Professional Documents
Culture Documents
سلسلة مفاهيم المسطرة الجنائية المعمقة
سلسلة مفاهيم المسطرة الجنائية المعمقة
سلسلة مفاهيم
في
المسطرة
الجنائية المعمقة
من إعداد :
ادلكتور فريد السموين
1
أولـاً مفهوم الحق العام في قانون المسطرة الجنائية
ا زء لأول
ا ج ل
يصعب الحديث عن مفهوم المحاكمة العادلة من دون إقامتها على معادلة سليمة بين الحق العام وحقوق الدفاع
-سنعرض إن شاء هللا لهذا الموضوع الهام جدا . -
والحق العام ليس حقا للدولة ،فهو يختلف جذريا عن حق العقاب الذي تملكه من حيث إنه -أي الحق العام
-حق مجتمعي ولده االضطراب االجتماعي الذي ترتب عن الجريمة المرتكبة ،فأخذ شكل رد فعل عام ،كان
ال بد وأن تستجيب له الدولة بالقانون ،وتخصص لتجسيده سلطة قضائية هي النيابة العامة بضمان استقاللها
خاصة عن السلطة التنفيذية.
إذن ،من داخل السلطة القضائية يلزم تجسيد الحق العام كحق مجتمعي.
التساؤل المحوري ،هل هو حق مناقض لحق الدفاع عن المتهم ؟
لتأمين مفهوم المجتمع المنظم ،المجتمع المؤمن بسيادة القانون وعدم إطالقية ال الحق وال الحرية.
3
ما هي أهم المسائل التي تثير النقاش وتحتاج إلى تبرير وإلى تصور إجرائي متكامل كذلك؟
4
وعليه ،تصبح صالحية االعتقال آلية إجرائية تدخل في تطبيقات مفهوم الحق العام من أجل إطالق المسار
اإلجرائي .شرط أن تقوم قرائن قوية ومنسجمة يستدل منها تورط شخص أو أشخاص في ارتكابهم الجريمة.
ا زء ا ث
ل ث لا ج ل
نستحضر المشكل االصطالحي ألن قانون المسطرة الجنائية قد يستعمل مصطلح بحث إلى جانب مصطلح
تحقيق وكأنهما شيئا واحدا .وهذا يطرح تشويشا على مستوى تدقيق مهمة قاضي التحقيق.
5
وعلى فرض أن قاضي التحقيق يجمع بين مهمتي البحث والتحقيق يصعب بالنظر النتمائه للسلطة القضائية
أن نميل إلى تحميل إجراءات البحث التي يقوم بها بنفس ما يمكن أن نحمل به مفهوم البحث الذي تقوم به
الشرطة القضائية.
لذلك نحن نعتبر أن مهمة البحث التي يقوم بها قاضي التحقيق إنما هي مهمة تدخل في إطار اعتباره محققا
ال رجل بحث .ولعل فكرة القاضي المحقق أكثر تعبيرية من قاضي التحقيق .وهنا فقط نرد على القائلين
بتناقض مهام قاضي التحقيق خصوصا ً عندما نستحضر بحثه عن أدلة اإلثبات كما أدلة النفي وبنفس القوة
والحيادية.
عندما نخلص من أن مهمة التحقيق ال تختلط بمهمة البحث .يبقى لقاضي التحقيق إجراءات مهمة تتعلق بتوجيه
االتهام .بل أكثر من ذلك حيث يمكن أن يسقط المتابعة عمن سبق وتابعته النيابة العامة أو يتهم -وهنا ال
نقول يتابع -من لم يسبق للنيابة العامة أن تابعته .وله سلطة تغيير التكييف الذي انتهت إليه النيابة العامة.
أال يمكن أن تثير هذه الوضعية اإلجرائية تساؤال موضوعيا حول تدخل قاضي التحقيق في مسطرة توجيه
االتهام ؟
نعتقد أنه في غياب تدقيق العالقة اإلجرائية بين قضاء النيابة العامة وقضاء التحقيق سيظل المشكل مطروحا
على مستوى الحسم في من ينفرد إجرائيا بسلطة االتهام حتى ال نقول سلطة توجيه االتهام.
وإن كنت شخصيا أفضل نعت قضاء النيابة العامة بسلطة متابعة وليس بسلطة اتهام .كما سبق وأن تحفظت
عن وصفها بصفة الخصم حتى ولو نعت بالشريف .ألن النيابة العامة قضاء يحمي الحقوق والحريات.
ومهمته المتابعة ألنه يجسد الحق العام.
مما الشك فيه أن قضاء النيابة العامة كقضاء يجسد الحق العام ال بد وأن يظهر إجرائيا بأنه السلطة القضائية
المباشرة التي تملك حق إطالق الحق المذكور .هنا نجد قانون المسطرة الجنائية مستحضر بقوة لهذه الفكرة.
فال قضاء الحكم وال قضاء التحقيق يمكن له وضع يده على القضية إال بعد أن يمكنه من ذلك قضاء النيابة
العامة.
لكن المشكل يطرح في التصور اإلجرائي للمتابعة .ففي ظل مبدأ المالءمة تبقى النيابة العامة وفي غياب أي
طريق من طرق الطعن السلطة الوحيدة المتدخلة إلطالق الحق العام.
صحيح أن المغرب بتبنيه لمفهوم استقالل قضاء النيابة العامة قد حد وبشكل كبير من طرح هذا المشكل ،إذ
لم يعد للسلطة التنفيذية أي دور في إطالق الحق العام .لكن تبقى بنظرنا المتواضع الحاجة إلى اجتهاد إجرائي
أكبر لتحصين قرار المتابعة من أي تأويل .فحتى ولو بذل قضاء النيابة العامة كل مجهوده القضائي المكرس
6
لحماية الحقوق والحريات يبقى للمواطن العادي نظر سواء تابعت أو لجأت التخاذ قرار حفظ الملف بدون
متابعة.
هنا نقول ،حبذا لو تدخل المشرع لخلق مسطرة إجرائية خاصة بمسطرة الحفظ تعطي لرئيس النيابة العامة
أو للرؤساء التسلسليين دورا مؤيدا أو معدال أو ملغيا .ربما قد يرد على هذا االقتراح بأنها مسطرة معمول
بها في إطار التراتبية التي يخضع لها قضاة النيابة العامة .إال أن اقتراحنا يتجاوز هذه الممارسة بالدعوة إلى
تبني مسطرة إجرائية واضحة يمكن للمواطن العادي تتبعها ومواكبتها.
مع ذلك ،سلطة االتهام على مستوى تحديد مفهوم الحق العام تطرح من جهة أخرى إشكالية الشكايات الكيدية.
هنا نؤكد على أن العدالة الجنائية وعلى خالف ما يعتقد البعض عدالة إنسانية .تقوم بدءا ونهاية على تمتيع
المتهم بأصل البراءة .وحسنا فعل المشرع المغربي عندما صدر قانون المسطرة الجنائية بهذا المبدأ .بل مكن
حتى المشتبه به منه .وجعله مبدأ أصيال وثابتا يستمر مفعوله في كل المسار اإلجرائي .بدليل أن البراءة ال
يمكن أن تسقط كأصل إال بمقرر إدانة مكتسب لقوة الشيء المقضي به بعد أن يمكن المتهم من كل الضمانات
القانونية الخاصة بالمحاكمة العادلة.
كذلك العدالة الجنائية ليست عدالة انتقامية بدليل تمييزنا بين الحق العام وحق العقاب .وأن الحق األول أسبق.
بل هو الذي يضفي كل الشرعية على الحق الثاني.
ومع ذلك إشكالية الشكايات الكيدية حقيقة يصعب التنكر لها وال بد من تصور إجرائي يحصن سلطة المتابعة
منها.
هنا يظهر مبدأ مالءمة المتابعة كمحصن أول .فقاضي النيابة العامة كما قضاة الحكم إنما تكرس مهمته
باألساس إلى حماية الحقوق والحريات .وهذه المهمة الدستورية تسمح له وبحق الحؤول دون إطالق الحق
العام مهما تمسك الضحية .فالحق العام يسمو على حق الضحية باعتبار األول حق مجتمعي.
لكن اإلشكال يطرح في السماح للضحية بتجاوز هذا المحصن اإلجرائي بتمكينه مما يسمى إجرائيا بالشكاية
المباشرة ،حيث ال يترك لقضاء النيابة العامة خيارا من أجل إطالق الحق العام.
نحن هنا نحتاط من تبرير الشكاية المباشرة بتبعاتها اإلجرائية .فالسمعة إن مست ال سبيل إلصالح ذلك.
لذلك نقترح تشديدا واضحا على مستوى كل من تسول له نفسه المساس بالسمعة باستغالل طريق الشكايات
الكيدية باسم الشكايات المباشرة .بل نعتبر هذا الموضوع هو أيضا ً من مرتكزات السياسة الجنائية.
7
كذلك ال بد من إثقال الشروط اإلجرائية خصوصا على مستوى فحص ما يقوم عليه االتهام الذي نقول عنه
هنا اتهام خاص وليس اتهام عام .ويكفي هذا التمييز لالحتراس منه.
كنت دائما ضد تسلل المنطق المدني للعدالة الجنائية .وتخوفي واضح ومعبر عنه من اإلكثار من منطق
البدائل ومنطق التعويض .وهو نفس تخوفي من فسح المجال بمرونة للشكايات المباشرة.
اليوم حيث أصبح في المغرب قضاء النيابة العامة سلطة قضائية مستقلة عن السلطة التنفيذية ،لم يعد من
المبرر وال من المعقول خلخلة مفهوم الحق العام واالنزالق به ولو جزئيا ليميل إلى االنفتاح على المنطق
المدني الذي تدور فلسفته حول الخطأ والتعويض والمصلحة المالية القابلة للتصالح والتنازل.
صحيح أن سلطة المتابعة -وأفضل هذا االصطالح على سلطة االتهام -تساءلنا بخصوص منطق التجريم
والعقاب الواجب اعتماده .تساءلنا أيضا على مستوى المصالح االجتماعية واجبة الحماية جنائيا.
لكن كل هذا ال يمكن أن ينزع عن سلطة المتابعة سمو تجسيدها للحق العام وما ينبغي لها إجرائيا من تصورات
مالئمة لسمو المهمة.
ا زء زا ع
ب ال ج ل
نعتقد اليوم ،أمام التطور النوعي الذي تعرفه الشرطة القضائية في المغرب .وأمام ما أصبح يلمسه المواطن
المغربي وبشكل يومي من استشعار جسامة المسؤولية التي يتحملها كل مكونات جهاز الشرطة القضائية.
