Professional Documents
Culture Documents
شرح صحة مذهب أهل المدينة-1
شرح صحة مذهب أهل المدينة-1
شرح صحة مذهب أهل المدينة-1
1
2
3
4
1
﷽
الحمد هلل رب العالمين ،وأشهد أن ال إله اال اهلل وحده ال شريك له ،وأشهد أن محمدً ا عبد اهلل
كثيرا إلى يوم الدين.
تسليما ً
ً ورسوله ،صلى اهلل عليه وعلى آله وأصحابه وسلم
ُث َّم ّأما َب ْعد:
ففي هذه الليلة بمشيئة اهلل نبدأ يف قراءة كتاب الشيخ تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد
السالم ابن تيمية المسمى بكتاب« :صحة أصول مذهب أهل المدينة».
وهذه الرسالة أنشأها الشيخ إجابة لسؤال يتعلق هبذه المسألة األصولية التي ينبني عليها عشرات
المسائل الفقهية.
فقد قيل :أن اإلمام مال ًكا قد أورد يف كتابه «الموطأ» بضعًا وأربعين مسألة أورد فيها عمل أهل
المدينة.
وقد جاء يف كتب الفقهاء وغيرهم من أهل الحديث الذين ُيعنون بالنقل :مسائل أخرى غير التي نقلها
اإلمام مالك.
وغيره من األصول التي بنى عليها أهل المدينة
َ وهذه الرسالة تناول فيها الشيخ عمل أهل المدينة
مذهبهم ،وسيظهر إن شاء اهلل يف هذه الرسالة الكثير من المسائل األصولية والفرعية المهمة التي
تنبني على هذه األصول.
بعضا من القواعد
بعضا منها كما أنه قد أورد ً
وأصول مذهب أهل المدينة متعددة ،أورد الشيخ ً
الفقهية التي بنوا عليها الفروع ،إ ًذا فإيراده لهذه األصول يشمل نوعين من األصول التي تكلم الشيخ عن
صحتها:
األول« :األصول» بمعنى التي تستنبط منها األحكام كعمل أهل المدينة ونحو ذلك.
الثاين« :األصول» التي تستنبط بواسطتها األحكام.
إذا فاألصول التي ذكرها الشيخ تقي الدين يف هذه الرسالة نوعان:
)1أصول تستنبط بواسطتها األحكام.
)2وأصول تستنبط منها األحكام.
2
-فأما األصول التي تستنبط بواسطتها األحكام :فهي المباحث التي تورد يف كتب أصول الفقه ،ومن
األمور التي تورد واوردها الشيخ مسألة عمل أهل المدينة وإجماع أهل المدينة.
-وأما األصول التي يستنبط منها الحكم مباشرة ،فهي القواعد فقهية ،وسنشير إن شاء اهلل لهذين
النوعين من األصول عند قراءة هذه الرسالة.
يف أول هذه الرسالة كما هو موجود يف مجموع الفتاوى«:وسئل شيخ اإلسالم عن «صحة
أصول مذهب أهل المدينة» ومنزلة مالك المنسوب إليه مذهبهم يف اإلمامة والديانة؛ وضبطه علوم
الشريعة عند أئمة علماء األمصار وأهل الثقة والخبرة من سائر األعصار؟».
فأجاب فقال« :الحمد هلل؛ مذهب أهل المدينة النبوية -دار السنة ودار الهجرة ودار النصرة إذ
فيها سن اهلل لرسوله محمد ‰سنن اإلسالم وشرائعه وإليها هاجر المهاجرون إلى اهلل ورسوله
وبها كان األنصار الذين تبوءوا الدار واإليمان من قبلهم -مذهبهم يف زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم
أصح مذاهب أهل المدائن اإلسالمية شرقا وغربا؛ يف األصول والفروع».
سميها هبذا االسم وقد ُش ِهر يف كتب أهل العلم تسميت المدينة بالنبوية ،وكثير من كتب التاريخ
الم ّ
ُ
ككتاب السخاوي وقبله جماعة من أهل العلم سموا تاريخهم بتاريخ المدينة النبوية،
اله ْج َرة» فإن السنة أكثر ما تكلم هبا النبي ‰يف المدينة ،وكوهنا دار السنة ِ
ودار ِ قوله« :دار ُ
الهجرة؛ ألن النبي ‰هاجر إليها وهاجر إليها أصحابه ،وقد تقرر عند أهل العلم أن الهجرة
نوعان:
الهجرة الكبرى :وهي التي كانت للنبي ‰وأصحابه.
الهجرة الصغرى :بعد ذلك التي تكون لعموم الناس.
واألولى :لها من الفضل ما ال يقاربه فضل آخر ،وقد انتهت بقول النبي « :‰ال هجرة بعد
الفتح».
قوله« :ودار النصرة»؛ ألن أهل المدينة نصروا النبي ‰واووه وعزروه رضوان اهلل عليهم،
قوله« :إذ فيها سن اهلل لرسوله محمد ‰سنن اإلسالم وشرائعه»؛ ففيها ُسنت السنن و ُب ِّينت
لنبينا محمد ،‰فقد شهد أهلها تنزل الوحي على النبي .‰
قوله« :مذهبهم يف زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أصح مذاهب أهل المدائن اإلسالمية شرقا
وغربا؛ يف األصول والفروع» هذه الجملة تلخص هذه الرسالة كاملة ،فقوله «مذهبهم» أي :مذهب أهل
المدينة ،ويقابل مذهب أهل المدينة مذهب أهل األمصار األخرى الذين سنذكر أسمائهم وتِعدادها بعد
قليل ،قوله« :يف زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم» أي :أن العربة بأهل المدينة هبذه األزمنة الثالثة ،يف
زمن الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ،ولذلك أهل العلم يقولون :إن مذهب أهل المدينة يمر بأربع
مراحل:
المرحلة األولى :يف عهد النبي ‰وال شك أن ما فعلوه هو من السنة التقريرية التي
وأقرهم عليها ،فهي حجة ،وهنا تأيت المسألة األصولية المشهورة :هل
اطلع عليها النبي ّ ‰
مذهب الصحابي يكون مذهبا له؟ أم أنه حجة يف عهد النبي ‰بناء على أن السنة التقريرية هل
يشرتط لها أن يعلم النبي ‰هبا أم ال؟ والحديث فيها مبسوط يف كتب األصول.
المرحلة الثانية :من مذاهب أهل المدينة بعد وفاة النبي ‰إلى حين مقتل عثمان ،
وهذه المرحلة الثانية من أقوى المراحل ،وقد احتج بعمل أهل المدينة جماعة من أهل العلم كما سيأيت.
المرحلة الثالثة :من بعد مقتل عثمان إلى انقضاء القرون الثالثة ،وهذه التي فيها خالف بين
4
جماهير أهل العلم ،فال يرون حجية مذهبهم وبين جماعة من أصحاب اإلمام مالك ،فإهنم يرون حجية
عمل أهل المدينة يف هذه القرون الثالثة.
المرحلة الرابعة :بعد القرون الثالثة ،فقد ُحكي االجماع وسيأيت إن شاء اهلل على أن مذهب أهل
المدينة ليس بحجة.
ً
أصوال وفرو ًعا يف زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم ،أي: قوله« :مذهبهم» أي :مذهب أهل المدينة
يف القرون الثالثة ،وهذه سيأيت إن شاء اهلل شرح المصنف لها أن المراد بالقرن إنما هو الجيل.
قوله« :أصح مذاهب» أي :أصح مذاهب األمصار ،أصح مذاهب أهل المدائن االسالمية شرقا
وغربا ،كما تقدم معنا أن المذاهب كانت يف صدر االسالم تنسب لألمصار ،فمن المذاهب التي ُذكرت
مذهب أهل المدينة ومذهب أهل مكة ويسميان مذهب الحجاز ،ومذهب الثالث مذهب أهل الكوفة،
والمذهب الرابع مذهب أهل البصرة ،ويسميان مذهب أهل العراق ،والخامس مذهب أهل الشام،
والسادس مذهب أهل اليمن ،والسابع مذهب أهل مصر ،والثامن مذهب أهل خراسان.
وسيأيت تسمية هذه المذاهب واألمصار يف محلها إن شاء اهلل ومن ذكرها وهذا معنى قوله« :شرقا
أيضا بالنسبة لمصر
وغربا» فالغرب يشمل الشام ومصر ألن أهل المدينة يسمون الشام غربا ،ومثله يقال ً
فإهنا تكون كذلك غربا.
قوله« :يف األصول والفروع» هذا ما ذكرنا قبل قليل أن األصول نوعان :أصول يستنبط بواسطة فيها
الحكم وهي التي تبحث يف مسائل أصول الفقه ،وأصول يستنبط منها الحكم وهي التي تسمى بالقواعد
الفقهية،
والفروع :ألن الفروع مبنية على األصول ،فإذا صحت األصول صحت الفروع.
قال المصنف « :وهذه األعصار الثالثة هي أعصار القرون الثالثة المفضلة؛ التي قال فيها النبي
‰يف الحديث الصحيح من وجوه« :خير القرون القرن الذي بعثت فيهم؛ ثم الذين يلونهم؛ ثم
الذين يلونهم».
هذه القرون الثالثة ،فقوله« :القرن الذين ُب ِعثت فيه» هم الصحابة ،ثم الذين يلوهنم هم التابعون ،ثم
الذين يلوهنم هم تابعوا التابعين.
قال المصنف « :فذكر ابن حبان بعد قرنه قرنين بال نزاع ويف بعض األحاديث الشك يف القرن الثالث
بعد قرنه وقد روي يف بعضها بالجزم بإثبات القرن الثالث بعد قرنه فتكون أربعة .وقد جزم بذلك ابن حبان
البستي ونحوه من علماء أهل الحديث يف طبقات هذه األمة فإن هذه الزيادة ثابتة يف الصحيح».
ومؤدى كالم الشيخ أن األحاديث التي س ُيوردها بعد قليل قد اختلفت :هل القرون الخ ّيرة التي
ذكرها النبي ‰إثنان أم ثالثة أم أربعة؟ وسيورد األحاديث بعد قليل.
ثم ب ّين أن جماعة من أهل الحديث كابن حبان ال ُبستي وهو :أبو حاتم صاحب «التقاسيم واألنواع»
قد جزم بأمور ،قال« :وقد جزم بذلك ابن حبان» ،الذي جزم به ابن حبان أمور:
األمر األول :أن القرون الفاضل والمفضلة ثالثة.
األمر الثاين :جزم بأن أولى المذاهب يف التقديم هو مذهب أهل المدينة ،وقد ذكر ذلك ابن حبان
يف كتابه المشهور وقد طبع من عشرات السنين ،ربما مئة سنة وهو كتاب «طبقات مشاهير األمصار» ،ذكر
يف هذا الكتاب :أن القرون ثالثة :الصحابة والتابعون وتابعوا التابعين ،وذكر أن المدائن التي فيها العلم:
ستة ،المدينة والبصرة والكوفة ومصر واليمن ّ
والشام ،ولم يذكر مكة ،وسبب عدم ذكره لمكة أهنا دخلت
يف مذهب أهل المدينة لقرهبا منه وألهنما معا يسميان مذهب أهل الحجاز ،هذا معنى قوله« :وقد جزم
بذلك ابن حبان ونحوه من علماء أهل الحديث يف طبقات هذه االمة».
قوله« :يف طبقات هذه األمة» أي :يف كتبهم التي صنفوها الطبقات ككتاب طبقات مشاهير علماء
األنصار البن حبان.
ثم أورد المصنف الشيخ تقي الدين األحاديث التي يف الباب ونأخذها قراءة.
6
قال المصنف « :أما أحاديث الثالثة ففي الصحيحين عن عبد اهلل بن مسعود قال :قال رسول اهلل
صلى اهلل تعاىل عليه وسلم « :خير أمتي القرن الذين يلونني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم
تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته» .ويف صحيح مسلم عن عائشة قالت« :سأل رجل رسول
اهلل صلى اهلل تعاىل عليه وسلم :أي الناس خير؟ قال :القرن الذي بعثت فيهم؛ ثم الثاين؛ ثم الثالث».
هذان الحديثان اللذان أوردهما فيهما الجزم بأن القرون ثالثة.
قال المصنف « :وأما الشك يف الرابع؛ ففي الصحيحين عن عمران بن حصين أن رسول اهلل صلى اهلل
تعاىل عليه وسلم قال« :إن خيركم قرين؛ ثم الذين يلونهم؛ ثم الذين يلونهم قال عمران :فال أدري أقال
رسول اهلل صلى اهلل تعاىل عليه وسلم بعد قرنه مرتين أو ثالثا :ثم يكون بعدهم قوم يشهدون وال
يستشهدون؛ ويخونون وال يؤتمنون؛ وينذرون وال يوفون ويظهر فيهم السمن .ويف لفظ :خير هذه األمة
القرن الذي بعثت فيهم؛ ثم الذين يلونهم؛ ثم الذين يلونهم» الحديث وقال فيه»:ويحلفون وال
يستحلفون» .ويف صحيح مسلم عن أبي هريرة قال :قال رسول اهلل صلى اهلل تعاىل عليه وسلم« :خير أمتي
القرن الذي بعثت فيهم؛ ثم الذين يلونهم -واهلل أعلم :أذكر الثالث أم ال ؟ -ثم يخلف قوم يحبون
السمانة يشهدون قبل أن يستشهدوا» .وقوله يف هذه األحاديث« :يشهدون قبل أن يستشهدوا».
هذان الحديثان اللذان أوردهما المصنف:
اللفظ األول :أنه أورد أربعة قرون وهو يف الصحيحين من حديث عمران.
اللفظ الثاين :وهو يف مسلم من حديث أبي هريرة :شك هل القرون التي أوردها النبي
‰قرنان أم اهنا ثالثة؟ ثم سيأيت بعد قليل جمع المصنف بين هذه األحاديث جمعا حسنا.
قال المصنف« :وقوله يف هذه األحاديث« :يشهدون قبل أن يستشهدوا» قد فهم منه طائفة من
العلماء أن المراد به أداء الشهادة بالحق قبل أن يطلبها المشهود له وحملوا ذلك على ما إذا كان عالما؛
جمعا بين هذا وبين قوله« :أال أنبئكم بخير الشهداء :الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها» وحملوا الثاين
على أن يأتي بها المشهود له فيعرفه بها».
توجيها لبعض أهل العلم بين حديثين :الحديث الذي معنا وهو أنه ذكر
ً أورد الشيخ يف هذه الجملة
يف الذين يأتون بعد القرون الفاضلة من صفاهتم التي اقرتنوا هبا أهنم يشهدون قبل أن يستشهدوا؛ فهذه
صفة ذ ّم ألهنا جاءت يف سياق ذم يف مقابلة صفات الخيرية ،مع أنه قد ورد يف حديث آخر أن النبي
‰قال« :أال انبئكم بخير الشهداء الذي يأيت بشهادته قبل أن يسألها» ،فجمع بعض أهل العلم
صاحب عالما بالشهادة؛ فحينئذ ال
ُ كما ذكر المصنف :أن المذموم هو أن يشهد قبل أن ُيستشهد إذا كان
يؤدي الشاهد شهادته اال إذا طلبها منه ،وحملوا الحديث الثاين وهو قول النبي « :‰أال انبئكم
7
بخير الشهداء الذي يأيت بشهادته قبل أن ُيسألها» ،على أن المشهود له ال يعلم هبذه الشهادة ،فيأيت الشاهد
له فيخربه بأنه قد تحمل شهادة فيبدلوها له ،هكذا جماعة من أهل العلم ولكن الشيخ كما سيأيت يميل
لخالف ذلك.
قال المصنف « :والصحيح أن الذم يف هذه األحاديث لمن يشهد بالباطل كما جاء يف بعض ألفاظ
الحديث؛ ثم يفشو فيهم الكذب حتى يشهد الرجل وال يستشهد؛ ولهذا قرن ذلك بالخيانة وبترك الوفاء
بالنذر وهذه الخصال الثالثة هي آية المنافق كما ثبت يف الحديث المتفق عليه عنه صلى اهلل تعاىل عليه وسلم
أنه قال« :آية المنافق ثالث :إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان» ويف لفظ لمسلم« :وإن
صام وصلى وزعم أنه مسلم» فذمهم صلى اهلل تعاىل عليه وسلم على ما يفشو فيهم من خصال النفاق وبين
أنهم يسارعون إلى الكذب حتى يشهد الرجل بالكذب قبل أن يطلب منه ذلك؛ فإنه شر ممن ال يكذب
حتى يسأل أن يكذب».
ب ّين الشيخ يف ملخص كالمه هذا أن قول النبي ‰يف الذين يأتون بعد القرون الفاضلة أهنم
قوم يشهدون وال يستشهدون ،أهنم يشهدون بالكذب وبالباطل ال أهنم يشهدون بالحق ،وعلى ذلك
فيكون الحديث الثاين أن خير الشهداء الذي يأيت بشهادته قبل أن ُيسألها على اطالقه ،وإنما هذا الحديث
ُمقيد بداللة االقرتان ،فإن هذه الصفة صفة الذم أهنم يشهدون وال ُيستشهدون مقرتنة بقوله :‰
«ويخونون وال يؤتمنون وينذرون وال يوفون»؛ فالخيانة وعدم الوفاء مناسبة للكذب ،كما يف الحديث:
«آية المنافق ثالث ،إذا حدث كذب ،وإذا وعد أخلف ،وإذا اؤتمن خان» ،وهذا يف محله ،وهذا التوجيه
وجيه جدا؛ وبذلك أي :تجتمع النصوص وال تحتاج إلى حمل فيه بعض التكلف كما أورده المصنف
عن بعض أهل العلم ،ثم شرع المصنف الحديث عن طرق الجمع بين األلفاظ التي جاءت يف القرن
الرابع هل هو قرن فاضل أم ال؟.
قال المصنف « :وأما ما فيه ذكر القرن الرابع فمثل ما يف الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن
النبي صلى اهلل تعاىل عليه وسلم قال « :يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس فيقال لهم :هل فيكم من
رأى رسول اهلل صلى اهلل تعاىل عليه وسلم ؟ فيقولون :نعم فيفتح لهم ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم :هل
فيكم من رأى أصحاب رسول اهلل صلى اهلل تعاىل عليه وسلم ؟ فيقولون :نعم فيفتح لهم ثم يغزو فئام من
الناس فيقال لهم :هل فيكم من رأى أصحاب أصحاب رسول اهلل ‰؟ فيقولون :نعم فيفتح
لهم ثم يغزو فئام من الناس فيقال :هل فيكم من رأى أصحاب أصحاب أصحاب رسول اهلل
‰؟ فيقولون :نعم .فيفتح لهم ولفظ البخاري :ثم يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس»
ولذلك :قال صلى اهلل تعاىل عليه وسلم يف الثانية والثالثة وقال فيها كلها :صحب ولم يقل رأى .ولمسلم
من رواية أخرى « :يأتي على الناس زمان يبعث فيهم البعث فيقولون :انظروا هل تجدون فيكم أحدا من
أصحاب رسول اهلل صلى اهلل تعاىل عليه وسلم ؟ فيوجد الرجل فيفتح لهم به ثم يبعث البعث الثاين
8
فيقولون :هل فيكم من رأى أصحاب رسول اهلل صلى اهلل تعاىل عليه وسلم ؟ فيقولون :نعم فيفتح لهم ثم
يبعث البعث الثالث فيقولون :انظروا هل ترون فيكم من رأى من رأى أصحاب رسول اهلل صلى اهلل تعاىل
عليه وسلم ؟ ثم يكون البعث ال رابع فيقال :انظروا هل ترون فيكم أحدا رأى من رأى أحدا رأى أصحاب
رسول اهلل صلى اهلل تعاىل عليه وسلم ؟ فيوجد الرجل فيفتح لهم به».
قال المصنف« :وحديث أبي سعيد هذا يدل على شيئين :على أن صاحب النبي صلى اهلل تعاىل عليه
وسلم هو من رآه مؤمنا به وإن قلت صحبته؛ كما قد نص على ذلك األئمة أحمد وغيره .وقال مالك :من
صحب رسول اهلل صلى اهلل تعاىل عليه وسلم سنة أو شهرا أو يوما أو رآه مؤمنا به فهو من أصحابه له من
الصحبة بقدر ذلك .وذلك أن لفظ الصحبة جنس تحته أنواع يقال :صحبه شهرا؛ وساعة».
ذكر املصنف أن حديث أبي سعيد يدل على أمرين:
األمر األول :أن الصحابي هو الذي رأى النبي ‰مؤمنا به هذا القيد الثاين ،وقوله:
«رأى النبي »‰قالوا وإن كان رؤيته قليلة ليست طويلة ولم يصاحبه فرتة طويلة ،وهذا خال ًفا
لما نقله المصنف عن مالك أن من رأى النبي ‰سنة أو شهر ًا أو يوما أو رآه مؤمنا به فإنه
يكون من أصحابه له من الصحبة بقدر ذلك.
والفرق بين قول مالك وقول غيره من األئمة :أن األئمة يقولون أن الصحبة وصف يتّفق عليه
الجميع ،وأما قول مالك فإنه يرى أن الصحبة تزيد وتنقص ،فإن من أصحاب النبي ‰من
كانت صحبته طويلة ومنهم من كانت صحبته قصيرة.
وقد أشار النبي ‰إلى ذلك حينما قال لبعض أصحابه« :دعوا لي أصحابي»؛ فهنا قوله:
«أصحابي» أي :أصحابي الذين كان لهم قدم ،وتقدموا يف اإلسالم واطالوا صحبته.
فالمقصود أنه كما ذكر المصنف أن لفظ الصحبة جنس ،تحته أنواع :فمنهم من ِ
صحبه شهرا ومنهم
من صحبه ساعة ومنهم من صحبه مدة طويلة.
وال شك أن من أكثر أصحابه مصاحبة له قبل البعثة وبعدها هو أبو بكر .
قال المصنف « :وقد بين يف هذا الحديث أن حكم الصحبة يتعلق بمن رآه مؤمنا به؛ فإنه ال بد من
هذا».
أي :البد من اإليمان به ،فأما من لم يؤمن به فليس بصحابي ،وهذا اإليمان قالوا البد فيه من شرطين
الشرط األول :أن يكون قد رآه وهو مؤمن ،وأما من آمن بعد رؤيته فال يسمى صحاب ًيا ،فكان رآه
قبل إيمانه ثم أسلم ولم ير النبي ‰؛ فال يكون صحاب ًيا.
9
الشرط الثاين :من ارتد بعد رؤية النبي ،‰فإنه يخرج منه فضل الصحابة ،وإن دخل يف
اللفظ اللغوي بأنه صحابي من باب اللغة أيِ :
صحب ،ولكنه يف المعنى االصطالحي ال يكون كذلك.
وأما من أسلم به ورآه مؤمنا ثم ارتد ثم عاد :فهذه مشهورة جدً ا وهو أن الزائل العائد هل يكون
حكمه كحكم العائد ابتداء أم حكمه حكم من لم يزل؟.
قال المصنف« :ويف الطريق الثاين لمسلم ذكر أربعة قرون ومن أثبت هذه الزيادة قال :هذه من ثقة».
أي :أن الشيخ يقول أن من اثبت هذه الزيادة وهي الرابعة فإنه يقول أن هذه زيادة ثقة ،وإذا تركتها
األحاديث الباقية فال أثر لهذا الرتك؛ ألهنا من زيادة الثقة وهذا مبحث أصولي مشهور جدً ا ،وهي مسألة
زيادة الثقة ،ومحققو أهل علماء الحديث ال يقبلون زيادة الثقة مطل ًقا إال بشروط ،ثم وجه الشيخ الشك
يف حديث أبي هريرة.
قال المصنف« :كما أنه لما شك يف حديث أبي هريرة أذكر الثالث ؟ لم يقدح يف سائر األحاديث
الصحيحة التي ثبت فيها القرن الثالث .ومن أنكرها قال يف حديث ابن مسعود الصحيح :أخبر أنه بعد
القرون الثالثة يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه؛ ويمينه شهادته فيكون ما بعد الثالثة ذكر بذم».
بعضا من أهل العلم يقول إنما األفضلية للقرون الثالثة فقط دون القرن
كالم الشيخ هنا معناه :أن ً
الرابع ،ألنه جاء يف حديث ابن مسعود وغيره ذم أهل القرن الرابع بأهنم تسبق شهادهتم ايماهنم ،وايماهنم
شهادهتم ،فيكون ذلك القرن مذمو ًما فكيف يمدح؟ ثم جمع الشيخ بين القولين.
قال المصنف « :وقد يقال :ال منافاة بين الخبرين؛ فإنه قد يظهر الكذب يف القرن الرابع .ومع هذا
فيكون فيه من يفتح به التصال الرؤية».
وهذا الجمع يف الحقيقة جيد ،ووجه هذا الجمع ومعناه :أن القرن الرابع فيه خيرية ،لكن خيريته دون
القرون الثالثة التي قبله وال شك؛ ولذلك إنما ذكر يف حديث أو حديثين كحديث أبي سعيد ،فيكون يف
أهل ذلك القرن من الخيرية ما قد ُيشابه القرون الثالثة الفاضلة ،وأهل القرن الرابع هم الذين بينهم وبين
النبي ‰ثالثة ،ولذلك كان أهل العلم ُيعنون بذكر الثالثيات ويرون أنه شرف لهم أن تكون
لهم ثالثيا ت ليكونوا من أهل القرن الرابع؛ وأما من له ثنائيات من علماء الحديث فإنه يكون من أهل
القرن الثالث وال شك.
10
قال المصنف« :ويف القرون التي أثنى عليها رسول اهلل صلى اهلل تعاىل عليه وسلم»( ،أي :القرون
الثالثة األولى) «ويف القرون التي أثنى عليها رسول اهلل صلى اهلل تعاىل عليه وسلم» (وعرفنا أن المدائن
واألمصار ستة أو سبعة) «فإنهم» (أي :أهل المدينة) «يتأسون بأثر رسول اهلل ‰أكثر من سائر
األمصار» ،وال شك ذلك ،والسبب أن السنة كانت فيهم ظاهرة واألحاديث المروية موجودة ،فكانوا
يستنون هبذه االثار والسنن.
قال المصنف« :وكان غيرهم من أهل األمصار دونهم يف العلم بالسنة النبوية واتباعها» ال شك يف
ذلك؛ ألن الصحابة كانوا يف المدينة أكثر منهم يف باقي األمصار ،وإذا رجعنا إلى كتاب ابن حبان المذكور
الذي نقل عنه الشيخ وهو «طبقات مشاهير علماء األمصار» ،نجد عدد الصحابة الموجودين يف المدينة
يف ذلك الوقت مقارنة بغيرهم كبير جدً ا ،بل قد يصل إلى أضعاف الموجودين يف بعض األمصار،
والصحابة هم نقلة العلم والسنة؛ فإذا قلوا قل العلم بالسنة خاصة يف القرن الثاين وهم التابعون.
قوله« :وكان غيرهم من أهل األمصار دونهم يف العلم بالسنة النبوية واتباعها»؛ ألن اتباع السنة تبع
حريا بإتباعها ومن قل علمه هبا ،قل اتباعه وهو معذور على ذلك. للعلم ،فمن علم السنة كان ِ
قال المصنف« :حتى أنهم ال يفتقرون إلى نوع من سياسة الملوك وأن افتقار العلماء ومقاصد
العباد أكثر من افتقار أهل المدينة».
معنى هذه الجملة أن أهل المدينة لما كانت عندهم اآلثار واضحة وجل ّية كانوا ال يحتاجون إلى
مثال ،ومثل ما يتعلق
االجتهاد يف أبواب السياسة؛ فإن هناك أبوا ًبا من باب السياسة كالمصالح المرسلة ً
أيضا ببعض األمور األخرى التي يحتاجها من افتقد الدليل ،فيبحث حينئذ يف
بالتعازير ،ومثل ما يتعلق ً
األدلة االجتهادية؛ فهذه حاجة أهل المدينة إليها أقل من غيرهم ،ويظهر ذلك بوالة أهل المدينة كعمر بن
لما ولي الخالفة كان عمله باآلثار أكثر من عمله بالسياسة
عبد العزيز فقد كان واليا على المدينة ،ثم ّ
واالجتهاد ،المقصود بالسياسة هو قضية البناء على المصالح وهذه اللي تسمى بالسياسة الشرعية.
