الدعوة

You might also like

Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 127

‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-1-‬‬

‫(‪ )1‬التعريف بالمرحلة وسماتها ‪:‬‬


‫المؤيد‪ :‬هو شخص يؤيد الفكرة ‪ ،‬ويهتم بانتشارها ‪ ،‬ويهتم بقضايا المسلمين‬
‫عامة‪ ،‬ويدرس بعض المفاهيم األساسية في الدعوة ‪.‬‬
‫سماتها ‪ :‬استشعار أهمية العمل الجماعي والعمل من أجل خدمة اإلسالم‬
‫وضرورة االنضمام إلى الجماعة إلقامة دين اهلل في األرض مع توافر‬
‫الخصائص األساسية للمسلم ‪.‬‬
‫مدتها ‪ :‬سنـة‬

‫الدعــوة‬ ‫[‪]6‬‬
‫(‪ )2‬الهدف العام ‪:‬‬
‫‪ -1‬تعليم المسلم وتدريبه على الحوار الموضوعي مع إخوانه ‪،‬ومع اآلخرين ‪.‬‬
‫‪ -2‬صياغة المسلم الداعية المؤهل والقادر على الحركة الذاتية بدعوته في كل‬
‫مجال وتحت أية ظروف أو مستجدات ومع أية فئة من الناس ‪ ،‬وترسيخ‬
‫قدرته على مواجهة التحديات ‪.‬‬
‫‪ -3‬زيادة فرص التعامل بين األفراد على اختالف مواطنهم ‪ ،‬وتبادل الخبرات‬
‫بينهم ‪ ،‬وإ طالع بعضهم على تجارب بعض ‪.‬‬
‫‪ -4‬تدريب األفراد على فن االتصال بالجماهير وتوجيهها ‪ ،‬والتأثير فيها ‪.‬‬
‫‪ -5‬االستثمار األمثل للتجارب والطاقات المعطلة لدى قدامى العاملين في‬
‫الحقل اإلسالمي عموماً والحقل الدعوي خصوصاً ‪.‬‬
‫‪ -6‬تأصيل اإليمان بوجوب العمل الجماعي خاصة في هذا العصر إلقامة دين‬
‫اهلل في األرض ‪ ،‬ورد األمة به إلى منهج اإلسالم من أجل استعادة موقعها‬
‫الطبيعي بين البشر ‪.‬‬
‫‪ -7‬تربية األفراد على االلتزام بالسمع والطاعة في المنشط والمكره ‪ ،‬في‬
‫حدود الضوابط الشرعية ‪.‬‬

‫(‪ )3‬األهداف الخاصة‬


‫‪ -1‬أن يعدد قواعد الدعوة إلى اهلل تعالى إجماالً ‪ ،‬كما صاغها مؤلف الكتاب ‪.‬‬
‫‪ -2‬يوضح أهمية الدعوة إلى اهلل ‪.‬‬
‫‪ -3‬يبين المهمة التي ينهض لها الداعية إلى اهلل ‪.‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-2-‬‬

‫أن يعدد أسباب نجاح الداعية في دعوته ‪.‬‬ ‫‪-4‬‬


‫أن يربط بين الدعوة والجهاد في سبيل اهلل ‪.‬‬ ‫‪-5‬‬
‫يوضح حكم األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪.‬‬ ‫‪-6‬‬
‫يدلل على فرضية العمل الجماعي في الدعوة إلى اهلل وإ قامة الدين ‪.‬‬ ‫‪-7‬‬
‫يوضح عالقة االبتالء بالدعوة ‪.‬‬ ‫‪-8‬‬
‫‪ -9‬يبين أثر التطلع إلى مباهج الحياة على حياة الداعية وتأثيرها على‬
‫دعوته‪.‬‬
‫‪ -10‬أن يعود نفسه ومن حوله على االهتمام بالدعوة للحق واالهتمام بنشره‬
‫بين اآلخرين ‪.‬‬
‫‪ -11‬أن يدرك العالقة بين الحق والواجب وألوان السلوك وما يترتب على‬
‫ذلك من استقرار نفسي واجتماعي ‪.‬‬
‫‪ -12‬الشعور بالمسئولية نحو نفسه ومجتمعه ونحو هداية الناس ‪.‬‬
‫‪ -13‬أن يحرص على االقتداء بالرسول ‪ ‬والصحابة الكرام ‪.‬‬
‫‪ -14‬يتشبع بمنهج الرسول ‪ ‬في تعامله مع أصحابه وفي حبه للدعوة إلى‬
‫اهلل ‪.‬‬
‫‪ -15‬أن يبين اآليات واألحاديث التي يستدل بها على نزول الوحي على‬
‫رسول اهلل ‪. ‬‬
‫‪ -16‬أن يعدد أنواع الوحي ‪.‬‬
‫‪ -17‬أن يستشهد باآليات واألحاديث على عموم رسالة الرسول ‪. ‬‬
‫‪ -18‬يدلل على بطالن دعوة األنبياء السابقين عند وجود دعوة الرسول ‪. ‬‬

‫(‪ )4‬األهداف السلوكية والوجدانية‬


‫‪ -1‬أن يصاحب الصالحين قربة إلى اهلل ‪.‬‬
‫‪ -2‬أن يعتقد أن المستقبل لهذا الدين ‪.‬‬
‫‪ -3‬أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ‪.‬‬
‫‪ -4‬أن يبذل من ماله " ولو القليل " إلخوانه في العالم اإلسالمي ‪.‬‬
‫‪ -5‬أن يبدي استعداداً لتحمل تبعات الطريق ‪.‬‬
‫‪ -6‬أن يتجنب التخلف عن اللقاءات بأنواعها ‪.‬‬
‫‪ -7‬أن يرتب أفكاره جيداً ‪.‬‬
‫‪ -8‬أن يحيط أستاذه علماً بكل ظروفه ‪.‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-3-‬‬

‫‪ -9‬أن تكون لديه القدرة على االنتقاء ‪.‬‬


‫‪ -10‬أن يتعاون مع غيره فيما اتفقوا عليه ‪.‬‬
‫‪ -11‬أن يؤدي الخدمة العامة في أي ميدان لوجه اهلل ‪.‬‬
‫‪ -12‬أن يكثر من التقرب للناس قدر اإلمكان ‪.‬‬
‫‪ -13‬أن يتعامل مع اآلخرين باعتباره فرداً من المدرسة ( يعتبر نفسه من‬
‫المدرسة ) ‪.‬‬
‫‪ -14‬أن يسعى لقضاء حوائج الناس ‪.‬‬
‫‪ -15‬أن يعلم غيره أمور الدين ‪.‬‬
‫‪ -16‬أن يرغب الناس في طاعة اهلل ‪.‬‬
‫‪ -17‬أن يحذر الناس من غضب اهلل ‪.‬‬
‫‪ -18‬أن يأخذ بيد أسرته نحو تبني فكرته ‪.‬‬
‫‪ -19‬أن يخصص يوماً ألهله أسبوعياً لدراسة فكر الدعوة ‪.‬‬
‫‪ -20‬أن يأخذ بيد أقربائه نحو االلتزام بمنهج اإلسالم ‪.‬‬
‫‪ -21‬أن يبادر إلى طرح المشكالت واقتراح الحلول وإ بداء اآلراء ‪.‬‬
‫‪ -22‬أن يفضل التخصصات النادرة والحيوية ( حرف – وظائف – دراسات‬
‫‪ . . . .‬إلخ ) ‪.‬‬
‫‪ -23‬أن يسهم بجزء من ماله في المدرسة ‪.‬‬
‫‪ -24‬أن يؤثر منتجات الشركات اإلسالمية ‪.‬‬
‫‪ -25‬أن يتجنب المسائل والقضايا التي ال ينبني عليها عمل ‪.‬‬
‫‪ -26‬أن ينزل المعلم منزلة الوالد واألستاذ واألخ األكبر ‪.‬‬
‫‪ -27‬القدرة على الدعوة إلى اإلسالم بالطريق الصحيح ‪.‬‬
‫‪ -28‬القدرة على بيان صالحية اإلسالم لكل زمان ومكان وكونه نظاماً للحياة‪.‬‬

‫(‪ )5‬المحتوى‬
‫كتاب ‪ :‬قواعد الدعوة إلى اهلل [ د ‪ .‬همام سعيد ] ‪ ( .‬كتاب مطبوع )‬
‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬
‫مقدمة الطبعة األولى‬
‫إن الحمد هلل تعالى ‪ ،‬نحمده ونستعينه ونستغفره ‪ ،‬ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا وس يئات أعمالنا من‬
‫يهده اله فال ُمضل له ‪ ،‬ومن ُيضلل فلن تجد له ولياً مرشداً‪.‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-4-‬‬

‫والص الة والس الم على محمد عبداهلل ورس وله‪ ،‬وعلى آله وص حبه والت ابعين لهم بإحس ان‪ ،‬وأش هد‬
‫أنه بلغ الرسالة‪ ،‬وأدى األمانة‪ ،‬ونصح األمة‪ ،‬وجاهد في اهلل حق الجهاد حتى أتاه اليقين من ربه‪،‬‬
‫وبعد‪:‬‬
‫فإن الدعوة إلى اهلل تعالى أشرف األعمال وأرفع العبادات ‪ ،‬وهي أخص خصائص الرسل الكرام‬
‫‪ ،‬وأبرز مهام األولياء واألصفياء من عباده الصالحين‪.‬‬
‫وال يص بح الم رء داعية إلى فك رة من األفك ار إال بعد تحقق انتس ابه إليها وتفاعله مع قض اياها ‪.‬‬
‫وصاحب الدعوة يعيش بها وتعيش به وتُحسب عليه كما ُيحسب عليها ‪.‬‬
‫ولقد ش اء اهلل تع الى أن تشق دع وة اإلس الم طريقها في الت اريخ الح ديث في جميع بالد الع الم‪،‬‬
‫وأصبح لها في كل قطر لسان ينطق بها ويعبر عنها‪.‬‬
‫ودخلت الدعوة إلى قطاعات المجتمع المختلفة ‪ ،‬ولم تعد الدعوة حكراً على الموظفين الرسميين أو‬
‫على من يطلق عليهم" ارب اب الش عائر الدينية " بل ش ارك فيها الرج ال والنس اء والص غار والكب ار‬
‫والمشتغلون بالتخصصات العلمية واإلنسانية‪ .‬وهذا المد الذي نجده في جامعات العالم اإلسالمي‬
‫أصبح بناء عضوياً أصيالً في بنية هذه الجامعات ‪ ،‬بل وفي الجامعات الغربية كذلك‪.‬‬
‫وه ذا التق دم ال ذي أحرزته دع وة اإلس الم لم َيخ ُل من مص اعب وعقب ات داخلية وخارجية ‪ ،‬أذكر‬
‫منها ‪:‬‬
‫قلة الم ربين والم وجهين األكف اء بالنس بة إلى حجم اإلقب ال الكب ير‪ .‬ولعل ه ذه الظ اهرة من أخطر‬
‫األم ور ال تي تح اج إلى عالج؛ ألن قطاع ات كب يرة من الن اس تعيش خ ارج المحاضن المالئمة ‪،‬‬
‫مما ينعكس على تكوينها وبنائها ‪ ،‬وكث يراً ما ين دب بعض غ ير الم ؤهلين أنفس هم ل دور التربية‬
‫والتكوين وإ عطاء اآلراء في أخطر المسائل وأعوصها لخلو الميدان من المؤهلين لذلك ‪.‬‬
‫النقص في البرامج التي تُعد الداعية والموجه إعداداً وفق مستويات مختلفة لتالئم حاجات متنوعة‬
‫‪ .‬ويبدو أن النقص أظهر ما يكون في مجال التأصل والتقعيد‪ .‬وأصبح من األمور الملحة أن تُتلقى‬
‫ال دعوة على ش كل تص ور متكامل من البداية إلى النهاية ‪ ،‬مع اس تيعاب كلياتا ومعرفة األولوي ات‬
‫فيها‪.‬‬
‫تأخر سن العطاء ‪ :‬إذ أن الزمن الذي ينفق قبل أن يصل الفرد إلى مرحلة التأثير هو زمن طويل‪.‬‬
‫ومنشأ ذلك انتش ار المع ارف والمعلوم ات واتس اع الق راءات والتج ارب‪ .‬ولعل التأص يل هو أحد‬
‫العوامل المس اعدة على اإلس راع في الوص ول إلى مرحلة العط اء واإلنج از وبمعرفة القواعد‬
‫الض ابطة نس تغني عن كث ير من الف روع‪ ،‬ونس تطيع المواءمة بين اتس اع حق ول ال دعوة وقصر‬
‫الزمن الماحدد للتكوين‪.‬‬
‫الجهود المعادية لط ال دعوة ‪ .‬وهي جهود متنوعة ذات إمكاني ات كبيرة ‪ ،‬ولها خ برات واس عة في‬
‫الصد عن س بيل اهلل ‪ .‬ورغم الخالف ات الح ادة بين الش يوعية والرأس مالية وبين الوجودية والقومية‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-5-‬‬

‫وغيرها من األه واء والف رق الض الة إال أن اجلميع يلتق ون على ح رب اإلس الم ودعوت ه‪ .‬وه ذه‬
‫الجهود تلقي عبئاً كبيراً على دعاة اإلسالم الذين عليهم أن يدركوا مخططات أعدائهم وأن يصونوا‬
‫الناس من شرور هؤالء األعداء بأسلوب الوقاية والعالج ‪.‬‬
‫وإ ن مغري ات الحي اة ومش اغلها وتعقي داتها عقبة في طريق ال دعوة وال دعاة‪ .‬والبد أن يفهم ال دعاة‬
‫حركة الحي اة واألحي اء‪ ،‬وأن ُيلم وا ب النفس البش رية وط رق الت أثير فيها ‪ ،‬ووس ائل تزكيته ا‪ .‬ولعل‬
‫من المظ اهر الملفتة للنظر تق دم ال دعوة في ص فوف األغني اء وأولئك ال ذين عاش وا في غم ار‬
‫الحض ارة الغربية وتعرض وا لمغري ات الجاهلية الحديث ة‪ .‬وه ذه الظ واهر تس اعد على تك وين‬
‫مناعات ودفاعات أمام المغريات‪.‬‬
‫ويجد الداعية نفسه أما تي ارات فكرية ‪ .‬تتح رك وتتقلب بس رعة هائلة ‪ ،‬وتصل إلى اإلنس ان أينما‬
‫ك ان ‪ ،‬وإ ن كالداعية مط الب ب الوقوف في وجه ه ذه التي ارات الفكري ة‪ ،‬وأن يك ون وقوفه أمامها‬
‫قائماً على العلم والموضوعية‪.‬‬
‫ه ذه األعب اء وغيرها تُلح علينا أن ننقل ال دعوة من مي دان المش اعر واالنفع االت والخطب‬
‫والمقاالت إلى ميدان التخطيط والتنظيم والبرمجة والتأهيل والتقعيد ‪.‬‬
‫وليس غريب اً أن ت برز ه ذه الحاج ات في ه ذه اآلون ة؛ ألن ال دعوة اتس عت وتش عبت وك ثرت‬
‫ممارس تها وتجاربها وأس اليبها‪ .‬وه ذا االتس اع والتش عب ال ُيض بط إال بالكشف عن األص ول‬
‫والقواعد‪.‬‬
‫وليس أمر الدعوة بدعاً من أمور العلوم اإلسالمية األخرى‪ .‬فقد تناول المسلمون حديث رسول اهلل‬
‫‪ ‬بالرواية والدراية حتى وجدوا أنفسهم بحاجة إلى علم أصول الحديث ومصطلحه‪ ،‬وكذلك الحال‬
‫في النحو والص رف والعقي دة والتفس ير والت اريخ والفق ه‪ ،‬ف إن أص ول العل وم وقواع دها ج اءت في‬
‫مرحلة متأخرة عنها ‪.‬‬
‫وفي الوقت الذي اتجهت فيه العلوم إلى التأصيل والتقعيد كان علم الدعوة أقواالً مأثورة وشذرات‬
‫منث ورة ‪ ،‬ولم يكن علم اً ب المعنى االص طالحي للعلم‪ ،‬ألن مبعث العلم الحاجة إلي ه‪ ،‬ولم يكن‬
‫المجتمع اإلس المي مهج وراً أو غريب اً ‪،‬وإ نما ك ان قائم اً ف اعالً ناش طاً ‪ ،‬وأك ثر أف راده يمارس ون‬
‫الدعوة كما يعيشون ويأكلون ويشربون وعندما دالت دولة اإلسالم ونقضت عرى اإليمان ‪ ،‬وجد‬
‫أمية العقيدة والفكر والنظم كما ك انت في عهد الجاهلية‬
‫المسلم نفسه غريب اً في المجتمع ‪ ،‬ورجعت ّ‬
‫األولى ‪ ،‬فأخذ بعض ال دعاة على ع اتقهم إع ادة التأس يس وش رعوا في تهيئة المك ان والس كان‬
‫الستئناف الحياة اإلس المية‪ ،‬ودب األمل بعد اليأس ‪ ،‬وانطلق الدعاة شرقاً وغرب اً عرب اً وعجم اً ‪،‬‬
‫ودرس العلماء هذه التجارب وكشفوا عن جوانبها اإليجابية والسلبية‪.‬‬
‫ورغم النت ائج اإليجابية ال تي حققتها ال دعوة إلى اهلل في جميع األقط ار ‪ ،‬إال أنها ـ وكما س بق أن‬
‫أشرت ـ بحاجة إلى المزيد من توظيف الطاق ات واإلمكانيات‪ ،‬وحشد كل الجهود في سبيل البن اء‪،‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-6-‬‬

‫وال نصل إلى ه ذا التوظيف إال بإع داد األف راد للعط اء على مس تويات متفاوته ‪ ،‬وأن يك ون لكل‬
‫وظيفة من وظائف الدعوة إعدادها الخاص وزمنها المناسب ‪ ،‬وال يتحقق هذا إال عن طريق نظام‬
‫ترب وي مح دد الخط وات ‪ ،‬يعتمد القواعد واألطر العامة دون الخ وض في الكث ير من ال دقائق‬
‫والتفاص يل‪ ،‬ويق دم للداعية خالصة ُمرك زة في التربية والتك وين والقي ادة والتنظيم والتخطيط‬
‫والمتابعة‪.‬‬
‫والكت اب ال ذي أقدمه إلخ واني محاولة في تقعيد ال دعوة وتأص يلها‪ ،‬على ش كل ع دد من القواع د‪،‬‬
‫بعضها في التصورات‪ ،‬وبعضها في األساليب والوسائل‪.‬‬
‫وفيه وجهة نظر أقدمها للدراسة والنقد‪ ،‬وهي بداية وليست نهاية إن شاء اهلل تعالى ‪.‬‬
‫واهلل من وراء القصد ‪.‬‬
‫همام عبد الرحيم سعيد‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-7-‬‬

‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬


‫مقدمة الطبعة الثانية‬
‫إن الحمد هلل نحم ده ونس تعينه ونس تغفره ‪ ،‬ونع وذ باهلل من ش رور أنفس نا ومن س يئات أعمالنا ‪ ،‬من‬
‫يهده اهلل فالمضل له ‪ ،‬ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك‬
‫له‪ ،‬وأشهد أن محمداً عبده ورسوله‪ ،‬بلغ الرسالة وأدى األمانة ونصح األمة‪ ،‬فصلوات اهلل وس المه‬
‫على هذا النبي الكريم وعلى آله وصحبه تسليماً كثيراً ‪ ،‬وبعد ‪:‬‬
‫فهذه طبعة جديدة من كتاب قواعد الدعوة إلى اهلل تأتي مزيدة بعد ما يزيد على خمس عشرة سنة‬
‫من الطبعة األولى ‪ ،‬فقد احتوى الكتاب في طبعته األولى على خمس عشرة قاعدة ‪ ،‬وها هو اليتوم‬
‫يظهر مع إض افة ست قواعد أخ رى ‪ .‬وقد ج اء في ه ذه القواعد تأص يل ش رعي لع دة ج وانب من‬
‫العمل اإلس المي ‪ ،‬كالتأص يل للجماعة ال تي ك ثر الكالم عن مش روعيتها وأحقيتها وص فاتها ‪ ،‬وقد‬
‫ناقشت ه ذه القاع دة الموقف من الفتن وط رحت مفه وم االقتح ام ب دل مفه وم االنس حاب‪ ،‬وتن اولت‬
‫خطر العزلة على األمة في الوقت الذي تحتاج األمة إلى المجاهدين العاملين‪.‬‬
‫كما احت وت ه ذه اإلض افة على قاع دتين رئيس يتين في الفهم ‪ ،‬األولى تؤصل للفهم وأهميته‬
‫وض وابطه وأركانه وأث ره على المس يرة اإلس المية العامة ‪ ،‬والثانية تن اقش الفهم الس ائد في مقابل‬
‫الفهم الواجب ‪.‬‬
‫كما احت وت ه ذه اإلض افة على قاع دتين رئيس يتين لألمر ب المعروف والنهي عن المنكر ‪ ،‬األولى‬
‫تؤصل لهذا الركن األساس من أركان الدعوة اإلسالمية‪ ،‬وتبين المجاالت التي يعمل فيها كل من‬
‫األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪ .‬والثانية تناقش بعض االتجاهات المنحرفة في فهم القرآن ‪،‬‬
‫وت أتي لل دفع باتج اه الحركة اإليجابية في مقابل الحركة الس لبية اإلنس حابية االنهزامية ال تي يلجأ‬
‫إليها بعض المسلمين‪.‬‬
‫أما قاع دة العمل الع ام فقد ج اءت تفصل وتؤسس وتؤصل للعمل اإلس المي الع ام ال ذي يفتح الب اب‬
‫ألسلمة المجتمع وجمهوره ‪.‬‬
‫وقد جاءت هذا اإلضافات نتيجة جهد ومعاناة ‪ ،‬فهي رشحات قلب قبل أن تكون رشحات قلم ‪ ،‬ف إن‬
‫ُوفقت فمن اهلل تع الى ‪ ،‬وإ ن أخط أت فمن نفسي ومن الش يطان ‪ ،‬وأدعو اهلل أن ال يحرم ني من‬
‫واعظ ناصح ‪ .‬والحمد هلل رب العالمين ‪.‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-8-‬‬

‫الدكتور همام عبد الرحيم سعيد‬


‫عمان في ‪ 4‬جمادي األولى ‪1419‬هـ‬
‫الموافق ‪26/8/1998‬م‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-9-‬‬

‫القاعدة األولى‬
‫الدعوة إلى اهلل سبيل النجاة في الدنيا واآلخرة‬
‫على الداعية أن يعلم أن اهلل تع الى إنما خلق اإلنس ان لعبادته لقوله تع الى ‪  :‬وما خلقت الجن‬
‫واإلنس إال ليعب دون ‪ )1(‬والعب ادة ال تك ون إال على بص يرة‪ ،‬والبص يرة ال تك ون إال وفق منهج اهلل‬
‫ال ذي أنزله على رس له وأنبيائه ‪ ،‬فك ان ه ؤالء المرس لون واألنبي اء دع اة يه دون إلى الح ق‪ ،‬وك ان‬
‫هذا هو شغلهم الشاغل تحقيق اً لمراد اهلل الذي جعل آدم خليفة في األرض‪ ،‬يقضي بقضاء اهلل وينفذ‬
‫أمر اهلل ‪ ،‬فق ال تع الى ‪  :‬وإ ذ ق ال ربك للمالئكة إني جاعل في األرض خليفة‪ .)2(‬فك ان م راد اهلل‬
‫تع الى من خلق اإلنس ان أن يك ون مش تغالً ب أمره وهو القائل س بحانه‪:‬وما خلقت الجن واإلنس إال‬
‫ليعبدون‪‬‬
‫يق ول ال رازي ‪ " :‬ما العب ادة ال تي خلق الجن واإلنس من أجله ا؟ قلنا ‪ :‬التعظيم ألمر اهلل والش فقة‬
‫على خلق اهلل " (‪ .)3‬ثم يق ول ‪ " :‬ولما ك ان التعظيم الالئق ب ذي الجالل واإلك رام ال ُيعلم عقالص ‪،‬‬
‫لزم اتباع الشرائع فيها واألخذ بقول الرسل عليهم السالم‪ ،‬فقد أنعم اهلل على عباده بإرسال الرسل‬
‫(‪)4‬‬
‫وهذا التقسيم لوظائف العبادة تقسيم موجز وشامل‪.‬‬ ‫وإ يضاح السبل في نوعي العبادة "‬
‫وال دعوة إلى اهلل تع الى هي أبلغ مظهر من مظ اهر تعظيمه ‪،‬وال دعوة ي دعو إلى فك رة أو ه دف‬
‫ويص رف جه ده في س بيله ‪ ،‬وإ نما يفعل ذلك المتالئه به ذا اله دف أوه ذه الفك رة ‪ .‬ومن دعا إلى‬
‫فكرة فإنه يحسب عليها كما تحسب هي عليه كذلك‪.‬‬
‫وفي ال دعوة إلى اهلل تعالى دليل ش فقة على عباد اهلل ‪ ،‬ألن الداعية يريد إخراج الن اس من أوضاع‬
‫التم زق والش تات تحت وط أة األنظمة الوض عية ‪ ،‬إلى س عة ال دين وآفاقه الرحيبة ‪ ،‬ونظمه الكفيلة‬
‫بإسعاد البشر‪ .‬وأن يخرجهم من النار إلى الجنة كذلك‪.‬‬
‫هذان هدفان كريمان من أهداف العبادة‪ ،‬وهما هدفان من أهداف الدعوة إلى اهلل أيض اً‪ .‬والنجاة في‬
‫هذين الهدفين ‪.‬‬
‫وقد ال تزم أنبي اء اهلل ورس له الك رام أمر اهلل في ال دعوة إليه والحف اظ على الغاية من خلق اهلل لهم‪،‬‬
‫وحرص كل رسول كريم على دعوة الخلق إلى هذه النجاة‪.‬‬
‫قص الق رآن الك ريم علينا معركة األنبي اء مع أق وامهم ‪ .‬مؤك داً دائم اً على نج اة ال دعاة وعلى‬
‫ولقد َّ‬
‫هالك الظالمين المعرضين ‪:‬‬

‫سورة الذاريات ‪ ،‬اآلية ‪.56 :‬‬ ‫‪)?(1‬‬


‫سورة البقرة ‪ ،‬اآلية‪.30 :‬‬ ‫‪)?(2‬‬
‫تفسير الرازي ‪.28/435‬‬ ‫‪)?(3‬‬
‫المصدر السابق‪.‬‬ ‫‪)?(4‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-10-‬‬

‫ففي قصة نوح عليه السالم مع قومه كانت النهاية ‪  :‬فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم‬
‫خالئف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين‪.)5(‬‬
‫وفي قصة ه ود عليه الس الم مع قومه ك انت النهاي ة‪  :‬ولما ج اء آمرنا نجينا ه وداً وال ذين آمن وا‬
‫معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ ‪.)6( ‬‬
‫وفي قصة صالح عليه السالم مع قومه كانت النتيجة‪  :‬فلما جاء آمرنا نجينا صالحاً والذين آمنوا‬
‫معه برحمة منا إن ربك هو القوي العزيز ‪.)7( ‬‬
‫وفي قصة ل وط عليه الس الم ك انت النتيج ة‪  :‬ق الوا يا ل وط إنا رسل ربك لن يص لوا إليك فأسر‬
‫بأهلك بقطع من الليل وال يلتفت منكم أح ُد إال امرأتك إنه مص يبها ما أص ابهم إن موع دهم الص بح‬
‫أليس الص بح بق ريب* فلما ج اء أمرنا جعلنا عاليها س افلها وأمطرنا عليها حج ارة من س جيل‬
‫منضود‪.)8( ‬‬
‫وفي قصة ش عيب عليه الس الم مع قوم ه‪  :‬ولما ج اء أمرنا نجينا ش عيباً وال ذين آمن وا معه برحمة‬
‫منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين‪.)9(‬‬
‫وفي قصة موسى عليه الس الم مع فرع ون وقومه ك انت النتيجة ‪ ‬فانتقمنا منهم فأغرقن اهم في اليم‬
‫ب أنهم ك ذبوا بآياتنا وك انوا عنها غ افلين* وأورثنا الق وم ال ذين ك انوا يستض عفون مش ارق األرض‬
‫ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان‬
‫يصنع فرعون وقمه وما كانوا يعرشون‪.)10( ‬‬
‫وفي قصة القرية ال تي ك انت حاض رة البحر ك انت النتيج ة‪  :‬فلما نس وا ما ُذك روا به أنجينا ال ذين‬
‫ينهون عن السُّوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون‪.)11( ‬‬
‫كل ه ذه اآلي ات تؤكد أن النج اة في ال دعوة إلى اهلل ‪ .‬وه ذا وعد اهلل تع الى للمؤم نين ‪ :‬ثم ننجي‬
‫رسلنا والذين آمنوا كذلك حقاً علينا ننج المؤمنين‪.)12(‬‬
‫فتكون نجاة المؤمنين الداعين إلى اهلل "حقاً بسبب الوعد والحكم " (‪.)13‬‬

‫سورة يونس ‪ ،‬اآلية ‪.73 :‬‬ ‫‪)?(5‬‬


‫سورة هود ‪ ،‬اآلية ‪.58 :‬‬ ‫‪)?(6‬‬
‫سورة هود ‪ :‬اآلية ‪.66‬‬ ‫‪)?(7‬‬
‫سورة هود ‪ :‬اآلية ‪.82-81‬‬ ‫‪)?(8‬‬
‫سورة هود ‪ :‬اآلية ‪.94 :‬‬ ‫‪)?(9‬‬
‫سورة األعراف ‪ :‬اآلية ‪.137-136‬‬ ‫‪)?(10‬‬
‫سورة األعراف ‪ :‬اآلية ‪.165‬‬ ‫‪)?(11‬‬
‫سورة يونس ‪ :‬اآلية ‪.103‬‬ ‫‪)?(12‬‬
‫تفسير الرازي ‪.17/1171 :‬‬ ‫‪)?(13‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-11-‬‬

‫يق ول س يد قطب رحمه اهلل ‪ " :‬ه ذه س نة اهلل في األرض ‪ ،‬وه ذا وعد ألوليائه فيها ‪ ،‬ف إذا ط ال‬
‫الطريق على العص بة المؤمنة م رة فيجب أن تعلم أن ه ذا هو الطري ق‪ ،‬وأن تس تيقن أن العاقبة‬
‫واالس تخالف للمؤم نين ‪ ،‬وأال تس تعجل وعد اهلل ح تى يجيء وهي ماض ية في الطري ق‪ .‬واهلل ال‬
‫يخ دع أولي اءه ‪ ،‬وال يعجز عن نص رهم بقوته وال ُيس لمهم ك ذلك ألعدائ ه‪ .‬ولكنه يعلمهم وي دربهم‬
‫ويزودهم ـ في االبتالء ـ بزاد الطريق(‪.)14‬‬
‫ال خسارة في الدعوة ‪:‬‬
‫وليس أمر الدعوة كما يظن بعض الناس أنها تعب وخسارة ونصب وألم ‪ ،‬فإنها وإ ن كانت ال تخلو‬
‫من المت اعب والمص اعب لكنها لذي ذة الطعم ‪ ،‬عزي زة على القلب ‪ ،‬ول ذلك ف إن أص حابها يض حون‬
‫في سبيلها بالغالي والنفيس‪ ،‬ويستعذبون العذاب ‪ ،‬ويجدون الموت حياة من أجلها ‪ .‬وهم أسعد بها‬
‫من الناس بدونها‪ .‬أما العاقبة فهي الفوز وفي غيرها الفشل وهي الباقية وغيرها الفانية‪.‬‬
‫دعوة محمد ‪ ‬أمان للبشرية ‪.‬‬
‫ويالحظ من س ياق اآلي ات الكريمة ال تي تتح دث عن معركة األنبي اء مع أق وامهم أن المك ذبين من‬
‫هؤالء األقوام كانوا ُي ْستأصلون بعذاب اهلل تعالى فال ُيبقى على األرض منهم دياراً ‪،‬وال يترك اهلل‬
‫منهم باقي ة‪ .‬وبمجيء محمد ‪ُ ‬رفع ه ذا االستئص ال الع ام بالطوف ان والص اعقة وال ريح ‪ ،‬وذلك‬
‫تكريم اً له ذه األمة ال تي ال تخلو من ق ائم هلل بالحجة ‪ ،‬وال من الطائفة الظ اهرة على أمر اهلل ح تى‬
‫ي أتي اهلل ب أمره‪ ،‬وه ذه الطائفة هم ال دعاة ‪ .‬وبهم يكتب اهلل النج اة لألمة من أن تهلك بس نة عام ة‪.‬‬
‫وعندما تخلو األرض من هذا الصنف الكريم على اهلل ‪ ،‬ف إن الس اعة تقوم ‪ ،‬وقد ج اء هذا المعنى‬
‫في أحاديث كثيرة منها ‪:‬‬
‫قال ‪ " : ‬ال تقوم الساعة إال على أشرار الناس " (‪.)15‬‬
‫وقال ‪ " : ‬ال تقوم الساعة على أحد يقول ‪ :‬اهلل اهلل " (‪ .)16‬وفي رواية حتى ال يقال في األرض ‪:‬‬
‫اهلل اهلل ‪.‬‬
‫وق ال ‪ُ " : ‬يقبض الص الحون االول ف األول ويبقى حثالة كحثالة التمر أو الش عير ال يعبأ اهلل بهم‬
‫شيئاً " (‪.)17‬‬
‫وهذه األحاديث تدل على أن قيام الساعة يقترن به ذهاب الدعوة والدعاة ‪ ،‬وال أعني بهذا االقتران‬
‫اقتران السبب أو الشرط بالمسبب أو المشروط ‪ ،‬وإ نما أعني أن اهلل تعالى يكرم اإلنسانية بالدعوة‬
‫والدعاة ‪ ،‬وأنه ما دام الدعاة وما دامت الدعوة ‪ ،‬فإن الغاية من الخلق على هذه األرض باقية ‪ ،‬فإذا‬

‫في ظالل القرآن ‪3/1812 ،‬‬ ‫‪)?(14‬‬


‫أخرجه مسلم ‪.4/2268‬‬ ‫‪)?(15‬‬
‫أخرجه مسلم ‪ 1/171‬شرح النووي‪.‬‬ ‫‪)?(16‬‬
‫أخرجه البخاري ‪.8/114‬‬ ‫‪)?(17‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-12-‬‬

‫زال ال دعاة وال دعوة فقد خسر اإلنس ان م برر وج وده على ه ذه األرض ‪ .‬وهك ذا ف إن اإلنس ان يقع‬
‫بين نهايتين‪ ،‬أو بداية ونهاية‪:‬‬
‫األولى ‪  :‬وإ ذ قال ربك للمالئكة إني جاعل في األرض خليفة ‪.)18( ‬‬
‫والثانية ‪ :‬قوله ‪" ‬إن اهلل يبعث ريح اً من اليمن ألين من الحرير ‪ ،‬فال ت دع أح داً فيه مثق ال حبة من‬
‫إيمان إال قبضته " (‪.)19‬‬
‫وأخرج اإلمام مسلم عن عبد الرحمن بن شماسة رضي اهلل عنه قال ‪ " :‬كنت عند مسلمة بن مخلد‬
‫وعنده عبداهلل بن عمرو بن العاص‪ ،‬فقال عبداهلل ‪ :‬ال تقوم الساعة إال على شرار الخلق‪ ،‬هم شر‬
‫من أهل الجاهلي ة‪ ،‬ال ي ْدعون اهلل بش يء إال رده اهلل عليهم ‪ .‬فبينما هم على ذل ك‪ ،‬أقبل عقبة بن‬
‫ع امر‪ ،‬فق ال مس لمة ‪ :‬يا عقب ة؛ اس مع ما يق ول عبداهلل‪ .‬فق ال عقب ة‪ :‬هو أعلم ‪ ،‬وأما أن ا‪ ،‬فس معت‬
‫رسول اهلل ‪ ‬يق ول‪ :‬ال تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر اهلل‪ ،‬قاهرين عدوهم‪ ،‬ال يضرهم‬
‫مس ها‬
‫من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك‪ ،‬قال عبد اهلل‪ :‬ثم يبعث اهلل ريح اً كريح المسك ُّ‬
‫مس الحرير ‪ ،‬فال تترك نفس اً في قلبه مثقال حبة من إيمان إال قبضته‪ ،‬ثم يبقى شرار الناس عليهم‬
‫ُّ‬
‫تقوم الساعة"(‪.)20‬‬
‫ونالحظ في ه ذه الرواية التوفيق بين بق اء الطائفة المؤمنة إلى ق رب قي ام الس اعة‪ ،‬وقي ام الس اعة‬
‫على ش رار الخل ق‪ .‬وعندئذ يك ون مع نى وج ود الطائفة المؤمنة إلى قي ام الس اعة يع ني إلى قربها‬
‫قيامها‪ .‬وهذا ما ذهب إليه النووي وهو يشرح حديث‪ " :‬إن اهلل يبعث ريح اً من اليمن ‪ " . .‬فقال ‪:‬‬
‫" وأما الحديث اآلخر ال تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة فليس مخالفاً ألن‬
‫معنى هذا أنهم ال يزالون على الحق حق تقبضهم هذه الريح"(‪.)21‬‬
‫ولما كان الداعية قد وطّن نفسه على الجهاد وندب نفسه للتضحية في سبيل اهلل ‪ ،‬ودخل طرف اً في‬
‫مواجهة أعداء اإلسالم‪ ،‬فإن هذه المؤهالت تجعله أقدر على المصاولة والمجاولة‪ ،‬وهو بإذن اهلل‬
‫ناج ‪ ،‬وعدوه مخذول هالك‪.‬‬
‫منصور ٍ‬
‫وليس المقص ود بالنج اة نج اة الف رد من األذى واأللم ‪ ،‬وإ نما المقص ود نج اة الجماعة والفك رة في‬
‫النهاية‪ ،‬وأما في اآلخرة ف إن صورة النجاة نعيم مقيم وجنة عرضها السماوات واألرض‪ ،‬فيها ما‬
‫ال عين رأت وال أذن سمت وال خطر على قلب بشر‪.‬‬

‫سورة البقرة ‪ :‬اآلية ‪.30‬‬ ‫‪)?(18‬‬


‫أخرجه مسلم ‪ 1/132‬شرح النووي‪.‬‬ ‫‪)?(19‬‬
‫أخرجه مسلم ‪ ، 3/1524‬شرح النووي‪.‬‬ ‫‪)?(20‬‬
‫شرح صحيح مسلم للنووي ‪.1/133‬‬ ‫‪)?(21‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-13-‬‬

‫القاعدة الثانية‬
‫( ألن يهدي اهلل بك رجالً واحداً خير لك من ُح ُمر َّ‬
‫النعم )‬
‫علي بن أبي ط الب رضي اهلل عنه عن دما أعط اه الراية ي وم خي بر ‪،‬‬
‫ه ذا ما أخ بر به رس ول اهلل ‪َّ ‬‬
‫علي ‪ :‬عالم أقاتل الناس‪ ،‬نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ؟ فقال‪ " :‬على رسلك حتى تنزل بساحتهم‬
‫فقال ُّ‬
‫ثم ادعهم إلى اإلسالم‪ ،‬وأخبرهم بما يجب عليهم‪ ،‬فواهلل ألن يهدي اهلل بك رجالً واحداً خير لك من‬
‫النعم" (‪.)22‬‬
‫ُح ُمر َّ‬
‫وذلك ألن هدي اهلل هو الهدى‪ ،‬وأنه ليس بعد الهدى إال الضالل‪ ،‬وعندما يوفق اهلل تعالى داعية من‬
‫دعاة اإلسالم فيهيء له من يقبل دعوته فإن نتائج هذا القبول عظيمة جليلة ‪ ،‬نذكر منها‪:‬‬
‫ص رف عنه‬
‫أ‪ -‬أن في ذلك استنقاذاً لهذا المهتدي من النار‪ ،‬وصيانة له من سعيرها ولظاها‪ ،‬وما ُ‬
‫من النار إنما كان ـ بعد فضل اهلل ـ بجهد الداعية وعنايته ‪ .‬واستبدال مقام خالد في النار بمقام خالد‬
‫في الجنة أمر ال يدانيه ش يء من أص ناف المع روف ‪ ،‬وال تصل إليه رتبة من رتب اإلحس ان‬
‫والجود‪ ،‬فالداعية يقدم الجنة هدية للناس من حوله‪ ،‬ويدلُّهم على مقامات السعادة‪ ،‬وأي أجر ُيكتب‬
‫للداعية عند ربه إال األجر الذي يليق بجالل المعطي سبحانه ويتناسب مع قدر العطية؟‬
‫ب‪ -‬أن كل حركة وس كنة يتحركها المهت دي ‪ ،‬وكل تس بيحه أو تكب يرة ينطقها وكل ركعة وس جدة‬
‫يفعلها وكل إحسان ُيجريه اهلل على يديه‪ ،‬فإنما كان الداعية سبب كل ذلك وطريقه الدال علي ه‪ .‬وإ ن‬
‫له مثل أجر فاعله لقول النبي ‪ " : ‬الدال على الخير كفاعله" (‪ ،)23‬ولقوله ‪ ‬أيض اً ‪ " :‬من َّ‬
‫سن في‬
‫اإلسالم سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء"(‪.)24‬‬
‫وه ذا ب اب من األجر ال ُيغل ق‪ ،‬وهو يتن امى يوم اً بعد ي وم‪ .‬وإ ن ُجهد أبي بكر الص ديق‪ ،‬وبالل ‪،‬‬
‫عمار ‪ ،‬وخديجة ‪ ،‬وأسماء ‪ ،‬وغيرهم وغيرهن‪ ،‬إنما هو أساس في إقبال كل إنسان على اهلل تعالى‬
‫إلى قيام الساعة‪ .‬وإ ن جهد المصطفى ‪ ‬هو مبدأ كل جهد طيب بذله مسلم أو يبذله‪ .‬ولرس ول اهلل ‪‬‬
‫ـ بعد اهلل تعالى ـ ِمَّنة واي ِمَّنة في عنق كل مسلم‪.‬‬
‫ج‪ -‬أن من يهت دي على يد الداعية يك ون عون اً للداعية على أداء رس الته‪ ،‬ويض ُّم جه ده إلىجهد‬
‫الداعي ة‪ .‬وهك ذا ف إن ال دعوة ال تتك اثر إال عن طريق ال دعوة وال تتق وى إال بالعناصر الجدي دة‬
‫الراف دة‪ .‬وما تغ ير ح ال المس لمين من السر إلى العلن غال ي وم أن دخل عمر وحم زة في دين اهلل‪.‬‬
‫وما تغير حالهم من الجماعة إلى المجتمع إال يوتم أن دخل األنصار في دين اهلل تعالى‪.‬‬

‫أخرجه البخاري ( فتح الباري ) ‪.6/111‬‬ ‫‪)?(22‬‬


‫صحيح مسلم ‪ ،‬كتاب اإلمارة ‪ ،‬ح ‪ ، 1893‬ص ‪ . 3/1406‬وسنن أبي داود ح‬ ‫(?)‬ ‫‪23‬‬

‫‪ ،5129‬ص ‪ ،5/346‬والترمذي ح ‪ ،2674‬ص ‪.5/43‬‬


‫صحيح مسلم ‪ ،‬ح ‪ ، 1017‬ص ‪ 2/704‬و ح ‪ ، 2674‬ص ‪.4/2060‬‬ ‫‪)?(24‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-14-‬‬

‫د‪ .‬وأن الهداية أس لوب من أس اليب النصر الم ادي‪ ،‬ولكنه ال يتحقق في معركة ذات ج رح وق رح‬
‫وال عن طريق الس يف والس هم وإ نما عن طريق ‪ ‬ادع إلى س بيل ربك بالحكمة والموعظة الحس نة‬
‫وجادلهم بالتي هي أحسن‪.)25( ‬‬
‫هـ‪ -‬وأن من يهديه اهلل على ي ديك أيها الداعية إنما هو لبنة ُن زعت من بن اء الجاهلية ووض عت في‬
‫بناء اإلسالم‪ ،‬وسيكون هذا على حساب الكفر والضالل‪ ،‬وهو خسارة للشيطان وأعوانه‪ ،‬وكسب‬
‫لل رحمن وأنص اره‪ .‬وفي كل م رة يهت دي فيها من يهت دي فإنما يس قط ركن من أرك ان الجاهلي ة‪.‬‬
‫وهك ذا ك ان أمر الجاهلية في مك ة‪ ،‬ففي كل ص باح لهم ح ديث ‪ ،‬الكف ار يتكلم ون عن الص ابئين‬
‫المفارقين الخارجين ‪ ،‬والمسلمون يفرحون بالمهتدين المؤمنين وكأني ببناء الكفر يتصدع كل يوم‬
‫ويفقد من بنائه ما يفتح الثغرة تلو الثغرة فيه‪.‬‬

‫سورة النحل ‪ :‬اآلية ‪.125‬‬ ‫‪)?(25‬‬


‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-15-‬‬

‫القاعدة الثالثة‬
‫األجر يقع بمجرد الدعوة وال يتوقف على االستجابة‬
‫أ‪ -‬وه ذه القاع دة تع الج خطأ ش ائعاً عند كث يرين ‪ ،‬وهو أن األجر ي ترتب على النتيجة الدنيوية‬
‫الظاهرية‪ .‬مشبهين ذلك باألعمال الدنيوية التي ُينظر فيها إلى النتائج المحسوسة‪ .‬ولو كان األمر‬
‫في ال دعوة ك ذلك لك ان كث ير من أنبي اء اهلل ـ ص لوات اهلل عليهم ـ محكوم اً عليه باإلخف اق ‪ ،‬وحاشا‬
‫أنبي اء اهلل أن يوص فوا به ذا ‪ ،‬رغم قلة المؤم نين ب دعوتهم ‪ .‬فه ذا ن وح عليه الس الم ي دعو قومه‬
‫ويمكث فيهم ألف سنة إال خمسين عام اً‪ .‬قال اهلل تعالى ‪  :‬ولقد أرسلنا نوح اً إلى قومه فلبث فيهم‬
‫(‪)26‬‬
‫وظاهر سياق اآلية ـ كما يقول ابن‬ ‫ألف سنة إال خمسين عام اً فأخذهم الطوفان وهم ظالمون‪‬‬
‫كثير ـ أنه مكث في قومه يدعوهم إلى اهلل ألف سنة إال خمسين عاماً(‪.)27‬‬
‫ورغم هذا المكث الطويل فإنه لم يؤمن من قومه إال قليل ‪ ،‬قال تعالى ‪  :‬حتى إذا جاء أمرنا وفار‬
‫التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إال من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه‬
‫إال قليل‪.)28( ‬‬
‫ويالحظ االس تثناء في اآلية بعد قوله ‪ ( :‬ومن آمن ) ح تى ال ُيفهم ب أن ع دد المؤم نين ك ان كب يراً‬
‫قال ‪ ( :‬وما آمن معه إال قليل )‪.‬‬
‫وك ذلك أمر أك ثر األنبي اء ف إنهم يحش رون ي وم القيامة ‪ ،‬ومع بعض هم الواحد واالثن ان والثالثة ‪،‬‬
‫وبعضهم ال يكون معه أحد من المؤمنين‪ .‬أخرج الترمذي من طريق ابن عباس رضي اهلل عنهما‬
‫قال ‪ " :‬لما أسري بالنبي ‪ ‬جعل يمر بالنبي والنبيين ومعهم القوم‪ ،‬والنبي والنبيين ومعهم الرهط ‪،‬‬
‫والنبي والنبيين وليس معهم أحد" (‪.)29‬‬
‫ولذلك فقد وجه اهلل تعالى رسول محمداً ‪ ‬إلى هذا المعنى عندما أمره بالدعوة والتبليغ ولم يطالبه‬
‫بالنتيجة ‪ ،‬فق ال ‪  :‬ف إن أعرض وا فما أرس لناك عليهم حفيظ اً إن عليك إال البالغ‪ .)30(‬وق ال ‪ :‬‬
‫فهل على الرسل إال البالغ المبين ‪.)31( ‬‬
‫وقال ‪  :‬وما على الرسول إال البالغ المبين ‪.)32( ‬‬

‫سورة العنكبوت اآلية ‪.14 :‬‬ ‫‪)?(26‬‬


‫تفسير ابن كثير ‪.5/413‬‬ ‫‪)?(27‬‬
‫سورة هود اآلية ‪.40 :‬‬ ‫‪)?(28‬‬
‫أخرجه الترمذي ‪ 4/631‬وقال ‪ :‬حديث حسن صحيح ‪.‬‬ ‫‪)?(29‬‬
‫سورة الشورى اآلية ‪.48 :‬‬ ‫‪)?(30‬‬
‫سورة النحل اآلية ‪.35 :‬‬ ‫‪)?(31‬‬
‫سورة النور اآلية ‪.54 :‬‬ ‫‪)?(32‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-16-‬‬

‫ف أمر الهداية بيد اهلل تع الى ‪ ،‬وهو القائل ‪  :‬إنك ال ته دي من أحببت ولكن اهلل يه دي من يش اء ‪‬‬
‫(‪.)33‬‬
‫ب‪-‬ومن فقه هذه القاعدة أن الداعية ال يقع تحت اإلحباط والضغوط النفسية الناشئة عن إعراض‬
‫الناس وعدم استجابتهم‪ .‬ولقد رفع اهلل تبارك وتعالى الحرج عن نبيه ‪ ‬ولم يكلفه إال بما يستطيع ‪،‬‬
‫(‪)34‬‬
‫وق ال له ‪  :‬فلعلك ب اخع نفسك على آث ارهم إن لم يؤمن وا به ذا‬ ‫فق ال ‪  :‬ليس عليك ه داهم ‪‬‬
‫الح ديث أس فا ‪ .)35( ‬وق ال ‪ :‬فال ت ذهب نفسك عليهم حس رات‪ .)36(‬وقل ‪  :‬وال تح زن عليهم ‪‬‬
‫(‪ .)37‬وفي ه ذه اآلي ات تس لية لرس ول اهلل ‪ ‬حيث ك ان الح ريص على إيص ال الخ ير والهداية إليهم‬
‫وصموا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ولكنهم عموا‬
‫والقلب ال رحيم يتقطع عن دما ي رى الن اس يته افتون في الن ار ته افت الف راش ‪ ،‬وك ذلك ك ان ح ال‬
‫أسى وأسفاً عليهم ألنهم لم‬
‫رسول اهلل ‪ ‬فجاء التوجيه الرباني ‪ ( :‬فلعلك باخع نفسك؟!) أي مهلكها ً‬
‫يؤمنوا بالقرآن الكريم‪ .‬قال قتادة ( لعلك قاتل نفسك غضباً وحزن اً عليهم ؟! وقال مجاهد ‪ :‬جزع اً‬
‫والمع نى متق ارب ‪ ،‬أي ال تأسف عليهم بل أبلغهم رس الة اهلل ‪ ،‬فمن اهت دى فلنفس ه‪ ،‬ومن ضل فإنما‬
‫يضل عليهاه ) (‪.)38‬‬
‫وكذلك ُرفع هذا الحرج عن الدعاة من أمة محمد ‪ ‬إن لم يهتد الناس ولم يستجيبوا لهم بعد استنفاد‬
‫غاية الجهد معهم؛ ألن اهلل ال يكلف نفساً إال وسعها ‪.‬‬
‫ج‪-‬وفي هذه القاعدة عالج ألولئك المتعجلين من الدعاة الذين ينتظرون النتائج الدنيوية الظاهرة‪،‬‬
‫ويجعلونها ش رطاً للمواص لة والس ير في طريق ال دعوة‪ .‬وه ذا التالزم إنما هو س وء فهم من‬
‫جهة‪،‬ومخالفة صريحة لقواعد الدعوة في القرآن والسنة من جهة أخرى‪.‬‬
‫ولقد أكد القرآن الكريم عدم التالزم بين الدعوة واالستجابة‪ ،‬فقد يبذل الداعية قصارى جهده‪ ،‬وال‬
‫يجد من المدعو سوى االعراض ‪ ،‬وقد جعل القرآن الكريم بين الدعوة واالستجابة مرحلة وسيطة‬
‫الرسل ‪ .)39(‬وهي مرحلة ‪‬‬
‫يبدو أنها ضرورية ‪ ،‬وهي مقتضى قوله تعالى ‪  :‬حتى إذا استيأس ُ‬
‫وظنوا أنهم قد ُك ذبوا‪ ‬والوصول إلى هذه المرحلة وسيط بين الدعوة وبين المرحلة الثالثة‪‬جاءهم‬
‫نصرنا‪. ‬‬

‫سورة القصص اآلية ‪.56 :‬‬ ‫‪)?(33‬‬


‫سورة البقرة اآلية ‪.272 :‬‬ ‫‪)?(34‬‬
‫سورة الكهف اآلية ‪.6 :‬‬ ‫‪)?(35‬‬
‫سورة فاطر اآلية ‪.8 :‬‬ ‫‪)?(36‬‬
‫سورة النحل اآلية ‪. 127 :‬‬ ‫‪)?(37‬‬
‫تفسيرابن كثير ‪.4/367‬‬ ‫‪)?(38‬‬
‫سورة يوسف اآلية ‪.110 :‬‬ ‫‪)?(39‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-17-‬‬

‫قال ابن كثير ‪ " :‬يذكر تعالى أن نصره ينزل على رسله صلوات اهلل وسالمه عليهم أجمعين عند‬
‫ضيق الحال وانتظار الفرج من اهلل في أحوج األوقات غليه ‪ ،‬كقوله تعالى ‪ :‬وزلزلوا حتى يقول‬
‫الرسلو والذين آمنوا معه متى نصر اهلل ‪.)40(‬‬
‫وقد فهمت عائشة رضي اهلل عنها أن ه ذا الظن إنما هو ظن األتب اع ال ُّ‬
‫ظن الرسل أنفس هم ‪ ،‬وذلك‬
‫عندما قال لها عروة ‪ :‬فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن ‪ ،‬ق الت‪ :‬أج ل‪ ،‬لعمري ‪ ،‬لقد‬
‫استيقنوا بذلك ‪ ،‬فقلت لها ‪ :‬وظنوا أنهم قد ُك ذبوا؟ قالت ‪ :‬معاذ اهلل لم تكن الرسل تظن ذلك بربها ‪.‬‬
‫قلت فما ه ذه اآلي ة؟ ق الت ‪ :‬هم أتب اع الرسل ال ذين آمن وا ب ربهم وص دقوهم‪ ،‬فط ال عليهم البالء‪،‬‬
‫واس تأخر عنهم النصر ‪،‬ح تى إذا اس تيأس الرسل ممن ك ذبهم من ق ومهم وظن وا أن أتب اعهم قد‬
‫ك ذبوهم ج اءهم نصر اهلل عند ذلك(‪ .)41‬وذلك بن اء على ق راءة عائشة رضي اهلل عنها بتش ديد‬
‫( ُك ذبوا) فيك ون الفاعل األتب اع ال الرسل(‪ .)42‬وهو توجيه يليق بمق ام الرسل الك رام‪ .‬وإ ذا جعلنا‬
‫الضمير للرسل كان ظنهم حينئذ أن قومهم قد كذبوهم‪ .‬وال مانع من الجمع بين المكذبين من أقوام‬
‫الرسل وبين المتعجلين الظانين باهلل ظن السوء ‪.‬‬
‫د‪-‬وال يع نى ه ذا أن الداعية غ ير مط الب بب ذل قص ارى جه ده‪ ،‬واس تخدام أحسن ما يس تطيع من‬
‫األساليب والوسائل‪ ،‬وهذا ما سنذكره في قاعده البالغ التالية‪.‬‬

‫تفسير ابن كثير ‪.4/160‬‬ ‫‪)?(40‬‬


‫تفسير ابن كثير ‪.61-4/60‬‬ ‫‪)?(41‬‬
‫الكشف عن وجوه القراءات ‪.2/16‬‬ ‫‪)?(42‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-18-‬‬

‫القاعدة الرابعة‬
‫المَبلِّغ‬
‫على الداعية أن يصل إلى رتبةـ ُ‬
‫وأن يسعى إلى البالغ‬
‫ليس أمر ال دعوة إلى اهلل بأقل من أمر ال دعوة أو الدعاية إلى س لعة دنيوية ‪ .‬ونحن على يقين أن‬
‫ص احب البض اعة يس تخدم أق وى الوس ائل وأوس عها انتش اراً من أجل إيص ال الجمه ور إلى درجة‬
‫القناعة ببضاعته ‪ ،‬ونراه في سبيل ذلك يستخدم الكلمة والصورة والهدية وغير ذلك من الوسائل ‪.‬‬
‫وقد جعل اهلل تعالى مهمة رسله وأنبيائه البالغ ‪ ،‬فقال ‪  :‬فهل على الرسل إلى البالغ المبين‪.)43(‬‬
‫ووصف البالغ بأنه المبين‪ .‬وقال تعالى‪  : :‬الذين ُيبلغون رساالت اهلل ويخشونه‪.)44(‬‬
‫وعند إع راض الن اس عن اإليم ان ك ان ي أتي التأكيد على وص ول األنبي اء إلى رتبة البالغ‪ ،‬ق ال‬
‫تعالى ‪  :‬فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي‪.)45( ‬‬
‫وكلمة َبلَ َغ ‪ :‬تع ني وصل أو ق ارب على الوص ول‪ ،‬يق ول ابن ف ارس ‪ " :‬الب اء والالم والغين أصل‬
‫واحد ( أي معنى واحد) ‪ ،‬وهو الوصول إلى الشيء تقول ‪ :‬بلغت المكان إذا وصلت إليه" (‪، )46‬‬
‫ويقول ‪ " :‬وكذلك البالغة التي يمدح بها الفصيح اللسان ألن َيبلُغ بها ما يريده"(‪.)47‬‬
‫وق ال األزهري ‪ " :‬والعرب تقول للخبر يبلغ أحدهم وال يحققون ه‪ ،‬وهو يسوءهم ‪ :‬سمعُ ال بْل غُ ‪،‬‬
‫أي نسمعه وال يبلغنا‪ ،‬ويجوز ‪ :‬سمعاً ال بلغاً " (‪.)48‬‬
‫وهذا دليل على أن استعمال كلمة البالغ إنما كان لما فيها من طبيعة الوصول واالنتهاء‪.‬‬
‫ب‪ -‬وال مع ذرة للداعية إذا صر في البالغ ولقد نبه اهلل تب ارك وتع الى نبيه محم داً ‪ ‬إلى مثل ه ذا‬
‫ق ائالً ‪  :‬يا أيها الرس ول بلغ ما ُأن زل إليك من ربك وإ ن لم تفعل فما بلغت رس الته واهلل يعص مك‬
‫من الناس إن اهلل ال يهدي القوم الكافرين‪.)49( ‬‬
‫قال القرطبي ‪ " :‬وهذا تأديب للنبي ‪ ‬وتأديب لحملة العلم من أمته أال يكتموا شيئاً من شريعته"(‪.)50‬‬
‫وليس المقصود بالبالغ مجرد اإلخبار أو اإلعالن‪ ،‬إنما المراد أن تصل رسالته للناس‪.‬‬