أصبح من المستحيل إبعاد الشرطة القضائية عن مفهوم الحق العام .
هذه الحقيقة التي ال غبار عليها تدفعنا إلى القول بأن عالقة األمني والدركي بالقضائي :
هي عالقة ضرورة إجرائية .أي ال يمكن تغييب أهميتها وحيويتها في قانون المسطرة الجنائية .
8
هي عالقة كفاية تحرر القضاء المجسد للحق العام من ثقل عبء اإلثبات .ولسنا هنا بحاجة للتذكير بخصوصية
هذه العالقة المتميزة .حيث يسير قضاء النيابة العامة جهاز الشرطة القضائية ويشرف عليه .الشيء الذي
ينبغي أن نستنج منه ،أن الشرطة القضائية ليست بعيدة عن الحق العام .بل توجد داخل مفهومه و من ضمن
مكوناته.
وفوق كل ما ذكر هي عالقة ناتجة بشكل منطقي من تصور إجرائي يعي جيدا مدى حاجة الحق العام
لمجموعة معطيات واقعية يسفر عنها بحث ميداني تلزمه خبرة ميدانية .
هنا بالضبط ،أصبح مفهوم الحق العام يفرض تمييزا جديدا بين الجرائم ،أي بفرز الجرائم ذات الخطورة
المتميزة عن الجرائم األخرى.
ربما الدعوة إلى مزيد من الصرامة اإلجرائية بشكل يالئم الصرامة الموضوعية ،أي المتعلقة بالتجريم
والعقاب ،قد يفهم منه الخروج عن مفهوم المحاكمة العادلة .
إطالقا ال .فمفهوم الحق العام مهما برر هذه الصرامة اإلجرائية ،ال يمكن أن يعمل إال داخل مفهوم المحاكمة
العادلة .ألن الحرص على تكريس هذا المفهوم األخير هو أيضا مطلب مجتمعي بامتياز .ويكفي أن نستحضر
هنا بكل قوة تخلي المغرب عن أي أثر للمحاكم االستثنائية ،لننتهي إلى الحسم بأن الصرامة اإلجرائية مع
الجرائم متميزة الخطورة ال تحرم مرتكبيها من كل الضمانات القانونية التي تدخل في مفهوم المحاكمة العادلة.
بنظرنا المتواضع لمفهوم الحق العام على مستوى العالقة التي تربط األمني والدركي بالقضائي تجليات
متنوعة .وحتى نبقى في الجرائم متميزة الخطورة يصعب أن ال يقع استثمار المادة 101من أجل أن تكون
جامعة مانعة لكل الجرائم التي يعتبرها المجتمع متميزة الخطورة .حتى وأن التنصت اليوم وفي دول جد
متقدمة لم يعد سوى مدخال عاديا للمقاربة اإلجرائية لهذه الجرائم .بحيث وباإلضافة إلجراء التسليم المراقب
مثال بدأت تتبنى دول جد متقدمة إلجراء االختراق .
نعتقد أن مكافحة الجرائم متميزة الخطورة ،وإن كان تحديدها يثير صعوبات موضوعية ،إنما تحتاج بنظرنا
المتواضع إلى تصور إجرائي خاص ينطلق من صعوبة كشفها أوال ،تعقيدها وتركيبها ثانيا ،امتدادها و
شساعة مجال نشاطها ثالثا ،ثم ،وهذا هو األهم ،مدى حاجة مكافحتها إلى العمل بشكل استباقي.
هنا بالضبط ،كما نستحسن بقوة أخذ المغرب بمفهوم استقالل قضاء النيابة العامة ،نستحسن بقوة كذلك اعتراف
المشرع للضباط التابعين لإلدارة العامة لمراقبة التراب الوطني بالصفة الضبطية ،وإنشاء المكتب المركزي
لألبحاث القضائية.
وال حاجة لنا للتأكيد على النتائج المتميزة جدا التي تحققها الشرطة القضائية بكل مكوناتها.
فقط ننتظر من المشرع أن يعكس كل التطور الذي عرفه ويعرفه جهاز الشرطة القضائية .مادام أن المغرب،
ومنذ دستور 2011بدأ يؤسس لعدالة جنائية حديثة ،كما تؤمن بكل قوة بضمانات المحاكمة العادلة ،فكذلك
9
وبنفس القوة تؤمن بالحق العام ،باعتباره حقا مجتمعيا ،يقدم جوابا شافيا ،يسعى لرفع منسوب الشعور باألمن
باعتباره أولى األوليات.
ولنا في العالقة الدقيقة التي تربط قضاء النيابة العامة بالشرطة القضائية أكبر ضمانة الضطالع هذا الجهاز
األخير بدوره في مساعدة قضاء النيابة العامة على تجسيد الحق العام .
10
ثانيا :
ا زء لأول
ا ج ل
ربما الذي يثير النقاش أكثر في قانون المسطرة الجنائية ،اإليمان بقوة بحقوق الدفاع .وقد يبدو للبعض أن
مقاربة حقوق الدفاع في مجال العدالة الجنائية ال يحتاج سوى لتكريس إجرائي يؤمن للمقدم للعدالة كل الفرص
للدفاع عن نفسه.
ويكفي أن أطرح نقطة صادمة ،أثارت ما أثارت في الفقه المقارن وهي الحق في الكذب
.le droit au mensonge.هل يمكن أن يكون مقبوال في العدالة الجنائية ؟ حتى يتبين بأن مقاربة مفهوم
حقوق الدفاع من أدق وأهم موضوعات قانون المسطرة الجنائية.
من ال يؤمن بسمو حقوق الدفاع ال يمكن أن يكون جنائيا .بل يمكن أن نؤكد بداية أن فهم العدالة الجنائية بكل
تركيبها وتعقيدها ال يمكن أن يتم إال من زاوية حقوق الدفاع.
لذلك يحق لي أن أقول بأن نجاح قانون المسطرة الجنائية رهين بنجاح تكريس كل حقوق الدفاع.
كل حقوق الدفاع! ولماذا نذكرها دائما بالجمع ؟
ال بد من االنطالق بأن كلمة دفاع من البديهي أن تجعلنا أمام مواجهة قوة ما تتطلب الدفاع ،حتى ال ينصرف
الذهن إلى شيء آخر ال يستقيم ومفهوم العدالة الجنائية.
هنا بالضبط نستحضر قيام العدالة الجنائية على التواجه بين طرف مؤسساتي يجسد الحق العام كما رأينا
وطرف خاص هو المتهم .
طرف يملك سلطة المتابعة ويتحمل عبء اإلثبات في مواجهة طرف متهم يتمتع بأصل البراءة.
11
طرف متابع بكسر الباء وطرف متابع بفتحها.
تواجه يصعب ،إن لم نقل يستحيل أن يكون متكافئا .وهنا ،إن وقفنا قليال على عدم التكافؤ ،نجده وليد حق
مجتمعي عام يسمو على كل الحقوق بما فيها حق الضحية ،فباألحرى حق المتهم.
ومع ذلك ،مفهوم المحاكمة العادلة الذي أنتجته اإلنسانية نفسها يدفع إلى استحضار إنسانية اإلنسان مهما كان
مجرما ،ومهما كانت أفعاله فضيعة.
ربما بحثا عن أي جزء من اإلنسانية قد يبقى لصيقا بمرتكب الفضاعة .وربما خوفا من إدانة بريء .وما
أصعب أن تنتهي العدالة إلى إدانة بريء.
من هذا المنطلق يأخذ مفهوم الحق في الدفاع مساره اإلجرائي ،إذ ال يهم أن يكون المقدم للعدالة متورطا أم
ال .المهم أن تتسم محاكمته بالعدل .والعدل يقتضي اإلنصاف .واإلنصاف يلزمه تساوي المواقع في التواجه.
وعندما نكون أمام تواجه غير متكافئ ،يصبح سؤال حقوق الدفاع سؤاال محوريا في عدالة قائمة على
اإلنصاف.
إذن هي حقوق متعددة .وتعددها تستمده من تنوع اإلجراءات .وكذا تعدد المتدخلين والمراحل التي تقطعها
القضية.
وأي مقدم للعدالة يستحق أن يكون له دفاع يحرص على أن يتمتع موكله بكل الحقوق.
هل المقصود بحقوق الدفاع كل الضمانات التي يقدمها قانون المسطرة الجنائية للمتهم .حتى نبقى في وضعية
المتهم ،ألنها تهمنا أكثر ،وتبرز الموضوع في كل قوة طرحه ؟
سؤال الحقوق عندما يأخذ في البحث عنها من داخل الضمانات في قانون المسطرة الجنائية ،يواجهه سؤال
الصالحيات.
ولعل هذه اإلزدواجية التي تجعلنا في تقابل بين كفتين ،تصعب مهمة تحديد مفهوم حقوق الدفاع.
فال الصالحيات ينبغي لها أن تعطل الضمانات .وال هذه األخيرة ينبغي لها أن تعرقل الصالحيات.
هي صالحيات من أجل كشف الحقيقة .لكنها تطرح سؤال وماذا سيتبقى للدفاع ؟
12
هل هو مطلوب بمواجهة كشف الحقيقة ؟
ال نعتقد ذلك .وسيأتي وقت الحق نتناول فيه مفهوم كشف الحقيقة .لكننا بخصوص حقوق الدفاع ،ونحرص
على نعتها بالجمع ،نستحضر أن مسار العدالة الجنائية يبدأ بحقائق جزئية تنتهي في األخير إلى حقيقة كلية
يبني عليها القاضي الجنائي حكمه بناء على اقتناعه الصميم.
هنا بالضبط يأخذ مفهوم حقوق الدفاع موقعه في إظهار الجزء اآلخر للحقيقة الكلية التي سينتهي إليها القاضي
الجنائي.
والمالحظة األساسية ،وربما األهم ،في قانون المسطرة الجنائية ،أن العدالة الجنائية هي في حاجة دائمة ،من
البداية إلى النهاية ،لتقابل سؤالين ،أحدهما يوجه للبراءة ،واآلخر يوجه لإلدانة .وقد يبدو هذا غريبا في نظر
الشخص غير المختص في المجال.
لماذا نحن بحاجة إلى سؤال اإلدانة إلى جانب سؤال البراءة ؟
أليست البراءة أصل ثابت في مسار العدالة الجنائية ؟
نعم .ولكن ثباته يحتاج إلى مساءلة إجرائية ،قبل المحاكمة و أثناءها .بل ،من دون وضع هذا األصل أمام
مساءلة ،لن يستطيع القاضي أن يكون اقتناعه.
