Professional Documents
Culture Documents
الدعوة
الدعوة
الدعوة
الدعــوة []6
( )2الهدف العام :
-1تعليم المسلم وتدريبه على الحوار الموضوعي مع إخوانه ،ومع اآلخرين .
-2صياغة المسلم الداعية المؤهل والقادر على الحركة الذاتية بدعوته في كل
مجال وتحت أية ظروف أو مستجدات ومع أية فئة من الناس ،وترسيخ
قدرته على مواجهة التحديات .
-3زيادة فرص التعامل بين األفراد على اختالف مواطنهم ،وتبادل الخبرات
بينهم ،وإ طالع بعضهم على تجارب بعض .
-4تدريب األفراد على فن االتصال بالجماهير وتوجيهها ،والتأثير فيها .
-5االستثمار األمثل للتجارب والطاقات المعطلة لدى قدامى العاملين في
الحقل اإلسالمي عموماً والحقل الدعوي خصوصاً .
-6تأصيل اإليمان بوجوب العمل الجماعي خاصة في هذا العصر إلقامة دين
اهلل في األرض ،ورد األمة به إلى منهج اإلسالم من أجل استعادة موقعها
الطبيعي بين البشر .
-7تربية األفراد على االلتزام بالسمع والطاعة في المنشط والمكره ،في
حدود الضوابط الشرعية .
( )5المحتوى
كتاب :قواعد الدعوة إلى اهلل [ د .همام سعيد ] ( .كتاب مطبوع )
بسم اهلل الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة األولى
إن الحمد هلل تعالى ،نحمده ونستعينه ونستغفره ،ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا وس يئات أعمالنا من
يهده اله فال ُمضل له ،ومن ُيضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -4-
والص الة والس الم على محمد عبداهلل ورس وله ،وعلى آله وص حبه والت ابعين لهم بإحس ان ،وأش هد
أنه بلغ الرسالة ،وأدى األمانة ،ونصح األمة ،وجاهد في اهلل حق الجهاد حتى أتاه اليقين من ربه،
وبعد:
فإن الدعوة إلى اهلل تعالى أشرف األعمال وأرفع العبادات ،وهي أخص خصائص الرسل الكرام
،وأبرز مهام األولياء واألصفياء من عباده الصالحين.
وال يص بح الم رء داعية إلى فك رة من األفك ار إال بعد تحقق انتس ابه إليها وتفاعله مع قض اياها .
وصاحب الدعوة يعيش بها وتعيش به وتُحسب عليه كما ُيحسب عليها .
ولقد ش اء اهلل تع الى أن تشق دع وة اإلس الم طريقها في الت اريخ الح ديث في جميع بالد الع الم،
وأصبح لها في كل قطر لسان ينطق بها ويعبر عنها.
ودخلت الدعوة إلى قطاعات المجتمع المختلفة ،ولم تعد الدعوة حكراً على الموظفين الرسميين أو
على من يطلق عليهم" ارب اب الش عائر الدينية " بل ش ارك فيها الرج ال والنس اء والص غار والكب ار
والمشتغلون بالتخصصات العلمية واإلنسانية .وهذا المد الذي نجده في جامعات العالم اإلسالمي
أصبح بناء عضوياً أصيالً في بنية هذه الجامعات ،بل وفي الجامعات الغربية كذلك.
وه ذا التق دم ال ذي أحرزته دع وة اإلس الم لم َيخ ُل من مص اعب وعقب ات داخلية وخارجية ،أذكر
منها :
قلة الم ربين والم وجهين األكف اء بالنس بة إلى حجم اإلقب ال الكب ير .ولعل ه ذه الظ اهرة من أخطر
األم ور ال تي تح اج إلى عالج؛ ألن قطاع ات كب يرة من الن اس تعيش خ ارج المحاضن المالئمة ،
مما ينعكس على تكوينها وبنائها ،وكث يراً ما ين دب بعض غ ير الم ؤهلين أنفس هم ل دور التربية
والتكوين وإ عطاء اآلراء في أخطر المسائل وأعوصها لخلو الميدان من المؤهلين لذلك .
النقص في البرامج التي تُعد الداعية والموجه إعداداً وفق مستويات مختلفة لتالئم حاجات متنوعة
.ويبدو أن النقص أظهر ما يكون في مجال التأصل والتقعيد .وأصبح من األمور الملحة أن تُتلقى
ال دعوة على ش كل تص ور متكامل من البداية إلى النهاية ،مع اس تيعاب كلياتا ومعرفة األولوي ات
فيها.
تأخر سن العطاء :إذ أن الزمن الذي ينفق قبل أن يصل الفرد إلى مرحلة التأثير هو زمن طويل.
ومنشأ ذلك انتش ار المع ارف والمعلوم ات واتس اع الق راءات والتج ارب .ولعل التأص يل هو أحد
العوامل المس اعدة على اإلس راع في الوص ول إلى مرحلة العط اء واإلنج از وبمعرفة القواعد
الض ابطة نس تغني عن كث ير من الف روع ،ونس تطيع المواءمة بين اتس اع حق ول ال دعوة وقصر
الزمن الماحدد للتكوين.
الجهود المعادية لط ال دعوة .وهي جهود متنوعة ذات إمكاني ات كبيرة ،ولها خ برات واس عة في
الصد عن س بيل اهلل .ورغم الخالف ات الح ادة بين الش يوعية والرأس مالية وبين الوجودية والقومية
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -5-
وغيرها من األه واء والف رق الض الة إال أن اجلميع يلتق ون على ح رب اإلس الم ودعوت ه .وه ذه
الجهود تلقي عبئاً كبيراً على دعاة اإلسالم الذين عليهم أن يدركوا مخططات أعدائهم وأن يصونوا
الناس من شرور هؤالء األعداء بأسلوب الوقاية والعالج .
وإ ن مغري ات الحي اة ومش اغلها وتعقي داتها عقبة في طريق ال دعوة وال دعاة .والبد أن يفهم ال دعاة
حركة الحي اة واألحي اء ،وأن ُيلم وا ب النفس البش رية وط رق الت أثير فيها ،ووس ائل تزكيته ا .ولعل
من المظ اهر الملفتة للنظر تق دم ال دعوة في ص فوف األغني اء وأولئك ال ذين عاش وا في غم ار
الحض ارة الغربية وتعرض وا لمغري ات الجاهلية الحديث ة .وه ذه الظ واهر تس اعد على تك وين
مناعات ودفاعات أمام المغريات.
ويجد الداعية نفسه أما تي ارات فكرية .تتح رك وتتقلب بس رعة هائلة ،وتصل إلى اإلنس ان أينما
ك ان ،وإ ن كالداعية مط الب ب الوقوف في وجه ه ذه التي ارات الفكري ة ،وأن يك ون وقوفه أمامها
قائماً على العلم والموضوعية.
ه ذه األعب اء وغيرها تُلح علينا أن ننقل ال دعوة من مي دان المش اعر واالنفع االت والخطب
والمقاالت إلى ميدان التخطيط والتنظيم والبرمجة والتأهيل والتقعيد .
وليس غريب اً أن ت برز ه ذه الحاج ات في ه ذه اآلون ة؛ ألن ال دعوة اتس عت وتش عبت وك ثرت
ممارس تها وتجاربها وأس اليبها .وه ذا االتس اع والتش عب ال ُيض بط إال بالكشف عن األص ول
والقواعد.
وليس أمر الدعوة بدعاً من أمور العلوم اإلسالمية األخرى .فقد تناول المسلمون حديث رسول اهلل
بالرواية والدراية حتى وجدوا أنفسهم بحاجة إلى علم أصول الحديث ومصطلحه ،وكذلك الحال
في النحو والص رف والعقي دة والتفس ير والت اريخ والفق ه ،ف إن أص ول العل وم وقواع دها ج اءت في
مرحلة متأخرة عنها .
وفي الوقت الذي اتجهت فيه العلوم إلى التأصيل والتقعيد كان علم الدعوة أقواالً مأثورة وشذرات
منث ورة ،ولم يكن علم اً ب المعنى االص طالحي للعلم ،ألن مبعث العلم الحاجة إلي ه ،ولم يكن
المجتمع اإلس المي مهج وراً أو غريب اً ،وإ نما ك ان قائم اً ف اعالً ناش طاً ،وأك ثر أف راده يمارس ون
الدعوة كما يعيشون ويأكلون ويشربون وعندما دالت دولة اإلسالم ونقضت عرى اإليمان ،وجد
أمية العقيدة والفكر والنظم كما ك انت في عهد الجاهلية
المسلم نفسه غريب اً في المجتمع ،ورجعت ّ
األولى ،فأخذ بعض ال دعاة على ع اتقهم إع ادة التأس يس وش رعوا في تهيئة المك ان والس كان
الستئناف الحياة اإلس المية ،ودب األمل بعد اليأس ،وانطلق الدعاة شرقاً وغرب اً عرب اً وعجم اً ،
ودرس العلماء هذه التجارب وكشفوا عن جوانبها اإليجابية والسلبية.
ورغم النت ائج اإليجابية ال تي حققتها ال دعوة إلى اهلل في جميع األقط ار ،إال أنها ـ وكما س بق أن
أشرت ـ بحاجة إلى المزيد من توظيف الطاق ات واإلمكانيات ،وحشد كل الجهود في سبيل البن اء،
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -6-
وال نصل إلى ه ذا التوظيف إال بإع داد األف راد للعط اء على مس تويات متفاوته ،وأن يك ون لكل
وظيفة من وظائف الدعوة إعدادها الخاص وزمنها المناسب ،وال يتحقق هذا إال عن طريق نظام
ترب وي مح دد الخط وات ،يعتمد القواعد واألطر العامة دون الخ وض في الكث ير من ال دقائق
والتفاص يل ،ويق دم للداعية خالصة ُمرك زة في التربية والتك وين والقي ادة والتنظيم والتخطيط
والمتابعة.
والكت اب ال ذي أقدمه إلخ واني محاولة في تقعيد ال دعوة وتأص يلها ،على ش كل ع دد من القواع د،
بعضها في التصورات ،وبعضها في األساليب والوسائل.
وفيه وجهة نظر أقدمها للدراسة والنقد ،وهي بداية وليست نهاية إن شاء اهلل تعالى .
واهلل من وراء القصد .
همام عبد الرحيم سعيد
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -7-
القاعدة األولى
الدعوة إلى اهلل سبيل النجاة في الدنيا واآلخرة
على الداعية أن يعلم أن اهلل تع الى إنما خلق اإلنس ان لعبادته لقوله تع الى :وما خلقت الجن
واإلنس إال ليعب دون )1(والعب ادة ال تك ون إال على بص يرة ،والبص يرة ال تك ون إال وفق منهج اهلل
ال ذي أنزله على رس له وأنبيائه ،فك ان ه ؤالء المرس لون واألنبي اء دع اة يه دون إلى الح ق ،وك ان
هذا هو شغلهم الشاغل تحقيق اً لمراد اهلل الذي جعل آدم خليفة في األرض ،يقضي بقضاء اهلل وينفذ
أمر اهلل ،فق ال تع الى :وإ ذ ق ال ربك للمالئكة إني جاعل في األرض خليفة .)2(فك ان م راد اهلل
تع الى من خلق اإلنس ان أن يك ون مش تغالً ب أمره وهو القائل س بحانه:وما خلقت الجن واإلنس إال
ليعبدون
يق ول ال رازي " :ما العب ادة ال تي خلق الجن واإلنس من أجله ا؟ قلنا :التعظيم ألمر اهلل والش فقة
على خلق اهلل " ( .)3ثم يق ول " :ولما ك ان التعظيم الالئق ب ذي الجالل واإلك رام ال ُيعلم عقالص ،
لزم اتباع الشرائع فيها واألخذ بقول الرسل عليهم السالم ،فقد أنعم اهلل على عباده بإرسال الرسل
()4
وهذا التقسيم لوظائف العبادة تقسيم موجز وشامل. وإ يضاح السبل في نوعي العبادة "
وال دعوة إلى اهلل تع الى هي أبلغ مظهر من مظ اهر تعظيمه ،وال دعوة ي دعو إلى فك رة أو ه دف
ويص رف جه ده في س بيله ،وإ نما يفعل ذلك المتالئه به ذا اله دف أوه ذه الفك رة .ومن دعا إلى
فكرة فإنه يحسب عليها كما تحسب هي عليه كذلك.
وفي ال دعوة إلى اهلل تعالى دليل ش فقة على عباد اهلل ،ألن الداعية يريد إخراج الن اس من أوضاع
التم زق والش تات تحت وط أة األنظمة الوض عية ،إلى س عة ال دين وآفاقه الرحيبة ،ونظمه الكفيلة
بإسعاد البشر .وأن يخرجهم من النار إلى الجنة كذلك.
هذان هدفان كريمان من أهداف العبادة ،وهما هدفان من أهداف الدعوة إلى اهلل أيض اً .والنجاة في
هذين الهدفين .
وقد ال تزم أنبي اء اهلل ورس له الك رام أمر اهلل في ال دعوة إليه والحف اظ على الغاية من خلق اهلل لهم،
وحرص كل رسول كريم على دعوة الخلق إلى هذه النجاة.
قص الق رآن الك ريم علينا معركة األنبي اء مع أق وامهم .مؤك داً دائم اً على نج اة ال دعاة وعلى
ولقد َّ
هالك الظالمين المعرضين :
ففي قصة نوح عليه السالم مع قومه كانت النهاية :فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم
خالئف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين.)5(
وفي قصة ه ود عليه الس الم مع قومه ك انت النهاي ة :ولما ج اء آمرنا نجينا ه وداً وال ذين آمن وا
معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ .)6(
وفي قصة صالح عليه السالم مع قومه كانت النتيجة :فلما جاء آمرنا نجينا صالحاً والذين آمنوا
معه برحمة منا إن ربك هو القوي العزيز .)7(
وفي قصة ل وط عليه الس الم ك انت النتيج ة :ق الوا يا ل وط إنا رسل ربك لن يص لوا إليك فأسر
بأهلك بقطع من الليل وال يلتفت منكم أح ُد إال امرأتك إنه مص يبها ما أص ابهم إن موع دهم الص بح
أليس الص بح بق ريب* فلما ج اء أمرنا جعلنا عاليها س افلها وأمطرنا عليها حج ارة من س جيل
منضود.)8(
وفي قصة ش عيب عليه الس الم مع قوم ه :ولما ج اء أمرنا نجينا ش عيباً وال ذين آمن وا معه برحمة
منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين.)9(
وفي قصة موسى عليه الس الم مع فرع ون وقومه ك انت النتيجة فانتقمنا منهم فأغرقن اهم في اليم
ب أنهم ك ذبوا بآياتنا وك انوا عنها غ افلين* وأورثنا الق وم ال ذين ك انوا يستض عفون مش ارق األرض
ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان
يصنع فرعون وقمه وما كانوا يعرشون.)10(
وفي قصة القرية ال تي ك انت حاض رة البحر ك انت النتيج ة :فلما نس وا ما ُذك روا به أنجينا ال ذين
ينهون عن السُّوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون.)11(
كل ه ذه اآلي ات تؤكد أن النج اة في ال دعوة إلى اهلل .وه ذا وعد اهلل تع الى للمؤم نين :ثم ننجي
رسلنا والذين آمنوا كذلك حقاً علينا ننج المؤمنين.)12(
فتكون نجاة المؤمنين الداعين إلى اهلل "حقاً بسبب الوعد والحكم " (.)13
يق ول س يد قطب رحمه اهلل " :ه ذه س نة اهلل في األرض ،وه ذا وعد ألوليائه فيها ،ف إذا ط ال
الطريق على العص بة المؤمنة م رة فيجب أن تعلم أن ه ذا هو الطري ق ،وأن تس تيقن أن العاقبة
واالس تخالف للمؤم نين ،وأال تس تعجل وعد اهلل ح تى يجيء وهي ماض ية في الطري ق .واهلل ال
يخ دع أولي اءه ،وال يعجز عن نص رهم بقوته وال ُيس لمهم ك ذلك ألعدائ ه .ولكنه يعلمهم وي دربهم
ويزودهم ـ في االبتالء ـ بزاد الطريق(.)14
ال خسارة في الدعوة :
وليس أمر الدعوة كما يظن بعض الناس أنها تعب وخسارة ونصب وألم ،فإنها وإ ن كانت ال تخلو
من المت اعب والمص اعب لكنها لذي ذة الطعم ،عزي زة على القلب ،ول ذلك ف إن أص حابها يض حون
في سبيلها بالغالي والنفيس ،ويستعذبون العذاب ،ويجدون الموت حياة من أجلها .وهم أسعد بها
من الناس بدونها .أما العاقبة فهي الفوز وفي غيرها الفشل وهي الباقية وغيرها الفانية.
دعوة محمد أمان للبشرية .
ويالحظ من س ياق اآلي ات الكريمة ال تي تتح دث عن معركة األنبي اء مع أق وامهم أن المك ذبين من
هؤالء األقوام كانوا ُي ْستأصلون بعذاب اهلل تعالى فال ُيبقى على األرض منهم دياراً ،وال يترك اهلل
منهم باقي ة .وبمجيء محمد ُ رفع ه ذا االستئص ال الع ام بالطوف ان والص اعقة وال ريح ،وذلك
تكريم اً له ذه األمة ال تي ال تخلو من ق ائم هلل بالحجة ،وال من الطائفة الظ اهرة على أمر اهلل ح تى
ي أتي اهلل ب أمره ،وه ذه الطائفة هم ال دعاة .وبهم يكتب اهلل النج اة لألمة من أن تهلك بس نة عام ة.
وعندما تخلو األرض من هذا الصنف الكريم على اهلل ،ف إن الس اعة تقوم ،وقد ج اء هذا المعنى
في أحاديث كثيرة منها :
قال " : ال تقوم الساعة إال على أشرار الناس " (.)15
وقال " : ال تقوم الساعة على أحد يقول :اهلل اهلل " ( .)16وفي رواية حتى ال يقال في األرض :
اهلل اهلل .
وق ال ُ " : يقبض الص الحون االول ف األول ويبقى حثالة كحثالة التمر أو الش عير ال يعبأ اهلل بهم
شيئاً " (.)17
وهذه األحاديث تدل على أن قيام الساعة يقترن به ذهاب الدعوة والدعاة ،وال أعني بهذا االقتران
اقتران السبب أو الشرط بالمسبب أو المشروط ،وإ نما أعني أن اهلل تعالى يكرم اإلنسانية بالدعوة
والدعاة ،وأنه ما دام الدعاة وما دامت الدعوة ،فإن الغاية من الخلق على هذه األرض باقية ،فإذا
زال ال دعاة وال دعوة فقد خسر اإلنس ان م برر وج وده على ه ذه األرض .وهك ذا ف إن اإلنس ان يقع
بين نهايتين ،أو بداية ونهاية:
األولى :وإ ذ قال ربك للمالئكة إني جاعل في األرض خليفة .)18(
والثانية :قوله " إن اهلل يبعث ريح اً من اليمن ألين من الحرير ،فال ت دع أح داً فيه مثق ال حبة من
إيمان إال قبضته " (.)19
وأخرج اإلمام مسلم عن عبد الرحمن بن شماسة رضي اهلل عنه قال " :كنت عند مسلمة بن مخلد
وعنده عبداهلل بن عمرو بن العاص ،فقال عبداهلل :ال تقوم الساعة إال على شرار الخلق ،هم شر
من أهل الجاهلي ة ،ال ي ْدعون اهلل بش يء إال رده اهلل عليهم .فبينما هم على ذل ك ،أقبل عقبة بن
ع امر ،فق ال مس لمة :يا عقب ة؛ اس مع ما يق ول عبداهلل .فق ال عقب ة :هو أعلم ،وأما أن ا ،فس معت
رسول اهلل يق ول :ال تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر اهلل ،قاهرين عدوهم ،ال يضرهم
مس ها
من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك ،قال عبد اهلل :ثم يبعث اهلل ريح اً كريح المسك ُّ
مس الحرير ،فال تترك نفس اً في قلبه مثقال حبة من إيمان إال قبضته ،ثم يبقى شرار الناس عليهم
ُّ
تقوم الساعة"(.)20
ونالحظ في ه ذه الرواية التوفيق بين بق اء الطائفة المؤمنة إلى ق رب قي ام الس اعة ،وقي ام الس اعة
على ش رار الخل ق .وعندئذ يك ون مع نى وج ود الطائفة المؤمنة إلى قي ام الس اعة يع ني إلى قربها
قيامها .وهذا ما ذهب إليه النووي وهو يشرح حديث " :إن اهلل يبعث ريح اً من اليمن " . .فقال :
" وأما الحديث اآلخر ال تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة فليس مخالفاً ألن
معنى هذا أنهم ال يزالون على الحق حق تقبضهم هذه الريح"(.)21
ولما كان الداعية قد وطّن نفسه على الجهاد وندب نفسه للتضحية في سبيل اهلل ،ودخل طرف اً في
مواجهة أعداء اإلسالم ،فإن هذه المؤهالت تجعله أقدر على المصاولة والمجاولة ،وهو بإذن اهلل
ناج ،وعدوه مخذول هالك.
منصور ٍ
وليس المقص ود بالنج اة نج اة الف رد من األذى واأللم ،وإ نما المقص ود نج اة الجماعة والفك رة في
النهاية ،وأما في اآلخرة ف إن صورة النجاة نعيم مقيم وجنة عرضها السماوات واألرض ،فيها ما
ال عين رأت وال أذن سمت وال خطر على قلب بشر.
القاعدة الثانية
( ألن يهدي اهلل بك رجالً واحداً خير لك من ُح ُمر َّ
النعم )
علي بن أبي ط الب رضي اهلل عنه عن دما أعط اه الراية ي وم خي بر ،
ه ذا ما أخ بر به رس ول اهلل َّ
علي :عالم أقاتل الناس ،نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ؟ فقال " :على رسلك حتى تنزل بساحتهم
فقال ُّ
ثم ادعهم إلى اإلسالم ،وأخبرهم بما يجب عليهم ،فواهلل ألن يهدي اهلل بك رجالً واحداً خير لك من
النعم" (.)22
ُح ُمر َّ
وذلك ألن هدي اهلل هو الهدى ،وأنه ليس بعد الهدى إال الضالل ،وعندما يوفق اهلل تعالى داعية من
دعاة اإلسالم فيهيء له من يقبل دعوته فإن نتائج هذا القبول عظيمة جليلة ،نذكر منها:
ص رف عنه
أ -أن في ذلك استنقاذاً لهذا المهتدي من النار ،وصيانة له من سعيرها ولظاها ،وما ُ
من النار إنما كان ـ بعد فضل اهلل ـ بجهد الداعية وعنايته .واستبدال مقام خالد في النار بمقام خالد
في الجنة أمر ال يدانيه ش يء من أص ناف المع روف ،وال تصل إليه رتبة من رتب اإلحس ان
والجود ،فالداعية يقدم الجنة هدية للناس من حوله ،ويدلُّهم على مقامات السعادة ،وأي أجر ُيكتب
للداعية عند ربه إال األجر الذي يليق بجالل المعطي سبحانه ويتناسب مع قدر العطية؟
ب -أن كل حركة وس كنة يتحركها المهت دي ،وكل تس بيحه أو تكب يرة ينطقها وكل ركعة وس جدة
يفعلها وكل إحسان ُيجريه اهلل على يديه ،فإنما كان الداعية سبب كل ذلك وطريقه الدال علي ه .وإ ن
له مثل أجر فاعله لقول النبي " : الدال على الخير كفاعله" ( ،)23ولقوله أيض اً " :من َّ
سن في
اإلسالم سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء"(.)24
وه ذا ب اب من األجر ال ُيغل ق ،وهو يتن امى يوم اً بعد ي وم .وإ ن ُجهد أبي بكر الص ديق ،وبالل ،
عمار ،وخديجة ،وأسماء ،وغيرهم وغيرهن ،إنما هو أساس في إقبال كل إنسان على اهلل تعالى
إلى قيام الساعة .وإ ن جهد المصطفى هو مبدأ كل جهد طيب بذله مسلم أو يبذله .ولرس ول اهلل
ـ بعد اهلل تعالى ـ ِمَّنة واي ِمَّنة في عنق كل مسلم.
ج -أن من يهت دي على يد الداعية يك ون عون اً للداعية على أداء رس الته ،ويض ُّم جه ده إلىجهد
الداعي ة .وهك ذا ف إن ال دعوة ال تتك اثر إال عن طريق ال دعوة وال تتق وى إال بالعناصر الجدي دة
الراف دة .وما تغ ير ح ال المس لمين من السر إلى العلن غال ي وم أن دخل عمر وحم زة في دين اهلل.
وما تغير حالهم من الجماعة إلى المجتمع إال يوتم أن دخل األنصار في دين اهلل تعالى.
د .وأن الهداية أس لوب من أس اليب النصر الم ادي ،ولكنه ال يتحقق في معركة ذات ج رح وق رح
وال عن طريق الس يف والس هم وإ نما عن طريق ادع إلى س بيل ربك بالحكمة والموعظة الحس نة
وجادلهم بالتي هي أحسن.)25(
هـ -وأن من يهديه اهلل على ي ديك أيها الداعية إنما هو لبنة ُن زعت من بن اء الجاهلية ووض عت في
بناء اإلسالم ،وسيكون هذا على حساب الكفر والضالل ،وهو خسارة للشيطان وأعوانه ،وكسب
لل رحمن وأنص اره .وفي كل م رة يهت دي فيها من يهت دي فإنما يس قط ركن من أرك ان الجاهلي ة.
وهك ذا ك ان أمر الجاهلية في مك ة ،ففي كل ص باح لهم ح ديث ،الكف ار يتكلم ون عن الص ابئين
المفارقين الخارجين ،والمسلمون يفرحون بالمهتدين المؤمنين وكأني ببناء الكفر يتصدع كل يوم
ويفقد من بنائه ما يفتح الثغرة تلو الثغرة فيه.
القاعدة الثالثة
األجر يقع بمجرد الدعوة وال يتوقف على االستجابة
أ -وه ذه القاع دة تع الج خطأ ش ائعاً عند كث يرين ،وهو أن األجر ي ترتب على النتيجة الدنيوية
الظاهرية .مشبهين ذلك باألعمال الدنيوية التي ُينظر فيها إلى النتائج المحسوسة .ولو كان األمر
في ال دعوة ك ذلك لك ان كث ير من أنبي اء اهلل ـ ص لوات اهلل عليهم ـ محكوم اً عليه باإلخف اق ،وحاشا
أنبي اء اهلل أن يوص فوا به ذا ،رغم قلة المؤم نين ب دعوتهم .فه ذا ن وح عليه الس الم ي دعو قومه
ويمكث فيهم ألف سنة إال خمسين عام اً .قال اهلل تعالى :ولقد أرسلنا نوح اً إلى قومه فلبث فيهم
()26
وظاهر سياق اآلية ـ كما يقول ابن ألف سنة إال خمسين عام اً فأخذهم الطوفان وهم ظالمون
كثير ـ أنه مكث في قومه يدعوهم إلى اهلل ألف سنة إال خمسين عاماً(.)27
ورغم هذا المكث الطويل فإنه لم يؤمن من قومه إال قليل ،قال تعالى :حتى إذا جاء أمرنا وفار
التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إال من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه
إال قليل.)28(
ويالحظ االس تثناء في اآلية بعد قوله ( :ومن آمن ) ح تى ال ُيفهم ب أن ع دد المؤم نين ك ان كب يراً
قال ( :وما آمن معه إال قليل ).
وك ذلك أمر أك ثر األنبي اء ف إنهم يحش رون ي وم القيامة ،ومع بعض هم الواحد واالثن ان والثالثة ،
وبعضهم ال يكون معه أحد من المؤمنين .أخرج الترمذي من طريق ابن عباس رضي اهلل عنهما
قال " :لما أسري بالنبي جعل يمر بالنبي والنبيين ومعهم القوم ،والنبي والنبيين ومعهم الرهط ،
والنبي والنبيين وليس معهم أحد" (.)29
ولذلك فقد وجه اهلل تعالى رسول محمداً إلى هذا المعنى عندما أمره بالدعوة والتبليغ ولم يطالبه
بالنتيجة ،فق ال :ف إن أعرض وا فما أرس لناك عليهم حفيظ اً إن عليك إال البالغ .)30(وق ال :
فهل على الرسل إال البالغ المبين .)31(
وقال :وما على الرسول إال البالغ المبين .)32(
ف أمر الهداية بيد اهلل تع الى ،وهو القائل :إنك ال ته دي من أحببت ولكن اهلل يه دي من يش اء
(.)33
ب-ومن فقه هذه القاعدة أن الداعية ال يقع تحت اإلحباط والضغوط النفسية الناشئة عن إعراض
الناس وعدم استجابتهم .ولقد رفع اهلل تبارك وتعالى الحرج عن نبيه ولم يكلفه إال بما يستطيع ،
()34
وق ال له :فلعلك ب اخع نفسك على آث ارهم إن لم يؤمن وا به ذا فق ال :ليس عليك ه داهم
الح ديث أس فا .)35( وق ال :فال ت ذهب نفسك عليهم حس رات .)36(وقل :وال تح زن عليهم
( .)37وفي ه ذه اآلي ات تس لية لرس ول اهلل حيث ك ان الح ريص على إيص ال الخ ير والهداية إليهم
وصموا.
ّ ولكنهم عموا
والقلب ال رحيم يتقطع عن دما ي رى الن اس يته افتون في الن ار ته افت الف راش ،وك ذلك ك ان ح ال
أسى وأسفاً عليهم ألنهم لم
رسول اهلل فجاء التوجيه الرباني ( :فلعلك باخع نفسك؟!) أي مهلكها ً
يؤمنوا بالقرآن الكريم .قال قتادة ( لعلك قاتل نفسك غضباً وحزن اً عليهم ؟! وقال مجاهد :جزع اً
والمع نى متق ارب ،أي ال تأسف عليهم بل أبلغهم رس الة اهلل ،فمن اهت دى فلنفس ه ،ومن ضل فإنما
يضل عليهاه ) (.)38
وكذلك ُرفع هذا الحرج عن الدعاة من أمة محمد إن لم يهتد الناس ولم يستجيبوا لهم بعد استنفاد
غاية الجهد معهم؛ ألن اهلل ال يكلف نفساً إال وسعها .
ج-وفي هذه القاعدة عالج ألولئك المتعجلين من الدعاة الذين ينتظرون النتائج الدنيوية الظاهرة،
ويجعلونها ش رطاً للمواص لة والس ير في طريق ال دعوة .وه ذا التالزم إنما هو س وء فهم من
جهة،ومخالفة صريحة لقواعد الدعوة في القرآن والسنة من جهة أخرى.
ولقد أكد القرآن الكريم عدم التالزم بين الدعوة واالستجابة ،فقد يبذل الداعية قصارى جهده ،وال
يجد من المدعو سوى االعراض ،وقد جعل القرآن الكريم بين الدعوة واالستجابة مرحلة وسيطة
الرسل .)39(وهي مرحلة
يبدو أنها ضرورية ،وهي مقتضى قوله تعالى :حتى إذا استيأس ُ
وظنوا أنهم قد ُك ذبوا والوصول إلى هذه المرحلة وسيط بين الدعوة وبين المرحلة الثالثةجاءهم
نصرنا.
قال ابن كثير " :يذكر تعالى أن نصره ينزل على رسله صلوات اهلل وسالمه عليهم أجمعين عند
ضيق الحال وانتظار الفرج من اهلل في أحوج األوقات غليه ،كقوله تعالى :وزلزلوا حتى يقول
الرسلو والذين آمنوا معه متى نصر اهلل .)40(
وقد فهمت عائشة رضي اهلل عنها أن ه ذا الظن إنما هو ظن األتب اع ال ُّ
ظن الرسل أنفس هم ،وذلك
عندما قال لها عروة :فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن ،ق الت :أج ل ،لعمري ،لقد
استيقنوا بذلك ،فقلت لها :وظنوا أنهم قد ُك ذبوا؟ قالت :معاذ اهلل لم تكن الرسل تظن ذلك بربها .
قلت فما ه ذه اآلي ة؟ ق الت :هم أتب اع الرسل ال ذين آمن وا ب ربهم وص دقوهم ،فط ال عليهم البالء،
واس تأخر عنهم النصر ،ح تى إذا اس تيأس الرسل ممن ك ذبهم من ق ومهم وظن وا أن أتب اعهم قد
ك ذبوهم ج اءهم نصر اهلل عند ذلك( .)41وذلك بن اء على ق راءة عائشة رضي اهلل عنها بتش ديد
( ُك ذبوا) فيك ون الفاعل األتب اع ال الرسل( .)42وهو توجيه يليق بمق ام الرسل الك رام .وإ ذا جعلنا
الضمير للرسل كان ظنهم حينئذ أن قومهم قد كذبوهم .وال مانع من الجمع بين المكذبين من أقوام
الرسل وبين المتعجلين الظانين باهلل ظن السوء .
د-وال يع نى ه ذا أن الداعية غ ير مط الب بب ذل قص ارى جه ده ،واس تخدام أحسن ما يس تطيع من
األساليب والوسائل ،وهذا ما سنذكره في قاعده البالغ التالية.
القاعدة الرابعة
المَبلِّغ
على الداعية أن يصل إلى رتبةـ ُ
وأن يسعى إلى البالغ
ليس أمر ال دعوة إلى اهلل بأقل من أمر ال دعوة أو الدعاية إلى س لعة دنيوية .ونحن على يقين أن
ص احب البض اعة يس تخدم أق وى الوس ائل وأوس عها انتش اراً من أجل إيص ال الجمه ور إلى درجة
القناعة ببضاعته ،ونراه في سبيل ذلك يستخدم الكلمة والصورة والهدية وغير ذلك من الوسائل .
وقد جعل اهلل تعالى مهمة رسله وأنبيائه البالغ ،فقال :فهل على الرسل إلى البالغ المبين.)43(
ووصف البالغ بأنه المبين .وقال تعالى : :الذين ُيبلغون رساالت اهلل ويخشونه.)44(
وعند إع راض الن اس عن اإليم ان ك ان ي أتي التأكيد على وص ول األنبي اء إلى رتبة البالغ ،ق ال
تعالى :فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي.)45(
وكلمة َبلَ َغ :تع ني وصل أو ق ارب على الوص ول ،يق ول ابن ف ارس " :الب اء والالم والغين أصل
واحد ( أي معنى واحد) ،وهو الوصول إلى الشيء تقول :بلغت المكان إذا وصلت إليه" (، )46
ويقول " :وكذلك البالغة التي يمدح بها الفصيح اللسان ألن َيبلُغ بها ما يريده"(.)47
وق ال األزهري " :والعرب تقول للخبر يبلغ أحدهم وال يحققون ه ،وهو يسوءهم :سمعُ ال بْل غُ ،
أي نسمعه وال يبلغنا ،ويجوز :سمعاً ال بلغاً " (.)48
وهذا دليل على أن استعمال كلمة البالغ إنما كان لما فيها من طبيعة الوصول واالنتهاء.
ب -وال مع ذرة للداعية إذا صر في البالغ ولقد نبه اهلل تب ارك وتع الى نبيه محم داً إلى مثل ه ذا
ق ائالً :يا أيها الرس ول بلغ ما ُأن زل إليك من ربك وإ ن لم تفعل فما بلغت رس الته واهلل يعص مك
من الناس إن اهلل ال يهدي القوم الكافرين.)49(
قال القرطبي " :وهذا تأديب للنبي وتأديب لحملة العلم من أمته أال يكتموا شيئاً من شريعته"(.)50
وليس المقصود بالبالغ مجرد اإلخبار أو اإلعالن ،إنما المراد أن تصل رسالته للناس.
