ناد وي ذكر بعضه ،وي ذكر املنت ،وقد خيتص ره أو يتص رف فهي أحيان اً ،مث
يذكر كالم احلاكم ،فيتعقبه ،أو يقره ،وقد يسكت عنه.
وعندما حيذف الذهيب بعض اإلسناد إمنا حيذف الرواة الذين ال كالم له فيهم ،ويبقي يف اإلسناد الرجل الذي يريد أن يتكلم
عنه ،أو على األقل الرجل الذي اختلفت فيه عبارات األئمة.
أوالً -باألمثلة اليت ذكرها يتضح منهج الذهيب :
ف إذا ق ال احلاكم مثالً " :ه ذا ح ديث ص حيح على ش رط الش يخني ومل خيرج اه" ،ووجد ال ذهيب أن كالم احلاكم ص حيح
حكاه وذكره ومل يتعقبه بشيء .فيقول بعد االنتهاء من احلديث " :خ-م" ،أي على شرط البخاري ومسلم .
وإذا صححها احلاكم على شرط البخاري فقط ،ورأى الذهيب أن ذلك صواب قال " :خ" ؛ أي على شرط البخاري .
وإذا صححه احلاكم على شرط مسلم ،ورأى الذهيب أن ذلك صواب قال " :م"؛ أي على شرط مسلم .
وإذا صححها احلاكم فقط ،ومل يذكر أنه على شرط الشيخني أو أحدمها ،قال الذهيب " :صحيح" .
فهذه صور من أنواع موافقة الذهيب للحاكم على تصحيحه .
ثانياً :وأما تعقب الذهيب للحاكم فهو على صور أيضاً ومنها :
أن احلاكم قد يصحح احلديث على شرط الشيخني .
فيقول الذهيب " قلت :خ" .
فإذا جاء ي التخليص كلمة "قلت " فهي تعين تعقب الذهيب للحاكم .
فإذا قال " :قلت :خ " ،أي ليس احلديث على شرط الشيخني ،وإمنا هو على شرط البخاري فقط .
وإذا قال " :قلت :صحيح ، :فهو يعين أن احلديث ليس على شرط الشيخني وال أحدمها ،ولكنه صحيح فقط .
وإذا ق ال " :قلت :فيه فالن مل خيرجا له " ،فهو يعين أن احلديث ليس على ش رط الش يخني ؛ ألنه فيه فالن اً ومل خيرج له
الشيخان .
ومثله إذا ق ال " :فيه فالن مل خيرج له البخ اري " أو مس لم " ،ومثله إذا ق ال احلاكم " :ص حيح على ش رط البخ اري" أو
"على شرط مسلم" .
وتعقبه الذهيب بأحد هذه التعقبات .
88
وقد يك ون تعقب ال ذهيب ب النص على الش يخني أو أح دمها قد أخرجا احلديث ، ،ف إذا ق ال احلاكم " :ه ذا ح ديث ص حيح
على ش رط الش يخني ومل خيرج اه" ،وك ان قد أخرجه الش يخان ،جند ال ذهيب يف "التلخيص" حيكي كالم احلاكم فيق ول " :خ-م" ،مث
يقول " :قلت :قد أخرجاه" ،أو أخرجه "خ" أي البخاري ،أو أخرجه "م" أي مسلم .
وقد يكون تعقب الذهيب للحكم بتضعيف احلديث ،فيحكم احلاكم على احلديث بالص حة على ش رط الش يخني أو أح دمها
أو بالصحة فقط ،مث يقول الذهيب " :فيه فالن وهو ضعيف" أو "وهو واه" أو "له مناكري" ،أو حيكي الذهيب كالم العلماء فيه فيقول
مثالً:
" فيه فالن ،ضعفه أبو حامت ،وقال النسائي :ليس بثقة" .
وقد يك ون تض عيفه للح ديث بس بب انقط اع يف س نده ،فيق ول " :قلت :مرس ل" ،وهو يعين ب ذلك – يف الغ الب – أن
التابعي مل يسمع من ذلك الصحايب الذي روى احلديث .فهذا بالنسبة لبعض صورة تعقب الذهيب .
ثالثاً -وأما سكوت الذهيب :
فهو قليل يف "املستدرك " ،وصورته أن يرتك كالم احلاكم ؛ فال يذكره وال يتعقبه بشيء ، :وإمنا يذكر احلديث فقط .وهكذا يكون
سكوت الذهيب .
أوهام الذهيب يف التلخيص :
ومما ينبغي لنا أن نعلمه أن ال ذهيب قد وقع يف أوه ام كث رية يف "التخليص" ،ومنها يف موافقاته للح اكم ،وأحيان اً يف كالمه
على بعض الرواة ،وعُذره يف ذلك أنه ألفه يف مقتبل العمر .ومعلوم بأن صغري السن مل ينضج علمياً ،ويتضح هذا يف اختالف رأيه يف
بعض املسائل ويف بعض الرجال بني كتابه "التخليص" وبني كتبه املتأخرة كـ " ميزان االعتدال" .
وقد اعرتف الذهيب يف ترمجة احلاكم يف " سري أعالم النبالء" بأن عمله هذا حيتاج إىل إعادة نظر وحترير .
تعقب اإلمام الذهيب للحاكم :
وأحيان اً قد يعلق احلاكم احلديث عن رواه مش هور مثل ش عبة بن احلج اج ؛ والس بب أنه ي رى أن ه ذا ال راوي هو خمرج
احلديث .
فحينما يكون له على اإلسناد كالم يعلق احلديث على الراوي الذي تدور عليه أسانيد احلديث مثل قوله :شعبة عن أيب بلج حيي مسع
عمرو بن ميمون األزدي ..إخل .
والبد أن ي ربز ال راوي ال ذي يريد أن يتكلم فيه ،مثل قوله :ش عبة عن أيب بلج ق ال " :م"؛ أي أن احلاكم ص ححها على
شرط مسلم ،قال احلاكم " :هذا حديث صحيح مل خيرج يف الصحيحني ،وهو على شرط مسلم بن احلجاج" .
وطريقة الذهيب أن خيتصر هذا الكالم كله ،فبدالً من أن يقول " :قال احلاكم :هذا حديث صحيح على شرط مسلم ومل
خيرجاه" ،بدالً من ذل حيذف كل هذا الكالم ويعرب برمز صغري فقط هو "م" ،ومعناه أن احلاكم صححها على شرط مسلم .
وعندما قال " :م" قال :قلت :احتج "م" بأيب بلج .قلت –أي الذهيب : -ال حيتج به ،ووثق ،وقال البخاري :فيه نظر .
أي أن ال ذهيب تعقب احلاكم على ه ذا احلديث ،فقد رأى احلاكم أن مس لماً احتج ب أيب بلج ه ذا ،وتعقبه ال ذهيب بقوله :
"قلت :ال حيتج به ،وقد وثق" ،أي يتهم من وثقه ويتهم من ضعفه .
فالذهيب إما أن يقر احلاكم أن يتعقبه ؛ فإذا تعقبه فإمنا يتعقبه بتصحيح أو بتضعيف أو بيان أمر من األمور .
فإذاقال احلاكم :هذا صحيح على شرط البخاري ،وحكى الذهيب كالم احلاكم مث تركه ومل يعلق عليه ،قيل :إن الذهيب
أقر احلاكم على تص حيحها هلذا احلديث ،وذلك مثل ق ول ال ذهيب " :ي ونس عن ابن ش هاب عن ابن املس يب أن أبا بكر ملا بعث
اجليوش حنو الشام مشى معهم حىت بلغ ثنية الوداع ،قالوا :يا خليفة رسول اهلل متشي وحنن ر ُكب "خ-م".
89
ويقصد ال ذهيب بـ "خ – م" أن ه ذا كالم احلاكم ؛ أي أن احلاكم ص ححه على ش رط البخ اري ومس لم ،فيختصر ال ذهيب
كل هذا الكالم بقوله بني قوسني " :خ-م" .
وإذا مل يتعقب الذهيب احلاكم فيقال :إن الذهيب قد وافق احلاكم .
أما إذا تعقبه ،ك أن يك ون احلاكم قد ق ال على احلديث " :إنه ص حيح على ش رط "البخ اري ومس لم" ،فيق ول ال ذهيب :
"مرسل" .
أي ليس احلديث على شرط البخاري ومسلم ،فهذا احلديث ضعيف ؛ ألنه مرسل.
وقد أخرج احلاكم حديث "أكمل املؤمنني إميان اً أحسنهم خلق اً"( .)109ومل يصححه على شرط البخاري ومسلم ،وال على
ش رط واحد منهما ،وإمنا س كت عنه ،فق ال ال ذهيب " :قلت :مل يتكلم عليه املؤلف ،وإمنا س كت عنه وهو ص حيح ،ل ذلك مل أره
يتكلم على أحاديث مجة بعضها جيد ،وبعضها ٍ
واه ...إخل" ،فقد تعقب الذهيب احلاكم يف هذا احلديث بالتصحيح.
ومن أمثلة ذلك أيضاً حديث عاصم عن زر بن حبيش قال(: )110
" خ رجت مع أهل املدينة يف يوم عيد ،ف رأيت عمر بن اخلط اب ميشي حافي اً ش يخاً أصلع آدم أعسر أيسر ،ط واالً مش رفاً
على الن اس كأنه على دابة ب ربد قط ري يق ول :عب اد اهلل ،ه اجروا وال هتج روا ،وليتق أح دكم األرنب خيذفها باحلصى أو يرميها
باحلجر فأكلها ،ولكن ليذك لكم األسل والرماح والنيل" .
فقد أخرج احلاكم هذا احلديث وسكت عنه ،فتعقبه الذهيب بقوله " :قلت " صحيح".
فإذا أورد الذهيب كالم احلاكم خمتصراً ومل يذكر بعده " :قلت" ،وال ذكر كالماً ،فهذا يعين أنه يوافق احلاكم .
وإذا قال " :قلت" ،فهذا يعين أن تعقب احلاكم .
الكالم على ما سكت عليه الذهيب وتوضيح اإلشكال يف ذلك :
وأما إذا مل يذكر شيئاً ،ال كالم احلاكم وال شيئاً من قبل نفسه ؛ فهذه هو الذي يُقال عليه "سكوت الذهيب" .
ومن ذلك ح ديث زي اد بن لبيد األنص اري ق ال :أتيت النيب ص لى اهلل عليه وسلم وهو حُي دث أص حابه ،وهو يق ول " :قد
ذهب أوان العلم" قلت :ب أيب وأمي ،وكيف ي ذهب أوان العلم وحنن نق رأ الق رآن ونعلمه أبناءنا ويعلمه أبناؤنا أبن اؤهم إىل أن تق وم
الساعة ؟ فقال " :ثكلتك أمك يا ابن لبيد ،إن كنت ألراك من أفقه أهل املدينة ،وليس اليهودي والنصارى يقرءون التوراة واإلجنيل
وال ينتفعون منهما شيء؟! .
قال احلاكم :هذا حديث على شرط الشيخني ومل خيرجاه"(. )111
ومل يذكر الذهيب كالم احلاكم يف اهلامشي ،ومل يعلق عليه .فمثل هذا يقال عنه :سكت الذهيب عنه .
وهذه املسألة من املسائل اليت خُي طئ فيها كثري من طالب العلم يف هذا الزمان .وأقول :يف هذا الزمان ؛ ألهنا مل تكن واردة
من قبل .
فبعض طلبة العلم يف احلديث – وبعضهم كتب هذا يف بعض املؤلفات – يقول :
ال تق ول :إن ال ذهيب يُوافق احلاكم ،فه ذا الكالم غري ص حيح ؛ ألن ال ذهيب ال مُي كن أن خيفى عليه مثل ه ذا الكالم ،وحنن
جند أن الذهيب إمنا حيكي كالم احلاكم فقط ،فكيف تقولون إنه أقر احلاكم ؟
( )1انظر :المستدرك ( ، )3/160والكالم عليه في مختصر المستدرك (. )601 110
( )1انظر :المستدرك ( ، )3/590وهو عند الترمذي ( ، )2653وابن ماجه ( ، )4048وأحمد (، )219 ، 4/160 111
وغيرهم .