قال المصنف« :حيث كانوا أغنى من غيرهم عن ذلك كله بما كان عندهم من اآلثار النبوية».
واآلثار النبوية هو النقل ،أحاديث الرسول ‰وأقوال الصحابة رضوان اهلل عليهم؛ ألن
أقوالهم يف كثير من أحوالها لها حكم الرفع.
قوله« :التي يفتقر إلى العلم بها واتباعها كل أحد» أي :كل أحد يحتاج إليها والبد أن يعمل هبا ،لكنها
لما ارادوا تدوين
ليست موجودة بكثرة وجودها عند أهل المدينة ،فهي حاضرة؛ ولذلك فإن الخلفاء ّ
السنة أول من ُامر به أو اشير إليه بكتابتها وتدوينها هم أهل المدينة؛ كعمرو بن حزم وغيرهم من علماء
11
الحديث.
قال المصنف« :ولهذا لم يذهب أحد من علماء المسلمين إلى أن إجماع أهل مدينة من المدائن
حجة يجب اتباعها غير المدينة ال يف تلك األعصار وال فيما بعدها ال إجماع أهل مكة؛ وال الشام؛ وال
العراق؛ وال غير ذلك من أمصار المسلمين».
أي :أن مما يدل على أن أهل العلم ُيعظمون مذهب أهل المدينة يف القرون الثالثة األولى :أن قولهم
يف تلك القرون الثالثة قيل :أنه حجة بل وقيل :أنه إجماع ،وسيأيت إن شاء اهلل التفريق بين الحجة
واإلجماع.
هذا يدلنا على أن قولهم وأصولهم من أقوى األصول ،يف المقابل لم يذكر عن أحد أنه قال :أن عمل
أهل مكة يكون حجة أو إجماعا ،وإن قيل أنه حجة يف بعض الصور التي سنشير إليها فيما بعد ،لكن لم
يقل أحد أن أهل مكة لهم إجماع أو أهل الشام لهم إجماع أو العراق من البصرة والكوفة يكونوا اجماعا.
قوله« :ولهذا لم يذهب أحد من علماء المسلمين إلى أن إجماع أهل مدينة من المدائن حجة يجب
اتباعها غير المدينة ال يف تلك األعصار وال فيما بعدها ال إجماع أهل مكة؛ وال الشام؛ وال العراق؛ وال غير
ذلك من أمصار المسلمين»؛ كاليمن وخرسان.
قال المصنف « :ومن حكى عن أبي حنيفة أو أحد من أصحابه أن إجماع أهل الكوفة حجة يجب
اتباعها على كل مسلم فقد غلط على أبي حنيفة وأصحابه يف ذلك».
ُو ِجد يف بعض كتب األصول أن ً
بعضا من الحنفية يقولون :إن إجماع أهل الكوفة حجة يجب اتباعه،
والحقيقة :إنه كما قال الشيخ تقي الدين إن هذا ال ُيعرف يف كتب أبي حنيفة وال يف كتب أصحابه ،بل أن
الجصاص يف كتابه «الفصول» أورد ذلك من باب اإللزام فقط ،لمن قال إن عمل أهل
ّ أبا بكر الرازي
المدينة حجة وإن إجماعهم حجة ،ولم يقل بذلك ،ولم أتتبع الحقيقة أول من قال ذلك ،لكن أوال من
وقفة عليه على سبيل الو قوف من غير قصد هو ابن حزم ،فقد نقل ابن حزم أن بعض أصحاب أبي حنيفة
يقولون :إنه حجة ،وهذا اشتُهر يف كتب كثير من علماء المغرب من األصوليين كابن جزي وبعد ذلك
أخذه القرايف ثم اشتهر عن القرايف بعد ذلك أنه قول مختلف فيه ،ولكن كما قال الشيخ تقي الدين :إن من
نسب ذلك لمذهب أبي حنيفة النعمان وأصحابه فقد غلط عليهم.
12
قال المصنف « :وأما المدينة فقد تكلم الناس يف إجماع أهلها واشتهر عن مالك وأصحابه أن
إجماع أهلها حجة وإن كان بقية األئمة ينازعونهم يف ذلك».
هذه المسألة سيأيت لها تفصيل يف كالم الشيخ لكن أورد بعض المسائل المتعلقة هبا ،عمل أهل
المدينة ألهل العلم فيه نظر يف مسائل:
المسألة األولى :هل هو إجماع أم ليس إجماعا؟.
المسألة الثانية :هل هو حجة أم ليس حجة؟.
الح ّجية واإلجماع أن كل إجماع حجة ،لكن ليس كل ُحجة يكون إجما ًعا ،ألن اإلجماع
والفرق بين ُ
ال يجوز مخالفته وخاصة إذا كان قطع ًيا ،وأما الحجة فإنه قد تعارضه حجة أخرى بل قد تكون أقوى منه
فتُقدم عليه ،فيصح االحتجاج به ابتداء هذا معنى قولهم إنه يكون حجة.
فأقوى ما قيل يف الحجية :ما ُذكر أن مال ًكا وأصحابه يقولون :إن عمل أهل المدينة يكون حجة ،وكما
سيأيت يف كالم الشيخ :المراد أهل المدينة إنما هم يف القرون الثالثة فقط دون ما عداها ،والحقيقة أن نسبة
هذا لمالك فيه تأمل عند بعض أهل العلم؛ فقد ذكر ابن القيم أن مالكًا لم يقل قط يف موطئه وال يف غيره
أخبارا مجر ًدا أن هذا هو عمل
ً من الكتب أنه ال يجوز العمل بغير عمل أهل المدينة ،وأنه إنما كان ُيخرب
نقال عن غيره من
أهل بلده ،فادعى إجماع أهل بلده يف نحو من نيف وأربعين مسألة ،وقد ذكر ابن القيم ً
بعضا من هذه المسائل التي نقلها اإلمام مالك أن بعضها ُعرف فيه خال ًفا بين أهل المدينة
أهل العلم أن ً
أنفسهم ،وبعضها ُعلم خال ًفا لغيره من علماء األمصار فيها؛ ولذلك فإن أصحاب اإلمام مالك اختلفوا يف
معنى أن عمل أهل المدينة يكون حجة ،فمن توجيهاهتم يف ذلك ما ذكره القرايف يف «التنقيح» عن بعض
المالك ّية وانتصر لها :إن المراد لمالك يف ذلك أن إجماعهم يكون حجة فيما يكون طريقه النقل فقط،
كالساعي وغيره.
وقيل :إن مالكًا إنما أراد الرتجيح بين إجماعهم وإجماع غيرهم؛ وأما جماعة من محققي أصحاب
مالك القاضي عبد الوهاب بن نصر يف كتابه يف أصول الفقه وغيره ،فقد ذكروا أن عمل أهل المدينة ال
حجة ،و ُذكر أن الذين ُي َغ ِّلبون أن إجماعهم يكون ّ
حجة إنما هم بعض أصحاب يكون إجما ًعا وال يكون ّ
مالك من أهل المغرب ،وهذا الكالم سيأيت -إن شاء اهلل -اإلشارة له يف كالم الشيخ بعد قليل ،لكن
اختصرت هنا اختصارا.
13
قال المصنف« :وأما بعد ذلك فقد اتفق الناس على أن إجماع أهلها ليس بحجة».
قال المصنف« :إذ كان حينئذ يف غيرها من العلماء» (أي :يف غير المدينة من األمصار من العلماء)
«ما لم يكن فيها» ؛ ألن المدينة بعد القرون الثالثة ،أي :حدثت من الظروف ما جعلت كثيرا من أهل
العلم ينتقل عنها ،واألمصار وحواضر العلم تتغير من عصر إلى عصر ،ولكن اهلل يحفظ مدينة
رسوله ومكة من انقطاع العلم هبما ،فإنه ما من مِصر من األمصار إذا ظهر فيه العلم قد يقوى وقد
يضعف ،وقد ينعدم يف عصر ما ،إال مكة والمدينة ،فإنه ال ينقطع منهما العلم البتة ،ذكر ذلك جماعة من
أهل العلم المتأخرين يف تواريخهم.
قال المصنف« :إذ كان حينئذ يف غيرها من العلماء ما لم يكن فيها ال سيما من حين ظهر فيها
الرفض»؛ أي :المدينة« ،فإن أهلها كانوا متمسكين بمذهبهم القديم» أي :مذهب اإلمام مالك« ،منتسبين
إلى مذهب مالك إلى أوائل المائة السادسة أو قبل ذلك أو بعد ذلك»؛ ألنه على سبيل التقريب؛ «فإنهم
قدم إليهم من رافضة المشرق من أهل قاشان وغيرهم من أفسد مذهب كثير منهم» عندنا هنا يف هذه
الجملة مسألتين:
المسألة األولى :يف قضية قول الشيخ الرافضة ،أهل العلم قديما يفرقون بين أمرين :بين التشيع
وبين الرفض.
علي
علي على عثمان ،وقد يكون شديدً ا وهو تقديم ٍّ
فيرون أن التشيع قد يكون خفيفًا وهو تقديم ٍّ
على الشيخين أو أحدهما.
وأما الرفض فإنه سب الشيخين ،ولم يظهر هذا الرفض يف العصور األولى وإنما تأخر بعض الشيء؛
ولذلك فإن زيد ًا بن علي الذي ُينسب إليه المذهب الزيدية ،ذكروا أنه هو أول من سمى الذين س ّبوا
الشيخين ،وهم خؤولته؛ ألن خؤولته من آل أبي بكر سماهم بالرافضة ،ولذلك الفرق بين الرافضة
والشيعة ما تقدم.
فالرفض :وهو سب الشيخين لم يعرف يف المدينة إال يف القرن السادس ،بل السابع أوائل المئة
السادسة ،وهذا الكالم من الشيخ قاله غيره من أهل العلم ،فإن من المؤرخين الكبار للمدينة يف
ً
تاريخا للمدينة يسمى «نصيحة المشاور» ذكر فيها ذلك الوقت أبي محمد بن فرحون المالكي؛ فإن له
14
مثل ما قال الشيخ ،فقد ذكر أن المدينة لم يكن هبا أحد ممن يعرف بمذهب األمامية حتى جاء
القيشانيون ،وأهنم كانوا أهل مال عظيم ،يؤلفون ضعفه الناس بالمال ،فيعطوهنم المال ويعلموهنم قواعد
مذهبهم ،وأهنم ألجل مالهم ادخلوا هذا المذهب للمدينة حتى أنه تزوج منهم بعض الشافعية ،فذكره أن
إحدى الشافعيات تزوج ابنته وربما تأثر بمذهبهم بعد ذلك ،المقصود من هذا أن كالم الشيخ وافقه غيره
من المؤرخين كابن فرحون ،وابن فرحون يعترب تاريخه هذا من أشهر أو أميز التواريخ التي أرخت تلك
الحقبة وهو القرن السابع والثامن.
قال المصنف« :من أفسد مذهب كثير منهم ال سيما المنتسبون منهم إلى العترة النبوية».
أي :إلى النسب الشريف للنبي ،‰فإن محبة َع ْث َرة النبي ‰من محبة النبي
وغره ،ولذلك قال النبي
‰؛ فإذا فسد المنتسب لهذا النسب الشريف ربما أثر إلى غيره ّ
« :‰من بطأ به عمله لم ُيسرع به نسبه».
قال المصنف « :وقدم عليهم بكتب أهل البدع المخالفة للكتاب والسنة وبذل لهم أمواال كثيرة
فكثرت البدعة فيها من حينئذ».
قال المصنف « :فلم يكن فيها بالمدينة النبوية بدعة ظاهرة ألبتة وال خرج منها بدعة يف أصول الدين
ألبتة كما خرج من سائر األمصار فإن األمصار الكبار التي سكنها أصحاب رسول اهلل صلى اهلل تعاىل عليه
وسلم .وخرج منها العلم واإليمان خمسة :الحرمان والعراقان والشام؛ منها خرج القرآن والحديث والفقه
والعبادة وما يتبع ذلك من أمور اإلسالم».
ذكر الشيخ يف هذه الجملة أن األمصار التي كان فيها الصحابة خمسة :مكة والمدينة ،والعراقانة:
أيضا معنا أن ابن حبان ذكر اليمن،
وهي الكوفة والبصرة ،والشام تشمل ذلك دمشق وما جاورها ،سبق ً
ولكن اليمن لم يخرج لها إال عدد قليل جدً ا من الصحابة ،وكذلك خراسان ال يعرف إال عدد قليل جدً ا
من الصحابة مر هبا ومكث ،وقد عني جمع من أهل العلم بجمع طبقات العلماء يف كل مِصر من هذه
األمصار ،فعلي سبيل المثال يف اليمن من أجود وأقدم ما كُتب يف ذلك كتاب َا ْل ُجن ِْد ّي «طبقات فقهاء
15
اليمن» ويف خراسان :كتاب أبي الشيخ األصبهاين وكتاب أبي نعيم األصبهاين كذلك ،فقد تتبعوا من دخل
كثيرا جدً ا وكتبهم
أصبهان من عهد الصحابة ومن بعدهم ،وأما الشام والعراق والمدينة فالذين كتبوا فيها ً
معروفة ومتداولة.
فإنه لم يخرج منها بد ًعا أصولية ،أي :التي سيذكرها بعد قليل.
قال المصنف« :فالكوفة خرج منها التشيع واإلرجاء وانتشر بعد ذلك يف غيرها».
أي :من البلدان« ،والبصرة خرج منها القدر واالعتزال والنسك الفاسد»؛ ألنه مشهور عن أهل
البصرة أن فيهم تنسكا فاسدا ،أي :من غير علم ،وقد ذ ّم ذلك جماعة من السلف رضوان اهلل عليهم
ورحمهم ،وكان بعضهم يسميهم القراء يف البصرة ،أي :القراء الذين تمسكوا من غير علم وإنما كان
بجهل.
قال المصنف« :فلما حدثت الفرقة» (أي :بين المسلمين)« ،بعد مقتل عثمان ظهرت بدعة
الحرورية» (وهم الخوارج) « ،وتقدم بعقوبتها الشيعة من األصناف الثالثة الغالية حيث حرقهم علي
بالنار» (هذه الفرقة األولى) «والمفضلة حيث تقدم بجلدهم ثمانين والسبائية» (نسبة لعبد اهلل بن سبأ)
«حيث توعدهم وطلب أن يعاقب ابن سبأ بالقتل أو بغيره فهرب منه» ذكر الشيخ أن عليًا عاقب
الغالة من الشيعة وهم ثالث فرق:
قال المصنف « :ثم يف أواخر عصر الصحابة حدثت القدرية يف آخر عصر ابن عمر وابن عباس؛
وجابر؛ وأمثالهم من الصحابة».
كما يف مقدمة صحيح مسلم ونعلم ذلك.
قال المصنف« :وأما الجهمية فإنما حدثوا يف أواخر عصر التابعين بعد موت عمر بن عبد العزيز
وقد روي أنه أنذر بهم».
أي :أنذرهم وهددهم.
قال المصنف « :وكان ظهور جهم بخراسان يف خالفة هشام بن عبد الملك وقد قتل المسلمون
شيخهم الجعد بن درهم قبل ذلك ضحى به خالد بن عبد اهلل القسري وقال :يا أيها الناس ضحوا تقبل اهلل
ضحاياكم فإين مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن اهلل لم يتخذ إبراهيم خليال ولم يكلم موسى تكليما
تعا لى اهلل عما يقول الجعد بن درهم علوا كبيرا ثم نزل فذبحه .وقد روي أن ذلك بلغ الحسن البصري
وأمثاله من التابعين فشكروا ذلك».
هذه القصة :قصة قتل وتضحية خالد بن عبد اهلل القسري بالجعد بن درهم ،هذه لها طرق ،فقد
رويت عند الدارمي ولها شاهد عند الموصلي يف «تاريخه» ،وهذه الشواهد تدل على صحة هذه القصة
17
وأهنا ثابتة.
قال المصنف« :وأما المدينة النبوية فكانت سليمة من ظهور هذه البدع».
قال المصنف« :وإن كان بها من هو مضمر لذلك فكان عندهم مهانا مذموما».
أي :قد يوجد ناس يكون يف دواخلهم ذلك ،لكنهم ال يظهرونه ،مثال ما كان هنالك منافقون يف عهد
النبي ‰ويف عهد الصحابة؛ فإنما يف القلوب يختلف عما يظهر ويكون معلن به.
قال المصنف « :إذ كان بها قوم من القدرية وغيرهم ولكن كانوا مذمومين مقهورين بخالف التشيع
واإلرجاء بالكوفة واالعتزال وبدع النساك بالبصرة والنصب بالشام؛ فإنه كان ظاهرا».
قال المصنف« :وقد ثبت يف الصحيح عن النبي صلى اهلل تعاىل عليه وسلم «أن الدجال ال يدخلها».
قال المصنف « :ويف الحكاية المعروفة أن عمرو بن عبيد وهو رأس المعتزلة مر بمن كان يناجي
سفيان الثوري ولم يعلم أنه سفيان فقال عمرو لذلك الرجل :من هذا ؟ فقال :هذا سفيان الثوري أو قال:
من أهل الكوفة قال :لو علمت بذلك لدعوته إلى رأيي ولكن ظننته من هؤالء المدنيين الذين يجيئونك
من فوق».
مر بسفيان الثوري وأراد أن يدعوه لبدعته وهو االعتزال وما يتبع
هذا الكالم من عمرو بن عبيد لما ّ
ذلك من الشر وهو رأي القدرية وغيرها ،لما قيل له إنه من أهل الكوفة ،كأنه تساهل أن يكلمه ،بخالف
ما لو كان من أهل المدينة ،فإنه قال ظننته من هؤالء المدنيين أي :من أهل المدينة ،الذين يجيئونك من
فوق ،أي :يستدلون باألثر ،ويستدلون بقال اهلل قال رسوله ويستدلون بالوحي ،فإن هؤالء الذين يستدلون
بالوحي ال يستطيع أصحاب الحجاج العقلي أو أهل البدع أن ير ّدوا عليهم ما استدلوا به؛ ولذلك فإن
المدينة كانوا من أشد الناس على أه ل البدع ،ولما دخل رجل على مالك وأراد أن يتكلم منعه مالك أن
يتكلم ،فلما نطق من غير إذن مالك سد مالك أذنيه ،وقال :أو كلما أحدث امرؤ حدث تركنا ديننا ألجله؛
فالمقصود أن الذي يجيئك من فوق بالنقل واألثر ويع ّظم النص ويج ّله ويدع كل قول قائل يف مقابله؛ فإن
هذا يتحي ر فيه أهل البدع كما يتحير الشيطان يف أهل العلم بالوحيين ،ولما علم عمرو بن عبيد أن سفيان
من أهل الكوفة ظن أنه من السهل عليه أن يدعوه لبدعته ،والظن أن عمرا لو دعا سفيان لر ّده سفيان ،فإن
سفيان من أئمة علماء الحديث رحمهم اهلل تعالى ،لكن أورد الشيخ هذه القصة لبيان أن أهل األمصار
18
يختلفون يف طريقة تفكيرهم ،وان هناك ارتباطا بين النقل من جهة وبين األصول العقدية والكالم الفروع.
أي :بالمدينة.
قال المصنف« :ظاهرا إلى زمن أصحاب مالك وهم أهل القرن الرابع».
قال المصنف« :حيث أخذ ذلك القرن عن مالك وأهل طبقته كالثوري؛ واألوزاعي؛ والليث بن
سعد؛ وحماد بن زيد؛ وحماد بن سلمة؛ وسفيان بن عيينة؛ وأمثالهم .وهؤالء».
كلهم أي :من الذين أدركوا الطبقة الثانية من التابعين .
أي :التابعين.
لعلنا نقف اليوم عند هذا القدر ،لكي نكمل غدً ا بمشيئة اهلل ،كالم الشيخ يف ما يتعلق بإجماع
أهل المدينة ،اسأل اهلل العظيم رب العرش الكريم أن يمنى علينا جمي ًعا بالهدى والتقى ،وأن يرزقنا العلم
النافع ،والعمل الصالح ،وأن يتوالنا بهداه ،وصل اهلل على نبينا محمدً ا وعلى آله وصحبه أجمعين(.)1
﷽
الحمد هلل رب العالمين واشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له واشهد أن محمدً ا عبد اهلل ورسوله
تسليما كثيرا يوم الدين.
ً صلى اهلل عليه وعلى آلة وأصحابه وسلم
ُث َّم ّأما َب ْعد:
فهذا هو اللقاء الثاين يف شرح رسالة الشيخ تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
الحنبلي يف صحة أهل المدينة.
قال المصنف« :والتّحقيق يف مسألة إجماع أهل المدينة أن :منه ما هو متفق عليه بين المسلمين،
ومنه ما هو قول جمهور أئمة المسلمين ،ومنه ما ال يقول به إال بعضهم».
شرع المصنف يف هذه المسألة يف بيان التحقيق يف مسألة إجماع أهل المدينة ،وذلك أن
العلماء لهم كالم فيما اتفق عليه أهل المدينة من جهة حجيته ،فبعضهم يقول :إنه يكون حجة وبعضهم
يقول :إنه ال يكون حجة ،ومن قال إنه حجة ،بعضهم يقتصر على حجيته وال يقول إنه إجماع ،ومنهم من
يقول إنه إجماع وحجة معا ،والفرق بين من قال :إنه إجماع وحجة ،أنه إذا كان إجما ًعا وكان قطع ًيا؛ فإنه
ال يجوز مخالفته ،بخالف الحجة الذي ليس بإجماع؛ فإنه إذا عارضه دليل آخر فقد يقدم الدليل اآلخر
عليه أو يرجح بينهما بالمرجحات األخرى.
والذين يقولون :إنه ليس بحجة منهم من يهمله مطل ًقا ومنهم من يكتفي بكونه ُمرجح بين األدلة،
وهذا هو المشهور عند أصحاب اإلمام أحمد ،أهنم يقولون إن اإلجماع ليس بحجة لكنه مرجح بين
األدلة ،بمعنى أنه إذا تعارض قوالن يف المسألة؛ فإنه يرجح أحد الدليلين المتعارضين على اآلخر بعمل
أهل المدينة؛ وذلك أن العلماء يف األصول بينين أن األدلة درجات فمنها :أدلة يستدل هبا ابتداء وتسمى
أصول التشريع ،وهناك أدلة ال يرجع إليها إال عند فقد األدلة األولى وهي األدلة االستئناسية ،وهناك أدلة
للرتجيح بين األدلة المتعارضة وهذه يذكروهنا يف مباحث التعارض والرتجيح بين األدلة.
هنا ذكر الشيخ أن التحقيق يف مسألة إجماع أهل المدينة أنه نوعان ،فمنه ما هو متفق عليه بين
المسلمين ،أي :متفق على حجيته أو متفق على عدم حجيته ،ومنه ما هو قول جمهور أئمة المسلمين،
أي :إن جمهور العلماء على االحتجاج به ،ومنه ما ال يقول به إال بعضهم ،إن بعضا من فقهاء المسلمين
وأئمتهم يقول بحجيته ،وأما أغلبهم وجمهورهم فال يقولون بذلك.
20
شرع المصنف بذكر المراتب التي رأى أهنا من باب تحرير محل النزاع يف مسألة إجماع أهل
المدينة واتفاقهم ،هل يكون حجة أم ال يكون حجة ،وهل يأخذ حكم اإلجماع أم ال؟.
وهذه المراتب األربع أوردها الشيخ ،لكن الشيخ كما ُيعلم من طريقته ومعهود أسلوبه ،أنه يستطرد
كثيرا يف بعض االستط رادات الجانبية؛ ولذلك فإن بين كل مرتبة ومرتبة فصل طويل؛ ولذلك فإنه من
ً
المناسب أن أذكر هذه المراتب األربع على سبيل اإلجمال قبل أن نشرع بذكر المرتبة األولى التي
أوردها المصنف:
أول هذه املراتب األربع اليت ذكرها الشيخ ،ونقول إنها من باب حترير حمل النزاع:
المرتبة األولى :ما كان عمل أهل المدينة فيه يجري مجرى النقل عن النبي ،‰مثل
نقلهم صاع النبي ،‰ومثل تركهم لزكاة الخضروات ،ومثل َالتَّجبِيس وخروج ِ
الملك ونحو ْ
ذلك من األمثلة التي ستأيت ،فهذه ذكر الشيخ أهنا تكون حجة باتفاق.
المرتبة الثانية :العمل القديم الذي كان بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفان ،والمراد بذلك يف
وقت أبي بكر وعمر وعثمان رضي اهلل عن الجميع ،فذكر الشيخ أنه حجة يف مذهب جمهور
ومحكي عن أب حنيفة
ّ العلماء ،وقال إنه هو مذهب مالك ومنصوص الشافعي وظاهر مذهب أحمد
النعمان رحمة اهلل على الجميع ،وهذا الذي يسمى عندهم بالعمل القديم ،أي :عمل أهل المدينة القديم.
المرتبة الثالثة :هي مسألة التعارض بين األدلة ،فإذا كان هناك دليالن متعارضان سواء كانا حديثين
أو كانا من األدلة القياسية َو َج ِه َل أي :الدليالن أرجح ويقدم على غيره ،فإنه يقدم أحد القولين بعمل أهل
المدينة ،فيكون عمل أهل المدينة مرجحا ،وهذا الرتجيح به هو الذي يستدل به مالك والشافعي وأصح
كثيرا من األصوليين يف مسائل التعارض والرتجيح ،وسيأيت -إن شاء
الوجهين يف مذهب أحمد ،ويذكره ً
اهلل -لها يف كالم الشيخ.
المرتبة الرابعة :التي هي يف الحقيقة محل النزاع مالك واصل غيره من الجمهور وهو العمل
المتأخر ،والمراد بالعمل المتأخر :بعدما قتل عثمان ؛ فهل يكون حجة شرعية يجب اتباعه أم ال؟،
وإذا قلنا إنه حجة ،فهل يكون إجماع يأخذ حكم اإلجماعات؟ أم أنه حجة يتعارض مع األدلة األخرى؟.
هذه هي المسألة التي فيها خالف بين أهل العلم وسيأيت -إن شاء اهلل -النزاع فيها من كالم الشيخ
.
21
قال المصنف« :المرتبة األولى :ما يجري مجرى النقل عن النبي ،‰مثل نقلهم لمقدار
الصاع والمد وكترك صدقة الخضروات واالحتباس».
هذه ثالثة أمثلة أوردها المؤلف لعمل أهل المدينة الذي يأخذ حكم النقل ويجري مجراه،
وذلك مثل نقل أهل المدينة للصاع والمد؛ فإن أبناء المهاجرين نقلوا ِصي َعان َُهم عن اصواع آبائهم ،وقد
كان آباؤهم قد قدروا أصواهتم بصاع النبي ‰؛ فهذا بمثابة النقل ،وإن كان نقال فعليا؛ وكذلك
ترك صدقات الخضروات ،أي :زكاة الخضروات؛ فإن الخضروات التي تخرج من األرض كان الصحابة
ال يرون إخراج الزكاة منها يف عهد أبي بكر وعمر وعثمان رضي اهلل عن الجميع ،وسيأيت النقل يف هذه
المسألة كذلك ،واالحتباس :وذلك أن الصحابة كانوا ُيوقفون ويرون أن ملكهم قد خرج عنهم بمجرد
وقفهم ،وسيأيت الخالف المسائل وإنما أوردهتا على سبيل الجملة لكي نفهم هذه األمثلة التي أوردها
الشيخ.
وتعبير المصنف أنه حجة باتفاق العلماء هو بناء على ما رأى من عملهم؛ وإن لم يك قد نص بعضهم
على حجيته.
قال المصنف« :أما الشافعي وأحمد وأصحابهما فهذا حجة عندهم بال نزاع».
أما أحمد والشافعي فال نزاع عندهم أن هذا النقل مقبول ،وهو الذي يسميه بعض أهل العلم:
بالمتواتر ،فقد قيل إن الشافعي إذا أطلق المتواتر من الحديث فإنه أي :به المستفيض عند أهل الشأن،
وقد استفاض عند أهل المدينة بعض األخبار ،منها التي أوردها المصنف ،فتكون كالمستفيض
المتواتر ،وأحمد أيضا نص على هذا المستفيض المشهور عن أهل العلم ،وال شك يف أن المدينة :مدينة
علم ومحضن علم يف تلك ا لعصور المتقدمة ،فتكون حجة عندهم بال نزاع ،عند أحمد وأصحاب أحمد
والشافعي وأصحاهبما.
