‎⁨شرح صحة مذهب أهل المدينة-1⁩

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 93

0

1
2
3
4
‫‪1‬‬

‫﷽‬
‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬وأشهد أن ال إله اال اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬وأشهد أن محمدً ا عبد اهلل‬
‫كثيرا إلى يوم الدين‪.‬‬
‫تسليما ً‬
‫ً‬ ‫ورسوله‪ ،‬صلى اهلل عليه وعلى آله وأصحابه وسلم‬
‫ُث َّم ّأما َب ْعد‪:‬‬
‫ففي هذه الليلة بمشيئة اهلل ‪ ‬نبدأ يف قراءة كتاب الشيخ تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد‬
‫السالم ابن تيمية المسمى بكتاب‪« :‬صحة أصول مذهب أهل المدينة»‪.‬‬
‫وهذه الرسالة أنشأها الشيخ إجابة لسؤال يتعلق هبذه المسألة األصولية التي ينبني عليها عشرات‬
‫المسائل الفقهية‪.‬‬
‫فقد قيل‪ :‬أن اإلمام مال ًكا قد أورد يف كتابه «الموطأ» بضعًا وأربعين مسألة أورد فيها عمل أهل‬
‫المدينة‪.‬‬
‫وقد جاء يف كتب الفقهاء وغيرهم من أهل الحديث الذين ُيعنون بالنقل‪ :‬مسائل أخرى غير التي نقلها‬
‫اإلمام مالك‪.‬‬
‫وغيره من األصول التي بنى عليها أهل المدينة‬
‫َ‬ ‫وهذه الرسالة تناول فيها الشيخ عمل أهل المدينة‬
‫مذهبهم‪ ،‬وسيظهر إن شاء اهلل ‪ ‬يف هذه الرسالة الكثير من المسائل األصولية والفرعية المهمة التي‬
‫تنبني على هذه األصول‪.‬‬
‫بعضا من القواعد‬
‫بعضا منها كما أنه قد أورد ً‬
‫وأصول مذهب أهل المدينة متعددة‪ ،‬أورد الشيخ ً‬
‫الفقهية التي بنوا عليها الفروع‪ ،‬إ ًذا فإيراده لهذه األصول يشمل نوعين من األصول التي تكلم الشيخ عن‬
‫صحتها‪:‬‬
‫‪ ‬األول‪« :‬األصول» بمعنى التي تستنبط منها األحكام كعمل أهل المدينة ونحو ذلك‪.‬‬
‫‪ ‬الثاين‪« :‬األصول» التي تستنبط بواسطتها األحكام‪.‬‬
‫إذا فاألصول التي ذكرها الشيخ تقي الدين يف هذه الرسالة نوعان‪:‬‬
‫‪ )1‬أصول تستنبط بواسطتها األحكام‪.‬‬
‫‪ )2‬وأصول تستنبط منها األحكام‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫‪ -‬فأما األصول التي تستنبط بواسطتها األحكام‪ :‬فهي المباحث التي تورد يف كتب أصول الفقه‪ ،‬ومن‬
‫األمور التي تورد واوردها الشيخ مسألة عمل أهل المدينة وإجماع أهل المدينة‪.‬‬
‫‪-‬وأما األصول التي يستنبط منها الحكم مباشرة‪ ،‬فهي القواعد فقهية‪ ،‬وسنشير إن شاء اهلل لهذين‬
‫النوعين من األصول عند قراءة هذه الرسالة‪.‬‬
‫يف أول هذه الرسالة كما هو موجود يف مجموع الفتاوى‪«:‬وسئل شيخ اإلسالم ‪ ‬عن «صحة‬
‫أصول مذهب أهل المدينة» ومنزلة مالك المنسوب إليه مذهبهم يف اإلمامة والديانة؛ وضبطه علوم‬
‫الشريعة عند أئمة علماء األمصار وأهل الثقة والخبرة من سائر األعصار؟»‪.‬‬

‫فأجاب ‪ ‬فقال‪« :‬الحمد هلل؛ مذهب أهل المدينة النبوية ‪ -‬دار السنة ودار الهجرة ودار النصرة إذ‬
‫فيها سن اهلل لرسوله محمد ‪‰‬سنن اإلسالم وشرائعه وإليها هاجر المهاجرون إلى اهلل ورسوله‬
‫وبها كان األنصار الذين تبوءوا الدار واإليمان من قبلهم ‪ -‬مذهبهم يف زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم‬
‫أصح مذاهب أهل المدائن اإلسالمية شرقا وغربا؛ يف األصول والفروع»‪.‬‬

‫وهذه اجلملة اليت أوردها الشيخ فيها مسائل متعددة‪:‬‬ ‫‪‬‬


‫‪ ‬المسألة األولى‪ :‬قول المصنف «مذهب أهل المدينة» المذاهب الفقهية بعد عصر الصحابة‬
‫رضوان اهلل عليهم كانت تنسب إلى األمصار‪ ،‬فيقال‪ :‬مذهب أهل المدينة أو مذهب أهل مكة أو مذهب‬
‫أهل الكوفة أو مذهب أهل البصرة أو مذهب الشاميين أو المصريين ونحو ذلك؛ فكانت المذاهب‬
‫واالجتهادات الفقهية تنسب للمدن وأهلها‪ ،‬ثم إنه بعد ذلك لما كان المنتسبون لهذه المدارس قد توزعوا‬
‫وتنقلوا يف األمصار ارتضى أهل العلم بعد ذلك أن ُتنسب هذه المذاهب لبعض أعالمهم‪ ،‬فعلى سبيل‬
‫المثال‪:‬‬
‫ممن أخذ هبذه األصول وعمل هبا بعد‪ ،‬اإلمام مالك بن أنس ‪،‬‬ ‫فإن مذهب أهل المدينة ّ‬
‫ودخلت كثير من أصول مذه ب أهل المدينة يف مذهب الشافعي كذلك؛ ولذلك فإن الشافعي كان يف‬
‫أيضا يقال يف مذهب اإلمام أحمد؛ فإن أحمد قد‬
‫كتبه القديمة يقول‪« :‬مذهبنا مذهب المدنيين»‪ ،‬ومثله ً‬
‫أخذ من أصول مذهب أهل المدينة والحرمين الشيء الكبير‪.‬‬
‫قوله‪« :‬مذهب أهل المدينة» أي‪ :‬المدرسة التي بنت على أصول‪ ،‬ثم بعد ذلك هذه المدرسة دخلت‬
‫أصولها يف كثير من المذاهب بعد ذلك؛ حينما تالحقت األصول واجتمع بعضها مع بعض‪.‬‬
‫نعت المدينة بكوهنا نبوية؛ ألن النبي ‪‰‬هو ساكنها وهو‬
‫قوله‪« :‬أهل المدينة النبوية» ُ‬
‫‪3‬‬

‫سميها هبذا االسم وقد ُش ِهر يف كتب أهل العلم تسميت المدينة بالنبوية‪ ،‬وكثير من كتب التاريخ‬
‫الم ّ‬
‫ُ‬
‫ككتاب السخاوي وقبله جماعة من أهل العلم سموا تاريخهم بتاريخ المدينة النبوية‪،‬‬
‫اله ْج َرة» فإن السنة أكثر ما تكلم هبا النبي ‪‰‬يف المدينة‪ ،‬وكوهنا دار‬ ‫السنة ِ‬
‫ودار ِ‬ ‫قوله‪« :‬دار ُ‬
‫الهجرة؛ ألن النبي ‪‰‬هاجر إليها وهاجر إليها أصحابه‪ ،‬وقد تقرر عند أهل العلم أن الهجرة‬
‫نوعان‪:‬‬
‫‪ ‬الهجرة الكبرى‪ :‬وهي التي كانت للنبي ‪‰‬وأصحابه‪.‬‬
‫‪ ‬الهجرة الصغرى‪ :‬بعد ذلك التي تكون لعموم الناس‪.‬‬
‫واألولى‪ :‬لها من الفضل ما ال يقاربه فضل آخر‪ ،‬وقد انتهت بقول النبي ‪« :‰‬ال هجرة بعد‬
‫الفتح»‪.‬‬
‫قوله‪« :‬ودار النصرة»؛ ألن أهل المدينة نصروا النبي ‪‰‬واووه وعزروه رضوان اهلل عليهم‪،‬‬
‫قوله‪« :‬إذ فيها سن اهلل لرسوله محمد ‪‰‬سنن اإلسالم وشرائعه»؛ ففيها ُسنت السنن و ُب ِّينت‬
‫لنبينا محمد ‪ ،‰‬فقد شهد أهلها تنزل الوحي على النبي ‪.‰‬‬
‫قوله‪« :‬مذهبهم يف زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أصح مذاهب أهل المدائن اإلسالمية شرقا‬
‫وغربا؛ يف األصول والفروع» هذه الجملة تلخص هذه الرسالة كاملة‪ ،‬فقوله «مذهبهم» أي‪ :‬مذهب أهل‬
‫المدينة‪ ،‬ويقابل مذهب أهل المدينة مذهب أهل األمصار األخرى الذين سنذكر أسمائهم وتِعدادها بعد‬
‫قليل‪ ،‬قوله‪« :‬يف زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم» أي‪ :‬أن العربة بأهل المدينة هبذه األزمنة الثالثة‪ ،‬يف‬
‫زمن الصحابة والتابعين وتابعي التابعين‪ ،‬ولذلك أهل العلم يقولون‪ :‬إن مذهب أهل المدينة يمر بأربع‬
‫مراحل‪:‬‬
‫‪ ‬المرحلة األولى‪ :‬يف عهد النبي ‪ ‰‬وال شك أن ما فعلوه هو من السنة التقريرية التي‬
‫وأقرهم عليها‪ ،‬فهي حجة‪ ،‬وهنا تأيت المسألة األصولية المشهورة‪ :‬هل‬
‫اطلع عليها النبي ‪ّ ‰‬‬
‫مذهب الصحابي يكون مذهبا له؟ أم أنه حجة يف عهد النبي ‪‰‬بناء على أن السنة التقريرية هل‬
‫يشرتط لها أن يعلم النبي ‪‰‬هبا أم ال؟ والحديث فيها مبسوط يف كتب األصول‪.‬‬

‫‪ ‬المرحلة الثانية‪ :‬من مذاهب أهل المدينة بعد وفاة النبي ‪‰‬إلى حين مقتل عثمان ‪،‬‬
‫وهذه المرحلة الثانية من أقوى المراحل‪ ،‬وقد احتج بعمل أهل المدينة جماعة من أهل العلم كما سيأيت‪.‬‬

‫‪ ‬المرحلة الثالثة‪ :‬من بعد مقتل عثمان ‪ ‬إلى انقضاء القرون الثالثة‪ ،‬وهذه التي فيها خالف بين‬
‫‪4‬‬

‫جماهير أهل العلم‪ ،‬فال يرون حجية مذهبهم وبين جماعة من أصحاب اإلمام مالك‪ ،‬فإهنم يرون حجية‬
‫عمل أهل المدينة يف هذه القرون الثالثة‪.‬‬
‫‪ ‬المرحلة الرابعة‪ :‬بعد القرون الثالثة‪ ،‬فقد ُحكي االجماع وسيأيت إن شاء اهلل على أن مذهب أهل‬
‫المدينة ليس بحجة‪.‬‬
‫ً‬
‫أصوال وفرو ًعا يف زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫قوله‪« :‬مذهبهم» أي‪ :‬مذهب أهل المدينة‬
‫يف القرون الثالثة‪ ،‬وهذه سيأيت إن شاء اهلل شرح المصنف لها أن المراد بالقرن إنما هو الجيل‪.‬‬
‫قوله‪« :‬أصح مذاهب» أي‪ :‬أصح مذاهب األمصار‪ ،‬أصح مذاهب أهل المدائن االسالمية شرقا‬
‫وغربا‪ ،‬كما تقدم معنا أن المذاهب كانت يف صدر االسالم تنسب لألمصار‪ ،‬فمن المذاهب التي ُذكرت‬
‫مذهب أهل المدينة ومذهب أهل مكة ويسميان مذهب الحجاز‪ ،‬ومذهب الثالث مذهب أهل الكوفة‪،‬‬
‫والمذهب الرابع مذهب أهل البصرة‪ ،‬ويسميان مذهب أهل العراق‪ ،‬والخامس مذهب أهل الشام‪،‬‬
‫والسادس مذهب أهل اليمن‪ ،‬والسابع مذهب أهل مصر‪ ،‬والثامن مذهب أهل خراسان‪.‬‬
‫وسيأيت تسمية هذه المذاهب واألمصار يف محلها إن شاء اهلل ومن ذكرها وهذا معنى قوله‪« :‬شرقا‬
‫أيضا بالنسبة لمصر‬
‫وغربا» فالغرب يشمل الشام ومصر ألن أهل المدينة يسمون الشام غربا‪ ،‬ومثله يقال ً‬
‫فإهنا تكون كذلك غربا‪.‬‬
‫قوله‪« :‬يف األصول والفروع» هذا ما ذكرنا قبل قليل أن األصول نوعان‪ :‬أصول يستنبط بواسطة فيها‬
‫الحكم وهي التي تبحث يف مسائل أصول الفقه‪ ،‬وأصول يستنبط منها الحكم وهي التي تسمى بالقواعد‬
‫الفقهية‪،‬‬
‫والفروع‪ :‬ألن الفروع مبنية على األصول‪ ،‬فإذا صحت األصول صحت الفروع‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وهذه األعصار الثالثة هي أعصار القرون الثالثة المفضلة»‪.‬‬

‫ب ّين الشيخ يف هذه الجملة أن المراد بالقرون الثالثة هي األجيال الثالثة‪.‬‬


‫‪ ‬القرن األول‪ :‬هم أصحاب النبي‪.‬‬
‫‪ ‬القرن الثاين‪ :‬هم التابعون‪.‬‬
‫‪ ‬القرن الثالث‪ :‬هم تابعوا التابعين‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫‪5‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬وهذه األعصار الثالثة هي أعصار القرون الثالثة المفضلة؛ التي قال فيها النبي‬
‫‪‰‬يف الحديث الصحيح من وجوه‪« :‬خير القرون القرن الذي بعثت فيهم؛ ثم الذين يلونهم؛ ثم‬
‫الذين يلونهم»‪.‬‬
‫هذه القرون الثالثة‪ ،‬فقوله‪« :‬القرن الذين ُب ِعثت فيه» هم الصحابة‪ ،‬ثم الذين يلوهنم هم التابعون‪ ،‬ثم‬
‫الذين يلوهنم هم تابعوا التابعين‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬فذكر ابن حبان بعد قرنه قرنين بال نزاع ويف بعض األحاديث الشك يف القرن الثالث‬
‫بعد قرنه وقد روي يف بعضها بالجزم بإثبات القرن الثالث بعد قرنه فتكون أربعة‪ .‬وقد جزم بذلك ابن حبان‬
‫البستي ونحوه من علماء أهل الحديث يف طبقات هذه األمة فإن هذه الزيادة ثابتة يف الصحيح»‪.‬‬
‫ومؤدى كالم الشيخ أن األحاديث التي س ُيوردها بعد قليل قد اختلفت‪ :‬هل القرون الخ ّيرة التي‬
‫ذكرها النبي ‪‰‬إثنان أم ثالثة أم أربعة؟ وسيورد األحاديث بعد قليل‪.‬‬
‫ثم ب ّين أن جماعة من أهل الحديث كابن حبان ال ُبستي وهو‪ :‬أبو حاتم صاحب «التقاسيم واألنواع»‬
‫قد جزم بأمور‪ ،‬قال‪« :‬وقد جزم بذلك ابن حبان»‪ ،‬الذي جزم به ابن حبان أمور‪:‬‬
‫‪ ‬األمر األول‪ :‬أن القرون الفاضل والمفضلة ثالثة‪.‬‬
‫‪ ‬األمر الثاين‪ :‬جزم بأن أولى المذاهب يف التقديم هو مذهب أهل المدينة‪ ،‬وقد ذكر ذلك ابن حبان‬
‫يف كتابه المشهور وقد طبع من عشرات السنين‪ ،‬ربما مئة سنة وهو كتاب «طبقات مشاهير األمصار»‪ ،‬ذكر‬
‫يف هذا الكتاب‪ :‬أن القرون ثالثة‪ :‬الصحابة والتابعون وتابعوا التابعين‪ ،‬وذكر أن المدائن التي فيها العلم‪:‬‬
‫ستة‪ ،‬المدينة والبصرة والكوفة ومصر واليمن ّ‬
‫والشام‪ ،‬ولم يذكر مكة‪ ،‬وسبب عدم ذكره لمكة أهنا دخلت‬
‫يف مذهب أهل المدينة لقرهبا منه وألهنما معا يسميان مذهب أهل الحجاز‪ ،‬هذا معنى قوله‪« :‬وقد جزم‬
‫بذلك ابن حبان ونحوه من علماء أهل الحديث يف طبقات هذه االمة»‪.‬‬
‫قوله‪« :‬يف طبقات هذه األمة» أي‪ :‬يف كتبهم التي صنفوها الطبقات ككتاب طبقات مشاهير علماء‬
‫األنصار البن حبان‪.‬‬
‫ثم أورد المصنف الشيخ تقي الدين األحاديث التي يف الباب ونأخذها قراءة‪.‬‬
‫‪6‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬أما أحاديث الثالثة ففي الصحيحين عن عبد اهلل بن مسعود قال‪ :‬قال رسول اهلل‬
‫صلى اهلل تعاىل عليه وسلم‪ « :‬خير أمتي القرن الذين يلونني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم‬
‫تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته»‪ .‬ويف صحيح مسلم عن عائشة ‪ ‬قالت‪« :‬سأل رجل رسول‬
‫اهلل صلى اهلل تعاىل عليه وسلم‪ :‬أي الناس خير؟ قال‪ :‬القرن الذي بعثت فيهم؛ ثم الثاين؛ ثم الثالث»‪.‬‬
‫هذان الحديثان اللذان أوردهما فيهما الجزم بأن القرون ثالثة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬وأما الشك يف الرابع؛ ففي الصحيحين عن عمران بن حصين أن رسول اهلل صلى اهلل‬
‫تعاىل عليه وسلم قال‪« :‬إن خيركم قرين؛ ثم الذين يلونهم؛ ثم الذين يلونهم قال عمران‪ :‬فال أدري أقال‬
‫رسول اهلل صلى اهلل تعاىل عليه وسلم بعد قرنه مرتين أو ثالثا‪ :‬ثم يكون بعدهم قوم يشهدون وال‬
‫يستشهدون؛ ويخونون وال يؤتمنون؛ وينذرون وال يوفون ويظهر فيهم السمن‪ .‬ويف لفظ‪ :‬خير هذه األمة‬
‫القرن الذي بعثت فيهم؛ ثم الذين يلونهم؛ ثم الذين يلونهم» الحديث وقال فيه‪»:‬ويحلفون وال‬
‫يستحلفون»‪ .‬ويف صحيح مسلم عن أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل تعاىل عليه وسلم‪« :‬خير أمتي‬
‫القرن الذي بعثت فيهم؛ ثم الذين يلونهم ‪ -‬واهلل أعلم‪ :‬أذكر الثالث أم ال ؟ ‪ -‬ثم يخلف قوم يحبون‬
‫السمانة يشهدون قبل أن يستشهدوا»‪ .‬وقوله يف هذه األحاديث‪« :‬يشهدون قبل أن يستشهدوا»‪.‬‬
‫هذان الحديثان اللذان أوردهما المصنف‪:‬‬
‫‪ ‬اللفظ األول‪ :‬أنه أورد أربعة قرون وهو يف الصحيحين من حديث عمران‪.‬‬
‫‪ ‬اللفظ الثاين‪ :‬وهو يف مسلم من حديث أبي هريرة‪ :‬شك هل القرون التي أوردها النبي‬
‫‪‰‬قرنان أم اهنا ثالثة؟ ثم سيأيت بعد قليل جمع المصنف بين هذه األحاديث جمعا حسنا‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وقوله يف هذه األحاديث‪« :‬يشهدون قبل أن يستشهدوا» قد فهم منه طائفة من‬
‫العلماء أن المراد به أداء الشهادة بالحق قبل أن يطلبها المشهود له وحملوا ذلك على ما إذا كان عالما؛‬
‫جمعا بين هذا وبين قوله‪« :‬أال أنبئكم بخير الشهداء‪ :‬الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها» وحملوا الثاين‬
‫على أن يأتي بها المشهود له فيعرفه بها»‪.‬‬
‫توجيها لبعض أهل العلم بين حديثين‪ :‬الحديث الذي معنا وهو أنه ذكر‬
‫ً‬ ‫أورد الشيخ يف هذه الجملة‬
‫يف الذين يأتون بعد القرون الفاضلة من صفاهتم التي اقرتنوا هبا أهنم يشهدون قبل أن يستشهدوا؛ فهذه‬
‫صفة ذ ّم ألهنا جاءت يف سياق ذم يف مقابلة صفات الخيرية‪ ،‬مع أنه قد ورد يف حديث آخر أن النبي‬
‫‪‰‬قال‪« :‬أال انبئكم بخير الشهداء الذي يأيت بشهادته قبل أن يسألها»‪ ،‬فجمع بعض أهل العلم‬
‫صاحب عالما بالشهادة؛ فحينئذ ال‬
‫ُ‬ ‫كما ذكر المصنف‪ :‬أن المذموم هو أن يشهد قبل أن ُيستشهد إذا كان‬
‫يؤدي الشاهد شهادته اال إذا طلبها منه‪ ،‬وحملوا الحديث الثاين وهو قول النبي ‪« :‰‬أال انبئكم‬
‫‪7‬‬

‫بخير الشهداء الذي يأيت بشهادته قبل أن ُيسألها»‪ ،‬على أن المشهود له ال يعلم هبذه الشهادة‪ ،‬فيأيت الشاهد‬
‫له فيخربه بأنه قد تحمل شهادة فيبدلوها له‪ ،‬هكذا جماعة من أهل العلم ولكن الشيخ كما سيأيت يميل‬
‫لخالف ذلك‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬والصحيح أن الذم يف هذه األحاديث لمن يشهد بالباطل كما جاء يف بعض ألفاظ‬
‫الحديث؛ ثم يفشو فيهم الكذب حتى يشهد الرجل وال يستشهد؛ ولهذا قرن ذلك بالخيانة وبترك الوفاء‬
‫بالنذر وهذه الخصال الثالثة هي آية المنافق كما ثبت يف الحديث المتفق عليه عنه صلى اهلل تعاىل عليه وسلم‬
‫أنه قال‪« :‬آية المنافق ثالث‪ :‬إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان» ويف لفظ لمسلم‪« :‬وإن‬
‫صام وصلى وزعم أنه مسلم» فذمهم صلى اهلل تعاىل عليه وسلم على ما يفشو فيهم من خصال النفاق وبين‬
‫أنهم يسارعون إلى الكذب حتى يشهد الرجل بالكذب قبل أن يطلب منه ذلك؛ فإنه شر ممن ال يكذب‬
‫حتى يسأل أن يكذب»‪.‬‬
‫ب ّين الشيخ يف ملخص كالمه هذا أن قول النبي ‪‰‬يف الذين يأتون بعد القرون الفاضلة أهنم‬
‫قوم يشهدون وال يستشهدون‪ ،‬أهنم يشهدون بالكذب وبالباطل ال أهنم يشهدون بالحق‪ ،‬وعلى ذلك‬
‫فيكون الحديث الثاين أن خير الشهداء الذي يأيت بشهادته قبل أن ُيسألها على اطالقه‪ ،‬وإنما هذا الحديث‬
‫ُمقيد بداللة االقرتان‪ ،‬فإن هذه الصفة صفة الذم أهنم يشهدون وال ُيستشهدون مقرتنة بقوله ‪:‰‬‬
‫«ويخونون وال يؤتمنون وينذرون وال يوفون»؛ فالخيانة وعدم الوفاء مناسبة للكذب‪ ،‬كما يف الحديث‪:‬‬
‫«آية المنافق ثالث‪ ،‬إذا حدث كذب‪ ،‬وإذا وعد أخلف‪ ،‬وإذا اؤتمن خان»‪ ،‬وهذا يف محله‪ ،‬وهذا التوجيه‬
‫وجيه جدا؛ وبذلك أي‪ :‬تجتمع النصوص وال تحتاج إلى حمل فيه بعض التكلف كما أورده المصنف‬
‫عن بعض أهل العلم‪ ،‬ثم شرع المصنف الحديث عن طرق الجمع بين األلفاظ التي جاءت يف القرن‬
‫الرابع هل هو قرن فاضل أم ال؟‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬وأما ما فيه ذكر القرن الرابع فمثل ما يف الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن‬
‫النبي صلى اهلل تعاىل عليه وسلم قال‪ « :‬يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس فيقال لهم‪ :‬هل فيكم من‬
‫رأى رسول اهلل صلى اهلل تعاىل عليه وسلم ؟ فيقولون‪ :‬نعم فيفتح لهم ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم‪ :‬هل‬
‫فيكم من رأى أصحاب رسول اهلل صلى اهلل تعاىل عليه وسلم ؟ فيقولون‪ :‬نعم فيفتح لهم ثم يغزو فئام من‬
‫الناس فيقال لهم‪ :‬هل فيكم من رأى أصحاب أصحاب رسول اهلل ‪‰‬؟ فيقولون‪ :‬نعم فيفتح‬
‫لهم ثم يغزو فئام من الناس فيقال‪ :‬هل فيكم من رأى أصحاب أصحاب أصحاب رسول اهلل‬
‫‪‰‬؟ فيقولون‪ :‬نعم ‪ .‬فيفتح لهم ولفظ البخاري‪ :‬ثم يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس»‬
‫ولذلك‪ :‬قال صلى اهلل تعاىل عليه وسلم يف الثانية والثالثة وقال فيها كلها‪ :‬صحب ولم يقل رأى ‪ .‬ولمسلم‬
‫من رواية أخرى‪ « :‬يأتي على الناس زمان يبعث فيهم البعث فيقولون‪ :‬انظروا هل تجدون فيكم أحدا من‬
‫أصحاب رسول اهلل صلى اهلل تعاىل عليه وسلم ؟ فيوجد الرجل فيفتح لهم به ثم يبعث البعث الثاين‬
‫‪8‬‬

‫فيقولون‪ :‬هل فيكم من رأى أصحاب رسول اهلل صلى اهلل تعاىل عليه وسلم ؟ فيقولون‪ :‬نعم فيفتح لهم ثم‬
‫يبعث البعث الثالث فيقولون‪ :‬انظروا هل ترون فيكم من رأى من رأى أصحاب رسول اهلل صلى اهلل تعاىل‬
‫عليه وسلم ؟ ثم يكون البعث ال رابع فيقال‪ :‬انظروا هل ترون فيكم أحدا رأى من رأى أحدا رأى أصحاب‬
‫رسول اهلل صلى اهلل تعاىل عليه وسلم ؟ فيوجد الرجل فيفتح لهم به»‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وحديث أبي سعيد هذا يدل على شيئين‪ :‬على أن صاحب النبي صلى اهلل تعاىل عليه‬
‫وسلم هو من رآه مؤمنا به وإن قلت صحبته؛ كما قد نص على ذلك األئمة أحمد وغيره ‪ .‬وقال مالك‪ :‬من‬
‫صحب رسول اهلل صلى اهلل تعاىل عليه وسلم سنة أو شهرا أو يوما أو رآه مؤمنا به فهو من أصحابه له من‬
‫الصحبة بقدر ذلك‪ .‬وذلك أن لفظ الصحبة جنس تحته أنواع يقال‪ :‬صحبه شهرا؛ وساعة»‪.‬‬
‫ذكر املصنف أن حديث أبي سعيد يدل على أمرين‪:‬‬ ‫‪‬‬
‫‪ ‬األمر األول‪ :‬أن الصحابي هو الذي رأى النبي ‪‰‬مؤمنا به هذا القيد الثاين‪ ،‬وقوله‪:‬‬
‫«رأى النبي ‪ »‰‬قالوا وإن كان رؤيته قليلة ليست طويلة ولم يصاحبه فرتة طويلة‪ ،‬وهذا خال ًفا‬
‫لما نقله المصنف عن مالك أن من رأى النبي ‪‰‬سنة أو شهر ًا أو يوما أو رآه مؤمنا به فإنه‬
‫يكون من أصحابه له من الصحبة بقدر ذلك‪.‬‬
‫والفرق بين قول مالك وقول غيره من األئمة‪ :‬أن األئمة يقولون أن الصحبة وصف يتّفق عليه‬
‫الجميع‪ ،‬وأما قول مالك فإنه يرى أن الصحبة تزيد وتنقص‪ ،‬فإن من أصحاب النبي ‪‰‬من‬
‫كانت صحبته طويلة ومنهم من كانت صحبته قصيرة‪.‬‬
‫وقد أشار النبي ‪‰‬إلى ذلك حينما قال لبعض أصحابه‪« :‬دعوا لي أصحابي»؛ فهنا قوله‪:‬‬
‫«أصحابي» أي‪ :‬أصحابي الذين كان لهم قدم‪ ،‬وتقدموا يف اإلسالم واطالوا صحبته‪.‬‬
‫فالمقصود أنه كما ذكر المصنف أن لفظ الصحبة جنس‪ ،‬تحته أنواع‪ :‬فمنهم من ِ‬
‫صحبه شهرا ومنهم‬
‫من صحبه ساعة ومنهم من صحبه مدة طويلة‪.‬‬

‫وال شك أن من أكثر أصحابه مصاحبة له قبل البعثة وبعدها هو أبو بكر ‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬وقد بين يف هذا الحديث أن حكم الصحبة يتعلق بمن رآه مؤمنا به؛ فإنه ال بد من‬
‫هذا»‪.‬‬
‫أي‪ :‬البد من اإليمان به‪ ،‬فأما من لم يؤمن به فليس بصحابي‪ ،‬وهذا اإليمان قالوا البد فيه من شرطين‬
‫‪ ‬الشرط األول‪ :‬أن يكون قد رآه وهو مؤمن‪ ،‬وأما من آمن بعد رؤيته فال يسمى صحاب ًيا‪ ،‬فكان رآه‬
‫قبل إيمانه ثم أسلم ولم ير النبي ‪‰‬؛ فال يكون صحاب ًيا‪.‬‬
‫‪9‬‬

‫‪ ‬الشرط الثاين‪ :‬من ارتد بعد رؤية النبي ‪ ،‰‬فإنه يخرج منه فضل الصحابة‪ ،‬وإن دخل يف‬
‫اللفظ اللغوي بأنه صحابي من باب اللغة أي‪ِ :‬‬
‫صحب‪ ،‬ولكنه يف المعنى االصطالحي ال يكون كذلك‪.‬‬
‫وأما من أسلم به ورآه مؤمنا ثم ارتد ثم عاد‪ :‬فهذه مشهورة جدً ا وهو أن الزائل العائد هل يكون‬
‫حكمه كحكم العائد ابتداء أم حكمه حكم من لم يزل؟‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ويف الطريق الثاين لمسلم ذكر أربعة قرون ومن أثبت هذه الزيادة قال‪ :‬هذه من ثقة»‪.‬‬

‫أي‪ :‬أهنا زيادة ثقة فتكون حينئذ مقبولة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وترك ذكرها يف بقية األحاديث ال ينفي وجودها»‪.‬‬

‫أي‪ :‬أن الشيخ يقول أن من اثبت هذه الزيادة وهي الرابعة فإنه يقول أن هذه زيادة ثقة‪ ،‬وإذا تركتها‬
‫األحاديث الباقية فال أثر لهذا الرتك؛ ألهنا من زيادة الثقة وهذا مبحث أصولي مشهور جدً ا‪ ،‬وهي مسألة‬
‫زيادة الثقة‪ ،‬ومحققو أهل علماء الحديث ال يقبلون زيادة الثقة مطل ًقا إال بشروط‪ ،‬ثم وجه الشيخ الشك‬
‫يف حديث أبي هريرة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬كما أنه لما شك يف حديث أبي هريرة أذكر الثالث ؟ لم يقدح يف سائر األحاديث‬
‫الصحيحة التي ثبت فيها القرن الثالث ‪ .‬ومن أنكرها قال يف حديث ابن مسعود الصحيح‪ :‬أخبر أنه بعد‬
‫القرون الثالثة يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه؛ ويمينه شهادته فيكون ما بعد الثالثة ذكر بذم»‪.‬‬
‫بعضا من أهل العلم يقول إنما األفضلية للقرون الثالثة فقط دون القرن‬
‫كالم الشيخ هنا معناه‪ :‬أن ً‬
‫الرابع‪ ،‬ألنه جاء يف حديث ابن مسعود وغيره ذم أهل القرن الرابع بأهنم تسبق شهادهتم ايماهنم‪ ،‬وايماهنم‬
‫شهادهتم‪ ،‬فيكون ذلك القرن مذمو ًما فكيف يمدح؟ ثم جمع الشيخ بين القولين‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬وقد يقال‪ :‬ال منافاة بين الخبرين؛ فإنه قد يظهر الكذب يف القرن الرابع ‪ .‬ومع هذا‬
‫فيكون فيه من يفتح به التصال الرؤية»‪.‬‬
‫وهذا الجمع يف الحقيقة جيد‪ ،‬ووجه هذا الجمع ومعناه‪ :‬أن القرن الرابع فيه خيرية‪ ،‬لكن خيريته دون‬
‫القرون الثالثة التي قبله وال شك؛ ولذلك إنما ذكر يف حديث أو حديثين كحديث أبي سعيد‪ ،‬فيكون يف‬
‫أهل ذلك القرن من الخيرية ما قد ُيشابه القرون الثالثة الفاضلة‪ ،‬وأهل القرن الرابع هم الذين بينهم وبين‬
‫النبي ‪‰‬ثالثة‪ ،‬ولذلك كان أهل العلم ُيعنون بذكر الثالثيات ويرون أنه شرف لهم أن تكون‬
‫لهم ثالثيا ت ليكونوا من أهل القرن الرابع؛ وأما من له ثنائيات من علماء الحديث فإنه يكون من أهل‬
‫القرن الثالث وال شك‪.‬‬
‫‪10‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ويف القرون التي أثنى عليها رسول اهلل صلى اهلل تعاىل عليه وسلم»‪( ،‬أي‪ :‬القرون‬
‫الثالثة األولى) «ويف القرون التي أثنى عليها رسول اهلل صلى اهلل تعاىل عليه وسلم» (وعرفنا أن المدائن‬
‫واألمصار ستة أو سبعة) «فإنهم» (أي‪ :‬أهل المدينة) «يتأسون بأثر رسول اهلل ‪‰‬أكثر من سائر‬
‫األمصار»‪ ،‬وال شك ذلك‪ ،‬والسبب أن السنة كانت فيهم ظاهرة واألحاديث المروية موجودة‪ ،‬فكانوا‬
‫يستنون هبذه االثار والسنن‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وكان غيرهم من أهل األمصار دونهم يف العلم بالسنة النبوية واتباعها» ال شك يف‬
‫ذلك؛ ألن الصحابة كانوا يف المدينة أكثر منهم يف باقي األمصار‪ ،‬وإذا رجعنا إلى كتاب ابن حبان المذكور‬
‫الذي نقل عنه الشيخ وهو «طبقات مشاهير علماء األمصار»‪ ،‬نجد عدد الصحابة الموجودين يف المدينة‬
‫يف ذلك الوقت مقارنة بغيرهم كبير جدً ا‪ ،‬بل قد يصل إلى أضعاف الموجودين يف بعض األمصار‪،‬‬
‫والصحابة هم نقلة العلم والسنة؛ فإذا قلوا قل العلم بالسنة خاصة يف القرن الثاين وهم التابعون‪.‬‬
‫قوله‪« :‬وكان غيرهم من أهل األمصار دونهم يف العلم بالسنة النبوية واتباعها»؛ ألن اتباع السنة تبع‬
‫حريا بإتباعها ومن قل علمه هبا‪ ،‬قل اتباعه وهو معذور على ذلك‪.‬‬ ‫للعلم‪ ،‬فمن علم السنة كان ِ‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬حتى أنهم ال يفتقرون إلى نوع من سياسة الملوك وأن افتقار العلماء ومقاصد‬
‫العباد أكثر من افتقار أهل المدينة»‪.‬‬
‫معنى هذه الجملة أن أهل المدينة لما كانت عندهم اآلثار واضحة وجل ّية كانوا ال يحتاجون إلى‬
‫مثال‪ ،‬ومثل ما يتعلق‬
‫االجتهاد يف أبواب السياسة؛ فإن هناك أبوا ًبا من باب السياسة كالمصالح المرسلة ً‬
‫أيضا ببعض األمور األخرى التي يحتاجها من افتقد الدليل‪ ،‬فيبحث حينئذ يف‬
‫بالتعازير‪ ،‬ومثل ما يتعلق ً‬
‫األدلة االجتهادية؛ فهذه حاجة أهل المدينة إليها أقل من غيرهم‪ ،‬ويظهر ذلك بوالة أهل المدينة كعمر بن‬
‫لما ولي الخالفة كان عمله باآلثار أكثر من عمله بالسياسة‬
‫عبد العزيز فقد كان واليا على المدينة‪ ،‬ثم ّ‬
‫واالجتهاد‪ ،‬المقصود بالسياسة هو قضية البناء على المصالح وهذه اللي تسمى بالسياسة الشرعية‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬حيث كانوا أغنى من غيرهم عن ذلك كله بما كان عندهم من اآلثار النبوية»‪.‬‬

‫واآلثار النبوية هو النقل‪ ،‬أحاديث الرسول ‪‰‬وأقوال الصحابة رضوان اهلل عليهم؛ ألن‬
‫أقوالهم يف كثير من أحوالها لها حكم الرفع‪.‬‬
‫قوله‪« :‬التي يفتقر إلى العلم بها واتباعها كل أحد» أي‪ :‬كل أحد يحتاج إليها والبد أن يعمل هبا‪ ،‬لكنها‬
‫لما ارادوا تدوين‬
‫ليست موجودة بكثرة وجودها عند أهل المدينة‪ ،‬فهي حاضرة؛ ولذلك فإن الخلفاء ّ‬
‫السنة أول من ُامر به أو اشير إليه بكتابتها وتدوينها هم أهل المدينة؛ كعمرو بن حزم وغيرهم من علماء‬
‫‪11‬‬