90
وللج واب على ذلك نق ول :ختتلف أح وال ال ذهيب مع احلاكم ؛ فال ذهيب أحيان اً يتعقب احلاكم ،وقد أوردت بعض أمثلة
التعقب ،وأحيان اً حيكي كالم حكم فقط ،ف إذا حك اه يق ال له :إق رار وموافقة ،وقد بينت مثاله ،وأما أنه ال ي ذكر كالم احلاكم
إطالقاً وال يتعقبه بشيء ،فإن هذا سكون .فهي إذن ثالثة أحوال :تعقب ،وإقرار ،وسكوت .
جند أن الذهيب سكت عن حديث عمارة بن حزم قال :رآين رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على قرب ،فقال " :أنزل من
القرب ؛ ال تؤذي صاحبه وال يؤذيك "(. )112
فهذا احلديث سكت عنه احلاكم وسكت عنه الذهيب أيض اً ،ولكن الذهيب حينما سكت عنه ،مل يسكت عنه فيما يظهر ،
ألنه ال حيوره( )113فيه الكالم ،بل إنه علق احلديث عن ابن هليعة ،وكأنه يشر إىل من يقف على احلديث إين أب رزت لك ابن هليعة
فاعرف أنه هو الذي يعترب علة هذا احلديث .
فأحياناً قد يصنع الذهيب هذا الصنيع ،ويشر للعلة جمرد إشارة بطريقة تعليقه للحديث هبذه الصورة ،وأحياناً ال يصنع هذا .
وبعض طلبة العلم الذين أشرت إليهم ،وبعض املؤلفني يرون ،أننا حني نقول عن حديث من األحاديث :إن الذهيب وافق
احلاكم وأقره عليه ،كأن يقول احلاكم " :هذا حديث صحيح على شرط الشيخني ،ومل خيرجاه" ،فيذكر الذهيب هذا احلديث يف
"التخليص" ويقول " :خ،م" ،أي أن احلاكم قال :على شرط البخاري ومسلم ،مث ال يتعقبه بشيء – هم يقولون حينذاك :ال جيوز
لكم أن تقولوا :إن الذهيب وافق احلاكم .وحنن نقول :إن الذهيب وافق احلاكم يف هذه احلالة .
ومنشأ ال نزاع أهنم يقول ون :ال ذهيب مل يص رح مبوافقة احلاكم ،فهو مل يقل :أص اب احلاكم ،أو :إنين أوافق احلاكم ،ومل
ينص يف املقدمة على إنين إذا قلت كذا فأنا موافق للحاكم ،فكيف تنسبون للذهيب ما مل يقله ؟! .
نقول هلم :أوالً عرف دائماً أن اإلنسان حني حيكي كالم عامل من العلماء فيم قام من املقامات وال ينتقده وال يتعقبه بشيء
هو مقر له .
ومثاله :لو أن أح دكم س ألين يف مس ألة من املس ائل ،ولتكن مس ألة الطالق ثالث اً ،فق ال يل :ما تق ول يف الطالق ثالث اً ؟
فقلت له :الشيخ عبد العزيز بن باز يرى أنه يقع واحدة .
فأنا حينما أذكر كالم الش يخ ابن ب از وال أتعقبه بش يء يك ون مقص ودي موافقته على مثل ه ذا ،ولو مل يكن األمر ك ذلك
لقلت :الشيخ عبد العزيز يرى كذا ،وأنا أرى كذا ،هذا من الناحية اللغوية والناحية املنهجية عند العلماء .
مث إننا إذا نظرنا لص نيع األئمة من قبل ال ذهيب حىت ه ذا العصر ال ذي خ رج فيه ،ف إذا بنا جند أن أح داً منهم مل خيالف ه ذا
املنهج ،بل إن ال زيلعي يف " نصب الراية " – وهو تلميذ ال ذهيب – حينما ينتقل تص حيح احلاكم يق ول يف بعض األحي ان " :ووافقه
الذهيب".
وق ريب من ه ذا ص نيع ابن امللقن ،يف طبقة ال زيلعي ،ولكن لست أدري هل تتلمذ على ال ذهيب أم ال .يق ول ابن امللقن يف
اختصاره( )114لكتاب الذهيب بعد أن ذكر حديث النيب صلي اهلل عليه وسلم أنه قال ":كل سبب منقطع يوم القيامة غري سبيب ونسيب
".
ق ال :أخ رج احلاكم ه ذا احلديث وص ححه وتُعقب عليه .مث بعد ذلك ب أوراق يف ترمجة فاطمة – رضي اهلل عنها – من
ح ديث املس ور بن خمرمة مرفوع اً " :إن األنس اب تنقطع ي وم القيامة غري نسيب وس بيب وص هري" ،مث ق ال احلاكم :ص حيح ،وأق ره
الذهيب عليه .
91
هذا الكالم ابن امللقن ،وهو يف طبقة تالميذ الذهيب ،فهم كانوا عارفني فأن صنيع الذهيب هذا يعين إقراره للحاكم على هذا
التصحيح على هذه الصورة ؛ ألننا حني نرجع إىل احلديث الذي ذكره جند احلاكم قال " :حديث صحيح اإلسناد" ،مث حكى الذهيب
كالمه فقال :صحيح ،أي أنه كالم احلاكم ومل يتعقبه بشيء ،فاعترب ابن امللقن هذا إقراراً من الذهيب .
مث إن ب اقي األئمة ك ذلك ،مثل الش يخ أمحد ش اكر والش يخ األلب اين وأمث ال ه ؤالء ،بل حىت ابن حجر( )115والس يوطي ،
ولكن ال أس تطيع أن أنسب ش يئاً ليس فيه مستمسك ،لكن من نظر يف خترجياهتم وجد من ه ذا مجلة ،وه ذا هو ال ذي أردت التنبيه
عليه يف هذه املسألة .
تفسري خاطئ لعدم إيراد الذهيب احلديث يف االختصار :
يق ول بعض هم :يعترب س كوت ال ذهيب عن احلديث حينما ال ي ورد ال ذهيب احلديث إطالق اً ،فه ذا هو ال ذي نعت ربه س كوتاً
للذهيب ،فيبدو أهنم ما ظفروا مبثل هذه األمثلة اليت ذكرهتا من "املس تدرك" ،وميكن ملن تتبع الكتاب أن يعلم أن سكوت الذهيب هو
هبذه الصورة .
أسباب عدم إيراده للحديث إطالقاً :
والذهيب قد ال يورد احلديث إطالقاً لسبب من األسباب اآلتية :
السبب األول :
ال يكون احلديث يف نسخة الذهيب من "املستدرك" ،وهذا وارد ؛ ألن املستدرك الذي بني أيدينا اآلن طبع على بعض النسخ
اليت س قط منها أح اديث ،وبعض األح اديث حمقق مس تدرك احلاكم ال يس تطيع أن يثبته إال من "التخليص" ،و "التخليص" حيذف
بعض اإلسناد ،إال أن يثبته من " التخليص"(. )116
فإذن بعض النسخ تسقط منها بعض األحاديث ،فقد يكون احلديث سقط من نسخة الذهيب .
السبب الثاين :
أن ال ذهيب قد حيذف احلديث ؛ ألنه ي رى أنه مك رر ،ويص رح ب ذلك ،فيق ول " :وقد أع اده احلاكم يف املوضع الفالين" ،
فتأيت للموضع الفالين ،فتجد الذهيب مل يأت باحلديث اختصاراً منه ،فال داعي لتكرار احلديث .
السبب الثالث :
وقد يكون احلديث سقط من نفس ختليص الذهيب ،فإن هذه النسخة اليت طبعت سواء املستدرك أو تلخيص الذهيب نسخة
سقيمة ،وحتتاج إىل إعادة حتقيق وإعادة نظر وضبط على أصول خطية جيدة .وعندي أمثلة كثرية على سقط مهم جداً ،فأحيان اً يف
تعقيبات الذهيب لألحاديث جند الكالم سقط من هذه النسخة املطبوعة ،ولكنين أجده يف النسخ اخلطية ابن امللقن ،فإذن هذه األمور
كلها تكشف هذا الكتاب .
وبذلك أكون قد انتهيت من الكالم باختصار على مستدرك احلاكم ،وأرجو أن يكون قد وضح ولو بعض الشيء .
وعلى كل حال :هذا منهج ليس علمي اً ،لكن الص واب أن يتكلم عن املن اهج أنفسها ،فيقال :من يتساهل يف األحاديث
ويعترب أن جمرد مجع الط رق الض عيفة ،أنه يكفي جلعل احلديث حس ناً لغ ريه ،ويعتمد عليه ،فيمكن أن ينقد ه ذا املنهج كـ "منهج" ،
لكن ال جنعل هناك قضية القضايا هي :منهج املتقدمني ومنهج املتأخرين !!
إذن إطالق العبارة هبذه الصورة خطأ ،ولكن ميكن أن يتكلم عن الشخص ،فالسيوطي إذا تناولته بالنقد أستطيع أن أقول :
إن السيوطي متساهل ،بل له منهج غري جيد ،فحينما يرى حديثاً فيه ضعيف شديد – وهو الذي فيه رو مرتوك ،وما إىل ذلك –
يقول :ميكن أن يرتفع ضعفه بتعدد طرقه ،وهذا منهج عند السيوطي ،وقد صرح به يف ألفيته ويف "التدريب".
( )1انظر كالم ابن حجر في لسان الميزان (/2/434ث . )1781 115
( )1انظر كالم ابن حجر في لسان الميزان ( /2/434ت . )1781 116
92
نقول :هذا املنهج عند السيوطي منهج خطأ ،فننقد منهج السيوطي نفسه .
ولو جئنا إىل ابن حجر ،نقول :ابن حجر يف كالمه على الرواة يف "التقريب" جيد ،ويف نقده لألحاديث يف "فتح الباري"
ال بأس به ،ولكننا جنده يف أجوبته عن "مشكاة املصابيح" يف بعض األماكن عنده شيء من التساهل .
فيمكن أن حيدد كل إنس ان مبنهجه ال ذي يسري عليه ،أما أن نعمم ،فنجعل الس يوطي مثل ابن حجر مثل ال ذهيب مثل ابن
كثري مثل ابن تيمية مثل ابن القيم ؛ فهذا خطأ ،وهم ال يستوون ،وليس كلهم واحداً يف مناهجهم .
93
()117
سنن ابن ماجه
أمسه ونسبه ومولده :
هو أبو عبد اهلل حممد بن زيد الربعي موالهم – أي موىل ربيعة – ابن ماجة القزويين احلافظ .
يقال له :ابن ماجة بإسكان اهلاء ،وهو أول من نطقها ،فال يقال يف حال الوصل :ابن ماجة ،أو حنو ذلك .
واختلف وا يف ه ذه النس بة ،فمنهم من ق ال :إن والده يزيد يلقب مباجة ،ومنهم من ق ال إنه لقب أو اسم المه ،ومنهم من
قال :بل هو جده ،فينبغي أن يقال :حممد بن يزيد بن ماجه.
ولكن األول الذي ذكرناه – وهو ان ابن ماجه لقب لوالده يزيد – هو األثبت ،كما صرح بذلك بلدية الرافعي يف كتابه "
التدوين يف ذكر أخبار قزوين"(. )118
مولده – رمحه اهلل – يف سنة تسع ومائتني للهجرة ؛ ولذلك هو من قدماء من ولد من أصحاب الكتب الستة ؛ وألجل هذا
قدم على النسائي يف الذكر ،وإال فكتاب النسائي أوىل من كتابه .
رحلته يف طلب العلم وأهم شيوخه :
رحل – رمحه اهلل – يف طلب العلم إىل خرسان والعراق واحلجاز ومصر والشام وغريها ن البالد ،كعادة بقية احملدثني الذين
حيرصون على الرحلة يف طلب احلديث .
ويف رحلته هذه مسع من العديد من املشايخ منهم :
ابناأيب شيبة ،ومها عبد اهلل وعثمان ،ولكنه أكثر من الرواية عن عبد اهلل بن أيب شيبة الذي هو صاحب "املصنف" ،وكثراً
ما يروي عنه .