سؤال البراءة يجيب عنه المحامي .لذلك ،فهذه المهنة ،وفي كل الدول الراقية تحظى بمكانة سامية ،شأنها
شأن القضاء .وقد نقول في حقهما ،أن ال قيام للعدالة بدون قضاء وهيئة دفاع.
مما ال شك فيه أن المسار اإلجرائي ينطلق من معلومة أو خبر .كما يمكن أن يأخذ اجرائيا شكل شكاية أو
بالغ حتى ال أستعمل مصطلح وشاية .ومن ثمة ،تأخذ اإلجراءات مع البحث المنجز من طرف ضباط الشرطة
13
القضائية منحى منطقيا تستجمع به مجموعة من المعطيات غالبا ما تحتاج إلى أجوبة .ولعل فكرة االشتباه أو
المشتبه به كافية للتأكيد على ذلك .مادام أن هذا األخير ليس متهما ،ألن السلطة القضائية لم توجه له بعد
االتهام ،ومادام أن الشرطة القضائية ليست قضاء .وهي ببحثها المحايد إنما تؤسس إجرائيا لما يمكن أن يسمح
للسلطة القضائية بالتدخل ،حيث يوفر لها البحث ،تلبسيا كان أم تمهيديا ،حدا معقوال من المعطيات تمكنها من
اتخاذ قرارها القضائي.
مرحلة البحث هذه ،هي باألهمية التي أصبح معها الكل مقتنع بضرورة تدخل المحامي .ولو أن المحامي هنا
ليس أمام سلطة قضائية ،وليس كذلك في الدفاع ضد ما يوجه لموكله من اتهام ،بل هو أمام شرطة قضائية
عاينت ماذا وقع ،وجمعت األدلة ،وأمامها مشتبه به وضعته رهن الحراسة النظرية لضرورة البحث ومن
أجل استجوابه كذلك.
هنا ،التساؤل المركزي الذي ينبغي أن يطرح على مستوى مفهوم حقوق الدفاع ،هل نحن أمام حاجة إجرائية
لتدخل المحامي من أجل مناقشة وضعية االشتباه ؟أم أن األمر يهم فقط مواكبة إجراءات البحث وإبداء
المالحظات أو تسجيلها لحين مثول المشتبه به أمام القضاء المجسد للحق العام ؟
بنظرنا المتواضع ،لو تسرعنا في اعتبار هذه المرحلة مسائلة للبراءة لكي نؤسس إجرائيا لتدخل المحامي كما
هي طبيعة تدخله عندما يوجه لموكله االتهام ،لجعلنا من الشرطة القضائية قضاء ،ونقلنا وضعية االشتباه إلى
وضعية اتهام ،وهذا سابق ألوانه وال يستسيغه المنطق الذي تقوم عليه الشرعية اإلجرائية .فالعدالة الجنائية
عدالة تتدرج من المشتبه به إلى المتابع بفتح الباء إلى المتهم إلى المدان.
إذن تدخل المحامي في مرحلة البحث ،تدخل إجرائي خاص ،تضفي عليه وضعية االشتباه محدوديتها
اإلجرائية إن صحت هذه العبارة .بحيث يبقى من حقه االتصال بموكله وتقديم المساعدة القانونية التي يكون
في حاجة إليها .كما يمكن له أن يسجل كل المالحظات التي يرى فائدة اعتمادها في دفاعه أمام السلطة
القضائية.
يبقى التساؤل المنطقي ،هل ما يقوم به المحامي بهذه المرحلة يدخل في مفهوم حقوق الدفاع ؟
يصعب أن نحسم في ذلك باإليجاب ،من دون أن نثير تحفظنا باالعتماد على المنطق اإلجرائية نفسه.
فقد سبق أن تساءلنا عن تحميل مفهوم حقوق الدفاع بالضمانات اإلجرائية .وقلنا بأن الحديث عن الضمانات
يجرنا للحديث عن مقابلتها بالصالحيات .هنا بالضبط ،في مرحلة البحث ،نفضل الحديث عن الضمانات
عوض الخوض في التأسيس لمفهوم حقوق الدفاع .ويمكن أن يؤمن للمحامي دوره اإليجابي لمساءلة مرحلة
البحث عن مدى احترامها للشرعية اإلجرائية بمنطق الضمانات ال بمنطق حقوق الدفاع .ألننا لسنا أمام اتهام
.ويمكن للمسطرة أن تنتهي مثال بالحفظ على مستوى قاضي النيابة العامة .وهنا أيضا يمكن أن نستحضر
مفهوم تسيير قضاء النيابة العامة للشرطة القضائية وكذا اإلشراف عليها.
صحيح ،أن التعديالت المرتقبة في قانون المسطرة الجنائية ستجعلنا أمام أسباب لالشتباه ،وأمام اتصال
المحامي بموكله في الساعة األولى من وضعه رهن الحراسة النظرية ،وأمام التسجيل السمعي البصري
لالستجوابات ،وكل هذا نقرؤه ضمن الدور اإليجابي والمهم الذي يمكن أن يكون للمحامي .لكنه من الناحية
14
اإلجرائية ،يصعب اعتباره من ضمن حقوق الدفاع .فهذه األخيرة تبدأ مع انطالق سؤال االتهام .والمحامي
هنا يقوم دفاعه على مساءلة اإلدانة ،وما تقوم عليه من تهم .بالدفاع عن صالبة براءة موكله مبرزا هشاشة
ما يقوم عليه االتهام من منظوره هو .
أما وضعية اإلشتباه ،فهي في حد ذاتها وضعية إجرائية تحتاج إلى تدخل قضائي من أجل اتخاذ القرار بشأنها.
ويمكن أن تكون في حاجة إلى معطيات أخرى تدفع قاضي النيابة العامة إلى المطالبة بتعميق البحث .وقد
تنتهي به إلى وضع حد للمسطرة حتى .
إذن ،في مرحلة البحث نحن أمام ضمانات إجرائية مهمة يحرص الدفاع على مواكبتها بتسجيله لكل
المالحظات المفيدة ،والتي يمكن إثارتها أمام السلطة القضائية.
لذلك ،يحرص قانون المسطرة الجنائية على جعل قضاء النيابة العامة سلطة مشرفة على مسطرة البحث.
وتبقى الغرفة الجنحية هي السلطة القضائية الوحيدة التي يمكن أن تؤكد مدى احترام ضابط الشرطة القضائية
للشرعية اإلجرائية من زاوية قراءتها على مستوى المسؤولية التأديبية.
نحن هنا نقف بالضبط على المنطق اإلجرائي الذي يقف وراء توزيع األدوار بين مختلف الفاعلين في مجال
العدالة الجنائية .
ا زء ا ث
ل ث لا ج ل
أعتقد أن مرحلة المتابعة هي من أدق المراحل في المسار اإلجرائي الجنائي .ليس فقط ألن فيها األمر يكون
بيد القضاء المجسد للحق العام ،ولكن ألن انطالق الحق المذكور بتحريك الدعوى العمومية تنبني عليه آثار
إجرائية غاية في األهمية.
فبمجرد أن يقرر قضاء النيابة العامة المتابعة حتى ال يمكن تجنيب القضية الحسم إما باإلدانة أو البراءة.
وحتى بالنسبة للقضايا التي يلتمس فيها التحقيق ،سواء بشكل إلزامي أو بشكل اختياري ،تبقى القضايا المحالة
على الحسم ذات عدد معتبر.
إن مبدأ مالءمة المتابعة يجعلنا أمام استشعار بأهمية هذه المرحلة ،وبمدى استلزام حضور المحامي فيها إلى
جانب موكله .فالوضعية لم تعد وضعية اشتباه كما هو الحال في مرحلة البحث ،بل وضعية تقديم أمام قضاء
يجسد حق المجتمع ،وضعية تحتمل االتهام و ربما اإلدانة مستقبال .ومن ثمة يمكن القول ،أن مرحلة المتابعة
إنما سيعرف فيها المسار اإلجرائي أول تواجه بين الحق العام وحق الدفاع .
15
فهل قضاء النيابة العامة في موقعه كسلطة متابعة يعتبر في حالة دفاع عن الحق العام ،حتى نتساءل عن
حقوق الدفاع ؟
أم أن الدفاع عن الحق العام ال ينطلق إال من حضور قضاء النيابة العامة بجلسات المحاكمة ،بالتالي يصعب
أن نتحدث عن مسطرة حضورية تواجهية بين الحق العام وحقوق الدفاع ؟
حتى ال نتسرع في الجواب ،نقول بأن مسطرة التقديم أمام قضاء النيابة العامة ،خاصة اليوم ،وفي كثير من
الدول التي تبحث عن تأسيس عدالة جنائية حديثة ومتطورة ،تؤمن للمجتمع أجوبة متنوعة تالئم التنوع الذي
عليه ظاهرة الجريمة ،لم تعد تقبل غل يد قضاء النيابة العامة عن البحث :
أوال ,بخصوص ما يسمى بانحراف الكم délinquance de masseعن حلول خارج اإلحالة على
قضاء الحكم .ومسطرة الصلح الجنائي خير دليل على ذلك.
ثانيا ،حتى بالنسبة للقضايا اإلجرامية متوسطة الخطورة ،نرى بعض التشريعات وبنسب متفاوتة تسمح لقضاء
النيابة العامة بشكل من التفاوض حول تكييف الجريمة لرسم مالمح الكم العقابي ،عندما يلجأ المتهم إلى تبني
مسطرة االعتراف ،ولها تطبيقات متعددة ،يهمنا منها فقط الدور المتطور المعترف به لقضاء النيابة العامة.
هنا بالضبط ،يصبح لمفهوم حقوق الدفاع مجاال حيويا يخدم وبشكل جلي حسن سير العدالة الجنائية .فالتواجه
بين الحق العام وحق الدفاع ،الذي نعني به هنا المحامي ،ال يعني مطلقا إال حسن سير العدالة الجنائية،
فالمحامي كما قاضي النيابة العامة ،وإن كانت المواقع تختلف ،فالهدف واحد ،السماح للحقيقة الكلية بالتشكل.
فقد ينتهي األمر عند مرحلة المتابعة إما بحفظ الملف أو بالتدخل إلجراء الصلح أو من أجل التفاوض على
التكييف أو مالمح الكم العقابي الذي سينحو نحو التلطيف باالنفتاح على مسطرة االعتراف .وقد يستلزم األمر
انتظار المرور للحسم القضائي.