‫سورة النحل اآلية ‪.35 :‬‬ ‫‪)?(43‬‬


‫سورة األحزاب اآلية ‪.39 :‬‬ ‫‪)?(44‬‬
‫سورة األعراف اآلية ‪.79 :‬‬ ‫‪)?(45‬‬
‫معجم مقاييس اللغة ‪.1/301‬‬ ‫‪)?(46‬‬
‫المرجع نفسه ‪.1/302‬‬ ‫‪)?(47‬‬
‫تهذيب اللغة ‪.8/140‬‬ ‫‪)?(48‬‬
‫سورة المائدة اآلية ‪.66 :‬‬ ‫‪)?(49‬‬
‫تفسير القرطبي ‪.6/242‬‬ ‫‪)?(50‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-19-‬‬

‫ج‪-‬ومن مقتض يات البالغ أن يعي الداعية ما ُيبلغه ‪ ،‬ألنه ال تبليغ بال وعي‪ ،‬ويس تفاد ه ذا من قوله‬
‫ب حامل فقه إلى من هو أفقه منه‬‫وفر َّ‬ ‫َّ‬ ‫‪َ " : ‬ن َّ‬
‫ض َر اهلل امرءاً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها‪َ ،‬‬
‫‪ ،‬ثالث ال ُي َغ ّل عليهن قلب مس لم ‪ :‬إخالص العمل هلل ‪ ،‬ومناص حة أئمة المس لمين ‪ ،‬ول زوم‬
‫جماعتهم ‪ ،‬فإن الدعوة تحيط من وراءهم"(‪.)51‬‬
‫ق ال الخط ابي في ش رحهه له ذا الح ديث ‪َ " :‬ن َّ‬
‫ض ر اهلل معن اه ال دعاء له بالنض ارة وهي النعمة‬
‫فالمَبلِّغون أصحاب الوجوه الناضرة في‬ ‫والبهجة" (‪ .)52‬وهذه النضارة من آثار التبليغ على ِّ‬
‫المبلغ ُ‬ ‫ُ‬
‫الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫(‪)53‬‬
‫وعلى ه ذا‬ ‫واستفاد الخطابي من هذا الحديث كراهة اختصار الحديث لمن ليس بالمتناهي بالفقه‬
‫ف إن ال وعي يك ون بحفظ النص وأدائه كما قي ل‪ .‬ويك ون للفقيه بمحافظته على المع اني المس تفادة‪،‬‬
‫ويترتب على هذا الحديث كل ما يتعلق بالرواية والدراية من العلوم والتفاصيل‪.‬‬
‫د‪ -‬ومن مقتضيات البالغ البالغة‪.‬‬
‫والبالغة في تفس ير قوله تع الى ‪  :‬وقل لهم في أنفس هم ق والً بليغ اً ‪ :)54( ‬أن يك ون كالم اً حسن‬
‫األلفاظ حسن المعاني مشتمالً على الترغيب والترهيب والتحذير واإلنذار والثواب والعقاب‪ ،‬فإن‬
‫الكالم إذا ك ان هك ذا َعظُم وقعه في القلب ‪ ،‬وإ ذا ك ان مختص راً ركيك األلف اظ ركيك المع نى‪ ،‬لم‬
‫يؤثر البتة في القلب(‪.)55‬‬
‫وقال في اللسان ‪ :‬رجل بليغ ‪ :‬حسن الكالم فصيحه ‪ُ ،‬يَبلِّغ بعبارة لسانه ُك ْنه ما في قلبه(‪.)56‬‬
‫وليست البالغة في صعوبة األلفاظ واألساليب ‪ ،‬والبحث عن وحشي الكالم وغريبه‪.‬‬
‫المبلِّغ أن يعلم من لغة العرب وأساليبهم ما يعينه على البالغ‪.‬‬
‫وبناء عليه فإن على ُ‬
‫ومقتضى هذا بحثواطالع ‪ ،‬واعتناء باللغة العربية‪ :‬علماً وقراءة وكتابة ومحادثة‪ ،‬ونظراً في أدب‬
‫العرب نثراً وشعراً ‪ ،‬وفي نظم القرآن مبنى ومعن‪ .‬والدعاة اليوم هم أحوج ما يكونون لهذا وال‬
‫ُيعذرون بالقصور فيه‪.‬‬
‫هـ‪ -‬ولقد جاء القرآن بتأكيد الفصاحة وسالمة النطق‪.‬‬

‫أخرجه الترمذي من روايات عديدة ‪ ، 5/34‬وأخرجه ابن ماجة كذلك ‪، 1/84‬‬ ‫(?)‬ ‫‪51‬‬

‫‪ ،2/1015‬وأخرجه اإلمام أحمد من عدة روايات ‪، 82 ، 4/80 ، 3/225 ، 1/437‬‬


‫‪ ، 5/183‬وأخرجه الدارمي في المقدمة‪.24 :‬‬
‫معالم السنن ‪.4/187‬‬ ‫‪)?(52‬‬
‫المصدر نفسه ‪.4/187‬‬ ‫‪)?(53‬‬
‫سورة النساء اآلية ‪.67‬‬ ‫‪)?(54‬‬
‫تفسير الرازي ‪.10/159‬‬ ‫‪)?(55‬‬
‫لسان العرب ‪.10/302‬‬ ‫‪)?(56‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-20-‬‬

‫وذلك عن دما ق ال اهلل تع الى على لس ان موسى عليه الس الم‪} :‬واحلل عق دة من لس اني يفقهو‬
‫ق ولي{(‪ .)57‬فقد علم موسى عليه الس الم أن س المة النطق وفص احته من أس باب البالغ وإ قامة‬
‫الحجة‪ ،‬قال الرازي ‪ " :‬اختلفوا في أنه عليه السالم ِل َم طلب حل تلك العقدة على وجوه" ‪.‬‬
‫أحدها ‪ :‬لئال يقع في أداء رسالته خلل البتة‪.‬‬
‫وثانيها ‪ :‬إلزالة التنف ير؛ ألن العق دة في اللس ان قد تفضي إلى االس تخفاف بالقائل وع دم االلتف ات‬
‫إليه(‪.)58‬‬
‫ثم ق ال ورابعها ‪ :‬طلب الس هولة ألن إي راد مثل ه ذه الكالم على مثل فرع ون في جبروته ِ‬
‫وك ْب ره‬
‫َع ِس ُّر ج داً ‪ ،‬ف إذا انضم إليه تَعُّقد اللس ان بلغ العسر إلى النهاي ة‪ ،‬فس أل ربه إزالة تلك العق دة تخفيف اً‬
‫وتسهيالً(‪.)59‬‬
‫عود نفسه على النطق الصحيح‪ ،‬وإ ذا كانت في لسانه‬
‫ويستفاد من هذه القاعدة أن على الداعية أن ُي ِّ‬
‫عق دة فليس تعن بمن يفصح عنه ‪ ،‬ويس اعده في مهمت ه‪ ،‬وذلك كي يصل بدعوته إلى درجة البالغ‬
‫والبي ان‪ ،‬وه ذا ما س ال موسى عليه الس الم ربه س بحانه‪ } :‬وأخي ه ارون هو أفص ُح م ني لس اناً‬
‫(‪)60‬‬
‫والر ْد ُء ‪:‬اسم ما يستعان به ‪ .‬قال الرازي في تفسير هذه اآلية ‪:‬‬
‫فأرسله معي ردءاً ُيصدقني{ ‪ِّ .‬‬
‫( ليس الغرض بتصديق هارون أن يقول له صدقت أو يقول للناس‪ :‬صدق موسى‪ ،‬وإ نما هو أن‬
‫يلخص بلس انه الفص يح وج وه ال دالئل ويجيب عن الش بهات ويج ادل به الكف ار‪ ،‬فه ذا هو التص ديق‬
‫المفي د‪ ،‬أال ت رى إلى قول ه‪ } :‬وأخي ه ارون هو أفص ُح مني لساناً فأرس له معي{ وفائدة الفص احة‬
‫تظهر فيما ذكرناه ال في مجرد قوله ‪ :‬صدقت) (‪.)61‬‬
‫و‪ -‬ومما يس اعد الداعية على البي ان والبالغ وج ود إخوانه معه إلى جانبه ‪ ،‬ف إن وج ودهم يشد من‬
‫عضده ويلقي في روعه الطمأنينة من جهة ‪ ،‬ومن جهة أخرى فإن وقع ذلك على المدعوين كبير‪.‬‬
‫إذ عن دما ي رى الم دعوون أن الداعية ليس وحي داً وأن معه أنص اراً وأعوان اً ف إنهم يالحظ ون أثر‬
‫الدعوة في الناس ويحملهم هذا على إمعان الفكر في هذه الدعوة‪.‬‬
‫وقال على لسان موسى أيض اً‬
‫(‪)62‬‬
‫قال تعالى مخاطباً موسى عليه السالم‪ُّ } :‬‬
‫سنشد عضدك بأخيك{‬
‫اشد ْد به أزري وأشركه في أمري(‪ {)63‬قال الرازي في‬
‫} واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي ُ‬

‫سورة طه اآلية ‪.27 :‬‬ ‫‪)?(57‬‬


‫تفسير الرازي ‪.22/48‬‬ ‫‪)?(58‬‬
‫المصدر نفسه‪.‬‬ ‫‪)?(59‬‬
‫سورة القصص اآلية ‪.34 :‬‬ ‫‪)?(60‬‬
‫تفسير الرازي ‪.24/249‬‬ ‫‪)?(61‬‬
‫سورة القصص اآلية ‪.35 :‬‬ ‫‪)?(62‬‬
‫سورة طه ‪ ،‬اآلية ‪.30 :‬‬ ‫‪)?(63‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-21-‬‬

‫تفس يره له ذه اآلية ‪ " :‬واعلم أن طلب ال وزير إما أن يك ون ألنه خ اف من نفسه العجز عن القي ام‬
‫المعين ‪ ،‬أو ألنه رأى أن للتع اون على ال دين والتظ اهر عليه مع مخالصة ال ِّ‬
‫ود‬ ‫ب ذلك األمر فطلب ُ‬
‫وزوال التهمة مزية عظيمة في أمر ال دعاء إلى اهلل‪ .‬ول ذلك ق ال عيسى عليه الس الم‪ } :‬ق ال ‪ :‬من‬
‫ال لمحمد‪r‬‬ ‫ار اهلل { وق‬ ‫ون ‪ :‬نحن أنص‬ ‫ال الحواري‬ ‫اري إلى اهلل ؟ ق‬ ‫أنص‬
‫}حسبك اهلل ومن اتبعك من المؤمنين{(‪.)64‬‬
‫الم ِّقربة‬
‫ز‪ -‬ولكي يصل الداعية إلى درجة البالغ فعليه أن يس تعمل الوس ائل الكاش فة عن م راده ُ‬
‫المعين ة‪ .‬وعلى الداعية أن يخ اطب الن اس‬
‫لدعوته ‪ ،‬وه ذا ما يع رف بوس ائل اإليض اح‪ ،‬والوس ائل ُ‬
‫بالص ورة والفيلم والخارطة والرسم البي اني والمقطع التوض يحي والرحلة الهادفة والقصة والمثل‬
‫والقسيدة ومخلوقات اهلل تعالى وعجيب صنعه‪.‬‬
‫النبي ‪ r‬يستخدم وسيلة اإليضاح‪:‬‬
‫(‪)65‬‬
‫فقال ‪:‬‬ ‫بج َم ار‬
‫أخرج البخاري عن ابن عمر ـ رضي اهلل عنهما ـ قال ‪ " :‬كنا عند النبي ‪ r‬فأتى ُ‬
‫كت‬
‫إن في الشجر شجرة َمثَلُها كمثل المسلم‪ ،‬فأردت أن أقول‪ :‬هي النخلة فإذا أنا أصغر القوم ‪ ،‬فس ُ‬
‫‪ ،‬فقال النبي ‪ : r‬هي النخلة (‪.)66‬‬
‫الجم ار‪ .‬ق ال ابن‬
‫ف النبي ‪ r‬س أل عن ش جرة يش بهها المس لم وتش بهه وك ان عند الس ؤال يأكل من ّ‬
‫الجم ار إليه فهم ابن عمر أن المس ؤول عنه‬
‫حج ر‪ " :‬لما ذكر الن بي ‪ r‬المس ألة عند إحض ار ّ‬
‫النخلة"(‪.)67‬‬
‫إبراهيم عليه السالم يستخدم وسائل اإليضاح‪:‬‬
‫والقرآن الكريم يقص علينا كيف كان إبراهيم عليه الصالة والسالم يستخدم هذه الوسائل المعينة‬
‫عندما أراد أن يدعو قومه إلى عبادة اهلل ويصرفهم عن عبادة النجوم والكواكب‪ .‬قال اهلل تعالى‪} :‬‬
‫فلما رأى القمر بازع اً‬ ‫فلما أفل قال ال ُّ‬
‫ُأحب اآلفلين* َّ‬ ‫فلما َّ‬
‫جن عليه اللي ُل رأى كوكب اً قال هذا ربي َّ‬
‫فلما رأى الشمس بازغة‬ ‫ألكونن من القوم َّ‬
‫الض الين َّ‬ ‫َّ‬ ‫فلما أ َفل قال ‪ :‬لئن لم يهدني ربي‬
‫ربي َّ‬
‫قال هذا ّ‬
‫وجهي للذي‬ ‫قال ‪ :‬هذا ربي هذا أكبر لما أفلت ق ال يا قوم إني بريء مما تُشركون* إني وجَّهت‬
‫َ‬
‫فطر السماوات واألرض حنيفاً ومآ أنا من المشركين{(‪.)68‬‬
‫وه ذا أس لوب فيه الت نزل مع الم دعو والت درج معه ح تى يتوصل إلى إبط ال ُم ّدعاه وإ قامة الحجة‬
‫عليه‪.‬‬

‫تفسير الرازي‪.22/48 ،‬‬ ‫‪)?(64‬‬


‫الج َّماز ما في رأس النخلة من اللب‪ ،‬وطعه حلو طيب‪.‬‬
‫ُ‬ ‫‪)?(65‬‬
‫أخرجه البخاري ‪ 1/165‬مع فتح الباري‪.‬‬ ‫‪)?(66‬‬
‫فتح الباري ‪.1/165‬‬ ‫‪)?(67‬‬
‫سورة األنعام اآليات ‪.79-76 :‬‬ ‫‪)?(68‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-22-‬‬

‫ومعاذ اهلل أن يكون هذا هو معتقد إبراهيم عليه السالم‪ .‬قال الرازي في تفسيره‪ ":‬إن هذه الواقعة‬
‫إنما حصلت بسبب مناظرة إبراهيم عليه السالم مع قومه‪ ،‬والدليل عليه أن اهلل تعالى لما ذكر هذه‬
‫القصة ق ال ‪} :‬وتلك ُحجَّتنا آتيناها إب راهيم على قومه{ ولم يقل على نفس ه‪ ،‬فعلم أن ه ذه المباحثة‬
‫إنما جرت مع قومه ألجل أن يرشدهم إلى اإليمان والتوحيد"(‪.)69‬‬
‫وأما قوله ‪} :‬هذا ربي{ فمعناه على زعمكم واعتقادكم وذلك كقول موسى عليه السالم للسامري‪:‬‬
‫} وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكف اً{(‪ .)70‬فإن موسى عليه السالم لم يقره على مدعاه وإ نما‬
‫حكى زعمه وادعاءه‪ .‬وكذلك قول اهلل تعالى }ويوم يناديهم فيقول أين شركائي{(‪ .)71‬فالشركاء هنا‬
‫على حد زعم المشركين وادعائهم‪ .‬وبهذا يكون إبراهيم عليه السالم قد دحض عقيدتهم في عبادة‬
‫الحوادث والمتغيرات‪ ،‬وأثبت عقيدته في عبادة الواحد الباقي‪ ،‬الذي ال يعتريه النقص والتغير‪.‬‬
‫ومث ال آخر ج اء في قوله تع الى‪}:‬وإ ن من شيعته إلب راهيم* إذ ج اء ربه بقلب س ليم* إذ ق ال ألبيه‬
‫وقومه م اذا تعب دون* أئفك اً آلهة دون اهلل تري دون* فما ُّ‬
‫ظنكم ب رب الع المين* فنظر نظ رة في‬
‫النج وم* فق ال إني س قيم* فتول وا عنه م دبرين* ف راغ إلى آلهتهم فق ال أال ت أكلون* ما لكم ال‬
‫تنطقون* فراغ عليهم ضرباً باليمين{(‪.)72‬‬
‫وقال تعالى ‪} :‬فجعلهم ُج ذاذاً إال كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون* قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن‬
‫الظ المين* ق الوا س عنا ف تى ي ذكرهم يق ال له إب راهيم* ق الوا ف أتوا به على أعين الن اس لعلهم‬
‫يش هدون* ق الوا أأنت فعلت ه ذا بآلهتنا يا إب راهيم* ق ال بل فعله كب يرهم ه ذا فاس ألوهم إن ك انوا‬
‫ينطقون{(‪.)73‬‬
‫ونالحظ أن إب راهيم عليه الس الم اس تخدم أس لوباً من أس اليبهم عن دما يمرض ون‪ ،‬وهو المكث عند‬
‫األصنام طلب اً للش فاء‪ ،‬ونراه يحطم األصنام إال صنماً كبيراً ‪ ،‬لعلهم إليه يرجعون‪ ،‬ثم نراه ينسب‬
‫الفعل لهذا الكبير‪ ،‬وتأكيداً لهذا فقد جعل الفأس في رأسه‪ ،‬وهذا كله جعلهم يقولون ‪:‬فرجعوا إلى‬
‫أنفس هم فق الوا إنكم أنتم الظ المون* ثم نكس وا على رءوس هم لقد علمت ما ه ؤالء ينطق ون{ (‪.)74‬‬
‫وبهذا فقد حكم المشركون على أنفسهم بالجهل والغباء‪ .‬وقرروا عجز آلهتهم عن حماية نفسها إو‬
‫إجراء الخير والضر لها فضالً عن تقديمه لغيرها‪.‬‬

‫تفسير الرازي ‪.13/48‬‬ ‫‪)?(69‬‬


‫سورة طه اآلية‪.97 :‬‬ ‫‪)?(70‬‬
‫سورة القصص اآلية ‪.62 :‬‬ ‫‪)?(71‬‬
‫سورة الصافات اآليات ‪.91-83 :‬‬ ‫‪)?(72‬‬
‫سورة األنبياء اآليات‪.63-58 :‬‬ ‫‪)?(73‬‬
‫سورة األنبياء اآليات‪.65-64 :‬‬ ‫‪)?(74‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-23-‬‬

‫ح‪-‬وللوصول إلى رتبة البالغ فإنه البد من تقليب األساليب وتنوعها فما ال يصل بالجهر قد يصل‬
‫بالس ر‪ ،‬وما ال يصل في الليل قد يصل في النه ار‪ ،‬وما ال يس تقر في القل وب مع إنش غالها قد يس تقر‬
‫فيها عند فراغه ا‪ ،‬وما ال ي ؤثر في الص حيح قد ي ؤثر في الم ريض‪ .‬وفي س ورة ن وح تط بيق كامل‬
‫لهذا المبدأ ولهذا القاعدة قال اهلل تعالى على لسان نوح ‪}:‬قال رب إني دعوت قومي ليالً ونهاراً‬
‫* فلم يزدهم دعائي إال قراراً* وإ ني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا‬
‫ثي ابهم وأص روا واس تكبروا اس تكباراً* ثم إني دع وتهم جه اراً* ثم إني أعلنت لهم وأس ررت لهم‬
‫إس راراً* فقلت اس تغفروا ربَّكم إنه ك ان غف اراً{(‪ .)75‬ق ال القرط بي‪ ":‬كل ه ذا مبالغة في ال دعاء‬
‫وتلطف باالستدعاء"(‪.)76‬‬
‫وق ال ابن كث ير ‪ ":‬ن وع عليهم ال دعوة لتك ون أنجح"(‪ .)77‬ف دعاهم بالليل حيث الس كون ال داعي إلى‬
‫حسن االس تماع‪ ،‬وحيث النج وم الدالة على خالقها ومنش ئها‪ .‬ودع اهم بالنه ار حيث العمل واللق اء‬
‫والمح اورة والمن اظرة‪ .‬وك ان ش أنهم التنكر له عن دما ي دعوهم‪ ،‬ولكنه لم يتنكر لهم‪ ،‬بل واصل‬
‫دعوتهم ‪ ،‬وأمعنوا في التنكر فوضعوا أصابعهم في آذانهم‪ ،‬وتلفَّعوا بثيابهم‪ ،‬فصاح بأعلى صوته‬
‫كي يصل إلى أس ماعهم‪ ،‬ولما ألق وا بأس ماعهم أسر لهم إس راراً‪ .‬ق ال القرط بي‪ " :‬وأس ررت لهم ‪:‬‬
‫أتيتهم في من ازلهم "(‪ .)78‬وه ذه التفاتة جي دة من القرط بي‪ ،‬إذ أن ال ذهاب بالم دعو بعي داً عن أعين‬
‫الناس أبلغ ي التأثيرن في حين أن اللقاء مع المدعو أمام أعين الناس قد يسبب حرجاً له‪ ،‬باإلضافة‬
‫إلى أنه ينبه أع داء اإلس الم ال ذين يض ربون ه ذه العالقة بمج رد مع رفتهم به ذه الص لة ويح ذرون‬
‫الم دعو‪ ،‬ويك ون ه ذا قبل أن نتمكن الفك رة في نفس الم دعو‪ ،‬في ؤدي ذلك إلى ع دم االس تجابة أو‬
‫يؤخرها‪.‬‬
‫ط‪-‬وللوص ول إلى رتبة البالغ ف إن على الداعية أن يخ اطب الم دعوين ب اللين ال بالغلظة والش دة‬
‫واللين تلطف بالم دعو ورفق ب ه‪ ،‬وتخ ير ألحب األس ماء إلي ه‪ ،‬وأق رب األس اليب إلى قلب ه‪ .‬وليس‬
‫اللين في التساهل في أحكام الشرع وال في مجاراة أهل الباطل على باطلهم وال في السكوت على‬
‫المنكرات‪ .‬فالمؤمن على كل حال ال يخشى إال اهلل وال يرجو إال ثوابه‪.‬‬
‫وإ ذا ك ان اهلل تع الى قد أمر موسى ب أن ي دعو فرع ون ب اللين‪ ،‬فمن ب اب أولى أن يك ون اللين ش عار‬
‫كل دع وة‪ .‬ق ال تع الى‪}:‬اذهبا إلى فرع ون إنه طغى* فق وال له ق والً لين اً لعله يت ذكر أو‬
‫يخشى{(‪ .)79‬وأمر اهلل نبيه ‪ r‬بأن يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة‪.‬‬

‫سورة نوح اآليات ‪.10-5‬‬ ‫‪)?(75‬‬


‫تفسير القرطبي ‪.18/301‬‬ ‫‪)?(76‬‬
‫تفسير ابن كثير ‪.7/124‬‬ ‫‪)?(77‬‬
‫تفسير القرطبي ‪.18/300‬‬ ‫‪)?(78‬‬
‫سورة طه اآليتان ‪.44-43 :‬‬ ‫‪)?(79‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-24-‬‬

‫واللين قطع من الش دة وأق در على إيص ال الكالم إلى القل وب‪ .‬وكث يراً ما يجد الداعية العقب ات في‬
‫طريقه بسبب كلمة قالها أو تصرف أساء فيه للمدعوين‪.‬‬
‫وال دعوة بالحكمة والموعظة الحس نة تجعل الم دعو يقف مباش رة أم ام ال دعوة‪ ،‬في حين أن الغلظة‬
‫تجعل الم دعو في حج اب عن ال دعوة‪ .‬وكما يضع أع داء اإلس الم العقب ات في طريق ال دعوة‪ ،‬فقد‬
‫يضع المسلم ـ وهو ال يعلم ـ عقبات أيضاً‪ ،‬في طريقها‪ ،‬سببها سوء صنيعه وضجره وسأمه وقصر‬
‫نظره وضيق صدره‪ .‬والداعية الناجح هو الذي ال يفقد صوابه واتزانه مهما كانت الظروف‪.‬‬
‫يق ول ال رازي‪" :‬واعلم أن ال دعوة إلى الم ذهب والمقالة البد أن تك ون مبنية على حجة وبين ة‪،‬‬
‫والمقص ود من ذكر الحجة إما تقرير ذلك الم ذهب أو ذلك االعتق اد في قل وب المس تمعين‪ ،‬وإ ما أن‬
‫يكون المقصود إلزام الخصم وإ فحامه"(‪.)80‬‬
‫والدعاة إلى اهلل يبتغون إيصال الحق والهدي إلى قلوب الخلق وليسوا في حلبة مصارعة يبتغون‬
‫الظفر على خصومهم‪ ،‬ويريدون إثبات تفوقهم في الحجة والدليل‪ .‬ويذهب الرازي إلى أ‪ ،‬الدعوة‬
‫بالحكمة والموعظة الحس نة هي ال تي ت ؤدي إلى كسب األنص ار ‪ ،‬بينما تبقى المجادلة ب التي هي‬
‫أحسن إلقامة الحجة على الخص ونم‪ .‬فق ال ‪ ( :‬ومن لط ائف ه ذه اآلية أنه ق ال ‪}:‬ادع إلى س بيل‬
‫ربك بالحكمة والموعة الحس نة { فقصر ال دعوة على ذكر ه ذين القس مين ‪ ..‬أما الج دل فليس من‬
‫ب اب ال دعوة بل المقص ود منه غ رض آخر مغ اير لل دعوة وهو اإلل زام واإلفح ام‪ .‬فله ذا الس بب لم‬
‫يق ل‪ :‬ادع إلى س بيل ربك بالحكمة والموعظة الحس نة والج دل األحس ن‪ ،‬بل قطع الج دل عن ب اب‬
‫الدعوة تنبيهاً على أنه ال يحصل الدعوة وإ نما الغرض منه شيء آخر(‪.)81‬‬

‫القاعدة الخامسة‬
‫على الداعية أن يقدم الجهد البشري‬
‫وهو يطلب المدد الرباني‬

‫تفسير الرازي ‪.20/138‬‬ ‫‪)?(80‬‬


‫المصدر نفسه ‪.140-20/139‬‬ ‫‪)?(81‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-25-‬‬

‫شاء اهلل تبارك وتعالى أن تعمل هذه الدعوة بالوسائل البشرية‪ .‬والداعية الحق هو الذي يستطيع أن‬
‫يوظف ع الم األس باب من أجل دعوت ه‪ ،‬وه ذا رس ول اهلل‪ ‬يواصل ليله بنه اره آخ ذاً باألس باب‬
‫ومستخدماً ألساليب عصره المتاحة ولم يقل ‪ :‬بما أنه يوحى إلي فإن لي طريقة أخرى في التماس‬
‫النظ ر‪ .‬وإ ننا لنجد في تفاص يل س يرته ‪ ‬تطبيق ات واس عة له ذا المب دأ‪ .‬وي وم أن خ الف بعض‬
‫الصحابة أمر النبي‪ ‬وقصروا في األخذ باألسباب كانت تلك النتيجة المفجعة في معركة أحد رغم‬
‫أن الرسول ‪ ‬بين ظهرانيهم‪ ،‬والوحي يتنزل عليه‪.‬‬
‫وفي قول اهلل تعالى‪} :‬ال يكلف اهلل نفساً إال وسعها{(‪ .)82‬بيان شاف لهذا المبدأ‪ ،‬والتكليف هو األمر‬
‫بما يشق علي ه‪ .‬والتكليف هنا مرتبط بالوسع ال ذي هو الطاقة وال ِج َّدة‪ ،‬ق ال القرط بي‪ " :‬نص اهلل‬
‫تع الى على أنه ال يكلف العب اد من وقت ن زول اآلية عب ادة من أعم ال القلب أو الج وارح إال وهي‬
‫في وسع المكلف وفي مقتضى إدراكه وبنيت ه‪ ،‬وفي ه ذا انكش فت الكربة عن المس لمين في ت أويلهم‬
‫(‪)83‬‬
‫أي لم يكلفهم اهلل بما في خواطر النفوس وخلجات القلوب‪.‬‬ ‫أمر الخواطر"‬
‫فهم خطأ ‪:‬‬
‫والناس اليوم يفهمون هذه اآلية على أن الوسع هو أدنى ما يستطيعه المرء ولذلك فإن هذا الوسع‬
‫متقلب متغير حسب الدوافع‪ .‬فقد يدعي المسلم أنه ال يجد سوى ساعة من فراغ‪ ،‬قائالً ‪ :‬ال يكلف‬
‫اهلل نفس اً إال وس عها‪ ،‬ثم يزيد ه ذا الجهد إلى س اعتين ق ائالً‪ :‬ال يكلف اهلل نفس اً إال وس عها‪ ،‬ثم نجد‬
‫وقته يتسع لثالث ساعات من العمل فيقول ‪ :‬ال يكلف اهلل نفساً إال وسعها‪.‬‬
‫وه ذا التقلب والتغ ير في ظ رف واحد وزم ان واحد دليل على أن االدع اء األول لم يكن ص حيحاً ‪،‬‬
‫المرة األولى والثانية والثالثة‪.‬‬
‫وأنه لم يبذل وسعة في ّ‬

‫ونظرة إلى الشكل أعاله تبين أن الكؤوس أ ‪ ،‬ب ‪ ،‬ج وإ ن تفاوت في مقدار سعتها من الماء إال أن‬
‫الكأس ( د) هو الذي استوفى وسعه وطاقته ‪ .‬والدعاة في فهمهم لهذه اآلية كهذه الكؤوس‪ ،‬يرضى‬
‫أح دهم بتق ديم ال نزر القليل ثم يط الب بالنت ائج الكب ار ‪ ،‬علم اً ب أن مهمة ال دعوة كب يرة واس عة‪ .‬وما‬
‫ينتره العالم من الدعاة كبير كاتساع دعوتهم‪ .‬هذا مع العلم بأن التعامل هو مع الحكيم الخبير الذي‬
‫يعلم مقدورات النفوس‪.‬‬

‫سورة البقرة ‪ :‬اآلية ‪.286‬‬ ‫‪)?(82‬‬


‫تفسير القرطبي ‪.3/429‬‬ ‫‪)?(83‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-26-‬‬

‫ونحن ال ننسى أن الناس متفاوتون في أصل المقدرة والجهد وأن مساحات نفوسهم متفاوتة كذلك‪،‬‬
‫ولكن المطل وب أن تصل ه ذه النفس إلى أك بر عط اء لها وأن يك ون جه دها متزاي داً متص اعداً كل‬
‫ي وم‪ ،‬وإ ن ق دراً كب يراً من طاقة الع املين وال دعاة محك وم عليه باله در والض ياع إن لم ُيس تغل في‬
‫سبيل الحق والدعوة‪ .‬وإ ن كثرة العاملين الذين يقدمون بعض ما يستطيعون يعيقون السير وتزدحم‬
‫بهم الطرق‪ ،‬تمام اً كالعربات التي تمأل الطريق في الوقت الذي ال تحمل من وسعها سوى الشيء‬
‫القليل‪.‬‬
‫إن اهلل تع الى خلق ه ذا اإلنس ان وجعل في وس عه الكث ير الكث ير‪ ،‬ونحن في ه ذه الحي اة نق رأ عن‬
‫بعض المنح رفين وم دمني اإلج رام‪ ،‬أنهم يب ذلون جه داً في س بيل انح رافهم وإ ج رامهم ما يجعلهم‬
‫يواص لون الليل والنه ار‪ ،‬ويقطع ون شاسع المس افات‪ ،‬ويع انون ض روباً من التحمل والص بر ما‬
‫يح ير األلب اب‪ ،‬ويب ذلون من األم وا‪ ،‬ويركب ون من األه وال والمخ اطر ما يث ير العجب العج اب‪.‬‬
‫وال ذي يس تطيع فعل الشر فإنه يس تطيع فعل الخ ير‪ ،‬ومن ي ركب المص اعب واأله وال في س بيل‬
‫الباطل فإنه قادر على ذلك في سبيل الحق والخير‪.‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-27-‬‬

‫الصحابة يلتزمون بمعيار الوسع‪:‬‬


‫وعندما نقرأ سير األولين من األصحاب ـ رضوان اهلل عليهم ـ نرى أن أكثرهم قد مات خارج بلده‪.‬‬
‫فهذا " أبو أيوب األنصاري " يرقد عند أسوار القسطنطينية‪ ،‬وهذه " أم حرام بنت ملح ان" ترقد في‬
‫جزي رة ق برص‪ ،‬وه ذا " عقبة بن ع امر " يرقد في مصر ‪ ،‬وه ذا " بالل " يرقد في دمش ق‪ .‬وهك ذا‬
‫فقد اندفع هؤالء األصحاب في أصقاع األرض يرفعون راية اإلسالم ويبذلون الغالي والنفيس في‬
‫سبيله‪ ،‬وهذا من منطلق إيمانهم بقول اهلل تعالى‪} :‬ال ُيكلف اهلل نفساً إلى وسعها{ ونراهم بعد غزوة‬
‫أحد ال يلبثون حتى يجيبوا داعي اهلل فيلحقوا بالمشركين" فقال أسيد بن حضير وبه سبع جراحات‬
‫يريد أن يداويها‪ :‬سمعاً وطاعة هلل ولرسوله‪ .‬وأخذ سالحه ولم يعرج على دواء‪ ،‬ولحق برسول اهلل‬
‫‪ .r‬وخ رج من ب ني س لمة أربع ون جريح اً‪ :‬بالطفيل ابن النعم ان ثالثة عشر جرح اً وبخ راش بن‬
‫الص ّمة عشر جراح ات"(‪.)84‬وك ان ذلك في غ زوة حم راء األس د‪ .‬وه ذا خ ير دليل على أن اإلرادة‬
‫القوية تبذل من الجهد ما يتحدى المصاعب واآلالم‪ .‬وأن اإلرادة الضعيفة عاجزة حتى مع وجود‬
‫الوسائل واإلمكانيات‪.‬‬
‫ولقد ذكر اهلل هؤالء األصحاب في قرآن ُيتلى حيث قال ‪} :‬الذين استجابوا هلل والرسول من بعد ما‬
‫أجر عظيم{(‪.)85‬‬
‫أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا ُ‬
‫االستطاعة واإلرادة‪:‬‬
‫والج دير بال ذكر أن االس تطاعة فيها ج انب إرادي نفسي ي دفع إليه ا‪ ،‬ويعمل على تحقيقها ب إذن اهلل‬
‫تعالى‪ .‬وإ ذا انعدم هذا الجانب فإن المرء يصاب بالعجز‪ .‬ومن هنا فإن النبي ‪ r‬علمنا بأن ندعو اهلل‬
‫قائلين‪ " :‬اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل‪ ،‬وأعوذ بك من الجبن‬
‫والبخ ل‪ ،‬وأع وذ بك من غلبة ال دين وقهر الرج ال"(‪ .)86‬وق ال أيض اً‪ " :‬للم ؤمن الق وي خ ير وأحب‬
‫إلى اهلل من الم ؤمن الض عيف وفي كل خ ير‪ ،‬اح رص على ما ينفعك واس تعن باهلل وال تعج ز"(‪.)87‬‬
‫وإ ن الش عور ب العجز وع دم االس تطاعة ال ذي ي تردد على ألس نة ال دعاة ـ وقد يفعل ون ذلك ويقولونه‬
‫من باب التواضع ـ ليعمل على هدر الطاقات اإلسالمية وتأخير ركب الدعوة‪.‬‬
‫وما لم ي زج الداعية نفسه في غم ار دعوته ب دون خ وف من الفش ل‪ ،‬غ ير ع ابئ بما يوجه له من‬
‫النقد‪ ،‬فإنه لن يتقدم ولن يصل إلى دفة التوجيه والتغيير‪.‬‬
‫حدود الوسع ومعياره‪:‬‬
‫إمتاع األسماع ‪.1/167‬‬ ‫‪)?(84‬‬
‫سورة آل عمران ‪ ،‬اآلية ‪.172 :‬‬ ‫‪)?(85‬‬
‫أخرجه البخاري ‪ ،8/97‬ورواه من عدة روايات‪ ،‬وأخرجه أحمد ‪ ،3/231‬وأخرجه مسلم‬ ‫(?)‬ ‫‪86‬‬

‫في باب الذكر ‪.51-49‬‬


‫أخرجه مسلم ‪ ، 4/2052‬وابن ماجه ‪ ، 1/31‬وأحمد في المسند ‪.370 ،2/366‬‬ ‫‪)?(87‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-28-‬‬

‫وقد يسأل سائل ‪ :‬وما حدود الوسع والطاقة؟‬


‫والجواب على ذلك تضمنته اآليات القرآنية الكريمة التالية‪:‬‬
‫}والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل اهلل والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً{(‪.)88‬‬
‫}الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل اهلل بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند اهلل{(‪.)89‬‬
‫}إنما المؤمن ون ال ذين آمن وا باهلل ورس وله ثم لم يرت ابوا وجاه دوا ب أموالهم وأنفس هم في س بيل‬
‫اهلل{(‪.)90‬‬
‫أدلكم على تجارة تُنجيكم من عذاب أليم* تؤمنون باهلل ورسوله وتجاه دون‬
‫}يا أيها الذين آمنوا هل ُ‬
‫في سبيل اهلل بأموالكم وأنفسكم{(‪.)91‬‬
‫}انفروا خفافاً وثقاالً وجاهدا بأموالكم وأنفسكم في سبيل اهلل{(‪.)92‬‬
‫ومعنى قوله تعالى ‪} :‬انفروا خفافاً وثقاالً{ أي سواء كنتم على الصفة التي يخف عليكم الجه اد‪ ،‬أو‬
‫على الصفة التي يثقل ‪ ،‬وهذا الوصف يدخل تحته أقسام كثيرة‪:‬‬
‫فاألولى‪ :‬خفافاً في النفور لنشاطكم ‪ ،‬وثقاالً عنه لمشقته عليكم‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬خفافاً لقلة عيالكم وثقاالً لكثرتهم‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬خفافاً من السالح وثقاالً منه‪.‬‬
‫والرابع ‪ :‬ركباناً ومشاة‪.‬‬
‫والخامس ‪ :‬شباباً وشيوخاً‪.‬‬
‫والسادس ‪ :‬مهازيل وسماناً‪.‬‬
‫والسابع ‪ :‬صحاحاً ومرضى‪.‬‬
‫والصحيح ما ذكرناه إذ الكل داخل فيه‪ ،‬ألن الوصف المذكور وصف كلي(‪.)93‬‬
‫وقد فهم كثير من الصحابة والتابعين هذه اآلية على إطالقها‪ ،‬قال مجاهد ‪ :‬إن ابا أيوب شهد بدراً‬
‫مع رسول اهلل ‪r‬ولم يتخلف عن غزوات المسلمين‪ .‬ويقول ‪ :‬قال اهلل ‪} :‬انفروا خفاف اً وثقاالً { فال‬
‫أجدني إال خفيفاً أو ثقيالً‪.‬‬

‫سورة األنفال اآلية ‪.74 :‬‬ ‫‪)?(88‬‬


‫سورة التوبة اآلية ‪.20 :‬‬ ‫‪)?(89‬‬
‫سورة الحجرات اآلية ‪.15 :‬‬ ‫‪)?(90‬‬
‫سورة الصف ‪ ،‬اآلية ‪.11-10‬‬ ‫‪)?(91‬‬
‫سورة التوبة ‪ ،‬اآلية ‪.41‬‬ ‫‪)?(92‬‬
‫تفسير الرازي ‪.16/70 ،‬‬ ‫‪)?(93‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-29-‬‬

‫وعن صفوان بن عمرو قال ‪ :‬كنت والي اً على حمص فلقيت شيخاً قد سقط حاجباه من أهل دمشق‬
‫على راحلته يريد الغ زو‪ .‬قلت ‪ :‬يا عم؛ أنت مع ذور عند اهلل‪ ،‬فرفع حاجبيه وق ال ‪ :‬يا ابن أخي‪،‬‬
‫استنفرنا اهلل خفافاً وثقاالً‪ ،‬أال إن من أحبه اهلل ابتاله‪.‬‬
‫وعن الزهري ‪ :‬خرج سعيد بن المسيب إلى الغزوة وقد ذهبت إحدى عينيه ‪ ،‬فقيل له ‪ :‬إنك عليل‬
‫ثرت الس واد‪،‬‬
‫ص احب ض رر ‪ ،‬فق ال ‪ :‬اس تنفر اهلل الخفيف والثقي ل‪ ،‬ف إن عج زت عن الجه اد ك ُ‬
‫وحفظت المتاع‪ .‬وقيل للمقداد بن األسود وهو يريد الغزو‪ :‬أنت معذور ‪ ،‬فقال‪ :‬أنزل اهلل علينا في‬
‫سورة براءة‪} :‬انفروا خفافاً وثقاالً{(‪.)94‬‬

‫تفسير الرازي ‪.16/70‬‬ ‫‪)?(94‬‬


‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-30-‬‬

‫الدعوة ُنفرة في سبيل اهلل‪:‬‬


‫أعم من هذا‪ ،‬والدعوة إلى‬
‫والنفور في سبيل اهلل ال يعني صورة واحدة وهي صورة القتال‪ ،‬بل هو ّ‬
‫اهلل تعالى بجميع أشكالها هي نفرة في سبيل اهلل‪ .‬ولذلك فقد ج اء في سورة التوبة نفسها ما يشعر‬
‫ولينذروا قومهم‬
‫بهذا‪ ،‬وهو قول اهلل تعالى ‪ } :‬فلوال َن َفر من ُك َل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ُ‬
‫إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون{(‪.)95‬‬
‫ق ال ال رازي ‪ :‬ك ان ال واجب انقس ام أص حاب رس ول اهلل ‪ r‬إلى قس مين ‪ ،‬أحد القس مين ينف رون إلى‬
‫الغزو والجهاد‪ ،‬والثاني يكونون مقيمين بحضرة الرسول‪ ، r‬فالطائفة النافرة إلى الغزوة يكونون‬
‫ن ائبين عن المقيمين في الغ زوة‪ ،‬والطائفة المقيمة يكون ون ن ائبين عن الن افرين في التفق ه‪ ،‬وبه ذا‬
‫الطريق يتم أمر الدين بهاتين الطائفتين(‪.)96‬‬
‫الن ْف َرة للفقه ُّ‬
‫والن ْف َرة لإلنذار‪.‬‬ ‫ونالحظ في اآلية الربط بين ُّ‬
‫وبن اء عليه ف إن المس لم مط الب بب ذل قص ارى جه ده‪ ،‬ومس ؤول عن تكليف نفسه وس عها من أجل‬
‫نصرة هذا اإلسالم بصور الجهاد المتنوعة ‪ ،‬وأولها الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة‪ ،‬وإ ذا كان‬
‫اإلس الم ال يط الب الض رير بتق ديم ما يس تطيعه البص ير؛ ف إن الض رير والبص ير كالً منهما حسب‬
‫استطاعته مطالب بتقديم االستطاعة بمقتضى اآلية الكريمة‪} :‬انفروا خفافاً وثقاالً{‪.‬‬
‫والمؤمن يعلم بأن كل جهد يبذله في مجال التقوى فإنما هو جهد يقاس بإمكانياته البشرية الضعيفة‬
‫وال يصل ه ذا الجهد إلى الدرجة ال تي تليق بجالل اهلل س بحانه وتع الى‪ ،‬ومن هنا فهم بعض‬
‫(‪)97‬‬
‫على أنها منسوخة بقول اهلل تعالى ‪:‬‬ ‫المفسرين اآلية الكريمة‪} :‬اتقوا اهلل حق تقاته{‬
‫(‪)98‬‬
‫محتجين بما ورد من سبب النزول؛ أنه لما نزلت هذه اآلية شق ذلك‬ ‫}فاتقوا اهلل ما استطعتم{‬
‫على المسلمين؛ ألن حق تقاته أن يطاع فال ُيعصى طرفة عين‪ ،‬وأن ُيشكر فال ُيكفر‪ ،‬وأن ُيذكر فال‬
‫ُينسى‪ ،‬والعباد ال طاقة لهم بذلك ‪.‬‬
‫وخير من النسخ أن ُيقال ـ واهلل أعلم ـ ‪ :‬هناك معياران للتقوى‪:‬‬
‫معيار يليق بالمعبود سبحانه‪.‬‬
‫ومعي ار يتناسب مع اس تطاعة العب د‪ ،‬فهو معي ار شخصي يختلف من ش خص إلى آخ ر‪ ،‬ومن ح ال‬
‫إلى حال‪.‬‬

‫سورة التوبة ‪ :‬اآلية ‪.122‬‬ ‫‪)?(95‬‬


‫تفسير الرازي ‪.16/225 :‬‬ ‫‪)?(96‬‬
‫سورة آل عمران اآلية‪.102 :‬‬ ‫‪)?(97‬‬
‫سورة التغابن اآلية ‪.16:‬‬ ‫‪)?(98‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-31-‬‬

‫وه ذا الح دان والمعي اران يك ون الم ؤمن بينهما في ص عود باتج اه ما يليق بجالل اهلل تع الى‪ :‬فعلى‬
‫المسلم أن يكون يومه خيراً من أمسه‪ .‬وغده خيراً من يومه‪ .‬وعليه أن يزداد في مدارج التقوى‬
‫كلما ازداد علماً ‪ ،‬أو حلّت به نعمة ‪ ،‬أو تقدم به السن‪.‬‬
‫وإ ذا أدرك المؤمن هذا المفهوم فإنه يخشى أن ال يكون قد بذل استطاعته‪ ،‬ويحتاط لذلك دائم اً ‪ ،‬فال‬
‫قص ر في المطل وب‪ .‬وه ذا ش أن‬
‫يرضى عن عمله وال عن بذله وال عن جه ده خش ية أن يك ون قد َّ‬
‫المؤم نين ال ذين وص فهم اهلل تع الى بقوله ‪} :‬إن ال ذين هم من خش ية ربهم مش فقون* وال ذيثن هم‬
‫بآيات ربهم يؤمنون* والذين هم بربهم ال يشركون* والذين ُيؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى‬
‫ربهم راجعون* أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون* وال نكلف نفس اً إال وسعاً ولدينا‬
‫كتاب ينطق بالحق وهم ال يظلمون{(‪.)99‬‬
‫ُ‬
‫إشفاق َو َوجل ‪:‬‬
‫وقد ذكرت هذه اآليات صفات للمؤمنين ‪ :‬منها اإلش فاق والوجل " واإلش فاق يتضمن الخشية مع‬
‫(‪)100‬‬
‫‪ ،‬قال الرازي وزاد ‪ " :‬ومنهم من حمل اإلشفاق على أثره‪ ،‬وهو الدوام‬ ‫زيادة رقة وضعف "‬
‫في الطاعة‪ .‬والمعنى ‪ :‬الذين هم من خشية ربهم دائمون في طاعته‪ ،‬جادون في طلب مرضاته‪،‬‬
‫والتحقيق أن من بلغ في الخش ية إلى حد اإلش فاق ‪ ،‬وهو كم ال الش خية‪ ،‬ك ان في نهاية الخ وف من‬
‫سخط اهلل عاجالً‪ ،‬ومن عقابه آجالً‪ ،‬فكان في نهاية االحتراز عن المعاصي"(‪ .)101‬ومن كان كذلك‬
‫فإنه يستجيب ألمر اهلل في الدعوة إليه والصدع بأمره ونهيه‪ .‬وأما كونهم يؤتون ما آتوا وقلوبهم‬
‫َو ِجلة‪ " :‬معناه يعطون ما أعطوا‪ ،‬فدخل فيه كل حق يلزم إيتاؤه‪ . .‬ألن من ُيقدم على العبادة وهو‬
‫و ِجل من تقص يره وإ خالله بنقص ان أو غ يره فإنه يك ون ألجل ذلك الوجل مجته داً في أن يوفيها‬
‫حقها " (‪.)102‬‬
‫والخ وف من التقص ير مع ك ون الخ ائف يب ذل قص ارى جه ده في االتق اء ‪ ،‬منزلة من من ازل‬
‫الو َجل علمهم بأنهم إلى ربهم راجعون‪.‬‬
‫الصديقين ‪ ،‬وقد بين اهلل تعالى أن سبب هذا َ‬
‫فيا لها من ص فات س امية تحمل أص حابها إلى المقام ات العلية ‪ ،‬وتجعل نفوس هم نقية من الري اء‬
‫والسمعة ‪ ،‬وتشحذ الهمم إلى أحسن العمل‪.‬‬
‫وبعد ه ذه التوجيه ات الدافعة إلى رفع الكف اءة والمق درة ت أتي اآلية الكريم ة‪} :‬وال نكلف نفس اً إال‬
‫وس عها{ ويب دو التكامل بين إعط اء الف رد مس ؤولية تق دير االس تطاعة وبين ما يعلمه اهلل تع الى من‬

‫سورة المؤمنون اآليات ‪.62-57 :‬‬ ‫‪)?(99‬‬


‫تفسير الرازي ‪.23/106‬‬ ‫‪)?(100‬‬
‫المصدر نفسه‪.‬‬ ‫‪)?(101‬‬
‫تفسير الرازي ‪.23/107‬‬ ‫‪)?(102‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-32-‬‬

‫حقيقة االستطاعة التي يراقبها ويحاسب عليها‪ .‬وبلوغ الداعية درجة الخشية واإلشفاق حافز على‬
‫الصدق في تقدير الوسع‪.‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-33-‬‬

‫القاعدة السادسة‬
‫الداعية مرآة دعوته والنموذج المعبر عنها‬
‫ال ينفصل الداعية عن دعوت ه‪ .‬واالق تران بين الداعية وال دعوة ق ائم في أذه ان الن اس‪ .‬والداعية‬
‫نفسه ش هادة لل دعوة ‪ ،‬وه ذه الش هادة قد تحمل الن اس على قبل ال دعوة ‪ ،‬وقد تحملهم على ردها‬
‫ورفضها‪ .‬والذين يتعاملون مع المبادئ مباشرة قلة قليلة في كل عصر ومكان ‪ ،‬وأما أكثر الناس‬
‫فيتعاملون مع حملة المبادئ والناطقين باسمها‪.‬‬
‫وكلما كان المبدأ عظيم اً وقوي اً كان التزامه أشد ‪ ،‬وكان الوصول فيه إلى المطلوب أشق‪ .‬واإلالم‬
‫فيه من الواجب ات والتك اليف ما يجعل المجاه دة في س بيل بل وغ مقاماته دائمة ال تف تر‪ ،‬متص لة ال‬
‫تنقطع‪.‬‬
‫وعندما يكون الداعية بعيداً عن االلتزام بواجبات اإلسالم وتكاليفه فإنه يكون فتنة للناس يصرفهم‬
‫بس لوكه عن دين اهلل‪ ،‬ويقطع الطريق على الن اس‪ ،‬فمثله كمثل ق اطع الطري ق‪ ،‬بل هو أس وأ ‪،‬‬
‫وينبغي على الداعية أن ي دعو دائم اً بقوله تع الى ‪} :‬ربنا ال تجعلنا فتنة للق وم الظ المين(‪ .)103‬وقد‬
‫ُذكر في تفس ير ه ذه اآلي ة‪} :‬ال تمكنهم من أن يحملونا ب الظلم والقهر على أن ننص رف عن ه ذا‬
‫ال دين الحق ال ذي قبلن اه{(‪ .)104‬وك ذلك ف إن الك افرين عن دما يتس لطون على المس لمين ف إن تس لطهم‬
‫(‪)105‬‬
‫فيك ون تس لطهم على المس لمين‬ ‫ش بهة لهم في أنهم على الح ق‪ ،‬وأن المس لمين على الباطل‬
‫واستضعافهم للمؤمنين فتنة تصرف الكافرين عن اإليمان‪.‬‬
‫ويضم إلى ه ذه المع اني أن ي روا س لوك الداعية مخالف اً لإلس الم‪ ،‬فيص رفهم ه ذا الس لوك عن‬
‫ُ‬
‫اإليمان‪ ،‬قائلين لو كان هذا الدين هو الحق لظهرت أحقيته على قسمات أتباعه وتصرفاتهم‪.‬‬
‫نماذج صادقة ‪:‬‬
‫وقد كان أصحاب النبي ‪ r‬نماذج صادقة لدعوتهم وإ سالمهم ‪ .‬يقول الحسن البصري في صفتهم‪" :‬‬
‫ظهرت منهم عالمات الخير في السيماء والسمت والهدى والصدق‪ ،‬وخشونة مالبسهم باالقتصاد‬
‫وممش اهم بالتواض ع‪ ،‬ومنطقهم بالعم ل‪ .‬ومطعمهم ومش ربهم ب الطيب من ال رزق‪ ،‬وخض وعهم‬
‫بالطاعة ل ربهم تع ال‪ ،‬واس تقادتهم للحق فيما أحب وا وكره وا‪ ،‬وإ عط اؤهم الحق من أنفس هم‪ ،‬ظمئت‬
‫ه واجرهم ونحلت أجس امهم‪ ،‬واس تخفوا بس خط المخل وقين رض ًى للخ الق‪ ،‬ش غلوا األلسن بال ذكر ‪،‬‬

‫سورة يونس اآلية ‪.85 :‬‬ ‫‪)?(103‬‬


‫تفسير الرازي ‪.17/146‬‬ ‫‪)?(104‬‬
‫تفسير القرطبي ‪.8/370‬‬ ‫‪)?(105‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-34-‬‬

‫ب ذلوا دم اءهم حين استنص رهم‪ ،‬وب ذلوا أم والهم حين استقرض هم ‪ ،‬حس نت أخالقهم‪ ،‬وه انت‬
‫مؤنتهم"(‪.)106‬‬
‫ولقد أعطى الص حابة عن ه ذا ال دين ص ورة مش رفة للجنس البش ري‪ ،‬فثبت وا أم ام االبتالء والمحن‬
‫تاركين من الرخص ما يمكن أن يكون سبب فتنة لغير المؤمنين‪.‬‬
‫فهذا " عبد اهلل بن حذافة السهمي " صاحب رسول اهلل ‪ r‬يقع في أسر الروم ( فقال له ملك الروم‪:‬‬
‫تنصر أشركك في ملكي‪ ،‬فأبى ‪ ،‬فُأمر به فصلب ‪ ،‬ثم أمر برميه بالسهام فلم يجزع‪ ،‬فُأنزل ‪ ،‬وأمر‬
‫ص ب فيها الم اء‪ ،‬وُأغلي عليه وُأمر بإلق اء أس ير فيها ف إذا عظامه تل وح‪ ،‬ف أمر بإلق ائ إذا لم‬
‫بق در فَ ُ‬
‫يتنصر‪ ،‬فلما ذهبوا به بكى‪ ،‬قال‪ :‬ردوه‪ ،‬فقال لم بكيت؟ قال ‪ :‬تمنيت أن لي مائة نفس‪ ،‬تُلقى هكذا‬
‫في اهلل‪ ،‬فعجب ملك الروم) (‪.)107‬‬
‫وعندما رأى سكان البالد المفتوحة صدق هؤالء األصحاب وثباتهم على عقيدتهم‪ ،‬وتمثلهم لمنهج‬
‫دينهم‪ ،‬أقبل وا على اإلس الم‪ .‬ق ال ابن قيم الجوزي ة‪ " :‬وله ذا لما رأى النص ارى الص حابة‪ ،‬وما هم‬
‫عليه‪ ،‬آمن أكثرهم اختياراً وطوعاً‪ ،‬وقالوا ‪ :‬ما الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤالء"‪ .‬ثم يق ول‬
‫ابن قيم الجوزي ة‪ " :‬ولقد دعون ا‪ ،‬نحن وغيرنا كث يراً من أهل الكت اب على الغس الم ف أخبروا أن‬
‫الم انع لهم ما ي رون عليه المنس بين إلى اإلس الم"‪ .‬وكالم ابن القيم ه ذا في الق رن الث امن الهج ري؛‬
‫فكيف لو كان يعيش في عصرنا هذا‪ ،‬حيث يعطى المسلم صورة عكسية لإلسالمة وتعاليمه‪.‬‬
‫والداعية قد يك ون معروف اً عند الن اس وقد يك ون مجه والً ‪ .‬ف إذا ش رع في ال دعوة وك ان معروف اً‬
‫باالس تقامة وال ورع ف إن كالمه يصل إلى مج امع القل وب وك ات اس تقامته وورعه تقدمة القب ول‬
‫والحافز عليها‪.‬‬
‫وإ ذا كان الداعية فقيراً في التزامه واتباعه فإن كالمه يمر فوق الرؤوس كالسهم الطائش الذي ال‬
‫يصيب الهدف‪.‬‬
‫خير من القول فاعله‪:‬‬
‫يقول الماوردي في أدب الدنيا والدين‪ ( :‬وقال علي بن أبي طالب‪ :‬إنما زند الناس في طلب العلم‬
‫خير من القول فاعله‪ ،‬وخير من الصواب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لما يرون من قلة انتفاع َمن َعلم بما َعلم ‪ . .‬وكان يقال ُ‬
‫حامله‪. .‬‬
‫قائله‪ ،‬وخير من العلم ُ‬
‫وقال بعض الصلحاء ‪ :‬العلم يهتف بالعمل ‪ ،‬فإن أجابه وإ ال ارتحل‪..‬‬
‫وق ال بعض البلغ اء‪ ( :‬من تم ام العلم اس تعماله ‪ ،‬من تم ام العمل اس تقالله) (‪ .)108‬وإ ذا ك ان الداعية‬
‫مجه والً عند مس تمعيه ف إن كالمه يبقى معلق اً ال هو ب المقبول وال هو ب المردود ح تى يس ألوا عن ه‪،‬‬

‫حلية األولياء ‪.2/150‬‬ ‫‪)?(106‬‬


‫اإلصابة ‪.2/288‬‬ ‫‪)?(107‬‬
‫أدب الدنيا والدين ‪ 85‬واستقالله أن يجده قليالً‪.‬‬ ‫‪)?(108‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-35-‬‬

‫ف إن عرف وا منه االس تقامة واالبت اع وقع المعلق من كالمه موقع القب ول والت أثير‪ .‬وإ ال ف إن كالمه‬
‫يخرج من اعتبارهم‪.‬‬
‫وحياة الداعية الخاصة والعامة موضوع المالحظة ‪ ،‬وعين الناس عليه كالمجهر المكبر‪ ،‬وقبل أن‬
‫يط الب الن اس ب ترك الغيبة فعليه أن ي دفع الغيبة والتهمة عن نفسه وأن يص ون حياته الخاصة‬
‫والعامة عن كل ما يشينها‪.‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-36-‬‬