وروى كذلك عن أيب خيثمة زهري بن حرب ،وهو أحد األئمة املشهورين .
وروى عن أيب مصعب الزهري الذي هو أحد رواة "املوطأ" عن اإلمام مالك .
وقد الزم احلافظ علي بن حممد الطنافسي فأكثر عنه .
ومن قدماء شيوخ ابن ماجه راو يقال له ُ :جبارة بن ُمغلس ،وهذا راو ضعيف( ،)119ولوا ضعفه لكان البن ماجه شرف
كبري ؛ ألنه يروى أحاديث ثالثية اإلسناد من طريق هذا الشيخ .
وع دد األح اديث الثالثية يف س ننه من طريق ه ذا الش يخ مخسة أح اديث ،وليس يف س ننه أح اديث ثالثية من غري طريق ه ذا
الشيخ ،ولكن هذه األحاديث ضعيفة .
واحلديث الثالثي هو ال ذي يك ون بني ابن ماجه وبني النيب ص لى اهلل عليه وس لم فيه – ثالثة رج ال هم :ش يخه جب ارة ،
وشيخ شيخه ،والصحايب الذي هو أنس بن مالك ؛ ححألن كل هذه األحاديث – تقريباً – جاءت من طريقه .
تالميذه ورواة السنن عنه :
( )1انظر :السابق والالحق ، 118 :وتهذيب الكمال ( ، )27/40وسير أعالم النبالء ( ، )13/277وتذكرة الحافظ ( 117
( )1جبارة بن المغلس ،الحماني ،أبو محمد الكوفي ،ضعيف ،من العاشرة ،مات سنة . 241روى له ابن ماجه. g 119
95
أما ىالش يخ األلب اين ،فإنه أف رد الص حيح عن الض عيف يف س نن ابن ماجه ،وحبسب ح اكم األلب اين يك ون ع دد األح اديث
الضعيفة يف سنن ابن ماجه ال يزيد على مثامنائة حديثاً ،ومن هذه األحاديث املوضوعة حديث ال يشك يف وضعه ،وهو حديث يف
فضل قزوين( ، )121أورده ابن ماجه – ركمه اهلل -؛ ألن بلده قزوين .
مميزات الكتاب :
هذا الكتاب من مميزاته اليت ذكرت ومحدت له أنه حسن الرتتيب ،وسرد األحاديث فيه باختصار من غري تكرار .
يقول صديق حسن خان يف كتابه " احلطة" .
وهذا ليس يف شيء من الكتب الستة هبذه الصورة .أي حتفظه على تكرار األحاديث ،حيث إنه ال يكررها يف الغالب ، -
وإن ك ان مس لم – رمحه اهلل – ميكن أن يك ون قريب اً من ه ذا ،ف إن مس لماً ال يك رر احلديث يف مواضع ،وأما تك راره للح ديث يف
موضع واحد ،إن كان هذا هو مقصد صديق حسن خان ،فنعم .
وللمزي مقولة بالنسبة هلذه األحاديث الزوائد – أي اليت يتفرد هبا ابن ماجه عن بقية اخلمسة – اتكأ عليها كثري من العلماء
،حينما ذكر أن الغالب على ما ينفرد به ابن ماجه الضعف .
وأيضاً نقل هذا القول احلافظ ابن القيم – رمحه اهلل – يف كتابه "زاد املعاد"( )122نقله عن ايب العباس ابن تيمية – رمحه اهلل –
ونقل أيض اً يف نفس املوضع عن املزي قوله " :وكت اب ابن ماجه إمنا تداولته ش يوخ مل يتن وا به ،خبالف ص حيحي " .البخ اري
ومسلم" ،فإن احلفاظ تداولومها واعتنوا بضبطهما وتصحيحهما .قال :ولذلك وقع فيه أغالط و تصحيف".
وسبب إيراد ابن القيم هلذه العبارة أن هناك حديثاً أشكل على ابن القيم فأخذ ابن القيم يناقش هذه القضية ،ويشكك يف أن احلديث
جاءت عبارته هكذا صحيحة مستقيمة ،بل يقول :إن اخلطأ فيما يظهر من نفس رواة السنن البن ماجه .
انظر :سنن ابن ماجه ، )2780( gكتاب الجهاد ،باب ذكر الديلم وفضل قزوين ،وهو عن أنس ابن مالك ،قال رسول 121
اهلل صلى اهلل عليه وسلم " ستفتح عليكم اآلفاق ،وستفتح عليكم مدينة قال لها قزوين .من رابط فيها أربعين يوماً أو
ليلة ،كان له في الجنة عمود من ذهب .عليه زبر جدة خضراء .عليها قبة من ياقوته حمراء "...الحديث .
إخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" )884( )2/316( gوقال :هذا حديث موضوع gال شك فيه ،فأول من فيه من
الضعفاء "يزيد بن أبان" :قال شعبة :ألن أزني أحب إلي من أن أحدث عنه .وقال أحمد :ال يكتب عنه شيء .وقال
النسائي :متروك الحديث .وقال ابن حبان :ال يحل الرواية عنه .
والثاني " :الربيع بن صبيح" ،قال عفان :أحاديثه كلها مقلوبة ، gوضعفه gيحي ...إلخ .
والثالث " :داود بن المحبر" .قال أحمد والبخاري :هو شبه ال شيء .وقال ابن المديني :ذهب حديثه .وقال حاتم
الرازي :غير ثقة .وقال الدار قطني :متروك .
ثم قال ابن الجوزي وال أتهم بوضع هذا الحديث غيره .والعجب من ابن ماجه gمع علمه كيف استحل أن يذكر هذا في
كتابه السنن .وال يتكلم ؟! اهـ.
وفي الزوائد :هذا إسناده ضعيف ،لضعف " يزيد بن أبان الرقاشي ،والربيع بن صبيح ،وداود ابن المحبر " ،فهو
مسلسل بالضعفاء .
وانظر " :تنزيه الشريعة " ( ، )2/50و "الآللي" ( ، )1/463و "الفوائد المجموعة" gص ( )374رقم ( ، )1237و "
السلسلة الضعيفة" (. )371
( )1انظر :زاد المعاد (. )436 ، 1/435 122
96
وأما ما ذكره عن املزي وأيب العباس ابن تيمية من أن الغالب على ما ينفرد به ابن ماجه الضعف؛ فهذا مؤداه إىل أن كثرياً
من األحاديث اليت يتفردهبا ابن ماجه ضعيفة ؛ وهذا صحيح ،فكون هناك مجلة تصل إىل حنو ستمائة حديث أو أكثر من هذا بقليل ،
فهذا وال شك عدد غري قليل.
ولكن ال يعين هذا أن مجيع األحاديث اليت يتفرد هبا ابن ماحه ليس فيها صحيح ؛ ألن هناك من غلط وحكم على إطالقه ،وقد تعقب
اه: ال ما معن ذه املقولة ،وق اىل – ه ابن حجر – رمحه اهلل تع
" بل هناك أحاديث نبهت عليها وهي صحيحة ،وهي مما تفرد هبا ابن ماجه – رمحه اهلل ".
وقد بينت قبل قليل يف األحص ائية أن ه ذه األح اديث الزائ دة ح وايل أربعمائة ومثانية وعش رين ح ديثاً ص حيحاً ،وذلك بن اء
على قول البوصريي ،وإن كان هناك جمال لألنتقاد.
تنبيه:
ومن األمور اليت حيسن التنبيه عليها بالنسبة لسنن ابن ماجه أن بعض الناس يظن أن مجيع األحاديث املروية قي هذا الكتاب
املطبوع املتذاول بأيدي الناس من رواية ابن ماجه ،واحلقيقة أن هناك بعض الذيادات اليت زداها أبو احلسن القطان الذي هو الراوي
للسنن عن ابن كاجه ،فقد زاد على كتاب ابن ماجه .
وه ذا حيصل يف بعض كت الس نن؛ فبعض الن اس أيض اً خيطىء حينما يظن أن كل ح ديث م روى يف مس ند اإلم ام أمحد –
رمحه اهلل – من رواية اإلمام أمحد ؛ فيقول :أخرجه اإلمام أمحد يف املسند ،وإمنا هذا احلديث ال يكون رواه اإلمام أمحد إطالق اً ؛ ألن
هناك زيادات لعبد اهلل ابن اإلمام أمحد ،وهناك زيادات قليلة للقطيعي ،ولكن غالب الزيادات لعبد اهلل ابن اإلمام أمحد .
فال بد إذن من التـركيز والنظر يف اإلسناد ،فإذا جىء باإلسناد يف املسند املطبوع هكذا ":حدثتا عبد اهلل قال :حدثين أيب
"......فهذا هو الذي يكون من املسند.
وأما إذا قال ":حدثنا عبد اهلل قال :حدثنا فالن " ومسى شيخاً غري أبيه ،فهذا يعترب من زيادات عبد اهلل ابن اإلمام أمحد .
وك ذلك البد حني التطلع ي س نن ابن ماجه من التنبيه إيل أن زي ادات أيب احلسن القط ان ال تنسب البن ماجه ،فقد ألف
ال دكتور مس هر ال ديين – حفظه اهلل – رس الة يف مجع ه ذه الزي ادات والتـنبيه عليها ،والرس الة مطبوعة بعن وان " زي ادات أيب احلسن
القطان علي سنن ابن ماجه " ،وعدد هذه الزيادات أربع وأربعون زيادة .
ولكن ليس كلها أحاديث مرفوعة إيل النيب صلي اهلل عليه وسلم ،بل إحدى هذه الزيادات من كالم الشافعي –رمحه اهلل –
يف توجيه سؤال وجه إليه عن السبب من كون بول الغالم يرش منه وبول اجلارية يغسل ،فنبه الشافعي – رمحه اهلل – إيل أن األصل
يع ود إيل أن الغالم عب ارة عن ذكر ،وال ذكر خلق من طني ،وأن اجلارية خلقت من حلم ودم ،ألهنا خلقت من آدم كما ق ال اهلل –
جال وعال : -جعل منها زوجها }(.)123
ك ذلك أيض اً من ه ذه الزي ادات زي ادة من احلسن القط ان يف تفسري لفظة غربية ،وهي قول ه " :ق ال أبو احلسن القط ان :
العالدي :العصا"-.
وهذه الزيادة طفيفة ،وباقي هذه الزيادات يوردها يف الغالب ،ألن هذا احلديث حتصل له بعلو ،أي مثله مثل املستخرجات
متام اً ،فنجد – مثالً – مثل املستخرجات متام اً ،فنجد – مثالً – حينما يأيت أبو عوانة الذي تويف بعد وفاة مسلم بن احلجاج بنحو
بستني عاماً ،يفروي حديثاً شرتك مع مسلم يف شيخه ،فهذا يعترب علو إسناد .
فأبو احلسن القطان حينما جيد حديثاً يرويه ابن ماجه عن شعبة بواسطة راو ،وحيصل له هو أيض اً احلديث بواسطة راو غري
شيخ ابن ماجه ،فنجد أنه يأيت هبذا احلديث أيضاً هبذه الصورة ليدلل على أن هذا احلديث حتصل له بعلو إسناد ،برغم أنه من تالميذ
ابن ماجه ،فإنه ساوى شيخه ابن ماجه يف علو هذا اإلسناد .
97
إضافة سنن ابن ماجه للكتب اخلمسة :
مل خيالف أحد من العلماء يف كون الكتب اخلمسة هي دواوين اإلسالم املشهورة ،ولكن اختلفوا يف سادس هذه الكتب ،
فنجد أن أول من أضاف س نن ابن ماجه هلذه اخلمسة ليص بح سادس ها هو أبو الفضل حممد بن ط اهر بن الفيس راين ،وهذا يف كت ابني
من كتبه ؛ األول :هو ال ذي ألفه يف أط راف الكتب الس تة ،وجعل س ادس هذه الكتب س نن ابن ماجه ،والث اين :رس الة يف ش روط
األئمة الستة ،وجعل سادسها ابن ماجه ؛ فيعترب هو أول من أضاف سنن ابن ماجه -رمحه اهلل – للكتب الستة .
