Professional Documents
Culture Documents
التفكر في العالم و في من أنا
التفكر في العالم و في من أنا
التفكر يف العالم
و يف «مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن أن ـ ـ ـ ــا»
1
يف ذاتـــك و قواك و األعضاء و الجـــوارح و الجوانح
منـــك ،و أيضـــاً يف كل يشء يوجد يف مـــا حولك من
األشـــجار و الخـــراوات وصور األشـــخاص ،فلكل
شـــخص صورة خاصة و وجه خـــاص ،و يف األرض و
حركتهـــا الوضعية و االنتقاليـــة ،حيث تتحرك يف كل
ثانية مبقـــدار مثانية و عرشين كلومرتا ً ،و يف ســـتني
ثانيـــة مبقـــدار ألف و ســـتامئة و مثانـــن كلومرتا ً،
و هـــو مقدار دقيقـــة واحدة ،و يف ســـاعة واحدة
مبقـــدار مائة ألـــف ومثامنائة (كلـــم) ،و يف أربع و
عرشين ســـاعة ( ٢٤١٩٢٠٠كلم) ،و يف شـــهر واحد
( ٧٢٥٧٦000كلم) ،و يف ســـنة واحدة ۸۷۰۹۱۲۰۰۰
(کلـــم)؛ و الكواكب و املجرات و أخـــرا ً وصل رواد
الفضاء إىل كشـــف مئـــات املليارات مـــن املجرات
و أيضاً استكشـــاف أراض كثرية ،مثـــل هذه األرض
التـــي نعيش عليهـــا و ،...إىل ما النهايـــة ،و األبعاد
2
الشعاعية املســـتخرجة من مركز األرض التنتهي إىل
نها ية .
عزيـــزي! كلها يف مقابل حقيقة اإلنســـان و ظرفيته
و اســـتعداداته ،كقطرة بالنســـبة إىل البحر املحيط
بـــل أكرث منـــه( :ولو أن مـــا يف األرض من شـــجرة
أقـــام و البحر ميـــده من بعـــده ســـبعة أبحر ما
نفـــدت كلامت اللـــه إن الله عزيـــز حكيم)(((.
فراجع يف كيفيـــة التفكـــر «دروس معرفة النفس»
ملوالنـــا األجل مـــن الـــدرس الســـادس إىل الثالث
عـــر((( ،و القـــرآن املحمدي يقـــول« :إن يف خلق
الســـاوات و األرض و اختالف الليل و النهار آليات
ألويل األلبـــاب »((( ،اآليات.
((( لقامن.۲۸/
((( أبوالفضائل العالمة حســن زاده األميل ،حســن ،دروس يف معرفة النفس ،صص ،63-31النارش :ألف الم ميم ،قم ـ
إيران ،ط۱۳۹۲ ،۲ه.ش.
((( آل عمران.۱۹۱/
3
ثم يقول موالنا األجل يف ذيل الدرس السابع:
«نختـــر الكالم لعـــل بعض النـــاس يضحكون من
مقـــال هذا املنقلـــب املتهيج ،و يظنـــون أن القائل
مجنون ولكـــن الحكـــاء و اليقظـــن يعلمون أن
هذه الكلـــات و املحاورات مع موجـــودات العامل
و الكلامت الوجودية ،كانت قبســـات تشـــتعل من
مركـــز قلب محرتق و مشـــتعل»(((.
نعـــم ،ســـميت تلـــك الحالـــة املحرقـــة للقلوب
بالخـــروج عن العـــادة ،و طريقه أيضـــاً التفكر كام
يف الرواية:
«تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعني سنة»(((.
و العـــامل أجزائه مرتبطة و كلها متحركة اســـتكامالً،
((( أبوالفضائل العالمة حســن زاده األميل ،حســن ،دروس يف معرفة النفس ،ص ،٤٢النارش :ألف الم ميم ،قم ـ إيران ،ط،۲
۱۳۹۲ه.ش.
((( ابن عجيبة ،أحمد بن محمد ،البحر املديد يف تفســر القرآن املجيد ،ج ،۱ص ،٢٩٦النارش :الدكتور حســن عباس الزيك،
القاهرة ـ مرص١٤١٩ ،ه.ق.