‫الحديث‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ولهذا لم يذهب أحد من علماء المسلمين إلى أن إجماع أهل مدينة من المدائن‬
‫حجة يجب اتباعها غير المدينة ال يف تلك األعصار وال فيما بعدها ال إجماع أهل مكة؛ وال الشام؛ وال‬
‫العراق؛ وال غير ذلك من أمصار المسلمين»‪.‬‬
‫أي‪ :‬أن مما يدل على أن أهل العلم ُيعظمون مذهب أهل المدينة يف القرون الثالثة األولى‪ :‬أن قولهم‬
‫يف تلك القرون الثالثة قيل‪ :‬أنه حجة بل وقيل‪ :‬أنه إجماع‪ ،‬وسيأيت إن شاء اهلل التفريق بين الحجة‬
‫واإلجماع‪.‬‬
‫هذا يدلنا على أن قولهم وأصولهم من أقوى األصول‪ ،‬يف المقابل لم يذكر عن أحد أنه قال‪ :‬أن عمل‬
‫أهل مكة يكون حجة أو إجماعا‪ ،‬وإن قيل أنه حجة يف بعض الصور التي سنشير إليها فيما بعد‪ ،‬لكن لم‬
‫يقل أحد أن أهل مكة لهم إجماع أو أهل الشام لهم إجماع أو العراق من البصرة والكوفة يكونوا اجماعا‪.‬‬
‫قوله‪« :‬ولهذا لم يذهب أحد من علماء المسلمين إلى أن إجماع أهل مدينة من المدائن حجة يجب‬
‫اتباعها غير المدينة ال يف تلك األعصار وال فيما بعدها ال إجماع أهل مكة؛ وال الشام؛ وال العراق؛ وال غير‬
‫ذلك من أمصار المسلمين»؛ كاليمن وخرسان‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬ومن حكى عن أبي حنيفة أو أحد من أصحابه أن إجماع أهل الكوفة حجة يجب‬
‫اتباعها على كل مسلم فقد غلط على أبي حنيفة وأصحابه يف ذلك»‪.‬‬
‫ُو ِجد يف بعض كتب األصول أن ً‬
‫بعضا من الحنفية يقولون‪ :‬إن إجماع أهل الكوفة حجة يجب اتباعه‪،‬‬
‫والحقيقة‪ :‬إنه كما قال الشيخ تقي الدين إن هذا ال ُيعرف يف كتب أبي حنيفة وال يف كتب أصحابه‪ ،‬بل أن‬
‫الجصاص يف كتابه «الفصول» أورد ذلك من باب اإللزام فقط‪ ،‬لمن قال إن عمل أهل‬
‫ّ‬ ‫أبا بكر الرازي‬
‫المدينة حجة وإن إجماعهم حجة‪ ،‬ولم يقل بذلك‪ ،‬ولم أتتبع الحقيقة أول من قال ذلك‪ ،‬لكن أوال من‬
‫وقفة عليه على سبيل الو قوف من غير قصد هو ابن حزم‪ ،‬فقد نقل ابن حزم أن بعض أصحاب أبي حنيفة‬
‫يقولون‪ :‬إنه حجة‪ ،‬وهذا اشتُهر يف كتب كثير من علماء المغرب من األصوليين كابن جزي وبعد ذلك‬
‫أخذه القرايف ثم اشتهر عن القرايف بعد ذلك أنه قول مختلف فيه‪ ،‬ولكن كما قال الشيخ تقي الدين‪ :‬إن من‬
‫نسب ذلك لمذهب أبي حنيفة النعمان وأصحابه فقد غلط عليهم‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫‪12‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬وأما المدينة فقد تكلم الناس يف إجماع أهلها واشتهر عن مالك وأصحابه أن‬
‫إجماع أهلها حجة وإن كان بقية األئمة ينازعونهم يف ذلك»‪.‬‬
‫هذه المسألة سيأيت لها تفصيل يف كالم الشيخ لكن أورد بعض المسائل المتعلقة هبا‪ ،‬عمل أهل‬
‫المدينة ألهل العلم فيه نظر يف مسائل‪:‬‬
‫‪ ‬المسألة األولى‪ :‬هل هو إجماع أم ليس إجماعا؟‪.‬‬
‫‪ ‬المسألة الثانية‪ :‬هل هو حجة أم ليس حجة؟‪.‬‬
‫الح ّجية واإلجماع أن كل إجماع حجة‪ ،‬لكن ليس كل ُحجة يكون إجما ًعا‪ ،‬ألن اإلجماع‬
‫والفرق بين ُ‬
‫ال يجوز مخالفته وخاصة إذا كان قطع ًيا‪ ،‬وأما الحجة فإنه قد تعارضه حجة أخرى بل قد تكون أقوى منه‬
‫فتُقدم عليه‪ ،‬فيصح االحتجاج به ابتداء هذا معنى قولهم إنه يكون حجة‪.‬‬
‫فأقوى ما قيل يف الحجية‪ :‬ما ُذكر أن مال ًكا وأصحابه يقولون‪ :‬إن عمل أهل المدينة يكون حجة‪ ،‬وكما‬
‫سيأيت يف كالم الشيخ‪ :‬المراد أهل المدينة إنما هم يف القرون الثالثة فقط دون ما عداها‪ ،‬والحقيقة أن نسبة‬
‫هذا لمالك فيه تأمل عند بعض أهل العلم؛ فقد ذكر ابن القيم أن مالكًا لم يقل قط يف موطئه وال يف غيره‬
‫أخبارا مجر ًدا أن هذا هو عمل‬
‫ً‬ ‫من الكتب أنه ال يجوز العمل بغير عمل أهل المدينة‪ ،‬وأنه إنما كان ُيخرب‬
‫نقال عن غيره من‬
‫أهل بلده‪ ،‬فادعى إجماع أهل بلده يف نحو من نيف وأربعين مسألة‪ ،‬وقد ذكر ابن القيم ً‬
‫بعضا من هذه المسائل التي نقلها اإلمام مالك أن بعضها ُعرف فيه خال ًفا بين أهل المدينة‬
‫أهل العلم أن ً‬
‫أنفسهم‪ ،‬وبعضها ُعلم خال ًفا لغيره من علماء األمصار فيها؛ ولذلك فإن أصحاب اإلمام مالك اختلفوا يف‬
‫معنى أن عمل أهل المدينة يكون حجة‪ ،‬فمن توجيهاهتم يف ذلك ما ذكره القرايف يف «التنقيح» عن بعض‬
‫المالك ّية وانتصر لها‪ :‬إن المراد لمالك يف ذلك أن إجماعهم يكون حجة فيما يكون طريقه النقل فقط‪،‬‬
‫كالساعي وغيره‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إن مالكًا إنما أراد الرتجيح بين إجماعهم وإجماع غيرهم؛ وأما جماعة من محققي أصحاب‬
‫مالك القاضي عبد الوهاب بن نصر يف كتابه يف أصول الفقه وغيره‪ ،‬فقد ذكروا أن عمل أهل المدينة ال‬
‫حجة‪ ،‬و ُذكر أن الذين ُي َغ ِّلبون أن إجماعهم يكون ّ‬
‫حجة إنما هم بعض أصحاب‬ ‫يكون إجما ًعا وال يكون ّ‬
‫مالك من أهل المغرب‪ ،‬وهذا الكالم سيأيت‪ -‬إن شاء اهلل‪ -‬اإلشارة له يف كالم الشيخ بعد قليل‪ ،‬لكن‬
‫اختصرت هنا اختصارا‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫‪13‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬والكالم إنما هو يف إجماعهم يف تلك األعصار المفضلة»‪.‬‬

‫الثالثة القرون الفاضلة فقط‪ ،‬دون ما عداها؛ وأما ما بعدها فال‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وأما بعد ذلك فقد اتفق الناس على أن إجماع أهلها ليس بحجة»‪.‬‬

‫وهذا باتفاق؛ ذكره الشيخ وغيره من أهل العلم‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬إذ كان حينئذ يف غيرها من العلماء» (أي‪ :‬يف غير المدينة من األمصار من العلماء)‬
‫«ما لم يكن فيها» ؛ ألن المدينة بعد القرون الثالثة‪ ،‬أي‪ :‬حدثت من الظروف ما جعلت كثيرا من أهل‬
‫العلم ينتقل عنها‪ ،‬واألمصار وحواضر العلم تتغير من عصر إلى عصر‪ ،‬ولكن اهلل‪ ‬يحفظ مدينة‬
‫رسوله ومكة من انقطاع العلم هبما‪ ،‬فإنه ما من مِصر من األمصار إذا ظهر فيه العلم قد يقوى وقد‬
‫يضعف‪ ،‬وقد ينعدم يف عصر ما‪ ،‬إال مكة والمدينة‪ ،‬فإنه ال ينقطع منهما العلم البتة‪ ،‬ذكر ذلك جماعة من‬
‫أهل العلم المتأخرين يف تواريخهم‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬إذ كان حينئذ يف غيرها من العلماء ما لم يكن فيها ال سيما من حين ظهر فيها‬
‫الرفض»؛ أي‪ :‬المدينة‪« ،‬فإن أهلها كانوا متمسكين بمذهبهم القديم» أي‪ :‬مذهب اإلمام مالك‪« ،‬منتسبين‬
‫إلى مذهب مالك إلى أوائل المائة السادسة أو قبل ذلك أو بعد ذلك»؛ ألنه على سبيل التقريب؛ «فإنهم‬
‫قدم إليهم من رافضة المشرق من أهل قاشان وغيرهم من أفسد مذهب كثير منهم» عندنا هنا يف هذه‬
‫الجملة مسألتين‪:‬‬
‫‪ ‬المسألة األولى‪ :‬يف قضية قول الشيخ الرافضة‪ ،‬أهل العلم قديما يفرقون بين أمرين‪ :‬بين التشيع‬
‫وبين الرفض‪.‬‬
‫علي‬
‫علي على عثمان‪ ،‬وقد يكون شديدً ا وهو تقديم ٍّ‬
‫فيرون أن التشيع قد يكون خفيفًا وهو تقديم ٍّ‬
‫على الشيخين أو أحدهما‪.‬‬
‫وأما الرفض فإنه سب الشيخين‪ ،‬ولم يظهر هذا الرفض يف العصور األولى وإنما تأخر بعض الشيء؛‬
‫ولذلك فإن زيد ًا بن علي الذي ُينسب إليه المذهب الزيدية‪ ،‬ذكروا أنه هو أول من سمى الذين س ّبوا‬
‫الشيخين‪ ،‬وهم خؤولته؛ ألن خؤولته من آل أبي بكر سماهم بالرافضة‪ ،‬ولذلك الفرق بين الرافضة‬
‫والشيعة ما تقدم‪.‬‬
‫فالرفض ‪ :‬وهو سب الشيخين لم يعرف يف المدينة إال يف القرن السادس‪ ،‬بل السابع أوائل المئة‬
‫السادسة‪ ،‬وهذا الكالم من الشيخ ‪ ‬قاله غيره من أهل العلم‪ ،‬فإن من المؤرخين الكبار للمدينة يف‬
‫ً‬
‫تاريخا للمدينة يسمى «نصيحة المشاور» ذكر فيها‬ ‫ذلك الوقت أبي محمد بن فرحون المالكي؛ فإن له‬
‫‪14‬‬

‫مثل ما قال الشيخ‪ ،‬فقد ذكر أن المدينة لم يكن هبا أحد ممن يعرف بمذهب األمامية حتى جاء‬
‫القيشانيون‪ ،‬وأهنم كانوا أهل مال عظيم‪ ،‬يؤلفون ضعفه الناس بالمال‪ ،‬فيعطوهنم المال ويعلموهنم قواعد‬
‫مذهبهم‪ ،‬وأهنم ألجل مالهم ادخلوا هذا المذهب للمدينة حتى أنه تزوج منهم بعض الشافعية‪ ،‬فذكره أن‬
‫إحدى الشافعيات تزوج ابنته وربما تأثر بمذهبهم بعد ذلك‪ ،‬المقصود من هذا أن كالم الشيخ وافقه غيره‬
‫من المؤرخين كابن فرحون‪ ،‬وابن فرحون يعترب تاريخه هذا من أشهر أو أميز التواريخ التي أرخت تلك‬
‫الحقبة وهو القرن السابع والثامن‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬قدم إليهم من رافضة المشرق من أهل قاشان»‪.‬‬

‫مدينة معروفة يف إيران اآلن‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬من أفسد مذهب كثير منهم ال سيما المنتسبون منهم إلى العترة النبوية»‪.‬‬

‫أي‪ :‬إلى النسب الشريف للنبي ‪ ،‰‬فإن محبة َع ْث َرة النبي ‪‰‬من محبة النبي‬
‫وغره‪ ،‬ولذلك قال النبي‬
‫‪‰‬؛ فإذا فسد المنتسب لهذا النسب الشريف ربما أثر إلى غيره ّ‬
‫‪« :‰‬من بطأ به عمله لم ُيسرع به نسبه»‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬وقدم عليهم بكتب أهل البدع المخالفة للكتاب والسنة وبذل لهم أمواال كثيرة‬
‫فكثرت البدعة فيها من حينئذ»‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬فأما األعصار الثالثة المفضلة»‪.‬‬

‫أي‪ :‬عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬فلم يكن فيها بالمدينة النبوية بدعة ظاهرة ألبتة وال خرج منها بدعة يف أصول الدين‬
‫ألبتة كما خرج من سائر األمصار فإن األمصار الكبار التي سكنها أصحاب رسول اهلل صلى اهلل تعاىل عليه‬
‫وسلم ‪ .‬وخرج منها العلم واإليمان خمسة‪ :‬الحرمان والعراقان والشام؛ منها خرج القرآن والحديث والفقه‬
‫والعبادة وما يتبع ذلك من أمور اإلسالم»‪.‬‬
‫ذكر الشيخ يف هذه الجملة أن األمصار التي كان فيها الصحابة خمسة‪ :‬مكة والمدينة‪ ،‬والعراقانة‪:‬‬
‫أيضا معنا أن ابن حبان ذكر اليمن‪،‬‬
‫وهي الكوفة والبصرة‪ ،‬والشام تشمل ذلك دمشق وما جاورها‪ ،‬سبق ً‬
‫ولكن اليمن لم يخرج لها إال عدد قليل جدً ا من الصحابة‪ ،‬وكذلك خراسان ال يعرف إال عدد قليل جدً ا‬
‫من الصحابة مر هبا ومكث‪ ،‬وقد عني جمع من أهل العلم بجمع طبقات العلماء يف كل مِصر من هذه‬
‫األمصار‪ ،‬فعلي سبيل المثال يف اليمن من أجود وأقدم ما كُتب يف ذلك كتاب َا ْل ُجن ِْد ّي «طبقات فقهاء‬
‫‪15‬‬

‫اليمن» ويف خراسان‪ :‬كتاب أبي الشيخ األصبهاين وكتاب أبي نعيم األصبهاين كذلك‪ ،‬فقد تتبعوا من دخل‬
‫كثيرا جدً ا وكتبهم‬
‫أصبهان من عهد الصحابة ومن بعدهم‪ ،‬وأما الشام والعراق والمدينة فالذين كتبوا فيها ً‬
‫معروفة ومتداولة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وخرج من هذه األمصار»‪.‬‬

‫أي‪ :‬غير المدينة ومكة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬بدع أصولية غير المدينة النبوية»‪.‬‬

‫فإنه لم يخرج منها بد ًعا أصولية‪ ،‬أي‪ :‬التي سيذكرها بعد قليل‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬فالكوفة خرج منها التشيع واإلرجاء وانتشر بعد ذلك يف غيرها»‪.‬‬

‫أي‪ :‬من البلدان‪« ،‬والبصرة خرج منها القدر واالعتزال والنسك الفاسد»؛ ألنه مشهور عن أهل‬
‫البصرة أن فيهم تنسكا فاسدا‪ ،‬أي‪ :‬من غير علم‪ ،‬وقد ذ ّم ذلك جماعة من السلف رضوان اهلل عليهم‬
‫ورحمهم‪ ،‬وكان بعضهم يسميهم القراء يف البصرة‪ ،‬أي‪ :‬القراء الذين تمسكوا من غير علم وإنما كان‬
‫بجهل‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وانتشر بعد ذلك يف غيرها»‪.‬‬

‫أي‪ :‬من األمصار‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬والشام كان بها النصب والقدر»‪.‬‬

‫لعلي ‪ ،‬و"القدر" كذلك‪.‬‬


‫أي‪ :‬نصب العداوة ّ‬
‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وأما التجهم» وهو مذهب الجهمية؛ «فإنما ظهر من ناحية خراسان وهو شر البدع»‬
‫ال شك‪ ،‬وهنا نكتة أوردها الشيخ فقال‪« :‬وكان ظهور البدع بحسب البعد عن الدار النبوية» أي‪ :‬إن كلما‬
‫أبتعد الزمان عن عصر النبوة كلما كثر الشر‪ ،‬وكذلك كلما بعد المكان‪ ،‬أما الزمان ففي حديث أنس يف‬
‫الصحيح أن النبي‪ ‰‬قال‪« :‬هل اليوم شر من الغد؟ قالوا‪ :‬اهلل أعلم»‪ ،‬قال النبي ‪:‰‬‬
‫شر منه»‪ ،‬فكلما بعد الناس عن عصر النبوة كلما كثر الشر فيهم‪،‬‬
‫«ال يأيت على الناس زمان إال والذي بعده ّ‬
‫وقد قاس الشيخ ‪ ‬على ذلك البعد المكاين‪ ،‬فقال‪ :‬كلما بعد المكان عن مدينة النبي‪‰‬‬
‫كلما كثر الشر فيها‪ ،‬وهذا من باب الجانب اإلشاري‪ ،‬يف الداللة‪ ،‬وأما الحديث فإنما يدل على األول‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫‪16‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬فلما حدثت الفرقة» (أي‪ :‬بين المسلمين)‪« ،‬بعد مقتل عثمان ظهرت بدعة‬
‫الحرورية» (وهم الخوارج)‪ « ،‬وتقدم بعقوبتها الشيعة من األصناف الثالثة الغالية حيث حرقهم علي‬
‫بالنار» (هذه الفرقة األولى) «والمفضلة حيث تقدم بجلدهم ثمانين والسبائية» (نسبة لعبد اهلل بن سبأ)‬
‫«حيث توعدهم وطلب أن يعاقب ابن سبأ بالقتل أو بغيره فهرب منه» ذكر الشيخ أن عليًا ‪ ‬عاقب‬
‫الغالة من الشيعة وهم ثالث فرق‪:‬‬

‫‪ ‬الفرقة األولى‪ :‬الذين قالوا بألوهيته َف َح ْر ْ‬


‫قهم بالنار‪.‬‬
‫‪ ‬الفرقة الثانية‪ :‬المفضلة أمر بجلدهم ثمانون حد المفرتي‪ ،‬قياسا على القاذف‪ ،‬فإن القاذف افرتى‬
‫وكذب‪ ،‬فجلدهم علي ‪ ‬ثمانين‪.‬‬
‫‪ ‬الفرقة الثالثة‪ :‬السبئية تواعدهم وطلب أن يعاقب ابن سبأ بالقتل أو بغيره فهرب منه بعد ذلك‪،‬‬
‫وآراء من سبأ معروفة‪ ،‬وحدث من الشر الشيء الكثير‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬ثم يف أواخر عصر الصحابة حدثت القدرية يف آخر عصر ابن عمر وابن عباس؛‬
‫وجابر؛ وأمثالهم من الصحابة»‪.‬‬
‫كما يف مقدمة صحيح مسلم ونعلم ذلك‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وحدثت المرجئة قريبا من ذلك»‪.‬‬

‫أي‪ :‬قريبا من هذا الزمن‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وأما الجهمية فإنما حدثوا يف أواخر عصر التابعين بعد موت عمر بن عبد العزيز‬
‫وقد روي أنه أنذر بهم»‪.‬‬
‫أي‪ :‬أنذرهم وهددهم‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬وكان ظهور جهم بخراسان يف خالفة هشام بن عبد الملك وقد قتل المسلمون‬
‫شيخهم الجعد بن درهم قبل ذلك ضحى به خالد بن عبد اهلل القسري وقال‪ :‬يا أيها الناس ضحوا تقبل اهلل‬
‫ضحاياكم فإين مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن اهلل لم يتخذ إبراهيم خليال ولم يكلم موسى تكليما‬
‫تعا لى اهلل عما يقول الجعد بن درهم علوا كبيرا ثم نزل فذبحه ‪ .‬وقد روي أن ذلك بلغ الحسن البصري‬
‫وأمثاله من التابعين فشكروا ذلك»‪.‬‬
‫هذه القصة‪ :‬قصة قتل وتضحية خالد بن عبد اهلل القسري بالجعد بن درهم‪ ،‬هذه لها طرق‪ ،‬فقد‬
‫رويت عند الدارمي ولها شاهد عند الموصلي يف «تاريخه»‪ ،‬وهذه الشواهد تدل على صحة هذه القصة‬
‫‪17‬‬

‫وأهنا ثابتة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وأما المدينة النبوية فكانت سليمة من ظهور هذه البدع»‪.‬‬

‫أي‪ :‬بدعة األرجاء والجهم والتشيع والرفض والنصب وغيرها‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وإن كان بها من هو مضمر لذلك فكان عندهم مهانا مذموما»‪.‬‬

‫أي‪ :‬قد يوجد ناس يكون يف دواخلهم ذلك‪ ،‬لكنهم ال يظهرونه‪ ،‬مثال ما كان هنالك منافقون يف عهد‬
‫النبي‪ ‰‬ويف عهد الصحابة؛ فإنما يف القلوب يختلف عما يظهر ويكون معلن به‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬إذ كان بها قوم من القدرية وغيرهم ولكن كانوا مذمومين مقهورين بخالف التشيع‬
‫واإلرجاء بالكوفة واالعتزال وبدع النساك بالبصرة والنصب بالشام؛ فإنه كان ظاهرا»‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وقد ثبت يف الصحيح عن النبي صلى اهلل تعاىل عليه وسلم «أن الدجال ال يدخلها»‪.‬‬

‫أي‪ :‬ال يدخل المدينة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬ويف الحكاية المعروفة أن عمرو بن عبيد وهو رأس المعتزلة مر بمن كان يناجي‬
‫سفيان الثوري ولم يعلم أنه سفيان فقال عمرو لذلك الرجل‪ :‬من هذا ؟ فقال‪ :‬هذا سفيان الثوري أو قال‪:‬‬
‫من أهل الكوفة قال‪ :‬لو علمت بذلك لدعوته إلى رأيي ولكن ظننته من هؤالء المدنيين الذين يجيئونك‬
‫من فوق»‪.‬‬
‫مر بسفيان الثوري وأراد أن يدعوه لبدعته وهو االعتزال وما يتبع‬
‫هذا الكالم من عمرو بن عبيد لما ّ‬
‫ذلك من الشر وهو رأي القدرية وغيرها‪ ،‬لما قيل له إنه من أهل الكوفة‪ ،‬كأنه تساهل أن يكلمه‪ ،‬بخالف‬
‫ما لو كان من أهل المدينة‪ ،‬فإنه قال ظننته من هؤالء المدنيين أي‪ :‬من أهل المدينة‪ ،‬الذين يجيئونك من‬
‫فوق‪ ،‬أي‪ :‬يستدلون باألثر‪ ،‬ويستدلون بقال اهلل قال رسوله ويستدلون بالوحي‪ ،‬فإن هؤالء الذين يستدلون‬
‫بالوحي ال يستطيع أصحاب الحجاج العقلي أو أهل البدع أن ير ّدوا عليهم ما استدلوا به؛ ولذلك فإن‬
‫المدينة كانوا من أشد الناس على أه ل البدع‪ ،‬ولما دخل رجل على مالك وأراد أن يتكلم منعه مالك أن‬
‫يتكلم‪ ،‬فلما نطق من غير إذن مالك سد مالك أذنيه‪ ،‬وقال‪ :‬أو كلما أحدث امرؤ حدث تركنا ديننا ألجله؛‬
‫فالمقصود أن الذي يجيئك من فوق بالنقل واألثر ويع ّظم النص ويج ّله ويدع كل قول قائل يف مقابله؛ فإن‬
‫هذا يتحي ر فيه أهل البدع كما يتحير الشيطان يف أهل العلم بالوحيين‪ ،‬ولما علم عمرو بن عبيد أن سفيان‬
‫من أهل الكوفة ظن أنه من السهل عليه أن يدعوه لبدعته‪ ،‬والظن أن عمرا لو دعا سفيان لر ّده سفيان‪ ،‬فإن‬
‫سفيان من أئمة علماء الحديث رحمهم اهلل تعالى‪ ،‬لكن أورد الشيخ هذه القصة لبيان أن أهل األمصار‬
‫‪18‬‬

‫يختلفون يف طريقة تفكيرهم‪ ،‬وان هناك ارتباطا بين النقل من جهة وبين األصول العقدية والكالم الفروع‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ولم يزل العلم واإليمان بها»‪.‬‬

‫أي‪ :‬بالمدينة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ظاهرا إلى زمن أصحاب مالك وهم أهل القرن الرابع»‪.‬‬

‫كثيرا من الثنائيات‪ ،‬بل الغالب يف الموطأ‬


‫ألن مالك من أهل القرن الثالث‪ ،‬فإنه يروي يف موطئه ً‬
‫والثالثة التي يروي هبا ثنائيات‪ ،‬ومن أشهرها نافع عن ابن عمر‪ ،‬وغيرها من الثنائيات الكثيرة التي يروي‬
‫عنها؛ وأما أصحاب مالك الكبار فإهنم من أصحاب القرن الرابع‪ ،‬ومن طبقتهم‪ :‬شيوخ البخاري وأحمد‬
‫كذلك‪ ،‬وغيرهم من الذين رووا عن مالك وأصحاهبم‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬حيث أخذ ذلك القرن عن مالك وأهل طبقته كالثوري؛ واألوزاعي؛ والليث بن‬
‫سعد؛ وحماد بن زيد؛ وحماد بن سلمة؛ وسفيان بن عيينة؛ وأمثالهم ‪ .‬وهؤالء»‪.‬‬
‫كلهم أي‪ :‬من الذين أدركوا الطبقة الثانية من التابعين ‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬أخذوا عن طوائف من التابعين»‪.‬‬

‫فإهنم يكونون من القرن الثالث‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وأولئك أخذوا»‪.‬‬

‫أي‪ :‬التابعين‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬عمن أدركوا من الصحابة»‪.‬‬

‫لعلنا نقف اليوم عند هذا القدر‪ ،‬لكي نكمل غدً ا بمشيئة اهلل ‪ ،‬كالم الشيخ يف ما يتعلق بإجماع‬
‫أهل المدينة‪ ،‬اسأل اهلل العظيم رب العرش الكريم أن يمنى علينا جمي ًعا بالهدى والتقى‪ ،‬وأن يرزقنا العلم‬
‫النافع‪ ،‬والعمل الصالح‪ ،‬وأن يتوالنا بهداه‪ ،‬وصل اهلل على نبينا محمدً ا وعلى آله وصحبه أجمعين(‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬هناية الدرس األول‪.‬‬


‫‪19‬‬

‫﷽‬
‫الحمد هلل رب العالمين واشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له واشهد أن محمدً ا عبد اهلل ورسوله‬
‫تسليما كثيرا يوم الدين‪.‬‬
‫ً‬ ‫صلى اهلل عليه وعلى آلة وأصحابه وسلم‬
‫ُث َّم ّأما َب ْعد‪:‬‬
‫فهذا هو اللقاء الثاين يف شرح رسالة الشيخ تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية‬
‫الحنبلي ‪ ‬يف صحة أهل المدينة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬والتّحقيق يف مسألة إجماع أهل المدينة أن‪ :‬منه ما هو متفق عليه بين المسلمين‪،‬‬
‫ومنه ما هو قول جمهور أئمة المسلمين‪ ،‬ومنه ما ال يقول به إال بعضهم»‪.‬‬
‫شرع المصنف ‪ ‬يف هذه المسألة يف بيان التحقيق يف مسألة إجماع أهل المدينة‪ ،‬وذلك أن‬
‫العلماء لهم كالم فيما اتفق عليه أهل المدينة من جهة حجيته‪ ،‬فبعضهم يقول‪ :‬إنه يكون حجة وبعضهم‬
‫يقول‪ :‬إنه ال يكون حجة‪ ،‬ومن قال إنه حجة‪ ،‬بعضهم يقتصر على حجيته وال يقول إنه إجماع‪ ،‬ومنهم من‬
‫يقول إنه إجماع وحجة معا‪ ،‬والفرق بين من قال‪ :‬إنه إجماع وحجة‪ ،‬أنه إذا كان إجما ًعا وكان قطع ًيا؛ فإنه‬
‫ال يجوز مخالفته‪ ،‬بخالف الحجة الذي ليس بإجماع؛ فإنه إذا عارضه دليل آخر فقد يقدم الدليل اآلخر‬
‫عليه أو يرجح بينهما بالمرجحات األخرى‪.‬‬
‫والذين يقولون‪ :‬إنه ليس بحجة منهم من يهمله مطل ًقا ومنهم من يكتفي بكونه ُمرجح بين األدلة‪،‬‬
‫وهذا هو المشهور عند أصحاب اإلمام أحمد‪ ،‬أهنم يقولون إن اإلجماع ليس بحجة لكنه مرجح بين‬
‫األدلة‪ ،‬بمعنى أنه إذا تعارض قوالن يف المسألة؛ فإنه يرجح أحد الدليلين المتعارضين على اآلخر بعمل‬
‫أهل المدينة؛ وذلك أن العلماء يف األصول بينين أن األدلة درجات فمنها‪ :‬أدلة يستدل هبا ابتداء وتسمى‬
‫أصول التشريع‪ ،‬وهناك أدلة ال يرجع إليها إال عند فقد األدلة األولى وهي األدلة االستئناسية‪ ،‬وهناك أدلة‬
‫للرتجيح بين األدلة المتعارضة وهذه يذكروهنا يف مباحث التعارض والرتجيح بين األدلة‪.‬‬
‫هنا ذكر الشيخ ‪ ‬أن التحقيق يف مسألة إجماع أهل المدينة أنه نوعان‪ ،‬فمنه ما هو متفق عليه بين‬
‫المسلمين‪ ،‬أي‪ :‬متفق على حجيته أو متفق على عدم حجيته‪ ،‬ومنه ما هو قول جمهور أئمة المسلمين‪،‬‬
‫أي‪ :‬إن جمهور العلماء على االحتجاج به‪ ،‬ومنه ما ال يقول به إال بعضهم‪ ،‬إن بعضا من فقهاء المسلمين‬
‫وأئمتهم يقول بحجيته‪ ،‬وأما أغلبهم وجمهورهم فال يقولون بذلك‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫‪20‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وذلك إن إجماع أهل المدينة على أربع مراتب»‪.‬‬

‫شرع المصنف ‪ ‬بذكر المراتب التي رأى أهنا من باب تحرير محل النزاع يف مسألة إجماع أهل‬
‫المدينة واتفاقهم‪ ،‬هل يكون حجة أم ال يكون حجة‪ ،‬وهل يأخذ حكم اإلجماع أم ال؟‪.‬‬
‫وهذه المراتب األربع أوردها الشيخ‪ ،‬لكن الشيخ كما ُيعلم من طريقته ومعهود أسلوبه‪ ،‬أنه يستطرد‬
‫كثيرا يف بعض االستط رادات الجانبية؛ ولذلك فإن بين كل مرتبة ومرتبة فصل طويل؛ ولذلك فإنه من‬
‫ً‬
‫المناسب أن أذكر هذه المراتب األربع على سبيل اإلجمال قبل أن نشرع بذكر المرتبة األولى التي‬
‫أوردها المصنف‪:‬‬

‫أول هذه املراتب األربع اليت ذكرها الشيخ‪ ،‬ونقول إنها من باب حترير حمل النزاع‪:‬‬ ‫‪‬‬
‫‪ ‬المرتبة األولى‪ :‬ما كان عمل أهل المدينة فيه يجري مجرى النقل عن النبي ‪ ،‰‬مثل‬
‫نقلهم صاع النبي ‪ ،‰‬ومثل تركهم لزكاة الخضروات‪ ،‬ومثل َالتَّجبِيس وخروج ِ‬
‫الملك ونحو‬ ‫ْ‬
‫ذلك من األمثلة التي ستأيت‪ ،‬فهذه ذكر الشيخ أهنا تكون حجة باتفاق‪.‬‬

‫‪ ‬المرتبة الثانية‪ :‬العمل القديم الذي كان بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفان ‪ ،‬والمراد بذلك يف‬
‫وقت أبي بكر وعمر وعثمان رضي اهلل عن الجميع‪ ،‬فذكر الشيخ ‪ ‬أنه حجة يف مذهب جمهور‬
‫ومحكي عن أب حنيفة‬
‫ّ‬ ‫العلماء‪ ،‬وقال إنه هو مذهب مالك ومنصوص الشافعي وظاهر مذهب أحمد‬
‫النعمان رحمة اهلل على الجميع‪ ،‬وهذا الذي يسمى عندهم بالعمل القديم‪ ،‬أي‪ :‬عمل أهل المدينة القديم‪.‬‬
‫‪ ‬المرتبة الثالثة‪ :‬هي مسألة التعارض بين األدلة‪ ،‬فإذا كان هناك دليالن متعارضان سواء كانا حديثين‬
‫أو كانا من األدلة القياسية َو َج ِه َل أي‪ :‬الدليالن أرجح ويقدم على غيره‪ ،‬فإنه يقدم أحد القولين بعمل أهل‬
‫المدينة‪ ،‬فيكون عمل أهل المدينة مرجحا‪ ،‬وهذا الرتجيح به هو الذي يستدل به مالك والشافعي وأصح‬
‫كثيرا من األصوليين يف مسائل التعارض والرتجيح‪ ،‬وسيأيت‪ -‬إن شاء‬
‫الوجهين يف مذهب أحمد‪ ،‬ويذكره ً‬
‫اهلل‪ -‬لها يف كالم الشيخ‪.‬‬
‫‪ ‬المرتبة الرابعة‪ :‬التي هي يف الحقيقة محل النزاع مالك واصل غيره من الجمهور وهو العمل‬
‫المتأخر‪ ،‬والمراد بالعمل المتأخر‪ :‬بعدما قتل عثمان ‪‬؛ فهل يكون حجة شرعية يجب اتباعه أم ال؟‪،‬‬
‫وإذا قلنا إنه حجة‪ ،‬فهل يكون إجماع يأخذ حكم اإلجماعات؟ أم أنه حجة يتعارض مع األدلة األخرى؟‪.‬‬
‫هذه هي المسألة التي فيها خالف بين أهل العلم وسيأيت‪ -‬إن شاء اهلل‪ -‬النزاع فيها من كالم الشيخ‬
‫‪.‬‬
‫‪21‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬المرتبة األولى‪ :‬ما يجري مجرى النقل عن النبي ‪ ،‰‬مثل نقلهم لمقدار‬
‫الصاع والمد وكترك صدقة الخضروات واالحتباس»‪.‬‬
‫هذه ثالثة أمثلة أوردها المؤلف ‪ ‬لعمل أهل المدينة الذي يأخذ حكم النقل ويجري مجراه‪،‬‬
‫وذلك مثل نقل أهل المدينة للصاع والمد؛ فإن أبناء المهاجرين نقلوا ِصي َعان َُهم عن اصواع آبائهم‪ ،‬وقد‬
‫كان آباؤهم قد قدروا أصواهتم بصاع النبي ‪‰‬؛ فهذا بمثابة النقل‪ ،‬وإن كان نقال فعليا؛ وكذلك‬
‫ترك صدقات الخضروات‪ ،‬أي‪ :‬زكاة الخضروات؛ فإن الخضروات التي تخرج من األرض كان الصحابة‬
‫ال يرون إخراج الزكاة منها يف عهد أبي بكر وعمر وعثمان رضي اهلل عن الجميع‪ ،‬وسيأيت النقل يف هذه‬
‫المسألة كذلك‪ ،‬واالحتباس‪ :‬وذلك أن الصحابة كانوا ُيوقفون ويرون أن ملكهم قد خرج عنهم بمجرد‬
‫وقفهم‪ ،‬وسيأيت الخالف المسائل وإنما أوردهتا على سبيل الجملة لكي نفهم هذه األمثلة التي أوردها‬
‫الشيخ‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬فهذا مما هو حجة باتفاق العلماء»‪.‬‬

‫وتعبير المصنف أنه حجة باتفاق العلماء هو بناء على ما رأى من عملهم؛ وإن لم يك قد نص بعضهم‬
‫على حجيته‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬أما الشافعي وأحمد وأصحابهما فهذا حجة عندهم بال نزاع»‪.‬‬

‫أما أحمد والشافعي فال نزاع عندهم أن هذا النقل مقبول‪ ،‬وهو الذي يسميه بعض أهل العلم‪:‬‬
‫بالمتواتر‪ ،‬فقد قيل إن الشافعي إذا أطلق المتواتر من الحديث فإنه أي‪ :‬به المستفيض عند أهل الشأن‪،‬‬
‫وقد استفاض عند أهل المدينة بعض األخبار‪ ،‬منها التي أوردها المصنف ‪ ،‬فتكون كالمستفيض‬
‫المتواتر‪ ،‬وأحمد أيضا نص على هذا المستفيض المشهور عن أهل العلم‪ ،‬وال شك يف أن المدينة‪ :‬مدينة‬
‫علم ومحضن علم يف تلك ا لعصور المتقدمة‪ ،‬فتكون حجة عندهم بال نزاع‪ ،‬عند أحمد وأصحاب أحمد‬
‫والشافعي وأصحاهبما‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬كما هو حجة عند مالك»‪.‬‬

‫وأما مالك فهذا واضح من نصوصه الكثيرة عنه وعن أصحاب‪ ،‬ثم شرع المصنف بذكر بيان مذهب‬
‫أبي حنيفة النعمان وأصحابه يف ما نقله أهل المدينة مما يجري مجرى النقل واألثر وب ّين من كالم بعض‬
‫أصحاب أبي حنيفة رحمة اهلل عليهم جميعا أن ذلك حجة‪.‬‬
‫‪22‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬قال أبو يوسف‪ ‬وهو أجل أصحاب أبي حنيفة وأول من ُل ّقب قاضي‬
‫القضاة»‪.‬‬
‫قوله‪« :‬أجل أصحاب أبي حنيفة» لتقدمه ولنباهته ولعلمه ‪ ،‬ولذلك قيل هو من أجل‬
‫أصحاب أبي حنيفة‪ ،‬وسيأيت بعض صفاته التي تم ّيز هبا ‪.‬‬

‫لما اجتمع بمالك وسأله عن هذه المسائل وأجابه مالكا بنقل أهل المدينة‬
‫‪ ‬قال المصنف‪ّ « :‬‬
‫المتواتر»‪.‬‬
‫قوله‪ «:‬المتواتر» أي‪ :‬المستفيض بينهم والمشهور عندهم‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬رجع أبو يوسف إلى قوله»‪.‬‬

‫أي‪ :‬إلى قول مالك يف هذه المسائل الثالث المتقدمة‪ ،‬وهي مسألة الصاع والمد وزكاة الخضروات‬
‫واألوقاف أو االحتباس‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وقال» أي‪ :‬أبي يوسف‪« ،‬لو رأى صاحبي» أي‪ :‬به أبا حنيفة النعمان «مثل ما رأيت‬
‫لرجع مثل ما رجعت فقد نقل أبو يوسف أن مثل هذا النقل حجة عند صاحبه أبي حنيفة كما هو حجة عند‬
‫غيره»‪ ،‬فهذا النقل الذي ذكره الشيخ تقي الدين يدل على أن أبا يوسف وأبا حنيفة يرون أن ما نقله أهل‬
‫المدينة عن أسالفهم مما يجري مجرى النقل عن فعل النبي‪ ‰‬وإجماع كبار الصحابة يف عهد‬
‫أبي بكر وهو اإلجماع المتقدم (يف عهد أبي بكر عمر) فإنه يكن مثابة المسند‪ ،‬بل هو قد يكون أقوى من‬
‫ذلك‪ ،‬ع ّبر الشيخ بأنه‪ :‬نقل متواتر عن أهل المدينة فيكون كالمستفيض‪ ،‬ولذلك جزم بعض أهل أن‬
‫األخبار المستفيضة والمتواترة وخصوصا يف تلك العصور المتقدمة‪ُ ،‬يستغنى باستفاضتها عن النظر يف‬
‫إسنادها‪ ،‬وهذا له مبحث طويل جدا يرجع إليه يف علم يف كتب الحديث ويف كتب أصول الفقه كذلك‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬لكن أبو حنيفة لم يبلغه هذا النقل»‪.‬‬

‫وهذه نكتة عزيزة‪ ،‬فقد أشار أبو يوسف إلى أن اإلمام أبا حنيفة لم تبلغه هذه اآلثار وهذا المنقول‬
‫فلذلك خالفها‪ ،‬ولم تكن مخالفته لها عن قصد وعلم هبا‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬كما لم يبلغه ولم يبلغ غيره من األئمة كثير من الحديث»‪.‬‬

‫كثير من األئمة وخاصة يف األزمنة المتقدمة لم يكن أحد ُيحيط بجميع األحاديث لتفرق الصحابة‬
‫بين األمصار‪ ،‬فقد كان يف المدينة حديث كثير لم يبلغ أهل العراق‪ ،‬وربما كان عند أهل العراق أحاديث‬
‫لما قدم العراق واطلع على‬
‫لم تبلغ غيرهم من علماء الحجاز‪ ،‬وهذا الذي جعل الشافعي ‪ّ ‬‬
‫‪23‬‬