مث تبع أبا الفضل على ذلك من ج اء بع ده ،فتبعه ابن عس اكر حينما ألف كتاب اً يف "أط راف الس نن األربع ة" ،وهو ال ذي
ضمه املزي إىل زيادات خلف الواسطي ،وأيب مسعود الدمشقي ليصبح كتاب " حتفة األشراف" .
كذلك احلافظ ابن عساكر له كتاب يف شيوخ األئمة الستة ،وهو "املعجم املسند" ،وقد ذكر فيه سادس هؤالء األئمة ابن
ماجه رمحه اهلل .
مث تبعها أيض اً احلافظ عبد الغين املقدسي حينما ألف كتابه املشهور " اإلكمال يف أمساء الرجال" الذي أصبح عمدة لرجال
الكتب الس تة ،وهو الكت اب ال ذي هذبه املزي –رمحه اهلل -يف كتابه " هتذيب الكم ال" ،ويعترب املزي أيض اً ممن ج رى على نفس
الوترية ،فتبع هؤالء يف اعتبار سنن ابن ماجه سادس الكتب الستة .
أول من أخرج ابن ماجه من الكتب الستة :
وأما من خ الف ،ف أول من نعرفه خ الف يف ه ذا هو رزين بن معاوية العب دري يف كتابه "جتريد الص حاح والس نن " ،وهو
األصل لكتاب "جامع األصول" البن األثري ،فرزين وابن األثري عدا سادس الكتب الستة "املوطأ" لإلمام مالك ال سنن ابن ماجه .
وإمنا ق دم من ق دم س نن ابن ماجه على موطأ اإلم ام مالك لك ثرة زوائد ابن ماجه على الكتب اخلمسة ،خبالف موطأ اإلم ام
مالك ،فإنه ليس كثري زوائده ،بل قد يكون ليس له زوائد على الكتب اخلمسة .
واملقص ود بالزوائد :األح اديث املرفوعة ،أما بالنس بة لآلث ار فه ذا أيض اً جعل وه من ج وانب التفض يل لس نن ابن ماجه على
موطأ اإلمام مالك ؛ ألن موطأ اإلمام مالك يشتمل على موقوفات على الصحابة ،ومقطوعات على التابعني ،وعلى باغات ؛ وهي
األح اديث اليت يق ول فيها ملك :بلغين عن رس ول اهلل ص لى اهلل عليه وس لم ك ذا ،أو عن ايب بكر ك ذا ،أي أنه ي ذكر احلديث بال
إسناد ،وكذلك املراسيل ،فإهنا كثرية أيض اً يف موطأ اإلمام مالك ،فلهذا السبب ،وللسبب السابق ،وهو وجود الزيادات عن ابن
ماجه – قدم من قدم سنن ابن ماجه على موطأ اإلمام مالك .
أما من خالف فاعترب موطأ اإلمام مالك هو سادس الكتب الستة ،فألجل أن غالب ما ينفرد به ابن ماجه هو من األحاديث
الضعيفة ،فلهذا غضوا الطرف عن سنن ابن ماجه ،واعتربوا موطأ اإلمام مالك هو سادس هذه الكتب .
مع العلم ب أن ه ذا أيض اً ليس حمل اخلالف ؛ بل هن اك من خ الف واعترب س ادس الكتب الس تة هو س نن ال درامي أو مس ند
الدرامي ،وهذا أول من أثاره مغلطاي ،وتبعه على ذلك العالئي ،فقالوا :ينبغي أن يكون سادس الكتب الستة مسند الدرامي أو
س نن ال درامي ،ولكن مغلط اي زاد على ذلك ،ف زعم أن ال درامي من ألف يف الص حيح ،وأنه ممن س بق البخ اري إىل الت أليف يف
الصحيح ،فهو يقول :ليس البخاري هو أول من ألف يف الصحيح اجملرد .وانتقده على ذلك احلافظ ابن حجر ،ومن أراد أن يطلع
هذا فليطالعه يف كتاب "النكت" .
وقد دلل ابن حجر على أن س نن ال درامي ميكن أن تعترب ص حيحة ،وأن مغلط اي حينما أث ار ه ذه ال دعوى إمنا اعتمد على
عبارة جاءت على طرة نسخة من سنن الدرامي ،فقد ظن مغلطاي أهنا خبط احلافظ املنذري ،وإمنا هي خبط راو آخر ليس من أهل
العلم الذين يعتمد على أقواهلم ،ولكن خط يشبه خط احلافظ املنذري ؛ لذلك مل يعد أحد سنن الدرامي مما ألف يف الصحيح اجملرد .
فلذلك خطأ احلافظ ابن حجر مغلطاي على مقولته هذه ،مع اعرتاف احلافظ ابن حجر بان سنن الدرامي أوىل بالتقدمي من
سنن ابن ماجه ؛ ألن الضعيف يف سنن الدرامي أقل بكثري من الضعيف يف سنن ابن ماجه .
98
ولكن ال ذي يظهر أن مثل ابن ط اهر املقدسي مل يتلفت إىل س نن ال درامي ألجل احتوائها على اآلث ار املوقوفة واملقطوعة ؛
لذلك غض الطرف عنها .
وإمنا ق دموا س نن ابن ماجه ؛ ألهنا متض منة للح ديث املرف وع وجلودة ترتيبها وجلودة س ياقه لألح اديث واختص اره للمت ون ،
ولبعض اجلوانب ق دمت س نن ابن ماجه مع ما فيه من األح اديث الض عيفة ،بل حىت املوض وعة ،وي ذكر احلافظ ال ذهيب أن ه ذا هو
ط قيمة سنن ابن ماجه عن بقية الكتب الستة ،وإال ففيها جوانب ميكن أن تفضل هبا هذه السنن على غريها. الذي ح ّ
طبعات سنن ابن ماجه :
وأختم كالمي ه ذا ب الكالم عن طبع ات س نن ابن ماجه ،ف أقول :طبعت س نن ابن ماجه ع دة م رات ،من أمهها طبعة مع
شرح السندي ،وهي طبعة قدمية .
والطبعة املش هورة هي اليت بتحقيق حممد ف ؤاد عبد الب اقي ،وإمنا اش تهرت ؛ ألهنا تتالقى مع ت رقيم املستش رقني يف املعجم
املفرس .
وك ذلك هن اك طبعة أخ رية ،وهي اليت حققها ال دكتور حممد مص طفى األعظمي ،ولكن ه ذه الطبعة تنقص ح وايل م ائيت
حديث عن الطبعة اليت حققها حممد فؤاد عبد الباقي ،وكنت قد سألته عن هذا ،فقال :أنا أخذت رواية من روايات سنن ابن ماجه
،وهي رواية معتم دة على نس خة موثقة ص حيحة ،ف أردت أن يك ون ه ذا منوذج اً من األعم دة التوثيقية لبعض كتب الس نة ؛ ألنه
ك انت هن اك مناقشة مع بعض الن اس يف ض رورة إع ادة النظر يف كتب الس نة ،وض رورة توثيق أص وهلا وض بط نصوص ها ،فك أن من
تن اقش معه أث ار عليه دع وى ،وق ال :أنت تريد أن تش كك يف أص ول الس نة وما إىل ذلك ،فق ال :إنين أردت أن أق دم منوذج اً من
الفكرة اليت دعوت إليها ،فاخرتت أصغر الكتب ،وهي سنن ابن ماجه ،وأخذت نسخة موثقة فنشرهتا .
وقد ذكر أن هذه النسخة كوهنا تنقص عن النسخة املطبوعة حوايل مائيت حديث أو حنو ذلك ،فلست أنفي أن تكون تلك
األحاديث الزائدة من سنن ابن ماجه ،ولكين قلت :هذه نسخة من نسخ سنن ابن ماجه ،أما من أراد أن يضيف األحاديث الباقية
فعليه توثيقها .هذا موجز ما ذكرها يل .
شروح سنن ابن ماجه :
بالنسبة للشروح لسنن ابن ماجه ،فتعترب أكثر من الشروح على سنن النسائي ،فقد اعتىن هبا الكثري من األئمة ،ولكن من
أمههم شرح البن امللقن ،وشرح للسيوطي أمسه "مصاحب الزجاجة" وشرح للسندي .
وهناك ما يشبه التعليقات بعنوان " :ما تسمى إليه احلاجة ملن يطالع سنن ابن ماجه" ألحد اهلنود .
وهذا تقريب اً أبرز ما هناك ،مع اإلشارة إىل تلك الزوائد اليت أخرجها البوصريي – رمحه اهلل -يف كتابه " مصباح الزجاجة
يف زوائدة سنن ابن ماجه" وهذا ما يتعلق بالكالم على سنن ابن ماجه .
أسأل اهلل – جعل وعال – التوفيق واهلداية .وصل اللهم وسلم على نبينا حممد صلى اهلل عليه وسلم .
99
سنن النسائي
سنن النسائي إحدى الكتب الستة اليت أشتهرت عند القاصي والداين .
أمسه ومولده :
مؤلف هذا الكتاب هو أبو عبد الرمحن أمحد بن شعيب بن علي بن سنان بن حبر اخلرساين النسائي القاضي .
ولد – رمحه اهلل – يف مدينة نسا يف عام مخسة عشر ومائتني ،وقيل يف عام أربعة عشر ومائتني للهجرة .
واالختالف ج اء بس بب وراية رويت عنه ،وبس بب كالم لتلمي ذه أيب س عيد بن ي ونس ص احب ت اريخ مصر ؛ ف أبو س عيد
ذكر أن مولده يف عام مخسة عشر أو أربعة عشر ،والنسائي نفسه ملا سئل عن مولده مىت ،قال :يشبه أن يكون يف عام مخسة عشر
ومائتني ،فهو إذن مل يقطعه ومل جيزم هبذا ؛ ألنه مل يضبط تاريخ مولده ،لكنه استدل على ذلك بأنه رحل إىل قتيبة بن سعيد يف عام
ثالثني ومائتني ،وكأنه يستشف أن عمره إذ ذاك كان مخسة عشر عاماً ،فيكون مولده تقريباً يف حدود عام مخسة عشر ومائتني .
طلبه للعلم :
طلب – رمحه اهلل – العلم منذ الص غر ،وه ذا أف اده كثري ج داً ،كما سنشري إلي ه .فنج ده رحل إىل قتيبة بن س عيد يف س نة
ثالثني ومائتني ،وأقام عنده والزمه أكثر من سنة ؛ ولذلك يعترب إسناد النسائي عالي اً يف بعض الشيوخ ،ومن مجلتهم قتيبة بن سعيد
الذي كان مولده يف عصر مبكر ،فقتيبة بن سعيد كان مولده يف سنة تسع وأربعني ومائة ،فهو عاش تقريب اً حوايل مائة عام ،فظفر
النسائي بأسانيد عالية من هذا الباب ،ومن مجلتها أحاديث ابن ليعهة اليت يرويها عنه تقيبة بن سعيد كما سنشري إىل ذلك أيضاً .
مث إنه مل يقتصر يف الس ماع على قتيبة بن س عيد ،بل مسع من أئمة آخ رين ،مثل إس حاق بن راهويه ،وأمحد بن م نيع ،
وعلي بن حجر الس عدي ،ومن أيب داود ،والرتم ذي ،ومن أيب ح امت ،وأيب زرعة ال رازيني ،ومن حممد بن حيىي بش ار ،وحممد بن
املثىن ،وهناد بن السرى ،وأمثال هؤالء الشيوخ الذين أدركم وروى عنهم ،ومعظمهم من شيوخ أصحاب الكتب الستة ،وخباصة
البخاري ومسلم .فإذن هو شارك البخاري ومسلم يف كثري من شيوخهم ؛ ولذلك ظفر باألسانيد العالية .
روايته عن البخاري :
اختلف هل مسع النسائي من البخاري وروى عنه أم ال ؟ فنجد املزي يف هتذيب الكمال قطع بأنه مل يرو عن البخ اري ،وأن
ال ذي وقع يف الس نن حينما ق ال :ح دثنا حممد بن إمساعيل ،وقيل عنه البخ اري ،أن ه ذا من تص رف بعض ال رواة ،واحلقيقة أنه مل
يسمع من البخاري ،وهذه وجهة نظر املزي .
