الجذور البدائية Book

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 448

‫َّ ُ‬

‫ُ‬
‫الجذور البدائية‬

‫لسينما الـ ـ ُّـرعب‬


‫النف�س التطوري ومتثالتُ اخلوف‬
‫علم ِ‬ ‫ُ‬
‫كارول �أل‪ .‬فراي‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الــرعب‬
‫كارول �أل‪ .‬فراي‬
‫ترجمة‪� :‬أحمد النا�صح‬
‫© جميع احلقوق حمفوظة‬

‫الطبعة الأوىل‪� -‬سنة ‪2021‬‬


‫‪ISBN: 978-1-77472-077-6‬‬
‫الي�س��مح ب�إع��ادة طب��ع ه��ذا الكت��اب �أو �أي ج��زء من��ه �أو تخزين��ه يف نط��اق ا�س��تعادة املعلوم��ات �أو‬
‫نقل��ه ب���أي و�س��يلة م��ن الو�س��ائل �س��واء الت�صويري��ة �أم االلكرتوني��ة �أم امليكانيكي��ة‪ ،‬مب��ا يف ذل��ك‬
‫الن�س��خ الفوتوغ��رايف والن�ش��ر عل��ى �أ�ش��رطة �أو �س��واها وحف��ظ املعلوم��ات وا�س�ترجاعها دون �إذن‬
‫خط��ي م��ن الكاتب‪.‬‬
‫املواد املن�شورة تعرب عن ر�أي كاتبها‪ ،‬وال تعرب عن ر�أي الدار‪.‬‬
‫كارول �أل‪ .‬فراي‬

‫َّ ُ‬
‫ُ‬
‫الجذور البدائية‬
‫ُّ‬
‫لسينما الـ ــرعب‬
‫ُ‬
‫ومتثالت اخلوف‬ ‫النف�س التطوري‬
‫ِ‬ ‫علم‬
‫ُ‬

‫ترجمة‪� :‬أحمد النا�صح‬


‫هذه ترمجة لكتاب‬

PRIMAL ROOTS OF HORROR CINEMA:


Evolutionary Psychology and Narratives of Fear، By
Carrol L. Fry، 2019

:‫ إيميل املرتجم‬،‫ألي مالحظات أو اقرتاحات‬


ahmedalnasiry681@gmail.com
‫فهرس المحتويات‬

‫‪7‬‬ ‫مقدمة ‪............................................................‬‬


‫‪11‬‬ ‫متهيد ‪.............................................................‬‬
‫‪43‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬رواية وفيلم ‪........... 2001: A Space Odyssey‬‬
‫‪65‬‬ ‫الفصل الثاين‪َ :‬ت َ ُّثل اإلقليمية ‪......................................‬‬
‫‪123‬‬ ‫الفصل الثالث‪َ :‬ت َ ُّثل االستحالة ‪...................................‬‬
‫الفصل الرابع‪َ :‬ت َ ُّثل القبلية ‪173 ........................................‬‬
‫الفصل اخلامس‪َ :‬ت َ ُّثل التزاوج يف الرومانسية القوطية ‪231 ..............‬‬
‫الفصل السادس‪َ :‬ت َ ُّثل املفرتسني ‪285 ...................................‬‬
‫‪341‬‬ ‫الفصل السابع‪َ :‬ت َ ُّثل اآلخر ‪.......................................‬‬
‫خامتة ‪421 .............................................................‬‬
‫مقدمة‬

‫والـدي‪ ،‬الـذي كان عاشـق ًا خملصـ ًا‬ ‫ِ‬ ‫أخ َذنـا‬


‫كنـت طفلاً‪َ ،‬‬ ‫عندمـا ُ‬
‫أخذنا ملشـاهدة‬ ‫لألفلام آنذاك قبـل أن يظهر التلفزيـون ويبعده عنها‪َ ،‬‬
‫فيلـم الرجـل الذئـب ‪ .The wolf man‬وكما جـرت العـادة يف تلـك‬
‫جلسـت‬
‫ُ‬ ‫األيـام الزاهية قبـل بزوغ فجر املـوالت ‪ -‬املتاجر الكبرية ‪،-‬‬
‫يف الصـف األمامـي مع بقية املشـاهدين الصغـار‪ ،‬فيام جلـس والداي‬
‫يف اخللـف‪ .‬مل تكـن لـدي مشـكلة مـع مشـهد قتْـل الري تالبـوت‬
‫للمسـتذئب بعـكازه الفضي ذي القبضةعلى هيـأة رأس ذئـب‪ ،‬ألن‬
‫ظهـر جسـم املسـخ بشـكل كامـل‪ .‬لكـن عندمـا أخبرت‬ ‫املشـهد مل ُي ِ‬
‫نقي القلب‪،‬‬ ‫أن «حتى َر ُج ٌـل ُّ‬ ‫ِ‬
‫املظهر تالبـوت ْ‬ ‫العجـوز الغجري ُة غريبـ ُة‬
‫ُ‬
‫رجـل ي�ؤدي صلوات�ه كل ليل�ة‪ُ ،‬عرض� ٌة ألنْ يتحـول إىل ٍ‬
‫ذئـب عندما‬ ‫ٌ‬
‫ارتعـت بعـض الشيء‪ ،‬ألنني‬ ‫ُ‬ ‫اخلربـق ويلمـع قمـر اخلريـف»‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ي ِ‬
‫زهـر‬ ‫ُ‬
‫كنـت اعتقـد‪ ،‬بنا ًء على فهمي لنفيس آنـذاك عىل األقل‪ ،‬أننـي ذو قلب‬
‫نقـي‪ ،‬ومل أكـن أرغـب بالتحول إىل مسـخٍ هائجٍ بالطبع‪ .‬ثـم جاء ذلك‬
‫املشـهد الرهيـب عندمـا بـدأ الفـرو ينبجس مـن جلد تالبـوت ونبتت‬
‫لـه أنياب مـع اكتامل القمـر‪ ،‬عندها مل أجـد ُبدًّ ا من أن أهـرع إىل حيث‬
‫والـداي ألجلـس يف حضنيهما‪ .‬وبقيت أعـاين اخلوف من‬ ‫َ‬ ‫كان جيلـس‬
‫الظلام لفترة طويلـة عقب ذلـك اليوم‪.‬‬
‫على أن خمـاويف تلـك مل متنعنـي مـن االسـتفادة مـن عـروض‬
‫اخلصـم التـي كانـت رشكة يونيفريسـال تقدمهـا عىل أفلام الرعب‬
‫وبقيـت عاشـق ًا ألفلام الرعـب واخلوف‬
‫ُ‬ ‫الرائجـة يف تلـك األيـام‪.‬‬
‫‪7‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫عقالين‬
‫ٍّ‬ ‫الـذي تثيره‪ ،‬اخلـوف الـذي نجـده ‪ -‬مهما بـدا ذلـك غير‬
‫‪ -‬لذيـذ ًا حتـى اليـوم‪ .‬يف اخلمسـينيات‪ ،‬عندمـا سـادت موضوعـ ُة‬
‫غـزو الفضائيين أفلا َم الرعـب‪َ ،‬ف َتنَتْنـي تلـك األفالم أيضـ ًا كفيلم‬
‫‪ It Came from the Outer Space‬وفيلـم ‪ The Thing‬وغريهـا‪.‬‬
‫الي�وم وبعد أن ازدادت حدة الرعب يف األفلام‪ ،‬أصبح فيلم ‪The‬‬
‫قـورن بفيلم ‪An American‬‬ ‫‪ wolf man‬يبـدو شـيئ ًا مبتذالً تافه ًا لو ِ‬
‫‪ Werewolf in London‬مثلاً‪ ،‬وغيره مـن األفلام التـي تنتمـي‬
‫ن أفلام ‪The wolf man، Frankenstein،‬‬ ‫جلنـس الرعـب‪ .‬لكـ َّ‬
‫‪ Dracula، The Mummy‬وغريهـا مـن أفلام الرعـب يف تلـك‬
‫زرعـت بداخلي بذور االسـتمتاع هبـذا اجلنس مـن األفالم‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫احلقبـة‬
‫عزمـت عىل‬
‫ُ‬ ‫بما فيهـا األفلام املعـارصة التي تتسـم باحلدة‪ ،‬مـن ثم‬
‫الكتابـة عنها‪.‬‬
‫لكـن كتـايب هذا ليـس تأرخيـ ًا ألفلام الرعب‪ .‬بـل يعالـج بعد ًا‬
‫آخـر متامـ ًا يف هـذا اجلنس مـن األفالم‪.‬‬
‫قبـل عـدة سـنوات‪ ،‬كنت عضـو ًا يف حلقة نقاشـية عـن الكتب‪،‬‬
‫وكان موضـوع نقاشـنا مر ًة كتـاب ديزمونـد موريس القـرد العاري‬
‫‪ .The Naked ape‬وقـد أثـار ذلـك الكتـاب جدالً حاميـ ًا بني أفراد‬
‫املجموعـة حينهـا‪ ،‬شـبيه ًا جد ًا باجلدل الـذي كثري ًا ما أثـاره الكتاب‬
‫عب بعـض األعضاء عن سـخطهم عىل‬ ‫على املسـتوى العـام‪ ،‬حيث َّ‬
‫االفتراض الـذي ينطلـق منـه الكتـاب‪ ،‬وهـو أن البشر جمـرد نـو ٍع‬
‫الكتـاب يف حماجته ‪ -‬بنـا ًء عىل نظرية‬
‫ُ‬ ‫ينتمـي إىل مملكـة احليوان‪ .‬أكد‬
‫دارويـن يف التطـور‪ -‬على أن تطـور البرش قـد خضع لـذات القوى‬
‫‪8‬‬
‫مقدمة‬

‫أي قوى‬
‫َمت تطور األنـواع األخرى من الكائنـات احلية‪ْ ،‬‬‫التـي َحك ْ‬
‫الصراع مـن أجـل البقـاء‪ ،‬واالنتخـاب الطبيعـي‪ .‬بطبيعـة احلـال‪،‬‬
‫فقـد كان كتـاب موريـس ذاك جزء ًا من ٍ‬
‫محلة سـادت وقتها لتبسـيط‬
‫ٍ‬
‫خطـاب يف فـروع البيولوجيـا‪ ،‬األنثروبولوجيـا‪ ،‬والسـيكولوجيا‪،‬‬
‫وتقديمـه لعامـة النـاس‪ .‬لكـن كتاب القـرد العـاري بالـذات‪ ،‬بقي‬
‫عالقـ ًا يف ذهني لعرشيـن عام ًا‪.‬‬
‫ٍ‬
‫كتـب مماثلـة‪َ ،‬ت َب َّين يل أهنـا‬ ‫رشعـت يف قـراءة‬
‫ُ‬ ‫الحقـ ًا‪ ،‬عندمـا‬
‫كانـت تقدم رؤيـ ًة جديد ًة للطبيعة والسـلوك البرشيين‪ .‬كذلك فقد‬
‫حتليلي ٌ‬
‫فعال يف‬ ‫ٌّ‬ ‫وجـدت أن النقد التطـوري‪ ،‬كام ُيد َعـى أحيان ًا‪ٌ ،‬‬
‫فرع‬
‫عـر ُض كتـايب هذا مقاربـ ًة أخرى يف هـذا اجلدل‪.‬‬ ‫ميـدان الفنـون‪ .‬و َي ِ‬
‫ٍ‬
‫مقـاالت ت َُو ِّظـف‬ ‫كتبـت ثلاث‬
‫ُ‬ ‫خلال السـنوات املاضيـة‪،‬‬
‫البيولوجيـا االجتامعيـة (السوسـيوبيولوجيا) وعلـم النفـس‬
‫التطـوري‪ .‬وأشـكر ُم َ ِّـر ِري الدوريـات التاليـة على السماح يل‬
‫باسـتخدام أجـزاء منها يف هذا الكتـاب‪ ،‬واملقاالت هـي‪ :‬مقالة‪(we‬‬
‫‪Are Legion: Primal Dreams and Primal Screams in the‬‬
‫)‪ ،Satanic Film‬املنشـورة يف دوريـة ‪The Journal of Literature‬‬
‫)‪and Film (19:2، 2015‬؛ مقالـة ‪The New Naturalism:‬‬
‫‪ ،Primal Screams in Abraham Stoker’s Dracula‬املنشـورة‬
‫يف دوريـة )‪Midwest Quarterly (47:1، 2004‬؛ ومقالـة ‪From‬‬
‫‪Technology to Transcendence: Humanity’s Evolutionary‬‬
‫ُشر ْت يف دورية‬ ‫‪ ،Journey in 2001: A Space Odyssey‬والتـي ن ِ‬
‫)‪ .Extrapolation (44: 2001‬أشـكر أيض ًا سـاندرا فراي ‪Sandra‬‬

‫‪9‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫‪ Fry‬ملسـامهاهتا اجلليلـة يف التحريـر‪ ،‬واملسـاعدة التقنيـة واملشـورة‪،‬‬


‫ومعـاوين د‪ .‬روبـرت كرايـگ ‪Robert Craig‬‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صديقـي‬ ‫كما أشـكر‬
‫مـن جامعـة ‪ Central Michigan University‬على اقرتاحاته‪ .‬وقد‬
‫كل منهما مستشـار ًا جيـد ًا يل لصقـل أفـكاري‪.‬‬ ‫كان ٌّ‬
‫تطويـع‬
‫ٌ‬ ‫إن كتـاب «اجلـذور البدائيـة لسـينام الرعـب» هـذا هـو‬ ‫َّ‬
‫كل مـن السوسـيوبيولوجيا وعلـم النفـس التطـوري‪،‬‬ ‫الكتشـافات ٍّ‬
‫هبـدف إجيـاد تفسير لتارخينـا الطويـل مـن االشـتهاء النهـم ألفالم‬
‫تسـليط للضـوء عىل الت ََم ُّثلات التي‬
‫ٌ‬ ‫الرعـب‪ ،‬وهـو يف الوقـت عينه‬
‫تتضمنهـا هـذه األفلام وكيـف تظـل قابعـ ًة يف سـلوكنا وثقافتنـا‪.‬‬
‫التطـوري مـا هـو أكثر من جمـرد مقاربـة جديـدة للنقد‬
‫ُّ‬ ‫يقـدِّ م النقـدُ‬
‫السـينامئي واألديب‪.‬‬
‫يتفـق املختصـون هبـذا احلقل على أن مجامجنا حتـوي حتت قرشة‬
‫ٍ‬
‫هبمـس خافـت‪ِّ .‬‬
‫يلخـص‬ ‫التحضر الظاهـرة عقـوالً بدائيـ ًة تنادينـا‬
‫إدوارد أوزبـورن ويلسـون ‪ Edward O. Wilson‬قـو َة اهلمسـات‬
‫التطوريـة التـي تنادينـا قادمـ ًة مـن أسلافنا عبر املايض السـحيق‪:‬‬
‫«على األرجح‪ ،‬فإن ملحمة التطور كانت وسـتبقى أفضل أسـطورة‬
‫بين أسـاطرينا عىل اإلطالق‪ .‬ويمكـن تطويعها لتقترب من احلقيقة‬
‫البشري احلكم على احلقيقـة»(‪ .)1‬يمكننا‬ ‫َّ‬ ‫بمقـدار مـا يمكن للعقـل‬
‫أن نلتقـط أصـداء تلـك امللحمـة يف الت ََم ُّثلات البدائيـة ا ُمل َّ‬
‫تضمنة يف‬
‫أفلام الرعـب‪ ،‬الت ََم ُّثلات التـي تؤ ِّثر على حياتنا وسـلوكنا كام عىل‬
‫ذوقنـا الفني‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫تمهيد‬

‫أي هاستنگز‪ُ ،‬و ِجدَ ت الدراما»‬ ‫ِ‬


‫«حيثام ُوجدت الطبيعة البرشية‪ْ ،‬‬
‫‪-‬أگاثـا كريسـتي‪ ،‬مـن قصـة لغـز ملك السـبايت‬
‫‪The King of Clubs Mystery‬‬

‫ليسـت الفنـون نتاجـ ًا ملحـض املوهبـة العشـوائية ت ََو َّلـد بتأثير‬


‫الظـروف التارخييـة والتجربـة الشـخصية الفرديـة‪ .‬بل متتـد جذور‬
‫ما يف التاريـخ وصوالً إىل اجلـذور اجلينية‬ ‫اإلهلـام الفنـي عميق ًا وقدي ً‬
‫للدمـاغ البشري‪ ،‬وهـي ثابتة»‬
‫‪ -‬إدوارد أوزبورن ويلسون‪ ،‬كتاب ‪.Consilience‬‬

‫«سـيكون الفيلـم مرعبـ ًا بحـق‪ ،‬وألسـابيع بعـد مشـاهدته‪ ،‬لـن‬


‫ٍ‬
‫رعب‬ ‫تسـتطيعوا النـوم»‪ ،‬هـذا مـا قالتـه الدعايـة التشـويقية لفيلـم‬
‫ٌ‬
‫سـؤال مهـم‪:‬‬ ‫ُأنتِـج مؤخـر ًا‪ .‬ينبثـق مـن هـذه الوصلـة اإلشـهارية‬
‫ملـاذا ندفـع املـال ملشـاهدة فيلـم خييفنـا إىل احلد الـذي حيرمنـا النوم‬
‫لـب هذا‬
‫أجيال مـن النقـاد األدبيين‪ ،‬وهو ُّ‬‫ً‬ ‫حمير َشـ َغ َل‬
‫لغـز ٌ‬
‫ليلاً؟ ٌ‬
‫كشـوفات فر َعـي السوسـيوبيولوجيا وعلم النفس‬‫ُ‬ ‫الكتـاب‪ .‬تقرتح‬
‫التطوري أن اسـتمتاعنا بالتمثالت الفنيـة عموم ًا ‪ -‬ويف جنس أفالم‬
‫الرعـب خصوصـ ًا ‪ -‬وانجذابنا إليها إنما ينبعان من إرثنـا التطوري‬
‫‪11‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫لا مـن بنيتنـا اجلينيـة كبرش‪ .‬تقـدم هذه‬ ‫وإهنما يشـكالن جـزء ًا أصي ً‬
‫الكشـوفات منظـور ًا جديـد ًا لِ َف ْهـ ِم اسـتجابتنا للأدب واألفلام‪،‬‬
‫وعـاد ًة مـا ُيدعى هـذا املنظـور بالنقـد التطـوري‪ .‬أما أنا فسأسـمي‬
‫منظـوري الـذي ابتدعته بـ «نقـد الصفات البدائية»‪ ،‬ألننـي ُأركِّز فيه‬
‫على عنـارص بعينها مـن التكيـف التطـوري‪ .‬ت َُو ِّفر لنا أفلا ُم الرعب‬
‫والروايـات التـي يعتمدهـا منتجو األفالم ً‬
‫مثـال مفيـد ًا إلعامل هذا‬ ‫ُ‬
‫أي نقـد الصفـات البدائية املشـار إليه آنفـ ًا‪ ،‬وهذا‬ ‫النـوع مـن النقد‪ْ ،‬‬
‫حتليل للسـبب الذي يكمـن وراء اسـتجابتنا للتمثالت‬ ‫الكتـاب هو ٌ‬
‫ُ‬
‫البدائيـة التـي يتضمنهـا هـذا اجلنس مـن األفالم‪.‬‬
‫«جدراهنـا املتهالكـة مـن الصخـور الرماديـة الداكنـة‪ ،‬جعلتْهـا‬
‫شـيئ ًا كئيب ًا و ِ‬
‫سـامي ًا»‬ ‫َ‬
‫هكـذا وصفـت آن ِ‬
‫رادكليـف ‪ Ann Radcliffe‬قلعـ َة أودولفـو‬
‫يف روايتهـا القوطية أرسار أودولفـو ‪The Mysteries of Udolpho‬‬
‫املنشـورة عـام ‪ .1794‬كغريهـا مـن ُكتَّـاب الرومانسـية القوطيـة يف‬
‫القـرن الثامـن عشر‪ ،‬كانـت رادكليف متأثـرة بكتـاب إدموند بريك‬
‫فلسـفي يف أصـل أفكارنـا عـن السـامي‬
‫ٌّ‬ ‫«حتقيـق‬
‫ٌ‬ ‫‪Edmund Burke‬‬
‫واجلميـل ‪A Philosophical Enquiry into the Origin of Our‬‬
‫‪ »Ideas of the Sublime and the Beautiful‬املنشـور عـام ‪.1757‬‬
‫«كل ما‬ ‫ِ‬
‫اخلوف اإلنـايب)*( بأهنـا «سـامية»‪ُّ :‬‬ ‫حيـث وصـف بريك لـذ َة‬
‫)*( اخلوف اإلنايب ‪ ،VICARIOUS FEAR‬يقصد به اخلوف الذي يشعر به املرء عند‬
‫مشاهدته (أو قراءته) عن موقف خميف‪ ،‬كام يف مشاهدة أفالم الرعب أو مطالعة أدب‬
‫الرعب‪ ،‬كمقابل للخوف املبارش الذي يشعر به عندما جيد نفسه يف موقف خميف يف‬
‫ِ‬
‫(املرتجم)‬ ‫العامل احلقيقي‪..‬‬

‫‪12‬‬
‫متهيد‬

‫ـث أفـكار األمل واخلطر‪،‬‬‫شـكل من األشـكال ‪َ -‬ب ْع َ‬‫ٍ‬ ‫بـأي‬


‫يسـتطيع ‪ِّ -‬‬
‫متعلـق باملواضيع‬
‫ٌ‬ ‫ومريـع بأي شـكل كان‪ ،‬أو‬ ‫ٌ‬ ‫كل مـا هـو ُم ِ‬
‫فـز ٌع‬ ‫أي ُّ‬
‫ْ‬
‫املفزعـة املخيفـة‪ ،‬أو يعمـل بأسـلوب شـبيه بالرعـب والفـزع‪ ،‬هـو‬
‫مصـدر للسـامي؛ بمعنـى إنـه يسـتحث أقـوى االنفعـاالت التـي‬ ‫ٌ‬
‫بمسـتطاع العقل الشـعور هبـا»(‪ .)1‬وقد قـدم بريك أمثلـة متنوعة عن‬
‫ٍ‬
‫ألوان‬ ‫السـامي‪ :‬اجلبال‪ ،‬األعاصير البحريـة‪ ،‬اخلرائب‪ ،‬وصـوالً إىل‬
‫ٍ‬
‫حالـة من عـدم االرتياح‪.‬‬ ‫وروائـح متنوعـة‪ ،‬وكلها تفضي إىل خلق‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫أجيـال مـن الروائيني‬ ‫وأ َّثـرت نظريتُـه عـن لـذة اخلـوف اإلنـا ِّ‬
‫يب يف‬
‫القوطيين‪ .‬ومـا زالـت أصداء السـامي‪ ،‬كما وصفه بيرك‪ ،‬ترتدد يف‬
‫أفلام الرعب‪.‬‬
‫ٍ‬
‫نظريـات ختتلـف وأخرى‬ ‫الدراسـات السـلوكية احلديثـ ُة‬
‫ُ‬ ‫تُقـدِّ م‬
‫تتشـابه مـع نظريـة بيرك‪ .‬فقـد تأثـر التحليـل النقـدي للأدب‬
‫واألفلام بكتابـات فرويـد عـن النَ ْفـس الثالثيـة‪ .‬كذلـك َو َص َ‬
‫ـف‬
‫صـور بدائي ٌة موجـود ٌة يف‬
‫ٌ‬ ‫سماها بالنماذج البدئيـة‪،‬‬
‫كارل يونـگ مـا َّ‬
‫العقـل البشري تؤ ِّثـر عىل حياتنـا وختلق اسـتجابتنا للفـن‪ ،‬األدب‪،‬‬
‫طـوع أيرنسـت جونـز ‪ Earnest Jones‬مفاهيـم‬ ‫واألفلام بالطبـع‪َّ .‬‬
‫فرويديـ ًة مركزيـ ًة يف مقالتـه الشـهرية «هاملـت وأوديـب ‪Hamlet‬‬
‫‪ »and Oedipus‬عـام ‪ ،1910‬حيـث جـادل بأننـا سـنكون قادريـن‬
‫على حتليـل شـخصيات األعمال األدبيـة نفسـ ًّيا إذا ما ختيلنـا تلكم‬
‫الشـخصيات أناسـ ًا حقيقيين‪ .‬ومـا زال النقـاد األدبيـون جيـدون‬
‫طرقـ ًا جديـد ًة يف تطويـع كتابـات فرويـد يف هـذا امليـدان‪ ،‬رغـم أن‬
‫كتاباتـه قـد ُر ِكنَـت على رفـوف متحـف تاريـخ علـم النفـس منـذ‬
‫‪13‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫عقـود‪ .‬أمـا ال ُكتَّـاب ومنتجـو األفلام على اجلهـة األخـرى‪ ،‬فقـد‬


‫َ‬
‫هيـاكل مفيـد ًة ألعامهلـم‪ .‬بالعـودة إىل‬ ‫ِ‬
‫كتابـات فرويـد‬ ‫وجـدوا يف‬
‫يونـگ‪ ،‬يعـد كتـاب مـاود بودكـن ‪ Maud Bodkin‬أنماط النماذج‬
‫البدئيـة يف الشـعر ‪ Archetypal Patterns in Poetry‬الصـادر عـام‬
‫ٍ‬
‫كأداة‬ ‫عت كتابـات كارل يونـگ‬ ‫طو ْ‬‫‪ 1934‬أحـدَ أبكـر الكتب التـي َّ‬
‫طـور نورثـروب فـري ‪ Northrop Frye‬وأتبا ُعه‬ ‫للنقـد األديب‪ .‬كما َّ‬
‫الحقـ ًا اسـتخدام أعمال يونـگ يف هـذا امليـدان أيضـ ًا‪ .‬واملقدمـة‬
‫التـي انطلـق منهـا هـؤالء هـي أن الالوعـي‪ ،‬سـواء كان الفردي يف‬
‫يوجه بعض السـلوك‬ ‫كتابـات فرويـد أو اجلمعـي يف كتابات يونگ‪ِّ ،‬‬
‫أن خيلـق اسـتجاب ًة للأدب أو األفلام‪ِ .‬‬
‫وحيم ُل‬ ‫البشري ويسـتطيع ْ‬
‫مشـاب ًة من حيـث تأكيـده عىل أن‬ ‫ِ‬ ‫ـف بيرك للسـامي تفاصيـل‬ ‫وص ُ‬
‫ْ‬
‫االنفعـاالت الشـديدة ال ختضـع للمنطـق يف خلقهـا ل َّلـذة‪.‬‬
‫متخـض النقـد األديب عـن أنـواع كثيرة مـن املقاربـات يف‬
‫السـنوات اخلمسين املاضيـة‪ ،‬مـن فرويديـة جـاك الكان ‪Jacques‬‬
‫‪ Lacan‬اجلديدة‪ ،‬إىل خطاب ميشـيل فوكـو ‪ Michel Foucault‬عن‬
‫السـلطة‪ ،‬إىل جـاك ِدريـدا ‪ Jacques Derrida‬وعملـه يف التفكيـك‪،‬‬
‫إىل غير ذلـك مـن النظريـات النقديـة مـا بعـد احلداثيـة‪ .‬غالبـ ًا مـا‬
‫تتعلـق الكتابـات يف هـذه احلقـول بالــ «نظريـة» أكثـر مـن تعلقهـا‬
‫بالتحليـل األديب العملي‪ .‬يف املرحلـة التـي تلـت تلك احلقبـة‪ ،‬أخذ‬
‫النقـد األديب يركـز على تأثير الثقافـة يف خلـق االسـتجابة للأدب‬
‫لا أفلا َم‬‫يصـف دوگالس كـوان ‪ Douglas Cowan‬مث ً‬ ‫واألفلام‪ِ .‬‬
‫الرعـب بأهنـا «نتاجات املخـاوف االجتامعيـة‪ ،‬االنعكاسـات الفنية‬
‫‪14‬‬
‫متهيد‬

‫طيـف واسـ ٍع من املخـاوف التي هتجـس يف دواخلنا على الدوام»‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫لِ‬
‫أو كما يقـول يف موضـع آخـر واملعنـى واحـد « ُت َع ِّل ُمنـا ثقافتنا ]عرب‬
‫متنوعة ما الـذي جيب أن نخافـه‪ ،‬كام إهنا‪-‬‬ ‫ٍ‬ ‫بطرائـق‬
‫َ‬ ‫أفلام الرعـب[‬
‫ثقافتنـا ‪ -‬ومـن خالل طيف واسـع من املنتجـات الثقافيـة‪ِ ،‬‬
‫تعك ُس‬
‫املخـاوف التـي تُع ِّل ُمنا إياهـا»(‪.)2‬‬
‫َ‬ ‫وتعـزز تلكـم‬
‫ِّ‬
‫يعـزو سـتيفن برنـس ‪ Stephen Prince‬جاذبيـة جنـس أفلام‬
‫الرعـب أيضـ ًا إىل الثقافـة‪« :‬يمكـن رؤيـة أفلام الرعـب على أهنـا‬
‫تصويـر للديالكتـك بني األنظمـة اللغوية وتلك املفروضـة اجتامعي ًا‬ ‫ٌ‬
‫تصويـر الهنيـار هـذه األنظمـة‬ ‫ٌ‬ ‫حلفـظ االنتظـام يف املجتمـع‪ ،‬وكـذا‬
‫مـن خلال تناقضاهتـا الداخلية‪ ..‬وليسـت إسـقاط ًا عىل اجلنسـانية‬
‫املناطق‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الوحـش‬ ‫املكبوتـة أو عمليـات سـيكولوجية أخـرى‪ُ ،‬ي َم ِّث ُـل‬
‫املجهولـ َة التـي تقبـع على حـواف ال ُبنْيـات املألوفـة لالنتظـام‬
‫االجتامعـي»(‪.)3‬‬
‫فـروع جديـد ٌة يف دراسـة الطبيعـة البرشيـة منظـور ًا‬
‫ٌ‬ ‫تَطـرح‬
‫مسـتحدث ًا‪ .‬يلخص تيري بريهنـام ‪Terry Burnham‬وجـاي فيالن‬
‫«ص ِّم َمـت أدمغتنـا بفعـل التطور‬ ‫‪ُ Jay Phelan‬ل َّ‬
‫ـب األمـر بقوهلما‪ُ :‬‬
‫صـوب‬
‫َ‬ ‫أنفسـنا وعا َملنـا‪ ،‬علينـا ْ‬
‫أن نتجـه‬ ‫اجلينـي‪ ...‬ولكـي نفهـم َ‬
‫تشـارلز دارويـن‪ ،‬ال سـيگموند فرويـد»(‪ .)4‬بينما يشير جوزيـف‬
‫كل مـن النقـد الثقـايف والنقـد‬ ‫كارول ‪ Joseph Carroll‬إىل أمهيـة ٍّ‬
‫التطـوري‪« :‬يصر التطوريـون على أن اجلينـات تُك ِّب ُـل وت َُو ِّجـ ُه‬
‫السـلوك البشري‪ .‬وعلى اجلانـب املضـاد‪ ،‬يصر أنصـار مذهـب‬
‫متضمنـ ًة‬
‫َّ‬ ‫البنائويـة الثقافيـة ‪ cultural constructivism‬أن الثقافـة‪،‬‬
‫‪15‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫إن كال الزعمين صحيحان‪،‬‬ ‫ـت التجربـة البرشيـة‪َّ .‬‬


‫يف الفنـون‪َ ،‬تن َْح ُ‬
‫ً‬
‫خطـأ أهنما متنافيـان‪،‬‬ ‫لكـن بعضـ ًا مـن أنصـار املذهبين يعتقـدون‬
‫أن صحـة أحدمهـا تقتضي خطـأ اآلخـر»(‪.)5‬‬ ‫بمعنـى َّ‬
‫يف السـتينيات‪ ،‬بـدأت سلسـل ٌة مـن الكتـب واملقـاالت التـي‬
‫دارويـن بالظهـور‪ .‬وقـد قـام مؤلفوهـا بمـزج‬ ‫ِ‬ ‫تسـتلهم نظريـة‬
‫متنوعـة كالبيولوجيـا‪ ،‬علـم االجتماع‪ ،‬األنثروبولوجيـا‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫فـرو ٍع‬
‫ـميا بالبيولوجيـا‬
‫وعلـم النفـس لينبثـق بذلـك فرعـان جديـدان ُس ِّ‬
‫االجتامعية (السوسـيوبيولوجيا) وعلم النفـس التطوري‪ .‬يف وصفه‬
‫للسوسـيوبيولوجيا‪َ ،‬يتسـاءل جون ألكـوك ‪ John Alcock‬قائ ً‬
‫ال «ما‬
‫الـدور الـذي لعبـه االنتخـاب الطبيعي يف تشـكيل هـذا املجتمع أو‬
‫ذاك السـلوك االجتامعـي؟‪ ...‬هيـدف السوسـيوبيولوجيون إىل‬
‫معرفـة الغـرض التطـوري أو الوظيفـة التطوريـة للمجتمـع الـذي‬
‫عـرف موقـع الويـب اخلـاص بمركـز علـم النفـس‬ ‫يدرسـونه» ‪ُ . 6‬ي ِّ‬
‫( )‬

‫التطـوري يف جامعـة كاليفورنيـا‪ -‬سـانتا باربـارا هـذا الفـرع بأنـه‬


‫«يقـوم علم النفس التطـوري عىل مقدمة مفادهـا أن الدماغ البرشي‬
‫يتكـون مـن تشـكيلة كبيرة مـن األجهـزة احلوسـبية املتخصصـة‬
‫وظيف ًّيـا‪ ،‬التـي تطورت ِلَ ِّل املشـاكل التكيفية التي واجهها أسلافنا‬
‫األقدمـون بشـكل منتظـم»(‪ .)7‬قـام فـرع السوسـيوبيولوجيا أص ً‬
‫لا‬
‫على الدراسـات التـي تناولـت احليوانـات واحلشرات التـي ُتاثِل‬
‫ِ‬
‫سـلوكيات البشر من بعـض النواحـي‪ ،‬بينما يركِّز علم‬ ‫سـلوكياتا‬
‫ُ‬
‫املطورتني‪.‬‬
‫التطـوري على بنيـة الدمـاغ البشري وكيميائـه َّ‬
‫ُّ‬ ‫النفـس‬
‫خيتلـف الفرعـان على مسـتوى املنهجيـة‪ ،‬لكـن الكشـوفات‬
‫‪16‬‬
‫متهيد‬

‫كل منهما بخصوص السـلوك البرشي متشـاهب ٌة‬ ‫التـي متخض عنهـا ٌّ‬
‫مـن حيـث اجلوهـر‪ .‬حيـث يطرحـان أن التطـور قـد خلـق يف عقل‬
‫اجلنـس البشري ‪ Homo Sapiens‬اسـتجاب ًة جتاه السـلوك التكيفي‬
‫ألسلافنا األقدمين‪ ،‬السـلوك الـذي عـزز مـن فـرص بقائهـم‪.‬‬
‫وحيـث أن املتخصصين بعلـم النفـس التطـوري قـد كانـوا ذوي‬
‫البـاع األطـول يف تطويـع حقلهـم السـتخدامه يف التحليـل النقدي‬
‫لألفلام واألدب‪ ،‬فسأسـتخدم هـذا احلقـل على مسـتوى النتائـج‬
‫املشتركة بينه وبني السوسـيوبيولوجيا عند مناقشـة األعمال األدبية‬
‫النتائـج التي توصـل إليها احلقالن منظـور ًا جديد ًا‬‫ُ‬ ‫واألفلام‪ .‬تُقـدِّ م‬
‫نلتـذ باخلـوف اإلنـايب الـذي نجده يف‬ ‫لِ َف ْهـ ِم السـبب الـذي جيعلنـا ُّ‬
‫مشـاهدة أفالم الرعب‪ .‬يقـول ماتياس كاليسـن ‪Mathias Clasen‬‬
‫إن ا َملشـاهد املخيفـة يف األفلام أو النصـوص األدبيـة «تنجـح يف‬
‫املطـورة القديمـة وتعطيـل آليـات‬ ‫َّ‬ ‫اسـتهداف اآلليـات الدفاعيـة‬
‫الفـص الدماغـي قبـل اجلبهي‪ .‬بعبـارة أخـرى‪ ،‬يقـوم أدب الرعب‬
‫عـال يف الرتاكيب القديمـة للجهاز‬‫بإلقـاء سـلك ذي تيار كهربائـي ٍ‬
‫ٍّ‬
‫شـاهدين» ‪.‬‬
‫(‪)8‬‬ ‫العصبـي املركـزي للم ِ‬
‫ُ‬
‫باإلضافـة إىل نقد أفالم الرعب‪ ،‬فإن كشـوفات النظرية التطورية‬
‫تو ِّفـر منظور ًا خصبـ ًا للنقد السـينامئي واألديب عموم ًا‪ .‬يف السـنوات‬
‫األخيرة‪ ،‬قـام جوزيـف كارول‪ ،‬جوناثـان غوتشـال ‪Jonathan‬‬
‫‪ ،Gottschall‬ديفيـد سـلون ويلسـون ‪،David Sloan Wilson‬‬
‫ٍ‬
‫جبـارة لتطويـر‪ ،‬إن‬ ‫برايـان بويـد ‪ Brian Boyd‬وغريهـم بجهـود‬
‫صـح التعبير‪ ،‬وتكييـف االكتشـافات التطوريـة الداروينيـة لبنـاء‬
‫‪17‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬
‫ٍ‬
‫متامسـكة للنقـد التطـوري‪ .‬على بعـض املسـتويات‪ ،‬ربما‬ ‫ٍ‬
‫مدرسـة‬
‫يتعـارض عملهـم النقدي ومنظـوري اخلاص الذي سـميته بمنظور‬
‫نقـد الصفـات البدائيـة مـن جهـة‪ ،‬مـع منظـور النقـد الثقـايف على‬
‫يطوعـان النقـد الثقايف‪،‬‬ ‫اجلهـة األخـرى‪ ،‬ومع ذلـك َّ‬
‫فـإن منظورينا ِّ‬
‫بمعنـى إننـا نعتقد أن اهلمسـات اخلافتة ألسلافنا األقدمني تسـاهم‬
‫يف تشـكيل الثقافـة والـذوق الفنـي أصالً‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫«اعرف نفسك‪ ..‬العينة األمثل لدراسة الجنس البشري‬
‫ِ‬
‫هي الفرد»‬

‫كان هـذا االقتبـاس مـن قصيـدة اليكسـندر بـوب ‪Alexander‬‬


‫‪ Pope‬املعنونة «مقالة ٌ عن اإلنسـان ‪ »An Essay on Man‬املنشـورة‬
‫عـام ‪ 1734‬إحـدى املحـاوالت الكثيرة لتعريـف أنفسـنا‪ .‬وبالطبع‬
‫صى مـن املقـاالت عن هـذا املوضـوع‪ .‬وربام‬ ‫ِ‬
‫ـب عـد ٌد ال ُي َ‬ ‫فقـد كُت َ‬
‫َ‬
‫السـؤال ذاتـه‪،‬‬ ‫يتأمـل أحـدُ أقاربنـا مـن القـرود يف مـكان مـا اآلن‬
‫توصـل إىل صيغتـه أو صيغتها اخلاصـة من «أنا أفكـر‪ْ ،‬‬
‫إذن أنا‬ ‫وربما َّ‬
‫موجـود»‪ .‬لكـن وبحسـب ما نعرفـه حتـى اآلن‪ ،‬فإننا معشر البرش‬
‫نختلـف عـن باقي أنـواع احليوان يف قدرتنـا عىل طرح أسـئلة تتعلق‬
‫بطبيعتنـا نفسـها‪ ،‬بغـض النظـر عـن فشـلنا يف إجابة تلك األسـئلة‪.‬‬
‫صـدرت أغلـب تلـك املحـاوالت عـن فالسـفة أو الهوتيين‬ ‫ْ‬ ‫لقـد‬
‫ٍ‬
‫ثقافـة تقـدِّ م‬ ‫أو شـعراء وروائيين‪ ،‬كما أن األسـاطري اخلاصـة بـكل‬
‫تصورهـا اخلـاص عـن أصولنـا وطبيعتنا‪.‬‬
‫الكثير مـن أسـاطري اخللـق الطبيعـ َة البرشيـة واحلالـ َة‬
‫ُ‬ ‫ُصـو ُر‬
‫ت ِّ‬
‫البرشيـة بوصفهما هبوطـ ًا من اجلنـة حيث كانـت البراء ُة والنعيم‪.‬‬
‫‪18‬‬
‫متهيد‬

‫ُقسـم األسـطورة اإلغريقيـة انحطـاط الطبيعـة البرشيـة على ثالثة‬ ‫ت ِّ‬


‫عصـور‪ :‬مـن الذهـب إىل الفضـة إىل احلديـد‪ .‬وربما يمكـن رؤيـة‬
‫السـقوط كما يصفـه ِسـ ْفر التكويـن يف العهـد القديـم بما يف ذلـك‬
‫اخلطيئـة األصليـة وتوريثهـا عبر األجيـال املتعاقبة‪ ،‬عىل أنه تفسير‬
‫للقـدرة البرشيـة اهلائلـة على ممارسـة العنـف والوحشـية‪ .‬كال‪ ،‬ال‬
‫أعنـي هنـا أن الفكـرة الرئيسـة يف خطـاب احلركـة الرومانسـية –‬
‫ـم أن األصـل يف الطبيعـة البرشيـة هـو اخلير حتـى تفسـدها‬ ‫أي َز ْع ُ‬‫ْ‬
‫احلضـارة قـد ماتـت‪ ،‬لكـن احلركة طـرأت عىل هـذا اجلـدل مؤخر ًا‬
‫نسـب ًّيا‪ .‬على أن النقطـة املفصليـة يف معظـم األسـاطري والديانـات‪،‬‬
‫هـي إننـا‪ ،‬وبغض النظـر عن املسـافة التـي قطعناها يف سـقوطنا من‬
‫للخ ْلق اإلهلي‪ .‬ويف املسـيحية‪،‬‬ ‫خـاص َ‬
‫ٌّ‬ ‫نتاج‬
‫حالـة البراءة األصليـة‪ٌ ،‬‬
‫ِ‬
‫رهـان النَ ْظم»‪.‬‬ ‫كان هـذا االعتقـاد املريـح يقـوم على حجـة « ُب‬
‫يف كتابـه «الالهـوت الطبيعـي ‪ »Natural Theology‬الصـادر‬
‫عـام ‪َ ،1802‬ط َـر َح ويليـام بيلي ‪َ William Paley‬مـاز ًا لتفسير‬
‫ـف سـاع ًة ُم َص َّمم ًة مـن قبل ِح َـر ٍّيف ألداء‬
‫هـذا املفهـوم‪ .‬حيـث َو َص َ‬
‫عملهـا‪« :‬يف احلقيقـة يتطلـب األمر فحصـ ًا هلـذه األداة‪ ،‬وربام بعض‬
‫املعرفة املسـبقة أيضـ ًا حول املوضـوع‪ ،‬إلدراكه وفهمـه‪ ،‬وحيث أننا‬
‫وفهمنـاه‪ ،‬فإن الدليـل أصبح قاطع ًا بحسـب‬ ‫لا ِ‬ ‫قـد الح ْظنـا هذا فع ً‬
‫عـت من قبل صانـع»(‪ .)9‬وهكذا‬ ‫مـا نعتقـد؛ ال بد أن السـاعة قد ُصنِ ْ‬
‫العـال – بما يف ذلـك الرقصـة الكونيـة التـي تؤدهيـا‬ ‫َ‬ ‫فـإن تناظريـة‬
‫كل نو ٍع ٍّ‬
‫حي‬ ‫الكواكـب‪ ،‬التـوازن الطبيعـي وا ُملال َء َمة التي تبدو على ِّ‬
‫مصمم‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫خالـق‬ ‫ُربهـن‪ ،‬بحسـب بيلي‪ ،‬عىل وجـود‬ ‫ملوطنـه وبيئتـه ت ِ‬
‫ِّ‬
‫‪19‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫«االنتخاب الطبيعي هو صانع الساعات األعمى»‬


‫دشـن تشـارلز ِ‬
‫داروين‬ ‫بصـدور كتابـه أصل األنـواع عام ‪َّ ،1859‬‬
‫بعـد ًا جديـد ًا يف فهـم الطبيعـة البرشيـة‪ ،‬بعد ًا يقـوم عىل ِ‬
‫الع ْلـم بدالً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫البرش‪ ،‬يقول دارويـن‪ ،‬نتيجة لتكيف‬
‫تطـور ُ‬
‫من الفلسـفة والدين‪ .‬إذ َّ‬
‫القوانين الصارمـة لالنتخـاب‬
‫ُ‬ ‫نوعنـا مـع البيئـة‪ .‬حيـث نحتـت‬
‫فعلـت مـع مجيـع األنـواع‬
‫ْ‬ ‫الطبيعـي وبقـاء األصلـح أجسـا َمنا كما‬
‫احليـة األخـرى‪ .‬ليس فهـم لب نظريـة داروين عسير ًا‪ .‬فهـي تعني‬
‫ببسـاطة أن األنـواع واألفـراد ضمـن ِّ‬
‫كل نـو ٍع يتكيفون مـع بيئاهتم‬
‫تبعـ ًا للصفـات البقائية األفضـل‪ ،‬من ثـم تتطور األنـواع عن طريق‬
‫االنتخـاب الطبيعي‪ ،‬بوسـاطة التـزاوج بني األفراد ضمـن كل نوع‪.‬‬
‫وبعبـارة أخـرى‪ ،‬فـإن األفـراد واألنـواع التـي تفتقـر إىل الصفـات‬
‫املطلوبـة للبقـاء‪َ ،‬تَّحـي مـن على وجـه البسـيطة‪ .‬تلخـص دينيس‬
‫الطبيعـي‬
‫ُّ‬ ‫كومينـز ‪ Denise Cummins‬العمليـة بإجيـاز‪« :‬االنتقـاء‬
‫جينـات األفـراد الذيـن يعيشـون حتـى‬
‫ُ‬ ‫عمليـ ٌة بسـيطة‪ :‬إذ حتافِـظ‬
‫قيامهـم بالتكاثـر‪ ،‬عىل وجودهـا ضمن احلوض اجلينـي‪ .‬أما جينات‬
‫أولئـك الذيـن ال يتكاثـرون‪ ،‬فال تبقـى ضمن احلـوض اجليني»(‪.)10‬‬
‫ِ‬
‫دارويـن طبيعـ ًة‬ ‫ـو ُر تشـارلز‬
‫يف كتـاب أصـل األنـواع‪ُ ،‬ي َص ِّ‬
‫ٍ‬
‫نبـات‬ ‫«ضفـة متشـابكة»‪ ،‬حيـث حيـاول كل‬ ‫ٍ‬ ‫وحشـي ًة بوصفـه لــ‬
‫فيهـا أن خينـق النباتـات األخـرى كيما يسـتطيع هـو وذريتـه البقاء‪.‬‬
‫والنتيجـة أن بعـض النباتـات ينجـح يف البقـاء‪ ،‬فيما يفشـل بعضها‬
‫اآلخـر‪ .‬يف الطبيعـة‪ ،‬فقط األنـواع التي متتلك الصفـات البدنية التي‬
‫متكِّنهـا مـن التكيـف ومتريـر صفاهتـا الثمينـة إىل ذريتهـا مـن خالل‬
‫‪20‬‬
‫متهيد‬

‫االنتخـاب طبيعـي تنجـح يف البقـاء‪ .‬ويلخـص ريتشـارد داوكنـز‬


‫‪ Richard Dawkins‬هـذا األمـر يف معـرض رده على ويليـام بيلي‪:‬‬
‫«االنتخـاب الطبيعـي هـو صانـع السـاعات األعمـى‪ ،‬أعمـى ألنه‬
‫ال يـرى املسـتقبل‪ ،‬وال خيطـط للحصـول على نتائـج بعينهـا‪ ،‬ومـا‬
‫النتائـج احليـة لالنتخاب‬
‫ُ‬ ‫مـن غـرض يف خميلتـه‪ .‬ومع ذلـك تبهرنـا‬
‫ي َّيـل إلينـا بنـا ًء على التصميـم الظاهـر عليهـا أن‬
‫الطبيعـي حتـى ُ َ‬
‫بدقـة»(‪.)11‬‬ ‫ـط لـكل ٍ‬
‫يشء ِ‬ ‫ٍ‬
‫سـاعات حمرتفـ ًا خ َّط َ‬ ‫صانـع‬ ‫وراءهـا‬
‫َ‬
‫لقـد تسـببت نظريـة دارويـن والتفسيرات الف َّظـة هلا‪ ،‬كتفسير‬
‫بنفـور روحـي على الـدوام‪ .‬ذلـك إهنـا ُ ِ‬
‫ت ُّـل‬ ‫ٍ‬ ‫ريتشـارد داوكنـز‪،‬‬
‫ٍّ‬
‫حمـل مفهوم الـرب الراعي يف‬ ‫االنتخـاب الطبيعـي وقواه العشـوائي َة َّ‬
‫عمليـة خلـق األنواع‪ .‬سـبق أن تنبـأ الشـاعر االنجليزي مـن احلقبة‬
‫الفيكتوريـة الفـرد تينيسـون ‪ Alfred Tennyson‬باخلـواء الروحـي‬
‫ٍ‬
‫بحزن‬ ‫هلـذه الرؤيـة يف قصيدته «‪ »In Memoriam‬عام ‪ 1849‬مشير ًا‬
‫أنيابـا وخمال ُبهـا بالـدم»‪ .‬كذلـك أفصـح‬ ‫ِ‬
‫إىل «الطبيعـة‪ ،‬امللطخـة ُ‬
‫سـتيفن كريـن ‪ Stephen Crane‬يف قصتـه القصيرة املنشـورة عـام‬
‫‪ «The Open Boat» 1897‬عـن اخلُسران الذي يشـعر به الكثريون‪،‬‬
‫حيـث وصـف على لسـان الـراوي َغ َـر َق املركـب البحـري األم ما‬
‫نجـاة صغير‬ ‫ٍ‬ ‫جعلـه ينحشر مـع ثالثـة رجـال آخريـن يف قـارب‬
‫ِ‬
‫أي‬‫يتقاذفـه عبـاب البحر الصاخب‪« :‬عندمـا ال تعري الطبيع ُة إنسـان ًا َّ‬
‫أمهيـة‪ ،‬عندمـا ال تشـعر الطبيعـة أن لدهيـا واجبـ ًا يف محايتـه‪ ،‬يشـعر‬
‫املـرء أوالً برغبـة بـأن يرمـي احلجـارة على املعبـد‪ ،‬ثـم يـدرك‪ ،‬ويا‬
‫أن ليـس ثمـة حجـارة‪ ،‬وال معابـد أصلاً»(‪.)12‬‬ ‫للفداحـة‪ْ ،‬‬
‫‪21‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫دارويـن أن أسلافنا َل ْ يعيشـوا يف بسـتان عـدن حيـث‬ ‫طـرح ِ‬


‫ٍ‬
‫حيوان‬ ‫ـمك البحـر وعلى طير السماء وعلى كل‬ ‫تسـلطوا «على َس َ‬
‫يـدب على األرض» كما يزعـم ِسـ ْفر التكوين‪ .‬بـل كانوا جمـرد نو ٍع‬ ‫ُّ‬
‫آخـر يف بسـتان الطبيعـة‪ .‬ويمكـن للمرء أن يتأمـل حيوانـ ًا كالزرافة‬
‫دارويـن‪ْ .‬يؤ ِمـن املحافظون‬ ‫لا لكـي يتسـنى له فهـم ما رمى إليـه ِ‬ ‫مث ً‬
‫أن‬ ‫مـن املسـيحيني واملسـلمني واليهـود – اسـتناد ًا إىل برهـان النَ ْظ ِم َّ‬
‫يناسـب‬ ‫طويلة لكي ِ‬‫ٍ‬ ‫الـرب أنعـم عىل هـذا احليـوان برقبـة وسـيقان‬
‫مكانـه يف بيئتـه‪ ،‬بحيث يسـتطيع أكل أوراق الشـجر العاليـة التي ال‬
‫ـح أجراه‬ ‫مس ٌ‬‫يسـتطيع غيره مـن احليوانـات الوصـول إليها‪ .‬أظهـر ْ‬
‫مركـز بيـو لألبحـاث ‪ Pew Research Center‬أن ُث ُلث األمريكيني‬
‫يؤمنـون بقصـة اخللـق التوراتيـة وبأن ُعمـر األرض هـو ‪ 6000‬عام‬
‫فقـط‪ .‬بينما يؤمـن ‪ % 57‬منهـم أن البشر «كانـوا على صورهتـم‬
‫احلاليـة عىل الـدوام»(‪ .)13‬تتبنى نظريـ ُة التطور رؤيـ ًة أخرى‪ .‬فخالل‬
‫آالف السـنني‪ُ ،‬ينَ ِّظـر دارويـن‪ ،‬فشـلت ماليين األنـواع يف امتحـان‬
‫التكيـف‪ .‬بينما نجحـت أخـرى يف البقـاء والتطور بسـبب امتالكها‬
‫لبعـض امليـزات التكيفيـة التي حابتهـا البيئـة‪ .‬فمثالً‪ ،‬ربما كان نوع‬
‫الزرافـة أحـد أنـواع الظبـاء يف مراعـي إفريقيـا منـذ دهـور خلـت‪.‬‬
‫أي‬ ‫تنم ُّ‬
‫جفاف شـديدٌ ومل ُ‬
‫ٌ‬ ‫وطبقـ ًا للسـيناريو الدارويني‪ ،‬عندما َّ‬
‫حـل‬
‫أعشـاب على األرض‪ ،‬اضطـرت الظبـاء لرعـي أوراق األشـجار‪.‬‬
‫بأرجـل‬‫ٍ‬ ‫وبالطبـع مل تتمكـن مـن ذلـك إال الظبـاء التـي متتعـت‬
‫ارتفاعات‬ ‫ٍ‬ ‫وأعنـاق أطـول‪ .‬وكانـت هـذه امليـزة – أي الوصـول إىل‬‫ٍ‬
‫أعلى هـي امليـزة التكيفيـة يف هـذه احلالـة‪ ،‬مما مكـن هـؤالء األفراد‬
‫هلكت الظبـاء التي مل تتمكن مـن الوصول‬ ‫ْ‬ ‫حتديـد ًا مـن البقاء‪ ،‬بينما‬
‫‪22‬‬
‫متهيد‬

‫مررت الظبـاء ذات األعنـاق الطويلة‬


‫ْ‬ ‫إىل أوراق األشـجار‪ .‬مـن ثـم‬
‫ميزهتـا املفيـدة إىل ذريتهـا عـن طريق االنتخـاب الطبيعي‪ ،‬بوسـاطة‬
‫التـزاوج مع أفـراد أخـرى تتمتع بذات امليـزة‪ .‬ومع انحسـار أوراق‬
‫وأرجلاً‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ْـج إال األفـراد األطـول أعناقـ ًا‬
‫الشـجر املنخفضـة‪ ،‬مل َين ُ‬
‫هكـذا وخلال بضـع مئـات مـن اآلالف مـن السـنني‪ ،‬ظهـرت‬
‫الزرافـة كنـو ٍع جديد‪ ،‬نتيجـة لقوى البيئـة والتكيف‪ ،‬بقـاء األصلح‬
‫واالنتخـاب الطبيعي‪.‬‬
‫يف معـرض رشحـه لعمليـة التطـور‪ ،‬يسـتعيدُ ماثيـو ريـديل‬
‫‪ Matthew Ridley‬عبـارة حلكيم العصر الفيكتوري توماس هنري‬
‫هكسلي ‪ ،Thomas Henry Huxley‬حيـث يقـول ريـديل إن احلياة‬
‫ُ‬
‫تشترط قوانينُها أنك إذا فـزت بمباراة‬ ‫«تشـبه مسـابق ًة يف الشـطرنج‬
‫ٍ‬
‫بيـدق واحـد»(‪.)14‬‬ ‫ِ‬
‫بنقـص‬ ‫فسـيتعني عليـك أن تبـدأ املبـاراة التاليـة‬
‫ليسـت العمليـة هبذه البسـاطة الشـديدة بالطبع‪ .‬إذ يسـتطرد ريديل‪:‬‬
‫اجلنـس الطفـرات الوراثيـ َة معـ ًا‪ ،‬ويقـوم بإعـادة ترتيـب‬ ‫ُ‬ ‫ـع‬
‫«ي ِّم ُ‬
‫َُ‬
‫جديـدة باسـتمرار‪ ،‬حتـى ينتـج عـن ذلـك‬ ‫ٍ‬ ‫اجلينـات يف تشـكيالت‬
‫األفـراد الذين يمتلكـون التشـكيالت اجلينية األكثر مالءمـة للبيئة‪.‬‬
‫لا أعنـاق طويلـة‪،‬‬ ‫فربما كان لبعـض أفـراد أسلاف الزرافـات مث ً‬
‫ٌ‬
‫أرجـل طويلة‪ .‬وهكـذا قاد التـزاوج بينهام إىل‬ ‫وكان لبعضهـا اآلخـر‬
‫إنتـاج أفـراد أكثـر مالءمـة للبيئـة مقارنـة بكل واحـد مـن الوالدين‬
‫عىل حـدة»(‪.)15‬‬
‫لقـد كانـت نظريـة التطـور‪ ،‬عندمـا ُط ِر ْ‬
‫حـت بصيغتهـا األوىل‪،‬‬
‫معنيـ ًة بتفسير التطـور يف الصفـات اجلسـمية لألنواع‪ .‬ومـع ذلك مل‬
‫‪23‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫دور يف النواحـي‬ ‫ي ُفـت دارويـن أن يتوقـع أن يكـون للتطـور أيضـ ًا ٌ‬


‫غير اجلسـمية لألنـواع احليـة‪ .‬فقـد كتـب يف كتابـه «التعبير عـن‬
‫االنفعـاالت عنـد اإلنسـان واحليـوان ‪The Expression of‬‬
‫وجـدت صعوبـ ًة‬‫ُ‬ ‫‪« :»Emotion in Man and Animals‬كثير ًا مـا‬
‫ِ‬
‫ملصطلحـات اإلرادة‪ ،‬الوعـي‪ ،‬والنيـة‪.‬‬ ‫يف االسـتخدام الصائـب‬
‫فاألفعـال التـي تبـدأ إراديـ ًة رسعـان مـا تتحـول إىل عـادات حتـى‬
‫تصبـح قابلـ ًة للتوريـث أخري ًا‪ ،‬من ثـم يصبح ممكن ًا القيام هبا بشـكل‬
‫مضـاد للإرادة حتـى»(‪ .)16‬لكنـه مل ُيعالِـج هـذه الفكـرة عميقـ ًا‪.‬‬
‫ٍ‬

‫ْ‬
‫«قبل أن يرفع الستار‪ ،‬وقبل أن يبدأ العرض‪ ،‬كانت المنصة‬
‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ًّ‬ ‫ُ َ َّ ً‬
‫معدة جزئيا‪ ،‬وكان جزء كبير من السيناريو مكتوبا»‬

‫التطور‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الداروين ُّيون اجلدد من فرضيـة مفادها أنه إذا كان‬ ‫ينطلـق‬
‫أن سـلوكيات أسلافنا البدائيني‬ ‫لـق هيأتنا اجلسمانية‪ ،‬فلا بد َّ‬
‫قـد َخ َ‬
‫التـي عـززت مـن فـرص بقائهـم وتكيفهـم مـن خلال االنتخاب‬
‫دخلـت ضمـن إرثنـا اجليني عبر مئات آالف السـنني‬ ‫ْ‬ ‫الطبيعـي قـد‬
‫مـن التطـور‪ ،‬وال بـد إهنا‪ ،‬على األقـل‪َ ،‬تؤ ِّثر على أفعالنـا‪ ،‬قراراتنا‪،‬‬
‫كيل‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫وأفكارنـا يف وقتنـا احلـارض‪ ،‬ولـو إهنا ال تتحكـم هبا عىل نحـو ٍّ‬
‫لا عنـد روبـرت أردري ‪Robert Ardrey‬‬ ‫نجـد هـذه األفـكار مث ً‬
‫يف كتابـه ‪ African Genesis‬الصـادر عـام ‪ ،1961‬كونـراد لورنـز‬
‫‪ Konrad Lorenz‬يف كتابـه ‪ On Aggression‬الصـادر عـام ‪،1963‬‬
‫كما يف مقالة ويليـام دي‪ .‬هاميلتـون ‪ William D. Hamilton‬ذائعة‬
‫الصيـت ‪ The Genetical Evolution of Social Behavior‬وكـذا‬
‫يف مقالـة جـون مينـارد سـميث ‪ John Maynard Smith‬الشـبيهة‬
‫‪24‬‬
‫متهيد‬

‫هبـا ‪ ،Group Selection and Kin Selection‬وكلتامها منشـورتان‬


‫كتـاب روبـرت أردري ‪The‬‬ ‫ُ‬ ‫أثـار‬
‫يف دوريـة ‪ Nature‬عـام ‪َ .1964‬‬
‫‪ Territorial Imperative‬الصـادر عـام ‪ 1966‬غضـب املحافظين‬
‫الداروينِ ِّيـة‬
‫ِ‬ ‫والليرباليين معـ ًا‪ .‬أمـا ديزمونـد موريـس فقـد قـدَّ م‬
‫نطـاق أوسـع بكتابـه الشـهري القـرد العـاري عـام‬ ‫ٍ‬ ‫اجلديـدة على‬
‫أوج ُه مع صـدور كتـاب إدوارد أوزبورن‬ ‫‪ .1967‬حتـى بلـغ اجلـدل َّ‬
‫ويلسـون ‪ Sociobiology‬عـام ‪ ،1975‬والـذي تبعـه بعـد ثلاث‬
‫سـنوات بكتـاب آخـر مبسـط بعنـوان ‪ ،On Human Nature‬ومـا‬ ‫ٍ‬
‫زال اجلـدل حمتدمـ ًا حتـى اليوم‪.‬‬
‫ُد ِّشـ َن حقال السوسـيوبيولوجيا وعلم النفس التطـوري انطالق ًا‬
‫أن البرش جز ٌء من مملكـة احليوان‪ ،‬وإهنـم خضعوا يف‬ ‫مـن تشـخيص َّ‬
‫تطورهـم لـذات القوانني التـي خضعت هلـا مجيع األنـواع األخرى‬
‫التـي متتلـك الغرائـز‪ .‬ففـي النهايـة‪ ،‬ما الـذي جيعـل البرش اسـتثنا ًء‬
‫مـن هـذه القاعـدة؟ خيتلـف املتخصصـون بعلـم النفـس التطوري‬
‫عـن املتخصصين بالسوسـيوبيولوجيا على مسـتوى املنهجيـة‪،‬‬
‫مركـزي‪ :‬أن أدمغتنـا َتمـل‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫افتراض‬ ‫لكـن الطرفين يتفقـان على‬
‫توجيهـات سـلوكي ًة ورثناها جين ًّيـا من التجارب التكيفية ألسلافنا‬ ‫ٍ‬
‫ـم أوسـع لطبيعتنـا‬ ‫األقدمين‪ .‬ولـكال احلقلين هـدف مشترك‪َ :‬ف ْه ٌ‬
‫البرشيـة وللسـلوك البشري كما ورثنـاه مـن أسلافنا البدائيين‪.‬‬
‫ويوجـز إدوارد أوزبـورن ويلسـون نظريـة احلقلين قائلاً‪« :‬ق ْبل أن‬
‫يرفـع السـتار‪ ،‬وقبل أن يبـدأ العـرض‪ ،‬كانت املنصـة ُم َعـدَّ ًة جزئ ًّيا‪،‬‬
‫كبير من السـيناريو مكتوبـ ًا»(‪.)17‬‬
‫ٌ‬ ‫وكان جـز ٌء‬
‫‪25‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫ْ‬
‫إذن‪ ،‬فعلـم النفـس التطـوري والسوسـيوبيولوجيا مهـا امتـدا ٌد‬
‫الكتشـافات ِ‬
‫دارويـن‪ .‬أال يمكـن أن يكـون بقاء األصلـح واالنتقاء‬
‫الطبيعـي للصفـات التكيفيـة‪َ ،‬يقترح احلقلان‪ ،‬يفعلان أكثـر مـن‬
‫ٍ‬
‫زرافـات بأعنـاق طويلـة‪ ،‬أكثـر مـن جمـرد التأثير يف‬ ‫جمـرد خلـق‬
‫التكيف مـع البيئة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫اهليـأة اجلسـمية للحيـوان؟ أال يمكن أن َيشـمل‬
‫َ‬
‫األنماط السـلوكية لألنـواع‪ ،‬بما يف‬ ‫باإلضافـة إىل اهليـأة اجلسـمية‪،‬‬
‫ذلـك األنماط السـلوكية اخلاصـة بنـا نحـن البشر؟ أال يمكـن أن‬
‫ٍ‬
‫درجة مـا‪ ،‬خاضعـ ًا لذات‬ ‫يكـون اجلنـس البشري‪ ،‬على األقـل إىل‬
‫القوانين التطوريـة التي خلقت السـلوكيات الغريزيـة التكيفية عند‬
‫مجيـع األنـواع األخرى‪ ،‬مـن أنامط اهلجـرة‪ ،‬إىل الدفاع عـن اإلقليم‪،‬‬
‫وصـوالً إىل طقـوس التـزاوج؟ إن الطـرح الرئيـس هلـذا الكتـاب‬
‫هو إن السـلوكيات التكيفيـة ‪ -‬كاإلقليميـة ‪ ،territoriality‬ال َق َب ِل َّية‪،‬‬
‫التـزاوج‪ ،‬اخلوف من املفرتسين‪ ،‬االسـتحالة ‪،ASSIMILATION‬‬
‫مكنـت أسلافنا البدائيين مـن‬
‫ْ‬ ‫واالرتيـاب أو كـره اآلخـر‪ -‬التـي‬
‫البقـاء ما زالت موجـود ًة ضمن اإلرث اجليني لنوعنـا تنادينا هبمس‬
‫مؤ ِّث َـر ًة على اسـتجابتنا جتـاه التمثلات‬ ‫ٍ‬
‫خافـت يف أعماق عقولنـا‪َ ،‬‬
‫اخلالـدة ا ُمل َض َّمنـة يف األفلام والروايـات‪َ .‬يكتـب إدوارد أوزبـورن‬
‫ٍ‬
‫متفاوتة يف‬ ‫ويلسـون قائ ً‬
‫لا «ينبـع وحـي الفن الـذي ينـز بدرجـات‬
‫عقـول مجيـع البشر مـن اآلبـار االرتوازيـة للطبيعـة البرشية‪...‬مـا‬
‫ـس حتى أعظم األعمال الفنية باالسـتعانة‬ ‫يعنـي أنه يمكـن فهم ُأ ُس ِ‬
‫تطـورت بيولوج ًّيا‬
‫ْ‬ ‫بمعرفـة القواعد فـوق اجلينيـة ‪ epigenetic‬التي‬
‫وجهـت إنتاج هـذه األعمال الفنيـة»(‪.)18‬‬
‫ْ‬ ‫ومن ثـم‬
‫‪26‬‬
‫متهيد‬

‫اآلالم‬
‫ِ‬ ‫«من أشد ما تتعرض له الطبيعة البشرية من‬
‫ُ‬
‫(‪)19‬‬
‫جديدة»‬
‫ٍ‬ ‫فكرة‬
‫ٍ‬ ‫األلم الناتج عن‬
‫أسـس اعتباطية‪-‬‬ ‫ٍ‬ ‫قسـم البيولوجيـون التطوريـون –على‬ ‫ربما ُي َّ‬
‫جل ْم َعويـون‬ ‫على معسـكرين‪ :‬أنصـار التكيـف ‪ adaptationists‬وا َ‬
‫‪ .pluralists‬حيـث خيتلـف الطرفـان على درجـة تأثير التكيـف يف‬
‫تطـور اهليـأة اجلسـمية لألنـواع‪ ،‬كما على درجـة تأثيره يف التطـور‬
‫البيولوجـي للطبيعـة البرشيـة‪ .‬ومتيـل رؤى أنصـار التكيـف ألن‬
‫حلت َْم ِو َّيـة ‪ .determinism‬كما يف هـذا االقتباس‬ ‫تنتمـي إىل مذهـب ا َ‬
‫«حافظـت جيناتنـا على‬ ‫ْ‬ ‫الشـهري عـن أحدهـم‪ ،‬ريتشـارد داوكنـز‪:‬‬
‫بقائهـا‪ ،‬ملاليين السـنني يف بعـض احلـاالت‪ ،‬كما حيافـظ رجـال‬
‫عـالٍ يتسـم‬ ‫َ‬ ‫عصابـات شـيكاگو الناجحـون على حياهتـم‪ ،‬يف‬
‫ٍ‬
‫صفـات ُم َع َّينَـة يف‬ ‫بالتنافسـية الشـديدة‪ .‬هـذا يسـتتبع ْ‬
‫إذن أن نتوقـع‬
‫جيناتنـا‪ .‬وأقـول إن إحـدى أهم الصفـات التـي ُيت ََو َّقـع أن يمتلكها‬
‫ناجـح مـا‪ ،‬هـي األنانيـة الصارمـة يف َخ ْل ِقـه للسـلوك الـذي‬ ‫ٌ‬ ‫جين‬
‫ٌ‬
‫ِ‬
‫يضمـن بقـاءه ومتريـره إىل اجليـل التـايل»(‪ .)20‬بينما تُفصـح كتابـات‬
‫جـاي گولـد ‪ Jay Gould‬عـن مذهـب اجلمعويـة يف أنقـى صـوره‪.‬‬
‫حيـث يؤكـد گولـد أن التطـور يشـتمل على عوامـل عديـدة‪ ،‬وإنه‬
‫ـت الطبيعـة البرشية‪ .‬يتخـذ دانييل‬ ‫التكيـف قد ن ََح َ‬
‫ُ‬ ‫ـك أن يكـون‬ ‫َي ُش ُّ‬
‫دينـت ‪ Daniel Dennett‬موضعـ ًا وسـط ًا بني الطرفني‪ .‬حيث يشير‬
‫إىل إن القيـود البيئيـة على البشر ‪ -‬بوصفهـم بنـا ًة للثقافـة ‪ -‬تبـدو‬
‫أقـوى مـن مثيالهتـا عنـد معظـم األنـواع احليوانيـة األخـرى‪ ،‬ومع‬
‫ٍ‬
‫بشـكل مـا(‪.)21‬‬ ‫أن للتكيـف تأثير ًا علينا‬
‫ذلـك ال بـد َّ‬
‫مـع ذلـك‪ ،‬يتفـق التكيفيـون مـع معظـم اجلمعويين على‬
‫‪27‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫الفرضيـة األساسـية التـي سـنعاجلها يف هـذا الكتـاب‪ :‬وهـي إن‬


‫ٍ‬
‫بدرجـة أو بأخرى‪ ،‬يف‬ ‫االستراتيجيات التكيفية ألسلافنا موجودةٌ‪،‬‬
‫هيـأة َت ُّث ٍ‬
‫لات َتؤ ِّثر عىل سـلوكنا‪ .‬يقتيض هذا‬ ‫ِ‬ ‫عقولنـا الالواعيـة عىل‬
‫َ‬
‫أن اسـتجابتنا لألفلام وللأدب إنما هـي جـز ٌء مـن هذا السـلوك‪.‬‬ ‫َّ‬
‫اخللاف‬
‫ُ‬ ‫تكتـب جانيـت ريتشـاردز ‪« :Janet Richards‬ال يتعلـق‬
‫بين ]املتخصصين بعلـم النفـس التطـوري والسوسـيوبيولوجيا[‬ ‫َ‬
‫مـن جهـة واملتخصصني بعلـوم االجتامع القياسـية مـن جهة أخرى‬
‫تأثير على طبيعتنا‪ ،‬بـل يتعلق أساسـ ًا بمقـدار ما‬
‫ٌ‬ ‫بما إذا كان للبيئـة‬
‫يسـاعد عىل تِبيـان كيف حيدث‬
‫ِ‬ ‫يمكـن لِ َف ْهـ ِم جذورنـا التطوريـة أن‬
‫هذا ودرجـة تأثيره»(‪.)22‬‬
‫أنـاس أكاديميـون‪ ،‬مـن‬ ‫ٌ‬ ‫إن علماء التطـور‪ ،‬بعـد كل يشء‪ ،‬هـم‬
‫ثـم فإهنم عرضـ ٌة ملا سماه صامويـل جونسـون ‪Samuel Johnson‬‬
‫الشراح»‪ ،‬والذي وصفـه بأنه‪:‬‬ ‫يف القـرن الثامـن عرش بــ «تعصـب ُ َّ‬
‫نزاعـات حول القضايـا التي يتخصص هبـا األكاديميـون كل ًّيا‪ ،‬بينام‬
‫ٌ‬
‫ـت النتائج‬ ‫ال هتـم العامـة مـن النـاس إال قليلاً‪ .‬وهكذا فقـد ِ َ‬
‫هوج ْ‬
‫خـرج هبا حقلا علـم النفـس التطـوري والسوسـيوبيولوجيا‬ ‫َ‬ ‫التـي‬
‫حقـول أخـرى‪ .‬فقـد‬ ‫ٍ‬ ‫بحـدَّ ٍة مـن ِق َبـل أكاديميين متخصصين يف‬
‫رجعي‬
‫ٌّ‬ ‫تربيـر‬
‫ٌ‬ ‫لا َّ‬
‫أن هـذه النتائـج مـا هـي إال‬ ‫َـب جـاي گولـد مث ً‬
‫َكت َ‬
‫جهة أخرى‪ ،‬سـبب ًا آخر‬ ‫للعنرصيـة‪ .‬بينما يقرتح دانييـل دينيت‪ ،‬مـن ٍ‬
‫هلـذه العدائيـة يف األروقـة األكاديمية‪« :‬اليـوم‪ ،‬مل َي ُعـد التهديدُ الذي‬
‫توجهـه نظريـة التطـور مقتصر ًا على تقسـيامت أرسـطو القديمـة‬
‫للمعرفـة‪ ،‬بـل أصبـح متدُّ ُدهـا يف مجيـع احلقـول خطـر ًا حقيق ًّيـا عىل‬
‫‪28‬‬
‫متهيد‬
‫ٍ‬
‫تقسـيامت ُم َسـ َّل ٍم هبا العلوم احلديثـة أيض ًا»(‪ .)23‬يف جامعـة هارفارد‪،‬‬
‫اعتصـم طلبـة أمـام مكتـب الربوفسـور إدوارد أوزبورن ويلسـون‬
‫ين – عبر مكبرات الصـوت بإقالتـه‪ ،‬وحـاول آخـرون‬ ‫مطالِبِ َ‬
‫التشـويش على كالمـه بالصراخ العـايل يف أثنـاء تكلمـه يف عـدة‬
‫مؤمتـرات علميـة (وصـل األمـر حـدَّ إلقـاء املـاء املثلج عليـه)‪ ،‬كل‬ ‫ٍ‬
‫ذلـك ألنـه مل يتفق مـع الرؤية القائلـة إن املجتمع فقط هو ما يشـكل‬
‫ودخلـت جملـة ‪The New‬‬ ‫ْ‬ ‫وينحـت الطبيعـة والسـلوك البرشيين‪.‬‬
‫ٍ ِ‬
‫ُشر فيهـا عـام‬ ‫الصراع أيضـ ًا بمقـال ن َ‬
‫َ‬ ‫‪York Review of books‬‬
‫‪ 1975‬تعليقـ ًا على كتـاب ويلسـون ‪« :On Human Nature‬نعتقـد‬
‫كتـاب ويلسـون األخير[ ليسـت‬ ‫ُ‬ ‫أن املعلومـات ]التـي يتضمنهـا‬
‫وإن املقاربة التي‬ ‫أمهيـة كبرية يف مـا خيص السـلوك البشري‪َّ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫بـذات‬
‫فترض فيهـا املوضوعيـ َة والعلميـة‪ُ ،‬تفـي‬ ‫ينتهجهـا ويلسـون‪ ،‬و َي ِ‬
‫وراءهـا يف الواقـع آرا ًء سياسـية‪ .‬لذا فـإن الكتاب ال ُيقـدِّ م إال دفاع ًا‬
‫آخـر عـن احلـال الراهنـة لألمـور‪ ،‬بوصفهـا –احلـال نتيجـة حتمية‬ ‫َ‬
‫للطبيعة البرشيـة»(‪.)24‬‬
‫إن العدائيـ َة الشـديدة جتـاه الداروينيـة اجلديـدة هـي نتيجـ ٌة‬
‫َّ‬
‫لتهديدهـا لالفتراض الـذي مفـاده أن للجنس البرشي عـدد ًا قلي ً‬
‫ال‬
‫ـف عنها‪.‬‬ ‫جـد ًا مـن الغرائز مقارنـة بغريه مـن احليوانـات‪ ،‬وإنه ِ‬
‫خمتل ٌ‬
‫صـاغ جون تـويب ‪ John Tooby‬وليـدا كوزمـدز ‪Leda Cosmides‬‬
‫نمـوذج العلـوم االجتامعيـة‬
‫ُ‬ ‫اسم ًا هلـذا االفتراض أو املنظـور‪:‬‬
‫القياسـية ‪ the Standard Social Science Model‬املعـروف‬
‫نموذج العلـوم االجتامعية القياسـية‬
‫ُ‬ ‫اختصـار ًا بــ ‪َ « :SSSM‬ي ِ‬
‫قتر ُح‬
‫‪29‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫شر‬ ‫ـب البيولوجيـا ال َب َ َ‬‫لا جذر ًّيـا بين البيولوجيـا والثقافـة‪َ َ .‬ت ُ‬ ‫َفص ً‬
‫احلـواس اخلمـس‪ ،‬بضع غرائـز كاجلوع واخلـوف‪ ،‬واسـتعداد ًا عام ًا‬ ‫َّ‬
‫للتعلـم‪ .‬لكـن التطـور الثقـايف‪ ،‬وفقـ ًا للــ ‪ ،SSSM‬قـد َح َّـل حمـل‬
‫بر جـون لـوك ‪1632-( John Locke‬‬ ‫التطـور البيولوجـي» ‪َ . 25‬ع َّ‬
‫( )‬ ‫ِ‬
‫‪ )1704‬عـن نسـخة مبكـرة مشـاهبة مـن هـذه الرؤيـة يف كتابـه ‪An‬‬
‫‪ .Essay on Human Understanding‬حيـث َط َـر َح أن العقـل هو‬
‫فكـرة‪ .‬مـا‬‫ٍ‬ ‫«صفحـ ٌة بيضـاء‪ ،‬خاليـ ٌة مـن كل صفـة وال حتتـوي أي‬
‫واحدة ُأجيـب‪ :‬التجربـة»(‪ .)26‬قد جتيء‬ ‫ٍ‬ ‫الـذي ُي َشـ ِّك ُل ُه إذن؟ بكلمـة‬
‫ـزود ًة ببعض‬ ‫َ‬
‫العـال ُم َّ‬ ‫هـذه الصفحـ ُة البيضـاء (الدمـاغ الفـارغ) إىل‬
‫الرغبـات األساسـية كاحلاجـة للطعـام وللجنـس‪ ،‬لكـن مـا خيلـق‬
‫العقـل هـو التجربـ ُة وتراكمهـا املسـتمر‪ .‬وقـد كان لنمـوذج لـوك‬ ‫َ‬
‫متنوعـة‪ ،‬على الدارسين للسـلوك‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وبأشـكال‬ ‫كبير‪،‬‬ ‫تأثير‬ ‫للعقـل‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫البشري منـذ أيـام لـوك حتـى عرصنـا احلارض‪.‬‬
‫يف اخلمســينيات‪َ ،‬ص َعــدَ مؤســس املدرســة الســلوكية‬
‫‪ behaviorism‬يب‪ .‬أف‪ .‬ســكنر ‪ B.F. Skinner‬بمفهــوم الصفحــة‬
‫أن‬‫مســتوى أعــى‪ .‬حيــث يــر ســكنر َّ‬ ‫ً‬ ‫البيضــاء للــوك إىل‬
‫باإلمــكان هندس ـ َة ســلوك األفــراد مــن خــال التع ُّلــم املرب َمــج‪.‬‬
‫ويف روايتــه اليوتوبيــة ‪ Walden Two‬يقــول َبط ُلــ ُه فريــزر‪« :‬عــى‬
‫املــدى الطويــل‪ ،‬فــإن اإلنســان مق َّيــدٌ بالدولــة‪ .‬إذ تتعــارض فلســف ُة‬
‫احلريــة املطلقــة‪ ،‬الفلســف ٌة التــي تتــكل عــى مــا حتســبه يف اإلنســان‬
‫اجلبِ َّلــة الطيبــة واحلكمــة‪ ،‬تتعــارض مــع احلقيقــة‬ ‫العــادي مــن ِ‬
‫الواقعيــة املرصــودة التــي تشــر إىل أن نــوع البيئــة التــي ينمــو‬
‫‪30‬‬
‫متهيد‬

‫فيهــا اإلنســان هــو الــذي جيعــل مــن اإلنســان طي ًّبــا أو رشيــر ًا‪،‬‬
‫ــرا»(‪َ .)27‬ينطلــق ســكنر أيضــ ًا مــن ذات االفــراض‬ ‫ِ‬
‫حكيــ ًا أو غ ًّ‬
‫أي مفهــوم الصفحــة البيضــاء‪،‬‬ ‫الــذي ينطلــق منــه جــون لــوك‪ْ ،‬‬
‫لكــ َّن الكثرييــن‪ ،‬بــا فيهــم ليرباليــون وحمافظــون‪ ،‬قــد رأوا أنــه‬
‫كان يــارس التالعــب بالكلــات‪ ،‬مــن حيــث أن مــا كان يســميه‬
‫ـري لغســيل‬‫ـاع تنكـ ٌّ‬ ‫باهلندســة الســلوكية إنــا هــو – بحســبهم قنـ ٌ‬
‫الدمــاغ‪.‬‬
‫فرضيـات لوك وسـكنر حـول مطواعية العقـل البرشي‬ ‫ُ‬ ‫سـادت‬
‫ْ‬
‫ٍ‬
‫العلـو َم االجتامعية لوقت طويل‪ .‬أشـار ريتشـارد رانـگام ‪Richard‬‬
‫‪ Wrangham‬وديـل بيرتسـون ‪ Dale Peterson‬إىل األخطـاء التـي‬
‫ً‬
‫أجيال‬ ‫ارتكبتهـا مارگريـت ميـد ‪ Margaret Mead‬عندمـا أقنعـت‬
‫«إن الثقافة وحدها – التنشـئة‬ ‫مـن األنثروبولوجيين هبـذه الرؤيـة‪َّ :‬‬
‫دون الوراثـة تترك عالماهتـا الغامضـة على الصفحـة الفارغـة‬
‫للشـخصية البرشيـة»(‪ .)28‬يكتـب دانييل دينيت‪« :‬ال يسـتطيع الناس‬
‫ٍ‬
‫كبشر خمتلفـون كثري ًا عـن مجيع‬ ‫ٍ‬
‫بسـهولة عـن اإليمان بأننـا‬ ‫التخلي‬
‫األنـواع احليـة األخـرى – َو ُهم حمقـون! فنحن النـوع الوحيد الذي‬
‫يمتلك واسـطة إضافيـة حلفظ النماذج وتناقلها‪ :‬الثقافـة‪ .‬ولو أن يف‬
‫هـذا مبالغـ ًة بعـض الشيء‪ ،‬ألن أنواع ًا أخـرى متتلك أيض ًا أشـكاالً‬
‫بدائيـ ًة جـد ًا من الثقافـة‪ ،‬وقدرهتا على تناقل املعلومات «سـلوك ًّيا»‪،‬‬
‫لا عـن تناقلهـا وراث ًّيـا‪ ،‬هي بحـد ذاهتا ظاهـر ٌة بيولوجيـة مثرية‬‫فض ً‬
‫لالهتامم» ( ‪.)29‬‬
‫املفاهيم العامة لعلم‬
‫ُ‬ ‫بمـرور الزمن‪ ،‬ورغم كل املعارضة‪ ،‬تلقـت‬
‫‪31‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫النفـس التطوري والسوسـيوبيولوجيا قبوالً واسـع ًا‪ .‬فمثالً‪َ ،‬ف َّس ْت‬
‫مقالـ ُة ‪ The Science of Why People Snap in Anger‬املنشـورة‬
‫يف جملـة ‪ Time‬يف السـادس عشر مـن ينايـر ‪ ،2016‬فسرت ظاهر َة‬
‫عمليـات كيميائيـ ًة دماغيـة نتجت عن‬ ‫ٍ‬ ‫الغضـب املفاجـئ بوصفهـا‬
‫غـة تنتمـي إىل علـم النفس التطـوري‪ ،‬وهي لغـة مل تكن‬ ‫التطـور‪ ،‬بِ ُل ٍ‬
‫سـنوات ٍ‬
‫قليلة فقـط‪« :‬لقد َط َّو ْرنا هـذه الدارات‬ ‫ٍ‬ ‫مقبولـ ًة إطالقـ ًا منذ‬
‫بحاجـة إليهـا»‪ .‬وكذلـك يف‬‫ٍ‬ ‫العصبيـة للبقـاء يف الربيـة‪ .‬ومـا زلنـا‬
‫العـدد ‪ 10-17‬لشـهر أكتوبر عام ‪ 2011‬من جملـة ‪ ،Newsweek‬فقد‬
‫ُشر ْت مقالـ ٌة تَعـزو التقلبـات الرسيعـة يف السياسـة وأسـواق املال‬ ‫ن ِ‬
‫إىل آليـات التواصـل الفوري على االنرتنت‪ ،‬حيـث أن «دماغ نوعنا‬
‫حـد كبريـــ نفـس العضو الذي كان‬ ‫‪ Homo Sapiens‬مـا زال – إىل ٍ‬
‫يمتلكـه أسلافنا البدائيـون يف إفريقيا قبـل مائتي ألف عـام»‪ .‬هكذا‬
‫أصبحـت اإلشـارة إىل اجلذور التطورية للسـلوك شـيئ ًا عادي ًا اليوم‪.‬‬
‫ويبـدو أن النـاس يتقبلـون عمومـ ًا أن الصفحـة ليسـت فارغة بقدر‬
‫مـا كان ُيع َت َقدُ يف السـابق‪.‬‬
‫يعتقـد علماء التطـور أن نـداءات أسلافنا املختزنـة يف إرثنـا‬
‫بسـلوكيات كانـت ذات فوائـد بقائيـة تكيفيـة‬ ‫ٍ‬ ‫اجلينـي‪ ،‬تغرينـا‬
‫ألسلافنا يف املـايض السـحيق‪ ،‬لكنها قـد ال تكون مفيـدة يف عرصنا‬
‫التطـور قـد جعلنـا عبيـد ًا بالكامـل هلذه‬
‫َ‬ ‫احلـارض‪ .‬ال يعنـي هـذا أن‬
‫لا مـع معظـم األنـواع األخـرى من‬ ‫النـداءات‪ ،‬كما هـو األمـر فع ً‬
‫وهبت نوعنـا دماغ ًا كبري ًا جد ًا‪ .‬وبانتشـار‬
‫ْ‬ ‫األحيـاء‪ .‬فعمليـة التطـور‬
‫ِ‬
‫احلديـث أن خيتار‬ ‫ِ‬
‫اإلنسـان‬ ‫وتوسـع التعليـم والثقافـة‪ ،‬صار بإمكان‬
‫‪32‬‬
‫متهيد‬

‫عصيـان تلـك اإلملاءات السـلوكية التـي مل تعـد تكيفي ًة‬


‫َ‬ ‫إطاعـ َة أو‬
‫تطـوري‪ ،‬فـإن أفعالنـا تتأثـر بالوراثـة‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫منظـور‬ ‫اليـوم‪ .‬لـذا‪ ،‬ومـن‬
‫ِ‬
‫جتربة أسلافنا‬ ‫والبيئـة معـ ًا‪ :‬طبيعتنـا (أو وراثتنا) التـي أخذناها عن‬
‫يف العرصيـن احلجريني القديـم واجلديد‪ ،‬وبيئتنـا املتمثلة يف التعليم‪،‬‬
‫عالقاتنـا بنظرائنا من البشر‪ ،‬والثقافة عمومـ ًا‪ .‬يف وصفه خلطيئة آدم‬
‫وحـواء يف كتابـه الفـردوس املفقـود ‪ ،Paradise Lost‬كتـب جـون‬
‫تطوري‪:‬‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫منظـور‬ ‫ميلتـون ‪ John Milton‬جمـاز ًا رائع ًا عـن حالتنا من‬
‫وأحرار يف السـقوط» مـن حيث إننا‬ ‫ٌ‬ ‫فنحـن «قـادرون على الثبـات‪،‬‬
‫أحـرار يف أن نطيـع أو نعصي رغباتنا السـلوكية التطوريـة (رغم أن‬
‫التطوريين قـد ال يتفقـون عىل درجـة هـذه احلرية)‪.‬‬
‫لا لعلم النفـس التطـوري‪ .‬فلو جاز يل‬ ‫الكتاب مدخ ً‬
‫ُ‬ ‫ليـس هـذا‬
‫أن اسـتعري قـول ماركـوس أنطونيـوس يف مرسحيـة يوليوس قيرص‬
‫ـوع البحـوث التطوريـة خللـق‬ ‫لشكسـبري‪ ،‬فـإن مهمتـي هـي أن ُأ َط ِّ‬
‫ٍ‬
‫أداة نقديـة نُط ِّبقهـا على أفلام الرعـب حتديـد ًا‪ ،‬ال أن أضيـف كتاب ًا‬
‫جديـد ًا يف علـم النفس التطـوري)*(‪.‬‬
‫لـن أتوقـف كثير ًا عنـد تفاصيـل الدراسـات الكثيرة على‬
‫احليوانـات يف حقـل السوسـيوبيولوجيا‪ ،‬وال عنـد جتـارب علـم‬
‫النفـس التطـوري على كيميـاء الدمـاغ‪ ،‬التي كثير ًا ما يستشـهد هبا‬
‫املتخصصـون هبـذا احلقـل‪ .‬عوض ًا عن ذلك‪ ،‬سـأركز على افرتاض‬
‫مركـزي‪ :‬رغـم امتالكنـا كبرش لإلرادة احلـرة‪ ،‬إال إننـا واقعون حتت‬
‫سـحر نـداءات السـلوكيات التكيفيـة ألسلافنا الغابريـن‪.‬‬
‫ِ‬
‫رثيه»‪(..‬املرتجم)‪.‬‬‫جئت ألدفن قيرص‪ ،‬ال ُأل‬
‫)*( إشارة إىل قول أنطونيوس «إنام ُ‬

‫‪33‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫أطـرح أنَّـه إذا كانـت اكتشـافات علماء‬‫ُ‬ ‫تبعـ ًا هلـذه الفرضيـة‪،‬‬


‫التطـور صحيحـة‪ ،‬أو على األقـل صحيحـ ًة إىل حـدٍّ مـا‪ ،‬فإننـا‬
‫سـنكون‪ ،‬بدرجـة مـا‪ ،‬مه َّيئين بيولوج ًّيـا ال لنشـعر باإلملاءات‬
‫السـلوكية التكيفيـة التطورية فحسـب‪ ،‬بل ألن نسـتجيب للقصص‬
‫ُصـو ُر تلـك التجـارب البقائيـة ألسلافنا‪.‬‬ ‫والتمثلات التـي ت ِّ‬
‫وبإمكاننـا أن نفهـم جاذبيـة هـذه القصـص وأشـياء أخـرى عـن‬
‫همنـا كيـف ختتبـئ التمثلات البدائيـة بداخـل هذه‬ ‫أنفسـنا إذا مـا َف ْ‬
‫اكتشـافات إدوارد أوزبـورن ويلسـون املقدمـة‬ ‫ُ‬ ‫القصـص‪ .‬تَدعـم‬
‫تصـدر عنها منهجيـة نقدية تتمحـور حول الصفـات البدائية‪،‬‬ ‫التـي ْ‬
‫سـواء يف دراسـة الفـن عمومـا واألفلام خصوصـ ًا‪« :‬أعتقـد َّ‬
‫أن‬
‫التطـور املشترك للثقافـة واجلينـات هـو العمليـة التـي بوسـاطتها‬
‫الفنـون‪ ..‬يمكـن قول هـذا بكل ثقـة‪ .‬ومع‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫ونشـأت‬ ‫تطـو َر الدمـا ُغ‬
‫َّ‬
‫ذلـك فـإن األدلـة املتنامية على وجـود طبيعة برشيـة مقولبـة مؤثرة‬
‫ُرجح رؤي ًة أكثـر تقليدي ًة للفنون‪ .‬ليسـت‬ ‫تسـيطر عىل نمـو العقـل‪ ،‬ت ِّ‬
‫الفنـون نتاجـ ًا ملحـض املوهبـة العشـوائية ت ََو َّلـد بتأثير الظـروف‬
‫التارخييـة والتجربـة الشـخصية الفرديـة‪ .‬بـل متتـد جـذور اإلهلـام‬
‫الفنـي عميقـ ًا وقديم ًا يف التاريخ وصـوالً إىل اجلذور اجلينيـة للدماغ‬
‫البشري‪ ،‬وهـي – جـذور الفنـون ثابتـة «(‪.)30‬‬
‫ٍ‬
‫لسـائل أن يتسـاءل هنـا‪ :‬ولكـن كيف أمكـن لألشـكال البدائية‬
‫كل مـن السـينام‪،‬‬‫للفـن يف بدايـة مسيرته‪ ،‬والتـي مهـدت لظهـور ٍّ‬
‫األدب‪ ،‬واملوسـيقى الحقـ ًا‪ ،‬أن تسـاعد يف زيـادة فـرص أسلافنا‬
‫توافق عا ٌم على «غريزة الفن» وحاجـة األنواع احلية‬
‫ٌ‬ ‫بالبقـاء؟ هنـاك‬
‫‪34‬‬
‫متهيد‬

‫إىل اللعـب‪ .‬لكـن املتخصصني بعلـم النفس التطـوري خيتلفون عىل‬


‫سـاعدت أسلا َفنا عىل البقـاء أو إنه‬
‫ْ‬ ‫مـا إذا كان الفـن غريـز ًة تكيفي ًة‬
‫تطـوري ثـم أصبـح جـزء ًا مـن إرثنـا اجلينـي‪.‬‬ ‫ٍّ‬ ‫ثانـوي‬
‫ٍّ‬ ‫ظهـر كناتـج‬
‫يستشـهد دينـس داتـون ‪ Dennis Dutton‬بمقولـة لألسـتطيقي‬
‫األملـاين إيـكارت فوالنـد ‪ Eckart Voland‬لشرح وجهـة النظـر‬
‫ـة تدور حول‬ ‫األخيرة يف نشـوء الفـن‪« :‬ربام جيدر بنـا أن نفكر يف َع َّث ٍ‬
‫نـار ليلاً‪ .‬يف ما يتعلـق بالفـن‪ ،‬ربام جيدر بنـا أن نعترب أنفسـنا‬ ‫شـعلة ٍ‬
‫نار ليسـتمتع بالـدوران حوهلـا‪ .‬إذا كانت‬ ‫ِ‬
‫شـعلة ٍ‬ ‫عثـ ًا نجح باخرتاع‬
‫ِ‬
‫الداروينـي‬ ‫الفنـون تقـوم مقـام شـعلة النـار يف حالتنـا‪ ،‬فالسـؤال‬
‫الـذي يطـرح نفسـه هنـا هـو‪ :‬ملـاذا نبـذل كل هـذا اجلهـد الكبري يف‬
‫صناعتهـا‪ ،‬وملاذا نسـتمتع بالدوران حول شـعلتنا هـذه أصالً؟»(‪.)31‬‬
‫أي الذي‬ ‫يتبنـى جـون ماكينـون ‪ John Mackinnon‬الـرأي األول‪ْ ،‬‬
‫َين ِْسـب للفنـون فوائـد تكيفيـة‪ ،‬ال إهنا نتيجـة ثانوية ظهـرت الحق ًا‪:‬‬
‫سـلوك مـا تكيف ًّيـا (بمعنـى إنـه يسـاعد الفـرد على حتقيق‬ ‫ٌ‬ ‫«إذا َ‬
‫كان‬
‫الطبيعـي طريقـ ًة مناسـب ًة‬
‫ٌّ‬ ‫النجـاح التطـوري)‪ ،‬فسـيجد االنتخـاب‬
‫خللـق دافعيـة لتكراره عنـد أفراد النـوع‪ .‬إذن‪ ،‬مـا الفائـد ُة التطوري ُة‬
‫أن يقدمهـا لنـا؟ ‪ ...‬على الدمـاغ أن‬ ‫التـي يمكـن للتعبير الفنـي ْ‬
‫يكـون مسـتعد ًا دائم ًا السـتعامل قدرتـه الكاملـة‪ .‬وال بـد أن يكـون‬
‫مته ِّيئـ ًا للحظـات حاسـمة قد تطـرأ يف أي حلظـة‪ ،‬والفـن والتحفيز‬
‫الفكـري مـن الطـرق التـي تسـاعدنا على االحتفـاظ بعقولنـا قوية‬
‫ومشـحوذة»(‪.)32‬‬
‫سـوا ٌء كانـت الفنـون سـلوك ًا تكيف ًّيـا بـذات املعنـى التكيفـي‬
‫‪35‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫ثانـوي تطـور مؤخـر ًا‪ ،‬فنحـن‬‫ٍّ‬ ‫ٍ‬


‫ناتـج‬ ‫لل َق َبل َّيـة واإلقليميـة أو جمـرد‬
‫حـال أهنـا رافقـت نوعنـا منـذ بداياتـه‪ُ .‬و ِجـدَ ت‬ ‫ٍ‬ ‫نعـرف على أي‬
‫ٍ‬
‫كهوف‬ ‫بعـض الرسـوم التـي تعـود إىل مخسـة وثالثين ألف عـام يف‬
‫تاريـخ أقدم خـارج أوروبا)‪،‬‬‫ٍ‬ ‫(و ِجـدَ ْت رسـو ٍم تعـود إىل‬ ‫يف أوروبـا ُ‬
‫اشـتملت على آهلـة ذات‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫رسـو ٌم تعكـس نوعـ ًا بدائ ًّيـا مـن الديـن‪،‬‬
‫ٍ‬
‫كأشـكال‬ ‫إنـاث حوامل يف وضـع القرفصاء‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫قـرون إىل جانـب ٍ‬
‫آهلة‬
‫بدائيـة مـن الديـن‪ ،‬باإلضافة إىل مشـاهد للصيـد اجلامعـي للقبيلة‪.‬‬
‫ثـم تزايدت قـوة الفنـون مع تنامـي اللغة‪ ،‬مـا أدى إىل ظهـور ُص َور‬
‫البطولـة التي يتردد صداها يف نفوسـنا اليوم‪ .‬بدأ األمـر باحلكايات‬
‫ا ُملتنا َق َلـة شـفهي ًا‪ .‬ومـن املرجح أهنا كانت سـاذجة جـد ًا باملقارنة مع‬
‫مـا تالهـا مـن احلكايـات املكتوبـة‪ ،‬كملحمـة گلگامـش يف القـرن‬
‫الثامـن عشر قبـل امليلاد وامللحمـة التـي كتبهـا هوميروس (إن‬
‫كشـخصية حقيقيـة) عن احتلال اإلغريق لطـروادة ثم عودة‬ ‫ٍ‬ ‫ُو ِجـد‬
‫البطـل أوديسـيوس إىل الوطـن‪ ،‬التـي تعـود إىل القـرن الثامـن قبل‬
‫امليلاد‪ .‬ال شـك أن االحتفـاء الشـعبي باملالحـم التـي حتكـي مآثـر‬
‫األبطـال كان مبعثـ ًا للتسـلية‪ ،‬لكنهـا تعكـس أيضـ ًا بواكير ظهـور‬
‫كل من‬ ‫يرجح ٌّ‬ ‫ٍ‬
‫تكيفي‪ .‬وقـد ِّ‬
‫ٍّ‬ ‫كسـلوك‬ ‫وتناقـل ثقافـة القبلية واحلرب‬
‫علـم النفـس التطـوري والسوسـيوبيولوجيا أن أصـداء األصـوات‬
‫البدائيـة هتمـس يف عقولنا اليوم عبر غريزة الفن‪ ،‬وتسـاهم يف خلق‬
‫الثقافـة كما يف خلق االسـتجابة للأدب واألفالم‪ .‬إنام قـد تكون هلا‬
‫آثـار مد ِّمـر ٌة أيض ًا‪ ،‬كما يف حالة احلـروب القبليـة يف إفريقيا والرشق‬ ‫ٌ‬
‫األوسـط‪ ،‬وحتـى يف االنقسـامات األيديولوجية‪ ،‬العرقيـة‪ ،‬واإلثنية‬
‫يف الواليـات املتحدة‪.‬‬
‫‪36‬‬
‫متهيد‬

‫تبـدو أفلام الرعب وأفلام رعب اخليـال العلمـي والنصوص‬


‫األدبيـة التي شـكلت مصـدر ًا هلا‪ ،‬جماالً مناسـب ًا جد ًا إلعمال منظور‬
‫نقـد الصفـات البدائية املشـار إليه آنفـ ًا‪ ،‬ذلك إن جاذبيتهـا تنتمي إىل‬
‫إن الدمـاغ‬ ‫عـال الالمعقـول‪ ،‬الالوعـي‪ .‬يشير جوزيـف كارول إىل َّ‬ ‫َ‬
‫مصممـ ًة‬ ‫«وحـدات معرفيـة ‪»cognitive modules‬‬ ‫ٍ‬ ‫البشري طـور‬
‫َّ‬
‫إحصائي يف‬‫ٍّ‬ ‫واجهت أسلافنا بانتظـام‬
‫ْ‬ ‫حلـل املشـاكل التكيفية التـي‬
‫بر برايـان بويـد ‪ Brian Boyd‬عـن املفهوم‬ ‫بيئتهـم القديمـة» ‪َ . 33‬ع َّ‬
‫( )‬

‫التطـور ِعدَّ َة مسـارات للتعلـم يف العقول‪ُ ،‬مه ِّيئـ ًا إياها‬ ‫ُ‬ ‫ذاتـه‪« :‬يبنـي‬
‫للتعامـل مع أنـوا ٍع متو َّقعة بعينها مـن املواقف‪ ،‬ولِ َف ْه ِمها باالسـتناد‬
‫ٍ‬
‫ـم‬‫وسـأطوع هـذا املفهـوم ألُ َن ِّظ َ‬ ‫ُ‬ ‫معلوماتيـة خاصـة»(‪.)34‬‬ ‫إىل أنماط‬
‫لسـت من الوحـدات أو املسـارات ال َت َع ُّلمية التي‬ ‫ٍّ‬ ‫هـذا الكتاب وفق ًا‬
‫تطورت –‬ ‫ْ‬ ‫سأسـميها بالتمثالت البدائيـة يف األدب واألفلام‪ ،‬التي‬
‫ٍ‬
‫خافتة يف‬ ‫ٍ‬
‫هبمسـات‬ ‫التمثلات من جتربة أسلافنا‪ ،‬وما زالـت تنادينا‬
‫أفلام الرعب حتديـد ًا‪ -‬ويف احلياة أيضـ ًا‪-1 :‬اإلقليميـة؛ ‪-2‬اخلوف‬
‫مـن االسـتحالة‪ ،‬ومحايـ ُة اجلامعـة واحلـوض اجلينـي؛ ‪-3‬القبليـة؛‬
‫املفرتسـات؛ و‪-6‬االرتيـاب وكراهية‬ ‫‪-4‬التـزاوج؛ ‪-5‬اخلـوف مـن ِ‬
‫فسـد إرثنـا اجليني ويسـتويل عىل‬ ‫اآلخـر الـذي قـد حيتـل إقليمنـا‪ ،‬ي ِ‬
‫ُ‬
‫متثـل يشـتمل على التمثلات اخلمسـة السـابقة‬ ‫ممتلكاتنـا‪ ،‬وهـو ٌ‬
‫أن األنواع السـتة التـي ذكرهتا تُغطـي كل أنواع‬ ‫كلهـا‪ .‬ال أعنـي هنـا َّ‬
‫التمثلات املوجـودة‪ ،‬لكننـي انتخبتهـا ألعاجلهـا يف هـذا الكتـاب‬
‫كوهنـا متثل جمـاالً خصبـ ًا إلعامل املنظـور التحليلي الذي أنـا بصدد‬
‫تطبيقـه على أفلام الرعـب‪ .‬يعتقـد باحثـو علـم النفـس التطوري‬
‫والسوسـيوبيولوجيا أن هـذه اهلمسـات القادمـة مـن أسلافنا‬
‫‪37‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫مؤ ِّثـر ًة يف حياتنا‬


‫الغابريـن خمزونـ ٌة يف بنيتنـا اجلينية وما تـزال عوامل َ‬
‫وخياراتنـا‪ .‬مـن ثـم فـإن هـذه التمثلات قـادرة على اسـتجالب‬
‫اخلـوف اإلنـايب اللذيـذ عند مشـاهدي األفلام وقـراء األدب‪.‬‬
‫يف روايـة أوقـات عصيبـة ‪1854( Hard Times‬م) يتعـرض‬
‫تشـارلز ديكينـز ‪ Charles Dickens‬بالنقـد للطريق َة التـي ُيعامل هبا‬
‫العمال يف إنگلترا يف احلقبة الفكتوريـة‪ ،‬كام ينقد فيها أيض ًا الفلسـفة‬
‫النفعويـة ‪ utilitarianism‬املتحجـرة جلرييمـي بينثـام ‪Jeremy‬‬
‫‪ .Bentham‬يف تلـك الروايـة‪ ،‬قـدَّ م ديكينـز رأيـه اخلاص بالفلسـفة‬
‫النفعيـة مـن خلال سـخريته من شـخصية السـيد گرادگرنـد ‪Mr.‬‬
‫ـب گرادگرند اهليأة‬ ‫ِ‬
‫‪ Gradgrind‬باعتبـاره بينثام ًّيـا نموذج ًّيا‪ .‬إذ خياط ُ‬
‫التدريسـية يف مدرسـة أسسـها بنفسـه قائالً‪« :‬ما أريده هـو احلقائق‪.‬‬
‫مهـم غير‬
‫ٌّ‬ ‫ال تع ِّلمـوا التالميـذ هنـا شـيئ ًا غريهـا‪ .‬ال يشء يف احليـاة‬
‫احلقائـق‪ .‬ال تزرعوا فيهم شـيئ ًا إال احلقائق‪ ،‬واقتلعوا من عقوهلم كل‬
‫يشء عداهـا‪ .‬إذ باحلقائـق فقـط يمكنكم تشـكيل عقـول احليوانات‬
‫عـارض فلسـفة گرادگرنـد الحق ًا عندمـا يتطرق‬ ‫العاقلـة»(‪ .)35‬ثـم ُي ِ‬
‫لشـخصيات العبي السيرك يف روايتـه وكيف يرفهون عـن الناس‪،‬‬
‫سـابق ًا بذلـك املختصين بعلـم النفـس التطـوري يف اإلشـارة إىل‬
‫حاجـة البشر إىل اللعـب‪ .‬ترتدد رؤيـة ديكينز يف كتابـات جون تويب‬
‫وليـدا كوزمـدز‪« :‬نعتقـد أن العقل البشري حيتوي جمموعـ ًة أخرى‬
‫ـت لِتَشـتمل عىل التجـارب اجلاملية اإلنسـانية‬ ‫مـن التكيفـات انت ِ‬
‫ُخ َب ْ‬
‫َخ َّي َلـة‪ ،‬رغـم أن هـذه األنشـطة تبدو بال وظيفـة‪ ،‬وحتى‬ ‫والعـوامل ا ُملت َ‬
‫ٍ‬
‫نافعـة إىل حدٍّ كبير»(‪.)36‬‬ ‫غير‬
‫‪38‬‬
‫متهيد‬
‫َ‬ ‫ٌ‬
‫«حكاية تحرم األطفال الل ِعب‪ ،‬وتمنع الكبار رقاد الليل»‬

‫يف روايـة ميدل مارش ‪ Middlemarch‬جلـورج إليوت ‪George‬‬


‫‪ ،Eliot‬حيـاول الباحث الطمـوح إدوارد كازوبون أن يفرس كل يشء‬
‫«مفتـاح لـكل امليثولوجيات‬
‫ٌ‬ ‫تقريبـ ًا مـن خلال مرشوعـه اجلـريء‬
‫ٍ‬
‫هـدف هبـذا‬ ‫‪ .»A Key to All Mythologies‬ال أسـعى نحـو‬
‫احلجـم بالطبـع‪ْ ،‬‬
‫ولسـتعر هنـا عبـار ًة مـن قصيـدة ‪A Psalm of‬‬
‫‪ Life‬للشـاعر لونگفيلـو ‪« :Longfellow‬الفـن طويـل‪ ،‬والوقـت‬
‫ِ‬
‫منظـوري يف معاجلة أفلام الرعب‬ ‫يتسرب برسعـة»‪ .‬لذا لـن يكون‬
‫موسـوع ًّيا‪ .‬بـل سـيقوم بتحليل عـدة أفالم خمتـارة من جنـس أفالم‬
‫الرعـب وأفلام رعـب اخليـال العلمـي‪ ،‬ويف بعـض احلـاالت‪،‬‬
‫سـأتطرق إىل النصـوص األدبيـة التـي اسـتقت منهـا تلـك األفلا ُم‬
‫حمتواهـا‪ :‬األعمال التـي توفر أرض ًا خصبـة كنامذج إلعمال مقاربتِي‬
‫النقديـة‪ ،‬األعمال التـي تثير يف قرائها مهسـات التمثلات البدائية‪.‬‬
‫سيركز هـذا الكتـاب بالضبط على نوعيـة األفالم القـادرة عىل‬
‫إحـداث اللـذة احلسـية العميقة بفعل التم ُّثالت السـتة التـي يتمركز‬
‫الكتـاب حوهلـا‪ .‬وغالبـ ًا مـا تكـون األفلام األدبيـة مصـدر ًا غن ًّيـا‬
‫للهمسـات الغابرة للسـلوكيات التكيفيـة باملقارنة مـع األفالم ذات‬
‫الشـحنة الفنيـة التـي تسـتجر اللـذة املخيـة‪ ،‬كما عنـد مقارنـة فيلم‬
‫‪ Twilight‬بفيلـم ‪ ،Last Year at Marienbad‬وطرحي ببسـاطة هو‬
‫إن بإمكاننـا تشـخيص هـذه األحلام البدائيـة املطمـورة يف طبيعتنا‬
‫البرشيـة كيام نسـتفيد مـن ذلـك يف معرفة كيفيـة اسـتجابتنا لألفالم‬
‫واألدب‪ ،‬باسـتخدام جنـس الرعـب كمثـال‪ .‬كذلـك ربما أمكننـا‪،‬‬
‫‪39‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫عـن طريـق َت َع ُّقب مهسـات أحالمنـا البدائية هـذه‪ ،‬أن نفهم أنفسـنا‬
‫نحـو أعمق‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫على‬
‫رغـم أن روايـة آرثـر يس‪ .‬كالرك ‪ Arthur C. Clarke‬وسـتانيل‬
‫كوبـرك ‪»2001: A Space Odyssey« Stanley KubricK‬‬
‫ٍ‬
‫بوضوح‬ ‫والفيلـم الذي ُأنتِـج عنها وحيمل ذات االسـم‪ ،‬ال ينتميـان‬
‫إىل جنـس أفلام الرعـب أو أفلام رعـب اخليـال العلمـي‪ ،‬إال إهنام‬
‫ال ممتـاز ًا إلعامل مقاربتـي النقدية‪ ،‬والتي سـميتها بنقد‬
‫يمثلان مدخ ً‬
‫الصفـات البدائيـة‪ ،‬لـذا سـيكون الفيلـم والرواية موضـوع الفصل‬
‫األول‪ .‬فقـد كان الفيلـم رائع ًا بحـق‪ ،‬وفذ ًا يف اسـتخدامه للتمثالت‬
‫البدائيـة يف بيئـة بدائيـة خيالية‪ ،‬وسـأعود إليه مرار ًا يف هـذا الكتاب‪.‬‬
‫يركـز الفصل الثـاين عىل اإلقليمية‪ ،‬كما يناقش األفالم الشـيطانية ‪-‬‬
‫َت َ ُّث ٌـل ظـل يثري اخلـوف اإلنايب لقـرون‪ -‬وأفالم اخليـال العلمي التي‬
‫تنضـوي حتـت صنف الرعـب ابتدا ًء مـن رواية حرب العـوامل ‪War‬‬
‫‪ of the Worlds‬ألتـش‪ .‬جـي‪ .‬ويلـز ‪ H.G. Wells‬واألفلام التـي‬
‫انبثقـت عنهـا‪ .‬حيـث تُعدُّ قصة الغـزو مثاالً على كيفية قيـام الثقافة‬
‫بإعـادة تشـكيل التم ُّثل دون املسـاس بعنـارصه اجلوهرية‪.‬‬
‫يركـز الفصـل الثالـث على َت ُّثـل االسـتحالة ‪assimilation‬كام‬
‫بـدأ يف أفلام رعـب اخليـال العلمـي يف اخلمسـينيات مـن القـرن‬
‫املـايض‪ ،‬كما سـيتناول ميمـة قيامـة املوتـى األحيـاء أو الزومبـي‬
‫متعقبـ ًا جذورها يف تراث سـحر الفودو‪ .‬يف روايتـه ‪I Am Legend‬‬
‫أحدث ريتشـارد ماثيسـون ‪Richard‬‬‫َ‬ ‫اسـتقت منها‪،‬‬
‫ْ‬ ‫واألفلام التي‬
‫‪ Matheson‬نقلـ ًة نوعيـ ًة كبير ًة يف موضوعـة الزومبـي‪ .‬حيث يدين‬
‫‪40‬‬
‫متهيد‬

‫فيلـم ليلة املوتى األحيـاء ‪(Night of the Living Dead‬من إخراج‬


‫جـورج رومريو ‪ )George Romero‬بالكثري لرواية ماثيسـون‪ ،‬لكنه‬
‫ُ‬
‫الفصـل الرابع ميم َة‬ ‫أدخـل ميمة الزومبـي إىل جنس األفلام‪ .‬حي ِّلل‬
‫ٍ‬
‫كنمـوذج للتمثـل القبلي‪ ،‬ابتـدا ًء مـن‬ ‫النـزاف (مصـاص الدمـاء)‬ ‫َّ‬
‫روايـة دراكـوال ‪ Dracula‬للمؤلـف بـرام سـتوكر ‪،Bram Stoker‬‬
‫ٍ‬
‫كثير مـن األفلام‪ ،‬كما‬ ‫ويعـرج على تطويعاهتـا واسـتخداماهتا يف‬
‫النـزاف‪ .‬يركـز الفصـل‬ ‫يناقـش الفصـل صـور ًا أخـرى مـن متثـل َّ‬
‫اخلامـس على َت َ ُّثل التزاوج‪ ،‬وسيركز على أفالم رعب الرومانسـية‬
‫القوطيـة كنمـوذج لتحليـل كيـف تنبع لذة جنـس األفلام هذا من‬
‫تطورنـا التكيفي‪.‬‬
‫يف مـا يتعلـق بتمثل املفرتسين‪ ،‬وليكـن املفرتس حيوانـ ًا‪ ،‬برش ًا‪،‬‬
‫الفقـري للكثير مـن أفلام‬‫َّ‬ ‫أو كائنـ ًا فضائ ًّيـا‪ ،‬فقـد كان العمـو َد‬
‫الرعـب‪َ ،‬ت َ ُّث ٌـل ُم ِّـر َر إىل الوعـي البشري كموضوع للرعـب اإلنايب‬
‫قـاد ٌم من جتـارب أسلافنا البدائيين‪ .‬يستكشـف الفصل السـادس‬
‫التمثـل ويناقـش سلسـلتي ‪ Predator‬و ‪ ،Alien‬باإلضافـة إىل‬ ‫َّ‬ ‫هـذا‬
‫عينـات فيلمية كثيرة أخرى تنـدرج حتت تصنيف املفترس‪ .‬خالل‬
‫مناقشـة التمثالت السـتة األوىل‪ ،‬سـنرى أن َت َ ُّثل اخلوف من اآلخر‪،‬‬
‫يتشـابك مـع مجيـع التمثلات األخـرى السـابقة‪ .‬ومـع ذلـك فـإن‬
‫بعـض األفلام تتمحـور أكثـر حـول هـذا التمثـل‪ ،‬وسيستكشـفه‬
‫الفصـل السـابع يف األفلام التـي تناولـت االشـباح‪ ،‬الروبوتـات‬
‫والكومبيوتـرات‪ ،‬السـاحرات‪ ،‬والط َّعانين‪ .‬يقـدم الفصـل اخلتامي‬
‫مؤ ِّثـر ًا يف انجذابنا ألفالم‬ ‫رؤيـ ًة للتمثلات البدائية ال بوصفها عام ً‬
‫ال َ‬
‫‪41‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬
‫ٍ‬
‫كعامـل مؤثـر يف مسـتقبل جنسـنا البرشي‪.‬‬ ‫الرعـب فحسـب‪ ،‬بـل‬
‫تع ِّلمنـا هـذه التمثلات البدائيـة والروايـات (واألفلام التـي‬
‫انبثقـت عنهـا) الكثير عـن أنفسـنا من خلال فهم كيف نسـتجيب‬
‫هلـا‪ .‬فهـي مطمـور ٌة يف طبيعتنا البرشيـة ويمكنها أن ختلق اسـتجابتنا‬
‫للصراع‪ ،‬األسـاس الـذي تقـوم عليـه الدرامـا والروايـات‪ .‬وكما‬
‫يعبر هريكيـول بـوارو‪ ،‬املحقـق الفطـن يف روايـات أگاثا كريسـتي‬
‫أي‬ ‫يف روايـة لغـز ملك السـبايت‪« :‬حيثما ُو ِج ْ‬
‫ـدت الطبيعـة البرشية‪ْ ،‬‬
‫هاسـتنگز‪ُ ،‬و ِج ْ‬
‫ـدت الدراما»‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫الفصل األول‬

‫رواية وفيلم‬
‫‪A Space Odyssey :2001‬‬

‫َ‬
‫«ديف‪ ..‬أنا متحمس أشد التحمس لهذه المهمة»‬

‫يوفـر فيلـم ‪ 2001: A Space Odyssey‬املنتـج عـام ‪1968‬‬


‫نموذجـ ًا مدخل ًّيا لدراسـة تطويـع واسـتخدام املفاهيـم التطورية يف‬
‫األفلام‪ ،‬كما إنـه ٌ‬
‫جمال ممتـاز للبـدء بإعمال نقـد الصفـات البدائية‪.‬‬
‫وسـيكون يف الواقـع‪ ،‬بوابـ ًة ملناقشـة كل التمثلات البدائيـة التـي‬
‫يعاجلهـا هـذا الكتاب‪ ،‬كام سـيكون نقطـة مرجعية للكتـاب بأكمله‪.‬‬
‫املخرج سـتانيل كوبـرك بجدٍّ مـع كاتب اخليـال العلمي آرثر‬
‫ُ‬ ‫تعـاون‬
‫يس كالرك إلخـراج الفيلـم إىل النـور‪ .‬يف الواقـع‪ ،‬نتـج عـن هـذا‬
‫التعـاون ن ََّصـان منفصلان‪ ،‬الفيلـم والروايـة‪ .‬لـذا فباإلضافـة إىل‬
‫كونـه نموذجـ ًا جيـد ًا لنقـد الصفـات البدائية‪ ،‬فـإن هـذا العمل يعد‬
‫ً‬
‫مثـال رائعـ ًا على تطويع األفلام للروايـات وعلى التفاعـل بينهام‪.‬‬
‫‪43‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫يف مـا يتعلـق بمن الذي قام بتطويع عمل من‪ ،‬يبقى هذا السـؤال‬
‫ـاب حتـى اآلن‪ ،‬حيث يرص كوبـرك عىل لفـت انتباهنا إىل أن‬ ‫غير ُم ٍ‬
‫الفيلـم صدر قبل نشر الرواية بقليل‪ ،‬رغـم أن الرواية كانت جاهزة‬
‫للنشر قبـل صـدور الفيلم‪ .‬يشـتمل هـذا الفيلـم على منظورين يف‬
‫جمـال التكيف‪ :‬فأو ًَّل هناك تكييف أو تطويـع الفيلم للرواية‪ ،‬وثاني ًا‪،‬‬
‫الداروينـي عبر التكيـف مـع البيئة‬‫ِ‬ ‫تطويـع الفيلـم لنظريـة التطـور‬
‫يف الوقـت الـذي بدأت فيـه النظريـة بالتمـدد مدعوم ًة باكتشـافات‬
‫املتخصصين بعلـم النفـس التطـوري والسوسـيوبيولوجيا‪ .‬يتفـرد‬
‫ـة يف هـذا الكتـاب من حيث‬ ‫فيلـم ‪ 2001‬عـن بقيـة األفلام املتناو َل ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫إنـه يبدو توظيفـ ًا واعي ًا ومقصود ًا مـن ق َبل كوبـرك وكالرك ألفكار‬
‫والعلماء اآلخرين الذين ط َّبقـوا تلك األفكار على الطبيعة‬‫ِ‬ ‫دارويـن‬
‫وإن كانت وظفت‬ ‫البرشيـة‪ ،‬خالفـ ًا لبقية األفلام والروايات التـي‪ْ ،‬‬
‫التمثلات البدائيـة كموضوعـة‪ ،‬إال إن ذلـك مل يكـن مقصـود ًا‪ ،‬بل‬
‫السـتجابة غير واعية مـن ِق َبل املنتجين والروائيني أنفسـهم‬‫ٍ‬ ‫نتاجـ ًا‬
‫للتمثلات البدائية املخزونـة يف الالوعي خاصتهـم وإرثهم اجليني‪،‬‬
‫بالتـوازي مع جتربتهـم الثقافية‪.‬‬
‫يف بدايـات عرضـه يف دور السـينام عـام ‪ُ ،1968‬أ ِخـذ معظـم‬
‫عـم كان‬
‫املشـاهدين بالفخامـة البرصيـة للفيلـم‪ ،‬لكنهـم مل يفهمـوا َّ‬
‫يـدور الفيلـم حتديـد ًا‪ .‬وربام لـو أن كلمـة «التطور» ظهـرت يف أحد‬
‫احلـوارات يف أثنـاء الفيلـم‪ ،‬لـكان كل يشء قـد اتضـح للجمهـور‪.‬‬
‫جتيـب روايـ ُة كالرك على العديـد مـن األسـئلة‪ .‬وقـد اعترف ِكال‬
‫كالرك وكوبـرك باملغـزى الفلسـفي للفيلم‪ .‬أشـار كالرك بالتحديد‬
‫‪44‬‬
‫الف�صل الأول‬

‫إىل األسـئلة «امليتافيزيقيـة‪ ،‬الفلسـفية‪ ،‬وحتـى الدينيـة» التـي أثارها‬


‫الفيلـم‪ .‬أمـا كوبـرك فقـد وجـد أن ال بد مـن إقحـام الفكـر الديني‬
‫يف الفيلـم بسـبب التنـوع اهلائـل يف الكـون وإمكانية تطـور كائنات‬
‫ٍ‬
‫متقدمـة جـد ًا‪ .‬ففـي مقابلـة معـه‪ ،‬قـال كوبـرك‪« :‬إن كل‬ ‫فضائيـة‬
‫الصفـات األساسـية التـي تتمتع هبـا املخلوقـات الفضائيـة الذكية‪،‬‬
‫هـي الصفـات ذاهتـا التي ننسـبها للـرب‪ .‬لذا فإن مـا نتناولـه هنا يف‬
‫علمي للـرب»(‪ .)1‬ومـع أن كال الفيلم والرواية‬
‫ٌّ‬ ‫تعريف‬
‫ٌ‬ ‫الواقـع‪ ،‬هـو‬
‫الداروينـي الصرف وباملعنـى الذي‬‫ِ‬ ‫يركـزان على التطـور‪ ،‬بمعنـاه‬
‫كان حقلا علـم النفـس التطـوري والسوسـيوبيولوجيا يعتمدانـه‬
‫يف بداياهتما آنـذاك‪ ،‬إال أن فيلـم كوبـرك يضيـف أبعـاد ًا روحيـ ًة‬
‫أكثـر باملقارنـة مـع روايـة كالرك‪ .‬تبـدأ هـذه املوضوعة مـع الفصل‬
‫املعنـون «فجـر اإلنسـان ‪ »The Dawn of Man‬ومـا حيملـه مـن‬
‫رمزيـة توراتيـة‪ ،‬ثـم تصـل أوجهـا مـع اإلحـاالت على طوائـف‬
‫العصر اجلديـد للسـتينيات‪.‬‬
‫يسـود‬ ‫متـر موضوعـ ُة التطـور بثالثـة أنماط صوريـة يف الفيلـم‪ُ :‬‬
‫األول يف البداية‪ ،‬والثاين يف وسـط الفيلـم‪ ،‬والثالث يف اجلزء‬‫ُ‬ ‫ُ‬
‫النمـط‬
‫األخير منه‪ .‬وتنضح ثالثتهـا بمجازات برصية تربـط بني موضوعة‬
‫تطـور البرش وبني الصفـات الــ «ميتافيزيقية» التي ذكرهـا كوبريك‬
‫يصـور الفصـل األول مـن‬ ‫ِّ‬ ‫وكالرك‪ ،‬كما ذكرهـا نقـا ٌّد آخـرون‪ .‬إذ‬
‫ْـون بــ « َف ْجـر اإلنسـان»‪ ،‬قصـ َة تكويـن البشر‪،‬‬ ‫الفيلـم والـذي ُعن ِ‬
‫جـذر العنـارص‬ ‫ُ‬
‫الفصـل‬ ‫صـور‬ ‫ٍ‬
‫بصـورة إحيائيـة ِ‬
‫َ‬ ‫داروينيـة سـاخرة‪ُ .‬ي ِّ‬
‫التكيفيـة للجسـم البشري والسـلوكيات التـي كانـت رضوريـ ًة‬
‫‪45‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫لبقائنـا يف املـايض السـحيق‪ ،‬مـع أهنـا قـد تكـون مد ِّمـر ًة لنـا على‬
‫الصعيـد البقائـي يف بيئتنـا احلاليـة‪.‬‬
‫مقطـع «فجـر اإلنسـان» اسـتخدا َم نظريـة التطور‬ ‫ُ‬ ‫هكـذا َد َّشـن‬
‫اعتمـدت روايـ ُة كالرك عىل‬‫ْ‬ ‫مـن ِق َبـل الروائيين ومنتجـي األفالم‪.‬‬
‫ص َّيـ ًة‪ .‬حيـث‬ ‫ٍ‬
‫تفسيرات مكتوبـة‪ .‬بينما كانـت مقاربـ ُة كوبـرك َب َ ِ‬
‫جماز‬
‫بصـور إحيائية متكـررة عىل جنـة التكويـن‪ٌ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫أغـرق املشـاهدين‬‫َ‬
‫طبيعـي إىل حـدٍّ كبري لبدايـات البرشية‪ .‬لكـ َّن َجنَّ َة كوبـرك اإلحيائية‬
‫ٌّ‬
‫تبقـى مـع ذلـك تصويـر ًا سـاخر ًا بالكامـل‪ ،‬ذلـك إهنـا كانـت جن ًّة‬
‫داروينيـة – حيـث أمـا أن تكـون مفرتسـ ًا أو تكون الفريسـة ال جنة‬ ‫ِ‬
‫متر الكاميرا مرار ًا وتكـرار ًا عىل‬ ‫ِ‬
‫عـدن املوصوفة يف سـفر التكويـن‪ُّ .‬‬
‫العظـام‪ .‬حيـث نـرى القـرود البرشيـة تتنافـس مـع حيوان‬ ‫مشـاهد ِ‬
‫َ‬
‫تلميح إىل كـون النوعني‬ ‫ٌ‬ ‫التابير العاشـب عىل مرعى العشـب‪ ،‬وهو‬
‫يف نفـس املوضـع تقريب ًا من السلسـلة الغذائية؛ كام نرى ق ًّطا مفرتسـ ًا‬
‫كبير ًا هياجـم أحد أسلافنا‪ ،‬حيـث مل تكن لـدى األخري ميـزة بقائية‬
‫تنفعـه للدفـاع عـن نفسـه يف مواجهة القـط‪ .‬هكـذا يرينـا الفيلم أن‬
‫ك ًُّل مـن القـرود وحيوانـات التابير كانـت فرائـس‪ ،‬يف مفارقة هتزأ‬
‫بالتصويـر التـورايت لسـيادة البشر على احليوانـات‪ .‬ثم نـرى كيف‬
‫)*(‬
‫كهف‪ ،‬خشـية «خـوف الليل»‬ ‫ال يف ٍ‬‫خيتبـئ أسلافنا التطوريـون لي ً‬
‫الـذي يشير إليـه سـفر املزامير‪ ،‬كما إهنـم – أسلافنا قـد أصبحوا‬
‫بعـد ذلـك خيشـون أيضـ ًا من «السـهم الـذي يطير يف النهـار»)**(‪،‬‬
‫تعرض هذه العبارة بآية من سفر املزامري «ال ختشى من خوف الليل‪ ،‬وال من سهم‬
‫)*( ِّ‬
‫ِ‬
‫يطري يف النهار»‪( ..‬املرتجم)‪.‬‬
‫)**( انظر اهلامش السابق ‪(..‬املرتجم)‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫الف�صل الأول‬

‫والـذي يـأيت مـن مجاعـات أخرى مـن نفـس نوعهم‪.‬‬


‫ِ‬
‫الداروينية األساسـية‬ ‫حتيـل افتتاحيـة الفيلـم إىل نظريـة التطـور‬ ‫ُ‬
‫املطـورة مـن ِق َبـل املتخصصين بالسوسـيوبيولوجيا وعلـم النفـس‬
‫التطـوري‪ .‬وتُذكِّرنا َمشـاهدُ ها بافتتاحية كتـاب ‪African Genesis‬‬
‫لروبـرت أردري التـي يتعقـب فيهـا تارخيَنـا التطـوري إىل سـهول‬
‫ببـطء‪ ،‬كأشـد مـا يكـون البطء يف سـهول‬ ‫إفريقي�ا‪« :‬هن�اك ن ََشـأنا – ْ‬
‫ٍ‬
‫وزاويـة فيها‪...‬‬ ‫اخلطـر يف كل ركـن‬ ‫السـافانا الواسـعة التـي تضمـر‬
‫َ‬
‫وحتـى يف األيـام الطويلـة األوىل مـن بداياتنـا‪ ،‬محلنـا يف أيدينـا‬
‫السلاح‪ ،‬أدا ٌة هـي أقـدم منـا بعـض الشيء»)‪ .(2‬باإلضافـة إىل‬
‫ُظهـر املشـاهد األوىل للفيلـم أن‬ ‫التنافـس مـع األنـواع األخـرى‪ ،‬ت ِ‬
‫جمموعـة البشر البدائيين كانـت يف تنافـس مـع جمموعـة غريها من‬
‫تنافـس من أجـل اإلقليم‪ ،‬حيـث جـرى التنافس عىل‬ ‫ٌ‬ ‫النـوع نفسـه‪،‬‬
‫تلميـح إىل‬ ‫ٍ‬
‫بئـر مـاء‪ ،‬ويف ذلـك‬ ‫واسـتعراض حـول ِ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫زجمـرة‬ ‫شـكل‬
‫ٌ‬
‫هنـر خيرج من عدن ليسـقي‬ ‫ِ‬
‫اآليـة الـواردة يف سـفر التكويـن «وكان ٌ‬
‫اجلنـة»‪ .‬يقـف قائـدا املجموعتني قبالة بعضهما و ُي َل ِّوحان بإشـارات‬
‫كل منهما إخافة اآلخـر‪ ،‬لكن األمـر ال يصل‬ ‫عنيفـة‪ ،‬حيـث حيـاول ٌّ‬
‫إىل االشـتباك اجلسـدي‪ .‬إذ مل يكن أسلافنا قد أتقنوا وقتها السـلوك‬
‫العنيـف‪ .‬ونجـد هنـا أن املعركـة التـي جـرت بين املجموعتني من‬
‫أجـل اإلقليـم‪ُ ،‬تاثِـل تلك التي حتـدث اليوم بني معظـم الذكور من‬
‫نوع من اسـتعراض القـوة دون أن يصل األمر إىل القتال‬ ‫احليوانات‪ٌ :‬‬
‫تصـورات ملا سـيتحول يف املسـتقبل إىل‬ ‫ٍ‬ ‫ظهر املشـهدُ‬‫حتـى املـوت‪ُ .‬ي ِ‬
‫لات برشيـة‪ :‬العـدوان‪ ،‬اإلقليميـة‪ ،‬ال َق َب ِل َّيـة‪ ،‬واالرتيـاب مـن‬ ‫َت ُّث ٍ‬
‫َ‬
‫‪47‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫أدبيـات علـوم‬ ‫ُ‬ ‫صفـات تكيفيـة برشيـة تتطـرق هلـا‬


‫ٌ‬ ‫اآلخـر‪ ،‬وكلهـا‬
‫هجمات القط الكبري يف املشـهد‬‫ُ‬ ‫التطـور باسـتفاضة‪ .‬كذلك تضيف‬
‫لا آخر‪.‬‬ ‫َت َ ُّث ً‬
‫ظهـر املشـهد التـايل َ َت ْم ُهـر جمموعـة األسلاف حـول َم َسـ َّل ٍة‬‫ُي ِ‬
‫حجريـة‪ ،‬وهـي إحيا ٌء عىل شـجرة املعرفة املذكورة يف سـفر التكوين‪.‬‬
‫ففـي َشـ َفق اليوم السـابق الكتشـاف جمموعـة القـردة البرشية لتلك‬
‫املسـ َّلة‪ُ ،‬يركِّـز كوبـرك الـكادر لوهلـة على شـجرة‪ ،‬يف إشـارة مـن‬ ‫َ‬
‫خفي للمشـاهد‪ .‬وعندمـا تَكتشـف جمموع ُة القـردة البرشية‬ ‫ٍ‬
‫طـرف ٍّ‬
‫بجـذل حوهلا‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وجود املسـلة يف صبـاح اليوم التـايل‪ ،‬يرقص أفرادها‬
‫يبـادر قائـد املجموعة (الذي سماه كالرك بـ «مراقـب القمر ‪Moon‬‬
‫‪ »Watcher‬يف الروايـة‪ ،‬ألنـه كان منبهـر ًا بمنظـر القمـر يف سماء‬
‫َـذ ِّو ِق تلـك الشـجرة الرمزية بيده ولسـانه‪.‬‬ ‫الليـل) بلمـس وحتـى ت َ‬
‫هكـذا‪ ،‬وكما ينبغـي لسير األمـور‪ ،‬فقـد كان ذلـك القائـد أول من‬
‫اختبر إهلـام املعرفة يف املشـهد التـايل عندمـا كان يقتـات‪ .‬فقد وجد‬
‫عظما حتـول يف يـده إىل أول أداة‪ ،‬واألهـم مـن ذلـك خصوصـ ًا يف‬
‫مـا يتعلـق بتطورنـا‪ ،‬حتـول ذلـك العظـم إىل أول سلاح‪ .‬نـرى بعد‬
‫ذلـك لقطـات مقربة تركز على قبضة ذلـك القائد املمسـكة بالعظم‬
‫وهـي هتـوي ُم َ ِّطمـ ًة البقايا العظميـة حليوان ميت‪ ،‬حيـث ترينا تلك‬
‫اللقطـات امليـز َة الكبرى التي ربما جعلـت الفضائيني يـرون نوعنا‬ ‫ُ‬
‫نوعـ ًا مناسـب ًا للتطـور‪ :‬اإلهبـام القابـل للتعامد مـع بقيـة األصابع‪،‬‬
‫امليـزة التـي جعلتنا قادرين على اسـتخدام األدوات وحتى صناعتها‬
‫يلخـص جوناثـان گوتشـال هـذا املنعطـف الفاصـل يف‬ ‫بأنفسـنا‪ِّ .‬‬
‫‪48‬‬
‫الف�صل الأول‬

‫تطـور البشر‪« :‬ال تسـتطيع احليوانـات األخـرى ذات األطـراف‬


‫عديمـة اإلهبـام‪ ،‬إال الضرب واحلفر واخلمـش باسـتخدام قبضاهتا‬
‫وأظالفهـا‪ .‬أمـا نحن فقـد َمكَّننا امتالكنـا إلصبع اإلهبام من َم ْسـك‬
‫األدوات واسـتخدامها بمختلـف الطـرق لغايـات خمتلفة»)‪.(3‬‬
‫قـد ال تكـون مصادفـ ًة أن مقطع ًا مـن كتاب القـرد العاري الذي‬
‫ٍ‬
‫بوضوح‬ ‫حصـد الشـهرة يف نفس وقـت إنتاج الفيلـم تقريب ًا‪ ،‬حياكـي‬
‫ـب القمر عندمـا « َف ِهمها»‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َم ْش َ‬
‫ـهدَ اإلهلام املعـريف الذي اعرتى ُمراق َ‬
‫إن أسلافنا مـن القـرود‬ ‫لفـت ديزمونـد موريـس انتباهنـا إىل َّ‬ ‫إذ ي ِ‬
‫َ‬
‫كانـوا ضعفاء جسمان ًّيا أمـام احليوانـات األخرى كالقطط املفرتسـة‬
‫الكبيرة‪ ،‬ومل يكونـوا يسـتطيعون الدفـاع عن أنفسـهم جتاههـا باليد‬
‫ظهـرت فكـرة جديـدة متامـ ًا وخمتلفة‪،‬‬
‫ْ‬ ‫املجـردة‪« :‬بـدالً مـن ذلـك‪،‬‬
‫وهـي اسـتخدام األسـلحة االصطناعيـة بـدالً مـن الطبيعيـة‪ ،‬وقـد‬
‫أثبتـت تلـك الفكـرة فعال َّيتَهـا»)‪ .(4‬هكـذا جـرى األمـر يف الروايـة‬
‫متامـ ًا‪ ،‬ولكنـه مل يتوقـف عنـد قتـل مراقب القمـر ورفاقـه حليوانات‬
‫التابير‪ ،‬بـل وصـل إىل حد قتـل القـط املفترس الكبري الـذي اعتاد‬
‫مهامجـة كهـف املجموعـة وافتراس أفرادها‪.‬‬
‫مراقـب القمـر واحـد ًا‬‫لقـد كان مشـهد اإلهلـام الـذي اعترى ِ‬
‫مـن أعظـم املشـاهد يف تاريـخ السـينام بالتأكيـد‪ .‬حيـث نـراه يتأمل‬
‫العظـم متفكـر ًا‪ .‬أمـا كالرك ف ُي َف ِّصـل بوضـوح سـافِ ٍر يف الروايـة ما‬
‫كان حيـدث للقـرد البشري ذاك‪ ،‬إذ يصـف كيـف كان مسـحور ًا‬
‫متامـ ًا بما كانـت املسـلة احلجريـة «متليـه» على عقلـه‪ .‬ثـم الحقـ ًا‪،‬‬
‫بعـد انتصـاره يف االسـتيالء عىل بئـر املـاء‪ ،‬خيربنـا كالرك يف الرواية‬
‫‪49‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫مبالغـة أن عاملـه قد تغير‪ ،‬وإنـه مل َي ْعد‬ ‫ٍ‬ ‫أن ذلـك القـرد «أحـس دون‬
‫تلـك الضحيـة الضعيفـة للقـوى الطبيعيـة التـي حتيـط بـه»)‪ .(5‬ثـم‬
‫حيـدث الشيء ذاتـه ألعضـاء آخريـن يف تلـك الصـورة البدائية من‬
‫القبيلـة‪ .‬يسـتخدم كوبـرك املشـهد ليجعلنـا نفهمـه بـذات الطريقة‬
‫التـي فهـم هبـا مراقب القمـر األمـر‪ .‬حيث نسـتخدم ذكاءنـا لنرى‪،‬‬
‫الربـط بين‬ ‫َ‬ ‫ُخبر (وهـو األمـر الـذي حيـدث يف الروايـة)‪،‬‬ ‫ال ْ‬
‫ألن ن َ‬
‫(أ) اإلنسـان البدائـي وهـو يمسـك العظـم وينظر إليـه وإىل مججمة‬
‫التابير املطروحة أمامـه باسـتغراق‪ ،‬و(ب) اللقطـات القريبة إلهبام‬
‫اإلنسـان البدائـي املتعامـدة على أصابعه عندما متسـك يـدُ ه اليمنى‬
‫بالعظـم لتجعلـه صانعـ ًا للأدوات‪ .‬اآلن وقـد امتلك هـؤالء البرش‬
‫البدائيـون الـذكاء والقـدرة على صنـع األدوات‪ ،‬فقد رشعـوا فور ًا‬
‫ِ‬
‫مواجهة‬ ‫ألغـراض عدوانيـة لتقويـة مركـز نوعهـم يف‬ ‫ٍ‬ ‫باسـتخدامها‬
‫آخـر‪ .‬يعطينـا كالرك وصفـ ًا تفصيل ًّيـا نوعـ ًا مـا للخطـر املحـدق‬
‫الـذي كان يعيشـه هـؤالء البشر البدائيون‪ .‬أمـا كوبـرك فريينا هذه‬
‫بلمسـة مـن الطرافـة الربيئـة‪ ،‬أن‬ ‫ٍ‬ ‫املوضوعـة برص ًّيـا‪ُ ،‬م ِ‬
‫بر ًا إيانـا‪،‬‬
‫نسـتخدم عمليـات التفكير النقـدي ذاهتا التـي اسـتخدمها مراقب‬
‫القمـر‪ :‬إدراك التَامثـل واكتشـاف األنماط‪.‬‬
‫نـرى يف املعركـة التـي نشـبت حـول بركـة املــاء جتسـيد ًا لِت ََم ُّثل‬
‫َـر األعلى مكانـ ًة (األلفا) يف‬ ‫مراقـب القمـر َ‬
‫الذك َ‬ ‫ُ‬ ‫اإلقليميـة‪ .‬أصبـح‬
‫املجموعـة‪ ،‬قائـد ًا لزمـرة مـن الصياديـن وملجوعـة املدافعين عـن‬
‫دراماتيكـي يف املواجهـة الثانيـة بين‬
‫ٌّ‬ ‫منعطـف‬
‫ٌ‬ ‫اإلقليـم‪ .‬ثـم حيـدث‬
‫املجموعتين مـن القرود‪ :‬إذ نرى أن مراقــب القمـر وزمرته صاروا‬
‫‪50‬‬
‫الف�صل الأول‬

‫يقفون منتصــبي القامة يف مواجــهة غرمائهم يف املجموعة األخرى‬


‫الذيــن ما زالوا‬

‫غيتْه املسلة‪ ،‬من فيلم ‪2001: A Space Odyssey‬‬


‫ِ‬
‫مراقب القمر‪ :‬إهلامه بعد أن َّ‬

‫يمشـون مشـيتهم املتثاقلـة ذاهتـا كما كانـوا يفعلـون يف املعركـة‬


‫ٍ‬
‫منظـور تطـوري‪ ،‬ال بـد للحيـوان‬ ‫السـابقة يف بدايـة الفيلـم‪ .‬مـن‬
‫أن يكـون قـادر ًا على الوقـوف منتصبـ ًا لكـي يسـتطيع الرؤيـة‬
‫بوضـوح وصنـع واسـتخدام األدوات‪ .‬فبحسـب جـاي گولـد‪،‬‬
‫العـال الـذي اشـتهر يف حقـل التطـور رغـم إنـه ليـس مـن مؤيدي‬ ‫ِ‬
‫انتصاب‬
‫ُ‬ ‫«ي ِّـر ُر‬
‫السوسـيوبيولوجيا أو علـم النفـس التطوري قـط‪َ ُ :‬‬
‫ِ‬
‫القامـة اليديـن مـن مهمة التنقـل ليجعلهما متفرغتين ألداء مهامت‬
‫أخـرى‪ ...‬وقـد حتـررت أيدينـا وأصبحنـا قادريـن على اسـتخدام‬
‫وقـت طويـل مـن بـدء تطـور أدمغتنـا لتصبـح أكبر‬ ‫ٍ‬ ‫األدوات قبـل‬
‫حجم ًا»)‪ .(6‬واآلن أصبحـت أداة الصيد التي اكتشـفها مراقب القمر‬
‫(أي املجموعة‬‫يف حلظـة اإلهلام سلاح ًا اسـتخدمه ضد أبنـاء نوعـه ْ‬
‫املنافسـة)‪ .‬وهكـذا يعيدنـا كوبـرك مـن خلال املشـهد التـايل مـرة‬
‫‪51‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫هتكمـي إىل ِسـفر التكويـن يف اإلصحـاح الرابـع‪،‬‬


‫ٍّ‬ ‫أخـرى وبشـكل‬
‫اآليـة الثامنـة‪« :‬وحـدث إذ كانـا يف احلقـل أن قايين قام على هابيل‬
‫أخيـه وقتلـه»‪ .‬على أن اللقطـات التاليـة يف الفيلـم‪ ،‬ت ِ‬
‫ُظهـر قايين‬
‫بوصفـه الشـخصية املنتصرة‪ ،‬خالفـ ًا لسـفر التكويـن حيـث كان‬
‫قايين حمل السـخط‪.‬‬
‫تتمحـور املشـاهد التـي جتـري بجانب بركـة املياه أساسـ ًا حول‬
‫ـت ديفيـد بـاراش ‪David Barash‬‬
‫تطـور السـلوك البشري‪ .‬ي ِ‬
‫لف ُ‬ ‫َ‬
‫االنتبـاه إىل أن معظـم أنـواع احليوانـات متتلـك غرائـز متنعهـا مـن‬
‫ِ‬
‫حسـن النية‪ ،‬يقـوم الذئب‬ ‫قتـل كل نـو ٍع منهـا ألبناء نوعـه‪ .‬فإلبداء‬
‫وضيـع املكانـة بكشـف نحـره للذئـب املسـيطر على املجموعـة‬
‫لا إلظهـار خضوعـه‪ ،‬فيمتنـع األخري عـن إيذائـه‪ .‬بينما يبدو أن‬ ‫مث ً‬
‫البشر يفتقـرون لغريـزة االمتنـاع عن قتـل بعضهم بعضـ ًا‪ .‬ويقرتح‬
‫بـاراش أن ثقافتنـا التـي جعلتنا صنَّا ًعا لألسـلحة قد فاقت سـلوكنا‬
‫التطـوري الـذي يدفعنـا للقتـل)‪ .(7‬ترتكـز هـذه االفتتاحيـة للفيلـم‬
‫على التمثلات البدائيـة للقبليـة‪ ،‬اإلقليميـة‪ ،‬اخلوف مـن املفرتس‪،‬‬
‫والرغبـة يف قتـل األفـراد ا ُملصنَّفين كآخريـن ال ينتمـون لقبيلتنـا‪:‬‬
‫متثلات تسـتمر حتـى هنايـة الفيلـم‪ .‬ترسـخت هـذه التمثلات يف‬ ‫ٌ‬
‫أفلام الرعـب‪ ،‬ولسـوء احلـظ‪ ،‬يف العالقـات البرشيـة على أرض‬
‫الواقـع حتـى يومنـا هذا‪.‬‬
‫يف املشـاهد التاليـة‪ ،‬يقفـز التسلسـل الزمنـي ألحـداث الفيلـم‬
‫مليـون عـام‪ ،‬حيـث تتحول قطعـة العظم التـي يقذفها مراقـب القمر‬
‫يف اهلـواء ابتهاجـ ًا إىل مركبـة فضائية‪ ،‬وقلـ ٍم يطفو حر ًا داخـل املركبة‪:‬‬
‫‪52‬‬
‫الف�صل الأول‬

‫األدوات التـي انحـدرت مـع الزمـن عـن األداة األوىل‪ ،‬وربما تكون‬
‫خفـي إىل كـون القلـم أقـوى من السـيف‪.‬‬ ‫ٍّ‬ ‫أيضـ ًا إشـار ًة مـن طـرف‬
‫ويتمحـور هـذا اجلـزء أساسـ ًا حـول تطـور التكنولوجيـا ابتـدا ًء من‬
‫مـة كأداة ‪ /‬سلاح مـن ِق َبـل مراقـب القمـر‪ .‬وقد‬ ‫اسـتخدام أول ع ْظ ٍ‬
‫البشر يف األلفيـات التي تفصـل بني النقطتين الزمنيتين قواعدَ‬ ‫ُ‬ ‫بنـى‬
‫مأمور‬
‫ٌ‬ ‫هلـم على القمر‪ُ .‬يظهر املشـهدُ التـايل شـخصي َة هيوود فلويـد‪،‬‬
‫ـفت‬ ‫تنتدبـه الواليـات املتحـدة للتحقيـق يف أمـر مسـ َّلة غريبـة اكت ُِش ْ‬
‫حمطـة فضائية‬‫ٍ‬ ‫حديثـ ًا عىل سـطح القمـر‪ .‬وتتضمـن رحلتُـ ُه توقفـ ًا يف‬
‫قبـل أن يكمـل طريقـه نحـو القمـر‪ ،‬حيـث نـرى يف املحطـة حدثـ ًا‬
‫تكـرار للمعركة اإلقليمية‬ ‫ٌ‬ ‫مشـاهب ًا ملا حدث يف املشـاهد األوىل للفيلم‪:‬‬
‫التـي حدثـت يف الفصـل األول من الفيلم املسـمى «فجر اإلنسـان»‪،‬‬
‫حيـث يواجـه َذكَـران مـن قبيلتين خمتلفتين بعضهما بعضـ ًا‪ .‬يشـعر‬
‫الـروس‪ ،‬الذيـن يمتلكـون أيضـ ًا قاعـد ًة على سـطح القمـر‪ ،‬بالقلق‬
‫جـراء اإلشـاعات املنتشرة حـول التوسـع اإلقليمي لألمريـكان عىل‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫القمـر وكـذا حـول يشء ما قد اكتُشـف هنـاك‪ .‬حياول مأمـور رويس‬
‫إرهـاق فلويـد باألسـئلة؛ وتنتهـي املواجهـة بأزمـة وطريق مسـدود‪،‬‬
‫حادة قائالً‪« :‬ليسـت‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بنظـرة‬ ‫حيـث يـر ُّد فلويد عىل املسـؤول الـرويس‬
‫لـدي الصالحيـة للتكلـم عن األمـر»‪ .‬لقـد كان املشـاهدون يف العام‬
‫‪ ،1968‬حين كان األطفـال ُي َع َّلمـون يف املـدارس كيفيـة االحتماء يف‬
‫أثنـاء الرضبـات النوويـة‪ ،‬قادريـن على فهـم داللـة هـذه الصـورة‬
‫احلديثـة مـن املواجهـة بين القبائـل الدوليـة والقـادة‪ .‬ومل تكـن هذه‬
‫املواجهـة إال تطـور ًا طبيع ًّيـا للمواجهـة بين مجاعتي البشر البدائيني‬
‫حديثة‪،‬‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫قاعـة‬ ‫عنـد بركـة املـاء يف بدايـة الفيلـم‪ ،‬لكنهـا جتـري هنـا يف‬
‫‪53‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫وهـي معرك ٌة حـول اإلقليم‪ ،‬ولـو أن أطرافها مل يسـتخدموا اهلراوات‬


‫العظميـة كما حدث عنـد بركـة املاء‪.‬‬
‫تسـتمر اإلحـاالت على املقطـع األول للفيلـم يف بقيـة مقاطعه‪.‬‬
‫حيـث تتكرر مشـاهد تنـاول البرش للطعـام خالل الفصـول الثالثة‬
‫األوىل‪ ،‬وكذلـك وجبـة ديـف األخيرة قبل أن يفقـد هيأتـه الفانية‪.‬‬
‫ُتضي معظـم احليوانـات الربيـة حياهتـا يف رعـي الطعام واكتسـاب‬
‫الـوزن‪ ،‬وهـي غريـزة نحـاول نحـن الذهاب هبـا إىل احلـد األقىص‬
‫يف حيواناتنـا الداجنـة التـي نتغـذى عليهـا‪ .‬قـد تكون هـذه الغريزة‬
‫ذاهتـا السـبب يف شـيوع السـمنة عنـد البشر يف وقتنا احلـارض‪ .‬وقد‬
‫رأينـا هذا السـلوك عنـد مراقب القمـر ومجاعته من القـرود البرشية‬
‫يف افتتاحيـة الفيلـم‪ ،‬حيـث كانوا يبحثـون عن النباتـات واحلرشات‬
‫ٍ‬
‫لقطـات مقربـ ًة ألفـراد املجموعـة وهـم‬ ‫ألكلهـا‪ .‬ثـم نـرى الحقـ ًا‬
‫يتناولـون حلـوم حيوانـات التابير‪ .‬يركـز الفيلـم على الوظائـف‬
‫احليويـة للجسـم البشري‪ ،‬كما عندما نـرى فلويـد وهو يقـرأ ٍ‬
‫بقلق‬
‫لوحـة التعليمات امللصقة عىل باب املرحـاض‪ ،‬حيث من الرضوري‬
‫قراءهتـا؛ ألن اجلاذبيـة معدومـة يف حمطـة الفضـاء‪ .‬ثـم نـرى فلويـد‬
‫ورفاقـه الحقـ ًا يف املركبـة الفضائيـة وهـم يأكلـون شـطائر حتتـوي‬
‫مـواد اصطناعيـة «هلـا مـذاق الدجـاج بعـض الشيء» يف طريقهـم‬
‫لرؤيـة املسـلة الغامضـة‪ ،‬وكذلك فرانـك وديف ومها يـأكالن مواد‬
‫جيالتينيـة على متـن املركبـة ديسـكوفري‪ .‬يركـز كوبـرك على هذه‬
‫الوظائـف البرشيـة القادمـة من ماضينـا التطوري‪ ،‬والتي سـيفقدها‬
‫ديـف عندمـا يتحول‪.‬‬
‫‪54‬‬
‫الف�صل الأول‬

‫يصـور الفصـل املعنـون «مهمـة املشتري ‪»Jupiter Mission‬‬ ‫ِّ‬


‫املرحلـة األخيرة للتطـور التكنولوجـي للبشر‪ ،‬ويف هـذا الفيلـم‬
‫الـذي يتسـم بالصمـت إىل حـدٍّ كبير‪ ،‬تشـكل فقـر ٌة حواريـ ٌة نقط َة‬
‫ِ‬
‫املخـرج إيصاهلـا إلينـا برص ًّيـا‪ .‬ف َب ْعد‬ ‫ٍ‬
‫ارتـكاز للرسـالة التـي حيـاول‬
‫افتتاحيـة طويلـة للمركبـة ديسـكوفري‪ ،‬وهـي لقطـ ٌة تركـز‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫لقطـة‬
‫عرفنـا الفيلـم إىل طاقـم‬ ‫أيضـ ًا على موضوعـة التكنولوجيـا‪ُ ،‬ي ِّ‬
‫املركبـة‪ :‬ديـف بومـان قائد املهمـة؛ نائبه فرانـك بـول؛ وثالثة علامء‬
‫شـبيهة بالتوابيـت؛‬‫ٍ‬ ‫سـبات يف صناديـق‬‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫حالـة‬ ‫آخريـن يرقـدون يف‬
‫ثـم لدينـا الشـخصية الوحيـدة املثيرة لالهتمام يف الفيلـم‪ ،‬وهـي‬
‫كومبيوتـر الذكاء االصطناعـي ‪HAL 9000‬الذي يديـر نظام مركبة‬
‫اختصار لــ ‪Heuristically-Programmed‬‬ ‫ٌ‬ ‫ديسـكوفري‪ ،‬واسـمه‬
‫‪ ،Algorithmic Computer‬ويف تسـميته إشـار ٌة خفيـ ٌة أيضـ ًا‬
‫حيـث أن احلـروف التاليـة لـكل حـرف مـن ‪ h‬و ‪ a‬و‪ l‬يف األبجديـة‬
‫اإلنگليزيـة هـي ‪ .IBM‬يشـاهد ديـف وفرانـك مقابلـ ًة هلما كانا قد‬
‫املذيـع الـذي جيـري‬ ‫ُ‬ ‫أجرياهـا سـابق ًا مـع حمطـة يب يب يس‪ .‬و ُيقـدم‬
‫املقابلـ َة نظـا َم هـال عىل أنـه كومبيوتـر يسـتطيع «أن يـؤدي‪ ،‬ولو أن‬
‫بعـض اخلبراء يفضلـون اسـتخدام كلمـة حياكـي‪ ،‬معظم األنشـطة‬
‫التـي يقـوم هبـا الدمـاغ البشري‪ ،‬بدقة ورسعـة تفوقـان الوصف»‪.‬‬
‫ويلمـح هـذا احلـوار إىل النتيجـة النهائية للتطـور التكنولوجـي‪ :‬آل ٌة‬
‫تسـاوي أو تتجاوز الدمـاغ البرشي ذكا ًء‪ ،‬وتفوقهم كثير ًا يف القدرة‬
‫على هضـم ومعاجلـة املعلومـات‪.‬‬
‫لكـ َّن احلـوارات التاليـة تف ِّطنُنا إىل املشـكلة التي يمكن أن تنشـأ‬
‫‪55‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫عواطف‬
‫ُ‬ ‫املذيـع ما إذا كان لنظـام هال‬
‫ُ‬ ‫عـن تكنولوجيا كهذه‪َ .‬ي ُ‬
‫سـأل‬
‫ن‪َ ،‬يعمـل كومبيوتـر هـال ‪9000‬‬ ‫حقيقيـ ٌة‪ ،‬فيجيـب ديـف‪« :‬حسـ ٌ‬
‫مشـاعر حقيقيـ ٌة‬
‫ُ‬ ‫وكأن لـه عواطـف حقيقيـة‪ ..‬أمـا مـا إذا كان لديـه‬
‫سـؤال ال أعتقـد أن أحـد ًا يسـتطيع اإلجابـة عليـه»‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫أو ال فهـذا‬
‫لكـ َّن ا َملشـاهد التاليـة مـن فصـل «مهمـة املشتري» جتيب على هذا‬
‫الصفـات التكيفيـ ُة التي‬
‫ُ‬ ‫مرئـي‪ .‬بلى‪ ،‬لقـد ُم ِّـر َر ْت‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫بشـكل‬ ‫السـؤال‬
‫سـاعدت البشر على البقـاء – الدفـاع عـن اإلقليم‪ ،‬والصراع بني‬
‫زعماء القبائـل إىل خليقتهـم – خليقة البرشـــ‪ ،‬طفلنـا التطوري إن‬
‫صـح التعبير‪ .‬فقـد أصبـح الكومبيوتـر‪ ،‬كما يرجـح مذيـع البي يب‬
‫ال على «أداء‪ ...‬معظم األنشـطة التي تطور‬ ‫يس يف الفيلـم‪ ،‬قـادر ًا فع ً‬
‫الدمـاغ البشري ألدائها»‪.‬‬
‫عندمـا بـدأ العطـب يـدب يف أجهـزة السـفينة الفضائيـة‪ ،‬حبك‬
‫ديـف وفرانـك خطـ ًة إلطفـاء كومبيوتـر هـال الـذي زوده البشر‬
‫بغرائزهـم التـي ورثوهـا مـن متثالهتـم البدائيـة‪ ،‬وقـد رد اجلهـاز‬
‫بشري‪ .‬إذ اسـتطاع بعينـه‬
‫ٌّ‬ ‫على خطتهما تلـك كما يفعـل كائـ ٌن‬
‫االصطناعيـة أن يقـرأ حـركات شـفاه ديـف وفرانـك ومهـا حيبكان‬
‫مؤامرهتما لتعطيـل وعيه مؤقتـ ًا عىل األقـل‪ .‬هكذا يصور لنـا الفيلم‬
‫مـرة أخـرى الغريـز َة اإلقليميـة؛ فكما فعـل مراقـب القمـر‪ ،‬حاول‬
‫جهـاز هـال الدفـاع عن إقليمـه وحياته‪ .‬إذ قـام بقتل العلماء الثالثة‬
‫املوضوعين يف حالة السـبات‪ ،‬كما حـاول أن يدبر مكيـد ًة إلخراج‬
‫لا بقتـل فرانك‬‫ديـف وفرانـك مـن داخـل السـفينة‪ ،‬وقـد نجح فع ً‬
‫عندمـا خرج األخري السـتبدال أحـد أجزاء السـفينة يف اخلـارج(‪.)8‬‬
‫‪56‬‬
‫الف�صل الأول‬