‫حديثهم‪ ،‬إذ كان أهل العراق يف عهد الشافعي قد جمعوا بين حديث أهل العراق والمدينة والشام‬
‫وغيرهم‪ ،‬وجد أحاديث كثيرة لم يكن قد اطلع عليها فتغ ّير يف كثير من المسائل؛ فالسبب األهم يف رجوع‬
‫الشافعي عن القول القديم إلى القول الجديد‪ :‬إنما هو علمه بأحاديث لم يكن قد علمها قبل ذلك؛ ولذا‬
‫كان الشافعي يقول ألحمد‪ :‬إذا ثبت أو صح عندك الحديث فاكتبه لي ألعمل به أو بمقتضاه‪ ،‬فسبب‬
‫رجوع الشافعي عن القول القديم للجديد إنما هو النقل واألثر‪ ،‬وليس غير ذلك؛ فربما كان أمورا أخرى‬
‫لكن هذا هو األصل يف سبب تراجعه عن كثير من اآلراء‪ ،‬وهو الذي يسمى بالمذهب الجديد‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬كما لم يبلغ غيرهم من األئمة كثير من األحاديث‪ ،‬فال لوم عليهم يف ترك ما لم‬
‫يبلغهم علمه»‪.‬‬
‫وال شك يف ذلك؛ فإن اهلل‪ ‬قد رفع عن المسلمين جميعا الحرج ﱩ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ‬
‫ﯫﯬﱨ [البقرة‪.]286 :‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وكان رجوع أبي يوسف إلى هذا النقل كرجوعه إلى أحاديث كثيرة اتبعها هو‬
‫وصاحبه محمد»‪.‬‬
‫أي‪ :‬إن أبا يوسف ومحمد بن الحسن اتبعا أحاديث وترك قول شيخهما أبي حنيفة رحمهما اهلل‬
‫تعالى جميعا‪ ،‬وسبب مخالفتهم له إنما هو وقوفهم على النقل والحديث وهذا هو الظن هبم‪ ،‬ولذلك‬
‫ُش ِّهر يف كتب الحنفية أن الصاحبين (أعني أبا يوسف ومحمد بن الحسن الشيباين) قد خالفا أبا حنيفة يف‬
‫ثلثي المذهب‪ ،‬وهذا لورعهما وعلمهما وفضلهما وال شك‪ ،‬وال يضير ذلك أبا حنيفة فإن اهلل‪ ‬رفع‬
‫عن المسلمين الحرج فيما جهلوه وال لوم على أبي حنيفة يف ذلك‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وتركا قول شيخهما» (أي‪ :‬به أبو حنيفة) «لعلمهما بان شيخهما كان يقول‪ :‬إن هذه‬
‫األحاديث أيضا حجة أن صحت‪ ،‬لكن لم تبلغه»‪ ،‬أي‪ :‬إن أبا حنيفة عنده أصالن‪:‬‬
‫‪ ‬األصل األول‪ :‬تقديم الحديث على كل شيء‪.‬‬
‫‪ ‬واألصل الثاين‪ :‬األصل بان ما نقله أهل المدينة مما يجري مجرى النقل واألثر أنه يكون حجة‪،‬‬
‫وهذا معنى قوله‪« :‬إن هذه األحاديث»‪.‬‬
‫أما األصل األول‪ :‬فقد أفرد الحافظ أبو عمر ابن عبد الرب بابا يف كتابه‪« :‬جامع بيان العلم»‪ ،‬يف النقل‬
‫عن األئمة الثالثة أبي حنيفة ومالك والشافعي أهنم يقولون‪« :‬إذا صح الحديث فإنه يكن مذهبا لهم»‪،‬‬
‫وأهنم يقولون إذا خالف الحديث رأيهم فارموا بآرائهم عرض الحائط‪ ،‬ونحو ذلك من اآلثار التي تدل‬
‫‪24‬‬

‫على نفس هذا المعنى‪.‬‬

‫ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث‬
‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ومن ّ‬
‫الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم»‪.‬‬
‫وهذا هو الصواب؛ فإن أبا حنيفة وغيره من أئمة المسلمين كاألئمة األربعة المتبوعين وكبار‬
‫أصحاهبم كابي يوسف ومحمد بن الحسن وغيرهم من األئمة‪ ،‬هؤالء أئمة جعلهم اهلل أئمة يقتدى هبم‬
‫ويذكرون بعد وفاهتم بقرون كثيرة ويثنى عليهم ويؤخذ باجتهادهم وغير ذلك من الفضائل التي لم تكن‬
‫لغيرهم‪ ،‬من ظن أن هؤالء يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم‪ ،‬فإهنم ال‬
‫يقولون ذلك البتة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وتكلم أما بظن أو بهوى»‪.‬‬

‫أي‪ :‬بناه على ظن مع ّين‪ ،‬أو هبوى أو هوى له يف مخالفة حكم؛ ولذلك فإن ما نقل يف كتب أصول‬
‫الحنفية من اشرتاط أن يكون الحديث غير مخالف للقياس؛ فإن هذا االشرتاط الذي ذكروه إنما ذكره‬
‫بعض المتأخرين من األصوليين كالسرخسي وغيره‪ ،‬ولم ينقل ذلك عن أبي حنيفة‪ ،‬ومثل أبا زيد‬
‫الدبوسي وغيره‪ ،‬ولم ينقل ذلك عن أبي حنيفة وال عن صاحبه‪ ،‬وإن قال به بعض المتأخرين من أصولي‬
‫الحنفية‪ ،‬ومع ذلك لم يقولوا إن أبا حنيفة يقول إن كل حديث يخالف القياس فإنه يرد‪ ،‬وإنما نقلوا أن‬
‫مذهب الحنفية‪ :‬إن الحديث إذا كان يخالف القياس وكان راويه ليس بفقيه فإنه يرد‪ ،‬وإن كان فقيها فإنه‬
‫ال يرد‪ ،‬والحقيقة أن هذا خرجه بعض المتأخرين مذهبا للحنفية وهذا ُمتت ّبع بأمور ستأيت بعد قليل من‬
‫األمثلة التي أوردها الشيخ؛ فإن بعض األحاديث التي عملوا هبا جاءت من طريق بعض الصحابة الذي‬
‫ذكر بعض المتأخرين أنه ليس بفقيه‪ ،‬ومع ذلك احتج به الحنفية مثل مسألة القهقهة وغيرها من األمثلة‬
‫التي سيأيت إن شاء اهلل‪ ،‬اإلشارة إليها؛ ولذلك فإن الشيخ ‪ ‬قد انتصر ألبي حنيفة وصاحبيه يف مسألة‬
‫رد الحديث الصحيح يف مقابلة القياس وأن هذا قول ال يثبت وال يصح‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬فهذا أبو حنيفة يعمل بحديث التوضؤ بالنبيذ يف السفر مخالفة للقياس»‪.‬‬

‫فلما جاء حديث ابن مسعود خالف القياس‪ ،‬القياس أنه ال يتوضأ إال بالماء غير المتغير‪ ،‬لحديث‪:‬‬
‫«الماء طهور ال ينجسه شيء إال ما غلب على طعمه أو لونه أو ريحه»‪ ،‬وهذه الزيادة عند ابن ماجه‬
‫وأجمع العلماء على العمل هبا كما قال ابن عبد الرب‪ ،‬هذا هو القياس‪ ،‬مع ذلك صحح الوضوء بالنبيذ‬
‫ألجل هذا الحديث الوارد مع أن هذا الحديث له توجيهات عند عامة أهل العلم مذكورة يف محلها‪.‬‬
‫‪25‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وعمل بحديث القهقهة يف الصالة مع مخالفته للقياس»‪.‬‬

‫ألن القياس أن الوضوء ال يبطله القهقهة؛ وإنما يبطله ما خرج من اآلدمي‪ ،‬ومع ذلك فإن أبا حنيفة‬
‫أبطل الوضوء بالقهقهة‪ ،‬فقول المصنف «بحديث القهقهة يف الصالة»؛ ربما أي‪ :‬مراده القهقهة يف‬
‫الوضوء‪ ،‬ألن هذه هي المسألة التي ُش ِّهرت عن الحنفية‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬العتقاده صحتهما»‪.‬‬

‫أي‪ :‬صحة هذين الحديثين‪ ،‬مع أن هذين الحديثين معلوالن‪ ،‬واألول‪ :‬أي‪ :‬موجه أن ثبت بتوجيهات‬
‫كثيرة‪ ،‬ذكر أهل العلم يف محلها‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وإن كان أئمة الحديث لم يصححوهما»‪.‬‬

‫أي‪ :‬لم يصححوا هذين الحديثين‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وقد بينا هذا يف رسالة رفع المالم عن األئمة األعالم»‪.‬‬

‫هذه رسالة عظيمة للشيخ ‪ ‬ذكر فيها كثير من القواعد يف تعاملهم مع النصوص‪ ،‬وإشارة‬
‫المصنف لهذه الرسالة تفيدنا إفادتين‪:‬‬
‫‪ ‬اإلفادة األولى‪ :‬تأخر تأليفه رسالة أصول مذهب أهل المدينة عن رسالته رفع المالم‪.‬‬
‫‪ ‬اإلفادة الثانية‪ :‬إن الشيخ عندما أحال لرفع المنام يدلنا على أنه قد ألفها تأليفا منفردا وليست‬
‫فتوى؛ وإنما هي رسالة‪ ،‬والشيخ بعض كتبه مؤلفات وبعضها فتاوى‪ ،‬كما أن إشارته لها هبذا االسم يدل‬
‫على تسميته لها به ذلك‪ ،‬ويدل أيضا على ثنائه عليها؛ ألن المرء عادة إنما يحيل على ما أعجبه من‬
‫مؤلفاته‪ ،‬فدل على تحريرها‪ ،‬وقد حررها تحرير دقيق وال شك‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وب ّينا أن أحدا من أئمة المسلمين ال يخالف حديثا صحيحا بغير عذر»‪.‬‬

‫الظن بجميع أئمة المسلمين وخاصة الذين يشار إليهم بالبنان وجعلهم اهلل أئمة يقتدى هبم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وهذا هو‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬بل لهم نحو من عشرين عذرا»‪.‬‬

‫هذه األعذار العشرين ذكرها هنا‪ ،‬أجملها الشيخ تقي الدين يف رسالة «رفع المالم» يف ثالثة أعذار‪:‬‬
‫‪ ‬العذر األول‪ :‬أن يعتقد هذا العالم أن النبي‪ ‰‬لم يقل هذا الحديث‪ ،‬أما لعدم بلوغه له أو‬
‫‪26‬‬

‫لعدم تصحيحه الحديث أو نحو ذلك‪.‬‬


‫‪ ‬العذر الثاين‪ :‬أن يكون معتقد لعدم إرادة النبي‪ ‰‬تلك المسألة من ذلك الحديث‪،‬‬
‫تأوله أو لم ُيحسن فهمه‪.‬‬
‫فيكون قد ّ‬
‫‪ ‬العذر الثالث‪ :‬أن يعتقد أن ذلك الحديث منسوخ‪.‬‬
‫فهذه األعذار الثالثة ترجع إليها األعذار العشرون أو األكثر‪ ،‬ثم ذكر بعضا من هذه األعذار العشرين‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬مثل إن يكن أحدهم لم يبلغه الحديث»‪.‬‬

‫مثل هذه األحاديث التي تقدم ذكرها؛ فإهنا لم تبلغ أبا حنيفة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬أو بلغه من وجه لم يثق به»‪.‬‬

‫فلم يصححه؛ ألي سبب من األسباب التي تكون سببا إلعالن الحديث وعدم قبوله‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬أو لم يعتقد داللته على الحكم»‪.‬‬

‫فرأى أن داللته ضعيفة أو بعيدة أو مؤولة ونحو ذلك‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬أو أعتقد أن ذلك الدليل قد عارضه ما هو أقوى منه كالناسخ»‪.‬‬

‫هذه مسألة قد يتوسع فيها بعض الفقهاء؛ فإن بعضا من الفقهاء رحمهم اهلل تعالى يرون أن الحديث‬
‫إذا عارضه غيره ولم يمكن الجمع بينهما ُحكِم بنسخ أحد الحديثين‪ ،‬وهذه طريقة لبعض الفقهاء؛ بينما‬
‫علماء الحديث رحمهم اهلل تعالى ال يحكمون بالنسخ إال بوجود دليل يدل على النسخ أما نص أو بداللة‬
‫نقلية فيها أو بداللة عقلية مشوبة بنقل‪ ،‬مثل أن يكون أحد النقليين متأخرا عن اآلخر ونحو ذلك من‬
‫األمور‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬أو اعتقد ذلك الدليل قد عارضه ما هو أقوى منه كالناسخ»‪.‬‬

‫طبعا هنا أقوى أي‪ :‬أقوى حجة وداللة كذلك‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬أو ما يدل على الناسخ»‪.‬‬

‫دائما أن يكون‬
‫أي‪ :‬فيأيت يظن أن هذا األمر يدل على النسخ وهو ليس كذلك‪ ،‬مثل التأخر‪ ،‬فال يلزم ً‬
‫ً‬
‫ناسخا‪ ،‬ومثل ما يقرره بعض األصوليين أن الخاص إذا ورد بعد العام فإنه يكون ناسخ وال يكون‬
‫‪27‬‬

‫مخصصا‪ ،‬وهذه مسألة أصولية مشهورة جدا‪ ،‬بل هي من رؤوس المسائل‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وأمثال ذلك»‪.‬‬

‫من األعذار التي ذكر أهنا تبلغ نحو من عشرين عذرا‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬واألعذار يكون العالم يف بعضها مصيبا فيكون له أجران»‪.‬‬

‫أجر االجتهاد وأجر اإلصابة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ويكون يف بعضها»‪.‬‬

‫أي‪ :‬يف بعض تلك األعذار‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬مخطئا»‪.‬‬

‫يف ذلك العذر‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪«:‬بعد اجتهاده»‪.‬‬

‫أي‪ :‬بعد بذله الوسع واالجتهاد‪ ،‬ال بالتشهير والهوى‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬فيثاب على اجتهاده وخطئه مغفورا له»‪.‬‬

‫فيكون له أجر واحد كما يف حديث ابن مسعود وغيره‪« :‬إن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران‪،‬‬
‫وإذا أخطأ فله أجر واحد»‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬لقوله تعالى‪ :‬ﱩ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﱨ [البقرة‪ ]286 :‬وقد ثبت يف‬
‫الصحيح‪ :‬إن اهلل استجاب هذا الدعاء وقال‪ :‬قد فعلت»‪.‬‬
‫وجاء عن الراوي أظنه أنسا أنه قال‪ :‬فما فرح الصحابة كفرحهم يومئذ؛ ألن وجل رفع عنا الخطأ‬
‫والنسيان وهذا من رحمة اهلل‪ ‬بنا‪ ‬وهو رحيم‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وألن العلماء ورثة األنبياء»‪.‬‬

‫أي‪ :‬إن األنبياء لما كان الظن هبم عدم تعمد الهوى أو العمل بالهوى وتعمد هذا اإلغراب يف مخالفة‬
‫ما يصل إليهم من الوحي؛ فإن العلماء ورثتهم يف الطريقة وورثتهم يف العلم معا‪ ،‬فاألصل أهنم ال‬
‫يخالفون صحيحا بغير عذر من األعذار‪.‬‬
‫‪28‬‬

‫وقد ذكر الشيخ ‪ ‬بعض القصص عن األنبياء يف ذلك ومثلهم العلماء ألهنم ورثتهم‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وقد ذكر اهلل عن داود وسليمان أنهما حكمان يف قضية»‪ ،‬أي‪ :‬قضايا فيها‪.‬‬

‫فهمها أحدهما»‪ ،‬ففهمناها سليمان‪« ،‬ولم يعب اآلخر»؛ ألنه لم يفهم تلك المسألة‪.‬‬
‫«وأنه ّ‬
‫« بل أثنى على كل واحد منهما بأنه أتاه حكما وعلما‪ ،‬فقال اهلل ‪:‬ﱩ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ‬
‫ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﱨ‬
‫[األنبياء‪.]79-78 :‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ :‬بعد ذكر هذه اآلية‪«:‬وهذه الحكومة» أي‪ :‬الحكم الذي صدر من داود وسليمان‬
‫عليهما السالم‪« ،‬تتضمن مسألتين تنازع فيهما العلماء» أي‪ :‬هذا الباب االستطراد يف شرح ما حدث من‬
‫شرع من قبلنا فيكون شرع لنا ما لم يأت‬
‫قضاء داود وسليمان وأن حكم الذي أثنى عليه اهلل ‪ ‬هو من ْ‬
‫يف شرعنا ما يخالفه‪ ،‬بل أن اهلل قد أثنى عليه‪ ،‬وقد جاء يف شرعنا ما يدل عليه‪«،‬المسألة األولى‪ :‬مسألة‬
‫واب يف الحرث بالليل» يقول أهل اللغة‪ :‬النفش إنما يكون يف الليل ومعنى ذلك أن الدواب إذا‬ ‫ِ‬
‫نفش الدّ ّ‬
‫دخلت حرث قوم‪ ،‬مزرعة ونحوها‪ ،‬فنفشت فيه وأتلفت زرعا وأصابت ماال وأكلت من ذلك الموجود يف‬
‫ذلك الحرث أو يف تلك المزرعة‪ ،‬فهل يضمن صاحب تلك الدواب هذا الزرع الذي نفشته تلك الدواب‬
‫أم ال ؟ فيه قوالن‪ :‬ذكر الشيخ القولين (أي مسألة نفش الدواب يف الحرث وهي المزارع بالليل‪ ،‬إذا‬
‫انفلتت الدواب من صاحبها ولم يرسلها‪ ،‬وأما أن أرسلها متعمدا فال شك أنه يكون ضامنا‪ ،‬ألنه هو‬
‫المتسبب يف ذلك)‪ ،‬قال‪«:‬وهو» (أي‪ :‬النفش) مضمون عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد‪،‬‬
‫وأبو حنيفة لم يجعله مضمونا »‪.‬ألن أبا حنيفة أخذ بعموم قول النبي ‪« :‰‬العجماء جبار»‪ ،‬وأما‬
‫أوال‪ ،‬وقد جاء فيها عند أحمد وأبي داود وغيرهما أن النبي‬ ‫الجمهور‪ :‬فأخذوا هبذه اآلية ً‬
‫‪ ‰‬لما سئل عن ناقة الرباء حينما دخلت حائط قوم فأفسدت فيه‪ ،‬قال إن على أهل المواشي ما‬
‫أفسدت ماشيتهم بالليل‪ ،‬وعلي أهل الحيطان حفظ حيتاهنم بالنهار‪ ،‬فيكون هذا الحديث مخصصا‬
‫لحديث العجماء جبار‪ ،‬أي‪ :‬هدر‪ ،‬ولما كان داود لم يعب اهلل ‪ ‬عليه اجتهاده‪ ،‬فكذلك أبا حنيفة لما‬
‫ا جتهد يف هذه المسألة فإن اجتهاده ال يعاب عليه وال يأثم بل هو بين األجر واألجرين رحمة اهلل على‬
‫الجميع‪.‬‬

‫نزاع يف مذهب‬ ‫ِ‬


‫بالمثل أو القيمة‪ ،‬ويف ذلك ٌ‬ ‫ضمان‬
‫ٌ‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬والثاين» (أي‪ :‬المسألة الثانية) «‬
‫الشافعي وأحمد وغيرهما»‪ ،‬هذه مسألة من المسائل الكبيرة‪ ،‬وهي مسألة‪ :‬ما الذي ُيضمن بالمثلِ؟ وما‬
‫الذي ُيضمن بالقيمة؟‪.‬‬
‫ومشهور مذهب اإلمام أحمد أن الذي ُيضمن بالمثل إنما هو المكيل والموزون دون ما عدا ُه؛ وأما‬
‫غيره فال ُيضمن‪ ،‬والرواية الثانية يف مذهب أحمد‪ :‬إن كل ما أمكن أن يكون له مثل فإنه أقرب للعدل‪ ،‬وقد‬
‫‪29‬‬

‫أشار المصنف يف هذين القولين وهما وجهان يف مذهب أحمد والشافعي‪.‬‬

‫الضمان بالمثل إذا أمكن‪ ،‬كما‬


‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬والمأثور عن أكثر السلف يف نحو ذلك يقتضي ّ‬
‫قضى به سليمان»‪.‬‬
‫ألن سليمان‪ -‬عليه السالم‪ -‬قضى بالمث ِل ّ‬
‫بغض النظر عن كونه مكيالً أو موزونًا أو غير ذلك‪.‬‬

‫ضمنُون ذلك إال بالقيمة‪ ،‬كالمعروف بمذهب أبي حنيفة‬ ‫ِ‬


‫وكثير من الفقهاء ال ُي ِّ‬
‫ٌ‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬‬
‫والشافعي وأحمد»‪.‬‬
‫وهو مشهور مذهب أحمد كذلك‪.‬‬

‫حجة باتفاق‬
‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬والمقصود هنا إن عمل أهل المدينة الذي يجري مجرى النقل ّ‬
‫المسلمين‪ ،‬كما قال مالك ألبي يوسف (لما سأله عن الصاع والمد وأمر أهل المدينة بإحضار ِصيعاهنم‪،‬‬
‫وذكروا له أن إسنادها عن أسالفهم) أثرى هؤالء يا أبا يوسف يكذبون؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬واهلل ما يكذبون؟! قال‪:‬‬
‫حررت (كالم مالك) هذه الضيعان فوجدهتا خمسة أرطال وثلثًا بأبطالكم يا أهل العراق»‪.‬‬ ‫فأنا ّ‬
‫فهذه تقدير مالك للصاع النّبوي‪ ،‬وقد أخذ هبذا التقرير كثير من أهل العلم بأن الصاع خمسة أرطال‬
‫وثلثًا من األرطال العراقية‪.‬‬
‫رأيت لرجع كما‬
‫ُ‬ ‫فقال (أي‪ :‬أبو يوسف)‪ :‬رجعت إلى قولك يا أبا عبد اهلل‪ ،‬ولو رأى صاحبي ما‬
‫رجعت‪ ،‬وسأله (أي سأل أبو يوسف مالكًا) عن صدقة الخضروات (أي‪ :‬عن زكاة الخضروات) فقال‪:‬‬
‫ُ‬
‫هذه مباقِ ُل أهل المدينة لم ُتؤخذ منها صدق ٌة على عهد رسول اهلل‪ ‰‬وال أبي بكر وال عمر‬
‫‪ ،‬أي‪ :‬وهي ُ‬
‫تنبت فيها الخضروات‪،‬‬
‫وسأله عن االحتباس (أي األوقاف)‪ :‬وذلك أن أبا حنيفة يرى أن الخضروات فيها الزكاة‪ ،‬ويرى أن‬
‫األوقاف يجوز الرجوع فيها‪ ،‬وتبقى على ملك صاحبها‪،‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وسأله عن االحتباس فقال» (أي مالك)‪ :‬هذا حبس فألن‪ ،‬وهذا حبس فألن‪ ،‬يذكر‬
‫أحباش الصحابة (أي‪ :‬يذكر أسماءهم‪ ،‬تبين أن الصحابة ما زالوا يوقفون يف المدينة‪« ،‬فقال أبو يوسف يف‬
‫كل منهما قد رجعت يا أبا عبد اهلل ولو رأى صاحبي ما رأيت لراجع كما رجعت»‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬وأبو يوسف ومحمد وافقا بقية الفقهاء يف أنه ليس يف الخضروات صدقة‪ ،‬كمذهب‬
‫مالك والشافعي وأحمد»‪.‬‬
‫وقد روى مالك هذه األخبار يف زكاة الخضروات يف الموطأ‪ ،‬وقد روى الموطأ عن مالك محمد بن‬
‫‪30‬‬

‫الحسن؛ فإن محمد بن الحسن نقل اآلثار يف سقوط زكاة الخضروات عن مالك‪ ،‬ولذلك وقف عليها ولم‬
‫يقف عليها شيخه أبو حنيفة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ويف أنه ليس فيما دون خمسة واسق صدقة كمذهب هؤالء‪ ،‬وان الوقف عنده الزم‬
‫كمذهب هؤالء»‪.‬‬
‫ألن أبا حنيفة يرى أن الوقف ليس بالزم‪ ،‬ويجوز الرجوع فيه وقت ما شاء‪.‬‬
‫ثم ذكر المصنف فائدة فيما يتعلق باألرطال العراقية‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وإنما قال مالك‪ :‬بأبطالكم يا أهل العراق»‪.‬‬

‫ألنه لما انقرضت الدولة األمو ّية وجاءت دولة ولد العباس قريبا (قريبا أي‪ :‬بعدها) فقام أخوه أبو‬
‫جعفر الملقب بالمنصور فبنى بغداد فجعلها دار ملكه‪ ،‬وكان أبو جعفر أن أهل الحجاز حينئذ كانوا أعني‬
‫بدين اإلسالم من أهل العراق‪ ،‬ويروى أنه قال ذلك لمالك أو غيره من علماء المدينة‪ ،‬قال‪ :‬نظرت يف هذا‬
‫األمر‪ ،‬فوجدت أهل العراق أهل كذب وتدليس أو نحو ذلك‪ ،‬ووجدت أهل الشام إنما هم أهل غزو‬
‫وجهاد‪ ،‬ووجدت هذا األمر فيكم‪ ،‬ويقال‪ :‬إنه قال لمالك‪ :‬أنت اعلم أهل الحجاز أو كما قال‪ ،‬فطلب أبو‬
‫جعفر من علماء الحجاز أن يذهبوا إلى العراق وينشرون العلم فيه‪ ،‬فقدم عليه هشام بن عروة ومحمد بن‬
‫إسحاق ويحيى بن سعيد األنصاري وربيعة بن أبي عبد الرحمن وحنظلة بن أبي سفيان الجمحي وعبد‬
‫العزيز بن أبي سلمة الماجشون وغير هؤالء» وهؤالء من أعيان فقهاء المدينة‪ ،‬انتقلوا كما ذكر الشيخ إلى‬
‫العراق‪ ،‬أما انتقاال كليا أو انتقاال مؤقتا‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬كان أبو يوسف يختلف إلى مجالس هؤالء ويتعلم منهم الحديث‪ ،‬وأكثر عمن‬
‫قدم من الحجاز»‪.‬‬
‫أي‪ :‬أكثر الرواية عن من قدم من الحجاز‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ولهذا يقال يف أصحاب أبي حنيفة‪ :‬أبو يوسف أعلمهم بالحديث»‪.‬‬

‫وقد نص على ذلك أحمد‪ ،‬فقد ن ُِقل أن أحمد روى عن أبي يوسف يف أول طلبة الحديث وأثنى عليه‬
‫بأنه من اعلم أصحاب أبي حنيفة بالحديث‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪َ « :‬و َز َف َر ُا ْط ُر ْد ُه ْم للقياس»‪.‬‬

‫ألن زفر كان إذا جاء بقياس فإنه يأيت به ُمنضبطا ويكون دقيق؛ ولذلك فإن أقيسة زفرت دقيقة‪،‬‬
‫‪31‬‬

‫واجتهاده منضبط‪ ،‬وقليل ما يستثني من القياس‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬والحسن بن زياد اللؤلؤية أكثرهم تفريعا»‪.‬‬

‫فله تفريعات كثيرة جدً ا‪ ،‬وهو من أكثر أصحاب أبي حنيفة يف التفريع‪ ،‬مسائل وما يتفرع عليها‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ومحمد أعلمهم بالعربية والحساب»‪.‬‬

‫المراد بمحمد‪ :‬محمد بن الحسن الشيباين‪ ،‬وهو من أعلمهم بالعربية والحساب‪ ،‬أما كونه أعلمهم‬
‫بالعربية فال شك يف ذلك؛ فإن محمد بن الحسن الشيباين كان من علماء العربية‪ ،‬وعنده من علم العربية‬
‫ودقيقها الشيء الكثير‪ ،‬ومن النكت التي توجد يف غير مظنّتها ما ذكره السرخسي يف شرح السير الكبير‬
‫لمحمد بن الحسن فقد ذكر يف كتاب األمان ما نصه أو ما معناه‪ :‬إن أدق المسائل وألطفها هي مسائل‬
‫أبواب األمان‪ ،‬وأن محمد بن الحسن جمع فيها بين دقائق علم النحو ودقائق أصول الفقه‪ ،‬وقد كان قد‬
‫شاور فيها الكِسائي‪ ،‬إماما يف اللغة مشهور‪ :‬علي بن حمزة فإنه كان ابن خالته‪ ،‬وكان مقدم يف علم النحو‪،‬‬
‫وهذه نكتة نفيسة وهو أن محمد بن حسن هو ابن خالة الكسائي اإلمام المقرئ اللغوي المشهور‪ ،‬وقد‬
‫كان يشاور الكسائي يف كثير من مسائل اللغة‪ ،‬وهذه فائدة لغوية أي‪ :‬من باب االستطراد‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وربما قيل‪ :‬أكثرهم تفريعا»‪.‬‬

‫أي‪ :‬وربما نقول إن محمد كثير التفريع يف ذلك‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ولما صارت العراق دار الملك واحتاج الناس إلى تعريف أهلها بالسنة والشريعة‪،‬‬
‫َغ َّير المكيال الشرعي برطل أهل العراق»‪.‬‬
‫المراد‪ :‬غير الصاع‪ ،‬فأصبح يقدر بالرطل‪ ،‬والرطل وحدة كيل‪ ،‬وقد يكون وحدة وزن كذلك‪ ،‬فأتى‬
‫برطل أهل العراق‪ ،‬وقد ذكر الجماعة من أهل العلم كالحجاوي أن الرطل الذي يسمى بالرطل العراقي‬
‫هو الرطل الذي كان يف عهد النبي‪ ‰‬يسمى بالرطل الحجازي‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وكان بطلهم بالحنطة الثقيلة‪ ،‬والعدس إذ ذاك تسعين مثقاال»‪.‬‬

‫وهذا وزن‪ ،‬فنقلوا الكيل إلى الوزن‪ ،‬وقد عاب بعض المحققين كابن قصارا ذلك يف اعرتاضه على‬
‫ابن زيد القيرواين يف الرسالة‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫‪32‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬وكان بطلهم بالحنطة الثقيلة والعدس إذ ذاك تسعين مثقاال‪ ،‬مئة وثمانية وعشرون‬
‫درهما وأربعة أسباع الدرهم»‪.‬‬
‫هذه تقدير الصاع بالوزن من الحنطة ومن العدس‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬فهذا هو المرتبة األولى إلجماع أهل المدينة‪ ،‬وهو حجة باتفاق المسلمين»‪.‬‬

‫هذا هو المرتبة األولى‪ ،‬وقد استطرد الشيخ ‪ ‬يف ذكر هذه المرتبة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬المرتبة الثانية‪ :‬العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفان»‪.‬‬

‫وهذا فيه خالف بين أهل العلم‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬فهذا حجة يف مذهب مالك»‪.‬‬

‫ع ّبر المصنف بأنه حجة‪ ،‬ولم يعرب بأنه إجماعا‪ ،‬وهذا هو األقرب‪ ،‬التعبير بأنه حجة أدق من التعبير‬
‫من كونه إجماعا‪ ،‬وتقدم معنا الفرق بين هذين المصطلحين؛ فإن اإلجماع ُحجيته أعلى وأقوى من‬
‫الحجة المطلقة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وهو المنصوص عن الشافعي‪ ،‬قال» (أي‪ :‬الشافعي) «يف رواية يونس بن عبد‬
‫األعلى‪ :‬إذا رأيت قدماء أهل المدينة على شيء فال تتوقف يف قلبك أنه الحق»‪ .‬فال تتوقف يف قلبك ريبًا‬
‫أنه الحق‪ ،‬فهذا نص من نصوص الشافعي وهي رواية يونس بن عبد األعلى وهو من متقدمين أصحاب‬
‫الشافعي‪ ،‬على أن‪ :‬القول القديم عند أهل المدينة والعمل القديم إنه حجة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وكذا ظاهرا مذهب أحمد أن ما سنّه الخلفاء الراشدون فهو حجة يجب اتباعه»‪.‬‬

‫أي‪ :‬يجب العمل به وعدم خالفته‪ ،‬وهذه المسألة من المسائل المهمة وهي قضية أن من أهل العلم‬
‫من ذكر أن ما أجمع عليه الخلفاء الراشدون أنه يكون حجة‪ ،‬وذلك إنما قال به الخلفاء الراشد ال يخلو‬
‫من حاالت‪:‬‬
‫‪ -‬إما أن يكون ال يعلم خالف بين أهل العلم فيه‪ ،‬بمعنى أنه ال ُيعلم أن أحدا من الصحابة رضوان اهلل‬
‫عليهم خالف هؤالء الخلفاء األربعة يف هذه المسألة‪ ،‬فحينئذ يكون حجة باتفاق‪ ،‬بل هو إجماع‪ ،‬بل هو‬
‫من أقوى الجماعات‪ ،‬ألنه إجماع متقدم‪.‬‬
‫‪ -‬إما أن يكون أحدا من الصحابة قد خالف الخلفاء الراشدين‪ ،‬فهل يكون حجة أم ال؟ هذا فيه‬
‫قوالن عن اإلمام أحمد‪ ،‬وأكثر فقهاء مذهب اإلمام أحمد كالقاضي وأصحابه على أنه ال يكون حجة إذا‬
‫‪33‬‬

‫خالف قول الخلفاء الراشدين األربعة أحد من الصحابة‪ ،‬والرواية الثانية‪ :‬إنه حجة‪ ،‬وإن لم يك إجما ًعا‪،‬‬
‫وأخذت ذلك من رواية عن اإلمام أحمد‪ ،‬وهذا هو الذي قرره الشيخ يف كثير من مواضع‪ ،‬أعني الشيخ‬
‫تقي الدين واختاره ابن رجب‪ ،‬واختاره بعض الحنف ّية كذلك‪ ،‬إذا أحمد عنه روايتان يف سنة الخلفاء‬
‫الراشدين إذا خالفها أحد من الصحابة هل يكون حجة أم ال؟ واختار الشيخ تقي الدين ورجح الرواية أن‬
‫سنتهما حجة وان خالفهم أحد من الصحابة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬قال أحمد‪ :‬كل بيعة كانت يف المدينة فهي خالفة نبوة»‪.‬‬

‫هذا من باب اإليماء إلى أهنا يف معنى الحجية؛ ألهنا كانت من عمل أهل المدينة‪.‬‬

‫علي كانت‬
‫‪ ‬قال ا مصنف‪« :‬ومعلوم أن بيعة أبي بكر وعمر وعثمان كانت بالمدينة‪ ،‬وكذلك بيعة ّ‬
‫ل‬
‫بالمدينة ثم خرج منها وبعد ذلك لم تُعقد بالمدينة بيعه»‪.‬‬
‫علي‪ ‬عقد بيعته بالمدينة ثم خرج إلى الكوفة‪ ،‬فما نقل عنه يف المدينة فهو حجة وما نقل عنه يف‬
‫الكوفة ما نقله الثقات عنه كأصحاب ابن مسعود يكون حجة وإال فقد ُيكذب عليه كما كُذب على غيره‬
‫من أهل العلم رحمهم اهلل تعالى ورضي عنهم‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬وقد ثبت يف الحديث الصحيح حديث العرباض بن سارية عن النبي‪‰‬‬
‫أنه قال‪ « :‬عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ‬
‫وإياكم ومحدثات األمور فإن كل بدعة ضاللة»‪.‬‬
‫هذا الحديث أتى به الشيخ للداللة على أن سنة الخلفاء الراشدين‪ ،‬والمراد بسنتهم أي‪ :‬عملهم‬
‫وقولهم‪ ،‬والخلفاء الراشدون هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ‪‬م‪ ،‬وعلي ما نقل عنه يف المدينة هو‬
‫داخل يف ذلك‪ ،‬وأما بعد انتقاله إلى الكوفة فإنه نُقل عنه الصحيح ونُقل عنه الكذب وقد قرر ذلك جماعة‬
‫كاإلمام أحمد وغيره‪ ،‬وفرقوا بينهم بحسب الراوي عنه‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ويف السنن من حديث سفينة عن النبي‪ ‰‬أنه قال‪ :‬خالفة النبوة ثالثون‬
‫حجة»‪.‬‬
‫فالمحكي عن أبي حنيفة يقتضي أن قول الخلفاء الراشدين ّ‬
‫ّ‬ ‫سنة ثم يصير ملكا عضوضا‪،‬‬
‫هذا القول الذي حكاه الشيخ عن الحنفية أخذ به بعض أصحاب أبي حنيفة‪ ،‬فقد نقل أبو الخطاب‬
‫يف التمهيد أن أبا خازم من الحنفية يرى هذا الرأي‪ ،‬ونقله غيرهم من أهل العلم أن قول خلفاء الراشدين‬
‫يكون حجة‪ ،‬فقال به بعض أصحاب أبي حنيفة‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫‪34‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وما ُي ْعلم ألهل المدينة عمل قديم على عهد الخلفاء الراشدين مخالف لسنة‬
‫الرسول ‪.»‰‬‬
‫أما أن يكون مستندها سنة أو مأخوذة من عمومات ومن أصل السنة‪ ،‬فال مخالفة بينها وبين سنة‬
‫البتة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬والمرتبة الثالثة»‪ ،‬أي‪ :‬من مراتب عمل أهل المدينة‪« ،‬إذا تعارض يف المسألة‬
‫دليالن‪ :‬كحديثين وقياسين َج ِه َل أيهما أرجح؟»‪ ،‬هذه المسألة من المسائل التي يوردها العلماء يف مسألة‬
‫التعارض بين األدلة والرتجيح‪ ،‬فقد ذكروا يف مسألة التعارض والرتجيح أن بعض المجتهدين يكون يف‬
‫ِذهنهم تعارض بين بعض األدلة‪ ،‬إذ التعارض إنما يكون بحسب فهم المجتهد‪ ،‬وأما األدلة فال ُيمكن أن‬
‫تتعارض‪ ،‬وإنما التعارض يكون بحسب فهم المجتهد فقط دون الحقيقة‪ ،‬إال أن يكون أحد الدليلين‬
‫ً‬
‫منسوخا باآلخر‪ ،‬وهذه من المسائل المهمة عند أهل العلم يف قضية قواعد الرتجيح عند تعارض األدلة‪،‬‬
‫وخاصة األدلة النقلية‪ ،‬فإهنا ال تتعارض إال أن يثبت النسخ يف أحدها‪ ،‬المقصود من هذا‪ :‬إنه إذا وجد‬
‫التعارض يف ذهن المجتهد‪ ،‬فهل يرجح بين هذه األدلة بعمل أهل المدينة أم ال؟ هذه من المسائل التي‬
‫فيها قوالن ألهل العلم‪ ،‬وهما روايتان عن أحمد‪ ،‬فأحد الروايتين عن أحمد‪ :‬إنه يرجح بعمل أهل‬
‫المدينة‪ ،‬وقد ذكر الشيخ تقي الدين كما سيأيت أن هذا هو ظاهر كالم أحمد‪ ،‬وذلك أن أحمد قال يف رواية‬
‫ابن القاسم‪ :‬إذا رو ى أهل المدينة حديثا ثم عملوا به فهو أصح ما يكون‪ ،‬استدل هبذا النص القاضي أبو‬
‫يعلى والشيخ تقي الدين على أن الحديث إذا عارض غيره وكان أحد الحديثين وافقه عمل أهل المدينة‬
‫حرم بعمل أهل المدينة‪ ،‬وقد ذكر‬‫الم ِ‬
‫فإنه يرجح على اآلخر‪ ،‬ومن تطبيقات ذلك‪ :‬ترجيح النهي عن نكاح ُ‬
‫الشيخ تقي الدين أن كالم أحمد أكثر من أن ُيحصى يف هذه المسألة‪ :‬وهو الرتجيح بعمل أهل المدينة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬إذا تعارض يف المسألة دليالن كحديثين وقياسين َج ِه َل أيهما أرجح؟ وأحدهما‬
‫يعمل به أهل المدينة ففيه نزاع‪ :‬فمذهب مالك والشافعي أنه ُي َر ّج ُح بعمل أهل المدينة»‪.‬‬
‫يسمي أصحابه‬
‫وقد ألف الشافعي رسالة يف االنتصار ألهل المدينة‪ ،‬والرد على من خالفهم‪ ،‬وكان ّ‬
‫قديما فيقول‪ :‬أصحابنا المدنيون‪ ،‬فالشافعي يرى هذا الرأي‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ومذهب أبي حنيفة أنه ال يرجح بعمل أهل المدينة»‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وألصحاب أحمد وجهان‪.»:‬‬