وأما مالك فهذا واضح من نصوصه الكثيرة عنه وعن أصحاب ،ثم شرع المصنف بذكر بيان مذهب
أبي حنيفة النعمان وأصحابه يف ما نقله أهل المدينة مما يجري مجرى النقل واألثر وب ّين من كالم بعض
أصحاب أبي حنيفة رحمة اهلل عليهم جميعا أن ذلك حجة.
22
قال المصنف« :قال أبو يوسف وهو أجل أصحاب أبي حنيفة وأول من ُل ّقب قاضي
القضاة».
قوله« :أجل أصحاب أبي حنيفة» لتقدمه ولنباهته ولعلمه ،ولذلك قيل هو من أجل
أصحاب أبي حنيفة ،وسيأيت بعض صفاته التي تم ّيز هبا .
لما اجتمع بمالك وسأله عن هذه المسائل وأجابه مالكا بنقل أهل المدينة
قال المصنفّ « :
المتواتر».
قوله «:المتواتر» أي :المستفيض بينهم والمشهور عندهم.
أي :إلى قول مالك يف هذه المسائل الثالث المتقدمة ،وهي مسألة الصاع والمد وزكاة الخضروات
واألوقاف أو االحتباس.
قال المصنف« :وقال» أي :أبي يوسف« ،لو رأى صاحبي» أي :به أبا حنيفة النعمان «مثل ما رأيت
لرجع مثل ما رجعت فقد نقل أبو يوسف أن مثل هذا النقل حجة عند صاحبه أبي حنيفة كما هو حجة عند
غيره» ،فهذا النقل الذي ذكره الشيخ تقي الدين يدل على أن أبا يوسف وأبا حنيفة يرون أن ما نقله أهل
المدينة عن أسالفهم مما يجري مجرى النقل عن فعل النبي ‰وإجماع كبار الصحابة يف عهد
أبي بكر وهو اإلجماع المتقدم (يف عهد أبي بكر عمر) فإنه يكن مثابة المسند ،بل هو قد يكون أقوى من
ذلك ،ع ّبر الشيخ بأنه :نقل متواتر عن أهل المدينة فيكون كالمستفيض ،ولذلك جزم بعض أهل أن
األخبار المستفيضة والمتواترة وخصوصا يف تلك العصور المتقدمةُ ،يستغنى باستفاضتها عن النظر يف
إسنادها ،وهذا له مبحث طويل جدا يرجع إليه يف علم يف كتب الحديث ويف كتب أصول الفقه كذلك.
وهذه نكتة عزيزة ،فقد أشار أبو يوسف إلى أن اإلمام أبا حنيفة لم تبلغه هذه اآلثار وهذا المنقول
فلذلك خالفها ،ولم تكن مخالفته لها عن قصد وعلم هبا.
قال المصنف« :كما لم يبلغه ولم يبلغ غيره من األئمة كثير من الحديث».
كثير من األئمة وخاصة يف األزمنة المتقدمة لم يكن أحد ُيحيط بجميع األحاديث لتفرق الصحابة
بين األمصار ،فقد كان يف المدينة حديث كثير لم يبلغ أهل العراق ،وربما كان عند أهل العراق أحاديث
لما قدم العراق واطلع على
لم تبلغ غيرهم من علماء الحجاز ،وهذا الذي جعل الشافعي ّ
23
حديثهم ،إذ كان أهل العراق يف عهد الشافعي قد جمعوا بين حديث أهل العراق والمدينة والشام
وغيرهم ،وجد أحاديث كثيرة لم يكن قد اطلع عليها فتغ ّير يف كثير من المسائل؛ فالسبب األهم يف رجوع
الشافعي عن القول القديم إلى القول الجديد :إنما هو علمه بأحاديث لم يكن قد علمها قبل ذلك؛ ولذا
كان الشافعي يقول ألحمد :إذا ثبت أو صح عندك الحديث فاكتبه لي ألعمل به أو بمقتضاه ،فسبب
رجوع الشافعي عن القول القديم للجديد إنما هو النقل واألثر ،وليس غير ذلك؛ فربما كان أمورا أخرى
لكن هذا هو األصل يف سبب تراجعه عن كثير من اآلراء ،وهو الذي يسمى بالمذهب الجديد.
قال المصنف « :كما لم يبلغ غيرهم من األئمة كثير من األحاديث ،فال لوم عليهم يف ترك ما لم
يبلغهم علمه».
وال شك يف ذلك؛ فإن اهلل قد رفع عن المسلمين جميعا الحرج ﱩ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ
ﯫﯬﱨ [البقرة.]286 :
قال المصنف« :وكان رجوع أبي يوسف إلى هذا النقل كرجوعه إلى أحاديث كثيرة اتبعها هو
وصاحبه محمد».
أي :إن أبا يوسف ومحمد بن الحسن اتبعا أحاديث وترك قول شيخهما أبي حنيفة رحمهما اهلل
تعالى جميعا ،وسبب مخالفتهم له إنما هو وقوفهم على النقل والحديث وهذا هو الظن هبم ،ولذلك
ُش ِّهر يف كتب الحنفية أن الصاحبين (أعني أبا يوسف ومحمد بن الحسن الشيباين) قد خالفا أبا حنيفة يف
ثلثي المذهب ،وهذا لورعهما وعلمهما وفضلهما وال شك ،وال يضير ذلك أبا حنيفة فإن اهلل رفع
عن المسلمين الحرج فيما جهلوه وال لوم على أبي حنيفة يف ذلك.
قال المصنف« :وتركا قول شيخهما» (أي :به أبو حنيفة) «لعلمهما بان شيخهما كان يقول :إن هذه
األحاديث أيضا حجة أن صحت ،لكن لم تبلغه» ،أي :إن أبا حنيفة عنده أصالن:
األصل األول :تقديم الحديث على كل شيء.
واألصل الثاين :األصل بان ما نقله أهل المدينة مما يجري مجرى النقل واألثر أنه يكون حجة،
وهذا معنى قوله« :إن هذه األحاديث».
أما األصل األول :فقد أفرد الحافظ أبو عمر ابن عبد الرب بابا يف كتابه« :جامع بيان العلم» ،يف النقل
عن األئمة الثالثة أبي حنيفة ومالك والشافعي أهنم يقولون« :إذا صح الحديث فإنه يكن مذهبا لهم»،
وأهنم يقولون إذا خالف الحديث رأيهم فارموا بآرائهم عرض الحائط ،ونحو ذلك من اآلثار التي تدل
24
ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث
قال المصنف« :ومن ّ
الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم».
وهذا هو الصواب؛ فإن أبا حنيفة وغيره من أئمة المسلمين كاألئمة األربعة المتبوعين وكبار
أصحاهبم كابي يوسف ومحمد بن الحسن وغيرهم من األئمة ،هؤالء أئمة جعلهم اهلل أئمة يقتدى هبم
ويذكرون بعد وفاهتم بقرون كثيرة ويثنى عليهم ويؤخذ باجتهادهم وغير ذلك من الفضائل التي لم تكن
لغيرهم ،من ظن أن هؤالء يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم ،فإهنم ال
يقولون ذلك البتة.
أي :بناه على ظن مع ّين ،أو هبوى أو هوى له يف مخالفة حكم؛ ولذلك فإن ما نقل يف كتب أصول
الحنفية من اشرتاط أن يكون الحديث غير مخالف للقياس؛ فإن هذا االشرتاط الذي ذكروه إنما ذكره
بعض المتأخرين من األصوليين كالسرخسي وغيره ،ولم ينقل ذلك عن أبي حنيفة ،ومثل أبا زيد
الدبوسي وغيره ،ولم ينقل ذلك عن أبي حنيفة وال عن صاحبه ،وإن قال به بعض المتأخرين من أصولي
الحنفية ،ومع ذلك لم يقولوا إن أبا حنيفة يقول إن كل حديث يخالف القياس فإنه يرد ،وإنما نقلوا أن
مذهب الحنفية :إن الحديث إذا كان يخالف القياس وكان راويه ليس بفقيه فإنه يرد ،وإن كان فقيها فإنه
ال يرد ،والحقيقة أن هذا خرجه بعض المتأخرين مذهبا للحنفية وهذا ُمتت ّبع بأمور ستأيت بعد قليل من
األمثلة التي أوردها الشيخ؛ فإن بعض األحاديث التي عملوا هبا جاءت من طريق بعض الصحابة الذي
ذكر بعض المتأخرين أنه ليس بفقيه ،ومع ذلك احتج به الحنفية مثل مسألة القهقهة وغيرها من األمثلة
التي سيأيت إن شاء اهلل ،اإلشارة إليها؛ ولذلك فإن الشيخ قد انتصر ألبي حنيفة وصاحبيه يف مسألة
رد الحديث الصحيح يف مقابلة القياس وأن هذا قول ال يثبت وال يصح.
قال المصنف« :فهذا أبو حنيفة يعمل بحديث التوضؤ بالنبيذ يف السفر مخالفة للقياس».
فلما جاء حديث ابن مسعود خالف القياس ،القياس أنه ال يتوضأ إال بالماء غير المتغير ،لحديث:
«الماء طهور ال ينجسه شيء إال ما غلب على طعمه أو لونه أو ريحه» ،وهذه الزيادة عند ابن ماجه
وأجمع العلماء على العمل هبا كما قال ابن عبد الرب ،هذا هو القياس ،مع ذلك صحح الوضوء بالنبيذ
ألجل هذا الحديث الوارد مع أن هذا الحديث له توجيهات عند عامة أهل العلم مذكورة يف محلها.
25
ألن القياس أن الوضوء ال يبطله القهقهة؛ وإنما يبطله ما خرج من اآلدمي ،ومع ذلك فإن أبا حنيفة
أبطل الوضوء بالقهقهة ،فقول المصنف «بحديث القهقهة يف الصالة»؛ ربما أي :مراده القهقهة يف
الوضوء ،ألن هذه هي المسألة التي ُش ِّهرت عن الحنفية.
أي :صحة هذين الحديثين ،مع أن هذين الحديثين معلوالن ،واألول :أي :موجه أن ثبت بتوجيهات
كثيرة ،ذكر أهل العلم يف محلها.
قال المصنف« :وقد بينا هذا يف رسالة رفع المالم عن األئمة األعالم».
هذه رسالة عظيمة للشيخ ذكر فيها كثير من القواعد يف تعاملهم مع النصوص ،وإشارة
المصنف لهذه الرسالة تفيدنا إفادتين:
اإلفادة األولى :تأخر تأليفه رسالة أصول مذهب أهل المدينة عن رسالته رفع المالم.
اإلفادة الثانية :إن الشيخ عندما أحال لرفع المنام يدلنا على أنه قد ألفها تأليفا منفردا وليست
فتوى؛ وإنما هي رسالة ،والشيخ بعض كتبه مؤلفات وبعضها فتاوى ،كما أن إشارته لها هبذا االسم يدل
على تسميته لها به ذلك ،ويدل أيضا على ثنائه عليها؛ ألن المرء عادة إنما يحيل على ما أعجبه من
مؤلفاته ،فدل على تحريرها ،وقد حررها تحرير دقيق وال شك.
قال المصنف« :وب ّينا أن أحدا من أئمة المسلمين ال يخالف حديثا صحيحا بغير عذر».
الظن بجميع أئمة المسلمين وخاصة الذين يشار إليهم بالبنان وجعلهم اهلل أئمة يقتدى هبم.
ّ وهذا هو
هذه األعذار العشرين ذكرها هنا ،أجملها الشيخ تقي الدين يف رسالة «رفع المالم» يف ثالثة أعذار:
العذر األول :أن يعتقد هذا العالم أن النبي ‰لم يقل هذا الحديث ،أما لعدم بلوغه له أو
26
مثل هذه األحاديث التي تقدم ذكرها؛ فإهنا لم تبلغ أبا حنيفة.
فلم يصححه؛ ألي سبب من األسباب التي تكون سببا إلعالن الحديث وعدم قبوله.
قال المصنف« :أو أعتقد أن ذلك الدليل قد عارضه ما هو أقوى منه كالناسخ».
هذه مسألة قد يتوسع فيها بعض الفقهاء؛ فإن بعضا من الفقهاء رحمهم اهلل تعالى يرون أن الحديث
إذا عارضه غيره ولم يمكن الجمع بينهما ُحكِم بنسخ أحد الحديثين ،وهذه طريقة لبعض الفقهاء؛ بينما
علماء الحديث رحمهم اهلل تعالى ال يحكمون بالنسخ إال بوجود دليل يدل على النسخ أما نص أو بداللة
نقلية فيها أو بداللة عقلية مشوبة بنقل ،مثل أن يكون أحد النقليين متأخرا عن اآلخر ونحو ذلك من
األمور.
قال المصنف« :أو اعتقد ذلك الدليل قد عارضه ما هو أقوى منه كالناسخ».
دائما أن يكون
أي :فيأيت يظن أن هذا األمر يدل على النسخ وهو ليس كذلك ،مثل التأخر ،فال يلزم ً
ً
ناسخا ،ومثل ما يقرره بعض األصوليين أن الخاص إذا ورد بعد العام فإنه يكون ناسخ وال يكون
27
فيكون له أجر واحد كما يف حديث ابن مسعود وغيره« :إن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران،
وإذا أخطأ فله أجر واحد».
قال المصنف« :لقوله تعالى :ﱩ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﱨ [البقرة ]286 :وقد ثبت يف
الصحيح :إن اهلل استجاب هذا الدعاء وقال :قد فعلت».
وجاء عن الراوي أظنه أنسا أنه قال :فما فرح الصحابة كفرحهم يومئذ؛ ألن وجل رفع عنا الخطأ
والنسيان وهذا من رحمة اهلل بنا وهو رحيم.
أي :إن األنبياء لما كان الظن هبم عدم تعمد الهوى أو العمل بالهوى وتعمد هذا اإلغراب يف مخالفة
ما يصل إليهم من الوحي؛ فإن العلماء ورثتهم يف الطريقة وورثتهم يف العلم معا ،فاألصل أهنم ال
يخالفون صحيحا بغير عذر من األعذار.
28
وقد ذكر الشيخ بعض القصص عن األنبياء يف ذلك ومثلهم العلماء ألهنم ورثتهم.
قال المصنف« :وقد ذكر اهلل عن داود وسليمان أنهما حكمان يف قضية» ،أي :قضايا فيها.
فهمها أحدهما» ،ففهمناها سليمان« ،ولم يعب اآلخر»؛ ألنه لم يفهم تلك المسألة.
«وأنه ّ
« بل أثنى على كل واحد منهما بأنه أتاه حكما وعلما ،فقال اهلل :ﱩ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ
ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﱨ
[األنبياء.]79-78 :
قال المصنف :بعد ذكر هذه اآلية«:وهذه الحكومة» أي :الحكم الذي صدر من داود وسليمان
عليهما السالم« ،تتضمن مسألتين تنازع فيهما العلماء» أي :هذا الباب االستطراد يف شرح ما حدث من
شرع من قبلنا فيكون شرع لنا ما لم يأت
قضاء داود وسليمان وأن حكم الذي أثنى عليه اهلل هو من ْ
يف شرعنا ما يخالفه ،بل أن اهلل قد أثنى عليه ،وقد جاء يف شرعنا ما يدل عليه«،المسألة األولى :مسألة
واب يف الحرث بالليل» يقول أهل اللغة :النفش إنما يكون يف الليل ومعنى ذلك أن الدواب إذا ِ
نفش الدّ ّ
دخلت حرث قوم ،مزرعة ونحوها ،فنفشت فيه وأتلفت زرعا وأصابت ماال وأكلت من ذلك الموجود يف
ذلك الحرث أو يف تلك المزرعة ،فهل يضمن صاحب تلك الدواب هذا الزرع الذي نفشته تلك الدواب
أم ال ؟ فيه قوالن :ذكر الشيخ القولين (أي مسألة نفش الدواب يف الحرث وهي المزارع بالليل ،إذا
انفلتت الدواب من صاحبها ولم يرسلها ،وأما أن أرسلها متعمدا فال شك أنه يكون ضامنا ،ألنه هو
المتسبب يف ذلك) ،قال«:وهو» (أي :النفش) مضمون عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد،
وأبو حنيفة لم يجعله مضمونا ».ألن أبا حنيفة أخذ بعموم قول النبي « :‰العجماء جبار» ،وأما
أوال ،وقد جاء فيها عند أحمد وأبي داود وغيرهما أن النبي الجمهور :فأخذوا هبذه اآلية ً
‰لما سئل عن ناقة الرباء حينما دخلت حائط قوم فأفسدت فيه ،قال إن على أهل المواشي ما
أفسدت ماشيتهم بالليل ،وعلي أهل الحيطان حفظ حيتاهنم بالنهار ،فيكون هذا الحديث مخصصا
لحديث العجماء جبار ،أي :هدر ،ولما كان داود لم يعب اهلل عليه اجتهاده ،فكذلك أبا حنيفة لما
ا جتهد يف هذه المسألة فإن اجتهاده ال يعاب عليه وال يأثم بل هو بين األجر واألجرين رحمة اهلل على
الجميع.
حجة باتفاق
قال المصنف« :والمقصود هنا إن عمل أهل المدينة الذي يجري مجرى النقل ّ
المسلمين ،كما قال مالك ألبي يوسف (لما سأله عن الصاع والمد وأمر أهل المدينة بإحضار ِصيعاهنم،
وذكروا له أن إسنادها عن أسالفهم) أثرى هؤالء يا أبا يوسف يكذبون؟ قال :ال ،واهلل ما يكذبون؟! قال:
حررت (كالم مالك) هذه الضيعان فوجدهتا خمسة أرطال وثلثًا بأبطالكم يا أهل العراق». فأنا ّ
فهذه تقدير مالك للصاع النّبوي ،وقد أخذ هبذا التقرير كثير من أهل العلم بأن الصاع خمسة أرطال
وثلثًا من األرطال العراقية.
رأيت لرجع كما
ُ فقال (أي :أبو يوسف) :رجعت إلى قولك يا أبا عبد اهلل ،ولو رأى صاحبي ما
رجعت ،وسأله (أي سأل أبو يوسف مالكًا) عن صدقة الخضروات (أي :عن زكاة الخضروات) فقال:
ُ
هذه مباقِ ُل أهل المدينة لم ُتؤخذ منها صدق ٌة على عهد رسول اهلل ‰وال أبي بكر وال عمر
،أي :وهي ُ
تنبت فيها الخضروات،
وسأله عن االحتباس (أي األوقاف) :وذلك أن أبا حنيفة يرى أن الخضروات فيها الزكاة ،ويرى أن
األوقاف يجوز الرجوع فيها ،وتبقى على ملك صاحبها،
قال المصنف« :وسأله عن االحتباس فقال» (أي مالك) :هذا حبس فألن ،وهذا حبس فألن ،يذكر
أحباش الصحابة (أي :يذكر أسماءهم ،تبين أن الصحابة ما زالوا يوقفون يف المدينة« ،فقال أبو يوسف يف
كل منهما قد رجعت يا أبا عبد اهلل ولو رأى صاحبي ما رأيت لراجع كما رجعت».
قال المصنف « :وأبو يوسف ومحمد وافقا بقية الفقهاء يف أنه ليس يف الخضروات صدقة ،كمذهب
مالك والشافعي وأحمد».
وقد روى مالك هذه األخبار يف زكاة الخضروات يف الموطأ ،وقد روى الموطأ عن مالك محمد بن
30
الحسن؛ فإن محمد بن الحسن نقل اآلثار يف سقوط زكاة الخضروات عن مالك ،ولذلك وقف عليها ولم
يقف عليها شيخه أبو حنيفة.
قال المصنف« :ويف أنه ليس فيما دون خمسة واسق صدقة كمذهب هؤالء ،وان الوقف عنده الزم
كمذهب هؤالء».
ألن أبا حنيفة يرى أن الوقف ليس بالزم ،ويجوز الرجوع فيه وقت ما شاء.
ثم ذكر المصنف فائدة فيما يتعلق باألرطال العراقية.
ألنه لما انقرضت الدولة األمو ّية وجاءت دولة ولد العباس قريبا (قريبا أي :بعدها) فقام أخوه أبو
جعفر الملقب بالمنصور فبنى بغداد فجعلها دار ملكه ،وكان أبو جعفر أن أهل الحجاز حينئذ كانوا أعني
بدين اإلسالم من أهل العراق ،ويروى أنه قال ذلك لمالك أو غيره من علماء المدينة ،قال :نظرت يف هذا
األمر ،فوجدت أهل العراق أهل كذب وتدليس أو نحو ذلك ،ووجدت أهل الشام إنما هم أهل غزو
وجهاد ،ووجدت هذا األمر فيكم ،ويقال :إنه قال لمالك :أنت اعلم أهل الحجاز أو كما قال ،فطلب أبو
جعفر من علماء الحجاز أن يذهبوا إلى العراق وينشرون العلم فيه ،فقدم عليه هشام بن عروة ومحمد بن
إسحاق ويحيى بن سعيد األنصاري وربيعة بن أبي عبد الرحمن وحنظلة بن أبي سفيان الجمحي وعبد
العزيز بن أبي سلمة الماجشون وغير هؤالء» وهؤالء من أعيان فقهاء المدينة ،انتقلوا كما ذكر الشيخ إلى
العراق ،أما انتقاال كليا أو انتقاال مؤقتا.
قال المصنف« :كان أبو يوسف يختلف إلى مجالس هؤالء ويتعلم منهم الحديث ،وأكثر عمن
قدم من الحجاز».
أي :أكثر الرواية عن من قدم من الحجاز.
قال المصنف« :ولهذا يقال يف أصحاب أبي حنيفة :أبو يوسف أعلمهم بالحديث».
وقد نص على ذلك أحمد ،فقد ن ُِقل أن أحمد روى عن أبي يوسف يف أول طلبة الحديث وأثنى عليه
بأنه من اعلم أصحاب أبي حنيفة بالحديث.
ألن زفر كان إذا جاء بقياس فإنه يأيت به ُمنضبطا ويكون دقيق؛ ولذلك فإن أقيسة زفرت دقيقة،
31
فله تفريعات كثيرة جدً ا ،وهو من أكثر أصحاب أبي حنيفة يف التفريع ،مسائل وما يتفرع عليها.
المراد بمحمد :محمد بن الحسن الشيباين ،وهو من أعلمهم بالعربية والحساب ،أما كونه أعلمهم
بالعربية فال شك يف ذلك؛ فإن محمد بن الحسن الشيباين كان من علماء العربية ،وعنده من علم العربية
ودقيقها الشيء الكثير ،ومن النكت التي توجد يف غير مظنّتها ما ذكره السرخسي يف شرح السير الكبير
لمحمد بن الحسن فقد ذكر يف كتاب األمان ما نصه أو ما معناه :إن أدق المسائل وألطفها هي مسائل
أبواب األمان ،وأن محمد بن الحسن جمع فيها بين دقائق علم النحو ودقائق أصول الفقه ،وقد كان قد
شاور فيها الكِسائي ،إماما يف اللغة مشهور :علي بن حمزة فإنه كان ابن خالته ،وكان مقدم يف علم النحو،
وهذه نكتة نفيسة وهو أن محمد بن حسن هو ابن خالة الكسائي اإلمام المقرئ اللغوي المشهور ،وقد
كان يشاور الكسائي يف كثير من مسائل اللغة ،وهذه فائدة لغوية أي :من باب االستطراد.
قال المصنف« :ولما صارت العراق دار الملك واحتاج الناس إلى تعريف أهلها بالسنة والشريعة،
َغ َّير المكيال الشرعي برطل أهل العراق».
المراد :غير الصاع ،فأصبح يقدر بالرطل ،والرطل وحدة كيل ،وقد يكون وحدة وزن كذلك ،فأتى
برطل أهل العراق ،وقد ذكر الجماعة من أهل العلم كالحجاوي أن الرطل الذي يسمى بالرطل العراقي
هو الرطل الذي كان يف عهد النبي ‰يسمى بالرطل الحجازي.
قال المصنف« :وكان بطلهم بالحنطة الثقيلة ،والعدس إذ ذاك تسعين مثقاال».
وهذا وزن ،فنقلوا الكيل إلى الوزن ،وقد عاب بعض المحققين كابن قصارا ذلك يف اعرتاضه على
ابن زيد القيرواين يف الرسالة.
32
قال المصنف « :وكان بطلهم بالحنطة الثقيلة والعدس إذ ذاك تسعين مثقاال ،مئة وثمانية وعشرون
درهما وأربعة أسباع الدرهم».
هذه تقدير الصاع بالوزن من الحنطة ومن العدس.
قال المصنف« :فهذا هو المرتبة األولى إلجماع أهل المدينة ،وهو حجة باتفاق المسلمين».
هذا هو المرتبة األولى ،وقد استطرد الشيخ يف ذكر هذه المرتبة.
قال المصنف« :المرتبة الثانية :العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفان».
ع ّبر المصنف بأنه حجة ،ولم يعرب بأنه إجماعا ،وهذا هو األقرب ،التعبير بأنه حجة أدق من التعبير
من كونه إجماعا ،وتقدم معنا الفرق بين هذين المصطلحين؛ فإن اإلجماع ُحجيته أعلى وأقوى من
الحجة المطلقة.
قال المصنف« :وهو المنصوص عن الشافعي ،قال» (أي :الشافعي) «يف رواية يونس بن عبد
األعلى :إذا رأيت قدماء أهل المدينة على شيء فال تتوقف يف قلبك أنه الحق» .فال تتوقف يف قلبك ريبًا
أنه الحق ،فهذا نص من نصوص الشافعي وهي رواية يونس بن عبد األعلى وهو من متقدمين أصحاب
الشافعي ،على أن :القول القديم عند أهل المدينة والعمل القديم إنه حجة.
قال المصنف« :وكذا ظاهرا مذهب أحمد أن ما سنّه الخلفاء الراشدون فهو حجة يجب اتباعه».
أي :يجب العمل به وعدم خالفته ،وهذه المسألة من المسائل المهمة وهي قضية أن من أهل العلم
من ذكر أن ما أجمع عليه الخلفاء الراشدون أنه يكون حجة ،وذلك إنما قال به الخلفاء الراشد ال يخلو
من حاالت:
-إما أن يكون ال يعلم خالف بين أهل العلم فيه ،بمعنى أنه ال ُيعلم أن أحدا من الصحابة رضوان اهلل
عليهم خالف هؤالء الخلفاء األربعة يف هذه المسألة ،فحينئذ يكون حجة باتفاق ،بل هو إجماع ،بل هو
من أقوى الجماعات ،ألنه إجماع متقدم.
-إما أن يكون أحدا من الصحابة قد خالف الخلفاء الراشدين ،فهل يكون حجة أم ال؟ هذا فيه
قوالن عن اإلمام أحمد ،وأكثر فقهاء مذهب اإلمام أحمد كالقاضي وأصحابه على أنه ال يكون حجة إذا
33
خالف قول الخلفاء الراشدين األربعة أحد من الصحابة ،والرواية الثانية :إنه حجة ،وإن لم يك إجما ًعا،
وأخذت ذلك من رواية عن اإلمام أحمد ،وهذا هو الذي قرره الشيخ يف كثير من مواضع ،أعني الشيخ
تقي الدين واختاره ابن رجب ،واختاره بعض الحنف ّية كذلك ،إذا أحمد عنه روايتان يف سنة الخلفاء
الراشدين إذا خالفها أحد من الصحابة هل يكون حجة أم ال؟ واختار الشيخ تقي الدين ورجح الرواية أن
سنتهما حجة وان خالفهم أحد من الصحابة.
قال المصنف« :قال أحمد :كل بيعة كانت يف المدينة فهي خالفة نبوة».
هذا من باب اإليماء إلى أهنا يف معنى الحجية؛ ألهنا كانت من عمل أهل المدينة.
علي كانت
قال ا مصنف« :ومعلوم أن بيعة أبي بكر وعمر وعثمان كانت بالمدينة ،وكذلك بيعة ّ
ل
بالمدينة ثم خرج منها وبعد ذلك لم تُعقد بالمدينة بيعه».