‫القاعدة السابعة‬
‫خاطبوا الناس على قدر عقولهم‬
‫ال دعوة إلى اهلل تق وم على الحكمة والموعظة الحس نة‪ .‬وتظهر الحكمة في معرفة المناسب من‬
‫ال دعوة لكل فئة من الن اس‪ .‬والداعية الحكيم ال يق ول كل ما يع رف لكل من يع رف ‪ .‬وهو يتعامل‬
‫مع العقول حسب مقدرتها ال حسب مقدرته ‪ ،‬وال يحملها فوق طاقتها‪ .‬وقد فهم ابن عباس ـ رضي‬
‫اهلل عنهما ـ قول اهلل تعالى }ولكن كونوا ربانيين{ فق ال ‪} :‬كونوا حلم اء فقه اء{ وق ال البخاري ‪:‬‬
‫( ويقال ‪ :‬الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره) (‪.)109‬‬
‫والب دء بص غار العلم مرجعه مراع اة العق ول ح تى ال تنفر من ال دعوة‪ .‬ق ال ابن حج ر‪( :‬والم راد‬
‫دق منه ا) (‪ .)110‬ويش هد له ذا األصل من أص ول‬
‫بص غار العلم ما وضح من مس ائله‪ ،‬وبكب اره ما ّ‬
‫الدعوة كثير من النصوص نذكر منها‪:‬‬
‫يقص ر فهم بعض‬
‫ساق البخاري حديثاً ترجم له بقوله ‪ ( :‬باب من ترك بعض االختيار مخالفة أن ُ‬
‫الن اس عنه فيقع وا في أشد من ه‪ .‬ثم أخ رج من طريقه إلى "األس ود" ق ال ‪ :‬ق ال لي " ابن الزب ير" ‪:‬‬
‫( كانت عائشة تُ ِس ّر إليك كثيراً ‪ ،‬فما حدثتك في الكعبة؟ قلت ‪ :‬قالت لي ‪ :‬قال النبي‪ :r‬ياعائشة ‪،‬‬
‫ل وال قومك ح ديث عه دهم ـ ق ال ابن الزب ير ‪ :‬بكفر ـ لنقضت الكعبة فجعلت لها ب ابين ب اب ي دخل‬
‫الناس وباب يخرجون) (‪.)111‬‬
‫قال ابن حجر رحمه اهلل ـ ( ويستفاد منه ترك المصلحة ألمن الوقوع في المفسدة) (‪.)112‬‬
‫ص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن ال يفهموا‪ ،‬وقال" على‬ ‫وقال البخاري ـ رحمه اهلل ـ ( باب من ُخ َّ‬
‫" ‪ :‬ح ّدثوا الن اس بما يعرف ون أتحب ون أن ُي َك َّذب اهلل ورس وله) (‪ .)113‬ق ال ابن حجر ـ رحمه اهلل ـ ‪:‬‬
‫( ومن ك ره التح ديث ببعض دون بعض(‪ )114‬أحمد ومالك في أح اديث الص فات ‪ ،‬وأبو يوسف في‬
‫الغ رائب‪ ،‬ومن قبلهم أبو هري رة في الج رابين(‪ ،)115‬وأنه ك ره أن يح دث بأح دهما ‪ ،‬ونح وه عن‬
‫حذيفة‪ ،‬وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين؛ ألنه اتخذها وسيلة إلى ما كان‬

‫صحيح البخاري متن فتح الباري ‪.1/160‬‬ ‫‪)?(109‬‬


‫فتح الباري ‪.1/162‬‬ ‫‪)?(110‬‬
‫صحيح البخاري متن فتح الباري ‪.1/224‬‬ ‫‪)?(111‬‬
‫فتح الباري ‪.1/225‬‬ ‫‪)?(112‬‬
‫صحيح البخاري متن فتح الباري ‪.1/225‬‬ ‫‪)?(113‬‬
‫أي كره التحديث ببعض األحاديث التي ال يفهمها العامة دون تلك التي تفهم ‪.‬‬ ‫‪)?(114‬‬
‫الحديث أخرجه البخاري ‪ ( 1/216‬فتح الباري ) وهو قول أبي هريرة ‪ " :‬حفظت من‬ ‫(?)‬ ‫‪115‬‬

‫رسول اهلل‪ r‬وعاءين فأما أحدهما فبثثته ‪ ،‬وأما اآلخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم‪ .‬والمقصود به‬
‫أحاديث الفتن‪.‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-37-‬‬

‫(‪)116‬‬
‫‪ ،‬وقصة العرنيين هي قصة قم من عرينة‬ ‫يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي)‬
‫جوه ا‪ ،‬فأعط اهم الن بي‪ r‬إبالً من إبل الص دقة‬
‫ق دموا على الن بي ‪ r‬ف اجتووا المدين ة‪ ،‬أي لم يناس بهم ُّ‬
‫يش ربون ألبانها ‪ ،‬ويستش فون بأبواله ا‪ ،‬فقتل وا الرع اة واس تاقوا اإلبل ‪ ،‬فلحق بهم الن بي ‪ r‬فقطع‬
‫أي ديهم وأرجلهم ‪ ،‬وت ركهم عطشى في الح َّرة‪ .‬ويالحظ أن تح ديث " الحج اج " به ذا يحمله على‬
‫المبالغة في سفك الدماء‪ ،‬كما قال ابن حجر‪.‬‬
‫أخ رج اإلم ام مس لم بس نده إلى ابن مس عود قوله ‪ ( :‬ما أنت مح دثاً قوم اً ح ديثاً ال تبلغه عق ولهم إال‬
‫كان لبعضهم فتنة) (‪.)117‬‬
‫وأخ رج البخ اري ( إن الن بي ‪r‬ق ال ‪ :‬يا مع اذ بن جبل ق ال ‪ :‬لبيك يا رس ول اهلل وس عديك‪ ،‬ق ال ‪ :‬يا‬
‫مع اذ‪ .‬ق ال ‪ :‬لبيك يا رس ول اهلل وس عديك ( ثالث اً) ق ال ‪ :‬ما من أحد يش هد أن ال إله إال اهلل وأن‬
‫حرمه اهلل على الن ار‪ ،‬ق ال يا رس ول اهلل‪ :‬أفال أخ بر به الن اس‬
‫محم داً رس ول اهلل من قلبه إال ّ‬
‫فيستبشرون؟ قال إذاً يتكلوا‪ .‬وأخبر بها معاذ عند موته تأثماً) (‪.)118‬‬
‫وذلك ألن ه ذا الح ديث إذا س معه الن اس ف إنهم يحملونه على محمل خطأ ‪ ،‬وهو ت رك العمل‬
‫واالكتف اء ب اإلقرار ‪ ،‬ومع نى أنه أخ بر به تأثم اً أي ‪ :‬أخ بر به قبل موته مخافة اإلثم ح تى يبقى‬
‫الحديث وال ينقطع بوفاة معاذ رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫والناس أمام هذا األصل أصناف ‪:‬‬
‫الص نف األول ‪ :‬الع وام غ ير المتعلمين‪ ،‬والتعامل معهم ودع وتهم في غاية الص عوبة‪ .‬وح الهم‬
‫كحال المبتدئ في تعلم القراءة والكتابة ‪ ،‬وكل صعوبة أو تعقيد قد يصرفهم عن الدعوة‪ .‬وهؤالء‬
‫ال تُلقى عليهم المس ائل العويصة ‪ ،‬والتفاص يل الدقيقة ‪ ،‬وال براهين العق دة والنظم المتش عبة‪ ،‬وه ذا‬
‫الص نف يحت اج المتخصص في فن دع وتهم ومخ اطبتهم‪ .‬وه ؤالء يعتم دون على المحس وس أك ثر‬
‫مما يعتم دون على المج رد ‪ ،‬وحاج اتهم الخاصة وظ روف حي اتهم أق رب الوس ائل إلى قل وبهم ‪.‬‬
‫واألمثلة المنتزعة من ب يئتهم الخاصة هي األمثلة المفهوم ة‪ .‬وه ؤالء تح ركهم العاطفة أك ثر مما‬
‫يح ركهم العقل ‪ .‬ولل ترغيب وال ترهيب في نفوس هم أثر كب ير ‪ .‬ومما يش حذ هممهم قصص‬
‫الصالحين‪ ،‬وأخبار األولياء ‪ ،‬وأحداث السيرة‪ ،‬على طريق السرد على على طريق التحليل‪.‬‬
‫الصــنف الثــاني ‪ :‬المتعلم ون من خ ريجي الجامع ات ‪ ،‬ومن في مس تواهم في التق دم المع رفي ‪،‬‬
‫وه ؤالء يبحث ون عن التحليل واالس تنتاج والمعنوي ات ودالئل اإلعج از‪ ،‬وعند مخ اطبتهم فإنه البد‬

‫فتح الباري ‪.1/225‬‬ ‫‪)?(116‬‬


‫فتح الباري ‪.1/225‬‬ ‫‪)?(117‬‬
‫صحيح البخاري ( متن فتح البخاري) ‪.1/226‬‬ ‫‪)?(118‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-38-‬‬

‫من مراع اة م نزلتهم العلمي ة‪ .‬ومن يس تطيع مخاطبة الع وام قد ال يس تطيع مخاطبة الخ واص‪ .‬وإ ذا‬
‫خاطبهم من هو دونهم فقد يفتنهم ‪.‬‬
‫الص نف الث الث‪ :‬أص حاب التخصص ات العلمي ة‪ ،‬إذ لكل تخصص مص طلحاته ووس ائله‪ ،‬ومن‬
‫يتع رف على ه ذا المن اخ الخ اص فإنه أق در على توجيهه ولفت نظر أص حابه إلى ال دالئل مما بين‬
‫أي ديهم‪ .‬فالداعية بين المح امين يحت اج إلى معرفة ش يء عن الق وانين والص الح والط الح منها وأما‬
‫بين األطب اء فهو بحاجة غلىمعرفة بعض الج وانب ال تي تُوقف الط بيب على عظمة اهلل وقدرته في‬
‫خلق اإلنسان ووظائف أعضائه‪ .‬وإ ذا كان الداعية من أهل االختصاص المزودين بالعلم الشرعي‬
‫ف إن الم ردود يك ون أعظم‪ .‬ول ذا ف إن على الداعية ص احب العلم الش رعي أن يأخذ نفسه ب التثقيف‪،‬‬
‫وأن ينوع معارفه‪ ،‬وإ ذا كلف بالدعوة في قطاع متخصص فاألجدر به أن يدرس هذا القطاع‪ ،‬وأن‬
‫يزداد معرفة بهذا الجانب الثقافي‪.‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-39-‬‬

‫القاعدة الثامنة‬
‫االبتالء سنة اهلل تعالى وهو السبيل على‬
‫تمثل الدعوة وصياغة النفس وفق العقيدة‬
‫كلما ك ان العمل ش اقاً ودقيق اً ومعق داً اح اج الم رء إلى ب ذل جهد أك بر في االع داد والت دريب لكي‬
‫يكون على مستوى ذلك العمل‪ .‬والعمل لدين الهل تعالى مستمر ومتنوع وفسيح‪ .‬ومهمته ال تقف‬
‫عند حدود أشكال معينة‪ ،‬بل تتعدى الشكل إلى المضمون والمحتوى‪ .‬ومسئولية العامل تزداد يوم اً‬
‫بعد يوم‪ .‬ومسئوليته بعد انتصار فكرته أعظم منها قبل ذلك‪.‬‬
‫من أجل ذلك وغ يره ش اءت إرادة اهلل س بحانه أن يخضع ال دعاة لص نوف من االختب ارات الش اقة‪.‬‬
‫وال تصل الجماعة المؤمنة إلى تحقيق أهدافها إال مروراً باالبتالء‪.‬‬
‫ومن خالل اآليات الكريمة واألحاديث النبوية فإننا نتبين وظائف االبتالء ونتائجه ‪:‬‬
‫عن أبي ه يرة رضي اهلل عنه ق ال‪ ،‬ق ال رس ول اهلل ‪ " :r‬مثل الم ؤمن كمثل ال زرع ال ت زال ال ريح‬
‫تميل ه‪ ،‬وال ي زال الم ؤمن يص يبه البالء‪ .‬ومثل المن افق كمثل ش جرة األرز ال ته تز ح تى‬
‫تُستحص د"(‪ .)119‬وه ذا الح ديث يكشف عن وظيفة االبتالء البنائية بالنس بة للجماعة المس لمة‪ ،‬ف إن‬
‫تعرض الزرع للحركة الدائمة يكسبه قدرة على الثبات أمام األعاصير ‪ ،‬في حين أن األرزة اليت‬
‫ال تحركها الري اح العادية فإنها ال تقف أم ام األعاص ير والري اح الش ديدة‪ ،‬ول ذلك فإنها تتحطم‪.‬‬
‫وكذلك الدعاة فإن لديهم قوة احتمال على مواجهة الصعاب لكثرة إجراء االبتالء عليهم‪.‬‬
‫واالبتالء يعمل على اص طفاء العناصر القوية الص الحة‪ ،‬فال ي دخل في العمل من يك ون عبئ اً على‬
‫الع املين‪ ،‬وإ نما ي أتي إلى ال دعوة ويثبت عليها من تمكن اإليم ان في قلب ه‪ ،‬ومن يبتغي وجه اهلل‬
‫والدار اآلخرة‪ ،‬ألن المرء إذا علم أن المغارم أكثر من المغانم فإنه ال يختار المغارم إال إذا رضي‬
‫باآلجلة عوضاً عن العاجلة‪.‬‬
‫واالبتالء يكشف عن صدق الصادقين وحقيقة انتسابهم لإليمان‪ ،‬وهذا ما تضمنته آيات من سورة‬
‫آل عمران وهي تُعقَّب على ما أصاب المسلمين يوم أحد ‪} :‬إن يمسسكم قرح فقد مس القوم ُ‬
‫قرح‬
‫مثله‪ ،‬وتلك األيام نداولها بين الناس وليعلم اهلل الذين آمنوا ‪ ،‬ويمحق الكافرين{(‪ .)120‬يقول الرازي‬
‫في تفسيره‪ ( :‬واعلم أنه ليس المراد من هذه المداولة أن اهلل تعالى ينصر الكافرين ألن نصرة اهلل‬
‫منصب شريف وإ عزاز عظيم فال يليق بالكافر‪ ،‬بل المراد من هذه المداولة أنه تارة يشدد المحنة‬
‫على الكفار وأخرى على المؤمنين وذلك من وجوه‪:‬‬

‫أخرجه مسلم ‪.4/2162‬‬ ‫‪)?(119‬‬


‫سورة آل عمران اآليتان ‪.141 /140 :‬‬ ‫‪)?(120‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-40-‬‬

‫األول ‪ :‬أنه تع الى لو ش دد المحنة على الكف ار في جميع األوق ات وأزالها عن المؤم نين في جميع‬
‫األوقات لحصل العلم االضطراري بأن اإليمان حق وما سواه باطل‪ ،‬ولو كان كذلك لبطل التكليف‬
‫والثواب والعقاب‪ ،‬فلهذا تارة يسلط المحنة على أهل اإليمان وأخرى على أهل الكفر‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬أن المؤمن قد يقدم على بعض المعاصي فيكون عند اهلل تشديد المحنة عليه في الدنيا أدب اً‬
‫له) (‪.)121‬‬
‫الثــالث ‪ :‬واالبتالء يعمق اله وة بين المؤم نين والك افرين‪ ،‬فال يع ود اللق اء ممكن اً؛ ألن ممارس ات‬
‫الك افرين في إيق اع األذى ب المؤمنين‪ ،‬وح رص الك افرين على استئص ال اإليم ان وجن ده‪ ،‬كل ه ذا‬
‫يجعل المعركة دائمة مس تمرة ال تنتهي إال بخض وع الكف ار ألحك ام اإلس الم‪ .‬ولو ظهر لين الكف ار‬
‫مع المؤمنين ‪ ،‬وسمح الكفار للمؤمنين ب أن يدعو لإلسالم كما يشاؤون لقال ضعاف اإليم ان‪ :‬إن‬
‫الكفر ليس تلك الصفة البالغة في السوء ‪ .‬ومن هنا جاء البيان اإللهي لهذا الموقف المبدأي الدائم‪:‬‬
‫}ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب وال المشركين أن ُيَن َّز ُل عليكم من خير من ربكم{(‪ .)122‬وقال‬
‫سبحانه }وال يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا{(‪.)123‬‬
‫الرابــع‪ :‬واالبتالء يربط بين المؤم نين بعض هم ببعض برب اط عقلي وع اطفي‪ ،‬إذ ب االبتالء تصل‬
‫عق ول المؤم نين إلى حقيقة البن اء اإلس المي الم تراص ‪ ،‬وأن االبتالء يعطي ه ذا البن اء ق وة‬
‫وص البة‪ .‬وإ ن ال ذين يبتل ون من أجل إيم انهم إنما يس همون ب أعز ما يملك ون من النفس والم ال‬
‫وأما ما يحققه االبتالء من الرب اط الع اطفي ف إن األلم أدعى إلى تحقيق‬
‫واألهل واألوط ان‪َّ .‬‬
‫المش اركة والتع اون‪ ،‬وقد ينسى الم رء من ش اركه في مناس بة س عيدة هنيئة ‪ ،‬ولكنه لن ينسى من‬
‫شاركه في األلم والمعاناة‪.‬‬
‫الخــامس ‪ :‬واالبتالء يق دم ال دليل الق وي على ج دارة ال دعوة؛ ومن هنا ف إن كث يرين أقبل وا على‬
‫الدعوة عندما رأوا ثبات أهلها واصطبارهم على تحمل االبتالء الذي ال تثبت له الجبال الراسيات‪.‬‬
‫المبتلى أم ام الن اس‪ ،‬وما زال ق ول الص حابي الجلي ل" خث بيب بن‬
‫وتحمل االبتالء ش هادة ي دلى بها ُ‬
‫عدي " رضي اهلل عنه يمأل األسماع عندما قال‪:‬‬
‫ولست أبالي حين أقتل مسلماً‬
‫على أي جنب كان في اهلل مصرعي‬

‫تفسير الرازي ‪.9/15‬‬ ‫‪)?(121‬‬


‫سورة البقرة اآلية ‪.105 :‬‬ ‫‪)?(122‬‬
‫سورة البقرة اآلية ‪.217 :‬‬ ‫‪)?(123‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-41-‬‬

‫يوقول الرازي ‪ " :‬ومن المعلوم أن التبع إذا عرفوا أن المتبوع في أعظم المحن بسبب المذهب‬
‫ال ذي ينص ره‪ ،‬ثم رأوه مع ذلك مص راً على ذلك الم ذهب‪ ،‬ك ان ذلك أدعى لهم إلى اتباعه مما إذا‬
‫رأوه ُم َرفَّه الحال ال ُكلفة عليه في هذا المذهب"(‪.)124‬‬
‫الســادس ‪ :‬إذا علم الم ؤمن أنه س يبتلى فإنه يبقى دائم اً على ح ذر وخ وف من اهلل ‪ .‬وه ذا ي دعوه‬
‫إلى إحس ان العمل والحرص على توافر شروط النصر‪ ،‬والبعد عن أسباب الهزيمة من المعصية‬
‫والعجز والتواكل‪.‬‬
‫السابع ‪ :‬واالبتالء يحقق اإلخالص في نفس المؤمن‪ .‬قال الرازي ‪":‬إن إخالص اإلنسان في حال‬
‫البالء ورجوعه إلى اهلل تعالى أكثر من إخالصه حال إقبال الدنيا عليه"(‪.)125‬‬
‫السَّن ِة مع المؤمنين عندما قال ‪} :‬ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع‬ ‫وقد أخبر اهلل تعالى عن هذه ُ‬
‫ونقص من األم وال واألنفس والثم رات وبشر الص ابرين* ال ذين إذا أص ابتهم مص يبة ق الوا إنا هلل‬
‫وإ نا إليه راجعون{(‪.)126‬‬

‫تفسير الرازي ‪.4/150‬‬ ‫‪)?(124‬‬


‫المصدر نفسه‪.‬‬ ‫‪)?(125‬‬
‫سورة البقرة ‪ :‬اآليتان ‪.154/155 :‬‬ ‫‪)?(126‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-42-‬‬

‫القاعدة التاسعة‬
‫مجال الدعوة واسع فليتخير الداعية لدعوته‬
‫عندما تكون الدعوة في طور التأسيس والتكوين فإن الجهد المبذول قد يقع في مكانه المناسب إذا‬
‫راعى الداعية مبدأ التخيُّر لدعوته‪.‬‬
‫فليبدأ بالقريب قبل البعيد‪ ،‬فإنه ال داعي لقطع المسافات من أجل دعوة إنسان ما‪ ،‬السيما إذ كان ال‬
‫على التعيين‪ ،‬في حين أن األقربين والمجاورين في السكنى أو العمل محتاجون لمثل هذه الدعوة‪،‬‬
‫وهؤالء األقربون معروفون عند الداعية‪ ،‬وال يحتاج إلى جمع المعلومات عنهم ‪ ،‬وهم يعرفونه فال‬
‫داعي لكث ير من المق دمات‪ .‬وهم يعتب ون عليه إذا أهملهم وذهب إلى األبع دين‪ .‬وهو يعيش بينهم‪،‬‬
‫فهم العين الس اهرة في الخ ير والش ر‪ ،‬وهم الش هداء على الس راء والض راء‪ ،‬وهو عند اهلل مس ؤول‬
‫عنهم فقد أخذ الن بي ‪ ‬على قومه أنهم ال يفقه ون ج يرانهم وال ُي َعلِّم ونهم فتوع دهم بالعقوبة وأمهلهم‬
‫س نة للقي ام به ذا التكليف(‪ .)127‬وعن دما ب دأ رس ول اهلل ‪ ‬بال دعوة أم ره اهلل تع الى أن ين ذر عش يرته‬
‫األق ربين‪ ،‬فق ال ‪  :‬وأن ذر عش يرتك األق ربين ‪ .)128( ‬ق ال ال رازي ‪ ( :‬ثم أم ره ب دعوة األق رب‬
‫فاألقرب‪ ،‬ذلك ألنه إذا تشدد على نفسه أوالً ثم على األقرب فاألقرب ثاني اً‪ ،‬لم يكن ألحد فيه مطعن‬
‫البتة‪ ،‬وكان قوله أنفع وكالمه أنجع) (‪ .)129‬أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي اهلل‬
‫عنهما‪ :‬قال ‪ ( :‬لما نزلت ‪‬وأنذر عشيرتك األقربين‪ ‬صعد النبي ‪ ‬الصفا فجعل ينادي ‪ :‬يا بني‬
‫ي ـ لبط ون ق ريش ـ ح تى اجتمع وا ‪ ،‬فجعل الرجل إذا لم يس تطع أن يخ رج أرسل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ف ْهر ‪ ،‬يا ب ني َع د ّ‬
‫رسوالً لينظر ما هو‪ .‬فجاء أبو لهب وقريش‪ ،‬فقال‪ :‬أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيالً بالوادي تريد أن‬
‫مصدقي؟ قالوا ‪ :‬نعم ‪ ،‬ما جربنا عليك إال صدقاً‪ ،‬قال ‪ :‬فإني نذير لكم بين يدي‬
‫َّ‬ ‫تُغير عليكم أكنتم‬
‫عذاب شديد) (‪.)130‬‬
‫وفي رواية أخرى للبخاري ‪ ،‬عن أبي هريرة ‪ :‬قال ‪ : ‬يا معشر قريش ـ أو كلمة نحوهاـ اشتروا‬
‫أنفس كم ‪ ،‬ال أغ ني عنكم من اهلل ش يئاً ‪ ،‬يا عب اس بن عبد المطلب‪ ،‬ال أغ ني عنك من اهلل ش يئاً ‪ ،‬يا‬
‫ص فية عمة رس ول اهلل ‪ ‬ال أغ ني عنك من اهلل ش يئاً ‪ ،‬ويا فاطمة بنت محمد ‪ ‬س ليني ما ش ئت من‬
‫مالي‪ ،‬ال أغني عنك من اهلل شيئاً) (‪.)131‬‬
‫يقول ابن حجر‪:‬‬

‫مجمع الزوائد ‪.1/164‬‬ ‫‪)?(127‬‬


‫سورة الشعراء اآلية‪.214 :‬‬ ‫‪)?(128‬‬
‫تفسير الرازي اآلية ‪.24/172 :‬‬ ‫‪)?(129‬‬
‫أخرج البخاري ( فتح الباري) ‪ 8/501‬ومسلم في صحيحه ‪.1/193‬‬ ‫‪)?(130‬‬
‫أخرجه البخاري ( فتح الباري ) ‪ ، 8/501‬ومسلم ‪.1/192‬‬ ‫‪)?(131‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-43-‬‬

‫( والسر في األمر بإن ذار األق ربين أن الحجة إذا ق امت عليهم تع دتهم إلى غ يرهم وإ ال ك انوا علة‬
‫لألبعدين في االمتناع) (‪.)132‬‬
‫وليبدأ بالصغير قبل الكبير ‪ :‬وذلك ألن الصغير لم يصلب عوده على فكر معين أو سلوك معين‪،‬‬
‫والتعامل معه أس هل من التعامل مع الكب ير ال ذي اخت ار طريق ه‪ ،‬وك ثرت ارتباطاته ومس ؤولياته‪،‬‬
‫وحقق مرك زاً اجتماعي اً أو مكاسب دنيوية يخشى عليه ا‪ .‬ثم إن الص غير ال ذي ُيقبل على ال دعوة‬
‫ي دخل مباش رة في الص ياغة والتك وين‪ ،‬وال يب ذل الداعية معه وقت اً ط ويالً في تخليته من الش وائب‬
‫والع ادات الجاهلي ة‪ ،‬وإ نما ينص رف إلى تحليته وتعبئته بالفض ائل والع ادات اإلس المية‪ .‬والص غار‬
‫هم الذرية ال ذين من ط بيعتهم أن يكون وا أتب اع الرسل وال دعوات‪ .‬ففي قصة موسى عليه الس الم‬
‫يق ول اهلل تع الى‪ :‬فما آمن لموسى إال ُذرية من قومه على خ وف من فرع ون ومألهم أن يفتنهم‬
‫‪ .)133(‬وال أع ني بق ولي ه ذا إهم ال الكب ار ‪،‬وإ نما أع ني أن إقب ال الص غار والناش ئة على ال دعوة‬
‫أسرع‪ .‬وإ ن صغير اليوم هو رجل الغد‪ ،‬والناشئة هم مستقبل األمة‪.‬‬
‫وليبدأ بالمتواضع قبل المتكبر‪ ،‬ألن التواضع يدل على إمكان قبول الحق‪ ،‬في حين أن التكبر يدل‬
‫على سفه الحق وغمط الناس‪ .‬ومن هنا وجدنا أتباع الرسل هم من فئة الشاكر المتواضع أو الفقير‬
‫الص ابر الض عيف‪ .‬والجهد مع ه ذا الص نف من الن اس ي ؤدي ثم اره في الغ الب‪ ،‬وال يع ني ه ذا‬
‫حرمان األصناف األخرى من الدعوة‪.‬‬
‫إن كسب المواقع الجدي دة القريبة الس هلة الممكنة يس اعد على كسب المواقع البعي دة الص عبة‪ ،‬ألن‬
‫االنتش ار الواسع يعطي ال دعوة دم اء جدي دة وحيوية وطاقة تص رف في الوص ول إلى المواقع‬
‫األبعد‪ .‬ثم إن الفكرة عندما تشيع ويكثر انصارها فإن كثيرين يراجعون موقفهم منها على ضوء‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وليب دأ ب المثقف قبل األمي‪ ،‬وذلك لل دور ال ذي يق وم به المثقف في المجتم ع‪ ،‬إلى ج انب أن المثقف‬
‫أقدر من غيره على محاكمة اآلراء واختيار األفكار‪ .‬ومن يختار الفكرة عن وعي فإنه في الغالب‬
‫يل تزم به ا‪ ،‬ثم إن المثقفين هم موض وع االختالف بين أص حاب الم ذاهب والم ادة المتن ازع عليها‬
‫بينهم‪.‬‬
‫وليبدأ بغير المنتمي قبل المنتمي‪ ،‬ألن غير المنتمي يقع في مركز وسط بين المذاهب والتجمعات‪،‬‬
‫وأما المنتمي فقد انتقل من المركز إلى الط رف اآلخ ر‪ .‬والجهد المطل وب لنقله إلى مركز الت أثر‬
‫أض عاف الجهد المطل وب لغ ير المنتمي؛ علم اً ب أن المنتمي إذا غ ير انتم اءه عن قناعة وفكر فإنه‬
‫ولكن هذا قليل‪.‬‬
‫سيتحول إلى الدعوة مع خبرة واسعة واستعدادات كبيرة‪ّ ،‬‬

‫فتح الباري ‪.8/503‬‬ ‫‪)?(132‬‬


‫سورة يونس اآلية (‪)83‬‬ ‫‪)?(133‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-44-‬‬

‫وليب دأ بزميله في العمل أو المهنة قبل غ يره؛ ألن أف راد كل مهنة بينهم تع اون تلق ائي‪ .‬ومج االت‬
‫الح ديث بينهم مهي أة‪ ،‬ونق اط االش تراك كث يرة‪ .‬ف الطبيب مع األطب اء أق در منه بين المهندس ين‪،‬‬
‫والمح امي بين المح امين أق وى منه بين المعلمين‪ .‬ولما ك ان الداعية يمت از بنظافة الس لوك ـ وه ذا‬
‫متوقع ـ وبالبعد عن روح التنافس الدنيوي فإنه مؤهل لالتصال بزمالئه والتأثير فيهم‪.‬‬
‫والمف روض أن ي راعى التخ ير وفق اً للمرحلة ال تي تمر فيها ال دعوة ‪ ،‬فقد تك ون المرحلة مرحلة‬
‫تجميع وسعة انتشار ‪ ،‬وقد تكون المرحلة مرحلة عمل محدد‪ ،‬تربوي أو اقتصادي أو اجتماعي أو‬
‫سياس ي‪ .‬وفي كل مرحلة تُ راعى مقتض ياتها ويك ون التخ ير وفق ه ذه المقتض يات‪ .‬وقد نفهم ق ول‬
‫(‪)134‬‬
‫على‬ ‫أعز اإلسالم بأحب هذين الرجلين إليك‪ ،‬بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب)‬
‫النبي ‪ ( ‬اللهم ّ‬
‫ض وء المرحلة ال تي ك انت تمر فيها ال دعوة في مكة فقد انتش رت ال دعوة بين الض عفاء والفق راء‬
‫ووص لت إلى مرحلة تريد أن تعلن فيها عن نفس ها‪ ،‬وشخص ية كشخص ية عمر تناسب المرحلة‬
‫الجدي دة ‪،‬وه ذا ما ح دث ي وم أن دخل عمر رضي اهلل عنه في دين اهلل‪ ،‬فقد دخلت ال دعوة ط وراً‬
‫جديداً هو طور العلن بعد السر‪.‬‬
‫وعندما ذهب مصعب بن عمير رضي اهلل عنه إلى المدينة جاءه " ُأسيد بن ُحضير "وكان مشركاً‬
‫فق ال " لمص عب" و " ألس عد بن زرارة" ما ج اء بكما إلين ا‪ :‬تس فهان ض عفاءنا؟ وك ان أس عد قد ق ال‬
‫لمص عب‪ :‬ه ذا س يد قومه قد ج اءك ‪ ،‬فاص دق اهلل في ه‪ ،‬ف دعاه مص عب إلى اهلل تع الى‪ ،‬وق رأ عليه‬
‫القرآن ‪ ،‬ثم قال‪ :‬ما أحسن هذا الكالم وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟‬
‫طهّ ُر وتطهر ثوبيك ‪ ،‬ثم تش هد ش هادة الحق ‪ ،‬ثم تص لي‪ .‬فق ام فاغتس ل‪ ،‬وطهر‬
‫ق اال له ‪ :‬تغتسل فَتَ َ‬
‫ثوبيه ‪ ،‬وتشهد شهادة الحق‪ ،‬ثم ركع ركعتين ‪ ،‬ثم قال لهما‪ :‬إن ورائي رجالً إن اتبعكما لم يتخلف‬
‫عنه أحد من قوم ه‪ ،‬وسأرس له إليكما اآلن ‪ ،‬س عد بن مع اذ‪ .‬ولما أقبل س عد عليهما ‪ ،‬ق ال أس عد بن‬
‫أي مص عب ج اءك واهلل س يد من وراءه من قوم ه‪ ،‬إن يتبعك ال يتخلف عنك منهم اثن ان‪.‬‬
‫ُزرارة‪ْ :‬‬
‫ولما عرض عليه مصعب اإلسالم أسلم‪ ،‬ثم انطلق إلى قومه بني عبد األشهل فقال ‪ :‬كيف تعلمون‬
‫أم ري فيكم؟ ق الوا‪ :‬س يدنا ‪ ،‬وأوص لنا‪ ،‬وأفض لنا رأي اً ‪ ،‬وأيمننا نقيبة ‪ ،‬ق ال ‪ :‬ف إن كالم رج الكم‬
‫علي ح رام ح تى تؤمن وا باهلل وبرس وله‪ ،‬ق اال ‪ :‬فواهلل ما أمسى في دار ب ني عبد األش هل‬
‫ونس ائكم ّ‬
‫رجل وال امرأة إال مسلماً ومسلمة (‪.)135‬‬
‫ونس تفيد من ه ذه الحادثة أم راً مهم اً ‪ ،‬وهو أن توجيه ال دعوة إلى بعض مراكز الق وة في المجتمع‬
‫ُيس هم في اإلس راع في عملية التغي ير‪ ،‬وقد يغ ير كث يراً في المعادلة لص الح ال دعوة ‪ .‬ونس تفيد منها‬
‫أيضاً مراعاة المرحلية في الدعوة‪.‬‬

‫أخرج الترمذي ‪.5/617‬‬ ‫‪)?(134‬‬


‫سيرة ابن هشام ‪ 437-1/435‬بتصرف‪.‬‬ ‫‪)?(135‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-45-‬‬

‫القاعدة العاشرة‬
‫الزمن عنصر فعال من عناصر الدعوة‬
‫كثيراً ما يشعر الدعاة بخيبة األمل عندما يدعون إلى اهلل‪ ،‬ويستعملون الحجج والبراهين‪ ،‬ولكن ال‬
‫يج دون اس تجابة كب يرة من قبل الم دعوين‪ .‬وه ذا الش عور بالخيبة ناشئ عن إس قاطهم لعنصر مهم‬
‫من عناصر معادلة الدعوة وهو عنصر الزمن‪.‬‬
‫أول ما يجب أن نعلمه أن الواقع ال ذي نتعامل معه واقع غ ير إس المي‪ ،‬وأنه تش كل بفعل عوامل‬
‫كث يرة‪ ،‬معظمها نشأ بفعل م ؤثرات مادية إلحادية أو فاس دة‪ ،‬وقد س يطر ه ذا الواقع على أف راد‬
‫المجتم ع‪ ،‬وأص بح الداعية يتعامل مع الف رد الق ابع تحت ه ذه التراكم ات الفكرية والس لوكية‪ ،‬ال تي‬
‫هي بمثابة الحجاب المانع من االتصال بين الداعية والمدعو‪ ،‬وبعبارة أخرى فإن الداعية في عالم‬
‫والم دعو في ع الم آخ ر‪ .‬والم دعو ص احب قيم غ ير القيم ال تي ين ادي بها الداعي ة‪ ،‬وله ذا كله ف إن‬
‫توقع االستجابة السريعة في غير محله‪ ،‬وهو مخالف لطبائع األشياء‪.‬‬
‫إن أية كلمة يقولها الداعية ال ت ذهب هب اء منث وراً ‪ ،‬وإ نما ت دخل في مكون ات الم دعو ‪ ،‬ويختزنها‬
‫الخيِّرة ‪ ،‬وقد يظهر أثر كلمة قيلت قبل س نوات بفعل موقف مح رك أدى إلى‬
‫عقله وت تراكم خبراته َ‬
‫استرجاع تلك الخبرة‪ ،‬ثم إن ما يقوله الداعية اليوم يجده داعية آخر رصيداً بعد سنين‪ .‬وكثيراً ما‬
‫يحدث أنه عندما نتحدث مع إنسان ما يقول ‪ :‬هذا شيء سمعته من فالن‪.‬‬
‫وإ ن اختي ار زمن ال دعوة أمر في غاية األهمية ‪ ،‬وهن اك أوق ات يخلو الم رء فيها مع نفس ه‪ ،‬وال‬
‫يك ون مس تعداً فيها لتقبل األفك ار‪ .‬وإ ن ال دعوة تت أثر ب الجو الع ام والظ رف ال ذي يمر فيه الداعية‬
‫والم دعو‪ ،‬وله ذا ف إن على الداعية أن يخت ار أنسب األوق ات ال تي ال إح راج فيها وال مش قة‪ .‬يق ول‬
‫ابن مسعود رضي اهلل عنه‪ ( :‬كان رسول اهلل ‪ ‬يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا) (‪.)136‬‬
‫وال ينبغي أن يطيل الداعية على الم دعو؛ ألنه قد يض جره ويمل ه‪ .‬ومعي ار ع دم اإلطالة أن ي ترك‬
‫المدعو في شوق الستكمال الموضوع‪ ،‬وأن يطلب المزيد‪.‬‬
‫إما ب الرفض وإ ما‬
‫االس تعجال على الم دعو قد ي ؤدي إلى نتيجة س يئة ؛ إذ أنه قد يفصل في المس ألة ّ‬
‫باالس تجابة واإلقب ال‪ .‬وكال األم رين قبل أوانه خط ير‪ ،‬وه ذا من قبيل س لب الق رار ‪ ،‬ال من قبيل‬
‫اختيار القرار‪.‬‬
‫ففي حالة ق رار ال رفض يك ون الم دعو قد تعجل في اتخ اذ ق راره قبل أن يس تكمل وج وه ال دعوة ‪،‬‬
‫وبذلك يكون قد اتخذ موقفاً من الدعوة ‪ ،‬وليس من السهل أن يغير موقفه؛ ألن المرء حريص على‬
‫أن ُيعرف بالمواقف الثابتة ‪ ،‬وهذه النتيجة إنما كانت بفعل الداعية الذي أراد أن يجني الثمرة قبل‬
‫أوانها‪.‬‬

‫أخرجه البخاري ( فتح الباري )‪.1/162‬‬ ‫‪)?(136‬‬


‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-46-‬‬

‫وفي حالة ق رار االس تجابة المس تعجل يجد الم دعو نفسه بعد وقت يس ير أما تك اليف وواجب ات لم‬
‫يحسب حس ابها‪ ،‬ويت بين له أنه لو انتظر قليالً لما اخت ار ه ذا الموق ف‪ ،‬وي دخل في ص راع بين‬
‫الموقف المعلن والموقف المبدأي وقد يرتكب محظورات سلوكية كالكذب والنفاق وكل هذا بسبب‬
‫االستعجال عليه‪ ،‬ولو فتحت أمامه فرصة التفكر والتدبر التخذ الموقف المبدأي األصيل‪.‬‬
‫والطريقة المثلى أن ال نستعجل إصدار القرار ‪ ،‬بل نطلب من المدعو أن يتمهل في اتخاذ المواقف‬
‫‪ ،‬وأن نصارحه بالعقبات في طريق االستجابة إلى جانب اإليجابيات المبشرة واآلمال المتوقعة‪.‬‬
‫وإ ن ادخ ال ال زمن كعنصر من عناصر ال دعوة يخفف من ح دة ال دعاة ‪ ،‬ويقف أم ام الي أس ال ذي‬
‫يعتري الدعاة أحياناً‪ ،‬ويفتح لهم باب األمل‪ ،‬ذلك عندما يفقهون دور الزمن‪ .‬وإ ن الطبيب ال يقول‬
‫للم ريض خذ العالج جرعة واح دة‪ .‬بل يق ول له خ ذه على جرع ات وفي خالل م دة معينة من‬
‫الزمن‪.‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-47-‬‬

‫القاعدة الحادية عشرة‬


‫الدعوة فن وقيادة وهي تقوم على التخطيط والمتابعة‬
‫يظن كث ير من ال دعاة أن ال دعوة تق وم على ق ول الكلمة الخ يرة في أي وقت وفي أي مك ان ‪ ،‬وأنها‬
‫تسير بطريق عشوائي يستوي فيه الدعاة على اختالف امكانياتهم ‪ .‬ومما الشك فيه أن هناك دعاة‬
‫ويؤلف ون ‪ ،‬وقد وضع اهلل لهم القب ول في‬
‫آت اهم اهلل تع الى ق درة فائقة على التبليغ ‪ ،‬وت راهم ي ألفون ُ‬
‫قل وب الخل ق‪ ،‬وهن اك دع اة ال يح الفهم التوفيق في المنطق واألس لوب‪ .‬وكال الف ريقين بحاجة إلى‬
‫ط َّور‪،‬‬
‫مبادئ الدعوة وأساليبها والتدرب عليها‪ ،‬وبذلك تكون الدعوة فن اً ُيتلقى‪ ،‬وقواعد وأساليب تُ َ‬
‫ووسائل تتأثر بالتحديث والمعاصرة‪.‬‬
‫والتخطيط الواعي هو الذي ينقل الدعوة إلى اإلطار الفني المنتج‪ .‬والتخطيط هو التصور النظري‬
‫لس ير ال دعوة وكلما اكتمل التخطيط واس توعب عناص ره أدى إلى النتيجة المتوقعة بع ون اهلل وبعد‬
‫االتكال عليه‪.‬‬
‫وكما ُع رفت أن واع الخطط االقتص ادية والسياس ية والتربوية ف إن على ال دعاة أن يتجه وا نحو‬
‫التخطيط لل دعوة‪ .‬والخطة الواعية رأس ها األه داف‪ ،‬وجس مها الوس ائل‪،‬والربط بين األه داف‬
‫والوس ائل عن طريق األس اليب‪ ،‬ومادتها اإلمكاني ات البش رية والمادية والمعنوي ة‪ ،‬وموجهها‬
‫المتابعة والتقويم‪ ،‬وثمراتها ظهور األهداف على شكل نتائج ملموسة‪.‬‬
‫أما األه داف ‪ :‬فهي الغاي ات من وراء األعم ال وت أتي عند اإلجابة على الس ؤال ال ذي يوجهه‬
‫الداعية لنفسه ‪ :‬لماذا أدعو؟ وماذا أريد؟ واإلجابة على هذا السؤال هي مبدأ كل عمل من األعمال‬
‫‪ .‬وعلى ضوء الجواب يتحدد الجهد المطلوب والزمن الكافي والوسائل واألساليب والتوقعات‪.‬‬
‫والج دير بال ذكر أن اختالف ال دعاة في اإلجابة على ه ذا الس ؤال هو ال ذي يجعلهم يختلف ون في‬
‫التجمعات واالنتماءات ‪.‬‬
‫وهناك نوعان من األهداف ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬الهدف األكبر ‪ ،‬الذي هو الثمرة الرئيسة‪.‬‬
‫الثــاني ‪ :‬األه داف المرتبطة بأزمنة مح دودة أو أمكنة معينة أو أف راد معي نين‪ .‬أو تس عى لتحقيق‬
‫الوس ائل وتوفيره ا‪ .‬وه ذه األه داف بعض ها يس لم لآلخ ر‪ ،‬وبعض ها أك بر من بعض ‪ ،‬وكلها‬
‫يستوعبها الهدف الكبيرة والغاية العظمى ‪ ،‬ويحدث أحيان اً خلط بين األهداف الصغرى واألهداف‬
‫الك برى‪ ،‬وعن دها تقل انتاجية العمل ‪ ،‬ويس تنفد ال دعاة جه دهم بعي داً عن اله دف األك بر‪ .‬فبعض‬
‫الدعاة يجيب على سؤال لماذا أدعو؟‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-48-‬‬

‫دس اها‪.)137(‬‬
‫فيقول ‪ :‬أدعو إلى تزكية النفوس لقول اهلل تعالى ‪ ‬قد أفلح من زكاها* وقد خاب من َّ‬
‫وللوص ول إلى ه ذا اله دف نجمع المري دين‪ ،‬ونطبق عليهم نظام اً يق وم على األوامر الس لوكية‬
‫واألوراد واألذكار ‪ .‬وينبغي أن ُيصرف االهتمام كله لهذا الهدف‪.‬‬
‫وداعية آخر يقول ‪ :‬الهدف إعانة الفقراء والمساكين واإلحسان إليهم لقول اهلل تعالى ‪  :‬ما س لككم‬
‫في س قر؟ ق الوا لم نك من المص لين* ولم نك نطعم المس كين‪ .)138(‬ولتحقيق ه ذا اله دف البد من‬
‫دعوة أهل الخير إلى اإلحسان وبذل الصدقة وإ يتاء الزكاة‪ .‬وإ نشاء الجمعيات الخيرية خير وسيلة‬
‫لتحقيق هذا الهدف‪.‬‬
‫وداعية ثالث يقول ‪ :‬الهدف تحرير المسائل العلمية المختلف فيها‪ ،‬وجمع األحاديث الصحيحة‪،‬‬
‫ولتحقيق هذا الهدف البد من عقد حلقات العلم وإ نشاء المدارس والمؤسسات المتخصصة وطباعة‬
‫الكتب‪.‬‬
‫وداعية رابع يقول ‪ :‬الهدف هو الوصول بالمسلمين إلى درجة عالية من الوعي السياسي الذي‬
‫يطلعهم على مخططات األعداء وما يستخدمونه من الوسائل لتنفيذ هذه المخططات‪ ،‬وتحقيق اً لهذا‬
‫اله دف فالبد من القي ام بالدراس ات المتخصصة العميق ة‪ ،‬واالطالع على ما يق ال وينشر عن‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫إلى ج انب ه ذه األه داف نجد بعض ال دعاة يرضى بأه داف أص غر من ذل ك‪ ،‬ك أن يك ون اله دف‬
‫تش ويه ص ورة جماعة ما باعتبارها حجر ع ثرة في طريق العمل اإلس المي ‪ ،‬أو ص رف االهتم ام‬
‫نحو شخص معين ُيرى أنه السبب الرئيسي في مشاكل المسلمين وقضاياهم!!‬
‫وبالرغم من أهمية بعض هذه األهداف إال أن السؤال يبقى قائم اً‪ :‬هل هناك أهداف أكبر وأشمل؟‬
‫وإ ن نظرة سريعة إلى مستويات األهداف تجعلنا نقول ‪ :‬الهدف الكلي مقدم على الهدف الجزئي‪.‬‬
‫الهدف الذي يستغرق جميع قطاعات المجتمع مقدم على الهدف الذي يتناول فرداً أو فئة‪.‬‬
‫الهدف الدائم المستمر مقدم على الهدف المؤقت المنقطع‪.‬‬
‫الهدف الممكن مقدم على الهدف غير الممكن‪.‬‬
‫الهدف األعلى مقدم على الهدف األدنى‪.‬‬
‫وهك ذا فإنه من الممكن أن يص اغ اله دف األك بر على الش كل الت الي‪ :‬اله دف الكلي األعلى الممكن‬
‫المستمر الذي يستغرق جميع قطاعات المجتمع‪.‬‬
‫عبادة اهلل أعظم األهداف ‪:‬‬

‫سورة الشمس اآليتان ‪.10-9 :‬‬ ‫‪)?(137‬‬


‫سورة المدثر اآليات‪.44-42 :‬‬ ‫‪)?(138‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-49-‬‬

‫وال يشك أحد من ال دعاة في أن أعظم األه داف وأش رفها هو ما ق رره اهلل تع الى ه دفاً لإلنس ان‬
‫وغ يره وهو ه دف العب ادة ‪ ،‬لق ول اهلل س بحانه‪  :‬وما خلقت الجن واإلنس إال ليعب دون‪ .)139(‬وقد‬
‫حمل المس لمون ه ذا اله دف‪ ،‬ومن أجله انطلق وا يع برون الص حاري والقف ار ويق ارعون الجب ابرة‪،‬‬
‫وقد عبَّر عنه ربعي بن ع امر أم ام قائد الف رس ‪ ( :‬جئنا لنخ رج العب اد من عب اده العب اد إلى عب ادة‬
‫اهلل‪ ،‬ومن جور األديان إلى عدل اإلسالم‪ ،‬ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا واآلخرة) (‪.)140‬‬
‫العبادة هدف للفرد والجماعة والدولة‪:‬‬
‫وبناء على هذا فإن هدف الجماعة المسلمة والفرد المسلم والدولة المسلمة هو تحقيق العبودية هلل‬
‫رب الع المين ‪ ،‬وأما األه داف الخاصة فهي جزئية مرحلية أو إقليمية محلية ‪ ،‬أو خاصة مح دودة‪.‬‬
‫والعمل الي ومي أو األس بوعي أو الش هري أو الس نوي له أهدافه الخاصة ‪ .‬والعمل في القرية أو‬
‫المدينة أو العش يرة أو العم ال أو الطالب أو النس اء له أهدافه الخاصة وكل مك ون من مكون ات‬
‫المجتمع إنما يتحقق وفق أهداف خاصة‪.‬‬
‫الوسائل ‪:‬‬
‫وأما الوسائل فمنها الوسائل المباشرة ومنها غير المباشرة ‪ ،‬ولكل هدف جزئي وسائله الخاصة ‪،‬‬
‫ف إذا قلنا ‪ :‬إن العب ادة تتحقق من خالل العابد الق وي في عقله وروحه وجس ده‪ ،‬ف إن وس ائل خاصة‬
‫كثيرة تتوارد من أجل هذا الهدف‪ .‬واإلمكانيات والمعلومات تتدخل في استخدام الوسائل‪ ،‬ولست‬
‫هنا بصدد تقديم خطة دعوة إنما المقصود إعطاء صورة عن عناصر الخطة ومكوناتها‪.‬‬
‫والوسائل تُستخدم بأشكال مختلفة وأساليب عدة‪ ،‬واألسلوب األفضل يعطي من الوسيلة كفاءة أكبر‬
‫‪ ،‬واختي ار األس لوب المناسب عامل كب ير في نج اح العمل ‪ .‬ومن األس اليب‪ :‬اللين والش دة ‪،‬‬
‫وال ترغيب وال ترهيب‪ ،‬والك ثرة والقل ة‪ ،‬والسر والجهر ‪ ،‬والف ردي والجم اعي ‪ ،‬والت اريخي‬
‫والوصفي‪ ،‬والعقلي والعاطفي‪ ،‬واأللم واألمل ‪ ،‬واألخذ والعطاء‪.‬‬
‫جمع المعلومات أساس الخطة‪:‬‬
‫ولما كانت الخطة تصوراً عن عمل في مكان خاص وزمان محدد ‪ ،‬وأناس محددين كان البد من‬
‫جمع المعلومات عن البيئة ‪ ،‬سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية‪ ،‬أو مناخية‪ ،‬أو طبيعية‬
‫أو فكري ة‪ ،‬والبد من معرفة مراكز الق وة والض عف‪ .‬والبد من التع رف على العوائق والح وافز‪،‬‬
‫وبذلك تكون الدعوة إلى اهلل على بصيرة‪  :‬قل هذه سبيلي أدعو إلى اهلل على بصيرة‪.)141(‬‬
‫فعال في الخطة‪:‬‬
‫الزمن عنصر َّ‬

‫سورة الذاريات اآلية ‪.56‬‬ ‫‪)?(139‬‬


‫البداية والنهاية ‪.7/39‬‬ ‫‪)?(140‬‬
‫سورة يوسف اآلية ‪.108‬‬ ‫‪)?(141‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-50-‬‬

‫فع ال في الخطة ي دل على م دى النج اح أو الفش ل‪ ،‬فما يحت اج إلى ي وم واحد ال‬
‫وال زمن عنصر ّ‬
‫ينبغي أن ُيصرف فيه شهر‪ ،‬وما يحتاج شهراً من الزمن ال ينبغي االسراع في إنجازه في يوم أو‬
‫أسبوع‪.‬‬
‫والمراجعة والتقييم بعد انتهاء مدة الخطة تساعد على معرفة الممكن من غير الممكن‪ ،‬والسهل من‬
‫الص عب‪ ،‬والمراجعة تق دم ه دفاً أو ت ؤخره‪ ،‬وتحكم على فعالية الوس ائل أو ع دم فعاليته ا‪ .‬وتكشف‬
‫عن جدوى األساليب أو عدم جدواها‪.‬‬
‫العين الساهرة ‪:‬‬
‫والمتابعة عين س اهرة وأذن ص اغية ويد مؤي دة ‪ ،‬والخطة القوية قد تفشل بال متابع ة‪ ،‬والخطة‬
‫الضعيفة قد تنجح مع المتابعة المستمرة‪.‬‬
‫ف إذا ت وافرت ه ذه العناصر فقد ُوج دت الخطة العلمية الواعي ة‪ ،‬ثم ُيو َكل أمر تنفي ذها إلى العناصر‬
‫البش رية المدربة المنظم ة‪ .‬وإلع داد المنف ذين ف إن علوم اً كث يرة أص بحت الي وم على درجة من‬
‫األهمية للداعي ة‪ .‬ف العلوم اإلداري ة‪ ،‬وعل وم االتص ال ب األفراد والجماع ات ‪ ،‬والعل وم اللغوية‬
‫والبالغية ‪،‬والعلوم النفسية والتربوية‪ ،‬هذه وغيرها تُ ُّ‬
‫عد الداعية المنفذ للخطة ‪.‬‬
‫والداعية الناجح ص احب مبادرة وبديهة حاضرة وقدرة على التصرف في أسوأ الظ روف‪ .‬وقبل‬
‫أن يفاجأ بالمواقف الصعبة فإنه يفترضها ‪،‬ويتصورها‪ ،‬ويلتمس لها الحلول ‪ ،‬وهكذا فإنه يستعين‬
‫بالموقف الوهمي الذي افترضه سابقاً لمواجهة الموقف المفاجئ‪.‬‬
‫القاعدة الثانية عشر‬
‫الدعوة صورة أكيدة من صور الجهاد‬
‫وتشترك مع القتال في الهدف والنتيجةـ‬
‫لم تعد كلمة الجهاد تعطي المدلوالت التي فهمها الصحابة والتابعون‪ ،‬والتي جاء بها القرآن الكريم‬
‫والسنة الشريفة ‪ ،‬إذا أنها تعني في عرف بعض الدعاة القتال‪ ،‬وأنه ال جهد بال قتال‪ .‬ونتيجة لهذا‬
‫الفهم فقد ظهر في العالم اإلسالمي أناس يريدون القتال ولو لم يحن وقته وتستكمل عدته‪ ،‬شعوراً‬
‫منهم بأن اإلثم يطاردهم وهم ال يقاتلون ‪.‬‬
‫وتصويباً لهذا الفهم فإن علينا الرجوع إلى لسان الشرع في كلمة الجهاد ‪ ،‬إذ أن مراجعة المعاني‬
‫الشرعية ضرورة تعصم من الزلل واالنحراف؛ قال في اللسان ‪ ( :‬الجهاد محاربة األعداء‪ ،‬وهو‬
‫المبالغة واس تفراغ ما في الوسع والطاقة من ق ول أو فعل ) (‪ .)142‬وق ال أيض اً‪( :‬والجه اد المب الغ‬
‫واس تفراغ ما في الوسع في الح رب‪ ،‬أو اللس ان‪ ،‬أو ما أط اق من ش يء) (‪ .)143‬ولبي ان ه ذا المع نى‬

‫‪ )?(142‬لسان العرب ‪.4/109‬‬


‫‪ )?(143‬لسان العرب ‪.4/110‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-51-‬‬

‫الع ام للجه اد من س نة رس ول اهلل ‪ ‬نس وق ق ول ابن قيم الجوزية ‪ ( :‬ك ان رس ول اهلل ‪ ‬في ال ذروة‬
‫العليا منه فاس تولى على أنواعه كله ا‪ ،‬فجاهد في اهلل حق جه اده ب القلب والجن ان وال دعوة والبي ان‬
‫(‪)144‬‬
‫ثم يقول ‪ :‬أمره اهلل تعالى بالجهاد من حين بعثه وقال‪:‬ولو شئنا لبعثنا في‬ ‫والسيف والسنان )‬
‫كل قرية نذيراً فال تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً ‪.)145(‬‬
‫فهذه سورة مكية ُأمر فيها بجهاد الكفار بالحجة والبيان وتبليغ القرآن ‪ ،‬وكذلك جهاد المنافقين إنما‬
‫هو بتبليغ الحجة وإ ال فهم تحت قهر أهل اإلس الم‪ ،‬ق ال تع الى‪  :‬يا أيها الن بي جاهد الكف ار‬
‫(‪)146‬‬
‫فجه اد المن افقين أص عب من جه اد‬ ‫والمن افقين واغلظ عليهم ‪ ،‬وم أواهم جهنم وبئس المص ير‪‬‬
‫الكفار وهو جهاهد خواص األمة وورثة الرسل‪ .‬والقائمون به أفراد في العالم ‪ ،‬والمشاركون فيه‬
‫ولما كان من أفضل الجهاد‬
‫والمعاونون عليه وإ ن كانوا هم األقل عدداً فهم األعظم عند اهلل قدراً‪ّ .‬‬
‫ق ول الحق مع ش دة المع ارض مثل أن تتكلم عند من تخ اف س طوته وأذاه ك ان للرسل ص لوات اهلل‬
‫عليهم من ذلك الحظ األوف ر‪ .‬وك ان لنبينا ص لوات اهلل وس المه عليه من ذلك أكمل الجه اد وأتمه ‪.‬‬
‫ولما ك ان جه اد العبد في الخ ارج فرع اً على جه اد العبد نفسه في ذات اهلل ‪ ،‬كما ق ال الن بي ‪": ‬‬
‫المجاهد من جاهد نفسه في ذات اهلل والمهاجر من هجر ما نهى اهلل عن ه"‪ .‬ك ان جهاد النفس مق دماً‬
‫على جهاد العدو في الخارج) (‪.)147‬‬
‫هدف الجهاد‪:‬‬
‫ونخلص من ه ذا إلى أن الجه اد اس تفراغ الوسع في محاربة األع داء في ال داخل والخ ارج‪ ،‬وليس‬
‫الهدف منه هو القضاء على العدو‪ ،‬وإ نما هو القضاء على أسباب العداوة والخصومة‪ ،‬فالكفر سبب‬
‫الع داوة بين الم ؤمن والك افر‪ ،‬ف إذا زال الس بب ودخل الكف ار في اإلس المخ فقد زالت الع داوة‪.‬‬
‫والنفاق سبب العداوة بين المؤمن والمنافق ‪ ،‬وإ ذا زال النفق زالت العداوة‪.‬‬
‫ومآل الحرب في اإلسالم إلى أحد أمور‪:‬‬
‫أن يخل الكافر المحارب في اإلسالم‪.‬‬
‫أن يدفع الجزية ويخل في دار اإلسالم خاضعاً لثقافتها ونظامها‪.‬‬
‫فيقضى على كفره باستئصاله وهدر دمه‪.‬‬
‫أن ُيقتل ُ‬
‫الدعوة هي الوسيلة األولى لكسب األنصار ‪:‬‬

‫‪ )?(144‬زاد المعاد ‪.2/38‬‬


‫‪ )?(145‬سورة الفرقان ‪ ،‬اآليتان ‪.52 ،51‬‬
‫‪ )?(146‬سورة التوبة ‪ ،‬اآلية ‪ 73‬وسورة التحريم ‪ ،‬اآلية ‪.9‬‬
‫‪ )?(147‬زاد المعاد ‪.2/38‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-52-‬‬