ج-ومن مقتض يات البالغ أن يعي الداعية ما ُيبلغه ،ألنه ال تبليغ بال وعي ،ويس تفاد ه ذا من قوله
ب حامل فقه إلى من هو أفقه منهوفر َّ َّ َ " : ن َّ
ض َر اهلل امرءاً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغهاَ ،
،ثالث ال ُي َغ ّل عليهن قلب مس لم :إخالص العمل هلل ،ومناص حة أئمة المس لمين ،ول زوم
جماعتهم ،فإن الدعوة تحيط من وراءهم"(.)51
ق ال الخط ابي في ش رحهه له ذا الح ديث َ " :ن َّ
ض ر اهلل معن اه ال دعاء له بالنض ارة وهي النعمة
فالمَبلِّغون أصحاب الوجوه الناضرة في والبهجة" ( .)52وهذه النضارة من آثار التبليغ على ِّ
المبلغ ُ ُ
الدنيا واآلخرة.
()53
وعلى ه ذا واستفاد الخطابي من هذا الحديث كراهة اختصار الحديث لمن ليس بالمتناهي بالفقه
ف إن ال وعي يك ون بحفظ النص وأدائه كما قي ل .ويك ون للفقيه بمحافظته على المع اني المس تفادة،
ويترتب على هذا الحديث كل ما يتعلق بالرواية والدراية من العلوم والتفاصيل.
د -ومن مقتضيات البالغ البالغة.
والبالغة في تفس ير قوله تع الى :وقل لهم في أنفس هم ق والً بليغ اً :)54( أن يك ون كالم اً حسن
األلفاظ حسن المعاني مشتمالً على الترغيب والترهيب والتحذير واإلنذار والثواب والعقاب ،فإن
الكالم إذا ك ان هك ذا َعظُم وقعه في القلب ،وإ ذا ك ان مختص راً ركيك األلف اظ ركيك المع نى ،لم
يؤثر البتة في القلب(.)55
وقال في اللسان :رجل بليغ :حسن الكالم فصيحه ُ ،يَبلِّغ بعبارة لسانه ُك ْنه ما في قلبه(.)56
وليست البالغة في صعوبة األلفاظ واألساليب ،والبحث عن وحشي الكالم وغريبه.
المبلِّغ أن يعلم من لغة العرب وأساليبهم ما يعينه على البالغ.
وبناء عليه فإن على ُ
ومقتضى هذا بحثواطالع ،واعتناء باللغة العربية :علماً وقراءة وكتابة ومحادثة ،ونظراً في أدب
العرب نثراً وشعراً ،وفي نظم القرآن مبنى ومعن .والدعاة اليوم هم أحوج ما يكونون لهذا وال
ُيعذرون بالقصور فيه.
هـ -ولقد جاء القرآن بتأكيد الفصاحة وسالمة النطق.
أخرجه الترمذي من روايات عديدة ، 5/34وأخرجه ابن ماجة كذلك ، 1/84 (?) 51
وذلك عن دما ق ال اهلل تع الى على لس ان موسى عليه الس الم} :واحلل عق دة من لس اني يفقهو
ق ولي{( .)57فقد علم موسى عليه الس الم أن س المة النطق وفص احته من أس باب البالغ وإ قامة
الحجة ،قال الرازي " :اختلفوا في أنه عليه السالم ِل َم طلب حل تلك العقدة على وجوه" .
أحدها :لئال يقع في أداء رسالته خلل البتة.
وثانيها :إلزالة التنف ير؛ ألن العق دة في اللس ان قد تفضي إلى االس تخفاف بالقائل وع دم االلتف ات
إليه(.)58
ثم ق ال ورابعها :طلب الس هولة ألن إي راد مثل ه ذه الكالم على مثل فرع ون في جبروته ِ
وك ْب ره
َع ِس ُّر ج داً ،ف إذا انضم إليه تَعُّقد اللس ان بلغ العسر إلى النهاي ة ،فس أل ربه إزالة تلك العق دة تخفيف اً
وتسهيالً(.)59
عود نفسه على النطق الصحيح ،وإ ذا كانت في لسانه
ويستفاد من هذه القاعدة أن على الداعية أن ُي ِّ
عق دة فليس تعن بمن يفصح عنه ،ويس اعده في مهمت ه ،وذلك كي يصل بدعوته إلى درجة البالغ
والبي ان ،وه ذا ما س ال موسى عليه الس الم ربه س بحانه } :وأخي ه ارون هو أفص ُح م ني لس اناً
()60
والر ْد ُء :اسم ما يستعان به .قال الرازي في تفسير هذه اآلية :
فأرسله معي ردءاً ُيصدقني{ ِّ .
( ليس الغرض بتصديق هارون أن يقول له صدقت أو يقول للناس :صدق موسى ،وإ نما هو أن
يلخص بلس انه الفص يح وج وه ال دالئل ويجيب عن الش بهات ويج ادل به الكف ار ،فه ذا هو التص ديق
المفي د ،أال ت رى إلى قول ه } :وأخي ه ارون هو أفص ُح مني لساناً فأرس له معي{ وفائدة الفص احة
تظهر فيما ذكرناه ال في مجرد قوله :صدقت) (.)61
و -ومما يس اعد الداعية على البي ان والبالغ وج ود إخوانه معه إلى جانبه ،ف إن وج ودهم يشد من
عضده ويلقي في روعه الطمأنينة من جهة ،ومن جهة أخرى فإن وقع ذلك على المدعوين كبير.
إذ عن دما ي رى الم دعوون أن الداعية ليس وحي داً وأن معه أنص اراً وأعوان اً ف إنهم يالحظ ون أثر
الدعوة في الناس ويحملهم هذا على إمعان الفكر في هذه الدعوة.
وقال على لسان موسى أيض اً
()62
قال تعالى مخاطباً موسى عليه السالمُّ } :
سنشد عضدك بأخيك{
اشد ْد به أزري وأشركه في أمري( {)63قال الرازي في
} واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي ُ
تفس يره له ذه اآلية " :واعلم أن طلب ال وزير إما أن يك ون ألنه خ اف من نفسه العجز عن القي ام
المعين ،أو ألنه رأى أن للتع اون على ال دين والتظ اهر عليه مع مخالصة ال ِّ
ود ب ذلك األمر فطلب ُ
وزوال التهمة مزية عظيمة في أمر ال دعاء إلى اهلل .ول ذلك ق ال عيسى عليه الس الم } :ق ال :من
ال لمحمدr ار اهلل { وق ون :نحن أنص ال الحواري اري إلى اهلل ؟ ق أنص
}حسبك اهلل ومن اتبعك من المؤمنين{(.)64
الم ِّقربة
ز -ولكي يصل الداعية إلى درجة البالغ فعليه أن يس تعمل الوس ائل الكاش فة عن م راده ُ
المعين ة .وعلى الداعية أن يخ اطب الن اس
لدعوته ،وه ذا ما يع رف بوس ائل اإليض اح ،والوس ائل ُ
بالص ورة والفيلم والخارطة والرسم البي اني والمقطع التوض يحي والرحلة الهادفة والقصة والمثل
والقسيدة ومخلوقات اهلل تعالى وعجيب صنعه.
النبي rيستخدم وسيلة اإليضاح:
()65
فقال : بج َم ار
أخرج البخاري عن ابن عمر ـ رضي اهلل عنهما ـ قال " :كنا عند النبي rفأتى ُ
كت
إن في الشجر شجرة َمثَلُها كمثل المسلم ،فأردت أن أقول :هي النخلة فإذا أنا أصغر القوم ،فس ُ
،فقال النبي : rهي النخلة (.)66
الجم ار .ق ال ابن
ف النبي rس أل عن ش جرة يش بهها المس لم وتش بهه وك ان عند الس ؤال يأكل من ّ
الجم ار إليه فهم ابن عمر أن المس ؤول عنه
حج ر " :لما ذكر الن بي rالمس ألة عند إحض ار ّ
النخلة"(.)67
إبراهيم عليه السالم يستخدم وسائل اإليضاح:
والقرآن الكريم يقص علينا كيف كان إبراهيم عليه الصالة والسالم يستخدم هذه الوسائل المعينة
عندما أراد أن يدعو قومه إلى عبادة اهلل ويصرفهم عن عبادة النجوم والكواكب .قال اهلل تعالى} :
فلما رأى القمر بازع اً فلما أفل قال ال ُّ
ُأحب اآلفلين* َّ فلما َّ
جن عليه اللي ُل رأى كوكب اً قال هذا ربي َّ
فلما رأى الشمس بازغة ألكونن من القوم َّ
الض الين َّ َّ فلما أ َفل قال :لئن لم يهدني ربي
ربي َّ
قال هذا ّ
وجهي للذي قال :هذا ربي هذا أكبر لما أفلت ق ال يا قوم إني بريء مما تُشركون* إني وجَّهت
َ
فطر السماوات واألرض حنيفاً ومآ أنا من المشركين{(.)68
وه ذا أس لوب فيه الت نزل مع الم دعو والت درج معه ح تى يتوصل إلى إبط ال ُم ّدعاه وإ قامة الحجة
عليه.
ومعاذ اهلل أن يكون هذا هو معتقد إبراهيم عليه السالم .قال الرازي في تفسيره ":إن هذه الواقعة
إنما حصلت بسبب مناظرة إبراهيم عليه السالم مع قومه ،والدليل عليه أن اهلل تعالى لما ذكر هذه
القصة ق ال } :وتلك ُحجَّتنا آتيناها إب راهيم على قومه{ ولم يقل على نفس ه ،فعلم أن ه ذه المباحثة
إنما جرت مع قومه ألجل أن يرشدهم إلى اإليمان والتوحيد"(.)69
وأما قوله } :هذا ربي{ فمعناه على زعمكم واعتقادكم وذلك كقول موسى عليه السالم للسامري:
} وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكف اً{( .)70فإن موسى عليه السالم لم يقره على مدعاه وإ نما
حكى زعمه وادعاءه .وكذلك قول اهلل تعالى }ويوم يناديهم فيقول أين شركائي{( .)71فالشركاء هنا
على حد زعم المشركين وادعائهم .وبهذا يكون إبراهيم عليه السالم قد دحض عقيدتهم في عبادة
الحوادث والمتغيرات ،وأثبت عقيدته في عبادة الواحد الباقي ،الذي ال يعتريه النقص والتغير.
ومث ال آخر ج اء في قوله تع الى}:وإ ن من شيعته إلب راهيم* إذ ج اء ربه بقلب س ليم* إذ ق ال ألبيه
وقومه م اذا تعب دون* أئفك اً آلهة دون اهلل تري دون* فما ُّ
ظنكم ب رب الع المين* فنظر نظ رة في
النج وم* فق ال إني س قيم* فتول وا عنه م دبرين* ف راغ إلى آلهتهم فق ال أال ت أكلون* ما لكم ال
تنطقون* فراغ عليهم ضرباً باليمين{(.)72
وقال تعالى } :فجعلهم ُج ذاذاً إال كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون* قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن
الظ المين* ق الوا س عنا ف تى ي ذكرهم يق ال له إب راهيم* ق الوا ف أتوا به على أعين الن اس لعلهم
يش هدون* ق الوا أأنت فعلت ه ذا بآلهتنا يا إب راهيم* ق ال بل فعله كب يرهم ه ذا فاس ألوهم إن ك انوا
ينطقون{(.)73
ونالحظ أن إب راهيم عليه الس الم اس تخدم أس لوباً من أس اليبهم عن دما يمرض ون ،وهو المكث عند
األصنام طلب اً للش فاء ،ونراه يحطم األصنام إال صنماً كبيراً ،لعلهم إليه يرجعون ،ثم نراه ينسب
الفعل لهذا الكبير ،وتأكيداً لهذا فقد جعل الفأس في رأسه ،وهذا كله جعلهم يقولون :فرجعوا إلى
أنفس هم فق الوا إنكم أنتم الظ المون* ثم نكس وا على رءوس هم لقد علمت ما ه ؤالء ينطق ون{ (.)74
وبهذا فقد حكم المشركون على أنفسهم بالجهل والغباء .وقرروا عجز آلهتهم عن حماية نفسها إو
إجراء الخير والضر لها فضالً عن تقديمه لغيرها.
ح-وللوصول إلى رتبة البالغ فإنه البد من تقليب األساليب وتنوعها فما ال يصل بالجهر قد يصل
بالس ر ،وما ال يصل في الليل قد يصل في النه ار ،وما ال يس تقر في القل وب مع إنش غالها قد يس تقر
فيها عند فراغه ا ،وما ال ي ؤثر في الص حيح قد ي ؤثر في الم ريض .وفي س ورة ن وح تط بيق كامل
لهذا المبدأ ولهذا القاعدة قال اهلل تعالى على لسان نوح }:قال رب إني دعوت قومي ليالً ونهاراً
* فلم يزدهم دعائي إال قراراً* وإ ني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا
ثي ابهم وأص روا واس تكبروا اس تكباراً* ثم إني دع وتهم جه اراً* ثم إني أعلنت لهم وأس ررت لهم
إس راراً* فقلت اس تغفروا ربَّكم إنه ك ان غف اراً{( .)75ق ال القرط بي ":كل ه ذا مبالغة في ال دعاء
وتلطف باالستدعاء"(.)76
وق ال ابن كث ير ":ن وع عليهم ال دعوة لتك ون أنجح"( .)77ف دعاهم بالليل حيث الس كون ال داعي إلى
حسن االس تماع ،وحيث النج وم الدالة على خالقها ومنش ئها .ودع اهم بالنه ار حيث العمل واللق اء
والمح اورة والمن اظرة .وك ان ش أنهم التنكر له عن دما ي دعوهم ،ولكنه لم يتنكر لهم ،بل واصل
دعوتهم ،وأمعنوا في التنكر فوضعوا أصابعهم في آذانهم ،وتلفَّعوا بثيابهم ،فصاح بأعلى صوته
كي يصل إلى أس ماعهم ،ولما ألق وا بأس ماعهم أسر لهم إس راراً .ق ال القرط بي " :وأس ررت لهم :
أتيتهم في من ازلهم "( .)78وه ذه التفاتة جي دة من القرط بي ،إذ أن ال ذهاب بالم دعو بعي داً عن أعين
الناس أبلغ ي التأثيرن في حين أن اللقاء مع المدعو أمام أعين الناس قد يسبب حرجاً له ،باإلضافة
إلى أنه ينبه أع داء اإلس الم ال ذين يض ربون ه ذه العالقة بمج رد مع رفتهم به ذه الص لة ويح ذرون
الم دعو ،ويك ون ه ذا قبل أن نتمكن الفك رة في نفس الم دعو ،في ؤدي ذلك إلى ع دم االس تجابة أو
يؤخرها.
ط-وللوص ول إلى رتبة البالغ ف إن على الداعية أن يخ اطب الم دعوين ب اللين ال بالغلظة والش دة
واللين تلطف بالم دعو ورفق ب ه ،وتخ ير ألحب األس ماء إلي ه ،وأق رب األس اليب إلى قلب ه .وليس
اللين في التساهل في أحكام الشرع وال في مجاراة أهل الباطل على باطلهم وال في السكوت على
المنكرات .فالمؤمن على كل حال ال يخشى إال اهلل وال يرجو إال ثوابه.
وإ ذا ك ان اهلل تع الى قد أمر موسى ب أن ي دعو فرع ون ب اللين ،فمن ب اب أولى أن يك ون اللين ش عار
كل دع وة .ق ال تع الى}:اذهبا إلى فرع ون إنه طغى* فق وال له ق والً لين اً لعله يت ذكر أو
يخشى{( .)79وأمر اهلل نبيه rبأن يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة.
واللين قطع من الش دة وأق در على إيص ال الكالم إلى القل وب .وكث يراً ما يجد الداعية العقب ات في
طريقه بسبب كلمة قالها أو تصرف أساء فيه للمدعوين.
وال دعوة بالحكمة والموعظة الحس نة تجعل الم دعو يقف مباش رة أم ام ال دعوة ،في حين أن الغلظة
تجعل الم دعو في حج اب عن ال دعوة .وكما يضع أع داء اإلس الم العقب ات في طريق ال دعوة ،فقد
يضع المسلم ـ وهو ال يعلم ـ عقبات أيضاً ،في طريقها ،سببها سوء صنيعه وضجره وسأمه وقصر
نظره وضيق صدره .والداعية الناجح هو الذي ال يفقد صوابه واتزانه مهما كانت الظروف.
يق ول ال رازي" :واعلم أن ال دعوة إلى الم ذهب والمقالة البد أن تك ون مبنية على حجة وبين ة،
والمقص ود من ذكر الحجة إما تقرير ذلك الم ذهب أو ذلك االعتق اد في قل وب المس تمعين ،وإ ما أن
يكون المقصود إلزام الخصم وإ فحامه"(.)80
والدعاة إلى اهلل يبتغون إيصال الحق والهدي إلى قلوب الخلق وليسوا في حلبة مصارعة يبتغون
الظفر على خصومهم ،ويريدون إثبات تفوقهم في الحجة والدليل .ويذهب الرازي إلى أ ،الدعوة
بالحكمة والموعظة الحس نة هي ال تي ت ؤدي إلى كسب األنص ار ،بينما تبقى المجادلة ب التي هي
أحسن إلقامة الحجة على الخص ونم .فق ال ( :ومن لط ائف ه ذه اآلية أنه ق ال }:ادع إلى س بيل
ربك بالحكمة والموعة الحس نة { فقصر ال دعوة على ذكر ه ذين القس مين ..أما الج دل فليس من
ب اب ال دعوة بل المقص ود منه غ رض آخر مغ اير لل دعوة وهو اإلل زام واإلفح ام .فله ذا الس بب لم
يق ل :ادع إلى س بيل ربك بالحكمة والموعظة الحس نة والج دل األحس ن ،بل قطع الج دل عن ب اب
الدعوة تنبيهاً على أنه ال يحصل الدعوة وإ نما الغرض منه شيء آخر(.)81
القاعدة الخامسة
على الداعية أن يقدم الجهد البشري
وهو يطلب المدد الرباني
شاء اهلل تبارك وتعالى أن تعمل هذه الدعوة بالوسائل البشرية .والداعية الحق هو الذي يستطيع أن
يوظف ع الم األس باب من أجل دعوت ه ،وه ذا رس ول اهلل يواصل ليله بنه اره آخ ذاً باألس باب
ومستخدماً ألساليب عصره المتاحة ولم يقل :بما أنه يوحى إلي فإن لي طريقة أخرى في التماس
النظ ر .وإ ننا لنجد في تفاص يل س يرته تطبيق ات واس عة له ذا المب دأ .وي وم أن خ الف بعض
الصحابة أمر النبي وقصروا في األخذ باألسباب كانت تلك النتيجة المفجعة في معركة أحد رغم
أن الرسول بين ظهرانيهم ،والوحي يتنزل عليه.
وفي قول اهلل تعالى} :ال يكلف اهلل نفساً إال وسعها{( .)82بيان شاف لهذا المبدأ ،والتكليف هو األمر
بما يشق علي ه .والتكليف هنا مرتبط بالوسع ال ذي هو الطاقة وال ِج َّدة ،ق ال القرط بي " :نص اهلل
تع الى على أنه ال يكلف العب اد من وقت ن زول اآلية عب ادة من أعم ال القلب أو الج وارح إال وهي
في وسع المكلف وفي مقتضى إدراكه وبنيت ه ،وفي ه ذا انكش فت الكربة عن المس لمين في ت أويلهم
()83
أي لم يكلفهم اهلل بما في خواطر النفوس وخلجات القلوب. أمر الخواطر"
فهم خطأ :
والناس اليوم يفهمون هذه اآلية على أن الوسع هو أدنى ما يستطيعه المرء ولذلك فإن هذا الوسع
متقلب متغير حسب الدوافع .فقد يدعي المسلم أنه ال يجد سوى ساعة من فراغ ،قائالً :ال يكلف
اهلل نفس اً إال وس عها ،ثم يزيد ه ذا الجهد إلى س اعتين ق ائالً :ال يكلف اهلل نفس اً إال وس عها ،ثم نجد
وقته يتسع لثالث ساعات من العمل فيقول :ال يكلف اهلل نفساً إال وسعها.
وه ذا التقلب والتغ ير في ظ رف واحد وزم ان واحد دليل على أن االدع اء األول لم يكن ص حيحاً ،
المرة األولى والثانية والثالثة.
وأنه لم يبذل وسعة في ّ
ونظرة إلى الشكل أعاله تبين أن الكؤوس أ ،ب ،ج وإ ن تفاوت في مقدار سعتها من الماء إال أن
الكأس ( د) هو الذي استوفى وسعه وطاقته .والدعاة في فهمهم لهذه اآلية كهذه الكؤوس ،يرضى
أح دهم بتق ديم ال نزر القليل ثم يط الب بالنت ائج الكب ار ،علم اً ب أن مهمة ال دعوة كب يرة واس عة .وما
ينتره العالم من الدعاة كبير كاتساع دعوتهم .هذا مع العلم بأن التعامل هو مع الحكيم الخبير الذي
يعلم مقدورات النفوس.
ونحن ال ننسى أن الناس متفاوتون في أصل المقدرة والجهد وأن مساحات نفوسهم متفاوتة كذلك،
ولكن المطل وب أن تصل ه ذه النفس إلى أك بر عط اء لها وأن يك ون جه دها متزاي داً متص اعداً كل
ي وم ،وإ ن ق دراً كب يراً من طاقة الع املين وال دعاة محك وم عليه باله در والض ياع إن لم ُيس تغل في
سبيل الحق والدعوة .وإ ن كثرة العاملين الذين يقدمون بعض ما يستطيعون يعيقون السير وتزدحم
بهم الطرق ،تمام اً كالعربات التي تمأل الطريق في الوقت الذي ال تحمل من وسعها سوى الشيء
القليل.
إن اهلل تع الى خلق ه ذا اإلنس ان وجعل في وس عه الكث ير الكث ير ،ونحن في ه ذه الحي اة نق رأ عن
بعض المنح رفين وم دمني اإلج رام ،أنهم يب ذلون جه داً في س بيل انح رافهم وإ ج رامهم ما يجعلهم
يواص لون الليل والنه ار ،ويقطع ون شاسع المس افات ،ويع انون ض روباً من التحمل والص بر ما
يح ير األلب اب ،ويب ذلون من األم وا ،ويركب ون من األه وال والمخ اطر ما يث ير العجب العج اب.
وال ذي يس تطيع فعل الشر فإنه يس تطيع فعل الخ ير ،ومن ي ركب المص اعب واأله وال في س بيل
الباطل فإنه قادر على ذلك في سبيل الحق والخير.
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -27-
وعن صفوان بن عمرو قال :كنت والي اً على حمص فلقيت شيخاً قد سقط حاجباه من أهل دمشق
على راحلته يريد الغ زو .قلت :يا عم؛ أنت مع ذور عند اهلل ،فرفع حاجبيه وق ال :يا ابن أخي،
استنفرنا اهلل خفافاً وثقاالً ،أال إن من أحبه اهلل ابتاله.
وعن الزهري :خرج سعيد بن المسيب إلى الغزوة وقد ذهبت إحدى عينيه ،فقيل له :إنك عليل
ثرت الس واد،
ص احب ض رر ،فق ال :اس تنفر اهلل الخفيف والثقي ل ،ف إن عج زت عن الجه اد ك ُ
وحفظت المتاع .وقيل للمقداد بن األسود وهو يريد الغزو :أنت معذور ،فقال :أنزل اهلل علينا في
سورة براءة} :انفروا خفافاً وثقاالً{(.)94
وه ذا الح دان والمعي اران يك ون الم ؤمن بينهما في ص عود باتج اه ما يليق بجالل اهلل تع الى :فعلى
المسلم أن يكون يومه خيراً من أمسه .وغده خيراً من يومه .وعليه أن يزداد في مدارج التقوى
كلما ازداد علماً ،أو حلّت به نعمة ،أو تقدم به السن.
وإ ذا أدرك المؤمن هذا المفهوم فإنه يخشى أن ال يكون قد بذل استطاعته ،ويحتاط لذلك دائم اً ،فال
قص ر في المطل وب .وه ذا ش أن
يرضى عن عمله وال عن بذله وال عن جه ده خش ية أن يك ون قد َّ
المؤم نين ال ذين وص فهم اهلل تع الى بقوله } :إن ال ذين هم من خش ية ربهم مش فقون* وال ذيثن هم
بآيات ربهم يؤمنون* والذين هم بربهم ال يشركون* والذين ُيؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى
ربهم راجعون* أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون* وال نكلف نفس اً إال وسعاً ولدينا
كتاب ينطق بالحق وهم ال يظلمون{(.)99
ُ
إشفاق َو َوجل :
وقد ذكرت هذه اآليات صفات للمؤمنين :منها اإلش فاق والوجل " واإلش فاق يتضمن الخشية مع
()100
،قال الرازي وزاد " :ومنهم من حمل اإلشفاق على أثره ،وهو الدوام زيادة رقة وضعف "
في الطاعة .والمعنى :الذين هم من خشية ربهم دائمون في طاعته ،جادون في طلب مرضاته،
والتحقيق أن من بلغ في الخش ية إلى حد اإلش فاق ،وهو كم ال الش خية ،ك ان في نهاية الخ وف من
سخط اهلل عاجالً ،ومن عقابه آجالً ،فكان في نهاية االحتراز عن المعاصي"( .)101ومن كان كذلك
فإنه يستجيب ألمر اهلل في الدعوة إليه والصدع بأمره ونهيه .وأما كونهم يؤتون ما آتوا وقلوبهم
َو ِجلة " :معناه يعطون ما أعطوا ،فدخل فيه كل حق يلزم إيتاؤه . .ألن من ُيقدم على العبادة وهو
و ِجل من تقص يره وإ خالله بنقص ان أو غ يره فإنه يك ون ألجل ذلك الوجل مجته داً في أن يوفيها
حقها " (.)102
والخ وف من التقص ير مع ك ون الخ ائف يب ذل قص ارى جه ده في االتق اء ،منزلة من من ازل
الو َجل علمهم بأنهم إلى ربهم راجعون.
الصديقين ،وقد بين اهلل تعالى أن سبب هذا َ
فيا لها من ص فات س امية تحمل أص حابها إلى المقام ات العلية ،وتجعل نفوس هم نقية من الري اء
والسمعة ،وتشحذ الهمم إلى أحسن العمل.
وبعد ه ذه التوجيه ات الدافعة إلى رفع الكف اءة والمق درة ت أتي اآلية الكريم ة} :وال نكلف نفس اً إال
وس عها{ ويب دو التكامل بين إعط اء الف رد مس ؤولية تق دير االس تطاعة وبين ما يعلمه اهلل تع الى من
حقيقة االستطاعة التي يراقبها ويحاسب عليها .وبلوغ الداعية درجة الخشية واإلشفاق حافز على
الصدق في تقدير الوسع.
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -33-
القاعدة السادسة
الداعية مرآة دعوته والنموذج المعبر عنها
ال ينفصل الداعية عن دعوت ه .واالق تران بين الداعية وال دعوة ق ائم في أذه ان الن اس .والداعية
نفسه ش هادة لل دعوة ،وه ذه الش هادة قد تحمل الن اس على قبل ال دعوة ،وقد تحملهم على ردها
ورفضها .والذين يتعاملون مع المبادئ مباشرة قلة قليلة في كل عصر ومكان ،وأما أكثر الناس
فيتعاملون مع حملة المبادئ والناطقين باسمها.
وكلما كان المبدأ عظيم اً وقوي اً كان التزامه أشد ،وكان الوصول فيه إلى المطلوب أشق .واإلالم
فيه من الواجب ات والتك اليف ما يجعل المجاه دة في س بيل بل وغ مقاماته دائمة ال تف تر ،متص لة ال
تنقطع.
وعندما يكون الداعية بعيداً عن االلتزام بواجبات اإلسالم وتكاليفه فإنه يكون فتنة للناس يصرفهم
بس لوكه عن دين اهلل ،ويقطع الطريق على الن اس ،فمثله كمثل ق اطع الطري ق ،بل هو أس وأ ،
وينبغي على الداعية أن ي دعو دائم اً بقوله تع الى } :ربنا ال تجعلنا فتنة للق وم الظ المين( .)103وقد
ُذكر في تفس ير ه ذه اآلي ة} :ال تمكنهم من أن يحملونا ب الظلم والقهر على أن ننص رف عن ه ذا
ال دين الحق ال ذي قبلن اه{( .)104وك ذلك ف إن الك افرين عن دما يتس لطون على المس لمين ف إن تس لطهم
()105
فيك ون تس لطهم على المس لمين ش بهة لهم في أنهم على الح ق ،وأن المس لمين على الباطل
واستضعافهم للمؤمنين فتنة تصرف الكافرين عن اإليمان.
ويضم إلى ه ذه المع اني أن ي روا س لوك الداعية مخالف اً لإلس الم ،فيص رفهم ه ذا الس لوك عن
ُ
اإليمان ،قائلين لو كان هذا الدين هو الحق لظهرت أحقيته على قسمات أتباعه وتصرفاتهم.
نماذج صادقة :
وقد كان أصحاب النبي rنماذج صادقة لدعوتهم وإ سالمهم .يقول الحسن البصري في صفتهم" :
ظهرت منهم عالمات الخير في السيماء والسمت والهدى والصدق ،وخشونة مالبسهم باالقتصاد
وممش اهم بالتواض ع ،ومنطقهم بالعم ل .ومطعمهم ومش ربهم ب الطيب من ال رزق ،وخض وعهم
بالطاعة ل ربهم تع ال ،واس تقادتهم للحق فيما أحب وا وكره وا ،وإ عط اؤهم الحق من أنفس هم ،ظمئت
ه واجرهم ونحلت أجس امهم ،واس تخفوا بس خط المخل وقين رض ًى للخ الق ،ش غلوا األلسن بال ذكر ،
ب ذلوا دم اءهم حين استنص رهم ،وب ذلوا أم والهم حين استقرض هم ،حس نت أخالقهم ،وه انت
مؤنتهم"(.)106
ولقد أعطى الص حابة عن ه ذا ال دين ص ورة مش رفة للجنس البش ري ،فثبت وا أم ام االبتالء والمحن
تاركين من الرخص ما يمكن أن يكون سبب فتنة لغير المؤمنين.
فهذا " عبد اهلل بن حذافة السهمي " صاحب رسول اهلل rيقع في أسر الروم ( فقال له ملك الروم:
تنصر أشركك في ملكي ،فأبى ،فُأمر به فصلب ،ثم أمر برميه بالسهام فلم يجزع ،فُأنزل ،وأمر
ص ب فيها الم اء ،وُأغلي عليه وُأمر بإلق اء أس ير فيها ف إذا عظامه تل وح ،ف أمر بإلق ائ إذا لم
بق در فَ ُ
يتنصر ،فلما ذهبوا به بكى ،قال :ردوه ،فقال لم بكيت؟ قال :تمنيت أن لي مائة نفس ،تُلقى هكذا
في اهلل ،فعجب ملك الروم) (.)107
وعندما رأى سكان البالد المفتوحة صدق هؤالء األصحاب وثباتهم على عقيدتهم ،وتمثلهم لمنهج
دينهم ،أقبل وا على اإلس الم .ق ال ابن قيم الجوزي ة " :وله ذا لما رأى النص ارى الص حابة ،وما هم
عليه ،آمن أكثرهم اختياراً وطوعاً ،وقالوا :ما الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤالء" .ثم يق ول
ابن قيم الجوزي ة " :ولقد دعون ا ،نحن وغيرنا كث يراً من أهل الكت اب على الغس الم ف أخبروا أن
الم انع لهم ما ي رون عليه المنس بين إلى اإلس الم" .وكالم ابن القيم ه ذا في الق رن الث امن الهج ري؛
فكيف لو كان يعيش في عصرنا هذا ،حيث يعطى المسلم صورة عكسية لإلسالمة وتعاليمه.
والداعية قد يك ون معروف اً عند الن اس وقد يك ون مجه والً .ف إذا ش رع في ال دعوة وك ان معروف اً
باالس تقامة وال ورع ف إن كالمه يصل إلى مج امع القل وب وك ات اس تقامته وورعه تقدمة القب ول
والحافز عليها.
وإ ذا كان الداعية فقيراً في التزامه واتباعه فإن كالمه يمر فوق الرؤوس كالسهم الطائش الذي ال
يصيب الهدف.
خير من القول فاعله:
يقول الماوردي في أدب الدنيا والدين ( :وقال علي بن أبي طالب :إنما زند الناس في طلب العلم
خير من القول فاعله ،وخير من الصواب ِ ِ
لما يرون من قلة انتفاع َمن َعلم بما َعلم . .وكان يقال ُ
حامله. .
قائله ،وخير من العلم ُ
وقال بعض الصلحاء :العلم يهتف بالعمل ،فإن أجابه وإ ال ارتحل..
وق ال بعض البلغ اء ( :من تم ام العلم اس تعماله ،من تم ام العمل اس تقالله) ( .)108وإ ذا ك ان الداعية
مجه والً عند مس تمعيه ف إن كالمه يبقى معلق اً ال هو ب المقبول وال هو ب المردود ح تى يس ألوا عن ه،
ف إن عرف وا منه االس تقامة واالبت اع وقع المعلق من كالمه موقع القب ول والت أثير .وإ ال ف إن كالمه
يخرج من اعتبارهم.
وحياة الداعية الخاصة والعامة موضوع المالحظة ،وعين الناس عليه كالمجهر المكبر ،وقبل أن
يط الب الن اس ب ترك الغيبة فعليه أن ي دفع الغيبة والتهمة عن نفسه وأن يص ون حياته الخاصة
والعامة عن كل ما يشينها.
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -36-
القاعدة السابعة
خاطبوا الناس على قدر عقولهم
ال دعوة إلى اهلل تق وم على الحكمة والموعظة الحس نة .وتظهر الحكمة في معرفة المناسب من
ال دعوة لكل فئة من الن اس .والداعية الحكيم ال يق ول كل ما يع رف لكل من يع رف .وهو يتعامل
مع العقول حسب مقدرتها ال حسب مقدرته ،وال يحملها فوق طاقتها .وقد فهم ابن عباس ـ رضي
اهلل عنهما ـ قول اهلل تعالى }ولكن كونوا ربانيين{ فق ال } :كونوا حلم اء فقه اء{ وق ال البخاري :
( ويقال :الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره) (.)109
والب دء بص غار العلم مرجعه مراع اة العق ول ح تى ال تنفر من ال دعوة .ق ال ابن حج ر( :والم راد
دق منه ا) ( .)110ويش هد له ذا األصل من أص ول
بص غار العلم ما وضح من مس ائله ،وبكب اره ما ّ
الدعوة كثير من النصوص نذكر منها:
يقص ر فهم بعض
ساق البخاري حديثاً ترجم له بقوله ( :باب من ترك بعض االختيار مخالفة أن ُ
الن اس عنه فيقع وا في أشد من ه .ثم أخ رج من طريقه إلى "األس ود" ق ال :ق ال لي " ابن الزب ير" :
( كانت عائشة تُ ِس ّر إليك كثيراً ،فما حدثتك في الكعبة؟ قلت :قالت لي :قال النبي :rياعائشة ،
ل وال قومك ح ديث عه دهم ـ ق ال ابن الزب ير :بكفر ـ لنقضت الكعبة فجعلت لها ب ابين ب اب ي دخل
الناس وباب يخرجون) (.)111
قال ابن حجر رحمه اهلل ـ ( ويستفاد منه ترك المصلحة ألمن الوقوع في المفسدة) (.)112
ص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن ال يفهموا ،وقال" على وقال البخاري ـ رحمه اهلل ـ ( باب من ُخ َّ
" :ح ّدثوا الن اس بما يعرف ون أتحب ون أن ُي َك َّذب اهلل ورس وله) ( .)113ق ال ابن حجر ـ رحمه اهلل ـ :
( ومن ك ره التح ديث ببعض دون بعض( )114أحمد ومالك في أح اديث الص فات ،وأبو يوسف في
الغ رائب ،ومن قبلهم أبو هري رة في الج رابين( ،)115وأنه ك ره أن يح دث بأح دهما ،ونح وه عن
حذيفة ،وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين؛ ألنه اتخذها وسيلة إلى ما كان
رسول اهلل rوعاءين فأما أحدهما فبثثته ،وأما اآلخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم .والمقصود به
أحاديث الفتن.