لكن بعد التتبع وجد أن فعالً روى عن البخاري ،ومن أراد اإلفاضة يف هذه املسألة فلريجع كتاب " بغية الراغب املتمين يف
ختم النس ائي برواية ابن السين " للس خاوي ،فإنه بني ه ذه املس ألة ،وأظن ك ذلك أن " بش ار مع روف" يف تعليقه على "هتذيب
الكمال" وضح هذا أيضاًَ.
وك ان من أدب الطلب عن دهم يف ذلك العصر الرحلة يف طلب احلديث ،وه ذا ال ذي ح رص عليه وص نعه النس ائي ،وهو
الذي أفاده يف احلصول على األسانيد العالية ،فإنه –رمحه اهلل -رحل إىل عدة بلدان منها خراسان واحلجاز ومصر والعراق واجلزيرة
والشام ،ومسع من كثري من الشيوخ ،وكان حريصاً على التلقي ،حىت وإن كان يصاحب ذلك شيء من العناء بل رمبا املذلة .
روايته عن احلارث بن مسكني من وراء الستار :
ق دم – رمحه اهلل – على احلارث بن مس كني ،ومسع منه ،ولكنه مل يس تطع الس ماع منه مباش رة – أي حبض ور احللقة كما
حيض رها بقية التالميذ ، -وإمنا ك ان يس تمع من وراء س تار؛ ول ذلك جند النس ائي يف س ننه إذا روى عن احلارث بن مس كني يق ول :
قرئ على احلارث بن مسكني وأنا أمسع ،أو يأيت بصيغة مثالً :أخربنا احلارث بن مسكني قراءة عليه وأنا أمسع.
فهو يشري هبذا الص نيع إىل أنه مل يأخذ عن احلارث بن مس كني ،كما أخذ عن بقية الش يوخ ال ذين ال يقيد ذلك ب القراءة
عليهم حال مساعهم .
100
وقيل يف السبب الذي دعى النسائي إىل عدم السماع من احلارث بن مسكني مباش رة ،أهنما كان قاش يني ،وحصل بينهما
شيء من اخلالف الذي حيصل فيه الغالب بني األقران ؛ ولذلك مل يستطيع النسائي احلضور إىل حلقة احلارث بن مسكني ملا بينهما من
الشحناء .
وقيل س بب غري ذلك ،وهو أن احلارث بن مس كني – رمحه اهلل – ك ان مؤاخ ذاً من قبل الس لطان يف عص ره ،ويب دو أنه
كان متخوف اً من السلطان ،فدخل عليه النسائي بزي أنكره ،ومل يكن يعرفه ،فقد كان النسائي البس اً لقلنسوة وثياب تشبه ثياب
أعوان السلطان ،فخشي احلارث بن مسكني أن يكون السنائي من أعوان السلطان ،فخشي أن يكون قد ُدس عليه لينقل كالمه إىل
السلطان ،فمنعه من احلضور إىل احللقة ؛ فأصبح حيضر من رواء الستار ويسمع ويقيد.
ذكر الوقيعة اليت بينه وبني أمحد بن صاحل املصري :
مسع – رمحه اهلل – يف رحلته إىل مصر من أمحد بن ص احل املص ري ال ذي هو أحد األئمة ال ذين يف طبقة اإلم ام أمحد ،وهو
إمام مشهور كثرت عبارات العلماء يف الثناء عليه ،إال أن النسائي بدالً من الرواية عن ذلك اإلمام والثناء عليه ،انقلب على الضد ،
فأصبح ينال من أ؛مد بن صاحل املصري ،ويتكلم فيه ،ويتهمه بالكذب ،إىل غري ذلك من العبارات اليت وردت عن النسائي يف حق
هذا اإلمام .
وقبل أن أذكر الس بب يف ذلك أذكر بقصة أيب داود عن دما ك ان حريص اً على الس ماع ،بل حىت على إمساع أبنائه من
الشيوخ الذين يستطيع أن يسمعهم منهم ،ومن ذلك أنه رحل بابنه عبد اهلل إىل أمحد بن صاحل املصري وأحضره معه يف احللقة ،وقد
وضع أبو داود البنه عبد اهلل حلية مستعارة ؛ ألن أمحد بن صاحل مل يكن يسمح للمردان باحلضور إىل حلقته .
وقد وردت القصة بلفظ آخر ،ولعله من هو األص وب ،وهو أنه قيل :إن أبا داود أحضر ابنه وهو أم رد ،ومل يكن وضع
له ه ذه اللحية اليت قيل إنه وض عها له ،وحينما أحض ره رفض أمحد بن ص احل أن حيدث حىت خيرج أبو داود ابنه ،فق ال له أبو داود :
إنه أحفظ وأذكى من امللتحني فامتحنه ،فامتحنه أمحد بن صاحل فوجده أهالً للتحمل ،فسمح له باستثناء .
وقد قيل إن أمحد بن صاحل كان عسراً وشديداً يف اإلمساع ،ال يسمع أحداً حىت يأتيه برجلني يزكيانه ،فيحتاج أن يأيت قبل
ذلك فيستأذن ويأيت مبن يزكيه ،وكان ال يسمح للمردان أيضاً ؛ ومع ذلك قالوا فيه عسر وشدة يف خلقه ،بل وصف – رمحه اهلل –
بشيء من العجب والتيه ؛ كل هذا يبدو أنه كان عامالً يف الوقيعة اليت وقعت بينه وبني النسائي .
فيقال :إن النسائي جاء وحضر على اعتبار أهنا كبقية حلقات الشيوخ ،فلما جاء رفض أمحد بن صاحل املصري إمساعه ،
ألنه يعترب دخل البيوت من غري أبواهبا يف نظر أمحد بن صاحل املصري ،فطرده من حلقته ،فوقع هذا يف نفس السنائي ،فأصبح يتكلم
يف أمحد بن صاحل املصري ؛ ولذلك قال العلماء :إنه ال يسمع كالم النسائي يف أمحد بن صاحل املصري هلذا السبب.
مث إنه – رمحه اهلل – يف حال الرحلة يبدو أنه راق له املقام يف مصر ؛ فأقام فيها واستوطنها حىت توفاه اهلل .
ولقد عمر النسائي – رمحه اهلل – حيث عاش قريباً من تسعني عاماً ،وقد توفاه اهلل يف سنة ثالمثائة وثالثة للهجرة .
وكان النسائي قد ظفر بأسانيد عالية مما جعل التالميذ حيرصون على السماع من النسائي وعلى لقيه .
أي أن هناك عاملني أساسيني :
العامل األول :أن النسائي عمر فعاش مدة تقرب من تسعني عاماً .
العامل الثاين :أنه طلب العلم يف الصغر ،أي ليس كالرتمذي الذي أشرنا إىل أنه تأخر طلبه للعلم ؛ فالنسائي طلب العلم يف
الصغر ،ومل طلب العلم ظفر بأسانيد عالية مثل قتيبة بن سعيد ،وإسحاق بن راهويه ،وأمثاهلم ؛ فهذه األسانيد العالية اليت حصلت
للنسائي جعلت طلبة العلم حيرصون على السماع منه ؛ ألهنم سيظفرون أيضاً بعلو اإلسناد .
تالميذه :
101
جند كبار األئمة تتلمذوا على النسائي ،ومن هؤالء :ابن حبان صاحب "الصحيح" ،والعقيلي صاحب "الضعفاء" ،وابن
عدي صاحب "الكامل" ،والدواليب – ومع العلم بأنه يعترب من أقران النسائي ولكنه مسع منه – وهو صاحب كتاب األمساء والكىن "
،والطحاوي صاحب "شرح معاين اآلثار" و "مشاكل اآلثار" وصاحب "الطحاوية" ،وأبو عوانة صاحب "املستخرج على صحيح
مسلم" ،وأبو سعيد بن يونس صاحب " تاريخ مصر " ،والطرباين ،اإلمام املشهور -صاحب "املعاجم الثالثة" ،وابن السين صاحب
"عمل اليوم والليلة" وكتاب القناعة ،والذي هو أحد رواة السنن ،كما سيأيت إن شاء اهلل ،وغري هؤالء كثري .
كتابه " خصائص علي " :
وذات مرة دخل النسائي – رمحه اهلل – دمشق ،فرأى كثرياً من أهلها منحرفاً – كما يقال – عن علي ،أي ليس لعلي بن
أيب طالب – رضي اهلل عنه – مكانه عندهم ،بل رمبا تناوله بعضهم بالوقيعة ؛ فألف كتاب " خصائص علي " فذكر فيه فضائل علي
– رضي اهلل عنه – رجاء أن يهديهم اهلل .
وقد أنكر عليه بعض الن اس ؛ ألنه ت رك الش يخني – أبا بكر وعمر – وص نف يف علي ؛ ف ألف بعد ذلك كت اب " فض ائل
الصحابة " ،ولكنه مل خيرج يف فضل معاوية بن أيب سفيان – رضي اهلل عنه – شيئاً ،والسبب أنه مل جيد يف فضله شيئاً على شرطه ،
بل األحاديث اليت وردت يف فضل معاوية – رضي اهلل عنه – ال تصح .
فقيل :إنه تكلم بكالم عن معاوية أخذ عليه هذا الكالم ؛ فتناوله أهل دمشق بالضرب ،فأخذوا يدفعون يف جنبيه ،ويبدو
أهنم أيضاً ضربوه يف خصيتيه حىت أخرجوه من املسجد الذي كان فيه ،فأثر فيه هذا الصنيع ؛ فقال :امحلوين إىل مكة ،فحمل وتويف
رمحه اهلل .
وفاته :
قيل :إنه ت ويف بالرملة يف فلس طني ،وقيل :إنه ت ويف مبكة ،واخلالف ج اء بني أيب س عيد بن ي ونس ال ذي هو أحد تالميذ
النس ائي ،وبني ال دار قطين ،فال دار قطين ي رى أنه ت ويف مبكة ،وأبو س عيد ي رى أنه ت ويف بالرملة .وبعض العلم اء – مثل ال ذهيب –
رجح قول ابن يونس ؛ ألنه تلميذ للنسائي ،أما الدار قطين فلم يدرك النسائي .
كان وفاته – رمحه اهلل – يف سنة ثالث وثالمثائة للهجرة ،وذلك يف يوم االثنني لثالث عشرة ليلة خلت من شهر صفر .
تقدميه على مسلم صاحب الصحيح :
ع رف النس ائي باحلفظ واإلتق ان حىت إن ال ذهيب قدمه على مس لم ،وي رى ال ذهيب أن النس ائي أحفظ من مس لم ص احب
الصحيح .
وكما قلت :إنه ظفر بأسانيد عالية ؛ فحرص طلبة العلم على التلقي عنه .
ويظهر أنه – رمحه اهلل – كان موسر احلال ،ونقل عنه أ،ه كان متزوج اً بأربع نسوة ،ويضيف إليهن يف الغالب سرية من
السرايا ،فكان يقسم خلمس ،وذكروا كالماً يف هذا ال داعي لذكره يف هذا املوضع .
عبادته واحرتازه من السلطان :
وكان مع هذا صاحب عبادة ،وقد ذكر وأنه خرج مرة مع أمري مصر لفداء بعض املسلمني الذين وقعوا يف األسر ،فوصفوا
من شهامته – رمحه اهلل – وحرصه على إقامته لسنن املأثورة واحرتازه عن جمالس السلطان الذي خرج معه ما جعل العلماء يُعجبون
به ويثنون عليه .
وك ان – رمحه اهلل – يص وم مثل ص يام داود عليه الس الم ؛ يص وم يوم اً ويُفطر يوم اً ،ومع ه ذا ك ان يف وجهه ش يء من
البهاء والنضرة ،حىت إ ،بعضهم كان يظن أن النسائي يشرب النبيذ؛ ألن النبيذ يُعطي اإلنسان عافية وصحة يف جسمه ،ألجل نسبة
احلايل اليت فيه ،لكن ملا سئل النسائي أجاب بأنه يرى ُحرمة النبيذ ،وليس ممن يتوسع يف ذلك .
