Professional Documents
Culture Documents
البحث النهائي
البحث النهائي
البحث النهائي
الحمد هلل نحمده ونستعينه ونستغفره ،ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا ،من يهده
اهلل فال مضل له ،ومن يضلل فال هادي له ،وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال
شريك له ،وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ،صلى اهلل عليه وعلى آله وصحبه
وسلم تسليماً كثيراً ،أما بعد :
فإن أجل العلوم العلم باهلل سبحانه وتعالى ،ومن العلم به سبحانه ،العلم
بأسمائه الحسنى ،كيف ال وقد أمر اهلل سبحانه بدعائه بها ،لما تحمله من المعاني
الحسنة التي تدل على كماله ،كما في قوله سبحانه « :وهلل األسماء الحسنى
فادعوه بها » . 1والحسن في أسماء اهلل سبحانه وتعالى يدل عليه كل اسم
بانفراده ،ويدل عليه اقترانه مع غيره .
كما أن من صفات اهلل سبحانه وتعالى صفات تنتج من اقتران األسماء ،
كـمـا ذكر ذلك ابن القيم ( ت 751هـ) بقوله « :من صـفـات اهلل سـبـحـانه وتعالى
صفة تحصل من اقتران االسمين والوصفينـ باآلخر ،وذلك قدر زائد على مفرديهما
،نحو الغني الحميد ،والعفو القدير ،والحميد المجيد ،وكذا عامة الصفات المقترنة
واألسماء المزدوجة في القرآن ،فإن الغنى صفة كمال ،والحمد كذلك ،واجتماع
الغنى مع الحمد كمال آخر ،فله ثناء من غناه وثناء من حمده ،وثناء من
اجتماعهما ،وكذا الـعـفـو القـدير ،والحميد المجيد ،والعزيز الحكيم ،فتأمله فإنه من
2
أشرف المعارف»
ولقد حث بعض العلماء على تدبر ختام اآليات باألسماء الحسنى ،كما يقول
الشيخ ابن سعدي ( ت ١٣٧٦هـ) :عليك بتتبعها في جميع اآليات المختومة بها ،
وختام اآليات باقتران األسماء جاء في غاية المناسبة ،تدرك ذلك العقول
السليمة ،والفطر القويمة ،فقد سمع بعض األعراب قارئاً يقرأ ( :واهلل غفور رحيم
» بدال من قوله ( :واهلل عزيز حكيم» في قوله تعالى ( :والسارق والسارقة
فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكاالً من اهلل واهلل عزيز حكيم » 2فقال األعرابي :
ليس هذا كالم اهلل ،فقال :أتكذب بكالم اهلل؟ فقال :ال ،ولكن ال يحسن هذا .
3
فرجع القارئ إلى خطئه ،فقال « :عزیز حکیم ) ،فقال :صدقت
ولقد اقترنت أسماء اهلل سبحانه وتعالى كثيراً في القرآن الكريم ،وخاصة
في أواخر اآليات ،ومن أجل هذا أردت الوقوف في هذا البحث على جزء من هذا
االقتران ،وهو ماورد في أواخر اآليات من سورة البقرة ،للتأمل في معاني هذه
األسماء المقترنة ،ومناسبة اقترانها ،وسأسلك في هذا البحث -بإذن اهلل ـ المنهج
اآلتي :
حصر جميع اآليات التي تختم باقتران اسمين من األسماء الحسنى -1
أقسم البحث حسب األسـمـاء المقـتـرنة ،بداية بـ ( العليم الحكيم) وانتهاء بـ -2
(غني حميد) .وهذا الترتيب وفق ورودها في السورة .
أسرد تحت كل اقتران جميع اآليات من سورة البقرة التي ختمت بهذا -3
االقتران.
أبين معنى كل اسم من األسماء المقترنة . -4
اآلية :اقـتـرن هـذان االسـمـان في أواخـر اآليات من سـورة البقرة في آيـة واحـدة
1
وهـي « :قـالـوا سـبـحـانك ال علم لنا إال ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم)
المعنى :
الحكيم :على وزن فعيل بمعنى فاعل ،ويأتي بمعنى مفعل أي محكـم من اإلحكام
وهـو اإلتقـان .والحكيم من الحكمـة ،وهي وضع الشيء في موضعه . 5وقال
الحليمي (ت٤٠٣هـ) :معنى الحكيم :الذي ال يقول وال يفعل إال الصواب،ـ وإ نما
ينبغي أن يوصف بذلك ألن أفعاله سديدة ،وصنعه متقن ،وال يظهر العمل المتقن
6
السديد إال من حكيم
يفيد اقتران االسمين أن اهلل سبحانه وتعالى حكيم في تعليمه ماشاء لمن يشاء،
ومنعـه مـا شـاء عـمـن يـشـاء ،وفي هذا المعنى يـقـول ابن كثير ( ت ٧٧٤هـ) ( :إنك
أنت العليم الحكيم » أي العليم بكل شيء ،الحكيم في خلقك وأمـرك وفي تعليمك
1
ماتشاء ومنعك ما تشاء ،لك الحكمة في ذلك والعدل التام"
ويقول ابن سعدي :لما خلق اهلل آدم ،وعلمه أسماء كل شيء مما جعله اهلل
له ،وبين يديه ،وعجزت المالئكة عن معرفتها ،وأنبأهم آدم بها « قالوا سبحانك
ال علم لنا إال ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم * فـاعـتـرفـواـ هلل بسعة العلم ،وكمال
2
الحكمة
اآليات :
اقترن هذان االسمان في أواخر اآليات من سورة البقرة في أربعة مواضع في
اآليات اآلتية :
3
( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم » -1
« وإ ذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا -2
إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو
4
التواب الرحيم »
المعنى :
التواب :قال أبو سليمان الخطابي :هو الذي يتوب على عبده ويقبل توبته ،كلما
3
تكررت التوبة تكرر القبول"
وقال الحليمي :هو المعـيـد إلى عـبـده فـضل رحـمـتـه إذا هـو رجع إلى طاعته،
وندم على معصيته ،فال يحبط ما قدم من خير ،وال يمنعه ما وعد المطيعين من
4
اإلحسان
وقال ابن سعدي :وتوبة اهلل على عبده نوعان :توفيقه أوال ،ثم قبوله للتوبة
5
إذا اجتمعت شروطها ثانياً
الرحيم :على وزن فعيل بمعنى فاعل ،أي راحم ،وبناء فعيل للمبالغة عالم
وعليم ،وقادر وقدير .والمعنى أنه المثيب على العمل فال يضيع لعامل عمالً ،وال
6
يهدر لساع سعياً ،وينيله بفضـل رحمته من الثواب أضعاف عمله
المناسبـة :
5اآلية .١٢٨
2اآلية .160