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -37-
()116
،وقصة العرنيين هي قصة قم من عرينة يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي)
جوه ا ،فأعط اهم الن بي rإبالً من إبل الص دقة
ق دموا على الن بي rف اجتووا المدين ة ،أي لم يناس بهم ُّ
يش ربون ألبانها ،ويستش فون بأبواله ا ،فقتل وا الرع اة واس تاقوا اإلبل ،فلحق بهم الن بي rفقطع
أي ديهم وأرجلهم ،وت ركهم عطشى في الح َّرة .ويالحظ أن تح ديث " الحج اج " به ذا يحمله على
المبالغة في سفك الدماء ،كما قال ابن حجر.
أخ رج اإلم ام مس لم بس نده إلى ابن مس عود قوله ( :ما أنت مح دثاً قوم اً ح ديثاً ال تبلغه عق ولهم إال
كان لبعضهم فتنة) (.)117
وأخ رج البخ اري ( إن الن بي rق ال :يا مع اذ بن جبل ق ال :لبيك يا رس ول اهلل وس عديك ،ق ال :يا
مع اذ .ق ال :لبيك يا رس ول اهلل وس عديك ( ثالث اً) ق ال :ما من أحد يش هد أن ال إله إال اهلل وأن
حرمه اهلل على الن ار ،ق ال يا رس ول اهلل :أفال أخ بر به الن اس
محم داً رس ول اهلل من قلبه إال ّ
فيستبشرون؟ قال إذاً يتكلوا .وأخبر بها معاذ عند موته تأثماً) (.)118
وذلك ألن ه ذا الح ديث إذا س معه الن اس ف إنهم يحملونه على محمل خطأ ،وهو ت رك العمل
واالكتف اء ب اإلقرار ،ومع نى أنه أخ بر به تأثم اً أي :أخ بر به قبل موته مخافة اإلثم ح تى يبقى
الحديث وال ينقطع بوفاة معاذ رضي اهلل عنه.
والناس أمام هذا األصل أصناف :
الص نف األول :الع وام غ ير المتعلمين ،والتعامل معهم ودع وتهم في غاية الص عوبة .وح الهم
كحال المبتدئ في تعلم القراءة والكتابة ،وكل صعوبة أو تعقيد قد يصرفهم عن الدعوة .وهؤالء
ال تُلقى عليهم المس ائل العويصة ،والتفاص يل الدقيقة ،وال براهين العق دة والنظم المتش عبة ،وه ذا
الص نف يحت اج المتخصص في فن دع وتهم ومخ اطبتهم .وه ؤالء يعتم دون على المحس وس أك ثر
مما يعتم دون على المج رد ،وحاج اتهم الخاصة وظ روف حي اتهم أق رب الوس ائل إلى قل وبهم .
واألمثلة المنتزعة من ب يئتهم الخاصة هي األمثلة المفهوم ة .وه ؤالء تح ركهم العاطفة أك ثر مما
يح ركهم العقل .ولل ترغيب وال ترهيب في نفوس هم أثر كب ير .ومما يش حذ هممهم قصص
الصالحين ،وأخبار األولياء ،وأحداث السيرة ،على طريق السرد على على طريق التحليل.
الصــنف الثــاني :المتعلم ون من خ ريجي الجامع ات ،ومن في مس تواهم في التق دم المع رفي ،
وه ؤالء يبحث ون عن التحليل واالس تنتاج والمعنوي ات ودالئل اإلعج از ،وعند مخ اطبتهم فإنه البد
من مراع اة م نزلتهم العلمي ة .ومن يس تطيع مخاطبة الع وام قد ال يس تطيع مخاطبة الخ واص .وإ ذا
خاطبهم من هو دونهم فقد يفتنهم .
الص نف الث الث :أص حاب التخصص ات العلمي ة ،إذ لكل تخصص مص طلحاته ووس ائله ،ومن
يتع رف على ه ذا المن اخ الخ اص فإنه أق در على توجيهه ولفت نظر أص حابه إلى ال دالئل مما بين
أي ديهم .فالداعية بين المح امين يحت اج إلى معرفة ش يء عن الق وانين والص الح والط الح منها وأما
بين األطب اء فهو بحاجة غلىمعرفة بعض الج وانب ال تي تُوقف الط بيب على عظمة اهلل وقدرته في
خلق اإلنسان ووظائف أعضائه .وإ ذا كان الداعية من أهل االختصاص المزودين بالعلم الشرعي
ف إن الم ردود يك ون أعظم .ول ذا ف إن على الداعية ص احب العلم الش رعي أن يأخذ نفسه ب التثقيف،
وأن ينوع معارفه ،وإ ذا كلف بالدعوة في قطاع متخصص فاألجدر به أن يدرس هذا القطاع ،وأن
يزداد معرفة بهذا الجانب الثقافي.
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -39-
القاعدة الثامنة
االبتالء سنة اهلل تعالى وهو السبيل على
تمثل الدعوة وصياغة النفس وفق العقيدة
كلما ك ان العمل ش اقاً ودقيق اً ومعق داً اح اج الم رء إلى ب ذل جهد أك بر في االع داد والت دريب لكي
يكون على مستوى ذلك العمل .والعمل لدين الهل تعالى مستمر ومتنوع وفسيح .ومهمته ال تقف
عند حدود أشكال معينة ،بل تتعدى الشكل إلى المضمون والمحتوى .ومسئولية العامل تزداد يوم اً
بعد يوم .ومسئوليته بعد انتصار فكرته أعظم منها قبل ذلك.
من أجل ذلك وغ يره ش اءت إرادة اهلل س بحانه أن يخضع ال دعاة لص نوف من االختب ارات الش اقة.
وال تصل الجماعة المؤمنة إلى تحقيق أهدافها إال مروراً باالبتالء.
ومن خالل اآليات الكريمة واألحاديث النبوية فإننا نتبين وظائف االبتالء ونتائجه :
عن أبي ه يرة رضي اهلل عنه ق ال ،ق ال رس ول اهلل " :rمثل الم ؤمن كمثل ال زرع ال ت زال ال ريح
تميل ه ،وال ي زال الم ؤمن يص يبه البالء .ومثل المن افق كمثل ش جرة األرز ال ته تز ح تى
تُستحص د"( .)119وه ذا الح ديث يكشف عن وظيفة االبتالء البنائية بالنس بة للجماعة المس لمة ،ف إن
تعرض الزرع للحركة الدائمة يكسبه قدرة على الثبات أمام األعاصير ،في حين أن األرزة اليت
ال تحركها الري اح العادية فإنها ال تقف أم ام األعاص ير والري اح الش ديدة ،ول ذلك فإنها تتحطم.
وكذلك الدعاة فإن لديهم قوة احتمال على مواجهة الصعاب لكثرة إجراء االبتالء عليهم.
واالبتالء يعمل على اص طفاء العناصر القوية الص الحة ،فال ي دخل في العمل من يك ون عبئ اً على
الع املين ،وإ نما ي أتي إلى ال دعوة ويثبت عليها من تمكن اإليم ان في قلب ه ،ومن يبتغي وجه اهلل
والدار اآلخرة ،ألن المرء إذا علم أن المغارم أكثر من المغانم فإنه ال يختار المغارم إال إذا رضي
باآلجلة عوضاً عن العاجلة.
واالبتالء يكشف عن صدق الصادقين وحقيقة انتسابهم لإليمان ،وهذا ما تضمنته آيات من سورة
آل عمران وهي تُعقَّب على ما أصاب المسلمين يوم أحد } :إن يمسسكم قرح فقد مس القوم ُ
قرح
مثله ،وتلك األيام نداولها بين الناس وليعلم اهلل الذين آمنوا ،ويمحق الكافرين{( .)120يقول الرازي
في تفسيره ( :واعلم أنه ليس المراد من هذه المداولة أن اهلل تعالى ينصر الكافرين ألن نصرة اهلل
منصب شريف وإ عزاز عظيم فال يليق بالكافر ،بل المراد من هذه المداولة أنه تارة يشدد المحنة
على الكفار وأخرى على المؤمنين وذلك من وجوه:
األول :أنه تع الى لو ش دد المحنة على الكف ار في جميع األوق ات وأزالها عن المؤم نين في جميع
األوقات لحصل العلم االضطراري بأن اإليمان حق وما سواه باطل ،ولو كان كذلك لبطل التكليف
والثواب والعقاب ،فلهذا تارة يسلط المحنة على أهل اإليمان وأخرى على أهل الكفر.
الثاني :أن المؤمن قد يقدم على بعض المعاصي فيكون عند اهلل تشديد المحنة عليه في الدنيا أدب اً
له) (.)121
الثــالث :واالبتالء يعمق اله وة بين المؤم نين والك افرين ،فال يع ود اللق اء ممكن اً؛ ألن ممارس ات
الك افرين في إيق اع األذى ب المؤمنين ،وح رص الك افرين على استئص ال اإليم ان وجن ده ،كل ه ذا
يجعل المعركة دائمة مس تمرة ال تنتهي إال بخض وع الكف ار ألحك ام اإلس الم .ولو ظهر لين الكف ار
مع المؤمنين ،وسمح الكفار للمؤمنين ب أن يدعو لإلسالم كما يشاؤون لقال ضعاف اإليم ان :إن
الكفر ليس تلك الصفة البالغة في السوء .ومن هنا جاء البيان اإللهي لهذا الموقف المبدأي الدائم:
}ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب وال المشركين أن ُيَن َّز ُل عليكم من خير من ربكم{( .)122وقال
سبحانه }وال يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا{(.)123
الرابــع :واالبتالء يربط بين المؤم نين بعض هم ببعض برب اط عقلي وع اطفي ،إذ ب االبتالء تصل
عق ول المؤم نين إلى حقيقة البن اء اإلس المي الم تراص ،وأن االبتالء يعطي ه ذا البن اء ق وة
وص البة .وإ ن ال ذين يبتل ون من أجل إيم انهم إنما يس همون ب أعز ما يملك ون من النفس والم ال
وأما ما يحققه االبتالء من الرب اط الع اطفي ف إن األلم أدعى إلى تحقيق
واألهل واألوط انَّ .
المش اركة والتع اون ،وقد ينسى الم رء من ش اركه في مناس بة س عيدة هنيئة ،ولكنه لن ينسى من
شاركه في األلم والمعاناة.
الخــامس :واالبتالء يق دم ال دليل الق وي على ج دارة ال دعوة؛ ومن هنا ف إن كث يرين أقبل وا على
الدعوة عندما رأوا ثبات أهلها واصطبارهم على تحمل االبتالء الذي ال تثبت له الجبال الراسيات.
المبتلى أم ام الن اس ،وما زال ق ول الص حابي الجلي ل" خث بيب بن
وتحمل االبتالء ش هادة ي دلى بها ُ
عدي " رضي اهلل عنه يمأل األسماع عندما قال:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً
على أي جنب كان في اهلل مصرعي
يوقول الرازي " :ومن المعلوم أن التبع إذا عرفوا أن المتبوع في أعظم المحن بسبب المذهب
ال ذي ينص ره ،ثم رأوه مع ذلك مص راً على ذلك الم ذهب ،ك ان ذلك أدعى لهم إلى اتباعه مما إذا
رأوه ُم َرفَّه الحال ال ُكلفة عليه في هذا المذهب"(.)124
الســادس :إذا علم الم ؤمن أنه س يبتلى فإنه يبقى دائم اً على ح ذر وخ وف من اهلل .وه ذا ي دعوه
إلى إحس ان العمل والحرص على توافر شروط النصر ،والبعد عن أسباب الهزيمة من المعصية
والعجز والتواكل.
السابع :واالبتالء يحقق اإلخالص في نفس المؤمن .قال الرازي ":إن إخالص اإلنسان في حال
البالء ورجوعه إلى اهلل تعالى أكثر من إخالصه حال إقبال الدنيا عليه"(.)125
السَّن ِة مع المؤمنين عندما قال } :ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع وقد أخبر اهلل تعالى عن هذه ُ
ونقص من األم وال واألنفس والثم رات وبشر الص ابرين* ال ذين إذا أص ابتهم مص يبة ق الوا إنا هلل
وإ نا إليه راجعون{(.)126
القاعدة التاسعة
مجال الدعوة واسع فليتخير الداعية لدعوته
عندما تكون الدعوة في طور التأسيس والتكوين فإن الجهد المبذول قد يقع في مكانه المناسب إذا
راعى الداعية مبدأ التخيُّر لدعوته.
فليبدأ بالقريب قبل البعيد ،فإنه ال داعي لقطع المسافات من أجل دعوة إنسان ما ،السيما إذ كان ال
على التعيين ،في حين أن األقربين والمجاورين في السكنى أو العمل محتاجون لمثل هذه الدعوة،
وهؤالء األقربون معروفون عند الداعية ،وال يحتاج إلى جمع المعلومات عنهم ،وهم يعرفونه فال
داعي لكث ير من المق دمات .وهم يعتب ون عليه إذا أهملهم وذهب إلى األبع دين .وهو يعيش بينهم،
فهم العين الس اهرة في الخ ير والش ر ،وهم الش هداء على الس راء والض راء ،وهو عند اهلل مس ؤول
عنهم فقد أخذ الن بي على قومه أنهم ال يفقه ون ج يرانهم وال ُي َعلِّم ونهم فتوع دهم بالعقوبة وأمهلهم
س نة للقي ام به ذا التكليف( .)127وعن دما ب دأ رس ول اهلل بال دعوة أم ره اهلل تع الى أن ين ذر عش يرته
األق ربين ،فق ال :وأن ذر عش يرتك األق ربين .)128( ق ال ال رازي ( :ثم أم ره ب دعوة األق رب
فاألقرب ،ذلك ألنه إذا تشدد على نفسه أوالً ثم على األقرب فاألقرب ثاني اً ،لم يكن ألحد فيه مطعن
البتة ،وكان قوله أنفع وكالمه أنجع) ( .)129أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي اهلل
عنهما :قال ( :لما نزلت وأنذر عشيرتك األقربين صعد النبي الصفا فجعل ينادي :يا بني
ي ـ لبط ون ق ريش ـ ح تى اجتمع وا ،فجعل الرجل إذا لم يس تطع أن يخ رج أرسل ِ ِ
ف ْهر ،يا ب ني َع د ّ
رسوالً لينظر ما هو .فجاء أبو لهب وقريش ،فقال :أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيالً بالوادي تريد أن
مصدقي؟ قالوا :نعم ،ما جربنا عليك إال صدقاً ،قال :فإني نذير لكم بين يدي
َّ تُغير عليكم أكنتم
عذاب شديد) (.)130
وفي رواية أخرى للبخاري ،عن أبي هريرة :قال : يا معشر قريش ـ أو كلمة نحوهاـ اشتروا
أنفس كم ،ال أغ ني عنكم من اهلل ش يئاً ،يا عب اس بن عبد المطلب ،ال أغ ني عنك من اهلل ش يئاً ،يا
ص فية عمة رس ول اهلل ال أغ ني عنك من اهلل ش يئاً ،ويا فاطمة بنت محمد س ليني ما ش ئت من
مالي ،ال أغني عنك من اهلل شيئاً) (.)131
يقول ابن حجر:
( والسر في األمر بإن ذار األق ربين أن الحجة إذا ق امت عليهم تع دتهم إلى غ يرهم وإ ال ك انوا علة
لألبعدين في االمتناع) (.)132
وليبدأ بالصغير قبل الكبير :وذلك ألن الصغير لم يصلب عوده على فكر معين أو سلوك معين،
والتعامل معه أس هل من التعامل مع الكب ير ال ذي اخت ار طريق ه ،وك ثرت ارتباطاته ومس ؤولياته،
وحقق مرك زاً اجتماعي اً أو مكاسب دنيوية يخشى عليه ا .ثم إن الص غير ال ذي ُيقبل على ال دعوة
ي دخل مباش رة في الص ياغة والتك وين ،وال يب ذل الداعية معه وقت اً ط ويالً في تخليته من الش وائب
والع ادات الجاهلي ة ،وإ نما ينص رف إلى تحليته وتعبئته بالفض ائل والع ادات اإلس المية .والص غار
هم الذرية ال ذين من ط بيعتهم أن يكون وا أتب اع الرسل وال دعوات .ففي قصة موسى عليه الس الم
يق ول اهلل تع الى :فما آمن لموسى إال ُذرية من قومه على خ وف من فرع ون ومألهم أن يفتنهم
.)133(وال أع ني بق ولي ه ذا إهم ال الكب ار ،وإ نما أع ني أن إقب ال الص غار والناش ئة على ال دعوة
أسرع .وإ ن صغير اليوم هو رجل الغد ،والناشئة هم مستقبل األمة.
وليبدأ بالمتواضع قبل المتكبر ،ألن التواضع يدل على إمكان قبول الحق ،في حين أن التكبر يدل
على سفه الحق وغمط الناس .ومن هنا وجدنا أتباع الرسل هم من فئة الشاكر المتواضع أو الفقير
الص ابر الض عيف .والجهد مع ه ذا الص نف من الن اس ي ؤدي ثم اره في الغ الب ،وال يع ني ه ذا
حرمان األصناف األخرى من الدعوة.
إن كسب المواقع الجدي دة القريبة الس هلة الممكنة يس اعد على كسب المواقع البعي دة الص عبة ،ألن
االنتش ار الواسع يعطي ال دعوة دم اء جدي دة وحيوية وطاقة تص رف في الوص ول إلى المواقع
األبعد .ثم إن الفكرة عندما تشيع ويكثر انصارها فإن كثيرين يراجعون موقفهم منها على ضوء
ذلك.
وليب دأ ب المثقف قبل األمي ،وذلك لل دور ال ذي يق وم به المثقف في المجتم ع ،إلى ج انب أن المثقف
أقدر من غيره على محاكمة اآلراء واختيار األفكار .ومن يختار الفكرة عن وعي فإنه في الغالب
يل تزم به ا ،ثم إن المثقفين هم موض وع االختالف بين أص حاب الم ذاهب والم ادة المتن ازع عليها
بينهم.
وليبدأ بغير المنتمي قبل المنتمي ،ألن غير المنتمي يقع في مركز وسط بين المذاهب والتجمعات،
وأما المنتمي فقد انتقل من المركز إلى الط رف اآلخ ر .والجهد المطل وب لنقله إلى مركز الت أثر
أض عاف الجهد المطل وب لغ ير المنتمي؛ علم اً ب أن المنتمي إذا غ ير انتم اءه عن قناعة وفكر فإنه
ولكن هذا قليل.
سيتحول إلى الدعوة مع خبرة واسعة واستعدادات كبيرةّ ،
وليب دأ بزميله في العمل أو المهنة قبل غ يره؛ ألن أف راد كل مهنة بينهم تع اون تلق ائي .ومج االت
الح ديث بينهم مهي أة ،ونق اط االش تراك كث يرة .ف الطبيب مع األطب اء أق در منه بين المهندس ين،
والمح امي بين المح امين أق وى منه بين المعلمين .ولما ك ان الداعية يمت از بنظافة الس لوك ـ وه ذا
متوقع ـ وبالبعد عن روح التنافس الدنيوي فإنه مؤهل لالتصال بزمالئه والتأثير فيهم.
والمف روض أن ي راعى التخ ير وفق اً للمرحلة ال تي تمر فيها ال دعوة ،فقد تك ون المرحلة مرحلة
تجميع وسعة انتشار ،وقد تكون المرحلة مرحلة عمل محدد ،تربوي أو اقتصادي أو اجتماعي أو
سياس ي .وفي كل مرحلة تُ راعى مقتض ياتها ويك ون التخ ير وفق ه ذه المقتض يات .وقد نفهم ق ول
()134
على أعز اإلسالم بأحب هذين الرجلين إليك ،بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب)
النبي ( اللهم ّ
ض وء المرحلة ال تي ك انت تمر فيها ال دعوة في مكة فقد انتش رت ال دعوة بين الض عفاء والفق راء
ووص لت إلى مرحلة تريد أن تعلن فيها عن نفس ها ،وشخص ية كشخص ية عمر تناسب المرحلة
الجدي دة ،وه ذا ما ح دث ي وم أن دخل عمر رضي اهلل عنه في دين اهلل ،فقد دخلت ال دعوة ط وراً
جديداً هو طور العلن بعد السر.
وعندما ذهب مصعب بن عمير رضي اهلل عنه إلى المدينة جاءه " ُأسيد بن ُحضير "وكان مشركاً
فق ال " لمص عب" و " ألس عد بن زرارة" ما ج اء بكما إلين ا :تس فهان ض عفاءنا؟ وك ان أس عد قد ق ال
لمص عب :ه ذا س يد قومه قد ج اءك ،فاص دق اهلل في ه ،ف دعاه مص عب إلى اهلل تع الى ،وق رأ عليه
القرآن ،ثم قال :ما أحسن هذا الكالم وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟
طهّ ُر وتطهر ثوبيك ،ثم تش هد ش هادة الحق ،ثم تص لي .فق ام فاغتس ل ،وطهر
ق اال له :تغتسل فَتَ َ
ثوبيه ،وتشهد شهادة الحق ،ثم ركع ركعتين ،ثم قال لهما :إن ورائي رجالً إن اتبعكما لم يتخلف
عنه أحد من قوم ه ،وسأرس له إليكما اآلن ،س عد بن مع اذ .ولما أقبل س عد عليهما ،ق ال أس عد بن
أي مص عب ج اءك واهلل س يد من وراءه من قوم ه ،إن يتبعك ال يتخلف عنك منهم اثن ان.
ُزرارةْ :
ولما عرض عليه مصعب اإلسالم أسلم ،ثم انطلق إلى قومه بني عبد األشهل فقال :كيف تعلمون
أم ري فيكم؟ ق الوا :س يدنا ،وأوص لنا ،وأفض لنا رأي اً ،وأيمننا نقيبة ،ق ال :ف إن كالم رج الكم
علي ح رام ح تى تؤمن وا باهلل وبرس وله ،ق اال :فواهلل ما أمسى في دار ب ني عبد األش هل
ونس ائكم ّ
رجل وال امرأة إال مسلماً ومسلمة (.)135
ونس تفيد من ه ذه الحادثة أم راً مهم اً ،وهو أن توجيه ال دعوة إلى بعض مراكز الق وة في المجتمع
ُيس هم في اإلس راع في عملية التغي ير ،وقد يغ ير كث يراً في المعادلة لص الح ال دعوة .ونس تفيد منها
أيضاً مراعاة المرحلية في الدعوة.
القاعدة العاشرة
الزمن عنصر فعال من عناصر الدعوة
كثيراً ما يشعر الدعاة بخيبة األمل عندما يدعون إلى اهلل ،ويستعملون الحجج والبراهين ،ولكن ال
يج دون اس تجابة كب يرة من قبل الم دعوين .وه ذا الش عور بالخيبة ناشئ عن إس قاطهم لعنصر مهم
من عناصر معادلة الدعوة وهو عنصر الزمن.
أول ما يجب أن نعلمه أن الواقع ال ذي نتعامل معه واقع غ ير إس المي ،وأنه تش كل بفعل عوامل
كث يرة ،معظمها نشأ بفعل م ؤثرات مادية إلحادية أو فاس دة ،وقد س يطر ه ذا الواقع على أف راد
المجتم ع ،وأص بح الداعية يتعامل مع الف رد الق ابع تحت ه ذه التراكم ات الفكرية والس لوكية ،ال تي
هي بمثابة الحجاب المانع من االتصال بين الداعية والمدعو ،وبعبارة أخرى فإن الداعية في عالم
والم دعو في ع الم آخ ر .والم دعو ص احب قيم غ ير القيم ال تي ين ادي بها الداعي ة ،وله ذا كله ف إن
توقع االستجابة السريعة في غير محله ،وهو مخالف لطبائع األشياء.
إن أية كلمة يقولها الداعية ال ت ذهب هب اء منث وراً ،وإ نما ت دخل في مكون ات الم دعو ،ويختزنها
الخيِّرة ،وقد يظهر أثر كلمة قيلت قبل س نوات بفعل موقف مح رك أدى إلى
عقله وت تراكم خبراته َ
استرجاع تلك الخبرة ،ثم إن ما يقوله الداعية اليوم يجده داعية آخر رصيداً بعد سنين .وكثيراً ما
يحدث أنه عندما نتحدث مع إنسان ما يقول :هذا شيء سمعته من فالن.
وإ ن اختي ار زمن ال دعوة أمر في غاية األهمية ،وهن اك أوق ات يخلو الم رء فيها مع نفس ه ،وال
يك ون مس تعداً فيها لتقبل األفك ار .وإ ن ال دعوة تت أثر ب الجو الع ام والظ رف ال ذي يمر فيه الداعية
والم دعو ،وله ذا ف إن على الداعية أن يخت ار أنسب األوق ات ال تي ال إح راج فيها وال مش قة .يق ول
ابن مسعود رضي اهلل عنه ( :كان رسول اهلل يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا) (.)136
وال ينبغي أن يطيل الداعية على الم دعو؛ ألنه قد يض جره ويمل ه .ومعي ار ع دم اإلطالة أن ي ترك
المدعو في شوق الستكمال الموضوع ،وأن يطلب المزيد.
إما ب الرفض وإ ما
االس تعجال على الم دعو قد ي ؤدي إلى نتيجة س يئة ؛ إذ أنه قد يفصل في المس ألة ّ
باالس تجابة واإلقب ال .وكال األم رين قبل أوانه خط ير ،وه ذا من قبيل س لب الق رار ،ال من قبيل
اختيار القرار.
ففي حالة ق رار ال رفض يك ون الم دعو قد تعجل في اتخ اذ ق راره قبل أن يس تكمل وج وه ال دعوة ،
وبذلك يكون قد اتخذ موقفاً من الدعوة ،وليس من السهل أن يغير موقفه؛ ألن المرء حريص على
أن ُيعرف بالمواقف الثابتة ،وهذه النتيجة إنما كانت بفعل الداعية الذي أراد أن يجني الثمرة قبل
أوانها.
وفي حالة ق رار االس تجابة المس تعجل يجد الم دعو نفسه بعد وقت يس ير أما تك اليف وواجب ات لم
يحسب حس ابها ،ويت بين له أنه لو انتظر قليالً لما اخت ار ه ذا الموق ف ،وي دخل في ص راع بين
الموقف المعلن والموقف المبدأي وقد يرتكب محظورات سلوكية كالكذب والنفاق وكل هذا بسبب
االستعجال عليه ،ولو فتحت أمامه فرصة التفكر والتدبر التخذ الموقف المبدأي األصيل.
والطريقة المثلى أن ال نستعجل إصدار القرار ،بل نطلب من المدعو أن يتمهل في اتخاذ المواقف
،وأن نصارحه بالعقبات في طريق االستجابة إلى جانب اإليجابيات المبشرة واآلمال المتوقعة.
وإ ن ادخ ال ال زمن كعنصر من عناصر ال دعوة يخفف من ح دة ال دعاة ،ويقف أم ام الي أس ال ذي
يعتري الدعاة أحياناً ،ويفتح لهم باب األمل ،ذلك عندما يفقهون دور الزمن .وإ ن الطبيب ال يقول
للم ريض خذ العالج جرعة واح دة .بل يق ول له خ ذه على جرع ات وفي خالل م دة معينة من
الزمن.
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -47-
دس اها.)137(
فيقول :أدعو إلى تزكية النفوس لقول اهلل تعالى قد أفلح من زكاها* وقد خاب من َّ
وللوص ول إلى ه ذا اله دف نجمع المري دين ،ونطبق عليهم نظام اً يق وم على األوامر الس لوكية
واألوراد واألذكار .وينبغي أن ُيصرف االهتمام كله لهذا الهدف.
وداعية آخر يقول :الهدف إعانة الفقراء والمساكين واإلحسان إليهم لقول اهلل تعالى :ما س لككم
في س قر؟ ق الوا لم نك من المص لين* ولم نك نطعم المس كين .)138(ولتحقيق ه ذا اله دف البد من
دعوة أهل الخير إلى اإلحسان وبذل الصدقة وإ يتاء الزكاة .وإ نشاء الجمعيات الخيرية خير وسيلة
لتحقيق هذا الهدف.
وداعية ثالث يقول :الهدف تحرير المسائل العلمية المختلف فيها ،وجمع األحاديث الصحيحة،
ولتحقيق هذا الهدف البد من عقد حلقات العلم وإ نشاء المدارس والمؤسسات المتخصصة وطباعة
الكتب.
وداعية رابع يقول :الهدف هو الوصول بالمسلمين إلى درجة عالية من الوعي السياسي الذي
يطلعهم على مخططات األعداء وما يستخدمونه من الوسائل لتنفيذ هذه المخططات ،وتحقيق اً لهذا
اله دف فالبد من القي ام بالدراس ات المتخصصة العميق ة ،واالطالع على ما يق ال وينشر عن
اإلسالم.
إلى ج انب ه ذه األه داف نجد بعض ال دعاة يرضى بأه داف أص غر من ذل ك ،ك أن يك ون اله دف
تش ويه ص ورة جماعة ما باعتبارها حجر ع ثرة في طريق العمل اإلس المي ،أو ص رف االهتم ام
نحو شخص معين ُيرى أنه السبب الرئيسي في مشاكل المسلمين وقضاياهم!!
وبالرغم من أهمية بعض هذه األهداف إال أن السؤال يبقى قائم اً :هل هناك أهداف أكبر وأشمل؟
وإ ن نظرة سريعة إلى مستويات األهداف تجعلنا نقول :الهدف الكلي مقدم على الهدف الجزئي.
الهدف الذي يستغرق جميع قطاعات المجتمع مقدم على الهدف الذي يتناول فرداً أو فئة.
الهدف الدائم المستمر مقدم على الهدف المؤقت المنقطع.
الهدف الممكن مقدم على الهدف غير الممكن.
الهدف األعلى مقدم على الهدف األدنى.
وهك ذا فإنه من الممكن أن يص اغ اله دف األك بر على الش كل الت الي :اله دف الكلي األعلى الممكن
المستمر الذي يستغرق جميع قطاعات المجتمع.
عبادة اهلل أعظم األهداف :
وال يشك أحد من ال دعاة في أن أعظم األه داف وأش رفها هو ما ق رره اهلل تع الى ه دفاً لإلنس ان
وغ يره وهو ه دف العب ادة ،لق ول اهلل س بحانه :وما خلقت الجن واإلنس إال ليعب دون .)139(وقد
حمل المس لمون ه ذا اله دف ،ومن أجله انطلق وا يع برون الص حاري والقف ار ويق ارعون الجب ابرة،
وقد عبَّر عنه ربعي بن ع امر أم ام قائد الف رس ( :جئنا لنخ رج العب اد من عب اده العب اد إلى عب ادة
اهلل ،ومن جور األديان إلى عدل اإلسالم ،ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا واآلخرة) (.)140
العبادة هدف للفرد والجماعة والدولة:
وبناء على هذا فإن هدف الجماعة المسلمة والفرد المسلم والدولة المسلمة هو تحقيق العبودية هلل
رب الع المين ،وأما األه داف الخاصة فهي جزئية مرحلية أو إقليمية محلية ،أو خاصة مح دودة.
والعمل الي ومي أو األس بوعي أو الش هري أو الس نوي له أهدافه الخاصة .والعمل في القرية أو
المدينة أو العش يرة أو العم ال أو الطالب أو النس اء له أهدافه الخاصة وكل مك ون من مكون ات
المجتمع إنما يتحقق وفق أهداف خاصة.
الوسائل :
وأما الوسائل فمنها الوسائل المباشرة ومنها غير المباشرة ،ولكل هدف جزئي وسائله الخاصة ،
ف إذا قلنا :إن العب ادة تتحقق من خالل العابد الق وي في عقله وروحه وجس ده ،ف إن وس ائل خاصة
كثيرة تتوارد من أجل هذا الهدف .واإلمكانيات والمعلومات تتدخل في استخدام الوسائل ،ولست
هنا بصدد تقديم خطة دعوة إنما المقصود إعطاء صورة عن عناصر الخطة ومكوناتها.
والوسائل تُستخدم بأشكال مختلفة وأساليب عدة ،واألسلوب األفضل يعطي من الوسيلة كفاءة أكبر
،واختي ار األس لوب المناسب عامل كب ير في نج اح العمل .ومن األس اليب :اللين والش دة ،
وال ترغيب وال ترهيب ،والك ثرة والقل ة ،والسر والجهر ،والف ردي والجم اعي ،والت اريخي
والوصفي ،والعقلي والعاطفي ،واأللم واألمل ،واألخذ والعطاء.
جمع المعلومات أساس الخطة:
ولما كانت الخطة تصوراً عن عمل في مكان خاص وزمان محدد ،وأناس محددين كان البد من
جمع المعلومات عن البيئة ،سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية ،أو مناخية ،أو طبيعية
أو فكري ة ،والبد من معرفة مراكز الق وة والض عف .والبد من التع رف على العوائق والح وافز،
وبذلك تكون الدعوة إلى اهلل على بصيرة :قل هذه سبيلي أدعو إلى اهلل على بصيرة.)141(
فعال في الخطة:
الزمن عنصر َّ
فع ال في الخطة ي دل على م دى النج اح أو الفش ل ،فما يحت اج إلى ي وم واحد ال
وال زمن عنصر ّ
ينبغي أن ُيصرف فيه شهر ،وما يحتاج شهراً من الزمن ال ينبغي االسراع في إنجازه في يوم أو
أسبوع.
والمراجعة والتقييم بعد انتهاء مدة الخطة تساعد على معرفة الممكن من غير الممكن ،والسهل من
الص عب ،والمراجعة تق دم ه دفاً أو ت ؤخره ،وتحكم على فعالية الوس ائل أو ع دم فعاليته ا .وتكشف
عن جدوى األساليب أو عدم جدواها.
العين الساهرة :
والمتابعة عين س اهرة وأذن ص اغية ويد مؤي دة ،والخطة القوية قد تفشل بال متابع ة ،والخطة
الضعيفة قد تنجح مع المتابعة المستمرة.
ف إذا ت وافرت ه ذه العناصر فقد ُوج دت الخطة العلمية الواعي ة ،ثم ُيو َكل أمر تنفي ذها إلى العناصر
البش رية المدربة المنظم ة .وإلع داد المنف ذين ف إن علوم اً كث يرة أص بحت الي وم على درجة من
األهمية للداعي ة .ف العلوم اإلداري ة ،وعل وم االتص ال ب األفراد والجماع ات ،والعل وم اللغوية
والبالغية ،والعلوم النفسية والتربوية ،هذه وغيرها تُ ُّ
عد الداعية المنفذ للخطة .
والداعية الناجح ص احب مبادرة وبديهة حاضرة وقدرة على التصرف في أسوأ الظ روف .وقبل
أن يفاجأ بالمواقف الصعبة فإنه يفترضها ،ويتصورها ،ويلتمس لها الحلول ،وهكذا فإنه يستعين
بالموقف الوهمي الذي افترضه سابقاً لمواجهة الموقف المفاجئ.
القاعدة الثانية عشر
الدعوة صورة أكيدة من صور الجهاد
وتشترك مع القتال في الهدف والنتيجةـ
لم تعد كلمة الجهاد تعطي المدلوالت التي فهمها الصحابة والتابعون ،والتي جاء بها القرآن الكريم
والسنة الشريفة ،إذا أنها تعني في عرف بعض الدعاة القتال ،وأنه ال جهد بال قتال .ونتيجة لهذا
الفهم فقد ظهر في العالم اإلسالمي أناس يريدون القتال ولو لم يحن وقته وتستكمل عدته ،شعوراً
منهم بأن اإلثم يطاردهم وهم ال يقاتلون .