‫يسـتطيع املشـاهد النبـه أن يـرى التهكـم الكامـن يف املعركـة‬


‫يصـور الفيلـم مـا يسـميه‬ ‫ِّ‬ ‫األخيرة بين ديـف والكومبيوتـر هـال‪.‬‬
‫علما ُء التطـور صفـ ًة جوهريـ ًة للطبيعـة البرشيـة‪ ،‬وسـط رصا ٍع‬
‫آخـر بين َذك ََريـن قويين‪ ،‬واحـدٌ بشري وآخـر مـن صنـع البشر‪،‬‬
‫مسـتعيد ًا بذلـك املعركـ َة حـول بركـة امليـاه يف بدايـة الفيلـم‪،‬‬
‫واملواجهـة بين األمريـكان والـروس يف حمطـة الفضاء‪ ،‬إنما يف هذه‬
‫احلالـة‪ ،‬وعلى عكـس ما حـدث مـع فيكتـور فرانكشـتاين‪ ،‬يتمكن‬
‫الكائـن البشري مـن تدمير املسـخ الـذي صنعـه‪ ،‬حيـث اسـتطاع‬
‫ديـف العـودة إىل السـفينة بعـد أن فشـل يف إنقـاذ فرانـك‪ .‬و ُيـر ِّد ُد‬
‫الكومبيوتـر – وهـو يعـاين سـكرات املوت أغنيـة «ديـزي ‪»Daisy‬‬
‫بشـكل متقطـع مضحـك‪ ،‬وينتهي عند املقطـع الذي يقـول «دراجة‬
‫أداة تكنولوجيـة بدائيـة‪ .‬لقد كان‬ ‫هوائيـة لشـخصني»‪ ،‬نكـوص إىل ٍ‬
‫ٌ‬
‫البشر رشكاء للتكنولوجيـا التـي ابتدعوهـا حتـى هـذه اللحظة من‬
‫تطورهـم‪ ،‬وكانـت رشاكـ ًة موفقة‪ .‬يرمز مـوت الكومبيوتـر هال إىل‬
‫هنايـة االحتـاد بين البشر والتكنولوجيـا‪ ،‬االحتـاد الـذي بـدأ حلظة‬
‫يصـور لنا هـذا اجلز ُء‬‫ِّ‬ ‫اإلهلـام الـذي اعترى مراقـب القمـر‪ .‬كذلك‬
‫التصويـر‬
‫ُ‬ ‫مـن الفيلـم احلـدود األخيرة للتكنولوجيـا‪ ،‬و ُيظهـر لنـا‬
‫البصري أن حمدوديـة التكنولوجيـا هـي حمدودية الطبيعـة البرشية‪.‬‬
‫حتـى إن كوبـرك قـال بخصـوص هـذه اجلزئيـة‪:‬‬
‫«يعتقـد معظـم الباحثين رفيعـي املسـتوى يف جمـال الكومبيوتـر‬
‫أنـه عنـد إنتـاج كومبيوتـر يفـوق اإلنسـان ذكا ًء‪ ،‬ويسـتطيع التعلـم‬
‫سـيطور طيف ًا من‬
‫ِّ‬ ‫بالتجربـة أيضـ ًا‪ ،‬فمن املحتـم أن كومبيوتـر ًا كهذا‬
‫‪57‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫ردود الفعـل العاطفيـة ُمناظِـر ًا لذلـك اخلـاص بالبشر‪ -‬اخلـوف‪،‬‬


‫آللة كهذه أن تصبح بمسـتوى‬ ‫احلب‪ ،‬الكره‪ ،‬احلسـد‪ ،‬إلـخ‪ .‬ويمكن ٍ‬
‫اهنيار‬
‫ٌ‬ ‫تعقيـد الكائـن البرشي‪ ،‬من ثـم يمكن أن حيـدث هلا بالطبـع‪،‬‬
‫عصبـي‪ ،‬األمر الـذي حدث للكومبيوتـر هال يف الفيلـم»)‪ .(9‬بعبارة‬
‫ٌّ‬
‫أخرى‪ ،‬سـتحاكي اآللـ ُة التطـور البرشي‪.‬‬
‫الفيلـم مـن رحلـة القمـر إىل رحلـة‬
‫َ‬ ‫تسـود النبر ُة التهكميـة‬‫ُ‬
‫املشتري وانتهـا ًء باملقطـع املعنـون «إىل الالهنايـة ومـا بعدهـا ‪To‬‬
‫‪ .»The Infinite—and Beyond‬لكـن التهكـم لـن يكـون بطبيعـة‬
‫تطـور يذهـب باإلنسـان بعيـد ًا‬
‫ٌ‬ ‫احلـال مناسـب ًا للمـوت والتحـول‪،‬‬
‫عـن التمثلات البدائيـة‪ .‬ختربنـا روايـة كالرك كالم ًّيـا عـن هـذا‬
‫التحـول‪ ،‬حيـث ُتدثنـا عن مـا خيتربه ديـف عندما يدرك أنه يسـافر‬
‫ِ‬
‫حمطـة‬ ‫برسعـة تفـوق رسعـة الضـوء‪ ،‬ثـم تصـف كيـف يصـل إىل‬
‫ٍ‬
‫حتويـل‪ .‬حيـث يـرى هناك مقبر ًة لسـفن الفضـاء (والتـي ال بد أهنا‬
‫ً‬
‫وأشـكال مـن الطاقـة حتوم‬ ‫قـد وصلـت هنا عبر بوابـة النجـوم)‪،‬‬
‫ٍ‬
‫كائنـات فضائيـ ًة‪ .‬وهي من‬ ‫حـول أحـد النجوم‪ ،‬والتـي ربام تكـون‬
‫املوضوعـات الشـائعة يف اخليـال العلمـي‪ .‬بينام يتجنـب كوبرك هذه‬
‫التفاصيـل الرصحيـة كيما يصنـع نغمـة روحانيـة خلامتـة فيلمه‪.‬‬
‫أصعب كثير ًا‪ ،‬بطبيعة‬ ‫ـو ِل ديـف‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬
‫ُ‬ ‫بصري لت ََح ِّ‬
‫ٍّ‬ ‫تصويـر‬ ‫إن إنتـاج‬
‫احلـال‪ ،‬مـن تصويـر تكويـن اإلنسـان وتطـوره كصان ٍع ومسـتخد ٍم‬
‫كل مـن كالرك وكوبـرك يف املقابلات التـي‬ ‫عبر ٌّ‬‫للأدوات‪ .‬وكما َّ‬
‫أجريـت معهما‪ ،‬فـإن تصوير ًا ِشـ ْعري ًا لعمليـة املوت وإعـادة البعث‬
‫شـحنة دينيـة بالتأكيـد‪ .‬باإلضافـة إىل اسـتخدام‬‫ٍ‬ ‫هـذه‪ ،‬سـيكون ذا‬
‫‪58‬‬
‫الف�صل الأول‬

‫الفيلـ ِم لالكتشـافات املبكـرة حلقـل السوسـيوبيولوجيا‪ ،‬فإنـه ٌ‬


‫نتـاج‬
‫راجت يف أواخـر السـتينيات‪ .‬حيث ازدهر‬ ‫ْ‬ ‫للرصعـة الروحية التـي‬
‫البحـث الدينـي يف تلـك احلقبـة التي شـهدت ميالد حركـة العرص‬ ‫ُ‬
‫اجلديـد ‪ .The New Age‬وهكـذا تبـدو خامتـة الفيلـم خليطـ ًا مـن‬
‫غريـب تأثـر‪ ،‬كما‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫خليـط‬ ‫اخليـال العلمـي والرتانسـيندنتالية‪ ،‬وهـو‬
‫أسـلفنا‪ ،‬بظهـور روحانيـة العصر اجلديد يف السـتينيات‪.‬‬
‫يبـدأ كوبـرك الرتميز الدينـي يف الفيلـم بفصل «فجر اإلنسـان»‪،‬‬
‫لسـفر التكوين‪ .‬ثم يسـتخدم‬ ‫حيـث يقـدم صـور ًة هتكميـة تطوريـ ًة ِ‬
‫يف النمـط األخير مـن األنماط الصورية الثالثـة التي اسـتخدمها يف‬
‫الفيلـم َمـاز املـوت والتناسـخ الـذي ورثتـه حركـة العصر اجلديد‬
‫جاز للتحـول الـذي يطرأ عىل‬ ‫كم ٍ‬ ‫عـن العرفـان الرشقـي واملسـيحي َ‬
‫ديـف بفعـل الكائنـات الفضائيـة غير املرئيـة‪ُ .‬طـرح هـذا الفيلم يف‬
‫احلـركات الدينيـة اجلديـدة فيهـا باسـتقطاب‬
‫ُ‬ ‫بـدأت‬
‫ْ‬ ‫احلقبـة التـي‬
‫مئـات اآلالف مـن األتبـاع باإلضافـة إىل ماليين املراقبين املهتمني‬
‫بمتابعتهـا‪ :‬مهاريشي ماهـش يوغـي ‪Maharishi Mahesh Yogi‬‬
‫ومدرسـة التأمـل الرتانسـيندنتايل خاصتـه (وقـد تبنتها فرقتـا البيتلز‬
‫‪ Beatles‬وبيتـش بويـز ‪ ،)Beach Boys‬أي‪ .‬يس‪ .‬هباكتيفيدانتـا‬
‫سـوامي براهبوبـادا ‪A.C. Bhaktivedanta Swami Prabhupada‬‬
‫ومدرسـة وعي كرشـنا التـي أسسـها‪ ،‬وصـوالً إىل بوذية الـزن ‪Zen‬‬
‫حظيـت هـذه الفـرق‬‫ْ‬ ‫ٍ‬
‫رشقيـة أخـرى‪ ،‬وقـد‬ ‫‪ Buddhism‬و ُط ُـر ٍق‬
‫بأعـداد ال حتصى من األتبـاع‪ .‬وإذا مل تكـن فرتة منتصف السـتينيات‬ ‫ٍ‬
‫وأواخرهـا هـي فرتة والدة حركـة العرص اجلديد‪ ،‬فقـد كانت يف ِّ‬
‫أقل‬
‫‪59‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫شـهدت تزايد شـعبيتها؛ من ثم فقـد كان الرتكيز‬


‫ْ‬ ‫ٍ‬
‫تقديـر احلقبـة التي‬
‫على األديـان الرشقية حجـر الزاوية يف تلـك احلركة‪ْ ،‬‬
‫إن جـاز لنا أن‬
‫نسـمي جمموعة املعتقدات غير املنتظمة تلك «حركـ ًة»(‪ .)10‬باإلضافة‬
‫إىل ذلـك‪ ،‬فقـد عاش آرثـر يس‪ .‬كالرك معظـم حياتـه يف رسيالنكا‪،‬‬
‫حيـث يشـكل البوذيـون أكثـر مـن ‪ % 70‬مـن السـكان)‪ .(11‬ومع أنه‬
‫مل يسـتخدم يف روايتـه التصويـر الدينـي ذاتـه الـذي اعتمـده الفيلم‪،‬‬
‫إال أن مـن غير املسـتبعد أن كالرك قـد اقرتح هـذه الفكـرة يف إنتاج‬
‫الفيلـم لتصويـر حتـول ديـف‪ .‬على صعيـد التطـور البيولوجـي‪ ،‬قد‬
‫متـوت أنـواع قديمة مـع تطور نو ٍع جديـد‪ .‬يف الواقع‪ ،‬سـبق أن طرح‬
‫كالرك تغير ًا تطور ًّيـا كهـذا يف روايتـه ‪.Childhood’s End‬‬
‫تصويـر كوبـرك للتحـول الـذي طرأ على ديـف – والذي‬ ‫ُ‬ ‫ُي َعـدُّ‬
‫أداره الفضائيـون اسـتمرار ًا للرمزيـة الدينيـة التـي بـدأ هبـا الفصل‬
‫األول من الفيلم‪ .‬وإذا كانت املسـلة احلجرية ترمز إىل شـجرة املعرفة‬
‫يف املقطـع األول‪ ،‬فقـد أصبحت اآلن شـجرة احلياة‪ .‬يسـتخدم ديف‬
‫لقطـة مناظِ ٍ‬
‫ـرة ملا حدث‬ ‫ٍ‬ ‫األذرع امليكانيكيـة لكبسـولته الفضائيـة‪ ،‬يف‬
‫يف اجلزأيـن األول والثـاين مـن الفيلـم‪ ،‬لتلفـت انتباهنا إىل املسـتوى‬
‫املتصاعـد للتكنولوجيـا التي توصـل إليها البرش‪ ،‬ابتـدا ًء من مراقب‬
‫القمـر وملسـه وتذوقـه للمسـلة واإلهلـام الـذي اعتراه‪ ،‬إىل فلويـد‬
‫وتعاملـه مـع املسـلة مرتديـ ًا بذلتـه الفضائية على سـطح القمر‪ .‬ثم‬
‫نرى جسـد ديف يشـيخ يف أثنـاء رحلتـه التي فاقـت رسعتها رسعة‬
‫الضـوء‪ .‬ونـراه بعدهـا عجـوز ًا يتنـاول طعامـه يف صالـة باذخـة‪،‬‬
‫ٍ‬
‫كجـزء مـن حاجاتنـا التطوريـة‪ .‬ثـم نراه‬ ‫إشـارة أخيرة إىل الطعـام‬
‫‪60‬‬
‫الف�صل الأول‬

‫ٍ‬
‫فـراش مواجه ًا املسـلة التـي هتبه اخللـود أخير ًا‪ .‬ليبدأ‬ ‫يمـوت على‬
‫بعدهـا رحلـة العـودة إىل األرض بشـكله اجلديد‪ :‬الطفـل النجمي‪.‬‬
‫هكـذا كانـت اخلامتة التصويريـة للفيلم غني ًة باأللغـاز الغامضة‪،‬‬
‫حيـث تقـدم جمـاز ًا إحيائ ًّيـا ملحوظ ًا على املـوت والتناسـخ‪ ،‬املعتقد‬
‫الـذي ينتمـي إىل مدرسـة العصر اجلديـد‪ ،‬الـذي وظفـه الفيلـم‬
‫ٍ‬
‫مرحلـة أخـرى مـن‬ ‫ليعـرض رؤيـة خياليـ ًة علميـة للتطـور إىل‬
‫واهلنـدويس إطـار ًا مناسـب ًا مـن‬
‫ُّ‬ ‫البـوذي‬
‫ُّ‬ ‫الكينونـة‪ .‬و ُي َو ِّفـر ُ‬
‫التاثـان‬
‫مت لصناعـة النبرة الدينيـة أو‬ ‫التصاويـر املرجعيـة التـي اسـت ِ‬
‫ُخد ْ‬
‫العرفانيـة للفيلـم‪ ،‬التـي أشـار إليهـا النقـاد كما اشـار إليهـا كوبرك‬
‫نفسـه‪ .‬يركـز هـذان الرتاثان على االنفصال عـن العامل املـادي ومن‬
‫ثـم التناسـخ‪ .‬ومـن الواضـح أن ديف قد حتـول وولِدَ مـن جديد يف‬
‫ٍ‬
‫مرحلـة تطوريـة أخـرى‪ ،‬ويتيـح العرفان الرشقـي جماز ًا برص ًّيـا غن ًّيا‬
‫ملوتـه وإعـادة والدتـه مـن جديد‪.‬‬

‫املسلة يف هناية الطور الفاين من حياة ديف (كري دوليا ‪)Keir Dullea‬‬

‫‪61‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬
‫ِ‬
‫وعـال‬ ‫يبـدو أن كتابـات العرفـاين والراهـب املسـيحي اليسـوعي‬
‫احلفريـات تيلار دي شـاردان ‪)1881-1955( Teilhard de Chardin‬‬
‫التـي تبنَّتهـا حركة العصر اجلديـد‪ ،‬كانت إحـدى املصادر التي اسـتقى‬
‫فكـر شـاردان بين التطـور البيولوجـي‬ ‫منهـا الفيلـم مادتـه‪ .‬يمـزج ُ‬
‫والعرفـان الرتانسـندنتايل (األمـر الـذي كاد أن يتسـبب بفصلـه مـن‬
‫لا من ِق َبـل الكنيسـة‪ ،‬ومل تبدأ‬
‫الكنيسـة)‪ .‬تعرضـت كتاباتـه للقمـع طوي ً‬
‫مقاالتـه وكتبـه بالظهـور إال يف هناية اخلمسـينيات‪ُ ،‬ب َعيد وفاتـه‪ ،‬ككتاب‬
‫ِ‬
‫‪ Living in the Divine Milieu‬الـذي نُشر عـام ‪ 1957‬وكتـاب ‪The‬‬
‫‪ Phenomenon of Man‬عـام ‪ .1959‬وقد تلقفـت حرك ُة العرص اجلديد‬
‫أعام َلـه يف الوقـت الـذي كان فيـه كوبـرك يعمـل على فيلمه‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بكثري من جمرد التغري‬ ‫يرصح شـاردان أن التطور البيولوجي أكثر‬
‫يف الشـكل املـادي بالتكيـف مع البيئـة واالنتخـاب الطبيعـي وبقاء‬
‫داروين‪ .‬ففـي كتابـه ‪The Phenomenon of‬‬ ‫األصلـح‪ ،‬كام صـوره ِ‬
‫ٍ‬
‫بمصطلحـات تذكرنا باإلهلام‬ ‫‪ ،Man‬يصـف شـاردان جذور الفكـر‬
‫ُ‬
‫التوصـل إىل الفكـر عتبـ ًة ال‬ ‫الـذي اختبره مراقـب القمـر‪ُ « :‬يم ِّث ُـل‬
‫خطـوة واحـدة‪ ،‬فتر ٌة جتريبيـ ٌة ترانسـيندنتالية ال‬ ‫ٍ‬ ‫بـد مـن ختطيهـا يف‬
‫يمكننـا أن نصفهـا علم ًّيـا على اإلطلاق»)‪ .(12‬وربما تصلـح كلامته‬
‫لوصـف جتربة ديـف يف خامتة فيلـم ‪ .2001‬ففـي ذات الوقت الذي‬
‫نـرى فيـه الكائنـات الفضائية وقـد أخذت ديـف‪ ،‬نراه يتطـور أيض ًا‬
‫خمتلـف جد ًا عـن التطور‬
‫ٌ‬ ‫تطـور‬
‫ٌ‬ ‫مسـتوى ترانسـيندنتا ٍّيل آخـر‪،‬‬
‫ً‬ ‫نحـو‬
‫ِ‬
‫التمثلات البدائي َة‪.‬‬ ‫العضـوي الذي أوجـد يف البشر‬
‫يمكـن تلخيـص فيلـم ‪ 2001‬بأنه قصـة حتكي قـدوم الفضائيني‬
‫‪62‬‬
‫الف�صل الأول‬

‫موج ٌه‬
‫تطـور َّ‬
‫ٌ‬ ‫حـي يمكن أن ُيـرى عليه‬ ‫إىل األرض بحثـ ًا عـن نـو ٍع ٍّ‬
‫كـي يصبح ذك ًّيـا‪ ،‬فيجـد الفضائيـون هذا النـوع ويغريونـه‪ .‬ثم بعد‬
‫أن يمتلـك هـذا النوع ما يكفي مـن التكنولوجيا للسـفر يف الفضاء‪،‬‬
‫يقـوم الفضائيـون باجتـذاب أحد أفـراده من خلال رحلـة فضائية‬
‫أرسع مـن الضـوء عبر بوابـة النجـوم‪ ،‬ليدخلـوه عاملهـم اخلـاص‪،‬‬
‫مسـتوى ال ينتمـي إىل العـامل‬
‫ً‬ ‫حيـث يقومـون بتغيير هـذا الفـرد إىل‬
‫املـادي‪ ،‬ثـم يعيدونـه إىل األرض‪ .‬ويؤكـد كوبـرك نفسـه أن هـذا‬
‫الوصـف هو اهليـكل األسـايس حلبكـة فيلمه‪.‬‬
‫لكـن هـذا التبسـيط املفـرط سـيكون كام لـو أننا نلخـص كتاب‬
‫‪ Eve of St. Agnes‬جلـون كيتـس ‪ John Keats‬بأنـه قصيـدة عـن‬
‫فتًـى يتسـلل إىل خمدع فتـاة ويامرس معهـا اجلنس ثم يغرهيـا باهلرب‬
‫كل من الفيلم‬‫معـه‪ .‬إذ يف كلتـا احلالتين‪ ،‬فإن العمل الـذي يتضمنـه ٌّ‬
‫والقصيـدة‪ ،‬أعظـم بكثير من احلبكـة املجـردة‪ .‬وربام يكـون عنوان‬
‫فيلـم كوبـرك األخير ‪ Eyes Wide Shut‬املنتَـج عـام ‪ 1999‬جمـاز ًا‬
‫مناسـب ًا‪ .‬إذ مل يسـتطع بطـل الفيلم األخير إدراك التفاصيـل املعقدة‬
‫للحيـاة؛ ألنـه خـاض غامرهـا – كما ُيسـتدَ ُّل مـن عنـوان الفيلـم‬
‫«بعينين مغلقتين على اتسـاعهام»‪ .‬وحاملـا فتـح عينيـه‪ ،‬اكتشـف‬
‫مسـتوى جديـد ًا وإشـكال ًّيا مـن التجربـة‪ .‬كذلـك األمـر بالنسـبة‬
‫ً‬
‫ُملشـاهد فيلـم ‪ .2001‬إذ سـيجد فيـه املشـاهدون الذيـن يتلقونـه‬
‫ٍ‬
‫مفتوحـة أفـكار ًا عميقـ ًة عـن الطبيعـة البرشيـة‬ ‫ٍ‬
‫وعقـول‬ ‫ٍ‬
‫بعيـون –‬
‫وعـن عالقـة البشر بالتكنولوجيـا‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫الفصل الثاني‬

‫التمثل اإلقليمي‬

‫«هذه األرض أرضك»‬

‫مـا زالـت أغنيـة وودي گاثـري ‪ Woody Guthrie‬هـذه مثيرة‬


‫عـزا املتخصصون بعلـم النفس‬
‫للجمهـور حتـى يومنا هـذا‪ .‬وربما َ‬
‫التطـوري اسـتمرارية التأثري القوي لكلامهتـا إىل الغريـزة اإلقليمية‪.‬‬
‫بمعنـى أن أدمغتنـا تسـتجيب للـذة كلمات هـذه األغنيـة مدفوعـ ًة‬
‫بـذات الغريـزة التـي دفعـت مراقـب القمـر وجمموعتـه يف فيلـم‬
‫‪ 2001: A Space Odyssey‬للقتـال مـن أجـل ملكيـة بركـة امليـاه‪.‬‬
‫ُتنَ ِّظـر نظريـة التطـور أن الرغبـة يف حتصيـل اإلقليـم والدفـاع عنـه‬
‫مغروسـ ٌة عميقـ ًا يف السـلوك التكيفـي ألسلافنا البدائيين‪ .‬وكما‬
‫يقـول إدوارد أوزبـورن ويلسـون‪:‬‬
‫« ُت َعـدُّ اإلقليميـ ُة إحـدى السـلوكيات العدوانيـة املتنوعـة التـي‬
‫‪65‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫يمكـن فهمها من خلال املنظـور البيولوجي اجلديـد‪ُ .‬ي َع ِّـرف َط َل َب ُة‬


‫اإلقليـم بأنـه منطقـ ٌة حيتلهـا – بدرجـة ما من‬‫َ‬ ‫علـم سـلوك احليـوان‬
‫حيـوان مـا‪ ،‬سـوا ٌء بشـكل مبـارش مـن خلال اسـتخدام‬ ‫ٌ‬ ‫احلرصيـة‬
‫القـوة أو بشـكل غير مبـارش مـن خلال اإلعالن عـن كوهنـا تابع ًة‬
‫مـورد نـادر‪ ،‬عاد ًة مـا يكون‬ ‫ٍ‬ ‫لـه‪ .‬ودائم ًا ما حتتـوي هـذه املنطقة عىل‬
‫مسـتقرة مـن الطعـام‪ ،‬املـأوى‪ ،‬واملـكان الضروري‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وفـرة‬ ‫بشـكل‬
‫لتقديم العـروض اجلنسـية»)‪.(1‬‬
‫ويعرف ريتشـارد رانگام وديل بيرتسـون اإلقليم تعريف ًا مشـاهب ًا‬ ‫ِّ‬
‫َـل بالقـوة‪ ،‬بمعنـى أن صاحـب اإلقليـم يدافع عنه‬ ‫«جمـال ُيت ُّ‬
‫ٌ‬ ‫بأنـه‪:‬‬
‫ضـد الدخالء مـن النوع نفسـه (أو مـن األنـواع األخـرى أحيان ًا)‪.‬‬
‫َـل بتوظيـف القـوة أو‬ ‫أمـا املجـال فنعنـي بـه رقعـ ًة مـن األرض ُتت ُّ‬
‫دون توظيفهـا»‪ .‬يسـجل رانـگام وبيرتسـون أن قـرود الشـمبانزي‬
‫هـي أقـرب أقاربنـا يف مملكة احليـوان‪ ،‬وإننا نتشـارك معهـا غرائزها‬
‫اإلقليميـة‪ .‬كما يوضحـان سـلوكيات الشـمبانزي قائلين «يشـكل‬
‫ذكـور الشـمبانزي عصبـ ًة تدافـع عـن إقليـم املجموعـة‪ ،‬وجتتهـد‬ ‫ُ‬
‫للمحافظـة على النقـاء اإلثنـي ملجموعتها‪ .‬وتقـوم يف الوقـت عينه‬
‫باإلغـارة على أقاليـم املجموعـات األخـرى لقتـل منافسـيها»)‪.(2‬‬
‫عمنا مـن القـرود إىل أقىص حدود الرشاسـة‬ ‫يمكـن أن يذهـب بنـو ِّ‬
‫يف الدفـاع عن اإلقليم واحتلال األقاليم األخرى‪ .‬حتـى إن إدوارد‬
‫أوزبـورن ويلسـون يسـجل خماوفـه قائلاً‪« :‬لـو أن قـرود البابـون‬
‫امتلكـت السلاح النـووي‪ ،‬لكانـت قـد دمـرت العـامل يف غضـون‬
‫أسـبو ٍع ال أكثر»)‪.(3‬‬
‫‪66‬‬
‫الف�صل الثاين‬

‫ال خيلـو البشر مـن السـلوك اإلقليمـي بالطبـع‪ .‬إذ نـراه مث ً‬


‫لا‬
‫ٍ‬
‫بوضـوح يف‬ ‫يف بنـاء اإلمرباطوريـات يف العـامل القديـم‪ .‬كما رأينـاه‬
‫رغبـة األملـان واليابانيين باالسـتيالء على أقاليم جديدة تسـتوعب‬
‫التزايـد السـكاين هلـم ومتدهم باملـوارد الطبيعيـة‪ ،‬الرغبـة التي أدت‬
‫إىل نشـوب احلـرب العامليـة الثانيـة‪ .‬كذلـك رأينـاه يف فلسـفة القدر‬
‫املتجلي ‪ manifest destiny‬شـبه الدينيـة التـي شـاعت يف أمريـكا‬
‫القـرن التاسـع عشر‪ ،‬والتـي متحـورت حـول حقنـا يف االسـتيالء‬
‫على أمريـكا من سـواحلها الرشقيـة حتـى الغربيـة‪ ،‬دون مراعاة أن‬
‫فيهـا سـكان ًا أصليني‪ .‬نـرى اإلقليميـة أيضـ ًا يف االرتبـاط العضوي‬
‫للعديـد مـن اليهـود بإرسائيل بعدِّ هـا إقليمهـم القديم‪ .‬ونـراه اليوم‬
‫ٍ‬
‫جـدار يعزل احلـدود اجلنوبية للواليـات املتحدة‬ ‫يف املطالبـات ببنـاء‬
‫ٍ‬
‫كوسـيلة للدفـاع عـن اإلقليم‪.‬‬ ‫األمريكيـة عـن املكسـيك‪،‬‬
‫إذا كانـت غريـزة تدشين اإلقليـم والدفـاع عنـه شـائع ًة يف‬
‫تسـاءل األنصـار األوائـل لعلـم النفـس التطوري‬ ‫َ‬ ‫مملكـة احليـوان‪،‬‬
‫والسوسـيوبيولوجيا‪ ،‬فكيـف لنـا إذن أن نتوقـع أن يكـون اجلنـس‬
‫البشري – والـذي تطـور عبر ذات القوانين الصارمـة لالنتخاب‬
‫حكمت تطـور باقي األنـواع خمتلف ًا عن بقيـة األنواع‬
‫ْ‬ ‫الطبيعـي التـي‬
‫يف هـذه اجلزئيـة؟ إذ ال بد أن تعيين احلدود اإلقليميـة والدفاع عنها‬
‫ضـد اآلخريـن مـن خلال االصطفافـات القبليـة كانـا سـلوكني‬
‫تطوريـة مجـة للبشر البدائيين‪ .‬يسـجل ديزمونـد‬ ‫ٍ‬ ‫َذ َوي فوائـدَ‬
‫موريـس أن أسلافنا يف جمموعـات الصيـد وااللتقـاط قـد احتاجوا‬
‫تغير‬ ‫ٍ‬
‫القيـام برحلات صيـد طويلـة وخطـرة‪ .‬وهكـذا فقـد كان ُّ ُ‬
‫‪67‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬
‫ِ‬
‫نوعنـا مـن احليـاة البدويـة اهلائمـة إىل االسـتقرار يف إقليـ ٍم – حيث‬
‫اسـتطاعوا ممارسـة الزراعـة واسـتبدال الصيـد بتدجين احليوانات‬
‫ٌ‬
‫مـكان تعـود إليـه‬ ‫خطـو ًة تكيفيـة‪« .‬كان تدشين الوطـن رضورةً‪،‬‬
‫بالغنائـم‪ ،‬حيـث تنتظر اإلنـاث وبرفقتهن األطفال عـود َة الصيادين‬
‫بالطعـام‪ ...‬وهكـذا حتـول القـرد الصيـاد إىل ٍ‬
‫قـرد إقليمـي»)‪.(4‬‬
‫يطـرح املتخصصون بعلم النفس التطوري والسوسـيوبيولوجيا‬
‫ٍ‬
‫واضحة‬ ‫ٍ‬
‫بأشـكال‬ ‫أن الغريـزة اإلقليميـة ما زالـت موجود ًة فينا اليوم‬
‫بطـرق متنوعة‪ ،‬ولبعـض هذه‬ ‫ٍ‬ ‫وأخـرى خفيـة‪ ،‬إذ تعبر عـن نفسـها‬
‫آثار مدمـرةٌ‪ ،‬بينام ال يسـبب بعضها اآلخـر أ ًذى ُيذكَر‪ .‬يضع‬ ‫الطـرق ٌ‬
‫ٍ‬
‫واحـد‬ ‫بعـض طلبـة اجلامعـات أرشطـ ًة الصقـة لتعيين منطقـة ِّ‬
‫كل‬
‫منهـم مـن الغرفـة يف السـكن اجلامعـي‪ ،‬كذلـك نـرى يف الضواحي‬
‫سـياجات تفصـل بين ملكيـات األرايض‪ .‬يكتب روبـرت أردري‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫«نقـوم بما نقوم بـه‪ ،‬نحـن البشر‪ ،‬مدفوعين بامضينا التطـوري‪ ،‬ال‬
‫بحارضنـا الثقـايف‪ ...‬وهـذا ينطبق على دفاعنا عـن ملكيـة أراضينا‬
‫أو عـن سـيادة أوطاننـا‪ ،‬وال نختلـف يف ذلـك البتَّـة عـن احليوانات‬
‫األخـرى على صعيـد الدوافـع‪ .‬فالكلـب الـذي ينبـح عليـك مـن‬
‫وراء السـياج‪ ،‬يفعـل ذلـك لـذات الدافـع الـذي جعل مالكـه يبني‬
‫السـياج أصلاً»)‪ .(5‬يمكن عَـدُّ املعركـة اإلقليمية التـي جرت حول‬
‫بركـة امليـاه يف فيلـم ‪ 2001‬الـذي ناقشـناه يف الفصـل السـابق جماز ًا‬
‫إلظهـار تـوارث سـلوك الدفـاع عـن اإلقليـم منـذ حقبـة أسلافنا‬
‫البدائيين وصـوالً إىل تارخينا املعارص‪ .‬يف قصيدتـه ‪Mending Wall‬‬
‫كتـب الشـاعر األمريكي روبـرت فروسـت ‪« :Robert Frost‬هناك‬
‫‪68‬‬
‫الف�صل الثاين‬

‫يش ٌء مـا ال حيـب بنـاء اجلـدار»‪ .‬ومـع ذلـك يبـدو أن مـن صميـم‬
‫طبيعتنـا بنـا َء اجلدران‪.‬‬

‫«واجبك هو الحراسة الصارمة لهذا المكان»‪ :‬حراس‬


‫البوابة في أفالم الرعب الشيطانية‬

‫دائم ًا ما شـكَّلت الغريزة البرشيـ ُة للدفاع عـن األرض واحتالل‬


‫مصـدر إهلـا ٍم للقصـص الدراميـة التـي حتكـي نجاح‬ ‫َ‬ ‫أرض اآلخـر‬
‫أي نجـاح الغـزاة‬‫املدافعين يف الـذود عـن أراضيهـم أو العكـس‪ْ ،‬‬
‫باحتلال أرض اآلخـر‪ ،‬ابتـدا ًء مـن هجـوم اإلغريـق عىل طـروادة‬
‫يف ملحمـة هوميروس وصـوالً إىل األفلام الغربيـة التـي تصـور‬
‫رصاع سلاح الفرسـان األمريكـي ضد اهلنـود احلمر‪ .‬أمـا يف أفالم‬
‫الرعـب‪ ،‬فغالبـ ًا مـا يكـون هذا اآلخـر الذي هيـدِّ ُد باحتلال إقليمنا‬
‫وإفسـاد حوضنـا اجليني منتمي ًا إىل عـامل اخلوارق ومـا وراء الطبيعة‪،‬‬
‫النزافني (مصايص الدمـاء) واملذؤوبين إىل الزومبي‪ ،‬ويثري هذا‬ ‫مـن َّ‬
‫اخلـوف اإلنايب اللذيـذ‪ ،‬بتأثري نداءات السـلوكيات‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫التمثـل بداخلنا‬
‫التكيفيـة ألسلافنا األقدمني‪.‬‬
‫ُي َعـد الشـيطان نموذجـ ًا للدخيـل الذي حيتـل اإلقليـم‪ ،‬وواحد ًا‬
‫ٍ‬
‫راسـخ يف‬ ‫ٍ‬
‫بحضور‬ ‫مـن أقـدم مصاديـق اآلخـر يف الدين؛ كما حيتفظ‬
‫النصـوص األدبيـة وأفلام الرعـب التـي انبثقـت عـن األسـاطري‪.‬‬
‫التكوين الشـيطان بوصفـه مغوي ًا فقط‪ ،‬أمـا جون ملتون‬ ‫ِ‬ ‫ـفر‬ ‫ِ‬
‫يقدِّ م س ُ‬
‫ٍ‬
‫تقليـد تطور‬ ‫فقـد بنـى قصيدتـه امللحميـة «الفـردوس املفقـود» عىل‬
‫الشـيطان أبا الشرور‪ُ .‬ذ ِكر الشـيطان مرة أخـرى أيض ًا‬
‫َ‬ ‫الحقـ ًا ليعـدَّ‬
‫يف العهـد القديـم‪ ،‬حتديـد ًا يف ِسـ ْفر أيـوب‪ُ .‬ت َقـدِّ ر كارول نيوسـوم‬
‫‪69‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬
‫ِ‬
‫‪ Carol Newsom‬احلقبـة التـي كُتب فيها هذا السـفر مـا بني ‪500-‬‬
‫السـ ْفر‬‫‪ 700‬عـام قبـل امليلاد)‪ .(6‬وي َقدَّ م الشـيطان هنـا – أي يف هذا ِ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫بوصفـه واحـد ًا مـن «أبنـاء الـرب»‪ ،‬وربما أحـد املالئكـة‪ .‬ومل يكن‬
‫ٍ‬
‫رشيـر ًا باملعنـى الكهنـويت‪ ،‬بـل جمـرد كيان ماكـر‪ ،‬حيث سـأل َّ‬
‫الرب‬
‫الرب أيـوب لصالحـه وتقواه‪« :‬وهل خيشـى‬ ‫قائلاً‪ ،‬بعـد أن مـدح ُّ‬
‫الـرب جمان ًا؟»(اإلصحـاح األول‪ :‬اآليـة التاسـعة)‪ ،‬متحديـ ًا‬ ‫َّ‬ ‫أيـوب‬
‫ُ‬
‫الـرب أن خيترب أيوب‪ .‬وفق ًا هلـوارد شـوارتز ‪،Howard Schwartz‬‬ ‫َّ‬
‫فـإن األسـطورة اليهودية متيز بني الشـيطان كـ ٍ‬
‫«مغو و ُمدَّ ٍع سماوي»‬
‫يعمـل غالبـ ًا بالتعـاون مـع الـرب‪ ،‬وبين لوسـيفر ‪ Lucifer‬املتمرد‬
‫الطريـد)‪ .(7‬يربـط جيفـري راسـل ‪ Jeffrey Russell‬تطـور َدور‬
‫الشـيطان إىل الشر املجسـد‪ ،‬يربطـه بالسـبي البابلي لليهـود‪ ،‬حيث‬
‫متـاس مـع الديانـة الزرادشـتية ذات الثنويـة‬ ‫ٍّ‬ ‫عاشـوا يف بابـل على‬
‫قوتني‬ ‫املفرطـة‪ ،‬إذ تنظـر هـذه الديانـة إىل النـور والظلام بوصفهما َّ‬
‫متسـاويتني تقريبـ ًا‪ ،‬يف رصا ٍع أبـدي)‪ .(8‬ت ِ‬
‫َضرب الزرادشـتية ا َمل َثـل‬
‫األروع للقبليـة‪ :‬معركـة النـور ضد الظلام القوي‪ُ ،‬هـم ضد نحن‪.‬‬
‫بحلـول حقبـة يسـوع‪ ،‬أصبح لوسـيفر والشـيطان شـخصي ًة واحدة‬
‫متثـل عـدو الرب واإلنسـان‪ .‬يف هذا الشـكل اجلديـد‪ُ ،‬ي ْعزى ختريب‬
‫جنـة عدن إىل الشـيطان‪ ،‬كام نرى يف ملحمة الفـردوس املفقود جلون‬
‫اجلحيم التـي ُخصصت هلم‬ ‫َ‬ ‫ميلتـون‪ .‬حيث غـادر الشـيطان وأتبا ُعه‬
‫إقليمـي نموذجي‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫غـزو‬ ‫واقتحمـوا جنة عـدن‪ ،‬يف‬
‫يعتقـد بعض املؤرخين أن الكثري مـن الوثنيني الذين عاشـوا يف‬
‫أوروبـا يف حقبـة ما قبل املسـيحية قد َع َبـدوا إهل ًة وإهل ًا صيـاد ًا ذا ٍ‬
‫ذيل‬
‫‪70‬‬
‫الف�صل الثاين‬

‫رسـومات‬
‫ٌ‬ ‫وقرنين يدعـى سيرنونوس ‪ ،Cernunnos‬وقد ُو ِجدت‬
‫متثـل كليهما عىل جـدران الكهـوف‪ ،‬وأن الكنيسـة‪ ،‬بحسـب هؤالء‬
‫املؤرخين‪ ،‬قـد َخ َل َقـت صـورة الشـيطان مـن اللوحـات التـي‬
‫تصـور سيرنونوس هـذه لتفـادي املنافسـة‪ ،‬كما أحرقـوا كاهنـات‬
‫ٍ‬
‫وخادمـات للشـيطان‪ .‬يقترح هؤالء‬ ‫اإلهلـة باعتبارهـن سـاحرات‬
‫املؤرخـون أن عبادة الشـيطان قد نشـأت مـن عبادة سيرنونوس يف‬
‫األريـاف إ َّبـان العصـور املظلمة‪ ،‬كـر ِّد ٍ‬
‫فعل عىل اسـتبداد الكنيسـة‪.‬‬
‫ويلخـص آرثـر ليونـز ‪ Arthur Lyons‬نظرية اإللـه ذي القرون عىل‬
‫اكتشـافات جيمس فريزر‬
‫ُ‬ ‫أنه أصل شـخصية الشـيطان)‪ .(9‬اجتذبت‬
‫‪ James Frazer‬عـن اآلهلـة ذات القـرون يف العديـد مـن األسـاطري‬
‫اهتاممـ ًا كبير ًا هبـذا املفهـوم‪ .‬بحلـول القـرن الثامـن عشر‪ ،‬انتهـت‬
‫عمل ًّيـا عبـاد ُة الشـيطان بني صفـوف سـكان األريـاف‪ ،‬لكن بعض‬
‫الن َُخـب اسـتمرت باالحتفـال بالقـداس األسـود كنـادي هيلفايـر‬
‫‪ Hellfire Club‬وجمموعـة َدير مدمنهـام ‪ Medmenham Abbey‬يف‬
‫إنگلترا وغريهـا مـن الدوائـر التي جتمـع هـواة الشـيطان يف القارة‬
‫األوروبيـة‪ .‬ثم مـع بزوغ فجر احلركة الرومانسـية‪ ،‬أصبح الشـيطان‬
‫رمـز احلريـة والتمرد عىل السـلطة يف كتابات الشـعراء الرومانسـيني‬
‫الذيـن اقتطعـوا مقولة الشـيطان يف ملحمـة جون ملتـون الفردوس‬
‫املفقـود «سـيدٌ يف جهنـم أكـرم ِمـن َعب ٍ‬
‫ـد يف اجلنـة»)‪ (10‬من سـياقها‪.‬‬ ‫ُ ْ ْ‬ ‫َ ِّ‬
‫الشـاعر بايـرون ‪ Byron‬مقا َم الشـيطان حني‬
‫ُ‬ ‫يف كتابـه ‪ُ Cain‬ي َع ِّظـم‬
‫وعبر دوامـات اجلحيـم التي ال‬ ‫ْ‬ ‫«عبر األبديـة‬
‫يقـول على لسـانه‪ْ :‬‬
‫قـرار هلـا‪ ...‬سـأقاتله يف كل مـكان»‪ .‬كذلـك يتكـرر صـدى كلامت‬
‫بايـرون على لسـان الشـيطان يف كلمات القبطـان آهـاب يف روايـة‬
‫‪71‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫لا يف معركتـه األخيرة‬ ‫مـويب ديـك ‪ Moby Dick‬حين يصرخ قائ ً‬


‫ِ‬
‫ضـد احلـوت‪« :‬مـن َق ْلـب اجلحيـم أسـدد عليـك طعنـايت‪ْ ،‬‬
‫ألجـل‬
‫الكراهيـة ألفـظ آخر أنفـايس يف وجهك»)‪ .(11‬كذلك يف سـتار تريك‬
‫اجلـزء الثـاين ‪ ،Star Trek II: The Wrath of Khan‬حيـث يقتبـس‬
‫خـان – مـن روايـة ملفـل‪ -‬كلامته األخيرة قبـل أن يفجر السـفينة‪.‬‬
‫اختذ بعض الشـعراء كويليـام بليـك ‪ William Blake‬وبرييس بيش‬
‫شـييل ‪ Percy Bysshe Shelley‬يف إنگلرتا وشـارل بودلري ‪Charles‬‬
‫‪ Baudelaire‬يف فرنسـا الشـيطان رمـز ًا للطاقة واحلرية الشـخصية‪.‬‬
‫ٍ‬
‫صـورة أخرى‬ ‫ٍ‬
‫مطلـق لآلخر إىل‬ ‫إن تطـور صـورة الشـيطان من ٍ‬
‫رمز‬ ‫َّ‬
‫مثال جيـدٌ للتغريات التي يمكـن للثقافـة أن ُت ِدثها يف‬
‫أكثـر قبـوالً‪ٌ ،‬‬
‫التمثلات البدائية‪.‬‬
‫ال من‬‫بحلـول الوقـت الـذي أصبحت فيـه صناع ُة األفالم شـك ً‬
‫ـس حبكـة الغـزو الشـيطاين قـد توطدت‬ ‫أشـكال الفـن‪ ،‬كانـت ُأ ُس ُ‬
‫بشـكل كبير يف السـينام‪ ،‬مسـتمد ًة جذورهـا مـن تقاليـد عبـادة‬
‫الشـيطان يف العصـور الوسـطى كما مـن األسـاطري املدنيـة احلديثة‬
‫املعـارص قصصـ ًا فاقعة عن‬
‫ُ‬ ‫التـي تفرعـت عنهـا‪ .‬يقـدِّ م لنا اإلعلا ُم‬
‫الطوائـف الشـيطانية التـي ختطـف األطفـال الشـقر زرق العيـون‬
‫وتضحـي هبـم‪ .‬يع ِّلـق الكاتـب املسـيحي املحافـظ ويليـام فيسر‬
‫‪ William Viser‬قائلاً‪« :‬شـبكة شـديدة التنظيـم‪ ،‬فائقـة الرسية‪...‬‬
‫وكل هـذا حيـدث على مقربـة منـك يف مدينتك على األغلـب»)‪.(12‬‬
‫قصـص الطقـوس والرمـوز الشـيطانية عكسـ ًا‬ ‫ُ‬ ‫غالبـ ًا مـا تتضمـن‬
‫تدنيـس لطقـس العشـاء املقـدس‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫للمامرسـات املسـيحية‪ :‬مثلاً‪،‬‬
‫‪72‬‬
‫الف�صل الثاين‬

‫باسـتخدام الـدم والبول فيه‪ ،‬بدالً مـن اخلبز والنبيذ املسـتخدمني يف‬
‫الطقـس املسـيحي؛ اسـتخدام الصليـب املقلوب رأسـ ًا على عقب؛‬
‫ٍ‬
‫بزاويـة ختلق هلـا قرنني مرفوعين بدالً‬ ‫اسـتخدام النجمـة اخلامسـية‬
‫مـن وضعهـا الطبيعي؛ اسـتخدام رمز رأس العنزة؛ اسـتخدام الرقم‬
‫بإجياز يف ِسـ ْفر رؤيا يوحنـا الالهويت (اإلصحاح‬
‫ٍ‬ ‫‪ ،666‬والـذي ُذ ِكـر‬
‫‪ :13‬اآليـة ‪)18‬؛ طقـوس العربـدة اجلامعيـة؛ إىل غير ذلـك مـن‬
‫اإلحيـاءات والتصاويـر التـي يمكـن تعقبهـا يف الفلكلـور‪ .‬وقـد‬
‫كل مـن دينيـس ويتلي ‪ Dennis Wheatley‬وويليـام فيسر‬ ‫وظـف ٌّ‬
‫وغريهم هذا الفلكلور‬
‫ُ‬ ‫وكونسـتانس كومبـي ‪Constance Cumby‬‬
‫يف كتاباهتـم ورواياهتـم التي صدروها للجمهور املسـيحي املحافظ‪.‬‬
‫ُي َعـدُّ الشـيطان العبـ ًا رئيسـ ًا يف أفلام الرعـب‪ .‬وهنـاك أربعـة‬
‫خطـوط رئيسـة حلبكـة األفلام الشـيطانية‪ :‬الغـزو اإلقليمـي؛‬
‫كغـاز؛ االسـتحواذ؛ وقصـة فاوسـت‬ ‫ٍ‬ ‫املسيخ الدجـال ‪antichrist‬‬
‫التمثلات واألفلام أساسـ ًا عىل وتـر اخلوف‬
‫ُ‬ ‫تعـزف هـذه‬ ‫‪ِ .Faust‬‬
‫البدائـي مـن اآلخر بوصفـه غاز ًيا خف ًّيـا يفرض حضـوره يف إقليمنا‬
‫مـع أتْباعـه‪ :‬قبيلـ ٌة معاديـة أو طائف ٌة مزروعـ ٌة يف إقليمنا متهـد للغزو‬
‫الشـيطاين‪.‬‬
‫يف التراث املسـيحي‪ ،‬كما ختربنـا ملحمـة الفـردوس املفقـود‬
‫الشـيطان متـرد ًا قوامـه نحـو ثلـث مالئكـة‬
‫ُ‬ ‫جلـون ميلتـون‪ ،‬قـاد‬
‫اجلنـة‪ .‬وقد س ِ‬
‫ـخطوا مجيعـ ًا يف اجلحيـم التي كانـت ُم َعدَّ ًة سـلف ًا من‬ ‫ُ‬
‫أجلهـم‪ .‬يف ملحمـة جـون ميلتون‪ ،‬ليـس رضور ًّيا أن الـرب قد قدَّ ر‬
‫كل يشء سـلف ًا‪ ،‬لكنـه يعـرف مسـبق ًا كل مـا سـيحدث قطعـ ًا‪ .‬يتبع‬
‫‪73‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬
‫ٍ‬
‫بكائنات‬ ‫ميلتـون التقليدَ املسـيحي يف تصويـر اجلحيم كمكان يعـج‬
‫قـد حتـاول غـزو إقليمنـا إذا مـا اسـتطاعت ذلك‪ ،‬بنـا ًء على القصة‬
‫اليهوديـة املسـيحية التـي تـروي كيف هرب الشـيطان مـن اجلحيم‬
‫ليغـزو جنة عـدن‪ .‬ويف األفالم التـي انبثقت عن هذا التراث‪ ،‬غالب ًا‬
‫ٍ‬
‫بوابـة تفصـل بين اإلقليمني‪ ،‬ويقـوم عىل‬ ‫مـا يتضمـن الغـزو عبور‬
‫حراسـتها بعـض املدافعني‪.‬‬
‫الصراع‪ ،‬العنرص‬
‫َ‬ ‫َتمـل املواجهـ ُة الناجتـ ُة عـن الغزو يف طياهتـا‬
‫املحـوري يف الدرامـا‪ .‬يالحـظ دينيـس داتـون ‪:Dennis Dutton‬‬
‫«عبر كل التاريـخ الثقـايف املعـروف‪ ،‬متحـورت القصـص أساسـ ًا‬ ‫ْ‬
‫أن الصراع يتضمن‬ ‫حـول الصراع واملشـاكل»‪ ،‬كام يسـجل داتـون َّ‬
‫«‪ -1‬رغبـ ًة برشيـ ًة و‪ -2‬نو ًعا مـن العراقيل التي تعيقهـا»)‪ .(13‬فمثالً‪،‬‬
‫ليـس يف قصـة وقـوع بنجامين بـرادوك يف حـب إيلين روبنسـون‬
‫وزواجـه منهـا ما يثرينـا تكيف ًّيا‪ .‬لكـن عندما نجد أن إيلني تكتشـف‬
‫ٍ‬
‫عالقـة مع‬ ‫يف غمـرة قصـة حبهـا مـع بـرادوك أنه قـد كان سـابق ًا يف‬
‫قصة شـديدة اإلثارة‪ ،‬حيث يدخل‬ ‫والدهتـا‪ ،‬حينهـا يتحول األمر إىل ٍ‬
‫الصراع على اخلط‪ ،‬وهـو مـا حـدث يف فيلـم ‪ .The Graduate‬أما‬
‫الصراع املركـزي يف األفلام الشـيطانية‪ ،‬فهو الرصاع على اإلقليم‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ َ ْ‬
‫«ال تدع شيئا شريرا يدخل ههنا»‪:‬‬
‫أفالم ‪The Sentinel، Prince of Darkness، Cabin in‬‬
‫‪ ،the Woods، Poltergeist‬و ‪Insidious‬‬

‫أتبـاع الشـيطان‪ ،‬وهـم طائفـة‬


‫ُ‬ ‫يف فيلـم ‪ُ ،The Sentinel‬ي َم ِّهـد‬
‫دينيـة‪ ،‬لغـزو سـيدهم الـذي سـيجري عبر بوابـة مـن النـوع الذي‬
‫‪74‬‬
‫الف�صل الثاين‬

‫ذكرنـاه قبـل قليـل‪ .‬يف األفلام الشـيطانية‪ ،‬غالبـ ًا مـا تكـون هنـاك‬
‫مجاعـ ٌة رسيـ ٌة حتـرس البوابة مـن الغـزو املتوقـع للشـيطان وأتباعه‪،‬‬
‫ِ‬
‫لي عـن اإلقليم ضـد اآلخرين‪ .‬هكـذا يكون‬ ‫نمـوذج للدفـاع ال َق َب ِّ‬
‫ٍ‬ ‫يف‬
‫البدائـي لقبيلتين متحاربتين يف العديـد مـن األفالم‬ ‫ِ‬
‫املعـاد ُل‬ ‫لدينـا‬
‫ُّ‬
‫الشـيطانية‪ ،‬واحـد ٌة حتـاول تنفيـذ الغـزو‪ ،‬فيما حتاول األخـرى منع‬
‫وقوعه‪ .‬نـرى يف اللقطات االفتتاحية لفيلـم ‪ The Sentinel‬جمموع ًة‬
‫مـن الرهبـان ُي َص ُّلـون مرددين «ال تـدَ ْع شـيئ ًا رشير ًا يدخـل ههنا»‪.‬‬
‫ثـم ينتقـل املشـهد إىل أليسـون باركر‪ ،‬عارضة ناجحة تسـكن شـقة‬
‫إجيـار منخفـض يثير الريبـة بعـض‬ ‫ٍ‬ ‫أنيقـة يف بنايـة فاخـرة مقابـل‬
‫الشيء‪ .‬حتـدث بعـض األشـياء الغريبـة‪ .‬تصـاب أليسـون بنوبات‬
‫نـص باللغة الالتينيـة‪ ،‬رغم إهنا‬ ‫غيبوبـة‪ ،‬ويف إحداهـا‪ ،‬تقـوم بكتابة ٍّ‬
‫مل تتعلـم هـذه اللغـة إطالق ًا‪ .‬هكذا هيـرع حبيبها مايكل إىل الكنيسـة‬
‫ٍ‬
‫ترمجة له‪.‬‬ ‫ال يف احلصول على‬ ‫لا النص الـذي كتبتْه أليسـون‪ ،‬أم ً‬ ‫حام ً‬
‫مقتبـس من ملحمـة الفـردوس املفقود‬ ‫ٌ‬ ‫وهنـاك يكتشـف أن النـص‬
‫جلـون ميلتـون‪ ،‬وفيـه يتلقـى امللاك گابرييل أمـر ًا من أرييـل ‪Uriel‬‬
‫بحراسـة بوابـة اجلحيـم ومنع الشـيطان من اخلـروج منهـا واقتحام‬
‫جنـة عـدن‪« :‬واجبـك هـو احلراسـة الصارمـة هلـذا املـكان‪ ،‬أن ال‬
‫تـدع شـيئ ًا رشيـر ًا يدخـل هـذا املـكان السـعيد أو يقرتب منـه»)‪.(14‬‬
‫قـس ُم ِسـ ٌن أعمى يعيـش يف الطابق‬ ‫تتعـرف أليسـون على هالريان‪ٌ ،‬‬
‫العلـوي مـن البنايـة‪ .‬ثـم نعـرف الحقـ ًا أن هاليران هـو احلـارس‬
‫ٍ‬
‫رسيـة ُع ِهدَ إليها بحاميـة البوابة‬ ‫ٍ‬
‫مجعيـة‬ ‫‪ ،Sentinel‬العضـو األهـم يف‬
‫الفاصلـة بين اجلنة واجلحيـم‪ ،‬وهاليران هذا هو الشـخص األخري‬
‫مـن نسـل العائلـة التـي توارثت القيـام بعمل امللاك گابرييـل‪ .‬تقع‬
‫‪75‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫البوابـة يف البنايـة التـي تقـع فيها شـقة أليسـون‪ .‬كام يعيـش يف تلك‬
‫البنايـة أيضـ ًا أفرا ٌد مـن الطائفـة الشـيطانية حياولون التمهيـد لعودة‬
‫َكتشـف أليسـون أهنا قـد ُاختيرت لتكون‬‫سـيدهم الشـيطان‪ .‬ثـم ت ِ‬
‫احلارسـ َة اجلديـدة التـي ختلـف هاليران يف حراسـة البوابـة ومنـع‬
‫غـزو الشـيطان إلقليـم البرش‪.‬‬
‫أن معظـم أفلام‬ ‫يسـجل كينـدال فيليبـس ‪َّ Kendall Philips‬‬ ‫ِّ‬
‫املخـرج جـون كاربنتر ‪ John Carpenter‬تتمحـور حـول قصـص‬
‫الغـزو‪ ،‬مستشـهد ًا بأفلا ٍم لـه مثـل ‪ Assault on Precinct 13‬و‬
‫ٍ‬
‫إنتـاج لفيلم‬ ‫‪ The Fog‬باإلضافـة إىل فيلـم ‪ The Thing‬وهـو إعادة‬
‫قديـم)‪ .(15‬يو ِّظـف فيلـم ‪ Prince of Darkness‬أيضـ ًا حبكـة الغزو‬
‫اإلقليمـي مـع اسـتخدام تفريعة أخـرى من قصص أسـطورة كثولو‬
‫قصـص‬‫ٌ‬ ‫‪ Cthulhu mythos‬لالفكرافـت ‪ ،H.P. Lovecraft‬وهـي‬
‫حتكـي سـعي جمموعـة القدمـاء ‪ The Old Ones‬للعـودة جمـدد ًا من‬
‫بعـد خمتلـف‪ .‬لكـن كاربنتر يمـزج يف هـذا الفيلـم بين الفكرافت‬ ‫ٍ‬
‫مسـيحية غير واضحـة حـول الشـيطان باإلضافـة إىل‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وحبكـة‬
‫بعـض اخليـال العلمـي‪َ .‬يكتشـف القس لوميـس (دونالـد بليزانس‬
‫أخ ِو َّيـ َة النـوم ‪The Brotherhood of‬‬ ‫‪َّ )Donald Pleasence‬‬
‫أن َ‬
‫‪( Sleep‬قبيلـة أخـرى مـن املدافعين) كانـت حتـرس أللفـي عـا ٍم‬
‫الوعـاء الـذي حيتوي جوهر الشـيطان‪ ،‬الـذي يوجـد –الوعاء اآلن‬
‫يف كنيسـة لـوس انجلـوس‪ .‬مـن ثـم يقـوم لوميـس بتجنيـد أسـتاذ‬
‫الفيزيـاء بيراك (فيكتـور وونـگ ‪ )Victor Wong‬وطلبتـه لتحليـل‬
‫َ‬
‫الشـيطان الذي سـيقتحم بدوره‬ ‫الوعـاء‪ ،‬الـذي إذا ما ُفتِ َح سـيحرر‬
‫‪76‬‬
‫الف�صل الثاين‬

‫العال‪ .‬يسـتخدم الفيلـم موضوعة قديمة‬ ‫البوابـة وجيلب رب ًا مضـاد ًا إىل َ‬


‫مذكرات‬
‫ُ‬ ‫للحبكـة هـي «املخطوطـة ا ُملكت ََشـفة»‪ ،‬واملخطوطـة هنـا هـي‬
‫قـس مـن أخويـة املدافعين تلـك‪ ،‬كان حيـرس الوعـاء قبـل أن‬ ‫آخـر ٍّ‬‫ِ‬
‫«النائـم يسـتيقظ!»‪ ،‬يف‬
‫ُ‬ ‫جيـده الطلبـة‪ .‬وتنتهـي تلـك املخطوطـة بعبـارة‬
‫غـزو قادم مـن اجلحيـم‪ .‬ينبـع اخلـوف اإلنـايب هلـذا الفيلم‬ ‫حتذيـر مـن ٍ‬
‫ٍ‬
‫مـن اخلوف الـذي زرعتـه الثقافة بداخلنـا من الشـيطان‪ ،‬الـذي ع َّل َمتْنا‬
‫أنـه العـدو األعظـم للبشر‪ ،‬وكذلـك اخلـوف جتاه الـرب املضـاد ٍ‬
‫كغاز‬
‫إلقليمنـا‪ ،‬وأعوانـه مـن املرشديـن يف الشـوارع الذيـن يسـيطر عليهـم‬
‫باسـتخدام تلـك االسـطوانة التـي حتتـوي جوهـر الشـيطان‪ .‬يف خامتـة‬
‫الفيلـم‪ ،‬تضحـي عضوتـا الفريـق دانفـورث وكيللي بن ْفسـيهام إلنقـاذ‬
‫العـال‪ ،‬يف موضوعـة ناقشـها بإسـهاب املتخصصـون بعلـم النفـس‬ ‫َ‬
‫التطـوري‪ ،‬حيـث إهنـا صفة تطوريـ ٌة يقوم مـن خالهلا الفـرد بالتضحية‬
‫بحياتـه إلنقـاذ جمموعـة أقاربه‪.‬‬
‫يقـدِّ م فيلـم ‪ )2012( The Cabin in the Woods‬مـن إخراج درو‬
‫گـودارد ‪ Drew Goddard‬وسـيناريو مشترك بين گـودارد وجـوس‬
‫ٍ‬
‫خاص مـن حبكة البوابة‬ ‫ويـدن ‪ ،Joss Whedon‬يقـدِّ م مثاالً فـذ ًا لنو ٍع‬
‫والغـزو اإلقليمي‪ ،‬حيث يسـتلهم هـذا الفيلم أفالم ًا أخـرى باإلضافة‬
‫ٍّ‬
‫بخـط درامي‬ ‫إىل قصـص أسـطورة كثولـو لالفكرافـت‪ .‬يفتتـح الفيلم‬
‫مألـوف يف أفلام الرعـب‪ ،‬حيـث يقضي مخسـة طلاب عطلـة هنايـة‬
‫منعـزل خارج املدينـة‪ .‬ويمثل كل واحـد من هؤالء‬ ‫ٍ‬ ‫األسـبوع يف كـوخٍ‬
‫الطلاب شـخصي ًة نموذجي ًة يف أفلام الرعب‪ :‬جولز (أنَّا هوتشيسـون‬
‫‪ ،)Anna Hutchison‬نمـوذج الفتـاة العـذراء الطيبة؛ دانا (كريستسـن‬
‫‪77‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫كونـويل ‪ ،)Kristen Connolly‬املراهقـة اجلاحمـة؛ هولديـن (جيسي‬


‫ويليامـز ‪ ،)Jessie Williams‬الرجـل املسـتقيم؛ كيرت (كريـس‬
‫هيمـزوورث ‪ ،)Chris Hemsworth‬الشـاب مفتـول العضلات؛‬
‫ومـاريت (فـران كرانز ‪ ،)Fran Kranz‬احلشـاش‪ .‬سـتكون هذه األدوار‬
‫التقليديـة مهمـ ًة يف خامتـة الفيلم‪ ،‬حيـث تتحول كل الشـخصيات من‬
‫التقليـد إىل النماذج البدئيـة ‪.archetypes‬‬
‫عندمـا تتوقـف املجموعـة لتزويـد السـيارة بالوقـود‪ ،‬يلتقـون‬
‫شـخص ًا غريبـ ًا كبري ًا يف السـن‪ ،‬مردخـاي‪ ،‬الذي هيزأ هبـم وخيربهم‬
‫أهنـم سـيواجهون عواقـب وخيمـة إذا مـا تابعـوا مسيرهم‪ ،‬ومـع‬
‫ذلـك فقد أرشـدهم إىل الطريـق املوصـل إىل الكوخ الـذي يبحثون‬
‫عنـه‪ .‬ربام اختري هذا االسـم مـن ِق َبل كاتب السـيناريو إسـقاط ًا عىل‬
‫اسـم الشـخصية التوراتيـة مردخاي املذكور يف ِسـفر إسـتري‪ ،‬حيث‬
‫ٍ‬
‫حتذيـرات َم َّـر ًة إلنقـاذ امللـك‬ ‫وجـه مردخـاي ‪-‬بحسـب ِ‬
‫السـ ْفر‪-‬‬
‫رسدي‪ ،‬فإن املشـهد‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫منظور‬ ‫وأخـرى إلنقاذ بنـي إرسائيل‪ .‬لكـ ْن من‬
‫مشـاب ًة يف تاريـخ األدب‪ ،‬وهـي بمثابـة تنبؤات‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫حتذيـرات‬ ‫حياكـي‬
‫العرافـة يف مرسحيـة امللك أوديـب ‪Oedipus the‬‬ ‫ابتـدا ًء مـن نبوءة َّ‬
‫حذروا جوناثـان هاركر يف قصة‬ ‫‪ King‬وصـوالً إىل القرويين الذين َّ‬
‫عبر نفق‪ ،‬بام‬
‫املـرور ْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫وصـول السـيارة إىل الكـوخ‬ ‫دراكـوال‪َ .‬ت َط َّل َ‬
‫ـب‬
‫معنـاه أن الطلاب اخلمسـة قـد دخلوا إقليم ًا آخر يكتشـفون الحق ًا‬
‫أنـه ال خيضـع لقوانني الطبيعـة كام عرفوها مـن َق ْبل‪ .‬خلال الفيلم‪،‬‬
‫ينتقل املشـهد مـرار ًا إىل مقر قيادة يقع حتت الكـوخ‪ ،‬حيث تعيش يف‬
‫املقـر جمموعة مـن املوظفني يتحكمـون ببيئة الكـوخ بِ ُط ُـر ٍق خمتلفة‪.‬‬
‫‪78‬‬
‫الف�صل الثاين‬

‫ويتبين لنـا من خلال حديـث املوظفين يف مركـز التحكم هـذا أن‬


‫الطلاب جيـب أن خيتـاروا ترصفاهتم‪ .‬حتـى إن أحـد املديرين يقول‬
‫«ال بـد أن خيتـاروا بأنفسـهم‪ ،‬وإال فـإن النظام لـن يعمل»‪.‬‬
‫الغـرض مـن وجـود الكـوخ واهلدف‬ ‫َ‬ ‫الفيلـم تدرجييـ ًا‬
‫ُ‬ ‫يكشـف‬
‫مـن إدخـال الطلاب اخلمسـة فيـه‪ .‬حيـث نعلـم الحقـ ًا أنـه‬
‫ُيـراد التضحيـة بالطلاب قربانـ ًا لآلهلـة القدمـاء الذيـن ذكرهـم‬
‫الفكرافـت يف قصصـه‪ ،‬الذيـن يقبعـون نائمني حتت الكـوخ‪ .‬هكذا‬
‫طقـس هيـدف إىل محاية‬ ‫ٍ‬ ‫ـح يف‬
‫فـإن الطلاب اخلمسـة هم قربـان ُيذ َب ُ‬
‫البوابـة‪ .‬يمثل الطالب نامذج بدئيـة ‪ُ archetypes‬م َع َّينَـة (إحال ٌة عىل‬
‫الكاتـب الشـهري جوزيـف كامبـل ‪ )Joseph Campbell‬للطقـس‪:‬‬
‫العـذراء‪ ،‬العاهـرة‪ ،‬الريـايض‪ ،‬املتعلـم‪ ،‬واألبلـه‪ .‬ال بـد أن يموتـوا‬
‫وت َمـع دماؤهـم‪ ،‬العاهـرة أوالً والعـذراء أخري ًا‪ ،‬وإال فـإن القدماء‬ ‫ُ‬
‫سيسـتيقظون مـن نومهـم ويغـزون األرض‪ .‬هكذا عندمـا انفتحت‬
‫البوابـة وبـدأ الغـزو‪ ،‬نـرى ماريت‪ ،‬احلشـاش احلكيـم‪ ،‬يقـول‪« :‬ربام‬
‫ينبغـي أن جتـري األمـور هبـذه الطريقـة‪ .‬إذا كنتـم قـد قتلتـم كل‬
‫أصدقائـي لتنقـذوا العـامل‪ ،‬فربما حـان الوقـت لبعـض التغيري»‪.‬‬
‫يسـتخدم فيلـم ‪ Poltergeist‬املنتَـج عـام ‪ 1982‬تفريعـ ًة فريـدة‬ ‫ِ‬
‫على حبكـة غـزو البوابة‪ ،‬ذلـك إن الكيـان الرشير يغـزو إقليمنا من‬
‫خلال جهـاز تلفزيـون‪ .‬فبعـد أن جيـد سـتيف وديـان فريلنـگ َّ‬
‫أن‬
‫ابنتهما الصغيرة كارول آن تتحـدث مع التلفزيون‪ ،‬حتـدث يف املنزل‬
‫َـص كارول آن إىل إقلي ٍم آخـر‪َ ،‬‬
‫عال‬ ‫عـدة حـوادث خارقـة خميفـة‪ُ .‬تت ُ‬
‫األرواح‪ ،‬مـن ِق َبـل وحـش اخلزانـة‪ ،‬اخلوف األكثـر ِّ‬
‫تفشـي ًا يف خميلة‬
‫‪79‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫األطفـال‪ .‬يسـتعني الوالـدان املضطربـان بالدكتورة ليـش وفريقها‪،‬‬


‫وهـم متخصصـون بالباراسـايكولوجيا‪ .‬وبعـد حـدوث أشـكال‬
‫متعـددة مـن الظواهـر اخلارقـة املخيفـة‪ ،‬تـدرك د‪ .‬ليـش أن عليهـا‬
‫طلـب املسـاعدة‪ ،‬فتسـتعني بوسـيطة تدعـى تانجينا‪.‬‬
‫ختبر تانجينـا الوالديـن باحلكمـة الكالسـيكية يف األدبيـات‬
‫السبرييتشـوالية‪« :‬ليـس ثمة مـوت‪ .‬هنـاك فقط انتقال من مسـتوى‬
‫ـت كارول آن إىل داخـل‬ ‫إىل آخـر مـن الوعـي»‪ .‬إذن فقـد اجت ُِذ َب ْ‬
‫موضـ ٍع ثنائـي ‪ ،bi-location‬إقليـ ٍم آخـر‪ ،‬حيـث يذهـب املوتـى‬
‫ٍ‬
‫بأشـباح غاضبة‪.‬‬ ‫يمـروا من خلال النور‪ .‬ثـم يبتىل املنـزل‬ ‫الذيـن مل ُّ‬
‫حضـور مرعـب برفقتهـا‬
‫ٌ‬ ‫وتكتشـف تانجينـا كيانـ ًا شـيطان ًّيا‪« :‬ثمـة‬
‫هنـا‪ .‬الكثير مـن الغضـب؛ الكثري مـن اخليانـة‪ ...‬ال أعلـم بالضبط‬
‫مـا الـذي َأل َّ هبـذا املنـزل‪ ،‬لكـن مـا أعرفه هـو إن هـذا الشيء ٌ‬
‫قادر‬
‫على عمـل فجوة يف هـذا العامل ألخـذ ابنتكما»‪ .‬وكان مـا أخذه هذا‬
‫رمـز ملسـتقبلنا اجليني‪.‬‬‫الغـازي اإلقليمـي طفلـ ًة‪ ،‬وهـي ٌ‬

‫كارول آن (هيذر أورورك ‪ )Heather O’Rourke‬تلتقي باألرواح يف التلفزيون‬

‫‪80‬‬
‫الف�صل الثاين‬

‫ينتهـي الفيلـم بانقلاب يف سير األحـداث‪ ،‬حيـث نقتحـم‬


‫«هم»‪،‬‬ ‫«نحـن» األبطـال‪ ،‬مم َّثلين بشـخصية ديـان فريلنـگ‪ ،‬إقليـم ُ‬
‫عبر البوابة الكائنـة يف اخلزانة من أجـل إنقاذ الطفلة‪ .‬فنسـتجيب ‪-‬‬
‫كمشـاهدين‪ -‬باالسـتمتاع برؤية شـجاعة وحـب األم‪ ،‬صفتان من‬
‫وت َ ُّث ٌل يعـاد مـرار ًا وتكرار ًا‬
‫أهـم الصفـات التكيفيـة يف بقـاء البشر‪َ ،‬‬
‫كل مـن كاثريـن سـاملون ‪Catherine‬‬ ‫يف أفلام الرعـب‪ .‬يسـجل ٌّ‬
‫‪ Salmon‬وتود شـاكلفورد ‪ Todd Shackelford‬أن «أشد العالقات‬
‫محيميـ ًة يف فصيلـة الثدي َّيات هـي تلك التي جتمع بين األم ووليدها‪،‬‬
‫وهـي العالقـة التـي حتـوي أكبر عـدد مـن اآلليـات املتخصصة بام‬
‫فيهـا اآلليـات الترشحييـة‪ ،‬الفسـيولوجية‪ ،‬والسـيكولوجية»)‪ .(16‬أما‬
‫الصراع الرئيـس فيتولـد من غزو اآلخـر إلقليمنا‪ .‬وتعتمـد األفال ُم‬
‫أي‬ ‫الثالثـ ُة األخـرى يف نفس السلسـلة على ذات احلبكـة الدرامية‪ْ ،‬‬
‫غـزو اإلقليم‪.‬‬
‫ُتاثِ ُـل حبكـ ُة الغـزو اإلقليمـي يف فيلـم ‪ Insidious‬املنتَـج عـام‬
‫‪ 2010‬تلـك التـي اعتمدهـا فيلـم ‪ Poltergeist‬الـذي ناقشـناه قبل‬
‫قليـل‪ .‬ينتقـل جـوش ورينـاي المبرت (باتـرك ويلسـون ‪Patrick‬‬
‫‪ Wilson‬وروز بيرن ‪ )Rose Byrne‬صحبـ َة أطفاهلما الثالثـة إىل‬
‫ٍ‬
‫جديـد حيـث‬ ‫ٍ‬
‫منـزل جديـد‪ُ .‬ت َعـدُّ موضوعـة االنتقـال إىل إقليـ ٍم‬
‫يرتبـص الرعـب‪ ،‬موضوعـ ًة شـائع ًة يف أفلام الرعـب‪ ،‬خصوصـ ًا‬
‫بيـت غريـب‪ .‬يقـوم ابنهما دالتـون‪ ،‬الـذي يبلـغ مـن‬ ‫االنتقـال إىل ٍ‬
‫العمـر عشر سـنوات‪ ،‬باستكشـاف علية املنـزل‪ ،‬فينكرس به السـلم‬
‫ويسـقط فيدخـل يف غيبوبـة يعجـز األطباء عن تفسيرها‪ .‬ثـم وبعد‬
‫‪81‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬
‫ٍ‬
‫كيـان خميـف يف‬ ‫أن تقـوم األشـباح بالكثير مـن الفـوىض‪ ،‬وظهـور‬
‫البيـت‪ ،‬تصر رينـاي عىل مغادرتـه واالنتقـال إىل بيـت جديد‪ .‬لكن‬
‫الكيـان املخيـف يتبعهـم‪ ،‬وحتـدث ذات األحـداث التـي حدثت يف‬
‫املنـزل السـابق‪ ،‬ما جعـل الوالدين يطلبان املسـاعدة مـن إليز رينيري‬
‫(لين شـاي ‪ ،)Lin Shaye‬خبيرة األرواح‪ ،‬والتـي تشـبه تانجينا يف‬
‫فيلم ‪ .Poltergeist‬فتكتشـف إليز ومسـاعدوها وجـود ٍ‬
‫كيان خارق‬ ‫َ‬
‫للطبيعة ‪.‬‬
‫خبير لتوضيح‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫الغموض رشحـ ًا يلقيه‬ ‫كثير ًا مـا تتضمـن أفلا ُم‬
‫األمـور‪ ،‬و ُيعطـى الشرح يف هـذا الفيلـم مـن ِقبـل رينيير‪ ،‬حيـث‬
‫شـخص يستكشـف املسـتوى النجمي‬ ‫ٌ‬ ‫جـوال‪:‬‬
‫تصـف دالتـون بأنه َّ‬
‫رشح‬‫يف أثنـاء أحالمـه‪ ،‬لكنه ضل طريقه وتاه عن جسـده‪ .‬كما ركز ُ‬
‫رينيير على اإلقليم أيضـ ًا‪« :‬ليس ابنكما يف غيبوبة‪ ...‬جسـده املادي‬
‫هنـا‪ ،‬لكـن جسـده الروحـي ليس هنـا‪ .‬والسـبب الذي جعـل هذه‬
‫االضطرابـات تتبعكـم إىل بيتكـم اجلديـد هـو أن املسـكون مل يكـن‬
‫البيـت أصلاً‪ ،‬بـل ابنكـم هـو املسـكون»‪ .‬بحسـب رينيير‪ ،‬أصبح‬
‫جسـد دالتـون وعـا ًء فارغ ًا حتاول االشـباح سـكناه كام حتـاول ذلك‬
‫«كيانـات أخـرى هلا نوايـا خبيثة وتريد إيـذاء لآلخريـن»‪ ،‬وهي هنا‬ ‫ٌ‬
‫بـروح رشيـرة محـراء الوجـه تظهـر من حين آلخـر يف أماكن‬ ‫ٍ‬ ‫مم َّثلـ ٌة‬
‫املنكرة التقليديـة يف أفالم اخلوارق‬ ‫خمتلفـة‪ .‬يمثل جوش الشـخصية ِ‬
‫واألشـباح‪ ،‬أدا ٌة رسديـ ٌة يـراد هبـا إذكا ُء الرصاع وتوجي ُه املشـاهدين‬
‫تدرجييـ ًا إىل طـرح أحكامهم املسـبقة (عـدم التصديق) جانبـ ًا اقتدا ًء‬
‫بالشـخصية ذاهتـا‪ .‬يف هـذا الفيلـم‪ ،‬يذهـب األب بدالً مـن األم إىل‬
‫‪82‬‬
‫الف�صل الثاين‬

‫العـامل الروحـي إلنقـاذ طفله‪ ،‬رغـم إننا نـرى يف هناية الفيلـم أنه قد‬
‫جلـب الكيان الرشيـر معه‪.‬‬
‫يتشـابه عنصر الرعـب يف فيلـم ‪ Insidious‬كثير ًا مـع مثيلـه يف‬
‫َ‬
‫لعـال البرش من‬ ‫غـزو‬
‫ٌ‬ ‫فيلـم ‪ .Poltergeist‬ففـي كال الفيلمين هنـاك‬
‫خطر شـديد‬ ‫طفل يف ٍ‬ ‫ِق َبـل آخر‪ ،‬كائـ ٌن خارق للطبيعـة‪ ،‬وهناك أيض ًا ٌ‬
‫حيـدق بـه من طـرف ذلـك اآلخـر‪ ،‬وأخير ًا هنـاك والـدٌ يذهب إىل‬
‫مظهـر َ‬
‫اآلخرانية‪:‬‬ ‫َ‬ ‫إقليـم الغازي إلنقـاذ الطفـل‪ .‬نالحظ أن للغـزاة‬
‫الرجـل الذي تشـع مـن وجهه النـار والعجـوز التي تظهـر يف املرايا‬
‫والصـور الفوتوغرافيـة‪ ،‬التـي وصفتْهـا رينيير بالــ « ُطفيليـة» التي‬
‫ٍ‬
‫أبعـاد أعمق يف عـامل األرواح‪.‬‬ ‫تسـحب دالتـون إىل‬
‫كانـت األفلام اخلمسـة األخيرة التـي ناقشـناها جمـرد أمثلـة‬
‫على اسـتخدام الت ََم ُّثـل البدائـي للغـزو الشـيطاين أو غـزو األرواح‬
‫األنـواع األخرى‬ ‫ٍ‬
‫بوابـة تفصل بين عا َلين‪ .‬تتضمـن‬ ‫عبر‬
‫ُ‬ ‫الرشيـرة ْ‬
‫مـن البوابـات التـي تسـتغلها الشـياطني للغـزو لوحـات الوجيا كام‬
‫يف فيلـم ‪ The Exorcist‬وغيره الكثير مـن أفلام الوجيـا منخفضة‬
‫امليزانيـة كفيلـم ‪ Witch Board‬املنتَـج عـام ‪ ،1986‬وفيلـم ‪Ouija‬‬
‫املنتَـج عـام ‪ ،2013‬كما تتضمـن أيضـ ًا املرايا كما يف َ‬
‫فيلمـي ‪Prince‬‬
‫‪ of Darkness‬و ‪ Mirrors‬عـام ‪ .2008‬يؤكـد املختصـون بعلـم‬
‫النفـس التطـوري على مركزيـة الدفـاع ال َق َبلي عـن اإلقليـم يف‬
‫طبيعتنـا كبرش‪ .‬يتعقب رينـي دوبو ‪ René Dubos‬جـذور اإلقليمية‬
‫‪ territoriality‬إىل العصر احلجـري القديـم عندمـا كانت جمتمعات‬
‫الصيـد وااللتقـاط ختيـم قـرب مصـادر امليـاه‪ ،‬حيـث كان الرجـال‬
‫‪83‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫يذهبـون للصيـد تاركني النسـاء واألطفـال‪« :‬عىل األرجـح‪ ،‬كانت‬


‫َ‬
‫منشـأ ا َمليـل‬ ‫املالزمـة الطويلـة ملنطقـة معينـة‪ ،‬معسـكَر أو ملجـأ‪،‬‬
‫عاطفـي قد يكـون من الشـدة بحيث‬‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫تعلـق‬ ‫البشري اخلـاص خللق‬
‫ٍ‬
‫ومـكان بعينـه»)‪ .(17‬تقترح هذه‬ ‫خيلـق رابطـ ًة عضويـة بني اإلنسـان‬
‫األدبيـات العلميـ ُة أننـا نسـتجيب باخلـوف جتـاه الغـزو اإلقليمـي‬
‫مدفوعين بغريزتنـا التـي ورثناهـا مـن أسلافنا البدائيين‪ .‬وهكذا‬
‫تقـوم حبكـ ُة البوابـة الشـيطانية بتشـغيل دارة هـذا اخلـوف الـذي‬
‫نسـتلذه عندمـا نشـاهد هـذه التمثلات على شـكل أفالم‪.‬‬
‫ً‬
‫«لقد أتى من الجحيم‪ ،‬وأنجب ابنا»‪:‬‬
‫أفالم ‪Rosemary’s Baby، Left Behind،‬‬
‫‪ ،Constantine‬وسلسلة ‪The Omen‬‬

‫ليسـت قصـة املسـيخ الدجـال إال تنويعـ ًا على حبكـة البوابـة‪:‬‬


‫مسـتوى كـوين‪ .‬بالنسـبة ألسـطورة‬
‫ً‬ ‫دفـاع عـن اإلقليـم ولكنـه عىل‬
‫ٌ‬
‫كبرية كأسـطورة املسـيخ الدجال‪ ،‬مـن الغريب أن الكتـاب املقدس‬
‫يعريهـا اهتاممـ ًا قلي ً‬
‫ال نسـب ًّيا‪ ،‬حيـث إن الكلمة مل تُذكـر فيه إال مخس‬
‫مـرات فقـط‪ .‬إذ يظهـر أوالً بشـكل غير مبارش يف ِسـ ْفر دانيـال؛ ثم‬
‫يف رسـالة يوحنـا األوىل «وكما سـمعتم أن املسـيخ الدجـال يـأيت»‬
‫ويف رسـالة يوحنـا الثانيـة؛ ثم يف رسـالة بولس إىل أهل تسـالونيكي‬
‫حيـث يوصف بأنه «إنسـان اخلطيئة» الذي سـتبدأ بظهـوره املراحل‬
‫الثلاث لدمـار العـامل؛ وأخير ًا‪ ،‬يف رؤيـا يوحنـا الالهـويت حيـث‬
‫ُو ِصـف بأنـه «الوحـش الـذي خيـرج مـن البحـر»‪ ،‬والـذي أعطـاه‬
‫َ‬
‫السـلطان‪.‬‬ ‫«التنني»‬
‫ُ‬
‫‪84‬‬
‫الف�صل الثاين‬

‫مـن منظـور علم النفـس التطوري‪ ،‬فإن املسـيخ الدجـال ( ضدُّ‬


‫ولآلخر‪،‬‬
‫َ‬ ‫املسـيح ‪ )antichrist‬هـو أيض ًا نمـوذج للغازي اإلقليمـي‬
‫كيان يسـتفز أشـد خماوفنـا بدائي ًة بما يف ذلك‬
‫هتديـدٌ إلرثنـا اجلينـي‪ٌ ،‬‬
‫البارانويـا الكامنـة فينـا مـن أتباعـه املتخفني بيننـا الذين يسـتعدون‬
‫للتمهيـد لقدومـه‪ .‬يـرى املسـيحيون املحافظـون أدلـ ًة على عمـل‬
‫الشـيطان وقدوم املسـيخ الدجال الوشـيك يف كل مكان‪ ،‬من النظام‬
‫العاملـي اجلديـد ‪ The New World Order‬إىل بروتوكـوالت ك َُباء‬
‫صهيـون‪ .‬فمثلاً‪ ،‬كتبت املؤلفـة املسـيحية اإليفانجيلية كونسـتانس‬
‫سـمته فضحـ ًا حلركة العرص اجلديـد وأغراضهـا اخلبيثة‪:‬‬
‫كومبـي ما َّ‬
‫«حركـ ٌة تتضمـن عدة ٍ‬
‫آالف من املنظامت تعمل يف شـبكة متتد إىل كل‬
‫ركـن وزاوية عىل سـطح األرض‪ ،‬وهتـدف إىل حتقيق النظـام العاملي‬
‫الرب متامـ ًا من الصـورة ويؤ ِّل ُه لوسـيفر بدالً‬ ‫اجلديـد‪ -‬نظـا ٌم ُي ِ‬
‫ـرج َّ‬
‫منـه»)‪ .(18‬تفـوح هذه املخـاوف البارانويديـة برائحة التمثـل البدائي‬
‫قصص الشـيطان‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫كغـاز إلقليمنا‪ .‬توفر‬ ‫اآلخـر‬
‫للقبليـة واخلـوف من َ‬
‫واملسـيخ الدجـال تربـ ًة خصبـ ًة ألفلام الرعـب‪ ،‬كما إهنـا تغـذي‬
‫خماو َفنـا من اخلطر الـذي يمثله العـدو اخلفي وأتباعـه الكامنون بني‬
‫صفوفنـا‪ُ .‬ي َعدُّ فيلما ‪ The Omen‬و ‪ Rosemary’s Baby‬من النامذج‬
‫الكالسـيكية ألفلام الرعب التـي تسـتحث اسـتجابتنا البدائية من‬
‫غـاز ال يأيت مـن َ‬
‫العال‬ ‫خلال العـزف على وتر الغـازي اإلقليمي – ٍ‬
‫املـادي‪ ،‬بل من عـامل آخرــ وتلويـث احلوض اجليني‪ .‬تقدِّ م سلسـلة‬
‫مجهور‬
‫َ‬ ‫مسـتوى َ‬
‫آخـر مـن البارانويا يسـتهدف‬ ‫ً‬ ‫أفلام ‪Left Behind‬‬
‫املسـيحيني املحافظني‪.‬‬
‫‪85‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫يعتقـد جيمـس يب‪ .‬تويتشـل ‪ James B. Twitchell‬أن جاذبيـة‬


‫أفلام الرعـب إنما تكمـن يف اجلنـس‪« :‬مـع أن الشـخصيات التـي‬
‫تقدمهـا أفلا ُم الرعـب هـي شـخصيات خياليـة‪ ،‬إال إن اهتاممـات‬
‫هـذه الشـخصيات ليسـت خياليـة إطالقـ ًا‪ :‬فهـي مهتمـ ٌة باجلنـس‬
‫والتكاثـر‪ .‬وال أعتقـد أن هنـاك أسـطور ًة مرعبـ ًة واحـد ًة يف الغرب‬
‫ال تتضمـن يف حمتواهـا موضوعـة التكاثـر»)‪ .(19‬يتفـق املختصـون‬
‫بعلـم النفـس التطوري بطبيعـة احلال مع الـرأي القائـل إن االهتامم‬
‫بالتكاثـر ومحايـة احلـوض اجلينـي هـي أشـياء حموريـ ٌة يف الغرائـز‬
‫البدائيـة املدفونـة يف محضنـا النووي‪ ،‬وتسـاهم يف إذكاء نـار اخلوف‬
‫عنـد الذكور مـن تلويث إرثهـم اجليني‪ .‬تكتب هيلين فيرش ‪Helen‬‬
‫‪ Fisher‬عـن هـذا اخلـوف املتعلـق بإخلاص القرين اجلنسي‪« :‬من‬
‫تطـور لسـببني رئيسين‪ :‬حلاميـة أسلافنا الرجـال مـن‬ ‫املرجـح أنـه َّ‬
‫رجـال آخرين‪ ،‬ومحاية النسـاء السـالفات من‬‫ٍ‬ ‫التدييـث وتربيـة أبناء‬
‫ـل وأب للذريـة لصالح منافِسـة أخـرى‪ .‬بمعنى‬ ‫حمتم ٍ‬
‫زوج َ‬ ‫خسـارة ٍ‬
‫َّنـت أسلافنا مـن محاية احلمـض النووي‬ ‫أن الغيرة اجلنسـية قـد مك ْ‬
‫الثمني خاصتهـم»)‪.(20‬‬
‫تنبـع اسـتجابتنا بالتعاطـف مع جمموعتنـا التي تدافـع ضد غزو‬
‫اآلخـر إلقليمنـا مـن الربجمة اجلينيـة البيولوجيـة ولكنها تتأثـر أيض ًا‬
‫بمدخلات ثقافيـة‪ .‬بمعنى أن تأثري قصة املسـيخ الدجـال يتأتى من‬‫ٍ‬
‫كل مـن الغـزو اإلقليمـي واخلطر الـذي هيدد‬ ‫خوفنـا الداخلي جتـاه ٍّ‬
‫قـرون مـن التراث‬‫ٌ‬ ‫إرثنـا اجلينـي والقبلي‪ ،‬وتضـاف إىل كل ذلـك‬
‫املسـيحي واألسـاطري‪ .‬يف هذا الشـكل من التمثـل اإلقليمي‪ ،‬يكون‬
‫‪86‬‬
‫الف�صل الثاين‬

‫املسـيخ الدجال غازي ًا وآخر أيض ًا‪ ،‬آتيـ ًا من اجلحيم ليحكم األرض‪،‬‬
‫وغالبـ ًا مـا يكـون مدعومـ ًا مـن ِق َبل طائفـة دينية مـا‪ ،‬قبيلـة معادية‪.‬‬
‫غالبـ ًا مـا جيـري تعظيم خطـر املسـيخ الدجـال يف هذه األفلام ْ‬
‫كأن‬
‫ٍ‬
‫كبوابـة للعبور‪.‬‬ ‫العـال من خلال َر ِحم امـرأة‬
‫َ‬ ‫يـأيت هـذا الغـازي إىل‬
‫وهـذا مـا حـدث يف فيلـم ‪ Rosemary’s Baby‬املنتَـج عـام ‪،1968‬‬
‫مـن إخـراج رومـان بوالنسـكي ‪ Roman Polanski‬والـذي يقـوم‬
‫روايـة للكاتـب إيـرا ليفين ‪ .Ira Levin‬عندمـا ينتقـل‬ ‫ٍ‬ ‫أساسـ ًا على‬
‫روزمـاري وزوجهـا گاي وودهـوس (مايـا فـارو ‪Mia Farrow‬‬
‫وجـون كاسـافيتز ‪ )John Cassavetes‬إىل شـقة يف بنايـة راقيـة يف‬
‫برانفـورد‪ ،‬نيويـورك‪ ،‬يصبحـان حتت سـيطرة َع َبدَ ة الشـيطان الذين‬
‫يسـتغلون نقطـة ضعـف گاي وعـدم رضـاه عـن مهنتـه كممثـل‪،‬‬
‫ف ُي ْقنِعونـه بـأن يسـمح للشـيطان باغتصـاب روزمـاري‪ .‬تكتشـف‬
‫روزمـاري تدرجييـ ًا الوجـه احلقيقـي جلرياهنـا يف البنايـة‪ ،‬طائفـ ٌة من‬
‫أي مسـاعدة‬ ‫َع َبـدَ ة الشـيطان تقتـل كل مـن حيـاول مسـاعدهتا – ْ‬
‫روزمـاري يف التنبـه للخطـر املحدق هبا‪ .‬يقـوم هؤالء النـاس بأخذ‬
‫الطفـل مـن روزمـاري فـور والدتـه‪ ،‬لكنهـا تتدبـر أمر اهلـرب من‬
‫ُج َـزت فيها وتذهـب ملواجهة املجموعـة‪ .‬فيقودها‬ ‫غرفتهـا التي احت ِ‬
‫رومـان‪ ،‬رئيـس املجموعـة‪ ،‬نحو املهـد الـذي يرقد فيه طفـل‪ ،‬وهو‬
‫ٍّ‬
‫متـدل يف وض ٍع‬ ‫صليب‬
‫ٌ‬ ‫أسـود‪ ،‬وقد ُع ِّلـق أعاله‬ ‫ٍ‬
‫بقامش ْ‬ ‫مهـد مغطى‬
‫مقلـوب‪ .‬وحاملـا تقع عينـا األم على طفلها‪ ،‬تصرخ باكيـ ًة يف فزع‪،‬‬
‫«مـا الـذي فعلتمـوه بعينيـه؟» فيجيـب الزعيـم رومان «لقـد ورث‬
‫الطفـل عينَـي أبيـه‪ ...‬الشـيطان هو أبـوه‪ ،‬وليس گاي‪ .‬لقـد أتى من‬
‫وأو َلـدَ ِك طفلاً!»‪ ،‬ورغـم كل هـذا نالحـظ يف اللقطـات‬ ‫اجلحيـم ْ‬
‫‪87‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫اخلتاميـة أن األم تتقبـل وليدهـا الشـيطاين وتنظر إليه بحـب‪ .‬يعتقد‬


‫املتخصصـون بعلـم النفـس التطـوري أن التكيـف قـد خلـق رابط ًة‬
‫خاصـ ًة بين األم والطفـل‪ ،‬وإن هلـذه الرابطـة دور ًا حمور ًّيـا يف بقـاء‬
‫نوعنـا‪ ،‬وليسـت املشـاهد التـي نراهـا ألمهـات يضحين بأنفسـهن‬
‫إلنقـاذ أطفاهلـن إال انعكاسـ ًا هلـذه الغريـزة البدائيـة‪ .‬وكما يعبر‬
‫ماتيـاس كاليسـن ‪« :Mathias Clasen‬مـا زلنـا نحمـل يف نفوسـنا‬
‫ٍ‬
‫تكيفـات ثدي َّيـة قديمة يف مـا يتعلق بالرابطـة بين األم والوليد»)‪،(21‬‬
‫ويكمـن الرعب الـذي يقدمه فيلـم ‪ Rosemary’s Baby‬يف ِ‬
‫رؤية أ ٍّم‬
‫طفل شـيطاين‪ .‬يتكشـف الفيلـم تدرجيي ًا‬ ‫بر ٍة بغريزهتـا على رعاية ٍ‬ ‫ُم ْ َ َ‬
‫ورمـوز شـيطانية‪ .‬لكـن أحـد‬ ‫ٍ‬ ‫ـو ٍر ظالميـة‬
‫بص َ‬
‫عـن حبكـة الغـزو‪ُ ،‬‬
‫مكامـن الرعـب املركزيـة يف الفيلـم هـو النجـاح يف إفسـاد احلوض‬
‫ِ‬
‫ووالدة‬ ‫ٍ‬
‫كبوابـة‬ ‫اجلينـي باسـتخدام الشـيطان لرحـم روزمـاري‬
‫طفلـه منهـا‪ .‬و ُي َعـدُّ هـذا الفيلـم وأفلا ٌم شـيطانية أخرى مثـاالً عىل‬
‫ملحوظـة كارول كلوفـر ‪« Carol Clover‬يف األغلبيـة السـاحقة من‬
‫أفلام الغمـوض‪ ،‬تكـون البوابـات عبـار ًة عن نسـاء»)‪.(22‬‬
‫تأويلات نقدية متضاربة‪ ،‬حتـى إن بعضها‬ ‫ٍ‬ ‫أثـار الفيلـم املذكور‬
‫رجـح أن روزمـاري كانت حتلم فحسـب‪ .‬ترى لـويس فيرش ‪Lucy‬‬
‫‪ Fisher‬أن الفيلـم شـهد نشـوء موضوعـة «والدة الرعـب ورعـب‬
‫توثيق غير مبارش للهلع‬
‫الـوالدة يف السـينام احلديثـة‪ ...‬وكذلك فهو ٌ‬
‫الشـخيص واملجتمعي الشـائع يف مـا يتعلـق بالتكاثر األنثـوي»)‪.(23‬‬
‫يتفـق تأويلهـا مـع املنظوريـن السـيكولوجي والثقايف‪ ،‬لكـن الفيلم‬
‫ٍ‬
‫كمجـاز يمثل‬ ‫فيلـم رعـب صميم ًا‪ ،‬وسـواء كنـا نـرى احلبكـة‬
‫َ‬ ‫كان‬
‫‪88‬‬
‫الف�صل الثاين‬

‫قضايـا سـيكولوجية أو ثقافيـة‪ ،‬أو كنـا نتلقـاه َح ْرفيـ ًا كما أنتجـه‬


‫املؤلـف واملخـرج‪ ،‬فـإن الفيلـم يعتمـد َت َ ُّثل غـزو اإلقليم أساسـ ًا‪.‬‬

‫روزماري (مايا فارو) ترى طفلها الشيطاين‬

‫يقـدم فيلـم ‪ The Omen‬مثاالً آخر لبوابة املسـيخ الدجال‪ .‬لكن‬


‫البوابـة التي يعربها داميان‪ ،‬املسـيخ الدجال‪ ،‬ليسـت رحـم امرأة يف‬
‫بر أن ابنه‬‫هـذا الفيلـم‪ ،‬بـل يولد هنـاك مـن أنثى ثعلـب‪ .‬عندمـا ُي َ‬
‫قـد مـات يف أثنـاء الـوالدة (يف الواقـع كان ابنـه قـد ُقتِـل مـن ِق َبـل‬
‫طبيـب األب‪ ،‬وهـو روبرت ثورن السـفري‬ ‫ـع‬‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ٌ‬ ‫طائفـة شـيطانية)‪ُ ،‬يقن ُ‬
‫بطفـل لقيـط دون‬‫ٍ‬ ‫األمريكـي يف إيطاليـا‪ ،‬بـأن يسـتبدل الطفـل رس ًا‬
‫الرب شـيئ ًا خاص ًا»‪،‬‬
‫إخبـار زوجتـه‪ ،‬مطمئن ًا ثـورن قائالً‪« :‬أعطـاك ُّ‬
‫أمـا الطفـل‪ ،‬واسـمه داميـان‪ ،‬فقـد كان يف احلقيقـة ابـن الشـيطان‪،‬‬
‫الـذي سـيكرب ليصبـح املسـيخ الدجـال أو نقيـض املسـيح‪ .‬تقـوم‬
‫الطائفـة الشـيطانية بعـد ذلـك برعاية داميـان واغتيـال كل من هيدد‬
‫سلامته‪ .‬مـرة أخـرى‪ ،‬يفـوح الفيلـم برائحـة البارانويا جتـاه وجود‬
‫آخريـن متخفني ضمـن املجتمـع ويمهدون لتسـهيل غـزو إقليمنا‪.‬‬
‫‪89‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫كما يف العديد من أفلام الغزو الشـيطاين‪ ،‬هناك مدافعون يسـهرون‬


‫العـال‪ ،‬والذيـن ينضـم إليهـم روبـرت ثـورن نفسـه‬‫َ‬ ‫على حراسـة‬
‫أخير ًا بعـد أن يفهـم كل يشء‪ .‬يمثـل ثـورن هنـا الشـخصية ا ُمل ِ‬
‫نكرة‬
‫الشـكوكية التقليديـة يف أفلام الرعـب‪ ،‬التي جيب أن تبصر احلقيقة‬
‫مع سير األحـداث‪ .‬واحلـدث املحـوري يف الفيلم هـو إدراك ثورن‬
‫التدرجيـي للطبيعـة احلقيقيـة لطفله‪.‬‬
‫يقـوم املخـرج ريتشـارد دونـر ‪ Richard Donner‬بإضفاء طابع‬
‫ٍ‬
‫ورمـوز مـن‬ ‫ٍ‬
‫إشـارات‬ ‫اآلخرانيـة على َمشـاهد الفيلـم باسـتخدام‬‫َ‬
‫طيور سـودا ُء اللون بالتجسـس عىل‬
‫ٌ‬ ‫الرتاث الشـيطاين‪ .‬فمثالً‪ ،‬تقوم‬
‫عائلـة روبـرت ثورن‪ ،‬كما تقوم كالب روت فايلر سـوداء بحراسـة‬
‫داميـان‪ ،‬ولنتذكـر أن األخيرة ترتبـط باجلحيـم يف ملحمـة دانتـي‬
‫إليگـري اجلحيـم ‪ ،The Inferno‬حيـث يقـوم سيربريوس بتمزيق‬
‫اخلاطئين‪ ،‬وكذلـك يف ملحمة الفـردوس املفقود جلـون ميلتون‪ ،‬إذ‬
‫تلـد سين ‪ Sin‬ابنـ ُة الشـيطان وعشـيقته كالب اجلحيـم عنـد بوابـة‬
‫اجلحيـم‪ .‬ترافـق موسـيقى ‪ » Satani»Ave‬وتعنـي «حييا الشـيطان»‬
‫شـيطاين لطقـوس التعبد املسـيحية‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫عكـس‬‫ٌ‬ ‫َمشـاهد الفيلـم‪ ،‬وهـي‬
‫اكتشـاف روبرت‬
‫ُ‬ ‫وتتسـبب يف حضـور الشر و َت َف ُّجر العنـف‪ .‬يقود‬
‫ثـورن لوجـود رمز الشـيطان الكالسـيكي «‪( »666‬انظر سـفر رؤيا‬
‫يوحنـا الالهـويت‪ :‬اإلصحـاح ‪ ،13‬آية ‪ )18‬منقوشـ ًا على فروة رأس‬
‫طفلـه إىل حـدوث املواجهـة النهائية مع الشر واكتشـاف أن داميان‬
‫هـو املسـيخ الدجال وأنـه آخر‪.‬‬
‫ٍ‬
‫أسـاس‬ ‫ُيدين روبن وود ‪ Robin Wood‬فيلم ‪ THE Omen‬عىل‬
‫‪90‬‬
‫الف�صل الثاين‬

‫بشـكل واضح جـد ًا‪ ،‬تقليدي‬ ‫ٍ‬ ‫أيديولوجـي‪« :‬الفيلـم قديـم الطـراز‬
‫َبرأ‬ ‫ُّ‬
‫الشـك إىل العائلـة وصالحهـا كوحـدة؛ ُيت َ َّ‬ ‫ورجعـي‪ :‬ال يتطـرق‬
‫الطفل‬‫َ‬ ‫ٍ‬
‫قصـد‬ ‫مـن الرعـب بجعـل العائلة األمريكيـة تتبنى عـن غري‬
‫العـال القديـم؛ كذلك فـإن الطفل الشـيطاين‬ ‫َ‬ ‫الشـيطاين القـادم مـن‬
‫وحارسـته (إىل حـدٍّ ما‪ ،‬يمكـن تأويلهام أسـطور ًّيا عىل إهنما يرمزان‬
‫إىل حتريـر الطفـل وحتريـر النسـاء) اللذيـن ُي َقدَّ مـان بوصفهما رش ًا‬
‫مطلقـ ًا)‪ .(24‬برغـم ذلـك فـإن هـذه الصفـات التـي يدينهـا وود يف‬
‫ِ‬
‫تشـعل الـوالء ال َق َبيل واخلـوف اإلنـايب من‬ ‫الفيلـم هـي تلـك التـي‬
‫اآلخـر‪ .‬ربام تكـون احلبكـة مبتذلة بعض الشيء‪ ،‬لكن‬ ‫الغـزو ومـن َ‬
‫املخـرج دونر نجـح يف إحيـاء التمثلات البدائية كيام يسـتطيع إثارة‬
‫الرعـب املمتع وحصـد النجـاح السـينامئي التجاري‪.‬‬
‫يـؤدي النجـاح التجـاري واملـايل للفيلـم إىل صناعـة إحلاقيـات‬
‫كمـل فيلام ‪ THE Omen II‬املنتج‬ ‫‪ sequels‬له ليتحول إىل سلسـلة‪ .‬ي ِ‬
‫ُ‬
‫عـام ‪ 1978‬و ‪)1981( THE Omen III: The Final Conflict‬‬
‫مسيرة داميـان‪ ،‬املسـيخ الدجـال‪ ،‬والـذي يـدرك تدرجييـ ًا طبيعتـه‬
‫حلركة مـن حـركات النظام العاملـي اجلديد‬‫ٍ‬ ‫ومهمتـه ويصبـح قائـد ًا‬
‫َـل مع القـدوم الثاين للمسـيح‪ .‬يف كل فيلم مـن الثالثة‪ ،‬هناك‬ ‫ثـم ُيقت ُ‬
‫طائفـ ٌة شـيطاني ٌة حتـاول مسـاعدة املسـيخ الدجـال على إمتـام غزوه‬
‫وسـيطرته على األرض‪ ،‬بينما هنـاك مجاعـ ٌة صغير ٌة حتـاول قتلـه‬
‫ِ‬
‫نموذجي للــ «نحن» ضد الـ‬
‫ٌّ‬ ‫وإقليمي‬
‫ٌّ‬ ‫رصاع َق َب ٌّ‬
‫لي‬ ‫ٌ‬ ‫والتخلـص منـه‪،‬‬
‫«هـم»‪ .‬أعيـد إنتـاج نسـخة شـبه مطابقة للفيلـم األول يف السلسـلة‬ ‫ُ‬
‫عـام ‪ .2004‬عـام ‪ ،1992‬أنتِـج فيلـم ‪ ،The Omen IV‬إحلاقيـ ٌة مـن‬
‫‪91‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫نـوع غريـب ُع ِر َضـت على التلفزيـون‪ ،‬وتظهـر فيـه طائفـ ٌة حتـاول‬


‫ْ‬
‫أن توصـل ابنـة داميـان إىل السـلطة‪ .‬تفتقـر األجـزاء الالحقـة مـن‬
‫السلسـلة إىل الرنين السـينامئي الـذي ميـز الفيلـم األول‪ ،‬وتركز –‬
‫بالكامـل تقريبـ ًا على اسـتهداف اجلمهـور املسـيحي املحافظ‪.‬‬
‫تزخـر السـينام بعـدد كبير مـن األفلام عـن املسـيخ الدجـال‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بأمهيـة أكرب من منظـور ثقايف‪،‬‬ ‫لكـن سلسـلة ‪Left Behind‬تكتسي‬
‫وهي موجهـة خصيص ًا للمسـيحيني املحافظني‪ .‬أطلـق اجلزء األول‬
‫يف السلسـلة ‪ Left Behind: The Movie‬عـام ‪ ،2000‬ثـم اجلـزء‬
‫الثـاين ‪ Left Behind: Tribulation Force‬عـام ‪ 2002‬وأصـدر‬
‫اجلـزء الثالـث حتـت عنـوان ‪Left Behind: The World at War‬‬
‫عىل شـكل أقـراص دي يف دي ‪ DVD‬عام ‪ .2005‬ثـم ظهرت إعادة‬
‫إنتـاج للفيلـم عـام ‪ 2014‬وإحلاقيـة هلـا حتـت عنـوان ‪Vanished:‬‬
‫‪ Left Behind-Next Generation‬عـام ‪ ،2016‬وكلهـا تقـوم على‬
‫سلسـلة روايات تيم الهـاي ‪ Tim Lahaye‬وجيري جينكنز ‪Jerry‬‬
‫‪ Jenkins‬الشـهرية‪ ،‬التـي تعتمد أساسـ ًا عىل تضخيـم البارانويا التي‬
‫ٍ‬
‫حبكة تبرز االنقسـام الثقايف‬ ‫يشـعر هبـا املسـيحيون املحافظون مـع‬
‫يف الواليـات املتحـدة‪َ .‬تلـص مقالـة نشرت يف جملـة نيوزويـك‬
‫‪ Newsweek‬يف ‪24‬ـ‪5‬ـ‪ 2004‬أن ‪ 71%‬مـن مبيعـات سلسـلة‬
‫الروايـات هـذه كانـت يف اجلنـوب والغـرب األوسـط يف الواليات‬
‫املتحـدة‪ .‬مت ِّثـل شـخصي ُة نيكـوالي كارباثيـا املوجـودة يف الفيلـم‬
‫َ‬
‫املسـيخ الدجال‪ ،‬لكـن السلسـلة واألفالم التي‬ ‫والسلسـلة الروائيـة‬
‫أنتجـت عنهـا تعـدُّ ه جتسـيد ًا للنظـام العاملـي اجلديـد الـذي خيشـاه‬
‫‪92‬‬
‫الف�صل الثاين‬
‫ٍ‬
‫بقـوة املسـيحيون املحافظون كام بعـض العلامنيني املحافظين أيض ًا‪.‬‬
‫تبـدأ سلسـل ُة روايـات وأفلام ‪ Left Behind‬باالختطـاف‬
‫يؤخ ُذ املسـيحيون‬
‫‪ rapture‬الـذي يتنبـأ بـه الكتـاب املقـدس‪ ،‬وفيـه َ‬
‫تر ُك غريهم على األرض (انظـر رسـالة بولس األوىل‬ ‫إىل السماء و ُي َ‬
‫إىل أهـل تسـالونيكي‪ :‬اإلصحـاح الرابـع‪ :‬اآليـات ‪ ،)18 - 16‬مـن‬
‫ثـم حيـدث «البلاء»‪ .‬تتشـكل بعـد ذلـك – يف هـذه السلسـلة مـن‬
‫الروايـات واألفلام قـو ٌة رسيـ ٌة تدعـى بفرقـة البلاء ‪Tribulation‬‬
‫‪( Force‬مثـال آخـر ملجموعـة املدافعين عـن اإلقليـم يف األفلام‬
‫الشـيطانية) هتـدف إىل اإلطاحـة بكارباثيا‪ ،‬املسـيخ الدجـال وزعيم‬
‫النظـام العاملي اجلديد‪ ،‬الذي يسـتويل عىل السـلطة بعـد االختطاف‪.‬‬
‫ُت َعـدُّ فرقـ ُة البلاء – كغريهـا مـن جمموعـات املدافعين القبليين يف‬
‫األفلام الشـيطانية مثاالً نموذج ًّيا عىل السـلوك البشري املركزي يف‬
‫التمثلات البدائيـة‪ .‬يكتب ديفيد بـاراش ‪« :David Barash‬يتطلب‬
‫التنسـيق بين أفـراد املجموعـة‪ ،‬وكذلـك إطاعـ َة‬‫َ‬ ‫الناجـح‬
‫ُ‬ ‫الصيـدُ‬
‫أوامـر السـلطة ودرجـ ًة عاليـ ًة مـن االنضبـاط‪ ،‬خصوصـ ًا عندمـا‬
‫تكـون الطريـدة كبير ًة وخطـرة‪ .‬خلال تلـك املرحلة مـن تطورنا‪،‬‬
‫أن األفـراد الذين أثبتـوا فعاليتهـم وصالحيتهم كـ‬ ‫من شـبه املؤكَّـد َّ‬
‫«أعضـاء فريـق»‪ ،‬ت ََركـوا ذريـ ًة أكبر عـدد ًا مـن الذريـة التـي تركها‬
‫يصرون على الصيـد الفـردي»)‪ .(25‬إن فرقـة‬ ‫ُّ‬ ‫األفـراد الذيـن كانـوا‬
‫فريـق مـن املحاربين يناضـل ضـد كارباثيـا يف سلسـلة‬ ‫ٌ‬ ‫البلاء هـي‬
‫األفلام والروايـات التـي نتحدث عنهـا (وصل عـدد الروايات إىل‬
‫اثنتـي عرشة حتـى اآلن)‪ .‬من الطريـف أن كاتِ َبي سلسـلة الروايات‬
‫‪93‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫الهـاي وجينكنز ال يريـان غضاض ًة يف خدْ مة الـرب وخدْ مة مامون‬


‫‪ mammon‬يف ٍ‬
‫آن واحـد)*(‪ .‬فقـد كتبـا يف أحد مواقعهما عىل الويب‬
‫ٍ‬
‫جهـة أو فـرد‪ ،‬بما يف ذلـك املجموعات الكنسـية‪،‬‬ ‫أنـه ال حيـق ألي‬
‫أن يسـتخدم األفلام التـي أنتجـت عـن رواياهتام دون دفـع حقوق‬
‫امللكيـة الفكريـة وأخـذ الرخصة‪.‬‬
‫ال يمكـن بالطبـع تغطيـة مجيـع أفلام املسـيخ الدجـال يف هـذا‬
‫الكتـاب‪ .‬لكـ َّن اثنين مـن األفلام احلديثـة عـن هـذه املوضوعـة‬
‫عـرض فيلـم ‪ Constantine‬املنتَـج عـام‬ ‫يسـتحقان منـا وقفـ ًة‪َ .‬ي ُ‬
‫‪ ،2005‬والـذي يسـتمد عماده الدرامـي مـن سلسـلة الروايـات‬
‫عـر ُض تنويعـ ًا فريـد ًا على حبكـة املسـيخ‬ ‫املصـورة ‪َ ،Hellblazer‬ي ِ‬

‫عال ٌ‬ ‫الفيلـم حبكـ ًة إقليميـ ًة مـن حيـث اهليـكل‪َ :‬‬


‫ُ‬ ‫الدجـال‪ .‬يؤسـس‬
‫ال ُيسـمح للشـياطني بدخولـه مـن خلال البوابـة التـي تفصله عن‬
‫«املهجنين»‪ ،‬وهـم َأنصاف شـياطني‪ ،‬قـادرون عىل‬ ‫َّ‬ ‫اجلحيـم‪ ،‬لكـن‬
‫دخولـه ومـن ثـم التخفـي بيننـا‪ .‬يقـوم جـون كونسـتانتني (كيانـو‬
‫ـخط إىل اجلحيـم بسـبب حماولـة‬ ‫ريفـز ‪ ،)Keanu Reeves‬الـذي س ِ‬
‫ُ‬
‫آملِ‬
‫انتحـار ولكنـه عـاد منها‪ ،‬بمحاربـة هـؤالء اهلجائن املتخفين‪ً ،‬‬
‫أن ُيكافـأ على ذلك بدخـول اجلنة أخير ًا‪ .‬يمثل كونسـتانتني ا ُملدافع‬
‫فيلـم‬‫ُ‬ ‫صـور‬
‫العـال ضـد عـودة املسـيخ الدجـال‪ُ .‬ي ِّ‬ ‫َ‬ ‫اإلقليمـي عـن‬
‫ٍ‬
‫روايـة‬ ‫‪ Devil’s Advocate‬املنتـج عـام ‪ ،1997‬الـذي يقـوم على‬
‫َ‬
‫الشـيطان‬ ‫للكاتب أنـدرو نيدرمـان ‪ ،Andrew Neiderman‬يصور‬

‫ـض مــن املؤلــف بــا ورد يف إنجيــل متــي‪ ،‬اإلصحــاح الســادس‪ ،‬اآليــة‬ ‫)*( تعريـ ٌ‬
‫الرابعــة والعرشيــن‪« :‬ال تقــدرون أن ختدمــوا الــرب ومامــون» أو «ال تقــدرون أن‬
‫ِ‬
‫(املرتجــم)‪.‬‬ ‫ختدمــوا الــرب واملــال»‪ ،‬حيــث مامــون هــو رمـ ٌـز للثــراء واملــال‪..‬‬

‫‪94‬‬
‫الف�صل الثاين‬

‫يف شـخصية جـون ميلتـون (وقد حيمل االسـم املختار إحيـا ًء أدب ًّيا)‪،‬‬
‫حمـا ٍم يقطن مدينـة نيويورك‪ ،‬حيـاول ميلتـون أن يدبر عالق ًة جنسـي ًة‬
‫بين ابنتـه كريتسـابيال وبين كيفـن‪ ،‬الـذي نعـرف الحقـ ًا أنـه ابنـه‬
‫أيضـ ًا‪ ،‬األمـر الـذي سـيؤدي إىل والدة املسـيخ الدجـال مـن رحـم‬
‫العـال‪ .‬يعتمـد كال الفيلمين على‬ ‫َ‬ ‫كريتسـابيال ودخولـه إىل هـذا‬
‫رسديـة البوابـة ووالدة املسـيخ الدجـال‪.‬‬
‫لخـص ميـك برودريـك ‪ Mick Broderick‬تأثير حبكـة‬ ‫ُي ِّ‬
‫املسـيخ الدجـال يف األفلام التـي ذكرناها وأفلا ٍم أخرى مـن قبيل‬
‫‪ The Omega Code‬عـام ‪Lost Souls ،1999‬عـام ‪ ،2000‬و ‪End‬‬
‫الشـك والقلق‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ٍ‬
‫منظـور ثقـايف‪« :‬يف فرتات‬ ‫‪ of Day‬عـام ‪ 1999‬مـن‬
‫ت َُو ِّفـر الرسديـات السـينامئي ُة لنهاية العـامل‪ ،‬والتي متثل جتسـيد ًا حرف ًّيا‬
‫شـخص ًا للمسـيخ الدجـال‪ ،‬توفر قالب ًا أسـطور ًّيا تارخي ًّيـا للدراما‬‫و ُم َّ‬
‫ُي َب ِّسـط العالقـات املعقـدة لتحالفـات اخلير أو الشر‪ ،‬الصـواب أو‬
‫اخلطـأ‪ ،‬والتـي تتكشـف وفقـ ًا خلطـة كونية مسـبقة تقـدِّ م لنـا حبكة‬
‫درامية بعنـوان نحن‪/‬هـم»)‪.(26‬‬
‫ال يمكـن إنـكار قـوة تأثير الثقافـة على ذائقتنـا السـينامئية أو‬
‫الفيلميـة‪ .‬وربام كان للقلق الـذي أمل َّ بالعامل مع انتهـاء القرن املنرصم‬
‫دور يف جعـل األفلام التـي تتنـاول املسـيخ الدجـال وهنايـة العـامل‬ ‫ٌ‬
‫أشـدَّ تأثير ًا وإخافـ ًة‪ .‬لكن حتليـل بروديـرك للـ «نحن‪/‬هـم» ينطبق‬
‫جمال أوسـع‪ .‬إذ يؤكـد املختصون بعلـم النفس التطـوري طبع ًا‬ ‫على ٍ‬
‫على التأثري اإلضـايف للنـداءات التي تنبع مـن داخلنـا لتحذيرنا من‬
‫الغـازي اإلقليمـي ومـن املنافـس الذي يفسـد حوضنـا اجليني‪.‬‬
‫‪95‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫وهذه اآليات تتبع المؤمنين يخرجون الشياطين باسمي‬


‫ويتكلمون بألسنة جديدة‪ :‬فيلم ‪The Exorcist‬‬
‫كلمات يسـوع هـذه (إنجيـل مرقس‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫دعمـت‬
‫ْ‬ ‫ٍ‬
‫لقـرون طويلـة‪،‬‬
‫إيمان املسـيحيني بإمكانيـة‬ ‫َ‬ ‫اإلصحـاح السـادس عشر‪ ،‬اآليـة ‪)17‬‬
‫حدوث االسـتحواذ الشـيطاين على البرش‪ .‬وليسـت موضوعة طرد‬
‫الشـياطني إال تنويعـ ًا على حبكة الغزو الشـيطاين نفسـها‪َ .‬ظ َه َر طر ُد‬
‫األرواح الرشيـرة مبكـر ًا يف التراث املسـيحي‪ .‬وتزخـر األناجيـل‬
‫وسـ ْفر أعمال الرسـل بأمثلـة مـن هذا النـوع‪ .‬حتى‬ ‫األربعـة األوىل ِ‬
‫يومنـا هـذا‪ ،‬مـا زالـت الكنيسـة الرومانيـة الكاثوليكيـة حتافظ عىل‬
‫طقس طـرد األرواح‪ ،‬رغم أنه أصبـح مهجور ًا ونادر ًا ما ُيسـتخدَ م‪.‬‬
‫لكـن هـذه املامرسـة مـا زالـت شـائعة يف صفـوف املجموعـات‬
‫املسـيحية األصولية‪ ،‬خصوصـ ًا اجلامعة اخلمسـينية ‪.Pentecostals‬‬
‫اآلخـر يف االسـتحواذ على أحدنـا‪ ،‬ومـن ثـم انتصارنـا‬ ‫إن نجـاح َ‬
‫التدرجيـي عليـه وإعادتـه إىل اجلحيـم‪ ،‬املـكان الـذي أتـى منـه‪ ،‬هو‬
‫أحـد التمثلات البدائيـة اجلذابـة للغـزو يف األفالم الشـيطانية‪.‬‬
‫ُي َعـدُّ فيلـم ‪ The Exorcist‬الـذي أخرجـه ويليـام فريدكـن‬
‫‪ William Friedkin‬عـام ‪ 1973‬أقـوى األفلام التـي تعتمـد حبكة‬
‫ٍ‬
‫روايـة للكاتب‬ ‫االسـتحواذ الشـيطاين‪ ،‬ويسـتمد الفيلـم مادتـه مـن‬
‫ِ‬
‫ويليـام بيتر بلايت ‪ .William Peter Blatty‬وقـد ُأنتجـت للفيلـم‬
‫إحلاقيـات هـي ‪ Exorcist II‬عـام ‪ 1977‬ثـم ‪ Exorcist III‬عـام‬
‫‪1990‬؛ كذلـك ُأنتِـج تقليـدٌ لـه بعنـوان ‪ Possessed‬عـام ‪2000‬؛‬
‫ثـم ُأعيـد إنتـاج الفيلـم عـام ‪2006‬؛ ويف عـام ‪ُ 2005‬أنتِـج فيلـم‬
‫فيلـم حيكي األحداث التي تسـبق أحـدث الفيلم‬ ‫ٌ‬ ‫‪ Dominion‬وهـو‬
‫‪96‬‬
‫الف�صل الثاين‬

‫موضـع احلديـث‪ .‬يفتتـح الفيلـم بأجـواء مؤثـرة جتـري أحداثها يف‬


‫العـراق‪ .‬يذهـب األب مرييـن (ماكـس فـون سـايدو ‪Max Von‬‬
‫‪ )Sydow‬يف بعثـة تنقيبيـة عـن اآلثـار هنـاك‪ .‬وتقوده أعاملـه للعثور‬
‫ٌ‬
‫شـكل‬ ‫على موقـ ٍع غريـب الشـكل‪ .‬حيـث جيـد متيمـ ًة ُر ِسـم عليها‬
‫يمثـل جوزيـف وهـو حيمل يسـوع الطفـل‪ ،‬كام جيـد جمسم ًا منحوت ًا‬
‫شـيطاين املظهـر يف موقـع احلفريـات ذاتـه‪ .‬يرمـز هـذان‬
‫ِّ‬ ‫ٍ‬
‫لـرأس‬
‫كمدافـ ٍع عـن البراءة ضـد غـزو‬ ‫االكتشـافان إىل َدور األب مرييـن ُ‬
‫ٍ‬
‫لشـيطان‬ ‫الشر‪ .‬يصـل مرييـن إىل موقع احلفـر‪ ،‬فريى ً‬
‫متثـال عمالق ًا‬
‫جمنـح ينتصـب ووراءه تغـرب الشـمس‪ ،‬ولـه ذات الرأس‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫زاحـف‬
‫الـذي تصـوره املنحوتـة الصغيرة املذكـورة آنفـ ًا‪ .‬يؤسـس املشـهدُ‬
‫االفتتاحـي للتميمـة ومنحوتـة الشـيطان بـازوزو ‪ Pazuzu‬للتمثـل‬
‫البدائـي للغـزو والدفـاع عـن اإلقليـم‪ :‬وليـس اإلقليـم هنا بيتـ ًا أو‬
‫صغيرة ُم َهـدَّ ٍد بغـزو اآلخـر‪ ،‬والفتاة‬
‫ٍ‬ ‫بنْيـ ًة مشـاهبة‪ ،‬بـل جسـد ٍ‬
‫فتـاة‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬
‫التـي يطاردهـا الشـيطان هـي ريـگان ماكنيـل (لينـدا بلير ‪Linda‬‬
‫مثـال آخـر للرعـب الناتـج عـن هتديـد اآلخـر ألطفالنـا‪.‬‬ ‫‪ٌ ،)Blair‬‬
‫كبوابة للغزو واالسـتحواذ‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫الشـيطان لوح ًا للعبـة الوجيـا‬
‫ُ‬ ‫َيسـتخدم‬
‫وكحل أخري‪،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫بسـلوكيات غريبـة وعنيفـة‪.‬‬ ‫مؤديـ ًا بريـگان إىل القيام‬
‫تلجـأ والـد ُة ريگان‪ ،‬كريـس (إلين بورسـتني ‪ )Ellen Burstyn‬إىل‬
‫الكنيسـة طالبـة منهـا أداء طقـس طـرد األرواح لتخليـص الطفلـة‪.‬‬
‫ُظهـر ا َملشـاهد املطولة ملعركـة األب مريين مدعوم ًا بـاألب كاراس‬ ‫ت ِ‬
‫ُظهـر دفاعهما ضد‬ ‫ضـد الشـيطان بـازوزو يف غرفـة نـوم ريـگان‪ ،‬ت ِ‬
‫اآلخـر الغـازي يف مـا يشـبه عاملـ ًا حتت ًّيا بين األرض واجلحيـم‪ .‬وقد‬
‫اجلـو البرصي املظلـم والصلوات احلـادة لل َق َّسين باإلضافة‬ ‫أضفـى ُّ‬
‫‪97‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫وهم وضوح ًا شـديد ًا‪.‬‬ ‫إىل تشـنجات ريگان على الرصاع بني نحـن ُ‬
‫الفيلم على التمثـل البدائي للغـزو والدفاع املسـتميت‬ ‫ُ‬ ‫أدخ َـل هـذا‬
‫َ‬
‫ضـده تغيير ًا َت َ َّثل يف كـون البوابة هنا فتا ًة عىل عتبـة البلوغ والتحول‬
‫إىل امـرأة‪ .‬كما إن حـدوث الصراع يف غرفـة نومها يغمـز من طرف‬
‫خفـي إىل وجـود مضامين جنسـية واغتصاب يف هـذا الغـزو‪ .‬ينبع‬
‫الرعـب البيولوجـي يف هـذه القصـة من الدفـاع عن اإلقليـم‪ ،‬وهو‬
‫راهقـ ٌة على وشـك البلوغ‪ ،‬وكـذا من خطر إفسـاد‬ ‫يف هـذه احلالـة م ِ‬
‫ُ‬
‫اإلحياءات اإلنجيليـ ُة من تأثري‬
‫ُ‬ ‫احلـوض اجليني من قبـل آخر‪ُ .‬ت َع ِّـزز‬
‫معركـة اخلري والشر‪ ،‬اآلخـر وا ُملدافِع‪ ،‬وتوفـر خلفي ًة غنيـ ًة للرصاع‬
‫الدرامـي‪ .‬يتابـع األب كاراس املعركـة بعـد مـوت األب مرييـن‪،‬‬
‫الشـيطان املسـتحوذ عىل ريگان عن اسـمه‪ .‬جييبه الشيطان‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ويسـأل‬
‫«اسـمي ليجـن ‪ ،»legion‬يف إحالـة على مـا ورد يف إنجيـل مرقس‪:‬‬
‫اإلصحـاح اخلامـس‪ ،‬اآليـة ‪ 9‬والتـي تتحـدث عـن عمليـة طـرد‬
‫َ‬
‫الشـيطان‬ ‫املسـيح‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يسـأل‬ ‫للشـياطني قـام هبـا املسـيح‪ ،‬ويف أثناء ذلك‬
‫ال اسـمي جلئـون ألننا‬ ‫عـن اسـمه‪« :‬وسـأله ما اسـمك فأجـاب قائ ً‬
‫كثيرون»)*(‪ ،‬وتتكـرر القصـة يف إنجيـل متّـي وإنجيـل لوقـا أيض ًا‪.‬‬
‫املقطـع اإلنجيلي هـذا مصـدر ًا للفكـرة الفلكلوريـة‬ ‫ُ‬ ‫قـد َيكـون‬
‫الشـائعة القائلـة أن معرفة االسـم احلقيقي لشيء ما كفيلـ ٌة بتحقيق‬
‫السـيطرة عليه وا َملسـك بزمامه‪ ،‬فقد اسـتخدمت الروائية أورسـوال‬
‫يل جويـن ‪ Ursula Le Guin‬هـذه الفكـرة أيض ًا يف سلسـلة روايات‬

‫)*( نالحــظ هنــا أن كلمــة جلئــون يف الرتمجــات العربيــة لألناجيــل هــي مقابــل‬
‫لكلمــة ‪ legion‬االنگليزيــة املأخــوذة – الكلمــة مــن الالتينيــة‪ ،‬وتعنــي يف كلتــا‬
‫ِ‬
‫‪(..‬املرتجــم)‪.‬‬‫اللغتــن فيلقــ ًا أو حشــد ًا‪ ،‬باملعنــى العســكري واجلنــود خصوص ًا‬

‫‪98‬‬
‫الف�صل الثاين‬

‫‪ .Earthsea‬يف الرسديـة اإلنجيليـة‪ ،‬بعـد أن عـرف يسـوع أسماء‬


‫ُسـجن يف أجسـام قطي ٍع مـن اخلنازير‬
‫الشـياطني‪َ ،‬حكَـم عليهـا بأن ت َ‬
‫(حيوانـات يسـتقذرها اليهـود) بعد أن خترج من جسـد ا َمل ْم ُسـوس‬
‫ٌ‬
‫الـذي كان يعاجلـه‪ ،‬وبعـد أن دخلت الشـياطني أجسـا َم احليوانات‪،‬‬
‫احليوانـات حتى خرت سـاقطة من هاويـة بحرية فغرقت‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ركضـت‬
‫تتر َّد ُد أصـداء القصـة اإلنجيلية يف أحـداث الفيلم أيضـ ًا‪ ،‬إذ يطلب‬
‫القـس كاراس‪ ،‬الـذي يعـاين مـن مشـكلة مزمنـة يف إيامنـه‪ ،‬مـن‬
‫الشـياطني أن تغـادر جسـد ريغـان وتدخـل جسـده هو بـدالً منها‪.‬‬
‫وتسـتجيب الشـياطني هلـذا الطلـب فتسـتحوذ عىل جسـد كاراس‪،‬‬
‫وكما حدث مـع اخلنازير يف القصـة اإلنجيلية‪ ،‬هيـرع كاراس فيهوي‬
‫من عىل ُسـ َّلم الشـقة فيلقـى مرصعه‪ .‬وعندهـا ينتهي الغـزو هبزيمة‬
‫الشـياطني وعودهتـم إىل إقليمهـم الـذي أتـوا منه‪.‬‬

‫األب مريين يقف قبالة متثال الشيطان بازوزو‬

‫أهلمـت موضوعـة طـرد األرواح العديـد من األفلام األخرى‪،‬‬


‫كفيلـم ‪ The House of Exorcism‬عـام ‪The Possession ،1975‬‬

‫‪99‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫‪ of Gail Powers‬عـام ‪ ،2006‬وفيلـم ‪ The Last Exorcism‬عـام‬


‫ُخدمت املوضوعة يف حشـد من أفلام التلفزيون‬ ‫‪ ،2010‬كذلك اسـت ِ‬
‫‪ ،‬أقـراص دي يف دي ذات العناويـن اجلذابـة كفيلـم ‪High School‬‬
‫‪ Exorcist‬عـام ‪ 1991‬وفيلـم ‪ Shark Exorcism‬عـام ‪ .2015‬ومـع‬
‫أن مجيـع أفلام موضوعة طـرد األرواح تتبـع النمط ذاتـه – املعركة‬
‫بين شـخصية طـارد األرواح (املحـارب الـذي يدافـع عـن قبيلتنـا‬
‫وإقليمنـا) وبين الشـيطان الغـازي املسـتحوذ على واحـد منـا ـــ‪،‬‬
‫إال أن أحـد ًا منهـا مل يفلـح يف االقتراب حتى من مسـتوى اجلاذبية‪،‬‬
‫التعقيـد‪ ،‬والتأثري البصري لفيلـم ‪.The Exorcist‬‬

‫«سأحرق كتبي!»‪:‬‬
‫أفالم ‪،Dr. Faustus، The Devil and Daniel Webster‬‬
‫و ‪Angel Heart‬‬
‫بـدأت أسـطورة فاوسـت يف القرن السـادس عرش‪ ،‬وهـي قص ٌة‬
‫حتكي كيـف عقدت شـخصي ٌة تارخيي ٌة صفق ًة مع الشـيطان‪ .‬ويصف‬
‫«سـاحر أو‬
‫ٌ‬ ‫گـوردون ميلتـون ‪Gordon Melton‬ذلـك الرجـل بأنه‬
‫ضر أرواح متنقـل اكتسـب شـهرته مـن شـخصيته الفاتنـة»)‪.(27‬‬ ‫ُم ِّ‬
‫ٍ‬
‫صاخـب‬ ‫ٍ‬
‫فتر ُض أنـه قـد أغـوي وسـقط يف اجلحيـم إثـر لقـاء‬
‫و ُي َ َ‬
‫مـع الشـيطان‪ُ .‬طبِعـت احلكايـة على هيـأة كتيـب صغير يف أملانيـا‬
‫عـام ‪ ،1587‬ثـم تناولتهـا أقلام األدباء العظـام ابتدا ًء مـن مرسحية‬
‫كريسـتوفر مارلـو ‪ Christopher Marlowe‬حتـت عنـوان «التاريخ‬
‫املأسـاوي للدكتـور فاوسـت ‪The Tragical History of Dr.‬‬
‫‪ Faustus‬عـام ‪ 1604‬وصـوالً إىل مرسحيـة ‪Faust، ein Tragödie‬‬
‫للشـاعر األملاين الشـهري يوهان فـون گوتـه ‪،Johann Von Goethe‬‬
‫‪100‬‬
‫الف�صل الثاين‬

‫عـام ‪ .1804‬وقـد ُأنتِجـت العديـد مـن األفلام التـي جتسـد هذين‬


‫العملين الكالسـيكيني‪ ،‬كام إن قصة فاوسـت قد أهلمـت عدد ًا أكرب‬
‫مـن األفالم‪.‬‬
‫يلفـت روبـرت سـنگر ‪ Robert Singer‬االنتباه إىل أن أسـطورة‬
‫ٍ‬
‫مكونـات أساسـية‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫باسـتمرار بوجـود أربعـة‬ ‫فاوسـت «تتجـدد‬
‫ـحر الطقويس؛‬ ‫ِ‬
‫العالقـة بين فاوسـت وميفسـتوفيلس؛ ال َعقـد؛ الس ْ‬
‫والعالقة بين فاوسـت وهيلين الطروادية‪/‬مارگريـت»)‪ .(28‬يمكن‬
‫إعمال نقـد الصفـات البدائيـة يف حبكـة الدكتـور فاوسـت‪ .‬مـن‬
‫منظـور علـم النفـس التطـوري‪ ،‬تكمن قـوة تأثير هذه األسـطورة‬
‫واحـد ِمنـا إىل منبـوذ مـن ِق َبلنا‪ ،‬ينضم هـذا الواحـد إراد ًّيا‬
‫ٍ‬ ‫ـول‬ ‫يف َ َت ِّ‬
‫عندئـذ إىل اآلخريـن‪ ،‬لينسـلخ يف النهايـة من إقليمنا ومـن جمموعتنا‬ ‫ٍ‬
‫االجتامعيـة ال َق َبليـة مـن أجل املكاسـب‪ :‬املـال‪ ،‬السـلطة‪ ،‬واجلنس‪،‬‬
‫وكلهـا مذكورة ضمنـ ًا يف مالحظة سـنگر التي أوردناهـا قبل قليل‪.‬‬
‫يف إنجيـل متـي‪ :‬اإلصحـاح الرابـع‪ ،‬اآليـات ‪ ،1-11‬يذهب يسـوع‬
‫رباين أمام إغواء الشـيطان‪ ،‬الـذي يعرض عىل‬ ‫ٍ‬
‫إىل الربيـة يف امتحـان ٍّ‬
‫خررت‬‫َ‬ ‫السـلطان أخري ًا‪« :‬وقـال له أعطيـك هذه مجيعهـا ْ‬
‫إن‬ ‫َ‬ ‫يسـوع‬
‫وسـجدت يل»‪ .‬ونقـرأ املقطـع ذاتـه يف إنجيـل لوقـا‪ .‬يقـوم عىل هذا‬
‫مركزي يف أسـطورة فاوسـت‪َ :‬ع ْـر ٌض من‬ ‫ٌّ‬ ‫عنرص‬
‫ٌ‬ ‫املقطـ ِع اإلنجيلي‬
‫الشـيطان باحلصـول على الثـروة‪ ،‬اجلنـس‪ ،‬والسـلطة‪ ،‬يف مقابل أن‬
‫يتخلى البشري عـن بنـي جنسـه‪ ،‬مع تذكيره أنـه سـيدفع ثمن كل‬
‫هـذا يف النهاية‪.‬‬
‫إن فيلـم ‪ Dr. Faustus‬املنتَـج عـام ‪ 1967‬مـن إخراج ريتشـارد‬
‫‪101‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫بورتـون ‪ Richard Burton‬هـو جتسـيدٌ مبـارش ملرسحيـة مارلـو‪.‬‬


‫كل مـن املرسحيـة والفيلـم‪ ،‬يتأمـل فاوسـت الفنـون بأنواعهـا‪،‬‬ ‫يف ٍّ‬
‫ولكنـه يتخلى عنهـا مجيعـ ًا مدفوعـ ًا برغبتـه بـأن يصبـح نصـف ٍ‬
‫إله‬
‫ـحر‪ .‬ولكن للوصـول إىل هذا اهلدف‪ ،‬عليـه أن يعقد‬ ‫ِ‬
‫باسـتخدام الس ْ‬
‫كل من َمالك اخلري وميفسـتوفلس فاوسـت من مغبة‬ ‫ـذر ٌّ‬
‫ي ِّ‬
‫صفقـ ًة‪َ ُ .‬‬
‫اإلقـدام على إبرام العقـد‪ .‬يف بعض توظيفـات قصة فاوسـت‪ُ ،‬ي َع ِّب‬
‫ـرد مـن قبيلتـه املالئكية السـابقة‬ ‫ا ُملغـوي عـن ندمـه ألنـه كان قد ُط ِ‬
‫وإقليمـه السـابق‪ ،‬اجلنـة‪ ،‬ألنـه فشـل يف مقاومـة اإلغـواء‪ ،‬وهـذا‬
‫مـا فعلـه ميفسـتوفيلس يف مرسحيـة مارلـو وفيلـم بورتـون‪ .‬لكـن‬
‫َأ َن َفـ َة فاوسـت ورغبتَـ ُه بالسـلطة والثـروة واشـتها َءه لشـبح هيلين‬
‫الطرواديـة الشـيطاين قـاده إىل التخلي عـن النـاس وعقـد صفقـة‬
‫لخـص استرحا ُم فاوسـت‬ ‫تتضمـن االنتقـال إىل إقليـم اآلخـر‪ُ .‬ي ِّ‬
‫الرعب‬
‫َ‬ ‫املتفجـع يف مرسحيـة مارلـو عندما حتين اللحظة املوعـودةُ‪،‬‬
‫اآلخـر‪« :‬سـأحرق كتبـي»‪ ،‬يقول‬ ‫الناتـج عـن التحـول اإلرادي إىل َ‬
‫فاوسـت منتحبـ ًا عندما جتيء الشـياطني لتأخـذه إىل مثـواه األخري‪،‬‬
‫«يـا إهلـي! إذا مل تغفر يل فضـع حد ًا آلالمي! دعنـي أعش يف اجلحيم‬
‫أن خترجنـي منها يف‬ ‫ألـف عـام! بـل لتكـن مائـة ألـف عـام‪ ...‬على ْ‬
‫النهايـة‪ .‬ولكـن هيهات! ما مـن هناية لعـذاب األرواح امللعونة»)‪.(29‬‬
‫جتعلنـا غرائزنـا البرشيـة اإلقليميـة وال َق َبليـة نميـل إىل التعاطف مع‬
‫مـن اختـذ قـرار ًا جعلـه ُيب َعـد عـن بني جنسـه وعـن إقليمه‪.‬‬
‫تظهـر رسديـة فاوسـت مبكـر ًا يف السـينام عـام ‪ 1917‬يف فيلـم‬
‫يسـتلهم روايـة «أحـزان الشـيطان ‪ »The Sorrows of Satan‬ملاري‬
‫‪102‬‬
‫الف�صل الثاين‬

‫كوريلي ‪ Marie Corelli‬الصادرة عـام ‪ ،1895‬ومل يعد الفيلم متوفر ًا‬


‫اليـوم‪ .‬أخـرج ديفيـد غريفـث ‪ David Griffith‬فيلم ًا آخر يسـتلهم‬
‫ٌ‬
‫فاشـل‬ ‫كاتـب‬
‫ٌ‬ ‫الروايـة ذاهتـا عـام ‪ .1926‬يف فيلـم غريفـث‪ ،‬يلتقـي‬
‫ُيدعـى جيفـري تيمبسـت بكاتبـة‪ ،‬فاشـلة تناضـل إلثبات نفسـها‪،‬‬
‫تدعـى مافيـس كلير‪ ،‬ويقـوم بإغوائهـا‪ .‬تتوافـق أبعـاد شـخصية‬
‫تيمبسـت مـع قالـب شـخصية فاوسـت‪ ،‬حيـث يبيـع روحـه ثـم‬
‫ٍ‬
‫عندئذ ينسـى مافيس‪ ،‬املـرأة التي أغواهـا وكان يريد‬ ‫تغيره الثـروة‪.‬‬
‫غرم بأمرية روسـية حسـناء‪ ،‬ربام تكون تنويعـ ًا أدب ًّيا‬
‫الـزواج منهـا‪ ،‬ل ُي َ‬
‫على هيلين الطرواديـة يف مرسحية فاوسـت األصلية‪ .‬يقـدم الفيلم‬
‫ٍ‬
‫كئيـب أخـرى‪ ،‬وهـي األمير لوسـيو دي ريامنيـز‪،‬‬ ‫شـخصي َة ٍ‬
‫مغـو‬
‫ٍ‬
‫مسـحة مـن ميالنخوليـا احلركـة الرومانسـية‬ ‫شـخصي ٌة مثير ٌة مـع‬
‫األمير عشـق ًا بامفيـس لصدهـا إيـاه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫هييـم‬
‫والشـيطان الرومانسي‪ُ .‬‬
‫ويتـوق إىل اخللاص مـن خلال روحهـا واألرواح الشـبيهة‪ .‬إن‬
‫آخر ضـل طريقـه‪ ،‬بينما جيفري هـو واحدٌ‬ ‫األمير دي ريامنيـز هـو َ‬
‫منـا يوافـق على أن يتحـول إىل آخـر‪ .‬وجتعلنـا غريـزة االنتماء إىل‬
‫قبيلـة‪ ،‬التـي ورثناها عبر تارخينـا التطوري‪ ،‬جتعلنا نشـعر بالشـفقة‬
‫والرعـب جتـاه موق َفـي الشـخصيتني املطرودتين يف روايـة أحـزان‬
‫الشـيطان هـذه‪ :‬الشـخصية الفاوسـتية التـي وافقت بكامـل إرادهتا‬
‫على التخلي عـن أبنـاء جنسـها‪ ،‬وكذلـك الشـيطان املغـوي الـذي‬
‫ـي عـن أرستـه السماوية‪ .‬مـن اجلديـر بالذكـر أن خامتـة الفيلـم‬ ‫ِ‬
‫نُف َ‬
‫كانـت خامتـ ًة سـعيدة كالسـيكية ينترص فيهـا احلب‪ ،‬بعكـس خامتة‬
‫فاوسـت املفجعة‪.‬‬
‫‪103‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫حبكـة فاوسـت شـخصي َة فاوسـت‬ ‫ِ‬ ‫معظـم أفلام‬ ‫تتنـاول‬


‫ُ‬
‫لا حيتفـظ فيلـم ‪The Devil and Daniel‬‬
‫ٍ‬
‫بطريقـة مماثلـة‪ .‬فمث ً‬
‫‪ Webster‬املنتـج عـام ‪ ،1941‬والقائـم على قصـة سـتيفن فنسـنت‬
‫بينـت ‪ Stephen Vincent Benét‬التـي حتمـل االسـم ذاتـه‪ ،‬حيتفظ‬
‫بـذات الصفـات التقليدية لشـخصية فاوسـت من التكرب‪ ،‬اجلشـع‪،‬‬
‫ٍ‬
‫موضوعـة شـعبوية يتناول مـن خالهلا‬ ‫والشـهوانية‪ ،‬ويمزجهـا مـع‬
‫والفقـر َّ‬
‫الفل َح البسـيط‬ ‫ُ‬ ‫اليـأس‬
‫ُ‬ ‫قضايـا فترة الكسـاد الكبري‪ .‬يقـود‬
‫جيبـز سـتون (جيمـس كرايـگ ‪ )James Craig‬إىل أن يعلـن قائ ً‬
‫لا‬
‫أستـه‪،‬‬ ‫أن يبيـع روحـه باملـال كـي يتمكـن مـن إعالـة ْ‬ ‫أنـه مسـتعدٌّ ْ‬
‫ال يدعى سـكراتش (والرت هيوسـتن ‪Walter‬‬ ‫ُ‬
‫اإلعالن رج ً‬ ‫وجيتـذب‬
‫‪ )Huston‬الـذي يقـدم عرض ًا جليبز سـتون‪ .‬كام حدث مع فاوسـت‬
‫ٍ‬
‫امـرأة فاتنة وال يسـتخدم‬ ‫وجيفـري تيمبسـت‪ ،‬يقع جيبـز يف حبائل‬
‫أموالـه يف أعمال اخلير وإعانـة املحتاجين‪ ،‬متخلي ًا عـن روابطه مع‬
‫جمتمعـه‪ ،‬نحـن‪ ،‬ويشـق طريقه ليصبـح مرابي ًا غليـظ القلب يضطهد‬
‫النـاس كما كان يفعل معـه دائنه سـابق ًا‪ .‬ويوافق املحامـي واخلطيب‬
‫املفـوه دانييـل ويبستر (إدوارد آرنولـد ‪ )Edward Arnold‬على أن‬ ‫َّ‬
‫ـدت للقضية‬‫حمكمة ُع ِق ْ‬
‫ٍ‬ ‫يتخلى عن روحه إذا فشـل يف إنقـاذ جيبز يف‬
‫وتألفـت هيـأة املح َّلفني فيهـا من بعـض األرواح امللعونـة‪ ،‬فيام أدى‬
‫سـكراتش دور املدعـي العـام‪ .‬وينجح ويبستر‪ ،‬ا ُملدافـع البارع عن‬
‫آخـر يتمتـع بالقـوة واجلبروت‪ ،‬بإنقـاذ موكِّلـه‬ ‫بنـي جنسـه ضـد َ‬
‫وطني‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫محـايس‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫بخطـاب‬
‫يكتـب إدوارد أوزبـورن ويلسـون‪« :‬حتكمنـا رغبـ ٌة ملحـة – أو‬
‫‪104‬‬
‫الف�صل الثاين‬

‫الد َّقـة ورثناهـا مـن أسلافنا الغابريـن‪.‬‬ ‫شـئت ِ‬ ‫ملحـ ٌة ْ‬


‫إن‬
‫َ‬ ‫رضور ٌة َّ‬
‫ٍ‬
‫جمموعة تضمـه‪ ،‬من ثـم فإن كل‬ ‫ٍ‬
‫باسـتامتة عـن‬ ‫كل ٍ‬
‫فـرد منـا يبحـث‬
‫حيـوان َق َب ِ ٌّل جـد ًا»)‪ .(30‬وقـد اعتـادت القبائل عىل‬
‫ٌ‬ ‫بشري هو‬
‫ٍّ‬ ‫كائـن‬
‫االسـتقرار يف أقاليـم والدفـاع عنهـا منـذ أقـدم األزمنـة‪ .‬يف بعـض‬
‫الثقافـات كثقافـة شـعب اآلميـش ‪ُ ،Amish‬يعـدُّ «االجتنـاب» أو‬
‫غري‬
‫الطـرد أقصى درجـات العقوبة‪ ،‬و ُيعدُّ األشـخاص املطـرودون َ‬
‫عـادت جـذوره إىل الربجمـة‬
‫ْ‬ ‫ـب هبـم يف اإلقليـم ال َق َبلي‪ .‬سـواء‬ ‫ُم َر َّح ٍ‬
‫اجلينيـة والسـلوك اإلقليمـي وال َق َبلي أو إىل التأثير الثقـايف‪ ،‬يبقـى‬
‫النفـي مـن القبيلـة سـلوك ًا يثير الرعـب‪ .‬وشـخصية فاوسـت هي‬
‫جتسـيدٌ هلـذا اخلـوف اإلنايب‪.‬‬
‫ُي َعـدُّ فيلـم ‪ Angel Heart‬املنتـج عـام ‪ 1987‬مـن إخـراج أالن‬
‫باركـر ‪ Alan Parker‬أحـد أغنـى وأعقـد التوظيفـات ملوضوعـة‬
‫مبنـي على‬ ‫ٌّ‬ ‫فاوسـت وأقواهـا تأثير ًا يف تاريـخ األفلام‪ ،‬وهـو‬
‫روايـة ‪ Fallen Angel‬للروائـي ويليـام هيورتسبرگ ‪William‬‬
‫غامـض يدعـى هاري‬ ‫ٍ‬ ‫خـاص‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫بمحقـق‬ ‫‪ .Hjortsberg‬تبـدأ القصـة‬
‫أينجـل (ميكـي رورك ‪ )Mickey Rourk‬يأخـذ على عاتقـه مهمـة‬
‫رجل يدعى لوي سـايفر (روبرت دي نيرو ‪Robert De‬‬ ‫يوكلـه هبـا ٌ‬
‫قريـب من اسـم «لوسـيفر»‪ ،‬واملهمة هـي إجياد‬ ‫ٌ‬ ‫اسـم‬
‫ٌ‬ ‫‪ ،)Niro‬وهـو‬
‫ٍ‬
‫مفقـود يدعى جـوين فافرت‪ .‬خيلـق املخرج باركر جـو ًا مظل ًام‬ ‫رجـل‬
‫باآلخرانية‬
‫َ‬ ‫متوعـد ًا ومليئ ًا بالرموز الشـيطانية ممـا يقوي اإلحسـاس‬
‫يف مشـاهد الفيلـم‪ .‬مـن األمثلـة على ذلك اسـتخدام مـراوح ذات‬
‫مخس شـفرات تبـدو عىل هيـأة نجمـة مخاسـية‪ ،‬والتي متثـل املقلوب ُة‬
‫‪105‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫منهـا رمـز ًا شـيطان ًّيا‪ .‬يف أحد املشـاهد‪ ،‬نـرى أيض ًا النجمة اخلامسـية‬
‫املقلوبـة منقوشـ ًة على أحـد األسـنان األماميـة للعـازف األسـود‬
‫الـذي حياربـه هـاري‪ ،‬ويدعـى توتـس سـويت‪ .‬حييـل الفصـل‬
‫االفتتاحـي للفيلـم‪ ،‬والـذي نـرى فيـه أبخـر ًة تتصاعـد مـن جماري‬
‫ٍ‬
‫مشـهد مظلـم‪ ،‬إىل اجلحيم التحتـي‪ ،‬إقليم خمتلف‬ ‫شـوارع املدينـة يف‬
‫وغريـب‪ .‬تتناثـر يف الفيلـم بعـض املشـاهد هلبوط هاري من سلامل‬
‫ملتفـة‪ ،‬كنايـ ًة عـن ت ََر ِّديـه إىل هاويـة اجلحيـم‪ ،‬كما احلـال مـع داللة‬
‫املشـهد اخلتامـي للفيلـم‪ ،‬حيـث ينـزل هـاري باسـتخدام املصعـد‪:‬‬
‫رحلـ ٌة إىل اإلقليـم اجلديـد‪ .‬يتمحـور الفيلـم أساسـ ًا حـول املسـار‬
‫األوديبـي الـذي يسـلكه هـاري الستكشـاف نفسـه‪ .‬حيـث نعرف‬
‫تدرجييـ ًا أن روحين تسـكنان جسـده‪ ،‬روحه وروح جـوين فافرت‪،‬‬
‫الشـخص الـذي اسـتأجر سـايفر هـاري إلجيـاده يف بدايـة الفيلـم‪،‬‬
‫وبالطبـع كان سـايفر يعـرف النتيجـة مسـبق ًا‪ .‬كان فافـرت سـاحر ًا‬
‫متمكنـ ًا قـد باع نفسـه على الطـراز الفاوسـتي‪ .‬وعندما حـان وقت‬
‫أحـل روحه يف‬ ‫دفـع الثمـن لسـايفر‪ ،‬حـاول فافـرت التملـص بـأن َّ‬
‫جسـد هـاري أينجـل‪ .‬مـن منظـور نقـد الصفـات البدائيـة‪ ،‬يكمن‬
‫الرعـب هنـا ال يف حتـول أحدنا إىل آخر فحسـب‪ ،‬بل أيضـ ًا يف قيامه‬
‫فـرد آخـر منـا إىل ذات املصري املأسـاوي‪.‬‬ ‫بسـحب ٍ‬

‫للفيلم نرب ٌة عنرصي ٌة سـافر ٌة سـيام يف اسـتخدامه َملشـاهد الفودو‪،‬‬


‫ومضاهاتـه غير الصائبة بني الفـودو وعبادة الشـيطان‪ .‬كذلك يبدو‬
‫مشـهد اغتصـاب هاري وقتلـه للفتـاة السـوداء إيبيفـاين برودفوت‬
‫موضوعـ ًة عنرصيـة‪ .‬ال يتفـق روبـرت سـنگر مـع هـذا التحليـل‪،‬‬
‫‪106‬‬
‫الف�صل الثاين‬

‫حيـث جيـادل أن هـاري ليس واعيـ ًا لعنرصيتـه‪ .‬لكن الفيلـم يصور‬


‫لنـا كيـف أن «خـوف هـاري من قـوة السـود مم َّثلـ ًة بطقـس الفودو‬
‫الشر يسـكن يف الرجل‬ ‫ٍ‬
‫بأفعـال شـنيعة‪ ...‬مل يكـن‬ ‫قـد دفعـه للقيـام‬
‫ُّ‬
‫قلـب الظالم يسـكن هاري‬ ‫ُ‬ ‫األسـود وال يف الكاهنـة السـوداء‪ .‬كان‬
‫مسـتوى أعمـق‪َّ ،‬‬
‫فـإن عنرصيـة هاري‬ ‫ً‬ ‫نفسـه»)‪ .(31‬إنما على‬
‫أينجـل َ‬
‫اآلخـر‪ ،‬وهـذه الرغبـة هـي أحـد‬ ‫املسـترتة تكمـن يف رغبتـه بإيـذاء َ‬
‫العنـارص املركزيـة يف العنرصية‪.‬‬

‫ُي َعـدُّ التكاثـر واحد ًا مـن أهم التمثلات البداية‪ ،‬وللشـهوة َد ٌ‬


‫ور‬
‫ـوق الشـخصية الفاوسـتية يف هـذا الفيلـم إىل مصريهـا‬ ‫كبير يف س ِ‬
‫ٌ َ‬
‫املأسـاوي‪ ،‬ال ُّ‬
‫يقـل عن َدور الرغبة بالسـلطة والثـروة يف التوظيفات‬
‫السـينامئية واألدبيـة األخـرى هلـذه الرسديـة‪ .‬يكتـب ديفيـد بـاس‬
‫‪ David Buss‬إن «الرجـال ال يسـعون لالرتبـاط بنسـاء جذابـات‬
‫هبـدف قيمتهـن التكاثرية العالية فحسـب‪ ،‬بل ألهنن يمثلن وسـائل‬
‫إشـهارية لإلعلان عـن مكانتهـم على مرأى املنافسين مـن اجلنس‬
‫املحتملات من اجلنس اآلخـر»)‪.(32‬‬
‫َ‬ ‫نفسـه والرشيكات اجلنسـيات‬
‫تضفـي الثقافـة البرشيـة بعـض التعقيـدات على النـداء البيولوجي‬
‫كل مـن فاوسـت‪ ،‬جيبـز سـتون‪،‬‬ ‫للتكاثـر عنـد اإلنسـان‪ .‬لقـد كان ٌّ‬
‫جيفـري تيمبسـت‪ ،‬هـاري أينجـل وأمثاهلـم مدفوعين ال بحلـم‬
‫احلصـول على الثـروة والنفـوذ فحسـب‪ ،‬بـل بحلم ممارسـة اجلنس‬
‫مـع النـوع مـن النسـاء الـذي حتـدث عنـه ديفيـد بـاس قبـل قليل‪،‬‬
‫أي أن هـذا اهلـدف مـن النتائـج املصاحبة بالسـلطة التـي يرغب هبا‬
‫هـذا النـوع مـن الشـخصيات‪ .‬مـن الطريـف أن فاوسـت يبكي يف‬
‫‪107‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫أحـد مقاطـع مرسحيـة مارلـو منادي ًا شـبح هيلين الطرواديـة قائ ً‬


‫ال‬
‫مبكرة من توكيد ريتشـارد‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫صورة‬ ‫ِ‬
‫منـك»‪ ،‬يف‬ ‫‪:‬اجعلينـي خالد ًا ٍ‬
‫بقبلة‬
‫داوكنـز على أن جيناتنـا تقودنـا إىل البحـث عـن اخللـود من خالل‬
‫ممارسـة اجلنـس؛ لكن فاوسـت يدفع روحـه ثمن ًا لذلـك‪ .‬ومع ذلك‬
‫ٌ‬
‫رجـل ما‬ ‫ختربنـا الثقافـة أن الرغبـة باجلمال وأن املكانـة التـي يناهلـا‬
‫ٍ‬
‫برجل‬ ‫بارتباطـه بامـرأة مجيلـة‪ ،‬أو املكانة التي تناهلـا امـرأ ٌة بارتباطها‬
‫حتذرنا أسـطور ُة فاوسـت أيض ًا‬ ‫نافذ‪ ،‬ال هتدف إىل التكاثر فحسـب‪ِّ .‬‬ ‫ٍ‬
‫مـن االنجـرار وراء النسـاء ذوات اجلمال ا ُملدَ ِّمـر املشـؤوم كجمال‬
‫النسـاء املوصوفـات يف التنويعـات املختلفـة مـن قصص فاوسـت‪.‬‬

‫ب السماء‪ ...‬ال تغفل عن السماء قط»‪:‬‬


‫«راق ِ‬
‫ِ‬
‫الخيال العلمي‪The War of the Worlds، ،‬‬
‫ِ‬ ‫رعب‬
‫ِ‬ ‫أفالم‬
‫غزو أخرى‬
‫ٍ‬ ‫‪ ،They Live‬وتمثالت‬
‫كلمات املراسـل سـكويت يف فيلـم ‪The Thing from‬‬
‫ُ‬ ‫تلخـص‬
‫‪ Another World‬املنتَـج عـام ‪ 1951‬موضوعـ َة الغـزو اإلقليمي يف‬
‫أفلام رعـب اخليال العلمي‪ .‬مـع أن الباحثني ُي ِ‬
‫رجعون منشـأ اخليال‬
‫العلمـي إىل عـدة قـرون‪ ،‬إال أن معظمهـم ُي ِمـع أن اخليـال العلمي‬
‫مل يكـن ليصـل إىل ما وصـل إليـه اليوم لوال نشـوء العلـم احلديث‪.‬‬
‫يمكـن‪ ،‬على كل حـال‪ ،‬رؤية طابـع الرعـب يف العديد مـن األعامل‬
‫يعـرف‬‫السـينامئية واألدبيـة التـي تُصنَّـف ضمـن اخليـال العلمـي‪ِّ .‬‬
‫الـدس ‪ Brian Aldiss‬صنف أفلام اخليال العلمي‬ ‫الروائـي برايـان ِ‬
‫بخصيصـة أساسـية هـي كونـه «نوعـ ًا فرع ًّيا مـن األفلام القوطية‪،‬‬
‫أو مـا بعـد القوطيـة»)‪ .(33‬تعكـس رواي ُة «حـرب العـوامل ‪The War‬‬
‫‪«of the Worlds‬للروائـي أتـش‪ .‬جـي‪ .‬ويلـز ‪ H.G. Wells‬أفكار ًا‬
‫‪108‬‬
‫الف�صل الثاين‬
‫ِ‬
‫داروين َّيـ ًة كانـت مثير ًة جـد ًا للجـدل يف وقتهـا‪ ،‬كما تعكـس أيضـ ًا‬
‫كعنصر يف كتابة األدب‪ ،‬وقـد كانت ً‬
‫مثال‬ ‫ٍ‬ ‫إمكانيـة اسـتخدام العلم‬
‫على روايات رعـب اخليال العلمـي‪ .‬كذلك تعكس الروايـ ُة واحد ًة‬
‫غـزو إلقليمنا‬
‫ٌ‬ ‫مـن أشـد املوضوعـات ديمومـ ًة يف اخليـال العلمـي‪:‬‬
‫اآلخر‪ ،‬قـاد ٌم مـن الفضـاء اخلارجي‪.‬‬
‫نـوع جديدٌ مـن َ‬
‫يقـوم بـه ٌ‬
‫خيتلـف الباحثـون حـول أوائل أعمال اخليـال العلمـي األدبية‪،‬‬
‫ابتـدا ًء مـن كتابات األديـب الرومـاين لوقيان السميسـاطي‪Lucian‬‬
‫‪ of Samosata‬إىل روايـة فرانكشـتاين ‪ Frankenstein‬ملـاري شـييل‬
‫‪ .Mary Shelley‬لكـ ْن غالبـا مـا تُعـدُّ روايـات أتـش‪ .‬جـي‪ .‬ويلـز‬
‫البدايـة احلقيقيـة ألدب اخليـال العلمـي احلديـث‪ .‬ويعـدُّ جـون‬
‫كلـوت ‪ John Clute‬أن ويلـز أهـم كتَّـاب اخليـال العلمـي)‪ .(34‬مل‬
‫ُشر ْت عىل هيأة سلسـلة يف جملة‬ ‫تكـن روايـة حرب العـوامل (والتي ن ِ‬
‫كوزموبوليتـان ‪ Cosmopolitan‬وجملـة ‪ Pearson’s Magazine‬يف‬
‫ٍ‬
‫كتـاب يف العـام التـايل) نموذج ًا‬ ‫ُشر ْت على هيـأة‬ ‫عـام ‪ ،1897‬ثـم ن ِ‬
‫مبكـر ًا يف موضوعـة الغـزو يف اخليـال العلمـي فحسـب‪ ،‬بـل كانت‬
‫ِ‬
‫بالداروين َّيـة‪ .‬يدشـن‬ ‫أول روايـة مـن نوعهـا تربـط اخليـال العلمـي‬
‫ويلـز موضوعـة الغـزو اإلقليمـي ورصاع نوعنـا من أجـل البقاء يف‬
‫ُمف َتتَـح روايته‪:‬‬
‫«يف هنايـة القـرن التاسـع عشر‪ ،‬مـا كان أحـدٌ لِ ُي َصـدِّ ق أن هناك‬
‫خملوقـات أذكـى مـن‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫العـال‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ودقـة هـذا‬ ‫ٍ‬
‫خملوقـات تراقـب باهتما ٍم‬
‫اإلنسـان وإن كانـت فانيـ ًة مثلـه؛ مـا كان أحـدٌ ليصـدق أننـا – بينام‬
‫ٌ‬
‫وعقول‬ ‫ٌ‬
‫عيـون نافـذ ٌة‬ ‫نمارس حياتنـا اليوميـة كنـا نُرا َق ُ‬
‫ب ونُـدْ َر ُس‪،‬‬
‫‪109‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫حصيفـ ٌة كانـت تتفحصنـا بدقـة كما نتفحـص نحـن مزرعـة مـن‬