‫وقيل أن هذين الوجهين روايتان عن أحمد‪ ،‬وبعضهم يقول إنما هما وجهان‪.‬‬

‫(نص على ذلك القاضي يف العدّ ة) «وابن‬


‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬أحدهما‪ :‬وهو قول القاضي أبي يعلى» ّ‬
‫عقيل‪ :‬إنه ال يرجح»‪ ،‬نص على ذلك أيضا يف كتابه األصولي المشهور‪.‬‬
‫‪35‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬الواضح»‪.‬‬

‫أنه ال يرجح أحد الدليلين على اآلخر بعمل أهل المدينة‪ ،‬وهذا مشى عليه جماعة من أصوليي‬
‫مذهب أحمد‪ ،‬منهم‪ :‬الفخر إسماعيل البغدادي والمجد أبي الربكات جد الشيخ تقي الدين والطويف‬
‫وكثير‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬والثاين‪ :‬وهو قول أبي الخطاب وغيره»‪.‬‬

‫أي‪ :‬قال به أبو الخطاب وغيره من محققي أصحاب أحمد‪ ،‬كما ع ّبر الشيخ تقي الدين‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬إنه يرجح به» (أي‪ :‬يرجح بعمل أهل المدينة) «قيل‪ :‬هذا هو المنصوص عن‬
‫نص عليه أحمد صراحة فيكون رواية‪ ،‬وأما القول األول فليس برواية عن أحمد‪.‬‬
‫أحمد»‪ ،‬معنى أنه قد ّ‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ومن كالمه»‪.‬‬

‫أي‪ :‬ومن كالم أحمد يف هذه المسألة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬قال‪ :‬إذا روى أهل المدينة حديثا وعملوا به فهو الغاية»‪.‬‬

‫أي‪ :‬فهو الغاية يف الصحة‪ ،‬نقل ذلك ابن قاسم يف رواية عن أحمد‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وكان ُيفتي على مذهب أهل المدينة ويقدمه على مذهب أهل العراق تقريرا له»‪.‬‬
‫ألنه لما تعارض عنده قوالن‪ ،‬قدم القول الذي بني على عمل أهل المدينة‪ّ ،‬‬
‫فدل على أن هذا يكون‬
‫رجحًا بين األدلة عند التعارض بينها‪.‬‬
‫ُم ّ‬
‫ِ‬
‫المدينة»‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ومذهب أهل‬ ‫ِ‬
‫الحديث‬ ‫ستفتي على مذهب أهل‬ ‫الم‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وكان ُّ‬
‫َ‬ ‫يدل ُ‬
‫وقد جاء يف مسألة أن أحمد سئل عنها فقال‪ :‬اذهب لحلقة المدنيين‪ ،‬أي‪ :‬الذين يدرسون يف بغداد‬
‫على مذهب أهل المدينة‪ ،‬وكان جماعة منهم مشهورون يف عصر اإلمام أحمد‪.‬‬

‫المستفتي على إسحاق وأبي ُعبيد وأبي ثور ونحوهم من فقهاء أهل‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪ّ « :‬‬
‫ويدل ُ‬
‫الحديث»‪.‬‬
‫إسحاق المراد به‪ :‬إسحاق بن راهويه اإلمام المشهور‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫‪36‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ويدله على حلقة المدنيين مثل حلقة أبي مصعب الزهري ونحوه»‪.‬‬

‫هؤالء بعض المدنيين‪ ،‬كانوا موجودين يف ذلك الوقت‪.‬‬


‫‪ ‬قال ال صنف‪« :‬وأبو مصعب هو آخر من مات من رواة الموطأ عن مالك‪ ،‬مات بعد أحمد ٍ‬
‫بسنة‪،‬‬ ‫م‬
‫سنة اثنتين وأربعين ومئتين»‪.‬‬
‫أبو مصعب الزهري له كتابان موجودان‪ ،‬األول‪ :‬هو الموطأ وهو موجود‪ ،‬وهو من آخر من روى‬
‫الموطأ عن مالك‪ ،‬وليس هو آخرهم‪ ،‬ولكن من أواخرهم‪ ،‬ولذلك كانت قريبة من رواية يحيى بن يحيى‬
‫الليثي‪ ،‬ويحيى بن يحيى الليثي ُذكر أنه آخر من روى والموطأ عن مالك‪ ،‬فلذلك كان بين روايتيهما من‬
‫التشابه الشيء الكثير‪ ،‬كما أن له كتابا آخر‪ :‬يسمى بالمختصر‪ ،‬أي‪ :‬المختصر يف الفقه‪ ،‬وهو جمع لكالم‬
‫اإلمام مالك يف الفقه‪ ،‬جمعه يف هذا المختصر‪ ،‬وهو موجود‪ ،‬وقد طبع مؤخرا حسب ما سمعت‪ ،‬ولكن‬
‫مخطوطته موجودة ومشهورة بين طلبة العلم‪ ،‬المقصود أن أبا مصعب الزهري محدث وفقيه؛ فإن له‬
‫كتبا يف الفقه وكتبا يف الحديث كذلك‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وكان أحمد يكره أن ير ّد على أهل المدينة كما يرد على أهل الرأي‪ ،‬ويقول‪ :‬إنهم‬
‫اتبعوا اآلثار»‪.‬‬
‫أي‪ :‬إنه ربما اعتذر لهم أكثر من اعتذاره لغيرهم‪ ،‬وهذا واضح؛ فإن بعض الناس ُي ْعتذر له بسبب‬
‫الدليل الذي بنى عليه قوله؛ فإن كان الدليل الذي بنى عليه القول مقبوال فإنه ُيعذر يف ذلك‪ ،‬وأما إن كان‬
‫الدليل الذي بنى عليه بعيدا فال يعذر‪ ،‬وخاصة المقلد له‪ ،‬وأما غير المقلد الذي كان مجتهدا وخفيا عليه‬
‫وينتصر لها‪ ،‬قد ال ُيعذر‪ ،‬ألنه لم ِ‬
‫يبن رأيه‬ ‫ُ‬ ‫الدليل فقد تقدم االعتذار عنه‪ ،‬ولكن المقلد الذي يقلد المسألة‬
‫على دليل نقلي‪ ،‬وإنما حيث فقد الدليل النقلي بنى على المعاين والتفريعات‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬فهذه مذاهب جمهور األئمة‪ ،‬توافق مذهب مالك يف الترجيح ألقوال أهل‬
‫المدينة»‪.‬‬
‫أي‪ :‬يف هذه المسألة‪ ،‬والمراد‪ :‬الرتجيح ألقوالهم عند التعارض بين األدلة‪ ،‬فيكون من باب األدلة‬
‫التي ُيؤتى هبا للرتجيح بين األدلة المتعارضة‪ ،‬فيكون دليالً ُم َق ِّو ًيا يف المسألة ومرجحًا ألحد الدليلين‬
‫على اآلخر‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫‪37‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وأما المرتبة الرابعة»‪.‬‬

‫وهي المرتبة األخيرة وهي محل الخالف القوي‪ ،‬وهي التي يقصد عادة هبذه المسألة‪.‬‬

‫تأخر»‪.‬‬
‫الم ّ‬
‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وأما المرتبة الرابعة‪ :‬فهي العمل ُ‬
‫المراد بالعمل المتأخر أي‪ :‬بعد الخلفاء األربعة‪ ،‬وبعد مقتل عثمان ‪ ،‬فبعد مقتل عثمان إلى حين‬
‫انقضاء القرون الثالثة الفاضلة‪ ،‬عصر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين‪ ،‬فهذا هو العمل المتأخر‪ ،‬وأما‬
‫من بعد العصور الثالثة فإنه باتفاق ال يكون عملهم حجة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬وأما المرتبة الرابعة فهي العمل المتأخر بالمدينة فهذا‪ :‬هل هو حجة شرعية يجب‬
‫اتباعه أم ال؟»‪.‬‬
‫أي‪ :‬هل عملهم يكون حجة أم ال يكون حجة؟ وبعض الذين قالوا إنه حجة كما تقدم‪ ،‬ربما بالغ‬
‫وسماه‪ :‬إجماع‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬فالذي عليه أئمة الناس‪ :‬إنه ليس بحجة شرعية»‪.‬‬

‫ذكر المصنف أن أئمة من العلماء من المذاهب الثالثة‪ :‬مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد‪ ،‬كلهم‬
‫على أنه ليس بحجة‪ ،‬بل أن بعض كبار مذهب اإلمام مالك يرون ذلك‪ ،‬كما سيأيت يف النقل إن شاء اهلل‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬هذا مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم»‪.‬‬

‫أي‪ :‬وغيرهم من علماء األنصار‪ ،‬كاألوزاعي وسفيان وإسحاق بن راهوية وغيرهم‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وهو قول المحققين من أصحاب مالك‪ ،‬كما ذكر ذلك القاضي عبد الوهاب يف‬
‫كتابه‪«:‬أصول الفقه»‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وغيره»‪.‬‬

‫وغيره فيكون قد قالها عبد الوهاب وقالها‬


‫ُ‬ ‫ِ‬
‫وغيره؛ ألن إذا قلنا‬ ‫وغيره ويصح أن يقال‬
‫ُ‬ ‫يصح أن تقول‬
‫وغيره أي‪ :‬عبد الوهاب قالها يف كتابه أصول الفقه وقالها يف ِ‬
‫غيره من كتبه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫غيره من المالكية‪ ،‬وإذا قلنا‬
‫ُ‬
‫والمراد بعبد الوهاب‪ :‬هو القاضي عبد الوهاب بن نصر التغلبي المالكي البغدادي العراقي‪ ،‬صاحب‬
‫الكتب المشهورة السيارة كالتلقين وغيره‪ ،‬وقد طبع من كتبه كتاب المعونة‪ ،‬وقد ذكر القاضي عبد‬
‫الوهاب يف كتاب المعونة‪ :‬إن إجماع أهل المدينة نقالً حجة تحرم مخالفته‪ ،‬هذا الذي هو المرتبة األولى‬
‫‪38‬‬

‫التي ذكرها الشيخ‪ ،‬قال‪ :‬إجماع أهل المدينة نقال حجة تحرم مخالفتها‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ومن طريق االجتهاد مختلف يف كونه حجة»‪.‬‬

‫قوله‪« :‬من طريق االجتهاد» هذه المرتبة الرابعة‪ ،‬والصحيح عندنا أنه يرجح به على غيره‪ ،‬وال يحرم‬
‫الذهاب إلى خالفه‪ ،‬نفس كالم الشيخ هنا تما ًما‪ ،‬أنه يرجح به بين األدلة إذا تعارضت ولكن ال يحرم‬
‫الذهاب إلى غيره‪ ،‬مما يدل على أنه ليس بحجة‪ ،‬والقاضي عبد الوهاب هو من هو‪ ،‬أبو محمد يف الفقه‬
‫والمكانة‪ ،‬وقد ُذكر أن كالمه عليه مدار كثير من المالكية بعده‪ ،‬فنحن نعلم أن المالكية‪ ،‬أي‪ :‬يعتمدون من‬
‫الكتب شرح التلقين للمازري‪ ،‬والتلقين إنما هو للقاضي عبد الوهاب‪ ،‬فقد ذكر ابن بريزة يف شرحه‬
‫للتلقين «روضة المستبين» وهو مطبوع‪ ،‬أن كتاب المازري على التلقين ليس شرحا‪ ،‬وإنما هو كتاب‬
‫مذهب‪ ،‬أي‪ :‬إنه يرجع إليه فيه وهو الذي يكون العمدة‪ ،‬ونحن نعلم أن الونشريسي وغيره‪،‬‬
‫كالمنجوروغيره‪ ،‬لما أرادوا أن يستخرجوا القواعد الفقهية يف مذهب مالك إنما استخرجوها من شرح‬
‫التلقين للمازري؛ ولذلك فإن القاضي عبد الوهاب يف كتبه كالتلقين والمعونة وغيره‪ ،‬له مكانة عظيمة‬
‫جدا عليه رحمة اهلل وعلي سائر علماء المسلمين‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬كما ذكر ذلك القاضي عبد الوهاب يف أصول الفقه وغيره‪ ،‬ذكرا أن هذا ليس‬
‫إجماعا وال حجة عند المحققين من أصحاب مالك»‪.‬‬
‫طبعا القاضي عبد الوهاب تتلمذ على ابن القصار واألهبري وعلي هؤالء األكابر من علماء العراق‬
‫الذين قرروا هذا المذهب‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ور ّبما جعله حجة بعض أهل المغرب من أصحابه»‪.‬‬

‫أي‪ :‬إن بعض المغاربة هم الذين أي‪ :‬أطالوا يف هذه المسألة‪ ،‬ومعلوم أن المغاربة يتوسعون يف‬
‫مسائل العمل‪ ،‬حتى أهنم أصبحوا يأتون بعمل غير عمل أهل المدينة‪ ،‬فاألندلسيون عندهم عمل (أهل‬
‫قرطبة)‪ ،‬والمغاربة عندهم عمل أهل فاس‪ ،‬ثم أن بعض المتأخرين جعل عمل أهل ِسبتة يف مسألة اإلرث‬
‫والوصية يف المسألة المشهورة التي هي مسألة الضرر؛ فالمقصود أنه كما ذكر الشيخ أن مسائل العمل‬
‫واالحتجاج هبا َف َّر ْعت على مسألة العمل المدينة‪ ،‬وأغلب من يقرر ذلك إنما هم من أهل المغرب من‬
‫علماء األندلس وغيرهم هم الذين جعلوا ذلك حجة‪ ،‬ويكفي أن نقرأ يف كالم ابن حزم يف األحكام كيف‬
‫أنه ناقش هذه المسألة بقوة‪.‬‬

‫يوجب‬ ‫‪ ‬قال ال صنف‪« :‬قلت» (أي‪ :‬هذا من استقرائه هو عليه رحمة اهلل)‪« :‬ولم َأر يف كالم ٍ‬
‫مالك ما‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫م‬
‫‪39‬‬

‫حج ًة»‪ ،‬أي‪ :‬لم أر أن مالكا يف كالمه يف الموطأ وال غيره ما يدل على أنه حجة‪.‬‬ ‫َ‬
‫جعل هذا ّ‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬وهو يف الموطأ إنما يذكر األصل المجمع عليه عندهم‪ ،‬فهو يحكي مذهبهم‪ ،‬وتارة‬
‫يصير إلى اإلجماع القديم‪ ،‬وتارة ال يذكر»‪.‬‬
‫ُ‬ ‫يقول‪ :‬الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا‪،‬‬
‫أي‪ :‬وتارة ال يذكر ذلك‪ ،‬هذا الكالم معناه‪ :‬إن مالكا يف موطئه لم يصرح بكونه حجة‪ ،‬وإنما يحكي‬
‫فقط األقو ال لعمل أهل المدينة‪ ،‬فهو يحكي مذهبهم‪ ،‬ومن صيغ حكايته لهذه األقوال إنه تارة يقول‪ :‬لم‬
‫يزل عليه أهل العلم ببلدنا‪ ،‬أي‪ :‬بالمدينة‪ ،‬فإذا جاء هبذه الصيغة الثانية وهي قولة‪ :‬الذي لم يزل عليه أهل‬
‫العلم ببلدنا‪ ،‬فإنه يف الحقيقة يؤول إلى اإلجماع القديم‪ ،‬ألنه عمل متوارث من عهد الصحابة فمن‬
‫بعدهم‪ ،‬فيكون من باب النوع األول وليس من باب العمل المتأخر؛ ولذلك ليس كل ما حكاه مالك يف‬
‫موطأ من حكاية العمل يكون يف درجة واحدة‪ ،‬بل هو على درجات‪ ،‬ربما نتكلم‪ -‬إن شاء اهلل‪ -‬يف الدرس‬
‫القادم عن بعض الصيغ التي أوردها اإلمام مالك يف هذه المسألة وكيف اختالف الصيغ من حيث‬
‫الدرجة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬ولو كان مالك يعتقد أن العمل المتأخر حجة يجب على جميع األمة اتباعها وان‬
‫خالفت النصوص لوجب عليه أن يلزم الناس بذلك حد اإلمكان‪ ،‬كما يجب عليه أن يلزمهم اتباع‬
‫الحديث والسنة الثابتة التي ال تعارض فيها وباإلجماع»‪.‬‬
‫أي‪ :‬إن مالكا لو كان يرى أن العمل المتأخر بالمدينة بعد الخلفاء وبعد مقتل عثمان حجة‪ ،‬أللزم‬
‫الناس بأتباعهم على ذلك فإنه كما يجوز كما يلزم الناس اتباع الكتاب والسنة واإلجماع‪ ،‬فكذلك لو كان‬
‫ذلك حجة وإجماعا شرعيا فإنه يجب دخوله يف ذلك‪ ،‬لكن مالكا لم ير ذلك ولم ير إلزام النّاس هبذا‪،‬‬
‫وسيأيت هذا يف القصة التي أوردها المصنف‪.‬‬
‫‪ ‬قال ال صنف‪« :‬وقد عرض عليه الرشيد أو غيره إن ِ‬
‫يحم َل الناس على موطئه فامتنع من ذلك‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫م‬
‫جمعت علم أهل‬
‫ُ‬ ‫تفرقوا يف األمصار‪ ،‬وإنما‬
‫وقال» (أي‪ :‬مالك)‪« :‬إن أصحاب رسول اهلل‪ّ ‰‬‬
‫بلدي‪ ،‬أو كما قال»‪.‬‬
‫هذه الحقيقة من لطيف استدالل الشيخ تقي الدين‪ ،‬فإنه استدل بكالم مالك المشهور عنه؛ فإن هذه‬
‫مشهورة عنه‪ ،‬وقد أسندها جماعة من أهل العلم ومنهم ابن ناصر الدين يف إتحاف السالك‪ ،‬أن مالكا أبى‬
‫أن َيحمل أبو جعفر الرشيد الناس على آرائه يف الموطأ‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬أو غيره»‪.‬‬

‫فقد قيل‪ :‬إن الذي قال ذلك لمالك إنما هو المهدي‪ ،‬ابنه‪ ،‬وسبب عدم موافقته على حمل الناس على‬
‫‪40‬‬

‫هذا الموطأ‪ ،‬ما علل به أن أصحاب النبي‪ ‰‬تفرقوا يف األمصار ّ‬


‫وان خالفهم سائغ‪ ،‬وذلك أنه‪:‬‬
‫ليس كل خالف معترب إال خالفا له حظ من النظر؛ فإذا كان الدليل حجة قطعية فإنه يحر ُم مخالفته‪ ،‬فلما‬
‫كان ذلك كذلك‪ ،‬قال مالك هذا الكالم‪ ،‬وهذا من فقه مالك ومن دقة استنباط المصنف يف هذه الرسالة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وإذا تب ّين أن إجماع أهل المدينة تفاوتت فيه مذاهب جمهور األئمة‪ُ ،‬ع ِلم بذلك أن‬
‫قولهم أصح أقوال أهل األمصار رواي ًة ورأيًا‪ ،‬وأنه تارة يكون حجة قاطعة‪ ،‬وتارة يكون حجة قوية‪ ،‬وتارة‬
‫الخاص ّية لشيء من أمصار المسلمين»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مرجحا للدليل‪ ،‬إذ ليست هذه‬
‫يكون ِّ‬
‫هذه الجملة لخص فيها المصنف ما يتعلق بالمراتب األربع‪ ،‬فقال‪ :‬إذا تبين أن إجماع أهل المدينة‬
‫تفاوتت فيه مذاهب جماهير األئمة‪ ،‬أي‪ :‬الخالف السابق المتقدم‪ ،‬علمنا أصح أقوال أهل األنصار رواية‬
‫ورأيا‪ :‬رواية أي‪ :‬نقل‪ ،‬ورأي أي‪ :‬اجتهاد ونظر‪ ،‬هو قول أهل المدينة‪ ،‬أما رواي ًة فلقرهبم من الصحابة‬
‫وأبنائهم‪ ،‬وأما الرأي فلئن عندهم من األحاديث ما ليس عند غيرهم‪ ،‬فيكون رأيهم أقوى من غيرهم‪ ،‬وأنه‬
‫تارة يكون حجة قاطعة‪ :‬وذلك إذا كان من اإلجماع القديم يف عهد الصحابة رضوان اهلل عليهم‪ ،‬أبي بكر‬
‫وعمر وعثمان رضي اهلل عن الجميع قبل خروج على من المدينة‪ ،‬فإنه يكن قاطعة‪ ،‬وهذه إحدى‬
‫الروايتين عن أحمد‪ ،‬وقال به مالك والشافعي كما تقدم‪ ،‬ورجحها الشيخ تقي الدين وابن رجب‪ ،‬وتارة‬
‫يكون حجة قوية‪ :‬هذا فيما إذا خالفه أحد الصحابة‪ ،‬ربما على إحدى الروايات‪ ،‬وتارة يكون مرجحا‬
‫للدليل‪ :‬إذا تعارض دليالن‪ ،‬إذ ليست هذه الخاصية لشيء من أمصار المسلمين‪ :‬فقط إنما هو للمدينة‬
‫دون ما عداها‪ ،‬ثم بدأ المصنف بعد ذلك يتكلم عما يتعلق بالمدينة وشرفها وما حدث فيها من أحداث‪،‬‬
‫وأطال المصنف يف ذلك‪ ،‬فلعلنا نقف عند هذا القدر اليوم بمشيئة اهلل ‪ ،‬وغدا نكمل ما يتعلق بما‬
‫ذكره المصنف التصاله‪.‬‬
‫اسأل اهلل العظيم رب العرش الكريم أن يمن علينا جميعا بالهدى والتقى وأن يرزقنا العلم النافع‬
‫والعمل الصالح وأن يتوالنا بهداه ويغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات‪ .‬جل وعال أن يرينا الحق‬
‫حقا ويرزقنا اتباعه وأن يرينا الباطل باطنا ويرزقنا اجتنابه‪ .‬واسأله جل وعال أن يميتنا على الهدى والسنة‬
‫وأن ينفع بما تعلمنا وبما نقول وإن يزدنا علما وهدى وتقي وأن يغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين‬
‫والمسلمات واسأله جل وعال أن يرحم علماء المسلمين وأن يغفر لهم وأن يجزيهم خير الجزاء وأن‬
‫يتجاوز عنا وعنهم الخطأ والزلل‪ .‬وصلى اهلل وسلم وبارك على نبينا ورسولنا وإمامنا وقدوتنا وسيدنا‬
‫محمد بن عبد اهلل‪ .‬وعلي آلة وصحبه أجمعين واهلل أعلم(‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬هناية الدرس الثاين‪.‬‬


‫‪41‬‬

‫﷽‬
‫الحمد هلل رب العالمين واشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له واشهد أن محمدً ا عبد اهلل ورسوله‬
‫تسليما كثيرا إلى يوم الدين‪.‬‬
‫ً‬ ‫صلى اهلل عليه وعلى آله وصحبه وسلم‬
‫ُث َّم ّأما َب ْعد‪:‬‬
‫فهذا هو اللقاء الثالث يف شرح رسالة الشيخ تقي الدين أبي العباس أحمد ابن عبد الحليم ابن تيمية‬
‫‪ ‬يف «صحة أصول مذهب أهل المدينة»‪.‬‬
‫وكنا قد وقفنا باألمس عند‪:‬‬
‫قول المصنف ‪ « :--‬ومعلوم أن من كان بالمدينة من الصحابة هم خيار الصحابة‪ ،‬إذ لم‬
‫يخرج منها أحد قبل الفتنة إال وأقام بها من هو أفضل منه»‪.‬‬
‫مراده هبذه الجملة أن المدينة قد مرت هبا مرحلتان‪:‬‬
‫‪ ‬المرحلة األولى‪ :‬مرحلة ما قبل مقتل عثمان‪ ،‬والفتنة التي أحدثت يف اإلسالم وكانت سببا لكثير‬
‫من الفتن بعده‪.‬‬
‫‪ ‬المرحلة الثانية‪ :‬بعد ذلك‪.‬‬
‫فب ّين الشيخ أن الصحابة رضوان اهلل عليهم قبل الفتنة‪ ،‬الذين كانوا قد بقوا يف المدينة ولم يخرجوا‬
‫منها هم أفضل ممن خرج منها‪ ،‬ويكفي يف االستدالل على ذلك أن الخلفاء األربعة كلهم كانوا يف‬
‫المدينة؛ وإنما خرج غيرهم من الصحابة رضوان اهلل عليهم من غير استنقاص يف قدر أحد منهم‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬يخرج منها أحد قبل الفتنة إال وأقام بها من هو أفضل منها»‪.‬‬

‫أي‪ :‬إنه إذا ُقورن الباقي ُ‬


‫بالمنتقل؛ فإن الباقي أفضل من المنتقل عنها إلى الشام أو إلى العراق أو‬
‫غيرها من األمصار‪.‬‬

‫لما ُفتِح الشام والعراق وغيرهما أرسل عمر بن الخطاب‪ ‬إلى األمصار من‬
‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬فإنه ّ‬
‫ُيعلمهم الكتاب والسنة»‪.‬‬
‫وهؤالء الذين ُأرسلوا من الصحابة أو من كبار التابعين‪ ،‬ولكن األصل والمرجع إنما يكون‬
‫للصحابة‪.‬‬
‫‪42‬‬

‫وعمران‬
‫ُ‬ ‫وعمار بن ياسر‬
‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬فذهب إلى العراق عبد اهلل بن مسعود وحذيفة بن اليمان ّ‬
‫بن حصين وسلمان الفارسي وغيرهم‪ ،‬وذهب إلى الشام معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبو الدرداء‬
‫وبالل بن رباح وأمثالهم‪ ،‬وبقي عنده»‪( .‬أي‪ :‬عند عمر يف المدينة)‪« ،‬مثل عثمان وعلي وعبد الرحمن بن‬
‫ومحمد بن ُم ْس ِل َمة وزيد بن ثابت وغيرهم»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عوف‪ ،‬ومثل أبي بن كعب‬
‫وال شك يف أن الباقين هم أعيان الصحابة؛ فإن الخلفاء األربعة والعشر المشهود لهم بالجنة هم يف‬
‫المدينة يف ذلك الوقت‪ ،‬وكان عمر ‪ُ ‬‬
‫يرفض أن يخرج هؤالء األكابر من المدينة‪ ،‬بل كانوا يبقون عنده‬
‫يشاورهم ويرجع إلى رأيهم وينتفع بعلومهم ونقلهم واجتهادهم رضوان اهلل على الجميع‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وكان ابن مسعود‪ -‬وهو اعلم من كان بالعراق من الصحابة‪ -‬إذ ذاك»‪.‬‬

‫تعبير المصنف بقوله‪«:‬إذ ذاك» ؛ الستثناء ما كان بعد الفتنة حينما خرج علي ‪ ‬وسكن الكوفة؛ فال‬
‫ُ‬
‫شك يف أن عليا كان أعلم من ابن مسعود ‪‬؛ وأما ابن مسعود فقد كان من كبار فقهاء المسلمين‬
‫والمفتين فيهم‪ ،‬ومن من كبار فقهاء الصحابة والمفتين فيهم‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وكان ابن مسعود وهو اعلم من كان بالعراق من الصحابة إذ ذاك ُيفتي بالفتيا ثم‬
‫يأتي فيس أل علماء أهل المدينة فيردونه عن قوله‪ ،‬فيرجع إليهم كما جرى يف مسألة أمهات النساء لما ظن‬
‫الربيبة وأنه إذا ط ّلق امرأته قبل الدخول ح ّلت أمها كما ّ‬
‫تحل ابنتُها‪ ،‬فلما‬ ‫َ‬
‫الشرط فيها ويف ّ‬ ‫ابن مسعود أن‬
‫جاء إلى المدينة وسأل عن ذلك‪ ،‬أخبره علماء الصحابة أن الشرط يف الربيبة دون األمهات‪ ،‬فرجع إلى‬
‫ِ‬
‫بفراق امرأته بعدما حملت»‪.‬‬ ‫الرجل‬
‫قولهم وأمر ّ‬
‫هذا األثر استدل به الشيخ تقي الدين ‪ ‬على أن ابن مسعود ‪ ‬كان وهو فقيه العراق وعالمها‬
‫وإليه مرجع فقهها‪ ،‬كان ‪ ‬يرجع إلى أهل المدينة ويسألهم ويأخذ من علمهم ويرد قوله إلى قولهم‪،‬‬
‫والقصة التي أوردها المصنف أصلها يف «الموطأ» رواها مالك من حديث ابن مسعود أنه لما استُفتي وهو‬
‫ومسها زوجها‪ ،‬فأرخص ابن مسعود ‪‬‬
‫بالكوفة عن نكاح األم بعد البنت إذا لم تكن البنت قد َد ْخل هبا ّ‬
‫أوال بذلك‪ ،‬ثم أنه لما قدم المدينة سأل عن ذلك ف ُأخبِر‪ ،‬وهذا هو لفظ «الموطأ» أنه لما سئل ُأخبِر‪ ،‬ولم‬
‫ُيع ّين أنه سأل أحدا‪ ،‬فدل على أن العربة بأهل المدينة بعمومهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأخرب أنه ليس كما قال وإن الشرط إنما هو يف الرائب وحدهن دون أمهات النساء‪ ،‬الربيبة‪ :‬هي‬
‫أن يتزوج الرجل امرأة فبنتها تسمى ربيبة‪ ،‬تحرم عليه بشرط أن يكون قد دخل بأمها؛ وأما أم امرأته فإهنا‬
‫ٌ‬
‫مالك أن ابن مسعود‬ ‫تحرم عليه سواء دخل هبا أو لم يدخل هبا‪ ،‬هذا هو المعنى يف هذه المسألة؛ فذكر‬
‫رجع إلى الكوفة وأنه لم يصل إلى بيته ويدخل بيته حتى أتى ذلك الرجل الذي أفتاه فأمره أن يفارق‬
‫‪43‬‬

‫تدل على ورع ابن مسعود ‪ ‬وفقهه‪.‬‬


‫زوجته‪ ،‬وهذا أي‪ :‬من األمور التي ّ‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وكان أهل المدينة فيما يعملون‪ :‬أما أن يكون سن ًة عن رسول اهلل ‪‰‬؛‬
‫وأما أن يرجعوا إلى قضايا عمر بن الخطاب»‪.‬‬
‫ذكر الشيخ يف هذه الجملة أن عمل أهل المدينة المتقدم إنما هو كان مبنيًا على أحد أمرين‪ :‬أما سنة؛‬
‫وأما اجتهاد‪.‬‬
‫‪ ‬فأما السنة‪ :‬فإهنا منقولة‪ ،‬وأعظم النقل يف تلك العصور كثرة كان موجو ًدا يف المدينة؛ فإهنا دار‬
‫العلم والسنة‪.‬‬
‫‪ ‬وأما االجتهاد‪ :‬فإهنم كانوا يرجعون إلى اجتهاد عمر بن الخطاب خاصة‪ ،‬ولذلك كان لمكانة‬
‫اجتهاد عمر الشيء الكثير حتى أن بعض أهل العلم يقول‪ :‬إن اجتهاد الشيخين يعنون هبم أبا بكر وعمر‬
‫يكون حجة‪ ،‬وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختارها الشيخ تقي الدين‪.‬‬
‫المقصود من هذا أن االجتهاد الذي كان يف عمر له مكانة‪ ،‬والسبب أن عمر قد طال زمن خالفته‬
‫بخالف أبي بكر فإن أبا بكر‪ ‬كان وقته وقت استصالح ألحوال الناس ومقاتلة أهل الردة ولمناعي‬
‫للزكاة وغير ذلك من األمور؛ وأما عمر رضي اهلل فقد صلحت أحوال الناس ولذلك بعث البعوث لفتح‬
‫بلدان المسلمين‪ ،‬وفتح اهلل على أيديه الشيء الكثير‪ ،‬ويف عهد عثمان يف صدره كانوا يرجعون لقضاء عمر‬
‫يف غالب أحوالهم‪ ،‬ولذلك كانوا أي‪ :‬يقيسون أو يردون خالف عثمان لخالف عمر‪ ،‬ثم أن أهل المدينة‬
‫بعد ذلك كانوا يرجعون إلى قول عمر‪ ،‬وكان أهل المدينة يعلمون أن اعلم الناس بخالف عمر هو سعيد‬
‫إال أنه أعلم الناس بخالفه وأقضيته؛‬ ‫بن المسيب‪ ،‬وسعيد وإن لم يكن أدرك عمر بن الخطاب‪‬‬
‫ولذلك مما يخفى على بعض طلبة العلم أنه قد يرى إسنا ًدا فيه أثر عن عمر من قضائه واجتهاده أو قوله‬
‫يتصل إلى سعيد بن المسيب ثم ينقطع بعده‪ ،‬وال يذكر من سمعه منه عن عمر‪ ،‬فقد يحكم بعضهم‬
‫بانقطاع هذا اإلسناد وليس ذلك كذلك؛ فإن سعيد بن المسيب علمه باآلثار واألخبار واألقضية عن عمر‬
‫من أكثر الناس‪ ،‬وإليه المرجع‪ ،‬ولو رجع المرء إلى تاريخ أبي خيثمة ليرى اآلثار يف ثناء أهل المدينة على‬
‫سعيد بن المسيب‪ ،‬أقول هذا ل ِ َم؟؛ ألن هناك بعض المسائل التي يكون إسنادها عن سعيد عن عمر‬
‫مباشرة يف كثير من المسائل‪ ،‬يف بعضها يف الديات ويف غيرها من المسائل‪ ،‬هي من هذا الباب‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ويقال»‪.‬‬

‫هذه كلمة ُش ِّه َر ْت‪ ،‬وتسمى سلسلة الفقه؛ فإن األئمة لكل واحد منهم يقال‪ :‬إهنا سلسلة فقهه‪ ،‬كما‬
‫‪44‬‬

‫ذكروا أن أبا حنيفة أخذ فقهه عن حماد بن أبي سليمان‪ ،‬وحماد أخذه عن إبراهيم‪ ،‬وإبراهيم أخذه عن‬
‫تالمذة ابن مسعود كعلقمه واألسود‪ ،‬وهما أخذاه عن ابن مسعود ‪‬؛ وكذلك مالك يقولون‪ :‬أن سلسلة‬
‫فقهه ال سلسلة الرواية؛ وإنما سلسلة الفقه هي أنه قد أخذ الفقه عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن المسمى‬
‫عرف الفقه عن عمر وإن لم يكن قد روى عنه‬
‫المس ّيب‪ ،‬وسعيد َ‬
‫بربيعة الرأي‪ ،‬وربيعة أخذه عن سعيد بن ُ‬
‫ذلك وإنما هو عرفه‪ ،‬وهو من أعلم الناس بعمر ‪ ،‬فتكون هذه سلسلة فقه مالك‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ويقال أن مالكا أخذ ُج َّل الموطأ»‪.‬‬

‫ليس الرواية وإنما المقصود هنا الفقه‪ ،‬إذ الرواية لها أسانيدها المعروفة‪« ،‬قد أخذ ُج ّل الموطأ عن‬
‫ربيعة‪ ،‬وربيعة عن سعيد بن المسيب‪ ،‬وسعيد بن المسيب عن عمر‪ ،‬وعمر محدّ ث»‪« .‬محدّ ث» أي‪ :‬إنه‬
‫مسدّ د‪ ،‬وقد جاء يف الحديث‪ :‬لو كان يف أمة محدثين لكان منهم عمر‪ ،‬فقد جعل اهلل الحق على لسانه ويف‬
‫اجتهاده ‪ ،‬وهذا من محبة اهلل‪ ‬له‪ ،‬وحسن صحبته لنبي اهلل صلوات اهلل وسالمه عليه‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ويف الترمذي عن رسول اهلل ‪‰‬قال‪ :‬لو لم ُأبعث فيكم ل ُب ِعث فيكم عمر‪،‬‬
‫فعمر‪ ،‬ويف‬
‫ُ‬ ‫ويف الصحيحين عنه ‪‰‬قال‪ :‬كان يف األمم قبلكم ُم َحدّ ثون؛ فإن يكن يف أمتي أحد‬
‫ِ‬
‫ين من بعدي من أصحابي‪ :‬أبي بكر وعمر»‪.‬‬ ‫السنن عن النبي ‪‰‬أنه قال‪ :‬اقتدوا بِ َا َّلذ َ‬
‫هذه األحاديث الثالثة التي أوردها الشيخ لنكت‪:‬‬
‫النكتة األولى‪ :‬بيان فضل اجتهاد عمر‪ ،‬وأن الجتهاد عمر تصويب من حديث النبي ‪‰‬؛‬
‫فإن يف الحديثين األولين بالخصوص دليل على تصويب اجتهاده ورأيه ‪ ،‬وهو مع ذلك كان من أشد‬
‫كثيرا‪ ،‬وكان يراجع أصحابه وال يكتفي برأيه مع سعة علمه‬ ‫الناس يف بذل رأيه‪ ،‬فقد كان يشاور ‪‬‬
‫وإحاطته بأخبار النبي ‪‰‬وإدراكه للوحي وهذا أمر ال يكون لغير كبار الصحابة هم إدراكهم‬
‫الوحي؛ فإن من أدرك الوحي يكون اعلم بمقاصد التشريع وبمقاصد الوحي؛ وأما غيره فإنما يستنبطها‬
‫استنباطا‪ ،‬وهذا واضح من عادات الناس‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر»‪.‬‬

‫هذا فيه حس على االقتداء هبما يف اجتهادهما‪ ،‬ويف أول الحديث أن يف مذهب أحمد روايتان وقيل‬
‫وجهان‪ :‬إن منفرد به الشيخان وقضيا به‪ -‬أي‪ :‬أبا بكر وعمر‪ -‬هل يكون حجة فيلزم الرجوع إليه أم ال؟‬
‫روايتان‪ :‬المشهور عند المتأخرين أنه ليس بالزم‪ ،‬واختار الشيخ تقي الدين أنه يكون بالزم؛ وأما إن لم‬
‫يخالفا فإنه يكون إجما ًعا أو يكن على أقل األحوال قول صحابي لم يخالف؛ وإنما النزاع يف الوجهين‬
‫‪45‬‬

‫فيما إذا وجد لهم مخالف من عصرهم‪ -‬أي من عصر الصحابة‪.-‬‬

‫وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد‬


‫ّ‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وكان عمر ُيشاور أكابر الصحابة كعثمان‬
‫الرحمن وهم أهل الشورى»‪.‬‬

‫رضي اهلل عنهم وهم من العشرة المبشرين بالجنة ‪ ‬وغفر لهم وتجاوز عنا وعنهم وجمعنا هبم‬
‫مع نبينا‪ ‰‬يف أعلى جنات النعيم‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ولهذا قال الشعبي انظروا إلى ما قضى به عمر فإنه كان يشاور»‪.‬‬

‫الشعبي‪ :‬عامر بن شرحبيل من فقهاء المسلمين وعلمائهم ومن أهل الكوفة‪ ،‬وقد كان يرجح ‪‬‬
‫قضاء عمر واجتهاد على غيره من االجتهاد كقضاء ابن مسعود وغيره‪ ،‬ومن أسباب ترجيحه ذلك أنه ذكر‬
‫أن عمر ‪ ‬كان يشاور –أي يشاور غيره‪ -‬فيكون رأيه ليس فرد ًيا وإنما هو رأي مبني على مشاورة‬
‫واجتماع‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ومعلوم أن ما كان يقضي أو يفتي به عمر ويشاور فيه هؤالء» (أي‪ :‬هؤالء األعالم)‬
‫«أرجح مما يقضي أو يفتي به ابن مسعود أو نحوه من الصحابة ‪‬أجمعين»‪ .‬وهذا ال ّ‬
‫شك‪ ،‬ال لفضل‬
‫أحادهم وال لفضل من شاورهم وجالسهم‪ ،‬وهذا من األمور المعروفة التي تكون واضحة وال شك فيها‬
‫وال ريب‪ ،‬وهذا إيماء من الشيخ يف مسألة ما يذكره بعض الناس يف تفصيل المذاهب بناء على مسألة‬
‫األشياخ وسالسل الحديث وسالسل التفقه‪ ،‬وهذا ليس مصيبًا؛ وإنما إذا أراد المرء أن يفاضل بين‬
‫مذهبين كمذهب كوفة والمدينة أو غيرها فإنما يكون التفاضل ال بالفروع وإنما باألصول‪ ،‬وهذه مسلك‬
‫العلماء رحمهم اهلل تعالى أهنم ال يجيزون تفضيل مذهب على غيره على سبيل اإلطالق؛ وإنما يكون‬
‫التفضيل بناء على األصول وقد أشارت يف هذا يف أول الدرس األول‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬وقد وكان عمر يف مسائل الدين واألصول والفروع إنما يتبع ما قضى به رسول اهلل‬
‫المط ّلقة المعتدة الرجع ّية يف‬
‫‪ ،‰‬وكان يشاور عل ّيًا وغيره من أهل الشورى‪ ،‬كما شاوره يف ُ‬
‫المرض إذا مات زوجها‪ :‬هل ترث؟ وأمثال ذلك من المسائل»‪.‬‬
‫وهذه مسألة مشهورة يف مشاورة عمر الصحابة رضوان اهلل عليهم‪.‬‬