هنا ال بد لنا من توضيح بأن الحقيقة الكلية التي سينتهي إليها القاضي الجنائي إما باالقتناع بالبراءة أو باإلدانة،
ال تنفي تصور بديل عن المتابعة .كما ال تمنع النيابة العامة من اتخاذ قرار الحفظ .بل ،وهذا هو األهم ،ال
تمنع من أن يضطلع قضاء النيابة العامة بدوره الكامل في تجسيد الحق العام .فإذا رغب المتهم في المبادرة
باالعتراف رغبة في االستفادة من تجنيح مثال أو تحديد مالمح الكم العقابي ،يصعب منطقيا إقصاء قضاء
النيابة العامة من التدخل .بل يمكن ،وفي إطار مسطرة جد مدققة ،أن تعمل يدا في يد مع محامي المتهم من
أجل تيسير المهمة على القاضي ،ليس في كل القضايا ،بل في بعضها الذي يسمح بهذا النوع من التعاون بين
الحق العام وحق الدفاع ـ بمالحظة أن هذا الحق في المفرد نعني به المحامي ـ .
إذن ،مفهوم حقوق الدفاع اليوم بمرحلة المتابعة أصبح اليوم يسائلنا ،من جهة بخصوص مزيد من تدخل
قضاء النيابة العامة على مستوى بعض الجرائم ،ومن جهة أخرى عن تصور حديث لتدخل حق الدفاع بهذه
المرحلة الحيوية المطلقة للحق العام.
نعتقد ،أن العدالة الجنائية الحديثة إنما تنبني على تواجه إجرائي بين الحق العام وحق الدفاع .تواجه مبني
على طرح سؤالي البراءة واإلدانة التخاذ قرار إطالق الحق العام .وهنا المحامي يعتبر الشريك الضروري
الذي ال يمكن االستغناء عنه .ومن الخطأ ،كما قلت سابقا في إحدى محاضراتي ،أن نبقي اليوم في حديثنا عن
16
قضاء النيابة العامة كونها خصما حتى ولو قمنا بوصفها بالخصم الشريف ،ألن النيابة العامة ليست خصما،
بل صاحبة حق عام ،تجسده وتدافع عنه .والمحامي أيضا في دفاعه عن المتهم ،صاحب حق في المحاكمة
العادلة لمصلحة موكله .ومفهوم المحاكمة العادلة له منطلق ،صحته تقيه من أي انزالق .والمنطلق من سلطة
المتابعة يأتي ،لذلك نراه إلى جانب حق الدفاع يشكل إطالقا مدعما للحق العام.
من كل ذلك ،يمكن أن نتحدث عن مظهر من مظاهر حقوق الدفاع على مستوى مرحلة المتابعة ،بتحديث
العالقة التي يمكن تصورها إجرائيا بين قضاء النيابة العامة وهيئة الدفاع كما مر معنا .والذي ينبغي التأكيد
عليه أن سؤال البراءة الذي نطرحه على المحامي ال يعني في المنطلق الترافع .كما قد ال يفيد النفي المطلق
للتهم .فلكل قضية طبيعتها ،تعقيدها وتركيبها ،وكذا طرق تناولها بالدفاع .وكلما وقع إشراك المحامي بكل
قوة في هذه المرحلة ،كلما استطاع قضاء النيابة العامة أن يؤسس قراره ويكسبه الصالبة التي ستجعل من
مرحلة المحاكمة ،إن أحيلت القضية ،مرحلة حسم التواجه بين الحق العام وحق الدفاع .وكأننا في مرحلة
المتابعة أمام بداية دراسة قضية يملك فيها كال من قاضي النيابة العامة والمحامي زاوية نظر ،قد تنتهي فيها
قضايا ،وقد تستمر أخرى لمرحلة المحاكمة ،ليعرف التواجه فرصة أخرى ،كما يمكنها أن تساعد القاضي
على تكوين اقتناعه ،فمما ال شك فيه أنها ستخدم انتظار المجتمع ،الذي يبحث عن حقيقة كلية تقنعه بأن
المجرم الحقيقي هو في قبضة العدالة من أجل أن يؤدي الدين للمجتمع ،والمجتمع وحده.
العدالة الجنائية تحاكم إنسانا ،لذلك فهي إجراءات محملة بكثير من العمق والتريث .ومرحلة المتابعة مرحة
مفصلية تحتاج لكل هذه الفلسفة اإلنسانية.
ا زء زا ع
ب ال ج ل
نصل لمرحلة التحقيق اإلعدادي .وهنا ،نحن أمام مرحلة تتوسط كال من المتابعة والحسم في القضية .تسمى
بمشروع محاكمة .كما تنعت بمرحلة تجهيز القضية.
وإذا أضفنا لكل هذا أنها تعرف قضايا ،إما أنها تتميز بالخطورة ،أو أنها تحتاج إلى تعميق على مستوى
األشخاص أو على مستوى األدلة ،يصبح الحديث عن حقوق الدفاع باألهمية بمكان.
هنا أيضا ،يثور النقاش حول مدى حاجة هذه المرحلة الدقيقة للضمانات ،وكذلك إلى حفظ الحق في الدفاع.
وكيف يمكن تصور حضور المحامي في تدخله .خصوصا وأنها مرحلة مسائلة لمسطرة توجيه االتهام.
والتخوف وارد عند كل المقدمين أمام قاضي التحقيق ،الذي بإمكانه أن يوسع دائرة االتهام بحسب المتورطين
الذين يرى في استنطاقهم فائدة إلظهار الحقيقة.
والذي يزيد من أهمية الحديث عن حقوق الدفاع ،أن مسطرة التحقيق ال تقبل في االتهام ال التقديم وال التأخير.
بل هناك من األشخاص من ال يمكن الحسم في وضعيتهم بداية ،حيث ال يمكن اعتبارهم ال شهودا وال متهمين،
بل وضعيتهم اإلجرائية هي بين هؤالء وأولئك.
17
نعتقد أن المدافعين عن إلغاء قضاء التحقيق ،صواب رأيهم يتأسس بنظرنا المتواضع انطالقا من تقليص دور
المحامي في هذه المرحلة الدقيقة .فعدم شخصية التحقيق يعطي للقاضي سلطة واسعة لتوجيه التهمة .وهذا
إن كنا نقبله من وجهة نظر البحث عن الحقيقة وتجهيز القضايا الجنائية ،فالمنطق ذاته يقبل تلطيف ذلك
بإعطاء حقوق الدفاع تنظيما إجرائيا قريبا من مرحلة المحاكمة .بل حتى عندما نقف على الحقيقة اإلجرائية
لطول مدة االعتقال االحتياطي ،ولو أننا من المؤمنين هنا بالضبط بمنطق البدائل ،نجد أن الحديث عن حقوق
الدفاع يتعدى منطق البحث عن الضمانات ،حتى يتمكن المحامي من ضمان وضعية إجرائية مناسبة لموكله.
فاستدعاء المحامي وحضوره في االستنطاق األولي وتمكينه من الملف باستنساخ أهم وثائقه تبدو بالنسبة لنا
غير كافية للوقوف على مفهوم حقوق الدفاع في هذه المرحلة .وال نعتقد أن السماح للمحامي بالمطالبة بتضمين
ما يالحظه على مسطرة التحقيق يفي بالغرض.
بنظرنا المتواضع ،وإن كنا من المدافعين على اإلبقاء على قاضي التحقيق ،فإننا نرهن ذلك بإعطاء مكانة
خاصة للدفاع ،حتى يخضع االتهام لمسطرة تحصنه من أي تعجيل أو تأخير ،وحتى تتحصن المحاكمة نفسها
مما يسمى بالنطق بالبراءة المتأخر.
فمما الشك فيه أن الدفاع يلعب دورا حيويا في إبراز الوجه اآلخر للحقيقة كما ذكرنا سابقا ،واألولى أن يظهر
هذا الوجه قبل المحاكمة .ولعل انتهاء قاضي التحقيق إلى اتخاذ أمر بعدم المتابعة لخير دليل على أن هيئة
الدفاع وقضاء التحقيق يضطلعان معا بدورهما في دفع المسار اإلجرائي لهذه النتيجة.
لكن قانون المسطرة الجنائية اليوم يكاد ال يستثمر هذه الفكرة المنطقية لتحديث دور قاضي التحقيق .وعندما
نتأمل بعمق في انتماء هذا األخير لقضاة الحكم نعي جيدا مدى صواب فتح مسطرة التحقيق على التواجه
الحضوري ،وهو ما انتهت إليه بعض التشريعات الحديثة.
صحيح ،أننا ال نؤمن بإحداث قضاء مستقل باتخاذ األوامر الماسة بالحقوق والحريات ،ألن في تبني مثل هذا
االتجاه مساس بمفهوم قيام السلطة القضائية على حماية الحقوق والحريات .لكننا من أشد المقتنعين بإعطاء
الدفاع دورا يكاد يشبه الدور الذي يضطلع به في مرحلة المحاكمة ،سواء بخصوص مسطرة توجيه االتهام
أو بخصوص االعتقال االحتياطي أو المراقبة القضائية .ولعل في تبني المشروع لألسباب المبررة لالعتقال
خير دليل على سالمة ما نتطلع إليه في قانون المسطرة الجنائية.
يبقى ،أننا نؤمن أيضا بواجب كشف الحقيقة الملقى على عاتق قاضي التحقيق ،وهذا يلزم له أيضا تصورا
إجرائيا خاصا ال يمكن أن يغيب في تصور المشرع لتكريس حقوق الدفاع بهذه المرحلة.
بمعنى أننا ننادي بتفعيل الدور اإليجابي للدفاع من دون إبطاء أو عرقلة لمهمة كشف الحقيقة .مع تحميل
حقوق الدفاع بضمانات إجرائية متريثة في مسطرة توجيه االتهام ،ولو باالنفتاح على مسطرة وسيطة تعترف
بالخصوص للشخص المحتمل اتهامه بنفس حقوق الدفاع التي يتمتع بها إجرائيا المتهم من دون نعته كذلك .
18
ثالثا :
ا زء لأول
ا ج ل
ولو أنني تناولت هذا الموضوع أكثر من مرة .يبقى دائما في نفسي شيء منه .ربما ألنه موضوع غير منته.
وربما ألنه يأخذنا لكل مواضيع المسطرة الجنائية .بل ،أراه يسائلنا عن مدى استحضار إنسانية اإلنسان في
المحاكمة الجنائية.