‫الكائنـات الضئيلـة متـارس حياهتـا وتتكاثر حتـت املجهـر‪َ ...‬ب ْيدَ أن‬
‫غياهـب الفضـاء كانـت خت ِّبئ عقوالً هـي بالنسـبة لعقولنـا كعقولنا‬
‫ٌ‬
‫عقول واسـع ٌة‪ ،‬بارد ٌة وقاسـية‪ ،‬وكانت‬ ‫بالنسـبة لعقـول احليوانـات‪،‬‬
‫تنظـر إىل كوكب األرض بعني احلسـد‪ ،‬من ثم أخـذت تنفذ خططها‬
‫الوئيـدة ا ُمل ْحكمة لغزونـا»)‪.(35‬‬
‫يؤسـس ويلـز يف روايتـه‪ ،‬وهـو املؤيد الرصيـح لنظريـة التطور‪،‬‬
‫داروينيـة تتنـاول رصاع األنـواع‪ ،‬رسديـة تثير فينـا اخلوف‬ ‫ٍ‬
‫لرسديـة ِ‬
‫ٍ‬
‫جديدة مل‬ ‫ٍ‬
‫بطريقـة‬ ‫مـن الغـزاة الذيـن يطمعـون يف إقليمنا‪ ،‬كل ذلـك‬
‫لتتيسر لـوال التقـدم العلمـي الكبري الـذي جعل بمسـتطاعنا‬ ‫َّ‬ ‫تكـن‬
‫املرخييين‬‫َت ُّيـل فكـرة غـزو الفضائيين للأرض‪ .‬مـن الواضـح أن ِّ‬
‫ينـي مقارنـ ًة ببنـي‬ ‫ِ‬
‫الدارو ِّ‬ ‫كانـوا أصلـح عقل ًّيـا للبقـاء مـن املنظـور‬
‫لسـان الـراوي‪« :‬ال بـد أهنـم ينظـرون‬‫ِ‬ ‫البشر‪ .‬يقـول ويلـز على‬
‫إلينـا‪ ،‬نحـن البرشيني سـكان األرض‪ ،‬بنفـس النظرة مـن االحتقار‬
‫واالسـتغراب التـي ننظـر هبـا إىل ِ‬
‫الق َـر َدة وحيوانـات الليمـور‪ .‬ال‬
‫يغفـل اجلانـب العقلاين للبشر عـن كـون احليـاة رصاعـ ًا ال ينتهي‬
‫مـن أجـل البقـاء‪ ،‬ويبـدو أن عقـول املرخييني تؤمـن بالشيء ذاته»‪.‬‬
‫َي ُـرب الـراوي‪ ،‬الذي فقـد زوجته أثنـاء الغـزو‪ ،‬بحياته وخيربنا‬
‫عـن تفاصيل كثرية منها األسـلحة التي اسـتخدمها املريِّ ُّيـون كآلية‬
‫ثالثـي األقـدام التـي تَقتُـل باسـتخدام شـعاع املـوت و«الدخـان‬‫ِّ‬
‫بسـهولة كل وحـدات اجليـش التـي تعرتضهـا‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫األسـود»‪ ،‬وتدمـر‬
‫ـل املدفعيـة‪ ،‬والذي حيمـل أفكار ًا‬‫مـن ثـم يلتقي خلال رحلته َبر ُج ِ‬
‫‪110‬‬
‫الف�صل الثاين‬

‫أي تطبيـق نظريـة داروين‬ ‫ِ‬


‫الداروينيـة االجتامعيـة‪ْ :‬‬ ‫تعكـس مفاهيـم‬
‫يف بقـاء األصلـح يف امليـدان السـيايس‪ ،‬أي أن األقويـاء جيـب أن‬
‫تكـوا ملصريهم‪.‬‬ ‫يـزدادوا سـلطة وثـروة‪ ،‬أما الضعفـاء فيجـب أن ُي ْ َ‬
‫يدعـو َر ُج ُـل املدفعيـة إىل إقامـة جمتمـع جديـد مـن هذا النـوع‪« :‬ال‬
‫الضعـاف وثقيلو احلركـة‪ ،‬ال مناص مـن أن يموتوا»‪.‬‬ ‫بـد أن يموت ِ‬

‫مهتما بتحسين النسـل ‪ – eugenics‬االعتقاد‬ ‫ًّ‬ ‫مـع أن ويلـز كان‬


‫ـمح لألفـراد األكثر تطور ًا‬ ‫أن مسـتقبل البرشية سـيكون أفضل لو س ِ‬
‫ُ‬
‫فقـط بالتكاثرـــ إال إنـه مل َي ْبـدُ داعم ًا للنظـرة السـوداوية القاسـية‬
‫ِ‬
‫الداروينيـة‬ ‫هلربـرت سـبنرس‪ Herbert Spencer‬وأمثالـه مـن دعـاة‬
‫ـف على كل حال عـن َت َق ُّبلـه لنظرية‬ ‫االجتامعيـة‪ .‬لكـ َّن الروايـة ت َِش ُّ‬
‫داروي�ن والرؤية الس�وداوية الت�ي تقدمها‪ .‬جيـادل الراوي‪،‬‬ ‫تش�ارلز ِ‬
‫أن البشر‪ ،‬مثـل املرخييين‪ ،‬مل يدخروا جهـد ًا يف قتل واحتلال أقاليم‬
‫غير ذي أمهيـة‪َ « .‬ق ْبـل أن‬ ‫آخـر ُ‬ ‫املخلوقـات التـي يروهنـا على إهنـا َ‬
‫نحكـم على املرخييين بقسـوة‪ ،‬جيـب أن ال ننسـى مـا ارتكبـه نوعنا‬
‫مـن الفظائـع والدمـار‪ ،‬ال بحـق األنـواع األخـرى مـن احليوانـات‬
‫فحسـب‪ ،‬كحيوانات البيسـون والـدودو‪ ،‬بل بحق األعـراق األدنى‬
‫مـن نوعنـا نفسـه‪ .‬فمثلاً‪ ،‬على الرغـم مـن مشـاهبتهم للبشر‪ُ ،‬أبيد‬
‫حرب‬‫ٍ‬ ‫سـكان تازمينيـا وانقرضـوا بالكامـل يف غضون ‪ 50‬سـنة إ ْث َـر‬
‫شـنها عليهـم املهاجـرون األوربيـون‪ .‬فلماذا نعترض إذن على مـا‬
‫يفعلـه املرخي ِّيـون؟ إذ مل نكـن بِدَ ورنا محامات سلام وديعة» تتصاعد‬
‫احلبكـ ُة التطوريـة يف الرواية حتى تبلـغ ذروهتا عندما يمـوت الغزاة‬
‫املرخييـون بسـبب العـدوى البكترييـة‪ ،‬إذ ال متتلك أجسـامهم مناع ًة‬
‫‪111‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫ضدهـا كاملناعـة التي اكتسـبها نوعنا عبر تارخيه التطـوري الطويل‪.‬‬


‫ـت البرشيـة «بفضـل االنتخـاب الطبيعي الـذي خضع‬ ‫وهكـذا ن ََج ْ‬
‫لـه نوعنا»‪.‬‬
‫ين الربنامـج اإلذاعـي الـذي قدمـه أورسـون ويليـز ‪Orson‬‬
‫ُي َب ِّ‬
‫‪ Welles‬حتـت عنـوان ‪Mercury Theatre on the Air‬على‬
‫الراديـو يف الثالثين مـن أكتوبـر عـام ‪( 1948‬مل يكـن بـث الربنامج‬
‫ُق َبيـل عيـد اهلالوويـن صدفـ ًة بالطبـع)‪ ،‬وهو اسـتلهام لقصـة أتش‪.‬‬
‫جـي‪ .‬ويلـز حـرب العـوامل‪ُ ،‬ي ِّبي التأثير اهلائل الـذي يتمتع بـه َت َ ُّثل‬
‫كثير من املسـتمعني الذين فاتتهـم املقدمة‬ ‫ٌ‬ ‫الغـزو اإلقليمـي‪ .‬إذ ظن‬
‫االفتتاحيـة للربنامـج أن األرض تتعـرض للغـزو فعلاً‪ .‬وسـاعد‬
‫بـدت كأهنـا‬ ‫ْ‬ ‫النهـج الـذي اعتمـده الربنامـج يف اسـتخدام فواصـل‬ ‫ُ‬
‫الفواصـل التـي تسـبق نشرات األخبـار‪ ،‬يف تضخيـم اهللـع الـذي‬
‫غيـاب الفواصـل‬ ‫ُ‬ ‫انتشر بين النـاس رسيعـ ًا‪ .‬وممـا زاد الطين بلـ ًة‬
‫اإلعالنيـة التجاريـة حتـى اقتراب هنايـة الربنامـج‪.‬‬
‫قـام ُمنتِجـا الفيلمين اللذيـن اسـتلهام روايـة (حـرب العـوامل)‬
‫عمـدا بدرجة‬ ‫ٍ‬
‫بتعديلات على روايـة ويلـز‪ .‬حيـث أن كال الفيلمني َ‬
‫الداروينـي التـي جعلهـا أتـش‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫مـا إىل إغفـال موضوعـة التطـور‬
‫جـي‪ .‬ويلـز عنصر ًا أساسـي ًا يف روايتـه‪ ،‬كما أن كل واحـد مـن‬
‫الفيلمين كان يعكـس ثقافـة زمنـه‪ .‬فمثلاً‪ ،‬يف الفيلم الـذي أخرجه‬
‫ُنسـب إىل هذا‬ ‫جـورج بـال ‪ George Pal‬عـام ‪ 1953‬عن الرواية – ت َ‬
‫الفيلـم الريـاد ُة يف اسـتخدام املؤثـرات التصويريـة اخلاصـة ُح ِذ ْ‬
‫فت‬
‫ِ‬
‫الداروينيـة احلـادة التـي اعتمدهتـا روايـة ويلـز‪ .‬لكـن َت َ ُّثـل‬ ‫النبرة‬
‫‪112‬‬
‫الف�صل الثاين‬

‫الغـزو اإلقليمـي كان حارض ًا بقـوة‪ ،‬خصوص ًا بتأثري السـياق الثقايف‬


‫للحـرب البـاردة آنذاك والصراع الدائر بين َ‬
‫العال الغـريب واالحتاد‬
‫اآلخر بالنسـبة للثقافـة الغربية يف ذلك‬
‫السـوفييتي‪ ،‬الـذي كان يمثل َ‬
‫الوقت‪.‬‬
‫بخيالـه الواسـع‪ ،‬أضفـى املخـرج جـورج بـال احلياة على حبكة‬
‫الغـزو اإلقليمي مـن الرواية‪ ،‬وجتري أحداث هـذ الفيلم يف الواليات‬
‫املتحـدة‪ .‬يقضي د‪ .‬كاليتـون فورستر (جين بـاري ‪،)Gene Barry‬‬
‫فيزيائـي سـاهم يف برنامـج بنـاء القنبلـة الذريـة‪ ،‬عطلتـه يف جنـوب‬ ‫ٌّ‬
‫كاليفورنيـا عندما تصل سـفن املرخييين‪ .‬يتخيل جورج بـال مركبات‬
‫بشـكل خمتلـف عـن ت ََص ُّور أتـش‪ .‬جـي‪ .‬ويلز هلا‪،‬‬‫ٍ‬ ‫الكائنـات املرخييـة‬
‫حيـث ظهـرت يف الفيلم على هيـأة حوامات هلـا أعناق طويلة تشـبه‬
‫بـرأس ِ‬
‫يطلق شـعاع ًا مد ِّمر ًا‪ .‬كما يف رواية ويلز‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫أعنـاق اإلوز‪ ،‬تنتهي‬
‫يقـف اجليـش يف الفيلم عاجـز ًا عن إيقـاف غزو املرخييين‪ ،‬فينطلقون‬
‫يف األرض ُمدَ ِّم ِريـ َن مدنـ ًا بأكملهـا‪ُ .‬يضيـف جـورج بـال موضوعـ ًة‬
‫رومانسـية ألحـداث الفيلم‪ ،‬حيث يقع فورستر يف حب سـيلفيا فان‬
‫بيرن (آن روبنسـون ‪ُ .)Ann Robinson‬ت ِّسـد سـيلفيا صـورة املرأة‬
‫الصاحلـة يف اخلمسـينيات‪ ،‬إذ تقـوم بتقديـم القهـوة وإعـداد طعـام‬
‫اإلفطـار يف أثنـاء إحـدى املعـارك‪ ،‬كام ترصخ هبيسـترييا عنـد اقرتاب‬
‫اخلطـر‪ ،‬وال دور هلـا تقريبـ ًا سـوى إهنا موجـود ٌة لكـي تُن َقذ‪.‬‬
‫ِ‬
‫ـج فيهـا‪.‬‬‫أحـداث وثقافـ َة احلقبـة التـي ُأنت َ‬
‫َ‬ ‫يعكـس الفيلـم‬
‫فاملواجهـة األيديولوجيـة واإلقليميـة بين الغـرب وروسـيا كانت‬
‫الفتَـن الداخليـة؛ وكما احلال يف‬ ‫تثير اخلـوف مـن الغـزو كما مـن ِ‬

‫‪113‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫وثيق‬ ‫ٍ‬
‫اتصـال ٍ‬ ‫معظـم األحيان‪ ،‬فـإن هذه املوضوعـات الثقافية عىل‬
‫جـد ًا بالتمثـل البدائي الـذي نتكلم عنـه‪ :‬اإلقليمية‪ .‬قبـل أن يرشع‬
‫أشـخاص يقرتبـون مـن‬ ‫ٍ‬ ‫املرخييـون بمامرسـة العنـف‪ ،‬نـرى ثالثـة‬
‫ما أبيض‬ ‫إحـدى سـفنهم – سـفن املرخييين حيمـل أحد الثالثـة َع َل َ ً‬
‫وحيـدِّ ث رفيقيـه قائلاً‪« :‬اجلميـع يفهـم داللـة ال َع َلـم األبيـض»‪.‬‬
‫لكـ َّن املرخييين حيرقـون الثالث َة باألشـعة القاتلـة‪ .‬من منظـور أيام‬
‫احلـرب البـاردة‪ ،‬ربام يكون املشـاهدون قـد فهموا مغـزى الفيلم‪:‬‬
‫وهـو إن الـروس ال يمكـن أن يعتربونـا أصدقـاء‪ ،‬وإهنـم أعـدا ٌء‬
‫عديمـو الرمحـة عىل األرجـح‪ .‬أما مـن منظـور الصفـات البدائية‪،‬‬
‫فـكال املرخييين والـروس قـادرون على إيقـاد الرعـب اإلنـايب‬
‫لآلخـر‪ ،‬وهـي‬ ‫فينـا بوصفهـم غـزا ًة إلقليمنـا وبوصفهـم جتسـيد ًا َ‬
‫بكثير من املشـكلة الثقافيـة الوقتية‬ ‫ٍ‬ ‫اسـتجاب ٌة بدائيـ ٌة أعمـق وأقدم‬
‫التـي يتناوهلـا الفيلم‪.‬‬
‫اإلصـدار األحـدث مـن الفيلـم (‪ ،)2005‬والـذي‬ ‫ُ‬ ‫ال يتضمـن‬
‫حيمـل اسـم الروايـة ذاتـه‪ ،‬إال القليـل من املحتـوى األصلي لرواية‬
‫ويلـز‪ .‬لكنـه يقـدم تنويع ًا خمتلفـ ًا عىل حبكـة الغزو اإلقليمـي‪ .‬إذ إن‬
‫ُسـ ُفن الفضائيني يف هـذا الفيلـم‪ ،‬مدفون ٌة عميق ًا حتـت األرض‪ ،‬ربام‬
‫ٍ‬
‫شـخصيات نموذجي ًة‬ ‫ٍ‬
‫قـرون من الزمـن‪ .‬ويعتمـد الفيلـم‬ ‫منـذ عدة‬
‫نموذج‬
‫ٌ‬ ‫ور راي فريير‪،‬‬‫معـارصة‪ .‬يلعـب تـوم كـروز ‪َ Tom Cruise‬د َ‬
‫ٍ‬
‫عامـل بسـيط يف حتميـل‬ ‫ثقـايف للبطـل النقيـض‪ ،‬حيـث هـو جمـرد‬ ‫ٌّ‬
‫السـفن الراسـية يف املينـاء‪ ،‬وقـد خسر زواجـه وانفصل عـن طفليه‬
‫ترك زوجتُـه السـابق ُة طفليهما معه‬ ‫بسـبب سـلوكه غير املنضبط‪َ .‬ت ُ‬
‫‪114‬‬
‫الف�صل الثاين‬

‫ليعتنـي هبما يف عطلة هناية األسـبوع‪ ،‬ويركـز الفيلم عىل سـعي راي‬
‫املسـتميت إلنقـاذ طفليه‪.‬‬
‫َ‬
‫أشـكالا كما وصفهـا‬ ‫ُ‬
‫أشـكال سـفن املرخييين يف الفيلـم‬ ‫تشـبه‬
‫ويلـز يف الروايـة‪ .‬عـدا ذلـك ال حيمـل الفيلـم مـن الشـبه بالروايـة‬
‫اآلخر‬
‫أي احتلال َ‬ ‫إال القليـل‪ ،‬إذا اسـتثنينا هيـكل احلبكة الرئيسـة‪ْ ،‬‬
‫إلقليمنـا‪ .‬يقـوم الغـزاة املرخييـون بجمـع البشر واسـتخالص‬
‫دمائهـم وأجسـادهم لتسـميد نبتـة عىل شـكل حشيشـة محـراء يبدو‬
‫أدبيـات اخليـال العلمـي‬
‫ُ‬ ‫تناولـت‬
‫ْ‬ ‫أهنـم يتغـذون عليهـا‪ .‬كثير ًا مـا‬
‫ِ‬
‫حبكـ َة اسـتخدام البرش كطعـام‪ ،‬إنام كام يشير برايان ألـدس‪Brian‬‬
‫‪ ،Aldiss‬فـإن الفضائيين لن يغـزوا األرض ملجرد اسـتخدام البرش‬
‫كطعـام‪« :‬فلحـوم البقـر خيـار أفضل بعـض اليشء‪ ،‬لكنـه – اللحم‬
‫البشري ُيسـتَخدَ م يف األدب واألفالم لتكثيف جرعـة الرعب»)‪.(36‬‬
‫كذلـك يرجح علـم النفس التطـوري أن اخلوف مـن املفرتس الذي‬
‫يصطادنـا ليأكلنـا ال بد أن يكون أعمق رسـوخ ًا يف ذاكرتنـا البدائية‪.‬‬
‫بالع ْلـم أو التطـور البيولوجـي‬ ‫ال حيمـل الفيلـم الكثير ممـا يتعلـق ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫عـدا شـخصية املجنـون هـارالن أوگلفـي (و ُيناظر شـخصية رجل‬
‫املدفعيـة يف الروايـة‪ ،‬وقـد أدى تيـم روبنـز ‪ Tim Robbins‬هـذا‬
‫لا «لـن نسـتطيع النجـاة يـا راي‪ .‬مل نُخ َلق‬ ‫الـدور) حيـث يبكـي قائ ً‬
‫اخلطر‬
‫ُ‬ ‫هبـذا املسـتوى»‪ .‬مـن املضامين املسـترتة لقصـة الفيلم أيضـ ًا‬
‫املحـدق بالطفلـة ريتشـل (داكوتـا فاننـگ ‪،)Dakota Fanning‬‬
‫وهـي جزئيـة تدق جـرس اإلنذار عند املشـاهد بخصـوص التهديد‬
‫املحـدق باحلـوض اجليني‪.‬‬
‫‪115‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫يتنـاول التعليـق الصـويت اخلتامي للفيلـم‪ ،‬والـذي أ َّداه مورگان‬


‫فريمان‪ ،Morgan Freeman‬حقيقـة أن عـدة ماليين مـن البرش قد‬
‫ماتـوا‪ ،‬وهـي صياغـ ٌة مهذبـ ٌة لكلمات ويلـز يف الروايـة األصليـة‪،‬‬
‫دارويـن يف بقـاء األصلـح‪ُ .‬قتِـل‬‫ِ‬ ‫وإحيـاء مـن بعيـد إىل نظريـة‬
‫الفضائيـون بفعـل «أصغـر الكائنـات التـي خلقهـا الـرب بحكمته‬
‫على هذا الكوكـب‪ .‬أما اإلنسـان فقد اكتسـب مناع ًة ضـد البكترييا‬
‫بعـد أن دفـع رضيبـ ًة تقـدر بمئـات املاليين مـن األفـراد‪ ،‬وهبـذه‬
‫الطريقـة اكتسـب حقـه األصيـل يف العيـش على األرض إىل جانب‬
‫عـدد ال حيصى مـن املخلوقـات‪ .‬وال أحـد يسـتطيع منازعتنـا هـذا‬
‫احلـق‪ ،‬ذلـك أن اإلنسـان ال يعيـش وال يمـوت عبثـ ًا»‪.‬‬
‫املخـاوف البارانويديـة الناجتـة عـن احلـرب الباردة‬
‫ُ‬ ‫ربما كانـت‬
‫تقف وراء شـيوع موضوعـة الغزو يف اخلمسـينيات‪ .‬لكن موضوعة‬
‫آخـر مـا‪ ،‬تظـل موضوع ًة شـائعة‬ ‫ض إقليمنـا للغـزو مـن ِق َبـل َ‬‫َت َع ُّـر ِ‬
‫ٍ‬
‫وبتنويعـات خمتلفـة يف أفالم رعـب اخليال العلمي‪ ،‬وأعـدا ُد األفالم‬
‫ٍ‬
‫كأمثلة‬ ‫يف هـذا املجال أكبر من أن حتىص‪ .‬إنما لبعضها أمهي ٌة خاصـ ٌة‬
‫على هـذا الت ََم ُّثل البدائـي‪ ،‬وفيلـم ‪ Independence Day‬الذي أنتج‬
‫عـام ‪ 1996‬للمخـرج روالند إيمرييتـش ‪ Roland Emmerich‬أحدُ‬
‫النماذج اجليـدة‪ .‬يف هـذا الفيلم‪ ،‬هياجـم الفضائيون‪ ،‬الذيـن يتنقلون‬
‫كوكـب األرض‪ .‬ملركباهتم‬ ‫َ‬ ‫بني الكواكب سـالبِني ثرواهتـا الطبيعية‪،‬‬
‫دروع جتعـل القـوات اجلويـة للبشر غير جمديـة‪ ،‬لكـن‬ ‫ٌ‬ ‫الفضائيـة‬
‫ٍ‬
‫كاسـتعادة لرواية (حـرب العوامل)‪،‬‬ ‫أبطالنـا البواسـل‪ ،‬ويف مـا يبـدو‬
‫رقمـي هـذه املـرة‪ ،‬يف حاسـوب سـفينة‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫فيروس‪،‬‬ ‫ينجحـون يف زرع‬
‫‪116‬‬
‫الف�صل الثاين‬

‫القيـادة املركزيـة للغـزاة للفضائيين‪ ،‬ممـا أدى إىل هزيمتهـم‪ .‬لكـن‬


‫الغـزاة يعودون بعـد عرشين عامـ ًا يف فيلـم ‪Independence Day:‬‬
‫‪ Resurgence‬املنتـج عام ‪.2016‬‬
‫يف فيلـم ‪ Cowboys vs. Aliens‬املنتَـج عـام ‪ ،2011‬والذي ُي َعدُّ‬
‫حتـول يف أفالم الغـرب األمريكي نحـو إدخال عنصر اخليال‬ ‫ٍ‬ ‫نقطـة‬
‫العلمـي‪ ،‬يتحالـف جمموعـ ٌة مـن اهلنـود احلمر ورعـاة البقـر وقطاع‬
‫الطـرق ملحاربـة الغـزاة الفضائيين الذيـن حياولـون رسقـة الذهب‬
‫مـن األرض‪ .‬كذلـك تقـوم خملوقـ ٌة فضائيـ ٌة مـن نـوع خيتلـف عـن‬
‫الغـزاة بمسـاعدة هـذا التحالـف على مقاومـة الغـزاة الفضائيين‪.‬‬
‫فريـد للتمثـل ال َق َبلي‪ ،‬حيـث تتحـد ثلاث‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بتوظيـف‬ ‫يقـوم الفيلـم‬
‫جمموعـات خمتلفـة – رعـاة البقـر (الكاوبـوي)‪ ،‬األمريـكان‬
‫األصليـون‪ ،‬واخلارجـون على القانـون ملقاومـة الغـزو اإلقليمـي‪.‬‬
‫مـن الـوارد أن موضوعـة سـلب املـوارد الطبيعيـة قـد تشـكل رعب ًا‬
‫بالنسـبة للمشـاهدين ذوي الوعـي البيئـي األكبر‪.‬‬
‫تقـوم العديـد من أفلام اخليال العلمـي بعكس (ق ْلـب) التمثل‬
‫اإلقليمـي‪ .‬فمثلاً‪ ،‬ليـس مجيـع الفضائيني يف أفلام اخليـال العلمي‬
‫غـزا ًة أرشار ًا بالضرورة‪ .‬ففـي فيلـم ‪ Starman‬املنتَـج عـام ‪،1984‬‬
‫نالحـظ أن شـخصية سـتارمان‪ ،‬ورغـم كوهنـا مصداقـ ًا لآلخـر‬
‫الفضائـي‪ ،‬أكثـر أخالقيـة بكثير مـن البشر الذيـن كانـوا يرومـون‬
‫احلصـول عليـه ودراسـته بعـد أن حتطمـت سـفينته‪ .‬كذلـك فـإن‬
‫شـخصية كالتـو يف فيلـم ‪ The Day the Earth Stood Still‬املنتَـج‬
‫عـام ‪ 1951‬واملعـاد انتاجـه عـام ‪ ،2008‬تعاكـس الصـورة النمطيـة‬
‫‪117‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫للفضائـي التـي سـادت يف اخلمسـينيات‪ ،‬إذ مل يكـن كالتـو رشيـر ًا‬


‫أبـد ًا‪ .‬فمع كونه يمتلـك القدرة عىل تدمير األرض‪ ،‬يدعو كالتو إىل‬
‫اآلخرين‪ .‬كما إن هناك‬‫رضورة وقـف احلـروب ومكافحـة كراهيـة َ‬
‫ٍ‬
‫خملوقات فضائية حمبوبـة وطيبة مثل إي‪.‬‬ ‫بالطبـع نامذج لشـخصيات‬
‫يت‪ .‬يف فيلـم املخـرج سـتيفن سـبيلربگ ‪ Stephen Spielberg‬املنتَج‬
‫ٍ‬
‫وتوظيفـات أخـرى‬ ‫عـام ‪،E.T.: The Extra Terrestrial 1982‬‬
‫دور يف حتـول‬ ‫كثيرة هلـذه احلبكـة الفرعيـة‪ .‬إذن‪ ،‬فقـد كان للثقافـة ٌ‬
‫ٍ‬
‫رشير إىل صديـق طيب‪ ،‬وغالبـ ًا ما حياول‬ ‫الفضائـي من ٍ‬
‫غـاز‬ ‫ِّ‬ ‫صـورة‬
‫الفضائيـون يف هذه األفالم إرشـاد البشر إىل رضورة إحداث بعض‬
‫أي َ‬
‫عـال البرشــ‪.‬‬ ‫التغييرات يف عاملهـم – ْ‬
‫على اجلهـة األخـرى‪ ،‬دأبـت أفلا ٌم حديثـ ٌة على تصويـر البرش‬
‫كغـزاة لإلقليـم بدورهـم‪ ،‬كما احلـال يف فيلـم ‪ Avatar‬للمخـرج‬‫ٍ‬
‫جيمـس كاميرون ‪ James Cameron‬الـذي ُأنتِـج عـام ‪،2009‬‬
‫يرسـل البشر جيوشـ ًا لغـزو كوكب بانـدورا وسـلب موارده‬ ‫وفيـه ِ‬
‫ٍ‬
‫عكـس للحبكـة الشـائعة التـي يقـوم الفضائيـون فيها‬ ‫الطبيعيـة‪ ،‬يف‬
‫ٌ‬
‫سـكان أصليـون‪ ،‬ويعرفـون يف‬ ‫بغـزو األرض‪ .‬لكوكـب بانـدورا‬
‫الفيلـم بالنـايف ‪ .Na’vi‬مـن خلال اسـتخدام تقنيـات االلتقـاط‬
‫احلركـي‪ ،‬اسـتطاع كاميرون أن خيلـق صـور ًا نابضة باحلياة لشـعب‬
‫الفيلـم النمط‬
‫ُ‬ ‫النـايف املتخ َّيـل والغابـات التـي يسـكنوهنا‪ .‬يعـارض‬
‫املعتـاد للفضائيين أيض ًا‪ ،‬حيث ال يصور شـعب النـايف كأرشار‪ ،‬كام‬
‫تظهـر فيـه بوضوح املوضوعة الشـائعة لعصر ما بعـد الكولونيالية‪،‬‬
‫وأعنـي هبـا موضوعـة احتلال إقليـم يسـكنه شـعب أصيـل‪،‬‬
‫‪118‬‬
‫الف�صل الثاين‬

‫هبـدف سـلب ثرواتـه‪ .‬يسـلط فيلـم كاميرون هـذا الضـو َء عىل أن‬
‫«هـم» والـ «نحن»‪،‬‬ ‫التحـوالت الثقافيـة يمكن أن تغير منظورنا للـ ُ‬
‫آخـر‪.‬‬ ‫وأن ختلـق تعاطفـ ًا مـع أولئـك الذيـن نُصنِّفهـم عـاد ًة بأهنـم َ‬
‫اهلمـج النبلاء يف الرتاث الفلسـفي الروسـوين‬‫َ‬ ‫ُيم ِّثـل شـعب النـايف‬
‫(نسـب ًة إىل جـان جـاك روسـو)‪ .‬ومـن اجلديـر باملالحظـة إن َف َر َحنا‬
‫بانتصارهـم ونجاحهـم يف الدفـاع عـن إقليمهـم ضـد التكنولوجيا‬
‫و َطمـ ِع الشركات‪ ،‬يشير إىل األثـر الكبير الـذي تلعبـه الثقافـة يف‬
‫تغيير رؤيتنـا هلـذا الت ََم ُّثـل البدائـي‪ .‬لكـ ْن رغـم تعاطفنا مـع َ‬
‫اآلخر‬
‫الفضائـي يف الدفـاع عـن إقليمـه ضـد الغـزاة مـن بني جنسـنا‪ ،‬فإن‬
‫التمثـل البدائـي ما زال كما هو‪ ،‬وكلام تغير فيه هو البـؤرة‪ .‬فا ُملدافِع‬
‫اآلخـر الفضائـي بـدالً مـن البرش‪.‬‬
‫يف فيلـم ‪ Avatar‬هـو َ‬
‫يف فيلـم ‪ They Live‬املنتـج عـام ‪ ،1988‬يقـدم املخـرج جـون‬
‫اآلخـر الفضائـي املتخفـي‪،‬‬ ‫كاربنتر تفريعـ ًة سياسـي ًة على حبكـة َ‬
‫ٍ‬
‫خمتلـف متامـ ًا لآلخرانيـة‪ .‬بأحداثـه التـي جتـري يف زمـن‬ ‫ٍ‬
‫وبمنظـور‬
‫الفيلم‬
‫ُ‬ ‫مـن املسـتقبل يشـبه إىل حـدٍّ ما فترة الكسـاد العظيـم‪ ،‬يتت َّبـع‬
‫األحـداث التـي حتدث للهائـم (جورج بـاك فلـور ‪George Buck‬‬
‫ٍ‬
‫جمموعـة مـن املقاومين عىل‬ ‫‪ ،)Flower‬حيـث حيصـل األخير مـن‬
‫نظـارة شمسـية تكشـف لـه الفضائيين املتخفين الذيـن حيكمـون‬ ‫ٍ‬
‫ٍ‬
‫تقنيـات إلكرتونية‬ ‫املجتمـع األمريكي‪ .‬يقوم الفضائيون باسـتخدام‬
‫إلخفـاء أنفسـهم ومتويـه الرسـائل اخلفيـة املكتوبـة يف إعالنـات‬
‫التلفزيـون ولوحـات الشـوارع‪ ،‬رسـائل مـن قبيـل «ال تقـاوم» و‬
‫« َت َق َّبـل األمـر»‪ ،‬وال يمكن رؤيتها إال باسـتخدام النظـارة املذكورة‪.‬‬
‫‪119‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫يشـن اهلائم (وال اسـم له يف الفيلـم) حرب ًا مصريي ًة ضـد الفضائيني‪،‬‬


‫الذيـن ال يمكـن رؤيـة وجوههـم الوحشـية إال باسـتخدام النظارة‬
‫ذات التقنيـة اخلاصـة‪.‬‬
‫اآلخر‬
‫َ‬ ‫لوهلـة‪ ،‬قـد يبـدو أن الفيلـم يتنـاول فقـط َت َ ُّثـل احتلال‬
‫إلقليمنـا والبارانويـا الناجتـة عن ذلـك‪ .‬لكن الفيلم خيفـي يف الواقع‬
‫نقـد ًا أيديولوج ًّيا مسـترت ًا شـديد ًا للمجتمع احلديـث ضمن حبكته‪.‬‬
‫اهلائـم أحـدَ خطبـاء الشـوارع خيطـب‬‫ُ‬ ‫يف افتتاحيـة الفيلـم‪ ،‬يسـمع‬
‫قائلاً‪« :‬ملـاذا نعبـد اجلشـع؟ ألنـه خـارج جمـال رؤيتنـا‪ ،‬هنـاك مـن‬
‫اخلطـاب األيديولوجي للفيلم‬
‫ُ‬ ‫يسـتغلوننا دون أن نراهـم»‪ .‬يضاهي‬
‫بين الفضائيين والطبقـة احلاكمة‪ ،‬الطبقـة التي ترتبع على قمة اهلرم‬
‫االقتصـادي‪ .‬يقـول گيلبرت‪ ،‬قائـد إحـدى جمموعـات املقاومـة‪:‬‬
‫«صنعـوا منا جمتمعـ ًا قمعي ًا‪ ،‬ونحـن نسـاعدهم دون أن نعلم‪ ...‬لقد‬
‫أدخلونـا يف غيبوبة»‪ .‬يف السـياق الرمزي للفيلـم‪ُ ،‬يبقينا الفضائيون‪،‬‬
‫أو الطبقـة احلاكمـة «نائمين‪ُ ،‬يبقوننا أنانيين‪ ،‬وخمدَّ رين»‪.‬‬
‫ٍ‬
‫وليمة‬ ‫يف هنايـة الفيلـم‪ ،‬يشـق اهلائـم وفرانـك طريقهما إىل داخـل‬
‫للفضائيين وأتباعهـم مـن البشر األثريـاء‪ ،‬حيـث يلتقيـان «الرجـل‬
‫امللتحـي» كما تصفـه قائمـة أدوار الفيلـم‪ .‬ومثـل العديـد مـن البرش‪،‬‬
‫كان امللتحـي من الذين باعوا أنفسـهم للفضائيين‪ .‬وخيربمها أن معظم‬
‫البشر الذي وصلـوا إىل مراكز السـلطة مل يسـتطيعوا ذلـك إال بعد أن‬
‫يشـجع الفضائيون عىل‬‫ِّ‬ ‫«باعـوا أنفسـهم دون تـردد» من أجـل املـال‪.‬‬
‫تلويـث البيئـة ألهنـم «يريـدون حتويـل بيئتنا إىل بيئـة شـبيهة ببيئتهم»‪.‬‬
‫يبين امللتحـي فحـوى فلسـفة جشـع الشركات‪« :‬إنَّـه البزنـس‪ ،‬هذا‬
‫‪120‬‬
‫الف�صل الثاين‬

‫كل يشء‪ .‬مل تعـد هنـاك بلـدان‪ ،‬مل يعـد هناك أخيـار‪ .‬يديـر الفضائيون‬
‫الكوكـب اللعين بأكمله»‪.‬‬
‫َ‬ ‫األمـر برمتـه‪ .‬إهنـم يملكـون كل يشء‪،‬‬
‫متثل الغزو مـن ِقبل َ‬
‫اآلخر‬ ‫املذكـور َ‬
‫ُ‬ ‫فيلم كاربنرت‬
‫حـول ُ‬
‫إذن فقـد َّ‬
‫مـن صنف الرعـب إىل ٍ‬
‫نقد للظلـم االقتصادي‪ .‬ومع ذلـك فإن َت َ ُّثل‬
‫حـارض يف الفيلـم‪ .‬لكنـه ال يقتصر هنـا على الفضائيين كام‬
‫ٌ‬ ‫اآلخـر‬
‫َ‬
‫اآلخرانية‬ ‫احلـال يف معظم أفلام اخليـال العلمي‪ ،‬بـل يمتد ليشـمل َ‬
‫عىل مسـتوى الطبقات االجتامعيـة واالقتصادية‪.‬‬
‫يالحـظ إدوارد أوزبـورن ويلسـون أن األقـوام البدائيـة تقسـم‬
‫ـهل هـذه‬ ‫اآلخريـن‪« .‬ت َُس ِّ‬ ‫َ‬
‫العـال إىل اإلقليـم الـذي يعرفـون وإقليـم َ‬
‫الطوبوغرافيـا البدائيـ ُة التمييـز بني األعـداء الذين يمكـن مهامجتهم‬
‫وقتلهـم وبين األصدقـاء الذيـن ال ينبغـي أن ُيف َعـل هبـم ذلك‪ .‬كام‬
‫جيـري أيضـ ًا تضخيـم هـذا التصنيـف الثنائـي باختزال األعـداء إىل‬
‫كيـان خميـف أو كيان أقـل من برشيـ ًة حتى»)‪ .(37‬لقد توسـعت‬ ‫ٍ‬ ‫جمـرد‬
‫هـذه الطوبوغرافيـا يف أفلام اخليـال العلمـي يف القـرن العرشيـن‬
‫لتجعـل األرض إقليمنـا الـذي ينبغـي لنـا الدفـاع عنـه ضـد أنـوا ٍع‬
‫خمتلفـة مـن الغـزاة املتخ َّيلين‪ .‬لكـ ْن وكام سـيتبني يف الفصـل الرابع‬
‫طريقـة يمكـن أن ُيغزى هبا‬ ‫ٍ‬ ‫مـن هـذا الكتـاب‪ ،‬فإن هنـاك أكثر مـن‬
‫ال طريق ًة أبسـط للغزو هي حتويـل وغزو حوضنا‬ ‫إقليمنـا‪ .‬فهنـاك مث ً‬
‫اجلينـي‪ ،‬كام نـرى يف أفلام الزومبـي وأفالم رعـب اخليـال العلمي‬
‫القائمـة على روايـة ?‪ Who Goes There‬القصيرة للكاتـب جون‬
‫دبليـو‪ .‬كامبل االبـن ‪ John W. Campbell Jr.‬أو رواية ‪Invasion‬‬
‫‪ of the Body Snatchers‬واألفلام األربعـة التـي و َّظ َفتْهـا‪.‬‬
‫‪121‬‬
‫الفصل الثالث‬

‫َ َ ُّ‬
‫تمثل االستحالة ‪Assimilation‬‬

‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫«المقاومة عبث»‬

‫يف املوسـم األول مـن املسلسـل التلفزيـوين ‪Star Trek: The‬‬


‫اخلصـم الدائم للكابتـن بيكارد‪،‬‬ ‫‪ ،Next Generation‬ي ِ‬
‫رسـل كيـو‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫بعيـدة مـن املجرة حيـث يلتقي طاقم‬ ‫ٍ‬
‫منطقـة‬ ‫سـفينة إينرتبرايـس إىل‬
‫ٌ‬
‫خليط مـن الروبوتات‬ ‫كائنـات هي‬
‫ٌ‬ ‫السـفينة هناك بالبـورگ ‪،Borg‬‬
‫َـو ُن مـا يشـبه خليـ ًة‪ .‬هتدف هـذه الكائنـات إىل‬
‫واألنـواع احليـة‪ُ ،‬تك ِّ‬
‫جلـب مجيـع الكائنـات احلية ودجمها معهـا يف اخللية‪ ،‬يعبر عن ذلك‬
‫ٍ‬
‫بوضوح اسـتخدامهم لعبارات من قبيل «سـوف ُ َت َّ‬
‫ـول» و «املقاومة‬ ‫ٍ‬
‫عبـث»‪ .‬و ُت َعـدُّ احللقـات التـي تتنـاول البـورگ نموذجـ ًا على َت َ ُّث ٍل‬
‫شـائ ٍع يف أفلام الرعـب وأفلام رعب اخليـال العلمـي‪ :‬اخلوف من‬
‫حتويـل حوضنـا اجلينـي من ِق َبـل َ‬
‫آخ َر مـا‪ُ .‬ييل برام سـتوكر ‪Bram‬‬

‫‪123‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬
‫ٍ‬
‫خملوق هي دمه)‬ ‫‪ Stoker‬إىل ِسـ ْفر الالويين ‪( 14 :17‬ألن حيـاة كل‬
‫يف روايـة (دراكـوال ‪ )Dracula‬عندما يقول عىل لسـان األسـتاذ فان‬
‫هيلسـنگ‪« :‬الـدم هـو احليـاة»؛ حيـث يسـتطيع الن ََّـزاف (مصـاص‬
‫الدمـاء) حتويـل ضحيته من خلال امتصـاص دمها‪ .‬وباملِثـل‪ ،‬يقوم‬
‫ـول‬
‫الزومبـي بتحويـل ضحاياهـم عـن طريـق العـض‪ ،‬كذلـك ُي ِّ‬
‫املسـتذئبون مـن هيامجون مـن البشر إىل مسـتذئبني بِدَ ورهـم عندما‬
‫يكتمـل القمـر‪ُ .‬ت َعـدُّ قص ُة االسـتحالة يف األفلام والروايـات مثاالً‬
‫على توظيف الثقافـة للتمثل البدائـي‪ .‬وربام تَكـون الدوافع البرشية‬
‫ال َق َبليـة مسـؤول ًة عـن املخـاوف ثقافية املنشـأ جتـاه متـازج األعراق‪،‬‬
‫آخـر من خـوف االسـتحالة َّ‬
‫تفشـى يف مجيـع الثقافات‪.‬‬ ‫نـوع َ‬
‫ٌ‬
‫أن اخلـوف اإلنـايب – اللذيذ عىل‬ ‫علـم النفس التطـوري َّ‬ ‫ُ‬ ‫يقترح‬
‫ٍ‬
‫نحـو مـا الـذي يثيره فينـا َت َ ُّث ُـل االسـتحالة‪ ،‬إنما ينشـأ مـن جرس‬
‫اإلنـذار الـذي هيمـس بداخلنـا حمـذر ًا إيانـا مـن تلـوث أو فقـدان‬
‫إرثنـا اجلينـي‪ .‬ت َُو ِّف ُـر موضوع ُة االسـتحالة األسـاس مليمـة الزومبي‬
‫أدخ َل‬
‫فرعـي مهـم من أفلام رعـب اخليـال العلمـي‪َ .‬‬ ‫ٍ‬
‫لصنـف‬ ‫كما‬
‫ٍّ‬
‫ريتشـارد داوكنـز مفهوم اجلين األنـاين يف كتابه الذي حيمل االسـم‬
‫نفسـه‪ .‬جيادل داوكنز أن سـلوكنا يرتبـط ارتباط ًا وثيقـ ًا باحلفاظ عىل‬
‫مثـال الطائر الـذي يطلق‬ ‫ِ‬
‫سـتخدم َ‬ ‫اسـتمرارية أقربائنـا اجلينيين‪ .‬و َي‬
‫أصواتـ ًا لتحذيـر جمموعته عندما يـرى صقر ًا جارحـ ًا يقرتب‪ .‬كيف‬
‫تكـون‪ ،‬يتسـاءل داوكنـز‪ ،‬هـذه التضحيـة بالنفـس التـي يقـوم هبـا‬
‫املحـذر‪ ،‬والـذي يضـع نفسـه يف خطـر املـوت املحتَّـم حال‬ ‫ِّ‬ ‫الطائـر‬
‫إطلاق األصـوات‪ ،‬تكيفـ ًا تطور ًّيـا؟ وجييـب على هـذه األحجيـة‬
‫‪124‬‬
‫الف�صل الثالث‬

‫بـأن الطائـر ال ُي ْؤثِـر على نفسـه يف هـذا املوقف كما نتصـور للوهلة‬
‫األوىل‪ ،‬إنما يقـوم بحاميـة اإلرث اجلينـي لِنوعه‪.‬‬
‫اكتشـافات داوكنـز مؤيديـن ومعارضين‪ .‬يتفـق باري‬ ‫ُ‬ ‫وجـدت‬
‫ْ‬
‫شـوارتز ‪ Barry Schwartz‬مـع داوكنـز‪ ،‬حيـث يسـجل أن اجلين‬
‫أنـاين سـ َيكون مفارقـ ًة سـافرة‪ ،‬ألن‬ ‫ٍ‬
‫سـلوك غير‬ ‫الـذي يـؤدي إىل‬
‫ٍّ‬
‫البداهـة تقـول إن اجلين األناين فقط ينجـح يف البقاء‪ .‬لكـن الوحدة‬
‫التـي يعمـل عليهـا االنتخـاب الطبيعـي ليسـت الفـرد؛ بـل اجلني‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ببسـاطة الطريقـة التـي‬ ‫يكتـب شـوارتز‪« :‬إن الكائنـات احليـة هـي‬
‫عرجـ ًا عىل مثال‬
‫ُسـخ أخرى مـن اجلينات»‪ُ .‬م ِّ‬ ‫تتبعهـا الطبيعـة خللق ن ٍ‬
‫داوكنـز للطائـر الذي يبـدو إيثار ًّيـا‪ ،‬يعتقـد شـوارتز أن اجلني الذي‬
‫املحـذرة «هيتـم بمصلحتـه – مصلحة‬ ‫ِّ‬ ‫يتحكـم بإطلاق األصـوات‬
‫اجلين فقـط‪ ،‬وال يأخـذ باالعتبـار مصلحـة اجلسـد الـذي حيملـه‪.‬‬
‫فـإذا كانـت مصلحـة اجلين تتعـارض مـع مصلحـة الفـرد الـذي‬
‫ألقـت‪ ،‬فاألولوية بالنسـبة للجني هـي مصلحته‬ ‫ْ‬ ‫حيملـه‪ ،‬فإىل حيـث‬
‫ٍ‬
‫جينـات أنانيـ ًة‪ ،‬ال كائنات أنانيـة»)‪.(1‬‬ ‫اخلاصـة‪ .‬وهكـذا فـإن لدينـا‬
‫ال يتفـق إدوارد أوزبـورن ويلسـون مـع هـذه الرؤيـة املتطرفـة‬
‫النتخـاب اجلين‪ .‬ففـي تعريفـه بمفهـوم االجتامعيـة احلقيقيـة‬
‫‪ ،eusociality‬يتسـاءل ويلسـون‪« :‬هـل يتعـرف األقـارب على‬
‫ٍ‬
‫جمموعـات إيثاريـ ًة‪ ،‬ألهنـم حيملـون‬ ‫بعضهـم البعـض و ُيك َِّونـون‬
‫اجلينـات ذاهتـا وألهنـم يسـتطيعون متريـر هـذه اجلينـات إىل اجليـل‬
‫ٍ‬
‫واحـد ذريتـه‬ ‫كل‬‫القـادم‪ ،‬حتـى لـو مل تكـن الطريقـة بـأن ينجـب ُّ‬
‫الكائنـات التـي تـرث السـلوك‬
‫ُ‬ ‫اخلاصـة؟ أو أخير ًا‪ ،‬هـل ُتك ِّ‬
‫َـون‬
‫‪125‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬
‫ٍ‬
‫عالية مـن التنظيم بحيث‬ ‫جمموعـات تعاونيـ ًة عىل درجـة‬ ‫ٍ‬ ‫اإليثـاري‪،‬‬
‫تتفـوق تكاثر ًّيا عىل السلاالت التي ال تتمتع بالسـلوك اإليثاري؟»‬
‫يف رده على داوكنـز‪َ ،‬يطـرح ويلسـون أن اجلينات ال َتلـق لوحدها‬
‫السـلوك االجتامعـي والبقـاء على مسـتوى املجموعـات‪ ،‬بل تنشـأ‬
‫ٍ‬
‫أجيـال متعاقبـة تنتظـم يف‬ ‫السـلوكيات أيضـ ًا مـن «وجـود‬ ‫ُ‬ ‫هـذه‬
‫أسـاس التقسـيم اإليثـاري للعمـل»)‪ .(2‬جيـادل‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫جمموعـات على‬
‫تكيفـي بحـد ذاتـه يف مـا يتعلـق‬
‫ٌّ‬ ‫اإليثـاري‬
‫َّ‬ ‫ويلسـون أن السـلوك‬
‫باحلفـاظ على املجموعـة اجلينيـة والنـوع أيضـ ًا‪ .‬ومـع ذلـك فـإن‬
‫أن َت َ ُّثـل التهديد الذي حيـدق باحلوض‬ ‫ُرجـح َّ‬‫اكتشـافات ويلسـون ت ِّ‬
‫ٍ‬
‫جمموعة صغيرة أو عىل‬ ‫اجلينـي‪ ،‬سـواء كان احلـوض على مسـتوى‬
‫مسـتوى النـوع‪ ،‬قد ُي َو ِّلـدُ خوف ًا إناب ًّيا لذيـذ ًا عند القارئ أو املشـاهد‬
‫بوصفـه َت َ ُّث ً‬
‫لا بدائ ًّيا‪.‬‬
‫َّ ْ‬
‫«لقد توصلنا إلى العدو‪ ،‬وهو نحن»‬

‫هبـذه الكلامت َت َك َّلم الفيلسـوف احلكيم الفطن بوگو يف سلسـلة‬


‫القصـص املصورة التي كتبهـا والت كيلي ‪ .Walt Kelly‬من منظور‬
‫َت َ ُّثـل االسـتحالة يف أفلام الرعـب‪ ،‬ربما يصـح أن نعيـد صياغـة‬
‫هـذه اجلملـة إىل‪« :‬لقـد توصلنـا إىل العـدو‪ ،‬وهـو يريـد أن يصبـح‬
‫نحـن»‪ .‬تزخـر حقـول أفلام وروايـات الرعـب ورعـب اخليـال‬
‫ِ‬
‫الروائية‬ ‫معظم هـذه األعمال‬ ‫العلمـي بت ََم ُّثـل االسـتحالة‪ .‬تتضمـن‬
‫ُ‬
‫عنـارص مهمـ ًة ذات داللـة ثقافيـة‪ .‬لكـ َّن علـم النفـس‬ ‫ِ‬
‫والسـينامئية‬
‫َ‬
‫التطـوري يقترح أن هلـذه التمثلات أمهيـ ًة يف َخ ْلـق الثقافـة‪ .‬مـن‬
‫النماذج على موضوعـة االسـتحالة يف أفلام رعب اخليـال العلمي‬
‫‪126‬‬
‫الف�صل الثالث‬

‫روايـة ?‪ Who Goes There‬القصيرة جلـون كامبـل واألفلام التي‬


‫قامـت عليهـا‪ ،‬وكذلـك روايـة ‪ The Body Snatchers‬جلـاك فيني‬
‫‪ Jack Finney‬واألفلام العديـدة التـي انبثقـت عنهـا‪ .‬وجلميعهـا‬
‫جـذور يف ٍّ‬
‫كل مـن الثقافـة والتمثلات البدائيـة‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫ٍ‬
‫جيـل من‬ ‫تأثيره يف‬
‫ُ‬ ‫غالبـ ًا مـا ُيذكَـر جلـون دبليـو‪ .‬كامبـل االبن‬
‫كتـاب اخليـال العلمـي عندمـا كان حمـرر ًا ملجلـة ‪.Astounding‬‬
‫لكـ َّن روايتـه القصيرة ?‪( Who Goes There‬وقـد نرشهـا حتـت‬
‫اسـم مسـتعار هـو دون أي‪ .‬سـتيوارت ‪ )Don A. Stuart‬حتولـت‬
‫يبـك كامبـل‬ ‫إىل أحـد املعـامل الكالسـيكية ألدب اخليـال العلمـي‪ْ َ .‬‬
‫نموذجـي للطبيعة‬
‫ٌّ‬ ‫حكايـ ًة جتري أحداثهـا يف القطب اجلنـويب‪ٌ ،‬‬
‫مثال‬
‫يف أعتـى صورها وأشـدها بدائيـ ًة‪ ،‬حيـث يتنافس هنـاك نوعان من‬
‫غاز تسـميه‬ ‫فضائـي ٍ‬ ‫ٍ‬
‫كيـان‬ ‫املخلوقـات – جمموعـ ٌة مـن البشر ضـد‬
‫ٍّ‬
‫شـخصيات الفيلـم بــ «الشيء»‪ -‬وجتـري بينهما معركـة مـن أجل‬
‫تعكـس الروايـ ُة ثقافة‬ ‫البقـاء هـي َم ٌاز على مسـتويني‪ :‬فمن جهـة‪ِ ،‬‬
‫احلقبـة التـي كُتِ َبـت فيهـا مـن خلال موضوعة كانـت تزداد بـروز ًا‬
‫منـذ تاريخ نشر الرواية عـام ‪ 1937‬حتى اخلمسـينيات‪ :‬اخلوف من‬
‫إفسـاد واسـتحالة اجلسـم السـيايس بفعـل التآمـر الشـيوعي‪ .‬لك ْن‬
‫تصـور روايـ ُة كامبـل معركة‬ ‫ِّ‬ ‫بعيـد ًا عـن هـذه املوضوعـة الثقافيـة‪،‬‬
‫داروينيـة مـن أجـل بقـاء األصلح‪ .‬فـإذا خسرت البرشيـ ُة املعركة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫الفضائـي بإفسـاد إرثنـا اجلينـي‪ :‬سـيصبح نحن‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫سـيقوم‬
‫تتحـدث الروايـة املذكـورة عـن بعثـة علميـة تُنتَـدَ ب لدراسـة‬
‫القـوة املغناطيسـية للقطـب اجلنويب‪ ،‬وتكتشـف تلـك البعث ُة سـفين ًة‬
‫‪127‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬
‫ٍ‬
‫مقربـة‬ ‫ٍ‬
‫لكائـن فضائـي مدفونـ ًا على‬ ‫فضائيـ ًة حتـت اجلليـد وجسم ًا‬
‫منهـا‪ .‬يواجه أعضـاء البعثة السـبعة والثالثون هذا الـذكا َء الفضائي‬
‫حرف ًّيا حتويـل اجلنس‬ ‫املتفـوق عليهـم بام ال يقـاس‪ ،‬والـذي يمكنـه ْ‬
‫البشري بأكملـه‪ ،‬ال جمـرد احلكومـات كما يف حبكـة اخلـوف مـن‬
‫الشـيوعية‪ ،‬بـل احلـوض اجلينـي البشري بالكامـل‪ .‬يصـف كامبل‬
‫هـذه البيئة القاسـية للرصاع منـذ بداية القصـة ويؤكد عليهـا ِمرار ًا‪:‬‬
‫تز كما اإل َبر‪،‬‬ ‫«عىل السـطح‪ ،‬يرتبـص املوت األبيـض‪ .‬رياح بـاردة َ ِ‬
‫ٌ‬
‫َعكـس أجـوا ُء‬ ‫دافء تصادفـه»)‪ .(3‬ت ِ‬‫ٍ‬ ‫متتـص احلـرارة مـن كل يشء‬
‫داروينيـ ًة قاسـية يتقاتـل فيهـا النوعـان مـن أجـل‬ ‫القصـة طبيعـ ًة ِ‬
‫البقـاء‪ .‬أدى الربد الشـديد إىل َ َت ُّمـد الكائن الفضائـي الذي هبطت‬
‫سـفينته اضطرار ًّيـا يف هـذا املـكان منذ عرشيـن مليون سـنة‪ .‬بعد أن‬
‫عثـروا على السـفينة حتـت اجلليـد‪ ،‬حيـاول العلام ُء انتشـال السـفينة‬
‫فيدمروهنـا عـن غري قصـد‪ ،‬وربما كان فيهـا ثالثـة ركاب فضائيني‪.‬‬
‫آخـر كان قـد غادرهـا بعـد هبوطهـا‬ ‫لكـ ْن يبـدو أن كائنـ ًا فضائ ًّيـا َ‬
‫االضطـراري ذاك‪ ،‬وبقـي متجمـد ًا يف اجلليـد كل هـذه املاليين من‬
‫األعوام‪.‬‬
‫للكائـن الفضائـي ميزاتـه التكيفيـة اخلاصـة أيضـ ًا‪ .‬إذ يكتشـف‬
‫العلماء الحقـ ًا أنـه يتمتـع بنـو ٍع مـن القـدرة على التخاطـر‪ .‬حيث‬
‫كان يتراءى لبعـض أعضـاء البعثـة التنقيبيـة يف منامهـم وخييفهـم‪،‬‬
‫بشـكل خـاص‬ ‫ٍ‬ ‫وربما قـام بالتأثير على بلير‪ ،‬بيولوجـي الفريـق‪،‬‬
‫ليدفعـه ملحاولة إقنـاع زمالئه بضرورة تذويب الكائـن وعدم تركه‬
‫متجمـد ًا‪ ،‬رغـم اعرتاضـات بعضهـم‪ .‬يتبـع بلير هنجـ ًا ِ‬
‫داروين ًّيا يف‬
‫‪128‬‬
‫الف�صل الثالث‬

‫جدالـه مـع زمالئه‪ .‬يرتعـب كونات‪ ،‬أحـد أعضاء البعثـة‪ ،‬من منظر‬
‫وجـه املخلـوق الفضائي‪ ،‬فيرد عليه بلري‪« :‬ليـس ما تـراه إال طريق ًا‬
‫مثال آخـر عىل القـدرة املذهلـة للطبيعة عىل‬‫آخـر ابتدعتـه الطبيعـة‪ٌ ،‬‬
‫التكيـف»‪ .‬كان خطأ بلري هو نسـيانه أن اليشء‪ ،‬املخلـوق الفضائي‪،‬‬
‫حـي منافِس‪ ،‬ولـن يرتدد يف اسـتئصال بلري‬ ‫ليـس إال عضـو ًا يف نو ٍع ٍّ‬
‫ونوعـه يف سـبيل البقاء‪.‬‬
‫تتمثـل أعظـم امليـزات التكيفيـة للفضائـي الـذي ُعثِـر عليـه‬
‫يف قدرتـه على التحويـل‪ .‬فبعـد أن يطمئـن أفـراد البعثـة إىل إهنـم‬
‫قـد قتلـوا الكائـن عـن طريـق الصعـق الكهربائـي‪ ،‬يكتشـفون‪،‬‬
‫الكلـب الـذي كان قـد هاجم اجلسـد‬ ‫َ‬ ‫ولدهشـتهم‪ ،‬أنـه قـد أصبـح‬
‫املتجمـد عنـد عثورهـم عليـه‪ .‬يقول بلير‪« :‬قـام اليش ُء باسـتيعاب‬
‫كل خليـة من أنسـجته‪،‬‬ ‫الكلـب تشـارنوك‪ ،‬ويف أثنـاء ذلـك‪َ ،‬د َر َس َّ‬
‫مـن ثـم قـام بإعـادة تشـكيل خاليـاه هـو لتحاكـي أشـكال خاليـا‬
‫الكلـب متامـ ًا»‪ .‬مـن ثم يسـأل أحـد الزملاء بلري عن هـدف اليشء‬
‫مـن وراء كل هـذا‪ ،‬فيجيـب‪« :‬أتصـور أنـه يريـد االسـتيالء على‬
‫عا َلنـا»‪ .‬لكـ َّن البشر يمتلكـون أيضـ ًا ميزاهتـم البقائيـة اخلاصـة‪،‬‬
‫أدمغتهـم وقدرهتـم على حـل األحاجـي‪ .‬عندمـا يكتشـف أعضاء‬
‫البعثـة أن بعضهـم قـد جـرى حتويلـه‪ ،‬جتتـاح موجـ ٌة مـن البارانويا‬
‫صفوفهـم بخصـوص العـدو ا ُملنْـدَ ِّس بينهـم‪ ،‬حيـث يشـتبه اجلميع‬
‫حل يشـبه حلـول القصص‬ ‫باجلميـع‪ .‬لكنهـم يتوصلـون أخير ًا إىل ٍّ‬
‫العـال من الغزو واالسـتحالة‪.‬‬‫َ‬ ‫البوليسـية مـن ثم ينجحـون يف إنقاذ‬
‫السـينامئي األول هلذه الروايـة‪ ،‬وهو فيلم ‪The‬‬
‫ُّ‬ ‫اقتصر التوظيف‬
‫‪129‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫‪ Thing from Another World‬املنتَج عام ‪ 1951‬عىل النصف األول‬


‫ـت األحـداث إىل نو ٍع مـن رعب‬ ‫حو َل ْ‬‫فقـط مـن قصـة كامبـل‪ ،‬كما َّ‬
‫اخليـال العلمـي واإلثـارة بدالً مـن رعب اخليـال العلمـي املمزوج‬
‫بالتفكير والتدبـر‪ ،‬وهو ما جسـدته القصة األصليـة لكامبل‪ .‬ينتهي‬
‫الفيلـم بإعـدام الفضائـي بالصعـق الكهربائـي‪ .‬يعـدُّ هـذا الفيلـم‬
‫مثير ًا لالهتمام من املنظـور الثقايف كام مـن منظور الصفـات البدائية‬
‫أيضـ ًا‪ .‬فالفضائـي مـا زال غازيـ ًا إقليم ًّيا ال بـد ملحاربينـا ال َق َب ِليني أن‬
‫املراسـل الصحفي سـكويت مسـتمعيه َّ‬
‫أن‬ ‫ُ‬ ‫هيزمـوه‪ .‬ويف اخلتـام‪ِ ،‬‬
‫خيب‬
‫وإن اجلنس البشري انترص‬ ‫«واحـد ًة مـن أعظـم املعارك قـد َج َـر ْت َّ‬
‫واجهـت جمموع ٌة مـن اجلنود‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫العـال‪،‬‬ ‫فيهـا على العـدو‪ .‬هنا يف قمـة‬
‫آخر»‪ .‬مل يتنـاول الفيلم‬ ‫ٍ‬
‫كوكـب َ‬ ‫غزو من‬‫واملدنيين األمريكيين أول ٍ‬
‫حبكـة االسـتحالة إال باقتضاب‪.‬‬
‫ُأنتِـج الفيلـم املذكـور يف خضـم احلـرب البـاردة‪ .‬مل يكـن لـدى‬
‫طيـار القـوة اجلويـة الكابتـن هينـدري (كينيـث تـويب ‪Kenneth‬‬
‫شـك يف مـا ينبغـي فعلـه مع الكائـن الفضائـي‪َ :‬قتْلـه‪ .‬أ َّما‬
‫‪ٌّ )Tobey‬‬
‫العال‪ ،‬د‪ .‬كارنگتـون (روبرت كورنثويت ‪،)Robert Cornthwaite‬‬ ‫ِ‬
‫فيمثـل املفكر الـذي يطالب باإلبقاء على حياة الكائـن‪« .‬إذا نجحنا‬
‫بالتواصـل معه‪ ،‬فسـن َّطلع عىل أرسار خفية مل يتسـ َّن للجنس البرشي‬
‫ٍ‬
‫أرض غريبـة»‪ُ .‬ي َعـدُّ الفيلـم‪ ،‬كام‬ ‫غريـب يف‬
‫ٌ‬ ‫معرفتهـا‪ ...‬لنتذكـر أنـه‬
‫روايـة كامبـل التي يسـتمد أحداثه منها‪ ،‬وكسـابقه اإلصـدار األول‬
‫مـن فيلـم ‪ ،War of the Worlds‬نموذج ًا عىل اخلوف من اندسـاس‬
‫الشـيوعيني يف الغـرب يف اخلمسـينيات‪ ،‬وتعكـس هـذه األفلام‬
‫‪130‬‬
‫الف�صل الثالث‬

‫ثقافـة تلـك احلقبـة‪ ،‬عندمـا كان اخلـوف األمحـر ‪RED SCARE‬‬


‫واملكارثيـة يف قمتهما‪ .‬يف تلـك الفترة‪ ،‬كان جيـري اسـتئصال كل‬
‫مـن ُيشـت َبه حتـى بتعاطفـه مـع الشـيوعية أو االشتراكية ضمـن‬
‫محلات املكارثيـة الشـعواء‪ .‬كذلـك عانـى الكثير من أفـراد جمتمع‬
‫ٍ‬
‫جتمعـات راديكاليـة‬ ‫هوليـوود على خلفيـة اكتشـاف عضويتهـم يف‬
‫عندمـا كانـوا صغـار ًا‪ .‬يمثـل كارنگتـون النباهـة األكاديميـة اهلشـة‬
‫التـي قـد متيـل إىل األفـكار اليسـارية‪ .‬لكن هـذه احلالـة الثقافية هي‬
‫بدائـي بالنظـر إىل جذورهـا‪ :‬جتسـيدٌ للخـوف من‬
‫ٌّ‬ ‫بحـد ذاهتـا َت َ ُّث ٌـل‬
‫متثالت سـاعدت السيناتور‬‫ٌ‬ ‫باآلخر‪،‬‬
‫َ‬ ‫الغزو‪ ،‬االسـتحالة‪ ،‬واالشـتباه‬
‫مكارثـي ‪ McCarthy‬على حتقيـق مـا حققه مـن نفوذ‪.‬‬

‫د‪ .‬كارنگتون حياول التفاهم مع اليشء (جيمس أرنيس ‪)James Arness‬‬

‫يف فيلمـه املنتَـج عـام ‪ ،The Thing 1982‬يضيـف جون كاربنرت‬


‫تنويعـ ًة ثقافيـ ًة خمتلفـ ًة على َت َ ُّثـل االسـتحالة يف قصـة كامبـل‪ .‬مل‬
‫ٍ‬
‫جـزء من األصـل‪ ،‬لكنـه َغ َّير االفتتاحية‪ .‬جتري‬ ‫أي‬
‫حيـذف كاربنتر َّ‬
‫‪131‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫ـف‬ ‫قاعـدة علميـة أمريكيـة يف أنتاركتيكا‪ ،‬ت ِ‬


‫َكتش ُ‬ ‫ٍ‬ ‫أحـداث الفيلـم يف‬
‫جمموعـ ٌة من الباحثين النروجييني الكائـ َن الفضائي‪ ،‬لكـن الفضائي‬
‫ال واحـد ًا‪ ،‬و َي ُ‬
‫دخـل الفضائي إىل‬ ‫يقتـل مجيـع أعضاء الفريـق إال رج ً‬
‫القاعـدة األمريكيـة متنكـر ًا عىل هيأة كلـب‪ ،‬وحينها حتـدث املعركة‬
‫واآلخر‪.‬‬
‫َ‬ ‫بين البشر‬
‫التغيريات التي أحدثها كاربنرت عىل أسماء الشخصيات‬ ‫ُ‬ ‫شـملت‬
‫يف القصـة األصليـة اسـم البطـل‪ ،‬حيـث كان اسـمه يف الفيلـم‬
‫طيار املروحية الشـجاع‪.‬‬
‫ماكريـدي (كرت راسـل ‪ُ ،)Kurt Russell‬‬
‫وبينما كان بطل التوظيف السـينامئي األول للروايـة (الفيلم الصادر‬
‫عـام ‪ )1951‬ضابطـ ًا يف اجليـش وهـو أمر ينسـجم مع حقبـة احلرب‬
‫مثـال على البطـل املخالـف الـذي سـاد‬ ‫البـاردة‪ ،‬فـإن ماكريـدي ٌ‬
‫فترة السـبعينيات حينام كانـت االحتجاجـات عىل حـرب فيتنام يف‬
‫أشـدها‪ ،‬ومل يكـن ماكريدي إال ِسـكِّري ًا متمـرد ًا‪ .‬لكنـه كان أول من‬
‫اهتـدى إىل معرفـة نوايا الكائـن الفضائي‪ .‬يغمز كاربنرت املشـاهدين‬
‫إىل وجـود الفضائـي داخـل الكلب يف بعـض اللقطـات املقربة قبل‬
‫ٍ‬
‫كالب أخـرى يف املكان‬ ‫ٍ‬
‫عـراك مـع‬ ‫ْ‬
‫أن يبـدأ بالتحـول الشـكيل بعـد‬
‫الشـم والغرائـز التطوريـة األخرى‬‫ِّ‬ ‫َّنـت حاسـة‬
‫املخصـص هلـا‪ .‬مك ْ‬
‫الـكالب مـن اكتشـاف أن الشيء هو َ‬
‫آخـر بالنسـبة هلا‪ ،‬وإنـه مل يعد‬ ‫َ‬
‫قريبهـا اجليني‪.‬‬
‫اسـتخدم كاربنتر أحدث مـا توصلت إليه تكنولوجيـا املؤثرات‬
‫السـينامئية خللـق صـورة ُمكَمـة للوحـش الفضائـي‪ ،‬حيـث كان‬
‫جمسـات طويلـة ملتوية‪ ،‬كما كان يغري‬
‫ينضـح بسـوائل غريبـة‪ ،‬ولـه َّ‬
‫‪132‬‬
‫الف�صل الثالث‬

‫حمـاوالً تغيري أشـكال ضحاياه إىل شـكله‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬


‫هيئـات خمتلفة‬ ‫شـكله إىل‬
‫اآلخـر الغـازي‬ ‫كفـاح ضـد حمـاوالت َ‬ ‫ٍ‬ ‫تتحـول أحـداث الفيلـم إىل‬
‫ِ‬
‫الكوكـب بأكملـه‪ ،‬مو ِّظفـ ًا اجلزئية التـي تتعلق بكيفيـة متييز‬ ‫حتويـل‬
‫ـذ ْت مـن قصـة كامبـل‪.‬‬ ‫الغـازي الفضائـي عـن البشري‪ ،‬التـي ُأ ِخ َ‬
‫وبينما كانـت هناية قصـة كامبل سـعيدة بالنسـبة للبرشيـة‪ ،‬وكذلك‬
‫النهايـة يف أول إصـدار سـينامئي للقصـة عـام ‪ ،1951‬مل يتبـق إال‬
‫اثنـان مـن طاقـم البحـث األمريكـي يف هناية فيلـم كاربنتر‪ ،‬ويأمل‬
‫الناجيـان أهنما قـد دمـرا مجيـع خاليـا الفضائـي‪ ،‬لكنهما يواجهـان‬
‫املـوت املحتـم حيث أهنام َف َّجـرا وأحرقا القاعـدة بأكملها‪ .‬واألدهى‬
‫مـن ذلـك إهنما مل هيتديـا إىل طريقـة للتأكـد مـن إن أحدمهـا مل ُي َّول‬
‫ويصبـح آخر‪.‬‬
‫لتم ِّثـل االسـتحالة مـن اجلاذبيـة مـا جعـل املخرجين خيرجون‬
‫إسـباقية‪ prequel‬للفيلـم حتكـي مـا حـدث قبـل أحـداث فيلـم‬
‫كاربنتر مـن اكتشـاف الفريـق النروجيـي للفضائـي املتجمـد ومـا‬
‫حـدث هلـم عقـب ذلـك‪ُ ،‬ع ِرضـت اإلسـباقية عـام ‪ 2011‬وحتمـل‬
‫اسـم فيلـم كاربنتر أيضـ ًا‪.‬‬

‫«لقد صاروا بيننا بالفعل!»‪:‬‬


‫رواية ‪ The Body Snatchers‬وتوظيفاتها في السينما‬

‫يف اللحظـات اخلتاميـة لفيلـم ‪Invasion of the Body‬‬


‫‪ Snatchers‬املنتَـج عـام ‪ ،1956‬يصرخ ميلـز بينيل هبيسـترييا حمذر ًا‬
‫أن الفضائيين قـد غـزوا األرض وسـيطروا على‬ ‫كل مـن يسـمعه َّ‬
‫أجسـادنا‪ُ .‬أعيـدَ إنتـاج الفيلـم ثلاث مرات بعـد اإلصـدار األول‪،‬‬
‫‪133‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫وتقـوم مجيـع اإلصـدارات األربعـة على روايـة جـاك فينـي ‪The‬‬


‫ٍ‬
‫حلقـات عام‬ ‫ُشر ْت ألول مـرة على هيأة‬‫‪ Body Snatchers‬التـي ن ِ‬
‫َشر ْت ككتـاب عـام ‪.1955‬‬ ‫ِ‬
‫‪ 1954‬يف جملـة كوليرز ‪ Collier’s‬ثـم ن َ‬
‫كما احلـال مـع روايـة ?‪ Who Goes There‬واألفلام التـي قامـت‬
‫عليهـا‪ُ ،‬ت َعـدُّ روايـة جـاك فينـي واألفلام التـي انبثقت منهـا نامذج‬
‫على َت ُّثـل الغـزو واالسـتحالة‪.‬‬
‫طبيـب يسـكن‬‫ٌ‬ ‫يف الروايـة‪ ،‬يبـدأ البطـل ميلـز بينيـل‪ ،‬وهـو‬
‫بلـدة ميـل سـيتي يف كاليفورنيـا‪ ،‬بمالحظـة بعـض التغييرات يف‬
‫سـلوكيات سـكان بلدتـه‪ .‬يكتشـف بينيـل وحبيبتـه بيكـي وجـود‬
‫أنـاس َي ْعرفاهنـم‪ ،‬حيـث أن تراكيـب فضائيـ ًة تشـبه‬ ‫ٍ‬ ‫ن َُس ٍ‬
‫ـخ مـن‬
‫ـخ البشر عندمـا ينامـون‬ ‫كبسـوالت البـذور النباتيـة تقـوم بن َْس ِ‬
‫النسـخ ذكريات وشـخصية األصـل البرشي‬ ‫ُ‬ ‫بالقـرب منهـا‪ .‬حتمـل‬
‫ُنسـخت عليـه‪ ،‬لكنهـا مل تعـد نحـن‪ ،‬بـل أصبحـت جزء ًا‬ ‫الـذي است ِ‬
‫لكيـان فضائي‪ .‬حاملـا يكتشـف بينيـل وبيكي‬ ‫ٍ‬ ‫مـن العقـل اجلمعـي‬
‫ٍ‬
‫حبكـة مـن القتـال واملطـاردة‬ ‫األمـر‪ ،‬تتحـول أحـداث الروايـة إىل‬
‫ـض عليهما أخير ًا ويوشـك الفضائيـون عىل‬ ‫واهلـرب‪ .‬وعندمـا ُيق َب ُ‬
‫حتويلهما أيضـ ًا‪ ،‬حيدثهام بودلونگ‪ ،‬األسـتاذ اجلامعي الـذي َت َعرض‬
‫إىل التحويـل سـابق ًا وأصبـح جسـده ملـك ًا للفضائيين‪ ،‬بحديـث‬
‫يؤسـس آلخرانية الفضائـي وطريقته يف البقاء التطـوري‪ .‬إذ يوضح‬
‫سـافرت عبر الفضـاء آلالف السـنني‬ ‫ْ‬ ‫هلما أن البـذور الفضائيـة‬
‫مهاجـر ًة من كوكـب حيترض‪ ،‬ثـم وصلـت األرض بالصدفة‪ ،‬حيث‬
‫نمـت هلـا جـذور وأنتجـت كبسـوالت‪ .‬لكن النسـخ البرشيـة التي‬
‫‪134‬‬
‫الف�صل الثالث‬

‫أنتجتهـا هـذه البذور تفتقـر إىل العاطفـة‪ ،‬من ثم فإهنا سـتموت بعد‬
‫الكائنـات الفضائي ُة‬ ‫حتـو ُل‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫بضـع سـنوات دون أن تتكاثـر‪ .‬وعندمـا ِّ‬
‫مجيـع الكائنـات احلية على األرض‪ ،‬ثم متـوت مجيع النسـخ دون أن‬ ‫َ‬
‫تترك ذرية‪ ،‬سـيغادر الفضائيون كوكبنـا امليت للبحث عـن كائنات‬
‫حيث‬ ‫دارويـن‪ُ :‬‬ ‫حيـة على كواكـب أخـرى‪ .‬حييـل فينـي إىل نظريـة ِ‬
‫أن الكائنـات الفضائية هـذه تتمتع بـ‬ ‫بر األسـتا ُذ بودلونـگ ميلـز َّ‬‫ُي ِ‬
‫شـكل من أشـكال احليـاة األخرى‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وكل‬ ‫ٍ‬
‫شـكل ِّ‬ ‫ألي‬
‫كوين ِّ‬ ‫«تكيـف ٍّ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ظـرف ِّ‬
‫وكل ظـرف يمكـن أن تواجهـه»‪ .‬وإهنـا «ال ُط َف ُّ‬
‫ييل‬ ‫أي‬
‫وحتـت ِّ‬
‫األكمـل‪ ،‬حيـث ال تقتصر قدرته عىل جمرد ُسـكنى جسـد املض ِّيف‪.‬‬
‫حـي متطـور بالكامـل»)‪.(4‬‬
‫إهنا شـكل ٌّ‬
‫يل ِّفـق فينـي هنايـ ًة سـعيدة غير متو َّقعـة لروايتـه‪ ،‬حيـث ينترص‬
‫حماربونـا على الكائنـات الفضائيـة الغاز َيـة مسـتخدمني الـذكاء‬
‫اجلمعـي هلـا‪ ،‬إذ جعلوهـا تعـرف «البرش لـن يكونـوا مضيفـ ًا جيد ًا‬
‫هلـا‪ ،‬ولـن تسـتطيع التكاثـر باسـتخدامهم أبـد ًا»‪ ،‬كما يقتبـس جاك‬
‫فينـي اخلطبـة الناريـة لوينسـتون ترشتشـل ‪Winston Churchill‬‬
‫يف أثنـاء احلـرب العامليـة الثانيـة‪ ،‬التي شـحذ هبـا اهلمـم يف مواجهة‬
‫غـاز يريـد حتويـل الثقافـة الربيطانيـة‪« :‬سـنقاتلهم يف احلقـول‪ ،‬يف‬‫ٍ‬
‫الشـوارع‪ ،‬سـنقاتل على اجلبـال والتلال؛ لـن نستسـلم أبـد ًا»‪ .‬من‬
‫ثـم يشير فيني أن اجلنـس البرشي سـيعيد نفس البطولة ضـد الغزاة‬
‫ٌ‬
‫مؤهـل لذلـك‪.‬‬ ‫الفضائيين وهيزمهـم أيضـ ًا‪ ،‬فهـو‬
‫لكتـاب كُتِـب يف أوج حقبـة احلـرب البـاردة واخلـوف‬‫ٍ‬ ‫بالنسـبة‬
‫األمحـر‪ ،‬ال يمكـن أن ختفـى علينـا املضامين الثقافيـة التـي تكمـن‬
‫‪135‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫بين السـطور‪ ،‬بالضبـط كام احلـال مـع روايـة ?‪Who Goes There‬‬
‫وغريهـا مـن أفلام اخليـال العلمـي يف تلـك احلقبـة‪ ،‬فالفضائيـون‬
‫واألشـخاص الذيـن حتولـوا ليسـوا إال إسـقاط ًا على اخلاليـا‬
‫الشـيوعية النائمـة التـي كان الكثيرون يعتقدون بوجودهـا متخفي ًة‬
‫يف املجتمـع األمريكـي وتعمـل على تقويضـه‪ :‬صـور ٌة أخـرى مـن‬
‫البارانويـا الناجتـة عن اخلـوف من وجـود طوائف رسيـة يف األفالم‬
‫الشـيطانية‪ .‬لكـن روايـة فينـي واألفلام التـي قامـت عليهـا تطرح‬
‫قضيـ ًة أكبر يف موضوعـة الرعـب خاصتهـا‪ :‬حتويـل إرثنـا اجلينـي‬
‫ذاتـه‪ .‬يثير َت َ ُّثال الغـزو واالسـتحالة يف هـذه الرواية رعبـ ًا بيولوج ًّيا‬
‫ٍ‬
‫واحد‬ ‫قو ًّيـا بحيـث أدى ذلـك إىل حتويـل الروايـة إىل فيلم بعد عـا ٍم‬
‫فقـط مـن نرشها‪.‬‬
‫عـام ‪ ،1956‬صـدر أول توظيـف سـينامئي للروايـة حتـت اسـم‬
‫‪ Invasion of the Body Snatchers‬الـذي أخرجـه دون سـيگل‬
‫بـكل مـن اإلسـقاطات على االندسـاس‬ ‫ٍّ‬ ‫‪ Don Siegel‬حمتفظـ ًا‬
‫لي الغـزو واالسـتحالة أيضـ ًا‪ .‬مل ُي ِ‬
‫ـر سـيگل تغيير ًا‬ ‫وت َ ُّث َ‬‫الشـيوعي َ‬
‫على الروايـة على معظم األصعـدة‪ ،‬إذ يكتشـف ميلز وبيكـي (وقد‬
‫كل مـن كيفـن مكارثـي ‪ Kevin McCarthy‬وودانا‬ ‫لعـب دورمهـا ٌّ‬
‫وينتر ‪ Dana Wynter‬على التـوايل) تدرجييـ ًا اخلطر الداهـم‪ ،‬لتنتج‬
‫عـن ذلـك حبكـة شـبيهة بحبكـة القتـال واملطـاردة املوجـودة يف‬
‫يرت البلـدة يف الفيلم إىل سـانتا مريا‪ ،‬بدالً مـن بلدة ميل‬ ‫الروايـة‪ُ .‬غ ِّ َ‬
‫الفيلـم رسدية حبكـة الروايـة‪ ،‬حيث يفتتـح الفيلم‬‫ُ‬ ‫غير‬
‫سـيتي‪ .‬كام َّ‬
‫بمشـهد مليلـز يف حالـة هيسـترييا‪ ،‬وجيـري فحصـه يف املستشـفى‬ ‫ٍ‬

‫‪136‬‬
‫الف�صل الثالث‬

‫بسـبب هذيانـه املسـتمر عن الغـزاة الفضائيين‪ ،‬ويسـتخدم املخرج‬


‫مشـاهد االرجتاع السـينامئي ‪ flashback‬لتفسير األحداث السابقة‪.‬‬
‫خيتلـف الفيلـم أيضـ ًا مـن حيـث أن مجيـع أصدقـاء ميلز بينيـل‪ ،‬بام‬
‫الفيلم‬
‫ُ‬ ‫فيهـم بيكـي‪ ،‬يتعرضـون للتحويـل يف هناية الفيلـم‪ ،‬ويعتمـد‬
‫هنايـ ًة ختتلـف عـن هنايـة الروايـة‪ ،‬حيـث ينجـح ميلـز يف اهلـرب‬
‫مـن ُمالحقيـه ويصـل إىل الطريـق الرسيـع حيـث نـرى واحـد ًا من‬
‫لا «لقد‬‫املشـاهد اخلالـدة‪ ،‬يصرخ ميلـز عىل سـائقي السـيارات قائ ً‬
‫مسـتوى مـا‪ ،‬يسـتهدف الفيلم إطالق‬ ‫ً‬ ‫صـاروا بيننـا بالفعـل!»‪ .‬عىل‬
‫اخلـوف اإلنـايب مـن املؤامـرة الشـيوعية عنـد املشـاهدين‪ .‬لك ْن عىل‬
‫ٍ‬
‫مهسـات مـن اخلـوف البدائي جتاه‬ ‫مسـتوى أعمـق‪ ،‬ي ِ‬
‫سـمعنا الفيلم‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫الغـزو‪ ،‬االسـتحالة‪ ،‬وتدمير إرثنـا اجليني‪ ،‬وكلها أشـياء شـائع ٌة يف‬
‫أفلام اخليـال العلمي يف فترة اخلمسـينيات‪.‬‬
‫أصبـح فيلـم دون سـيگل سـالف الذكـر مـن الكالسـيكيات‬
‫اخلالـدة التـي اسـتقطبت طائفـة مـن األتبـاع‪ ،‬أمـا مـن حيـث كلفة‬
‫اإلنتـاج فقد ُصنِّف الفيلم حتت الدرجـة يب ‪ .B‬يف العام ‪1978‬عندما‬
‫ظهـر اإلصـدار السـينامئي الثـاين حتـت نفـس عنـوان سـابقه‪ ،‬كان‬
‫كبير يف جعـل الفيلم أكثر‬ ‫ٌ‬ ‫أثر‬
‫البتـكار املؤثـرات السـينامئية اخلاصة ٌ‬
‫إثـار ًة برص ًّيـا‪ .‬كما كان يعكس تغير ًا يف الثقافـة األمريكيـة‪ .‬نرى يف‬
‫البـذور الفضائيـة وهـي تغـادر كوكبـ ًا م ِّيتـ ًا‪ ،‬ثم‬
‫َ‬ ‫املشـهد االفتتاحـي‬
‫حقـل قـرب مدينـة سـان‬ ‫ٍ‬ ‫تسـافر يف الفضـاء حتـى حتـط رحاهلـا يف‬
‫فرانسيسـكو‪ ،‬وهنـاك متـد جذورهـا وتنمـو‪ .‬حيتفـظ الفيلـم هبيكل‬
‫الروايـة عمومـ ًا‪ .‬لكن مواقـع األحداث تغريت من بلدة ميل سـيتي‬
‫‪137‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫الصغيرة يف كاليفورنيـا إىل مدينـة سـان فرانسيسـكو العمالقـة‪ ،‬كام‬


‫تغير اسما البطـل والبطلـة من ميلـز بينيـل وبيكـي إىل ماثيـو بينيل‬
‫(دونالد سـوذرالند ‪ )Donald Sutherland‬وإيليزابيث دريسـكول‬
‫(بـروك آدمـز ‪ )Brooke Adams‬على التـوايل‪ .‬يعمـل البطلان‬
‫ٍ‬
‫صداقة قويـة‪ .‬تعاين‬ ‫ٍ‬
‫منشـأة صحية عامـة وجتمعهام عالقـة‬ ‫سـوي ًة يف‬
‫إيليزابيـث مـن مشـاكل مع زوجها الـذي يتصف بشـخصية مجوحة‬
‫وغير تقليديـة إىل حـد كبير‪ .‬يقـع الـزوج ضحيـ ًة للتحويـل مـن‬
‫ِق َبـل الكائنـات الفضائيـة فيفقـد عواطفه‪ .‬من ثـم يتبـع الفيلم ذات‬
‫احلبكـة يف الروايـة والفيلـم السـابق‪ ،‬مـن اكتشـاف البطلين ألمـر‬
‫النسـخ وصـوالً إىل اهلـرب واملطـاردة‪ ،‬وخيتتـم الفيلـم بنهايـة غير‬
‫سعيد ة ‪.‬‬
‫َـر ُر الفيلـم ذات التفسير ألصل البـذور الفضائيـة‪ .‬إذ يتكلم‬ ‫ُيك ِّ‬
‫صديـق ماثيـو الطبيب النفسي د‪ .‬كبنـر (ليونارد نيمـوي ‪Leonard‬‬
‫‪– )Nimoy‬والـذي تعـرض إىل االسـتحالة مبكـر ًا قائلاً‪« :‬وصلنـا‬
‫عـالٍ حمتضر‪ .‬نتكيف لننجـو»‪ .‬نرى يف هـذا الفيلم‬‫ين من َ‬ ‫إىل هنـا آتِ َ‬
‫أيضـ ًا حنين ًا إىل اإلصـدار السـينامئي األول حيث نـرى لقطة قصري ًة‬
‫مليلـز (كيفـن مكارثـي) وهـو يركـض يف الشـوارع صارخـ ًا «لقـد‬
‫صـاروا بيننـا بالفعـل!»‪ ،‬لكنـه يتعثـر وحيـاط بـه هـذه املـرة‪ ،‬وربما‬
‫ُقتِـل على أيدي املستنسـخني‪ ،‬ويلمح هـذا املشـهد إىل أن النهاية لن‬
‫تكـون سـعيدة هـذه املرة‪.‬‬
‫الفيلم اإلسـقاط عىل اخلوف من االندسـاس الشيوعي‬
‫ُ‬ ‫يسـتبدل‬
‫يف اإلصـدار الفيلمـي السـابق باخلـوف مـن خطـر االمتثاليـة‬
‫‪138‬‬
‫الف�صل الثالث‬

‫‪ conformity‬على املجتمـع‪ .‬بحلول العـام ‪ ،1978‬أصبحت الثقافة‬


‫األمريكيـة‪ ،‬أو على األقـل الثقافـة األمريكيـة كام يقدمهـا اإلعالم‪،‬‬
‫سـامهت حركـة الثقافـة‬ ‫ْ‬ ‫ٍ‬
‫بشـكل كبير‪.‬‬ ‫خمتلفـة عما كانـت عليـه‬
‫نقلـة نوعيـة يف روح العرص‪.‬‬ ‫املضـادة يف هنايـة السـتينيات بإحـداث ٍ‬
‫يف اخلمسـينيات‪ ،‬كانـت االمتثاليـ ُة قيمـ ًة أساسـية‪ ،‬لكـ ْن مـع هنايـة‬
‫لت أفال ٌم مثـل ‪The Graduate‬‬ ‫السـتينيات وبدايـة السـبعينيات‪ ،‬أ ْع ْ‬
‫و‪ Butch Cassidy and the Sundance Kid‬مـن قيمـة الـروح‬
‫املعتزل الذي‬ ‫الثورونيـة ‪ Thoreauvian‬املتمثلـة يف تبجيل شـخصية ِ‬
‫هيـزأ بالسـلطة ويغـرد خـارج السرب‪ .‬لـذا فيمكننـا أن نـرى ماثيـو‬
‫وإيليزابيـث يف هرهبما مـن االسـتحالة ومـن ثـم فشـلهام‪ ،‬يمكننـا ْ‬
‫أن‬
‫ٍ‬
‫كتجسـيد لعبثيـة حماولة حتقيـق احلريـة الفردية يف جمتمـ ٍع امتثا ٍّيل‪.‬‬ ‫نرامهـا‬
‫ٍ‬
‫كتمثـل بدائي‪.‬‬ ‫مـع ذلـك فـإن الفيلـم حيتفـظ بتمثـل االسـتحالة‬

‫ميلز بينيل (كيفن مكارثي) يكتشف وصول خاطفي األجساد‬

‫ُأنتِـج اإلصـدار السـينامئي الثالـث لرواية فيني عـام ‪ 1993‬حتت‬


‫عنوان ‪ ،Body Snatchers‬ويقدِّ م مزجي ًا من التمثل البدائي اإلقليمي‬
‫‪139‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫والتوظيـف الثقـايف‪ ،‬بما يف ذلـك تلبية الفيلـم ملتطلبات الشـباب يف‬


‫تلـك الفترة‪ .‬لكـ ْن لدينـا هنـا بطلة للفيلـم بـدالً من البطـل‪ ،‬وهي‬
‫مراهقـ ٌة تدعى مـاريت مالون (گابرييـل أنـور ‪.)Gabrielle Anwar‬‬ ‫ِ‬
‫يف هـذا الفيلـم‪ ،‬ينتقـل والدا مـاريت إىل قاعدة عسـكرية حيث يعمل‬
‫علمـي يف مشرو ٍع الستكشـاف التأثيرات البيئية‬ ‫ٍ‬
‫كباحـث‬ ‫والدهـا‬
‫ٍّ‬
‫للعمليات العسـكرية‪ .‬كام يف اإلصدارات السـابقة‪ ،‬تكتشـف ماريت‬
‫أن كل مـن تصادفهـم قـد ُح ِّولوا‪ ،‬بما فيهم والدهـا وجدهتا كارول‪.‬‬
‫هتـرب مـاريت مـن االسـتحالة برفقـة بعـض أتراهبـا‪ .‬ويبـدو أهنـم‬
‫ينجحـون يف اهلـرب إىل قاعـدة عسـكرية أخـرى‪ ،‬لكـن يف النهايـة‪،‬‬
‫نسـمع صـوت املعلق الصـويت على الفيلم وهـو يردد كلمات جدة‬
‫مـاريت التـي نجـح الفضائيـون بتحويلهـا‪« :‬إىل أيـن أنتـم ذاهبون؟‬
‫ْـج‬
‫إىل أيـن سـتهربون؟ أيـن سـتختبئون؟ ال مـكان لكـم‪ ،‬ألنـه مل َين ُ‬
‫غريكـم»‪ .‬كما يف إصـدار عـام ‪ ،1978‬يعلي الفيلـم مـن قيمـة متـرد‬
‫الشـباب على الشـائع وينقـد املجتمـع االمتثـايل ا ُملدَ َّجـن‪ .‬حيـث‬
‫وآخر بالنسـبة‬ ‫لا َ‬‫الفيلـم اجليل الشـاب عىل أنـه أصبح دخي ً‬ ‫ُ‬ ‫يصـور‬
‫للحشـود التـي َح َّوهلـا الفضائيون‪.‬‬
‫يف اإلصـدار الرابـع للفيلـم الذي ُأنتِـج عام ‪ 2007‬حتـت عنوان‬
‫‪ The Invasion‬نالحـظ تنويعة جديدة أخرى عىل متثل االسـتحالة‪،‬‬
‫مـع بعـض التأمل يف إمكانيـة قيام ٍ‬
‫حياة ختلـو من التمثلات البدائية‬
‫املد ِّمـرة‪ .‬بحلـول العـام ‪ ،2007‬كانت أفـكار علم النفـس التطوري‬
‫الفيلـم إىل تلـك األفـكار‪ .‬كام يف‬
‫ُ‬ ‫انتشرت بين النـاس‪ ،‬وحييـل‬
‫ْ‬ ‫قـد‬
‫اإلصـدارات الثالثـة السـابقة‪ ،‬تـأيت العـدوى مـن السماء‪ ،‬إنام عىل‬
‫‪140‬‬
‫الف�صل الثالث‬

‫الفيلم‬
‫ُ‬ ‫يصـور‬
‫ِّ‬ ‫شـكل فِطريـات تنتشر مـن مركبـة فضائيـة سـاقطة‪.‬‬
‫ِ‬
‫شـخصية الطبيبـة النفسـية كارول بينيـل (نيكـول كدمـان ‪Nicole‬‬
‫‪ )Kidman‬وابنهـا أوليفـر‪ ،‬الطفـل املهـدَّ د وهو موضوع ٌة شـائع ٌة يف‬
‫األدب خصوصـ ًا منـذ بداية القرن التاسـع عرش‪ .‬ففـي رواية ‪Little‬‬
‫‪ ،Dorrit‬حبـس تشـارلز ديكينـز ‪ Charles Dickens‬أنفـاس ُقر ِ‬
‫ائـه‬ ‫َّ‬ ‫ََ َ‬
‫َف َر َقـ ًا على مصير دوريت عندمـا تصبـح حياهتا عىل كـف عفريت‪،‬‬
‫كما يف روايتـه ‪ Dombey and Son‬حيـث يمـوت الصغير بـول‬
‫ببـطء ناهيك عـن الصغير ديفيـد كوبرفيلـد ومعاناته‪ ،‬وصـوالً إىل‬
‫كل مـن تايني تيـم وأوليفر تويسـت‪ .‬لقد‬ ‫املصاعـب التـي يواجهها ٌّ‬
‫ف إيلني‬ ‫التطوري عىل االسـتجابة هلـذه احلبكـة‪ .‬ت َِص ُ‬
‫ُّ‬ ‫َب ْر َمَنـا تارخينـا‬
‫ديسـانايك ‪« Ellen Dissanayake‬اإلشـباع الغامـر الذي نشـعر به‬
‫صغري عاجـز – خصوصـ ًا لـو كان خاصتنا‪...‬‬ ‫ٍ‬ ‫عندمـا نعتنـي بشيء‬
‫بـال حلـب األم لوليدهـا عنـد‬ ‫ورغـم أن معظـم النـاس ال يلقـون ً‬
‫البشر‪ ،‬فإنـه واحدٌ من أهـم التكيفـات يف تارخينا التطـوري»)‪ .(5‬لذا‬
‫عندمـا جتـد كارول أن ابنهـا يتمتـع باملناعة ضـد العـدوى الفضائية‬
‫ض ُأصيب بـه يف طفولتـه) وإن الفضائيني يريـدون قتله‬ ‫(نتيجـ ًة َمل َـر ٍ‬
‫آخـر وألنه هيـدد وجودهـم‪ ،‬يتحول الفيلـم إىل التمثـل اخلالد‬ ‫ألنـه َ‬
‫للأم التـي تدافع عـن حيـاة ابنها‪.‬‬
‫جعـل املخـرج اهلجمات عىل مركـز التجـارة العاملـي يف احلادي‬
‫عنـف يف الشرق األوسـط خلفي ًة‬ ‫ٍ‬ ‫عشر مـن أيلـول ومـا تالها مـن‬
‫َ‬
‫األحـداث اآلن َّيـة‬ ‫ألحـداث الفيلـم‪ .‬يربـط ُكتَّـاب سـيناريو الفيلـم‬
‫باكتشـافات علـم النفـس التطـوري عن الطبيعـة البرشية‪ .‬تستشير‬
‫‪141‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫العـال بخصـوص ع ِّينـة مشـبوهة من اجللـد كانت‬ ‫ِ‬ ‫كارول صديقهـا‬


‫وجدتا (العالمة األوىل على العدوى) فيخربها‪ُ :‬‬
‫«تَـدِّ ُد جيناتنا‬ ‫ْ‬ ‫قـد‬
‫حـوايل ‪ 80%‬ممـا نحـن عليه»‪ .‬يقترح الفيلـم أن االسـتحالة ربام ال‬
‫تكـون شـيئ ًا سـيئ ًا إذا ما سـاعَدَ تنا عىل تغيير نزعاتنا اجلينيـة املد ِّمرة‬
‫وأحـداث عنيفـة يف كل مـكان‬ ‫ٍ‬ ‫بر عنهـا على هيـأة مذابـح‬ ‫التـي ُي َع َّ‬
‫ويعرضهـا الفيلـم مـرار ًا وتكـرار ًا يف نشرات األخبـار يف التلفـاز‬
‫والراديـو‪ .‬تلتقـي كارول بالسـفري الـرويس يف حفلـة عشـاء‪ ،‬فيلقي‬
‫األخير عىل املشـاهدين حمارضة ربام تعود جذورها إىل االكتشـافات‬
‫توصـل إليها علـم النفـس التطـوري وإن كانت تذكرنـا أيض ًا‬ ‫التـي َّ‬
‫بأغنيـة «‪ »Imagine‬جلـون لينون ‪« :John Lennon‬ليسـت احلضارة‬
‫َظاهـر‪ .‬أمـا احلقيقـة فهـي إننـا مـا زلنـا‬ ‫إال ومهـ ًا‪ ،‬هـي مبـارا ٌة يف الت ُ‬
‫حيوانـات تقودهـا غرائزهـا البدائيـة‪ .‬تنهـار احلضـارة بالضبـط‬ ‫ٍ‬
‫عندمـا نكون يف أشـد احلاجة إليهـا‪ .‬ويف املواقف احلاسـمة‪ ،‬جلميعنا‬
‫القـدرة على ارتـكاب أفظـع اجلرائـم‪ .‬لنتخيـل عا َلـ ًا خيلـو مـن كل‬
‫أزمـة فيـه إىل سلسـلة جديـدة‬ ‫ٍ‬ ‫هـذا؛ لنتخيـل عا َلـ ًا ال تتحـول كل‬
‫مـن املذابـح‪ ،‬عاملـ ًا ال متتلـئ مجيـع الصحـف فيـه بأخبـار احلـروب‬
‫عـالٍ يكف فيه البشر عن كوهنم‬ ‫والعنـف‪ .‬حسـ ٌن‪ ،‬هذا يعنـي خت ُّي َل َ‬
‫بشر ًا»‪ ،‬وال خيضعـون لطاعـة التمثلات البدائيـة املد ِّمرة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫عنـف‬ ‫قبـل أن تبـدأ االسـتحالة‪ ،‬نسـمع يف الفيلـم أخبـار ًا عـن‬
‫العـال‪ .‬ثم ومع تقدم االسـتحالة‪ ،‬تشير‬‫َ‬ ‫ال هنايـة لـه يف شـتى أنحـاء‬
‫التقاريـر اإلعالميـ ُة إىل حـدوث تغيري‪ .‬شـيئ ًا فشـيئ ًا يشـيع السلام‬
‫ُ‬
‫ويـكاد العنـف يتالشـى تقريبـ ًا‪ .‬لكـن هـذا السلام ينتهـي فجـأ ًة‬
‫‪142‬‬
‫الف�صل الثالث‬

‫ـو َر كارول لقاحـ ًا ضـد العـدوى الفضائية واالسـتحالة‬ ‫بعـد أن ُت َط ِّ‬


‫باسـتخدام دم ابنهـا أوليفـر‪ .‬يف خامتـة الفيلم‪ ،‬نرى مشـهد ًا لكارول‬
‫تتنـاول الفطـور مـع د‪ .‬گاليانـو (حبيبها الـذي أنقذها وأنقـذ ابنها)‬
‫ونسـمع الراديـو ينقـل أخبـار ًا عـن تصاعـد العنف واحلـروب من‬
‫جديـد؛ مـن ثـم نرى عىل وجـه كارول نظـر ًة ربام تشير إىل أهنا تعيد‬
‫التفكير يف أن االسـتحالة قد ال تكون شـيئ ًا سـيئ ًا إذا ما اسـتطاعت‬
‫أن تقضي على العنـف واحلروب‪.‬‬
‫واسـع يف أفلام رعـب اخليـال‬ ‫ٌ‬ ‫لِت ََم ُّثـل االسـتحالة حضـور‬
‫العلمـي‪ .‬فمثلاً‪ ،‬يعطي فيلم ‪ The Host‬الصـادر عام ‪ 2013‬والقائم‬
‫املوجهـة لليافعين‪،‬‬ ‫على روايـة سـتيفاين مايـر ‪َّ Stephanie Meyer‬‬
‫يعطـي هلـذا التمثـل بعـد ًا خمتلفـ ًا‪ .‬إذ ينجـح جنـس مـن املخلوقات‬
‫عـرف بالسـولز ‪ Souls‬يف السـيطرة على البشر‪َ .‬يدخـل‬ ‫الفضائيـة ُي َ‬
‫فتـاة تدعـى ميلاين‬ ‫ٍ‬ ‫جسـم‬ ‫وانـدرر‪،‬‬ ‫أحـد الفضائيين‪ ،‬ويدعـى‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫سترايدر (سريشـا رونـان ‪ ،)Saoirse Ronan‬لكـن ميلاين حتتفظ‬
‫آخ َرين حتى‬ ‫ببعض السـيطرة عىل جسـمها‪ ،‬مما يقـود إىل رصاع بين َ‬
‫ينتهـي األمـر إىل مـا يشـبه العالقة بينهما‪ُ .‬ي َعـد فيلـم ‪The Faculty‬‬
‫ف‬ ‫الصـادر عـام ‪ 1998‬فيلـم رعب عاديـ ًا موجه ًا للمراهقين ويو ِّظ ُ‬
‫النوعية الشـائعة من الشـخصيات‪ :‬متنمرون‪ ،‬مشـجعات‪ُ ،‬م َع َّقدون‬
‫أن الفضائيين قد سـيطروا على الكادر‬ ‫ورياضيـون‪ .‬يشـتبه الطلبـ ُة َّ‬
‫بدائي جلبـه أحد‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫بكائـن‬ ‫التدريسي ملدرسـتهم عـن طريـق عـدوى‬
‫الفيلم شـخصي ًة واحد ًة‬‫ُ‬ ‫كبـار الفضائيني‪ .‬على األقل‪ ،‬قـدَّ م لنا هـذا‬
‫بصفـات مثيرة‪ ،‬وهـي الفتاة القوطيـة سـتوكيل (كليا دوفـال ‪Clea‬‬
‫ٍ‬

‫‪143‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫‪ ،)Duvall‬خبير ٌة يف اخليـال العاملـي‪ ،‬وحتـاول تثقيف بقيـة الصغار‬


‫عن أعمال هذا احلقـل مثـل ‪Invasion of ،The Puppet Masters‬‬
‫‪ the Body Snatchers‬و ?‪ Who Goes There‬لكـي ُت ْف ِهمهـم مـا‬
‫فيلـم ‪The Puppet Masters‬‬ ‫ُ‬ ‫الـذي حيـدث يف مدرسـتهم‪ .‬يسـتمد‬
‫الـذي تتحدث عنه سـتوكيل‪ ،‬الـذي صدر عام ‪ ،1994‬يسـتمد مادته‬
‫مـن روايـة روبـرت هايناليـن ‪ Robert Heinlein‬الصـادرة عـام‬
‫«يرقات»‬
‫ٌ‬ ‫‪ 1951‬وحتمـل اسـم الفيلـم ذاتـه‪ ،‬يف تلـك الروايـة تغـزو‬
‫وتركـب أقفيتهـم لتتحكم هبـم‪ ،‬صـور ٌة أخرى من‬ ‫ُ‬ ‫النـاس‬
‫َ‬ ‫فضائيـ ٌة‬
‫االسـتحالة‪ .‬ربما كانـت روايـة هاينالين تلك مصـدر إهلـا ٍم لرواية‬
‫ٍ‬
‫سـنوات قليلة‬ ‫جـاك فينـي التـي ناقشـناها آنِفـ ًا‪ ،‬والتـي كُتِ َبت بعـد‬
‫فقـط من نشر روايـة هاينالين‪ :‬فكالمهـا عين ٌة عـن التمثـل البدائي‬
‫للغـزو عبر حتويل احلـوض اجليني كما إن كلتـا الروايتني تعكسـان‬
‫خوفـ ًا ثقاف ًّيـا مـن املؤامرة الشـيوعية‪.‬‬
‫خيـل حتـى مسلسـل ‪ Star Trek‬األصلي مـن اسـتخدام متثـل‬ ‫مل ُ‬
‫االسـتحالة مـع بعـض احلنين ألفلام ‪ Body Snatchers‬وربما‬
‫لقصيـدة «‪ »The Lotus Eaters‬للشـاعر الفـرد تينيسـون ‪Alfred‬‬
‫آكيل اللوتـس يف‬ ‫‪ ،Tennyson‬وفيهـا حييـل تينيسـون إىل قصـة ِ‬
‫ملحمـة األوديسـة هلوميروس‪ .‬عـام ‪ ،1968‬كان عنـوان إحـدى‬
‫حلقـات مسلسـل ‪ Star Trek‬هـو ‪ ،This Side of Paradise‬هيبـط‬
‫كوكـب يسـكنه بعـض‬ ‫ٍ‬ ‫طاقـم املركبـة الفضائيـة إينرتبرايـس على‬
‫ـب ملـن يتناوهلـا‬
‫بـذور َ َت ُ‬
‫ٌ‬ ‫املسـتعمرين‪ ،‬وتنمـو على هـذا الكوكـب‬
‫الصحـة التامـة وخت ِّلـص اجلميـع مـن األطماع والتوترات‪ .‬تسـيطر‬
‫‪144‬‬
‫الف�صل الثالث‬

‫البـذور على السـيد سـبوك‪ ،‬ويصـف األخير البـذور للكابتـن‬


‫ـة تبـدو مأخـوذ ًة مبارش ًة مـن رواية جـاك فيني‬ ‫كيرك اخلائـف‪ ،‬بِ ُل َغ ٍ‬
‫والتوظيفين السـينامئيني األولين هلـا‪« :‬طافـت تلك البـذور خالل‬
‫الفضـاء حتـى وصلت أخير ًا إىل هنـا»‪ .‬تعـرض الطاقـم للتحويل‪،‬‬
‫كائنـات رشيـرة هـذه املـرة‪ .‬حتـى إن‬ ‫ٍ‬ ‫ولـو إنـه مل يكـن مـن ِق َبـل‬
‫ِ‬
‫املسـتعمرين‪.‬‬ ‫السـيد سـبوك العنيـد قـد وقـع يف حـب امـرأة مـن‬
‫أمـا الكابتـن كيرك فيسـتمر يف املقاومـة حتى اسـتطاع أخير ًا حترير‬
‫عـرض املشـهد النهائـي يف‬ ‫رجالـه مـن سـيطرة البـذور الفضائيـة‪َ .‬ي ِ‬
‫تلـك احللقـة رؤيتين لت ََم ُّثـل االسـتحالة والطبيعـة البرشيـة‪ .‬حيث‬
‫طـرد فيهـا‬
‫يقـول الدكتـور ماكـوي‪« :‬هـذه هـي املـرة الثانيـة التـي ُي َ‬
‫اإلنسـان مـن الفـردوس»‪ .‬فيرد عليـه كيرك‪« :‬كال‪ ،‬كال يـا «بونز‪.‬‬
‫خرجنـا هـذه املرة بإرادتنـا‪ .‬ربام مل نُخ َلـق لنعيش يف الفـردوس‪ .‬ربام‬
‫خطوة مـن الدرب‪ .‬ربام‬‫ٍ‬ ‫ُخ ِلقنـا للشـقاء والكفاح‪ِ ،‬ل ْن نعـاين يف كل‬
‫قـر ُع الطبـول أكثـر من صـوت العـود»‪ .‬لك ْن كانت للسـيد‬ ‫يناسـبنا ْ‬
‫سـبوك الكلمـة األخرية حـول َت َ ُّثل االسـتحالة إذ يرد قائلاً‪« :‬ليس‬
‫لـدي الكثير ألقولـه لـك‪ ،‬كابتن‪ ،‬عـدا أهنا كانـت املـرة األوىل التي‬
‫أكـون فيهـا سـعيد ًا طـوال حيايت»‪.‬‬

‫ميمة الزومبي وجذورها‬


‫تعـود جـذور أفالم الزومبـي إىل ِ‬
‫ذات اخلـوف البدائي مـن َت َ ُّثل‬
‫االسـتحالة كما احلـال مـع روايـات ?‪Body ،Who Goes There‬‬
‫‪ Snatchers‬واألفلام التـي انبثقـت عنهـا‪ .‬كام األفالم املشـار إليها‪،‬‬
‫كل منهـا‪ .‬لقد‬ ‫ألفلام الزومبـي محولـ ٌة ثقافيـة تعكـس حقبة إنتـاج ٍّ‬
‫‪145‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫أهلـم فلكلـور الفـودو اإلفريقـي والزومبـي رسدي ًة سـينامئي ًة حتولت‬


‫إىل ظاهـرة ثقافيـة جتـاوزت األفلام‪ .‬ألفلام الزومبـي قـدر ٌة عالية‬
‫حـث اخلـوف البدائي مـن االسـتحالة وفقـدان الذات‪.‬‬‫على ِّ‬
‫بعـد عـرض فيلـم ‪ White Zombie‬عـام ‪ ،1932‬غـدا حضـور‬
‫الزومبـي مـن ميثولوجيـا الفـودو يتكرر مـن ٍ‬
‫حني إىل آخـر يف أفالم‬
‫الرعـب‪ .‬لكـ ْن مـع بدايـة السـتينيات‪ ،‬حتـول الزومبي إىل شـخصية‬
‫خمتلفـة متامـ ًا يف األفلام ويف الثقافـة الشـعبية ككل‪ ،‬شـخصية‬
‫نحـو خـاص‪ .‬تكاثـرت‬ ‫ٍ‬ ‫أن تـأرس اخليـال الشـعبي على‬ ‫اسـتطاعت ْ‬
‫أفلام ومسلسلات الزومبي يف السـينام والتلفزيـون‪ .‬وال بد أن كل‬
‫من حضر التجمعات العاملية للقصص املصـورة مثل ‪Comic Con‬‬
‫و ‪ Dragon Con‬وغريهـا قـد شـاهد بعينـه حشـود ًا مـن حمبي أدب‬
‫هـذا النـوع مـن األدب متشي وتسـتعرض متنكـر ًة بمكيـاج وأزياء‬
‫الزومبـي‪ .‬كما إن فِ َـرق دوري كـرة القاعـدة األمريكـي ختصـص‬
‫ليـايل للزومبـي حيـث يـأيت املشـجعون إىل املالعـب مرتديـن أزياء‬
‫ٍ‬
‫بشـكل كبري‪،‬‬ ‫حـى الزومبـي ثقافتنـا‬ ‫اجتاحـت ُ َّ‬
‫ْ‬ ‫الزومبـي‪ .‬إذن فقـد‬
‫فكيـف يمكننـا تفسير انتشـارها ا ُملعـدي هذا؟‬
‫مـن اإلجابـات التـي تتكـرر على هـذا اللغـز هـي تأثير الثقافة‬
‫كمجـاز‪ .‬ومـن األمثلـة النموذجيـة على‬ ‫يف َخ ْلـق قيامـة الزومبـي َ‬
‫تفسير جيفـري سـكونس ‪« :Jeffrey Sconse‬يقدم لنا‬ ‫ُ‬ ‫هـذا االجتاه‬
‫أدب وأفلام الزومبـي يف احلقيقـة قصـ َة جسـدين يتع َّفنـان‪ -‬اجلثث‬
‫الفرديـة َّللموتـى واجلسـم االجتامعـي ككل»)‪ .(6‬لك َّن هنـاك جواب ًا‬
‫حقلي امليموطيقـا ‪ memetics‬وعلم‬ ‫َ‬ ‫جـواب يقع ضمن‬‫ٌ‬ ‫آخـر أيض ًا‪،‬‬
‫َ‬
‫‪146‬‬
‫الف�صل الثالث‬

‫النفـس التطـوري‪ .‬تشير اكتشـافات هذيـن احلقلين إىل األحلام‬


‫البدائيـة التـي ورثناهـا مـن أسلافنا والتـي تشـعل فينـا اخلـوف‬
‫مـن االسـتحالة‪ ،‬وهـي أحلا ٌم مـا زالـت حيـة يف داخلنـا‪ ،‬وتؤ ِّثـر‬
‫ال على سـلوكنا فحسـب‪ ،‬بل إهنـا تسـتجلب فينـا قشـعريرة لذيذة‬
‫خلقـت رواي ُة‬
‫ْ‬ ‫عنـد التعـرض هلـذا التمثـل يف أفلام وأدب الرعب‪.‬‬
‫ريتشـارد ماثيسـون ‪ Richard Matheson‬املنشـورة حتـت عنـوان ‪I‬‬
‫‪ Am Legend‬عـام ‪ 1954‬واألفلام الثالثة التـي و َّظ َفتْها‪ ،‬خصوص ًا‬
‫خلقـت ميمـ ًة حـارض ًة‬
‫ْ‬ ‫فيلـم ‪،Night of the Living Dead‬‬
‫باسـتمرار‪ ،‬وتسـتمد جذورهـا مـن تلـك النـداءات البدائيـة التـي‬
‫حتدثنـا عنها‪.‬‬
‫يف كتابـه (اجلين األنـاين ‪ ،)The Selfish Gene‬صـاغ ريتشـارد‬
‫كمناظِ ٍر للجين‪ ،‬لك َّن األول «وحد ٌة‬
‫داوكنز مصطلـح امليمة ‪ُ meme‬‬
‫ثقافيـة»‪ .‬كالنـار يف اهلشـيم‪ ،‬انتشرت هـذه الفكـرة يف اخلطـاب‬
‫ٍ‬
‫كثرية‬ ‫األكاديمـي ويف اإلعالم الشـعبي حيث تُسـتَخدَ م يف سـياقات‬
‫أوشـكت أن تفقـد معناهـا األصلي‪« .‬مـن األمثلـة عىل‬
‫ْ‬ ‫جـد ًا حتـى‬
‫صعات‬ ‫امليمات»‪ ،‬يكتب داوكنـز‪« ،‬األحلان‪ ،‬األفكار‪ ،‬الشـعارات‪ْ َ ،‬‬
‫األزيـاء‪ ،‬وصـوالً إىل طرائـق صنـع األواين وبنـاء القناطـر‪ .‬ومتامـ ًا‬
‫أنفسـها يف احلـوض اجلينـي عبر االنتقـال‬ ‫كما ت ِ‬
‫ـف اجلينـات َ‬‫ُضاع ُ‬
‫ُضاعف‬ ‫مـن جسـ ٍم إىل آخر بواسـطة احليامـن والبيـوض‪ ،‬كذلـك ت ِ‬
‫آخر‬ ‫أنفسـها يف احلـوض امليمي عبر االنتقـال من دمـا ٍغ إىل َ‬
‫امليمات َ‬
‫ٍ‬
‫عمليـة يمكـن أن نسـميها‪ ،‬باملعنـى الواسـع‪ ،‬عمليـ َة حمـاكاة‪...‬‬ ‫يف‬
‫بحيـث إنـك إذ تَـزرع يف عقلي ميمـ ًة خصبـة‪ ،‬إنما تقـوم حرف ًّيـا‬
‫‪147‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫حمـوالً إيـاه إىل وسـيلة تعمل على ُمكا َث َـرة امليمة‬


‫بالتطفـل يف عقلي‪ِّ ،‬‬
‫فريوس مـا على اآلليـة الوراثية‬‫ٌ‬ ‫بـذات الطريقـة التـي يتطفـل فيهـا‬
‫املض ِّيفـة»)‪َ .(7‬ي ُلـص داوكنـز إىل إن امليمات ختضـع لقوانني‬ ‫للخليـة َ‬
‫االنتخـاب الطبيعـي كام ختضـع هلا اجلينـات‪ .‬وإن امليامت‪ ،‬بحسـبه‪،‬‬
‫ٍ‬
‫كعربات هلذا التكاثـر‪ُ .‬ت َ ِّثل‬ ‫ِ‬
‫مسـتخدم ًة البشر‬ ‫مثـل اجلينات‪ ،‬تتكاثر‬
‫آخر إلعمال منظـور الصفات البدائيـة النقدي‬ ‫هـذه اخلالصـة جماالً َ‬
‫ٍ‬
‫بظاهـرة ثقافيـة حية‪.‬‬ ‫عـن طريـق ربط دراسـة السـلوك التكيفـي‬
‫يرجـح علم النفـس التطوري هنـا أن أقوى امليامت تأثير ًا وأكثرها‬
‫اسـتمرارية هـي تلـك التـي تنبـع مـن اهلمسـات التـي ورثناهـا مـن‬
‫أسلافنا‪ .‬وباختصـار شـديد‪ ،‬فـإن امليمات األطـول عمر ًا هـي امليامت‬
‫التـي تَنشـأ من اجلينـات‪ :‬بمعنـى أن امليـول التكيفيـة جين ًّيـا تنترش عن‬
‫ال مناقشـ ُة‬
‫طريـق التناقـل الثقايف‪ .‬علاوة عىل ذلـك فإنه يبدو مسـتحي ً‬
‫امليمات الراسـخة خـارج سـياق علـم النفس التطـوري‪ .‬يكتـب مات‬
‫ريـديل ‪َ « :‬ق َل َبـت األفـكار التـي ابتدعهـا داوكنـز البيولوجيا رأسـ ًا عىل‬
‫وصفي‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫داروين جمـرد ِع ْل ٍم‬ ‫ٍ‬
‫لقرون – رغـم نظرية ِ‬ ‫عقـب‪ .‬إذ إن مـا كان‬
‫ٍ‬
‫دراسـة للوظيفة»)‪.(8‬‬ ‫حتـو َل إىل‬
‫قـد َّ‬
‫يرصـد روبـرت أوگـر ‪ Robert Auger‬أن املختصين بعلـم‬
‫النفـس التطـوري ُيم ِّيـزون بين مـا يسـموهنام الثقافـة «املسـتحثة»‬
‫وتلـك «الوبائيـة»)‪ .(9‬لو ت ََو َّج ْهنا صوب الكتب الرسـمية‪ ،‬سـنجدها‬
‫أي انتشـار‬ ‫نتـاج التعلم من َ‬
‫اآلخرين – ْ‬ ‫ُت َع ِّـرف الثقافـة الوبائيـة بأهنا ُ‬
‫مجاعـة سـكانية كما ينتشر بينهـم فيروس‪ .‬أمـا‬‫ٍ‬ ‫املعلومـات عبر‬
‫«معلومـات فطريـ ٌة‬
‫ٌ‬ ‫الثقافـة املسـتحث ُة على اجلهـة األخـرى‪ ،‬فهـي‬
‫‪148‬‬
‫الف�صل الثالث‬
‫ٍ‬
‫البيئـات املختلفة»)‪.(10‬‬ ‫ُمت ََزنَـ ٌة يف أدمغـة البرش ُي َع َّ ُ‬
‫بر عنها رشط ًّيـا يف‬
‫قـد تَنشـأ امليامت عـن كال النوعني مـن الثقافة‪ ،‬لكن ما حيـدده أوگر‬
‫ٍ‬
‫وبائيـة قد يكـون متأ ِّثـر ًا بالثقافة املسـتحثة‪ .‬ال يغفـل داوكنز‬ ‫كثقافـة‬
‫عـن أن بعـض امليمات قد تكـون عابـرة‪« :‬حتـرز بعض امليمات‪ ،‬كام‬
‫احلـال مـع بعض اجلينـات‪ ،‬نجاح ًا مدو ًّيـا وتنترش رسيعـ ًا عىل املدى‬
‫لا يف احلـوض امليمـي‪ .‬ومـن األمثلة‬ ‫القصير‪ ،‬لكنهـا ال تبقـى طوي ً‬
‫ٍ‬
‫ميمات‬ ‫على ذلـك أحذيـة السـتيليتو واألغـاين الشـعبية)‪ .(11‬لكـ َّن‬
‫أخـرى‪ ،‬وربما ينطبـق عليهـا تعريف أوگـر للثقافـة املسـتحثة‪ ،‬تنبع‬
‫مـن نـداءات السـلوك التكيفـي الـذي َمكَّـن أسلافنا مـن البقـاء‬
‫والتطـور‪ .‬وتنبعـث مـن التمثلات البدائيـة التـي تشـكل هيـكل‬
‫معظـم مـا أنتجـه البشر مـن األدب وامليثولوجيـا‪ :‬التمثلات التي‬
‫تسـاهم يف َخ ْلـق الثقافـة ذاهتا‪.‬‬
‫ال خصبـ ًا يف جمـال توليد امليمات‪ ،‬حيث جيري‬‫ُت َعـدُّ األفلام حق ً‬
‫املفضلين‪ ،‬احلبـكات القويـة‪ ،‬واالقتباسـات املؤثـرة‬
‫دمـج املمثلين َّ‬
‫ضمـن النفـس البرشيـة اجلمعيـة‪ .‬ومـن األمثلـة على ذلـك العبارة‬
‫الشـهرية «اعزفهـا جمـدد ًا يـا سـام ‪ »play it again، Sam‬املأخـوذة‬
‫تداول ًة حتـى اليوم رغم‬
‫مـن فيلـم ‪ Casablanca‬والتـي مـا زالـت ُم َ‬
‫تصحيـف للعبـارة األصليـة الـواردة يف الفيلم وهـي «اعزفها‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫أهنـا‬
‫يـا سـام ‪ .»play it Sam‬كما نجـد أمثلـة أخـرى ال حتصى عـدد ًا يف‬
‫الثقافـة مثـل العبـارة «كيلـروي كان هنـا ‪ »Kilroy was here‬التـي‬
‫انتشرت يف أثنـاء احلـرب العامليـة الثانيـة‪ ،‬ويف الفلكلـور احلضري‬
‫أيضـ ًا مثـل أسـطورة «الرجـل ذو اليـد اخلطافيـة»‪َ .‬ي ِصـف دانييـل‬
‫‪149‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬
‫ِ‬
‫املعـادل النفيس لغـزو األجسـام»)‪.(12‬‬ ‫دينيـت امليمات بأهنـا‬
‫ربما تنبثـق امليامت‪ ،‬إذن‪ ،‬مـن الثقافة ال مـن التمثلات البدائية‪،‬‬
‫رغـم إن اكتشـافات علم النفـس التطوري تشير يف أغلب احلاالت‬
‫لا بني الثقافة وامليول اجلينية‪ .‬ت َُشـ ِّبه سـوزان بالك‬
‫إىل أن هنـاك تفاع ً‬
‫مـور ‪ Susan Blackmore‬العالقـة بين اجلينات والثقافـة بِك ٍ‬
‫َلب له‬
‫ِعنـان‪ ،‬حيـث العنـان هـو اجلينـات والكلب هـو الثقافة‪ .‬قـد يتمدد‬
‫الكلب بقوة‪ ،‬لكنه لن يسـتطيع اإلفلات منه أبد ًا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫العنـان ويسـح ُبه‬
‫تكتـب بالكمـور أن «التطـور امليموطيقـي ‪memetic evolution‬‬
‫يعنـي أن النـاس خمتلفون‪ .‬حيـث إن قدراهتم عىل املحـاكاة والتقليد‬
‫آخـر يعمـل لتحقيق مصلحتـه اخلاصـة ويمكنه أن‬ ‫ِ‬
‫متضاعفـ ًا َ‬ ‫ختلـق‬
‫ينتِـج سـلوك ًا تكيفيـا على املسـتوى امليمـي لكنـه ليـس ِ‬
‫تكيف ًّيـا عىل‬ ‫ًّ‬ ‫ُ‬
‫لا جـد ًا أحيانـ ًا‪ ،‬لكن‬ ‫ِ‬
‫املسـتوى البيولوجـي‪ ...‬يصبـح العنـان طوي ً‬
‫الكلـب لن يسـتطيع اهلـرب منه أبـد ًا»)‪.(13‬‬
‫إذن فأقـوى أنـواع امليامت تأثير ًا هي تلك التي تنبـع من داخلنا‪.‬‬
‫يكتـب ريتشـارد بـرودي ‪ Richard Brodie‬أن «التطـور امليمـي‬
‫ينتخـب األفـكار واملعتقـدات واملواقف واألسـاطري األعلى صوت ًا‬
‫التـي حتظـى باالهتمام األكبر مـن ِق َب ِلنـا‪ .‬و ُدون التدخـل الواعـي‪،‬‬
‫فـإن مـا حيـدِّ د إهيـا أعلى صوتـ ًا وأهيـا حيظـى باالهتمام األكبر هو‬
‫الشـبك ُة املعقـدة من املشـاعر والغرائز والشـهوات واملخـاوف التي‬
‫تطـورت لتسـاعدنا على البقـاء والتـزاوج»)‪ .(14‬وأفلام الزومبـي‬ ‫ْ‬
‫نموذجـي على ميمة انتشرت عن طريـق التفاعل بين الثقافة‬ ‫ٌّ‬ ‫ٌ‬
‫مثـال‬
‫والتمثلات البدائية‪.‬‬
‫‪150‬‬
‫الف�صل الثالث‬

‫الفودو في األفالم‬

‫منـذ تأسـيس الواليـات املتحـدة‪ ،‬كان الفـودو ح ًّيا ونشـط ًا فيها‬


‫بسـبب اسـترياد الرقيـق مـن إفريقيـا يف تلـك احلقبـة‪ ،‬فقـد جلـب‬
‫الرقيـق معهـم أدياهنـم‪ .‬وتبينِّ لنا أغنيـة كول بورتـر ‪Cole‬‬
‫ُ‬ ‫أولئـك‬
‫‪( Porter‬أنـت تفعـل يب شـيئ ًا مـا ‪)You Do Something To Me‬‬
‫الصـادرة عـام ‪ 1929‬والتـي تُشير إىل تأثير الفـودو‪ ،‬تبينِّ لنـا أن‬
‫األخير أصبـح جـزء ًا مـن الثقافـة الشـعبية أيضـ ًا‪َ .‬و َص َلتنـا ميمـة‬
‫الزومبـي عـن طريـق ديـن الفـودو القديـم هـذا‪ ،‬باإلضافـة إىل‬
‫أثـر يف‬
‫ذلـك‪ ،‬كان لألصـل األجنبـي الدخيـل لفلكلـور الزومبـي ٌ‬
‫جعلـه موضوعـ ًا مثال ًّيـا ألفلام الرعب‪ .‬مـن اجلديـر بالذكـر أيض ًا‬
‫إن تسـمية «زومبـي ‪ »zombie‬ذاهتـا ليسـت دقيقـة لوصـف أفلام‬
‫الزومبـي التـي نشـاهدها‪ ،‬حيـث إن الزومبـي الذيـن نشـاهدهم يف‬
‫ٍ‬
‫حـال صنيعـ ًا ملشـعوذي الفـودو‪.‬‬ ‫بـأي‬
‫السـينام ليسـوا ِّ‬
‫يمارس ماليين النـاس يف إفريقيـا‪ ،‬هاييتـي‪ ،‬أمريـكا الوسـطى‬
‫طقـوس الفـودو ‪( Voodoo‬يسـمى‬
‫َ‬ ‫واجلنوبيـة والواليـات املتحـدة‬
‫أحيانـ ًا بالفـودون أيضـ ًا ‪ )Vodoun‬والسـانترييا ‪ ،Santeria‬وهـي‬
‫ديانـة مشـاهبة للفـودو‪ ،‬ويدمـج كالمهـا الكاثوليكيـة الرومانية مع‬
‫ٍ‬
‫إفريقية قديمـة‪ .‬يف طقوس الفـودو االنتشـائية‪ ،‬والتي يرشف‬ ‫ٍ‬
‫طـرق‬
‫عليهـا كاهـن فـودو يعـرف باهلوگـون ‪ ،hougon‬يقـال إن األفـراد‬
‫ٍ‬
‫سـعار‬ ‫أرواح تدعـى باللـوا ‪ ،loa‬مـن ثـم يصابـون بنوبة‬
‫ٌ‬ ‫«تركبهـم»‬
‫ويتكلمـون بِ ُل َغـة اللـوا‪ .‬يف تـراث الفـودو‪ ،‬ال تُعـدُّ كائنـات اللـوا‬
‫أي كما القديسين يف التراث‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫اخلارقـة آلَـة بـل كيانـات وسـيطة‪ْ ،‬‬
‫‪151‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫الكاثوليكـي الرومـاين‪ ،‬وتقـع يف مكانـة وسـط بين البشر واخلالق‬


‫األعلى‪ ،‬الـذي يوجد على مبعدة مـن َ‬
‫العال املـادي‪ .‬يزعـم فلكلور‬
‫الفـودو والسـانتاريا أنَّـه ُيمكـ ُن إحيـا ُء املوتـى مـن ِق َبـل السـحرة‬
‫ٍ‬
‫كعبيـد ال يعصـون أمر ًا هلؤالء السـحرة)‪.(15‬‬ ‫األرشار السـتخدامهم‬
‫نجـاح فيلـم ‪ Dracula‬الـذي أنتجتـه رشكـة يونيفريسـال‬ ‫ُ‬ ‫َم َّهـد‬
‫الطريـق أمـام إنتـاج عـدد أكرب مـن أفالم الرعـب‪ .‬ويف‬
‫َ‬ ‫عـام ‪1931‬‬
‫العـام ‪ ،1932‬ظهـر فيلـم ‪ White Zombie‬وكان أول فيلـ ٍم يو ِّظف‬
‫فلكلـور الفـودو‪ .‬جتـري أحـداث الفيلـم يف هاييتـي‪ ،‬حيـث يـأيت‬
‫نيـل ومادلين املخطوبـان لبعضهما يف زيـارة لتشـارلز بومونـت‪،‬‬
‫لاك األرايض الزراعيـة؛ وخيططـان ألن يتزوجا هناك‪.‬‬ ‫أحد كبـار ُم َّ‬
‫ـول مادلين إىل زومبـي على يـد أحد أسـاطني هذا‬ ‫تتتبـع احلبكـ ُة َ َت ُّ‬
‫ٍ‬
‫بتكليف من‬ ‫الفـن ويدعـى مـوردر (بيلا لوگـويس ‪)Bela Lugosi‬‬
‫بومونـت‪ ،‬الـذي يريـد مادلني لنفسـه‪.‬‬
‫الفيلـم مـع امليلودرامـا قـدر ًا ال بـأس بـه مـن تـراث‬
‫ُ‬ ‫يمـزج‬
‫الزومبـي‪ ،‬الـذي يبـدو مأخـوذ ًا مـن كتـاب ‪The Magic Island‬‬
‫الـذي نُرش عـام ‪ 1929‬للكاتـب ويليـام يب‪ .‬سـيربوك ‪William B.‬‬
‫‪ .Seabrook‬يزعـم سـيربوك أنـه رأى ُ‬
‫بـأم عينيـه الزومبـي يعملون‬
‫يف املـزارع كعبيـد‪ .‬ويرتدد صـدى سـيربوك يف أحد مقاطـع الفيلم‪:‬‬
‫فعلى الطريـق إىل منـزل بومونـت‪ ،‬يـرى نيـل ومادلين طابـور ًا من‬
‫الرجال يمشـون مشـي ًة متعثـرة‪ ،‬فيقول احلـوذي خماطب ًا نيـل‪« :‬ليس‬
‫هؤالء برش ًا‪ ،‬سـيدي‪ ،‬إهنم أجسـا ٌم ميتة‪ ...‬زومبـي! املوتى األحياء‪،‬‬
‫ـذ ْت مـن قبورهـا لتعمـل يف مصانـع وحقـول السـكَّر يف‬ ‫جثـث ُأ ِخ َ‬
‫ٌ‬
‫‪152‬‬
‫الف�صل الثالث‬

‫الليـل»‪ .‬وقـد ورد احلـوار ذاتـه حرف ًّيـا تقريبـ ًا يف كتـاب سـيربوك‪.‬‬
‫الفيلـم أنواعـ ًا أخـرى مـن الفلكلور حـول الفـودو‪ ،‬حيث‬ ‫ُ‬ ‫يسـتغل‬
‫يمارس مـوردر سـحر الفـودو باسـتخدام الدمى الشـمعية‪.‬‬
‫إذن‪ ،‬هبـذه الطريقـة املتواضعـة شـقت ميمـة الفـودو جذورهـا‬
‫أي بتجسـيدها لت ََم ُّثـل االسـتحالة البدائي عىل الشاشـة‪.‬‬
‫يف السـينام‪ْ ،‬‬
‫آخـر؛ واخلطر يتهدد بشـكل رئيس‬ ‫يقـوم مـوردر بتحويل البشر إىل َ‬
‫املـرأة البيضـاء‪ ،‬التـي كان معظـم مشـاهدي األفلام آنـذاك يروهنا‬
‫حاملـ َة اإلرث اجلينـي‪ .‬يف مـا خيـص اسـتمرارية فلكلـور الزومبي‪،‬‬
‫تكتـب سـوزان گـودين ليـا ‪ Suzanne Goodney Lea‬إن جاذبيـ َة‬
‫هـذه الظاهـرة كما تقدمهـا ثقافـة الفـودو إنما تكمـن يف الرغبـة‬
‫حموري يف‬
‫ٌّ‬ ‫دور‬
‫باالسـتحواذ والسـيطرة ‪ . 16‬وقـد كان لتلـك الرغبـة ٌ‬
‫) (‬

‫فيلـم ‪ White Zombie‬وغيره مـن أفلام الزومبـي يف الثالثينيـات‬


‫واألربعينيـات مـن القـرن املـايض‪ ،‬سـواء كانـت هيمنة جنسـية أو‬
‫أشـكاالً أخـرى مـن اهليمنة واالسـتغالل‪ .‬نـرى ذلـك يف أفالم من‬
‫قبيـل ‪King of the Zombies ،)1936( Revolt of the Zombies‬‬
‫(‪ )1941‬و ‪ Revenge of the Zombies‬عـام ‪ 1943‬وغريهـا مـن‬
‫أفلام رعـب الزومبـي التـي كانـت تعـرض أيـام السـبت ضمـن‬
‫عـروض اخلصومات‪.‬‬
‫مـن أفضـل أفالم الزومبـي املبكرة كان فيلـم ‪I Walked with a‬‬
‫‪ Zombie‬عـام ‪ 1943‬مـن كالسـيكيات املنتج والروائي فـال ليوتن‬
‫الفيلـم يف حبكتـه روايـ َة جين آيـر ‪Jane‬‬
‫ُ‬ ‫‪ ،Val Lewton‬ويسـتلهم‬
‫‪ Eyre‬للكاتبـة تشـارلوت برونتـي ‪ .Charlotte Brontë‬تـأيت بيتيس‬
‫‪153‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬
‫ٍ‬
‫كاريبيـة لتعتنـي‬ ‫ٍ‬
‫جزيـرة‬ ‫كونيـل (فرانسـيس دي ‪ )Frances Dee‬إىل‬
‫بجيسـيكا‪ ،‬زوجـة بـاول هوالنـد (تـوم كونـواي ‪)Tom Conway‬‬
‫مـرض نفسي‪ .‬يو ِّظـف‬ ‫ٍ‬ ‫لاك األرايض‪ ،‬التـي تعـاين مـن‬ ‫أحـد ُم َّ‬
‫الفيلـم فلكلـور الفـودو املعتاد حيث نجـد كاهن ًا (هوگـون)‪ ،‬م ْعبد ًا‬
‫ُ‬
‫(ويدعـى هومفـورت يف فلكلـور الفـودو)‪ ،‬واحتفـاالت شـعائرية‬
‫كثير منهـا بالزومبـي‪ ،‬كما نجـد دمـى الفـودو والكثير من‬ ‫ٌ‬ ‫يتعلـق‬
‫اإلشـارات إىل أرواح اللـوا‪ُ .‬ي َل ِّمـح املنتج فال ليوتـن واملخرج جاك‬
‫تورنـور ‪ Jacques Tourneur‬إىل أن جيسـيكا هـي زومبـي‪ْ ،‬‬
‫وإن مل‬
‫نحـو قطعـي‪ ،‬رغـم أن خامتـة الفيلـم تعطـي‬ ‫ٍ‬ ‫يرصِّ حـا بذلـك على‬
‫ا ُملشـاهد انطباعـ ًا أن املرأة تعرضت إىل التحويـل وأصبحت زومبي‪.‬‬
‫عمال املزرعة الذين‬‫الفيلـم الفـودو إليضاح التعـارض بني َّ‬ ‫ُ‬ ‫يو ِّظـف‬
‫ُج ِلبـوا إىل اجلزيـرة كعبيد بما حيملونه مـن ثقافة وديـن‪ ،‬وبني جمتمع‬
‫لاك األرايض الصغير مـن البِيـض‪ ،‬حيـث يفصـل بينهـم ٌ‬
‫بـون‬ ‫ُم َّ‬
‫الفيلـم هلـذا البـون بين املجموعتني بتمثـال مقدمة‬
‫ُ‬ ‫شاسـع‪ .‬ويرمـز‬
‫متثال لـ»تـاي ميزري»‬ ‫السـفينة التـي ُج ِلب هبا هـؤالء العبيد‪ ،‬وهـو ٌ‬
‫(القديـس سيباسـتيان)‪ ،‬مرضوبـ ًا بالسـهام ويظهـر يف باحـة منـزل‬
‫هوالند‪.‬‬
‫بطرائـق أخـرى عديـدة‪،‬‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫يظهـر الفيلـم التبايـن بين الثقافـات‬
‫التعـارض بين السـيدة رانـد‪ ،‬التـي تصبـح كاهنـة فودو‬
‫ُ‬ ‫مـن ذلـك‬
‫لكـي جتعـل املواطنين يوافقون على اسـتخدام الطـب احلديث من‬
‫الفيلم‬
‫ُ‬ ‫جهـة‪ ،‬وبين سـابرير‪ ،‬مواطـن أسـود وسـاحر فـودو‪ .‬يركِّـز‬
‫على قـوة الفـودو الـذي يامرسـه سـابرير باسـتخدام الدمـى لكـي‬
‫‪154‬‬
‫الف�صل الثالث‬
‫ِ‬
‫يسـيطر على جيسـيكا البيضـاء‪ ،‬يف رصا ٍع ع ٍّ‬
‫رقـي كان يثير الرعـب‬
‫جو من‬ ‫عـام ‪ .1943‬يوافـق الفيلـم مقاييـس ليوتـن للرعـب بِ َخ ِّ‬
‫لـق ٍّ‬
‫التجهـم باسـتخدام اإلنـارة والظلال والصـوت دون عرض عنف‬
‫حقيقـي‪ ،‬كل ذلـك بمـوازاة الصراع العرقـي بين جمتمـع البِيـض‬
‫وجمتمع السـود‪.‬‬
‫يشير كيلي بيشـوب ‪ Kyle Bishop‬إىل أن أفلام الزومبـي‬
‫املبكـرة كانـت تعـزز التحيـزات الثقافيـة اإلمربياليـة البيضـاء)‪،(17‬‬
‫ٍ‬
‫بوضـوح يف الفيلـم الـذي نناقشـه اآلن وكثري غريه‬ ‫كما يتبين ذلـك‬
‫مـن أفلام الزومبـي املبكـرة‪ .‬مـع أن الفـودو مل ُيسـتَخدم كإطـار‬
‫عـام يف مجيـع تلـك األفلام‪ ،‬إال أن أفلام الزومبي املبكرة تتشـارك‬
‫اسـتخدام ذات احلبكـة‪ ،‬وفيهـا يكـون الزومبي عبارة عـن مواطنني‬
‫ٍ‬
‫أنـاس قوقازيين يف بلدان‬ ‫أصليين يتعرضـون لالسـتعباد بواسـطة‬
‫أجنبيـة نائيـة‪ .‬لكـ ْن حتت هذا النقـد ما بعـد الكولونيـايل يف احلبكة‪،‬‬
‫أعمـق وأشـدُّ ثباتـ ًا‪ :‬اخلـوف البدائـي من َ‬
‫اآلخـر ومن‬ ‫ُ‬ ‫يكمـن يش ٌء‬
‫االسـتحالة‪ ،‬وهـو التمثـل الـذي نشـأت عنـه ميمـة الزومبـي كما‬
‫نعرفهـا‪ .‬تنطبـق على الزومبـي متامـ ًا مواصفـات َ‬
‫اآلخـر‪ ،‬لكنـه يف‬
‫نفـس الوقـت واحـد منـا تعـرض للتحويل‪.‬‬
‫على الرغـم مـن انحسـار زومبـي الفـودو مـن السـينام إىل حـد‬
‫كبير مـع بدايـة السـتينيات‪ ،‬إال إن نوعـ ًا جديـد ًا مـن الزومبي حل‬
‫ـع جيمـي راسـل ‪ Jamie Russell‬قائمـ ًة‬ ‫حمـل النـوع القديـم‪َ .‬و َض َ‬
‫مـن ‪ 287‬فيلم ًا للزومبي أو شـبيه ًا بأفلام الزومبي منـذ عرض فيلم‬
‫‪ White Zombie‬وحتـى نشر كتابـه‪The Book of the Dead:‬‬

‫‪155‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫‪ The Complete History of Zombie Cinema‬عـام ‪.18)(2005‬‬


‫منـذ ذلـك احلين‪ ،‬اجتاحـت أفلام الزومبـي السـينام بلا انقطـاع‪،‬‬
‫حتـى ترسب هـذا اجلنس مـن األفلام إىل التلفزيـون أيضـ ًا‪ْ .‬‬
‫مثلت‬
‫روايـة ريتشـارد ماثيسـون ‪ I Am Legend‬حجـر األسـاس مليمـة‬
‫الزومبـي كما نعرفهـا اليـوم ولكنهـا اسـتخدمت نوعـ ًا خمتلفـ ًا متام ًا‬
‫مـن الزومبـي‪َ .‬دشـن ماثيسـون الرعب الرئيـس لقيامـة الزومبي يف‬
‫ـت التمثلات البدائيـة يف الروايـة كاالسـتحالة‬ ‫روايتـه‪ .‬كذلـك َد َّق ْ‬
‫والقبليـة واإلقليميـة واخلـوف من اآلخـر جرس اإلنـذار يف الوعي‬
‫الشـعبي ممـا سـاعد على خلق امليمـة وترسـيخها يف السـينام‪.‬‬
‫يف بداية الرواية‪ ،‬يفشـل البطل روبرت نيفيـل ‪Robert Neville‬‬
‫يف إقنـاع املسـؤولني بـأن كارثـ ًة على وشـك الوقـوع‪ .‬يوضـح‬
‫ماثيسـون أسـباب االنتشـار الرسيـع للوبـاء يف الرواية باقتباسـه من‬
‫روايـة دراكـوال لبرام سـتوكر عىل لسـان بطلـه نيفيـل‪« :‬تكمن قوة‬
‫أن اجلميـع ينكـرون وجوده‪ .‬شـكر ًا‬ ‫النـزاف (مصـاص الدمـاء) يف َّ‬ ‫َّ‬
‫لـك دكتـور فـان هيلسـنگ»)‪ .(19‬كما النـزاف يف روايـة سـتوكر‪،‬‬
‫آخرين‪،‬‬ ‫يقـوم الزومبـي بنرش العـدوى يف ضحاياهـم مما حيوهلـم إىل َ‬
‫ويسـتأصلهم مـن ثـم مـن إرثنـا اجلينـي‪ .‬يمكن أيضـ ًا تفسير قيامة‬
‫إسـقاط عىل االندسـاس الشـيوعي‪ ،‬يف رواية ماثيسون‬ ‫ٌ‬ ‫الزومبي بأنه‬
‫وبعـض أفلام الزومبـي أيض ًا‪.‬‬
‫بمزيـج ٍ‬
‫مثير من تـراث الزومبـي والنزافني‪ُ ،‬ت َغطـي الرواية فرتة‬ ‫ٍ‬
‫ٍ‬
‫سـنوات تتلـو مـا يمكـن أن نصفـه قيامـة الزومبـي الروائية‬ ‫ثلاث‬
‫األوىل‪ ،‬والتـي جعلهـا ماثيسـون حتـدث يف العـام ‪ ،1976‬حيـث أن‬
‫‪156‬‬
‫الف�صل الثالث‬

‫نيفيـل هـو آخـر مـن تبقـى مـن البشر‪ ،‬إذ مل ُي َصـب باملـرض ألن‬
‫جسـمه كان منيعـ ًا (يظهـر أنـه تعـرض لعـدوى خفيفـة منه سـابق ًا‬
‫حو َل ْت العـدوى مجيع‬
‫مـا أكسـبه أجسـام ًا مضادة يف جسـمه)‪ ،‬بينما َّ‬
‫سـكان العـامل إىل نزافين وزومبـي يف الوقـت ذاتـه‪ .‬يعيـش نيفيـل‬
‫لوحـده يف ٍ‬
‫بيـت ُم َ َّصـن‪ ،‬إقليمه اخلـاص‪ ،‬فيام حيـاول الزومبي النيل‬
‫منـه كل ليلـة‪ .‬يكتشـف نيفيـل أن حالـة الزومبي‪ -‬مصـاص الدماء‬
‫ٍ‬
‫جسـيامت ينقلهـا البعـوض‬ ‫تنشـأ عـن عـدوى بكترييـة ناجتـة عـن‬
‫والريـاح لتصيـب اجلميع (بام فيهـم زوجته وابنتـه) باملرض‪ .‬يموت‬
‫املصابـون ولكنهـم يقومـون مـن موهتـم‪ ،‬حتـى إهنـم يسـتطيعون‬
‫اخلـروج مـن قبورهـم لـو كانـوا قـد ُق ِ‬
‫بروا‪ ،‬كام حـدث مـع زوجته‬
‫التـي قتلهـا بعـد تعرضهـا للعـدوى وظـن أن األمـر قد انتهـى‪ ،‬إال‬
‫إهنـا عـادت مـن قربها‪ .‬يق ِّلـد ماثيسـون روايـة دراكوال لسـتوكر يف‬
‫مواصفـات الزومبي‪ -‬مصـايص الدماء يف روايتـه‪ :‬إذ إهنم يكرهون‬
‫ـم شـديدٌ للـدم واللحـم البشري‪ ،‬ينفـرون مـن‬ ‫املرايـا‪ ،‬لدهيـم َنَ ٌ‬
‫بغرز‬
‫الثـوم‪ ،‬خيافـون الصليـب‪ ،‬ال يطيقـون نور الشـمس و ُيقتَلـون ْ‬
‫ٍ‬
‫وتـد فيهـم‪ .‬بتقدم أحـداث الرواية‪ ،‬يوضح ماثيسـون أسـباب ًا علمية‬
‫بدرجـات خمتلفـة هلـذه الظواهـر‪ .‬لكنهـم – وكما أصبـح شـائع ًا يف‬
‫ميمـة الزومبـي الحق ًا يمشـون مشـي ًة متثاقلـة باحثني عـن فرائس‪.‬‬
‫تُركِّـز الروايـة على َت َ ُّثـل اخلوف مـن َ‬
‫اآلخر على صعيديـن‪ :‬رصاع‬
‫ٍ‬
‫جمموعـة مـن الناجين أصيبوا‬ ‫نيفيـل مـع الزومبـي‪ ،‬ورصاعـه مـع‬
‫معين ولكنهم اهتدوا إىل عقـار يقيهم أن يتحولوا‬
‫َّ‬ ‫بالعـدوى إىل حدٍّ‬
‫إىل زومبـي بالكامل‪.‬‬
‫‪157‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫عندمـا كتب ماثيسـون روايته تلـك‪ ،‬كان علم النفـس التطوري‬


‫يف طـوره اجلنينـي كعلم يقترص عىل األوسـاط األكاديميـة‪ ،‬ومل يكن‬
‫قـد انترش بين عامة الناس بعـد‪ .‬لك َّن الرواية تشـتغل عىل التمثالت‬
‫كهمسـات قادمـة مـن السـلوكيات واملخـاوف‬ ‫ٍ‬ ‫البدائيـة التـي ت ِ‬
‫َـر ُّن‬
‫التكيفيـة التـي ورثناهـا مـن أسلافنا البدائيين‪ .‬اسـتوىل متحولـو‬
‫العـال املتحضر‪ .‬ولكنهـم يطمعـون باحتالل‬ ‫َ‬ ‫الزومبـي على إقليـم‬
‫إقليـم نيفيـل الشـخيص أيضـ ًا‪ ،‬البيـت الـذي كسـاه بألـواح ومرايا‬
‫وعلـق عليـه الثـوم حلاميته منهـم‪ُ .‬مدافعـ ًا عن إقليمـه‪َ ،‬يقتـل نيفيل‬
‫لآلخـر‪ .‬كذلك‬ ‫الزومبـي بلا تـردد‪ ،‬ألهنـم قـد أصبحـوا مصداقـ ًا َ‬
‫آخـر بالنسـبة للنوعيـة اجلديـدة مـن البشر‪ ،‬القبيلـة األخرى‪،‬‬ ‫فهـو َ‬
‫َغيروا لكنهـم مل يتعرضـوا للتحويـل بالكامـل‪،‬‬ ‫أولئـك الذيـن ت َّ‬
‫ويعـاين نيفيـل االغتراب بين الطرفين‪ .‬حيظـى نيفيـل بمحادثة مع‬
‫روث‪ ،‬شـابة يافعـة مـن هـؤالء النـاس‪ .‬ليـس ِ‬
‫مفاجئـ ًا أن ختبره أن‬
‫قومهـا يبحثـون عنه بال هـوادة‪« :‬إهنم ُشـ َّبان‪َ .‬ق َت َلة – قتلـ ٌة ُمنتَدبون‪،‬‬
‫مرخصـون‪ ...‬يمكن أن يتعلـم الناس االسـتمتاع بالقتل‪ .‬هذه‬ ‫قتلـة َّ‬
‫اآلخـر بلا رمحة‬ ‫إن قتْـل َ‬ ‫قصـ ٌة قديمـة»‪ .‬وهنـا يلمـح ماثيسـون إىل َّ‬
‫ُكمل الفتاة‪« :‬بحسـب ما نعـرف‪ ...‬أنت‬ ‫جـزء من احلالـة البرشية‪ .‬ت ِ‬
‫ٌ‬
‫فريـدٌ جـد ًا مـن نوعـك‪ .‬عندمـا متوت‪ ،‬لـن يتبقـى أحدٌ مـن نوعك‬
‫يف جمتمعنـا « َقومي» خيشـونك جـد ًا يـا روبـرت‪ ،‬ويكرهونك‪ ،‬ولن‬
‫دمـت ح ًّيا»‪.‬‬
‫َ‬ ‫هيـدأ هلم ٌ‬
‫بـال مـا‬
‫ٍ‬
‫مقبول بالنسـبة للناس الذين‬ ‫نسـنتج من ذلك أن نيفيل كان غري‬
‫مل يمتلكـوا مناعتـه‪َ « .‬ق َّل َ‬
‫ـب نيفيـل نظـره يف سـكان األرض اجلـدد‪،‬‬
‫‪158‬‬
‫الف�صل الثالث‬

‫وقـد عـرف أنه ال ينتمـي إليهم؛ َع َرف أنـه كان‪ ،‬مثـل النزافني‪ ،‬لعن ًة‬
‫آخر‬ ‫ورعبـ ًا مقيم ًا بالنسـبة هلـؤالء النـاس اجلـدد‪ ...‬أنـا أسـطورة»‪ِ :‬‬
‫آخـر بالنسـبة للزومبـي والناس‬ ‫َمـن ت َب َّقـى مـن نوعـه‪ ،‬بمعنـى أنـه َ‬
‫اجلـدد أيضـ ًا‪ ،‬وسيسـعون حتم ًا إىل اسـتئصاله مـن بينهـم‪َ .‬ي ِصـف‬
‫ماتيـاس كاليسـن اهلمسـات التطوريـة التي ختلق عنصر الرعب يف‬
‫وقـادت إىل والدة ميمـة الزومبي الـذي أصبح من‬ ‫ْ‬ ‫روايـة ماثيسـون‬
‫أهـم موضوعـات األفلام‪« :‬لرعب الزومبـي املعـارص خصيصتان‬
‫ُي َع ِّرفانـه‪ ،‬االفتراس ونشر العـدوى‪ ،‬وكلتامهـا تتيحان لـه التفاعل‬
‫ـورة لل ُبنْية السـيكولوجية‬ ‫ٍ‬
‫مبـارش مع اآلليـات الدفاعيـة ا ُمل َط َّ‬ ‫بشـكل‬
‫البرشيـة‪ .‬فنحـن نخـاف الكيانـات التي لدهيـا الرغبة والقـدرة عىل‬
‫إن لدينـا نفـور ًا شـديد ًا جتـاه األشـياء التـي قـد تسـبب‬ ‫أكلنـا‪ ،‬كما َّ‬
‫العدوى» )‪.(20‬‬
‫فـت ثالثـ ُة أفلا ٍم روايـ َة ماثيسـون بما فيهـا مـن الرعـب‬ ‫َو َّظ ْ‬
‫واألسـى املصاحب لتمثل االسـتحالة مـن ِق َبل الزومبـي‪ .‬كان أوهلا‬
‫فيلـم ‪ The Last Man on Earth‬عـام ‪ 1964‬مـن بطولـة فينسـنت‬
‫برايـس ‪ ،Vincent Price‬ثـم فيلـم ‪ The Omega Man‬عـام ‪1971‬‬
‫مـن بطولة تشـارلتون هيسـتون ‪ ،Charlton Heston‬وأخير ًا فيلم ‪I‬‬
‫‪ Am Legend‬عـام ‪ 2007‬مـن بطولـة ويـل سـميث ‪.Will Smith‬‬
‫يسـتلهم الفيلم األول رواي َة ماثيسـون حرف ًّيا تقريب ًا‪ ،‬كام إن ماثيسون‬
‫سـاهم بكتابـة السـيناريو ولكـ َّن املنتَج النهائـي مل يعجبه فاسـتخدم‬
‫اسم ًا مسـتعار ًا يف قائمـة املسـامهني بصناعـة الفيلم‪ .‬يف هـذا الفيلم‪،‬‬
‫تنتشر العـدوى نتيجـة التعـرض هلجـو ٍم باألسـلحة البيولوجيـة‬
‫‪159‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬
‫ٍ‬
‫حـرب مع الصين‪ ،‬فيموت معظـم الناس عدا نيفيـل (الذي‬ ‫خلال‬
‫ـل مضـاد للمـرض) وجمموعـة صغيرة مـن‬ ‫اسـتطاع صناعـة َم ْص ٍ‬
‫الفيلـم القضايـا السـائدة يف ثقافـة تلك‬
‫ُ‬ ‫الناجين املختبئين‪ .‬يمـزج‬
‫احلقبـة مـع اخلـوف مـن الشـيوعية بوصفهـا اسـتحالة‪ ،‬إىل جانـب‬
‫ٍ‬
‫متثلات بدائيـة أخـرى‪ .‬يبتعـد فيلـم ‪ The Omega Man‬إىل درجـة‬
‫معتبر ٍة عـن ِّ‬
‫خـط الروايـة األصليـة‪ ،‬حيـث حيتـوي فروقـ ًا عديـدة‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫حـرب هنائيـة مد ِّمـرة مـع الصين أو روسـيا‪،‬‬ ‫تعكـس اخلـوف مـن‬
‫آخـر على التقاطعـات بين الثقافـة والتمثلات البدائيـة‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫مثـال َ‬ ‫يف‬
‫مسـخون ويتغيرون جسـدي ًا‪،‬‬ ‫تنجـو طائفـ ٌة مـن النـاس ولكنهـم ُي َ‬
‫ويقودهـم رجـل يدعـى ماتيـاس‪ .‬تعكـس هـذه الطائفـ ُة عنصر ًا‬
‫َ‬
‫أخـر مـن العنـارص املكونـة لثقافـة السـبعينيات‪ ،‬ففي تلـك الفرتة‪،‬‬
‫أوجـه‪ .‬تُدعى طائفة ماتيـاس بالعائلة‬
‫كان اخلـوف مـن الطوائف يف ِّ‬
‫‪ ،Family‬وربما يكـون ذلـك إسـقاط ًا على طائفـة عائلـة مانسـون‬
‫‪ Manson Family‬التـي قامـت بأعامل قتل ابتدا ًء مـن العام ‪.1969‬‬
‫هكـذا يعـرض الفيلم ِعـدة قبائل مـن َ‬
‫اآلخرين‪ ،‬ا ُملسـوخ والناجون‬
‫مغترب عـن املجموعتني‬
‫ٌ‬ ‫الذيـن عثـر عليهـم نيفيـل‪ ،‬لكـن نيفيـل‬
‫(كما يف الروايـة متامـ ًا)‪ .‬تقـود ليـزا‪ ،‬إحـدى الناجين‪ ،‬تقـود نيفيـل‬
‫ٍ‬
‫بشـكل‬ ‫إىل مـكان جمموعتهـا وحتدثه قائلـة‪« :‬أنـت ال تنتمي إلينا‪...‬‬
‫مـا أنـت ختيفنـي أكثـر مـن ماتيـاس نفسـه»‪ .‬يتعطـش كل أحـد يف‬
‫اآلخريـن‪ ،‬وكام‬
‫الفيلـم لقتـل أولئـك الذيـن ال ينتمـون إىل قبيلتـه‪َ ،‬‬
‫يف التوظيفـات السـينامئية األخـرى للروايـة‪ ،‬فـإن مناعـة نيفيل ضد‬
‫ً‬
‫دخيلا عىل احلـوض اجليني لـكال املجموعتني‪.‬‬ ‫االسـتحالة جعلتْـه‬
‫‪160‬‬
‫الف�صل الثالث‬

‫بالوصـول إىل التوظيـف السـينامئي الثالـث للروايـة الصـادر‬


‫عـام ‪ 2007‬وحيمـل اسـم الروايـة ذاتـه‪ ،‬نجـد أن الفيلـم ال يتبـع‬
‫خـط أحـداث الروايـة حرف ًّيا ولكنـه يسـتلهم ُل َّبها‪ .‬كما يف الفيلمني‬
‫السـابقني‪ ،‬يبـدو نيفيـل الناجـي الوحيـد يف ُمف َتتَـح الفيلـم‪ ،‬إذا مـا‬
‫املخـرج‬
‫َ‬ ‫اسـتثنينا كلبـه‪ .‬سـاعد تطويـر املؤثـرات اخلاصـة احلديثـة‬
‫فرانسـيس لورانـس ‪ Francis Lawrence‬على تصويـر الدمـار‬
‫الفارة مـن حديقة احليوانات‬ ‫النهائـي لنيويورك‪ ،‬بام يف ذلـك البهائم َّ‬
‫الفيلـم الزومبـي أكثـر‬
‫ُ‬ ‫هائمـ ًة على وجوههـا يف الشـوارع‪ .‬جعـل‬
‫الدمـار يف هذا‬
‫ُ‬ ‫وآخرانيـ ًة مـن حيـث املظهـر أيضـ ًا‪ .‬نتـج‬ ‫انمسـاخ ًا َ‬
‫لفيروس ينتقـل بالرياح والـدم‪ ،‬حيث‬ ‫ٍ‬ ‫يض‬
‫عـر ٍّ‬
‫ترسب َ‬ ‫ٍ‬ ‫الفيلـم عـن‬
‫ال يمتلـك إال واحـدٌ باملائـة مـن البشر مناعـ ًة ضـده‪ .‬ال شـك أن‬
‫شي اإليبـوال واأليـدز قد عزز‬ ‫ت ََصـا ُدف عـرض الفيلـم مع فترة َت َف ِّ‬
‫الرعـب مـن َت َ ُّثل الدمـار العاملي‪ .‬علاو ًة عىل ذلك فـإن اخلوف من‬
‫كارثـة تنتـج عـن تسرب عوامـل بيولوجيـة ضـارة نتيجـة اإلمهال‬
‫قـد أصبـح معلم ًا قائم ًا بذاته يف جنـس أفلام الرعب‪ .‬كما يف رواية‬
‫املسـتمدَّ ين منهـا‪ ،‬يتحصـن نيفيـل‬
‫َ‬ ‫ماثيسـون والفيلمين السـابقني‬
‫يف هـذا الفيلـم داخل شـقته لالحتماء من ال َع َّساسين املمسـوخني‪،‬‬
‫لآلخريـن الذيـن تعرضـوا للتحويـل يف الفيلمين‬ ‫وهـم مناظِـرون َ‬
‫السـابقني‪ .‬م ْثـل فيلـم ‪ُ ،Omega Man‬يبقـي فيلـم ‪I Am Legend‬‬
‫ِ‬
‫بـاب األمـل مفتوحـ ًا للبرشية‪.‬‬
‫يف روايـة ماثيسـون ومجيـع التوظيفـات السـينامئية الثالثـة هلـا‪،‬‬
‫ِ‬
‫بـار ًة عـن رصا ٍع بين القبائـل‪« :‬نحـن» ضـد‬ ‫كان قا َل ُ‬
‫ـب امليمـة ع َ‬
‫‪161‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫«هـم»‪ ،‬الزومبـي الذيـن حياولـون إفسـاد احلـوض اجلينـي البرشي‬ ‫ُ‬