3شأن الدعاء ،تحقيق أحمد يوسف الدقاق ص91
4کتاب المنهاج في شعب اإليمان ،تحقيق 9حلمي محمد فوده .٢٠٦/١
5انظر :تيسير الكريم الرحمن في تفسير كالم المنان .٧٦ /١
6انظر :الخطابي ،شـأن الدعـاء ،تحقيق أحـمـد يوسف الدقاق ص .۳۹ ،۳۸والبيهقي ، 9كتاب األسماء والصفات ،تحقيق عبدهللا بن
محمد الحاشدي ، ۱۳۷ ، 135 /1وابن عثيمين ،شرح العقيدة الواسطية .38/1
إذا تأملنا االيات السابقة وجدنا ان التوبة مـوضـوعـ أساسي في هذه اآليات ،وقد
صرح اهلل بذكرها في كل اآليات ،فناسب تذييل اآليات بذكر اسم ( التواب) ،حثاً
للعباد عليها ،وترغيباً لهم فيها .واقترن اسم ( الرحيم) مع ( التواب) ألن التوبة
بقسميها ،سواء كانت التوفيق للتوبة ،أو قبولها ،فإن ذلك كله من رحمة اهلل
سبحانه وتعالى بعباده ،ألن بقاءهم على الذنب من غير توبة سبب للعقوبة .ومن
رحمة اهلل سبحانه وتعالى أن يجعل التوبة سبباً لدفع العقوبة عنهم .وفي هذا يقول
ابن جرير الطبري (ت 310هـ) « :وأما قوله « :الرحيم ﴾ فإنه يعني أنه
المتـفـضـلـ عـليـه مع التوبة بالرحمة ،ورحمته إياه إقالة عثرته وصفحه عن عقوبة
جرمه» .1ومن رحمة اهلل سبحانه وتعالى أنه لم يعاجلهم بالعقوبة بل أمهلهم
2
ليتمكنوا من التوبة
كما أن اآليات التي اقترن فيها االسمان في غير سورة البقرة ،لم تخرج
عن المعنى المذكور ،فقد كانت التوبة موضوعاً أساسياً في اآليتين ،صرح بها
تصريحاً ،كما في سورة التوبة ،اآليتان . ۱۱۸ ،104 :
اآليات :
أبو السعود ،إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم ۹۲ /۱ 4
1
« وهلل المـشـرقـ والمـغـرب فـأينمـا تـولوا فثم وجـه اهلل إن اهلل واسع علیم) -1
« وقال لهم نبيهم إن اهلل قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك -2
علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المـال قـال إن اهلل اصطفاه
عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم واهلل يؤتي ملكه من يشاء واهلل واسع
2
عليم »
« مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل اهلل كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في -3
3
كل سنبلة مائة حبة واهلل يضاعف لمن يشاء واهلل واسع عليم »
(و الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء واهلل يعدكم مغفرة منه وفضالً -4
4
واهلل واسع عليم »
المعنى :
وقال الخطابي :هو الغني الذي وسع غناه مـفـقـرـ عـبـاده ،ووسع رزقه
جميع .خلقه ،والسعة في كالم العرب الغنى ،ويقال :اهلل يعطي عن سعة ،أي
عن غنى. 6
1اآلية .115
2اآلية .٢٤٧
3اآلية .٢٦١
4اآلية .٢٦٨
5کتاب المنهاج في شعب اإليمان ،تحقيق 9حلمي محمد فودة ۱۹۸/۱
6شأن الدعاء ص .۷۲
1
عليم :سبق بيان معناه
المناسبة :
قال ابن جرير في معنى ( واسع عليم) :يسع .خلـقـه كـلـهـمـ بالكـفـاية
واإلفضال والجود والتدبير .وأما قوله « عليم » فإنه يعني أ أنه عليم بأفعالهم ،ال
2
يغيب عنه منها شيء وال يعزب عن علمه ،بل هو بجميعها عليم
وقال ابن سعدي واسع الفضل والصفات عظيمها ،عليم بسرائركم ونياتكم .
3
فمن سعته وعلمه وسع لكم األمر ،وقبل منكم المأمور ،فله الحمد والشكر
وقـال أيـضـاً:ـ واسع الفـضـل ،واسع الملك ،جـمـيـع الـعـالـمـ العلوي والسفلي
بعض ملكه .ومع سعته في ملكه وفضله فهو محيط علمه بذلك كله ،ومحيط علمه
باألمور الماضية والمستقبلة ،ومحيط علمه بما في التوجه إلى القبلة من الحكمة،
ومحيط علمه بنية المستقبلين لكل جهة من الجهات ،إذا أخطأوا القبلة المعينة ،
من غير قصد وال عمد. 4
وفي اآلية الثانية ،قال الطبري :وأما قوله ( :واهلل واسع عليم » فإنه يعني
بذلك :واهلل واسع بفضله ،فينعم به على من أحب ،ويريد به من يشـاء« ،عليم
بمن هـو أهـل لملكه الذي يؤتيه ،وفـضـله الذي يعطيـه ،فيعطيه ذلك لعلمه به ،
5
وبأنه لما أعطاه أهل ،إما لإلصالح به ،وإ ما ألن ينتفع هو به
وقـال ابـن كـثـيـرـ « :واهلل واسع عليم » أي هو واسع الـفـضـلـ يـخـتـص برحمته
6
من يشاء ،عليم بمن يستحق الملك ممن ال يستحقه
وقال ابن كثير « :واهلل واسع عليم » أي فضله واسع كثير أكثر من خلقه عليم
2
بمن يستحق ومن ال يستحق سبحانه وبحمده
قال ابن القيم :وقد ختم اآلية باسمين من أسمائه الحسنى مطابقين لسياقها،
وهما الواسع والعليم ،فال يستبعد العبد هذه المضاعفة وال يضيق عنها عطنه، 3
فإن المضاعف واسع العطاء ،واسع الغنى ،واسع الفضل ،ومع د ذلك فال يظن
أن سعة عطائه تقتضي حصولها لكل منفق ،فإنه عليم بمن تصلح له هذه
المضاعفة وهو أهل لها ،ومن ال يستحقها وال هو أهل لها ،فإن كرمه وفـضـلهـ
تعالى ال يناقض حكمته ،بل يضع فـضـلـه مـوضـعهـ لسعته ورحمته ،ويمنعه من ليس
4
من أهله بحكمته وعلمه
وأما اآلية الرابعة ،فقد قال الطبري فيها :القول في تأويل قوله تعالى :
(واهلل واسع عليم ) يعني تعالى ذكره :واهلل واسع الفـضـلـ الذي يعدكم أن
يعطيكموه من فضله وسعة خزائنه ،عليم بنفقاتكم وصدقاتكم التي تنفقون وتصـدقونـ
5
بها ،يحصيها لكم حتى يجازيكم بها عند مـقـدمكمـ عليه في آخرتكم
الخالصة :
مما سبق نستنتج أن هذين االسمين ( واسع عليم ) اقترنا لبيان سعة عطاء
اهلل سبحانه وتعالى ،وعلمه بمن يستحق هذا العطاء ،والمواضع األخرى من
القرآن الكريم التي اقترن فيها هذان االسمان ال تخرج عن المعنى المذكور .
