Professional Documents
Culture Documents
حب الوطن
حب الوطن
صباه ومدرج خطاه ومرتع طفولته ،وملجأ كهولته ،ومنبع ذكرياته ،وموطن آبائه وأجداده،
ومأوى أبنائه وأحفاده ،حتى الحيوانات ال ترضى بغير وطنها بديالً ،ومن أجله تضحي بكل غا ٍل
ونفيس ،والطيور تعيش في عشها في سعادة وال ترضى بغيره ولو كان من حرير ،والسمك يقطع
آالف األميال متنقالً عبر البحار والمحيطات ثم يعود إلى وطنه ،وهذه النملة الصغيرة تخرج من
بيتها ووطنها فتقطع الفيافي والقفار وتصعد على الصخور وتمشي على الرمال تبحث عن
رزقها ،ثم تعود إلى بيتها ،بل إن بعض المخلوقات Zإذا تم نقلها عن موطنها األصلي فإنها تموت،
ولذا يقول األصمعي ”:ثالث خصال في ثالثة أصناف من الحيوانات :اإلبل تحن إلى أوطانها
وإن كان عهدها بها بعيدًا ،والطير إلى وكره وإن كان موضعه مجدبًا ،واإلنسان إلى وطنه وإن
كان غيره أكثر نفعًا” .وقد روي في ذلك أن مالك بن فهم خرج من السراة ( بلدة بالحجاز) Zيريد
عمان ،قد توسط الطريق ،حنت إبله إلى مراعيها ،وقبلت تلتفت إلى نحو السراة وتردد الحنين؛
:فقال مالك في ذلك
تحن إلى أوطانهـــــــــــا إبل مالك … ومن دونهــــــــــــــــــا عرض الفال والدكادك
وفي كل أرض للفتى متقـــــــــــــــلب … ولست بدار الذل طوعا برامـــــــــــــــــــــــــــك
ستغنيك عن أرض الحجاز مشارب … رحاب النواحي واضحات المسالك
فإذا كانت هذه سنة هللا في المخلوقات فقد جعلها هللا في فطرة اإلنسان ،وإال فما الذي يجعل
اإلنسان الذي يعيش في المناطق شديدة الحرارة Z،والتي قد تصل إلى ستين درجة فوق الصفر،
وذلك الذي يعيش في القطب المتجمد الشمالي تحت البرد القارص ،أو ذلك الذي يعيش في
الغابات Zواألدغال يعاني من مخاطر الحياة كل يوم ،ما الذي جعلهم يتحملون كل ذلك إال حبهم
!!لوطنهم وديارهم؟
لذلك كان من حق الوطن علينا أن نحبه؛ وهذا ما أعلنه النبي صلى هللا عليه وسلم وهو يترك مكة
صلَّى هَّللا ُ َعلَ ْي ِه َو َسلَّ َم وهو واقف علىتر ًكا مؤقتًا؛ فعن عبد هللا بن عدي أنه سمع رسول هللا َ
ض هللاِ ِإلًى هللاَِ ،ولَ ْوالَ أنِّي
رض هللاِ َوأ َحبُّ أرْ ِ
ِ “وهللا ِإنَّك لَ َخ ْي ُر َأ
بالح ْز َو َرة ِم ْن َم َّكةَ يَقُولَ :
راحلته َ
ت” ( الترمذي وحسنه)؛ فما أرو َعها من كلمات! كلمات قالها الحبيب ك َما َ َخ َرجْ ُ ت ِم ْن ِ ْ
أخ ِرجْ ُZ
ق؛ وتعلُّق كبير صلى هللا عليه وسلم وهو يودِّع وطنه ،إنها تكشف عن حبٍّ عميق ،وانتما ٍء صاد ٍ
وح َرمها ،بجبالها ووديانها ،برملها وصخورها ،بمائها وهوائها، بالوطن ،بمكة المكرمة ،بحلِّها َ
هواؤها عليل ولو كان مح َّماًل بالغبار ،وماؤها زالل ولو خالطه األكدار ،وتربتُها دواء ولو كانت
.قفارًا
ٌ
ذكريات ال تُنسى ،فالوطن إنها األرض التي ولد فيها ،ونشأ فيها ،وشبَّ فيها ،وتز َّوج فيها ،فيها
ذاكرة اإلنسان ،فيها األحباب واألصحاب Z،فيها اآلباء واألجداد .قال الغزالي“ :والبشر يألَفُون
مستوح ًشا ،وحبُّ الوطن غريزةٌ متأصِّلة في النفوس ،تجعل َ ضهم على ما بها ،ولو كانت قفرًا أر َ