علي عقد بيعته بالمدينة ثم خرج إلى الكوفة ،فما نقل عنه يف المدينة فهو حجة وما نقل عنه يف
الكوفة ما نقله الثقات عنه كأصحاب ابن مسعود يكون حجة وإال فقد ُيكذب عليه كما كُذب على غيره
من أهل العلم رحمهم اهلل تعالى ورضي عنهم.
قال المصنف « :وقد ثبت يف الحديث الصحيح حديث العرباض بن سارية عن النبي‰
أنه قال « :عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ
وإياكم ومحدثات األمور فإن كل بدعة ضاللة».
هذا الحديث أتى به الشيخ للداللة على أن سنة الخلفاء الراشدين ،والمراد بسنتهم أي :عملهم
وقولهم ،والخلفاء الراشدون هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي م ،وعلي ما نقل عنه يف المدينة هو
داخل يف ذلك ،وأما بعد انتقاله إلى الكوفة فإنه نُقل عنه الصحيح ونُقل عنه الكذب وقد قرر ذلك جماعة
كاإلمام أحمد وغيره ،وفرقوا بينهم بحسب الراوي عنه.
قال المصنف« :ويف السنن من حديث سفينة عن النبي ‰أنه قال :خالفة النبوة ثالثون
حجة».
فالمحكي عن أبي حنيفة يقتضي أن قول الخلفاء الراشدين ّ
ّ سنة ثم يصير ملكا عضوضا،
هذا القول الذي حكاه الشيخ عن الحنفية أخذ به بعض أصحاب أبي حنيفة ،فقد نقل أبو الخطاب
يف التمهيد أن أبا خازم من الحنفية يرى هذا الرأي ،ونقله غيرهم من أهل العلم أن قول خلفاء الراشدين
يكون حجة ،فقال به بعض أصحاب أبي حنيفة.
34
قال المصنف« :وما ُي ْعلم ألهل المدينة عمل قديم على عهد الخلفاء الراشدين مخالف لسنة
الرسول .»‰
أما أن يكون مستندها سنة أو مأخوذة من عمومات ومن أصل السنة ،فال مخالفة بينها وبين سنة
البتة.
قال المصنف« :والمرتبة الثالثة» ،أي :من مراتب عمل أهل المدينة« ،إذا تعارض يف المسألة
دليالن :كحديثين وقياسين َج ِه َل أيهما أرجح؟» ،هذه المسألة من المسائل التي يوردها العلماء يف مسألة
التعارض بين األدلة والرتجيح ،فقد ذكروا يف مسألة التعارض والرتجيح أن بعض المجتهدين يكون يف
ِذهنهم تعارض بين بعض األدلة ،إذ التعارض إنما يكون بحسب فهم المجتهد ،وأما األدلة فال ُيمكن أن
تتعارض ،وإنما التعارض يكون بحسب فهم المجتهد فقط دون الحقيقة ،إال أن يكون أحد الدليلين
ً
منسوخا باآلخر ،وهذه من المسائل المهمة عند أهل العلم يف قضية قواعد الرتجيح عند تعارض األدلة،
وخاصة األدلة النقلية ،فإهنا ال تتعارض إال أن يثبت النسخ يف أحدها ،المقصود من هذا :إنه إذا وجد
التعارض يف ذهن المجتهد ،فهل يرجح بين هذه األدلة بعمل أهل المدينة أم ال؟ هذه من المسائل التي
فيها قوالن ألهل العلم ،وهما روايتان عن أحمد ،فأحد الروايتين عن أحمد :إنه يرجح بعمل أهل
المدينة ،وقد ذكر الشيخ تقي الدين كما سيأيت أن هذا هو ظاهر كالم أحمد ،وذلك أن أحمد قال يف رواية
ابن القاسم :إذا رو ى أهل المدينة حديثا ثم عملوا به فهو أصح ما يكون ،استدل هبذا النص القاضي أبو
يعلى والشيخ تقي الدين على أن الحديث إذا عارض غيره وكان أحد الحديثين وافقه عمل أهل المدينة
حرم بعمل أهل المدينة ،وقد ذكرالم ِ
فإنه يرجح على اآلخر ،ومن تطبيقات ذلك :ترجيح النهي عن نكاح ُ
الشيخ تقي الدين أن كالم أحمد أكثر من أن ُيحصى يف هذه المسألة :وهو الرتجيح بعمل أهل المدينة.
قال المصنف« :إذا تعارض يف المسألة دليالن كحديثين وقياسين َج ِه َل أيهما أرجح؟ وأحدهما
يعمل به أهل المدينة ففيه نزاع :فمذهب مالك والشافعي أنه ُي َر ّج ُح بعمل أهل المدينة».
يسمي أصحابه
وقد ألف الشافعي رسالة يف االنتصار ألهل المدينة ،والرد على من خالفهم ،وكان ّ
قديما فيقول :أصحابنا المدنيون ،فالشافعي يرى هذا الرأي.
قال المصنف« :ومذهب أبي حنيفة أنه ال يرجح بعمل أهل المدينة».
وقيل أن هذين الوجهين روايتان عن أحمد ،وبعضهم يقول إنما هما وجهان.
أنه ال يرجح أحد الدليلين على اآلخر بعمل أهل المدينة ،وهذا مشى عليه جماعة من أصوليي
مذهب أحمد ،منهم :الفخر إسماعيل البغدادي والمجد أبي الربكات جد الشيخ تقي الدين والطويف
وكثير.
أي :قال به أبو الخطاب وغيره من محققي أصحاب أحمد ،كما ع ّبر الشيخ تقي الدين.
قال المصنف« :إنه يرجح به» (أي :يرجح بعمل أهل المدينة) «قيل :هذا هو المنصوص عن
نص عليه أحمد صراحة فيكون رواية ،وأما القول األول فليس برواية عن أحمد.
أحمد» ،معنى أنه قد ّ
قال المصنف« :قال :إذا روى أهل المدينة حديثا وعملوا به فهو الغاية».
أي :فهو الغاية يف الصحة ،نقل ذلك ابن قاسم يف رواية عن أحمد.
قال المصنف« :وكان ُيفتي على مذهب أهل المدينة ويقدمه على مذهب أهل العراق تقريرا له».
ألنه لما تعارض عنده قوالن ،قدم القول الذي بني على عمل أهل المدينةّ ،
فدل على أن هذا يكون
رجحًا بين األدلة عند التعارض بينها.
ُم ّ
ِ
المدينة». ِ
ومذهب أهل ِ
الحديث ستفتي على مذهب أهل الم قال المصنف« :وكان ُّ
َ يدل ُ
وقد جاء يف مسألة أن أحمد سئل عنها فقال :اذهب لحلقة المدنيين ،أي :الذين يدرسون يف بغداد
على مذهب أهل المدينة ،وكان جماعة منهم مشهورون يف عصر اإلمام أحمد.
المستفتي على إسحاق وأبي ُعبيد وأبي ثور ونحوهم من فقهاء أهل قال المصنفّ « :
ويدل ُ
الحديث».
إسحاق المراد به :إسحاق بن راهويه اإلمام المشهور.
36
قال المصنف« :ويدله على حلقة المدنيين مثل حلقة أبي مصعب الزهري ونحوه».
قال المصنف« :وكان أحمد يكره أن ير ّد على أهل المدينة كما يرد على أهل الرأي ،ويقول :إنهم
اتبعوا اآلثار».
أي :إنه ربما اعتذر لهم أكثر من اعتذاره لغيرهم ،وهذا واضح؛ فإن بعض الناس ُي ْعتذر له بسبب
الدليل الذي بنى عليه قوله؛ فإن كان الدليل الذي بنى عليه القول مقبوال فإنه ُيعذر يف ذلك ،وأما إن كان
الدليل الذي بنى عليه بعيدا فال يعذر ،وخاصة المقلد له ،وأما غير المقلد الذي كان مجتهدا وخفيا عليه
وينتصر لها ،قد ال ُيعذر ،ألنه لم ِ
يبن رأيه ُ الدليل فقد تقدم االعتذار عنه ،ولكن المقلد الذي يقلد المسألة
على دليل نقلي ،وإنما حيث فقد الدليل النقلي بنى على المعاين والتفريعات.
قال المصنف « :فهذه مذاهب جمهور األئمة ،توافق مذهب مالك يف الترجيح ألقوال أهل
المدينة».
أي :يف هذه المسألة ،والمراد :الرتجيح ألقوالهم عند التعارض بين األدلة ،فيكون من باب األدلة
التي ُيؤتى هبا للرتجيح بين األدلة المتعارضة ،فيكون دليالً ُم َق ِّو ًيا يف المسألة ومرجحًا ألحد الدليلين
على اآلخر.
37
وهي المرتبة األخيرة وهي محل الخالف القوي ،وهي التي يقصد عادة هبذه المسألة.
تأخر».
الم ّ
قال المصنف« :وأما المرتبة الرابعة :فهي العمل ُ
المراد بالعمل المتأخر أي :بعد الخلفاء األربعة ،وبعد مقتل عثمان ،فبعد مقتل عثمان إلى حين
انقضاء القرون الثالثة الفاضلة ،عصر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ،فهذا هو العمل المتأخر ،وأما
من بعد العصور الثالثة فإنه باتفاق ال يكون عملهم حجة.
قال المصنف « :وأما المرتبة الرابعة فهي العمل المتأخر بالمدينة فهذا :هل هو حجة شرعية يجب
اتباعه أم ال؟».
أي :هل عملهم يكون حجة أم ال يكون حجة؟ وبعض الذين قالوا إنه حجة كما تقدم ،ربما بالغ
وسماه :إجماع.
قال المصنف« :فالذي عليه أئمة الناس :إنه ليس بحجة شرعية».
ذكر المصنف أن أئمة من العلماء من المذاهب الثالثة :مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد ،كلهم
على أنه ليس بحجة ،بل أن بعض كبار مذهب اإلمام مالك يرون ذلك ،كما سيأيت يف النقل إن شاء اهلل.
قال المصنف« :وهو قول المحققين من أصحاب مالك ،كما ذكر ذلك القاضي عبد الوهاب يف
كتابه«:أصول الفقه».
التي ذكرها الشيخ ،قال :إجماع أهل المدينة نقال حجة تحرم مخالفتها.
قوله« :من طريق االجتهاد» هذه المرتبة الرابعة ،والصحيح عندنا أنه يرجح به على غيره ،وال يحرم
الذهاب إلى خالفه ،نفس كالم الشيخ هنا تما ًما ،أنه يرجح به بين األدلة إذا تعارضت ولكن ال يحرم
الذهاب إلى غيره ،مما يدل على أنه ليس بحجة ،والقاضي عبد الوهاب هو من هو ،أبو محمد يف الفقه
والمكانة ،وقد ُذكر أن كالمه عليه مدار كثير من المالكية بعده ،فنحن نعلم أن المالكية ،أي :يعتمدون من
الكتب شرح التلقين للمازري ،والتلقين إنما هو للقاضي عبد الوهاب ،فقد ذكر ابن بريزة يف شرحه
للتلقين «روضة المستبين» وهو مطبوع ،أن كتاب المازري على التلقين ليس شرحا ،وإنما هو كتاب
مذهب ،أي :إنه يرجع إليه فيه وهو الذي يكون العمدة ،ونحن نعلم أن الونشريسي وغيره،
كالمنجوروغيره ،لما أرادوا أن يستخرجوا القواعد الفقهية يف مذهب مالك إنما استخرجوها من شرح
التلقين للمازري؛ ولذلك فإن القاضي عبد الوهاب يف كتبه كالتلقين والمعونة وغيره ،له مكانة عظيمة
جدا عليه رحمة اهلل وعلي سائر علماء المسلمين.
قال المصنف« :كما ذكر ذلك القاضي عبد الوهاب يف أصول الفقه وغيره ،ذكرا أن هذا ليس
إجماعا وال حجة عند المحققين من أصحاب مالك».
طبعا القاضي عبد الوهاب تتلمذ على ابن القصار واألهبري وعلي هؤالء األكابر من علماء العراق
الذين قرروا هذا المذهب.
قال المصنف« :ور ّبما جعله حجة بعض أهل المغرب من أصحابه».
أي :إن بعض المغاربة هم الذين أي :أطالوا يف هذه المسألة ،ومعلوم أن المغاربة يتوسعون يف
مسائل العمل ،حتى أهنم أصبحوا يأتون بعمل غير عمل أهل المدينة ،فاألندلسيون عندهم عمل (أهل
قرطبة) ،والمغاربة عندهم عمل أهل فاس ،ثم أن بعض المتأخرين جعل عمل أهل ِسبتة يف مسألة اإلرث
والوصية يف المسألة المشهورة التي هي مسألة الضرر؛ فالمقصود أنه كما ذكر الشيخ أن مسائل العمل
واالحتجاج هبا َف َّر ْعت على مسألة العمل المدينة ،وأغلب من يقرر ذلك إنما هم من أهل المغرب من
علماء األندلس وغيرهم هم الذين جعلوا ذلك حجة ،ويكفي أن نقرأ يف كالم ابن حزم يف األحكام كيف
أنه ناقش هذه المسألة بقوة.
يوجب قال ال صنف« :قلت» (أي :هذا من استقرائه هو عليه رحمة اهلل)« :ولم َأر يف كالم ٍ
مالك ما
ُ َ م
39
حج ًة» ،أي :لم أر أن مالكا يف كالمه يف الموطأ وال غيره ما يدل على أنه حجة. َ
جعل هذا ّ
قال المصنف « :وهو يف الموطأ إنما يذكر األصل المجمع عليه عندهم ،فهو يحكي مذهبهم ،وتارة
يصير إلى اإلجماع القديم ،وتارة ال يذكر».
ُ يقول :الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا،
أي :وتارة ال يذكر ذلك ،هذا الكالم معناه :إن مالكا يف موطئه لم يصرح بكونه حجة ،وإنما يحكي
فقط األقو ال لعمل أهل المدينة ،فهو يحكي مذهبهم ،ومن صيغ حكايته لهذه األقوال إنه تارة يقول :لم
يزل عليه أهل العلم ببلدنا ،أي :بالمدينة ،فإذا جاء هبذه الصيغة الثانية وهي قولة :الذي لم يزل عليه أهل
العلم ببلدنا ،فإنه يف الحقيقة يؤول إلى اإلجماع القديم ،ألنه عمل متوارث من عهد الصحابة فمن
بعدهم ،فيكون من باب النوع األول وليس من باب العمل المتأخر؛ ولذلك ليس كل ما حكاه مالك يف
موطأ من حكاية العمل يكون يف درجة واحدة ،بل هو على درجات ،ربما نتكلم -إن شاء اهلل -يف الدرس
القادم عن بعض الصيغ التي أوردها اإلمام مالك يف هذه المسألة وكيف اختالف الصيغ من حيث
الدرجة.
قال المصنف « :ولو كان مالك يعتقد أن العمل المتأخر حجة يجب على جميع األمة اتباعها وان
خالفت النصوص لوجب عليه أن يلزم الناس بذلك حد اإلمكان ،كما يجب عليه أن يلزمهم اتباع
الحديث والسنة الثابتة التي ال تعارض فيها وباإلجماع».
أي :إن مالكا لو كان يرى أن العمل المتأخر بالمدينة بعد الخلفاء وبعد مقتل عثمان حجة ،أللزم
الناس بأتباعهم على ذلك فإنه كما يجوز كما يلزم الناس اتباع الكتاب والسنة واإلجماع ،فكذلك لو كان
ذلك حجة وإجماعا شرعيا فإنه يجب دخوله يف ذلك ،لكن مالكا لم ير ذلك ولم ير إلزام النّاس هبذا،
وسيأيت هذا يف القصة التي أوردها المصنف.
قال ال صنف« :وقد عرض عليه الرشيد أو غيره إن ِ
يحم َل الناس على موطئه فامتنع من ذلك، ُ ّ م
جمعت علم أهل
ُ تفرقوا يف األمصار ،وإنما
وقال» (أي :مالك)« :إن أصحاب رسول اهللّ ‰
بلدي ،أو كما قال».
هذه الحقيقة من لطيف استدالل الشيخ تقي الدين ،فإنه استدل بكالم مالك المشهور عنه؛ فإن هذه
مشهورة عنه ،وقد أسندها جماعة من أهل العلم ومنهم ابن ناصر الدين يف إتحاف السالك ،أن مالكا أبى
أن َيحمل أبو جعفر الرشيد الناس على آرائه يف الموطأ.
فقد قيل :إن الذي قال ذلك لمالك إنما هو المهدي ،ابنه ،وسبب عدم موافقته على حمل الناس على
40
قال المصنف« :وإذا تب ّين أن إجماع أهل المدينة تفاوتت فيه مذاهب جمهور األئمةُ ،ع ِلم بذلك أن
قولهم أصح أقوال أهل األمصار رواي ًة ورأيًا ،وأنه تارة يكون حجة قاطعة ،وتارة يكون حجة قوية ،وتارة
الخاص ّية لشيء من أمصار المسلمين».
ّ مرجحا للدليل ،إذ ليست هذه
يكون ِّ
هذه الجملة لخص فيها المصنف ما يتعلق بالمراتب األربع ،فقال :إذا تبين أن إجماع أهل المدينة
تفاوتت فيه مذاهب جماهير األئمة ،أي :الخالف السابق المتقدم ،علمنا أصح أقوال أهل األنصار رواية
ورأيا :رواية أي :نقل ،ورأي أي :اجتهاد ونظر ،هو قول أهل المدينة ،أما رواي ًة فلقرهبم من الصحابة
وأبنائهم ،وأما الرأي فلئن عندهم من األحاديث ما ليس عند غيرهم ،فيكون رأيهم أقوى من غيرهم ،وأنه
تارة يكون حجة قاطعة :وذلك إذا كان من اإلجماع القديم يف عهد الصحابة رضوان اهلل عليهم ،أبي بكر
وعمر وعثمان رضي اهلل عن الجميع قبل خروج على من المدينة ،فإنه يكن قاطعة ،وهذه إحدى
الروايتين عن أحمد ،وقال به مالك والشافعي كما تقدم ،ورجحها الشيخ تقي الدين وابن رجب ،وتارة
يكون حجة قوية :هذا فيما إذا خالفه أحد الصحابة ،ربما على إحدى الروايات ،وتارة يكون مرجحا
للدليل :إذا تعارض دليالن ،إذ ليست هذه الخاصية لشيء من أمصار المسلمين :فقط إنما هو للمدينة
دون ما عداها ،ثم بدأ المصنف بعد ذلك يتكلم عما يتعلق بالمدينة وشرفها وما حدث فيها من أحداث،
وأطال المصنف يف ذلك ،فلعلنا نقف عند هذا القدر اليوم بمشيئة اهلل ،وغدا نكمل ما يتعلق بما
ذكره المصنف التصاله.
اسأل اهلل العظيم رب العرش الكريم أن يمن علينا جميعا بالهدى والتقى وأن يرزقنا العلم النافع
والعمل الصالح وأن يتوالنا بهداه ويغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات .جل وعال أن يرينا الحق
حقا ويرزقنا اتباعه وأن يرينا الباطل باطنا ويرزقنا اجتنابه .واسأله جل وعال أن يميتنا على الهدى والسنة
وأن ينفع بما تعلمنا وبما نقول وإن يزدنا علما وهدى وتقي وأن يغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين
والمسلمات واسأله جل وعال أن يرحم علماء المسلمين وأن يغفر لهم وأن يجزيهم خير الجزاء وأن
يتجاوز عنا وعنهم الخطأ والزلل .وصلى اهلل وسلم وبارك على نبينا ورسولنا وإمامنا وقدوتنا وسيدنا
محمد بن عبد اهلل .وعلي آلة وصحبه أجمعين واهلل أعلم(.)1
﷽
الحمد هلل رب العالمين واشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له واشهد أن محمدً ا عبد اهلل ورسوله
تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
ً صلى اهلل عليه وعلى آله وصحبه وسلم
ُث َّم ّأما َب ْعد:
فهذا هو اللقاء الثالث يف شرح رسالة الشيخ تقي الدين أبي العباس أحمد ابن عبد الحليم ابن تيمية
يف «صحة أصول مذهب أهل المدينة».
وكنا قد وقفنا باألمس عند:
قول المصنف « :--ومعلوم أن من كان بالمدينة من الصحابة هم خيار الصحابة ،إذ لم
يخرج منها أحد قبل الفتنة إال وأقام بها من هو أفضل منه».
مراده هبذه الجملة أن المدينة قد مرت هبا مرحلتان:
المرحلة األولى :مرحلة ما قبل مقتل عثمان ،والفتنة التي أحدثت يف اإلسالم وكانت سببا لكثير
من الفتن بعده.
المرحلة الثانية :بعد ذلك.
فب ّين الشيخ أن الصحابة رضوان اهلل عليهم قبل الفتنة ،الذين كانوا قد بقوا يف المدينة ولم يخرجوا
منها هم أفضل ممن خرج منها ،ويكفي يف االستدالل على ذلك أن الخلفاء األربعة كلهم كانوا يف
المدينة؛ وإنما خرج غيرهم من الصحابة رضوان اهلل عليهم من غير استنقاص يف قدر أحد منهم.
قال المصنف« :يخرج منها أحد قبل الفتنة إال وأقام بها من هو أفضل منها».
لما ُفتِح الشام والعراق وغيرهما أرسل عمر بن الخطاب إلى األمصار من
قال المصنف« :فإنه ّ
ُيعلمهم الكتاب والسنة».
وهؤالء الذين ُأرسلوا من الصحابة أو من كبار التابعين ،ولكن األصل والمرجع إنما يكون
للصحابة.
42
وعمران
ُ وعمار بن ياسر
قال المصنف« :فذهب إلى العراق عبد اهلل بن مسعود وحذيفة بن اليمان ّ
بن حصين وسلمان الفارسي وغيرهم ،وذهب إلى الشام معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبو الدرداء
وبالل بن رباح وأمثالهم ،وبقي عنده»( .أي :عند عمر يف المدينة)« ،مثل عثمان وعلي وعبد الرحمن بن
ومحمد بن ُم ْس ِل َمة وزيد بن ثابت وغيرهم».
ّ عوف ،ومثل أبي بن كعب
وال شك يف أن الباقين هم أعيان الصحابة؛ فإن الخلفاء األربعة والعشر المشهود لهم بالجنة هم يف
المدينة يف ذلك الوقت ،وكان عمر ُ
يرفض أن يخرج هؤالء األكابر من المدينة ،بل كانوا يبقون عنده
يشاورهم ويرجع إلى رأيهم وينتفع بعلومهم ونقلهم واجتهادهم رضوان اهلل على الجميع.
قال المصنف« :وكان ابن مسعود -وهو اعلم من كان بالعراق من الصحابة -إذ ذاك».
تعبير المصنف بقوله«:إذ ذاك» ؛ الستثناء ما كان بعد الفتنة حينما خرج علي وسكن الكوفة؛ فال
ُ
شك يف أن عليا كان أعلم من ابن مسعود ؛ وأما ابن مسعود فقد كان من كبار فقهاء المسلمين
والمفتين فيهم ،ومن من كبار فقهاء الصحابة والمفتين فيهم.
قال المصنف« :وكان ابن مسعود وهو اعلم من كان بالعراق من الصحابة إذ ذاك ُيفتي بالفتيا ثم
يأتي فيس أل علماء أهل المدينة فيردونه عن قوله ،فيرجع إليهم كما جرى يف مسألة أمهات النساء لما ظن
الربيبة وأنه إذا ط ّلق امرأته قبل الدخول ح ّلت أمها كما ّ
تحل ابنتُها ،فلما َ
الشرط فيها ويف ّ ابن مسعود أن
جاء إلى المدينة وسأل عن ذلك ،أخبره علماء الصحابة أن الشرط يف الربيبة دون األمهات ،فرجع إلى
ِ
بفراق امرأته بعدما حملت». الرجل
قولهم وأمر ّ
هذا األثر استدل به الشيخ تقي الدين على أن ابن مسعود كان وهو فقيه العراق وعالمها
وإليه مرجع فقهها ،كان يرجع إلى أهل المدينة ويسألهم ويأخذ من علمهم ويرد قوله إلى قولهم،
والقصة التي أوردها المصنف أصلها يف «الموطأ» رواها مالك من حديث ابن مسعود أنه لما استُفتي وهو
ومسها زوجها ،فأرخص ابن مسعود
بالكوفة عن نكاح األم بعد البنت إذا لم تكن البنت قد َد ْخل هبا ّ
أوال بذلك ،ثم أنه لما قدم المدينة سأل عن ذلك ف ُأخبِر ،وهذا هو لفظ «الموطأ» أنه لما سئل ُأخبِر ،ولم
ُيع ّين أنه سأل أحدا ،فدل على أن العربة بأهل المدينة بعمومهم.
قال :فأخرب أنه ليس كما قال وإن الشرط إنما هو يف الرائب وحدهن دون أمهات النساء ،الربيبة :هي
أن يتزوج الرجل امرأة فبنتها تسمى ربيبة ،تحرم عليه بشرط أن يكون قد دخل بأمها؛ وأما أم امرأته فإهنا
ٌ
مالك أن ابن مسعود تحرم عليه سواء دخل هبا أو لم يدخل هبا ،هذا هو المعنى يف هذه المسألة؛ فذكر
رجع إلى الكوفة وأنه لم يصل إلى بيته ويدخل بيته حتى أتى ذلك الرجل الذي أفتاه فأمره أن يفارق
43
قال المصنف« :وكان أهل المدينة فيما يعملون :أما أن يكون سن ًة عن رسول اهلل ‰؛
وأما أن يرجعوا إلى قضايا عمر بن الخطاب».
ذكر الشيخ يف هذه الجملة أن عمل أهل المدينة المتقدم إنما هو كان مبنيًا على أحد أمرين :أما سنة؛
وأما اجتهاد.
فأما السنة :فإهنا منقولة ،وأعظم النقل يف تلك العصور كثرة كان موجو ًدا يف المدينة؛ فإهنا دار
العلم والسنة.
وأما االجتهاد :فإهنم كانوا يرجعون إلى اجتهاد عمر بن الخطاب خاصة ،ولذلك كان لمكانة
اجتهاد عمر الشيء الكثير حتى أن بعض أهل العلم يقول :إن اجتهاد الشيخين يعنون هبم أبا بكر وعمر
يكون حجة ،وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختارها الشيخ تقي الدين.
المقصود من هذا أن االجتهاد الذي كان يف عمر له مكانة ،والسبب أن عمر قد طال زمن خالفته
بخالف أبي بكر فإن أبا بكر كان وقته وقت استصالح ألحوال الناس ومقاتلة أهل الردة ولمناعي
للزكاة وغير ذلك من األمور؛ وأما عمر رضي اهلل فقد صلحت أحوال الناس ولذلك بعث البعوث لفتح
بلدان المسلمين ،وفتح اهلل على أيديه الشيء الكثير ،ويف عهد عثمان يف صدره كانوا يرجعون لقضاء عمر
يف غالب أحوالهم ،ولذلك كانوا أي :يقيسون أو يردون خالف عثمان لخالف عمر ،ثم أن أهل المدينة
بعد ذلك كانوا يرجعون إلى قول عمر ،وكان أهل المدينة يعلمون أن اعلم الناس بخالف عمر هو سعيد
إال أنه أعلم الناس بخالفه وأقضيته؛ بن المسيب ،وسعيد وإن لم يكن أدرك عمر بن الخطاب
ولذلك مما يخفى على بعض طلبة العلم أنه قد يرى إسنا ًدا فيه أثر عن عمر من قضائه واجتهاده أو قوله
يتصل إلى سعيد بن المسيب ثم ينقطع بعده ،وال يذكر من سمعه منه عن عمر ،فقد يحكم بعضهم
بانقطاع هذا اإلسناد وليس ذلك كذلك؛ فإن سعيد بن المسيب علمه باآلثار واألخبار واألقضية عن عمر
من أكثر الناس ،وإليه المرجع ،ولو رجع المرء إلى تاريخ أبي خيثمة ليرى اآلثار يف ثناء أهل المدينة على
سعيد بن المسيب ،أقول هذا ل ِ َم؟؛ ألن هناك بعض المسائل التي يكون إسنادها عن سعيد عن عمر
مباشرة يف كثير من المسائل ،يف بعضها يف الديات ويف غيرها من المسائل ،هي من هذا الباب.