اآليات :
اقترن هذان االسمان في أواخر اآليات من سورة البقرة في سبعة مواضع في
اآليات التالية :ـ
(وإ ذ يرفع إبراهيم القـواعـدـ مـن البيت وإ سماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت -1
3
السميع العليم )
« فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فـقـد اهتدوا وإ ن تولوا فإنما هم في شـقـاق اهلل -2
4
وهو السميع العليم »
5
(فـمـن بـدله بعـدمـا سـمـعـهـ فـإنما إثمه على الذين يبدلونه إن اهلل سميع علیم » -3
المعنى :
السميع :قال أبو سليمان الخطابي :السميع بمعنى السامع ،إال أنه أبلغ في
الصفة ،وبناء فعيل بناء المبالغة ،كقولهم :عليم من عالم ،وقدير من قادر .وهو
الذي يسمع السر والنجوى ،سـواء عنده الجهـر والخفت والنطق والسكوت .قال :
وقد يكون السماع بمعنى قبول اإلجابة ،كقول النبي ﷺ « :اللـهـم إنـي أعـوذ بك
من قلب ال يـخـشع ،ومـن دعـاء ال أي من دعاء ال يسمع" 5أي من دعاء
اليستجاب .ومن هذا قول المصلي :سمع اهلل لمن حمده.6
7
العليم :سبق بيان معناه
المناسبـة :
تختلف منـاسـبـة اقـتـرانـ هذين االسمين من آية إلى أخرى ،وذلك الختالف
موضوع اآليات ،فاآلية األولى في شأن الدعاء ،ولذا ناسب أن يختم الدعاء
بالتوسل إلى اهلل سبحانه باستجابة الدعاء بهذين االسمين ،فالسميع بمعنى السامع
1اآلية .٢٢٤
2اآلية .٢٢٧
3اآلية .٢٤٤
4اآلية .٢٥٦
5أخرجه الترمذي ،كتاب الدعوات ،حديث رقم ،٣٤٨٢وقال األلباني في صحيح سنن الترمذي :١٦٥/٢صحيح
6شان الدعاء ،تحقيق أحمـد يوسـف الدفـاق ص .59وانظر :البيهقي ،كتاب األسماء والصفات .۱۲۱ ،۱۲۰ /۱
7راجع ( العليم الحكيم)
للدعاء ،أو مجيب الدعاء ،والعليم بحال الداعي وحاجته .فإن البشر لو سأل
بشراً مثله البد له أن يعلمه بحاله وما فيه من العوز ،أما اهلل سبحانه وتعالى ال
يخفى عليه شيء من حال الداعي ،فهو السامع لدعائه ،العالم بحاله .
وأما في اآلية الثانية فإن اقتران هذين االسمين يحمل معنى التهديد والوعيد
ألعداء اهلل ، .فاهلل سبحانه وتعالى هو السامع ألقوالهم ،العليم بأفعالهم .قال
الطبري :فسيكفيك اهلل يامحـمـد هؤالء الذين قالوا لك وألصحابك« :كونوا هودا أو
نصارى تهتدوا » من اليهود والنصارى ،إن هم تولوا عن أن يؤمنوا بمثل إيمان
أصحابك باهلل ،وبما أنزل إليك ،وما أنزل إلى إبراهيم وإ سماعيل وإ سحاق وسائر
األنبياء غيـرهم ،وفرقوا بين اهلل ورسله ،إمـا بـقـتـلـ السـيف ،وإ مـا بـجـالء عـن
جـوارك ،وغـيـرـ ذلك من العقوبات ،فإن اهلل هو السميع لما يقولون لك بألسنتهم
ويبدون لك بأفواههم مـن الجـهـل والـدعـاءـ إلى الكفـر والملل الضـالة ،العليم بما
يبطنون لك وألصحابك المؤمنين في أنفسهم من الحسد والبغضاء .ففعل اهلل بهم
ذلك عاجالً وأنجز وعده ،فكفى نبيه ﷺ بتسليطه إياه عليهم حتى قتل بعضهم،
1
وأجلى بعضاً ،وأذل بعضاً وأخزاه بالجزية والصغار
قال ابن سعدي :ولهذا وعد اهلل رسوله أن يكفيه إياهم ،ألنه السميع لجميع
األصـوات باختالف اللغات ،على تفنن الحاجات ،العليم بما بين أيديهم ،وما
2
خلفهم ،بالغيب والشهادة ،بالظواهر والبواطن ،فإذا كان كذلك كفاك اهلل شرهم
وفي اآلية الثالثة أيـضـاـ جـاء اقـتـران االسمين تهديداً ووعـيـداً لمن بدل الوصية
،لذا قال القرطبي في تفسيره عن هذين االسمين وما تضـمناه من الصفات « :
صفتان هلل تعالى ال يخفى معهما شيء من جنف 3الموصين وتبديل المعتدين». 4
واآلية الرابعـة أيضـا يدل اقـتـرانـ االسمين فـيـهـا على التهديد لمن جعل الحلف
مانعا له من الخير ،وفي ذلك يقول الطبري « :واهلل سميع :لما يقوله الحالف
منكم باهلل إذا حلف ،فقال :واهلل ال أبر ،وال أتقي ،وال أصلح بين الناس ،ولغير
ذلك من قبلكم وأيمانكم ،عليم بما تقصدون وتبتغون بحلفكم ذلك ،الخير تريدون أم
غيره ،ألني عالم الغيوب وما تضمره الصدور ،التخفى علي خافية ،وال ينكتم
عني أمر ،علن فظهر أو خفي فبطن ،وهذا من اهلل تعالى ذكره تهديد ووعيد . . .