4
حتـــى يتولد منه اإلنســـان ،و هو أيضـــاً يتحرك إىل
الكامل ،و لـــه يف هذا الطريق الحبي االســـتكاميل،
هـــدف أعىل مـــن ســـائر املقاصـــد و النهايات ،و
بينـــه و بني العـــامل تطابق وجـــودي ،و هو مجمع
الكلـــات الوجودية الكليـــة و الجزئيـــة و النظم
الدائـــم بينهـــا ،و تلك األجـــزاء و الكلـــات كلها
مرتبطة بواســـطة الحقيقة التي نسميها بالنفس ،و
هي القـــوة العاقلة املميزة بني األشـــياء و الحاكمة
عليهـــا ،كام أن العـــامل و أجزائه أيضـــاً خري محض،
و الـــر ،إما أمـــر عدمـــي ،و إما يوجـــد يف مقام
املقايســـة ،و النقـــص أيضاً هكذا؛ فـــكل يشء كان
كامال يف رتبتـــه و مقامه ،و يف نفـــس رتبته مل يكن
نا قصاً .
نعم؛ للكامـــل قيمة التوجد يف الناقـــص ،و الناقص
5
مل يقـــع مطلوبـــاً ،و إن وقـــع مرجعاً ملـــرة أوىل ،مل
يكـــن مرجعاً مـــرة ثانية؛ فاســـع أن تكـــون كامالً
يف مهنتـــك وصنعتـــك ،كابـــن مقلـــة و ياقـــوت
املســـتعصمي ،و املريعامد الحســـني ،و النرييزي و
ســـائر املهـــرة يف الخط ،و كالفردويس و الشـــنايئ و
النظامـــي و املـــا الرومي و الســـعدي و الحافظ و
نظائرهم يف الشـــعر ،الســـيام الرباعيات املحرقة من
«بابـــا طاهر عريـــان» ،التي هي كاللهـــب للنار و
كاملـــاء الصايف ،وكيف أصبحت عاملية شـــهرة وصيتاً،
حتى صـــارت بعض أبياته رضب األمثال عىل ســـائر
األلســـنة .فيا عزيزي! كن طالبـــاً للكامل و تحصيله
يف أيـــام الشـــباب و الحداثة ،حتى تكون ســـعيدا ً؛
ألن اإلنســـان مـــا مل يكـــن كامـــاً يف قـــويت عقله
النظـــري و العميل مل يقـــع مطلوبـــاً ،و التكن من
البطالـــن الفجرة املتســـكعني الذيـــن اليرون وجه
6
الســـعادة ،يعيشـــون مع التخيـــات و الخزعبالت
اليومية ،و يتلبســـون بألبســـة متلونـــة كالطاووس،
ثـــم ســـيفهمون أنه مابقـــي لهم من تلـــك األمور
يشء ،و مـــا حصـــل لهـــم كـــال ،فالجـــرم أنهم
ســـيقعون يف ورطـــة الهالكة و الفقـــر و التكدي و
الرسقة و التعاســـة و الشـــقاوة و اإليذاء و اإلرهاب
و ســـائر األمور املخلة باملجتمـــع .فالتكن مصاحباً
و معارشا ً لهم؛ ألن املجالســـة تؤدي إىل املشـــابهة و
التكن من الغافلني املبعديـــن؛ و اعلم أن النطفة و
املـــريب و املجتمـــع و املعارش من األصـــول التي لها
دخل عجيب يف ســـعادة اإلنسان و شـــقاوته ،يقال
بالفارسية:
جوانــــا سـر مـتـاب از پنــــد پیران که پنـد پـیـر از
بخت جــــوان به
7
يعنـــي :يـــا أيهـــا الشـــاب! التتمرد عـــى نصيحة
الشـــيوخ؛ ألن نصيحتهم أفضل من حظ الشـــباب.
و أيضاً اعلـــم أن كل من كان كامـــاً؛ فهو محبوب
لغـــره ،و البائـــس العجـــوز مل يكـــن إال منفـــورا ً
مطرودا ً ،و لكـــن الكامل الحاصـــل للكامل ،اليصري
مندرســـاً و مندثرا ً ،بـــل موجباً للنشـــاط و النضارة
له و لغريه مـــن أفراد املجتمع اإلنســـاين ،و الكامل
هو املرسور و املبســـوط و أيضاً هـــو املفرح للغري،
مثالً هذا إديســـون هو املخـــرع للكهرباء لو عاش
مع البائســـن الجاهلـــن لدهره ،و اشـــتغل بالرتفه
و البطنـــة و البطالـــة و الهذيـــان ،مل يقتـــدر عىل
اكتشـــاف الكهربـــاء ،حتى ينور العـــامل بنور تعقله
و علمـــه؛ فالبد لألصدقـــاء أن يبتعـــدوا عن ديدن
الجاهلني يف عرصهم و اعلمـــوا أن أكرث أكابر عرصنا
8
ســـنا ،ما بلغوا إىل حد البلـــوغ و نصابه و مل يكونوا
يفهمـــون و يعقلـــون؛ فعليكـــم أن التصاحبوهم و
الذين ضيعـــوا العلـــوم و املعـــارف ،و عجزوا عن
الســـلوك يف طريق الكـــاالت العاليـــة اإللهية ،و
أصبحـــوا علامء العـــوام و هم عـــوام العلامء.