وجم ،ويَغضب له إذاويحن إليه إذا غاب عنه ،ويدافع عنه إذا هُ ُِّ اإلنسان يستريح إلى البقاء فيه،
َ
”.انتقص
وها هو الخليل ابراهيم عليه السالم حين ترك زوجته هاجر وابنه اسماعيل عليه السالم فى مكة
المكرمة وهى واد قاحل غير ذى زرع دعا ربه أن ييسر لهم أسباب االستقرار ووسائل عمارة
نت ِمن ُذرِّ يَّتِي بِ َوا ٍد َغي ِْر ِذي ان ِإب َْرا ِهي َم َ -علَ ْي ِه ال َّسالَ ِمَّ {:-ربَّنَا ِإنِّي َأ ْس َك ُال تَ َعالَى َعلَى لِ َس ِ الديار ؛ فقَ َ
اس تَه ِْوي ِإلَ ْي ِه ْم َوارْ ُز ْقهُم ِّم َن صالَةَ فَاجْ َعلْ َأ ْفِئ َدةً ِّم َن النَّ ِ ك ْال ُم َحر َِّم َربَّنَا لِيُقِي ُم ْ
وا ال َّ َزرْ ٍ
ع ِعن َد بَيتِ َ
حن إلى وطنه بعد أن ُون}( إبراهيم )37 :وهذا كليم هللا موسى عليه السالم ّ ت لَ َعلَّهُ ْم يَ ْش ُكر َالثَّ َم َرا ِ
ور نَاراً
الط ِ ب ُّ س ِمن َجانِ ِ ار بَِأ ْهلِ ِه آنَ َ
ضى ُمو َسى اَأْل َج َل َو َس َ خرج منها مجبراً؛ قال تعالى{ :فَلَ َّما قَ َ
ون}. ْت نَاراً لَّ َعلِّي آتِي ُكم ِّم ْنهَا بِ َخبَ ٍر َأ ْو َج ْذ َو ٍة ِم َن النَّ ِ
ار لَ َعلَّ ُك ْم تَصْ طَلُ َ قَا َل َأِل ْهلِ ِه ا ْم ُكثُوا ِإنِّي آنَس ُ
(القصص)29 :؛ قال ابن العربي في أحكام القرآن ” :قال علماؤنا :لما قضى موسى األجل طلب
وحن إلى وطنه وفي الرجوع إلى األوطان تقتحم األغرار وتركب األخطار ّ الرجوع إلى أهله
”.وتعلل الخواطر .ويقول :لما طالت المدة لعله قد نسيت التهمة وبليت القصة
وها هو رسولنا صلى هللا عليه وسلم كما في صحيح البخاري :لما أخبر ورقة بن نوفل رسول هللا
صلى هللا عليه وسلم أن قومه ـ وهم قريش ـ مخرجوه من مكة ،قال رسول هللا صلى هللا عليه
ي هم؟!) قال :نعم ،لم يأت رجل قطّ بمثل ما جئت به إال عودي ،وإن يدركني مخرج َّ
ِ وسلم( :أ َو
يومك أنصرك نصرا مؤ َّزرا .قال السهيلي رحمه هللا“ :يؤخذ منه ش ّدة مفارقة الوطن على النفس؛
فإنّه صلى هللا عليه وسلم سمع قول ورقة أنهم يؤذونه ويكذبونه فلم يظهر منه انزعاج لذلك ،فلما
!ذكر له اإلخراج تحرّكت نفسه لحبّ الوطن وإلفه ،فقال( :أ َومخر ِج َّ
ي هم؟
قال الحافظ الذهبي :وهو من العلماء المدقِّقين – ُم َع ِّددًا طائفةً من محبوبات رسول هللا – صلى هللا
عليه وسلم ” :-وكان يحبُّ عائشةَ ،ويحبُّ َأبَاهَا Z،ويحبُّ أسامةَ ،ويحب سبطَيْه ،ويحب الحلواءZ
”.والعسل ،ويحب جبل ُأ ُح ٍد ،ويحب وطنه
ولتعلق النبي – صلى هللا عليه وسلم – بوطنه الذي نشأ وترعرع فيه ووفائه له وانتمائه إليه؛ دعا
ربه لما وصل المدينة أن يغرس فيه حبها فقال ” :اللهم حبِّبْ إلينا المدينةَ ك ُحبِّنا مكةَ أو أش َّد”.
(البخاري ومسلم).
وقد استجاب هللا دعاءه ،فكان يحبُّ المدينة حبًّا عظي ًما ،وكان يُسرُّ عندما يرى معالِ َمها التي تدلُّ
على قرب وصوله إليها؛ فعن أنس بن مالك رضي هللا تعالى عنه قال“ :كان رسول هللا إذا قدم من
سفر ،فأبصر درجات المدينة ،أوضع ناقتَه – أي :أسرع بها – وإن كانت دابة ح َّر َكها” ،قال أبو ٍ
عبدهللا :زاد الحارث بن عمير عن حميد“ :حركها من حبِّها”( .البخاري).