وتصويباً لهذا الفهم فإن علينا الرجوع إلى لسان الشرع في كلمة الجهاد ،إذ أن مراجعة المعاني
الشرعية ضرورة تعصم من الزلل واالنحراف؛ قال في اللسان ( :الجهاد محاربة األعداء ،وهو
المبالغة واس تفراغ ما في الوسع والطاقة من ق ول أو فعل ) ( .)142وق ال أيض اً( :والجه اد المب الغ
واس تفراغ ما في الوسع في الح رب ،أو اللس ان ،أو ما أط اق من ش يء) ( .)143ولبي ان ه ذا المع نى
الع ام للجه اد من س نة رس ول اهلل نس وق ق ول ابن قيم الجوزية ( :ك ان رس ول اهلل في ال ذروة
العليا منه فاس تولى على أنواعه كله ا ،فجاهد في اهلل حق جه اده ب القلب والجن ان وال دعوة والبي ان
()144
ثم يقول :أمره اهلل تعالى بالجهاد من حين بعثه وقال:ولو شئنا لبعثنا في والسيف والسنان )
كل قرية نذيراً فال تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً .)145(
فهذه سورة مكية ُأمر فيها بجهاد الكفار بالحجة والبيان وتبليغ القرآن ،وكذلك جهاد المنافقين إنما
هو بتبليغ الحجة وإ ال فهم تحت قهر أهل اإلس الم ،ق ال تع الى :يا أيها الن بي جاهد الكف ار
()146
فجه اد المن افقين أص عب من جه اد والمن افقين واغلظ عليهم ،وم أواهم جهنم وبئس المص ير
الكفار وهو جهاهد خواص األمة وورثة الرسل .والقائمون به أفراد في العالم ،والمشاركون فيه
ولما كان من أفضل الجهاد
والمعاونون عليه وإ ن كانوا هم األقل عدداً فهم األعظم عند اهلل قدراًّ .
ق ول الحق مع ش دة المع ارض مثل أن تتكلم عند من تخ اف س طوته وأذاه ك ان للرسل ص لوات اهلل
عليهم من ذلك الحظ األوف ر .وك ان لنبينا ص لوات اهلل وس المه عليه من ذلك أكمل الجه اد وأتمه .
ولما ك ان جه اد العبد في الخ ارج فرع اً على جه اد العبد نفسه في ذات اهلل ،كما ق ال الن بي ":
المجاهد من جاهد نفسه في ذات اهلل والمهاجر من هجر ما نهى اهلل عن ه" .ك ان جهاد النفس مق دماً
على جهاد العدو في الخارج) (.)147
هدف الجهاد:
ونخلص من ه ذا إلى أن الجه اد اس تفراغ الوسع في محاربة األع داء في ال داخل والخ ارج ،وليس
الهدف منه هو القضاء على العدو ،وإ نما هو القضاء على أسباب العداوة والخصومة ،فالكفر سبب
الع داوة بين الم ؤمن والك افر ،ف إذا زال الس بب ودخل الكف ار في اإلس المخ فقد زالت الع داوة.
والنفاق سبب العداوة بين المؤمن والمنافق ،وإ ذا زال النفق زالت العداوة.
ومآل الحرب في اإلسالم إلى أحد أمور:
أن يخل الكافر المحارب في اإلسالم.
أن يدفع الجزية ويخل في دار اإلسالم خاضعاً لثقافتها ونظامها.
فيقضى على كفره باستئصاله وهدر دمه.
أن ُيقتل ُ
الدعوة هي الوسيلة األولى لكسب األنصار :
وه ذا ت رتيب ت وقيفي البد من مراعات ه .ومن خالله ن رى أن ال دعوة مقدمة على غيره ا ،وهي
الوس يلة األولى لكسب األنص ار ولتحويل الكف ار إلى مؤم نين وه دف ال دعوة باللس ان واليد واح د.
واألصل في تكوين المجتمع المسلم دعوة األفراد للدخول في اإلسالم فيلتزمون عقيدته وشريعته.
وال دعوة إلى اهلل بالحكمة والموعظة ا لحس نة تجلب كل ي وم أنص اراً لإلس المم .وكلما أقبل ف رد
على ه ذه ال دعوة س قط مك ون من مكون ات الجاهلي ة ،وهك ذا ف إن الجاهلية في مكة ك ان لها في كل
يوم حديث عن تحول رجل أوامرأة من ساحة الشرك إلى ساحة اإليمان ،ومن جند الشيطان إلى
جند الرحمن.
ما فقدناه بسبب الغزو الفكري
نسترده عن طريق الدعوة
إن الغزو الفكري الذي داهم بالد المسلمين قد استحوذ على جمهرة كبيرة من أبنائها ،وسقط هؤالء
األبن اء ص رعى في معركة فكرية ك انت في غيبة ال دعاة غ ير متكافئ ة ،وما خس رناه عن طريق
الفكر ك ثر مما خس رناه عن طريق مع ارك المواجه ة ،وما نس ترده عن طريق الفكر بعد ه ذه
الصحوة واليقظة أكثر مما نسترده عن طريق المواجهة .
وفي حين أن القت ال يك ون بين مجتمعين :مجتمع اإليم ان ومجتمع الكفر بس بب العوائق ال تي
يض عها الك افرون في وجه ال دعوة ،ف إن ال دعوة ب الحوار والموعظة تبقى قائمة في المجتمع نفسه
الس تقطاب األفراد من هذا المجتمع أو من المجتمع ات األخرى .وأما انقسام المجتمع إلى فرقتين
وينتهى دور الكلمة الهادئة ال ودود،
متص ارعتين فإنه ُيلغي ال دعوة بالحكمة والموعظة الحس نةُ ،
وعن دها ال يك ون أم ام ال دعاة من س بيل إال الف رار من المجتمع والرضا بش واهق الجب ال أو عميق
الكهوف ،وبذلك تتأكل الدعوة وتذوى يوماً بعد يوم.
إن الف رار من المجتمع أو العزلة عنه أس لوب ي دل على ض يق األفق ويكشف عن جهل بأولي ات
الدعوة .ويدل أيض اً على اليأس منالمجتمع ،وعلى فشل الداعية في اإلصالح ،وإ ن أعداء الفكرة
اإلسالمية يطمعون في إيصال الداعية إلى مثل هذه القناعات ،وإ ن خطر هذه األفكار أعظم على
الدعوة من خطر أعدائها عليها.
موقف النبي من العزلة :
لقد كان رسول اهلل وهو في شعب أبي طالب يتشوق إلى اليوم الذي تُمزق فيه صحيفة المقاطعة
ليعود هو وأصحابه إلى المجتمع المكي يقارعونه بالحجة والموعظة والكلمة .وبذلك يكون رسول
اهلل قد رفض الع زل عن المجتمع ولم يعد وج وده وأص حابه في الش عب اس تقالالً مبارك اً للحركة
اإلسالمية عن المجتمع وذلك ألن اإلسالم يقرر أن للدعوة طريقين.
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -53-
الطريق األول :الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة عندما يكون المسلمون مختلطين بغيرهم وهم
قلة في المجتمع.
الطريق الث اني :ال دعوة بكل وس ائلها بما فيها القت ال وذلك عن دما يك ون للمس لمين مجتمع كتب له
أسباب الحياة من حيث الموقع االستراتيجي والسكاني واالقتصادي.
فهم المفسرين لهذه الفكرة:
تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصالة وآتوا
قال ابن كثر في تفسير قوله تعالى :ألم َ
()148
يقول : الزكاة فلما ُكتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية اهلل أو أشد خشية
( كان المؤمنون في ابتداء اإلسالم وهم بمكة مأمورين بالصالة والزكاة ،وكانوا مأمورين بمواساة
الفقراء منهم ،وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشكرين والصبر إلى حين .وكانوا يتحرقون
وي ودون لو ُأم روا بالقت ال ليتش فوا من أع دائهم .ولم يكن إذ ذاك مناس باً ألس باب كث يرة منه ا :قلة
عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم ،ومنها كونهم كانوا في بلدهم وهو بلد حرام) (.)149
تحليل :
ف ابن كث ير ـ رحمه اهلل ـ يس تبعد اس تعمال الق وة عند قلة الع دد ،ال ذي هو مظنة ع دم الغلبة ،وها
والع دد على االطالق ،وأن مائة صابرة
ُ مخالف للفهم الخطأ ،الذي خالصته أنه ال عبرة بالعدد
تغلب ألفاً .علماً بأن القرآن الكريم جاء يفصل هذه القضية .وفي سورة األنفال يقول اهلل تعالى :
حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإ نيكن منكم
يأيها النبي َّ
مائة يغلب وا ألف اً من ال ذين كف روا ب أنهم ق وم ال يفقه ون* اآلن خفف اهلل عنكم وعلم أن فيكم ض عفاً
ف إن يكن منكم مائة ص ابرة يغلب وا م ائتين وإ ن يكن منكم ألف يغلب وا ألفين ب إذن اهلل واهلل مع
الصابرين.)150(
ق ال ابن كث ير :عن ابن عب اس رضي اهلل عنهما :لم انزلت :إن يكن منكم عش رون ص ابرون
يغلب وا م ائتين شق ذلك على المس لمين ،حين ف رض اهلل عيهم أال يفر واحد من عش رة ،ثم ج اء
التخفيف فقل :اآلن خفف اهلل عنكم ق ال :خفف اهلل عنكم من الع دة ،ونقص منالص بر بق در ما
خفف عنهم . .روى البخ اري ( عن ابن عب اس ـ رضي اهلل عنهما ـ لما ن زلت ه ذه اآلية ثقل على
المس لمين ،وأعظم وا أن يقاتل عش رون م ائتين ،ومائة ألف اً ،فخفف اهلل عنهم فنس خها باآلية
األخرى ،فكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم يسغلهم أن يفروا من عدوهم ،وإ ذا كانوا دون
ذلك لم يجب عليهم قتالهم وجاز لهم أن يتجوزوا عنهم) (.)151
ق ال ال رازي :ال ذي اس تقر حكم التكليف عليه بمقتضى ه ذه اآلية كل مس لم ب الغ مكلف وقف ب إزاء
مش ركين فالهزيمة محرم اً عليه ما دام معه س الح يقاتل ب ه .ف إن لم يبق معه س الح فله أن ينه زم،
وإ ن قاتله ثالثة حلت له الهزيمة والصبر أحسن(.)152
وه ذا النمط من التربية يفتقر إليه كث ير من الن اس ال ذين يظن ون أن الته ور قربة إلى اهلل تع الى ،
ويظن ون أن رمي األل وف المؤلفة باآلح اد أس لوب مب دع من أس اليب العمل اإلس المي ،واآليت ان
الس ابقتان تبطالن ه ذاالفهم .علم اً ب أن أص حاب رس ول اهلل هم في الذؤوابة في طب الفضل
والسبق والتماس رضا اهلل سبحانه وتعالى.
وهن اك ف رق كب ير بين الرغبة في تس جيل المواقف البطولية والرغبة في تحقيق األه داف،
والوصول بالمسلمين إلى شاطئ السالمة ،والخروج بهم من المعاناة.
وأما ق ول ابن كث ير":ومنها ك ونهم ك انوا في بل دهم " في دل على فطنته وحكمت ه ،فقد التفت إلى أن
المس لمين في مكة إنما يعيش ون في بل دهم ،وعن دما يلج أون إلى الق وة ف إن آثارها ستص يب بل دهم
أوالً .والمس لم ُع رف باإلص الح واإلحس ان والتنمية والتزكية وص لة ال رحم رغم ما يك ون عليه
أعداؤه من قومه من القطيعة واإلساءة.
وقفة :
وهناك خلط كبير بين طبيعة الجماعة وطبيعة المجتمع ،والذين يطالبون الجماعة بما يطالبون به
المجتمع ،إنما يفعلون ذلك لظنهم بأن الجماعة مجتمع .
والص واب أن الجماعة أف راد من الن اس التق وا على فكر معين ووالء معين وخهطة معينة ولهم
تنظيم وقي ادة .وه ؤالء األف راد متن اثرون بين فئ ات المجتمع ال يش كلون أكثرية عددية ،وال
يملكون القوة الفاعلة في أجهزة المجتمع ومؤسساته ،وصورة المسلمين في مكة قبل الهجرة تمثل
حالة الجماعة.
وأما المجتمع فهو قط اع ع ريض من الن اس ،يحكمهم نظ ام يخض عون لس لطان ،وه ذا القط اع له
مؤسس اته وأجهزته ويس يطر على ه ذه المؤسس ات واألجه زة ويضع لها السياس ات .ويق وم ه ذا
المجتمع على أرض ال ينازعه فيها أح د ،وه ذا القط اع الع ريض يعمل على ص ياغة األف راد وفق
قيمه وتطلعاته .والمجتمع في المدينة بعد الهجرة يمثل هذه الصورة.
نتيجة:
إذا اتضح ه ذا فينبغي أن نف رق بين مواجهة مجتمع لمجتمع آخر ،وبين مواجهة جماعة لمجتم ع.
والجماعة ال تستطيع أن تواجه المجتمع ،وذلك ألن المجتمع نسيج كامل ،وأجهزة فاعلة ناشطة ال
تتوقف عن العط اء والتنمية والتك اثر ،ففي المجتمع تبقى المؤسس ات التعليمية تعم ل ،وتبقى
المؤسس ات االقتص ادية تنتج ،وتبقى ال دوائر التربوية ت ربي ،في حين أن الجماعة إذا دخلت في
محنة القتال فإن دوائرها التربوية واالقتصادية والعملية وسائر وسائلها ستتوقف عن العمل ،وفي
ستضمر وتذوى ،وإ لى جانب ذلك فإن المجتمع ال يهتز بخسارته فرداً من أفراده.
ُ النهاية فإنها
النبي بين الجماعة والمجتمع :
وتطبيق اً له ذا المب دأ ف إن الرس ول لم يوافق بعض اأنص ار في بيعة العقبة عن دما اس تأذنوه في أن
يميلوا على أهل منى بأسيافهم ،وذلك بعد أن فهموا أن البيعة على حرب األحمر واألسود.
ق ال في إمت اع األس ماع ( :وك انت ه ذه البيعة على ح رب األحمر واألس ود ،فلم اتمت بيعتهم
استأذنوا رسول اهلل أن يميلوا على أهل منى بأسيافهم ،فقال " :لم نؤمر بذلك " .فرجعوا وعادوا
إلى المدينة ) (.)156
ولو كان الهدف منالدعوة مجرد االنتقام من رؤوس الشرك ألمر رسول اهلل ـ ـ أتباعه بقتلهم ،ولو
ك ان اله دف من ال دعوة أن يصل المؤمن ون إلى مرتبة الش هادة لق اموا ب ذلك في بداية أم رهم عند
البيعة وهم في ط ور الجماع ة ،وه ذا عمل ال ينس جم مع األه داف والمص الح الكب يرة ال تي راعاها
هذا الدين.
وكذلك الحال في المدينة؛ فإن أهل المدينة لم يدخلوا في اإلسالم دفعة واحدة ،بل بقيت طوائفالنف اق
تعيث فس اداً وتت آمر على المس لمين ،إال أن رس ول اهلل اس تعاض عن ح رب التص فية الجس دية
بحرب الدعوة والجدل واإلحسان للخصوم.
اختالل الموازين أمام ضغط الواقع :
ال شك أن للواقع الذي يعيشه المسلمون تأثيراً كبيراً على فكرهم وممارستهم ،وأحياناً يصل ضغط
ه ذا الواقع إلى درجة يفقد المس لم معه اه قدرته على تص ور الخط المنهجي ،ويتس اءل :إلى م تى
نبقى تحت وط أة المعان اة ؟ فيق ول :أليس هناكش يء غ ير الص بر والمص ابرة؟ وعن دها يجيب
المتحمسون على هذا السؤال بطلب المواجهة واالنتقام ولو على حساب الدعوة.
والق رآن الك ريم يح ذرنا منه ذا التفك ير الغ ّر وي بين أن أك ثر الن اس حماس اً وته وراً واس تعجاالً هم
الذين يصابون بخور العزيمة .
ومن هنا ف إن الش جاعة في مكة ك انت بك ِّ
ف األي دي وض بط النفس ،ولم يكن ه ذا جبن اً أوخوف اً ،
والش جاعة في المدينة ك انت بالقت ال وجه اد األع داء .ومن لم يمتلك الش جاعة في مكة بكف يديه
وضبط نفسه نجده تخور نفسه وتنهار عزيمته عندما طلب منه مواجهة الكفار في ساحة المعركة.
فالتعالي على األذى والجراح مع شدة الدواعي الباعثة على االنتقام هو قمة الشجاعة .إذ أن النفس
مجبولة على ك ره الظلم وحب االنتق ام ،وإ رغامها على الص بر حرص اً على مص لحة الجماعة
الناشئة يحتاج إلى مجاهدة ومصابرة ،فقمة المجاهدة االنتصار على النفس ال االنتصار لها :ألم
تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصالة وآتوا الزكاة فلماكتب عليهم القتال إذا فريق منهم
يخش ون الن اس كخش ية اهلل أو أشد خش ية وق الوا ربنا لم كتبت علينا القت ال ل وال أخرتنا إلى أجل
قريب قل متاع الدنيا قليل واآلخرة خير لمن اتقى وال تُظلمون فتيال.)157(
يق ول األس تاذ س يد قطب رحمه اهلل ( :يعجب اهلل س بحانه من أمر ه ؤالء ال ذين ك انوا يت دافعون
حماسة إلى القت ال ويس تعجلونه وهم في مكة يتلق ون األذى واالض طهاد والفتنة من المش ركين ،
حين لم يكن مأذون اً لهم بالقت ال للحكمة ال تي يري دها اهلل ،فلما أن ج اء ال وقت المناسب ال ذي ق دره
اهلل ،وتهيأت الظروف و ُكتب عليهم القتال ،إذا فريق منهم شديد الجزع شديد الفزع)(.)158
ويق ول أيض اً ( :إن أشد الن اس حماسة وان دفاعاً وته وراً ،قد يكون ون هم أشد الن اس جزع اً
وانهي اراً وهزيمة عن دما يجد الج ّد وتقع الواقع ة ،بل إن ه ذه قد تك ون القاع دة! وذلك أن االن دفاع
والته ور والحماسة الفائقة غالب اً ما تك ون منبعثة عن ع دم التق دير لحقيقة التك اليف ،ال عن ش جاعة
واحتم ال وإ ص را ،كما أنها قد تك ون منبعثة عن قلة االحتم ال ،قلة احتم ال الض يق واألذى
والهزيم ة ،فت دفعهم قلة االحتم ال إلى طلب الحركة وال دفع واالنتص ار ب أي ش كل ،دون تق دير
لتكاليف الحركة والدفع واالنتصار ،حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدروا وأشق
مما تص وروا ،فك انوا أول الصف جزع اً ونك والً وانهي اراً .على حين يثبت أولئك ال ذين ك انوا
يمسكون أنفسهم ويحتملون الضيق واألذى بعض الوقت ،ويعدون لألمر ُع َّدته) (.)159
واجب الموجهين والمفكرين:
قد يبلغ تي ار الحم اس من الش دة إلى درجة ينس اق الم ربي والموجه والمفكر في ه ذا التي ار ،ويفقد
هؤالء قدرتهم على السيطرة والقيادة .وهذه مجاراة خطرة وكما تكون مجاراة أهل المعاصي في
معصيتهم فإن مجاراة المتعجلين والتنازل عن خط الدعوة المثمر كبيرة من الكبائر ،بالرغم مما
قد يوصف به الموجه من العجز والض عف .وإ ن الموجه ال ذي آت اه اهلل بص يرة ومعرفة مس ؤول
عن نتائج التعجل أكثر من المتعجلين.
الحل الصحيح
إن ضغط الواقع ينبغي أن ال يسوق إلى الحل الخطأ ،ومهما طال انتظار الحل الصحيح فإن هذا
هو الص واب ،وط ول ال زمن ال يفقد الحق أحقيته ،وقصر ال زمن ال ُيص فى على الخطأ ص فة
الصواب.
عود على بدء
إن الحل الص حيح هو ال دعوة مع المعان اة والص بر على ط ول الطريق والتمركز في المجتمع
والتم اس أس باب الق وة والبحث عن ه ذه األس باب في كل مجتمع ات األرض ،وحشد الطاق ات في
أكثرها توقع اً لقب ول ال دعوة ،وهو جهد ال يع رف الكلل وال الملل ،وعندئذ تق وم القاع دة الص لبة،
التي يبدأ منها طريق الحل الشامل.
وقبل ذلك :
وإ لى أن يصل المس لمون إلى تلك المرحلة فإنه س يدفعون الثمن غالي اً من الض حايا وال دماء
واألشالء ،ولكن سيجدون بعون اهلل تعالى ثمرة جهادهم وجه دهم .وبغير هذا الطريق سيدفعون
الثمن مضاعفاً مع البعد عن الهدف.
وعن دما يقبل المجتمع أن يك ون اإلس الم نظامه وش ريعته ،وذلك من خالل مراكز الق وة فيه ف إن
المجتمع يص بح إس المياً ،وعندئذ تتك ون القاع دة الق ادرة على القي ام بأعب اء الح رب ،ويك ون
المجتمع عندئذ قادراً على استغالل طاقاته ،عامالً على تعويض كل نقص ينشأ من جراء القتال ،
ويص بح القت ال وس يلة ممه دة لل دعوة تعمل على إزالة العقب ات المانعة من وص ول ال دعوة إلى
الناس.
فالهدف من الدعوة والقتال واحد ،وهو إيصال الخير إلى الناس .والفارق بينهما أن الدعوة تكون
مع احتمال األذى ،والقتال يكون دعوة مع إزالة األذى.
إن أع داء اإلس الم يطمع ون في أن تخ رج الجماعة المؤمنة عن خطها فتس تعجل النصر ،وتح اول
قطف الثم رة قبل أوانه ا .والش واهد كث يرة على عملي ات االس تدراجالتي تنتهي ب البطش والتنكيل
بالع املين لإلس الم ،إلى ج انب النت ائج الس لبية ال تي يتركها التعجل على الجماعة وأنص ارها
وخططها ومستقبلها.
لقد آن األوان أن يفعل المس لم ما يري ده ال ما ُي راد له وأن يتص رف وفق ما خطط له ،وال ينبغي
أن ُيشغل المسلم عن هدفه مؤثراً حظ النفس في العاجلة ،على تحقيق األهداف اآلجلة.
إن الجماعة اإلس المية لتس جيل كل ي وم نت ائج إيجابية تقربها من اله دف ،وإ ن الم راقب المنصف
ل يرى التح والت الجذرية في فكر كث ير من الن اس وس لوكهم ،ويالحظ أن األمة ب دأت تس تجيب
لنداء اإليمان ،وبدأت تالف ما كانت باألمس تنكره .وإ ن العمل الحثيث يصل باألمة إلى إحداث
تغيير كبير في جميع شؤون حياتها .وإ ن العديد من المؤسسات آخذ في االتجاه نحو اإلسالم.
وهكذا فإن الدعوة إلى اهلل تعالى هي الوسيلة إلى تكوين مجتمع اإلسالم وقاعدته وإ ن القتال حركة
اجتماعية تنبثق عن المجتمع وترتكز على القاع دة الص لبة وعن دها م اذا س يقول المتعجل ون ؟ هل
يقولون :ربنا لم كتبت علينا القتال لوال أخرتنا إلى أجل قريب .)160(
والسالم قال لهم :إنكم لما نظرتم إلى ظواهر األمور وجدتموني فقيراً ،وظننتم أنني إنما اشتغلت
به ذه ال دعوة ألتوسل بها إلى أخذ أم والكم ،وه ذا الظن منكم خط أ ،ف إني ال أس ألكم على تبليغ
الرسالة أجراً(.)167
الثانية :تع ودت الش عوب أن تتعامل مع المش عوذين وال دجالين من الكهنة ال ذين يتوص لون بال دين
إلى ال دنيا ومل ذاتها ،فج اء التأكيد على أن ه ذه ال دعوة نقية أص يلة ال يبتغي أهلها عرض اً من
أعراض الدنيا يتوصلون إليه بسببها.
الثالثة :كل عمل م أجور قد يعتريه النقص والخل ل؛ وص احبه يس يربه حسب مق دار األج ر .ودين
اهلل أكرم من أن ُيربط بمتاع الدنيا وتقلبه .ومن هنا فالعمل للدعوة مرتبط باإلخالص.
الرابعة :والعمل الم أجور يت أثر بمن ي دفع األج ر ،وإ رادته تت دخل في العم ل .وقد ع رفت
ال دعوات نمط اً من الن اس غ يروا وب دلوا تحت ض غط األجر ال دنيوي .وأما األنبي اء الك رام
والصالحون منالدعاة إلى اهلل فقد ثبتوا على معالم دعوتهم قاطعين طمع كل طامع في أن يغيروا
ما جاءوا به أو يبدلوه.
الخامسة :وإ ذا ع رف الن اس أن الداعية ال يلتمس منفعة دنيوية ف إنهم يت بينون ص دق الداعية في
دعوته ،وينج ذبون إلى ال دعوة .ومن هنا فقد ك انت دع وة رس ول اهلل أك ثر ال دعواتتأثيراً ،
وأعمقها أثراً في نفوس األتباع .قال الحسن البصري :ال تزال كريم اً على الناس ما لم تعاط ما
في أيديهم ،فإذا فعلت ذلك استخفوا بك وكرهوا حديثك وأبغضوك(.)168
ومن ل وازم غ نى الداعية عن الن اس أن يك ون ذا كسب من تج ارة أو زراعة أو عمل أو وحرف ة.
ك ان أي وب الس ختياني يق ول ألص حابه :الزم وا الس وق ف إن العاقبة في الغ نى( .)169وقد ُع رف
أص حاب رس ول اهلل والس لف الص الح بغن اهم عن الن اس ،وذلك لما ك انوا عليه من الكس ب ،وما
اتص فوا به من القناع ة .ولكن ينبغي أن ال يق ود الكسب ـ كحاجة ـ إلى الح رص ،وال إلى تض ييع
العمر في جمع المال.
فيع برون عن محبتهم له بالهب ات والص الت والخ دمات وقد يجد الداعية قب والً عند الن اس ُ
وال دعوات ،وقب ول الداعية لمثل ه ذه األم ور يحط من دعوته في أنظارالن اس ،فيه ون عليهم ،
ويصبحالداعية مرذول الطريقة مذموم السيرة .والصادقون من الدعاة يعطون وال يأخذون ،وهم
أصحاب األيدي العالية والنفوس الكبيرة ،ويدخل هذا تحت المروءة التي هي عنصر من عناصر
ومك ون من ُمكون ات الثق ة .يق ول الم اوردي :والم روءة هي حلية النف وس
الشخص ية المس لمة ن ُ
وزينة الهمم( .)170وال تك ون الم روءة إال في العفة والنزاهة والص يانة .والعفة البعد عن المح ارم
والم آثم .والنزاهة البعد عن المط امع الذاتي ة ،والمواقف المريب ة .وأما الص يانة فتك ون بص يانة
النفس عن تحمل المنن واالسترسال في االستعانة بالخلق(.)171
يقول الماوردي :والمحتاج إلىالناس َك ُّل ُمهتضم وذليل ُمستثقل(.)172
ومما يجب أن يلتفت إليه أن الوظ ائف ال تي ُيحبس عليها ص احبها ك التعليم واإلمامة والخطابة إنما
يأخذ األجر لكونه مشغوالً بها عن االحتراف واالكتساب وهذا جائز شرعاً ،ويدخلفي ذلك أيض اً
مسئولية اإلمامة العامة ووالية القضاء وكل ما كان من جنس هذه االعمال وكان محبوساً عليها .
ذلك ،فقالوا له :اجلس فإنما أنت أعرابي ال علم لك ،فغضب عند ذلك ،وقال :يا معشر قريش ،
والهل ما على ه ذا حالفن اكم ،وال على ه ذا عاق دناكم ُ ،أيص ُّد عن بيت اهلل من ج اء معظم اً له )
(.)176
وهات ان الحادثت ان وغيرهما كث ير في س يرة الن بي ش واهد على البص يرة ال تي ج اء ه ذا ال دين
يؤكدها في كل جزئياته ،ويستطيع الداعية إذا أوتي مثل هذه البصيرة أن يكسب قلوب الناس ،وأن
يستفيد من طاقاتهم وجهودهم.
والداعية الناجح يتعرف على أحوال الناس وأوضاعهم ،وال تغيب عنه كثير من أمورهم الفكرية
واالجتماعية والنفس ية ،ويع رف م تى يك ون الم دعو مش غوالً وم تى يك ون خالي اً ،وه ذه المعرفة
ت أتي من خالل المعايشة والنش اط االجتم اعي ،فالداعية ال يض يع أية فرصة يمكنه من خاللها
التعرف على المدعوين ،ويجب أن تتم هذه المعرفة بطريقة ال تثير انتباههم.
ومن ج وانب المعرفة الض رورية والمفي دة معرفة أوض اع الم دعو االقتص ادية ،ف إن ك ان فق يراً
مع وزاً ك انت مس اعدته من أهم القض ايا ال تي تهم الداعية ،وإ ن ك ان مريض اً ك انت مواس اته
وإ رشاده إلى الطبيب المسلم من وظائف الداعية.
وإ ن ك ان في ن زاع مع أقربائه أو جيرانه أو زوجته ك ان االص الح وجمع الش مل من اهتمام ات
الداعي ة .وإ ن ك ان قد ُهضم حقه في وظيفة أو عمل ك ان انص افه ونص ره من طموح ات الداعي ة.
وإ ن ك ان مسترش داً أو طالب اً لنص يحة في دين أو دنيا ك ان الداعية حاض راً لكل إرش اد ونص يحة
ممكنة ،وإ ذا عجز عن ذلك فلن يحرم الداعية من نصير من إخوانه يسد العجز ،ويفرج الكربة.
وحض ور الداعية في المناس بات من األف راح واألت راح واألعي اد يفتح له مي ادين ال دعوة ،ويق دم له
فرص اً طبيعية لالتصال بالناس وكسب ُو ِّدهم .وكم من سؤال عن الولد المريض جعل الوالد يفتح
قلبه ويلقي بس معه ويمد ي ده .وكم من همسة تهنئة بولد ُرزقه أو ف وز حققه ك انت س بباً في تحويل
اتجاه وتغيير قرار .وال يعدم الداعية البصير من وسائل كثيرة تساعده على كسب القلوب وتكثير
األنصار.
)?(176
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -65-
والداعية يعيش وسط كتلة بش رية ذات م ذاهب ش تى ،منها البعيد ومنها الق ريب ،ومنها المع ادي
ومنها المس الم ،ل ذا ك ان البد من معرفة ه ذه الف رق معرفة علمية موض وعية ،توقف الداعية على
حجم كل مذهب وتأثيره ،وتوقفه على تاريخ نشوئه وأهافه ووسائله.
األمر الذي يوصل الداعية إلى بر األمان والسالمة والنجاح له ولدعوته.
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -67-
بالمشركين ،وإ ن بين يدي الساعة دجالين كذابين قريب اً من ثالثين كلهم يزعم أنه نبي ،ولن تزال
طائفة من أمتي على الحق منصورين ال يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر اهلل عز وجل"(.)179
وك انت الفرقة ال تي فصل الن بي ص لى اهلل عليه وس لم أخبارها أعظم ما ابتليت به األمة والملة
فأصبحت األمة أمماً والملة ملالً.
ولقد كشفت السنة جوانب كثيرة من مستقبل األمة من باب اإلخبار والتحذير وبيان الداء والدواء ،
وهذا فتح من الغيب أكرم اهلل تعالى به نبيه زيادة في األعذار لألمة واإلشفاق عليها .ولما كانت
ه ذه األخب ار جملة غ ير مفرقة على األح داث والعص ور فقد رأيت في ض وء النسق الت اريخي
والواقع البشري أن أحاول نظمها من جهة ،وفهم مصطلحاتها من جهة أخرى.
وسأتناول أحاديث الفرق واألهواء مبيناً معاني الفتنة والعزلة والجماعة:
وإ ن أجمع حديث في هذا الباب ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي اهلل
عنه ق ال :ك ان الن اس يس ألون رس ول اهلل ص لى عن الخ ير ،وكنت أس أله عن الشر مخافة أن
ُي دركني ،فقلت :يا رس ول اهلل ،إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا اهلل به ذا الخ ير ،فهل بعد ه ذا الخ ير
دخن .قلت:وما دخنه قال :قوم
من شر؟ قال :نعم ،قلت :وهل بعد ذلك من خير؟ قال :نعم ،وفيه َ
يهدن بغير هديي ،تعرف منهم وتنكر ،قلت :فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال :نعم ،دعاة على
أب واب جهنم من أج ابهم إليها ق ذفوه فيه ا .قلت :يا رس ول اهلل ،ص فهم لن ا ،ق ال :هم من جل دتنا،
ويتكلمون بألسنتنا ،قلت :فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال :تلزم جماعة المسلمين وإ مامهم .قلت
:ف إن لم يكن لهم جماعة وال إم ام؟ ق ال :ف اعتزل تلك الف رق كله ا ،ولو أن تعض بأصل ش جرة
حتى يدركك الموت وأنت على ذلك(.)180
وروي ه ذا المع نى مفص الً في ح ديث آخر ،فعن أبي ع امر عبد اهلل بن لُحي ق ال :حججنا مع
معاوية بن أبي سفيان فلما قدمنا مكة قام حين صلى صالة الظهر ،فقال :إن رسول اهلل قال :إن
أهل الكتاب افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة ـ يعني في األهواء ـ كلها في النار إال واحدة،
ب
وهي الجماعة .وإ نه س يخرج في أم تي أق وام تج ارى بهم تلك األه واء كما يتج ارى ال َكلَ ُ
بصاحبه ،ال يبقى منه عرق وال مفصل إال دخله ،واهلل يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به
نبيكم لغيركم من الناس أحرى أن ال يقوم به(.)181
وروي في مع نى ه ذا الح ديث من طريق أبي هري رة رضي اهلل عنه ق ال " :اف ترقت اليه ود على
ُ
إح دى أو اثن تين وس بعين فرق ة ،وتف رقت النص ارى على إح دى أو اثن تين وس بعين فرق ة ،وتف ترق
أمتي على ثالث وسبعين فرقة" رواه أبو داود( ،)182وأخرجه الترمذي وقال :حسن صحيح(.)183
ويس تفاد من ه ذه األح اديث وما يؤي دها من األح اديث :التح ذير من وق وع األمة في حبائل الفرقة
والش تات ،والس يما إذا ك انت الفرقة ناش ئة عن اختالف العقائد واألص ول ،فه ذا الن وع من الفرقة
بص لة .وال يدخل في الفرقةينشئ ِملَالً وأديان اً ،ويخرج من األمة الواحدة أمم اً ال تمت إلى سلفها ِ
ذلك االختالف في الف روع وتع دد االجته ادات .وال ت دخل في ذلك م ذاهب الفقه ما دام أص حابها
يتحرون الدليل ويتفقون على األصول.