» . 2وإ لى هذا المعنى أشار ابن سعدي في تفسيره فقال « :فختم اآلية بهذين
االسمين الكريمين فقال ( واهلل سميع » أي :لجميع األصوات * عليم * بالمقاصد
والنيات ،ومنه سماعه ألقوال الحالفين ،وعلمه بمقاصدهم هل خير أم شر .وفي
3
ضمن ذلك التحذير من مجازاته ،وأن أعمالكم ونياتكم قد استقر علمه بها »
وفي اآلية الخامسة جـاء اقتران االسمين يحمل أيـضـاً مـعنى التـهـديدـ والوعيد
لمن امتنع عن الفيئة من أجل المضارة والمشاقة للزوجة ،ولذا يقول ابن سعدي
في تفسيره في اجتماع هذين االسمين « :فيه وعيد وتهديد لمن يحلف هذا
الحلف ،ويقصد بذلك المضارة والمشاقة» . 4علماً بأن اآلية السابقة لها -وهي
قوله تعالى ( للذين يؤلون 5من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن قادوا فإن اهلل غفور
رحيم » -ختمت بهذين االسمين ألن ذلك مقام إنابة ورجوع إلى طاعة اهلل
سبحانه وتعالى فيما أمر به من المعاشرة بالمعروف .
وفي اآلية السابعة لما كان األمر يتعلق بالكفر بالطاغوت واإليمان باهلل
ناسب ختامها باقتران االسمين كما يقول القرطبي في ذلك « :لما كان الكفر
بالطاغوت واإليمان باهلل مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب حسن في الصفات
2
( سميع ) من أجل النطق ( ،عليم) من أجل المعتقد»
اآليات :
اقترن هذان االسمان في أواخر اآليات من سورة البقرة في ستة مواضع في اآليات
اآلتية :
المعنى :
العزيز :العز خالف الذل ،وهو في األصل القـوةـ والشدة والغلبة .والعز
والعزة :الرفعة واالمتناع ،قال الزجاج ( ت ٣١١هـ) :العزيز هو الممتنع الذي
1اآلية .١٢٩
2اآلية .٢٠٩
3اآلية ٢٢٠
4اآلية .٢٢٨
5اآلية .٢٤٠
6اآلية ٢٦٠
ال يغلبه شيء ،وقال غيره :هو القوي الغالب ،وقيل :هو الذي ليس كمثله
شيء . 1واختلفت أقوال العلماء في معنى اسم (العزيز) ،وحاصلها مايلي :
وعزة اهلل سبحانه وتعالى تجتمع فيها كل هذه المعاني المذكورة .
3
الحكيم :سبق بيان معناه
المناسبة :
تختلف مناسبة اقـتـران االسمين من آية إلى أخرى ،ففي اآلية األولى جاء
اقتران االسمين على لسان إبراهيم عليه السالم في دعائه لربه تعظيما وإ جالالً،
فذكر اسم (العزيز) إشعاراً بقدرة اهلل سبحانه وتعالى على تحقيق مطلوبه ،وذكر
(الحكيم) تفاؤال بتحقيق الخير من اهلل سبحانه وتعالى أنه لن يفعل بذريتـه إال ما هو
خير ،وفي هذا يقول الطبري في تفسيره لهذه اآلية « :إنك يارب أنت العزيز
القوي الذي ال يعجزه شيء أراده ،فافعل بنا وبذريتنا ما سألناه وطلبناه منك .
والحكيم :الذي ال يدخل تدبيـره خلل وال زلل ،فأعطنا ماينفعنا وينفع ذريتنا ،وال
4
ينقصك وال ينقص خزائنك»
ويقول ابن سعدي :كما أن بعثك لهذا الرسول فيه الرحمة السابغة ،ففيه
تمام عزتك ،وكمال حكمتك ،فإنه ليس من حكمة أحكم الحاكمين أن يترك الخلق
واآلية الثانية جاء اقتران االسمين فيها للتهديد والوعيد لمن عدل عن الحق
بعد ما تبين له ،فإن العزيز الحكيم إذا عصاه العاصي عن علم ،قهره بقوته ،
وعذبه بمقتضى حكمته ،فإن من حكمته تعذيب العصاة والجناة .يقول ابن كثير
في هذه اآلية « :وقوله « فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البيئات » أي عدلتم عن
الحق بعدما قامت عليكم الحجج فاعلموا أن اهلل عزيز أي في انتقامه ،ال يفوته
هارب وال يغلبه غالب ،حكيم في أحكامه ونقضه وإ برامه .ولهذا قال أبو الـعـالـيـة
( ت ٩٠هـ) وقـتـادة ( ت ١١٨هـ) والربيع بن أنس (ت139هـ) :عزيز في نقمته
حكيم في أمره .وقال محمد بن إسحاق (ت 150هـ) :العزيز في نصره ممن
كفر به إذا شاء ،الحكيم في عذره وحجته إلى عباده». 2
ويقول ابن سعدي :لم يقل اهلل :فعليكم من العقوبة كذا وكذا ،بل قال «
فاعلموا أن اهلل عزيز حكيم * أي فإذا عرفتم عزته ،وهي قهره وغلبته ،وقوته
واقتران االسمين في اآلية الثالثة لبيان أن اهلل سبحانه وتعالى قادر على أن
يضيق عليكم ،ولكن حكمته سبحانه لم تقتض ذلك ،بل شرع لكم كل ما هو محكم
ومتقن ،ويقول الطبري في تفسير اآلية « :إن اهلل عزيز في سلطانه ال يمنعـه مـانع
مما أحل بكم من عـقـوبة ،لو أعنتكم بما يـجـهـدكـمـ الـقـيـام به من فرائضه ،فـقـصـرتمـ
في القيام به ،وال يقدر دافع أن يدفعه عن ذلك وال عن غيره مما يفعله بكم
وبغيركم من ذلك لو فعله هو ،لكنه بفضل رحمته من عليكم بترك تكليفه إياكم
ذلك ،وهو حكيم في ذلك لو فعله بكم ،وفي غيره من أحكامه وتدبيره ال يدخل
أفعاله خلل وال نقص وال وهن وال عيب ،ألنه فعل ذي الحكمة الذي ال يجهل
عواقب األمور ،فيدخل تدبيره -مذمة عاقبة ،كما يدخل ذلك أفعال الخلق لجهلهم
2
بعواقب األمور ،لسوء اختيارهم فيها ابتداء»
وفي اآلية الرابعة اقترن االسمان لبيان أن اهلل سبحانه وتعالى عزيز في
3
انتقامه ممن عصاه وخالف أمره ،حكيم في أمره وشرعه وقدره"
يقـول الطبري في هذه اآلية « عزيز في انتـقـامـه مـن خـالـف أمـره ،حكيم فيما
4
دبر في خلقه ،وفيما حكم وقضى بينهم من وتعدى حدوده أحكامه»