أعتقد أن المحاكمة تعبير إجرائي يكاد يشمل كل المراحل التي تمر منها القضية في المجال الجنائي .ومختزل
من يعتبرها المرحلة األخيرة التي يحسم فيها القاضي بناء على اقتناعه الصميم.
المحاكمة تواجه بين الحق العام وحق الدفاع .تواجه مختبر لكل جزئيات القضية .باحث عن الحقيقة القضائية
بين حقيقة واقعية وحقيقة قانونية .
المحاكمة مقاربة قانونية متحضرة ،يقف فيها القاضي على حقيقة إنسانية بناء على مطلب مجتمعي يرفض
الجريمة ،ويرفض معها المساس بالقيم التي يبني عليها المجتمع تعايشه.
المحاكمة مسار له منطلق وله نهاية .يأخذك في مراحل تتدرج من البحث ثم المتابعة ،فتحقيق يليه حسم .شبهة
تتحول إلى تهمة ،وقد تصبح إدانة.
وحتى ال نتيه في فلسفة إنسانية مغرقة في المثالية .نقول باإلنصاف .أي المحاكمة المنصفة .مادام أن العدل
يجرنا لمقاييس وتصورات يصعب تقعيدها عمليا.
19
محاكمة منصفة .ألننا ال نؤمن بمثالية العدالة الجنائية .وواهم من يبحث عن المثالية في عالم الجريمة .حيث
يظهر اإلنسان مناف تماما لما هو عليه .أو بكل بساطة .يصبح في تناقض مع سبب وسر وجوده.
بنظرنا المتواضع ،ال مثالية في العدالة الجنائية ،ألنها ال يمكن أن تقوم على حقيقة مطلقة .فمهما كانت
المؤشرات قوية .واألدلة قائمة .بل وحتى مع وجود اعترافات مدققة .ال يمكن أن نوجد سوى أمام حقيقة
نسبية ،تأخذنا لحل نسبي نعتبره الحقيقة .سبق وأن قمت بنعتها بالحقيقة الكلية ،حتى أميزها عن مجموع
الحقائق الجزئية الت ي يوفرها كل المتدخلين في المسار اإلجرائي والفاعلين فيه ،وهي ليست حقيقية مطلقة
على أية حال.
ربما الحاجة إلى المحاكمة كمطلب مجتمعي راق ،إن كانت تبعدنا عن فكرة االنتقام ،فهي تجسد وبالملموس
أن إنسانية اإلنسان حقيقة ال غبار عليها .وأن الجريمة مهما بلغت فضاعتها ،ال يمكن أن تنزع عن المطلب
المجتمعي حكمته وتريثه ،من أجل تحقيق التواجه بين كل معطيات القضية .وال سبيل للحسم سوى باستنفاذ
كل الفرص الفارزة بين الشيء ونقيضه ،بين الطرح والطرح المضاد ،بين حجج اإلثبات وحجج النفي .
بناء عليه ،يصعب في المنطلق أن نختزل المحاكمة المنصفة أو إن شئتم العادلة في مسار إجرائي مهما كان
مليئا بالضمانات .فهي أكبر وأكثر من ذلك ،من حيث إنها حاجة إنسانية قبل أن تكون مطلبا مجتمعيا .
ويكفي أن ننطلق من اللغة القضائية ،وما أصبح اليوم يطالب في شأنها من تبسيط وانفتاح على فهم المتقاضي،
ليصبح للمحاكمة امتداد لمواضيع متنوعة ومتعددة يصعب إقصاؤها من محاولة تحديد المفهوم .
نعتقد أن المحاكمة قبل تخصيصها بوصف العدل ،فهي تحيل على المحكمة وما ترمز له في التمثل المجتمعي.
حتى وأنها كانت تنعت بدار العدالة أو قصر العدالة palais de justice.وإن كنا هنا ال نملك معلومات
تاريخية من أجل تزويدكم بما يمكن استثماره كمرجع تاريخي نؤمن بفائدته ،فإننا نرى في ذلك إضفاء لكثير
من السمو على المكان .
20
المحاكمة تحيل على القضاء ،الذي بنظرنا يبقى أسمى وظيفة في أي مجتمع متحضر .ألنه بكل بساطة يحمي
الحقوق والحريات.
تعتبر المحاكمة في المجال الجنائي أهم جواب تقدمه الدولة للمجتمع ،عندما يلحقه أي اضطراب جراء الجريمة
المرتكبة.
هنا بالضبط ،قد يبدو نوع من التناقض.
فكيف نحرص على ضمان المحاكمة العادلة لمن تنكر لقيم المجتمع وارتكب من األفعال ما سبب له ضررا
عاما ؟
كيف يجتهد المشرع اإلجرائي في البحث عن أقصى ما يمكن من الضمانات للمتهم ،والحال أن الضحية هو
المجتمع ،وحقه العام يسمو على كل الحقوق ؟
كيف نفسر للمجتمع بأن للمتهم حقوقا يلزم احترامها والحرص الشديد على تقديمها ،تحت طائلة بطالن
المحاكمة ،حتى ولو ضبط في حالة التلبس ،حتى ولو اعترف بارتكابه الجريمة ،بل ولو بلغ فعله من الفضاعة
ما بلغ ؟
ال بد من توضيح بأن المحاكمة ال تعني اإلفالت من العقاب ،بل وال تعني حتى تلطيف ما ينبغي أن تظهر
عليه األفعال المرتكبة أو المتورط فيها .ففكرة نعت قانون المسطرة الجنائية بقانون األبرياء ال يمكن أن
تترك لدينا أدنى شك من أنها تبحث عن الحقيقة كاملة ،أو تحاول ذلك جاهدة .وليس في الضمانات المقدمة
للمتهم أي إبطاء يحول دون التوصل للحل القضائي في الوقت المناسب .
إذن ،تقديم العدالة الجنائية ضمن مفهوم المحاكمة العادلة لضمانات يستفيد منها المتهم يدخل في سمو الوظيفة
القضائية نفسها ،فحمايتها للحقوق والحريات يجعلها أمام متهم ينطلق المسار اإلجرائي من أصل براءته.
فمهما تابعته أو وجهت له االتهام أو واجهته بأدوات االقتناع أو مست بحق من حقوقه أو بحريته ،فهي ال
تفعل ذلك من أجل البحث عن إدانته ،بل هي في بحث محايد عن حقيقة ال يستطيع هو نفسه أن يبادر بها
وبكل عفوية .و حتى ال ندخل في مفاهيم نفسيه تعطي تفسيرات إلنكار الفعل الذي يمكن أن يتخذ أشكاال
ومواقف قد ال يتحكم فيها المتهم بإرادته ،نقول بأن مفهوم المحاكمة ال يمكن أن يكون مبنيا إال على واجب
كشف الحقيقة .فالمجتمع ال يطالب باإلدانة كانتقام من المتهم ،بل يطلبها كحقيقة إنسانية ومجتمعية تعيد له
أمنه واستقراره.
تحضرني هنا فكرة إعادة تمثيل الجريمة ،والتي تثير النقاش حولها ،من حيث إنها تتنافى ومفهوم المحاكمة
العادلة الذي ينبني على أصل البراءة .
مما ال شك فيه أن القاضي الجنائي في المحاكمة ليس أمام أحداث تقع ،أو أفعال ترتكب ،بل هو أمام أدلة
مادية ،تصريحات ،حكي un récit .بمعنى أنه أمام حقائق جزئية محكية أو معاينة أو مستدل عليها ،وهو
21
بكفاءته القضائية يقرؤها .ومن باب االحتياط والتريث والحكمة يواجه المتهم بإنكاره الطبيعي ،باحثا عن مدى
صدق أقواله بانطباقها على أفعاله ولو بإعادة تمثيل ما وقع .
إن مفهوم كشف الحقيقة يتطلب ما ذكر .وما قيام العدالة الجنائية على التواجهية إال دليل على استثمار كل
المؤشرات الجادة والمعقولة لكشف ما وقع بالضبط .فال الكفة ينبغي أن تميل لإلدانة ،وال ينبغي كذلك المغاالة
في تصور البراءة ،حتى يبقى لحياد القاضي متسعا من اإلعمال كاف لحصول االقتناع الصميم .
إذن ،ضمانات المحاكمة العادلة على تعددها وتنوعها ،ال يمكن أن تختزل في القراءة اإلجرائية للمحاكمة من
زاوية المتهم .بل األمر يمتد وبشكل منطقي للمجتمع كذلك ،ومن خالله الضحية ولو بشكل ضمني.
صحيح ،أن موقع المتهم يسائل المحاكمة من جوانب عدة ،أهمها فهمه للغة القضائية المعتمدة ،مدى تمكينه
من الدفاع عن نفسه ،عدم التسرع في اتهامه ،ومدى حصول االقتناع الكامل إلدانته .وهذه أمور وغيرها
تظهر للمحاكمة وجها مختبرا لمدى إيمانها بحقوق اإلنسان ،التي ال يمكن أن تنزعها المحاكمة أو تقيد منها،
خاصة قبل اإلدانة.
لكن ،للمجتمع أيضا موقع داخل مفهوم المحاكمة العادلة .ومن يغيب هذه المعطاة الحيوية يجعل البراءة منطلقا
ونهاية .مع أن فكرة المحاكمة إنما تستمد وجودها في القضية من احتمالها الدائر بين البراءة واإلدانة.
ا زء ا ث
ل ث لا ج ل
غالبا ما يقع الحديث عن ضمانات المحاكمة العادلة .بل هناك من يميز فيها بين المباشرة منها وغير المباشرة.
وقد يمتد النقاش حتى للجانب الموضوعي ،مع ما أصبحت تساءل به نصوص التجريم والعقاب هي نفسها،
سواء على مستوى الدقة أو الوضوح أو التماسك ،وذلك للحيلولة دون تسلل النماذج المفتوحة للتجريم .
لكن ،من وجهة نظرنا المتواضعة ،نفضل الحديث عن المحاكمة العادلة كمفهوم .ليس فقط ألنها تستحضر
إنسانية اإلنسان حيث اعتبرناها حاجة إنسانية قبل أن تكون مطلبا مجتمعيا .ولكن ألنها تسائل الضمانات
نفسها ،ليس بهدف المزيد منها ،وإن كان لهذا أهميته ،بل ألن نسبية العدالة البشرية من جهة ،وصعوبة
استحضار جزئيات كل ما وقع من جهة أخرى ،يتركان مهمة الحسم آخر ما يمكن أن ينتهي إليه القاضي بعد
استثمار كل المراحل السابقة ،سواء تعلقت بالبحث أو المتابعة أو التحقيق.