وال يق ال وال ينبغي أن ُيق ال ،إن أص حاب الم ذاهب األربعة ،أو غ يرهم ،على الحق ومن ع داهم
على الباطل ،وإ نهم ناجون وغيرهم هال ك .والضابط في هذا ما ذكره البغدادي في كتاب الفرق
بين الفرق ( :إن أمة اإلسالم تجمع المقرين بحدوث الع الم ،وتوحيد ص انعه ،وص فاته ،وعدل ه،
وحكمت ه ،ونفي التش بيه عن ه ،وبنب وة محمد ورس الته إلى الكافة ،وبتأييد ش ريعته ،وب أن كل ما
ج اء به ح ق ،وب أن الق رآن منبع أحك ام الش ريعة ،وأن الكعبة هي القبلة ال تي تجب الص الة إليه ا،
فكل من اقر بذلك ولم َي ُش ْبهُ ببدعة تؤدي إلى الكفر فهو السني الموحد) (.)184
ق ال اإلم ام ابن تيمي ة :فأما من ك ان في قلبه اإليم ان بالرس ول ما ج اء ب ه .وقد غلط في بعض ما
تأويله من الب دع فه ذا ليس بك افر أص الً ،والخ وارج ك انوا من أظهر الن اس بدعة وقت االً لألمة
وتكف يراً له ا ،ولم يكن في الص حابة من يكف رهم ال علي بن أبي ط الب وال غ يره ،بل حكم وا فيهم
بحكمهم في المسلمين الظالمين .ثم قال :ومن قال :إن الثنتين والس بعين فرقة كل واحد منهم يكفر
كفراً ينقل عن الملة فقد خالف الكتاب والسنة وإ جماع الصحابة ـ رضوان اهلل عليهم ـ بل وإ جماع
األئمة األربعة وغير األربعة(.)185
وج اء في العقي دة الطحاوية وش رحها ( :ونس مي أهل قبلتنا مس لمين مؤم نين ما دام وا بما ج اء به
النبي معترفين ،وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين .ثم قال الشارح :المراد بقوله أهل قبلتنا :من
يدعي اإلسالم ويستقبل الكعبة ،وإ ن كان من أهل األهواء ،أو من أهل المعاصي) (.)186
وما ذهب إليه ابن حجر من الق ول ( :وال دعاة على أب واب جهنم من ق ام في طلب الملك من
الخ وارج وغ يرهم) ( .)187أمر غ ير مس لم ،ف الخوارج والمعتزلة والمرجئة وأمث الهم مت أولون،
أقصى ما يوص فون به أنهم مبتدعة ولم ُيخ رجهم علماؤنا من الملة ،ولم يقول وا :إنهم من أهل
النار ،فيما عدا أولئك الغالة الذين أحلوا المحرمات ،أو عبدوا علياً أو اتخذوا لهم نبي اً غير محمد
،كما فعلت القادياني ة ،أو جعل وا لهم كتاب اً غ ير الق رآن الك ريم ،أو أنك روا معلوم اً من ال دين
بالضرورة(.)188
وإ نما المقصود تلك المذاهب الضالة التي هدمت أركان اإليمان وقوضت دعائم اإلسالم ،وخربت
عقائ ده ونظم ه ،وتبنت اإللح اد ودعت الن اس إلي ه ،وأطلقت على المنك رات أس ماء براقة لتجعلها
مألوف ة ،وأحلت ما ح َّرم اهلل تع الى ،وح رمت ما أح ل ،وعطلت أك ام الق رآن الك ريم وس نة الن بي
وأعلنت على أهل اإليم ان حرب اً ش عواء ،ورمت كل مؤمن بتهمة الجمود والرجعي ة ،واتخ ذت لها
أص والً يرفض ها اإلس الم جملة وتفص يالً ،وتراها ت وقر ما حق ره اهلل تع الى ،وتحقر ما وق ره،
فتعت بر األس ود العنسي المتن بئ الك ذاب رجل ث ورة وإ ص الح ،وتجعل من القرامطة والحشاش ين
والزنج وأتباع بابك حركات تقدم وتحرير.
وه ذه الم ذاهب منها الق ديم ،وكث ير منها ح ديث ،فالس بأية والقرامطة واإلس ماعيلية ف رق ض الة
عاثت في األرض اإلسالمية فساداً ،ونقضت هي وأمثالها اإلسالم من أصوله،وادعت إلهية البشر
من دون اهلل تعالى .ثم ظهرت البابية والقاديانية والبهائية ،ولكل واحدة من هذه الفرق كتاب غير
القرآن الكريم ونبي غير محمد .ثم ظهرت فرق إلحادية ال تؤمن بدين كالشيوعية والماسونية
وما تفرع عنهما من المذاهب واالتجاهات.
وأخطر من ه ذا كله اس تالم بعض الف رق الض الة الزعامة السياس ية والفكرية فقد أش ار الح ديث
الذي رواه حذيفة رضي اهلل عنه إلى حالتين:
الحالة األولى:
خير وفيه دخن .قلت :وما دخنه؟ فقال :قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر .وإ ن الناظر
في تاريخ المسلمين ليرى هذه المراحل التي تتميز كل مرحلة منها على سابقتها والحقتها .فقد بدأ
اإلسالم غريباً في مكة ،ثم عم خيره وعلت كلمته في عهد النبوة والخالفة الراشدة ،ثم وقعت الفتنة
،ثم اس تقر األمر لب ني أمية ،واس تقرت الدول ة ،وامت دت الفت وح ،وانتشر اإلس الم ،وق امت سياسة
الدولة على اإلسالم ،واستُمدت األحكام من شريعته ،وهذا الخير فيه دخن ( والدخن الكدورة إلى
السواد ،فالدخن في الدابة عندما ال يصفو لونها بل يكدره شيء من السواد .وقال أبو عبيدة :تكون
القلوب هكذا ،ال يصفو لونها بل يكدره شيء من السوادـ وقال أبو عبيدة :تكون القلوب هكذا ،ال
()189
فأما الخ ير فهو ع ودة األمة إلى وح دتها ،واس تمرار يص فو بعض ها لبعض وال ينصع حبه ا)
روح الجهاد ،واالحتكام للشريعة في الشؤون المختلفة ،والدخن الذي خالط هذا الخير ما كان عليه
الحكم من تعطيل لمبدأ الشورى ،وتبديد للمال واإلسراف فيه ،وما كان يصيب األمة من المظالم
وسفك الدماء بسبب المذهب والمعتقد .وبقي حال المسلمين على هذا النحو ،خير وفيه دخن ،إلى
أن دالت دولة اإلسالم ،وقامت دول علمانية أو قريبة من العلمانية ،وكانت أحكام اإلسالم قبل ذلك
س ائدة رغم ظه ور بعض المنك رات ال تي لم تص بغ المجتمع بص بغتها ،وك ان األمر ب المعروف
والنهي عن المنكر يؤدي دوره في المجتمع.
الحالة الثانية :
دخل المس لمون في ش تى بالدهم في مرحلة جدي دة س يطرت فيها ثقافة الغ رب وأخالقه وانتش رت
ة،وغيِّرت مفاهيم الحي اة .وك ان دع اة
وب دلت الثقاف ُ
التي ارات اإللحادي ة ،وغزت مؤسس ات الدول ةُ ،
ه ذا التغي ير من أبن اء األمة يتكلم ون بلغته ا ،وينتس بون إليه ا .وقدانقسم ه ؤالء ال دعاة إلى ش يع
وأح زاب وملل ش تى .وه ذا ما أش ار إليه ح ديث حذيف ة :قلت :فهل بعد ذلك الخ ير من ش ر؟ ق ال:
نعم دعاة على أبواب جهنم ،من أجابهم إليها قذفوه فيها .قلت :يا رسول اهلل ،صفهم لنا ،قال هم
من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا.
ق ال ابن حج ر ( :أي من قومنا ،ومن أهل لس اننا وملتنا إش ارة إلى أنهم الع رب ) ( .)190وه ذا من
أعالم النب وة ومعجزاته ا ،حيث أخ بر الح ديث عن ظه ور ه ذه الف رق ،وفيه إش ارة إلى القومي ات
التي انتشرت في العالم اإلسالمي ،واتخذت من العرق واللغة أساسين للتجمع واالنتماء.
ووصل األمر في كث ير من األقط ار إلى أن تمتطي ه ذه األه واء جم اهير الش عوب ،مدعية أن
الش عوب هي ال تي تخت ار طريقه ا ،وظه رت مص طلحات :الجم اهير ،والطبقة الكادح ة ،واإلرادة
الش عبية ،ونف ذت سياس ات ض رب القيم اإلس المية به ذا الطري ق .وه ذه أشد الفتن وأعتاها حيث
اس تطاع دع اة الباطل أن يتس تروا ب اإلرادة الش عبية ،ولعل ه ذه الفتنة وأعتاها حيث اس تطاع دع اة
الباطل أن يتس تروا ب اإلرادة الش عبية ،ولعل ه ذه الفتنة هي فتنة ال دهماء ال تي ذك رت في الح ديث
الذي أخرجه أبو داد وذكر فيه فتن اً أربع اً ،ومنه " :ثم فتنة الدهيماء ال تدع أحداً من هذه األمة إال
لطمته لطمة ،فإذا قيل انقضت تمادت ،يصبح الرجل فيها مؤمن اً ويمسي كافراً ،ثم يصير الناس
إلى فسطاطين :فسطاط إيمان ال نفاق فيه ،وفسطاط نفاق ال إيمان فيه"(.)191
وقد تغلغلت ه ذه األه واء بأص حابها كما أخ بر الح ديث ال ذي يرويه معاوية رضي اهلل عن ه" :
تجاري بهم تلك األهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ال يبقى منه عرق وال مفصل إال دخله " قال
الش اطبي ( ،ت ( : )790مع نى ه ذه الرواية أنه عليه الص الة والس الم أخ بر بما يك ون في أمته
من هذه األهواء التي افترقوا فيها إلى تلك الفرق ،وأنه يكون فيهم أقوام تُ داخل تلك األهواء قلوبهم
حتى ال يمكن في الع ادة انفصالهم عنها وتوبتهم منه ا ،على حد ما يداخل داء ال َكلَب جسم صاحبه
ال يبقى من ذلك الجسم جزء من أجزائه وال مفصل وال غيرهما إال دخله ذلك الداء ،وهو جرييان
ال يقبل العالج وال ينفع فيه الدواء) (.)192
أما إحصاء هذه الفرق والملل ،فقد حاول بعض العلماء حصرها كما فعل البغدادي (ت 429هـ /
1038م) في كت اب الف رق فق ال ( :فه ذه الجملة ال تي ذكرناها تش تمل على ثن تين وس بعين فرقة ،
منها عرون روافض ،وعشرون خوارج ،وعشرون قدرية ،وعشرون مرجئة ،وثالث نجارية ،
وبكرية ،وضرارية ،وجهمية ،وكرامية ،فهذه اثنتان وسبعون فرقة) (.)193
ولكن هذا اإلحصاء ال يسلم ،وعليه مآخذ:
األولى :أنه خلط بين الفرق الخارجة عن اإلسالم وبين الداخة فيه.
الثاني :أنه يتكلم عن الفرق حتى عصره ،وكأن عجلة الزمن قد توقفت ولم تنشأ فرق جديدة ،علم اً
ب أن فرق اً كث يرة نش أت بعد البغ دادي ولو عايش ها ألدخلها في حس ابه .وينبغي أن ي ترك الش راح
والمفسرون نصيباص كبيراً لألحداث الواقعية التي تفسر النص وتشريحه.
الثالث :أنه ذكر ما يزيد عن تسعين فرقة ،ثم قال فهذه ثنتان وسبعون فرقة.
دونها حائل شغل ،وال يمنع عنها مانع عذر ،إنما نريد بالعزلة ترك فضول الصحبة ،ونبذ الزيادة
منها ،وحط العالوة التي ال حاجة بها إليها) (.)196
ارتباط العزلة بنوع الفتنة:
وهن اك مس ألة البد من بيانها قبل الف راغ من موض وع العزل ة ،وهي تحديد ن وع الفتنة الداعية إلى
ت رك المجتمع واعتزاله وع دم المش اركة في أحداث ه ،أو الداعية إلى الثب ات في مواقع الت أثير
لمقاومة الفتن ومجابهتها.
فتنة التنافس على الملك :
فقد أخ بر الن بي rعن وق وع الفتن وتكاثرها ح تى كأنها القطر ال ي ترك موض عاً إال أص ابه ،فقد
أخرج البخاري ( عن أس امة بن زيد ق ال :أشرف النبي rعلى أطم من آط ام المدينة فق ال :هل
ترون ما أرى؟ قالوا :ال ،قال :فني ألرى الفتن تقع خالل بيوتكم كموقع القطر) (.)197
وك ان مقتل عثم ان رضي اهلل عنه أول فتنة وقعت ،وتالها القت ال بين علي وعائشة رضي اهلل
عنهما ،ثم صفين ،وقداختلفت اجتهادات الصحابة في ترجيح صاحب الحق ،وإ ن كان األكثرون
على أن علي اً رضي اهلل عنه هو ص احب األم ر ،وأن معاوية مجتهد مخطئ له أجر واح د .ثم
وقعت فتن بعد ذلك ك ان الب اعث عليها التن افس على الحكم والس لطان وه ذامن قبيل األث رة ال تي
أخ بر عنها الن بي ،rفقد أخ رج البخ اري عن أس يد بن حض ير ( أن رجالً أتى الن بي ،rفق ال يا
رسول اهلل استعملت فالناً ولم تستعملني ،قال :إنكم سترون بعدي أثرة ،فاصبروا حتى تلقوني )
( .)198وقد ج اء معظم الخلف اء العباس يين وس الطني المماليك وغ يرهم إلى الحكم عن طريق ه ذه
األثرة .وهذا علم من أعالم النبوة .إال أن هذه الفتن لم تخرج المجتمع من اإلسالم ،وبقي استمداد
األحكام الشرعية من الكتاب والسنة ،ويمكننا حمل ما أخرجه البخاري على هذا حيث قال ( :عن
أبي هريرة قال :قال رسول اهلل :rستكون فتن القاعدة فيها خير من القائم ،والقائم فيها خير من
الماش ي ،والماشي فيها خ ير من الس اعي ،من تش رف لها تستش رفه ،فمن وجد فيها ملجأ أو مع اذاً
فليعذ به) ( .)199وفي رواية مسلم لهذا الحديث( :فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله،
ومن كان له غنم فليلحق بغنمه ،ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه ،قال :فقال :يا رسول اهلل إن
لم يكن له إبل وال غنم وال أرض؟ قال :يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ،ثم لينج إن استطاع
ق
طلَ َ
النجاه ،اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ فقال رجل :يا رسول اهلل أرأيت إن أكرهت حتى ُين َ
بي إلى أحد الص فين ،أو إح دى الفئ تين ،فض ربني رجل بس يفه ،أويجيء س هم فيقتل ني؟ق ال :يب وء
بإثمه وإ ثمك ويكون من أصحاب النار) (.)200
ذه الفتنة على االختالف في طلب الملك حيث ال يعلم وهو ما ذهب إليه ابن حجر في حمل ه
المحق من المبطل .ونقل ابن حجر كالم اً للطبري يقول فيه :والصواب أن ُيقال إن الفتنة أصلها
االبتالء ،وإ نك ار المنكر واجب على كل من ق در علي ه ،فمن أع ان المحق أص اب ،ومن أع ان
المخطئ أخطأ ،وإ ن أشكل األمر فهي الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها.
ومن الح ديث ال ذي رواه أبو بك رة نعلم أن الف رار من الفتنة عن دما تك ون بين ص فين من المس لمين
حيث يشتبه الحق بالباطل ،وال ُيعرف المحق من المبطل .
وقد جاء هذا الفهم صريحاً عن أبي برزة األسلمي رضي اهلل عنه ،فقد أخرج البخ اري ( :عن أبي
المنهال ،قال :لما كان ابن زياد ومروان وثب ابن الزبير بمكة ،ووثب القراء بالبصرة ،فانطلقت
مع أبي إلى أبي ب رزة األس لمي ح تى دخلنا عليه في داره وهو ج الس في ظل ِعلَّية له من قص ب،
فجلسنا إليه فأنشأ أبي يستطعمه الحديث ،فقال :يا أبا برزة أال ترى ما وقع فيه الناس؟ فأول شيء
س معته تكلم ب ه :إني احتس بت عند اهلل أني أص بحت س اخطاً على أحي اء ق ريش ،إنكم يا معشر
الع رب كنتم على الح ال ال ذي علمتم من الذلة والقلة الض اللة وإ ن اهلل أنق ذكم باإلس الم ،وبمحمد
عليه الصالة والسالم ،حتى بلغ بكم ما ترون ،وهذه الدنيا التي أفسدت بينكم ،إن ذاك الذي بالشام
واهلل إن يقاتل إال على ال دنيا ،وإ ن ه ؤالء ال ذين بين أظه ركم واهلل إن ٌيق اتلوا إال على ال دنيا ،وإ ن
ذاك الذي بمكة واهلل إن ُيقاتل إال علىالدنيا) (.)201
ويب دو من ه ذا النص أن أبا ب رزة رضي اللهعنه ك ان ي رى اع تزال الفتن ة؛ ألنه ال يوجد ص احب
األمر المحق ،وك ان ابن عمر رضي اهلل عنهما قد س لك مثل هذاالس لوك عن دما اع تزل ما ح دث
بين عبد الملك بن مروان وابن الزبير ،فقد أخرج البخاري عن سعيد بن جبير قال ( :خرج علينا
عبداهلل بن عمر فرجونا أن يح دثنا ح ديثاً حس ناً ،ق ال :فبادرنا إليه رجل فق ال :يا أبا عبد ال رحمن
حدثنا عن القتال في الفتنة ،واهلل يقول } :وقاتلوهم حتى ال تكون فتنة{ ،فقال :هل تدري ما الفتنة
ثكلتك أم ك؟ إنما ك ان محمد rيقاتل المش ركين ،وك ان ال دخول في دينهم فتن ة ،وليس كقت الكم على
المل ك) ( ،)202وفي رواي ةأخرى ( :فك ان الرجل ُيفتن عن دينه إما قتل وه وإ ما يعذبونه ح تى ك ثر
اإلسالم ،فلم تكن فتنة) ( ،)203أي لم يبق فتنة من أحد من الكفار ألحد من المؤمنين.
وأخ رج البخ اري ( عن ابن عمر رضي اهلل عنهما أت اه رجالن في فتنة ابن الزب ير فق اال :إن
ض يِّعوا وأنت ابن عمر ص احب رس ول اهلل rفما يمنعك أن تخ رج؟ فق ال :يمنع ني أن اهلل
الن اس قد ُ
حرم دم أخي ،فقاال :ألم يقل اهلل } :وقاتلوهم حتى ال تكون فتنة{؟ فقال :قاتلنا حتى لم تكن فتنة،
وكان الدين هلل ،وأنتم تريدون أن تقالتوا حتى تكون فتنة ،ويكون الدين لغير اهلل) (.)204
ومن خالل هذه الروايات نتعرف على نوعين منالفتن .والبد من التركيز على الفتنة الكبرى التي
تجتاح الدين وتهدد اإليمان ،وهي التي ال مهادنة معها.
)?(204المرجع السابق(.)8/183
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -77-
وأما الموقف اإليج ابي فهو البحث عن الجماعة المؤمنة والطائفة الظ اهرة وإ عطاؤها ثم رة الجهد
وصادق االنتماء .وهذا أمر ال خيار للمؤمن فيه ،وهو قول النبي rلحذيفة (تلزم جماعة المسلمين
وإ م امهم) ق ال ابن حج ر :وورد األمر بل زوم الجماعة في ه ذه أح اديث منها ما أخرجه الترم ذي
مص ححاص وفيه :وأنا آم ركم بخمس أم رني اهلل بهن :الس مع والطاعة والجه اد والهج رة
والجماع ة ،ف إن من ف ارق الجماعة قيد ش بر فقد خلع ربقة اإلس الم من علق ه .وفي خطبة عمر
المش هورة ال تي خطبها بالجابية :ف إن عليكم بالجماعة وإ ي اكم والفرق ة ،ف إن الش يطان مع الواح د،
وهو من االثنين أبعد(.)210
وقد يتس اءل الق ارئ عن وج ود ه ذه الجماع ة .وقد يتب ادر إلى األذه ان خلو المجتمع من مثل ه ذه
الجماعة ،والجواب على ذلك خبر الصادق المصدوق rالذي قال ( :ال يزال من أمتي أمة قائمة
بأمر اهلل ،ال يضرهم من خذلهم وال من خالفهم حتى يأتيهم أمر اهلل وهم على ذلك)(.)211
وفي رواية أخرى ( حتى يأتي أمر اهلل وهم ظاهرون على الناس) .وفي رواية المغيرة بن شعبة
قوم من أمتي ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر اهلل وهم ظاهرون)
رضي اهلل عنه ( :لن يزال ّ
(.)212
وروايات هذا الحديث كثيرة ،وألفاظه متقاربة ولها بمجموعها دالالت ،منها:
أن هذه األمة لن تخلو من فئة قائمة بأمر اهلل تعالى وفق ما جاء به محمد ، rوهذه الفئة يحفظ اهلل
بها ال ذكر ،ويحقق بها إقامة الحجة على الخلق ويزيل بها الع ذر ،وين ير بها طريق الهداية
ص َح أن أهل كل عصر ال يج وز أن يخل وا من أن يك ون فيهم قائل
والرش اد ،ق ال ابن ح زم ( :فَ َ
بالحق) (.)213
وفي الوقت ذاته تكون فئات كثيرة قد تخلت عن دين اهلل ،ويكون هذا التخلي إما باإلنصراف عنه
إلى األهواء الضالة والمبادئ المنحرفة ،وهذا شأن المخالفين الذين يكيدون لكل جماعة مؤمنة .
وقد يك ون التخلي بإش غال الحي اة في طلب المت اع الزائ ل ،وب البحث عن وس ائل الراحة واالنهم اك
في الش هوات ،وه ذا ش أن القط اع األ:بر من الن اس ال ذين ال يتج اوز تفك يرهم ح دود مص الحهم
الشخصية .وهكذا فإن الجماعة المؤمنة تقع بين المخالفين والخاذلين.
ج) وإ ن الجماعة المؤمنة تك ون ظ اهرة على من عاداها وناوأها وخ ذلها ،وهي المؤي دة بنصر اهلل
تعالى ال يضرها أحد من أعدائها .ومعنى قول النبي ( rوهم ظاهرون ) :قال ابن حجر ( :أي
غالبون ،أو المراد بالظهور أنهم غير مستترين بل مشهورون .ثم قال ابن حجر :واألول أولى )
( ،)214ويبدو أن الثاني أولى ،وأن الظهور هو ظهور وجود واشتهار وإ صرار على الحق وثبات
عليه ،ويش هد له ذا المع نى الرواية ال تي أخرجها البخ اري ( :ولن ي زال أمر ه ذه األمة مس تقيماً
ح تى تق وم الس اعة ،أو ح تى ي أتي أمر اهلل) ( ،)215وال يل زم من االس تقامة الغلبة ب القوة المادي ة ،بل
تكون االستقامة ولو كانت الجماعة مستضعفة مضطهدة.
ولعل ابن حجر رجح مع نى الغلبة لما رأى من غلبة بعض أهل الحق على قطر أو ناحية من زمن
الن بي rإلى زمان ه .ولو ع اش في العص ور المت أخرة ل رأى كيف ُغلب أهل الحق من قبل أهل
الباط ل ،ولكن أهل الحق مص رون على حقهم ،ث ابتون علي ه ،معروف ون ب ه ،وال تق وى األه واء
على اقتالعهم من فكرهم ،وال يضيرهم ما يجدون من الصعاب والعقبات وصنوف األذى وألوان
االتهامات ،بل يواصلون سيرهم ،ويراهم الناس قائمين بأمر اهلل تعالى .قال النووي ( :ال يزالون
على الحق ح تى تقبض هم ه ذه ال ريح اللينة ق رب القيام ة) ( .)216لقد ك ان رس ول اهلل rوأص حابه
ظ اهرين على أهل مكة من المش ركين رغم ما ك انوا يالقونه من األذى والمط اردة ،وك ذلك ح ال
الجماعة المؤمنة القائمة بأمر اهلل فهي ظاهرة وإ ن لم تكن لها السيادة السياسية واالجتماعية.
تعيين الجماعة وهل هي واحدة؟
ال خالف في أن جماعة المسلمين في عهد النبي rوخلفائه الراشدين هي السواد األعظم من األمة
ال ذي يحكم بش رع اهلل تع الى .وظلت األمة في مرحلة الجماعة ال تي تمثلها دولة إس المية قوية إلى
أن دالت دولة اإلسالم ،فانفرط بذلك عقد األمة الواحدة ،ونشأت فيها جماعات شتى.
ويب دو أن بعض العلم اء قد نظ روا إلى خص وص النص بفئ ة ،ح تى ولو ك انت األمة في خ ير
قرونه ا ،وه اهو اإلم ام أحمد وعلي بن الم ديني وأبو عبداهلل الح اكم يحمل ون النص على أن
المقصود هم أهل الحديث .وقد نقل الحاكم عن اإلمام أحمد قوله ( .إن لم يكونوا أصحاب الحديث
فال أدري من هم) ،وق ال الح اكم ( :فلقد أحسن أحمد بن حنبل في تفس ير ه ذا الخ بر أن الطائفة
المنصورة التي ُيرفع الخذالن عنهم إلى قيامة الساعة هم أصحاب الحديث) (.)217
ورغم الدور العظيم الذي قام به المحدثون في خدمة السنة النبوية وصيانتها ،وإ ال أننا ال نستطيع
الق ول ب أن ه ذه الطائفة مس تمرة إلى قي ام الس اعة ،وفقد توقف عطاؤها واجتهادهاـ فيما ع دا أف راد
قالئل ـ كما توقف عط اء غيرها منذ مئ ات الس نين ،واألصل في نص الح ديث االس تمرار ،وبق اء
الطائفة حتى قبيل الساعة.
أما اإلمام محمد عبده فقد ذهب مذهباً بعيداً عندما استعرض حديث الفرق ثم قال( إن هذا الحديث
قد أفادنا أنه يك ون في األمة ف رق متفرق ة ،وأن الن اجي منهم واح دة ،وك ون األمة قد حصل فيها
اف تراق على ف رق ش تى ،تبلغ الع دد الم ذكور أو ال تبلغه ث ابت ،وقد وقع ال محال ة ،وك ون الن اجي
أما تعيين أي فرقة هي الفرقة الناحية أي التي تكون
منهم واحدة أيضاً حق ال كالم فيه . .ثم قالّ :
على ما الن بي عليه وأص حابه فلم يت بين لي إلى اآلن ،ف إن كل طائفة ممن ي ذعن لنبينا بالرس الة
تذهب تجعل نفسها على ما النبي عليه وأصحابه) (.)218
وقد اع ترض الش يخ رش يد رضا على أس تاذه في ه ذا الم ذاهب ،وع زاه إلى ت أثر أس تاذه ب اآلراء
الفلس فية والكالمي ة ،وإ لى حرصه على جمع كلمة المس لمين ،وأنه ك ان ينقصه س عة االطالع على
كتب الحديث .ثم عقب على مذهب أستاذه ،بأن أهل الحديث وعلماء األثر المهتدين بهدي السلف
هم هذه الطائفة ،وأنهم ثلة من األولين وقليل من اآلخرين ،وأنهم ال يمكن أن يكونوا أتباع أحد من
علماء الكالم المبتدع ،سواء منهم من ضر ومن نفع ،وال من المقلدين في الفروع أيضاً(.)219
وذهب ص احب زاد المس لم إلى أن ه ذه الطائفة هي الفئة المجاه دة في فلس طين ،وذلك في زم ان
المؤلف(.)220
أعم من كل ما سبق فقال ( :إن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين
أما النووي فقد ذهب مذهباً َّ
منهم ش جعان مق اتلون ،ومنهم مح دثون ،ومنهم زه اد آم رون ب المعروف ون اهون عن المنك ر،
ومنهم أهل أن واع أخ رى من الخ ير ،وال يل زم أن يكون وا مجتمعين بل قد يكون ون متف رقين في
أقطار األرض) (.)221
والذي يظهر لي أن هذه األقوال محصورة بأزم ان قائليه ا ،ففي زمن اإلمام أحمد ك ان المحدثون
حملة الس نة والمن افحين عنها أم ام الفلس فة اليونانية والهندي ة ،وأم ام الف رق الباطني ة ،وق اموا بجهد
هائل في جمع الحديث وتص نيفه وتمييز صحيحه من س قيمه .ولكن هذا الدور الريادي للمحدثين
توقف أو ك اد أن يتوقف مع ظه ور الكتب المص نفة في األب واب والمس انيد والمع اجم وال تراجم
والتواريخ ،وساد التقليد في العصور المتأخرة كما هو الحال في سائر أبواب المعارف اإلسالمية،
وال يمكننا أن نقول أن فئة المحدثين هي الفئة الظاهرة إلى أن يأتي اهلل بأمره أي قبيل يوم القيامة،
ووج ود أف راد قالئل من المح دثين ال يع ني وج ود طائفة فاعلة في المجتم ع ،وال ب أس أن ُيق ال إن
المحدثين كانوا يشكلون بعض هذه الطائفة في وقت سابق.
وإ ذا قال قائل إن الصوفية هي الطائفة الظاهرة ،فإن قوله ُيحمل على الزمان الذي كانت فيه هذه
الفئة فاعلة في المجتم ع ،فقد أدت الص وفية دوراً ريادي اً زمن الح روب الص ليبية ،وك ذلك ك ان
دورها ريادي اً في إفريقي ا ،عن دما وقفت في وجه الوثنية ثم في وجه الحض ارة الغربي ة ،وك انت
الربط والزوايا قواعد انطالق ،انطلق منها اإلسالم إلى قلب إفريقيا.
وإ ذا قي ل :إن المجاه دين الفلس طينيين ال ذين وقف وا في وجه اإلنجل يز واليه ود هم ه ذه الطائفة ف إن
ذلك ممكن في ذلك الزم ان عن دما ألف الش نقيطي كتابه زاد المس لم ،فيكون ون من ه ذه الطائف ة،
ويمكن أن ُيق ال ذلك في كل من حمل راية جه اد في س بيل اهلل في فلس طين وفي غيرها من بالد
المسلمين.
وال ذي يحل ه ذا اإلش كال هو البحث عن طائفة متنوعة في الكف اءات والطاق ات واإلمكان ات
واألف راد ،متح دة في الغاية واله دف .وما ذهب إليه الن ووي ق ريب من ه ذا ،وينقص عبارته
عنصر التعميم الزماني.
وقوله ( :أنواع من المؤمنين منهم شجعان مقاتلون ،ومنهم فقهاء ،ومنهم محدثون ،ومنهم زهاد
آمرون بالمعروف وناهون عن المنكر) بيان لهذا التنوع ،بل فتح الباب ألنواع أخرى عندما قال:
( ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير).
وإ ذا أدخلنا في حس ابنا األح وال ال تي تعيش ها األمة منذ ق رن من الزم ان فإننا نجد األمة قد ابتع دت
في الثقافة والفكر وفي النظم والتشريع عن اإلسالم وانقسمت األمة إلى فئات ثالث:
فئة تحارب اإلسالم ،وتستعين بحربه بجميع التيارات الوافدة واألفكار المنحرفة .وفئة تنافح عن
اإلسالم وتطالب بتحكيم القرآن الكريم وسنة النبي في حياة األمة .وفئة صرفت جهدها إلى هم
المع اش وتلبية الحاج ات ،وال تعت ني بالص راع بين الحق والباط ل ،إال إذا تعرضت مص الحها
للتوقف.
ويمكننا أن نق ول بكل ثقة إن ه ذه الفئة المنافحة عن اإلس الم الداعية إلى تحكيم ش ريعته ،القائمة
ب أمر اهلل تع الى هي الطائفة الظ اهرة ،وهي متنوعة في الطاق ات واإلمكان ات ،متح دة في األه داف
والغايات ،وال تكون هذه الطائفة على المستوى المطلوب إال بالعلم والفقه الذي يساعد هذه الطائفة
على فهم أحك ام الش ريعة ومعرفة عقي دة اإلس الم ونظمه وكيفية ال دعوة إلي ه .وال تك ون الجماعة
جماعة إال إذا وجد ال والء بين أفراده ا ،وال تك ون جماعة إال إذا ق امت على الس مع والطاعة
وااللتزام.
ف العلم الش رعي ش رط من ش روطها ،والعمل الش رعي ش رط ك ذلك ،وال والء واالل تزام ص فتان
الزمت ان له ا .وقد ج اءت بعض رواي ات الح ديث ال تي يفهم منها ش رط العلم والفقه كالرواية ال تي
أخرجها البخ اري وج اء فيه ا ( :من ي رد اهلل به خ يراً يفقهه في ال دين ،وإ نما أنا قاسم واهلل يعطي،
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -82-
ولن ت زال ه ذه األمة قائمة على أمر ربه ا ،ال يض رهم من خ الفهم ح تى ي أتي أمر اهلل) ( .)222وفي
رواية أخ رى( :ولن ي زال أمر ه ذه األمة مس تقيماً ح تى تق وم الس اعة أو ح تى ي أتي أمر اهلل)(.)223
وقد فهم الكرم اني من ه ذه الرواية أن من جملة االس تقامة التفق ه؛ ألنه األصل ،ثم ق ال :وبه ذا
ترتبط األخبار المذكورة(.)224
وقد ترجم اإلمام البخاري لباب من أبواب كتابه فقال ( :باب وكذلك جعلناكم أمة وسطاً ،وما أمر
النبي من لزوم الجماعة وهم أهل العلم) (.)225
ق ال ابن حج ر ( :فع رف أن الم راد بالوصف الم ذكور أهل الس نة والجماع ة ،وهم أهل العلم
الشرعي ،ومن سواهم ولو نسب إلى العلم فهي نسبة صورية ال حقيقية) (.)226
وبقي أن ُيق ال إن عامة الن اس ال ت دخل في ه ذه الطائفة إال إذا تف اعلت مع اإلس الم وأحكام ه،
ودخلت في حلبة الصراع لنصرة الحق وأهله ،وإ ذا قيل :ما المراد من قوله عليه الصالة والسالم
"فعليكم بالسواد األعظم"؟ وهل المراد عامة الناس وجمهورهم؟ أم فئة من الناس وخاصتهم؟.
فيجيب على ه ذا اإلم ام الش اطبي في كتابه االعتص ام حيث يق ول :روي أبو نعيم عن محمد بن
القاسم الطوسي قال :سمعت إسحاق بن راهوية ،وذكر في حديث رفعه إلى النبي قال :إن اهلل
لم يكن ليجمع أمة محمد على ضاللة ،فإذا رأيتم االختالف فعليكم بالسواد األعظم .فقال رجل :يا
أبا يعقوب ،من السواد األعظم ؟ فقال :محمد بن أسلم وأصحابه ومن تبعهم ،ثم قال :سأل رجل
ابن المب ارك :من الس واد األعظم؟ ق ال :أبو حم زة الس كري .ثم ق ال :في ذلك الزم ان ( يع ني أبا
حم زة) وفي زماننا محمد بن أس لم ومن تبع ه ،ثم ق ال إس حاق :لو س ألت الجه ال عن الس واد
األعظم ،لقالوا جماعة الناس ،وال يعلمون أن الجماعة عالم متمسك بأثر النبي وطريقه ،فما كان
معه وتبعه فهو الجماع ة .ثم ق ال الش اطبي :ف انظر في حكايته تت بين غلط من ظن أن الجماعة هي
جماعة الن اس ،وإ ن لم يكن فيهم ع الم .وهو وهم الع وام ،ال فهم العلم اء فليثبت الموفَّق في ه ذه
المزلة قدمه(.)227
وما ذهب إليه إس حاق بن راهويه فهم عميق ل دور الجماعة المس لمة والطائفة الظ اهرة ال تي تتمتع
بدرجة من الوعي تجعلها تستوعب شريعة اإلسالم وسنة النبي وتقف في وجه التحديثات الثقافية
واالجتماعية والسياس ية .وال يخ رج المس لمون من حالة الغث اء إلى مجتمع الفتح والنصر إال عن
طريق هذه الجماعة المؤمنة والطائفة الملتزمة بما عليه النبي وأصحابه.
القاعدة السابعة عشرة
الفهم الصحيح سبيل العمل الصحيح
الفهم لغة:
ال : نى كلمة الفهم فق رب مع ان الع احب لس بين ص
احب رض ص دما تع القلب( .)228وعن يء ب معرفتك الش
اً: يء ،أعلمه ،علم ان لكلمة ( علم ) :علمت الش اللس
عرفته(.)229
وه ذا يع ني أن كلمة ( الفهم ) فيها مع نى زائد على كلمة (العلم) ،ف العلم إدراك يقل عن الفهم ال ذي
هو إدراك القلب ،وه ذا يع ني أن كلمة الفهم تش ارك كلمة العلم في موض وع المعرفة وتزيد عليها
في أمر إقامة ن وع عالقة مع األش ياء ،من خالل الواقع وممارسة المع ارف ،مع إدراك أبعادها
وعالقاتها ،لتصبح بعد هذه الممارسة كأنها جزء من الذات.