‫ٍ‬
‫ضـد بطل الفيلـم والروايـة إضافـ ًة إىل تعقيدات أخـرى مثل رصاع‬
‫احلال‬ ‫ٍ‬
‫بدرجة ما‪ .‬كما ُ‬ ‫البطـل مـع أولئك الذيـن نجوا مـن التحويـل‬
‫غالبـ ًا يف ميمـة الزومبـي‪ ،‬يتعرض البشر إىل ٍ‬
‫خطر من جهـة القبائل‬
‫األخـرى مـن أبنـاء نوعهـم ال يقـل تقريبـ ًا عن اخلطـر الـذي يمثله‬
‫الزومبـي على اجلميـع‪ .‬بمعنى أن هنـاك قبائل داخـل القبائل‪ ،‬وكل‬
‫آخـرون بالنسـبة هلا‪.‬‬
‫قبيلـة تـرى أفـراد القبائـل األخـرى على إهنم َ‬
‫يف روايـة ماثيسـون وتوظيفاهتـا السـينامئية الثالثـة‪ ،‬كانـت‬
‫التضحيـة بالنفـس موضوعـة شـائعة‪ .‬ولعلـم النفـس التطـوري‬
‫ـس التضحيـة مـن أجل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الكثير ليقولـه هنـا‪ ،‬مـن إنـكار داوكنـز ل ِّ‬
‫اجلامعـة عنـد أفـراد احليـوان إىل مفهـوم االجتامعيـة احلقيقيـة الذي‬
‫صاغـه إدوارد أوزبـورن ويلسـون‪ .‬مهما َيكُـن‪ ،‬يمكننـا أن نشـعر‬
‫ٍ‬
‫لقـدر من‬ ‫باللـذة اإلنابيـة جتـاه بقـاء نوعنـا – ولـو إنـه قـد تعـرض‬
‫تضحي�ة ي ْق ِ‬
‫�دم عليه�ا البط�ل‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫التغريـــ يف هناي�ة األفلام بفع�ل‬
‫ُ‬
‫يف العـام ‪ُ ،1968‬أنتِج فيلم ‪ Night of the Living Dead‬بتعاون‬
‫جـورج روميرو ‪ George Romero‬وجـون روسـو ‪،John Russo‬‬
‫حيـث اسـتطاعا معـ ًا تَدَ ُّبـر املـال اللازم إلنتـاج الفيلم كما عاوهنام‬
‫العديـد مـن أصدقائهما كممثلين ومسـاعدي إنتاج‪ ،‬مـع ذلك فإن‬
‫نسـب عـاد ًة إىل روميرو‪ ،‬ربما ألنه اسـتطاع أن‬ ‫الفضـل يف الفيلـم ُي َ‬
‫ٍ‬
‫خالف عىل‬ ‫حيقـق النجـاح بعد أن فـض الرشاكة مع روسـو بسـبب‬
‫الفيلـم روايـ َة ماثيسـون‬
‫ُ‬ ‫األجـزاء الالحقـة مـن الفيلـم‪ .‬ال يو ِّظ ُ‬
‫ـف‬
‫املذكـورة آنِفـ ًا‪ ،‬لكـن روميرو اعترف أن الروايـة كانـت رشارة‬
‫‪162‬‬
‫الف�صل الثالث‬

‫«قرأت كتابـ ًا عنوانه‬


‫ُ‬ ‫اإلهلـام للفيلـم‪ .‬فقد قـال يف إحدى املقابلات‪:‬‬
‫‪ I Am Legend‬لريتشـارد ماثيسـون وقـد أعجبتنـي جـد ًا األفـكار‬
‫االجتامعيـة السياسـية التـي يتناوهلـا الكتـاب‪ ،‬رغـم أنـه مل يشـتغل‬
‫كاف»)‪ .(21‬مـع مـا كان للفيلـم مـن بدايـة هامشـية‬ ‫عليهـا بعمـق ٍ‬
‫وتوزيـ ٍع حمـدود يف بدايـات عرضه‪ ،‬إال أنـه كان مؤ ِّثر ًا مـن حيث إنه‬
‫لسـبب قـد يراه املختصـون بعلم‬‫ٍ‬ ‫َخ َل َ‬
‫ـق ميمـ ًة مسـتمرة وقوية التأثري‬
‫النفـس التطـوري وجيه ًا جد ًا‪ .‬يلعـب فيلـم ‪Night of the Living‬‬
‫بعض مـن أهم التمثلات البدائيـة‪ .‬بكلفـة إنتاجه‬ ‫ٍ‬ ‫‪ Dead‬على وتـر‬
‫التـي بالـكاد جتاوزت مائـة ألف دوالر‪ ،‬حصـد الفيلـم أرباح ًا تقدر‬
‫بحـوايل ‪ 112‬مليـون دوالر يف الواليـات املتحـدة فقـط‪ ،‬ناهيك عن‬
‫ٍ‬
‫مصنـف حتت‬ ‫رقـم خيـا ٌّيل بالنسـبة لفيلم‬
‫األربـاح خارجهـا‪ ،‬وهـو ٌ‬
‫الصنـف ب ‪ B‬إ َّبـان تلك احلقبـة إذا أخذنا يف االعتبـار قيمة الدوالر‬
‫يف هنايـة السـتينيات‪ .‬مل ينـل روميرو وروسـو إال القليل مـن أرباح‬
‫الفيلـم‪ .‬ذلك إهنما كانا عموم ًا من صنـاع األفالم اهلـواة‪ ،‬فلم َيكونا‬
‫ُم ِل َّمين بالنواحـي الربحيـة هلـذه الصناعـة‪ ،‬وهكـذا باعـا حقـوق‬
‫بثمـن بخـس‪ .‬لكن الشـعبية التـي أحرزها الفيلـم والصنف‬ ‫ٍ‬ ‫الفيلـم‬
‫الفرعـي مـن الرعـب الـذي دشـنه يشيران إىل أن الفيلم َل َس شـيئ ًا‬
‫مؤسسـ ًا ميمـة الزومبي ابتدا ًء مـن جذوره يف‬ ‫يف نفوس املشـاهدين‪ِّ ،‬‬
‫الفلكلـور اإلفريقي مـرور ًا برواية ماثيسـون وتوظيفاهتا السـينامئية‪.‬‬
‫الفيلـم عا َلـ ًا مص َّغـر ًا للطبيعـة البرشيـة‪ .‬يأخذنـا ُمف َتتَـح‬
‫ُ‬ ‫َيصنـع‬
‫كل مـن باربـارا (التـي تعـرض‬ ‫الفيلـم إىل مزرعـة حيـث خيتبـئ ٌّ‬
‫أخوهـا للتحويـل يف مطلـع الفيلـم)‪ ،‬بين‪ ،‬تـوم‪ ،‬جـودي‪ ،‬هـاري‬
‫‪163‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫وهيلين وابنتهما كاريـن (التـي تعرضـت للعـض وتبـدو عليهـا‬


‫عالمـات االنمسـاخ)‪.‬‬
‫ٍ‬
‫متثلات بدائيـة‪ .‬إذ نجـد فيـه‬ ‫يلعـب الفيلـم على أوتـار أربعـة‬
‫ٍ‬
‫جمموعـات َق َبليـة‪ :‬الناجـون ضـد‬ ‫رصاعـ ًا بين مـا يمكـن عدُّ هـا‬
‫الزومبـي‪ ،‬والناجـون ضـد بعضهم بعضـ ًا‪ .‬يقطـن الناجـون إقلي ًام‪،‬‬
‫آخريـن‪ ،‬الذيـن‬ ‫بيتـ ًا هلـم‪ .‬ويواجهـون خطـر التحويـل على أيـدي َ‬
‫يقتلهـم بين بلا رمحـة باسـتخدام بندقيـة وجدهـا‪ .‬كما يف العديـد‬
‫مـن أفلام الزومبـي الالحقـة‪ ،‬يقاتِـل الناجـون بعضهـم بعضـ ًا كام‬
‫أي املمسـوخني‪ .‬يف هـذا الفيلم‪ ،‬جيسـد‬ ‫اآلخريـن الغـزاة‪ْ ،‬‬
‫يقاتلـون َ‬
‫بين وهـاري الصراع على رياسـة القبيلـة‪ .‬تتضمـن ستراتيجية‬
‫بين حتصين املنـزل وانتظـار املسـاعدة‪ ،‬بينما يصر هـاري على أن‬
‫ختتبـئ املجموعـة حتـت األرض‪ .‬ويف هـذا الصراع بين الزعيمين‬
‫على اهليمنـة‪ ،‬يقول بين‪« :‬اذهـب إىل القبو بنفسـك بحـق اجلحيم‪.‬‬
‫وكُـن الزعيـم هناك يف األسـفل‪ .‬أمـا هنا فأنـا الزعيم»‪ .‬يشير ديفيد‬
‫بـاراش إىل أن الوحـدات االجتامعيـة احليوانيـة غالب ًا مـا تكون حتت‬
‫سـلوكي شـائع عند البشر وغالب ًا‬ ‫مهيمـن»)‪ ،(22‬يف ٍ‬
‫نمط‬ ‫«فـرد ِ‬
‫ٍ‬ ‫قيـادة‬
‫ٍّ‬
‫الصراع‪ .‬لقـد أصبح الصراع من أجـل اهليمنـة داخل‬ ‫َ‬ ‫مـا يتضمـن‬
‫جمموعـة الناجين‪ ،‬املجموعـة التـي متثل – مـن منظور علـم النفس‬
‫التطـوري قبيلـ ًة تناضـل ضـد االسـتحالة‪ ،‬نعـم أصبـح عنصر ًا‬
‫مركز ًّيـا يف ميمـة الزومبـي كما تقدمـه األفلام‪ .‬أمـا مـن املنظـور‬
‫السردي‪ ،‬فـإن هـذا التنافـس على اهليمنـة يو ِّفـر‪ ،‬بالطبـع‪ ،‬مقاربـ ًة‬
‫خللـق رصا ٍع درامـي‪.‬‬
‫‪164‬‬
‫الف�صل الثالث‬

‫كما يف غيره مـن أفالم مـا بعـد الكارثـة‪ُ ، ،‬يسـتخدم التلفزيون‬


‫والراديـو يف هـذا الفيلـم كوسـيلة يعـرف هبـا الناجـون املختبئـون‬
‫– ومشـاهدو الفيلـم أيضـ ًا أخبـار مـا حيـدث يف اخلـارج‪ .‬عـاد ًة‬
‫مـا ُيترك سـبب حتـول النـاس إىل زومبـي غامضـ ًا نوعـ ًا مـا‪ .‬يقول‬
‫مذيـع الراديـو يف هـذا الفيلـم أن أحـد ًا ال يعـرف مـا الذي تسـبب‬
‫ٍ‬
‫صـادر من قمر‬ ‫بعـدوى الزومبـي‪ ،‬لكنـه قد يكـون ناجت ًا من إشـعا ٍع‬
‫املذيـع املسـتمعني أيض ًا أن‬
‫ُ‬ ‫صناعـي عائد مـن كوكب الزهـرة‪ُ .‬يرب‬
‫يطلقـوا النـار على رؤوس الزومبـي لكـي يموتـوا فـور ًا‪ ،‬الوصفـة‬
‫التـي أصبحـت أساسـية يف العديـد مـن أفلام الزومبـي الالحقـة‪.‬‬
‫هيلـك مجيـع املختبئين يف املزرعـة‪ ،‬ويتنـاول الفيلـم بعـض القضايا‬
‫االجتامعيـة حينام يقـوم مفوض رشطـة أبيض بقتل بين‪ ،‬األمريكي‬
‫اإلفريقـي‪ ،‬وهو ليس زومب ًّيـا قطع ًا‪ .‬يبدو أن مفـويض الرشطة كانوا‬
‫كآخـر ال خيتلف عن‬ ‫يسـتمتعون بالقتـل وقـد رأوا الرجـل األسـود َ‬
‫الزومبـي مـن هـذه الناحية‪.‬‬
‫قالـب لِيمـة قيامـة الزومبـي‪ ،‬ولو‬‫ٍ‬ ‫الفيلـم على تأسـيس‬
‫ُ‬ ‫سـاعد‬
‫إن الفيلـم مل يؤسـس امليمـة على مجيـع األصعـدة‪ .‬خالفـ ًا لروايـة‬
‫ماثيسـون وأفلام الزومبـي التـي تلتـه‪ُ ،‬يسـتعاد األمـن واالنتظـام‬
‫يف هنايـة الفيلـم موضـع احلديـث‪ ،‬ويبـدو بعـض األمـل يف اللقطـة‬
‫اخلتاميـة‪ :‬للحضـارة على األقـل إن مل يكـن للطبيعة البرشية‪ .‬يشير‬
‫كآخريـن‪ .‬كما نـرى يف ٍ‬
‫كثري‬ ‫بوضـوح إىل هويتهـم َ‬ ‫ٍ‬ ‫َمظهـر الزومبـي‬
‫اآلخرانيـ َة‪ ،‬وهـو مـا ينطبـق عىل‬ ‫املظهـر َ‬
‫ُ‬ ‫مـن أفلام الرعـب‪ُ ،‬يـدِّ ُد‬
‫َـب ديزمونـد موريس عن «الشـارات»‬ ‫املظهـر البشـع للزومبـي‪َ .‬كت َ‬
‫‪165‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫ُعـرف هبويـات النـاس‪ :‬لـون البشرة‪ ،‬اإلثنيـة‪ ،‬الديـن وغري‬


‫التـي ت ِّ‬
‫كثير مـن العنارص التـي جتعلنـا نصنِّف مـن نراه عىل أسـاس‬
‫ٌ‬ ‫ذلـك‬
‫نحن‪/‬هـم‪ .‬يكتـب موريـس أن هـذا التصنيف هـو «رد فعل مجاعي‬
‫عميـق»‪ ،‬ضـد أولئـك الذين حيملـون شـارات ختتلف عن شـاراتنا‬
‫قـد جتعلنا نشـعر جتاههم باالرتيـاب أو اخلوف‪ ،‬من ثـم فإن «حاميل‬
‫ٍ‬
‫فـداء يف أقرب فرصـة»)‪ .(23‬جيدر أن‬ ‫الشـارات يتحولـون إىل أكباش‬
‫آخرانيـة الزومبي على الصعيـد السـلوكي واملظهري‬ ‫نذكـر هنـا أن َ‬
‫شـارات واضحـة‪ ،‬كما احلـال مـع لون بشرة بني األسـود‪.‬‬
‫ٌ‬
‫يسـجل توين ويليامز ‪ Tony Williams‬أن فيلم رومريو وروسو‬ ‫ِّ‬
‫قـد أدخـل البشـاعة التصويريـة إىل السـينام ممـا هيـأ السـتخدامها‬
‫الحق ًا يف أفالم السـبالتر ‪ ،splatter‬من خلال تصوير أكل الزومبي‬
‫ألحشـاء قتالهـم من البرش‪ .‬وهلـذا فإننا نستشـعر اللذة يف مشـاهدة‬
‫اآلخريـن –الزومبـي‪ -‬املفتوحـة بفعـل الرصـاص‬ ‫مجاجـم هـؤالء َ‬
‫عـادةً‪ ،‬حيـث ختتفـي مـن أذهاننـا كل إمكانيـة للتعاطـف معهـم أو‬
‫االمتنـاع عـن قتلهـم أو التامهـي معهـم بوصفهـم بشر ًا‪ ،‬ألهنـم‬
‫آخريـن‪ ،‬وقـد تبنت مجيـع أفلام الزومبـي الالحقة هذه‬ ‫حتولـوا إىل َ‬
‫الستراتيجية‪ .‬يـأكل الزومبي حلـوم البرش‪ ،‬وكام يف رواية ماثيسـون‪،‬‬
‫يعضوننا‪ .‬يف روايـة دراكوال‪ ،‬كان‬ ‫نتحـول «نحن» إىل «هـم» عندمـا ُّ‬
‫اآلخر يشـتهي‬
‫«الـدم هـو احليـاة»‪ ،‬أمـا هنـا – يف هـذا الفيلـم فـإن َ‬
‫اللحـم بـدالً من الـدم‪ ،‬مع ذلـك فإن املبـدأ واحد‪ .‬مـن منظور علم‬
‫النفـس التطـوري‪ ،‬فـإن اجلينات هي احليـاة‪ ،‬فهي ما جيعلنـا ما نحن‬
‫عليـه‪ُ .‬ت َعـدُّ رغبـة الزومبـي بـأكل األدمغة تطـور ًا مثري ًا هلـذه امليمة‪،‬‬
‫‪166‬‬
‫الف�صل الثالث‬

‫ذلـك إن أدمغتنـا الراقيـة جـد ًا هي مـا يميزنا عـن باقي أفـراد مملكة‬
‫احليـوان‪ ،‬كما أنـه العضـو الذي تطـور ليتيـح لنـا التكيـف والبقاء‪.‬‬
‫يعـزو بعـض النقـاد جاذبية ميمـة الزومبـي إىل الثقافـة‪ .‬ومنهم توين‬
‫مهم‬‫ويليامـز‪ :‬ال يمثـل فيلـم ‪ Night of the Living Dead‬تطويـر ًا ًّ‬
‫كل مـن الرعـب القوطـي ورعب‬ ‫ِ‬
‫تـراث ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫كبير يف‬ ‫وحقيق ًّيـا إىل حـدٍّ‬
‫الزومبـي فحسـب‪ ،‬لكنـه كان فيلم ًا ابتكار ًّيـا جعـل الزومبـي رمـز ًا‬
‫سـيكولوج ًّيا قو ًّيـا للتوترات واهلواجـس االجتامعيـة والثقافية»)‪.(24‬‬
‫الفيلم بأنه «النقـد األكثر رصام ًة‬
‫َ‬ ‫يصـف روبـن وود ‪Robin Wood‬‬
‫ألمريـكا املعـارصة يف تاريـخ األفالم األمريكيـة»)‪.(25‬‬
‫لكـ َّن هنـاك على أي حـال‪ ،‬شـيئ ًا أكبر من جمـرد التأثير الثقايف‬
‫يقـف وراء قوة جاذبيـة ميمة الزومبي‪ .‬يف رواية ماثيسـون وتوظيف‬
‫ٍ‬
‫كمزيـج مـن الثقافة‬ ‫روميرو السـينامئي هلـا‪ ،‬تُطـرح ميمـة الزومبي‬
‫ومهسـات التمثلات البدائيـة‪ ،‬يف َ َتس ٍ‬
‫ـد ممتـاز لتشـبيه بالكمور عن‬ ‫ُّ‬
‫الكلـب ِ‬
‫والعنان‪.‬‬
‫يف معظـم أفلام الزومبـي التـي تلتْه‪ ،‬كانـت احلبكـة ترتكز عىل‬
‫أست اخليـال الشـعبي يف فيلـم ‪Night of‬‬ ‫ذات التمثلات التـي َ َ‬
‫آخـر‪.‬‬ ‫‪ .the Living Dead‬يتبايـن مصـدر العـدوى مـن فيلـ ٍم إىل َ‬
‫الشـجاع ُة أليـس‬ ‫ِ‬
‫حتـارب ُ‬ ‫يف سلسـلة ‪ Resident Evil‬السداسـية‪،‬‬
‫صنعـت‬
‫ْ‬ ‫(ميلا جوفوفيتـش ‪ )Milla Jovovich‬رشكـ ًة رشيـر ًة‬
‫ذكاء اصطناعـي‪ ،‬صـور ٌة أخـرى مـن‬ ‫ٍ‬ ‫فريوسـ ًا باسـتخدام نظـام‬
‫اآلخـر‪ .‬باالنتقـال إىل فيلـم ‪ ،28 Days Later‬نتجـت العـدوى عن‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫بعض من‬ ‫ٍ‬
‫جمموعـة من نشـطاء حقوق احليـوان بإطلاق رساح‬ ‫قيـام‬
‫‪167‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫بفيروس ُصنِـع يف أحـد املختبرات‬


‫ٍ‬ ‫حيوانـات الشـبامنزي املصابـة‬
‫العلميـة‪ .‬أحيانـ ًا‪ ،‬كما احلـال يف املسلسـل التلفزيـوين الطويـل ‪The‬‬
‫‪ ،Walking Dead‬يكـون مصـدر الوبـاء موضـع َتك َُّهـن‪.‬‬
‫ُـرك املصدر غامضـ ًا يف فيلـم ‪ World War Z‬املنتَج عام‬ ‫كذلـك ت ِ‬
‫الفيلم أساسـه األديب إىل روايـة ‪World War Z: An‬‬ ‫ُ‬ ‫‪َ .2013‬ينسـب‬
‫‪Oral History of the Zombie Wars‬املنشـورة عام ‪ 2006‬للروائي‬
‫ماكـس بروكـس ‪ ،Max Brooks‬لكـ ْن تقريبـ ًا‪ ،‬ال يشء مش َ‬
‫ترك بني‬
‫لـب رواية‬
‫الروايـة والفيلـم إال العنـوان والزومبـي‪ .‬فمثلاً‪ ،‬يتمثل ُّ‬
‫مقابلات مـع بعـض الناجين مـن حـروب‬ ‫ٍ‬ ‫بروكـس يف إجـراء‬
‫الزومبـي بعـد انتهائهـا‪ ،‬وتتبع الروايـ ُة مصدر الوبـاء إىل الصني‪ ،‬أما‬
‫يف الفيلـم‪ ،‬فنـرى حمققـ ًا متقاعـد ًا يف األمم املتحدة يدعـى گاري لني‬
‫(بـراد بيـت ‪ )Brad Pitt‬وهو يسـعى إلنقاذ البرشية عمومـ ًا وعائلته‬
‫خصوصـ ًا‪ ،‬حيـث خيـوض رحلـ ًة ملحميـة للعثـور على مصـدر‬
‫العـدوى وإجيـاد عالج لالسـتحالة‪.‬‬
‫كما يف مجيـع أفلام جنـس الزومبـي‪ ،‬تَضرب حبكـ ُة الفيلـم‬
‫ٍ‬
‫بسـهولة‬ ‫عرض احلائـط‪ .‬إذ نرى أن الزومبي ينترصون‬ ‫ِ‬
‫االحتماالت َ‬
‫ال تصـدَّ ق‪ ،‬خصوص ًا يف الفصل املعنون ‪ ،Fall of Jerusalem‬حيث‬
‫نـرى البرش يسـتخدمون الرشاشـات والبنادق فقـط ملقاتلتهم‪ ،‬بدالً‬
‫مـن اسـتخدام األسـلحة الثقيلـة‪ .‬لكـن الفيلـم حيتـوي عنصر ًا من‬
‫مسـتوى‬
‫ً‬ ‫التمثلات البدائيـة تفتقـر إليه أفلام الزومبـي التي تعتمد‬
‫أكبر مـن احلسـية‪ :‬الرتكيز على العائلة‪ ،‬حيـث يسـتميت گاري لني‬
‫يف سـبيل إنقـاذ زوجتـه‪ ،‬طفليه‪ ،‬وابنـه بالتبني‪ .‬مـع أن الفيلم يعزف‬
‫‪168‬‬
‫الف�صل الثالث‬

‫على وتـر االسـتحالة‪ ،‬كام احلـال يف مجيع أفلام الزومبـي األخرى‪،‬‬


‫إال إنـه يركـز على حـب البطـل لعائلتـه‪ِ ،‬‬
‫آخـذ ًا احلبكـة بعيـد ًا وراء‬
‫ٍ‬
‫رسديـة‬ ‫رؤيـة داوكنـز البـاردة للتضحيـة بالنفـس‪ ،‬يف سـبيل بنـاء‬
‫مهمـة‪ .‬يعـزو املختصون بعلـم النفس التطـوري بناء ِ‬
‫نوعنـا للرابطة‬ ‫َ‬
‫الزوجيـة الثنائيـة والتامسـك العائلي إىل أمهيـة هاتين الظاهرتين‬
‫التكيفيـة يف البقـاء‪ .‬هكـذا فإننـا تطورنـا ألن نسـتجيب بالتشـجيع‬
‫ٍ‬
‫رجـل يدافع عـن عائلتـه‪ ،‬مسـتقبله اجليني الشـخيص‪.‬‬ ‫لرؤيـة‬
‫يف األغلبيـة السـاحقة مـن أفلام الزومبـي‪ ،‬يبقـى هيـكل امليمة‬
‫واحـد ًا يف العـادة‪ ،‬لكـن األفلام ختتلـف يف النهـج الدرامـي الذي‬
‫تتبعـه يف استكشـافه‪ .‬فمثلاً‪ ،‬ربما يتعلـم الزومبي احلركـة الرسيعة‬
‫قليل من الوعي‪ .‬يف فيلـم ‪،)2017( The Cured‬‬ ‫وقـد يصبح لدهيـم ٌ‬
‫عالج يف شـفاء معظم متحـويل الزومبي‪ .‬لكن النـاس الذين‬ ‫ٌ‬ ‫ينجـح‬
‫كآخر حتى بعد شـفائهم‪ .‬يتناول‬ ‫مل يصابـوا يصرون عىل معاملتهـم َ‬
‫الفيلـم االرتيـاب الـذي نتعامل به مـع ِّ‬
‫كل من ال ينتمي انتما ًء كام ً‬
‫ال‬
‫إىل جمموعتنـا ال َق َبلية‪.‬‬
‫تستكشـف بعـض األفلام االحتماالت الدراميـة للتفاعـل بني‬
‫األحيـاء وبين الالموتـى‪ .‬فمثلاً‪ ،‬نجـد يف فيلـم ‪Warm Bodies‬‬
‫ٍ‬
‫برشي‬ ‫زومبـي‬ ‫املنتـج عـام ‪2013‬قصـة حـب تتمحـور حـول و َل ٍ‬
‫ـد‬
‫ٍّ‬ ‫َ‬ ‫ٍّ‬
‫حبيـب إحـدى الفتيـات‬ ‫ِ‬ ‫يتخـذ اسـم آر ‪ R‬بعـد أن يـأكل دمـا َغ‬
‫البرشيـات‪ .‬ويبـدأ مـع وجبتـه الغذائيـة تلـك طري َقـ ُه نحـو البرشية‬
‫حيـث يقـع يف حـب تلـك الفتـاة‪ ،‬جـويل‪ .‬تذكرنـا هـذه الصـورة‬
‫بمرسحيـة روميـو وجولييت‪ ،‬حيـث القبيلتان مها البشر والزومبي‬
‫‪169‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫بـدل من مونتيگـو وكابوليـت‪ ،‬حتى إننـا نرى مشـهد ًا يذكرنا‬ ‫هنـا‪ً ،‬‬
‫ظـف فيلـم ‪Maggie‬‬ ‫بمشـهد الرشفـة يف املرسحيـة املذكـورة‪ .‬يو ِّ‬
‫أب البنتـه‪ .‬عندمـا تتعرض‬ ‫حـب ٍ‬
‫ِّ‬ ‫(‪ )2015‬ميمـة الزومبـي يف قصـة‬
‫ماگـي ابنـة ويد فوجيـل إىل عـدوى الزومبي عن طريـق العض‪ ،‬ثم‬
‫صحـي حيث ُي َْضـع املتحولـون واملصابون‬ ‫ٍّ‬ ‫تؤخـذ إىل مركـز َح ْج ٍر‬
‫بالعـدوى للقتـل الرحيـم‪ .‬يرص والدهـا ويـد (أرنولد شـوارزنيگر‬
‫‪ )Arnold Schwarzenegger‬على إعادهتـا إىل البيـت حيث يتعهد‬
‫للمسـؤولني أنـه سـيتخذ «اخليـار الثالـث» (أن يقتلهـا بنفسـه بدالً‬
‫احلجـر الصحـي) عندمـا حيين الوقـت‪ ،‬الوعـد‬ ‫مـن أن يقتلوهـا يف ْ‬
‫الـذي فشـل يف تنفيـذه يف النهايـة‪ .‬للفيلـم أمهيـ ٌة دراميـة أكبر ممـا‬
‫ملعظـم أمثالـه مـن أفالم جنـس الزومبـي‪ ،‬لكـن التمثلات البدائية‬
‫تبقـى فيـه كما هـي‪ ،‬إضافـة إىل جزئيـة األب املدافـع عـن طفلتـه‪،‬‬
‫مسـتقبله اجلينـي وعائلته‪ ،‬وعـدم قدرته على قتلها رغـم معرفته أن‬
‫هـذا هـو التصرف السـليم يف سـبيل محاية نوعـه ككل‪.‬‬
‫ُو ِّظفـت ميمـة الزومبـي أيضـ ًا يف الكثير مـن أفلام حمـاكاة‬
‫الزومبـي السـاخرة كفيلـم ‪ )2009( Zombieland‬وغيره الكثير‬
‫مـن األفلام التلفزيونيـة وأفلام األقـراص املدجمـة ذات العناويـن‬
‫اهلزليـة مثـل ‪ ،)1999( Hot Wax Zombies on Wheels‬ثـم‬
‫‪Zombie Shark‬و ‪ Zombie Strippers‬الصادريـن عـام ‪،2008‬‬
‫باإلضافـة إىل أفلام الكوميديـا السـوداء كفيلـم ‪Shaun of the‬‬
‫‪ .)2004( Dead‬بالطبـع‪ ،‬أثـار املخـرج بـور سـتريز ‪Burr Steers‬‬
‫َ‬
‫العـال بفيلمه‬ ‫اسـتياء حمبـي الروائيـة االنكليزيـة جني أوسـتني حول‬
‫‪170‬‬
‫الف�صل الثالث‬

‫القائـم عىل القصة املصـورة ‪Pride and Prejudice and Zombies‬‬


‫للكاتـب سـيث گراهام‪-‬سـميث ‪ Seth Grahame-Smith‬الـذي‬
‫صـدر عـام ‪ .2016‬لكـ َّن التمثل البدائي لالسـتحالة َيضر حتى يف‬
‫أفلام الكوميديـا‪.‬‬
‫شـك أن ميمـة قيامـة الزومبي تعكس املخـاوف التي تنبع من‬ ‫ال َّ‬
‫ثقافتنـا وإمكانيـة اهنيـار املجتمع و َت َفـكُّك كافة الروابـط االجتامعية‬
‫التـي خلقهـا التطـور عندنـا‪ ،‬إمكانيـ ٌة تغـدو أكثـر إثـار ًة للرعب يف‬
‫متز ُقـ ُه احلـروب والرصاعـات القبليـة‪َ .‬تمـس هـذه املخاوف‬ ‫َ‬
‫عـالٍ ِّ‬
‫بداخلنـا قادمـ ًة مـن أحالمنـا البدائيـة لتخلـق لدينـا الرصخـات‬
‫البدائيـة التي يثريهـا أدب الرعب وأفالمـه‪َ .‬و َّطدَ ت ميمـة الزومبي‬
‫ٍ‬
‫قصري نسـب ًّيا‪ .‬كذلك فقد نشـأت ميم ٌة أكثر‬ ‫ٍ‬
‫وقـت‬ ‫ٍ‬
‫بقـوة يف‬ ‫جذورهـا‬
‫اسـتمراري ًة عـن رواية دراكوال لربام سـتوكر واألفلام الكثرية التي‬
‫اسـتلهمت تلـك الرواية‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫الفصل الرابع‬

‫َ َ‬ ‫َ َ ُّ‬
‫التمثل القبلي‬

‫ً‬ ‫ْ ُ ُ‬
‫«فتياتكم الالتي تحبون‪ ،‬أخذتهن وأصبحن ملكا لي»‬

‫يف تصويرمهـا ملجمو َعتَـي البشر البدائيين حـول بركـة امليـاه‬


‫ٍ‬
‫جزئيـة مهمـة حـول‬ ‫يف فيلـم ‪ ،2001‬يتطـرق كالرك وكوبـرك إىل‬
‫الطبيعـة البرشيـة‪ .‬مثـل معظـم الثدي َّيـات‪ ،‬يتميـز البشر بوجـود‬
‫تنظيمات اجتامعيـة‪ ،‬قبليـة‪ ،‬وإقليميـة‪ .‬وال بـد أن التنظيـم ال َق َبلي‬
‫كان ذا أمهيـة كبرى يف الدفـاع عـن اإلقليـم ضـد القبائـل األخرى‬
‫ِ‬
‫دارويـن عـن امليـزة‬ ‫أو احليوانـات املفرتسـة‪ .‬مل يغفـل تشـارلز‬
‫التطوريـة للتنظيـم القبلي‪« :‬ال شـك أن قبيلـ ًة تضم أعضـاء كثريين‬
‫يتمتعـون بدرجـة عاليـة من الـروح القوميـة‪ ،‬اإلخلاص‪ ،‬الطاعة‪،‬‬
‫الشـجاعة‪ ،‬والتعاطـف‪ ،‬ومسـتعدين دومـ ًا لنجـدة بعضهـم بعضـ ًا‬
‫والتضحيـة بأنفسـهم يف سـبيل الصالـح العـام‪ ،‬ال شـك أن قبيلـة‬
‫‪173‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫كهـذه كانـت لِتنتصر على معظـم القبائـل األخـرى؛ يف َ َت ٍّـل َ‬


‫آخـر‬
‫لالنتخـاب الطبيعـي»)‪َ .(1‬ي ْصـدُ ر كالرك وكوبـرك عن هـذه املقدمة‬
‫األساسـية لعلـم النفس التطـوري يف تصويرها لقبيلـة مراقب القمر‬
‫(مونواتشر) بوصفهـا وحـد َة الدفـاع ضـد املفترس وضـد القبائل‬
‫األخـرى أيضـ ًا‪.‬‬
‫أكـدت نظريـ ُة التطـور على النزعـة ال َق َبليـة بوصفهـا أساسـ ًا‬
‫أخذنـا يف االعتبـار‬ ‫ٍ‬
‫فرضيـة تبـدو بدهيـة إذا ْ‬ ‫للتطـور البشري‪ ،‬يف‬
‫َضعـف أفـراد نوعنـا اجلسـدي قياسـ ًا إىل الكثير مـن احليوانـات‬
‫ترك‪َ .‬و َّسـع إدوارد‬ ‫املفرتسـة ومـن ثم بـروز احلاجـة إىل الدفاع املش َ‬
‫أوزبـورن ويلسـون واملختصون بعلـم النفس التطـوري ملحوظاتِ‬
‫دارويـن عـن النزعـة القبليـة‪ .‬يكتـب ويلسـون‪« :‬لتكويـن‬ ‫تشـارلز ِ‬
‫املجموعـات‪ ،‬واحلصـول على الراحـة الوجدانيـة والفخـر بين‬
‫صفـوف األقـران‪ ،‬وللدفاع عـن املجموعـة بعز ٍم ضـد املجموعات‬
‫تركات العامليـة للطبيعـة البرشيـة ومـن‬ ‫ِ‬
‫املنافسـة – وهـذه مـن املش َ‬
‫ثـم الثقافـة ـــ‪ ...‬ال بـد للنـاس مـن تكويـن التنظيمات القبليـة‪...‬‬
‫ٍ‬
‫قبيلـة‬ ‫العـال االجتامعـي ِّ‬
‫لـكل فـرد يف أيامنـا هـذه على‬ ‫َ‬ ‫وال يقتصر‬
‫ٍ‬
‫متشـابك من‬ ‫ٍ‬
‫واحـدة فقـط‪ ،‬بـل يتكـون بـدالً عـن ذلك مـن نظـا ٍم‬
‫عـدة قبائـل‪ ،‬وغالبـ ًا ما يصعب إجيـاد بوصلـة واحدة مـن بينها»)‪.(2‬‬
‫َ‬
‫للعال الذي عاش فيه أسلافنا‬ ‫َ‬
‫العـال احلديث‪ ،‬وخالفـ ًا‬ ‫لكـ ْن يف‬
‫البدائيـون‪ ،‬فإن طبيعـة القبلية خمتلف ٌة‪.‬‬
‫مـن السـهل أحيانـ ًا رؤيـة التنظيمات القبليـة‪ ،‬كما يف التنظيـم‬
‫القبلي لسـكان أمريـكا األصليين أو القبائـل اإلفريقيـة‪ .‬يف أماكـن‬
‫‪174‬‬
‫الف�صل الرابع‬

‫أخـرى‪ ،‬يمكـن رؤيتهـا أيضـ ًا يف االزديـاد املسـتمر يف الطوائـف‬


‫املسـيحية كقبائـل‪ ،‬كذلـك يف العصابـات التـي تنترش يف املـدن‪ ،‬كام‬
‫املتوارثة بني السـنة والشـيعة‬
‫َ‬ ‫إهنـا واضحـ ٌة جـد ًا يف األحقاد القديمة‬
‫جتـاه بعضهـم بعضـ ًا يف الرشق األوسـط‪ ،‬باإلضافة إىل ذلـك‪ ،‬تزداد‬
‫القبليـ ُة وضوحـ ًا أكثر فأكثـر يف ميدان السياسـة يف الواليات املتحدة‬
‫حيث يشـتد العـداء بين اليمني واليسـار‪.‬‬
‫إنما يمكـن للنزعـة القبليـة أن تكـون أكثـر متوهيـ ًا‪ .‬فمثلاً‪ ،‬يمكن‬
‫أن نالحـظ َميلنـا لتكويـن االصطفافـات القبليـة يف تشـجيعنا للفرق‬
‫الرياضيـة‪ ،‬كام حيـدث يف الصراع الدائم بني مشـجعي فريـق اليانكيز‬
‫ومشـجعي فريـق ريـد سـوكس‪ .‬تتداخـل هـذه التنظيمات القبليـة‬
‫املصغـرة خلال ثقافتنـا‪ .‬فمثلاً‪ ،‬قـد نجـد مشـجعا لليانكيـز وآخـر‬
‫ٍ‬
‫رياضـة أخرى‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫واحد يف‬ ‫لريـد سـوكس وكالمها يلعبـان ضمن فريـق‬
‫فـرق رياضية‬‫جمموعات قبليـ ٌة متعصبة حول ٍ‬
‫ٌ‬ ‫تنظيـم قبلي آخر‪ .‬تلتـف‬
‫ٌ‬
‫مـن مجيـع األنـواع هبـدف الشـعور بمتعـة الفـوز‪ .‬يكتـب ماثيـو البري‬
‫‪« :Matthew Alper‬بسـبب القـوة واالسـتقرار اللذيـن ت ََو َّلـدا مـن‬
‫اآلليـات التطوري ُة تكويـن املجموعات‪،‬‬
‫ُ‬ ‫التكيـف االجتامعـي‪ ،‬حابت‬
‫بالـذات يف فصيلـة الفقريـات‪ ،‬وخصوصـ ًا عنـد الثدي َّيـات»)‪.(3‬‬
‫يـروي سيباسـتيان جونگـر ‪ Sebastian Junger‬قصصـ ًا عـن بعـض‬
‫املسـتعمرين األوربيين األوائـل الذيـن سـكنوا أمريـكا‪ ،‬وكيف أهنم‬
‫مـا إن غـادروا املسـتعمرات وانخرطـوا مـع قبائـل سـكان أمريـكا‬
‫األصليين حتـى اندجمـوا معهـا ومل يعـودوا إىل أهلهم يف املسـتعمرات‬
‫أبـد ًا‪ ،‬بينما مل يغـادر أي ٍ‬
‫أحد تقريب ًا مـن تلك القبائل قبيلته ليسـكن مع‬ ‫ُّ‬
‫‪175‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫املسـتعمرين‪ ،‬يستشـهد جونگر بكال ٍم لبنجامني فرانكلني ‪Benjamin‬‬


‫لا هند ًّيا بيننا ون ََّشـأناه‬
‫‪ Franklin‬حـول هـذا املوضـوع‪« :‬لـو ربينا طف ً‬
‫ومتشـى معهـم مرة‬ ‫على لغتنـا وعاداتنـا‪ ،...‬ثـم ذهـب لزيـارة قومـه َّ‬
‫واحدة‪ ،‬فلن يسـتطيع أحـد أن يقنعه بالعـودة ليعيش بيننـا»)‪ .(4‬ويعزو‬
‫ذلـك إىل اجلاذبيـة الشـديدة للعالقـات القبليـة احلميميـة التـي تتمتع‬
‫هبـا ثقافـة سـكان أمريـكا األصليين باملقارنة مـع العزلـة واالغرتاب‬
‫اللذيـن يعيشـهام الفـرد يف املجتمـع الغريب‪.‬‬
‫إذن ترجـح دراسـات علماء التطـور حـول النزعـة البرشيـة‬
‫لتشـكيل االصطفافـات القبلية أننا نسـتجيب للتمثـل البدائي الذي‬
‫يصـور قبيلـة –باملعنـى الواسـع سـواء يف األفلام أو الروايـات‪،‬‬
‫آخر مـا‪ .‬ال تقترص‬ ‫ٍ‬
‫قبيلـة مـا يف معركتها ضـد َ‬ ‫بحيـث نتعاطـف مـع‬
‫احلبـكات القبليـة على أفلام الرعب بالطبـع‪ ،‬حيث نراهـا يف أفالم‬
‫الغـرب األمريكـي‪ ،‬أفلام احلـروب‪ ،‬وصـوالً إىل أفلام اخليـال‬
‫تصور عصبـة الذكـور عىل هيـأة جمموعة من‬ ‫العلمـي حتـى‪ ،‬حيـث ِّ‬
‫اآلخـر‪ .‬مؤخر ًا‪ ،‬رصنـا نرى‬ ‫املحاربين بقيـادة زعيـ ٍم هلـم يقاتلـون َ‬
‫ٍ‬
‫مثـال آخر على تأثري‬ ‫ٍ‬
‫عصبـة من اإلنـاث‪ ،‬يف‬ ‫هـذا التمثـل على هيأة‬
‫الثقافـة على التمثلات البدائيـة‪ .‬تُوفِـر احلبكـة القبلية تربـة خصبة‬
‫ٍ‬
‫جمموعـات يمكـن أن نسـميها قبائل‪.‬‬ ‫للصراع بين‬
‫َ ُ َّ‬ ‫ُ َ ِّ‬ ‫ُ‬
‫شفاههن الحمراء»‪:‬‬ ‫حارقة أن أقبل ِ‬
‫ٍ‬ ‫برغبة وقحة‬
‫ٍ‬ ‫«شعرت‬
‫رواية دراكوال وتوظيفاتها السينمائية‬

‫يف أحـد مقاطـع كتاباهتـا الـذي كثير ًا مـا ُيق َت َبـس‪ ،‬اختـارت‬
‫هيلاري كلينتـون ‪ Hillary Clinton‬مث ً‬
‫لا إفريق ًّيـا هـو «يتطلـب‬
‫‪176‬‬
‫الف�صل الرابع‬

‫األمـر قريـ ًة لتنشـئة طفـل»‪ .‬أمـا يف روايـة دراكـوال لبرام سـتوكر‬


‫ِ‬
‫لقتـل‬ ‫وتوظيفاهتـا الفيلميـة التـي ال حتصى‪ ،‬فيتطلـب األمـر قبيلـ ًة‬
‫نـزاف‪.‬‬
‫َّ‬
‫توفـر روايـة دراكوال ً‬
‫مثـال جيـد ًا عىل التمثـل البدائـي للقبلية‪،‬‬
‫آخر حياول‬ ‫حيـث تناضـل فرق ٌة قوية مـن املدافعني مـن أجل تدمير َ‬
‫غـزو إقليمنـا وهيـدد إرثنـا اجلينـي‪ .‬يالحظ روبـن فوكـس ‪Robin‬‬
‫‪ Fox‬أن «الرتابـط العاطفـي الشـديد بين الذكـور يعـو ُد بجـذوره‬
‫التطوريـة إىل املعيشـة املجموعاتيـة للرئيسـيات األدنـى مـن البرش‪،‬‬
‫نمـت إىل أقصى مـا يمكن مـع تطور فصيلـة أشـباه البرش‪...‬‬ ‫ْ‬ ‫لكنهـا‬
‫حيـث ظهـرت غرائـز الصيـد واحلـرب‪ .‬كان ال بـد للرجـال الذين‬
‫خـاص مـن‬ ‫ٍّ‬ ‫يامرسـون الصيـد أو القتـال اجلامعـي مـن تطويـر نـو ٍع‬
‫الثقـة أقوى مـن جمـرد الصداقة التـي ُي َع َّب عنهـا بسـلوكيات التفلية‬
‫‪ grooming‬واملصاحبـة»)‪ .(5‬تو ِّظـف روايـة سـتوكر هـذا التمثـل‬
‫الـذي يتضمـن جمموع ًة مـن املحاربني القبليين يقاتلـون غازي ًا هيدد‬
‫النزافين‬‫سـابقيه يف قصـص ّ‬ ‫ِ‬ ‫إقليمهـم‪ .‬يسير سـتوكر على خطـى‬
‫وبدايـات الروايـات القوطيـة لينجـح يف النهايـة بخلـق ميمـة تبدو‬
‫أكثـر اسـتمراري ًة حتى مـن ميمـة قيامـة الزومبي‪.‬‬
‫النزافين إىل بدايـات التاريـخ البشري‪ ،‬حيـث‬ ‫تعـود أسـاطري َّ‬
‫نجـد بعـض القصـص عنهـا عنـد قدمـاء اإلغريـق‪ ،‬الرومـان‪،‬‬
‫واملرصيين‪ .‬حقـق مونتـاگ سـامرز ‪،Montague Summers‬‬
‫كاثوليكـي خملـص مؤمـن بجميـع اخلـوارق‪ ،‬الكثير‬
‫ٌّ‬ ‫كاتـب‬
‫ٌ‬ ‫وهـو‬
‫النزافين‪ ،‬وقـد كتـب بمنتهـى التسـليم واصف ًا‬
‫مـن القصـص عـن َّ‬
‫‪177‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫إحـدى تلـك القصـص‪« :‬ال يمكـن أن تتطـرق ذر ٌة مـن الشـك إىل‬


‫صدقهـا وواقعيتهـا»)‪ُ .(6‬ي َعدُّ جون گوردون ميلتـون ‪John Gordon‬‬
‫‪ Melton‬باحثـ ًا يف األسـاطري أكثـر منـه مؤمنـ ًا‪ ،‬و ُيعـدُّ كتابـه ‪The‬‬
‫‪Vampire Book: The Encyclopedia of the Undead‬مصـدر ًا‬
‫جيـد ًا يقـدم خلفيـة عـن األسـاطري التـي قـادت إىل نشـوء أدبيـات‬
‫النزافين‪.‬‬
‫مصـادر كانـت ناضجـ ًة إىل حـدٍّ كبير يف‬
‫َ‬ ‫َو َّظـف بـرام سـتوكر‬
‫كل مـن األدب واألسـاطري‪ .‬وربما َتيـأ لـه أن يقـرأ كتاب‬‫وقتـه‪ ،‬يف ٍّ‬
‫‪ The Land Beyond the Forest‬للكاتبـة إيميلي جيرارد ‪Emily‬‬
‫‪ Gerard‬الـذي كان رائجـ ًا وقتهـا‪ .‬حيتـوي رس ُد جيرارد للفلكلـور‬
‫ٍ‬
‫وصـف للنزافين حياكـي مـا صنعـه سـتوكر وما تىل‬ ‫الرومـاين على‬
‫ذلـك مـن الكتـب واألفلام التـي تناولـت هذه األسـطورة‪:‬‬
‫«يؤمـن الريفيـون يف رومانيـا إيامنـ ًا قاطعـ ًا بالنوسـفرياتو‪ ،‬أو‬
‫رشيـر بشـكل ال لبـس فيـه‪ .‬هنـاك نوعان‬ ‫ٌ‬ ‫النـزاف ‪ ،vampire‬وهـو‬
‫مـن النزافين‪ ،‬األحياء واملوتـى‪ ،‬حيـث إن النزاف احلي هـو عموم ًا‬
‫شـخص يولـد والد ًة غير رشعيـة ألبويـن ُولِـدا والدة غير رشعية‬ ‫ٌ‬
‫ِ‬
‫بدورمهـا أيضـ ًا؛ لكـن طهـارة املولـد ال تضمـن عـدم التحـول إىل‬
‫نـزاف‪ ،‬ألن كل مـن ُيقتَـل عىل يد نوسـفرياتو يتحـول إىل نزاف بعد‬
‫ُطـرد روحه‬
‫املـوت‪ ،‬وسـيامرس مص دمـاء النـاس األبريـاء إىل أن ت َ‬
‫وتـد يف جثتـه أو إطلاق النـار عليـه‪ .‬كذلـك‬ ‫بفتـح قبره وغـرز ٍ‬
‫فترض أن إطلاق الدخـان حول قرب النـزاف يف الذكرى السـنوية‬ ‫ُي َ َ‬
‫ملوته يسـاعد على إبقائه يف قربه‪ .‬أمـا يف احلاالت املسـتعصية النادرة‬
‫‪178‬‬
‫الف�صل الرابع‬

‫ف ُي َف َّضـل قطـع رأس النـزاف ومـلء فمـه بالثـوم ومن ثـم إعادته إىل‬
‫القبر‪ ،‬أو اسـتخراج القلـب وحرقـه ونثـر رمـاده عىل القبر»)‪.(7‬‬
‫ذكـرت جيرارد يف كتاهبـا كثير ًا من املعلومـات املتعلقـة بطبيعة‬ ‫ْ‬
‫النزافين وطـرق قتلهـم‪ ،‬وقـد اسـتفادت األفلا ُم كثير ًا مـن كتاهبا‬
‫وبنـت على حمتـواه‪َ .‬كتَـب أوگسـتني كامليـت ‪،Augustin Calmet‬‬ ‫ْ‬
‫وكاتب يف أمور السـحر عـاش يف القـرن الثامن عرش‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫راهـب‬
‫ٌ‬ ‫وهـو‬
‫ُتب مشـهورة ككتـاب ‪Dissertation on ghosts، demons‬‬
‫ٍ‬ ‫ِعـدَّ َة ك ٍ‬
‫‪ and vampires‬وكتـاب ‪ ،The Phantom World‬وقـد ظلـت كتبه‬
‫متداولـة حتـى منتصف‪/‬هنايـة القـرن التاسـع عشر يف إنگلترا‪.‬‬ ‫َ‬
‫خيتلـف النقـاد حـول املصـادر التـي اسـتقى منهـا سـتوكر روايتـه‪،‬‬
‫لكـ ْن سـتوكر التقـى ذات مرة مع سـفري إقليـم ترانسـلفانيا يف حفلة‬
‫ٍ‬
‫معلومـات عـن ملـك‬ ‫عشـاء وحتـدث معـه‪ ،‬فأطلعـه السـفري على‬
‫ترانسـلفانيا يف القـرن اخلامـس عشر فلاد تيبيـس ‪،Vlad Tepes‬‬
‫خـوزق»‪ ،‬حيث اعتـاد امللك فالد‬ ‫ِ‬ ‫وتيبيـس كلمـ ٌة رومانية تعنـي «ا ُمل‬
‫على إعـدام أعدائه باخلازوق‪ .‬ومن تلك املحادثة اسـتوحى سـتوكر‬
‫روايتـه املشـهورة دراكوال)‪.(8‬‬
‫مل تقفـز روايـة دراكوال إىل ميـدان األدب االنگليـزي فجأة دون‬
‫ِ‬
‫سـوابق‪ .‬ففـي العـام ‪ ،1847‬نُشر كتـاب ‪Varney the Vampire‬‬
‫مـن تأليـف جيمـس مالكـومل رايمـر ‪James Malcolm Rymer‬‬
‫وتومـاس بيكيـت بريسـت ‪ ،Thomas Peckett Prest‬وكذلـك‬
‫كتـاب ‪ The Vampyre‬الـذي نُشر عـام ‪ 1819‬مـن تأليـف جـون‬
‫بوليـدوري ‪ ،John Polidori‬هنـاك أيضـ ًا قصيـدة ‪Christabel‬‬

‫‪179‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫املنشـورة عـام ‪ 1797‬للشـاعر صامويـل تايلور كولريـدج ‪Samuel‬‬


‫‪ Taylor Coleridge‬وروايـة ‪ Carmilla‬عـام ‪ 1872‬لشيريدان يل‬
‫روائـي لقصيـدة تايلور‬
‫ٌّ‬ ‫توظيـف‬
‫ٌ‬ ‫فانـو ‪ ،Sheridan Le Fanu‬وهـي‬
‫كولريدج‪ .‬لك َّن سـتوكر أضـاف‪ ،‬متأثر ًا بكتابـات كامليت وجريارد‪،‬‬
‫العنصر الـذي جعـل النـزاف واحـدة مـن أشـد امليمات جاذبيـ ًة‬
‫وتأثير ًا يف األدب‪ ،‬العنصر الـذي ُبنيـت عليـه يف مـا بعـد أفلام‬
‫ٍ‬
‫«هم»‬ ‫الزومبـي أيضـ ًا‪َ :‬م ُّ‬
‫ـص الد ِم كوسـيلة لتحويـل الـ «نحـن» إىل ُ‬
‫ومـن ثـم إفسـاد احلـوض اجلينـي باالسـتحالة‪.‬‬
‫على العديـد مـن األصعـدة‪ ،‬تُعـدُّ روايـة دراكـوال إعـاد َة ٍ‬
‫إنتاج‬
‫للتراث القوطـي املبكر من حيث الشـخصيات‪ ،‬خلفيـة األحداث‪،‬‬
‫وصـف منطقـة جبـال الكاربـات وقلعـة دراكـوال‬ ‫واحلبكـة‪ .‬إذ إن ْ‬
‫بوضـوح مـن مواصفـات األماكـن السـامية‬ ‫ٍ‬ ‫مسـتمدٌّ‬
‫َ‬ ‫يف الروايـة‬
‫كما وردت يف كتابـات رواد القوطيـة الرومانسـية يف القـرن الثامـن‬
‫عشر‪ .‬رغـم ما فيها مـن اسـتلها ٍم للرتاث السـابق هلـا‪ ،‬إال أن رواية‬
‫دراكـوال سـيمفونية ال نظير هلـا مـن حيـث مجعهـا املتناغـم لـكل‬
‫التمثلات البدائيـة‪ .‬فتصويرهـا للدفاع القبلي عن اإلقليـم وللغزو‬
‫مفرتس يقتـات عىل دماء النسـاء‪ ،‬حمـور إرثنا‬ ‫ٌ‬ ‫اآلخـر –‬ ‫الـذي يشـنه َ‬
‫اجلينـي أثـار ويثري لـدى القراء مهسـات الرعـب الرتفيهـي منذ نرش‬
‫الروايـة وإىل اليـوم‪ .‬تُعـدُّ الرواية واحـد ًة من أطـول الروايات عمر ًا‬
‫ٍ‬
‫طبعة حتـى اليوم)‪ ،‬كام‬ ‫يف امليـدان األديب (مل يتوقـف طبعهـا منذ أول‬
‫مصدر ملئـات األفالم والسالسـل السـينامئية‪ ،‬سـواء‬ ‫ٌ‬ ‫إهنـا – حرفيـ ًا‬
‫وظفتهـا تلـك األفلام مبـارش ًة أو عدلـت عليهـا أو أخـذت منهـا‬
‫‪180‬‬
‫الف�صل الرابع‬

‫أسـطورة النزاف فقط‪ .‬تسـتحق الرواية أن نناقشـها بإسـهاب لنرى‬


‫كيف قـام منتجـو األفلام بتنقيحها وتفسيرها‪.‬‬
‫ُدشـن الفصـول األوىل يف الروايـة متث ً‬
‫لا إقليم ًّيـا‪ ،‬حيـث يبـدأ‬ ‫ت ِّ‬
‫جوناثـان هاركـر رحلتـه إىل قلعـة الكونـت دراكـوال‪ ،‬بعيـد ًا عـن‬
‫األمـان يف وطنـه إنگلترا الفيكتوريـة‪ .‬يمثـل دراكـوال مصداقـ ًا‬
‫لآلخـر‪ ،‬ال مـن حيـث اتصافـه بحالـة الال َمـوت فحسـب‪ ،‬بـل من‬ ‫َ‬
‫دائـم لالضطرابات‬ ‫ٌ‬ ‫حيـث كونـه يسـكن أوروبـا الرشقيـة‪ ،‬موطـ ٌن‬
‫التـي تفجـرت ُب َعيد ذلـك مؤدية إىل نشـوب احلـرب العاملية األوىل‪.‬‬
‫بشـكل يثير املخـاوف‬‫ٍ‬ ‫صمـم سـتوكر شـخصية النـزاف قصد ًّيـا‬
‫لا اخلوف من‬ ‫اإلقليميـة لـدى بريطانيـا الفيكتوريـة التـي تعاين أص ً‬
‫األجانب‪ .‬يسـجل روبرت واسـون ‪ Robert Wasson‬أن «دراكوال‬
‫يمثـل تلـك القـوى اآلتية مـن أوروبـا الرشقيـة املتعطشـة لإلطاحة‬
‫– عـن طريـق املؤامـرات والعنـف باحلضـارة الغربيـة الديمقراطية‬
‫األكثر تقدمـ ًا»)‪.(9‬‬
‫يتبنـى سـتوكر هنجـ ًا مبتكَـر ًا يف التعاطـي مـع التمثـل اإلقليمي‬
‫مـن خلال مذكـرات جوناثـان هاركـر ورسـائله‪ ،‬والتقاريـر‬
‫الصحفيـة التـي كتبـت عـن األمـر‪ .‬يكتـب هاركـر يف يومياتـه عن‬
‫اجتيـازه ملنطقـة «ميتـل النـد ‪ ،»Mittel Land‬املنطقـة التـي تفصـل‬
‫اآلخـر‪ .‬يتلقى‬
‫بين احلضـارة وبين أرض جديدة بالنسـبة لـه‪ ،‬إقليم َ‬
‫ٍ‬
‫حتذيـرات مـن رفقائـه يف الن ُُـزل الـذي حـل فيـه‪ ،‬حيـث‬ ‫هاركـر‬
‫يتوسـلون إليـه أن ينتظـر إىل مـا بعد عيـد القديس جورج‪ .‬بحسـب‬
‫كتـاب ‪The Land Beyond the Forest‬إليميلي جيرارد‪ ،‬تصـل‬
‫‪181‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫القـوى اخلارقـة أوج عنفواهنـا يف عيـد القديـس جـورج‪َ .‬يرفـع‬


‫قلـق القـارئ بينما يتعاطف مع‬ ‫التوتـر الـذي حتملـه هـذه ا َملشـاهد َ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫شـخصية البطـل‪ .‬خيـرج هاركر مـن إقليمه اخلـاص اآلمـن ليدخل‬
‫اآلخـر‪ ،‬حيـث الفاصـل الزمنـي هـو عيـد القديـس جورج‪،‬‬ ‫إقليـم َ‬
‫خـط يفصـل‬ ‫أمـا الفاصـل املـكاين فهـو ممـر بورگـو ‪ٌّ :Borgo Pass‬‬
‫اآلخرانيـة متمثل ًة بدراكوال مـن جهة‪ ،‬والعـامل االعتيادي الذي‬ ‫بين َ‬
‫خيطـط النـزاف لغـزوه‪ .‬حييك هاركـر يف يومياتـه املكتوبة االنقسـام‬
‫اإلقليمـي بنوعيـه اجلغـرايف والروحـي‪« :‬بـدا وكأن سلسـلة اجلبال‬
‫َ‬
‫العـال اهلائـج منهما»)‪.(10‬‬ ‫تفصـل بين عا َلين‪ ،‬وإننـا دخلنـا اآلن‬
‫بخلفية مـن اإلرث القوطـي‪ ،‬حيث يصف‬ ‫ٍ‬ ‫ُتـاط رحلـة هاركـر‬
‫ٍ‬
‫هائلـة رماديـة تتناثـر عىل‬ ‫َـل‬ ‫ٍ‬
‫جلبـال وعـرة و« ُكت ٍ‬ ‫يف يومياتـه َمشـاهد‬
‫األشـجار هنـا وهنـاك‪ُ ،‬م ِّلفـ ًة يف نفـس الرائي أثـر ًا غريبـ ًا ورهيب ًا»‪.‬‬
‫وربما كان وصفـه لبيـت دراكـوال مشـتق ًا مبـارش ًة مـن املفاهيـم‬
‫التقليديـة للسـامي البريكـي (نسـب ًة إىل إدمونـد بيرك) يف أعمال‬
‫العديـد مـن ُكتَّـاب األدب القوطـي يف القـرن الثامـن عشر‪« :‬قلع ٌة‬
‫واسـعة َخ ِر َبـة‪ ،‬ال خيرج مـن نوافذها الطويلـة الداكنة شـعاع واحد‬
‫كخط مسـن ٍَّن حتت السماء‬ ‫ٍ‬ ‫مـن النـور‪ ،‬بينما تبرز أسـوارها ِ‬
‫املتآكلـة‬
‫املضـاءة بنـور القمر»‪.‬‬
‫ُت َعـدُّ القلاع والبنايـات الشـبيهة هبـا مـن املكونـات األساسـية‬
‫ملسرح األحـداث يف جنـس الرعـب والرومانسـية القوطيـة أيض ًا‪،‬‬
‫كل مـن الروايـات واألفلام على السـواء‪ .‬أدخـل هـوراس‬ ‫يف ٍّ‬
‫والبـول ‪ Horace Walpole‬موضوعـة القلعـة اخلَ ِر َبـة كمسرح‬
‫‪182‬‬
‫الف�صل الرابع‬

‫لألحـداث يف روايتـه ‪ .The Castle of Otranto‬لكـ َّن تشـارلوت‬


‫ور َّوج مفاهيم‬‫سـميث ‪ Charlotte Smith‬كانـت أول مـن اسـتغل َ‬
‫ٍ‬
‫كبيئـة خياليـة يف‬ ‫إدمونـد بيرك عـن السـامي باسـتخدام القلعـة‬
‫روايتهـا ‪،(11))1788( Emmeline، or the Orphan of the Castle‬‬
‫عب‬ ‫وفيهـا هتـرب إيميلين العذراء مـن مالحقـات اللـورد ديالمري ْ‬
‫املمـرات املظلمـة لقلعـة موبـري‪ .‬اسـتعار بـرام سـتوكر هـذه اللغة‬
‫أيضـ ًا ثم أخذها منـه الكثري مـن الروائيني ومنتجي األفلام الحق ًا‪.‬‬
‫يتخـذ دراكـوال مـن القلعـة بيتـه‪ ،‬إقليمـه‪ ،‬وال يمكنـه مغادرهتا‬
‫بالكامـل‪ .‬وعندمـا يغـزو إنگلترا‪ ،‬يأخـذ معـه صناديـق مليئـة‬
‫موسـع ًا إقليمـه‪.‬‬
‫بتراب القلعـة لكـي ينـام عليهـا خلال النهـار‪ِّ ،‬‬
‫بعـد أن يصـل هاركـر إىل قلعـة دراكـوال‪ ،‬يسـتعيد سـتوكر التراث‬
‫القديـم للفلكلـور‪ ،‬والـذي يزعـم أن األرواح الرشيـرة ال تدخـل‬
‫إقليم ًا إال بـإذن أصحابـه‪ ،‬كما إهنـا ال جتبر ضحاياهـا على دخـول‬
‫إقليمهـا‪ ،‬بل يكون ذلـك برضاهم‪ .‬يف قصيـدة ‪َ ،Christabel‬و َّظف‬
‫كوليردج أيضـ ًا هـذه اجلزئيـة مـن تـراث النزافين‪ ،‬حيـث َتمـل‬
‫البطلـ ُة بنفسـها مصـاص الدمـاء املتظاهـر باإلغماء إىل داخـل قلعة‬
‫أبيهـا‪ .‬نرى مشـهد ًا مشـاهب ًا يف روايـة ‪ Carmilla‬ليل فانـو أيض ًا‪ ،‬كام‬
‫تتكـرر اجلزئيـة ذاهتـا يف العديد مـن أفلام النزافني كفيلـم ‪Let Me‬‬
‫خيبر فـان هلسـنگ أصدقـاءه «ال‬ ‫‪ .)2010( In‬يف روايـة دراكـوال‪ِ ،‬‬
‫ٍ‬
‫بدعـوة من أحـد قاطنيه»‪ .‬يطبق سـتوكر‬ ‫يدخـل دراكـوال مكانـ ًا إال‬
‫اآلخـر إىل اإلقليـم على أولئـك الذين‬‫ذات املبـدأ املتعلـق بدخـول َ‬
‫يصلـون إىل قلعـة دراكوال أيض ًا‪ ،‬حيـث ال يدخلوهنـا إال بدعوة منه‬
‫‪183‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫شـخص ًّيا‪ .‬عندمـا يصل جوناثـان‪ ،‬خياطبه دراكوال عنـد بوابة القلعة‬
‫شـئت بكامل إرادتك»‪ .‬يشـكل التمثـل اإلقليمي‬ ‫َ‬ ‫قائ ً‬
‫لا «ادخـل إن‬
‫اآلخر خمتـار ًا ال‬
‫إقليـم َ‬
‫َ‬ ‫هيـكل هذا املشـهد‪ .‬جيـب أن يدخـل هاركر‬
‫جمبر ًا‪ .‬ويف موضـ ٍع الحق مـن الرواية أيضـ ًا‪ ،‬يتلقى دراكـوال دعو ًة‬
‫َ‬
‫مـن رينفيلـد املجنون‪ ،‬فيتخـذ تلك الدعـوة فرص ًة لدخـول َم َص َّحة‬
‫الدكتـور سـيوارد كيام يسـتطيع افتراس مينـا هاركر هنـاك‪« :‬ادخل‬
‫يـا سـيدي ومـوالي»‪ ،‬هكـذا كان يـردد رينفيلد‪.‬‬
‫ْـس سـتوكر أن يضيـف بعـد ًا جنسـ ًّيا للروايـة أيضـ ًا منـذ‬ ‫مل َين َ‬
‫فصوهلـا األوىل‪ ،‬وهـو بعـدٌ أصبـح مركز ًّيـا يف األفلام التـي بنيـت‬
‫على الروايـة الحقـ ًا)‪ .(12‬بعـد أن يدخـل هاركـر قلعـة الكونـت‪،‬‬
‫يغامـر باخلـروج مـن غرفـة نومـه خمالفـ ًا وصيـة مضيفـه دراكـوال‪،‬‬
‫وهكـذا يلتقـي بزوجات األخير الاليت يقطـرن شـهواني ًة‪ .‬يصفهن‬
‫شـديدة األيروسـية‪ ،‬مثـل «شـهيات» و «مثيرات‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫كلمات‬ ‫سـتوكر بِ‬
‫آن واحـد»‪ .‬حيكـي جوناثـان كيف انحنني عليه فشـعر‬ ‫ومنفـرات يف ٍ‬
‫«برغبـة وقحـة حارقـة بتقبيـل شـفاههن احلمـراء»‪ .‬مـن ثـم جـاء‬
‫الكونـت دراكـوال ورصفهن‪ ،‬وهنـا يصف هاركر كيـف إن أمجلهن‬
‫ِ‬
‫ب‬‫«بغنـج خليـع» ور َّد ْت عىل الكونـت قائل ًة «أنـت ال ُت ُّ‬
‫ٍ‬ ‫ضحكـت‬
‫ْ‬
‫ـب أبـد ًا»‪ .‬ابتعـد هاركـر كثير ًا عـن إقليمـه عندمـا جاء‬ ‫ِ‬
‫أبـد ًا‪ ،‬ال حت ُّ‬
‫إىل ترانسـلفانيا‪ ،‬ثـم خـرج مـرة أخـرى مـن اإلقليم الـذي خصصه‬
‫لـه الكونـت دراكـوال يف قلعتـه؛ هكـذا دخـل عا َلـ ًا خـارج حـدود‬
‫معرفتـه وبعيـد ًا عـن أقاربـه اجلينيين‪ ،‬مـن ثـم أصبحـت هويتـه‬
‫اجلنسـية وحتـى رابطتـه اجلينيـة مـع البشر مهدَّ َدتني‪.‬‬
‫‪184‬‬
‫الف�صل الرابع‬

‫على اجلهـة املعاكسـة‪ ،‬يقـوم دراكـوال بـدوره برحلـة أيضـ ًا‬


‫اآلخـر‪ ،‬حيـث يركب عىل متـن السـفينة ديميرت إىل‬ ‫الحتلال إقليـم َ‬
‫إنگلترا‪ .‬وهنـا حتديـد ًا يبـدأ َت َ ُّثـل الصراع ال َق َبيل‪ .‬يفترس دراكوال‬
‫أي إنه حوهلا إىل‬
‫أول ضحايـاه‪ ،‬لـويس ويسـتينرا‪ ،‬وحيوهلا إىل نزافـة‪ْ ،‬‬
‫واحـدة مـن نوعـه‪ ،‬ثـم يفترس ضحيتـه الثانية‪ ،‬مينـا‪ ،‬وهنـا يتجىل‬
‫اخلـوف البدائـي مـن االسـتحالة وإفسـاد احلـوض اجليني مـن ِق َبل‬
‫آخـر مـا‪ .‬مل يكـن اختيـار سـتوكر السـم لـويس ويسـترينا مصادف ًة‬ ‫َ‬
‫قطعـ ًا‪ ،‬ذلـك إن دراكـوال يمثل غـزو ًا للغرب قادم ًا مـن الرشق‪ ،‬كام‬
‫أن فـان هلسـنگ وزمالءه من صيـادي النزافين – جوناثان هاركر‪،‬‬
‫كوينسي موريس‪ ،‬لـورد گوداملنگ ودكتور سـيوارد جيسـدون َت َ ُّث َل‬
‫القبيلـة التـي تناضـل لتدمير الغـازي ومحايـة أقارهبا مـن التعرض‬
‫يعبر فان هلسـنگ يف الروايـة‪« :‬ال تتعلق‬ ‫ِ ِ‬
‫للتحويـل مـن ق َبلـه‪ .‬وكام ِّ‬
‫اهلزيمـة هنـا بمجـرد احليـاة أو املـوت‪ .‬بـل بأننـا سـنصبح مثلـه إذا‬
‫متكـن مـن هزيمتنـا»‪َ .‬يصـف هلسـنگ أصدقـاءه بمحـاريب الـرب‬
‫املقدَّ سين‪ ،‬بأهنـم «أوليـاء مشـيئة الرب‪...‬وقـد أقسـمنا على أن ال‬
‫العـال والنـاس الذيـن ضحـى ابـن الـرب‬ ‫َ‬ ‫يسـتويل الوحـوش على‬
‫بنفسـه مـن أجلهـم»‪ .‬يبين فـان هلسـنگ رضورة نجـاح هـؤالء‬
‫املدافعين عـن احلـوض اجلينـي‪« :‬إذا فشـلنا يف القضـاء عليـه‪ ،‬فقد‬
‫لضرب جديد مـن الكائنات‪ ،‬وال بـد لنا من‬ ‫ٍ‬ ‫يكـون والـد ًا أو راعي ًا‬
‫قطـع الطريـق عليـه قبـل حصـول هذا»‪.‬‬
‫مـا ْ‬
‫أن يصـل دراكـوال إىل إقليـم اآلخـر‪ ،‬حتـى يبـدأ بتنفيـذ‬
‫خمططاتـه‪ .‬يدخـل أوالً إىل غرفـة نـوم لـويس كما لـو أنـه عاشـق‪،‬‬
‫‪185‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫وكذلـك يفعـل عندمـا يمتـص دم مينـا‪ ،‬ضحيتـه الثانيـة‪ .‬وعندمـا‬


‫حيصره أعضاء فرقـة النور القبليـون يف خمبئه‪ ،‬يزجمـر الكونت قائالً‪:‬‬
‫أخذ ُ ُتـن وأصبحن ملـك ًا يل»‪ .‬يقـول فان‬ ‫«فتياتكـم اللايت حتبـون‪ْ ،‬‬
‫هلسـنگ لقبيلـة املحاربين التي ع َّينها حلراسـة مينا‪« :‬هـذه مهمتكم‬
‫األفضـل واألقـدس»‪ .‬أمـا إذا مل يكـن مـن املمكـن محايتهـا‪ ،‬فيجب‬
‫«مـرت على البرشيـة‬ ‫آخـر‪ .‬تقـول مينـا للرجـال‪َّ :‬‬ ‫أن ال تتحـول إىل َ‬
‫أوقـات اضطـر فيها الرجـال الشـجعان إىل قتل زوجاهتم ونسـائهم‬ ‫ٌ‬
‫قسـموا أن‬ ‫خوفـ ًا من وقوعهـن يف أيـدي األعداء»‪ ،‬ثـم تقنعهم أن ي ِ‬
‫ُ‬
‫عبر تاريخ األدب واألفالم‪،‬‬ ‫يفعلـوا معهـا اليشء ذاته إذا لزم األمر‪ْ .‬‬
‫رعـب تلويث احلـوض اجليني عن‬ ‫ِ‬ ‫تتناثـر أمثلـ ٌة أخرى مشـاهب ٌة عن‬
‫طريـق االغتصـاب‪ .‬يف فيلـم ‪ Birth of a Nation‬للمخـرج ديفيـد‬
‫گريفـث ‪ ،David Griffith‬تنتحـر فلورا كامريون بإلقاء نفسـها من‬
‫ـل أسـود؛ ويف هنايـة الفيلم‪،‬‬ ‫ـل لتتجنـب االغتصـاب على يد َر ُج ٍ‬ ‫َع ٍ‬
‫نـرى العقيـد كاميرون يصوب سلاحه على رأس ابنتـه مارگريت‬
‫عندمـا خيشـى عليهـا الوقـوع يف أيـدي العبيـد السـابقني الثائريـن‪،‬‬
‫متهيئـ ًا لقتـل طفلتـه خوف ًا «مـن املصري األسـوأ من املـوت»‪ .‬يطرح‬
‫علـم النفـس التطـوري أن عنـارص الرعب يف هذه املشـاهد ليسـت‬
‫جمـرد أحـكام مسـبقة عرقية لكنهـا أيض ًا متثلات ملخـاوف َقب ٍ‬
‫لية من‬ ‫َ‬
‫لـق التحيزات‬ ‫آخر‪ .‬وهلـذه التمثلات أمهي ٌة يف َخ ِ‬ ‫التحويـل مـن ِق َبل َ‬
‫العنرصية‪.‬‬
‫تقـدم روايـة دراكـوال عرضـ ًا درام ًّيـا لالسـتجابة ال َق َبليـة جتـاه‬
‫سـاعدت على بقـاء نوعنـا‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫اآلخـر‪ ،‬وهـي صفـ ٌة تكيفيـ ٌة تطور ًّيـا‪،‬‬
‫َ‬
‫‪186‬‬
‫الف�صل الرابع‬

‫قبيلة مـن املحاربني‪ ،‬حيث‬‫َ َتـول فـان هلسـنگ وفريقه‪ ،‬عمليـا‪ ،‬إىل ٍ‬
‫ًّ‬ ‫َّ‬
‫يمثـل هلسـنگ الرجـل األلفـا‪ ،‬حتـى إنـه كان يسـمي اجتامعـات‬
‫«جملـس احلـرب»‪ .‬كقـراء‪ ،‬نجـد لـذ ًة يف التامهـي مـع هـذه‬ ‫َ‬ ‫فريقـه‬
‫تركة ألن «تعاضـد الذكور»‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫املجموعـة مـن املحاربني يف غايـة مش َ‬
‫كما يكتب ليونيـل تايگـر ‪« ،Lionel Tiger‬هو أداة التنظيم الرئيسـة‬
‫يف اإلجـراءات العدائيـة والعنيفـة‪ .‬وغالبـ ًا مـا تُسـتَب َعد اإلنـاث من‬
‫التنظيمات العدوانيـة التـي تُعنـى بالعنـف‪ ،‬كاجليـوش مثلاً»)‪.(13‬‬
‫مـن منظـور القرن احلـادي والعرشيـن‪ ،‬تعبـق تعليقـات تايگر هذه‬
‫برائحـة اجلنسـوية ‪ ،sexism‬لكنهـا تبـدو دقيق ًة يف وصفهـا لألدوار‬
‫اجلنسـية قديم ًا بما يف ذلـك احلقبـة التـي كتب فيهـا سـتوكر روايته‪.‬‬
‫كذلـك فـإن تايگـر يتحـدث هنـا عـن السـلوك الـذي كان تكيف ًّيـا‬
‫يف حقبـة أسلافنا الغابريـن‪ .‬ال تُسـتَب َعد مينـا متامـ ًا مـن املعركـة‪،‬‬
‫تراقـب بوقـار‪ ،‬مثل إنـاث أغنام اجلبـل‪ ،‬بينام يتقاتـل الذكور‬ ‫لكنهـا ِ‬
‫مـن أجلهـا‪ .‬إال إن هـذا املنظـور لألنثـى تغير دراماتيك ًّيـا يف أفلام‬
‫النزافين احلديثة‪.‬‬
‫آخرانيـة دراكـوال عندمـا يصفـه‬ ‫يعيـد سـتوكر التوكيـد على َ‬
‫بشري إىل‬
‫ٍّ‬ ‫الدكتـور سـيوارد بأنـه «شـبي ٌه بالنمـر» وبـه يش ٌء «غير‬
‫حـدٍّ كبير»‪ .‬وملواجهـة هـذه َ‬
‫اآلخرانيـة‪ ،‬يقـوم لـورد گوداملنـگ‪،‬‬
‫كوينسي موريـس‪ ،‬جوناثـان هاركـر‪ ،‬والدكتـور سـيوارد بتأليـف‬
‫النـزاف إىل‬
‫مـا يشـبه قـوات تعبئـة بينما يتبعـون رؤى مينـا لتعقـب َّ‬
‫ترانسـلفانيا‪ .‬يـويص فـان هلسـنگ فريقـه يف بدايـة مشـوارهم أن‬
‫يشـقوا طريقهـم كما فعـل «فرسـان الصليـب القدامى»‪ .‬يقـول هلم‬
‫‪187‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬
‫ٍ‬
‫صـورة أخـرى مـن فرق‬ ‫إهنـم فريـق‪ ،‬و «سـنكون أقـوى معـ ًا»‪ ،‬يف‬
‫«جملس حـرب»‪ ،‬حيث‬‫ِ‬ ‫االغتيـال القديمـة‪ .‬يبـدأ الفريـق عملـه كــ‬
‫شـخص عىل عاتقـه جزء ًا من املسـؤولية‪ .‬هكـذا يتعقبون‬‫ٍ‬ ‫يأخـذ كل‬
‫دراكـوال حتـى حيصروه هـو وأتباعـه مـن الغجـر وينجحـوا يف‬
‫تدميره داخـل إقليمـه‪ ،‬الـذي كان يتصـف «بالغرابـة الشـديدة من‬
‫الناحيـة الكيميائيـة واجليولوجيـة»‪ .‬ذهـب الفريق ملحاربـة الغازي‬
‫إلنقـاذ نوعهـم عىل املـدى البعيد‪ ،‬إنما إلنقـاذ مينا أيض ًا على املدى‬
‫املبـارش‪ .‬إذ بوصفهـا أنثـى‪ُ ،‬ت ِّثـل مينـا احلامـل الرمـزي للمسـتقبل‬
‫اجلينـي للنـوع البشري‪.‬‬
‫سـافر فـان هلسـنگ ومينا ٌّ‬
‫كل عىل حـدة إىل قلعة دراكـوال‪ ،‬بينام‬
‫الغجر وصناديـق دراكوال املليئة بالتراب‪ .‬عندما‬
‫َ‬ ‫َت َع َّقـب اآلخـرون‬
‫جيـد فـان هلسـنگ زوجـات دراكـوال‪ ،‬خيتبر بنفسـه َ‬
‫آخرانيتهـن‬
‫«الشـهوانية» و «الداعـرة»‪ .‬ورغـم إنـه يقـول كما يفترض برجـل‬
‫ٍ‬
‫نبيـل‪« :‬تدفعنـي غريـزة الرجـل يف داخلي إىل حبهـا‬ ‫فيكتـوري‬
‫ٍّ‬
‫ومحايتهـا»‪ ،‬إال إنـه جيـد أماكنهـن ويقتلهن بأوتـاد قضيبية الشـكل‪.‬‬
‫وبينما يلفظن أنفاسـهن األخيرة‪ ،‬يرى هلسـنگ «نظرة السـكينة يف‬
‫الوجـه األول‪ ،‬ومظاهـر السـعادة‪ ،‬قبل أن حيـدث التحلل»‪ ،‬إشـار ًة‬
‫ٍ‬
‫مشـاهبة‬ ‫ٍ‬
‫بطريقـة‬ ‫إىل عودهتـن مـن ُهـم إىل نحـن‪ .‬يمـوت دراكـوال‬
‫أيضـ ًا بعـد معركـة طاحنـة بين فرقـة النـور وأتباعـه مـن الغجـر‪.‬‬
‫وحيكـي فـان هلسـنگ أنـه قـد رأى «على وجـه دراكـوال نظـرة‬
‫سلا ٍم يف حلظـة حتللـه»‪ .‬مثـل زوجاتـه‪َ َ ،‬ت َّ‬
‫ـول دراكـوال إىل نحـن‬
‫النـزاف‪ ،‬تتحـرر مينـا أيضـ ًا مـن َ‬
‫اآلخـر‪.‬‬ ‫يف حلظـة موتـه‪ .‬وبمـوت َّ‬
‫‪188‬‬
‫الف�صل الرابع‬

‫هيتـف كوينسي موريـس يف كلامتـه األخيرة قائلاً‪« :‬شـكر ًا للـرب‬


‫أن جمهودنـا مل يذهـب عبثـ ًا! انظـروا! لقد عـادت جبهة مينـا بيضاء‬
‫ناصعـة كالثلـج! لقـد ذهبـت اللعنـة!»‪ .‬يطـرح منظـور الصفـات‬
‫ٍ‬
‫ألجيال‬ ‫البدائيـة أن السـبب الـذي جعـل الرواية وخامتتهـا فاتِنَتين‬
‫مـن القـراء‪ ،‬يقع يف اللـذة التي نشـعر هبا من عـودة ٍّ‬
‫كل مـن النزاف‬
‫وت ُّو ِلما مـن َ‬
‫آخـر إىل نحن‪.‬‬ ‫ومينـا َ َ‬
‫يكتـب إدوارد أوزبـورن ويلسـون‪« :‬أخير ًا‪ ،‬حتتـوي األقاليـم‬
‫ٍ‬
‫بضراوة تفـوق‬ ‫مركـز ًا منيعـ ًا‪ .‬يدافـع احليـوان املقيـم عـن إقليمـه‬
‫حمـاوالت الغازي النتزاعـه‪ ،‬من ثم فإن املدافِع ينتصر عادةً‪ .‬بمعنًى‬
‫للمدافِـع «ميـز ٌة أخالقيـة» يتفـوق هبـا على الدخيـل»)‪.(14‬‬
‫خـاص‪ُ ،‬‬
‫إذن فعلى املسـتوى البدائـي‪ ،‬نشـعر بالـرىض جتـاه هـذا االنتصـار‬
‫الـذي حيـرزه املدافعون عـن إقليمنا ويغـزون بِدَ ورهـم إقليم َ‬
‫اآلخر‬
‫ٍ‬
‫بإكبـار لبطولة كوينسي موريس يف‬ ‫الجتثـاث التهديـد‪ .‬هكـذا ننظر‬
‫تضحيتـه بحياتـه للدفـاع عام يمكن تسـميته بلغة ويلسـون جمموعتَه‬
‫االجتامعيـة‪ ،‬وأقربـاءه اجلينيين بلغـة داوكنـز‪ .‬إن صـدى التمثالت‬
‫البدائيـة الطاغـي على روايـة دراكـوال َج َعـل منهـا ومن شـخصية‬
‫معـال مركزيـة للت ََم ُّث َلني اإلقليمـي وال َق َبلي يف تاريخ األدب‬
‫َ‬ ‫النـزاف‬
‫َّ‬
‫واألفلام‪ ،‬يعـاد إنتاجهـا وتكرارهـا مـرار ًا بلا انتهـاء‪ .‬سـيكون‬
‫دور‪ ،‬بالطبـع‪ ،‬يف تغيير صـورة األنثـى السـلبية‬
‫للتغيرات الثقافيـة ٌ‬
‫التـي تنتظـر نجـدة الذكـور عاجـز ًة عـن فعـل يشء‪ ،‬كما سـتتغري‬
‫طبيعـة شـخصية النـزاف أيضـ ًا يف مـا بعد‪.‬‬
‫‪189‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫«أنا دراكوال‪...‬أدعوك للتفضل بالدخول»‬


‫َـب جـون ألكـوك ‪« :John Alcock‬ختربنـا النظريـة التفاعلية‬ ‫َكت َ‬
‫للنشـوء أن للجينـات‪ ،‬كما للبيئـة‪ ،‬دور ًا يف نشـوء مجيـع الصفـات‬
‫القابلـة للمالحظـة للكائنـات احليـة‪ ،‬بما يف ذلـك الصفـات‬
‫السـلوكية»)‪ .(15‬والكلمات املفتاحيـة هنـا هـي «كما للبيئـة»‪ ،‬والتي‬
‫تعنـي اليـوم‪ ،‬مقارنـة بما كانـت تعنيـه يف عصـور مـا قبـل التاريخ‪،‬‬
‫عـار َض عـامل البيولوجيا جـاي گولـد ‪Jay Gould‬‬ ‫البيئـة الثقافيـة‪َ .‬‬
‫املفاهيـم املركزيـة للسوسـيوبيولوجيا وعلـم النفـس التطوري عىل‬ ‫َ‬
‫أسـاس أهنا حتمويـة ‪ determinist‬بإفـراط‪ .‬لكنـه‪ ،‬بمعرض رفضه‬
‫بإجياز الـرؤى املتطرفة هلذين احلقلني‪« :‬تسـتند‬ ‫ٍ‬ ‫هلـذه العلوم‪ُ ،‬ي َع ِّـرف‬
‫ٍ‬
‫مبارش‬ ‫جينـي‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫أسـاس‬ ‫مجيـع هـذه االدعـاءات عىل افتراض وجـود‬
‫مربمين لنَكـون على مـا نحـن‬ ‫ألشـد صفاتنـا أساسـي ًة‪ .‬إذا كنـا َ‬
‫عليـه‪ ،‬فهذه الصفـات حتمية قطع ًا‪ .‬وسـيمكننا يف أحسـن األحوال‬
‫توجيههـا‪ ،‬لكـن لـن يمكننـا تغيريهـا‪ ،‬سـواء بـاإلرادة‪ ،‬الثقافـة‪ ،‬أو‬
‫وسـط بين احلتمويـة اجلينية‬ ‫ٌ‬ ‫طريـق‬
‫ٌ‬ ‫التعليـم»)‪ .(16‬هنالـك بالتأكيـد‬
‫التـي يؤيدهـا املتخصصـون األكثـر تطر ًفـا بعلـم النفـس التطوري‬
‫والسوسـيوبيولوجيا – وربما اسـتخدَ َمهم جاي گولـد يف حماججته‬
‫ـل َقـش وبين أولئك الذيـن يعتقدون بوجـود إرادة حـرة مائة‬ ‫كر ُج ِ‬
‫َ‬
‫باملائـة‪ .‬يؤمـن أكثرهم أن اهلمسـات البدائيـة ما زالت موجـودة فينا‬
‫ولكنهـا ُم َعدَّ َلـ ٌة بتأثير التغريات الثقافيـة‪ .‬و ُت َعدُّ الفنون الشـعبية قو ًة‬
‫آن معـ ًا‪ .‬ولكـ ْن كما نرى‬ ‫مؤ ِّثـرة ُ َت ِّفـز وتعكـس هـذه التغيرات يف ٍ‬
‫النزافين‪ ،‬ورغـم التعديلات الدرامية‬ ‫يف املسـار التطـوري ألفلام َّ‬
‫التـي طـرأت عليه خالل اخلمسين سـنة املاضية‪َّ ،‬‬
‫فـإن التمثل القبيل‬
‫‪190‬‬
‫الف�صل الرابع‬

‫ومتثـل الدفـاع عـن اإلقليـم مـا زاال عنرصيـن مركزيين يف أفلام‬


‫الرعـب وصنـف أفلام النزافني‪.‬‬
‫«أنـا دراكـوال» و «أدعـوك للتفضـل بالدخـول»‪ :‬هبـذا احلـوار‬
‫االفتتاحي بـدأ بيال لوگويس فيلـم ‪ Dracula‬للمخرج تود براوننگ‬
‫‪ ،Tod Browning‬حيـث أسـس لوگـويس‪ ،‬بلهجته الغريبـة املنتمية‬
‫ألوروبـا الوسـطى ومظهـره الغريـب‪ ،‬الصـورة السـينامئية للنزاف‬
‫كآخـر‪ ،‬الصـورة التـي صارت أساسـ ًا يف األفلام الكثيرة القادمة‪.‬‬ ‫َ‬
‫وبقيـت منـذ العـام ‪ 1931‬الـذي ُأنتِـج فيه ذلـك الفيلم حتـى يومنا‬
‫هـذا‪ .‬يشير االسـتمرار املدهـش لشـخصية النـزاف والتغيرات‬
‫املتنوعـة التـي طـرأت عليهـا يف حقـب زمنيـة خمتلفـة إىل أن امليمـة‬
‫بعمـق يف ُبنانـا النفسـية‪ .‬وضـع ديفيـد سـكال ‪David Skal‬‬ ‫ٍ‬ ‫تؤثـر‬
‫قائمة بتسـعة وثالثين إنتاجـ ًا مرسح ًّيا لشـخصية دراكـوال ومائتني‬
‫وثالثـة أفلام (أمريكيـة وغير أمريكيـة) باإلضافـة إىل العـروض‬
‫التلفزيونيـة‪ ،‬وقـد شـملت قائمته تلـك احلقبـة الزمنية منـذ صدور‬
‫الروايـة حتـى العـام ‪ .17)(2004‬ومنـذ ذلـك احلين‪ُ ،‬أنتِجـت الكثري‬
‫النزاف التي أسسـها برام سـتوكر‪.‬‬ ‫مـن األفلام التي َو َّظ َف ْ‬
‫ـت ميمـة َّ‬
‫َعكـس التغيرات الكبيرة يف صـورة النـزاف السـينامئية خلال‬ ‫ت ِ‬
‫اخلمسين سـنة األخيرة التغيرات املسـاوية هلـا حجم ًا يف الثقافة‪.‬‬
‫آخر متامـ ًا‪ ،‬الغازي‪ ،‬التهديد‬ ‫يبقـى النزاف عىل كل ٍ‬
‫حال وحشـ ًا‪َ ،‬‬
‫املحيـق باحلـوض اجلينـي منـذ بدايـة هذا اجلنـس من األفلام حتى‬
‫اليـوم‪ .‬تضاهـي عضـ ُة النـزاف غريز َة التكاثـر القويـة‪ ،‬حيث يمكن‬
‫النزافـة أن حيول نحـن إىل ُهم بعضتـه أو عضتها‪ .‬ت ِّ‬
‫ُصور‬ ‫للنـزاف أو َّ‬
‫‪191‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫أفلا ُم النزافين املبكـرة‪ ،‬التـي قامـت على روايـة بـرام سـتوكر‪،‬‬


‫اآلخرانيـة التـي يتصـف هبـا النـزاف‪ .‬بينما أضافـت التقنيات‬ ‫هـذه َ‬
‫البرصيـة لألفلام الالحقـة الكثيرة أبعـاد ًا جديـد ًة هلـذا التمثـل‬
‫املتميـز واجلـذاب‪ ،‬حيـث َن َّقحتْـه وعدَّ لتْه بطـرق متنوعـة كثرية‪.‬‬
‫ُصـور َمشـاهدُ اجلبـال املهيبـة والقلاع اخلربـة التـي نراهـا يف‬
‫ت ِّ‬
‫أوصـاف سـتوكر القادمـة مـن األدب‬ ‫َ‬ ‫العديـد مـن تلـك األفلام‬
‫صري أقوى مما‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫بتأثير َب‬ ‫القوطـي للقـرن الثامـن عشر‪ ،‬لكنها متتـاز‬
‫للنثـر الروائـي‪ .‬مقارن ًة بالرواية‪ ،‬يمكـن للفيلم أن يثير خوف ًا ورعب ًا‬
‫إناب ًّيـا أشـد حيويـ ًة ولـذ ًة يف تصويـره للطبيعـة اجلاحمـة ومـا يفعلـه‬
‫ضي الدهـر بالقلاع اهلرمة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫م ُّ‬
‫تطـورت عالمـات برصيـة مم ِّيـزة للنـزاف عبر تاريـخ السـينام‪،‬‬
‫علـن َمظهـر النـزاف‬‫آخـر‪ .‬ي ِ‬ ‫مـع أن التفاصيـل تتغير مـن فيلـ ٍم إىل َ‬
‫ُ‬
‫آخرانيتـه‪ ،‬يف مـا يشـبه املظاهـر الرمزيـة البرصية يف‬ ‫يف األفلام عـن َ‬
‫أنـواع ٍ أخـرى من األفلام كأفالم الغـرب األمريكي‪ ،‬حيـث يعتمر‬
‫قبعـات سـوداء بينما يرتدي األخيـار قبعات بيضـاء‪ ،‬أو يف‬ ‫ٍ‬ ‫األرشار‬
‫أفلام الزومبـي حيث التفسـخ واملشـية املتعثرة من املظاهر الرئيسـة‬
‫لشـخصية الزومبـي‪ .‬غالبـ ًا مـا اختيرت أزيـاء املمثلني الذيـن أدوا‬
‫آخرانيتهـم‪ :‬املعطـف الطويـل والياقـة‬ ‫دور دراكـوال بحيـث ت ِ‬
‫ُبرز َ‬
‫املرتفعـة أحيانـ ًا‪ .‬من املعـامل األخـرى لال َب َش َّية النـزاف‪ ،‬عدم ظهور‬
‫انعـكاس لـه يف املرايـا‪ ،‬كما أن خوفه وانكامشـه عند رؤيـة الصليب‬
‫يرمـز لطبيعتـه الرشيـرة‪ .‬ثـم هنـاك املشـهد الدرامـي حين يلـف‬
‫دراكـوال ضحيتـه األنثـى بمعطفـه الضخـم‪ .‬بالطبـع فـإن األفلام‬
‫‪192‬‬
‫الف�صل الرابع‬

‫أقـدر كثير ًا مـن الروايـة على توصيـل هـذه املـؤرشات البرصيـة‬


‫اآلخرانيـة‪ .‬يف أفلام دراكـوال املبكـرة‪ ،‬نشـاهد فرقـة األبطال‬ ‫على َ‬
‫التـي وصفهـا سـتوكر يف الروايـة‪ ،‬ولو ببعـض التغييرات يف أدوار‬
‫الشـخصيات وأسمائها وحذف بعض أجـزاء احلبكـة أحيان ًا‪ ،‬حيث‬
‫النزاف مـن تلويث حوضنا‬ ‫يدافـع أعضاؤها عـن إقليمنا ويمنعـون َّ‬
‫اجلينـي وجمموعتنـا االجتامعيـة‪ .‬لكـ ْن ابتدا ًء مـن السـبعينيات‪ ،‬قام‬
‫بعـض منتجي األفلام بإحـداث تغييرات يف الرسدية‪ ،‬وقـد بدأت‬
‫ضئيلـ ًة ثـم تصاعدت حتـى أصبحت انقالبـات جذريـة الحق ًا‪ .‬يف‬
‫النزاف وحشـ ًا مفرتسـ ًا غازي ًا‬
‫عـدد مـن األفالم البـارزة‪ ،‬مل نعد نرى َّ‬
‫رومانسي ُم َه َّمش‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫بطـل‬ ‫هيـدد احلـوض اجليني‪ ،‬بـل حتـول إىل‬
‫كان املخـرج األملـاين فريدريـك مورنـاو ‪Friedrich Murnau‬‬
‫فيلمي لروايـة دراكوال عام ‪ ،1922‬وكان اسـم‬ ‫ٍّ‬ ‫صانـع أول توظيـف‬
‫الفيلـم ‪ .(18) Nosferatu، a Symphony of Horror‬تعامـل مورناو‬
‫باسـتهتار واسـتخفاف مع حمتوى الرواية بام يف ذلك احلبكة وأسماء‬
‫وأدوار الشـخصيات‪ ،‬وربما يعـود ذلـك إىل أن الفيلـم مل يكن بإذن‬
‫مالكـي احلقـوق الفكرية ومـن ثم فقـد أراد مورناو جتنـب املالحقة‬
‫القانونيـة مـن خلال إحـداث بعـض التغييرات‪ .‬يف فيلـم مورناو‪،‬‬
‫حتـول دراكـوال إىل أورلـوك‪ ،‬هاركر إىل هاتـر‪ ،‬ومينـا إىل إيلني‪ .‬وقد‬
‫فشـلت هـذه التغييرات يف إقنـاع املحاكـم‪ ،‬مـن ثـم س ِ‬
‫ـح َب ْت مجيع‬ ‫ُ‬
‫ن َُسـخ الفيلـم من قاعـات السـينام‪ .‬تنطلق أحـداث الفيلـم يف مدينة‬
‫خياليـة تدعـى فيسـبورگ يف أملانيـا‪ ،‬لكـ ْن كما يف الروايـة‪ ،‬ينتقـل‬
‫رسـل الرشير نـوك البطل هاتر‬ ‫املشـهد فـور ًا إىل ترانسـلفانيا حيث ي ِ‬
‫ُ‬
‫‪193‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫إىل هنـاك ليتمكـن أورلوك من السـفر إىل فيسـبورگ‪.‬‬


‫الفيلـم على التمثلات البدائيـة مـن الروايـة كما هـي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫حافـظ‬
‫عبر جبال الكاربـات الوعرة حيـث تصادفه من‬ ‫خيـوض هاتر رحل ًة ْ‬
‫ثعالـب وبقايـا قلا ٍع خربة تتمركـز عىل قمـم اجلبال‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫حين إىل َ‬
‫آخـر‬
‫تطبيـق ممتـاز ألسـلوب مورنـاو التعبيري‪ .‬كما يف الروايـة‪ُ ،‬ي ِّذر‬ ‫ٍ‬ ‫يف‬
‫النـزاف‪ .‬تتطابق قلعة‬ ‫القرويـون هاتـر‪ ،‬لكنه يصر عىل دخول إقليـم َّ‬
‫أورلـوك يف الفيلـم مـع أوصاف القلاع اخلربـة املهيبـة يف الروايات‬
‫القوطيـة‪ ،‬كما إنـه اشترى بنايـة بـذات املواصفـات بالقـرب مـن‬
‫ُعرفنا افتتاحيـة الفيلـم إىل إقليم اآلخر‪،‬‬‫منـزل إيلين يف فيسـبورگ‪ .‬ت ِّ‬
‫النـزاف غـزوه إلقليمنا‪.‬‬ ‫وخيـرج بطلنـا مـن إقليمه اخلاص بينما يبدأ َّ‬
‫برسعـة يف جزئية اخلطـر املحيق باألنثـى‪ ،‬حيث يرى‬ ‫ٍ‬ ‫يدخـل مورنـاو‬
‫ٍ‬
‫مقصود‬ ‫أورلـوك صورة إيلين يف قالدة هاتـر فيهتف منبهر ًا يف إحيـاء‬
‫عنـق مجيـل»‪ .‬لك َّن مورنـاو حـذف اجلزئية‬ ‫مـن املخـرج «لِ َزوجتِـك ٌ‬
‫النزاف‪.‬‬
‫املتعلقـة بالعـدوى التي تسـببها عضـة َّ‬
‫كما فعـل مجيـع ُم ِرجـي أفلام دراكـوال املبكـرة بعـده‪ ،‬جعـل‬
‫آخـر‪ .‬وصـف‬ ‫ٍ‬
‫بوضـوح إىل كونـه َ‬ ‫مورنـاو َمظهـر دراكـوال يشير‬
‫سـتوكر دراكـوال بأنـه «رجـل عجـوز طويـل‪ ،‬حليـق متامـ ًا عـدا‬
‫شـارب أبيـض طويـل‪ ،‬ويرتـدي مالبس سـوداء خالصة من رأسـه‬
‫إىل أمخـص قدميـه»‪ .‬صنـع مورنـاو مظهـر ًا أكثـر متيـز ًا مـن الروايـة‬
‫ٍ‬
‫نظـرة‬ ‫حتـى‪ .‬فمالمـح أورلـوك الشـنيعة جتعلنـا نـدرك مـن أول‬
‫ٍ‬
‫كتهديد‬ ‫غـاز إلقليمنـا‪ ،‬كما ُيظهـره الفيلـم ‪-‬بوضـوح‪-‬‬ ‫آخـر‪ٍ ،‬‬ ‫أنـه َ‬
‫جنسي منـذ اللحظـة التي يسـيل لعابه فيهـا عىل صورة إيلين‪ .‬لك ْن‬‫ٍّ‬
‫‪194‬‬
‫الف�صل الرابع‬

‫خالفـ ًا لشـخصيات دراكـوال يف األفالم الالحقـة‪َ ،‬قدَّ م هـذا الفيلم‬


‫آخر بمعنًى حيـواين تقريب ًا‪ ،‬حيث املالمح املشـوهة‬ ‫أورلـوك بصفتـه َ‬
‫أخاذ ًة‬ ‫ٍ‬
‫لقطـات َّ‬ ‫واألنيـاب البارزة‪ .‬علاوة عىل ذلك‪ ،‬تضمـن الفيلم‬
‫ُظهر ظِلال أورلوك‬ ‫دخلـت تاريـخ السـينام‪ ،‬منهـا اللقطـات التـي ت ِ‬
‫وهـو يصعـد السـلم إىل َمـدع إيلين ثـم منظـره املهيـب على عتبة‬
‫البـاب‪ .‬وبالطبـع‪َ ،‬يمـل مشـهد افرتاسـه إليلين يف غرفـة النـوم‪،‬‬
‫ب واحـدة ِمنَّـا‪ ،‬امرأ ٌة‬ ‫ِ‬
‫وظلال يده املمسـكة هبـا‪ ،‬إحيا ًء جنسـ ًّيا‪ ،‬سـ ْل ُ‬
‫بالتحديـد‪ ،‬مـن ِق َبـل واحـد منهـم‪ .‬يف مجيع أفلام النزافين املبكرة‪،‬‬
‫بامـرأة – بوصفها حاملـة مسـتقبلنا اجليني من‬ ‫ٍ‬ ‫كان اخلطـر املحـدق‬
‫العنـارص املركزيـة يف الرعـب‪.‬‬
‫تضحـي إيلين بنفسـها بـأن تسـتدرج أورلـوك إىل خمدعهـا‪،‬‬
‫حيـث ُيدمـره ضوء الشـمس هنـاك يف النهايـة‪ .‬ختتلـف التوظيفات‬
‫النـزاف مـن الضوء‪.‬‬ ‫السـينامئية مـن حيـث تصويرهـا لطبيعـة نفور َّ‬
‫ضعـف فقـط لقـوى‬ ‫يف روايـة بـرام سـتوكر‪ ،‬كان للضـوء تأثير م ِ‬
‫ٌ ُ‬
‫دراكـوال‪ .‬لكـن إضافـة اجلزئيـة املتعلقة باسـتخدام ضوء الشـمس‬
‫كسلاح إىل احلبـكات‪َ ،‬ج َعـل مـن أورلـوك غازيـ ًا ليل ًّيـا بامتيـاز‪،‬‬
‫وهكـذا َيقـدح فينـا مهسـات اخلوف مـن احليوانـات املفرتسـة التي‬
‫مت موضوعـة مـوت‬ ‫طـاردت أسلافنا الغابريـن؛ كما اسـت ِ‬
‫ُخد ْ‬ ‫ْ‬
‫ـذف مورناو‬ ‫النـزاف بضـوء الشـمس يف أفلام ال حتىص الحقـ ًا‪َ .‬ح َ‬ ‫َّ‬
‫لا جذاب ًا‬
‫اجلزئيـة املتعلقـة بالدفـاع القبيل عن اإلقليـم‪ ،‬الذي كان متث ً‬
‫جـد ًا يف روايـة سـتوكر‪ .‬مع ذلك أصبح هـذا التمثل عنصر ًا مركز ًّيا‬
‫يف التوظيفـات السـينامئية الالحقـة الكثيرة ملوضوعـة النـزاف‪.‬‬
‫‪195‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫متكـن املمثـل واملخـرج الربيطـاين هاميلتـون ديـن ‪Hamilton‬‬


‫‪ Deane‬مـن رشاء حقـوق روايـة دراكـوال إلنتـاج مرسحيـة على‬
‫أساسـها‪ ،‬و ُع ِرضـت ألول مـرة يف لنـدن عـام ‪ 1927‬بسـيناريو مشترك‬
‫بين هاميلتون دين وجـون بالدرسـتون ‪ ،John Balderston‬وبعد سـتة‬
‫أشـهر‪ُ ،‬ع ِر َض ْت يف نيويورك بعد أن عدل بالدرسـتون السـيناريو‪ ،‬حيث‬
‫قـام املمثـل اهلنـگاري بيال لوگويس بـدور دراكـوال‪ ،‬وبعـد ‪ 241‬عرض ًا‬
‫للمرسحيـة يف نيويـورك‪ ،‬انتقلت الفرقة لعرضهـا يف مدن أخرى‪ ،‬كذلك‬
‫إصدار معـدَّ ٌل منها يف أحد املسـارح الكبرية يف لندن‪ .‬اسـتقطب‬
‫ٌ‬ ‫ُع ِـرض‬
‫نجـاح املرسحيـة اهتمام رشكة يونيفريسـال لإلنتـاج السـينامئي‪ ،‬فقامت‬
‫ُ‬
‫بشراء حقوق الفيلم من السـيدة سـتوكر‪ .‬بعـد أن قام لويـس برومفيلد‬
‫‪ Louis Bromfield‬بإجـراء بعـض التعديالت عىل السـيناريو املرسحي‬
‫الـذي كتبـه ديـن وبالدرسـتون‪ُ ،‬أنتِـج الفيلـم و ُع ِـرض ألول مـرة عـام‬
‫‪ 1931‬حيـث قـام لوگـويس بـدور البطولة فيـه أيض ًا‪.‬‬

‫النزاف أورلوك (ماكس رشيك ‪ )Max Schreck‬يموت بتأثري ضوء الشمس يف غرفة‬
‫إيلني هاتر (گريتا رشودر ‪)Greta Schröder‬‬

‫‪196‬‬
‫الف�صل الرابع‬

‫يف هـذا الفيلـم‪ ،‬بقـي التمثـل اإلقليمـي على حالـه كما كان يف‬
‫الروايـة تقريبـ ًا‪ ،‬حيـث ختـوض جمموعـة املحاربين القبليين نضاالً‬
‫اآلخـر‪ .‬تغري اسـم جوناثـان هاركـر إىل رينفلـد‪ ،‬وبينما تقطع‬ ‫ضـد َ‬
‫عربتُـه الطـرق الوعـرة يف مرتفعـات الكاربـات‪ ،‬تقـرأ إحـدى‬
‫ٍ‬
‫–بصـوت مسـمو ٍع فقـر ًة مـن كُت ِّيب للسـياح‪:‬‬ ‫املسـافرات بجـواره‬
‫لاع خربـ ٌة‬ ‫ِ‬
‫«بين القمـم الوعـرة املطلـة على ممـر بورگـو‪ ،‬تقـع ق ٌ‬
‫زمـن سـحيق»‪ .‬كام احلـال يف روايـة سـتوكر‪ ،‬تعكس هذه‬ ‫ٍ‬ ‫تعـود إىل‬
‫األوصـاف التـي تفوهت هبا املـرأ ُة لغ ًة تعـود إىل الروايـات القوطية‬
‫ُ‬
‫للقـرن الثامـن عشر‪ ،‬كا َملشـاهد املهيبـة واخلرائـب التـي نجدهـا‬
‫موصوفـ ًة يف كتابـات إيليـزا بارسـونز ‪ Eliza Parsons‬وتشـارلز‬
‫ماتوريـن ‪ .(19) Charles Maturin‬مل تتغير قلعـة دراكـوال يف الفيلم‬
‫كثير ًا عنهـا يف الروايـة‪ ،‬عـدا أن الفيلـم أضـاف إليهـا الوطاويـط‬
‫واجلـرذان‪ ،‬كما نـرى أيضـ ًا حيـوان املـدرع (األرماديلـو) عندمـا‬
‫يقترب رينفلـد مـن القلعـة‪.‬‬
‫الفيلـم مجيـع التمثلات البدائيـة التـي محلتهـا الروايـة‬
‫ُ‬ ‫قـدَّ م‬
‫بأسـلوب بصري‪ .‬إذ حيـذر القرويـون رينفلـد مـن دخـول إقليـم‬
‫النـزاف‪ .‬ثـم يرحـب بـه دراكـوال كما يرحـب هباركـر يف الروايـة‪،‬‬
‫بتحيتـه املعهـودة‪ :‬أنـا دراكـوال‪ ..‬أدعـوك للتفضـل بالدخـول»‪،‬‬
‫هكـذا يسـتدرج دراكـوال ضيفـه إىل داخـل إقليمه‪ ،‬حيـث ال بد أن‬
‫يدخـل بإرادتـه متامـ ًا كما جيب على دراكـوال أن حيصل على اإلذن‬
‫قبـل دخـول أقاليـم ضحاياه عندمـا يصـل إىل لندن‪ُ .‬ي َقـوي املخرج‬
‫آخرانيـة دراكوال بشـكل مبـارش حيث نرى مشـهد ًا‬ ‫تـود براوننـگ َ‬
‫‪197‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫عبر شـبكة عمالقة من خيـوط العنكبـوت دون‬ ‫للنـزاف وهـو يمر ْ‬


‫سـقت أسلافنا‬‫ْ‬ ‫أن خيرقهـا‪ .‬عندمـا تعوي الذئاب‪ ،‬املفرتسـات التي‬
‫«انص ْت إليهم! أطفـال الليل هؤالء!‬ ‫كأس املـوت‪ ،‬هيتف دراكـوال‪ِ :‬‬
‫مـا أعـذب أصواهتـم‪ ..‬لكأهنـا موسـيقى!» كما احلـال مـع ماكـس‬
‫رشيـك ‪ Max Schreck‬يف فيلم نوسـفرياتو ‪ ،Nosferatu‬يدل مظهر‬
‫لوگـويس‪ ،‬بعباءتـه الطويلـة وياقته املرتفعـة‪ ،‬بلهجتـه املميزة لرشق‬
‫أوروبـا‪ ،‬يـدل على أنه سـيد اإلقليـم الذي دخـل إليه رينفلـد‪ .‬لكن‬
‫دراكـوال يف هـذا الفيلـم خيتلـف كثير ًا عن املسـخ احليـواين يف فيلم‬
‫مورنـاو‪ .‬على العكـس متام ًا‪ ،‬يشـع لوگويس هنـا بالرجولـة اجلذابة‬
‫والقـوة‪ ،‬ما جعله مشـاهب ًا جـد ًا ألوصافـه يف رواية سـتوكر‪ .‬كام قلد‬
‫الكثير مـن املمثلني خـزر َة عينيـه عندما يلـف ضحيته بعباءتـه بينام‬
‫يفرتسـها‪ ،‬ليقتلهـا أحيانـ ًا وحيوهلـا إىل نوعه أحيانـ ًا أخرى‪.‬‬
‫كان كل مـا سـبق يطابـق الروايـة بما فيها مـن ٍ‬
‫مجال أخـاذ‪ ،‬لك َّن‬
‫لا مثير ًا يف ما خيص الصراع بني‬ ‫املخـرج أدخـل على رينفلـد تعدي ً‬
‫«النحـن» و «اهلُـم»‪ .‬ختتلف شـخصية رينفلد عن شـخصية نظريه يف‬
‫شـبه َّنزاف يعتاش على احلرشات‪ ،‬وأحالمه‬ ‫الروايـة‪ ،‬لكن حتوله إىل ِ‬
‫التـي يرى فيهـا اجلرذان وغريهـا من الكائنـات‪ ،‬جيعله يعيـش نوع ًا‬
‫مـن من الصراع الداخلي‪ .‬فمع أنـه كان ينتمـي إىل «اهلُـم» إىل احلد‬
‫الـذي جعله يمهـد لدخـول دراكـوال إىل املصحة النفسـية‪ ،‬حيث مل‬
‫يكـن األخير ليتمكن مـن دخوهلا دون دعـوة أحد سـاكنيها‪ ،‬إال إنه‬
‫كان ينتمـي أيضـ ًا إىل «النحـن» بما يكفـي جلعله يشـعر بالنـدم عىل‬
‫اخليانـة التـي اقرتفهـا‪ ،‬ومـن ثـم مسـاعدته لفـان هلسـنگ‪ ،‬دكتور‬
‫‪198‬‬
‫الف�صل الرابع‬

‫سـيوارد‪ ،‬وهاركـر – قبيل ٌة باسـل ٌة أخرى مـن املدافعني عـن اإلقليم‬


‫يمكننـا أن نتامهـى معها على اإليقاع بالعـدو وتدمريه‪.‬‬

‫الكونت دراكوال (بيال لوگويس) وتابِعه رينفيلد (دوايت فراي ‪)Dwight Frye‬‬

‫يف الثالثينيـات واألربعينيـات‪ ،‬أصبحـت رشكـة يونيفريسـال‬


‫املنتـج الرئيس ألفلام الرعب‪ ،‬حمققـ ًة أرباح ًا كبرية من إعـادة إنتاج‬
‫بصـور عديـدة كفيلـم ‪ Dracula’s Daughter‬عام ‪،1936‬‬ ‫ٍ‬ ‫دراكـوال‬
‫ثـم فيلـم ‪ Son of Dracula‬عـام ‪ ،1943‬وعـدد كبير مـن أفلام‬
‫الوحـوش األخـرى‪ .‬أعادت رشكـة هامر يف إنگلرتا إحيـاء دراكوال‬
‫يف ثامنيـة أفالم بدء ًا من فيلـم ‪ Horror of Dracula‬عام ‪ ،1957‬حتى‬
‫انتهـت السلسـلة ُقبيـل تفـكك الرشكـة مـع فيلـم ‪Legend of the‬‬
‫‪ Seven Golden Vampires‬عـام ‪ .1974‬يف معظـم تلـك األفلام‪،‬‬
‫قـام بيرت كوشـنگ ‪ Peter Cushing‬بدور فان هلسـنگ‪ ،‬بينام ُأسـنِد‬
‫النـزاف إىل الرهيـب كريسـتوفر يل ‪ .Christopher Lee‬أط َلـق‬ ‫دور َّ‬
‫‪199‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫أسـطور ُة الرعـب املخـرج ويـس كريفـن ‪ Wes Craven‬إصـداره‬


‫اخلـاص مـن دراكـوال عـام ‪ 2000‬بفيلمـه ‪ ،Dracula 2000‬ثم تبعه‬
‫بعـد ثلاث سـنوات بفيلـم ‪ِ .Dracula 2: The Ascension‬‬
‫وم ْثـل‬
‫معظـم أفلام النزافين املصنَّفة حتـت الصنـف يب‪ ،‬يسـتعيد الفيلامن‬
‫احلبكـة األصليـة‪ ،‬حيـث حيـاول دراكـوال املفترس غـزو عاملنـا‬
‫بينما حتاربـه عصبـة مـن املدافعين القبليين‪ .‬يغير كرافين مسرح‬
‫األحـداث مـن القالع املسـكونة إىل لندن املعـارصة يف فيلمه األول‪،‬‬
‫دت‬ ‫ٍ‬
‫فضائيـة يف فيلمه الثاين‪ .‬لكـ َّن التغيرات الثقافية و َّل ْ‬ ‫وإىل سـفينة‬
‫ٍ‬
‫تنويعـات جديـد ًة للتمثالت البدائيـة لإلقليم‪ ،‬القبيلة‪ ،‬االسـتحالة‪،‬‬
‫وشـخصية النـزاف بوصفـه َ‬
‫آخر‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫شخصية النزاف في عصر ما بعد الحداثة‪« :‬غريب في هذا‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ِّ‬
‫خاطئة هوت من عالم آخر»‬
‫ِ‬ ‫العالم المتنفس‪ ،‬روح‬

‫وآخر تقاتلـه عصب ٌة من‬ ‫بقـي َت َ ُّثل النـزاف بوصفه غازيـ ًا رشير ًا َ‬
‫املحاربين القبليني كما هو يف أفال ٍم مثـل ‪ Vampires‬عام ‪30 ،1998‬‬
‫‪ Days of Night‬عـام ‪ The Lost Boys ،2007‬عـام ‪ 1987‬وغريها‬
‫الكثير مـن أفلام اإلثـارة والرعـب‪ .‬لكـن من جهـة أخـرى‪ ،‬كان‬
‫ير صورة دراكـوال والتمثـل القبيل‬ ‫مسـار آخر مـن األفالم َغ َّ‬
‫ٌ‬ ‫هنـاك‬
‫ـول دراكـوال يف بعـض األفالم‬ ‫جذر ًّيـا‪ .‬مـع بدايـة السـبعينيات‪ُ ،‬ح ِّ‬
‫بطـل أو – على األقـل إىل شـخصية‬ ‫ٍ‬ ‫مـن الوحـش املفترس إىل‬
‫كاريزميـة جذابـة‪َ ُ .‬ت ِّسـد أفلا ُم النزافين يف عصر مـا بعـد احلداثة‬
‫آخـر على التفاعـل بين التمثلات البدائيـة وبين التأثيرات‬ ‫مثـاالً َ‬
‫ا ُمل َغ ِّيرة للثقافـة‪ .‬لكـ ْن حتـت هذه التغيرات‪ ،‬مـا زال دراكـوال ُي َقدَّ م‬
‫‪200‬‬
‫الف�صل الرابع‬

‫آخـر يريـد غـزو إقليمنا؛ كما يبقى خطـر االسـتحالة قائ ًام‪،‬‬
‫بوصفـه َ‬
‫ْ‬
‫وإن تغيرت تفاصيله‪.‬‬
‫ير املواقـف مـن‬ ‫تكتـب كارول سـينف ‪َّ Carol Senf‬‬
‫أن « َت َغ ُّ َ‬
‫ٍ‬
‫تعـاط أكثـر‬ ‫السـلطة ومـن التمـرد عليهـا يف زمننـا قـد‪ ...‬أدى إىل‬
‫النـزاف»)‪ .(20‬تبـدو ملحوظـات جـون كاويلتـي ‪John‬‬ ‫تعاطفـ ًا مـع َّ‬
‫‪ Cawelti‬حـول الصيـغ األدبيـة دقيقـ ًة أيضـ ًا مـن حيـث تفسيرها‬
‫النزافين‪ .‬يسـجل كاويلتـي أن الصيـغ‬ ‫للتقلبـات الثقافيـة يف أفلام َّ‬
‫منتجـات ثقافيـ ٌة‪ ،‬كام يكتب عـن وظيفتها مـن وجهة نظره‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫األدبيـة‬
‫ِ‬
‫ووجهات‬ ‫املصالـح‬ ‫القصـص التي تتبـع الصيغـة التقليديـة‬ ‫«تؤكِّـد‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ـل‬‫عـال متخ َّي ٍ‬
‫النظـر ]التـي يتبناهـا القـراء أو املشـاهدون[ بتقديـم َ‬
‫ُ‬
‫الصيـغ‬ ‫يصطـف مـع هـذه املصالـح ووجهـات النظـر‪ُ ...‬تكِّـن‬
‫اجلمهـور أن يستكشـفوا – يف عـامل اخليـال احلـدود بين املسـموح‬ ‫َ‬
‫بطريقة مسـي َط ٍر عليها بعنايـة إمكانية عبور‬ ‫ٍ‬ ‫واملمنـوع‪ ،‬وأن جيربـوا –‬
‫هـذه احلـدود)‪.(21‬‬
‫سـؤال يطرح‬ ‫ٌ‬ ‫مـن تعريـف كاويلتـي للصيغة كمنت ٍ‬
‫َـج ثقايف‪ ،‬يربز‬
‫نفسـه‪ :‬ما تأثري التمثلات البدائيـة يف َخ ْلق الثقافـة والصيغ األدبية‪.‬‬
‫آن واحد صورتان مـن َت َ ُّثل‬ ‫ابتـداء من السـتينيات‪ ،‬كانـت هنـاك يف ٍ‬
‫ً‬
‫النـزاف يمكـن مقارنـة التعـارض بينهما بالتعـارض بني شـخصية‬ ‫َّ‬
‫آريش بانكـر وشـخصية صهـره مايـكل يف املسلسـل الكوميـدي‬
‫التلفزيـوين الطويل ‪ .All in the Family‬يسـجل سـكوت بوكامتان‬
‫‪ Scott Bukatman‬أن «السـايرببنك ‪ ،cyberpunk‬التيكنـو‪-‬‬
‫سـوريالية‪ ،‬والتطبيـق النصي «مـا بعـد احلداثـي»‪ ،‬متثـل احتجاجـ ًا‬
‫‪201‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫مبـارش ًا على األنظمـة التقليديـة للمعنـى‪ ،‬غالبـ ًا مـن موقـع داخل‬


‫(أو يصطـف مـع) ال ُبنـى التجاريـة للثقافـة اجلامهرييـة»)‪ .(22‬يطـرح‬
‫أن هويـ ًة جديـدة جيـري إنتاجهـا عبر االقتحـام الثقـايف‬ ‫بوكامتـان َّ‬
‫ملختلـف أشـكال اإلعلام‪ ،‬مـن الروايـات إىل األفلام وصـوالً إىل‬
‫ووسـائل التواصـل االجتامعي‪،‬‬‫ُ‬ ‫ألعـاب الفيديـو‪ .‬خيلـق الكومبيوتر‬
‫والـكالم لبوكامتـان‪« ،‬هويـ ًة ِمن َِّص َّيـة ‪ .»terminal identity‬أمـا‬
‫فريجـح أن شـيئ ًا‬‫املنظـور النقـدي الـذي يعتمـد الصفـات البدائيـة ِّ‬
‫أكثـر أزليـ ًة يشـكل اهليكل األسـايس للثقافـة‪ ،‬كام – بدرجـة ما عىل‬
‫يوجـ ُه ويسـاهم يف عمليـة َخلقهـا‪ .‬يكتـب جوزيـف كارول‬ ‫األقـل ِّ‬
‫وتوجه‬
‫ِّ‬ ‫أن «أنصـار نظريـة التطـور يصرون على أن اجلينـات تقيـد‬
‫السـلوك البشري‪ .‬بينما يصر أنصـار البنائويـة الثقافيـة مـن اجلهة‬
‫األخـرى على إن الثقافة متمثلـ ًة بالفنون‪ ،‬ت َُشـكِّل التجربـ َة البرشي َة‪.‬‬
‫كال االدعا َءيـن صحيحـان‪ ،‬لكـن بعـض أنصـار األول وبعـض‬
‫أي أن صـواب أحدمهـا يقتضي‬ ‫أنصـار الثـاين يعدَّ اهنما متنافيين‪ْ ،‬‬
‫بالضرورة خطـأ َ‬
‫اآلخـر»)‪.(23‬‬
‫شـهدت القيـم‬
‫ْ‬ ‫منـذ هنايـة السـتينيات وبدايـة السـبعينيات‪،‬‬
‫انقالبـات هائلـة‪ .‬صدحـت أصـوات الشـباب باالحتجاج‬ ‫ٍ‬ ‫الغربيـة‬
‫ضـد حرب فيتنـام والنزعـة العنرصيـة وقضايا أخرى‪ ،‬حتـى ملؤوا‬
‫سـاحات اجلامعـات متظاهريـن وخالِقين لثقافـة جديـدة خاصـة‬
‫ٍ‬
‫(بعـروض‬ ‫هبـم‪ ،‬ثقافـ ٌة رسعـان مـا تلقفهـا وتبناهـا إعلام الرتفيـه‬
‫تلفزيونيـة مثـل مسلسـل ‪ )The Mod Squad‬وصناع ُة املوضة‪ .‬وقد‬
‫كان هـذا االنقالب اجلذري يف الوعـي ‪ consciousness‬واضح ًا يف‬
‫‪202‬‬
‫الف�صل الرابع‬

‫أفلام مثـل ‪ One Flew Over the Cuckoo’s Nest‬عـام ‪،1975‬‬


‫‪ Bonnie and Clyde‬عـام ‪ Easy Rider ،1967‬عام ‪ ،1969‬وغريها‬
‫الكثير مـن األفلام التي حتتفـي باهلامشي‪ ،‬البطـل املخالـف الذي‬
‫يعـارض القيـم السـائدة‪ .‬هكـذا َو َّظ َ‬
‫ـف املنتجون الرئيسـون ألفالم‬
‫الرعـب هـذه الـرؤى اجلديـدة للشـباب – الرشحيـة األهـم ضمـن‬
‫مجهورهـم املسـتهدَ ف يف أفالمهـم‪.‬‬
‫بصـدور فيلـم ‪ Blacula‬عـام ‪ ،1972‬وهـو مـن جنـس أفلام‬
‫النـزاف‪ .‬جتـري‬ ‫اضطهـاد السـود‪ ،‬بـدأ مشـوار التغييرات يف َت َ ُّثـل َّ‬
‫األمير‬
‫ُ‬ ‫أحـداث الفيلـم يف القـرن الثامـن عشر‪ ،‬حيـث يطلـب‬
‫اإلفريقـي ماموالـدي (ويليـام مارشـال ‪)William Marshall‬‬
‫مسـاعدة الكونـت دراكـوال إلهنـاء جتـارة العبيـد‪ .‬بـدالً مـن ذلك‪،‬‬
‫نـزاف أيضـ ًا‪ ،‬ثم يودعـه يف تابوت يبقـى مق َفالً‪.‬‬ ‫حيولـه دراكـوال إىل َّ‬
‫الفيلـم‬
‫ُ‬ ‫ُيفتَـح التابـوت أخير ًا يف متحـف يف العـام ‪ .1972‬يصـور‬
‫بالكـوال كعاشـق‪ ،‬حيـث يـرى فتاة مجيلـة تدعـى تينـا‪ ،‬فيحبها ألنه‬
‫تناسـخ لـروح لوفـا‪ ،‬املـرأة التي كانـت زوجتـه قبل أن‬ ‫ٌ‬ ‫يعتقـد أهنـا‬
‫شـمل‬ ‫نـزاف‪ .‬اسـت ِ‬
‫اجتامع ْ‬
‫ُ‬ ‫ُخدمت هذه احلبكة –‬ ‫حيولـه دراكوال إىل َّ‬
‫النزافين الحق ًا‪ .‬متيـز الفيلم‬ ‫احلبيبين عبر الزمـن يف ٍ‬
‫عدد مـن أفالم َّ‬
‫للنـزاف ما‪-‬‬ ‫مبكر َّ‬ ‫بمسـتوى ٍ‬
‫نمـوذج ٌ‬
‫ٌ‬ ‫عـال مـن الالمعقوليـة‪ ،‬لكنـه‬ ‫ً‬
‫قادر مـع ذلك على أن حيب‬ ‫بعـد‪ -‬احلداثـي بوصفـه رشيـر ًا ولكنـه ٌ‬
‫دخيـل ولكنـه مـع ذلـك شـخصي ٌة تثير تعاطفنا‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ح ًّبـا كبير ًا‪،‬‬
‫مـن األمثلـة األخـرى على التغيرات اجلذريـة يف صيغـة أفالم‬
‫النزافين‪ ،‬نجـد فيلـم ‪ Dracula‬الـذي أخرجـه دان كورتيـز ‪Dan‬‬

‫‪203‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫‪ Curtis‬عـام ‪ 1973‬وعـرض عىل التلفزيون‪ ،‬وفيلـم ‪ Dracula‬الذي‬


‫أخرجـه جـون بـادام ‪ John Badham‬عـام ‪( 1979‬وقـد وصفـه‬
‫املقطـع اإلعلاين بأنـه «قصـة حـب»)‪ .‬قـدَّ م كال املخرجين صور ًة‬
‫خمتلفـ ًة جـد ًا مـن دراكـوال‪ ،‬فجعاله نزافـ ًا قـادر ًا عىل احلـب‪ .‬ابتدا ًء‬
‫مـن العـام ‪ ،1966‬أنتَـج دان كورتيـز املسلسـل التلفزيـوين القوطي‬
‫الطويـل ‪ .Dark Shadows‬يف السـنة الثانيـة مـن املسلسـل‪ ،‬أدخـل‬
‫املخـرج شـخصية النزاف برنابـاس كولينز‪ ،‬الذي َج َّسـد اجلنسـانية‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫رشحيـة مـن النسـاء‬ ‫الكامنـة للنـزاف وداعـب الغريـزة اجلنسـية يف‬
‫اللـوايت تابعن املسلسـل‪.‬‬
‫يتامشـى فيلـم كورتيـز مـع التغيرات الثقافيـة مـن خلال‬
‫النـزاف‪ .‬يعزز‬
‫الرومانطيقيـة املفرطـة التـي أضفاهـا على شـخصية َّ‬
‫النزاف‬
‫كورتيـز املشـاعر املتضاربـة التـي نشـعر هبـا جتـاه شـخصية َّ‬
‫(أداهـا جـاك باالنـس ‪ )Jack Palance‬بـأن َّملـح إىل أن شـخصية‬
‫تناسـخ حلبيبـة دراكوال التي عاشـت يف القرون الوسـطى‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫مينـا هي‬
‫تبـدو شـخصية دراكـوال يف فيلـم كورتيـز مشـتق ًة بدرجـة مـا مـن‬
‫شـخصية برنابـاس مـن مسلسـل ‪ ،Dark Shadows‬لكـن الفيلـم‬
‫جعـل املشـاهدين يتعاطفـون معـه بدرجة أكبر‪ .‬كام يشير العنوان‪،‬‬
‫يعـد فيلـم كورتيـز األقـرب إىل حبكـة الروايـة بني معظـم األفالم‪،‬‬
‫كذلـك فهـو يعتمـد على التمثلات البدائيـة للقبليـة والدفـاع عن‬
‫اآلخر َّ‬
‫النزاف‬ ‫ِ‬
‫التناقض يف تصويـر َ‬ ‫اإلقليـم؛ لك َّن التم ُّثـل َت َغ َّي نَحـو‬
‫وتصويـر املحاربين القبليين‪.‬‬
‫باالنتقـال إىل فيلـم جـون بـادام‪ ،‬نـرى أن أدوار الشـخصيات‬
‫‪204‬‬
‫الف�صل الرابع‬

‫تغيرت عما كانت عليـه يف رواية سـتوكر‪ .‬إذ ينتقـل دور مينا هاركر‬
‫إىل شـخصية لويس سـيوارد (كيت نيليجـان ‪ ،)Kate Nelligan‬ابنة‬
‫الدكتـور سـيوارد‪ .‬وبـدالً مـن أن يسـتحوذ عليها دراكـوال (فرانك‬
‫النجيلا ‪ )Frank Langella‬رغم ًا عنهـا‪ ،‬تقع لويس يف حبه‪ .‬جيسـد‬
‫كل من فان هلسـنگ (لورنس أوليفيير ‪ Laurence Olivier‬بلكنته‬ ‫ٌّ‬
‫ـذال الذين‬ ‫األملانيـة)‪ ،‬جوناثـان هاركـر‪ ،‬والدكتور سـيوارد َدور ال ُع َّ‬
‫يسـعون إلجهـاض قصـة احلـب بين لـويس والنـزاف‪ ،‬يف منهـج‬
‫جديـد يف التعاطـي مـع صـورة املحاربين القبليني يف متثـل النزاف‪.‬‬
‫لا «أوصيك أال متـويت حتى‬ ‫عندمـا يـويص فان هلسـنگ لـويس قائ ً‬
‫نفسـه»‪ ،‬تـرد عليه «أحتاول‬ ‫يمـوت الشر العظيم الذي لوث حياتك ُ‬
‫األرق واألشـد حزن ًا؟»‪ .‬يف‬ ‫ُّ‬ ‫تضليلي؟ وتريـد تعذيبـه؟ وهو الكائـن‬
‫هنايـة الفيلـم‪ ،‬يبدو لوهلـة أن دراكوال حيترق ويمـوت بفعل ضوء‬
‫الشـمس‪ ،‬ولكنه اسـتطاع أخري ًا التحليق والفـرار يف صورة خفاش‪،‬‬
‫وحيش بينام تبتسـم لـويس مطمئن ًة‬ ‫ٍّ‬ ‫ثم يسـمع املشـاهدون عواء ذئب‬
‫إىل إنـه نجـا من املـوت‪ُ .‬ي َعـدُّ فيلـم بـادام نموذج ًا على ملحوظات‬
‫معظـم األفلام احلديثة دراكـوال‪ ...‬بوصفه‬ ‫ُ‬ ‫كارول سـينف‪ُ « :‬ت َقـدِّ م‬
‫شـخصي ًة جذابـة‪ ،‬أكثـر جاذبيـة – بكل مـا للكلمة من معنـى بكثري‬
‫النـزاف يف فلكلور األعامل األدبيـة األقدم‪ ،‬كام إنـه أكثر جاذبي ًة‬ ‫مـن َّ‬
‫بما ال يقاس مـن خصومه البرشيين»)‪.(24‬‬
‫النـزاف‬
‫غير صـورة َّ‬ ‫مل يكـن فيلما كورتيـز وبـادام أول مـن َّ‬
‫الكالسـيكية يف السـينام‪ .‬ففـي كتاهبما ‪ ،The Vampire Film‬ناقش‬
‫جيمس أورسـيني ‪ James Ursini‬وألني سـلفر ‪ Alain Silver‬عدد ًا‬
‫‪205‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫مـن األفلام السـابقة لفيلمـي بـادام وكورتيـز‪ ،‬وبحسـب املؤل َفني‪،‬‬


‫«تعـود جذور تلك األفالم إىل شـخصية لورد روثفين التي ابتكرها‬
‫بوليـدوري يف كتابـه ‪ The Vampyre‬وإىل شـخصية فارين من كتاب‬
‫وم ْثـل روثفين وفارين‪ ،‬كانت شـخصيات‬ ‫‪ِ .Varney the Vampire‬‬
‫تلـك األفلام مصاب ًة بمرض عقيل وجسـدي؛ ومل تسـتطع التخلص‬
‫ـخص املؤلفان أمثلة‬‫مـن لعنة الال َموت رغـم كل حماوالهتـا»)‪َ .(25‬ش َّ‬
‫ٍ‬
‫متعاطف‬ ‫عىل أفلام صورت النزافين بطريقة جتعل املشـاهد نصف‬
‫معهـا‪ ،‬ولـو أهنـا مل جتعل هلم جانبـ ًا رومانسـ ًّيا‪ ،‬ومنها أفلام ‪House‬‬
‫‪ ،)1945( The Vampire’s Ghost ،)1945( of Dracula‬و ‪The‬‬
‫بقيـت متثلات القبلية‪ ،‬اإلقليميـة‪ ،‬واخلوف‬‫ْ‬ ‫‪ Vampire‬عـام ‪.1957‬‬
‫اآلخـر للحـوض اجلينـي قائمـ ًة يف هـذه األفلام ويف‬ ‫مـن تلويـث َ‬
‫أفلام النزافين مـا – بعـد ‪-‬احلداثيـة التـي تلتهـا‪ ،‬لكـ َّن التغيرات‬
‫غيرت بؤرة تلـك األفالم‪ .‬فربما تُرى عصب ُة فان هلسـنگ‬ ‫ْ‬ ‫الثقافيـة‬
‫مـن املحاربين على أهنـا جتسـيد لقـوى االمتثاليـة االجتامعـي يف‬
‫رصاعهـا ضد العشـق املمنـوع يف بعـض األفالم‪.‬‬
‫على الـدوام‪ ،‬كان اجلنس عنصر ًا مركز ًّيا يف أفلام النزافني‪ .‬لكن‬
‫التقديـم السـينامئي املختلف للنـزاف بوصفه عاشـق ًا رومانسـ ًّيا ليس‬
‫إال جـزء ًا مـن التغيرات الثقافيـة عىل شـخصية دراكـوال األصلية يف‬
‫روايـة سـتوكر‪ .‬كان لبطـل كتابات الشـاعر جورج گـوردون بايرون‬
‫‪ ،George Gordon Byron‬وهـو صـور ٌة مبكر ٌة مـن البطل املخالف‬
‫النزافين اجلديدة‬
‫كبير ال على أفلام َّ‬ ‫تأثير ٌ‬
‫ٌ‬ ‫يف القـرن التاسـع عشر‪،‬‬
‫ٍ‬
‫جمـاالت أخـرى‬ ‫فحسـب‪ ،‬بـل على شـخصيات الثقافـة الشـعبية يف‬
‫‪206‬‬
‫الف�صل الرابع‬

‫أيضـ ًا‪ .‬أصبـح جـورج گـوردون بايرون لـورد بيرون ‪Lord Byron‬‬
‫بعـد أن أسـعفه احلظ بمـوت مجيع مـن كانـوا أما َمه يف سلسـلة وراثة‬
‫اللقـب‪ ،‬ويمكـن القول أنـه أصبح أكثـر شـعراء احلركة الرومانسـية‬
‫شـعبي ًة‪ .‬تظهر الشـخصي ُة النموذجي ُة لبايرون‪ ،‬والتي سماها الباحثون‬
‫بالبطـل البايـروين‪ ،‬بأسماء متنوعة يف أعمال بايرون الشـعرية‪ ،‬و ُأعيدَ‬
‫ٍ‬
‫أدبيـة وسـينامئية ال حتىص‪ ،‬من‬ ‫ٍ‬
‫كشـخصية نموذجيـة يف أعامل‬ ‫َخ ْلقهـا‬
‫وصـول إىل األدب الرويس كأعامل‬‫ً‬ ‫سلسـلة روايات األختين برونتي‬
‫ألكسـندر بوشـكني ‪ Alexander Pushkin‬يف القـرن التاسـع عشر‬
‫وإىل أفلام جيمـس ديـن ‪ James Dean‬أخير ًا‪ .‬تأ َّثر بايـرون ب ُكتَّاب‬
‫وخ ْلقهم «الرشيـر البطل» يف‬ ‫األدب القوطـي يف القـرن الثامـن عشر َ‬
‫رواياهتـم‪ ،‬الشـخصي ُة القويـة التي هتـدد البطالت يف تلـك الروايات‬
‫تقاوم‪.‬‬
‫ولكنهـا تتمتـع مـع ذلك بجاذبيـة جنسـية ال َ‬
‫التنـاص بأنه التفاعل‬ ‫َّ‬ ‫ـرف جوليـا كريسـتيفا ‪Julia Kristeva‬‬ ‫ُت َع ِّ‬
‫فسيفسـاء مـن‬ ‫ٍ‬ ‫نـص ن ْف َسـه على هيـأة‬‫أي ٍّ‬‫بين النصـوص‪« :‬يبنـي ُّ‬
‫وت ُّولـه»)‪ُ .(26‬متأ ِّث َر ًة‬ ‫آخر َ‬
‫نـص َ‬
‫نـص هو امتصاص ٍّ‬ ‫أي ٍّ‬
‫االقتباسـات؛ ُّ‬
‫بكتابـات ميخائيـل باختين ‪ Mikhail Bakhtin‬حـول التعدديـة‬
‫واحلواريـة ‪ dialogism‬وبنيوية سوسـيري‪،‬‬ ‫اللغويـة ‪ِ heteroglossia‬‬
‫تفرتض كريسـتيفا وغريها مـن النقاد املهتمني بتحليل التشـابك بني‬
‫النصوص‪ ،‬بحسـب جانين بلوتيل ‪ Jeanine Plottel‬وهانا تشـارين‬
‫آخر وهكذا إىل‬ ‫لنـص َ‬ ‫نـص هـو «صدً ى ٍّ‬ ‫كل ٍّ‬ ‫أن َّ‬
‫‪َّ ،Hanna Charney‬‬
‫النصوص خيـوط الثقافة ذاهتـا»)‪ .(27‬ربام‬ ‫ُ‬ ‫مـا ال هناية‪ ،‬وهكذا تَنسـج‬
‫التنـاص بأنـه اكتشـاف املعنـى يف الفراغ‬ ‫ِّ‬ ‫يمكننـا تعريـف التحليـل‬
‫‪207‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫بين السـطور يف النصـوص‪ ،‬ومن ثـم اسـتخراج اخلطـاب املطمور‬


‫يف التاريـخ والثقافـة الـذي خيرجـه العمـل اإلبداعـي للمؤلفين‪.‬‬
‫مـن املسـتب َعد أن منتجـي األفلام الذين ينتجـون صـور ًا معدَّ ل ًة من‬
‫مبـارش ببايـرون عبر قراءهتـم‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بشـكل‬ ‫البطـل البايـروين قـد تأثـروا‬
‫عبر األصـداء التناص َّية التي‬ ‫ألشـعاره‪ .‬لكـن نمط الشـخصية يعود ْ‬
‫شـهدتا هناية القـرن العرشين‪ .‬ما‬ ‫ْ‬ ‫تتردد يف التغيرات الثقافيـة التي‬
‫زالـت التمثلات البدائيـة للقبليـة ومحايـة احلـوض اجلينـي‪ ،‬والتي‬
‫امـرأة مـا‪ ،‬قائمـ ًة ولكنهـا تغريت بدرجـة كبرية‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫تتجسـد يف محايـة‬
‫ذات اهلالـة من اجلنسـانية والقوة التـي كانت متيز‬ ‫لِ َب َط ِ‬
‫ـل بايـرون ُ‬
‫األبطـال ‪ -‬األرشار يف أعمال األدب القوطـي املبكـرة‪ ،‬لكنـه يمتاز‬
‫حلـب واحـد يف حياتـه‪ ،‬وهـو مـا جيعله شـخصية‬ ‫ٍّ‬ ‫عنهـم بإخالصـه‬
‫جذابـة للقـراء‪ .‬يف قصيـدة ‪ ،The Giaour‬يصـف بايـرون بطله بأنه‬
‫«أكبر مـن أن يكـون أرض ًّيـا‪ ،‬وأقـل مـن أن يكـون سماو ًّيا»‪ ،‬رجل‬
‫ـك حلبيبته‪:‬‬‫أفضـل مـن باقـي الرجال لكـ َّن قلبـه م ْل ٌ‬
‫«كان – ٍآه رشير ًا أغرقه الندم‬
‫ولكـ ْن ال يشء ‪ -‬ال شـغفه وال ذنْبـه حتـى‪ -‬اسـتطاع إطفاء هذا‬
‫الشـعور األمجل»)‪.(28‬‬
‫«غريب يف هـذا َ‬
‫العال‬ ‫ٌ‬ ‫أمـا يف قصيـدة ‪ ،Lara‬فيصـف بطلـه بأنـه‬
‫آخر»‪.‬‬ ‫هـوت من َ‬
‫عـال َ‬ ‫ْ‬ ‫املتن ِّفـس‪ٌ ،‬‬
‫روح خاطئـة‬
‫يظهـر هـذا البطـل مـرار ًا وتكـرار ًا يف قصائـد بايـرون (بأسماء‬
‫خمتلفـة) وأعمال مـن قلـده من الكتَّـاب‪ ،‬ويتصـف بأنـه وحيش‪ ،‬غري‬
‫‪208‬‬
‫الف�صل الرابع‬

‫متقيـد باألعـراف‪ ،‬وقـادر على اإلتيـان بأفعـال رشيـرة؛ لكـن قلبـه‬


‫بحـب خالص المـرأة واحـدة‪ .‬حيمل فيلما كورتيـز وبادام‬ ‫ٍّ‬ ‫ٌ‬
‫مسـكون‬
‫شـظايا مـن أعمال بايـرون‪ ،‬لكننا نجـد البطـل البايروين جمسـد ًا بكل‬
‫تفاصيلـه يف فيلم ‪ Bram Stoker’s Dracula‬الذي أخرجه فرانسـيس‬
‫فـورد كوبـوال ‪ Francis Ford Coppola‬عـام ‪ .1992‬تُطابِـق النبر ُة‬
‫ٍ‬
‫حالـة‬ ‫امليلودراميـة للفيلـم ِشـ ْعر بايـرون‪ ،‬كما ُي َعـدُّ الفيلـم دراسـ َة‬
‫ممتـاز ًة للتغيرات الثقافيـة وتفاعـل الثقافـة مـع التمثلات البدائيـة‪.‬‬
‫النـزاف ببعـض سمات املتمـرد الرومانسي‬ ‫يف فيلـم كوبـوال‪ ،‬يتميـز َّ‬
‫ويثير التعاطـف؛ لكنـه يبقـى مـع ذلـك وحشـ ًا ينبغـي على حماربينا‬
‫القبليين مالحقتـه وتدميره‪ .‬مـن منظور علـم النفس التطـوري‪ ،‬قد‬
‫آخر بالكامل‪.‬‬ ‫آخر يف ٍ‬
‫آن معـ ًا‪ ،‬ال َ‬ ‫نـرى النـزاف الرومانيس كـ نحـن و َ‬
‫النهـج منتـج الفيلم بصراع مثير‪ ،‬يشـكل‪ ،‬يف النهاية‬ ‫ُ‬ ‫زود هـذا‬‫وقـد َّ‬
‫عماد الدرامـا‪ :‬الصراع الـذي يشـعر بـه اجلمهور بين دعمـه لعصبة‬
‫املحاربين القبليين وبين تعاطفـه مـع دراكوال‪.‬‬
‫كما يف الكثير مـن أفلام دراكـوال األخـرى‪ ،‬سـار كوبـوال على‬
‫خطـى التقاليـد القوطيـة املبكـرة يف صناعتـه لفيلـم ‪Bram Stoker’s‬‬
‫‪ .Dracula‬وربما يظـن املـرء أن كوبـوال وفريقـه مـن كتاب السـيناريو‬
‫آخـر مـا كُتِب مـن نقـد لرواية بـرام سـتوكر قبل‬ ‫قـد قـرؤوا شـيئ ًا مـن ِ‬
‫ٍ‬
‫تفسيرات نقدي ًة‬ ‫إنتاجهـم للفيلـم‪ .‬تَعكـس عـدة مشـاهد مـن الفيلـم‬
‫حمـدَّ دة‪ .‬إذ نـرى فيـه مشـهد ًا لدراكوال منتشـي ًا بعـد أن تضـع مينا فمها‬
‫على اجلـرح الـذي أحدثـه يف صـدره‪ ،‬وكما يطـرح كريسـتوفر بينتلي‬
‫‪ Christopher Bentley‬يف مقالتـه النقديـة املنشـورة عـام ‪ 1972‬عـن‬
‫‪209‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫إسـقاط على مـص القضيـب‪ ،‬وقـد تابعـه الحقـ ًا نقـا ٌد‬


‫ٌ‬ ‫الروايـة‪ ،‬فإنـه‬
‫آخـرون يف رؤيتـه هذه‪ .‬ينطبق األمر ذاته عىل مشـهد آخـر – يف الرواية‬
‫زوجـات دراكوال عىل جوناثـان هاركر وهو‬ ‫ُ‬ ‫والفيلـم أيض ًاــ جتثـو فيه‬
‫راقـد‪ ،‬حيـث يرمـز الـدم للسـائل املنوي‪ ،‬بحسـب تفسير كريسـتوفر‬
‫كرافـت ‪ Christopher Craft‬لالنقلاب اجلنـدري يف الروايـة)‪.(29‬‬
‫ال بـد أن نشير إىل أن املخـرج كوبـوال وكاتب السـيناريو جيمس‬
‫هـارت ‪ James Hart‬مل َيقصرا فيلمهما على جمـرد توظيـف روايـة‬
‫دراكـوال‪ ،‬بـل أضافـا الكثير إىل القصـة مـن خلال إعـادة صياغـة‬
‫لآلخـر واملحاربني القبليين الذين يالحقونه‪ .‬شـهد‬ ‫التمثـل البدائـي َ‬
‫تعديلات عىل احلبكـة ب ُط ُر ٍق تعكـس التغيرات يف العالقات‬‫ٍ‬ ‫الفيلـم‬
‫وتأثير الثقافـة على التمثلات‬ ‫َ‬ ‫اجلندريـة يف حقبـة إنتـاج الفيلـم‪،‬‬
‫البدائيـة‪ .‬خيتلـف دراكوال يف فيلم كوبـوال‪ ،‬والـذي أدى دوره گاري‬
‫أولدمـان ‪ Gary Oldman‬كثير ًا عـن النـزاف الرشيـر يف روايـة برام‬
‫وآخـر متامـ ًا‪ .‬لكن‬
‫سـتوكر‪ .‬ومـع ذلـك فإنـه يبقـى وحشـ ًا بالطبـع‪َ ،‬‬
‫أولدمـان أضاف إىل الشـخصية ُبعـدَ النبالة املرتدية‪ ،‬اهليبة الشـيطانية‪،‬‬
‫وامليالنخوليـا الكونيـة للبطل البايروين باإلضافة إىل قدرة الشـخصية‬
‫على احلب الذي ال يمـوت‪ِ .‬م ْثل بطـل بايرون‪ ،‬يتصـف بطل كوبوال‬
‫ٍ‬
‫سمات عقليـ ًة نبيلة‪.‬‬ ‫آخـر يعكس‬ ‫آخـر‪ ،‬لكنـه َ‬
‫بأنـه َ‬
‫يبـدأ الفيلـم بلمسـة بايرونية‪ :‬قص ٌة تـروي كيف حتـول دراكوال‬
‫ٍ‬
‫نـزاف يف القـرن اخلامس عرش ألنـه كفر بالرب بعـد أن انتحرت‬ ‫إىل‬
‫زوجته إليزابيث بسـبب القساوسـة‪« .‬سـأهنض من مـويت ألنتقم هلا‬
‫بـكل قـوى الظلام‪ .‬الدم هـو احليـاة‪ ،‬وسـيعطيني احليـاة»‪ ،‬يرصخ‬
‫‪210‬‬
‫الف�صل الرابع‬

‫دراكـوال منتحبـ ًا‪ِ .‬م ْث َـل بطـل بايـرون‪ ،‬يغترب دراكـوال عـن بنـي‬
‫آخر‪ .‬من ثـم يعيد الفيلـم موضوعة‬ ‫جنسـه من البشر‪ ،‬ليتحـول إىل َ‬
‫التناسـخ التـي ظهـرت يف فيلـم ‪ Blacula‬وفيلمـي كورتيـز وبادام‪،‬‬
‫حيـث يـزور جوناثـان هاركر قلعـة الكونـت دراكوال بعـد أربعامئة‬
‫عـام عىل وفـاة اليزابيث فيرى الكونت صـور ًة ملينا هاركـر (وينونا‬
‫رايـدر ‪ )Winona Ryder‬فيعـرف أهنـا إليزابيث نفسـها قـد ُولِدَ ْت‬
‫مـن جديـد‪ .‬يتبـع الفيلـم اخلطـوط الرئيسـة حلبكـة الروايـة‪ ،‬مـع‬
‫بعـض التغييرات يف الشـخصية تعكـس التغيرات الثقافيـة‪ .‬يعاود‬
‫الفيلـم التوكيـد مـرار ًا على ازدواجيـة دراكـوال من حيـث إنه نحن‬
‫مسـقط ًا عليه الصفات املختلطـة للبطل املخالف‪،‬‬‫ِ‬ ‫وآخـر يف ٍ‬
‫آن معـ ًا‪،‬‬ ‫َ‬
‫جـذري عن التمثـل البدائـي َ‬
‫لآلخرانيـة يف الرواية‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫اختلاف‬ ‫يف‬
‫ٍّ‬
‫عندمـا يصـل هاركـر إىل ترانسـلفانيا‪ ،‬يـرى دراكـوال هبيئة رجل‬
‫ٍ‬
‫منظـر يترك يف الن ْفـس انطباعـ ًا كرهيـ ًا متامـ ًا‪ .‬يتمتـع‬ ‫عجـوز ذي‬
‫لا أحيان ًا‪ ،‬كام‬ ‫دراكـوال ببرشة بيضاء شـديدة الشـحوب‪ ،‬ويبـدو ِ‬
‫مهم ً‬
‫إن ترسحية شـعره ولباسـه‪ ،‬ورغـم انتامئهام إىل موضة عصره القديم‪،‬‬
‫للمشـاهد بنـو ٍع من التخنث واالنحطـاط‪ .‬يصل الكونت إىل‬ ‫ِ‬ ‫يوحيان‬
‫ليلي من الفلكلور‬‫جنيس ٌّ‬ ‫ٌّ‬ ‫إنگلترا ونـراه مر ًة عىل هيـأة جاثوم‪ٌ ،‬‬
‫وحش‬
‫القروسـطي‪ ،‬نصـف إنسـان ونصف وحـش‪ ،‬حيث نـراه يعتيل صدر‬
‫لـويس ويسـترينا يف ممـرات احلديقـة‪ .‬عندمـا يقتحـم دراكـوال الحق ًا‬
‫مسـكن مينـا يف مستشـفى الدكتـور سـيوارد ويواجهـه فان هلسـنگ‬
‫وفريقـه‪ ،‬يتحـول دراكـوال إىل هيـأة برشيـة ممسـوخة جـد ًا وبـرأس‬
‫لآلخرانيـة الوحشـية للشـخصية‪ .‬أما‬ ‫بصري آخـر َ‬ ‫ٍّ‬ ‫خفـاش‪ ،‬يف ٍّ‬
‫جتـل‬
‫‪211‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫يف لقاءاتـه مـع مينـا‪ ،‬فيكـون دراكـوال يف أشـد حاالته أناقـ ًة‪ .‬أضاف‬
‫كوبـوال يف فيلمـه ملسـة مـن الرقـة إىل الشـخصية ال نجدهـا يف فلاد‬
‫ملـك ترانسـلفانيا وال عنـد عفريـت اجلاثـوم‪ .‬فحينما يلتقـي بمينـا‪،‬‬
‫ٍ‬
‫حميطـات من الزمن‬ ‫يأخذهـا دراكـوال جانب ًا وحيدثهـا قائالً‪َ « :‬ع َ‬
‫بر ُت‬
‫ألجـدك»‪ .‬ثـم يبدو عىل وشـك رشب دمهـا‪ ،‬لكنه يكبح مجاح نفسـه‬ ‫ِ‬
‫ويمتنـع‪ .‬ويف تلـك اللحظـة‪ ،‬نـرى الذئب الـذي حـرره دراكوال من‬
‫حديقـة احليـوان يف لنـدن‪ ،‬حمدثـ ًا اهللـع والفـوىض‪ .‬لكـ َّن دراكـوال‬
‫يزجـره‪ ،‬كما نـرى مينـا تالعـب ذلـك احليـوان أيضـ ًا‪ .‬يمكـن فهـم‬
‫اجلانـب الوحيش مـن دراكوال‪.‬‬
‫َ‬ ‫رمزيـة هـذا املشـهد باعتبـار الذئـب‬
‫مـن ثـم فـإن مالطفة مينـا لذلك املخلـوق تبين قدرهتا على التحكم‬
‫بـه‪ ،‬باإلضافة إىل ذلـك‪ ،‬فإن املشـاهد التي تعرض ذكريـات دراكوال‬
‫عـن إليزابيـث جتعله ينتمـي أكثـر إىل النحن‪ .‬أمـا املظهـر الفيكتوري‬
‫األنيـق لدراكـوال فيمثـل اجلانـب الطيب مـن طبيعـة دراكوال‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بوضـوح‬ ‫نـرى اجلانـب اجليـد يف طبيعـة دراكـوال مـرة أخـرى‬
‫عندمـا تطلـب منه مينـا أن جيعلهـا له‪« :‬أريـد أن أكون معـك دوم ًا»‬
‫هتمـس مينـا‪ ،‬فيرد عليهـا‪« :‬ال فكـرة لديـك عما تطلبينـه منـي‪ ،‬ال‬
‫حيـاة يف هذا اجلسـد»‪.‬‬
‫ورغـم معرفتهـا أن «أمريهـا الفاتـن» قـد قتـل صديقتهـا لويس‪،‬‬
‫تصر مينـا على طلبهـا‪ .‬وعندمـا يبـدأ دراكـوال بإعطائهـا دمـه‪،‬‬
‫يكـف فجـأة ويبـدأ بالبـكاء‪« :‬ال‪ ،‬ال يمكننـي أن َأ َد َع هـذا حيـدث»‪.‬‬
‫ال يسـتطيع أن يدعهـا «متشي يف ظِلال املـوت إىل األبـد»‪ ،‬ويتحسر‬
‫تنضـم إىل حبيبها‬
‫َّ‬ ‫قائلاً‪« :‬أحبـك كثري ًا مينـا»‪ .‬لك َّن مينا تصر عىل أن‬
‫‪212‬‬
‫الف�صل الرابع‬

‫يف حياتـه األبديـة وموتـه األبـدي‪ .‬هكـذا نجـد أن دراكـوال يف هـذا‬


‫الفيلـم‪ ،‬خيتلـف كثير ًا عـن الشـخصية األصليـة يف روايـة سـتوكر‪.‬‬
‫يعيـد فيلـم كوبـوال تصوير روايـة سـتوكر للمحاربين القبليني‬
‫ومالحقتهـم للنـزاف‪ ،‬بما يف ذلـك اخلامتـة املثيرة‪ .‬إال إن التغيري يف‬
‫طريقـة مـوت دراكـوال‪ ،‬يعكـس التغيير الـذي طـرأ على التمثـل‬
‫القبلي‪ .‬يتمكـن حماربونـا مـن حمـارصة النـزاف وإثخانـه باجلـراح‪.‬‬
‫لكـن مينـا هـي مـن تذهـب إليـه يف النهايـة عندمـا يطلـب منها أن‬
‫حتـرره‪ ،‬وهنـاك تطعنـه يف قلبـه‪ ،‬ثـم تقطـع رأسـه‪ ،‬بينام نـرى لوح ًة‬
‫تصـور امللـك فلاد وإليزابيث ومهـا يصعـدان نحو السماء‪ .‬يف هذا‬
‫التعديـل احلديث للتمثل القبلي‪ ،‬ينجح حماربونـا القبليون يف هزيمة‬
‫الغـازي‪ ،‬لكنهـم مل يتمكنـوا مـن ذلـك إال بمسـاعدة امرأة‪.‬‬

‫دراكوال (گاري أولدمان) يف زيه الفيكتوري األنيق‬

‫‪213‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫يقـدم لنا الفيلم شـخصي َة أنثـى خمتلف ًة عن مينـا هاركر يف الرواية‬


‫وعـن البطالت يف األفلام األقدم‪ ،‬صور ٌة متأثـر ٌة بالتغريات الثقافية‬
‫احلاليـة وتَصا ُعـد أصـوات النقـد النسـوي (الفيمنسـتي)‪ .‬يكتـب‬
‫ديفيـد بـاس‪« :‬حابـى التطـور البيولوجـي النسـاء اللـوايت يعجبهن‬
‫صفـات توفـر هلـن فوائـد‪ ،‬وال يعجبهـن‬ ‫ٍ‬ ‫الرجـال الذيـن حيملـون‬
‫صفـات تُرتِّـب عليهن خسـائر‪ .‬وتُشـكِّل‬ ‫ٍ‬ ‫الرجـال الذيـن حيملـون‬
‫جنيس‬ ‫ٍ‬
‫كرشيـك‬ ‫كل واحـدة مـن الصفـات مكونـ ًا من قيمـة الرجل‬
‫ٍّ‬
‫ٍ‬
‫بمكون‬ ‫مـن وجهـة نظـر املـرأة‪ .‬ويتعلـق كل واحد مـن تفضيالهتـا‬
‫مـن تلـك املكونـات»)‪ِ .(30‬م ْثـل كثير مـن مقـوالت املتخصصين‬
‫بعلـم النفـس التطـوري‪ ،‬تبـدو كلمات باس هـذه جنسـوي ًة جد ًا يف‬
‫أنماط تكيفيـة ورثناهـا عـن‬ ‫ٍ‬ ‫الظاهـر‪ .‬لكنـه يتكلـم يف احلقيقـة عـن‬
‫ٍ‬
‫بشـكل‬ ‫غير ْت الثقافـة األدوار اجلندريـة‬
‫أسلافنا البدائيين‪ .‬إنما َّ‬
‫ها ئل ‪.‬‬
‫يف هـذا اإلصـدار مـن حكايـة سـتوكر‪ ،‬تعكـس شـخصي ُة مينـا‬
‫بحضـور أقوى مـن حضور ذات‬ ‫ٍ‬ ‫هـذه التغيرات الثقافيـة‪ .‬إذ تتميز‬
‫الشـخصية يف التوظيفـات الفيلميـة األخـرى للروايـة‪ .‬تقـدم لنـا‬
‫ٍ‬
‫مسـح‬ ‫هيلين فيشر مـا قد يبـدو أمـر ًا بدهيـ ًا عندمـا تلخـص نتائج‬
‫رجل وامـرأة حول انجذاباهتم اجلنسـية‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫أجرتـه على أكثر مـن ‪800‬‬
‫«يزيـد عـدد النسـاء األمريكيـات الباحثـات عـن األمـان املـايل يف‬
‫الرشيـك بمقـدار الضعـف عـن عـدد الرجـال الذيـن يبحثـون‬
‫َ‬
‫العـال‪،‬‬ ‫عـن الصفـة ذاهتـا يف الرشيكـة‪ ...‬يف الواقـع‪ ،‬يف مجيـع بقـاع‬
‫تنجذب النسـاء أكثر للشركاء الذيـن يتميزون بالتعليـم‪ ،‬الطموح‪،‬‬
‫‪214‬‬
‫الف�صل الرابع‬

