Professional Documents
Culture Documents
مقدمة الخطبة
مقدمة الخطبة
إن الحمد هلل نحمده ،ونستعينه ،ونستغفره ،ونستهديه ،ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا ومن َّ
أن ال إله سيئات أعمالنا ،من يه ِده هللا فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا ،وأشهد َّ
ق عليه أن محمدًا عب ُد هللا ورسوله الذي أحبّ وطنه وش ّ إاَّل هللا وحده ال شريك له ،وأشهد َّ
بإحسان
ٍ وعلى أصحابه الهجرة منها ،صلَّى هللا عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم
إلى يوم الدِّين وسلّم تسلي ًما كثيرًا]١[.
ينالوصية بالتقوى عباد هللا ،أوصيكم ونفسي بتقوى هللا ،يقول هللا -تعالى{ :-يَا َأيُّهَا الَّ ِذ َ
ون} ]٢[،ويقول -تعالى{ :-يَا َأيُّهَا النَّاسُ ق تُقَاتِ ِه َواَل تَ ُموتُ َّن ِإاَّل َوَأنتُم ُّم ْسلِ ُم َ آ َمنُوا اتَّقُوا هَّللا َ َح َّ
ث ِم ْنهُ َما ِر َجااًل َكثِيرًا َونِ َسا ًء ۚ ق ِم ْنهَا َز ْو َجهَا َوبَ َّ اح َد ٍة َو َخلَ َ س َو ِ اتَّقُوا َربَّ ُك ُم الَّ ِذي َخلَقَ ُكم ِّمن نَّ ْف ٍ
ان َعلَ ْي ُك ْم َرقِيبًا} ]٣[،وهو الذي قال{ :يَا َأيُّهَا ون بِ ِه َواَأْلرْ َحا َم ۚ ِإ َّن هَّللا َ َك َ
َواتَّقُوا هَّللا َ الَّ ِذي تَ َسا َءلُ َ
ين آ َمنُوا اتَّقُوا هَّللا َ َوقُولُوا قَ ْواًل َس ِديدًا* يُصْ لِحْ لَ ُك ْم َأ ْع َمالَ ُك ْم َويَ ْغفِرْ لَ ُك ْم ُذنُوبَ ُك ْم ۗ َو َمن ي ُِط ِع هَّللا َ الَّ ِذ َ
از فَ ْو ًزا َع ِظي ًما}]٥[]٤[. َو َرسُولَهُ فَقَ ْد فَ َ
الخطبة األولى
إخوتي في هللا ،إن نصوص الشريعة اإلسالميّة جاءت sلتقرر مشروعية حب الوطن من
غير تفريط وال غلو ،وآيات هللا -تعالى -هي خير ما يُستشهد به على تأكيد محبة الوطن دون
أن تتعارض مع محبة هللا ورسوله ،ومن األدلة على ذلك]٦[:
يرتُ ُك ْم َوَأ ْم َوا ٌل
ان آبَاُؤ ُك ْم َوَأ ْبنَاُؤ ُك ْم َوِإ ْخ َوانُ ُك ْم َوَأ ْز َوا ُج ُك ْم َو َع ِش َ قول هللا -تعالى{ :-قُلْ ِإن َك َ
ض ْونَهَا َأ َحبَّ ِإلَ ْي ُكم ِّم َن هَّللا ِ َو َرسُولِ ِه َو ِجهَا ٍد ارةٌ تَ ْخ َش ْو َن َك َسا َدهَا َو َم َسا ِك ُن تَرْ َ ا ْقتَ َر ْفتُ ُموهَا َوتِ َج َ
ين} ]٧[،فَ َذ َكر هللا -تعالى- فِي َسبِيلِ ِه فَتَ َربَّصُوا َحتَّىٰ يَْأتِ َي هَّللا ُ بَِأ ْم ِر ِه ۗ َوهَّللا ُ اَل يَ ْه ِدي ْالقَ ْو َم ْالفَا ِسقِ َ
المساكن في اآلية الكريمة -وهي محل اإلقامة الذي يبقى به الشخص ويعيش فيه -على أنّها
من األمور التي يحبها اإلنسان ويرتبط بها ،ونبّه هللا -تعالى -على أن ال يطغى هذا الحب