‫فلما قتِل عثمان وحصلت الفتنة والفرقة»‪.‬‬


‫‪ ‬قال المصنف‪ّ « :‬‬
‫الفتنة بقتله‪ ،‬والفرقة بين المسلمين بعد ذلك ونزاعهم‪ ،‬ومن أعظم ما حدثت الفتن التي وقعت بين‬
‫بعض الصحابة كما حدث يف الجمل وما تبع ذلك من مواقف الصحابة ومن بعدهم رضي اهلل عن‬
‫‪46‬‬

‫صحابة رسول اهلل ‪.‰‬‬

‫علي إلى العراق‪ -‬أي‪ :‬بالكوفة‪-‬‬


‫‪ ‬قال ا مصنف‪« :‬فلما قتل عثمان وحصلت الفتنة والفرقة وانتقل ّ‬
‫ل‬
‫هو وطلحة والزبير‪ ،‬لم يكن بالبصره من هو مثل هؤالء»‪.‬‬
‫الزبير ذهب إلى البصرة وأما علي فقد ذهب إلى الكوفة؛ ولذلك فإن قرب الزبير ‪ ‬ورحمه‬
‫ألن ّ‬
‫موجود يف البصرة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ولكن كان بها» (أي‪ :‬بالمدينة) «من الصحابة مثل سعد بن أبي وقاص وأبا أيوب»‬
‫لما انتقل‬
‫علي من الصحابة»‪ّ .‬‬
‫ممن مع ّ‬ ‫(أي‪ :‬األنصاري) «ومحمد بن مسلمة وأمثالهم من هو أجل ّ‬
‫األكابر من الصحابة بعد الفتنة عن المدينة‪ ،‬ال شك يف أن الذين انتقلوا هم أفضل الصحابة كعلي وباقي‬
‫علي ومن بقي‬‫العشرة رضوان اهلل عليهم‪ ،‬لكن الشيخ قال‪ :‬ال أفاضل بينهم وإنما أفاضل بين من كان مع ّ‬
‫كثيرا يف كتابه‬
‫يف المدينة؛ فإن من بقي يف المدينة يكون أفضل‪ ،‬وقد أطال الشيخ يف هذه المفاضلة ً‬
‫«المنهاج»‪ .‬واستدل عليها بأمور كثيرة‪ ،‬وهذه المفاضلة إنما هي يف غير المقدمين من كبار الصحابة‬
‫رضوان اهلل عليهم كالعشرة‪.‬‬

‫علي وابن مسعود ‪( »‬أي‪ :‬من الصحابة)‬


‫‪ ‬قال ا مصنف‪« :‬فأعلم من كان بالكوفة من الصحابة ّ‬
‫ل‬
‫وعلي كان بالمدينة إذ كان بها عمر وعثمان وابن مسعود»‪ .‬يقول إن لما تكلمنا عن أصول المدينة وأهنا‬
‫ّ‬ ‫«‬
‫علي‬
‫تنقسم إلى قسمين‪ :‬إلى قديم قبل الفتنة وإلى ما بعد الفتنة؛ فإن مذهب أهل المدينة قبل ذلك كان ّ‬
‫‪ ‬مع الناس أي‪ :‬مع عمر وعثمان‪ ،‬فلذلك كان فاضال اجتهاد أهل المدينة؛ وأما ابن مسعود فإنه وإن‬
‫كان يف الكوفة فإنه كان يأيت المدينة ويشاور ولذلك‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وابن مسعود وهو نائب عمر وعثمان»‪.‬‬

‫فقد كان يأيت وهو نائب عن عمر وعثمان‪ ،‬وال يخرج عن رأيهما؛ وإنما يصدر ويأتمر بأمرهما رضي‬
‫اهلل عن الجميع‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ومعلو ٌم أن عل ّيا مع هؤالء أعظم علمًا وفضالً من جميع من معه من أهل العراق»‪.‬‬

‫أي‪ :‬إن عل ّيًا مع عثمان وعمر وابن مسعود علمه أوسع وأقوى ممن كان معه من أهل العراق من‬
‫القراء والتابعين وغيرهم من الناس‪.‬‬

‫علي‬ ‫ِ‬
‫المناظر بقول ٍّ‬
‫حتجًا على ُ‬
‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ولهذا كان الشافعي يناظر أهل العراق يف الفقه ُم ّ‬
‫وابن مسعود فصنّف الشافعي كتاب «اختالف علي وعبد اهلل»‪.‬‬
‫أي‪ :‬عبد اهلل بن مسعود‪ ،‬الشافعي محمد بن إدريس اإلمام‪ ،‬لما ناظر بعض أهل العراق‪ ،‬ناظرهم‬
‫‪47‬‬

‫وأراد أن يستدل على مذهبهم‪ ،‬أما على أ بطال مذهبهم يف األصول وهو األخذ بقول علي وابن مسعود أو‬
‫على مذهبهم يف الفروع‪ ،‬فكان ما يأتيه من باب اإللزام‪ ،‬ويقول لهم‪ :‬إن عليا وابن مسعود قاال كذا‪ ،‬ثم‬
‫يقول‪ :‬إنكم لم تقولوا بقولهما‪ ،‬فهذا من باب أبطال األصل‪ ،‬أصلكم االستدالل بآثار هؤالء فإنكم قد‬
‫خالفتم أصلكم‪ ،‬ويف الفروع فإنه يأيت بمسائل فروعية ويقول‪ :‬إنكم يف هذه المسألة بعينها قد خالفتم قوال‬
‫عليا وابن مسعود ‪ ،‬وهذه الرسالة رسالة الشافعي «اختالف علي وعبد اهلل بن مسعود» ال توجد‬
‫المرادي يف كتاب «األم»‪ ،‬وقد ذكر بعض من الشافعية أو‬
‫كاملة؛ وإنما نقل بعض منها الربيع بن سليمان ُ‬
‫ُم َح ِّق ِق ِ‬
‫يه َما‪ :‬كأبي عمرو ابن الصالح أن كتاب «األم» هذا لم يصنفه الشافعي وإنما جمعه الربيع بن‬
‫سليمان من كالم الشافعي المبثوث‪ ،‬فجمعه وجعله على هذا الرتتيب‪ ،‬وقيل‪ :‬إنه قد أخذ بعضهم من‬
‫ال ُب َويطي‪ ،‬وقيل أي‪ :‬إن الرتتيب ليس له‪ ،‬هذه مسألة طويلة جدً ا‪ ،‬فالمقصود أن كتاب «األم» فيه مقوالت‬
‫علي وعبد اهلل بن مسعود»‪ ،‬وليس فيه هذا الكتاب كامال وإنما فيه‬
‫عن هذا الكتاب‪ ،‬كتاب «اختالف ّ‬
‫مقوالت يسيرة جدً ا ال تتجاوز صفحات يسيرة‪ ،‬وكان يف كل نقل ينقله الربيع بن سليمان عن الشافعي‪،‬‬
‫إذا نقل الشافعي وأسند قول علي وابن مسعود يقول بعدها‪ :‬ولسنا وإياكم نقول هبذا‪ ،‬فهذا من باب أبطال‬
‫قولهم يف األصول ويف الفروع‪ ،‬أي‪ :‬يف المسألة تلك التي يخالف فيها قول علي وابن مسعود‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬يب ّي ُن فيه ما تركه َا ْل َمنَاظِر وغيره من أهل العلم من قولهما»‪.‬‬

‫ما تركه المناظر أي‪ :‬من أهل العراق‪ ،‬وغير ه من أهل العلم من قولهما‪ :‬بأن قولهما أحيانا ال يقول به‬
‫أحد؛ فإنه جاء من الشارع يف هذا الكتاب كما نقل الربيع أنه تارة مرة قال‪ :‬ولسنا وال إياكم وال أحدا من‬
‫أهل العلم يقول بذلك‪ ،‬أي‪ :‬القول المنقول عنهما‪ ،‬فدل على أن بعض أقوال هذين الصحابيين ‪‬‬
‫يكون قد ُت ِرك‪.‬‬
‫وهذه المسألة األصولية المشهورة وهو أنه إذا كان اجتهاد على ثالثة أقوال فت ُِرك أحد األقوال هل‬
‫يجوز الرجوع إليه وهو الذي يسمى بتقليد الميت‪ ،‬وهي مسألة أصولية مشهورة‪.‬‬

‫الشافعي»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مما صنّف‬
‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وجاء بعده محمد بن نصر المروزي فصنف يف ذلك أكثر ّ‬
‫محمد بن نصر له كتاب مطبوع باسم «اختالف الفقهاء» أو «اختالف العلماء» الطبعة القديمة‬
‫«اختالف العلماء» ثم أعيد طبعه باسم «اختالف الفقهاء»‪ ،‬ويف هذا الكتاب نقول كثيرة عن علي ‪‬‬
‫وابن مسعود بالذات‪ ،‬وبيان المسائل التي خالفه فيها جمهور أهل العلم وقد يكون الشيخ يقصد كتابا‬
‫آخر غير هذا الكتاب‪.‬‬
‫‪48‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬إنكم وسائر المسلمين تتركون قوليهما لما هو راجح من قوليهما‪ ،‬وكذلك غيركم‬
‫يترك ذلك لما هو راجحا ِمنه»‪.‬‬
‫أي‪ :‬إن أهل العلم يقولون هذا الكالم مثل ما ذكرت لكم قبل قليل عن كالم الشافعي أنه يرتك قولي‬
‫هذين اإلمامين علي وابن مسعود أحيا ًنا‪ ،‬وقد يرتك غيرهم أقوالهم لقوله هذان العالمان‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬ومما يوضح األمر يف ذلك‪ :‬إن سائر أنصار المسلمين غير الكوفة كانوا منقادين‬
‫لعلم أهل المدينة‪ ،‬ال يعدّ ون أنفسهم أكفاءهم يف العلم‪ ،‬كاهل الشام ومصر»‪.‬‬
‫يقرون بتقدّ م علماء‬
‫أي‪ :‬إن يف تلك العصور المتقدمة يف عصر التابعين وتابعي التابعين كانوا جميعا ّ‬
‫أهل المدينة وأهنم مقدمون على غيرهم‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬مثل األوزاعي ومن قبله وبعده من الشاميين»‪.‬‬

‫الشاميون يشمل علماء الشام من دمشق وغيرها‪ ،‬واألوزاعي كان سكنه قريبا من بيروت‪.‬‬

‫المصريين»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ومثل ال ّليث بن سعد ومن قبله ومن بعده من‬

‫والليث بن سعد من قرناء مالك وهو من طبقة تابع التابعين‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وإن تعظيمهم لعمل أهل المدينة واتّباعهم لمذاهبهم القديمة ظاهر ب ِّين»‪.‬‬

‫وهذا واضح يف الليث بن سعد بالذات وبعض أمثاله من المصريين وكذلك الليث وكذلك‬
‫األوزاعي‪.‬‬

‫وحماد بن زيد»‪.‬‬
‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وكذلك علماء البصرة كأيوب (السختياين بفتح السين) ّ‬
‫وحماد من قرناء مالك أن صح التّعبير أو من عصري مالكا‪.‬‬
‫أيوب من شيوخ مالك‪ّ ،‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وعبد الرحمن بن مهدي»‪.‬‬

‫وهو بعدهم كذلك ألنه من طبقة تالميذ مالك‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وأمثالهم»‪.‬‬

‫من أهل العلم من علماء البصرة‪.‬‬


‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫‪49‬‬

‫ِ‬
‫لقول‬ ‫مذهب أهل المدينة يف هذه األمصار؛ فإن أهل مصر صاروا نصر ًة‬
‫ُ‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ولهذا ظهر‬
‫أهل المدينة وهم إجالء أصحاب مالك المصريين كابن وهب وابن القاسم وأشهب وعبد اهلل بن حكم‪،‬‬
‫روايات معروفة عن مالك»‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫والشام ّيون مثل الوليد بن مسلم ومروان بن محمد وأمثالهم لهم‬
‫أي‪ :‬بعد عصر تابعي التابعين أصبح مذهب أهل المدينة منتشرا يف األمصار‪ ،‬موجود يف مصر‬
‫وموجود يف الشام‪ ،‬بل وموجود حتى يف العراق ويف غيرها‪ ،‬وب ّين الشيخ كيف أن هذا مذهب أهل المدينة‬
‫انتشر يف األمصار؛ فإن مجموعة من إجالء أصحاب مالك سكنوا مصر كابن وهب وهو عبد اهلل بن وهب‬
‫الم صري‪ ،‬وابن القاسم وهو عبد الرحمن بن القاسم‪ ،‬وأشهب سكن اإلسكندرية‪ ،‬وعبد اهلل بن الحكم‬
‫المصري وابنه محمد‪ ،‬فهؤالء كلهم من إجالء أصحاب مالك ونقلوا عنه الفقه ونقلوا عنه الرواية يف‬
‫الحديث كذلك‪ ،‬فنصروا أصول مذهب أهل المدينة حينما سكنوا مصر فانتشر هبا هذا المذهب‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ّ « :‬‬


‫والشام ّيون مثل الوليد بن المسلم ومروان بن محمد»‪.‬‬

‫حسان الطاطري‪ ،‬وكان‬


‫وهؤالء من علماء دمشق‪ ،‬مروان بن محمد هو األسدي‪ ،‬يسمى مروان بن ّ‬
‫أحمد يثني على فقهه ويقول‪ :‬كان َي ْذهب مذهب أهل العلم‪ ،‬فأثنى أحمد على أصوله وهو على طريقة‬
‫مذهب أهل المدينة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وأمثالهم لهم روايات معروفة عن مالك»‪.‬‬

‫واعتما ٌد عليه يف اجتهاده ويف رأيه ويف فِقهه ويف حديثه كذلك‪.‬‬
‫فهذه الجملة التي وردها المصنف أو هذا المقطع نستفيد منه أن مذهب أهل المدينة انتشر يف‬
‫األمصار بعد ذلك‪ ،‬وذلك فإنه ال يصدق بعد القرون الثالثة تابعيي التابعين أن مذهب أهل المدينة قد‬
‫انحصر يف المدينة‪ ،‬بل انتشر يف األمصار‪ ،‬بل أصبح َا ْل ُم ِص ّر الواحد فيه من ينتصر لمذهب أهل المدينة‬
‫ومنهم من ينتصر لمذهب أهل العراق والكوفة وغير ذلك‪ ،‬ولذلك فإنه بعد تلك العصور ر ّبما بمئة سنة‬
‫بدأ جعل المذاهب بدال من أن تنسب للبلدان تنسب لألشخاص‪ ،‬وقد تكلمت عنه يف غير هذا الموضع‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬وأما أهل العراق (فمقصود العراق بعمومه) كعبد الرحمن بن مهدي وحماد بن‬
‫زيد ومثل إسماعيل بن إسحاق القاضي وأمثالهم كانوا على مذهب ٍ‬
‫مالك»‪.‬‬
‫أما عبد الرحمن بن مهدي فنعم‪ ،‬ألنه يروي عن مالك ويثني عليه‪ ،‬وله كالم كثير يف هذه المسألة‪ ،‬أما‬
‫حماد بن زيد فكونه على مذهب مالك أي‪ :‬ال أدري ما وجه ذلك؛ فإن حماد من طبقة مالك وهو يروي‬
‫ّ‬
‫عن شيوخ مالك؛ فإن من أكثر شيوخه أيوب السختياين‪ ،‬وهو شيخ مالك كذلك‪ ،‬فنسبة حماد بن زيد‬
‫‪50‬‬

‫لمذهب مالك أي‪ :‬يحتاج إلى تأمل ولو قيل إنه على مذهب أهل المدينة قد يكون أقرب‪ ،‬فيكون مراد‬
‫الشيخ بقوله‪ :‬إن حماد بن زيد على مذهب مالك أي‪ :‬على المذهب الذي يعتقده مالكا وهو مذهب أهل‬
‫المدينة‪ ،‬هذا مراد الشيخ يف حماد بن زيد وربما يكون عبد الرحمن بن مهدي كذلك‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ومثل إسماعيل بن إسحاق القاضي»‪.‬‬

‫حماد بن زيد‪ ،‬أو أي‪ :‬نقول‪ :‬إنه جدّ أبيه‪ ،‬ألنه إسماعيل بن إسحاق‬
‫إسماعيل بن إسحاق هو حفيد ّ‬
‫حماد بن زيد‪ ،‬والي حماد بن زيد أسرة مالكية سكنت البصره وكان لها توارث يف العلم‬
‫بن إسماعيل بن ّ‬
‫والقضاء يف هذه البلدة‪ ،‬ولها جاه عظيم يف البصرة‪ ،‬وإسماعيل بإسحاق معروف له كتب طبعت‪ ،‬طبع‬
‫جزء من تفسيره وطبع له كتاب يف الصالة على النبي ‪ ،‰‬فهو من فقهاء المالكية المعروفين وله‬
‫اجتهادات ما زلت ُتنْقل‪ ،‬أي‪ :‬حتى يف كتب التفسير وغيره‪ ،‬ينقل دائما اجتهادات إسماعيل بن إسحاق‪.‬‬
‫‪ ‬قال ال صنف‪« :‬وأمثالهم كانوا على مذهب مالك وكانوا ُقضا َة ال ُق ِ‬
‫ضاة»‪.‬‬ ‫م‬
‫الصدر األول كان يع ّين القاضي‪ ،‬وهذا القاضي يع ّين له نوابا‪ ،‬فالذي يعين النواب هو الذي يسمى‬
‫بقاضي القضاة؛ وأما النائب فليس له أن ُينِيب غيره‪.‬‬
‫وتعبير المصنف بأهنم كانوا قضاة القضاة‪ :‬هذا المصطلح لم يكن موجو ًدا يف تلك العصور؛ وإنما‬
‫وجد بعد الظاهر بيربس‪ ،‬التعبير بقاضي القضاة بالمعنى الذي ذكرته قبل قليل‪ ،‬فالشيخ كأنه أراد أن‬
‫ُي َق ِّرب الفكرة وهذا المصطلح السائد يف عصره‪ ،‬أن هؤالء هم الذين كانوا يلون القضاء ويعينون القضاة‬
‫من تالميذهم‪ ،‬مما يدل على اشتهار مذهب مالك يف البصرة‪ ،‬وهذا واضح يف القشيري أبو الفتح صاحب‬
‫ا لتفسير الذي رجع إليه كثيرا أبو بكر بن العربي يف أحكام القرآن وكتاب أبي الفتح القشيري مطبوع باسم‬
‫أحكام القرآن‪.‬‬
‫كان من قضاة البصرة‪ ،‬وكذلك كثير جدا البهاري ثم سكنوا بغداد وغيره كثيرا جدا أنتشر المذهب‬
‫مالك يف العراق‪ ،‬ثم قيل إنه مات بعد ذلك‪ ،‬أي‪ :‬متى انتهى؟ هذه مسألة أخرى‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وأما الكوفيون بعد الفتنة وال ُفرقة يدعون مكافأة أهل المدينة»‪.‬‬

‫أي‪ :‬إن الكوفيين بعد ما حدث من الفتنة ادعوا مكافأة أهل المدينة بسبب أن اهلل‪ ‬أنعم عليهم‬
‫بقدوم علي عليهم‪ ،‬فقط هذا الذي تميزوا به‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫‪51‬‬

‫ومنقادين لهم»‪.‬‬
‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وأما قبل الفتنة والفرقة فقد كانوا ُمتّبعين ألهل المدينة ُ‬
‫مر معنا يف قصة ابن مسعود ‪.‬‬
‫كما ّ‬

‫عثمان أن أحدا من أهل الكوفة أو غي ِرها يدّ عي أن أهل مدينته‬


‫َ‬ ‫عرف قبل مقتل‬
‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ال ُي ُ‬
‫وتفرقت األمة وصارت ش َيعًا ظهر من أهل الكوفة من ُي ِ‬
‫ساوي‬ ‫عثمان ّ‬
‫ُ‬ ‫فلما َ‬
‫قتل‬ ‫اعلم من أهل المدينة‪ّ ،‬‬
‫بعلماء أهل الكوفة علما َء أهل المدينة»‪.‬‬
‫وهذه لما ُو ِجد يف عصر التابعين ُو ِجد من ُيفاضل بين تابعي المدينة وتابعي الكوفة‪ ،‬وهذا موجود‪،‬‬
‫من أراد أن يقرأ يف المفاضالت التي كانت يف ذلك الوقت‪ ،‬وأغلب ما نُقل من أخبار أهل الكوفة نقلت يف‬
‫الص ْي َم ِر ّي وغيره‪ ،‬ففيه بعض األخبار المتعلقة‬
‫الكتب المصنفة يف أخبار أبي حنيفة النعمان ومثل كتاب َّ‬
‫بمفاضلة أهل الكوفة على أهل المدينة‪ ،‬ونقل بعضها سبط بن الجوزي يف «االنتصار»‪ ،‬وغيره‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ووجه الشبهة يف ذلك إنه َض ُعف أمر المدينة لخروج خالفة النبوة منها‪ ،‬وقوي أمر‬
‫علي فيها (هذا ما ذكرته قبل قليل) لكن ما فيه الكالم من مسائل الفروع واألصول‬
‫أهل العراق لحصول ّ‬
‫استقر يف خالف عمر»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫قد‬
‫استقرت باجتهاد الصحابة رضوان اهلل‬
‫ّ‬ ‫هذه الكلمة جميلة جدً ا‪ ،‬وهو أن األصول العامة لالجتهاد‬
‫وقل ما ُتوجد مسألة بعد ذلك‪ ،‬وهذه المسألة تتع ّلق‬
‫عليهم وخاصة يف خالفة الشيخين أبي بكر وعمر‪ّ ،‬‬
‫بالمسائل الكلية‪ ،‬طبعا عندما يكون المفاضلة أي‪ :‬يجب أن نعرف أهنا مفاضلة على سبيل إجمال ال على‬
‫سبيل اآلحاد كما سيأيت بعد قليل؛ فإن اجتهاد عمر ‪ ‬قد َخ َّط َأ من الصحابة يف بعضه‪ ،‬وقد ذكر الشيخ‬
‫ٍ‬
‫اجتهاد‪،‬‬ ‫تقي الدين يف بعض كتبه أن أبا بكر الصديق لم ُيخطأ يف اجتهاد مطلقا‪ ،‬لم يخطئه الصحابة يف‬
‫بينما عمر َخ َطأ يف بعض اجتهاده وهو قليل جدا ُيعد عدّ ًا‪ ،‬أي‪ :‬يصل إلى عشرة فيما احسب‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬ومعلوم أن قول أهل الكوفة مع سائر األمصار قبل الفرقة األولى من قولهم‬
‫وحديثهم بعد الفرقة»‪.‬‬
‫علي ‪ :‬رأيك مع عمر يف‬
‫السلماين قاضي ّ‬
‫ثم استدل على هذا الكالم قال المصنف‪« :‬قال ُع َب ْيدَ ة ّ‬
‫الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك يف الفرقة»‪ .‬وهذا يف مسألة أم الولد وهل تباع أم ال تباع؟‪.‬‬

‫ّفرق ما دل عليه النص واإلجماع»‪.‬‬


‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ومعلوم أنه كان بالكوفة من الفتنة والت ّ‬
‫اإلجماع واضح من األخبار‪ ،‬وما حدث من الفتنة يف العراق وأكثر الفتن التي حدثت أن ما هي يف‬
‫‪52‬‬

‫ذاك؛ وأما النص فشرحه المصنف‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬لقول النبي‪ ‰‬وهو مستقبل المشرق‪ :‬الفتنة من ها هنا الفتنة من ها هنا‬
‫الفتنة من ها هنا‪ ،‬من حيث يطلع قرن الشيطان‪ ،‬وهذا الحديث قد ثبت عنه يف الصحيح من غير وجه»‪.‬‬
‫هذا الحديث يدل على أن الفتنة من عموم المشرق عموما‪ ،‬و«من» ابتدائية أي‪ :‬من هناك يبتدأ‬
‫خروج الشر‪ ،‬وهذا يشمل المشرق القريب والمشرق البعيد‪ ،‬وكثير من الفتن حدثت منها ذلك‪ ،‬وقد جاء‬
‫يف الحديث الذي كان يستدل به معاوية‪ :‬اتركوا الرتك ما تركوكم‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬جاء يف بعض ألفاظ هذا‬
‫الحديث‪« :‬إن الفتنة من ها هنا من نجد‪ ،‬حيث يطلع قرن الشيطان»‪ ،‬وهذا حديث ثابت هبذا اللفظ‪ ،‬وقد‬
‫ذكر أهل العلم أن الجنود يف جزيرة العرب ثالثة‪ :‬نجد العراقي ونجد ِ‬
‫الحجاز ونجد اليمن‪.‬‬
‫‪ -‬فنجد العراق‪ :‬هي الكوفة ألهنا منبسطة وما جاورها‪.‬‬
‫‪ -‬ونجد الحجاز‪ :‬هي اليمامة‪ ،‬ولذلك ُأ ِ‬
‫لحقت كما بين ذلك بعض الشراح بالفضائل الواردة‬
‫للحجاز‪.‬‬
‫‪ -‬ونجد اليمن‪ :‬هي األرض المنبسطة من اليمن‪ ،‬تقريبا هي تعادل اآلن منطقة بِ َ‬
‫يشة وما جاورها‪ ،‬ألنه‬
‫لو رأيت بيشة بمقاربة ما بجانبها وجدهتا مختلفة‪ ،‬ألهنا أرض منبسطة وهي نجد قد ارتفعت وهي‬
‫مستوية‪.‬‬
‫فهذه هي الجنود الثالثة‪ ،‬فإذا حملنا المطلق على المقيد‪ ،‬عرفنا أن قول النبي‪ ‰‬جهة‬
‫المشرق يف لفظ العراق ويف لفظ هي نجد‪ ،‬أن المراد هبا نجد العراق‪ ،‬وهذا كالم أهل العلم فيه كثير جدا‬
‫وألف فيها بعض علماء الهند رسالة يف تقرير ما ذكرته‪.‬‬

‫ومما يوضح األمر يف ذلك أن العلم‪ :‬أما رواية وأما رأي‪ ،‬وأهل المدينة أصح أهل‬
‫‪ ‬قال المصنف‪ّ « :‬‬
‫المدن رواية ورأيا؛ وأما حديثهم» (بدأ يتكلم عن حديث أهل المدينة) «فأصح األحاديث‪ ،‬وقد اتفق أهل‬
‫لما تكلموا عن‬‫العلم بالحديث على أن أصح األحاديث أحاديث أهل المدينة»؛ ولذلك يقولون أهنم ّ‬
‫مسألة سالسل الذهب وأصح السالسل؛ فإن أغلب هذه السالسل سالسل مدنية‪ ،‬ومن أشهر األقوال‪:‬‬
‫إهنا سلسلة حديث مالك عن نافع عن ابن عمر‪ ،‬وهي سلسلة مدنية‪ ،‬وقد ذكر أبو عمرو بن الصالح يف‬
‫المقدمة وغيره من أهل العلم جمعوا خالف أهل العلم يف السالسل وأصح األسانيد‪ ،‬وأغلب األسانيد‬
‫التي حكم بأهنا أصحها هي يف الحقيقة مدنية‪ ،‬وهذا معنى كالم الشيخ على اتفاق أهل العلم يف الجملة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬علي إن أصح األحاديث أحاديث أهل المدينة ثم أحاديث أهل البصرة»‪.‬‬

‫ألن بعض األسانيد متصلة بأنس أو غيره أو ابن مسعود‪.‬‬


‫‪53‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وأما أحاديث أهل الشام فهي دون ذلك؛ فإنه لم يكن لهم من اإلسناد المتصل‬
‫وضبط األلفاظ ما لهؤالء‪ ،‬ولم يكن فيهم‪ -‬أي‪ :‬أهل المدينة ومكة والبصرة والشام‪ -‬من ُي ْعرف بالكذب»‪.‬‬
‫وإنما نُقل الكذب يف العصر المتقدم وهو يتكلم عن عصر التابعين وتابع التابعين؛ وإنما نُقل وك ُّذب‬
‫بعض من كان بالكوفة‪ ،‬مثل ما جاء عن الشعبي أنه حكم أن الحارث األعور حكم بأنه كذاب‪ ،‬والحارث‬
‫األعور يروي عن علي‪ ،‬ومثله أيضا يقال عن مجالد‪ ،‬فالمقصود أن أهل الكوفة ُو ِجد من ا ّتهم بالكذب؛‬
‫وأما غيرهم فلم ُيتّهم بذلك وإنما كان اال ّتهام من جهة الضبط‪ ،‬وهذا الذي بنى عليه ابن حبان كتابه‬
‫خصوصا‪ ،‬وال‬
‫ً‬ ‫«الثقات»؛ حينما ذكر كثيرا من األعالم يف األمصار من أهل المدينة ومكة والبصرة والشام‬
‫ُيعلم فيهم توثيق‪ ،‬حكم بأهنم من الثقات ألن األصل فيهم التوثيق والعدالة‪ ،‬وال ُيعرف يف حديثهم نكارة‬
‫فلذلك أوردهم من هذا الباب‪ ،‬لكن طب ًعا ألهل العلم كالم طويل يف قضية الفروق بين اإلعصار يف هذه‬
‫المسألة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬لكن منهم» (أي‪ :‬من أهل هذه األمصار األربعة المدينة ومكة والبصرة والشام)‬
‫الرواية فيكون معروفا بالوهم أو بالخطأ أو بنحو ذلك‪.‬‬
‫«من َي ْض ُبط ومنهم من ال يضبط»‪ .‬أي‪ :‬ال يضبط ّ‬
‫بلد أكثر منه فيهم‪ ،‬ففي زمن التابعين كان‬ ‫‪ ‬قال ال صنف‪« :‬وأما أهل الكوفة فلم يكَن الكذب يف أهل ٍ‬
‫ُ ِّ‬ ‫م‬
‫خلق كثير منهم معرويف بالكذب ال س ّيما الشيعة» (وقد ذكرت أمثلة قبل قليل) «فإنهم أكثر الطوائف‬ ‫بها ٌ‬
‫ومما ذكره أهل العلم كالم الشافعي لما قال‪ :‬إين ال أقبل شهادة َا ْل َخ َطابِ َّية وهم‬
‫كذبا باتفاق أهل العلم»‪ّ .‬‬
‫علي وعلي الصحابة رضوان اهلل عليهم‪ ،‬وهم طائفة من‬ ‫طائفة ظهرت يف العراق‪ ،‬ألهنم يكذبون على ّ‬
‫الطوائف المنحرفة‪.‬‬

‫بعامة‬
‫يحتجون ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وألجل هذا ُيذكر عن مالك وغيره أهل المدينة أنهم لم يكونوا‬
‫أحاديث أهل العراق»‪.‬‬
‫عرب المصنف «بعامة أحاديث أهل العراق» أي‪ :‬بعمومها‪ ،‬ألهنم ال يعلمون حال أهل العراق‪ ،‬ليس‬
‫الرد مطلقا وإنما ألهنم ال يعلمون حالهم؛ ولذلك قد فات أهل المدينة أحاديث ليست عندهم‪ ،‬فهناك‬
‫أحاديث لم تصل أهل المدينة ورواها أهل العراق كابن مسعود‪ ‬وغيره‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ألنهم قد علموا أن فيهم كذابين‪ ،‬ولم يكونوا يميزون بين الصادق والكاذب»‪.‬‬

‫فرتكوا ما جهلوا حاله‪ ،‬ففاهتم علم كثير وال شك‪ ،‬ولكنه ما عند أهل المدينة أكثر مما تفرد به أهل‬
‫العراق‪.‬‬
‫‪54‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪َ « :‬ف َأ َّما إذا علموا ِصدق الحديث فإنهم يحتجون به‪ ،‬كما روى مالك عن أيوب‬
‫السختياين وهو عراقي»‪.‬‬
‫مالك أكثر من رواية عن أيوب بن أبي تميم السختياين مع أنه بصري‪ ،‬ولقا ُء مالك بأيوب كان يف‬
‫الحج؛ فإن مالكًا قال‪ :‬أدركت أيوب يف حج سنتين‪ ،‬أي‪ :‬لقاه يف سنتين متواليتين ال أدري هل أيوب كان‬
‫مجاورا يف مكة أم أن أيوب حج من البصرة يف سنتين؟ وقد يكون مجاورا‪ ،‬ألنه قد جاء يف كتاب التاريخ‬
‫ليعقوب بن سفيان أن أيوب كان يصلي بمكة بالناس يف رمضان‪ ،‬وهذا يدل على أنه أدرك فيها رمضان‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬فقيل له يف ذلك»‪.‬‬

‫أي‪ :‬قيل له‪ :‬لماذا ُت َحدّ ث عن أيوب وهو عراقي؟‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬فقال‪ :‬ما حدثتكم عن أحد إال وأيوب أفضل منه أو نحو هذا»‪.‬‬

‫أي‪ :‬ونحو هذا من القول‪ ،‬وهذه كلمة مشهورة عن مالك أوردها جماعة من أهل الحديث أن مالكا‬
‫قال هذه الكلمة‪ :‬ما حدثتكم عن أحد إال وأيوب أفضل منه‪ ،‬وعبارة المصنف «أو نحو ذلك»‪ .‬يدلنا على‬
‫أنه اعتمد يف كثير من المقوالت على ذهنه‪ ،‬وهذا أي‪ :‬بسعة علمه واطالعه على الكتب وعلي اآلراء‪،‬‬
‫وذلك فضل اهلل يؤتيه من يشاء‪.‬‬

‫سفيان عن‬
‫ُ‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وهذا القول هو القول القديم للشافعي‪ ،‬حتى روي‪ :‬إنه قيل له‪ :‬إذا روى‬
‫منصور عن علقمة عن عبد اهلل حديثًا‪ ،‬أال تحتج به؟! فقال‪ -‬أي شافعي‪ :-‬إن لم يكن له أصل بالحجاز‬
‫َوإِ َّال فال»‪.‬‬
‫الشافعي قيل له إذا روى سفيان (المراد بسفيان الثوري) عن منصور (هو ابن معتمر) عن‬‫ن ُِقل أن ّ‬
‫علقمة (صاحب ابن عباس النخعي) عن عبد اهلل بن مسعود‪ :‬إن هذه السلسلة مع كوهنا يف غاية الصحة‪،‬‬
‫بل قيل إهنا من سالسل الذهب التي هي من أصح األحاديث‪ ،‬مع ذلك فإن الشافعي يف أول أمره قبل أن‬
‫يذهب للعراق‪ ،‬يقول ال تنظر لهذا الحديث‪ ،‬إذا لم يكن له أصل‪ ،‬ألنا ال ندري عن أهل العراق ولم نكن‬
‫نعرفهم‪ ،‬وهذا هو القول القديم للشافعي‪ ،‬وقد تراجع عنه كما سيذكر الشيخ بعد قليل‪ ،‬وهذا معنى قوله‪:‬‬
‫«إن لم يكن له أصل بالحجاز»‪ .‬أي‪ :‬يف حديث أهل المدينة ومكة‪ ،‬وإال فال‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ثم إن الشافعي رجع عن ذلك»‪.‬‬

‫أي‪ :‬عن عدم االحتجاج بأحاديث العراق‪.‬‬


‫‪55‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬وقال ألحمد‪ :‬أنتم اعلم بالحديث منا‪ ،‬فإذا صح الحديث فأخبرين به حتى أذهب‬
‫يحتج بهذا قبل»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بصريا أو كوف ّيا‪ ،‬ولم يقل (أي‪ :‬الشافعي) مك ّيا أو مدن ّيا‪ ،‬ألنه كان‬
‫ّ‬ ‫إليه‪ ،‬شام ّيا كان أو‬
‫والحقيقة أن هذا فهم جيد من الشيخ تقي الدين لكالم الشافعي؛ فإنه لما قال ذلك‪ ،‬يدل على‬
‫تراجعه السابق عن عدم احتجاجه بحديث العراقيين والشاميين‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وأما علماء أهل الحديث كشعبة ويحيى بن سعيد» (المراد بيحيى بن سعيد هنا‪:‬‬
‫القطان؛ وأما األنصاري فقد تقدم أنه من أهل المدينة أصال) «وأصحاب الصحيح» (كالبخاري ومسلم)‬
‫«والسنن» (األربعة وغيرهم) «فكانوا يم ّيزون بين الثقات الحفاظ وغيرهم‪ ،‬فيعلمون من بالكوفة والبصرة‬
‫من الثقات الذين ال ريب فيهم‪ ،‬وان فيهم من هو أفضل من كثير من أهل الحجاز»‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ :‬إن سبب عدم قبول مالك والشافعي يف قوله القديم ألحاديث العراقيين ألهنم كانوا‬
‫عمن ُيعرف‪ ،‬كما قال ابن مسعود‪ :‬فلما حدثت الفتنة قيال‪:‬‬
‫ال يعلمون حالهم‪ ،‬واألصل أنه ال ُيروى إال ّ‬
‫سموا رجالكم‪ ،‬ال بد من أن يعرف حال هذا الرجل‪ ،‬لكن لما جاء بعدهم من علماء الحديث الكبار مثل‬ ‫ّ‬
‫من سمى المصنف‪ ،‬من عرفوا العلماء يف سائر البلدان ورحلوا وعرفوا األحاديث وميزوا‪ ،‬هؤالء‬
‫أصبحوا يروون عن الثقات ويعرفوهنم‪ ،‬وشعبة وإن كان كوفيا إال أنه دار األمصار وتنقل يف رواية‬
‫الحديث‪ ،‬وهذا معنى كالمه‪ ،‬وهذا يدلنا على أن بعد العصر الثالث اختلف حال العلم واألمصار‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وال َس ُترِ ُ‬


‫يب عالما يف مثل أصحاب عبد اهلل بن مسعود كعلقمة واألسود»‪.‬‬

‫النّخع ّيين؛ فإهنما كأنا من كبار العلماء بل إن عائشة كان تقدر األسود‪ ،‬ويدخل وتسمع أسئلته‪ ،‬أي‪:‬‬
‫تسمع حديثه ‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وعبيد َة السلماين»‪.‬‬

‫وهو من أصحاب ابن مسعود وعلي‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬والحارث التيمي»‪.‬‬

‫ويسمى أبا عائشة الكويف‪.‬‬


‫ّ‬ ‫الحارث التيمي هذا هو الحارث بن ُس َويد التيمي‪،‬‬
‫والحكَم بن‬
‫وقال المصنف‪« :‬وشريح القاضي ثم مثل» (هذه الطبقة التي بعدهم) «إبراهيم النخعي َ‬
‫ُعتيبة وأمثالهم من أوثق الناس واحفظهم»‪ .‬وصدق؛ فإن هؤالء من أئمة الدين وال شك‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬فلهذا صار علماء أهل اإلسالم متفقين على االحتجاج بما صححه أهل العلم‬
‫بالحديث من أي‪ :‬مصر كان»‪ .‬ال ننظر ِ‬
‫لمصر؛ وإنما ننظر لثقة راويه وضبطه‪ ،‬وعدم خطئه وتدليسه فيه‪،‬‬ ‫ٍّ‬
‫‪56‬‬