واعلـــم أن هـــذا العامل الحـــارض عـــامل تدريجي،
ويحصل الكامل تدريجاً؛ فالتســـتعجل ،و لكل أجل
مســـمى ،و هذا الوجود التدريجي نسميه بالحركة
االســـتكاملية خاصة؛ فالكل متحرك اســـتكامالً؛ وكل
متحـــرك إىل كامل ،البـــد أن يكون فاقـــدا ً له ،حتى
يتحـــرك ،فيصل إليه و إال فتحصيـــل الحاصل محال
بديهـــي ،و واضح أيضـــاً أن فاقد الكـــال مل يكن
واجـــدا ً لـــه و مل يذهب إليه من نفســـه؛ فالبد من
مخـــرج يخرجه إىل ذلك الكـــال؛ نعم ،ذلك املخرج
9
من يكون؟ و كيـــف يخرج الفاقـــد إىل الوجدان و
يوصلـــه؟ فالبد أن نرجع إىل أنفســـنا و نغوص فيها؛
ألنا من أعجـــب العجاب يف هذا العـــامل الوجودي،
و نحـــن األقرب و األحق يف معرفتنـــا من غرينا؛ ألن
غرينا كله خـــارج عنا بالنظـــر األويل و الظاهري ،و
الطريـــق األفضـــل و األقرب أن نطرح أســـئلة حول
أنفسنا و نســـتنبط من أنفســـنا أجوبة فيها؛ فاعلم
أن موالنـــا األجل العالمة حســـن زاده األميل روحي
فداه ســـلك هذه الطريقة الهادئـــة و املريحة من
األســـئلة و األجوبـــة خطاباً للتالميـــذ الحارضين يف
«دروس معرفـــة النفس» و قال:
«لو ســـألك شـــخص يف طريـــق مجيئـــك إىل هذا
الـــدرس :إىل أيـــن تذهب؟
تقول يف جوابه :أريد أن أذهب إىل مســـجد «ســـبزه
10
میدان».
س ـ ما الخرب هناك؟
ج :أقيـــم هناك مجلس الـــدرس و التحاور و نحقق
يف أمـــور و نحللها و نفحصها.
س ـ ما هـــي النتيجة من ذلك التحـــاور و التجزئة
و التحليل؟
ج ـ كل يـــوم نســـمع مطالب أو عـــى األقل مطلباً
واحدا ً و نصـــل إىل ضياء العلـــم و املعرفة و نخرج
من ظلمـــة الجهل ،و بالتايل نســـتيضء كل يوم أكرث
فأكـــر ،و نصل مـــن القوة إىل الفعـــل و نرتقي من
نقص الجهل إىل كـــال العلم.
س ـ قلت :نستيضء بالتعلم إذن ما هو التعلم؟
ج ـ الفهم نفس التعلم.
11
س ـ كيـــف تتنور بنـــور العلم؟ هـــل العلم نور و
رساج حتـــى ينوركم؟ مضافاً إىل ذلـــك أي نوع من
النـــور و الـــراج هو؟ مـــن أي خشـــب و نفط و
فتيلة يشـــتعل و ينور هذا املصبـــاح؟ و أي نقطة
مـــن ذاتكم كانـــت مظلمـــة و تنـــورت؟ و كيف
تتنو ر ؟
ج ـ رغـــم أننـــي اآلن عاجـــز عـــن أن أبـــن لكم
خصوصيـــات هـــذا النـــور ،و ال أســـتطيع التبيني؛
ولكن ملـــا أرجع إىل نفـــي ،أجد أننـــي أتنور من
التعلـــم ،و لعل يف الحلقـــات اآلتيـــة تطرح هذه
األســـئلة و تجاب بـــأن العلم أي قســـم من النور و
الضياء ،ثم أســـتطيع اإلجابة عن أســـئلتكم تفصيالً
و برهاناً.