على محبة هللا ورسوله ،فحب الوطن الذي يأمن به الناس على أنفسهم ،وأموالهم ،وأديانهم،
.وأعراضهم ،والذي يحوي مقدساتهم هو ما يحبه هللا ورسوله
ض فَ َسادًا َأن
ُون هَّللا َ َو َرسُولَهُ َويَ ْس َع ْو َن فِي اَأْلرْ ِ ارب َ ين يُ َح ِقول هللا -تعالىِ{ :-إنَّ َما َج َزا ُء الَّ ِذ َ
ي فِي ك لَهُ ْم ِخ ْز ٌ
ض ۚ َٰذلِ َف َأ ْو يُنفَ ْوا ِم َن اَأْلرْ ِ صلَّبُوا َأ ْو تُقَطَّ َع َأ ْي ِدي ِه ْم َوَأرْ ُجلُهُم ِّم ْن ِخاَل ٍ
يُقَتَّلُوا َأ ْو يُ َ
ال ُّد ْنيَا ۖ َولَهُ ْم فِي اآْل ِخ َر ِة َع َذابٌ َع ِظي ٌم} ]٨[،فقد جعل هللا -تعالى -النفي من الوطن عقوبة ،ولو
.لم يكن حب األوطان أمر فطري لما كان النفي منها عقوبة
ار ِه ْم َوَأ ْم َوالِ ِه ْم يَ ْبتَ ُغ َ ين الَّ ِذ َ ُأ قول هللا -تعالى{ :-لِ ْلفُقَ َرا ِء ْال ُمهَ ِ
ون فَضْ اًل ِّم َن ين ْخ ِرجُوا ِمن ِديَ ِ اج ِر َ
ون} ]٩[،ففي اآلية دليل على ك هُ ُم الصَّا ِدقُ َ ُون هَّللا َ َو َرسُولَهُ ۚ ُأولَِٰئ َ
صر َ هَّللا ِ َو ِرضْ َوانًا َويَن ُ
لصبرهم على ترك أوطانِهم، ِ مشروعية حب األوطان ،فقد أثنى هللا -تعالى -على المهاجرين
الفيء؛ مواساةً لهم من هللا -تعالى -على وهجرهم لما يحبون ،كما جعل هللا -تعالى -لهم ْ ِ
ألرضهم ،وإقرارًا منه -تعالى -على حبهم ألوطانِهم ،وتأل ِمهم ألجلها ِ .تركهم
أيُّها النَّاس ،إنه ال يخفى على القارئ لكتاب هللا ما ذكر به من قصص ألنبيائه ،وهجرهم
بأمر منه -تعالى ،-وهم كثر ،فمنهم نبي هللا نوح -عليه السالم ،-فقد جعلٍ ألوطانهم وأرضهم
.هللا -تعالى -خروجه من وطنه بالفلك ابتال ًء له
ار التَّنُّو ُر قُ ْلنَا احْ ِملْ فِيهَا ِمن ُكلٍّ َز ْو َجي ِْن ْاثنَ ْي ِن فاهلل -تعالى -يقولَ { :حتَّىٰ ِإ َذا َجا َء َأ ْم ُرنَا َوفَ َ
ق َعلَ ْي ِه ْالقَ ْو ُل َو َم ْن آ َم َن ۚ َو َما آ َم َن َم َعهُ ِإاَّل قَلِي ٌل* َوقَا َل ارْ َكبُوا فِيهَا بِس ِْم هَّللا ِ ك ِإاَّل َمن َسبَ َ َوَأ ْهلَ َ
ى نُو ٌح ا ْبنَهُ ال َونَا َد ٰ ج َك ْال ِجبَ ِs َّحي ٌم* َو ِه َي تَجْ ِري بِ ِه ْم فِي َم ْو ٍ َمجْ َراهَا َو ُمرْ َساهَا ۚ ِإ َّن َربِّي لَ َغفُو ٌر ر ِ
ين} ]١٠[،إلى قول هللا -تعالى{ :-قِي َل ي ارْ َكب َّم َعنَا َواَل تَ ُكن َّم َع ْال َكافِ ِر َ ْز ٍل يَا بُنَ َّ
ان فِي َمع ِ َو َك َ
ك ۚ َوُأ َم ٌم َسنُ َمتِّ ُعهُ ْم ثُ َّم يَ َم ُّسهُم ِّمنَّا
ْك َو َعلَىٰ ُأ َم ٍم ِّم َّمن َّم َع َت َعلَي َ يَا نُو ُح ا ْهبِ ْ
ط بِ َساَل ٍم ِّمنَّا َوبَ َر َكا ٍ
َع َذابٌ َألِي ٌم}]٦[]١١[.