وقد اعت دنا على أن ال نس تخدم كلمة ( فهمت) إال بعد اس تقرار المعلتوم ات والوص ول إلى تص ور
كامل له ا ،وتطبيقها لالطالع على ج وانب ال نصل إليها بمجر المعرف ة ،فالط الب ال يفهم المعادلة
الكيماوية بمج رد إدراك رموزها ولو ذكر المعلم نت ائج التفاع ل ،ما لم ي ذهب إلى المخت بر ليش اهد
بنفسه تلك المعادلة على ش كل م واد تتفاع ل ،وتنتج م واد جدي دة يراها الط الب بعينيه ،ويس مع
أصواتاً جديدة يسمعها بأذنيه ويشم روائح جديدة ،وعندئذ تتحول قراءته للمعادلة إلى قراءة جديدة
وهي ق راءة فهم؛ ألنه ي درك بوجدانه وقلبه أش ياء كث يرة ال يتم تس جيلها أو التعب ير عنها ب الرموز،
وعن دما تتع دد الوس ائل المدركة وتك ثر فإنها تحت اج إلى معرفة بأفراده ا ،وإ لى معرفة أخ رى
بالعالقات فيما بينها.
ف إذا اقتصر على الن وع األول من المعرفة فإنها تك ون معرفة تحليلية جزئي ة ،والمعرفة التحليلية
الجزئية هي سبب من أسباب تخلف الفهم ،فقد ابتلى المسلم المعاصر بهذا النوع من المعرفة الذي
قد يظهر فيها العلم في أعلى ص وره ،إلى ج انب الجهل في أدنى ص وره .فقد رأينا فقه اء وعلم اء
لهم حظ كب ير من العلم في تخصص اتهم ولكنهم ال يس توعبون حركة ه ذا التخصص ض من
مجموعة المعارف ،وال يركزون على مكان هذا التخصص ضمن األمكنة األخرى ،وال يبحثون
عن العالق ات والروابط بين ه ذا التخصص والتخصص ات األخ رى ،وال يعيش ون بتخصص هم في
البناء المتكامل لقضايا اإلسالم.
وخارطة الفهم اإلسالمي البد أن تشتمل على مكون ات اإلسالم ،فإذا ك انت هذه الخارجة متكاملة
كان الفهم متكامالً ،وبمقدار نقصها يكون الفهم ناقص اً .والجدير بالذكر أن نقص الفهم يؤدي إلى
نقص في الل وك والعمل ،بل وفي التص ور ،ويق ود بالت الي إلى فهم آخر ُيخ رج ص احبه عن
الصراط المستقيم ،فال يصل صاحب هذا الفهم الناقص إلى األهداف المتوخاة.
إن بعض الع املين لإلس الم يع انون من فشل ناشئ عن نقص خارطة فهمهم ،فعن دما يط رح مس لم
ما فكره اإلسالمي خالياً من تصور الحكم والسياسة ،أو خالي اً من تربية النفس وتزكية الروح ،أو
خالي اً من تربية العقل وتنش يط الفك ر ،أو خالي اً من تربية الب دن وتقوية األجس اد ،أو مرك زاً على
صالح الفرد بعيداً عن صالح المجتمع فإن مثل هؤالء جميع اً يشكلون أزمة فهم ال تسبب تأخير
المسيرة فقط بل قد تؤدي إلى جنوح المسيرة وشطط يخرج عن الصراط السوي.
إن ش مولية اإلس الم ليست موضع اجته اد بل هي ش مولية نص ية ال يج وز بح ال من األح وال
تجاوزها ،والذي يريد أن ُيخرج بعض مشتمالت اإلسالم منه تحت ضغط واقع معين يحمله على
ح ذف ش يء من اإلس الم فإنه ي رتكب ب ذلك كب يرة في ال وقت ال ذي يظن فيه أنه يحسن عمالً ،
وسيؤدي فعله هذا إلى تكوين عقول يتطاول عليها األمد وتتصلب على هذا الفهم السقيم.
لقد آن األوان للمسلمين أن ينظروا إلى نقص الفهم واجتزائه بالدرجة نفسها التي ينظرون فيها إلى
نقص اإلخالص.
إن النتيجة األرض ية ال تي ينتجها نقص الفهم ونقص اإلخالص واح دة وهي الفش ل .وال نتع رض
للنتيجة األخروية؛ ألننا ننظر إلى المسألة نظرة عملية ،وال ينبغي أن نهمل فكرة نجاح العمل في
ال دنيا لما ي ترتب عليه من ظه ور الحق وزه وق الباط ل ،وهي نتيجة تتحقق معها جدية اإلس الم،
وتظهر من خاللها أحقيته لكل ذي عينين.
الركن الثاني:
ولفهم خارطة الفهم البد من تص ور الخارطة الجغرافية المش تملة على جميع األج زاء ،وقد أخ ذت
أجزاؤها األحج ام الطبيعي ة ،ال تختل ه ذه األحج ام ال تص غيراً وال تكب يراً ،وعن دما تختل األحج ام
تك ون الخارطة خادع ة ،وك ذلك ف إن خارطة الفهم تك ون خادعة ألص حابها عن دما ُيكبِّرون
وي ِّ
صغرون أجزاء فهمهم. ُ
إن من يضع على عينيه عدسة مك برة أو ينظر من خالل المجهر البد أن يضع في اعتب اره أن ما
يراه من األحجام والمسافات ليس حقيقياً ،فإذا تصور هذا األشياء حقيقة فسيتصرف تصرفاً خاطئ اً
؛ ألنه سيظن أن الجسم الذي رآه عن طريق المنظار على مس افة أمتار منه وهو في الواقع بعي د،
وسيتص رو أن ال ذرة الص غيةر جسم كب ير يحت اج إلى ق وة كب يرة ،وهي في الحقيقة ال تقع تحت
اللمس أو تحت الحركة.
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -86-
وقد أصيب بعض المسلمين بهذا النوع من التضخم في فهمهم ألمور اإلسالم وقضاياه .فالكالم في
موضوع الخالفة والعمل من أجلها ضروري للفهم الصحيح ،ولكن أن يستغرق الكالم عن الخالفة
مس احة اإلس الم إلى درجة تص غر معها األج زاء األخ رى ح تى تك اد تخ رج عن االهتم ام هو أمر
يقضي على الخالفة نفسها ،والنظر إلى تربية الروح وتزكيتها نظرة استغراق تخضع جميع أنواع
النش اط لس يطرتها وهيمنتها بحيث تص غر أم ور اإلس الم األخ رى هو أمر يقضي على ال روح
نفسها؛ ألنه ال يقول عاقل بأن التضخم حالة صحية ،بل هو حالة مرضية ،وكذلك تضخم الفهم.
لقد أصيب بعض العاملين للغسالم بمثل هذا التضخم إلى درجة أنهم ثبتوا اهتمامهم في زاوية من
الزوايا ولم يخطر على ب الهم س وى ه ذه الزاوي ة ،فأص بحت ح التهم ح ال الم ريض ال ذي أص يب
به ذيان فال تس مع منه س وى كلمة وانح دة يردده ا ،وكلما ح اولت أن تعي ده إلى الت وازن ض جر
بمحاولتك ليعود إلى هذيانه.
إن تص ور األحج ام المناس بة لعناصر الفهم ش رط أس اس للعمل ،ف إذا اختلت األحج ام فإنه البد أن
يع ود خللها على الخطة والفهم ،وبالت الي على النت ائج والثم رات .وإ ن االنحراف ات الكب يرة في
تاريخ البشرية كانت ترجع في كثير من األحيان إلى الخلل في مساحات الفهم وأحجامه ،فاليهود
ال ذين ال يعرف وا من دينهم إال أنهم ش عب اهلل المخت ار جعلهم فهمهم ه ذا يتج اوزون ح دودهم إلى
درجة يتصورون معها تفوق عرقهم على كل عرق ،وطالبوا بإخضاع كل شيء لطموح ات هذا
العرق ورغباته حتى اهلل تعالى ،فقد صورت لهم أنفسهم تفوقهم عليه.
وكذلك النصارى الذين رثوا لحال عيسى عليه السالم فلم يجدوا تعبيراً يناسب هذا الرثاء إال نعته
بنع وت التأليه والتعظيم ليص بح فيما بعد إله اً على حد زعمهم ،لقد اختلطت العظمة باأللوهية ولم
يعد من السهل تمييزها فانحرفوا وضلوا.
وكذلك أمر مشركي العرب الذين كانوا يعظمون بعض رجالهم ،ثم انتقل التعظيم إلى اآلثار التي
ع اش الرج ال على مقربة منه ا ،ثم نس وا أولئك الرج ال لتحل األص نام محلهم وتس تولي على
عقولهم وقلوبهم ،وهكذا فلو أننا سرنا مع شعوب األرض لوجدنا أن هذه الشعوب قد أصيبت في
فهمها أكثر مما أصيبت في إخالصها للمعتقدات.
وليس أمر كثير من المس لمين بعيداً عن ه ذا ،ومع أن المسلم يبقى في دائرة اإلسالم في كثير من
األحيان مع تضخم فهمه ،لكنه لن يصل إلى النتائج التي يطمح للوصول إليها.
إن الفرق اإلسالمية هي تعبير عن تضخم الفهم وخلله ،فالقدرية الذين أنكروا القدر قوم متصفون
بالص الح والتقى ،ولكنهم وقع وا في أزمة فهم جعلتهم ينف ون الق در ويتص ورون أن علم اهلل تع الى
ليس أزلي اً بل هو علم ح ادث يك ون بعد ح دوث األش ياء .لقد أرادوا تنزيه اهلل تع الى عن الظلم،
وتضخم هذا الجانب في نفوسهم وبالغوا فيه حتى أوقعهم بوصف اهلل تعالى باجلهل ،فخرجوا عن
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -87-
قاعدة التنزيه وهم يريدون التنزيه ،ونجد هذا في الحديث الذي أخرجه اإلمام مسلم( .)230عن ابن
عمر عندما جاء يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري فقاال له :إن قبلنا أناس اً يقرؤون
()231
العلم وذك روان من ش أنهم ،أي من زه دهم وعب ادتهم ،وأنهم يقول ون :ال الق رآن ويتقف رون
داء ،فق ال ابن عم ر :إذا لقيت أولئك
ق در ،وأن األمر ُُأنف ( أي مس تأنف ) ال يعلمه اهلل ابت ً
فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برءاء مني ،فوالذي يحلف به عبداهلل بن عمر لو أن ألحدهم مثل
أحد ذهباً فأنفقه ما تقبل منه إال أن يؤمن
بالق در ،ثم س اق الح ديث ال ذي يتن اول قصة مجيء جبريل عليه الس الم إلى الن بي وفيه بي ان
أركان اإليمان.
وقد وصل األمر ببعض دع اة التنزيه إلى درجة نف وا معها الص فات بحجة توحيد اهلل تع الى
مخلص ين فيما ذهب وا إليه في التعطي ل ،والمش بهة والمعطلة س واء في النتيجة ،وال ينبغي أن
توصف فئة منهم بالعبقرية والتم يز كما ح اول المستش رقون وتالم ذتهم أن يص فوا المعتزلة
بأصحاب الفكر الحر والعقل النير وهم في الحقيقة أناس جنحوا في فهمهم.
وكذلك األمر بالنسبة للشيعة الذين أحبوا علي اً رضي اهلل عنه وآله ،ورثوا لما أصابهم ،فأخرجهم
هذا الرثاء عن جادة الفهم حيث تضخم جانب الحب والمواالة ،وسيطر على فهمهم ووجه حركتهم
ع بر الت اريخ توجيه اً خاطئ اً ،وك ان ينبغي أن يعلم وا أنه ال يل زم من حب إنس ان أن نخرجه عن
األطوار البشرية ،ونرتب جميع األوراق التاريخية السابقة والالحقة تبعاً لهذا الجانب.
وأما الخ وارج فهم فئة تم يزت بجهادها وثباتها وص البتها وإ قبالها على العب ادة وق راءة الق رآن ،
()232
ولكنهم أصيبوا بتضخم الفهم عندما عجزوا وهم كما ُوصفوا ( أنضاء عبادة واطالح سهر )
عن تص ور الجمع بين ك ون المس لم عاص ياً وكونه مؤمن اً في وقت واح د ،فحملهم طلب وض وح
الموقف وتحديده من المعصية على تكفير المسلمين فوقعوا في معصية أكبر ،لقد غاب عنهم أن
النص وص الش رعية لها أص ول تفهم من خاللها ،وأن التع ارض فيما بينها هو تع ارض ظ اهري
يزول بالعلم والرؤية الواسعة.
وعند فق دان األص ول والعلم يص بح التع ارض ش بحاً ثقيالً على العق ل ،فيحمل المس لم على اختي ار
نص وط رح نص آخ ر ،وهو في ال وقت ال ذي يريد تحكيم ش ريعة اهلل من خالل ش عار ( إن الحكم
إال هلل ) يكون قد رفض شريعة اهلل برفضه نص اً من النصوص أو حكم اً من األحكام ،ولبيان هذا
األمر لما له من األهمية نمثل بنصين يبدو فيهما التعارض .
النص األول :أخ رج اإلم ام البخ اري ومس لم ح ديثاً ج اء فيه ( من قتل نفسه بحدي دة فهو في ن ار
جنهم يتوجأ بحديدته خال داً مخل داً فيها ،ومن تج رع س ماً فهو في ن ار جهنم يتجرعه خال داً مخل داً
فيها) (.)233
وظ اهر ه ذا النص يفيد أن من قتل نفسه فهو خالد في الن ار ،والخل ود في الن ار ج زاء الكف ار،
وعليه فقتل النفس كبيرة يخلد صاحبها في النار.
النص الثاني :أخرج اإلمام مسلم في صحيحه من طريق جابر أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى
النبي فقال :هل لك في حصين حصين ومنعة ،قال حصن كان لدوس في الجاهلية ،فأبى ذلك
الن بي لل ذي ذخر اهلل لألنص ار فلما ه اجر الن بي إلى المدينة ه اجر إليها الطفيل بن عم رو
()235 ()234
له فقط بها المدينة ،فم رض فج زع فأخذ مش اقص وه اجر معه رجل من قومه ف اجتووا
()236
فشخبت يداه حتى مات ،فرآه الطفيل في منامه ،وهيئته حسنة ،ورآه مغطي اً يديه ، براجيمه
فقال له ما صنع بك ربك ؟ ،فقال :غفر لي بهجرتي إلى نبيه فقال :مالي أراك مغطي اً يديك ،
ق ال :قيل لي لن نص لح منك ما أفس دت ،فقص ها الطفيل على رس ول اهلل فق ال رس ول اهلل :
( اللهم وليديه فاغفر) (.)237
وهذا النص يفيد أن قاتل نفسه ليس مخلداً في النار بل هو في الجنة كما أخبر النبي بإقراره رؤيا
الطفيل ،ودعائه لقاتل نفسه بالمغفرة.
ويبدو التعارض الظاهري بين هذين النصين ،ولكن علماء العقيدة أزالوا هذا التعارض من خالل
فهمهم الم تزن ،فحمل وا النص األول على أن من قتل نفسه وهو مس تحل له ذا الفعل أي معتق داً
حله ،ومن اعتقد حل شيء حرمه اهلل فهو كافر خالد مخلد في النار.
وأما النص الث اني :فقد ك ان الفعل ناتج اً عن ض جر وس أم ال عن اس تحالل ما ح رم اهلل ،فلم يكن
قاتل نفسه ك افراً وال خال داً مخل داً في الن ار ،بل هو مق ترف لمعص ية مع بق اء أصل اإليم ان في
نفس ه ،ويبقى في دائرة وزن األعم ال وعرضها على اهلل ال في دائ رة حب وط األعم ال وركمها في
جهنم ،وإ ذا دخل الم ؤمن الن ار عقوبة على معص ية فعلها فس يخرج منها بعد أن ين ال ج زاءه إذ ال
خلود ألهل اإليمان في النار.
صحيح البخاري 0فتح الباري ) ،ط السلفية ، 10/247ح .5778صحيح مسلم، (?) 233
وأما في العصر الح ديث فقد أص يب بعض ال دعاة بمثل ه ذه األزمة في الفهم فنظ روا إلى العص اة
والجالدين نظ رة جعلتهم يحكم ون عليهم ب الكفر والخل ود في الن ار ،ظن اً أنهم ال يس تطيعون تعبئة
الرأي العام ضدهم ،وال يمكنهم إقناع الناس بفساد هؤالء إال إذا استندوا إلى نصوص تحكم عليهم
بالكفر والخلود.
وه ذه الفئة يمكن أن ُيق ال فيها إن فكرها قد انح رف في ظل الفتنة ،وك ان ينبغي أن يحافظ الفكر
على طبيعته ومنهجه ح تى في ظل الفتنة ،بل نحن أح وج إلى الفكر الم تزن في الفتنة أك ثر منه
خارجها.
ف الفكر ال يتع رض لالنح راف في األح وال العادية ،وإ نما يتع رض لالنح راف في المنعطف ات
الحادة ،فإذا وقعت األجساد اسيرة آلالم السياط فال ينبغي لألفكار أن تلتوي كما تتلوي األجساد.
إن قس اوة قلب الس جان ،وانح راف فط رة الجالد هما مظه ران من مظ اهر الس وء ودليالن على
فساد القلوب ،ولكننا نضعهما في مكانهما في مقاييس الشر ،والبد أن ُيقتص من كل ظالم ،ولكن
ال ينبغي أن يصل األمر إلى درجة التكف ير ؛ ألن التكف ير ال يك ون إذا إذا أنكر المس لم معلوم اً من
الدين بالضرورة ،باإلقرار على نفسه بالكفر أو إنكار آية من كتاب اهلل ،أو باستحالل ما حرم اهلل
أو بتحريم ما أحل اهلل .
إن الفهم المتزن يجعلنا نستطيع أن ندرك هذه المعادلة ،ويمكن عندئذ أن يحكم الرجل على جالده
بالمعص ية ال ب الكفر ،في حين يحكم ب الكفر على رجل رثى لحاله ومسح على جراحه وواف اه
بطعامه وش رابه ،ولكنه همس همسة واح دة ق ال فيها إن الش يء الفالني ال ذي حرمه اهلل ك ان أولى
أن يك ون حالالً ،أو إن الش يء الفالني ال ذي أحله اهلل ك ان األولى أن يك ون حرام اً .ونحن حين
ن رى ش ارب الخمر ال يج وز أن نحكم عليه ب الكفر ،وقد ن رى آخر ال يش ربها ويعافها ولكننا نحكم
عليه بالكفر عندما يقول :ما ينبغي أن تكون الخمر حراماً.
الركن الثالث:
دل مواقعها ،بل يظهر كل عنصر في مكانه أن تأخذ عناصر الفهم أماكنها الطبيعية فال تتب
الط بيعي ض من سلس لة األولوي ات؛ وذلك ألن طريقة ت رتيب األولوي ات تس هم في تغي ير المنهج
وطريقة التفك ير ،فيك ون االختالف بين جم اعتين ليس في وج ود عناصر الفهم ،ولكن في ت رتيب
ه ذه العناصر ،كما أن الب دء في المرحلة قبل أوانها يقضي على المرحلة نفس ها ،ولقد رأينا ص نع
أع داء اإلس الم وهم يح اولون في كث ير من األحي ان أن يج روا العمل اإلس المي إلى مرحلة لم ُيعد
الع دة لها ،ولم يس توعب ش روطها ومقوماتها ،وك ان ه ذا ي ؤدي باس تمرار إلى إجه اض العمل
اإلسالمي باستخدام هذه األمصال القاتلة.
فممارسة القت ال هو ذروة س نام اإلس الم ،ومك ون من مكون ات اإلس الم يه دف إلى مقارعة الفتنة
والقض اء عليها ،وتمهيد الطريق النتش ار ال دعوة ووص ولها إلى كل مك ان وإ زاحة العقب ات من
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -90-
طريقها ،والبد أن تحت وي عليه خارطة الفهم ،ومن يط الب بإلغ اء الجه اد من الفهم فإنه يكفر
ويخرج من الملة.
فقد كفرت القاديانية عندما عطلت هذه الشعيرة على المستوى النظري وحذفتها نهائي اً من خارطة
فهمها ،وص ور لها دجالها أن اإلس الم يمكن أن يتم ويكمل بغ ير جه اد .ومع أن للجه اد ه ذها
ألهمية وهو فريضة من ف رائض ال دين إال أن له ش روطاً ومق دمات البد من اكتماله ا ،ح تى نصل
إلى مكان القتال وفق ترتيبه في سلم األولويات ،وقدوتنا في هذا سيد المجاهدين النبي محمد ،
ال ذي لم ي أذن ألص حابه بالقت ال إال بعد هج رتهم للمدين ة ،علم اً ب أن األس باب الداعية للقت ال ك انت
موجودة قبل ذلك ،ولكن الشروط الضرورية للقتال لم تكن موجودة.
ونحن في ه ذه األي ام نواجه أزمة فكرية عند بعض الع املين لإلس الم ال ذين يظن ون أن ت وافر
األسباب وغزارتها يغني عن توافر الشروط ،فهم يريدون القتال على أي حال ،وهذه معادلة ذات
شق واح د ،ت ؤدي إلى نتيجة عكس ية ،وقد آن األوان ال ذي تُعتمد فيه القي ادة الراش دة ،ص احبة
المنهج والفهم ،كما آن األوان للمتعجلين أن ي دركوا ض رورة ه ذا الرشد ،ومع نى بعد النظ ر،
واتباع قاعدة األولويات ،حتى ال يقع العمل اإلسالمي في المصيدة التي ينصبهاه له أعداؤه ،وقد
ت بين بما ال ي دع مج االً للشك أن مثل ه ذه الممارس ات ك انت ع امالً في تجريد المجتمع من الق وة
اإلسالمية.
مراجعة الفهم:
وللمحافظة على ه ذا الفهم في ح دود أركانه البد من استحض ار العناصر واألولوي ات ،وأن ال
تغيب ه ذه األم ور عن الع املين لإلس الم .كما ينبغي أن ال يص رفنا االنهم اك في مرحلة من
المراحل عن استحض ار التص ور ال ذهني والنظر لجميع المراحل ،وه ذا ش رط الس تقرار المنهج
وس المة التفك ير ،وإ ن أس باب التس رب في العمل اإلس المي ترجع في كث ير من األحي ان إلى ع دم
استحض ار ه ذه األم ور أو إلى نش اط مب الغ فيه ض من جزئية من ه ذه الجزئي ات ،ومن أجل ذلك
نجد بعض ال دعاة ليس وا ق ادرين على مواكبة ال دعوة ،وقد يس يرون فيها بأجس ادهم أك ثر مما
يس يرون معها بالئحة فهمهم المتكامل ة ،ومثل ه ؤالء ل ديهم قابلية التس رب ،وعالج ه ذه القابلية
يكون بمراجعة الفهم والوصول إلى قناعات حول أركانه.
والمتتبع لس نة الن بي يجد أنه ك ان باس تمرار يعيد على الص حابة عناصر فهمهم لإلس الم ،فلو
نظرنا في ح ديث جبريل عليه الس الم ال ذي ك ان في آخر عهد النب وة ،حيث ذك رت فيه حق ائق
إس المية لم تكن مجهولة عند الص حابة بل ك انت معلوم ة ،وقد يق ول قائل ما ال داعي إلى إعادتها
وترتيبه ا؟ علم اً ب أن الحص ابة رض وان اهلل عليهم ك انوا قد س معوا كث يراً عن الص الة والزك اة
والص يام والحج واإليم ان واإلحس ان والس اعة ،ولكن منهج ه ذا ال دين يق وم على طريقه تربوية
تعتمد على إدخال المعلومة الجديدة في ظل معلومات سابقة مرتبة ،لتكون العملية الذهنية متكاملة،
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -91-
وإ ن أفضل طريقة لمراجعة الفهم هي معرفة أه داف اإلس الم الك برى ومقاص ده العظمى ،
واستحض ار ه ذه األه داف والمقاصد في حالة وعي ال تع رف اله ذيان وال التجزئه ،والمنهج
الس ديد ت تركز فيه أه داف اإلس الم ومقاص ده وهي أرك ان الفهم .والبد من معرفة ه ذه األه داف
وشرحها للعاملين ومعاودة الرح والدراسة لتبقي حية في النفوس ،صيانة لها من الغفلة والنسيان
،وهما أخو الجهل والضالل .
إن اس تعراض األه داف يعطي الداعية قناعة ب أن دعوته كلية ال جزئية ،وأنها متنوعة المراح ل،
ويوقفه على اتس اع حق ول ال دعوة ،ويكشف له عن عظيم الجهد المطل وب لتحقيق ه ذه األه داف ،
ويساعده على قياس الجهد المبذول.
إن اإلدراك الواعي لفرق الجهد بين المطلوب والمبذول يدفع الداعية إلى مراقي الجهد المطلوب،
ويشعره بالتقصير وبأسباب عدم بلوغ الغاية ،وهذا جزء مهم من عالج حالة اإلحباط في نفوس
ال دعاة .فكث ير من ال دعاة تص يبهم الح يرة لع دم وص ولهم إلى أه دافهم ،ظ انين أنهم وفَّوا ما عليهم
وأب رءوا ذمتهم .وه ذا يجعلهم يتهم ون دع وتهم بالقص ور ،أو ُيص ابون باإلحب اط ،واالته ام
بالقصور واإلحباط سببان رئيسان يخرجان الداعية عن مساره.
وزيادة في إيضاح هذه الفكرة نقول :إن الجهد المطلوب جهد موضوعي ،مثاله أن نقل مائة كيلو
غ رام يحت اج إلى ق وة حمل تس اوي مائة كيلو غ رام 100 ،كغم وزن = 100كغم ق وة .إن 90
كغم قوة ال يمكن أن ترفع وزن 100كغم.
إن الجهد المطل وب يبينه ق ول الل تع الى :يا أيها ال ذين آمن وا اتق وا اهلل حق تقاته وال تم وتن إال
وأنتم مس لون ،)238( ويبينه ح ديث ال ني " : اإليم ان بضع وس تون أو بضع وس بعون ش عبة،
أعالها ال إله إال اهلل ،وأدناها إماطة األذى عن الطري ق ،والحي اة ش عبة من اإليم ان" متفق
عليه(.)239
()240
اآلية ، وأما الجهد المب ذول في دل عليه ق ول اهلل تع الى فال تزك وا أنفس كم هو أعلم بمن اتقى
وقوله وما أصابكم من ُمصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثيراآلية (.)241
على يديه أوشك أن يعمهم اهلل بعقاب) وقال :حسن صحيح .
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -93-
ورائكم أيام اً للص بر فيهن مثل القبض على الجم ر ،للعامل فيهن مثل أجر خمس ين رجالً يعمل ون
كعملكم"(.)244
وبهذا يكون أبو ثعلبة قد فسر اآلية ،وحملها على الوقت الذي تكون فيه صفات الناس كما ذكر من
الشح المط اع .والشح أعم من البخل غذ هو في الم ال وغ يره ،فيص بح الشح هو القاع دة العامة
ويعجب كل ص احب رأي برأيه فال ش ورى وال اتف اق.
المتبع ة ،واله وى متبع اً وهو رغبة النفسُ ،
وقد يقول قائل :إن هذه الصفات تنطبق على مجتمعاتنا ،أال ترى الشح المطاع والهوى المتبع إلى
آخر هذه الصفات؟ وبذلك تكون اآلية منطبقة على زماننا ،ونحن المخاطبون بها! والحق أن هذه
الص فات الم ذكورة هي الص فات ال تي تص بح س ائدة عامة فال يخ رج أحد في المجتمع عنه ا ،وما
زال في المجتمع خ ير كث ير ،هنالك الص الحون األتقي اء والك رام األس خياء ،وطالب اآلخ رة
األولياء ،والباحثون عن الدليل من الكتاب والسنة ،وليس المراد أان يكون بعض الناس على هذه
الصفات السيئة ،فوجود الشحيح أمر متحقق في كل عصر وفي كل مكان ،ووجود المعجب برأيه
مدع أن هذا موجود حتى في عصر
المعتد بخطئه والمعتز بخطيئته ممكن في كل دهر .وقد يدعي ٍ
الص حابة الك رام وفي عصر الت ابعين األب رار ،و هو ما أش كل على بعض الص حابة ح تى ق ام أبو
بكر ينفي هذا اإلش كال ،وما اختلط على أبي أمية الشعباني فقام يس أل أبا ثعلبة الخشني رضي اهلل
عنه ،فصرف أبو ثعلبة زمن تحققها عن زمان الصحابة الكرام ،وقيد وجودها بالصفات المذكورة
على وجه اإلحكام.
ونحن نقول :إن الزمان الذي تصل فيه األمور إلى هذا الحد من الشح والهوى والدنيا المؤثرة لم
يأت بعد ،ويكون ذلك قُبيل يوم القيامة؛ ألن القيامة ال تقوم إال على شرار الخلق وأبغضهم إلى اهلل
تعالى .وإ ن استغراق هذه الصفات الذميمة ألبناء الجنس البشري يجعل الحياة عديمة الجدوى بال
هدف ،وعندئذ يكون القدر المقدور في تدمير هذا الكون المعمور.
ونقول أيض اً :إن هذه الص فات تعني فساد الفطرة اإلنسانية وتنكبها عن الخير وتمحضها للشر.
وقد أخبرنا الن بي عن زم ان ال تُقبل فيه توب ة ،وأخبرنا الق رآن الك ريم عن وقت ال ينفع فيه نفس اً
إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كس بت في إيمانها خ يراً .ق ال عليه الص الة والس الم" :ال تنقطع
الهج رة ح تى تنقطع التوب ة ،وال تنقطع التوبة ح تى تخ رج الش مس من مغربه ا"( ،)245فب اب التوبة
مفتوح على مصراعيه ،والتوبة مبذولة لجميع البشر ،ويترتب على ذلك األمر بالمعروف والنهي
عن المنكر ،وع دم الي أس من النسا ،والقي ام ب واجب اإلن ذار والبالغ ،ولكن عن دما تنقطع التوبة
ٍ
فعندئذ ال يفيد اإلنذار والبالغ إال ويغلق بابها بظهور العالمات الكبرى التي ال ينفع اإليمان بعدها
ُ
ص احبهما في حص وله على أجرهما وثوابهم ا .وه ذا ما جعل ابن مس عود ي رى أن بعض آي ات
القرآن الكريم جاء تفسيرها ،وبعضها لم يأت تفسيرها.
ثم إن مما تفي ده اآلية ت حص ين النفس ووقايتها من عوامل الشر ب أن يق وم المس لم بعملين
متالزمين :األول :إص الح ال ذات ،والث اني :اإلص الح خارجه ا .والخطر على ال ذات يك ون من
داخله ا ،ويك ون من خارجه ا ،ف إذا ت ركت ال ذات دون تحص ين وحفظ تس ربت إليها الع وادي
الخارجية فأفسدتها .واآلية تأمر المؤمنين بأن يحافظوا على أنفسهم من هذه العوادي كما في قوله
تعالى :يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودهها الناس والحجارة.)246(
وقد ج اء في تفس ير اآلية أن مع نى أنفس كم :ق ومكم وأمتكم ،كما في قوله تع الى فس لموا على
()248 ()247
ويك ون المع نى احرص وا على أمتكم ،وكما في قوله وال تلم زوا أنفس كم أنفس كم
وعلى أهل دينكم.
ونخلص من كل هذا إلى أن اآلية فيها دافعية عظيمة للعمل والحرص على مصلحة األمة ،وليست
سلبية عدمية تدعو إلى اإلنكباب على الذات فقط ،أو على المصلحة الخاصة فحسب.
قليله .والذي يتنوع ويختلف إنما هو المنازل والدرجات ،فهذه تختلف حسب األحوال واألوضاع،
فأعلى درجات إنكار المنكر التغيير باليد ،وأدناه التغيير بالقلب.
بأيهما نبدأ:
اقترن ذكر األمر بالمعروف بالنهي عن المنكر في أكثر اآليات واألحاديث التي تحض على القيام
بهذه الفريض ة ،وجاء ذكر النهي عن المنكر وحده في مواضع أخرى ،وذلك مثل قوله تعالى عن
ب ني إس رائيل :لُعن ال ذين كف روا من ب ني إس رائيل على لس ان داود وعيسى بن م ريم ،ذلك بما
عصوا وكانوا يعتدون* كانوا ال يتناهون عن ُمنكر فعلوه لبئس ماكانوا يفعلون.)252(
وج اء إف راد النهي عن المنكر في الح ديث " :من رأى منكم منك راً فليغ يره بي ده ،ف إن لم يس تطيع
فبلسانه ،فإن لم يستطع فبقلبه ،وذلك أضعف اإليمان"(.)253
وه ذا التنويع في ذكر األمر ب المعروف والنهي عن المنكر ي دل على أن كالً منهما قد يطلب في
ظروف أو أحوال معينة ،وأنهما قد يجتمعان أو ينفردان .والذي يقرر دون كل واحد منهما تمكن
أح دهما في المجتم ع ،ف إذا تمكن المنكر كما ك ان الح ال في مكة قبل الهج رة ،أوكما هو في بعض
المجتمعات اإلسالمية المعاصرة فإن األمر بالمعروف يبرز ويأخذ دوره في عملية التغيير ،فإذا
تمكن المع روف وهيمن على المجتمع ف إن النهي عن المنكر ي برز ويأخذ دوره لمعالجه الظ واهر
الش اذة ،كما ك ان الح ال بعد الهج رة إلى المدين ة ،وقي ام المجتمع المس لم فيها ،وكما هو الح ال في
مؤسسة إسالمية ،أو جماعة من الناس رضيت بحكم اإلسالم فيها.
داود( ، )1/677طبعة دار الحديث بحمص بتحقيق الدعاس ،وابن ماجة( ، )1/406طبعة
عيسى الحلبي بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -97-
تتصف طبيعة النهي عن المنكر بالمقاومة والمغالبة وروح التح دي واإلث ارة ،فهو يتض من تس فيه
األحالم وتخطئه األقوال والتصرفات ،ومقاومة العادات والرغبات.
ومن هنا كان النهي عن المنكر أخطر وأشق من األمر بالمعروف.
عملية التغيير من خالل األمر بالمعروف:
يب دأ األمر ب المعروف بكلمة ودود ،ليس فيها إث ارة أو مغاض بة ،وليس فيها مقاومة أو معان دة
،وتك ون الكلمة منطقية ذات حجة قوي ة ،وب ذلك تب دأ عملية التغي ير في المجتمع من خالل مراحل
عدة :
المرحلة األولى:
عن دما ُيلقى ق ول المع روف أو فعله في مجتمع المنكر يلقى ه ذا الق ول أو الفعل االس تهجان
والسخرية ،وهذه هي المرحلة األولى؛ ألن عيون أهل المنكر وآذانهم وأذواقهم لم تتعود على مثل
ه ذا الق ول أو الفعل فيقابل بالس خرية واالس تهزاء واالس تهجان ،كما هو الش أن في كل جدي د .فلقد
أثارت صالة النبي استهجان أهل مكة وسخريتهم في أول األمر.
المرحلة الثانية:
ف إذا واصل أهل المع روف مع روفهم ف إن مرحلة جدي دة تب دأ وهي مرحلة ع دم الرضا والمقت مع
الح وار والج دل .وهنا تب دأ مرحلة ال دفاع عن المع روف ،والمحافظة علي ه ،وإ دامة زراعت ه،
وحياطة بذرته بالرعاية الالزمة .والجدير بالذكر أن المعروف يصبح مألوفاً عند أهل المنكر.
المرحلة الثالثة:
ف إذا واصل أهل المع روف مهمتهم في تأسيسه وتأكي ده ،وتث بيت ش عاراته ،وإ ب راز محاس نه ،
وص بروا على ذل ك ،واحتمل وا األذى في س بيله ،وأحس نوا الع رض والتأييد ،انتقل أمر المع روف
إلى عدم القبول أو الترك.
المرحلة الرابعة :
ومن خالل المواصلة في قول المعروف وفعله ينتقل األمر إلى المسالمة والموادعة ،حيث يصبح
المعروف أصيالً في المجتمع ثابت اً في ه ،ومع العمل المتواصل ينتقل المعروف إلى مرحلة القبول
والرضا.