س ـ باألخرية مـــاذا تطلب من هـــذا التنور و عىل
12
ماذا تحصلون؟
ج ـ نريـــد أن نفهم «من نحـــن ،و إىل أين نذهب،
و نهايـــة أمرنا مـــاذا يكون؟ و مـــاذا نطلب ،و ماذا
يجـــب أن نطلب؟ و ماذا يطلب كل هذه األشـــياء؟
س ـ أ التعلم هذه األمور؟
ج ـ لـــو علمت ،ملـــا احتجت إىل الحضـــور يف هذه
الحلقة الدراســـية؛ أل ّن تحصيـــل الحاصل محال.
س ـ مـــن الذي يخرجكـــم من الجهـــل و الظلمة
إىل العلـــم و النـــور ،و عىل قولكم :مـــن القوة إىل
الفعـــل و من النقـــص إىل الكامل؟
ج -فالن.
س ـ و هل هو يعرف هذه األمور؟
ج ـ لـــو مل يعلم ،فكيف يعلمنا و يدرســـنا؟ و فاقد
13
اليشء اليكـــون معطيه.
س ـ أنه كيف يســـحبكم من الجهـــل إىل العلم و
من الظلمـــة إىل النور و يبلغ بكـــم من النقص إىل
الكامل؟
ج ـ هـــو يتكلم و نحن نســـتمع إليـــه و قليالً قليالً
نتعلم .
س ـ ذلـــك الفالين الـــذي يعلمكم هـــل هو واجد
لذلـــك العلم ،أو هـــو أيضاً تعلـــم من غريه؟
ج ـ هـــو نفســـه أظهر أنـــه تعلم مـــن األغيار ،و
األغيـــار أيضا مـــن األغيار.
س ـ و هو كيف تعلم؟
ج ـ هو أيضاً تعلم مثل ما نتعلم منه.
س ـ أ مـــا قلـــت :تعلم العلم تخزينـــه و ادخاره،
14
و العلم نـــور ،و حصلت هذا العلـــم من تكلمه و
استامعك إليه؟
ج ـ نعـــم؛ قلت ذلك ،إذ أنه لـــو مل يتحدث و نحن
مل نســـتمع ،مل نكـــن عاملني ،هل ميكـــن لألخرس أن
يعلم أو هل يســـتطيع األصـــم أن يتعلم؟
س ـ حينام تغوص و تســـتغرق بالفكـــر و تريد أن
تحل عقـــدة مســـألة رياضية صعبة مثـــاً ،أو أي
ســـؤال صعب آخر ،هـــل كنت تعرف مـــن بداية
األمر حـــل تلـــك املســـألة الصعبـــة؟ أو بعد أن
فكرت و تعمقـــت فيها ،اطلعت عليهـــا و تنورت
بهـــا ،و بلغت من القـــوة إىل الفعـــل؛ أليس هذا
الوجـــدان و الحل علـــاً و أليس العلـــم نوراً؟
ج ـ نعم؛ األمر كذلك.
15
س ـ و يف هـــذه الصـــورة التي حصلـــت عىل علم
من خـــال فكـــرك و نفســـك هل يوجـــد هناك
تحا ور ؟
ج -ال.
س ـ إذن هـــل ميكن الحصول عـــى العلم من دون
أن يكـــون هنـــاك ســـاع و تحاور بينكـــم ،أليس
كذ لك ؟
ج ـ بناء عىل هـــذا املثال الـــذي رضبتم و الفحص
الذي قدمتم ،البـــد أن يكون كذلك.
س ـ و اآلن تفضـــل و قـــل لنا حينـــا وصلتم إىل
حل تلك املســـألة الصعبة و فزتـــم بحلها مع أنكم
كنتم ســـاكتني و غائصـــن يف التفكـــر و ليس لكم
محـــادث أ ما خرجتـــم من النقـــص إىل الكامل ،و
16
مـــن الظلمة إىل النـــور و من القـــوة إىل الفعل؟
ج ـ بـــى قد خرجـــت من النقـــص إىل الكامل ،كام
بينتم .
س ـ و اآلن تفضـــل و قـــل لنا عىل هذا األســـاس:
من الـــذي أخرجكم مـــن القـــوة إىل الفعل ،و أي
متكلـــم و معط أوصلكـــم إىل الكامل؟
ج ـ أنـــا وجدتُه مـــن خالل تفكـــري ،و ليس غريي
يف البني.
س ـ أنـــت قلت :إن اإلنســـان اليســـعى إىل يشء
ميلكـــه ،و تحصيل الحاصل محـــال؛ فكيف وجدت
حل تلـــك املســـألة العويصة من نفســـك و أنت
فا قد ها ؟
ج ـ أنـــا فكـــرت و بالفكـــر و التعمـــق وصلت إىل
17
حلها .