‫الثـروة‪ ،‬االحترام‪ ،‬املكانـة‪ ،‬واملنصب‪ ،‬وهـي األنواع مـن الصفات‬


‫بحثـت عنها النسـاء السـالفات يف رشكائهن يف إنشـاء األُ ْسة‬
‫ْ‬ ‫التـي‬
‫إ َّبـان عصـور ما قبـل التاريـخ»)‪.(31‬‬
‫مـن منظـور علم النفس التطـوري‪ ،‬يف جمتمع أسلافنا الغابرين‪،‬‬
‫ال بـد أن الرجـل الـذي حيـوز تلك الصفـات كان قـادر ًا على إعالة‬
‫ومحايـة املـرأة وأطفاهلا‪ .‬لكن النسـاء‪ُ ،‬تنَ ِّظر فيرش‪ ،‬كثير ًا ما يتجاهلن‬
‫هـذه الرغبـة يف االسـتقرار واحلامية‪ .‬فهي – الرغبة ال تسـتطيع دائ ًام‪،‬‬
‫بحسـب فيشر‪ ،‬إطفـاء الرغبـات العابـرة التـي قـد تقـود امـرأ ًة إىل‬
‫يت قد يقـدح فيها احلب – أو الشـهوة‬ ‫قـوي كاريزما ٍّ‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫برجـل‬ ‫االفتتـان‬
‫رغـم أنـه ال يبـدو مسـتعد ًا أبـد ًا لعالقـة أرسيـة مسـتقرة وتنشـئة‬
‫أألطفـال‪ .‬وهذا هـو رس االنجـذاب إىل «الفتيان السـيئني»‪.‬‬
‫يتطـرق فيلـم ‪ Picnic‬الصـادر عـام ‪ 1955‬إىل هـذه الفكـرة‪،‬‬
‫حيـث يعرض كيـف يمكن لقـوة االنجذاب اجلنسي أن تتفوق عىل‬
‫الرغبـة باالسـتقرار‪ ،‬حيـث تقـع الفتـاة اللطيفة مـادج (كيـم نوفاك‬
‫‪ ،)Kim Novak‬وهـي على وشـك الزواج من رجل حمرتم ميسـور‪،‬‬
‫حـب فتى مشرد ضائع يدعـى هال (ويليـام هولديـن ‪William‬‬ ‫ِّ‬ ‫يف‬
‫‪ .)Holden‬قـام كوبـوال يف فيلمـه ‪ Bram Stoker’s Dracula‬بِ َ ِّ‬
‫لي‬
‫الذكَـر‬‫رسديـة روايـة سـتوكر ليجعـل مينـا تنجـذب إىل شـخصية َ‬
‫املهيمـن‪ ،‬ولكنـه جعلهـا قويـ ًة بما يكفي لتتخلى عنه‪.‬‬
‫يمكـن أن يشير أنصـار النسـوية – وهـم عىل حـق إىل احلاجة‬
‫إلحـداث تغييرات يف الثقافـة حتـرر النسـاء مـن الوضـع الـذي‬
‫ِ‬
‫املشـاهدات‬ ‫عاشـته النسـاء السـالفات‪ .‬ومـع ذلـك قـد تبقـى‬
‫‪215‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬
‫ٍ‬
‫رافضـات هلـذه األدوار‬ ‫والقارئـات يشـعرن بلـذة – حتـى لـو ك َّن‬
‫اجلنسـية يف احليـاة الواقعيـة جتـاه مشـهد املحاربين القبليين وهم‬
‫قـوي مهيمن‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫رجـل‬ ‫يدافعـون عـن امـرأة ومـن ثـم انجذاهبـا إىل‬
‫مـت حلقـة ‪ 10‬نيسـان ‪2009‬‬ ‫ولـو إنـه حيمـل بعـض العيـوب‪َ .‬قدَّ ْ‬
‫مـن املسلسـل الكارتـوين ‪ Dilbert‬عرضـ ًا فكاه ًّيا عـن االنجذاب‬
‫اجلنسي التطـوري‪ .‬يف الكادر األول‪ ،‬حياول دلبرت أن يطبق فكرة‬
‫فتـاة يف حانـة فيخربهـا أنـه مو َّظـف‪ ،‬ذكـي‪ ،‬ال يعيش مع‬‫إلغـواء ٍ‬
‫والديـه‪ ،‬وإنـه سـيكون على األرجـح أبـ ًا جيـد ًا ألطفـال رائعني‪.‬‬
‫تبـدو الفتاة بعـد ذلك مرتبكـة‪َ ،‬ت ْعرق كفوفها وتتسـارع أنفاسـها‪،‬‬
‫أمر‬
‫مـن ثم تسـأل دلربت عن مـا الذي حيدث هلـا‪ ،‬فيجيبها‪« :‬هـذا ٌ‬
‫آالف السـنني من السـلوك التكيفي اسـتجاب َة‬ ‫ُ‬ ‫شـكلت‬
‫ْ‬ ‫داروينـي»‪.‬‬
‫ٌّ‬
‫نحت هـذا التمثل عند النسـاء‬ ‫الفتـاة‪ ،‬رغـم أن الثقافة قـد أعادت ْ‬
‫املعارصات‪.‬‬
‫َ َ‬ ‫َّ‬
‫النزافون القبليون والممانعون‪:‬‬
‫سلسلتا ‪ Underworld‬و ‪ Blade‬وفيلم ‪Interview‬‬
‫‪with the Vampire‬‬
‫ضعـت رواي ُة سـتوكر حجر األسـاس ال للتوظيفـات املتنوعة‬ ‫ْ‬ ‫َو‬
‫حلبكـة دراكـوال فحسـب‪ ،‬بـل لعـدد كبير مـن رسديـات الن ََّـزاف‬
‫وحش‬ ‫النـزاف يف تراث سـتوكر بأنـه ٌ‬ ‫األخـرى يف السـينام‪ .‬يتصـف َّ‬
‫ُ‬
‫قبائـل مـن الن ََّزافين؟ أقـول إننـا‬ ‫وحيـد‪ .‬لكـ ْن مـاذا لـو كان هنـاك‬
‫نـرى القبليـة تتخلـل مجيع مفاصـل املجتمـع البرشي‪ .‬حتكـي رواي ُة‬
‫آخر‪.‬‬ ‫ِ‬
‫لغـزو َ‬ ‫سـتوكر قصـة جمموعـة من املحاربين القبليين تتصدى‬
‫ٍ‬
‫بتصويـرات متنوعة لشـخصية البطل‬ ‫تو ِّظـف األفلام هـذا التمثـل‬
‫‪216‬‬
‫الف�صل الرابع‬

‫تتراوح من الوحش الرشيـر يف التوظيفات الفيلميـة املبكرة وصوالً‬


‫النزافني‬‫إىل التعديلات ما ‪ -‬بعد ‪ -‬احلداثية لشـخصيته‪ .‬لكـ َّن أفالم َّ‬
‫أشـكال أعقد مـن القبلية بين أنواع جديدة مـن القبائل‬ ‫ٍ‬ ‫تشـظت إىل‬
‫ْ‬
‫ـل خالد‪ .‬من‬ ‫ٍ‬
‫تنويعـة على غريـزة برشيـة بدائيـة َو َت َ ُّث ٍ‬ ‫واآلخريـن‪ ،‬يف‬
‫َ‬
‫النـزاف والتمثل القبيل‪ ،‬نذكر سلسـلتَي‬ ‫األمثلـة عىل مطواعيـة قصة َّ‬
‫‪ Underworld‬و ‪ .Blade‬فـإذا كنـا نسـتجيب للتمثـل القبلي املقدَّ م‬
‫آخر‪ ،‬فيمكـن أيض ًا‬ ‫والنـزاف بوصفـه َ‬
‫َّ‬ ‫على هيـأة مواجهة بين البرش‬
‫اآلخـر أيضـ ًا مما‬
‫تطبيـق التمثـل القبلي أيضـ ًا داخـل صفـوف هـذا َ‬
‫يضيف بعـد ًا جديـد ًا للرصاع‪.‬‬
‫تعـرض فيلـم ‪ Underworld‬الـذي ُع ِرض عـام ‪ ،2003‬والذي‬ ‫َّ‬
‫يقـوم هيكلـه أساسـ ًا على جمموعـة من هـذا النـوع مـن الرصاعات‬
‫تعـرض إىل انتقـادات الذعـة مـن النقـاد‪ .‬إذ َكتَـب روجـر‬ ‫القبليـة‪َّ ،‬‬
‫إيبرت ‪« Roger Ebert‬إن هـذا الفيلـم تافـ ٌه إىل حدٍّ كبير من ناحية‬
‫وسـطحي على صعيـد القصـة؛ بحيـث أن احلـرب‬ ‫ٌّ‬ ‫الشـخصيات‬
‫قحمـت بلا دا ٍع‬ ‫النزافِين واملسـتذئبني[ تبـدو كأهنـا قـد ُأ ِ‬
‫]بين َّ‬
‫سـوى اإلهبـار البصري»)‪ .(32‬جيسـد تعليـق إيبرت مثـاالً آخر عىل‬
‫القطيعـة بين النقـاد ومجهور األفلام‪ .‬إذ حقـق الفيلم نجاحـ ًا مال ًّيا‬
‫صنعـت له ثلاث إحلاقيـات ‪ sequels‬هـي ‪Underworld:‬‬ ‫بحيـث ُ‬
‫‪ ،)2012( Underworld: Awakening ،)2006( Evolution‬و‬
‫‪ Underworld: Blood Wars‬عـام ‪ ،2016‬باإلضافـة إىل إسـباقية‬
‫صدرت عام‬ ‫ْ‬ ‫واحـدة بعنـوان ‪Underworld: Rise of the Lycans‬‬
‫سـامهت أصـدا ُء الرصاعـات القبلية التي ترتدد يف السلسـلة‬
‫ْ‬ ‫‪.2009‬‬
‫‪217‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫يف َج ْعـل السلسـلة جذابـ ًة جلمهـور عريـض مـن املشـاهدين‪ ،‬رغم‬


‫تعليقـات النقاد السـلبية‪.‬‬
‫َ ْتبِـك هـذه السلسـل ُة تشـكيل ًة معقـدة مـن األسـاطري ال بد من‬
‫تفكيـك خيوطهـا كيام تتضـح لنا مكوناهتـا اجلزئية‪ :‬القبليـة‪ ،‬كراهية‬
‫اآلخـر‪ ،‬والصراع العائلي‪ ،‬والتـي تشـكل هيـكل السلسـلة وختلق‬ ‫َ‬
‫اسـتجابة املشـاهد للتمثلات البدائية‪ .‬تتكشـف خلفية القصة شـيئ ًا‬
‫فشـيئ ًا يف الفيلمين األول والثـاين مـن السلسـلة‪ ،‬ثـم يتضـح إطـار‬
‫بشـكل أكبر يف اجلـزء املعنـون ‪.Rise of the Lycans‬‬ ‫ٍ‬ ‫األحـداث‬
‫النزافين من عـدة بيوت كبيرة ضمن القبيلـة األكرب‪،‬‬ ‫تتألـف قبيلـة َّ‬
‫خيوضـون قرونـ ًا من احلـروب ضد املسـتذئبني‪ .‬حيمـل كل فيلم من‬
‫ٍ‬
‫معلومـات جديـدة‪ .‬لكن اخلالصـة يف النهاية أن شـخص ًا‬ ‫السلسـلة‬
‫بجين جيعلـه خالـد ًا ال يموت‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫يدعـى ألكسـندر كورفينـوس ُولِـدَ‬
‫حموالً إيـاه إىل‬
‫ذئـب ِّ‬
‫ٌ‬ ‫وقـد خ َّلـف ثالثـة أبنـاء‪ :‬ويليـام‪ ،‬الذي عضـه‬
‫نـزاف؛‬ ‫حمـوالً إيـاه إىل َّ‬ ‫ٌ‬
‫خفـاش ِّ‬ ‫مسـتذئب؛ ماركـوس‪ ،‬وقـد عضـه‬
‫ثالـث مل يكـن خالـد ًا ولكنـه كان حيمـل جين اخللـود ومرره‬ ‫ٌ‬ ‫وابـ ٌن‬
‫إىل ذريته‪.‬‬
‫مركـزي بين قبيلتين‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫هكـذا يتمحـور الفيلـم حـول رصا ٍع‬
‫ترك‪.‬‬
‫والنزافين‪ ،‬الذيـن يعـودون يف النهايـة إىل جدٍّ مش َ‬
‫املسـتذئبني َّ‬
‫حتكـي اخللفيـ ُة شـديدة التعقيـد للقصـة‪ ،‬والتـي حتـدث قبـل مئات‬
‫ِ‬
‫بدايات الصراع العائيل والقبيل‬ ‫السـنني من أحـداث الفيلـم األول‪،‬‬
‫ٍ‬
‫قـرون‬ ‫َ‬
‫العـال السـفيل‪ .‬يف هـذه احلـرب التـي بـدأت منـذ‬ ‫يف ميـدان‬
‫خلـت ضـد املسـتذئبني‪ ،‬أصبحـت سـيلني (كيـت بيكنسـيل ‪Kate‬‬ ‫ْ‬
‫‪218‬‬
‫الف�صل الرابع‬

‫‪« )Beckinsale‬تاجـرة مـوت»‪ .‬يتتبـع الفيلـم عالقـة سـيلني مـع‬


‫رجـل بشري يدعى مايـكل كورفين‪ ،‬والـذي حيمل جين اخللود‪،‬‬
‫يصبـح مايـكل يف النهايـة كائنـ ًا هجينـ ًا مـن النـزاف واملسـتذئب‪،‬‬
‫طفل‪ .‬هكـذا فإن لدينـا نوعين – قبيلتني يرى‬ ‫وينجـب من سـيلني ً‬
‫آخر‪.‬‬ ‫اخلصـم على أنـه َ‬
‫َ‬ ‫كل منهما‬
‫جذورها برسـوخٍ يف هذه السلسـلة من‬ ‫َ‬ ‫تُو ِّطـد الكراهيـ ُة القبليـة‬
‫األفالم‪ .‬فعندما يسـأل مايكل سـيلني «ملـاذا تكرهني املسـتذئبني إىل‬
‫حرب‬‫ٍ‬ ‫هـذه الدرجـة؟» جتيـب سـيلني «سـبق أن أخربتك‪ .‬نحـن يف‬
‫آخـرون‬ ‫معهـم»‪ .‬ال حتتـاج سـيلني سـبب ًا آخـر‪ .‬فاملسـتذئبون هـم َ‬
‫كرهيـون ال بـد مـن تدمريهـم‪ ،‬نغمـ ٌة قديمة قـدم التاريـخ البرشي‪،‬‬
‫الصراع عند‬‫ُ‬ ‫ولكنهـا مـا تـزال تعيـش يف أدمغتنـا البدائيـة‪ .‬قـد يثري‬
‫خلقـت قيم ًا عديدة‬ ‫ْ‬ ‫ا ُملشـاهدين اللـذة اإلنابيـة رغـم أن الثقافـة قـد‬
‫برهنـت مـرار ًا‬‫ْ‬ ‫قيـم‬
‫ملحاربـة هـذا النـوع مـن احلـروب واملذابـح‪ٌ ،‬‬
‫اآلخرانية‬ ‫وتكـرار ًا عد َم فعاليتهـا عمل ًّيا‪ .‬ت ُِّبي سلسـل ُة األفالم هـذه َ‬
‫الكاملـة للنزافين واملسـتذئبني مـن خالل حقيقـة أن دمـاء النوعني‬
‫ال متتـزج‪ .‬يوضـح أحـد العلماء مـن املسـتذئبني‪« :‬على املسـتوى‬
‫اخللـوي‪َ ،‬د َّمـر نوعانـا أحدمهـا اآلخـر»‪ .‬ولكـ ْن رغـم الكراهيـة‬
‫ٍ‬
‫جمموعـة رصاعاهتـا الداخليـة أيض ًا‪.‬‬ ‫القبليـة القائمـة بينهما‪ ،‬لـكل‬
‫جتـري أحـداث ‪ Underworld‬يف َ‬
‫عـال فانتازي غامـض إىل حدٍّ‬
‫كبير وغير واضـح املعامل‪ .‬فمثالً‪ ،‬مل تكشـف السلسـلة أبـد ًا من أين‬
‫النزافـون بالـدم الـذي يرشبونـه يف كـؤوس بلورية‪ .‬كما تبدو‬ ‫يـأيت َّ‬
‫النزافني واملسـتذئبني كأهنا جتري على املأل دون‬
‫معظـم املعـارك بين َّ‬
‫‪219‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫كبير مـن شـعبية السلسـلة‬


‫ٌ‬ ‫أن يعريهـا البشر اهتاممـ ًا‪ .‬يعـود جـز ٌء‬
‫بالطبـع إىل املؤثـرات البرصية اخلاصة املسـتخدمة يف تصوير العنف‪،‬‬
‫كما إىل وجـود اجلميلـة بيكنسـيل بمالبسـها اجللدية الضيقـة‪ .‬لك ْن‬
‫رغـم غيـاب التفاصيل يف مـا يتعلـق باإلطـار الفانتازي للسلسـلة‪،‬‬
‫فـإن الرصاعات بين وضمن األطـراف القبليـة املختلفـة‪ ،‬رصاعها‬
‫مـع البشر‪ ،‬العالقـات العائليـة وأخير ًا‪ ،‬دخـول قبيلـة جديـدة –‬
‫كل ذلك سـاهم يف ازدياد شـعبية هذه‬ ‫اهلجائـن عىل خـط الصراع‪ُّ ،‬‬
‫ا لسلسلة ‪.‬‬
‫النزافين‬
‫مـن املوضوعـات الشـائعة األخـرى يف أفلام رعـب َّ‬
‫النزافين املامنعين‪ .‬يدخـل النـزاف املامنـع يف رصاع مـع‬ ‫موضوعـ ُة َّ‬
‫آخـر رغم ًا عنـه‪ .‬يقـدِّ م هذا‬
‫بنـي نوعـه ومـع طبيعتـه‪ ،‬ويتحـول إىل َ‬
‫التوظيـف لِت ََم ُّثـل القبليـة فرصـ ًا إضافيـة للصراع الدرامـي‪ ،‬كما‬
‫ُ‬
‫إنـه يناسـب االغتراب‪ ،‬روح عصر مـا بعـد احلداثـة‪ .‬فاإلنسـان‪،‬‬
‫ٌ ِ‬
‫لي‪ ،‬وهكـذا قـد يتعاطـف املشـاهدون مـع‬ ‫حيـوان َق َب ٌّ‬ ‫يف النهايـة‪،‬‬
‫الشـخصية الفيلميـة التـي تعـاين رصاعـ ًا داخل ًّيـا يف انفصاهلـا عـن‬
‫قبيلتهـا اجلينيـة‪.‬‬
‫نشرت آن رايـس ‪ Anne Rice‬روايتها ‪Interview‬‬
‫ْ‬ ‫عـام ‪،1976‬‬
‫‪ with the Vampire‬وحتولـت الروايـة إىل فيلم عام ‪ 1994‬بسـيناريو‬
‫حر‬ ‫ٍ‬
‫كاتب ٍّ‬ ‫كتبتْـه املؤلفـة نفسـها‪ .‬تقع األحـداث يف إطـار مقابلة مـع‬
‫معـارص‪ ،‬ثم يعـود الفيلـم بالزمن مبـارشة إىل نيو أورليانـز يف القرن‬
‫الثامـن عشر‪ .‬يقع لويـس (براد بيـت) يف براثن اليأس بعـد أن يفقد‬
‫املـوت‪ .‬لكـ ْن عندما يعضه ليسـتات (تـوم كروز)‪،‬‬
‫َ‬ ‫زوجتـه‪ ،‬ويريـدُ‬
‫‪220‬‬
‫الف�صل الرابع‬

‫مضـض التحول‬‫ٍ‬ ‫وخييرِّ ه بين املـوت أو التحـول‪ ،‬خيتار لويـس عىل‬


‫نـزاف‪ ،‬مقاطعـ ًا نوعـه وقبيلتـه‪ .‬وعنـد هـذه النقطـة تبـدأ حبكة‬ ‫إىل َّ‬
‫مثقلـة بالرصاع بني لويس وليسـتات باإلضافة إىل الصراع الداخيل‬
‫الذي يعيشـه لويـس‪ ،‬حيث يتأمـل أخالقيات وضعـه وطبيعة اخلري‬
‫أي مشـكلة مـع‬ ‫والشر‪ .‬ال يعـاين ليسـتات‪ ،‬على اجلهـة األخـرى‪َّ ،‬‬
‫حالتـه‪ .‬إذ يصر على «أن الشر وجهـة نظـر‪ ،‬يمارس الـرب القتـل‬
‫دون متييـز‪ ،‬وسـنفعل نحن الشيء ذاته‪ .‬فلا خملوق للرب يشـبهنا‪.‬‬
‫الـرب قـدْ ر شـبهنا به»‪ .‬مل يغفـل النقاد عـن رابطة‬
‫َّ‬ ‫وال خملـوق ْ‬
‫يشـب ُه‬
‫بعضهـم‪ ،‬كما يشير‬ ‫االشـتهاء املثلي بين لويـس وليسـتات‪ ،‬يـرى ُ‬
‫جيفـري وينسـتوك ‪ ،Jeffrey Weinstock‬أن خمـاوف لويـس نابع ٌة‬
‫أي حماوالتـه ملقاومـة و َف ْهـم قدراته‬
‫مـن «اكتشـافه مليولـه اجلنسـية‪ْ ،‬‬
‫ومـن ثـم التصالـح معهـا‘«‪ ،‬وهـي كنايـ ٌة عـن ميولـه اجلنسـية‬
‫املثليـة)‪ .(33‬يكمـن رصاع لويـس يف اسـتئصاله من أقربائـه اجلينيني‪،‬‬
‫آخـر‪ :‬وكذلـك‪ ،‬بحسـب تأويل وينسـتوك‪ ،‬يف‬ ‫قبيلتـه‪ ،‬ليتحـول إىل َ‬
‫ب ال من حيث كونـه َّنزاف ًا فحسـب‪ ،‬بل لوط ًّيا‬ ‫ِ‬
‫مغتر ٍ‬ ‫آخـر‬
‫حتولـه إىل َ‬
‫أيض ًا ‪.‬‬
‫وإن كان َّنزافـ ًا‪ ،‬روح ًا برشية‪.‬‬
‫أن بداخـل لويـس‪ْ ،‬‬ ‫خيربنـا الفيلـم َّ‬
‫يعيـش لويـس الوحـدة ويعصف بـه الشـعور بالذنْب‪ ،‬وحيـاول أن‬
‫أن يقصر غـذاءه على احليوانـات دون‬ ‫أي ْ‬‫يصبـح َّنزافـ ًا حيوان ًّيـا‪ْ ،‬‬
‫البشر‪ .‬تكمـن اجلاذبيـة البدائيـة لشـخصيته يف كونـه مزجيـ ًا مـن‬
‫واآلخـر‪ ،‬وكذلك يف كونه‪ِ ،‬م ْثـل بعض َّنزايف مـا بعد احلداثة‬ ‫َ‬ ‫النحـن‬
‫اآلخريـن‪ ،‬مطـرود ًا مـن القبيلة‪ .‬ليخفـف من وحدتـه‪ ،‬يتبنى لويس‬
‫‪221‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫طفلـ ًة تدعـى كلوديا بتسـهيل مـن ليسـتات‪ ،‬ليكون لـدى لويس ما‬
‫يشـبه األُ ْسة‪ .‬بعـد سـنوات‪ ،‬تكبر كلوديـا عقل ًّيـا ولكـن جسـمها‬
‫اآلخر‪ ،‬ثم‬
‫يظـل جسـم طفلة‪ ،‬وتشـعر باالسـتياء حيـال انتامئهـا إىل َ‬
‫قتلـت ليسـتات (لكنه يعـود ليظهـر فجأة يف‬
‫ْ‬ ‫يبـدو األمـر كأهنـا قـد‬
‫هنايـة الفيلم)‪.‬‬
‫مل يكـن لويـس وال كلوديـا راضيين عـن كوهنما ُمبعدَ يـن‪ ،‬فقد‬
‫كانـا نزا َفين ممانعين ومغرتبين‪ ،‬ورغبـا يف إجيـاد بنـي نوعهما مـن‬
‫النزافين والتواصـل معهـم‪ ،‬قبيلتهما اجلديـدة‪ .‬يتوج بحثهما أخري ًا‬
‫بعثورمهـا على جمتم ٍع مـن النزافين ولكنهام خيوضان رصاعـ ًا ضده‪.‬‬
‫إذ مل يسـتطيعا العثـور على نوعهام اخلاص مـن النزافني‪ ،‬فيتشـظيان‬
‫ٍ‬
‫هويـات خمتلفة‪.‬‬ ‫بين‬
‫يقـدم فيلـم ‪ Blade‬املنتَج عام ‪ ،1998‬والذي يسـتلهم شـخصية‬
‫القصـص املصـورة مارفـل‪ ،‬مثـاالً آخـر على النـزاف املامنـع مـا ‪-‬‬
‫بعـد ‪-‬احلداثـي‪ .‬حتكي حبكـة الفيلـم قصة شـخصية بليد (ويسلي‬
‫سـنايبس ‪ )Wesley Snipes‬الـذي ُولِـد مبـارشة بعـد أن تعرضـت‬
‫نـزاف‪ ،‬مـا منحه بشـكل مـا قـدرات خاصـة‪ ،‬ليولد‬ ‫والدتـه لعضـة َّ‬
‫مثـال آخـر على االغتراب‪ .‬يتمتـع‬ ‫والنـزاف‪ٌ ،‬‬
‫َّ‬ ‫هجينـ ًا بين البشر‬
‫بليـد بقـوة النـزاف اجلسـدية‪ ،‬ويف نفـس الوقـت ال يعاين مـن نقاط‬
‫الضعـف املميـزة للنـزاف‪ ،‬فهـو يسـتطيع املشي يف النهـار دون أن‬
‫يؤثـر عليـه ضـوء الشـمس‪ .‬يغلي صـدر بليـد بنيران الثـأر ألمـه‬
‫النزافين‪ .‬يسـاعد أبراهام ويسـلر (كريس كريستوفرسـن ‪Kris‬‬ ‫مـن َّ‬
‫‪ )Kristofferson‬بليـد عىل التحكم بشـهوته للدم باسـتخدام َم ْص ٍل‬
‫‪222‬‬
‫الف�صل الرابع‬

‫خـاص‪ ،‬وخيـوض بليـد معركـ ًة ضـد قبيلـة َّ‬


‫النزافين التـي تتحكـم‬
‫بـكل يشء يف مدينتـه حتـى يواجـه أخير ًا ًّنزافـ ًا «متحـوالً» يدعـى‬
‫فروسـت‪ ،‬الـذي َط َّهر جملـس النزافني مـن النزافني «بالـوالدة»‪ْ ،‬‬
‫أي‬
‫أولئـك الذيـن ولِدوا نزافين ومل يتحولـوا بعضة نزاف‪ .‬مـن منظور‬
‫الصفـات البدائيـة‪ ،‬فإننـا نشـهد رصاعـ ًا بين قبيلتين مـن النزافني‪،‬‬
‫حيـث بليـد مغترب عـن كليهام‪.‬‬
‫يو ِّظـف الفيلـم رسدي ًة مألوفـ ًة يف بنـاء البارانويـا واملخاوف من‬
‫اآلخـر املتخفـي‪ .‬يقـول ويسـلر‪« :‬لقد أنشـبوا خمالبهـم يف كل يشء‪:‬‬ ‫َ‬
‫السياسـة‪ ،‬التمويـل‪ ،‬العقـارات‪ .‬أصبحـوا يمتلكـون نصـف مركز‬
‫املدينـة اآلن»‪ .‬صـار هلم معاونوهـم من البرش‪ .‬ال َيوض السـيناريو‬
‫عميقـ ًا يف تفاصيـل املعتقـدات امليثولوجية للنزافني‪ ،‬حيـث يبدو أن‬
‫لدهيـم معبـد ًا يعبـدون فيه إله الـدم‪ ،‬وجتري املعركـة األخرية يف هذا‬
‫املعبـد‪ .‬تتطرق احلبكـة أيض ًا إىل وجـود قبائل داخـل القبائل‪ ،‬حيث‬
‫يسـعى فروسـت لإلطاحـة باحلـرس القديـم الـذي يريـد أن يبقـى‬
‫النزافـون متخفين‪ ،‬بينما يريـد فروسـت مـن قومـه أن خيرجـوا من‬
‫عاملهـم ويسـتعبدوا البرش‪.‬‬
‫باإلضافـة إىل التمثـل القبلي‪ ،‬تركـز سلسـلة أفلام ‪ Blade‬على‬
‫قضيـة ثقافيـة‪ .‬يكتـب جيفري وينسـتوك عـن موضوعـة العنرصية‬
‫يف الفيلـم‪« :‬ال يتطلـب األمـر فطنة كبيرة لنعـرف أن الفيلم َيعرض‬
‫بلغـة الرمـوز العالقـات العرقيـة يف أمريـكا‪ ،‬حيـث يرمـز النزافون‬
‫للبِيـض‪ ،‬أما البشر فريمزون لألقليـات ِ‬
‫العرقيـة عموم ًا‪...‬بينام يرمز‬
‫املهجنـون للحلـول املقرتحة هلـذه احلـرب العرقيـة»)‪ .(34‬يتمتع هذا‬
‫َّ‬
‫‪223‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬
‫ٍ‬
‫منظـور ثقـايف‪ .‬لكـ ْن بداخـل هـذا الرصاع‬ ‫التأويـل باملعقوليـة مـن‬
‫العرقـي يف أمريـكا‪ ،‬يتخفـى أيضـ ًا َت َ ُّثـل القبليـة واالرتيـاب جتـاه‬
‫اآلخـر‪ ،‬التمثـل الـذي ما زال حـارض ًا اليـوم يف العالقـات العرقية‪.‬‬
‫َ‬
‫ِّ‬
‫يلخـص برايـان بويـد املسـألة العرقيـة مـن منظـور باحثـي علـم‬
‫النفـس التطـوري‪« :‬يبين لنا ِ‬
‫الع ْلـم َّ‬
‫أن البشر‪ ،‬ورغـم االختالفات‬
‫ٌ‬
‫متامثـل جين ًّيـا إىل درجة‬ ‫نـوع‬
‫التـي نراهـا واضحـة بينهـم‪ ،‬إال إهنـم ٌ‬
‫غير معتادة‪ ...‬يؤكـد املختصون بعلـم النفس التطـوري يف عرصنا‪،‬‬
‫وههـم مدركـون متامـ ًا للنتائـج الكارثيـة للنزعـة العنرصيـة يف‬
‫القـرن العرشيـن‪ ،‬عىل {الوحـدة النفسـية للنوع البشري} ويص ُّبون‬
‫أكثـر تركيزهـم على التشـاهبات بين العقـول البرشيـة‪ ،‬ال على‬
‫االختالفات»)‪ .(35‬لك َّن الثقافة تُنشـئ أشـكاالً خمتلفـة من القبليات‪،‬‬
‫بما يف ذلـك اإلثنيـات واألعـراق‪ .‬نعـم‪ ،‬قـد نرغـب عىل املسـتوى‬
‫ٍ‬
‫بعالقـات عرقيـة أفضـل‪ ،‬لكننـا مع ذلـك نجد لـذ ًة إنابية‬ ‫الدماغـي‬
‫يف مشـاهدة الرصاعـات القبليـة يف األفلام‪.‬‬
‫حظـي فيلـم ‪ Blade‬بشـعبية واسـعة أدت إىل حتويله إىل سلسـلة‬
‫أخرج بينيتـو ديل تـورو ‪ Benito del Toro‬اجلـزء الثاين منه‬
‫أفلام‪َ .‬‬
‫عـام ‪ ،2002‬ثم انتهت السلسـلة عام ‪ 2004‬بفيلـم ‪.Blade Trinity‬‬
‫تعمـق هـذان الفيلمان يف القصـة األسـطورية لألحـداث‪ ،‬وأضافـا‬
‫النزافين الصغار»‬‫املزيـد مـن البارانويـا بإدخال فرقـة تدعى «قتلـة َّ‬
‫التـي تسـاعد بليـد يف عملـه‪ ،‬كام عـززا البارانويـا أكثر بِـدَ ِّس بعض‬
‫رسا داخـل تنظيامت النزافين األرشار‪.‬‬
‫البشر ًّ‬
‫‪224‬‬
‫الف�صل الرابع‬

‫األطفال في أفالم النزافين‬

‫مـن أشـد التمثالت تأثير ًا يف جنس أفلام الرعب َت َ ُّث ُـل التهديد‬
‫املحيـق باألطفـال‪ .‬حقـق سـتيفن كنـگ لرواياتـه – واألفلام التي‬
‫انبثقـت منهـا شـعبي ًة واسـعة من خلال اسـتخدامه املتكـرر ألنواع‬
‫ٍ‬
‫خاصـة خمتلفـة من األطفـال‪ .‬من األمثلـة األخرى عىل شـخصيات‬
‫األطفـال املهدديـن باخلطـر أيضـ ًا‪ :‬هيلاري يف فيلـم ‪God Bless‬‬
‫‪ )1988( the Child‬وريـگان يف فيلـم ‪ .The Exorcist‬ترتكـز مجيع‬
‫ٍ‬
‫بقـوة على موضوعة الطفـل املهدَّ د‪.‬‬ ‫أفلام سلسـلة ‪Jurassic Park‬‬
‫كذلـك يظهر هـذا التمثـل املؤ ِّثـر للتهديـد املحيق باحلـوض اجليني‬
‫النزافين‪ .‬وقـد كانـت واحـد ٌة من أشـد‬‫كثير ًا يف أفلام وروايـات َّ‬
‫اللحظـات رعبـ ًا يف روايـة دراكـوال لبرام سـتوكر عندمـا دخـل‬
‫الكونـت «كعاصفـة من الغضـب» ليقاطـع زوجاته اللايت ُك َّن عىل‬
‫وشـك مـص دم جوناثـان هاركـر‪ ،‬وكان حيمـل معـه حقيبـة حتوي‬
‫بداخلهـا طف ً‬
‫لا يئـن‪ ،‬عىل سـبيل اهلديـة لزوجاتـه‪ .‬وعندمـا أتت أم‬
‫الطفـل إىل القلعـة متوسـلة الكونـت أن يعيـد إليهـا طفلهـا‪ ،‬أطلـق‬
‫عليهـا الكونـت ذئابـه لطردها‪.‬‬
‫يف العـام ‪ ،1963‬أنتِـج فيلـم املقتطفـات ‪،Black Sabbath‬‬
‫وقـد تضمـن ثالث قصـص قصيرة‪ ،‬كانـت إحداهـا بعنـوان ذا‬
‫إنتـاج إيطـايل‪َ ،‬ف َل ْم‬
‫ٍ‬ ‫فريديلاك ‪ .The Wurdulak‬كان الفيلـم مـن‬
‫جيتـذب بالطبـع إال املخلصين مـن مجهـور أفلام الرعـب‪ ،‬لكنه‬
‫احتـوى مشـهد ًا مؤثـر ًا بعمـق‪ ،‬يلعب على وتر الطفـل املنكوب‪.‬‬
‫يف قصـة «ذا فريديلاك»‪ ،‬قـام بوريـس كارلـوف ‪Boris Karloff‬‬

‫‪225‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫بـدور البطولـة‪ ،‬وجتـري أحـداث الفيلـم يف البلقـان‪ ،‬موطـن‬


‫النزافين يف األفلام‪ .‬يلعـب كارلـوف دور گـوركا‪ ،‬كبير إحدى‬
‫العوائـل‪ ،‬ويعيـش مـع ابنيـه جورجيـو وبييترو؛ وريـكا‪ ،‬زوجة‬
‫جورجيـو وابنهما إيفـان؛ كما تعيـش معهم دانـكا‪ ،‬ابنة گـوركا‪.‬‬
‫تبـدأ القصـة مع قدوم ضيـف يطلـب النـزول يف دار العائلة ليالً‪،‬‬
‫لص‬
‫واسـمه فالديمير دورفـا‪ .‬خيـرج گـوركا مـن املنـزل لقتـل ٍّ‬
‫أي نـزاف‪ ،‬لكـن النـزاف يعضـه فيصاب‬ ‫يرجـح أنـه فريديلاك‪ْ ،‬‬
‫َّ‬
‫بالعـدوى‪ .‬يتحـول گـوركا إىل نـزاف ومـن ثـم ينقـل العـدوى‬
‫لبعـض أفـراد عائلتـه فيتحولـون بدورهـم ويبـدؤون بافتراس‬
‫املتحولين‪ .‬رغـم مـا طغـى على الفيلـم مـن مبالغـة زائـدة‬
‫ِّ‬ ‫غير‬
‫ٍ‬
‫وأداء بـارد‪ ،‬إال إن تصويـره النحالل العائلة‪ ،‬الوحدة األساسـية‬
‫اآلخر كان مـن املوضوعات التي‬ ‫لنوعنـا‪ ،‬وحتوهلـا من النحـن إىل َ‬
‫تسـتطيع بال شـك إثارة مشـاعر رعـب قويـة‪ .‬لكن األكثـر تأثري ًا‬
‫كان مشـهد الطفـل إيفـان واقفـ ًا خـارج البيـت بعـد أن أصابـه‬
‫جـدُّ ه بالعـدوى‪ ،‬يتوسـل إيفـان باكيـ ًا ألمه التـي مل تتحـول بعد‪:‬‬
‫«مامـا‪ ،‬مامـا‪ ،‬دعينـي أدخـل‪ ،‬أشـعر بالبرد»‪ .‬كام نـرى يف الكثري‬
‫ُ‬
‫الطفل املهـدَّ د اسـتجاب ًة قوية‪ .‬لكن‬ ‫مـن األفلام والقصص‪ ،‬يثير‬
‫ـر أيض ًا‪ .‬ال‬
‫املـأزق الـذي جتـد األم نفسـها فيه يف هـذا الفيلـم مؤ ِّث ٌ‬
‫دعـوة من أصحابـه‪ .‬ورغم‬ ‫ٍ‬ ‫يسـتطيع النـزاف دخـول مـكان دون‬
‫معرفتهـا إنـه حتول إىل نزاف‪ ،‬مل تسـتطع ريـكا إال أن تدعه يدخل‪،‬‬
‫مـن ثـم يعضهـا طفلها وتتحـول بدورهـا‪ .‬يعيـد هذا املشـهد إىل‬
‫األذهـان قصـة روزمـاري وتقبلهـا لطفلهـا الشـيطاين يف فيلـم‬
‫‪226‬‬
‫الف�صل الرابع‬

‫أي يشء‬‫‪ .Rosemary’s Baby‬بالطبـع فـإن اسـتعداد األم لفعـل ِّ‬


‫مـن أجـل طفلهـا كان مـن العنـارص التكيفيـة املهمـة يف تارخينـا‬
‫التطوري‪.‬‬
‫نجـد أن الطفلـة‬ ‫يف فيلـم ‪ِ ،Interview with the Vampire‬‬
‫كلوديـا نزافـ ٌة ممانعـ ٌة‪ .‬وقـد كان مشـهد احرتاقهـا بضـوء الشـمس‬
‫عندمـا قيدهـا النزافـون عقابـ ًا هلـا‪ ،‬مشـهد ًا مثير ًا للحـزن‪ .‬كذلـك‬
‫األمـر بالنسـبة للطفلـة النزافـة آيب (كلـوي گرايس موريتـز ‪Chloë‬‬
‫‪ )Grace Moretz‬والطفـل أويـن (كـودي سـميت‪ -‬ماكفـي ‪Kodi‬‬
‫‪ )Smit-McPhee‬يف فيلـم ‪ ،)2010( Let Me In‬والـذي هـو إعادة‬
‫كل‬ ‫إنتاج للفيلم السـويدي ‪ .Let the Right One In‬حيتوي الفيلم ًّ‬
‫مـن موضوعة رعـب املدارس املتوسـطة‪ ،‬حيـث يتعـرض أوين إىل‬
‫قـاس مـن ِق َبـل ثالثة فتيـان يكربونـه حجما‪ ،‬وقد بلـغ التنمر‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫تنمـر‬
‫حـد ًا جعلـه يبلـل نفسـه‪ ،‬وكذلـك موضوعـة ابتلاء آيب بالتحـول‬
‫إىل نزافـة‪ .‬يقـوم تومـاس الـذي يعتنـي بـآيب (ال يوضح الفيلـم أبد ًا‬
‫طبيعـة العالقـة بينهما بالضبـط) بالقتـل ليجهزها بالـدم الذي جيب‬
‫أن تتغـذى عليه‪ ،‬ويضحـي يف النهاية بحياته من أجلها‪ ،‬االسـتجابة‬
‫جعلـت تطورنا ممكنـ ًا‪ .‬باإلضافة‬
‫ْ‬ ‫الوالديـة جتـاه حاجة الطفـل‪ ،‬التي‬
‫إىل ذلـك‪ ،‬يثير انتقـام آيب الرهيب مـن األوالد الذيـن يتنمرون عىل‬
‫أويـن شـعور ًا بالـرىض ورثنـاه مـن أسلافنا يف جمتمعـات الصيـد‬
‫ين‪ .‬ويكـون‬ ‫وأذى مماث َل ْ ِ‬
‫ً‬ ‫وااللتقـاط‪ ،‬عندمـا كان األذى ُي َـر ُّد بعنـف‬
‫االنتقـام أكثـر لـذ ًة باخلصـوص عندمـا يكـون ضد مـن قـام بإيذاء‬
‫ٍ‬
‫طفل ‪.‬‬
‫‪227‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫النزافون هم نحن‬

‫مـن كال املنظوريـن النقديين‪ ،‬منظـور الدراسـات الثقافيـة‬


‫ومنظـور الصفـات البدائيـة‪ ،‬تشير ميمـة الزومبـي يف ٍ‬
‫آن واحـد إىل‬
‫التغيرات املتواصلة التي يشـهدها املجتمع‪ ،‬وإىل ثبات واسـتمرارية‬
‫التمثلات البدائية يف ُل ِّبه‪ ،‬وخصوص ًا التمثـل القبيل‪ .‬يتصف النزاف‬
‫ويرجح علم النفـس التطوري أن أصداء السـلوكيات‬
‫ِّ‬ ‫آخـر‪،‬‬
‫بكونـه َ‬
‫التكيفيـة ألسلافنا األقدمين مازالـت جتـوب أدمغتنا حتـى اليوم‪،‬‬
‫مثيرة فينا الرغبـة يف إنشـاء التنظيمات القبلية‪ ،‬بام يف ذلك إنشـاؤها‬
‫ُظهـر أفلام النزافني كيـف يمكن‬‫مـن أجـل األغـراض الدفاعيـة‪ .‬ت ِ‬
‫َ‬
‫ملكتشـفات علـم النفـس التطـوري أن تسـاعدنا على أن نفهم كيف‬
‫جتعلنا أصـداء ماضينا التطوري واإلملاءات الثقافية – يف ٍ‬
‫آن واحد‬
‫نسـتلذ مشـاهدة أفلام الرعب‪ .‬مـن أقوى هـذه األصـداء‪ ،‬الغريزة‬
‫اف – وليكـن وحش مورنـاو أو دراكوال‬ ‫ال َق َبل َّيـة‪ ،‬وهكـذا يثري َّ‬
‫النـز ُ‬
‫ذا املواصفـات البايرونيـة (أكبر من أن يكـون أرض ًّيـا‪ ،‬وأقل من أن‬
‫يكون سماو ًّيا) يف فيلم كوبوالـــ فينا لذ ًة إنابية جتاه َمشـاهد حماربينا‬
‫وهـم يدافعـون عـن إقليمنـا وإرثنـا اجلينـي واالجتامعـي‪ ،‬رغم أن‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫تعديلات عديدة على التمثل بمـرور الزمن‪ .‬حيرض‬ ‫ـرت‬
‫أج ْ‬ ‫الثقافـة ْ‬
‫اجلنـس يف متثـل النزافين دائم ًا بصـورة مشـفرة ِكنائيـة‪ ،‬وليكن عىل‬
‫هيـأة اغتصـاب رمـزي كما يف أفلام دراكـوال وغريهـا الكثير‪ ،‬أو‬
‫على هيـأة النـزاف ذي النزعة الرومانسـية يف أفال ٍم أخـرى‪ .‬ويقودنا‬
‫ُ‬
‫احلديـث عـن اجلاذبيـة احليوانيـة الشـديدة للجنـس الرومانيس عند‬
‫النزافين‪ ،‬إىل مناقشـة َت َ ُّثـل التـزاوج‪ ،‬موضوع الفصـل التايل‪.‬‬
‫‪228‬‬
‫الف�صل الرابع‬

‫فيلم ‪ ،Black Sabbath‬جورجيو (گالوكو أونوراتو ‪ ،)Glauco Onorato‬ريكا (ريكا‬


‫داليانا ‪ )Rika Dialina‬وطفلهام النزاف (املمثل غري ُم َع َّرف)‬

‫‪229‬‬
‫الفصل الخامس‬

‫َ َ ُّ‬
‫تمثل التزاوج‬
‫في الرومانسية القوطية‬

‫«ما هذا الشيء الذي يسمى بالحب؟»‬


‫املقطع مـن أغنية كول بورتـر ‪ Cole Porter‬سـؤاالً‬
‫ُ‬ ‫َيطـرح هـذا‬
‫سـأله الشـعراء والفالسـفة عبر التاريخ البشري‪ ،‬ثم أصبـح اليوم‬
‫ضمن اهتاممـات باحثي علم النفـس التطوري‪َ .‬م ْهام كانـت ماهي ُت ُه‪،‬‬
‫عب التاريـخ‪ .‬يف ملحمة اإللياذة‪،‬‬
‫احلـب أعظم األعامل األدبيـة ْ‬
‫ُّ‬ ‫أهلَـم‬
‫غـرم باريـس وهيلين ببعضهما وهيربـان مـن الوطـن معـ ًا‪ .‬عندما‬ ‫ُي َ‬
‫يتوسـل زوج هيلين‪ ،‬مينلاوس‪ ،‬إىل أخيـه األكبر أگاممنـون‪ ،‬ين ِّظم‬
‫األخير محلـ ًة عسـكرية تبحـر إىل طـروادة‪ ،‬لتنتـج عن ذلـك حرب‬
‫تـدوم لعرش سـنوات تنتهـي بتدمير املدينة‪.‬‬
‫يزخـر تاريـخ األدب بقصـص احلـب مـن أول نظـرة هـذه‪ .‬يف‬
‫مرسحيـة روميـو وجولييـت‪ ،‬تقـع عينـا روميـو على جولييـت‪،‬‬
‫‪231‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫فيتخلى مبـارشة عـن حبـه لروزالين اجلميلـة ويعلـن عشـقه‬


‫جلولييـت ابنـة الكابوليت‪ ،‬أعـداء عائلتـه األلداء‪ ،‬لينتهـي األمر إىل‬
‫مـوت كليهما نتيج ًة للصراع ال َق َبلي‪ .‬كذلك األمـر بالنسـبة لدانتي‬
‫أليگـري‪ ،‬فما أن تقـع عينـاه ألول مـرة على بياتريـس بورتينـاري‬
‫‪ ،Beatrice Portinari‬حتـى أصبـح هوسـه هبـا عنصر ًا مركز ًّيـا يف‬
‫حتفتـه (الكوميديـا اإلهليـة ‪ .)The Divine Comedy‬يف ملحمـة‬
‫الفـردوس املفقـود جلـون ميلتـون‪ ،‬يـأكل آدم مـن شـجرة الفاكهـة‬
‫ألنـه ال يسـتطيع فـراق حـواء‪ ،‬ويرص على أن يالقـي ذات مصريها‬
‫ُ‬
‫األعمال األدبيـة واألفال ُم‬ ‫مهما كان‪ ،‬حتـى لـو كان الدمـار‪ .‬تُغذي‬
‫اإليمان بــ «قوة احلـب»‪ ،‬كما تصفهـا أغنيـة ‪ Power of Love‬التي‬ ‫َ‬
‫كل مـن سـيلني ديـون ‪ Celine Dion‬وهيـوي لويس ‪Huey‬‬ ‫غناهـا ٌّ‬
‫‪ Lewis‬وفرقـة ذا نيـوز ‪ ،The News‬جاعلني إياه عنصر ًا مركز ًّيا يف‬
‫مركـزي يف تطورنـا البيولوجـي‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫ثقافتنـا‪ ،‬كما هـو‬
‫ينتهـج باحثـو علـم النفـس التطـوري مقاربـ ًة علميـة يف‬
‫رومانيس‬
‫ٍّ‬ ‫استكشـافهم لقـوة احلـب‪ .‬مـن ثـم فـإن وصفهم لـه غير‬
‫على اإلطلاق‪ .‬إذ ليس احلب يف هـذا املنظور إال القوة التي تسـوقنا‬
‫إىل التـزاوج‪ ،‬وال هيـدف التـزاوج إال إىل مكاثـرة نوعنـا‪ .‬ومـع أن‬
‫اإلنجـاب قـد ال يكـون اهلـدف الواعي لعقـول الناس حين يقعون‬
‫يف حـب بعضهـم بعضـ ًا‪ ،‬كما يصر داوكنـز وغيره‪ ،‬إال أن قـوة‬
‫احلـب تنبـع مـن رغبـات جيناتنـا يف أن نخلدهـا‪ .‬تقـدم لنـا هيلين‬
‫فيشر رؤيـة نموذجيـة هلـذا املنظـور‪« :‬قادتنـي مسيريت أخير ًا إىل‬
‫عاملـي‪ ،‬تنتجـه مواد‬
‫ٌّ‬ ‫بشري‬
‫ٌّ‬ ‫شـعور‬
‫ٌ‬ ‫أن أعتقـد أن احلـب الرومانسي‬
‫‪232‬‬
‫الف�صل اخلام�س‬

‫كيميائيـة وشـبكات مع َّينـة يف الدماغ‪ .‬تشـتعل هذه النـار يف أدمغتنا‬


‫نتيجة الرتفاع مسـتويات الدوبامين أو األيبينيفريـن أو كليهام مع ًا‪،‬‬
‫كما نتيجـ ًة النخفـاض مسـتويات السيروتونني»)‪ .(1‬مـن الطريـف‬
‫أن توضيحهـا هـذا يدعـم التفسير الشـائع بين النـاس للرتابـط‬
‫الرومانسي «بينهما كيميـاء َط ِّيبـة»‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مريـح‬ ‫بالطبـع فـإن هـذا الوصـف البـارد لقـوة احلـب‪ ،‬غير‬
‫إطالقـ ًا‪ .‬لكـ َّن علـم النفـس التطـوري يقرتح أنـه عندمـا نزيل مجيع‬
‫الطبقـات الثقافيـة بعيـد ًا‪ ،‬فـإن أغنيـة بورتـر واآلالف مـن مثيالهتا‬
‫مشـاعر تثريهـا نـداءات جيناتنا وهـي تدفعنـا للتكاثر‪.‬‬ ‫َ‬ ‫إنما تعكس‬
‫يقـع التمثـل البدائي للتـزاوج يف قلـب األدب عرب تارخيـه الطويل‪،‬‬
‫وباخلصـوص األدب الرومانسي وتوظيفاتـه الفيلميـة احلديثـة‪.‬‬
‫لكـ َّن هـذه الرؤيـة اجلليديـة للتـزاوج التـي يقرتحهـا علـم النفـس‬
‫التطـوري‪ ،‬ال يمكنهـا أن تطفـئ االسـتجابة التـي يثريهـا فينـا هـذا‬
‫التمثـل البدائـي عندمـا نطالعـه يف األدب أو نشـاهده يف األفلام‪.‬‬
‫لِ َي ُقـل علـم النفـس التطـوري مـا يقـول‪َ ،‬فت ََم ُّث ُـل َفر َديـن يقعـان يف‬
‫احلـب ويعانيـان الصراع ثم ينتصران حلبهام أخير ًا‪ ،‬جيـذب اهتامم‬
‫معظمنـا ألننـا جربنـاه‪ ،‬أو على األقـل متنينـا أن نجربـه‪ .‬نشـعر‬
‫الشـعر‪ ،‬والروايـات‪ُ .‬ي َعد‬ ‫هبـذا التمثـل ونسـتجيب لـه يف األفلام‪ِ ،‬‬
‫استكشـاف طبيعتنـا ُبعـد ًا مركز ًّيا يف دراسـة علم النفـس التطوري‪.‬‬
‫لكـن َف ْهـم القـوى التي تتحكـم بنـا ال ُي ِّصننا ضـد الشـعور بت ََم ُّث ِل‬
‫التـزاوج ا ُمل َض َّمـن يف األغـاين واملتعة اإلنابيـة التي تنتابنـا عندما نراه‬
‫يتجسـد يف األفلام والروايـات‪ .‬ويعـد األدب الرومانسي القوطي‬
‫‪233‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫لـكل من أفالم الرعـب واألفالم الرومانسـية‪ ،‬ويوفر أرض ًا‬‫مصـدر ًا ٍّ‬


‫خصبـة إلعمال نقـد الصفـات البدائيـة لِ َف ْهـم قـوة احلـب ومـن ثم‬
‫اإلجابـة على سـؤال أغنيـة بورتر‪.‬‬
‫ً‬
‫«يوما ما‪ ،‬سيأتي أميري»‬

‫َكتَـب الري مـوين ‪ Larry Money‬هـذه األغنيـة وأدهتـا أدريانا‬


‫كاسـيلويت ‪ Adriana Caselotti‬يف فيلـم الكارتـون الشـهري بيـاض‬
‫الثلـج واألقـزام السـبعة ‪Snow White and the Seven Dwarfs‬‬
‫الـذي أنتَجتْـه رشكـة والـت ديـزين عـام ‪ ،1937‬وهتمـس األغنيـ ُة‬
‫بدائـي يعـزف عىل وتـر َت َ ُّثـل التزاوج كام جتسـده املدرسـتان‬
‫ٍّ‬ ‫بحلـ ٍم‬
‫ٌ‬
‫أشـكال‬ ‫الرومانسـية والرومانسـية القوطيـة‪ .‬للأدب الرومانسي‬
‫عديـدة‪ ،‬حيث بدأ مع احلكايات القروسـطية يف القـرن الثالث عرش‬
‫ككتـاب ‪ .The Romance of the Rose‬يبين لنـا كتـاب ‪Le Mort‬‬
‫تسـببت بالكارثة التي خلقتهـا العالقة بني‬ ‫ْ‬ ‫‪ d’Arthur‬أن قـوة احلب‬
‫النسـيلوت ‪ Lancelot‬و گونيفير ‪ .Guinevere‬يف تـراث القـرون‬
‫ـق كيوبيد ‪ Cupid‬سـه ًام يسـتقر‬ ‫طل ُ‬‫الوسـطى‪ ،‬ينشـأ احلـب عندمـا ي ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يف عين العاشـق أو العاشـقة ليجعلـه أو جيعلهـا مشـتعلني برغبة ال‬
‫تقـاوم‪ .‬أطلـق هـذا الولـد الشـقي – كيوبيـد سـه ًام ذهبي ًا على اإلله‬
‫َ‬
‫حوريـة تدعـى دافني‪ ،‬لكنـه أطلق عىل‬ ‫ٍ‬ ‫أبولـو ليجعلـه يقـع يف حب‬
‫دافني سـه ًام مـن الرصـاص ليجعلها تكـره اإلله أبولـو‪ .‬يبلغ احلب‬
‫يف هـذه احلكايـات درجـة مـن القـوة توحـي للمتلقـي أن ضحايـا‬
‫ٍ‬
‫بشـكل كامل‪.‬‬ ‫كيوبيـد ليسـوا مسـؤولني عـن أفعاهلم‬
‫يعـود التراث الرومانيس يف الروايات إىل القـرن الثامن عرش مع‬
‫‪234‬‬
‫الف�صل اخلام�س‬

‫روايـة ‪ Pamela، or Virtue Rewarded‬لصامويـل ريتشاردسـون‬


‫حكايـات‬
‫ٌ‬ ‫‪ Samuel Richardson‬التـي نرشهـا عـام ‪ ،1740‬وهـي‬
‫عـن احلب الـذي يواجـه املصاعـب ولكنـه ينتصر يف النهايـة‪ُ .‬ي َعدُّ‬
‫األدب الرومانسي القوطـي صنفـ ًا فرع ًّيـا مـن األدب الرومانسي‬
‫ولكنـه يتميـز بإثـارة أقـوى‪ ،‬إذ حيتـوي أحيانـ ًا عنـارص أخـرى‬
‫املتجهـم واملتوعـدَ ‪ ،‬وأخطار ًا أقوى حتيـق بالبطلة‪.‬‬
‫َ‬ ‫اجلو‬
‫كاخلـوارق‪َّ ،‬‬
‫وببسـاطة‪ ،‬تشـعر قارئـات جنـس األدب الرومانسي القوطـي‬
‫باإلثـارة التـي كانت تشـعر هبا كاثريـن مورالنـد‪ ،‬البطلة السـاذجة‬
‫لروايـة ‪-Northanger Abbey‬وهـي حمـاكا ٌة سـاخرة للرومانسـية‬
‫القوطيـة‪ ،-‬عنـد قراءهتا للروايات التـي «يطرزها الرعـب» اللذيذ‪.‬‬
‫طاملـا قامت الرومانسـية القوطية أساسـ ًا على َت َ ُّثل التـزاوج‪ ،‬حاجة‬
‫املـرأة إىل إجياد أمريها‪ ،‬حيث يشـعر القـراء يف النهايـة باملتعة اإلنابية‬
‫مـن نجـاح هـذا االحتـاد‪ .‬مـن منظـور علـم النفـس التطـوري‪،‬‬
‫كمقابـل للمنظـور الرومانسي‪ ،‬يـؤدي احتـا ٌد كهـذا إىل اسـتمرار‬ ‫ٍ‬
‫النـوع البرشي‪ ،‬وتسـتثري هذه احلبكـة الفيلمية والروائيـة يف املتلقني‬
‫مشـاعر الـرىض النابعة مـن التمثلات البدائية‪ .‬أمـا يف اإلصدارات‬
‫احلديثـة مـن هـذا اجلنس مـن األفلام‪ ،‬فربما يكـون الرجـل الذي‬
‫تعتقـده املـرأة أمريهـا رشير ًا‪.‬‬
‫تغيرت حيـاة وفـرص النسـاء إىل حـدٍّ كبير منـذ احلقبـة التـي‬
‫ْ‬
‫ظهـر فيها األدب الرومانيس‪ .‬تسـتطيع النسـاء اليوم ممارسـة اجلنس‬
‫احلمـل‪ ،‬كما إهنـن حققـن مكانـة أفضـل بكثري يف‬‫دون خشـية مـن ْ‬
‫بيئـة العمـل‪ ،‬ولـو إهنـا ليسـت مسـاوية ملكانـة الرجـال بعـد‪ .‬صار‬
‫‪235‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫بإمكاهنـن تربيـة األطفـال دون االسـتعانة برشيك‪ ،‬وتقـوم بعضهن‬


‫هبـذا فعل ًّيـا اليـوم‪ .‬لكـ ْن يف ماضينـا البدائـي‪ ،‬كانت املـرأة حتتاج إىل‬
‫رجـل يوفـر هلـا ولذريتهما احلاميـة واملؤونـة‪ .‬وكان أقصى مـا تأمله‬ ‫ٍ‬
‫املـرأة هـو أن يكـون رجلهـا «أمير ًا» كريم ًا وعطوفـ ًا‪ .‬يقـدم بروس‬
‫إيليـس ‪ Bruce Ellis‬خالصـة احللـم الـذي جتسـده األغنيـة التـي‬
‫أرشنـا إليهـا قبـل قليـل يف فيلـم بيـاض الثلـج واالقـزام السـبعة‪:‬‬
‫ـزن بآليـات‬‫«خلال تارخينـا التطـوري‪َ ،‬خ َّل َفـت النسـاء اللايت مت َّي َ‬
‫سـيكولوجية جعلتهن ينجذبن جنسـي ًا أكثـر إىل الرجال ذوي القيمة‬‫ٍ‬
‫التزاوجيـة العاليـة‪ ،‬وانصعـن لتلـك الرغبات‪ ،‬ذريـ ًة أكثـر باملقارنة‬
‫مع النسـاء اللايت امتلكن ذوق ًا معاكسـ ًا يف الرجال‪ .‬وهكذا اسـتمر‬
‫هـذا التكاثـر الفارقـي حتـى أصبحت هـذه اآلليات السـيكولوجية‬
‫املنطـق املر َء‬
‫ُ‬ ‫عامليـة ونموذجيـة إلنـاث النـوع البشري‪ .‬يقـود هـذا‬
‫ألن يتوقـع أن تكـون اجلاذبيـة اجلنسـية للرجـل دال ًة للصفـات التي‬ ‫ْ‬
‫ارتبطـت بقيمـة تزاوجبـة عاليـة يف بيئتنـا الطبيعيـة‪ :‬بيئـة الصيـد‬
‫ْ‬
‫وااللتقـاط يف العصر البليستوسـيني ‪ .Pleistocene‬مـن املرجـح‬
‫آليات نفسـية تقييميـة (قواعد أو‬ ‫ٍ‬ ‫أن االنتخـاب الطبيعـي قد َص َّمـم‬
‫خوارزميـات ملعاجلـة املعلومـات) عند النسـاء تقوم بحسـاب قيمة‬‫ٍ‬
‫هـذه الصفـات عنـد الرجال ومن ثـم تثري فيهن – عىل أسـاس ذلك‬
‫وصف‬ ‫االنجـذاب اجلنسي والرومانسي»)‪ .(2‬بطبيعـة احلـال‪ ،‬فـإن ْ‬
‫جـاف إىل حـدٍّ صـاد ٍم‪ .‬لكـ َّن‬
‫ٌّ‬ ‫ٍ‬
‫رقيقـة كاحلـب‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫لعاطفـة‬ ‫إيليـس هـذا‬
‫علـم النفـس التطـوري يرجـح أنَّنـا إذا اختزلنـا هـذا احللـم ‪ -‬حلم‬
‫ٍ‬
‫برشيـك‬ ‫سـنووايت بأمريهـا ‪ -‬إىل جوهـره‪ ،‬فهـو ليـس إال رغبتهـا‬
‫منظور نقـد الصفـات البدائية‬ ‫ُ‬ ‫خم ْ ٍ‬
‫لـص يملك مـوار َد وافـرةً‪ .‬يطـرح‬
‫‪236‬‬
‫الف�صل اخلام�س‬

‫ٌ‬
‫خمـزون يف اإلرث اجلينـي لنصـف نوعنـا –النسـاء‬ ‫أن هـذا الت ََم ُّثـل‬
‫وإهنـن يسـمعن أصـداء مهسـاته يف حبـكات الروايـات واألفلام‬
‫الرومانسـية‪ .‬أمـا النصـف اآلخر – الرجـال فربام يتمثـل حلمهم يف‬
‫إجيـاد امـرأة ذات جاذبية جنسـية عاليـة وتصلـح كأم لألطفال‪ .‬منذ‬
‫انطالقـات جنس األدب الرومانسي‪ ،‬كان َت َ ُّثل الرجـل الذي يدافع‬
‫ٍ‬
‫رشير‪ ،‬عنصر ًا مركز ًّيا فيه‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫شـخص‬ ‫ٍ‬
‫امـرأة أو ينقذهـا من براثن‬ ‫عـن‬
‫مـن السـهل مشـاهدة القـوة التـي تتمتـع هبـا أصـدا ُء َت َ ُّثـل‬
‫التـزاوج‪ .‬أعلنـت رابطة ُكتَّـاب الرومانسـية يف أمريـكا ‪Romance‬‬
‫‪ ،Writers of America‬وهـي منظمـ ٌة تضم املؤلفني الرومانسـيني‪،‬‬
‫أن مبيعـات هـذا اجلنس مـن األدب بلغـت ‪ 1.37‬مليـار دوالر عام‬
‫‪ ،2006‬متفوقـ ًة بمقـدار ‪ 26%‬على مبيعـات مجيـع الكتـب األخرى‬
‫حصـة كربى من‬ ‫ٍ‬ ‫جمتمعـة)‪ .(3‬ويسـتحوذ صنـف األدب القوطي عىل‬
‫سـوق جنـس األدب الرومانسي‪ .‬قـد يرفـض القـراء واملشـاهدون‬
‫العنـارص اجلنسـوية ‪ sexist‬ألصـداء َت َ ُّثـل التـزاوج كما يقدمهـا‬
‫غيرت‬
‫ْ‬ ‫األدب الرومانسي واألفلام الرومانسـية؛ كما أن الثقافـة‬
‫أدوار اجلنسين‪ .‬تسـتطيع النسـاء جتاهـل هـذه األصـداء بالكامـل‬
‫لـو َأ َر ْد َن ذلـك‪ .‬لكنهـا ما زالـت موجودة عنـد الكثري منهـن‪ ،‬وربام‬
‫معظمهـن‪ ،‬بدرجـة أو بأخـرى‪ ،‬وتثير فيهـن االسـتمتاع بالروايات‬
‫الرومانسـية القوطيـة التـي جتسـد َت َ ُّث َـل التـزاوج‪ .‬على أن ظهـور‬
‫األفلام والسـينام أضـاف بعـد ًا جديـد ًا هلـذا اجلنـس األديب‪.‬‬
‫رفعت فتا ٌة يدها لتسـألني‪:‬‬
‫ْ‬ ‫يف أحـدى حمـارضايت يف مادة األدب‪،‬‬
‫«د‪ .‬فـراي‪ ،‬ملـاذا تتمحور الكثري مـن هذه القصص حـول اجلنس؟»‬
‫‪237‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫وهكـذا –حمـاوالً أن أثير ضحـك الطلاب‪ ،‬وقد نجحـت يف ذلك‬


‫فعلاً‪ ،‬أجبتهـا «اجلنـس يـا كايت ليس مه ًام فحسـب‪ ،‬بـل اجلنس هو‬
‫كل يشء»‪ .‬ورغم إن ردي كان اسـتخفاف ًّيا بعض اليشء‪ ،‬لكني قلت‬
‫ٍ‬
‫درايـة منـي يف‬ ‫مهما مـن منظـور علـم النفـس التطـوري دون‬ ‫شـيئ ًا ًّ‬
‫ذلـك الوقت‪ .‬يرشح سـتيفن بنكر رؤيتـه لِت ََم ُّث ِل التـزاوج من منظور‬
‫علـم النفس التطـوري‪« :‬ليسـت الرغب ُة اجلنسـي ُة الستراتيجي َة التي‬
‫يتبعهـا النـاس ملكاثرة جيناهتـم‪ .‬بل هي الستراتيجية التـي يتبعوهنا‬
‫لتحقيـق املتـع اجلنسـية‪ ،‬واملتـع اجلنسـية هـي االستراتيجية التـي‬
‫تو ِّظفهـا اجلينـات ملكاثـرة أنفسـها‪... .‬ال يتعمـد النـاس أن ينشروا‬
‫جيناهتـم بأنانية؛ لكن اجلينات تنرش أنفسـها بأنانية»)‪ .(4‬يشـدد علامء‬
‫البيولوجيـا التطوريـة على أن اجلينـات تدفعنـا لتخليدهـا‪ ،‬واحلب‬
‫الرومانسي هو استراتيجية اجلينـات لتحقيق هذا اخللود ألنفسـها‪.‬‬
‫ويامثـل ديزمونـد موريـس باحثي علم النفـس التطـوري إذ يكتب‪:‬‬
‫إن َت َقدُّ م احلضـارة مل َين َْح ْت َشـك َْل السـلوك اجلنيس‬
‫«يمكـن القـول َّ‬
‫ُ‬
‫السـلوك اجلنيس ن ْف ُسـه شـك َْل احلضارة»)‪.(5‬‬ ‫املعـارص بقدر ما ن ََح َت‬
‫ـع هـذه الكلمات‪ .‬ينبـع إيامننـا‬‫يصعـب على الرومانسـيني َب ْل ُ‬
‫الراسـخ أن قـوة احلـب ال تقتصر عىل جمـرد اجلنـس والتكاثـر‪ِ ،‬من‬
‫اإلملاءات التـي تلقننـا إياها الثقافـة منذ نعومـة أظفارنا‪ ،‬وسـاعَدَ‬
‫جنـس األدب الرومانسي واألفلام الرومانسـية على تعزيـز هـذا‬
‫اإليمان‪ .‬يف صناعتهـا للحضـارة‪ ،‬تعمـل الغرائـز التطوريـة مـن‬
‫جهـة‪ ،‬والثقافـة مـن جهـة أخـرى كما لو أهنما خيطـان متشـابكان‬
‫ضفيرة واحـدة‪ .‬ويقدم لنـا األدب الرومانسي القوطي‬ ‫ٍ‬ ‫بإحـكا ٍم يف‬
‫‪238‬‬
‫الف�صل اخلام�س‬

‫واألفلام التـي انبثقت عنـه الحق ًا‪ ،‬نموذجـ ًا يظهر لنا كيـف تفاعل‬
‫هـذان العاملان – الثقافـة والتطـور البيولوجي يف َخ ِ‬
‫لـق اللذة عند‬
‫القـارئ أو ا ُملشـاهد منـذ قـرون‪ .‬تقـع بـؤرة هـذا اجلنـس األديب يف‬
‫الرقصـة البرشيـة للتـزاوج‪ ،‬ويطـرح علـم النفـس التطـوري أنه إذا‬
‫مـا ُأزيلـت مجيع الزخـارف التـي أضافهـا ال ُكتَّاب ومنتجـو األفالم‬
‫يف َج ْعلهـم الرومانسـي َة منتَجـ ًا ثقاف ًّيـا‪ ،‬فـإن مـا يتبقـى هـو الغريـزة‬
‫البرشيـة املركزيـة لتَكاثـر النوع‪.‬‬
‫يتميـز البرش باختالفـات متيزهم عن احليوانـات األخرى يف ما‬
‫خيـص لعبة التـزاوج‪ ،‬وعلى كال الصعيديـن البيولوجـي والثقايف‪.‬‬
‫خيار على صعيد‬ ‫ليـس لألغلبيـة السـاحقة مـن األنـواع احليوانيـة ٌ‬
‫التـزاوج واإلنجـاب‪ .‬حيـث تتحكم هبـا البيولوجيـا والغريزة‪ .‬متر‬
‫إنـاث ُمع َظـ ِم الثدي َّيـات بفترة الـوداق‪ ،‬الطريقـة التـي اعتمدهـا‬
‫ـق األنثـى الراغبـ ُة باجلنـس‬ ‫التطـور حلملهـن على التكاثـر‪ .‬ت ِ‬
‫ُطل ُ‬
‫مـزاج رومانسي‪ .‬يف بعـض األنواع‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫رائحـ ًة ت ِ‬
‫ُعلـم الذكـور أهنا يف‬
‫حموري‬
‫ٌّ‬ ‫دور‬
‫كام نـرى يف الوثائقيـات التلفزيونية‪ ،‬لطقوس املغازلـة ٌ‬
‫ٍ‬
‫رقصات معقـد ًة أو‬ ‫ذكـور الطيـور‬ ‫يف بـدء عمليـة التـزاوج‪ .‬تؤدي‬
‫ُ‬
‫تسـتعرض مجـال ريشـها الجتـذاب انتبـاه احلبيبـة املرجـوة‪ .‬ومن‬
‫األمثلـة على ذلـك الريـش اجلميـل لذكـور الطـاووس رغـم إنـه‬
‫يبـدو ضـار ًا عىل صعيـد البقاء‪ ،‬إذ جيعلـه طريد ًة سـهل ًة للحيوانات‬
‫املفرتسـة‪ .‬لكـ َّن هـذا الكسـاء الريشي اجلميـل يعـد دلي ً‬
‫لا مرئ ًّيـا‬
‫لإلنـاث على اجلـودة اجلينيـة للذكر الـذي حيملـه ومن ثم فـإن له‬
‫يسـميه دينيس داتـون «مؤرش‬ ‫ِّ‬ ‫فائـدة عىل صعيـد بقاء النـوع‪ ،‬أو ما‬
‫‪239‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫الصالحيـة»)‪ .(6‬للحيوانـات آالف الطـرق األخـرى يف ممارسـة‬


‫طقـوس الغزل‪.‬‬
‫خيتلـف نوعنـا البشري ‪ Homo sapiens‬عـن معظـم األنـواع‬
‫احليوانيـة على صعيـد الغـزل‪ ،‬حيـث ال متـر إنـاث البشر بفترة‬
‫الـوداق‪ ،‬ولـو أن ديزموند موريس يقترح َّ‬
‫أن اسـتخدام العطور هو‬
‫ٌ‬
‫بديـل للروائـح التـي كان يفرزها البشر األقدمون‪ ،‬وإن اسـتجابتنا‬
‫هلـذه العطور تنشـأ مـن عقولنـا البدائيـة‪ .‬أ َّدت املنعطفـات التطورية‬
‫املختلفـة التـي مـر هبـا البشر إىل نشـوء أنـوا ٍع كثيرة مـن طقـوس‬
‫الغـزل‪ .‬وفقـ ًا جليفـري ميلـر ‪« :Geoffrey Miller‬مل تتطـور عقولنا‬
‫مسـتوى‬ ‫لتكـون مكائـن ٍ‬
‫بقـاء فقط‪ ،‬بل مكائـن َغ َـز ٍل أيض ًا»)‪ .(7‬عىل‬
‫ً‬
‫ُصـور الرومانسـية والرومانسـي ُة القوطيـ ُة َت َ ُّثالت‬‫من املسـتويات‪ ،‬ت ِّ‬
‫ال َغ َـزل التـي تثري املتعـة اإلنابيـة عند القـراء واملشـاهدين‪.‬‬
‫تطـوري‪ ،‬فـإن ال َغ َزل هـو الطريـق ِّ‬
‫املمهـد للتكاثر‪،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫منظـور‬ ‫مـن‬
‫بغـض النظـر عـن األقنعـة التـي تضفيهـا الثقافـة عليـه‪ .‬تتراوح‬
‫ٌ‬
‫(رجـل لـه عـدة‬ ‫العالقـات بين اجلنسين مـن تعـدد الزوجـات‬
‫زوجـات) إىل تعـدد الرجـال (امـرأ ٌة هلـا أكثـر مـن رشيـك مـن‬
‫الرجـال) وصـوالً إىل العالقـات املفتوحـة (حيـث يكـون لـكل‬
‫فـرد فيهـا عـدة رشكاء وبعلـم مجيع األطـراف‪ ،‬وعـادة مـا يكونون‬ ‫ٍ‬
‫جمموعـة واحـدة)‪ .‬لكـ َّن علم النفـس التطـوري يرجـح أن الرابطة‬
‫الثنائيـة بني رجـل وامرأة كانت الشـكل القيايس مـن العالقة خالل‬
‫تارخينـا التطـوري‪ ،‬على األقـل إىل الوقت الـذي تصبح فيـه الذرية‬
‫مسـتقل ًة نسـب ًّيا‪ .‬يتميـز النـوع البشري بكـون فترة اعتماد الذريـة‬
‫‪240‬‬
‫الف�صل اخلام�س‬

‫على الوالديـن فيـه أطـول بكثير مما هـي عليـه يف األنـواع احليوانية‬
‫ٍ‬
‫واحد يف‬ ‫األخـرى‪ ،‬وهكـذا فمن املرجـح أنـه كان صعب ًا عىل رجـل‬
‫ٍ‬
‫ألطفال‬ ‫العصر احلجـري القديـم أو اجلديـد أن يوفر مـوارد كافيـ ًة‬
‫مـن أكثـر من رشيكة جنسـية‪ .‬ومـع أن احلضارة الغربيـة قد طورت‬
‫الـزواج األحـادي باعتبـاره النمـط املطلوب مـن التزاوج‪ ،‬وسـنت‬
‫قوانين ضـد اختـاذ أكثـر مـن رشيـك أو رشيكـة‪ ،‬إال أن الرجـال‬
‫الذيـن كانـوا مقتدريـن ماد ًّيـا قـد مارسـوا عبر التاريـخ البشري‬
‫انعكاس آخـر للغريـزة البدائيـة التي تدفع‬
‫ٌ‬ ‫اختـا َذ العشـيقات‪ ،‬وهـو‬
‫الرجـال ملكاثـرة جيناهتـم على أوسـع نطـاق ممكن‪.‬‬
‫كذلـك اسـتمتعت النسـاء عبر التاريـخ هبـذا النـوع مـن‬
‫جمسـد ًا يف األدب عبر العصـور‪ .‬يسـجل‬ ‫املغامـرات‪ ،‬ونـرى ذلـك َّ‬
‫كريسـتوفر ويلبر ‪ Christopher Wilbur‬ولـورن كامبـل ‪Lorne‬‬
‫‪ Campbell‬أن «النسـاء ُي َث ِّمـ َّن األمـان الـذي توفـره عالقـ ٌة ملتزمـ ٌة‬
‫جنسي مع‬ ‫ٍ‬
‫نشـاط‬ ‫طويلـة األمـد ولكنهـ َّن يرت َّقبـن الفرص ملامرسـة‬
‫ٍّ‬
‫رجـال ذوي قيمـة جينيـة عاليـة يف الوقت الـذي تكون فيـه إمكانية‬ ‫ٍ‬
‫َحلهـن مرتفعـة»)‪ .(8‬لكـ َّن الـزواج األحـادي – الرابطـة الثنائيـة‬
‫العـال‪ ،‬عىل األقل‬‫َ‬ ‫أصبـح الشـكل القيـايس السـائد يف معظم أجـزاء‬
‫حتـى يسـتطيع األطفـال االعتماد على أنفسـهم‪ .‬نعم‪ ،‬نحـب فكرة‬
‫احلـب الـذي يـدوم مـدى احليـاة مـع تـوأم الـروح‪ ،‬لكـ َّن باحثـي‬
‫علـم النفـس التطـوري يصرون على َّ‬
‫أن التطـور مل جيعلنـا أحا ِّديي‬
‫التـزاوج متامـ ًا‪ .‬مـن املرجح أن «هرشـة السـنة السـابعة» قـد كانت‬
‫الزمـن الـذي احتاجته املجتمعـات البدائية لتنشـئة الطفـل وإدخاله‬
‫‪241‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫يف معترك احليـاة‪ ،‬مما قـد يتيح للزوجين إهناء العالقـة والبحث عن‬
‫عالقـات جديدة‪.‬‬
‫مـن املنظـور التطـوري للتـزاوج والتمريـر الناجـح للجينـات‪،‬‬
‫ختتلـف احتياجـات الرجـال عـن احتياجات النسـاء‪ .‬مـن مصلحة‬
‫الرجـال نشر جيناهتـم على أوسـع نطـاق‪ .‬تكتـب فيشر‪« :‬اجلماع‬
‫هـو وسـيلة الرجل إلنجـاب الذرية؛ فـإذا محلت رشيكته فستسـافر‬
‫جيناتـه إىل املسـتقبل‪ .‬هكـذا ورغـم أن الرجـال غالبـ ًا ال يرغبـون‬
‫بإنجـاب األطفـال على مسـتوى الوعـي‪ ،‬إال أنـه يبـدو أن هـذه‬
‫ـت يف نفسـية الذكور عىل هيـأة َم ٍ‬
‫يل غري‬ ‫املكافـأة التطوريـة قـد ُغ ِر َس ْ‬
‫احلميميـة‪ ،‬املـو َّد ِة‪ ،‬والصحبـة»)‪ .(9‬أمـا‬
‫ِ‬ ‫جوهـر‬
‫َ‬ ‫وا ٍع العتبـار اجلماع‬
‫النسـاء على اجلهـة األخـرى‪ ،‬فيبذلن اسـتثامر ًا أعىل بكثير يف ميدان‬
‫التكاثـر‪ ،‬وهـذا االختلاف بني حاجـات الرجال وحاجات النسـاء‬
‫هـو مـا أهلـم قصة سـندريال‪.‬‬
‫ث النسـاء عـن الزوج‬ ‫االختلاف أسـاس َت ُّثل بح ِ‬
‫ُ‬ ‫يشـكل هـذا‬
‫ْ‬ ‫َ َ‬
‫املثـايل‪ .‬تتواجـد القصـة ضمـن فلكلـور الكثري مـن الثقافـات وعرب‬
‫التاريـخ السـحيق‪ :‬من الصين القديمة وصـوالً إىل إصدار الشـاعر‬
‫ُشر عـام ‪ ،1697‬ووصوالً‬ ‫شـارل بيرو ‪ Charles Perrault‬الـذي ن ِ‬
‫سـينامئي للقصـة مـن إنتـاج رشكة ديـزين عام‬ ‫ٍ‬
‫توظيـف‬ ‫إىل أحـدث‬
‫ٍّ‬
‫صنعت أشـكاالً متنوعة مـن القصة‪ .‬فمثالً‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫‪ .2015‬لكـ َّن الثقافـات‬
‫يقـدم لنـا فيلـم ‪ )1990( Pretty Woman‬شـخصية سـندريال على‬
‫أهنـا َب ِغ ٌّي‪ ،‬أما فيلـم ‪ Maid in Manhattan‬الذي صـدر عام ‪،2002‬‬
‫فريبـط القصـة إىل الثقافـة املعـارصة بتصويـره للشـخصية على أهنا‬
‫‪242‬‬
‫الف�صل اخلام�س‬
‫أ ٌّم عزبـاء‪ .‬ت ِ‬
‫َعـزف قصـ ُة الفتـاة الصغيرة التي تعـاين الظلـم ولكنها‬
‫تنجـح أخير ًا يف إجيـاد أمريهـا‪ ،‬نعـم تعزف على َوتَـر حلم النسـاء‬
‫بلقـاء رجـل كهـذا و َعيش قصـة رومانسـية معه‪.‬‬
‫احتفـت املئـات من الروايـات واألفالم باحلـب احلقيقي‪ ،‬احلب‬
‫الـذي ُيت َِّو ُجـ ُه الزواج بعـد معاناة الصعـاب؛ ففي َ‬
‫عال الرومانسـية‪،‬‬
‫كما يقـول شكسـبري‪« ،‬ال بـد للحـب احلقيقـي أن يواجـه املتاعـب‬
‫الصراع عنصر ًا أساسـ ًّيا يف األفلام والروايات‪.‬‬
‫ُ‬ ‫يف طريقـه»‪ُ .‬ي َعـدُّ‬
‫كل من الرومانسـية والرومانسـية‬ ‫ويقـع الصراع الدرامي يف قلـب ٍّ‬
‫القوطيـة‪ ،‬ويتموضـع حتديـد ًا يف َت َ ّثـل التـزاوج‪ :‬حكايـ ُة نجـاح‬
‫االحتـاد بين امـرأة ورجل طيـب وكريـم‪ ،‬ويف الكثري مـن األحيان‪،‬‬
‫فيلم‬
‫رجـل يريدها ملجـرد املتعة اجلسـدية‪ .‬يضع ُ‬ ‫ٌ‬ ‫يالحـق املـرأ َة أيض ًا‬
‫ُ‬
‫‪ Bridget Jones’ Diary‬تنويعـ ًة ثقافيـ ًة جديـد ًة على هـذه القصـة‬
‫اخلالـدة‪ ،‬حيـث التعـارض بين مـارك داريس (بالطبع فإن تسـميته‬
‫على اسـم شـخصية مـن روايـة ‪ Pride and Prejudice‬ليسـت‬
‫مصادفـة) كأمير وبين دانييـل كليفـر الفتـى اخلليـع‪ .‬لكـن يف هذا‬
‫الفيلـم‪ ،‬تتشـوق البطلة الرومانسـية ملامرسـة اجلنس مـع دانييل بعد‬
‫فترة قصيرة على لقائهام‪.‬‬
‫يصنِّـف يـان جوبلنـگ ‪ ،Ian Jobling‬دايـان كروگـر ‪Diane‬‬
‫‪ ،Kruger‬وماريـان فيشر ‪ Marianne Fisher‬نموذجني لشـخصية‬
‫الرجـل يف املدرسـة الرومانسـية مـن منظور علـم النفـس التطوري‬
‫ومهـا‪« :‬اآلبـاء» و«األنـذال»‪ .‬والنـذل أو الوغـد هـو زيـر النسـاء‬
‫الـذي يرجـح أن يع ِّقـب كثير ًا مـن األطفـال‪ .‬وتربـح املـرأة مـن‬
‫‪243‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫ابـن «جـذاب جنسـ ًّيا» يـرث صفـات أبيـه‬ ‫إنجـاب ٍ‬


‫َ‬ ‫عالقتهـا بـه‬
‫ومـن ثـم ينشر جينـات أمـه يف اجليـل التـايل‪ .‬أمـا األب فيجـذب‬
‫املـرأة «بعـرض اسـتعداده لالسـتثامر األبـوي يف الذريـة؛ يميل هذا‬
‫النـوع مـن الرجـال ألن َيكونـوا عطوفين‪ ،‬لطفـا َء‪ ،‬رومانسـيني‬
‫ٍ‬
‫باسـتمرار يف األدب‪ ،‬ابتدا ًء من‬ ‫وجمتهديـن»)‪َ .(10‬يضر هذا التمثـل‬
‫التعـارض بني شـخصية النسـيلوت وآرثـر يف حكايـات امللك آرثر‬
‫وصـوالً إىل عرصنـا احلـارض‪ .‬يقترح دينيـس داتون أن لالسـتجابة‬
‫التـي تثريهـا هـذه التمثلات جـذور ًا بدائيـ ًة‪ :‬إذ تنشـأ التكيفيـة من‬
‫خزين مـن التجـارب على صعيد‬ ‫ٍ‬ ‫قـدرة العقـل البشري على بنـاء‬
‫احلـاالت الفرديـة امللموسـة ‪ -‬لكـن ذلـك ال يقترص على التجارب‬
‫التـي يعيشـها الفـرد نفسـه فقط‪ ،‬بـل يشـمل التمثلات املرتاكمة يف‬
‫ذاكـرة التراث القصصي)‪.(11‬‬
‫ُولِـد جنـس الرومانسـية القوطيـة يف الروايات يف القـرن الثامن‬
‫عشر مـع تطـور وسـائل الطباعـة الرخيصـة وتزايـد عـدد النسـاء‬
‫املتعلمات القـادرات واملقبلات على القـراءة يف صفـوف الطبقتني‬
‫النزافني‪،‬‬ ‫الوسـطى والوسـطى العليا‪ .‬كما نرى يف روايـات وأفلام َّ‬
‫ـور‬ ‫ـور الكتَّـاب صيغـ ًة – مـا زالـت حـارض ًة حتـى اليـوم ت َُص ِّ‬ ‫َط َّ‬
‫نحـو غريب‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫قالعـ ًا خربـة‪ ،‬أوغـاد ًا أرشار ًا ولكنهـم جذابـون على‬
‫ـاب يتنافسـون على البطلـة‪ .‬تقـدِّ م‬ ‫باإلضافـة إىل وجـود عـدة ُخ َّط ٍ‬
‫ٍ‬
‫يتيمـة‬ ‫حبكـ ُة السـندريال التـي تتخلـل هـذه الروايـات قصـ َة ٍ‬
‫فتـاة‬
‫آخـر‬ ‫رجـل َ‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫هيضـة اجلنـاح يالحقهـا رجـل ال حتبـه بينما يدعمهـا‬ ‫َم‬
‫يشـاركها رهافتها وشـغفها بالطبيعة‪ .‬خيطب العديد مـن الرجال ِو َّد‬
‫‪244‬‬
‫الف�صل اخلام�س‬

‫البطلـة‪ ،‬وال شـك أن هذه اجلزئيـة بالـذات أمني ٌة عزيـزة للقارئات‪.‬‬


‫عصر العقـل‪ ،‬ومـع‬ ‫َ‬
‫أطفـال ْ‬ ‫لقـد كان مؤلفـو الرومانسـية القوطيـة‬
‫إهنـم قد ُيدخلـون يف رواياهتم أحيانـ ًا أحداث ًا خارقـة‪ ،‬إال أهنم كانوا‬
‫يفرسوهنـا علميـ ًا لينزعـوا منهـا صفـة اخلوارقية عـادةً‪ ،‬على األقل‬
‫يف بدايـة انطلاق الرومانسـية القوطيـة‪ .‬هنـاك بعض االسـتثناءات‬
‫كالكاتـب إم‪ .‬جـي‪ .‬لويـس ‪ M.G. Lewis‬وتشـارلز ماتوريـن‬
‫الرعـب القوطـي‬
‫َ‬ ‫رواياتما‬
‫ُ‬ ‫‪ ،Charles Maturin‬حيـث تعتمـد‬
‫ا لصميم ‪.‬‬
‫عـادة ما تعرضت الرومانسـي ُة يف تلك احلقبـة إىل ازدراء الرجال‬
‫وسـخريتهم‪ .‬ففـي روايتـه ‪ The Heroine‬التي نرشت عـام ‪،1812‬‬
‫َـب إيتـون سـتانارد باريـت ‪ Eaton Stannard Barret‬هجـا ًء‬ ‫َكت َ‬
‫مسـل ًّيا يسـخر فيه من هـذا اجلنـس األديب‪ .‬تقرأ بطلـة الرواية‪ ،‬وهي‬
‫ٍ‬
‫روايـات رومانسـي ًة قوطيـة‪ ،‬مـا جيعلها ختلط‬ ‫ابنـة أحـد املزارعين‪،‬‬
‫األسة‬ ‫بين الفـن واحليـاة الواقعيـة‪ .‬وهكذا تقتنـع أهنـا يتيمـة وأن ْ‬
‫التـي تعيـش معهـا قـد تبنتهـا‪ ،‬من ثـم تغير اسـمها إىل تشيروبينا‪،‬‬
‫يعـرف باريت هذه الشـخصية‬ ‫وتبـدأ رحل ًة مـن املغامـرات كبطلة‪ِّ .‬‬
‫‪ -‬هـذه البطلـة‪ :‬فتا ٌة يافعـة‪ ،‬أطول من املعتـاد بعض الشيء‪ ،‬وغالب ًا‬
‫مـا تكـون يتيمـة؛ ودائم ًا ما متلـك عينين كأمجل مـا تكـون العيون‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ريـاح قـد تطريهـا‪ ،‬إال‬ ‫أن ه َّبـ َة‬
‫هـش‪ ،‬إىل درجـة َّ‬
‫ورغـم إن قوامهـا ٌّ‬
‫ٍ‬
‫متثـال مـن الفـوالذ‪ .‬شـديدة اخلجـل إىل حدٍّ‬ ‫إهنـا أمتـن أحيانـ ًا مـن‬
‫كبير جـد ًا‪ ،‬ويف املواقـف التي جتعل أتراهبـا من الفتيـات يضحكن‪،‬‬
‫مغمـى عليهـا‪ .‬باإلضافـة إىل ذلـك‪ ،‬تنهمـر الدموع‬ ‫نجدهـا تسـقط ً‬
‫‪245‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫والتنهـدات منهـا أو ينـال منها احلزن ألقل األسـباب؛ تعيش شـهر ًا‬
‫على لقمـة طعـا ٍم واحـدة‪ ،‬وهزيل ٌة شـاحبة عىل الـدوام)‪.(12‬‬
‫يتحـدث باريـت هنا عـن الصيغـة النموذجية لشـخصية البطلة‬
‫اجلوالـة كما قدمتهـا الرومانسـية القوطيـة‪ ،‬أي تلـك البطلـة التـي‬
‫تنتقـل مـن قلعـة إىل ٍ‬
‫بيـت فاخر‪.‬‬
‫اجلنسـوي ‪sexist‬والتحقيري لشـخصية‬
‫ِّ‬ ‫رغـم تصويـر باريـت‬
‫تشيري‪ ،‬كانت البطلة يف بدايات الرومانسـية القوطية‪ ،‬تتسـم بالقوة‬
‫والدهـاء‪ ،‬وعازمـ ًة على صد الرجل الـذي ال يعجبها‪ .‬ومما ال شـك‬
‫فيـه أن الفتيـات اليافعـات يف تلـك احلقبـة –اللايت رتبـت العائلـة‬
‫زجياهتـن يف الغالـب قـد وجـدن يف شـخصية البطلـة يف الروايـات‬
‫الرومانسـية صدً ى لقصص حياهتن الواقعية‪ .‬تتسـم هـذه الروايات‬
‫بميلودراميـة شـديدة؛ لكن البطلـة تكرس قوالب اخلضـوع األنثوي‬
‫يف سـعيها لالسـتقالل وإنشـاء عالقة مع رجل حمـب وداعم‪ .‬هكذا‬
‫يقترح علماء البيولوجيا التطورية أن النسـاء اليافعـات لتلك احلقبة‬
‫كـن يقـرأن هـذه الروايـات وحيلمـن بالرشيـك األمثل على صعيد‬
‫اسـتمرار شـيوع جنس‬
‫ُ‬ ‫املـوارد‪ ،‬التوافـق اجليني‪ ،‬والعطف؛ ويرجح‬
‫األدب الرومانسي أن الكثير مـن النسـاء مازلـن حيلمن هبذا‪.‬‬
‫َ‬ ‫ِّ‬
‫«نيلي‪ ،‬أنا هيثكليف» جين آير ومرتفعات ويذرنگ‬
‫مل تو َّظـف األعمال املبكـرة األوىل للرومانسـية القوطيـة يف‬
‫السـينام‪ .‬لكـن روايـة جين آيـر ‪ Jane Eyre‬لشـارلوت برونتـي‬
‫‪ Charlotte Brontë‬وروايـة مرتفعـات ويذرنـگ ‪Wuthering‬‬
‫‪ Heights‬لشـقيقتها إيميلي برونتـي ‪ Emily Brontë‬و ِّظفتـا يف‬
‫‪246‬‬
‫الف�صل اخلام�س‬

‫عـدد كبير مـن األفلام‪ .‬سـطع نجـم روايـات األخـوات برونتـي‬ ‫ٍ‬
‫نشرت آن برونتـي ‪Anne Brontë‬‬ ‫ْ‬ ‫الثلاث عـام ‪ ،1847‬حيـث‬
‫مجيع الشـقيقات الثالث حتت أسماء‬‫كتبت ُ‬
‫روايتهـا ‪ْ .Agnes Gray‬‬
‫نشرت شـارلوت حتت اسـم كوريـر بيل‬ ‫ْ‬ ‫رجاليـة مسـتعارة‪ ،‬حيـث‬
‫‪ ،Currer Bell‬وإيميلي حتـت اسـم إيليـس بيـل ‪ ،Ellis Bell‬أما آن‬
‫فقـد اختارت اسـم آكتـون بيـل ‪ .Acton Bell‬يف احلقبـة الفيكتورية‬
‫تلـك‪ ،‬كانـت الكاتبـات يواجهـن مصاعـب مجـة يف نشر أعامهلـن‬
‫األدبيـة‪ .‬فمثالً‪ ،‬كانت مـاري آن إيفانـس ‪ Mary Ann Evans‬تنرش‬
‫رواياهتـا حتـت اسـ ٍم مسـتعار هـو جـورج إليـوت ‪.George Eliot‬‬
‫ُت َعـدُّ روايـة جني آيـر ‪ Jane Eyre‬تطـور ًا يف الصيغة الرومانسـية‬
‫القوطيـة للقـرن السـابق ولتراث السـندريال أيضـ ًا‪ .‬جتسـد الرواية‬
‫التمثـل اخلالـد للتـزاوج والتكاثـر‪ ،‬وإن كان ُم َقنَّعـ ًا بِ ُز ْخـرف‬
‫الرومانسـية الـذي اخرتعتـه الثقافـة‪ُ .‬و ِّظ َفـت روايـة جين آيـر يف‬
‫عـدد كبير مـن األفلام‪ .‬إذ يعـدد موقـع قاعـدة بيانـات األفلام‬
‫على اإلنرتنـت ‪ Database Internet Movie‬ثامنيـة منهـا‪ ،‬وهـذا ال‬
‫يشـمل بالطبـع العـروض التلفزيونيـة واملرسحيـات العديـدة التـي‬
‫اسـتلهمت الروايـة‪ .‬متيـز الفيلـم الذي أنتج عـام ‪ 1943‬بأنـه األكثر‬
‫ْ‬
‫اعتنـا ًء بتقديـم روح الروايـة‪ .‬عمـل ثالثـة كتَّـاب سـيناريو مميزون‬
‫هـم ألـدوس هكسلي ‪ ،Aldous Huxley‬جـون هوزمـان ‪John‬‬
‫‪ ،Houseman‬وروبـرت ستيفنسـون ‪( Robert Stevenson‬الـذي‬
‫مشـذبة مـن الرواية؛‬ ‫َّ‬ ‫قـام أيضـ ًا بإخـراج الفيلم)‪ ،‬على تقديم حبكة‬
‫إذ حذفـوا اجلزئيـة التـي تتحـدث عـن التقـاء جين آيـر بسـانت‬
‫‪247‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫جـون ريفـرز وأخواتـه كما حذفـوا تفاصيـل ميراث جين أيضـ ًا‪.‬‬
‫عولـوا على مواهـب املمثلين‪:‬‬ ‫لكـ َّن ُكتَّـاب السـيناريو واملخـرج َّ‬
‫جـوان فونتين ‪ Joan Fontaine‬يف دور جين آيـر وأورسـون ويلـز‬
‫‪ Orson Welles‬يف دور روتشيستر‪ .‬وقـد أتقـن أورسـون تقمـص‬
‫دور البطـل البايـروين للروايـة‪ .‬كذلـك شـهد الفيلـم ظهـور ثالث‬
‫ممثلات يف مرحلـة الطفولـة ُقـدِّ ر هلـن الحقـ ًا أن يصبحـن نجمات‬
‫يف عـامل السـينام‪ :‬مارگريـت أوبرايـن ‪ Margaret O’Brien‬يف دور‬
‫أديـل‪ ،‬ابنـة روتشستر غير الرشعية مـن راقصـة فرنسـية؛ بيگي آن‬
‫گارنـر ‪ Peggy Ann Garner‬يف دور جين الصغيرة؛ وإيليزابيـث‬
‫تايلـور بعمـر أحـد عرش عامـ ًا يف دور هيلين برينز العليلـة‪ ،‬صديقة‬
‫جين األقـرب يف املدرسـة‪.‬‬
‫مل تنسـب برونتـي جلين صفـات اجلمال التـي كرسـها تـراث‬
‫الرومانسـية القوطيـة‪ .‬فقـد كانـت جين «عاديـة»‪ .‬لكـ َّن املؤلفـة‬
‫وظفـت العديـد من عنـارص التراث القوطـي والتمثل الـذي يقف‬
‫وراءه‪ .‬يلعـب َت َ ُّثـل التـزاوج كما تقدمـه روايـة جين آيـر على وتر‬
‫بدائيـة مغروسـة يف النسـاء منـذ عهـد أسلافنا األولين‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫اسـتجابة‬
‫كما يصر املختصـون بعلم النفـس التطـوري‪ ،‬كانت النسـاء خيضن‬
‫خماطـرة أكبر بكثير يف عمليـة التـزاوج مقارنـة بالرجـال‪ .‬يالحـظ‬
‫ٍ‬
‫رشيـك سـ ِّيئ» كان‬ ‫كارل گرامـر ‪ Karl Grammer‬أن «اختيـار‬
‫يمثـل خطـر ًا على بقـاء ذريـة األنثـى النـادرة أصلاً‪ .‬مـن ثـم كان‬
‫على اإلنـاث أن يكـ َّن أكثـر انتقائيـ ًة مـن الذكـور»)‪ .(13‬وهكـذا فإن‬
‫روتشيستر يمثل للنسـاء القارئـات يف تلك الفرتة‪ ،‬خيـاالً للرشيك‬
‫‪248‬‬
‫الف�صل اخلام�س‬

‫النموذجـي لألنثـى‪ :‬إذ إنـه عطـوف‪ ،‬كريـم‪ ،‬ويملك مـوارد وافرة‪.‬‬


‫ورغـم أن الروايـة تنسـب إليـه االفتقـار إىل املالمـح الرجوليـة‬
‫مظهر ًّيـا‪ ،‬إال إنـه كان جذابـ ًا جنسـ ًّيا دون شـك‪ ،‬وقد نجـح ويلز يف‬
‫أداء هـذه اجلزئيـة مـن الـدور يف الفيلـم‪ .‬كذلـك فـإن مغامراتـه مع‬
‫راقصـة فرنسـية تضيـف إىل جاذبيتـه مـن منظـور جنسي‪ .‬إذ كان‬
‫روتشستر أبـ ًا لطفـل‪ ،‬وهذا يعنـي أن بإمكانـه أن يكون أبـ ًا ألطفال‬
‫جين (األمـر الـذي نكتشـف يف هنايـة الروايـة أنـه حـدث فعالً)‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بقـوة أكرب مـن نظرياهتـا بطلات الروايات‬ ‫تتمتـع البطلـة جين‬
‫الرومانسـية القوطيـة األقـدم‪ .‬وكما هـي احلـال غالبـ ًا‪ ،‬كما يشير‬
‫باريـت يف وصفـه لبطلات هذا النـوع مـن الروايـات‪ ،‬تعيش جني‬
‫اليتيمـة يف كنـف امـرأة أبيهـا الظاملـة السـيدة ريـد‪ ،‬والتـي تناظـر‬
‫شـخصية امـرأة األب يف تـراث سـندريال‪ .‬تناضـل جين ضـد‬
‫ُرسـل إىل مدرسـة لوود‬ ‫وحشـية السـيدة ريد وابنها القايس قبل أن ت َ‬
‫للبنـات‪ ،‬حيـث تتعـرض هنـاك أيض ًا لقسـوة مدير املدرسـة السـيد‬
‫كل مـن الروايـة والفيلـم‪ ،‬تتحـدث جين إىل د‪.‬‬ ‫بروكلهريسـت‪ .‬يف ٍّ‬
‫ريفـرز‪ ،‬طبيـب املدرسـة‪ ،‬قائلـة إهنا حتلـم بالثـروة وبامتلاك «عربة‬
‫لطيفـة بأربعـة أحصنة»‪ ،‬حلم السـندريال النموذجـي‪ .‬عندما تنضج‬
‫جني‪ ،‬تكتسـب قوة الشـخصية‪ ،‬بحيث تغري حياهتـا وترفض عرض‬
‫بروكلهريسـت املـذل بالعمـل كمعلمـة بعـد أن خيربها أهنـا لن جتد‬
‫مـن يقبـل بتوظيفهـا يف أي مـكان آخـر ألهنـا‪ ،‬على حـدِّ وصفـه يف‬
‫الفيلـم‪« ،‬عديمـة املوهبـة‪ ،‬كما أن مظهرهـا ال جيـذب االهتامم»‪.‬‬
‫تعلـن جين عـن حاجتهـا إىل عمـل‪ ،‬مـن ثـم تعثـر على عمـل‬
‫‪249‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫كمربيـة ألديـل يف عزبـة ثورنفيلـد التـي يملكهـا روتشيستر‪ .‬يف‬


‫الفيلـم والروايـة‪ُ ،‬ت َقـدَّ م لنـا العزبة على أهنا بنايـة متناثرة هلـا أبراج‪،‬‬
‫بمعنـى أهنا تشـبه بدرجة ما القلاع التي نجدها يف التراث القوطي‬
‫األقـدم‪ .‬هكـذا فـإن البنايـة – كما تصفهـا الروايـة وكما صورهـا‬
‫الفيلـم تعد مناسـبة كمسرح ألحداث قصـة رومانسـية قوطية‪ ،‬كام‬
‫أن هبـا مسـحة مـن اخلوارقيـة‪ ،‬حيـث تقـوم بريثـا بحـركات غريبة‬
‫ليلاً‪ ،‬ويف إحدى املـرات‪ ،‬هترب مـن ممرضتها گريس بـول وتدخل‬
‫غرفـة جين‪ ،‬ثـم تشـعل حريقـ ًا يف غرفـة روتشيستر‪ .‬وهكـذا فإن‬
‫امـرأة جمنونة تسـلك سـلوكيات غريبة يف مسرح األحداث‬ ‫ٍ‬ ‫وجـود‬
‫ينقـل الروايـة من صنـف الرومانسـية الكالسـيكية إىل الرومانسـية‬
‫القوطية‪.‬‬
‫تتحـدد طبيعـة العالقـة بين روتشيستر وجين منـذ أول لقـاء‬
‫بينهما‪ .‬فبينما كانت جين تتجول يف اجلـوار‪ ،‬يعود روتشيستر راكب ًا‬
‫حصانـه‪ ،‬ويف أثنـاء حماولتـه جتنـب االصطـدام هبـا‪ ،‬ينزلـق حصانه‬
‫ويسـقط أرضـ ًا‪ ،‬كما لـو أن احلادثـة ترمـز إىل أهنـا أخضعتـه بطريقة‬
‫مـا‪ ،‬ثم حتـاول مسـاعدته‪ ،‬ما يكشـف عن طبيعتهـا املعطاءة‪ .‬يشـابه‬
‫هـذا املشـهدُ مشـهدَ رعايتهـا لروتشيستر عندما يصـاب بالعمى يف‬
‫هنايـة الروايـة‪ .‬مـن األمـور التـي حببت جين إىل قلب روتشيستر‬
‫تفانيهـا يف إنقـاذه مـن احلريـق الـذي نشـب يف غرفـة نومـه‪ ،‬إضاف ًة‬
‫إىل الفـرق بين حنوهـا على أديـل وبين ترصفـات اجلميلـة بالنش‬
‫إنگـرام التـي تتمتـع بــ «اإلنجـازات» املتو َّقعة مـن فتاة مـن الطبقة‬
‫املخمليـة‪ ،‬ولكنهـا تفتقـر إىل التعاطـف مـع اآلخريـن‪ :‬مـن منظور‬
‫‪250‬‬
‫الف�صل اخلام�س‬

‫الصفـات البدائيـة‪ ،‬فـإن هـذه الصفات الشـخصية جلين هي مؤرش‬


‫على رشيكـة جنسـية ممتازة‪.‬‬
‫كما احلال غالب ًا يف جنـس األدب الرومانيس‪ ،‬تقدِّ م الرواي ُة َ‬
‫البطل‬
‫روتشيستر بوصفـه رج ً‬
‫ال ثر ًّيـا خيتار امـرأ ًة من طبقـة اجتامعية أدنى‬
‫أي سـندريال‪ .‬وقـد نجح أورسـون ويلز يف إتقـان دور‬ ‫مـن طبقتـه‪ْ ،‬‬
‫روتشيستر‪ ،‬السـيام يف مـا يتعلق بالكلمات التي اسـتخدمها للتعبري‬
‫كلمات حتاكي ما‬
‫ٌ‬ ‫عـن مشـاعره عندمـا عـرض على جين الـزواج‪،‬‬
‫حسـاس وعطـوف ويملك‬ ‫ٍ‬ ‫آالف النسـاء مـن إجياد رشيك‬ ‫ُ‬ ‫حتلـم به‬
‫مـوارد وافـرة‪« :‬أحـس أحيانـا»‪ ،‬يناجـي روتشيستر جين‪« ،‬كام لو‬
‫أن هنـاك خيطـ ًا مربوطـ ًا حتـت ضلعـي األيسر‪ ،‬يتشـابك بإحـكا ٍم‬
‫جسـدك الصغير»‪ .‬تعكس هذه‬ ‫ِ‬ ‫آخر يف مـكان مماثل مـن‬ ‫ٍ‬
‫خيـط َ‬ ‫مـع‬
‫الكلمات مـا تعتقـد بـه هيلين فيشر مـن أننـا ننجـذب إىل أولئـك‬ ‫ُ‬
‫الذيـن حيملـون قيم ًا ومواقـف اجتامعيـة متاثـل قيمنـا ومواقفنـا‪،‬‬
‫وأن «األنماط اجلينيـة املتشـاهبة تتجـاذب؛ بمعنـى أننـا نميـل إىل أن‬ ‫َّ‬
‫نكـون أكثر انجذاب ًا إىل األشـخاص الذيـن يشـبهوننا»)‪ .(14‬برغم أن‬
‫بأسـلوب هادئ يعشـقه روتشيستر‪ ،‬ورغـم كوهنا أكثر‬ ‫ٍ‬ ‫جين تتمتع‬
‫حزمـ ًا مـن غريهـا مـن بطلات األدب الرومانسي لتلـك احلقبـة‪،‬‬
‫إال إن شـخصيتها تعكـس قـدر ًا كبير ًا مـن ُم ُثـل األنوثـة يف العرص‬
‫الفيكتـوري‪ ،‬حيـث ُت َقـدَّ م لنـا بوصفهـا امـرأة معطـاء ًة مسـتعدة‬
‫للتضحية بنفسـها‪.‬‬
‫كما احلـال عـاد ًة يف التراث الرومانسي‪ ،‬تتلقـى جين عروض‬
‫زواج مـن أكثـر مـن رجـل واحـد يف الروايـة‪ .‬لكـ َّن جـون ريفـرز‬
‫‪251‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫ـت اجلزئية املتعلقـة بعرض ريفرز يف هذا الفيلم) يسـتثري فقط‬ ‫(ح ِذ َف ْ‬
‫ُ‬
‫إحساسـها بالواجـب كمسـيحية‪ ،‬وال يسـتثري عواطفهـا احلـارة كام‬
‫يفعـل روتشيستر‪ .‬ويرجح منظور علـم النفس التطـوري أن غريزة‬
‫جنسي‬ ‫ٍ‬
‫رشيـك‬ ‫جين جعلتهـا تـرى يف روتشيستر أكثـر مـن جمـرد‬
‫ٍّ‬
‫ذي جاذبيـة ورومانسـية ومـوارد أكبر‪ ،‬بل رأتـه أفضل مـن الناحية‬
‫اجلينيـة أيض ًا‪ .‬جتسـد الروايـ ُة – والفيلم أيض ًا حتقيـق األمنية الكربى‬
‫وعبر التاريـخ‪ ،‬ذلـك إن جين تعـود‪ ،‬يف‬ ‫ْ‬ ‫للنسـاء يف حقبـة برونتـي‬
‫هنايـة الروايـة‪ ،‬إىل عزبـة ثورنفيلـد بالثـروة واالسـتقالل اللذيـن‬
‫اكتسـبتهام‪ ،‬لتعتنـي بروتشيستر املصـاب األعمى‪ .‬حيـث ترمز هذه‬
‫النهايـة إىل أهنـا أخضعـت روتشيستر بالكامـل‪ ،‬كما حـدث عندما‬
‫ٍ‬
‫لقـاء بينهام‪.‬‬ ‫سـقط أرضـ ًا من على صهـوة جـواده يف أول‬
‫تقدم نانيس ايسترلني ‪ Nancy Easterlin‬منظور ًا نسـو ًّيا للرواية‬
‫ٍ‬
‫هيمنـة فتقاومـه‬ ‫والفيلـم‪ .‬حيـاول روتشيستر أن يؤسـس عالقـ َة‬
‫جين‪ .‬إذ أن رغبتـه يف السـيطرة هـي غريـزة تطوريـة ال واعيـة‪ ،‬أما‬
‫َلف ُت إيسترلني‬ ‫اسـتجابة جين فتقوم على حس االسـتقالل لدهيا‪ .‬ت ِ‬
‫األنظـار إىل املقارنـة بين مقاومـة جين هليمنـة روتشيستر وبين‬
‫الديـن‪ ،‬والتـي كادت جين‬ ‫جـون ريفـرز وهيمنتـه املعتمـدة على ِ‬
‫أن ختضـع هلـا ولكنهـا مل تفعـل‪« :‬مـن املنظـور النسـوي الداروينـي‬
‫هنـا‪ ،‬أرادت برونتـي اإلشـارة إىل الغريـزة التملكيـة التطوريـة عند‬
‫وكشـفت عـن بعـض األشـكال الثقافيـة‬ ‫ْ‬ ‫الرجـال جتـاه النسـاء‪،‬‬
‫التـي كانـت تتخذهـا ]هـذه الغريـزة[ يف القـرن التاسـع عشر‪ ،‬كام‬
‫صـورت تأثيرات ذلـك على الرجـال والنسـاء يف الرابطـة‬ ‫ْ‬ ‫أهنـا‬
‫‪252‬‬
‫الف�صل اخلام�س‬

‫إن رؤيـة جوزيـف كارول على العالقة بين إيليزابيث‬ ‫الثنائيـة»)‪َّ .(15‬‬
‫وداريس يف ‪ Pride and Prejudice‬تنطبـق أيضـ ًا على جين‬ ‫بينيـت ْ‬
‫آيـر‪ .‬فالرجـال يبحثـون عـن اجلامل والشـباب يف املـرأة‪ ،‬أما النسـاء‬
‫فيبحثـن فيهـم بدورهـن عن املـوارد‪ ،‬لكـ َّن «املحك األهـم لتدوين‬
‫السـمة الشـخصية يف هـذه الروايـة ]‪ [Pride and Prejudice‬هـو‬
‫كل مـن الرجال والنسـاء فوق هـذا املعيار األسـايس‬ ‫مـدى ارتفـاع ٍّ‬
‫بصفـات أخـرى على مسـتوى الشـخصية والعقـل»)‪.(16‬‬ ‫ٍ‬ ‫ليتميـزوا‬
‫إذ يقترح كارول أن ُكلًّ مـن اهليمنـة َ‬
‫الذكَريـة واحلاجـة األنثوية إىل‬
‫االسـتقالل صفتـان متطورتـان‪.‬‬
‫ُت َعـدُّ روايـة إيميلي برونتـي «مرتفعـات وذرنـگ ‪Wuthering‬‬
‫‪ »Heights‬الرومانسـي ُة قوطيـ ًة بامتيـاز‪ ،‬لكنهـا ختتلـف جذر ًّيـا عن‬
‫مثيالهتـا يف هـذا اجلنس األديب‪ .‬إذا ما اسـتثنينا فيل ًام صامتـ ًا ُأنتِج عىل‬
‫ِ‬
‫املخـرج ويليام‬ ‫أسـاس هـذه الرواية عـام ‪ ،1920‬فيمكـن عدُّ فيلـم‬
‫توظيف سـينامئي ملرتفعات‬ ‫ٍ‬ ‫وايلـر ‪ William Wyler‬عام ‪َّ 1939‬أول‬
‫وذرنـگ‪ ،‬وقـد أسـندت األدوار الرئيسـة ملمثلني اسـتثنائيني‪ ،‬حيث‬
‫أدى لورنـس أوليفـر ‪ Laurence Olivier‬وميرل أوبيرون ‪Merle‬‬
‫وري هيثكليـف وكاثريـن على التـوايل‪ .‬كما احلـال مـع‬ ‫‪َ Oberon‬د َ‬
‫غير سـيناريو الفيلـم – الـذي أعَـدَّ ه ُكت ُ‬
‫َّاب‬ ‫روايـة جين آيـر‪ ،‬فقـدْ َّ‬
‫سـيناريو شـهريون هم تشـارلز مكارثر ‪ ،Charles MacArthur‬بن‬
‫ـذب‬‫وش َّ‬‫هيكـت ‪ ،Ben Hecht‬وجـون هيوسـتن ‪John Huston‬ـــ َ‬
‫روايـة برونتـي إىل حـدٍّ مـا‪ ،‬حيـث غابـت عـن الفيلـم بعـض أكثر‬
‫املشـاهد العاطفيـة إثـار ًة مـن الروايـة‪ ،‬كمشـهد َن ْبـش هيثكليـف‬
‫‪253‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫لقبر كاثريـن وإخـراج جثتهـا‪ .‬كما أن الفيلـم حـذف بالكامـل‬


‫توفيـق برونتـي بني األضـداد‪ ،‬أي االرتبـاط بني هاريتـون وكاثرين‬
‫الصغيرة يف ختـام الرواية‪.‬‬
‫ـت الروايـ ُة سـينامئ ًّيا يف فيلـ ٍم مـن إخراج‬‫يف العـام ‪ُ ،1992‬و ِّظ َف ْ‬
‫بيتر كوسمينسـكي ‪ ،Peter Kosminski‬حيـث أدى رالف فاينس‬
‫‪ Ralph Fiennes‬وجولييـت بينـوش ‪ Juliette Binoche‬دوري‬
‫هيثكليـف وكاثرين‪ .‬اسـتطاع الفيلم أن جيسـد العالقة الرومانسـية‬
‫احلاميـة واألجـواء القوطيـة بشـكل ممتـاز‪ ،‬كما إنـه أكمـل حكايـة‬
‫جنـون واضطـراب‪ .‬كما يف‬ ‫ٍ‬ ‫برونتـي عما يقـود إليـه احلـب مـن‬
‫الفيلم األضـدا َد املتعارضة التي تشـكل عامد‬ ‫ُ‬ ‫الروايـة متامـ ًا‪ُ ،‬ي ِّ‬
‫صـو ُر‬
‫القصـة‪ :‬أجـواء مرتفعـات وذرنـگ الربيـة كضـدٍّ ُمل َج َّمـع گرانـج‬
‫‪ Grange‬ذي الطبيعـة الريفيـة الرعويـة نوعـ ًا مـا؛ كما عواطـف‬
‫هيثكليـف اجلاحمـة مقابـل السـلوك املتحضر لشـخصية إدگار‬
‫لينتـون ‪Edgar Linton‬؛ وأخير ًا‪ ،‬البراري الرهيبـة التـي هييم فيها‬
‫كل مـن كاثريـن وهيثكليـف يف صبامهـا مـن جهـة‪ ،‬والبيئـة املنمقة‬ ‫ٌّ‬
‫اجلميلـة ملجمـع گرانـج على اجلهـة األخـرى‪ ،‬لتتالقـى اخلطـوط‬
‫الثالثـة عنـد الـذروة يف هنايـة الفيلـم‪ ،‬حيـث يتـزوج هاريتـون من‬
‫الفيلم األجـواء القوطيـة للرواية‪ ،‬حيث‬
‫ُ‬ ‫كاثريـن الصغيرة‪ .‬يعتمـد‬
‫يضفـي على مرتفعات وذرنگ تلك املسـحة القوطيـة البريكية التي‬
‫بالقالع‪ .‬كذلـك فإن البراري الرسمدية‬‫تكملهـا األبـراج الشـبيهة ِ‬
‫ٍ‬
‫حضـارات‬ ‫الوحشـية بما حتويـه مـن شـواهد حجريـة متبقيـة مـن‬
‫غابـرة‪ ،‬تعـزز كثري ًا الطبيعـة الوحشـية ألجواء مرتفعـات وذرنگ‪.‬‬
‫‪254‬‬
‫الف�صل اخلام�س‬

‫إن ُح ُلـم لوكـوود بكاثريـن وتواصلـه مـع شـبحها يف املشـهد‬


‫االفتتاحـي يؤكـد متام ًا طابع الرومانسـية القوطية للروايـة والفيلم‪،‬‬
‫التناقـض‬
‫َ‬ ‫التناقـض بين املرتفعـات وجممـع گرانـج‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بينما َيعكـس‬
‫ٌ‬
‫أجيال مـن الكتاب‬ ‫بني السـامي – كما وصفـه إدموند بريك وتبنـاه‬
‫بعـده الـذي يثير الرهبـة من جهـة‪ ،‬وبين اجلميـل الـذي حييل إىل‬
‫السـكينة والطمأنينـة‪.‬‬
‫سـامهت يف تضخيمهام‬
‫ْ‬ ‫الفيلم َت َ ُّث َل التزاوج من منظورين‬
‫ُ‬ ‫يعالِـج‬
‫الرؤيـة الرومانسـية املكثفـة يف الروايـة‪ ،‬وقـد جعلت هـذه الرؤي ُة –‬
‫بأجوائهـا الرهيبـة االسـتثنائية الروايـ َة َم ْعلم ًا فريـد ًا يف الرومانسـية‬
‫القوطيـة‪ .‬يالحظ ديفيد باراش وجوديث إيـف ليبتون ‪Judith Eve‬‬
‫ِ‬
‫إن «إحدى الطرق لِ َف ْهم التفضيالت اجلنسـية والرومانسـية‬ ‫‪َّ Lipton‬‬
‫لألنثـى هـي أن االنتخـاب الطبيعـي حابـى النسـاء اللايت يفضلن‬
‫رشكاء اجتامعيين من الرجال يتصفون باملوثوقيـة والقدرة يف تقديم‬
‫ٍ‬
‫عشـاق يتمتعـون باجلاذية‬ ‫العـون واملوارد‪ ،‬بالتـوازي مع التطلع إىل‬
‫أثر‬
‫اجلنسـية ليكونـوا آباء جينيني ألطفاهلـن‪ ،‬وهلذا النمط السـلوكي ٌ‬
‫ٍ‬
‫رشيك‬ ‫ملحـوظ يـدل عىل إنـه كان ومـا زال موجـود ًا»)‪ .(17‬إن إجياد‬
‫ٌ‬
‫املركـزي يف قصة سـندريال وجنس‬ ‫ُّ‬ ‫سـخي هـو احللم‬
‫ٍّ‬ ‫مسـتقر‬
‫ٍّ‬ ‫جنيس‬
‫ٍّ‬
‫األدب الرومانسي عمومـ ًا‪ .‬ليـس مسـتبعد ًا إن التطـور حيـايب أيض ًا‬
‫النسـاء الاليت يرغبـن بالرجال الذيـن جييدون إثارهتن جنسـي ًا‪ ،‬أوالً‬
‫ٍ‬
‫رجـل هبـذه املواصفـات‪ ،‬وثاني ًا‬ ‫بسـبب املتعـة التـي توفرهـا صحب ُة‬
‫ألن هـذا الرجـل سـيكون أب ًا وراث ًّيا جيـد ًا لألطفـال يف اجليل التايل‪،‬‬
‫وهـذا من منظـور الصفـات البدائية‪.‬‬
‫‪255‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫مرتفعات ويذرنگ‪ :‬هيثكليف (رالف فاينس) وحيد ًا يف الرباري‬

‫الفيلم ِكال النوعني من ال ُع َّشـاق الرجال‪ .‬بعد موت السـيد‬


‫ُ‬ ‫ُيقدِّ م‬
‫السـكْرى بتحويـل هيثكليف‬
‫إيرنشـو‪ ،‬عندما تقـوم السـيدة هينديل َّ‬
‫إىل خـاد ٍم وإمهـال كاثريـن‪ ،‬خيتلـس الشـابان هيثكليـف وكاثريـن‬
‫النظـر مـن خلال إحـدى النوافـذ إىل داخـل قصر گرانـج‪ ،‬بيئـ ٌة‬
‫مناقضـ ٌة متامـ ًا حلياهتما يف مرتفعـات وذرنـگ‪ .‬يسـتاء هيثكليف من‬
‫افتتـان كاثريـن باحليـاة املرتفة يف القصر‪ .‬يمتلـك إدگار‪ ،‬وهو ٌ‬
‫رجل‬
‫لطيـف املعشر‪ ،‬املـوار َد التـي يرجـح باحثو علـم النفـس التطوري‬
‫إن النسـاء دائم ًا مـا حلمن هبا عبر التاريـخ‪ .‬إذ يمثـل إدگار الرجل‬
‫املناسـب مـن املنظـور التزاوجـي التطـوري‪ ،‬األمير الـذي تبحـث‬
‫عنـه سـندريال‪ .‬لكـ َّن إيزابيـل‪ ،‬أخـت إدگار‪ ،‬ختتـار النـوع املعاكس‬
‫مـن الرشيـك‪ ،‬الوغـد اجلـذاب يف شـخصية هيثكليف العائـد‪ ،‬ألنه‬
‫«يشـعل النـار يف العقل»‪ .‬وال تغفـل كاثرين عن مشـاعر االنجذاب‬
‫‪256‬‬
‫الف�صل اخلام�س‬

‫التـي كانت حتملهـا هليثكليف عىل الـدوام‪ ،‬رغم أهنا اسـتطاعت أن‬
‫تصمـد أمـام توسلاته ألن هتـرب معه‪.‬‬
‫حمـور ًة بعض‬ ‫تقـدم الروايـة والتوظيفـات السـينامئية هلا صـور ًة َّ‬
‫الشيء للصيغـة التقليديـة للحبكة الرومانسـية التي تتمثـل يف املرأة‬
‫احلائـرة يف االختيـار بين أكثـر من رجـل‪ ،‬حيث نـرى كاثريـن أمام‬
‫اختياريـن مهـا هيثكليـف وإدگار‪ ،‬ويمثـل الرجلان النوعين مـن‬
‫االحتياجات التي قد تشـعر هبـا النسـاء‪ .‬يف األدب القوطي األقدم‪،‬‬
‫ٍ‬
‫خطورة‬ ‫كان أحـد الرجلين ُي َقدَّ م بوصفـه «مغوي ًا» أو «خليعـ ًا»‪ ،‬وذا‬
‫وشـخصية كاريزميـة‪ ،‬وحيـاول إغـواء البطلـة‪ ،‬ومـع ذلـك فإنـه‬
‫بجاذبيـة غريبـة‪ ،‬أما الرجـل اآلخر فغالبـ ًا ما يكون حساسـ ًا‬ ‫ٍ‬ ‫يتمتـع‬
‫شـفوق ًا‪ .‬جيسـد هيثكليـف بحبه البايـروين اجلـارف لكاثريـن النوع‬
‫تطوري‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫منظـور‬ ‫األول‪ .‬ويتمتـع كال الرجلين بمحاسـن مـن‬
‫يسـجل جوزيـف كارول جتسـيد الروايـة لـكال النوعين مـن‬
‫املحاسـن‪َ « :‬يسـتحرض الـزواج الـذي تلمح إليـه خامتـة الرواية بني‬
‫هاريتـون وكاثـي‪ ،‬يسـتحرض مبـد ًأ أو معيـار ًا كوميد ًّيـا رومانسـ ًّيا‪،‬‬
‫رابطـة تعاونيـة يسـتفيد منهـا‬ ‫ٍ‬ ‫حيـث تندمـج املصالـح الفرديـة يف‬
‫حـد سـواء‪ ،‬لكـ َّن رابطـ ًة كهـذه ال يمكـن أن‬ ‫كال الطرفين على ٍ‬
‫تكـون دائمـ ًة أو كاملـة‪ ،‬بـل كثير ًا مـا تكـون خمتلـة متامـ ًا‪ .‬تعـرض‬
‫خامتـة مرتفعـات وذرنـگ صـور ًا مـن التناغـم وأخرى مـن العنف‬
‫العاطفـي‪ ،‬لتعكـس بذلـك التضاربـات العميقـة يف أطـوار تاريـخ‬
‫احليـاة البرشيـة»)‪.(18‬‬
‫تعكـس األحلام البدائيـة يف األدب القوطـي جاذبيـة كال‬
‫‪257‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫النوعين مـن الرجال‪ .‬يف املـايض‪ ،‬احتاجـت النسـاء إىل إدگار‪ ،‬وما‬
‫زال هـذا النـوع مـن الرجـال جذابـ ًا إىل يومنـا هـذا‪ .‬لكـ َّن تاريـخ‬
‫األدب واألفلام ملي ٌء أيضـ ًا بجاذبيـة الطـراز اآلخـر‪ ،‬الرجـل‬
‫الوغـد‪ .‬يمثـل هيثكليف هذا النـوع من الشـخصيات‪ ،‬إذ يدمر حياة‬
‫املسـكينة إيزابيـل التـي تنجـذب إليه كام تنجـذب العثـة إىل اللهب‪،‬‬
‫كما تنجـذب إليـه كاثريـن أيضـ ًا‪ .‬ولـو أن حبـه البايـروين اجلـارف‬
‫لكاثريـن يشـفع لـه‪ .‬يف مقالتـه عـن الرواية‪ ،‬يكتـب ديفيد سيسـيل‬
‫شـخصية قـد تنجـذب سـطح ًّيا إىل هـؤالء‬ ‫ٍ‬ ‫‪َّ David Cecil‬‬
‫أن «أي‬
‫الذيـن يتمتعـون بمواصفات تعشـقها هـذه الشـخصية ]كانجذاب‬
‫كاثريـن إىل إدگار[‪ .‬لكـن املشـاعر العميقـة هلـذه الشـخصية ال‬
‫بإحسـاس باألُ ٍ‬
‫لفـة ينبـع من‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫شـخص تشـعر نحـوه‬ ‫تنجـذب إال إىل‬
‫ٍ‬
‫عمليـة واحدة‪.‬‬ ‫تعبير عن‬ ‫حقيقـة أن كال النوعين مـن املشـاعر مها‬
‫ٌ‬
‫ٍ‬
‫«بإعجـاب» جتـاه هيثكليـف فقـط‪ ،‬بـل هي حتبه‬ ‫فكاثريـن ال تشـعر‬
‫أيضـ ًا بـكل مـا يف كينونتها مـن قـوة»)‪ .(19‬يصف سيسـيل هنا نوعي‬
‫الرجـال اللذيـن ربام جيعلهما التطـور البيولوجـي جذا َبين للمرأة‪:‬‬
‫الرجـل الثـري صاحـب املـوارد‪ ،‬والرجـل الـذي يشـع جاذبيـ ًة‬
‫جنسـية تكسر الدفاعـات العقليـة عنـد هـذه املرأة‪.‬‬
‫يف أحـد املشـاهد مـن فيلم كوسمينسـكي‪ ،‬تسـأل نيللي كاثرين‬
‫عما يعجبهـا يف إدگار‪« ،‬إنـه فتًـى شـاب‪ ،‬وسـيصبح غن ًّيـا»‪ ،‬جتيـب‬
‫جـواب جيـدٌ للصفـة املنشـودة يف الرشيـك‪ .‬ثـم تضيف‬
‫ٌ‬ ‫األخيرة‪،‬‬
‫الحقـ ًا‪« :‬حبـي للينتون كأوراق األشـجار‪ .‬سـيغريه الزمـن كام يغري‬
‫الشـتاء األشـجار‪ .‬أنـا أحـب هيثكليـف‪ .‬فهـو كالصخـور األزليـة‬
‫‪258‬‬
‫الف�صل اخلام�س‬

‫الراسـخة‪ ،‬ينبـوع البهجـة امللموسـة‪..‬نيليل‪ ،‬أنا هيثكليـف»‪ .‬يصور‬


‫ـل التزاوج‪:‬‬‫بوضـوح القرارات التزاوجية للنسـاء يف َت َ ُّث ِ‬
‫ٍ‬ ‫احلوار‬
‫ُ‬ ‫هـذا‬
‫أحـد اخلياريـن يمثـل االسـتقرار والرشيـك املوثوق وأبـا األطفال؛‬
‫أمـا اآلخـر فهـو الرجـل الـذي يقـدح التفاعلات الكيميائيـة التي‬
‫قـد تكـون هلـا فوائـدُ تطوري ٌة على مسـتوى النـوع احليـواين‪ ،‬لكنها‬
‫قـد جتلـب للمـرأة التعاسـة يف الوقـت ذاته‪ ،‬كما حدث مـع ايزابيال‬
‫وكاثريـن يف هـذه الروايـة‪ .‬يمكننـا تصنيـف الروايـة وتوظيفاهتـا‬
‫الفيلميـة يف إطـار الرومانسـية القوطيـة‪ ،‬لكنهـا جتـاوزت الصيغـة‬
‫التقليديـة هلـذا اجلنـس األديب مـن خلال العواطف التي جسـدهتا‪.‬‬
‫ٌ‬
‫«ممزقة بين عاشقين»‪:‬‬
‫أفالم تواياليت ‪ Twilight‬وريبيكا ‪Rebecca‬‬
‫تعكـس أغنيـ ُة مـاري ماكگريگـور ‪ Mary Macgregor‬شـك ً‬
‫ال‬
‫ي َّسـد مـرار ًا وتكرار ًا يف املدرسـة الرومانسـية‬ ‫حديثـ ًا لِت ََم ُّث ٍ‬
‫ـل قديـم ُ َ‬
‫والقوطيـة‪ ،‬وفحـواه امـرأة ممزقـة بين عاشـقني‪ .‬تعـد هـذه اجلزئي ُة‬
‫رصاعـ ًا مركز ًّيـا يف روايـات تواياليـت للكاتبـة سـتيفاين مايـر‬
‫‪ Stephanie Meyer‬والتوظيفـات السـينامئية لتلكـم الروايـات‪.‬‬
‫تسـتمد روايـات وأفلام تواياليـت جاذبيتهـا القويـة للقـراء‬
‫واملشـاهدين من توظيفهـا للتمثلات القبلية واإلقليمية يف مدرسـة‬
‫ال مـن الرومانسـية القوطية‬ ‫النزافين‪ .‬لكنهـا تبقى يف صميمها شـك ً‬ ‫َّ‬
‫تركيـز على البحـث عـن‬‫ٍ‬ ‫يسـتمد جـذوره مـن َت َ ُّثـل التـزاوج مـع‬
‫نـزاف أو مسـتذئب‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫الرجـل املثـايل‪ ،‬حتـى لـو صـادف أنـه‬
‫يمـزج فيلـم تواياليت الشـكل التقليـدي لرومانسـية املراهقني‬
‫‪259‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬
‫ِ‬
‫املراهقـة بيلا (كريسـتني‬ ‫النزافين عندمـا تنتقـل‬‫مـع قصـة عـن َّ‬
‫سـتيوارت ‪ )Kristen Stewart‬ذات السـبعة عشر عامـ ًا إىل بلـدة‬
‫فوركـس الصغيرة يف واشـنطن‪ ،‬لتعيش مـع والدها قائـد الرشطة‪.‬‬
‫يف يومهـا األول يف املدرسـة‪ ،‬تقـع عينـا بيلا على إدوارد كولـن‬
‫شـاحب‬
‫ٌ‬ ‫شـاب‬
‫ٌ‬ ‫(روبـرت باتنسـون ‪ ،)Robert Pattinson‬وهـو‬
‫رقيـق؛ وهنـا تشـتعل رشارة احلـب‪ ،‬حبكـ ٌة تقليديـة مـن التراث‬
‫نحـو غريـب يف البدايـة‪ ،‬لكنه‬‫ٍ‬ ‫الرومانسي‪ .‬يصـد إدوارد بيلا على‬
‫النزافين تتغذى عىل‬ ‫نـزاف من عائلـة من َّ‬ ‫يكشـف هلـا يف النهاية أنه َّ‬
‫ينصـب تركيـز سلسـلة األفالم‬
‫ُّ‬ ‫دم احليوانـات بـدالً مـن دم البشر‪.‬‬
‫كنزافين وقبيلة‬ ‫والروايـات على الصراع اإلقليمي بين آل كولين َّ‬
‫الكوليـوت الذيـن يمتلكـون القـدرة على تغيير أشـكاهلم وهـم‬
‫مـن قبائـل سـكان أمريـكا األصليين؛ الصراع على ِود بيلا بين‬
‫إدوارد والفتـى جايكـوب من الكوليـوت؛ والرصاع بين آل كولني‬
‫والنزافين األرشار‪.‬‬
‫َّ‬
‫إن موقـف بيلا يف مثلث احلب هـذا مع جايكـوب وإدوارد من‬
‫الكالسـيكيات القديمة اخلالـدة يف الرسديات الرومانسـية‪ ،‬امرأ ٌة –‬
‫ٍ‬
‫خاطـب واحـد‪ .‬إذا ما‬ ‫أو فتـاة يف هـذه احلالـة يرغـب هبـا أكثر مـن‬
‫النزاف ومتثـل اإلقليمية بعيد ًا‪ ،‬سـنجد أن الفيلـم عبار ٌة‬
‫نح ْينـا متثـل َّ‬
‫َّ‬
‫عـن قصـة رومانسـية تقليديـة جـد ًا‪ ،‬حيـث تعـاين امـرأ ٌة شـاب ٌة من‬
‫ٍ‬
‫بنـزاف يالحقها)‬ ‫ٍ‬
‫رشيـر يريـد إغواءها (وقد اسـتبدل هنـا‬ ‫مالحقـة‬
‫رقيـق‪ .‬يشـاركها إدوارد اهتامماهتا‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫آخر‬ ‫بينما يقـف إىل جانبها ٌ‬
‫بطـل ُ‬
‫يدعهـا تتحكـم بوتيرة العالقة‪ ،‬ويدافـع عنها‪ .‬ويعـد موقف بيال يف‬
‫‪260‬‬
‫الف�صل اخلام�س‬

‫االختيـار بين رجلين حيباهنـا‪ ،‬نعـم يعد هـذا املوقـف أمنيـ ًة عزيزة‬
‫للنسـاء منـذ بـزوغ فجـر املدرسـة الرومانسـية يف األدب‪ ،‬ويبدو أنه‬
‫ِ‬
‫واملشـاهدات‪.‬‬ ‫مـا زال كذلـك للكثري مـن القارئات‬
‫إن بيلا بطلـة تقليديـ ٌة إىل حدٍّ كبير‪ ،‬من حيث أهنـا ‪ -‬كام جرت‬
‫عليـه العـادة يف الرتاث الرومانسي‪ -‬عاجز ٌة إىل حدٍّ مـا دون البطل‪.‬‬
‫ينقذهـا إدوارد مـرار ًا‪ ،‬ويبـدو أن عجزهـا عـن الدفـاع عـن نفسـها‬
‫مدفـوع‬
‫ٌ‬ ‫جـز ٌء مـن جاذبيتهـا‪ ،‬كما يعترف هلـا إدوارد «أشـعر أننـي‬
‫جـد ًا حلاميتـك» و «أنـت مثل ماركـة اهلريويني اخلاصـة يب»‪ .‬تعكس‬
‫املشـاعر الغريـز َة البدائيـ َة حلامية األنثـى باعتبارهـا منبع اجليل‬
‫ُ‬ ‫هـذه‬
‫التـايل واسـتمرارية احلـوض اجليني‪ .‬ويعـد إدوارد من نـوع الرجل‬
‫املهيمـن احلسـاس الـذي قـد يثير االسـتجابة البدائيـة عنـد مجهور‬
‫بـاد‪ ،‬وال حيتـاج املـرء‬ ‫ٍ‬
‫بثـراء ٍ‬ ‫قـراء الرومانسـية‪ .‬يتمتـع آل كولينـس‬
‫إىل االطلاع على علـم النفـس التطـوري ليعـرف أن املـوارد التـي‬
‫يمتلكهـا الرجـل تعـد مـن العوامـل التـي جتعـل فتًـى مثـل إدوارد‬
‫جذاب ًا للنسـاء‪.‬‬
‫َّ‬
‫كذلـك قـد يثير ُ‬
‫متثـل التـزاوج يف العالقـة بين بيلا وإدوارد‬
‫اللـذ َة اإلنابيـة عند الكثير من املشـاهدين أو القراء الذكـور‪ .‬تكتب‬
‫فيشر «يشـعر الرجـال بالفحولـة عندمـا ينقذون فتـا ًة مـن مصيبة‪.‬‬
‫وال شـك أن ماليين األعـوام مـن احلاميـة وتوفير املـوارد للنسـاء‬
‫قـد غـرس يف أدمغـة الذكور هـذا امليل جتاه النسـاء الاليت يشـعرون‬
‫ٍ‬
‫بحاجـة للحاميـة»)‪ .(20‬قـد تسـتفز البطلـ ُة «مكسـورة اجلناح»‬ ‫أهنـن‬
‫كما تسـمي فيرش األنثـى التي تشـعل غريـزة احلاميـة عنـد الرجال‪،‬‬
‫‪261‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫مسـتوى ما‪.‬‬‫ً‬ ‫نعـم‪ ،‬قد تسـتفز االسـتجابة البدائيـة عند الذكـور عىل‬
‫ٍ‬
‫برجـل هيتم‬ ‫املكون مـن التمثـل – حلم املـرأة‬ ‫لكـن قـوة تأثير هـذا ِّ‬
‫ٍ‬
‫شـعبية يف الروايات‬ ‫وحيمـي قـد جعلت الرومانسـية جنسـ ًا أدب ًّيـا ذا‬
‫وتوظيفاهتـا السـينامئية على حدٍّ سـواء‪.‬‬
‫اهلمسـات التطوريـ َة لِت ََم ُّثـل التـزاوج‪ ،‬والتـي تعد‬
‫ِ‬ ‫تعكـس بيلا‬
‫ِ‬
‫نس الرومانسـية والرومانسـية القوطية‪ .‬تتشبث‬ ‫مركزي ًة يف جاذبية ج َ‬
‫بـإدوارد على أنـه الرشيـك اجلنسي املمكـن الوحيـد هلـا‪ .‬وتالحظ‬
‫ٍ‬
‫متلكيـات جـد ًا‬ ‫ٍ‬
‫«آليـات دماغيـ ًة جتعلهـن‬ ‫طـو ْر َن‬
‫فيشر أن النسـاء َّ‬
‫عندمـا يشـعرن أن الرشيـك عىل وشـك أن يكف عن توفير املوارد‬
‫أو الدعـم العاطفـي‪ ،‬أو أنـه عىل وشـك تـرك العالقـة والذهاب إىل‬
‫رشيكـة أخرى»)‪ .(21‬يف رواية سيسـيليا ‪ Cecilia‬لفـاين بريين ‪Fanny‬‬
‫ٍ‬
‫‪ Burney‬الصـادرة عـام ‪ ،1782‬وهـي واحـد ٌة مـن أشـد الروايـات‬
‫تأثير ًا يف بدايـات ظهـور الرومانسـية‪ ،‬تركـض البطلـ ُة يف الشـارع‬
‫فاقـد ًة صواهبـا بعـد أن ختسر حبيبهـا‪ ،‬وهـو مشـهدٌ أصبـح نمط ًّيـا‬
‫ٍ‬
‫مشـاهبة‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بشـخصية‬ ‫يف املدرسـة الرومانسـية‪ .‬كذلـك تتمتـع بيلا‬
‫فقـد أصيبـت باهليسـترييا وأوشـكت على االنتحـار تقريبـ ًا عندمـا‬
‫حـاول إدوارد فسـخ العالقـة مراعـا ًة ملصلحتهـا‪ .‬كذلـك قـد تقـع‬
‫الشـخصيات الرجاليـة يف األدب الرومانيس حتت هـذه الصعوبات‬
‫نفسـها بفعـل خسـارهتم حلبيباهتم‪ .‬ففي روايـة أحزان الفتـى ويرذر‬
‫‪ The Sorrows of Young Werther‬ليوهـان وولفگانـگ فـون‬
‫گوتـه ‪ ،Johann Wolfgang von Goethe‬الصـادرة عـام ‪،1774‬‬
‫قـوي على الشـبان الرومانسـيني يف تلـك‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫تأثير‬ ‫وقـد كانـت ذات‬
‫‪262‬‬
‫الف�صل اخلام�س‬

‫احلقبـة‪ ،‬ينتحر البطـل ويرذر‪ ،‬ألن بعـد أن هجرته حبيبته شـارلوت‬


‫جيـل من الفتيان الشـباب حينذاك‬ ‫املتزوجـة مـن رجل آخر‪ .‬ارتدى ٌ‬
‫صديريـات صفراء ختليد ًا للمشـاعر امللتهبة لويـرذر الذي كان حيب‬
‫ارتداءهـا يف الروايـة‪ .‬وكذلك جيسـد إدوارد مشـهد ًا ويرذر ًّيا عندما‬
‫يقـرر االنتحار بالتعـرض لضوء الشـمس بعد أن فقد بيلا‪ ،‬ولكنها‬
‫هتـرع إلنقـاذه‪ .‬يكتمل َت َ ُّثـل التـزاوج يف الفيلم األخير حيث حتمل‬
‫آخريـن خمتلفين‪ ،‬كما احلـال مع‬ ‫ٍ‬
‫مثـال على هتجين َ‬ ‫بيلا طفلاً‪ ،‬يف‬
‫أفلام ‪ Blade‬و ‪.Underworld‬‬
‫أعـادت دافني دو مورييـه ‪)1989 - 1907( Daphne du Maurier‬‬
‫بنايـات‬
‫ٌ‬ ‫إحيـاء الرومانسـية القوطيـة‪ ،‬حيـث تظهـر يف أغلفـة رواياهتـا‬
‫حـال من الضيـق واحلزن‪.‬‬‫ٍ‬ ‫شـبيهة بالقلاع يف اخللفيـة‪ ،‬مع ٍ‬
‫فتـاة تبدو يف‬
‫فحوهلا‬
‫عـام ‪ ،1938‬ظهرت روايتهـا الناجحة األوىل ريبيـكا ‪َّ ،Rebecca‬‬
‫ألفـرد هيتشـكوك ‪ Alfred Hitchcock‬إىل فيلـ ٍم بعـد عامين‪ ،‬وقد كان‬
‫الفيلـم باكورة إنتاجـه يف الواليات املتحـدة‪ ،‬حينها كانت مـدن بريطانيا‬
‫تـرزح حتـت وطـأة القصف األملـاين واحتماالت االجتياح القـادم‪ .‬بدالً‬
‫مـن امـرأة حائرة ممزقـة بني عاشـقني‪ ،‬تسـطر الرواية قصة رجـل يتمزق‬
‫ٍ‬
‫زوجـة غري خملصـة وبني املـرأة السـاذجة التـي يتزوجها‪.‬‬ ‫بين ذكـرى‬
‫ٍ‬
‫كثير جـد ًا مـن روايـات الرومانسـية القوطيـة‪،‬‬ ‫كما احلـال يف‬
‫شـكل من قصـة سـندريال‪ ،‬بمسـتوى معتدل‬ ‫ً‬ ‫جتسـد روايـة ريبيـكا‬
‫مـن التشـويق‪ ،‬فبطلـة الفيلم (جـوان فونتين ‪ )Joan Fontaine‬هي‬
‫يعرفنـا الفيلـم باسـمها إىل أن تصبح‬
‫فتـا ٌة شـابة فقـدت والدهيـا‪ .‬ال ِّ‬
‫السـيدة دي وينتر‪ .‬كام جرت العـادة يف التراث الرومانيس‪ ،‬وكام يف‬
‫‪263‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬
‫ٍ‬
‫بأجـر المرأة‬ ‫روايـة جين آيـر‪ ،‬كانـت الفتـاة يتيمة وتعمـل مرافقـ ًة‬
‫معـادل لزوجـة األب الرشيـرة يف قصة‬ ‫ٌ‬ ‫ثريـة جتـوب فرنسـا‪ ،‬وهـي‬
‫سـندريال‪ .‬ثم حيـدث أن تلتقي ماكسـيم دي وينتر (لورانس أوليفر‬
‫‪ ،)Laurence Olivier‬رجـل انگليـزي ثـري حتسـب الفتـاة أنه عىل‬
‫حافـة مرتفعـة‪ .‬عندما تصر الفتاة‬‫ٍ‬ ‫وشـك أن يلقـي بنفسـه من على‬
‫على منعـه (ومل يكـن هـو يف احلقيقـة حيـاول االنتحـار)‪ ،‬ينتبـه إليها‬
‫دي وينتر وينمـو بينهما احلـب‪ .‬ثـم يطلـب الـزواج منها بعـد عدة‬
‫أيـام فقط‪ .‬وهكذا يدشـن الفيلـم شـخصية البطلة بوصفهـا اليتيمة‬
‫الضعيفـة الكالسـيكية يف التراث الرومانسي‪ ،‬التي تلتقـي بأمريها‬
‫أخير ًا‪ .‬جيسـدُ جتديـدُ مورييـه للرومانسـية القوطيـة‪ ،‬كما يظهـر يف‬
‫فيلـم هيتشـكوك‪ ،‬نعـم جيسـد جوهـر َت َ ُّثـل التـزاوج‪ .‬فـدي وينتر‬
‫مناسـب للروايـات الرومانسـية مـن حيـث أنـه يملـك عقارا‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫بطـل‬
‫كبير ًا يف كورنـوال ومينديـريل‪ .‬يكرب دي وينتر املرأة التـي يتزوجها‬
‫بعرشيـن عامـ ًا‪ ،‬ويقول علماء التطـور البيولوجـي أن النسـاء يملن‬
‫لإلنجـذاب إىل رجال يكربوهنن سـن ًا ألهنم يمتلكون خبرة ولتزايد‬
‫احتمال امتالكهـم موارد أكبر بالقيـاس إىل نظرائهم األصغر سـنًّا‪.‬‬
‫رجـال مـن أمثـال دي وينتر وروتشستر يف روايـة جين‬ ‫ٌ‬ ‫يسـتحث‬
‫ِ‬
‫واملشـاهدات‪.‬‬ ‫آيـر اهلمسـات البدائيـة لالنجـذاب عنـد القارئـات‬
‫يف املقابـل‪ ،‬جتسـد السـيدة دي وينتر نـوع النسـاء الـذي‪ ،‬يقـول‬
‫املختصـون بعلـم النفـس التطـوري‪ ،‬إنـه جيـذب الرجـال أكثـر‪،‬‬
‫كما نـرى يف جنـس األدب الرومانسي‪ .‬ال يفكـر معظـم الرجـال‪،‬‬
‫بالطبـع‪ ،‬يف إنجـاب األطفـال عندمـا جيـدون أنفسـهم منجذبني إىل‬
‫امرأة ويشـتهون ممارسـة اجلنـس معها‪ .‬لكـن علم النفـس التطوري‬
‫‪264‬‬
‫الف�صل اخلام�س‬

‫يرجـح أن جيناهتـم تدفعهـم جتـاه النسـاء اللايت يرجـح أن يتمتعن‬


‫بخصوبـة عاليـة إلنجـاب األطفـال‪ .‬تكتـب هيلين فيرش‪:‬‬
‫«يعتقـد املختصـون بعلـم النفـس التطـوري اليـوم أن الرجـال‬
‫على مسـتوى الالشـعور يفضلـون يف النسـاء اجلمال وصغر السـن‬
‫ألن ذلـك حيقـق هلـم عوائـد تكاثرية‪...‬وهكـذا ُينَ ِّظر هـؤالء العلامء‬
‫أنـه خلال ماضينـا الطويـل عندما كنـا نمارس الصيـد وااللتقاط‪،‬‬
‫ٍ‬
‫وشـباب وحيوية‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫صحة‬ ‫فـإن الرجال الذيـن اختـاروا نسـا ًء ذوات‬
‫أنجبـوا أطفـاالً أكثـر‪ .‬وقـد اسـتطاع هـؤالء األطفـال األقويـاء‬
‫الصمـود ومـن ثـم مـرروا للرجـال املعارصين هـذا االنجـذاب إىل‬
‫النسـاء اليافعـات اجلميلات»)‪.(22‬‬
‫إذن مـن املفهـوم ملـاذا ينجـذب دي وينتر إىل امرأة شـابة كبطلة‬
‫ٍ‬
‫نحـو وا ٍع‬ ‫هـذه الروايـة والفيلـم الـذي وظفهـا‪ ،‬فهـو ال يرغب عىل‬
‫ٍ‬
‫أطفـال‪ ،‬لكـن جيناتـه هتمـس إليـه هبـذا النـداء يف العقـل‬ ‫بإنجـاب‬
‫البدائـي‪ .‬وقـد كانـت صفـات البطلـة معاكسـ ًة متامـ ًا لزوجـة دي‬
‫وينتر السـابقة ريبيـكا‪ ،‬إذ مل تكـن األخيرة مناسـبة كثير ًا لألمومـة‬
‫مـن حيـث أهنـا امـرأة فاجـرة جشـعة عديمـة الضمري‪.‬‬
‫يتخـذ اجلميـع مواقـف متباينـة مـن زوجـة دي وينتر اجلديدة‪،‬‬
‫بين املسـاندة واالسـتخفاف‪ .‬فعندمـا تسـمع السـيدة فـان هوبـر‪،‬‬
‫وهـي املـرأة الثريـة التـي تعمـل عندهـا‪ ،‬أن البطلـة على وشـك‬
‫الـزواج مـن دي وينتر‪ ،‬تقـول هلا «ليسـت لديـك أدنى فكـرة كيف‬
‫تكونين سـيد ًة عظيمـة»‪ .‬لكـن هذه البراءة بالـذات‪ ،‬على العكس‬
‫مـن ريبيـكا‪ ،‬هـي مـا ينجـذب إليـه دي وينتر‪ .‬إذ يظهـر انجذابـه‬
‫‪265‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫إىل صغـر سـنها وانعـدام خربهتـا يف أحـد املواقـف عندمـا فشـلت‬


‫يف القيـام بـدور املضيفـة يف بيتهما‪ ،‬فيخاطبهـا «يـا مسـكينة‪ ،‬ما زال‬
‫أمامـك الكثير لتتعلميـه»‪ .‬والحقـ ًا‪ ،‬عندمـا ترتـدي فسـتان ًا ناعم ًا‬
‫وتسرح شـعرها بطريقـة أنيقـة جديـدة للذهـاب إىل حفلة عشـاء‪،‬‬
‫ُيصـدَ م دي وينتر فيقـول هلـا «مـا الـذي فعلتِـه بنفسـك؟»‪ .‬إن‬
‫براءهتـا مـن الصفات املميـزة للبطلـة الرومانسـية‪ ،‬وهي مـا جيعلها‬
‫معاكسـ ًا لريبيـكا‪ .‬كذلك فهـي –البطلة تعـدُّ نموذج ًا للنسـاء الاليت‬
‫كبير مـن الرجـال آلالف السـنني‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫عـدد‬ ‫اسـتحوذن على اهتمام‬
‫اسـتطاع هيتشـكوك خلـق مـا يكفـي مـن التشـويق يف الفيلـم‬
‫العتبـاره حتـت تصنيـف الرومانسـية القوطيـة‪ ،‬حيـث نـرى السـيدة‬
‫دانفـرز والتـي كانـت مهووسـة بحـب ريبيـكا تقـول «أكاد أسـمع‬
‫صـوت خطواهتـا الرقيقـة الرسيعـة يف كل غرفـة مـن غـرف املنزل‪..‬‬
‫هـل تعتقدين أن بإمـكان املوتى العـودة ملراقبة األحيـاء؟»‪ ،‬ثم حتاول‬
‫أن جتعـل البطلـة تقفـز من النافـذة عىل الصخـور حتت غرفـة ريبيكا‪.‬‬
‫جتـري أحـداث الفيلـم يف كورنـوال‪ ،‬حيـث هنـاك مشـاهد كثيرة‬
‫قوطـي بامتياز‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫جـو‬
‫الصطـدام األمـواج أسـفل منـزل مينديـريل‪ ،‬يف ٍّ‬

‫اآلباء واألوغاد في الرومانسية القوطية‪:‬‬


‫أفالم ‪ Suspicion، Dragonwyck، Gaslight‬و‬
‫‪Crimson Peak‬‬

‫حتكـي أغنية «‪ »My Man‬لبيلي هوليـدي ‪ Billie Holiday‬حل ًام‬


‫خالـد ًا ومؤذيـ ًا يف الغالـب يـراود عقـول كثير مـن النسـاء‪ .‬حتكـي‬
‫األغنيـة عـن امـرأة واقعـة يف حـب رجـل سـ ِّيئ جـد ًا‪ ،‬زيـر نسـاء‬
‫‪266‬‬
‫الف�صل اخلام�س‬

‫يرضهبـا وال يسـاعدها يف حياهتـا بأي يشء‪ .‬ملـاذا تنجـذب امرأة إىل‬
‫ري‪ ،‬وهو‬‫تطـو ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫منظور ِّ‬ ‫رجـل بمواصفـات كهذه؟ أو تبقـى معه؟ من‬ ‫ٍ‬
‫بدائـي للبقاء مع‬
‫ٌّ‬ ‫رومانسي باملرة‪ ،‬قد يـراود املرأة نـدا ٌء‬
‫ٍّ‬ ‫منظـور غير‬
‫ٌ‬
‫رجـل هـو والـد أطفاهلـا أو قـد يصبـح والـد أطفاهلـا يف املسـتقبل‪،‬‬
‫بـدالً من املخاطـرة بخسـارة دعمه العاطفـي واملايل باملـرة‪ .‬يلخص‬
‫بـاري شـوارتز ‪ Barry Schwartz‬متثـل التزاوج‪:‬‬
‫«للذكـور واإلنـاث مصالـح متباينـة‪ .‬تنتـج األنثـى بيضـة‬
‫بقـدر هائـل يف احلمل وتنشـئة األطفـال‪ .‬يف املقابل‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وتسـتثمر فيهـا‬
‫ينتـج الذكـر باليين احليامـن وسـيكون مـن صاحلـه نرشهـا على‬
‫أوسـع نقـاط ليحقق خلـوده اجليني‪ .‬وهكـذا يتبع الذكـور واإلناث‬
‫ٍ‬
‫ستراتيجيات خمتلفـة‪ .‬على األنثـى أن ختتـار ذكـر ًا راغبـ ًا بالبقـاء‬
‫معهـا ودعمهـا‪ .‬أمـا الذكـر فرييـد عالقـ ًة جنسـية عابـرة‪ .‬وهلـذا‬
‫تكـون األنثـى انتقائيـة وتتطلب الغزل كـي تعرف مـا إن كان الذكر‬
‫مسـؤوالً وعطوفـ ًا ويمتلـك املـوارد»)‪.(23‬‬
‫بدائية‪ ،‬ومـن الواضح أن‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫اسـتجابة‬ ‫تطـرق شـوارتز هنا فقـط إىل‬
‫الثقافـة قد نحتت أشـكاالً متنوع ًة مـن العالقات الرومانسـية‪ .‬لكن‬
‫يف الرومانسـية القوطيـة‪ ،‬حاملـا تصبـح النسـاء ملتزمـات مـع رجل‬
‫مـا‪ ،‬فإهنـن قـد يغضضـن الطرف عـن سـلوكياته السـيئة مـن أجل‬
‫احلفـاظ عىل اسـتثامرهن‪.‬‬
‫يف كثير مـن الروايات واألفلام‪ ،‬جتد امـرأة نفسـها واقعة حتت‬
‫سـيطرة رجل سـ ِّيئ‪ ،‬لكنها قد كرسـت نفسـها له كام يف األغنية التي‬
‫حتدثنـا عنها قبـل قليـل‪ .‬يعـد فيلـم ‪ Suspicion‬أللفرد هيتشـكوك‬
‫‪267‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫(‪ ،)1941‬واملأخـوذ عـن روايـة ‪ Before the Fact‬الصـادرة عـام‬


‫‪ 1932‬للكاتـب أنتـوين بريكيل كوكـس ‪،Anthony Berkeley Cox‬‬
‫صحيـح أن الفيلـم يفتقد‬
‫ٌ‬ ‫يعـد مثـاالً كالسـيك ًّيا على هـذا التمثـل‪.‬‬
‫للخلفيـة القوطيـة‪ ،‬لكـن فيـه مـا يكفـي مـن اإلثـارة والتشـويق‬
‫باإلضافـة إىل طيـف الرجـل املتحكـم الـذي قـد يـؤذي البطلـة‪ ،‬ما‬
‫جيعلـه ينـدرج حتـت صنـف الرومانسـية القوطية‪.‬‬
‫تعـرف ديـان والدمـان ‪ Diane Waldman‬احلبكـة املركزيـة‬ ‫ِّ‬
‫ألفلام الرومانسـية القوطيـة يف الثالثينيـات واألربعينيـات كام ييل‪:‬‬
‫لا وسـي ًام يكربهـا سـن ًا‪،‬‬
‫«امـرأة يافعـة عديمـة اخلبرة تلتقـي رج ً‬
‫يتأرجـح شـعورها جتاهـه بني االنجـذاب تـارة والنفور أخـرى‪ .‬ثم‬
‫بعـد زوبعـة مـن املغـازالت‪ ،‬تتزوجـه أخير ًا»)‪ .(24‬كذلـك تتصـف‬
‫البطلـة يف أفلام احلقبـة املشـار إليهـا‪ ،‬كما يف التراث الرومانسي‬
‫سـقط‬ ‫عبر العصـور‪ ،‬بأهنـا يتيمـة ضعيفـة يف أغلـب األحيـان‪ .‬ي ِ‬
‫ُ‬
‫نـوع الرومانسـية القوطيـة الـذي تصفـه ديـان والدمـان هنـا جزئي َة‬‫ُ‬
‫األحـداث اخلارقـة‪ .‬لكـن مشـهد امـرأة حتـت وطـأة رجـل يمتلك‬
‫سـطوة عاطفيـة وماليـة عليهـا وقـد يريد إيذاءهـا هو مشـهدٌ خميف‬
‫بما يكفـي كيما يدخل هذا النـوع من األفلام يف صنف الرومانسـية‬
‫القوطيـة‪ .‬يف كتابـه ‪ ،The English Novel‬يصف والرت ألن ‪Walter‬‬
‫‪ Allen‬حبكـة الروايـات الرومانسـية يف القـرن الثامـن عشر بأهنـا‬
‫بالنسـبة للقارئـات مثـل «مشـاهدة القـط مـن وجهـة نظر الفـأرة»‪.‬‬
‫وال شـك أن القطـط خميفـة جـد ًا للفئـران‪.‬‬
‫ينطبـق وصـف والدمان عىل فيلـم ‪ .Suspicion‬تلتقي لينا ليدلو‬
‫‪268‬‬
‫الف�صل اخلام�س‬