‫يذكر فيه ما انفرد به أهل كل‬


‫ُ‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وصنّف أبا داود السجستاين مفاريد أهل األمصار‪،‬‬
‫مصر من المسلمين من أهل العلم بالسنة»‪.‬‬
‫ٍّ‬
‫هذه مسألة من سعة علم أبي داود ‪ ‬أنه ب ّين السنن التي اشتهرت يف بعض األمصار‪ ،‬على سبيل‬
‫المثال قيل‪ :‬إن أهل الكوفة لم تكن قد بلغتهم أحاديث األشربة‪ ،‬بل أن أهل العراق جميعا حتى قيل‪ :‬إن‬
‫أول من أظهر أحاديث األشربة يف العراق كلها اإلمام أحمد‪ ،‬ولذلك صنف فيها كتابان‪ :‬الصغير والكبير‪،‬‬
‫أيضا ما يتعلق بأحاديث كثيرة‬
‫كتاب األشربة الصغير وكتاب األشربة الكبير؛ كذلك لم يكن قد بلغهم ً‬
‫جدً ا متعلقة هبذا الباب‪ ،‬أهل المدينة قيل‪ :‬إهنم ل م يبلغهم أحاديث السماع‪ ،‬ولذلك كان بعضهم يتساهل‬
‫يف السماع‪ ،‬وغير ذلك من المسائل التي ربما ترد يف بلد دون بلد بسبب أن أهل العلم الذين سمعوها من‬
‫النبي‪ ‰‬ربما نقلوها واآلخرون لم يسمعوها أو لغير ذلك من األسباب‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وأما الفقه والرأي فقد ُع ِلم أن أهل المدينة لم يكن فيهم ِم ْن ابتدع بدع ًة يف أصول‬
‫الدين»‪.‬‬
‫وهذا تقدم الحديث عنه يف الدرس الماضي؛ طبعا المراد بالرأي‪ :‬الرأي المذموم‪ ،‬وقد ذكر أهل‬
‫العلم أن كلمة الرأي والسماع والكالم‪ ،‬هذه كلمة جنس تحمل كالما ممدوحا ومذموما‪ ،‬ولكن عند‬
‫فالرأي المذموم فقط‪ ،‬ال مطلق الرأي‪ ،‬ومثله السماع‬
‫ُ‬ ‫اإلطالق تطلق على األشهر‪ ،‬فيكون إذا َذ َّم الرأي‬
‫المذموم‪ ،‬ومثله الكالم المذموم‪ ،‬ذكر هذا الشيخ رسالة له يف بيان معنى الكالم المذموم والممدوح‪.‬‬

‫وفرع لهم ربيعة بن هرمز فروع»‪.‬‬


‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ولما حدث الكالم يف أوائل الدولة العباسية ّ‬
‫هذا ربيع بن هرمز أظن أنه أحد علماء العراق أو أعيان العراق‪ ،‬ولم أجد له ترجمة ال يف كتب‬
‫الحنفية وال يف كتب غيرهم‪ ،‬فقد يكون تصحيفًا يف النسخة أو يكون ممن لم يذكر بعد ذلك‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬كما ّفرع عثمان البتّي»‪.‬‬

‫مكتوب معنا يف النسخة البستي‪ ،‬وهذا خط وإنما هو البتي‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬كما فرع عثمان البتي وأمثاله بالبصرة‪ ،‬وأبي حنيفة وأمثاله بالكوفة‪ ،‬وصار يف الناس‬
‫من يقبل ذلك‪ ،‬وفيهم من ير ّد‪ ،‬وصار الرادون لذلك (للرأي) مثل هشام بن عروة وأبي الزناد والزهري‬
‫ث بالمدينة‪ ،‬فهم للرأي المحدَ ِ‬
‫ث بالعراق أشد‬ ‫وابن عيينة وأمثالهم؛ فإن ردوا ما ردوا من الرأي المحدَ ِ‬
‫ُ ْ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ر ّد ًا»‪.‬‬
‫قبل أن أذكر هذا الكالم‪ ،‬أريد أن نعلم أن الرأي ليس خاصا بأهل العراق‪ ،‬بل هو موجود حتى يف‬
‫‪57‬‬

‫المدينة‪ ،‬ولذلك الربيعة بن أبي عبد الرحمن كان يسمى بربيعة الرأي‪ ،‬ألن له اجتهادا يف الرأي‪ ،‬وقد ألف‬
‫بعض المعاصرين رسالة مطبوعة كبيرة‪ -‬ألهنا دكتوراة‪ -‬تويف عليه رحمة اهلل‪ ،‬سماها‪ :‬الرأي عند أهل‬
‫المدينة‪ ،‬فجمع آرائهم واجتهادهم التي ُبنِيت على الرأي‪ ،‬المقصود من هذا أن الرأي ليس خاصا بأهل‬
‫العراق أو ببعض العلماء‪ ،‬بل هو موجود عند الجميع‪ ،‬ولذلك بعضهم استنكر بعض الرأي الذي صدر‬
‫عن مالك‪ ،‬مثل أحمد جاء عنه ما يدل على أن رأيه دون ذلك‪ ،‬لو أنه جرد من رأيه وهكذا‪ ،‬المقصود من‬
‫هذا‪ :‬إن المصنف يقول إن هؤالء األعيان مثل هشام بن عروة وغيره‪ ،‬ذموا الرأي كله يف المدينة ويف غيره‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬فإن ردوا ما ردوا من الرأي المحدث بالمدينة فهم للرأي المحدث بالعراق أشد‬
‫ر ّدا»‪.‬‬
‫أي‪ :‬أشد ردا وإنكارا‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬فلم يكن أهل المدينة أكثر من أهل العراق فيما ال ُي ْح َمد وهم فوقهم فيما‬
‫يحمدونهم‪ ،‬وبهذا يظهر الرجحان»‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ :‬إن أهل المدينة لم يكونوا أكثر من أهل العراق فيما ال ُي ْحمد‪ ،‬بل أهل العراق أكثر‬
‫منهم فيما ال ُي ْحمد‪ ،‬وأهل المدينة فوق أهل العراق فيما ُيحمد من األصول والبناء على المسائل‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وبهذا يظهر الرجحان»‪.‬‬

‫ووجهها‪ ،‬فنقل بعد ما جاء عن هشام بن عروة السابق‬


‫ثم ذكر المصنف بعض األقوال التي قيلت ّ‬
‫الذي تقدما‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وأما ما قال هشام بن عروة»‪.‬‬

‫فهو يشير للكالم الذي سبق عن هشام بن عروة وابن عيينة الذي أشار له مجمالً قبل قليل‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬وأما ما قال هشام ابن عروة‪ :‬لم يزل أمر بني إسرائيل معتدال حتى فشا فيهم‬
‫الم َو ّلدون‪ ،‬وأبناء سبايا األمم‪ ،‬فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا‪ ،‬وقال ابن عيينة‪ :‬فنظرنا يف ذلك‪ ،‬فوجدنا ما‬
‫ُ‬
‫الم َو ّلدين‪ ،‬أبناء سبايا األمم‪ ،‬وذكر بعض من كان بالمدينة وبالبصرة‬
‫حدث من الرأي إنما هو من ُ‬
‫وبالكوفة» (أي‪ :‬ذكر من هؤالء أهل الرأي‪ ،‬هؤالء بعضهم كان يف المدينة والبصرة والكوفة) «والذين‬
‫ممن بالعراق من أهل المدينة»‪ ،‬أي‪ُ :‬م َؤ ّدى كالم الشيخ يقول‪ :‬إن هشام بن عروة‬
‫بالمدينة أحمد عند هذا ّ‬
‫وابن عيينة لما ذموا الرأي‪ ،‬ذكروا أناسا من أهل المدينة ومن البصرة والكوفة‪ ،‬لكن هذه األسماء التي‬
‫ذكروها يف أهل المدينة هم أحمد عندهم‪ ،‬رأيا من رأي ذلك وان ذموا الجميع‪.‬‬
‫‪58‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬لما قال مالك‪ ‬عن إحدى الدولتين‪ :‬إنهم كانوا أتبع للسنن من الدولة األخرى‪،‬‬
‫وقرنًا»‪.‬‬
‫بمقاربتها من الحدثين‪ ،‬ألن أولئك األولى بالخالفة نسبًا ْ‬
‫قال ذلك ألجل ما ظهر ُ‬
‫هذا لما كانت بعض الدول والكالم يف استحقاق بعضهم لبعض‪ ،‬ذكر أن هذا من باب تفضيل‬
‫النسبي وليس للتفصيل المطلق‪ ،‬هذا المراد‪.‬‬

‫سادات خلفاء بني العباس‪-‬‬ ‫ُ‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ولما كان المنصور والمهدي والرشيد‪ -‬وهم‬
‫يرجحون أهل الحجاز‬ ‫يرجحون علماء الحجاز وقولهم على علماء أهل العراق‪ ،‬كما كان خلفاء بني أمية ّ‬
‫ّ‬
‫على علماء أهل الشام‪ ،‬ولما كان فيهم من لم يسلك هذا السبيل‪ ،‬بل عدل إلى اآلراء المشرق ّية كثُ َر‬
‫ث فيهم وضعفت الخالفة»‪.‬‬ ‫ِ‬
‫اإلحدا ُ‬
‫مؤ ّدى هذا الكالم يقول‪ :‬إن بني العباس لما كانوا يف أول أمرهم كانوا يقدمون علماء الحجاز‬
‫وفقهائهم واجتهادهم على علماء غيرهم‪ ،‬ثم أن من بعد ذلك من خلفاء ابن العباس بدءا من المأمون‬
‫أمورا‪:‬‬
‫تقريبا ومن بعده بدؤوا يميلون إلى اآلراء المشرقية‪ ،‬واآلراء المشرقية تشمل ً‬
‫منها اآلراء المشرقية يف األصول كاالعتزال وغيره؛ فإهنا آراء مشرقية؛ فإن بدْ ء االعتزال كان يف‬
‫أيضا يف اآلراء المشرقية مثل اجتهادات أهل الكوفة‬
‫وقوته وظهوره كان فيما وراء النهر‪ ،‬ومثله ً‬
‫البصرة‪ّ ،‬‬
‫وغيرهم‪ ،‬ذكر الشيخ أنه كثرة األحداث وضعفت الخالفة بسبب البعد عن النبوة‪ ،‬أي‪ :‬هذا من باب‬
‫الداللة اإلشارية على ما ذكره‪ ،‬وهذا تفسير من الشيخ ‪.‬‬

‫وترجحت على‬
‫ّ‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ثم إن بغداد بعد ذلك إنما صار فيها من العلم واإليمان ما صار‪،‬‬
‫موت مالك وأمثاله من علماء أهل الحجاز‪ ،‬وسكنها من أفشى السنة بها‪ ،‬وأظهر حقائق‬ ‫ِ‬ ‫غيرها بعد‬
‫اإلسالم‪ ،‬مثل‪ :‬أحمد بن حنبل وأبي عبيد»‪.‬‬
‫بغداد كانت يف فرتة من الفرتات مركزا للسنة حتى قال أحمد‪ :‬من سكن بغداد فهو ينتقل من جنة إلى‬
‫جنة‪ ،‬نقل ذلك ابن مفلح يف «الفروع»‪ ،‬قالوا لما يف بغداد من ظهور السنة َو َفت َُّش َ‬
‫وها‪ ،‬وكثرة حلق العلم يف‬
‫الحديث والقرآن وغيره‪ ،‬ألنه يف عهد المتقدمين من خلفاء بني العباس كانوا يجلبون إليها علماء‬
‫الحديث من األمصار‪ ،‬وهذا معنى قول أحمد إنه ينتقل من جنة إلى جنة‪ ،‬أي‪ :‬ينتقل من علم إلى علم‬
‫آخر‪ ،‬وسبب هذا الشيء أنه كما قال المصنف‪« :‬اجتمع فيها العلم واإليمان»‪ ،‬العلم‪ :‬أهل العلم‪ ،‬اإليمان‪:‬‬
‫أهل الصالح والزهد‪ ،‬مثل إبراهيم بن أدهم ومثل معروف الكرخي‪ ،‬وكالهما من أهل بغداد‪ ،‬وغيرهم‬
‫كثير من أهل العلم واإليمان الذين كانوا يف ذلك العصر من صلحاء المسلمين‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫‪59‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وترجحت على غيرها بعد موت مالك وأمثاله من علماء أهل الحجاز»‪.‬‬

‫وهم الطبقة الثالثة اتباع تابعي التابعين‪ ،‬ولذلك عندما يفاضل بين مالك واحد األئمة الذين بعده‪،‬‬
‫يفضل إال مع من كان يف عصره‪ ،‬وقد جاء أن أحمد سئل عن رجلين‬
‫نقول‪ :‬ما يصح هذا التفاضل‪ ،‬ما ّ‬
‫أيهما أعلم؟ فقال‪ :‬اجعله مع أهل عصره‪ ،‬يفاضل الرجل مع أهل عصره وال يفاضل مع من هو قبل‬
‫عصره‪ ،‬فمالك ال يقارن بالشافعي وأحمد‪ ،‬ألهنم ليسوا يف عصره؛ وإنما يقارن بمن كان يف عصره فيقال‪:‬‬
‫إنه أعلم أهل المدينة‪ ،‬وكان يضرب له أكباد اإلبل‪ ،‬وهذا سيشير لها مصنف بعد قليل إن شاء اهلل‪.‬‬
‫وهذه مسألة مهمة نبه عليها اإلمام أحمد وغيره‪ :‬إنه يجب يف المقارنة يف العلم إنما تكون بين أهل‬
‫العصر الواحد‪ ،‬فالظروف تكون متقاربة‪.‬‬

‫من أفشى السنة بها‪ ،‬وأظهر حقائق اإلسالم مثل أحمد بن حنبل وأبي‬
‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وسكنها ْ‬
‫عبيد» (المقصود به‪ :‬القاسم بن َس َالم اإلمام اللغوي الفقيه المحدث) «وأمثالهما من فقهاء أهل‬
‫الحديث‪ ،‬ومن ذلك الزمان ظهرت بها السنة يف األصول ويف الفروع»‪ ،‬األصول‪ :‬االعتقاد‪ ،‬والفروع‪ :‬التي‬
‫تبنى على الدليل النقلي واألثري‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وك ُثر ذلك فيها وانتشر منها إلى األمصار»‪.‬‬

‫حتى أصبحت قبلة‪ ،‬ويدل على ذلك ما جمعه الخطيب البغدادي يف تاريخ بغداد‪ ،‬وكيف أن أعيان‬
‫العلماء سكنوها يف ذلك القرن وما بعده‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وانتشر أيضا من ذلك الوقت يف المشرق والمغرب»‪.‬‬

‫انتشر العلم بعد ذلك يف كثير من البلدان‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬فصار يف المشرق مثل إسحاق بن إبراهيم بن راهويه»‪.‬‬

‫النيسابوري وهو من أهل خرسان‪ ،‬ابن راهويه اإلمام المعروف‪ ،‬قرين اإلمام أحمد‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وأصحابه»‪.‬‬

‫ومن أشهر أصحابه‪ :‬إسحاق بن منصور الكوسج‪ ،‬وهو من أعيان علماء المسلمين فقهًا وحديثًا‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫‪60‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬وأصحاب عبد اهلل بن المبارك (أيضا يف نيسابور) وصار إلى المغرب من علم أهل‬
‫المدينة ما ن ُِقل إليهم من علماء الحديث»‪.‬‬
‫مثل سحنون وطبقة شيوخه وتالمذته وأبنائه يف القيروان‪ ،‬وثم انتقل بعد ذلك لألندلس وغيرها‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬فصار يف بغداد وخرسان والمغرب من العلم ما ال يكون مثله إذ ذاك بالحجاز‬
‫والبصرة»‪.‬‬
‫وهذا واضح‪ ،‬فقد ضعف ربما يف تلك األمصار‪ ،‬لكنه لم ينقطع بالحجاز‪ ،‬هذا نبه إليها بعض‬
‫المؤرخين‪ ،‬قالوا‪ :‬لم ينقطع قط العلم بالمدينة من عهد النبي ‪ ،‰‬بل ال أن تكون فيه بقايا‪ ،‬قد‬
‫يكون يف بعض األمصار قوة لكن ال ينقطع العلم يف المدينة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مالك وأصحابه من علماء الحجاز من‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وأما أحوال الحجا ِز فلم يكن بعد عصر‬
‫ُي َف ّضل على علماء المشرق والعراق والمغرب»‪.‬‬
‫وهذا واضح جدً ا‪ ،‬وهذا يب ّين باالستقراء‪ ،‬ولذلك قال المصنف‪« :‬وهذا باب يطول تت ّبعه‪ ،‬ولو‬
‫وصحة أصولهم لطال الكالم»‪ ،‬وهذا عندما نتكلم عن فضل علماء‬
‫ّ‬ ‫استقصينا فضل علماء أهل المدينة‬
‫المدينة‪ ،‬نتكلم عن التابعين وتابعي التابعين؛ أما الصحابة فقد بين المصنّف فضل الصحابة الذين كانوا يف‬
‫المدينة على الذين كانوا يف األمصار قبل الفتنة وبعده؛ وأما من بعده من التابعين فقد أشار المصنف‬
‫إشارة إجمالية‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وإذا تب ّين ذلك فال ريب عند أحد أن مالكًا‪ ‬أقوم الناس بمذهب أهل المدينة‬
‫رواي ًة ورأيًا»‪.‬‬
‫ممن جمع مذهب أهل المدينة بما م ّن اهلل‪ ‬عليه من أسباب منها‪ :‬ذكاؤه‪ ،‬ومنها‪:‬‬ ‫فمالك ّ‬
‫أيضا‪ :‬جاهه فإنه كان له جاه عظيم ألهل المدينة كما ذكر ذلك يف السير‪ ،‬ومن أحسن من‬
‫حرصه‪ ،‬ومنها ً‬
‫كتب عنه القاضي عياض يف «المدارك»‪ .‬فقد نقل من أخبار مالك ما ال يوجد عند غيره‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬فإنه لم يكن يف عصره وال بعد ُه أقوم بذلك منه»‪.‬‬

‫وهذا واضح‪ ،‬يدل على تلك الكتب التي نقلت مذهب أهل المدينة‪.‬‬

‫الخاص منهم والعام‪.»-‬‬


‫ّ‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وكان له من المكانة عند أهل اإلسالم‪-‬‬

‫وهذا جا ُه مالك‪ ،‬فقد كانت له مكانة عظيمة عند الخاصة والعامة‪ ،‬الخاصة‪ :‬الخلفاء واألمراء‪،‬‬
‫‪61‬‬

‫الصنفين العلم؛ فإن العلماء من الخاصة والعامة‪.‬‬


‫والعا ّمة‪ :‬عا ّمة المسلمين‪ ،‬ويدخل يف ّ‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ما ال يخفى على من له بالعلم أدنى إلمام»‪.‬‬

‫أي‪ :‬العلم باألخبار ونحو ذلك‪.‬‬


‫ثم قال المصنف‪« :‬وقد جمع الحافظ أبا بكر الخطيب (البغدادي) أخبار الرواة عن ٍ‬
‫مالك فبلغوا ألفا‬ ‫ّ‬
‫وسب ِ‬
‫عمائَة أو نحوها»‪.‬‬ ‫َ َ ْ‬
‫كتاب الخطيب البغدادي لم أقف عليه؛ وإنما ُو ِجد اختصاره للعطار‪ ،‬فقد اختصر كتاب الخطيب‬
‫البغدادي بذكر األسماء على سبيل اإلجمال مع بعض الكالم اليسير‪ ،‬والذين أوردهم العطار يف تلخيصه‬
‫لكتاب أبي بكر الخطيب هو نحو من ألف وستمئة إال عشرة أي‪ :‬تقريبًا‪ 1590 ،‬يزيد قليال أو ينقص‪،‬‬
‫فهو أقل مما ذكر الشيخ بمئة‪ ،‬فهل يكون الع ّطار هو الذي حذفهم أو اندرجت بعض األسماء يف بعضها‬
‫أو أن هناك خطأ يف العدّ يف أحد الكتابين أما عند الشيخ أو يف المحقق الذي طبع كتاب ابن عطارا يف‬
‫تسمية الرواة عن مالك؛ طبعا الذي جمع رواة مالك‪ :‬ابن ناصر الدين الدمشقي‪ ،‬له كتاب جميل اسمه‬
‫«إتحاف السالك» ؛ ولكن هذا الكتاب (طبع أكثر من طبعه) لم يذكر كثيرا من رواة مالك‪ ،‬إنما ذكر نحوا‬
‫الستين والسبعين راويًا‪ ،‬لكنه يذكر من طريق كل واحد من هؤالء الرواة حديثا‪ ،‬ولذلك كرب حجم‬
‫بين ّ‬
‫هذا الكتاب‪.‬‬

‫ٍ‬
‫قريب من ثالثمئة سنة»‪.‬‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وهؤالء الذين اتصل إلى الخطيب حديثهم بعد‬

‫طبعا الرواة عن مالك هم أكثر من ذلك‪ ،‬فالرواة عن مالك ينقسمون إلى قسمين‪ :‬رواة للموطأ‪،‬‬
‫ورواة مطلقا‪ ،‬الذين نقلهم الخطيب الظاهر أهنم مطلق الرواة عن مالك‪ ،‬والذين نقلهم ابن ناصر الدين‬
‫إنما هم رواة الموطأ الذين رووا الموطأ‪ ،‬رووه كما هو‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬فكيف بِ َم ْن انقطعت أخبارهم أو لم يتّصل إليه ُ‬


‫خبرهم»‪.‬‬

‫أي‪ :‬هناك رواة ر ّبما لم يصل الخطيب خربهم أو أنه انقطعوا ممن روى عن الشخص وذهب وقد‬
‫ذكر كثير من األئمة أنه يحضر حالقته األلوف ثم نجد أن الذين ن ُِقل خربهم إنما هم بالمئني أو أقل من‬
‫ذلك‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬فإن الخطيب تويف سنة ‪462‬هـ»‪.‬‬

‫لعل يف الطبع تصحيف أو أن الشيخ يعتمد على ذهنه‪ ،‬فالذي يف كتب الرتاجم والمشهور فيها أن‬
‫‪62‬‬

‫الخطيب إنما تويف سنة ‪463‬ه‪.‬‬

‫وعصره هو عصر ابن عبد البر»‪.‬‬


‫ُ‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬‬

‫ابن عبد الربّ مات بعده يف نفس السنة تقريبا‪ ،‬أي‪ :‬الخطيب وابن عبد الرب ماتا يف سنة واحدة‪ ،‬ولذلك‬
‫يقولون‪ :‬ماتا حافظا المشرق والمغرب يف سنة واحدة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬والبيهقي والقاضي أبي يعلى وأمثال هؤالء»‪.‬‬

‫أيضا البيهقي والقاضي معاصرين لهم‪ ،‬فالبيهقي والقاضي توفيا يف سنة واحدة سنة ‪458‬ه‪ ،‬ولذلك‬
‫يقال‪ :‬ماتا أحيان مذهب الشافعي وأحمد يف سنة واحدة‪ ،‬يعنون به البيهقي وأبا يعلى بن الفراء‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وأمثال هؤالء»‪.‬‬

‫أي‪ :‬إن عصرهم واحد يف ذلك الوقت‪ ،‬مراد المصنف هبذا الكالم أن ابن عبد الرب ربما وقف على‬
‫رواة لم يقف عليهم الخطيب‪ ،‬وربما وقف البيهقي كذلك على رواة لم يقف عليهم الخطيب‪ ،‬ربما هذا‬
‫مراد مصنف‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ومالك تويف سنة ‪179‬هـ‪ ،‬وتوفين أبا حنيفة سنة ‪150‬هـ‪ ،‬وتوفين الشافعي سنة‬
‫‪204‬هـ‪ ،‬وتوفين أحمد سنة ‪241‬هـ‪ ،‬ولهذا قال الشافعي‪ :‬ما تحت أديم السماء كتاب أكثر صوابا‬
‫الشافعي»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بعد كتاب اهلل من «موطأ مالك»‪ ،‬وهو كما قال‬
‫أي‪ :‬حينما قال الشافعي هذه الكلمة لم يكن هناك قد ُألف كتاب يف الحديث أصح من هذا الكتاب‪،‬‬
‫ألن أهل السنن ك ّلهم‪ ،‬وقبل أهل السنن اإلمام أحمد سنا إنما جاؤوا بعد مالك‪ ،‬فهم بعد مالك‪ ،‬ولذلك‬
‫إنما قاله يف عصره‪ ،‬فكلمة الشافعي خاصة يف عصره ال مطلقا‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬وهذا ال يعارض ما عليه أئمة اإلسالم من أنه ليس بعد قرآن كتاب أصح من‬
‫صحيح البخاري ومسلم‪ ،‬مع أن األئمة على أن البخاري أصح من مسلم»‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ومن رجح مسلم فإنما رجحه بجمعه ألفاظ الحديث يف مكان واحد»‪.‬‬

‫المراد‪ :‬ألن البخاري ُي َق ّطع األحاديث‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬فإن ذلك أيسر على من يريد جمع ألفاظ الحديث»‪.‬‬

‫ولذلك يقولون‪ :‬إن بعض من جمع بين الصحيحين‪ ،‬كان يختار ألفاظ مسلم‪.‬‬
‫‪63‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬وأما من زعم أن األحاديث التي انفرد بها مسلم أو الرجال الذين انفرد بهم أصح‬
‫من األحاديث التي انفرد بها البخاري ومن الرجال الذين انفرد بهم فهذا غلط ال يشك فيه عالم»‪.‬‬
‫هذا مشهور يف المحاكمة بين الصحيحين‪ ،‬وقد ذكروا أن أهل المغرب يقدّ مون مسلمًا على‬
‫البخاري‪ ،‬وم ن قال من أهل المغرب إن تقديما مسلما على البخاري ألجل أنه قد احتج ببعض الرجال‬
‫فضل ألجل طريقتي يف‬
‫الذي لم يحتج هبم مسلم‪ ،‬ولم يحتج هبم البخاري هذا غير صحيح‪ ،‬وأنه إنما ّ‬
‫ِ‬
‫سرد األحاديث‪ ،‬وهناك كتب لمتقدمين ومعاصرين يف ذكر المحاكمة بين الكتابين‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬كما ال يشك أحد أن البخاري اعلم من مسلم بالحديث والعلل والتاريخ‪ ،‬وأنه أفقه‬
‫منه»‪.‬‬
‫وهذا واضح من كتبه‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬إذ البخاري وأبو داود أفقه أهل الصحيح»‪.‬‬

‫أي‪ :‬الذين ألفوا الصحيح و«السنن المشهورة»‪ .‬وال شك يف أن أبا داود من فقهاء المسلمين رحمهم‬
‫اهلل تعالى‪.‬‬

‫ِ‬
‫بعض ما انفر َد به‬ ‫مسلم أن ُي َر َّجح على‬
‫ٌ‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وإن كان قد يتّفق لبعض من انفرد به‬
‫البخاري‪ ،‬فهذا قليال»‪.‬‬
‫ّ‬
‫وهذا القليل ألف فيه بعض أهل العلم كابن مسعود الدمشقي والدارقطني والغساين وغيرهم‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬والغالب بخالف ذلك‪ -‬أعني تقديم البخاري على مسلم‪ -‬فإن الذي اتفق عليه‬
‫أهل العلم أنه ليس بعد القرآن كتابا أصح من كتا َب ْي البخاري ومسلم؛ وإنما كان هذان الكتابان كذلك‪،‬‬
‫ألنه ُج ِّرد فيهما الحديث الصحيح المسند»‪.‬‬
‫يقول‪ُ :‬قدِّ م البخاري ومسلم على الموطأ ألنه ليس فيهما إال الحديث‪ ،‬وليس فيهما شيء غير ذلك‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ولم يكن القصد بتصنيفهما‪ -‬أي البخاري ومسلم‪ -‬ذكر آثار الصحابة والتابعين‪،‬‬
‫وال سائر الحديث‪ -‬أي وال ذكر سائر الحديث‪ -‬من الحسن والمرسل ِ‬
‫وش ْبه ذلك»‪.‬‬
‫المراد بالحسن هو الذي ي يصلح لالحتجاج به كما ب ّين ذلك الشيخ تقي الدين وإن كان يف رواته‬
‫من فيه َو َغ َم َز‪ ،‬والمرسل واضح وقد ذكر الشيخ أن المرسل انعقد إجماع أهل العلم يف الجملة على‬
‫االحتجاج به بشرطه‪ ،‬على اختالف بين أهل العلم يف نوع شرطه‪.‬‬
‫‪64‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وال ريب إن ما ُج ّرد فيه الحديث الصحيح المسند عن رسول اهلل‪ ‰‬فهو‬
‫منقول عن المعصوم‪ ‰‬من الكتب المصنفة‪ ،‬وأما «الموطأ»‪ .‬ونحوه‬‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫الكتب‪ ،‬ألنه أصح‬ ‫أصح‬
‫فإنه ُصنّف على طريقة العلماء المصنّفين إذ ذاك؛ فإن الناس على عهد رسول اهلل‪ ‰‬كانوا‬
‫يكتبون القرآن‪ ،‬وكان النبي‪ ‰‬قد نهاهم أن يكتبوا عنه غير القرآن‪ ،‬وقال‪ :‬من كتب عنّي شيئًا‬
‫فليمح ُه‪ ،‬ثم ن ُِسخ ذلك عند جمهور العل ماء‪ ،‬حيث أذن يف الكتابة لعبد اهلل بن عمر وقال‪ :‬اكتبوا‬ ‫ُ‬ ‫غير القرآن‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ألبي شاها‪ ،‬وكتب لعمرو بن حزم كتابا‪ ،‬قالوا‪ :‬وكان النّهي أوال خوفًا من ا ْشت َباه القرآن بغيره‪ ،‬ثم َأ ِذن ّ‬
‫لما‬
‫غير ُه»‪.‬‬
‫أمن ذلك‪ ،‬فكان الناس يكتبون من حديث رسول اهلل‪ ‰‬ما يكتبون‪ ،‬وكتبوا أيضا َ‬
‫التأليف مر بعصو ر؛ فإنه قد هني عن الكتابة أوال ثم أذن هبا‪ ،‬قيل هذا منسوخا باألذن يف قوله‪ :‬اكتبوا‬
‫ألبا شاها‪ ،‬وقيل إنه ليس نسخا؛ وإنما هي علة قد زالت‪ ،‬وهو األمن‪ ،‬وقد أطال الخطيب البغدادي يف‬
‫كتابه «تقييد العلم» يف بيان توجيه هذا‪ ،‬وذكر أربع توجيهات أظن‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ولم يكونوا يصنّفون يف ذلك يف ٍ‬


‫كتب مصنّفة إلى زمن تابع التابعين»‪.‬‬

‫أي‪ :‬لم يكونوا يصنفون وإنما يذكرون صحفا‪ ،‬لهم صحفا مروية عن بعضهم‪ ،‬همام منبه عن أبي‬
‫هريرة له صحيفة وهي موجودة إلى اآلن‪ ،‬رواها الشيخان وغيرهم كأحمد‪ ،‬فتوجد صحف تكتب‪ ،‬لكن‬
‫تصنيف كتاب‪ :‬أول من صنف يف زمن تابع التابع‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬فصنِّف العلم‪ :‬فأول من صنّف ابن جريجٍ شيئا يف التفسير»‪.‬‬

‫وهذا التفسير جز ٌء منه كان يرويه عن مجاهد عن ابن عباس‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وشيئا يف األموات»‪.‬‬

‫أي‪ :‬المواريث‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وصنّف سعيد بن أبي عروبة وحماد سلمة ومعمر وأمثال هؤالء يصنّفون ما يف‬
‫الباب عن النبي‪ ‰‬والصحابة والتابعين»‪.‬‬
‫كتاب معمر موجود وهو الجامع رواه عن عبد الرزاق‪ ،‬وسعيد بن أبي عروبة وجد جزء يف حديثه‪،‬‬
‫وهل هو المقصود أم غيره؟ اهلل اعلم‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫‪65‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وهذه هي كانت كتب الفقه والعلم واألصول والفروع بعد القرآن‪ ،‬فصنّف مالك‬
‫«الموطأ» على هذه الطريقة»‪.‬‬
‫بمعنى أنه لم يجرد الحديث‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وصنف بعدُ عبد اهلل بن المبارك وعبد اهلل وهب ووكيع بن الجراح وعبد الرحمن‬
‫بن مهدي وعبد الرزّاق –الصنعاين‪ -‬وسعيد بن منصور‪ -‬صاحب السنن‪ -‬وغير هؤالء‪ ،‬فهذه الكتب التي‬
‫كانوا يعدونها يف ذلك الزمان هي التي أشار إليها الشافعي‪ ‬فقال‪ :‬ليس بعد القرآن كتاب أكثر‬
‫صوابًا من «موطأ مالك»‪.‬‬
‫فإن حديثه أصح من حديث نظرائه‪ -‬هذا كالم الشيخ تقي الدين‪ -‬قال‪« :‬فإن حديثه أصح من حديث‬
‫نظرائه»‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مالك ورأيه وحديث غيره ورأيهم؟‬ ‫لما سئل عن حديث‬
‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وكذلك اإلمام أحمد ّ‬
‫ورأيه على حديث أولئك ورأيهم‪ ،‬وهذا يصدّ ق الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن‬‫رجح حديثا مالكا َ‬ ‫ّ‬
‫الناس أكباد اإلبل يف طلب العلم فال يجدون عالما أعلم‬
‫ُ‬ ‫النبي‪ ‰‬أنه قال‪« :‬يوشك أن يض ِرب‬
‫ٍ‬
‫واحد كابن ُجريج وابن عيينة وغيرهما‪ :‬إنهم قالوا‪ :‬هو مالك»‪.‬‬ ‫من عالم المدينة»‪ ،‬فقد روي عن غير‬
‫هذا الحديث رواه الرتمذي ونقل هو عن ابن جريج وابن عيينة وعبد الرزاق أهنم قالوا‪ :‬إن هذا‬
‫الحديث يف مالك‪ ،‬رواه الرتمذي ونقل هذا النقل يف السنن‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬والذين نازعوا يف هذا‪ -‬أين يف تنزيل هذا الحديث على مالك‪ -‬لهم مأخذين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬الطعن يف الحديث‪ ،‬فزعم بعضهم أن فيه انقطاعًا»‪.‬‬
‫لم يذكر المصنف أظن بعد ذلك ما هو الطعن يف الحديث؟ هذا الحديث رواه مالك وغيره من‬
‫طريق‪ :‬ابن جريج عن أبي الزبير عن أبي صالح عن أبي هريرة‪ ،‬وقد ُذكر أن َ‬
‫ابن جريج وأبا الزبير كالهما‬
‫ٍ‬
‫الختالف يف رواية هذا الحديث‪ :‬إرسال واتصال‪ ،‬هذا هو‬ ‫متهم بالتدليس‪ ،‬فقد يقال‪ :‬إن فيه انقطاعا‪ ،‬نظرا‬
‫االنقطاع الذي قصده المصنف‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬والثاين‪ :‬إنه أراد‪ -‬أي أن النبي‪ ‰‬أراد بهذا الحديث‪ -‬غير مالك‪،‬‬
‫كال ُع َمرِ ّ‬
‫ي الزاهد ونحوه»‪.‬‬
‫المراد بالعمري‪ :‬عبد العزيز بن عمر‪ ،‬وهو من ذرية عمر بن الخطاب ‪ ،‬وقد ذكر الرتمذي يف‬
‫السنن عن عبد الرزاق أنه قيل‪ :‬إنه نقل عن ابن عيينة أن أنه قال مرة إنه العمري هو المراد‪ ،‬فابن عيينة له‬
‫‪66‬‬

‫قوالن‪ :‬قال‪ :‬إنه العمري‪ ،‬وقال‪ :‬إنه مالك‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬فيقال ما ّ‬


‫دل عليه الحديث وأنه مالك أمر معلوم‪ ،‬هذا لمن كان موجود ًا‪ ،‬وبالتواتر‬
‫مالك أحد ضرب إليه الناس أكباد اإلبل أكثر من ٍ‬
‫مالك‪،‬‬ ‫عصر ٍ‬‫ِ‬ ‫ريب أنه لم يكن يف‬
‫لمن كان غائبًا؛ فإنه ال َ‬
‫يقر ُر بوجهين‪ :‬أحدهما‪ :‬بطلب تقديمه على مثل‪ :‬الثوري واألوزاعي والليث وأبو حنيفة‪ ،‬وهذا فيه‬ ‫وهذا ّ‬
‫نزاع‪ ،‬وال حاجة إليه يف هذا المقام‪.»،‬‬
‫ٌ‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ :‬أي‪ :‬إن مالكا يصدق عليه هذا الحديث ألنه كثر قصد الطالب إليه‪ ،‬يكفي أن‬
‫الخطيب البغدادي نقل نحو من ألف وسبعمائة راو عن مالك‪ ،‬ثم ذكر الشيخ أن تفضيال مالكا وقصدا‬
‫هبذا الحديث أي‪ :‬يقرره بعض أصحاب مالك من جهتين‪:‬‬
‫‪ ‬الجهة األولى‪ :‬أهنم كانوا يفضلون شخصه على أشخاص بأعياهنم يف عصره‪ :‬كالثوري واألوزاعي‬
‫والليث وأبي حنيفة‪ .‬قال المصنف‪ :‬إن هذا فيه نزاع بين الناس وال حاجة إليه يف هذا المقام‪ ،‬ألن الناس‬
‫ُجبِلوا على التعصب لألشخاص‪ ،‬فاألفضل أن ال يفضل األشخاص فيما بينهم وإنما ينظر لألصول‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬والثاين‪ :‬إن يقال إن مالكي تأخر موته عن هؤالء كلهم؛ فإنه تويف سنة تسع وسبعين‬
‫ومئة‪ ،‬وهؤالء كلهم ماتوا قبل ذلك‪ ،‬فمعلوم أنه بعد موت هؤالء لم يكن يف األمة اعلم من ٍ‬
‫مالك يف ذلك‬ ‫ٌ‬
‫العصر»‪.‬‬
‫وهذا استدالل أجود من استدالل التفصيل األول الذي ذكر الشيخ أنه ال حاجة إليه‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وهذا ال ينازع فيه أحد من المسلمين‪ ،‬وال رحل إلى أحد من علماء المدينة ما‬
‫رحل إلى مالك‪ ،‬ال قبله وال بعده‪ ،‬رحل إليه من المشرق والمغرب»‪.‬‬
‫يكفي أنه يحيى بن يحيى الليثي أبي وابن زياد رحل إليه من األندلس‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬ورحل إليه الناس على اختالف طبقاتهم‪ :‬من العلماء والزهاد والملوك والعامة‪-،‬‬
‫وهذا ليس ألحد مثل مالك‪ -‬وانتشر موطأة يف األرض‪ -‬يف حياته‪ -‬حتى ال يعرف يف ذلك العصر كتاب‬
‫بعد القرآن كان أكثر انتشارا من الموطأ‪ ،‬وأخذ الموطأ عنه أهل الحجاز والشام والعراق‪ ،‬ومن أصغر من‬
‫أخذ عنه الشافعي ومحمد بن الحسن وأمثالهما‪.»،‬‬
‫طبعا من أصغر وليس هم األصغر على اإلطالق‪.‬‬

‫تمتلئ داره»‪.‬‬
‫ُ‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وكان محمد بن الحسن إذا حدّ ث بالعراق عن مالك والحجازيين‬

‫يدلنا ذلك على انتشار أو رغبة أهل العراق بحديث الحجازيين‪.‬‬


‫‪67‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وإذا حدث عن أهل العراق يقل الناس»‪.‬‬

‫ألنه موجود عندهم‪ ،‬بل ربما وجدوه بإسناد أعلى‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬لعلمهم بأن علما مالكا وأهل المدينة أصح واثبت»‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وأجل من أخذ عنه الشافعي العلم اثنين‪ٌ :‬‬