توليه القضاء :
102
وكان – رمحه اهلل – قد توىل القضاء يف مصر ويف محص .
مؤلفاته :
توىف – رمحه اهلل – بعد أن ألف مؤلفات عديدة مهمة جداً ،منها :
كتاب " الكىن " ،وهذا الكتاب مل يصل إلينا . -
كت اب " ح ديث مالك بن أنس " ،وقد جعل املزي أح اديث ه ذا الكت اب من ض من األح اديث اليت ذكرها يف " حتفة -
األشراف" ،ورجال أسانيده من ضمن الرجال الذين تطرق إليهم يف كتابه " هتذيب الكمال " .
ويبدو أن النسائي كان حريصاً على تتبع أحاديث هؤالء األئمة املشهورين املكثرين ،فنجده ألف :
ومنهم ابن السين أبو بكر أمحد بن حممد الذي اشتهرت روايته ،وسيأيت احلديث عنها إىل شاء اهلل . -
ومن هؤالء أبو علي احلسن بن األخضر األسيوطي ،أو ابن اخلضر األسيوطي . -
103
وأبو احلسن حممد بن عبد اهلل بن حيويه . -
وحممد بن معاوية املشهور بابن األمحر األندلسي ،وروايته مشهورة . -
وحممد بن قاسم بن سيار القرطيب ،ورواية ابن سيار القرطيب أيضاً مشهورة . -
وعلي بن أيب جعفر الطحاوي ،وليس هو الطحاوي صاحب "شرح معاين اآلثار" . -
104
أحاديث صحيحة على شرط الشيخني .
القسم الثالث :
أح اديث أخرجها النس ائي ،وأوضح علتها بطريقة يفهمها أهل الص نعة ؛ أي أنه قد يشري إىل علة احلديث إش ارة واض حة ،
وقد ال يشري إش ارة واض حة ،ولكنها إش ارة يفهمها أهل الص نعة ،وذلك ك أن يُ ورد احلديث مثالً ،مث يق ول :ذكر اختالف الن اقلني
هلذا اخلرب عن فالن -الذي هو أحد الرواة الذين تدور عليهم أسانيد هذا احلديث ، -مث يبدأ يف بيان اختالف يف هذا احلديث مبا
يشري إىل أن ه ذا احلديث من األح اديث املعلولة بس بب ذلك االختالف ال وارد فيه .فبعض الن اس قد ال يفهم ص نيع النس ائي ه ذا ،
ولكنه يفهمه أهل الصنعة .
منهج النسائي :
ومنهجه – رمحه اهلل – صرح به يف إخراج بعض الرواة ،فإنه صرح أنه ال يرتك حديث الراوي حىت جيمع األئمة على تركه
،ولعل مقصده – رمحه اهلل – يف إمجاع األئمة هو إمجاع أئمة طبقة معينة .
فمثالً إذا جئنا لراو حدث عنه عبد الرمحن بن مهدي وتركه حيي بن سعيد القطان ،يُعترب النسائي مثالً هذا الصنيع من باب
االختالف يف ذلك الراوي ،فيقول :إنه ما دام مل جيمع حيىي بن القطان وعبد الرمحن بن مهدي على ترك ذلك الراوي فأنا ال أتركه
هبذه الصورة ،ألننا جنده أحياناً يرتك أحاديث بعض الرواة الذين ليسوا هبذه الصفة مثل ابن هليعة ،فلم جيمع األئمة على ترك حديثه ،
بل األمر فيه خمتلف ،ولكن النسائي ترك حديثه ؛ ألنه ترجح لديه جرح ابن هليعة.
وال ذي ي دل على ه ذا ذلك احلديث ال ذي أخرجه النس ائي من طريق عبد اهلل بن عثم ان بن خ ثيم ،وعبد اهلل بن عثم ان بن
خثيم خمتلف فيه ،والراجح يف حالة أنه صدوق حسن احلديث إن شاء اهلل(. )124
وقد روى عبد اهلل بن عثم ان بن خ ثيم ح ديثاً أخرجه عنه النس ائي يف الس نن ،وهو ح ديث ج ابر بن عبد اهلل – رضي اهلل
عنهما – يف إرسال النيب صلى اهلل عليه وسلم علي بن أيب طالب إىل موسم احلج ليقرأ عليهم سورة براءة( ، )125واحلديث معروف .
فإذن هو حينما أخرج حديث هذا الراوي بني أن هذا الراوي من الرواة الذين اختلف أئمة احلديث فيهم ،فعلي بن املديين
جيرحه ،وعبد ال رمحن بن مه دي وحيىي بن س عيد القط ان روايا عنه ؛ أي أهنما ع داله .فه ذا ي دل على اختالفهم يف ه ذا ال راوي ،
ولذلك خرج حديثه ،فهذا الصنيع منه يدل على صدق العبارة اليت ذكرت عنه .
وجند أنه من شدته يف اجلرح جتنب إخراج أحاديث مجاعة ممن أخرج هلم البخاري ومسلم يف صحيحهما ،مثل إمساعيل بن
أيب أويس( )126الذي هو ابن أخت اإلمام مالك ،وهو أحد شيوخ البخاري ومسلم .
فه ذا ال راوي متكلم فيه ،وقد اجتهد البخ اري ومس لم فأخرجا من حديثه ما انتقي اه ،وأما النس ائي – رمحه اهلل – فإنه
أعرض عن حديث هذا الراوي .
بل إننا لنجد ال دار قطين – رمحه اهلل – أف راد مص نفاً مجع فيه أمساء ال رواة ال ذين ض عفهم النس ائي وأخ رج هلم الش يخان يف
صحيحيهما .
( )1عبد اهلل بن عثمان بن خثيم ،القارئ المكي ،أبو عثمان ،صدوق ،من الخامسة ،مات سنة .132أخرج له 124
( )1إس ggماعيل بن عبد اهلل بن أويس بن مالك بن أبي ع ggامر األص ggبحي ،أبو عبد اهلل بن أبي أويس الم ggدني ،ص ggدوق أخطأ 126
في أحاديث من حفظه ، gمن العاشرة ،مات سنة ، 226أخرج له الجماعة إال النسائي .تقريب ت. 527:
105
ول ذلك فإننا جند أن من منهج النس ائي – رمحه اهلل – يف كتابه ه ذا أنه حيرص كل احلرص يف الب اب الواحد على إخ راج
احلديث الص حيح إذا وج ده ،ف إن مل جيد أخ رج بعض األح اديث الض عيفة اليت ي رى أن رواهتا املض عفني ممن مل جيمع األئمة على
ضعفهم وترك أحاديثهم .
ولرمبا وجد النسائي يف الباب حديثاً صحيحاً ،وأخرج معه بعض األحاديث الضعيفة ،والسب يف ذلك كون ذلك احلديث
الضعيف تضمن زيادة مل ترد يف احلديث الصحيح .
ومثاله :
ذلك احلديث الذي رواه من طريق سعيد بن سلمة ،عن عمرو بن أيب عمرو موىل املطلب ،عن أنس بن مالك – رضي اهلل
عنه – أنه ق ال " :ك ان رس ول اهلل ص لى اهلل عليه وس لم إذا دعا ق ال :اللهم إين أع وذ بك من اهلم واحلزن ،والعجز والكسل ،
والبخل واجلنب ،وضلع الدين وغلبة الرجال"(. )127
ق ال النس ائي ملا أخ رج ه ذا احلديث " :س عيد بن س لمة ش يخ ض عيف"( ، )128وإمنا أخرجن اه للزي ادة يف احلديث" .فه ذا
احلديث جاءت فيه زيادة مل تكن موجودة يف األحاديث اليت أخرجها هو من غري طريق سعيد بن سلمة .
عناية بالناحية الفقهية يف كتابه السنن :
جند كت اب النس ائي – رمحه اهلل – من الكتب اليت ُع نيت بالناحية الفقهية ،مع ما تض منته من الناحية احلديثية اليت سنشري
لبعضها .
فنجد كتاب اً فقهي اً ؛ لكونه رتب األح اديث ترتيب اً فقهي اً مص احباً التب ويب والرتمجة على تلك األح اديث مبا تض منته تلك
األحاديث من معان فقهية .
فهو إذن مثل الرتمذي – رمحه اهلل – الذي سبق الكالم عن صنيعه ،فالرتمذي –كما قلنا -مجع بني طرقيت شيخية البخاري
ومسلم ،وكذلك النسائي مجع بني طريقيت البخاري ومسلم ،أي بني الصناعة احلديثية وبني الصناعة الفقهية .
لكن الرتم ذي أك ثر إيض احاً لفقه احلديث من النس ائي ؛ فالرتم ذي جنده يُعين عناية فائقة ب إيراد آراء الفقه اء ،بينما ميت از
كتاب النسائي عن كتاب الرتمذي بأنه أقل إخراج اً لألحاديث الضعيفة ،فهو أنقى من جامع الرتمذي .فلكل من الكتابني ميزة عن
اآلخر ،وليس معىن هذا أنه ال يورد بعض اآلراء الفقهية ،بل يوردها كما سأمثل .
األدلة على عناية بالناحية الفقهية :
ومن األدلة على عناية النس ائي بالناحية الفقهية تك راره للح ديث ،فإنه يك رر احلديث كث رياً ،وه ذه اعت ربت م يزة لكت اب
السنائي على كتاب الرتمذي ،فنجده يكرر األحاديث يف مواضع متعددة حىت قيل :إنه أكثر الكتب تكراراً لألحاديث ،من األمثلة
على ذلك حديث " :إمنا األعمال بالنيات ،وإمنا لكل امرئ ما نوى" ،جند النسائي – رمحه اهلل – كرر هذا احلديث ست عشر مرة
،وهذا مقدار كثري بال شك .
قلت :إن كت اب الرتم ذي يتم يز على كتابه ب إيراد الرتم ذي آلراء الفقه اء ،ولكن ليس معىن ه ذا أن النس ائي ال ينقل عن
الفقه اء آراءهم ،بل ينقلها ،ولكنها قليلة ،ومن أمثلة ذلك :نقل عن مس روق – رمحه اهلل – فت وى له يف اهلدية والرش وة(. )129
وهناك أمثلة غري هذا .
( )1س ggعيد بن س ggلمة بن أبي الحس ggام الع ggدوي م ggوالهم ،أبو عم ggرو الم ggدني ،وهو أبو عم ggرو السدوسي ال ggذي روى عنه 128
العقدي ،صدوق صحيح الكتاب يخطئ من حفظه ، gمن السابعة ،أخرج له البخاري تعليقاً ،ومسggلم وأبو داود والنسggائي
،تقريب ت . 2566 :
( )1انظر :سنن النسائي (. )8/314 129
106
ومن األدلة على اعتنائه بفقه احلديث أنه يف أحي ان كث رية يقتصر على موضع الش اهد من احلديث ،وخيتصر املنت حينما ال
يهمه يقيته يف ذلك املوضع .
ومن أمثلة عنايته بالناحية الفقهية أنه أحياناً يورد كالماً من عنده يدل على فقه احلديث ،وقد يكون هذا الكالم طويالً ،قد
يصل حنو الصفحتني .
ومن أمثلة عنايته بالناحية الفقهية أنه أحيان اً يورد كالم اً من عنده يدل على فقه احلديث ،وقد يكون هذا الكالم طويالً ،
قد يصل حنو الصفحتني .
ومن األمثلة على ذلك أنه ق ال يف كت اب املزارعة " :كتابة مزارع ة" ،مث س رد كالم اً ط ويالً ( ،)130ويف ه ذا الكالم ص نع
منوذج اً يف كتاب املزارعة أشبه ما يكون يف العقد بني االثنني اللذين يعقدان بينهما عقداً على مزارعة أرض ،وهذا يدل على توسعه
يف الكالم على فقه احلديث .