ربما قد يتساءل الشخص العادي ،في حاالت ليست قليلة ،لماذا نعدد المراحل وكذلك المتدخلين ،والحال أن
هناك قضايا ليست بالقليلة ،طبيعتها تقبل االختزال سواء على مستوى المراحل أو على مستوى اإلجراءات،
كما إذا تعلق األمر بضبط الجاني في إحدى صور حالة التلبس مثال ،أو عندما يبادر المتهم إلى االعتراف .
22
هنا بالضبط ،يمكن تلمس الغاية البعيدة التي تقف وراء المحاكمة العادلة .فدرجة تورط المتهم ،كما في حقوق
الدفاع ال تغني عن المحاكمة العادلة .بمالحظة االرتباط الحيوي بين هذه األخيرة وأصل البراءة.
ولننطلق من أصل البراءة ،حيث ال يمكن الحسم باإلدانة إال بعد تمتيع المتهم بكل الضمانات القانونية،
واكتساب المقرر القاضي باإلدانة قوة الشيء المقضي به.
هنا نقول أن كل مرحلة تمر منها القضية إال وتعتبر بنظر المقدم للعدالة فرصة لتأكيد براءته .ولعل المشرع
اإلجرائي في كل مرة يتدخل فيها القاضي إال ويعطيه فرصة إلنهاء المسطرة ،كاتخاذ قاضي النيابة العامة
لقرار الحفظ ،أو قاضي التحقيق لألمر بعدم المتابعة .وقد نضيف لهما إسقاط المتابعة عن بعض المتهمين
بمرحلة التحقيق .
مفهوم المحاكمة العادلة يجد في أصل البراءة الوجه اإلنساني للعدالة الجنائية ،بل انتصارا للعدالة العامة،
وسموا لحق الدولة في العقاب .بل تلطيفا لمتطلبات الحق العام وإكسابه توازنه اإلنساني .فقد يميل المجتمع،
وبالنظر لفضاعة الجريمة المرتكبة إلى التعبير عن ردود فعله القاسية ،فيجد القضاء نفسه أمام اضطراب
اجتماعي مضاعف ،إن لم يعمل المنطق اإلجرائي على امتصاص بعض حدته ،يصبح من الصعوبة االهتداء
إلى حل قضائي مستجيب لكل تمظهرات رد الفعل المجتمعي.
إن أصل البراءة ال يعني منع تدخل الشرطة القضائية من إجراء المعاينات وجمع األدلة ،وال حتى غل يد
الضابط على وضع المشتبه به رهن الحراسة النظرية من أجل استجوابه .بل يرهن ما ذكر بواجب كشف
الحقيقة .فال المشتبه به منزه بأصل البراءة ،وال ضابط الشرطة القضائية يملك الحسم في حقيقة ما وقع .
كذلك أصل البراءة ال يسقط بالمتابعة وال بتوجيه االتهام وال بوضع الشخص رهن االعتقال .وإن كان هنا
المساس بالحرية ينبغي أن يبقى في حدوده جد االستثنائية .فال المتابعة تستمر مع اقتناع قاضي النيابة العامة
بقرار الحفظ .وال االتهام يثبت مع االقتناع باألمر بعدم المتابعة .
من كل ما ذكر ،تحاول العدالة الجنائية أن تعطي للمجتمع عبر تكريس مفهوم المحاكمة العادلة تطبيقا إنسانيا
في أدق لحظة اختبار تمر منه سلطة الدولة .وما أصل البراءة سوى تحد لما يمكن أن يتسلل من شعور
باالنتقام من مرتكب الجريمة .بل نراه المحصن اإلجرائي الذي يساعد ال محالة على الخلوص من تواجه حاد
بين إنسانية اإلنسان وفضاعة الجريمة .
23
ا زء زا ع
ب ال ج ل
إلى جانب أصل البراءة ،نستحضر أيضا وبكل قوة ،األجل المعقول ،المحكمة المستقلة ،التقاضي على
درجتين ،تحصين مسطرة الحصول على الدليل ،الشفوية ،الحضورية أو التواجهية ،العلنية ،االستفادة من
طرق الطعن سواء إلعادة مسطرة المحاكمة أو التثبت من سالمة تطبيق القانون ،أي احترام الشرعية
اإلجرائية .بحيث في كل هذه المواضيع وغيرها يقوم مفهوم المحاكمة العادلة كمحصن إجرائي ضد احتمال
الخطأ في اإلدانة.
ربما ،لو عمقنا النظر في قانون المسطرة الجنائية ،سنرى بأن قواعده تقوم على ثوابت إجرائية إن صحت
هذه العبارة .إعطاء فرص لتأكيد البراءة األصلية باالنتهاء إلى إقناع القاضي الجنائي بذلك .والحرص على
أن ال تنتهي مسطرة توجيه االتهام بالسقوط بالخطأ في اإلدانة .
من أجل ذلك وقع التفكير أيضا في المدة الزمنية التي ينبغي أن يقطعها المسار اإلجرائي العادي ،أي الذي
يحترم ما يصطلح عليه الفقه اإلجرائي الجنائي بحسن سير العدالة الجنائية
. la bonne administration de la justice pénale
ال محاكمة عادلة إن لم يقع احترام األجل المعقول ،الذي ال يعني ال اإلبطاء وال السرعة .قديما ،اهتم الفقه
اإلجرائي بمبطئات المسطرة الجنائية les lenteurs de la procédure pénale.وقد يعتقد البعض
أن الضمانات اإلجرائية كافية لتحقيق محاكمة عادلة .نقول ،بأن الزمن عدو العدالة الجنائية .ليس فقط ألنها
مطلب مجتمعي بامتياز ومرتبطة بشكل حيوي بالحق العام ،ولكن أيضا ،ألنها عدالة تقوم على الواقع.
والواقع حركي .وحقيقته متغيرة .فال أنت تملك ثباته .وال هو يساعدك في استعادة حقيقته عند مروره.
فكلما وقع ضبط الوقت واستثماره في كشف الحقيقة ،كلما أنتج الواقع نتائجه .وإن لم تكن كلها ،فعلى األقل
أهمها.
فال اإلثبات يقبل التساهل مع مرور الوقت .وال االضطراب االجتماعي الذي ولدته الجريمة المرتكبة .بل
المتهم نفسه لن يرى في طول اعتقاله قبل الحسم في القضية سوى إدانة سابقة ألوانها .
كذلك ،ال محاكمة عادلة بدون قضاء مستقل .خاصة منه المجسد للحق العام .ولن نطيل في مدى استحساننا
ألخذ المغرب باستقالل قضاء النيابة العامة .فعدم خضوع هذه المؤسسة القضائية للسلطة التنفيذية
سيحررها من أي تأويل وهي تطلق وتمارس الدعوى العمومية .بل مبدأ مالءمة المتابعة نفسه سيصبح هو
أيضا يساهم في تحصين المحاكمة من أي متابعة متسرعة أو حفظ غير مقنع.
استقالل المحكمة يستمده القضاة من سمو وظيفتهم التي تقوم على حماية الحقوق والحريات .ونعتقد أن
مفهوم المحاكمة العادلة يتقوى بهذا .بل إننا نرى ،وعلى عكس ما يرى البعض ،أن واجب الحياد قائم حتى
في وظيفة المتابعة .خصوصا بعدما أصبح االقتناع قائما بسلوك مسطرة الصلح في بعض القضايا .بل
24
وحتى في بعض القضايا المحالة على المحاكمة ،قد تعرف توقيفا لسير إجراءات الدعوى العمومية .وحتى
في حالة اإلدانة ،قد تأخذ العقوبة منحى آخر أكثر مرونة بتبني منطق البدائل.
أيضا ،غالبية القضايا تعرف المرور المنطقي من البت على درجتين .وهنا نسجل استحساننا لما أقدم عليه
المشرع المغربي ومنذ 2002بأن سمح للمقررات الصادرة عن غرفة الجنايات بالتقدم بالطعن فيها
باالستئناف بعدما كانت ال تعرف سوى طريق الطعن بالنقض .ولعل مفهوم المحاكمة العادلة هنا يعطي بهذا
الثابت اإلجرائي ،إن صحت هذه العبارة ،تحصينا مضاعفا للمقرر القضائي ،فنسبية العدالة البشرية ال تجد
حرجا في عرض القضية من جديد على هيئة قضائية أعلى درجة ،حتى يطمئن المقدم للعدالة والمجتمع
أيضا بأن ال انفراد بالمقرر القضائي .إذا أضفنا لهذا إلزامية القضاء الجماعي في الدرجة الثانية نستكمل
فهم المبرر اإلجرائية لهذا التحصين .وهو ما يكرس ال محالة مفهوم المحاكمة العادلة.
نفس هذه المبررات نجدها في منطق التدرج في إكساب المقرر قوة الشيء المقضي به مع طرق الطعن.
نصل لتحصين مسطرة الحصول على الدليل .ومن دون أن نتوقف طويال على أهمية الدليل في العدالة
الجنائية بأن نسجل فقط بخصوص هذا الموضوع الحيوي مدى ارتباط اقتناع القاضي الصميم وبنفس القوة
بأدلة اإلثبات وأدلة النفي ،نؤكد على أن الدليل ال يكفي لتكريس مفهوم المحاكمة العادلة ،بل تحصين
مسطرة الحصول عليه هو الذي يضفي وصف العدل ،وبنظرنا اإلنصاف ،على المحاكمة.
فال القاضي يمكن أن يعتمد على دليل وصل إلى علمه خارج القواعد اإلجرائية .وال يمكن له أن يبني
مقرره إال على حجج عرضت ونوقشت شفويا وحضوريا أمامه .وال ضابط الشرطة القضائية يمكن أن
يضع يده على أدوات االقتناع خارج مسطرة صارمة تنظم المعاينة قبل التفتيش والحجز .بل ،نالحظ وعيا
تشريعيا عميقا بمدى خطورة هذين اإلجرائين األخيرين ،حيث يدعو ارتباطهما بحرمة المنزل وحق
الملكية ،إلى التشدد في مسطرة إجرائهما.
بمعنى ،أن ال دليل على اإلدانة إال في إطار االحترام الصارم للشرعية اإلجرائية .وهنا تقوم مؤسسة
البطالن كمطهر إجرائي ألي تجاوز محتمل .بل يبقى فوق كل ذلك ،اإلعمال المنطقي لقاعدة أن الشك يفسر
لمصلحة المتهم .
وننتهي إلى ارتباط مفهوم المحاكمة العادلة بالسمات المميزة لجلسات المحاكمة .فال محاكمة عادلة من دون
احترام ضوابط كل من الحضورية ،أي التواجهية ،والشفوية والعلنية .