وفي اآلية السادسـة اقـتـرن االسـمـان لـبـيـان قـدرة اهلل سبحانه وتعالى
ورحمته ،وفي هذا يقول ابن كثير رحمه اهلل تعالى ( :واعلموا أن اهلل عزيز حكيم
؟ أي عزيز ال يغلبه شيء وال يمتنع منه شيء ،وماشاء كان بال ممانع ؛ ألنه
3
القاهر لكل شيء ،حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره
الدعاء إجالال هلل وتعظيماً ،وإ شعاراً بقدرته على تحقيق المطلوب ،وتفاؤالً
بحصول الخير ،فإن ذلك من حكمـة اهلل سبحانه وتعالى .كما جاء اقتران االسمين
اآلية :
اقترن هذان االسمان في أواخر اآليات من سورة البقرة مرة واحدة في قوله
تعالى :
(وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شـهـداء على الناس ويكون الرسول -1
عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إال لنعلم من يتبع الرسول
ممن ينقلب على عقبيه وإ ن كانت لكبيرة إال على الذين هدى اهلل وما كان
1
اهلل ليضيع إيمانكم إن اهلل بالناس لرءوف رحيم)
المعنى :
1اآلية .143
2لسان العرب ،مادة " رأف " . ۱۱۲ /۹
3انظر :البيهقي ،كتاب األسماء والصفات ١٥٤ /١
وجاء في مختصر تفسير المنار :والتحقيق أن معنى الرأفة أو متعلقها :الرفق
بالضعيف ،كالطفل والـيـتـيـم والمبتلى ،والعناية بهم . .وأما متعلق الرحمة فهو
1
أعم ،يشمل اإلحسان العام والخاص
2
رحيم :سبق بيان معناه
المناسبة :
قال محمد رشيد رضا (ت ١٣٥٤هـ) في قوله ( إن اهلل بالناس لرءوف
3
رحيم ؟ :الجملة استئنافية لبيان علة النفي فيما قبلها
وقال ابن كثير :قال الحسن البصري ( :وما كان اهلل ليضيع إيمانكم » أي
ما كان اهلل ليضيع محمداً ﷺ وانصرافكم معه حيث انصرف ( إن اهلل بالناس
4
لرءوف رحيم »
قال أبو الـسـعـودـ « :إن اهلل بالناس لرءوف رحيم » تحـقـيـق وتـقـريـرـ للحكم،
وتعليل له ،فإن اتصافه عز وجل بهما يقتضي ال محالة أن ال يضيع أجورهم ،وال
5
يدع مافيه صالحهم
ولما كانت هذه اآلية فيها طمأنة للمسلمين على إيمانهم وعلى صالتهم ،
وأنهم ليسوا على ضالل ،وأن صالتهم لم تضع ،ناسب ختامها باجتماع هذين
االسمين (رؤوف رحيم) فإن ذلك كله من رأفة اهلل سبحانه وتعالى بعب ــاده ورحمته
بهم .ولما كـان هـذا في حال المؤمنين واألوائل مع رسول اهلل ﷺ لم يقتصر على
ذكر الرحمة فحسب بل أكد ذلك بالرأفة وهي أشـد الرحمة .
اآلية :
اقترن هذان االسمان في موضع واحد من القرآن الكريم في سورة البقرة في
اآلية( :إن الصفا والمروة من شعائر اهلل فمن حج البيت أو اعتمر فال جناح عليه
1
أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن اهلل شاكر عليم »
المعنى :
شاكر :قال ابن سعدي :الشاكر والشكور من أسماء اهلل تعالى ،الذي يقبل
من عباده اليسير من العمل ،ويجازيهم عليه العظيم من األجر ،الذي إذا قام عبده
بأمره وامتثل طاعته ،أعانه على ذلك وأثنى عليه ومدحه ،وجازاه في قلبه نوراً
وإ يماناً وسعة ،وفي بدنه قوة ونشاطا ،وفي جميع أحواله زيادة بركة ونماء ،وفي
أعماله زيادة توفيق .ثم بعد ذلك يقدم له الثواب األجل عند ربه کامالً موفوراً ،لم
2
تنقصه هذه األمور"
3
عليم :سبق بيانه
المناسبة :
1اآلية 158
2تيسير 9الكريم الرحمن في تفسير كالم المنان . 185 /1
3راجع ( العليم الحكيم) ،ص . ۱۸
اقترن هذان االسمان لبيان أن اهلل مع أنه شاكر ،فهو عليم بمن يستحق الثواب
الكامل ،بحسب نيته وإ يمانه وتقواه ،ممن ليس كذلك .عليم بأعمال العباد ،فال
يضيعها ،بل يجدونها أوفر ماكانت ،على حسب نياتهم التي اطلع عليها العليم
1
الحكيم
اآليـة :
اقترن هذان االسمان في أواخر اآليات من سورة البقرة مرة واحدة في قوله
2
تعالى( :وإ لهكم إله واحد ال إله إال هو الرحمن الرحيم﴾
المعنى :
3
الرحيم :سبق بيان معناه
المناسبة :
جاء اقتران االسمين ( الرحمن الرحيم) لبيان مزيد كمال اهلل سبحانه وتعالى،
فوق ما يدل عليه من الكمال كل اسم بانفراده ،وفي هذا يقول ابن القيم (رحمه اهلل
تعالى) « :وأما الجمع بين الرحمن الرحيم ففيه معنى هو أحسن من المعنيين اللذين
ذكرهما ،وهو أن الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه ،والـرحـيـمـ دال على
تعلـقـهـا بالمرحوم ،فكان األول للوصف ،والثاني للفعل ،فاألول دال على أن
الـرحـمـة صـفـتـهـ ،والثاني دال على أنه يرحم خلقـه بـر حـمـتـه » . 4وقال أيـضـاً « :
وفائدة الجمع بين الوصـفين (الرحمن الرحيم) اإلنباء عن رحمة عاجلة وآجلة،
5
وخاصة وعامة»
1کتاب المنهاج في شعب اإليمان ،تحقيق 9حلمي محمد فوده . ۲۰۰ /۱
2شرح العقيدة الواسطية .38 /1
3راجع ( التواب الرحيم) ،ص . ۲۱
4بدائع الفوائد 27- ٢٤ /١
5أسماء هللا الحسنى ،تحقيق وتخريج :يوسف علي بدوي ،وأيمن عبدالرزاق الشوا. ۹۰ /۱ ،
وهذان االسـمـان لـم يردا في القرآن الكريم إال على هذا الترتيب قال الفارابي (ت
350هـ) :جيء بالرحيم بعد استغراق الرحمن معنى الرحمة لتخصيص المؤمنين
1