‫وه ذا ت رتيب ت وقيفي البد من مراعات ه‪ .‬ومن خالله ن رى أن ال دعوة مقدمة على غيره ا‪ ،‬وهي‬
‫الوس يلة األولى لكسب األنص ار ولتحويل الكف ار إلى مؤم نين وه دف ال دعوة باللس ان واليد واح د‪.‬‬
‫واألصل في تكوين المجتمع المسلم دعوة األفراد للدخول في اإلسالم فيلتزمون عقيدته وشريعته‪.‬‬
‫وال دعوة إلى اهلل بالحكمة والموعظة ا لحس نة تجلب كل ي وم أنص اراً لإلس المم‪ .‬وكلما أقبل ف رد‬
‫على ه ذه ال دعوة س قط مك ون من مكون ات الجاهلي ة‪ ،‬وهك ذا ف إن الجاهلية في مكة ك ان لها في كل‬
‫يوم حديث عن تحول رجل أوامرأة من ساحة الشرك إلى ساحة اإليمان‪ ،‬ومن جند الشيطان إلى‬
‫جند الرحمن‪.‬‬
‫ما فقدناه بسبب الغزو الفكري‬
‫نسترده عن طريق الدعوة‬
‫إن الغزو الفكري الذي داهم بالد المسلمين قد استحوذ على جمهرة كبيرة من أبنائها‪ ،‬وسقط هؤالء‬
‫األبن اء ص رعى في معركة فكرية ك انت في غيبة ال دعاة غ ير متكافئ ة‪ ،‬وما خس رناه عن طريق‬
‫الفكر ك ثر مما خس رناه عن طريق مع ارك المواجه ة‪ ،‬وما نس ترده عن طريق الفكر بعد ه ذه‬
‫الصحوة واليقظة أكثر مما نسترده عن طريق المواجهة ‪.‬‬
‫وفي حين أن القت ال يك ون بين مجتمعين ‪ :‬مجتمع اإليم ان ومجتمع الكفر بس بب العوائق ال تي‬
‫يض عها الك افرون في وجه ال دعوة‪ ،‬ف إن ال دعوة ب الحوار والموعظة تبقى قائمة في المجتمع نفسه‬
‫الس تقطاب األفراد من هذا المجتمع أو من المجتمع ات األخرى‪ .‬وأما انقسام المجتمع إلى فرقتين‬
‫وينتهى دور الكلمة الهادئة ال ودود‪،‬‬
‫متص ارعتين فإنه ُيلغي ال دعوة بالحكمة والموعظة الحس نة‪ُ ،‬‬
‫وعن دها ال يك ون أم ام ال دعاة من س بيل إال الف رار من المجتمع والرضا بش واهق الجب ال أو عميق‬
‫الكهوف ‪ ،‬وبذلك تتأكل الدعوة وتذوى يوماً بعد يوم‪.‬‬
‫إن الف رار من المجتمع أو العزلة عنه أس لوب ي دل على ض يق األفق ويكشف عن جهل بأولي ات‬
‫الدعوة‪ .‬ويدل أيض اً على اليأس منالمجتمع ‪،‬وعلى فشل الداعية في اإلصالح‪ ،‬وإ ن أعداء الفكرة‬
‫اإلسالمية يطمعون في إيصال الداعية إلى مثل هذه القناعات‪ ،‬وإ ن خطر هذه األفكار أعظم على‬
‫الدعوة من خطر أعدائها عليها‪.‬‬
‫موقف النبي ‪ ‬من العزلة ‪:‬‬
‫لقد كان رسول اهلل ‪ ‬وهو في شعب أبي طالب يتشوق إلى اليوم الذي تُمزق فيه صحيفة المقاطعة‬
‫ليعود هو وأصحابه إلى المجتمع المكي يقارعونه بالحجة والموعظة والكلمة‪ .‬وبذلك يكون رسول‬
‫اهلل ‪ ‬قد رفض الع زل عن المجتمع ولم يعد وج وده وأص حابه في الش عب اس تقالالً مبارك اً للحركة‬
‫اإلسالمية عن المجتمع وذلك ألن اإلسالم يقرر أن للدعوة طريقين‪.‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-53-‬‬

‫الطريق األول ‪ :‬الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة عندما يكون المسلمون مختلطين بغيرهم وهم‬
‫قلة في المجتمع‪.‬‬
‫الطريق الث اني ‪ :‬ال دعوة بكل وس ائلها بما فيها القت ال وذلك عن دما يك ون للمس لمين مجتمع كتب له‬
‫أسباب الحياة من حيث الموقع االستراتيجي والسكاني واالقتصادي‪.‬‬
‫فهم المفسرين لهذه الفكرة‪:‬‬
‫تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصالة وآتوا‬
‫قال ابن كثر في تفسير قوله تعالى ‪  :‬ألم َ‬
‫(‪)148‬‬
‫يقول ‪:‬‬ ‫الزكاة فلما ُكتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية اهلل أو أشد خشية ‪‬‬
‫( كان المؤمنون في ابتداء اإلسالم وهم بمكة مأمورين بالصالة والزكاة‪ ،‬وكانوا مأمورين بمواساة‬
‫الفقراء منهم‪ ،‬وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشكرين والصبر إلى حين‪ .‬وكانوا يتحرقون‬
‫وي ودون لو ُأم روا بالقت ال ليتش فوا من أع دائهم‪ .‬ولم يكن إذ ذاك مناس باً ألس باب كث يرة منه ا‪ :‬قلة‬
‫عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم‪ ،‬ومنها كونهم كانوا في بلدهم وهو بلد حرام) (‪.)149‬‬
‫تحليل ‪:‬‬
‫ف ابن كث ير ـ رحمه اهلل ـ يس تبعد اس تعمال الق وة عند قلة الع دد ‪ ،‬ال ذي هو مظنة ع دم الغلبة ‪ ،‬وها‬
‫والع دد على االطالق‪ ،‬وأن مائة صابرة‬
‫ُ‬ ‫مخالف للفهم الخطأ ‪ ،‬الذي خالصته أنه ال عبرة بالعدد‬
‫تغلب ألفاً‪ .‬علماً بأن القرآن الكريم جاء يفصل هذه القضية‪ .‬وفي سورة األنفال يقول اهلل تعالى‪ :‬‬
‫حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإ نيكن منكم‬
‫يأيها النبي َّ‬
‫مائة يغلب وا ألف اً من ال ذين كف روا ب أنهم ق وم ال يفقه ون* اآلن خفف اهلل عنكم وعلم أن فيكم ض عفاً‬
‫ف إن يكن منكم مائة ص ابرة يغلب وا م ائتين وإ ن يكن منكم ألف يغلب وا ألفين ب إذن اهلل واهلل مع‬
‫الصابرين‪.)150(‬‬
‫ق ال ابن كث ير ‪ :‬عن ابن عب اس رضي اهلل عنهما ‪ :‬لم انزلت ‪  :‬إن يكن منكم عش رون ص ابرون‬
‫يغلب وا م ائتين ‪‬شق ذلك على المس لمين‪ ،‬حين ف رض اهلل عيهم أال يفر واحد من عش رة‪ ،‬ثم ج اء‬
‫التخفيف فقل ‪  :‬اآلن خفف اهلل عنكم ‪‬ق ال‪ :‬خفف اهلل عنكم من الع دة‪ ،‬ونقص منالص بر بق در ما‬
‫خفف عنهم‪ . .‬روى البخ اري ( عن ابن عب اس ـ رضي اهلل عنهما ـ لما ن زلت ه ذه اآلية ثقل على‬
‫المس لمين‪ ،‬وأعظم وا أن يقاتل عش رون م ائتين ‪ ،‬ومائة ألف اً‪ ،‬فخفف اهلل عنهم فنس خها باآلية‬
‫األخرى‪ ،‬فكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم يسغلهم أن يفروا من عدوهم‪ ،‬وإ ذا كانوا دون‬
‫ذلك لم يجب عليهم قتالهم وجاز لهم أن يتجوزوا عنهم) (‪.)151‬‬

‫‪ )?(148‬سورة النساء ‪ :‬اآلية ‪.77 :‬‬


‫‪ )?(149‬تفسير ابن كثير ‪.2/329‬‬
‫‪ )?(150‬سورة اآلنفال اآليتان ‪.66-65 :‬‬
‫‪ )?(151‬تفسير ابن كثير ‪.3/344‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-54-‬‬

‫ق ال ال رازي‪ :‬ال ذي اس تقر حكم التكليف عليه بمقتضى ه ذه اآلية كل مس لم ب الغ مكلف وقف ب إزاء‬
‫مش ركين فالهزيمة محرم اً عليه ما دام معه س الح يقاتل ب ه‪ .‬ف إن لم يبق معه س الح فله أن ينه زم‪،‬‬
‫وإ ن قاتله ثالثة حلت له الهزيمة والصبر أحسن(‪.)152‬‬
‫وه ذا النمط من التربية يفتقر إليه كث ير من الن اس ال ذين يظن ون أن الته ور قربة إلى اهلل تع الى ‪،‬‬
‫ويظن ون أن رمي األل وف المؤلفة باآلح اد أس لوب مب دع من أس اليب العمل اإلس المي‪ ،‬واآليت ان‬
‫الس ابقتان تبطالن ه ذاالفهم‪ .‬علم اً ب أن أص حاب رس ول اهلل ‪ ‬هم في الذؤوابة في طب الفضل‬
‫والسبق والتماس رضا اهلل سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫وهن اك ف رق كب ير بين الرغبة في تس جيل المواقف البطولية والرغبة في تحقيق األه داف‪،‬‬
‫والوصول بالمسلمين إلى شاطئ السالمة ‪ ،‬والخروج بهم من المعاناة‪.‬‬
‫وأما ق ول ابن كث ير‪":‬ومنها ك ونهم ك انوا في بل دهم " في دل على فطنته وحكمت ه‪ ،‬فقد التفت إلى أن‬
‫المس لمين في مكة إنما يعيش ون في بل دهم‪ ،‬وعن دما يلج أون إلى الق وة ف إن آثارها ستص يب بل دهم‬
‫أوالً ‪ .‬والمس لم ُع رف باإلص الح واإلحس ان والتنمية والتزكية وص لة ال رحم رغم ما يك ون عليه‬
‫أعداؤه من قومه من القطيعة واإلساءة‪.‬‬

‫‪ )?(152‬تفسير الرازي ‪.15/196‬‬


‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-55-‬‬

‫سورة الفتح تؤكد هذا المعنى‪:‬‬


‫وقد ج اءت س ورة الفتح ت ذكر أن وج ود بعض المؤم نين ال ذين يكتم ون إيم انهم في المجتمع المكي‬
‫صرف أجلها القتال‪ ،‬فقال تعالى‪  :‬ولوال رجال مؤمنون ونساء مؤمن ات لم‬
‫كان من األسباب التي ُ‬
‫تعلم وهم أن تط ؤوهم فتص يبكم منهم مع ّرة بغ ير علم لي دخل اهلل في رحمته من يش اء* لو تزيل وا‬
‫لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً‪.)153(‬‬
‫يق ول الق رطي في تفس ير ه ذه اآلية ‪  :‬ول وال رج ال مؤمن ون‪ ‬يع ني المستض عفين من المؤم نين‬
‫بمكة وسط الكفار‪  ،‬لم تعلموهم‪ ‬أنهم مؤمنون ‪  ،‬أن تطؤوهم ‪ ‬بالقتل واإليقاع ‪ ‬فتصيبكم منهم‬
‫مع ّرة بغ ير علم ‪ ، ‬أي يق ول المش ركون‪ :‬قد قتل وا أهل دينهم ‪ ‬لو تزيل وا‪ ‬لو زال المؤمن ون من‬
‫بين أظهرالكفار لعذب الكفار بالسيف‪ ،‬ولكن اهلل يدفع بالمؤمنين عن الكافرين(‪ .)154‬وفي ذلك يقول‬
‫ابن كثير‪ ( :‬ولوال أن بين أظهرهم ممن يكتم إيمانه ويخفيه منهمخيفة على أنفسهم من ق ومهم‪ ،‬لكنا‬
‫سلطناكم عليهم ‪ ،‬فقتلتموهم‪ ،‬وأبدتم خضراءهم ‪ ،‬ولكن بين أفنائهم من المؤمنين والمؤمنات أقوام‬
‫ال تعرفونهم حالة القتال ) (‪.)155‬‬
‫نخلص من ه ذا إلى أنه ال من اص من ال دعوة بالحكمة والموعظة الحس نة في حالة اختالط‬
‫الصالحين بغيرهم والمسلمين بغيرهم‪ ،‬وأناستخدام القوة مؤاه خطر على الدعوة والدعاة لألسباب‬
‫اآلتية‪:‬‬
‫ستتعرض فئات المجتمع أللوان البطش واإلرهاب وسيذهب البريء مع غيره‪.‬‬
‫ستُ َغيَّب الدعوة بالحكمة والموعظة والكلمة ‪ ،‬ولن يعود هناك من وسيلة للتفاهم سوى القوة‪.‬‬
‫سيترك الدعاة أماكن التأثير في المجتمع إلى المغاور والكهوف واألماكن النائية‪.‬‬
‫ستنفرد األفكار المعادية بتربية المجتمع وتوجيهه‪.‬‬
‫سيواجه اإلسالم بالدعاية المضادة‪ ،‬واتهام رجالهبأنهم ال يفهمون سوى لغة القوة والبطش‪.‬‬
‫ُ‬
‫ستخسرالدعوة من رجالها من يصعب تعويضه وسد العجز الناشئ عن فقده‪.‬‬
‫س يقف ه ذا األمر مانع اً من لح اق كث ير من الن اس ب ركب ال دعوة‪ ،‬ألن الن اس يفهم ون عن دها أن‬
‫ال دعوة ليس لها ه دف عميق ص بور طم وح يعمل ـ ب إذن اهلل ـ على إيص ال المجتمع إلى قب ول‬
‫اإلس الم ‪ ،‬وإ نمايس ود التص ور القائل ب أن المس لم يريد أن يم وت في س بيل اهلل‪ ،‬وليست لديه خطة‬
‫واعية ناشطة للوقوف في وجه الفتن التي ستبقى تالحق أبناءه وأقرباءه وجيرانه‪ .‬وعندما ال يضع‬
‫المس لم في حس بانه مقارنة قوته بق وة أعدائه فإنه يح ّول العمل لإلس الم إلى ض رب من االنتح ار‪،‬‬
‫ولكنه في سبيل اهلل !!‪.‬‬

‫‪ )?(153‬سورة الفتح ‪ ،‬اآلية ‪.25‬‬


‫‪ )?(154‬تفسير القرطبي‪.6/345‬‬
‫‪ )?(155‬تفسير ابن كثير ‪.286-16/285‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-56-‬‬

‫وقفة ‪:‬‬
‫وهناك خلط كبير بين طبيعة الجماعة وطبيعة المجتمع ‪ ،‬والذين يطالبون الجماعة بما يطالبون به‬
‫المجتمع ‪ ،‬إنما يفعلون ذلك لظنهم بأن الجماعة مجتمع ‪.‬‬
‫والص واب أن الجماعة أف راد من الن اس التق وا على فكر معين ووالء معين وخهطة معينة ولهم‬
‫تنظيم وقي ادة ‪ .‬وه ؤالء األف راد متن اثرون بين فئ ات المجتمع ال يش كلون أكثرية عددية ‪ ،‬وال‬
‫يملكون القوة الفاعلة في أجهزة المجتمع ومؤسساته‪ ،‬وصورة المسلمين في مكة قبل الهجرة تمثل‬
‫حالة الجماعة‪.‬‬
‫وأما المجتمع فهو قط اع ع ريض من الن اس‪ ،‬يحكمهم نظ ام يخض عون لس لطان‪ ،‬وه ذا القط اع له‬
‫مؤسس اته وأجهزته ويس يطر على ه ذه المؤسس ات واألجه زة ويضع لها السياس ات‪ .‬ويق وم ه ذا‬
‫المجتمع على أرض ال ينازعه فيها أح د‪ ،‬وه ذا القط اع الع ريض يعمل على ص ياغة األف راد وفق‬
‫قيمه وتطلعاته‪ .‬والمجتمع في المدينة بعد الهجرة يمثل هذه الصورة‪.‬‬
‫نتيجة‪:‬‬
‫إذا اتضح ه ذا فينبغي أن نف رق بين مواجهة مجتمع لمجتمع آخر ‪ ،‬وبين مواجهة جماعة لمجتم ع‪.‬‬
‫والجماعة ال تستطيع أن تواجه المجتمع‪ ،‬وذلك ألن المجتمع نسيج كامل‪ ،‬وأجهزة فاعلة ناشطة ال‬
‫تتوقف عن العط اء والتنمية والتك اثر‪ ،‬ففي المجتمع تبقى المؤسس ات التعليمية تعم ل‪ ،‬وتبقى‬
‫المؤسس ات االقتص ادية تنتج‪ ،‬وتبقى ال دوائر التربوية ت ربي‪ ،‬في حين أن الجماعة إذا دخلت في‬
‫محنة القتال فإن دوائرها التربوية واالقتصادية والعملية وسائر وسائلها ستتوقف عن العمل‪ ،‬وفي‬
‫ستضمر وتذوى ‪،‬وإ لى جانب ذلك فإن المجتمع ال يهتز بخسارته فرداً من أفراده‪.‬‬
‫ُ‬ ‫النهاية فإنها‬
‫النبي ‪ ‬بين الجماعة والمجتمع ‪:‬‬
‫وتطبيق اً له ذا المب دأ ف إن الرس ول ‪ ‬لم يوافق بعض اأنص ار في بيعة العقبة عن دما اس تأذنوه في أن‬
‫يميلوا على أهل منى بأسيافهم‪ ،‬وذلك بعد أن فهموا أن البيعة على حرب األحمر واألسود‪.‬‬
‫ق ال في إمت اع األس ماع ‪ ( :‬وك انت ه ذه البيعة على ح رب األحمر واألس ود‪ ،‬فلم اتمت بيعتهم‬
‫استأذنوا رسول اهلل ‪ ‬أن يميلوا على أهل منى بأسيافهم‪ ،‬فقال‪ " :‬لم نؤمر بذلك " ‪ .‬فرجعوا وعادوا‬
‫إلى المدينة ) (‪.)156‬‬
‫ولو كان الهدف منالدعوة مجرد االنتقام من رؤوس الشرك ألمر رسول اهلل ـ ‪ ‬ـ أتباعه بقتلهم ‪،‬ولو‬
‫ك ان اله دف من ال دعوة أن يصل المؤمن ون إلى مرتبة الش هادة لق اموا ب ذلك في بداية أم رهم عند‬
‫البيعة وهم في ط ور الجماع ة‪ ،‬وه ذا عمل ال ينس جم مع األه داف والمص الح الكب يرة ال تي راعاها‬
‫هذا الدين‪.‬‬

‫‪ )?(156‬إمتاع األسماع ‪.37‬‬


‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-57-‬‬

‫وكذلك الحال في المدينة؛ فإن أهل المدينة لم يدخلوا في اإلسالم دفعة واحدة‪ ،‬بل بقيت طوائفالنف اق‬
‫تعيث فس اداً وتت آمر على المس لمين‪ ،‬إال أن رس ول اهلل ‪ ‬اس تعاض عن ح رب التص فية الجس دية‬
‫بحرب الدعوة والجدل واإلحسان للخصوم‪.‬‬
‫اختالل الموازين أمام ضغط الواقع ‪:‬‬
‫ال شك أن للواقع الذي يعيشه المسلمون تأثيراً كبيراً على فكرهم وممارستهم‪ ،‬وأحياناً يصل ضغط‬
‫ه ذا الواقع إلى درجة يفقد المس لم معه اه قدرته على تص ور الخط المنهجي ‪ ،‬ويتس اءل ‪ :‬إلى م تى‬
‫نبقى تحت وط أة المعان اة ؟ فيق ول ‪:‬أليس هناكش يء غ ير الص بر والمص ابرة؟ وعن دها يجيب‬
‫المتحمسون على هذا السؤال بطلب المواجهة واالنتقام ولو على حساب الدعوة‪.‬‬
‫والق رآن الك ريم يح ذرنا منه ذا التفك ير الغ ّر وي بين أن أك ثر الن اس حماس اً وته وراً واس تعجاالً هم‬
‫الذين يصابون بخور العزيمة ‪.‬‬
‫ومن هنا ف إن الش جاعة في مكة ك انت بك ِّ‬
‫ف األي دي وض بط النفس ‪ ،‬ولم يكن ه ذا جبن اً أوخوف اً ‪،‬‬
‫والش جاعة في المدينة ك انت بالقت ال وجه اد األع داء‪ .‬ومن لم يمتلك الش جاعة في مكة بكف يديه‬
‫وضبط نفسه نجده تخور نفسه وتنهار عزيمته عندما طلب منه مواجهة الكفار في ساحة المعركة‪.‬‬
‫فالتعالي على األذى والجراح مع شدة الدواعي الباعثة على االنتقام هو قمة الشجاعة‪ .‬إذ أن النفس‬
‫مجبولة على ك ره الظلم وحب االنتق ام ‪ ،‬وإ رغامها على الص بر حرص اً على مص لحة الجماعة‬
‫الناشئة يحتاج إلى مجاهدة ومصابرة‪ ،‬فقمة المجاهدة االنتصار على النفس ال االنتصار لها ‪  :‬ألم‬
‫تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصالة وآتوا الزكاة فلماكتب عليهم القتال إذا فريق منهم‬
‫يخش ون الن اس كخش ية اهلل أو أشد خش ية وق الوا ربنا لم كتبت علينا القت ال ل وال أخرتنا إلى أجل‬
‫قريب قل متاع الدنيا قليل واآلخرة خير لمن اتقى وال تُظلمون فتيال‪.)157(‬‬
‫يق ول األس تاذ س يد قطب رحمه اهلل ‪ ( :‬يعجب اهلل س بحانه من أمر ه ؤالء ال ذين ك انوا يت دافعون‬
‫حماسة إلى القت ال ويس تعجلونه وهم في مكة يتلق ون األذى واالض طهاد والفتنة من المش ركين ‪،‬‬
‫حين لم يكن مأذون اً لهم بالقت ال للحكمة ال تي يري دها اهلل ‪ ،‬فلما أن ج اء ال وقت المناسب ال ذي ق دره‬
‫اهلل‪ ،‬وتهيأت الظروف و ُكتب عليهم القتال‪ ،‬إذا فريق منهم شديد الجزع شديد الفزع)(‪.)158‬‬
‫ويق ول أيض اً ‪ ( :‬إن أشد الن اس حماسة وان دفاعاً وته وراً ‪ ،‬قد يكون ون هم أشد الن اس جزع اً‬
‫وانهي اراً وهزيمة عن دما يجد الج ّد وتقع الواقع ة‪ ،‬بل إن ه ذه قد تك ون القاع دة‍! وذلك أن االن دفاع‬
‫والته ور والحماسة الفائقة غالب اً ما تك ون منبعثة عن ع دم التق دير لحقيقة التك اليف‪ ،‬ال عن ش جاعة‬
‫واحتم ال وإ ص را‪ ،‬كما أنها قد تك ون منبعثة عن قلة االحتم ال‪ ،‬قلة احتم ال الض يق واألذى‬
‫والهزيم ة‪ ،‬فت دفعهم قلة االحتم ال إلى طلب الحركة وال دفع واالنتص ار ب أي ش كل‪ ،‬دون تق دير‬

‫‪ )?(157‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.77 :‬‬


‫‪ )?(158‬في ظالل القرآن ‪.2/712‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-58-‬‬

‫لتكاليف الحركة والدفع واالنتصار‪ ،‬حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدروا وأشق‬
‫مما تص وروا‪ ،‬فك انوا أول الصف جزع اً ونك والً وانهي اراً‪ .‬على حين يثبت أولئك ال ذين ك انوا‬
‫يمسكون أنفسهم ويحتملون الضيق واألذى بعض الوقت‪ ،‬ويعدون لألمر ُع َّدته) (‪.)159‬‬
‫واجب الموجهين والمفكرين‪:‬‬
‫قد يبلغ تي ار الحم اس من الش دة إلى درجة ينس اق الم ربي والموجه والمفكر في ه ذا التي ار‪ ،‬ويفقد‬
‫هؤالء قدرتهم على السيطرة والقيادة‪ .‬وهذه مجاراة خطرة وكما تكون مجاراة أهل المعاصي في‬
‫معصيتهم فإن مجاراة المتعجلين والتنازل عن خط الدعوة المثمر كبيرة من الكبائر ‪ ،‬بالرغم مما‬
‫قد يوصف به الموجه من العجز والض عف‪ .‬وإ ن الموجه ال ذي آت اه اهلل بص يرة ومعرفة مس ؤول‬
‫عن نتائج التعجل أكثر من المتعجلين‪.‬‬
‫الحل الصحيح‬
‫إن ضغط الواقع ينبغي أن ال يسوق إلى الحل الخطأ ‪ ،‬ومهما طال انتظار الحل الصحيح فإن هذا‬
‫هو الص واب ‪ ،‬وط ول ال زمن ال يفقد الحق أحقيته ‪ ،‬وقصر ال زمن ال ُيص فى على الخطأ ص فة‬
‫الصواب‪.‬‬
‫عود على بدء‬
‫إن الحل الص حيح هو ال دعوة مع المعان اة والص بر على ط ول الطريق والتمركز في المجتمع‬
‫والتم اس أس باب الق وة والبحث عن ه ذه األس باب في كل مجتمع ات األرض‪ ،‬وحشد الطاق ات في‬
‫أكثرها توقع اً لقب ول ال دعوة ‪ ،‬وهو جهد ال يع رف الكلل وال الملل ‪ ،‬وعندئذ تق وم القاع دة الص لبة‪،‬‬
‫التي يبدأ منها طريق الحل الشامل‪.‬‬
‫وقبل ذلك ‪:‬‬
‫وإ لى أن يصل المس لمون إلى تلك المرحلة فإنه س يدفعون الثمن غالي اً من الض حايا وال دماء‬
‫واألشالء‪ ،‬ولكن سيجدون بعون اهلل تعالى ثمرة جهادهم وجه دهم‪ .‬وبغير هذا الطريق سيدفعون‬
‫الثمن مضاعفاً مع البعد عن الهدف‪.‬‬
‫وعن دما يقبل المجتمع أن يك ون اإلس الم نظامه وش ريعته‪ ،‬وذلك من خالل مراكز الق وة فيه ف إن‬
‫المجتمع يص بح إس المياً ‪ ،‬وعندئذ تتك ون القاع دة الق ادرة على القي ام بأعب اء الح رب‪ ،‬ويك ون‬
‫المجتمع عندئذ قادراً على استغالل طاقاته ‪ ،‬عامالً على تعويض كل نقص ينشأ من جراء القتال ‪،‬‬
‫ويص بح القت ال وس يلة ممه دة لل دعوة تعمل على إزالة العقب ات المانعة من وص ول ال دعوة إلى‬
‫الناس‪.‬‬

‫‪ )?(159‬في ظالل القرآن ‪.2/712‬‬


‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-59-‬‬

‫فالهدف من الدعوة والقتال واحد‪ ،‬وهو إيصال الخير إلى الناس‪ .‬والفارق بينهما أن الدعوة تكون‬
‫مع احتمال األذى‪ ،‬والقتال يكون دعوة مع إزالة األذى‪.‬‬
‫إن أع داء اإلس الم يطمع ون في أن تخ رج الجماعة المؤمنة عن خطها فتس تعجل النصر ‪،‬وتح اول‬
‫قطف الثم رة قبل أوانه ا‪ .‬والش واهد كث يرة على عملي ات االس تدراجالتي تنتهي ب البطش والتنكيل‬
‫بالع املين لإلس الم ‪ ،‬إلى ج انب النت ائج الس لبية ال تي يتركها التعجل على الجماعة وأنص ارها‬
‫وخططها ومستقبلها‪.‬‬
‫لقد آن األوان أن يفعل المس لم ما يري ده ال ما ُي راد له وأن يتص رف وفق ما خطط له ‪ ،‬وال ينبغي‬
‫أن ُيشغل المسلم عن هدفه مؤثراً حظ النفس في العاجلة ‪ ،‬على تحقيق األهداف اآلجلة‪.‬‬
‫إن الجماعة اإلس المية لتس جيل كل ي وم نت ائج إيجابية تقربها من اله دف ‪ ،‬وإ ن الم راقب المنصف‬
‫ل يرى التح والت الجذرية في فكر كث ير من الن اس وس لوكهم ‪ ،‬ويالحظ أن األمة ب دأت تس تجيب‬
‫لنداء اإليمان ‪ ،‬وبدأت تالف ما كانت باألمس تنكره ‪ .‬وإ ن العمل الحثيث يصل باألمة إلى إحداث‬
‫تغيير كبير في جميع شؤون حياتها‪ .‬وإ ن العديد من المؤسسات آخذ في االتجاه نحو اإلسالم‪.‬‬
‫وهكذا فإن الدعوة إلى اهلل تعالى هي الوسيلة إلى تكوين مجتمع اإلسالم وقاعدته وإ ن القتال حركة‬
‫اجتماعية تنبثق عن المجتمع وترتكز على القاع دة الص لبة وعن دها م اذا س يقول المتعجل ون ؟ هل‬
‫يقولون ‪  :‬ربنا لم كتبت علينا القتال لوال أخرتنا إلى أجل قريب ‪.)160( ‬‬

‫‪ )?(160‬سورة النساء ‪ :‬اآلية ‪.77‬‬


‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-60-‬‬

‫القاعدة الثالثة عشرة‬


‫الدعوة سلعة شريفة ال تُباع باألعراض‬
‫الدنيوية ‪ ،‬واألجرة الدنيوية يفسد المروءة ‪ ،‬وال ُيصلح الدعوة‬
‫الداعية يعمل بمقتضى تكليف اهلل تعالى‪ .‬ووظيف الدعوة ليست من جنس الوظائف الدنيوية‪ ،‬فهي‬
‫أسمى وأشق‪ .‬وما من وظيفة تحتمل كل صور الهالك واالنهاك كوظيفة الدعوة‪ :‬ففيها توقع هالك‬
‫النفس والم ال‪ ،‬وفيها احتم ال البعد عن األهل والولد واألوط ان‪ .‬ووظيفة فيها مثل ه ذا الجهد ال‬
‫تعادلها الدنيا كلها‪.‬‬
‫ولقد ك ان كل ن بي من أنبي اء اهلل الك رام يؤكد ه ذا المب دأ ق ائالً ‪  :‬ال أس ألكم عليه أج راً‪ .)161(‬وقد‬
‫ُأمر رسول اهلل ‪ ‬بالتزام هذا النهج ‪ ،‬وعندما أعرض أهل مكة عن اإليمان جاءت اآلية تسألهم عن‬
‫سبب إعراضهم‪ ،‬وتقول ‪  :‬أم تسألهم أجراً فهم من مغرام مثقلون‪ .)162(‬علماً بأن طالب ال دنيا ال‬
‫يفعلون شيئاً إال بأجر دنيوي‪ .‬وإ ن قصة السحرة مع موسى ـ عليه السالم ـ تثبت هذا عندما قالوا‬
‫لفرع ون ‪  :‬أئن لنا ألج راً إن كنا نحن الغ البين‪ .)163(‬فأكد لهم فرع ون ذلك وق ال ‪  :‬نعم وإ نكم‬
‫إذاً لمن المقربين‪.)164( ‬‬
‫وبعد دخ ول اإليم ان إلى قل وبهم لم ي تركوا األجر فقط ‪ ،‬بل ق الوا له ‪  :‬ف أقض ما أنت ق ٍ‬
‫اض إنما‬
‫تقضي هذه الحياة الدنيا ‪.)165(‬‬
‫أنواع األجر الذي يتنزه عنه الداعية ‪:‬‬
‫واألجر ال ذي ينبغي أن يت نزه عنه الداعية ال يقتصر على الم ال ‪ ،‬وإ نما يش مل كل منفعة س ببها‬
‫ال دعوة ‪ ،‬وينبغي أن ال ينتظر من الن اس كلمة الش كر وال إس داء المع روف‪ .‬وكل ال ذي يري ده من‬
‫المعروف أن تصل الدعوة إلى قلوب الخلق ‪.‬‬
‫والتأكيد على عدم طلب األجر له فوائد وحكم‪:‬‬
‫األول ‪ :‬قد يظن الم دعوون أن الداعية إنما ش رع في ال دعوة كي يتوصل بال دعوة إلى ال رزق‬
‫واالكتس اب‪ ،‬ف رب ص احب دع وة يريد ص رف وج وه الن اس إليه لينتفع من دعوت ه‪ ،‬الس يما وأن‬
‫معظم ال دعاة إلى اهلل فق راء‪ ،‬وعلى رأس هم األنبي اء الك رام ـ ص لوات اهلل عليهم ـ يق ول ال رازي في‬
‫تفسير قوله تعالى ‪  :‬ويا قوم ال أسألكم عليه ماالً إن أجري إلى على اهلل ‪ .)166(‬كأه عليه الصالة‬

‫‪ )?(161‬سورة األنعام اآلية ‪.90 :‬‬


‫‪ )?(162‬سورة الطور اآلية ‪.40 :‬‬
‫‪ )?(163‬سورة الشعراءاآلية ‪. 41 :‬‬
‫‪ )?(164‬سورة الشعراء ‪ ،‬اآلية ‪.42 :‬‬
‫‪ )?(165‬سورة طه اآلية ‪.72 :‬‬
‫‪ )?(166‬سورةهود اآلية ‪.29 :‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-61-‬‬

‫والسالم قال لهم ‪ :‬إنكم لما نظرتم إلى ظواهر األمور وجدتموني فقيراً ‪ ،‬وظننتم أنني إنما اشتغلت‬
‫به ذه ال دعوة ألتوسل بها إلى أخذ أم والكم ‪ ،‬وه ذا الظن منكم خط أ‪ ،‬ف إني ال أس ألكم على تبليغ‬
‫الرسالة أجراً(‪.)167‬‬
‫الثانية ‪ :‬تع ودت الش عوب أن تتعامل مع المش عوذين وال دجالين من الكهنة ال ذين يتوص لون بال دين‬
‫إلى ال دنيا ومل ذاتها ‪ ،‬فج اء التأكيد على أن ه ذه ال دعوة نقية أص يلة ال يبتغي أهلها عرض اً من‬
‫أعراض الدنيا يتوصلون إليه بسببها‪.‬‬
‫الثالثة ‪ :‬كل عمل م أجور قد يعتريه النقص والخل ل؛ وص احبه يس يربه حسب مق دار األج ر‪ .‬ودين‬
‫اهلل أكرم من أن ُيربط بمتاع الدنيا وتقلبه‪ .‬ومن هنا فالعمل للدعوة مرتبط باإلخالص‪.‬‬
‫الرابعة ‪ :‬والعمل الم أجور يت أثر بمن ي دفع األج ر‪ ،‬وإ رادته تت دخل في العم ل‪ .‬وقد ع رفت‬
‫ال دعوات نمط اً من الن اس غ يروا وب دلوا تحت ض غط األجر ال دنيوي ‪ .‬وأما األنبي اء الك رام‬
‫والصالحون منالدعاة إلى اهلل فقد ثبتوا على معالم دعوتهم قاطعين طمع كل طامع في أن يغيروا‬
‫ما جاءوا به أو يبدلوه‪.‬‬
‫الخامسة ‪ :‬وإ ذا ع رف الن اس أن الداعية ال يلتمس منفعة دنيوية ف إنهم يت بينون ص دق الداعية في‬
‫دعوته ‪ ،‬وينج ذبون إلى ال دعوة‪ .‬ومن هنا فقد ك انت دع وة رس ول اهلل ‪ ‬أك ثر ال دعواتتأثيراً ‪،‬‬
‫وأعمقها أثراً في نفوس األتباع‪ .‬قال الحسن البصري ‪ :‬ال تزال كريم اً على الناس ما لم تعاط ما‬
‫في أيديهم ‪ ،‬فإذا فعلت ذلك استخفوا بك وكرهوا حديثك وأبغضوك(‪.)168‬‬
‫ومن ل وازم غ نى الداعية عن الن اس أن يك ون ذا كسب من تج ارة أو زراعة أو عمل أو وحرف ة‪.‬‬
‫ك ان أي وب الس ختياني يق ول ألص حابه ‪ :‬الزم وا الس وق ف إن العاقبة في الغ نى(‪ .)169‬وقد ُع رف‬
‫أص حاب رس ول اهلل ‪ ‬والس لف الص الح بغن اهم عن الن اس‪ ،‬وذلك لما ك انوا عليه من الكس ب‪ ،‬وما‬
‫اتص فوا به من القناع ة‪ .‬ولكن ينبغي أن ال يق ود الكسب ـ كحاجة ـ إلى الح رص‪ ،‬وال إلى تض ييع‬
‫العمر في جمع المال‪.‬‬
‫فيع برون عن محبتهم له بالهب ات والص الت والخ دمات‬ ‫وقد يجد الداعية قب والً عند الن اس ُ‬
‫وال دعوات‪ ،‬وقب ول الداعية لمثل ه ذه األم ور يحط من دعوته في أنظارالن اس ‪ ،‬فيه ون عليهم ‪،‬‬
‫ويصبحالداعية مرذول الطريقة مذموم السيرة‪ .‬والصادقون من الدعاة يعطون وال يأخذون‪ ،‬وهم‬
‫أصحاب األيدي العالية والنفوس الكبيرة‪ ،‬ويدخل هذا تحت المروءة التي هي عنصر من عناصر‬
‫ومك ون من ُمكون ات الثق ة‪ .‬يق ول الم اوردي ‪ :‬والم روءة هي حلية النف وس‬
‫الشخص ية المس لمة ن ُ‬

‫‪ )?(167‬تفسير الرازي ‪.17/215‬‬


‫‪ )?(168‬حلية األولياء ‪.3/20‬‬
‫‪ )?(169‬حلية األولياء ‪.3/10‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-62-‬‬

‫وزينة الهمم(‪ .)170‬وال تك ون الم روءة إال في العفة والنزاهة والص يانة‪ .‬والعفة البعد عن المح ارم‬
‫والم آثم‪ .‬والنزاهة البعد عن المط امع الذاتي ة‪ ،‬والمواقف المريب ة‪ .‬وأما الص يانة فتك ون بص يانة‬
‫النفس عن تحمل المنن واالسترسال في االستعانة بالخلق(‪.)171‬‬
‫يقول الماوردي‪ :‬والمحتاج إلىالناس َك ُّل ُمهتضم وذليل ُمستثقل(‪.)172‬‬
‫ومما يجب أن يلتفت إليه أن الوظ ائف ال تي ُيحبس عليها ص احبها ك التعليم واإلمامة والخطابة إنما‬
‫يأخذ األجر لكونه مشغوالً بها عن االحتراف واالكتساب وهذا جائز شرعاً ‪ ،‬ويدخلفي ذلك أيض اً‬
‫مسئولية اإلمامة العامة ووالية القضاء وكل ما كان من جنس هذه االعمال وكان محبوساً عليها ‪.‬‬

‫‪ )?(170‬أدب الدنيا والدين ‪.306‬‬


‫‪ )?(171‬أدب الدنيا والدين بتصرف ‪.306/316‬‬
‫‪ )?(172‬أدب الدنيا والدين ‪.316‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-63-‬‬

‫القاعدة الرابعة عشر‬


‫المدعو عامل أساس في كسبه‬
‫ّ‬ ‫التعرف على‬
‫ويتوصل‬
‫ليست ال دعوة كما يظن بعد ال دعاة أنها كلمة تق ال من أجل إبالغ الع ذر وإ قامة الحج ة؛ ُ‬
‫إليها بأن ُيقال كل شيء في كل مكان وفي أي زمان وألي إنسان‪ ،‬مهما كان ظرفه ‪ ،‬وال فرق في‬
‫ذلك بين محزون ومسرور ومريض ومشغول وغيره‪ .‬وكأن الغاية هي إلقاء العبء وزرع البذر‬
‫كيفهما اتفق ‪ ،‬والتوفيق بيد اهلل تعالى‪ .‬وبالرغم من كون هذا األمر دعوة ؛ إال أنها دعوة على غير‬
‫بصيرة ‪ ،‬والداعية مطاب بالبصيرة مع الدعوة ‪ ،‬لقول اهلل تعالى ‪  :‬قل هذه سبيلي أدعو إلى اهلل‬
‫على بصيرة أنا ومن اتبعني ‪ .)173( ‬ويقول اإلمام الرازي في تفسيره ‪ :‬وهذا يدل على أن الدعاة‬
‫إلى اهلل تع الى إنما يحسن ويج وز مع ه ذا الش رط‪ ،‬وهو أن يك ون على بص يرة مما يق ول‪ ،‬وعلى‬
‫هدي ويقين(‪.)174‬‬
‫وهذه البصيرة تظهر على شكل أنواع من السلوك‪ ،‬وألوان من التصرف والتعامل ‪ ،‬وطرائق من‬
‫االختي ار‪ ،‬تتق رر بعد معرفة الم دعوين وإ دراك أح والهم االجتماعية واالقتص ادية والفكرية‬
‫والنفس ية‪ ،‬ومما ال شك فيه أن التعامل مع المجه ول ش اق وص عب ‪ ،‬في حين أن التعامل مع‬
‫المعروف يوفر الكثير من الجهد‪.‬‬
‫وأول ما ينبغي معرفته أس ماء الم دعوين وكن اهم وألق ابهم‪ ،‬وأن يخ اطبهم الداعية ب أحب األس ماء‬
‫إليهم‪ ،‬وأن يتجنب ما يس وؤهم من األلق اب والك نى‪ .‬والداعية الن اجح يعمل جه ده على أن ي ذكر‬
‫أسماء المدعوين‪ ،‬وإ ذا لم يرزق الذاكرة الحافظة فإن عليه أن يستحفظ األسماء‪ ،‬وقد يجد المدعو‬
‫في نفسه إذا تك رر نس يان الداعية الس مه‪ ،‬في حين أن الم دعو يفاجأ إذا خاطبه الداعية باس مه‬
‫ويشعر باالهتمام والتقدير‪.‬‬
‫وإ ن معرفة ما يحبه المدعو وما يكرهه تجعل الداعية فقيه اً بلغة المدعو الخاصة‪ ،‬فهذا رسول اهلل‬
‫‪ ‬ما أن يعلم حب أبي س فيان للفخر ح تى يق ول ‪" :‬من دخل دار أبي س فيان فهو آمن"(‪ .)175‬وإ ذا‬
‫بزعيم مكة الذي خرج للدفاع عن قاعدة الشرك يرجع ليحولها قاعدة لإلسالم‪ .‬وفي صلح الحديبية‬
‫الحلَْيس بن علقمة ‪ ،‬سيد األحابيش ‪ ،‬الذي أرسلته قريش‬
‫يأمر النبي ‪ ‬بأن ُيعرض الهدي في وجه ُ‬
‫الحلَْيس بن علقمة ‪ ،‬وك ان يومئذ س يد‬
‫إلى رس ول اهلل ـ ‪ ‬ـ يق ول ابن هش ام ‪ ( :‬ثم بعث وا إليه ُ‬
‫األح ابيش ‪ ،‬فلما رآه الن بي ‪ ‬ق ال ‪ " :‬إن ه ذا من ق وم يت ألهون ـ أي يتعب دون ـ ف أبعثوا اله دي في‬
‫وجهه حتى يراه " فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قالئ ده‪ ،‬وقد أكل أوب اره من‬
‫طول الحبس عن محله رجع إلى قريش ولم يصل إلى الرس ول اهلل ‪ ‬إعظام اً لما رأى ‪ ،‬فق ال لهم‬

‫‪ )?(173‬سورة يوسف اآلية ‪.108 :‬‬


‫‪ )?(174‬تفسير الرازي ‪.18/225‬‬
‫‪)?(175‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-64-‬‬

‫ذلك ‪ ،‬فقالوا له ‪ :‬اجلس فإنما أنت أعرابي ال علم لك‪ ،‬فغضب عند ذلك ‪ ،‬وقال ‪ :‬يا معشر قريش ‪،‬‬
‫والهل ما على ه ذا حالفن اكم ‪ ،‬وال على ه ذا عاق دناكم ‪ُ ،‬أيص ُّد عن بيت اهلل من ج اء معظم اً له )‬
‫(‪.)176‬‬
‫وهات ان الحادثت ان وغيرهما كث ير في س يرة الن بي ‪ ‬ش واهد على البص يرة ال تي ج اء ه ذا ال دين‬
‫يؤكدها في كل جزئياته‪ ،‬ويستطيع الداعية إذا أوتي مثل هذه البصيرة أن يكسب قلوب الناس‪ ،‬وأن‬
‫يستفيد من طاقاتهم وجهودهم‪.‬‬
‫والداعية الناجح يتعرف على أحوال الناس وأوضاعهم‪ ،‬وال تغيب عنه كثير من أمورهم الفكرية‬
‫واالجتماعية والنفس ية ‪ ،‬ويع رف م تى يك ون الم دعو مش غوالً وم تى يك ون خالي اً ‪ ،‬وه ذه المعرفة‬
‫ت أتي من خالل المعايشة والنش اط االجتم اعي ‪ ،‬فالداعية ال يض يع أية فرصة يمكنه من خاللها‬
‫التعرف على المدعوين‪ ،‬ويجب أن تتم هذه المعرفة بطريقة ال تثير انتباههم‪.‬‬
‫ومن ج وانب المعرفة الض رورية والمفي دة معرفة أوض اع الم دعو االقتص ادية‪ ،‬ف إن ك ان فق يراً‬
‫مع وزاً ك انت مس اعدته من أهم القض ايا ال تي تهم الداعية ‪ ،‬وإ ن ك ان مريض اً ك انت مواس اته‬
‫وإ رشاده إلى الطبيب المسلم من وظائف الداعية‪.‬‬
‫وإ ن ك ان في ن زاع مع أقربائه أو جيرانه أو زوجته ك ان االص الح وجمع الش مل من اهتمام ات‬
‫الداعي ة‪ .‬وإ ن ك ان قد ُهضم حقه في وظيفة أو عمل ك ان انص افه ونص ره من طموح ات الداعي ة‪.‬‬
‫وإ ن ك ان مسترش داً أو طالب اً لنص يحة في دين أو دنيا ك ان الداعية حاض راً لكل إرش اد ونص يحة‬
‫ممكنة ‪ ،‬وإ ذا عجز عن ذلك فلن يحرم الداعية من نصير من إخوانه يسد العجز ‪ ،‬ويفرج الكربة‪.‬‬
‫وحض ور الداعية في المناس بات من األف راح واألت راح واألعي اد يفتح له مي ادين ال دعوة‪ ،‬ويق دم له‬
‫فرص اً طبيعية لالتصال بالناس وكسب ُو ِّدهم‪ .‬وكم من سؤال عن الولد المريض جعل الوالد يفتح‬
‫قلبه ويلقي بس معه ويمد ي ده‪ .‬وكم من همسة تهنئة بولد ُرزقه أو ف وز حققه ك انت س بباً في تحويل‬
‫اتجاه وتغيير قرار‪ .‬وال يعدم الداعية البصير من وسائل كثيرة تساعده على كسب القلوب وتكثير‬
‫األنصار‪.‬‬

‫‪)?(176‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-65-‬‬

‫القاعدة الخامسة عشر‬


‫المعاصرة ومعرفة البيئة العامة‬
‫من أسباب نجاح الدعوة‬
‫كلما تق دم ال زمن ‪ ،‬واتس عت الحي اة وتعق دت‪ ،‬ك ان الداعية أح وج إلى مزيد من المع ارف‪ .‬ويصبح‬
‫من الض روري أن يتع رف الداعية على البيئة العام ة‪ :‬االجتماعية واالقتص ادية والس كانية‬
‫والسياس ية‪ .‬والداعية األوسع اطالع اً هو األق وى أث راً في الغ الب ولما ك ان الداعية يق وم ب دور‬
‫قيادي في المجتمع فإن أفراد هذا المجتمع يتوقعون أن يجدوا عند الداعية ثقافة واسعة‪ ،‬ومعارف‬
‫متنوعة المستوى المحلي والعالمي ‪.‬‬
‫ومعرفة البيئة العامة تساعدالداعية على االستفادة من فرص البيئة‪ ،‬وتساعده كذلك على االستفادة‬
‫من البيئة المحلية والعالمية؛ فها هو رسول اهلل ‪ ‬ينظر في الدول المعاصرة فيجد األمن والطمأنينة‬
‫عند النجاشي في الحبش ة‪ ،‬وإ ن ك ان ذلك ب وحي من اهلل تع الى‪ ،‬ف إن على الداعية أن يب ذل جه ده‬
‫لمعرفة معطيات الزمان والمكان والسكان‪ .‬ومما ال شك فيه أن كل بيئة لها مميزاتها ومتطلباتها‪.‬‬
‫فالبيئة الصحراوية غير البيئة القروية‪ ،‬والبيئة القروية غير البيئة الحضرية‪ ،‬والبيئة التجارية غير‬
‫الصناعية والزراعية‪.‬‬
‫والداعية الي وم يعيش في ع الم إس المي م ترامي األط راف‪ ،‬وال يخلو قطر من أقط اره من مش كلة‬
‫مزمن ة‪ ،‬وفي نفس ال وقت فإنه ال يخلو قطر من أس باب الق وة والمنعة لإلس الم والمس لمين‪ .‬ثم إن‬
‫العمل اإلس المي في ه ذه األرج اء المتباع دة أخذ يتجه إلى الوح دة والتع اون‪ ،‬ومن أجل ذلك فالبد‬
‫من المعرفة الواسعة بهذا العالم‪.‬‬
‫والداعية يعيش في عالم مقسم بين مراكز النفوذ الدولي إلى مناطق امتياز‪ ،‬ويؤثر هذا األمر على‬
‫العالم اإلسالمي وعلى الدعوة اإلسالمية سلباً وإ يجاباً‪ ،‬ولذلك فالبد من معرفة كيف يدور الصراع‬
‫وكيف يقسم النفوذ بين الدول‪.‬‬
‫والداعية يعيش في ع الم تتص ارع فيه األفك ار والتي ارات والفلس فات‪ ،‬واألفك ار فيه س ريعة التقلب‬
‫والتغ ير‪ .‬والع الم اإلس المي يتلقى عن الغ رب والش رق بال اح تراس‪ ،‬وفي نهاية المط اف يجد‬
‫الداعية نفسه أمام هذه األفكار‪ .‬وما كان يمكن تجاهله في عصر صعوبة الحركة واالنتقال‪ ،‬أصبح‬
‫ال يمكن تجاهله في عصر المحطات الفضائية واألقمار الصناعية‪.‬‬
‫والداعية يعيش في عصر المخترعات العلمية المتطورة‪ ،‬ومنها ما يفيده في دعوته ومنها ما يعوق‬
‫دعوته‪ .‬والداعية الناجح يكتسب من مخترعات عصره ما ينفعه ‪ ،‬ويتقي ما يضره‪.‬‬
‫وال يقف الداعية مكتوف اليدين أمام الطبيعة‪ ،‬بل يعتبرها مسخرة من اهلل لخدمته ولنصرة دعوته‪،‬‬
‫وه ذه النص رة ال ت أتي إال بعد معرفة ه ذه الطبيعة عن كثب‪ ،‬من حيث بحارها وأنهارها وجبالها‬
‫وحرها وبردها‪.‬‬
‫وترابها وماؤها ّ‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-66-‬‬

‫والداعية يعيش وسط كتلة بش رية ذات م ذاهب ش تى‪ ،‬منها البعيد ومنها الق ريب‪ ،‬ومنها المع ادي‬
‫ومنها المس الم ‪ ،‬ل ذا ك ان البد من معرفة ه ذه الف رق معرفة علمية موض وعية‪ ،‬توقف الداعية على‬
‫حجم كل مذهب وتأثيره‪ ،‬وتوقفه على تاريخ نشوئه وأهافه ووسائله‪.‬‬
‫األمر الذي يوصل الداعية إلى بر األمان والسالمة والنجاح له ولدعوته‪.‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-67-‬‬

‫القاعدة السادسة عشر‬


‫في الفرق والفتن والعزلة والجماعة‬
‫إن من أعظم العقبات في طريق الدعوة والدعاة أن تختلط اإلفهام وتغيب الحقائق أمام النصوص‬
‫المتعارضة والت أويالت المختلفة والمف اهيم المتناقض ة‪ ،‬فيتيه المس لم بين الفرقة الهالكة والناجي ة‪،‬‬
‫والخلط ة‪ ،‬وبين الفتنة ال تي يف رد منها والفتنة ال تي يبادرها ب الهجوم والمقاوم ةن وبين‬
‫وبين العزلة ُ‬
‫العمل الفردي والعمل الجماعي‪ ،‬ويترتب على كل فهم من هذه المفاهيم أعمال ومناهج‪ .‬ولتخليص‬
‫هذه المفاهيم من التعارض واالختالط كانت هذه القاعدة وأدعو القارئ الكريم إلى تأملها ‪.‬‬
‫إن الناظر في تاريخ هذه األمة يجدها قد مرت في حالين عظيمين ‪:‬‬
‫حال االنتصار والتمكين‪:‬‬
‫حيث وقفت ه ذه األمة في مواجهة أع دائها مجتمعين ومتف رقين‪ ،‬وك انت تخ رج من كل معركة‬
‫منتصرة ظافرة‪ ،‬وعدوها مدحور مقهور‪.‬‬
‫حال الهزيمة واالنهيار‪:‬‬
‫وك ان ه ذا الح ال ي وم انه ارت حص وننا من ال داخل‪ ،‬وتغلَّب على األمة نفر من أبنائها مق وا كيانها‬
‫الداخلي ونظامها الخارجي ‪.‬‬
‫وقد أخبرنا الن بي ‪ ‬عن ه ذا الخطر ال داهم‪ ،‬وجعله الس بب األعظم ال ذي يق ِّوض وح دة األمة‬
‫وكيانه ا‪ ،‬فعن ثوب ان ـ ري اهلل عنه ـ ق ال‪ :‬ق ال رس ول اهلل ‪ " ‬إن اهلل زوى لي األرض ف رأيت‬
‫مشارقها ومغاربها‪ ،‬وإ ن أمتي سيبلغ ملكها ما ُزوي لي منها‪ ،‬وأعطيت الكنزين األحمر واألبيض‪،‬‬
‫وإ ن س ألت ربي ألم تي أن ال يهلكها بِ َس َن ٍة عام ة‪ ،‬وأن ال ُيس لط عليهم ع دواً من س وى أنفس هم‬
‫اء فإنه ال ي رد‪ ،‬وإ ني أعطيتك‬
‫فيس تبيح بيض تهم‪ ،‬وإ ن ربي ق ال‪ :‬يا محمد ‪ ،‬إني إذا قض يت قض ً‬
‫ألمتك أن ال أهلكهم بِ َسَن ٍة عامة‪ ،‬وأن ال أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم‪ ،‬يستبيح بيضتهم ‪ ،‬ولو‬
‫اجتمع عليهم من بأقطارهاـ أو ق ال من بين أقطارهاـ ح تى يك ون بعض هم ُيهلك بعض اً‪ ،‬ويس بي‬
‫بعضهم بعضاً " (‪ .)177‬وفي رواية ابن حبان‪ " :‬وسألته أن ال يلبسنا شيعاً فمنعنيها"(‪.)178‬‬
‫وعند ابن ماجة رواية أتم‪ " :‬وإ ني سألت اهلل عز وجل ثالثاً‪ :‬أن ال يسلط على أمتي جوع اً فيهلكهم‬
‫قضاء فال مرد‬
‫ً‬ ‫قضيت‬
‫ُ‬ ‫به عامة‪ ،‬وأن ال يلبسهم شيعاً ويذيق بعضهم بأس بعض‪ ،‬وإ نه قيل لي ‪ :‬إذا‬
‫ل ه‪ ،‬وإ ني لن أس لط على أمتك جوع اً فيهلكهم في ه‪ ،‬ولن أجمع عليهم من بين أقطارها ح تى ُيف ني‬
‫بعضهم بعض اً ويقتل بعضهم بعض اً‪ .‬وإ ذا وضع السيف في أمتي فلن يرفع عنهم إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫وإ ن مما أتخوف على أمتي أئمة مضلين‪ .‬وستعبد قبائل من أمتي األوائل‪ .‬وستلحق قبائل من أمتي‬

‫‪ )?(177‬صحيح مسلم (‪)4/2215‬‬


‫‪ )?(178‬موارد الطمآن إلى زوائد ابن حبان للهيثمي ( ص ‪.)453‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-68-‬‬

‫بالمشركين‪ ،‬وإ ن بين يدي الساعة دجالين كذابين قريب اً من ثالثين كلهم يزعم أنه نبي‪ ،‬ولن تزال‬
‫طائفة من أمتي على الحق منصورين ال يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر اهلل عز وجل"(‪.)179‬‬
‫وك انت الفرقة ال تي فصل الن بي ص لى اهلل عليه وس لم أخبارها أعظم ما ابتليت به األمة والملة‬
‫فأصبحت األمة أمماً والملة ملالً‪.‬‬
‫ولقد كشفت السنة جوانب كثيرة من مستقبل األمة من باب اإلخبار والتحذير وبيان الداء والدواء ‪،‬‬
‫وهذا فتح من الغيب أكرم اهلل تعالى به نبيه ‪ ‬زيادة في األعذار لألمة واإلشفاق عليها‪ .‬ولما كانت‬
‫ه ذه األخب ار جملة غ ير مفرقة على األح داث والعص ور فقد رأيت في ض وء النسق الت اريخي‬
‫والواقع البشري أن أحاول نظمها من جهة ‪ ،‬وفهم مصطلحاتها من جهة أخرى‪.‬‬
‫وسأتناول أحاديث الفرق واألهواء مبيناً معاني الفتنة والعزلة والجماعة‪:‬‬
‫وإ ن أجمع حديث في هذا الباب ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي اهلل‬
‫عنه ق ال ‪ :‬ك ان الن اس يس ألون رس ول اهلل ص لى عن الخ ير ‪ ،‬وكنت أس أله عن الشر مخافة أن‬
‫ُي دركني‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رس ول اهلل‪ ،‬إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا اهلل به ذا الخ ير‪ ،‬فهل بعد ه ذا الخ ير‬
‫دخن‪ .‬قلت‪:‬وما دخنه قال ‪ :‬قوم‬
‫من شر؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قلت ‪ :‬وهل بعد ذلك من خير؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬وفيه َ‬
‫يهدن بغير هديي‪ ،‬تعرف منهم وتنكر‪ ،‬قلت ‪ :‬فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال ‪ :‬نعم‪ ،‬دعاة على‬
‫أب واب جهنم من أج ابهم إليها ق ذفوه فيه ا‪ .‬قلت ‪ :‬يا رس ول اهلل ‪ ،‬ص فهم لن ا‪ ،‬ق ال ‪ :‬هم من جل دتنا‪،‬‬
‫ويتكلمون بألسنتنا‪ ،‬قلت‪ :‬فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال‪ :‬تلزم جماعة المسلمين وإ مامهم‪ .‬قلت‬
‫‪ :‬ف إن لم يكن لهم جماعة وال إم ام؟ ق ال ‪ :‬ف اعتزل تلك الف رق كله ا‪ ،‬ولو أن تعض بأصل ش جرة‬
‫حتى يدركك الموت وأنت على ذلك(‪.)180‬‬
‫وروي ه ذا المع نى مفص الً في ح ديث آخر ‪ ،‬فعن أبي ع امر عبد اهلل بن لُحي ق ال‪ :‬حججنا مع‬
‫معاوية بن أبي سفيان فلما قدمنا مكة قام حين صلى صالة الظهر‪ ،‬فقال ‪ :‬إن رسول اهلل ‪ ‬قال‪ :‬إن‬
‫أهل الكتاب افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة ـ يعني في األهواء ـ كلها في النار إال واحدة‪،‬‬
‫ب‬
‫وهي الجماعة ‪ .‬وإ نه س يخرج في أم تي أق وام تج ارى بهم تلك األه واء كما يتج ارى ال َكلَ ُ‬
‫بصاحبه‪ ،‬ال يبقى منه عرق وال مفصل إال دخله ‪ ،‬واهلل يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به‬
‫نبيكم لغيركم من الناس أحرى أن ال يقوم به(‪.)181‬‬