التواجه هو بين حق مجتمعي عام وحق المقدم للعدالة في الدفاع عن براءته .والمحاكمة العادلة تستلزم في
مرحلة الحسم ،إعطاء هامش من التكافؤ بين الطرف المؤسساتي والطرف الخاص .لذلك يتحرر قضاء
النيابة العامة من التراتبية على مستوى أخذ الكلمة بالجلسة .ولذلك أيضا يتمتع الدفاع بكل الحقوق من أجل
الترافع .بل يلزم أن يكون المتهم آخر من يأخذ الكلمة .
الشفوية عرض مرئي ومسموع يسمح للحقائق الجزئية بأن تخضع لالختبار وقياس منسوب الصدقية .مادام
أن مفهوم المحاكمة العادلة ال يعني تحيزا ال للمجتمع وال للمقدم للعدالة.
الشفوية كذلك تنسجم وواقعية العدالة الجنائية التي تقوم على حقيقة واقعية بداية.
25
الشفوية طريق إجرائي منطقي من أجل أن يكون القاضي اقتناعه الصميم إما بالبراءة أو باإلدانة.
الشفوية اختبار للشهود سواء منهم شهود اإلثبات أو شهود النفي.
الشفوية وقوف على تفسيرات الخبير ومناسبة لفهم الوجه التقني المرغوب كشفه سواء من طرف القاضي
أو بخصوص األطراف.
الشفوية جواب واقعي للمجتمع وللمقدم للعدالة ،يأخذ فيه مفهوم المحاكمة العادلة شكل تواصل إجرائي بين
أطراف القضية.
تبقى العلنية ،ونعتقد أنها تعكس على مستوى مفهوم المحاكمة العادلة بأن ليس هناك ما ينبغي التكتم بشأنه.
فال الفضاعة تعفي المتهم من مواجهته بها .وال مبالغة في ضرورة االستجابة للحق العام .ولعلها مناسبة
لمعرفة ماذا وقع؟ كيف وقع ؟ ولماذا ؟ وقد تكون العلنية هنا لبعث االطمئنان المجتمعي من جديد .بل هناك
من يعتبرها فرصة لبداية تصور إعادة اإلدماج ،قد تنطلق من اعتراف المتهم وطلبه السماح من الضحية أو
عائلته ،ومن خاللهما المجتمع .
على أية حال ،يصعب إن لم نقل يستحيل اإلحاطة بمفهوم المحاكمة العادلة .فقد سبق أن قلت بشأنها وكأن
الباحث في هذا المجال الفلسفي اإلنساني ينقش في منظومة .
26
رابعا :
ا زء لأول
ا ج ل
ثم عن أية حقيقة نبحث في مجال ارتكاب الجريمة ؟ حقيقة ارتكاب الجريمة أم حقيقة تورط الفاعل ؟ أم هما
معا ؟
أكيد هما معا.
لكن البحث عن الحقيقة يختلف باختالف زاوية النظر إليها .ويكفي أن نضع أنفسنا أمام الطرفين المتواجهين،
أي كال من قاضي النيابة العامة والمتهم حتى نتفهم مدى حدة الصعوبة التي ستواجه القاضي من أجل أن
ينتهي إلى الحقيقة الكلية التي يبحث عنها ،أي الحقيقة القضائية.
يصعب أن نجعل للحقيقة المبحوث عنها في العدالة الجنائية تصورا مسبقا .فضابط الشرطة القضائية التي
يتلقى خبر اقتراف جريمة ،ولو من المشتكي ،ولو ظهر من واقع الحال صدق ما يدعيه انطالقا من النظرة
األولى ،ال يسمح له بتكوين فكرة مسبقة حول القضية ،بل ال يمكن أن يخضع بحثه لهذا التوجه .ألن الواقع
اإلنساني واالجتماعي حافل بالتناقضات التي يكاد ال يقبلها العقل مهما خير نفسه أمام صور تمتاز بقمة المكر
واالحتيال.
27
إذن مفهوم كشف الحقيقة ،وإن كانت العدالة الجنائية تتفرد به وبكل المقاييس ،فمما ال شك فيه أنه األصعب
في التقدير والتحديد بين المفاهيم التي تعتمدها .لذلك ،سنحاول من جهتنا أن نستوقف أنفسنا بشأنه ،من دون
جرأة زائدة ،وال ادعاء فهم ،بل سائلين ومتسائلين عن بعض أوجه الخصوصية التي تميزه في المجال الجنائي.
نعتقد أن إنسانية اإلنسان ال تنفي عنه احتمال ارتكاب الجرائم .فال هو بالمثالي وال هو بالفضيع .ال هو بالمنزه
الكامل وال هو بالمكره الالمسؤول .ولعل هذا الوضع الدقيق الذي يحكم وجود اإلنسان هو الذي يترك حقيقته
صعبة االحتواء.
إذن صعوبة كشف الحقيقة هي من صعوبة فهم اإلنسان بكل تركيبه وتناقضاته .وهنا يمكن أن نعتبر الجريمة
لغزا ،مهما اجتهد بشأنها المختصون ،يبقى الكثير من جوانبها صعبة االختراق ،فباألحرى بامتالك القدرة
على تفسير أسبابها ومسبباتها .يكفي أن نؤكد بشأن المرور الرتكاب الجريمة
le passage à l'acte criminelبأنه الموضوع المحير لكل العلماء باختالف تخصصاتهم.
على أية حال ،موضوعنا إجرائي ،يسائل المشرع عن مفهوم كشف الحقيقة .هل له ضوابط دقيقة تؤمن له
كل فرص االشتغال ،خدمة لصالح العدالة الجنائية ،التي ينبغي أن تنجح ،في التثبت من واقع ارتكاب الجريمة،
ومن حقيقة تورط مرتكبها .
يصعب على مستوى المعاينة أن نتحدث عن حقيقة ولو جزئية .ألنها عبارة عن منطلق قد يسمح للضابط
بوضع اليد على معطيات ،قد تكون مادية أو قولية ،أو مجرد مؤشرات.
لذلك ،يبقى أمر تجاوز مجرد المعاينة داخل مفهوم كشف الحقيقة مطلبا منطقيا ينقل البحث لمرحلة تتكامل
معها ،أي مرحلة جمع األدلة.
صحيح ،في البحث التلبسي ،هناك فورية االنتقال التي قد تسمح للضابط بوضع يده على قرائن التلبس.
والمشرع في هذا النوع من البحث يتحدث عن المعاينات المفيدة .ونحن نتساءل ،هل هناك معاينات غير مفيدة
؟ نعتقد أن قصد المشرع هنا استشعار الضابط بأن حالة التلبس إنما هي فرصة إجرائية لقراءة المكان
واألشخاص بعمق يقربه من حقيقة ما وقع .فمهما قاوم المكان بفعل فاعل ،أو قاوم األشخاص بالتكتم ،واقعية
حالة التلبس تساعد الضابط على إحراجهم بحقيقة ما وقع ،والتي ال زالت معالمها قائمة.
ومع ذلك ،خارج إجراء المعاينة ،يصعب التنكر لما قد يسفر عنه إجراء التفتيش من نتائج على مستوى كشف
الحقيقة .لكن اإلشكال هنا في مدى انسجام هذا اإلجراء مع الحرمة التي يضمنها الدستور للمنزل.
بصيغة أخرى ،هل مفهوم كشف الحقيقة في قانون المسطرة الجنائية ،يسمح بالتعامل بمرونة مع الحصانة
التي ينبغي أن تكون للمنزل .
مما ال شك فيه ،أن المنزل جزء ال يتجزأ من حميمية اإلنسان .وتحضر أي مجتمع يدخل مفهوم الحميمية
ضمن كرامة اإلنسان .بمعنى أن حرمة المنزل من حرمة اإلنسان ،ال يقبال المساس .
لكن حضارة المجتم عات تنبني على قيم سامية ال تقبل ال بالجريمة وال بأن يصبح المنزل مأوى المجرم أو
مخبأ الدليل على تورطه .ومع ذلك يتشدد قانون المسطرة الجنائية في وقت التفتيش ،وفي الضرورة اإلجرائية
للقيام به ،بل وحتى في عدم انفراد الضابط بذلك ،حيث يلزم له شاهدين أجنبيين عن األشخاص التابعين
لسلطته .بل وفي البحث التمهيدي يلزم للضابط الراغب في القيام بتفتيش المنزل ،الحصول على الموافقة
الصريحة لصاحبه المكتوبة بخط يده.
هنا ،يصبح لمفهوم كشف الحقيقة تشكال إجرائيا انطالقا مما سيسفر عنه التفتيش من حجز أدوات االقتناع.
من كل ذلك نقول أن كال من المعاينة والتفتيش ،إن أخذا معا ،يساهمان في إطالق عملية كشف الحقيقة ،ليس
بهدف تشكيل حقيقة ما ،ولكن فقط لوضع المشتبه به أمام مؤشرات التورط .وأبعد ما يمكن أن ينتج عن ذلك،
استثمار لحظة أو لحظات االستجواب للنفاذ إلى المعطيات المتكتم بشأنها.
29
فالضابط يعلم علم اليقين أن المشتبه به لن يرحب بأسئلته الباحثة عن الحقيقة .لذلك فهو يكتفي بحياده المهني
أن يضع المشتبه به أمام تناقضاته ،وأمام األدلة المحصل عليها .ويبقى له الحق في تركيب النتائج الواقعية،
بعيدا عن مفهوم توجيه االتهام.
إن مرحلة االشتباه في منطق مفهوم كشف الحقيقة ال يمكن أن تكون سوى مرحلة ممهدة لتدخل السلطة
القضائية .فهي إن كانت ال تحسم في كشف الحقيقة ،فهي تقدم المعطيات المساعدة على ذلك.
ا زء ا ث
ل ث لا ج ل
هنا نستحضر الخبرة القضائية العالية التي هي للمؤسسة القضائية في مواجهة كل الصعوبات التي يطرحها
مفهوم كشف الحقيقة .
هذا ويمكن أن ننطلق من اعتبار استنطاق المتهم واإلستماع إلى الشهود إجرائين هامين ،يعتمدهما القضاء
في كشف الحقيقة .ونتحدث هنا عن قضاء الحكم ،سواء تعلق األمر بقاضي التحقيق أو بقاضي الحكم .وسنرجأ
الحديث عن قضاء النيابة العامة للجزء الرابع واألخير الذي سنتناول فيه الحقيقة القضائية مع االقتناع الصميم
لقاضي الحكم .