س ـ وصلنـــا إىل أن الفكـــر حركـــة ،و حصلت من
هذه الحركـــة نتيجة حلت تلك املســـألة العويصة؛
و اآلن قل :مـــن الذي أخرج الفكر مـــن القوة إىل
الفعـــل و من النقص إىل الكـــال ،من هو املخرج؟
و أنـــت قلت :اليوجد شـــخص آخر حـــن تفكرك
ســـوى ذاتـــك ،و أنـــت أيضـــاً ،كنت فاقـــداً تلك
النتيجـــة ،و أنتم قلتـــم :إن فاقد الـــيء اليكون
معطيـــه ،و اآلن تفضل و قل لنا :مـــن هو الواجد
لتلـــك النتيجة العلميـــة و من هو الـــذي أعطاها
إليـــك ،و كيف خرجتم مـــن النقـــص و الجهل و
وصلتـــم إىل الكامل؟
ج ـ أنـــا أقـــر أين ال أســـتطيع أن أجيـــب عىل هذا
الســـؤال ،فالبـــد أن نذهب إىل الدرس و نســـتفيد
18
من األســـتاذ.
س ـ مضافاً إىل األســـئلة الســـابقة ،يل أسئلة أخرى؛
تجيـــب عنها رجـــاء ،أنـــت قلت :نحن نســـتمع
إىل األســـتاذ و تخـــرج من القـــوة إىل الفعل؛ فقل:
كيـــف وصـــل العلـــم و نـــوره من خـــال تكلم
األســـتاذ إىل ذاتكم؟ فدقق يف ســـؤايل :إنا نعلم أن
الصـــوت يتحقق من متـــوج الهواء ،و هـــذا املوج
عىل أســـاس هيئاته التي يقبلها مـــن خالل عبوره
مـــن املحابس و املخارج يوجد الحـــروف؛ فالحرف
هيـــأة تعرض عـــى الصـــوت .و بعبـــارة أوضح؛
يحدث الصـــوت و الحـــرف من حركة اللســـان و
مصادمته مبخارج الحروف و متـــوج الهواء ،و يصل
ذلك التمـــوج للهـــواء و تردداتـــه املختلفة (التي
يحدث الحـــرف منها) إىل جهاز الســـمع و منه إىل
19
الغشـــاء الطبيل؛ يعني :طبلة األذن و هي ســـامعة
الصوت و الحرف ،و إن هـــذا و إن كان أمراً عجاباً؛
و لكن ســـؤايل هـــو أن الحرف يتشـــكل من الهواء
و متوجـــه و الهيئـــة العارضة عليـــه ،فكيف ميكن
أن ينقـــل نـــور العلم إىل الســـامع و يحل به؟ هذا
الهواء هو نفـــس اليشء الذي نعيش و نســـتغرق
فيه ،كالحـــوت يف املـــاء ،و فكيف لـــه أن يوصل
العلـــم إىل الســـامع برصافة متوجـــه و تردده؟ هل
الهـــواء الخـــارج من فـــم العامل بـــردده و متوجه
هـــو الحامل لنـــور العلـــم؟ و هو يوصـــل العلم
مـــن طريق جهاز الســـمع إىل الســـامع؟ أو خروج
الهـــواء من الفـــم ليس رشطاً يف إيصـــال العلم ،إذ
األصوات املســـجلة يف آالت التســـجيل ،كجرامافون
و أمثالهـــا أيضـــا ،يفهم منهـــا املفاهيـــم ،مثل ما
يفهـــم املفاهيم مـــن األصوات الخارجـــة من فم
20
املتكلم اإلنســـاين؟ مـــاذا تجيب عنها؟
ج ـ البد أن نتأمل يف الســـؤال كثريا ً ،و كأن املســـألة
أصبحت أحجية ،اليســـهل حلها.