هذه كلمة ُش ِّه َر ْت ،وتسمى سلسلة الفقه؛ فإن األئمة لكل واحد منهم يقال :إهنا سلسلة فقهه ،كما
44
ذكروا أن أبا حنيفة أخذ فقهه عن حماد بن أبي سليمان ،وحماد أخذه عن إبراهيم ،وإبراهيم أخذه عن
تالمذة ابن مسعود كعلقمه واألسود ،وهما أخذاه عن ابن مسعود ؛ وكذلك مالك يقولون :أن سلسلة
فقهه ال سلسلة الرواية؛ وإنما سلسلة الفقه هي أنه قد أخذ الفقه عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن المسمى
عرف الفقه عن عمر وإن لم يكن قد روى عنه
المس ّيب ،وسعيد َ
بربيعة الرأي ،وربيعة أخذه عن سعيد بن ُ
ذلك وإنما هو عرفه ،وهو من أعلم الناس بعمر ،فتكون هذه سلسلة فقه مالك.
ليس الرواية وإنما المقصود هنا الفقه ،إذ الرواية لها أسانيدها المعروفة« ،قد أخذ ُج ّل الموطأ عن
ربيعة ،وربيعة عن سعيد بن المسيب ،وسعيد بن المسيب عن عمر ،وعمر محدّ ث»« .محدّ ث» أي :إنه
مسدّ د ،وقد جاء يف الحديث :لو كان يف أمة محدثين لكان منهم عمر ،فقد جعل اهلل الحق على لسانه ويف
اجتهاده ،وهذا من محبة اهلل له ،وحسن صحبته لنبي اهلل صلوات اهلل وسالمه عليه.
قال المصنف« :ويف الترمذي عن رسول اهلل ‰قال :لو لم ُأبعث فيكم ل ُب ِعث فيكم عمر،
فعمر ،ويف
ُ ويف الصحيحين عنه ‰قال :كان يف األمم قبلكم ُم َحدّ ثون؛ فإن يكن يف أمتي أحد
ِ
ين من بعدي من أصحابي :أبي بكر وعمر». السنن عن النبي ‰أنه قال :اقتدوا بِ َا َّلذ َ
هذه األحاديث الثالثة التي أوردها الشيخ لنكت:
النكتة األولى :بيان فضل اجتهاد عمر ،وأن الجتهاد عمر تصويب من حديث النبي ‰؛
فإن يف الحديثين األولين بالخصوص دليل على تصويب اجتهاده ورأيه ،وهو مع ذلك كان من أشد
كثيرا ،وكان يراجع أصحابه وال يكتفي برأيه مع سعة علمه الناس يف بذل رأيه ،فقد كان يشاور
وإحاطته بأخبار النبي ‰وإدراكه للوحي وهذا أمر ال يكون لغير كبار الصحابة هم إدراكهم
الوحي؛ فإن من أدرك الوحي يكون اعلم بمقاصد التشريع وبمقاصد الوحي؛ وأما غيره فإنما يستنبطها
استنباطا ،وهذا واضح من عادات الناس.
هذا فيه حس على االقتداء هبما يف اجتهادهما ،ويف أول الحديث أن يف مذهب أحمد روايتان وقيل
وجهان :إن منفرد به الشيخان وقضيا به -أي :أبا بكر وعمر -هل يكون حجة فيلزم الرجوع إليه أم ال؟
روايتان :المشهور عند المتأخرين أنه ليس بالزم ،واختار الشيخ تقي الدين أنه يكون بالزم؛ وأما إن لم
يخالفا فإنه يكون إجما ًعا أو يكن على أقل األحوال قول صحابي لم يخالف؛ وإنما النزاع يف الوجهين
45
رضي اهلل عنهم وهم من العشرة المبشرين بالجنة وغفر لهم وتجاوز عنا وعنهم وجمعنا هبم
مع نبينا ‰يف أعلى جنات النعيم.
قال المصنف« :ولهذا قال الشعبي انظروا إلى ما قضى به عمر فإنه كان يشاور».
الشعبي :عامر بن شرحبيل من فقهاء المسلمين وعلمائهم ومن أهل الكوفة ،وقد كان يرجح
قضاء عمر واجتهاد على غيره من االجتهاد كقضاء ابن مسعود وغيره ،ومن أسباب ترجيحه ذلك أنه ذكر
أن عمر كان يشاور –أي يشاور غيره -فيكون رأيه ليس فرد ًيا وإنما هو رأي مبني على مشاورة
واجتماع.
قال المصنف« :ومعلوم أن ما كان يقضي أو يفتي به عمر ويشاور فيه هؤالء» (أي :هؤالء األعالم)
«أرجح مما يقضي أو يفتي به ابن مسعود أو نحوه من الصحابة أجمعين» .وهذا ال ّ
شك ،ال لفضل
أحادهم وال لفضل من شاورهم وجالسهم ،وهذا من األمور المعروفة التي تكون واضحة وال شك فيها
وال ريب ،وهذا إيماء من الشيخ يف مسألة ما يذكره بعض الناس يف تفصيل المذاهب بناء على مسألة
األشياخ وسالسل الحديث وسالسل التفقه ،وهذا ليس مصيبًا؛ وإنما إذا أراد المرء أن يفاضل بين
مذهبين كمذهب كوفة والمدينة أو غيرها فإنما يكون التفاضل ال بالفروع وإنما باألصول ،وهذه مسلك
العلماء رحمهم اهلل تعالى أهنم ال يجيزون تفضيل مذهب على غيره على سبيل اإلطالق؛ وإنما يكون
التفضيل بناء على األصول وقد أشارت يف هذا يف أول الدرس األول.
قال المصنف « :وقد وكان عمر يف مسائل الدين واألصول والفروع إنما يتبع ما قضى به رسول اهلل
المط ّلقة المعتدة الرجع ّية يف
،‰وكان يشاور عل ّيًا وغيره من أهل الشورى ،كما شاوره يف ُ
المرض إذا مات زوجها :هل ترث؟ وأمثال ذلك من المسائل».
وهذه مسألة مشهورة يف مشاورة عمر الصحابة رضوان اهلل عليهم.
قال المصنف« :ولكن كان بها» (أي :بالمدينة) «من الصحابة مثل سعد بن أبي وقاص وأبا أيوب»
لما انتقل
علي من الصحابة»ّ .
ممن مع ّ (أي :األنصاري) «ومحمد بن مسلمة وأمثالهم من هو أجل ّ
األكابر من الصحابة بعد الفتنة عن المدينة ،ال شك يف أن الذين انتقلوا هم أفضل الصحابة كعلي وباقي
علي ومن بقيالعشرة رضوان اهلل عليهم ،لكن الشيخ قال :ال أفاضل بينهم وإنما أفاضل بين من كان مع ّ
كثيرا يف كتابه
يف المدينة؛ فإن من بقي يف المدينة يكون أفضل ،وقد أطال الشيخ يف هذه المفاضلة ً
«المنهاج» .واستدل عليها بأمور كثيرة ،وهذه المفاضلة إنما هي يف غير المقدمين من كبار الصحابة
رضوان اهلل عليهم كالعشرة.
فقد كان يأيت وهو نائب عن عمر وعثمان ،وال يخرج عن رأيهما؛ وإنما يصدر ويأتمر بأمرهما رضي
اهلل عن الجميع.
قال المصنف« :ومعلو ٌم أن عل ّيا مع هؤالء أعظم علمًا وفضالً من جميع من معه من أهل العراق».
أي :إن عل ّيًا مع عثمان وعمر وابن مسعود علمه أوسع وأقوى ممن كان معه من أهل العراق من
القراء والتابعين وغيرهم من الناس.
علي ِ
المناظر بقول ٍّ
حتجًا على ُ
قال المصنف« :ولهذا كان الشافعي يناظر أهل العراق يف الفقه ُم ّ
وابن مسعود فصنّف الشافعي كتاب «اختالف علي وعبد اهلل».
أي :عبد اهلل بن مسعود ،الشافعي محمد بن إدريس اإلمام ،لما ناظر بعض أهل العراق ،ناظرهم
47
وأراد أن يستدل على مذهبهم ،أما على أ بطال مذهبهم يف األصول وهو األخذ بقول علي وابن مسعود أو
على مذهبهم يف الفروع ،فكان ما يأتيه من باب اإللزام ،ويقول لهم :إن عليا وابن مسعود قاال كذا ،ثم
يقول :إنكم لم تقولوا بقولهما ،فهذا من باب أبطال األصل ،أصلكم االستدالل بآثار هؤالء فإنكم قد
خالفتم أصلكم ،ويف الفروع فإنه يأيت بمسائل فروعية ويقول :إنكم يف هذه المسألة بعينها قد خالفتم قوال
عليا وابن مسعود ،وهذه الرسالة رسالة الشافعي «اختالف علي وعبد اهلل بن مسعود» ال توجد
المرادي يف كتاب «األم» ،وقد ذكر بعض من الشافعية أو
كاملة؛ وإنما نقل بعض منها الربيع بن سليمان ُ
ُم َح ِّق ِق ِ
يه َما :كأبي عمرو ابن الصالح أن كتاب «األم» هذا لم يصنفه الشافعي وإنما جمعه الربيع بن
سليمان من كالم الشافعي المبثوث ،فجمعه وجعله على هذا الرتتيب ،وقيل :إنه قد أخذ بعضهم من
ال ُب َويطي ،وقيل أي :إن الرتتيب ليس له ،هذه مسألة طويلة جدً ا ،فالمقصود أن كتاب «األم» فيه مقوالت
علي وعبد اهلل بن مسعود» ،وليس فيه هذا الكتاب كامال وإنما فيه
عن هذا الكتاب ،كتاب «اختالف ّ
مقوالت يسيرة جدً ا ال تتجاوز صفحات يسيرة ،وكان يف كل نقل ينقله الربيع بن سليمان عن الشافعي،
إذا نقل الشافعي وأسند قول علي وابن مسعود يقول بعدها :ولسنا وإياكم نقول هبذا ،فهذا من باب أبطال
قولهم يف األصول ويف الفروع ،أي :يف المسألة تلك التي يخالف فيها قول علي وابن مسعود.
قال المصنف« :يب ّي ُن فيه ما تركه َا ْل َمنَاظِر وغيره من أهل العلم من قولهما».
ما تركه المناظر أي :من أهل العراق ،وغير ه من أهل العلم من قولهما :بأن قولهما أحيانا ال يقول به
أحد؛ فإنه جاء من الشارع يف هذا الكتاب كما نقل الربيع أنه تارة مرة قال :ولسنا وال إياكم وال أحدا من
أهل العلم يقول بذلك ،أي :القول المنقول عنهما ،فدل على أن بعض أقوال هذين الصحابيين
يكون قد ُت ِرك.
وهذه المسألة األصولية المشهورة وهو أنه إذا كان اجتهاد على ثالثة أقوال فت ُِرك أحد األقوال هل
يجوز الرجوع إليه وهو الذي يسمى بتقليد الميت ،وهي مسألة أصولية مشهورة.
الشافعي».
ّ مما صنّف
قال المصنف« :وجاء بعده محمد بن نصر المروزي فصنف يف ذلك أكثر ّ
محمد بن نصر له كتاب مطبوع باسم «اختالف الفقهاء» أو «اختالف العلماء» الطبعة القديمة
«اختالف العلماء» ثم أعيد طبعه باسم «اختالف الفقهاء» ،ويف هذا الكتاب نقول كثيرة عن علي
وابن مسعود بالذات ،وبيان المسائل التي خالفه فيها جمهور أهل العلم وقد يكون الشيخ يقصد كتابا
آخر غير هذا الكتاب.
48
قال المصنف« :إنكم وسائر المسلمين تتركون قوليهما لما هو راجح من قوليهما ،وكذلك غيركم
يترك ذلك لما هو راجحا ِمنه».
أي :إن أهل العلم يقولون هذا الكالم مثل ما ذكرت لكم قبل قليل عن كالم الشافعي أنه يرتك قولي
هذين اإلمامين علي وابن مسعود أحيا ًنا ،وقد يرتك غيرهم أقوالهم لقوله هذان العالمان.
قال المصنف « :ومما يوضح األمر يف ذلك :إن سائر أنصار المسلمين غير الكوفة كانوا منقادين
لعلم أهل المدينة ،ال يعدّ ون أنفسهم أكفاءهم يف العلم ،كاهل الشام ومصر».
يقرون بتقدّ م علماء
أي :إن يف تلك العصور المتقدمة يف عصر التابعين وتابعي التابعين كانوا جميعا ّ
أهل المدينة وأهنم مقدمون على غيرهم.
الشاميون يشمل علماء الشام من دمشق وغيرها ،واألوزاعي كان سكنه قريبا من بيروت.
المصريين».
ّ قال المصنف« :ومثل ال ّليث بن سعد ومن قبله ومن بعده من
قال المصنف« :وإن تعظيمهم لعمل أهل المدينة واتّباعهم لمذاهبهم القديمة ظاهر ب ِّين».
وهذا واضح يف الليث بن سعد بالذات وبعض أمثاله من المصريين وكذلك الليث وكذلك
األوزاعي.
وحماد بن زيد».
قال المصنف« :وكذلك علماء البصرة كأيوب (السختياين بفتح السين) ّ
وحماد من قرناء مالك أن صح التّعبير أو من عصري مالكا.
أيوب من شيوخ مالكّ ،
ِ
لقول مذهب أهل المدينة يف هذه األمصار؛ فإن أهل مصر صاروا نصر ًة
ُ قال المصنف« :ولهذا ظهر
أهل المدينة وهم إجالء أصحاب مالك المصريين كابن وهب وابن القاسم وأشهب وعبد اهلل بن حكم،
روايات معروفة عن مالك».
ٌ ّ
والشام ّيون مثل الوليد بن مسلم ومروان بن محمد وأمثالهم لهم
أي :بعد عصر تابعي التابعين أصبح مذهب أهل المدينة منتشرا يف األمصار ،موجود يف مصر
وموجود يف الشام ،بل وموجود حتى يف العراق ويف غيرها ،وب ّين الشيخ كيف أن هذا مذهب أهل المدينة
انتشر يف األمصار؛ فإن مجموعة من إجالء أصحاب مالك سكنوا مصر كابن وهب وهو عبد اهلل بن وهب
الم صري ،وابن القاسم وهو عبد الرحمن بن القاسم ،وأشهب سكن اإلسكندرية ،وعبد اهلل بن الحكم
المصري وابنه محمد ،فهؤالء كلهم من إجالء أصحاب مالك ونقلوا عنه الفقه ونقلوا عنه الرواية يف
الحديث كذلك ،فنصروا أصول مذهب أهل المدينة حينما سكنوا مصر فانتشر هبا هذا المذهب.
واعتما ٌد عليه يف اجتهاده ويف رأيه ويف فِقهه ويف حديثه كذلك.
فهذه الجملة التي وردها المصنف أو هذا المقطع نستفيد منه أن مذهب أهل المدينة انتشر يف
األمصار بعد ذلك ،وذلك فإنه ال يصدق بعد القرون الثالثة تابعيي التابعين أن مذهب أهل المدينة قد
انحصر يف المدينة ،بل انتشر يف األمصار ،بل أصبح َا ْل ُم ِص ّر الواحد فيه من ينتصر لمذهب أهل المدينة
ومنهم من ينتصر لمذهب أهل العراق والكوفة وغير ذلك ،ولذلك فإنه بعد تلك العصور ر ّبما بمئة سنة
بدأ جعل المذاهب بدال من أن تنسب للبلدان تنسب لألشخاص ،وقد تكلمت عنه يف غير هذا الموضع.
قال المصنف « :وأما أهل العراق (فمقصود العراق بعمومه) كعبد الرحمن بن مهدي وحماد بن
زيد ومثل إسماعيل بن إسحاق القاضي وأمثالهم كانوا على مذهب ٍ
مالك».
أما عبد الرحمن بن مهدي فنعم ،ألنه يروي عن مالك ويثني عليه ،وله كالم كثير يف هذه المسألة ،أما
حماد بن زيد فكونه على مذهب مالك أي :ال أدري ما وجه ذلك؛ فإن حماد من طبقة مالك وهو يروي
ّ
عن شيوخ مالك؛ فإن من أكثر شيوخه أيوب السختياين ،وهو شيخ مالك كذلك ،فنسبة حماد بن زيد
50
لمذهب مالك أي :يحتاج إلى تأمل ولو قيل إنه على مذهب أهل المدينة قد يكون أقرب ،فيكون مراد
الشيخ بقوله :إن حماد بن زيد على مذهب مالك أي :على المذهب الذي يعتقده مالكا وهو مذهب أهل
المدينة ،هذا مراد الشيخ يف حماد بن زيد وربما يكون عبد الرحمن بن مهدي كذلك.
حماد بن زيد ،أو أي :نقول :إنه جدّ أبيه ،ألنه إسماعيل بن إسحاق
إسماعيل بن إسحاق هو حفيد ّ
حماد بن زيد ،والي حماد بن زيد أسرة مالكية سكنت البصره وكان لها توارث يف العلم
بن إسماعيل بن ّ
والقضاء يف هذه البلدة ،ولها جاه عظيم يف البصرة ،وإسماعيل بإسحاق معروف له كتب طبعت ،طبع
جزء من تفسيره وطبع له كتاب يف الصالة على النبي ،‰فهو من فقهاء المالكية المعروفين وله
اجتهادات ما زلت ُتنْقل ،أي :حتى يف كتب التفسير وغيره ،ينقل دائما اجتهادات إسماعيل بن إسحاق.
قال ال صنف« :وأمثالهم كانوا على مذهب مالك وكانوا ُقضا َة ال ُق ِ
ضاة». م
الصدر األول كان يع ّين القاضي ،وهذا القاضي يع ّين له نوابا ،فالذي يعين النواب هو الذي يسمى
بقاضي القضاة؛ وأما النائب فليس له أن ُينِيب غيره.
وتعبير المصنف بأهنم كانوا قضاة القضاة :هذا المصطلح لم يكن موجو ًدا يف تلك العصور؛ وإنما
وجد بعد الظاهر بيربس ،التعبير بقاضي القضاة بالمعنى الذي ذكرته قبل قليل ،فالشيخ كأنه أراد أن
ُي َق ِّرب الفكرة وهذا المصطلح السائد يف عصره ،أن هؤالء هم الذين كانوا يلون القضاء ويعينون القضاة
من تالميذهم ،مما يدل على اشتهار مذهب مالك يف البصرة ،وهذا واضح يف القشيري أبو الفتح صاحب
ا لتفسير الذي رجع إليه كثيرا أبو بكر بن العربي يف أحكام القرآن وكتاب أبي الفتح القشيري مطبوع باسم
أحكام القرآن.
كان من قضاة البصرة ،وكذلك كثير جدا البهاري ثم سكنوا بغداد وغيره كثيرا جدا أنتشر المذهب
مالك يف العراق ،ثم قيل إنه مات بعد ذلك ،أي :متى انتهى؟ هذه مسألة أخرى.
قال المصنف« :وأما الكوفيون بعد الفتنة وال ُفرقة يدعون مكافأة أهل المدينة».
أي :إن الكوفيين بعد ما حدث من الفتنة ادعوا مكافأة أهل المدينة بسبب أن اهلل أنعم عليهم
بقدوم علي عليهم ،فقط هذا الذي تميزوا به.
51
ومنقادين لهم».
قال المصنف« :وأما قبل الفتنة والفرقة فقد كانوا ُمتّبعين ألهل المدينة ُ
مر معنا يف قصة ابن مسعود .
كما ّ
قال المصنف« :ووجه الشبهة يف ذلك إنه َض ُعف أمر المدينة لخروج خالفة النبوة منها ،وقوي أمر
علي فيها (هذا ما ذكرته قبل قليل) لكن ما فيه الكالم من مسائل الفروع واألصول
أهل العراق لحصول ّ
استقر يف خالف عمر».
ّ قد
استقرت باجتهاد الصحابة رضوان اهلل
ّ هذه الكلمة جميلة جدً ا ،وهو أن األصول العامة لالجتهاد
وقل ما ُتوجد مسألة بعد ذلك ،وهذه المسألة تتع ّلق
عليهم وخاصة يف خالفة الشيخين أبي بكر وعمرّ ،
بالمسائل الكلية ،طبعا عندما يكون المفاضلة أي :يجب أن نعرف أهنا مفاضلة على سبيل إجمال ال على
سبيل اآلحاد كما سيأيت بعد قليل؛ فإن اجتهاد عمر قد َخ َّط َأ من الصحابة يف بعضه ،وقد ذكر الشيخ
ٍ
اجتهاد، تقي الدين يف بعض كتبه أن أبا بكر الصديق لم ُيخطأ يف اجتهاد مطلقا ،لم يخطئه الصحابة يف
بينما عمر َخ َطأ يف بعض اجتهاده وهو قليل جدا ُيعد عدّ ًا ،أي :يصل إلى عشرة فيما احسب.
قال المصنف « :ومعلوم أن قول أهل الكوفة مع سائر األمصار قبل الفرقة األولى من قولهم
وحديثهم بعد الفرقة».
علي :رأيك مع عمر يف
السلماين قاضي ّ
ثم استدل على هذا الكالم قال المصنف« :قال ُع َب ْيدَ ة ّ
الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك يف الفرقة» .وهذا يف مسألة أم الولد وهل تباع أم ال تباع؟.
قال المصنف« :لقول النبي ‰وهو مستقبل المشرق :الفتنة من ها هنا الفتنة من ها هنا
الفتنة من ها هنا ،من حيث يطلع قرن الشيطان ،وهذا الحديث قد ثبت عنه يف الصحيح من غير وجه».
هذا الحديث يدل على أن الفتنة من عموم المشرق عموما ،و«من» ابتدائية أي :من هناك يبتدأ
خروج الشر ،وهذا يشمل المشرق القريب والمشرق البعيد ،وكثير من الفتن حدثت منها ذلك ،وقد جاء
يف الحديث الذي كان يستدل به معاوية :اتركوا الرتك ما تركوكم ،وغير ذلك ،جاء يف بعض ألفاظ هذا
الحديث« :إن الفتنة من ها هنا من نجد ،حيث يطلع قرن الشيطان» ،وهذا حديث ثابت هبذا اللفظ ،وقد
ذكر أهل العلم أن الجنود يف جزيرة العرب ثالثة :نجد العراقي ونجد ِ
الحجاز ونجد اليمن.
-فنجد العراق :هي الكوفة ألهنا منبسطة وما جاورها.
-ونجد الحجاز :هي اليمامة ،ولذلك ُأ ِ
لحقت كما بين ذلك بعض الشراح بالفضائل الواردة
للحجاز.
-ونجد اليمن :هي األرض المنبسطة من اليمن ،تقريبا هي تعادل اآلن منطقة بِ َ
يشة وما جاورها ،ألنه
لو رأيت بيشة بمقاربة ما بجانبها وجدهتا مختلفة ،ألهنا أرض منبسطة وهي نجد قد ارتفعت وهي
مستوية.
فهذه هي الجنود الثالثة ،فإذا حملنا المطلق على المقيد ،عرفنا أن قول النبي ‰جهة
المشرق يف لفظ العراق ويف لفظ هي نجد ،أن المراد هبا نجد العراق ،وهذا كالم أهل العلم فيه كثير جدا
وألف فيها بعض علماء الهند رسالة يف تقرير ما ذكرته.
ومما يوضح األمر يف ذلك أن العلم :أما رواية وأما رأي ،وأهل المدينة أصح أهل
قال المصنفّ « :
المدن رواية ورأيا؛ وأما حديثهم» (بدأ يتكلم عن حديث أهل المدينة) «فأصح األحاديث ،وقد اتفق أهل
لما تكلموا عنالعلم بالحديث على أن أصح األحاديث أحاديث أهل المدينة»؛ ولذلك يقولون أهنم ّ
مسألة سالسل الذهب وأصح السالسل؛ فإن أغلب هذه السالسل سالسل مدنية ،ومن أشهر األقوال:
إهنا سلسلة حديث مالك عن نافع عن ابن عمر ،وهي سلسلة مدنية ،وقد ذكر أبو عمرو بن الصالح يف
المقدمة وغيره من أهل العلم جمعوا خالف أهل العلم يف السالسل وأصح األسانيد ،وأغلب األسانيد
التي حكم بأهنا أصحها هي يف الحقيقة مدنية ،وهذا معنى كالم الشيخ على اتفاق أهل العلم يف الجملة.
قال المصنف« :علي إن أصح األحاديث أحاديث أهل المدينة ثم أحاديث أهل البصرة».
قال المصنف« :وأما أحاديث أهل الشام فهي دون ذلك؛ فإنه لم يكن لهم من اإلسناد المتصل
وضبط األلفاظ ما لهؤالء ،ولم يكن فيهم -أي :أهل المدينة ومكة والبصرة والشام -من ُي ْعرف بالكذب».
وإنما نُقل الكذب يف العصر المتقدم وهو يتكلم عن عصر التابعين وتابع التابعين؛ وإنما نُقل وك ُّذب
بعض من كان بالكوفة ،مثل ما جاء عن الشعبي أنه حكم أن الحارث األعور حكم بأنه كذاب ،والحارث
األعور يروي عن علي ،ومثله أيضا يقال عن مجالد ،فالمقصود أن أهل الكوفة ُو ِجد من ا ّتهم بالكذب؛
وأما غيرهم فلم ُيتّهم بذلك وإنما كان اال ّتهام من جهة الضبط ،وهذا الذي بنى عليه ابن حبان كتابه
خصوصا ،وال
ً «الثقات»؛ حينما ذكر كثيرا من األعالم يف األمصار من أهل المدينة ومكة والبصرة والشام
ُيعلم فيهم توثيق ،حكم بأهنم من الثقات ألن األصل فيهم التوثيق والعدالة ،وال ُيعرف يف حديثهم نكارة
فلذلك أوردهم من هذا الباب ،لكن طب ًعا ألهل العلم كالم طويل يف قضية الفروق بين اإلعصار يف هذه
المسألة.
قال المصنف« :لكن منهم» (أي :من أهل هذه األمصار األربعة المدينة ومكة والبصرة والشام)
الرواية فيكون معروفا بالوهم أو بالخطأ أو بنحو ذلك.
«من َي ْض ُبط ومنهم من ال يضبط» .أي :ال يضبط ّ
بلد أكثر منه فيهم ،ففي زمن التابعين كان قال ال صنف« :وأما أهل الكوفة فلم يكَن الكذب يف أهل ٍ
ُ ِّ م
خلق كثير منهم معرويف بالكذب ال س ّيما الشيعة» (وقد ذكرت أمثلة قبل قليل) «فإنهم أكثر الطوائف بها ٌ
ومما ذكره أهل العلم كالم الشافعي لما قال :إين ال أقبل شهادة َا ْل َخ َطابِ َّية وهم
كذبا باتفاق أهل العلم»ّ .
علي وعلي الصحابة رضوان اهلل عليهم ،وهم طائفة من طائفة ظهرت يف العراق ،ألهنم يكذبون على ّ
الطوائف المنحرفة.
بعامة
يحتجون ّ
ّ قال المصنف« :وألجل هذا ُيذكر عن مالك وغيره أهل المدينة أنهم لم يكونوا
أحاديث أهل العراق».
عرب المصنف «بعامة أحاديث أهل العراق» أي :بعمومها ،ألهنم ال يعلمون حال أهل العراق ،ليس
الرد مطلقا وإنما ألهنم ال يعلمون حالهم؛ ولذلك قد فات أهل المدينة أحاديث ليست عندهم ،فهناك
أحاديث لم تصل أهل المدينة ورواها أهل العراق كابن مسعود وغيره.
قال المصنف« :ألنهم قد علموا أن فيهم كذابين ،ولم يكونوا يميزون بين الصادق والكاذب».
فرتكوا ما جهلوا حاله ،ففاهتم علم كثير وال شك ،ولكنه ما عند أهل المدينة أكثر مما تفرد به أهل
العراق.
54
قال المصنفَ « :ف َأ َّما إذا علموا ِصدق الحديث فإنهم يحتجون به ،كما روى مالك عن أيوب
السختياين وهو عراقي».
مالك أكثر من رواية عن أيوب بن أبي تميم السختياين مع أنه بصري ،ولقا ُء مالك بأيوب كان يف
الحج؛ فإن مالكًا قال :أدركت أيوب يف حج سنتين ،أي :لقاه يف سنتين متواليتين ال أدري هل أيوب كان
مجاورا يف مكة أم أن أيوب حج من البصرة يف سنتين؟ وقد يكون مجاورا ،ألنه قد جاء يف كتاب التاريخ
ليعقوب بن سفيان أن أيوب كان يصلي بمكة بالناس يف رمضان ،وهذا يدل على أنه أدرك فيها رمضان.