‫(جـوان فونتين‪ ،‬وقـد حـازت على جائـزة األوسـكار عـن أدائهـا‬


‫هـذا الـدور) الرجل الطائـش جـوين أزگارث (كاري گرانت ‪Cary‬‬
‫‪ )Grant‬يف القطـار حينما يتشـاطران إحـدى املقصـورات‪ .‬يتضمن‬
‫تقليـدي‬
‫ٍّ‬ ‫جنسي‬ ‫املشـهد لقطـة لدخـول القطـار يف نفـق‪ ،‬يف َم ٍ‬
‫ـاز‬
‫ٍّ‬
‫حيبـه هيتشـكوك‪ .‬تتصـف لينـا باخلجـل واالنطـواء‪ ،‬وترتـدي ثياب ًا‬
‫حمتشـمة ونظـارات سـميكة‪ .‬أمـا جـوين فعلى العكـس منهـا‪ ،‬فهو‬
‫رجل وسـيم ذو شـخصية انبسـاطية‪ .‬عندمـا يصل موظـف التذاكر‬
‫إىل مقصورهتما‪ ،‬ال جيـد أزگارث مـا يكفـي من املال لدفـع األجرة‪،‬‬
‫فهـو يمتلـك تذكـرة للدرجـة الثالثة ولكـن املقصورة التي جيلسـان‬
‫فيهـا يف الدرجـة األوىل‪ ،‬لـذا يقترض من لينـا بعض املـال‪ .‬الحق ًا‪،‬‬
‫يراهـا يف مسـابقة لصيـد الثعالب‪ ،‬وقد أخـذت زينتها وبـدت مجيلة‬
‫فـوق ظهـر حصاهنـا‪ ،‬فيغرم هبـا‪ ،‬وعندما يغازهلـا بجرأة أكثـر‪ ،‬جتيبه‬
‫«ال أفهـم أمثالـك مـن الرجـال‪ .‬دائما مـا أشـعر أنكـم تضحكـون‬
‫علي»‪ .‬يعـد رصاع األضداد هـذا تقليد ًّيـا يف التراث الرومانيس‪ ،‬إذ‬‫َّ‬
‫نـرى البطلـة اخلجولـة تنفـر يف البداية ولكنهـا تنجذب أخير ًا نحو‬
‫جـوين املثري جنسـ ًّيا‪ .‬وهكذا يوقعهـا يف حبائله ويقنعهـا باهلرب معه‬
‫ضـد رغبـات والدهـا‪ .‬تتابـع بقية احلبكـة نمو «االشـتباه» عنـد لينا‬
‫جتـاه أزگارث‪ ،‬حيـث تشـتبه بأنـه ال يمارس الرسقـة فحسـب‪ ،‬بـل‬
‫القتـل أيض ًا‪.‬‬
‫جيسـد الفيلـم وضعـ ًا تقليد ًّيـا‪ .‬تنبـأ والـدا لينـا هلـا أن تصبـح‬
‫عانسـ ًا بسـبب خجلهـا‪ ،‬وهـي مثـل بطلـة تشـارلوت برونتـي جين‬
‫مفضلـة يف التراث الرومانسي‪ .‬لكـن يف هـذه القصة‬ ‫آيـر‪ ،‬شـخصية َّ‬
‫‪269‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫القديمـة عـن رجـل يشـعل رشارة احلـب يف قلـب امـرأة‪ ،‬أو كام يعرب‬
‫املختصـون بعلـم النفس التطوري‪ ،‬يوقـظ فيها نداء جيناهتـا للتكاثر‪،‬‬
‫نحو ال فـكاك منه‪ .‬ليـس الرجل‬ ‫تكـون البطلـة متعلقـة برجلها على ٍ‬
‫هنـا من نـوع األمير يف القصص اخليالية‪ .‬فهو ليس السـيد املناسـب‪،‬‬
‫الفيلـم مـن‬
‫ُ‬ ‫بـل هـو يف الواقـع السـيد غير املناسـب متامـ ًا‪ .‬يلطـف‬
‫حـدة الروايـة املأخـوذ عنهـا‪ .‬ففـي الروايـة‪ ،‬مل يكن جـوين جمرد لص‬
‫وكـذاب‪ ،‬لكنـه زير نسـاء مهـووس وقاتـل عىل مـا يبـدو‪ :‬إذ ربام قام‬
‫ـم غير قابـل لالكتشـاف‪ ،‬ولـو أن الرواية مل‬ ‫بقتـل لينـا يف النهايـة بِ ُس ٍّ‬
‫جتعـل ذلـك واضحـ ًا‪ ،‬بينما أسـقط الفيلـم هـذه االحتامليـة‪ .‬للرواية‬
‫مغـزى أخالقـي أقـوى من حيـث أهنا حتكي مـا حيدث عندمـا ال جتد‬
‫املـرأة مـا كانـت تطمح إليـه يف الرجـل الـذي وقفـت إىل بجانبه‪.‬‬
‫تضرب قصـة املرأة التـي تكرس نفسـها لرجل سـ ِّيئ بجذورها‬
‫قديم ًا يف تاريـخ األدب‪ .‬ففـي روايـة كالريسـا ‪ Clarissa‬لصامويل‬
‫ريتشاردسـون ‪ Samuel Richardson‬مـن القـرن الثامـن عشر‪،‬‬
‫هتـرب البطلـة كالريسـا مـن عائلتهـا مـع الوغـد لوفليـس‪ ،‬فينتهي‬
‫هبـا األمـر إىل احلبـس واالغتصـاب‪ .‬يرجـح دينـس داتـون أن هلـذا‬
‫الن�وع م�ن القص�ص قيم� ًة تكيفيـ ًة «تسـتمد التكيفيـة مـن قـدرة‬
‫العقـل البرشي على بناء ذخيرة من اخلبرات عىل صعيـد احلاالت‬
‫لا ويصفهـا‪ ،‬بـل‬ ‫الفرديـة –ال احلـاالت التـي يعيشـها املـرء فع ً‬
‫الرسديـات املرتاكمـة أيضـ ًا يف الذاكـرة‪ ،‬والتـي تشـكل عماد تراث‬
‫القصـص واحلكايـات»)‪ .(25‬وتعـدُّ جتربـة لينـا يف فيلـم ‪Suspicion‬‬
‫مثـاالً على هـذا النـوع مـن الرسديات‪.‬‬
‫‪270‬‬
‫الف�صل اخلام�س‬

‫ينطبـق وصـف دايـان والدمـان للرومانسـية القوطيـة أيض ًا عىل‬


‫فيلـم ‪ )1946( Dragonwyck‬املأخوذ عن رواية أنيا سـيتون ‪Anya‬‬
‫‪ .Seton‬يمـزج كال الفيلـم والروايـة قلي ً‬
‫لا مـن الوقائـع التارخييـة‬
‫مـع صيغـة مـن الرومانسـية القوطيـة‪ .‬تشـكل حركـ ُة ضـد اإلجيار‬
‫‪ the anti-rent movement‬التـي ظهـرت يف نيويـورك مطلـع‬
‫القـرن التاسـع عشر جـزء ًا مـن خلفيـة أحـداث الروايـة‪ .‬يتحكـم‬
‫اإلقطاعيون بمسـاحات شاسـعة مـن األرايض التـي يؤجروهنا عىل‬
‫املزارعين مقابـل أموال وحصص مـن املحاصيل‪ .‬يمثـل نيكوالس‬
‫فان رين (فينسـنت برايـس ‪ ،)Vincent Price‬أحـدُ ُملَّ ك األرايض‬
‫الثري األكرب سـن ًا كما وصفت والدمان الشـخصية‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫الرجل‬ ‫هـؤالء‪،‬‬
‫يف التراث الرومانسي‪ .‬يدعـو فان ريـن مرياندا ويلـس (جني تريين‬
‫متزمـت مـن كونيكتيكـوت‪،‬‬‫ٍ‬ ‫‪ ،)Gene Tierney‬وهـي ابنـة مـزار ٍع‬
‫إىل اإلقامـة يف دراگونويـك‪ ،‬وهـو منـزل عائلتـه‪ ،‬كي تكـون ضيفته‬
‫وترافـق ابنتـه كاترينـا ذات الثامنيـة أعـوام‪ ،‬التـي ختتفـي قريبـ ًا مـن‬
‫حبكـة الفيلـم‪ .‬تتصـف مريانـدا باملواصفـات النموذجيـة للبطلـة‬
‫يف هـذا اجلنـس السـينامئي‪ ،‬امـرأة يافعـة سـاذجة تقـع حتـت تأثير‬
‫نافـذ أكبر سـن ًا يغازهلـا ثـم يتزوجهـا‪ .‬لكـن كما يتضـح يف‬ ‫رجـل ٍ‬ ‫ٍ‬
‫األحـداث‪ ،‬ليـس دي ريـن شـخصية طيبـة‪ .‬إذ يبـدو أنـه تزوجهـا‬
‫ٍ‬
‫ظروف‬ ‫فقـط لينجـب ابن ًا بعـد وفـاة زوجتـه العاقر التـي ماتـت يف‬
‫غامضـة‪ .‬وقـد احتـوى الفيلـم مـن اللمسـات اخلوارقيـة مـا يكفي‬
‫شـبح جدَّ ِة فـان رين‬
‫ُ‬ ‫لوضعـه حتـت التصنيـف القوطـي‪ .‬إذ جيـوب‬
‫املنـزل الـذي كرهتـه وضاقـت بـه ذرعـ ًا على حياهتـا‪ ،‬ومـن حين‬
‫آلخـر‪ ،‬يسـتطيع أفـراد العائلـة املنحدرون منها سماع صوهتـا تغني‬
‫‪271‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫وتعـزف عندمـا تقـع العائلـة يف ضيق‪ .‬جيسـد الفيلـم مثـاالً تقليد ًّيا‬
‫حمـر ٍم تعثر‬
‫برج َّ‬‫على بنيـة الرومانسـية القوطيـة‪ ،‬بما يف ذلك وجـود ٍ‬
‫عليـه مريانـدا يف ختـام الفيلم‪.‬‬
‫كما يف كثير مـن األعمال األخـرى املندرجـة حتـت صنـف‬
‫املحلي‬ ‫ـج‬ ‫ِ‬
‫ُّ‬ ‫الرومانسـية‪ ،‬يتـودد عـدة خاطبين للبطلـة‪ .‬يسـاند املعال ُ‬
‫ِ‬
‫احتجاجـات املزارعني ضـد نظام اإلقطـاع‪ ،‬ويمثل‬ ‫الدكتـور ترينـر‬
‫ضـد ًا لغطرسـة فـان ريـن الـذي جيلـس على مـا يشـبه عـرش ٍ‬
‫أمري‬
‫مـن القرون الوسـطى عندمـا يسـتقبل املسـتأجرين القادمين لدفع‬
‫املـال‪ .‬يقـع ترينـر يف غـرام مريانـدا‪ ،‬لكنهـا تفضـل الرجـل األكبر‬
‫الثـري الذي يمثـل نمط الذكـور الذي انجذبـت إليه النسـاء قدي ًام‪،‬‬
‫وتنجـذب إليـه معظمهن اليـوم‪ ،‬الرجل صاحـب النفـوذ واملوارد‪.‬‬
‫مـن منظـور علـم النفـس التطـوري‪ ،‬كالمهـا يفعـل مـا تريـده منـه‬
‫جيناتـه‪ :‬مـن جهـة مريانـدا‪ ،‬أن جتـد رشيـك ًا ذا مـوارد قـادر ًا على‬
‫دعمهـا هـي وأطفاهلـا املرتقبين‪ ،‬ومـن جهـة فـان ريـن‪ ،‬أن يمـرر‬
‫ابـن يـرث أمالكه‪ .‬لكنـه هييمن عليهـا بعـد أن يتزوجها‬ ‫جيناتـه إىل ٍ‬
‫ثـم يفقـد اهتاممـه هبـا عندمـا يمـوت ابنهما بعـد مـدة قصيرة مـن‬
‫والدتـه‪ .‬وكما يف حتليـل نانيس ايسترلني ِلين آير‪ ،‬يسـعى فان رين‬
‫إىل اهليمنـة بينما تبحـث مريانـدا عـن االسـتقالل‪ ،‬وهـو مـا حتصل‬
‫عليـه أخري ًا‪.‬‬
‫جيسـد فيلـم ‪ Gaslight‬الصـادر عـام ‪ 1944‬التمثـل ذاتـه للمرأة‬
‫املنجذبـة إىل الرجـل اخلطـأ‪ ،‬رجل هييمـن عليها‪ .‬يف خلفيـة أحداث‬
‫القصـة‪ ،‬نجـد مغنية تدعى أليـس ألكيسـت تُقتَل يف جريمة سـطو‪،‬‬
‫‪272‬‬
‫الف�صل اخلام�س‬

‫وقـد شـهدت اجلريمـ َة ابنـ ُة أخيهـا الطفلـة بـاوال‪ ،‬والتـي نسـيت‬


‫لـق القبـض على القاتـل أبـد ًا‪ .‬الحقـ ًا‪،‬‬
‫ذكـرى هـذا احلـدث‪ .‬مل ُي َ‬
‫حتـاول باوال (إنگريـد بريگمان ‪ )Ingrid Bergman‬أن تصبح مغنية‬
‫أيضـ ًا‪ ،‬ولـو أهنـا تفتقـر إىل موهبـة عمتهـا‪ .‬يقنعهـا عـازف البيانـو‬
‫اخلـاص هبـا گريگـوري أنتـون (تشـارل بوييـه ‪،)Charles Boyer‬‬
‫وهـو قاتـل عمتها الـذي نجـا بفعلتـه‪ ،‬باهلرب معـه‪ .‬ومن هنـا تبدأ‬
‫حبكـة كالسـيكية شـبيهة بمثيالهتـا يف هـذا اجلنـس مـن األفلام‪:‬‬
‫َ‬
‫مفـرط اهليمنـة‪ .‬ويظهـر الفيلم‬ ‫امـرأ ٌة ختتـار رشيـك ًا خاطئـ ًا‪ ،‬رج ً‬
‫لا‬
‫محاقـة قـرار اهلـرب الـذي اختذته‪ ،‬حيـث تقـول «أنـا ال أعرفك‪ ،‬ال‬
‫أعـرف عنـك أي يشء»‪ .‬لكـن كما يف األفلام األخـرى يف التراث‬
‫الرومانسي القوطـي‪ ،‬تدفعهـا الكيميـاء اجلنسـية إىل مـا ال حتمـد‬
‫عقبا ه ‪.‬‬
‫ـور هـرب املـرأة مع‬ ‫يف جنـس الرومانسـية‪ ،‬ومنـذ بداياتـه‪ُ ،‬ي َص َّ‬
‫العشـيق على أنـه خطـأ‪ .‬إذ غالبـ ًا مـا كانـت الزجيـات جتـري بين‬
‫األثريـاء أو حتى يف صفوف الطبقة الوسـطى العليا بنا ًء عىل مصالح‬
‫مالية‪ ،‬ومـن الصور التقليديـة للوغد يف الروايـات الربيطانية صورة‬
‫الرجـل الـذي حياول إغـواء فتاة شـابة بـ «ثـروة» – أمـوال أو ٌ‬
‫إرث‬
‫متوقـع للهرب معـه إىل گريتنا گرين ‪ Gretna Green‬يف اسـكتلندا‪،‬‬
‫ُضمن جني‬ ‫حيـث يمكنهما الـزواج دون إشـهار ذلـك على امللأ‪ .‬ت ِّ‬
‫أوسـتن روايتهـا ‪ Pride and Prejudice‬هربـ ًا كارث ًّيـا تقـوم به ليديا‬
‫بينيـت مـع الرجـل الفاتن عديم الضمير ويكهام‪ ،‬الـذي حاول من‬
‫قبـل اسـتخدام التكتيك ذاتـه مع جورجيانـا داريس‪.‬‬
‫‪273‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫حيـاول أنتـون أن جينن باوال بـأن يقنعها أهنا صارت تفقد أشـياءها‬
‫وتنسـى مـا قامت بـه‪ .‬كذلك كانـت هـذه القصة من مكونـات جنس‬
‫األدب الرومانسي منـذ بداياته‪ .‬ففي روايـة ‪Maria، or the Wrongs‬‬
‫‪ of Women‬الصـادرة عـام ‪ 1798‬للكاتبـة مـاري وولسـتونكرافت‬
‫‪( Mary Wollstonecraft‬ماتـت قبـل إكمال الروايـة ‪ ،‬وقـد نرشهـا‬
‫زوجهـا ويليـام گادويـن ‪ William Godwin‬بعـد وفاهتـا)‪ ،‬نجـد‬
‫قصـ ًة مل تكـن نـادرة احلـدوث يف تلك احلقبـة‪ :‬رجل حيبـس زوجته يف‬
‫مـأوى للمـرىض العقليين كـي يتخ َّلـص منهـا وحيصـل على ثروهتا‪،‬‬
‫وهـذه هـي حبكـة فيلـم ‪ .Gaslight‬يقنـع گريگـوري – وهـو اسـم‬
‫مسـتعار لسيرجيوس بوير‪ ،‬قاتـل أليس ألكيسـت بـاوال باهلرب معه‬
‫والذهـاب إىل بيـت عمتهـا‪ ،‬كـي يبحـث عـن املجوهرات التي فشـل‬
‫يف إجيادهـا يـوم َقتَلهـا‪ ،‬وحيـاول يف الوقـت نفسـه أن جينـن بـاوال كي‬
‫يودعهـا يف مستشـفى املجانين وحيصـل على ثروهتا‪.‬‬

‫من فيلم دراگونويك‪ :‬اإلقطاعي نيكوالس فان راين (فينسينت برايس) يتلقى االحرتام من املزارعني‬

‫‪274‬‬
‫الف�صل اخلام�س‬

‫جيسـد فيلـم ‪ Gaslight‬صيغـة الرومانسـية القوطيـة وينجـح يف‬


‫تصويـر أجوائهـا‪ .‬إذ يغطـي الضبـاب شـوارع لنـدن على الـدوام‪،‬‬
‫وحيتـوي بيـت ألكيسـت على الغرفـة املحرمـة – التـي يبحـث‬
‫گريگـوري عـن املجوهـرات فيها وهي مـن اجلزئيات الكالسـيكية‬
‫التـي تظهـر مـرار ًا وتكـرار ًا يف هـذا اجلنـس مـن األفلام‪ .‬يركـز‬
‫املخـرج جـورج كيوكـور ‪ George Cukor‬على مصابيـح الغـاز‬
‫يف املنـزل ويعـود إليهـا مـرار ًا كيما يؤسـس للجـو املقبـض املليء‬
‫بالرتقـب‪ .‬يرتفـع اللهـب وينخفـض بينما حيـاول گريگـوري إقناع‬
‫بـاوال أهنـا ُجنَّت‪ .‬وعندمـا ختربه أهنا تسـمع جلبة يف الغرفـة العلوية‬
‫املرتوكـة‪ ،‬جلبـة تضفـي مزيـد ًا مـن طابـع اخلـوف على الفيلـم‪،‬‬
‫جييبهـا أهنـا تتوهـم‪ ،‬رغـم أننـا نعـرف الحقـ ًا أنـه هـو مـن أصـدر‬
‫اجللبـة عندمـا كان يبحـث عـن املجوهـرات يف تلك الغرفـة‪ .‬تؤدي‬
‫مدبـرة املنـزل‪ ،‬والتـي مثلـت دورهـا أنجيلا النسـبريي ‪Angela‬‬
‫‪ Lansbury‬يف أول ظهـور هلـا‪ ،‬تلعـب دور خادمـة متحكمـة‪ ،‬ذلك‬
‫النـوع مـن احلضـور املهـدِّ د الـذي يتجلى يف تعليقاهتـا اخلبيثـة عىل‬
‫بـاوال‪ ،‬التعليقـات التـي نجدهـا تصـدر كذلك مـن السـيدة دانفرز‬
‫يف روايـة ريبيـكا ‪ .Rebecca‬متثل بـاوال اليتيم َة الضعيفة‪ ،‬شـخصية‬
‫كالسـيكية يف التراث الرومانسي‪ .‬يقودهـا افتقارهـا لألصدقـاء‬
‫والناصحين إىل اهلـرب مـع شـخصية الرجـل السـ ِّيئ يف متثـل‬
‫التـزاوج‪ .‬وينتهـي الفيلم باكتشـاف مفتش سـكوتالند يـارد برايان‬
‫كاميرون (جوزيـف كوتين ‪ – )Joseph Cotten‬والـذي كان مـن‬
‫فريـق التحقيـق يف مقتـل أليـس ملخطـط أنتـون وإحباطـه‪.‬‬
‫‪275‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫طاملـا كان هلـذا الشـكل من متثل التـزاوج – الشـكل الذي قدمه‬


‫فيلـم ‪ Gaslight‬جاذبيـ ٌة للنسـاء مـن قـراء جنـس الرومانسـية‪ .‬إذ‬
‫كثري ًا ما جتسـدت قصـة الرجل القـوي الذي يتحكم بامـرأة ضعيفة‬
‫ويؤذهيـا سـواء يف األدب أو يف احليـاة‪ ،‬فهـي قصـة حتكـي جتربـة‬
‫تراكمـت عبر آالف السـنني‪ .‬يسـتمد املشـاهدون اللـذة اإلنابيـة‬
‫برؤيـة األمير الزائـف يف هـذا الشـكل مـن متثـل التـزاوج – الوغد‬
‫يف ثنائيـة األوغـاد واآلبـاء وقـد ُسـقط يف يـده و ُأهين يف النهاية‪ ،‬إذ‬
‫تشير لـه بـاوال أهنـا قد تسـاعده عىل اهلـرب‪ ،‬لكـن يتبني بعـد ذلك‬
‫أهنـا تريـد أن تنتقم منـه‪ .‬يربط برايـان بويد اللذة العاملية يف مشـاهدة‬
‫االنتقـام إىل سـلوكياتنا الغريزيـة‪:‬‬
‫ٍ‬
‫انفعـاالت شـديدةً‪ ،‬مـن الفضـول ا ُمل ِلـح إىل‬ ‫«يسـتحث االنتقـا ُم‬
‫ٍ‬
‫وأخطـار ممكنة‬ ‫ٍ‬
‫كمكافئات‬ ‫الغضـب األخالقـي إىل التخـوف احلـاد‬
‫هلـذا االنتقـام‪ .‬إىل أن جيـري إشـباعه‪ ،‬يمكن للغضـب األخالقي أن‬
‫ٍ‬
‫نحـو فريد‪ ..‬ذلـك أننـا أصبحنا بشر ًا قبل وقت‬ ‫حيتـل نفوسـنا على‬
‫طويـل مـن اخرتاعنـا املؤسسـات القانونيـة لقطـع دورة االعتـداء‬
‫والقصـاص‪ ،‬وهكـذا فـإن الرغبـة باالنتقـام لإلهانـة والضرر‬
‫مغروسـة عميقـ ًا يف نفوسـنا)‪.(26‬‬
‫ُ‬
‫الرشيـك السـ ِّيئ جـزاءه‪ ،‬وينتهـي‬ ‫إذن يف هنايـة الفيلـم‪ ،‬يلقـى‬
‫ُ‬
‫منقـذ باوال‪،‬‬ ‫نحو سـعيد حيـث يصبح كامريون‪،‬‬ ‫َت َ ُّثـل التـزاوج عىل ٍ‬
‫الفـارس ذو الـدرع الالمـع الـذي يمثل الشـخصية احلاميـة يف هذا‬
‫ُ‬
‫املناسـب‪ ،‬حيث يبـدو أهنام‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الرشيـك‬ ‫اجلنـس مـن األفلام‪ ،‬يصبـح‬
‫يتقربـان مـن بعضهما البعض‪.‬‬
‫‪276‬‬
‫الف�صل اخلام�س‬

‫يوظـف فيلـم ‪ Crimson Peak‬للمخـرج گيريمـو ديـل تـورو‬


‫‪ )2015( Guillermo del Toro‬الرومانسـية القوطيـة كما تطـورت‬
‫ال مثير ًا عىل متثل‬
‫يف األفلام والروايـات‪ ،‬لكنـه قـدم مع ذلـك تعدي ً‬
‫ٍ‬
‫موضوعـات أخـرى مـن‬ ‫التـزاوج‪ .‬سـبق لديـل تـورو أن وظـف‬
‫جنـس الرعـب‪ :‬املسـتذئب يف فيلـم ‪2010 The wolf Man‬؛ متثـل‬
‫النـزاف يف فيلـم ‪Blade 2 2002‬؛ وروايـات ‪( The Strain‬يف أفالم‬
‫‪2009 ،The Strain‬؛ ‪2010 ،The Fall‬؛ و ‪،The Night Eternal‬‬
‫‪ ،)2012‬التـي أنتجـت كمسلسـل تلفزيـوين قصير‪ .‬كذلـك وظف‬
‫ديـل تـورو الفانتازيـا يف فيلـم ‪ ،)2006( Pan’s Labyrinth‬والفيلم‬
‫الشـيطاين يف فيلـم ‪ ،)2004( Hellboy‬وقـد قـدم يف مجيـع هـذه‬
‫حبـكات خمتلفـة تقـوم ببعـض التعديلات أو التالعبـات‬ ‫ٍ‬ ‫األفلام‬
‫على الصيغـة القياسـية جلنـس الرعـب‪ .‬يعيـد فيلـم ‪The Shape‬‬
‫‪ )2017( of Water‬صياغـة فيلـم ‪Creature from The Black‬‬
‫‪ .)1954( Lagoon‬لكـن التغيير الـذي أجـراه ديـل تـورو هـو أن‬
‫املخلـوق جـرى القبـض عليـه والتنكيـل به‪ ،‬كما أن حـب الوحش‬
‫ٌ‬
‫متبـادل يف هذا اإلصدار‬ ‫غير املتبـادل مع املرأة يف فيلم اخلمسـينيات‬
‫ٍ‬
‫بإحالـة إىل فيلـم ‪ Splash‬الصـادر عـام ‪.1984‬‬ ‫احلديـث‪ .‬وينتهـي‬
‫درس الرومانسـية القوطيـة‪ .‬فالبطلـة‬
‫واضـح أن ديـل تـورو َ‬
‫ٌ‬
‫مماثلـ ٌة كثير ًا للبطلات يف أفلام ‪ Suspicion‬و ‪ Gaslight‬وغريهـا‬
‫مـن أفلام هـذا اجلنس‪ ،‬إنما أجريـت عليها بعـض التعديلات كي‬
‫تتناسـب مـع التغيرات الثقافيـة‪ .‬جتـد البطلـة إيديـث كوشـينگ‬
‫(ميـا فاشيكوفسـكا ‪ ،)Mia Wasikowska‬وهـي امـرأة شـابة‬
‫‪277‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫ثريـة تعيـش يف نيويـورك أواخـر القـرن التاسـع عشر‪ ،‬جتد نفسـها‬


‫عاجـزة عـن مقاومـة جاذبيـة تومـاس شـارب (تـوم هيدليسـتون‬
‫‪ ،)Tom Huddleston‬وهـو نبيـل انگليـزي فقير جـاء إىل أمريـكا‬
‫مـع أختـه لوسـيل (جيسـيكا شاسـتاين ‪ )Jessica Chastain‬بحثـ ًا‬
‫عـن مسـتثمرين لتمويـل مرشوعـه السـتخراج الصلصـال األمحـر‬
‫مـن األرايض التـي يملكهـا يف إنگلترا كـي يسـتخدمه يف صناعـة‬
‫الطابـوق‪َ .‬يقتُل شـارب (بالتعـاون مع أخته)‪ -‬الـذي يمثل الباحث‬
‫التقليـدي عـن الثروة يف هـذا اجلنس‪ -‬والـدَ إيديث فتصبـح يتيمة‪،‬‬
‫أمـر كالسـيكي يف التراث الرومانسي‪ ،‬ثـم يغرياهنـا بالذهـاب إىل‬
‫ٌ‬
‫منزلـه الريفـي املتداعـي املسـمى ألريديـل‪ ،‬يف أقـايص يوركشـاير‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بتغيري‬ ‫وهنـاك تتجسـد الصيغة الكالسـيكية للرومانسـية القوطيـة‪،‬‬
‫مهم ‪.‬‬

‫من فيلم ‪ :Gaslight‬باوال (إنگريد بريگامن‪ ،‬غري ظاهرة يف الصورة) تنتقم من زوجها‬
‫گريگوري أنتون (تشارل بوييه)‬

‫‪278‬‬
‫الف�صل اخلام�س‬
‫جـو ِ‬
‫منزل ألريديـل بالرومانسـية القوطية للقـرن الثامن‬ ‫يذكرنـا ُّ‬
‫طابع يشـبه القلاع اخلربة‪ ،‬كام‬
‫عشر والعصر الفيكتـوري‪ .‬للمنزل ٌ‬
‫أن لـه سـقف ًا مفتوحـ ًا يدخـل منه املطـر والثلـج‪ .‬هناك أيضـ ًا غرف‬
‫رسيـة‪ ،‬كما نـرى األشـباح على مـدار الفيلـم‪ .‬يف التعليـق الصويت‬
‫االفتتاحـي‪ ،‬تقـول إيديـث «األشـباح حقيقية‪ .‬هـذا ما أعرفـه»‪ ،‬ثم‬
‫يتبـع ذلـك مشـهدٌ ألم إيديـث امليتـة وهي هتمـس هلا عندمـا كانت‬
‫طفلـ ًة «احـذري القمـة القرمزيـة» (املـكان الـذي يوجـد فيـه منزل‬
‫ألريديـل)‪ .‬يف ألريديـل‪ ،‬ترى إيديث أشـباح زوجـات توماس الاليت‬
‫تزوجهـن للحصول على املال اللازم لتمويل مرشوعه‪ ،‬ثم أشـباح‬
‫تومـاس ولوسـيل أيض ًا يف النهايـة‪ .‬حياكي تعليق إيديـث الصويت يف‬
‫ختـام الفيلـم عن األشـباح وملاذا هي موجـودة‪ ،‬حياكي كثير ًا أفكار‬
‫املذهب السبرييتشـوايل‪.‬‬
‫كما يف كثير جـد ًا مـن أفلام وروايـات الرومانسـية القوطيـة‪،‬‬
‫تتعـرض البطلـة للخطـر يف هـذا املنـزل الريفـي اخلـرب‪ ،‬حتـى‬
‫تفهـم بعـض اإلشـارات تدرجيي ًا مـن األشـباح التي جتوبـه‪ .‬تقودها‬
‫(تنويـع على الغرفـة املخفيـة أو‬
‫ٌ‬ ‫األشـباح أخير ًا إىل عليـة يف املنـزل‬
‫املحرمـة يف جنـس الرومانسـية القوطيـة) حيـث تـرى أدلـة على‬
‫زوجـات تومـاس األخريـات اللايت ُقتِلن مـن أجل ماهلـن‪ .‬خيطط‬
‫سـم بطيء‪.‬‬
‫آل شـارب لفعـل الشيء نفسـه مـع إيديث باسـتخدام ٍّ‬
‫كما هـو شـائع يف التراث الرومانسي‪ ،‬إليديـث عـدة خاطبين‪.‬‬
‫ومنهـم الرجـل املوثـوق أالن مكاميـكل (تشـاريل هونـام ‪Charlie‬‬
‫‪ ،)Hunnam‬الـذي يعمـل طبيبـ ًا يف نيويـورك‪ ،‬حيـب أالن إيديـث‪،‬‬
‫‪279‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫ويشـتبه بوقـوع جريمـة يف مـوت والدهـا‪ ،‬ويكتشـف يف النهايـة‬


‫حقيقـة آل شـارب‪ .‬يف تـراث الرومانسـية والتـزاوج‪ ،‬يمثـل أالن‬
‫الرشيـك املناسـب مـن وجهـة نظـر تطوريـة‪.‬‬
‫لكـن تومـاس هـو مـن يشـعل مشـاعر إيديـث‪ ،‬وواضـح أنـه‬
‫يعـرف كيـف يفعل ذلـك‪ ،‬فهو يقـول بالضبط ما جيب عىل العاشـق‬
‫قولـه مـن املنظـور التزاوجـي‪ .‬عندمـا يغازهلـا يف نيويـورك‪ ،‬هيمس‬
‫هلـا «قلبـي مرتبـط بقلبـك‪ ،‬وإذا مـا انقطـع هـذا الرابط بيننـا‪ ،‬بفعل‬
‫املسـافة أو الزمـن‪ ،‬سـيتوقف قلبـي عـن النبـض وأموت»‪ .‬تتشـابه‬
‫هـذه الكلمات مع ما يقولـه هيثكليـف لكاثرين يف روايـة مرتفعات‬
‫ويذرينـگ‪ ،‬كما مـع مـا قالـه روتشيستر جلين يف رواية جين آير‪.‬‬
‫رضب مـن‬
‫ٌ‬ ‫مل تكـن مزاعمـه هـذه حقيقيـة بالطبـع‪ ،‬بـل هـي‬
‫املكـر واخلديعـة‪ ،‬وقـد فعـل هذا مـن قبـل‪ .‬لكـن الفيلـم ينتمي إىل‬
‫الرومانسـية‪ ،‬وقـد وقـع تومـاس يف حـب إيديـث‪ ،‬مـا أغـاظ أخته‬
‫لوسـيل‪ ،‬إذ كانـت بينهما عالقـة ِسـفاح‪ .‬ثـم نـرى أالن يذهـب إىل‬
‫يوركشـاير إلنقـاذ إيديث ويصاب بجـروح‪ ،‬وهكذا تنشـب معركة‬
‫بين امرأتين قويتين فـوق الثلـوج احلمـراء الدمويـة‪ .‬وهـذا هـو‬
‫التعديـل الـذي أجـراه ديل تورو على متثل التـزاوج يف الرومانسـية‬
‫ٍ‬
‫بنحـو مـا أن أجعـل هذا‬ ‫القوطيـة‪ .‬وقـد قـال يف مقابلـة لـه «أردت‬
‫اجلنـس مـن األفلام أكثـر واقعيـة بعـض الشيء وأن أجعـل أدوار‬
‫اإلنـاث هـي األدوار املركزية»)‪ .(27‬متحدث ًا مـن منظوره الفيكتوري‪،‬‬
‫ً‬
‫وميلا للقتال‬ ‫كتـب تشـارلز ِ‬
‫دارويـن «الرجل أكثـر جسـارة وطاق ًة‬
‫مـن املـرأة‪ ،‬ولديـه موهبـ ٌة إبداعية أكبر‪ .‬يبـدو أن املـرأة ختتلف عن‬
‫‪280‬‬
‫الف�صل اخلام�س‬

‫الرجـل‪ ..‬بشـكل رئيـس يف حناهنا وقلـة أنانيتها»)‪ .(28‬كتـب داروين‬


‫هـذا يف عصر كانـت النسـاء فيـه ُيؤ َم ْـرن بـأن يعانين دون مقاومة‪،‬‬
‫عىل حد تعبير مارثا فيسـينوس ‪ Martha Vicinus‬يف كتاهبا ‪Suffer‬‬
‫‪ .and Be still‬لكـن الزمـن تغير منـذ ذلـك احلني‪.‬‬
‫رغـم أن نصيحـة «املعانـاة دون مقاومـة» قـد تكـون موجـودة‬
‫يف العقـول البدائيـة للكثير مـن النسـاء يف العـامل املتقـدم (وهـي‬
‫أعلى صوتـ ًا يف دول العـامل الثالـث)‪ ،‬إال أن الثقافـة عملـت على‬
‫كبحهـا‪ ،‬أو إعـادة توجيههـا على األقـل‪ .‬مـع ذلـك قـد يبقـى هذا‬
‫اهلمـس مسـموع ًا لكثير مـن القـراء واملشـاهدين‪ .‬نتعاطـف مـع‬
‫امـرأة مثـل إيديـث تريـد أن تقـف مـع رجلها‪ ،‬جـرى ذلـك عندما‬
‫قامـت بإقناعـه باخلـروج مـن منـزل ألريديـل وإمتـام اجلـزء اجلنيس‬
‫ُـز ٍل قريـب‪ .‬هكـذا ومع أن ديـل تورو عـدَّ ل متثل‬ ‫مـن زواجهما يف ن ُ‬
‫التـزاوج وبعـض الكالسـيكيات‪ ،‬إال أن كثري ًا من األمـور باقية عىل‬
‫لا أالن مكاميـكل‪ ،‬والـذي يمثـل األب يف ثنائيـة‬ ‫حاهلـا‪ .‬لدينـا مث ً‬
‫اآلبـاء واألوغـاد يف التراث الرومانيس‪ ،‬يشـتاق إىل إيديث ويسـافر‬
‫مـن نيويـورك إىل يوركشـاير إلنقاذهـا‪ .‬ثـم لدينـا توماس شـارب‪،‬‬
‫الوغـد يف هـذه الثنائيـة‪ ،‬خطِ ٌـر وجـذاب جنسـ ًّيا‪ ،‬ومن غير املمكن‬
‫املراهنـة عليـه كرجـل ينفـق وحيمـي‪ :‬وكل هـذا نجـده متكـرر ًا يف‬
‫قصـص االختيـارات التزاوجية السـيئة يف هذا اجلنس مـن األفالم‪،‬‬
‫كما يف احليـاة الواقعيـة أيض ًا‪.‬‬
‫كبطلات أفلام الرومانسـية القوطيـة األخريـات‪ ،‬تفضـل‬
‫إيديـث األهـواء والعواطـف على األمـان‪ ،‬وتكسـب يف النهايـة‬
‫‪281‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫لا حـب الرجـل الوغـد‪ ،‬ومـع ذلـك فإهنـا تسـتقر يف النهاية مع‬ ‫فع ً‬
‫مكاميـكل‪ ،‬اخليـار األسـلم من املنظـور التزاوجـي‪ .‬تنقـذ إيديث يف‬
‫النهايـة الرجـل الـذي حيـاول إنقاذهـا‪ ،‬وهـو اختلاف عـن اخلامتة‬
‫القياسـية يف أفلام الرومانسـية القوطيـة‪ ،‬مـا يعكـس التأثيرات‬
‫ٍ‬
‫كثيرة‪ ،‬لكـن‬ ‫ٍ‬
‫بطـرق‬ ‫ـرف مصطلـح الثقافـة ‪culture‬‬ ‫الثقافيـة‪ُ .‬ع ِّ‬
‫يبـدو أن تعريـف سـتيفن بنكـر ‪ Steven Pinker‬مناسـب يف هـذا‬
‫يعـرف‬
‫املجـال‪ ،‬أي فهـم التغيرات يف صيغـة األدب الرومانسي‪ِّ .‬‬
‫بنكـر الثقافـة بأهنـا ظواهـر «تنشـأ عندمـا جيمـع النـاس ويراكمون‬
‫مكتشـفاهتم‪ ،‬ويؤسسـون تقاليـد تتيح هلم تنسـيق أعامهلـم والفصل‬ ‫َ‬
‫يف خالفاهتـم»)‪ ،(29‬كذلـك تعـدل الثقافـة التمثلات البدائيـة وتعيد‬
‫تشـكيلها‪ ،‬كما أن التمثلات البدائيـة تؤ ِّثـر يف خلـق الثقافـة‪.‬‬
‫ال خمتلفـ ًا ومغاير ًا مـن التـزاوج‪ ،‬وهو‬
‫جيسـد الفيلـم أيضـ ًا شـك ً‬
‫عالقـة ِسـفاح املحـارم الدائمة بين توماس ولوسـيل‪ .‬يتفـق معظم‬
‫نتائـج سـلبي ًة على‬
‫َ‬ ‫علماء التطـور البيولوجـي أن لسـفاح املحـارم‬
‫التطـور‪ .‬يكتـب دينيـس داتـون «إن جتنـب سـفاح املحـارم غريـز ٌة‬
‫يتشـاركها البشر مـع احليوانـات األخـرى التـي تتكاثر جنسـ ًّيا‪ ،‬بام‬
‫يف ذلـك مجيع أنـواع الرئيسـيات‪ ..‬لكـن يف حالة البشر‪ ،‬لدينا أيض ًا‬
‫النهـي الثقايف عن هذا األمـر»)‪ .(30‬يعد مأزق أوديب وسـوفوكليس‬
‫املأسـاوي مثـاالً أدب ًّيـا مبكـر ًا عىل جتنب سـفاح املحـارم‪ .‬لكن حتى‬
‫يف هـذا الشـكل املغايـر مـن التـزاوج هنـاك قواعـد‪ ،‬ومنهـا الغيرة‬
‫التـي تعد سـم ًة أساسـية يف نوعنا‪ ،‬ونرى أن لوسـيل تسـتجيب هلذا‬
‫كل من الرجال والنسـاء‪،‬‬ ‫الدافـع بجنـون‪ .‬حترك الغير ُة سـلوكيات ٍّ‬
‫‪282‬‬
‫الف�صل اخلام�س‬

‫ٌ‬
‫مـدان ثقاف ًّيا عرب‬ ‫ورغـم أن نـوع احلب الـذي تكنه لوسـيل ألخيهـا‬
‫آالف السـنني‪ ،‬ورغـم أنـه ذو نتائـج سـلبية مـن املنظـور التطـوري‬
‫أيضـ ًا‪ ،‬نـرى أهنا تشـعر بـذات الغضـب الناتـج عن ختلي الرشيك‪،‬‬
‫والـذي شـعرت بـه النسـاء عبر التاريـخ عندمـا يقـوم رشكاؤهـن‬
‫ِ‬
‫هبجرهـ َّن وحتويـل مواردهـم نحـو رشيكـة أخرى‪.‬‬
‫ٍ‬
‫منظـور علم‬ ‫يعـرف ديفيـد بـاراش وجوديث ليبتـون احلب من‬ ‫ِّ‬
‫النفـس التطـوري «بدايـ ًة‪ ،‬ليـس احلـب إال آل َّيـ ًة‪ ،‬ال أكثـر وال أقل‪،‬‬
‫أي إنـه وسـيلة نحـو غايـة أخـرى‪ ،‬وليـس غايـ ًة يف ذاتـه‪ ،‬وسـيل ٌة‬
‫طورهـا االنتخـاب الطبيعي لتسـهيل التزاوج واإلنجـاب‪ ،‬أي مترير‬
‫ٍ‬
‫قـرون مـن‬ ‫اجلينـات إىل املسـتق َبل»)‪ .(31‬ومـع ذلـك يصعـب أقنـاع‬
‫كاف‪ .‬وهلـذا نجـد هيلينـا يف‬ ‫الشـعراء والعشـاق أن هـذا التعريـف ٍ‬
‫مرسحيـة «حلـم ليلـة صيـف ‪»A Midsummer Night’s Dream‬‬
‫لشكسـبري تعبر عن حبهـا لديميرتيـوس رغـم كل عيوبـه قائل ًة «ال‬
‫ـور إله احلـب كيوبيد‬ ‫احلـب بالعينين‪ ،‬بـل بالذهن‪ ،‬وهلـذا ُص ِّ‬‫ُّ‬ ‫َينظـر‬
‫كفيفـ ًا»‪ .‬مـع ذلك فال شـك يف أمهيـة فهمنـا لغرائزنا البدائيـة‪ .‬وربام‬
‫يكـون مـا نسـميه احلـب ومهـ ًا يف احلقيقة‪.‬‬
‫حتكـي أغنيـة «‪ »Just My Imagination‬لفرقـة ‪The‬‬
‫‪ Temptations‬عـن رجـل يـرى مـن النافـذة فتـاة مجيلـة وخيلـق يف‬
‫ذهنـه خيـاالت عن مواعدهتـا والزواج منهـا والعيش معهـا يف بيت‬
‫ظريـف وإنجاب أطفـال‪ .‬لكن هذا السـيناريو‪ ،‬كام تكشـف األغنية‬
‫يف النهايـة‪ ،‬غير موجـود إال يف خياالتـه‪ .‬لـذا قـد تكـون الطقـوس‬
‫التزاوجيـة التـي خلقتهـا ثقافتنـا جمـرد نتاجـات خليالنـا اجلمعـي‪.‬‬
‫‪283‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫وهـم ال تبنـى عليه‬


‫ٌ‬ ‫لكـن حتـى لـو كان األمـر كذلـك‪ ،‬فـإن احلـب‬
‫وهم يثـري حياتنا‬
‫روايـات الرومانسـية القوطيـة فحسـب‪ ،‬بل هـو ٌ‬
‫ويلهمنـا األمـل بإجيـاد رابطـة حقيقيـة ودائمـة مـع فـرد نحبه‪.‬‬

‫‪284‬‬
‫الفصل السادس‬

‫َ َ ُّ‬
‫تمثل المفترسين‬

‫ِكلك بها»‬
‫ِ‬ ‫«ل‬
‫يف قصـة شـارل بيرو ‪ Charles Perrault‬الفلكلوريـة الشـهرية‪،‬‬
‫هـذا مـا رد بـه الذئـب الكبير عندمـا سـألته ذات الـرداء األمحـر‬
‫ملـاذا يمتلـك أسـنان ًا كبيرة‪ .‬ليسـت قصـة بيرو خالية مـن املغزى‪،‬‬
‫إذ أراد حتذيـر الفتيـات الصغيرات مـن الرجـال الغربـاء الذيـن قد‬
‫جمـازي طبعـ ًا ال حـريف‪ .‬لكن للقصة بأشـكاهلا‬
‫ٍّ‬ ‫يلتهموهنـن‪ ،‬بمعنًـى‬
‫آخـر يلمـس خوفـ ًا بدائ ًّيا‪:‬‬
‫مغـزى َ‬
‫الثقافيـة املختلفـة عبر العصـور ً‬
‫التعـرض للمـوت بين فكوك املفرتسين‪.‬‬
‫لنعـد مرة أخـرى إىل افتتاحية فيلم ‪.2001: A Space Odyssey‬‬
‫شـدد ٌّ‬
‫كل مـن الفيلـم والروايـة على تفصيلة عجـز البشر البدائيني‬
‫مقابـل حيـوان مفترس أكثـر منهـم تطـور ًا على الصعيـد البقائي‪،‬‬
‫‪285‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫مفترس قـادر على قتلهـم والتهامهـم‪ .‬يف الروايـة‪ ،‬يـأكل القـط‬


‫لا يف كهفهـم الـذي يـأوون إليـه‪،‬‬ ‫املفترس أفـراد ًا مـن القبيلـة لي ً‬
‫قاتلا من يشـاء منهم حسـب ما يشـتهي‪ .‬يف الفصـل األول‪ ،‬يصف‬ ‫ً‬
‫كالرك اقتحـام القـط للكهـف ال دون أن يسـتطيع بقيـة األفـراد‬
‫مسـاعدة الضحيـة فحسـب‪ ،‬بـل دون أن يكونـوا قادريـن عىل ختيل‬
‫كيـف يفعلـون ذلك حتـى‪ .‬يصـف كالرك متكن اخلـوف من قلوب‬
‫جمموعـة البرش البدائيني تلـك «يف الكهوف‪ ،‬بني الغفـوات القصرية‬
‫وفترات االنتظـار املرعبـة‪ ،‬كانـت تولـد كوابيـس سـتنغص عيـش‬
‫األجيـال القادمـة»‪ .‬الحقـ ًا بعـد مشـهد املسـلة الصخريـة‪ ،‬عندمـا‬
‫يدخـل القـط الكهف‪ ،‬هيامجـه أفراد القبيلـة مجيع ًا باهلـراوات «وغدا‬
‫املفترس الشرس اآلن طريدة ال يريد سـوى اهلـرب والنجاة»‪ .‬تبيِّ‬
‫لا مزدوجـ ًا يف أفلام الرعـب مسـتمد ًا مـن اكتشـافات‬ ‫الروايـة متث ً‬
‫علـم النفـس التطـوري‪ :‬جنـس اإلنسـان العاقـل ‪Homo sapiens‬‬
‫آن واحد‪.‬‬ ‫بوصفـه صيـاد ًا وطريـدة يف ٍ‬

‫باإلضافـة إىل حتوهلـم بدورهـم إىل مفرتسين عندمـا يأكلـون‬


‫حيوانـات التابير‪ ،‬تعلـم البشر البدائيـون أيضـ ًا كيـف يقاتلـون‬
‫املفرتسـات األخـرى‪ .‬واجلزئيـة األهـم هنـا على صعيـد تكيفنـا‬
‫ٍ‬
‫بقائيـة متكِّنهم‬ ‫ٍ‬
‫كصفة‬ ‫نموا السـلوك االجتامعـي‬ ‫التطـوري هـي أهنم ُّ‬
‫مـن االحتـاد لقتـال األعـداء األقـوى منهـم‪ .‬يطـرح علـم النفـس‬
‫التطـوري أن هـذا اخلوف مـن املفرتسين‪ ،‬اخلوف من األنـواع التي‬
‫نعجـز عـن الدفاع عن أنفسـنا ضدهـا فـرادى‪ ،‬نعم ال بـد أن يكون‬
‫هـذا اخلـوف مغروسـ ًا بعمـق يف ذاكرتنـا اجلينيـة‪ ،‬بالضبـط كام عرب‬
‫‪286‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س‬

‫كالرك «كوابيـس سـتنغص عيـش األجيـال القادمـة»‪ .‬لكـن كما‬


‫البشر البدائيين يف هذا الفيلـم‪ ،‬فقد طورنـا صفات تكيفيـة للدفاع‬
‫عـن أنفسـنا باسـتخدام دماغنـا فائـق الكفـاءة الـذي يعد فريـد ًا يف‬
‫مملكـة احليـوان‪ ،‬فهـو يمكِّننـا مـن صناعـة األدوات واألسـلحة‪،‬‬
‫والتفكير اإلبداعـي حلـل املشـكالت وبنـاء الرتابـط ال َق َبلي‪ .‬هكذا‬
‫تطورنـا لنصبـح الصيـاد بدالً مـن الفريسـة‪ ،‬رغم أن املفرتسـات ما‬
‫زالـت تقتـل وتأكل املئـات من البشر سـنو ًّيا يف إفريقيـا واهلند‪ .‬كام‬
‫نسـمع مـن حين آلخـر عـن هجمات حيوانيـة كهـذه يف الواليات‬
‫املتحـدة أيض ًا‪.‬‬
‫ناقـش علماء التطـور مـا إذا كان البرش قـد تطوروا كمفرتسين‬
‫ٍ‬
‫بعنـوان هو‬ ‫أو فرائـس‪ .‬كتـب يس‪ .‬كـي‪ .‬بريـن ‪ C.K. Brain‬كتابـ ًا‬
‫ٌ‬
‫سـؤال كثير ًا مـا يتكـرر «هـل نديـن بذكائنـا ملاضينـا‬ ‫يف احلقيقـة‬
‫كمفرتسين؟ ‪Do we owe our intelligence to a predatory‬‬
‫مهما يف تطور‬‫لا ًّ‬ ‫?‪ ،»past‬وقـد رجـح أن جتنـب املفرتسين كان عام ً‬
‫الدمـاغ‪ ،‬ذلـك ألن األفـراد مـن نوعنا الذيـن امتلكوا من الـذكاء ما‬
‫سـيمررون جيناهتم لألجيـال التالية‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫يمكِّنهـم من جتنب املفرتسين‬
‫يتفق كل من دونا هارت ‪ Donna Hart‬وروبرت سوسمان ‪Robert‬‬
‫‪ Sussman‬مـع هـذه النظريـة‪ ،‬مضي َفين أن «مـن املرجـح جـد ًا أن‬
‫االفتراس كان مـن املحفـزات الرئيسـة لزيادة حجـم الدماغ وحتى‬
‫لغريزتنـا يف حـب التكتـل يف جمموعـات وكوننـا حيوانـ ًا اجتامع ًّيـا‪.‬‬
‫قـوي يف حياتنا اليوميـة»)‪.(1‬‬ ‫ٌّ‬ ‫ٌ‬
‫عامـل‬ ‫حيـث أن عـدم التعـرض للقتل‬
‫ال بـد أن عامـل التنظيم القبيل كان حاسم ًا يف بقاء النـوع‪ .‬لذا يقرتح‬
‫‪287‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫منظـور نقـد الصفـات البدائيـة أن اهلمسـات القادمـة مـن جتـارب‬


‫أسلافنا الذيـن طاردهتم املفرتسـات يف العرصيـن احلجريني القديم‬
‫واحلديـث وقتلتهـم وأكلتهم‪ ،‬ثم تعلمـوا القتال دفاع ًا عن أنفسـهم‬
‫ألجـل البقـاء‪ ،‬نعـم يقترح أن هـذه اهلمسـات مـا زالـت موجـودة‬
‫وقـادرة على حـث لذة اخلـوف اإلنـايب يف متثـل املفرتسين يف أفالم‬
‫الرعـب‪ .‬مع أن من املمكن أن نوعنـا كان طريد ًة يف املايض التطوري‬
‫ً‬
‫مكمل‬ ‫ال صيـاد ًا‪ ،‬إال أن متثـل الصيـد نشـأ أيض ًا يف مـا بعد ليصبـح‬
‫للخـوف مـن املفرتسين يف العقـل البدائي‪.‬‬
‫النـزاف تعـاون‬
‫قتـل َّ‬ ‫النزافين‪ ،‬حيـث يتطلـب ُ‬ ‫كما يف أفلام َّ‬
‫قبيلـة مـن عـدة أفـراد‪ ،‬كذلـك يعـد التعـاون حمور ًّيـا يف قصـص‬
‫َت َ ُّثـل املفرتسين‪ .‬يعكس وصف ريـج موريسـنون ‪Reg Morrison‬‬
‫للقبليـة االكتشـافات الشـائعة لعلـم النفـس التطـوري‪« :‬مـا زالت‬
‫الرغبـة باالنتماء إىل قبيلـة رغبـ ًة شـديدة بما ال يقـاس‪ ،‬كما أهنـا ال‬
‫ختضـع مطلقـ ًا للتفكير العقلاين‪ .‬فهـي ال متنحنـا إحساسـ ًا ُمرضي ًا‬
‫باهلويـة واخلصوصيـة القبليـة فحسـب‪ ،‬بـل تشـعل نـار املعتقـدات‬
‫واإلحسـاس بالتفـوق على اآلخريـن»)‪ .(2‬تطـرح فرضيـات علـم‬
‫النفـس التطـوري أن متثـل التعـاون القبلي يف مواجهـة املفرتسين‬
‫والنزافـون نوع ًا‬
‫مغـروس عميقـ ًا يف النفس البرشيـة‪ .‬يعـد الزومبي َّ‬
‫من املفرتسين‪ .‬لكـن أفالم ‪ Predator‬و ‪ Alien‬بسالسـلها واألفالم‬
‫التـي تدمج بين السلسـلتني‪ ،‬وكذلـك أفلام ‪،Anaconda ،Jaws‬‬
‫وأفلام املسـتذئبني‪ ،‬تقـوم على ذات متثل املفرتسين الـذي يصوره‬
‫الكفـاح القبلي ملجموعـة البشر البدائيين ضـد القـط الكبير يف‬
‫‪288‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س‬

‫روايـة كالرك‪ .‬باسـتثناء الفضائيين يف سلسـلة ‪ Predator‬الذيـن‬


‫يامرسـون الصيـد كمتعـة رياضيـة بـذات املعنـى الـذي صـار نوعنا‬
‫يامرسـه بعـد أن حتققت لـه اهليمنة على باقـي احليوانـات‪ ،‬يصطادنا‬
‫باقـي املفرتسين ألكل حلومنـا‪ .‬خيمـن املختصـون بعلـم النفـس‬
‫التطـوري أن مهسـات الزمـرة الصيـادة تتردد يف عقولنـا قادمة من‬
‫إرثنـا اجلينـي‪ ،‬وهكذا فإن متثـل الصيـاد يوازيه أيض ًا متثـل التعرض‬
‫هلجمات املفرتسـات والدفـاع عـن النفس ضدهـا مجاع ًّيـا‪ .‬مل َّ‬
‫يتجل‬
‫متثـل الصيـد واملفرتسين يف تاريـخ األفلام بمثـل الوضـوح الذي‬
‫جتلى بـه يف فيلـم ‪ )1987( Predator‬امليلء بدفقات التيستوسـتريون‬
‫للمخـرج جون مكترينـان ‪ John Mctiernan‬واألفلام التي تلته يف‬
‫ا لسلسلة ‪.‬‬
‫ً‬
‫«ثمة شيء ما هنا يتربص بنا‪ ،‬وهو ليس بشرا»‬

‫البدائي عند‬
‫َّ‬ ‫اخلـوف‬
‫َ‬ ‫تعكـس هـذه العبـار ُة مـن فيلـم ‪Predator‬‬
‫اإلنسـان مـن مطاردته مـن قبل مفترس قوي‪ .‬يقـوم التمثـل الذي‬
‫ٍ‬
‫أسـاس مـن موضوعتـي اإلقليميـة والغـزو‪:‬‬ ‫يقدمـه الفيلـم على‬
‫غـزو البشر إلقليـم جمموعـة أخـرى لصيدهـم وقتلهـم مـن جهة‪،‬‬
‫واملفترس الفضائـي الـذي يصطـاد البشر مـن جهـة أخـرى‪.‬‬
‫افتتـاح الفيلـم داتـش شـيفر (أرنولـد شـوارزنيگر ‪Arnold‬‬‫ُ‬ ‫ُي ِ‬
‫ظهـر‬
‫‪ ،)Schwarzenegger‬وهـو قائـد قـوة خاصـة من النخبـة‪ ،‬واص ً‬
‫ال‬
‫على متن مروحية‪ ،‬يمسـك شـيفر يف فمه سـيگار ًا ذا مظهـر قضيبي‬
‫واضـح‪ .‬يف اجتامعهما‪ ،‬يطلـب منـه الضابـط املسـؤول تنفيـذ مهمة‬
‫بمعيـة صديـق قديـم لشـيفر هـو جـورج ديلـون (كارل ويـذرز‬
‫‪289‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫‪ ،)Carl Weathers‬وقـد صـار األخير عنرص ًا يف وكالـة املخابرات‬


‫املركزيـة‪ ،‬نـرى أنـه يدخـن سـيگار ًا هـو اآلخـر‪ .‬رسعان مـا يرشع‬
‫الرجلان بتحديـد اهليمنـة الذكرية فـور لقائهام‪ ،‬إذ خيوضـان مباراة‬
‫يف ِّيل الـذراع‪ ،‬حتتـوي لقطـات قريبـة لعضالهتما‪ .‬يعكـس املشـهد‬
‫التنافـس الذكري اخلالـد لتحديد الذكر األلفا وخلق الرابطة‪ .‬يشير‬
‫ٍ‬
‫ريـب إىل كوهنـم جمموع ًة‬ ‫التفاعـل بين رجـال شـيفر اخلمسـة بلا‬
‫صيـادةً‪ ،‬جمموعـة حماربين قبليين‪ .‬يضيـف بلين (وقـد أدى دوره‬
‫جيسي فينتـورا ‪ Jesse Ventura‬قبل أن يتجه إىل العمل السـيايس يف‬
‫مينيسـوتا)‪ ،‬أحـد رجـال شـيفر املزيد مـن التيستوسـتريون إىل اجلو‬
‫ال هلم «سـيجعلكم‬ ‫حينما يعرض على زمالئه مضـغ أوراق التبغ قائ ً‬
‫مفرتسين على الرسير مثلي»‪ .‬مـن منظـور السـيكولوجيا التطورية‬
‫يف السـلوك البشري‪ ،‬يرتبـط هـؤالء الرجال مـع بعضهم على هيأة‬
‫جمموعـة ذكـور صيادة‪.‬‬
‫يعهـد إىل املجموعـة بمهمـة حتريـر الناجين مـن طاقـم طائـرة‬
‫مروحيـة حتطمـت يف املنطقـة وأرس طاقمهـا مـن قبـل جمموعـة‬
‫متمـردة يف أمريـكا اجلنوبيـة‪ .‬لكنهـم يصبحـون بعـد ذلـك طرائـد‬
‫ملخلـوق فضائـي‪ ،‬املفترس‪ ،‬صياد ريـايض يقتل للمتعة‪ .‬كما الكثري‬
‫مـن الفضائيين يف اخليـال العلمـي‪ ،‬يعكـس الفضائـي صفـ ًة برشية‬
‫جوهريـة‪ :‬تراثنـا يف الصيـد‪ ،‬خصوصـ ًا تراثنـا احلديـث يف الصيـد‪،‬‬
‫حيـث أصبـح مـن أجـل املتعـة والتنافـس ال الطعـام‪ .‬يعـد هـذا‬
‫عـدوا رهيب ًا بسـبب متوهيـه الذي جيعلـه غري مرئـي تقريب ًا‬
‫ًّ‬ ‫الفضائـي‬
‫باإلضافـة إىل ترسـانة أسـلحته‪ .‬يعي الرجـال يف البدايـة – ولو عىل‬
‫‪290‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س‬

‫مالحقـون‪ .‬يقول بنتشـو لرفاقه‪ ،‬وهو من سـكان‬ ‫َ‬ ‫يب أهنم‬ ‫ٍ‬
‫نحـو ضبـا ٍّ‬
‫أمريـكا األصليين‪« ،‬ثمة يشء مـا هنا يرتبص بنا‪ ،‬وهـو ليس برش ًا»‪.‬‬
‫عندما يتسـاقط رجـال املجموعـة بالتعاقب‪ ،‬يقـول بلني «إنـه يقتلنا‬
‫واحـد ًا بعـد آخـر»‪ ،‬فيرد عليـه داتـش «كام لـو أنـه صيـاد»‪ ،‬وهذه‬
‫مناسـب جد ًا حلـث اخلـوف اللذيذ‬
‫ٌ‬ ‫موقـف‬
‫ٌ‬ ‫حقيقـة األمـر بالفعـل‪،‬‬
‫القـادم مـن ماضينا عندمـا كنـا طرائد تالحقهـا املفرتسـات‪ .‬ينتهي‬
‫الفيلـم بمسـتوى جديـد مـن الرجولـة‪ ،‬حيـث جتـري معركـة بين‬
‫الفضائـي وداتـش الـذي ال ينجـو غريه‪.‬‬
‫كالسالسـل الناجحـة األخـرى مـن األفلام‪ ،‬أسسـت سلسـلة‬
‫ال من األسـاطري بشـخصياهتا وأنواع الشـخصيات‬ ‫‪ Predator‬هيـك ً‬
‫واحلبـكات التـي تظهـر خالهلـا‪ .‬يف الفيلـم األول‪ ،‬يقـدم الفضائـي‬
‫املفترس بوصفـه خملوقـ ًا نبيلاً‪ ،‬وهـو نمـط سـيتبع يف األفلام‬
‫الالحقـة مـن السلسـلة‪ .‬عندمـا يتمكـن مـن حمـارصة داتـش‪ ،‬خيلع‬
‫الفضائـي خوذتـه اسـتعداد ًا للعـراك الفـردي‪ ،‬ليخسر املعركـة يف‬
‫ٍ‬
‫هنايـة تسـتحث‬ ‫النهايـة بفعـل الدهـاء الـذي يتصـف بـه نوعنـا‪ ،‬يف‬
‫فينـا الـرىض اإلنـايب عن انتصـار حماربنا على عدوه‪ .‬كما يف كثري من‬
‫األفلام القائمة عىل متثل املفرتسين‪ ،‬يسـتخدم البشر موهبة الذكاء‬
‫التكيفيـة للتعويـض عـن الضعـف اجلسـدي‪ .‬يعكـس هـذا التمثل‬
‫مـن أفالم الرعب ما قالـه أتش كالرك باريـت ‪H. Clarke Barrett‬‬
‫عـن تكيفيـة البشر كصياديـن وكطرائد‪« :‬حتـى وقت متأخـر جد ًا‪،‬‬
‫كانـت هجامت الوحـوش املفرتسـة األخـرى }املفرتسين احلاذقني‬
‫غير البرشيني{ إمكانيـة حقيقية ومسـتمرة يف حياتنـا اليومية‪ ..‬ومن‬
‫‪291‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫ثـم فقـد كان االنتخـاب قو ًّيـا باجتـاه احلـذر مـن هـذه املخلوقـات‬
‫ستراتيجي‬
‫ٍّ‬ ‫وأفكارهـا وخططهـا ونواياهـا‪ ،‬كما باجتـاه خلـق ذكاء‬
‫لالسـتفادة مـن معارفنـا بـكل هـذا»)‪ .(3‬بعبـارة أخـرى‪ ،‬ربما كان‬
‫لا رئيسـ ًا يف تنميـة الدمـاغ والـذكاء البرش َّيني‪.‬‬
‫االفتراس عام ً‬
‫تضيـف األجـزاء الالحقـة للفيلـم وتفرعاتـه تفاصيـل أخـرى‬
‫عـن طبيعـة املفرتسين‪ ،‬كما تُطـور بنيتهـم اجلسـدية والنفسـية‬
‫أكثـر‪ .‬بخلاف الكثير مـن الفضائيين يف اخليـال العلمـي‪ ،‬ال يبدو‬
‫الفضائيـون هنـا راغبني بغـزو األرض‪ ،‬بـل يريدون صيـد اخلصوم‬
‫املعتربين فحسـب‪ .‬يواصـل فيلـم ‪ Predator 2‬تصويرهم كصيادين‬
‫انتباههـم يف مفتتح‬
‫َ‬ ‫يالحقـون طرائدهـم يف نيويـورك‪ ،‬حيث يلفـت‬
‫قتـال باألسـلحة الناريـة بين رشطـة نيويـورك وبعـض‬ ‫ٌ‬ ‫الفيلـم‬
‫عصابـات املخـدِّ رات‪ .‬أدى داين گلوفـر ‪ Danny Glover‬دور‬
‫البطـل القـوي يف الفيلـم بشـخصية مايـك هاريـگان الـذي يقـود‬
‫فريقـ ًا مـن املحققين‪ .‬عندما يقتل املفترس رجال هاريگان‪ ،‬يسـعى‬
‫األخير لالنتقـام‪ .‬يعـرف مكتـب التحقيقـات الفيـدرايل باحلوادث‬
‫التـي حصلـت يف الفيلـم األول‪ ،‬لـذا يرسـل املكتب فرقـة مدججة‬
‫كبير العملاء كييـز‬
‫ُ‬ ‫بالسلاح الثقيـل للقضـاء على الغـازي‪ .‬خيبر‬
‫(گاري بـويس ‪ )Gary Busey‬هاريگان أن خصومهم هم «أشـكال‬
‫فضائـي لعني‪ ..‬جتذبـه احلرارة واملعـارك‪ .‬إنه‬
‫ٌ‬ ‫حياتيـة مـن عامل آخـر‪،‬‬
‫يقـوم برحلة سـفاري»‪ .‬عندما يفشـل مكتب التحقيقـات الفيدرايل‪،‬‬
‫املفترس وهيزمـه يف جممـع واسـع حتـت األرض‬‫َ‬ ‫يواجـه هاريـگان‬
‫يسـتخدمه الفضائيـون كقاعـدة هلـم‪ ،‬ومـرة أخـرى كان الـذكاء‬
‫‪292‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س‬

‫َ‬
‫العامـل احلاسـم يف هـذا النصر‪ .‬يعيـد املشـهد اخلتامـي‬ ‫البشري‬
‫تصويـر ُن ْبـل املفرتسين واحرتامهم خلصمهـم املنتصر عندما حتيط‬
‫جمموعـة منهـم هباريـگان بعـد انتصـاره ولكنهـم ال يؤذونـه‪ ،‬بـل‬
‫سلاح بالطبـع‪ .‬جيعلنـا تكيفنـا التطـوري‬
‫ٌ‬ ‫يعطونـه تـذكار ًا لفـوزه‪:‬‬
‫نخـاف مـن هـؤالء الفضائيين بعدِّ هـم مفرتسين‪ ،‬لكـن ثقافتنـا‬
‫قـد تضفـي عليهـم ملسـة مـن اجلـدارة باإلعجـاب تقديـر ًا لنبلهـم‬
‫ورشفهـم‪.‬‬
‫يتابـع فيلـم ‪ - Predators 2010‬وهـو اجلـزء الثالـث ‪ -‬البنـاء‬
‫على الفيلمني السـابقني‪ ،‬إذ ُت َط ُ‬
‫ـف جمموعة من البرش خمتـارة بعناية‬
‫عـال فضائـي حيـث سـيطاردهم املفرتسـون‪ .‬يطور‬ ‫ويلقـى هبـم يف َ‬
‫مسـتوى جديـد ًا مـن الصراع حيث يوجـد نوعـان خمتلفان‬ ‫ً‬ ‫الفيلـم‬
‫مـن املفرتسين يصطـادان بعضهام بعضـ ًا بالتـوازي مـع اصطيادمها‬
‫للبشر‪ .‬يقـدم هذا اجلـزء باإلضافـة إىل أجـزاء أخرى من السلسـلة‬
‫لا مثير ًا على متثـل الفريسـة واملفرتس‪ .‬وصـف ويليـام أس‪.‬‬ ‫تعدي ً‬
‫الفلين ‪ William S. Laughlin‬الصيـدَ بأنـه «النمـط السـلوكي‬
‫املسـيطر عنـد بنـي البشر»‪ ،‬وعـدَّ ه «طريقـة حيـاة‪ ،‬ال جمـرد وسـيلة‬
‫لتحصيـل القـوت»)‪ .(4‬يصـور الفيلـم املفرتسين عىل شـاكلة مماثلة‬
‫لنـا كثير ًا بطـرق عديدة‪ ،‬بما يف ذلـك امتالكهم متثـل اآلخر اخلاص‬
‫هبم ‪.‬‬
‫تقـوم سلسـلة أفلام ‪ Predator‬على هـذا التشـابه‪ .‬للتحـول‬
‫التطـوري للجنـس البشري كصياديـن جـذور عميقـة يف التاريـخ‬
‫التطـوري‪ .‬يف اجلـزء الثالـث مـن السلسـلة‪ ،‬يظهـر املفرتسـون‬
‫‪293‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫الفضائيـون صفـة برشيـة نموذجيـة‪ ،‬وهـي رؤيتهـم لبعـض أفـراد‬


‫نوعهـم كآخريـن ينبغي صيدهم‪ .‬يوفـر هذا التمثـل إمكانية إضافية‬
‫للصراع الدرامـي‪ .‬لكـن بعـض ردود الفعـل على هـذا الصراع‬
‫تنبـع مـن أسلافنا البدائيين‪ ،‬ال على مسـتوى اخلوف مـن املفرتس‬
‫فحسـب‪ ،‬بـل على مسـتوى التحمـس ملقاتلـة اآلخريـن مـن بنـي‬
‫نوعنـا أيضـ ًا‪ ،‬وهـذا مـا يفعله املفرتسـون يف سلسـلة األفلام هذه‪.‬‬
‫ويعـزز مزيـج املفرتسين والفضائيين يف األفالم التالية يف السلسـلة‬
‫ِّ‬
‫هـذا النوع مـن الرصاعـات بني األنـواع وبني أبنـاء النـوع الواحد‪،‬‬
‫كما جيسـد متثـل املفترس والفريسـة‪ .‬وكما يصـف دونـا هـارت‬
‫ي «مـا زالت بقايا تلـك التفاعالت‬ ‫وروبرت سوسمان التمثـل قائ َل ْ ِ‬
‫بين املفترس والفريسـة قائمـة‪ ..‬فهـي حتـدث سـيكولوج ًّيا يف كل‬
‫مـرة نشـعر بالقشـعريرة يف عمودنـا الفقري لسماعنا عـن وقوع فرد‬
‫من جنسـنا ضحيـة حيـوان مفترس»)‪.(5‬‬

‫«في الفضاء‪ ،‬ال أحد يمكنه أن يسمع صراخك»‬

‫كانـت هـذه العبـارة من املقطـع الدعائـي لفيلـم ‪ Alien‬الصادر‬


‫عـام ‪ 1979‬للمخرج ريديل سـكوت ‪ ،Ridley Scott‬وينتمي الفيلم‬
‫ال نسـافر فيـه بين‬ ‫لرعـب اخليـال العلمـي‪ .‬يصـور الفيلـم مسـتقب ً‬
‫املجـرات كـي جيسـد متثـل االفرتاس ويدشـن أساسـ ًا إلصـدارات‬
‫الحقـة مـن السلسـلة‪ .‬يسـتجيب طاقـم سـفينة الفضاء نوسترومو‬
‫(وسـميت كذلـك ختليـد ًا لروايـة جوزيـف كونـراد ‪Joseph‬‬
‫‪ )Conrad‬لنـداء اسـتغاثة فيأخذون عىل سـفينتهم – دون علم كائنا‬
‫فضائ ًّيـا شـبيها باحلشرات جتعلـه دورة حياتـه مفرتسـ ًا إجبار ًّيـا‪ ،‬إذ‬
‫‪294‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س‬

‫حيتـاج إىل كائـن حـي آخـر كطعـام وكوسـيلة للتكاثر‪.‬‬


‫ُيلـب كين‪ ،‬وهـو العضـو املصـاب بالعدوى مـن الطاقـم‪ ،‬إىل‬
‫متـن السـفينة رغـم معارضـة ريبلي (سـيگورين ويفـر ‪Sigourney‬‬
‫‪ )Weaver‬الضابطـة املسـؤولة‪ ،‬التـي عارضـت إخالء كين بداعي‬
‫خمالفـة هـذا اإلخلاء إلجـراءات الوقايـة مـن العـدوى‪ .‬بعـد أن‬
‫يلـد كين ابـ َن الفضائي الـذي خيرج مـن صـدره يف واحد مـن أكثر‬
‫مشـاهد أفلام رعـب اخليـال العلمـي رسـوخ ًا يف الذاكـرة‪ ،‬يطارد‬
‫الفضائـي املولـود أفـراد الطاقـم على متـن السـفينة‪ .‬تشـبه بيئـ ُة‬
‫ال جـو البيت املسـكون لكنها حتـدث يف الفضاء‪،‬‬ ‫األحـداث هنـا قلي ً‬
‫والعـدو هنـا كائن فضائي مفترس بدال مـن كائن خـارق للطبيعة‪.‬‬
‫سـلوك «اذهب‬‫َ‬ ‫كما يف كثري مـن أفالم الرعب‪ ،‬جتسـد الشـخصيات‬
‫وتفحـص األمـر» يف اسـتجابتهم جللبـة غريبـة‪ ،‬ممـا يسـتفز رعـب‬
‫املشـاهدين الذيـن يعلمـون أن الطاقم سـيقع يف مصيبة مـا أن يفتح‬
‫ذلـك الباب‪.‬‬
‫يف فيلمـه ‪ Halloween‬الصـادر عـام ‪ ،1979‬أدخـل جـون‬
‫لا على مشـهد «ال تفتـح البـاب»‪ ،‬إذ عندمـا تدخل‬ ‫كاربنتر تعدي ً‬
‫إحـدى الشـخصيات املنـزل لتحـري مصـدر الضوضـاء‪ ،‬يفتـح‬
‫البـاب‪ ،‬وبينما يتوقـع اجلمهـور أن يثب مايـكل مايـرز بمديته‪ ،‬إال‬
‫أن هـذا ال حيـدث‪ .‬يذهب الفتـى مطمئنًّا أن كل يشء على ما يرام‪،‬‬
‫ٍ‬
‫مـكان آخـر‪ُ .‬ق ِّلـد هـذا النـوع من‬ ‫وهنـا يظهـر مايـكل فجـأة مـن‬
‫املشـاهد مـا ال حيصى مـن املـرات يف أفلام الرعـب مـن الفئة ‪،B‬‬
‫ونـراه أيض ًا يف سلسـلة أفلام ‪ .Alien‬لكـن هذه السلسـلة تطوعه‬
‫‪295‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫ضمـن متثـل املفرتسين‪ ،‬حيـث ميـدان الصيـد هنـا هـو السـفينة‬


‫الفضائيـة‪ .‬يرجح ماتياس كاليسـن وجود اسـتجابة عاملية تطورية‬
‫عنـد اجلمهـور جتعلهـم يشـعرون باخلـوف اإلنـايب مـن مشـاهد‬
‫كهـذه‪« :‬تطـور نظـام اخلوف عنـد البرش ليكـون مفرط احلساسـية‬
‫جتـاه أمـارات اخلطـر‪ ..‬بعبـارة أخـرى‪ ،‬على صعيـد البقـاء‪ ،‬مـن‬
‫ٍ‬
‫ملتبسـة قد تشير‬ ‫ٍ‬
‫أمـارة‬ ‫ٍ‬
‫بخـوف جتـاه‬ ‫األفضـل كثير ًا االسـتجابة‬
‫إىل وجـود خطـر‪ ،‬كأن تكون خشخشـة بين فروع الشـجر يف أثناء‬
‫نزهـة قـرب هبـوط الليـل‪ ،‬نعـم سـتكون اسـتجابة كهـذه أفضـل‬
‫باملقارنـة مع جتاهـل األمـارة»)‪.(6‬‬
‫كما يف أفلام أخـرى توظف هـذا التمثـل‪ ،‬يقوم عنصر الرعب‬
‫يف فيلـم ‪ Alien‬على مهسـات ماضينـا التطـوري التـي حتذرنـا مـن‬
‫املفترس الـذي يالحقنـا‪ .‬لكن كما هي احلـال غالبـ ًا يف أفلام متثل‬
‫املفرتسين‪ ،‬يفـوز البرش يف النهايـة بفضل تكيفهم التطـوري األهم‪:‬‬
‫ذكاؤهـم العـايل وقدرهتـم على اسـتخدام األدوات‪ .‬تُظهـر قائـدة‬
‫السـفينة – التـي نجـت مـن املعركـة ريبلي موهبـة الـذكاء البرشي‬
‫التطوريـة واسـتخدام األدوات يف معركتهـا مـع ملكـة الفضائيين‪.‬‬
‫يالحـظ بـروس كيفـن ‪ Bruce Kavin‬أن «سلسـلة أفلام ‪Alien‬‬
‫تضـع أفضل مـا يف البشر يف مواجهة ضد أسـوأ ما حيتويـه الفضاء‪،‬‬
‫وتظهـر أن علينـا أن نخسر جـزء ًا مـن أنفسـنا يف املعركـة‪ ،‬ألهنـا‬
‫معركة جـادة»)‪.(7‬‬
‫يعتقـد باحثـو علـم النفـس التطـوري أن الزمـرة الصيـادة يف‬
‫أصلهـا تألفـت مـن الذكـور حصر ًا‪ ،‬وهـي مقاربـة شـاهدناها يف‬
‫‪296‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س‬

‫األفلام التـي ناقشـناها هنـا‪ .‬تظهـر سلسـلة ‪ Alien‬مثـاالً آخـر‬


‫عـن كيفيـة خلـق الثقافـة لبطـل مـن نـوع جديد هـو «أفضـل ما يف‬
‫فضائي‬
‫ٌ‬ ‫البشر»‪ :‬امـرأ ٌة قو َّيـ ٌة‪ .‬وخصـم هـذه املـرأة هنا هـو خملـوق‬
‫يتشـابه معهـا بشيء ما‪ ،‬كما يظهـر يف أفالم السلسـلة‪ :‬كالمهـا أنثى‬
‫وتتعاملان مـع األحـداث بروح األم (كما تفعل ريبلي يف ‪.)Alien‬‬
‫ٍ‬
‫هلدف هـو األعلى تطور ًّيـا‪ :‬ليتكاثـر ويمرر‬ ‫الفضائـي هنـا‬ ‫يصطـاد‬
‫ُّ‬
‫األسـايس ذاته الذي يقـود جزء ًا‬
‫ُّ‬ ‫جيناتـه للجيـل التايل‪ ،‬وهـو املوجه‬
‫كبير ًا جـد ًا مـن السـلوك البرشي‪.‬‬
‫يلقـى اللـوم يف مـوت الطاقـم عىل رشكـة ويالند يوتـاين عديمة‬
‫الرمحـة‪ .‬يف أفلام الرعـب‪ ،‬غالبـ ًا مـا يتمثـل الشر يف الشركات‬
‫والـوكاالت احلكوميـة الغامضـة‪ .‬مـن منظـور الصفـات البدائيـة‪،‬‬
‫يقودنـا الـوالء للقبيلـة املغروس داخلنـا خالل مسيرة التطور‪ ،‬نعم‬
‫يقودنـا إىل أن نـرى الشركات التـي تضحي بأفـراد من نوعنـا ‪ -‬ما‬
‫يعنـي أهنـم مـن قبيلتنـا عمل ًّيـا‪ -‬بوصفهـا كيانـات رشيـرة وخائنـة‬
‫وجهت ويالنـد يوتاين‬‫ْ‬ ‫للـوالء للنـوع والقبيلـة‪ .‬يف سلسـلة ‪،Alien‬‬
‫السـفينة إىل الكوكـب بنيـة رسيـة‪ :‬اختطاف كائـن فضائـي وجلبه‪،‬‬
‫ٌ‬
‫إنسـان آ ٌّيل برجمته الرشكة‬ ‫كائـ ٌن يصفـه آش – الـذي يتبني الحق ًا أنـه‬
‫العمالقـة جللـب الكائـن الفضائـي إىل األرض‪ ،‬دون أي اكتراث‬
‫بالطاقـم إنـه «مل تفهمـوا حتـى اآلن مـا الـذي تتعاملـون معـه‪ ..‬إنه‬
‫كائـ ٌن كامـل‪ .‬هذا الكمال اجلسماين والعدائية الشـديدة‪ ،‬إين ملعجب‬
‫بنقائـه‪ ،‬فلا يثقله وازع من ضمير أو ثقافة أو نـدم‪ ،‬وال يقيم اعتبار ًا‬
‫تطـوري عظيم؛ ترد‬
‫ٌ‬ ‫مفرتس‬
‫ٌ‬ ‫لألوهـام األخالقيـة»‪ .‬إن هـذا الكائـن‬
‫‪297‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫ريبلي «كل مـا أسـتطيع التفكير بـه هـو ال بـد أن }الرشكـة{ مهتمة‬
‫بأسـلحة هـذا الكائن»‪.‬‬
‫يف اجلـزء الصـادر عـام ‪ 1987‬مـن سلسـلة ‪ ،Alien‬جيـري إقناع‬
‫ريبلي بمصاحبـة فرقة من نخبة سلاح البحرية يف مهمـة إىل كوكب‬
‫فقـد االتصـال بـه‪ .‬وهكذا حيـدث املتو َّقـع‪ ،‬إذ ما أن تصـل ريبيل مع‬
‫الفرقـة حتى يبـدأ املفرتسـون الفضائيون بمطاردهتم بـذات الطريقة‬
‫التي رأيناهـا يف الفيلم األول‪ :‬ألجل الطعام‪ ،‬والسـتخدام الضحايا‬
‫كحاضنـات لبيـوض امللكـة‪ .‬ينبع الرعـب يف هذا املوقـف من رؤية‬
‫يالحقـون عبر املسـتعمرة‬
‫َ‬ ‫أولئـك الذيـن نتعاطـف مهـم وهـم‬
‫الفضائيـة كطرائـد‪ ،‬كما حـدث مـع طاقـم سـفينة نوسترومو مـن‬
‫قبـل‪ .‬لدينـا هنـا منافسـة بين انثيين مهيمنتين‪ ،‬ريبلي وامللكـة‬
‫الفضائيـة‪ .‬تعثـر ريبلي على طفلـة اسـمها نيـوت‪ ،‬نجـت بكيفية ما‬
‫مـن اإلبـادة التـي طالـت املسـتعمرين (اسـتخدَ م الفضائيـون مجيع‬
‫البشر يف املسـتعمرة كحاضنـات لتفقيـس بيـوض امللكـة)‪ ،‬وهكذا‬
‫تصبـح ريبلي بمثابـة أ ٍّم بديلـة لنيوت‪.‬‬
‫بدائـي آخـر يف املواجهـة بين األُ َّمين حيـث‬
‫ٌّ‬ ‫لدينـا أيضـ ًا رصاع‬
‫تتقاتلان مـن أجـل املسـتقبل اجلينـي‪ ،‬وتنجـح ريبلي ونيـوت وما‬
‫تبقـى مـن اإلنسـان اآليل املصـاب بيشـوب بالصعـود إىل السـفينة‬
‫الفضائيـة‪ ،‬غري عاملني أن امللكة اسـتطاعت التسـلل معهـم عىل متن‬
‫السـفينة أيضـ ًا‪ .‬عندمـا هتـدد امللكـ ُة الطفلـ َة نيـوت‪ ،‬ترتـدي ريبلي‬
‫بدلـة ماكنـة التحميـل خلـوض املعركـة قائلـة لغريمتهـا «ابتعـدي‬
‫عنهـا أيتهـا العاهـرة»‪ ،‬ثـم تتمكـن أخير ًا مـن حرشهـا يف حجـرة‬
‫‪298‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س‬

‫صغيرة ودفعهـا إىل الفضاء اخلارجـي‪ .‬مرة أخرى‪ ،‬يسـتخدم البرش‬


‫دماغهـم ذا التكيفيـة العاليـة خللـق سلاح يدافعون به عن أنفسـهم‬
‫ضـد خصم أشـد قـوة‪ ،‬وهيزمونه‪ .‬تسـتجيب ريبلي للدافـع البدائي‬
‫وضـع يفترض أن يسـتحث يف‬ ‫ٌ‬ ‫باعتبارهـا ُأ ًّمـا تدافـع عـن طفـل‪،‬‬
‫املشـاهدين لـذة تنبـع من إرثنـا اجليني‪ِ .‬‬
‫يعـدُّ جوزيـف كارول محاية‬
‫األم للطفـل سـلوك ًا تطور ًّيـا مركز ًّيـا‪« :‬يمكـن لكتَّـاب األدب أن‬
‫يثقـوا أن القـراء سيشـعرون بقيمـة وأمهيـة العناية األموميـة‪ .‬وهذا‬
‫جـز ٌء مـن اإلطـار املرجعـي العـام‪ ،‬وهو غير خـاص بثقافـة بعينها‬
‫بل يشـمل الـكل»)‪.(8‬‬
‫يكمـل اجلـزءان الالحقـان ‪ )1992( Alien 3‬و‪Alien‬‬
‫‪ )1997( Resurrection‬رصاع اإلنـاث املهيمنـات‪ ،‬حيـث تواجـه‬
‫ريبلي الرهيبـة امللـكات الفضائيات‪ ،‬حتى أهنـا تلد خملوقـ ًا هجين ًا بعد‬
‫تعرضهـا للعـدوى‪ .‬تلقـي ريبلي بنفسـها يف أحـد األفـران يف كوكب‬
‫السـجن الـذي هبطت عليه بعـد هرهبا األخير يف اجلزء السـابق ألهنا‬
‫مصابـة بالعـدوى‪ .‬عندمـا خيـرج الفضائي مـن صدرها‪ ،‬تنظـر إليه ال‬
‫بكراهيـة بـل بنوع مـن حنـان األُ ِّم عىل طفلها‪ .‬قد يشير هـؤالء الذين‬
‫يتبعـون منظـور داوكنـز يف التطـور إىل إن تضحيتها كانـت ألجل بقاء‬
‫جيناهتـا‪ ،‬كما الطري الذي يضع نفسـه يف خطـر إلنقـاذ اآلخرين‪ .‬لكن‬
‫مـا يعقـد املشـهد هـو االسـتجابة األموميـة الغريزيـة عىل وجـه ريبيل‬
‫نحـو هـذا الطفـل‪ ،‬حتى لـو كان وحشـ ًا‪ .‬وكام قـام دراكوال مـن موته‬
‫عـدة مرات‪ ،‬كذلـك األمر مع ريبلي يف فيلـم ‪.Alien Resurrection‬‬
‫‪299‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫يصر احتاد األنظمـة العسـكرية ‪the united systems military‬‬


‫يف هـذا الفيلـم على أن يمتلـك كائنـ ًا فضائ ًّيـا ليسـتخدمه كسلاح‪.‬‬
‫تـدور أحداث الفيلـم (‪ )Alien Resurrection‬بعـد مائتي عام عىل‬
‫أحـداث اجلـزء السـابق ‪ .Alien 3‬يف سـيناريو مل يكن حمتملاً‪ ،‬تقوم‬
‫رشكـة ويالنـد يوتـاين بتصنيـع نسـيلة ‪ clone‬مـن ريبيل باسـتخدام‬
‫احلمـض النـووي الـذي أخـذ منهـا عندمـا كان احلمـض النـووي‬
‫للملكـة الفضائيـة بداخلها‪ ،‬حيـث تقوم الرشكـة يف النهاية بفصلهام‬
‫جراح ًّيـا إلنتـاج املزيد مـن الفضائيين‪ .‬يتشـابه الفيلم مـع األجزاء‬
‫السـابقة‪ ،‬حيـث هيـرب الفضائيـون ويطـاردون ضحاياهـم‪ .‬لكنـه‬
‫يعـزز جزئيـة اإلنـاث القويـات حيـث تنجح ريبلي وكـول (وينونا‬
‫رايـدر ‪ ،)Winona Ryder‬وهـي امـرأة آليـة‪ ،‬تنجحـان يف تدمير‬
‫امللكـة الفضائيـة واهلـرب إىل األرض‪ ،‬حيـث كالمهـا تعـدَّ ان آخـر‬
‫بالنسـبة للبرش‪ .‬يف املشـهد األخير‪ ،‬عندمـا تقرتبان مـن اهلبوط عىل‬
‫األرض‪ ،‬تَسـأل كـول عـن ما الـذي سـتفعالنه اآلن‪ ،‬فتجيـب ريبيل‬
‫«أنـا غريبة هنـا أيض ًا»‪ .‬كلتامهـا إذن دخيلتان مغرتبتان وفق ًا ملدرسـة‬
‫مـا بعـد احلداثـة‪ ،‬كام أهنما امرأتـان حماربتـان ناجحتان‪.‬‬
‫علـم النفـس التطـوري مـا يعـد بدهيـ ًا حتـى مـن وجهة‬
‫ُ‬ ‫يؤكـد‬
‫النظـر املعتـادة‪ :‬إن البشر نـوع شـديد االجتامعيـة‪ ،‬لـذا نسـتمتع‬
‫بالقصـص التـي تركز على الرتابـط‪ .‬يكتب ليونيـل تايگـر ‪Lionel‬‬
‫‪:Tiger‬‬
‫«إن الرتابـط هـو عمليـة التي ينتج عنهـا أن ينظر أفـراد حمدَّ دون‬
‫ٍ‬
‫أفـراد آخريـن عىل أهنم ذوو أمهية يف حياهتم بشـكل مبارش ومميز‪.‬‬ ‫إىل‬
‫‪300‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س‬

‫وهكـذا كانـت الرابطـة التـي جتمع بين ذكريـن ألغـراض الصيد‪،‬‬


‫على ذات القـدر من أمهيـة الرابطة بني ذكـر وأنثى لغـرض التكاثر‪،‬‬
‫وهـذا هـو أسـاس تقسـيم العمـل بين اجلنسين‪ .‬بعبـارة أخـرى‪،‬‬
‫سـتكون هنـاك أفضليـة جينيـة واضحة للذكـور الذيـن أرصوا عىل‬
‫عائق‬
‫ذكـور‪ ،‬بينام سـيكون هناك ٌ‬ ‫ِ‬
‫أفرادها‬ ‫مجيع‬ ‫ٍ‬
‫ٌ‬ ‫الصيـد يف جمموعـات ُ‬
‫يف جمموعـات الصيـد التـي تتألف مـن ذكور وإنـاث»)‪.(9‬‬
‫يبـدو تقييـم تايگر هذا جنسـو ًّيا جـد ًا‪ .‬لكن لألمانـة‪ ،‬هو يصف‬
‫دهور خلـت‪ ،‬وليس كام هو عليـه اليوم‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫هنـا السـلوك البرشي قبـل‬
‫على كل حال‪ ،‬وكما تظهر سلسـلة ‪ ،Aliens‬غريت الثقافـة األدوار‬
‫اجلندريـة‪ .‬منـذ بدايـات األدب واألفلام‪ ،‬كانـت قصـص عالقات‬
‫الرفقـة واألخـوة بين الذكـور موضوعـ ًة شـائعة‪ ،‬مـن گلگامـش‬
‫وأنكيـدو يف ملحمـة گلگامـش‪ ،‬أخيـل وباتروكلـس يف اإلليـاذة‪،‬‬
‫شيرلوك هوملز وواتسـون‪ ،‬لـون رينجـر وتونتو‪ ،‬إىل بامتـان وروبن‪.‬‬
‫واضـح ٌ أن هـذا التمثـل يسـتحث اللـذة يف املتلقين مسـتمد ًا إياها‬
‫مـن السـلوك التكيفي ألسلافنا‪ ،‬ففـي تلـك العصور الغابـرة‪ ،‬متتع‬
‫أولئـك الذيـن أمكنهـم الوثـوق ببعضهـم واالعتماد على بعضهم‬
‫بعضـ ًا بأفضليـة بقائيـة مقارنـة بمـن مل يمكنهـم ذلـك‪ .‬ومل تكسر‬
‫هـذه الصـورة الكالسـيكية للروابـط الذكريـة حصر ًا إال يف القرن‬
‫العرشيـن‪ ،‬حيـث صـار لدينـا رفيقـات إنـاث يف أفلام ‪Thelma‬‬
‫‪،)1988( Beaches ،)1980( 9 to 5 ،)1991( and Louise‬‬
‫‪ ،)1989( Steel Magnolias‬وبالطبـع ‪)2017( Wonder Woman‬‬
‫ورفيقاهتـا املحاربـات اإلناث‪ .‬إن شـعبية هـذه األفالم البـارزة التي‬
‫‪301‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫تركـز على الرابطـة بين اإلنـاث هي برهـان آخر على قـدرة الثقافة‬
‫على إعـادة تشـكيل التمثلات البدائيـة دون املس بصميمها‪ .‬يشير‬
‫روبـرت بويـد إىل يشء خيـص الطبيعـة البرشيـة ويربطـه بالغرائـز‬
‫التطوريـة‪« :‬للبشر دافعيـات اجتامعيـة ترابطيـة فطرية‪ ،‬وتثـار هذه‬
‫املشـاعر عنـد رؤيـة أدوار االنتماء إىل جمموعة مشتركة»)‪ ،(10‬سـواء‬
‫كان األفـراد املنتمـون ذكـور ًا أو إناثـ ًا‪ .‬تظهـر األفلام الشـبيهة‬
‫بسلسـلة ‪ Alien‬على نحـو خـاص الـدور املطـور ثقاف ًّيـا للنسـاء‬
‫املحاربـات والروابـط بين اإلنـاث يف مقاتلـة املفرتسين‪.‬‬
‫بما أن سلسـلتَي ‪ Predator‬و ‪ Alien‬قـد أبليتـا بلا ًء حسـن ًا يف‬
‫شـباك التذاكـر‪ ،‬فلـم ال ُي َمـع بين وحوشـهام؟ نجحـت رشكـة‬
‫يونيفرسـال يف هـذه الفكـرة سـابق ًا يف الثالثينيـات واألربعينيـات‪.‬‬
‫وهكذا دشـن فيلـم ‪ )2004( Alien vs. Predator‬سلسـلة ثالثة من‬
‫اجلمـع بين االثنتني األصليتني‪ ،‬موسـع ًا اهليكل األسـطوري هلام‪ .‬يف‬
‫الفيلـم األول مـن هـذه السلسـلة‪ ،‬لدينا مزيـج من أسـاطري املايا مع‬
‫كتابـات إيريـك فـون دانكـن ‪.Erich Von Däniken‬‬
‫يقـدم لنـا الفيلـم بطل ًة شـجاعة أخرى هي أليكسـا (سـانا الثان‬
‫ثري‬
‫‪ ،)Sanaa Lathan‬وهـي مهندسـة بيئيـة يقنعهـا رجـل صناعة ٌّ‬
‫باالنضمام إىل مهمـة لتحـري مصـدر حـرارة شـديدة حتـت جزيرة‬
‫يف انتاركتيـكا‪ .‬يكتشـفون حينهـا نفقـ ًا يف أعماق اجلليـد يقـود إىل‬
‫جممـع بنـاه املفرتسـون لتفريـخ الفضائيين ليسـتخدموهم كطرائـد‬
‫يف طقـوس أشـبه بالتدريـب‪ .‬لكـن املـكان يصبـح مصيـدة ألفـراد‬
‫البعثـة‪ ،‬إذ يبدأ كال النوعني من املفرتسين بمطاردهتـم‪ ،‬نوع يصطاد‬
‫‪302‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س‬

‫كرياضـة‪ ،‬واآلخـر يصطـاد للبقـاء‪ .‬يف مـكان يبـدو شـبيه ًا بأهـرام‬


‫املايـا‪ ،‬يوقـظ أفـراد البعثـة بالصدفـة ملكـة فضائيـة فتبـدأ بوضـع‬
‫البيـوض إلنتـاج الذرية‪ ،‬حيث تسـتخدم أعضاء البعثـة كحواضن‪.‬‬
‫يبـدأ رعـب الفيلـم هبـرب الفضائيين‪ ،‬مـا يقـود إىل معركـة بينهـم‬
‫وبين املفرتسين‪ ،‬كل هذا والبشر يتعرضون للمطـاردة واالصطياد‬
‫مـن الطرفني‪.‬‬
‫يسـتند الفيلـم بقـوة على متثـل االفتراس‪ .‬هييـم أعضـاء البعثة‬
‫ٍ‬
‫ممـرات متاهيـة شـبيهة نوعـ ًا مـا بممـرات سلسـلة ‪ .Alien‬يتابع‬ ‫يف‬
‫الفيلـم تصويـر املفرتسين كصياديـن هلـم مفهو ُمهـم عـن الرشف‪.‬‬
‫نـرى أحدهـم يع ِّلـم خوذتَه باحلمـض املأخوذ مـن الفضائـي الذي‬
‫اصطـاده‪ .‬ثـم يضـع آخـر عالمة على أليكسـا بعـد أن تقتـل واحد ًا‬
‫بدورهـا وتتسـبب بموت امللكـة يف أعامق اجلليد‪ :‬إحالـ ٌة إىل طقوس‬
‫القبـول يف قصـة «الـدب ‪ »The Bear‬لفوكنـر ‪ ،Faulkner‬إشـار ٌة‬
‫ٍ‬
‫ناجح‪ .‬كما يف فيلمـي ‪Predator‬‬
‫ٍ‬
‫صيـاد‬ ‫أدبيـ ٌة إىل قصـة أخـرى عـن‬
‫و ‪ ،Predator 2‬يقـدِّ ر املفرتسـون الشـجاع َة واخلصـوم األقويـاء؛‬
‫لـذا بعـد أن يدمـر املوقـع ويقتل مجيـع الفضائيين‪ ،‬يرتكون أليكسـا‬
‫خلفهـم بعـد أن يمنحوهـا أحد أسـلحتهم‪ ،‬يف مثال آخـر عىل هدية‬
‫مناسـبة مـن مفترس‪ ،‬كما حـدث يف فيلـم ‪ .Predator 2‬كان صيد ًا‬
‫موفقـ ًا بالنسـبة للمفرتسين الذيـن قد نشـعر ببعض الرتابـط معهم‬
‫على مسـتوى عقولنـا البدائيـة‪ .‬فمـع أهنـم قد يثيرون فينـا الرعب‬
‫اإلنـايب باعتبارهـم صيادين للبشر‪ ،‬إال أهنم يثريون أيضـ ًا التعاطف‬
‫بسـبب نواميـس الشرف التـي يتبعوهنا‪.‬‬
‫‪303‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫تتواصل السلسـلة مع فيلـم ‪Aliens vs. Predator: Requiem‬‬


‫(‪ ،)2007‬حيـث يلتقـي كال النوعين مـن الفضائيين يف معركـة يف‬
‫بلـدة أمريكيـة صغرية‪ .‬يقـدم فيلـم ‪ )2012( Prometheus‬إسـباقية‬
‫توضـح أصـول البشر والفضائيين األصليين‪ .‬أمـا فيلـم ‪Alien:‬‬
‫واضـح أن‬
‫ٌ‬ ‫‪ )2017( Covenant‬فهـو إحلاقيـة للفيلـم األخير‪.‬‬
‫السلسـلتني نجحتا بشـكل كبير يف إثارة اخلوف اإلنايب السـامي من‬
‫خلال إثـارة الذكريـات الغابـرة عـن الصيـد والتعـرض للمطاردة‬
‫قـوى تطوريـة أعلى‪ .‬يالحـظ هانـز كـروك‬ ‫مـن قبـل كائنـات ذات ً‬
‫‪ Hans Kruuk‬أن االفتراس «كان لـه على األرجـح تأثري اسـتثنائي‬
‫يف تطـور سـلوكنا وردود فعلنـا على املفرتسين»)‪ .(11‬يكمـن نجاح‬
‫سلسـلتَي ‪ Alien‬و ‪ Predator‬على مسـتوى اجلمهور يف اسـتغالهلام‬
‫خلوفنـا الغريـزي مـن التعرض لالفتراس‪ .‬لكنهما حتتفيـان كذلك‬
‫باملوهبـة البرشيـة‪ ،‬الـذكاء العـايل والقـدرة على العمـل اجلامعي‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫«أرى قمرا سيئا يعلو»‪:‬‬
‫المستذئبون كضحايا مأساويين ومفترسين‬

‫يف أغنيتهـم ‪ ،Bad Moon Rising‬جسـدت فرقـة ‪Creedence‬‬


‫‪ Clearwater Revival‬رفقـة كاتـب األغـاين جـون فوگـريت ‪John‬‬
‫‪ Fogerty‬روح أفلام املسـتذئبني‪ ،‬وقـد أصبحت األغنية املوسـيقى‬
‫التصويريـة لفيلـم ‪.An American Werewolf in London‬‬
‫بالطبـع فـإن املسـتذئبني يف السـينام كائنـات مفرتسـة‪ .‬توظـف كثري‬
‫لا مشـاهب ًا إلحـداث اخلـوف‪ ،‬كما احلـال يف أفلام‬
‫مـن األفلام متث ً‬
‫والنزافين‪ :‬اخلـوف مـن التعـرض للمطـاردة مـن قبـل‬ ‫َّ‬ ‫الزومبـي‬
‫‪304‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س‬

‫مفترس ومـن ثـم فقـدان الن ْفـس والتحـول إىل آخر‪ .‬وهكـذا تقدم‬
‫لنـا أفالم املسـتذئبني شـخصيات شـبيهة بتلـك التـي تقدمها بعض‬
‫النزافين‪ :‬شـخصية جتسـد مأسـاة رجـل (أو امرأة) لـه قلب‬ ‫أفلام َّ‬
‫نقـي ولكنـه يتحول إىل ذئب رغم ًا عنه عندما يكتمـل القمر‪ .‬خيتلف‬
‫والنزافني من‬
‫هـذا الشـكل من متثل املفرتسين عـن أفلام الزومبـي َّ‬
‫حيـث أن الزومبـي قـد حتولـوا إىل مـا هـم عليـه برضبة حظ سـ ِّيئ‪،‬‬
‫ولكنهـم أرشار دون مواربـة أو نـدم‪ ،‬ومـع أن بعـض النزافين يف‬
‫السـينام قـد يكونـون كارهني ملا هـم عليـه‪ ،‬إال أهنم َّنزافـون يف مجيع‬
‫األحـوال‪ ،‬وموضـع االختلاف هنـا هـو أن املسـتذئبني ال يعودون‬
‫مـن نوعنـا عندمـا يكونـون يف شـكلهم الذئبـي‪ ،‬إذ يصبحـون‬
‫مفرتسين آكلين ل َّلحـم‪ ،‬لكنهم يعـودون منـا عندما يغـرب القمر‪.‬‬
‫النزافين والزومبـي‪ ،‬يمكـن لعضـة املسـتذئب أن‬ ‫كما احلـال مـع َّ‬
‫حتـول طبيعـة الضحية‪.‬‬
‫قـد يكـون متثـل املسـتذئب املفترس يف األفلام مدينـ ًا لقصـة‬
‫«احلالـة الغريبـة للدكتـور جيـكل والسـيد هايـد ‪The Strange‬‬
‫‪ »Case of Dr. Jekyll and Mr. Hyde‬املنشـورة عـام ‪1886‬‬
‫للكاتـب روبرت لويـس ستيفنسـون ‪.Robert Louis Stevenson‬‬
‫كما املسـتذئبني‪ ،‬جليـكل طبيعـة مزدوجـة‪ ،‬كأنه قـادر على التحول‬
‫الشـكيل نوعـ ًا مـا‪ .‬لكنـه خيتلـف عـن املسـتذئبني يف كـون حتوله إىل‬
‫وحـش جيري بمحـض مشـيئته اخلاصة‪ ،‬نتيجـة لتجاربـه املختربية؛‬
‫وألنـه قـام بتحويل نفسـه مرات كثيرة جـد ًا‪ ،‬فقد فقدَ السـيطرة ومل‬
‫يعـد قـادر ًا عىل تغيير حالتـه‪ .‬كذلك للمسـتذئب طبيعـة مزدوجة‪،‬‬
‫‪305‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫لكـن يف معظم احلـاالت يكون ذلك رغـم إرادة الفـرد املصاب‪ .‬إن‬
‫ًّ‬
‫كل مـن املسـتذئب والدكتـور جيكل‪/‬السـيد هايـد مهـا مزيـج من‬
‫النحـن واآلخر‪.‬‬
‫يصف مونتاگ سامرز املستذئب قائالً‪:‬‬
‫«املسـتذئب هـو كائـ ٌن برشي‪ ،‬رجـل أو امـرأة أو طفـل (وغالب ًا‬
‫مـا يكـون األول) يتحـول إراد ًّيـا أو ال إراد ًّيـا ليكـون لـه ظاهر ًّيـا‬
‫شـكل الذئـب‪ ،‬لتكـون لـه حينهـا كل صفات ذلـك احليـوان وقواه‬
‫الوحشـية ومكره ورسعته ورضاوته وشـهواته الكرهيـة‪ .‬ويف أغلب‬
‫احلـاالت‪ ،‬يبـدو املسـتذئب لنفسـه وملـن يـراه وقـد اختـذ بالكامـل‬
‫الشـكل الفرائي الذئبـي»)‪.(12‬‬
‫يـروي سـامرز قصصـ ًا رهيبـة عـن هجمات املسـتذئبني عبر‬
‫التاريـخ ويصـف نوعني منهـم‪ :‬الليكانثـروب‪ ،‬وهو ضحيـة بريئة‪،‬‬
‫تابـع للشـيطان‪ .‬يتفـق هـذا التصنيـف‬
‫واملسـتذئب احلقيقـي‪ ،‬وهـو ٌ‬
‫بشـكل مجيـل مـع نوعـي املسـتذئبني يف األفلام‪.‬‬
‫يفترض أن يلعـب املسـتذئب على وتـر اهلمسـات البدائيـة‬
‫القادمـة من أسلافنا الذيـن الحقتهم الذئـاب‪ .‬تقدم لنـا فقرة خميفة‬
‫مـن روايـة ‪ My Antonia‬الصـادرة عـام ‪ 1918‬لويلا كاثـر ‪Willa‬‬
‫‪ Cather‬نمطـ ًا للخـوف القديـم مـن هـذا املفترس‪ :‬حيكـي بافـل‪،‬‬
‫مهاجـر مـن روسـيا‪ ،‬عـن حادثـة َخ ِبهـا هنـاك‪ .‬تتَّبِـع زمـر ٌة‬
‫ٌ‬ ‫وهـو‬
‫مـن الذئـاب جمموع ًة مـن البشر خرجت من حفـل زفاف مسـتقل ًة‬
‫زالجـة جترها اخليـول‪ .‬جيلس العـروس والعريـس يف الزالجة التي‬
‫يقودهـا بافـل وصديقه‪ .‬وهكـذا حتت تأثير اخلوف الشـديد‪ ،‬يلقي‬
‫‪306‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س‬

‫بافـل وصديقـه بالعريـس وعروسـه مـن العربـة لتخفيـف احلمـل‬


‫وإبطـاء الذئـاب‪ .‬يف السـنوات األخرية‪ ،‬خ َّفت حدة صـورة الذئاب‬
‫عما كانـت عليه قديم ًا‪ .‬إذ يعدُّ ها علماء احليوان وأنصـار محاية البيئة‬
‫جـزء ًا مفيـد ًا مـن السلسـلة الغذائيـة‪ ،‬ولـو أن أولئك الذيـن يربون‬
‫األغنـام قـد ال يستسـيغون هـذه الرؤيـة‪ .‬لكـن قصـة كاثـر تعكس‬
‫خوفـ ًا قديم ًا مـن هـذا املفترس اخلطر الـذي الحـق أسلافنا‪ .‬وقد‬
‫الرعـب اللذيـذ الـذي تثيره أفلام‬
‫َ‬ ‫مهسـات هـذا اخلـوف‬
‫ُ‬ ‫خلقـت‬
‫املسـتذئبني‪ .‬يالحظ أليسـتري گراهـام ‪ Alistair Graham‬أن قصص‬
‫تعـرض البشر للموت عىل يد املفرتسين تثير فينا ذكريـات قديمة‪:‬‬
‫«إن واحـد ًا مـن التابوهـات الغرائزيـة للحضـارة ذلـك املتعلـق‬
‫بتحريـم ال َقنبليـة ‪ :cannibalism‬فقليلـة هي األشـياء األخرى التي‬
‫تثري هذا املسـتوى مـن اخلوف واالشـمئزاز‪ .‬ونحن ال نميـز عاطف ًّيا‬
‫ٍ‬
‫وحيوان يـأكل بشر ًا»)‪.(13‬‬ ‫بين برش يـأكل بشر ًا‪،‬‬
‫جيـد سـامرز وباحثـون آخـرون أدلـة عىل أسـطورة املسـتذئبني‬
‫ٍ‬
‫حكايـات عـن البشر‬ ‫تعـود إىل تاريـخ قديـم جـد ًا‪ ،‬حيـث نجـد‬
‫الوحـوش أو متحـويل الشـكل يف األسـاطري اهلنديـة والرومانيـة‬
‫واإلغريقيـة‪ .‬قـد تدخـل الثقافـ ُة بعـض التغييرات على الوحـش‪،‬‬
‫إذ لدينـا يف اهلنـد املسـتنمر ‪ weretiger‬بـدالً مـن املسـتذئب‪ .‬تتتبـع‬
‫شـانتال بورگـو دو كـودراي ‪Chantal Bourgault Du Coudray‬‬
‫تاريـخ أسـطورة املسـتذئب)‪ ،(14‬وتالحظ أهنـا قد اسـتقطبت اهتامم ًا‬
‫كبير ًا يف بدايـة حقبـة مطـاردة السـاحرات يف القـرن اخلامس عرش‪.‬‬
‫دخـل املسـتذئبون عـامل الروايات يف القرن التاسـع عشر يف قصص‬
‫‪307‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫إثـارة من نوع قصـة ‪ Wagner the Werewolf‬الصـادرة عام ‪1809‬‬


‫للكاتـب جـورج دبليـو‪ .‬أم‪ .‬رينولـدز ‪George W.M. Reynolds‬‬
‫وقصـة ‪ The Albigenses‬الصـادرة عـام ‪ 1824‬للكاتـب تشـارلز‬
‫ماتوريـن ‪ ،Charles Maturin‬باإلضافـة إىل سلسـلة ‪Penny‬‬
‫‪ ،Dreadfuls‬وسـاهم كل ذلـك يف توسـيع القاعـدة الفلكلوريـة‬
‫للتمثـل‪ .‬يف الواليـات املتحـدة‪ ،‬أصبحـت روايـة ‪The Werewolf‬‬
‫‪ of Paris‬للكاتـب گاي إنـدور ‪ Guy Endore‬مـن أعلى الكتـب‬
‫مبيعـ ًا عـام ‪ .1933‬تالحـظ شـانتال دو كـودراي أن حـوايل ثلثـي‬
‫«اعتمـدت عىل البنيـة الرسدية التي‬
‫ْ‬ ‫األفلام التـي تصور املسـتذئبني‬
‫ـنت يف ثالثينيـات وأربعينيـات القـرن العرشيـن‪ ،‬وفيهـا يصاب‬ ‫ُد ِّش ْ‬
‫غيري اجلنس‪ ،‬فيعـاين الصدمة‬ ‫ُّ‬ ‫رجل حمرتم أبيض‬‫باللعنـة مصادفـ ًة ٌ‬
‫كنتيجـة»)‪.(15‬‬
‫ٌ‬
‫حتى رجل نقي القلب‪:...‬‬
‫أفالم ‪Werewolf of London، The Wolf Man، An‬‬
‫‪American Werewolf in London، An American‬‬
‫‪ Werewolf in Paris، The Howling‬و ‪Wolfen‬‬
‫ربام أهلمت شـعبي ُة رواية گاي إنـدور ‪The Werewolf of Paris‬‬
‫إنتـاج فيلـم ‪ Werewolf of London‬الصادر عـام ‪ ،1935‬أول فيلم‬
‫عـن املسـتذئبني‪ ،‬ويـؤدي فيـه هينـري هـال ‪ Henry Hull‬دور عامل‬
‫نبـات يعيـش يف لنـدن يدعـى ويلفريـد گلينـدون‪ .‬يف أثنـاء بحثـه‬
‫عـن نبتـة املاريفاسـا يف التبت‪ ،‬يتعـرض گليندون لعضة مسـتذئب‪.‬‬
‫وبعـد عودته إىل لنـدن‪ ،‬حيذره الدكتـور يوگامي (أدى الـدور وارنر‬
‫أوالنـد ‪ ،Warner Oland‬عندمـا كان يف استراحة مـن تصويـر‬
‫‪308‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س‬

‫سلسـلة ‪ )Charlie Chan‬أنـه قـد يتحـول إىل مسـتذئب وأن زهـرة‬


‫نبـات املاريفاسـا قـد تقيه مـن التحـول‪ .‬يكتشـف گلينـدون الحق ًا‬
‫مسـتذئب أيضـ ًا‪ .‬تبدأ الفوىض‬
‫ٌ‬ ‫أن يوگامـي كان يسرق الزهور ألنه‬
‫عندمـا يعجـز عن مقاومـة التحـول و َيقتُل عـدة مرات‪ ،‬حتـى ُيقتَل‬
‫أخير ًا بعـد أن َيقتُـل يوگامـي‪ .‬يكمـن جـزء كبير مـن رعـب هـذا‬
‫الفيلـم يف مطـاردة املفترس لضحيتـه البرشيـة‪ .‬لكنـه يركـز أيضـ ًا‬
‫على اخلوف الشـديد مـن التحول‪ ،‬حيـث أن حالـة گلينـدون ناجت ٌة‬
‫ٍ‬
‫مفرتس يقتـل أبناء‬ ‫عـن عضـة مسـتذئب‪ .‬حيوله هـذا من النحـن إىل‬
‫نوعـه‪ .‬يف األفلام‪ ،‬يصبح املسـتذئب عندما يكون يف شـكله الذئبي‬
‫ٍ‬
‫نحـو مـا‪ ،‬أي إنه يـأكل أقرانه مـن البرش‪ ،‬ولو‬ ‫َقنبل ًّيـا ‪ cannibal‬على‬
‫أن ذلـك حيـدث يف معظـم احلاالت رغـم إرادة هذا الفـرد املتحول‪.‬‬
‫عـام ‪ ،1931‬أصـدر فيلـم ‪ Dr. Jekyll and Mr. Hyde‬من بطولة‬
‫فريدريـك مارتـش ‪ .Fredric March‬وربما سـاهم تشـابه حبكتـه‬
‫مـع حبكـة فيلـم ‪ Werewolf of London‬باإلضافـة إىل أنـه أصـدر‬
‫يف أوج فترة الكسـاد العظيـم يف انخفـاض إيـرادات الفيلـم‪ .‬بحلول‬
‫العـام ‪ ،1941‬حيـث أصـدر فيلـم ‪ ،The Wolf Man‬كانـت كتابـات‬
‫سـيگموند فرويـد ‪ Sigmund Freud‬حتظـى بجمهـور واسـع مـن‬
‫القـراء وتسـتقطب اهتاممـات املحافـل الفكريـة‪ .‬يوفـر تقسـيم فرويد‬
‫الثالثـي للنفـس إىل اهلـو واألنـا واألنـا العليـا منظـور ًا حتليل ًّيـا نقد ًّيـا‬
‫مفاهيـم اهلـو (البحـث عـن‬ ‫ُ‬ ‫لتمثـل املسـتذئبني املفرتسين‪ .‬تلخـص‬
‫اللـذة والعنصر الالعقلاين) واألنـا العليـا (وتشـتمل على القواعد‬
‫ٍ‬
‫بأناقـة وضع‬ ‫واألخلاق االجتامعيـة) واألنـا (الوسـيط بني االثنين)‬
‫‪309‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫تالبـوت يف فيلـم ‪ ،The Wolf Man‬كما الكثير مـن شـخصيات‬


‫املسـتذئبني يف األفلام الالحقـة‪ .‬يقـوم أحـد التفاسير الفرويديـة‬
‫على أن حتـول تالبـوت يمثـل تنفيسـ ًا ل ْل ُهـو‪ ،‬أمـا الذنب الذي يشـعر‬
‫بـه عندمـا يكتشـف لعنتـه فهو األنـا األعلى‪ .‬مل تعـد نظريـات فرويد‬
‫مقبولـة‪ ،‬لكنهـا مـع ذلك مـا زالـت إطـار ًا مفيـد ًا للكتَّـاب يف صناعة‬
‫احلبكـة‪ ،‬وال شـك أن كثير ًا منهم قـد وظفوها عـن قصد‪ .‬لكن شـيئ ًا‬
‫أعمـق يقـف وراء هـذه احلبكـة‪ ،‬يشء ينبـع مـن التمثلات البدائيـة‪.‬‬
‫تنطلـق أحـداث فيلـم ‪ )1941( The Wolf Man‬وهـو مـن‬
‫إنتـاج رشكـة يونيفريسـال‪ ،‬تنطلق أحداثـه يف بيئة ويلزيـة مصنعة يف‬
‫هوليـوود‪ ،‬حيـث يتكلـم بعض النـاس بلهجـة بريطانية بينما يتكلم‬
‫آخـرون بلهجـة أمريكيـة كام احلـال مـع الري تالبوت (لون تشـاين‬
‫جونيـور ‪ .)Lon Chaney Jr.‬يعـود الري إىل املنـزل بعـد أن كانت‬
‫عالقتـه مقطوعـة بوالـده الثـري السير جـون تالبـوت‪ .‬يف مشـهد‬
‫افتتاحـي‪ ،‬خيرب السير جون الري‪« :‬حتـى َر ُج ٌل نقـي القلب‪ٌ ،‬‬
‫رجل‬
‫ذئب عندمـا ي ِ‬
‫زهر‬ ‫ي�ؤدي صلوات�ه كل ليل�ة‪ُ ،‬عرض ٌة ألنْ يتحـول إىل ٍ‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫خالـد يف تاريخ السـينام‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫حـوار‬ ‫اخلربـق ويلمـع قمـر اخلريـف»‪ ،‬يف‬
‫ُ‬
‫ومل يكـن مصـدره الفلكلـور‪ ،‬بـل خيـال كاتـب السـيناريو كيرت‬
‫ُكـرر هـذه العبـارة ثالث مـرات بعد‬‫سـيودماك ‪ .Curt Siodmak‬ت َّ‬
‫ذلـك كنـو ٍع من اإلنـذار بام سـيحدث‪ ،‬آخرهـا كانت من قبـل املرأة‬
‫الغجريـة العجـوز‪ ،‬وهي اإلعـادة األشـد رسـوخ ًا يف األذهان‪.‬‬
‫قـرب أحـد خميمات الغجـر‪ ،‬يقاتـل تالبـوت مسـتذئب ًا ويقتلـه‬
‫مسـتخدم ًا عـكازه ذا املقبـض الفضي على شـكل رأس ذئـب)‪.(16‬‬
‫‪310‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س‬
‫لكـن املسـتذئب يعضه بالطبـع‪ِ ،‬‬
‫وحت ُّل بـه لعنة االسـتحالة‪ ،‬فيتحول‬
‫إىل آخـر‪ ،‬ويقضى عليـه أن يصبـح مفرتسـ ًا لبنـي جنسـه‪ .‬توضـح‬
‫اكتشـافات علـم النفـس التطـوري بخصـوص القرابة اجلينيـة ملاذا‬
‫نسـتجيب برعـب بدائـي جتـاه رؤية واحد منـا يغرتب عـن نوعه كام‬
‫ارتعابنـا أيضـ ًا مـن التعـرض لالفتراس مـن قبـل مفترس كهذا‪.‬‬
‫ال مـن الاليكانثروب بحسـب تصنيف‬ ‫يعـد الري تالبوت شـك ً‬
‫تعـر َض للتحويـل رغـم إرادتـه‪ .‬أصبـح‬ ‫سـامرز‪ ،‬أي أنـه ضحيـ ٌة َّ‬
‫لتالبـوت اآلن عالمـة نجمـة مخاسـية على يـده‪ ،‬وصـار قـادر ًا عىل‬
‫فريـق مـن‬
‫ٌ‬ ‫رؤيـة العالمـة على ضحيتـه التاليـة‪ .‬يطـارد تالبـوت‬
‫املحاربين القبليين‪ ،‬ويف النهايـة‪ ،‬يقـوم والـده السير جـون بقتلـه‬
‫عندمـا كان يف شـكله الذئبـي‪ .‬تعـزز شـخصية أخـرى يف الفيلـم‪،‬‬
‫فرانـك أنـدروز‪ ،‬مـن وصـف سـامرز لشـخصية الاليكانثـروب‬
‫وأفلام املسـتذئبني عمومـ ًا عندمـا يقـول عـن تالبوت «هنـاك يش ٌء‬
‫مأسـاوي جـد ًا بخصـوص ذلـك الرجـل»‪ .‬تنبـع هـذه اهلمسـات‬ ‫ٌّ‬
‫مـن التجـارب التكيفيـة للجنـس البشري‪ ،‬مثير ًة فينـا التعاطـف‬
‫مـع فـرد َف َقـدَ ارتباطـه مـع نوعـه اجلينـي رغـم إرادته‪ ،‬كذلـك تثري‬
‫آكل للبرش‪.‬‬‫فينـا الرعـب مـن التعرض للمطـاردة من قبـل مفترس ٍ‬
‫أخرجـت رشكـة يونيفرسـال تالبـوت مـن قبره أربـع مـرات يف‬
‫أفلام ‪ ،)1943( Frankenstein Meets the Wolf Man‬و ‪House‬‬
‫‪ ،)1944( of Frankenstein‬و ‪ ،)1945( House of Dracula‬و‬
‫‪ ،)1948( Abbott and Costello Meet Frankenstein‬ويف كلهـا‬
‫كان تالبـوت اآلخـر املامنِـع الـذي فقـد ارتباطـه ببنـي نوعـه‪ .‬يقدم‬
‫فيلـم ‪ )2010( The Wolfman‬تغيير ًا يف احلبكـة حيـث اختلفـت‬
‫‪311‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫العالقـة بين األب وابنـه‪ ،‬إذ يقـوم بعكـس القصـة اخلالـدة عـن‬
‫الرجـل الـذي جيـد والده‪.‬‬
‫لفيلمـي ‪ )1981( An American Werewolf in London‬و‬ ‫َ‬
‫خطـوط قصصيـ ٌة‬
‫ٌ‬ ‫‪)1997( An American Werewolf in Paris‬‬
‫متشـاهب ٌة‪ ،‬ولـو أهنما اختلفـا من حيـث املمثلين ومسرح األحداث‪،‬‬
‫كذلـك هنـاك عالقة بين احلبكتني‪ ،‬إذ يعـدُّ الثاين إحيـا ًء إىل األول‪ .‬إن‬
‫مثال عىل شـخصية الاليكانثروب كام وصفها سـامرز‪،‬‬ ‫كال الفيلمين ٌ‬
‫وكالمهـا يتمحـوران حـول التمثـل املركـزي لتحـول واحـد مـن‬
‫النحـن إىل مفترس رغ ًام عنـه‪ .‬اسـتخدم ُكتَّاب الفيلمين متثل الرعب‬
‫يف فيلـم ‪ ،The Wolf Man‬شـخصية تفقـد هويتهـا ال َق َبليـة وعالقتها‬
‫بمجموعتهـا اجلينيـة لتصبـح آخـر يفترس أبنـاء نوعـه‪ .‬يمـزج كال‬
‫غريـب مـن الفكاهة وقصـص احلب‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫الرعـب مـع نـو ٍع‬
‫َ‬ ‫الفيلمين‬

‫من فيلم ‪ :)1941( The Wolf Man‬الرجل الذئب (لون تشاين جونيور) هياجم حفار‬
‫القبور (فوريست هاريف ‪)Forrest Harvey‬‬

‫‪312‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س‬

‫يف الفيلـم األول‪ ،‬يتمشـى شـابان أمريكيـان مهـا ديفيـد كيسـلر‬


‫وجـاك گودمـان (ديفيـد نوتـون ‪ David Naughton‬و گريفيـث‬
‫دان ‪ )Griffith Dunne‬يف جولـة يف البراري شمال إنگلترا حيـث‬
‫هيامجهما مسـتذئب فيموت جاك ويصـاب ديفيد بالعـدوى‪ .‬بعد أن‬
‫ُين َقـل ديفيـد إىل مستشـفى يف لنـدن‪ ،‬تقـع ممرضتـه أليكـس (جينيفر‬
‫آن أگوتـر ‪ )Jennifer Ann Agutter‬يف حبـه وتأخـذه إىل شـقتها‬
‫ليكـون حبيبهـا‪ .‬تعـود روح جـاك مـن حين آلخـر كشـبح مـاريل‬
‫لتلـح على ديفيـد‪ ،‬الـذي ال يؤمـن باألشـباح وال بالاليكانثـروب‪،‬‬
‫أن يقتـل نفسـه كـي ال يـؤذي اآلخرين‪ .‬يمثـل ديفيد الشـخص غري‬
‫املؤمـن التقليـدي الـذي ال بـد مـن إقناعـه باخلـوارق‪ .‬لكنـه يتغري‪،‬‬
‫ويقتـل عـدة أشـخاص؛ وعندمـا يتقبل وضعـه أخري ًا‪ ،‬يشـعر جانبه‬
‫البشري بالنـدم‪ .‬وكام العديـد من الشـخصيات املامثلـة يف األفالم‪،‬‬
‫يعـدُّ ديفيـد املنبـوذ املأسـاوي الـذي حتول رغم ًا عنـه إىل آخر‪.‬‬
‫يتبـع فيلـم ‪ An American Werewolf in Paris‬حبكـة مماثلـة‬
‫باسـتثناء أن حمبوبـة البطـل سيرافني (جـويل ديلبـي ‪)Julie Delpy‬‬
‫مسـتذئبة‪ ،‬واحـدة مـن املسـتذئبات اإلنـاث القالئـل يف األفلام‪،‬‬
‫وهـي ابنـة ديفيـد وأليكـس مـن الفيلـم األول‪ .‬تعـد حبكـة هـذا‬
‫لا مـن سـابقه‪ .‬فبينما يتجـول أنـدي مكديرموت‬ ‫الفيلـم أعقـد قلي ً‬
‫(تـوم أيفرييـت سـكوت ‪ )Tom Everett Scott‬وصديقيـه يف‬
‫باريـس‪ ،‬يلتقـون بسيرافني ويصبح أندي مهووسـ ًا هبـا‪ .‬يف النهاية‪،‬‬
‫يـزور الفتيـان الثالثـة نـادي ال لـون ‪ ،club de la lune‬وهـو‬
‫اح إليـه ليأكلوهـم‪ .‬يمتلـك هؤالء‬ ‫ٌ‬
‫مـكان جيـذب املسـتذئبون السـ َّي َ‬
‫‪313‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫ً‬
‫مصلا يتيـح هلـم التحـول متى مـا شـاؤوا دون احلاجة‬ ‫املسـتذئبون‬
‫النتظـار اكتمال القمـر‪ .‬يتعـرض أنـدي للعـض ويتحـول‪ .‬كما يف‬
‫فيلـم ‪ ،American Werewolf in London‬تنشـأ لدينا عالقة حب‬
‫حتـاول الفتـاة فيهـا إنقـاذ رجلهـا‪ ،‬وهـو مـا تنجـح بـه بعـد معارك‬
‫طاحنـة مـع مجعيـة املسـتذئبني يف نـادي دي ال لـون‪.‬‬
‫ينجـح احلبيبان الشـابان بإجيـاد طريقة للشـفاء من االسـتذئاب‬
‫يف هنايـة مرجتلـة سـعيدة‪ .‬من منظـور الصفـات البدائية‪ ،‬عـاد أندي‬
‫وسيرافني إىل جموعتهما ال َقرابيـة‪ ،‬كام أهنما حققا غاية متثـل التزاوج‬
‫أيضـ ًا‪ .‬كذلـك تثير مجعيـة املسـتذئبني وهجامهتـا رعـب املالحقـة‬
‫مـن قبـل قطيـع الذئـاب املفرتسـة‪ .‬يعكـس كال الفيلمين مأسـاة‬
‫الاليكانثـروب‪ ،‬الضحيـة البريء الـذي حتـول رغم ًا عنـه إىل آخـر‬
‫وحيـاول باسـتامتة أن يبقـى «نحـن»‪ .‬يبين الفيلـم الفـروق بني هذه‬
‫الشـخصية وبين شـخصيات املسـتذئبني األرشار كأعضـاء نـادي‬
‫حتـول األبطـال اليافعين‬
‫أن ُّ‬‫دي ال لـون‪ .‬تعـدُّ شـانتال دو كـودري َّ‬
‫«شـكل مـن الدخول يف مرحلـة البلوغ‬ ‫ً‬ ‫يف هذيـن الفيلمين يضاهي‬
‫واسـتعراض القـوة‪ ،‬ترمـز لذلك عالمـات الرجولـة املفرطـة»)‪.(17‬‬
‫يلخـص وصـف دو كـودري هـذا قصة هـؤالء الفتيـان الذاهبني يف‬
‫دقيـق بما فيـه الكفايـة‪ ،‬إال أن هذين‬
‫ٌ‬ ‫إجـازة‪ .‬ومـع أن وصفهـا هلـم‬
‫الفيلمين وأفلام املسـتذئبني األخـرى تثير الرعـب ال مـن طريـق‬
‫مضامينهـا الثقافيـة فحسـب‪ ،‬بـل من طريـق اخلوف من املفرتسين‬
‫واالغتراب عـن جمموعـة القرابـة البرشية‪.‬‬
‫مـن األمثلـة األخرى على الضحية الربيئـة يف أفالم املسـتذئبني‬
‫‪314‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س‬

‫بطلـة فيلـم ‪ ،)1981( The Howling‬كما أهنـا مـن شـخصيات‬


‫املسـتذئبات اإلنـاث القليلات يف األفلام‪ .‬تذهـب املراسـلة‬
‫التلفزيونيـة كاريـن وايـت (دي واالس سـتون ‪Dee Wallace-‬‬
‫‪ )Stone‬لقضـاء إجـازة يف منتجـع يدعى ذا كولـوين ‪.The Colony‬‬
‫قطيع مـن املسـتذئبني‪ ،‬وليس هؤالء‬
‫ٌ‬ ‫يتبين الحقـ ًا أن املكان يسـكنه‬
‫األفـراد مـن نـوع الضحايـا األبريـاء‪ .‬تتعـرض كاريـن للعـض‪،‬‬
‫وتنجـح بالفـرار بمسـاعدة صديقهـا كريـس الـذي يزورهـا حام ً‬
‫ال‬
‫معـه مسدسـ ًا ورصاصـات فضيـة‪ ،‬ثـم حيرقان املـكان‪ .‬لكـي تثبت‬
‫كاريـن وجود املسـتذئبني‪ ،‬جعلـت الكامريا تصورهـا يف أثناء حتوهلا‬
‫عنـد تقديمهـا لنشرة األخبار‪ ،‬ثـم يقتلهـا كريس برصاصـة فضية‪.‬‬
‫أصبـح هـذا الفيلـم الـذي أخرجـه جـو دانتـي ‪ Joe Dante‬من‬
‫كالسـيكيات الرعـب‪ ،‬وألسـباب وجيهـة مـن منظور علـم النفس‬
‫مؤثـرات دانتـي البرصيـ ُة املسـتذئبني وحوشـ ًا‬
‫ُ‬ ‫التطـوري‪ .‬جعلـت‬
‫حقيقيين ومفرتسين م ْقنِعين‪ .‬وقـد أضـاف اجلـو املظلـم للفيلـم‬
‫مزيـد ًا على اخلـوف مـن التعـرض للمطـاردة ومـن ثـم التحـول‪.‬‬
‫مجيـع املسـتذئبني يف الفيلـم أرشار عـدا كاريـن التـي تشـعر بالذنب‬
‫ملـا هـي عليـه‪ .‬وهكذا يمـزج متثل املفترس يف هـذا الفيلم لـذة قتل‬
‫املسـتذئبني بوصفهـم مفرتسين وآخرين‪ ،‬نعـم يمزجهـا بالتعاطف‬
‫مـع مأسـاة كاريـن التـي ال ذنـب هلـا يف حدوثها‪.‬‬
‫خيلـو بعـض املسـتذئبني السـينامئيني كأعضـاء النـادي يف فيلـم‬
‫‪ ،American Werewolf in Paris‬ونـزالء املنتجـع يف فيلـم ‪The‬‬
‫‪ Howling‬متامـ ًا مـن الشـعور بالذنـب حلاهلـم‪ ،‬مـا يوحـي أن كال‬
‫‪315‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫املجموعتين عبـارة عـن طوائـف دينيـة‪ ،‬آخـرون متخفـون بيننـا‪.‬‬


‫كذلـك احلـال يف فيلـم ‪ Wolfen‬الصـادر عـام ‪ ،1981‬نفـس العـام‬
‫الـذي صدر فيه فيلما ‪ The Howling‬و ‪American Werewolf in‬‬
‫يوظـف فيلم ‪Wolfen‬‬
‫ُ‬ ‫‪ ،London‬عام املسـتذئبني يف السـينام بامتياز‪.‬‬
‫– وهـو أحـد أكثـر أفلام املسـتذئبني إثـار ًة لالهتمام يف مكونـات‬
‫ِ‬
‫متثلات الصيـاد والفريسـة والقبليـة واآلخـر‬ ‫الرعـب اخلاصـة بـه‬
‫املنـدس‪ .‬ويفتتـح الفيلـم بمشـهد الحتفـال بوضع حجر األسـاس‬
‫ملشروع تطويـر منطقـة خربـة يف نيويـورك يقودهـا كريسـتيان فـان‬
‫ديـر فير‪ .‬الحق ًا‪ُ ،‬يعثر عىل كريسـتيان وزوجته وحارسـه الشـخيص‬
‫ممزقين أربـ ًا بعـد توقفهـم يف متنزه على طريـق عودهتـم إىل املنزل‪.‬‬
‫ُيسـتد َعى ديـوي ويلسـون (ألبرت فينـي ‪ ،)Albert Finney‬وهـو‬
‫ضابـط رشطـة متقاعـد‪ ،‬للتحقيـق يف احلادثـة وتسـاعده املختصـة‬
‫النفسـية ريبيـكا نيـف (ديـان فينـورا ‪ .)Diane Venora‬بعـد موت‬
‫بعـض املرشديـن يف خرائـب املدينـة‪ ،‬يقرر ويلسـون ونيـف أن فان‬
‫ديـر فير واآلخريـن قـد قتلهـم املسـتذئبون‪ ،‬وهـم جمموعـة مـن‬
‫املتحولين شـكل ًّيا ينتمـون إىل قبيلـة املوهـوك مـن هنـود أمريـكا‬
‫األصليين‪ .‬يعمـل هـؤالء األفراد على األماكـن العالية يف اجلسـور‬
‫ألهنـم ال خيافـون املرتفعـات‪ ،‬وقـد اشتركوا يف بنـاء برجـي مركـز‬
‫التجـارة العاملي‪.‬‬
‫بعد اشـتباه ديوي ثم تأكده أخري ًا أن اجلناة هم بعض األمريكيني‬
‫األصليين‪َ ،‬يسـتجوب إيـدي هولـت‪ ،‬وهو ناشـط هنـدي‪ ،‬فيعطيه‬
‫األخير أجوبـة فضفاضة عن قـدرة الـروح عىل تغيري اجلسـد‪ .‬لكن‬
‫‪316‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س‬

‫الكشـف الرئيس حيـدث بعد أن ُيقتَـل ويتينگتون صديق ويلسـون‪،‬‬


‫ـم األعصـاب إىل حانـة ويگـوام للهنود‬ ‫عندهـا يذهـب ديـوي ُم َّط َ‬
‫ورجـل هنـدي مسـ ٌّن‪« :‬لعرشيـن ألـف‬‫ٌ‬ ‫األصليين‪ .‬خيبره هولـت‬
‫والذئـاب‪ ،‬أ َّمتـان من‬
‫ُ‬ ‫عـام‪ ،‬يـا ويلسـون‪ ..‬عـاش متقمصو اجللـود‬
‫ٍ‬
‫تـوازن طبيعـي‪ .‬ثـم بـدأت املجـازر‪ .‬فلجـأ‬ ‫الصياديـن العظماء‪ ،‬يف‬
‫األذكيـاء منهـم إىل العـامل السـفيل‪ ،‬إىل الربيـة اجلديـدة‪ ،‬مدنكـم‪،‬‬
‫أحيـاء الفقـر‪ ،‬مقابـر نوعكـم اللعين»‪ .‬خيبره هولـت أن األحيـاء‬
‫الفقيرة هـي ميـدان الصيـد هلـذه الكائنـات‪ .‬إذن فقد هدد فـان دير‬
‫إقليمهـم‪ ،‬منطقتهـم التـي يقومـون فيهـا بالتخلص‬ ‫فير ومشـاري ُعه َ‬
‫من مـا يسـمونه «القاممـة البرشيـة»‪ ،‬النـاس املرشدين‪.‬‬
‫مفترس يعيـش‬ ‫ٌ‬ ‫نـوع خمتلـف‪،‬‬
‫ببسـاطة‪ ،‬فـإن متقمصي اجللـود ٌ‬
‫يف املجتمـع البشري‪ ،‬وهـم أعىل تطـور ًا أو إهنـم تطوروا على ٍ‬
‫نحو‬
‫شـم وبصر وملس حـا َّدةٌ‪ .‬إهنم‬ ‫حواس ٍّ‬
‫ُ‬ ‫خمتلـف على األقـل‪ ،‬فلدهيم‬
‫«أمم أخـرى» كما يكتشـف ديوي‪:‬‬ ‫أكثـر مـن جمـرد قبيلـة‪ ،‬بـل هـم ٌ‬
‫آخـرون ومفرتسـون‪ .‬هيمـس ديـوي «العائلـة‪ ،‬إقليـم الصيـد‪..‬‬
‫َيقتلـون ليحمـوا منطقـة صيدهـم‪ .‬بعـد أن ينجـوا‪ ،‬ال يتردد ديوي‬
‫َي‬‫وريبيـكا يف عـزو جريمـة قتل فان ديـر فير إىل اإلرهابيين‪ ،‬تارك ْ ِ‬
‫ذوي األشـكال املتغيرة ليتجولوا ويصطـادوا‪ .‬يرتك الفيلم مشـاعر‬
‫خمتلطـة يف ثقافـة عرص ما بعـد الدلو الذي رصنا نشـعر فيـه بالذنب‬
‫تعـرض هلـا سـكان أمريـكا األصليـون ونسـ ِّلم أن‬ ‫للمعاملـة التـي َّ‬
‫حضـارة اإلنسـان األبيـض قـد احتلـت إقليمهـم ودمـرت العـامل‬
‫الطبيعـي الـذي عـاش فيـه متقمصـو اجللـود – يف الفيلـم آلالف‬
‫‪317‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫السـنني‪ .‬ترمـز مشـاريع فـان ديـر فير التنمويـة إىل الدمـار الـذي‬
‫أحلقنـاه بعا َلهـم‪ .‬لـذا يرتكنـا الفيلـم بمشـاعر متضاربـة‪ ،‬إذ نشـعر‬
‫ببعـض التعاطف مـع متقميص اجللـود رغم أهنم آخـرون وقتلة‪ ،‬يف‬
‫مثـال آخـر على تأثري الثقافـة على التمثلات البدائيـة‪ .‬إن متقميص‬
‫اجللـود متصاحلون مع حالتهم كمفرتسين‪ ،‬فهي حالتهـم الطبيعية‪،‬‬
‫بعكـس املسـتذئبني الذيـن هـم ضحايا‪.‬‬
‫يعـد الفيلـم نموذج ًا لتمثيل املفرتسين والصيـد يف أفالم الرعب‬
‫مثـال للسـامي يف املناطـق احلرضيـة‪ .‬على‬ ‫بأجوائـه البريكيـة‪ ،‬فهـو ٌ‬
‫الـدوام‪ ،‬كانـت اخلرائـب اخليـار املفضـل كمسرح لألحـداث منذ‬
‫بدايـات جنـس الرعـب القوطـي‪ ،‬ابتـدا ًء مـن األديـرة والقلاع‬
‫املتداعيـة يف بدايتـه وصـوالً إىل املنـازل الشـبيهة نوعـ ًا مـا بتلـك‬
‫القلاع واألديـرة يف أفلام الرعـب يف أيامنـا هـذه‪ .‬يف هـذا الفيلم‪،‬‬
‫لدينـا خرائـب حرضيـة مـع أكـوا ٍم مـن األنقـاض‪ ،‬حيـث ُهدِّ مـت‬
‫البنايـات بغـرض إعـداة اإلعمار‪ ،‬ومركز األحـداث هنا هو كنيسـة‬
‫مهدمـة‪ ،‬يش ٌء شـبي ٌه بالدير اخلـرب يف الروايـات القوطيـة القديمة‪.‬‬
‫احلراري‬ ‫والتصويـر‬ ‫تَصنع م ِ‬
‫شـاهدُ التصويـر من منظور املسـتذئبني‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫حميطـ ًا مؤ ِّثـر ًا لعمليـات الصيـد التـي يقـوم هبا املفرتسـون‪.‬‬
‫ال ينـدرج فيلـم ‪ )1942( Cat People‬حتـت صنـف أفلام‬
‫املسـتذئبني‪ ،‬لكنـه واحـد مـن أفضـل األفالم عـن متغريي الشـكل‬
‫كما أن البطلـة فيه امـرأة‪ .‬عاد ًة مـا نعزو النجـاح الفني لفيلـم ما إىل‬
‫خمرجـه أو ممثليه‪ ،‬أمـا املنتجون فغالب ًا ما ينظر إليهـم بوصفهم الرعاة‬
‫املاليين ملرشوع الفيلم فحسـب‪ ،‬لكن فال ليوتـن ‪ Val Lewton‬كان‬
‫‪318‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س‬

‫اسـتثنا ًء مـن هذا‪ .‬يكتـب جويـل سـيگل ‪« :Joel Siegel‬عموم ًا‪ ،‬ال‬
‫عتبر املنتجـون مـن خالقـي العمـل الفنـي‪ ،‬ذلـك أهنـم يف معظـم‬ ‫ُي َ‬
‫احلـاالت أعـداء عمليـة اخللق هـذه‪ .‬أمـا ليوتن فقـد كان اسـتثنا ًء‪،‬‬
‫ورغـم أنـه يذكـر كمنتـج فحسـب‪ ،‬إال أنـه كان اخلالـق الفنـي هلذا‬
‫الفيلـم بال شـك وقطـب الرحى فيـه»)‪ .(18‬تعاقدت رشكـة آر كَي أو‬
‫‪ RKO‬مـع ليوتـن على أمـل أن جيعلها تنافـس النجاح املـايل ألفالم‬
‫لـت إدارة الرشكـة‬‫الرعـب التـي تنتجهـا رشكـة يونيفرسـال‪ ،‬وأ ْم ْ‬
‫عليـه عناويـن صعبـ ًة‪ ،‬طالبـة منـه حتويلهـا إىل فيلـم دون أن تـزوده‬
‫بالسـيناريوهات‪ .‬تعلـق العنـوان األول الـذي اقرتحه أحـد مديري‬
‫التصويـر باملسـتقطني ‪ werecats‬وأرادوا تسـميته ‪،Cat People‬‬
‫ٌ‬
‫عنـوان أرادت منـه اإلدارة أن يذكـر املشـاهدين بفيلـم ‪The Wolf‬‬
‫‪ Man‬الناجـح الـذي صـدر قبـل عـام‪ .‬يقـول كتَّـاب سيرة ليوتـن‬
‫أنـه أصيـب باإلحبـاط ولكنـه نجـح يف إرشـاد الكاتـب املوهـوب‬
‫ديويـت بوديـن ‪ Dewitt Bodeen‬واملخـرج جـاك تورنـر ‪Jacques‬‬
‫‪ Tourneur‬لصناعـة الفيلـم الذي أصبح الحق ًا من الكالسـيكيات‪.‬‬
‫يركـز الفيلـم على أيرينا (سـيمون سـيمون ‪،)Simone Simon‬‬
‫ٍ‬
‫ملعون مـذ كانت العائلة‬ ‫ـب‬‫مهاجـر ٌة رصبية تؤمن أهنا تنتمي إىل ن ََس ٍ‬
‫يف الوطـن‪ :‬لعنـ ٌة جتعـل نسـاء هـذه العائلـة يتحولن إىل قطـط كبرية‬
‫عندمـا ُي َث ْـر َن جنسـ ًّيا‪ .‬عندمـا تقـع أيرينـا يف احلـب مع أوليفـر رييد‬
‫(كينـت سـميث ‪ )Kent Smith‬وتتزوجه‪ ،‬تواصـل املامطلة وتأجيل‬
‫العالقـة اجلنسـية‪ ،‬ممـا حيبـط أوليفـر وجيعلـه يتقـرب مـن زميلته يف‬
‫العمـل أليـس (جين راندولـف ‪ .)Jane Randolph‬وهكـذا توقظ‬
‫‪319‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫املفترس بداخـل أيرينـا‪ ،‬مـن ثم تطـارد أليس‪ .‬يصر أوليفر‬


‫َ‬ ‫الغير ُة‬
‫ٍ‬
‫طبيـب نفسي‪ ،‬وعندمـا يتحـرش هبـا‬ ‫على أيرينـا أن تذهـب إىل‬
‫الدكتـور جود (تـوم كونـواي ‪ )Tom Conway‬جنسـ ًّيا‪ ،‬تتحول إىل‬
‫ومتز ُقه‪.‬‬
‫قطـة ِّ‬‫ٍ‬

‫يكمـن اجلانـب الفني مـن الفيلـم يف توظيفـه للضـوء والظِالل‬


‫والصـور الرمزيـة ضمن حميـط فرويدي‪ .‬تبـدو هذه احلبكـة متعددة‬
‫املسـتويات سـطح ًّيا كفيلـم تشـويق كئيـب‪ .‬لكـن على مسـتوى‬
‫آخـر‪ ،‬يبنـي الفيلـم موضوعـ ًة يف الكبت اجلنسي من خلال ا َملجاز‬
‫الفرويـدي‪ .‬وترجـح التامثلات البينـة هنـا أن ال بـد أن بوديـن‬
‫ملمَّين إىل حـد كبير بكتابات فرويـد‪ .‬ترمـز زيارات‬
‫ْ‬ ‫وليوتـن كانـا‬
‫أيرينـا حلديقـة احليـوان حيـث تتأمـل الفهـد األسـود‪ ،‬نعـم ترمـز‬
‫إىل جنسـانيتها املحبوسـة‪ .‬نـرى أيضـ ًا يف أحالمهـا صـور ًا جنسـية‬
‫فرويديـة كاملفاتيـح وثقوب األقفال والسـكاكني‪ .‬يف شـقتها‪ ،‬حتتفظ‬
‫بتمثـال جلـون ملـك رصبيا وهـو يمسـك بسـيف ذي مظهر‬ ‫ٍ‬ ‫أيرينـا‬
‫قضيبـي وقـد طعـن بـه قطـة عمالقـة‪ ،‬كذلـك نـرى أيرينـا ترسـم‬
‫صـورة لفهـد أسـود خترتقـه سـكني شـبيهة بسـيف جـون‪ .‬يوحـي‬
‫املشـهد األخير حيث تذهـب إىل حديقة حيـوان قريبة لتحـرر فهد ًا‬
‫هنـاك‪ ،‬يوحـي بانحلال عقلهـا بعـد أن حتررت نفسـها اجلنسـية يف‬
‫حادثتهـا مـع الدكتـور جود‪.‬‬
‫ومازاتـه اإلحياء حمل‬
‫كل مـن التصويـر السـينامئي للفيلـم َ‬ ‫يـل ٌّ‬‫ُِ‬
‫العنـف الواقعـي حينـ ًا ويمزجهما أحيانـ ًا أخـرى لريمـز لشـخصية‬
‫مسـتوى آخـر‪ ،‬تنبع‬
‫ً‬ ‫أيرينـا املنقسـمة ودمارهـا النفسي‪ .‬لكـن على‬
‫‪320‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س‬

‫جاذبيـة الفيلـم أيضـ ًا من لـذة اخلـوف من املفترس عندمـا تالحق‬


‫أيرينـا يف شـكلها القططـي غريمتَها أليـس‪ .‬جتلت عبقريـة ليوتن يف‬
‫خلـق الرعـب دون احلاجـة إلظهـار الوحـش أو إراقة الدمـاء‪ .‬ويف‬
‫واحـد من املشـاهد الراسـخة يف الذاكرة‪ ،‬نـرى أيرينـا تالحق أليس‬
‫وهـي يف حـوض السـباحة يف املبنـى الـذي تقطنـه‪ .‬نـرى يف هـذا‬
‫املشـهد الظلال على احلائط املظلم فحسـب ونسـمع مههمـة خافتة‬
‫مـن إيرينـا يف شـكلها القططـي بينما تصرخ أليـس طلبـ ًا للنجـدة‪.‬‬
‫ويكمـن معظـم الرعب يف هـذا الفيلم من تعرض أليـس للمطاردة‪،‬‬
‫يف مشـاهد ُو ِّظفت جيد ًا إلثارة االسـتجابة البدائية‪ .‬يف مشـهد آخر‪،‬‬
‫متشي أليـس وحدهـا يف شـارع مظلـم‪ ،‬فتسـمع بعـض األصـوات‬
‫وختـاف‪ .‬ثـم بعد أن تصـاب باضطراب شـديد‪ ،‬نسـمع صوتـ ًا قو ًّيا‬
‫ونتوقـع أن تَثِـب أيريـن‪ .‬لكن يتبين أن الصـوت كان ملكابح حافلة‬
‫أشـكال أخرى‬ ‫ٍ‬ ‫تتوقـف يف حمطـة‪ .‬و ِّظف هـذا النوع من املشـاهد يف‬
‫كثير مـن أفلام الرعـب‪ .‬يقـدم فيلم‬ ‫ٍ‬ ‫وأصبـح يدعـى «احلافلـة» يف‬
‫لا الكثير مـن العرفان‬ ‫‪ Final Destination‬الصـادر عـام ‪ 2000‬مث ً‬
‫لليوتـن‪ ،‬حتى أن اسـم إحدى الشـخصيات فالريي ليوتـن‪ .‬لدينا يف‬
‫طريـف؛ حيث نرى مشـهد حافلة مـن نوع آخر‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫تعديل‬ ‫هـذا الفيلـم‬
‫إذ ختطـئ سـيار ٌة إحدى الشـخصيات بالكاد‪ ،‬وبينام نظـن أهنا نجت‬
‫مـن احلادث تسـحقها حافلـ ٌة فجأة‪ .‬يظهـر مشـهدا احلافلة وحوض‬
‫السـباحة يف فيلم ‪ Cat People‬ما يسـميه ماتياس كاليسـن استجابة‬
‫تطورية تسـتغلها كثير من أفالم الرعـب‪« :‬إن أكثر املخـاوف عاملية‬
‫وأساسـي ًة وتوريثـ ًا بيولوج ًّيـا هي املخـاوف من األصـوات املرتفعة‬
‫املفاجئة واألجسـام غير واضحة املعـامل»)‪.(19‬‬
‫‪321‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫مل يالحـظ معظـم املشـاهدين عىل األرجـح األنسـاق ا َملجازية‬


‫األنيقـة لفيلـم ‪ ،Cat People‬لكـن الفيلـم حقـق إيـرادات جيـدة‬
‫وربما أنقذ رشكـة آر كي أو من اإلفلاس‪ .‬افتتنـت بالفيلم أجيال‬
‫متعاقبـة مـن املشـاهدين والنقـاد‪ ،‬ومل يصبـح أحـد كالسـيكيات‬
‫جنـس أفلام الرعـب فحسـب‪ ،‬بـل أحـد املعـامل اخلالـدة يف‬
‫فـن صناعـة األفلام عمومـ ًا‪ .‬عميقـ ًا حتـت احلبكـة السـطحية‬
‫املتعلقـة بالوحـش واملجـازات الفرويديـة األنيقـة والتصويـر‬
‫السـينامئي الكئيـب‪ ،‬يكمـن متثـل املفترس‪ .‬تعكـس جنسـاني ُة‬
‫أيرينـا املكبوتـة أيضـ ًا طبيعتها االزدواجيـة الكالسـيكية يف تراث‬
‫مفترس ونحـن‪ .‬تتـوق‬
‫ٌ‬ ‫أفلام املسـتذئبني‪ ،‬فهـي يف آن واحـد‬
‫أيرينـا بشـدة ألن ختمـد طبيعـة املفترس بداخلها وتصبـح زوج ًة‬
‫ألوليفـر ولكنها ال تسـتطيع‪ .‬حتـى اجلمهور غري القـادر عىل فهم‬
‫اإلحيـاءات واألنسـاق الرمزيـة يف الفيلـم يمكنه الشـعور باخلوف‬
‫السـامي جتاه رؤيـة مفرتس يقتـل أفراد ًا مـن عائلتنـا اجلينية‪ .‬ومع‬
‫أن ليوتـن وفريقـه ربما اسـتثمروا عـن قصـد أدبيـات فرويـد يف‬
‫صناعـة إطـار احلبكـة‪ ،‬إال أن رعـب الفيلـم ينبـع من االسـتجابة‬
‫الباطنيـة جتـاه حالـة أيرينـا واملشـاهد العظيمـة التي تصـور أليس‬
‫مالح َقـ ًة مـن قبـل مفترس غير مرئي‪.‬‬ ‫َ‬
‫بعـد أربعين عامـ ًا على إصـدار الفيلـم املذكـور آنفـ ًا‪ ،‬أخـرج‬
‫بـول رشيـدر ‪ Paul Schrader‬نسـخة حمدَّ ثـة من الفيلـم حتت نفس‬
‫العنـوان‪ ،‬مسـند ًا دور أيرينـا إىل ناسـتازيا كينسـكي ‪Nastassja‬‬
‫‪ Kinski‬ودور أوليفـر إىل جـون هيرد ‪ .John Heard‬يعـد هـذا‬
‫‪322‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س‬

‫اإلصـدار تنقيحـ ًا للفيلم األصيل بشـخصيات مشـاهبة‪ ،‬لكنـه يفتقر‬


‫إىل القـوة البرصيـة والتأثير العاطفـي اللذيـن م َّيـزا األول‪ .‬كذلـك‬
‫حتولـت املوضوعـة من تصويـر فيلم ليوتـن للرصاع اجلنسي داخل‬
‫املـرأة لتصبح ميسـوجينية رصحية عندمـا يقوم أوليفر بــ «ترويض»‬
‫أيرينـا‪ ،‬ثـم نراهـا يف شـكلها املفترس حمبوسـة يف حديقـة احليـوان‬
‫يداعبهـا حبيبها‪.‬‬

‫الزعانف واألنياب‪:‬‬
‫أفالم ‪ ،Jaws، Deep Blue Sea‬و‪Open Water‬‬

‫يف قصـة ‪ The Open Boat‬القصيرة للكاتـب سـتيفن كريـن‬


‫ُ‬
‫والرجال‬ ‫قـارب النجـاة الصغري يف البحـر‬
‫ُ‬ ‫‪ ،Stephen Crane‬يمثـل‬
‫اخلمسـة الضائعـون على متنـه بعـد غـرق سـفينتهم األم‪ ،‬يمثـل‬
‫َمـاز ًا لرؤيتـه – الكاتـب للوضـع البشري مـن منظـور الطبيعويـة‬
‫كفـاح للبقـاء وسـط طبيعـة ال مباليـة أو‬‫ٌ‬ ‫‪ naturalism‬األمريكيـة‪:‬‬
‫واألمـواج العاتيـ ُة‪ ،‬وعندما‬
‫ُ‬ ‫الريـاح‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫الرجال‬ ‫حتـى معاديـة‪ .‬تضرب‬
‫يقرتبـون من أحد السـواحل‪ ،‬يعرفون أن ارتطام األمواج بالسـاحل‬
‫سـيغرق قارهبـم لـو حاولوا النـزول‪ ،‬ووسـط حمنتهم هـذه‪ ،‬يقرتب‬
‫قـرش يتفحصهـم‪« .‬لكـن ذلـك الشيء بقـي حيـوم بجـوار‬ ‫منهـم ٌ‬
‫القـارب‪ .‬راسم ًا أمـام القارب تـارة ووراءه تـارة أخرى خ ًّطـا المع ًا‬
‫طويلا‪ ،‬ثـم سـمع الرجال أزيـز حركـة الزعنفـة السـوداء‪ .‬وكانت‬ ‫ً‬
‫رسعـة وقـوة ذلـك الشيء مثيرة لإلعجـاب‪ ،‬فـكان يقطـع امليـاه‬
‫كقذيفـة هائلـة منطلقـة»)‪ .(20‬تعكس قصـة كرين ما سيكتشـفه علم‬
‫النفـس التطـوري‪ :‬ليـس البشر إال نوعـ ًا آخر مـن احليـوان يف عامل‬
‫‪323‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫الطبيعـة وإن القـرش سـيكون سـعيد ًا بالتهـام الرجـال كما لو أهنم‬


‫أسماك التونة‪.‬‬
‫وظـف سـتيفن سـبيلربگ ‪ Steven Spielberg‬روايـة بيتر‬
‫بينشلي ‪ Pete Benchley‬الصـادرة عـام ‪ 1971‬يف فيلمـه ‪ Jaws‬عام‬
‫‪ ،1975‬وهـو قصـة عـن معركـة يف عـرض البحر بني البشر وقرش‬
‫الفيلم‬
‫ُ‬ ‫عمالق‪ ،‬واحدٌ من أشـد املفرتسين إخافـ ًة يف الطبيعة‪ .‬خلـق‬
‫ميمـ ًة ‪ meme‬مـن نـوع مـا‪ ،‬إذ صنعـت بعـده عرشات األفلام عن‬
‫القـروش‪ .‬وتعـد أفلام ‪ ،Deep Blue Sea ،Jaws‬و‪Open Water‬‬
‫مـن أشـدها إثـارة لالهتمام مـن منظـور الصفـات البدائيـة‪ .‬تبـدو‬
‫مجيـع األفلام الثالثـة قائمـ ًة على موضوعات مسـتمدة مـن أعامل‬
‫لا حيتـوي كثير ًا مـن اإلحـاالت على روايـة‬ ‫أدبيـة‪ .‬ففيلـم ‪ Jaw‬مث ً‬
‫مـويب ديـك ‪ Moby Dick‬الكالسـيكية هلريمـان ملفـل ‪Herman‬‬
‫‪.Melville‬‬
‫يف هـذا الفيلـم‪ ،‬كان القـرش مالئ ًام جـد ًا إلثارة اخلـوف القديم‬
‫ضخـم سـبيلربگ عنرص‬ ‫مـن املـوت بين فكـوك املفرتسين‪ .‬وقـد َّ‬
‫الرعـب هـذا يف الفيلـم مـن خلال مقاربة تتسـم بالغمـوض‪ .‬ففي‬
‫ظهـر الفيلـم القـرش بشـكل واضـح إال يف الفصـل‬ ‫احلقيقـة‪ ،‬ال ُي ِ‬
‫األخير حيـث جتـري املعركة بينـه وبين الرجال على متن السـفينة‬
‫أوركا‪ ،‬يف مقاربـة تعزز شـدة تأثري الفيلم وتولد التشـويق‪ .‬يف مقارنة‬
‫بين املفاجأة والتشـويق‪ ،‬يالحـظ ألفرد هيتشـكوك أنـه عندما يضع‬
‫شـخص قنبلـة حتـت طاولـة وتنفجـر قريبـ ًا‪ ،‬فـإن مـا نختبره هـو‬‫ٌ‬
‫ُخب‬
‫املفاجـأة‪ .‬لكـن عندما نـرى أحدهم يضـع قنبلة حتت طاولـة ون َ‬
‫‪324‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س‬