س ـ أ اليطـــرح مثل هذا الســـؤال يف قراءة الكتب
و الرســـائل؟ أليس املكتوب إال الحـــر الذي تبدل
بهيئـــات و صـــور و أشـــكال مختلفة عـــى لوح
القرطـــاس و أنـــه أمثالـــه؟ كيف نصبـــح علامء و
نصـــل إىل املعـــارف بقـــراءة كتـــاب ،و يف حني ما
انتقـــل من الكتـــاب يشء إلينـــا؟ و يف الكالم عىل
األقـــل يوجد متوج الهـــواء بينـــا يف املكتوبات و
قراءتهـــا حتى هـــذا اليوجد .نعم؛ العني تشـــاهد
نقوشـــاً عىل لوح القرطاس؛ فكيف يصري الشـــخص
القارئ للكتـــاب عاملاً؟ معطي العلـــم؟ هل املعلم
هو األســـتاذ أو الكتاب؟ أو املعلم ال هو الكتاب و
21
ال األســـتاذ؟ فالسؤال يســـنح يف كليهام من الكتاب
و األســـتاذ أو أنهام اليكونان معلمـــن حقيقة ،بل
يكونـــان معديـــن ،و املعلم هو شـــخص آخر؟ و
إن كان كذلـــك فذلـــك املعلم من هـــو؟ مضافاً إىل
ذلـــك كيف يعلـــم و نحن كيف نتعلـــم منه؟ ماذا
تجيب عن هذه األســـئلة؟
ج ـ اآلن وقعت يف ورطة الحرية ،و أرى أن أســـئلتكم
واردة عيل و هذه األســـئلة ،أســـئلة قومية وقيمة ،و
أجوبتهـــا صعبة جدا؛ فلذا أطلـــب منكم الفرصة و
املهلة لإلجابة عليها.
س ـ أشـــكركم لدقتكـــم بالنســـبة إىل أســـئلتي و
إلجابتكـــم عليها بالدقـــة و اإلنصـــاف .نعم؛ أنتم
قلتم ســـابقاً :إنا نشـــارك يف حلقة التحـــاور تلك و
كل يـــوم نصل من الظلمة إىل النـــور ،تفضل و قل
22
لنـــا :ما تلك الظلمـــة و من الـــذي كان مظلامً ثم
تنـــور؟ و يوماً؛ فيومـــاً يصري أنور؟
ج ـ تلـــك الظلمة كانت أنـــا ورصت نـــورا ً و يوماً
فيومـــاً أيضا أتنـــور أكرث.
س ـ أشـــكركم عىل الجواب؛ فتفضل أنبئني بـ«أنا»
كنـــت ظلمة؛ فرصت
ُ منكـــم ،حيث قلت« :أنـــا»
«أنـــا» عاملاً و متنوراً باالســـتامع إىل األســـتاذ ،من
ذلك الـ«أنـــا» و وضحه إيضاحاً أكـــر ،حتى أصبح
أعرفه؟
ج ـ ذلـــك الـ«أنا» أنـــا الذي مبحرضكـــم و أنا أنا ،و
أنـــا الذي أنتم تشـــاهدونه ،و أنا الـــذي هو جالس
يف مقابلكـــم ،و ليس أمرا ً مســـتورا ً ،حتـــى أبني و
أفـــر لكم و ذلـــك الـ«أنـــا» ،عني الـ«أنـــا» الذي
بخدمتكـــم و ال يحتـــاج إىل البيان؛ فلـــاذا تطلب
23
مني اإليضاح؟ فســـؤالكم هذا يف االســـتيضاح ركيك
جد ا .
س ـ لو ســـمحتم يل أن أســـألكم حول هذه املسألة
و نشكركم جزيالً؟
ج ـ أرجوك تفضل و سل ما شئت.
س ـ هـــل اللباس و األحذيـــة و القلنســـوة أيضاً
أجـــزاء لهذه الـ«أنـــا» منكم و التـــي هي مقابيل؟
ج ـ ال؛ هي كانت ألبستي و خارجة عني.
س ـ هل شـــعر رأســـك و لحيتك من أجـــزاء «أنا»
منكم ،حتـــى تقول «أنـــا» مني عني «أنـــا» الذي
مبحرض كم؟.
ج ـ ال؛ إن شـــعر بـــدين و رأيس و لحيتي و إن كانت
أقرب مني من ألبســـتي و القلنســـوة و األحذية ،و
24
لكـــن ،التكون أجزاء لـ«أنا» .إذ لو أين حلقت شـــعر
بـــدين و رأيس و لحيتي فإن «أنا» منـــي يبقى و أنا
أنا .
س ـ هل لونكم جزء من «أنا» منكم؟
ج -عـــى الرغـــم من أن لون بـــريت أقرب إيل من
شـــعري و ألبســـتي ،ولكـــن اللون أيضـــاً غريي ،إذ
لعـــي أكـــون أياماً يف عمـــل و يتغري لوين بشـــعاع
الشـــمس و الريح ،أو لعله يصيبنـــي مرض يرقان و
يصري لون بـــريت أصفـــر ،و أنا أنا.
س ـ أشـــكركم عـــى إجابتكم أســـئلتي باملنطق و
االســـتدالل ،اآلن تفضـــل و قل :هـــل األصابع من
يديـــك و رجليك تكـــون أجزاء لـ «أنـــا» منكم؟
ج ـ نعم؛ هذه األعضاء ليســـت كالشـــعر و األلبسة
25
و األلوان ،حتى تكـــون خارجة عني.