قال المصنف« :فقال :ما حدثتكم عن أحد إال وأيوب أفضل منه أو نحو هذا».
أي :ونحو هذا من القول ،وهذه كلمة مشهورة عن مالك أوردها جماعة من أهل الحديث أن مالكا
قال هذه الكلمة :ما حدثتكم عن أحد إال وأيوب أفضل منه ،وعبارة المصنف «أو نحو ذلك» .يدلنا على
أنه اعتمد يف كثير من المقوالت على ذهنه ،وهذا أي :بسعة علمه واطالعه على الكتب وعلي اآلراء،
وذلك فضل اهلل يؤتيه من يشاء.
سفيان عن
ُ قال المصنف« :وهذا القول هو القول القديم للشافعي ،حتى روي :إنه قيل له :إذا روى
منصور عن علقمة عن عبد اهلل حديثًا ،أال تحتج به؟! فقال -أي شافعي :-إن لم يكن له أصل بالحجاز
َوإِ َّال فال».
الشافعي قيل له إذا روى سفيان (المراد بسفيان الثوري) عن منصور (هو ابن معتمر) عنن ُِقل أن ّ
علقمة (صاحب ابن عباس النخعي) عن عبد اهلل بن مسعود :إن هذه السلسلة مع كوهنا يف غاية الصحة،
بل قيل إهنا من سالسل الذهب التي هي من أصح األحاديث ،مع ذلك فإن الشافعي يف أول أمره قبل أن
يذهب للعراق ،يقول ال تنظر لهذا الحديث ،إذا لم يكن له أصل ،ألنا ال ندري عن أهل العراق ولم نكن
نعرفهم ،وهذا هو القول القديم للشافعي ،وقد تراجع عنه كما سيذكر الشيخ بعد قليل ،وهذا معنى قوله:
«إن لم يكن له أصل بالحجاز» .أي :يف حديث أهل المدينة ومكة ،وإال فال.
قال المصنف « :وقال ألحمد :أنتم اعلم بالحديث منا ،فإذا صح الحديث فأخبرين به حتى أذهب
يحتج بهذا قبل».
ّ بصريا أو كوف ّيا ،ولم يقل (أي :الشافعي) مك ّيا أو مدن ّيا ،ألنه كان
ّ إليه ،شام ّيا كان أو
والحقيقة أن هذا فهم جيد من الشيخ تقي الدين لكالم الشافعي؛ فإنه لما قال ذلك ،يدل على
تراجعه السابق عن عدم احتجاجه بحديث العراقيين والشاميين.
قال المصنف« :وأما علماء أهل الحديث كشعبة ويحيى بن سعيد» (المراد بيحيى بن سعيد هنا:
القطان؛ وأما األنصاري فقد تقدم أنه من أهل المدينة أصال) «وأصحاب الصحيح» (كالبخاري ومسلم)
«والسنن» (األربعة وغيرهم) «فكانوا يم ّيزون بين الثقات الحفاظ وغيرهم ،فيعلمون من بالكوفة والبصرة
من الثقات الذين ال ريب فيهم ،وان فيهم من هو أفضل من كثير من أهل الحجاز».
قال المصنف :إن سبب عدم قبول مالك والشافعي يف قوله القديم ألحاديث العراقيين ألهنم كانوا
عمن ُيعرف ،كما قال ابن مسعود :فلما حدثت الفتنة قيال:
ال يعلمون حالهم ،واألصل أنه ال ُيروى إال ّ
سموا رجالكم ،ال بد من أن يعرف حال هذا الرجل ،لكن لما جاء بعدهم من علماء الحديث الكبار مثل ّ
من سمى المصنف ،من عرفوا العلماء يف سائر البلدان ورحلوا وعرفوا األحاديث وميزوا ،هؤالء
أصبحوا يروون عن الثقات ويعرفوهنم ،وشعبة وإن كان كوفيا إال أنه دار األمصار وتنقل يف رواية
الحديث ،وهذا معنى كالمه ،وهذا يدلنا على أن بعد العصر الثالث اختلف حال العلم واألمصار.
النّخع ّيين؛ فإهنما كأنا من كبار العلماء بل إن عائشة كان تقدر األسود ،ويدخل وتسمع أسئلته ،أي:
تسمع حديثه .
قال المصنف « :فلهذا صار علماء أهل اإلسالم متفقين على االحتجاج بما صححه أهل العلم
بالحديث من أي :مصر كان» .ال ننظر ِ
لمصر؛ وإنما ننظر لثقة راويه وضبطه ،وعدم خطئه وتدليسه فيه، ٍّ
56
قال المصنف« :وأما الفقه والرأي فقد ُع ِلم أن أهل المدينة لم يكن فيهم ِم ْن ابتدع بدع ًة يف أصول
الدين».
وهذا تقدم الحديث عنه يف الدرس الماضي؛ طبعا المراد بالرأي :الرأي المذموم ،وقد ذكر أهل
العلم أن كلمة الرأي والسماع والكالم ،هذه كلمة جنس تحمل كالما ممدوحا ومذموما ،ولكن عند
فالرأي المذموم فقط ،ال مطلق الرأي ،ومثله السماع
ُ اإلطالق تطلق على األشهر ،فيكون إذا َذ َّم الرأي
المذموم ،ومثله الكالم المذموم ،ذكر هذا الشيخ رسالة له يف بيان معنى الكالم المذموم والممدوح.
قال المصنف« :كما فرع عثمان البتي وأمثاله بالبصرة ،وأبي حنيفة وأمثاله بالكوفة ،وصار يف الناس
من يقبل ذلك ،وفيهم من ير ّد ،وصار الرادون لذلك (للرأي) مثل هشام بن عروة وأبي الزناد والزهري
ث بالمدينة ،فهم للرأي المحدَ ِ
ث بالعراق أشد وابن عيينة وأمثالهم؛ فإن ردوا ما ردوا من الرأي المحدَ ِ
ُ ْ ّ ّ
ر ّد ًا».
قبل أن أذكر هذا الكالم ،أريد أن نعلم أن الرأي ليس خاصا بأهل العراق ،بل هو موجود حتى يف
57
المدينة ،ولذلك الربيعة بن أبي عبد الرحمن كان يسمى بربيعة الرأي ،ألن له اجتهادا يف الرأي ،وقد ألف
بعض المعاصرين رسالة مطبوعة كبيرة -ألهنا دكتوراة -تويف عليه رحمة اهلل ،سماها :الرأي عند أهل
المدينة ،فجمع آرائهم واجتهادهم التي ُبنِيت على الرأي ،المقصود من هذا أن الرأي ليس خاصا بأهل
العراق أو ببعض العلماء ،بل هو موجود عند الجميع ،ولذلك بعضهم استنكر بعض الرأي الذي صدر
عن مالك ،مثل أحمد جاء عنه ما يدل على أن رأيه دون ذلك ،لو أنه جرد من رأيه وهكذا ،المقصود من
هذا :إن المصنف يقول إن هؤالء األعيان مثل هشام بن عروة وغيره ،ذموا الرأي كله يف المدينة ويف غيره.
قال المصنف« :فإن ردوا ما ردوا من الرأي المحدث بالمدينة فهم للرأي المحدث بالعراق أشد
ر ّدا».
أي :أشد ردا وإنكارا.
قال المصنف« :فلم يكن أهل المدينة أكثر من أهل العراق فيما ال ُي ْح َمد وهم فوقهم فيما
يحمدونهم ،وبهذا يظهر الرجحان».
قال المصنف :إن أهل المدينة لم يكونوا أكثر من أهل العراق فيما ال ُي ْحمد ،بل أهل العراق أكثر
منهم فيما ال ُي ْحمد ،وأهل المدينة فوق أهل العراق فيما ُيحمد من األصول والبناء على المسائل.
فهو يشير للكالم الذي سبق عن هشام بن عروة وابن عيينة الذي أشار له مجمالً قبل قليل.
قال المصنف « :وأما ما قال هشام ابن عروة :لم يزل أمر بني إسرائيل معتدال حتى فشا فيهم
الم َو ّلدون ،وأبناء سبايا األمم ،فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا ،وقال ابن عيينة :فنظرنا يف ذلك ،فوجدنا ما
ُ
الم َو ّلدين ،أبناء سبايا األمم ،وذكر بعض من كان بالمدينة وبالبصرة
حدث من الرأي إنما هو من ُ
وبالكوفة» (أي :ذكر من هؤالء أهل الرأي ،هؤالء بعضهم كان يف المدينة والبصرة والكوفة) «والذين
ممن بالعراق من أهل المدينة» ،أيُ :م َؤ ّدى كالم الشيخ يقول :إن هشام بن عروة
بالمدينة أحمد عند هذا ّ
وابن عيينة لما ذموا الرأي ،ذكروا أناسا من أهل المدينة ومن البصرة والكوفة ،لكن هذه األسماء التي
ذكروها يف أهل المدينة هم أحمد عندهم ،رأيا من رأي ذلك وان ذموا الجميع.
58
قال المصنف« :لما قال مالك عن إحدى الدولتين :إنهم كانوا أتبع للسنن من الدولة األخرى،
وقرنًا».
بمقاربتها من الحدثين ،ألن أولئك األولى بالخالفة نسبًا ْ
قال ذلك ألجل ما ظهر ُ
هذا لما كانت بعض الدول والكالم يف استحقاق بعضهم لبعض ،ذكر أن هذا من باب تفضيل
النسبي وليس للتفصيل المطلق ،هذا المراد.
سادات خلفاء بني العباس- ُ قال المصنف« :ولما كان المنصور والمهدي والرشيد -وهم
يرجحون أهل الحجاز يرجحون علماء الحجاز وقولهم على علماء أهل العراق ،كما كان خلفاء بني أمية ّ
ّ
على علماء أهل الشام ،ولما كان فيهم من لم يسلك هذا السبيل ،بل عدل إلى اآلراء المشرق ّية كثُ َر
ث فيهم وضعفت الخالفة». ِ
اإلحدا ُ
مؤ ّدى هذا الكالم يقول :إن بني العباس لما كانوا يف أول أمرهم كانوا يقدمون علماء الحجاز
وفقهائهم واجتهادهم على علماء غيرهم ،ثم أن من بعد ذلك من خلفاء ابن العباس بدءا من المأمون
أمورا:
تقريبا ومن بعده بدؤوا يميلون إلى اآلراء المشرقية ،واآلراء المشرقية تشمل ً
منها اآلراء المشرقية يف األصول كاالعتزال وغيره؛ فإهنا آراء مشرقية؛ فإن بدْ ء االعتزال كان يف
أيضا يف اآلراء المشرقية مثل اجتهادات أهل الكوفة
وقوته وظهوره كان فيما وراء النهر ،ومثله ً
البصرةّ ،
وغيرهم ،ذكر الشيخ أنه كثرة األحداث وضعفت الخالفة بسبب البعد عن النبوة ،أي :هذا من باب
الداللة اإلشارية على ما ذكره ،وهذا تفسير من الشيخ .
وترجحت على
ّ قال المصنف« :ثم إن بغداد بعد ذلك إنما صار فيها من العلم واإليمان ما صار،
موت مالك وأمثاله من علماء أهل الحجاز ،وسكنها من أفشى السنة بها ،وأظهر حقائق ِ غيرها بعد
اإلسالم ،مثل :أحمد بن حنبل وأبي عبيد».
بغداد كانت يف فرتة من الفرتات مركزا للسنة حتى قال أحمد :من سكن بغداد فهو ينتقل من جنة إلى
جنة ،نقل ذلك ابن مفلح يف «الفروع» ،قالوا لما يف بغداد من ظهور السنة َو َفت َُّش َ
وها ،وكثرة حلق العلم يف
الحديث والقرآن وغيره ،ألنه يف عهد المتقدمين من خلفاء بني العباس كانوا يجلبون إليها علماء
الحديث من األمصار ،وهذا معنى قول أحمد إنه ينتقل من جنة إلى جنة ،أي :ينتقل من علم إلى علم
آخر ،وسبب هذا الشيء أنه كما قال المصنف« :اجتمع فيها العلم واإليمان» ،العلم :أهل العلم ،اإليمان:
أهل الصالح والزهد ،مثل إبراهيم بن أدهم ومثل معروف الكرخي ،وكالهما من أهل بغداد ،وغيرهم
كثير من أهل العلم واإليمان الذين كانوا يف ذلك العصر من صلحاء المسلمين.
59
قال المصنف« :وترجحت على غيرها بعد موت مالك وأمثاله من علماء أهل الحجاز».
وهم الطبقة الثالثة اتباع تابعي التابعين ،ولذلك عندما يفاضل بين مالك واحد األئمة الذين بعده،
يفضل إال مع من كان يف عصره ،وقد جاء أن أحمد سئل عن رجلين
نقول :ما يصح هذا التفاضل ،ما ّ
أيهما أعلم؟ فقال :اجعله مع أهل عصره ،يفاضل الرجل مع أهل عصره وال يفاضل مع من هو قبل
عصره ،فمالك ال يقارن بالشافعي وأحمد ،ألهنم ليسوا يف عصره؛ وإنما يقارن بمن كان يف عصره فيقال:
إنه أعلم أهل المدينة ،وكان يضرب له أكباد اإلبل ،وهذا سيشير لها مصنف بعد قليل إن شاء اهلل.
وهذه مسألة مهمة نبه عليها اإلمام أحمد وغيره :إنه يجب يف المقارنة يف العلم إنما تكون بين أهل
العصر الواحد ،فالظروف تكون متقاربة.
من أفشى السنة بها ،وأظهر حقائق اإلسالم مثل أحمد بن حنبل وأبي
قال المصنف« :وسكنها ْ
عبيد» (المقصود به :القاسم بن َس َالم اإلمام اللغوي الفقيه المحدث) «وأمثالهما من فقهاء أهل
الحديث ،ومن ذلك الزمان ظهرت بها السنة يف األصول ويف الفروع» ،األصول :االعتقاد ،والفروع :التي
تبنى على الدليل النقلي واألثري.
قال المصنف« :وك ُثر ذلك فيها وانتشر منها إلى األمصار».
حتى أصبحت قبلة ،ويدل على ذلك ما جمعه الخطيب البغدادي يف تاريخ بغداد ،وكيف أن أعيان
العلماء سكنوها يف ذلك القرن وما بعده.
النيسابوري وهو من أهل خرسان ،ابن راهويه اإلمام المعروف ،قرين اإلمام أحمد.
ومن أشهر أصحابه :إسحاق بن منصور الكوسج ،وهو من أعيان علماء المسلمين فقهًا وحديثًا.
60
قال المصنف « :وأصحاب عبد اهلل بن المبارك (أيضا يف نيسابور) وصار إلى المغرب من علم أهل
المدينة ما ن ُِقل إليهم من علماء الحديث».
مثل سحنون وطبقة شيوخه وتالمذته وأبنائه يف القيروان ،وثم انتقل بعد ذلك لألندلس وغيرها.
قال المصنف « :فصار يف بغداد وخرسان والمغرب من العلم ما ال يكون مثله إذ ذاك بالحجاز
والبصرة».
وهذا واضح ،فقد ضعف ربما يف تلك األمصار ،لكنه لم ينقطع بالحجاز ،هذا نبه إليها بعض
المؤرخين ،قالوا :لم ينقطع قط العلم بالمدينة من عهد النبي ،‰بل ال أن تكون فيه بقايا ،قد
يكون يف بعض األمصار قوة لكن ال ينقطع العلم يف المدينة.
ٍ
مالك وأصحابه من علماء الحجاز من قال المصنف« :وأما أحوال الحجا ِز فلم يكن بعد عصر
ُي َف ّضل على علماء المشرق والعراق والمغرب».
وهذا واضح جدً ا ،وهذا يب ّين باالستقراء ،ولذلك قال المصنف« :وهذا باب يطول تت ّبعه ،ولو
وصحة أصولهم لطال الكالم» ،وهذا عندما نتكلم عن فضل علماء
ّ استقصينا فضل علماء أهل المدينة
المدينة ،نتكلم عن التابعين وتابعي التابعين؛ أما الصحابة فقد بين المصنّف فضل الصحابة الذين كانوا يف
المدينة على الذين كانوا يف األمصار قبل الفتنة وبعده؛ وأما من بعده من التابعين فقد أشار المصنف
إشارة إجمالية.
قال المصنف« :وإذا تب ّين ذلك فال ريب عند أحد أن مالكًا أقوم الناس بمذهب أهل المدينة
رواي ًة ورأيًا».
ممن جمع مذهب أهل المدينة بما م ّن اهلل عليه من أسباب منها :ذكاؤه ،ومنها: فمالك ّ
أيضا :جاهه فإنه كان له جاه عظيم ألهل المدينة كما ذكر ذلك يف السير ،ومن أحسن من
حرصه ،ومنها ً
كتب عنه القاضي عياض يف «المدارك» .فقد نقل من أخبار مالك ما ال يوجد عند غيره.
قال المصنف« :فإنه لم يكن يف عصره وال بعد ُه أقوم بذلك منه».
وهذا واضح ،يدل على تلك الكتب التي نقلت مذهب أهل المدينة.
وهذا جا ُه مالك ،فقد كانت له مكانة عظيمة عند الخاصة والعامة ،الخاصة :الخلفاء واألمراء،
61
ٍ
قريب من ثالثمئة سنة». قال المصنف« :وهؤالء الذين اتصل إلى الخطيب حديثهم بعد
طبعا الرواة عن مالك هم أكثر من ذلك ،فالرواة عن مالك ينقسمون إلى قسمين :رواة للموطأ،
ورواة مطلقا ،الذين نقلهم الخطيب الظاهر أهنم مطلق الرواة عن مالك ،والذين نقلهم ابن ناصر الدين
إنما هم رواة الموطأ الذين رووا الموطأ ،رووه كما هو.
أي :هناك رواة ر ّبما لم يصل الخطيب خربهم أو أنه انقطعوا ممن روى عن الشخص وذهب وقد
ذكر كثير من األئمة أنه يحضر حالقته األلوف ثم نجد أن الذين ن ُِقل خربهم إنما هم بالمئني أو أقل من
ذلك.
لعل يف الطبع تصحيف أو أن الشيخ يعتمد على ذهنه ،فالذي يف كتب الرتاجم والمشهور فيها أن
62
ابن عبد الربّ مات بعده يف نفس السنة تقريبا ،أي :الخطيب وابن عبد الرب ماتا يف سنة واحدة ،ولذلك
يقولون :ماتا حافظا المشرق والمغرب يف سنة واحدة.
أيضا البيهقي والقاضي معاصرين لهم ،فالبيهقي والقاضي توفيا يف سنة واحدة سنة 458ه ،ولذلك
يقال :ماتا أحيان مذهب الشافعي وأحمد يف سنة واحدة ،يعنون به البيهقي وأبا يعلى بن الفراء.
أي :إن عصرهم واحد يف ذلك الوقت ،مراد المصنف هبذا الكالم أن ابن عبد الرب ربما وقف على
رواة لم يقف عليهم الخطيب ،وربما وقف البيهقي كذلك على رواة لم يقف عليهم الخطيب ،ربما هذا
مراد مصنف.
قال المصنف« :ومالك تويف سنة 179هـ ،وتوفين أبا حنيفة سنة 150هـ ،وتوفين الشافعي سنة
204هـ ،وتوفين أحمد سنة 241هـ ،ولهذا قال الشافعي :ما تحت أديم السماء كتاب أكثر صوابا
الشافعي».
ّ بعد كتاب اهلل من «موطأ مالك» ،وهو كما قال
أي :حينما قال الشافعي هذه الكلمة لم يكن هناك قد ُألف كتاب يف الحديث أصح من هذا الكتاب،
ألن أهل السنن ك ّلهم ،وقبل أهل السنن اإلمام أحمد سنا إنما جاؤوا بعد مالك ،فهم بعد مالك ،ولذلك
إنما قاله يف عصره ،فكلمة الشافعي خاصة يف عصره ال مطلقا.
قال المصنف « :وهذا ال يعارض ما عليه أئمة اإلسالم من أنه ليس بعد قرآن كتاب أصح من
صحيح البخاري ومسلم ،مع أن األئمة على أن البخاري أصح من مسلم».
قال المصنف« :ومن رجح مسلم فإنما رجحه بجمعه ألفاظ الحديث يف مكان واحد».
قال المصنف« :فإن ذلك أيسر على من يريد جمع ألفاظ الحديث».
ولذلك يقولون :إن بعض من جمع بين الصحيحين ،كان يختار ألفاظ مسلم.
63
قال المصنف « :وأما من زعم أن األحاديث التي انفرد بها مسلم أو الرجال الذين انفرد بهم أصح
من األحاديث التي انفرد بها البخاري ومن الرجال الذين انفرد بهم فهذا غلط ال يشك فيه عالم».
هذا مشهور يف المحاكمة بين الصحيحين ،وقد ذكروا أن أهل المغرب يقدّ مون مسلمًا على
البخاري ،وم ن قال من أهل المغرب إن تقديما مسلما على البخاري ألجل أنه قد احتج ببعض الرجال
فضل ألجل طريقتي يف
الذي لم يحتج هبم مسلم ،ولم يحتج هبم البخاري هذا غير صحيح ،وأنه إنما ّ
ِ
سرد األحاديث ،وهناك كتب لمتقدمين ومعاصرين يف ذكر المحاكمة بين الكتابين.
قال المصنف« :كما ال يشك أحد أن البخاري اعلم من مسلم بالحديث والعلل والتاريخ ،وأنه أفقه
منه».
وهذا واضح من كتبه.
أي :الذين ألفوا الصحيح و«السنن المشهورة» .وال شك يف أن أبا داود من فقهاء المسلمين رحمهم
اهلل تعالى.
ِ
بعض ما انفر َد به مسلم أن ُي َر َّجح على
ٌ قال المصنف« :وإن كان قد يتّفق لبعض من انفرد به
البخاري ،فهذا قليال».
ّ
وهذا القليل ألف فيه بعض أهل العلم كابن مسعود الدمشقي والدارقطني والغساين وغيرهم.
قال المصنف« :والغالب بخالف ذلك -أعني تقديم البخاري على مسلم -فإن الذي اتفق عليه
أهل العلم أنه ليس بعد القرآن كتابا أصح من كتا َب ْي البخاري ومسلم؛ وإنما كان هذان الكتابان كذلك،
ألنه ُج ِّرد فيهما الحديث الصحيح المسند».
يقولُ :قدِّ م البخاري ومسلم على الموطأ ألنه ليس فيهما إال الحديث ،وليس فيهما شيء غير ذلك.
قال المصنف« :ولم يكن القصد بتصنيفهما -أي البخاري ومسلم -ذكر آثار الصحابة والتابعين،
وال سائر الحديث -أي وال ذكر سائر الحديث -من الحسن والمرسل ِ
وش ْبه ذلك».
المراد بالحسن هو الذي ي يصلح لالحتجاج به كما ب ّين ذلك الشيخ تقي الدين وإن كان يف رواته
من فيه َو َغ َم َز ،والمرسل واضح وقد ذكر الشيخ أن المرسل انعقد إجماع أهل العلم يف الجملة على
االحتجاج به بشرطه ،على اختالف بين أهل العلم يف نوع شرطه.
64
قال المصنف« :وال ريب إن ما ُج ّرد فيه الحديث الصحيح المسند عن رسول اهلل ‰فهو
منقول عن المعصوم ‰من الكتب المصنفة ،وأما «الموطأ» .ونحوهٍ ِ
الكتب ،ألنه أصح أصح
فإنه ُصنّف على طريقة العلماء المصنّفين إذ ذاك؛ فإن الناس على عهد رسول اهلل ‰كانوا
يكتبون القرآن ،وكان النبي ‰قد نهاهم أن يكتبوا عنه غير القرآن ،وقال :من كتب عنّي شيئًا
فليمح ُه ،ثم ن ُِسخ ذلك عند جمهور العل ماء ،حيث أذن يف الكتابة لعبد اهلل بن عمر وقال :اكتبوا ُ غير القرآن
ِ ِ
ألبي شاها ،وكتب لعمرو بن حزم كتابا ،قالوا :وكان النّهي أوال خوفًا من ا ْشت َباه القرآن بغيره ،ثم َأ ِذن ّ
لما
غير ُه».
أمن ذلك ،فكان الناس يكتبون من حديث رسول اهلل ‰ما يكتبون ،وكتبوا أيضا َ
التأليف مر بعصو ر؛ فإنه قد هني عن الكتابة أوال ثم أذن هبا ،قيل هذا منسوخا باألذن يف قوله :اكتبوا
ألبا شاها ،وقيل إنه ليس نسخا؛ وإنما هي علة قد زالت ،وهو األمن ،وقد أطال الخطيب البغدادي يف
كتابه «تقييد العلم» يف بيان توجيه هذا ،وذكر أربع توجيهات أظن.
أي :لم يكونوا يصنفون وإنما يذكرون صحفا ،لهم صحفا مروية عن بعضهم ،همام منبه عن أبي
هريرة له صحيفة وهي موجودة إلى اآلن ،رواها الشيخان وغيرهم كأحمد ،فتوجد صحف تكتب ،لكن
تصنيف كتاب :أول من صنف يف زمن تابع التابع.
قال المصنف« :فصنِّف العلم :فأول من صنّف ابن جريجٍ شيئا يف التفسير».
أي :المواريث.
قال المصنف« :وصنّف سعيد بن أبي عروبة وحماد سلمة ومعمر وأمثال هؤالء يصنّفون ما يف
الباب عن النبي ‰والصحابة والتابعين».
كتاب معمر موجود وهو الجامع رواه عن عبد الرزاق ،وسعيد بن أبي عروبة وجد جزء يف حديثه،
وهل هو المقصود أم غيره؟ اهلل اعلم.
65
قال المصنف« :وهذه هي كانت كتب الفقه والعلم واألصول والفروع بعد القرآن ،فصنّف مالك
«الموطأ» على هذه الطريقة».
بمعنى أنه لم يجرد الحديث.
قال المصنف« :وصنف بعدُ عبد اهلل بن المبارك وعبد اهلل وهب ووكيع بن الجراح وعبد الرحمن
بن مهدي وعبد الرزّاق –الصنعاين -وسعيد بن منصور -صاحب السنن -وغير هؤالء ،فهذه الكتب التي
كانوا يعدونها يف ذلك الزمان هي التي أشار إليها الشافعي فقال :ليس بعد القرآن كتاب أكثر
صوابًا من «موطأ مالك».
فإن حديثه أصح من حديث نظرائه -هذا كالم الشيخ تقي الدين -قال« :فإن حديثه أصح من حديث
نظرائه».
ٍ
مالك ورأيه وحديث غيره ورأيهم؟ لما سئل عن حديث
قال المصنف« :وكذلك اإلمام أحمد ّ
ورأيه على حديث أولئك ورأيهم ،وهذا يصدّ ق الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عنرجح حديثا مالكا َ ّ
الناس أكباد اإلبل يف طلب العلم فال يجدون عالما أعلم
ُ النبي ‰أنه قال« :يوشك أن يض ِرب
ٍ
واحد كابن ُجريج وابن عيينة وغيرهما :إنهم قالوا :هو مالك». من عالم المدينة» ،فقد روي عن غير
هذا الحديث رواه الرتمذي ونقل هو عن ابن جريج وابن عيينة وعبد الرزاق أهنم قالوا :إن هذا
الحديث يف مالك ،رواه الرتمذي ونقل هذا النقل يف السنن.
قال المصنف« :والذين نازعوا يف هذا -أين يف تنزيل هذا الحديث على مالك -لهم مأخذين:
أحدهما :الطعن يف الحديث ،فزعم بعضهم أن فيه انقطاعًا».
لم يذكر المصنف أظن بعد ذلك ما هو الطعن يف الحديث؟ هذا الحديث رواه مالك وغيره من
طريق :ابن جريج عن أبي الزبير عن أبي صالح عن أبي هريرة ،وقد ُذكر أن َ
ابن جريج وأبا الزبير كالهما
ٍ
الختالف يف رواية هذا الحديث :إرسال واتصال ،هذا هو متهم بالتدليس ،فقد يقال :إن فيه انقطاعا ،نظرا
االنقطاع الذي قصده المصنف.