ك ذلك أيض اً جند أنه ي ورد يف بعض األحي ان األح اديث املتعارضة يف الب اب الواحد ،وه ذه األح اديث املتعارضة يف معناها
ميكن أن يس تخلص منها أن النس ائي – رمحه اهلل – ي رى العمل هبذا وذاك ،وميثل ون هلذا ب إيراده ألح اديث اجلهة بالبس ملة ،وع دم
رج اجلهر هبا ،فقد أخ
"أحاديث اجلهر وأحاديث عدم اجلهر"( ، )131فكأنه يشري إىل أنه يُعمل هبذه وهبذه ،ومل يرجع شيئاً من هذا األحاديث على األخرى .
هذا بالنسبة لفقه احلديث .
عنايته بالناحية احلديثية يف كتابه السنن :
أما بالنس بة للناحية احلديثية أو الص ناعة احلديثية ،فنج ده – رمحه اهلل – يف كثري من األحي ان يُعين بعلل األح اديث ،في ورد
احلديث من ط رق متع ددة على اختالف الن اقلني هلذا احلديث ،لكنه يف البداية ي ورد احلديث من طريق ،مث يب وب بعد ذلك باب اً ،
فيقول " :باب بيان اختالف الناقلني للحديث عن فالن " – مثالً عن األوزاعي ،مث يبدأ يذكر اختالف على األوزاعي ،مما يدل على
أن كتابه هذا يعترب من كتب العلل .
أو أن النس ائي – رمحه اهلل – عين بإبراز علل احلديث ،مثله مثل الدار قطين يف كتاب "العل ل" حينما يورد علل األحاديث
واختالف الناقلني هلا .
فجمع النسائي – رمحه اهلل – بني اجلودة احلديثية وبني الصناعة احلديثية وبني فقه احلديث ،كما أشرنا سابقاً .
بعض فوائد كتاب السنائي (السنن) :
كما أن كتابه تضمن فوائد عديدة مثل :تسميته لبعض املكنيني – أي املعروفني بالكين ، -وتكنيته لبعض املتسمني الذين
عرفوا بأمسائهم ،مثل قوله :أبو عمار : -أمسه علي بن محيد.
كذلك أيضاً من الفوائد اجلليلة يف كتاب النسائي حكمه على األحاديث ،فنجده يف كثري من األماكن يقول :هذا حديث
منكر ،أو هذا حديث غري حمفوظ ،أو هذا حديث ليس بثابت ،أو هذا حديث صحيح .
فهذه األحك ام من النس ائي تفيد – بال شك – طلبة العلم والب احثني والعلم اء بعد ذلك ؛ ألهنا ص درت من إم ام مطلع مثل
النسائي املشهود له بطول الباع يف هذا الفن .
كما أن من الفوائد اليت تضمنها كتابه كالمه – رمحه اهلل – يف الرواة جراح اً وتعديالً ،وهذا كثري يف كتابه ،بل إن بعض
طلبة العلم يف ه ذا الزم ان ذهب ليجمع كالم النس ائي –رمحه اهلل – يف س ننه وجعله يف كت اب خ رج باسم "املس تخرج من مص نفات
النسائي يف اجلرح والتعديل" فأورد كالم النسائي من السنن يف الرواة جرحاً وتعديالً .
( )1انظر :سنن النسائي ( ،54 ،521 – 67/50فما بعدها) . 130
107
وكالم النسائي هذا وإن كان منثوراً يف سننه إال أن العلماء السابقني عُنوا أيضاً جبمعه ،ومل يهملوه ،ولكن هذا األخ الذي
مجعه مجعه يف م وطن واحد ،إال أننا لو رجعنا إىل مثل "هتذيب الته ذيب" للحافظ ابن حجر يف ترجيحه كل راو يك ون الس نائي قد
تكلم عنه جند ابن حجر ي ورد كالم النس ائي ،وقد يك ون كالم الس نائي ه ذا موج ودًأ يف كتابه " الض عفاء واملرتوكني" ،وقد يك ون
موجوداً يف كتابه "السنن" ،كل هذا مما مجع عن النسائي رمحه اهلل .
وجند أن األح اديث اليت أوردها النس ائي يف س ننه كلها – تقريب اً – مس ندة ،أي مروية باإلس ناد املتصل إىل النيب ص لى اهلل
عليه وس لم ،أو من دونه من الص حابة ،وال ي ورد النس ائي ش يئاً من األح اديث املعلقة كما حصل عند البخ اري أو عند مس لم على
قلته وندرته ،أو عند الرتمذي أيضاً على قلته ،وإمنا وجد الذي صورته صورة املعلق يف موضعني أثنني علق فيهما النسائي حديثني .
وهذا الكالم أذكره بناء على ما يقوله فقاروق محادة الذي حقق " عمل اليوم والليلة" للنسائي ،وتكلم يف مقدمة هذا الكتاب بكالم
جيد عن السنائي وعن منهجه يف كتابه "السنن" ،وهو من الكتب اليت رجعت إليها واعتمدت عليها يف حتضري هذا املادة اليت أطرحها
اآلن .
عدم اعنائه باألحاديث العالية لكوهنا غري صحيحة عنده :
أما بالنس بة لألح اديث العالية والنازلة عند الس نائي ،ف أعلى ما عند النس ائي األح اديث الرباعية ،أي أننا ال جند ش يئاً من
األحاديث الثالثية عند النسائي ؛ والسبب أنه – رمحه اهلل -كان يُعين بانتقاء األحاديث .
ولو تطلب إخراج حديثاً ثالثي اً ألخرجه ؛ ألن الذين يف طبقته مثل الرتمذي أو ابن ماجه ليس عندهم من األحاديث الثالثية
ص حيحة اإلس ناد ش يء ،فاألح اديث الثالثية يف ج امع الرتم ذي إمنا هي ح ديث واحد ،وس بق أن ذكرته لكم( ، )132وقلت :إن فيه
عمر بن شاكر ،وهو راو] مضعف ،فاحلديث ليس بصحيح .
أما األح اديث اليت عند ابن ماجه الثالثية فهي أك ثر من ه ذا الع دد ،ولكنها مجيع اً من طريق جب ارة بن مغلس ،وهو أيض اً
ضعيف إن مل يكن ضعيفاً جداً(. )133
فإذا الرتمذي وابن ماجه مل خيرجا حديثاً صحيحاً ثالثياً .
فالنسائي أعرض عن هذه األحاديث اليت قد يكون ظفر هبا ،وهي ثالثية اإلسناد ،ولذلك مل خيرج من األحاديث العالية إال
رباعية اإلسناد ،وهذا كثري عنده .
أما بالنسبة لألحاديث النازلة عنده ،فهي عشارية اإلسناد ؛ أي أن بينه وبني النيب صلى اهلل عليه وسلم عشرة رواة ،واليت
أخرج منها الرتمذي حديثاً واحداً – تقريباً ، -أما ابن ماجه فقد أخرج أحاديث من هذا القبيل ولكنها قليلة .
ومن تلك األح اديث العش ارية اليت خرجها النس ائي ح ديث أيب أي وب – رضي اهلل عنه – وهو يف فضل ق راءة {قل هو اهلل
أحد }(. )134
وملا أخرجه النسائي قال " :ال أعرف يف الدنيا إسناداً أطول من هذا اإلسناد" ؛ والسبب أنه رواه ستة أو سبعة من التابعني
،بعضهم يرويه عن بعض ؛ فطبقة التابعني تعترب نازلة حينما يكونون ستة أو سبعة فما بالك مبن بعد التابعني .
هل تنسب السنن الصغرى للنسائي ،أم لتلميذه ابن السين ؟
هذه مسألة من املسائل اليت كثر الكالم فيها .
أقول :سنن النسائي املوجودة نوعان :
األول :السنن الكربى .
108
الثاين :السنن الصغرى ،واملساة بـ " اجملتيب" أو " اجملتين" .
واالختالف واقع حول الذي صنف اجملتىب – السنن الصغرى – هل هو النسائي أم غري النسائي .ويف هذا االختالف وقع
جدل طويل ينتصر فيه كل فريق لرأيه .
الرأي األول :
هن اك من ي رى أن ال ذي ألف ه ذا اجملتىب هو ابن السين ال راوي هلا ،وه ذا هو راي ال ذهيب ،وابن ناصر ال دين الدمش قي
رمحهما اهلل تعاىل .
والذي يظهر من صنيع املنذري واملزي أهنما يريان هذا وإن مل يكونا قاال ذلك صراحة ؛ ألننا جند املنذري – رمحه اهلل – يف
ش رحه لس نن أيب داود إذا ع زى احلديث للنس ائي يع زوه للس نن الك ربى ،واملزي – رمحه اهلل – حينما أخ رج األح اديث – أح اديث
النسائي – يف "حتفة األشراف" أخرج أحاديث الكربى ،وحينما تكلم عن الرجال يف "هتذيب الكمال" تكلم عن الرجال املوجودين
يف الكربى ،والكربى متضمنة للصغرى يف األعم األغلب . ،فكأن هذا يشكل رأيا للمنذري واملزي ،وأن كان يف ذلك شيء من
التكلفة بالنسبة هلذا الرأي هلما .فعلى كل حال :الذي نص على هذا صراحة هو الذهيب وابن ناصر الدين .
الرأي الثاين :
وهن اك فريق آخر – وهم ك ثر – ك ابن األثري ،وابن كثري ،والع راقي ،والس خاوي ،وغ ريهم – ي رون أن ه ذه الس نن
الصغرى من تصنيف النسائي نفسه .
وعم دة أص حاب ه ذا ال رأي حكاية ج اءت بإس ناد منقطع ال تصح ،ويبعد أن تصح عن النس ائي حىت لو وردت بإس ناد
متصل ؛ ألن واقع السنن خيالف مقتضى هذه احلكاية .
يقولون :إن أمري الرملة ملا اطلع على السنن الكربى للنسائي ،سأل النسائي فقال :هل كل ما يف هذا الكتاب صحيح ؟
فقال " :ال" .قال :فأخرج يل الصحيح منه ؛ فانتقى هذا اجملتىب املسمى بالسنن الصغرى ،ـ وهو املطبوع واملشهور بأيدي طلبة العلم
يف هذا الزمان.
أقول :هذه احلكاية بإسنادها منطقع ؛ فهي إذن ال تثبت من حيث اإلسناد ،كما أهنا من حيث التضمني – ما تضمنته من
معىن – جند أن هذا املعىن غري صحيح ؛ ألننا جند هذه األحاديث املودعة يف اجملتىب فيها كثري من األحاديث اليت ليست بصحيحة ،بل
أحاديث أعلها النسائي نفسه ،فكيف ميكن أن يقال :إنه انتقى الصحيح ألجل أمري الرملة ؟
ه ذا بعيد ج داً كما يتضح ملن يط الع س نن الس نائي ؛ وألجل ه ذا قلت :إن من حكم على س نن الس نائي بأهنا مما ألف يف
الصحيح ،كما نقل عن الدار قطين واخلطيب البغدادي وابن عدي يبعد أن تكون هذه النسبة إليهم صحيحة ،ولو صحت – ولرمبا
ص حت وه ذا ال يهمنا ، -فقد يك ون م رادهم ما تض منته من أح اديث ص حيحة كث رية وال يك ون م رادهم القطع عليها بأهنا كلها
صحيحة ،فهذا ال ميكن أن يكون ؛ ألن هذه السنن تضمنت أحاديث كثرية أعلها النسائي نفسه.
كما أهنم اعتمدوا يف قوهلم بأن هذا الكتاب – السنن الصغرى – من تصنيف النسائي نفسه – على أنه جاء من رواية ابن
السين عن النسائي ،فيقول ابن السين :هذا ما حدثنا أبو عبد الرمحن النسائي ،وينص على ذلك يف مواضع .
أقول :هذا ال يعترب دليالً ؛ جند أن كثرياً من الكتب احلديثة اليت هلا أكثر من رواية عن املصنف حيصل فيها زيادة ونقص بني
تلك الروايات – وهذا كثري ، -وموطأ اإلمام مالك من أبرز األمثلة على هذا .
فموطأ اإلم ام مالك رواه مجع عنه ،من مجلتهم حيىي بن حيىي اللي ثي ،وي ونس بن بك ري ،والقعنيب ،وأبو مص عب الزه ري ،
وابن وهب ،والشافعي ،وحممد بن احلسن الشيباين ،وغري هؤالء كثري .فبعض هذه الروايات موجودة ومطبوعة ،فتحار يف املوطأ
برواية حممد بن احلسن الشيباين ،وبني املوطأ برواية حيي الليثي ،وبني املوطأ برواية أيب مصعب الزهري ،وكل هذه الروايات مطبوعة
،وجتد يف كل رواية من األحاديث زيادة عن الرواية األخرى .