ين}[، نت َخ ْي ُر ْال ُم ِ
نزلِ َ نزاًل ُّمبَا َر ًكا َوَأ َ نز ْلنِي ُم َ وقال هللا -تعالى -على لسان نوحَ { :وقُل رَّبِّ َأ ِ
]١٢فقد بيّنت اآليات حال نوح -عليه السالم -مع قومه ،وما فعلوا به حتى أمره هللا -تعالى-
أن يصنع السفينة بأمره ،ويخرج من وطنه ومن معه من المؤمنين ،وأهلك هللا -تعالى-
الكافرين ،ودعا نوح -عليه السالم -أن يرزقه هللا -تعالى -موطنًا ومنزاًل مبار ًكا ،فهذا دليل
جلي على أن حب األوطان مشروع ال محذور فيه وال بأس .وهذا نبي هللا إبراهيم -عليه ٌّ
ين* َونَ َّج ْينَاهُ َولُوطًا السالم -مع قومه ،يقول هللا -تعالىَ { :-وَأ َرا ُدوا بِ ِه َك ْيدًا فَ َج َع ْلنَاهُ ُم اَأْل ْخ َس ِر َ
ين} ]١٣[،فكانت النجاة إلبراهيم ولوط -عليهما السالم- ار ْكنَا فِيهَا لِ ْل َعالَ ِم َ
ض الَّتِي بَ َِإلَى اَأْلرْ ِ
بأمر من هللا -تعالى ،-وإال ٍ من أقوامهما بعدما أرادوا بهم كيدًا ،فكان خروجهم من وطنهم
فإن اإلنسان ال يحب الخروج من وطنه ،إال إذا كان في بقائه ضرر على دينه ،أو نفسه ،أو
أهله ،أو ماله ،وهذا دليل على مشروعية حب الوطن]٦[.
ونبي هللا موسى -عليه السالم -مع قومه ،الذي خرج من وطنه خوفًا على نفسه من بطش
فرعون ،وغيره من األنبياء الذين فرّوا بدينهم كيونس ويوسف -عليهما السالم ،-وقد قصَّ
هللا -تعالى -علينا قصة أصحاب الكهف الذين فرّوا من أوطانهم حفاظًا على دينِهم ،وهذا
ك ْالقُرْ َ
آن ض َعلَ ْي َرسول هللا محمد -صلّى هللا عليه وسلّم -يقول له هللا -تعالىِ{ :-إ َّن الَّ ِذي فَ َر َ
ضاَل ٍل ُّمبِي ٍن}]١٤[. ك ِإلَىٰ َم َعا ٍد ۚ قُل َّربِّي َأ ْعلَ ُم َمن َجا َء بِ ْالهُ َدىٰ َو َم ْن هُ َو فِي َ
لَ َرا ُّد َ
فل ّماخرج رسول هللا -صلّى هللا عليه وسلّم -من الغار مهاجرًا إلى مكة المكرمة ،وقد غيّر
طريقه خوفًا من أن يجده كفار قريش ،فل ّما م َّر بطريق مكة المكرمة غلبه الشوق إلى وطنه،
إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد"؛ أي إلى فقال له جبريل -عليه السالمّ " :-
وطنه وهو مكة المكرمة ،وقد ذكرت اآليات خروج رسول هللا -صلّى هللا عليه وسلّم -من
وطنه في سبيل الدعوة في أكثر من موضع ،وكان إخراجه من أرضه من األذى الذي القاه
في حياتِه ومن مكر المشركين به ،فاإلخراج من الوطن نوع من أنواع العذاب s،وهذا خير
مثال ودليل على حب الوطن ومشروعيته]٦[.