س ـ و هـــل الـــذي قطعـــت منه إصبع ،اليســـند
آثـــاره و أفعاله إىل نفســـه ،و اليقـــول :أنا رأيت،
أخذت،
ُ جئت ،أنـــا
أنا ســـمعت ،أنا مشـــيت ،أنا ُ
فكـــرت ،وســـائر األفعال؟
ُ أنـــا أعطيت ،أنا
ج ـ نعم؛ يسندها إىل ذاته.
س ـ فمـــع قطـــع إصبـــع واحدة ،هـــل يحدث يف
«أنـــا» لذلك الشـــخص خلـــل أو نقصـــان ،بحيث
عندما يقـــول« :أنا» يخـــر عن «أنـــا» الذي قطع
جـــزء منه أو ال ،بـــل يف أفعاله و أقوالـــه و أحواله
يقـــول« :أنا،أنـــا» و يغفـــل عن قطـــع إصبعه و
اليخطر ببالـــه قطع تلـــك اإلصبع؟
ج ـ نعم؛ هكذا يكون ،كام قلتم.
26
س ـ إذن فتلـــك اإلصبع مـــا كانت جـــزءاً لـ«أنا»
لذلك الشـــخص؟
ج ـ نعم ،هكذا ،كام قلتم.
س ـ اآلن تفضـــل و أجـــب عن هذا الســـؤال :لو
قطعـــت أصابـــع يـــده الواحـــدة ،أو قطعت يده
الواحـــدة إىل معصمهـــا ،أو إىل كتفهـــا ،أو قطعت
يـــداه و رجـــاه ،أو يكـــون مفلوجـــاً ،ففي هذه
الصور أ اليقـــول« :أنـــا» و أ اليســـند أفعالها إىل
«أنا»؟
ج ـ نعم؛ يقول :أنا أنا ،و يســـند أفعاله إىل نفســـه،
و إن كان مفلوجاً.
س ـ هـــل ميكن طرح هذه األســـئلة حـــول أذنه و
عينه و أنفه و أســـنانه و أعضائـــه و جوارحه ،بأنها
27
هل هي أيضـــاً جزء مـــن «أنا» لذلك الشـــخص؟
يعنـــي :رمبا قد أصابت أعضـــاءه و جوارحه ،الفلج
أو رمبا يكـــون معيوباً من ناحيـــة أعضائه الباطنة،
كالكبـــد ،و املعـــدة و الكليـــة ،أو رمبـــا يف مثـــل
هذه الســـنوات األخـــرة تكون أعضـــاءه مطعمة
(موهوبـــة) له ومـــع ذلك كلـــه هل أنه يســـند
أفعالـــه و أحواله إىل نفســـه و «أنا» منه؟
ج ـ «أنـــا» منـــه باق عـــى حقيقتـــه و إن كانت
األعضاء الباطنة معيوبـــة أو انتقلت إليه بالتطعيم؛
فالقلـــب و الكليـــة و الكبد و أيضا ســـائر األعضاء
التكـــون جزءا ً مـــن «أنا» له.
س ـ هل ســـنح لك الفكـــر العميـــق و الثقيل يف
أيـــام حياتك ؟
ج ـ نعـــم؛ كثـــرا ً حـــدث يل الفكـــر العميق حول
28
مســـألة رياضيـــة و غريهـــا ،و عجزت عـــن حلها.
س ـ يف ذلـــك الوقـــت الذي غصـــت يف الفكر لحل
مســـألة رياضية مثـــاً؛ هل توجهـــت إىل أعضائك،
بل التوجه إليهـــا كان عائقاً للتفكـــر و التوغل؟
ج -نعم؛ التوجه إىل األعضاء و حتى نفس اســـتامع
األصـــوات ،و اإلبصـــار ،و اللمس و االستشـــام و
الـــذوق ،كلها عائقـــة للتفكـــر ،بـــل املتفكر يفر
من هـــذه األمور و يلجـــأ إىل زاويـــة ،و رمبا يغض
برصه و يســـد ســـمعه و أذنـــه ،و يـــرف خياله
عـــن الذهاب إىل هـــذا و ذاك ،حتـــى يتخلص من
االشـــتغاالت املزاحمة ،لينتهي إىل الهدف يف الفكر؛
بـــل التوجه يف وقت الفكـــر إىل أعضائـــه الباطنة،
و االشـــتغال بترشيح عضو من األعضـــاء الظاهرية
حـــل ذلك املطلب
و الباطنيـــة ،مانـــع للوصول إىل ّ
29
الصعـــب و الثقيل ،عـــى أي حال التعلـــق يزاحم
التعقل العميـــق ،و يغفل الشـــخص يف حال الفكر
العميق عن ملكـــه و أمواله و ألبســـته و حذائه و
أعضائه مطلقاً ،و حتى عن رأســـه و شـــعره و مخه
و قلبـــه و کبده و الغـــذاء املوجود يف بدنه و دمه و
قـــواه و جوانحه ،بـــل هو غائر فقـــط يف حل تلك
املســـألة الصعبـــة الرياضية أو العلميـــة ،ذلك كله
أنه يف ذلك الحـــال يتفكر يف حل املشـــكل و يصل
إىل النتيجـــة و يقول :أنا وجـــدت جوابها و وصلت
إ ليه .