‫مالك وابن عيينة‪ -‬مالك مدين وابن عيينة‬
‫مكي‪ -‬ومعلوم عند ِّ‬
‫كل أحد أن مالكًا أجل من ابن عيينة‪ ،‬حتى أنه كان يقول‪ -‬أي ابن عيينة‪ :-‬إين ومالك‬
‫كما قال القائل‪:‬‬
‫صو َل َة َا ْل َب ْول القناعي»‪.‬‬
‫يستطع ْ‬
‫ْ‬ ‫وابن البون إذا ما َل ِز َم يف َق َر َن * * * لم‬
‫هذا البيت مشهور جد ًا لجرير ويسمونه‪َ :‬ق ْرن َْي جرير‪ ،‬ابن البون‪ :‬هو ابن الناقة الصغير‪ ،‬إذا َل ِز َم‪ :‬أي‪:‬‬
‫ربط‪ ،‬يف قرن‪ :‬أي‪ :‬يف حبل‪ ،‬لم يستطع صولة البول القناعي‪ :‬أي‪ :‬اإلبل كبيرة السن التي تكون قد جاوزت‬
‫سنا كبيرا وهي فحول‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ومن زعم أن الذي ضربت إليه أكباد اإلبل يف طلب العلم هو العمري الزاهد مع‬
‫كونه كان رجل صالح زاهد آمر بالمعروف نهيا عن المنكر لم يعرف أن الناس احتاجوا إلى شيء من‬
‫علمه وال رحلوا إليه فيه‪ ،‬وكان –العمري‪ -‬إذا أراد أمرا يستشير مالكا ويستفتيه‪ ،‬كما ن ُِقل‪ -‬عن العمري‪-‬‬
‫أنه استشاره‪ -‬مالكا‪ -‬لما كُتِب إليه من العراق أن يتولى الخالفة‪ ،‬فقال‪ :‬حتى أشاور مالكًا‪ ،‬فلما استشاره‬
‫أشار عليه أال يدخل يف ذلك‪ ،‬وأخبره أن هذا ال يتركه ولد العباس حتى تراق فيه دماء كثيرة‪ ،‬وذكر له ما‬
‫ول القاسم بن محمد‪ :‬إن بني أمية ال يدعون هذا األمر حتى تراق فيه‬‫ذكره عمر بن عبد العزيز لما قيل له‪ِّ :‬‬
‫دماء كثيرة»‪.‬‬
‫كثيرا جدً ا‪ ،‬ولذلك كان ذا رأي عظيم وعقل‪ ،‬وصلى اهلل‬ ‫ٌ‬ ‫ٍ‬
‫ومالك أويت عقال ً‬ ‫مالك‪،‬‬ ‫وهذا من عقل‬
‫وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين (‪.)1‬‬

‫‪¹‬‬

‫(‪ )1‬هناية الدرس الثالث‪.‬‬


‫‪68‬‬

‫﷽‬
‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬واشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬واشهد أن محمدً ا عبد اهلل‬
‫ورسوله صلى اهلل عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين‪.‬‬
‫ُث َّم ّأما َب ْعد‪:‬‬
‫فهذا هو اللقاء الرابع يف شرح رسالة الشيخ تقي الدين أبي العباس أحمد ابن عبد الحليم ابن تيمية‬
‫‪ ‬يف «صحة أصول مذهب أهل المدينة»‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ويقول هذا أحسن ما سمعت»‪.‬‬

‫ولذلك فإن مالكا ن ُِقل عنه أنه خالف بعض أهل المدينة يف بعض المسائل كما يف «الموطأ»‪.‬‬
‫ٍ‬
‫معروفة عند علماء المدينة‪ ،‬ولو ُقدّ ر أنه كان يف األزمان المتقدمة من هو‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪َ « :‬و َأ َّما بآثار‬
‫اتبع لمذهب أهل المدينة من ٍ‬
‫مالك فقد انقطع ذلك»‪.‬‬
‫هذه الجملة أتى هبا الشيخ يقول‪ :‬إنه لو قدر أنه يف عصر مالك من الطبقة الثالثة اتباع التابعين من هو‬
‫ممن كان يف الطبقة‪ ،‬ومثل‬
‫أعلم بمذهب أهل المدينة‪ ،‬وقد سميت بعضهم‪ :‬كابن الماجشون وغيرهم ّ‬
‫ربيعة بن أبي عبد الرحمن من الطبقة الثانية وأصحاب مالك الكثير؛ فإن هؤالء قد انقطع علمهم أما بعدم‬
‫يبق من كتابه إال جزء صغير طبع‬
‫نقله عنهم أو أن كانوا قد ألفوا مصنفات قد ذهبت‪ ،‬وابن الماجشون لم َ‬
‫مؤ خرا والباقي هو مفقود أو يف حكم المفقود‪ ،‬ومن اللطائف أنه نقل أن اإلمام مالك قال‪ :‬إن أنجب من‬
‫كان عند ربيعة ابن أبي عبد الرحمن أربعة‪ :‬فأما أحدهم فمات صغيرا وسماه‪ ،‬وأما الثاين‪ :‬فسكن يف غير‬
‫أمصار‪ -‬أي سكن يف منطقة نائية‪ -‬وكان يف مصر كما نقل عنه‪ ،‬ومات ولم ينقل العلم عنه‪ ،‬وأما الثالث‪:‬‬
‫وسماه كذلك‪ ،‬فقد انشغل بالدنيا فدخل مع السالطين واشتغل هبذه األغاليط‪ -‬أي بمذهب أهل العراق‬
‫لما ذهب وسكن العراق‪ ،-‬وسكت أن يسمي الرابع‪ ،‬قال الراوي عنه‪ :‬ولعله يقصد نفسه‪ ،‬وهذا الخرب‬
‫الذي نقل يف ترجمة ما لك يدلنا على أن مالكا هو من أشهر وأجل من ن ُِقل عنه علم أهل المدينة‪ ،‬فقد ذكر‬
‫أهنم أربعة كانوا ُأ َم َّيز من نقل أو حضر عند ربيعة ابن أبا عبد الرحمن وهو فقيه المدينة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مالك مخالفته أوال ألحاديثهم يف بعض‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ولسنا ننكر أن من الناس من أنكر على‬
‫المسائل»‪.‬‬
‫أي‪ :‬إن مالكا ُأنْكِر عليه يف حياته أنه خالف بعض األحاديث التي رواها أهل المدينة‪ ،‬وم ّثل لذلك‪.‬‬
‫‪69‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬كما ُي ْذكَر عن عبد العزيز الدّ راوردي أنه قال له يف مسألة تقدير المهر بنصاب‬
‫السرقة»‪.‬‬
‫أي‪ :‬إن مالكا ق ّيد أقل ما يصح أن يكون مهر بما يكون نصاب تقطع فيه اليد يف السرقة‪.‬‬
‫فقال‪ « :‬تعرقت يا أبا عبد اهلل» ‪ -‬أي ِصرت عراقيا‪.-‬‬

‫العراق الذين ُيقدرون اِ ْق ِل المهر بنصاب السرقة‪،‬‬


‫ِ‬ ‫صرت فيها إلى قول أهل‬
‫َ‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬أي‪:‬‬
‫لكن‪ -‬وهذا من كالم الشيخ أيضا‪ -‬لكن النصاب عند أبي حنيفة وأصحابه عشرة دراهم‪ ،‬وأما مالك‬
‫فالنصاب عندهم ثالثة دراهم»‪.‬‬
‫ُ‬ ‫والشافعي وأحمد‬
‫أي‪ :‬إن الدراوردي لما قال لمالك‪ :‬إنك قد تعرفت أي‪ :‬وافقت الحنفية يف أصلهم؛ ألن الحنفية‬
‫عندهم قاعدة دائما أهنم‪ :‬يضبطون بالمتناظرات ويتوسعون يف هذه القاعدة كثيرا ِجدًّ ا‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪َ « :‬و َأ َّما مالك والشافعي وأحمد فالنصاب عندهم ثالثة دراهم أو ربع دينار‪ ،‬كما‬
‫قصة إنكار عبد العزيز الدراوردي على مالك‪ -‬أوال‪ :‬إن‬
‫الصحاح‪ ،‬فيقال‪ -‬أي عن ّ‬
‫جاءت بذلك األحاديث ّ‬
‫للرجل أن‬
‫مثل هذه الحكاية تدل على ضعف أقاويل أهل العراق عند أهل المدينة‪ ،‬وأنهم كانوا يكرهون ّ‬
‫يوافقهم»‪.‬‬
‫أي‪ :‬يقول إن هذه القصة تدلنا على ما أصلناه سابقا أن أهل المدينة فضلهم وعلمهم ُمقدم على علم‬
‫أهل العراق‪ ،‬وهذا ما ذكره الشيخ‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وهذا مشهور عندهم يعيبون الرجل بذلك»‪.‬‬

‫أي‪ :‬إذا أرادوا أن يعيبوا الرجل قالوا‪ :‬إنه عراقي‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬كما قال ابن عمر لمن استفتاه عن دم البعوض»‪.‬‬

‫الم ْحرم أو يقتله‬


‫قصة ابن عمر هذه مشهورة يف الصحيح‪ ،‬لما سأله رجال عن دم البعوض يصيب ُ‬
‫الم ْحرم‪ ،‬فقال ابن عمر ‪ : ‬أهل العراق يسألون عن دم البعوض وقد قتلوا ابن بنت رسول اهلل‬
‫ُ‬
‫‪ ، ‰‬فقوله‪ :‬أهل العراق‪ ،‬هذا دل على أنه وصف مذمة عند علماء المدينة وعلى رأسهم‬
‫أصحاب رسول اهلل ‪‰‬كابن عمر‪.‬‬

‫لما سأله عن ع ْق ِل أصابع المرأة‪.»،‬‬


‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وكما قال ابن المسيب لربيعة ّ‬
‫وذلك أن ربيعة سأل سعيد بن المسيب عن الدية يف من قطع أصبع امرأة فقال‪ :‬فيها عشر من اإلبل‪،‬‬
‫‪70‬‬

‫ثم سأله عن قطع أصبعين فقال‪ :‬فيها عشرون من اإلبل‪ ،‬قال‪ :‬فإن انقطع ثالثة‪ ،‬قال‪ :‬فإن فيها ثالثين من‬
‫اإلبل‪ ،‬قال‪ :‬فإن انقطع أربعة قال‪ :‬انقطع فيها أربعة ففيها عشرون من اإلبل‪ ،‬قبل أن أجيب عن كالم ربيعة‬
‫اشرح ذلك‪ ،‬لما قطع ثالثة من األصابع فيها ثالثين‪ ،‬لما قطع أربعة صار فيها عشرون من اإلبل؛ ألن‬
‫القاعدة‪ :‬إن دية المرأة كدية الرجل إذا كان دون ثلث الدية‪ ،‬فإذا زاد عن ثلث الدية أصبحت دية المرأة‬
‫على نصف دية الرجل؛ ولذلك لما قطع أربع أصبعا نقص إلى النصف فأصبح عشرون من اإلبل كدية‬
‫األصبعين‪ ،‬لما قال ذلك سعيدا قالت ربيعة‪ :‬لما زاد جرحها َّ‬
‫قل عقلها‪ ،‬أنكر عليه ابن المسيب وقال‪ :‬يا‬
‫ابن أخي إنما هي السنة‪ ،‬وإن هذه إنما هي من أسئلة أهل العراق أو نحو مما قاله سعيد‪.‬‬
‫‪ ‬قال ال صنف‪« :‬وأما ثان‪ -‬أي من قصة الدراوردي‪ -‬فمثل هذا يف قول ٍ‬
‫مالك قليل جدا»‪.‬‬ ‫م‬
‫تعمد الخطأ مع العلم بالحديث الصحيح قليل يف مذهب مالك‪ ،‬ومذهب أهل‬
‫أي‪ :‬إن وجود أو ّ‬
‫المدينة عموما‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وما من عال ٍم إال وله ما ُي َر ُّد عليه»‪.‬‬

‫قال مالك‪ :‬ما من أحد إال ويؤخذ من قوله ويرد إال صاحب هذا القرب‪ ،‬أي‪ :‬نبينا محمد ‪.‰‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وما أحسن ما قال ابن خويز منداد»‪.‬‬

‫وهو إحدى المالكية يف آخر القرن الرابع أول الخامس‪.‬‬


‫ٍ‬
‫مالك‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬يف مسألة بيع كتب الرأي واإلجارة عليها‪ :‬ال فرق عندنا بين رأي صاحبنا‬
‫وغيره يف هذا الحكم‪ ،‬لكنّه اِ ْق ِل خطأ من غيره»‪.‬‬
‫ُ‬
‫ونقل الشيخ هذا يدلنا على أن أمرا مهما نريد أن نبينه‪ ،‬وهو أن الشيخ عندما يتكلم عن هذه األمور‬
‫فهي ليست يف الغالب مبن ّية على تحليل وظ ّن بقدر ما هو مسبوق لكثير من هذه األمور وإنما رتبها مع‬
‫سريعة علم واطالع‪ ،‬استطاع أن يحسن ترتيبها يف سياق معين‪ ،‬ولذلك‪ -‬هنا استطراد‪ -‬هذه الرسالة التي‬
‫معنا وهي رسالة‪ :‬صحة أصول مذهب أهل المدينة‪ ،‬هي تعترب يف الحقيقة من أجود ما كتب يف تاريخ‬
‫الفقه يف القرون الثالثة‪ ،‬ال أعلم أن أحدا كتب يف تاريخ الفقه هبذه الدقة‪ ،‬وهبذا الفهم الدقيق وخاصة‬
‫لمذهب أهل المدينة‪ ،‬المعاصرون أولعوا وخاصة من كتاب الثعالبي بالفكر السامي وما بعده بالحديث‬
‫عن تاريخ الفقه حتى أصبح مادة تدرس يف أغلب كليات الشريعة‪ ،‬والحقيقة أن مما َغ َف َل عنه تقسيم الفقه‬
‫يف القرون الثالثة عما بعد القرون الثالثة‪ ،‬فيجب أن أبين أن الفقه يف القرون الثالثة له ميزة يف حديث‬
‫أيضا يدل عليه‪ ،‬وهذه الرسالة يدل عليه‪ ،‬ومن أحسن الحقيقة هذه الرسالة حسب علمي‬
‫النبي‪ ،‬والواقع ً‬
‫‪71‬‬

‫وفوق كل ذي علم عليم‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وأما الحديث فأكثره تجدُ مالكًا قد قال به يف إحدى الروايتين»‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مالك نفسه أنه قال‬ ‫أي‪ :‬يقول إن مالكا إذا نُقل عنه أنه خالف حديثا فأغلب المسائل نجد عن‬
‫ب الحديث إذا كان له ظاهر يف إحدى الروايتين المنقولتين عنه‪ ،‬وإن كان أصحاب مالك بعد ذلك قد تركوا‬
‫الرواية التي قال فيها مالك بالحديث وانتقلوا للرواية األخرى؛ ولذلك قال‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وإنما تركه طائفة من أصحابه»‪.‬‬


‫ٍ‬
‫مالك وبين مذهب أصحابه‪ ،‬وهذا موجود يف المذاهب األربعة‬ ‫كأن الشيخ يشير للتفريق بين مذهب‬
‫جميعا؛ فإن المذاهب األربعة هناك فرق بين مذهب اإلمام ومذهب أصحابه‪ ،‬سبق معنا يف الدرس‬
‫الماضي أنه قيل‪ :‬إن أبا حنيفة خالفه صاحبيه‪ :‬أبو يوسف ومحمد بن الحسن يف ثلثي المذهب‪ ،‬مثله يقال‬
‫عند الشافعية‪ :‬الشافعية تقرأ يف كتبهم فتجد كثيرا المنصوص والمذهب‪ ،‬فيفرقون بين المنصوص‬
‫والمذهب‪ ،‬حتى يف كتب األصول ويكفي أن ُي ْقرأ يف قال المصنف‪« :‬الربهان»‪ .‬ويف قال المصنف‪:‬‬
‫«المستصفى»‪ .‬ترى كثيرا من المسائل األصولية التي تتبعها إمام الحرمين وأبي حامد الغزالي‪ ،‬تتبعان فيها‬
‫الشافعي يف أصول الفقه؛ ولذلك الصاحب قد يخالفون المذهب‪ ،‬وقد أشرت يف بعضها سابقا وسيأيت‬
‫بعضها كذلك‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وإنما تركه طائفة من أصحابه كمسألة رفع اليدين عند الركوع والرفع منه»‪.‬‬

‫مسألة‪ :‬رفع اليدين عند الركوع والرفع منه‪ ،‬هل ترفع اليدان عندها أم ال؟ فيها قوالن عن مالك‬
‫وأصحابه‪ ،‬فيها روايتان من مذهب مالك‪:‬‬
‫‪ ‬الرواية األولى‪ :‬فقيل‪ :‬أنه ال ترفع اليدين وهذا الذي اشتهر عن المالكية يف كتبهم وأقوالهم‪.‬‬
‫‪ ‬الرواية الثانية‪ :‬عن مالك أنه ترفع اليدين وفاقا لحديث ابن عمر وحديث أبي حميد الساعدي‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وأهل المدينة رووا عن مالك الرفع موافقًا للحديث الصحيح الذي رواه»‪.‬‬

‫ألنه روى الحديث وأهل المدينة نقلوا عنه ذلك‪ ،‬وهذه رواية منقولة حتى يف كتب المالكية‪.‬‬

‫هم الذين قالوا بالرواية األولى»‪.‬‬


‫ونحو ُه من المصريين ُ‬
‫َ‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬لكن ابن القاسم‬
‫أي‪ :‬عدم الرفع‪ ،‬والروايات التي ن ُِقلت عن ٍ‬
‫مالك‪َ ،‬ن َقل ابن رشد أهنا ثالث روايات‪:‬‬
‫‪72‬‬

‫‪ ‬الرواية األولى‪ :‬هي الموجودة يف المدونة‪ ،‬وأن مالكًا كرهها‪ ،‬وهذه هي المذهب المشهور عند‬
‫كثير من المتأخرين‪.‬‬
‫‪ ‬الرواية الثانية‪ :‬نقلها بعض المصريين كأشهب‪ ،‬ونقل عنه أنه استحسنها ورأى تركها واسعا‪.‬‬
‫أيضا نقلها بعض المصريين كابن وهب وهو من أوثق أصحابه ضبطا ونقال‪ ،‬ذكر‬
‫‪ ‬الرواية الثالثة‪ً :‬‬
‫عن مالك أن اليدين ُترفعان ولم يذكر يف ذلك سعة يف تركها‪.‬‬
‫هذه الثالث روايات منقولة ع ن مالك؛ ولكن مذهب المدونة هي التي نقلها ابن القاسم وسيأيت‬
‫الحديث عن المدونة بعد قليل‪.‬‬

‫ُ‬
‫مسائل‬ ‫مدونة ابن القاسم‪ -‬هو عبد الرحمن بن قاسم المصري‪ -‬أصلها‬
‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ومعلوم أن ّ‬
‫ابن القاسم فأجابه بالنقل عن مالك تارةً‪ ،‬وتار ًة‬
‫أسد بن الفرات التي ّفرعها أهل العراق‪ ،‬ثم سأل عنها أسد َ‬
‫بالقياس على قوله‪ ،‬ثم أصحها ما يف رواية سحنون»‪.‬‬
‫هذا الكالم الذي نقله الشيخ تقي الدين‪ ،‬هذا مشهور ِجدًّ ا يف كالم المالكية‪ ،‬ومن أشهر من ينقل عنه‬
‫ذلك أبو الوليد بن رشد؛ فإن أبا الوليد ذكر يف كتابه قال المصنف‪« :‬المقدمات»‪ .‬يف أوله‪ :‬إن أسد بن‬
‫الفرات كان يف أول أمره على مذهب أهل العراق‪ ،‬إذ أسد كان ُيدَ ّرس حتى يف آخر حياته بطريقة أهل‬
‫العراق وطريقة المدنيين كما ن ُِقل يف ترجمته‪ ،‬فقد درس المذهبين‪ :‬مذهب أهل العراق ومذهب أهل‬
‫ودرس المذهبين معا‪ ،‬فابن رشد ذكر أن ابنا أسد بنا فرات كان أوال على مذهب أهل العراق‪ ،‬ثم‬
‫المدينة‪َّ ،‬‬
‫أنه قد كتب مسائلهم وتفاريعهما وأسئلتهم‪ ،‬فأخذ األسئلة وحدها فقط وقدم هبا للمدينة اإلمام مالك‬
‫‪ ‬ويجعلها على مذهب أهل المدينة‪ ،‬فأتى المدينة وقد تويف مالك‪ ،‬فأتى هبذه األسئلة ألشهب‪،‬‬
‫فلما أتى أشهب وجد أن أشهب يقول يف درسه‪ :‬أخطأ مالك يف مسألة كذا وأخطأ يف مسألة كذا‪ ،‬فكأنه لم‬
‫يرتض قوله فيه‪ ،‬وذكر كالما يف أشهب أي‪ :‬مشهور ِجدًّ ا‪ ،‬انتقل بعد‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يرتض هذه الطريقة من أشهب ولم‬
‫ذلك البن قاسم‪ ،‬فذكر أبي الوليد أنه أتى أبو ابن القاسم‪ -‬عبد الرحمن بن القاسم‪ -‬فرغب إليه بأن يسأله‬
‫عن األسئلة التي سأل عنها أهل العراق‪ ،‬فتمنّع أوال‪ ،‬فلم يزل به حتى شرح اهلل صدر ابن القاسم له‪،‬‬
‫فجعل يسأله مسألة مسألة‪ ،‬حتى قيل إن أنه كتب عنه علما كثيرا وجلس عنده مدة طويلة‪ ،‬ذكر ابن رشد أن‬
‫ابن القاسم أن ما كان عنده سماع عن مالك فإنه يقل‪ :‬سمعت مالكا يقول كذا‪ ،‬وما لم يكن عنده عن‬
‫مالك فيه سماع وإنما فيه بالغ‪ ،‬أي‪ :‬بلغه عن مالك فيقول‪ :‬لم أسمع من مالك شيئا وإنما بلغني عنه أنه‬
‫قال فيها كذا‪ ،‬وما لم يكن عند ابن القاسم سماع وال بالغ‪ ،‬فإنه يقل لم أسمع ولم يبلغني عن مالك شيء‬
‫والذي أراه فيها كذا‪ ،‬هذا الذي حدث مع أسد بن فرات ونقله أبو الوليد‪ ،‬طب ًعا قبل أن نذكر ما الذي‬
‫‪73‬‬

‫حدث مع سحنون‪ ،‬ذكر بعض المالكية من المتقدمين أن عبد الرحمن بن القاسم يختلف عن غيره من‬
‫الرواة أنه كان ينقل مذهب مالك بالمعنى ال بالنص‪ ،‬أشاروا لذلك‪ ،‬طب ًعا على نزاع بينهم يف هذا‪ ،‬وال‬
‫شك أنه ثقة‪ ،‬لكن الرواية بالمعنى مقبولة حتى يف رواية الحديث‪ ،‬فال مانع أن يكون قد روى أقوال مالك‬
‫كذلك‪ ،‬وال ينازع ذلك أو يقدح ذلك يف ثقته؛ ولكن هذا ُو ِجد يف أكثر من كتاب من كتب المالكية‬
‫ٍ‬
‫مالك أحيانا‬ ‫المتقدمين عندما ُيقدمون غيره يذكرون أن عبد الرحمن بن القاسم كان ينقل أو يذكر قول‬
‫بالمعنى ال بالنص‪ ،‬طب ًعا ثم أن سحنون هذا لما أخذ هذا كله ذهب إلى المغرب فجاء سحنون اسمه عبد‬
‫السالم‪ ،‬فاراد أن يأخذ هذه المسائل من أسد بن الفرات فامتنع منه أسد وأن يحدث هبا‪ ،‬فانتسخها بحيلة‬
‫ما‪ ،‬ثم رحل هبا إلى عبد الرحمن بن القاسم فقرأها عليه‪ ،‬فعبد الرحمن بن القاسم بعد ذلك رجع عن‬
‫وصحح بعضها وغ ّير يف بعضها‪ ،‬وهذا معنى قول المصنف‪« :‬ثم اِ ْص َل َها»‪ ،‬أي‪ :‬إنه‬
‫ّ‬ ‫بعض من هذه المسائل‬
‫صححها كثيرا يف رواية سحنون عن مالك‪ ،‬طب ًعا وهذه المدونة التي بين أيدينا زا َد فيها سحنون بعض‬
‫األشياء عن غير ابن القاسم‪ ،‬مثل نقله بعض األشياء عن ابن وهب وعن غيره‪ ،‬طب ًعا يذكرون أن ابن‬
‫القاسم كتب إلى أسد بن الفرات‪ :‬إن أرجع إلى نسخة سحنون أو كتاب سحنون فصحح به نسختك‬
‫ّ‬
‫فكأن أسدا أنف من ذلك وأبى‪ ،‬ويذكرون والعلم عند اهلل ‪ :‬إن ابن القاسم دعا عليه أن ال يبارك له‬
‫فيها‪ ،‬فلذلك لم تنقل عنه والعلم أن اهلل ‪ ،‬هذا معنى كلمة الجملة التي نقلها الشيخ يف ذكر المدونة‪.‬‬

‫ِ‬
‫الميل إلى أقوال أهل العراق‪ ،‬وإن لم يكن‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬فلهذا يقع يف كالم ابن القاسم طائف ٌة من‬
‫ذلك من أصول أهل المدينة»‪.‬‬
‫هذا الكالم يف الحقيقة جميل ِجدًّ ا‪ ،‬ويتعلق بما يف المدونة أن ابن القاسم ربما أتى بأشياء أخذها من‬
‫أهل العراق ولم يأخذها من مالك‪ ،‬ألنه نقل أشياء عن غير مالك‪ ،‬تقدم معنا أما اجتهاد‪ ،‬وخاصة أنه سمع‬
‫هذه األسئلة فربما وقعت يف نفسه‪ ،‬مثل ما قيل‪ :‬أتاين هواها قبل أن أعرف الهواء‪ ،‬وهذا الكالم الذي قاله‬
‫الشيخ تقي الدين قاله قبله جماعة من أهل العلم المحققين؛ فإن ممن قال ذلك القاضي عبد الوهاب‬
‫واألهبري وابن َا ْل ِق َصار‪ ،‬وهذا النقل الذي نقلته عنه نقله أبو محمد بن عبد السالم التونسي يف شرحه‬
‫لس ْلم‪ ،‬فقد ذكر ابن عبد السالم أن ظاهرا ما يف المدونة أنه‬
‫لمختصر ابن الحاجب المطبوع يف آخر كتاب َا ِّ‬
‫ا يشرتط ذكر جنس المبيع يف السلم بالكلية‪ ،‬قال‪ :‬وأنكر األهبري وابن القصار وعبد الوهاب ما وقع يف‬
‫المدونة‪ ،‬وزعم بعضهم أن هذه المسألة إنما هي من كالم الحنفية؛ ألن أسد بن الفرات سألهم أوال ثم‬
‫أخذا بمذهب مالك وان أسد بن الفرات أبقاها يف المدونة‪ ،‬طب ًعا ر ّد ذلك بناء على أن أسدا وسحنون‬
‫ثقات‪ ،‬وهذا ال يعارض ثقتهما رحمهما اهلل تعالى‪ ،‬فالمقصود أن كالم الشيخ تقي الدين هذا الذي قاله‬
‫واحدة من اثنتين‪:‬‬
‫‪74‬‬

‫‪ -‬إما أن يكون قد وقف على كالم هؤالء العراقيين يف ذلك وهذا ليس بعيد‪ ،‬والظاهر من كالم الشيخ‬
‫أنه ُي َق ّوي طريقة العراقيين على طريقة المغاربة من أصحاب مالك وهذا واضح ِجدًّ ا يف كالمه‪ ،‬وتعظيمه‬
‫للعراقيين من أصحاب مالك كاألهبري وابن القصار والقاضي عبد الوهاب رحمهم اهلل تعالى‪.‬‬
‫‪ -‬وإما أن يكون هذا من فهمه الذي وافق فهم األكابر من أصحاب مالك‪.‬‬
‫ويف كال االثنتين يشهد له بسعة االطالع وحسن الفهم؛ ولذلك ُيشهد للشيخ تقي الدين باإلمامة يف‬
‫الدين ‪.‬‬
‫‪ ‬قال ال صنف‪« :‬ثم اتّفق أنه لما انتشر مذهب ٍ‬
‫مالك باألندلس وكان يحيى بن يحيى»‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫م‬
‫مراده بيحيى بن يحيى الليثي‪ ،‬كان عامل األندلس‪ :‬له مكانة كبيرة ِجدًّ ا‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬والوالة يستشيرونه»‪.‬‬

‫طب ًعا لم ي ِل القضاء يحيى‪ ،‬وكان يأنف من ذلك‪ ،‬وإنما كان يع ّين القضاة‪ ،‬فكان القضاة هم تالمذته‪،‬‬
‫ولكن لم ي ِل يحيى القضاء‪ ،‬وان وليه فلفرتة قصيرة‪.‬‬

‫يقضوا إال بروايته عن مالك»‪.‬‬


‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬فكانوا يأمرون القضا َة أال ُ‬

‫أي‪ :‬برواية يحيى بن يحيى ويقدموهنا على غيره‪ ،‬وهذا هو األكثر‪ ،‬طب ًعا روايته‪ :‬الضمير يعود البن‬
‫القاسم‪ ،‬فكانوا يأمرون بأن ال يقضون إال برواية ابن القاسم عن مالك‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ثم رواية غيره»‪.‬‬

‫طب ًعا ألن يحيى بن يحيى روايته يف غير الموطأ قليلة‪ ،‬طب ًعا يحيى بن يحيى من قضائه أو من اجتهاده‬
‫الذي خالف المشهور عند المالكية وهي مسألة القضاء باليمين والشاهد‪ ،‬ومشى عليها المغاربة أو أهل‬
‫األندلس‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ثم رواية غيره»‪.‬‬

‫أي‪ :‬من رواية غيره من أصحاب مالك‪.‬‬


‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫‪75‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬فانتشرت رواية ابن القاسم عن مالك ألجل من عمل بها»‪.‬‬

‫وصدق؛ فإن رواية ابن القاسم انتشرت ِجدًّ ا ِجدًّ ا‪ ،‬حتى قال بعض المناظرين لهم‪ :‬أنتم اليوم قاسمية‬
‫ال مالكية‪ ،‬مذهبكم مذهب ابن القاسم وليس مذهبكم مذهب مالك‪ ،‬ألنه قد يأتيكم النص الصريح عن‬
‫مالك يف غير رواية ابن القاسم فرت ّدونه وتأخذون بقول ابن قاسم الذي ال يكون قد بلغه عن مالك فيه‬
‫شيء أو نقله عن مالك اجتهاد وفهم من فعل أو غيره‪ ،‬وحتى أن بعض المالكية‪ -‬وهذا الكتاب طبع أكثر‬
‫من طبعة‪ -‬ألفوا كتبا يف التوسط بين مالك وابن القاسم‪.‬‬

‫والسنّة»‪.‬‬
‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وقد تكون مرجوحة يف المذهب وعمل أهل المدينة ّ‬
‫المراد بالمذهب أي‪ :‬أصول المذهب وقواعده‪ ،‬وعمل أهل المدينة والسنة‪ ،‬وهذا واضح ِجدًّ ا؛‬
‫ولذلك يقولون‪ :‬إن ابن بشير صاحب قال المصنف‪« :‬التنبيه»‪ .‬وقد طبع بعضه أنه‪ :‬ال يقبل قوله ألنه كان‬
‫ُي َخ ِّرج على األصول وال يعتني بالفروع‪ ،‬وهذا معنى قول المصنف‪« :‬وقد تكون مرجوحة يف المذهب»‬
‫ولذلك فإن بعضا من أصحاب مالك لما أصبح ُي َخ ِّرج على األصول مباشر ًة ومنها إعمال الحديث‪ ،‬ر ّد‬
‫بعض المالكية المتأخرون قوله‪ ،‬وهذا فيه نظر وال شك‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬حتى صاروا يتركون رواية «الموطأ»‪ ،‬الذي هو متواتر عن مالك»‪.‬‬

‫رواية الموطأ‪ :‬مقصوده الفقه الذي يف الموطأ‪ ،‬والفقه الذي يف الموطأ هو الذي جمعه ابن الحكم يف‬
‫المختصر طب ًعا له مختصران‪ :‬الصغير والكبير‪ ،‬وأظن الذي طبع هو الصغير‪ ،‬هذا المختصر الصغير هو‬
‫فقه مالك المنقول؛ ولذلك أهل العراق لو تأملت األكابر منهم‪ :‬كاألهبري فقد كانوا يشرحون مختصر‬
‫فكم من مهذب لها ومن‬
‫ابن الحكم ألنه فقه مالك من رواية الموطأ‪ ،‬بينما أهل المغرب عنوا بالمدونة‪ْ ،‬‬
‫جامع لها مع غيرها كالعتيبية وغيرها؛ ولذلك اختلفت طريقة العراقيين عن طريقة المغاربة‪ ،‬من أسباب‬
‫اختالف طريقتهم‪ :‬الرواية التي يعتمدوهنا يف بيان مذهب مالك‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬حتى صاروا يتركون رواية الموطأ الذي هو متواتر عن مالك‪ ،‬وما زال يحدِّ ُ‬
‫ث به‪-‬‬
‫أي بالموطأ‪ -‬إلى أن مات»‪.‬‬
‫ومن آخر من روى عنه يحيى بن يحيى الليثي وغيرهم؛ ولذلك بعض األكابر من األندلس يقول‪:‬‬
‫عجب يرتكون رواية مالك يف الموطأ من رواية يحيى ويخالفوهنا بما يف المدونة والكتب التي عملت‬
‫عليها بعد ذلك‪.‬‬
‫‪76‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬يخالفونها رواية ابن القاسم»‪.‬‬

‫طب ًعا رواية ابن القاسم التي هي يف المدونة‪ ،‬وليس رواية ابن قاسم التي يف الموطأ‪ ،‬يجب أن نفرق‬
‫بين االثنتين‪ ،‬طب ًعا رواية ابن قاسم للموطأ‪ :‬موجود تلخيص القابسي ُطبِع قديما‪ ،‬وموجود ً‬
‫أيضا جزء منها‬
‫طب ًعا‪ ،‬وهناك مخطوط يف الجمع بين رواية ابن القاسم وعبد اهلل بن وهب وهي رواية المصريين مسندة‬
‫كاملة‪ ،‬وأظن طبعت أو على وشك الخروج‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وإن كان طائفة من أصحاب مالك أنكروا ذلك»‪.‬‬

‫وهما ذكرته أنكروا تقديم رواية ابن القاسم‪.‬‬


‫‪ ‬قال ال صنف‪« :‬فمثل هذا أن كان فيه عيب فإنما هو على من نقول ذلك ال على ٍ‬
‫مالك»‪.‬‬ ‫م‬
‫فال يعاب مالك ‪ ‬يف ذلك‪ ،‬وإنما يعاب على من نقله‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ويمكن المتّبع لمذهبه أن يتبع السنة يف عامة األمور»‪.‬‬

‫ال وافق السنة يف مذهب مالك‪،‬‬‫هذه مسألة جميلة ِجدًّ ا‪ ،‬وهو أن المتبع للسنة ال بد من أن يجد قو ً‬
‫أيضا يف مذهب أحمد‪ ،‬فإنه ال تكاد قوال فيه موافقة للسنة أال وهو موجود يف مذهب أحمد‬ ‫ومثله يقال ً‬
‫رواية نص أو إيماء أو نحو ذلك‪ ،‬ومذهب الشافعي قريب منهما‪ ،‬وعربت بالقريب ألن بعضا من محققي‬
‫الشافعية كالبغوي خاصة‪ ،‬والنووي‪ ،‬ذكروا مسائل‪ ،‬والماوردي يف مسألتين يف الحاوي تقريبا‪ ،‬ذكروا‬
‫مسائل لم يجدوا فيها قوال للشافعي وال ألصحابه‪ ،‬ثم خرجوا وجها بناء على النص‪ ،‬وقالوا ألنه قد صح‬
‫فيها الحديث وقد قال الشافعي إذا صح الحديث فهو مذهبي فنقول إهنا وجه‪ ،‬وهذه طريقة األكابر‪ ،‬قلت‪:‬‬
‫فعلها الماوردي أحيانا‪ ،‬والبغوي والنووي‪ ،‬وهؤالء الثالثة من أكابر مذهب الشافعي؛ ولذلك نقول إن‬
‫السنة كذلك من أراد متبع السنة فإنه يجد كذلك يف مذهب الشافعي مثل ذلك‪ ،‬والظن أن يف عموم مذهب‬
‫الحنفية مثل ذلك؛ ولذلك فإن ابن أبو العز يف كتابه «التنبيه على الهداية» شرح الهداية بما يدل عليه‬
‫الدليل‪ ،‬ونسب ذلك قوال لبعض أصحاب أبي حنيفة‪ ،‬وإن كان لم يتتبع من قال به من أصحاب أبي‬
‫حنيفة‪ ،‬على العموم السنة ظاهرة والحق ظاهر وهلل الحمد‪ ،‬وهذه نعمة من اهلل ‪.‬‬

‫قل ِمن سن ٍّة إِ َّال وله ٌ‬


‫قول‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ويمكن المتبع لمذهبه أن يتبع السنة يف عامة األمور‪ ،‬إذ َّ‬
‫يوافِ ُقها»‪.‬‬
‫من أشهر المسائل يف ذلك مسألة القبض يف الصالة‪ ،‬المشهور أن عند المالكية أن المصلي يسدل‬
‫يديه وال يقبضهما‪ ،‬وهذه هي رواية عبد الرحمن بن قاسم‪ ،‬وقد ألف جماعة من المالكية ومن آخرهم‬
‫ابن عزوز التونسي من علماء القرن الماضي‪ ،‬ألف رسالة يف أن الصحيح من مذهب مالك القبض‪ ،‬فقد‬
‫‪77‬‬

‫نقلها عن مالك عدد جم‪ ،‬قريب من السبعة أو الثمانية كلهم نقلوا استحباب القبض لحديث وائل‪ ،‬وأما‬
‫الذي انفرد بالسدل صراحة فإنما هو عبد الرحمن بن قاسم‪ ،‬فمن قال بالقبض لم يخرج عن مذهب ذلك‬
‫الجم‪ ،‬وهذا ظاهر كالم الشيخ وكالم الشيخ كالمه خبير وال‬
‫ّ‬ ‫بل أتى بقول مالك المنقول عنه بالعدد‬
‫شك‪.‬‬
‫ِ‬
‫بخالف كثيرٍ من مذهب أهل الكوفة‪ -‬مذهب أهل الكوفة المتقدمين‪ -‬فإنهم كثيرا‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬‬
‫ما يخالفون السنة وإن لم يتعمدوا ذلك»‪.‬‬
‫وهذا من االعتذار لهم؛ فإن المتقدمين من أهل الكوفة كانوا على هذه الطريقة‪ ،‬وخاصة يف القرن‬
‫الثالث وهم تابعوا ا لتابعين‪ ،‬وقد سمى الشيخ بعضا منهم‪ ،‬حتى وإن كان بعضهم من أهل الحديث كوكيع‬
‫غيره‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ثم من تد ّبر أصول اإلسالم وقواعد الشريعة وجد أصول مالك وأهل المدينة أصح‬
‫األصول والقواعد‪ ،‬وقد ذكر ذلك الشافعي وأحمد غيرهما»‪.‬‬
‫بدأ يتكلم اآلن عن قواعدهم فذكر على سبيل اإلجمال ثم على سبيل التفصيل‪.‬‬

‫رجع محمد صاحبه على‬


‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬حتى أن الشافعي لما ناظر محمد بن الحسن حين ّ‬
‫صاحب الشافعي»‪.‬‬
‫صاحب محمد هو أبو حنيفة‪ ،‬وصاحب الشافعي هو مالك‪ ،‬وهذه القصة مشهورة يف كتب المناقب‬
‫ومن أشهر من أسندها البيهقي‪.‬‬

‫بالمكابرة؟!»‪.‬‬ ‫ِ‬
‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬فقال له الشافعي‪ :‬باألنصاف أو ُ‬
‫أي‪ :‬تريد الرتجيح (الرتجيح باألنصاف أو بالمكابرة)‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬فقال له‪ -‬أي محمد بن الحسن‪ -‬باألنصاف‪ ،‬فقال‪ :‬ناشدتك اهلل‪ ،‬صاح ُبنا أعلم‬
‫بكتاب اهلل أم صاحبكم؟ فقال‪ :‬بل صاحبكم‪ -،‬أي‪ :‬مالك‪ -‬فقال‪ :‬صاحبنا أعلم بسنة رسول‬
‫اهلل‪ ‰‬أم صاحبك؟ فقال‪ :‬بل صاحبكم‪ ،‬فقال‪ :‬صاحبنا أعلم بأقوال أصحاب رسول‬
‫اهلل‪ ‰‬أم صاحبك؟ قال‪ :‬بل صاحبكم‪ ،‬قال‪ :‬ما بقي بيننا وبينكم إال القياس‪ ،‬ونحن نقول‬
‫بالقياس‪ ،‬ولكن َم ْن كان باألصول أعلم كان ِقياسه أصح»‪.‬‬
‫مبني على مقدمات‪،‬‬ ‫ّ‬
‫بل إن الشافعي قال‪ :‬فنحن نقول بالقياس أكثر منكم؛ فدل ذلك على أن القياس ّ‬
‫فإذا كانت ُمقدّ ماته أصح كانت نتائجه أدق‪ ،‬ثم نقل عن أحمد‪.‬‬
‫‪78‬‬