الذي ينبغي التأكيد عليه بداية ،أن المعطيات التي يوفرها المحضر المنجز من طرف ضابط الشرطة القضائية
إن كانت تساعد على كشف الحقيقة ،فهي ال تغني عن مواجهة األطراف بها ،ألن الضابط في تحريره
للمح ضر لم يفعل سوى أن ضمن ما عاينة وتلقاه أو قام به شخصيا كما هو من دون تقدير أو خلوص لنتائج
.
من هنا ينطلق مفهوم كشف الحقيقة كمعطيات يوفرها الضابط بكل حيادية ،لتصل إلى السلطة القضائية بكافة
أنواعها .ونفضل في هذا الجزء الثالث أن نقتصر كما سبقت اإلشارة لذلك على كل من االستنطاق واالستماع
إلى الشهود .
ربما قد يوحي االستنطاق وكأنه إجراء مسخر باألساس إلثارة االعتراف .خصوصا وأن القاضي ،في هذه
المرحلة المتقدمة من المسار اإلجرائي ،يملك من المعطيات ما يمكنه من مواجهة المتهم بأسئلة دقيقة ،يصعب
الرد عليها بأجوبة مبهمة أو مبتورة .ويكفي أن نقف على نوعي االستنطاق مع قاضي التحقيق -استنطاق
ابتدائي واستنطاق تفصيلي -ليتضح لنا إجرائيا بأنه عملية تتعمق تدريجيا من أجل البحث عن حقيقة يمانع
المتهم في إطالع قاضي التحقيق عليها .
30
المتفق عليه ،أن الحقيقة التي يبحث عنها قاضي التحقيق ينبغي أن تكون نتيجة طبيعية ومنطقية الستنطاق
محصن بكل الضمانات اإلجرائية .فال مبادرة بتصريحات في االستنطاق االبتدائي .وال إكراه على االعتراف
باستدراج أو ممارسة أي ضغط نفسي .
لكن حقيقة الممانعة في قول الحقيقة التي يتحصن بها المتهم ال تخدم العدالة في شيء .بالتالي يبقى السؤال
مطروحا بخصوص موقف قاضي التحقيق من هذه الممانعة ،وكيف يمكن أن يخترقها بشكل يحترم فيه
الشرعية اإلجرائية ؟
نعتقد أن ربط االستنطاق باالتهام ،وعدم إلزام قاضي التحقيق بنطاق المتابعة على مستوى األشخاص ،يتركان
للقاضي المذكور فرصا إجرائية من أجل وضع اليد على بعض ما وقع التكتم بشأنه .بل يمكن أن نرى في
مقابلة المتهمين لحظة أو لحظات حقيقة ،تحمل للقاضي إمكانيات قراءة صحيحة لحقيقة ما وقع .
كذلك االستماع إلى الشهود ،وإن كان يختلف جذريا عن إجراء استنطاق المتهمين ،فهو يشكل مع هذا األخير
الحقيقة اإلنسانية التي يقف عليها القاضي .فقديما وحتى اآلن قيل في حق الشهود ،أنهم أعين وآذان العدالة.
فمواجهة القاضي للمتهم وللشاهد لها وجه إنساني قد ينتج ما يمكن إنتاجه في منطق العالقات اإلنسانية .
بخصوص الشاهد ،يصعب أن نحمل فكرة االستماع إليه بما يردده الشخص العادي ،من أن األصل في الشاهد
أن ينحاز إما لإلثبات أو للنفي .وربما قد يوحي هذا التمييز المعتمد إجرائيا كذلك بالتعامل بنسبية شديدة مع
تصريحات الشهود .
نقول بهذا الشأن ،أن مفهوم كشف الحقيقة ال يمكن أن يصبح حيويا منتجا لكل آثاره اإلجرائية إال بإعادة مشهد
ما وقع .وهذا ال يمكن قراءته في االستنطاق مهما التزم المتهم بقول الحقيقة .فالطبيعة البشرية ترفض تعريض
النفس ألي تضييق أو احتمال خطر ،فباألحرى العقوبة الجنائية.
إذن ،تصريحات الشهود وإن كانت حكيا ،يحتمل بعض التأويل ،فهي تنقل صورة ما وقع للقاضي مجسدة في
كالم .
وبنظرنا المتواضع ،تصريحات الشاهد ال تمنع القاضي من جعل عملية التلقي أكثر إيجابية ،بدفع الشاهد من
خالل تصريحاته إلى تدقيق ما بدأ عاما ،وإلى توضيح ما بدأ غامضا .بحيث إن الشهادة بالتلقي ال تنتهي كما
بدأت .وتلك خبرة القاضي العالية والمعول عليها في كشف الحقيقة .
31
ا زء زا ع
ب ال ج ل
ال يمكن لكشف الحقيقة أن يكتمل ويصبح مفهوما قائما بذاته ،إال باقتناع القاضي الصميم .وكأن لهذا المفهوم
محطات أساسية ،تبدأ بمعطيات يوفرها المحضر المنجز من طرف ضابط الشرطة القضائية ،ثم مواجهة
المتهم بهذه المعطيات ،فالمناقشة القائمة على التواجه ،لينتهي األمر بحقيقة قضائية يخلص إليها القاضي
الجنائي باقتناعه الصميم .
هل هي مجموع الحقائق الجزئية التي تكونت عبر المراحل ،انتهت إلى حقيقة كلية جامعة مانعة حاسمة في
تواجه بين حق المجتمع وحق المتهم ؟
هل هي الجواب المقدم للمجتمع ،والذي ينبغي أن يقنعه وفي نفس الوقت المتهم ؟
تساؤالت كثيرة يحملها مفهوم كشف الحقيقة في المجال الجنائي .تساؤالت ال ننكر أنها تحمل في حد ذاتها
هامشا من التناقض .فقد ينتهي القاضي إلى الحقيقة القضائية .لكنها ،إما أن تقنع المجتمع ،أو تقنع المتهم ،كما
هو االحتمال الدائر بين البراءة واإلدانة .لكل منهما طالبه .ولكل منهما وقعه اإليجابي .
نعتقد أن العدالة الجنائية باقتناع القاضي الصميم تكون قد أعطت للفضاعة المرتكبة جوابا إنسانيا ،ال هو
بالمتساهل مع االضطراب االجتماعي الذي أحدثه وقع الجريمة .وال هو بالمتحامل على المتهم المتنكر لقيم
المجتمع .
وعليه ،فجلسة المحاكمة أو الحسم في القضية ال يمكن أن تختزل التواجه بين الحق العام وحق الدفاع في
جانب من المعطيات ،أو في المهم منها .ولعلها مرحلة حاسمة في عرض كل الحجج ومناقشتها ،يضطلع فيها
القاضي بدور إيجابي مفعل لكل المعطيات ،ألنه المسؤول األول واألخير عن الحسم فيها بنتيجة نهائية.
قد يعتقد البعض أن قضاء النيابة العامة باعتباره المجسد للحق العام ،إنما يضيق دوره بالبحث عن نتيجة
تنسجم منطقيا مع اقتناعه بالمتابعة .لكننا نرى عكس ذلك .ألن اقتناعه بالمتابعة ال عالقة له باإلدانة .فاتخاذ
قرار المتابعة ال يعني في منطق مفهوم الحق العام سوى تسخير المحاكمة باحتمالها الدائر بين البراءة واإلدانة.
وإال ما معنى أن يحرر قضاء النيابة العامة من قيود التعليمات والتراتبية بجلسة المحاكمة.
إن الحرية في أخذ الكلمة بالجلسة ال يمكن أن يعني سوى شيئا واحدا تقوم عليه العدالة الجنائية ،كشف الحقيقة،
وال شيء غير الحقيقة .
32
إذن ،تواجه الحق العام وحق الدفاع إنما يعني بجلسة المحاكمة وضع القاضي أمام كل المعطيات ،بكل تنافرها
وتناقضها .بل منطق العرض والمناقشة إنما يتجه نحو مزيد من تعميق النظر في كل جزئيات النازلة .بحيث
يجد القاضي نفسه أمام لحظة سانحة لتمثل الحل القضائي .الذي نعتناه بالحقيقة القضائية.
الدفاع نفسه ،ال يمكن أن يكون مقنعا إال في بحثه عن الحقيقة .وقد يبدو غريبا للبعض أن نعتبر الدفاع هو
أيضا باحث عن الحقيقة .بحكم أن مهمته تتمحور حول تجنيب موكله اإلدانة أو تخفيف الكم العقابي ما أمكن.
من جهتنا ،وإن كنا ال ننكر الحقيقة الظاهرة التي يقوم عليها حق الدفاع .إال أننا واقعيين في تصورنا للعدالة
الجنائية .ولعل مفهوم كشف الحقيقة الذي يأخذنا في كل المسار ،لدليل قطعي على أن ال أحد يملكها خارج
اقتناع القاضي .أي خارج الحقيقة القضائية .من هنا يبقى لحق الدفاع جزء مهم في تسليط الضوء على
معطيات قد تقلب المعادلة في األخير .وربما الحكمة هنا تتضح في كون المتهم آخر من يأخذ الكلمة.
إن اقتناع القاضي الصميم هو عين الحقيقة التي سخرت كل اإلجراءات من أجل كشفها .فال الحقيقة الواقعية
التي تحملها األفعال أو مرتكبوها ،وال الحقيقة القانونية التي ينبغي إضفاؤها عليها ،يمكن أن تحسم في
المعطيات ،أو في المواجهة بها ،أو في عرضها ومناقشتها .بل اقتناع القاضي وحده هو الذي بإمكانه ذلك.
وهكذا تخرج العدا لة الجنائية من طبيعتها المؤسساتية ،التي قد ال يفهمها الشخص العادي ،لتصبح منطوقا
ينطق به القاضي ،في حكمة إنسانية معبرة .
كنت دائما أرى في المادة الجنائية منظومة قيم .بحيث ال أرى في التجريم والعقاب سوى حث لإلنسان على
أن يحافظ على إنسانيته.
كذلك أرى في العدالة الجنائية ،جوابا إنسانيا لفضاعة ارتكبت .فال القضية كما بدأت انتهت .وال المتهم حرم
من حقه في الدفاع من أجل إثبات براءته .وال مراحل اختزلت تحت ضغط المجتمع .
تلكم هي حقيقة العدالة الجنائية التي ال يمكن أن ترقى باالنتقام .بل هي تسمو بكل الفرص اإلنسانية التي
تعطيها للمتهم .
33
34