المرحلة الخامسة:
ثم تأتي مرحلة اإليمان والحماس والنصر والتأييد.
إن ه ذه الخط وات هي الخط وات المنطقية لعملية إرس اء المع روف في النفس والمجتم ع ،وإ ن
االنتق ال من خط وة إلى ال تي تليها هو عمل إيج ابي ،كما أن التح ول المطل وب ال يتحقق بس رعة ،
وال يتحقق من خالل مرحلة واح دة ،وال يق اس النج اح والفشل بح دوث االنقالب المف اجئ أو ع دم
حدوث ه ،ل ذا ف إن فتح مكة ودخ ول أهلها في دين اهلل أفواج اً لم ي أت فج أة ،بل من خالل عمل
متواصل بدأ من أول أيام البعثة المباركة.
وبعكس ه ذه الخط وات تس ير عملية المنكر في المجتم ع؛ إذ أن أهل المنكر يرض ون باليس ير من
التغيير المرحلي ،حتى يصلوا بمنكرهم إلى مرحلة الهيمنة والتحكم.
عملية إنكار المنكر:
عندما يكون المنكر مهيمناً على مجتمع ما فالبد من أخذ األمور التالية باالعتبار:
رسوخ المنكر في النفس والمجتمع ،وقيام مؤسسات قوية لحمايته والدفاع عنه.
فساد األذواق والقيم والعادات واألعراف.
يظهر أهل المنكر بمظهر أص حاب الحق المش روع والنظ ام المؤيد بالق انون ،ويظهر الن اهي عن
المنكر بمظهر الشاذ الخارج عن النظام والقانون.
إن اس تخدام اليد ( الق وة ) لمواجهة المنكر االجتم اعي المتمكن ض رب من االنتح ار ،وإ ه دار
للطاقات دون جدوى ،وسيستخدم المنكر جميع مراكز القوة فيه لمقاومة الناهي وتشويه صورته ،
والعمل على استئص اله ،وس يعد عمله ث ورة غ ير مش روعة يلقى ص احبها أل وان التنكيل والبطش.
وال تستخدم اليد إال في إحدى حالتين:
األولى :من قبل الدولة المسلمة واألمير المسلم.
الثانية :من قبل الفرد المسلم في المجتمع المسلم في بعض الحاالت ،فله أن يكسر قارورة الخمر
وأن يريق ه ،وله أن يقتل الخ نزير ،وذلك إذاك ان الخمر والخ نزير بيد المس لم ،وليس له أن يقتل
فاعل المنكر بل يحيل أمره إلى الدولة.
كيف ننكر المنكر في مجتمعاتنا:
وإ ذا لم ننكر المنكر باليد فليس مع نى ذلك تعطيل ه ذه الفريضة ،بل نق وم بها باللس ان ،وإ ذا لم
يمكن ذلك فإننا نقوم بها بالقلب ،وذلك أضعف اإليمان.
أما إنكار المنكر باللسان فله ضوابط ،منها -:
أوالً ـ أن نت درج في ه ذا اإلنك ار فنس تخدم من األلف اظ والعب ارات ما نظن أنه يحقق النتيجة ،فنب دأ
بالكلمة الرقيقة ال ودود ،واس تعمال ص يغ العم وم دون ذكر اسم ص احب المنكر ابتاع اً للس نة وأنفع
للع الج ،وما ُي دفع ب األدنى ال ُيلجأ فيه إلى األعلى واألش د ،وقد يك ون اإلس رار باإلنك ار أولى من
اإلشهار.
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -99-
ثاني اً :أن يبتعد الن اهي عن المنكر عن ذكر األس ماء واألش خاص والهيئ ات؛ ألن التس مية
والتخصيص قد يتعرض معهما الناهي للعقوبات والجزاءات التي تفرضها القوانين.
ثالثاً :هنالك منكرات في المجتمع ثبت منكرها عند الناس جميعاً ،والنهي عنها مقبول لدى قطاع
ع ريض من الن اس ،وذلك مثل الزنا والخمر والمخ درات واالختالط ،فمثل ه ذه المنك رات لو
رفعنا صوتنا بإنكارها فسنجد معناً كثيراً من الناس الذين يمقتونها ويتمنون إزالتها.
رابع اً :وإ ن جمع اإلحصائيات والبيانات واألخبار والتقارير حول بعض المنكرات تجعل الحجة
في المقاومة أقوى وأوسع.
خامس اً :إن التح ري ال دقيق لص دق المعلوم ات أس اس في إص ابة اله دف ،والمبالغة والك ذب
يحرمان الداعية من صالبة الموقف وصدق الدعوة.
تغيير المنكر بالقلب :
وقد ذكر النبي التغيير بالقلب فجعله رتبة معتبرة ،ومن لم ينكر المنكر بقلبه فليس في قلبه شيء
من اإليم ان ؛ إذ أن إنك ار المنكر ب القلب هو القاع دة األس اس ،وه ذه القاع دة مش تركة بين جميع
المراتب ،فمن أنكر بيده فالبد أن يكون منكراً بقلبه ،ومن أنكر بلسانه فالبد أن يكون منكراً بقلبه
أيض اً ،واإلنك ار ب القلب معن اه مقت المنكر وكرهه واالش مئزاز منه ،ومن ك ره ش يئاً وع اداه بقلبه
فالبد أن تتح ول ه ذه الكراهية إلى عمل إيج ابي يظهر في كلماته وحركاته وس كناته ،فالعاطفة
المتأججة هي مص در الحركة والفع ل ،وه ذه الرتبة رتبة عامة يق در عليها كل مس لم في كل زم ان
ومك ان ،وش رطها ع دم الرضا والش عور بالس خط على المنكر وأهل المنك ر ،وأدنى درج ات ه ذه
الرتبة اعتزال المنكر واالبتعاد عنه.
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -100-
تركيز الجهود:
وإ ن أجدى األعمال واألقوال وأوالها ما توجه إلى إرساء المعروف األكبر ،وهو تحكيم شرع اهلل
تع الى ورفع ل واء دين ه ،وينبغي أن يك ون ه ذا التوجه ش غل المس لم الش اغل في ليله ونه اره ،ف إذا
تركزت الجهود نحو هذا الهدف أوشكت أن تثمر فيجد المسلم عندئذ أكبر العون في إنكار المنكر
واألمر بالمعروف .
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -101-
القاعدة العشرون
أشد من هجران القرآن
مخالفة مقصوده ومناقضة أهدافه
لقد أنزل اهلل تعالى القرآن الكريم كتاب هداية يحيى به موات النفوس ،وينظم الحياة ،ويأخذ بأيدي
البشر إلى أقوم السبل ،ويحقق السعادتين الدنيوية واألخروية ،ولقد حقق القرآن الكريم هذا الدور
في حي اة الص حابة والت ابعين وأتب اع الت ابعين ،وأح دث أعظم حركة تغييرية ش هدها الت اريخ ،وقد
نتس اءل لم اذا ال يحقق الق رآن الك ريم ه ذا ال دور في حي اة البش رية الي وم؟ أليس الق رآن هو الق رآن
ال ذي أن زل على محمد ؟ أليس هو هو بس وره وآياته وحروفه ؟ بلى ،إنه الكت اب ال ذي حفظه اهلل
تع الى من التب ديل والتغي ير ،وهو أص دق وثيقة عرفها ت اريخ اإلنس ان ،والحق أن فهم الق رآن
الك ريم هو ال ذي تع رض للخل ل ،فلم يعد أك ثر المس لمين يفهم ون الق رآن كما أن زل ،ولم يع ودوا
يتعاملون مع اآلية من خالل رصيدها الحقيقي من المعاني ،وأصبح المسلم يستعمل اآلية في غير
ولكن اهلل يهدي من يشاء ،)254(وهذه آية
ما أنزلت له ،ومن ذلك قوله تعالى :ليس عليك هداهم َّ
ال تغيب عن المسلم ،سواء كان متعلم اً أو أمي اً ال يقرأ وال يكتب ،وأغلبهم يستشهد بهذه اآلية إما
لحسم الخالف في موض وع م ا ،أو لمطالبة من ي دعو إلى اهلل ب دعوة مقنعة أن يقلع عن دعوته
بحجة أن اآلذان في صمم ،والناس ال يستجيبون إلى الخير وقد ذهب الزمان الذي كان المرء يجد
فيه أعواناً على الهدى والمعروف ،وتستخدم أيضاً إلعطاء المعاند والمكابر مبرر اإلص رار على
عن اده وك بره ،فيق ول الم راقب الخ الي الط رف من أعب اء الحق ( :أت رك يا ش يخ ،ليس عليك
هداهم ).
وهذا األسلوب من االستدالل باآليات الكريمة يناقض مقاصدها وأهدافها ،ويجعلها تعمل في غير
ميدانها ،وأشد من هجران القرآن مخالفة مقصوده ومناقضة أهدافه ،واستخدام آياته لتبرير القعود
والكسل وتعطيل العمل.
وإ ذا تأملنا اآلية وما حفَّها من القرائن وما سبقها ولحقها من اآليات فسيتبين لنا الدور العظيم الذي
تؤديه في إيقاظ الهمم ،وإ حياء النشاط ،وإ ثارة الجهد ،جهاداً وثباتاً ودعوة إلى اهلل تعالى.
ومنه أيض اً قوله تع الى :إنك ال ته دي من أحببت ولكن اهلل يه دي من يش اء وهو أعلم
بالمهتدين.)255(
فقد جاءت هذه اآلية في سياق سورة القصص ،بعد الكالم عن قصة موسى عليه السالم وفرعون،
وبي ان ما في القصة من أعلى وج وه البالغ وأقواها في مواجهة أش رس ص ور العن اد والجح ود
واالستكبار ،ورغم سوق الشواهد والدالئل والبراهين ،كل ذلك مؤيدة بالمعجزة ،رغم كل هذا فقد
أصم فرعون أذنيه عن سماع الحق ،فالهدي مبذول في أقوى صوره وأوضحها ،ولكن فرعون
ومأله أخ ذوا على أنفس هم إغالق جميع المنافذ ،وحجب وا بعن ادهم قل وبهم عن اله دى .وه ذا األمر
يتكرر عبر التاريخ ،فهذا محمد يمكث ي مكة ثالث عشرة سنة ال يترك قومه في ليل وال نهار
إال وي أتيهم ب أروع ص ور البي ان وأجاله ا ،وبأيسر األس اليب وأرفق الوس ائل ،مع التحبب والت ودد
فجمع له : البي ان العجز والش رف العظيم والقلب ال رحيم والحب الخ الص ،وبص ورة أخ رى فقد
ُ
كانت جميع الدواعي والظروف مناسبة لإليمان بدعوته ،ورغم كل هذا لم يملك هذا النبي الكريم
أن يلزم عمه الحبيب وهو النصير الشفيق باإليمان بدعوته واالهتداء بهديه.
()256
بس نديهما :لما حض رت أبا ط الب الوف اة ج اءه رس ول اهلل فوجد عن ده أبا أخ رج الش يخان
جهل وعبد اهلل بن أبي أمية بن المغيرة ،فقال رسول اهلل :يا عم ،قل :ال إله إال اهلل ،كلمة أشهد
لك بها عند اهلل ،فق ال أبو جهل وعبد اهلل أبي أمي ة :يا أبا ط الب ،أت رغب عن ملة عبد المطلب ؟
فلم يزل رسول اهلل يعرضها عليه ،ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم :هو
على ملة عبد المطلب ،وأبي أن يقول :ال إله إال اهلل ،فقال رسول اهلل : واهلل ألستغفرن لك ما
لم ْأنه عنك .فأنزل اهلل عز وجل :ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا
أولي قُ ربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ،)257(وأنزل اهلل تعالى في أبي طالب ،فقال
لرسول اهلل : إنك ال تهدي من أحببت ولكن اهلل يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين.
إنه لمن أعجب العجب َّ
أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة ابن أحد زعم اء مكة وص ناديدها وأع داء
اإلسالم فيها يدخل اإليمان قلبه ،وأبو طالب عم النبي الحبيب ونصيره وباذل المال والنفس في
سبيل الدفاع عنه ،الذي يقول ابن كثير فيه :كان يحوطه وينصره ويقوم في صفه ويحبه حباً شديداً
طبيعياً ال شرعياً ،ومع هذا يموت على غير اإليمان!.
أين العقدة إذاً ؟ وهل شاء اهلل تعالى ألبي حذيفة اإليمان ولم يشأ البي طالب؟ وهل معنى قوله :
ولكن اهلل يه دي من يش اء أن اهلل تع الى يص رف اإليم ان عن أحد من خلقه ويمنحه آلخ ر؟ وه ذا
فهم ج بري يتع ارض مع رحمة اهلل تع الى لخلقه وال يظلم ربك أح داً ،)258(ولم تسق اآلية له ذا
المع نى ،وإ نما س يقت لبي ان عظمة اهلل ،وتم ام قدرت ه ،فهو وح ده الق ادر على حمل الن اس جميع اً
على دين واحد ،أو على مذهب واحد ،لو شاء جعلهم مؤمنين ،ولو شاء جعلهم كفاراً ،ولو شاء
لجعلهم أمة واح دة ،ولو ش اء ألم اتهم جميع اً .وه ذا كالم عن المش يئة والق درة ،وليس كالم اً عن
فعله في خلقه ،فنحن عندما نقول على سبيل المثال ـ وهلل المثل األعلى ـ يستطيع الرئيس أن يعزل
جميع الم وظفين ،ويس تطيع أن يب دل وظ ائفهم ،فهل يع ني ذلك أن يق وم ال رئيس بمثل ه ذا العمل
لمجرد أنه يستطيعه ،أو أنه من خصائصه؟ والجواب :إن الكالم عن الخصائص والصفات غير
الكالم عن األعم ال والممارس ات وال يتم اإليم ان باهلل تع الى إال إذا اعتقد الم ؤمن أن اهلل وح ده
واهب الحياة وخالق األحياء وسائر الموجودات وأنه وحده بيده الهدى.
لقد كان الكالم في معرض حرص النبي على عمه ،وقد حزن عليه حزن اً شديداً وكأنه يقول :
كيف م ات ه ذا العم العزيز الح بيب هك ذا ولم ي ؤمن؟ ،فك ان الج واب :إنك يا محمد عبد من عبيد
اهلل مأمور بالبالغ والتبيين ،وال سلطان لك على قلوب الخلق ،إنك تملك أن تبين حجتك ،وتقرأ
الق رآن الك ريم على الن اس من حول ك ،ولكنك ال تملك تحويل القل وب إليك وال زج اإليم ان في
سويدائها .وإ ن مقام العبودية يقتضي أن تعلم بأنك ال تهدي من أحببت حتى لو كان عمك الحبيب ،
إن على البشر أن يعلموا أنه ال سلطان ألحد على أحد وأن الحكم كله هلل تع الى ،وال يتحقق التوحيد
إال بهذه المعرفة وهلل االسماء الحسنى فادعوه بها ،)259(وله الصفات العليا ،وعلى هذا المنوال
نفهم كل آية ج اء فيها ف إن اهلل يضل من يش اء ويه دي من يش اء ،)260(فاهلل وح ده ص احب األمر
والقدرة المطلقة .ومن لوازم هذا األمر حبه وعبادته واالستعانة به سبحانه ،وليس من لوازمه أن
يقع الم رء تحت مط ارق الجبرية القاتلة ال تي تس لب الل بيب لبه والعبد اختي اره الس امي لعقيدته
ودينه.
ومفهوم آخر البد من وعيه وهو أن هذه اآلية تكافئ العامل على عمله ،حتى ال يقول قائل :هاهو
رس ول اهلل يعمل تسع س نوات على إقن اع عمه بدعوته ثم ال ي ؤمن به ا ،وقد يتص ور الس ذج أن
دعوته ذهبت هب اء منث وراً وض اعت كص يحة في ٍ
واد أو نفخة في رم اد ،وح تى ال يك ون مثل ه ذا
التص ور ي بين اهلل تع الى لنبيه أنه قد بلغ ما عليه وأن اإليم ان ال ُيف رض فرض اً وال يج بر عليه
الن اس؛ ألن اإليم ان هو تص ديق القلب من داخل ه ،وه ذا التص ديق سر ال يطلع أحد عليه إال اهلل
تع الى ،وال يملك أحد أن يت دخل في ق رار الف رد واختي اره ،وال ذي ي زعم أنه يملك ذلك فقد نصب
نفسه إله اً على الن اس ،وما ذكرن اه ال يتع ارض مع علم اهلل الق ديم منذ األزل بما يص ير إليه كل
مخل وق ،والعلم الكامل من ص فات اهلل س بحانه وتع الى ،وه ذا يقتضي أن يعلم الش يء قبل كون ه،
والعلم بالهدى أو الضالل شيء ،وإ حداث الهدى والضالل شيء آخر ،وهو أعلم بالمهتدين.
وهكذا فإن دور المسلم هو العمل الجاد بدأب ونشاط دون أن يستسلم لليأس أو للزعم القدري بأن
اهلل أراد ك ذا أو ك ذا .وما أح وج أمتنا الي وم ألن تخلع عنها ه ذه األغالل الجبرية وأن ال تخلط بين
المعرفة التوحيدية الخالصة والسلوك الجبري العاجز.
وه ذا رس ول اهلل يعلمنا كيف نفتح قلوبنا للخلق بعي داً عن األحك ام الج ائرة واالطالق ات العام ة،
()262
،قال أبو إسحاق ـ أحد الرواةـ :ال أدري فيقول " :إذا قال الرجل :هلك الناس فهو أهلكهم"
أهل َكهم بانلصب ،أو أهل ُكهم بالرفع .وأخرجه أبو نعيم في حلية األولياء ،وفيه " :فهو أهلكهم " ،
وأخرجه أحمد من رواية أبي هري رة ق ال :ق ال رس ول اهلل " : إذا س معتم رجالً يق ول :هلك
الن اس فهو أهلكهم ،يق ول اهلل :إنه هو هال ك"( .)263وس واء ك ان المع نى أن القائل هو س بب هالك
الناس؛ ألنه لم يقم بواجبه في النصح لهم والحرص عليهم ،والصبر على جاهلهم ومسيئهم؛ أو أن
يكون أكثر الناس هالكاً ،وهو بهذه الكلمة يعبر عن هالكه هو وعن عجزه.
دعوة اهلل سعى لصالح الناس:
وفي ال وقت ال ذي تتن افس فيه ال دعوات واألفك ار على الجمه ور ،وكل يح اول أن يحت وي ه ذا
الجمه ور لص الحه ويوظفه في ص فه ،ف إن دع وة اهلل وح دها تعمل لخ ير الجمه ور ،وال تريد من
الجمه ور أن يك ون بق رة حلوب اً لص الح ف رد أو فئة أو ِح زب ،ودع وة اهلل وح دها تعطي من ي ؤمن
باهلل رب اً ،وباإلسالم دين اً ومنهاج حياة أي اً كان لونه وجنسه ولغته أرفع الرتب البشرية والمقامات
العلية .والبد أن ُيعبئ الدعاة قلوبهم بمحبة الناس ،حتى يتغلغل هذا الحب في أعماق القلب ،وأن
تتح ول ه ذا التعبئة س لوكاً يش يع منه الرفق والت واد وال تراحم ،ح تى ُيع رف الداعية من بين س ائر
الن اس بمحبته للن اس وحرصه عليهم وتفانيه في خ دمتهم وس هره على ص يانتهم من آف ات األفك ار
المنحرفة وش رورها .فه ذا رس ول اله ي دخل مكة ،ويع اين فيها أولئك ال ذي أخرج وه وع ذبوا
أصحابه وقاتلوه وقتلوا أحب الناس إليه حمزة ،فما زاد على أن قال لهم :اذهبوا فأنتم الطلقاء.
الموقف السابق:
والداعية ال ينطلق بين الجم اهير وهو يحمل موقف اً س ابقاً ،كونه من خالل العالق ات األس رية
المش وبة بالتحامل واألحق اد؛ إذ أن أك ثر الن اس يحتفظ ون في عق ولهم وقل وبهم بكل تص رف س لبي
كان قد تصرفه أحد الناس ،حتى تجمعت هذه التصرفات على شكل ذكريات مؤلمة ينقلها الخلف
عن الس لف ،ويتواصى الن اس ك ابراً عن ك ابر بالقطيعة ومقابلة اإلس اءة باإلس اءة؛ وذلك ألنهم
نش أوا بعي داً عن هيمنة اإلس الم على النف وس والعق ول ،فأص حبت المش احنات العص بية واإلقليمية
هي الموجَّة لكث ير من الن اس ،وأص بح الف رد ينطلق من ه ذا الرك ام من العالق ات غ ير اإلس المية،
ومن أوجب الواجبات على الداعية أن يعلم الناس كيف يستطيعون تجاوز الذكريات السلبية .وقد
يجد الداعية مقاومة من أقرب الناس إليه إذا الحظوا عليه عدم اكتراثه بهذه األحقاد التي قد تعتبر
رصيداً عزيزاً عند أصحابها ،وعليه أن يصبر على هذه المقاومة.
العمل اإليجابي:
والعمل اإليجابي بين الجماهير يقوم على عنصرين رئيسين :المعرفة والسلوك.
ومي ادين العرفة كث يرة ،ومي ادين الس لوك كث يرة ك ذلك .وال بد من مراع اة التخطيط والبرمجة في
التنفيذ كي يصل الداعية إلى نتائج إيجابية.
والمعرفة مقدمة على العم ل؛ ألنها البص يرة الواعية ال تي تكشف مج االت العم ل ،وه ذه المعرفة
يمكن تحديدها على النحو التالي :
جمع المعلومات:
وأول ش رط :ينبغي للداعية أن يق وم به هو معرفة الجمه ور ال ذي يتعامل مع ه ،س واء ك ان ه ذا
الجمهور صغيراً على مستوى المؤسسة أو الدائرة ،أو كبيراً على مستوى البلدة أو القطر ،وتأتي
ه ذه المعرفة من خالل جمع المعلوم ات ،وأول ش روط جمع المعلوم ات مراع اة الح ذر واليقظة
ح تى ال يرت اب أحد بالداعية ال ذي ال يريد من عمله ه ذا كشف أس رار الن اس واإلطالع على
عوراتهم ،وإ نما يريد التعرف على مراكز النفوذ االجتماعي واالتجاهي الفكرية وأصناف الناس،
ومدى قربهم أو بعدهم عن الدعوة.
والشرط الثاني :هو مراعاة الموضوعية في جمع المعلوم ات وتحليلها ،إذ أن كل مبالغة في حكم
من األحكام قد تؤدي إلى أخطاء فادحة ،ناتجة عن سوء التقدير .وقد يصنف الداعية إنساناً ما في
دائرة أعدائه بسبب تصرف الحظه ،فجعله هذا التصرف يتعامل مع هذا اإلنسان على أنه ص احب
فكر مض اد أو اتج اه مع اد ،فيك ون س وء التق دير والتس رع في الحكم س بباً في اس تكثار األع داء.
وليس كل س لوك مف رد أو تص رف ج زئي ي دل على ص يغة فكرية أو منهجي ة ،فليس كل من تكلم
عن العرب والعروبة قومياً ،وليس كل من تكلم عن التأميم اشتراكياً.
والش رط الث الث :مراع اة منهجية النقل ،فال نأخذ األخب ار والمعلوم ات إال عن الص ادقين
الض ابطين لما ينقل ون ،والبد من مالحظة أن بعض الص ادقين ال يتح رون الدقة في نقلهم
وأخب ارهم؛ ألن اآلفة في ال ذين أخ بروهم وزودوهم بالمعلوم ات .وإ ذا أهملت ه ذه المنهجية ف إن
األحكام ستكون جائزة غير عادلة.
والش رط الراب ع :مراجتة المعلوم ات ح ول من يتخ ذهم الداعية أع داء فك ريين للتخلص من آث ار
المبالغة وس وء التق دير ،ومراع اة لما يط رأ على أص حاب األفك ار والم ذاهب من تغي ير س لبي أو
إيجابي.
استدراك:
وال تقف المعرفة عند ح دود االتجاه ات والم ذاهب والنش اطات االجتماعي ة ،بل تتن اول أيض اً
التعرف على أفراد الجمهور وأمزجتهم واحتياجاتهم وما يسرهم وما يحزنهم ،وينبغي أن ال يغيب
عن الداعية ما يص يب أف راد المجتمع من الس راء والض راء ،ف إذا رزق أح دهم بولد ك ان الداعية
أول المهنئين الذين يذكرون الوالد بنعمة اهلل عليه ،وإ ذا نجح ولد أحدهم في مدرسة أو جامعة كان
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -107-
أول المع برين عن س روره به ذه المناس بة باعتبارها مناس بة عزي زة يهتم بها كما لو أنه ص احبها.
وإ ذا فقد أح دهم عزي زاً أو حل به م رض أو ن زلت به مص يبة ك ان أول المواس ين ال ذين يم دون
أيديهم ويفتحون قلوبهم.
ونظراً التساع دائرة المعلومات التي يحتاج إليها الداعية فقد يتبادر إلى األذهان ما يجده الداعية
من صعوبة ومشقة في اإلحاطة بكل هذه الجوانب ،ولكن هذه الصعوبة تزول عندما نقسم المجتمع
إلى دوائر صغيرة على شكل أحياء ،أو مؤسسات ،ثم يتخصص كل داعية بدائرة محدودة تتناسب
مع قدرته وإ مكاناته ويستطيع استيفاء المعلومات حول جمهورها.
-2التصنيف:
وتأتي هذه المرحلة بعد جمع المعلومات فيقوم الداعية بتصنيف أفراد الجمهور إلى أصناف.
الص نف األول :األنص ار والمحب ون واألقرب اء واألرح ام ،وه ؤالء يس رون بس رور الداعي ة ،وال
يبخلون عليه في تقديم ما يحتاج إليه لتسهيل مهمته.
الص نف الث اني :األع داء الفكري ون ،وه ؤالء يحمل ون عقائد معادي ة ،ويعمل ون على نش رها،
ويعت برون الداعية عقبة في ط ريقهم ،وذك اء الداعية يظهر في قدرته على ت رتيبهم تبع اً لس لم
عداوتهم ،وتأثيرهم في المجتمع.
الصنف الثالث :المحايدون الذين ال يناصرون طرفاً على طرف ،وينبغي أن يعت برهم الداعية من
فئة األنصار؛ لكونهم مسلمين ال يحملون فكراً آخر ،وال يتبنون مذهباً معادياً لإلسالم وأهله.
مبادئ عامة في السلوك والتعامل مع الجمهور:
ليس من الس هل حصر جميع المب ادئ العامة ال تي تس اعد الداعية على تحقيق أهدافه في المي دان
الجم اهيري؛ ألن اإلس الم كله يك ِّون ه ذه المب ادئ واألخالق ،وس نذكر بع المب ادئ ال تي ن رى أنها
جديرة باالهتمام الختصاصها األكيد بهذا الميدان الدعوي.
-1االحتفاظ بالمعلومات:
فالمعلومات التي يجمعها الداعية ليوظفها في تعامله مع الجمهور ليست للنشر والتشهير .والداعية
ال واعي يحتفظ بها لنفسه دون إش اعتها ،وهو يس تطيع أن يخفى في عميق ص دره جميع ما يعلم ه،
دون أن يظهر في فلت ات لس انه أو يب دو على قس مات وجه ه .وهو ب ذلك يحافظ على مس توى من
الحياء لدى عامة الناس .ويستطيع أن يتعامل مع الناس دون أن يتحفظوا منه أو ينعزلوا عنه.
-2المدارة:
ولكي يتح رك الداعية في المجتمع حركة مجدية دون أن تقف في وجهه العقب ات والعوائق ف إن
عليه أن يعرف كيف يداري هؤالء الناس ويجاملهم ،وهذه المداراة سنة حميدة سنها لنا رسول اهلل
فعن عائشة رضي اهلل عنها أنه استأذن على النبي رجل فقال " :ائذنوا له ،فبئس ابن العشيرة،
أو بئس أخو العش يرة ،فلما دخل أالن له الكالم ،فقلت له :يا رس ول اهلل :قلت ما قلت ،ثم ألنت له
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -108-
في الق ول فق ال :أي عائش ة إن شر الن اس منزلة عند اهلل من تركه الن اس اتق اء فحش ه"( .)264وفي
علي غيره".
رواية " إنه منافق أداريه عن نفاقه ،وأخشى أن ُيفسد َّ
ونس تفيد من ه ذا الح ديث أن الن بي ك ان يعلم من س وء أخالق ذلك الرجل ما جعله يذمه وي ذكره
بما فيه ،ولكنه أالن له الحديث وهش له .ولم يصارحه بما يعلمه منه ألن المصارحة في مثل هذا
داء .وال يع ود اإلص الح ممكن اً ،بل تستش ري ن ار الموقف فحش ،وال تك ون ثمرتها إال قطيعة وع ً
الفساد.
وهذا ما عبر عنه الصحابي الجليل أبو الدرداء عندما قال " :إنا َلن ْك ِش ر في وجوه أقوام وإ ن قلوبنا
لتلعنهم"( .)265وال َك ْشر أكثر ما يطلق على الضحك ،وفي رواية أخرى " :ونضحك".
وقد فهم علماؤنا األجالء ه ذا المب دأ من مب ادئ التعامل فنجد علي بن خلف بن بط ال أحد ش راح
البخاري المتوفي سنة 449هـ ،يقول :المداراة من أخالق المؤمنين ،وهي خفض الجناح للناس،
ولين الكالم ،وترك اإلغالظ لهم بالقول ،وذلك من أقوى أسباب األلفة(.)266
الف رق بين المداهنة والم داراة :وقد يتب ادر إلى األذه ان أن الم داراة الم ذكور آنف اً هي ن وع من
المداهنة والنفاق ،وقد يأباها كثير من الدعاة أخذاً بمبدأ الوضوح والمصارحة في قول كلمة الحق
واإلش ارة إلى ع وج كل ذي ع وج ،وك أنهم فهم وا أن ه ذا األس لوب هو من ب اب كلمة الحق عند
س لطان ج ائر .وه ذا في غ ير موض عه؛ يق ول اإلم ام ابن حجر في ش رحه لص حيح البخ اري ،نقالً
عن القاضي عياض في كالمه على الحديث السابق:
والف رق بين الم داراة والمداهنة أن الم داراة ب ذل ال دنيا لص الح ال دنيا أو ال دين ،أو هما مع اً ،وهي
مباحة ،وربما استحبت ،والمداهنة ترك الدين لصالح الدنيا ،والنبي إنما بذل له من دنياه حسن
عش رته والرفق في مكالمت ه ،ومع ذلك فلم يمدحه بق ول ،فلم ين اقض قوله فيه فعل ه ،ف إن قوله فيه
قول حق ،وفعله معه حسن عشرة ،فيزول مع هذا التقرير اإلشكال بحمد اهلل تعالى"(.)267
ونخلص من ه ذا إلى أن المداهنة معاش رة الفاسق وإ ظه ار الرضى بما هو عليه واستحس ان مذهبه
من غ ير إنك ار ،فيك ون الم داهن قد ب ذل دينه من أجل دني اه في رضى الن اس عن ه .وأما أن يب ذل
الداعية شيئاً من الدنيا ألي إنسان فهذا أمر محمود ،فنحن نجود بدنيانا ونبخل بديننا .وبناء عليه
ف إن من الج ائز ،بل من المن دوب أن نك رم من ال نرضى دينه وعقيدته تألف اً لقلب ه .وه ذا مع نى
العب ارة المنقولة آنف اً عن القاضي عي اض :الم داراةت ب ذل ال دنيا لص الح ال دنيا أو ال دين ،أو ُهما
معاً".
فما أح وج الداعية إلى فهم ه ذا المب دأ ،وبتطبيقه يس تطيع ج ذب قل وب الن اس إليه فهو يج بر وال
يكسر ؛ ألن كسر القلوب ال يعتود على الدعوة إال بالخسران ،والقلب الكسير ال يجبر إال بمشقة،
وإ ن الرابط النفسي ال يوصل إذا انقطع إال بعد جهد كبير.
-3إفشاء السالم:
والس الم أول الوس ائل وأفض لها إلقامة اتص ال بين االعية وبين جمه وره،وبه ذا الس الم ي دخل
الداعية إلى قلوب الخلق بما تشيعه هذه الكلمة من ظالل المحبة والوفاء واإلخالص .وقد شاء اهلل
تع الى أن يجعل وس ائل االتص ال الجماهيرية عب ادات يتق رب بها الم ؤمن إلى اهلل ،وجعلت ه ذه
أي اإلسالم
الوسائل من شبع اإليمان وخصاله؛ ولنسمع لنبينا العظيم وهو يقول وقد سأله رجلُّ :
خير؟ فقال " :تطعم الطعام وتَ ْقرأ السالم على من عرفت ومن لم تعرف"( .)268وهذا الحديث نص
في أهمية الس الم وبذله لجميع المس لمين ،ق ال الن ووي " :وفيه ب ذل الس الم لمن ع رفت ،ولمن لم
تع رف ،وإ خالص العمل فيه هلل تع الى ال مص انعة ،وال ملق اً ،وفيه مع ذلك اس تعمال خلق
التواض ع ،وإ فش اء ش عار ه ذه األم ة"( .)269ويق ول ابن حجر رحمه اهلل " :أي ال تخص به أح داً ،
تصنعاً ،بل تعظيماً لشعار اإلسالم ،ومراعاة ألخوة المسلم"(.)270
تكبُّراً أو ُّ
والسالم من الحقوق الثابتة للمسلم ،قال رسول اهلل " :حق المسلم على المسلم خمس ،رد السالم،
وتشميت العاطس،وإ جابة الدعوة ،و عيادة المريض ،واتباع الجنائز"(.)271
وما دام الس الم ش عار اإلس الم ف إن على الداعية أن يعمم ه ذا الش عار يلقيه على كل أح د ،دون ملل
أو سأم ،وتكرار إلقاء السالم البد أن يثمر تعارف اً ثم تتوثق العالقة ،وتنتقل إلى ما وراء الكلمة من
السلوك والعمل المشترك.
وقد يظن بعض الدعاة أن السالم ال يليق ببعض الناس لما هم عليه من خلق أو سلوك ،وهذا الظن
تنعكس س لبياته على ال دعوة ،إذ تُتهم بالطبقي ة ،وأنها ت ربي أبناءها على العزلة واالنفص ال عن
المجتمع ،ويوصف الداعية بالتكبر والتعالي.
وال يقتصر الداعية على الكب ار فيخص هم بالس الم ،بل يلقي الس الم على الص غار ،وإ لق اء الس الم
على الص بيان ي ترك أث راً حس ناً في نفوس هم ،ألن ه ؤالء محروم ون من التق دير واالح ترام فمن
يح ترمهم ويق درهم هو ال ذي يكس بهم لص فه ،أخ رج اإلم ام مس لم ،عن س يار ق ال ":كنت أمشي مع
أخرجه مسلم ،انظر شرح النووي ، 2/9وأخرجه البخاري ( بهامش فتح الباري.)1/82 )?(268
شرح مسلم للنووي (.)2/11 )?(269
فتح الباري.)1/56( ، )?(270
أخرجه مسلم ( متن النووي ) ( .)14/143 )?(271
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -110-
البن اني فمر بص بيان فس لم عليهم ،وح دث ث ابت أنه ك ان يمشي مع أنس فمر بص بيان فس لم
ث ابت ُ
عليهم ،وحدث أنه ( أنس ) كان يمشي مع رسول اهلل فمر بصبيان فسلم عليهم"(.)272
فالداعية الناجح ال ينسى هدفه في الوصول إلى قلوب الناس كباراً أو صغاراً ،وهو يقترب كل يوم
من هدفه ،وإ ذا كان الناس في غفلة عن هذه األهداف الكبيرة وتشغلهم األهداف الشخصية القريبة،
ف إن الداعية دائم الفكر دائب العمل مس تمر التخطيط ليصل إلى أهدافه الكب يرة ،وي رى في الطفل
الص غير رجل المس تقبل ،وفي العامل الفق ير المس ؤول الكب ير ،فالقليل يك ثر والص غير يك بر،
والكسب لمن سبق وصبر وأحسن.