به في قوله تعالى ( :وكان بالمؤمنين رحيما »
واآلية المذكورة التي اقترن فيها االسمان من سورة البقرة فيها بيان انفراد
اهلل سبحانه وتعالى باأللوهية ،وعقب ذلك بذكر اسم من األسماء التي يختص بها
سبحانه وهو (الرحمن) ،وأما (الرحيم) ففيه تنبيه على إثابة من حقق هذا التوحيد
قال ابن سـعـدي :ففي هذه اآلية إثبـات وح ة الـبـاري وإ لـهـيـتـهـ .وتقريرها
بنفيها عن غيره من المخلوقين ،وبيان أصل الدليل على ذلك ،وهو إثبات رحمته،
التي من آثارها وجود جميع النعم ،واندفاع جميع النقم ،فهـذا دليل إجـمـالي على
وحـدانـيـتـهـ تعـالى .ثم ذكـر بعـد ذلك األدلة التفصيلية.2
المبالغة في الرحمة ،ترويحاً للقلوب عن هيبة اإللهية ،وعزة الفردانية ،وإ شعاراً
3
بأن رحمته سبقت غضبه
ومع ما يدل عليه اقتران االسمين ،من أن اهلل سبحانه وتعالى متصف بهذه
الصفة من صفات الكمال وهي صفة (الرحمة) ،وأن رحمته سبحانه وتعالى
وسعت كل شيء كما أخبر بها في كتابه العزيز ،فإن اهلل سبحانه وتعالى جعل هذه
الرحمة أيضاً للمؤمنين به على وجه خاص كما في قوله سبحانه ( :وكان
بالمؤمنين رحيما » فالمؤمن هو الذي يحقق توحيد اهلل سبحانه وتعالى الذي أشار
إليه سبحانه بقوله ( :وإ لهكم إله واحد ال إله إال هو الرحمن الرحيم » وهذا أيضـا
1انظر :ابن منظور ،لسان العرب ،مادة رحم) .۳۳۱ ، ۳۳۰ /۱۲
2تيسير 9الكريم الرحمن في تفسير كالم المنان . ۱۸٩ /١
3التفسير الكبير ٢٠٠/٤
يجعل المؤمن يطمع في رحـمـة اهلل سـبـحـانه وتعالى ويتعرض لها بفعل األسباب
الجالبة للرحمة .
اآليات :
هذان االسمان من أكثر األسماء اقترانا في كتاب اهلل سبحانه وتعالى ،حيث اقترنا
في سبعة وخمسين موضعاً من القرآن الكريم ،كلها على نسق واحد في الترتيب،
سوى موضع واحد منها ،جاء بالترتيب اآلتي ( الرحيم الغفور) ، 1وفي سورة
البقرة وحدها اقترنا في ستة مواضع ،في اآليات التالية :
(و إنما حرم عليكـم المـيـتـةـ والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير اهلل فمن -1
2
اضطر غير باغ وال عاد فال إثم عليه إن اهلل غفور رحيم »
« فمن خاف من موص جنفا أو إنما فأصلح بينهم فال إثم عليه إن اهلل غفور -2
3
رحیم »
4
« فإن انتهوا فإن اهلل غفور رحيم » -3
« ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا اهلل إن اهلل غفور رحيم).5 -4
« إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل اهلل أولئك يـرجـون -5
6
رحمت اهلل واهلل غفور رحيم »
(للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشـهـر فـإن قـاءوا فإن اهلل غفور -6
7
رحيم)
1في قوله تعالى « :يعلم ما يلج في األرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغـفـور » سورة سبأ ،
اآلية . ٢ولمعرفة السر في هذا االختالف في الترتيب راجع :ابن القيم ،أسماء هللا الحسنى ص ٢٨٦فقد ذكر كالمـا ً مفيداً :هذا
2اآلية . 173
3اآلية . ١٨٢
4اآلية .١٩٢
5اآلية .199
6اآلية .٢١٨
7اآلية .٢٢٦
المعنى :
غفور :أصل الغفر التغطية والستر ،غفر اهلل له ذنوبه :أي سترها ،وتقول
العرب :اصبغ ثوبك بالسواد فهـو أغفر لوسخه" . 1الغفور في حق اهلل سبحانه
وتعالى :الذي يكثر منه الستر على المذنبين من عباده ،ويزيد عفوه على
مؤاخذته. 2
3
رحيم :سبق بيانه
المناسبة :
في تفسير اآلية األولى ،قال ابن سعدي :واإلنسان في هذه الحالة مأمور ،
أن يلقي بيده إلى التهلكة ،وأن يقتل نفسه .فيجب إذن باألكل ،بل منهي ان يلقي
بيده التهلكة ،وان يقتل نفسه .فيجب اذن عليه األكل ،ويأثم إن ترك األكل حتى
مات ،فيكون قاتال لنفسه ،وهذه اإلباحة والتوسعة من رحمته تعالى بعباده ،فلهذا
ختمها بهذين االسمين الكريمين المناسبين غاية المناسبـة فـقـال ( إن اهلل غفور
رحيم) . . .أخبر أنه غفور ،فيغفر ما أخطأ فيه في هذه الحال ،خصوصاً وقد
4
غلبته الضرورة ،وأذهبت حواسه المشقة
وقال ابن كثير :قال سعيد بن جبير :غفور لما أكل من الحرام ،رحيم إذ
أحل له الحرام في االضطرارـ.5
وقال القرطبي :أي يغفر المعاصي ،فأولى أال يؤاخذ بما رخص فيه ،ومن
6
رحمته أنه رخص"
1انظر :الزجـاج ،تفسيـر أسماء هللا الحسنى ص .۳۷وابن األثير ،النهاية في غريب الحديث واألثر . 373 /3وابن منظور ،لسان
العـرب .٢٩ – ٢٥ /٥وأبا عبيد ،غريب الحديث .348 /3
2محمد الحمود النجدي ،النهج األسنى في شرح أسماء هللا الحسنى . ۱۷۷ /۱
3راجع ( التواب الرحيم) ،ص ۲۱
4تيسير 9الكريم الرحمن في تفسير كالم المنان .٢٠٦/١
5تفسير القرآن العظيم ۰۲۰۷/۱
6تفسير القرطبي /٢
وأما اآلية الثانية ،فقد قال الطبري في تفسيرها :وأما قوله ( :إن اهلل غفور
رحيم * فإنه يعني :واهلل غفور رحيم للموصي فيما كان حدث به نفسه من الجنف
واإلثم ،إذا ترك أن يأثم ويجنف في وصيته ،فتجاوز له عما كـان حدث به نفسه من
الجـور ،إذ لم يمض ذلك فـيـغـفـل أن يؤاخذ به ،رحيم بالمصلح بين الموصي وبين
من أراد أن يجنف عليه لغيره أو يأثم فيه له. 1