قال المصنف« :والثاين :إنه أراد -أي أن النبي ‰أراد بهذا الحديث -غير مالك،
كال ُع َمرِ ّ
ي الزاهد ونحوه».
المراد بالعمري :عبد العزيز بن عمر ،وهو من ذرية عمر بن الخطاب ،وقد ذكر الرتمذي يف
السنن عن عبد الرزاق أنه قيل :إنه نقل عن ابن عيينة أن أنه قال مرة إنه العمري هو المراد ،فابن عيينة له
66
قال المصنف :أي :إن مالكا يصدق عليه هذا الحديث ألنه كثر قصد الطالب إليه ،يكفي أن
الخطيب البغدادي نقل نحو من ألف وسبعمائة راو عن مالك ،ثم ذكر الشيخ أن تفضيال مالكا وقصدا
هبذا الحديث أي :يقرره بعض أصحاب مالك من جهتين:
الجهة األولى :أهنم كانوا يفضلون شخصه على أشخاص بأعياهنم يف عصره :كالثوري واألوزاعي
والليث وأبي حنيفة .قال المصنف :إن هذا فيه نزاع بين الناس وال حاجة إليه يف هذا المقام ،ألن الناس
ُجبِلوا على التعصب لألشخاص ،فاألفضل أن ال يفضل األشخاص فيما بينهم وإنما ينظر لألصول.
قال المصنف « :والثاين :إن يقال إن مالكي تأخر موته عن هؤالء كلهم؛ فإنه تويف سنة تسع وسبعين
ومئة ،وهؤالء كلهم ماتوا قبل ذلك ،فمعلوم أنه بعد موت هؤالء لم يكن يف األمة اعلم من ٍ
مالك يف ذلك ٌ
العصر».
وهذا استدالل أجود من استدالل التفصيل األول الذي ذكر الشيخ أنه ال حاجة إليه.
قال المصنف« :وهذا ال ينازع فيه أحد من المسلمين ،وال رحل إلى أحد من علماء المدينة ما
رحل إلى مالك ،ال قبله وال بعده ،رحل إليه من المشرق والمغرب».
يكفي أنه يحيى بن يحيى الليثي أبي وابن زياد رحل إليه من األندلس.
قال المصنف « :ورحل إليه الناس على اختالف طبقاتهم :من العلماء والزهاد والملوك والعامة-،
وهذا ليس ألحد مثل مالك -وانتشر موطأة يف األرض -يف حياته -حتى ال يعرف يف ذلك العصر كتاب
بعد القرآن كان أكثر انتشارا من الموطأ ،وأخذ الموطأ عنه أهل الحجاز والشام والعراق ،ومن أصغر من
أخذ عنه الشافعي ومحمد بن الحسن وأمثالهما.»،
طبعا من أصغر وليس هم األصغر على اإلطالق.
تمتلئ داره».
ُ قال المصنف« :وكان محمد بن الحسن إذا حدّ ث بالعراق عن مالك والحجازيين
قال المصنف« :لعلمهم بأن علما مالكا وأهل المدينة أصح واثبت».
قال المصنف« :ومن زعم أن الذي ضربت إليه أكباد اإلبل يف طلب العلم هو العمري الزاهد مع
كونه كان رجل صالح زاهد آمر بالمعروف نهيا عن المنكر لم يعرف أن الناس احتاجوا إلى شيء من
علمه وال رحلوا إليه فيه ،وكان –العمري -إذا أراد أمرا يستشير مالكا ويستفتيه ،كما ن ُِقل -عن العمري-
أنه استشاره -مالكا -لما كُتِب إليه من العراق أن يتولى الخالفة ،فقال :حتى أشاور مالكًا ،فلما استشاره
أشار عليه أال يدخل يف ذلك ،وأخبره أن هذا ال يتركه ولد العباس حتى تراق فيه دماء كثيرة ،وذكر له ما
ول القاسم بن محمد :إن بني أمية ال يدعون هذا األمر حتى تراق فيهذكره عمر بن عبد العزيز لما قيل لهِّ :
دماء كثيرة».
كثيرا جدً ا ،ولذلك كان ذا رأي عظيم وعقل ،وصلى اهلل ٌ ٍ
ومالك أويت عقال ً مالك، وهذا من عقل
وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين (.)1
¹
﷽
الحمد هلل رب العالمين ،واشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له ،واشهد أن محمدً ا عبد اهلل
ورسوله صلى اهلل عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
ُث َّم ّأما َب ْعد:
فهذا هو اللقاء الرابع يف شرح رسالة الشيخ تقي الدين أبي العباس أحمد ابن عبد الحليم ابن تيمية
يف «صحة أصول مذهب أهل المدينة».
ولذلك فإن مالكا ن ُِقل عنه أنه خالف بعض أهل المدينة يف بعض المسائل كما يف «الموطأ».
ٍ
معروفة عند علماء المدينة ،ولو ُقدّ ر أنه كان يف األزمان المتقدمة من هو قال المصنفَ « :و َأ َّما بآثار
اتبع لمذهب أهل المدينة من ٍ
مالك فقد انقطع ذلك».
هذه الجملة أتى هبا الشيخ يقول :إنه لو قدر أنه يف عصر مالك من الطبقة الثالثة اتباع التابعين من هو
ممن كان يف الطبقة ،ومثل
أعلم بمذهب أهل المدينة ،وقد سميت بعضهم :كابن الماجشون وغيرهم ّ
ربيعة بن أبي عبد الرحمن من الطبقة الثانية وأصحاب مالك الكثير؛ فإن هؤالء قد انقطع علمهم أما بعدم
يبق من كتابه إال جزء صغير طبع
نقله عنهم أو أن كانوا قد ألفوا مصنفات قد ذهبت ،وابن الماجشون لم َ
مؤ خرا والباقي هو مفقود أو يف حكم المفقود ،ومن اللطائف أنه نقل أن اإلمام مالك قال :إن أنجب من
كان عند ربيعة ابن أبي عبد الرحمن أربعة :فأما أحدهم فمات صغيرا وسماه ،وأما الثاين :فسكن يف غير
أمصار -أي سكن يف منطقة نائية -وكان يف مصر كما نقل عنه ،ومات ولم ينقل العلم عنه ،وأما الثالث:
وسماه كذلك ،فقد انشغل بالدنيا فدخل مع السالطين واشتغل هبذه األغاليط -أي بمذهب أهل العراق
لما ذهب وسكن العراق ،-وسكت أن يسمي الرابع ،قال الراوي عنه :ولعله يقصد نفسه ،وهذا الخرب
الذي نقل يف ترجمة ما لك يدلنا على أن مالكا هو من أشهر وأجل من ن ُِقل عنه علم أهل المدينة ،فقد ذكر
أهنم أربعة كانوا ُأ َم َّيز من نقل أو حضر عند ربيعة ابن أبا عبد الرحمن وهو فقيه المدينة.
ٍ
مالك مخالفته أوال ألحاديثهم يف بعض قال المصنف« :ولسنا ننكر أن من الناس من أنكر على
المسائل».
أي :إن مالكا ُأنْكِر عليه يف حياته أنه خالف بعض األحاديث التي رواها أهل المدينة ،وم ّثل لذلك.
69
قال المصنف« :كما ُي ْذكَر عن عبد العزيز الدّ راوردي أنه قال له يف مسألة تقدير المهر بنصاب
السرقة».
أي :إن مالكا ق ّيد أقل ما يصح أن يكون مهر بما يكون نصاب تقطع فيه اليد يف السرقة.
فقال « :تعرقت يا أبا عبد اهلل» -أي ِصرت عراقيا.-
قال المصنفَ « :و َأ َّما مالك والشافعي وأحمد فالنصاب عندهم ثالثة دراهم أو ربع دينار ،كما
قصة إنكار عبد العزيز الدراوردي على مالك -أوال :إن
الصحاح ،فيقال -أي عن ّ
جاءت بذلك األحاديث ّ
للرجل أن
مثل هذه الحكاية تدل على ضعف أقاويل أهل العراق عند أهل المدينة ،وأنهم كانوا يكرهون ّ
يوافقهم».
أي :يقول إن هذه القصة تدلنا على ما أصلناه سابقا أن أهل المدينة فضلهم وعلمهم ُمقدم على علم
أهل العراق ،وهذا ما ذكره الشيخ.
ثم سأله عن قطع أصبعين فقال :فيها عشرون من اإلبل ،قال :فإن انقطع ثالثة ،قال :فإن فيها ثالثين من
اإلبل ،قال :فإن انقطع أربعة قال :انقطع فيها أربعة ففيها عشرون من اإلبل ،قبل أن أجيب عن كالم ربيعة
اشرح ذلك ،لما قطع ثالثة من األصابع فيها ثالثين ،لما قطع أربعة صار فيها عشرون من اإلبل؛ ألن
القاعدة :إن دية المرأة كدية الرجل إذا كان دون ثلث الدية ،فإذا زاد عن ثلث الدية أصبحت دية المرأة
على نصف دية الرجل؛ ولذلك لما قطع أربع أصبعا نقص إلى النصف فأصبح عشرون من اإلبل كدية
األصبعين ،لما قال ذلك سعيدا قالت ربيعة :لما زاد جرحها َّ
قل عقلها ،أنكر عليه ابن المسيب وقال :يا
ابن أخي إنما هي السنة ،وإن هذه إنما هي من أسئلة أهل العراق أو نحو مما قاله سعيد.
قال ال صنف« :وأما ثان -أي من قصة الدراوردي -فمثل هذا يف قول ٍ
مالك قليل جدا». م
تعمد الخطأ مع العلم بالحديث الصحيح قليل يف مذهب مالك ،ومذهب أهل
أي :إن وجود أو ّ
المدينة عموما.
قال مالك :ما من أحد إال ويؤخذ من قوله ويرد إال صاحب هذا القرب ،أي :نبينا محمد .‰
قال المصنف« :وأما الحديث فأكثره تجدُ مالكًا قد قال به يف إحدى الروايتين».
ٍ
مالك نفسه أنه قال أي :يقول إن مالكا إذا نُقل عنه أنه خالف حديثا فأغلب المسائل نجد عن
ب الحديث إذا كان له ظاهر يف إحدى الروايتين المنقولتين عنه ،وإن كان أصحاب مالك بعد ذلك قد تركوا
الرواية التي قال فيها مالك بالحديث وانتقلوا للرواية األخرى؛ ولذلك قال.
قال المصنف« :وإنما تركه طائفة من أصحابه كمسألة رفع اليدين عند الركوع والرفع منه».
مسألة :رفع اليدين عند الركوع والرفع منه ،هل ترفع اليدان عندها أم ال؟ فيها قوالن عن مالك
وأصحابه ،فيها روايتان من مذهب مالك:
الرواية األولى :فقيل :أنه ال ترفع اليدين وهذا الذي اشتهر عن المالكية يف كتبهم وأقوالهم.
الرواية الثانية :عن مالك أنه ترفع اليدين وفاقا لحديث ابن عمر وحديث أبي حميد الساعدي.
قال المصنف« :وأهل المدينة رووا عن مالك الرفع موافقًا للحديث الصحيح الذي رواه».
ألنه روى الحديث وأهل المدينة نقلوا عنه ذلك ،وهذه رواية منقولة حتى يف كتب المالكية.
الرواية األولى :هي الموجودة يف المدونة ،وأن مالكًا كرهها ،وهذه هي المذهب المشهور عند
كثير من المتأخرين.
الرواية الثانية :نقلها بعض المصريين كأشهب ،ونقل عنه أنه استحسنها ورأى تركها واسعا.
أيضا نقلها بعض المصريين كابن وهب وهو من أوثق أصحابه ضبطا ونقال ،ذكر
الرواية الثالثةً :
عن مالك أن اليدين ُترفعان ولم يذكر يف ذلك سعة يف تركها.
هذه الثالث روايات منقولة ع ن مالك؛ ولكن مذهب المدونة هي التي نقلها ابن القاسم وسيأيت
الحديث عن المدونة بعد قليل.
ُ
مسائل مدونة ابن القاسم -هو عبد الرحمن بن قاسم المصري -أصلها
قال المصنف« :ومعلوم أن ّ
ابن القاسم فأجابه بالنقل عن مالك تارةً ،وتار ًة
أسد بن الفرات التي ّفرعها أهل العراق ،ثم سأل عنها أسد َ
بالقياس على قوله ،ثم أصحها ما يف رواية سحنون».
هذا الكالم الذي نقله الشيخ تقي الدين ،هذا مشهور ِجدًّ ا يف كالم المالكية ،ومن أشهر من ينقل عنه
ذلك أبو الوليد بن رشد؛ فإن أبا الوليد ذكر يف كتابه قال المصنف« :المقدمات» .يف أوله :إن أسد بن
الفرات كان يف أول أمره على مذهب أهل العراق ،إذ أسد كان ُيدَ ّرس حتى يف آخر حياته بطريقة أهل
العراق وطريقة المدنيين كما ن ُِقل يف ترجمته ،فقد درس المذهبين :مذهب أهل العراق ومذهب أهل
ودرس المذهبين معا ،فابن رشد ذكر أن ابنا أسد بنا فرات كان أوال على مذهب أهل العراق ،ثم
المدينةَّ ،
أنه قد كتب مسائلهم وتفاريعهما وأسئلتهم ،فأخذ األسئلة وحدها فقط وقدم هبا للمدينة اإلمام مالك
ويجعلها على مذهب أهل المدينة ،فأتى المدينة وقد تويف مالك ،فأتى هبذه األسئلة ألشهب،
فلما أتى أشهب وجد أن أشهب يقول يف درسه :أخطأ مالك يف مسألة كذا وأخطأ يف مسألة كذا ،فكأنه لم
يرتض قوله فيه ،وذكر كالما يف أشهب أي :مشهور ِجدًّ ا ،انتقل بعد
ِ ِ
يرتض هذه الطريقة من أشهب ولم
ذلك البن قاسم ،فذكر أبي الوليد أنه أتى أبو ابن القاسم -عبد الرحمن بن القاسم -فرغب إليه بأن يسأله
عن األسئلة التي سأل عنها أهل العراق ،فتمنّع أوال ،فلم يزل به حتى شرح اهلل صدر ابن القاسم له،
فجعل يسأله مسألة مسألة ،حتى قيل إن أنه كتب عنه علما كثيرا وجلس عنده مدة طويلة ،ذكر ابن رشد أن
ابن القاسم أن ما كان عنده سماع عن مالك فإنه يقل :سمعت مالكا يقول كذا ،وما لم يكن عنده عن
مالك فيه سماع وإنما فيه بالغ ،أي :بلغه عن مالك فيقول :لم أسمع من مالك شيئا وإنما بلغني عنه أنه
قال فيها كذا ،وما لم يكن عند ابن القاسم سماع وال بالغ ،فإنه يقل لم أسمع ولم يبلغني عن مالك شيء
والذي أراه فيها كذا ،هذا الذي حدث مع أسد بن فرات ونقله أبو الوليد ،طب ًعا قبل أن نذكر ما الذي
73
حدث مع سحنون ،ذكر بعض المالكية من المتقدمين أن عبد الرحمن بن القاسم يختلف عن غيره من
الرواة أنه كان ينقل مذهب مالك بالمعنى ال بالنص ،أشاروا لذلك ،طب ًعا على نزاع بينهم يف هذا ،وال
شك أنه ثقة ،لكن الرواية بالمعنى مقبولة حتى يف رواية الحديث ،فال مانع أن يكون قد روى أقوال مالك
كذلك ،وال ينازع ذلك أو يقدح ذلك يف ثقته؛ ولكن هذا ُو ِجد يف أكثر من كتاب من كتب المالكية
ٍ
مالك أحيانا المتقدمين عندما ُيقدمون غيره يذكرون أن عبد الرحمن بن القاسم كان ينقل أو يذكر قول
بالمعنى ال بالنص ،طب ًعا ثم أن سحنون هذا لما أخذ هذا كله ذهب إلى المغرب فجاء سحنون اسمه عبد
السالم ،فاراد أن يأخذ هذه المسائل من أسد بن الفرات فامتنع منه أسد وأن يحدث هبا ،فانتسخها بحيلة
ما ،ثم رحل هبا إلى عبد الرحمن بن القاسم فقرأها عليه ،فعبد الرحمن بن القاسم بعد ذلك رجع عن
وصحح بعضها وغ ّير يف بعضها ،وهذا معنى قول المصنف« :ثم اِ ْص َل َها» ،أي :إنه
ّ بعض من هذه المسائل
صححها كثيرا يف رواية سحنون عن مالك ،طب ًعا وهذه المدونة التي بين أيدينا زا َد فيها سحنون بعض
األشياء عن غير ابن القاسم ،مثل نقله بعض األشياء عن ابن وهب وعن غيره ،طب ًعا يذكرون أن ابن
القاسم كتب إلى أسد بن الفرات :إن أرجع إلى نسخة سحنون أو كتاب سحنون فصحح به نسختك
ّ
فكأن أسدا أنف من ذلك وأبى ،ويذكرون والعلم عند اهلل :إن ابن القاسم دعا عليه أن ال يبارك له
فيها ،فلذلك لم تنقل عنه والعلم أن اهلل ،هذا معنى كلمة الجملة التي نقلها الشيخ يف ذكر المدونة.
ِ
الميل إلى أقوال أهل العراق ،وإن لم يكن قال المصنف« :فلهذا يقع يف كالم ابن القاسم طائف ٌة من
ذلك من أصول أهل المدينة».
هذا الكالم يف الحقيقة جميل ِجدًّ ا ،ويتعلق بما يف المدونة أن ابن القاسم ربما أتى بأشياء أخذها من
أهل العراق ولم يأخذها من مالك ،ألنه نقل أشياء عن غير مالك ،تقدم معنا أما اجتهاد ،وخاصة أنه سمع
هذه األسئلة فربما وقعت يف نفسه ،مثل ما قيل :أتاين هواها قبل أن أعرف الهواء ،وهذا الكالم الذي قاله
الشيخ تقي الدين قاله قبله جماعة من أهل العلم المحققين؛ فإن ممن قال ذلك القاضي عبد الوهاب
واألهبري وابن َا ْل ِق َصار ،وهذا النقل الذي نقلته عنه نقله أبو محمد بن عبد السالم التونسي يف شرحه
لس ْلم ،فقد ذكر ابن عبد السالم أن ظاهرا ما يف المدونة أنه
لمختصر ابن الحاجب المطبوع يف آخر كتاب َا ِّ
ا يشرتط ذكر جنس المبيع يف السلم بالكلية ،قال :وأنكر األهبري وابن القصار وعبد الوهاب ما وقع يف
المدونة ،وزعم بعضهم أن هذه المسألة إنما هي من كالم الحنفية؛ ألن أسد بن الفرات سألهم أوال ثم
أخذا بمذهب مالك وان أسد بن الفرات أبقاها يف المدونة ،طب ًعا ر ّد ذلك بناء على أن أسدا وسحنون
ثقات ،وهذا ال يعارض ثقتهما رحمهما اهلل تعالى ،فالمقصود أن كالم الشيخ تقي الدين هذا الذي قاله
واحدة من اثنتين:
74
-إما أن يكون قد وقف على كالم هؤالء العراقيين يف ذلك وهذا ليس بعيد ،والظاهر من كالم الشيخ
أنه ُي َق ّوي طريقة العراقيين على طريقة المغاربة من أصحاب مالك وهذا واضح ِجدًّ ا يف كالمه ،وتعظيمه
للعراقيين من أصحاب مالك كاألهبري وابن القصار والقاضي عبد الوهاب رحمهم اهلل تعالى.
-وإما أن يكون هذا من فهمه الذي وافق فهم األكابر من أصحاب مالك.
ويف كال االثنتين يشهد له بسعة االطالع وحسن الفهم؛ ولذلك ُيشهد للشيخ تقي الدين باإلمامة يف
الدين .
قال ال صنف« :ثم اتّفق أنه لما انتشر مذهب ٍ
مالك باألندلس وكان يحيى بن يحيى». ُ م
مراده بيحيى بن يحيى الليثي ،كان عامل األندلس :له مكانة كبيرة ِجدًّ ا.
طب ًعا لم ي ِل القضاء يحيى ،وكان يأنف من ذلك ،وإنما كان يع ّين القضاة ،فكان القضاة هم تالمذته،
ولكن لم ي ِل يحيى القضاء ،وان وليه فلفرتة قصيرة.
أي :برواية يحيى بن يحيى ويقدموهنا على غيره ،وهذا هو األكثر ،طب ًعا روايته :الضمير يعود البن
القاسم ،فكانوا يأمرون بأن ال يقضون إال برواية ابن القاسم عن مالك.
طب ًعا ألن يحيى بن يحيى روايته يف غير الموطأ قليلة ،طب ًعا يحيى بن يحيى من قضائه أو من اجتهاده
الذي خالف المشهور عند المالكية وهي مسألة القضاء باليمين والشاهد ،ومشى عليها المغاربة أو أهل
األندلس.
قال المصنف« :فانتشرت رواية ابن القاسم عن مالك ألجل من عمل بها».
وصدق؛ فإن رواية ابن القاسم انتشرت ِجدًّ ا ِجدًّ ا ،حتى قال بعض المناظرين لهم :أنتم اليوم قاسمية
ال مالكية ،مذهبكم مذهب ابن القاسم وليس مذهبكم مذهب مالك ،ألنه قد يأتيكم النص الصريح عن
مالك يف غير رواية ابن القاسم فرت ّدونه وتأخذون بقول ابن قاسم الذي ال يكون قد بلغه عن مالك فيه
شيء أو نقله عن مالك اجتهاد وفهم من فعل أو غيره ،وحتى أن بعض المالكية -وهذا الكتاب طبع أكثر
من طبعة -ألفوا كتبا يف التوسط بين مالك وابن القاسم.
والسنّة».
قال المصنف« :وقد تكون مرجوحة يف المذهب وعمل أهل المدينة ّ
المراد بالمذهب أي :أصول المذهب وقواعده ،وعمل أهل المدينة والسنة ،وهذا واضح ِجدًّ ا؛
ولذلك يقولون :إن ابن بشير صاحب قال المصنف« :التنبيه» .وقد طبع بعضه أنه :ال يقبل قوله ألنه كان
ُي َخ ِّرج على األصول وال يعتني بالفروع ،وهذا معنى قول المصنف« :وقد تكون مرجوحة يف المذهب»
ولذلك فإن بعضا من أصحاب مالك لما أصبح ُي َخ ِّرج على األصول مباشر ًة ومنها إعمال الحديث ،ر ّد
بعض المالكية المتأخرون قوله ،وهذا فيه نظر وال شك.
قال المصنف« :حتى صاروا يتركون رواية «الموطأ» ،الذي هو متواتر عن مالك».
رواية الموطأ :مقصوده الفقه الذي يف الموطأ ،والفقه الذي يف الموطأ هو الذي جمعه ابن الحكم يف
المختصر طب ًعا له مختصران :الصغير والكبير ،وأظن الذي طبع هو الصغير ،هذا المختصر الصغير هو
فقه مالك المنقول؛ ولذلك أهل العراق لو تأملت األكابر منهم :كاألهبري فقد كانوا يشرحون مختصر
فكم من مهذب لها ومن
ابن الحكم ألنه فقه مالك من رواية الموطأ ،بينما أهل المغرب عنوا بالمدونةْ ،
جامع لها مع غيرها كالعتيبية وغيرها؛ ولذلك اختلفت طريقة العراقيين عن طريقة المغاربة ،من أسباب
اختالف طريقتهم :الرواية التي يعتمدوهنا يف بيان مذهب مالك.
قال المصنف« :حتى صاروا يتركون رواية الموطأ الذي هو متواتر عن مالك ،وما زال يحدِّ ُ
ث به-
أي بالموطأ -إلى أن مات».
ومن آخر من روى عنه يحيى بن يحيى الليثي وغيرهم؛ ولذلك بعض األكابر من األندلس يقول:
عجب يرتكون رواية مالك يف الموطأ من رواية يحيى ويخالفوهنا بما يف المدونة والكتب التي عملت
عليها بعد ذلك.
76
طب ًعا رواية ابن القاسم التي هي يف المدونة ،وليس رواية ابن قاسم التي يف الموطأ ،يجب أن نفرق
بين االثنتين ،طب ًعا رواية ابن قاسم للموطأ :موجود تلخيص القابسي ُطبِع قديما ،وموجود ً
أيضا جزء منها
طب ًعا ،وهناك مخطوط يف الجمع بين رواية ابن القاسم وعبد اهلل بن وهب وهي رواية المصريين مسندة
كاملة ،وأظن طبعت أو على وشك الخروج.
ال وافق السنة يف مذهب مالك،هذه مسألة جميلة ِجدًّ ا ،وهو أن المتبع للسنة ال بد من أن يجد قو ً
أيضا يف مذهب أحمد ،فإنه ال تكاد قوال فيه موافقة للسنة أال وهو موجود يف مذهب أحمد ومثله يقال ً
رواية نص أو إيماء أو نحو ذلك ،ومذهب الشافعي قريب منهما ،وعربت بالقريب ألن بعضا من محققي
الشافعية كالبغوي خاصة ،والنووي ،ذكروا مسائل ،والماوردي يف مسألتين يف الحاوي تقريبا ،ذكروا
مسائل لم يجدوا فيها قوال للشافعي وال ألصحابه ،ثم خرجوا وجها بناء على النص ،وقالوا ألنه قد صح
فيها الحديث وقد قال الشافعي إذا صح الحديث فهو مذهبي فنقول إهنا وجه ،وهذه طريقة األكابر ،قلت:
فعلها الماوردي أحيانا ،والبغوي والنووي ،وهؤالء الثالثة من أكابر مذهب الشافعي؛ ولذلك نقول إن
السنة كذلك من أراد متبع السنة فإنه يجد كذلك يف مذهب الشافعي مثل ذلك ،والظن أن يف عموم مذهب
الحنفية مثل ذلك؛ ولذلك فإن ابن أبو العز يف كتابه «التنبيه على الهداية» شرح الهداية بما يدل عليه
الدليل ،ونسب ذلك قوال لبعض أصحاب أبي حنيفة ،وإن كان لم يتتبع من قال به من أصحاب أبي
حنيفة ،على العموم السنة ظاهرة والحق ظاهر وهلل الحمد ،وهذه نعمة من اهلل .
نقلها عن مالك عدد جم ،قريب من السبعة أو الثمانية كلهم نقلوا استحباب القبض لحديث وائل ،وأما
الذي انفرد بالسدل صراحة فإنما هو عبد الرحمن بن قاسم ،فمن قال بالقبض لم يخرج عن مذهب ذلك
الجم ،وهذا ظاهر كالم الشيخ وكالم الشيخ كالمه خبير وال
ّ بل أتى بقول مالك المنقول عنه بالعدد
شك.
ِ
بخالف كثيرٍ من مذهب أهل الكوفة -مذهب أهل الكوفة المتقدمين -فإنهم كثيرا قال المصنف« :
ما يخالفون السنة وإن لم يتعمدوا ذلك».
وهذا من االعتذار لهم؛ فإن المتقدمين من أهل الكوفة كانوا على هذه الطريقة ،وخاصة يف القرن
الثالث وهم تابعوا ا لتابعين ،وقد سمى الشيخ بعضا منهم ،حتى وإن كان بعضهم من أهل الحديث كوكيع
غيره.
قال المصنف« :ثم من تد ّبر أصول اإلسالم وقواعد الشريعة وجد أصول مالك وأهل المدينة أصح
األصول والقواعد ،وقد ذكر ذلك الشافعي وأحمد غيرهما».
بدأ يتكلم اآلن عن قواعدهم فذكر على سبيل اإلجمال ثم على سبيل التفصيل.
بالمكابرة؟!». ِ
قال المصنف« :فقال له الشافعي :باألنصاف أو ُ
أي :تريد الرتجيح (الرتجيح باألنصاف أو بالمكابرة).
قال المصنف« :فقال له -أي محمد بن الحسن -باألنصاف ،فقال :ناشدتك اهلل ،صاح ُبنا أعلم
بكتاب اهلل أم صاحبكم؟ فقال :بل صاحبكم -،أي :مالك -فقال :صاحبنا أعلم بسنة رسول
اهلل ‰أم صاحبك؟ فقال :بل صاحبكم ،فقال :صاحبنا أعلم بأقوال أصحاب رسول
اهلل ‰أم صاحبك؟ قال :بل صاحبكم ،قال :ما بقي بيننا وبينكم إال القياس ،ونحن نقول
بالقياس ،ولكن َم ْن كان باألصول أعلم كان ِقياسه أصح».