ومع كل هذا الحب Zللمدينة لم يستطع أن ينسى حب مكة لحظة واحدة؛ ألن نفسه وعقله وخاطره
في شغل دائم وتفكير مستمر في حبها؛ فقد أخرج األزرقي في “أخبار مكة” عن ابن شهاب قال:
قدم أصيل الغفاري قبل أن يضرب الحجاب Zعلى أزواج النبي -صلى هللا عليه وسلم ،-فدخل على
عائشة -رضي هللا عنها -فقالت له :يا أصيل :كيف عهدت مكة؟! قال :عهدتها قد أخصب جنابها،
وابيضت بطحاؤها ،قالت :أقم حتى يأتيك النبي ،فلم يلبث أن دخل النبي ،فقال له“ :يا أصيل:
كيف عهدت مكة؟!” ،قال :وهللا عهدتها قد أخصب جنابها ،وابيضت بطحاؤها ،وأغدق إذخرها،
وأسلت ثمامها ،فقال“ :حسبك -يا أصيل -ال تحزنا” .وفي رواية أخرى قال“ :ويها يا أصيل! دع
”.القلوب تقر قرارها
أرأيت كيف عبر النبي الكريم محمد -صلى هللا عليه وسلم -عن حبه وهيامه وحنينه إلى وطنه
بقوله“ :يا أصيل :دع القلوب تقر” ،فإن ذكر بلده الحبيب -الذي ولد فيه ،ونشأ تحت سمائه وفوق
أرضه ،وبلغ أشده وأكرم بالنبوة في رحابه -أمامه يثير لواعج شوقه ،ويذكي جمرة حنينه إلى
!!موطنه الحبيب األثير العزيز
أرأيت كيف أن الصحابة المهاجرين -رضوان هللا عليهم أجمعين -كانوا يحاولون تخفيف حدة
شوقهم وإطفاء لظى حنينهم إلى وطنهم باألبيات الرقيقة المرققة التي تذكرهم بمعالم وطنهم من
الوديان والموارد والجبال! ولما كان الخروج من الوطن قاسيًا على النفس ،صعبًا عليها ،فقد كان
من فضائل المهاجرين أنهم ضحوا بأوطانهم في سبيل هللا ،فللمهاجرين على األنصار أفضلية
ترك الوطن ،ما يدل على أن ترك الوطن ليس باألمر السهل على النفس ،وقد مدحهم هللا سبحانه
يار ِه ْم َوَأ ْم َوالِ ِه ْم يَ ْبتَ ُغ َ ين الَّ ِذ َ ُأ على ذلك فقال تعالى{ :لِ ْلفُقَ َرا ِء ْال ُمهَ ِ
ون فَضْ الً ِم ْن ين ْخ ِرجُوا ِم ْن ِد ِ اج ِر َ
ون}[ .الحشر]8 : ك هُ ْم الصَّا ِدقُ َ ُون هَّللا َ َو َرسُولَهُ ُأ ْولَِئ َ
صر َ .هَّللا ِ َو ِرضْ َوانا ً َويَ ْن ُ
أيها المسلمون :إن تراب الوطن الذي نعيش عليه له الفضل Zعلينا في جميع مجاالت حياتنا
االقتصادية والصناعية والزراعية والتجارية؛ بل إن الرسول – صلى هللا عليه وسلم – كان
يستخدم تراب وطنه في الرقية والعالج؛ فعن عائشة رضي هللا عنها :أن النبي صلى هللا عليه
وريقَةُ بَ ْع ِ
ضنا ،يَ ْشفَى سقي ُمنا بإذن ربنا”. وسلم كان يقول في الرقية ” :باسم هللا ،تُرْ بَةُ َأرْ ِ
ضناِ ،
( البخاري ومسلم).
ُشف
والشفاء في شم المحبوب ،ومن ألوان الدواء لقا ُء المحبِّ محبوبَه أو أثرًا من آثاره!! ألم ي َ
يوسف؟! قال الجاحظ ” :كانت العرب إذا
َ قميص
َ يعقوبُ ويعود إليه بصره عندما ألقَ ْوا عليه
حملت معها من تُربة بلدها رمالً وعفراً تستنشقه عند ْ
نزل ٍة أو زكام أو ْ ْ
وسافرت ْ
غزت
صُداع(”.الرسائل) .وهكذا يظهر لنا بجالء فضيلة وأهمية حب الوطن واالنتماء والحنين إليه في
.اإلسالم