‫ٌ‬
‫مالك أم سفيان؟‪-‬‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وقالوا لإلمام أحمد‪ :‬من أعلم بسنة رسول اهلل‪‰‬‬
‫ٌ‬
‫مالك أم سفيان؟‬ ‫وسفيان من أهل الكوفة‪ -‬فقال بل مالك‪ ،‬فقيل له‪ :‬أيهما أعلم بآثار أصحاب رسول اهلل‬
‫فقال‪ :‬بل مالك‪ ،‬فقيل له‪ :‬أيهما اِز َْهدْ مالكا أم سفيان؟ فقال‪ :‬هذه لكم»‪.‬‬
‫من رواية المنقولة عن اإلمام أحمد ما نقله أبو داود يف سؤاليه الحديثية أن أحمد قال‪ :‬مالك اتبع من‬
‫مبني على العلم باآلثار وأقوال الصحابة وعلى العلم بأحاديث‬
‫سفيان‪ ،‬قوله‪« :‬اتبع» أي‪ :‬يف الفقه‪ ،‬والفقه ّ‬
‫رسول اهلل ‪ ، ‰‬وهذه معنى الرواية التي نقلها أحمد‪ ،‬وهنا فائدة لما قلت إهنا سؤال أبي داود‬
‫فإن أبا داود له عن أحمد سؤال حديثية وسؤاال فقهية‪ ،‬وكلها مطبوعة‪ ،‬كما أن األثرم له عن أحمد سؤال‬
‫حديثية مطبوعة وسؤاال فقهية مفقودة‪ ،‬ومن أكثر من نقل عن السؤالين الفقهية حافظ المغرب أبو عمر‬
‫ابن عبد الرب فقد أكثر من النقل عن سؤال األثرم نقال كثيرا ِجدًّ ا‪ ،‬ال يعرف يف غيره من الكتب أنه نقل مثل‬
‫هذا النقل‪ ،‬وهذا يدلنا على أن سؤالي األثرم وصلت المغرب يف تلك الفرتة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬ومعلوم أن سفيان الثوري أعلم أهل العراق ذلك الوقت بالفقه والحديث؛ فإن أبا‬
‫والثوري ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى والحسن بن صالح بن َح ٍّي وشريك بن عبد اهلل‬ ‫َّ‬ ‫حنيفة‬
‫النخعي القاضي‪ :‬كانوا متقاربين يف العصر‪ ،‬وهم ائمة فقهاء الكوفة يف ذلك العصر»‪.‬‬
‫بعض المنازعة‬
‫ثوري النسب‪ ،‬وكان بينهما ُ‬
‫ّ‬ ‫حي هذا عصري الثوري وكالهما‬
‫الحسن بن صالح بن ّ‬
‫كما ن ُِقل ذلك يف السير‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وكان أبو يوسف‪ -‬صاحب أبي حنيفة‪ -‬يتف ّقه ً‬
‫اوال على محمد بن عبد الرحمن بن‬
‫أبي ليلى القاضي‪ ،‬ثم أنه اجتمع بابا حنيفة‪ ،‬فرأى أنه افقه منه فلزمه‪ ،‬وصنّف كتابا «اختالف أبي حنيفة‬
‫وابن أبي ليلى»‪.‬‬
‫هذه المسألة يف قصة أبي يوسف‪ ،‬نقول أصحاب أبي حنيفة واالصل يف ذلك كالم السرخسي‬
‫صاحب «المبسوط»‪.‬‬
‫تحول أبي يوسف لمجلس أبي حنيفة‪ :‬أن أبا يوسف قد تبع ابن أبي ليلى فرتة ثم أنه‬
‫ذكر أن سبب ّ‬
‫شهد مالكًا نثرا فيه السكر‪ ،‬فأخذ أبي يوسف بعض منه‪ ،‬فكره ذلك ابن أبي ليلى واغلظ له يف القول‪،‬‬
‫وب ّين له أن ذلك ال يحل‪ ،‬فجاء أبو يوسف ألبي حنيفة فسأله عن ذلك األمر فقال‪ :‬ال بأس يف ذلك‪ ،‬ثم‬
‫تصح‪ ،‬حين ذلك انقطع عن ابن أبي ليلى وانتقل‬
‫ّ‬ ‫صحت أو لم‬
‫رويت يف هذا الباب سواء ّ‬‫ذكر احاديث ِ‬
‫إلى مجلس أبي حنيفة‪ ،‬وقيل‪ :‬إن سبب انتقاله‪ :‬أن أبا يوسف كان يناظر زفر‪ ،‬ثم تب ّين له بالمناظرة ما ب ّين‬
‫فقه أبي حنيفة شيخا زفر وبين شيخه ابن أبي ليلى‪ ،‬فتحول بعد ذلك لمجلس أبي حنيفة‪ ،‬وهذا الذي‬
‫‪79‬‬

‫جعله يجمع كتابا يف اختالف شيخيه‪ :‬ابن أبي ليلى وابي حنيفة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وصنّف كتاب «اختالف أبي حنيفة وابن أبي ليلى»‪.‬‬

‫وهما شيخا أهل العراق يف ذلك الوقت‪ ،‬وذكروا أن مالزمة أبي يوسف البن أبي ليلى كانت تسع‬
‫سنين‪ ،‬فرتة ليست بالقصيرة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وأخذه عنه محمد بن الحسن»‪.‬‬

‫هذه الكلمة قوله‪« :‬وأخذه عنه محمد بن الحسن»‪ .‬هذه يف غاية الدقة‪ ،‬اذ لم ينقل ذلك اال‬
‫السرخسي‪ ،‬فقد نقل أن هذا التصنيف وهو‪ :‬اختالف أبي حنيفة مع ابن أبي ليلى‪ ،‬الذي ألفه أبو يوسف‪،‬‬
‫أخذه عنه محمد ورواه عن أبي يوسف وزاد فيه اشياء أخرى كان قد سمعها من أبي حنيفة‪ ،‬فيقول‬
‫السرخسي‪ :‬فاصل التأليف ألبي يوسف‪ ،‬والتأليف ألبي محمد؛ ولذلك فإن بعض النسخ الخطية فيها‬
‫ادخال هذا الكتاب «اختالف أبي حنيفة وابن أبي ليلى»‪ .‬يف كتاب «االصل» لمحمد بن حسن‪ ،‬وبعض‬
‫النسخ الخطية ليس فيها ذلك‪ ،‬وسبب االختالف ما ذكرت‪ ،‬ونقله الشيخ قبل ذلك عن السرخسي‪ ،‬وهذا‬
‫أيضا‪ -‬اكرر مرة أخرى‪ -‬هذا لسعة اطالع الشيخ فانظر مع دقة ما نقله عن المالكية‪ ،‬كذلك دقة ما نقله‬
‫ً‬
‫بظن وإنما بعلم رحمة اهلل على جميع علماء‬
‫ّ‬ ‫عن الحنفية‪ ،‬فلم ُ‬
‫يك يتكلم هبوى وال بخرص وال‬
‫المسلمين‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬ونقله الشافعي عن محمد بن الحسن وذكر فيه اختياره‪ ،‬وهو الكتاب المسمى‬
‫«اختالف العراقيين»‪.‬‬
‫ضمنها‬
‫ضمن اجزا ًء منه وابوابًا ّ‬
‫هذا أحد كتب الشافعي التي مثل ما قلنا قبل ذلك يف الكتاب السابق‪ّ ،‬‬
‫الربيع بن سليمان يف كتاب فنقل عنه نقوالت كثيرة‪ ،‬يذكر فيها خالف أبي حنيفة ومحمد بن الحسن مع‬
‫اختالفات ابن أبي ليلى‪ ،‬ثم يذكر فيها ارائه هو وسماه «اختالف العراقيين»‪ .‬يقصد بالعراقيين ابن أبي ليلة‬
‫وابي حنيفة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ومعلوم أن سفيان الثوري أعلم هذه الطبقة يف الحديث مع تقدّ مه يف الفقه والزهد»‪.‬‬

‫ال ّ‬
‫شك‪ ،‬وهذا مشهود به وقد الفت كتبا مفردة يف تراجم الثوري‪ ،‬منها جزء مطبوع للذهبي سماه‬
‫«مناقب الثوري»‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫‪80‬‬

‫الم ْحدَ ث بالكوفة لم‬


‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬والذين انكروا من أهل العراق وغيرهم ما انكروا من الرأي ُ‬
‫ينكروا ذلك على سفيان‪ ،‬بل سفيان عندهم امام العراق»‪.‬‬

‫ٌ‬
‫تفضيل له على مذهب أهل‬ ‫ٍ‬
‫مالك على مذهب سفيان‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬فتفضيل أحمد لمذهب‬
‫العراق»‪.‬‬
‫مؤ ّدى كالم الشيخ يقول‪ :‬إذا كان أعلم أهل العراق بالنقل واالثر والسنة وغيرها ُف ِّضل فق ُه مالك عليه‬
‫ّ‬
‫فدل ذلك على أن من كان دونه يف معرفة هذه االمور مالك مقدّ م عليه يف ذلك‪ ،‬وال ّ‬
‫شك‪ ،‬وهذا استدالل‬
‫أولوي‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وقد قال اإلمام أحمد يف علمه وعلم مالك بالكتاب والسنة ما تقدّ م»‪.‬‬

‫ما نقل الشيخ وذكرته لكم نحوه يف مسائل أبي داود‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬مع أن أحمد يقدِّ ُم سفيان الثوري على هذه الطبقة ك ّلها‪ ،‬وهو يع ّظ ُم سفيان غاية‬
‫التعظيم»‪.‬‬
‫صحيح‪ ،‬حتى أنه ندم أنه لم يدرك سفيان ندمًا شديدا‪ ،‬لكنه أخذ كثيرا من علم سفيان عن طريق‬
‫وكيع وعن طريق غيره من الكوفيين‪ ،‬وكان ي ِ‬
‫ج ّل سفيان يف السنة ويج ّله يف العلم ويف الحديث‪ ،‬وقد سئل‬ ‫ُ‬
‫أحمد عن مسائل سفيان؛ فإن مسائل اسحاق بن منصور الكوسج هي يف الحقيقة‪ :‬مسائل سفيان وفقه‬
‫سفيان‪ ،‬فأخذها اسحاق بن منصور الكوسج فسأل أحمد عنها‪ ،‬وإذا قرأت هذه المسائل ترى اجالل‬
‫أحمد لسفيان وتعظيمه له‪ ،‬كما أن اسماعيل بن سعيد الشالنجي كان قد تتلمذ على محمد بن الحسن‬
‫الشيباين‪ -‬صاحب أبي حنيفة‪ -‬فأخذ مسائله وسأل أحمد عنها‪ ،‬وهي المسائل المشهورة «مسائل‬
‫الشالنجي»‪ .‬التي شرحها الجوزاين بعد ذلك يف كتاب مرتجم‪ ،‬وهي من اعظم كتب الفقه لكنها مفقودة‪،‬‬
‫طب ًعا على طريقة أهل الحديث‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬ولكنه كان يعلم أن مذهب أهل المدينة وعلمائها أقرب إلى الكتاب والسنة من‬
‫مذهب أهل الكوفة وعلمائها»‪.‬‬
‫أي‪ :‬على سبيل اإلجمال والجملة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬أحمد كان معتدال عالما باألمور‪ ،‬يعطي كل ذي حق حقه»‪.‬‬

‫وهذا هو الذي يجب عليه أن يكون أهل العلم وأهل السنة‪.‬‬


‫‪81‬‬

‫يطعن فيه أو من‬ ‫ويذب عنه عند من‬ ‫ب الشافعي ويثني عليه ويدعو له‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ولهذا كان يح ُّ‬
‫ٍ‬
‫بدعة‪ ،‬ويذكر تعظيمه للسنة واتباعه لها»‪.‬‬ ‫ينسبه إلى‬
‫أي‪ :‬أحمد كان له ثناء كثير على الشافعي‪ ،‬من ثناء أحمد على الشافعي يف السنة ما نقله الميموين‪،‬‬
‫والميموين معروف من أئمة السنة يف ن قله ويف عنايته هبذا األمر‪ ،‬قال‪ :‬إن أحمد قال له‪ :‬أال تنظر يف كتب‬
‫الشافعي؟ فما من أحد وضع الكتب حتى ظهرت أتبع للسنة من الشافعي‪ ،‬وهذا ثناء وتعظيم ليس‬
‫بالسهل‪ ،‬فمن باب ذكر تعظيمه للسنة واتباعه له‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ويذكر تعظيمه للسنّة واتباعه لها ومعرفته بأصول الفقه كالناسخ والمنسوخ‬
‫ويثبت خبر الواحد ومناظرته عن مذهب أهل الحديث َم ْن خالفه بالرأي وغيره»‪.‬‬
‫ُ‬ ‫والمفسر‬
‫ّ‬ ‫والمجمل‬
‫أي‪ :‬إنه يرد على المخالفين يف هذه المسألة‪.‬‬

‫سموين ببغداد ناصرا الحديث‪.»،‬‬


‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وكان الشافعي يقول‪ّ :‬‬
‫يسمونه يف بغداد أحمد‪ ،‬ألن ه أدرك أحمد وطبقة أحمد ومن كان فيها يف تلك الفرتة‪،‬‬
‫ويقصد بالذين ّ‬
‫أحمد كان شيخ بغداد ورأسها يف ذلك الوقت‪.‬‬

‫الر ّد على من‬


‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ومناقب الشافعي واجتهاده يف اتباع الكتاب والسنة‪ ،‬واجتهاده يف ّ‬
‫يخالف ذلك كثيرا ِجدًّ ا»‪.‬‬
‫ُ‬
‫واحد أئمة السنة وهو ابن أبي حاتم الرازي ألف كتابا يف مناقب الشافعي‪ ،‬وذكر كثيرا مما يتعلق هبذا‬
‫الباب‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وهو كان على مذهب أهل الحجاز‪ -‬أي‪ :‬الشافعي‪ -‬وكان قد تف ّقه على طريقة‬
‫الم ّك ّيين‪ ،‬أصحاب ابن جريج‪ :‬كمسلم بن خالد الزّنجي‪ ،‬وسعيد بن سالم َا ْل ِقدَ اح‪ ،‬ثم رحل إلى مالك‬
‫كمل أصول أهل المدينة وهم أجل علمًا وفقهًا وقدر ًا من أهل‬ ‫وأخذ عنه قال المصنف‪« :‬الموطأ» و ّ‬
‫مكة‪ ،‬من عهد النّبي ‪‰‬إلى عهد ٍ‬
‫مالك»‪.‬‬ ‫ّ‬
‫أي‪ :‬هذا من باب تفضيل أصول أهل المدينة على أهل مكة؛ ألن أهل مكة أي‪ :‬العلم فيهم أقل وهم‬
‫مختلطون؛ ولذلك كان الشافعي يسميهم أهل الحجاز من باب الجمع بينهما‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫‪82‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ثم اتفقت له محن ٌة ذهب فيها إلى العراق‪ ،‬فاجتمع بمحمد بن الحسن وكتب كتبه‬
‫وناظره وعرف أصول أبي حنيفة وأصحابه‪ ،‬وأخذ من الحديث ما أخذه من أهل العراق ثم ذهب إلى‬
‫الحجاز»‪.‬‬
‫هذه المحنة التي امت ِ‬
‫ُحن فيها الشافعي هي المحنة التي كانت مع السلطان فيما اهتم به من نصرته‬
‫لبعض العلو ّيين وغيرهم‪.‬‬

‫الحجة»‪.‬‬
‫ثم قدم العراق مرة ثانية وفيها صنف كتابه القديم المعروف « ّ‬
‫‪ ‬قال المصنف‪ّ « :‬‬
‫ورواة القديم عن الشافعي جماعة منهم الكرابيسي وكثير‪ ،‬وقد جمعوا الرواة القديم ومنهم أحمد‬
‫كذلك‪ ،‬فإنه يعد من رواة القديم‪.‬‬
‫‪ ‬قال ال صنف‪« :‬واجتمع به أحمد بن حنبل يف هذه َا ْل َق ِ‬
‫اد َمة بالعراق‪ ،‬واجتمع به بمكّة»‪.‬‬ ‫م‬
‫القصة المعروفة‪ :‬حينما قال‪ :‬إن فاتكا علم هذا‬
‫وعندما اجتمع به بمكة كان معه إسحاق بن راهويه يف ّ‬
‫بعلو أدركته بنزول‪.‬‬
‫الفتى فاتكا علما كثيرا‪ ،‬وان فاتك الحديث ٍّ‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وتناظرا بحضور أحمد ‪‬م أجمعين»‪.‬‬

‫وهذه المناظرة كانت يف عدد من األبواب منها مسألة الهبة‪ ،‬العود يف الهبة ويف غيرها‪.‬‬

‫الشافعي بابي يوسف وال باألوزاعي وغيرهما‪ ،‬فمن ذكر ذلك يف‬
‫ّ‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ولم يجتمع‬
‫ٍ‬
‫مالك وأبي يوسف‬ ‫كاذب؛ فإن تلك الرحلة فيها من األكاذيب عليه وعلى‬ ‫ِ‬
‫المضافة إليه فهو‬ ‫الرحلة‬
‫ٌ‬
‫ومحمد وغيرهم من أهل العلم ما ال يخفى على عال ٍم»‪.‬‬
‫هذه الرحلة‪ :‬رحلة مشهورة طبعت يف الهند قبل نحو من أكثر من مئة سنة‪ ،‬ثم أعيد طبعها بعد فرتة‬
‫أخرى ‪ ،‬وهي رحلة مكذوبة على الشافعي‪ ،‬تكلم الذهبي يف العرب عن إسنادها وذكر من اهتم بالكذب‬
‫فيها‪ ،‬وفيها مناقير كثيرة ِجدًّ ا‪ ،‬والحديث عن هذه الرحلة لها حديث طويل آخر غير هذا المجلس‪ ،‬لعلنا‬
‫نتكلم عنه بعد ذلك إن شاء اهلل‪.‬‬

‫ومحمد َس ْع ًيا يف أذية‬


‫ّ‬ ‫القصاص‪ ،‬ولم يكن أبو يوسف‬
‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وهي من جنس كذب ّ‬
‫افعي قط»‪.‬‬ ‫ّ‬
‫الش ّ‬
‫صدق‪ ،‬فهما أجل من ذلك‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪‬‬
‫‪83‬‬

‫حال ٍ‬
‫مالك معه ما ذكر يف تلك الرحلة الكاذبة»‪.‬‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وال كان ُ‬

‫وتلك الرحلة الموجودة‪ ،‬ولعل أن نفرد لها حديثا يوما ما إن شاء اهلل‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ثم رجع الشافعي إلى مصر وصنّف كتابه الجديد»‪.‬‬

‫أيضا‬
‫المرادي‪ ،‬ورواها عن المزين‪ ،‬ورواه عنه ً‬
‫أي‪ :‬كتبه الجديدة التي رواها عنها الربيع بن سليمان ُ‬
‫ِ‬
‫أهل مصر مثل‪ :‬الربيع بن سليمان الج ِيزي‪ -‬وهو غير ُ‬
‫المرادي‪ -‬وغيرهم من رواة الكتاب الجديد‪.‬‬

‫نسب إلى مذهب أهل الحجاز‪ ،‬فيقول‪ :‬قال‬


‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وهو يف خطابه وكتابه‪ -‬أي الجديد‪ُ -‬ي َ‬
‫بعض أصحابنا‪ -‬وهو أي‪ :‬أهل المدينة أو بعض علماء أهل المدينة كمالك‪ ،-‬ويقول يف أثناء كالمه‪:‬‬
‫نسب إلى أصحابهم»‪.‬‬‫بعض المشرق ّيين‪ ،‬وكان الشافعي عند أصحاب مالك واحد ًا منهم ُي ُ‬
‫وخالفنا ُ‬
‫نعم وال شك يف ذلك‪ ،‬وهذا مشهور‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ « :‬واختار سكنى مصر إذ ذاك ألنهم كانوا على مذهب أهل المدينة ومن يشبههم من‬
‫أهل مصر كال ّليث بن سعد وأمثاله‪ -‬من األكابر‪ -‬وكان أهل الغرب‪ -‬أهل األندلس والمغرب‪ -‬بعضهم‬
‫على مذهب هؤالء»‪.‬‬
‫أي‪ :‬على مذهب أهل مصر أو أهل المدينة؛ فإن الليث كان له اتباع يف األندلس‪ ،‬ومالك له بعض‬
‫االتباع كذلك‪ ،‬أو أن أهل المدينة لهم اتباع مثل عبد الملك بن حبيب فإنه إدراك مالك وغيره‪ ،‬ونقل‬
‫نقو ً‬
‫ال كثيرة عن أهل المدينة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وكان أهل الغرب بعضهم على مذهب هؤالء وبعضهم على مذهب األوزاعي»‪.‬‬

‫واألوزاعي كان لهم وجود يف المغرب‪ ،‬وقد أ ِّلفت بحوث يف تاريخ االوزاعية يف المغرب وغيره‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وأهل الشام»‪.‬‬

‫أهل الشام‪ :‬هو مذهب األوزاعي وغيره‪ ،‬قال‪ :‬ونصره خلفاء بني أمية المتقدمين الذين دخلوا‬
‫المغرب يف ذلك الوقت‪ ،‬فإهنم كانوا على مذهب الشام فلذلك نصروه‪ ،‬فقد جاء بعض بني أمية وبعض‬
‫أصحاهبم الذين أفشوا مذهب أهل الشام يف األندلس‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬مذهب أهل الشام ومصر والمدينة متقارب‪ ،‬لكن أهل المدينة أجل عند الجميع»‪.‬‬

‫متقارب يف بعض األصول ألن العلوم تتواصل‪ ،‬والمذاهب تتواصل وتختلط فيكون بعضها مختلفا‬
‫‪84‬‬

‫ببعض‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ثم إن الشافعي‪ ‬لما كان مجتهدا يف العلم»‪.‬‬

‫أي‪ :‬وصل لمرحلة االجتهاد يف العلم‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ورأى من األحاديث الصحيحة وغيرها من األدلة»‪.‬‬

‫سواء من األقيسة أو المفاهيم‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬ما يجب عليه اتباعه‪ ،‬وان خالف قول أصحابه المدنيين»‪.‬‬

‫وذلك إن الشافعي لما ذهب للعراق اطلع على أحاديث كثيرة لم يكن قد وقف عليها المدنيون‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬قام بما رآه واجب عليه»‪.‬‬

‫من العمل بالدليل‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وصنّف «اإلمالء على مسائل ابن القاسم»‪.‬‬

‫كتاب اإلمالء للشافعي هو من رواية أبي الوليد‪ ،‬وقد صنفه على هيئة مسائل ابن القاسم‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وأظهر خالفا مالكا فيما خالفه فيه»‪.‬‬

‫أي‪ :‬يف كتاب اإلمالء‪ ،‬ويقال‪ :‬إن الشافعي له كتابان يف اإلمالء‪.‬‬

‫الشافعي فيما فعل»‪.‬‬


‫ّ‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وقد أحسن‬

‫ألنه عمل بموجب الدليل لما كان متأهال‪.‬‬

‫مصرية‬
‫ّ‬ ‫كره ُه وآذوه‪ ،‬وجرت محنة‬
‫يجب عليه‪ ،‬وإن كان قد كره ذلك َم ْن َ‬
‫ُ‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وقام بما‬
‫معروفةٌ‪ ،‬واهلل يغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات‪ ،‬األحياء منهم واألموات»‪.‬‬
‫حدثت له محنة ‪ ‬حتى من بعض أكابر أصحابه رحمهم اهلل تعالى‪ ،‬وهي مشهورة ِجدًّ ا يف كتب‬
‫الطبقات‪ ،‬وهذه سنة‪ :‬إن المرء يمتحن بأحب شيء إليه‪ ،‬فالمرء يمتحن يف زوجه ويمتحن يف ولده‬
‫ويمتحن يف ماله‪ ،‬وإن كان من أهل الجاه امتحن يف جاهه‪ ،‬وإن كان من أهل العلم امتحن يف علمه‪،‬‬
‫وجلِد‪ ،‬وأحمد‪ُ :‬جلِد يف مسألة الطالق‪ ،‬وذلك أن مالكا كان يرى‬
‫وأولئك األكابر امتحنوا‪ ،‬فمالك امتحن ُ‬
‫طالق المكره ال يقع‪ ،‬فامتحن ألجلها‪ ،‬وألجل ذلك ُجلِد‪ ،‬وقيل‪ :‬إنه امتحن ألجل تولية القضاء‪ ،‬وامتحن‬
‫‪85‬‬

‫الشافعي يف هذه المسألة التي أنكر ما أنكر فيها من بعض المذهب مالكا‪ ،‬وامتحن امتحانا شديدا‪ ،‬أحمد‬
‫أيضا ُجلِد‪ ،‬وغير ذلك من‬
‫امتحن يف السنة وإظهارها‪ ،‬البخاري امتحن‪ ،‬وكذلك كثير من األئمة‪ ،‬أبا حنيفة ً‬
‫أئمة ويمتحنون يف أمور تختلف من شخص إلى آخر؛ ولذلك طالب العلم إذا امتحن يف العلم يف مسألة‬
‫أو يف أخرى وأوذي يف مسألة أخرى يجب عليه أن يصرب وأن يحتسب‪ ،‬وكثير من الناس يمتحن أدنى‬
‫امتحان يف العلم هجر العلم‪ ،‬وظن أنه إذا تعلم العلم ال بد من أن تكون الطريق أمامه ممهدا‪ ،‬وأن يكون‬
‫الناس مستمعين له منصتين قابلين غير رادين عليه‪ ،‬وهذا غير صحيح؛ فإن من أحب الشيء لطالب‬
‫العلم‪ :‬العلم‪ ،‬فالبد من أن يمتحن فيه‪ ،‬فالبد من أن يصرب أول على أذاه ثم ُيمتحن فيه بعد ذلك إذا تمكن‬
‫منه‪ ،‬واهلل‪ ‬حكيم عليم ‪ ،‬غفر اهلل لجميع المؤمنين والمؤمنات‪.‬‬

‫ختصان به كاختصاص‬
‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وأبو يوسف ومحمد هما صاحبا أبا حنيفة‪ ،‬وهما ُم ّ‬
‫ٍ‬
‫لمالك»‪.‬‬ ‫الشافعي‬ ‫يقارب خالف‬ ‫الشافعي بمالك‪ّ ،‬‬
‫ولعل خالفهما له‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫وقد ذكرت لكم أن الحنفية يقولون أو شهر عندهم أهنم يقولون‪ :‬إن أبا يوسف ومحمد بن الحسن‬
‫خالف أبا حنيفة يف ثلثي المذهب‪ ،‬فهما قد خالفاه‪ ،‬والشافعي خالف مالك يف أشياء كثيرة ِجدًّ ا‪ ،‬وقد‬
‫صنفت كتبا خاصة يف الخالف بين الشافعي ومالك‪ ،‬حتى ألفت كتب يف الرد على الشافعي َو ِق ِس ّي عليه‪،‬‬
‫مثل كتاب ابن ال ّل ّباد المطبوع‪ ،‬وغير ذلك من الكتب التي كانت يف تلك المحنة بين الشافعي وأصحاب‬
‫مالك‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وكل ذلك اتباع للدليل وقيام بالواجب»‪.‬‬

‫وصدق؛ فإن الشافعي ومحمد بن حسن وأبو يوسف إنما خالفوا شيوخهم اتباعا للدليل وقياما‬
‫بالواجب‪ :‬وهو إظهار السنة أو ما ظهر لهم من السنة‪ ،‬نسأل اهلل‪ ‬للجميع الرحمة والمغفرة وأن‬
‫يجمعنا هبم يف جنات النعيم مع نبينا ‪.‰‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬والشافعي‪ّ ‬‬


‫قرر أصول أصحابه والكتاب والسنة»‪.‬‬

‫أصول أصحابه‪ :‬أي‪ :‬أهل المدينة فإن أصولهم أعظم األصول يف مقابل أهل العراق‪.‬‬

‫صح عنده من الحديث‪ ،‬ولهذا كان عبد اهلل بن الحكم يقول‬


‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وكان كثير االتباع لما ّ‬
‫البنه محمد»‪.‬‬
‫محمد بن عبد اهلل بن عبد الحكم كان على مذهب الشافعي ثم انتقل عنه إلى مذهب مالك بعد فتنة‬
‫صارت‪.‬‬
‫‪86‬‬

‫بني الزم هذا الرجل فإنه صاحب حججا‪ ،‬فيما بينك وبين أن تقول‪ :‬قال ابن‬
‫‪ ‬قال ا مصنف‪« :‬يا ّ‬
‫ل‬
‫ُ‬
‫فيضحك منك إال أن تخرجا من مصر»‪.‬‬ ‫قاسم‪،‬‬
‫أي‪ :‬قال المصنف‪ :‬إن عبد اهلل بن الحكم قال البنه محمد إنك يف مصر إذا قلت قال ابن قاسم‬
‫سمعوا الناس منك ذلك‪ ،‬فإذا خرجت من مصر وقلت لهم قال ابن القاسم‪ :‬ضحكوا منك؛ فإن ابن‬
‫القاسم عندهم رجل من علماء‪ ،‬م َث ُله كمثل غيره من علماء الملة‪.‬‬

‫جلست إلى‬
‫ُ‬ ‫صرت إلى العراق‬
‫ُ‬ ‫فلما‬
‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬قال محمد‪ -‬ابن عبد اهلل بن عبد الحكم‪ّ :-‬‬
‫ٍ‬
‫حلقة فيها ابن أبي داود‪ ،‬فقلت‪ :‬قال ابن القاسم‪ ،‬قال‪ :‬ومن ابن القاسم؟! فقلت‪ :‬رجل مفت بقوله من‬
‫مصر إلى أقصى المغرب»‪.‬‬
‫أي‪ :‬إنه مشهور يف تلك البلدة‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وأظنه قال‪ :‬قلت‪ :‬رحم اهلل أبا»‪.‬‬

‫أي‪ :‬صدق أبوه يف ذلك‪.‬‬

‫‪ ‬قال المصنف‪ :‬يف تعليقه على هذه القصة وهو تعليق يف غاية النفاسة‪:‬‬

‫الحجة لقول أصحابك‪ ،‬وال تتّبع‪ -‬أي ال تقلدهم‪-‬‬‫ّ‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬وكان مقصودا أبوه‪ :‬اطلب‬
‫فالتقليد إنما ُي ْقبل حيث ُيع َّظ ُم المق َّلدُ ‪ ،‬بخالف الحجة فإنها تقبال يف كل مكان»‪.‬‬
‫قديم‪ ،‬فإنما ُيقبل هذا القول لمن كان‬ ‫ٍ‬
‫لمعاصر أو ٍ‬ ‫هذا كالم يف غاية النفاسة‪ ،‬إذا أردت أن تنقل تقليد ًا‬
‫يعظم هذا المقلد‪ ،‬لو قلت قال فألن من المتقدمين أو قال فألن من المتأخرين من مشايخك؟ فإن بعض‬
‫الناس ال يع ّظمه وإن كان ال يسقط قدره لكن ال يعظمه وال يرى أنه يقبل قوله على سبيل العموم‪ ،‬فلذلك‬
‫عندما تقول قال فألن ال يكون ذلك يف الحجة يف شيء‪ ،‬بخالف إذا أتيت بالحجة والربهان والدليل فإنك‬
‫تقوى حينئذ حجتك؛ ولذلك من تعلم الكتاب والسنة قويت حجته‪ ،‬من حفظ الكتاب والسنة أصبحت‬
‫حجته قوية كما ن ُِقل عن الشافعي‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مجتهد أن يقول بما عنده من العلم‪ ،‬واهلل يخص هذا من‬ ‫‪ ‬قال المصنف‪« :‬فإين اهلل أوجب على كل‬
‫العلم والفهم ما ال يخص به هذا‪ ،‬وقد يكون هذا هو المخصوص بمزيد العلم والفهم يف نو ٍع من العلم أو‬
‫مخصوص بذلك يف نو ٍع آخر»‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫مسألة‪ ،‬وهذا هو‬ ‫ٍ‬
‫باب منه أو‬
‫ٌ‬
‫يختلف الناس فيه‪ ،‬فليس الناس‬
‫ُ‬ ‫هذه الجملة من الكالم الجميل النفيس‪ ،‬وفيه بيان أن العلم والفهم‬
‫‪87‬‬

‫سواسية‪ ،‬فقد يؤتى بعض الناس ما ال يوتاه اآلخر‪ ،‬وعندما تقدم شخص على آخر فإن هذا ال يكون على‬
‫سبيل اإلطالق‪ ،‬وهذا الذي قاله علي ‪ :‬إال فهمًا يوتاه الرجل‪ ،‬وهذا معنى كالم الشيخ أن بعض‬
‫الناس يؤتى من العلم والفهم يف ذلك العلم ما ال ي َو ْجد يف غيره‪ ،‬وقد يوجد يف غيره شيء ليس موجودا‬
‫فيه‪ ،‬وهذا معنى قوله قال المصنف‪« :‬وهذا هو مخصوص بذلك يف نوع آخر»‪ .‬أي‪ :‬يف نوع آخر‪ :‬أما يف‬
‫مسألة أو يف علم آخر‪.‬‬

‫لكن جملة مذاهب أهل المدينة راجحة يف الجملة على مذاهب أهل العراق‬
‫‪ ‬قال المصنف‪ّ « :‬‬
‫والمشرق»‪.‬‬
‫بعد ما ذكر هذه المقدمة‪ ،‬المصنف ‪ ‬ختمها بأن مذهب أهل المدينة مقدم على سبيل الجملة‪،‬‬
‫على مذاهب أهل المغرب والمشرق يف ذلك الوقت‪ ،‬وأما بعد ذلك الوقت فإن أصولهم تكون مقدمة‬
‫على أصول غيرهم‪ ،‬ثم شرع المصنف بعد ذلك بذكر قواعد جامعة‪ ،‬هذه القواعد هي الحقيقة قواعد‬
‫فقهية‪ ،‬وهذه القواعد الفقهية هي الجزء الثاين من هذه الرسالة‪ ،‬وهذه القواعد تتعلق بعدد من القواعد‬
‫كان بو ّد أن نأخذ بعض هذه القواعد اليوم‪ ،‬لكن يبدو أن الوقت قد ضاق ولكن نقف عند هذا القدر لعل‬
‫اهلل‪ ‬أن مدا يف العمر وكان هناك فسحة من الوقت أكملنا شرح هذه الرسالة بذكر القواعد الجامعة‬
‫أوردها الشيخ‪ ،‬وق بل أن أختم درسنا اليوم أريد أن الخص بعض من األمور التي تستفاد من الرسالة‬
‫المتقدمة‪ ،‬ذكرت يف أول درس اليوم ملخص هذه الرسالة وأن الشيخ استدل على أصول مذهب أهل‬
‫المدينة يف القرون الثالثة األولى‪ ،‬ثم بين بعد ذلك أن هذه األصول انتقلت بعد ذلك لألمصار‪ ،‬فأصبحت‬
‫موجودة يف جميع األمصار؛ ولذلك فإن هذه األصول موجودة يف مذهب الشافعية ومذهب الحنابلة‬
‫خصوصا؛ فإن أصول هذين المذهبين‪ :‬يوجد فيهما أصول مذهب أهل المدينة‪ ،‬ودخل كثير من أصول‬
‫ومسائل أهل المدينة على أهل العراق‪ ،‬وكان دخولها من طريق جماعة من أهل العراق‪ :‬كابي يوسف‬
‫ومحمد بن الحسن‪ ،‬وإن كان دخول هذه األصول والمسائل يف مذهب الحنفية أقل من المذاهب الثالثة‬
‫الباقية‪ ،‬هذا فيما يتعلق بالمسألة األولى‪.‬‬
‫‪ ‬المسألة الثانية‪ :‬إن مذهب المالكية قد دخل فيه شيء يسير أو شيء من مذهب أهل العراق‪ ،‬وهذا‬
‫دخل متقدمًا من حين جاءت المسائل التي نقلها أسد بن فرات عن عبد الرحمن بن قاسم والتي‬
‫أصبحت معتمدة بعد ذلك يف مذهب المالكية‪ ،‬ونقلت لكم أن هذا الكالم من الشيخ ُسبق إليه من أكابر‬
‫علماء المالكية كاألهبري وابن القصار والقاضي عبد الوهاب‪.‬‬
‫‪ ‬واألمر األخير‪ :‬إن مذهب المالك ّية قد يكون هناك أمورا دخلت من الفهم وقصوره وعدم العلم‬
‫‪88‬‬

‫بنصوص مالك؛ ولذلك قال بعض المالكية أو بعض الشافعية يف نقد المالكية‪ :‬اليوم قاسمية ال مالكية‪،‬‬
‫اليوم قاسمية على مذهب ابن القاسم وليست على مذهب مالك؛ ولذلك لما قيل لبعض الشافعية لم ال‬
‫تكون تتبع شيخ شيخ أمام مذهبك؟ قال‪ :‬وإنما أنتم تذهبون ابن القاسم‪ ،‬وابن القاسم قد خالف مالك يف‬
‫مسائل‪ ،‬وذكرت لكم أنه ألفت كتب يف التوسط بينهما‪ ،‬هذا ما يتعلق يف ملخص الكالم السابق‪ ،‬الجزء‬
‫الباقي هو جزء منفصل يتعلق بقواعد فقهية‪ ،‬لعل اهلل‪ ‬أن ييسر شرحها‪ ،‬اسأل اهلل العظيم رب‬
‫العرش الكريم أن يرزقنا جميعا العلم النافع والعمل الصالح‪ ،‬وأن يتوالنا هبداه وأن يغفر لنا ولوالدينا‬
‫والمسلمين والمسلمات‪.‬‬
‫واسأله جل وعال أن يرحم علماءنا وأن يغفر لهم وأن يجزيهم خير الجزاء‪ ،‬وأن يرزقنا إتباع السنة‬
‫واالنتفاع هبا وبعلوم أهل العلم؛ فإن السنة إنما نقلت لنا من طريق هؤالء العلماء األعالم‪ ،‬علماء‬
‫الحديث وعلماء الفقه األكابر رحمهم اهلل تعالى‪ ،‬وما أخذوا هذا العلم إال عن من كان قبلهم‪ ،‬فليس‬
‫علمهم بالتشهير وال بالتمني وال بالهوى؛ ولذلك فإن العلم يف هذا الدين باق إلى قيام الساعة ومتوارث‪،‬‬
‫ومهما حاول من حاول أن يقطع حبل األواخر عن األوائل فلن يستطيع ذلك؛ ألن هذا الدين محفوظ‬
‫بحفظ اهلل ‪ ‬قال تعالى‪ :‬ﱩ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﱨ [الحجر‪ ]9 :‬وكما قال عبد اهلل بن‬
‫مبارك وقاله غيره‪« :‬اإلسناد من الدين» ‪ ،‬فمن خصائص هذا الدين نقول هذا العلم يف عن أشخاص وعن‬
‫عصور‪ ،‬يأخذه جيال عن جيل تسمعونه وتسمعون منكم‪.‬‬

‫وصلى اهلل وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد اهلل‪ ،‬واهلل أعلم(‪.)1‬‬

‫ألقيت هذه الدروس من ليلة الواحد والعشرين‬


‫إلى ليلة الرابع والعشرين‬
‫من شهر شوال سنة واحد وأربعين وأربع مئة وألف‬
‫في الدورة التأصيلية الصيفية بالمسجد النبوي‬
‫المدينة المنورة حرسها اهلل دا ًرا لإلسالم والسنة‪.‬‬

‫‪¹‬‬

‫(‪ )1‬هناية الدرس الرابع‪.‬‬

You might also like