‫أهنـا سـتنفجر بعـد مخـس عشرة دقيقـة‪ ،‬فإننا نشـعر بالتشـويق ألن‬
‫الشـخصيات غافلـة عن اخلطـر املحيق هبـا)‪.(21‬‬
‫انتهـج سـبيلربگ منهجـ ًا مماث ً‬
‫لا لبنـاء التشـويق يف الفيلـم بـأن‬
‫كبيرا‪ ،‬كما نكتشـف بعـد قليـل‬‫ً‬ ‫أبيـض‬
‫قرشـا َ‬ ‫أعلمنـا أن مفرتسـ ًا‪ً ،‬‬
‫مـن انطلاق األحـداث‪ ،‬يلتهـم السـباحني وركاب القـوارب‬
‫الصغيرة يف منتجـع خيـايل يف نيـو إنگالنـد يف جزيـرة أميتـي‪.‬‬
‫يتصاعـد التوتـر ببـطء‪ ،‬إذ تطـول املقدمة بعض الشيء حتى يصدق‬
‫اجلمهـور واآلبـاء يف مدينـة أميتـي بوجـود قـرش أبيض كبير دون‬
‫أن يـروه‪ .‬يتفهـم قائـد الرشطـة مارتن بـرودي (روي شـايدر ‪Roy‬‬
‫‪ )Scheider‬اخلطـر ويعـرف أن عليه إغالق السـاحل عىل السـ َّياح‪.‬‬
‫لكـن البزنـس هـو البزنـس‪ ،‬إذ يتجلى لدينا هنـا الرصاع السـينامئي‬
‫رصاع‬
‫ٌ‬ ‫القيـايس حيـث يتغلب الربـح عىل االهتامم بسلامة النـاس‪:‬‬
‫يعكـس اسـتجابتنا الغريزيـة جتـاه األخطـار التـي هتـدد اجلامعـة‬
‫واألمـان القبلي‪.‬‬
‫ذروة مـن التشـويق عندمـا يبحـر كل مـن‬ ‫ٍ‬ ‫يـؤول كذلـك إىل‬
‫بـرودي وخبير البحـار مات هوبـر (ريتشـارد دريفـوس ‪Richard‬‬
‫‪ )Dreyfuss‬وكوينـت –الشـبيه بالكابـت آهـاب‪( -‬روبـرت شـو‬
‫‪ )Robert Shaw‬على قـارب الصيد أوركا اخلـاص باألخري خلوض‬
‫املعركـة‪ .‬يصـور الفيلـم رصاعات بين الرجـال الثالثة أيضـ ًا‪ ،‬ومن‬
‫الفيلـم مـن‬ ‫أمههـا الصراع الطبقـي بين كوينـت وهوبـر‪ .‬ي ِ‬
‫سـقط‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أحـداث الروايـة اجلـز َء املتعلـق بنـدم زوجـة بـرودي على زواجها‬
‫عـن حـب وخسـارهتا مكاهنـا يف الطبقـات العليـا مـن املجتمـع كام‬
‫‪325‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬
‫ِ‬
‫يسـقط أيضـ ًا عالقتهـا القصرية مـع هوبر واشـتباه بـرودي باألمر‪.‬‬
‫ختتفـي الرصاعـات بني الشـخصيات عندمـا يواجه بـرودي القرش‬
‫يف أثنـاء رميـه ل َّلحـم املقطـع مـن السـفينة‪ .‬يظهـر القـرش أمامـه‬
‫ٍ‬
‫زورق‬ ‫ٍ‬
‫بصوت مبهـور «سـتحتاجون إىل‬ ‫مبـارشةً‪ ،‬فيقول ألصحابـه‬
‫أكرب»‪.‬‬
‫القـرش على أنـه قـو ٌة مـن قـوى‬‫َ‬ ‫يصـف كال الفيلـم والروايـة‬
‫الطبيعـة‪ ،‬قـو ٌة غير مباليـة بالبشر‪ ،‬كما احلـال مـع القـرش الذي‬
‫حيـوم حـول القـارب ليتفحصـه يف قصـة سـتيفن كريـن‪ ،‬كما أنـه‬
‫مفترس هائـل‪ .‬يف الفيلـم‪ ،‬يصفـه هوبـر للعمـدة قائلاً‪« :‬مـا‬ ‫ٌ‬
‫حمـر ٌك مثـا ٌّيل‪ ،‬آلـة التهـام‪ .‬إنـه حقـ ًا أعجوب ٌة‬
‫نتعامـل معـه هنـا هو ِّ‬
‫تطوريـة‪ .‬كل مـا تفعلـه هـذه اآللـة هـو السـباحة واألكل وتفريخ‬
‫صغيرة‪ .‬هـذا كل يشء»‪ .‬بعـد أن تبدأ املطاردة‪ ،‬يف مشـهد‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫قـروش‬
‫مـن اهلمـس خلمـس دقائـق‪ ،‬يناجـي كوينـت نفسـه مسـتعيد ًا‬
‫تفاصيـل جتربتـه املرعبـة يف امليـاه بعـد أن رضبـت غواصـ ٌة يابانيـ ُة‬
‫سـفينة يـو أس أس إنديانابولـس على الطريـق إىل اليتـي ‪Leyte‬‬
‫بعـد أن أوصلـت السـفين ُة إىل تينيـان ‪ Tinian‬القنبلـ َة الذريـ َة التي‬
‫دمـرت هريوشـيام الحقـ ًا‪ .‬يصـف هوبـر هجـوم القـروش على‬
‫الناجين‪« :‬أحيانـ ًا‪ ،‬ينظـر القـرش إليك مبـارشةً‪ ،‬يف عينيـك متام ًا‪.‬‬
‫هـل تعـرف مـا الـذي يتميز بـه القـرش؟ ليـس يف عينيه أدنـى أثر‬
‫للحيـاة‪ ،‬عينان سـوداوان لكأهنام عينـا لعبة أطفـال‪ .‬عندما يتحرك‬
‫يعضك‪ .‬تَسـمع ذلك‬ ‫باجتاهـك‪ ،‬ال يبـدو وكأنـه كائـ ٌن حي‪ ،‬حتـى َّ‬
‫الصراخ الفظيـع‪ ،‬ويتحول مـاء املحيط إىل اللـون األمحر»‪ .‬يعكس‬
‫‪326‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س‬

‫هـذا املونولـوگ واملعركـة التاليـة رعـب أن يكـون املـرء حتـت‬


‫ٍ‬
‫سلاح يدافـع بـه عـن نفسـه‪ ،‬كام حـدث مع‬ ‫رمحـة املفترس دون‬
‫مونواتشر ورفاقـه عندمـا هجـم عليهـم القـط الكبري‪.‬‬

‫من فيلم ‪ :Jaws‬قائد الرشطة برودي (روي شيدر) يرى القرش فيخرب رفاقه عىل متن السفينة‬
‫«ستحتاجون إىل قارب أكرب»‪.‬‬

‫جيسـد الرجـال الثالثـة القصـة اخلالـدة ملجموعة مـن املحاربني‬


‫البدائيين وهـو يطـاردون مفرتسـ ًا يف أعلى درجـات التطـور‬
‫از‬ ‫ويطاردهـم هـو بـدوره‪ .‬الرجال معزولـون متام ًا يف املحيـط‪ ،‬يف َم ٍ‬
‫يصـور كال الفيلم والروايـة عا َل ًا مصغر ًا‬
‫ِّ‬ ‫يشير إىل الطبيعـة اهلوجاء‪.‬‬
‫وبحبكـة ُصنِعت‬
‫ٍ‬ ‫يـدور فيه واحـدٌ من أكثـر متثالت البرشيـة خلود ًا‬
‫برباعـة لتكـون قادرة على إثارة مهسـات اخلـوف اإلنـايب النابع من‬
‫إرثنـا اجلينـي‪ .‬يبـدو الوحـش املفترس هنـا ذك ًّيـا جـد ًا يف مطاردته‬
‫للسـفينة أوركا‪ ،‬فهـو قو ٌة خبيثـ ٌة من قوى الطبيعـة كاحلوت األبيض‬
‫يف روايـة هرمـان ملفل‪.‬‬
‫‪327‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫يف كل مـن الروايـة والفيلـم‪ ،‬يربـح صيادونـا املعركـة يف النهاية‬


‫رغم اخلسـائر‪ .‬وقـد كان بـرودي‪ ،‬البطـل العادي وحامـي جمتمعه‪،‬‬
‫هـو من هـزم املفرتس مسـتخدم ًا الـذكاء‪ ،‬صفتنـا البقائيـة األقوى‪،‬‬
‫واألدوات‪ :‬بندقيـ ٌة عتيقـة مـن طراز أم‪ 1-‬مـن بقايا احلـرب العاملية‬
‫الثانيـة باإلضافـة إىل قنينـة هـواء للغطـس‪ ،‬أدوات متحـدر ٌة مـن‬
‫العظـام التـي اسـتخدمها مونواتشر كسلاح‪ .‬يف مقابلة لـه‪ ،‬أعطى‬
‫بيتر بينشلي ‪ Peter Benchley‬تفسير ًا لقـوة تأثير الفيلـم؛ يبـدو‬
‫وكأنـه مأخـو ٌذ مـن اكتشـافات علـم النفـس التطـوري‪« :‬نحـن ال‬
‫نخشـى مفرتسـاتنا فحسـب‪ ،‬بل نشـعر بالذهول حياهلا‪ .‬فلا ننفك‬
‫ُ‬
‫االفتتان االسـتعدا َد‪،‬‬ ‫نحـوك القصـص واخلرافات عنها‪ .‬ينمـي هذا‬
‫ويعـزز االسـتعدا ُد بدوره قدرتَنا على البقـاء»)‪ .(22‬وكمعظم األفالم‬
‫التـي حققـت نجاحـ ًا مال ًّيا‪ ،‬دشـن فيلم ‪ Jaws‬سلسـل ًة مـن األفالم‬
‫بثلاث إحلاقيـات هـي ‪ )1978( Jaws 2‬و ‪ )1983( Jaws 3-d‬و‬
‫‪.)1987( Jaws: The Revenge‬‬
‫ال آخـر‬‫يعـدُّ فيلـم ‪ Deep Blue Sea‬الصـادر عـام ‪ 1999‬شـك ً‬
‫مـن متثـل القرش كمفترس‪ .‬كما أن فيلم ‪ Jaws‬يبـدو مدينـ ًا لرواية‬
‫مـويب ديـك‪ ،‬كذلـك حييـل هـذا الفيلـم إىل روايـة فرانكشـتاين‬
‫‪ Frankenstein‬القوطيـة ملـاري شـييل ‪ ،Mary Shelley‬حكايـ ُة‬
‫الرجـل الـذي عبـث ِ‬
‫بالعلـم أكثر مـن اللازم يف تغيير الطبيعة‪ ،‬يف‬
‫َـرر يف األدب واألفلام‪ .‬جتـري أحـداث فيلـم‬ ‫رسديـة كثير ًا مـا ُتك َّ‬
‫خمتبر حتـت املـاء يدعـى أكواتيـكا‪ ،‬حيـث‬ ‫ٍ‬ ‫‪ Deep Blue Sea‬يف‬
‫جيـري الباحثـون هناك جتـارب عىل القـروش عىل أمـل التوصل إىل‬
‫‪328‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س‬
‫ككل من ٍ‬
‫شـبه باملنـازل أو‬ ‫ٍ‬
‫اكتشـافات طبيـة رائـدة‪ .‬ال ختلـو املنشـأة ٍّ‬
‫يطـارد البرش‬
‫َ‬ ‫القلاع املسـكونة التقليديـة يف التراث القوطي حيث‬
‫ويقتلـون من ِق َبـل الكائنات اخلارقـة‪ ،‬أو حتى بعض الشـبه بمرسح‬
‫األحـداث يف أفلام ‪ Alien‬و ‪.Predator‬‬
‫ٍ‬
‫نحـو خالص‪،‬‬ ‫يف هـذا الفيلـم‪ ،‬ليـس املفرتسـون طبيعيين على‬
‫لكنهـم ليسـوا خارقين أيضـ ًا‪ُ .‬تـري الدكتورة سـوزان مكاليستر‬
‫(سـافرون بـوروز ‪ ،)Saffron Burrows‬التـي متثـل شـخصية‬
‫ٍ‬
‫تعديلات على أدمغـة القـروش بحيـث تنتج‬ ‫فرانكشـتاين‪ ،‬جتـري‬
‫مصلا يفترض أن يعالـج مـرض الزهايمـر‪ ،‬لكنهـا انتهكـت‬ ‫ً‬
‫الربوتوكـول العلمـي خالل هـذه العملية‪ .‬وهكذا خلقت سـوزان‪،‬‬
‫كما فعـل فرانكشـتاين‪ ،‬وحوشـ ًا‪ :‬أربعـة من قـروش املاكـو‪ ،‬مانح ًة‬
‫ٍ‬
‫تلميح إىل خامتة‬ ‫قوي أصلاً‪ .‬يف‬ ‫ٍ‬
‫ملفرتس ٍّ‬ ‫بذلـك قو ًة وذكا ًء إضافيين‬
‫الفيلـم‪ ،‬يوضـح ِ‬
‫عـال آخر هـو الدكتـور ويتلـوك العظمـة التطورية‬
‫للقـرش كمفترس إذ يقـول‪« :‬إن القـروش مـن أقـدم املخلوقـات‬
‫على الكوكـب‪ ،‬فقـد كانت موجـودة حني مل يكـن هنـاك إال اللحم‬
‫واألنيـاب»‪.‬‬
‫عندما تُسـأل عن ما الـذي فعلته للقروش‪ ،‬جتيب د‪ .‬مكاليستر‪:‬‬
‫«مل يكـن حجـم أدمغتهـا كافيـ ًا إلنتـاج كميـات كافية مـن الربوتني‬
‫املطلـوب‪ .‬لـذا فقـد انتهكنـا ميثـاق هارفـارد‪ ..‬كيما نزيـد كتلـة‬
‫أدمغتهـا‪ ..‬وكأثـر جانبـي‪ ،‬أصبحت هـذه القروش أذكـى»‪ .‬وتتدبر‬
‫هـذه املفرتسـات طريقـة للبحـث عـن الطرائـد يف املصـدر املتوفـر‬
‫الوحيـد‪ :‬فريـق العلماء يف خمتبر أكواتيـكا الذين خيططـون للهرب‪.‬‬
‫‪329‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫عندما يكتشـف كارتر (تومـاس جين ‪ )Thomas Jane‬الذي يدمغ‬


‫«مروض القـروش» ما فعلته مكاليستر يقول‪:‬‬ ‫األسماك وامللقـب بـ ِّ‬
‫قتـل خلقهـا الـرب ومنحتِهـا رغبـ ًة‬
‫عمـدت إىل أقـدم ماكنـة ٍ‬‫ِ‬ ‫«لقـد‬
‫وإرادة‪ .‬مـا فعلتِـه هـو أنـك أنزلتِنـا إىل قاع اهلـرم الغذائـي اللعني»‪.‬‬
‫ليسـت هـذه القـروش مفرتسـات أقوى بكثير من البرش فحسـب‪،‬‬
‫بل جـرى تعديلهـا أيض ًا لتشـاركنا صفتنـا البقائية املتمثلـة بالذكاء‪،‬‬
‫واحتفظـت باإلضافـة إىل ذلـك باجلـوع الذي غرسـه فيهـا التطور‪.‬‬
‫«لقـد كانـت تسـوقنا»‪ ،‬يقـول كارتـر بعـد أن تدمـر عاصفـ ٌة اجلـزء‬
‫فيحـاص اجلميـع يف األسـفل‪« ،‬لتقودنـا إىل‬ ‫َ‬ ‫العلـوي مـن املنشـأة‬
‫حيـث تريـد‪ :‬أن تغـرق املنشـأة‪ ..‬هـذا مـا يفكر بـه قرش ماكـو يزن‬
‫‪ 800‬رطـل‪ :‬باحلريـة‪ ،‬بالبحـر األزرق العميق»‪.‬‬
‫ربما اسـتخدمت ماري شـييل أيضـ ًا توظيفـ ًا تطور ًّيـا يف روايتها‬
‫فرانكشـتاين‪ .‬فقـد نتوقـع أن أولئك الذيـن قاوموا إغـراءات إجراء‬
‫جتـارب مؤذيـة بنتائـج غير معروفـة سـتكون لدهيـم فرصـة أكبر‬
‫يف البقـاء مـن نظرائهـم الذيـن جربـوا وفشـلوا‪ ،‬هـذا قـد يسـتحث‬
‫اسـتجابة غريزيـة جتـاه رسديـة الفـرد الـذي يبالـغ كثير ًا يف ميادين‬
‫الفكـر‪ .‬لـذا ففـي هـذا املوقـف اخليـايل‪ ،‬قـد نـرى محاقة مكاليستر‬
‫يف خلقهـا ملفرتسـات تأكلهـا مـع بقيـة العلماء كنـو ٍع مـن العدالـة‬
‫الشـعرية‪ .‬كما يف فيلـم ‪ ،2001: A Space Odyssey‬حيـث نـرى‬
‫حـل للمجاعـة والدفـاع عـن النفس‪،‬‬ ‫ذهـن مونواتشر يتفتـق عـن ٍّ‬
‫كذلـك ينتصر الـذكاء البشري‪ ،‬أداتنـا البقائية األهم‪ ،‬على القرش‬
‫األخير‪ .‬إذ ينجـح كارتـر وبريترش الطبـاخ يف تدمريه قبـل أن خيرتق‬
‫‪330‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س‬

‫السـور املحيـط باملجمـع لينطلـق إىل البحـر‪ ،‬واسـتخدما يف ذلـك‬


‫قنبلـة وحربـة‪ ،‬أدوات تنتمـي إلرث األدوات ذاتـه الـذي خلفـه‬
‫مونواتشر عندمـا اسـتخدم ع ْظمتـه‪ .‬يرجح علـم النفـس التطوري‬
‫حـدوث اسـتجابة بدائيـة إجيابيـة جتـاه انتصـار حماربينا‪ .‬أمـا العلامء‬
‫الذيـن غامـروا بتجـارب خطيرة فقـد هلكوا‪.‬‬
‫إذا كان فيلم ‪ Jaws‬يسـتعيد رواية مـويب ديك‪ ،‬وكان فيلم ‪Deep‬‬
‫‪ Blue Sea‬حييـل على روايـة فرانكشـتاين‪ ،‬كذلك فـإن فيلم ‪Open‬‬
‫‪ )2003( Water‬يوظف قصة ‪ ،The Open Boat‬ولو أن شـخصيتَي‬
‫الفيلـم يضيعـان يف البحر دون قارب نجاة؛ مثـل ذلك الذي يف قصة‬
‫سـتيفن كريـن‪ .‬لكـن الزوجين الشـابني واقعـان يف نفـس املـأزق‪:‬‬
‫معـزوالن حيـث ال أحـد ينجدمهـا‪ ،‬حتـت رمحـة الطبيعـة‪ .‬يذهـب‬
‫دانييـل (دانييـل ترافيـس ‪ )Daniel Travis‬وسـوزان (بالنشـارد‬
‫ريـان ‪ )Blanchard Ryan‬ألخـذ إجـازة يف الكاريبـي مـن حياهتما‬
‫املزدمحـة باملشـاغل‪ .‬حيجـزان لنفسـيهام يف رحلـة غطـس‪ ،‬ويرتكهام‬
‫مركـب السـياح خلفه لسـبب مـا‪ .‬وهكـذا كما الرجال اخلمسـة يف‬
‫قصـة سـتيفن كرين‪ ،‬جيدان نفسـيهام وسـط طبيعـة معاديـة‪ ،‬طافيني‬
‫ببـدالت الغطـس حتـوم حوهلما أسماك القـرش وحتيطهما قناديـل‬
‫البحـر السـامة‪ .‬بـدالً مـن حماولـة لفـت انتبـاه النـاس على جزيـرة‬
‫قريبـة كما يفعل رجـال كريـن‪ ،‬يف هذا الشـكل من متثل املفرتسين‪،‬‬
‫ي َل ِّ‬
‫ـوح دانييـل وسـوزان عبث ًا للـزوارق املـارة التي ال تراهـم‪ .‬يصدر‬
‫رعـب الفيلـم – الـذي يفترض أنـه مأخـوذ عـن قصـة حقيقيـة‬
‫مـن خوفنـا املـوروث مـن عجزنـا يف مواجهـة احليوانات املفرتسـة‬
‫‪331‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫دون أدوات الدفـاع عـن النفـس التـي مكننـا تكيفنـا التطـوري من‬
‫صناعتهـا‪ .‬بخلاف التمثل يف فيلمـي ‪ Jaws‬و ‪ ،Deep Blue Sea‬ال‬
‫يمتلـك البطلان هنا أي سلاح ملقاتلـة القروش‪ .‬طبقـت فكرة هذا‬
‫الفيلـم مرتين الحقـ ًا يف أفالم ذات حبكة مشـاهبة تتلخـص يف ترك‬
‫األبطـال يف عـرض البحـر حتـت رمحـة الطبيعة‪.‬‬
‫أدى نجـاح فيلـم ‪ Jaws‬يف توظيـف متثـل يثير اخلـوف اإلنـايب‬
‫املـوروث عـن أسلافنا البدائيني‪ ،‬أدى إىل نشـوء فرع خـاص بأفالم‬
‫أسماك القرش‪ .‬فازدمحت شاشـات التلفاز ومبيعـات أقراص الدي‬
‫يف دي ‪ DVD‬بالعشرات مـن األفلام ذات العناويـن الرباقـة منها‪:‬‬
‫‪Trailer، Mega Shark Versus Giant Octopus،Sharktapus‬‬
‫‪ ،Park Shark‬وفيلـم ‪ Sharknado‬بإحلاقياتـه الثلاث‪ .‬و ِّظفـت‬
‫ميمـة القـرش حتـى يف الرسـوم املتحركـة املوجهـة لألطفـال كام يف‬
‫‪ )2003( Finding Nemo‬و ‪ )2004( Shark Tale‬حيـث نجـد‬
‫قروشـ ًا نباتيـة وأخرى مفرتسـة‪.‬‬
‫ََ‬
‫أكلة البشر في األفالم‪:‬‬
‫َ‬
‫فيلمي ‪ ،The Ghost and the Darkness‬و ‪Anaconda‬‬

‫تصـف أغنيـة ‪ Just Like Animals‬لفرقـة ‪ Maroon 5‬الصيـد‬


‫اجلنسي بـدالً املفرتسين الذين يصطـادون ألجـل الطعـام‪ ،‬ولو أن‬
‫السـيكولوجيني قـد جيـدون تشـاهبات معقولـة كثيرة‪ .‬يطـرح علم‬
‫النفـس التطـوري أنـه بالتوازي مـع االلتقاط‪ ،‬كان صيـد احليوانات‬
‫جـزء ًا مكم ً‬
‫ِّلا يف النجـاح البقائي ألسلافنا البدائيني‪ ،‬مـا جعلنا من‬
‫ِ‬
‫اللواحم‬ ‫األنـواع القارتـة‪ .‬لكـن البشر كانوا أيضـ ًا طرائـد لبعـض‬
‫‪332‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س‬

‫الرهيبـة‪ ،‬ويرجـح علـم النفـس التطـوري أن ال بد أن آثـار تكيفهم‬


‫مـع هـذه املفرتسـات مـا زالـت باقيـة يف ذاكرتنـا اجلينيـة منـذ ذلك‬
‫احلين‪ ،‬وكام تقول إحدى شـخصيات فيلـم ‪« Deep Blue Sea‬حني‬
‫مل يكـن هنـاك إال اللحم واألنياب»‪ .‬لـذا باإلضافة إىل أفالم أسماك‬
‫القـرش‪ ،‬لدينـا العشرات مـن األفلام األخـرى التي تثير اخلوف‬
‫بداخلنـا مـن أن نصبـح طريدة ثـم طعام ًا للمفرتسـات‪.‬‬
‫يعدُّ فيلم ‪ )1996( The Ghost and the Darkness‬باخلصوص‬
‫مثـاالً جيـد ًا لفيلـم رعـب خميـف حقـ ًا قائـ ٍم على متثل املفرتسين‪:‬‬
‫آكلـ ٌة للبشر‪ .‬تغيرت نظرتنا هلـذه احليوانـات القويـة منذ أن‬‫أسـود ِ‬
‫أصبحـت يف خطـر االنقـراض‪ ،‬كام أن معظـم البرش صـاروا خارج‬
‫دائـرة التعـرض لتهديدهـا‪ .‬وربما يصبح مستسـاغ ًا صناعـ ُة صورة‬
‫رومانسـية شـاعرية للمفرتسـات الكبيرة حاملـا نصبـح بعيدين عن‬
‫مائدهتـا الغذائيـة‪ ،‬كما حيـدث حين نتعاطف معهـا عندمـا نراها يف‬
‫األفلام الوثائقيـة على التلفزيـون أو عندمـا نراهـا ممثلة بشـخصية‬
‫األسـد أليكـس يف فيلم الرسـوم املتحركـة ‪.)2005( Madagascar‬‬
‫لكـن كما يسـجل دونـا هـارت وروبـرت سوسمان‪ ،‬فقـد «عشـنا‬
‫ٍ‬
‫وجبات شـهي ًة عاجـزة‪ .‬أ َّمـا هيمنتنا عىل‬ ‫ملاليني السـنني كنـا خالهلا‬
‫املفرتسـات فلـم تتحقـق إال يف فترة متأخرة جـد ًا من تارخينـا»)‪.(23‬‬
‫مـع ذلـك‪ ،‬ويف عـدة أجـزاء من العـامل‪ ،‬ما زالـت املفرتسـات خطر ًا‬
‫متواصلاً‪ ،‬خصوصـ ًا النمـور والتامسـيح يف اهلنـد‪ ،‬والتامسـيح يف‬
‫إفريقيا‪.‬‬
‫جتـري أحداث فيلـم ‪ The Ghost and the Darkness‬يف أواخر‬
‫‪333‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫القـرن التاسـع عرش حيـث يترك العقيد الربيطـاين املهنـدس جون‬


‫باتريسـون (فـال كيلمـر ‪ )Val Kilmer‬زوجتـه احلامـل يف لنـدن‬
‫ليذهـب يف مهمـة لبنـاء جسر للسـكة احلديـد يف كينيـا‪ ،‬مشروع‬
‫تكفـل به املمـول الربيطاين السير روبـرت بومنت‪ .‬أضفـى املخرج‬
‫سـتيفن هوبكنـز ‪ Stephen Hopkins‬وكاتـب السـيناريو ويليـام‬
‫گولدمـان ‪ William Goldman‬على الفيلـم ملسـة من ثقافـة ما بعد‬
‫الكولونياليـة بشـكل رصيـح إذ خيبر بومنـت باتريسـون «نحـن يف‬
‫سـباق‪ ،‬أهيـا العقيـد‪ ،‬واجلائـزة هي قـارة إفريقيـا بأكملهـا»‪ .‬مضيف ًا‬
‫أهنـم «يبنـون السـكة احلديديـة لغـرض نبيـل هـو إنقـاذ إفريقيا من‬
‫األفارقة»‪.‬‬
‫يعبر طبيـب املعسـكر عن هـذه املوضوعة مـا بعـد الكولونيالية‬
‫بلهجـة سـاخرة وهو يكشـف عن الغـرض احلقيقي من مد السـكة‪،‬‬
‫لا إهنـم «يبنوهنا للحفـاظ عىل جتـارة العاج‬‫ف ُيحـدِّ ث باتريسـون قائ ً‬
‫فحسـب ‪ -‬أي ليجعلـوا األثريـاء أكثـر ثـرا ًء»‪ .‬يواجـه باتريسـون‬
‫مشـاكل بني العامل‪ :‬فهم خليـط من اهلندوس واملسـلمني واألفارقة‬
‫األصليين يكرهـون بعضهم بعضـا وال يعملون بشـكل جيـد مع ًا‪،‬‬
‫جتسـيد للتمثل القبلي‪ .‬تبدأ املتاعـب احلقيقية عندما تبدأ أسـود آكلة‬
‫للبشر بافتراس العمال واحـد ًا بعد آخـر‪ .‬واآلن عىل باتريسـون أن‬
‫يصبـح صيـاد ًا للتعامـل مـع املفرتسـات التـي تـأكل ُعمَّ لـه‪ .‬ينجح‬
‫يف قتـل أحـد األسـود‪ ،‬لكـن اثنين آخرين هيامجـان املعسـكر بقوى‬
‫شـبه خارقـة‪ .‬عندمـا يواجـه باتريسـون أخير ًا واحـدً ا من األسـود‬
‫تنومه عينا املفرتس مغناطيسـ ًّيا‬
‫عـن قرب ويصبـح يف مرمى نريانـه‪ِّ ،‬‬
‫‪334‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س‬

‫ويعجـز عن ضغـط الزناد‪ .‬يثير صامويل‪ ،‬وهو مسـاعد باتريسـون‬


‫واملعلـق الصـويت يف الفيلـم‪ ،‬يثير املخـاوف مـن هـذه املفرتسـات‬
‫عندمـا يقـول «ال يشء يضاهـي اخلـوف الـذي يسـببه وحـش ٌ‬
‫آكل‬
‫للبشر‪ .‬الليـل مملكة هـذه احليوانات‪ ،‬وهـي تقتل برسعـة خاطفة»‪.‬‬
‫تتأكـد هـذه املخـاوف عندما جيـد العامل بقايـا جثة أحـد العامل بعد‬
‫أن أخذتـه األسـود‪« :‬لقـد سـلخت الوحـوش جلـده كـي تشرب‬
‫دمـه» يضيـف صامويـل بنبرة تشـاؤم‪« ،‬األسـود ال تفعـل هـذا»‪.‬‬
‫يطلـق العمال املرتعبـون عىل األسـدين اسـمي الشـبح والظلمة‪.‬‬
‫لكـ َّن البرش صيـادون أيض ًا‪ ،‬ويشـتغل الفيلم على متثيل املفرتس‬
‫والصيـاد يف آن واحـد‪ .‬عندمـا يصـل الصيـاد األمريكـي الشـهري‬
‫تشـارلز ريمينگتـون (مايـكل دوگالس ‪ )Michael Douglas‬إىل‬
‫املـكان مـع فريقـه مـن صيادي األسـود املاسـاي بعـد أن اسـتأجره‬
‫السير بومنت‪ ،‬تسـوء األمور أكثـر‪ .‬فبعد أن يقتل أسـدٌ ريمينگتون‪،‬‬
‫ٍ‬
‫حامية باسـتخدام بندقية‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫معركـة‬ ‫يقتل باتريسـون األسـد األخري يف‬
‫أداة أخـرى تفرعـت عـن عظمـة مونواتشر‪ ،‬متفوقـ ًا بذلـك على‬
‫قـوى خارقـة يف سـياق‬‫مفترس يبـدو وكأنـه ال يقهـر‪ ،‬وربما ذو ً‬
‫ا لفيلم ‪.‬‬
‫تتواصـل املوضوعـة مـا بعـد الكولونياليـة حتـى النهايـة‪ .‬يف‬
‫التعليـق الصـويت يف خلفيـة الفيلـم‪ ،‬خيربنـا صامويـل أن «بعـض‬
‫النـاس اعتقـدوا أهنـا مل تكـن أسـود ًا أصلاً‪ ،‬بـل أرواح بعـض‬
‫األطبـاء املوتى عـادت لتنرش اجلنـون‪ .‬اعتقد آخرون أهنا الشـياطني‬
‫ـلت لتمنـع الرجـل األبيـض مـن حكم العـامل»‪ .‬يعـد الفيلم يف‬
‫رس ْ‬ ‫ُأ ِ‬

‫‪335‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫جـزء منـه عرض ًا لالسـتغالل األورويب إلفريقيا‪ ،‬أي االسـتيالء عىل‬


‫األرايض واألقاليـم مـن السـكان األصليين‪ .‬حتى سـتينيات القرن‬
‫املـايض‪ ،‬كانـت األفلام تزخـر برسديـة أحقيـة حضـارة الرجـل‬
‫األبيـض بالتوسـع اإلقليمـي‪ ،‬كما يف أفلام احلـروب مـع هنـود‬
‫ٍ‬
‫تغييرات عىل هـذه الرسدية كام‬ ‫أمريـكا االصليين‪ .‬أجـرت الثقافـة‬
‫يف فيلمـي ‪ )1970( Little Big Man‬و ‪Dances with Wolves‬‬
‫(‪ .)1990‬لكـن الرعـب احلقيقـي يف فيلـم ‪The Ghost and the‬‬
‫‪ Darkness‬يكمـن يف الرعـب البدائـي مـن أن نتعـرض لالفتراس‬
‫فيصبـح حلمنـا طعامـ ًا للوحـوش‪ .‬يفيـد دونـا هـارت وروبـرت‬
‫سوسمان أن هذيـن األسـدين قـد قتلا وأكال مائة ومخسـة وثالثني‬
‫شـخص ًا يف الفترة ‪ .1897-1898‬تظهـر بيانـات ترت هنايـة الفيلم أن‬
‫األحـداث مأخـوذة مـن قصـة حقيقية وأن جثث األسـود مـا زالت‬
‫حمنطـة حمفوظـة يف املتحـف امليـداين يف شـيكاگو‪ .‬ليـس افتراس‬
‫األسـود للبشر أمر ًا غير معتاد‪ .‬يفيد هانـز كروك أن حيوانـ ًا واحد ًا‬
‫نمر أربعامئة وسـتة‬‫قتـل أربعـة وثامنني شـخص ًا يف أوگاندا بينما قتل ٌ‬
‫وثالثين شـخص ًا يف بدايات القـرن العرشين يف اهلنـد)‪ .(24‬ولئن كان‬
‫هـذا النـوع مـن االفتراس شـائع ًا يف حقبة حديثة نسـب ًّيا كهـذه‪ ،‬فال‬
‫بـد أن ظـروف وجتربـة أسلافنا يف العصـور األقـدم كانـت فظيعة‪.‬‬
‫خيـاف كثير مـن النـاس األفاعـي‪ ،‬ما يفسر ربما العـدد الكبري‬
‫مـن أفلام الرعـب التي تركـز عليهـا كمفرتسـات‪ .‬الحـظ إدوارد‬
‫أوزبـورن ويلسـون وآخـرون شـيوع النفـور مـن الثعابين‪ .‬يرجـح‬
‫أرين أومـان ‪ Arne Ohman‬وسوسـان مينيـكا ‪ Susan Mineka‬أن‬
‫‪336‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س‬

‫هلـذا النفـور جـذور ًا بدائيـة‪« :‬يرجـح اخلوف الشـديد مـن األفاعي‬


‫عنـد البشر كما عند بنـي عمنا مـن الرئيسـيات أنـه – هـذا اخلوف‬
‫نتيجـة لتاريـخ تطـوري‪ .‬وقـد يفسر التغايـر الوراثي ملـاذا ال يظهر‬
‫مجيـع األفراد هـذا اخلوف»)‪ .(25‬يمكـن أن يقال إن األفعـى املذكورة‬
‫ِ‬
‫يف سـ ْفر التكويـن هـي مـن آثار هـذا اخلـوف‪ .‬يمكننـا أن ِّ‬
‫نخمن أن‬
‫أقاربنـا من القرود الذين يعيشـون عىل األشـجار كانوا مـن الطرائد‬
‫املفضلـة لألفاعـي‪ .‬تصـف قصيـدة إيميلي ديكنسـون ‪Emily‬‬
‫نحيف عىل النجيلة ‪A narrow Fellow in the‬‬ ‫ٌ‬ ‫«رفيـق‬
‫ٌ‬ ‫‪Dickinson‬‬
‫ـدث ِ‬
‫«ص ْفـر ًا يف العظـام»‪ ،‬نعـم تصف مشـاعر الكثريين‬ ‫«ي ِ‬
‫‪ُ Grass‬‬
‫جتـاه األفاعـي‪ .‬هكذا و ِّظـف النفور مـن األفاعي يف جنـس الرعب‬
‫يف العشرات مـن أفلام امليزانيـات املنخفضـة كفيلـم ‪The Snake‬‬
‫‪ )1961( Woman‬وفيلـم ‪ )1973( Sssssss‬و ‪)1974( Fangs‬‬
‫ومؤخـر ًا يف فيلـم ‪ )2006(Snakes on a Plane‬ثـم ‪snakes on a‬‬
‫‪ train‬يف نفـس السـنة‪ .‬مـن أفضـل املشـاهد التـي تلعـب على وتـر‬
‫النفـور مـن األفاعي تلك املشـاهد اخلاصـة بجحر األفاعـي يف أول‬
‫أفلام إنديانـا جونـز ‪.)1981( Raiders of the Lost Ark‬‬
‫مـن التوظيفات األخرى هلـذا اخلوف القديم فيلـم ‪Anaconda‬‬
‫فيلـم ‪Jaws‬‬
‫َ‬ ‫(‪ .)1997‬على بعـض األصعـدة‪ ،‬يسـتعيد هـذا الفيلـم‬
‫يف وضعـه ملجموعـة مـن البشر يف رصاع مـع مفترس يبـدو أنه ال‬
‫يقهـر‪ .‬يسـتأجر سـتة أنثروبولوجيين يقودهـم الربوفيسـور كيـل‬
‫(إيريـك سـتولتز ‪ )Eric Stoltz‬قاربـ ًا للسـفر إىل أقـايص األمـازون‬
‫لصناعـة فيلـم وثائقـي عـن هنـود الشرييشـاما األسـطوريني‪ .‬يف‬
‫‪337‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫طريقهـم‪ ،‬يعثـرون على صيـاد األفاعي بول سيرون (جـون فويت‬


‫‪ )Jon Voight‬ضائعـ ًا بعـد أن حت َّطـم قار ُبـه‪ ،‬فيأخذونـه معهـم على‬
‫مضـض‪ .‬يدَّ عـي سيرون أنـه يقودهـم إىل قريـة الشرييشـاما‪ ،‬لكنه‬
‫يسـتخدمهم بـدالً من ذلك ألمسـاك أفعـى أناكوندا عمالقـة‪ ،‬مثال‬
‫آخـر على تقديم املـال على مصلحـة اجلامعة‪.‬‬
‫يؤسـس السـيناريو لقـوة األفعـى كوحـش مفترس‪ .‬يصـف‬
‫سيرون أفاعي األناكونـدا بكلمات تذكرنا بوصف هوبـر وكوينت‬
‫للقـرش األبيـض الكبري يف فيلـم ‪« :Jaws‬األناكوندا آلـة قتل مثالية‪.‬‬
‫لدهيـا مستشـعرات للحـرارة‪ ..‬تضرب‪ ..‬تلتـف حولـك‪ ،‬تضمك‬
‫ضمـة أقـوى مـن ضمـة العاشـق املتيـم‪ ،‬سـتحظى بشرف سماع‬
‫صـوت عظامـك وهـي تتحطـم قبـل أن تنفجـر رشايينـك حتـت‬
‫الفيلـم األفعى أكثر إذ يقول سيرون‬
‫ُ‬ ‫ضغـط ذلك العناق»‪ .‬يشـيطن‬
‫لرفاقـه إهنـا حتب القتـل‪ .‬فبعـد األكل‪ ،‬تتقيأ األناكونـدا طريدهتا كي‬
‫تَقتـل وتأكل جمـدد ًا»‪.‬‬
‫مـن مقاييـس جاذبيـة الفيلـم عـد ُد اإلحلاقيـات واألفلام‬
‫الشـبيهة التـي تتولـد عنه‪ .‬ربما مل يعجـب فيلـم ‪ Anaconda‬النقاد‪،‬‬
‫لكنـه حقـق شـعبية كافيـة ليتحـول إىل سلسـلة مـن ثالثـة أفلام‬
‫تلـت هـي‪Anacondas: The Hunt for the Blood Orchid :‬‬
‫(‪ ،)2008( Anaconda III،)2004‬و ‪Anacondas: Trail of‬‬
‫‪ ،)2009( Blood‬وقـد صنـع االثنـان األخيران للعـرض على‬
‫التلفزيـون وأقـراص الـدي يف دي‪.‬‬
‫تزخـر األفلام بالكثير مـن املفرتسـات األخـرى اآلكلـة‬
‫‪338‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س‬

‫للبشر‪ .‬يصـور فيلـم ‪ )1999( Lake Placid‬وإحلاقياتـه الثلاث‬


‫متاسـيح جبـارة تظهـر يف بحيرة يف واليـة مين‪ ،‬إذ اقتحمـت هـذه‬
‫تؤسـس‬‫التامسـيح الشـواطئ كما فعلت القـروش يف نيـو إنگالند‪ِّ .‬‬
‫حبكـ ُة الفيلـم لنو ٍع مـن املجموعـة القبليـة يقودها املسـؤول البيئي‬
‫جـاك ويلـز (بيـل بوملـان ‪ ،)Bill Pullman‬أمـا بقيـة األفـراد فهـم‬
‫األنثروبولوجية كييل سـكوت (بريدجيت فونـدا ‪)Bridget Fonda‬‬
‫وقائـد رشطـة البلـدة وصيـاد متاسـيح حمترف‪ ،‬ليشرع األربعـة يف‬
‫قتـال الوحـش اآلكل للبشر‪ .‬أنتِجت ثلاث إحلاقيات هلـذا الفيلم‪،‬‬
‫والرابعـة قيـد العمـل بينما أكتـب هـذا الكتـاب‪ .‬يبني دونـا هارت‬
‫وروبرت سوسمان أن التامسـيح مفرتسـات ألنواع رتبة الرئيسيات‪.‬‬
‫وخيرباننـا أيضـ ًا عـن حادثة جـرت يف أثنـاء احلـرب العامليـة الثانية‪:‬‬
‫فعندمـا أجبرت القـوات الربيطانيـة اجلنـود اليابانيني على الرتاجع‬
‫يف بورمـا‪ ،‬متركـز اليابانيون يف أحـد املسـتنقعات منتظرين اإلخالء‪.‬‬
‫لكن السـفن احلربيـة الربيطانية منعـت اليابانيني من إنقـاذ جنودهم‬
‫ينـج إال‬
‫املحارصيـن‪ .‬ومـن بين ألـف جنـدي دخلـوا املسـتنقع‪ ،‬مل ُ‬
‫عشرون‪ ،‬وقـد التهمـت التامسـيح البقيـة)‪ .(26‬مل تكن الشـعبية التي‬
‫حظـي هبا فيلام ‪ Anaconda‬و ‪ Lake Placid‬كافية لتدشين سلسـلة‬
‫لـكل منهما فحسـب‪ ،‬بـل أنتـج أيضـ ًا فيلـم تلفزيـوين جيمـع بينهام‬
‫عـام ‪ 2015‬حتـت عنـوان ‪ .Lake Placid vs. Anaconda‬يف فيلـم‬
‫ٌ‬
‫ديـدان عمالقة تظهـر من جوف األرض‬ ‫‪ ،)1990( Tremors‬لدينـا‬
‫لتبتلـع النـاس الغافلين‪ .‬وقـد أهلمت هـذه احلبكة مخـس إحلاقيات‬
‫عرضـت كلهـا على التلفزيـون وعىل شـكل أقـراص دي يف دي‪.‬‬
‫‪339‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫تعليـق يوفـال نـوح هـراري ‪ Yuval Noah Harari‬على‬ ‫ُ‬ ‫يفسر‬


‫طبيعتنـا جـزء ًا كبري ًا من سـبب تفاعلنا مـع التمثلات البدائية وملاذا‬
‫اخلوف مـن املفرتسين من القصـص اخلالدة‬‫َ‬ ‫التمثلات‬
‫ُ‬ ‫جتعـل هـذه‬
‫يف األفالم‪:‬‬
‫«إن عاداتنـا الغذائيـة ونزاعاتنا وجنسـانيتنا‪ ،‬كلها نتيجة للطريقة‬
‫التـي تتفاعـل هبـا عقولنـا التـي تعـود إىل عصر الصيـد وااللتقـاط‬
‫مـع بيئتنـا مـا بعـد الصناعيـة احلاليـة بما يف ذلـك مدننـا العمالقة‪،‬‬
‫حيـاج‬
‫َّ‬ ‫الطائـرات‪ ،‬اهلواتـف‪ ،‬واحلواسـيب‪ ..‬ولكـي نفهـم ملـاذا‪،‬‬
‫املختصـون بعلـم النفس التطـوري أن علينا أن ننقـب يف عامل الصيد‬
‫َ‬
‫العـال الذي ما زلنا نسـكنه عىل مسـتوى‬ ‫وااللتقـاط الـذي شـكَّلنا‪،‬‬
‫الالوعي )‪.(27‬‬
‫ويمكـن هلـذا َ‬
‫العال أن يكون عاملـ ًا خميف ًا جد ًا‪ ،‬كما هو يف األفالم‬
‫التي توظف متثل املفرتسين‪.‬‬

‫‪340‬‬
‫الفصل السابع‬

‫َّ‬ ‫َ َ ُّ‬
‫تمثل اآلخر‪ :‬األشباح‪ ،‬الطعانون‬
‫‪ ،slashers‬الساحرات والروبوتات كآخرين‬

‫ـزم يفتـاح واجللعاديـون اإلفرايميين يف‬‫يف ِسـ ْفر القضـاة‪َ ،‬ي ِ‬


‫معركـة كبرى‪ .‬وعندمـا حيـاول الناجون مـن اإلفرايميين عبور‬
‫هنـر األردن للعـودة إىل ديارهـم‪ ،‬يسـأل اجللعاديـون املنتصرون‬
‫كل واحـد ممـن حياولـون العبـور مـا إذا كان مـن بنـي إفرايـم‪،‬‬ ‫َّ‬
‫فـإن أجـاب بلا‪ ،‬يطلبـون منـه أن يلفـظ كلمـة «شـبولت»‪ ،‬فإذا‬
‫مل يسـتطع اجلنـدي أن ينطقهـا بشـكل سـليم «كانـوا يأخذونـه‬
‫آخـر‪ .‬وهكـذا ُذبِح مـن اجلنود‬
‫ويذبحونـه»‪ ،‬ألهنـم اكتشـفوا أنه َ‬
‫الفاريـن أربعـون ألفـ ًا‪.‬‬
‫تقودنـا اكتشـافات علـم النفـس التطـوري إىل أن نـرى أن قـوة‬
‫متثلات القبليـة واإلقليميـة واالسـتحالة والتـزاوج واخلـوف مـن‬
‫املفترس وغريهـا مـن التمثلات التي تثير اخلوف اإلنـايب يف أفالم‬
‫‪341‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫الرعـب‪ ،‬أن نـرى أهنا منبثقـة من جتارب أسلافنا البدائيين‪ .‬إن من‬
‫أعمـدة هذه التمثلات كلها كراهيـ َة من ندركهم َ‬
‫كآخـر واالرتياب‬
‫جتاههـم‪ ،‬كام يتبين يف قصـة اجللعاديين واإلفرايميني‪ .‬يبني سـتيفن‬
‫بنكـر أن العقـل‪ ،‬مثـل اجلسـد‪« ،‬يتكون من عـدة أعضاء منفـردة أو‬
‫«وحـدات» هندسـها االنتخـاب الطبيعـي لرفـع اللياقـة التكاثريـة‬
‫ألسلافنا األقدمين يف العصـور احلجريـة‪ ،‬وأن هـذه اهلندسـة‬
‫تنعكـس إىل حـدٍّ مـا يف الطريقـة التـي تعمـل هبـا عقولنا حال ًّيـا»)‪.(1‬‬
‫كما تبين يف الفصول السـابقة‪ ،‬ما زالت هـذه اهلمسـات القادمة من‬
‫مئـات اآلالف من السـنني يف ماضينـا التطوري السـحيق قادرة عىل‬
‫حـث اسـتجابة اخلوف جتـاه أفلام الرعب‪.‬‬
‫يتجلى إدراك اآلخرانيـة يف عدة أشـكال خالل التاريـخ املدون‪ .‬ومن‬
‫أشـدها تدمري ًا العنرصيـة‪ .‬يالحظ ويليام أملـان ‪ William Allman‬أن‪:‬‬
‫«العنرصيـة ليسـت جـزء ًا مـن سـيكولوجيتنا التي نشـأت بفعل‬
‫التطـور‪ .‬بـل أن عقولنـا القادمـة مـن العصر احلجـري واقعة حتت‬
‫وطـأة ٍ‬
‫يشء أكثـر بدائي ًة وأساسـي ًة هو تقسـيم «النحن» ضـد «اهلُم»‪.‬‬
‫قضى أقـدم البشر معظم وقـت حيواهتـم متفاعلني مع عـدد حمدود‬
‫جـد ًا مـن البشر‪ ،‬وكان التفاعـل جيـري بني أفـراد هلم نفـس املظهر‬
‫ويتحدثـون بنفس الطريقـة‪ ،‬ولذا فقـد كانت مالقاة الغربـاء وأفراد‬
‫املجموعـات املجـاورة شـيئ ًا «نـادر ًا»‪ .‬عندما يكون «ظل املسـتقبل»‬
‫صغير ًا – أي عندمـا يكـون لقـاؤك بذلـك الشـخص جمـدد ًا شـيئ ًا‬
‫مسـتبعد ًا جـد ًا فمن املسـتبعد أن جيـري أي نوع من التعـاون‪ .‬وهلذا‬
‫تعـدُّ أي شـخص ال ينتمـي إىل‬‫فـإن نفوسـنا التـي شـكلها التطـور ِ‬

‫‪342‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫«هـم»‪ .‬ولون البشرة هو جمـرد بعد واحد‬


‫جمموعتنـا املقربـة عىل أنه ُ‬
‫مـن آلية التقسـيم نحن‪ /‬هـم»)‪.(2‬‬
‫يرجـح علـم النفـس التطـوري أن هـذا اخلـوف والقـدرة على‬
‫كراهيـة اآلخـر – الـذي ال يشـبهنا‪ ،‬ال يسـتخدم لغتنـا‪ ،‬يديـن بغري‬
‫ديننـا أو أيديولوجيتنـا أو يبـدو وكأنـه يشـكل هتديـد ًا لنا بشـكل ما‬
‫مركزي‬
‫ٌّ‬ ‫مـن العنـارص املركزية يف تأثري أفلام الرعب‪ ،‬كام أنـه عنرص‬
‫يف الرصاعـات املدمـرة التـي نراهـا يف خمتلـف أرجاء العـامل‪ .‬يصف‬
‫جـاك مـورگان ‪ Jack Morgan‬هذه االسـتجابة يف األفالم واألدب‬
‫ويف احليـاة‪« :‬إن اسـتجابة اخلـوف يف هـذه احلالـة‪ ،‬أي اخلـوف مـن‬
‫أن يكـون املـرء حتـت مشـيئة آخـر يفعـل بـه مـا يشـاء‪ ،‬هـو خـوف‬
‫ذو جـذور عتيقـة‪ ،‬خـوف مـن أن جيـري انتهاكنـا مـن اخلـارج وأن‬
‫ُيسـتَوىل علينـا من ِق َبـل نظام املفترس وأجندتـه»)‪.(3‬‬
‫تتخلـل البارانويا واملخـاوف من اآلخر مجيع التمثلات البدائية‬
‫يف األفلام‪ ،‬إذ تتشـابك معهـا مجيعـ ًا بإحـكام‪ .‬لكـن بعـض أنـواع‬
‫األفلام تقـدم توظيفـ ًا أكثـر تعقيـد ًا وتركيـز ًا لِت ََم ُّثل النحـن ‪ُ -‬اهلم‪.‬‬
‫يف احلقيقـة‪ ،‬إن جنـس الرعـب قرص بعـدد كبري مـن األجنحة‪ ،‬ومن‬
‫هـذه األجنحة أفلام األشـباح‪ ،‬النسـخة احلديثة املطـورة من أفالم‬
‫الطعانين‪ ،‬أفالم اخلـوف القديم من السـاحرات‪ ،‬واألفلام املتعلقة‬
‫بالتفاعـل بين البشر والروبوتات واحلواسـيب‪ .‬كل هـذه تلتقي يف‬
‫نقطـة اخلـوف مـن االحتـكاك مع اآلخـر‪ ،‬لكنهـا أكثـر تعقيـد ًا من‬
‫ظهورهـا يف األفلام األخـرى التـي تتمركـز بشـكل ضيـق حـول‬
‫التمثلات األخـرى التي ناقشـناها يف هـذا الكتاب‪.‬‬
‫‪343‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫«أرى أناسا موتى»‪ :‬الشبح كآخر‬

‫منـذ آالف السـنني‪ ،‬يزخـر الفلكلـور بحكايـات أرواح املوتى‪.‬‬


‫إذ طاملـا شـغل سـؤال احليـاة بعـد املـوت أذهان بنـي نوعنا‪ .‬وسـط‬
‫أيوب أشـد أسـئلتنا إشـكالي ًة‪« :‬إن مـات ٌ‬
‫رجل‬ ‫ِِ‬
‫مَنـه الكثرية‪َ ،‬يسـأل ُ‬
‫أفيحيـا؟» ِ‬
‫(سـ ْفر أيـوب‪ .)14:14 ،‬عادة ما تكون حكايـات االلتقاء‬
‫باملوتـى يف األدب خميفـة جد ًا‪ ،‬سـواء كانت الروح وديعـة أو خبيثة‪.‬‬
‫توصـف اجل َّبانـة على الـدوام باعتبارهـا مكانـ ًا خميفـ ًا‪ .‬وكما يصفها‬
‫روبـرت بلير ‪ Robert Blair‬يف قصيدتـه الطويلـة املنشـورة عـام‬
‫‪ 1746‬بعنـوان «القبر ‪ ،»The Grave‬هـي «منـازل املوتـى»‪ ،‬حيـث‬
‫«تسـتيقظ األرواح مـن نومهـا‪ ،‬وتنهـض عابسـة»)‪ .(4‬يف مرسحيـة‬
‫شـبح أبيه‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫البطل هاملت‬ ‫هاملـت ‪ Hamlet‬لشكسـبري‪ ،‬عندما يلتقي‬
‫على أسـوار قلعة إلسـينور‪ ،‬يصرخ قائ ً‬
‫ال «يـا مالئكـة اهلل وأولياءه‪،‬‬
‫كنت أو شـيطان ًا رجي ًام‪ ..‬سـأحتدث إليك»)‪.(5‬‬
‫احفظونـا! روح ًا كري ًام َ‬
‫يوحي هذا املقطع بشـكلني من األشـباح يف األدب واألفالم‪ ،‬الط ِّيبة‬
‫واخلبيثـة‪ .‬تتضمـن احلبكات أيض ًا أشـباح ًا تضطلع بمهمـة ما‪ ،‬يبدو‬
‫الشـبح مـن هـذا النـوع واحـد ًا منا ولكنـه متحـول إىل آخـر ويبقى‬
‫يف اخلفـاء ليحقـق غرضـه؛ هنـاك أيض ًا الشـبح احلاقد الـذي يبحث‬
‫عـن االنتقام وحتقيـق العدالة؛ هناك الشـبح الرشيـر؛ ولدينا البيوت‬
‫املسـكونة باألشـباح اخلبيثة‪.‬‬
‫ِ‬
‫اسـتُثمر كل مـن تـراث السبرييتشـيوالية ‪Spiritualism‬‬
‫حمـوري يف أفلام األشـباح‪ ،‬كذلـك فقـد كان‬‫ٍّ‬ ‫ومعتقداهتـا بشـكل‬
‫هـذا التراث واملعتقـدات مصـدر ًا ًّ‬
‫مهم لألفلام املتعلقـة باللقاء مع‬
‫‪344‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫املوتـى‪ .‬يمكـن تعقـب جـذور السبرييتشـيوالية إىل إرث املتنوريـن‬


‫يف القـرن الثامـن عشر‪ ،‬وخصوص ًا كتابـات إيامنويل سـويدنبورگ‬
‫‪ .)1688-1772( Emanuel Swedenborg‬اختبر سـويدنبورگ‪،‬‬
‫وهـو ِ‬
‫عـال ٌ موهـوب‪« ،‬اسـتيقاظ ًا روح ًّيـا» عـام ‪ ،1744‬إذ ادعـى‬
‫أنـه تكلـم مـع املالئكـة ومـع أرواح املوتـى‪ .‬يف كتابـه ‪Heavenly‬‬
‫‪ ،Doctrine‬كَتـب سـويدنبورگ أن «اإلنسـان خلـق لكـي يعيش يف‬
‫آن واحـد‪ .‬ولذا فإن لـه طبيعة أو عق ً‬
‫ال‬ ‫العـامل الطبيعـي والروحي يف ٍ‬
‫لا خارجيين؛ حيـث يعيـش بالداخلي يف‬ ‫داخليين وطبيعـة وعق ً‬
‫العـامل الروحي وباخلارجـي يف العامل الطبيعي»)‪ .(6‬متيز سـويدنبورگ‬
‫علم ًة وعرفان ًّيا‪ ،‬ومل يكن ًّ‬
‫مهتم بالتبشير؛ لكن‬ ‫بدماثـة اخللـق‪ ،‬وكان َّ‬
‫كتبـه الكثيرة التي تصف استكشـافه لعـامل الروح اجتذبـت مجهور ًا‬
‫واسـعا مـن األتباع حتى ظهـر ِد ْيـ ٌن يدعـى السـويدنبورگية ما زال‬
‫قائم ًا حتـى اليـوم‪ .‬بحسـب موقعهـا على الويـب‪ ،‬تضـم الكنيسـة‬
‫السـويدنبورگية يف أمريـكا الشمالية جماميـع يف الواليـات املتحـدة‪،‬‬
‫وهنـاك جتمعـات أكثر بكثير يف بريطانيـا العظمى‪ ،‬أوروبـا‪ ،‬وكندا‪.‬‬
‫كثير جـد ًا مـن النـاس اآلخريـن التواصـل مـع املوتـى‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ادعـى‬
‫كاألخـوات فوكـس ‪ Fox Sisters‬يف نيـو إنگالنـد يف أربعينيـات‬
‫القرن التاسـع عشر الاليت قلـن أهنن يتلقني الرسـائل مـن األرواح‬
‫على شـكل «نَقـرات على الطاولـة»‪ ،‬و ُيع َت َقـد أهنـن كـن يصنعـن‬
‫تلـك األصـوات عـن طريـق نقـر أرجـل الطاولـة خلسـ ًة (وقـد‬
‫اكت ُِشـ َفت أالعيبهن بشـكل واضح على حياهتن)‪ .‬تصاعـد االهتامم‬
‫بالسبرييتشـيوالية خلال احلـرب األهلية األمريكيـة وبعدها‪ ،‬حيث‬
‫‪345‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫مـات ماليين النـاس وأراد الفاقـدون أن يتواصلـوا مـع أحبائهـم‬


‫عـن طريـق الوسـطاء املحرتفين‪ :‬وهـم أفـراد يدعـون أن لدهيـم‬
‫موهبـة التحـدث مـع املوتـى‪ .‬ال شـك أن اكتشـافات ِ‬
‫دارويـن التي‬
‫قوضـت الرؤيـة الدينيـة التقليدية قد سـامهت بخلـق حاجة لإليامن‬
‫بـأن أرواح مـن فقدناهـم ذهبـت إىل مـكان أمجـل‪ .‬حقـق مشـاهري‬
‫الوسـطاء الروحيين ذيوعـ ًا يف القـرن التاسـع عشر‪.‬‬
‫تطـورت منـذ ذلـك احلين مقاربتـان‪ .‬اتبـع األرواحيـون‬
‫‪ spiritists‬تعاليـم أندرو كارنـاك ‪ Andrew Karnac‬الذي متركزت‬
‫فلسـفته على التناسـخ الـذي يقـود إىل الكمال الروحي‪ ،‬بينما أنكر‬
‫وأرصوا عىل أن أرواح املوتى تبقى‬
‫ُّ‬ ‫السبرييتشـيواليون إعادة الـوالدة‬
‫بشـكل هنائـي يف بعـد خمتلف‪ .‬أصبحـت مقاربـة السبرييتشـيواليني‬
‫املقاربـة املهيمنة‪ .‬قاد االهتامم الواسـع بالسبرييتشـيوالية واألرواحية‬
‫الفيلسـوف والسـيكولوجي ويليـام‬
‫َ‬ ‫يف القـرن التاسـع عشر‪ ،‬قـاد‬
‫جيمـس ‪ William James‬وزملا َء ُه يف رابطـة البحـوث الروحيـة‬
‫الربيطانيـة ‪ British Psychical Research Association‬ونظريهتا‬
‫علمـي للوسـاطة الروحية يف كل‬
‫ٍّ‬ ‫بتقـص‬
‫ٍّ‬ ‫األمريكيـة إىل االضطلاع‬
‫مـن بريطانيـا العظمـى والواليـات املتحدة‪.‬‬
‫يف كتاهبـا ‪ ،Ghost Hunters‬وهـو دراسـة ممتـازة لعمـل ويليـام‬
‫جيمـس‪ ،‬اسـتخدمت ديبـورا بلـوم ‪ Deborah Blum‬رسـائل‬
‫ويوميـات جيمـس وأعضـاء آخريـن يف الرابطـة ل َت َت ُّبع اكتشـافاهتم‪.‬‬
‫تبني أهنم اسـتطاعوا بسـهولة اكتشـاف زيف مجيع الوسـطاء تقريب ًا‪.‬‬
‫يسـتثنى من ذلك دانييـل دنگالس هـوم ‪Daniel Dunglas Home‬‬

‫‪346‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫(الـذي هجـاه الشـاعر روبـرت براوننـگ ‪ Robert Browning‬يف‬


‫قصيـدة بعنـوان ‪ ،)Mr. Sludge the Medium‬حيث كان يسـتطيع‬
‫حتـى وهـو معصـوب العينين ويف غرفـة مظلمـة إخبـار زوار‬
‫جمهولين عـن حقائـق يف حياهتـم كان جيمـس وزملاؤه مقتنعين‬
‫أن ال سـبيل لديـه ملعرفتهـا‪ .‬مل يسـتطع جيمـس ورفاقـه إثبـات وال‬
‫دحـض مصداقيتـه‪ .‬اعتقـد السير آرثـر كونـان دويـل ‪Arthur‬‬
‫‪ Conan Doyle‬أن األمـر مـا زال يف بدايتـه يف مـا خيـص االتصـال‬
‫كثير مـن النـاس البارزيـن آنـذاك مؤمنين جـد ًا‬
‫ٌ‬ ‫باملوتـى‪ ،‬كما كان‬
‫هبـذه القـدرات‪ ،‬بما يف ذلك الشـاعرة إيليزابيـث باريـت براونينگ‬
‫‪.Elizabeth Barrett Browning‬‬
‫تصاعـد االهتمام جمدد ًا خلال احلـرب العامليـة األوىل وبعدها‪،‬‬
‫حيـث مـات ماليين الشـبان يف املعـارك وماليين أكثـر بسـبب‬
‫اإلنفلونـزا‪ .‬بـدأ االهتمام خيفـت مـع تقـدم القـرن العرشيـن‪ ،‬لكن‬
‫اليـوم‪ ،‬هنـاك الكثير مـن الكنائـس السبرييتشـوالية يف الواليـات‬
‫املتحـدة‪ ،‬كنـدا وبريطانيـا العظمـى‪ ،‬كما أن هنـاك ثلاث منظامت‪:‬‬
‫الرابطـة السبرييتشـوالية الوطنية للكنائـس ‪National Spiritualist‬‬
‫‪ ،Association of Churches‬التحالـف السبرييتشـوايل الوطنـي‬
‫‪ National Spiritualist Alliance‬واالحتـاد السبرييتشـوايل‬
‫الـدويل ‪ .International Spiritualist Federation‬أ َّثـر تنامـي‬
‫حركـة العصر اجلديـد على املعتقـدات السبرييتشـوالية وسـاهم‬
‫يف انتشـارها‪ .‬ولطاملـا بحـث منتجـو األفلام والروائيـون يف هـذه‬
‫املعتقـدات واملامرسـات عـن مـادة لكتابـة احلبكـة؛ ألن األشـباح‬
‫‪347‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫آخر‬ ‫ٍّ‬
‫مسـل‪ .‬ويعدُّ الشـبح َ‬ ‫ٍ‬
‫نحـو‬ ‫كانـت على الـدوام خميفة جـد ًا عىل‬
‫رشيـر ًا‪.‬‬
‫بغـض النظـر عما إذا كان ط ِّيبـ ًا أو ِّ‬
‫ِّ‬
‫إن معظـم الكنائـس السبرييتشـوالية مسـيحية‪ ،‬ويف مـا عـدا‬
‫«مقـررات القـراءة» التـي تقدمهـا جلـان الوسـطاء ألعضـاء هـذه‬
‫املحافـل‪ ،‬فـإن طقـوس هـؤالء النـاس ال ختتلـف عـن طقـوس‬
‫الطوائـف الربوتسـتانتية املعروفـة‪ .‬ال يؤمـن السبرييتشـواليون أن‬
‫لا أن بعـض‬‫بإمـكان األشـباح إيـذاء البشر‪ ،‬لكنهـم يؤمنـون فع ً‬
‫األرواح رشيـرة‪ ،‬بحيـث أن ثمـة خطـورة يف االتصـال هبـا‪ِ .‬‬
‫تناقش‬
‫األدبيـات السبرييتشـوالية بإسـهاب مفاهيـم اإليكتوبلازم (وهي‪،‬‬
‫كما يقولـون‪ ،‬املـادة اللزجـة التـي تتشـكل عنـد جتلي الشـبح)‪،‬‬
‫االسترفاع ‪ ،levitation‬ظهـور األرواح يف جلسـات التحضير‪،‬‬
‫الكتابـة امليكانيكيـة‪ ،‬القـدرة على التالعـب بالكهربـاء‪ ،‬شـم‬
‫العطـور التـي كان يسـتخدمها املوتـى عىل حياهتـم‪ ،‬زيـارة األحباء‬
‫يف حلظـات الشـدة مـن خلال األحلام‪ ،‬األطيـاف التـي يراهـا‬
‫املـرء عنـد االحتضـار‪ ،‬والتغير يف درجـات احلـرارة عنـد حضـور‬
‫أرواح املوتـى‪ .‬مؤخـر ًا‪ ،‬اسـتعان السبرييتشـواليون بالتكنولوجيـا؛‬
‫إذ يدَّ عـون أهنـم يسـتطيعون التواصـل مـع املوتـى مـن خلال ترك‬
‫أرشطـة تسـجيل تعمل اللتقـاط أصواهتم‪ ،‬أي ما يسـمى اإلسـقاط‬
‫الصـويت األلكتروين‪ .‬و ِّظفـت فكرة اإلسـقاط الصـويت األلكرتوين‬
‫يف فيلـم ‪ُ .)2005( White Noise‬و ِّظفـت مجيـع معتقـدات الرتاث‬
‫السبرييتشـوايل هـذه يف أفلام األشـباح‪ ،‬وهـي تنجـح يف خلـق‬
‫اآلخرانيـة والقلـق أو الرعـب‪ ،‬اعتماد ًا على الفيلـم‪.‬‬
‫مسـتوى مـن َ‬
‫‪348‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫مـع أن اإليمان باألشـباح جـز ٌء مـن التاريـخ البشري‪ ،‬إال أن‬


‫السبرييتشـوالية سـامهت بتقويتـه‪ .‬من األفلام التي تسـتمد قوامها‬
‫من الرتاث السبرييتشـوايل فيلم ‪ ،)2000( Rumor of Angels‬وهو‬
‫توظيـف لكتـاب ‪Thy Son Liveth: Messages from a Soldier‬‬ ‫ٌ‬
‫‪to His Mother‬الصـادر عـام ‪ 1918‬للكاتبة گريس بويالن ‪Grace‬‬
‫‪ .Boylan‬جيسـد الفيلـم عـن جتربـة ُأ ٍّم يتواصـل معهـا ابنهـا الـذي‬
‫ُقتِـل يف فيتنـام مـن خلال شـفرة مـورس‪ ،‬حيـث يصف هلـا حياته‬
‫بعـد املـوت بلغة ذات مسـحة سبرييتشـوالية‪« :‬تغادر الروح اجلسـد‬
‫ٍ‬
‫رعب يف‬ ‫تلميـذ خارج ًا من بـاب مدرسـته بحبور‪ .‬ما ِمـن‬
‫ٌ‬ ‫كما يثـب‬
‫املـوت»‪ .‬وقـد ن ُِقـل هذا النـص حرفيـ ًا من كتـاب بويالن‪.‬‬
‫ليسـت مجيـع أفلام األشـباح أفلام رعـب حقيقيـة‪ ،‬لكـن‬
‫حكايات األشـباح واخلـوارق كانت على الدوام خميفـة أو مزعجة‪.‬‬
‫يقتبس ماتياس كاليسـن مـن كتـاب ‪ The Problem of Pain‬ليس‪.‬‬
‫سـجل األخير أن كال النمـر‬ ‫َّ‬ ‫أس‪ .‬لويـس ‪ ،C.S. Lewis‬حيـث‬
‫والشـبح يثيران اخلـوف‪ ،‬ولكـن اخلـوف الـذي يثيره الشـبح مـن‬
‫نـوع خمتلـف‪« :‬ال أحـد خيـاف أساسـ ًا ممـا قـد يفعله لـه الشـبح‪ ،‬بل‬
‫«خـارق» أكثر مـن كونـه خطِر ًا‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫مـن جمـرد حقيقة أنـه شـبح‪ .‬فهـو‬
‫ويمكـن تسـمية النـوع اخلـاص مـن اخلـوف الـذي يثيره بالرهبـة‬
‫‪ ..dread‬ذلـك أنـه جيعلنـا نشـك يف معتقداتنـا وحتـى سلامتنا‬
‫العقليـة»)‪ .(7‬وبعـد كل يشء‪ ،‬يذكرنـا الشـبح بموتنـا املحتـوم ومـا‬
‫يفعلـه املـوت مـن حتويـل الفـرد إىل يشء آخـر‪ .‬يف فقـرة مسـلية من‬
‫روايـة ‪ Tom Jones، a Foundling‬املنشـورة عـام ‪ 1749‬للكاتـب‬
‫‪349‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫هنـري فيلدنـگ ‪ ،Henry Fielding‬يصطحـب تـوم خاد َمـه‬


‫ومصاحبـه بارتـردج إىل عـرض ملرسحيـة هاملـت‪ ،‬وهـو مشـهدٌ‬
‫ضمنـه املخـرج تـوين ريتشاردسـون ‪ Tony Richardson‬يف فيلمـه‬ ‫َّ‬
‫املأخـوذ عـن الروايـة الصـادر عـام ‪ .1963‬عندما يظهر الشـبح عىل‬
‫وضح‬ ‫املسرح‪ ،‬يفـزع بارتردج‪« .‬فاصطكـت ركبتاه» ورغـم أن توم َّ‬
‫لـه الفـرق بين الفـن واحليـاة‪ ،‬إال أن بارتـردج يـرد منتحبـ ًا «كال‪،‬‬
‫شـئت‪ ،‬لكـن إذا مل يكـن ذلـك الفتـى الصغري عىل‬ ‫َ‬ ‫ـمنِي جبانـ ًا إن‬
‫َس ِّ‬
‫لا خائف ًا يف حيـايت)‪ .(8‬إن خوف بارتدرج‬‫املنصـة خائفـ ًا فأنا مل أر رج ً‬
‫هـذا‪ ،‬ولـو أنـه خـوف من شـبح خيـايل‪ ،‬هـو يف لـب مفعـول أفالم‬
‫األشـباح‪ ،‬حتـى تلـك األفلام التـي نسـتطيع التامهي مع أشـباحها‬
‫باعتبارهـم نحـن‪ ،‬ولكنهـم مع ذلك مل يعـودوا جزء ًا مـن نوعنا فقد‬
‫حتولـوا إىل شـكل آخر‪.‬‬
‫ُ‬
‫«أعتقد أن بوسعي المغادرة اآلن‪ .‬أردت أن أساعد‬
‫أحدهم فحسب‪ ،‬وقد فعلت»‪ .‬الشبح المضطلع بمهمة‪:‬‬
‫أفالم ‪The Ghost and Mrs. Muir، The Uninvited،‬‬
‫‪ Ghost‬و ‪The Sixth Sense‬‬
‫تشـكل موضوعـة التواصـل املسـامل مـع اجلانـب اآلخـر قـوام‬
‫احلبكة يف كثري من األفالم‪ ،‬بام يف ذلك الرومانسـية السبرييتشـوالية‪.‬‬
‫يف فيلـم ‪ ،)1947( The Ghost and Mrs. Muir‬تنتقـل لويس موير‬
‫(جين تيرين ‪ ،)Gene Tierney‬وهـي امـرأ ٌة ترملت حديثـ ًا‪ ،‬تنتقل‬
‫مـع ابنتهـا وخادمتهـا إىل بيت ريفي قـرب البحر‪ ،‬رغم أهنـا ُح ِّذرت‬
‫مـن البيـت ألن النـاس يعرفون أنـه مسـكون‪ .‬وهناك تلتقـي بروح‬
‫الكابتـن گريـگ (ريكـس هاريسـون ‪ )Rex Harrison‬الـذي مات‬
‫‪350‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫يف املـكان قبـل سـنوات قليلـة‪ .‬عندمـا ترفـض أن ختضـع لتخويفه‪،‬‬


‫تنشـأ بينهما تدرجيي ًا عالقـة – من نوع احلـب املقيض عليه بالفشـل‪،‬‬
‫وهـو نوع شـائع يف جنـس الرومانسـية ال تتـوج حتى متـوت لويس‬
‫عجـوز ًا بعـد أعوام كثيرة‪ ،‬حيـث يتلقاهـا الكابتن و َ‬
‫حي ِّيـي روحها‪.‬‬
‫مـع أن لقـاء األشـباح يشء مؤ ِّثـر‪ ،‬إال أن هـذا الفيلـم تنويـع على‬
‫جنـس الرومانسـية وليـس فيلـم رعـب حقيق ًّيـا‪ .‬لقـد كان الكابتن‬
‫واحـد ًا منـا ومن ثم جـرى حتويلـه إىل آخـر‪ ،‬وهكذا يثير التعاطف‬
‫بوصفـه يف آن واحـد نحـن وآخر‪.‬‬
‫تظهـر األشـباح الرومانسـية يف أفلام أخـرى كثيرة‪ ،‬وغالبـ ًا ما‬
‫يكـون للواحـد منهـا مهمـة ال بـد مـن إنجازهـا قبـل أن تستريح‬
‫الـروح‪ .‬تسـتمد هـذه احلبكـة قوامهـا مـن تـراث السبرييتشـوالية‪.‬‬
‫يسـجل الكاتـب السبرييتشـوايل جـورج أندرسـون ‪George‬‬
‫‪ Anderson‬أنـه «يف بعـض األحيـان‪ ،‬تبقـى الروح حتـوم مؤقت ًا عىل‬
‫ـو بعـد‪ ،‬وقد تزور‬ ‫األرض إذا كانـت هنـاك مشـاكل يف حياهتـا مل ت َُس َّ‬
‫بشـكل منتظم شـخصا أو مكان ًا حتبهما)‪ .(9‬من احلبكات الشـائعة يف‬
‫أفلام األشـباح حبكـة روح امليـت التـي تبقـى حلامية شـخص حي‬
‫حتبـه‪ .‬تكتـب سـيلفيا بـراون ‪ Sylvia Browne‬وهـي أحـدى أغزر‬
‫مـن كتـب يف السبرييتشـوالية إنتاجـ ًا وتأثير ًا‪ ،‬تكتـب أن «الشـبح‬
‫ُي َلـق عندمـا ترى الـروح – عند موهتـا النفق وتبتعد عنـه أو ترفض‬
‫االعتراف بوجـوده مـن األسـاس‪ ،‬والنتيجة هـي أن تصبـح هائمة‬
‫خـارج جسـمها‪ ،‬بين ُبعدنـا و‪ ..‬اجلانـب اآلخـر»)‪ :(10‬عمل ًّيـا‪ ،‬بين‬
‫إقليمين خمتلفني‪.‬‬
‫‪351‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫مـن األمثلـة على ذلـك فيلـم ‪ .)1990( Ghost‬يف موعـد مـع‬


‫خطيبتـه مويل جونسـون (ديمـي مـور ‪ُ ،)Demi Moore‬يقتل سـام‬
‫ويـت (باتريـك سـويزي ‪ )Patrick Swayze‬يف مـا يبـدو جريمـة‬
‫شـارع‪ .‬يرفض سـام الذهـاب إىل النـور‪ ،‬يف إحالة إىل كتـب ريموند‬
‫مـودي ‪ Raymond Moody‬حـول جتـارب االقتراب مـن املـوت‬
‫ابتـداء مـن كتابـه ‪ .)1975( Life After Life‬قابل مـودي عرشات‬
‫األشـخاص الذيـن ادعـوا أهنـم ماتـوا‪ ،‬على طاولـة العمليـات‬
‫اجلراحيـة عـادة‪ ،‬ولكنهـم أعيـدوا إىل احليـاة‪ .‬يقـول هـؤالء الناس‬
‫أهنـم اختبروا خروجهـم مـن اجلسـد وطفـوا يف اجلـو ورأوا نـور ًا‬
‫يقـود إىل نفـق التقوا يف هنايتـه أقارهبم وأصدقاءهـم املوتى‪ ،‬ولكنهم‬
‫ُخدمت التفاصيـل املسـطورة يف كتـب مـودي يف كثير‬ ‫عـادوا‪ .‬اسـت ِ‬
‫من أفلام األشـباح‪.‬‬
‫جيسـد الفيلـم اكتشـافات مودي من خلال جتربة سـام‪ ،‬يف فيلم‬
‫رومانسي سبرييتشـوايل آخـر‪ .‬يبقـى سـام على األرض مـن أجـل‬
‫احلـب‪ ،‬وينتهـي بـه األمـر حارسـ ًا ملـويل‪ .‬وبما يتامشـى مـع الرتاث‬
‫السبرييتشـوايل‪ ،‬يتلقى سـام املساعدة من وسـيطة روحية تدعى أودا‬
‫مـي بـراون‪ ،‬التي تتحـول بعـد التقائها بِسـام من دجالة إىل وسـيطة‬
‫حقيقيـة بين عاملنـا وعـامل األرواح‪ .‬يلتقـي سـام بأشـباح أخـرى‪،‬‬
‫عالـق ألسـباب ذكرهتا‬
‫ٌ‬ ‫ينتظـر بعضهـا النور فحسـب‪ ،‬بينما بعضها‬
‫األدبيـات السبرييتشـوالية كاالنتحـار‪ .‬ينقسـم السبرييتشـواليون‬
‫حـول مـا إذا كان بوسـع األشـباح التأثير يف األشـياء املاديـة‪ ،‬لكن‬
‫على كل حـال‪ُ ،‬يع ِّلم أحدُ األشـباح العالقة سـام كيـف يفعل ذلك‪.‬‬
‫‪352‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬
‫ت ِ‬
‫ُظهـر اخلامتـ ُة ذلـك اخلوف الـذي كثير ًا ما أثارتـه األشـباح عندما‬
‫يقـرر الشـبح االنتقـام مـن قاتله ومسـتأجر ذلـك القاتـل بإرعاهبام‪،‬‬
‫مـا يـؤدي إىل موهتما‪ .‬كما يف هـذا الفيلـم‪ ،‬يكـون الـزوار مـن عـامل‬
‫ـوروا عبر التاريـخ خميفين باعتبارهـم آخريـن‬ ‫الـروح – كما ُص ِّ‬
‫ويثيرون اخلـوف البدائـي مـن خلال تذكرينـا بفنائيتنا‪.‬‬
‫خيتلـف السبرييتشـواليون أيضـ ًا حيـال مسـألة وجود األشـباح‬
‫الرشيـرة‪ .‬ترى سـيلفيا بـراون أن أولئـك الذين ينكـرون الرب عىل‬
‫حياهتـم يتحولـون إىل أرواح خبيثـة‪ ،‬أي أولئك «املعتلـون اجتامعي ًا‪،‬‬
‫عديمـو األخلاق والضمير‪ ،‬الذيـن ال يقيمـون اعتبـار ًا حليـاة إال‬
‫حياهتـم هم»‪ .‬بحسـب براون‪َ ،‬يدخـل أولئك الذين عاشـوا حياهتم‬
‫«البـاب الصحيح» ليلجـوا منه إىل النـور واجلانب اآلخر‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫باسـتقامة‬
‫َ‬
‫رسـلوا إىل‬‫أمـا الذين عاشـوا حياهتم أرشار ًا فقـد يبقون هنا قبل أن ُي َ‬
‫يطـوق كل يشء»‪ ،‬ثـم تعاد‬ ‫ٍ‬
‫خـاو بـار ٌد ِّ‬ ‫كافر‬
‫«هاويـة الظلام‪ ،‬عـد ٌم ٌ‬
‫والدهتـم حتـى يعيشـوا احليـاة الصائبـة)‪ .(11‬يتطابـق وصـف براون‬
‫هـذا مع مشـهد مـن فيلـم ‪ Ghost‬تظهر فيه أشـباح سـوداء صارخة‬
‫تصـور بعـض أفلام‬ ‫ِّ‬ ‫حتـاول سـحب قتلـة سـام نحـو اجلحيـم‪.‬‬
‫األشـباح الرومانسـية األخـرى األرواح التـي تبقـى على األرض‬
‫ملسـاعدة النـاس الذين حتبهـم هذه األشـباح وأمهلتهم على حياهتا‪،‬‬
‫كفيلـم ‪ ،)1990( Always‬وهـو اسـتعادة لفيلـم ‪A Guy Named‬‬
‫‪ )1943( Joe‬مـع اختلاف اإلصـدار احلديـث باسـتخدامه حلرائق‬
‫الغابـات بـدالً مـن الغارات اجلويـة للحـرب العاملية الثانيـة‪ ،‬وفيلم‬
‫‪.)1998( What Dreams May Come‬‬
‫‪353‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫ُي َعـد فيلـم ‪ ،)1999( The Sixth Sense‬وهو أول أفالم املخرج‬
‫أم‪ .‬نايـت شـياماالن ‪ M. Night Shyamalan‬الناجحـة‪ ،‬النمـوذج‬
‫األبـرز حلبكـة الشـبح املضطلـع بمهمـة‪ .‬تالحـظ كاثريـن فاوكس‬
‫‪ Katherine Fowkes‬أن «هوليـود حولـت أفلام األشـباح إىل‬
‫مناقشـة ملعضلـة العالقـات اجلندريـة الضعيفـة‪ ،‬وغالبـ ًا مـا تعـزى‬
‫األخيرة إىل غيـاب األب أو الـزوج أو عـدم التواصـل معهما»)‪.(12‬‬
‫يتطابـق تعليـق فاوكس هذا مع موضوعة فيلـم ‪.The Sixth Sense‬‬
‫يعالـج الطبيـب النفسي مالكـوم كـرو (بـروس ويليـس ‪Bruce‬‬
‫‪ )Willis‬الطفـل املضطـرب كـول سير (وال خيلو األمر مـن تورية‪،‬‬
‫إذ يشـبه اسـم «سير ‪ »sear‬كلمـة «سير ‪ »seer‬التي تعنـي الرائي أو‬
‫العـراف)‪ ،‬الذي يبـوح يف النهايـة للطبيب كرو يف ما أصبـح العبارة‬‫َّ‬
‫األرسـخ يف الذاكرة مـن هذا الفيلم «أرى أناسـ ًا موتـى»‪ .‬كام العادة‬
‫مع الشـخصية غير املؤمنة الشـائعة يف أفالم اخلـوارق‪ ،‬ال بد من أن‬
‫يقـر كـرو يف النهايـة أن الطفل يـرى املوتى فعلاً‪ ،‬ثم يواجـه – كرو‬ ‫َّ‬
‫يؤرقـه‪ ،‬ويف النهايـة‪ ،‬يـدرك أنـه هو نفسـه واحد‬ ‫ً‬
‫خطـأ مـن املـايض ِّ‬
‫مـن أشـباح املوتـى الذين يراهم كـول‪ .‬يف األفالم التـي توظف هذه‬
‫احلبكـة املشـتقة من التراث السبرييتشـوايل‪ ،‬نرى شـخصا يواجه يف‬
‫احليـاة األخـرى أخطـاءه التـي قام هبـا على حياتـه األوىل‪ ،‬وحياول‬
‫إصالحهـا‪ .‬يمكـن أن نتامهـى مـع الشـبح هنـا ونتعاطـف معـه‬
‫باعتبـاره نحـن‪ ،‬ولكنـه ّ‬
‫حتـول إىل حالة خمتلفـة من الكينونـة ليصبح‬
‫آخـر مـع احتفاظـه بالتزاماتنـا األخالقيـة والقدرة على احلب‪ .‬جيد‬
‫َ‬
‫البطـل نفسـه يف وضـع مغـادرة إقليمـه والدخـول يف حالـة أخرى‪.‬‬
‫ويعـد كـرو مثـاالً نموذج ًّيا للشـبح ذي املهمة‪ ،‬حيث يقـول لزوجته‬
‫‪354‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫النائمـة بعـد أن يـدرك أخير ًا حقيقـة وضعـه‪« :‬أعتقـد أن بوسـعي‬


‫فعلـت»‪.‬‬
‫ُ‬ ‫املغـادرة اآلن‪ .‬أردت أن أسـاعد أحدهـم فحسـب‪ ،‬وقـد‬
‫يتضمـن الفيلـم بعـض املشـاهد املخيفـة عندمـا هتاجـم األشـباح‬
‫كـول‪ .‬لكـن يف مـا عـدا عـدم االرتيـاح الـذي تثيره األشـباح مـن‬
‫حيـث أهنـا ترمـز لفنائيتنـا‪ ،‬ال تُعد معظم أفلام األشـباح املضطلعة‬
‫بمهم ٍ‬
‫ـة أفلا َم رعب حقيقيـ ًة‪ .‬أ َّما هـذا الرعب فموجـود يف األفالم‬ ‫َّ‬
‫التـي تتمركـز حول شـبح رشيـر يفترس األحياء‪.‬‬
‫يعـدُّ فيلـم ‪ )1994( The Uninvited‬أحـد كالسـيكيات‬
‫الرومانسـية القوطيـة ومقاربـة خمتلفة حلبكة الشـبح القائـم بمهمة‪.‬‬
‫يشتري األخـوان رودريـك وباميلا فيتزجريالـد (راي ميالنـد‬
‫ً‬
‫منـزل على السـاحل‬ ‫‪ Ray Milland‬وروث هـايس ‪)Ruth hussy‬‬
‫الويلـزي يبـدو مطابقـ ًا ملواصفـات املنـزل املسـكون النموذجـي‪.‬‬
‫يشـتعل احلـب حين يلتقـي رودريـك بسـتيال مرييديـث (گيل‬
‫راسـل ‪ Gail Russell‬يف أول ٍ‬
‫دور هلـا) التي تبـدو منجذبة إىل املنزل‬
‫على نحـو غريـب‪ .‬يتضمن الفيلـم كثير ًا مـن التفاصيل املثيرة من‬
‫جنـس الرومانسـية القوطيـة‪ .‬عندمـا تـزور سـتيال آل فيتزجريالـد‪،‬‬
‫شـبح حياول أن جيعلهـا تلقي بنفسـها يف البحـر‪ .‬لدينا أيض ًا‬
‫ٌ‬ ‫يلبسـها‬
‫كثير مـن املحتـوى السبرييتشـوايل النموذجـي يف احلبكـة‪ :‬صـوت‬
‫عويـل غريـب‪ ،‬لـوح وجيا مـن النوع املسـتخدم يف جلسـات حتضري‬
‫األرواح‪ ،‬عطـور املوتـى‪ ،‬التغير يف درجـات احلـرارة‪ ،‬الذبـول‬
‫املفاجـئ لألزهـار واالسـتحواذ الشـبحي عىل سـتيال‪ .‬يبنـي الفيلم‬
‫أيضـا قصـة عـن األم احلارسـة‪ ،‬حيـث نكتشـف أخير ًا أن هنـاك‬
‫‪355‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫شـبحني يعيشـان يف املنـزل‪ :‬األول هـو شـبح زوجـة أب سـتيال –‬


‫التـي تعتقد سـتيال أهنـا والدهتا الذي حياول قتلها‪ ،‬وشـبح العشـيقة‬
‫الغجريـة التـي هـي أم سـتيال احلقيقيـة‪ ،‬وحياول هـذا الشـبح محاية‬
‫الفتـاة (شـبح بمهمـة)‪ .‬باإلضافـة إىل متثـل التـزاوج يف العالقـة‬
‫شـبح أ ٍّم‬
‫ُ‬ ‫الرومانسـية بين رودريـك وسـتيال‪ ،‬لدينـا أيضـ ًا أ ٌّم‪ ،‬أو‬
‫باألحـرى‪ ،‬تقاتـل حلاميـة طفلتها‪.‬‬

‫من فيلم ‪ :The Sixth Sense‬كول سري (هايل جويل أوزمنت ‪)Haley Joel Osment‬‬
‫خيرب د‪ .‬كرو (بروس ويليس) «أرى أناس ًا موتى)‪.‬‬
‫ٌ‬
‫«منزل قديم مشؤوم‪ ،‬من النوع الذي يسميه الناس‬
‫البيت المسكون»‪:‬‬
‫‪The Haunting، The Legend of Hell House، The‬‬
‫‪ Shining، Burnt Offerings‬و ‪1408‬‬
‫تعـدُّ أفالم األشـباح القائم ُة على فكرة بيت خبيـث أفال َم رعب‬
‫حقيقيـ ًة‪ .‬ينتهـج ديـل بيلي ‪ Dale Bailey‬مقاربـة نقديـة ثقافيـة؛ إذ‬
‫‪356‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫يسـجل أن أفلام البيـوت املسـكونة ترمـز إىل نواحـي الفشـل‬


‫واإلخفـاق يف احللـم األمريكـي)‪ .(13‬لكـن نقـد الصفـات البدائيـة‬
‫يرجـح أن هناك شـيئ ًا أشـد تأثير ًا يف هذا النـوع من أفلام الرعب‪.‬‬
‫يف روايـة ‪ The Castle of Otranto‬الصـادرة عـم ‪ 1764‬للكاتـب‬
‫هـوراس والبـول ‪ ،Horace Walpole‬تسـقط خـوذة عمالقـة مـن‬
‫األعلى فتسـحق ابـن مانفريـد‪ ،‬حاكـم املنطقـة‪ ،‬وكانـت ريشـات‬
‫اخلـوذة تتحـرك من حين آلخر عىل نحـو منتظم‪ ،‬ثم خيرج شـخص‬
‫وينـز الد ُم من أحـد التامثيـل‪ .‬حاكت عرشات‬‫ُّ‬ ‫مـن لوحة مرسـومة‪،‬‬
‫الروايـات هـذه الرواية يف ما بعـد‪ ،‬ابتدا ًء من العـام ‪ .1790‬يف القرن‬
‫التاسـع عشر‪ ،‬حتولـت القلاع واألديرة اخلربـة يف التراث القوطي‬
‫كما نراهـا يف قلعـة دراكـوال إىل نمط البيت املسـكون‪ .‬وقـد و ِّظفت‬
‫ٍ‬
‫بكثـرة قـد جتعلنـا نخمـن أهنا‬ ‫هـذه املوضوعـة يف األفلام واألدب‬
‫تعكـس اسـتجابة بدائيـة‪ :‬التحوليـة وحتميـة التدهور‪.‬‬
‫حتولـت حبكـة القلعة املسـكونة بدورهـا إىل حبكـة البيت الذي‬
‫يشـعر وحيس يف جنـس الرعب ابتـدا ًء من قصة «سـقوط منزل أرش‬
‫‪ »The Fall of the House of Usher‬إلدگار أالن بو ‪Edgar Allan‬‬
‫آخـر خبيثـ ًا‪.‬‬
‫‪ .Poe‬يف هـذه القصـة الكالسـيكية‪ ،‬كان البيـت نفسـه َ‬
‫يشرح املجنـون رودريـك أرش للـراوي قـدرة البيـت عىل الشـعور‬
‫َصـور أرش أن قـدرة البيـت على احلـس تتمثل يف نسـق‬ ‫واحلـس‪« :‬ت َّ‬
‫رصـف األحجـار‪ ،‬يف نسـق ترتيبهـا كام يف نسـق ترتيـب الفطريات‬
‫كل مـن‬ ‫الكثيرة التـي تنتشر على تلكـم األحجـار»)‪ .(14‬يقـدم بـو ًّ‬
‫ٍ‬
‫«بيـت» أو عائلـة‬ ‫آخـر نسـل‬ ‫رودريـك وأختـه مادلين باعتبارمهـا ِ‬

‫‪357‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫متشـابكة بإحـكام‪ ،‬بكيفيـة مـا‪ ،‬مـع بنيـة املنـزل نفسـه؛ ويف النهاية‬
‫يسـتحوذ املنـزل على مادلين‪ .‬ويرمـز اهنيـار املنزل ملـوت رودريك‬
‫وشـقيقته‪ ،‬آخـر مـن تبقى مـن البيت‪.‬‬
‫توظـف أفلام البيت القادر على احلس مقاربـ ًة خمتلفة عن أفالم‬
‫الرعـب األخـرى يف ما خيـص ثنائيـة البطل‪/‬الغريم‪ .‬تصـور معظم‬
‫مادي‪ ،‬سـواء‬‫ٍّ‬ ‫جسـدي‬
‫ٍّ‬ ‫آخر‬ ‫ِ‬
‫شـكل َ‬ ‫األفلام الغريم ‪ antagonist‬عىل‬
‫كان نزافـ ًا‪ ،‬مسـتذئب ًا‪ ،‬حيوانـ ًا مفرتسـ ًا أو أي نوع مـن الغرماء الذين‬
‫ناقشـناهم يف هـذا الكتـاب و ُيسـتَخدَ مون خللـق الرصاع مـع البطل‬
‫أو الشـخصية الرئيسـة ‪ .protagonist‬يف احلقيقة‪ ،‬يعـدُّ البيت القادر‬
‫مـادي‪ .‬ولـذا فهو‬
‫ٍّ‬ ‫بدل مـن ٍ‬
‫كائن‬ ‫حضـور ً‬
‫ٌ‬ ‫على احلـس غريم ًا‪ ،‬لكنه‬
‫ال خمتلفـ ًا مـن اآلخر من منظـور نقـد الصفـات البدائية‪،‬‬ ‫يمثـل شـك ً‬
‫خطـر يعمـل كوسـيط خللـق اخلـوف اإلنـايب‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫إقليـم‬
‫ٌ‬ ‫بمعنـى أنـه‬
‫تنعكـس قوة تأثري هـذه احلبكة يف السالسـل الناجحة التـي وظفتها‬
‫كفيلـم ‪ )1979( The Amityville Horror‬الـذي انبثـق عنه سـبعة‬
‫عرش فيلم ًا بني إحلاقية واسـتعادة وحمـاكاة‪ ،‬وفيلـم ‪)1986( House‬‬
‫وإحلاقياتـه الثلاث‪ .‬يف أفلام البيـت القـادر على احلـس‪ ،‬غالبـ ًا ما‬
‫يـراد منـا أن نتعاطـف مـع جمموعة مـن الشـخصيات حييطهـا الرش‬
‫بأخطـاره‪ .‬يف نقاشـهام للبشر كحيوانـات اجتامعيـة‪ ،‬يسـجل النس‬
‫وول ريـدر ‪ Will Reader‬أن هـذا‬ ‫ووركمان ‪ِ Lance Workman‬‬
‫السـلوك شـائع يف اجلنـس البرشي‪ ،‬وأننـا نتعاطف معـه يف األفالم‪:‬‬
‫«ليـس علينـا أن نبحـث عن نظـراء يامثلوننـا عقل ًّيـا‪ ،‬وكل مـا علينا‬
‫(أي يشء) جيعلنـا نشـعر أننـا جزء من‬ ‫أن نفعلـه هـو أن نجـد شـيئ ًا َّ‬
‫‪358‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫جمموعـة»)‪ .(15‬لذا يف هـذا النوع من األفالم‪ ،‬يمكننـا أن نتعاطف مع‬


‫شـخصيات هـذه املجموعـة االجتامعية التـي تدخل إقليم ًا جديد ًا‪.‬‬
‫يرجـح نقـد الصفـات البدائيـة أننـا نختبر اخلـوف اللذيـذ إزاء مـا‬
‫حييـط بالشـخصيات مـن أخطـار‪ ،‬حيـث أهنـم بدرجـة مـا قبيلـة‬
‫نوع مـن اآلخـر ويقتِّلها‪.‬‬
‫نسـتطيع أن نتامهـى معهـا بينما يطاردهـا ٌ‬
‫و َّ‬
‫ظـف روبـرت وايـز ‪ Robert Wise‬روايـة ‪The Haunting‬‬
‫‪of Hill House‬للكاتبـة شيريل جاكسـون ‪ Shirley Jackson‬يف‬
‫صناعـة فيلمـه ‪( The Haunting‬صـدر عام ‪ ،1963‬ثـم أعيد إنتاجه‬
‫عـام ‪ 1999‬حتـت العنوان نفسـه)‪ .‬يبـدأ الفيلـم باالفتتـاح التقليدي‬
‫ألفلام الرعـب حيـث تدخـل جمموعة مـن األفـراد بيت ًا يدعـى ِهل‬
‫هـاوس‪ ،‬يشـتهر بكونـه مسـكون ًا‪ .‬متهـد النغمـة املنـذرة للتعليـق‬
‫الصـويت يف مفتتـح الفيلـم‪ ،‬وهي مأخوذة كما هي متام ًا مـن الرواية‪،‬‬
‫ُعـرف أيضـ ًا موضوعـة البيـت القادر‬ ‫متهـد حلبكـة الفيلـم ولكنهـا ت ِّ‬
‫على احلس يف األفلام‪« :‬إن البيت القديـم الرشير‪ ،‬مـن النوع الذي‬
‫َ‬
‫مكتشـف‪ ،‬ينتظر‬ ‫يسـميه الناس البيت املسـكون‪ ،‬هلو شـبيه ٍ‬
‫ببلد غري‬ ‫ٌ‬
‫مـن يستكشـفه‪ .‬صمد منزل ِهـل هاوس لتسـعني عامـ ًا وقد يصمد‬
‫ال خييـم الصمت عىل أخشـابه وأحجـاره‪ُّ ،‬‬
‫وكل‬ ‫تسـعني أخـرى‪ .‬ثقي ً‬
‫ما مشـى هناك‪ ،‬مشـى وحيـد ًا»‪.‬‬
‫يعـزو الفيلـم رش البيـت إىل مالكـه األصلي هيو كرين‪ .‬ويشـابه‬
‫توصيفـه توصيـف «منـزل أرش» يف قصـة إدگار أالن بـو‪« :‬ملنـزل‬
‫مظهـر سـ ِّي ٌئ‪ .‬إذ تسـببت صدفـة زاويـة التقـاء غـرف‬
‫ٌ‬ ‫ِهـل هـاوس‬
‫البيـت مـع خـط األفـق يف جعلـه مكانـ ًا يوحـي باليـأس واخلوف؛‬
‫‪359‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫ألن وجهـه بـدا مسـتيقظ ًا‪ ،‬بحيـث خييـل ملن يـراه أن نوافـذه الكئيبة‬
‫عيـون تراقـب‪ ،‬مـع ملسـة مـن اجلـذل يف األفريـز الـذي يبـدو مثـل‬
‫احلواجب»‪ .‬تشـبه هـذه العبـارات «منـزل أرش» بـ «نوافـذه اخلاوية‬
‫الشـبيهة بالعيون»‪.‬‬
‫يريـد األنثروبولوجـي جـون ماركـوي (ريتشـارد جونسـون‬
‫‪ )Richard Johnson‬دراسـة اخلـوارق فيجـد يف منـزل ِهـل هـاوس‬
‫نموذجـ ًا مثال ًّيا لدراسـته‪ .‬بعد أن يعلـن ماركوي عن حاجته ملسـاعدة‬
‫النـاس الذين شـهدوا أشـياء خارقة كـي يصاحبوه يف بقائـه يف املنزل‪،‬‬
‫تسـتجيب له إليانـور (جويل هاريـس ‪ )Julie Harris‬وثيـودورا (كلري‬
‫بلـوم ‪ )Claire Bloom‬فقـط‪ .‬ثـم ينضـم إليهـم مالـك املنـزل لـوك‬
‫ساندرسـون (روس تامبلين ‪ )Russ Tamblyn‬ثـم زوجـة ماركـوي‬
‫(لويـس ماكسـويل ‪ .)Lois Maxwell‬يعتقـد ماركـوي أن منـزل ِهل‬
‫هـاوس واعدٌ جد ًا كموضوع للدراسـة بسـبب مجيع األشـياء الرشيرة‬
‫«ولِـدَ سـ ِّيئ ًا»‪ .‬وكمعظـم املنـازل‬
‫التـي حدثـت فيـه مـن قبـل‪ .‬فقـد ُ‬
‫املسـكونة يف األدب واألفلام‪ ،‬ملنـزل ِهل هـاوس ذلك اجلـو البريكي‬
‫السـامي‪ ،‬إذ لـه أبـراج ومظهـر شـبيه بالقلاع اخلربة‪.‬‬
‫ال يف أفالم األشـباح‪ ،‬وهي‬ ‫يوظف الفيلم األشـياء التي حتدث لي ً‬
‫مشـتقة مـن التراث السبرييتشـوايل‪ ،‬كجلسـات التحضير‪ ،‬الكتابة‬
‫امليكانيكيـة‪ ،‬األصـوات الغامضـة‪ ،‬صـوت بـكاء طفـل‪ ،‬األماكـن‬
‫البـاردة وظهـور األطيـاف‪ .‬يبـدو املنزل عازمـ ًا عىل االسـتيالء عىل‬
‫إليانـور الضعيفـة االنطوائيـة ذات احلساسـية لألشـياء اخلارقـة كام‬
‫توصـف يف األدبيـات السبرييتشـوالية‪ .‬فبينما يتجولـون يف املنـزل‪،‬‬
‫‪360‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫حـي»‪ ،‬فتجيبهـا ثيـودورا – التـي يفرتض‬ ‫هتمـس إليانـور‪« :‬املنـزل ٌّ‬


‫ِ‬
‫يريـدك‪ ،‬نيـل‪ .‬املنـزل‬ ‫أن لدهيـا قـدرات حسـية خارقـة إن «املنـزل‬
‫لا ونسـمع صوهتـا‬ ‫ِ‬
‫يناديـك»‪ .‬يف النهايـة‪ ،‬يأخـذ املنـزل إليانـور فع ً‬
‫تقـول عبـارة تشـبه العبـارة االفتتاحيـة للفيلـم‪« :‬خييـم الصمـت‬
‫املهيـب على أخشـاب ِهل هـاوس وأحجـاره‪ ،‬ونحـن الذين نميش‬
‫هنـا‪ ،‬نمشي لوحدنـا»‪ .‬وينبـع الرعـب البدائـي يف هـذا الفيلـم من‬
‫حيـول واحد ًا مـن الـ‬
‫اآلخـر وهو ّ‬‫مشـاهدة هـذا النـوع اجلديـد مـن َ‬
‫نحـن‪ ،‬شـخصية ضعيفـة تثير التعاطف‪.‬‬
‫يبـدو فيلـم ‪ )1973(The Legend of Hell House‬شـبيه ًا جد ًا‬
‫بالفيلـم السـابق‪ .‬يوظـف هـذا الفيلـم‪ ،‬القائـم عىل روايـة لكاتب‬
‫الغمـوض الغزيـر ريتشـارد ماثيسـون (وهـو كاتـب السـيناريو‬
‫أيضـ ًا)‪ ،‬يوظـف اإلطار التقليـدي لقصة املنـزل القـادر عىل احلس‪.‬‬
‫مليونري باسـتئجار أربعة أشـخاص لتقيص إمكانيـة احلياة بعد‬
‫ٌ‬ ‫يقـوم‬
‫املـوت مـن خلال قضائهم ألربعـة أيـام يف بيـت بيالسـكو‪ ،‬الذي‬
‫يدعـى أيضـ ًا «جبل إيفرسـت البيـوت املسـكونة»‪ .‬يدعـى املنزل يف‬
‫األوسـاط غري الرسـمية باسـم «منـزل اجلحيم»‪ ،‬حيـث حدثت فيه‬
‫أحـداث خارقـة مميتة‪ .‬تتضمـن املجموعـة الفيزيائي ليونيـل باريت‬
‫وزوجتـه آن (كليـف ريفـل ‪ Clive Revill‬وگايـل هانيكت ‪Gayle‬‬
‫‪)Hunnicutt‬؛ الكاهنـة السبرييتشـوالية فلورنـس تانـر (باميلا‬
‫فرانكلـن ‪ )Pamela Franklin‬والوسـيط املـادي بين فيرش (رودي‬
‫مكدويـل ‪ )Roddy McDowall‬الـذي كان الناجـي الوحيـد يف‬
‫زيـارة سـابقة للمنزل‪.‬‬
‫‪361‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫يمثـل باريت الشـخصية غري املؤمنة التقليديـة يف جنس الرعب‪.‬‬


‫وتلعـب هذه الشـخصية دور ًا مركز ًّيا يف الرصاع الدرامي يشـبه دور‬
‫نظريهتـا يف فيلـم ‪ .The Haunting of Hill House‬إذ تعمـل مجيـع‬
‫العنـارص السبرييتشـوالية الرتاثيـة التـي جسـدها الفيلـم عىل حتدي‬
‫إنـكار هذه الشـخصية للخـوارق‪ :‬االنخفاض يف درجـات احلرارة‪،‬‬
‫رائحـة األوزون‪ ،‬األذى الـذي تلحقـه األرواح الرشيـرة‪ ،‬وجلسـة‬
‫حتضري ‪.‬‬
‫كما يف قصـص البيـوت املسـكونة ابتـدا ًء من قصة «منـزل أرش»‬
‫َ‬
‫املنـزل على أنـه آخـر يالحـق جمموعـة من‬ ‫الفيلـم‬
‫ُ‬ ‫فصاعـد ًا‪ ،‬يقـدم‬
‫األفـراد نتامهـى معها‪ .‬كما احلال يف معظـم أفالم البيوت املسـكونة‪،‬‬
‫يسـتعيد الفيلـم الصـورة البرصيـة املوروثـة عـن السـامي البريكي‪،‬‬
‫حيـث البيـت بنايـة كبيرة ذات أبـراج‪ ،‬وهلـا مظهـر خـرب قليلاً‪،‬‬
‫ـباك العناكب املنسـوجة يف الداخل‪ .‬متضي احلبكة‬ ‫وتكمـل ذلـك ِش ُ‬
‫إىل حيـث يكتشـف الدكتـور باريـت أن معتقداتـه خاطئـة‪ .‬كما هي‬
‫العـادة يف رسديـات املنـزل القادر عىل احلـس‪ ،‬وكام حيـدث أيض ًا يف‬
‫الكازينوهـات‪ ،‬يفـوز املنـزل يف املعركة‪.‬‬
‫يتابـع املنـزل يف فيلـم ‪ )1975( Burnt Offerings‬النمـوذج‬
‫التقليـدي للمظهـر البريكي للمنزل املسـكون أو القـادر عىل احلس‪،‬‬
‫كما تفعـل احلبكـة أيض ًا‪ .‬يريـد آل رولـف – ماريـان (كاريـن بالك‬
‫‪ ،)Karen Black‬بين (أوليفـر ريـد ‪ )Oliver Reed‬وابنهما ذو‬
‫االثنـي عشر عامـ ًا ديفـي (يل مونتگومـري ‪)Lee Montgomery‬‬
‫وخالـة بين اليزابيـث (بيـت ديفـز ‪ )Bette Davis‬االبتعـا َد عـن‬
‫‪362‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫املدينـة‪ .‬مـن ثـم ينتقلـون إىل منـزل ريفي كبير بعيد عـن احلضارة‪،‬‬
‫مسرح األحـداث املعتـاد يف هـذا اجلنـس مـن األفلام‪ .‬يؤجـر‬
‫املالـكان – األخ واألخـت أالردايس ذوا املظهـر املخيف املنزل عىل‬
‫العائلة بسـعر يثير انخفاضه الريبـة ومقداره تسـعامئة دوالر لقضاء‬
‫الصيفيـة كلهـا‪ .‬كجزء مـن عقد اإلجيار‪ ،‬على آل رولـف أن يضعوا‬
‫ثلاث مرات يوم ًّيـا صينية طعـام أمام بـاب إحدى الغـرف العلوية‬
‫التـي يقـول األخ وأختـه أن أمهما تعيـش فيهـا منعزلة‪.‬‬
‫كآخر‪ .‬قبـل أن يغـادر آل أالردايس‬
‫هكـذا تقـدم احلبكة املنـزل َ‬
‫املنـزل‪ ،‬يقـول أرنولـد الـذي يتحرك عىل كـريس بعجلات‪« :‬املنزل‬
‫يعتنـي بنفسـه‪ ،‬سـيد رولـف»؛ ثـم تضيـف روز أالردايـس الحق ًا‪:‬‬
‫«إنـه خالـدٌ عمل ًّيـا»‪ .‬وتنبثـق بقيـة الفيلـم من هـذه االفتتاحيـة التي‬
‫متهـد ملوضوعـة املنـزل الـذي يمتلـك عق ً‬
‫ال وهيـدد باألخطـار مجيع‬
‫أفـراد العائلة‪.‬‬
‫يمتـص املنـزل ماريـان إىل وعيـه‪ ،‬مـا جيعلهـا ترتـدي مالبـس‬
‫عتيقـة الطـراز وتزهـد يف احلميميـة متامـ ًا‪ ،‬وتقضي معظـم وقتهـا‬
‫بالقـرب مـن الغرفـة التـي تضـع الطعـام بباهبـا‪ ،‬وهـي مثـال آخـر‬
‫للغرفـة الرسيـة كإقليم حمـرم يف أفلام الرعب‪ .‬نكتشـف تدرجيي ًا أن‬
‫ال كام وصفـه أرنولد أالردايـس‪ ،‬حيث نرى‬ ‫البيـت يعتني بنفسـه فع ً‬
‫املنـزل يغير جلـده حرف ًّيـا‪ ،‬إذ تسـقط بعض األجـزاء التالفـة لتحل‬
‫اآلخر‬
‫حملهـا أخـرى جديـدة‪ .‬ويتمثـل الرعب يف هـذا الفيلـم يف أن َ‬
‫امتـص يف النهايـة قـوة احليـاة مـن أفـراد العائلـة‪ ،‬إذ نـرى صورهم‬
‫وقـد علقـت إىل جانب صـور من عاشـوا فيـه قبلهم‪ .‬والفكـرة هنا‬
‫‪363‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫أن تفـكك العائلـة وحتوهلـا إىل يشء آخـر‪ ،‬وهـي الوحـدة املركزيـة‬
‫الرضوريـة يف إرثنـا التطـوري‪ ،‬يثيران الرعب يف كثري مـن األفالم‪.‬‬
‫ينطبـق التمثـل ذاتـه‪ ،‬ولـو أنـه أكثـر حـد ًة هنـا‪ ،‬عىل فيلـم ‪The‬‬
‫‪ )1980( Shining‬الـذي أخـذه سـتانيل كوبريـك عـن رواية بنفس‬
‫االسـم للكاتـب سـتيفن كنـگ ‪ .Stephen King‬يبنـي كال الفيلـم‬
‫والروايـة موضوعة مشـاهبة حيث جيـري حتويل شـخصيات نتامهى‬
‫كآخـر‪ .‬ينتقـل جـاك تورانـس‬ ‫معهـا كنحـن مـن ِق َبـل منـزل ُيقـدَّ م َ‬
‫(جـاك نيكلسـون ‪ )Jack Nicholson‬مـع زوجتـه وينـدي (شـييل‬
‫دوفـال ‪ )Shelley Duvall‬وابنهما الصغير داين (داين لويد ‪Danny‬‬
‫‪ )Lloyd‬إىل منتجـع أوفرلـوك يف كولـورادو‪ ،‬حيـث سـيعمل جـاك‬
‫على العنايـة بالفنـدق طوال فرتة تسـاقط الثلوج يف موسـم الشـتاء‪.‬‬
‫قبـل جـاك الوظيفـة‪ ،‬وهـو كاتـب طمـوح‪ ،‬كيما يتوفـر لـه الوقـت‬
‫للعمـل على كتـاب يكتبـه‪ .‬أضفـى كوبريـك على فنـدق أوفرلوك‬
‫ذلـك املظهـر الشـبيه بالقلاع الـذي صـار ميمـ ًة سـينامئية يف هـذا‬
‫اجلنـس مـن األفلام‪ُ .‬قـدِّ م داين بوصفـه وسـيط ًا على مواصفـات‬
‫الرتاث السبرييتشـوايل‪ ،‬إذ يسـمع أصواتـ ًا من روح ترشـده‪« :‬الولد‬
‫الصغير الـذي يعيش يف فمـي»‪ .‬عندما خيوض جـاك مقابلة العمل‪،‬‬
‫تلتقـي العائلـة بديـك هالـوران (سـكامتان كـروذرس ‪Scatman‬‬
‫‪ )Crothers‬كبير الطهـاة الـذي يتبين أنـه ممـن يمتلكـون قـدرات‬
‫فـوق طبيعيـة ورسعـان مـا يـدرك شـبه داين بـه مـن هـذه الناحية‪.‬‬
‫كل مـن الروايـة والفيلـم املغزى مـن العنـوان حيث‬ ‫وهنـا يوضـح ٌّ‬
‫خيبر ديـك داين أنـه – ديـك كان يتواصـل مـع جدتـه دون كالم‪،‬‬
‫‪364‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫وسـمى طريقـة التواصـل تلك بالــ «بريـق ‪.»shining‬‬


‫عندمـا خيبر داين ديـك أن املنـزل خييفـه (حيـث كانـت لـه رؤيا‬
‫بذلـك قبـل أن يصلـوا املـكان)‪ ،‬يبين لـه ديـك هالـوران السـبب‪،‬‬
‫حيـث يتضـح أن املنـزل مـن النـوع القـادر على احلس‪:‬‬
‫«أنـت تعـرف‪ ،‬بعـض املنـازل تشـبه البشر‪ .‬بعضهـا تبرق‪،‬‬
‫وبعضهـا ال تفعـل‪ .‬أظـن أن لفنـدق أوفرلـوك شـيئ ًا يشـبه الربيـق‪.‬‬
‫عندمـا حيـدث يشء مـا‪ ،‬قـد يترك أثـر ًا‪ .‬لنقـل كما لـو أن أحدهـم‬
‫أحـرق اخلبـز‪ .‬وباملثل‪ ،‬ربام ترتك األشـياء التي حدثت سـابق ًا أنواع ًا‬
‫أخـرى مـن اآلثـار خلفها‪ .‬لكـن ليس اجلميـع يسـتطيعون مالحظة‬
‫تلـك اآلثـار‪ ،‬إنما النـاس الذيـن يربقون فحسـب»‪.‬‬
‫مـع تقـدم الفيلم‪ ،‬يلتقـي داين بـاألرواح التي ُحبِ َسـت يف املكان‬
‫بسـبب «األشـياء التـي حدثـت»‪ ،‬جمموعـة مرتاكمـة مـن األفعـال‬
‫الرشيـرة أضفـت على املنـزل القـدرة على احلـس وحبسـت فيـه‬
‫األرواح التـي قامـت بتلـك األشـياء‪.‬‬
‫يقـدم ديـل بيلي نقـد ًا ثقاف ًّيـا لفيلـم كوبريـك هـذا‪« :‬يقـع جـاك‬
‫ضحيـ ًة ملكائـد األوفرلـوك يف حمـاكاة سـاخرة ظالميـة للمعضلـة‬
‫التـي واجههـا مـا ال حيىص مـن موظفـي الشركات املتحمسين قبله‪.‬‬
‫باختصـار‪ ،‬على جـاك أن يضحـي بعائلته ملصلحـة الرشكـة»‪ .‬يقتبس‬
‫بيلي أيضـ ًا مـن تقييـم سـتيفن كنـگ للروايـة والفيلـم (ومل هيتم كنگ‬
‫بالفيلـم كثير ًا يف احلقيقـة)‪« :‬مـا حيـدث يف األوفرلـوك يتعلـق بنـوع‬
‫جمنـون مـن الرأسمالية‪ .‬إنـه احللـم األمريكـي وقـد صـار مسـعور ًا‬
‫خارجـ ًا عـن السـيطرة»)‪ .(16‬ال شـك أن التأويـل الثقـايف ينجـح يف‬
‫‪365‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫تشـخيص بعـض العنـارص املهمـة يف الفيلـم‪ .‬لكـ َّن الرعـب احلقيقي‬


‫ناشـئ مـن يشء أعمـق مـن الثقافـة‪ .‬أوالً‪ ،‬نتعاطـف كمشـاهدين مع‬ ‫ٌ‬
‫عائلـة هيددهـا آخر‪ ،‬حيـث العائلة هي املؤسسـة التنظيميـة املركزية يف‬
‫نوعنـا االجتامعـي‪ :‬املنزل وإرثه من الرشور واألشـباح التي اسـتحوذ‬
‫يـن تدرجيي ًا‪.‬‬
‫عليهـا وعلقـت فيـه‪ ،‬حيـث تظهـر لداين وجـاك الـذي ُ َ‬
‫وينصـب تركيـز الفيلم عىل امتصـاص اآلخر التدرجيـي جلاك تورانس‬ ‫ُّ‬
‫منهـم‪ .‬حياول جـاك قتل زوجته‬ ‫وحتويلـه إيـاه من واحد منـا إىل واحد ُ‬
‫وطفلـه تنفيـذ ًا لطلبـات املنـزل‪ ،‬يف حالة حتويل تشـبه تلك التـي نراها‬
‫يف أفلام ‪ The Legend of Hell House ،The Haunting‬و ‪Burnt‬‬
‫‪ ،Offerings‬كما احلـال مـع مادلين يف قصة منـزل أرش‪.‬‬
‫يركـز الفيلـم أيضـ ًا على موضوعـة اخلطـر املحيـق بالطفـل‪،‬‬
‫وهـي موضوعـة شـائعة يف أعمال سـتيفن كنـگ ونراهـا تتكـرر‬
‫كثير ًا يف أفلام الرعـب‪ .‬يف فيلـم ‪ )1985( Silver Bullet‬القائـم‬
‫على روايـة قصيرة لسـتيفن كنـگ‪ ،‬يتعـرض الفتـى ماريت كاسـلو‬
‫عجـز‬
‫ُ‬ ‫وشـقيقته اليافعـة جين ملالحقـة مسـتذئب‪ .‬وقـد ضاعـف‬
‫اجلسـدي من ضعفه كشـخصية درامية‪ .‬يف فيلـم ‪Firestarter‬‬ ‫ُّ‬ ‫ماريت‬
‫(‪ ،)1984‬متتلـك تشـارلني «تشـاريل» مكجـي قدرة حتريك األشـياء‬
‫عـن بعـد‪ ،‬وحتاول مـع والدهـا التهرب مـن عمالء احلكومـة الذين‬
‫يريـدون إجـراء التجـارب عليهـا‪ .‬تظهـر شـخصية الطفـل املهـدَّ د‬
‫ِمـرار ًا يف أعمال سـتيفن كنـگ واألفالم القائمـة عليها‪ ،‬وقد سـاهم‬
‫ذلـك يف نجاحـه ألسـباب وجيهـة مـن منظـور الصفـات البدائية‪.‬‬
‫يكتـب ماتياس كاليسـن‪« :‬جيد داين ذو اخلمسـة أعوام نفسـه مهدَّ د ًا‬
‫‪366‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫مـن القـوى اخلارقـة لألوفرلـوك‪ .‬وجمـرد تعـرض طفـل ألخطـار‬


‫القـوى املعاديـة يشء مرعـب بما يكفـي‪ ،‬لكـن كنگ يعضـد رعب‬
‫هـذا السـيناريو بوضع والد الطفـل البطل يف رصاع معـه»)‪ .(17‬وألن‬
‫األطفـال هـم مسـتقبلنا اجليني‪ ،‬تثير األخطـار التي هتـدد األطفال‬
‫ِ‬
‫مهسـات الرعـب البدائي‪.‬‬
‫يعـدُّ فيلـم ‪ )2007( 1408‬القائـم على قصـة قصيرة لسـتيفن‬
‫زئ بموت‬ ‫كنـگ شـك ً‬
‫ال آخر مـن قصة املـكان املسـكون‪ .‬بعـد أن ُر َ‬
‫طفلتـه‪ ،‬يتخلى الكاتـب مايـك إنسـلن (جـون كيـوزاك ‪John‬‬
‫‪ )Cusack‬عـن األدب اجلـاد ليتجـه للكتابة عن الفنادق املسـكونة‪،‬‬
‫َ‬
‫العـال املـادي‬ ‫بـأي يشء خلاف‬‫رغـم أنـه ال يؤمـن باألشـباح وال ِّ‬
‫(شـخصية املنكـر اخلالـدة يف هـذا اجلنـس)‪ .‬عندما يسـمع مايك أن‬
‫الغرفـة رقـم ‪ 1408‬يف فندق دولفني يف نيويورك مسـكونة‪ ،‬جيرب أن‬
‫يبيـت فيهـا ليلـة‪ .‬حيـاول مدير الفنـدق السـيد أولني (سـامويل أل‪.‬‬
‫جاكسـون ‪ )Samuel L. Jackson‬بـكل قوتـه أن يقنعـه بالعـدول‪،‬‬
‫حتـى أنـه خيبر إنسـلن أن سـتة ومخسين شـخص ًا ماتـوا فيهـا‪ .‬ثـم‬
‫آخـر طبقـ ًا لرتاث‬
‫خيبره أخير ًا‪« :‬إهنـا غرفـة لعينـة رشيـرة»‪ ،‬فهـي َ‬
‫قصـة املـكان القـادر على احلـس‪ .‬يلمـح االفتتـاح المتلاك الغرفة‬
‫هلـذه القـدرة حيـث نراهـا تسـتيقظ بعـد دقائق مـن دخول إنسـلن‬
‫فيشـتغل الراديـو تلقائ ًّيا ليذيـع أغنيـة ‪.We’ve Only Just Begun‬‬
‫وتبـدأ عندهـا حمـاوالت الغرفـة لدفـع إنسـلن «للخـروج»‪ :‬حيـث‬
‫صـوت أن بإمكانـه االسـتفادة مـن «نظـام اخلـروج الرسيع»‬‫ٌ‬ ‫خيبره‬
‫بينما تظهر أنشـوطة مشـنقة يف املشـهد‪.‬‬
‫‪367‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫من فيلم ‪ :1408‬مايك إنسلن (جون كيوزاك) يرصخ مرتعب ًا وبيده جهاز التسجيل‪.‬‬

‫يركـز الفيلـم على موضوعـة اقتنـاع إنسـلن تدرجييـا – إذ هـو‬


‫شـخص هتكمـي يعتقـد أنـه رأى كل يشء باإليمان باألحـداث‬
‫اخلارقـة‪ .‬يسـجل إنسـلن كالمه عىل مسـجل صغري حيمله بيـده بينام‬
‫تتـواىل األحـداث املرعبـة عليـه‪ .‬لكـن حتى وسـط هـذه الكوارث‬
‫التـي يسـببها اآلخـر الرشيـر ومـا يفعلـه مـن تشـويه للواقـع يف‬
‫النصـف األول مـن الفيلـم‪ ،‬يواصل إنسـلن حماولـة إقناع نفسـه أن‬
‫هنـاك حيلـة وراء هـذا كلـه إىل أن يدرك أخير ًا حقيقة املـأزق الذي‬
‫وقـع فيه‪ .‬كام يف فيلـم ‪ ،The Shining‬يقدم فيلـم ‪( 1408‬نالحظ أن‬
‫جممـوع األرقـام يسـاوي ‪ ،13‬كما أن الفندق ُبنِـي عـام ‪ )1913‬كيان ًا‬
‫آخـر خارقـ ًا مـن تراث قصـص األشـباح حيـاول تدمرينـا‪ .‬إن إثارة‬ ‫َ‬
‫قصـة سـتيفن كنـگ هـذه والفيلـم املأخـوذ عنهـا بعيـدة كثير ًا عن‬
‫معظـم املعتقـدات السبرييتشـوالية الشـائعة‪ .‬لكن السبرييتشـواليني‬
‫تـوم بتلـر ‪ Tom Butler‬وليـزا بتلـر ‪ Lisa Butler‬يرجحـان أن‬
‫«األحـداث الفظيعـة قـد تنطبـع يف نسـيج املـكان»)‪ .(18‬بعيـد ًا عـن‬
‫‪368‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫السبرييتشـوالية‪ ،‬يمنحنـا الفيلـم لـذة االنتصـار عىل هـذا اآلخر‪ ،‬إذ‬


‫نـرى أولني يقول «أحسـنت صنعا سـيد إنسـلن‪ ،‬عمل رائـع»‪ .‬بينام‬
‫مل ِ‬
‫تنتـه قصة سـتيفن كنـگ القصرية األصليـة هبذه النهاية السـعيدة‪.‬‬

‫«هل كان ذلك البعبع؟»‪:‬‬


‫َ‬ ‫َّ‬
‫الطعان ‪ slasher‬كآخر في سلسلتي أفالم ‪Halloween‬‬
‫و ‪Friday the 13th‬‬

‫حتـول فيلـم هيتشـكوك الصـادر عـام ‪ ،Psycho 1960‬بمشـهد‬


‫اهلجـوم على جانيـت يل ‪ Janet Leigh‬يف احلمام‪ ،‬حتـول إىل أحـد‬
‫كالسـيكيات السـينام‪ .‬وربما سـامهت صـورة أنتـوين بريكنـز‬
‫‪ Anthony Perkins‬شـاهر ًا سـكينه مرتديـ ًا ز ًّيـا نسـائ ًّيا يف نشـوء‬
‫أفلام الط َّعانين كفـرع مـن جنـس الرعـب‪ .‬يصـف سـتيفن برنس‬
‫‪ Steven Prince‬صيغـة أفلام الرعـب يف حقبـة مـا بعـد احلداثـة‪:‬‬
‫«عـاد ًة مـا تُفتتـح هـذه األفلام بخـرق عنيـف لالنتظـام القائم‬
‫مـن ِق َبـل وحـش‪ ..‬كسـابقاته‪ ،‬يتمحـور فيلـم الرعـب يف حقبـة ما‬
‫بعـد احلداثـة حـول اهليـاج العنيف الصـادم للوحش وعجـز الناس‬
‫العاديين عـن الـرد عليـه بعنـف مماثـل‪ .‬ويف النهايـة‪ ،‬جيتمـع غياب‬
‫خامتـة السرد ‪ narrative closure‬مـع عـدم كفاية الفعـل البرشي‪،‬‬
‫جيتمعـان إلنتـاج أشـكال خمتلفـة مـن النهايـات املفتوحـة‪ :‬انتصـار‬
‫الوحـش (كما يف سلسـلة أفلام ‪)Henry‬؛ ُي َـزم الوحـش عىل نحو‬
‫مؤقت فحسـب (فيلـم ‪)Halloween‬؛ أو تكـون النتيجة غري مؤكدة‬
‫(فيلـم‪.(19)») Night of the Living Dead‬‬
‫ينطبـق وصـف برنـس هـذا لصيغـة أفلام الرعـب على أفلام‬
‫‪369‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫الطعَّانين بالضبـط‪ ،‬وهـو يقودنـا إىل رؤيـة أثـر التمثلات البدائيـة‬


‫يف إثـارة اخلـوف يف هـذا اجلنـس الفرعـي مـن أفلام الرعـب‪ .‬قـد‬
‫ال يكـون فيلـم جـون كاربنتر ‪ )1978( Halloween‬األول مـن‬
‫نوعـه‪ .‬فقبلـه بأربع سـنوات صـدر فيلـم ‪The Texas Chain Saw‬‬
‫‪ ،Massacre‬وفيلـم ‪ Black Christmas‬أيضـ ًا‪ ،‬وكالمهـا يصـوران‬
‫ط َّعانين مقنَّعين‪ .‬لكـن فيلـم ‪ Halloween‬كان النمـوذج األول‪.‬‬
‫وقـد أشـعل النجـاح املـايل للفيلـم يف شـباك التذاكـر سـباق ًا إلنتاج‬
‫أفلام مماثلـة بعده‪.‬‬
‫جتـري أحـداث افتتـاح الفيلـم يف بلـدة هادنفيلـد يف إيلينـوي‬
‫الفيلـم الط َّعـان‬
‫ُ‬ ‫وسـط أمريـكا حـوايل العـام ‪ ،1963‬ويقـدم لنـا‬
‫املجنـون ذا السـتة أعـوام مايـكل مايرز يف مشـهد البدايـة وهو يقتل‬
‫أختـه جوديـث بسـكني‪ .‬بعد مخسـة عشر عامـ ًا‪ ،‬ويف «ليلـة مظلمة‬
‫عاصفـة»‪ ،‬يقـود الطبيـب النفسي الدكتـور سـام لوميـس (دونالـد‬
‫بليزانـس ‪ )Donald Pleasence‬سـيارته إىل املـكان الـذي يفترض‬
‫حمتجـز فيـه حتـت حراسـة مشـددة‪ ،‬فقـط ليكتشـف أن‬ ‫أن مايـكل َ‬
‫األخير هـرب‪ .‬يتمتم لوميـس مضطرب ًا «لقـد رحل مـن هنا‪ ،‬رحل‬
‫الشر»‪ ،‬وقـد عرف أنـه عائد ال حمالـة إىل هادنفيلد‪ .‬ال يترك كاربنرت‬
‫مشـهد تأسـييس شـائع يف‬‫ٍ‬ ‫شـكًّا يف كـون مايـكل رشيـر ًا َ‬
‫وآخر‪ .‬ويف‬
‫أفلام الرعـب‪ُ ،‬يـدِّ ث لوميـس قائـدَ رشطـة هادنفيلـد الـذي ال‬
‫يعتقـد أن مايـكل سـيعود‪ ،‬وقـد خلـص حدي ُثـه هـذا إطـار الفيلـم‬
‫وأفلام الط َّعانين التـي سـتنتج يف مـا بعد‪:‬‬
‫يتبـق فيه‬ ‫«التقيتـه قبـل مخسـة عشر عامـ ًا‪ .‬وقـد ُأ ِ‬
‫خبر ُت أنـه مل َّ‬
‫‪370‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫يشء‪ :‬ال عقـل وال ضمير وال فهـم ‪ -‬حتـى بأبسـط املسـتويات ‪-‬‬
‫رأيت طف ً‬
‫ال‬ ‫للحيـاة أو املـوت‪ ،‬للخري أو الشر‪ ،‬للصواب أو اخلطـأ‪ُ .‬‬
‫أثـر فيـه للعاطفـة‪ ،‬وجـه‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ضامـر ال َ‬ ‫شـاحب‬ ‫وجـه‬ ‫يف السادسـة ذا‬
‫حيمـل العينين األشـد اسـوداد ًا‪ ،‬عينـي الشـيطان‪ .‬قضيـت ثامنيـة‬
‫أعـوا ٍم للوصـول إليـه‪ ،‬ثـم سـبعة أعـوا ٍم حابسـ ًا إياه ألننـي عرفت‬
‫أن مـا يكمـن وراء تلكما العينني كان الشر بأنقى وأبسـط صوره»‪.‬‬
‫يتخـذ مايـكل مـن بطلـة الفيلـم لـوري سترود (جيمـي يل‬
‫كورتيـس ‪ – )Jamie Lee Curtis‬التـي يتبني أهنا أختـه يف اإلحلاقية‬
‫األوىل للفيلـم طريـدة لـه‪ .‬إذ نراه يتعقبهـا ويقتـل أصدقاءها‪ .‬تعمل‬
‫األخري‬
‫ُ‬ ‫لـوري جليسـة للطفل تومـي ذي العرشة أعوام‪ ،‬حيـث يرى‬
‫مايـكل عـدة مـرات يف اخلـارج ويسـأل لـوري‪« :‬هـل كان ذلـك‬
‫البعبـع؟» فتطمئنـه قائلـة إنـه ليس كذلـك‪ .‬لكـن يف النهايـة‪ ،‬وبعد‬
‫أن يبـدو أن لـوري قتلـت مايـكل مرتين‪ ،‬مـرة بإبـرة احلياكـة ومرة‬
‫بسـكينه نفسـه‪ ،‬وبعـد أن أطلـق عليـه لوميـس سـت رصاصـات‪،‬‬
‫خيتفـي مايـكل مرة أخرى‪ .‬تقول لـوري لتومي «كان ذلـك البعبع»‪،‬‬
‫فيضيـف لوميـس‪« :‬يف حقيقـة األمـر‪ ،‬كان البعبـع فعالً»‪.‬‬
‫اسـتقطبت أفلام الط َّعانين نقـد ًا ثقاف ًّيـا وآخـر سـيكولوج ًّيا‪.‬‬
‫يعتقـد روبـن وود ‪ Robin Wood‬أن هـذه األفلام اسـتحدثت‬
‫نتاج للكبـت‪ ..‬وهي متثـل جوهر ًّيا األنـا العليا التي‬ ‫شـخصي ًة «هـي ٌ‬
‫تنتقم لنفسـها من اجلنسـانية املتحـررة لألنثى»)‪ .(20‬مـن منظور النقد‬
‫الثقـايف‪ ،‬يعبر فيلـم ‪ Halloween‬عن فقـدان التالحـم يف جمتمعات‬
‫الضواحـي‪ .‬ففـي حماولته إنـكار إمكانية وقوع العنـف يف هادنفيلد‪،‬‬
‫‪371‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫يقـول قائـد الرشطـة‪« :‬هـل تعـرف مـا هـي هادنفيلـد؟ عوائـل‪،‬‬


‫صفـوف على طـول الشـارع»‪ .‬لكـن عندمـا تركـض‬ ‫ٍ‬ ‫أطفـال‪ ،‬يف‬
‫لـوري وهـي تصرخ طلبـ ًا للنجـدة لي ً‬
‫لا بينما يالحقها مايـكل‪ ،‬ال‬
‫يفتـح جرياهنـا أبواهبـم‪ ،‬كما نـرى بعضهـم يغلقـون السـتائر‪ .‬وربام‬
‫يلمـح كاربنتر هنـا للتشـابه بين هادنفيلـد وقصـة مـارك تويـن‬
‫‪« Mark Twain‬الرجـل الـذي أفسـد هادليبرگ ‪The Man Who‬‬
‫‪ ،»Corrupted Hadleyburg‬وهـي قصـة عـن بلدة تشـبه هادنفيلد‬
‫ال بني اسـميهام حيـث يعيش‬ ‫إىل حـدٍّ مـا – كما أن هنـاك تشـاهب ًا قلي ً‬
‫النـاس مطمئنني إىل متيزهـم بفضائل األخالق ولكنهـم غري قادرين‬
‫على رؤيـة الفسـاد الـذي ينخرهـم مـن الداخل‪.‬‬
‫ال شـك أن كاربنتر يصـوب فيلمـه جتـاه االعتـداد بالنفـس‬
‫املتعجـرف لسـكان الضواحـي األمريكيـة‪ .‬لكـن لقوة تأثير الفيلم‬
‫أعمـق مـن حمتـواه النقـدي للثقافـة األمريكيـة‪ .‬دشـن فيلـم‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫منشـأ‬
‫‪ Halloween‬سلسـلة مـن سـبع إحلاقيات واسـتعادتني‪ .‬وهـو أو ًَّل‬
‫ويف املقـام األول فيلـم رعـب يلعـب على وتـر اخلـوف البدائي من‬
‫خـوف كان يشـغلنا طـوال تارخينـا البشري‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫وجـود آخـر‪ ،‬وهـو‬
‫البعبـع كما يسـميه تومي‪ ،‬وهو آخـر ولكنـه نحن يف الوقت نفسـه‪،‬‬
‫جـز ٌء مـن حوضنـا اجلينـي‪ .‬يشـذ هـذا اآلخـر عـن مجيـع القواعـد‬
‫التكيفيـة للسـلوك البرشي كام تطـورت عرب آالف السـنني‪ .‬يالحظ‬
‫جوزيـف كارول أن «ال ثقافـ َة تشـذ عـن األنماط البرشيـة العامليـة‬
‫(بالتعريـف)‪ ،‬لكـن الكثير مـن األفـراد يشـذون عـن القواعـد‬
‫السـلوكية النموذجيـة للنـوع‪ .‬فقـد يقتلـون أطفاهلـم‪ ،‬يامرسـون‬
‫‪372‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫ِسـفاح املحـارم‪ ،‬يعجزون عـن تنمية القـدرات اللغوية أو يفشـلون‬


‫يف أنماط أخـرى مـن السـلوك»)‪.(21‬‬
‫ينطبـق على شـخصية الط َّعان هـذا الوصف‪ ،‬إذ تتسـبب والدته‬
‫الشـاذة أو بيئتُـه وتنشـئتُه (بحسـب اآلراء املختلفـة لعلماء النفس)‬
‫أو خليـط االثنين يف جعلـه منحرفـ ًا عـن الثقافـة الشـائعة املقبولة‪،‬‬
‫أي إنـه مريـض نفيس‪ .‬تشير الطبعـة األخيرة من إنجيـل احلاالت‬
‫النفسـية‪ ،‬وأعنـي بـه كتـاب ‪The Diagnostic and Statistical‬‬
‫‪ ،Manual of Mental Disorders‬تشير إىل املـرض النفيس باسـم‬
‫خيتلـف عـن اسـمه يف الطبعـة السـابقة‪ ،‬إذ صـار اسـمه «اضطراب‬
‫الشـخصية املعادية للمجتمع ‪.»antisocial personality disorder‬‬
‫لكـن توصيـف الكتـاب لألعراض ال خيتلـف عموم ًا عما كان عليه‬
‫يف الطبعـات السـابقة‪ .‬إذ يشـمل األفـراد الذين «يفتقـرون كثري ًا إىل‬
‫التعاطـف ويميلـون ألن يكونـوا متحجريـن‪ ،‬هتكميين‪ ،‬ويزدرون‬
‫مشـاعر وحقـوق ومعانـاة اآلخريـن»‪ .(22‬يفتقر املريـض النفيس إىل‬
‫صفـة مركزية يف الطبيعـة البرشية التي تطورت عرب ماليني السـنني‪.‬‬
‫عـرف ويليـام هاميلتـون ‪« William Hamilton‬الغرييـة املتبا َدلة»‪،‬‬ ‫َّ‬
‫التـي يفتقـر إليهـا املريـض النفيس‪ ،‬بأهنا أسـاس األخالقيـة‪ .‬يناقش‬
‫النـس ووركمان ِ‬
‫وول ريدر املـرض النفيس بوصفـه انحرافـ ًا جين ًّيا‬
‫كامنـ ًا متطـور ًا ونتيج ًة كذلـك للعوامل البيئية‪ .‬يؤمـن البرش عموم ًا‪،‬‬
‫يكتـب النـس وريـدر‪« ،‬بمسـاعدة اآلخريـن متوقعني (سـواء كان‬
‫هـذا التوقـع على مسـتوى الوعـي أو ال) أن اآلخرين سيردون هلم‬
‫هـذا الديـن‪ ..‬وربما كان االسـتغالل الذي يامرسـه املريـض النفيس‬
‫‪373‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫ستراتيجي ًة تطوريـة بديلة عـن هذا التبـادل»)‪.(23‬‬


‫ربما كان جـاك السـفاح ‪ ،Jack the Ripper‬الـذي أهلـم‬
‫عـدد ًا ال حيصى مـن الروايـات واألفلام‪ ،‬نموذجـ ًا أول ًّيـا واقع ًّيـا‬
‫لشـخصية الطعـان‪ .‬لكـن قتلـة آخريـن كتيـد بنـدي ‪Ted Bundy‬‬
‫وزوديـاك السـفاح ‪ The Zodiac Killer‬وأمثاهلما قـد خلفـوا‬
‫وراءهـم مـن اجلثـث مـا جيعل جـاك السـفاح حيمـر خجلاً‪ .‬يمثل‬
‫وح َلـة السـكاكني واخلناقـون واآلخـرون املتنوعون‬ ‫مايـكل مايـرز َ َ‬
‫يف أفلام الطعانين‪ ،‬يمثلـون الطـرز اجلينيـة التـي تتحـول من نحن‬
‫علـم النفـس التطـوري أنه‬ ‫لتصبـح آخـر‪ ،‬مـا يثير رعبـ ًا قـد يرجح ُ‬
‫كان موجـود ًا يف نوعنـا منـذ بداياتـه‪ .‬تظهـر الشـخصية عبر تاريخ‬
‫األدب واألسـطورة‪ .‬مـن أمثلـة ذلـك شـخصية ياگـو يف مرسحيـة‬
‫«رش بلا هـدف»‪ ،‬كما وصفـه صامويـل‬ ‫عطيـل لشكسـبري‪ ،‬إذ هـو ٌّ‬
‫تايلـور كولريـدج ‪ .Samuel Taylor Coleridge‬يف روايـة ‪Billy‬‬
‫‪ Budd، Sailor‬هلريمـان ملفـل‪ ،‬يف أثنـاء احلـرب مـع الفرنسـيني يف‬
‫القـرن الثامن عرش‪ ،‬تنشـأ عند القائد العسـكري لسـفينة بيليبوتينت‬
‫احلربيـة الربيطانيـة جـون كالگارت كراهيـ ٌة العقالنيـة باملـرة جتـاه‬
‫بحار مسـتقيم السـلوك‪ .‬يقتبس ملفل مـن أفالطون‬ ‫بيلي باد‪ ،‬وهـو ٌ‬
‫يف وصـف األول لـكالگارت بأنه «فسـا ٌد طبيعي‪ ،‬فسـا ٌد يتوافق مع‬
‫الطبيعـة»‪ .‬يقـدم ملفـل هنا وصفـ ًا للمـرض النفسي كان يمكن أن‬
‫يوجـد يف كتـاب ‪The Diagnostic and Statistical Manual of‬‬
‫‪ Mental Disorders‬لـو كان متوفـر ًا يف أواخـر القرن التاسـع عرش‬
‫حين كتب القصة (نرشت عـام ‪ ،1924‬بعد وفاتـه)‪« .‬رغم أن طباع‬
‫‪374‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫ال خيضـع لقانون‬ ‫الرجـل اهلادئة ورباطة جأشـه توحـي بامتالكه عق ً‬


‫املنطـق إىل حدٍّ اسـتثنائي‪ ،‬إال أنـه كان يف باطنه متحـرر ًا بالكامل من‬
‫ذلـك القانـون‪ ،‬إذ مل يكـن هيتـم بالعقالنيـة إال بقدر توظيفهـا كأداة‬
‫لتحقيق األهـواء»)‪.(24‬‬
‫إذن مـن منظـور نقـد الصفـات البدائيـة ينشـأ رعـب أفلام‬
‫الط َّعانين مـن هـذا النوع مـن الشـخصية‪ ،‬القاتـل املريض نفسـ ًّيا‬
‫مـن نمـوذج ياگـو أو كالگارت‪ ،‬فـر ٌد يولـد كنحـن‪ ،‬ولكنـه يف‬
‫آخـر عىل ٍ‬
‫نحو خميـف‪ .‬خالفـ ًا للمسـتذئبني‪ ،‬النزافني‪،‬‬ ‫اآلن نفسـه َ‬
‫املفرتسين والشـخصيات األخـرى جلنـس الرعـب‪ ،‬ال يقـدر‬
‫الط َّعـان على تغيري شـكله‪ ،‬وهو واحد مـن شـجرتنا اجلينية‪ ،‬وهنا‬
‫حتديـد ًا يكمـن معظـم الفـزع الذي يثريه هـذا اجلنـس الفرعي من‬
‫أفلام الرعـب‪ .‬يعلـق ديفيد بـاس عىل هـذا النوع من الشـخصية‬
‫متخذ ًا من القاتل املتسلسـل مثاالً‪« :‬يسـتقطب القتلة املتسلسـلون‬
‫اهتاممـ ًا إعالم ًّيـا ال يتناسـب أبـد ًا مـع تأثريهـم الفعلي‪ ،‬إذ أهنـم‬
‫مسـؤولون عـن إحـدى أو اثنتين باملائـة فقـط مـن جممـل جرائم‬
‫القتـل يف أمريـكا‪ ..‬ومـع ذلك فإن افتتـان الناس هبـذه األنواع من‬
‫القتـل ينشـأ أيض ًا مـن السـيكولوجية التـي طورناها ملنـع القتل‪..‬‬
‫وهـي تعمـل على تشـغيل دفاعـات صممـت خصيصـ ًا للتعامل‬
‫مع الاليقين»)‪.(25‬‬
‫على الرغـم مـن نـدرة وجـود هـذا النـوع مـن الشـخصيات‪،‬‬
‫بـرزت شـخصية القاتـل املتسلسـل‪ ،‬سـواء كان مـن نـوع الط َّعـان‬
‫أو األنـواع األخـرى‪ ،‬على نحـو واضـح يف عـدد كبري مـن األفالم‬
‫‪375‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫واملسلسلات التلفزيونيـة‪ ،‬ربما بسـبب االسـتجابة التطوريـة التي‬


‫تثريهـا هـذه الشـخصية‪.‬‬
‫بميزانيـة إنتـاج تقدر بحـوايل ثالثامئـة ألـف دوالر‪ ،‬حصد فيلم‬
‫‪ Halloween‬أرباحـ ًا جتـاوزت سـبعني مليـون دوالر حـول العـامل‪.‬‬
‫كان مـن املؤكـد أن يتسـبب هـذا النجـاح املـايل يف حماولـة منتجين‬
‫آخريـن تقليـد الفيلـم‪ .‬وقـد كان أول تقليـد هـو فيلـم ‪Friday the‬‬
‫‪ 13th‬عـام ‪ .1980‬وال شـك أن منتجـي الفيلـم اختـاروا تاريـخ‬
‫الثالـث عشر لعنـوان الفيلـم؛ ألن هذا الرقـم عدَّ مشـؤوم ًا لقرون‪.‬‬
‫ُ‬
‫امللـك‬ ‫والتفسير األكثـر شـيوع ًا لذلـك هـو املذبحـة التـي بدأهـا‬
‫فيليـب الرابـع بحق فرسـان اهليـكل يف فرنسـا‪ ،‬حيـث كان ذلك يف‬
‫يـوم اجلمعـة الواقـع يف الثالث عرش مـن أكتوبر عام ‪ .1307‬يسـتغل‬
‫فيلـم ‪ ،Friday the 13th‬وهـو أحـد األفلام منخفضـة امليزانية التي‬
‫حققـت أرباح ًا كبرية‪ ،‬يسـتغل تـراث احلظ السـ ِّيئ يف تاريخ عنوانه‪،‬‬
‫كما احلال مـع رواية وفيلم سـتيفن كنگ ‪ .1408‬نشـأت عـن الفيلم‬
‫سلسـلة أخـرى بإحـدى عشرة إحلاقيـة حتـى اآلن‪ .‬كذلك سـاهم‬
‫هـذا الفيلـم بنشـوء احلبكـة الكالسـيكية يف أفلام الط َّعانين حيث‬
‫جيـري مالحقـة جمموعـة مراهقني أو شـباب عرشينيين وطعنهم يف‬
‫بلـدة معينة‪.‬‬
‫جتـري أحـداث بدايـة فيلـم ‪ Friday the 13th‬يف منطقـة كامـب‬
‫كريسـتال عام ‪ ،1958‬إذ يتسـلل فتى وفتاة شـابان من مرشيف املخيم‬
‫إقليـم‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫إسـطبل ملامرسـة اجلنـس‪ ،‬و ُيقتلان‪ .‬حيـدد هـذا املشـهدُ‬ ‫إىل‬
‫الطعـان‪ .‬وكما ذهـب جوناثـان هاركـر إىل إقليـم دراكـوال‪ ،‬كذلك‬
‫‪376‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫دخـل الطلبـة إقليـم القاتل‪ .‬يف ما بعـد‪ ،‬تتوقف آين‪ ،‬وهي فتاة شـابة‬
‫تطمـح ألن تكـون طاهيـة يف كامـب كريسـتال‪ ،‬تتوقـف يف إحـدى‬
‫االستراحات للسـؤال عـن الطريـق إىل مـكان التخييـم‪ ،‬حيـث‬
‫خيربهـا النـاس عـن حـوادث املـوت يف ذلـك املـكان‪ :‬أوالً مـوت‬
‫أحـد الفتيـان الصغـار غرقـ ًا‪ ،‬ثـم بعـد سـنة مـوت الفتـى والفتـاة‪.‬‬
‫حيذرهـا رالـف العجـوز‪ ،‬الذي يبـدو أنه رجـل كبري السـن مصاب‬
‫«لدي رسـالة مـن الرب‪ .‬مصريكـم مجيع ًا‬‫َّ‬ ‫ببعـض التخلـف العقيل‪:‬‬
‫اهللاك»‪ ،‬ويمثـل رالـف نموذج ًا آخر للشـخصية املتنبئـة التي تظهر‬
‫يف الرتاجيديـا اإلغريقيـة القديمـة وأفلام الرعب احلديثـة لتنذر بام‬
‫سيحد ث ‪.‬‬
‫تتقـدم احلبكـة يف الزمـن عـدة سـنوات حيـث ُيقتَـل شـ َّب ٌ‬
‫ان‬
‫وفتيـات‪ .‬وبما يتامشـى مـع تقاليـد أفلام الط َّعانين‪ ،‬تنجـو الفتـاة‬
‫ٌ‬
‫األكثـر عفـة بني املرشفين‪ ،‬أليـس‪ ،‬بعـد أن تكتشـف أن الط َّعان هو‬
‫باميلا فورهيـس والـدة جيسـون‪ ،‬ويفترض أن ولدهـا مـات قبل‬
‫عـدة سـنوات عندمـا كان املرشفون عىل املخيم مشـغولني بمامرسـة‬
‫اجلنـس وكان بإمكاهنـم إنقـاذه مـن املوت‪ .‬رغـم أنه يظهـر يف هناية‬
‫ظـروف غير حمتملـة‪ ،‬يقـدم الفيلـم جيسـون عىل‬ ‫ٍ‬ ‫الفيلـم متامـ ًا ويف‬
‫أنـه الط َّعـان يف السلسـلة‪ ،‬ثـم يعـود بعـد ذلـك مـرار ًا وتكـرار ًا يف‬
‫اإلحلاقيـات واألفلام األخـرى املشـتقة مـن الفيلـم‪ُ .‬تثـل باميلا‬
‫آخ َـر يشـاطرنا جيناتنـا‬‫فورهيـس ‪ -‬الشـخصية املريضـة نفسـي ًا ‪َ -‬‬
‫ولكنـه يفتقـر إىل التعاطـف مـع النـوع أو املجموعـة الـذي يصفـه‬
‫املختصـون بعلـم النفـس التطـوري؛ وقد أنجبـت باميال فـرد ًا آخر‬
‫‪377‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫مـن نوعهـا‪ .‬مـن اجلديـر بالذكـر أن اجلـزء الثاين مـن الفيلـم صدر‬
‫بعـد عـام مـن األول‪ ،‬وفيـه يعود جيسـون وقـد ارتدى على وجهه‬
‫كيسـ ًا قامشـ ًّيا ثـم يسـتخدم قناعـ ًا مميز ًا يشـبه قنـاع مايـكل مايرز يف‬
‫اإلحلاقيـات التاليـة العديـدة‪ ،‬يف كثير من املـرات يبدو أن جيسـون‬
‫قـد ُقتِـل‪ ،‬ولكنه يعـود كل مـرة بكيفية مـا و َيقتُل جمدد ًا‪ .‬مـن منظور‬
‫الصفـات البدائيـة‪ُ ،‬ي َعـد القنـاع نموذجـ ًا آخـر للعالمـة البرصيـة‬
‫كآخر‪ .‬كما يف معظم أفلام الط َّعانني‪ ،‬جليسـون إقليم يامرس‬ ‫عرفـه َ‬ ‫ُي ِّ‬
‫فيـه الصيد‪.‬‬
‫النجـاح املـايل لفيلمـي ‪ Halloween‬و ‪Friday the 13th‬‬
‫ُ‬ ‫أطلـق‬
‫موجـة كبيرة مـن األفلام التـي تقلدمهـا‪ .‬ويف معظم هـذه األفالم‬
‫هنـاك إقليـم يسـتخدمه اآلخـر كمـكان لصيـد ضحايـاه‪ .‬يف فيلـم‬
‫‪ ،Prom Night‬كان اإلقليـم مدرسـة إعدادية حيـث يالحق الط َّعان‬
‫أربـع فتيـات حيملن رس ًا مشـين ًا منـذ الطفولـة‪ .‬مرة أخـرى‪ ،‬يرتدي‬
‫القاتـل كيسـ ًا قامشـ ًّيا كقنـاع‪ .‬ويف فيلـم ‪،My Bloody Valentine‬‬
‫كان اإلقليـم منجـم فحـم شـهد يف املـايض كارثـة‪ ،‬وكان الطعـان‬
‫أحـد الناجين مـن حتطـم املنجـم ولكنـه أصيـب باجلنـون‪ .‬يرتدي‬
‫الطعـان هنـا زي عمال املناجـم مـع قنـاع ٍ‬
‫واق مـن الغـاز‪ .‬أحيانـ ًا‪،‬‬
‫يكـون القنـاع وسـيلة إلخفـاء اهلوية حتـى هنايـة الفيلم‪ ،‬كما احلال‬
‫مـع گوسـت فيس‪ ،‬القاتل يف فيلـم ‪ ،Scream‬إذ يرتـدي قناع ًا جيعله‬
‫يبدو شـبيه ًا بالوجه الذي نـراه يف لوحة «الرصخـة» إلدوارد مونش‬
‫‪ .Edvard Munch‬يف فيلـم ‪،The Texas Chain Saw Massacre‬‬
‫يضـع ليـذر فيس على وجهه قناعـ ًا من اجللـد البرشي‪ .‬أمـا يف فيلم‬
‫‪378‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫‪ ،A Nightmare on Elm Street‬فلا يرتـدي فريـدي كروگـر‬


‫قناعـ ًا‪ ،‬لكن خمالبـه الطويلة ومالبسـه تضفي عليه الطابـع التقليدي‬
‫آخرانيـة القاتـل‪ ،‬لكنه يبين أيض ًا‬ ‫لآلخـر‪ .‬يعمـل القنـاع عىل تبيـان َ‬
‫لا مريض ًا نفسـ ًّيا‪ .‬يف كثري‬
‫غمـوض طبيعتـه‪ ،‬واحـدٌ منا وقد صار قات ً‬
‫ـو ُهه ا ُملشـاهدَ يسـتمتع باملوت‬‫مـن األفالم‪ ،‬جيعل خفا ُء الوجه أو ت ََش ُّ‬
‫الشـنيع للشـخصيات الرشيـرة دون أن يشـعر بالتعاطـف معهـا‪،‬‬
‫كما احلـال مـع أفلام الزومبـي وجنـود الصاعقـة يف سلسـلة ‪Star‬‬
‫‪ .Wars‬يف هـذه السلسـلة‪ ،‬يعمـل زي دارث فيدر وخوذته السـوداء‬
‫التـي ختفـي وجهـه على تقديمـه بوصفـه الفـرد األلفـا يف جمموعـة‬
‫القناع عدم االرتيـاح من خالل‬ ‫ُ‬ ‫اآلخريـن‪ .‬يف أفلام الط َّعانني‪ ،‬يثير‬
‫رؤيـة ا ُملشـاهدين للشـخصيات التـي تتامهى معهـا وهـي تُقتَل عىل‬
‫نفسي يفتقـر إىل التعاطـف البرشي التطـوري مع‬ ‫ٌ‬ ‫مريض‬
‫يـد آخـر‪ٌ ،‬‬
‫اخلوف‬
‫ُ‬ ‫أقربائـه اجلينيين‪ .‬وربما كان «النفـور مـن املهرجني»‪ ،‬وهـو‬
‫الـذي يشـعر بـه كثريون جتـاه وجـوه املهرجين‪ ،‬نابعـ ًا مـن املصدر‬
‫نفسه ‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ِّ‬
‫السحر في األفالم‬
‫ِ‬ ‫إله يصلي الساحر؟»‪:‬‬
‫«ألي ٍ‬
‫يف فيلـم ‪ The Wizard of Oz‬الـذي أنتجتـه رشكـة مترو‬
‫گولدويـن مايـر عـام ‪ ،1939‬عندمـا حيـط منـزل دوروثـي يف أوز‪،‬‬
‫تنسـحق حتتـه سـاحرة الشرق الرشيـرة‪ ،‬مـا يفـرح املنتشـكينز‪ .‬ثم‬
‫تصـل فقاعـة شـفافة ختـرج منهـا امـرأة مجيلـة تعـرف نفسـها قائلة‬
‫«أنا گليندا‪ ،‬سـاحرة الشمال»‪« ،‬حق ًا؟» تسـتفهم دوروثـي متعجبة‪.‬‬
‫ِ‬
‫«أسـتميحك عـذر ًا‪ ،‬لكنـي مل أسـمع عـن سـاحرة مجيلة مـن قبل»‪.‬‬
‫‪379‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫تعكـس ثنائيـ ُة السـحرة الطيبين واألرشار يف أوز هـذا التبايـن بين‬


‫النظـرة إىل السـحرة يف القـرون الوسـطى كمقابـل للنظـرة التـي‬
‫خلقتهـا الثقافـة ابتـدا ًء مـن القـرن العرشيـن‪.‬‬
‫تقـدم أفالم الرعب أيض َا نظرة ثنائية إىل السـاحرات‪ .‬فالسـاحرة‬
‫الرشيـرة هي حضور مسـتمر كآخر‪ ،‬لكن الوثنية اجلديـدة أو الويكا‬
‫غيت‬ ‫‪ ،Wicca‬وهـي حـركات دينيـة جديدة متسـارعة االنتشـار‪َّ ،‬‬
‫كثير ًا من صورة شـخصية السـاحرة الرشيـرة‪ .‬إن فلكلور السـحرة‬
‫كما جـرى تناقله لقـرون واألفالم التـي توظفه هي منتَجـات ثقافية‬
‫تقـوم على متثـل بدائي‪ .‬من املسـ َّلم بـه عنـد املختصني بعلـم النفس‬
‫لا بين الثقافـة والتكيـف التطـوري‪ ،‬لـذا‬ ‫التطـوري أن هنـاك تفاع ً‬
‫يمكـن أن نرجـح التمثـل البدائـي لآلخـر قـد سـاهم يف خلـق هذا‬
‫الفلكلور‪.‬‬
‫كثير ًا مـا تـرددت أحـداث حماكامت السـحرة يف سـيلم ‪Salem‬‬
‫عبر تاريـخ القصـص واألفلام‪ ،‬وجـرت تلـك املحاكمات يف‬
‫الفترة ‪ .1692-1693‬مـن األمثلـة املبكـرة عىل ذلك قصـة ‪Young‬‬
‫‪ Goodman Brown‬القصيرة الصادرة عـام ‪ 1835‬للكاتب ناثانييل‬
‫هاوثـورن ‪ ،Nathaniel Hawthorne‬وحتكـي أحداث ًا يف نيو إنگالند‬
‫ليكون‬
‫البيوريتانيـة‪ .‬يذهـب گودمـان براون يف جولـة داخل الغابـة ِّ‬
‫فكـرة عـن اجلانب البري‪ .‬وهنـاك جيـد مجاعة مـن النـاس يقيمون‬
‫طقـس سـبت السـاحرات‪ ،‬وكلهـم مـن سـكنة بلدتـه‪ ،‬بما فيهـم‬
‫الشـيوخ والكاهـن‪ ،‬وقـد كانـوا يؤدون طقـس عبادة الشـيطان أمام‬
‫كانـون نـار كبري‪ .‬يغمـى عىل گودمـان بـراون ويسـتيقظ يف الصباح‬
‫‪380‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫التـايل‪ ،‬فيرى جريانـه مـن أهـل البلـدة يامرسـون شـؤوهنم اليومية‬


‫املعتـادة‪ ،‬يمـر على الكنيسـة‪ ،‬فيرى الكاهـن يلقي موعظـة ويصيل‬
‫للـرب‪ ،‬فيسـأل – بـراون نفسـه «ألي ٍ‬
‫إلـه يصيل السـاحر؟»‪.‬‬ ‫َ‬
‫بسبب شيوعها ورسـوخها يف األدب والثقافة‪ُ ،‬س ِّميت حكايات‬
‫بلاط امللـك آرثـر باملـادة اآلرثريـة ‪.The Matter of Arthur‬‬
‫وكذلـك حظيـت حماكامت سـيلم باهتمام كبير يف التاريـخ والثقافة‬
‫األمريكيين‪ ،‬ويمكننـا أن نشير إىل النصوص األدبيـة واألفالم التي‬
‫نشـأت عن هذه احلكايـات باملادة السـيلمية‪ .‬بـدأت املحاكامت بعد‬
‫أن اشـتكت جمموعـة مـن الفتيـات الشـابات أهنـن تعرضـن لألذى‬
‫مـن قبـل السـحرة‪ ،‬مـا أثـار موجـة مـن اهليسـترييا اجلامعيـة انتهت‬
‫بإعـدام عرشيـن متهم ًا بينهـم أربع عشرة امـرأة‪ .‬وظفـت مرسحية‬
‫‪ The Crucible‬آلرثـر ميلـر ‪( Arthur Miller‬عرضـت ألول مـرة‬
‫ٍ‬
‫نحـو أكثر‬ ‫عـام ‪ )1953‬يف السـينام عـام ‪ ،1957‬لكنهـا وظفـت على‬
‫جديـة عـام ‪ 1996‬بسـيناريو مـن كتابـة ميلـر نفسـه‪ .‬يصـور هـذا‬
‫الفيلـم خمتلـف الرصاعـات يف حماكامت سـيلم‪ ،‬ابتداء مـن اإلحباط‬
‫غير الفيلـم‬
‫اجلنسي عنـد الفتيـات اللايت تقدمـن بالشـكوى‪َّ .‬‬
‫أبيگيـل ويليامـز ‪ Abigail Williams‬التارخييـة (أدت دورهـا يف‬
‫الفيلـم وينونـا رايـدر) مـن فتاة يف التاسـعة مـن عمرهـا إىل مراهقة‬
‫مهووسـة جنسـ ًّيا بشـخصية جـون بروكتـور (دانييـل دي لويـس‬
‫‪ ،)Daniel Day-Lewis‬حيـث تقـود الفتـاة فريق املشـتكيات ضد‬
‫بروكتـور واآلخريـن‪ .‬كما يف حماكامت السـحرة عبر التاريـخ‪ ،‬كان‬
‫أحـد الدوافـع وراء هـذه املالحقـة القضائية هو الطمـع بممتلكات‬
‫‪381‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫املتَّهمين‪ ،‬التـي صـودرت يف النهاية‪.‬‬


‫لا جلنـون مطـاردة‬‫مل تكـن أحـداث سـيلم إال انعكاسـ ًا ضئي ً‬
‫السـاحرات يف أوروبـا الـذي ذهـب ضحيته ماليين النـاس الذين‬
‫أحرقـوا أو شـنقوا دون دليل سـوى االهتام فحسـب‪ .‬وكان للنسـاء‬
‫ر مـن هـذه املالحقـات‪ .‬يشير سـتيفن‬ ‫النصيـب األكب ُ‬
‫ُ‬ ‫خصوصـ ًا‬
‫كاتـز ‪ Stephen Katz‬إىل امليسـوجينية الكامنـة يف كتـاب ‪The‬‬
‫‪( Malleus Maleficarum‬أو مطرقـة السـاحرات ‪The Hammer‬‬
‫‪ )of Witches‬الـذي نشر يف القـرن اخلامـس عشر‪ .‬كان هـذا‬
‫الكتـاب مـن القوى املحركـة لالضطهاد كما كان دلي ً‬
‫لا يف املالحقة‬
‫واملقاضـاة)‪ .(26‬تزامنـت محـى مطـارة السـاحرات مـع املذابـح ضد‬
‫اليهـود يف تلـك الفترة‪ .‬وقـد كان السـحرة واليهود ضحايا بسـبب‬
‫إدراك النـاس هلـم عىل أهنـم آخر‪ .‬وكثري ًا مـا ألقي اللوم على اليهود‬
‫والسـحرة يف انتشـار الطاعـون الدبلي يف القـرن الرابـع عشر‪.‬‬
‫«ال تـدع سـاحر ًة تعيـش»‪ ،‬هذا ما قاله سـفر اخلـروج (‪)22:18‬‬
‫يف إنجيـل امللـك جيمـس الـذي ظهـر يف أوج فترة محـى مطـاردة‬
‫تشرب األدب واألفلام هـذه الرؤيـة‪ ،‬أي رؤية‬‫السـاحرات‪ .‬وقـد َّ‬
‫السـاحر كخادم للشـيطان‪ ،‬بام يف ذلـك مجيع امللحقـات الفلكلورية‬
‫األسـطورية هلـذه الرؤيـة (سـبت السـاحرات‪ ،‬التهـام السـحرة‬
‫لألطفـال‪ ،‬إلخ)‪ .‬جيسـد الفيلـم الصامـت ‪Häxan: The Witches‬‬
‫‪ )1921( or Witchcraft Through the Ages‬والفيلـم التشـيكي‬
‫‪ )1970( Witchhammer‬الرؤيـة التقليديـة للسـحرة مـن القـرون‬
‫الوسـطى‪ .‬يصـور فيلـم ‪ Häxan‬الدرامـي التوثيقـي‪ ،‬الـذي هـو‬
‫‪382‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫توظيـف لكتـاب ‪ ،The Malleus Maleficarum‬يصـور حماكـم‬