-4تألف الناس - :
والداعية ي ألف ويؤل ف ،وذلك بس بب تكوينه ال ذهني والس لوكي ،ولما يتمتع به من رؤية واس عة
وبعد نظ ر ،وهو يزيد من ق وة ارتباطه بالن اس يوم اً بعد ي وم .ويلتقي عليه ع دد كب ير من الن اس؛
ُ
ألنهم يشعرون بحرصه عليهم ،ورفقه بهم ،فهو قوة جامعة ال قوة طاردة.
وتب دأ األلفة من القلب بالنية الص الحة وت رك الغلظ ة ،وتش رب الرقة والرحمة والرف ق .وه ذا ما
علّمه اهلل تعالى لنبيه ليجذب قلوب الخلق إليه ،فقال :ولو كنت فظ اً غليظ القلب النفضوا من
حولك ف اعف عنه واس تغفر لهم وش اورهم في األمر ،)273(أما الفظ فهو الغليظ الج انب الس يئ
الخل ق .والغليظ القلب ال ذي ال يت أثر قلبه عن ش يء ،فقد ال يك ون س يئ الخلق وال ي ؤذي أح داً ،
ولكنه ال يرق لهم وال يرحمهم(.)274
وإ ذا ك ان ص احب بض اعة ما يفهم أن تس ويق ه ذه البض اعة ال يتم إال إذا ت وافر األس اس النفس ي،
الخلق الرفيع ولين الجانب من أسباب إقبال الناس على الشراء من التاجر ،فكذلك أمر الداعية
فإن ُ
ال ذي يع رض س لعة اإليم ان .يق ول ال رازي" :إن المقص ود من البعثة أن يبلغ الرس ول تك اليف اهلل
إلى الخلق؛ وهذا المقصود ال يتم إال إذا مالت قلوبهم إليه ،وسكنت نفوسهم لديه .وهذا المقص ود ال
يتم إال إذا ك ان رحيم اً كريم اً ،يتج اوز عن ذنبهم ويعفو عن إس اءتهم ،ويخص هم بوج وه ال بر
والمكرمة والشفقة ،فلهذه األسباب وجب أن يكون الرسول ُمَب ّرأ من سوء الخلق .وكما يكون كذلك
وجب أن يك ون غ ير غليظ القلب ،بل يك ون كث ير الميل إلى إعانة الض عفاء ،كث ير القي ام بإعانة
الفقراء ،كثير التجاوز عن السيئات"(.)275
ولمك ان األلفة في دين اهلل تع الى اعت برت فريضة من فرائض ه؛ ق ال القاضي عي اض" :واأللفة
إح دى ف رائض ال دين وأرك ان الش ريعة ونظ ام ش مل اإلس الم"( .)276ومن أس باب حص ول األلفة
ال ورع وص دق الس ريرة واإلخالص ،ول ذلك ج اء الربط بين إفش اء الس الم وبين الص الة بالليل
والناس نيام " ،عن عبداهلل بن سالم رضي اهلل عنه ،قال :لما قدم النبي انجفل الناس عليه ،فكنت
فيمن انجفل ،فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب ،فكان أول شيء سمعته يقول" :
أفشوا السالم ،وأطعموا الطعام ،وصلوا باألرحام ،وصلُّوا والناس نيام ،تدخلوا الجنة بسالم"(.)277
فالص الة في الليل تربط العبد بخالقه فيرضى عن ه ،وإ ذا رضي اهلل تع الى عن العبد أرضى العب اد
عن ه .وفي الح ديث عن أبي هري رة رضي اهلل عن ه ،عن الن بي ق ال " :إذا أحب اهلل عب داً ن ادى
جبريل إن اهلل ُيحب فالن اً فأحبه فيحبه جبري ل ،فين ادي جبريل في أهل الس ماء :إن اهلل يحب فالن اً
فأحبوه ،فيحبه أهل السماء ،ثم يوضع له القبول في أهل األرض"(.)278
الحجة حاضر البديه ة ،ف إن حجته وبديهته تعجز أم ام ع دم التوفيق
ومهما ك ان الداعية ق وي ُ
والرضا منه سبحانه وتعالى.
ومن أس باب اإللف ع دم منازعة الن اس في دني اهم ،أو منافس تهم في المناص ب ،وه ذا هو الزهد
النافع ،أي الزهد بما في أيدي الناس .وأكثر من ذلك فإن الداعية يؤثر الناس على نفسه ولو كان
به خصاصة.
ومن اس بابه ك ذلك ب ذل المع روف ،فالداعية يفكر دائم اً بإس عاد الن اس وإ يص ال الخ ير إليهم ولو
بالكلمة الطيبة ،ومن كان هذا شأنه فإنه ال يعرف الشر وال األذى.
ومن أس بابه إطع ام الطع ام لما فيه من أثر ب الغ على النفس البش رية ،ول ذلك ورد في
الحديث":أطعموا الطعام" .وعن عبد اهلل بن عمرو رضي اهلل عنهما ،قال :قال رسول اهلل ":إن
الجنة لغرفاً ُيرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها ،فقال أبو موسى األشعري :لمن هي يا
رسول اهلل ،قال ك لمن أالن الكالم وأطعم الطعام وبات اهلل قائماً والناس نيام"( .)279وكان صهيب
أما قولك في
رضي اهلل عنه يطعم الطع ام الكث ير فراجعه عمر رضي اهلل عنه في ذلك فق الّ :
الطعام فإن رسول اهلل كان يقول " :خياركم من أطعم الطعام ورد السالم"(.)280
ومن أس باب اإللف الته ادي ،فللهدية س حر خ اص يصل الداعية بقل وب الن اس ،وه ذه الهدية دليل
على حب الداعية للمه دي إليه وتق ديره ل ه .وإ ذا ك ان الته ادي ج ائزاً بين المس لمين والمش ركين
والمح اربين فهو أولى بين المس لمين ،وقد ج اء في الص حيح أن عمر رضي اهلل عنه رأى حلة
تباع ،فقال للنبي :ابتع هذه الحلة تلبسها يوم الجمعة وإ ذا جاءك الوفد ،فقال :إنما يلبس هذه من
ال خالق له في اآلخرة ـ وك انت من الحرير ـ فُأتي رسول اهلل منها بحل ل ،فأرسل إلى عمر منها
بحلّ ة ،فق ال عمر :كيف ألبس ها وقد قلت فيها ما قلت؟ ق ال :إني لم أكس كها لتلبس ها ،تبيعها أو
تكسوها ،فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يس لم"(" .)281وقد ك ان النبي يقبل الهدية
ويثيب عليها"(.)282
وكم وص لت الهدية من الحب ال المنقطع ة؟ ،وكم غ يرت من المواق ف؟ وكل إنس ان يعلم أثر الهدية
في تحقيق المودة والمحبة .والداعية أولى الناس باستخدام هذه الوسيلة الفعالة من وسائل االتص ال
الجماهيري.
-5الداعية يخالط الناس ويصبر على أذاهم:
والداعية يتوقع اإلساءة قبل اإلحسان ويعذر الناس في سيئ األخالق وغليظ الطباع؛ ألنهم حرموا
ردح اً من ال زمن من توجيه اإلس الم وتربيت ه ،ففس دت ج وانب مهمة من ج وانب ت ركيبهم النفسي
واالجتم اعي ،وأص بح دأبهم الغيبة والنميمة والهمز اللم ز .والداعية الحكيم يتعامل معهم كما
يتعامل الطبيب الرحيم مع مرضاه ،ولهذا فإن الداعية مأمور بالصبر واالصطبار وانتظار النتائج
دونما يأس أو كلل وشعاره في ذلك قول النبي " : المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم
خير من الذي ال يخالط الناس وال يصبر على أذاهم"( .)283وعندما يصل الدعاة إلى هذا المستوى
الرفيع من إع ذار الن اس ومس امحتهم على زالتهم ،ف إنهم يزيل ون عوائق كث يرة س ببها الحنق
والغضب والرغبة بالمعاملة بالمثل .وقدوة الداعية في ذلك رسول اهلل الذي ُع رف بسعة صدره
وكظم غيظ ه ،ق ال عبداهلل بن مس عود :قسم الن بي قس مة ـ كبعض ما ك ان يقسم ـ فق ال رجل من
األنصار :واهلل إنها لقسمة ما أريد بها وجه اهلل عز وجل .قلت أنا :ألقولن للنبي ـ فأتيته وهو في
أص حابه ـ فس اررته ،فشق ذلك علي ه ،وتغ ير وجه ه ،وغضب ح تى وددت إني لم أكن أخبرت ه ،ثم
قال ":قد أوذي موسى بأكثر من ذلك فصبر"(.)284
-6الداعية ال يغمط الناس حقهم ،وال ينكر ألحد فضله:
وغ ْمط الناس من صفات المتكبرين ،الذين ال يروق لهم أن يروا أحداً فوقهم، وذلك َّ
ألن سفه الحق َ
ويحملهم الحسد والتن افس على إخف اء فضل الفض الء وعلم العلم اء .وأما الداعية فهو ب ريء من
ه ذا العيب ،وهو يع ترف لكل ص احب فضل بفض له ،ويتصف بالموض وعية في تعامل ه ،ويقت دي
بس نة الن بي ال ذي يق ول " :ال ي دخل الجنة من ك ان في قلبه مثق ال ذرة من ك بر ،ق ال رجل :إن
الرجل يحب أن يك ون ثوبه حس ناً ،ونعله حس نة ،ق ال :إن اهلل جميل يحب الجمي ل ،الك بر بطر
الحق وغمط الناس"(.)285
ومع نى بطر الح ق :دفعه وإ نك اره ترفع اً وتج براً ،ومع نى غمط الن اس :احتق ارهم .وه ذا الموقف
من الداعية يحقق السالم بينه وبين سائر الناس ويمهد له الطريق إلى قلوبهم ،ويقيم أفضل وسائل
االتصال معهم.
-7صلة الرحم:
ويتصف الداعية بحرصه على ص لة رحم ه ،قيام اً بفريضة من ف رائض ال دين .وتطبيق اً لس نة من
س ننه ،وص لة ا ل رحم تحقق االتص ال الحي وي بجماعة كب يرة من الن اس يرتبط الداعية بهم رب اط
الق ربى ،ويف ترض ه ؤالء الن اس أن يك ون الداعية وص والً لهم .ول ذا ف إنهم ينك رون على الداعية
حملونه من المس ئولية أك ثر من غ يره .والداعية ال ذكي يتوجه إلى ه ؤالء من
وي ِّ
عن دما يقطعهمُ ،
بره .ولقد أمرنا رسول اهلل بالتعرف
خالل الصلة المعروفة ليقدم إليهم دعوته بعد أن يقدم إليهم َّ
على أنسابنا ال من أجل عصبية جاهلية ولكن منأجل تأدية الواجب نحو هؤالء األرحام ،فقال عليه
الص الة والس الم " :تعلموا من أنسابكم ما تص لون به أرح امكم ف إن ص لة الرحم محبة في األه ل،
منسأة في األجل ،مرضاة للرب"(.)286
مثراة في المالْ ،
وقد اخت ار اهلل نبيه محم داً وله في كل بيت من بي وت الع رب رحم ،وق امت األدلة على ض رورة
لس لم م راتبهم ،وقد ن اقش ابن ح زم في
معرفة األنس اب واألرح ام ،وذلك ألداء الحق وق إليهم تبع اً ُ
كتاب ه" جمه رة أنس اب الع رب" ق ول من ق ال ( :إن علم النسب علم ال ينفع وجهالة ال تض ر .ثم
قال :وضح أنه بخالف هذا وأنه علم ينفع ،وجهل يضر .وكان من بين أصحاب النبي من يتقن
علم النسب ك ابي بكر الص ديق وأبي الجهم بن حذيفة وجب ير بن مطعم رضي اهلل عنهم .وك ان أبو
بكر أش دهم رس وخاً في العلم بجميع أنس اب الع رب ،وقد أمر الن بي حس ان بن ث ابت أن يأخذ ما
يحتاج إليه من علم نسب قريش عن أبي بكر الصديق) (.)287
وكث ير من ال دعاة يهمل ون البحث في أنس ابهم ظن اً منهم أن ذلك من أمر الجاهلي ة .والجاهلية هي
الفخر والخيالء والعص بية ،ومن الجاهلية القطيعة وإ هم ال األرح ام .وقد جعل الق رآن الك ريم
تقطيع األرح ام قرين اً لإلفس اد في األرض ،فق ال تع الى :فهل عس يتم إن ت وليتم أن تُفس دوا في
األرض وتقطع وا أرح امكم .)288(وقد بلغ من ح رص ه ذا ال دين على ص لة ال رحم أن أمر بص لة
الرحم المشركة ،فجاء عن النبي أه قال " :إن آل أبي فالن ليسوا بأوليائي إنما وليي اهلل وصالح
المؤمنين ،ولكن لهم رحم أبلُّها بباللها ،أي أصلها بصلتها"(.)289
وال رحم س واء ك انت مؤمنة أو غ ير مؤمنة قريبة أو بعي دة ،فهي ُش ْجنة من ال رحمن كما أخبرنا
الن بي " إن الرحم ُش ْجَنة من ال رحمن ،فق ال اهلل :من وص لك وص لته ،ومن قطعك قطعت ه"(،)290
والشجنة عرق منعروق الشجرة المشتبكة ،ومعنى الحديث أن الرحم اشتق اسمها من اسم الرحمن
فلها به ُعلقة.
وقد حرم اهلل على قاطع الرحم دخول الجنة ،قال النبي " :ال يدخل الجنة قاطع"(.)291
وبالمقابل ف إن ص لة ال رحم بركة في ال رزق واألث ر ،لقوله عليه الص الة والس الم ( :من أحب أن
وينسأ له في أثره فليصل رحمه) (.)292
يبسط له في رزقهُ ،
وتك ون ص لة ال رحم بالم ال للق ادر علي ه ،ب العون على الحاج ة ،وب دفع الض رر ،وبطالقه الوج ه،
وبال دعاء .والمع نى الج امع :إيص ال ما أمكن من الخ ير ،ودفع ما أمكن من الشر بحسب
الطاقة(.)293
ولقد شاع التقاطع في زماننا هذا ،حتى أصبح كل إنسان يميل إلى األبعدين عنه ،وال يرغب بصلة
األقربين لما يجد من إساءاتهم وقطيعتهم ،وإ ذا كان هذا التصرف له ما يبرره عند جمهور الناس،
فإن الداعية مأمور بإحياء هذه الصالت والحض عليها ،وال تتم عبادته هلل تبارك وتعالى إال بها.
وقد أخ بر الن بي أن الواصل ال يك ون المك افئ ،فق ال " :ليس الواصل بالمك افئ ،ولكن الواصل
ال ذي إذا قُطعت رحمه وص لها"( .)294ومع نى الح ديث أن ص لة ال رحم ال يش ترط فيها التب ادل ،بل
هي واجبة حتى مع القطيعة ،فمن أراد أن يكون واص الً فالبد أن يبدأ هو بوصل من قطعه ،والبد
أن يعطى من منعه .وأن يقابل اإلساءة باإلحسان .وأما إذا انتظر الصلة من الجانب اآلخر فإنه ال
يكون واصالً.
واألرح ام م راتب حسب قربها وبع دها من النس ب ،ودرج ات حسب قربها وبع دها عن ال دين.
وصلة الرحم تبدأ باألقرب حتى تصل إلى األبعد .والبر واجب على كل حال ،والوالية تفارقه في
حال كون الرحم فاسقاً أو كافراً أو عدواً ،لقول اهلل تعالى :ال ينهاكم اهلل عن الذين لم يقاتلوكم في
ال دين ولم يخرج وكم من دي اركم أن ت بروهم وتُقس طوا إليهم ،إن اهلل ُيحب المقس طين* إنما ينه اكم
اهلل عن الذين قاتلتوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ،ومن
يتولهم فأولئك هم الظالمون.)295(
ويالحظ قوله في اآلية األولى :أن ت بروهم ،وفي الثانية :أن تول وهم ،ومع نى ذلك أن النهي عن
تولي هؤالء لشدة عداوتهم ،قال الرازي في تفسيره" :هذه اآلية تدل عن جواز البر بين المشركين
()296
والمس لمين ،وإ ن ك انت الم واالة منقطع ة" ،ف إذا علم الداعية كل ه ذا ك انت ص لة ال رحم مي داناً
رحب اً لدعوته ،تصله بجماهير من الناس .ويكون عندئذ قطاع كبير من هؤالء الناس على صلة
بجماعة الدعاة ،وهو كسب للدعوة والدعاة.
-8الرفق:
والبد أن يتصف الداعية ب الرفق مع س ائر الن اس .والرفق لين الج انب ب القول والفع ل .واألخذ
باألسهل واأليسر ،وهو ضد العنف ،وقد روى اإلمام مسلم في صحيحه عن النبي أنه قال " :
إن اهلل رفيق يحب الرفق ،ويعطي على الرفق ما ال يعطي على العنف " ( .)297ومن خالل الرفق
يستطيع الداعية أن يفكر في األمور وأن يتخذ المواقف الص حيحة ،وال يمكن ذلك من خالل العنف
والتس رع .ورب كلمة ين دفع الداعية إلى قولها ثم يت بين أن لها من اآلث ار الس لبية ما يجعل جماعة
كاملة تبذل وقتها وجهدها من أجل إصالح ما أفسده عدم الرفق ،ورب تصرف أهوج من إنسان
محس وب على ال دعوة وال دعاة ي ؤخر مس يرة ال دعوة وال دعاة .ولعل من أشد األم راض الفتاكة
بالدعوة والدعاة أن يكون فيها من يربي غيره على العنف ويطالبه باستعمال القوة وإ نزال العقوبة
على كل مخ الف .وه ذا الس لوك يس لب ال دعوة أهم مقوماتها وعناصر وجوده ا .وه ذا ما يس عى
أعداء اإلسالم ليل نهار إليقاع الدعاة فيه.
وك ان دأب الن بي الرفق مع الن اس كلهم؛ أخ رج البخ اري في ص حيحه عن أنس بن مالك رضي
ب أن أعرابي اً بال في المسجد فقاموا إليه ،فقال :ال تَْز ِرموه ،ثم دعا بدلو من ماء ،فَ ُ
ص َّ اهلل عنه" َّ
عليه" .ومعنى " ال تزرموه" :ال تقطعوا عليه بوله .وفي رواية الترمذي" :دخل أعرابي المسجد
والن بي ج الس ،فص لى فلما ف رغ ق ال :اللهم ارحم ني ومحم داً وال ت رحم معنا أح داً ،ف التفت إليه
النبي ،فقال :لقد تحجرت واسعاً ،فلم يلبث أن بال في المسجد ،فأسرع إليه الناس ،فقال النبي
:أهريق وا عليه س جالً من م اء ،أودل واً من م اء ،ثم ق ال :إنما ُبعثتم ميس رين ولم تبعث وا
معسرين"(.)298
وفي هذه الحادثة كمال رفقه ، وما أجمل أن يتأسى الدعاة بهذا الخلق الكامل.
والبد أن يضع الداعية في عين االعتب ار طب ائع الن اس وأم زجتهم ،وأنهم ال يتص رفون بطريقة
واحدة .وهم أنواع وأصناف ،والبد من مراعاة كل هذا ،فالجاهل له طبيعة ومزاج ،والبدوي له
طبيعة ومزاج ،والحضري له طبيعة ومزاج.
وتختلف الطب اع واألمزجة مع اختالف البالد ،وقد يغلب على أهل قطر ما روح الدعابة والم رح،
وعلى أهل قطر آخر روح الجد والح زم .ويتصف ش عب ما بقدرته على المجاملة ولين الكالم،
ويتصف غيره بحدة المزاج وخشونة التعامل .والداعية الناجح يستوعب هذه الطبائع واألمزجة.
ومن ُحرم الرفق فقد ُحرم الخير كله( ،)299كما جاء في الحديث الشريف .
ومن لوازم الرفق أن ال يكون الداعية فاحش اً وال متفاحش اً .والفحش كل ما خرج عن مقداره حتى
يستقبح ،فالداعية ال يفحش في كالمه ،وال يجيب على الفحش بالفحش ،وال يكون سبَّاباً وال لعَّان اً.
وكل ه ذا من جهة ك ون الداعية أوسع قلب اً وأعمق نظ راً وأبعد ه دفاً من غ يره .ف إذا ك ان الن اس
يتص فون بس رعة االس تجابة ل دواعي الغضب وال نزق فما ذلك إال لقصر في أه دافهم ،ومالحقة
لسفاسف األمور وصغائرها .والداعية ال يكون كذلك ،بل هو يعمل على ترويض الطباع الشاردة
وتربية األخالق القاسية ،ومستلزمات هذه الوظيفة كبيرة.
-9مراعاة ذوي الهيئات والوجهاء:
وال يهمل الداعية وج وه الن اس وذوي النف وذ فيهم ،بل يقبل عليهم ويس تطيع بحسن إدارته وث اقب
بصيرته أن يوظف الكثير من هؤالء لنصرة دعوته .وما يشيع على ألسنة الدعاة أحياناً من كلمات
ت دعو إلى إهم ال ه ذه الفئة هو مخ الف لس نة الن بي في تعامله مع الوجه اء والزعم اء .كما جعل
لهم الق رآن الك ريم س هماً من الزك اة وهو س هم المؤلفة قل وبهم ،وذلك ألن ه ؤالء هم أن اس تتح رك
بحركتهم فئات كبيرة من الناس ،فراعى اإلسالم ما لهم من نفوذ في اتباعهم فاستمال قلوبهم لكي
ال يقفوا في طريق أتباعهم الراغبين في دين اهلل تعالى.
وه ؤالء الوجه اء منهم العقالء الحلم اء الحكم اء ،وه ؤالء ت راعى مك انتهم ويس تفاد من ص فاتهم
ومزاي اهم ،فقد ق ال الن بي ألشج عبد القيس " :إن فيك خص لتين يحبهما اهلل ورس وله :الحلم
واألناة"( .)300وقد يكون منهم األحمق المطاع ومثل هذا يتقى شره وتستل سخيمة صدره بشيء من
المداراة واللين من غير مداهنة أو وصفه بما ليس فيه .ويشهد لهذا ما رواه عروة عن عائشة" أن
رجالً اس تأذن على الن بي فلما رآه ق ال :بئس أخو العش يرة ،أو ابن العش يرة ،فلما جلس تطلق
الن بي في وجهه وانبسط إلي ه ،فلما انطلق الرجل ق الت له عائش ة :يا رس ول اهلل ،حين رأيت
الرجل قلت ك ذا وك ذا ،ثم تطلقت في وجهه وانبس طت إلي ه ،فق ال رس ول اهلل :يا عائش ة ،م تى
عهدتني فاحشاً ،إن شر الناس عند اهلل منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره"(.)301
وه ذا الرجل هو عيينة بن حصن الف زاري ،وقد وص فه الن بي أنه " أحمق مط اع" وذلك عن دما
جاء إلى النبي وعنده عائشة ـ وكان ذلك قبل الحجاب ـ فقال :من هذه ؟ قال :أم المؤمنين ،ق ال:
اال أنزل لك عن أجمل منها ،فغضبت عائشة ،وقالت :من هذا؟ قال :هذا أحمق(.)302
وإ كرام هؤالء الوجهاء إكرام ألقوامهم ،وينعكس هذا اإلكرام على الدعوة والدعاة .وإ ذا تعرض
أح دهم ألزمة ما ف إن على الداعية أن يقيل عثرته وأن يرحمه في موقف ال ذل ،ب ذلك أمر الن بي
عندما قال " :أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم"(.)303
-10السعي في حوائج الناس وحل مشكالتهم:
والداعية الناجح يسعى في حوائج الناس ،ويحمل عنهم همومهم ،ويشاركهم في آالمهم وأفراحهم،
ويعينهم على ن وائب الح ق .فهو ال ي دخر وس عاً في تق ديم كل ع ون ممكن لهم ،وه ذا ما وصف به
رس ول اهلل ي وم أن ذهب يرجف ف ؤاده إلى خديج ة ،فق الت ل ه":كالً واهلل ما يخزيك اهلل أب داً ،إنك
لتصل الرحم ،وتحمل ال َك َل ،وتكسب المعدوم ،وتقري الضيف ،وتعين على نوائب الحق"(.)304
قال ابن حجر " :استدلت على ما أقسمت عليه من نفي ذلك أبداً بأمر استقرائي ،وصفته بأصول
مك ارم األخالق؛ ألن اإلحس ان إما إلى األق ارب ،أو إلى األج انب ،وإ ما بالب دن ،أو بالم ال ،وإ ما
على من يس تقل ب أمره ،أو من ال يس تقل ،وذلك كله مجم وع فيما وص فته ب ه"( ،)305وك ذلك فقد
وصف ابن الدغنة أبا بكر عندما خرج مهاجراً ،فقال له ":فواهلل ،إنك لتزين العشيرة ،وتعين على
النوائب ،وتفعل المعروف ،وتكسب المعدوم ،ارجع فأنت في جواري"( .)306وهذه الحادثة تبين لنا
بص ورة جلية كيف يك ون الداعية مع الن اس ،وكيف يجد الداعية تق دير الن اس في األزم ات
والملمات.
والداعية ال يمل من فعل الخ ير ،ويب ذل في س بيل ذلك قُص ارى جه ده ،ويش تد س اقه مع المله وف،
ويجيب من يستنصره ويستصرخه ،وخالفاً لما يعتقده بعض الناس من أن التدخل في شئون الناس
لحل خصوماتهم شغل بما ال يعني فإن النبي قد جعل العدل بين االثنين صدقة وإ غاثة الملهوف
ص دقة فق ال " :كل ُس المى من الن اس عليه ص دقة ،كل ي وم تطلع فيه الش مس ،تع دل بين اث نين
ص دقة ،والكلمة الطيبة ص دقة"( .)307وفي رواية أخ رى " :على كل مس لم ص دقة ،ق الوا :ف إن لم
يج د؟ ق ال :فيعمل بي ده فينفع نفسه ويتص دق ،ق الوا :ف إن لم يس تطع أو لم يفع ل ،ق ال :يعين ذا
الحاجة الملهوف"(.)308
والداعية الناجح ال يبخل على أحد ببذل شفاعته ووساطته ،فإذا طلب إليه أحد الناس أن يسعى معه
وأن يعبر له عن حاجته سار مسرعاً إلى ذلك .والشفاعة سنة محمودة سنها النبي عندما قال " :
إلي ولت ؤجروا وليقض اهلل على لس ان نبيه ما ش اء " .وه ذه الش فاعة ال تب دل الحق وق وال
اش فعوا َّ
تس قط الواجب ات ،وإ نما توصل الحق إلى ص احب الحق ويع ود خيرها على كل ح ال على ال دعوة
والداعية.
)?(307
)?(308
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -119-
،وذلك لبعد العنصر اإلس المي المتح رك عنها ،وك ان الظن الس ائد أن العمل النق ابي ال يمكن أن
ينس جم مع اإلس الم ،أو أنه ص ورة من ص ور ال ترقيع للواق ع .ولكن ت بين خطأ ه ذا الظن عن دما
قامت أنظمة ودول من خالل هذا العمل النقابي ،وذاق المسلمون ـ أحياناً ـ على أيدي هذه النقابات
الويالت ،والنقابات تشكل بمجموعها قوة اجتماعية جماهيرية ،إن لم تكن للدعوة فهي عليها .وإ ن
لم تجد من يأخذها في طريق الهداية فستؤخذ في طريق الضالل واإلضالل.
أما القول بأن العمل النقابي ال ينسجم مع عقيدة اإلسالم وشريعته فهذا قول مردود؛ ألن المجتمع
المس لم ع رف مثل ه ذه التجمع ات النقابية ،وما زال لقب ش يخ النج ارين وش يخ الح دادين معروف اً
في بعض البالد اإلسالمية ،وقد نظم المسلمون أصحاب كل فئة بطريقة تحدد حقوقهم وواجباتهم.
وإ ذا كانت القوانين واألنظمة النقابية ال تنسجم مع اإلسالم فهذا ألن المتنفذين في النقابات صاغوا
أنظمتها وفق مبادئهم وأفكارهم .والمسلم مطالب بالعمل على تغيير كل قانون يتعارض مع قانون
اإلسالم وشريعته.
وأما القول بأن العمل النقابي صورة من صور الترقيع ،فغير ُم َس لَّم ألن تكوين المجتمع المسلم ال
يأتي من الفراغ وال يأتي من فوق ،بل يتكون المجتمع من خالل اتجاه أفراده وتجمعاته.
وإ ذا كان اتجاه األفراد والجماعات مخالفاً لالتجاه اإلسالمي فإن المحصلة مجتمع ال إسالمي ،وإ ذا
كان اتجاه األفراد والجماعات في المسار اإلسالمي فالمحصلة مجتمع مسلم .ولو قبلنا قول دعاة
اإلصالح الجذري الذين ينتظرون قوة سحرية خارجية تغير كل شيء لعاش المسلمون في مآس
فكرية وسلوكية أكبر بكثير مما يجدونه .وما دامت الحياة ال تتوقف بل هي سائرة والبد أن يعيش
المس لم فيها واقع اً معين اً ف إن عليه أن ُي دخل في الواقع ما يس تطيع من نظم اإلس الم وأحكام ه ،ف إذا
قصر في بعض األم ور انتظ اراً للكل فهو آثم ،ويك ون قد أعطى بعض األحك ام المخالفة إذن
وجودها وهو ق ادر على إزالته ا .وال يق ول عاقل ب ترك نقابة ما ألنها تتعامل بالرب ا؛ بحجة أن
العمل على إزالة الربا ترقيع ال ت زول بإزالته جميع المخالف ات .وإ ذا اس تطاع مس لم أن يك ون له
نف وذ في نقابة فيح ارب موائد الخمر أو أب واق الدعاية لألفك ار اإللحادية والعلمانية ،ثم تخلف عن
هذا فهو غاش هلل تعالى ولرسوله ولجماعة المسلمين.
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -121-
المراجع
القرآن الكريم
األزهري ،محمد بن أحمد ،تهذيب اللغة ،الدار المصرية للتأليف والترجمة ،القاهرة.
البخاري ،محمد بن إسماعيل ،الجامع الصحيح ،مطابع الشعب ،القاهرة1378 ،هـ.
البغدادي،عبد القاهر ،الفرق بين ِ
الف َرق ،دار المعرفة ،بيروت.
الترمذي ،أبوعيسى محمد بن عيسى ،الجامع الصحيح ،مصطفى الحلبي ،القاهرة 1356 ،هـ.
ابن تيمية ،أحمد بن عبد الحليم ،الفتاوى الكبرى ،مطبعة الرسالة ،بيروت1386 ،هـ.
الحاكم ،محمد بن عبد اهلل ،معرفة علوم الحديث ،دار الكتب المصرية ،القاهرة.
ابن حج ر ،أحمد بن علي ،فتح الب اري بش رح ص حيح البخ اري ،المطبعة الس لفية ،الق اهرة،
1380هـ.
ابن حزم ،علي بن أحمد ،الفصل في الملل والنحل ،دار المعرفة ،بيروت1975 ،م.
ابن حزم ،علي بن أحمد ،المحلي ،المطبعة المنيرية ،القاهرة1352 ،هـ.
ابن حنبل ،اإلمام أحمد ،المسند ،مصور عن طبعة الحلبي ،المكتب اإلسالمي ،بيروت.
الخطابي ،حمد بن سليمان ،معالم السنن.
الخطابي ،حمد بن سليمان ،العزلة ،المطبعة السلفية ،القاهرة1385 ،هـ.
أبو داود السجس تاني ،س ليمان بن األش عث ،الس نن ،ط ، 1بتحقيق ع زت عبيد ال دعاس ،دار
الحديث ،حمص1969 ،م.
الرازي ،فخر الدين محمد بن عمر ،التفسير الكبير ،ط ،2دار الكتب العلمية ،طهران.
سيد قطب ،في ظالل القرآن ،دار الشروق ،بيروت1395 ،هـ.
الشاطبي ،إبراهيم بن موسى ،االعتصام ،دار التحرير ،القاهرة1970،م.
الش نقيطي ،محمد ح بيب اهلل ،زاد المس لم فيما اتفق عليه البخ اري ومس لم ،مؤسسة الحل بي ،
القاهرة.
ابن أبي العز الحنفي ،شرح العقيدة الطحاوية ،ط ،8المكتب اإلسالمي ،بيروت1984 ،م.
ابن فارس ،أحمد ،معجم مقاييس اللغة ،ط ،3مصطفى الحلبي ،القاهرة1390 ،هـ.
القرط بي ،محمد بن أحم د ،الج امع ألحك ام الق رآن ،مص ور عن دار الكتب المص رية ،دار القلم،
القاهرة1386 ،هـ.
ابن قيم الجوزية ،محمد بن أبي بكر ،إغاثة اللهفان ،دار المعرفة ،بيروت.
ابن قيم الجوزية ،محمد بن أبي بكر ،زاد المعاد ،ط ،2مصطفى الحلبي ،القاهرة1950،م.
ابن كثير ،إسماعيل ،البداية والنهاية ،مطبعة السعادة ،القاهرة1348،هـ.
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -122-
ابن ماجة القزويني ،محمد بن يزيد ،السنن ،بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ،طبعة عيسى الحلبي،
القاهرة.
الماوردي ،أدب الدنيا والدين ،دار الكتب العلمية ،بيروت1978،م.
محمد رشيد رضا ،تفسير المنار ،ط ،4مطبعة حجازي ،القاهرة1959 ،م.
محمد عبده ،شرح العقائد العضدية ،ط ،1المطبعة الخيرية ،القاهرة1332 ،هـ.
مسلم بن حجاج ،الجامع الصحيح ،بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ،طبعة عيسى الحلبي ،القاهرة،
1374هـ.
المقريزي ،أحمد بن علي ،إمتاع األسماع،ط ،2تحقيق محمود شاكر ،الشئون الدينية بدولة قطر.
مكي بن أبي طالب ،الكشف عن وجوه القراءات ،مؤسسة الرسالة ،بيروت1401،هـ.
ابن منظور ،محمد بن ُمكرم ،لسان العرب ،مصور عن طبعة بوالق ،المؤسسة المصرية العامة
القاهرة.
أبو نعيم األصبهاني ،أحمد بن عبد اهلل ،حلية األولياء ،مكتبة الخانجي ،القاهرة1932،م.
النووي ،يحيى بن شرف ،المنهاج في شرح صحيح مسلم ،المطبعة المصرية القاهرة1375 ،هـ.
الهيثمي ،علي بن أبي بكر ،مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ،دار الكتب ،بيروت1967،م.
الهيثمي ،علي بن أبي بكر ،موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان ،المطبعة السلفية ،القاهرة.
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -123-
الفهرس
الصفحة الموضع
5 مقدمة الطبعة األولى
9 مقدمة الطبعة الثانية
11 القاعدة األولى
الدعوة إلى اهلل سبيل النجاة في الدنيا واآلخرة
19 القاعدة الثانية
ألن يهدي اهلل بك رجالً واحداً خير لك من ُح ُمر َّ
الن َعم
23 القاعدة الثالثة
األجر يقع بمجرد الدعوة وال يتوقف على االستجابة
27 القاعدة الرابعة
على الداعية أن يصل إلى رتبة المبلغ وأني سعى إلى البالغ
39 القاعدة الخامسة
على الداعية أن يقدم الجهد البشري وهو يطلب المدد الرباني
49 القاعدة السادسة
الداعية مرآة دعوته والنموذج المعبر عنها
53 القاعدة السابعة
خاطبوا الناس على قدر عقولهم
57 القاعدة الثامنة
االبتالء سنة اهلل تعالى وهو السبيل إلى تمثل الدعوة وصياغة النفس
وفق العقيدة.
61 القاعدة التاسعة
مجال الدعوة واسع فليتخير الداعية لدعوته
67 القاعدة العاشرة
الزمن عنصر فعال من عناصر الدعوة
71 القاعدة الحادية عشرة
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -124-
(.)309
}
)?(309
المادة :الدعوة المرحلة :الثانية -126-