وأما اآلية الثالثة ،فقال ابن كثير في تفسيرها :أي فإن تركوا القتال في الحرم
وأنابوا إلى اإلسالم والتوبة ،فإن اهلل يغفر ذنوبهم ولو كانوا قد قتلوا المسلمين في
2
حرم ا اهلل ،فإنه تعالى ال يتعاظمه ذنب أن يغـفـره لمن تاب إليه
واآلية الرابعة جاء اقتران االسمين فيها بعد األمر باالستغفار بعد الفراغ من
العبادة للخلل الواقع فيها ،وكثيراً ما يأمر اهلل سبحانه وتعالى عباده باالستغفار بعد
الفراغ من العبادات ،واقترن هذان االسمان في اآلية المذكورة ترغيباً في
االستغفار".3
وفي اآلية الخامسة ،قال ابن سعدي في تفسيره حول معنى ( غـفـورـ
رحيم) :أي لمن تاب توبة نصوحاً( .رحيم) وسعت رحمته كل شيء ،وعم جوده
وإ حسانه كل حي .وهذا دليل على أن من قام بهذه األعمال المذكورة ،حصل له
مغفرة اهلل ،إذ الحسنات يذهبن السيئات ،وحصلت له رحمة اهلل وإ ذا حصلت له
المغـفـرة اندفعت عنه عـقـوبةـ الدنيا واآلخرة ،التي هي آثار الذنوب ،التي غفرت
واضمحلت آثارها .وإ ذا حصلت له الرحمة حصل على كل خير في الدنيا
واآلخرة. 4
الخالصـة
إذا تأملنا اآليات السابقة وما ورد من أقوال المفسرين فيها ،نجد أن اقتران
االسمين (الغفور الرحيم) ختمت به اآليات في الحاالت اآلتية :
اآليات التي أشارت إلى االضطرار إلى المحرم ،وبهذه المناسبة أيضـاً -1
اقترن االسمان في غير سورة البقرة في مواضع أخرى ،كما في سورة
المائدة .3 :وسورة األنعام .١٤٥ :وسورة النحل .115 :
الهم بأمر محرم ،ولكن لم يتم . -2
بعد ذكر التوبة ،وقد اقترن االسمان بهذه المناسبة في آيات كثيرة من -3
القرآن الكريم ،مثل :سورة آل عمران .۸۹ :وسـورة المائدة ،٢٩ ،٢٤ :
.٧٤وسـورة األنعام .٥٤ :وسورة األعراف .153 :وسـورة التوبة ، 5 :
. ۱۰۲ ،۲۷وسورة النحل . ۱۱۹ ، ۱۱۰ :وسورة النور .5 :وسورة
النمل .11 :
عند ذكر االستغفار ،أو بعـد األمر باالستغفار ،وقد اقترن هذان االسمان -4
بهذه المناسبة في مواضع أخرى من القرآن الكريم ،كما في سـورة
يوسف . ٩٨ :وسـورة النور . ٦٢ :وسـورة الـشـوري . 5 :وسورة
الممتحنة .١٢ :وسورة المزمل . ۲۰ :
اآليات :
اقترن هذان االسمان في أواخر اآليات من سورة البقرة في مـوضـعين هما :
( و ال يؤاخذكم اهلل باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم واهلل -1
1
غفور حليم)
« وال جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكنتم في أنفسكم -2
علم اهلل أنكم ستذكرونهن ولكن ال تواعدوهن سرا إال أن تقولوا قوال معروفا
تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن اهلل يعلم ما في
أنفسكم فاحذروه واعلمواـ أن اهلل غفور حليم ». 2
المعنى :
الحليم :الحلم بالكسر :األناة والعقل ،والحلم نقيض السفه . 4وقال ابن جرير
:يعني أنه ذو أناة ،ال يعجل على عباده بعقوبتهم على ذنوبهم. 5
وقال الحليمي إنه الذي ال يحبس إنـعـامـهـ وإ فـضـاله عن عبـاده ألجل ذنوبهم ،
ولكنه يرزق العـاصـيـ كـمـا يرزق المطيع ،ويبـقـيـه وهـو منهمك في معاصيه كما
يبقي البر التقي ،وقد يقيه اآلفات والباليا وهو غافل ال يذكره فضال أن يدعوه،
6
كما يقيها الناسك الذي يسأله ،وربما شغلته العبادة عن المسألة
1اآلية .٢٢٥
2اآلية .٢٣٥
3راجع ( غفور رحيم)
4الصحاح ، 1903 /5اللسان 145 /١٢ـ . 150
5جامع البيان .۳۲۷/۲
6کتاب المنهاج في شعب اإليمان ،تحقيق 9حلمي محمد فوده .۲۰۱ ، ۲۰۰ /۱
قال أبو سـلـيـمـانـ الخطابي :هو ذو الـصـفـح واألناة الذي ال يسـتـفـزهـ غضب،
وال يستخفه جهل جاهل وال عصيان عاص ،وال يستحق الصافح مع العجز اسم
1
الحليم ،وإ نما الحليم هو الصـفـوحـ مع القدرة ،المتأني الذي ال يعجل بالعقوبة
المناسبة :
قال القرطبي في تفسيره لآلية األولى :صفتان الئقتان بما ذكر من طرح
المؤاخذة ،إذ هو باب رفق وتوسعة. 2
وقال الطبري :واهلل غـفـور لعباده فيما لغوا من أيمانهم التي أخبر اهلل تعالى
ذكره أنه ال يؤاخـذهـم بهـا ،ولو شاء واخـذهـم بها ،ولما واخذهم بها فكفروها في
عاجل الدنيا بالتكفير فيه ،ولو شاء واخذهم في أجل اآلخرة بالعقوبة عليه ،فساتر
عليهم فيها ،وصافح لهم بـعـفـوهـ عن العقوبة فيها ،وغير ذلك من ذنوبهم .حليم في
3
تركه معاجلة أهل معصيته العقوبة على معاصيهم
وفي اآلية الثانية يقول الطبري « واعلموا أن اهلل غفور ﴾ . . .يعني :أنه
ذو ستر لذنوب عباده وتغطية عليها فيما تكنه نفوس الرجال من خطبة المعتـداتـ
وذكـرهـم إياهن في حـال عـددهن ،وفي غير ذلك من خطاياهم .وقوله « :حليم»
4
يعني أنه ذو أناة ال يعجل على عـبـاده بـعـقـوبـتـهمـ على ذنوبهم
الحاصل أن اهلل سبحانه وتعالى عـقـب بـاقـتـرانـ هـذيـن االسمين بعـد اإلخبار
بتجاوز اهلل سبحانه وتعالى عن عباده المؤمنين في بعض األمور ،ففي اآلية
األولى بين سبحانه وتعالى تجاوزه عنهم في ا اللغو في األيمان ،وفي اآلية الثانية
بين التجاوز عنهم في التعريض بخطبة النساء.