‫‪ )?(179‬سنن ابن ماجة (‪.)2/1304‬‬


‫‪ )?(180‬صحيح البخاري ‪ ،‬متن فتح الباري (‪.)13/35‬‬
‫‪ )?(181‬مسند اإلمام أحمد (‪)4/102‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-69-‬‬

‫وروي في مع نى ه ذا الح ديث من طريق أبي هري رة رضي اهلل عنه ق ال ‪ " :‬اف ترقت اليه ود على‬
‫ُ‬
‫إح دى أو اثن تين وس بعين فرق ة‪ ،‬وتف رقت النص ارى على إح دى أو اثن تين وس بعين فرق ة‪ ،‬وتف ترق‬
‫أمتي على ثالث وسبعين فرقة" رواه أبو داود(‪ ،)182‬وأخرجه الترمذي وقال ‪ :‬حسن صحيح(‪.)183‬‬
‫ويس تفاد من ه ذه األح اديث وما يؤي دها من األح اديث‪ :‬التح ذير من وق وع األمة في حبائل الفرقة‬
‫والش تات‪ ،‬والس يما إذا ك انت الفرقة ناش ئة عن اختالف العقائد واألص ول‪ ،‬فه ذا الن وع من الفرقة‬
‫بص لة‪ .‬وال يدخل في الفرقة‬‫ينشئ ِملَالً وأديان اً‪ ،‬ويخرج من األمة الواحدة أمم اً ال تمت إلى سلفها ِ‬
‫ذلك االختالف في الف روع وتع دد االجته ادات‪ .‬وال ت دخل في ذلك م ذاهب الفقه ما دام أص حابها‬
‫يتحرون الدليل ويتفقون على األصول‪.‬‬
‫وال يق ال وال ينبغي أن ُيق ال‪ ،‬إن أص حاب الم ذاهب األربعة ‪ ،‬أو غ يرهم‪ ،‬على الحق ومن ع داهم‬
‫على الباطل ‪ ،‬وإ نهم ناجون وغيرهم هال ك‪ .‬والضابط في هذا ما ذكره البغدادي في كتاب الفرق‬
‫بين الفرق ‪ ( :‬إن أمة اإلسالم تجمع المقرين بحدوث الع الم‪ ،‬وتوحيد ص انعه‪ ،‬وص فاته‪ ،‬وعدل ه‪،‬‬
‫وحكمت ه‪ ،‬ونفي التش بيه عن ه‪ ،‬وبنب وة محمد ‪ ‬ورس الته إلى الكافة ‪ ،‬وبتأييد ش ريعته‪ ،‬وب أن كل ما‬
‫ج اء به ح ق‪ ،‬وب أن الق رآن منبع أحك ام الش ريعة ‪ ،‬وأن الكعبة هي القبلة ال تي تجب الص الة إليه ا‪،‬‬
‫فكل من اقر بذلك ولم َي ُش ْبهُ ببدعة تؤدي إلى الكفر فهو السني الموحد) (‪.)184‬‬
‫ق ال اإلم ام ابن تيمي ة‪ :‬فأما من ك ان في قلبه اإليم ان بالرس ول‪ ‬ما ج اء ب ه‪ .‬وقد غلط في بعض ما‬
‫تأويله من الب دع فه ذا ليس بك افر أص الً‪ ،‬والخ وارج ك انوا من أظهر الن اس بدعة وقت االً لألمة‬
‫وتكف يراً له ا‪ ،‬ولم يكن في الص حابة من يكف رهم ال علي بن أبي ط الب وال غ يره‪ ،‬بل حكم وا فيهم‬
‫بحكمهم في المسلمين الظالمين‪ .‬ثم قال ‪ :‬ومن قال‪ :‬إن الثنتين والس بعين فرقة كل واحد منهم يكفر‬
‫كفراً ينقل عن الملة فقد خالف الكتاب والسنة وإ جماع الصحابة ـ رضوان اهلل عليهم ـ بل وإ جماع‬
‫األئمة األربعة وغير األربعة(‪.)185‬‬
‫وج اء في العقي دة الطحاوية وش رحها‪ ( :‬ونس مي أهل قبلتنا مس لمين مؤم نين ما دام وا بما ج اء به‬
‫النبي‪ ‬معترفين ‪ ،‬وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين‪ .‬ثم قال الشارح‪ :‬المراد بقوله أهل قبلتنا‪ :‬من‬
‫يدعي اإلسالم ويستقبل الكعبة‪ ،‬وإ ن كان من أهل األهواء‪ ،‬أو من أهل المعاصي) (‪.)186‬‬

‫‪ )?(182‬سنن أبي داود (‪.)5/4‬‬


‫‪ )?(183‬الجامع الصحيح للترمذي (‪.)5/25‬‬
‫‪ )?(184‬الفرق بين ِ‬
‫الفرق ‪ ،‬لعبد القاهر البغدادي (ص‪.)13‬‬
‫‪ )?(185‬فتاوى ابن تيمية (‪.)7/217‬‬
‫‪ )?(186‬شرح العقيدة الطحاوية (ص‪.)313‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-70-‬‬

‫وما ذهب إليه ابن حجر من الق ول ‪ ( :‬وال دعاة على أب واب جهنم من ق ام في طلب الملك من‬
‫الخ وارج وغ يرهم) (‪ .)187‬أمر غ ير مس لم ‪ ،‬ف الخوارج والمعتزلة والمرجئة وأمث الهم مت أولون‪،‬‬
‫أقصى ما يوص فون به أنهم مبتدعة ولم ُيخ رجهم علماؤنا من الملة ‪ ،‬ولم يقول وا ‪ :‬إنهم من أهل‬
‫النار‪ ،‬فيما عدا أولئك الغالة الذين أحلوا المحرمات‪ ،‬أو عبدوا علياً أو اتخذوا لهم نبي اً غير محمد ‪‬‬
‫‪ ،‬كما فعلت القادياني ة‪ ،‬أو جعل وا لهم كتاب اً غ ير الق رآن الك ريم‪ ،‬أو أنك روا معلوم اً من ال دين‬
‫بالضرورة(‪.)188‬‬
‫وإ نما المقصود تلك المذاهب الضالة التي هدمت أركان اإليمان وقوضت دعائم اإلسالم‪ ،‬وخربت‬
‫عقائ ده ونظم ه‪ ،‬وتبنت اإللح اد ودعت الن اس إلي ه‪ ،‬وأطلقت على المنك رات أس ماء براقة لتجعلها‬
‫مألوف ة‪ ،‬وأحلت ما ح َّرم اهلل تع الى‪ ،‬وح رمت ما أح ل‪ ،‬وعطلت أك ام الق رآن الك ريم وس نة الن بي ‪‬‬
‫وأعلنت على أهل اإليم ان حرب اً ش عواء‪ ،‬ورمت كل مؤمن بتهمة الجمود والرجعي ة‪ ،‬واتخ ذت لها‬
‫أص والً يرفض ها اإلس الم جملة وتفص يالً ‪ ،‬وتراها ت وقر ما حق ره اهلل تع الى ‪ ،‬وتحقر ما وق ره‪،‬‬
‫فتعت بر األس ود العنسي المتن بئ الك ذاب رجل ث ورة وإ ص الح‪ ،‬وتجعل من القرامطة والحشاش ين‬
‫والزنج وأتباع بابك حركات تقدم وتحرير‪.‬‬
‫وه ذه الم ذاهب منها الق ديم ‪ ،‬وكث ير منها ح ديث ‪ ،‬فالس بأية والقرامطة واإلس ماعيلية ف رق ض الة‬
‫عاثت في األرض اإلسالمية فساداً‪ ،‬ونقضت هي وأمثالها اإلسالم من أصوله‪،‬وادعت إلهية البشر‬
‫من دون اهلل تعالى‪ .‬ثم ظهرت البابية والقاديانية والبهائية‪ ،‬ولكل واحدة من هذه الفرق كتاب غير‬
‫القرآن الكريم ونبي غير محمد ‪ .‬ثم ظهرت فرق إلحادية ال تؤمن بدين كالشيوعية والماسونية‬
‫وما تفرع عنهما من المذاهب واالتجاهات‪.‬‬
‫وأخطر من ه ذا كله اس تالم بعض الف رق الض الة الزعامة السياس ية والفكرية فقد أش ار الح ديث‬
‫الذي رواه حذيفة رضي اهلل عنه إلى حالتين‪:‬‬
‫الحالة األولى‪:‬‬
‫خير وفيه دخن‪ .‬قلت ‪ :‬وما دخنه؟ فقال ‪ :‬قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر‪ .‬وإ ن الناظر‬
‫في تاريخ المسلمين ليرى هذه المراحل التي تتميز كل مرحلة منها على سابقتها والحقتها‪ .‬فقد بدأ‬
‫اإلسالم غريباً في مكة‪ ،‬ثم عم خيره وعلت كلمته في عهد النبوة والخالفة الراشدة‪ ،‬ثم وقعت الفتنة‬
‫‪ ،‬ثم اس تقر األمر لب ني أمية ‪ ،‬واس تقرت الدول ة‪ ،‬وامت دت الفت وح‪ ،‬وانتشر اإلس الم‪ ،‬وق امت سياسة‬
‫الدولة على اإلسالم‪ ،‬واستُمدت األحكام من شريعته‪ ،‬وهذا الخير فيه دخن ( والدخن الكدورة إلى‬
‫السواد‪ ،‬فالدخن في الدابة عندما ال يصفو لونها بل يكدره شيء من السواد‪ .‬وقال أبو عبيدة‪ :‬تكون‬
‫القلوب هكذا‪ ،‬ال يصفو لونها بل يكدره شيء من السوادـ وقال أبو عبيدة ‪ :‬تكون القلوب هكذا ‪ ،‬ال‬

‫‪ )?(187‬فتح الباري البن حجر (‪.)13/36‬‬


‫‪ )?(188‬الفصل في الملل والنحل البن حزم (‪.)2/114‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-71-‬‬

‫(‪)189‬‬
‫فأما الخ ير فهو ع ودة األمة إلى وح دتها‪ ،‬واس تمرار‬ ‫يص فو بعض ها لبعض وال ينصع حبه ا)‬
‫روح الجهاد‪ ،‬واالحتكام للشريعة في الشؤون المختلفة‪ ،‬والدخن الذي خالط هذا الخير ما كان عليه‬
‫الحكم من تعطيل لمبدأ الشورى‪ ،‬وتبديد للمال واإلسراف فيه‪ ،‬وما كان يصيب األمة من المظالم‬
‫وسفك الدماء بسبب المذهب والمعتقد‪ .‬وبقي حال المسلمين على هذا النحو‪ ،‬خير وفيه دخن‪ ،‬إلى‬
‫أن دالت دولة اإلسالم‪ ،‬وقامت دول علمانية أو قريبة من العلمانية‪ ،‬وكانت أحكام اإلسالم قبل ذلك‬
‫س ائدة رغم ظه ور بعض المنك رات ال تي لم تص بغ المجتمع بص بغتها‪ ،‬وك ان األمر ب المعروف‬
‫والنهي عن المنكر يؤدي دوره في المجتمع‪.‬‬
‫الحالة الثانية ‪:‬‬
‫دخل المس لمون في ش تى بالدهم في مرحلة جدي دة س يطرت فيها ثقافة الغ رب وأخالقه وانتش رت‬
‫ة‪،‬وغيِّرت مفاهيم الحي اة‪ .‬وك ان دع اة‬
‫وب دلت الثقاف ُ‬
‫التي ارات اإللحادي ة‪ ،‬وغزت مؤسس ات الدول ة‪ُ ،‬‬
‫ه ذا التغي ير من أبن اء األمة يتكلم ون بلغته ا‪ ،‬وينتس بون إليه ا‪ .‬وقدانقسم ه ؤالء ال دعاة إلى ش يع‬
‫وأح زاب وملل ش تى‪ .‬وه ذا ما أش ار إليه ح ديث حذيف ة‪ :‬قلت‪ :‬فهل بعد ذلك الخ ير من ش ر؟ ق ال‪:‬‬
‫نعم دعاة على أبواب جهنم ‪ ،‬من أجابهم إليها قذفوه فيها‪ .‬قلت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬صفهم لنا‪ ،‬قال هم‬
‫من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا‪.‬‬
‫ق ال ابن حج ر‪ ( :‬أي من قومنا ‪ ،‬ومن أهل لس اننا وملتنا إش ارة إلى أنهم الع رب ) (‪ .)190‬وه ذا من‬
‫أعالم النب وة ومعجزاته ا‪ ،‬حيث أخ بر الح ديث عن ظه ور ه ذه الف رق‪ ،‬وفيه إش ارة إلى القومي ات‬
‫التي انتشرت في العالم اإلسالمي‪ ،‬واتخذت من العرق واللغة أساسين للتجمع واالنتماء‪.‬‬
‫ووصل األمر في كث ير من األقط ار إلى أن تمتطي ه ذه األه واء جم اهير الش عوب‪ ،‬مدعية أن‬
‫الش عوب هي ال تي تخت ار طريقه ا‪ ،‬وظه رت مص طلحات‪ :‬الجم اهير‪ ،‬والطبقة الكادح ة‪ ،‬واإلرادة‬
‫الش عبية‪ ،‬ونف ذت سياس ات ض رب القيم اإلس المية به ذا الطري ق‪ .‬وه ذه أشد الفتن وأعتاها حيث‬
‫اس تطاع دع اة الباطل أن يتس تروا ب اإلرادة الش عبية‪ ،‬ولعل ه ذه الفتنة وأعتاها حيث اس تطاع دع اة‬
‫الباطل أن يتس تروا ب اإلرادة الش عبية‪ ،‬ولعل ه ذه الفتنة هي فتنة ال دهماء ال تي ذك رت في الح ديث‬
‫الذي أخرجه أبو داد وذكر فيه فتن اً أربع اً‪ ،‬ومنه‪ " :‬ثم فتنة الدهيماء ال تدع أحداً من هذه األمة إال‬
‫لطمته لطمة‪ ،‬فإذا قيل انقضت تمادت ‪ ،‬يصبح الرجل فيها مؤمن اً ويمسي كافراً ‪ ،‬ثم يصير الناس‬
‫إلى فسطاطين ‪ :‬فسطاط إيمان ال نفاق فيه‪ ،‬وفسطاط نفاق ال إيمان فيه"(‪.)191‬‬
‫وقد تغلغلت ه ذه األه واء بأص حابها كما أخ بر الح ديث ال ذي يرويه معاوية رضي اهلل عن ه‪" :‬‬
‫تجاري بهم تلك األهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ال يبقى منه عرق وال مفصل إال دخله " قال‬

‫‪ )?(189‬لسان العرب البن منظور (‪.)6/17‬‬


‫‪ )?(190‬فتح الباري البن حجر (‪.)13/36‬‬
‫‪ )?(191‬سنن أبي داود (‪.)5/443‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-72-‬‬

‫الش اطبي ‪ ( ،‬ت ‪ ( : )790‬مع نى ه ذه الرواية أنه عليه الص الة والس الم أخ بر بما يك ون في أمته‬
‫من هذه األهواء التي افترقوا فيها إلى تلك الفرق‪ ،‬وأنه يكون فيهم أقوام تُ داخل تلك األهواء قلوبهم‬
‫حتى ال يمكن في الع ادة انفصالهم عنها وتوبتهم منه ا‪ ،‬على حد ما يداخل داء ال َكلَب جسم صاحبه‬
‫ال يبقى من ذلك الجسم جزء من أجزائه وال مفصل وال غيرهما إال دخله ذلك الداء ‪ ،‬وهو جرييان‬
‫ال يقبل العالج وال ينفع فيه الدواء) (‪.)192‬‬
‫أما إحصاء هذه الفرق والملل‪ ،‬فقد حاول بعض العلماء حصرها كما فعل البغدادي (ت ‪ 429‬هـ ‪/‬‬
‫‪1038‬م) في كت اب الف رق فق ال ‪ ( :‬فه ذه الجملة ال تي ذكرناها تش تمل على ثن تين وس بعين فرقة ‪،‬‬
‫منها عرون روافض‪ ،‬وعشرون خوارج‪ ،‬وعشرون قدرية ‪ ،‬وعشرون مرجئة‪ ،‬وثالث نجارية ‪،‬‬
‫وبكرية ‪ ،‬وضرارية‪ ،‬وجهمية ‪ ،‬وكرامية ‪ ،‬فهذه اثنتان وسبعون فرقة) (‪.)193‬‬
‫ولكن هذا اإلحصاء ال يسلم ‪ ،‬وعليه مآخذ‪:‬‬
‫األولى‪ :‬أنه خلط بين الفرق الخارجة عن اإلسالم وبين الداخة فيه‪.‬‬
‫الثاني ‪:‬أنه يتكلم عن الفرق حتى عصره‪ ،‬وكأن عجلة الزمن قد توقفت ولم تنشأ فرق جديدة‪ ،‬علم اً‬
‫ب أن فرق اً كث يرة نش أت بعد البغ دادي ولو عايش ها ألدخلها في حس ابه ‪ .‬وينبغي أن ي ترك الش راح‬
‫والمفسرون نصيباص كبيراً لألحداث الواقعية التي تفسر النص وتشريحه‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أنه ذكر ما يزيد عن تسعين فرقة‪ ،‬ثم قال فهذه ثنتان وسبعون فرقة‪.‬‬

‫‪ )?(192‬االعتصام للشاطبي (‪.)2/154‬‬


‫‪ )?(193‬الفرق بين الفرق لعبد القاهرة البغدادي (ص ‪ ، )25‬ويالحظ أن العدد هنا يصل إلى ‪ 95‬فرقة‪.‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-73-‬‬

‫موقف المسلم من هذه الفرق ‪:‬‬


‫أما موقف المسلم من هذه الفرق فذو شقين سلبي وإ يجابي‪ .‬أما السلبي فعليه أن يعتزل هذه الفرق‬
‫الضالة حتى ال يصيبه الداء الذي أصاب أهله؛ وألن مخالطتهم مخالطة أهل النار ودعاتها‪ .‬وأما‬
‫اإليجابي فالبحث عن جماعة المسملون واالعتصام بها‪.‬‬
‫وليست العزلة عزلة الخ روج من المجتمع إلى ال براري والقف ار وقمم الجب ال؛ ألن ه ذا الن وع من‬
‫العزلة يعطي الفرصة ألص حاب األه واء كي يعمموها ويش يعوها في المجتمع ‪ ،‬ويس تأثروا‬
‫بالتوجيه والقيادة ‪ ،‬وفي ذلك خذالن للحق وأهله‪ .‬وال بد من التنبيه على أمر خطير هو ذلك الخطأ‬
‫الناشئ عن تعميم المص طلحات على الح االت المتناقضة المتباينة ‪ ،‬وأن ال يق در لكل حالة ق درها‪،‬‬
‫وأن ال تؤخذ كل كلمة في إطارها المناس ب‪ ،‬ك أن نأخذ مفه وم العزلة عند س لف األمة فنعمة على‬
‫جميع الظ روف واألح وال‪ ،‬فيق ال إن ابن عمر رضي اهلل عنه وس عد بن أبي وق اص وأبا بك رة قد‬
‫اع تزلوا الفتن ة‪ ،‬و ِف ْع ُل ه ؤالء األص حاب دليل يش هد لمن ع زم على ت رك المجتم ع‪ ،‬ونجد اإلم ام‬
‫البخاري يترجم لهذا بباب خاص يقول‪ " :‬التعرب في الفتنة ‪ :‬أي اللحاق باألعراب والبادية عند‬
‫فشو الفتن"‪.‬‬
‫وقد أخ رج ( عن س لمة بن األك وع رضي اهلل عنه أنه دخل على الحج اج فق ال‪ :‬يا ابن األك وع‬
‫أرت ددت على عقبيك ‪ ،‬تع ربت ؟ ق ال ‪ :‬ال‪ ،‬ولكن رس ول اهلل‪ r‬أذن لي في الب دو)‪ .‬ق ال ابن حج ر‪:‬‬
‫( التع رب أي الس كنى مع األع راب ‪ ،‬وهو أن ينتقل المه اجر من البلد ال تي ه اجر إليه ا‪ ،‬فيس كن‬
‫الب دو‪ ،‬ف يرجع بعد هجرته أعرابي اً‪ ،‬وك ان إذ ذاك محرم اً إال إن أذن له الش ارع في ذل ك)(‪.)194‬‬
‫فاألصل إذن منع المهاجر من العزلة في البراري والقفار أو اللحاق بالبادية‪.‬‬
‫وإ ننا إذا نظرنا إلى الحكمة في منهج المه اجر من التع رب وج دنا أن الهج رة إنما ش رعت لنص رة‬
‫اإلس الم والمس لمين‪ ،‬ول دفع الكفر والنف اق عن المجتم ع‪ ،‬ف إذا ت رك المس لم المجتمع تحت وط أة‬
‫أص حاب الفتن فإنه يك ون قد أس هم في ه ذا المنكر وس اعد على اس تحكامه‪ .‬ق ال ابن حج ر‪" :‬وقيل‬
‫يمنع ( أي التعرب ) في زمن الفتنة لما فيه من خذالن أهل الحق"(‪.)195‬‬
‫ومن رغب في العزلة‪ ‬من س لف األمة فإنه ع نى ع دم االس تكثار من األص حاب والمبالغة في‬
‫م ألوف الع ادات‪ ،‬واإلس راف في األس مار والمباح ات‪ .‬ق ال اإلم ام أبو س ليمان الخط ابي‪ ( :‬ولس نا‬
‫نريد به ذه العزلة ال تي نختارها مفارقة الن اس في الجماع ات والجمع ات‪ ،‬وت رك حق وقهم في‬
‫العب ادات‪ ،‬وإ فش اء الس الم ورد التحي ات‪ ،‬وما ج رى مجراها من الحق وق الواجبة لهم‪ ،‬وص نائع‬
‫الس نن والع ادات المستحس نة فيما بينهم فإنها مس تثناة بش رائطها‪ ،‬جارية على س بلها‪ ،‬ما لم يحل‬

‫‪ )?(194‬صحيح البخاري ‪ ،‬متن فتح الباري (‪.)13/40‬‬


‫‪ )?(195‬فتح الباري (‪.)13/40‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-74-‬‬

‫دونها حائل شغل ‪ ،‬وال يمنع عنها مانع عذر‪ ،‬إنما نريد بالعزلة ترك فضول الصحبة‪ ،‬ونبذ الزيادة‬
‫منها ‪ ،‬وحط العالوة التي ال حاجة بها إليها) (‪.)196‬‬
‫ارتباط العزلة بنوع الفتنة‪:‬‬
‫وهن اك مس ألة البد من بيانها قبل الف راغ من موض وع العزل ة‪ ،‬وهي تحديد ن وع الفتنة الداعية إلى‬
‫ت رك المجتمع واعتزاله وع دم المش اركة في أحداث ه‪ ،‬أو الداعية إلى الثب ات في مواقع الت أثير‬
‫لمقاومة الفتن ومجابهتها‪.‬‬
‫فتنة التنافس على الملك ‪:‬‬
‫فقد أخ بر الن بي ‪r‬عن وق وع الفتن وتكاثرها ح تى كأنها القطر ال ي ترك موض عاً إال أص ابه‪ ،‬فقد‬
‫أخرج البخاري ( عن أس امة بن زيد ق ال ‪ :‬أشرف النبي ‪ r‬على أطم من آط ام المدينة فق ال ‪ :‬هل‬
‫ترون ما أرى؟ قالوا‪ :‬ال‪ ،‬قال‪ :‬فني ألرى الفتن تقع خالل بيوتكم كموقع القطر) (‪.)197‬‬
‫وك ان مقتل عثم ان رضي اهلل عنه أول فتنة وقعت‪ ،‬وتالها القت ال بين علي وعائشة رضي اهلل‬
‫عنهما‪ ،‬ثم صفين ‪ ،‬وقداختلفت اجتهادات الصحابة في ترجيح صاحب الحق‪ ،‬وإ ن كان األكثرون‬
‫على أن علي اً رضي اهلل عنه هو ص احب األم ر‪ ،‬وأن معاوية مجتهد مخطئ له أجر واح د‪ .‬ثم‬
‫وقعت فتن بعد ذلك ك ان الب اعث عليها التن افس على الحكم والس لطان وه ذامن قبيل األث رة ال تي‬
‫أخ بر عنها الن بي ‪ ،r‬فقد أخ رج البخ اري عن أس يد بن حض ير ( أن رجالً أتى الن بي ‪ ،r‬فق ال يا‬
‫رسول اهلل استعملت فالناً ولم تستعملني‪ ،‬قال ‪ :‬إنكم سترون بعدي أثرة ‪ ،‬فاصبروا حتى تلقوني )‬
‫(‪ .)198‬وقد ج اء معظم الخلف اء العباس يين وس الطني المماليك وغ يرهم إلى الحكم عن طريق ه ذه‬
‫األثرة‪ .‬وهذا علم من أعالم النبوة‪ .‬إال أن هذه الفتن لم تخرج المجتمع من اإلسالم‪ ،‬وبقي استمداد‬
‫األحكام الشرعية من الكتاب والسنة‪ ،‬ويمكننا حمل ما أخرجه البخاري على هذا حيث قال ‪( :‬عن‬
‫أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪ :r‬ستكون فتن القاعدة فيها خير من القائم‪ ،‬والقائم فيها خير من‬
‫الماش ي‪ ،‬والماشي فيها خ ير من الس اعي‪ ،‬من تش رف لها تستش رفه‪ ،‬فمن وجد فيها ملجأ أو مع اذاً‬
‫فليعذ به) (‪ .)199‬وفي رواية مسلم لهذا الحديث‪( :‬فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله‪،‬‬
‫ومن كان له غنم فليلحق بغنمه‪ ،‬ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه‪ ،‬قال‪ :‬فقال‪ :‬يا رسول اهلل إن‬
‫لم يكن له إبل وال غنم وال أرض؟ قال ‪ :‬يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر‪ ،‬ثم لينج إن استطاع‬
‫ق‬
‫طلَ َ‬
‫النجاه‪ ،‬اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ فقال رجل ‪ :‬يا رسول اهلل أرأيت إن أكرهت حتى ُين َ‬

‫‪ )?(196‬العزلة للخطابي ‪ ،‬ص ‪.6‬‬


‫‪ )?(197‬صحيح البخاري ( متن فتح الباري) (‪.)13/11‬‬
‫‪ )?(198‬صحيح البخاري ( متن فتح الباري) (‪.)13/5‬‬
‫‪ )?(199‬المرجع السابق (‪.)13/5‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-75-‬‬

‫بي إلى أحد الص فين‪ ،‬أو إح دى الفئ تين‪ ،‬فض ربني رجل بس يفه‪ ،‬أويجيء س هم فيقتل ني؟ق ال ‪ :‬يب وء‬
‫بإثمه وإ ثمك ويكون من أصحاب النار) (‪.)200‬‬
‫ذه الفتنة على االختالف في طلب الملك حيث ال يعلم‬ ‫وهو ما ذهب إليه ابن حجر في حمل ه‬
‫المحق من المبطل‪ .‬ونقل ابن حجر كالم اً للطبري يقول فيه‪ :‬والصواب أن ُيقال إن الفتنة أصلها‬
‫االبتالء ‪ ،‬وإ نك ار المنكر واجب على كل من ق در علي ه‪ ،‬فمن أع ان المحق أص اب‪ ،‬ومن أع ان‬
‫المخطئ أخطأ‪ ،‬وإ ن أشكل األمر فهي الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها‪.‬‬
‫ومن الح ديث ال ذي رواه أبو بك رة نعلم أن الف رار من الفتنة عن دما تك ون بين ص فين من المس لمين‬
‫حيث يشتبه الحق بالباطل‪ ،‬وال ُيعرف المحق من المبطل ‪.‬‬
‫وقد جاء هذا الفهم صريحاً عن أبي برزة األسلمي رضي اهلل عنه‪ ،‬فقد أخرج البخ اري‪ ( :‬عن أبي‬
‫المنهال‪ ،‬قال ‪ :‬لما كان ابن زياد ومروان وثب ابن الزبير بمكة‪ ،‬ووثب القراء بالبصرة‪ ،‬فانطلقت‬
‫مع أبي إلى أبي ب رزة األس لمي ح تى دخلنا عليه في داره وهو ج الس في ظل ِعلَّية له من قص ب‪،‬‬
‫فجلسنا إليه فأنشأ أبي يستطعمه الحديث‪ ،‬فقال‪ :‬يا أبا برزة أال ترى ما وقع فيه الناس؟ فأول شيء‬
‫س معته تكلم ب ه‪ :‬إني احتس بت عند اهلل أني أص بحت س اخطاً على أحي اء ق ريش‪ ،‬إنكم يا معشر‬
‫الع رب كنتم على الح ال ال ذي علمتم من الذلة والقلة الض اللة وإ ن اهلل أنق ذكم باإلس الم‪ ،‬وبمحمد‬
‫عليه الصالة والسالم‪ ،‬حتى بلغ بكم ما ترون ‪،‬وهذه الدنيا التي أفسدت بينكم‪ ،‬إن ذاك الذي بالشام‬
‫واهلل إن يقاتل إال على ال دنيا‪ ،‬وإ ن ه ؤالء ال ذين بين أظه ركم واهلل إن ٌيق اتلوا إال على ال دنيا‪ ،‬وإ ن‬
‫ذاك الذي بمكة واهلل إن ُيقاتل إال علىالدنيا) (‪.)201‬‬
‫ويب دو من ه ذا النص أن أبا ب رزة رضي اللهعنه ك ان ي رى اع تزال الفتن ة؛ ألنه ال يوجد ص احب‬
‫األمر المحق ‪ ،‬وك ان ابن عمر رضي اهلل عنهما قد س لك مثل هذاالس لوك عن دما اع تزل ما ح دث‬
‫بين عبد الملك بن مروان وابن الزبير ‪،‬فقد أخرج البخاري عن سعيد بن جبير قال‪ ( :‬خرج علينا‬
‫عبداهلل بن عمر فرجونا أن يح دثنا ح ديثاً حس ناً ‪ ،‬ق ال ‪:‬فبادرنا إليه رجل فق ال ‪ :‬يا أبا عبد ال رحمن‬
‫حدثنا عن القتال في الفتنة‪ ،‬واهلل يقول ‪} :‬وقاتلوهم حتى ال تكون فتنة{‪ ،‬فقال ‪ :‬هل تدري ما الفتنة‬
‫ثكلتك أم ك؟ إنما ك ان محمد ‪ r‬يقاتل المش ركين‪ ،‬وك ان ال دخول في دينهم فتن ة‪ ،‬وليس كقت الكم على‬
‫المل ك) (‪ ،)202‬وفي رواي ةأخرى‪ ( :‬فك ان الرجل ُيفتن عن دينه إما قتل وه وإ ما يعذبونه ح تى ك ثر‬
‫اإلسالم‪ ،‬فلم تكن فتنة) (‪ ،)203‬أي لم يبق فتنة من أحد من الكفار ألحد من المؤمنين‪.‬‬

‫‪ )?(200‬صحيح مسلم ‪.)4/2213( ،‬‬


‫‪ )?(201‬صحيح البخاري ‪ (،‬متن فتح الباري) (‪.)13/68‬‬
‫‪ )?(202‬صحيح البخاري ( متن فتح الباري) (‪.)13/45‬‬
‫‪ )?(203‬المرجع السابق(‪.)18/184‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-76-‬‬

‫وأخ رج البخ اري ( عن ابن عمر رضي اهلل عنهما أت اه رجالن في فتنة ابن الزب ير فق اال ‪ :‬إن‬
‫ض يِّعوا وأنت ابن عمر ص احب رس ول اهلل ‪r‬فما يمنعك أن تخ رج؟ فق ال‪ :‬يمنع ني أن اهلل‬
‫الن اس قد ُ‬
‫حرم دم أخي ‪ ،‬فقاال‪ :‬ألم يقل اهلل ‪} :‬وقاتلوهم حتى ال تكون فتنة{؟ فقال ‪ :‬قاتلنا حتى لم تكن فتنة‪،‬‬
‫وكان الدين هلل ‪ ،‬وأنتم تريدون أن تقالتوا حتى تكون فتنة ‪ ،‬ويكون الدين لغير اهلل) (‪.)204‬‬
‫ومن خالل هذه الروايات نتعرف على نوعين منالفتن‪ .‬والبد من التركيز على الفتنة الكبرى التي‬
‫تجتاح الدين وتهدد اإليمان‪ ،‬وهي التي ال مهادنة معها‪.‬‬

‫‪ )?(204‬المرجع السابق(‪.)8/183‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-77-‬‬

‫الفتنة بمعنى الكفر‪:‬‬


‫وهي الفتنة التي يكون هدفها القضاء على اإلسالم واإليمان‪ ،‬وهي أشد أنواع الفتن وأوالدها بالدفع‬
‫والمقاوم ة‪ ،‬وال يج وز للم ؤمن أن يهادنها أو يجاريه ا‪ ،‬وهي الفتنة ال واردة في قوله تع الى ‪:‬‬
‫}وقاتلوهم حتى ال تكون فتنة ويكون الدين كله هلل{(‪.)205‬‬
‫ق ال ال رازي في تفس يره ( الم راد بالفتنة ههنا وجوه اً‪ :‬أح دها أنها الش رك والكف ر‪ ،‬ق الوا‪ :‬ك انت‬
‫فتنتهم أنهم ك انوا يض ربون وي ؤذون أص حاب الن بي ‪ r‬بمكة ح تى ذهب وا إلى الحبش ة‪ ،‬ثم واظب وا‬
‫على ذلك اإلي ذاء ح تى ذهب وا إلى المدين ة‪ .‬وك ان غرض هم من إث ارة تلك الفتنة أن ي تركوا دينهم‬
‫ويرجع وا كف اراص ‪،‬ف أنزل اهلل تع الى ه ذه اآلية ‪ .‬والمع نى ‪ :‬ق اتلوهم ح تى تظه روا عليهم فال‬
‫يفتنونكم عن دينم فال تقعوا في الشرك) (‪.)206‬‬
‫وهذه الفتنة أكبر جرم اً من القتل؛ ألنها فساد في األرض يؤدي إلى الظلم والقتل‪ ،‬يقول الرازي ‪:‬‬
‫( وإ نما جعل الكفر أعظم من القتل ؛ ألن الكفر ذنب يستحق صاحبه به العقاب الدائم ‪ ،‬والقتل ليس‬
‫كذلك‪ ،‬والكفر يخرج صاحبه من الملة ‪ ،‬والقتل ليس كذلك) (‪.)207‬‬
‫والقران الكريم يحدد الحالة التي تنتهي الفتنة بها وهي استقرار أمر الدين واستمراره‪ ،‬وكونه كله‬
‫هلل تعالى}ويكون الدين هلل{‪ ،‬وهذه غاية شريفة ال يتوقف الجهاد دونها‪ ،‬يقول الرازي‪ ( :‬ليس بين‬
‫الش رك وبين أن يك ون ال دين كله هلل واس طة‪ ،‬فص ار التق دير‪ :‬فق اتلوهم ح تى ي زول الكفر ويثبت‬
‫اإلسالم) (‪.)208‬‬
‫وقد وقع ه ذا الن وع من الفتن‪ ،‬ووصل الح ال بالمس لمين في كث ير من أقط ارهم إلى اختي ار من اهج‬
‫ونظم ال تمت إلى اإلس الم بص لة‪ ،‬بل تخالفه كل المخالف ة‪ ،‬وأقيمت ش ؤون الحي اة على مب ادئ‬
‫مستوردة‪ ،‬وأمسك بعض الملحدين والعلمانيين بدفة القيادة والتوجيه‪ ،‬وانتكست بعض فئات األمة‬
‫فارتدت على أعقابها‪ ،‬وعملت على إقصاء اإلسالم عن سائر شؤون الحياة وأعلنت حرب اً على كل‬
‫مسلم‪ .‬وما حذر منه النبي‪ r‬أصبح حقيقة واقعة في بعض بالد المسلمين‪ ،‬وذلك قوله‪( :‬ال ترجعوا‬
‫بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) (‪.)209‬‬
‫فر إلى شواهق الجبال أو إلى أعماق‬
‫ومثل هذه الفتن تالحق المسلم وال تدعه يسلم من شرها سواء َّ‬
‫الكهوف ‪ ،‬وال يدفعها الخروج من المجتمع‪ ،‬واالعتكاف في المساجد‪.‬‬
‫الموقف اإليجابي من هذه الفتن‪:‬‬

‫‪ )?(205‬البقرة ‪ ،‬اآلية (‪.)193‬‬


‫‪ )?(206‬التفسير الكبير للرازي ‪.)5/132( ،‬‬
‫‪ )?(207‬المرجع السابق (‪.)5/130‬‬
‫‪ )?(208‬المرجع السابق ( ‪.)5/133‬‬
‫‪ )?(209‬صحيح البخاري ( متن فتح الباري) ‪.)13/23‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-78-‬‬

‫وأما الموقف اإليج ابي فهو البحث عن الجماعة المؤمنة والطائفة الظ اهرة وإ عطاؤها ثم رة الجهد‬
‫وصادق االنتماء‪ .‬وهذا أمر ال خيار للمؤمن فيه‪ ،‬وهو قول النبي ‪ r‬لحذيفة (تلزم جماعة المسلمين‬
‫وإ م امهم) ق ال ابن حج ر‪ :‬وورد األمر بل زوم الجماعة في ه ذه أح اديث منها ما أخرجه الترم ذي‬
‫مص ححاص وفيه ‪ :‬وأنا آم ركم بخمس أم رني اهلل بهن‪ :‬الس مع والطاعة والجه اد والهج رة‬
‫والجماع ة‪ ،‬ف إن من ف ارق الجماعة قيد ش بر فقد خلع ربقة اإلس الم من علق ه‪ .‬وفي خطبة عمر‬
‫المش هورة ال تي خطبها بالجابية ‪ :‬ف إن عليكم بالجماعة وإ ي اكم والفرق ة‪ ،‬ف إن الش يطان مع الواح د‪،‬‬
‫وهو من االثنين أبعد(‪.)210‬‬
‫وقد يتس اءل الق ارئ عن وج ود ه ذه الجماع ة‪ .‬وقد يتب ادر إلى األذه ان خلو المجتمع من مثل ه ذه‬
‫الجماعة‪ ،‬والجواب على ذلك خبر الصادق المصدوق ‪ r‬الذي قال‪ ( :‬ال يزال من أمتي أمة قائمة‬
‫بأمر اهلل ‪ ،‬ال يضرهم من خذلهم وال من خالفهم حتى يأتيهم أمر اهلل وهم على ذلك)(‪.)211‬‬
‫وفي رواية أخرى ( حتى يأتي أمر اهلل وهم ظاهرون على الناس)‪ .‬وفي رواية المغيرة بن شعبة‬
‫قوم من أمتي ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر اهلل وهم ظاهرون)‬
‫رضي اهلل عنه‪ ( :‬لن يزال ّ‬
‫(‪.)212‬‬
‫وروايات هذا الحديث كثيرة‪ ،‬وألفاظه متقاربة ولها بمجموعها دالالت‪ ،‬منها‪:‬‬
‫أن هذه األمة لن تخلو من فئة قائمة بأمر اهلل تعالى وفق ما جاء به محمد ‪ ، r‬وهذه الفئة يحفظ اهلل‬
‫بها ال ذكر‪ ،‬ويحقق بها إقامة الحجة على الخلق ويزيل بها الع ذر‪ ،‬وين ير بها طريق الهداية‬
‫ص َح أن أهل كل عصر ال يج وز أن يخل وا من أن يك ون فيهم قائل‬
‫والرش اد‪ ،‬ق ال ابن ح زم‪ ( :‬فَ َ‬
‫بالحق) (‪.)213‬‬
‫وفي الوقت ذاته تكون فئات كثيرة قد تخلت عن دين اهلل‪ ،‬ويكون هذا التخلي إما باإلنصراف عنه‬
‫إلى األهواء الضالة والمبادئ المنحرفة‪ ،‬وهذا شأن المخالفين الذين يكيدون لكل جماعة مؤمنة ‪.‬‬
‫وقد يك ون التخلي بإش غال الحي اة في طلب المت اع الزائ ل‪ ،‬وب البحث عن وس ائل الراحة واالنهم اك‬
‫في الش هوات‪ ،‬وه ذا ش أن القط اع األ‪:‬بر من الن اس ال ذين ال يتج اوز تفك يرهم ح دود مص الحهم‬
‫الشخصية‪ .‬وهكذا فإن الجماعة المؤمنة تقع بين المخالفين والخاذلين‪.‬‬
‫ج) وإ ن الجماعة المؤمنة تك ون ظ اهرة على من عاداها وناوأها وخ ذلها‪ ،‬وهي المؤي دة بنصر اهلل‬
‫تعالى ال يضرها أحد من أعدائها‪ .‬ومعنى قول النبي ‪ ( r‬وهم ظاهرون ) ‪ :‬قال ابن حجر ‪ ( :‬أي‬

‫‪ )?(210‬فتح الباري البن حجر (‪.)13/316‬‬


‫‪ )?(211‬صحيح البخاري ( متن فتح الباري) (‪.)6/632‬‬
‫‪ )?(212‬صحيح مسلم (‪.)3/1523‬‬
‫‪ )?(213‬المحلي البن حزم (‪.)1/47‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-79-‬‬

‫غالبون‪ ،‬أو المراد بالظهور أنهم غير مستترين بل مشهورون‪ .‬ثم قال ابن حجر‪ :‬واألول أولى )‬
‫(‪ ،)214‬ويبدو أن الثاني أولى‪ ،‬وأن الظهور هو ظهور وجود واشتهار وإ صرار على الحق وثبات‬
‫عليه ‪ ،‬ويش هد له ذا المع نى الرواية ال تي أخرجها البخ اري ‪ ( :‬ولن ي زال أمر ه ذه األمة مس تقيماً‬
‫ح تى تق وم الس اعة‪ ،‬أو ح تى ي أتي أمر اهلل) (‪ ،)215‬وال يل زم من االس تقامة الغلبة ب القوة المادي ة‪ ،‬بل‬
‫تكون االستقامة ولو كانت الجماعة مستضعفة مضطهدة‪.‬‬
‫ولعل ابن حجر رجح مع نى الغلبة لما رأى من غلبة بعض أهل الحق على قطر أو ناحية من زمن‬
‫الن بي ‪ r‬إلى زمان ه‪ .‬ولو ع اش في العص ور المت أخرة ل رأى كيف ُغلب أهل الحق من قبل أهل‬
‫الباط ل‪ ،‬ولكن أهل الحق مص رون على حقهم ‪ ،‬ث ابتون علي ه‪ ،‬معروف ون ب ه‪ ،‬وال تق وى األه واء‬
‫على اقتالعهم من فكرهم‪ ،‬وال يضيرهم ما يجدون من الصعاب والعقبات وصنوف األذى وألوان‬
‫االتهامات‪ ،‬بل يواصلون سيرهم‪ ،‬ويراهم الناس قائمين بأمر اهلل تعالى‪ .‬قال النووي‪ ( :‬ال يزالون‬
‫على الحق ح تى تقبض هم ه ذه ال ريح اللينة ق رب القيام ة) (‪ .)216‬لقد ك ان رس ول اهلل ‪ r‬وأص حابه‬
‫ظ اهرين على أهل مكة من المش ركين رغم ما ك انوا يالقونه من األذى والمط اردة‪ ،‬وك ذلك ح ال‬
‫الجماعة المؤمنة القائمة بأمر اهلل فهي ظاهرة وإ ن لم تكن لها السيادة السياسية واالجتماعية‪.‬‬
‫تعيين الجماعة وهل هي واحدة؟‬
‫ال خالف في أن جماعة المسلمين في عهد النبي ‪ r‬وخلفائه الراشدين هي السواد األعظم من األمة‬
‫ال ذي يحكم بش رع اهلل تع الى‪ .‬وظلت األمة في مرحلة الجماعة ال تي تمثلها دولة إس المية قوية إلى‬
‫أن دالت دولة اإلسالم‪ ،‬فانفرط بذلك عقد األمة الواحدة‪ ،‬ونشأت فيها جماعات شتى‪.‬‬
‫ويب دو أن بعض العلم اء قد نظ روا إلى خص وص النص بفئ ة‪ ،‬ح تى ولو ك انت األمة في خ ير‬
‫قرونه ا‪ ،‬وه اهو اإلم ام أحمد وعلي بن الم ديني وأبو عبداهلل الح اكم يحمل ون النص على أن‬
‫المقصود هم أهل الحديث‪ .‬وقد نقل الحاكم عن اإلمام أحمد قوله‪ ( .‬إن لم يكونوا أصحاب الحديث‬
‫فال أدري من هم)‪ ،‬وق ال الح اكم‪ ( :‬فلقد أحسن أحمد بن حنبل في تفس ير ه ذا الخ بر أن الطائفة‬
‫المنصورة التي ُيرفع الخذالن عنهم إلى قيامة الساعة هم أصحاب الحديث) (‪.)217‬‬
‫ورغم الدور العظيم الذي قام به المحدثون في خدمة السنة النبوية وصيانتها‪ ،‬وإ ال أننا ال نستطيع‬
‫الق ول ب أن ه ذه الطائفة مس تمرة إلى قي ام الس اعة ‪ ،‬وفقد توقف عطاؤها واجتهادهاـ فيما ع دا أف راد‬
‫قالئل ـ كما توقف عط اء غيرها منذ مئ ات الس نين‪ ،‬واألصل في نص الح ديث االس تمرار‪ ،‬وبق اء‬
‫الطائفة حتى قبيل الساعة‪.‬‬

‫‪ )?(214‬فتح الباري البن حجر (‪.)13/294‬‬


‫‪ )?(215‬صحيح البخاري ( متن فتح الباري ) (‪.)13/293‬‬
‫‪ )?(216‬المنهاج في شرح مسلم للنووي(‪.)2/132‬‬
‫‪ )?(217‬معرفة علوم الحديث للحاكم ‪( ،‬ص ‪.)2‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-80-‬‬

‫أما اإلمام محمد عبده فقد ذهب مذهباً بعيداً عندما استعرض حديث الفرق ثم قال( إن هذا الحديث‬
‫قد أفادنا أنه يك ون في األمة ف رق متفرق ة‪ ،‬وأن الن اجي منهم واح دة‪ ،‬وك ون األمة قد حصل فيها‬
‫اف تراق على ف رق ش تى‪ ،‬تبلغ الع دد الم ذكور أو ال تبلغه ث ابت‪ ،‬وقد وقع ال محال ة‪ ،‬وك ون الن اجي‬
‫أما تعيين أي فرقة هي الفرقة الناحية أي التي تكون‬
‫منهم واحدة أيضاً حق ال كالم فيه‪ . .‬ثم قال‪ّ :‬‬
‫على ما الن بي عليه وأص حابه فلم يت بين لي إلى اآلن‪ ،‬ف إن كل طائفة ممن ي ذعن لنبينا بالرس الة‬
‫تذهب تجعل نفسها على ما النبي عليه وأصحابه) (‪.)218‬‬
‫وقد اع ترض الش يخ رش يد رضا على أس تاذه في ه ذا الم ذاهب‪ ،‬وع زاه إلى ت أثر أس تاذه ب اآلراء‬
‫الفلس فية والكالمي ة‪ ،‬وإ لى حرصه على جمع كلمة المس لمين‪ ،‬وأنه ك ان ينقصه س عة االطالع على‬
‫كتب الحديث‪ .‬ثم عقب على مذهب أستاذه‪ ،‬بأن أهل الحديث وعلماء األثر المهتدين بهدي السلف‬
‫هم هذه الطائفة‪ ،‬وأنهم ثلة من األولين وقليل من اآلخرين‪ ،‬وأنهم ال يمكن أن يكونوا أتباع أحد من‬
‫علماء الكالم المبتدع‪ ،‬سواء منهم من ضر ومن نفع‪ ،‬وال من المقلدين في الفروع أيضاً(‪.)219‬‬
‫وذهب ص احب زاد المس لم إلى أن ه ذه الطائفة هي الفئة المجاه دة في فلس طين‪ ،‬وذلك في زم ان‬
‫المؤلف(‪.)220‬‬
‫أعم من كل ما سبق فقال‪ ( :‬إن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين‬
‫أما النووي فقد ذهب مذهباً َّ‬
‫منهم ش جعان مق اتلون ‪،‬ومنهم مح دثون ‪ ،‬ومنهم زه اد آم رون ب المعروف ون اهون عن المنك ر‪،‬‬
‫ومنهم أهل أن واع أخ رى من الخ ير‪ ،‬وال يل زم أن يكون وا مجتمعين بل قد يكون ون متف رقين في‬
‫أقطار األرض) (‪.)221‬‬
‫والذي يظهر لي أن هذه األقوال محصورة بأزم ان قائليه ا‪ ،‬ففي زمن اإلمام أحمد ك ان المحدثون‬
‫حملة الس نة والمن افحين عنها أم ام الفلس فة اليونانية والهندي ة‪ ،‬وأم ام الف رق الباطني ة‪ ،‬وق اموا بجهد‬
‫هائل في جمع الحديث وتص نيفه وتمييز صحيحه من س قيمه‪ .‬ولكن هذا الدور الريادي للمحدثين‬
‫توقف أو ك اد أن يتوقف مع ظه ور الكتب المص نفة في األب واب والمس انيد والمع اجم وال تراجم‬
‫والتواريخ‪ ،‬وساد التقليد في العصور المتأخرة كما هو الحال في سائر أبواب المعارف اإلسالمية‪،‬‬
‫وال يمكننا أن نقول أن فئة المحدثين هي الفئة الظاهرة إلى أن يأتي اهلل بأمره أي قبيل يوم القيامة‪،‬‬
‫ووج ود أف راد قالئل من المح دثين ال يع ني وج ود طائفة فاعلة في المجتم ع‪ ،‬وال ب أس أن ُيق ال إن‬
‫المحدثين كانوا يشكلون بعض هذه الطائفة في وقت سابق‪.‬‬

‫‪ )?(218‬شرح العقائد العضدية لمحمد عبده‪( ،‬ص‪.)5‬‬


‫‪ )?(219‬تفسير المنار ‪ ،‬محمد رشيد رضا (‪.)6/222‬‬
‫‪ )?(220‬زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم للشنقيطي (‪.)5/193‬‬
‫‪ )?(221‬المنهاج في شرح مسلم للنووي(‪.)2/132‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-81-‬‬

‫وإ ذا قال قائل إن الصوفية هي الطائفة الظاهرة‪ ،‬فإن قوله ُيحمل على الزمان الذي كانت فيه هذه‬
‫الفئة فاعلة في المجتم ع‪ ،‬فقد أدت الص وفية دوراً ريادي اً زمن الح روب الص ليبية‪ ،‬وك ذلك ك ان‬
‫دورها ريادي اً في إفريقي ا‪ ،‬عن دما وقفت في وجه الوثنية ثم في وجه الحض ارة الغربي ة‪ ،‬وك انت‬
‫الربط والزوايا قواعد انطالق‪ ،‬انطلق منها اإلسالم إلى قلب إفريقيا‪.‬‬
‫وإ ذا قي ل‪ :‬إن المجاه دين الفلس طينيين ال ذين وقف وا في وجه اإلنجل يز واليه ود هم ه ذه الطائفة ف إن‬
‫ذلك ممكن في ذلك الزم ان عن دما ألف الش نقيطي كتابه زاد المس لم‪ ،‬فيكون ون من ه ذه الطائف ة‪،‬‬
‫ويمكن أن ُيق ال ذلك في كل من حمل راية جه اد في س بيل اهلل في فلس طين وفي غيرها من بالد‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫وال ذي يحل ه ذا اإلش كال هو البحث عن طائفة متنوعة في الكف اءات والطاق ات واإلمكان ات‬
‫واألف راد ‪ ،‬متح دة في الغاية واله دف‪ .‬وما ذهب إليه الن ووي ق ريب من ه ذا‪ ،‬وينقص عبارته‬
‫عنصر التعميم الزماني‪.‬‬
‫وقوله ‪ ( :‬أنواع من المؤمنين منهم شجعان مقاتلون‪ ،‬ومنهم فقهاء‪ ،‬ومنهم محدثون‪ ،‬ومنهم زهاد‬
‫آمرون بالمعروف وناهون عن المنكر) بيان لهذا التنوع‪ ،‬بل فتح الباب ألنواع أخرى عندما قال‪:‬‬
‫( ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير)‪.‬‬
‫وإ ذا أدخلنا في حس ابنا األح وال ال تي تعيش ها األمة منذ ق رن من الزم ان فإننا نجد األمة قد ابتع دت‬
‫في الثقافة والفكر وفي النظم والتشريع عن اإلسالم وانقسمت األمة إلى فئات ثالث‪:‬‬
‫فئة تحارب اإلسالم‪ ،‬وتستعين بحربه بجميع التيارات الوافدة واألفكار المنحرفة‪ .‬وفئة تنافح عن‬
‫اإلسالم وتطالب بتحكيم القرآن الكريم وسنة النبي ‪ ‬في حياة األمة‪ .‬وفئة صرفت جهدها إلى هم‬
‫المع اش وتلبية الحاج ات ‪ ،‬وال تعت ني بالص راع بين الحق والباط ل‪ ،‬إال إذا تعرضت مص الحها‬
‫للتوقف‪.‬‬
‫ويمكننا أن نق ول بكل ثقة إن ه ذه الفئة المنافحة عن اإلس الم الداعية إلى تحكيم ش ريعته ‪ ،‬القائمة‬
‫ب أمر اهلل تع الى هي الطائفة الظ اهرة‪ ،‬وهي متنوعة في الطاق ات واإلمكان ات‪ ،‬متح دة في األه داف‬
‫والغايات‪ ،‬وال تكون هذه الطائفة على المستوى المطلوب إال بالعلم والفقه الذي يساعد هذه الطائفة‬
‫على فهم أحك ام الش ريعة ومعرفة عقي دة اإلس الم ونظمه وكيفية ال دعوة إلي ه‪ .‬وال تك ون الجماعة‬
‫جماعة إال إذا وجد ال والء بين أفراده ا‪ ،‬وال تك ون جماعة إال إذا ق امت على الس مع والطاعة‬
‫وااللتزام‪.‬‬
‫ف العلم الش رعي ش رط من ش روطها‪ ،‬والعمل الش رعي ش رط ك ذلك‪ ،‬وال والء واالل تزام ص فتان‬
‫الزمت ان له ا‪ .‬وقد ج اءت بعض رواي ات الح ديث ال تي يفهم منها ش رط العلم والفقه كالرواية ال تي‬
‫أخرجها البخ اري وج اء فيه ا‪ ( :‬من ي رد اهلل به خ يراً يفقهه في ال دين‪ ،‬وإ نما أنا قاسم واهلل يعطي‪،‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-82-‬‬

‫ولن ت زال ه ذه األمة قائمة على أمر ربه ا‪ ،‬ال يض رهم من خ الفهم ح تى ي أتي أمر اهلل) (‪ .)222‬وفي‬
‫رواية أخ رى‪( :‬ولن ي زال أمر ه ذه األمة مس تقيماً ح تى تق وم الس اعة أو ح تى ي أتي أمر اهلل)(‪.)223‬‬
‫وقد فهم الكرم اني من ه ذه الرواية أن من جملة االس تقامة التفق ه؛ ألنه األصل ‪ ،‬ثم ق ال ‪ :‬وبه ذا‬
‫ترتبط األخبار المذكورة(‪.)224‬‬
‫وقد ترجم اإلمام البخاري لباب من أبواب كتابه فقال‪ ( :‬باب وكذلك جعلناكم أمة وسطاً ‪ ،‬وما أمر‬
‫النبي ‪ ‬من لزوم الجماعة وهم أهل العلم) (‪.)225‬‬
‫ق ال ابن حج ر‪ ( :‬فع رف أن الم راد بالوصف الم ذكور أهل الس نة والجماع ة‪ ،‬وهم أهل العلم‬
‫الشرعي‪ ،‬ومن سواهم ولو نسب إلى العلم فهي نسبة صورية ال حقيقية) (‪.)226‬‬
‫وبقي أن ُيق ال إن عامة الن اس ال ت دخل في ه ذه الطائفة إال إذا تف اعلت مع اإلس الم وأحكام ه‪،‬‬
‫ودخلت في حلبة الصراع لنصرة الحق وأهله‪ ،‬وإ ذا قيل‪ :‬ما المراد من قوله عليه الصالة والسالم‬
‫"فعليكم بالسواد األعظم"؟ وهل المراد عامة الناس وجمهورهم؟ أم فئة من الناس وخاصتهم؟‪.‬‬
‫فيجيب على ه ذا اإلم ام الش اطبي في كتابه االعتص ام حيث يق ول ‪ :‬روي أبو نعيم عن محمد بن‬
‫القاسم الطوسي قال‪ :‬سمعت إسحاق بن راهوية‪ ،‬وذكر في حديث رفعه إلى النبي ‪ ‬قال ‪ :‬إن اهلل‬
‫لم يكن ليجمع أمة محمد على ضاللة‪ ،‬فإذا رأيتم االختالف فعليكم بالسواد األعظم‪ .‬فقال رجل‪ :‬يا‬
‫أبا يعقوب ‪ ،‬من السواد األعظم ؟ فقال‪ :‬محمد بن أسلم وأصحابه ومن تبعهم‪ ،‬ثم قال ‪ :‬سأل رجل‬
‫ابن المب ارك‪ :‬من الس واد األعظم؟ ق ال ‪ :‬أبو حم زة الس كري‪ .‬ثم ق ال‪ :‬في ذلك الزم ان ( يع ني أبا‬
‫حم زة) وفي زماننا محمد بن أس لم ومن تبع ه‪ ،‬ثم ق ال إس حاق‪ :‬لو س ألت الجه ال عن الس واد‬
‫األعظم‪ ،‬لقالوا جماعة الناس‪ ،‬وال يعلمون أن الجماعة عالم متمسك بأثر النبي ‪ ‬وطريقه‪ ،‬فما كان‬
‫معه وتبعه فهو الجماع ة‪ .‬ثم ق ال الش اطبي‪ :‬ف انظر في حكايته تت بين غلط من ظن أن الجماعة هي‬
‫جماعة الن اس‪ ،‬وإ ن لم يكن فيهم ع الم ‪ .‬وهو وهم الع وام‪ ،‬ال فهم العلم اء فليثبت الموفَّق في ه ذه‬
‫المزلة قدمه(‪.)227‬‬
‫وما ذهب إليه إس حاق بن راهويه فهم عميق ل دور الجماعة المس لمة والطائفة الظ اهرة ال تي تتمتع‬
‫بدرجة من الوعي تجعلها تستوعب شريعة اإلسالم وسنة النبي ‪ ‬وتقف في وجه التحديثات الثقافية‬