مبني على مقدمات، ّ
بل إن الشافعي قال :فنحن نقول بالقياس أكثر منكم؛ فدل ذلك على أن القياس ّ
فإذا كانت ُمقدّ ماته أصح كانت نتائجه أدق ،ثم نقل عن أحمد.
78
ٌ
مالك أم سفيان؟- قال المصنف« :وقالوا لإلمام أحمد :من أعلم بسنة رسول اهلل‰
ٌ
مالك أم سفيان؟ وسفيان من أهل الكوفة -فقال بل مالك ،فقيل له :أيهما أعلم بآثار أصحاب رسول اهلل
فقال :بل مالك ،فقيل له :أيهما اِز َْهدْ مالكا أم سفيان؟ فقال :هذه لكم».
من رواية المنقولة عن اإلمام أحمد ما نقله أبو داود يف سؤاليه الحديثية أن أحمد قال :مالك اتبع من
مبني على العلم باآلثار وأقوال الصحابة وعلى العلم بأحاديث
سفيان ،قوله« :اتبع» أي :يف الفقه ،والفقه ّ
رسول اهلل ، ‰وهذه معنى الرواية التي نقلها أحمد ،وهنا فائدة لما قلت إهنا سؤال أبي داود
فإن أبا داود له عن أحمد سؤال حديثية وسؤاال فقهية ،وكلها مطبوعة ،كما أن األثرم له عن أحمد سؤال
حديثية مطبوعة وسؤاال فقهية مفقودة ،ومن أكثر من نقل عن السؤالين الفقهية حافظ المغرب أبو عمر
ابن عبد الرب فقد أكثر من النقل عن سؤال األثرم نقال كثيرا ِجدًّ ا ،ال يعرف يف غيره من الكتب أنه نقل مثل
هذا النقل ،وهذا يدلنا على أن سؤالي األثرم وصلت المغرب يف تلك الفرتة.
قال المصنف « :ومعلوم أن سفيان الثوري أعلم أهل العراق ذلك الوقت بالفقه والحديث؛ فإن أبا
والثوري ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى والحسن بن صالح بن َح ٍّي وشريك بن عبد اهلل َّ حنيفة
النخعي القاضي :كانوا متقاربين يف العصر ،وهم ائمة فقهاء الكوفة يف ذلك العصر».
بعض المنازعة
ثوري النسب ،وكان بينهما ُ
ّ حي هذا عصري الثوري وكالهما
الحسن بن صالح بن ّ
كما ن ُِقل ذلك يف السير.
قال المصنف« :وكان أبو يوسف -صاحب أبي حنيفة -يتف ّقه ً
اوال على محمد بن عبد الرحمن بن
أبي ليلى القاضي ،ثم أنه اجتمع بابا حنيفة ،فرأى أنه افقه منه فلزمه ،وصنّف كتابا «اختالف أبي حنيفة
وابن أبي ليلى».
هذه المسألة يف قصة أبي يوسف ،نقول أصحاب أبي حنيفة واالصل يف ذلك كالم السرخسي
صاحب «المبسوط».
تحول أبي يوسف لمجلس أبي حنيفة :أن أبا يوسف قد تبع ابن أبي ليلى فرتة ثم أنه
ذكر أن سبب ّ
شهد مالكًا نثرا فيه السكر ،فأخذ أبي يوسف بعض منه ،فكره ذلك ابن أبي ليلى واغلظ له يف القول،
وب ّين له أن ذلك ال يحل ،فجاء أبو يوسف ألبي حنيفة فسأله عن ذلك األمر فقال :ال بأس يف ذلك ،ثم
تصح ،حين ذلك انقطع عن ابن أبي ليلى وانتقل
ّ صحت أو لم
رويت يف هذا الباب سواء ّذكر احاديث ِ
إلى مجلس أبي حنيفة ،وقيل :إن سبب انتقاله :أن أبا يوسف كان يناظر زفر ،ثم تب ّين له بالمناظرة ما ب ّين
فقه أبي حنيفة شيخا زفر وبين شيخه ابن أبي ليلى ،فتحول بعد ذلك لمجلس أبي حنيفة ،وهذا الذي
79
جعله يجمع كتابا يف اختالف شيخيه :ابن أبي ليلى وابي حنيفة.
قال المصنف« :وصنّف كتاب «اختالف أبي حنيفة وابن أبي ليلى».
وهما شيخا أهل العراق يف ذلك الوقت ،وذكروا أن مالزمة أبي يوسف البن أبي ليلى كانت تسع
سنين ،فرتة ليست بالقصيرة.
هذه الكلمة قوله« :وأخذه عنه محمد بن الحسن» .هذه يف غاية الدقة ،اذ لم ينقل ذلك اال
السرخسي ،فقد نقل أن هذا التصنيف وهو :اختالف أبي حنيفة مع ابن أبي ليلى ،الذي ألفه أبو يوسف،
أخذه عنه محمد ورواه عن أبي يوسف وزاد فيه اشياء أخرى كان قد سمعها من أبي حنيفة ،فيقول
السرخسي :فاصل التأليف ألبي يوسف ،والتأليف ألبي محمد؛ ولذلك فإن بعض النسخ الخطية فيها
ادخال هذا الكتاب «اختالف أبي حنيفة وابن أبي ليلى» .يف كتاب «االصل» لمحمد بن حسن ،وبعض
النسخ الخطية ليس فيها ذلك ،وسبب االختالف ما ذكرت ،ونقله الشيخ قبل ذلك عن السرخسي ،وهذا
أيضا -اكرر مرة أخرى -هذا لسعة اطالع الشيخ فانظر مع دقة ما نقله عن المالكية ،كذلك دقة ما نقله
ً
بظن وإنما بعلم رحمة اهلل على جميع علماء
ّ عن الحنفية ،فلم ُ
يك يتكلم هبوى وال بخرص وال
المسلمين.
قال المصنف « :ونقله الشافعي عن محمد بن الحسن وذكر فيه اختياره ،وهو الكتاب المسمى
«اختالف العراقيين».
ضمنها
ضمن اجزا ًء منه وابوابًا ّ
هذا أحد كتب الشافعي التي مثل ما قلنا قبل ذلك يف الكتاب السابقّ ،
الربيع بن سليمان يف كتاب فنقل عنه نقوالت كثيرة ،يذكر فيها خالف أبي حنيفة ومحمد بن الحسن مع
اختالفات ابن أبي ليلى ،ثم يذكر فيها ارائه هو وسماه «اختالف العراقيين» .يقصد بالعراقيين ابن أبي ليلة
وابي حنيفة.
قال المصنف« :ومعلوم أن سفيان الثوري أعلم هذه الطبقة يف الحديث مع تقدّ مه يف الفقه والزهد».
ال ّ
شك ،وهذا مشهود به وقد الفت كتبا مفردة يف تراجم الثوري ،منها جزء مطبوع للذهبي سماه
«مناقب الثوري».
80
ٌ
تفضيل له على مذهب أهل ٍ
مالك على مذهب سفيان قال المصنف« :فتفضيل أحمد لمذهب
العراق».
مؤ ّدى كالم الشيخ يقول :إذا كان أعلم أهل العراق بالنقل واالثر والسنة وغيرها ُف ِّضل فق ُه مالك عليه
ّ
فدل ذلك على أن من كان دونه يف معرفة هذه االمور مالك مقدّ م عليه يف ذلك ،وال ّ
شك ،وهذا استدالل
أولوي.
ّ
قال المصنف« :وقد قال اإلمام أحمد يف علمه وعلم مالك بالكتاب والسنة ما تقدّ م».
قال المصنف« :مع أن أحمد يقدِّ ُم سفيان الثوري على هذه الطبقة ك ّلها ،وهو يع ّظ ُم سفيان غاية
التعظيم».
صحيح ،حتى أنه ندم أنه لم يدرك سفيان ندمًا شديدا ،لكنه أخذ كثيرا من علم سفيان عن طريق
وكيع وعن طريق غيره من الكوفيين ،وكان ي ِ
ج ّل سفيان يف السنة ويج ّله يف العلم ويف الحديث ،وقد سئل ُ
أحمد عن مسائل سفيان؛ فإن مسائل اسحاق بن منصور الكوسج هي يف الحقيقة :مسائل سفيان وفقه
سفيان ،فأخذها اسحاق بن منصور الكوسج فسأل أحمد عنها ،وإذا قرأت هذه المسائل ترى اجالل
أحمد لسفيان وتعظيمه له ،كما أن اسماعيل بن سعيد الشالنجي كان قد تتلمذ على محمد بن الحسن
الشيباين -صاحب أبي حنيفة -فأخذ مسائله وسأل أحمد عنها ،وهي المسائل المشهورة «مسائل
الشالنجي» .التي شرحها الجوزاين بعد ذلك يف كتاب مرتجم ،وهي من اعظم كتب الفقه لكنها مفقودة،
طب ًعا على طريقة أهل الحديث.
قال المصنف « :ولكنه كان يعلم أن مذهب أهل المدينة وعلمائها أقرب إلى الكتاب والسنة من
مذهب أهل الكوفة وعلمائها».
أي :على سبيل اإلجمال والجملة.
يطعن فيه أو من ويذب عنه عند من ب الشافعي ويثني عليه ويدعو له ِ
ُ ّ قال المصنف« :ولهذا كان يح ُّ
ٍ
بدعة ،ويذكر تعظيمه للسنة واتباعه لها». ينسبه إلى
أي :أحمد كان له ثناء كثير على الشافعي ،من ثناء أحمد على الشافعي يف السنة ما نقله الميموين،
والميموين معروف من أئمة السنة يف ن قله ويف عنايته هبذا األمر ،قال :إن أحمد قال له :أال تنظر يف كتب
الشافعي؟ فما من أحد وضع الكتب حتى ظهرت أتبع للسنة من الشافعي ،وهذا ثناء وتعظيم ليس
بالسهل ،فمن باب ذكر تعظيمه للسنة واتباعه له.
قال المصنف« :ويذكر تعظيمه للسنّة واتباعه لها ومعرفته بأصول الفقه كالناسخ والمنسوخ
ويثبت خبر الواحد ومناظرته عن مذهب أهل الحديث َم ْن خالفه بالرأي وغيره».
ُ والمفسر
ّ والمجمل
أي :إنه يرد على المخالفين يف هذه المسألة.
قال المصنف« :وهو كان على مذهب أهل الحجاز -أي :الشافعي -وكان قد تف ّقه على طريقة
الم ّك ّيين ،أصحاب ابن جريج :كمسلم بن خالد الزّنجي ،وسعيد بن سالم َا ْل ِقدَ اح ،ثم رحل إلى مالك
كمل أصول أهل المدينة وهم أجل علمًا وفقهًا وقدر ًا من أهل وأخذ عنه قال المصنف« :الموطأ» و ّ
مكة ،من عهد النّبي ‰إلى عهد ٍ
مالك». ّ
أي :هذا من باب تفضيل أصول أهل المدينة على أهل مكة؛ ألن أهل مكة أي :العلم فيهم أقل وهم
مختلطون؛ ولذلك كان الشافعي يسميهم أهل الحجاز من باب الجمع بينهما.
82
قال المصنف« :ثم اتفقت له محن ٌة ذهب فيها إلى العراق ،فاجتمع بمحمد بن الحسن وكتب كتبه
وناظره وعرف أصول أبي حنيفة وأصحابه ،وأخذ من الحديث ما أخذه من أهل العراق ثم ذهب إلى
الحجاز».
هذه المحنة التي امت ِ
ُحن فيها الشافعي هي المحنة التي كانت مع السلطان فيما اهتم به من نصرته
لبعض العلو ّيين وغيرهم.
الحجة».
ثم قدم العراق مرة ثانية وفيها صنف كتابه القديم المعروف « ّ
قال المصنفّ « :
ورواة القديم عن الشافعي جماعة منهم الكرابيسي وكثير ،وقد جمعوا الرواة القديم ومنهم أحمد
كذلك ،فإنه يعد من رواة القديم.
قال ال صنف« :واجتمع به أحمد بن حنبل يف هذه َا ْل َق ِ
اد َمة بالعراق ،واجتمع به بمكّة». م
القصة المعروفة :حينما قال :إن فاتكا علم هذا
وعندما اجتمع به بمكة كان معه إسحاق بن راهويه يف ّ
بعلو أدركته بنزول.
الفتى فاتكا علما كثيرا ،وان فاتك الحديث ٍّ
وهذه المناظرة كانت يف عدد من األبواب منها مسألة الهبة ،العود يف الهبة ويف غيرها.
الشافعي بابي يوسف وال باألوزاعي وغيرهما ،فمن ذكر ذلك يف
ّ قال المصنف« :ولم يجتمع
ٍ
مالك وأبي يوسف كاذب؛ فإن تلك الرحلة فيها من األكاذيب عليه وعلى ِ
المضافة إليه فهو الرحلة
ٌ
ومحمد وغيرهم من أهل العلم ما ال يخفى على عال ٍم».
هذه الرحلة :رحلة مشهورة طبعت يف الهند قبل نحو من أكثر من مئة سنة ،ثم أعيد طبعها بعد فرتة
أخرى ،وهي رحلة مكذوبة على الشافعي ،تكلم الذهبي يف العرب عن إسنادها وذكر من اهتم بالكذب
فيها ،وفيها مناقير كثيرة ِجدًّ ا ،والحديث عن هذه الرحلة لها حديث طويل آخر غير هذا المجلس ،لعلنا
نتكلم عنه بعد ذلك إن شاء اهلل.
حال ٍ
مالك معه ما ذكر يف تلك الرحلة الكاذبة». قال المصنف« :وال كان ُ
وتلك الرحلة الموجودة ،ولعل أن نفرد لها حديثا يوما ما إن شاء اهلل.
قال المصنف« :ثم رجع الشافعي إلى مصر وصنّف كتابه الجديد».
أيضا
المرادي ،ورواها عن المزين ،ورواه عنه ً
أي :كتبه الجديدة التي رواها عنها الربيع بن سليمان ُ
ِ
أهل مصر مثل :الربيع بن سليمان الج ِيزي -وهو غير ُ
المرادي -وغيرهم من رواة الكتاب الجديد.
قال المصنف « :واختار سكنى مصر إذ ذاك ألنهم كانوا على مذهب أهل المدينة ومن يشبههم من
أهل مصر كال ّليث بن سعد وأمثاله -من األكابر -وكان أهل الغرب -أهل األندلس والمغرب -بعضهم
على مذهب هؤالء».
أي :على مذهب أهل مصر أو أهل المدينة؛ فإن الليث كان له اتباع يف األندلس ،ومالك له بعض
االتباع كذلك ،أو أن أهل المدينة لهم اتباع مثل عبد الملك بن حبيب فإنه إدراك مالك وغيره ،ونقل
نقو ً
ال كثيرة عن أهل المدينة.
قال المصنف« :وكان أهل الغرب بعضهم على مذهب هؤالء وبعضهم على مذهب األوزاعي».
واألوزاعي كان لهم وجود يف المغرب ،وقد أ ِّلفت بحوث يف تاريخ االوزاعية يف المغرب وغيره.
أهل الشام :هو مذهب األوزاعي وغيره ،قال :ونصره خلفاء بني أمية المتقدمين الذين دخلوا
المغرب يف ذلك الوقت ،فإهنم كانوا على مذهب الشام فلذلك نصروه ،فقد جاء بعض بني أمية وبعض
أصحاهبم الذين أفشوا مذهب أهل الشام يف األندلس.
قال المصنف« :مذهب أهل الشام ومصر والمدينة متقارب ،لكن أهل المدينة أجل عند الجميع».
متقارب يف بعض األصول ألن العلوم تتواصل ،والمذاهب تتواصل وتختلط فيكون بعضها مختلفا
84
ببعض.
قال المصنف« :ما يجب عليه اتباعه ،وان خالف قول أصحابه المدنيين».
وذلك إن الشافعي لما ذهب للعراق اطلع على أحاديث كثيرة لم يكن قد وقف عليها المدنيون.
كتاب اإلمالء للشافعي هو من رواية أبي الوليد ،وقد صنفه على هيئة مسائل ابن القاسم.
مصرية
ّ كره ُه وآذوه ،وجرت محنة
يجب عليه ،وإن كان قد كره ذلك َم ْن َ
ُ قال المصنف« :وقام بما
معروفةٌ ،واهلل يغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات ،األحياء منهم واألموات».
حدثت له محنة حتى من بعض أكابر أصحابه رحمهم اهلل تعالى ،وهي مشهورة ِجدًّ ا يف كتب
الطبقات ،وهذه سنة :إن المرء يمتحن بأحب شيء إليه ،فالمرء يمتحن يف زوجه ويمتحن يف ولده
ويمتحن يف ماله ،وإن كان من أهل الجاه امتحن يف جاهه ،وإن كان من أهل العلم امتحن يف علمه،
وجلِد ،وأحمدُ :جلِد يف مسألة الطالق ،وذلك أن مالكا كان يرى
وأولئك األكابر امتحنوا ،فمالك امتحن ُ
طالق المكره ال يقع ،فامتحن ألجلها ،وألجل ذلك ُجلِد ،وقيل :إنه امتحن ألجل تولية القضاء ،وامتحن
85
الشافعي يف هذه المسألة التي أنكر ما أنكر فيها من بعض المذهب مالكا ،وامتحن امتحانا شديدا ،أحمد
أيضا ُجلِد ،وغير ذلك من
امتحن يف السنة وإظهارها ،البخاري امتحن ،وكذلك كثير من األئمة ،أبا حنيفة ً
أئمة ويمتحنون يف أمور تختلف من شخص إلى آخر؛ ولذلك طالب العلم إذا امتحن يف العلم يف مسألة
أو يف أخرى وأوذي يف مسألة أخرى يجب عليه أن يصرب وأن يحتسب ،وكثير من الناس يمتحن أدنى
امتحان يف العلم هجر العلم ،وظن أنه إذا تعلم العلم ال بد من أن تكون الطريق أمامه ممهدا ،وأن يكون
الناس مستمعين له منصتين قابلين غير رادين عليه ،وهذا غير صحيح؛ فإن من أحب الشيء لطالب
العلم :العلم ،فالبد من أن يمتحن فيه ،فالبد من أن يصرب أول على أذاه ثم ُيمتحن فيه بعد ذلك إذا تمكن
منه ،واهلل حكيم عليم ،غفر اهلل لجميع المؤمنين والمؤمنات.
ختصان به كاختصاص
قال المصنف« :وأبو يوسف ومحمد هما صاحبا أبا حنيفة ،وهما ُم ّ
ٍ
لمالك». الشافعي يقارب خالف الشافعي بمالكّ ،
ولعل خالفهما له
ّ ُ ّ
وقد ذكرت لكم أن الحنفية يقولون أو شهر عندهم أهنم يقولون :إن أبا يوسف ومحمد بن الحسن
خالف أبا حنيفة يف ثلثي المذهب ،فهما قد خالفاه ،والشافعي خالف مالك يف أشياء كثيرة ِجدًّ ا ،وقد
صنفت كتبا خاصة يف الخالف بين الشافعي ومالك ،حتى ألفت كتب يف الرد على الشافعي َو ِق ِس ّي عليه،
مثل كتاب ابن ال ّل ّباد المطبوع ،وغير ذلك من الكتب التي كانت يف تلك المحنة بين الشافعي وأصحاب
مالك.
وصدق؛ فإن الشافعي ومحمد بن حسن وأبو يوسف إنما خالفوا شيوخهم اتباعا للدليل وقياما
بالواجب :وهو إظهار السنة أو ما ظهر لهم من السنة ،نسأل اهلل للجميع الرحمة والمغفرة وأن
يجمعنا هبم يف جنات النعيم مع نبينا .‰
أصول أصحابه :أي :أهل المدينة فإن أصولهم أعظم األصول يف مقابل أهل العراق.
بني الزم هذا الرجل فإنه صاحب حججا ،فيما بينك وبين أن تقول :قال ابن
قال ا مصنف« :يا ّ
ل
ُ
فيضحك منك إال أن تخرجا من مصر». قاسم،
أي :قال المصنف :إن عبد اهلل بن الحكم قال البنه محمد إنك يف مصر إذا قلت قال ابن قاسم
سمعوا الناس منك ذلك ،فإذا خرجت من مصر وقلت لهم قال ابن القاسم :ضحكوا منك؛ فإن ابن
القاسم عندهم رجل من علماء ،م َث ُله كمثل غيره من علماء الملة.
جلست إلى
ُ صرت إلى العراق
ُ فلما
قال المصنف« :قال محمد -ابن عبد اهلل بن عبد الحكمّ :-
ٍ
حلقة فيها ابن أبي داود ،فقلت :قال ابن القاسم ،قال :ومن ابن القاسم؟! فقلت :رجل مفت بقوله من
مصر إلى أقصى المغرب».
أي :إنه مشهور يف تلك البلدة.
قال المصنف :يف تعليقه على هذه القصة وهو تعليق يف غاية النفاسة:
الحجة لقول أصحابك ،وال تتّبع -أي ال تقلدهم-ّ قال المصنف« :وكان مقصودا أبوه :اطلب
فالتقليد إنما ُي ْقبل حيث ُيع َّظ ُم المق َّلدُ ،بخالف الحجة فإنها تقبال يف كل مكان».
قديم ،فإنما ُيقبل هذا القول لمن كان ٍ
لمعاصر أو ٍ هذا كالم يف غاية النفاسة ،إذا أردت أن تنقل تقليد ًا
يعظم هذا المقلد ،لو قلت قال فألن من المتقدمين أو قال فألن من المتأخرين من مشايخك؟ فإن بعض
الناس ال يع ّظمه وإن كان ال يسقط قدره لكن ال يعظمه وال يرى أنه يقبل قوله على سبيل العموم ،فلذلك
عندما تقول قال فألن ال يكون ذلك يف الحجة يف شيء ،بخالف إذا أتيت بالحجة والربهان والدليل فإنك
تقوى حينئذ حجتك؛ ولذلك من تعلم الكتاب والسنة قويت حجته ،من حفظ الكتاب والسنة أصبحت
حجته قوية كما ن ُِقل عن الشافعي.
ٍ
مجتهد أن يقول بما عنده من العلم ،واهلل يخص هذا من قال المصنف« :فإين اهلل أوجب على كل
العلم والفهم ما ال يخص به هذا ،وقد يكون هذا هو المخصوص بمزيد العلم والفهم يف نو ٍع من العلم أو
مخصوص بذلك يف نو ٍع آخر». ٍ
مسألة ،وهذا هو ٍ
باب منه أو
ٌ
يختلف الناس فيه ،فليس الناس
ُ هذه الجملة من الكالم الجميل النفيس ،وفيه بيان أن العلم والفهم
87
سواسية ،فقد يؤتى بعض الناس ما ال يوتاه اآلخر ،وعندما تقدم شخص على آخر فإن هذا ال يكون على
سبيل اإلطالق ،وهذا الذي قاله علي :إال فهمًا يوتاه الرجل ،وهذا معنى كالم الشيخ أن بعض
الناس يؤتى من العلم والفهم يف ذلك العلم ما ال ي َو ْجد يف غيره ،وقد يوجد يف غيره شيء ليس موجودا
فيه ،وهذا معنى قوله قال المصنف« :وهذا هو مخصوص بذلك يف نوع آخر» .أي :يف نوع آخر :أما يف
مسألة أو يف علم آخر.
لكن جملة مذاهب أهل المدينة راجحة يف الجملة على مذاهب أهل العراق
قال المصنفّ « :
والمشرق».
بعد ما ذكر هذه المقدمة ،المصنف ختمها بأن مذهب أهل المدينة مقدم على سبيل الجملة،
على مذاهب أهل المغرب والمشرق يف ذلك الوقت ،وأما بعد ذلك الوقت فإن أصولهم تكون مقدمة
على أصول غيرهم ،ثم شرع المصنف بعد ذلك بذكر قواعد جامعة ،هذه القواعد هي الحقيقة قواعد
فقهية ،وهذه القواعد الفقهية هي الجزء الثاين من هذه الرسالة ،وهذه القواعد تتعلق بعدد من القواعد
كان بو ّد أن نأخذ بعض هذه القواعد اليوم ،لكن يبدو أن الوقت قد ضاق ولكن نقف عند هذا القدر لعل
اهلل أن مدا يف العمر وكان هناك فسحة من الوقت أكملنا شرح هذه الرسالة بذكر القواعد الجامعة
أوردها الشيخ ،وق بل أن أختم درسنا اليوم أريد أن الخص بعض من األمور التي تستفاد من الرسالة
المتقدمة ،ذكرت يف أول درس اليوم ملخص هذه الرسالة وأن الشيخ استدل على أصول مذهب أهل
المدينة يف القرون الثالثة األولى ،ثم بين بعد ذلك أن هذه األصول انتقلت بعد ذلك لألمصار ،فأصبحت
موجودة يف جميع األمصار؛ ولذلك فإن هذه األصول موجودة يف مذهب الشافعية ومذهب الحنابلة
خصوصا؛ فإن أصول هذين المذهبين :يوجد فيهما أصول مذهب أهل المدينة ،ودخل كثير من أصول
ومسائل أهل المدينة على أهل العراق ،وكان دخولها من طريق جماعة من أهل العراق :كابي يوسف
ومحمد بن الحسن ،وإن كان دخول هذه األصول والمسائل يف مذهب الحنفية أقل من المذاهب الثالثة
الباقية ،هذا فيما يتعلق بالمسألة األولى.
المسألة الثانية :إن مذهب المالكية قد دخل فيه شيء يسير أو شيء من مذهب أهل العراق ،وهذا
دخل متقدمًا من حين جاءت المسائل التي نقلها أسد بن فرات عن عبد الرحمن بن قاسم والتي
أصبحت معتمدة بعد ذلك يف مذهب المالكية ،ونقلت لكم أن هذا الكالم من الشيخ ُسبق إليه من أكابر
علماء المالكية كاألهبري وابن القصار والقاضي عبد الوهاب.
واألمر األخير :إن مذهب المالك ّية قد يكون هناك أمورا دخلت من الفهم وقصوره وعدم العلم
88
بنصوص مالك؛ ولذلك قال بعض المالكية أو بعض الشافعية يف نقد المالكية :اليوم قاسمية ال مالكية،
اليوم قاسمية على مذهب ابن القاسم وليست على مذهب مالك؛ ولذلك لما قيل لبعض الشافعية لم ال
تكون تتبع شيخ شيخ أمام مذهبك؟ قال :وإنما أنتم تذهبون ابن القاسم ،وابن القاسم قد خالف مالك يف
مسائل ،وذكرت لكم أنه ألفت كتب يف التوسط بينهما ،هذا ما يتعلق يف ملخص الكالم السابق ،الجزء
الباقي هو جزء منفصل يتعلق بقواعد فقهية ،لعل اهلل أن ييسر شرحها ،اسأل اهلل العظيم رب
العرش الكريم أن يرزقنا جميعا العلم النافع والعمل الصالح ،وأن يتوالنا هبداه وأن يغفر لنا ولوالدينا
والمسلمين والمسلمات.
واسأله جل وعال أن يرحم علماءنا وأن يغفر لهم وأن يجزيهم خير الجزاء ،وأن يرزقنا إتباع السنة
واالنتفاع هبا وبعلوم أهل العلم؛ فإن السنة إنما نقلت لنا من طريق هؤالء العلماء األعالم ،علماء
الحديث وعلماء الفقه األكابر رحمهم اهلل تعالى ،وما أخذوا هذا العلم إال عن من كان قبلهم ،فليس
علمهم بالتشهير وال بالتمني وال بالهوى؛ ولذلك فإن العلم يف هذا الدين باق إلى قيام الساعة ومتوارث،
ومهما حاول من حاول أن يقطع حبل األواخر عن األوائل فلن يستطيع ذلك؛ ألن هذا الدين محفوظ
بحفظ اهلل قال تعالى :ﱩ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﱨ [الحجر ]9 :وكما قال عبد اهلل بن
مبارك وقاله غيره« :اإلسناد من الدين» ،فمن خصائص هذا الدين نقول هذا العلم يف عن أشخاص وعن
عصور ،يأخذه جيال عن جيل تسمعونه وتسمعون منكم.
وصلى اهلل وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد اهلل ،واهلل أعلم(.)1
¹