ولم يكن حب الوطن مشروع في القرآن وحسب وإنما كانت سنة رسول هللا -صلّى هللا عليه
وسلّم -زاخرةً باألدلة على ذلك ،فرسول هللا -صلّى هللا عليه وسلّم -عندما خرج من مكة
ي ولوال أن َأ ْهلَ ِ
ك أرض هَّللا ِ إل َّ
ِ أرض هَّللا ِ وأحبُّ
ِ حزن لذلك حزنًا شديدًا وقال( :وهَّللا ِ إنَّ ِ
ك لخي ُر
رجت)]١٥[. ُ منك ما َخ
أخ َرجوني ِ
كما أخبر رسول هللا -صلّى هللا عليه وسلّم -أن من قُتل دون أرضه فهو شهيد ،وكانت أم
المؤمنين عائشة -رضي هللا عنها -تدعو هللا -تعالى -فتقول" :اللَّهُ َّم َحبِّبْ إلَيْنا ال َم ِدينَةَ كما
بار ْك لنا في ُمدِّنا وصا ِعنا"]١٦[، أو أ َش َّد ،وا ْنقُلْ ُح َّماها إلى الجُحْ فَ ِة ،اللَّهُ َّم ِ
ْت إلَيْنا َم َّكةَ ْ
َحبَّب َ
.فهذا دليل على مشروعية حب الوطن ،وغيرها الكثير من األدلة على هذا الفعل العظيم
إخوتي في هللا ،إن محبة األوطان واالنتماء إليها ،والسعي لمصلحتها s،واالبتعاد عن كل ما
يضر بها ،والحرص على طاعة ولي األمر ووحدة البالد من مطالب الشريعة اإلسالمية،
ومن الوسائل التي تحقق األمن الفكري لدى المسلمين ،وأدلة ذلك كثيرة من كتاب هللا وسنة
نبيه]١٧[.
ص ُموا بِ َح ْب ِل حيث أمر هللا -تعالى -المؤمنين بالحفاظ على وحدة الوطن فقال -تعالىَ { :-وا ْعتَ ِ
ف بَي َْن قُلُوبِ ُك ْم فََأصْ بَحْ تُم
ت هَّللا ِ َعلَ ْي ُك ْم ِإ ْذ ُكنتُ ْم َأ ْع َدا ًء فََألَّ َ
هَّللا ِ َج ِميعًا َواَل تَفَ َّرقُوا ۚ َو ْاذ ُكرُوا نِ ْع َم َ
بِنِ ْع َمتِ ِه ِإ ْخ َوانًا} ]١٨[،وأمر هللا تعالى بطاعة ولي األمر بعد هللا ورسوله حيث قال{ :يَا َأيُّهَا
ُول َوُأولِي اَأْل ْم ِر ِمن ُك ْم ۖ فَِإن تَنَا َز ْعتُ ْم فِي َش ْي ٍء فَ ُر ُّدوهُ ِإلَى ين آ َمنُوا َأ ِطيعُوا هَّللا َ َوَأ ِطيعُوا ال َّرس َ الَّ ِذ َ
ك َخ ْي ٌر َوَأحْ َس ُن تَْأ ِوياًل }]١٧[]١٩[. ون بِاهَّلل ِ َو ْاليَ ْو ِم اآْل ِخ ِر ۚ َٰذلِ َ هَّللا ِ َوال َّرس ِ
ُول ِإن ُكنتُ ْم تُْؤ ِمنُ َ
أيها النّاس ،ينبغي التنبيه على ضرورة الدفاع عن الوطن ،فهو مطلب شرعي ،وواجب
وطني ،وهو شهادة وبسالة وشجاعة من أهله ،والدفاع عن الوطن وذود األذى عنه يكون
باللسان والجوارج كلّها ،وعدم تداول األفكار الهدامة ،والمناهج المنحرفة ،والتصدي لمن
ينتقصون من الوطن وأهله ويحاولون تشتيتهم وتقطيع أواصر هذه األمة اإلسالمية؛ لتكون
لقمة سهلة لألعداء ،فلنحذر من مثل هؤالء]٢٠[.
اللهم حبب إلينا أوطاننا واحفظها ،وأدم علينا األمن واألمان برحمتك يا أرحم الراحمين،
.أقول قولي هذا وأستغفر هللا لي ولكم