‫كيـان رشيـر يف محـى مطـاردة السـاحرات‪ .‬نرى‬ ‫ٌ‬ ‫التفتيـش على أهنـا‬
‫يف بدايـة الفيلـم مشـاهد لسـاحرات يقفـن إىل جانب مراجـل الغيل‬
‫وأخريـات يركبـن املكانس الطائرة إلظهار الرؤية الشـائعة للسـحر‬
‫األسـود كما نقلـت إلينا مـن القـرون الوسـطى ووظفـت الحق ًا يف‬
‫أفلام الرعـب‪ .‬يف مـا بعد‪ ،‬يقول الفيلـم أن ثامنية ماليني فـرد قتلوا‪،‬‬
‫معظمهم من النسـاء‪ .‬يكشـف الفصل الرابع مـن الفيلم عن غرضه‬
‫احلقيقـي‪ ،‬إذ نـرى طبيبـ ًا يناقـش إمكانية أن تكون حـاالت الرسنمة‬
‫والكليبتومانيـا وراء اهتامـات السـحر خلال محلات التطهير‬
‫تلـك‪ .‬و ُيظهر تشـخيص الطبيـب للهيسـترييا األنثويـة‪ ،‬والذي ربام‬
‫ُأ ِخـذ مـن كتـاب «يف األحلام ‪ »On Dreams‬أن املخـرج بنجامين‬
‫كريستنسـن ‪ Benjamin Christensen‬قـد قـرأ فرويـد‪.‬‬
‫كتـاب ‪The Malleus‬‬
‫َ‬ ‫فيلـم ‪ Witchhammer‬أيضـ ًا‬
‫ُ‬ ‫وظـف‬
‫‪ Maleficarum‬لفضـح محـى مطـاردة السـاحرات‪ ،‬وجيسـد الفيلم‬
‫املحاكمات يف أوروبـا الرشقيـة‪ .‬كسـابقه‪ ،‬يركـز هـذا الفيلـم على‬
‫لقس‬
‫امليسـوجينيا التـي عجن هبا ذلـك الظلـم‪ ،‬إذ يبدأ بلقطـة قريبة ٍّ‬
‫َ‬
‫العـال‪ ..‬املرأة‬ ‫ذي مظهـر جمنـون وهـو يردد «ها قـد دخلـت اخلطيئة‬
‫هـي اخلطيئة‪ ..‬وجـذر الرشور كلها هـو رغبتها الشـهوانية النهمة»‪.‬‬
‫وتتشـابه هـذه العبـارة مـع عبـارة وردت يف كتـاب ‪The Malleus‬‬
‫‪« :Maleficarum‬كل الشرور صغيرة قبـال رشور املـرأة‪ ..‬وهـل‬
‫عـدو للصداقـة‪ ،‬عقوبـ ٌة ال حميـص عنهـا‪ٌ ،‬‬
‫رش ال بـد منـه‪،‬‬ ‫ٌّ‬ ‫املـرأة إال‬
‫خطـر يف املنـزل‪ ،‬أ ًذى لذيـذ‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫إغـوا ٌء طبيعـي‪ ،‬مصيبـة مرغوبـة‪،‬‬
‫‪383‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫طبيعـة رشيـرة‪ُ ،‬ر ِسـمت بألوان براقـة‪ ..‬والنسـاء بطبيعتهـن حبائل‬


‫الشـيطان ‪ -‬فهـن بطبيعتهن شـهوانيات‪ ،‬بـل هن خلق ٌة مشـوه ٌة منذ‬
‫بدايـة اخللـق»)‪ .(27‬يعـرض الفيلـم تفاصيل حيـاة شـخصية تارخيية‬
‫هي بوبليـگ ‪ ،Boblig‬الـذي أصبح مطارد السـاحرات املتخصص‬
‫يف إحـدى املناطـق‪ ،‬وقـد ملأ جيوبه من مصـادرة ممتلـكات أولئك‬
‫الذيـن ُأدينـوا و ُأ ِ‬
‫عدموا‪.‬‬

‫«استسلمي يا دوروثي»‪ :‬السحرة األشرار في األفالم‪،‬‬


‫أفالم ‪،The Witches، The Blair Witch Project‬‬
‫و ‪The Witch‬‬
‫كان ٌّ‬
‫كل مـن سـاحر الغـرب الرشيـر يف قصـة ‪The Wonderful‬‬
‫‪ Wizard of Oz‬لليمان فرانـك بـوم ‪( Lyman Frank Baum‬وقـد‬
‫جعلـه گريگوري ماگوايـر ‪ Gregory Maguire‬أقـل رش ًا يف روايته‬
‫‪ Wicked‬الصـادرة عـام ‪ )1999‬ومـويب يف قصـة ‪The Marvelous‬‬
‫‪ Land of Oz‬نماذج أوليـة للسـحرة األرشار يف األدب واألفلام‪.‬‬
‫يوظـف بـوم الصـورة القروسـطية للسـحرة يف تصويـره‪ .‬وقـد كان‬
‫السـحرة األرشار حارضيـن عىل الـدوام يف أفالم الرعـب منخفضة‬
‫امليزانية‪.‬‬
‫على كل حـال‪ ،‬تغيَّ تصوير السـحرة يف القـرن العرشين‪ .‬وكان‬
‫لثالثـة كُتـاب دور مهـم يف إعـادة النظـر بالسـحرة والسـحر‪ .‬يف‬
‫كتاهبـا الصـادر عـام ‪ ،God of the Witches 1931‬ترص مارگريت‬
‫مـوراي ‪ Margaret Murray‬على أن محلات مطـاردة السـحرة يف‬
‫القـرون الوسـطى مل تكـن إال حماولـة مـن الكنيسـة للتخلـص مـن‬
‫‪384‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫ديانـة منافِسـة‪ ،‬وأن «دينـ ًا قديم ًا» وثن ًّيـا قـد نجا من تلـك احلمالت‬
‫ٍ‬
‫ومـا زال ح ًّيا حتـى اليوم‪ .‬ويف كتابـه ‪،)1954( Witchcraft Today‬‬
‫ادعـى جريالد گاردنر‏‪ Gerald Gardner‬أنه اكتشـف حمف ً‬
‫ال سـحر ًّيا‬
‫للوثنيـة اجلديـدة يف إنگلترا تـوارث أعضـاؤه إقامـة الطقـوس منذ‬
‫القرن السـابع عشر‪ ،‬ويف كتابه اآلخـر ‪ ،Book of Shadows‬وضح‬
‫گاردنـر تفاصيـل املامرسـات السـحرية‪ .‬كتـب السـاحر الربيطـاين‬
‫أليستر كـراويل ‪ )1875-1947( Aleister Crowley‬جملـدات‬
‫«ع ْلـم وفن‬‫ضخمـة عـن أنظمـة السـحر‪ .‬وقد عـرف السـحر بأنـه ِ‬
‫َّ‬
‫تغييرات بما يتامشـى مـع اإلرادة»)‪ .(28‬سـاهم‬‫ٍ‬ ‫التسـبب بحـدوث‬
‫مجيـع هـؤالء الكتـاب الثالثـة بدفـع تنامـي الوثنيـة اجلديـدة ‪Neo‬‬
‫‪ ،Paganism‬وهـي االصطلاح الواسـع الـذي يطلـق على هـذه‬
‫لون فيمينسـتي‬‫احلـركات الدينية اجلديـدة‪ .‬ويبـدو أن الويكا‪ ،‬وهي ٌ‬
‫مـن هـذه الديانـات‪ ،‬هـي األكثـر شـعبي ًة‪ .‬وتعـود جذورهـا إىل‬
‫أسـطورة حـول ديانـة أوروبية كانـت موجـودة قبل املسـيحية تركز‬
‫على عبـادة ربـة ورب ذي قـرون‪ .‬مل يغفـل كتَّـاب السـيناريو عـن‬
‫تنامـي الوثنيـة اجلديـدة والويـكا ومن ثم ن َّقبـوا فيهام بحثـ ًا عن مادة‬
‫تصلـح لألفلام‪ .‬لكن السـاحر الرشير كآخـر يمثل موضوعـ ًا أكثر‬
‫إثار ًة ‪.‬‬
‫يوظـف فيلـم ‪ )1966( The Witches‬القائـم على روايـة ‪The‬‬
‫‪ Little Wax Doll‬لنـورا لوفتـس ‪ Norah Lofts‬البنيـة الگاردنريية‬
‫‪ Gardnerian‬للمحفـل السـحري العائلي‪ .‬بعـد قضائهـا فترة يف‬
‫املصحـة النفسـية إثـر اهنيـار عصبي‪ ،‬تعـود گويـن مايفيلـد (جوان‬
‫‪385‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫فونتين) إىل قريتهـا حيـث تعمـل معلمـة يف مدرسـة خاصـة متوهلـا‬


‫عائلـة باكس‪ .‬تكتشـف گويـن أن املدرسـة ليسـت إال واجهة ختفي‬
‫لا سـحر ًّيا‪ .‬تدرجييـ ًا‪ ،‬تنضـم إىل املجموعـة وتكتشـف‬ ‫وراءهـا حمف ً‬
‫أهنـم يامرسـون طقـوس السـحر األسـود‪ .‬ختبر سـتيفاين – وهـي‬
‫قائـدة املحفـل وكاهنته گوين أن السـحر «عادة قديمة‪ .‬وقد درسـتُه‬
‫كعلـم»‪ .‬تشـبه هـذه العبارة تعريف أليستر كراويل للسـحر‪ .‬يف أحد‬ ‫ِ‬
‫املشـاهد‪ ،‬ينخـرط أعضـاء املحفـل يف مـا يبـدو خليط ًا مـن طقوس‬
‫سـحر الويـكا التقليديـة وطقـوس القـداس األسـود‪ ،‬إذ يطلي‬
‫األعضـاء برشهتم بمادة ما (ربما تكون املادة شـحم األطفـال الذي‬
‫ينسـب إىل طقـوس عبـادة الشـيطان يف الفلكلـور)؛ يأكلـون نوعـ ًا‬
‫مـن اللحـم؛ يرشبون شـيئ ًا غري معروف يف حمـاكاة تدنيسـية للقربان‬
‫املقـدس ويامرسـون رضبـ ًا آمنـ ًا نوعـ ًا ما مـن طقـوس العربدة‪.‬‬
‫يصور فيلام ‪ )1999( The Blair Witch Project‬و ‪The Witch‬‬
‫كآخـر أيضـ ًا‪ .‬أثـار فيلـم ‪The Blair‬‬
‫(‪ )2015‬السـاحرة الرشيـرة َ‬
‫‪ Witch Project‬ضجـ ًة ال بسـبب نوعيـة الفيلم أساسـ ًا‪ ،‬بل بسـبب‬
‫وثائقـي زائف عىل‬ ‫ٌّ‬ ‫فلم‬
‫ـث ٌ‬‫التغطيـة اإلعالميـة التي سـبقته‪ ،‬حيث ُب َّ‬
‫قنـاة ‪ Science Fiction Channel‬يتنـاول تفاصيـل خرافة سـاحرة‬
‫بلير املختلقـة التـي لفقهـا الكاتبـان واملخرجـان دانييـل مرييـك‬
‫‪ Daniel Myrick‬وإدواردو سانشـيز ‪ .Eduardo Sanchez‬انتهـج‬
‫الفيلـم مقاربـة «الرشائـط املعثـور عليهـا» حيـث يتتبع جتربـة ثالثة‬
‫طلاب يذهبـون إىل داخـل غابـة مرييالنـد ليصنعـوا فيلم ًا وثائق ًّيـا‬
‫عـن اإلفـادات املتعلقـة بسـاحرة بلير التـي ُيز َعـم أهنـا السـبب يف‬
‫‪386‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫عـدة حـوادث مـوت واختفـاء‪ .‬تسـجل الكاميرات التـي حيملهـا‬


‫الطلاب مـا يرونه ويسـمعونه كما توثـق حمادثاهتم‪ ،‬حيـث يفرتض‬
‫أنـه قـد ُعثِـر على هـذه الرشائـط يف النهايـة ليصنـع منهـا كامـل‬
‫حمتـوى الفيلم‪ .‬أثـارت هـذه التقنية موجة مـن األفالم التـي اتبعت‬
‫املنهـج ذاتـه‪ ،‬أي منهـج الرشائـط املعثور عليهـا الحقـ ًا‪ ،‬ومنها فيلام‬
‫‪ Cloverfield‬و ‪ .Paranormal Activity‬لكـن اخلـوف مـن اآلخر‬
‫كمفترس وخطـر الضيـاع يف إقليم غريـب مها منبـع الرعب يف هذا‬
‫ا لفيلم ‪.‬‬
‫ُيعـد السـيناريو بدائ ًّيا على صعيد تطور الشـخصيات‪ ،‬الدوافع‪،‬‬
‫وعلى صعيـد عنـارص أخـرى أيضـ ًا مـن صناعـة الفيلـم‪ .‬لكـن‬
‫إلحـداث تأثيره املهـدِّ د واملخيـف حقـ ًا‪ ،‬جيسـد فيلـم ‪The Blair‬‬
‫‪ Witch Project‬التمثـل البدائـي لتعـرض اإلنسـان للمطـاردة‬
‫مـن ِقبـل آخـر يف إقليـ ٍم غريـب‪ .‬كما فعـل جوناثـان هاركـر‪ ،‬غادر‬
‫الطلاب الثالثـة اإلقليم الذي يألفونـه إىل آخر ال تنطبـق فيه قواعد‬
‫املنطـق ومعـامل احلضارة‪ ،‬إقليـم حيكمه اآلخـر‪ .‬يسـتهدف الفيلم ما‬
‫ٍ‬
‫ـورة» متخصصة‬ ‫يسـميه ماتياس كاليسـن «آليات سـيكولوجية ُم َط َّ‬
‫ورثناهـا عـن أسلافنا يف جماميـع الصيـد وااللتقاط و «أخطـار التيه‬
‫يف الربيـة وأخطـار الضيـاع واملوت جوعـ ًا والتعرض هلجـوم أعداء‬
‫خميفني» ) ‪.( 29‬‬
‫يتبـع الفيلم تقاليد حكاية هانسـل وگريتل ‪Hansel and Gretel‬‬
‫التـي تصـف السـاحرة الرشيـرة وعيشـها يف الغابـة‪ .‬وينطبـق األمر‬
‫ذاتـه على حكايـات بيـاض الثلـج ‪ ،Snow White‬اجلميلـة النائمة‬
‫‪387‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫‪ ،Sleeping Beauty‬وغريمهـا الكثير مـن حكايـات اجلنيـات‪.‬‬


‫تسـتلهم قصـ ُة ‪ Young Goodman Brown‬االعتقـاد البيوريتـاين‬
‫بـأن الغابة والطبيعـة البدائية الواقعـة خارج احلضارة املسـيحية هي‬
‫مرتـع الشـيطان‪ .‬وهكـذا تشـكل موضوعـة إجيـاد السـاحر الرشير‬
‫يف إقليـم منفصـل يف الغابـة بعيـد ًا عـن احلضـارة‪ ،‬كما يف فيلم ‪The‬‬
‫‪ Blair Witch Project‬وإحلاقياتـه‪ ،‬تشـكل شـيئ ًا مشترك ًا يف أفلام‬
‫اسـتوردت هـذه املوضوعـة مـن الفلكلور‪.‬‬‫ِ‬ ‫السـحر‪ ،‬وقد‬
‫يعـدُّ فيلـم ‪ )2015( The Witch‬توظيف ًا مؤثـر ًا باخلصوص هلذه‬
‫الرسديـة‪ .‬يالمـس الفيلـم من بعيـد وقائع حماكامت سـيلم‪ ،‬وجسـد‬
‫سـاحرة رشيرة جـد ًا‪ ،‬أو باألحـرى جمموعة مـن السـاحرات‪ .‬يقوم‬
‫الفيلـم على متثلات بدائية شـبيهة بتلـك التـي يف فيلـم ‪The Blair‬‬
‫‪ .Witch Project‬ال يتمحـور رعـب الفيلـم حـول التيـه يف الغابـة‬
‫منـدس فحسـب‪ ،‬بل عىل‬ ‫ٍّ‬ ‫ـف‬ ‫كإقليـم حمـرم والسـاحرة كآخـر ُمت َ‬
‫َخ ٍّ‬
‫انحلال العائلـة أيضـ ًا‪ ،‬أي رعـب االنعـزال عن جمموعـة األقارب‬
‫(املؤسسـة املركزيـة لنوعنـا) باإلضافـة إىل موضوعـة الطفـل املهدد‬
‫باألخطـار‪ ،‬التـي تتجىل مـرار ًا وتكـرار ًا يف جنـس الرعب‪.‬‬
‫يف نيـو إنگالنـد البيوريتانية يف القرن السـابع عشر‪ُ ،‬ينفى ويليام‬
‫(رالف إنيسـون ‪ )Ralph Ineson‬من مسـتوطنة شبيهة بسيلم بسبب‬
‫تأويلـه اهلرطقـي للكتـاب املقـدس (من وجهـة نظر شـيوخ الطائفة‬
‫البيوريتانيـة)‪ .‬يأخـذ ويليـام زوجتـه كاثريـن (كيـت ديكـي ‪Kate‬‬
‫‪ )Dickie‬وأطفالـه األربعـة – توماسـن املراهقـة‪ ،‬وأخوها األصغر‬
‫لا كالـب‪ ،‬والتـوأم ميريس ووجونـاس اللذان يبـدوان يف‬ ‫منهـا قلي ً‬
‫‪388‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫السادسـة أو السـابعة مـن العمـر ‪ ،‬نعـم يأخذهـم إىل الغابـة ليبنـي‬


‫هنـاك بيتـ ًا جديـد ًا بعيـد ًا عن املجتمـع البيوريتـاين ليجد فيـه احلرية‬
‫ملامرسـة معتقداته الدينيـة اخلاصة‪ .‬كام يف قصـة ‪Young Goodman‬‬
‫ال بسـاحرة ختطـف الوليد‬ ‫‪ ،Brown‬كانـت الغابـة مرتـع الشر متمث ً‬
‫اجلديـد صامويـل حتت أنظار توماسـن – يبدو أهنا سـحرهتا بشـكل‬
‫مـا لتقتله وتسـتخدم أجـزا ًء من جسـمه يف طقوس الشـعوذة‪.‬‬
‫مـرة أخـرى‪ ،‬يصـور الفيلـم الغابـة على أهنـا إقليـم السـحرة‪،‬‬
‫املـكان الوحشي‪ ،‬حيـث حيـدث أول تعبير عـن جنسـانية كالـب‬
‫وتوماسـن الناشـئة‪ ،‬إذ نجـد كالـب حيـدق بصـدر الفتاة املكشـوف‬
‫بعـض الشيء فتوبخـه الفتـاة قليلاً‪ .‬مـن جيـازف بدخـول الغابـة‬
‫سـيحصد الدمـار‪ .‬عندمـا يبحـث توماسـن وكالـب عـن أخيهما‬
‫الطفـل املفقـود‪ ،‬تصيـب السـاحر ُة كالـب بغيبوبـة تتسـ َّبب بموتـه‬
‫الحقـ ًا‪ .‬يبـدو أن التوأمين الصاخبين يتكلمان مع فيليب األسـود‪،‬‬
‫وهـو ذكر ماعز بقـرون معقوفـة‪ .‬يبدو فيليب األسـود شـبيه ًا بامعز‬
‫مينديـس ‪ Goat of Mendes‬يف التراث الشـيطاين‪ ،‬كما يبـدو عليـه‬
‫أنـه مـن خـدام السـاحرة كام احلـال مع أرنب أسـود يظهـر من حني‬
‫إىل آخـر‪ .‬يف النهايـة تدمـر العائلـة بالكامـل إال توماسـن الناجيـة‬
‫الوحيـدة‪ .‬وإلظهـار تفسـخ العائلـة وفـوىض الغابـة‪ ،‬نـرى أهنـا‬
‫تنضم إىل السـاحرات يف طقس السـبت‪ .‬والسـاحرات هنا آخريات‬
‫يرقصـن عرايـا حـول النـار يمجدن الشـيطان‪.‬‬
‫حصـل الفيلـم على مراجعات ممتـازة بالنسـبة لفيلـم رعب‪ ،‬إذ‬
‫نـادر ًا مـا تنـال أفلام هـذا اجلنـس إشـادة نقديـة قويـة‪ .‬كتـب بيرت‬
‫‪389‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫ترافـرز ‪ Peter Travers‬يف جملـة رولنـگ سـتون ‪Rolling Stone‬‬


‫«متخـذ ًا مـن النتائج السـيئة للقمع البيوريتـاين مادة لفيلمـه‪ ،‬ارتقى‬
‫املخـرج روبرت أيگرز ‪ Robert Eggers‬بفيلمـه ‪ The Witch‬مكان ًا‬
‫عاليـ ًا فـوق مسـتوى أفلام الرعـب األخـرى‪ .‬مل حيتـج إىل احليـل‬
‫الرخيصـة‪ .‬وكل مـا فعلـه هـو توجيهنـا للنظـر نحـو الباطـن»)‪.(30‬‬
‫يكمـن رعب الفيلـم الذي يصفه ترافرز يف السـاحرة كأخـرى‪ ،‬قو ٌة‬
‫خبيثـ ٌة ال نراهـا إال ملامـ ًا‪ ،‬وقـد دخلـت العائلـة إىل إقليمهـا‪ .‬تركـز‬
‫الكاميرا مـرار ًا على فـوىض الغابـة‪ ،‬للتذكير بعـدم رسيـان قواعد‬
‫التحضر‪ .‬كذلـك تركـز الكاميرا على حافـة اخللاء الـذي بنـى‬
‫عليـه ويليـام البيـت‪ ،‬إذ ترمـز هـذه املنطقـة للتداخـل بين الفوىض‬
‫واالنتظـام‪ .‬وعندما تدخل الشـخصيات الغابة‪ ،‬تتيه وتشـق طريقها‬
‫بصعوبـة بين الشـجريات‪ ،‬فالغابة هـي املـكان الذي تبطـل فيه كل‬
‫الوسـائل التـي ابتدعهـا اإلنسـان حلامية نفسـه‪.‬‬
‫يعـدُّ الفيلـم توظيفـ ًا آخـر لقصة «هانسـل وگريتـل» وحكايات‬
‫اخلـوف البدائـي مـن املفترس يف‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫بقـوة‬ ‫فلكلوريـة أخـرى‪ .‬إذ يثير‬
‫إقليـم غريـب‪ ،‬حيـث ال نملـك وسـائل الدفـاع عـن النفـس‪ ،‬كما‬
‫اخلـوف على األطفـال‪ :‬الطفـل صامويـل؛ التوأمـان؛ كالـب الذي‬
‫سـحر ويمـوت يف النهاية وهو يذكـر الرب؛ وأخري ًا توماسـن التي‬‫ُي َ‬
‫آخر بالنسـبة‬
‫نخرسهـا نحـن ويتلقفهـا املحفل السـحري الـذي هو َ‬
‫آخـر مـا تبقـى من‬‫ظهـر فقـدان كاثريـن لكوهبـا الفضي‪ِ ،‬‬ ‫للبشر‪ُ .‬ي ِ‬
‫املمتلـكات التي تربـط العائلة بنوعهـا وقبيلتها‪ ،‬يظهـر الفجوة التي‬
‫خلقتهـا العائلـة بمغادرهتـا للمسـتوطنة‪ .‬يوصـف الكـوب كذلـك‬
‫‪390‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫ككأس‪ ،‬كـوب طقـس القربـان املقـدس؛ والقربـان املقـدس هـو‬


‫شـعري ٌة ترابطيـة‪ .‬وهكـذا يلعـب الفيلـم على وتـر اخلـوف البدائي‬
‫مـن انفصـال األرسة عـن قبيلتهـا وعائلتهـا اجلينية األكبر‪ ،‬لتصبح‬
‫آخـر متوحـش يف الغابـة البدائيـة دونام نجدة مـن أحد‪.‬‬‫حتـت رمحة َ‬
‫ُ‬
‫«إنزال القمر»‪ :‬الويكا في السينما‪،‬‬
‫أفالم ‪I Married a Witch، Bell، Book and Candle، The‬‬
‫‪ ،Craft، Practical Magic‬و ‪The Witches of Eastwick‬‬
‫َخلقـت والد ُة الثقافـة املضـادة بالتزامـن مـع تنامـي حركـة‬
‫العصر اجلديـد يف سـتينيات القـرن العرشيـن‪ ،‬خلقـت صـور ًة‬
‫جديـد ًة للسـحرة يف األدب واألفلام‪ .‬أصبحـت الويـكا املذهـب‬
‫األكثـر شـيوع ًا‪ .‬يركـز أتبـاع هـذه الديانـة على عبـادة اإللـه ذي‬
‫القـرون سيرنونوس ‪ Cernunnos‬وإهلـة اخلصوبـة التـي كانـت‬
‫تُعبـد يف أوروبـا قبـل املسـيحية‪ .‬يف الديـن القديـم ‪،Old Religion‬‬
‫كما يسـمونه‪ ،‬يلتقـي األتبـاع يف حمافـل ال يزيـد عـدد أفرادهـا عـن‬
‫ثالثـة عرش شـخص ًا يف العادة‪ ،‬وهم األبرشـيون احلقيقيـون‪ .‬يكتب‬
‫أعضـاء كل حمفـل كتاب الظِلال ‪ Book of Shadows‬اخلاص هبم‪،‬‬
‫عـرف بطـرق متنوعة‬ ‫ويطـورون ممارسـاهتم بما يف ذلـك السـحر ( ُي َّ‬
‫منهـا إلقـاء التعويـذات إلحـداث تغيير واقعـي يف العامل املـادي أو‬
‫جمـرد ارتفـاع يف الوعـي)‪ .‬مـن املامرسـات الشـائعة أيضـ ًا «الرقصة‬
‫احللزونيـة»‪ ،‬ويؤدهيـا أعضاء املحفـل مرتدين املالبـس أو «متغطني‬
‫بالسماء» (أي عرايـا)‪ .‬يف املحافـل املختلطـة‪ ،‬قـد تتـوج الرقصـة‬
‫بمامرسـة محيميـة بين رجـل وامـرأة يمثلان اإللـه واإلهلة‪ .‬تسـمى‬
‫اإلهلـي إىل الكاهن‬ ‫ِ‬
‫جتسـيد‬ ‫هـذه العمليـة «إنـزال القمـر»‪ ،‬أي إنزال‬
‫ِّ‬
‫‪391‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫والكاهنـة‪ .‬يف املذهـب الديـاين ‪ Dianic‬من الويـكا‪ ،‬تقترص املحافل‬


‫على النسـاء فحسـب‪ .‬عمومـ ًا‪ ،‬تزعـم أسـطورة الويـكا وجـود‬
‫نـوع مـن العصر الذهبـي قبـل املسـيحية يف أوروبـا‪ ،‬حين كانـت‬
‫املجتمعـات تقـاد مـن قبـل نسـاء ومعاجلـات حكيمات ُح ِر ْقـن –‬
‫بحسـب أتبـاع الويـكا كسـاحرات مـن ِقبـل الكهنة مـا أن وصلت‬
‫املسـيحية إىل أوروبـا‪ .‬يوجـز املقطـع األول من أغنية تشـاريل مرييف‬
‫‪ »The Burning Times« Charlie Murphy‬أسـطورة الويـكا‪:‬‬
‫«يف سكون الليل كانوا يتجمعون‬
‫حتت النجوم‪ ،‬فوق املروج‬
‫يتح َّلقون حول شجرة بلوط عجوز‬
‫يف املوعد املقرر‬
‫عىل فصول األرض وأطوار القمر‪.‬‬
‫يف املركز تقف امرأة غالب ًا‬
‫مساوية لآلخرين‪ ،‬حيرتمون مكانتها‪.‬‬
‫واحدة من كثريات ُسمني بالساحرات‬
‫املعاجلات ومعلامت احلكمة األرضية‪.‬‬
‫ترعرع الناس يف املعرفة التي أعطتهم‬
‫أعشاب ليداووا أجسادهم‪،‬‬
‫تعاويذ لتجعل أرواحهم مكتملة‬
‫‪392‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫انصت إليهم وهم يرتنمون بالتامئم‪،‬‬


‫ْ‬
‫ينادون احلكامء‬
‫حمتفلني بالغناء والرقص»‪.‬‬
‫تركـز األسـطورة كثير ًا عىل متكين النسـاء‪ .‬حيتفي أتبـاع الويكا‬
‫بكلمـة «سـاحرة» التـي تلقـى معارضة شـديدة ِمن الذين يسـميهم‬
‫أتبـاع الويـكا بالــ «متعصبين»‪ ،‬أي املسـيحيني املحافظين الذيـن‬
‫ينظـرون إىل أتبـاع الويـكا كطائفـة شـيطانية‪ ،‬وهـي هتمـة ينفيهـا‬
‫أتبـاع الويكا عن أنفسـهم بقـوة‪ .‬كتب املبشر بات روبرتسـون ‪Pat‬‬
‫‪« :Robertson‬إن العصر اجلديـد هـو تسـمية أخرى للسـحر»‪ ،‬كام‬
‫قـال إن كل التجمعـات السـحرية «حتمـل وصمة الشـيطان التي ال‬
‫متحـى»)‪ .(31‬لكـن األمـور تغريت اليـوم‪ ،‬وكشـف الكثري مـن أتباع‬
‫الويـكا عن أنفسـهم‪ .‬وصـار معتـاد ًا أن نرى سـيارات تتجول وهي‬
‫حتمـل ملصقات االعتـداد بالوثنية‪ .‬إن اسـتبدال شـخصية سـاحرة‬
‫الغـرب الرشيـرة بسـاحرات طيبـات‪ ،‬والتقبـل التدرجيـي للوثنيـة‬
‫اجلديـدة يف املجتمـع‪ ،‬أو التسـامح معهـا يف األقـل‪ ،‬هلـي تغيرات‬
‫ثقافيـة جديـرة باالنتباه‪.‬‬
‫مل َت ُ‬
‫ْـل األفلام القديمـة من بضع سـاحرات طيبـات‪ .‬يف فيلم ‪I‬‬
‫‪ ،)1942( Married a Witch‬تؤدي فريونيكا ليك ‪Veronica Lake‬‬
‫دور سـاحرة علقـت مـع والدهـا داخـل شـجرة يف فترة حماكمات‬
‫سـيلم وحتـررت بعـد نحـو مائتني ومخسين سـنة‪ .‬ختطط السـاحرة‬
‫لالنتقـام مـن نسـل أولئك الذيـن حبسـوها يف الشـجرة‪ ،‬لكنها تقع‬
‫يف حـب واحـد منهـم وتتخلى عن كوهنـا سـاحرة لتتحول مـن ُهم‬
‫‪393‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫إىل نحـن يف هنايـة سـعيدة نموذجيـة للحـب‪ .‬جتـري أحـداث فيلـم‬


‫‪ )1958( Bell، Book and Candle‬يف نيويـورك ولـه قصـة تشـبه‬
‫سـاب َق ُه حيـث نرى السـاحرة جيليـان هولرويـد (كيم نوفـاك ‪Kim‬‬
‫‪ )Novak‬تأمـر أحـد خدامهـا مـن األرواح بإلقاء تعويـذة حب عىل‬
‫رجـل ترغـب به‪ ،‬لكنهـا تعدل عـن أفعاهلا هـذه فتخرسه ثـم تتخىل‬
‫عـن قواها لتسـتعيده‪ .‬يعـد الفيلامن السـابقان مـن نوع الرومانسـية‬
‫الكوميديـة‪ ،‬ال مـن أفلام الرعـب‪ .‬لكـن النقطة األهم على صعيد‬
‫املقارنـة مـع التطـورات الالحقـة هلذه الرسديـة هـي أن كال املرأتني‬
‫ختلتـا عـن قوامهـا لتصبحا نحـن‪ ،‬كي حتصال على الرجـل‪ .‬ال تقوم‬
‫شـخصيات النسـاء مـن أتبـاع الويـكا يف األفلام األحـدث هبـذا‬
‫الفعـل الـذي يتضمـن التخيل عـن القـوة واهلوية‪.‬‬
‫يف احلقيقـة‪ ،‬تبحـث شـخصيات سـاحرات الويـكا يف األفلام‬
‫احلديثـة عـن هـذا النـوع مـن القـوة واملسـاواة ألنفسـهن‪ .‬ومـع‬
‫ذلـك‪ ،‬تنتهـي معظـم أفلام هـذا النـوع نموذج ًّيـا بتنبيـه‪ .‬يف فيلـم‬
‫‪ ،)1996( The Craft‬تـدرس أربـع فتيـات منبوذات يف مدرسـتهن‬
‫لا لتحقيـق أحالمهـن‪ .‬لكنهـن يغفلن عن‬ ‫السـحر ويسـتخدمنه فع ً‬
‫لـب موضوع السـحر كما تصفه أدبيـات الويـكا‪ ،‬ومن ثـم ختربهن‬
‫لرييـو‪ ،‬وهي مالكة مكتبة لكتب السـحر‪ ،‬حين يتامزحن بخصوص‬
‫السـحر األسـود‪« :‬ليـس السـحر احلقيقـي أبيـض وال أسـود‪ .‬ألن‬
‫الطبيعـة سـوداء وبيضـاء مع ًا‪ ،‬وحشـية وطيبـة يف آن واحـد‪ .‬والرش‬
‫واخلير موجـودان يف قلب السـاحرة فحسـب»‪ .‬ثم حتذرهـ َّن أيض ًا‪:‬‬
‫«مـا تفعلينه يعـود إليك مضاعفـ ًا عدة مرات‪ ..‬وهـذا أحد اخلواص‬
‫‪394‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫األساسـية للحيـاة‪ ،‬عبرت عنه كثير من املعتقـدات بطـرق خمتلفة‪:‬‬


‫ال تفعـل باآلخريـن مـا ال حتـب أن يفعلوه بـك»‪ .‬يمهد هـذا احلوار‬
‫ملـا سـيحدث الحقـ ًا إلحـدى الفتيـات يف النهايـة بعد أن مارسـت‬
‫السـحر األسود‪.‬‬

‫من فيلم ‪ :Bell، Book and Candle‬جيليان هولرويد (كيم نوفاك) تستخدم تابعها‬
‫بيواكيت لتسحر شيربد هندرسون (جيمس ستيوارت ‪.)James Stewart‬‬

‫يوظـف فيلما ‪ )1998( Practical Magic‬و ‪The Witches‬‬


‫‪ )1987( of Eastwick‬الويـكا أيضـ ًا‪ ،‬وينتهـي كالمهـا بامللحوظـة‬
‫التحذيريـة نفسـها‪ .‬يف األول‪ ،‬تـرث أختـان القـوى التـي ترسي يف‬
‫عائلتهما منـذ القرن السـابع عشر‪ ،‬وتسـتخدمها إحدامها للتسـبب‬
‫بمـوت رجـل ظلمهـا يف السـابق‪ ،‬ومـن ثـم يطاردهـا شـبح هـذا‬
‫الرجـل‪ .‬تتواصل احلبكة مـع جمموعة من السـاحرات النموذجيات‬
‫بما يف ذلـك املكانـس‪ ،‬حيـث يتمكـ َّن يف النهايـة مـن إبعـاد شـبح‬
‫الرجـل – الـذي يمثـل نمـوذج الرجـل املهيمن‪.‬‬
‫‪395‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫يعـد فيلـم ‪ The Witches of Eastwick‬توظيفـ ًا مثير ًا لالهتامم‬


‫لروايـة جـون أبدايـك ‪ ،John Updyke‬حيـث غير الفيلـم نظـرة‬
‫الروايـة السـلبية للسـاحرات إىل يشء قريـب مـن أن يكـون إجياب ًّيـا‬
‫على األقـل‪ .‬يصـور الفيلـم السـاحرات الثلاث (ميشـيل فايفـر‬
‫‪ ،Michelle Pfeiffer‬شير ‪ ،Cher‬وسـوزان سـارندون ‪Susan‬‬
‫‪ )Sarandon‬هبيـأة أقـرب إىل أتبـاع الويـكا التقليديين يف األفلام‪.‬‬
‫بعـد أن يقعـن حتـت تأثير داريـل فـان هـورن (جـاك نيكلسـون)‪،‬‬
‫وهـو شـيطان يغوهين مجيعـ ًا (يقدم داريل نفسـه كـ «شـيطان صغري‬
‫هائـج») ويضايقهـن‪ ،‬يسـتخدمن قواهـن هلزيمتـه‪ .‬يف الروايـة‪،‬‬
‫صـورت السـاحرات بوصفهـن خارجـات عـن األخلاق احلميدة‬
‫كما ُقـدِّ م فان هورن على أنه ضحية إىل حـدٍّ ما‪ .‬يشـدد كال الفيلمني‬
‫على اسـتقواء النسـاء مـن خلال الويـكا‪ ،‬لكـن كما يف مجيـع أفالم‬
‫الويـكا تقريبـ ًا‪ ،‬يضيف الفيلمان بوضوح امللحوظة املعتادة‪ :‬السـحر‬
‫خطِـر‪ .‬يبـدو أن صانعـي األفلام شـعروا أنـه رغـم القبـول الـذي‬
‫صـارت تتلقـاه الويـكا بحيث مل يعـد ينظـر إىل ممارسـيها باعتبارهم‬
‫آخريـن باملعنـى القديـم‪ ،‬إال أن من الضروري التحفظ جتـاه منحها‬
‫قيمـة إجيابية‪.‬‬
‫ليسـت أفلام ‪ ،The Craft ،Practical Magic‬و ‪Witches‬‬
‫‪ of Eastwick‬أفلام رعـب بالتأكيـد‪ .‬لكـن لكلمـة «سـاحرة»‬
‫محولـة خميفـة‪ ،‬كما تعـد هذه األفلام الثالثـة ظواهـر ثقافيـة جديرة‬
‫باالنتبـاه مـن حيـث أهنا تعـرض التقبـل التدرجيـي ألولئـك الذين‬
‫ُين َظـر إليهـم كآخريـن وقـد صـار ينظـر إليهـم اليـوم كنـوع خمتلف‬
‫‪396‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫ٍ‬
‫كشـكل خمتلـف مـن النحن‪ .‬ربما مـن الطبيعي‬ ‫مـن الشـخصيات‪،‬‬
‫أن تظهـر تصويـرات إجيابية وأخرى سـلبية للسـاحرات يف األفالم‪،‬‬
‫ألهنـا منتجـات ثقافيـة تثير اسـتجابة بدائيـة‪ .‬يكتـب برايـان بويد‪:‬‬
‫«أتـاح التطـور لنـا نحـن البشر أن ننمـي اسـتعدادنا للثقافـة ألهنـا‬
‫تسـاعدنا على تتبـع التغيرات يف البيئـة بشـكل أرسع ممـا تفعـل‬
‫اجلينـات»)‪ .(32‬وأفلام السـحرة مثـال جيـد على هـذه املقاييـس‬
‫الثقافيـة‪.‬‬

‫الحواسيب والروبوتات ‪ -‬الشبح الذي يسكن اآللة‪:‬‬


‫أفالم ‪Colossus: The Forbin Project، I، Robot،‬‬
‫‪،Westworld، Blade Runner، Blade Runner 2049‬‬
‫و ‪Terminator‬‬
‫مل تغـب الروبوتـات عـن األفلام منـذ بداياهتـا‪ ،‬ومـن منظـور‬
‫ثقـايف‪ ،‬تعكـس هذه األفلام عالقـة احلـب املمـزوج بالكراهية بني‬
‫البشر والتكنولوجيا‪ .‬يف فيلـم ‪ )1927( Metropolis‬للمخرج فرتز‬
‫النگ ‪ ،Fritz Lang‬يصنع املخرتع الرشير روتوانگ نسـخة روبوتية‬
‫مـن ماريـا‪ ،‬زعيمة العامل املضطهديـن‪ ،‬بقصد تضليلهـم‪ .‬ويعدُّ هذا‬
‫الفيلـم مـن األمثلـة املبكـرة على اخلـوف مـن خطـر التكنولوجيـا‬
‫املتقدمـة‪ .‬وقـد أنتجـت السـنوات األربعـون بني فيلم النـگ وفيلم‬
‫لا يف تكنولوجيـا الروبوت‬‫‪ 2001: A Space Odyssey‬تقدمـ ًا هائ ً‬
‫والكومبيوتـر‪ ،‬مما جعـل املوضوعة أكثـر إقناع ًا وإخاف ًة‪ .‬يستكشـف‬
‫فيلـم كوبريـك تكويـن البرش كنـوع صانـع للأدوات‪ ،‬وخيلص إىل‬
‫النتيجـة النهائيـة‪ :‬الكومبيوتـر الواعـي‪ .‬كان روبـوت روتوانـگ‬
‫جمـرد روبـوت رشير‪ .‬لكـن تصوير فيلـم كوبريـك للكومبيوتر هال‬
‫‪397‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫يعكـس العالقـة الشـائكة التـي نشـأت بين اإلنسـان والكومبيوتر‬


‫والروبـوت باعتبارمهـا نعمـة ولعنـة يف آن واحد‪.‬‬
‫كانـت التأثيرات املتوقعـة للتكنولوجيـا على املجتمـع البرشي‬
‫واضحـة منـذ بدايـة الثـورة الصناعيـة يف القـرن الثامـن عشر‪ .‬يف‬
‫سح عمال الزراعة مـن عملهم بعد اختراع ماكنة حصاد‬ ‫إنگلترا‪ِّ ُ ،‬‬
‫احلبـوب التـي تعمـل بالبخـار‪ ،‬مـا تـرك العمال عاطلني‪ .‬وقـد مترد‬
‫بعـض العمال وأحرقـوا ودمـروا املكائـن يف كثير مـن األماكن‪ .‬ثم‬
‫عندمـا علـم احلائكـون الذين يكسـبون رزقهم من صناعـة املالبس‬
‫الغزل التي‬
‫أن جيمـس هارگريفـز ‪ James Hargreaves‬اخرتع آلـة ْ‬
‫ستسـلبهم وظائفهـم‪ ،‬اتبعـوا ذات املسـار الـذي اتبعـه زمالؤهم يف‬
‫احلقـول وصـاروا حيطمـون آالت الغـزل هـذه‪ .‬لكـن التكنولوجيا‬
‫فـازت باملعركـة يف كلتـا احلالتين‪ ،‬وتوجـب على آالف العمال‬
‫التوجـه إىل مانشستر واملـدن الصناعيـة األخرى يف إنگلترا للعمل‬
‫أجور بائسـة حتـت ظروف عمـل فظيعة‪ .‬وحيكي لنـا كل من‬ ‫ٍ‬ ‫مقابـل‬
‫تشـارلز ديكينـز وإيليزابيـث گاسـكل ‪ Elizabeth Gaskell‬مـأزق‬
‫هـؤالء العامل يف روايتيهما ‪ Hard Times‬و ‪ North and South‬عىل‬
‫التوايل‪.‬‬
‫مـا زالـت مـآيس العمال التـي بـدأت يف القرنين الثامـن عشر‬
‫والتاسـع عشر مـع انطلاق الثـورة الصناعيـة قائمـة حتـى اليوم‪.‬‬
‫شـهدت العقـود اخلمسـة املاضيـة حتـوالت جذريـة يف املصانـع‬
‫وأماكـن العمـل حيـث حلـت التكنولوجيـا حمـل العمال‪ ،‬ويبـدو‬
‫أن هـذا االجتـاه سيسـتمر بالتأكيـد‪ ،‬مـا أدى إىل خلـق رصاع بين‬
‫‪398‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫التكنولوجيـا والقيـم البرشيـة‪ .‬اسـترشف كـورت فونيگـت ‪Kurt‬‬


‫‪ Vonnegut‬هـذا الرصاع يف روايتـه األوىل ‪.)1952( Player Piano‬‬
‫حيكـي فونيگـت يف هـذه الرواية عن جمتمـع تسيرِّ ه الكومبيوترات‪،‬‬
‫ال عـن هـذه اآلالت‪ .‬وقد‬ ‫يف وقـت مل يسـمع بـه معظـم النـاس أص ً‬
‫ال اسـتولت فيه الكومبيوتـرات عىل كل عمليـة اإلنتاج‬ ‫ختيل مسـتقب ً‬
‫يف املعامـل السـيربنطيقية‪ ،‬تاركـة البشر دون عمل مفيد مـا يقودهم‬
‫إىل ثـورة فاشـلة‪ .‬جسـد فونيگـت شـيئ ًا مركز ًّيا يف ما خيـص الطبيعة‬
‫البرشيـة يف أحـد املقاطـع األخيرة للروايـة‪ ،‬إذ نـرى فينـريت‪ ،‬زعيم‬
‫الثـورة‪ ،‬وهـو يشـ ِّغل بيانـو آل ًّيـا‪ ،‬نو ًعـا بدائ ًّيـا مـن الكومبيوتـر‪.‬‬
‫يوحـي املشـهد أنـه ربما كانت دوافـع فينريت هـي أن يكون املشـغل‬
‫اجلديـد لعـامل الكومبيوتـر‪ ،‬نو ًعـا جديـدً ا مـن الرجـل األلفـا‪ .‬يبـدأ‬
‫صناع‬
‫ٌ‬ ‫بعـض الثـوار العمل يف تصليـح املكائـن املعطوبة ألن البشر‬
‫للأدوات بالطبيعـة‪ ،‬حتـى لـو كانـت هـذه األدوات سـتحل حملنـا‬
‫يف النهايـة‪ .‬تكـرر أفلام الكوبيوتـر والروبـوت موضوعـة الرصاع‬
‫هـذه بين البشر والتكنولوجيا مرار ًا وتكـرار ًا‪ ،‬كام أهنـا يشء نراه يف‬
‫العـامل احلقيقـي اليوم‪.‬‬
‫تعـدُّ روايـة فونيگـت مثـاالً مبكـر ًا جـد ًا على اإلحبـاط الـذي‬
‫نشـعر بـه مـع تعاظـم سـيطرة الكومبيوتـر والروبوتات على احلياة‬
‫ٍ‬
‫بسـعادة اسـتعامل هواتفنا الذكيـة ونعتمد‬ ‫واالقتصـاد‪ ،‬بينما نواصل‬
‫على كومبيوتراتنـا لدفـع الفواتير ورشاء املنتجـات مـن مواقـع‬
‫الويـب‪ .‬تعكـس األفلام هذه املشـكلة الثقافيـة‪ ،‬وهـي يف آن واحد‬
‫متجـد هـذه التكنولوجيـا وجتتر خماوفنـا ومشـاعرنا املختلطـة إزاء‬ ‫ِّ‬
‫‪399‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫هـذه اآلالت التـي نصنعهـا‪ .‬مـن منظـور الصفـات البدائيـة‪ ،‬متثـل‬


‫الكومبيوتـرات والروبوتـات كما تصورهـا األفلام إسـقاط ًا على‬
‫هـذا الفصـام باعتبـاره أعمق مـن جمرد انعـكاس ملشـكالت ثقافية‪.‬‬
‫صـورت الروبوتـات والكومبيوتـرات عىل أهنم‬ ‫يف بعـض األفلام‪ِّ ،‬‬
‫خدامنـا وأصدقاؤنـا‪ ،‬أي إهنا نحـن إىل درجة مـا‪ .‬ويف أفالم أخرى‪،‬‬
‫عدو يسـاوي يف تفوقه على البرشية‬
‫تثير هـذه األجهزة اخلوف مـن ٍّ‬
‫الفضائيين يف روايـة وفيلـم حـرب العـوامل ‪War of the Worlds‬‬
‫كما يسـاوي الط َّعانين يف إثارتـه للرعـب‪ .‬تقـع كثير مـن أفلام‬
‫الروبوتـات والكومبيوترات حتـت تصنيف املغامـرة واحلركة‪ ،‬لكن‬
‫بعضهـا ينتمـي إىل تصنيـف رعـب اخليـال العلمـي بوضوح‪.‬‬
‫يقسـم َجي‪ .‬يب‪ .‬تيلوت ‪ J.P. Telotte‬روبوتات األفالم إىل ثالثة‬ ‫ِّ‬
‫أصناف رئيسـة‪« :‬الشـخصية اآللية املحضـة»‪ ،‬وغالب ًا ما يشـار إليها‬
‫بروبـوت العلبة املعدنية أو روبوت الصفيحـة املعدنية؛ ثم الروبوت‬
‫ٌ‬
‫رجـل آ ٌّيل أكثـر شـبه ًا باإلنسـان أو يتخذ شـكله‬ ‫املعقـد‪ ،‬الـذي هـو‬
‫أحيانـ ًا‪ ،‬هبيـكل معدين وكسـاء شـبيه باجلسـم البرشي مـن اخلارج؛‬
‫وأخير ًا‪ ،‬لدينـا أشـكال احليـاة املصنعـة خمترب ًّيـا‪ ،‬والتي يـكاد يكون‬
‫مسـتحيل متييزهـا عـن البشر)‪ .(33‬يذكـر تيلـوت الرجـل اآليل تيك‬‫ً‬
‫تـوك أوز ‪ Tick Tock of Oz‬لفرانـك بـوم (وقد ظهـر ألول مرة يف‬
‫كتجل مبكـر للروبوت يف األدب‪،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫قصـة ‪ Ozma of Oz‬عـام ‪)1907‬‬
‫كما يلفـت االنتبـاه إىل أنـه يمكـن عـدُّ شـخصية الرجـل املعدين يف‬
‫أول قصـة من السلسـلة ‪)1900( The Wonderful Wizard of Oz‬‬
‫أيضـ ًا مـن األمثلة املبكـرة‪ .‬يدخل النموذجـان السـابقان‪ ،‬باإلضافة‬
‫‪400‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫إىل الروبوتين ‪ C-3po‬و ‪ R2-D2‬مـن مسلسـل ‪ Star Wars‬ضمن‬


‫الصنـف األول‪ ،‬روبـوت الصفيحة املعدنية‪ .‬يف املسلسـل التلفزيوين‬
‫‪ ،Star Trek: The Next Generation‬لدينـا الروبـوت ‪ ،Data‬وهو‬
‫شـكل أكثـر تطور ًا مـن الرجـل اآليل‪ ،‬حيث له مظهر خارجي شـبيه‬
‫بالبشر بينما تشـغله دوائر كهربائيـة بدالً مـن الزنربك الذي يشـغل‬
‫الرجـل اآليل يف قصـص فرانـك بوم‪ .‬يف سلسـلة أفلام ‪ Alien‬لدينا‬
‫الروبوتـان آش وبيشـوب‪ ،‬ومهـا ُم َصنَّعـان ولكنهما ليسـا معدنيني‪،‬‬
‫كما احلـال مـع الن َُسـخ يف سلسـلة ‪ .Blade Runner‬غالب ًا مـا ت َُص َّور‬
‫الكومبيوتـرات على نحو غامـض‪ :‬ففي بعض احلاالت تكون شـبه‬
‫برشيـة كام الكومبيوتـر هـال ‪ ،HAL‬احلضور الكومبيوتـري املؤنث‬
‫يف فيلـم ‪)2013( Her‬؛ أو جـوي‪ ،‬اهلولوگـرام يف فيلـم ‪Blade‬‬
‫‪ .Runner 2049‬لكنهـا غالبـ ًا مـا تكون عدو ًا للجنـس البرشي‪ ،‬أي‬
‫أهنا آخـر قد يتسـبب لنـا بكوارث‪.‬‬
‫تكـون معظـم الروبوتـات والكومبيوتـرات مثيرة لالهتامم من‬
‫حيـث كوهنـا خليطـ ًا بين النحـن واآلخـر‪ .‬ظهـر الروبـوت رويب‬
‫ألول مـرة يف فيلـم ‪ )1956( Forbidden Planet‬كخـاد ٍم ودود‬
‫يمكـن أن نتامهـى معـه باعتبـاره نحـن‪ ،‬صاحـب أو رفيـق مـن‬
‫نـوع مـا‪ .‬لكـن الفيلـم يعـرض أيضـ ًا حـدود التكنولوجيـا عندمـا‬
‫نـرى الكريـل‪ ،‬السـكان األصليين للكوكـب‪ ،‬وهـم يبنـون آالت‬
‫تسـتطيع صناعـة الوحوش باسـتخدام التفكري فقـط‪ ،‬حمررين بذلك‬
‫العنـارص األشـد بدائية مـن تطـور نوعهم مـن املنظـور الفرويدي‪،‬‬
‫أي «وحـوش اهلُـو»‪ ،‬مـا تسـبب بإبادهتم‪ .‬ظهـر رويب املحبـوب مرة‬
‫‪401‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫أخـرى يف املسلسـل التلفزيـوين ‪.)1965-1968( Lost in Space‬‬


‫مـن الروبوتـات التـي تثير تعاطـف اجلمهـور الروبـوت ‪Wall-E‬‬
‫يف الفيلـم الـذي حيمـل االسـم ذاته‪ ،‬كما الروبـوت اخلـادم يف فيلم‬
‫‪ ،)2012( Robot and Frank‬حيـث هـو مسـاعد ورفيـق نود مجيع ًا‬
‫أن يكـون لنـا واحـدٌ مث ُله‪ .‬مجيع هـذه النامذج هي من طـراز روبوت‬
‫«الصفيحـة املعدنيـة» كما وصفهـا تيلـوت؛ ولئـن مل يكـن ممكنـ ًا‬
‫اعتبارهـا نحـن على نحو كامـل‪ ،‬إال أهنـا صديقة لنـا كما حيواناتنا‬
‫األليفـة مثلاً‪ .‬لكـن يف كثير مـن األفلام األخـرى التـي يمكـن‬
‫وضعهـا حتـت تصنيف رعـب اخليـال العلمـي‪ ،‬تكـون الروبوتات‬
‫والكومبيوتـرات آخـر بامتيـاز؛ ألن متثالتنـا البدائية مزروعـة فيها‪،‬‬
‫مـن ثـم نصبـح آخـر بالنسـبة هلـا كما نعدُّ ها نحـن آخر‪.‬‬
‫وضـع إيـزاك أزيمـوف ‪ Isaac Asimov‬القواعـد األساسـية‬
‫للروبوتـات الروائيـة يف سلسـلة مـن القصـص القصيرة نرشت يف‬
‫جملات أدب اخليـال العلمـي زهيـدة الثمـن ثـم مجعهـا يف كتابـه ‪I،‬‬
‫‪ )1950( Robot‬حيـث وضـع قوانينـه الثالثـة للروبوتيـة‪:‬‬
‫‪-‬على الروبـوت أن ال يـؤذي برش ًا كما عليـه أن ال يتقاعس عن‬
‫منـع وقـوع األذى بالبرش‪.‬‬
‫‪-‬على الروبـوت أن يطيع األوامـر البرشيـة إال إذا تعارضت مع‬
‫القانون األول‪.‬‬
‫‪-‬على الروبـوت أن حيمـي وجـوده نفسـه إذا مل تتعـارض هـذه‬
‫احلاميـة مـع القانونين األول أو الثـاين)‪.(34‬‬
‫‪402‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫كتـب أزيمـوف عـدة روايـات أخـرى تلعـب عىل وتـر الرصاع‬


‫بين البشر وصنيعتهم الروبوتية ابتـدا ًء من روايـة ‪Caves of Steel‬‬
‫(‪ )1953‬التـي جتمع بين املحقق البوليسي إيليا بيلي والروبوت آر‪.‬‬
‫دانيـل أوليفـاو‪ .‬يستكشـف أزيموف مـا يمكن أن حيـدث يف جمتمع‬
‫تكنولوجـي معتمـد على روبوتـات تشـبهنا جـد ًا ويشـعر النـاس‬
‫جتاههـا باالرتيـاب واالسـتياء ألهنا حتـل حملنـا يف العمل‪.‬‬
‫على بعض األصعدة‪ ،‬سـبق كتاب الشـبح يف اآللـة ‪The Ghost‬‬
‫‪ in the Machine‬الصادر عام ‪ 1967‬للكاتب آرثر كوسـتلر ‪Arthur‬‬
‫‪ Koestler‬اكتشـافات علـم النفس التطوري‪ ،‬كما كان حتذير ًا مبكر ًا‬
‫مـن إمكانيـة نشـوب رصاع بيننـا وبين التكنولوجيا التـي نصنعها‪.‬‬
‫اقترح كوسـتلر أن الدماغ ليس عضـو ًا كام القلب‪ ،‬بحيـث أن أداءه‬
‫يقتصر على عمر الفـرد‪ :‬بل إنـه حيوي سـلوكيات األجيـال الغابرة‬
‫مغروسـة فيـه بفعـل تارخينـا التطـوري‪ .‬إن هـذه اهلمسـات القادمة‬
‫مـن املـايض هـي الشـبح الكامـن يف اآللـة‪ ،‬أي إهنـا مـا يتحكـم‬
‫باجلسـم‪ .‬ينحـو كوسـتلر باللوم عىل سـباق التسـلح النـووي الذي‬
‫كان يف تلـك الفترة – ومـا زال حتى اليـوم مصدر ًا للخـوف‪ ،‬نعم‪،‬‬
‫ينحـو عليـه باللـوم يف طغيـان هـذه الذكريـات البدائية على العقل‬
‫مـن حين آلخـر‪ .‬وينتهـج مقاربـة فلسـفية أكثـر منهـا علميـة يف‬
‫وصـف هـذا الوضع البشري‪ ،‬لكنه توصل إىل اسـتنتاجات شـبيهة‬
‫بتلـك التـي توصـل إليهـا علـم النفـس التطـوري‪ .‬وقد نرجـح أنه‬
‫مـن غير املمكن جتنـب صناعتنا هلـذا النوع من األشـباح يف اآلالت‬
‫الواعيـة التـي نصنعها‪.‬‬
‫‪403‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫يمكـن هلـذا الشـبح الـذي يسـكن اآللـة أن يصبـح كابوسـ ًا‪،‬‬


‫انعكاسـ ًا ألسـوأ مـا يف طبيعتنـا – السـيد هايـد يف كومبيوتـر أقوى‬
‫مـن صانعـه‪ .‬تعكـس أفلام الروبوتـات والكومبيوتـرات خطـر‬
‫التمثلات التـي غرسـها التطـور التكيفـي يف عقـول البشر إذا مـا‬
‫غرسـنا بدورنـا هـذه التمثلات يف الـذكاء االصطناعـي‪ .‬مـاذا إذا‬
‫اختقـت قوانين أزيمـوف الثالثـة بشـكل مـا؟ مـاذا لـو ورثـت‬ ‫ُِ‬
‫صنيعتنـا‪ ،‬وهـو مـا حـدث مـع الكومبيوتـر هـال ‪ HAL‬بالفعـل‪،‬‬
‫متثالتنـا البدائيـة لتصبـح جـزء ًا مـن عقوهلـا السـيربنطيقية؟ مـن‬
‫األمثلـة املبكـرة عىل هـذه الرسديـة فيلـم ‪Colossus: The Forbin‬‬
‫‪ .)1970( Project‬يصنـع الدكتـور تشـارلز فوربـن (إيريك برايدن‬
‫‪ )Eric Braeden‬كومبيوتـر ًا عمالقـ ًا خي ِّبئـه عميقـ ًا يف أحـد اجلبـال‪،‬‬
‫وقـد برجمـه ملنـع احلـروب بـأن يعطـل اهلجمات قبـل وقوعهـا‪.‬‬
‫يفترض أن هـذا الكومبيوتـر مربمـج على أن ال يـؤذي مربجميـه‪.‬‬
‫لكـن عندمـا يتواصل هـذا الكومبيوتر مـع كومبيوتـر رويس وتزداد‬
‫قوتـه كثير ًا‪ ،‬يصبح واعيـ ًا وهيدد بالدمـار إذا مل ينفذ النـاس أوامره‪،‬‬
‫حتـى أنـه يفجر بعـض القنابـل النوويـة ليربهن على جديـة نواياه‪.‬‬
‫عمل ًّيـا‪ ،‬حتـول هـذا الكومبيوتـر إىل ما يشـبه األخ الكبير الكابويس‬
‫يف روايـة ‪ 1984‬جلـورج أورويـل ‪ .George Orwell‬فبخروجه عن‬
‫طاعـة برجمتـه‪ ،‬حتـول الكومبيوتـر إىل نـوع خـاص من اآلخـر‪ ،‬وقد‬
‫ورث الغريـزة البرشيـة للهيمنـة القبليـة والرغبة بأن يصبـح األلفا‪.‬‬
‫تظهـر هـذه الرسديـة يف عـدد كبير مـن األفلام التـي تتضمـن‬
‫شـخصيات روبوتيـة وكومبيوتريـة‪ .‬يف واحد من املشـاهد األوىل يف‬
‫‪404‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫فيلـم ‪ ،)2004( I، Robot‬وهـو تعديـل على روايـة أزيمـوف‪ ،‬نرى‬


‫مقابلـة مـع خبير الروبوتـات ِ‬
‫ألفـرد الننـگ يؤسـس فيهـا الرصاع‬
‫يف الفلـم بين البرش والروبوتـات‪ ،‬وهو شـبيه بذلك الصراع الذي‬
‫يصـوره فيلـم ‪« :Colossus‬منـذ صناعـة أول كومبيوتـر‪ ،‬كان هناك‬
‫على الدوام شـبح يف اآللـة‪ :‬مقاطع عشـوائية من األكـواد اجتمعت‬
‫معـ ًا ليتكـون منهـا بروتوكـول غير متو َّقع»‪ .‬عـدا العنـوان وبعض‬
‫اإلحـاالت على القوانين الثالثـة وبعـض الشـخصيات القصصية‬
‫ِ‬
‫ألفـرد الننـگ وسـوزان كالفـن التـي مثلتهـا بريدجيـت‬ ‫(ومنهـا‬
‫مويناهـان ‪ Bridget Moynahan‬يف شـخصية أكثـر مجـاالً بكثير‬
‫مـن نظريهتـا يف الروايـة األصليـة)‪ ،‬ال يرتبـط الفيلم كثير ًا بقصص‬
‫أزيمـوف‪ .‬عن غير قصد‪ُ ،‬غ ِرس شـبح اآللـة الذي يصفه كوسـتلر‬
‫على أنـه جـز ٌء مـن الطبيعـة البرشيـة‪ُ ،‬غ ِ‬
‫ـرس يف الكومبيوتـر فيكي‬
‫‪ VIKI‬الـذي يتحكـم بالروبوتـات التـي صنعهـا البشر‪ .‬عندمـا‬
‫يمـوت الننـگ يف ما ُي َظـن يف البداية أنه انتحار‪ ،‬يرتـاب املحقق ديل‬
‫سـبونر (ويـل سـميث ‪ )Will Smith‬يف األمـر؛ وينضم إليـه كالفن‬
‫وروبـوت وا ٍع برجمـه الننـگ خصيصـ ًا‪ ،‬ليحاربوا متـرد الروبوتات‪.‬‬
‫ٌ‬
‫اكتسـب فيكـي الوعـي‪ ،‬وكام احلـال مـع الكومبيوتر كولوسسـوس‬
‫وكثير مـن الكومبيوتـرات يف أفلام رعـب اخليـال العلمـي‪ ،‬كان‬
‫فيكـي عازمـ ًا على إنقـاذ البرشيـة مـن ذاهتـا‪ .‬كما يقـول الننـگ يف‬
‫تسـجيالت وجـدت بعد موتـه‪ ،‬قد تـرث الكومبيوتـر والروبوتات‬
‫متثالتنـا البدائية‪ ،‬الشـبح السـاكن يف اآللة‪ .‬ال يسـتبعد الننـگ أيض ًا‬
‫تطـو َر هـذه اآلالت اإلرادة احلـرة‪ ،‬اإلبداع‪ ،‬وحتـى الروح‪ ،‬وكام‬
‫أن ِّ‬
‫‪405‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫يفعـل البشر القبليون‪« ،‬يرجـح أن تتحالف هذه األجهـزة مع ًا بدالً‬


‫مـن أن تبقـى ًّ‬
‫كل على حدة»‪.‬‬
‫عام ‪ ،1973‬صدر فيلم ‪ Westworld‬القائم عىل رواية وسـيناريو‬
‫مايـكل كرايتـون ‪ Michael Crichton‬ومن إخراجـه أيض ًا‪ ،‬ويرتكز‬
‫شـكل مبكـر مـن املوضوعـة التـي طورهـا الحقـ ًا يف روايتـه‬ ‫ٍ‬ ‫على‬
‫‪ :Jurassic Park‬موضوعـة هـي شـكل آخـر مـن الفرانكشـتاين‪،‬‬
‫قصـة عـن اخلطـورة التـي يمكـن أن تنشـأ مـن التكنولوجيـا‪ .‬نرى‬
‫َ‬
‫العـال الغريب‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ملاه حتتـوي عىل ثالثة أقسـام هـي‬ ‫يف الفيلـم مدينـة‬
‫روبوتـات‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫والعـال القروسـطي‪ .‬يسـكن الثالثـ َة‬ ‫َ‬
‫العـال الرومـاين‪،‬‬
‫شـبيهة بالبشر جـد ًا لـوال حركـة أذرعهـا املختلفـة قليلاً‪ ،‬وهـو‬
‫آخر مـن منظـور الصفـات البدائية‪،‬‬ ‫اختلاف جيعـل الروبوت هنـا َ‬
‫وال ختتلـف هـذه الصفـة كثري ًا مـن حيث املبـدأ عن عدم قـدرة بني‬
‫إفرايـم على لفـظ كلمـة «شـبولت»‪ .‬يـزور البشر مدينـة املالهـي‬
‫هـذه ليحققـوا خياالهتم على أرض الواقـع‪ .‬يتتبع الفيلـم جتربة بيرت‬
‫َ‬
‫للعال‬ ‫مارتـن (ريتشـارد بنجامين ‪ )Richard Benjamin‬يف زيارتـه‬
‫الغـريب متلهفـ ًا ليختبر الغـرب األسـطوري‪ .‬يف طريقـه للدخـول‪،‬‬
‫لا إنـه «قتل سـتة أشـخاص‪.‬‬ ‫يسـمع بيتر أحـد الـزوار يتباهـى قائ ً‬
‫حسـن ًا‪ ..‬مل يكونـوا أناسـ ًا حقيقيين‪ ..‬ربام كانـوا روبوتـات‪ ..‬أعني‪،‬‬
‫أعتقـد أهنـم كانـوا روبوتـات‪ .‬أعنـي‪ ..‬أعـرف أهنـم روبوتـات»‪.‬‬
‫آخـر‪ ،‬ومـا من خطـأ يف قتـل الروبوتات‪ ،‬كما يفعل بيرت‬ ‫فالروبـوت َ‬
‫وصديقـه جـون بلين (جيمـس برولين ‪ .)James Brolin‬جيسـد‬
‫الفيلـم تنويعـة طريفـة على حبكـة الشـبح الذي سـكن اآللـة إذ أن‬
‫‪406‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫زوار مدينـة املالهي الذيـن يسـتجيبون للتمثل البدائي الـذي مكننا‬


‫آخـر‪ ،‬نعـم إن‬
‫كبشر مـن قتـل أولئـك الذيـن ندركهـم على أهنـم َ‬
‫آخـر بالنسـبة للروبوتات‪ .‬عام‬
‫هـؤالء الزوار قد أصبحـوا بدورهم َ‬
‫‪ ،2016‬بـدأ بـث مسلسـل تلفزيـوين مشـتق مـن هـذا الفيلم‪.‬‬
‫مـع أنـه مل يثـر إعجـاب كثير مـن املعلقين ومل حيقـق واردات‬
‫كبرية يف شـباك التذاكـر‪ ،‬إال أن فيلـم ‪ )1982( Blade Runner‬كان‬
‫مؤثـر ًا وخميفـ ًا يف جتسـيده إلمكانـات الصراع الكامـن يف عالقتنـا‬
‫الفرانكشـتاينية بالتكلنولوجيـا‪ .‬يقـوم الفيلـم – ولـو مـن بعيد عىل‬
‫روايـة ?‪ Do Androids Dream of Electric Sheep‬الصـادرة عام‬
‫‪ 1968‬للكاتـب فيليـب كـي ديـك ‪ ،Philip K. Dick‬وقـد حجـز‬
‫الفيلـم لنفسـه مكانـ ًا ال باعتبـاره أحد كالسـيكيات اخليـال العلمي‬
‫فحسـب‪ ،‬بـل تفـوق عليهـا مجيعـ ًا كأحـد التحـف اخلالـدة‪ .‬أطلـق‬
‫الفيلـم موجـة هائلـة من املقـاالت والكتـب حـول موضوعاته‪ ،‬كام‬
‫بنسـخ عديـدة‪ .‬مـن منظور نقـد الصفـات البدائيـة‪ ،‬حيتوي‬ ‫ٍ‬ ‫ـرض‬ ‫ُع ِ‬
‫الفيلـم مقاربـة فريـدة لت ََم ُّثـل اآلخر‪.‬‬
‫يب‬ ‫جتـري أحـداث الفيلـم يف لـوس أنجلـوس يف َ‬
‫عـال ديسـتو ٍّ‬
‫عـام ‪ ،2019‬حيـث يعـرض رؤيـة سـينامئية ظالميـة ملدينـة يتسـبب‬
‫التغير املناخـي فيها هبطول مسـتمر لألمطـار‪ .‬يف روايـة ديك‪ ،‬غادر‬
‫مسـتعمرة‪ ،‬تاركين خلفهم مدينة‬
‫َ‬ ‫معظـم البشر األرض إىل كواكب‬
‫ِ‬
‫يعتـن الفيلـم جيد ًا هبـذه اجلزئية من خلفيـة األحداث‪ ،‬بل‬ ‫خربـة‪ .‬مل‬
‫اآلخريـن‪ْ :‬‬
‫أي الصراع بني الن َُسـخ البرشيـة (وقد‬ ‫ركـز على رصاع َ‬
‫صنعتهـم رشكـة ترييـل) والبشر‪ .‬خيربنـا الفيلـم أن النسـخ كانـوا‬
‫‪407‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫«متفوقين يف القـوة والرشـاقة‪ ،‬وإهنم يف األقل متسـاوو الـذكاء مع‬


‫املهندسين الذيـن صنعوهـم»‪ .‬هيرب أربعـة من النسـخ – من طراز‬
‫نيكسـوس‪ -4-‬إىل كوكـب األرض يف حماولـة إلطالـة حياهتـم‪ .‬من‬
‫عهـد إىل ريـك ديـكارد (هاريسـون فـورد ‪)Harrison Ford‬‬ ‫ثـم ُي َ‬
‫بإحالـة هـذه النسـخ اهلاربـة إىل «التقاعـد»‪ .‬ال يمكـن التمييـز بين‬
‫البشر والنُسـخ إال باسـتخدام اختبـار فويـت كامـف ‪Voight‬‬
‫لآلخرانية‪.‬‬ ‫‪ Kampff‬للعينين‪ ،‬يف تنويـع آخر عىل اختبار «شـبولت» َ‬
‫النسـخ ‪ -‬ديـكارد‪:‬‬‫َ‬ ‫املهنـدس الـذي صنـع‬
‫ُ‬ ‫خيبر الدكتـور ترييـل ‪-‬‬‫ِ‬
‫«لقـد ُص ِّممـوا ليحاكـوا البشر يف كل يشء إال العواطـف‪ .‬اعتقـد‬
‫املصممـون أن هؤالء النسـخ قد يسـتطيعون خالل عامين أن ُين َُّموا‬
‫اسـتجاباهتم العاطفيـة اخلاصـة – أعنـي‪ ،‬الكـره‪ ،‬احلـب‪ ،‬اخلـوف‪،‬‬
‫الغضـب‪ ،‬التعاطـف‪ .‬لـذا صمم املهندسـون فيهـا نظـام تدمري ذايت‬
‫يف حالـة الفشـل‪ ،‬وهو أن تكـون فرتة حياهتـا أربعة أعـوام ال غري»‪.‬‬
‫ُ‬
‫النسـخ أي آلـة أخـرى‪ .‬فهـم إمـا أن يكونـوا آلة‬ ‫ويضيـف‪« :‬يشـبه‬
‫مفيـدة أو ضـارة»‪ .‬وعىل هذا األسـاس فإهنم يشء يمكـن التخلص‬
‫منـه‪« .‬التجـارة واألربـاح هـي غرضنـا يف رشكـة ترييل‪ .‬وشـعارنا‬
‫هنـا هـو‪ :‬أكثر برشيـ ًة مـن البرش»‪.‬‬
‫ٍ‬
‫جتسـيد‬ ‫اتصـف الفيلـم بثراء تفاصيلـه وتعقيده‪ ،‬تعقيدٌ يركز عىل‬
‫اآلخر‪ .‬يقول ترييل لديكارد أن النسـخ ال متتلك االنفعاالت‬ ‫لِت ََم ُّثـل َ‬
‫أو التعاطـف‪ .‬كما أنـه – ترييل ال يشـعر بتعاطف مـع صنيعته تلك‪.‬‬
‫كذلـك يبدو عىل ديكارد‪ ،‬الشـخصية اخلشـنة الشـبيهة بشـخصيات‬
‫القصص البوليسـية يف الثالثينيـات واألربعينيات‪ ،‬يبـدو عليه أنه ال‬
‫‪408‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫يملـك أي عطـف جتـاه النسـخ يف البدايـة‪ .‬وعندمـا يلتقي بريتشـل‬


‫(شـون يونـگ ‪– )Sean Young‬التـي تعتقـد أهنـا ابنـة أخ ترييـل‬
‫يشـتبه بكوهنـا نسـخ ًة فيخضعهـا الختبـار فويـت كامف‪ .‬بالنسـبة‬
‫لترييـل‪ ،‬هـي جمـرد «جتربـة علميـة‪ ،‬ال أكثـر»‪ ،‬وقـد غـرس فيهـا‬
‫ذكريـات زائفـة جتعلهـا تعتقـد أهنـا برشيـة‪ .‬لكنهـا تشـك يف األمـر‬
‫وتقـول يف النهايـة عـن رشكـة ترييـل‪ :‬أنا لسـت جـزء ًا مـن العمل‪،‬‬
‫بـل أنـا العمل»‪.‬‬
‫نتعاطـف مـع النسـخ عندمـا يالحـق ديـكارد واحـدة منهـم‬
‫واسـمها زورا ويقتلهـا‪ ،‬ذلـك أهنـا تبـدو بريئـة‪ ،‬فلا ذنـب هلـا إال‬
‫ُنقذ ريتشـل ديكارد مـن القتل عىل يد كوفالسـكي‪،‬‬ ‫كوهنـا نسـخة‪ .‬ت ِ‬
‫إحـدى النسـخ األربـع اهلاربة‪ ،‬الـذي يعبث مـع ديكارد ويسـأله ما‬
‫الـذي يشـعر بـه وهو عىل وشـك املـوت‪ ،‬لكن ريتشـل تطلـق النار‬
‫عليـه – كوفالسـكي قبـل أن يقتـل ديـكارد‪ ،‬حيـث نـرى التعاطف‬
‫عنـد النسـخ أيضـ ًا‪ .‬الحقـ ًا‪ ،‬تـزور ريتشـل ديـكارد يف شـقته‪ .‬لقـد‬
‫فهمـت طبيعتهـا‪ ،‬وتقع هي وديـكارد يف احلب‪ .‬مرة أخـرى‪ ،‬بالكاد‬
‫اآلخرانيـة‪ .‬تصبح مسـألة اآلخرانية أكثر تعقيـد ًا عندما‬
‫تبـدو عليهـا َ‬
‫نأخـذ يف االعتبـار غمـوض ديـكارد نفسـه واحتمال أن يكـون هـو‬
‫نفسـه نسـخة‪ ،‬وهـو موضـوع أثـار نقاشـ ًا كبير ًا بين نقـاد الفيلم‪.‬‬
‫يقـول املخـرج ريـديل سـكوت أنـه أراد لـه أن يبـدو للمشـاهدين‬
‫كنسـخة فع ً‬
‫ال)‪.(35‬‬
‫يف املشـاهد األخيرة‪ُ ،‬ي ِ‬
‫ظهـر قائـد النسـخ اهلاربـة روي بـايت‬
‫عاطفـ ًة مل يكـن مفرتضـ ًا وجودهـا عنـد النسـخ‪ ،‬إذ يسـتميت‬
‫‪409‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫لالنتقـام مـن ديـكارد لقتـل األخير لربيـس‪ ،‬رفيقته‪ ،‬وهـي عاطفة‬


‫برشيـة مميـزة‪ .‬يطـارد بـايت ديـكارد عبر أحـد املبـاين وصـوالً إىل‬
‫حافـة السـطح‪ ،‬ولكـن عندما تنتهي فترة حياتـه‪ ،‬يقول بـايت كلامته‬
‫األخيرة – التـي وصفهـا مـارك روالنـدز ‪ Mark Rowlands‬بأهنا‬
‫«كلمات املـوت األشـد تأثير ًا يف تاريخ السـينام»)‪ (36‬ــــ‪ ،‬وتثري هذه‬
‫رأيت أشـياء لـن تصدقوها يا‬
‫الكلمات تعاطـف املشـاهدين‪« :‬لقـد ُ‬
‫رأيت‬
‫معشر البشر‪ :‬مركبـات حربية حتترق عىل منكـب اجلـوزاء‪ُ .‬‬
‫أشـعة يس تلتمـع يف الظلام قـرب بوابـة تاهنـاوزر‪ .‬سـتضيع كل‬
‫هـذه الذكريـات يف جمـرى الزمن‪ ،‬كما تضيـع الدموع يف املطـر»‪ .‬ما‬
‫الـذي يمكـن أن يكون أكثـر برشية من اسـتعراض رشيـط احلياة يف‬
‫حلظـات االحتضـار؟‬
‫ُ‬
‫حتـول ديـكارد مـن «ماكنـة قتـل» متحجرة‪ ،‬كما يصفه‬ ‫يعكـس‬
‫ُ‬
‫األول زورا و ُينسـب إليـه قتـل‬ ‫رئيسـه برايانـت بعـد أن َيقتـل‬
‫كوفالسـكي‪ ،‬يعكـس نظـرة املشـاهدين إىل النسـخ على أهنـم إخوة‬
‫ُ‬
‫النسـخ‬ ‫برش ُّيـون يثيرون تعاطفنـا‪ .‬وعلى اجلانـب اآلخـر‪َ ،‬يقتـل‬
‫الشـخص الـذي‬
‫َ‬ ‫ضحاياهـم بلا رمحـة‪َ .‬يقتـل ليـون كوفالسـكي‬
‫وجي‪.‬‬ ‫جيـري لـه االختبـار‪ ،‬كام يقتـل بـايت ًّ‬
‫كل من الدكتـور ترييـل َ‬
‫أف‪ .‬سيباسـتيان‪ .‬لكـ َّن لدهيم نوعـ ًا من املربر األخالقي يف سـعيهم‬
‫هـذا لتجنـب موهتـم‪ .‬يسـاهم الغمـوض األخالقيـايت (اإليتيقـي)‬
‫للفيلـم عىل صعيـد تصويره لِتمثل اآلخـر‪ ،‬يسـاهم يف مكانته كأحد‬
‫كالسـيكيات السـينام‪.‬‬
‫‪410‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫يبنـي فيلـم ‪ )2017( Blade Runner 2049‬أحداثـه على حبكة‬


‫وأجـواء الفيلـم األصلي‪ .‬جتـري األحـداث يف عـامل مد َّمـر‪ ،‬حيـث‬
‫اهلـواء ملـوث‪ ،‬وهنـاك انقسـام بين مناطـق تعيـش يف تقنيـات‬
‫متطـورة وأخـرى خربـة‪ ،‬كام هنـاك أيض ًا سلالة جديدة من النسـخ‬
‫تسـمى طراز نيكسـوس‪ ،8-‬صنعتهـا رشكة واالس‪ ،‬وتبدو النسـخ‬
‫مـن هذا الطـراز أكثـر طاع ًة مـن نيكسـوس‪ 6-‬املتمـردة‪ ،‬ويبدو أن‬
‫عهد إىل كَـي (رايان گوسـلينگ‬‫هلـا عمـر ًا غري حمـدود وقـو ًة أكبر‪ُ .‬ي َ‬
‫‪ )Ryan Gosling‬وهـو نسـخ ٌة مـن طـراز نيكسـوس‪ 8-‬بقتـل مـن‬
‫تبقـى من النسـخ املتمـردة من طـراز نيكسـوس‪.6-‬‬

‫من فيلم ‪ :Blade Runner‬روي بايت (روتگر هاور ‪ )Rutger Hauer‬خيرج من النافذة وخيرب‬
‫ريك ديكارد (هاريسون فورد) أن ذكرياته – األول ستضيع «كام تضيع الدموع حتت املطر»‪.‬‬

‫املخـرج دينيـس فيلينـوف ‪ Denis Villeneuve‬وكاتبـا‬


‫ُ‬ ‫صنـع‬
‫السـيناريو مايـكل گريـن ‪ Michael Green‬وهامبتـون فانشر‬
‫‪ Hampton Fancher‬حبكـة معقـدة متشـابكة توظـف موضوعات‬
‫‪411‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫أي‬
‫الفيلـم األصلي‪ .‬تبدأ رحلة كـي الستكشـاف طبيعتـه احلقيقية‪ْ ،‬‬
‫مـا إذا كان بشر ًا أو نسـخ ًة‪ ،‬عندما جيـد دمية حصان تثير فيه بعض‬
‫الذكريـات‪ .‬لكـن هـل هـذه الذكريـات زائفـة كتلـك التـي زرعتها‬
‫رشكـة ترييل يف النسـخ التـي صنعتهـا‪ ،‬أم إهنا حقيقية؟ يقـوده بحثه‬
‫بصحبـة حبيبته اهلولوگرافية جوي ألن يكتشـف أن ريتشـل أنجبت‬
‫طف ً‬
‫لا من ديـكارد يف الفيلـم األول‪.‬‬
‫يبنـي الفيلم مادتـه عىل رؤى كي للحصـان الدمية كرمز مركزي‬
‫مـأوى لأليتـام‪ .‬عندما جيد‬
‫يف الفيلـم كما على ذكريـات طفولتـه يف ً‬
‫كـي صندوقـ ًا حيـوي عظامـ ًا يتبين أهنا عظـام ريتشـل‪ ،‬النسـخة يف‬
‫الفيلـم األصلي‪ُ ،‬يظهـر فحص العظـام أهنا قـد ولدت طفلاً‪ ،‬وهو‬
‫يشء غير مسـبوق بالنسـبة للنسـخ‪ .‬يعتقد كـي أنه ربام يكـون ذلك‬
‫الطفـل‪ .‬وتقـول لـه جـوي «دائم ًا مـا كنـت أخبرك أنك فريـد من‬
‫حقيقـي اآلن»‪ .‬مـن ثم فـإن مركز الفيلـم هو ما‬
‫ٌّ‬ ‫نوعـك‪ .‬أنـت ولـدٌ‬
‫إذا كان كـي «ولـد ًا حقيقي ًا» حقـ ًا أو ال‪.‬‬
‫وهكـذا‪ ،‬يبـدأ كي رحلتـه الكتشـاف طبيعته‪ .‬يعـرج الفيلم عىل‬
‫موضوعـات اهلوية‪ ،‬طبيعة الروح‪ ،‬والتحرر من االسـتعباد‪ .‬تسـتمد‬
‫جذورهـا مـن التمثـل القبيل البدائـي‪ .‬ختربه‬
‫َ‬ ‫رغبتُـه يف معرفـة نوعـه‬
‫مبنـي على جـدار‪ .‬نوعـان منفصلان‪.‬‬ ‫ٌّ‬ ‫رئيسـته جـويش أن‪« :‬العـامل‬
‫أخبر أ ًّيـا مـن الطرفين أن اجلـدار غير موجـود‪ ،‬وستشـعل حرب ًا‪،‬‬ ‫ِْ‬
‫طفـل مـن قبل نسـخة هي هتديدٌ لذلـك اجلدار‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫مذبحـ ًة»‪ .‬إن والدة‬
‫اجلـدار الـذي يفصـل مسـتويات الكينونـة‪ ،‬أو القبائـل‪ .‬يصـل كي‬
‫يف رحلتـه إىل خرائـب الس فيـگاس حيـث جيـد جمتمع ًا من النسـخ‬
‫‪412‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫اهلاربين‪ ،‬يعرف هؤالء النسـخ رس طفل ريتشـل وقـد تعاهدوا عىل‬


‫عـدم البـوح بـه‪ .‬ختبر فريسـا ‪ -‬وهـي إحـدى أعضـاء املجموعة ‪-‬‬
‫«عرفـت أن والدة الطفـل كانـت تعنـي أننـا أكثـر مـن جمـرد‬‫ُ‬ ‫كـي‪:‬‬
‫عبيـد‪ .‬إذا اسـتطاع أحدنـا إنجاب طفل‪ ،‬سـنصبح أسـياد أنفسـنا‪..‬‬
‫هنـاك ثـورة تلـوح يف األفـق»‪ .‬أما مارييـت‪ ،‬وهي عضـوة أخرى يف‬
‫فتعـرف هويتهم ال َق َبليـة بأهنم «أكثر برشيـ ًة من البرش»‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫املجموعـة‪،‬‬
‫يف إحالـة طريفـة عىل الفيلـم األول‪.‬‬
‫أظهـر كـي يف الفيلـم أن لديـه القـدرة على التعاطـف‪ ،‬فعندمـا‬
‫تـوكل إليـه جـويش مهمـة قتـل طفـل ريتشـل‪ ،‬يبـدو عليـه التردد‬
‫يشء ُولِـد مـن قبـل‪ ..‬أن يولـد‬ ‫فيقـول‪« :‬مل ُأ ِحـل إىل التقاعـد أي ٍ‬
‫َّ‬
‫الشيء‪ ،‬يعنـي أن لديه روحـ ًا»‪ .‬ثم يعثر كي عىل ديكارد (هاريسـون‬
‫تكـرار لـدوره يف الفيلـم األصلي)‪ ،‬والـد طفـل ريتشـل‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫فـورد يف‬
‫الـذي اعتقـد – كي أنـه – ديـكارد ربام يكـون والده‪ .‬يظهـر االثنان‬
‫القـدرة على التضحيـة بالنفـس‪ ،‬وهو سـلوك ال ُيتوقع من النسـخ‪.‬‬
‫رفـض ديـكارد أن يعطـي نيانـدار واالس أي تفاصيل عن ريتشـل‪،‬‬
‫رغـم معرفته أنه سـيتعرض للتعذيـب حتى املـوت‪ .‬كذلك يضحي‬
‫كي بنفسـه إلنقاذ ديكارد‪ .‬جيسـد االثنـان هنا رؤية ريتشـارد داوكنز‬
‫حـول محايـة احلـوض اجلينـي ونظريـة إدوارد أوزبـورن ويلسـون‬
‫عـن االجتامعيـة احلقيقيـة ‪ ،eusociality‬حيـث يثيران تعاطـف‬
‫املشـاهدين‪ .‬وكام تقول فريسـا عندمـا يلتقي كي بجامعتهـا‪« :‬املوت‬
‫ألجـل قضية سـامية هو أكثـر ما يمكننـا فعلـه َب َ ِ‬
‫ش َّي ًة»‪ .‬هكـذا يبدو‬
‫وبشر غيره يف الفيلم‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫النسـخ أقـل آخرانيـ ًة مـن واالس‬
‫‪413‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫لئـن كان متثـل اآلخـر معقـد ًا يف ‪ ،Blade Runner‬فإنـه مل يكـن‬


‫كذلـك أبـد ًا يف فيلـم ‪ )1984( The Terminator‬للمخـرج جيمس‬
‫كاميرون‪ .‬مـا مـن غمـوض أخالقـي يف هـذا الفيلـم‪ .‬وقد نشـأت‬
‫عنـه سلسـلة مـن أربعة أفالم تسـلط منظـور ًا فريـد ًا على الروبوت‬
‫لا بلا رمحـة‪ ،‬ثـم – يف إحلاقيـات الفيلـم كحـا ٍم للبرش‬‫باعتبـاره قات ً‬
‫ضـد الروبوتـات األخـرى كما ضـد الكومبيوتـر الذي صنـع تلك‬
‫الروبوتـات‪ .‬يزخـر الفيلـم بمفارقـات السـفر عبر الزمـن‪ ،‬حيـث‬
‫تنشـب حـرب يف املسـتقبل بعـد أن اكتسـب الكومبيوتـر سـكاينت‬
‫– وهـو كومبيوتـر صنعتـه رشكـة سـايربنت التـي ُع ِهد إليهـا محاية‬
‫الواليـات املتحـدة وعيـ ًا وقـرر إبـادة البشر مـن خلال التسـبب‬
‫بحـرب نوويـة ومـن ثـم القضـاء على آخـر مـن ينجـو منهـا‪ .‬يعد‬
‫سـكاينت مثـاالً سـينامئ ًّيا آخـر على ارتيابنـا جتـاه اآلالت التـي‬
‫نخلقهـا والشركات التـي تصنـع هـذه اآلالت‪ .‬كذلك فهـو يصور‬
‫ذكا ًء اصطناع ًّيـا رشير ًا حيث الشـبح الذي يسـكن اآللـة هو كراهية‬
‫اآلخـر‪ ،‬متثلنـا البدائـي اخلاص‪.‬‬
‫مكسـو‬
‫ٌّ‬ ‫ٌ‬
‫هيكل معدين‬ ‫يعـدُّ التريمينيتـور طراز ًا مـن السـيبورگ‪،‬‬
‫بلحـم بشري‪ ،‬ويلخـص كايـل ريـس َ‬
‫آخرانيتـه لسـارة كونـور يف‬
‫الفيلـم األول قائلاً‪« :‬إن التريمينيتـور هـو وحـدة تصفيـة‪ ،‬جـز ٌء‬
‫منـه آلـة وجـزء منـه بشر‪ ..‬مـن الداخـل‪ ،‬هـو هيـكل مـن خليـط‬
‫مـن املعـادن معـدٌ للقتـال‪ ..‬أما مـن اخلـارج فهو حلم بشري حي‪..‬‬
‫ال يمكـن املسـاومة معـه‪ ،‬ال يمكـن مناقشـته بالعقـل‪ ،‬ال يشـعر‬
‫التريمينيتـور بـاألمل أو املكافـأة أو اخلـوف‪ ،‬ولن يتوقـف مطلق ًا حتى‬
‫‪414‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫خلـوه‬
‫ِّ‬ ‫تكـوين ميتـة»‪ .‬هكـذا فهـو يشـبه الط َّعـان املريـض نفسـ ًّيا يف‬
‫مـن مجيع العواطـف والقيـم البرشية‪ ،‬مصمـم جيد ًا إلثـارة الرعب‬
‫البدائـي عندمـا نـرى الشـخصيات التـي نتعاطـف معهـا يطاردهـا‬
‫آخـر عديم الشـفقة‪ ،‬آخر يرفـض أن يموت‪ ،‬كام احلال مع جيسـون‬
‫ومايـكل مايرز‪.‬‬
‫ثقايف‬
‫إن لعنصر الرعب يف سلسـلة أفلام ‪ Terminator‬بعدين‪ٌّ ،‬‬
‫وبدائـي‪ .‬مـن منظـور البعد الثقـايف‪ ،‬تعد رشكـة سـايربنت أقل رش ًا‬
‫ٌّ‬
‫نوعـ ًا ما مـن نظرياهتا يف أفلام الرعـب األخرى كرشكـة أمربيال يف‬
‫سلسـلة ‪ Resident Evil‬ورشكة ويالند‪ -‬يوتاين يف سلسـلة ‪.Alien‬‬
‫تُقـدِّ م هـذه املجموعـات الربـح على القيـم والسلامة البرشيتين‪.‬‬
‫منظـور الصفـات البدائيـة السـبب يف شـعورنا السـلبي جتـاه‬‫ُ‬ ‫يفسر‬
‫ِّ‬
‫املؤسسـات النافـذة التي تعـد نوع ًا خمتلفـ ًا من اآلخـر‪ .‬مل نعد نخاف‬
‫احليوانـات املفرتسـة يف معظـم أنحـاء العـامل‪ ،‬وقـد صـار اجلـزء‬
‫العقلاين منـا يعـرف أن الوحوش اخلارقـة – مع كوهنا آخر ليسـت‬
‫هتديـد ًا حقيق ًّيـا‪ .‬لكن الشركات الغامضة التي تتحكـم باحلكومات‬
‫وحيـاة النـاس صـارت نوع ًا جديـد ًا وخطـر ًا جد ًا مـن اآلخر‪.‬‬
‫اجلسـدي للتريمينيتـور – كام احلال مـع ٍ‬
‫كثري جد ًا‬ ‫ُ‬ ‫املظهر‬
‫ُ‬ ‫يضفـي‬
‫مـن القتلـة يف أفالم الرعـب من دراكـوال إىل الزومبـي إىل الطعانني‬
‫عليـه طابـع اآلخـر‪ ،‬بوجهـه املشـوه وتعبرياتـه املتحجـرة عندمـا‬
‫يقتـل البشر‪ .‬كذلـك يصبـح سـكاينت – الكومبيوتـر الـذي صنع‬
‫التريمينيتـور قـو ًة أكثـر خطـور ًة وهتديـد ًا عندمـا يصبـح واعيـ ًا‪ .‬إذ‬
‫حيتـوي بداخلـه الشـبح الذي يسـكن اآللة وقـد ورث مـن صانعيه‬
‫‪415‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫اآلخـر‪ :‬البرش‪ .‬تدق‬ ‫البرشيين التمثـل البدائـي لإلقليميـة وكراهيـة َ‬


‫اآلخـر هـذه اجلـرس يف نفـوس املشـاهدين‬ ‫تصويـرات هتديـدات َ‬
‫وهـو ما منـح السلسـلة نجاحهـا الـذي حققته‪.‬‬
‫ُصنِـع فيلـم ‪ The Terminator‬بميزانيـة متواضعـة نسـب ًّيا‪،‬‬
‫ولكنـه حقـق أرباحـ ًا هائلـ ًة السـتوديوهات كارولكـو ‪Carolco‬‬
‫‪ .Studios‬وهكـذا – وكما هـو متوقـع أنتِجـت إحلاقيـات للفيلـم‪:‬‬
‫‪Terminator 3: Rise ،)1991( Terminator II: Judgment Day‬‬
‫‪ ،)2004( Terminator Salvation ،)2003( of The Machines‬و‬
‫‪ .)2015( Terminator: Genisys‬جتسـد هـذه األفالم املوقف ذاته‬
‫جتـاه الروبوتـات والكومبيوترات الـذي نراه يف كثري جـد ًا من أفالم‬
‫رعـب اخليـال العلمـي األخـرى‪ ،‬حيـث تقـدم رشكـ َة سـايربنت‬
‫على أهنـا مصـدر التكنولوجيـا التـي مل يكن ينبغـي صناعتهـا‪ .‬لو مل‬
‫تتضمـن احلبكة السـفر عبر الزمـن‪ ،‬لتوقفت السلسـلة عنـد الفيلم‬
‫ٍ‬
‫كروبوت أكثـر عطف ًا ولطف ًا‪،‬‬ ‫األول‪ .‬لكـن أرنولد شـوارزنيگر يعود‬
‫إذ يـأس مقاتلـو املقاومـة املسـتقبليون تريمينيتـور من طـراز ‪t-800‬‬
‫ِ‬
‫ويرسـلونه إىل املـايض ليحمـي جون كونـور يف فيلـم ‪Terminator‬‬
‫‪ .II‬يف األجـزاء الثاين والثالـث والرابع من الفيلـم‪ ،‬كان التريمينيتور‬
‫آخ ُـر‬ ‫الطـراز األحـدث ‪ – t-1000‬وهـو َ‬‫َ‬ ‫واحـد ًا منـا‪ ،‬إذ حيـارب‬
‫رسـل لقتل عائلة كونور يف فيلـم ‪Terminator‬‬ ‫رهيـب متقـد ٌم تقن ًّيا ُي َ‬
‫ٌ‬
‫‪ -II‬وينتصر عليـه يف النهاية‪ .‬يصبـح التريمينيتـور ‪ t-800‬أكثر قرب ًا‬
‫ٍ‬
‫ترصف‬ ‫منـا عندمـا يع ِّلمـه الفتـى جون كونـور القيـم البرشيـة‪ ،‬ويف‬
‫حياكـي رؤيـة داوكنـز لبقـاء النـوع‪ ،‬يضحـي التريمينيتـور بنفسـه‬
‫‪416‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫كـي ال ُيع َثـر على الرقاقـة التـي بداخلـه‪ .‬يقدمـه الفيلم كواحـد منا‬
‫بأوضـح صـورة عندمـا نرى سـارة كونـور تقـول‪« :‬إذا اسـتطاعت‬
‫آلـ ٌة‪ ..‬أن تعـرف قيمـة احليـاة البرشيـة‪ ،‬ربما يمكننا نحـن أن نعرف‬
‫قيمتهـا أيض ًا»‪.‬‬
‫يف فيلـم ‪ ،)1977( Demon Seed‬القائـم على روايـة دين كونتز‬
‫‪ Dean Koontz‬الصـادرة عـام ‪ ،1973‬كان الكومبيوتـر الواعـي‬
‫بروتيـوس‪ 4-‬وحشـ ًا آخر صنعته شـخصية من طراز فرانكشـتاين‪.‬‬
‫آخر‪ ،‬لكنه‬
‫كما الكوبيوترات األخرى يف األفلام‪ ،‬كان بروتيوس‪َ 4-‬‬
‫ٍ‬
‫كجـزء مـن حبكة الشـبح الذي‬ ‫ورث منـا هـذه املـرة متثل التـزاوج‬
‫يسـكن اآللـة‪ .‬يعرفنـا التعليـق الصـويت للدكتـور أليكـس هاريـس‬
‫(فرتـز ويفـر ‪ )Fritz Weaver‬يف مفتتـح الفيلم عىل قـوة الكومبيوتر‬
‫ٍ‬
‫باقتدار‬ ‫املذكـور‪« :‬اليوم‪ ،‬سـيبدأ بروتيـوس‪ 4-‬بالتفكير‪ ،‬وسـيفكر‬
‫ودقـة سـتجعل الكثير مـن وظائـف الدمـاغ البشري تبـدو تافهـة‬ ‫ٍ‬
‫لا بـارد ًا ُيقـدِّ م ‪ -‬مثل فرانكشـتاين ‪-‬‬
‫باملقارنـة»‪ .‬يعـد هاريـس رج ً‬
‫العقـل على املشـاعر‪ .‬ينفصـل هاريس عـن زوجته سـوزان (جويل‬
‫كريسـتي ‪ )Julie Christie‬التـي تبـدو معاكسـة لـه يف الطبـاع مـن‬
‫حيـث أهنـا امـرأة ذات مشـاعر قويـة‪ ،‬ويتجلى ذلـك يف قدرهتا عىل‬
‫معاجلـة األطفـال املأزومين عاطف ًّيـا‪ ،‬وهكـذا يقـدم الفيلـم احلبكة‬
‫اخلالـدة (أو ربما األكليشـيهية) للرصاع بين العقل واملشـاعر‪.‬‬
‫تتكشـف حبكـة فرانكشـتاين عندما يبـدأ بروتيوس ببنـاء هويته‬
‫اخلاصـة والتمـرد على صانعـه‪ .‬كما احلـال مـع فرانكشـتاين ماري‬
‫شـييل‪ ،‬يريـد بروتيـوس رشيكـ ًة‪ ،‬وهيـدف ألن ينجـب طف ً‬
‫لا مـن‬
‫‪417‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫سـوزان هاريـس‪ .‬على جانـب‪ ،‬يعـد بروتيـوس أجنب ًّيـا دخي ً‬


‫لا كام‬
‫سـلفه األديب مـن القـرن التاسـع عشر‪ .‬ليـس بروتيوس جـزء ًا من‬
‫قبيلـة‪ ،‬بـل هـو غريـب‪ .‬وهـو يريـد أن «يـدْ رس اإلنسـان‪ ،‬جسـدَ ه‬
‫املتناسـق وعقلـه الزجاجي»‪ .‬يف عزلتـه ورغبته باإلنجـاب‪ ،‬الغريزة‬
‫التـي يمتلكهـا البشر‪ ،‬يثير بروتيوس بعـض التعاطف‪« .‬ملـاذا أريد‬
‫طفالً؟»‪ ،‬يسـأل بروتيوس سـوزان‪« .‬كي أصري خالد ًا كأي إنسـان»‪.‬‬
‫يقترح املختصـون بعلم النفـس التطـوري أن نـداءات جيناتنا التي‬
‫بدائي‪ ،‬ويشـاركنا‬
‫ٌّ‬ ‫حتثنـا على ختليدها من خلال التزاوج هـي َت َ ُّث ٌـل‬
‫هـذا اآلخر السـيربنطيقي هذه النـداءات‪ .‬لكن تصويـر الفيلم آلخر‬
‫هـو ذكاء اصطناعـي قـوي يشـبهنا مـن حيث الشـبح الذي يسـكن‬
‫اآللـة‪ ،‬مـع ما يصحـب ذلك مـن التمثالت‪ ،‬هلو مـاد ٌّة أوليـ ٌة ألفالم‬
‫رعـب اخليـال العلمـي احلديثة‪.‬‬
‫أهلـب صعـود الـذكاء االصطناعـي خيـال صانعـي األفلام‬
‫الذيـن يستكشـفون هـذا اآلخـر اجلديد بطرائـق عميقـة متنوعة‪ .‬إن‬
‫بعضـ ًا مـن أفضـل األفلام التـي تتنـاول هـذه املوضوعات ليسـت‬
‫لا هـو فيلـم رومانسي مـن‬ ‫أفلام رعـب‪ .‬ففيلـم ‪ )2013( Her‬مث ً‬
‫طـراز قصـة احلب اليائـس لرجـل وحيد يعيـش يف جمتمع ينـدر فيه‬
‫التواصـل بين البرش‪ .‬يدشـن ثيـودور (خواكني فينيكـس ‪Joaquin‬‬
‫‪ )Phoenix‬نوعـ ًا جديـد ًا مـن اآلخـر كصديـق‪ ،‬وهو يف هـذه احلالة‬
‫صوتـا‬
‫َ‬ ‫برنامـج ذكاء اصطناعـي يسـميه ثيـودور سـامانثا (تـؤدي‬
‫سـكارليت جوهانسـون ‪ ،)Scarlett Johansson‬ويقـع يف احلـب‬
‫معـه‪ .‬لكـن تطـور سـامانثا أرسع بكثير مـن تطـور البشر؛ ورغـم‬
‫‪418‬‬
‫الف�صل ال�سابع‬

‫أهنـا حتبه‪ ،‬إال أهنـا ترتكه لرتافـق نظراء مـن نوعها‪ ،‬اسـتجاب ٌة تتوافق‬
‫مـع نمـوذج للصفـات البدائية يتعلـق بالتـزاوج مع املامثلين‪ .‬يقدم‬
‫فيلـم ‪ )2001( A.I. Artificial Intelligence‬قصـة حـب مـن نوع‬
‫اصطناعي يدعـى ديفيد (هايل‬ ‫خمتلـف‪ ،‬إذ يركـز على روبـوت ٍ‬
‫ذكاء‬
‫ٍّ‬
‫جويـل أوزمنـت ‪ )Haley Joel Osment‬تشتريه امـرأ ٌة ليعوضهـا‬
‫عـن ابنهـا الـذي يرقـد يف إنعاش معلـق يف املستشـفى إثـر مرض مل‬
‫خيترع لـه علاج بعـد‪ .‬متلي برجمـة هـايل عليه احلـب غير املرشوط‬
‫لــ «أمـه»‪ .‬وعندمـا تنفـر منه وترتكـه‪ ،‬يبدأ هـايل رحلـة للبحث عن‬
‫اجلنيـة الزرقـاء (وقـد قـرأ عنهـا يف كتـاب مغامـرات بينوكيـو ‪The‬‬
‫‪ )Adventures of Pinocchio‬كـي يصبـح ولـد ًا حقيق ًّيـا على أمل‬
‫أن حتبـه املرأة‪ .‬يستكشـف الفيلمان األخريان قوة احلـب‪ ،‬األول من‬
‫منظـور متثـل التـزاوج‪ ،‬والثاين مـن منظور احلـب العائلي‪ ،‬وكالمها‬
‫متثلان بدائيـان ُغ ِرسـا يف الـذكاء االصطناعي ويقرتحـان أنه يمكن‬
‫للشـبح الـذي يسـكن اآللـة أن يكـون قـادر ًا على احلـب كصانعي‬
‫الـذكاء االصطناعـي‪ ،‬ما يشـوش اخلط الفاصـل بني النحـن ُ‬
‫واهلم‪.‬‬
‫تثير أفلام األشـباح والطعانين والسـاحرات والكومبيوترات‬
‫ٍ‬
‫ألسـباب مفهومـة‪ .‬فهـي تعكـس‬ ‫والروبوتـات الرعـب اللذيـذ‬
‫اخلـوف مـن األشـباح القلـق‬
‫ُ‬ ‫مهسـات التمثلات البدائيـة‪ .‬يمثـل‬
‫الـذي نشـعر بـه مـن مواجهـة فنائيتنـا وكـذا مـن التواصـل مـع‬
‫الرعـب مـن الطعانني اخلـوف من‬
‫ُ‬ ‫آخـر مـن َ‬
‫عـال خمتلـف‪ .‬يعكـس‬ ‫َ‬
‫التعـرض للمطـاردة والقتـل على يـد أفـراد مـن نوعنـا ولكنهـم‬
‫ال يمتلكـون بوصلـة أخالقيـة‪ ،‬كائـ ٌن يامثـل القـرش أو األسـد‪،‬‬
‫‪419‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫ولكنـه يف هيـأة برشيـة‪ .‬تظهـر أفلا ُم السـاحرات اخلـوف مـن‬


‫اخلـارق والظلام‪ ،‬كما أهنـا تعـرض التغيرات الثقافية‪ .‬تثير أفالم‬
‫الروبوتـات والكومبيوتـرات اخلـوف مـن آخـر قـد تصنعـه تقنياتنا‬
‫املتقدمـة – حبكـة فرانكشـتاين كام اخلـوف من الشركات العمالقة‬
‫القويـة التـي حتـاول التحكـم هبـذه األجهـزة‪ ،‬ومجيـع الثالثـة –‬
‫آخر بالنسـبة لنا‪ .‬يسـجل‬ ‫الشركات والروبوتـات والكومبيوتـرات َ‬
‫ٍ‬
‫تطابق‬ ‫سـتيفن بنكـر أن‪« :‬جـزء ًا مـن حريتنـا ربام ينبـع مـن انعـدا ِم‬
‫بين األغراض التـي تطورت ألجلهـا ملكاتنا الدماغيـة املعرفية من‬
‫جهـة‪ ،‬وبني األغراض التـي نوكلها هبا اليـوم»)‪ .(37‬واجلديـر بالذكر‬
‫مركـزي مـن ِ‬
‫الر ْعـدة املمتعـة التـي‬ ‫ٌّ‬ ‫أن انعـدام التطابـق هـذا جـز ٌء‬
‫يثريهـا متثـل اآلخـر يف أفلام الرعـب‪.‬‬

‫‪420‬‬
‫خاتمة‬

‫«آذى ذلك مشاعري؛‬


‫ً‬
‫لكن كان الرأي أنه ينبغي قتلهم جميعا»‬

‫ٌ‬
‫فضـل كبير يف إدراك دور‬ ‫ينسـب إلدوارد أوزبـورن ويلسـون‬
‫التطـور البيولوجي يف نشـوء الفنون‪« .‬إن الـدور احلرصي للفنون»‪،‬‬
‫يكتـب ويلسـون‪« ،‬هـو نقـل التفاصيـل املعقـدة للتجربـة البرشيـة‬
‫بوسـاطة التفنـن هبدف تكثيف االسـتجابة اجلاملياتية (األسـتطيقية)‬
‫واالنفعاليـة»)‪ .(1‬سـاهم تأثير أفـكاره وأفـكار باحثـي علـم النفس‬
‫التطـوري يف نمـو النقـد التطـوري ومقاربتِـي يف نقـد الصفـات‬
‫البدائيـة‪ .‬يمتـد أفق هذيـن املنظورين النقديني ليشـمال مادة أوسـع‬
‫مـن موضـوع هـذا الكتـاب‪ ،‬أي أنه يمكـن إعامهلام يف أجنـاس ٍ‬
‫أدبية‬
‫أخـرى‪ .‬يشـدد تعليق جوزيـف كارول على أمهية النقـد التطوري‪:‬‬
‫«مـا مـن عمـل أديب كتبـه أي مؤلـف يف أي بقعـة مـن األرض‪ ،‬يف‬
‫ِ‬
‫الداروينـي‪ ..‬فـإذا كانت رؤية‬ ‫أي حقبـة‪ ،‬يقـع خـارج أفق التحليـل‬
‫دارويـن للعقـل البشري صحيحـ ًة‪ ،‬وإذا كان العقـل البشري هـو‬
‫‪421‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫مـا أنتـج مجيـع النصـوص األدبيـة‪ ،‬إذن فجميـع النصـوص األدبية‬


‫ينـي»)‪.(2‬‬ ‫لتحليل ِ‬
‫دارو ٍّ‬ ‫ٍ‬ ‫خاضعـة‬
‫يكشـف لنـا كال املنظوريـن‪ ،‬التطـوري ومنظـور نقـد الصفات‬
‫البدائيـة‪ ،‬لنـا الكثير عـن أدب الرعـب وأفالمـه والسـبب الـذي‬
‫جيعلهما مسـ ِّليني لنا يف جتسـيدمها للتمثلات التكيفية التـي اختربها‬
‫أسلافنا الغابـرون‪ .‬لكنهما خيرباننـا أيضـ ًا بأشـياء عـن أنفسـنا‪.‬‬
‫يلفـت جـون تويب وليـدا كوزمـدز وجريوم أتـش‪ .‬باركـو ‪Jerome‬‬
‫‪ H. Barkow‬االنتبـاه إىل األخطـار الناشـئة مـن مهسـات أسلافنا‬
‫األقدمين‪« :‬إن اآلليـات املصممـة لتـؤدي عملها جيـد ًا يف جمموعة‬
‫معينـة مـن الظـروف ستفشـل غالبـ ًا يف أداء عملهـا حتـت ظـروف‬
‫ُخبـت) لتعمـل يف‬ ‫خمتلفـة‪ .‬لقـد صممـت تكيفاتنـا (بمعنـى أهنـا انت ِ‬
‫ُ ِّ َ‬
‫ٍ‬
‫اعتبار‬ ‫ـو َرت آنـذاك دون‬ ‫ظـروف العصر البليستوسـيني؛ حيـث ُط ِّ‬
‫للنتائـج التـي سـيقود إليها هـذا التصميـم إذا ما تغيرت الظروف‪.‬‬
‫وواضـح أن الظـروف احلديثـة ختتلف على أهم األصعـدة عن عامل‬ ‫ٌ‬
‫الصيـد وااللتقـاط يف العصر البليستوسـيني‪ ،‬وهكـذا فـإن عـدد ًا‬
‫ٍ‬
‫ظـروف خمتلفـة عن تلك‬ ‫كبير ًا مـن آلياتنـا النفسـية يعمل اليـوم يف‬
‫التـي ُيتو َّقـع هلـا أن تـؤدي وظائفها فيهـا»)‪.(3‬‬
‫تشـكل القبليـة وكراهيـة اآلخـر خطـر ًا كبير ًا يف عـامل يقترب‬
‫تعـداد سـكانه مـن ثامنيـة باليين‪ .‬يكتـب ويليـام أملـان‪:‬‬
‫مكتشـفات هـذه احلركـة اجلديـدة }علـم النفـس‬ ‫َ‬ ‫«إن أهـم‬
‫التطـوري{ هـو معرفة أن واحد ًا من أشـد التحديـات التي واجهت‬
‫أسلافنا الغابريـن خطـورة وتعقيـد ًا وفائـد ًة هـو بعضهـم بعضـ ًا‪..‬‬
‫‪422‬‬
‫خامتة‬

‫وأشـدُّ إخافـ ًة من قدرتنـا على التعصـب والعنرصية هـو أن قدرتنا‬


‫ٍ‬
‫صفـة أشـدَّ رش ًا‪ :‬رغبتنـا باحلط من شـأن أي جمموعة‬ ‫هـذه تنشـأ من‬
‫«هـم»‪،‬‬ ‫غير جمموعتنـا‪ .‬وتشـكل هـذه الرغبـة باعتبـار اآلخريـن ُ‬
‫واعتبارهـم أقـل قيمة منا ومـن أعضـاء جمموعتنا‪ ،‬تشـكل أكرب حتدٍّ‬
‫للجنس البشري»)‪.(4‬‬
‫عـام ‪ ،1798‬نشر تومـاس مالتـوس ‪ Thomas Malthus‬كتابـه‬
‫«مقالـ ٌة يف مبـادئ السـكان» ‪An Essay on the Principle of‬‬
‫‪ ،Population‬وهـو واحـدٌ مـن أكثر الكتـب قراء ًة وتأثير ًا يف حقل‬
‫االقتصـاد السـيايس يف القـرن التاسـع عشر‪ .‬تنبـأ مالتـوس بكارثة‬
‫تنتظـر اجلنـس البشري؛ ألن عـدد السـكان يتزايـد وفـق متتاليـة‬
‫هندسـية‪ ،‬بينما يـزداد إنتـاج الطعـام وفـق متتاليـة حسـابية‪ .‬يف ر ٍّد‬
‫على هـذا الطـرح‪ ،‬أطلـق املـؤرخ والفيلسـوف الفكتـوري توماس‬
‫كاراليل ‪ Thomas Carlyle‬عىل االقتصاد السـيايس تسـمية «العلم‬
‫الكئيـب»‪ .‬مـا زال ماليين البشر يعانـون سـوء التغذيـة‪ .‬لكـن‪،‬‬
‫وبعـد أكثـر من قرنين عىل نشر مالتـوس نبوءتـه املتشـائمة‪ ،‬أمكن‬
‫للتحسـن يف إنتـاج الطعـام وتوزيعه إعاشـة معظم سـكان الكوكب‬
‫الذيـن يزيـد عددهـم اليوم سـبع مـرات يف األقل عما كان عليه عام‬
‫‪ .1800‬رغـم ذلـك‪ ،‬ثمـة أسـباب لعـدِّ علم النفـس التطـوري عل ًام‬
‫كئيبـ ًا جديد ًا‪.‬‬
‫تشـكل متثلات القبليـة‪ ،‬اإلقليميـة‪ ،‬والقـدرة على كراهيـة‬
‫أولئـك الذيـن ننظـر إليهـم كآخـر‪ ،‬تشـكل حتدي ًا هائ ً‬
‫لا ملسـتقبلنا‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بإبـادات مجاعيـة لقي فيهـا ماليني النـاس مرصعهم‬ ‫يزخـر التاريـخ‬
‫بطرائـق وحشـية‪ .‬يف هولوكوسـت هتلـر يف أثنـاء احلـرب العامليـة‬
‫‪423‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫الثانيـة‪ ،‬قتل سـتة ماليين من اليهـود والبولنديين واملثليني جنسـ ًّيا‬


‫والغجـر‪ ،‬ومجيـع مـن كان نظـام هتلـر يعدُّ هـم آخريـن ومنحطني‪.‬‬
‫ذهـب ماليني النـاس ضحايـا لإلبـادات يف كمبوديا وروانـدا؛ ألن‬
‫ُبروا آخريـن عديمـي القيمـة‪ .‬يكتـب ديفيـد‬ ‫هـؤالء الضحايـا اعت ِ‬
‫برييبـي ‪« :David Berreby‬يف التفاعـل بين الثقافـة والتمثلات‬
‫البدائيـة عبر التاريـخ‪ ،‬كثري ًا مـا نرى ذلـك الغضب القبلي والرغبة‬
‫بقتـل أولئـك املنظـور إليهـم كآخـر)‪ .(5‬يف الفصـل التمهيـدي مـن‬
‫كتابـه‪ ،‬يقتبـس برييبـي رسـالة مـن أحـد املسـتوطنني الـذي ُك ِّلـف‬
‫بمهمـة التخلـص من بعض سـكان أمريكا األصليين يف أوريگون‪:‬‬
‫«وجدْ نـا عدد ًا مـن اهلنود املرىض اجلائعني‪ ،‬توسـلوا إلينـا كثري ًا طلب ًا‬
‫للرمحـة والطعـام‪ .‬آذى ذلك مشـاعري؛ لكـن كان الرأي أنـه ينبغي‬
‫قتلهـم مجيعـ ًا‪ ،‬وهكـذا قمنـا بالعمـل»‪ .‬وقـد رأينـا هـذا «العمـل»‬
‫مـرار ًا ال حتصى عبر التاريخ البشري‪ ،‬مرة تبرر إبادة اآلخر باسـم‬
‫الديـن‪ ،‬وأخـرى بإطاعـة أوامر عليـا‪ ،‬وأخـرى بالوطنيـة أو الربح‪.‬‬
‫قـد يعتقـد باحثـو علـم النفـس التطـوري أن جوناثـان سـويفت‬
‫غـرد خـارج السرب يف فجـر‬ ‫‪ Jonathan swift‬كان حم ًّقـا حينما َّ‬
‫عصر العقـل إذ وصـف – يف رسـالة منـه إىل صديقـه أليكسـاندر‬
‫حيـوان قـادر على التفكري‬ ‫ٌ‬ ‫بـوب ‪ Alexander Pope‬اإلنسـان بأنـه‬
‫العقلاين‪ ،‬ولكنـه ليـس حيوانـ ًا عقالنيـ ًا‪ .‬يف الكتـاب الرابـع مـن‬
‫رحلات گوليفـر ‪ ،Gulliver’s Travels‬يعكـس التبايـ ُن بين بنـي‬
‫الياهـو وبنـي اهلوينـم االنفصـال بين اجلانـب البدائي مـن الطبيعة‬
‫البرشيـة وبين قـدرة البشر على السـمو فـوق التمثلات املد ِّمرة‪.‬‬
‫إن مكمـن األمـل جلنسـنا البشري يقـع يف تغيير الثقافـة وإعادة‬
‫‪424‬‬
‫خامتة‬

‫وجمسـد ًة يف‬
‫توجيههـا هلـذه التمثلات كما نراهـا يف احليـاة احلقيقيـة َّ‬
‫األفلام واألدب‪ .‬يف بلدنـا ومعظم البلـدان الصناعية‪ ،‬متكـن التعليم‬
‫واألثـر اإلمجـايل للثقافـة مـن إضعـاف القـوة التدمرييـة للتمثلات‬
‫البدائيـة التـي ناقشـناها يف هـذا الكتـاب أو تقليصهـا على أقـل‬
‫ٍ‬
‫مؤذيـة نسـب ًّيا هلـا حولنـا كما عندمـا‬ ‫تقديـر‪ .‬نعـم‪ ،‬نـرى آثـار ًا غير‬
‫نـرى النـاس منخرطين عاطف ًّيـا يف مجاهري الفـرق الرياضيـة‪ ،‬مجاهري‬
‫فـرق اهليـب هـوب‪ ،‬ومجاهير ألعـاب الفيديـو‪ :‬قبائل مصغـرة عابرة‬
‫للحـدود اإلثنيـة والعرقيـة‪ .‬مل تعـد النسـاء يف العامل الغـريب مملوكات‬
‫كما يف املـايض‪ ،‬ورصن يطالبـن بحقوقهـ َّن يف نظـا ٍم يعدنـه بطريارك ًّيا‬
‫متحيـز ًا ضـد تقدمهن السـيايس واالقتصادي‪ .‬غيرت الثقافة تدرجيي ًا‬
‫العالقـات اجلندريـة‪ ،‬ويف احلـروب‪ ،‬صـار يمكـن للكـف التـي‬
‫هتـز املهـد أن تقـود الطائـرة وتطلـق الصواريـخ‪ .‬ومـع أن األحـكام‬
‫املجحفـة والتحيـزات مـا زالـت موجـودة‪ ،‬إال أننـا رصنا نـرى تقب ً‬
‫ال‬
‫ال أكرب‬ ‫(تقبل لتمثـل االسـتحالة) وتقب ً‬‫متزايـد ًا للـزواج بني األعـراق ٌ‬
‫آخر يف‬ ‫ُبروا َ‬‫لـزواج الشـواذ وجمتمـع امليم ‪ ،LGBT‬أولئـك الذين اعت ِ‬
‫املـايض‪ .‬كذلك يعترف كثريون باألسـف والنـدم على الطريقة التي‬
‫عومـل هبـا األمريكيـون األصليـون واألمريـكان األفارقـة‪.‬‬
‫ورغـم هـذا اإلضعاف للهمسـات البدائية‪ ،‬وحتـى يف الواليات‬
‫املتحـدة‪ ،‬بوجـود حتسـن يف التواصـل بين املجموعـات القبليـة‬
‫املختلفـة وتعاظـم الوعـي االجتامعي عند كثري من النـاس‪ ،‬ما زالت‬
‫التمثلات البدائية تشـكل خطورة على العالقات وتولـد الكراهية‪.‬‬
‫ينظـر األمريـكان األفارقـة واهلسـبانيون واآلسـيويون والقوقازيون‬
‫إىل بعضهـم بعض ًا بعين احلذر عرب حواجز العـرق واإلثنية‪ ،‬ناظرين‬
‫‪425‬‬
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬
‫ٍ‬
‫بتوتـر كآخـر‪ .‬يعـادي املحافظـون والليرباليـون‬ ‫إىل بعضهـم بعضـ ًا‬
‫معتقـدات بعضهـم بعضـ ًا وتتعاظم صعوبـة التسـوية بينهم‪ .‬كذلك‬
‫ال يبـدو أن اجلامعـات املسـاندة حلـق اإلجهـاض وتلـك املناوئـة له‬
‫قـادرة عىل الوصـول إىل مناطـق التقـاء يف املنتصف‪.‬‬
‫مـع وجـود بعـض االسـتثناءات‪ ،‬مـا زال الصراع الـذي تثيره‬
‫التمثلات البدائيـة يف بلدنـا حمـدود ًا عنـد مسـتوى الكلمات احلادة‬
‫التـي تُتبـا َدل عبر احلواجـز الدينيـة واأليديولوجيـة واالقتصاديـة‬
‫واإلثنيـة‪ .‬لكـن حتـى يف البلـدان األكثـر تنويـر ًا‪ ،‬مـا زلنـا نـرى أن‬
‫من السـهل جـد ًا على الديامگوگيين صناعة ميمات كراهيـة َ‬
‫اآلخر‬
‫هبـدف الوصـول إىل السـلطة‪ .‬ومـن األشـد خطـورة على وجـه‬
‫والتعصـب يف البلـدان األقل تطـور ًا‪ ،‬خصوص ًا‬
‫ُ‬ ‫اخلصـوص القبليـ ُة‬
‫وهنـاك اخلطـر الداهـم املتمثـل بوقـوع أسـلحة الدمـار الشـامل يف‬
‫أيـدي املتعصبين‪.‬‬
‫نميـل – معشر البشر ألن نـرى العـامل وطبيعتَنـا مـن خلال‬
‫عدسـات األيديولوجيـا التـي نشـأنا عليهـا‪ ،‬سـواء كانـت تعاليـم‬
‫اإلسلام أو املسـيحية أو اليهوديـة أو القناعـات السياسـية اليمينيـة‬
‫أو اليسـارية‪ .‬يزودنـا علـم النفس التطـوري بعدسـات جديدة نرى‬
‫هبـا أنفسـنا‪ .‬يلخـص ريتشـارد بـرودي مأزقنـا برباعـة قائلاً‪« :‬هل‬
‫سنسـمح لالنتخـاب الطبيعـي أن يطورنـا عشـوائ ًّيا‪ ،‬دون اكتراث‬
‫ِ‬
‫أرسـان تطورنا‬ ‫بسـعادتنا أو رضانـا‪ ،‬أو روحيتنـا؟ أم سـنقبض عىل‬
‫ونختـار لـه اجتاهـ ًا يناسـبنا؟»)‪ .(6‬إذا فشـلنا يف اتبـاع اخليـار الثـاين‪،‬‬
‫سماه الشـاعر ووردزوورث ‪Wordsworth‬‬ ‫فسـنواصل عيـش مـا َّ‬
‫«املوسـيقى السـاكنة احلزينـة للبرشية»‪.‬‬
‫‪426‬‬
‫هوامش المؤلف على المقدمة‬
1-Edward O. Wilson, On Human Nature (Cambridge: Harvard
University Press, 1978), 201.

‫هوامش المؤلف على التمهيد‬


1-Edmund Burke, A Philosophical Enquiry into the Origin of Our
Ideas of the Sublime and the Beautiful (New York: Routledge and
Paul, 1958), 57.
2-Douglas E. Cowan, Sacred Terror: Religion and Horror on the
Silver Screen (Waco, TX: Baylor University Press, 2008), 57, 59.
3-Steven Prince, «Dread, Taboo, and The Thing: Toward Social
Theory of the Horror Film,» in The Horror Film, ed. Steven Prince
(New Brunswick, NJ: Rutgers University Press, 2004), 122.
4-Terry Burnham and Jay Phelan, Mean Genes: From Sex to
Money to Food, Taming or Primal Instinct (Cambridge, MA:
Perseus, 2000), 4.
5-Joseph Carroll, Reading Human Nature: Literary Darwinism in
Theory and Practice (Albany NY: SUNY Press, 2011), 20.
6-John Alcock, The Triumph of Sociobiology (Oxford and New
York: Oxford University Press, 2001), 10.
‫ مـن موقـع الويـب اخلـاص بقسـم علـم النفـس التطـوري يف جامعـة‬- 7
:‫كاليفورنيـا يف سـانتا باربـارا‬
http://www.psych.ucsb.edu/research/cep/primer.html.
8-Mathias Clasen, Why Horror Seduces (London: Oxford
University Press, 2017), 29.
9-William Paley, Natural Theology (New York: Harpers, 1939), 2.

427
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫»‪10-Denise Commins, «Dominance, Status, and Social Hierarchies‬‬


‫‪in The Handbook of Evolutionary Psychology, ed. David M. Buss‬‬
‫‪(Hoboken NJ: Wiley and Sons, 2005), 677.‬‬
‫‪11-Richard Dawkins, The Blind Watchmaker (New York and‬‬
‫‪London: W. W. Norton, 1986), 21.‬‬
‫‪12-Stephen Crane, Stephen Crane: Prose and Poetry (New York:‬‬
‫‪Library of America, 1984), 902.‬‬
‫‪13-www.pewforum.org/religious-landscape. January 21, 2016.‬‬
‫‪14-Matthew Ridley, The Red Queen (New York: Macmillan,‬‬
‫‪1993 ) ,18 – 19 .‬‬
‫أخـذ مـات ريـديل تشـبيهه مـن مقالـة لتومـاس هنـري هكسلي ‪Thomas‬‬
‫‪ Henry Huxley‬بعنـوان ‪ A Liberal Education‬كتبهـا األخير عـام ‪.1868‬‬
‫كان هكسلي داروين ًّيا متحمسـ ًا‪ ،‬ويف معـرض رشحه لرؤاه حول أمهية دراسـة‬
‫العلـوم وقوانين الطبيعـة‪ ،‬كتـب هكسلي‪« :‬لنفترض أنه مـن املؤكـد متام ًا أن‬
‫حيـاة كل واحـد منـا وفرصـه كانـت يومـ ًا مـا معتمدة على ربحه أو خسـارته‬
‫دسـت شـطرنج‪ .‬أال تعتقـدون أن علينـا مجيعـ ًا أن نعـدَّ مـن واجبنا األسـايس‬
‫أن نتعلـم يف األقـل أسماء القطـع وقواعـد تنقالهتـا‪ ،‬كيما تصير عندنـا فكرة‬
‫عـن املنـاورات وعـن مجيع مـا يرتتب عىل إعطـاء نقلة كـش ملك للرسـيل أو‬
‫تلقيهـا منـه‪ ..‬أولئك الذين ال يتعلمون أي يشء سـيخرجون مـن اللعب‪ ،‬وإىل‬
‫غير رجعـة‪ .‬يف الطبيعة‪ ،‬اخلـروج مـن اللعبة يعنـي اإلبـادة»‪ .‬وردت املقالة يف‬
‫كتاب‪:‬‬
‫‪-The Victorian Age: Prose, Poetry, and Drama (New York: Prentice‬‬
‫‪Hall, 1954), 416.‬‬
‫‪-15‬املصدر السابق‪ ،‬صفحة ‪.46‬‬
‫‪16-Charles Darwin, The Expression of Emotion in Men and Animal‬‬
‫‪(Chicago: University of Chicago Press, 1965), 356.‬‬

‫‪428‬‬
‫الهوام�ش‬

17-Wilson, On Human Nature, 130.


.13 ‫ صفحة‬،‫املصدر السابق‬-18
19-Walter Baghot, Physics and Politics (New York: Cosimo
Classics, 2007), 115.
20-Richard Dawkins, The Selfish Gene (Oxford: Oxford University
Press, 1989), 2.
21-Daniel Dennett, Darwin’s Dangerous Ideas: Evolution and the
Meanings of Life (New York: Simon & Schuster, 1995), 276–81.
22-Janet Radcliffe Richards, Human Nature After Darwin: A
Philosophical Introduction (London and New York: Routledge,
2000), 66.
23-Dennett, Darwin’s Dangerous Ideas, 189.
24-Elizabeth Dutton et al., «Against Sociobiology,» New York
Review of Books, Nov. 13, 1975, 45.
25-Cited in Steven Pinker, How the Mind Works (New York and
London: Norton, 1997), 45.
26-John Locke, An Essay Concerning Human Understanding
(Oxford: Clarion Press, 1979), 104.
27-B. F. Skinner, Walden Two (New York and London: Macmillan,
1976), 257.
28-Richard Wrangham and Dale Peterson, Demoniac Males: Apes
and the Origin of Human Violence (Boston: Houghton Mifflin),
106.
29-Dennett, Darwin’s Dangerous Ideas, 385.
30-Edward O. Wilson, Consilience: The Unity of Knowledge

429
ُّ ‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما‬
‫الرعب‬

(New York: Knopf, 1998), 218.


31-Dennis Dutton, The Art Instinct: Beauty Pleasure, and Human
Evolution (New York: Blumsbury Press, 2009, 102.
32-John MacKinnon, The Ape Within Us (London: Collins, 1978), 197.
33-Joseph Carroll, «Human Nature and Literary Meaning: A
Theoretical Model Illustrated with a Critique of Pride and Prejudice,»
in The Literary Animal: Evolution and the Nature of Narrative, eds.
Jonathan Gottschall and David Sloan Wilson (Evanston: Illinois
University Press, 2003), 92.
34-Brian Boyd, On the Origin of Stories: Evolution, Cognition,
and Fiction (Cambridge: Belknap Press, 2009), 130.
35-Charles Dickens and George Ford, Hard Times: An Authoritative
Text, Backgrounds, Sources, and Contemporary Reaction (New
York: Norton, 1966), 203.
36-John Tooby and Leda Cosmides, «Does Beauty Build Adapted
Minds: Toward an Evolutionary Theory of Aesthetics, Fiction, and
the Arts,» in Evolution, Literature and Film: A Reader, eds. Brian
Boyd, Joseph Carroll and Jonathat Gottschall (New York: Columbia
University Press, 2010), 179.

‫هوامش المؤلف على الفصل األول‬


1-Qtd. in Joseph Gelmys, The Film Director as Superstar (Garden
City, NY: Doubleday, 1970), 305.
2-Robert Ardrey, African Genesis (New York: Athenaeum, 1961), 1.
3-Jonathan Gotschall, The Story Telling Animal: How Stories
Make Us Human (New York: Mariner Books, 2012), 25.

430
‫الهوام�ش‬

4-Desmond Morris, The Naked Ape (New York: McGraw-Hill,


1967), 21.
5-Arthur C. Clarke, A Space Odyssey (New York: Signet, 1968), 32.
6-Jay Gould, Ever Since Darwin: Reflections on Natural History
(New York: Norton, 1977), 209.
7-David P. Barash, The Whisperings Within (New York: Harper
and Row, 1979), 180.
‫يوحـي كال الفيلـم والروايـة أن عـدم إعطـاء الكومبيوتـر هـال املعلومـات‬-8
.‫الكاملـة حـول املهمـة – أي إجياد املسـلة احلجرية هـو الدافع وراء سـلوكه هذا‬
9-Qtd. in Gelmis, 307.
‫«مزيج‬
ٌ ‫ حركة العرص اجلديـد بأهنا‬Michael York ‫يعـرف مايـكل يـورك‬ِّ -10
.‫ والظواهـر السـحرية الروحيـة‬،‫ الفلسـفات الرشقيـة‬،‫مـن األديـان الوثنيـة‬
‫ انظـر‬،‫ ولقـراءة اسـتعراض جيـد حلـركات العصر اجلديـد‬.)34 ‫(صفحـة‬
:‫الفصـل األول مـن كتابـه‬
-The Emerging Network: A Sociology of the New Age and Pagan
Movement (London: Bowman and Littlefield, 1995).
11-Harm de Blaig, Geography: Realms, Regions, and Concepts
(New York: Wyley, 1997).
12-Teihard De Chardin, The Phenomenon of Man (New York:
Harper, 1959), 172.

‫هوامش المؤلف على الفصل الثاني‬


1-Wilson, On Human Nature, 107.
2-Richard Wrangham and Dale Peterson, Demoniac Males: Apes
and the Origin of Human Violence (Boston: Houghton Mifflin,
1996), 14.

431
ُّ ‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما‬
‫الرعب‬

3-Wilson, On Human Nature, 104.


4-Morris, The Naked Ape, 230.
5-Robert Ardrey, The Territorial Imperative: A Personal Enquiry
into the Animal Origins of Wealth and Nations (New York: Delta
Books, 1966), 5.
6-»Introduction,» The Book of Job, in The New Interpreter’s Bible.
Vol. 4. (Nashville: Abington Press, 1996), 108.
7-Howard Schwartz, The Tree of Souls (Oxford: Oxford University
Press, 2004), 94.
8-Jeffrey Burton Russell, «The Satan Scare,» in The Satan Scare,
eds. James Richardson, Joel Best and David Bromley (n.c.: de
Gruyter, 1991), 41.
9-Arthur Lyons, Satan Wants You: The Cult of Devil Worship in
America (New York: Mysterious Press, 1988), 49ff.
10-John Milton, Paradise Lost, in The Works of John Milton, Vol. 1
(New York: Columbia University Press, 1931), 263.
11-Herman Melville, Moby Dick (Indianapolis: Bobbs-Merrill,
1964), 721.
12-William Viser, The Darkness Among Us: A Look at the Sinister
Growth of the Occult and How Dangerously Close It Is to You (
Nashville: Broadman and Holman, 1994), 19.
13-Dutton, The Art Instinct, 119.
‫ نصيبـك هـو‬،‫ هـو «گابرييـل‬Paradise Lost ‫االقتبـاس الصحيـح مـن‬-14
‫ فلا يقربـه يشء رشيـر أو‬..‫احلاميـة واملراقبـة الصارمـة هلـذا املـكان السـعيد‬
.261 ‫يدخلـه» صفحـة‬

432
‫الهوام�ش‬

15-Kendall R. Phillips, Dark Directors: Romero, Craven,


Carpenter and the Modern Horror Film (Carbondale: Southern
Illinois University Press, 2012).
16-Catherine A. Salmon and Tod K. Shackelford, Family
Relationships: An Evolutionary Perspective (Oxford: Oxford
University Press, 2008), 8.
17-René Dubos, Beast or Angel? Choices That Make Us Human
(New York: Scribner’s, 1974), 131.
18-Constance Cumby, The Hidden Dangers of the Rainbow:
The New Age Movement and Our Coming Age of Barbarism
(Shreveport: Huntington House, 1983), 26.
19-James B. Twichell, Dreadful Pleasures: An Anatomy of Modern
Horror (New York: Oxford, 1985), 66.
20- Helen Fisher, Why We Love: The Nature and Chemistry of
Romantic Love (New York: Holt Rinehart, 2004), 21.
21- Clasen, Why Horror Seduces, 24.
22- Carol Clover, Men, Women and Chainsaws: Gender in the
Modern Horror Film (Princeton: Princeton University Press,
1992), 71.
23- Lucy Fisher, «Birth Traumas: Parturition and Horror in
Rosemary’s Baby,» in Dread of Differences: Gender and the Horror
Film, ed. Barry Keith Grant (Austin: University of Texas Press,
1996), 412–413.
24- Robin Wood, Hollywood: From Vietnam to Regan—and
Beyond (New York: Columbia University Press, 1986), 79.
25- Barash, The Whisperings Within, 186–87.

433
ُّ ‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما‬
‫الرعب‬

26- Mike Broderick, «Better the Devil You Know: Film Antichrists
at the Millennium,» in The Horror Zone: The Cultural Experience
of Contemporary Horror Cinema, ed. Ian Conrich (New York: I. B.
Taurus, 2010), 243.
27- J. Gordon Melton, Encyclopedia of the Occult and
Parapsychology (Detroit: Gale Research, 1996), 449.
28- Robert Singer, «One against All: The New England Past
and Present in The Devil and Daniel Webster,» Literature/Film
Quarterly 22.4 (2007): 265.
29- Christopher Marlowe, The Tragical History of Dr. Faustus, in The
Works of Christopher Marlowe (Oxford: Clarion, 1925), 90–91.
30- Edward O. Wilson, The Social Conquest of Earth (New York
and London: Liveright, 2012), 244–45.
31- Kyle William Bishop, «Black Magic and White Guilt: Voodoo
in Angel Heart,» Psy Art, 2011: 11.
32- David M. Buss, The Evolution of Desire: Strategies of Human
Mating (New York: Basic Books, 2003), 59.
33- Brian Aldiss, The Billion Year Spree (New York: Schocken,
1974), 25.
34- John Clute, Encyclopedia of Science Fiction (New York: St.
Martins, 1993), 114–115.
35- George Herbert Wells, The Time Machine and The War of the
Worlds (New York: Oxford University Press, 1963), 123.
36- Aldiss, The Billion Year Spree, 227.
37- Wilson, On Human Nature, 111.

434
‫الهوام�ش‬

‫هوامش المؤلف على الفصل الثالث‬


1-Barry Schwartz, The Battle for Human Nature: Science, Morality
and Modern Life (New York and London: W. W. Norton, 1986),
97, 100.
2-Wilson, The Social Conquest of Earth, 133, 166.
3-John Campbell, Who Goes There?, in Science Fiction Hall of
Fame, Vol 2A (New York: Orb: 1973), 37.
4-Jack Finney, The Body Snatchers (New York: Scribner’s, 1978),
173.
5-Brian Boyd, Joseph Carroll and Jonathan Gottschall, eds.,
Evolution, Literature and Film: A Reader (New York: Columbia
University Press, 2010), 145.
6-Jeffrey Sconse, «Dead Metaphors/Undead Allegories,» in
Screening the Undead: Vampires and Zombies in Film Television,
eds. Leon Hunt, Sharon Lockyer and Milly Williamson (New York
and London: Tauris, 2014), 99.
ٍ
‫ انظـر‬،‫اسـتعراض لتأويلات ثقافيـة متنوعـة ألفلام الزومبـي‬ ‫ولقـراءة‬
.‫ مـن نفـس املصـدر‬29-34 ‫الصفحـات‬
7-Dawkins, The Selfish Gene, 192.
8-Ridley, The Red Queen, 9.
9-Robert Auger, The Electric Meme: A New Theory of How We
Think (New York: Free Press, 2002), 51.
.41 ‫ صفحة‬،‫ املصدر السابق‬-10
.194 ‫ صفحة‬،‫ املصدر السابق‬-11
12-Dennett, Darwin’s Dangerous Ideas, 341.

435
ُّ ‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما‬
‫الرعب‬

13-Susan Blackmore, The Meme Machine (New York: Oxford


University Press, 1999), 35.

14-Richard Brodie, Virus of the Mind: The New Science of the


Meme (New York: Hay House, 1996), 83.

15-Alfred Métraux, Voodoo in Haiti (New York: Schocken Books,


1959).

16-Susan Gooney Lea, «Modern Zombie Makers: Enacting the


Ancient Impulse to Control and Possess Another,» in Zombies Are
Us: Essays on the Humanity of the Walking Dead, eds. Christopher
M. Moreman and Cory James Rushton (Jefferson, NC: McFarland,
2011), 65.

17-Kyle William Bishop, American Zombie Gothic: The Rise and


Fall (and Rise) of the Walking Dead in Popular Culture (Jefferson
NC: McFarland, 2010), 66.

-Bishop, «Dead Men Still Walking: Explaining the Zombie


Remakes,» Journal of Popular Film and Television, 1 (2009): 16–
26 .

18-James Russell, The Book of the Dead: The Complete History of


Zombie Cinema (New York: Fab Press, 2005).

19-Richard Matheson, I Am Legend (New York: Berkley, 1954),


25.

20-Clasen, Why Horror Seduces, 95.

21-Tony Williams, The Cinema of George Romero: Knight of the


Living Dead (New York: Columbia, 2012), 47.

22-Barash, The Whisperings Within, 147, 186–87.

436
‫الهوام�ش‬

23-Desmond Morris, The Human Zoo (New York and Tokyo:


Kodansha International, 1996), 133.
24-Tony Williams, The Cinema of George Romero, 96.
25-Wood, Hollywood: From Vietnam to Regan—and Beyond,
287 .

‫هوامش المؤلف على الفصل الرابع‬


1-Charles Darwin, The Descent of Man in Relation to Sex and
Natural Selection (New York: Appleton, 1976), 166.
2-Wilson, The Social Conquest of Earth, 57.
3-Matthew Alper, The God Part of the Brain: A Scientific
Interpretation of Human Spirituality (Naperville, Ill: Source Books,
2006), 206.
4-Sebastian Junger, Tribe: Our Homecoming and Belonging (New
York and Boston: Twelve, 2016), 2–3.
5-Robin Fox, «Male Bonding in the Epics and Romances,» in
The Literary Animal: Evolution and the Nature of Narrative,
eds., Jonathan Gottschall and David Sloan Wilson (Evanston, Il:
Northwestern University Press, 2005, 126.
6-Montague Summers, The Vampire in Europe (New York:
University Books, n.d.), 59.
7-Emily Gerard, The Land Beyond the Forest, Chapter XXV, «The
Roumanians: Death and Burial—Vampires and Were-Wolves,»
Project Gutenberg. www.gutenbert.org.
8-Bridget Marshall, «Stoker’s Dracula and the Vampire’s Literary
History,» in Critical Insight: Dracula. ed. Jack Lynch. (Pasadena,

437
‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما ُّ‬
‫الرعب‬

‫‪CA: Salem Press, 2010), 23–37.‬‬


‫‪9-Robert Wasson, «The Politics of Dracula,» in Dracula: The‬‬
‫‪Vampire and the Critics, ed. Margaret Carter (Ann Arbor: UMI‬‬
‫‪Research Press, 1988), 19.‬‬
‫‪10-Bram Stoker, Dracula (New York: Oxford University Press,‬‬
‫‪1992), 9.‬‬
‫‪ -11‬إذا كان والبـول هـو أول مـن ابتـدع القلاع كمسرح لألحـداث‪ ،‬فـإن‬
‫شـارلوت سـميث ‪ Charlotte Smith‬أدخلـت السـامي البريكـي يف وصفهـا‪.‬‬
‫قلـد كثيرون شـارلوت‪ .‬ويف روايتهـا الثانيـة ‪Ethelinde, or the Recluse‬‬
‫‪ of the Lake‬الصـادرة عـام ‪ ،1789‬تصـف شـارلوت أفـكار بطلتهـا عندمـا‬
‫تقترب من َدير گراسـمري‪« :‬أسـلمت نفسـها للملـذات امليالنخوليـة الرصينة‬
‫التـي أثارهـا املشـهد مـن حوهلا‪ .‬كان املسـاء قـد حل‪ ،‬وكسـا ِ‬
‫آخ ُر مـا تبقى من‬
‫األسـوار بلـون بنفسـجي باهـت‪ ،‬بينما بـدا كل ما عـدا ذلك‬ ‫َ‬ ‫شـعاع الشـمس‬
‫ٍ‬
‫عميـق‪ ،‬فبـدا املنظـر سـامي ًا وكئيب ًا‪:‬‬ ‫مغمـور ًا ٍّ‬
‫بظـل‬
‫‪-(London: Cadell, Vol. I, 46–47).‬‬
‫ويف رسقـة أدبيـة صغيرة وطريفـة‪ ،‬بعـد أربعـة أعـوام‪ ،‬وصفـت آن رادكليف‬
‫وصـول إيمييل إىل قلعة أودلفو يف روايتهـا ‪« :Mysteries of Udolpho‬حدقت‬
‫إيميلي بـرو ٍع ميالنخـو ٍّيل إىل القلعـة التي فهمت أهنـا مملوكة ملونتـوين‪ ،‬إذ رغم‬
‫أن الشـمس الغاربـة مـا زالـت تضيئهـا‪ ،‬إال أن اجلاللـة القوطيـة يف مالحمهـا‪،‬‬
‫وجدراهنـا املتهالكـة مـن الصخـور الرماديـة الداكنـة قـد جعلتهـا شـيئ ًا كئيب ًا‬
‫وسـامي ًا»‪ ،‬اجلـزء األول‪ ،‬صفحـة ‪ .230‬إن الفقـرة اآلنفـة منقولـة إىل حـد كبري‬
‫مـن روايـة ‪ .Ethelinde‬كتبـت جني أوسـتن حماكاة تسـخر من لغة السـامي يف‬
‫روايتهـا ‪ .Northanger Abbey‬جتمـع أوسـتن بني وصف شـارلوت سـميث‬
‫وتقليـد رادكليـف عندمـا تقترب بطلتها السـاذجة مـن َدير نـورث أنگر‪« :‬يف‬
‫كل منعـرج مـن الطريـق‪ ،‬كنـت أتوقـع أن أرى مـن جدراهنـا اهلائلـة مـا يثير‬
‫َّيف الرهبـة‪ ،‬حتـت شـعاع الشـمس األخير الـذي يرسـم أشـكاالً رائعـة على‬

‫‪438‬‬
‫الهوام�ش‬

‫ لكن أمـل البطلة خاب متامـ ًا عندما‬.)215 ‫نوافذهـا القوطيـة العالية (صفحـة‬
.‫وصلـت لتجـد أن البنايـة كانـت بنايـة عادية على الطـراز احلديث‬
‫ هنـاك‬،ً‫ فمثلا‬.‫تزخـر روايـات النزافين األقـدم باإلحيـاءات اجلنسـية‬-12
‫ لكولريـدج‬Christabel ‫وصـف رصيـح بدرجـة مـا للسـحاق يف قصيـدة‬
‫ كذلـك يسـتخدم الفصـل األول‬.Carmilla ‫وتوظيـف يل فانـو هلـا يف روايـة‬
ٍ
‫اغتصـاب واضحـة يف وصـف هجـوم‬ ‫ لغـة‬Varney the Vampire ‫مـن قصـة‬
.‫النـزاف‬
13-Lionel Tiger, Men in Groups (New York: Vantage, 1979), 218.
14-Wilson, On Human Nature, 107.
15-Alcock, The Triumph of Sociobiology, 46.
16-Gould, Ever Since Darwin: Reflections in Natural History, 238.
17-James Skar, Hollywood Gothic: The Tangled Web of Dracula
from Novel to Stage to Screen (New York: Faber and Faber, 2004),
appendixes A and B.
.‫ ولكنه مل يعد متوفر ًا‬،Dracula ‫ يذكر سكار فيل ًام هنگاري ًا بعنوان‬-18
‫ لبارسـونز واحـدة مـن الروايات‬Castle of Wolfenbach ‫كانـت روايـة‬-19
‫السـبع التي حبذهتـا ايزابيال ثـورب للفتاة السـاذجة كاثرين مورالنـد عىل أهنا‬
ٍّ
.‫مسـل» يف روايـة دير نـورث انگر جلني أوسـتن‬ ٍ ‫«فظيعـة على‬
‫نحو‬
20-Carol Senf, The Vampire in Nineteenth-Century English
Literature (Bowling Green, OH: Bowling Green State University
Popular Press, 1988), 150.
21-John Cawelti, The Six-Gun Mystique (Bowling Green:
Bowling Green University Press, 1971), 35.
22-John Bucktaman, Terminal Identities: The Virtual Subject
in Post Modern Science Fiction (Durham and London: Duke

439
ُّ ‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما‬
‫الرعب‬

University Press, 1993), 9.


23-Carroll, Reading Human Nature, 20.
24-Senf, The Vampire in Nineteenth-Century English Literature, 2.
25-Alain Silver and James Ursini, The Vampire in Film: From
Nosferatu to Bram Stoker’s Dracula (New York: Limelight, 2010), 89.
26-Julia Kristeva, Desire in Language: A Semiotic Approach to
Literature and Art (New York: Columbia University Press, 1980),
11.
27-Intertextuality: New Perspectives in Criticism, Number 2 (New
York: Literary Forum, 1978), xv.
28-George Gordon Byron, The Poetical Works of Byron (Boston:
Houghton Mifflin, 1977) I, xii, 281–28 and 305–06.
29-Christopher Bentley, «The Monster in the Bedroom: Sexual
Symbolism in Bram Stoker’s Dracula,» 25–34.
-Christopher Craft, «Kiss Me with Those Red Lips: Gender and
Inversion in Dracula,» 167–195.
.Dracula: The Vampire and the Critics :‫وكال املقالتني متوفرتان يف كتاب‬
30-Buss, The Evolution of Desire, 21.
31-Fisher, Why We Love, 114.
32-www.rogerebert.com. September 19, 2003. Accessed October
28, 2016.
33-Jeffrey Weinstock, The Vampire Film: Undead Cinema
(London: Columbia University Press, 2012), 52.
.127 ‫ صفحة‬،‫ املصدر السابق‬-34
35-Boyd, On the Origin of Stories, 20.

440
‫الهوام�ش‬

‫هوامش المؤلف على الفصل الخامس‬


1-Fisher, Why We Love, 51, 55.
2-Bruce Ellis, «The Evolution of Sexual Attraction: Evaluative
Mechanisms in Women,» in The Adapted Mind: Evolutionary
Psychology and the Generation of Culture. eds. Jerome H. Barkow,
Leda Cosmides, and John Tooby (New York: Oxford University
Press, 1992), 267.
3-www.lifescript.com June 5, 2008.
4-Pinker, How the Mind Works, 44.
5-Morris, The Naked Ape, 50.
6-Dutton, The Art Instinct, 138.
7-Goeffrey Miller, The Mating Mind, 3.
8-Christopher Wilbur and Loren Campbell. «Swept off Their Feet:
Females Strategic Mating Behavior as a Means of Supplying the
Broom,» in Evolution’s Empress: Darwinian Perspectives on the
Nature of Women. eds. Maryanne L. Fisher, Justin Garcia and
Rosemarie Sokol Chang (Oxford University Press, 2003), 334–35.
9-Buss, The Evolution of Desire, 201.
10-Jonathan Gottschall and David Sloan Wilson, eds., The Literary
Animal: Evolution and the Nature of Narrative, 227.
11-Dutton, The Art Instinct, 118.
12-Eaton Stannard Barrett, The Heroine (London, 1909), 39.
13-Karl Grammar, «Human Courtship Behaviour: Biological
Basis and Cognitive Processing,» in The Sociobiology of Sexual
and Reproductive Strategies, eds. Anne E. Rasa, Christian Vogel

441
ُّ ‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما‬
‫الرعب‬

and Eckhkart Voland (London and New York: Chapman and Hall,
1989), 148.
14-Buss, Evolution of Desire, 103.
15-Nancy Easterlin, «From Reproductive Resource to Autonomous
Autonomous Individuality: Charlotte Brontë’s Jane Eyre,» in
Evolution’s Empress.
16-Joseph Carroll, «Human Nature and Literary Meaning:
A Theoretical Model Illustrated with a Critique of Pride and
Prejudice,» in The Literary Animal, 95.
17-David P. Barash, and Judith Eve Lipton, Strange Bedfellows:
The Surprising Connection Between Sex, Evolution and
Monogamy. (New York: Belleview Literary Press, 2009), 48.
18-Carroll, Reading Human Nature, 113.
19-David Cecil, «Emily Bronte and Wuthering Heights,» in Critical
Essays on Emily Bronte (New York: G. K. Hall, 1997), 148.
20-Fisher, Why We Love, 111.
.175 ‫ صفحة‬،‫ املصدر السابق‬-21
.102-110 ‫ الصفحات‬،‫ املصدر السابق‬-22
23-Schwartz, The Battle for Human Nature, 96.
24-Diane Waldman, «At Last, I Can Tell Someone: Feminine Point
of View and Subjectivity in the Gothic Romance Film of the 1940s,»
Cinema Journal 23 (no. 2 1983): 30.
25-Dutton, The Art Instinct, 113.
26-Boyd, On the Origin of Stories, 227.
27-Sara Hemriajani, Reuters.com 10/12.15.

442
‫الهوام�ش‬

28-Darwin, The Descent of Man, 568.

29-Steven Pinker, The Blank Slate (New York: Viking, 2002), 60.

30-Dutton, The Art Instinct, 29.

31-Barash and Lipton, Strange Bedfellows: The Surprising


Connection Between Sex, Evolution and Monogamy, 93.

‫هوامش المؤلف على الفصل السادس‬


1-Donna Hart and Robert W. Sussman, Man the Hunted: Primates,
Predators, and Human Evolution (New York: Westview, 2005), 10.

2-The Spirit in the Gene (Cornell University Press: Ithaca NY,


1999), 199.

3-Clark H. Barrett, «Adaptations to Predators and Prey,» in The


Handbook of Evolutionary Psychology, 224.

4-Barash, The Whispering Within, 198.

5-Hart and Sussman, Man the Hunted, 10.

6-Clasen, Why Horror Seduces, 26.

7-Bruce Kavin, Horror and the Horror Film (London: Anthem


Press, 2012), 79.

8-Joseph Carroll, «Human Nature and Literary Meaning:


A Theoretical Model Illustrated with a Critique of Pride and
Prejudice,» in The Literary Animal, 92.

9-Tiger, Men in Groups, 29, 126.

10-Robert Boyd, «On the Origin of Symbols,» Science 323 (2009):


710.

11-Hans Kruuk, Hunter and Hunted, 76.

443
ُّ ‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما‬
‫الرعب‬

12-Montague Summers, The Werewolf (New York: Bell Publishing


Company, 1966), 2.
13-Alistair Graham and Peter Beard, Eyelids of Morning: The
Mingled Destinies of Crocodiles and Men (San Francisco:
Chronicle Books, 1990), 69.
14-Chantal Bourgalt Du Courdray, The Curse of the Werewolf:
Fantasy, Horror and the Beast Within (London: Tarus, 2006), 80.
.80 ‫ صفحة‬،‫ املصدر السابق‬-15
‫ أن كاتب السـيناريو كريت سيودماك‬Brad Steiger ‫ يسـجل براد سـتيگر‬-16
:‫ادعى انـه اخرتع الرصاصة الفضية كوسـيلة لقتل املسـتذئبني‬
The Werewolf Book: The Encyclopedia of Shape-Shifting Things
(Canton MI: Visible Ink Press, 2012), 252.
17-Du Courdray, Curse of the Werewolf, 85.
18-Joel Siegel, The Reality of Terror (New York: Viking Press,
1973), 23.
19-Clasen, Why Horror Seduces, 36.
20-Crane, Steven Crane Prose and Poetry, 904.
21 - www . goodreads . com / author / quotes / 9420 . alfred -
hitchcock. July 31, 2017.
22-Clasen, Why Horror Seduces, 111.
23-Hart and Sussman, Man the Hunted, 56.
24-Kruuk, Hunter and Hunted, 61.
25-Arne Ohman and Susan Mineka, «The Malicious Serpent:
Snakes as a prototypical stimulus for and Evolved Module of Fear,»
http://www.psychologicalscence.org/journals/cd/12–1:ohman.

444
‫الهوام�ش‬

cfm January 14, 2017.


26-Hart and Sussman, Man the Hunted, 129.
27-Yuval Noah Harari, Sapiens: A Brief History of Humankind
(New York: Harper, 2015), 40.

‫هوامش المؤلف على الفصل السابع‬


1-Pinker, How the Mind Works, 25.
2-William F. Allman, The Stone Age Present: How Evolution Has
Shaped Modern Life from Sex, Violence and Language to Emotions,
Morals, and Communities (New York: Simon & Schuster, 1994),
251.
3-Jack Morgan, The Biology of Gothic Literature (Carbondale IL:
Southern Illinois University Press, 2002), 70.
4-www.bartleby.com/333/115.html.
5-William Shakespeare, Hamlet, Prince of Denmark, in
Shakespeare: The Complete Works. ed. G. B. Harrison (New
York: Harcourt Brace, 1952), 1: 4, 40–44.
6-Emanuel Swedenborg, The Gist of Swedenborg (Philadelphia:
J. B. Lippincott, 1926), 12.
7-Clasen, Why Horror Seduces, 47.
8-Henry Fielding, The History of Tom Jones, a Foundling. Vol.
4. The Works of Henry Fielding (New York: George D. Sprout,
1903), 153.
9-George Anderson and Andrew Barone, Walking in the Garden of
Souls (New York: Berkeley Books, 2001), 100–101.
10-Sylvia Brown, Life on the Other Side (New York: New

445
ُّ ‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما‬
‫الرعب‬

American Library, 2002), 56.


.63‫ و‬61 ‫ الصفحتان‬،‫املصدر السابق‬-11
12-Katherine Fowkes, «Melodramatic Specters: Cinema and The
Sixth Sense,» in Spectral America: Phantoms and the National
Imagination, ed. Jeffrey Andrew Weinstock (Madison: University
of Wisconsin Press, 2004), 190.
13-Dan Bailey, American Nightmares: The Haunted House
Formula in American Popular Film (Bowling Green, OH: Bowling
Green University Press, 1999), 45.
14-The Norton Anthology of American Literature. Vol. 1 (New
York: Norton, 1972), 1393.
15-Lance Workman and Will Reader, Evolutionary Psychology:
An Introduction (Cambridge: Cambridge University Press, 2008),
224.
16-Bailey, American Nightmares, 103.
17-Clasen, Why Horror Seduces, 121.
18-Tom Butler and Lisa Butler, There Is No Death and There Are
No Dead (Reno NV: AA-EEV Publishing, 2003), 76.
19-Steven Prince, ed., The Horror Film (New Brunswick: Rutgers
University Press, 2009), 90.
20-Robin Wood, «Return of the Look: Eyes of a Stranger,» in
American Horror: Essays on the Modern American Horror Film,
ed. G. A. Waller (Urbana: University of Illinois Press, 2004), 82.
21-Jonathan Gottschall and David Sloan Wilson, eds., The Literary
Animal, 92.

446
‫الهوام�ش‬

22-Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders, 5th


edition (Washington: American Psychiatric Publishing, 2013),
660 – 661 .
23-Workman and Reader, Evolutionary Psychology: An
Introduction, 356.
24-Herman Melville, Billy Budd, Sailor, in The Norton Anthology
of American Literature. Vol. I (New York: W. W. Norton, 979),
2321.
25-David M. Buss, The Murderer Next Door: Why the Mind Is
Designed to Kill (New York: Penguin, 2005), 21.
26-Steven Katz, The Holocaust in Historical Context, Vol. l.
(Oxford: Oxford University Press, 1994), 438–39.
.438 ‫ صفحة‬،‫ املصدر السابق‬-27
28-Margo Adler, Drawing Down the Moon: Witches, Druids,
Goddess-Worshippers and Other Pagans in America Today (New
York: Scribner’s, 1998), 152.
29-Clasen, Why Horror Seduces, 139.
30-Feb. 18, 2016, retrieved March 8, 2017.
31-Pat Robertson, The New Millennium (Dallas: Word Publishing,
1990), 84.
32-Boyd, On the Origin of Stories, 25.
33-Jay Telotte, Robot Ecology and the Science Fiction Film (New
York and London: Routledge, 2016), 9–10.
34-Isaac Asimov, I Robot (Garden City NY: Doubleday, 1963),
41.

447
ُّ ‫اجلذو ُر البدائ َّي ُة ل�سينما‬
‫الرعب‬

35-»Blade Runner Riddle Solved,» BBC News, July 9, 2000.


36-Mark Rowlands, The Philosopher at the End of the Universe
(London: Erbury Press, 2003), 234–235.
37-Pinker, How the Mind Works, 219.

‫هوامش المؤلف على الخاتمة‬


1-Wilson, Consilience, 218.
2-Gottschall and Wilson, eds., The Literary Animal, 79.
3-Jerome H. Barkow, «New Theoretical Approaches to Cultural
Phenomena,» in The Adapted Mind, 625–26.
4-Allman, The Stone Age Present, 19.
5-David Berreby, Us and Them: Understanding Your Tribal Mind
(New York: Little, Brown, 2005), 16.
6-Brodie, Virus of the Mind, xvii.

448

You might also like