‫‪ )?(222‬صحيح البخاري ( متن فتح الباري ) (‪.)1/164‬‬


‫‪ )?(223‬صحيح البخاري ( متن فتح الباري ) (‪.)13/293‬‬
‫‪ )?(224‬فتح الباري (‪.)13/293‬‬
‫‪ )?(225‬صحيح البخاري ( متن فتح الباري) (‪.)13/316‬‬
‫‪ )?(226‬فتح الباري ( ‪.)13/316‬‬
‫‪ )?(227‬االعتصام للشاطبي (‪.)2/153‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-83-‬‬

‫واالجتماعية والسياس ية‪ .‬وال يخ رج المس لمون من حالة الغث اء إلى مجتمع الفتح والنصر إال عن‬
‫طريق هذه الجماعة المؤمنة والطائفة الملتزمة بما عليه النبي ‪ ‬وأصحابه‪.‬‬
‫القاعدة السابعة عشرة‬
‫الفهم الصحيح سبيل العمل الصحيح‬
‫الفهم لغة‪:‬‬
‫ال ‪:‬‬ ‫نى كلمة الفهم فق‬ ‫رب مع‬ ‫ان الع‬ ‫احب لس‬ ‫بين ص‬
‫احب‬ ‫رض ص‬ ‫دما تع‬ ‫القلب(‪ .)228‬وعن‬ ‫يء ب‬ ‫معرفتك الش‬
‫اً‪:‬‬ ‫يء‪ ،‬أعلمه ‪ ،‬علم‬ ‫ان لكلمة ( علم )‪ :‬علمت الش‬ ‫اللس‬
‫عرفته(‪.)229‬‬
‫وه ذا يع ني أن كلمة ( الفهم ) فيها مع نى زائد على كلمة (العلم)‪ ،‬ف العلم إدراك يقل عن الفهم ال ذي‬
‫هو إدراك القلب‪ ،‬وه ذا يع ني أن كلمة الفهم تش ارك كلمة العلم في موض وع المعرفة وتزيد عليها‬
‫في أمر إقامة ن وع عالقة مع األش ياء‪ ،‬من خالل الواقع وممارسة المع ارف‪ ،‬مع إدراك أبعادها‬
‫وعالقاتها‪ ،‬لتصبح بعد هذه الممارسة كأنها جزء من الذات‪.‬‬
‫وقد اعت دنا على أن ال نس تخدم كلمة ( فهمت) إال بعد اس تقرار المعلتوم ات والوص ول إلى تص ور‬
‫كامل له ا‪ ،‬وتطبيقها لالطالع على ج وانب ال نصل إليها بمجر المعرف ة‪ ،‬فالط الب ال يفهم المعادلة‬
‫الكيماوية بمج رد إدراك رموزها ولو ذكر المعلم نت ائج التفاع ل‪ ،‬ما لم ي ذهب إلى المخت بر ليش اهد‬
‫بنفسه تلك المعادلة على ش كل م واد تتفاع ل‪ ،‬وتنتج م واد جدي دة يراها الط الب بعينيه ‪ ،‬ويس مع‬
‫أصواتاً جديدة يسمعها بأذنيه ويشم روائح جديدة ‪ ،‬وعندئذ تتحول قراءته للمعادلة إلى قراءة جديدة‬
‫وهي ق راءة فهم؛ ألنه ي درك بوجدانه وقلبه أش ياء كث يرة ال يتم تس جيلها أو التعب ير عنها ب الرموز‪،‬‬
‫وعن دما تتع دد الوس ائل المدركة وتك ثر فإنها تحت اج إلى معرفة بأفراده ا‪ ،‬وإ لى معرفة أخ رى‬
‫بالعالقات فيما بينها‪.‬‬
‫ف إذا اقتصر على الن وع األول من المعرفة فإنها تك ون معرفة تحليلية جزئي ة‪ ،‬والمعرفة التحليلية‬
‫الجزئية هي سبب من أسباب تخلف الفهم‪ ،‬فقد ابتلى المسلم المعاصر بهذا النوع من المعرفة الذي‬
‫قد يظهر فيها العلم في أعلى ص وره‪ ،‬إلى ج انب الجهل في أدنى ص وره‪ .‬فقد رأينا فقه اء وعلم اء‬
‫لهم حظ كب ير من العلم في تخصص اتهم ولكنهم ال يس توعبون حركة ه ذا التخصص ض من‬
‫مجموعة المعارف‪ ،‬وال يركزون على مكان هذا التخصص ضمن األمكنة األخرى‪ ،‬وال يبحثون‬
‫عن العالق ات والروابط بين ه ذا التخصص والتخصص ات األخ رى‪ ،‬وال يعيش ون بتخصص هم في‬
‫البناء المتكامل لقضايا اإلسالم‪.‬‬

‫لسان العرب (‪.)15/357‬‬ ‫‪)?(228‬‬


‫لسان العرب (‪.)15/311‬‬ ‫‪)?(229‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-84-‬‬

‫وتكمن خط ورة ه ذا الن وع من المعرفة في ظه ور م رض نس تطيع أن نس ميه تض خم الفهم" وهو‬


‫م رض البد أن ينتج بالمقابل ض مور الفهم‪ ،‬فه ذا المس لم المس تغرق بنش اط واحد ون وع واحد من‬
‫المعارف اإلسالمية‪ ،‬يصاب باستيالء هذا النوع عليه ‪ ،‬فيظن أن األمور كلها مبنية عليه ومستمدة‬
‫من ه‪ ،‬وليس ه ذا الض رب من الخلل أو الم رض ح ديثاً على األمة بل هو ق ديم‪ ،‬حيث ك ان بعض‬
‫العلماء يرى العلم كله في الفقه وآخرون يرون العلم كله في الحديث ‪ ،‬وغيرهم يرون العلم كله في‬
‫التفس ير ‪ ،‬ونش أت م ذاهب جدي دة‪ ،‬بعض ها ي رى الحل كله في التربية الخلقية والته ذيب‪ ،‬وبعض ها‬
‫يرى الخلل كله في التفكير السياسي‪ ،‬وبعضها يرى الحل كله في العمل العسكري‪ ،‬إلى غير ذلك‬
‫من مظاهر تضخم الفهم وضموره‪.‬‬
‫أركان الفهم‪:‬‬
‫وخروج اً من أزم ات الفهم وأمراضه البد من تحليل منطقي ألرك ان الفهم كي نتج اوز مرحلة‬
‫المعرفة الجزئية إلى مرحلة المعرفة الكلي ة‪ ،‬وكي نخ رج من المرحلة الذرية ال تي تظهر فيها‬
‫المعارف على شكل ذرات متناثرة‪ ،‬وهي الحالة التي يعاني منها المسلمون في الفكر وفي السلوك‬
‫على الس واء‪ ،‬وه ذا يس اعدنا على عالج المظ اهر االجتماعية والس لوكية بعد معالجة األس اس‬
‫النظ ري والفك ري‪ ،‬وفي ض وء ه ذا التحليل يمكننا أن نضع العالج لما ك ان ُيش ار إليه من‬
‫األم راض‪ ،‬كما ك ان ُينسب إلى الش يخ محمد عب ده قول ه‪ ( :‬ما أق وى المس لمين أف راداً وأض عفهم‬
‫جماعة‪ ،‬وما أعظم اإلسالم وأضعف المسلمين)‪.‬‬
‫وه ذا الم رض البد أن يك ون ناش ئاَ عن خلل في معادلة الفهم ب أن يك ون اإلس الم بوض عه النظ ري‬
‫المفرق ال بوضعه النظري المركب هو السائد في العقول والنفوس‪.‬‬
‫وإ نه لمن الض روري أن أش ير إلى ض رورة ف رز مرحلة التفهم الس قيم من مرحلة الفهم الس ليم في‬
‫الت اريخ اإلس المي ‪ ،‬وإ ن ك انت الحاجة ماسة الي وم إلى اس تنباط الفهم الس ليم؛ ألن ه ذا الف رز‬
‫يساعدنا على فهم التاريخ اإلسالمي ومعرفة أسرار القوة والضعف فيه‪ ،‬إذ لم يعد يجدي أن ُيكتفى‬
‫بالقول إن عصر النبوة والخالفة الراشدة هو عصر قوة ونشاط‪ ،‬والعصور التالية عصور ق ّل فيها‬
‫النش اط إلى أن وصل الح ال إلى ما ُيس مى بعصر االنحط اط‪ ،‬فالبد من تحليل الفهم واس تحداث‬
‫معايير لهذا الفهم كي نتمكن من تجاوز عصور االنحطاط إلى عصور العمل والنشاط‪ ،‬وبذلك فقط‬
‫نستطيع أن نتجاوز تلك الهوة السحيقة بين العصور األولى والعصر الحديث‪.‬‬
‫خارطة الفهم‪:‬‬
‫ولفهم أركان الفهم فإننا نصور الفهم بخارطة جغرافية البد أن تجتمع فيها أركان ثالثة‪:‬‬
‫الركن األول‪:‬‬
‫اش تمال ه ذه الخارطة على جميع األج زاء من الم دن والق رى والتض اريس والط رق والجب ال‬
‫واألنهار ‪ ،‬وتكون هذه الخارطة معبرة عما ترمز إليه بمقدار اشتمالها على مكونات ما ترمز إليه‪.‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-85-‬‬

‫وخارطة الفهم اإلسالمي البد أن تشتمل على مكون ات اإلسالم ‪ ،‬فإذا ك انت هذه الخارجة متكاملة‬
‫كان الفهم متكامالً ‪ ،‬وبمقدار نقصها يكون الفهم ناقص اً‪ .‬والجدير بالذكر أن نقص الفهم يؤدي إلى‬
‫نقص في الل وك والعمل ‪ ،‬بل وفي التص ور‪ ،‬ويق ود بالت الي إلى فهم آخر ُيخ رج ص احبه عن‬
‫الصراط المستقيم‪ ،‬فال يصل صاحب هذا الفهم الناقص إلى األهداف المتوخاة‪.‬‬
‫إن بعض الع املين لإلس الم يع انون من فشل ناشئ عن نقص خارطة فهمهم ‪ ،‬فعن دما يط رح مس لم‬
‫ما فكره اإلسالمي خالياً من تصور الحكم والسياسة‪ ،‬أو خالي اً من تربية النفس وتزكية الروح ‪ ،‬أو‬
‫خالي اً من تربية العقل وتنش يط الفك ر‪ ،‬أو خالي اً من تربية الب دن وتقوية األجس اد‪ ،‬أو مرك زاً على‬
‫صالح الفرد بعيداً عن صالح المجتمع فإن مثل هؤالء جميع اً يشكلون أزمة فهم ال تسبب تأخير‬
‫المسيرة فقط بل قد تؤدي إلى جنوح المسيرة وشطط يخرج عن الصراط السوي‪.‬‬
‫إن ش مولية اإلس الم ليست موضع اجته اد بل هي ش مولية نص ية ال يج وز بح ال من األح وال‬
‫تجاوزها‪ ،‬والذي يريد أن ُيخرج بعض مشتمالت اإلسالم منه تحت ضغط واقع معين يحمله على‬
‫ح ذف ش يء من اإلس الم فإنه ي رتكب ب ذلك كب يرة في ال وقت ال ذي يظن فيه أنه يحسن عمالً ‪،‬‬
‫وسيؤدي فعله هذا إلى تكوين عقول يتطاول عليها األمد وتتصلب على هذا الفهم السقيم‪.‬‬
‫لقد آن األوان للمسلمين أن ينظروا إلى نقص الفهم واجتزائه بالدرجة نفسها التي ينظرون فيها إلى‬
‫نقص اإلخالص‪.‬‬
‫إن النتيجة األرض ية ال تي ينتجها نقص الفهم ونقص اإلخالص واح دة وهي الفش ل‪ .‬وال نتع رض‬
‫للنتيجة األخروية؛ ألننا ننظر إلى المسألة نظرة عملية‪ ،‬وال ينبغي أن نهمل فكرة نجاح العمل في‬
‫ال دنيا لما ي ترتب عليه من ظه ور الحق وزه وق الباط ل‪ ،‬وهي نتيجة تتحقق معها جدية اإلس الم‪،‬‬
‫وتظهر من خاللها أحقيته لكل ذي عينين‪.‬‬
‫الركن الثاني‪:‬‬
‫ولفهم خارطة الفهم البد من تص ور الخارطة الجغرافية المش تملة على جميع األج زاء‪ ،‬وقد أخ ذت‬
‫أجزاؤها األحج ام الطبيعي ة‪ ،‬ال تختل ه ذه األحج ام ال تص غيراً وال تكب يراً‪ ،‬وعن دما تختل األحج ام‬
‫تك ون الخارطة خادع ة‪ ،‬وك ذلك ف إن خارطة الفهم تك ون خادعة ألص حابها عن دما ُيكبِّرون‬
‫وي ِّ‬
‫صغرون أجزاء فهمهم‪.‬‬ ‫ُ‬
‫إن من يضع على عينيه عدسة مك برة أو ينظر من خالل المجهر البد أن يضع في اعتب اره أن ما‬
‫يراه من األحجام والمسافات ليس حقيقياً‪ ،‬فإذا تصور هذا األشياء حقيقة فسيتصرف تصرفاً خاطئ اً‬
‫؛ ألنه سيظن أن الجسم الذي رآه عن طريق المنظار على مس افة أمتار منه وهو في الواقع بعي د‪،‬‬
‫وسيتص رو أن ال ذرة الص غيةر جسم كب ير يحت اج إلى ق وة كب يرة‪ ،‬وهي في الحقيقة ال تقع تحت‬
‫اللمس أو تحت الحركة‪.‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-86-‬‬

‫وقد أصيب بعض المسلمين بهذا النوع من التضخم في فهمهم ألمور اإلسالم وقضاياه‪ .‬فالكالم في‬
‫موضوع الخالفة والعمل من أجلها ضروري للفهم الصحيح‪ ،‬ولكن أن يستغرق الكالم عن الخالفة‬
‫مس احة اإلس الم إلى درجة تص غر معها األج زاء األخ رى ح تى تك اد تخ رج عن االهتم ام هو أمر‬
‫يقضي على الخالفة نفسها‪ ،‬والنظر إلى تربية الروح وتزكيتها نظرة استغراق تخضع جميع أنواع‬
‫النش اط لس يطرتها وهيمنتها بحيث تص غر أم ور اإلس الم األخ رى هو أمر يقضي على ال روح‬
‫نفسها؛ ألنه ال يقول عاقل بأن التضخم حالة صحية ‪ ،‬بل هو حالة مرضية ‪ ،‬وكذلك تضخم الفهم‪.‬‬
‫لقد أصيب بعض العاملين للغسالم بمثل هذا التضخم إلى درجة أنهم ثبتوا اهتمامهم في زاوية من‬
‫الزوايا ولم يخطر على ب الهم س وى ه ذه الزاوي ة‪ ،‬فأص بحت ح التهم ح ال الم ريض ال ذي أص يب‬
‫به ذيان فال تس مع منه س وى كلمة وانح دة يردده ا‪ ،‬وكلما ح اولت أن تعي ده إلى الت وازن ض جر‬
‫بمحاولتك ليعود إلى هذيانه‪.‬‬
‫إن تص ور األحج ام المناس بة لعناصر الفهم ش رط أس اس للعمل ‪ ،‬ف إذا اختلت األحج ام فإنه البد أن‬
‫يع ود خللها على الخطة والفهم ‪ ،‬وبالت الي على النت ائج والثم رات‪ .‬وإ ن االنحراف ات الكب يرة في‬
‫تاريخ البشرية كانت ترجع في كثير من األحيان إلى الخلل في مساحات الفهم وأحجامه‪ ،‬فاليهود‬
‫ال ذين ال يعرف وا من دينهم إال أنهم ش عب اهلل المخت ار جعلهم فهمهم ه ذا يتج اوزون ح دودهم إلى‬
‫درجة يتصورون معها تفوق عرقهم على كل عرق‪ ،‬وطالبوا بإخضاع كل شيء لطموح ات هذا‬
‫العرق ورغباته حتى اهلل تعالى ‪ ،‬فقد صورت لهم أنفسهم تفوقهم عليه‪.‬‬
‫وكذلك النصارى الذين رثوا لحال عيسى عليه السالم فلم يجدوا تعبيراً يناسب هذا الرثاء إال نعته‬
‫بنع وت التأليه والتعظيم ليص بح فيما بعد إله اً على حد زعمهم ‪ ،‬لقد اختلطت العظمة باأللوهية ولم‬
‫يعد من السهل تمييزها فانحرفوا وضلوا‪.‬‬
‫وكذلك أمر مشركي العرب الذين كانوا يعظمون بعض رجالهم‪ ،‬ثم انتقل التعظيم إلى اآلثار التي‬
‫ع اش الرج ال على مقربة منه ا‪ ،‬ثم نس وا أولئك الرج ال لتحل األص نام محلهم وتس تولي على‬
‫عقولهم وقلوبهم‪ ،‬وهكذا فلو أننا سرنا مع شعوب األرض لوجدنا أن هذه الشعوب قد أصيبت في‬
‫فهمها أكثر مما أصيبت في إخالصها للمعتقدات‪.‬‬
‫وليس أمر كثير من المس لمين بعيداً عن ه ذا‪ ،‬ومع أن المسلم يبقى في دائرة اإلسالم في كثير من‬
‫األحيان مع تضخم فهمه‪ ،‬لكنه لن يصل إلى النتائج التي يطمح للوصول إليها‪.‬‬
‫إن الفرق اإلسالمية هي تعبير عن تضخم الفهم وخلله‪ ،‬فالقدرية الذين أنكروا القدر قوم متصفون‬
‫بالص الح والتقى‪ ،‬ولكنهم وقع وا في أزمة فهم جعلتهم ينف ون الق در ويتص ورون أن علم اهلل تع الى‬
‫ليس أزلي اً بل هو علم ح ادث يك ون بعد ح دوث األش ياء‪ .‬لقد أرادوا تنزيه اهلل تع الى عن الظلم‪،‬‬
‫وتضخم هذا الجانب في نفوسهم وبالغوا فيه حتى أوقعهم بوصف اهلل تعالى باجلهل ‪ ،‬فخرجوا عن‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-87-‬‬

‫قاعدة التنزيه وهم يريدون التنزيه‪ ،‬ونجد هذا في الحديث الذي أخرجه اإلمام مسلم(‪ .)230‬عن ابن‬
‫عمر عندما جاء يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري فقاال له ‪ :‬إن قبلنا أناس اً يقرؤون‬
‫(‪)231‬‬
‫العلم وذك روان من ش أنهم ‪ ،‬أي من زه دهم وعب ادتهم‪ ،‬وأنهم يقول ون ‪ :‬ال‬ ‫الق رآن ويتقف رون‬
‫داء ‪ ،‬فق ال ابن عم ر‪ :‬إذا لقيت أولئك‬
‫ق در‪ ،‬وأن األمر ُُأنف ( أي مس تأنف ) ال يعلمه اهلل ابت ً‬
‫فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برءاء مني ‪ ،‬فوالذي يحلف به عبداهلل بن عمر لو أن ألحدهم مثل‬
‫أحد ذهباً فأنفقه ما تقبل منه إال أن يؤمن‬
‫بالق در ‪ ،‬ثم س اق الح ديث ال ذي يتن اول قصة مجيء جبريل عليه الس الم إلى الن بي ‪ ‬وفيه بي ان‬
‫أركان اإليمان‪.‬‬
‫وقد وصل األمر ببعض دع اة التنزيه إلى درجة نف وا معها الص فات بحجة توحيد اهلل تع الى‬
‫مخلص ين فيما ذهب وا إليه في التعطي ل‪ ،‬والمش بهة والمعطلة س واء في النتيجة ‪ ،‬وال ينبغي أن‬
‫توصف فئة منهم بالعبقرية والتم يز كما ح اول المستش رقون وتالم ذتهم أن يص فوا المعتزلة‬
‫بأصحاب الفكر الحر والعقل النير وهم في الحقيقة أناس جنحوا في فهمهم‪.‬‬
‫وكذلك األمر بالنسبة للشيعة الذين أحبوا علي اً رضي اهلل عنه وآله ‪ ،‬ورثوا لما أصابهم‪ ،‬فأخرجهم‬
‫هذا الرثاء عن جادة الفهم حيث تضخم جانب الحب والمواالة‪ ،‬وسيطر على فهمهم ووجه حركتهم‬
‫ع بر الت اريخ توجيه اً خاطئ اً ‪ ،‬وك ان ينبغي أن يعلم وا أنه ال يل زم من حب إنس ان أن نخرجه عن‬
‫األطوار البشرية‪ ،‬ونرتب جميع األوراق التاريخية السابقة والالحقة تبعاً لهذا الجانب‪.‬‬
‫وأما الخ وارج فهم فئة تم يزت بجهادها وثباتها وص البتها وإ قبالها على العب ادة وق راءة الق رآن ‪،‬‬
‫(‪)232‬‬
‫ولكنهم أصيبوا بتضخم الفهم عندما عجزوا‬ ‫وهم كما ُوصفوا ( أنضاء عبادة واطالح سهر )‬
‫عن تص ور الجمع بين ك ون المس لم عاص ياً وكونه مؤمن اً في وقت واح د‪ ،‬فحملهم طلب وض وح‬
‫الموقف وتحديده من المعصية على تكفير المسلمين فوقعوا في معصية أكبر ‪ ،‬لقد غاب عنهم أن‬
‫النص وص الش رعية لها أص ول تفهم من خاللها ‪ ،‬وأن التع ارض فيما بينها هو تع ارض ظ اهري‬
‫يزول بالعلم والرؤية الواسعة‪.‬‬
‫وعند فق دان األص ول والعلم يص بح التع ارض ش بحاً ثقيالً على العق ل‪ ،‬فيحمل المس لم على اختي ار‬
‫نص وط رح نص آخ ر‪ ،‬وهو في ال وقت ال ذي يريد تحكيم ش ريعة اهلل من خالل ش عار ( إن الحكم‬
‫إال هلل ) يكون قد رفض شريعة اهلل برفضه نص اً من النصوص أو حكم اً من األحكام‪ ،‬ولبيان هذا‬
‫األمر لما له من األهمية نمثل بنصين يبدو فيهما التعارض ‪.‬‬

‫صحيح مسلم ‪ ،‬كتاب اإليمان ‪ ، 1/37‬ح‪. 1‬‬ ‫‪)?(230‬‬


‫يطلبونه ويجمعونه‪.‬‬ ‫‪)?(231‬‬
‫أنضاء ‪ :‬هزل األجساد من طول العبادة‪ .‬أطالح ‪ :‬من طلح ‪ ،‬بمعنى أعياه‪.‬‬ ‫‪)?(232‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-88-‬‬

‫النص األول ‪ :‬أخ رج اإلم ام البخ اري ومس لم ح ديثاً ج اء فيه ( من قتل نفسه بحدي دة فهو في ن ار‬
‫جنهم يتوجأ بحديدته خال داً مخل داً فيها ‪ ،‬ومن تج رع س ماً فهو في ن ار جهنم يتجرعه خال داً مخل داً‬
‫فيها) (‪.)233‬‬
‫وظ اهر ه ذا النص يفيد أن من قتل نفسه فهو خالد في الن ار ‪ ،‬والخل ود في الن ار ج زاء الكف ار‪،‬‬
‫وعليه فقتل النفس كبيرة يخلد صاحبها في النار‪.‬‬
‫النص الثاني ‪ :‬أخرج اإلمام مسلم في صحيحه من طريق جابر أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى‬
‫النبي ‪ ‬فقال ‪ :‬هل لك في حصين حصين ومنعة‪ ،‬قال حصن كان لدوس في الجاهلية‪ ،‬فأبى ذلك‬
‫الن بي ‪ ‬لل ذي ذخر اهلل لألنص ار فلما ه اجر الن بي ‪ ‬إلى المدينة ه اجر إليها الطفيل بن عم رو‬
‫(‪)235‬‬ ‫(‪)234‬‬
‫له فقط بها‬ ‫المدينة ‪ ،‬فم رض فج زع فأخذ مش اقص‬ ‫وه اجر معه رجل من قومه ف اجتووا‬
‫(‪)236‬‬
‫فشخبت يداه حتى مات ‪ ،‬فرآه الطفيل في منامه‪ ،‬وهيئته حسنة ‪ ،‬ورآه مغطي اً يديه ‪،‬‬ ‫براجيمه‬
‫فقال له ما صنع بك ربك ؟ ‪ ،‬فقال ‪ :‬غفر لي بهجرتي إلى نبيه ‪ ‬فقال ‪ :‬مالي أراك مغطي اً يديك ‪،‬‬
‫ق ال ‪ :‬قيل لي لن نص لح منك ما أفس دت ‪ ،‬فقص ها الطفيل على رس ول اهلل ‪ ‬فق ال رس ول اهلل ‪: ‬‬
‫( اللهم وليديه فاغفر) (‪.)237‬‬
‫وهذا النص يفيد أن قاتل نفسه ليس مخلداً في النار بل هو في الجنة كما أخبر النبي ‪ ‬بإقراره رؤيا‬
‫الطفيل‪ ،‬ودعائه لقاتل نفسه بالمغفرة‪.‬‬
‫ويبدو التعارض الظاهري بين هذين النصين‪ ،‬ولكن علماء العقيدة أزالوا هذا التعارض من خالل‬
‫فهمهم الم تزن ‪ ،‬فحمل وا النص األول على أن من قتل نفسه وهو مس تحل له ذا الفعل أي معتق داً‬
‫حله‪ ،‬ومن اعتقد حل شيء حرمه اهلل فهو كافر خالد مخلد في النار‪.‬‬
‫وأما النص الث اني‪ :‬فقد ك ان الفعل ناتج اً عن ض جر وس أم ال عن اس تحالل ما ح رم اهلل‪ ،‬فلم يكن‬
‫قاتل نفسه ك افراً وال خال داً مخل داً في الن ار ‪ ،‬بل هو مق ترف لمعص ية مع بق اء أصل اإليم ان في‬
‫نفس ه‪ ،‬ويبقى في دائرة وزن األعم ال وعرضها على اهلل ال في دائ رة حب وط األعم ال وركمها في‬
‫جهنم‪ ،‬وإ ذا دخل الم ؤمن الن ار عقوبة على معص ية فعلها فس يخرج منها بعد أن ين ال ج زاءه إذ ال‬
‫خلود ألهل اإليمان في النار‪.‬‬

‫صحيح البخاري ‪ 0‬فتح الباري ) ‪ ،‬ط السلفية ‪ ، 10/247‬ح ‪ .5778‬صحيح مسلم‪،‬‬ ‫(?)‬ ‫‪233‬‬

‫كتاب اإليمان ‪ ،1/103‬ح ‪.175‬‬


‫فاجتووا المدينة ‪ ،‬قال الخطابي ‪ :‬أصله من الجوى ‪ ،‬داء يصيب الجوف ( أصابهم فيها سقم)‪.‬‬ ‫‪)?(234‬‬
‫مشاقص ‪ :‬جمع مشقص ‪ ،‬سهم فيه نصل رفيع‪.‬‬ ‫‪)?(235‬‬
‫برامجية ‪ :‬مفاصل اإلصبع‪.‬‬ ‫‪)?(236‬‬
‫صحيح مسلم ‪ ،‬كتاب اإليمان ‪ ، 1/109 ،‬ح ‪.184‬‬ ‫‪)?(237‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-89-‬‬

‫وأما في العصر الح ديث فقد أص يب بعض ال دعاة بمثل ه ذه األزمة في الفهم فنظ روا إلى العص اة‬
‫والجالدين نظ رة جعلتهم يحكم ون عليهم ب الكفر والخل ود في الن ار ‪ ،‬ظن اً أنهم ال يس تطيعون تعبئة‬
‫الرأي العام ضدهم‪ ،‬وال يمكنهم إقناع الناس بفساد هؤالء إال إذا استندوا إلى نصوص تحكم عليهم‬
‫بالكفر والخلود‪.‬‬
‫وه ذه الفئة يمكن أن ُيق ال فيها إن فكرها قد انح رف في ظل الفتنة ‪ ،‬وك ان ينبغي أن يحافظ الفكر‬
‫على طبيعته ومنهجه ح تى في ظل الفتنة ‪ ،‬بل نحن أح وج إلى الفكر الم تزن في الفتنة أك ثر منه‬
‫خارجها‪.‬‬
‫ف الفكر ال يتع رض لالنح راف في األح وال العادية ‪ ،‬وإ نما يتع رض لالنح راف في المنعطف ات‬
‫الحادة‪ ،‬فإذا وقعت األجساد اسيرة آلالم السياط فال ينبغي لألفكار أن تلتوي كما تتلوي األجساد‪.‬‬
‫إن قس اوة قلب الس جان ‪ ،‬وانح راف فط رة الجالد هما مظه ران من مظ اهر الس وء ودليالن على‬
‫فساد القلوب ‪ ،‬ولكننا نضعهما في مكانهما في مقاييس الشر ‪ ،‬والبد أن ُيقتص من كل ظالم‪ ،‬ولكن‬
‫ال ينبغي أن يصل األمر إلى درجة التكف ير ؛ ألن التكف ير ال يك ون إذا إذا أنكر المس لم معلوم اً من‬
‫الدين بالضرورة ‪ ،‬باإلقرار على نفسه بالكفر أو إنكار آية من كتاب اهلل ‪ ،‬أو باستحالل ما حرم اهلل‬
‫أو بتحريم ما أحل اهلل ‪.‬‬
‫إن الفهم المتزن يجعلنا نستطيع أن ندرك هذه المعادلة ‪ ،‬ويمكن عندئذ أن يحكم الرجل على جالده‬
‫بالمعص ية ال ب الكفر‪ ،‬في حين يحكم ب الكفر على رجل رثى لحاله ومسح على جراحه وواف اه‬
‫بطعامه وش رابه‪ ،‬ولكنه همس همسة واح دة ق ال فيها إن الش يء الفالني ال ذي حرمه اهلل ك ان أولى‬
‫أن يك ون حالالً ‪ ،‬أو إن الش يء الفالني ال ذي أحله اهلل ك ان األولى أن يك ون حرام اً‪ .‬ونحن حين‬
‫ن رى ش ارب الخمر ال يج وز أن نحكم عليه ب الكفر‪ ،‬وقد ن رى آخر ال يش ربها ويعافها ولكننا نحكم‬
‫عليه بالكفر عندما يقول ‪ :‬ما ينبغي أن تكون الخمر حراماً‪.‬‬
‫الركن الثالث‪:‬‬
‫دل مواقعها ‪ ،‬بل يظهر كل عنصر في مكانه‬ ‫أن تأخذ عناصر الفهم أماكنها الطبيعية فال تتب‬
‫الط بيعي ض من سلس لة األولوي ات؛ وذلك ألن طريقة ت رتيب األولوي ات تس هم في تغي ير المنهج‬
‫وطريقة التفك ير ‪ ،‬فيك ون االختالف بين جم اعتين ليس في وج ود عناصر الفهم‪ ،‬ولكن في ت رتيب‬
‫ه ذه العناصر ‪ ،‬كما أن الب دء في المرحلة قبل أوانها يقضي على المرحلة نفس ها‪ ،‬ولقد رأينا ص نع‬
‫أع داء اإلس الم وهم يح اولون في كث ير من األحي ان أن يج روا العمل اإلس المي إلى مرحلة لم ُيعد‬
‫الع دة لها ‪ ،‬ولم يس توعب ش روطها ومقوماتها ‪ ،‬وك ان ه ذا ي ؤدي باس تمرار إلى إجه اض العمل‬
‫اإلسالمي باستخدام هذه األمصال القاتلة‪.‬‬
‫فممارسة القت ال هو ذروة س نام اإلس الم ‪ ،‬ومك ون من مكون ات اإلس الم يه دف إلى مقارعة الفتنة‬
‫والقض اء عليها ‪ ،‬وتمهيد الطريق النتش ار ال دعوة ووص ولها إلى كل مك ان وإ زاحة العقب ات من‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-90-‬‬

‫طريقها ‪ ،‬والبد أن تحت وي عليه خارطة الفهم‪ ،‬ومن يط الب بإلغ اء الجه اد من الفهم فإنه يكفر‬
‫ويخرج من الملة‪.‬‬
‫فقد كفرت القاديانية عندما عطلت هذه الشعيرة على المستوى النظري وحذفتها نهائي اً من خارطة‬
‫فهمها ‪ ،‬وص ور لها دجالها أن اإلس الم يمكن أن يتم ويكمل بغ ير جه اد‪ .‬ومع أن للجه اد ه ذها‬
‫ألهمية وهو فريضة من ف رائض ال دين إال أن له ش روطاً ومق دمات البد من اكتماله ا‪ ،‬ح تى نصل‬
‫إلى مكان القتال وفق ترتيبه في سلم األولويات ‪ ،‬وقدوتنا في هذا سيد المجاهدين النبي محمد ‪، ‬‬
‫ال ذي لم ي أذن ألص حابه بالقت ال إال بعد هج رتهم للمدين ة‪ ،‬علم اً ب أن األس باب الداعية للقت ال ك انت‬
‫موجودة قبل ذلك ‪ ،‬ولكن الشروط الضرورية للقتال لم تكن موجودة‪.‬‬
‫ونحن في ه ذه األي ام نواجه أزمة فكرية عند بعض الع املين لإلس الم ال ذين يظن ون أن ت وافر‬
‫األسباب وغزارتها يغني عن توافر الشروط‪ ،‬فهم يريدون القتال على أي حال ‪ ،‬وهذه معادلة ذات‬
‫شق واح د‪ ،‬ت ؤدي إلى نتيجة عكس ية ‪ ،‬وقد آن األوان ال ذي تُعتمد فيه القي ادة الراش دة‪ ،‬ص احبة‬
‫المنهج والفهم‪ ،‬كما آن األوان للمتعجلين أن ي دركوا ض رورة ه ذا الرشد ‪ ،‬ومع نى بعد النظ ر‪،‬‬
‫واتباع قاعدة األولويات‪ ،‬حتى ال يقع العمل اإلسالمي في المصيدة التي ينصبهاه له أعداؤه‪ ،‬وقد‬
‫ت بين بما ال ي دع مج االً للشك أن مثل ه ذه الممارس ات ك انت ع امالً في تجريد المجتمع من الق وة‬
‫اإلسالمية‪.‬‬
‫مراجعة الفهم‪:‬‬
‫وللمحافظة على ه ذا الفهم في ح دود أركانه البد من استحض ار العناصر واألولوي ات ‪ ،‬وأن ال‬
‫تغيب ه ذه األم ور عن الع املين لإلس الم‪ .‬كما ينبغي أن ال يص رفنا االنهم اك في مرحلة من‬
‫المراحل عن استحض ار التص ور ال ذهني والنظر لجميع المراحل ‪ ،‬وه ذا ش رط الس تقرار المنهج‬
‫وس المة التفك ير ‪ ،‬وإ ن أس باب التس رب في العمل اإلس المي ترجع في كث ير من األحي ان إلى ع دم‬
‫استحض ار ه ذه األم ور أو إلى نش اط مب الغ فيه ض من جزئية من ه ذه الجزئي ات ‪ ،‬ومن أجل ذلك‬
‫نجد بعض ال دعاة ليس وا ق ادرين على مواكبة ال دعوة‪ ،‬وقد يس يرون فيها بأجس ادهم أك ثر مما‬
‫يس يرون معها بالئحة فهمهم المتكامل ة‪ ،‬ومثل ه ؤالء ل ديهم قابلية التس رب‪ ،‬وعالج ه ذه القابلية‬
‫يكون بمراجعة الفهم والوصول إلى قناعات حول أركانه‪.‬‬
‫والمتتبع لس نة الن بي ‪ ‬يجد أنه ك ان باس تمرار يعيد على الص حابة عناصر فهمهم لإلس الم‪ ،‬فلو‬
‫نظرنا في ح ديث جبريل عليه الس الم ال ذي ك ان في آخر عهد النب وة ‪ ،‬حيث ذك رت فيه حق ائق‬
‫إس المية لم تكن مجهولة عند الص حابة بل ك انت معلوم ة‪ ،‬وقد يق ول قائل ما ال داعي إلى إعادتها‬
‫وترتيبه ا؟ علم اً ب أن الحص ابة رض وان اهلل عليهم ك انوا قد س معوا كث يراً عن الص الة والزك اة‬
‫والص يام والحج واإليم ان واإلحس ان والس اعة‪ ،‬ولكن منهج ه ذا ال دين يق وم على طريقه تربوية‬
‫تعتمد على إدخال المعلومة الجديدة في ظل معلومات سابقة مرتبة ‪،‬لتكون العملية الذهنية متكاملة‪،‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-91-‬‬

‫وإ ن أفضل طريقة لمراجعة الفهم هي معرفة أه داف اإلس الم الك برى ومقاص ده العظمى ‪،‬‬
‫واستحض ار ه ذه األه داف والمقاصد في حالة وعي ال تع رف اله ذيان وال التجزئه ‪ ،‬والمنهج‬
‫الس ديد ت تركز فيه أه داف اإلس الم ومقاص ده وهي أرك ان الفهم‪ .‬والبد من معرفة ه ذه األه داف‬
‫وشرحها للعاملين ومعاودة الرح والدراسة لتبقي حية في النفوس ‪ ،‬صيانة لها من الغفلة والنسيان‬
‫‪ ،‬وهما أخو الجهل والضالل ‪.‬‬
‫إن اس تعراض األه داف يعطي الداعية قناعة ب أن دعوته كلية ال جزئية ‪ ،‬وأنها متنوعة المراح ل‪،‬‬
‫ويوقفه على اتس اع حق ول ال دعوة‪ ،‬ويكشف له عن عظيم الجهد المطل وب لتحقيق ه ذه األه داف ‪،‬‬
‫ويساعده على قياس الجهد المبذول‪.‬‬
‫إن اإلدراك الواعي لفرق الجهد بين المطلوب والمبذول يدفع الداعية إلى مراقي الجهد المطلوب‪،‬‬
‫ويشعره بالتقصير وبأسباب عدم بلوغ الغاية ‪ ،‬وهذا جزء مهم من عالج حالة اإلحباط في نفوس‬
‫ال دعاة‪ .‬فكث ير من ال دعاة تص يبهم الح يرة لع دم وص ولهم إلى أه دافهم‪ ،‬ظ انين أنهم وفَّوا ما عليهم‬
‫وأب رءوا ذمتهم ‪ .‬وه ذا يجعلهم يتهم ون دع وتهم بالقص ور‪ ،‬أو ُيص ابون باإلحب اط‪ ،‬واالته ام‬
‫بالقصور واإلحباط سببان رئيسان يخرجان الداعية عن مساره‪.‬‬
‫وزيادة في إيضاح هذه الفكرة نقول ‪ :‬إن الجهد المطلوب جهد موضوعي‪ ،‬مثاله أن نقل مائة كيلو‬
‫غ رام يحت اج إلى ق وة حمل تس اوي مائة كيلو غ رام ‪ 100 ،‬كغم وزن = ‪ 100‬كغم ق وة‪ .‬إن ‪90‬‬
‫كغم قوة ال يمكن أن ترفع وزن ‪ 100‬كغم‪.‬‬
‫إن الجهد المطل وب يبينه ق ول الل تع الى ‪  :‬يا أيها ال ذين آمن وا اتق وا اهلل حق تقاته وال تم وتن إال‬
‫وأنتم مس لون ‪ ،)238( ‬ويبينه ح ديث ال ني ‪ " : ‬اإليم ان بضع وس تون أو بضع وس بعون ش عبة‪،‬‬
‫أعالها ال إله إال اهلل ‪ ،‬وأدناها إماطة األذى عن الطري ق‪ ،‬والحي اة ش عبة من اإليم ان" متفق‬
‫عليه(‪.)239‬‬
‫(‪)240‬‬
‫اآلية ‪،‬‬ ‫وأما الجهد المب ذول في دل عليه ق ول اهلل تع الى ‪ ‬فال تزك وا أنفس كم هو أعلم بمن اتقى‪‬‬
‫وقوله ‪‬وما أصابكم من ُمصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير‪‬اآلية (‪.)241‬‬

‫آل عمران ‪.102‬‬ ‫‪)?(238‬‬


‫صحيح البخاري ( فتح الباري ) ص ‪ 1/51‬ح ‪ . 9‬وصحيح مسلم ‪ ،1/63‬ح ‪.58 ،57‬‬ ‫‪)?(239‬‬
‫النجم ‪.32‬‬ ‫‪)?(240‬‬
‫الشورى ‪.30‬‬ ‫‪)?(241‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-92-‬‬

‫القاعدة الثامنة عشر‬


‫الفهم السائد والفهم الواجب‬
‫لقد وقع كثير من المسلمين في مشكلة عدم فهم القرآن الكريم ‪ ،‬وهذه األزمة أشد عليهم وأفتك بهم‬
‫من ع دوهم‪ .‬فلقد أنتج الفهم الخطأ فرق اً وطوائف م زقت األمة وأتت على كلمتها ووح دتها‪ .‬ونحن‬
‫في هذه القواعد نقف على الفهم السائد في مقابل الفهم الواجب‪ .‬فقد ساد في األمة فهم أناني فردي‬
‫يتستر بستار النفعية وهو الضرر بعينه على الفرد والجماعة‪ ،‬حيث نجد أكثر الناس يدورون حول‬
‫ذواتهم ويش عرون بالس لبية القاتلة عن دما يظه ور إلح اح المص لحة العام ة‪ .‬ونجد ال دعوة إلى‬
‫االنكباب على الذات أو الدائرة الصغرى‪ ،‬ولسان حال أحدهم اآلية الكريمة‪ :‬يا أيها الذين آمنوا‬
‫عليكم أنفس كم ال يض ركم من ضل إذ اهت ديتم‪ ،)242( ‬ويفهم ون من اآلية أن يعت ني اإلنس ان بش ئون‬
‫الخاصة ويقطع ص لته مع الن اس‪ ،‬مع تك رار كلم ات وش عارات مثل ‪ :‬نحن في آخر الزم ان‪ ،‬وما‬
‫ش ابه ذلك من عب ارات الي أس والقن وط‪ .‬وه ذا الفهم مخ الف أله داف الق رآن ومقاص ه‪ ،‬فقد ج اء‬
‫القرآن الكريم رحمة للعالمين إلصالح الفرد والجماعة‪ ،‬وطالب المسلم بأن ينفرد للدعوة والجهاد‬
‫وأن ال يك ون مع الخوال ف‪ ،‬وأن ال يقعد مع القاع دين‪ .‬والق رآن ال تتض ارب آياته وال تتن اقض‬
‫مقاصده‪ ،‬وليست العوائق والعقبات أسباباً كافية لصرف هذه المقاصد عن بلوغ غايتها‪ ،‬ولوال ذلك‬
‫لما ُشرع الجهاد بجميع صوره وأشكاله‪ ،‬وقد ندب اهلل المؤمنين لمكافحة الفتن أنى كانت‪.‬‬
‫ولقد التفت أبو بكر إلى خط ورة ه ذا الفهم الس لبي العكس ي‪ ،‬فقد أخ رج اإلم ام أحمد في مس نده‬
‫والترم ذي في الج امع من طريق الت ابعي الجليل قيس بن أبي ح ازم ق ال‪ :‬ق ام أبو بكر رضي اهلل‬
‫عنه فحمد اهلل وأثنى عليه ثم قال‪ :‬أيها الناس‪ ،‬إنكم تقرءون هذه اآلية ‪  :‬يا أيها الذين آمنوا عليكم‬
‫أنفسكم ال يضركم من ضل إذا اهتديتم‪ ‬وإ نكم تضعونها على غير موضعها‪ ،‬وإ ني سمعت رسول‬
‫اهلل ‪ ‬يق ول ‪" :‬إن الن اس إذا رأو المنكر فلم يغ يروه أوشك اهلل عز وجل أن يعمهم بعقاب ه"(‪ ،)243‬ولو‬
‫فهم أبو بكر ه ذه اآلية فهم اً س لبياً لما أصر على مقاتلة م انعي الزك اة‪ ،‬ول ترك المرت دين يع ودون‬
‫بالعرب إلى جاهليتهم الجهالء‪.‬‬
‫وقد أخرج اإلمام أبو عيسى الترمذي صاحب الجامع‪ ،‬بسنده عن أبي أمية الشعباني ق ال ‪ :‬أتيت أبا‬
‫ثعلبة الخش ني فقلت له ‪ :‬كيف تص نع به ذه اآلي ة؟ ق ال‪ّ :‬أية آي ة؟ قلت ‪ :‬ق ول اهلل تع الى ‪ :‬يا أيها‬
‫ال ذين آمن وا عليكم أنفس كم ال يض ركم من ضل إذا اهت ديتم‪ ،‬ق ال‪ :‬أما واهلل لقد س الت عنها خب يراً‪،‬‬
‫سألت رسول اهلل ‪ ‬فقال ‪" :‬بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر‪ ،‬حتى إذا رأيت شحاً ُمطاع اً‬
‫وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة‪ ،‬وإ عجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك‪ ،‬ودع العوام‪ ،‬فإن من‬
‫ً‬
‫المائدة اآلية ‪.205 :‬‬ ‫‪)?(242‬‬
‫مسند أحمد (‪ )1/2‬والترمذي (‪)5/257‬ولفظه ( إن الناس إذا اردوا ظالماً فلم يأخذوا‬ ‫(?)‬ ‫‪243‬‬

‫على يديه أوشك أن يعمهم اهلل بعقاب) وقال ‪ :‬حسن صحيح ‪.‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-93-‬‬

‫ورائكم أيام اً للص بر فيهن مثل القبض على الجم ر‪ ،‬للعامل فيهن مثل أجر خمس ين رجالً يعمل ون‬
‫كعملكم"(‪.)244‬‬
‫وبهذا يكون أبو ثعلبة قد فسر اآلية‪ ،‬وحملها على الوقت الذي تكون فيه صفات الناس كما ذكر من‬
‫الشح المط اع‪ .‬والشح أعم من البخل غذ هو في الم ال وغ يره‪ ،‬فيص بح الشح هو القاع دة العامة‬
‫ويعجب كل ص احب رأي برأيه فال ش ورى وال اتف اق‪.‬‬
‫المتبع ة‪ ،‬واله وى متبع اً وهو رغبة النفس‪ُ ،‬‬
‫وقد يقول قائل‪ :‬إن هذه الصفات تنطبق على مجتمعاتنا‪ ،‬أال ترى الشح المطاع والهوى المتبع إلى‬
‫آخر هذه الصفات؟ وبذلك تكون اآلية منطبقة على زماننا‪ ،‬ونحن المخاطبون بها! والحق أن هذه‬
‫الص فات الم ذكورة هي الص فات ال تي تص بح س ائدة عامة فال يخ رج أحد في المجتمع عنه ا‪ ،‬وما‬
‫زال في المجتمع خ ير كث ير‪ ،‬هنالك الص الحون األتقي اء والك رام األس خياء‪ ،‬وطالب اآلخ رة‬
‫األولياء‪ ،‬والباحثون عن الدليل من الكتاب والسنة ‪ ،‬وليس المراد أان يكون بعض الناس على هذه‬
‫الصفات السيئة‪ ،‬فوجود الشحيح أمر متحقق في كل عصر وفي كل مكان ‪ ،‬ووجود المعجب برأيه‬
‫مدع أن هذا موجود حتى في عصر‬
‫المعتد بخطئه والمعتز بخطيئته ممكن في كل دهر‪ .‬وقد يدعي ٍ‬
‫الص حابة الك رام وفي عصر الت ابعين األب رار‪ ،‬و هو ما أش كل على بعض الص حابة ح تى ق ام أبو‬
‫بكر ينفي هذا اإلش كال‪ ،‬وما اختلط على أبي أمية الشعباني فقام يس أل أبا ثعلبة الخشني رضي اهلل‬
‫عنه‪ ،‬فصرف أبو ثعلبة زمن تحققها عن زمان الصحابة الكرام‪ ،‬وقيد وجودها بالصفات المذكورة‬
‫على وجه اإلحكام‪.‬‬
‫ونحن نقول‪ :‬إن الزمان الذي تصل فيه األمور إلى هذا الحد من الشح والهوى والدنيا المؤثرة لم‬
‫يأت بعد‪ ،‬ويكون ذلك قُبيل يوم القيامة؛ ألن القيامة ال تقوم إال على شرار الخلق وأبغضهم إلى اهلل‬
‫تعالى‪ .‬وإ ن استغراق هذه الصفات الذميمة ألبناء الجنس البشري يجعل الحياة عديمة الجدوى بال‬
‫هدف‪ ،‬وعندئذ يكون القدر المقدور في تدمير هذا الكون المعمور‪.‬‬
‫ونقول أيض اً‪ :‬إن هذه الص فات تعني فساد الفطرة اإلنسانية وتنكبها عن الخير وتمحضها للشر‪.‬‬
‫وقد أخبرنا الن بي ‪ ‬عن زم ان ال تُقبل فيه توب ة‪ ،‬وأخبرنا الق رآن الك ريم عن وقت ال ينفع فيه نفس اً‬
‫إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كس بت في إيمانها خ يراً‪ .‬ق ال عليه الص الة والس الم‪" :‬ال تنقطع‬
‫الهج رة ح تى تنقطع التوب ة‪ ،‬وال تنقطع التوبة ح تى تخ رج الش مس من مغربه ا"(‪ ،)245‬فب اب التوبة‬
‫مفتوح على مصراعيه‪ ،‬والتوبة مبذولة لجميع البشر‪ ،‬ويترتب على ذلك األمر بالمعروف والنهي‬
‫عن المنكر ‪ ،‬وع دم الي أس من النسا ‪ ،‬والقي ام ب واجب اإلن ذار والبالغ‪ ،‬ولكن عن دما تنقطع التوبة‬
‫ٍ‬
‫فعندئذ ال يفيد اإلنذار والبالغ إال‬ ‫ويغلق بابها بظهور العالمات الكبرى التي ال ينفع اإليمان بعدها‬
‫ُ‬

‫الترمذي (‪.)5/257‬‬ ‫‪)?(244‬‬


‫سنن أبي داود (‪.)3/7‬‬ ‫‪)?(245‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-94-‬‬

‫ص احبهما في حص وله على أجرهما وثوابهم ا‪ .‬وه ذا ما جعل ابن مس عود ي رى أن بعض آي ات‬
‫القرآن الكريم جاء تفسيرها‪ ،‬وبعضها لم يأت تفسيرها‪.‬‬
‫ثم إن مما تفي ده اآلية ت حص ين النفس ووقايتها من عوامل الشر ب أن يق وم المس لم بعملين‬
‫متالزمين‪ :‬األول ‪ :‬إص الح ال ذات‪ ،‬والث اني‪ :‬اإلص الح خارجه ا‪ .‬والخطر على ال ذات يك ون من‬
‫داخله ا‪ ،‬ويك ون من خارجه ا‪ ،‬ف إذا ت ركت ال ذات دون تحص ين وحفظ تس ربت إليها الع وادي‬
‫الخارجية فأفسدتها‪ .‬واآلية تأمر المؤمنين بأن يحافظوا على أنفسهم من هذه العوادي كما في قوله‬
‫تعالى‪ :‬يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودهها الناس والحجارة‪.)246(‬‬
‫وقد ج اء في تفس ير اآلية أن مع نى أنفس كم ‪ :‬ق ومكم وأمتكم ‪ ،‬كما في قوله تع الى ‪‬فس لموا على‬
‫(‪)248‬‬ ‫(‪)247‬‬
‫ويك ون المع نى احرص وا على أمتكم‬ ‫‪ ،‬وكما في قوله ‪ ‬وال تلم زوا أنفس كم ‪‬‬ ‫أنفس كم‪‬‬
‫وعلى أهل دينكم‪.‬‬
‫ونخلص من كل هذا إلى أن اآلية فيها دافعية عظيمة للعمل والحرص على مصلحة األمة‪ ،‬وليست‬
‫سلبية عدمية تدعو إلى اإلنكباب على الذات فقط‪ ،‬أو على المصلحة الخاصة فحسب‪.‬‬

‫التحريم اآلية ‪.6 :‬‬ ‫‪)?(246‬‬


‫النور اآلية ‪.61 :‬‬ ‫‪)?(247‬‬
‫الحجرات اآلية ‪.11:‬‬ ‫‪)?(248‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-95-‬‬

‫القاعدة التاسعة عشرة‬


‫األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‬
‫فرض من فروض األمة‬
‫األمر بالمعروف والنهي عن المنكر أبرز خصائص األمة المسلمة ‪ ،‬وعالمة خيريتها ‪ ،‬قال تعالى‬
‫‪  :‬كنتم خ ير أمة أخ رجت للن اس ت أمرون ب المعروف وتنه ون عن المنكر وتؤمن ون باهلل‪.)249( ‬‬
‫ولتحقيق ه ذه المزية والص فة الش ريفة ج اء األمر الق رآني ب ذلك‪  :‬ولتكن منكم أمة ي دعون إلى‬
‫الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‪.)250(‬‬
‫فاألمر بالمعروف والنهي عن المنكر دليل على حياة اإليمان في القلب‪ ،‬وبرهان على قيام الرابطة‬
‫الحقيقية بين هذا المسلم اآلمر الناهي وبين دينه‪،‬وأنه ينطلق بهذا الدين بجد وعزيمة‪.‬‬
‫المعروف والمنكر في اللغة واالصطالح‪:‬‬
‫المعروف في اللغة ما عرفه الناس واعتادوه ‪ ،‬والمنكر ما أنكروه ومقتوه‪.‬‬
‫وأما في الش رع ف المعروف ما عرفه الن اس واعت ادوه مما ج اء به الش رع‪ ،‬والمنكر م اأنكروه‬
‫ومقت وه مما نهى عنه الش رع‪ .‬فقد يك ون الع روف عند الن اس منك راً في الش رع‪ ،‬وقد يك ون المنكر‬
‫عند الن اس معروف اً في الش رع‪ .‬ففي غي اب ش رع اهلل تع الى عن المجتمع ات تنشأ أع راف جاهلية‬
‫تب دل الم وازين واألذواق واألخالق‪ ،‬وها نحن نجد الكث ير من مجتمعاتنا اإلس المية تجعل من‬
‫المنكرات معروفاً يحظى بالدعم المادي والمعنوي ‪،‬وتحميه األنظمة والقوانين ‪ ،‬وهذا من الثمامر‬
‫الخبيثة التي أنتجتها سلبية اآلباء واألجداد ‪ ،‬وموادعتهم للمنكر وأهله ‪ ،‬وفسح المجال لدعاة السوء‬
‫في مختلف المجاالت ‪.‬‬
‫مسئولية األمر بالمعروف والنهي عن المنكر عامة ‪:‬‬
‫وليس األمر ب المعروف والنهي عن المنكر ش أناً خاص اً لمس لم دون آخر بل هي مس ئولية عامة‬
‫مص درها التكليف الش رعي الع ام‪ ":‬من رأى منكم منك راً فليغ يره"‪ ،‬وكلمة "من" من ألف اظ العم وم‪،‬‬
‫فكل مس لم آمن باهلل رب اً وباإلس الم دين اً مكلف ش رعاً ب األمر ب المعروف والنهي عن المنك ر‪ .‬وال‬
‫يستحق والية اهلل ورسوله والذين آمنوا إال إذا قام بهذا الواجب‪ :‬والمؤمنون والمؤمنات بعضهم‬
‫أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‪.)251(‬‬
‫والقيام بهذا الواجب فريضة شرعية ‪ ،‬بل هو أصل الفرائض الشرعية‪ ،‬وهو مطلوب في كل حال‬
‫‪ ،‬وفي كل وقت‪ ،‬سواء أكان المسلم غني اً أو فقيراً ‪ ،‬قوي اً أو ضعيفاً‪ ،‬فرداً أوجماعة‪ ،‬كثير العلم أو‬

‫آل عمران ‪ :‬اآلية ‪.110‬‬ ‫‪)?(249‬‬


‫آل عمران ‪ :‬اآلية ‪.104‬‬ ‫‪)?(250‬‬
‫التوبة اآلية ‪.71 :‬‬ ‫‪)?(251‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-96-‬‬

‫قليله‪ .‬والذي يتنوع ويختلف إنما هو المنازل والدرجات‪ ،‬فهذه تختلف حسب األحوال واألوضاع‪،‬‬
‫فأعلى درجات إنكار المنكر التغيير باليد‪ ،‬وأدناه التغيير بالقلب‪.‬‬
‫بأيهما نبدأ‪:‬‬
‫اقترن ذكر األمر بالمعروف بالنهي عن المنكر في أكثر اآليات واألحاديث التي تحض على القيام‬
‫بهذه الفريض ة‪ ،‬وجاء ذكر النهي عن المنكر وحده في مواضع أخرى‪ ،‬وذلك مثل قوله تعالى عن‬
‫ب ني إس رائيل‪  :‬لُعن ال ذين كف روا من ب ني إس رائيل على لس ان داود وعيسى بن م ريم‪ ،‬ذلك بما‬
‫عصوا وكانوا يعتدون* كانوا ال يتناهون عن ُمنكر فعلوه لبئس ماكانوا يفعلون‪.)252(‬‬
‫وج اء إف راد النهي عن المنكر في الح ديث‪ " :‬من رأى منكم منك راً فليغ يره بي ده‪ ،‬ف إن لم يس تطيع‬
‫فبلسانه‪ ،‬فإن لم يستطع فبقلبه‪ ،‬وذلك أضعف اإليمان"(‪.)253‬‬
‫وه ذا التنويع في ذكر األمر ب المعروف والنهي عن المنكر ي دل على أن كالً منهما قد يطلب في‬
‫ظروف أو أحوال معينة ‪ ،‬وأنهما قد يجتمعان أو ينفردان‪ .‬والذي يقرر دون كل واحد منهما تمكن‬
‫أح دهما في المجتم ع‪ ،‬ف إذا تمكن المنكر كما ك ان الح ال في مكة قبل الهج رة‪ ،‬أوكما هو في بعض‬
‫المجتمعات اإلسالمية المعاصرة فإن األمر بالمعروف يبرز ويأخذ دوره في عملية التغيير ‪ ،‬فإذا‬
‫تمكن المع روف وهيمن على المجتمع ف إن النهي عن المنكر ي برز ويأخذ دوره لمعالجه الظ واهر‬
‫الش اذة ‪ ،‬كما ك ان الح ال بعد الهج رة إلى المدين ة‪ ،‬وقي ام المجتمع المس لم فيها ‪ ،‬وكما هو الح ال في‬
‫مؤسسة إسالمية‪ ،‬أو جماعة من الناس رضيت بحكم اإلسالم فيها‪.‬‬

‫تمكن‬ ‫تمكن المنكر‬


‫المعروف‬
‫النهي عن المنكر‬ ‫األمر بالمعروف‬
‫( دور إصالح وترميم )‬ ‫( دور تأسيس وبناء)‬
‫طبيعة األمر بالمعروف ‪:‬‬
‫تتصف طبيعة األمر ب المعروف بالحكمة والم ودة والرحمة وال بر ‪،‬والنظر إلى الج انب اإليج ابي‬
‫في الشخصية وتنمية هذا الجانب ‪ ،‬ويبرز دور القدوة الصالحة‪،‬إذا ال يكون األمر بالمعروف إال‬
‫من أهل المعروف الذين يظهر عليهم معروفهم فتكون الدعوة إليه بلسان الحال قبل لسان المقال‪.‬‬
‫طبيعة النهي عن المنكر‪:‬‬