اآلية :
اقترن هذان االسمان مرة واحدة في القرآن الكريم في سورة البقرة في قوله
3
تعالى « :قول معروف ومغفرة خير من صـدقة يتبعها أذى واهلل غني حليم)
المعنى :
الغني :قال الحليمي في معنى الغني :إنه الكامل بما له وعنده فـال يحتاج
معه إلى غيره ،وربنا جل ثناؤه بهـذه الـصـفـة ؛ ألن الحاجة نقص ،والمحتاج
عاجز عما يحتاج إليه أن يبلغه ويدركه ،وللمحتاج إليه فضل لوجود ما ليس عند
المحتاج ،فالنقص منفي عن اهلل بكل حال ،والعجز غير جائز عليه ،وال يمكن أن
يكون ألحد عليه فضل ،إذ كل شيء سواه خلق له وبدع أبدعه ال يملك من أمره
شيئا ،وإ نما يكون كما يريد اهلل عز وجل ويدبره عليه ،واليتوهم أن يكون له مع
4
هذا اتساع لفضل عليه
1اآلية .155
2اآلية . 101
3اآلية ٢٦٣
4انظر :كتاب المنهاج في شعب اإليمان ،تحقيق حلمي محمد فوده .١٩٦/١
وقال الخطابي :الغني هو الذي استغنى عن الخلق وعـن نـصـرتـهمـ وتأييدهم
لملكه ،فليست به حاجة إليهم ،وهم إليـه فـقـراء مـحـتـاجـونـ كـمـا وصف نفسه تعالى
2 1
فقال عز من قائل « :واهلل الغني وأنتم الفقراء) .
المناسبة :
قال الطبري :وأما قوله ( :غني حليم) فإنه يعني :واهلل غني عـمـا
يتـصـدقون به ،حليم حين ال يعجل بالعقوبة على من يمن بصـدقـتـه منكم ،ويؤذي
فيها من يتصدق بها عليه. 4
وقال القرطبي في تفسيره :أخبر تعالى عن غناه المطلق أنه غني عن صدقة
العباد ،وإ نما أمر بها ليثيبهم ،وعن حلمه بأنه ال يعاجل بالعقوبة من من وأذي
بصدقته. 5
وقال ابن سعدي ( :غني) عن صدقاتهم ،وعن جميع عباده ( .حلیم) مع
كمال غناه ،وسعة عطاياه ،يحلم عن العاصين ،وال يعاجلهم بالعقوبة ،بل يعافيهم
6
ويرزقهم ويدر عليهم ،وهم مبارزون له بالمعاصي
وقال ابن القيم :وختم اآلية بصفتين مناسبتين لما تضمنته فقال ( واهلل غني حليم).
وفيه معنيان :
أحدهما :أن اهلل غني عنكم لن يناله شيء من صدقاتكم ،وإ نما الحظ األوفر لكم
في الصدقة ،فنفعها عائد إليكم ال إليه سبحانه وتعالى ،فكيف يمن بنفقته ويؤذي مع
1سورة محمد ،اآلية . 38
2الخطابي ،شأن الدعاء ،تحقيق أحمد يوسف الدقاق ص .۹۳ ،۹۲
3راجع ( غفور حليم )
4جامع البيان .٤٢/٣
5القرطبي ،الجامع ألحكام القرآن ۲۰۱ /۳
6ابن سعدي ،تيسير الكريم الرحمن في تفسير كالم المنان ۳۲۷/۱
غنى اهلل التام عنها ،وعن كل ماسواه ،ومع هذا فهو حليم ،إذ ال يعاجل المان
بالعقوبة .وفي ضمن هذا الوعيد والتحذير .
نجد مما سبق أن المناسبة واضحة وهي أ أن اهلل سبحانه وتعالى غني عن
صدقات الناس ،ومع كمال غناه فهو حليم سبحانه على الذي يمن بصدقته ،وهذا
من كمال صفاته سبحانه ،كما تتضمن التحذير لمن من بصدقته مع قلة مايعطي
ونزارته وفقره .
اآلية :
اقترن هذان االسمان في أربعة مواضع من القرآن الكريم ،منها موضع واحد
في سورة البقرة ،في قوله سبحانه وتعالى :
(يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من األرض وال
تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بأخذيه إال أن تغمضوا فيه واعلموا أن اهلل غني
2
حميد)
المعنى :
3
غني :سبق بيان معناه
المناسبة :
قال ابن القيم (رحمه اهلل) :فإن الغنى صـفـة كمال ،والحمد كذلك ،واجتماع
الغنى مع الحمد كمال آخر ،فله ثناء من غناه ،وثناء من حمده ،وثناء من
اجتماعهما.2
قال ابن سعدي في هذه اآلية :فهو الغني عن جميع المخلوقين ،وهو الغني
عن نفـقـات المنفقين ،وعن طاعة الطائعين .وإ نما أمرهم بها وحثهم عليها ،لنفعهم
،محض فضله عليهم ،ومع كمال غناه ،وسعة عطاياه ،فهو الحميد فيما يشرعه
لعباده من األحكام الموصلةـ لهم إلى دار السالم. 3
وبالتأمل في اآليات األخرى التي اقترن فـيـهـا هذان االسمان نجـد أن
اقترانهما ورد في ختام اآليات التي فيها إخبار عن إعراض المعرض ؛ إما عن
اإليمان بالكلية أو الطاعات ،كما جاء أيضاً في ختام اآليات التي تشير إلى عظمة
ملك اهلل سبحانه وتعالى .
الخاتمة :
لذا يوصي الباحث بتحقيق قوله سبحانه (وهلل األسماء الحسنى فادعوه بها
وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون). 1
وكذا التأمل والتدبر في كتاب اهلل سبحانه وتعالى لبقية األسماء التي وردت
منفردة أو مجتمعة ؛ لمعرفة تلك المعاني الجليلة التي حوتهـا هذه األسماء ،فإن هذا
من شأنه أن يزيد اإلنسان معرفة باهلل سبحانه وتعالى ،ومن زادت معرفته باهلل
سبحانه زادت خشيته ،وحبه له ،وبالتالي ابتعد عن معصيته واجتهد في طاعته .
وفي الخـتـام نـسـأل المولى جل ذكـره أن يرزقنا العلم النافع ،والعـمل الصالح،
وأن يمن علينا بخشيته وتقواه ،وصلى اهلل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله
وصحبه أجمعين .