109
كذلك أيضاًَ جامع الرتمذي فيه بعض األحاديث املوجودة يف بعض الروايات ،وليست موجودة يف الروايات األخرى .
وسبق أن حتدثت عن سنن أيب داود ،وقلت :إن ما كان من رواية ابن العبد أو ابن األعرايب أو ابن داسة ؛ يف كل رواية ما
ليس يف األخرى ،وإن كانت رواية ابن داسة هي اليت انتقيت ،ولكن يف بقية الروايات أحاديث أخرى ليست موجودة يف الروايات
األخرى ،فهذا أمر طبيعي جداً .
وما دام أن سنن النسائي كثر ناقلوها والراوون هلا عن النسائي ؛ فمن الطبيعي جداً أن جند يف كل رواية ما ليس يف األخرى
،فمن األمر اجملمع عليه أن كل ال رواة ال ذين ذك رت بعض هم – ما ع دا ابن السين – كلهم من ال ذين روا الس نن الك ربى للنس ائي ،
وهذه السنن الكربى يف كل رواية ما ليس يف األخرى .
وهذا يظهر واضحاً يف صنيع املزي يف "حتفة األشراف" حينما يقول :
هذا ليس يف رواية ابن األمحر ،وهذا من رواية ابن سيار ... ،إخل .
فتجد مثالً يف رواية ابن األمحر األحاديث – أو كتباً بأكملها – ليست يف رواية ابن سيار ،وجتد يف رواية ابن املهندس كتاباً
أو أحاديث ليست يف رواية ابن األمحر ،وهم متفقون على أهنا كلها تسمى بالسنن الكربى .
فإذا كان األمر هكذا ،فليس ببعيد إذن أن يكون ابن السين – رمحه اهلل – روى السنن عن النسائي يف هذه الرواية ،وهذه
رواية تض منت أح اديث معينة ،وت ركت أح اديث أو كتب اً معينة قد يك ون ابن السين مل يس معها ،وقد يك ون هو ال ذي اجتباها
واختصرها عمداً كما يقول الذهيب .
ومن أراد أن ينظر إىل من نصر ه ذا ال رأي أو ال رأي املخ الف من ال ذين تكلم وا عنه اآلونة األخ رية – جيد أن يف حاش ية
شعيب األرناؤوط على "هتذيب الكمال" للمزي يف ترمجة أمحد بن شعيب النسائي – جيد كالم اً لشعيب عن هذا االختالف الوارد ،
وقد نصر فيه رأي الذهيب.
كما أننا جند عبد الصمد شرف الدين الذي حقق "حتفة األشراف" ،وفاروق محادة الذي حقق "عمل اليوم والليلة" للنسائي
نصر الرأي اآلخر القائل بأن النسائي هو الذي انتقى هذه السنن الصغرى .
ومن األدلة اليت ميكن أن ندلل هبا على أن هذه السنن الصغرى قد تكون من زاوية ابن السين ،وأنا أقول " :قد" ؛ ألنين ال
أج زم ،بل أق ول :إن ال ذين قطع وا يف هذه املس ألة قطع اً تكلف وا ،وخباصة من قطع بأهنا من رواية النس ائي ؛ ألنه ليس له مستمسك
سوى ما ذكرته م نتلك احلكاية وهي ال تصح ،ومن كون ابن السين يروي هذا عن النسائي .
وجمرد الرواية معروف ،فمعروف أن هذه األحاديث يرويها النسائي ،وهذه الكتب واألبواب يرويها النسائي ،فهذا أمر
طبيعي ،لكن السؤال الذي ينبغي أن يورد عليهم هو :هل صرح ابن السين بأن النسائي هو الذي انتقى هذا الكتاب ،وهو الذي
اختصره ،وهو الذي اجتباه؟
هل ورد عن النسائي ما يدل على ذلك صراحة بإسناد صحيح ؟
هذا الذي ينبغي أن يوردوه حىت يتكئ قائل هذا القول على قاعدة صحيحة سليمة ،أما ما عدا ذلك فال يدل على هذا .
بل الذي يدل على ضعفه أن هذا االجتباء واالختصار الوارد يف السنن الصغرى ،جند أنه على غري قاعدة وبال رابط .
وإمنا أق ول :ال يس تند على قاع دة ،وليس بني ذلك االنتق اء واألب واب اليت تركها راب ط ،ألننا جند كتب اً كث رية بأكملها ال
توجد يف اجملتىب إطالقاً .
فمثالً :كتاب التفسري – أحد كتب السنن الكربى – مل يرد يف السنن الصغرى إطالق اً ،مع العلم أن هذا الكتاب ورد فيه
أح اديث ص حيحة كث رية جداً ،بل كثري منها خمرج يف الص حيحني ،ف إذا ك ان املقص ود انتق اء الص حي ،فلم اذا يُهمل النس ائي ه ذه
األحاديث الصحيحة؟ بل ملاذا يُهمل هذا الكتاب بأكمله ؟
110
بل حىت كتاب فضائل القرآن ،وكتاب فضائل الصحابة ،وكتاب خصائص علي ،وكتاب الطب ،وغري ذلك من الكتب
الكثرية كلها مل ترد يف هذا اجملين ،فلماذا يرتكها النسائي مع أن فيها مجلة من األحاديث املخرجة يف الصحيحني ؟
كما أن ه ذه الكتب اليت توجد يف اجملتىب – يعين توجد يف اجملتىب وتوجد يف الس نن الك ربى -جند يف الك ربى أح اديث
ص حيحة جند أهنا ح ذفت من الص غرى ،ف إذا ك ان النس ائي أراد اختص ار ه ذه الس نن الك ربى لتك ون ص حيحة فلم اذا أمهل ه ذه
األحاديث املذكورة يف الكربى ؟! وملاذا أتى بأحاديث ضعيفة ؟! .
هذا عكس ما يُفهم من تلك احلكاية متاماً ؛ ألن هذا ال يدل على أن النسائي أراد اختيار احلديث الصحيح ،وجعله يف هذا
الكتاب .
كما أننا جند يف هذه السنن الصغرى املسماة باجملتىب كتب اً بأكملها ليست يف الكربى ،منها كتاب الصاحل ،وكتاب اإلميان
وشرائعه ،فهذان الكتابان ال يوجدان يف الكربى ،وهذا يدل على أن السنن الصغرى هذه – املسماة باجملتىب – رواية من الروايات ،
فكما أن رواية ابن األمحر فيها ما ليس يف رواية ابن سيار ،وفيها ما ليس فيها من رواية ابن املهندس إىل غري ذلك من الروايات .
كذلك أيضاً يف رواية ابن السين أحاديث وكتب ال توجد يف الروايات األخرى ،فيمكن أن تضم هذه الروايات بعضها مع
بعض لتشكل مقداراً كبرياً يسمى السنن الكربى للنسائي ،سواء أكان من رواية ابن السين أو من رواية غري ابن السين .
أما أن يقال :إن رواية ابن السين وحدها هي اليت اختارها النسائي ،فهذا خطأ وإمنا هذه رواية من مجلة الروايات .
كما أن هذه السنن الصغرى املسماة باجملتىب فيها أحاديث وألفاظ زائدة يف اإلسناد أو يف املنت ،وهي ليست يف الكربى ،
وكذلك فيها زيادة يف بعض الرتاجم واألبواب واالستنباطات اليت ليست يف الكربى .
فمثالً :يف كت اب الطه ارة زاد يف الص غرى باب اً ليس موج وداً يف الك ربى ،وهو ب اب النهي عن اس تقبال القبلة عند
احلاجة(. )135
كما أننا جند يف السنن الصغرى املسماة باجملتىب أحاديث كثرية ضعيفة ،بل ضعيفة جداً ،بل يضعفها النسائي نفسه .
فكما أن النس ائي – رمحه اهلل – ممن ع رف بتش دده يف الرج ال إال أننا جنده خيرج أح اديث رواة حكم عليهم هو ب أهنم
مرتوكون ،واملرتوك حديثه ضعيف جداً .
فمثالً :أيوب بن سويد الرملي .قال عنه السنائي " :مرتوك احلديث" ومع ذلك أخرج حديثه( ، )136وهذا من القوادح فيما
ذكر عن أن النسائي اختار الصحيح .
كذلك سليمان بن أرقم ،وهو راو معروف بأنه مرتوك احلديث ،بل حكم عليه النسائي بأنه " مرتوك احلديث " .
وكذلك إمساعيل بن مسلم ،قال عنه النسائي " :مرتوك احلديث"(. )137
وكذلك إمساعيل بن مسلم ،قال عنه النسائي " :مرتوك احلديث"(. )138
علي بن املديين ،قال عنه النسائي " :مرتوك احلديث"(. )139
وكذلك عبد اهلل بن جعفر الذي هو والد ّ
كما أن هناك بعض الرواة الذين أخرج هلم ،وهو ال يعرفهم ؛ أي أهنم جمهولون عنده ،مثل :أيب ميمون ،قال عنه " :ال
أعرفه"(. )140
111
ومثل :قرصافة – امرأة – قال " :ال ندري من هي "(. )141
وهناك راو امسه مصعب بن شيبة قال عنه النسائي " :منكر احلديث "(. )142
خالصة ما سبق :
هذه بعض األمثلة فقط اليت تُدلل لنا على أن هذه السنن الصغرى – فض الً عن السنن الكربى – إمنا ألفها النسائي – رمحه
اهلل تعاىل – لتضمن مجلة كبرية من األحاديث الصحيحة اليت ظفر هبا .
وقد خيرج النسائي – رمحه اهلل – أحاديث ضعيفة ينبه يف كثري من األحيان على ضعفها ،وقد يفوته أو يسكت عن الكالم
عن ضعفها .
وما قيل عن أن السنن الصغرى هي اليت اختارها النسائي واختصرها من السنن الكربى لتضم احلديث الصحيح ،هذا ليس
بصحيح .
وما قيل من إطالق الصحة على سنن النسائي سواء الكربى أو الصغرى ،هذا ليس بصحيح ،بدليل واقع السنن ،بل إن
النسائي نفسه هو الذي يُعل هذه األحاديث ويضعفها ،وهذا يقدح يف هذه املقولة .
وما قبل عن بعض العلم اء أهنم حكم وا عليها بالص حة ،ميكن أن ي أول ه ذا الكالم على أهنم أرادوا أهنا تض منت مق داراً
كب رياً من األح اديث اليت تربو عن أي كت اب آخر ،وجتنبت األح اديث املوض وعة واملنك رة ،وإن ورد فيها ش يء من ذلك فهي قلة ،
والقليل يعترب من الشاذ الذي ال يبىن عليه حكم .
إذن س نن النس ائي تعترب من الكتب احلديثية اليت حتت اج إىل النظر يف أس انيد األح اديث اليت فيها – اليت ليست يف الص حيحني
– فيمكن أن يكون احلديث صحيحاً ،وميكن أن يكون غري صحيح ،وميكن أن يكون هذا الذي ليس بصحيح قد تكلم عنه السنائي
نفسه وأعله وبني ضعفه ،وميكن أال يكون النسائي قد بني ضعفه .
ول ذلك ال ينبغي لط الب العلم أن يتكئ على جمرد إخ راج النس ائي للح ديث ليحكم عليه بالص حة ،بل ميكن أن يس تأنس
بص نيع النس ائي جمرد اس تئناس إن مل يعل احلديث ،وميكن أن يطمئن ط الب العلم إذا حبث ووجد اإلس ناد ص حيحاً والنس ائي مل ي بني
علته ،فعلى أقل األ؛وال ،يق ول :لو ك ان للح ديث علة لبينها النس ائي مع اجته ادي يف طلب احلديث ومجع طرقه واحلكم عليه
بالصحة .
واهلل أعلم ،وصلى اهلل وسلم على نبينا حممد .
112