‫المائدة اآليتان (‪.)78،79‬‬ ‫‪)?(252‬‬


‫أخرجه مسلم(‪ ، )1/69‬والترمذي (‪ ،)4/469‬طبعة مصطفى البابي الحلبي ‪ ،‬وأبو‬ ‫(?)‬ ‫‪253‬‬

‫داود(‪ ، )1/677‬طبعة دار الحديث بحمص بتحقيق الدعاس‪ ،‬وابن ماجة(‪ ، )1/406‬طبعة‬
‫عيسى الحلبي بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي‪.‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-97-‬‬

‫تتصف طبيعة النهي عن المنكر بالمقاومة والمغالبة وروح التح دي واإلث ارة‪ ،‬فهو يتض من تس فيه‬
‫األحالم وتخطئه األقوال والتصرفات‪ ،‬ومقاومة العادات والرغبات‪.‬‬
‫ومن هنا كان النهي عن المنكر أخطر وأشق من األمر بالمعروف‪.‬‬
‫عملية التغيير من خالل األمر بالمعروف‪:‬‬
‫يب دأ األمر ب المعروف بكلمة ودود‪ ،‬ليس فيها إث ارة أو مغاض بة‪ ،‬وليس فيها مقاومة أو معان دة‬
‫‪،‬وتك ون الكلمة منطقية ذات حجة قوي ة‪ ،‬وب ذلك تب دأ عملية التغي ير في المجتمع من خالل مراحل‬
‫عدة ‪:‬‬
‫المرحلة األولى‪:‬‬
‫عن دما ُيلقى ق ول المع روف أو فعله في مجتمع المنكر يلقى ه ذا الق ول أو الفعل االس تهجان‬
‫والسخرية ‪،‬وهذه هي المرحلة األولى؛ ألن عيون أهل المنكر وآذانهم وأذواقهم لم تتعود على مثل‬
‫ه ذا الق ول أو الفعل فيقابل بالس خرية واالس تهزاء واالس تهجان‪ ،‬كما هو الش أن في كل جدي د‪ .‬فلقد‬
‫أثارت صالة النبي ‪ ‬استهجان أهل مكة وسخريتهم في أول األمر‪.‬‬
‫المرحلة الثانية‪:‬‬
‫ف إذا واصل أهل المع روف مع روفهم ف إن مرحلة جدي دة تب دأ وهي مرحلة ع دم الرضا والمقت مع‬
‫الح وار والج دل ‪ .‬وهنا تب دأ مرحلة ال دفاع عن المع روف‪ ،‬والمحافظة علي ه‪ ،‬وإ دامة زراعت ه‪،‬‬
‫وحياطة بذرته بالرعاية الالزمة‪ .‬والجدير بالذكر أن المعروف يصبح مألوفاً عند أهل المنكر‪.‬‬
‫المرحلة الثالثة‪:‬‬
‫ف إذا واصل أهل المع روف مهمتهم في تأسيسه وتأكي ده‪ ،‬وتث بيت ش عاراته‪ ،‬وإ ب راز محاس نه ‪،‬‬
‫وص بروا على ذل ك‪ ،‬واحتمل وا األذى في س بيله‪ ،‬وأحس نوا الع رض والتأييد ‪ ،‬انتقل أمر المع روف‬
‫إلى عدم القبول أو الترك‪.‬‬
‫المرحلة الرابعة ‪:‬‬
‫ومن خالل المواصلة في قول المعروف وفعله ينتقل األمر إلى المسالمة والموادعة‪ ،‬حيث يصبح‬
‫المعروف أصيالً في المجتمع ثابت اً في ه‪ ،‬ومع العمل المتواصل ينتقل المعروف إلى مرحلة القبول‬
‫والرضا‪.‬‬
‫المرحلة الخامسة‪:‬‬
‫ثم تأتي مرحلة اإليمان والحماس والنصر والتأييد‪.‬‬

‫االستهجان‬ ‫االستهجان‬ ‫االستهجان‬ ‫االستهجان‬ ‫االستهجان‬ ‫األمر‬


‫والسخرية‬ ‫والسخرية‬ ‫والسخرية‬ ‫والسخرية‬ ‫والسخرية‬ ‫باملعروف‬

‫( )‪5‬‬ ‫( )‪4‬‬ ‫( )‪3‬‬ ‫( )‪2‬‬ ‫( )‪1‬‬


‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-98-‬‬

‫إن ه ذه الخط وات هي الخط وات المنطقية لعملية إرس اء المع روف في النفس والمجتم ع‪ ،‬وإ ن‬
‫االنتق ال من خط وة إلى ال تي تليها هو عمل إيج ابي‪ ،‬كما أن التح ول المطل وب ال يتحقق بس رعة ‪،‬‬
‫وال يتحقق من خالل مرحلة واح دة ‪،‬وال يق اس النج اح والفشل بح دوث االنقالب المف اجئ أو ع دم‬
‫حدوث ه‪ ،‬ل ذا ف إن فتح مكة ودخ ول أهلها في دين اهلل أفواج اً لم ي أت فج أة ‪ ،‬بل من خالل عمل‬
‫متواصل بدأ من أول أيام البعثة المباركة‪.‬‬
‫وبعكس ه ذه الخط وات تس ير عملية المنكر في المجتم ع؛ إذ أن أهل المنكر يرض ون باليس ير من‬
‫التغيير المرحلي‪ ،‬حتى يصلوا بمنكرهم إلى مرحلة الهيمنة والتحكم‪.‬‬
‫عملية إنكار المنكر‪:‬‬
‫عندما يكون المنكر مهيمناً على مجتمع ما فالبد من أخذ األمور التالية باالعتبار‪:‬‬
‫رسوخ المنكر في النفس والمجتمع‪ ،‬وقيام مؤسسات قوية لحمايته والدفاع عنه‪.‬‬
‫فساد األذواق والقيم والعادات واألعراف‪.‬‬
‫يظهر أهل المنكر بمظهر أص حاب الحق المش روع والنظ ام المؤيد بالق انون‪ ،‬ويظهر الن اهي عن‬
‫المنكر بمظهر الشاذ الخارج عن النظام والقانون‪.‬‬
‫إن اس تخدام اليد ( الق وة ) لمواجهة المنكر االجتم اعي المتمكن ض رب من االنتح ار‪ ،‬وإ ه دار‬
‫للطاقات دون جدوى‪ ،‬وسيستخدم المنكر جميع مراكز القوة فيه لمقاومة الناهي وتشويه صورته ‪،‬‬
‫والعمل على استئص اله‪ ،‬وس يعد عمله ث ورة غ ير مش روعة يلقى ص احبها أل وان التنكيل والبطش‪.‬‬
‫وال تستخدم اليد إال في إحدى حالتين‪:‬‬
‫األولى ‪ :‬من قبل الدولة المسلمة واألمير المسلم‪.‬‬
‫الثانية ‪ :‬من قبل الفرد المسلم في المجتمع المسلم في بعض الحاالت‪ ،‬فله أن يكسر قارورة الخمر‬
‫وأن يريق ه‪ ،‬وله أن يقتل الخ نزير‪ ،‬وذلك إذاك ان الخمر والخ نزير بيد المس لم ‪ ،‬وليس له أن يقتل‬
‫فاعل المنكر بل يحيل أمره إلى الدولة‪.‬‬
‫كيف ننكر المنكر في مجتمعاتنا‪:‬‬
‫وإ ذا لم ننكر المنكر باليد فليس مع نى ذلك تعطيل ه ذه الفريضة ‪ ،‬بل نق وم بها باللس ان‪ ،‬وإ ذا لم‬
‫يمكن ذلك فإننا نقوم بها بالقلب ‪ ،‬وذلك أضعف اإليمان‪.‬‬
‫أما إنكار المنكر باللسان فله ضوابط‪ ،‬منها ‪-:‬‬
‫أوالً ـ أن نت درج في ه ذا اإلنك ار فنس تخدم من األلف اظ والعب ارات ما نظن أنه يحقق النتيجة ‪ ،‬فنب دأ‬
‫بالكلمة الرقيقة ال ودود‪ ،‬واس تعمال ص يغ العم وم دون ذكر اسم ص احب المنكر ابتاع اً للس نة وأنفع‬
‫للع الج ‪ ،‬وما ُي دفع ب األدنى ال ُيلجأ فيه إلى األعلى واألش د‪ ،‬وقد يك ون اإلس رار باإلنك ار أولى من‬
‫اإلشهار‪.‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-99-‬‬

‫ثاني اً ‪ :‬أن يبتعد الن اهي عن المنكر عن ذكر األس ماء واألش خاص والهيئ ات؛ ألن التس مية‬
‫والتخصيص قد يتعرض معهما الناهي للعقوبات والجزاءات التي تفرضها القوانين‪.‬‬
‫ثالثاً ‪ :‬هنالك منكرات في المجتمع ثبت منكرها عند الناس جميعاً ‪ ،‬والنهي عنها مقبول لدى قطاع‬
‫ع ريض من الن اس ‪ ،‬وذلك مثل الزنا والخمر والمخ درات واالختالط‪ ،‬فمثل ه ذه المنك رات لو‬
‫رفعنا صوتنا بإنكارها فسنجد معناً كثيراً من الناس الذين يمقتونها ويتمنون إزالتها‪.‬‬
‫رابع اً ‪ :‬وإ ن جمع اإلحصائيات والبيانات واألخبار والتقارير حول بعض المنكرات تجعل الحجة‬
‫في المقاومة أقوى وأوسع‪.‬‬
‫خامس اً ‪ :‬إن التح ري ال دقيق لص دق المعلوم ات أس اس في إص ابة اله دف‪ ،‬والمبالغة والك ذب‬
‫يحرمان الداعية من صالبة الموقف وصدق الدعوة‪.‬‬
‫تغيير المنكر بالقلب ‪:‬‬
‫وقد ذكر النبي ‪ ‬التغيير بالقلب فجعله رتبة معتبرة‪ ،‬ومن لم ينكر المنكر بقلبه فليس في قلبه شيء‬
‫من اإليم ان ؛ إذ أن إنك ار المنكر ب القلب هو القاع دة األس اس‪ ،‬وه ذه القاع دة مش تركة بين جميع‬
‫المراتب ‪ ،‬فمن أنكر بيده فالبد أن يكون منكراً بقلبه‪ ،‬ومن أنكر بلسانه فالبد أن يكون منكراً بقلبه‬
‫أيض اً‪ ،‬واإلنك ار ب القلب معن اه مقت المنكر وكرهه واالش مئزاز منه ‪ ،‬ومن ك ره ش يئاً وع اداه بقلبه‬
‫فالبد أن تتح ول ه ذه الكراهية إلى عمل إيج ابي يظهر في كلماته وحركاته وس كناته‪ ،‬فالعاطفة‬
‫المتأججة هي مص در الحركة والفع ل‪ ،‬وه ذه الرتبة رتبة عامة يق در عليها كل مس لم في كل زم ان‬
‫ومك ان‪ ،‬وش رطها ع دم الرضا والش عور بالس خط على المنكر وأهل المنك ر‪ ،‬وأدنى درج ات ه ذه‬
‫الرتبة اعتزال المنكر واالبتعاد عنه‪.‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-100-‬‬

‫تركيز الجهود‪:‬‬
‫وإ ن أجدى األعمال واألقوال وأوالها ما توجه إلى إرساء المعروف األكبر‪ ،‬وهو تحكيم شرع اهلل‬
‫تع الى ورفع ل واء دين ه‪ ،‬وينبغي أن يك ون ه ذا التوجه ش غل المس لم الش اغل في ليله ونه اره‪ ،‬ف إذا‬
‫تركزت الجهود نحو هذا الهدف أوشكت أن تثمر فيجد المسلم عندئذ أكبر العون في إنكار المنكر‬
‫واألمر بالمعروف ‪.‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-101-‬‬

‫القاعدة العشرون‬
‫أشد من هجران القرآن‬
‫مخالفة مقصوده ومناقضة أهدافه‬
‫لقد أنزل اهلل تعالى القرآن الكريم كتاب هداية يحيى به موات النفوس‪ ،‬وينظم الحياة‪ ،‬ويأخذ بأيدي‬
‫البشر إلى أقوم السبل‪ ،‬ويحقق السعادتين الدنيوية واألخروية‪ ،‬ولقد حقق القرآن الكريم هذا الدور‬
‫في حي اة الص حابة والت ابعين وأتب اع الت ابعين‪ ،‬وأح دث أعظم حركة تغييرية ش هدها الت اريخ‪ ،‬وقد‬
‫نتس اءل لم اذا ال يحقق الق رآن الك ريم ه ذا ال دور في حي اة البش رية الي وم؟ أليس الق رآن هو الق رآن‬
‫ال ذي أن زل على محمد ‪ ‬؟ أليس هو هو بس وره وآياته وحروفه ؟ بلى‪ ،‬إنه الكت اب ال ذي حفظه اهلل‬
‫تع الى من التب ديل والتغي ير ‪ ،‬وهو أص دق وثيقة عرفها ت اريخ اإلنس ان‪ ،‬والحق أن فهم الق رآن‬
‫الك ريم هو ال ذي تع رض للخل ل‪ ،‬فلم يعد أك ثر المس لمين يفهم ون الق رآن كما أن زل ‪ ،‬ولم يع ودوا‬
‫يتعاملون مع اآلية من خالل رصيدها الحقيقي من المعاني ‪ ،‬وأصبح المسلم يستعمل اآلية في غير‬
‫ولكن اهلل يهدي من يشاء‪ ،)254(‬وهذه آية‬
‫ما أنزلت له‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى‪  :‬ليس عليك هداهم َّ‬
‫ال تغيب عن المسلم ‪ ،‬سواء كان متعلم اً أو أمي اً ال يقرأ وال يكتب‪ ،‬وأغلبهم يستشهد بهذه اآلية إما‬
‫لحسم الخالف في موض وع م ا‪ ،‬أو لمطالبة من ي دعو إلى اهلل ب دعوة مقنعة أن يقلع عن دعوته‬
‫بحجة أن اآلذان في صمم‪ ،‬والناس ال يستجيبون إلى الخير وقد ذهب الزمان الذي كان المرء يجد‬
‫فيه أعواناً على الهدى والمعروف ‪ ،‬وتستخدم أيضاً إلعطاء المعاند والمكابر مبرر اإلص رار على‬
‫عن اده وك بره ‪ ،‬فيق ول الم راقب الخ الي الط رف من أعب اء الحق ‪ ( :‬أت رك يا ش يخ ‪ ،‬ليس عليك‬
‫هداهم )‪.‬‬
‫وهذا األسلوب من االستدالل باآليات الكريمة يناقض مقاصدها وأهدافها‪ ،‬ويجعلها تعمل في غير‬
‫ميدانها‪ ،‬وأشد من هجران القرآن مخالفة مقصوده ومناقضة أهدافه‪ ،‬واستخدام آياته لتبرير القعود‬
‫والكسل وتعطيل العمل‪.‬‬
‫وإ ذا تأملنا اآلية وما حفَّها من القرائن وما سبقها ولحقها من اآليات فسيتبين لنا الدور العظيم الذي‬
‫تؤديه في إيقاظ الهمم ‪ ،‬وإ حياء النشاط‪ ،‬وإ ثارة الجهد ‪ ،‬جهاداً وثباتاً ودعوة إلى اهلل تعالى‪.‬‬
‫ومنه أيض اً قوله تع الى ‪  :‬إنك ال ته دي من أحببت ولكن اهلل يه دي من يش اء وهو أعلم‬
‫بالمهتدين‪.)255(‬‬
‫فقد جاءت هذه اآلية في سياق سورة القصص‪ ،‬بعد الكالم عن قصة موسى عليه السالم وفرعون‪،‬‬
‫وبي ان ما في القصة من أعلى وج وه البالغ وأقواها في مواجهة أش رس ص ور العن اد والجح ود‬
‫واالستكبار ‪ ،‬ورغم سوق الشواهد والدالئل والبراهين‪ ،‬كل ذلك مؤيدة بالمعجزة‪ ،‬رغم كل هذا فقد‬

‫سورة البقرة اآلية ‪.272 :‬‬ ‫‪)?(254‬‬


‫سورة القصص اآلية ‪.56‬‬ ‫‪)?(255‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-102-‬‬

‫أصم فرعون أذنيه عن سماع الحق ‪ ،‬فالهدي مبذول في أقوى صوره وأوضحها ‪ ،‬ولكن فرعون‬
‫ومأله أخ ذوا على أنفس هم إغالق جميع المنافذ ‪ ،‬وحجب وا بعن ادهم قل وبهم عن اله دى‪ .‬وه ذا األمر‬
‫يتكرر عبر التاريخ‪ ،‬فهذا محمد ‪ ‬يمكث ي مكة ثالث عشرة سنة ال يترك قومه في ليل وال نهار‬
‫إال وي أتيهم ب أروع ص ور البي ان وأجاله ا‪ ،‬وبأيسر األس اليب وأرفق الوس ائل‪ ،‬مع التحبب والت ودد‬
‫فجمع له ‪ : ‬البي ان العجز والش رف العظيم والقلب ال رحيم والحب الخ الص‪ ،‬وبص ورة أخ رى فقد‬
‫ُ‬
‫كانت جميع الدواعي والظروف مناسبة لإليمان بدعوته‪ ،‬ورغم كل هذا لم يملك هذا النبي الكريم‬
‫أن يلزم عمه الحبيب وهو النصير الشفيق باإليمان بدعوته واالهتداء بهديه‪.‬‬
‫(‪)256‬‬
‫بس نديهما ‪ :‬لما حض رت أبا ط الب الوف اة ج اءه رس ول اهلل ‪ ‬فوجد عن ده أبا‬ ‫أخ رج الش يخان‬
‫جهل وعبد اهلل بن أبي أمية بن المغيرة‪ ،‬فقال رسول اهلل ‪ :‬يا عم ‪ ،‬قل ‪ :‬ال إله إال اهلل‪ ،‬كلمة أشهد‬
‫لك بها عند اهلل ‪ ،‬فق ال أبو جهل وعبد اهلل أبي أمي ة‪ :‬يا أبا ط الب ‪ ،‬أت رغب عن ملة عبد المطلب ؟‬
‫فلم يزل رسول اهلل ‪ ‬يعرضها عليه‪ ،‬ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم ‪ :‬هو‬
‫على ملة عبد المطلب ‪ ،‬وأبي أن يقول ‪ :‬ال إله إال اهلل ‪ ،‬فقال رسول اهلل ‪ : ‬واهلل ألستغفرن لك ما‬
‫لم ْأنه عنك ‪ .‬فأنزل اهلل عز وجل ‪  :‬ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا‬
‫أولي قُ ربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم‪ ،)257(‬وأنزل اهلل تعالى في أبي طالب‪ ،‬فقال‬
‫لرسول اهلل ‪  : ‬إنك ال تهدي من أحببت ولكن اهلل يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين‪. ‬‬
‫إنه لمن أعجب العجب َّ‬
‫أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة ابن أحد زعم اء مكة وص ناديدها وأع داء‬
‫اإلسالم فيها يدخل اإليمان قلبه‪ ،‬وأبو طالب عم النبي الحبيب ‪ ‬ونصيره وباذل المال والنفس في‬
‫سبيل الدفاع عنه‪ ،‬الذي يقول ابن كثير فيه‪ :‬كان يحوطه وينصره ويقوم في صفه ويحبه حباً شديداً‬
‫طبيعياً ال شرعياً ‪ ،‬ومع هذا يموت على غير اإليمان!‪.‬‬
‫أين العقدة إذاً ؟ وهل شاء اهلل تعالى ألبي حذيفة اإليمان ولم يشأ البي طالب؟ وهل معنى قوله ‪ :‬‬
‫ولكن اهلل يه دي من يش اء‪ ‬أن اهلل تع الى يص رف اإليم ان عن أحد من خلقه ويمنحه آلخ ر؟ وه ذا‬
‫فهم ج بري يتع ارض مع رحمة اهلل تع الى لخلقه ‪‬وال يظلم ربك أح داً‪ ،)258(‬ولم تسق اآلية له ذا‬
‫المع نى ‪ ،‬وإ نما س يقت لبي ان عظمة اهلل ‪ ،‬وتم ام قدرت ه‪ ،‬فهو وح ده الق ادر على حمل الن اس جميع اً‬
‫على دين واحد‪ ،‬أو على مذهب واحد‪ ،‬لو شاء جعلهم مؤمنين ‪ ،‬ولو شاء جعلهم كفاراً ‪ ،‬ولو شاء‬
‫لجعلهم أمة واح دة ‪ ،‬ولو ش اء ألم اتهم جميع اً‪ .‬وه ذا كالم عن المش يئة والق درة ‪ ،‬وليس كالم اً عن‬
‫فعله في خلقه ‪ ،‬فنحن عندما نقول على سبيل المثال ـ وهلل المثل األعلى ـ يستطيع الرئيس أن يعزل‬
‫جميع الم وظفين ‪ ،‬ويس تطيع أن يب دل وظ ائفهم‪ ،‬فهل يع ني ذلك أن يق وم ال رئيس بمثل ه ذا العمل‬

‫أخرج البخاري ‪( 0‬متن فتح الباري)‪ .3/222‬ومسلم ‪.1/54‬‬ ‫‪)?(256‬‬


‫سورة التوبة اآلية ‪.113 :‬‬ ‫‪)?(257‬‬
‫سورة الكهف اآلية ‪.49 :‬‬ ‫‪)?(258‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-103-‬‬

‫لمجرد أنه يستطيعه‪ ،‬أو أنه من خصائصه؟ والجواب ‪ :‬إن الكالم عن الخصائص والصفات غير‬
‫الكالم عن األعم ال والممارس ات وال يتم اإليم ان باهلل تع الى إال إذا اعتقد الم ؤمن أن اهلل وح ده‬
‫واهب الحياة وخالق األحياء وسائر الموجودات وأنه وحده بيده الهدى‪.‬‬
‫لقد كان الكالم في معرض حرص النبي ‪ ‬على عمه ‪ ،‬وقد حزن عليه حزن اً شديداً وكأنه يقول ‪:‬‬
‫كيف م ات ه ذا العم العزيز الح بيب هك ذا ولم ي ؤمن؟ ‪ ،‬فك ان الج واب ‪ :‬إنك يا محمد عبد من عبيد‬
‫اهلل مأمور بالبالغ والتبيين ‪ ،‬وال سلطان لك على قلوب الخلق‪ ،‬إنك تملك أن تبين حجتك ‪ ،‬وتقرأ‬
‫الق رآن الك ريم على الن اس من حول ك‪ ،‬ولكنك ال تملك تحويل القل وب إليك وال زج اإليم ان في‬
‫سويدائها‪ .‬وإ ن مقام العبودية يقتضي أن تعلم بأنك ال تهدي من أحببت حتى لو كان عمك الحبيب ‪،‬‬
‫إن على البشر أن يعلموا أنه ال سلطان ألحد على أحد وأن الحكم كله هلل تع الى‪ ،‬وال يتحقق التوحيد‬
‫إال بهذه المعرفة ‪ ‬وهلل االسماء الحسنى فادعوه بها‪ ،)259(‬وله الصفات العليا‪ ،‬وعلى هذا المنوال‬
‫نفهم كل آية ج اء فيها ‪‬ف إن اهلل يضل من يش اء ويه دي من يش اء‪ ،)260(‬فاهلل وح ده ص احب األمر‬
‫والقدرة المطلقة‪ .‬ومن لوازم هذا األمر حبه وعبادته واالستعانة به سبحانه‪ ،‬وليس من لوازمه أن‬
‫يقع الم رء تحت مط ارق الجبرية القاتلة ال تي تس لب الل بيب لبه والعبد اختي اره الس امي لعقيدته‬
‫ودينه‪.‬‬
‫ومفهوم آخر البد من وعيه وهو أن هذه اآلية تكافئ العامل على عمله‪ ،‬حتى ال يقول قائل‪ :‬هاهو‬
‫رس ول اهلل ‪ ‬يعمل تسع س نوات على إقن اع عمه بدعوته ثم ال ي ؤمن به ا‪ ،‬وقد يتص ور الس ذج أن‬
‫دعوته ذهبت هب اء منث وراً وض اعت كص يحة في ٍ‬
‫واد أو نفخة في رم اد‪ ،‬وح تى ال يك ون مثل ه ذا‬
‫التص ور ي بين اهلل تع الى لنبيه ‪ ‬أنه قد بلغ ما عليه وأن اإليم ان ال ُيف رض فرض اً وال يج بر عليه‬
‫الن اس؛ ألن اإليم ان هو تص ديق القلب من داخل ه‪ ،‬وه ذا التص ديق سر ال يطلع أحد عليه إال اهلل‬
‫تع الى ‪ ،‬وال يملك أحد أن يت دخل في ق رار الف رد واختي اره‪ ،‬وال ذي ي زعم أنه يملك ذلك فقد نصب‬
‫نفسه إله اً على الن اس‪ ،‬وما ذكرن اه ال يتع ارض مع علم اهلل الق ديم منذ األزل بما يص ير إليه كل‬
‫مخل وق ‪ ،‬والعلم الكامل من ص فات اهلل س بحانه وتع الى‪ ،‬وه ذا يقتضي أن يعلم الش يء قبل كون ه‪،‬‬
‫والعلم بالهدى أو الضالل شيء ‪ ،‬وإ حداث الهدى والضالل شيء آخر‪ ،‬وهو أعلم بالمهتدين‪.‬‬
‫وهكذا فإن دور المسلم هو العمل الجاد بدأب ونشاط دون أن يستسلم لليأس أو للزعم القدري بأن‬
‫اهلل أراد ك ذا أو ك ذا‪ .‬وما أح وج أمتنا الي وم ألن تخلع عنها ه ذه األغالل الجبرية وأن ال تخلط بين‬
‫المعرفة التوحيدية الخالصة والسلوك الجبري العاجز‪.‬‬

‫األعراف اآلية ‪.180 :‬‬ ‫‪)?(259‬‬


‫فاطر اآلية‪.8 :‬‬ ‫‪)?(260‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-104-‬‬

‫القاعدة الحادية والعشرون‬


‫العمل العام أساس العمل الخاص ورافده‬
‫أرسل اهلل تع الى محم داً ‪ ‬للن اس كاف ة‪ ،‬فجعل من الن اس كافة أينما ك انوا أمة دع وة ‪ ،‬وجعل اهلل‬
‫تعالى أمانة التبليغ في أعناق الدعاة‪ ،‬فهم الذين ورثوا مهمة الرسل واألنبياء ‪.‬‬
‫ويل زم من ه ذا أن يتح رك الداعية بين جم اهير الن اس ألن ه ؤالء الجم اهير هم روافد ال دعوة ‪،‬‬
‫وبمقدار الصلة بها تتوسع القاعدة ‪ ،‬ويتحقق للدعوة الكسب المادي والمعنوي‪.‬‬
‫وقد أدرك أع داء اإلسالم خطورة اتص ال الدعوة بالجماهير ‪ ،‬وأدركوا دور الجماهير في نصرة‬
‫ال دعوة وتأيي دها‪ ،‬فعلم وا بكل ما أوت وا من جهد على ع زل ال دعاة عن ه ذه الجم اهير باإلش اعات‬
‫المغرضة والتهم الملفقة ‪ ،‬وص وروا للجم اهير أن ه ؤالء ال دعاة إره ابيون متطرف ون‪ ،‬غرض هم‬
‫ُ‬
‫اإلساءة لعامة الناس‪ ،‬وهذا كله لتظهر الدعوة اإلسالمية بمظهر الطائفة المفارقة لعامة المسلمين‪،‬‬
‫فيتحقق بذلك الفصل بين الدعاة وبين األمة في اآلمال واآلالم‪.‬‬
‫رد الفعل‪:‬‬
‫وقد يعمل ال دعاة أحيان اً تحت ض غط ظ رف ما على تك ريس ه ذه الفعل وتأكي ده‪ ،‬فينظ رون إلى‬
‫الجماهير نظرة تقلل من شأنهم وأثرهم في األحداث‪ ،‬وقد يستعمل بعض الدعاة كلمات تعبر عن‬
‫ه ذه النظ رة ‪ ،‬مثل ‪ :‬القطيع ‪ ،‬والغوغ اء‪ ،‬وال دهماء‪ ،‬والغث اء؛ وم ردود ه ذه الكلم ات خس ران في‬
‫جانب الدعوة والدعاة ‪ ،‬وكسب ألعدائهم من أصحاب األفكار الهدامة والنحل المنحرفة‪.‬‬
‫تصويب‪:‬‬
‫وإ ذا أدركنا أن ال دعاة ق وم لم ي أتوا من خ ارج ه ذه األرض ‪ ،‬ولم تل دهم أمه اتهم دع اة‪ ،‬وإ نما هم‬
‫ج زء من ه ذه الجم اهير ‪ ،‬وقبل أن يكون وا دع اة ربما ك ان ُينظر إليهم ب ذلك المنظ ار االس ود ‪ ،‬ثم‬
‫تب دل ح الهم وحسن م آلهم‪ ،‬ورزقا من العلم والفهم ما ينبغي أن يق ربهم من الن اس ‪ ،‬ال ما يفض لهم‬
‫على الناس قال تعالى‪  :‬كذلك ُكنتم من قب ُل فمن اهلل عليكم ‪ .)261(‬وكونهم كانوا من عامة الناس‬
‫ثم صاروا من الدعاة يلزم منه أن يدركوا أن جماهير األمة هي رافد الدعوة‪ ،‬وأن الخير ال ينقطع‬
‫وال يتوقف‪.‬‬
‫وأما صيغ التعميم الحاكمة على أهل بلدة ‪ ،‬أو مدينة ‪ ،‬أو عشيرة بالسوء والفساد فهي عين السوء‬
‫والفساد‪ ،‬وال ينبغي أن ُيقال‪ :‬أهل مدينة كذا سيئون أو فئة كذا سيئة ‪ ،‬وهذه الصيغ ابتُلي بها عامة‬
‫الن اس ح تى ما نك اد نجد أح داً إال وهو ينسب التقص ير والفس اد إلى أهل بل دة أو مدين ة‪ .‬وقد تنتقل‬
‫هذه الصيغ مع اإلنسان من مرحلة ما قبل الدعوة إلى مرحلة ما بعد الدعوة‪.‬‬
‫أهلك الناس‬

‫النساء اآلية ‪.94 :‬‬ ‫‪)?(261‬‬


‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-105-‬‬

‫وه ذا رس ول اهلل ‪ ‬يعلمنا كيف نفتح قلوبنا للخلق بعي داً عن األحك ام الج ائرة واالطالق ات العام ة‪،‬‬
‫(‪)262‬‬
‫‪ ،‬قال أبو إسحاق ـ أحد الرواةـ ‪ :‬ال أدري‬ ‫فيقول ‪ " :‬إذا قال الرجل ‪ :‬هلك الناس فهو أهلكهم"‬
‫أهل َكهم بانلصب ‪ ،‬أو أهل ُكهم بالرفع ‪ .‬وأخرجه أبو نعيم في حلية األولياء‪ ،‬وفيه ‪ " :‬فهو أهلكهم " ‪،‬‬
‫وأخرجه أحمد من رواية أبي هري رة ق ال ‪ :‬ق ال رس ول اهلل ‪ " : ‬إذا س معتم رجالً يق ول ‪ :‬هلك‬
‫الن اس فهو أهلكهم ‪ ،‬يق ول اهلل ‪ :‬إنه هو هال ك"(‪ .)263‬وس واء ك ان المع نى أن القائل هو س بب هالك‬
‫الناس؛ ألنه لم يقم بواجبه في النصح لهم والحرص عليهم ‪ ،‬والصبر على جاهلهم ومسيئهم؛ أو أن‬
‫يكون أكثر الناس هالكاً‪ ،‬وهو بهذه الكلمة يعبر عن هالكه هو وعن عجزه‪.‬‬
‫دعوة اهلل سعى لصالح الناس‪:‬‬
‫وفي ال وقت ال ذي تتن افس فيه ال دعوات واألفك ار على الجمه ور‪ ،‬وكل يح اول أن يحت وي ه ذا‬
‫الجمه ور لص الحه ويوظفه في ص فه‪ ،‬ف إن دع وة اهلل وح دها تعمل لخ ير الجمه ور‪ ،‬وال تريد من‬
‫الجمه ور أن يك ون بق رة حلوب اً لص الح ف رد أو فئة أو ِح زب‪ ،‬ودع وة اهلل وح دها تعطي من ي ؤمن‬
‫باهلل رب اً‪ ،‬وباإلسالم دين اً ومنهاج حياة أي اً كان لونه وجنسه ولغته أرفع الرتب البشرية والمقامات‬
‫العلية‪ .‬والبد أن ُيعبئ الدعاة قلوبهم بمحبة الناس‪ ،‬حتى يتغلغل هذا الحب في أعماق القلب‪ ،‬وأن‬
‫تتح ول ه ذا التعبئة س لوكاً يش يع منه الرفق والت واد وال تراحم ‪ ،‬ح تى ُيع رف الداعية من بين س ائر‬
‫الن اس بمحبته للن اس وحرصه عليهم وتفانيه في خ دمتهم وس هره على ص يانتهم من آف ات األفك ار‬
‫المنحرفة وش رورها‪ .‬فه ذا رس ول اله ‪ ‬ي دخل مكة ‪ ،‬ويع اين فيها أولئك ال ذي أخرج وه وع ذبوا‬
‫أصحابه وقاتلوه وقتلوا أحب الناس إليه حمزة ‪ ،‬فما زاد على أن قال لهم ‪ :‬اذهبوا فأنتم الطلقاء‪.‬‬
‫الموقف السابق‪:‬‬
‫والداعية ال ينطلق بين الجم اهير وهو يحمل موقف اً س ابقاً ‪ ،‬كونه من خالل العالق ات األس رية‬
‫المش وبة بالتحامل واألحق اد؛ إذ أن أك ثر الن اس يحتفظ ون في عق ولهم وقل وبهم بكل تص رف س لبي‬
‫كان قد تصرفه أحد الناس‪ ،‬حتى تجمعت هذه التصرفات على شكل ذكريات مؤلمة ينقلها الخلف‬
‫عن الس لف‪ ،‬ويتواصى الن اس ك ابراً عن ك ابر بالقطيعة ومقابلة اإلس اءة باإلس اءة؛ وذلك ألنهم‬
‫نش أوا بعي داً عن هيمنة اإلس الم على النف وس والعق ول‪ ،‬فأص حبت المش احنات العص بية واإلقليمية‬
‫هي الموجَّة لكث ير من الن اس‪ ،‬وأص بح الف رد ينطلق من ه ذا الرك ام من العالق ات غ ير اإلس المية‪،‬‬
‫ومن أوجب الواجبات على الداعية أن يعلم الناس كيف يستطيعون تجاوز الذكريات السلبية‪ .‬وقد‬
‫يجد الداعية مقاومة من أقرب الناس إليه إذا الحظوا عليه عدم اكتراثه بهذه األحقاد التي قد تعتبر‬
‫رصيداً عزيزاً عند أصحابها‪ ،‬وعليه أن يصبر على هذه المقاومة‪.‬‬
‫العمل اإليجابي‪:‬‬

‫أخرجه مسلم ‪.)4/2024( :‬‬ ‫‪)?(262‬‬


‫أخرجه أبو نعيم في الحلية (‪.)7/141‬‬ ‫‪)?(263‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-106-‬‬

‫والعمل اإليجابي بين الجماهير يقوم على عنصرين رئيسين ‪ :‬المعرفة والسلوك‪.‬‬
‫ومي ادين العرفة كث يرة‪ ،‬ومي ادين الس لوك كث يرة ك ذلك‪ .‬وال بد من مراع اة التخطيط والبرمجة في‬
‫التنفيذ كي يصل الداعية إلى نتائج إيجابية‪.‬‬
‫والمعرفة مقدمة على العم ل؛ ألنها البص يرة الواعية ال تي تكشف مج االت العم ل‪ ،‬وه ذه المعرفة‬
‫يمكن تحديدها على النحو التالي ‪:‬‬
‫جمع المعلومات‪:‬‬
‫وأول ش رط ‪ :‬ينبغي للداعية أن يق وم به هو معرفة الجمه ور ال ذي يتعامل مع ه‪ ،‬س واء ك ان ه ذا‬
‫الجمهور صغيراً على مستوى المؤسسة أو الدائرة‪ ،‬أو كبيراً على مستوى البلدة أو القطر‪ ،‬وتأتي‬
‫ه ذه المعرفة من خالل جمع المعلوم ات‪ ،‬وأول ش روط جمع المعلوم ات مراع اة الح ذر واليقظة‬
‫ح تى ال يرت اب أحد بالداعية ال ذي ال يريد من عمله ه ذا كشف أس رار الن اس واإلطالع على‬
‫عوراتهم‪ ،‬وإ نما يريد التعرف على مراكز النفوذ االجتماعي واالتجاهي الفكرية وأصناف الناس‪،‬‬
‫ومدى قربهم أو بعدهم عن الدعوة‪.‬‬
‫والشرط الثاني‪ :‬هو مراعاة الموضوعية في جمع المعلوم ات وتحليلها‪ ،‬إذ أن كل مبالغة في حكم‬
‫من األحكام قد تؤدي إلى أخطاء فادحة‪ ،‬ناتجة عن سوء التقدير‪ .‬وقد يصنف الداعية إنساناً ما في‬
‫دائرة أعدائه بسبب تصرف الحظه‪ ،‬فجعله هذا التصرف يتعامل مع هذا اإلنسان على أنه ص احب‬
‫فكر مض اد أو اتج اه مع اد ‪ ،‬فيك ون س وء التق دير والتس رع في الحكم س بباً في اس تكثار األع داء‪.‬‬
‫وليس كل س لوك مف رد أو تص رف ج زئي ي دل على ص يغة فكرية أو منهجي ة‪ ،‬فليس كل من تكلم‬
‫عن العرب والعروبة قومياً ‪ ،‬وليس كل من تكلم عن التأميم اشتراكياً‪.‬‬
‫والش رط الث الث ‪ :‬مراع اة منهجية النقل ‪ ،‬فال نأخذ األخب ار والمعلوم ات إال عن الص ادقين‬
‫الض ابطين لما ينقل ون‪ ،‬والبد من مالحظة أن بعض الص ادقين ال يتح رون الدقة في نقلهم‬
‫وأخب ارهم؛ ألن اآلفة في ال ذين أخ بروهم وزودوهم بالمعلوم ات‪ .‬وإ ذا أهملت ه ذه المنهجية ف إن‬
‫األحكام ستكون جائزة غير عادلة‪.‬‬
‫والش رط الراب ع‪ :‬مراجتة المعلوم ات ح ول من يتخ ذهم الداعية أع داء فك ريين للتخلص من آث ار‬
‫المبالغة وس وء التق دير‪ ،‬ومراع اة لما يط رأ على أص حاب األفك ار والم ذاهب من تغي ير س لبي أو‬
‫إيجابي‪.‬‬
‫استدراك‪:‬‬
‫وال تقف المعرفة عند ح دود االتجاه ات والم ذاهب والنش اطات االجتماعي ة‪ ،‬بل تتن اول أيض اً‬
‫التعرف على أفراد الجمهور وأمزجتهم واحتياجاتهم وما يسرهم وما يحزنهم‪ ،‬وينبغي أن ال يغيب‬
‫عن الداعية ما يص يب أف راد المجتمع من الس راء والض راء‪ ،‬ف إذا رزق أح دهم بولد ك ان الداعية‬
‫أول المهنئين الذين يذكرون الوالد بنعمة اهلل عليه‪ ،‬وإ ذا نجح ولد أحدهم في مدرسة أو جامعة كان‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-107-‬‬

‫أول المع برين عن س روره به ذه المناس بة باعتبارها مناس بة عزي زة يهتم بها كما لو أنه ص احبها‪.‬‬
‫وإ ذا فقد أح دهم عزي زاً أو حل به م رض أو ن زلت به مص يبة ك ان أول المواس ين ال ذين يم دون‬
‫أيديهم ويفتحون قلوبهم‪.‬‬
‫ونظراً التساع دائرة المعلومات التي يحتاج إليها الداعية فقد يتبادر إلى األذهان ما يجده الداعية‬
‫من صعوبة ومشقة في اإلحاطة بكل هذه الجوانب‪ ،‬ولكن هذه الصعوبة تزول عندما نقسم المجتمع‬
‫إلى دوائر صغيرة على شكل أحياء‪ ،‬أو مؤسسات‪ ،‬ثم يتخصص كل داعية بدائرة محدودة تتناسب‬
‫مع قدرته وإ مكاناته ويستطيع استيفاء المعلومات حول جمهورها‪.‬‬
‫‪ -2‬التصنيف‪:‬‬
‫وتأتي هذه المرحلة بعد جمع المعلومات فيقوم الداعية بتصنيف أفراد الجمهور إلى أصناف‪.‬‬
‫الص نف األول ‪ :‬األنص ار والمحب ون واألقرب اء واألرح ام‪ ،‬وه ؤالء يس رون بس رور الداعي ة‪ ،‬وال‬
‫يبخلون عليه في تقديم ما يحتاج إليه لتسهيل مهمته‪.‬‬
‫الص نف الث اني ‪ :‬األع داء الفكري ون‪ ،‬وه ؤالء يحمل ون عقائد معادي ة‪ ،‬ويعمل ون على نش رها‪،‬‬
‫ويعت برون الداعية عقبة في ط ريقهم‪ ،‬وذك اء الداعية يظهر في قدرته على ت رتيبهم تبع اً لس لم‬
‫عداوتهم‪ ،‬وتأثيرهم في المجتمع‪.‬‬
‫الصنف الثالث‪ :‬المحايدون الذين ال يناصرون طرفاً على طرف ‪ ،‬وينبغي أن يعت برهم الداعية من‬
‫فئة األنصار؛ لكونهم مسلمين ال يحملون فكراً آخر‪ ،‬وال يتبنون مذهباً معادياً لإلسالم وأهله‪.‬‬
‫مبادئ عامة في السلوك والتعامل مع الجمهور‪:‬‬
‫ليس من الس هل حصر جميع المب ادئ العامة ال تي تس اعد الداعية على تحقيق أهدافه في المي دان‬
‫الجم اهيري؛ ألن اإلس الم كله يك ِّون ه ذه المب ادئ واألخالق‪ ،‬وس نذكر بع المب ادئ ال تي ن رى أنها‬
‫جديرة باالهتمام الختصاصها األكيد بهذا الميدان الدعوي‪.‬‬
‫‪ -1‬االحتفاظ بالمعلومات‪:‬‬
‫فالمعلومات التي يجمعها الداعية ليوظفها في تعامله مع الجمهور ليست للنشر والتشهير‪ .‬والداعية‬
‫ال واعي يحتفظ بها لنفسه دون إش اعتها‪ ،‬وهو يس تطيع أن يخفى في عميق ص دره جميع ما يعلم ه‪،‬‬
‫دون أن يظهر في فلت ات لس انه أو يب دو على قس مات وجه ه‪ .‬وهو ب ذلك يحافظ على مس توى من‬
‫الحياء لدى عامة الناس‪ .‬ويستطيع أن يتعامل مع الناس دون أن يتحفظوا منه أو ينعزلوا عنه‪.‬‬
‫‪ -2‬المدارة‪:‬‬
‫ولكي يتح رك الداعية في المجتمع حركة مجدية دون أن تقف في وجهه العقب ات والعوائق ف إن‬
‫عليه أن يعرف كيف يداري هؤالء الناس ويجاملهم‪ ،‬وهذه المداراة سنة حميدة سنها لنا رسول اهلل‬
‫‪ ‬فعن عائشة رضي اهلل عنها أنه استأذن على النبي ‪ ‬رجل فقال‪ " :‬ائذنوا له‪ ،‬فبئس ابن العشيرة‪،‬‬
‫أو بئس أخو العش يرة‪ ،‬فلما دخل أالن له الكالم‪ ،‬فقلت له ‪ :‬يا رس ول اهلل ‪ :‬قلت ما قلت‪ ،‬ثم ألنت له‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-108-‬‬

‫في الق ول فق ال‪ :‬أي عائش ة‍ إن شر الن اس منزلة عند اهلل من تركه الن اس اتق اء فحش ه"(‪ .)264‬وفي‬
‫علي غيره"‪.‬‬
‫رواية " إنه منافق أداريه عن نفاقه‪ ،‬وأخشى أن ُيفسد َّ‬
‫ونس تفيد من ه ذا الح ديث أن الن بي ‪ ‬ك ان يعلم من س وء أخالق ذلك الرجل ما جعله يذمه وي ذكره‬
‫بما فيه‪ ،‬ولكنه أالن له الحديث وهش له‪ .‬ولم يصارحه بما يعلمه منه ألن المصارحة في مثل هذا‬
‫داء‪ .‬وال يع ود اإلص الح ممكن اً‪ ،‬بل تستش ري ن ار‬ ‫الموقف فحش‪ ،‬وال تك ون ثمرتها إال قطيعة وع ً‬
‫الفساد‪.‬‬
‫وهذا ما عبر عنه الصحابي الجليل أبو الدرداء عندما قال‪ " :‬إنا َلن ْك ِش ر في وجوه أقوام وإ ن قلوبنا‬
‫لتلعنهم"(‪ .)265‬وال َك ْشر أكثر ما يطلق على الضحك‪ ،‬وفي رواية أخرى‪ " :‬ونضحك"‪.‬‬
‫وقد فهم علماؤنا األجالء ه ذا المب دأ من مب ادئ التعامل فنجد علي بن خلف بن بط ال أحد ش راح‬
‫البخاري المتوفي سنة ‪449‬هـ‪ ،‬يقول ‪ :‬المداراة من أخالق المؤمنين‪ ،‬وهي خفض الجناح للناس‪،‬‬
‫ولين الكالم‪ ،‬وترك اإلغالظ لهم بالقول‪ ،‬وذلك من أقوى أسباب األلفة(‪.)266‬‬
‫الف رق بين المداهنة والم داراة‪ :‬وقد يتب ادر إلى األذه ان أن الم داراة الم ذكور آنف اً هي ن وع من‬
‫المداهنة والنفاق‪ ،‬وقد يأباها كثير من الدعاة أخذاً بمبدأ الوضوح والمصارحة في قول كلمة الحق‬
‫واإلش ارة إلى ع وج كل ذي ع وج ‪،‬وك أنهم فهم وا أن ه ذا األس لوب هو من ب اب كلمة الحق عند‬
‫س لطان ج ائر‪ .‬وه ذا في غ ير موض عه؛ يق ول اإلم ام ابن حجر في ش رحه لص حيح البخ اري‪ ،‬نقالً‬
‫عن القاضي عياض في كالمه على الحديث السابق‪:‬‬
‫والف رق بين الم داراة والمداهنة أن الم داراة ب ذل ال دنيا لص الح ال دنيا أو ال دين‪ ،‬أو هما مع اً ‪ ،‬وهي‬
‫مباحة‪ ،‬وربما استحبت ‪ ،‬والمداهنة ترك الدين لصالح الدنيا‪ ،‬والنبي ‪ ‬إنما بذل له من دنياه حسن‬
‫عش رته والرفق في مكالمت ه‪ ،‬ومع ذلك فلم يمدحه بق ول‪ ،‬فلم ين اقض قوله فيه فعل ه‪ ،‬ف إن قوله فيه‬
‫قول حق‪ ،‬وفعله معه حسن عشرة‪ ،‬فيزول مع هذا التقرير اإلشكال بحمد اهلل تعالى"(‪.)267‬‬
‫ونخلص من ه ذا إلى أن المداهنة معاش رة الفاسق وإ ظه ار الرضى بما هو عليه واستحس ان مذهبه‬
‫من غ ير إنك ار‪ ،‬فيك ون الم داهن قد ب ذل دينه من أجل دني اه في رضى الن اس عن ه‪ .‬وأما أن يب ذل‬
‫الداعية شيئاً من الدنيا ألي إنسان فهذا أمر محمود‪ ،‬فنحن نجود بدنيانا ونبخل بديننا‪ .‬وبناء عليه‬
‫ف إن من الج ائز‪ ،‬بل من المن دوب أن نك رم من ال نرضى دينه وعقيدته تألف اً لقلب ه‪ .‬وه ذا مع نى‬
‫العب ارة المنقولة آنف اً عن القاضي عي اض‪ :‬الم داراةت ب ذل ال دنيا لص الح ال دنيا أو ال دين‪ ،‬أو ُهما‬
‫معاً"‪.‬‬

‫رواه البخاري ( متن فتح الباري ) (‪.)10/528‬‬ ‫‪)?(264‬‬


‫البخاري‪ ( ،‬متن فتح الباري ) (‪.)10/527‬‬ ‫‪)?(265‬‬
‫فتح الباري (‪.)10/528‬‬ ‫‪)?(266‬‬
‫فتح الباري (‪ .)10/545‬والمقصود الرجل الذي قال له ‪ :‬بئس أخو العشيرة‪.‬‬ ‫‪)?(267‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-109-‬‬

‫فما أح وج الداعية إلى فهم ه ذا المب دأ‪ ،‬وبتطبيقه يس تطيع ج ذب قل وب الن اس إليه فهو يج بر وال‬
‫يكسر ؛ ألن كسر القلوب ال يعتود على الدعوة إال بالخسران‪ ،‬والقلب الكسير ال يجبر إال بمشقة‪،‬‬
‫وإ ن الرابط النفسي ال يوصل إذا انقطع إال بعد جهد كبير‪.‬‬
‫‪ -3‬إفشاء السالم‪:‬‬
‫والس الم أول الوس ائل وأفض لها إلقامة اتص ال بين االعية وبين جمه وره‪،‬وبه ذا الس الم ي دخل‬
‫الداعية إلى قلوب الخلق بما تشيعه هذه الكلمة من ظالل المحبة والوفاء واإلخالص‪ .‬وقد شاء اهلل‬
‫تع الى أن يجعل وس ائل االتص ال الجماهيرية عب ادات يتق رب بها الم ؤمن إلى اهلل‪ ،‬وجعلت ه ذه‬
‫أي اإلسالم‬
‫الوسائل من شبع اإليمان وخصاله؛ ولنسمع لنبينا العظيم‪ ‬وهو يقول وقد سأله رجل‪ُّ :‬‬
‫خير؟ فقال‪ " :‬تطعم الطعام وتَ ْقرأ السالم على من عرفت ومن لم تعرف"(‪ .)268‬وهذا الحديث نص‬
‫في أهمية الس الم وبذله لجميع المس لمين‪ ،‬ق ال الن ووي ‪ " :‬وفيه ب ذل الس الم لمن ع رفت ‪ ،‬ولمن لم‬
‫تع رف‪ ،‬وإ خالص العمل فيه هلل تع الى ال مص انعة ‪ ،‬وال ملق اً‪ ،‬وفيه مع ذلك اس تعمال خلق‬
‫التواض ع‪ ،‬وإ فش اء ش عار ه ذه األم ة"(‪ .)269‬ويق ول ابن حجر رحمه اهلل‪ " :‬أي ال تخص به أح داً ‪،‬‬
‫تصنعاً ‪ ،‬بل تعظيماً لشعار اإلسالم‪ ،‬ومراعاة ألخوة المسلم"(‪.)270‬‬
‫تكبُّراً أو ُّ‬
‫والسالم من الحقوق الثابتة للمسلم‪ ،‬قال رسول اهلل ‪ " :‬حق المسلم على المسلم خمس‪ ،‬رد السالم‪،‬‬
‫وتشميت العاطس‪،‬وإ جابة الدعوة‪ ،‬و عيادة المريض ‪،‬واتباع الجنائز"(‪.)271‬‬
‫وما دام الس الم ش عار اإلس الم ف إن على الداعية أن يعمم ه ذا الش عار يلقيه على كل أح د‪ ،‬دون ملل‬
‫أو سأم‪ ،‬وتكرار إلقاء السالم البد أن يثمر تعارف اً ثم تتوثق العالقة‪ ،‬وتنتقل إلى ما وراء الكلمة من‬
‫السلوك والعمل المشترك‪.‬‬
‫وقد يظن بعض الدعاة أن السالم ال يليق ببعض الناس لما هم عليه من خلق أو سلوك‪ ،‬وهذا الظن‬
‫تنعكس س لبياته على ال دعوة‪ ،‬إذ تُتهم بالطبقي ة‪ ،‬وأنها ت ربي أبناءها على العزلة واالنفص ال عن‬
‫المجتمع‪ ،‬ويوصف الداعية بالتكبر والتعالي‪.‬‬
‫وال يقتصر الداعية على الكب ار فيخص هم بالس الم‪ ،‬بل يلقي الس الم على الص غار‪ ،‬وإ لق اء الس الم‬
‫على الص بيان ي ترك أث راً حس ناً في نفوس هم‪ ،‬ألن ه ؤالء محروم ون من التق دير واالح ترام فمن‬
‫يح ترمهم ويق درهم هو ال ذي يكس بهم لص فه‪ ،‬أخ رج اإلم ام مس لم‪ ،‬عن س يار ق ال‪ ":‬كنت أمشي مع‬

‫أخرجه مسلم ‪ ،‬انظر شرح النووي ‪ ، 2/9‬وأخرجه البخاري ( بهامش فتح الباري‪.)1/82‬‬ ‫‪)?(268‬‬
‫شرح مسلم للنووي (‪.)2/11‬‬ ‫‪)?(269‬‬
‫فتح الباري‪.)1/56( ،‬‬ ‫‪)?(270‬‬
‫أخرجه مسلم ( متن النووي ) ( ‪.)14/143‬‬ ‫‪)?(271‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-110-‬‬

‫البن اني فمر بص بيان فس لم عليهم‪ ،‬وح دث ث ابت أنه ك ان يمشي مع أنس فمر بص بيان فس لم‬
‫ث ابت ُ‬
‫عليهم‪ ،‬وحدث أنه ( أنس ) كان يمشي مع رسول اهلل ‪ ‬فمر بصبيان فسلم عليهم"(‪.)272‬‬
‫فالداعية الناجح ال ينسى هدفه في الوصول إلى قلوب الناس كباراً أو صغاراً‪ ،‬وهو يقترب كل يوم‬
‫من هدفه‪ ،‬وإ ذا كان الناس في غفلة عن هذه األهداف الكبيرة وتشغلهم األهداف الشخصية القريبة‪،‬‬
‫ف إن الداعية دائم الفكر دائب العمل مس تمر التخطيط ليصل إلى أهدافه الكب يرة‪ ،‬وي رى في الطفل‬
‫الص غير رجل المس تقبل‪ ،‬وفي العامل الفق ير المس ؤول الكب ير‪ ،‬فالقليل يك ثر والص غير يك بر‪،‬‬
‫والكسب لمن سبق وصبر وأحسن‪.‬‬
‫‪ -4‬تألف الناس ‪- :‬‬
‫والداعية ي ألف ويؤل ف‪ ،‬وذلك بس بب تكوينه ال ذهني والس لوكي‪ ،‬ولما يتمتع به من رؤية واس عة‬
‫وبعد نظ ر‪ ،‬وهو يزيد من ق وة ارتباطه بالن اس يوم اً بعد ي وم‪ .‬ويلتقي عليه ع دد كب ير من الن اس؛‬
‫ُ‬
‫ألنهم يشعرون بحرصه عليهم‪ ،‬ورفقه بهم‪ ،‬فهو قوة جامعة ال قوة طاردة‪.‬‬
‫وتب دأ األلفة من القلب بالنية الص الحة وت رك الغلظ ة‪ ،‬وتش رب الرقة والرحمة والرف ق‪ .‬وه ذا ما‬
‫علّمه اهلل تعالى لنبيه ‪ ‬ليجذب قلوب الخلق إليه‪ ،‬فقال ‪  :‬ولو كنت فظ اً غليظ القلب النفضوا من‬
‫حولك ف اعف عنه واس تغفر لهم وش اورهم في األمر‪ ،)273(‬أما الفظ فهو الغليظ الج انب الس يئ‬
‫الخل ق‪ .‬والغليظ القلب ال ذي ال يت أثر قلبه عن ش يء‪ ،‬فقد ال يك ون س يئ الخلق وال ي ؤذي أح داً ‪،‬‬
‫ولكنه ال يرق لهم وال يرحمهم(‪.)274‬‬
‫وإ ذا ك ان ص احب بض اعة ما يفهم أن تس ويق ه ذه البض اعة ال يتم إال إذا ت وافر األس اس النفس ي‪،‬‬
‫الخلق الرفيع ولين الجانب من أسباب إقبال الناس على الشراء من التاجر‪ ،‬فكذلك أمر الداعية‬
‫فإن ُ‬
‫ال ذي يع رض س لعة اإليم ان‪ .‬يق ول ال رازي‪" :‬إن المقص ود من البعثة أن يبلغ الرس ول تك اليف اهلل‬
‫إلى الخلق؛ وهذا المقصود ال يتم إال إذا مالت قلوبهم إليه‪ ،‬وسكنت نفوسهم لديه‪ .‬وهذا المقص ود ال‬
‫يتم إال إذا ك ان رحيم اً كريم اً‪ ،‬يتج اوز عن ذنبهم ويعفو عن إس اءتهم‪ ،‬ويخص هم بوج وه ال بر‬
‫والمكرمة والشفقة‪ ،‬فلهذه األسباب وجب أن يكون الرسول ُمَب ّرأ من سوء الخلق‪ .‬وكما يكون كذلك‬
‫وجب أن يك ون غ ير غليظ القلب ‪ ،‬بل يك ون كث ير الميل إلى إعانة الض عفاء‪ ،‬كث ير القي ام بإعانة‬
‫الفقراء‪ ،‬كثير التجاوز عن السيئات"(‪.)275‬‬

‫أخرجه مسلم ( متن النووي ) (‪.)14/149‬‬ ‫‪)?(272‬‬


‫اآلية ‪ ، 159 :‬من سورة آل عمران‪.‬‬ ‫‪)?(273‬‬
‫التفسير الكبير للرازي (‪.)64-9/63‬‬ ‫‪)?(274‬‬
‫التفسير الكبير للرازي (‪.)9/64‬‬ ‫‪)?(275‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-111-‬‬