س ـ هل ذلـــك الـ«أنا» يف تلك الحالـــة موجود أم
معدوم ،و بعبارة أســـهل؛ هل ذلـــك الـ«أنا» الذي
يكون غـــر البدن ،هو موجـــود أو ليس مبوجود يف
تلك الحالـــة الفكرية العميقة لحل املشـــكل؟
30
ج ـ نعـــم؛ واضح أنه موجود قهـــرا ً و ليس مبعدوم،
و املعدوم كيف يفكر و يجـــد و يصل إيل النتيجة!!
و املعـــدوم اليطلع عـــى ذاته ،و ليســـت له ذات،
حتى تكون منشـــأ لآلثار!
س ـ أحســـنتم ،انتهينا إىل هـــذه النتيجة و هي أن
«أنـــا» من كل شـــخص ،غري األعضـــاء و الجوارح و
الجوانـــح و ترشيحهـــا ،و الشـــخص يف حالة تفكره
لحل مســـألة صعبة يغفـــل عنها كلهـــا و الخالصة
يغفـــل عن البدن ،و مـــع ذلك «أنـــا» منه موجود
و بعـــد تفكره يخـــر عـــن فكرتـــه و وصوله إىل
النتيجة؛ فهذا اليشء ـ أي« :أنـــا» بالعربية و «من»
بالفارســـية ،و النفـــس ،و النفس الناطقـــة و أمثال
هـــذه التعابـــر هو موجـــود و هو غـــر البدن ،و
هـــو اليكون مبـــرا ً بالعني الظاهـــرة و ال الباطنة،
31
وال يـــرى بالعني املســـلحة من الكامريا و عدســـات
التكبـــر و ســـائر املجاهر ،و ال يقع مســـموعاً و ال
مشـــموماً و الملموســـاً ،ال ظاهرا ً و الباطناً .و هذا
مطلـــب عظيم ،و هـــو أن «أنا» غـــر البدن و هو
املوجود قطعـــاً ويقيناً» .
فأنتـــم أيهـــا األصدقاء األعـــزاء! تعمقـــوا يف هذا
البحـــث و الفحص ،و التأخذوه عبثـــاً و بزارياً (أي:
ســـطحياً)؛ إذ وصلنا اآلن إىل موجـــود و هو حقيقة
كل فرد من اإلنســـان ،و انتهينا إىل هـــذه النتيجة،
بأن ذلـــك الجوهـــر الذي كنا نشـــر إليـــه بلفظ
«أنـــا» أو «من» ،هـــو موجود غري البـــدن ،و تيقنا
بأنـــه ال يرى بعـــن الرأس ،و ال يلمـــس ،و مع ذلك
نعرتف بوجـــوده و حقيقته.
أمـــا أنه أي موجـــود هو و كيف يكـــون غري البدن
32
و مـــع ذلك يكون مـــع البدن؟ و كيف نســـبته إىل
البـــدن و تعلقه به؟ و كيف و بـــأي نحو يخرج من
النقـــص و يصـــل إىل الكامل ،و الكثري من األســـئلة
األخـــرى حولـــه؛ فالبد لنـــا من االســـتمرار يف هذا
الســـفر العلمي و التحقيق األنيـــق ،حتى نصل إىل
األجوبة املقنعـــة و املوقنة.
فخالصـــة الدليل املذكور هي أن اإلنســـان املتعمق
و املمعـــن يف الفكـــر يغفـــل عن بدنـــه ومع ذلك
شـــاعر بذاته و حقيقتـــه؛ فذاته التي يشـــر إليها
بـ«أنـــا» ،غري بدنه(((.
((( مفاتيح الغيب ،الشــيخ داوود صمدي آميل ،الباب الثاين من املفتح الســابع ،ص 441-429
33