‫ولمك ان األلفة في دين اهلل تع الى اعت برت فريضة من فرائض ه؛ ق ال القاضي عي اض‪" :‬واأللفة‬
‫إح دى ف رائض ال دين وأرك ان الش ريعة ونظ ام ش مل اإلس الم"(‪ .)276‬ومن أس باب حص ول األلفة‬
‫ال ورع وص دق الس ريرة واإلخالص‪ ،‬ول ذلك ج اء الربط بين إفش اء الس الم وبين الص الة بالليل‬
‫والناس نيام‪ " ،‬عن عبداهلل بن سالم رضي اهلل عنه‪ ،‬قال‪ :‬لما قدم النبي ‪ ‬انجفل الناس عليه‪ ،‬فكنت‬
‫فيمن انجفل‪ ،‬فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب‪ ،‬فكان أول شيء سمعته يقول‪" :‬‬
‫أفشوا السالم‪ ،‬وأطعموا الطعام‪ ،‬وصلوا باألرحام‪ ،‬وصلُّوا والناس نيام‪ ،‬تدخلوا الجنة بسالم"(‪.)277‬‬
‫فالص الة في الليل تربط العبد بخالقه فيرضى عن ه‪ ،‬وإ ذا رضي اهلل تع الى عن العبد أرضى العب اد‬
‫عن ه‪ .‬وفي الح ديث عن أبي هري رة رضي اهلل عن ه‪ ،‬عن الن بي ‪ ‬ق ال‪ " :‬إذا أحب اهلل عب داً ن ادى‬
‫جبريل إن اهلل ُيحب فالن اً فأحبه فيحبه جبري ل‪ ،‬فين ادي جبريل في أهل الس ماء‪ :‬إن اهلل يحب فالن اً‬
‫فأحبوه‪ ،‬فيحبه أهل السماء‪ ،‬ثم يوضع له القبول في أهل األرض"(‪.)278‬‬
‫الحجة حاضر البديه ة‪ ،‬ف إن حجته وبديهته تعجز أم ام ع دم التوفيق‬
‫ومهما ك ان الداعية ق وي ُ‬
‫والرضا منه سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ومن أس باب اإللف ع دم منازعة الن اس في دني اهم‪ ،‬أو منافس تهم في المناص ب‪ ،‬وه ذا هو الزهد‬
‫النافع‪ ،‬أي الزهد بما في أيدي الناس‪ .‬وأكثر من ذلك فإن الداعية يؤثر الناس على نفسه ولو كان‬
‫به خصاصة‪.‬‬
‫ومن اس بابه ك ذلك ب ذل المع روف‪ ،‬فالداعية يفكر دائم اً بإس عاد الن اس وإ يص ال الخ ير إليهم ولو‬
‫بالكلمة الطيبة‪ ،‬ومن كان هذا شأنه فإنه ال يعرف الشر وال األذى‪.‬‬
‫ومن أس بابه إطع ام الطع ام لما فيه من أثر ب الغ على النفس البش رية‪ ،‬ول ذلك ورد في‬
‫الحديث‪":‬أطعموا الطعام"‪ .‬وعن عبد اهلل بن عمرو رضي اهلل عنهما‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول اهلل ‪ ":‬إن‬
‫الجنة لغرفاً ُيرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها‪ ،‬فقال أبو موسى األشعري‪ :‬لمن هي يا‬
‫رسول اهلل ‪ ،‬قال ك لمن أالن الكالم وأطعم الطعام وبات اهلل قائماً والناس نيام"(‪ .)279‬وكان صهيب‬
‫أما قولك في‬
‫رضي اهلل عنه يطعم الطع ام الكث ير فراجعه عمر رضي اهلل عنه في ذلك فق ال‪ّ :‬‬
‫الطعام فإن رسول اهلل ‪ ‬كان يقول‪ " :‬خياركم من أطعم الطعام ورد السالم"(‪.)280‬‬

‫النووي على مسلم (‪.)2/11‬‬ ‫‪)?(276‬‬


‫أخرجه اإلمام أحمد في مسنده (‪ ،)5/451‬والترمذي (‪ ، )4/652‬وقال ‪ :‬حديث حسن‬ ‫(?)‬ ‫‪277‬‬

‫صحيح ‪ ،‬ومعنى انجفل الناس ‪ :‬ذهبوا إليه مسرعين‪.‬‬


‫أخرجه البخاري ( متن فتح الباري ) (‪.)10/461‬‬ ‫‪)?(278‬‬
‫أخرجه الترمذي (‪ ، )4/354‬وأحمد (‪)2/173‬و(‪.)1/156‬‬ ‫‪)?(279‬‬
‫أخرجه اإلمام أحمد (‪.)5/16‬‬ ‫‪)?(280‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-112-‬‬

‫ومن أس باب اإللف الته ادي‪ ،‬فللهدية س حر خ اص يصل الداعية بقل وب الن اس‪ ،‬وه ذه الهدية دليل‬
‫على حب الداعية للمه دي إليه وتق ديره ل ه‪ .‬وإ ذا ك ان الته ادي ج ائزاً بين المس لمين والمش ركين‬
‫والمح اربين فهو أولى بين المس لمين‪ ،‬وقد ج اء في الص حيح أن عمر رضي اهلل عنه رأى حلة‬
‫تباع‪ ،‬فقال للنبي ‪ :‬ابتع هذه الحلة تلبسها يوم الجمعة وإ ذا جاءك الوفد‪ ،‬فقال ‪ :‬إنما يلبس هذه من‬
‫ال خالق له في اآلخرة ـ وك انت من الحرير ـ فُأتي رسول اهلل ‪ ‬منها بحل ل‪ ،‬فأرسل إلى عمر منها‬
‫بحلّ ة‪ ،‬فق ال عمر ‪ :‬كيف ألبس ها وقد قلت فيها ما قلت؟ ق ال‪ :‬إني لم أكس كها لتلبس ها‪ ،‬تبيعها أو‬
‫تكسوها‪ ،‬فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يس لم"(‪" .)281‬وقد ك ان النبي ‪ ‬يقبل الهدية‬
‫ويثيب عليها"(‪.)282‬‬
‫وكم وص لت الهدية من الحب ال المنقطع ة؟ ‪ ،‬وكم غ يرت من المواق ف؟ وكل إنس ان يعلم أثر الهدية‬
‫في تحقيق المودة والمحبة‪ .‬والداعية أولى الناس باستخدام هذه الوسيلة الفعالة من وسائل االتص ال‬
‫الجماهيري‪.‬‬
‫‪ -5‬الداعية يخالط الناس ويصبر على أذاهم‪:‬‬
‫والداعية يتوقع اإلساءة قبل اإلحسان ويعذر الناس في سيئ األخالق وغليظ الطباع؛ ألنهم حرموا‬
‫ردح اً من ال زمن من توجيه اإلس الم وتربيت ه‪ ،‬ففس دت ج وانب مهمة من ج وانب ت ركيبهم النفسي‬
‫واالجتم اعي‪ ،‬وأص بح دأبهم الغيبة والنميمة والهمز اللم ز‪ .‬والداعية الحكيم يتعامل معهم كما‬
‫يتعامل الطبيب الرحيم مع مرضاه‪ ،‬ولهذا فإن الداعية مأمور بالصبر واالصطبار وانتظار النتائج‬
‫دونما يأس أو كلل وشعاره في ذلك قول النبي ‪" : ‬المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم‬
‫خير من الذي ال يخالط الناس وال يصبر على أذاهم"(‪ .)283‬وعندما يصل الدعاة إلى هذا المستوى‬
‫الرفيع من إع ذار الن اس ومس امحتهم على زالتهم‪ ،‬ف إنهم يزيل ون عوائق كث يرة س ببها الحنق‬
‫والغضب والرغبة بالمعاملة بالمثل‪ .‬وقدوة الداعية في ذلك رسول اهلل ‪ ‬الذي ُع رف بسعة صدره‬
‫وكظم غيظ ه‪ ،‬ق ال عبداهلل بن مس عود‪ :‬قسم الن بي ‪ ‬قس مة ـ كبعض ما ك ان يقسم ـ فق ال رجل من‬
‫األنصار‪ :‬واهلل إنها لقسمة ما أريد بها وجه اهلل عز وجل‪ .‬قلت أنا‪ :‬ألقولن للنبي ‪ ‬ـ فأتيته وهو في‬
‫أص حابه ـ فس اررته‪ ،‬فشق ذلك علي ه‪ ،‬وتغ ير وجه ه‪ ،‬وغضب ح تى وددت إني لم أكن أخبرت ه‪ ،‬ثم‬
‫قال‪ ":‬قد أوذي موسى بأكثر من ذلك فصبر"(‪.)284‬‬
‫‪ -6‬الداعية ال يغمط الناس حقهم‪ ،‬وال ينكر ألحد فضله‪:‬‬

‫البخاري ‪ ،‬متن فتح الباري (‪.)5/232‬‬ ‫‪)?(281‬‬


‫أخرجه أبو داود (‪.)3/394‬‬ ‫‪)?(282‬‬
‫األدب المفرد (‪)102‬‬ ‫‪)?(283‬‬
‫صحيح البخاري (‪ )10/512‬وفي األدب المفرد ‪.103‬‬ ‫‪)?(284‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-113-‬‬

‫وغ ْمط الناس من صفات المتكبرين‪ ،‬الذين ال يروق لهم أن يروا أحداً فوقهم‪،‬‬ ‫وذلك َّ‬
‫ألن سفه الحق َ‬
‫ويحملهم الحسد والتن افس على إخف اء فضل الفض الء وعلم العلم اء‪ .‬وأما الداعية فهو ب ريء من‬
‫ه ذا العيب‪ ،‬وهو يع ترف لكل ص احب فضل بفض له‪ ،‬ويتصف بالموض وعية في تعامل ه‪ ،‬ويقت دي‬
‫بس نة الن بي ‪ ‬ال ذي يق ول‪ " :‬ال ي دخل الجنة من ك ان في قلبه مثق ال ذرة من ك بر‪ ،‬ق ال رجل ‪ :‬إن‬
‫الرجل يحب أن يك ون ثوبه حس ناً ‪ ،‬ونعله حس نة ‪ ،‬ق ال ‪ :‬إن اهلل جميل يحب الجمي ل‪ ،‬الك بر بطر‬
‫الحق وغمط الناس"(‪.)285‬‬
‫ومع نى بطر الح ق‪ :‬دفعه وإ نك اره ترفع اً وتج براً‪ ،‬ومع نى غمط الن اس‪ :‬احتق ارهم‪ .‬وه ذا الموقف‬
‫من الداعية يحقق السالم بينه وبين سائر الناس ويمهد له الطريق إلى قلوبهم‪ ،‬ويقيم أفضل وسائل‬
‫االتصال معهم‪.‬‬
‫‪-7‬صلة الرحم‪:‬‬
‫ويتصف الداعية بحرصه على ص لة رحم ه‪ ،‬قيام اً بفريضة من ف رائض ال دين‪ .‬وتطبيق اً لس نة من‬
‫س ننه‪ ،‬وص لة ا ل رحم تحقق االتص ال الحي وي بجماعة كب يرة من الن اس يرتبط الداعية بهم رب اط‬
‫الق ربى‪ ،‬ويف ترض ه ؤالء الن اس أن يك ون الداعية وص والً لهم‪ .‬ول ذا ف إنهم ينك رون على الداعية‬
‫حملونه من المس ئولية أك ثر من غ يره‪ .‬والداعية ال ذكي يتوجه إلى ه ؤالء من‬
‫وي ِّ‬
‫عن دما يقطعهم‪ُ ،‬‬
‫بره‪ .‬ولقد أمرنا رسول اهلل ‪ ‬بالتعرف‬
‫خالل الصلة المعروفة ليقدم إليهم دعوته بعد أن يقدم إليهم َّ‬
‫على أنسابنا ال من أجل عصبية جاهلية ولكن منأجل تأدية الواجب نحو هؤالء األرحام‪ ،‬فقال عليه‬
‫الص الة والس الم‪ " :‬تعلموا من أنسابكم ما تص لون به أرح امكم ف إن ص لة الرحم محبة في األه ل‪،‬‬
‫منسأة في األجل‪ ،‬مرضاة للرب"(‪.)286‬‬
‫مثراة في المال‪ْ ،‬‬
‫وقد اخت ار اهلل نبيه محم داً ‪ ‬وله في كل بيت من بي وت الع رب رحم‪ ،‬وق امت األدلة على ض رورة‬
‫لس لم م راتبهم‪ ،‬وقد ن اقش ابن ح زم في‬
‫معرفة األنس اب واألرح ام‪ ،‬وذلك ألداء الحق وق إليهم تبع اً ُ‬
‫كتاب ه" جمه رة أنس اب الع رب" ق ول من ق ال ‪ ( :‬إن علم النسب علم ال ينفع وجهالة ال تض ر‪ .‬ثم‬
‫قال‪ :‬وضح أنه بخالف هذا وأنه علم ينفع ‪ ،‬وجهل يضر‪ .‬وكان من بين أصحاب النبي ‪ ‬من يتقن‬
‫علم النسب ك ابي بكر الص ديق وأبي الجهم بن حذيفة وجب ير بن مطعم رضي اهلل عنهم‪ .‬وك ان أبو‬
‫بكر أش دهم رس وخاً في العلم بجميع أنس اب الع رب‪ ،‬وقد أمر الن بي ‪ ‬حس ان بن ث ابت أن يأخذ ما‬
‫يحتاج إليه من علم نسب قريش عن أبي بكر الصديق) (‪.)287‬‬
‫وكث ير من ال دعاة يهمل ون البحث في أنس ابهم ظن اً منهم أن ذلك من أمر الجاهلي ة‪ .‬والجاهلية هي‬
‫الفخر والخيالء والعص بية‪ ،‬ومن الجاهلية القطيعة وإ هم ال األرح ام‪ .‬وقد جعل الق رآن الك ريم‬

‫أخرجه مسلم (‪.)1/93‬‬ ‫‪)?(285‬‬


‫أخرج الترمذي (‪ ،)4/351‬وأحمد (‪.)2/374‬‬ ‫‪)?(286‬‬
‫جمهرة أنساب العرب ‪ 5-3‬بتصرف ‪.‬‬ ‫‪)?(287‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-114-‬‬

‫تقطيع األرح ام قرين اً لإلفس اد في األرض‪ ،‬فق ال تع الى ‪  :‬فهل عس يتم إن ت وليتم أن تُفس دوا في‬
‫األرض وتقطع وا أرح امكم ‪ .)288(‬وقد بلغ من ح رص ه ذا ال دين على ص لة ال رحم أن أمر بص لة‬
‫الرحم المشركة‪ ،‬فجاء عن النبي ‪ ‬أه قال ‪ " :‬إن آل أبي فالن ليسوا بأوليائي إنما وليي اهلل وصالح‬
‫المؤمنين‪ ،‬ولكن لهم رحم أبلُّها بباللها‪ ،‬أي أصلها بصلتها"(‪.)289‬‬
‫وال رحم س واء ك انت مؤمنة أو غ ير مؤمنة قريبة أو بعي دة‪ ،‬فهي ُش ْجنة من ال رحمن كما أخبرنا‬
‫الن بي ‪ " ‬إن الرحم ُش ْجَنة من ال رحمن‪ ،‬فق ال اهلل‪ :‬من وص لك وص لته‪ ،‬ومن قطعك قطعت ه"(‪،)290‬‬
‫والشجنة عرق منعروق الشجرة المشتبكة‪ ،‬ومعنى الحديث أن الرحم اشتق اسمها من اسم الرحمن‬
‫فلها به ُعلقة‪.‬‬
‫وقد حرم اهلل على قاطع الرحم دخول الجنة‪ ،‬قال النبي ‪ " :‬ال يدخل الجنة قاطع"(‪.)291‬‬
‫وبالمقابل ف إن ص لة ال رحم بركة في ال رزق واألث ر‪ ،‬لقوله عليه الص الة والس الم‪ ( :‬من أحب أن‬
‫وينسأ له في أثره فليصل رحمه) (‪.)292‬‬
‫يبسط له في رزقه‪ُ ،‬‬
‫وتك ون ص لة ال رحم بالم ال للق ادر علي ه‪ ،‬ب العون على الحاج ة‪ ،‬وب دفع الض رر‪ ،‬وبطالقه الوج ه‪،‬‬
‫وبال دعاء‪ .‬والمع نى الج امع‪ :‬إيص ال ما أمكن من الخ ير‪ ،‬ودفع ما أمكن من الشر بحسب‬
‫الطاقة(‪.)293‬‬
‫ولقد شاع التقاطع في زماننا هذا‪ ،‬حتى أصبح كل إنسان يميل إلى األبعدين عنه‪ ،‬وال يرغب بصلة‬
‫األقربين لما يجد من إساءاتهم وقطيعتهم‪ ،‬وإ ذا كان هذا التصرف له ما يبرره عند جمهور الناس‪،‬‬
‫فإن الداعية مأمور بإحياء هذه الصالت والحض عليها‪ ،‬وال تتم عبادته هلل تبارك وتعالى إال بها‪.‬‬
‫وقد أخ بر الن بي ‪ ‬أن الواصل ال يك ون المك افئ‪ ،‬فق ال ‪ " :‬ليس الواصل بالمك افئ‪ ،‬ولكن الواصل‬
‫ال ذي إذا قُطعت رحمه وص لها"(‪ .)294‬ومع نى الح ديث أن ص لة ال رحم ال يش ترط فيها التب ادل‪ ،‬بل‬
‫هي واجبة حتى مع القطيعة‪ ،‬فمن أراد أن يكون واص الً فالبد أن يبدأ هو بوصل من قطعه‪ ،‬والبد‬
‫أن يعطى من منعه‪ .‬وأن يقابل اإلساءة باإلحسان‪ .‬وأما إذا انتظر الصلة من الجانب اآلخر فإنه ال‬
‫يكون واصالً‪.‬‬

‫اآلية ‪ 22‬من سورة محمد‪.‬‬ ‫‪)?(288‬‬


‫البخاري ( متن فتح الباري ) ‪.10/419‬‬ ‫‪)?(289‬‬
‫البخاري ( متن فتح الباري )‪.10/417‬‬ ‫‪)?(290‬‬
‫البخاري ( متن فتح الباري) ‪.10/415‬‬ ‫‪)?(291‬‬
‫البخاري ( متن فتح الباري )‪.10/415‬‬ ‫‪)?(292‬‬
‫فتح الباري ‪.10/418‬‬ ‫‪)?(293‬‬
‫البخاري ( متن فتح الباري ) ‪.10/423‬‬ ‫‪)?(294‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-115-‬‬

‫واألرح ام م راتب حسب قربها وبع دها من النس ب‪ ،‬ودرج ات حسب قربها وبع دها عن ال دين‪.‬‬
‫وصلة الرحم تبدأ باألقرب حتى تصل إلى األبعد‪ .‬والبر واجب على كل حال‪ ،‬والوالية تفارقه في‬
‫حال كون الرحم فاسقاً أو كافراً أو عدواً‪ ،‬لقول اهلل تعالى‪  :‬ال ينهاكم اهلل عن الذين لم يقاتلوكم في‬
‫ال دين ولم يخرج وكم من دي اركم أن ت بروهم وتُقس طوا إليهم‪ ،‬إن اهلل ُيحب المقس طين* إنما ينه اكم‬
‫اهلل عن الذين قاتلتوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ‪،‬ومن‬
‫يتولهم فأولئك هم الظالمون‪.)295(‬‬
‫ويالحظ قوله في اآلية األولى‪ :‬أن ت بروهم‪ ،‬وفي الثانية ‪ :‬أن تول وهم‪ ،‬ومع نى ذلك أن النهي عن‬
‫تولي هؤالء لشدة عداوتهم‪ ،‬قال الرازي في تفسيره‪" :‬هذه اآلية تدل عن جواز البر بين المشركين‬
‫(‪)296‬‬
‫والمس لمين‪ ،‬وإ ن ك انت الم واالة منقطع ة" ‪ ،‬ف إذا علم الداعية كل ه ذا ك انت ص لة ال رحم مي داناً‬
‫رحب اً لدعوته‪ ،‬تصله بجماهير من الناس‪ .‬ويكون عندئذ قطاع كبير من هؤالء الناس على صلة‬
‫بجماعة الدعاة‪ ،‬وهو كسب للدعوة والدعاة‪.‬‬
‫‪ -8‬الرفق‪:‬‬
‫والبد أن يتصف الداعية ب الرفق مع س ائر الن اس‪ .‬والرفق لين الج انب ب القول والفع ل‪ .‬واألخذ‬
‫باألسهل واأليسر ‪ ،‬وهو ضد العنف ‪ ،‬وقد روى اإلمام مسلم في صحيحه عن النبي ‪ ‬أنه قال ‪" :‬‬
‫إن اهلل رفيق يحب الرفق ‪ ،‬ويعطي على الرفق ما ال يعطي على العنف " (‪ .)297‬ومن خالل الرفق‬
‫يستطيع الداعية أن يفكر في األمور وأن يتخذ المواقف الص حيحة‪ ،‬وال يمكن ذلك من خالل العنف‬
‫والتس رع‪ .‬ورب كلمة ين دفع الداعية إلى قولها ثم يت بين أن لها من اآلث ار الس لبية ما يجعل جماعة‬
‫كاملة تبذل وقتها وجهدها من أجل إصالح ما أفسده عدم الرفق‪ ،‬ورب تصرف أهوج من إنسان‬
‫محس وب على ال دعوة وال دعاة ي ؤخر مس يرة ال دعوة وال دعاة‪ .‬ولعل من أشد األم راض الفتاكة‬
‫بالدعوة والدعاة أن يكون فيها من يربي غيره على العنف ويطالبه باستعمال القوة وإ نزال العقوبة‬
‫على كل مخ الف‪ .‬وه ذا الس لوك يس لب ال دعوة أهم مقوماتها وعناصر وجوده ا‪ .‬وه ذا ما يس عى‬
‫أعداء اإلسالم ليل نهار إليقاع الدعاة فيه‪.‬‬
‫وك ان دأب الن بي ‪ ‬الرفق مع الن اس كلهم؛ أخ رج البخ اري في ص حيحه عن أنس بن مالك رضي‬
‫ب‬ ‫أن أعرابي اً بال في المسجد فقاموا إليه ‪ ،‬فقال ‪ :‬ال تَْز ِرموه‪ ،‬ثم دعا بدلو من ماء‪ ،‬فَ ُ‬
‫ص َّ‬ ‫اهلل عنه" َّ‬
‫عليه" ‪ .‬ومعنى " ال تزرموه" ‪ :‬ال تقطعوا عليه بوله‪ .‬وفي رواية الترمذي‪" :‬دخل أعرابي المسجد‬
‫والن بي ‪ ‬ج الس‪ ،‬فص لى فلما ف رغ ق ال ‪ :‬اللهم ارحم ني ومحم داً وال ت رحم معنا أح داً‪ ،‬ف التفت إليه‬
‫النبي ‪ ،‬فقال‪ :‬لقد تحجرت واسعاً ‪ ،‬فلم يلبث أن بال في المسجد‪ ،‬فأسرع إليه الناس‪ ،‬فقال النبي ‪‬‬

‫اآليتان ‪ 9-8‬من سورة الممتحنة‪.‬‬ ‫‪)?(295‬‬


‫التفسير الكبير (‪.)29/304‬‬ ‫‪)?(296‬‬
‫أخرجه مسلم ‪. 4/2004‬‬ ‫‪)?(297‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-116-‬‬

‫‪ :‬أهريق وا عليه س جالً من م اء‪ ،‬أودل واً من م اء ‪ ،‬ثم ق ال ‪ :‬إنما ُبعثتم ميس رين ولم تبعث وا‬
‫معسرين"(‪.)298‬‬
‫وفي هذه الحادثة كمال رفقه ‪ ، ‬وما أجمل أن يتأسى الدعاة بهذا الخلق الكامل‪.‬‬
‫والبد أن يضع الداعية في عين االعتب ار طب ائع الن اس وأم زجتهم‪ ،‬وأنهم ال يتص رفون بطريقة‬
‫واحدة‪ .‬وهم أنواع وأصناف ‪ ،‬والبد من مراعاة كل هذا‪ ،‬فالجاهل له طبيعة ومزاج ‪ ،‬والبدوي له‬
‫طبيعة ومزاج‪ ،‬والحضري له طبيعة ومزاج‪.‬‬
‫وتختلف الطب اع واألمزجة مع اختالف البالد‪ ،‬وقد يغلب على أهل قطر ما روح الدعابة والم رح‪،‬‬
‫وعلى أهل قطر آخر روح الجد والح زم‪ .‬ويتصف ش عب ما بقدرته على المجاملة ولين الكالم‪،‬‬
‫ويتصف غيره بحدة المزاج وخشونة التعامل‪ .‬والداعية الناجح يستوعب هذه الطبائع واألمزجة‪.‬‬
‫ومن ُحرم الرفق فقد ُحرم الخير كله(‪ ،)299‬كما جاء في الحديث الشريف ‪.‬‬
‫ومن لوازم الرفق أن ال يكون الداعية فاحش اً وال متفاحش اً‪ .‬والفحش كل ما خرج عن مقداره حتى‬
‫يستقبح‪ ،‬فالداعية ال يفحش في كالمه‪ ،‬وال يجيب على الفحش بالفحش‪ ،‬وال يكون سبَّاباً وال لعَّان اً‪.‬‬
‫وكل ه ذا من جهة ك ون الداعية أوسع قلب اً وأعمق نظ راً وأبعد ه دفاً من غ يره‪ .‬ف إذا ك ان الن اس‬
‫يتص فون بس رعة االس تجابة ل دواعي الغضب وال نزق فما ذلك إال لقصر في أه دافهم‪ ،‬ومالحقة‬
‫لسفاسف األمور وصغائرها‪ .‬والداعية ال يكون كذلك‪ ،‬بل هو يعمل على ترويض الطباع الشاردة‬
‫وتربية األخالق القاسية‪ ،‬ومستلزمات هذه الوظيفة كبيرة‪.‬‬
‫‪ -9‬مراعاة ذوي الهيئات والوجهاء‪:‬‬
‫وال يهمل الداعية وج وه الن اس وذوي النف وذ فيهم‪ ،‬بل يقبل عليهم ويس تطيع بحسن إدارته وث اقب‬
‫بصيرته أن يوظف الكثير من هؤالء لنصرة دعوته‪ .‬وما يشيع على ألسنة الدعاة أحياناً من كلمات‬
‫ت دعو إلى إهم ال ه ذه الفئة هو مخ الف لس نة الن بي ‪ ‬في تعامله مع الوجه اء والزعم اء‪ .‬كما جعل‬
‫لهم الق رآن الك ريم س هماً من الزك اة وهو س هم المؤلفة قل وبهم‪ ،‬وذلك ألن ه ؤالء هم أن اس تتح رك‬
‫بحركتهم فئات كبيرة من الناس ‪ ،‬فراعى اإلسالم ما لهم من نفوذ في اتباعهم فاستمال قلوبهم لكي‬
‫ال يقفوا في طريق أتباعهم الراغبين في دين اهلل تعالى‪.‬‬
‫وه ؤالء الوجه اء منهم العقالء الحلم اء الحكم اء‪ ،‬وه ؤالء ت راعى مك انتهم ويس تفاد من ص فاتهم‬
‫ومزاي اهم‪ ،‬فقد ق ال الن بي ‪ ‬ألشج عبد القيس‪ " :‬إن فيك خص لتين يحبهما اهلل ورس وله‪ :‬الحلم‬
‫واألناة"(‪ .)300‬وقد يكون منهم األحمق المطاع ومثل هذا يتقى شره وتستل سخيمة صدره بشيء من‬
‫المداراة واللين من غير مداهنة أو وصفه بما ليس فيه‪ .‬ويشهد لهذا ما رواه عروة عن عائشة" أن‬

‫سنن الترمذي (‪.)1/276‬‬ ‫‪)?(298‬‬


‫رواه مسلم ‪. 4/2003‬‬ ‫‪)?(299‬‬
‫أخرجه اإلمام مسلم ( شرح النووي)‪.1/192‬‬ ‫‪)?(300‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-117-‬‬

‫رجالً اس تأذن على الن بي ‪ ‬فلما رآه ق ال ‪ :‬بئس أخو العش يرة‪ ،‬أو ابن العش يرة‪ ،‬فلما جلس تطلق‬
‫الن بي ‪ ‬في وجهه وانبسط إلي ه‪ ،‬فلما انطلق الرجل ق الت له عائش ة‪ :‬يا رس ول اهلل‪ ،‬حين رأيت‬
‫الرجل قلت ك ذا وك ذا‪ ،‬ثم تطلقت في وجهه وانبس طت إلي ه‪ ،‬فق ال رس ول اهلل ‪ :‬يا عائش ة‪ ،‬م تى‬
‫عهدتني فاحشاً‪ ،‬إن شر الناس عند اهلل منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره"(‪.)301‬‬
‫وه ذا الرجل هو عيينة بن حصن الف زاري‪ ،‬وقد وص فه الن بي ‪ ‬أنه " أحمق مط اع" وذلك عن دما‬
‫جاء إلى النبي ‪ ‬وعنده عائشة ـ وكان ذلك قبل الحجاب ـ فقال ‪ :‬من هذه ؟ قال‪ :‬أم المؤمنين ‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫اال أنزل لك عن أجمل منها‪ ،‬فغضبت عائشة‪ ،‬وقالت ‪ :‬من هذا؟ قال ‪ :‬هذا أحمق(‪.)302‬‬
‫وإ كرام هؤالء الوجهاء إكرام ألقوامهم‪ ،‬وينعكس هذا اإلكرام على الدعوة والدعاة‪ .‬وإ ذا تعرض‬
‫أح دهم ألزمة ما ف إن على الداعية أن يقيل عثرته وأن يرحمه في موقف ال ذل‪ ،‬ب ذلك أمر الن بي ‪‬‬
‫عندما قال‪ " :‬أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم"(‪.)303‬‬
‫‪ -10‬السعي في حوائج الناس وحل مشكالتهم‪:‬‬
‫والداعية الناجح يسعى في حوائج الناس‪ ،‬ويحمل عنهم همومهم‪ ،‬ويشاركهم في آالمهم وأفراحهم‪،‬‬
‫ويعينهم على ن وائب الح ق‪ .‬فهو ال ي دخر وس عاً في تق ديم كل ع ون ممكن لهم‪ ،‬وه ذا ما وصف به‬
‫رس ول اهلل ‪ ‬ي وم أن ذهب يرجف ف ؤاده إلى خديج ة‪ ،‬فق الت ل ه‪":‬كالً واهلل ما يخزيك اهلل أب داً‪ ،‬إنك‬
‫لتصل الرحم‪ ،‬وتحمل ال َك َل‪ ،‬وتكسب المعدوم‪ ،‬وتقري الضيف‪ ،‬وتعين على نوائب الحق"(‪.)304‬‬
‫قال ابن حجر‪ " :‬استدلت على ما أقسمت عليه من نفي ذلك أبداً بأمر استقرائي‪ ،‬وصفته بأصول‬
‫مك ارم األخالق؛ ألن اإلحس ان إما إلى األق ارب‪ ،‬أو إلى األج انب‪ ،‬وإ ما بالب دن‪ ،‬أو بالم ال‪ ،‬وإ ما‬
‫على من يس تقل ب أمره‪ ،‬أو من ال يس تقل ‪ ،‬وذلك كله مجم وع فيما وص فته ب ه"(‪ ،)305‬وك ذلك فقد‬
‫وصف ابن الدغنة أبا بكر عندما خرج مهاجراً ‪ ،‬فقال له‪ ":‬فواهلل‪ ،‬إنك لتزين العشيرة‪ ،‬وتعين على‬
‫النوائب‪ ،‬وتفعل المعروف ‪ ،‬وتكسب المعدوم‪ ،‬ارجع فأنت في جواري"(‪ .)306‬وهذه الحادثة تبين لنا‬
‫بص ورة جلية كيف يك ون الداعية مع الن اس ‪ ،‬وكيف يجد الداعية تق دير الن اس في األزم ات‬
‫والملمات‪.‬‬
‫والداعية ال يمل من فعل الخ ير‪ ،‬ويب ذل في س بيل ذلك قُص ارى جه ده‪ ،‬ويش تد س اقه مع المله وف‪،‬‬
‫ويجيب من يستنصره ويستصرخه‪ ،‬وخالفاً لما يعتقده بعض الناس من أن التدخل في شئون الناس‬

‫أخرجه البخاري ( متن فتح الباري) ‪.10/452‬‬ ‫‪)?(301‬‬


‫فتح الباري ( من رواية سعيد بن منصور ) ‪.1/452‬‬ ‫‪)?(302‬‬
‫مسند اإلمام أحمد ‪.6/181‬‬ ‫‪)?(303‬‬
‫البخاري ( متن فتح الباري ) ‪.1/22‬‬ ‫‪)?(304‬‬
‫فتح الباري ‪.1/24‬‬ ‫‪)?(305‬‬
‫‪)?(306‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-118-‬‬

‫لحل خصوماتهم شغل بما ال يعني فإن النبي ‪ ‬قد جعل العدل بين االثنين صدقة وإ غاثة الملهوف‬
‫ص دقة فق ال ‪" :‬كل ُس المى من الن اس عليه ص دقة‪ ،‬كل ي وم تطلع فيه الش مس‪ ،‬تع دل بين اث نين‬
‫ص دقة‪ ،‬والكلمة الطيبة ص دقة"(‪ .)307‬وفي رواية أخ رى‪ " :‬على كل مس لم ص دقة‪ ،‬ق الوا ‪ :‬ف إن لم‬
‫يج د؟ ق ال ‪ :‬فيعمل بي ده فينفع نفسه ويتص دق‪ ،‬ق الوا ‪ :‬ف إن لم يس تطع أو لم يفع ل‪ ،‬ق ال‪ :‬يعين ذا‬
‫الحاجة الملهوف"(‪.)308‬‬
‫والداعية الناجح ال يبخل على أحد ببذل شفاعته ووساطته‪ ،‬فإذا طلب إليه أحد الناس أن يسعى معه‬
‫وأن يعبر له عن حاجته سار مسرعاً إلى ذلك‪ .‬والشفاعة سنة محمودة سنها النبي ‪ ‬عندما قال ‪" :‬‬
‫إلي ولت ؤجروا وليقض اهلل على لس ان نبيه ما ش اء "‪ .‬وه ذه الش فاعة ال تب دل الحق وق وال‬
‫اش فعوا َّ‬
‫تس قط الواجب ات‪ ،‬وإ نما توصل الحق إلى ص احب الحق ويع ود خيرها على كل ح ال على ال دعوة‬
‫والداعية‪.‬‬

‫‪)?(307‬‬
‫‪)?(308‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-119-‬‬

‫صناعة القيادات الجماهيرية‪:‬‬


‫وينبغي أن ال تك ون ال دعوة زاه دة في قي ادة الجم اهير؛ ألن ه ذا الزهد ي دفع غيرها إلى قي ادة‬
‫الجم اهير وتوجيهه ا‪ ،‬وينبغي أن ال تك ون بعض س لبيات العمل الجم اهيري س بباً في نس يان‬
‫إيجابياته الكث يرة‪ ،‬فقد ي رد من بين س لبياته ما يتع رض له القائد من الغ رور وحب الج اه والفردية‬
‫واحتم ال تك وين المح اور مما يربط األف راد بالش خص ال ب الفكرة‪ ،‬وجميع ه ذه الس لبيات احتمالية‬
‫أمام ما يمكن تحقيقه بعون اهلل من نصر لدعوة اهلل عن طريق هذه القيادات‪.‬‬
‫ولتك وين القي ادات الجماهيرية ال ب أس من مراع اة الوسط االجتم اعي باختي ار العناصر المرش حة‬
‫دعاة ذوي المكانة االجتماعية العائلية أو العلمية أو المالية إذا أمكن؛ ألن العائلة‬ ‫ادة من ال‬ ‫للقي‬
‫والرتبة والم ال هي مرتك زات القي ادة في الع الم المعاصر ‪ ،‬وس تبقى ه ذه المرتك زات معت برة تشد‬
‫الن اس إليها إلى أن يهيمن اإلس الم على المجتمع في العقي دة والس لوك والنظم‪ ،‬والن اس مع ادن‬
‫خيارهم في الجاهلية خيارهم في اإلسالم إذا فقهوا‪.‬‬
‫وللقيادة تكاليفها الكثيرة ومن يرشح لهذه المهمة البد أن يعان عليها ليقوم بمطالبها سواء كانت هذه‬
‫المط الب معنوية ‪ ،‬أو مادية ‪ ،‬أما المعنوية ف أن يحيطه إخوانه بش يء من العناية واالهتم ام للفت‬
‫أنظار الناس إلى مكانته ‪ ،‬وأن يذكروه بالخير واإلجالل والتوقير‪ ،‬وأما المادية فالتوسعة عليه في‬
‫داره ومعيشته وتحمل المغارم عنه‪.‬‬
‫والبد من تربية واعية له ذه القي ادات ب أن ت درس ال رأي الع ام وص ناعته ومكونات ه‪ ،‬وتتع رف على‬
‫علم نفس الجهور‪ ،‬والتيارات السائدة في المجتمع‪ ،‬وأن تتعلم الكثير عن عادات المجتمع وأعرافه‪،‬‬
‫وأن تطلع على األنظمة والق وانين بقر يجعل حركتها االجتماعية واعي ة‪ ،‬ألن ه ذه القي ادات تتعامل‬
‫مع األجهزة المختلفة‪.‬‬
‫القيادات الجماهيرية قيادات متخصصة ‪:‬‬
‫وال يتحقق كل ما س بق إال إذا ك انت القي ادات الجماهيرية متخصصة في مي دانها ب أن تك ون وظيفة‬
‫القيادة االجتماعية غير الوظيفة التربوية والتنظيمية ‪ .‬ونحن نعيش في زمن التخصص القائم على‬
‫اتساع ميادين المعرفة وعلى تعقيد شئون الحياة‪ ،‬فالعمل االجتماعي له ميادينه وتدريباته‪ ،‬والعمل‬
‫ال تربوي له ميادينه وتدريبات ه‪ ،‬وك ذلك العمل التنظيمي‪ ،‬فالقائد الجم اهيري يعيش بين الجم اهير‬
‫ويقضي ليله ونه اره في حل مش كالتهم والتع رف عليهم‪ .‬وعن دما يق وم الم ربي أو المنظم به ذا‬
‫العمل فسيكون إما على حساب التربية أو التنظيم‪.‬‬
‫ضرورة العمل النقابي‪:‬‬
‫وقد أصبحت النقابات المهنية مراكز ثقل اجتماعي ‪ ،‬وتدخلت هذه النقابات في كثير من بالد الع الم‬
‫في اختي ار ال برامج السياس ية واالقتص ادية‪ ،‬وأث رت في المي ادين التش ريعية‪ ،‬وتك ونت النقاب ات في‬
‫بالد العالم اإلسالمي وسيطر عليها في باية نشأتها أصحاب المذاهب الهدامة واألفكار المستوردة‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-120-‬‬

‫‪ ،‬وذلك لبعد العنصر اإلس المي المتح رك عنها ‪ ،‬وك ان الظن الس ائد أن العمل النق ابي ال يمكن أن‬
‫ينس جم مع اإلس الم‪ ،‬أو أنه ص ورة من ص ور ال ترقيع للواق ع‪ .‬ولكن ت بين خطأ ه ذا الظن عن دما‬
‫قامت أنظمة ودول من خالل هذا العمل النقابي ‪ ،‬وذاق المسلمون ـ أحياناً ـ على أيدي هذه النقابات‬
‫الويالت ‪ ،‬والنقابات تشكل بمجموعها قوة اجتماعية جماهيرية‪ ،‬إن لم تكن للدعوة فهي عليها‪ .‬وإ ن‬
‫لم تجد من يأخذها في طريق الهداية فستؤخذ في طريق الضالل واإلضالل‪.‬‬
‫أما القول بأن العمل النقابي ال ينسجم مع عقيدة اإلسالم وشريعته فهذا قول مردود؛ ألن المجتمع‬
‫المس لم ع رف مثل ه ذه التجمع ات النقابية ‪ ،‬وما زال لقب ش يخ النج ارين وش يخ الح دادين معروف اً‬
‫في بعض البالد اإلسالمية‪ ،‬وقد نظم المسلمون أصحاب كل فئة بطريقة تحدد حقوقهم وواجباتهم‪.‬‬
‫وإ ذا كانت القوانين واألنظمة النقابية ال تنسجم مع اإلسالم فهذا ألن المتنفذين في النقابات صاغوا‬
‫أنظمتها وفق مبادئهم وأفكارهم‪ .‬والمسلم مطالب بالعمل على تغيير كل قانون يتعارض مع قانون‬
‫اإلسالم وشريعته‪.‬‬
‫وأما القول بأن العمل النقابي صورة من صور الترقيع‪ ،‬فغير ُم َس لَّم ألن تكوين المجتمع المسلم ال‬
‫يأتي من الفراغ وال يأتي من فوق‪ ،‬بل يتكون المجتمع من خالل اتجاه أفراده وتجمعاته‪.‬‬
‫وإ ذا كان اتجاه األفراد والجماعات مخالفاً لالتجاه اإلسالمي فإن المحصلة مجتمع ال إسالمي‪ ،‬وإ ذا‬
‫كان اتجاه األفراد والجماعات في المسار اإلسالمي فالمحصلة مجتمع مسلم‪ .‬ولو قبلنا قول دعاة‬
‫اإلصالح الجذري الذين ينتظرون قوة سحرية خارجية تغير كل شيء لعاش المسلمون في مآس‬
‫فكرية وسلوكية أكبر بكثير مما يجدونه ‪ .‬وما دامت الحياة ال تتوقف بل هي سائرة والبد أن يعيش‬
‫المس لم فيها واقع اً معين اً ف إن عليه أن ُي دخل في الواقع ما يس تطيع من نظم اإلس الم وأحكام ه‪ ،‬ف إذا‬
‫قصر في بعض األم ور انتظ اراً للكل فهو آثم‪ ،‬ويك ون قد أعطى بعض األحك ام المخالفة إذن‬
‫وجودها وهو ق ادر على إزالته ا‪ .‬وال يق ول عاقل ب ترك نقابة ما ألنها تتعامل بالرب ا؛ بحجة أن‬
‫العمل على إزالة الربا ترقيع ال ت زول بإزالته جميع المخالف ات‪ .‬وإ ذا اس تطاع مس لم أن يك ون له‬
‫نف وذ في نقابة فيح ارب موائد الخمر أو أب واق الدعاية لألفك ار اإللحادية والعلمانية ‪ ،‬ثم تخلف عن‬
‫هذا فهو غاش هلل تعالى ولرسوله ‪ ‬ولجماعة المسلمين‪.‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-121-‬‬

‫المراجع‬
‫القرآن الكريم‬
‫األزهري‪ ،‬محمد بن أحمد‪ ،‬تهذيب اللغة‪ ،‬الدار المصرية للتأليف والترجمة‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫البخاري‪ ،‬محمد بن إسماعيل‪ ،‬الجامع الصحيح‪ ،‬مطابع الشعب‪ ،‬القاهرة‪1378 ،‬هـ‪.‬‬
‫البغدادي‪،‬عبد القاهر‪ ،‬الفرق بين ِ‬
‫الف َرق ‪ ،‬دار المعرفة ‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫الترمذي‪ ،‬أبوعيسى محمد بن عيسى ‪ ،‬الجامع الصحيح‪ ،‬مصطفى الحلبي‪ ،‬القاهرة ‪1356 ،‬هـ‪.‬‬
‫ابن تيمية‪ ،‬أحمد بن عبد الحليم‪ ،‬الفتاوى الكبرى‪ ،‬مطبعة الرسالة‪ ،‬بيروت‪1386 ،‬هـ‪.‬‬
‫الحاكم‪ ،‬محمد بن عبد اهلل ‪ ،‬معرفة علوم الحديث‪ ،‬دار الكتب المصرية‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫ابن حج ر‪ ،‬أحمد بن علي‪ ،‬فتح الب اري بش رح ص حيح البخ اري‪ ،‬المطبعة الس لفية‪ ،‬الق اهرة‪،‬‬
‫‪1380‬هـ‪.‬‬
‫ابن حزم ‪ ،‬علي بن أحمد‪ ،‬الفصل في الملل والنحل‪ ،‬دار المعرفة‪ ،‬بيروت‪1975 ،‬م‪.‬‬
‫ابن حزم ‪ ،‬علي بن أحمد ‪ ،‬المحلي ‪ ،‬المطبعة المنيرية‪ ،‬القاهرة‪1352 ،‬هـ‪.‬‬
‫ابن حنبل‪ ،‬اإلمام أحمد‪ ،‬المسند‪ ،‬مصور عن طبعة الحلبي‪ ،‬المكتب اإلسالمي‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫الخطابي‪ ،‬حمد بن سليمان‪ ،‬معالم السنن‪.‬‬
‫الخطابي‪ ،‬حمد بن سليمان‪ ،‬العزلة‪ ،‬المطبعة السلفية‪ ،‬القاهرة‪1385 ،‬هـ‪.‬‬
‫أبو داود السجس تاني ‪ ،‬س ليمان بن األش عث‪ ،‬الس نن‪ ،‬ط‪ ، 1‬بتحقيق ع زت عبيد ال دعاس‪ ،‬دار‬
‫الحديث‪ ،‬حمص‪1969 ،‬م‪.‬‬
‫الرازي ‪ ،‬فخر الدين محمد بن عمر ‪ ،‬التفسير الكبير ‪ ،‬ط‪ ،2‬دار الكتب العلمية‪ ،‬طهران‪.‬‬
‫سيد قطب‪ ،‬في ظالل القرآن‪ ،‬دار الشروق ‪ ،‬بيروت‪1395 ،‬هـ‪.‬‬
‫الشاطبي ‪ ،‬إبراهيم بن موسى‪ ،‬االعتصام‪ ،‬دار التحرير ‪ ،‬القاهرة‪1970،‬م‪.‬‬
‫الش نقيطي ‪ ،‬محمد ح بيب اهلل ‪ ،‬زاد المس لم فيما اتفق عليه البخ اري ومس لم‪ ،‬مؤسسة الحل بي ‪،‬‬
‫القاهرة‪.‬‬
‫ابن أبي العز الحنفي‪ ،‬شرح العقيدة الطحاوية‪ ،‬ط‪ ،8‬المكتب اإلسالمي‪ ،‬بيروت‪1984 ،‬م‪.‬‬
‫ابن فارس‪ ،‬أحمد ‪ ،‬معجم مقاييس اللغة‪ ،‬ط‪ ،3‬مصطفى الحلبي‪ ،‬القاهرة‪1390 ،‬هـ‪.‬‬
‫القرط بي‪ ،‬محمد بن أحم د‪ ،‬الج امع ألحك ام الق رآن ‪ ،‬مص ور عن دار الكتب المص رية‪ ،‬دار القلم‪،‬‬
‫القاهرة‪1386 ،‬هـ‪.‬‬
‫ابن قيم الجوزية‪ ،‬محمد بن أبي بكر‪ ،‬إغاثة اللهفان‪ ،‬دار المعرفة‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫ابن قيم الجوزية‪ ،‬محمد بن أبي بكر‪ ،‬زاد المعاد‪ ،‬ط‪ ،2‬مصطفى الحلبي‪ ،‬القاهرة‪1950،‬م‪.‬‬
‫ابن كثير‪ ،‬إسماعيل ‪ ،‬البداية والنهاية‪ ،‬مطبعة السعادة‪ ،‬القاهرة‪1348،‬هـ‪.‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-122-‬‬

‫ابن ماجة القزويني‪ ،‬محمد بن يزيد ‪ ،‬السنن‪ ،‬بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي‪ ،‬طبعة عيسى الحلبي‪،‬‬
‫القاهرة‪.‬‬
‫الماوردي‪ ،‬أدب الدنيا والدين‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪1978،‬م‪.‬‬
‫محمد رشيد رضا‪ ،‬تفسير المنار‪ ،‬ط‪ ،4‬مطبعة حجازي‪ ،‬القاهرة‪1959 ،‬م‪.‬‬
‫محمد عبده‪ ،‬شرح العقائد العضدية‪ ،‬ط‪ ،1‬المطبعة الخيرية‪ ،‬القاهرة‪1332 ،‬هـ‪.‬‬
‫مسلم بن حجاج ‪ ،‬الجامع الصحيح‪ ،‬بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي‪ ،‬طبعة عيسى الحلبي‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪1374‬هـ‪.‬‬
‫المقريزي ‪ ،‬أحمد بن علي‪ ،‬إمتاع األسماع‪،‬ط‪ ،2‬تحقيق محمود شاكر‪ ،‬الشئون الدينية بدولة قطر‪.‬‬
‫مكي بن أبي طالب‪ ،‬الكشف عن وجوه القراءات‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بيروت‪1401،‬هـ‪.‬‬
‫ابن منظور‪ ،‬محمد بن ُمكرم‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬مصور عن طبعة بوالق‪ ،‬المؤسسة المصرية العامة‬
‫القاهرة‪.‬‬
‫أبو نعيم األصبهاني‪ ،‬أحمد بن عبد اهلل ‪ ،‬حلية األولياء‪ ،‬مكتبة الخانجي‪ ،‬القاهرة‪1932،‬م‪.‬‬
‫النووي‪ ،‬يحيى بن شرف ‪ ،‬المنهاج في شرح صحيح مسلم ‪ ،‬المطبعة المصرية القاهرة‪1375 ،‬هـ‪.‬‬
‫الهيثمي ‪ ،‬علي بن أبي بكر ‪ ،‬مجمع الزوائد ومنبع الفوائد‪ ،‬دار الكتب‪ ،‬بيروت‪1967،‬م‪.‬‬
‫الهيثمي ‪ ،‬علي بن أبي بكر ‪ ،‬موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان‪ ،‬المطبعة السلفية‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-123-‬‬

‫الفهرس‬
‫الصفحة‬ ‫الموضع‬
‫‪5‬‬ ‫مقدمة الطبعة األولى‬
‫‪9‬‬ ‫مقدمة الطبعة الثانية‬
‫‪11‬‬ ‫القاعدة األولى‬
‫الدعوة إلى اهلل سبيل النجاة في الدنيا واآلخرة‬
‫‪19‬‬ ‫القاعدة الثانية‬
‫ألن يهدي اهلل بك رجالً واحداً خير لك من ُح ُمر َّ‬
‫الن َعم‬
‫‪23‬‬ ‫القاعدة الثالثة‬
‫األجر يقع بمجرد الدعوة وال يتوقف على االستجابة‬
‫‪27‬‬ ‫القاعدة الرابعة‬
‫على الداعية أن يصل إلى رتبة المبلغ وأني سعى إلى البالغ‬
‫‪39‬‬ ‫القاعدة الخامسة‬
‫على الداعية أن يقدم الجهد البشري وهو يطلب المدد الرباني‬
‫‪49‬‬ ‫القاعدة السادسة‬
‫الداعية مرآة دعوته والنموذج المعبر عنها‬
‫‪53‬‬ ‫القاعدة السابعة‬
‫خاطبوا الناس على قدر عقولهم‬
‫‪57‬‬ ‫القاعدة الثامنة‬
‫االبتالء سنة اهلل تعالى وهو السبيل إلى تمثل الدعوة وصياغة النفس‬

‫وفق العقيدة‪.‬‬
‫‪61‬‬ ‫القاعدة التاسعة‬
‫مجال الدعوة واسع فليتخير الداعية لدعوته‬
‫‪67‬‬ ‫القاعدة العاشرة‬
‫الزمن عنصر فعال من عناصر الدعوة‬
‫‪71‬‬ ‫القاعدة الحادية عشرة‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-124-‬‬

‫الدعوة فن وقيادة وهي تقوم على التخطيط والمتابعة‬


‫‪77‬‬ ‫القاعدة الثانية عشرة‬
‫الدعوة صورة أكيدة من صور الجهاد وتشترك مع القتال في‬
‫الهدف والنتيجة‬
‫‪91‬‬ ‫القاعدة الثالثة عشرة‬
‫الدعوة سلعة شريفة ال تُباع باألعراض الدنيوية ‪ ،‬واألجر‬
‫الدنيوي يفسد المروءة‪ ،‬وال يصلح الدعوة‬
‫‪95‬‬ ‫القاعدة الرابعة عشرة‬
‫المدعو عامل أساس في كسبه‬
‫ّ‬ ‫التعرف على‬
‫‪99‬‬ ‫القاعدة الخامسة عشرة‬
‫المعاصرة ومعرفة البيئة العامة من أسباب نجاح الدعوة‪.‬‬
‫‪101‬‬ ‫القاعدة السادسة عشرة‬
‫في ِ‬
‫الف َرق والفتن والعزلة والجماعة‬
‫‪127‬‬ ‫القاعدة السابعة عشرة‬
‫الفهم الصحيح سبيل العمل الصحيح‬
‫‪143‬‬ ‫القاعدة الثامنة عشرة‬
‫الفهم السائد والفهم الواجب‬
‫‪147‬‬ ‫القاعدة التاسعة عشرة‬
‫األمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض من فروض األمة‬

‫‪157‬‬ ‫القاعدة العشرون‬


‫أشد من هجران القرآن‪ ،‬مخالفة مقصوده ومناقضة أهدافه‬
‫‪163‬‬ ‫القاعدة الحادية والعشرون‬
‫العمل العام أساس العمل الخاص ورافده‬
‫‪191‬‬ ‫المراجع‬
‫‪195‬‬ ‫الفهرس‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-125-‬‬

‫(‪.)309‬‬

‫‪‬‬

‫}‬

‫(‪ )6‬األنشطة المصاحبة‬


‫‪ -1‬عمل دورة تدريبية في الدعوة إلى اهلل ‪.‬‬
‫‪ -‬الدعوة العامة ‪.‬‬
‫‪ -‬الدعوة الفردية ‪.‬‬
‫‪ -2‬تلخيص كتاب في الدعوة العامة وآخر في الدعوة الفردية ‪.‬‬
‫‪ -3‬كتابة كتاب يوضح فيه مضامين الدعوة وحاجة األمة إليها في حمل‬
‫مشاكلها المعاصرة ‪.‬‬
‫‪ -4‬كتابة قصة قصيرة يعالج فيها العقبات والمعوقات التي تعترض الداعية في‬
‫حياته ودعوته‪.‬‬
‫‪ -5‬إلقاء محاضرة يوضح فيها أن اإلسالم انتشر بالدعوة واإلقناع وما كان‬
‫الجهاد إال إلزاحة عقبات حرية االعتقاد ‪.‬‬
‫‪ -6‬جمع مآثر ومناقب الدعاة إلى اهلل على مر العصور ‪.‬‬
‫‪ -7‬ممارسة الدعوة إلى اهلل تعالى عامة وفردية ‪.‬‬
‫‪ -8‬إنتاج فيلم عن انتشار الدعوة على يد التجار المسلمين ‪.‬‬

‫(‪ )7‬وسائل التقويم والمتابعة‬


‫‪ -1‬االختبار المعرفي حول محتوى المقرر الدراسي ‪.‬‬
‫‪ -2‬متابعة ومالحظة توافق السلوك العام مع مستهدفات الدعوة ‪.‬‬
‫‪ -3‬مالحظة ومتابعة المشاركة في األنشطة المصاحبة ‪.‬‬
‫‪ -4‬متابعة ممارسة ما تهدف إليه األهداف السلوكية الوجدانية ‪.‬‬
‫‪ -5‬متابعة اإلعداد الذهني من خالل األداء لتحقيق مستهدفات المقرر الدراسي‬

‫‪)?(309‬‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-126-‬‬

‫في الفصل ‪.‬‬

‫(‪ )8‬أهداف التعلم الذاتي‬


‫‪ -1‬أن يبرهن على ضرورة التربية أساساً للتغيير ‪.‬‬
‫‪ -2‬أن يربط بين القرآن الكريم والواقع من حوله ‪.‬‬
‫‪ -3‬أن يوضح قضايا المسلمين في الداخل والخارج ومشكالتهم ‪.‬‬
‫‪ -4‬أن يوضح أسباب القضاء على الخالفة اإلسالمية ‪.‬‬
‫‪ -5‬أن يتعرف االتجاهات اإلسالمية الموجودة بالساحة ‪.‬‬
‫‪ -6‬أن يواظب على معايشة األجواء المدرسية ( مؤتمرات – زيارات –‬
‫ندوات ) ‪.‬‬
‫‪ -7‬أن يشرح مفهوم العمل الجماعي ‪.‬‬
‫‪ -8‬أن يوضح أهم ما قرأه من مجالت المدرسة وصحفها وكتبها ونشراتها ‪.‬‬
‫‪ -9‬أن يشرح فقه األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪.‬‬
‫‪ -10‬أن تكون عنده القدرة على البحث في إثبات إمكانية الوحي ووقوعه ‪.‬‬
‫‪ -11‬أن يتعرف على المعجزات التي أيد اهلل بها رسوله في دعوته ‪.‬‬
‫‪ -12‬أن يتعرف على سر اختيار الجزيرة العربية مهداً لنشأة اإلسالم ‪.‬‬
‫‪ -13‬أن يتعرف على أسرة الرسول ‪. ‬‬
‫‪ -14‬أن يوضح سر تعرض الرسول لإليذاء مع أنه نبي ‪.‬‬
‫‪ -15‬أن يفسر سر تسمية عام الحزن ‪.‬‬
‫‪ -16‬أن يبين القبائل التي عرض الرسول عليها نفسه حتى يبلغ دعوة ربه ‪.‬‬
‫‪ -17‬أن يوضح الكيفيات التي بايع الرسول بها أصحابه عند العقبة ‪.‬‬
‫‪ -18‬أن يبين طريقة إعداد الرسول ‪ ‬الرجال ليكونوا جنداً للدعوة وسنداً‬
‫لها ‪.‬‬
‫‪ -19‬أن يبين تدرج الرسول ‪ ‬في دعوته ‪.‬‬
‫‪ -20‬أن يبين مقدار الفترة السرية التي مكثها الرسول‪ ‬في دعوته إلى اهلل ‪.‬‬
‫‪ -21‬أن يوضح أسلوب الهجرة وطريقتها التي اتبعها صحابة الرسول ‪. ‬‬
‫‪ -22‬أن يتحدث عن وجوب الدعوة على كل مسلم ومسلمة ويدلل على ذلك‬
‫باآليات واألحاديث النبوية ‪.‬‬
‫‪ -23‬أن يوضح ضرورة الدعوة وأهميتها ‪ ،‬وموضوع الدعوة ‪.‬‬
‫‪ -24‬أن يذكر بعض اآليات واألحاديث التي تحض على الدعوة وأن يوظفها‬
‫المادة ‪ :‬الدعوة‬ ‫المرحلة ‪ :‬الثانية‬ ‫‪-127-‬‬

‫في نفسه وأهله ‪.‬‬


‫‪ -25‬أن يتعرف على مصادر الدعوة إلى اهلل تعالى ‪.‬‬
‫‪ -26‬أن يعرف شيئاً عن أهداف الدعوة ومراميها ‪.‬‬
‫‪ -27‬أن يحاول أن يتلمس تجارب الدعاة ليستفيد منهم ‪.‬‬
‫‪ -28‬أن يعرف شيئاً من أساليب الدعوة إلى اهلل في العصر الحديث ‪.‬‬
‫‪ -29‬أن يذكر شيئاً من دور الداعية في التربية بالكلمة والنصح واإلرشاد ‪.‬‬

‫(‪ )9‬مراجع التعلم الذاتي‬


‫‪ -1‬األمر بالمعروف والنهي عن المنكر " جالل الدين العمري " ‪.‬‬
‫‪ -2‬الدعوة اإلسالمية فريضة شرعية وضرورة بشرية " د ‪ .‬صادق أمين " ‪.‬‬
‫‪ -3‬طريق الدعوة " أ ‪ .‬مصطفى مشهور " ‪.‬‬
‫‪ -4‬مشكالت الدعوة والداعية " فتحي يكن " ‪.‬‬
‫‪ -5‬كيف ندعو لإلسالم " فتحي يكن " ‪.‬‬
‫‪ -6‬كيف ندعو لإلسالم " عبد البديع صقر " ‪.‬‬
‫‪ -7‬األهداف الرئيسية للدعاة إلى اهلل " أحمد القطان ‪ ،‬جاسم مهلهل " ‪.‬‬
‫‪ -8‬وبالحق صمدنا في وجه الطغيان " محمود عبد الوهاب فايد " ‪.‬‬
‫‪ -9‬األمر بالمعروف والنهي عن المنكر البن تيمية‪0‬‬

You might also like